كفاية النبيه في شرح التنبيه

ابن الرفعة

كفاية النبيه شرح التنبيه في فقه الإمام الشافعي تأليف الإمام الفقيه أبي العباس نجم الدين أحمد بن محمد ابن الرفعة المتوفى سنة710هـ دراسة وتحقيق وتعليق الأستاذ الدكتور مجدي محمد سرور باسلوم

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف وصلى الله على محمد وآله, والحمد لله رب العالمين, وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين, وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين, ورضي الله عن الصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليما. وبعد؛ فإن العلم من أشرف ما يطلب, وأجل ما يستدر به رزق الله ويجلب, وحسبك ما ورد في أهله من التعظيم. قال الله تعالى في كتابه الكريم: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}. والفقه من أهم علوم الديانات, والاشتغال به متنوع إلى فروض الأعيان والكفايات, قال الله -وهو أصدق القائلين-: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين}. وقال سيد المرسلين: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين". أما كتاب "التنبيه" للشيخ الإمام علم الأعلام جمال الإسلام أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي المعروف بـ"الشيرازي" كتابا زكا أصله, فنما فرعه, واشتهر فضله, فعم نفعه؛ لصلاح سريرة مؤلفه وجميل قصده, وتوفير نيته, وورعه وزهده, استخرت الله تعالى وعلقت عليه شيئا ينتفع به الطلاب, وأرجو به جزيل الأجر والثواب, وتوسطت فيه طرفي التقليل والإسهاب, لينحل به مشكله ويفهم

معناه, ويظهر به ما أراده بمنطوقه وفحواه, ويتحقق به المتعنت السائل صدق قوله, وإذا قرأه المبتدئ وتصوره تنبه به على أكثر المسائل. وسميته لذلك "كفاية النبيه", وهو في الحقيقة بداية الفقيه, وحقيق لمن صدق هذا القول أو ينفيه ألا يعجل وينعم فيطالع ما فيه, فظني أنه مستودع لأكثر ما في الكتب المنثورة من المنقول, والفوائد والمأثور. وقد اعتمدت في المنقول أن أشير إذا كان مذكورا في مظنته من كتاب مشهور, وأن أعزيه إلى قائله أو محله إن نقل ذلك لكيلا يتمادى إنكاره الجاهل المغرور, وتارة أعزيه إلى كتاب كبير مع أنه في كتاب صغير, لتعلم بظافر [تضافر] النقل عليه, فينتفي تطرق الاحتمال عليه. وقد اعتمدت في تجريد الفوائد وترتيب القواعد أن أذكرها في معرض السؤال بعد كلام الشيخ عن تلك المقاصد, وكثيرا ما أذكر قولا أو وجها في مسألة ثم أقول: ويتجه أو ينبغي طرد ذلك في كذا مما هو شبيه بالمسألة, ولست أروم بذلك تخريج وجه, ولكن أقوله تقوية للجمع بين المسألتين, وطلبا للفرق بين المأخذين, فقد قيل: ينبغي لمن حاول الخوض فيما سبق إليه أن يعتمد خمسة أمور: جمع مفترق, وإيضاح متعلق, وإيجاز مطول, واختراع مستجد. وبالجملة، فكل مأخوذ من قوله ومتروك، إلا من عصمه الله, فنسأل الله التواب أن يهدينا للصواب, ويسامحنا يوم الحساب, إنه على كل شيء قدير, وبالإجابة جدير.

كتاب الطهارة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الطهارة الكتاب -في اللغة-: مأخوذ من الكَتْب, وهو الضم, يقال: تكتب بنو فلان إذا اجتمعوا, ومنه قيل لجماعة الخيل: كتيبة, وللكتابة بالقلم: كتابة, [لاجتماعها على الحروف]. والطهارة -في اللغة-: النظافة وإزالة الأقذار. وفي الاصطلاح: رفع حدث أو إزالة نجس.

قال الشيخ محي الدين النواوي: أو ما في معناهما, وهو تجديد الوضوء والأغسال المسنونة، والغسلة الثانية والثالثة في الوضوء والنجاسة، والتيمم وغير ذلك, لا يرفع حدثا, ولا يزيل نجسا, ولكنه في معناه. قلت: وفي هذا نظر؛ لأن ما لا يرفع حدثا ولا يزيل نجسا ليس في معنى ما يفعل ذلك, فكيف يلحق به؟! , فلا جرم عدل بعضهم عن هذه العبارة وقال: هي عبارة عن فعل ما تستباح به الصلاة من: وضوء أو غسل أو تيمم أو إزالة نجاسة عن بدن أو ثوب أو محل. وهذه العبارة أقرب من التي قبلها, لكن فيها تجوز, لأن الطهارة فعل شرعي كالنجاسة, وإطلاقها على فعل الوضوء ونحوه من باب إطلاق المتعلِّق على المتعلَّق, كما ذكره الشيخ في باب إزالة النجاسة. وقد يظن أن هذه العبارة لا تشمل الغسلة الثانية والثالثة في الوضوء والنجاسة, وليس كذلك؛ فإن التثليث في الوضوء وإزالة النجاسة صفة لهما, فاندرج فيهما. والتحقيق ما قاله القاضي الحسين في باب نية الوضوء: إن الطهارة

الشرعية رفع الحدث وإزالة النجاسة, لأن الطهارة مصدر طهر, وذلك يقتضي رفع شيء, والشرع لم يرد باستعمال لفظ الطهارة في غير رفع الحدث وإزالة النجس, فاختص الاسم بهما, وإطلاق حملة الشرع على الوضوء المجدد والأغسال المسنونة: طهارة - من مجاز التشبيه؛ لأن الوضوء المجدد شبيه بالوضوء الرافع للحدث في صورته مع أنه عبادة يشترط فيها النية, وكذلك الأغسال المسنونة شبيهة بالغسل الرافع لحدث في صورته وكونه عبادة تفتقر إلى النية. وإطلاقهم على التيمم: طهارة، مجاز أيضا, وهو كإطلاقه -عليه السلام- على التراب وضوءًا, ومعلوم أنه ليس بوضوء, ولكن لما قام مقامه سماه باسمه, وكذا نقول في التيمم لما قام مقام الطهارة في إباحة الصلاة سمي باسمها. وبعضهم لاحظ ما ذكرناه من حصر الطهارة الشرعية فيما ذكرناه واستشعر أن التيمم وارد عليه, فأخرجه بقوله: الطهارة بالماء: رفع الحدث أو إزالة النجس.

قال القاضي الحسين: ثم الطهارة على نوعين: عينية وحكمية. فالعينية التي اختص وجوبها بمحل حلولها, وهي إزالة النجاسة. والحكمية: ما يتعدى وجوبها عين محل حلول وجوبها, مثل: الوضوء والغسل وبدلهما.

ومن عد التيمم من أنواع الطهارة قال: الطهارة على قسمين: طهارة عن أحداث, وطهارة عن أخباث. ثم طهارة الأحداث على قسمين: طهارة بالماء, وطهارة بالتراب. وطهارة الأخباث ثلاثة أقسام: طهارة بالمائع، وطهارة بالجامد، وطهارة بالاستحالة. وأراد بالمائع: الماء, وبالجامد: آلة الدباغ لا الاستنجاء بالأحجار , فإنه لا تحصل به الطهارة, بدليل: أنه لو تركه المستنجي في ماء قليل نجسه, ولو حمله مصل لم تصح صلاته على أحد الوجهين, وبالاستحالة: انقلاب الخمر خلا, ولكل قسم من الأقسام أحكام تأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى.

باب المياه

باب المياه الباب -في اللغة-: ما يتوصل منه إلى مقاصد يشتمل عليها, وهو مستعمل هنا لافتتاح أحكام مندرجة تحت اسم خاص, وقد يدرج في الباب ما لا تصدق عليه الترجمة؛ لتعلقه بما اشتملت عليه من وجه ما، كما ستعرفه. والمياه: جمع ماء, وإنما جمعه -وإن كان اسم جنس ينطلق على الكثير والقليل- لاختلاف أنواعه, وهي ثلاثة: طهور، وطاهر، ونجس: فالطهور: هو الطاهر في نفسه، الصالح لتطهير غيره, المسمى في الكتاب بالماء المطلق, وهو منقسم إلى مكروه وغيره. والطاهر: هو الطاهر في نفسه غير صالح لتطهير غيره, كالمتغير بمخالطة ما لا يستغني عنه, أو بمجاورته على قول, أو مستعمل على قول.

والنجس: هو الذي لا يجوز استعماله. قال: قال الله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}، بدأ الشيخ -رحمه الله- بهذه الآية؛ لأمرين: أحدهما: تبركا بالكتاب العزيز. والثاني: اقتداء بالمزني؛ فإنه كذا فعل, ولفظه: "قال الشافعي: قال الله تعالى {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} "، وفعل ذلك ليُعلِم أن الشافعي هو المحتج بالآية لا هو نفسه, وفي الحقيقة فالمقتدى به هو الشافعي, قيل: فكانت عادته أنه إذا أراد أن يصدر بابا، فإن كان في ذلك الباب آية تلاها, وإن كان هناك سنة رواها, وإن كان هناك أثر حكاه, ثم رتب عليه مسائل الباب.

واختص هذه الآية بالذكر، وإن كان في الباب أصرح منها في الدلالة على مقصوده, وهو قوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} لإفهامها معنى زائدا, وهو أن الطهور ما كان طاهرا في نفسه، وصلح لتطهير غيره, لا أنه هو الطاهر, كما صار إليه الأصم وابن داوود، وبعض متأخري أصحاب أبي حنيفة، وطائفة من أهل اللغة، كما قال أبو الطيب. وتدل عليه الآية الأخرى؛

فإن المطلق يحمل على المقيد عند اتحاد الواقعة بلا خلاف. وقد ادعى المحاملي أن الدلالة عليه من الآية نفسها؛ فإنه تعالى لو اقتصر على قوله: {وأنزلنا من السماء ماء} لتعلقت الطهارة به, فإن ذلك مسوق في معرض المنة, ويستحيل أن يمن الله تعالى بما ليس بطاهر, فوجب حمل قوله: {طهورا} على التطهير، لا على الطهارة, وإلا كان غير

مفيد معنى زائدا, وقد وردت السنة بما يعضده, روى الشافعي بسنده أن قوما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: إنا نركب البحر، ونحمل القليل من الماء, فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضا بماء البحر؟ فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، وقد أخرجه غيره, وقال الترمذي: إنه حسن صحيح.

ووجه الدلالة منه أنه لو لم يكن بمعنى: مطهر, لم يكن مجيبا لسؤالهم, ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة, ولذلك قال -عليه السلام-: (الحل ميتته)؛ فإنهم لما جهلوا جواز الطهارة بمائه مع وضوحه بقوله: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} وقوله: {فسلكه ينابيع في الأرض} - كانوا بحل ميتته أجهل؛ لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ...}. وقد قيل: ذكره لفائدة تعود على الماء، وهو أنه لا ينجس بموت حيواناته فيه؛ لأنه حلال, وقال -عليه السلام-: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا) أي: مطهر إناء أحدكم.

وقال عليه السلام: (جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا) ومعلوم أن

التراب طاهر في نفسه, فلو لم يكن بمعنى مطهر، لما كان له -عليه السلام- خصوصية به دون غيره.

فإن قيل: قد ورد طهور بمعنى: طاهر، في قوله تعالى: {وسقاهم ربهم شرابا طهورا} [الإنسان: 21] فإن أهل الجنة لايحتاجون إلى التطهير، وليس هناك حدث ولا خبث يزال، وقال جرير في صفات بعض النسوة: [من الطويل] .................... ... عذاب الثنايا ريقهن طهور والريق لا يتطهر به. فجوابه: أنه تعالى وصف شراب أهل الجنة بأعلى صفات شراب أهل الدنيا، وهو المتطهر به، وإن كان أهل الجنة غير محتاجين إلى التطهير. وقول جرير حجة لنا, لأنه قصد تفضيلهن على غيرهن, ولو أراد به معنى: طاهر, لم يكن لوصفه إياهن بذلك مزية على غيرهن من النسوة. فإن قيل: لو كان كما قلتم لاقتضى جواز تكرار الطهارة به، لأن طهورا من أبنية المبالغة كالصبور والشكور، فإنه اسم لمن تكرر منه ذلك. قلنا: سنذكر جوابه آخر الباب.

تنبيه: الطهور -بفتح الطاء-: ما يتطهر به، وبالضم: المصدر، بمنزلة: التطهر. وكذلك [الوَضوء] والوُضوء. قال: ولا يجوز رفع حدث ولا إزالة نجس إلا بالماء المطلق, وهو ما نزل من السماء, أو نبع من الأرض على أي صفة كان من [أصل] الخلقة. الجواز -في اصطلاح الفقهاء؛ كما قال بعضهم-: إذا أضيف إلى العقود كان بمعنى الصحة, وإذا أضيف إلى الأفعال كان بمعنى رفع الحرج. قلت: وهو هنا بمعنى الصحة ورفع الحرج, إذ من أمر [غير] الماء على أعضاء طهارته بنية الوضوء أو الغسل لا يصح وقد حرج, لأنه تقرب بما ليس موضوعا للتقرب به, فعصى لتلاعبه, وستعرف سر ذلك في باب الحيض. والفصل يشتمل على مسألتين: إحداهما: رفع الحدث أصغر كان أو أكبر. والثانية: إزالة النجس: المغلظ منه: وهو نجاسة الكلب ونحوه، والمخفف: وهو بول الغلام الذي لم يطعم، وما بينهما. واقتضى الفصل اشتمال كل مسألة على حكمين: أحدهما: جوازه بما نزل من السماء، وهو ماء المطر وذوب الثلج والبرد، وما نبع

من الأرض: وهو ماء البحار [وماء الأنهار وماء الآبار]. والثاني: عدم جوازه بغير ذلك. فالدليل على الجواز فيهما بما نزل من السماء، قبل الإجماع. من الكتاب قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} [الفرقان: 48] وقوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم} [الأنفال: 11] فإن قلت: هذا يدل على الجواز بما نزل [من السماء] ماء لا ثلجا وبردا- قيل: الثلج والبرد إنما ينزل من السماء والجمود يعرض له في الهواء، كما يعرض له على وجه الأرض، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: " اللهم اغسلني بماء الثلج والبرد وطهرني كما يطهر الثوب الأبيض من الدنس" رواه البخاري ومسلم.

وروي أنه قال: " اللهم طهرني بماء الثلج والبرد". ولاتتحقق الاستعارة بذلك

عن التطهير من الذنوب ما لم يكن [ذلك] مطهرا. نعم، لايكفي في رفع الحدث وإزالة الخبث إمرار الثلج [والبرد] على المغسول من الأعضاء ما لم [يكن] الهواء حارا فيذوب حالة الإمرار ويجري عليها، ويكفي في الممسوح منها. وفي الحاوي وجه آخر: أنه لايكفي فيها أيضا، لأنه لا يعد ماسحا. [والدليل على الجواز] فيهما بما نبع الأرض فعله صلى الله عليه وسلم وقوله: روي أنه توضأ من بئر بضاعة، ومن بئر رومة، ومن بئر زمزم، وقال في البحر: "هو الطهور ماؤه"، قال الشافعي: وهذا الخبر نصف علم الطهارة. قال المارودي: وهو لعمري صحيح، لأن هذا الحديث دل على طهارة ما نبع من

الأرض، والآية دالة على طهارة ما نزل من السماء، والماء لا يخلو أن يكون نابعا من الأرض أو نازلا [من السماء]. والقاضي أبو الطيب استدل على جواز ذلك بما نبع من الأرض بالآيتين، معتقدا أن ما نبع من الأرض نازل من السماء، لقوله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض} [الروم: 21] , وقوله: {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض} [المؤمنون: 18] , وإذا صح له هذا الاستدلال أمكن أن يستدل بقوله - عليه السلام -في البحر: "هو الطهور ماؤه" وبوضوئه بماء البئر -على جواز التطهر بما نزل من السماء؛ لأن ملابسته للأرض لا تكسبه وصف الطهارة والله أعلم. والدليل على عدم جواز رفع الحدث بغيره قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} [النساء: 43] , والدلالة منها من وجهين: أحدهما: أنه أوجب التيمم على من لم يجد الماء، والمستعمل لغيره مخالف للأمر، فلم يخرج عن العهدة. والثاني: أنه جوز فعل التيمم عند عدم الماء، ومن جوز استعمال غيره يمنعه منه عند وجود ذلك الغير [وفقد الماء. ولأن ما عدا الماء مائع لا يطلق عليه اسم الماء]؛ فلم تجز الطهارة به كالدمع. وهذا استدلال على من جوزه في السفر بسائر المائعات في السفر والحضر مع وجود الماء وعدمه، وهو الأصم. أما حجتنا على من جوزه في السفر بنبيذ التمر المطبوخ المسكر عند فقد الماء، وهو أبو حنيفة – كما قال القاضي أبو الطيب والماوردي وغيرهما من الأئمة _

فالقياس، وهو أنه شراب فيه شدة مطربة؛ فلم تجز الطهارة به كالخمر، أو لأنه مائع لايتناوله اسم الماء؛ فلم يجز رفع الحدث به [كالخل، ولأن ما لا يجوز رفع الحدث به في الحضر ومع وجود الماء: لا يجوز به] في السفر عند فقد الماء كسائر المائعات. فإن قيل: قد روى عبد الله بن مسعود قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال:"أمعك ماء؟ " فقلت: لا، معي نبيذ، فأخذه، وتوضأ به، وقال: "تمرة طيبة وماء طهور". فجوابه: أنه روي عن ابن عباس -رضي الله عنه -أنه أنكر كونه مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، ثم لو سلم من ذلك لم تكن فيه حجة، لأنه من رواية مولى عمرو بن حريث وهو مجهول. ولو سلم من ذلك، لقلنا: هذه زيادة في نص القرآن، والزيادة في [نص القرآن] عند أبي حنيفة [نسخ] ولا ينسخ القرآن [بأخبار الآحاد].

ولو سلم من ذلك كله، لقلنا: إنه منسوخ؛ لأن ليلة الجن كانت بمكة، وآية التيمم نزلت بعد الهجرة. أو نحمله على أن الذي كان مع ابن مسعود ماء نبذ فيه تمر ليعذب، فهو منبوذ، وقد عبر عن المنبوذ بالنبيذ؛ كمايقال: قتيل بمعنى: مقتول، ويؤيده قوله -عليه السلام_:"تمره طيبة وماء طهور"، فوصف شيئين ليس النبيذ واحدا منهما. وإذا عرفت ماذكرناه من مذهب الأصم وأبي حنيفة عرفت أن دعوى الغزالي الإجماع على اختصاص الماء برفع الحدث غير سالمة من نزاع.

[نعم]، قد قيل: إن أبا حنيفة قد رجع [عن ذلك] , والأصم مسبوق بالإجماع؛ فثبت ما قاله. ومنهم من يقول في الجواب: أبو حنيفة لا يخالف في أن الأصل في رفع الحدث الماء، وإنما الوضوء بنبيذ التمر رخصة عنده من رخص السفر، وإذا كان كذلك صح إطلاق الإجماع على اختصاص طهارة الحدث به؛ كما يقال: الميتة حرام بالإجماع، وإن أحلت رخصة عند الضرورة. والدليل على عدم جواز رفع الخبث بغيره: ماروي أنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن دم الحيض يصيب الثوب قال:"تحته ثم تقرصه [بالماء] ثم تنضحه، ثم تصلي فيه"

أخرجه البخاري. وما روي أنه- عليه السلام -قال حين بال الأعرابي في المسجد: "صبوا عليه ذنوبا من ماء" وهذا أمر باستعمال الماء، والمأمور لا يخرج

عن الأمر [إلا] بامتثاله، وبهذا الطريق ينبغي أن يكون الاستدلال بما ذكرناه، [لا] بمفهوم اللقب، الذي لم يقل بأنه حجة إلا الدقاق.

أو نقول: الذي نص الشرع [على استعماله] في إزالة الأنجاس الماء، وذلك إما تعبد لا يعقل معناه؛ كما اختاره الإمام، أو معقول المعنى؛ كما قال الغزالي: إنه الأقرب. فإن كان الأول [لم يحسن] إلحاق غيره به، وإن كان الثاني ففي الماء من الرقة واللطافة والتفرد في التركيب ما لا يشاركه فيه [غيره من بين] سائر المائعات؛ فيمتنع إلحاقها به، ولأن إزالة النجس طهارة تراد للصلاة، أو تستباح الصلاة بها؛ فاختصت بالماء من بين سائر المائعات كالوضوء. تنبيه: قول الشيخ:"على أى صفة كان من أصل الخلقة"، أراد به -والله أعلم-: ما خلقه الله عليه من ملوحة، وعذوبة، وغير ذلك. وفيه تنبيه على أن ملوحة الماء خلقة لا من [أجزاء سبخة] من الأرض، كما قال الغزالي. وبعضهم يقول: أرادبالصفة: البياض، والحمرة، والصفرة، ونحو ذلك. وفيه نظر؛ لأن هذه الألوان تعرض له قطعا، بل قيل: إن الماء لا لون له، وما يظهر به من لون فهو لون ظرفه أو ما يقابله؛ لأنه شفاف. وقد اعترض بعضهم على ما ذكره الشيخ من تفسير الماء المطلق الذي حصر جواز الطهارة فيه، فقال: الماء اليسير إذا وقعت فيه نجاسة وكذا المستعمل في الحدث والخبث -إذا لم يتغير -باق على وصف خلقته، ولا يجوز الطهارة به على الأصح.

والمتغير بطول المكث تجوز الطهارة به عندنا وإن تغير عن وصف خلقته، وكذا ما تغير بالمجاورة -بلا -تجوز الطهارة [به] على أصح القولين. فالعبارة السديدة أن يقول: الماءالمطلق: ماينطلق عليه اسم الماء من غير تقييد لازم. واحترزنا باللازم من غير اللازم كالإضافة إلى مقره أو مجراه. ومنهم من يقول: المطلق ما يتبادر إليه الفهم عند إطلاق اسم الماء. قلت: وهذان التعريفان صحيحان، وكذا ما ذكره الشيخ. ولا نسلم أنه مراده؛ بل المراد ما ذكرناه، وأما الألوان والأحوال فقد تعرض لحكمها في الباب وأشار إلى أن التغير بما لا يستغنى عنه لا يؤثر -كما سنبينه – والمتغير بطول المكث من هذا النوع. ثم لنا أن نجري لفظ الصفة على ظاهره، ونقول: أراد كل صفة خلق عليها، ولا نسلم أن الماء القليل الذي وقعت فيه نجاسة ولم تغيره، أو الماء المستعمل -باق على وصف خلقته؛ لأن النجاسة والاستعمال وصفان قد تجددا له، والمتغير بطول المكث ونحوه لما استشعر إيراده على لفظه أخرجه بقوله: يستغني الماء عنه، وقد أفهم كلام الشيخ أمورا: أحدها: أنه لا فرق في عدم [جواز التطهير] بما عدا الماء بين أن يكون

[خالصا] أو مختلطا بالماء، غالبا عليه أو مغلوبا، ولم يختلف أصحابنا فيما إذا كان غالبا على الماء أنه لا تجوز الطهارة به. قال الإمام: وكذا لو كان مغلوبا ولو قدر لونه مخالفا للون الماء لغيره، هذا لا بوافقه عليه العراقيون. نعم، اتفقوا – كما قال الإمام وغيره -على جوازه بالمختلط إذا كان مغلوبا، ولو قدر مخالفة صفاته لصفات الماء لم تغيره وبقي مقدار المائع، ومثلوا ذلك بما إذا كان معه أربعة أرطال ماء، فصب عليه رطل ماء ورد، وهو يحتاج إلى أربعة أرطال -فإنه يجوز أن يستعمل قدر اربعة أرطال. نعم، لو استعمل الجميع في هذه الحالة فهل يجوز؟ فيه وجهان، المشهور منهما: الجواز. ولو كان يحتاج في طهارته إلى الخمسة ففي جواز استعمال الجميع وجهان مرتبان، وأولى بالمنع. والمذكور في الحاوي وغيره فيما إذا بقى قدر المائع: الجواز، وفيما إذا استعمل الجميع عن الشيخ أبي حامد والجمهور: أنه يجوز كما لو بقي قدر المائع؛ فإنه مستهلك فيه في الحالين، وهذا ماحكاه الإمام عن العراقيين وأنهم صححوه. وعن أبي علي في " الإفصاح" وطائفة كما قال الماوردي: أنه لا يجوز، وهو الذي صححه القاضي أبو الطيب والشيخ أبو محمد؛ لأنه تيقن الطهارة

بغير الماء، ولا كذلك في الحالة قبلها. الثاني: جواز الطهارة بالماء الذي ينعقد منه الملح، ولا خلاف فيه إذا كان انعقاده بسبب سبوخة في الأرض مثل: أن نزل من السماء على أرض سبخة من شأنها أن تعقده ملحا؛ فتجوز الطهارة به قبل انعقاده. وأما ما ينعقد بنفسه ملحا، ففي جواز الطهارة به وجهان: أحدهما – وهو المشهور-:نعم؛ لما ذكرناه. والثاني – حكاه الماوردي عن أبي سهل الصعلوكي والقاضي الحسين وغيره وعن القفال -: أنه لايجوز؛ لأن طبعه خلاف طبع الماء؛ [فإن الماء] يجمد في الشتاء، ويذوب في الصيف، وهذا على عكس. الثالث: جواز الطهارة بالمتصاعد من الماء بالنار، كما إذا أغلي الماء، وغطي رأس القدر؛ فإنه يصعد إلى الغطاء بخار يتولد منه رشح، وهو في الحقيقة ماء، وبهذا

استدل لما ادعاه الغزالي من أن ملوحة الماء بسبب سبوخة في الأرض؛ فإن المتصاعد يكون عذبا بسبب رسوب السبخ، وهذا ماحكاه فب الروضة وجها، وقال: إن صاحب "التلخيص" اختاره، ورأيته في "تلخيصه" أبداه لنفسه احتمالا، وحكى عن بعض الأصحاب أنه قال: إنه طاهر غير طهور؛ كالعرق. قال: وتكره الطهارة بماء قصد إلى تشميسه – [أي: وشمس]-لكراهة عمر لذلك وقوله: إنه يورث البرص؛ كذا قاله الشافعي، ولفظ عمر؛ كما أخرجه البيهقي من عدة طرق:"لا تغتسلوا بالماء المشمس؛ فإنه يورث البرص" واعتمد الشافعي عليه من

حيث إنه خبر لا تقليد. وعدوله عن التمسك بما رواه الدارقطني عن عائشة -رضي الله عنها – أنها قالت:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتوضأ بالماء المشمس أو نغتسل به" إلى أثر

عمر -رضي الله عنه- دليل على عدم سلامته من الطعن؛ كما صرح به غيره، وكذا قوله في "المختصر":"لا أكره المشمس إلا من جهة الطب"، مع أنه يحتمل أنه إنما قال ذلك؛ لأنه لم يبلغه الخبر. وفي "المهذب" وغيره حكاية وجه أنه غير مكروه، وقد اختاره في" الروضة" وقال: إنه لم يصح فيه ما ينبغي أن يعتمد عليه، والمشهور الكراهة، ولم يورد الجمهور غيره. ثم الشيخ في عبارته متبع لأبي علي الطبري؛ فإنه قال في "الإفصاح" -وتبعه البندنيجي وابن الصباغ -المكروه أن نقصد إلى تشميس الماء، وأما ما يشمس بنفسه في الأنهار والبرك فلا يكره [التطهر به]؛ فإن الشمس لا تؤثر فيه التأثير المقصود عادة؛ لكثرته، أو لأن الأرض تشرب ما لعله ينفصل منه بالشمس" ومن آخر لفظ صاحب "الإفصاح" يظهر أن مراده بأوله ما يمكن قصد تشميسه

عادة: كما الجرة، والإبريق، والكوز، ونحو ذلك، سواء تشمس بنفسه من غير قصد من المريد للاستعمال، أو بقصد منه، وقد أجراه بعض الأصحاب على ظاهره؛ فاشترط في الكراهة قصد التشميس، ولم يحك في " التتمة" غيره، والإمام نسبه إلى العراقيين، وتمسك قائله بما روي أن عائشة -رضي الله عنها – شمست ماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم -فقال:" لا تفعلي يا حميراء؛ فإنه يورث البرص" ... رواه الدارقطني، وقد حكى الماوردي الوجهين، ورجح الأول، وهو الذي عليه المحققون؛ لأن ما يؤثر شيئا بطبعه لا فرق فيه بين أن يقصد ذلك أو لا، والخبر غير الثابت، ولو صح لم يكن فيه حجة على اشتراط القصد. وظاهر كلام الشيخ يقتضي أمورا: منها: أنه لا فرق في استعماله في الطهارة بين الثوب والبدن، وبعض الأصحاب يقول: إنه يكره في البدن دون الثوب. قال مجلي -تبعا للماوردي وغيره_: وهذا غير معدود خلافا؛ لأن أحدا لا

يقول: يكره في الثوب. ومنها: أنه لا فرق بين أن يكون في الأواني المنطبعة المتخذة من الحديد والنحاس، وغير ذلك مما يمتد تحت المطارق أو غيره: كالخشب والخزف ونحوه، وهو ما يقتضيه إطلاق العراقيين. وقد قيل باختصاص الكراهة بالأواني المنطبعة، وهو ما حكاه الإمام عن الأصحاب. ووجهه: بأن سببه أن حرارة الشمس تفصل من هذه الأواني أجزاء لطيفة تعلو الماء، فإذا لاقت البدن أثرت البرص، ثم قال الإمام: وأنا أقول: يبعد أن ينفصل من إناء الذهب والفضة مع طهارتهما شيء محذور، أي -فينبغي ألا يكره فيهما؛ ولهذا قال الغزالي: ولعله لا يجري في [أواني] الذهب والفضة؛ لصفاء جوهرهما, وهذا ما حكاه المتولي، حيث خص الكراهة بالأواني الصفرية والنحاسية. قال الإمام: وكان شيخي يطرد قوله فيما ينطبع وينطرق، وخص الشيخ أبو بكر النحاس بالاعتبار من بين سائر الأجناس، والذي حكاه القاضي الحسين: تخصيصها بالأواني الصفرية. ومنها: أنه لافرق بين أن يكون في البلاد الحارة: كالحجاز. أو الباردة: كالصين، وهو وجه حكاه الماوردي ورجحه مع وجه آخر، ولم يحك القاضي الحسين والإمام غيره: أن الكراهة تختص بالبلاد الحارة، وأضاف القاضي إلى ذلك أن يكون في الصيف الصائف؛ ليحصل [التأثير] المقصود؛ فإن البلاد الباردة لا تؤثر فيها التأثير المقصود.

ومنها: أنه لا فرق بين أن يكون الإناء مغطى الرأس أو لا، وهو ما يقتضيه إطلاق الإمام وغيره. ومنهم من خصها بحالة تغطية الرأس، ولم يحك القاضي الحسين والمتولي غيره. ومنها: أنه لا فرق بين أن يستعمل في حالة الحرارة أو بعد برده، وللأصحاب وراءه وجهان: أحدهما: أنه لا يكره إذا برد، وهو الأصح في "الروضة". والثاني: إن شهد عدلان من أهل الطب أنه يورث البرص كره، وإلا فلا. قال الاوردي: وهذا لا وجه له؛ لأن الأحكام الشرعية لا تثبت بغير أهل الاجتهاد في الشريعة، ولأن من أهل الطب من يقول: إن المشمس لا يورث البرص. ولا يرجع إلى قوله فيه. قلت: ولعل هذا القائل أخذه من قوله في "المختصر": "فلا أكره المشمس إلا من جهة الطب" فلما أن جعل أصل الكراهة منوطة بالطب، وجب أن نرجع إليه في الوصف؛ [ولذلك] قال بعض الأصحاب: لا يكره المشمس إلا أن يشهد عدلان من أهل الطب أنه يورث البرص. لكن ما نقله المزني قد نسب فيه إاى التخليط وأن لفظ الشافعي قد كره الماء المشمس، وقد كرهه كراهة من جهة الطب، كذا حكاه القاضي الحسين، والروياني

في "تلخيصه" والله أعلم. ومفهوم كلام الشيخ يقتضي أمورا: أحدها: صحة الطهارة بالماء المشمس، وهو مما لا خلاف فيه. والثاني: عدم كراهتها بالماء المسخن بالنار، وهو مما لا خلاف فيه أيضا؛ لأن ابن عباس روى أنه – عليه السلام – دخل حماما بالجحفة وهو محرم. وقال شريك: أجنبت وأنا مع رسول الله صل الله عليه وسلم؛ فجمعت حجارة، وسخنت ماء، واغتسلت، فأخبرت النبي صل الله عليه وسلم فلم ينكر علي. ولا فرق بين أن يسخنه بطاهر أو بنجس؛ لأن الأصل عدم

تنجسه به. نعم، إذا اشتدت حرارته [كره]، وكذا الماء الشديد البرد. والثالث: عدم كراهتها بماء زمزم، وهو كذلك؛ لأنه- عليه السلام- توضأ منه، وقول العباس: لا أحله لمغتسل، لكن لشارب حل وبل – محمول على حاجة احتياج الناس إليه للشرب لكثرتهم. [و] الرابع: أنه لا يكره استعمال المشمس في الأكل والشرب، والماوردي جزم بالقول بكراهة استعماله في البدن على أي وجه كان، وقال في الطبخ: إن كان قد بقي مائعا فيه كره، وإن لم يبق مائعا فيه - كما إذا طبخ به ما لا مرق له، أو عجن به دقيق - فلا.

وفي" الجيلي" حكي هذا وجها ثالثا في المسألة والله أعلم. تنبيه: يقال: قصدت له، وقصدته، وقصدت إليه، ثلاث لغات مخففات، وقد ثبتت [الثلاث لغات] في "صحيح مسلم" في حديث واحد في اقل من سطر، في أوائل كتاب الأيمان. قال: وإذا تغير الماء بمخالطة طاهر يستغني الماء عنه كالزعفران والأشنان، لم تجز الطهارة به؛ لأنه تغير بمخالطة ما ليس بطهور، والماء مستغن عنه غالبا؛ فلم تجز الطهارة به كماء الباقلاء. وقد أفهم قيد"التغيير" الاحتراز عما إذا لم يتغير به؛ فإنه لا يضر اختلاطه به، ولفظ "المخالطة": الاحتراز عن التغير بالمجاورة، وسيأتي حكمه. ولفظه طاهر: الاحتراز عما إذا تغير بالطهور؛ كالماء العذب إذا تغير بالماء الملح وعكسه، أو الماء إذا تغير بالتراب المطروح فيه قصدا؛ فإنه لا يمنع الطهارة به عند العراقيين وصاحب" الكافي"، وهو أصح الوجهين في "الحاوي"، وكتب المراوزة؛ لأمره عليه السلام -باستعمال في الغسل من ولوغ الكلب؛ إذ لو كان يسلب الطهورية لما أمر به.

ومنهم من يعلل ذلك بأن التراب مجاور له لا مخالط؛ فإنه يرسب بعد ساعة عنه، والإمام حكى خلافا في أن التراب يخالط [الماء] أو يجاوره، ثم قال: فإن قلنا: إنه يخالطه، ففي سلب الطهورية به إذا طرح قصدا، الخلاف. وقد زعم بعض الشارحين أن الشيخ احترز بلفظ"طاهر" عن النجس، وفيه نظر؛ لأن الاحتراز يكون عما يخالف المدعى في المسألة، والمدعى هنا: عدم جواز الطهارة به، والنجس يشاركه في ذلك. ولفظ "يستغني [الماء] عنه": الاحتراز عما لا يستغني عنه في مجراهىومقره، مثل: أن يجري على معادن الزرنيخ والكبريت والكحل والنورة، أو يستقر بعد جريانه في موضع ذلك، أو ينبع فيه-فإنه لا يسلبه الطهورية؛ لتعذر الاحتراز منه. وفي رواية الصيدلاني وجه: أن ما تغير بالمخالطة لا يجوز التوضؤ به، وإن كان مما يتعذر الاحتراز عنه في بعض المياه؛ لأن التغير بالاختلاط في حكم انقلاب الجنس؛ فكأن الماء خرج عن كونه ماء. وفي "الكافي" إشارة إلى أن التغير بمخالطة ما يستغني عنه تغيرا فاحشا بحيث لا يفهم هو في ذكر الماء المطلق -أنه يجوز الطهارة به على وجه، والمشهور الذي لم

يورد العراقيين غيره: الأول؛ لتعذر الاحتراز. ومن هذا القبيل تغيره بطول [المكث]؛ لما ذكرنا، وهذا مما لا خلاف فيه وإن أفهم كلامه في "الوسيط" خلافا فيه، ومحله إذا لم يعارضه ما يمكن إحالة الحكم عليه أما إذا عارضه: بأن رأى ظبية تبول في ماء كثير، واحتمل أن يكون تغيره بطول المكث، أو ببول الظبية، فهو نجس، نص عليه الشافعي، قال الإمام: وفيه احتمال لا يخفى على متأمل. وفي "الروضة" في باب الآنية: أنه قال بعضهم: إن كان قد عهده عن قرب غير متغير فهو نجس، وإن لم يعهده [أصلا] أو طال عهده فهو طاهر؛ لاحتمال التغير بطول المكث. وتساقط الأوراق في الماء ونبات الحشيش فيه إذا غيره، يلحق بما ذكرناه في العفو. وقيل: [إن تساقط الورق يسلبه الطهورية، ومنهم من يقول: تساقطه في زمن الربيع يسلبه الطهورية]، دون تساقطه في زمن الخريف؛ لأنه يتعذر الاحتراز عنه. والقاضي الحسين فرق بأن الربيعي فيه رطوبة تمازج الماء، بخلاف الخريفي. والفوراني ذكر الفرقين، والذي ذكره العراقيون الأول، وهو الأصح في "الإبانة"، وعلى هذا لو طرح فيه قصدا فغيره، قال الشيخ أبو حامد: لا يسلبه الطهورية به

أيضا؛ لأن التغير به تغير مجاورة. نعم، لو عصره بعد [أن] تربا فيه يسلبه الطهورية؛ كما قاله ابن القاص. قال: ولو دقه ناعما ورماه فيه فغيره، لا يسلبه الطهورية أيضا. والمشهور: أنه متى تغير بإلقائه فيه قصدا، سلبه الطهورية، سواء وضعه صحيحا أو مدقوقا ووجه التفرقة بين الربيعي والخريفي مذكور فيه. وتغيره بما تساقط فيه من الثمار سالب للطهورية قطعا. وقال يحتمل وجها آخر: أنه لا يسلبه الطهورية؛ كما في الورق، والفرق ظاهر. وتغير الماء بمروره على معدن النورة أو الملح الجبلي أو المائي، كمروره على معادن الزرنيخ ونحوه. ولو ألقي فيه شيء من ذلك فغيره، فالمشهور في النورة سلب الطهورية، والقاضي الحسين ومن تبعه قال: إنه يترتب على الخلاف في الالتراب، وأولى بأن يسلب الطهورية، وهذا إذا لم يكن قد طبخ سلب الطهورية وجها واحدا.

وأما إلقاء الملح فيه، فالمذهب – كما قاله الروياني [في "تلخيصه"]-أنه يسلب الطهوية، والمشهور: أن الملح إن كان جبليا سلبها، وبه جزم الماوردي والمتولي وغيرهما. قال الإمام: ومن ظن فيه خلافا فقد غلط. المنسوب منهما في "الشامل" لصاحب "التلخيص": أنه لا يسلب، ولم يحك غيره. وقد قيل: إنه منسوب في "الإبانة"إلى القفال. وفي غيره المنسوب إليه مقابله، وهو الصواب؛ إذ مذهبه منع الطهارة بالماء الذي ينعقد [منه] الملح؛ فلا جرم قال في "التتمة": إن الوجهين في سلب الطهورية هنا مخرجان على جواز الطهارة بالماء الذي ينعقد منه الملح. وقد قيل: إن الجبلي لا يسلب الطهورية أيضا؛ لأنه يذوب في الماء كالجمد. قال الفوراني: وهو اختيار القفال. فلا جرم حكى الغزالي وغيره في تغيره بالملح ثلاثة أوجه، ثالثها -وهو ما صححه في "الكافي"_: أن الجبلي يسلبه الطهورية بخلاف المائي. تنبيه: إطلاق الشيخ التغيير يعرفك أمرين: أحدهما: أنه لا فرق فيه بين الطعم أو اللون أو الرائحة، وهو كذلك عند

العراقيين والمراوزة، وفي"التتمة" نسبته إلى قول ابن سريج، والرافعي حكاه عن "جمع الجوامع" قولا اختاره ابن سريج. [و] قال المتولي: إن الذي نص عليه الشافعي أنه لا بد من تغير اللون والطعم والرائحة؛ لأن القليل من ماء الورد يغيره الرائحة والقليل من الخل يغير الطعم ولا يزيل [إطلاق] الاسم. قال: وأصل الخلاف: إذا غسل الثوب من الخمر، فزال اللون وبقيت الرائحة – هل يحكم بطهارته؟ وفيه قولان: فإن قلنا: يحكم بطهارته، لم يسلب أحد الأوصاف الطهورية، وإلا سلبها. قلت: وليس لقائل أن يقول: تمثيل الشيخ الخالط بالزعفران يدل على أنه لا يكفي عنده في سلب الطهورية تغير بعض الأوصاف؛ لأنه يغير الطعم واللون

والرائحة؛ لأنا نقول: تمثيله بالأشنان يأبى ذلك، والأشنان بضم الهمزة وكسرها. وقد حكى الرافعي طريقا آخر: أن تغيره باللون وحده يسلبه الطهورية، وكذا تغير طعمه وريحه إذا اجتمعنا دون أحدهما. الثاني: أنه [لا فرق] بين اليسير والكثير، وهو ما حكاه العراقيون والقاضي الحسين. وقال الإمام: إن القفال قال به أيضا؛ [قياسيا] على التغير بالنجاسة، لكن الأظهر أن التغير اليسير لا يؤثر؛ فإنه لايسلب الماء الإطلاق بخلاف التغير الكثير. وقاعدة الباب: اتباع الاسم. وتخالف النجاسة؛ فإن التغير بها أفحش؛ ولذلك سلب قليلها الماء القليل الطهارة وإن لم يتغير، وهذا ما حكاه المتولي لا غير، عند الكلام فيما إذا لم يكن للنجاسة لون. قال مجلي: وما قاله العراقيون إلى كلام الشافعي أقرب. فرع: إذا كان المخالط لا يغير الماء؛ لموافقته لصفاته، ولو قدر مخالفا له في بعض الصفات لغيره التغير المؤثر، وذلك مثل أن يكون ماء [الورد الذي] انقطعت رائحته، والماء المستعمل إذا قلنا: إنه لو بلغ قلتين لا تجوز الطهارة به؛ كما قاله في "الكافي" وغيره ونحوهما -هل يسلبه الطهورية؟ ينظر: فإن كان أكثر من الماء سلبه بلا خلاف، لكن لماذا؟ هل للكثرة أو لأجل ظهور التغير عند مخالفة الصفات أو

بعضها؟ فيه وجهان ذكرهما أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما. ومختار العراقيين -كما قال بعضهم، وهو المذكور "في تعليق البندنيجي" "والحاوي"، لا غير -: الأول. ومختار المراوزة، وصاحب "المرشد"، وهو الذي القاضي الحسين_: مقابله.

قال ابن الصباغ: وهو بعيد؛ لأن الأشياء [يختلف حكمها] في ذلك: فمنها ما يغير قليله، ومنها مال لا يغير إلا الكثير منه، فأيها يعتبر؟ فإن قيل: بأدناها صفة، قيل: فاعتبروا هذا المخالط بنفسه؛ فإن له صفة تنفرد عن الماء. فإن قيل: هذا لا يغير بحال، قيل: هذا مستحيل؛ لأنه إذاكان أكثر من المائع تبعه في الصفة. والمراوزة قالوا: يعتبر الوسط في الألوان. وقد سكت العراقيون عما إذا كان الماء وما وقع فيه سيين. والمتولي وصاحب "الكافي" ألحقاه بحالة كثرة المخالط. آخر: إذا كان على عضو من أعضاء طهارته زعفران أو سدر، فتغير الماء بملاقاته، هل يصح به طهارة ذلك العضو؟ فيه وجهان في "الذخائر"، سلف مثلهما في باب غسل الميت، وماهو الصحيح منهما، ومثلهما ما سنذكره آخر الباب. قال: وإن تغير بما لا يختلط به كالدهن – أي: المطيب -والعود -أي: المطيب -وما في معناهما: كالعنبر -جازت الطهارة به في أحد القولين؛ لأنه تغير بالمجاورة، فلم يمنع من [صحة] الطهارة؛ كما لو تغير بجيفة بقربه؛ وهذا ما حكاه أبو الطيب وغيره

من رواية الربيع في "الأم"، ونقله المزني وغيره، ولم يورد البندنيجي والماوردي والقاضي الحسين غيره، وهو الأصح في "الكافي" وغيره. ومقابله: أنه لا تجوز الطهارة به؛ لأنه لا فرق في النجاسة بين التغير بالمخالط والمجاور، وكذا في التغير بالطاهر، ويعني [بالمخالط في النجاسة]: المائع الذي لا يتميز بعد وقوعه فيها عن الماء: كالبول، وبالمجاور: إذا وقعت فيه ميتة، والفرق بينه وبين ما إذا تغير بجيفة بقربه: أنه [ثم] لم تحصل فيها ملاقاة، وهذا القول حكاه العراقيون عن رواية البويطي، والإمام حكاه عن رواية شيخه عن صاحب "التلخيص"، وقال: إنه غريب مزيف. وقال ابن الصباغ: يحتمل أنه أراد به: إذا كان يختلط به. ومسألة النجاسة غير خالية عن نزاع، كما ستعرفه. ثم ما ذكرناه من تقييد الدهن والعود بالطيب هو ما ذكره في "الأم"، ولفظه: "ولو صب فيه دهن طيب، أو ألقي فيه عنبر، أو عود أو شيء ذو ريح لا يختلط بالماء، وظهر ريحه في الماء"، وهذا كالصريح في اختصاص الخلاف بما إذا كان التغيير بالرائحة فقط، وعليه جرى الماوردي، وهو يفهم الجزم فإنه إذا كان بالطعم أو اللون

كان من نوع التغيير بالمخالط. فإن قيل: هل من ضابط يميز المخالط والمجاور؟ قلنا: قد قيل: إن المخالط: ما إذا طرح في الماء لم يتميز أحدهما في رأي العين، والمجاور: ما يتميز. وقيل: إن المخالط ما إذا وضع في الماء لا يمكن فصله عنه، والمجاور: ما يمكن فصله. وقيل: المرجع فيهما إلى العرف. وعلى الأولين يتخرج تغير الماء بالتراب، هل [هو] تغير مخالطة أو مجاورة؟ فعلى الأول هو مخالط، وعلى الثاني: لا؛ لأنه يمكن فصله بعد رسوبه. وعليهما أيضا يتخرج [ما سلف] من يتغيره بورق الأشجار، وحسن ما ذكره القاضي من الفرق بين الخريفي والربيعي. وإذا عرفت ما ذكرناه، فخرج عليه الفروع، وليقع [عليه] التفريع على أن التغيير بالمجاورة لايسلب الطهورية؛ إذ به يظهر أثر التفريع، ولنذكر من ذلك ما قد يقع الاشتباه فيه: فمن ذلك: إذا وضع الزبيب، والقمح، والتمر، والحمص، والأرز، ونحو ذلك في الماء: فإن انحل منه شيء فهو تغير بالمخالطة، وإلا فتغير بالمجاورة؛ قاله الماوردي. نعم، لو غلى القمح ونحوه بالنار، وتغير به، ولم ينحل منه شيء، فهل يسلبه الطهورية؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لو لم يغله. الثاني: نعم؛ لأنه استجد له اسم المرق.

ومثل هذا الخلاف ما قيل [فيما] إذا تغير الماء بشحم أذيب فيه بالنار [هل يسلبه الطهورية أم لا؟ ومنه: ما إذا تغير الماء بوقوع المني فيه]، هل يسلبه الطهورية؟ فيه وجهان: أصحهما في " الروضة":نعم؛ لأنه مخالط. والثاني: لا؛ لأنه لا يكاد ينماع في الماء كالدهن. ومنه: إذا وقع كافور في الماء فغيره، هل يسلبه الطهورية؟ فيه وجهان في "تعليق أبي الطيب"، مأخذهما: أنه مخالط لكنه يبطىء ذوبه، أو مجاور. والبندنيجي ادعى [أن المذهب] سلب الطهورية، وأن من أصحابنا من قال: إن كان الكافور كثيرا يخالطه جميعه فهو المسك، وإن كان قليلا لا يخالط كل الماء جاز التوضي به؛ لأن الرائحة رائحة مجاورة. وليس بشيء. وقال في "الحاوي": إن علم انحلال الكافور فيه سلبه الطهورية، وإن علم أنه لم ينحل لم يسلبه، وإن شك فيه نظر في صفة التغيير: فإن كان [قد] تغير الطعم دون الرائحة فهو دال على أنه تغير مخالطة، وإن تغيرت الرائحة فوجهان: أحدهما: يغلب فيه تغير المخالطة. والثاني: تغير المجاورة. وقال الإمام: إن كان صلبا وغير رائحته فهو تغير مجاورة، وإن كان رخوا وذاب في الماء وخالطه وظهرت رائحة الكافور فيه_: فمن لم يكتف من أئمتنا بأدنى تغير حكم بأن الماء طهور، ومن صار إلى أن التغيير اليسير بالزعفران يسلب الطهورية اختلفوا ها هنا: فذهب بعضهم إلى منع التطهر به؛ لأنه مخالط، وذهب الأكثرون إلى جوازه؛ فإن الكافور وإن كان مختلطا فليست المخالطة سبب التغيير، وإنما سببه قوة ريح الكافور؛ فهو في معنى تغير المجاورة. ومنه: إذا وضع فيه القطران وتغير به, فقد نص الشافعي في "الأم"

على أنه لا يمنع الطهارة، وقال بعد ذلك بأسطر:"إذا خالط الماء قطران أو بان تغيره، منع جواز التوضؤ به". قال جمهور الأصحاب: وليست على قولين؛ وإنما هي على [اختلاف] حالين؛ فإن القطران على ضربين: ضرب يختلط بالماء؛ فيمنع جواز التوضؤ: كالخل. وضرب لا يختلط به وهو مثل [الدهن والعود المطيب]. قال الماوردي: قد وهم بعض أصحابنا فخرجه على قولين. فائدة: إذا أطلق الأصحاب في [مسألة] قولين، فاعلم أن مرادهم: نسبة الخلاف فيها إلى الشافعي -رحمه الله -وتارة يكون الشافعي قد نص عليهما معا؛ فالنسبة إليه حقيقة، ثم له في نصه عليهما حالتان: إحداهما: أن يقول في مجلس واحد قولا ثم آخر بخلاف ذلك في غير تلك المسألة؛ فالنسبة إليه -أيضا -حقيقة، لكن إن عرف آخر قوليه فهو المعتمد، وهل يكون ذلك رجوعا عن [الأول] أم لا؟ فيه كلام نذكره في الباب، وهذه الحالة: الشافعي فيها مشارك لغيره من الأئمة. والحالة الثانية: أن يذكرهما في مجلس واحد، وهذا ما اعترض عليه فيه، وقيل: إنه لم يقل به غيره [من الأئمة]، وإن حكم الله – تعالى – واحد عنده، ولا يحسن مع ذلك إطلاقه القول بقولين فيه. وأجيب عن ذلك بأن مراد الشافعي بذكر القولين تعريف السامع أنه لا مدرك عنده لقول ثالث، وهو متردد في أيهما أرجح، لا أنه يوجب العمل بهما، ومثل هذا قد روي عن عمر -رضي الله عنه -فإنه قال: "تعتد الأمة بحيضيتين، فإن لم تحض فبشهرين أو شهر ونصف"، قال الإمام في "العدد": فمنهم من قال: هو شك من

الراوي، ومنهم من قال: هو ترديد قول عمر، وهو ظاهر الرواية، ثم قال هو وغيره [ثم]: وهذا شاهد بين في أن ترديد القول ليس بدعا. نعم، إذاعمل بعد ذلك بأحد القولين -قال المزني: يكون إبطالا للقول الآخر، وعند غيره من أصحابنا لا يكون إبطالا [له]؛ وإنما يكون ترجيحا له على الآخر؛ كذا قاله الماوردي في كتاب الدعاوى، وقال في أول كتاب العتق: " إن الأصحاب اختلفوا فيما إذا ذكر الشافعي قولين، ثم كرر أحدهما، أو فرع عليه: فمنهم من يقول: لا تأثير لذلك، ومنهم من يقول: له تأثير في غيره لا يترجح عليه. واختلفوا: هل يصير بهذا أرجح من غيره أم لا؟ والذي ذكره القاضي أبو الطيب في باب ضمان الأجزاء: أنه إذا ذكر قولين، ثم فرع على أحدهما -كان هو الصحيح الذي اختاره. وتارة ينص في مسألة على قول، وفي نظيرها على قول يخالفه؛ فيعسر على بعض الأصحاب الفرق بينهما فيقول في المسألتين قولين بالنقل والتخريج، وبعضهم يرسل في هذه الحالة إطلاق القولين ونسبتهما إلى الشافعي على نوع من التجوز. وإذا لم يكن للشافعي في مسألة بعينها نص، فالأصحاب يخرجونها على أصوله: فإن اتفقت أرسلو ذكر الحكم، وإن اختلفت عبروا عن الخلاف فيها بالوجهين، ومنهم من يتسامح ويطلق عليه قولين، وكثيرا ما يأتي الوجهان لاختلاف الأصحاب في مراد الشافعي بلفظه، ويعبر عن هذا النوع بالطريقتين. وقد يذكر الشافعي قاعدة كلية، وينص في أحد أفراد القاعدة على ما يخالفها؛ فيقول بعض الأصحاب لأجل ذلك: في المسألة قولان، ويخطئه الأصحاب؛ فإن القاعدة العامة يجوز أن تخص؛ فلا تعارض المنصوص، والله أعلم.

قال: وإن وقع فيما دون القلتين [منه] نجاسة لا يدركها الطرف -أي: لا يشاهدها البصر _ مثل: أن تقع ذبابة على نجاسة رطبة، ثم تقع في الماء-[لم تنجسه؛ لأنها نجاسة] يشق الاحتراز منها؛ فعفا الشارع عنها؛ كغبار السرجين؛ وهذا ما أفهمه قوله في "المختصر":"إذا وقع في الإناء نقطة خمر أو بول [أو دم] أو أي نجاسة كانت مما يدركه الطرف، فقد فسد الماء، ولا تجزئه الطهارة به"؛ [فإنه يفهم أنها إذا لم يدركها الطرف تجزئه الطهارة به]، وقد اختاره الغزالي نت أصحابنا وصاحب "المرشد" وجماعة من المحققين؛ كما قال في "الروضة" وصححه. قال: وقيل: تنجسه؛ لأنه قد تحقق وقوع النجاسة فيه؛ فصار بمنزلة ما لو أدركها الطرف، وهذا ما حكاه الفوراني عن نصه في مواضع، وغيره نسبه إلى ابن سريج، وأنه

خرجه من نصه -في" الأم" و"الإملاء" -على نجاسة الثوب بما لا يدركه الطرف من النجاسات، ولفظه:"إذا تحقق [حصول] النجاسة فيه نجس، سواء أدركها الطرف أو لم يدركها، وأنه قال: ما أفهمه كلام المزني لا يعارض المنطوق؛ فقد وافقه بعض الأصحاب في الحكم وقال: إن المزني أخل بالنقل؛ لأن الشافعي إنما فصل بين ما يدركها الطرف [وبين ما لا يدركها الطرف] في الثياب لا في الماء؛ فإنه قال في القديم:"إذا كان على ثوبه قدر كف من الدم فهو معفو عنه، وإن كان من سائر النجاسات: إن كان مما يدركها الطرف فمعفو عنه، وإن كان مما يدركها الطرف فليس بمعفو عنه"؛ كذا قاله القاضي الحسين، وهذه الطريقة صححها في "الكافي". فمنهم من يقول: الثوب أيضا لا ينجس بما لا يدركها الطرف؛ كما ذكرناه عن النص، ولما ستعرفه من الفقه، وقوله في "الأم" و"الإملاء":"أدركها الطرف، أولم يدركها" أراد به: إدراك محل النجاسة وعدمه، لا إدراك نفس النجاسة. ومنهم [من] يجري نصه فيهما على ظاهره، وهم المتقدمون من الأصحاب؛ كما قال الماوردي وصححه، وفرق بأن [الماء له] قوة [لدفع النجاسة] بخلاف الثوب، وهذا الفرق استضعفه الإمام؛ من حيث إن الماء القليل لا قوة له على دفعها، وهو كالثوب سواء. [قال:] وقيل: فيه قولان؛ جمعا بين مقتضى النصين، وضعف الفرق بينهما، وتوجيههما ما ذكرناه، وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي؛ كما قال الماوردي، وغيره قال: إنه حكاها مع الأولى في "شرحه"، وهذه الطريقة مطردة في الثوب أيضا، والفوراني قال: إنهما هاهنا مخرجان من الثوب.

وابن أبي هريرة قال بهما في الثواب، وقطع في الماء بالنجاسة، وفرق بثلاثة أوجه: أحدها: أن الثواب بارز لا يمكن الاحتراز فيه، بخلاف الماء في الإناء. الثاني: أن يسير دم البراغيث وغيره من الدماء يعفى عنه في الثواب دون الماء. ومن الأصاب من وافق ابن أبي هريرة على هذه الطريقة؛ نظرا للمعنى الثاني فقط، وقال-فيما إذا أصابت النجاسة الثواب وهو مبتل -: إنه ينجس قولا واحدا كالماء، وهذه خمس طرق، ووراءها طريقان: إحداهما: القطع بنجاسة الماء دون الثواب، والثانية: عكسها. وما ذكرناه من المثال هو المذكور في أكثر الكتب، وأضاف إليه بعض الشارحين مثالا آخر ذكره الرافعي، وهو أن ينفصل رشاش من موضوع نجس؛ فيقع في الماء، بحيث يرى اضطراب الماء، ولا يدرك جرمه. والضاربون للمثال الأول لم يفرقوا فيه بين أن يكون لما علق بالذبات من النجاسة لون لو قدر مخالفا للون الماء لظهر مخالفته أم لا. وقال الغزالي: لعل الأصح أن ما انتهت قلته إلى حد لا يدركه الطرف مع مخالفته للون ما اتصل به فهو معفو عنه، وإن كان بحيث يدركه الطرف عند

المخالفة فلا يعفى عنه. وللرافعي مباحثة في ذلك. تنبيه: الضمير في قوله: "منه" يعود إلى الماء المطلق؛ لأنه الذي ورد عليه التقسيم من أول الباب إلى هنا؛ ويدل عليه تقييد [الشيخ] المسألة بما إذا كان دون القلتين، وغيره لا يختص محل الخلاف فيه بذلك؛ بل ما دون القلتين وفوقها فيه على حد سواء. فإن قلت: هذا يفهم أن مالا يدركه الطرف من النجاسات إذا وقع فيما ليس بمطلق من الماء أو في مائع طاهر لا يكون حكمه الماء المطلق فيما ذكرنا، ولا

سبيل إلى أن يقال فيه: إنه لا ينجسه قولا واحدا؛ فيتعين أن يكون مفهومه أنه ينجسه قولا واحدا، ويشهد له ما سلف له من الفرق بينه وبين الثواب والماء. وقياس قول الأصحاب: إن الخلاف في تنجيس الماء المطلق القليل بالميتة التي لا نفس لها سائلة, جار في نجاسة غيره من المائعات- يقتضي التسوية بين المائع والماء المطلق هاهنا أيضا للاشتراك في علة العفو، وهي مشقة الاحتراز. قلت: حكاية الشيخ الطرق في تنجيس الثواب بما لا يدركه الطرف تنفي هذا الاحتمال، لكن لك أن تقول: لا نسلم أن القائل بالعفو عن ذلك في الثواب يعلله بما علل به العفو عنه في الماء؛ فإنه يجوز تعليله في الماء بأن فيه قوة الدفع؛ وفي الثواب بأن في طيرانها ما يجففها ونحوه، والحكم في المحل الواحد يجوز أن يعلل بعلتين، فكيف في محلين؟! ولأجل ذلك – والله أعلم - قال بعض الشارحين: إن الخلاف لا يجري في غير الماء المطلق، ولست أعتقد صحة ذلك؛ فإن القاضي الحسين حكى في " باب الأطعمة" عن الأصحاب: أن الفأرة والهرة وغيرهما من حيوانات الأرض إذا وقعت في دهن، وخرجت منه حية؛ لا ينجس، فإذا وقع في الدهن؛ فقد لاقى محلا نجاسا فوجب أن ينجس، ومعلوم أن من جملة الحيوانات ما لا يدرك ما على منفذه من النجاسة. والخلاف بين القاضي [الحسين] والأصحاب في مسألة الدهن محكي في الماء القليل أيضا؛ صرح به الإمام وغيره. فإن قلت: هل يمكن ترتيب الخلاف في ذلك على الخلاف في نجاسته بما لا يدركها الطرف، فإن قلنا: ينجس بما لا يدركها الطرف فهاهنا أولى؛ لأن النجاسة هنا يمكن إدراكها، وإلا فوجهان. قلت: لا، بل المأخذان مختلفان: فمأخذ الخلاف فيما لا يدركها الطرف النظر.

إلى المشقة وإلى تحقق النجاسة، ومأخذ الخلاف هنا غيره؛ [لأننا لا نتحقق النجاسة على منفذ ذلك الحيوان]؛ لاحتمال أن يكون قد وقع في ماء كثير قبل ذلك؛ بل مأخذه النظر إلى الأصل والظاهر. ومن هذا القبيل ماإذا أكلت الفأرة شيئا نجسا، ووردت على ماء قليل؛ فإن الطريقة المشهورة التي لم يورد الماوردي والقاضي الحسين والفوراني غيرها: أنها إن لم تغب الورود عليه نجسته، وكذا إن غابت ولم يحتمل ورودها على ماء كثير. ولو غابت واحتمل الورود على ماء كثير، ففي نجاسته وجهان: أحدهما -في "الحاوي" -:التنجس أيضا. ومنهم من يجري الوجهين في الجميع؛ كما حكاه البندنيجي وغيره؛ فتحصل ثلاثة أوجه، [كما] حكاها الغزالي وغيره، ثالثها: إن غابت قبل الورود عليه، واحتمل ورودها على ماء كثير؛ لم تنجسه، وإلا نجسته. والطريقة المفصلة تجري في مسألة ولوغ الحيوان حيا في الدهن ونحوه. قال: وإن كانت-أي: النجاسة -واقعة في الماء القليل مما يدركها الطرف: فإن كانت ميتة لا نفس لها سائلة، أي لا دم لها يسيل إذا قتلت أو شق عضو من أعضائها، وذلك مثل: الذباب، والبعوض؛ وبنات وردان، والعقارب، والخنافس، وهل الوزغ

والحيات من ذلك؟ قال الدراكي وأبو حامد الإسفراييني: لا، وقال الصيمري: نعم قال: لم تنجسه في أحد القولين؛ لقوله -عليه السلام _:"إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليملقه -وروي: فليغمسه -فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء، وإنه يبدأ بجناحيه الذي فيه الداء" رواه البخاري.

وجه الدلالة منه: أن الطعام قد يكون حارا؛ فيموت بالمقل، فلو كان نجسا لما أمر بمقله؛ ليكون شفاء لنا، وقد قال:" إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها"، والمقل: الغمس. قال: وهو الأصلح للناس؛ لما فيه من رفع الحرج؛ ولهذا اختاره المزني. وهو في" تعليق البندنيجي" ونسبه في " النهاية" و "الكافي" إلى الجديد، وهو الأصح في "الحاوي" و"الشامل" وغيرهما. وفي الحاوي وتلخيص الروياني منسوب إلى القديم. وادعى ابن المنذر أنه لا يعرف أحدا قال بنجاسته غير الشافعي. وأبو الطيب حكى أن محمد بن المبارك ويحيى بن أبي كثير قالا به أيضا.

قال: وتنجسه في الآخر، وهو القياس -أي: على سائر الميتات -فإنه موافق لها في نجاسته بالموت فكذا في تنجيس الماء القليل به، وبكونه حيوانا لا يؤكل بعد موته؛ لنجاسته، فإذا ورد على ماء قليل بعد موته نجسه كالذي له نفس سائلة. أو نقول: نجاسة مشاهدة وردت على ماء قليل فنجسته؛ كسائر النجاسات. قال: أبو الطيب: ولا يلزمنا دود الخل ونحوه إذا مات فيه؛ لأن تلك نجاسة لم ترد عليه، وإنما هي مخلوقة منه. وهذا القول حكاه البندنيجي عن القديم، وقال أبو الطيب: إنه المنصوص، وأجاب عن حجة الأول: بأن مقله لا يوجب موته؛ فلا حجة لهم فيه، وأيضا فإنه – عليه السلام – إنما قصد بيان السم والشفاء، ولم يقصد النجاسة والطهارة، وهذا كما نهى عن الصلاة في معاطن الإبل، ورخص في مراح الغنم، ولم يقصد النجاسة والطهارة؛ وإنما قصد أن في معاطن الإبل لا يصح الخشوع، وفي

مراح الغنم يصح. وهذا مجموع ما رأيته للعراقيين، وهم متفقون على نجاسة الحيوان نفسه مع إجراء الخلاف في تنجيس الماء به حتى دود الطعام، والقول بنجاسة ذلك رواه محمد بن إسحاق بن خزيمة عن رواية المزني، واستدل له بقوله تعالى [فإنه رجس] وهو عائد إلى جميع ما ذكر، والرجس: النجس. والإمام جزم بطهارة دود الطعام، ثم حكاه عن الصيدلاني؛ لأنه لا ينتقل عنه، وكذا حكاه الماوردي عن بعض أصحابنا بخرسان؛ ويدل عليه جواز أكله مع الطعام؛ على الأصح؛ كما قال في "الوجيز". وعن القفال أنه طرد القول بالطهارة في كل حيوان لا نفس له سائلة مع القطع بتحريم أكله مستدلا بأن ما لا دم له بمنزلة الجمادات؛ لانتفاء الدم المعفن في البطن؛ والرطوبة التي فيه بمنزلة رطوبة النبات. وقال القاضي الحسين في "تعليقه": إنه [قد] حكي عن رواية المزني عن

الشافعي، وأن القفال خرج الخلاف في نجاسة الماء بموته فيه على الخلاف [في] أنه هل تنجس بالموت أم لا؟ والمشهور الأول. وعن صاحب " التقريب " أنه خرج قولا فارقا بين ما تعم به البلوى: كالذباب ونحوه؛ فلا ينجسه، وبين ما لا تعم به البلوى كالخنافس، والعقارب؛ فينجسه. التفريع: إن قلنا [بالأول]: إنه ينجس الماء، فلا فرق بين أن يقل أو يكثر. وإن قلنا: لا ينجسه، فذالك إذا لم يغيره؛ لقتله، فلو كثر وغير [طعمه، أو لونه، أو ريحه] فوجهان، حكاهما العراقيون عن رواية أبي حفص بن أبي العباس عن أبيه: أصحهما في "تلخيص الروياني": لا؛ كما لو تغير بطاهر؛ وهذا ما يقتضيه كلام الشيخ. نعم هل يجوز استعماله في الطاهرة؟ قال في "الروضة" وغيره: لا. وقال "الإمام": إن قلنا: إن هذا الحيوان لا ينجس إلا بالموت، فلا ينجس الماء وإن غيره، وأقرب معتبر فيه أن تجعل تغير الماء كتغيره بأوراق الأشجار؛ فإنها بمثابتها على هذا القول. والثاني: أنها تنجس؛ كما لو تغير بوقوع قطرة بول أو خمر؛ وهذا أصح في "الروضة". والخلاف جار كما قال في "الكافي" فيما إذا كثر دود الطعام حتى غيره. وقد أفهم قول الشيخ:" وإن وقع فيما دون القلتين"، ثم قوله: "وإن كانت مما

يدركها الطرف ... " إلى آخره -أن ما كان نشوءه من الماء: كالعلق إذا مات فيه لا ينجس قولا واحدا [وهو قياس قول الأصحاب: إن دود الطعام فيه لا ينجس قولا واحدا]. نعم، لو أخذ ما نشوءه من الماء، ووضعه في ماء آخر بعد موته _ قال الرافعي: كان ينجسه على الخلاف. ومثله قول ابن الصباغ والقاضي الحسين -فيما إذا أخذ الطعام ووضعه في طعام آخر أو ماء قليل _: إنه على القولين. لكن الماوردي جزم القول بالنجاسة فيما إذا أخذ دود الطعام ووضعه في آخر؛ لإمكان الاحتراز منه، وقضيته طرد ذلك في الصورة الأخرى ثم من كلام ابن الصباغ والقاضي الحسين يؤخذ أن [الخلاف] في نجاسة الماء بما لا نفس له سائلة يجري وإن طرح فيه قصدا. قال: وإن كان أي: الواقع فيما دون القلتين غير ذلك أي: غير النجاسة التي لا يدركها الطرف، والميتة التي لا نفس لها سائلة من النجاسات_نجسه، أي تغير، أولم يتغير، وهو فيما إذا تغير ثابت بالإجماع، وفيما إذا لم يتغير مختلف فيه [بين الأئمة]. وحجتنا على الخصم -وهو مالك رحمه الله -ما روى أبو هريرة رضي الله عنه -عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في وضوئه، إنه لا يدري أين باتت يده؟ " رواه البخاري ومسلم، ولا

معنى لنهيه -عليه السلام -عن ذلك إلا أنه ينجس وإن كنا نعلم أن اليد لا تغير الماء. روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا كان الماء قلتين لم ينجس"و "إن"

و"إذا" للشرط؛ فدل على أنه إذا كان دون القلتين ينجس، ولأن الماء القليل يمكن حفظه من النجاسة من غير مشقة، بخلاف الماء الكثير، فافترق حكمهما وعفي عنها في الكثير دون القليل. فإن قيل: قد قال -عليه السلام _: "الماء طهور لا ينجسه شيء".

.............................................................................

قلنا: هو المحمول على [الماء الكثير]؛ جمعا بين الأخبار. وما ذكره الشيخ هو المشهور. وعن صاحب "البحر" حكاية وجه: أنه لا ينجس، راكدا كان أو جاريا. وقال في "الحلية" له: إنه المختار، ويقال: إن الغزالي اختاره في"الإحياء"، والمذكور في "الوجيز" الجزم به وفي "الحاويط كما سنذكره. تنبيه: قول الشيخ:" وإن كان غير ذلك من النجاسات نجسه" يقتضي أن الآدمي إذا مات في الماء كان في نجاسته [للماء] قولان؛ بناء على القولين في طهارته والأمر كذلك؛ صرح به القاضي الحسين وغيره. وهو يفهم أن الماء القليل لا ينجس بموت السمك فيه، وكذا ماأبحنا أكله من حيوانات البحر بدون ذكاة، دون ما وقفنا حله على ذبحه، أو لم ينجسه أصلا على رأي كما ستعرفه، والأمر كذلك. وقوله:" وإن وقع فيما دون القلتين منه نجاسته ... "إلى آخره يفهم أن الماء إذا كان واقعا عليها لا يكون الحكم كذلك، والكلام في هذا يحال على باب إزالة النجاسة. نعم، فيه شيء لم يذكره ثم، وهو أن الإناء إذا كان فيه بول أو نحوه فصب عليه من الماء ما غمره -وهو كما قال البندنيجي سبعة أضعافه فأكثر -ولم يتغير الماء، ولم ينته إلى حد الكثرة – فهل يحكم بنجاسة الماء أم لا؟ [فيه خلاف]. قال أبو علي في " الإفصاح": لا، ويطهر الإناء؛ وهذا أشبه بكلام الشافعي؛ لأنه قال في اختلاف الحديث:" إذا ورد الماء على النجاسة لم ينجس؛ لأنا لو قلنا: ينجس لم يطهر الثوب". وقال غيره: نعم؛ لأنه -عليه السلام -قال في الكلب يلغ في الماء "فليهرقه، ثم

ليغسله سبعا" وإذا قلنا: إنه يطهر كان في جواز التطهير به ما سنذكره في الماء القليل النجس إذا كوثر حتى زال تغيره ولم يبلغ قلتين. فرع: إذا أخبره عدل أن هذا الماء نجس -قال الأصحاب: فلا يرجع إلى قوله؛ لأن المذاهب مختلفة في التنجيس، فقد يعتقد المخبر ما ليس بنجس نجسا. نعم، لو كان المخبر يعلم أن المخبر يعتقد أن أنياب الباع طاهرة، وأن الماء إذا كان قلتين لا ينجس، إلا بالتغيير -فقد قال الشافعي: إنه حينئذ يقبل منه، ويرجع إليه. ولو ذكر له من يثق بقوله: أنه رأى كلبا ولغ فيه، أو وقع فيه بول، ونحوه -رجع إليه سواء كان حرا أو عبدا، ذكرا أو أنثى، بصيرا أو أعمى؛ كما حكاه ابن الصباغ والبندنيجي وغيرهما وغيرهما في باب الآنية. وفي قبول قول الصبي في [مثل] ذلك خلاف يأتي مثله. نعم، لوشهد واحد: أنه رأى الكلب ولغ في هذا الإناء، وآخر: أنه ولغ في غيره -حكمنا بنجاستهما؛ نص عليه في "حرملة". ولو شهد اثنان: أنه وقت الزوال ولغ في هذا الإناء، وآخر، وفي ذلك الوقت ولغ من هذا ولم يلغ في غيره – قال الإمام_: عمل بقول أوثقهما. وقال أبو الطيب: تعارضت البينتان: فإن قلنا بالتساقط صار كأن لا بينة، ويستعمل أيهما شاء. وإن قلنا بالاستعمال، فلا يأتي قول القرعة، ولا قول القسمة، ويتعين

الوقف؛ فيدعهما ويتيم ويصلي، ويجب عليه الإعادة؛ لأن معه ماء مظنون الطهارة. قال: وإن كان الماء -أي: الذي وقعت فيه النجاسة -قلتين ولم يتغير، فهو طاهر؛ لما روي عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: قلت: يا رسول الله، إنك تتوضأ من بئر بضاعة، وإنها يلقى فيها المحايض ولحوم الكلاب، قال النبي _صلى الله عليه وسلم_:" الماء طهور لا ينجسه شيء" وكان ماؤها إذا زاد بلغ العانة، وإذا نقص بلغ دون العورة؛ [كذا ذكره أبو داود] وقال: إنه مسحها بردائه فكانت ستة أذرع. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" رواه أبو داود والترمذي، وصححه الدارقطني، ورواية الشافعي:"إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر لم يحمل نجسا" ومعنى "لا يحمل"أي: يدفع عن نفسه؛ كما يقال: فلان لا يحمل الظلم، أي: يدفعه عن نفسه. ويعضده رواية أحمد:" إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء". والحكم فيما إذا كان الماء دون القلتين، وورد عليه ماء نجس كمل به قلتين كالحكم فيما إذا وقعت فيه النجاسة وهو قلتان بل لو جمع قلة نجسة ومثلها في موضع واحد طهرتا إذا لم يكن ثم تغير، ولا يضر تفريقهما بعد ذلك. ولو كان الماء في موضعين، وبينهما اتصال يحصل معه التراد والتدافع، فالحكم كذلك. ولو كان لا يحصل: كما إذا كان في حفرتين قلتان، وبينهما نهر صغير غير عميق، وفي ما يتصل كل طرف منه بحفرة [منهما فإذا] وقع في إحدى الحفرتين نجاسة، قال الإمام: لست أرى أن ما في الحفرة الأخرى دافع لتلك النجاسة بحكم الكثرة والذي اشتهر فيه خلاف الأصحاب: أنه إذا كان معه ماء مطلق ناقص قدر جرة أو كوز، فغمس فيه كوزا أو جرة فيها من الماء النجس ما يكمل به قلتين، هل يحكم بطهارة مافي الجرة والكوز بهذا الاتصال أم لا؟ فيه وجهان، أصحهما [فيما إذا كان

الإناء ضيق الرأس: عدم الطهارة، ولم يحك الإمام عن الأئمة غيره، و] فيما إذا كان وايع الرأس الطهارة. نعم، هل يطهر على الفور، أوبعد مكثه زمانا يمكن ان يزول فيه تغير ما [في الكوز] لو كان متغيرا؟ فيه وجهان: اختيار الشيخ أبي محمد الأول، وهو الأصح في "الكافي". وقال الإمام: لست أعده من المذهب، واختار ترجيح مقابله، وهو الأظهر في "الرافعي". ثم إذا لم نحكم بطهارة ما في الإناء حكمنا الماء الآخر. والخلاف جار في عكس المسألة: وهو ما إذاكان في الجرة [ماء] طاهر والمغموس فيه ماء نجس، هل [نحكم بطهارته] أم لا؟ فإن لم نحكم بطهارته حكمنا بنجاسة ما في الجرة. ويجري أيضا فيما لو كان الماءان نجسين. والقلتان عند الشافعي خمسمائة رطل بالبغدادي؛ لأنه روي بإسناد لم يحصره بقلال هجر [كما سلف] فكانت هذه الرواية مقيدة للرواية المطلقة. وقلال هجر كانت معروفة عندهم، ولذلك قال في حديث الإسراء في وصف سدرة المنتهى" فإذا ورقها كآذان الفيلة وثمرها مثل قلال هجر" فلو لم تكن معروفة

لهم ما شبه بها. وقد قيل: إنها كانت تعمل بالمدينة. قال الشافعي: والشيء إذا قرن بالكامل يطلق على ما دون النصف؛ فاستظهرت فجعلت الشيء نصفا، ولأنه غاية الشيء المضاف إلى القربتين. قال أبو إسحاق: ونسبت إلى هجر، وهو موضع بقرب المدينة؛ لأنها أول ما عملت به. قال ابن الجريح: ولقد رأيت قلال هجر، فرأيت القلة [منها] تسع قربتين، أو قربتين وشيئا ولأن ما زاد على النصف يقال فيه: ثلاثة إلا شيئا، ,لأنه شك فيه، ولو كان أزيد من النصف لما شك فيه. وإذا جعلت القلة قربتين ونصفا كان مجموع القلتين خمس قرب. وقرب الحجاز صغار وكبار -كما قال البندنيجي والروياني عن الشافعي -لا تسع الواحدة منها أكثر من مائة رطل. فثبت بما ذكرناه [أن القلتين] خمسمائة رطل، وذلك بالأمنان مائتان وخمسون منا. وقد قيل إنهما ألف رطل؛ لأن أكثر ما تسع القربة مائتا رطل؛ فنزلنا قول ابن جريح عليها؛ وعلى هذا يكون بالأمنان خمسمائة من. وقيل: إنهما ستمائة رطل، وبالأمنان ثلاثمائة من، وهو اختيار القفال والزبيري صاحب "الكافي" -كما قال الإمام والفوراني -لأن"القلة" مأخوذة

من استقلال البعير وأبعرة الحجاز ضعاف لا تستقل بأكثر من وسق، وهو ستون صاعا؛ فيكون مائة وستين منا؛ فالقلتان ثلاثمائة وعشرون منا، فيذهب الوعاء والحبل بعشرين، ويبقى الخالص ثلاثمائة [من]، وادعى الغزالي: أن هذا ما عليه الفتوى، وهو في هذا متبع للفوراني؛ فإنه هكذا قال. لكن الصحيح في "الكافي" للخوارزمي وغيره من كتب العراقيين الأول، وهو ما حكاه الماوردي عن سائر الأصحاب. ويتايد بأن القلة -في اللغة_: هي الجرة العظيمة، سميت بذلك؛ لأن الرجل العظيم يقلها بيده، أي: يرفعها عن الأرض. فعلى هذا: فتقديرها بالمساحة ذراع وربع طولا وعرضا وعمقا عند تساوي الأضلاع وإن اختلفت فالمعتبر قدر ذلك بالحساب إذا كانت النجاسة الواقعة فيه مائعة، فإن كانت جامدة فسنذكر حكمه. وهل الخمسمائة رطل تقريب أو تحديد؟ فيه وجهان: كلام بعض المصنفين -ومنهم الفوراني -يقتضي طردهما في كل ما جعلناه حدا لهما. واختار ابن سريج وغيره أن ذلك تقريب، وهو الأصح في "الكافي" و"الوسيط" و"الرافعي". واختيار أبي اسحاق الثاني. [وقال الشيخ أبو بكر]: وهو الأصح عند أبي الطيب وغيره؛ كما قال الإمام. فعلى هذا لو نقص رطلا واحدا أو أقل منه ضر. قال الإمام: وهذا عندي إفراط؛ فالوجه في التفريع على هذا أنه لو نقص ما

يظهر، ولا يحمل على تفاوت يقع في كرات الوزن، هو [الذي] ينقص الحد. وعلى الأول لا يضر نقصان رطل ورطلين؛ كما قال الماوردي والفوراني وغيرهما وهو ما حكاه الغزالي عن الأكثرين، وقال: إنهم لم يسمحوا بثلاثة، وهذا ما حكاه الإمام عن شيخه. ومنهم من لم يسمح بأكثر من ثلاثة؛ حكاه أبو علي في "الشرح" ولم يورد في "الكافي" غيره. وفي" تعليق القاضي الحسين": أنه لا يضر على هذا نقصان من ومنين وثلاثة. وعن صاحب "التقريب": أنه لا يضر نقصان نصف قربة من قلة، وهو الذي تردد فيه ابن جريح، وهو ما حكاه المتولي في التفريع على هذا الوجه. قال الإمام: ولعل صاحب" التقريب" رد القلتين على هذا إلى أربعمائة رطل، ويسقط محل التردد، ثم يقع في الأربعمائة تقدير التقريب، ولست أعده من المذهب، وإنما هو خطأ ظاهر. وقال الغزالي: لعل الأقرب أن يقال: إذا نقص قدرا لو طرح عليه شيء من الزعفران لو قدر طرحه على الكل، لظهر التفاوت في الحس -فهو مؤثر، وإلا فلا. وهذا الضابط أولى من التقدير بالأرطال، فإن ذلك يسوق إلى التحديد بالأرطال، وهذا ما أبداه الإمام. وعلى هذا لو وقعت النجاسة في ماء، وشك [فى أنه] هل نقص عنهما نقصا يضر أم لا؟ فيه احتمالان للإمام: ينظر في أحدهما إلى أن الأصل اعتبار القلة وهو الظاهر، وفي الآخر [إلى أن الأصل عدم] النقص الفاحش.

والمذكور في"الحاوي" وغيره فيما إذا شك بعد وقوع النجاسة في الماء هل هو قلتان أو أقل: فهو نجس. وقال في "الروضة": المختار، بل الصواب الجزم بطهارته؛ لأن الأصل طهارته. وقد أفهم قول الشيخ أمرين: أحدهما: [أنه] إذا كان عدم تغيره؛ لموافقة النجاسة له في الصفات، ولو قدر مخالفا له لغيره -لا يضر، وهو ماش على أصلهم في أن الاعتبار عند إلقاء المائع الطاهر على الماء المطلق بالأكثر، لكن المتولى جزم القول بأن الاعتبار في هذه الصورة باحتمال التغيير عند المخالفة، وفرق بينها وبين ماإذا ورد المائع الطاهر على الماء على وجه؛ فإن الطاهر لا يضاد الماءمن كل وجه فعلقنا الحكم بالغلبة. والنجاسة تضادها من كل وجه؛ فلا يمكن اعتبار الغلبة؛ وهذا ما حكاه الرافعي أيضا، وقال: إن التفرقة بينهما تقع من وجه آخر، وهو أنا ثم نعتبر التقدير بالوسط كما سلف، وهنا نعتبره بأشد الصفات. الثاني: أنه لا فرق في الحكم بالطهارة عند عدم التغيير بين أن تكون النجاسة مائعة كالبول أو جامدة كالميتة، وهو ما حكاه العراقيون. نعم، قالوا: إن كانت النجاسة مائعة، هل يجوز استعمال الجميع، أويبقى قدر النجاسة؟ فيه وجهان: المذهب منهما -كما قال البندنيجي وأبو الطيب -الأول، وهو الأصح في "النهاية". قال الرافعي: والوجه الثالث المذكور فيما إذا اختلط المائع [بمائع] طاهر جار ها هنا. وقالوا -فيما إذا كانت النجاسة جامدة_: إن خرجت من الماء جاز استعماله جميعه، وإن لم تخرج منه: فإن كان الماء أكثر من قلتين، قال ابن القاص وأبو إسحاق:

يجب أن يستعمل من موضع يكون بينه وبين النجاسة قدر قلتين؛ لأنه لا حاجة [به] إلى أن يستعمل الماء وفيهةالنجاسة فليبتعد عنها؛ وهذا ما حكاه الإمام وغيره من المراوزة عن الجديد. وقال ابن سريج، والإصطخري وعامة أصحابنا كما قال أبو الطيب وصححه: إنه يستعمله كيف شاء؛ لقوله -عليه السلام -:" إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس"؛ وهذا ما حكاه الإمام وغيره من المراوزة عن القديم وصححوه. قال ابن الصباغ: وما ذكره أبو إسحاق وابن القاص غير صحيح؛ لأنه ماء محكوم بطهارته، والاعتبار بجميعه؛ فلا معنى لما ذكره، وهذا فيه منع؛ لأن المراوزة نقلوا عن أبي اسحاق: أنه قال بنجاسة ما جاوز النجاسة إلى قدر قلتين، وروده بأن ذلك يؤدي إلى تنجيس ما وراء القلتين بمقدار قلتين، وهكذا، ولا قائل به. وإن قلنا يقول أبي إسحاق الذي نسبه المراوزة إلى الجديد -قال القاضي الحسين: قال القفال [من] أصحابنا: لم يذكروا في كيفية اعتبار القلتين حدا، وقالوا: لو كان في [بحر] عظيم، وتباعد عن النجاسة قدر نصف ظفر، واغترف منه يجوز؛ لأنه في العمق قد بلغ قلالا كثيرة. وعندي يجب أن يكون بين موضع النجاسة والاغتراف قدر قلتين على استواء الأضلاع في الطول والعرض والعمق. فأما إذا كان متفاوتا فلا يجوز؛ وهذا ما حكاه الإمام ومن تبعه، ووجهه: بأنا إنما راعينا ذلك؛ لأن العمق الخارج عن هذه النسبة لا يصلح أن يكون حائلا. وقال القاضي الحسين تفريعا على هذا: المعتبر أن يكون بينه وبينها ذراع وربع في عرض ذراع وربع، بعمق ذراع وربع؛ وهذا إذا كان له عرض [فإن لم يكن له عرض] فيعتبر الطول والعمق -قال في "التتمة" -بمقدار ما فات من العرض في الحساب. قال: وكذا لو عدم العمق، وكان له طول وعرض، يزيد في الطول والعرض بقدر ما

عدم من العمق بطريق الحساب. كذا لو عدم الطول، وكان له عرض وعمق يعتبر الفائت بالحساب ويزيد في العرض والعمق؛ إذ لا مزية لعرض الماء على طوله وعمقه؛ فجاز أن يعتبر قدر القلتين [من إحدى هذه الجهات. والقاضي الحسين يقول: إنه لو كان منبسطا على الأرض النجسة لا يجوز أخذه بالكوز إلا أن يكون بينه وبين جرم النجاسة قدر قلتين] عمقا وطولا، وإذا [كان] أقل من ذلك [لا يجوز]. وعلى ما قاله الأصحاب قال الفوراني: إذا كان بينه وبين النجاسة قدر شبر، فيأخذ طول شبر في عرض شبر في عمق شبر. فإن كان بينه وبينها شبران فيأخذ طول شبرين في عرض [شبرين] في عمق شبرين، وقس على هذا. وإن قلنا بما قاله ابن سريج، ونسبه المراوزة إلى القديم: لو كان الماء على مستو من الأرض عمق شبر أوفتر مثلا بحيث لا يكون التراد، فهل يجب التباعد؟ فيه وجهان ذكرهما الإمام عن رواية المحاملي في القولين والوجهين وإن كان الماء قلتين فقط -كما هي صورة الكتاب -فعلى رأي أبي إسحاق وابن القاص: لا يستعمل شيئا منه، وعلى رأي ابن سريج وغيره: يجوز أن يغتسل فيه ويتوضأ، وهل يجوز أن يتطهر بما يغترف منه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، وهو ما أشار إليه في "الشامل" بقوله -بعد حكاية مذهب أبي إسحاق وابن القاص في هذه المسألة_: ومن أصحابنا من قال هاهنا: لا يجوز الاستعمال لمعنى آخر، وهو أنه إذا غرف منه غرفة فالباقي نجس؛ فيجب أن يكون الذي في كفه نجس أيضا. والثاني: يجوز، وهوالصحيح، ولم يحك في "الكافي" غيره؛ وهذا إذا لم تصعد النجاسة فيما اغترفه ولا سبق إلى ما اغترف به شيء فشيء من الماء، فإن

كان فالكل نجس. قال في "التتمة": وأصل هذا الخلاف إذا كان معه جرة من الماء الطاهر فوضعها في ماء ناقص عن قلتين بقدر مافي الجرة وهو نجس، فهل يطهر؟ فإن قلنا: لا يطهر، لم تجز الطهارة بما اغترفه هنا، وإلا جاز. والمراوزة قالوا في هذه الصورة: هل الماء طاهر أو نجس؟ فيه قولان: الجديد: أنه نجس. والقديم: أنه طاهر، وهو الذي صححه القاضي الحسين والفورانيوالإمام وغيرهم. وعلى هذا لا يجب على المستعمل اجتناب حريم النجاسة أيضا، وهو ما جزم به الإمام، وقال الرافعي: إنه المذهب؛ بخلاف الماء الحاري إذا كان فيه نجاسة جامدة فإنه يتجنبها وحريمها على ما سنذكره. والفرق: أن الجاي يحرك النجاسة، والنجاسة تصادمه فيوجب ذلك تعدي النجاسة. وفي الراكد، قرار الراكد يوجب تساوي أجزاء الماء في النجاسة فالقريب والبعيد على وتيرة واحدة. وقال في "الوسيط": إن [الحريم نجس] في الماء الراكد أيضا. وإذا عرفت أن ماذكرناه عرفت أن عدول الشيخ عن قوله:"وإن كان الماء قلتين ولم يتغير فهو طهور" إلى قوله:"فهو طاهر" لأجل ما ذكرناه من التفصيل والخلاف. قال: وإن تغير فهو نجس؛ لقوله – عليه السلام_:"الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو لونه أو طعمه" رواه ابن ماجه، ومن رواية أبي داود

........................................................................

"خلق الله الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه"، وقيس اللون عليهما؛ لأنه في معناهما، بل أبلغ منهما؛ لأن دلالته على بقاء النجاسة أبلغ من دلالة الطعم عليه؛ كذا قاله ابن الصباغ. وقد قيل: إته جاء في رواية ذكر اللون، ولم يثبتها المحدثون. فإن قيل: كيف يحسن على الأولى قياس اللون عليهما مع أن الحصر في الخبر يقتضي أنه لا يؤثر، والقياس في معرض النص فاسد [الوضع]. قلت: ذلك إذا اقتضى القياس إبطال النص، ونحن هنا لا نبطله، بل نعمل بموجبه، وقد ادعى ابن المنذر إجماع أهل العلم على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة [فغيرت طعمه أو لونه أو ريحه] أنه ينجس ما دام كذلك. وظاهر كلام الشيخ يقتضي أمرين: أحدهما: أنه لا فرق في نجاسته عند التغيير بين أن يكون بالمخالطة أو بالمجاورة: كما إذا ألقيت فيه جيفة فغيرته بريحها, وهو المشهور. وعن الشيخ أبي محمد حكاية وجه آخر: أنه إذا تغير بالمجاورة, أنه لا ينجس كما لو تغير بريحها وهي بقربه والأصح عند الإمام وغيره الأول. الثاني: أنه لا فرق بين أن يتغير كله أو بعضه؛ وهذا ما صرح به في

" المهذب" وغيره, وعبارة ابن الصباغ: "أنه إذا كان في موضع ماء راكد منبسط وفيه جيفة قد تغير ما قرب منها برائحتها ولم يتغير الباقي – فإن الكل نجس وإن كثر؛ لأنه ماء واحد, والماء الواحد لا يتبعض حكمه, فإذا كان بعضه نجسا كان جميعه نجسا. وفي "زوائد" العمراني أن أصحابنا حملوا ذلك على إذا ما كان الماء قلتين فقط ومنهم من بحمل ذلك على ما إذا كان غير المتغير دون القلتين, وأن ظاهر كلام صاحب "المهذب" على الإطلاق. وما حكاه عن الأصحاب يوافقه قول صاحب "التتمة": إن كان غير المتغير قلتين فأكثر لم ينجس؛ لأن ما تغير بالنجاسة لا يزيد على عينها. نعم, لو أراد أن يستقي من غير المتغير فالحكم ما سلف في النجاسة العينية؛ وهذا هو المحكي عن القفال, والأصح في "الروضة" وإن كان ظاهر المذهب في "الرافعي" الأول.

قال: وإن زال التغير بنفسه – أي: بلا سبب من خارج – أو بماء, [أي]: صب عليه أو نبع – طهر؛ لزوال علة التنجيس, وهو التغيير. وطهر: بفتح الهاء, ويجوز ضمها. وظاهر كلام الشيخ: أنه لا فق في طهره بالماء بين أن يكون قدر القلتين أو أقل, وبه صرح الماوردي, وما ذكرناه من الحكم والتعليل في الصورتين هو ما أورده الجمهور. وفي "التتمة" أن الإصطخري قال: [إنه] يطهر فيما إذا زال التغيير بنفسه؛ لأن نجاسته تثبت لوارد فلا تزول إلا بوارد. قلت: ولعله هو القائل من أصحابنا – كما قال الماوردي [وغيره] عند الكلام في مناظرة أبي حنيفة في إزالة النجاسة بالمائع-: إن ارتفاع معنى الحكم ليس موجبا لارتفاع الحكم. وزوال التغيير بالشمس أو الريح أو نبات شيء فيه كزواله بنفسه, صرح به الماوردي غيره. وعلى المشهور إذا عاد التغيير؛ فإن كانت النجاسة جامدة وهي فيه ينجس, وإن كانت مائعة أو جامدة وقد أذيبت قبل التغيير الثاني لم يتنجس؛ قاله الماوردي. قال: وإن زال بالتراب ففيه قولان: أصحهما: أنه يطهر لما ذكرناه. قال الرافعي: ومنهم من يوجهه بأن التراب يوافق الماء في الطهورية فيتعاونان في دفع النجاسة؛ ولهذا يجمع بينهما في إزالة النجاسة؛ وهذا القول ذكره المزنب في "جامعه الكبير" واختاره, ووافق الشيخ على تصحيحه القاضيان: أبو الطيب, وأبو حامد.

ومقابله: أنه لا يطهر؛ كما لو زال [بطرح كافور أو] مسك أو نحوهما فيه, وهذا ما نص عليه في "حرملة" واختاره الشيخ أبو حامد. وقال الفوراني وصاحب "الكافي" والرافعي: إنه الأصح, والروياني: إنه الأظهر. وكلام أبي الطيب يفهم أن القولين منصوصان في "الجامع الكبير" و "حرملة". والماوردي صرح بأنهما مذكوران في "الجامع الكبير" وابن الصباغ صرح بأنهما منصوصان في حرملة. وقد أفهم كلام الشيخ أمورا: أحدها: أنه لا فرق في جريان الخلاف عند زوال لتغيير بين حالة كدورة الماء وصفائه, والمتولي خصه بحالة التكدر, وقال – فيما إذا صفا-: إنه يطهر؛ لأنا قد علمنا أن التراب قد جذب النجاسة إلى نفسه, وفارق أجزاء الماء والكثرة موجودة. قلت: ومساق هذا التعليل أن يكون التراب مع النجاسة التي ضمها [إليه] كنجاسة عينية؛ فيأتي في استعمال الماء ما سلف. الثاني: أنه لا فرق في التغيير الذي زال بالتراب بين أن يكون الطعم أو اللون أو الرائحة, وكلام النقلة مضطرب فيه: فالذي يرشد إليه كلام ابن الصباغ أنه الرائحة فقط, وهو ما حكاه الرافعي عن بعضهم, وقال: إن الأصول المعتمدة ساكتة عن ذلك. قلت: ولا يستقيم [على] ما ذكره المتولي من تخصيص الخلاف بالتكدر, وبعض الشارحين قالوا بما اقتضاه كلام الشيخ, وهو ما يقتضيه كلام غيره؛ فإن في كلام القاضي الحسين والفوراني وغيرهما إشارة إلى أن اللون فيما نحن فيه كالرائحة, وبه صرح في "التتمة", وإذا صج ذلك في اللون كان الطعم مثله, وقال في "الروضة": إن المحاملي والفوراني وآخرين صرحوا به. الثالث: أن زواله بغير التراب من الجامدات لا يطهره جزما، وهي طريقة الشيخ أبي حامد. والفرق: التراب أحد الطهورين؛ فالتحق بالماء؛ ولهذا لو طرحه فيه فغيره

لا يسلبه الطهورية. وبعض الأصحاب طرد القولين فيما إذا زال بالجص والنورة نحوهما، وهي ما صححها الرافعي وغيره قائلين بأن التراب لم يكن مزيلا لكونه طهورا، بل لكونه غير ساتر، والجص ونحوه مثله. وعبارة ابن الصباغ مصرحة بأن القولين منصوصان في ذلك في"حرملة". وقال الروياني في "تلخيصه": إن المزني نقلهما. وفي "الكافي" حكايتهما قولين، وحكاية [الخلاف] في التراب وجهين. قلت: والأصح عندي ما أفهمه كلام الشيخ؛ لأن الجص ونحوه إذا ألقي على الماء المطلق وغيره سلبه الطهورية عند العراقيين، وألحقه بسائر المائعات، حتى لو وردت عليه نجاسة غير معفو عنها نجسته، ولا تزول نجاسته إذا كانت قد غيرته بزوال التغيير، وإذا كان كذلك فزوال التغير بالنجاسة بعد إلقاء ذلك فيه يجوز أن يكون بعد تغيره بذلك وسلب طهوريته؛ فلا ينفع فيه الزوال، ويجوز أن يكون معه، وفي نفعه في هذه الحالة نظر، والأصل الحكم بنجاسته، فيبقى إلى أن يتحقق رفعه، وفارق هذا التغير بالتراب؛ فإنه إذا طرح في الماء قصدا وغيره لا يسلبه الطهورية عند العراقيين، وهو الصحيح؛ فلا جرم بأن الخلاف فيه -والله أعلم -يجري على الطريقة الطاردة للخلاف في الجص ونحوها هو طاهر غير مطهر؛ إذا بقي متغيرا. ولو كان الماء أكثر من قلتين وقد تغير، فهو يطهر بما يطهر به إذا كان قلتين فقط، وبما إذا زال التغير بأخذ شيء منه ولم ينقص عن قلتين. ولو كان الماء أقل من قلتين فطريق تطهيره أن يبلغ قلتين غير متغير، فإن كان متغيرا وهو دون القلتين؛ فصب عليه ماء حتى زال تغيره ولم يبلغ قلتين، فهل يطهر؟ فيه وجهان: أصحهما في "الكافي" و "الرافعي": لا. ويقال: إنه اختيار القفال.

وأصحهما عند الباقين مقابله؛ كما في مسألة النجاسة. وهذا في "النهاية" منسوب إلى ابن سريج، وخصه بما إذا قصد به الغسل؛ بناء على أصله في غسل النجاسة. قال الشيخ أبو علي: وهذا تفريع على أن العصر لا يجب، فأما إذا شرطنا ذلك _ وهو غير ممكن هنا -فإن الوارد لا يتميز عن المورود، فإن الكل نجس. وعلى قول ابن سريج، قال أبو الطيب: ولا تجوز الطهارة به؛ لأنه غسالة النجاسة؛ وهذا ما قال غيره: إنه المذهب. وقال البندنيجي: إنه يجيء على مذهب ابن حيران: أنه يجوز أن يستعمل في الحدث؛ لما ستعرفه. والذي رآه الإمام: أنه لا يطهر ما [لم] يبلغ قلتين، وعد ما صار إليه ابن سريج من الهفوات. وإذا بلغ قلتين جاز استعمال الجميع. وحكى ابن الصباغ وجها: أنه يبقى منه قدر النجاسة. قال القاضي الحسين: لو صب عليه ماء مستعملا حتى بلغ قلتين، فهل يطهر؟ قال: إن قلنا: إن المستعمل إذا بلغ قلتين يجوز التطهر به، طهر هنا، وإلا فلا، كما لو كمله قلتين بمائع. قال: وقال في القديم: إن كان الماء جاريا_أي: قليلا أو كثيرا_لم ينجس إلا بالتغير. لما قسم الشيخ الماء الواقع فيه النجاسة إلى القليل والكثير، وبين الطاهر منه والنجس تفريعا على الجديد -التفت إلى ما انفرد به في القديم، فقال ما ذكره. ووجهه: أن الماء وارد على النجاسة، وليس بمتغير؛ فكان طاهرا؛ كالماء

المصبوب على الثوب النجس إذا لم يتغير. قال [الرافعي]: وهذا ما اختاره طائفة من الأصحاب. ومحل هذا القول كما قال في"التتمة": في الماء الذي يجري على النجاسة الواقفة، وينفصل عنها. وقال: إن صاحب "التلخيص" رواه هكذا عن القديم، والقاضي أبو الطيب قال: إن محله الجرية التي اشتلمت على نجاسة جامدة تجري مجرى الماء لا قبلها ولا بعدها، والجرية تنقص عن قلتين. وكلام صاحب "الكافي" يقتضي تصويره بما إذا وقع في الجرية نجاسة مائعة، ولم تغيره، وهي دون القلتين؛ فإنه قال: المذهب: أنها نجسة. وقيل: فيه قول آخر: أنها لا تنجس؛ وهذا مااقتصر الغزالي على إيراده تبعا لإمامه، ووجهه بأن الأولين ما زالوا يتوضؤن ويستنجون من الأنهار الصغيرة، يعني: و [هي] لا تنفك عن رشاش النجاسة غالبا. قلت: والأقرب ما قاله المتولي، [و] في معناه ما قاله صاحب"الكافي". وأما الجرية التي اشتملت على نجاسة جامدة تجري بجريها فهي شبيهة بالماء الراكد؛ ولذلك قال في"التتمة": فإن كانت قلتين فأكثر ففيها ما سلف، وإن نقصت عن قلتين فهي نجسة. والإمام قال فيما إذا كانت النجاسة تجري بجري الماء في الأنهار التي يحتمل أن تغيرها النجاسة: إنه ينجس من الجرية التي فيها النجاسة، ولعله ما يتغير شكله بجرم النجاسة، وكذا ينجس ما يقرب منها مما ينسب إليها، وهو الذي يحرك النجاسة ويتراد عليها من اليمين والشمال؛ قاله الصيدلاني، وهو فحوى كلام شيخي. وروي وجها آخر: أنه لا ينجس، وهو غريب ضعيف، لا أعده من المذهب. وأما ما وراء ذلك مما عن يمين النجاسة ويسارها إلى جانبي النهر من تلك

الجرية، فقد ذهب [ذاهبون] إلى رعاية قولي التباعد بقدر قلتين فيه، والأكثرون على القطع بأنه لا يجب التباعد عن غير ما ينسب إلى النجاسة، فإن لم نعتبر القلتين في التباعد، فلا كلام، أي: في طهارته، وإن اعتبرنا القلتين، فقد سبق قياسه. ولو كان النهر من الأنهار العظام الذي لا يتوقع تغيره بالنجاسة، والنجاسة جارية فيه -فالذي ذكره المعظم القطع بأنه لا تباعد بقدر قلتين، وإنما يجتنب محل النجاسة فقط، كما مضى مفصلا، ويستوي في ذلك الأمام والوراء واليمين واليسار. وذكر صاحب " التقريب" وجها آخر: أن الأمر في ذلك كما في النهر الصغير، والنهر الصغير إذا كانت كل جرية منه [قدر] قلتين بالنسبة إلى النجاسة اليسيرة _ كالبعيرة مثلا -كالنهر الكبير بالنسبة إلى النجاسة الكثيرة؛ قاله الإمام. وهذا حكم الجرية التي فيها النجاسة وأما ما قبلها من الجريات، فينظر فيه: فإن كانت النجاسة تجري بجري الماء، فهو طاهر، بلا خلاف؛ قاله ابن سريج؛ كما لو كان الماء يخرج من ابريق ويصادف النجاسة؛ فإنه طاهر وإن كان بعضه متصلا بالبعض المتصل بالنجاسة؛ وكذا ما بعد الجرية التي فيها النجاسة طاهر -أيضا _ نص عليه في "الأم". وعن صاحب "التقريب" وجه: أن طهارة ذلك تتخرج على قولي التباعد. قلت: وسأذكر ما لعله خرج منه. وصاحب "الكافي" قال: إن ما مر بموضع الجرية التي وقع فيها عين النجاسة تتخرج طهارته على غسالة النجاسة؛ لأن بوقوع النجاسة في الجرية تنجستن وتنجس النهر، فما يرد على ذلك في حكم الغسالة، ولو كان ما هو أمام النجاسة مرتفعا، فالماء يتراد لا محالة، لكنه قد يجري مع هذا جريانا متباطئا. قال الإمام: فالظاهر: أن حكمه حكم الماء الراكد. ومن الأصحاب من قال: حكمه حكم الماء الجاري. ولست أعده من المذهب. وإن كانت النجاسة واقفة، والماء يجري عليها: فإن كانت ترد الماء، فما ردته

حكمه حكم ما بعدها، وما لم تصل إليه طاهر. وعن صاحب "التقريب" طريقة مخرجة له على قولي التباعد. وما يجري عليها وتحتها وجوانبها قد مضى ما قاله المتولي فيه. وأبو الطيب وغيره من العراقيين قالوا: إن كان دون القلتين فنجس، وإن كان قلتين، ولم يتغير، فهو طاهر. والماوردي وافق على ذلك فيماإذا كانت النجاسة تعم الماء، وحكى فيما إذا كانت راسبة في أسفل النهر ولا تمر بها الطبقة العليا من الماء، أو كانت النجاسة طافية على وجه الماء ولا تصل إلى أسفله، فهل نحكم بنجاسة الطبقة العليا في الصورة الأولى، والطبقة السفلى في الصورة الثانية؟ وجهان: أحدهما: لا؛ لأنها لم تمر على النجاسة، ولا لاقتها؛ فصارت كالماء المتقدم عليها. والثاني: نعم؛ لأن جري الماء إنما يمتنع من اختلاطه بما تقدم وتأخر، وأما ما علاه واستفل من طبقاته فهو بالراكد أشبه، والراكد لا يتميز حكم أعلاه على أسفله. وما يمر على النجاسة القائمة من الجريات: إن كانت كل جرية تنقص عن قلتين، فلم يكن بينه وبين النجاسة قلتان، فنجس على الجديد. وإن كان بينه وبينها قلتان، وهو متصل، فعند أبي إسحاق وصاحب "التلخيص" والقاضي أبي حامد: أنه طاهر. قال الروياني في"تلخيصه":وبه أفتي. قلت: فلعل صاحب"التقريب" خرج ماذكره من هنا. وقال سائر الأصحاب -وهو ما حكاه البندنيجي _: إنه نجس، وإن اتصل بذلك فراسخ مالم يجمع في حوض قلتان؛ لأن لكل جرية حكم نفسها، وهي نجسة؛ وهذا ما نسبه الإمام إلى ابن سريج، ثم قال: فإن قيل: الماء عن يمين النجاسة ويسارها إذا كان يبعد بعدا لا يصدم النجاسة، فهو طاهر، والظاهر: أنه لا يجب اعتبار القلتين فيما عن اليمين واليسار, فإذا انحدر الماء, فكيف يحكم ابن سريج بنجاسة جميع الماء المنحدر؟!

قلنا: إذا امتد الماء، كثر اضطرابه، والتقت الحواشي على الأوساط، وانعكست الأوساط على البطن؛ فيصير الكل كالشيء الواحد. فروع: إذا كان ما حكمنا بنجاسته من الجريات لكونه دون القلتين، يرد على ماء راكد دون القلتين أيضا لكنه يبلغ بالجرية القلتين -فعن ابن سريج: أنه يطهر [الجميع] وإن لم يختلط به، قال: ويعرف ذلك بأن تكون الجرية كدرة، والراكد صافيا؛ كذا حكاه عن البندنيجي وابن الصباغ، ولم يكه غيره، وقال: إن الحكم كذلك فيما لو كان بجانبي النهر موضع منخفض يركد الماء فيه، وما فيه من الماء لا يبلغ قلتين، وفيه نجاسة لم تغيره، لو كان الراكد متغيرا، والجاري يمر عليه، ويتصل به، ولا يخلط به. نعم: لو كان الراكد متغيرا، وكل جرية تمر به قلتان -قال ابن الصباغ: فقياس المذهب: أن يحكم بنجاسة كل جرية؛ لأن الجميع كالماء الواحد، وإذا انفصلت الجرية يحكم بطهارتها؛ لأتها انفصلت وهي قلتان غير متغيرة. قلت: وإذا كان قياس المذهب نجاسة الجرية في حال اتصالها مع كونها قلتين، فالحكم بنجاستها إذا كانت دون القلتين والحالة هذه أولى وتبقى بعد الانفصال كذلك؛ لفقد الكثرة. والإمام قال: إذا كان في حوض ماء راكد، ويدخل إليه ماء ضعيف، ويخرج _ فالمقدار الجاري هو الذي يدخل ويخرج، وما عن جانبيه وما تحت المجرى إلى العمق حكمه حكم الراكد، فلو كان على المقدار الجاري نجاسة تجري بجري الماء، والتفريع على أنه لا يجب التباعد، أو كان الماء كله جاريا، فلا ينجس الراكد – فإنه يجوز في هذه الصورة الاغتراف من جانبي القدر الجاري، فكيف يتعدى حكم النجاسة إلى ما وراءه؟ ولو وقعت النجاسة على [ماء له] حكم الركود، والمقدار الراكد أقل من قلتين، حكمنا بنجاسة الراكد.

ثم حاشية الجاري تلقى في جريانها نجاسة واقفة -وهي الماء الراكد -فقد يقتضي ذلك نجاسة الماء الجاري الضعيف في منحدره؛ فاقتضى قياس ماتمهد: أن النجاسة على المقدار الجاري لا تتعدى إلى الراكد، والنجاسة على الراكد إذا كان لأقل من قلتين يتعدى حكمهما إلى الجاري. ولو كان في وسط النهر حفرة لها عمق، والماء يجري عليها، فقد حكى صاحب "التقريب" نصا للشافعي: أن للماء في الحفرة حكم الركود. قال الإمام: ونحنونقول: إذا كان الماء الجاري يغلب مافي الحفرة ويبدلها ويخلفها في جار، وإن كان يلبث الماء قليلا ثم يزايل الحفرة، فله في زمان اللبث حكم الركود. وإن كان لا يلبث بل يثقل حين كثر، ثم يشتد في الجري، فله في زمان التثاقل حكم الماء الجاري الذي بين يديه ارتفاع وهو متحرك على بطء. وإن كان ما في الحفرة لابثا وفيه نجاسة، والماء يجري عليها، فماء الحفرة نجس، والجاري عليها في حكم الجاري على نجاسة واقفة لا تتزحزح. فائدة: القديم إذا أطلق، فالمراد [به] ما صنفه الشافعي بالعراق، ويسمى: كتاب الحجة. ورواة القديم -كما قال الوياني _: أحمد بن حنبل، والزعفراني،

وأبو ثور. والجديد إذا أطلق فهو ما صنفه وأفتى به بمصر، ورواته: المزني، والربيع المرادي صاحب" الأم" -وقد ذكر الإمام في كتاب الخلع: أن"الأم" من الكتب القديمة، ولم أظفر بذلك لغيره -والبيع الجيزي، والبويطي، وحرملة، ومحمد

بن عبد الله بن عبد الحكم، وعبد الله بن الزبير المكي. وقد اختلف كلام الأئمة في عد القديم من مذهب الشافعي: فقال الإمام في مسألة التباعد: ومما بلغنا ثلاث مسائل في كل منها قولان، والقديم منهما أصح من الجديد: أحدها: هذه. وغيره يقول: إنها أربع عشرة مسألة. وإنها تزيد على ذلك، وستعرفها في مواضعها [إن شاء الله تعالى]. وقال الإمام عند الكلام في سبق الحدث:" إن الشافعي إذا نص في القديم على شيء، وجزم في الجديد بخلافه، فمذهبه الجديد، وليس القديم معدودا من المذهب، لكن أئمة المّذهب يعتادون توجيه الأقوال القديمة". وقد أعاد مثل هذا القول -أو قريبا منه -عند الكلام في جلد الميتة إذا دبغ، كما سنذكره، وقال في باب العاقلة: وقد ذكرت مرارا: أنه لا يحل عد القول القديم من المذهب الشافعي [مع رجوعه عنه].

وحكى القاضي الحسين والصيدلاني وغيرهما خلافا عن الأصحاب في أن الشافعي إذا قال فيالقديم شيئا، ونص في الجديد على خلافه، هل يكون رجوعا عن القديم له [أم] لا؟ وقد ذكرته في أول باب مايفسد الصلاة. وبالجملة: فمن قال شيئا ثم قال بخلافه، فلا وجه لمقلده إلا العمل بالمتأخر [والله أعلم]. قال: وما تطهر به من حدث – أي: كالمستعمل في المرة الأولى في الوضوء عن حدث وغسل الجنابة والحيض والنفاس وغسل الميت إذا قلنا بطهارته. قال: فهو طاهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:" الماء طهور ... " الخبر المشهور. ولأنه ماء طاهر لاقى محلا طاهرا؛ فكان طاهرا؛ كما لو غسل به ثوب طاهر. فإن قيل: لا نسلم أنه لاقى محلا طاهرا؛ فإن أعضاء المحدث نجسة. قيل: لو كان كذلك لتنجس مالاقاه في حال الرطوبة، وقد روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه. قال: غير مطهر في أظهر القولين. اتبع الشيخ في هذه العبارة القاضي أبا حامد، فإنه هكذا قال في "جامعه". ووجه الأظهر منهما ما روي أنه -عليه السلام _:" نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة"، وفي رواية: عن أن تتوضأ المرأة بفضل وضوء الرجل.

ولا يخلو إما أن يكون أراد بالفضل ما في الإناء أو ما ينحدر عن الأعضاء، ولا يجوز أن يكون الأول مرادا؛ لإجماعنا مع الخصم على جواز التوضؤ به، وعليه تدل الأخبار الصحيحة؛ فتعين الثاني. ولأن الأولين مع تحرزهم في طهارتهم لم ينقل عنهم أنهم جمعوا الماء المستعمل، ولو كان التطهر به جائزا لفعلوه؛ لحيازة فضيلة الوضوء خصوصا وفي

الماء قلة عندهم. ولا يقال: إنهم لم يجمعوه للشرب ومع ذلك فشربه مباح؛ لأن عدم جمعه للشرب لما فيه من العيافة؛ وهذا القدر لا يسقط الوضوء. ومقابله: أنه مطهر لقوله تعالى {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} [الفرقان: 48] وطهور ليس بعنى طاهر كما تقرر؛ فهو إذن من الأبنية الدالة على التكرار: كصبور، وشكور، وقتول؛ فإن هذه أسماء لمن تكرر منه الصبر والشكر والقتل، وإذا دلت على التكرار دلت على جواز التطهر به مرة بعد مرة. ولأنه استعمال لم يغير صفة الماء؛ فلم يسلبه الطهورية؛ كما لو غسل به ثوبا طاهرا؛ وهذا القول نسبه القاضي الحسين إلى القديم. ويقال: إنه لم يحكه عن الشافعي غير عيسى بن أبان من أصحاب أبي حنيفة. وأبو ثور قال: إنه سأل أبا عبد الله عنه فتوقف فيه، وعني بأبي عبد الله الشافعي. وعلى هذا متى تغير بالاستعمال سلبه الطهورية، وهل يؤثر فيه التغيير اليسير أة لا بد من الكثير؟ فيه ما سلف بتغيره بالطاهرات؛ لأن تغيره ييكون بما على البشرة؛ قاله الإمام. وقد ذهب بعض الأصحاب -وهو ابن سريج، وابن أبي هريرة -إلى القطع بالقول الأول، وقال: لا نأخذ مذهب صاحبنا من المخالفين، خصوصا وعيسى بن أبان لم يلق الشافعي، ورواية أبي ثور لا تنفي القول ولا تثبته فلا حجة فيها. وعلى هذا فالجواب عن الآية: أن "فعولا" قد روي بمعنى ما يفعل به: كقولهم: سحور، وفطور، ونحو ذلك

ثم إن سلمنا أنها للتكرار، فالمراد ثبوت ذلك في للجنس أو في العضو الذي يمر عليه الماء. والفرق بين استعمال ذلك في الطهارة واستعماله في غسل ثوب طاهر: ما أشار إليه الشافعي: أنه ليس على الثوب والأرض تعبد، بخلاف البدن. وهذه الطريقة أصح عند الماوردي، والأولى طريقة أبي إسحاق والقاضي أبي حامد. ثم لأجل ماذا امتنع استعماله في الطهارة به؟ فيه معنيان: أحدهما: تأدية الفرض به. والثاني: لا، بل تأدي العبادة به. قال الإمام: والمسلكان جميعا لا يصلحان لإثبات أصل المذهب؛ لقصورهما عنه، وإنما معتمد المذهب ما سلف. واحترز الشيخ بقوله: "من حدث" عن المتطهر به من خبث؛ فإن حكمه في الطهارة والنجاسة سيأتي؛ وعن المستعمل لا في حدث ولا خبث المستعمل في الأغسال المسنونة، وفي تجديد الوضوء، وفي المرة الثانية والثالثة في الحدث، والخبث بعد طهارة المحل، وفي المضمضة والاسنتنشاق ونحوها – فإن في جواز الطهارة به وجهين حكاهما ابن سريج: أحدهما: نعم؛ لأن الشافعي جعل العلة فيه في الماء المستعمل كونه أدى به فرضا، وهذا لم يؤد به الفرض؛ ولأجل هذا ادعى الماوردي وابن الصباغ: أنه ظاهر المذهب، وصححاه، وكذا صاحب " الكافي ". والثاني: [لا]؛ لأنه مستعمل فيما أمر الشرع به، وحث عليه؛ فأشبه المستعمل في رفع الحدث. وهذا ما اختاره القفال؛ كما قال الروياني في " تلخيصه" واختاره الإمام وصححه. وقال القاضي الحسين؛ إنه مستبط من قول الشافعي: إن على الناس تعبدا في أنفسهم بالطهارة، وليس على الثواب تعبد ولا على الأرض تعبد.

والوجهان جاريان فيما توضأ به الصبي قبل البلوغ، كما قال القاضي الحسين. وفي " الكافي ": الجزم بأنه مستعمل؛ لأنه مأمور به، مضروب عليه. وهما - أيضا - يجريان فيما اغتسلت به الذمية من الحيض؛ لتحل للزواج أو السيد المسلم: فمن يقول: العلة تأدي الفرض به، يجعله مستعملا، ومن يقول: العلة تأدي العبادة به، فلا؛ لأن الكافر ليس من أهل العبادة. وهذا إذا قلنا: إنه يجب عليها الإعادة إذا أسلمت، أما إذا قلنا: لا تجب الإعادة، فهو مستعمل قولا واحدا؛ قاله الإمام. والمتولي بنى الخلاف على أنه هل يجب التجديد بعد الإسلام أم لا؟ فإن قلنا: يجب، جاز استعماله، وإلا فلا. قلت: ومن هنا يظهر لك عدم جواز الطهارة بما استعمله الصبي في رفع الحدث؛ ولا خلاف في أن المستعمل في الكرة الرابعة في الوضوء والغسل مطهر؛ لأنه لم يتأد به فرض ولا عبادة، وفي معناه ما جدد به الوضوء والغسل، حيث لا يستحب، وما تؤضأ به الحنفي هل يلحق بما توضأ به الشافعي؟ فيه ثلاثة أوجه: ثالثها: إن نوى كان كما لو توضأ به الشافعي، وإلا فليس بمستعمل. قال في " الروضة " والأصح: أنه مستعمل مطلقا. وقد أفهم كلام الشيخ: أنه لا فرق على أظهر القولين [بين] أن يستعمل المستعمل في الحدث في حدث آخر أو خبث، وهو ما عليه عامة الأصحاب؛ كما قال أبو الطيب وغيره، وحكو عن ابن خيران والأنماطي: أن المستعمل في الحدث لا يجوز أن يستعمل في حدث آخر، ويجوز أن يستعمل في الخبث؛ لأن للماء حالين: حالة رفع الحدث، وحالة إزالة الخبث، ولم يستوف إلا إحداهما؛ فتبقى

الأخرى؛ ولذالك قالا: إن المستعمل في الخبث لا يستعمل في خبث آخر إذا حكمنا بطهارته، ويستعمل في رفع الحدث. قال الماوردي: ومنهم من منع استعماله في الحدث أيضا. وفرق بأن حكم الخبث أقوى؛ فلم يجز استعمال المستعمل فيه في غيره، والصحيح الأول. والحالتان إنما تثبتان على البدل، وإلا فللماء قوة إباحية الوضوء والغسل، ومع هذا فالمستعمل في لوضوء لا يستعمل في الغسل وبالعكس. ثم هذا فيما إذا وقع أحد الاستعمالين منفكا عن الآخر، فلو وقعا معا بأن كان على عضو من أعضاء طهارته نجاسة؛ فصب الماء عليه بقصد رفع الحدث، فهل يحكم بطهارة المحل عن الحدث والخبث، أو عن الخبث فقط؟ فيه خلاف قدمته في باب "صفة الغسل"، ومثله [ما] سلف أول الباب، والذي نذكره هنا أن المتولي قال: إن الجنب لو قلب على رأسه ماء، وكان على بعض أعضائه نجاسة، فإن قلنا: إن المستعمل في الحدث يستعمل في الخبث، زالت به النجاسة، واحتاج إلى تجديد غسل ذلك المحل؛ لأجل الجنابة؛ لأنهما فرضان؛ فلا يؤديان بغسل واحد. وإن قلنا: لا يستعمل في الخبث، فهل نحكم بطهارة الموضوع؟ فيه وجهان، أحدهما: نعم؛ لأن الماء قائم على المحل، وإنما ثبت له صفة الاستعمال بعد الانفصال. قال: فإن بلغ قلتين، أي: بلغ الماء المستعمل في الطهارة قلتين، وقد قلنا: [إنه] لا يجوز استعماله إذا كان دونهما – جازت الطهارة به؛ لأن تأثير الاستعمال في الماء دون تأثير النجاسة [فيه]، وقد ثبت أن النجس إذا بلغ قلتين، جازت الطهارة به؛ فهذا أولى. ولأن الكثرة تمنع ثبوت حكم الاستعمال في الابتداء؛ كما نص عليه الشافعي فتمنعه دواما؛ كما في النجاسة؛ وهذا ما نص عليه في " الأم " واختاره ابن سريج وأبو إسحاق وغيرهما.

وقيل: لا تجوز؛ لأن المنع من استعمال عند القلة خروجه عن اسم الماء المطلق بالاستعمال، وبلوغه ألف قلة لا يخرجه عن ذلك؛ وهذا ما حكاه الماوردي عن أبي العباس، واختاره في "المرشد". خاتمة: وصف الماء بالاستعمال لا يثبت له ما دام يتردد على المحل، فإذا انفصل عنه، ثبت له، سواء انتقل عنه إلى الأرض أو إلى عضو آخر، حتى لو انتقل من إحدى اليدين إلى الأخرى، ثبت له حكم الاستعمال. قال في"الروضة":وفي هذه الصورة وجه شاذ محكى في "البيان" في باب "التيمم": أنه لا يصير مستعملا؛ لأن اليدين [كالعضو الواحد] والبدن جميه في الغسل في حكم العضو الواحد في الوضوء، فلا يصير الماء مستعملا بانتقاله من عضو منه إلى عضو آخر. وفي" الحاوي" حكاية وجه آخر: أنه لا يصير مستعملا بالانتقال كما في الوضوء، وصححه المراوزة، وبه قطع الفوراني والمتولي، وذلك مصور بما إذا نزل الماء من على وجهه إلى صدره، وقطع ما بينهما من الفضاء. والأصح [الأول وهو] ما أبداه الإمام احتمالا.

أما إذا انتقل من عضو إلى عضو على الاتصال المحسوس، فالوجه القطع بأنه غير مستعمل؛ كما لو انتقل [في] العضو الواحد في الوضوء من محل إلى محل. نعم قال الخضري: إذا انغمس الجنب في ماء قليل ناويا، ارتفعت جنابته عن أول جزء لاقى الماء، وصار الماء مستعملا. قال: ويخالف ما لو صب الماء عليه حيث لا نحكم بالاستعمال بمجرد الملاقاة؛ لقوة الورود. وعلى هذا فقد يقال: إنه يصير مستعملا بانتقاله عن عضو إلى عضو على الاتصال المحسوس في الجنابة، ومن محل إلى محل في العضو الواحد في الوضوء، والصحيح في مسألة الخضري: أنه لا يصير مستعملا، وترتفع جنابته عن [جميع] جسده، وأنه لا يثبت للماء حكم الاستعمال في حقه إلا بخروجه، وهو محكي عن

نص الشافعي في" الأم"، ورأيت في" الإبانة" أن الخضري رجع إليه. قلت: وينبغي أن يكون استكمال طهارته قائما مقام خروجه [منه، يعني]: لو أحدث بعد استكمالها وقبل خروجه، ورام أن يجدد الطهارة، لا يجوز له ذلك؛ لأنا لم نثبت له حكم الاستعمال قبل استكمال الطهارة؛ لأجل المشقة، وهي منتفية هنا، لكن في "الكافي" في هذه الصورة: أنه يرتفع حدثه به؛ تفريعا على المذهب. وأما استعماله بالنسبة إلى غيره، فيثبت قبل خروجه، وقبل استكمال طهارته، حتى لوأراد آخر أن يغتسل به في هذه الحالة لم يجز، لأن بنا ضرورة إلى بقاء حكم الطهورية للأول، ولا ضرورة بنا هنا إليها في حق الثاني. وفي" الرافعي" حكاية وجه آخر: أنه لا يثبت الا ستعمال في حق غيره إلا بانفصاله، حتى إذا انغمس معه في الماء [آخر] ارتفع حدثه أيضا. وعلى الأول لو انغمسا معا، ونويا تحت الماء جازت طهارتهما، ولو نويا عند إدخال أرجلهما فيه رفع الجنابة ارتفعت عن الجزء الذي اقترنت به النية فقط دون ما بعده، يوافق عليه الخضري وغيره، كما قال بعضهم، وقال في "الروضة":إنه الصحيح. وفيه إشارة إلى أن الاستعمال لا يثبت فيه أيضا على وجه، وهو الذي ذكرناه عن رواية الرافعي في الحدث قبلها. والمذكور في"التتمة"الأول. ولو انغمسا معا، ونوى أحدهما قبل الآخر، قال في "الروضة": فالصحيح أنه يرتفع حدث السابق عن جميع بدنه. وفيه وجه الخضري.

وفرع هذه المسألة: إذا أدخل المحدث الحدث الأصغر يده في الإناء بعد غسل الوجه قاصدا رفع الحدث عنها، ففي ارتفاعه عن جميعها، أو عن أول جزء منها فقط خلاف الخضري وغيره، وبعد انفصالها يثبت له حكم الاستعمال بلا خلاف. نعم لو كان حالة إدخال اليد، قصد الاغتراف فقط، لا يصير الماء مستعملا. فإن قيل: لو قصد المتوضىء بغسل يديه التبرد، وهو غافل عن نية الوضوء، كان في صرف نيته المستصحبة بهذه النية الحاضرة خلاف، فلم لا جرى مثله هاهنا حتى يكون الحكم كما لو أدخلها الإناء ولم يقصد شيئا؟ قلت: لأن من لم يجعل القصد التبرد حكما [قائل] بأنه حاصل بفعله الطهارة وإن لم ينوه؛ فلا يؤثر قصده شيئا، وهنا لا يستلزم وجود أحد القصدين حصول الآخر. ولو أدخل اليد فب الإناء، ولم يحدد قصد رفع الحدث، ولا قصد الاغتراف، قال في "الكافي" وغيره: صار الماء مستعملا عند الانفصال. وعبارة الإمام: إن تصور انتفاء القصدين جميعا، فهو كما لو قصد غسل اليد، فإن من نوى وعزبت نيته، ثم غسل بقية أعضائه من غير قصد، يرتفع الحدث عن أعضائه؛ كذا قال الغزالي.

ويمكن أن يقال: هيئة الاغتراف صارفة للنية المستصحبة إلى قصد الاستعمال؛ وهذا ما حكاه المتولي وجها عن بعض الأصحاب في الغسل من الجنابة، ولم يحك الفوراني فيها غيره. وألحق المتولي مسألة [الوضوء] بها. ويقال: إن البغوي قطع به، وعلى هذا لا يرتفع الحدث عن الكف ما لم يمر [عليه الماء مرة أخرى]. فرع: إذا غسل المحدث رأسه بدلا عن المسح، وقلنا: يجزئه، فهل يصير مستعملا؟ فيه وجهان: في "الحاوي": قال ابن أبي هريرة [لا]؛ لأن المستحق في الرأس مسحه بالبلل الباقي عليه؛ فلم يصر الفاضل عن غسله مستعملا فيه. والثاني: أنه يصير مستعملا، كما لو احتاج في غسل وجهه إلى رطل، فغسله بعشرة؛ فإنه يصير مستعملا؛ وهذا أصح في "الروضة". فلت: وللخلاف التفات على ما سلف في أن النجاسة لو كانت راسبة أسفل الماء الجاري بحيث لا تلاقيها طبقة الماء العليا، هل يحكم بنجاسة [الطبقة] العليا أم لا؟ وفيه ما سلف، والله أعلم.

باب الآنية

باب الآنية الآنية: جمع إناء، كسقاه وأسقية، ورداء وأردية، وجمع الآنية: الأواني، وهي ظروف المياه، فلما ذكر المياه ذكر ظروفها. قال: تجوز الطهارة -أي: تباح -من كل إناء طاهر بالإجماع؛ فلا يحتاج ما ذكره الشيخ إلى قيد كما ذكره بعض الشارحين؛ إذ المدعى جوازها على الجملة، وهو حاصل، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ من شن من جلد، ومن تور من شبه، ومن قدح من خشب، ومن مخضب من حجر. قال: إلا ما اتخذ من ذهب أو فضة؛ فإنه يحرم استعماله -أي: على الرجل والمرأة -في الطهارة وغيرها. ذكر الشيخ غير الطهارة هنا؛ لأمرين: أحدهما: ما ستعرفه. والآخر: أنه محل قيام الدليل؛ قال عليه السلام:" الذي يشرب في آنية

[الذهب] والفضة إنما يجرجر في جوفه نار جهنم" متفق عليه. وفي "نار" روايتان: النصب، والرفع. ومعنى الخبر: أنه يلقى في جوفه بسبب [استعماله] ذلك نار جهنم، ومثله ما جاء في قوله تعالى: {إنما يأكلون في بطونهم نارا} [النساء: 10] والتجرجر: التصوت، يقال: جرجر فلان الماء في حلقه: إذا جرعه جرعا متتابعا يسمع له صوت. وقال -عليه السلام_: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة)، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة" متفق عليه. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، وظاهر النهي التحريم، خصوصا وقد تأيد بالخبر الأول، فإن الوعيد بالعقاب إنما يكون على محرم، وإذا حرم الأكل والشرب فغيرهما من الاستعمالات أولى؛ لأنه دونهما في المعنى الذي لأجله حرما. وبعضهم يقول: إنه -عليه السلام -نبه بذلك على سائر وجوه الاستعمالات؛ كما في قوله تعالى: {الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} [النساء: 10] فإن الوعيد لا يختص بنفس الأكل. ثم تحريم استعمال آنية الذهب والفضة لعينهما أو لمعنى؟ من الأصحاب من رواه مختصا بعينهما، كما اختص بهما القراض والنقدية وغيرهما.

ومنهم من قال: بل إنما حرم ذلك؛ لما فيه من الخيلاء والتزيي بزي الأعاجم. وقال الإمام: الذي أراه أن معنى الخيلاء لا بد من اعتباره؛ فإنه مما يبتدر إلى الفهم، وإذا أمكن اعتبار المعنى فحسمه مع القول بالمعاني بعد. وقد حكى الرافعي ذلك عن العراقيين أيضا، وأثر الخلاف يظهر في مسائل: منها: لو اتخذ آنية من ذهب أو فضة ورصصها من الظاهر، فعلى المعنى الأول يحرم استعماله وعلى الثاني: لا؛ إذ لا خيلاء في ذلك. ولو رصصها من الظاهر والباطن، قال الإمام: فالذي أراه القطع بجواز الاستعمال؛ فإن الإناء من الرصاص وقد أدرج فيه ذهب مستور فيه. قال الرافعي: والذي يجيء على رأى من جعل مناط التحريم العين: التحريم أيضا. وفي "الروضة" حكاية طريقين في المسألة: إحداهما: تخريجه على الوجهين: أصحهما عنده الإباحة. والثانية: القطع بها. قلت: والأظهر التفصيل: فإن كان للرصاص المعمول على ذلك جرم يمكن أن ينفصل فلا يحرم، وإلى هذه الحالة يرشد قول الإمام:" إن الإناء من رصاص، وقد أدرج فيه ذهب" وإن كان لا يتحصل من الرصاص الموضوع عليه شيء جرى الوجهان. ومنها لو اتخذ آنية من رصاص ونحوه، وغشاها بالذهب أو الفضة، بحيث لا يجتمع منه شيء لو عرض على النار -فعلى المعنى الأول: لا يحرم، وعلى الثاني: يحرم؛ لأن الخيلاء موجود فيه، فإن المراد بالخيلاء إظهار أن ذلك آنية ذهب وفضة، وذلك ينكسر به قلوب الفقراء. ومن قال: إن معنى الخيلاء ملاحظ بلا شك، يعلل وجه الإباحة -هنا -بأنه لا يكاد يخفي المموه بغيره فينتقي معنى الخيلاء من ذلك، ولو كان يجتمع من ذلك شيء بالنار، حرم وجها واحدا. وكلام الشيخ يقتضي في الصورة الأولى الجزم بالتحريم، وفي الثانية بمقابله، وإن كان في باب ما يكره لبسه, ألحق المموه بالذهب, بالذهب؛ وهذا كله تفريع على

الجديد في [أن استعمال] آنية الذهب والفضة حرام. وقد حكى الزعفراني عن القديم: أن ذلك مكروه، وليس بمحرم؛ لأن ما فيه الخيلاء والتشبه بالأعاجم لا ينهض حجة في التحريم؛ وعلى هذا فالمموه بالإباحة أولى. لكن الصحيح بالاتفاق الأول، بل قال الإمام: إن المراوزة لا يعرفون غيره، وأنهم نقلوا -[أيضا]-للشافعي في نفي التحريم بخيلاء، ثم أولوه وحملوه على أن المشروب في نفسه لا يحرم. وقد أفهم كلام الشيخ: أنه لا فرق في الآنية بين ما ذكر منها وما صغر: كالمكحلة، والمسعط، والمدهن، والمرشف ونحوه، وبه صرح الماوردي في كتاب الزكاة وألق به [الميل]، وقال: إن استعماله لأجل جلاء العين إذا احتاج إليه يكون مباحا: كربط السن بالذهب. وعن الشيخ أبي محمد تردد في إباحة الظروف الصغيرة من الفضة، وضبط بعضهم الصغير منها بقدر الضبة التي لا تحرم بقصد الزينة. ورأى الإمام القطع بتحريم الكل. قال القاضي الحسين: وإذا أراد الإنسان استعمال الماورد الذي في آنية الفضة، فطريقه أن يقلبه في يساره، ثم يقلبه من يساره في يمينه، ويستعمله؛ فلا يكون محرما. وليس من الاستعمال المحرم شم البخور الذي يصعد من على مبخرة فضة والقرب منها، نعم: الاحتواء على المبخرة منه.

قال: فإن تطهر منه، صحت طهارته؛ لأن المنع لا يختص بالطهارة؛ فلم يقتض الفساد: كالصلاة في الدار المغصوبة، والذبح بسكين الغير، وهذه وهي الفائدة الأخرى التي تقدم الوعد بها. ولأن التطهير يقع بإجراء الماء على الأعضاء، وذلك يكون بعد انفصاله من الإناء. قال: وهل يجوز اتخاذه؟ فيه وجهان: وجه الجواز: أن المنع بالاستعمال دون الاتخاذ. قال البندنيجي وغيره: ولأنه لا خلاف في صحة بيعه. وهذا فيه نزاع مذكور في كتاب البيع. ووجه التحريم -وهو الصحيح -: أن ما حرم استعماله على الرجال والنساء، حرم

اتخاذه على هيئة الاستعمال، كالملاهي. قال البندنيجي وغيره: لأن لا خلاف في وجوب الزكاة فبها، ولو كان الاتخاذ مباحا لكانت لا تجب على قول كالحلي المباح. قلت: وهذا إنما يتم أن لو كانت الزكاة إنما تجب في المحرم، وهي تجب في المحرم والمكروه، واتخاذ الآنية من الذهب والفضة مكروه. ثم الشيخ في حكاية الخلاف [في المسألة وجهين] متبع للماوردي وأبي الطيب هنا، وإلا فقد حكاه البندنيجي وكذا أبو الطيب وغيرهما في كتاب الغصب قولين. ولا جزم قال ابن الصباغ: فبي تحريم الاتخاذ قولان، وقيل: وجهان. قال المراوزة: وعلى الخلاف يتخرج اسحقاق صائغها أجرة عملها، ووجوب الغرم على كاسرها، فعلى الأول: يجب له الأجرة، وأرش النقص على كاسرها، وعلى الثاني: لا يجب ذلك. وفي " النهاية" في الفروع المذكورة بعد باب الوليمة: أنه إذا غصب إناء من ذهب وزنه [ألف، وقيمته] ألف ومائة، وفرعنا على أن اتخاذ الأواني من الذهب حرام – يرجع عليه بألف ومائة على وجه، وذكر له نظيرا ثم. وقد خرج الشيخ أبو محمد على الخلاف في استحقاق صائغها الأجرة: أنه هل يجوز تزيين الحوانيت والبيوت بها من غير استعمال؟ فإن قلنا: يستحق الأجرة، جاز

التزيين بها، وإلا فلا. قال الإمام: والوجه عندي تحريم التزيين بها؛ للسرف مع الخلاف في حرمة الصنعة. ومنصوص الشافعي على احترامها؛ فإنه قال: لو أصدق امرأة إناءين من ذهب أو فضة، وكسرت إحداهما؛ ثم طلقها قبل الدخول فقولان: أحدهما: أن الزواج يأخذ نصف قيمة المنكسر، ونصف الإناء الصحيح. والثاني: يأخذ قيمة نصف الإناءين، ويترك الإناءين في يدها؛ فإن كان من ذهب فيقوم بالفضة، وإن كان من فضة فيقوم بالذهب. قال: وما اتخذ من بلور أو ياقوت- أي: وما في معناه: كالعقيق والفيروزج وغير ذلك، ففيه قولان: أظهرهما: أنه لا يحرم استعماله؛ هكذا رأيته في نسخة عليها خط المصنف رحمه الله. ووجهه: أن الشرع إنما نص على تحريم أواني الذهب والفضة؛ [فاختص المنع بها] وهذا [ما] حكاه الربيع، ونقله المزني وغيره، وهو الأصح في "التهذيب". ومقابله نص عليه في "حرملة ": أنه يحرم؛ لأن في ذلك سرفا؛ فأشبه المتخذ من الفضة والذهب؛ وهذا مت نسب أبو الطيب إلى القديم، ومن هذا الخلاف استنبط ما سلف من أن تحريم آنية الذهب والفضة تعبد أو لأجل الخيلاء والتشبه بالأعاجم؟ فمن قال: إنه لا يتعدى التحريم [آنية] الذهب والفضة، قال بالتعبد. ومن عداه إلى الياقوت ونحوه، راعي المعنى المذكور. والإمام حيث قال: إن المعنى لا بد من ملاحظته، قال: إنما لم تحرم الآنية من الياقوت ونحوه؛ لأنه لا يعرف ذلك إلا الخواص من الناس؛ فلا يحصل التخييل وكسر قلوب الفقراء؛ بخلاف الذهب والفضة؛ فإنه يعرفها الخاص والعام.

وقد رأيت في كلام بعضهم بناء الخلاف في مسألتنا على الخلاف أن تحريم الذهب والفضة؛ أو لعينهما أو لأجل السرف: فإن قلنا: لعينهما، لم تحرم آنية الياقوت ونحوه. وإن قلنا: لأجل السرف، فهو هنا أكثر؛ فيحرم. تنبيه: البلور بكسر الباء وفتح اللام كسنور، قيل: ويجوز بلور بفتح الباء وضم اللام. وقد أفهمك استثناء ما ذكره بعد تعميم القول بجواز الطهارة من كل إناء طاهر _ أن ما عدا المستثنى من الأواني الطاهرة باق على الإباحة، سواء كان خسيسا أو نفيسا؛ بسبب صنعه: كالزجاج المحكم، والخشب ونحوهما، وهو كذلك عندنا، ولا نعرف فيه خلافا إلا ما يحكى عن بعضهم: أن فيما نفاسته في صنعته وجها: أنه يحرم، ولم نره في كتاب يوثق بنقل صاحبه، بل الماوردي والشيخ أبو محمد ألحقا البلور بالزجاج المحكم في الجزم بعد التحريم. نعم: حكى الماوردي وجهين في المتخذ من الطيب الرفيع: كالعود الرفيع، والكافور المصعد، والمعجون من المسك والعنبر، تخريجا على القولين في الياقوت ونحوه. وأفهمك تقييد الطهارة الاحتراز عن الإناء النجس عينا؛ كالمتخذ من جلود الميتات قبل الدباغ والنجس بغيره -فإن فيه تفصيلا، وهو [أنه] إن كان ما فيه دون القلتين فلا يجوز، وليس ذلك لنجاسة الإناء، بل لنجاسة ما فيه: فإن تصور أن يكون طاهرا كما ذهب إليه بعض الأصحاب في الإناء الطاهر الذي ولغ فيه الكلب _ كما ستعرفه في بابه -جازت الطهارة منه.

[وإن كان ما فيه قلتين، فقط بني جواز الطهارة منه] على وجوب التباعد من النجاسة: فإن قلنا: يجب، لم تجز الطهارة [منه]، وإلا جازت بما يغترفه منه أول مرة. وإن كان أكثر من قلتين، فيجوز الطهارة منه، من الموضع الذي يكون بينه وبين النجاسة مقدار قلتين، وأما مابينه وبين النجاسة دون القلتين، فعلى الخلاف. وأواني المشركين هل تلحق بالأواني الطاهرة او بالمتنجسة؟ الكلام فيها وفي ثيابهم واحد، وهو أنه ينظر: فإن كانوا لا يتعبدون باستعمال النجاسة: كأهل الكتاب فهي كآنية المسلمين وثيابهم، واستدل لذلك في الأواني بقوله تعالى:} وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم {[المائدة:4] ومعلوم أنهم يطبخون في اوانيهم، واو كانت نجسة لما حل المطبوخ فيها، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة، وتوضأ عمر من جرة نصرانية، حكاه في "المختصر". والجرة: إناء من فخار. نعم: فال الأصحاب: يكره استعمال ذلك، لأنهم لا يتحرزون من النجاسات. قال الشافعي: وأما مايلي أسافلهم - أي: من الثياب – أشد كراهة. وخص البندنيجي الكراهة بما عدا آنية الماء، وقال: إن استعمال آنية الماء غير مكروهة، ويشهد لقوله فعله عليه السلام وفعل عمر. وإن كانوا يتدينون باستعمال النجاسة: كطائفة من المجوس، والبراهمة من

الهنود الذين يغتسلون بأبوال البقر، تقرباً ففي جواز استعمالها وجهان أخذا من القولين في تعارض الاصل والغالب, والأصح منهما في "التتمة" التحريم, لما روي في حديث أبي ثعلبة الخشني أنه قال: يا رسول الله: إنا ننزل بلاد المشركين ونطبخ في قدورهم ونشرب في أوانيهم؟ فقال: استغنوا عنهم ما استطعتم, فإن لم تجدوا عنها بدا فارحضوها بالماء, فإن الماء طهور". وفي "تعليق البندنيجي": أن الذي نص عليه الشافعي في القديم وحرملة : الإباحة، واختاره أبو إسحاق، وحمل الحديث على ما إذا تحقق نجاسة ذلك

بلحم خنزير وغيره. والفرق على الوجه الأول بينه وبين ما إذا تحقق الطهارة، وغلب على ظنه الحدث، حيث يأخذ باليقين: أن الطهارة والنجاسة يتطرق إليهما الاجتهاد، وتنتصب عليهما العلامات، وما كان كذلك، وجب الاستمساك فيه بغالب الظن، كسائر المجتهدات، وليس يتطرق ذلك إلى الحدث، إذ ليس عليه علامة لائحة بها اعتبار، وهذا فرق الإمام. ومجموع ما ذكرناه في أواني الكفار وثيابهم، يجري في أواني مدمني الخمر وثيابهم، وثياب القصابين الذين لا يحترزون عن النجاسة. ثم ما ذكرناه في أواني الكفار وثيابهم، هو طريقة الجمهور أيضاً. والماوردي قسم الكفار ثلاثة أقسام: فقال: من يتنزه من النجاسة: كأهل الكتاب، يجوز استعمال ثيابهم، [ومن لايتعبد بالنجاسة، ولايتنزه منها يجوز استعمال ثيابهم، ويكره]، ومن يتدين باستعمالها إن قل لبسه لتلك الثياب كرهت الصلاة فيها، وإن طال زمن لبسه لها، ففيها الخلاف السابق. وأما الأواني: فإن كانت أواني أهل الكتاب الذين لا يأكلون لحم الخنزير فيجوز استعمالها وإن كانوا يأكلون لحم الخنزير، ففيها الخلاف السابق. قال: وما ضبب بالفضة إن كان قليلاً للحاجة لم يكره، لقلته، وللحاجة إليها، وقد روي أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر، فاتخذ مكان الشق سلسلة من فضة. أخرجه البخاري، وروي أنه كان لقدحه حلقة من فضة. قال: وإن كان للزينة، أي: كان قليلاً للزينة، كره، لعدم الحاجة إليه ولا يحرم لقتله. قال: وإن كان كثيراً للحاجة، كره للكثرة، ولا يحرم للحاجة. انتهى.

قال: وإن كان للزينة – أي: كثيراً للزينة – حرم، لكثرته، وعدم الحاجة إليه، وهذه طريقة الداركي وغيره من متأخري الأصحاب، ولم يحك البندنيجي غيرها، واختارها في " المرشد". قال: وقيل: إن كان في موضع الشرب، حرم – أي: وإن قل ودعت الحاجة إليه – كما قال الإمام، لأن بالفضة يقع الاستعمال. قال: وإن كان في غيره، لم يحرم، إذا لا يقع بها استعمال، وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي، أخذها من قول الشافعي في "المختصر": "وأكره المضبب بالفضة كي لا يكون شارباً على فضة". قال: وقيل: لايحرم بحال، لأنه روى أن سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبيعته من فضة، ونعله من فضة، وما بين ذلك حلق الفضة، وكانت برة ناقته من فضة. وأيضاً: فالدليل قام على تحريم إناء الذهب والفضة، والمضبب لا يسمى إناء ذهب أو فضة، وهذه طريقة أبي علي الطبري الزجاجي، وحمل الكراهة في لفظ

الشافعي على التنزيه، وهي مخصوصة بما إذا لم يعم التضبيب الإناء، فإن عمه، حرم كله قولاً واحداً، قال الماوردي. وقد حكى الشيخ أبو محمد وجها يقابل هذه الطريقة: أن المضبب يحرم بكل حال، لما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من شرب في إناء من ذهب أو فضة أو إناء فيه شيءٌ من ذلك، فإنما يجرجر في جوفه نار جهنم". وبعض المراوزة قال: القليل للحاجة لا يحرم، والكثير للزينة يحرم، وفي الكثير للحاجة والقليل للزينة وجهان. والماوردي قال: إن كان كثيراً للحاجة في فم الإناء حرم، وإن كان في غيره لا يحرم، وإن كان قليلاً للحاجة فلا يكره، وإن كان يسيراً للزينة فلا يحرم، وفي الكراهة وجهان: أحدهما: لا، كالثوب المطرز. والثاني: نعم. والفرق: أن الحرير أخف، لإباحته لجنس النساء. وقال القاضي الحسين: إن كان في موضع الشرب، لا خلاف في التحريم، وكذا قاله في "التهذيب". وإن كان في غيره: فإن كان قليلاً للحاجة، يجوز قولاً واحداً، وإن كان كثيراً لغير حاجة لا يجوز قولاً واحداً، وإن كان كثيراً لحاجة أو قليلاً لغير حاجة فوجهان. والمراد بالقليل مالا يأخذ جانباً من جوانب الإناء: كدور أسفله أو رأسه، والكثير

بخلافه، واستبعد الإمام ذلك، من جهة أن الإناء قد يكبر، فيكون سعة سلفه ذراعاً في ذراع، فما يأتي عليه ثلث الإناء أو نصفه كثير متفاحش. قال: والأولى ضبط القليل بما لا يلوح من البعد، والكثير بما يلوح منه. وفيه نظر، لأنه إن أراد بالبعد ماوراء مجلس التخاطب، فيبعدألا يرى الضبة منه وإن قلت. وإن أراد أكثر من ذلك، فلا ضابط لذلك يرجع إليه إلا العرف، ولو رجع إليه أولاً، لاستغنى عن ذلك. ولا جرم: أن بعضهم قال: المرجع في القلة والكثرة الى العرف، وهو الأصح في "الروضة". والمراد بالحاجة قدر الشعب، لا أنه لم يجد ما يضبب به غير ذلك، كذا قاله ابن الصباغ، وأيده بأنه لو لم يجد إلا إناء ذهب أو فضة، ومست الحاجة إلى استعماله جاز له استعماله، ثم قال: ويحتمل أن يعتبر عجزه عما يقوم مقام الفضة. وهذه الطرق مفرعة على الجديد في تحريم آنية الذهب والفضة، ولا يلتحق الضبة المحرمة الاستعمال في الإناء الخاتم في كف الشارب، والدرهم في فمه أو في الإناء الذي يشرب منه. وقد أفهم قول الشيخ: "وما ضبب بالفضة": أن المضبب بالذهب غير جائز بكل حال، وهو ما أورده الماوردي هنا في كتاب الزكاة، والشيخ في "المهذب" وحكاه ... البغوي عن العراقيين، وحكاه النواوي عن رواية أبي العباس الجرجاني والشيخ

أبي نصر المقدسي والعبدري. ويوافق ذلك إطلاق القاضي الحسين: أنه لا يجوز أن يلبس خاتما من فضة أسنانه من ذهب. والرافعي اقتصر على نسبته إلى رواية الشيخ في "المهذب"، ورجحه، ثم قال: والذي أورده الجمهور: أنه لا فرق بين الذهب والفضة في ذلك، وهو الذي اختاره والروياني في "تلخيصه"، وحكاه بعضهم عن المراوزة. ] و [عن الشيخ أبي محمد: أنه لا ينبغي أن يسوى بين الذهب والفضة في الصغر والكبر؛ فإن القليل من الذهب في إظهار الخيلاء بمثابة كثير الفضة، وأقرب

معتبر به فيه أن ينظر إلى قيمة ضبة الذهب إذا قومت بالفضة. قال: ويستحب أن يخمر الآنية، لقوله – عليه السلام-: "أغلقوا الأبواب، وأوكئوا الأسقية، وخمروا الآنية، وأطفئوا السرج، فإن الشيطان لا يفتح مغلقا، ولا يحل وكاء، ولا يكشف إناء، وإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم". والتخمير: التغطية؛ أخذً من الخمار؛ لأنه يغطى الرأس. قال: فإن وقعها بعضها نجاسة، واشتبهت عليه تحرى – أي سأل الأحرى، وهو الاجتهاد. قال: وتوضأ بالطاهر على الأغلب عنده؛ لأنه لا يشترط في الماء المستعمل في الطهارة اليقين بلإجماع؛ بل يكفي فيه ظن الطهارة؛ بدليل جواز الطهارة من الماء القليل مع القدرة على الماء الكثير، وإذا كان كذلك فالاجتهاد محصل للظن بها. ونظمه قياساً: أنه سبب من أسباب الصلاة يمكن التوصل إليه بالاجتهاد؛ فجاز الاجتهاد فيه عند الاشتباه: كالقبلة. والاجتهاد والتحري والتأخي بمعنى [وهو] بذل الجهد في طلب الشيء. والجهد – بضم الجيم -: هو الطاقة. وقال الماوردي في كتاب الأقضية: الاجتهاد: مأخوذ من جهاد النفس، وكدها في طلب المراد، وكذا الجهاد مأخوذ من إجهاد النفس في قهر العدو, والاجتهاد: هو طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه. وزعم ابن أبي هريرة: أن الاجتهاد هو القياس، ونسبه إلى الشافعي من كلام اشتبه عليه في كتاب "الرسالة" والذي قاله الشافعي: أن معنى الاجتهاد [معنى] القياس, يريد به أن كل واحد منهما يتوصل به إلى حكم غير منصوص عليه. وكيفية الطلب هنا: أن ينظر إلى تغير أحدهما، أو اضطرابه، أو ترشيش حوله، أو

قرب الكلب، منه أو نقصه ونحو ذلك. قال: وقيل: إن كان معه ماء – أي: أو يقدر على ماء – يتيقن طهارته – أي: مثل أن كان معه إناء ثالث لا شك عنده في طهارته، أو كان على شط بحر أو نهر أو ماء كثير لم يتحر؛ لأنه قادر على إسقاط الفرض بيقين؛ فلا يسوغ له تأديته بالاجتهاد؛ كالمكي في القبلة، وهذا قول أبي إسحاق المروزي، وادعى أنه مذهب الشافعي؛ لأنه قال: وإذا كان في سفر، ومعه ماءان نجس أحدهما، ففرضه] الاجتهاد]، وإذا لم يكن معه ثالث طاهر بيقين. وعن المزني: أنه منع التحري في الأواني مطلقاً، وقال: إنه يتيمم، ويصلين ولا يعيد؛ كما لو اشتبه عليه ماء وبول. وعن بعض الأصحاب فيما حكاه الصيدلاني: أنه يجوز أن يهجم ويتوضأ بأحد الآنية، ويصلي، ولا إعادة عليه؛ لأن الأصل في كل منها الطهارة، وعدم وقوع النجاسة فيه، وفارق القبلة؛ لأنه ليس الأصل في كل جهة أنها القبلة. قال الإمام: وهذا وإن كانل لا يعسر توجيهه، فهو بعيد عن المذهب جدا. وحكي عن شيخه وبعض المصنفين: أنه لو ظن اللرجل طهارة أحد الإناءين من غير تعلق بأمارة، فله التعويل على الظن من غير أن يكون له مستند، فأما استعمال أحدهما من غير اجتهاد فلا، وهذا أشهر مما حكاه الصيدلاني، وقد حكاه القاضي الحسين والمتولي أيضاً، وعليه يدل النص، لأنه قال: أراق النجس على الأغلب عنده. وبهذا يحصل في المسألة. ورأى الأول أربعة أوجه، والصحيح الأول. وقول أبي إسحاق باطل؛ لجواز الطهارة من الماء القليل مع وجود الكثير. والشافعي إنما شرط فقد الإناء الثالث في وجوب الاجتهاد عليه، لا في جوازه؛ فإنه إذا كان معه إناء طاهر بيقين، كان بالخيار بين أن يجتهد وبين ألا يجتهد، والأولى استعمال الطاهر، بخلاف ما إذا لم يكن معه ثالث يتيقن طهارته؛ فإنه يجب عليه الاجتهاد؛ كما صرح به الماوردي وغيره.

والفرق بين ما نحن فيه والمكي في القبلة: أن اليقين ثم في محل الاجتهاد، وهو هاهنا في غيره. وما ذكره المزني خطأ؛ لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة:6] وهذا واجد للماء. وما رواه الصيدلاني باطل من جهة أن ذاك الأصل قد عارضه تحقق وقوع النجاسة؛ فارتفع به. وما رواه الشيخ أبو محمد وغيره ضعيف؛ لأن الظن لا يغلب من غير سبب يقتضي تغليبه، والأمور الشرعية لا تبني على الألهامات والخواطر، ويتخرج على ما ذكره الشيخ من الخلاف مسائل: منها: إذا اشتبه عليه ماء طهور وماء مستعمل، فإن قلنا بالأول، جاز أن يجتهد فيهما، وإن قلنا بالثاني: فلا، بل يتوضأ بكل واحد منهما؛ كذا قاله البندنيجي والماوردي وابن الصباغ. والقاضي أبو الطيب بنى ذلك على ما إذا اشتبه عليه إناء طاهر وإناء نجس، فانصب أحدهما قبل الجتهاد، هل يجتهد في الثاني أو يستعمله من غير اجتهاد؟ فيه وجهان: فإن قلنا بأنه يجتهد في الثاني، اجتهد هاهنا، وإلا توضأ من كل واحد منهما، والبناء الأول أشبه. [والثاني يلتفت إلى أن الإقدام على الوضوء، هل يجوز مع عدم الظن بأن المتطهر به آلة للطهارة أم لا؟]. وماذكره في الفرع المبني عليه فيه مزيد نقل؛ فإن ابن الصباغ والشيخ في "المهذب" وغيرهمت قالوا: إنه هل يجتهد في الثاني أو لا؟ فيه وجهان اختار ابن سريج: أنه يجتهد، وقال غيره: لا, وهو الأصح في "المهذب".

وعلى هذا قال أبو علي في "الإفصاح": يتوضأ به؛ لأن الاصل الطهارة. وقال القاضي أبو حامد في "الجامع": يتيمم ويصلي؛ لأن حكم الأصل قد زال فيه؛ لوجوب التحري. والخلاف على النحو المذكور قد حكاه أبو الطيب – أيضا – في موضع آخر فيما إذا كان قد صب أحدهما بعد الوقت. ومنها: إذا كان معه إناء طاهر, وإناء نجس, ويبلغ مجموعهما قلتين فأكثر, وهو قادر على خلطهما – قال الإمام: فعلى الأول: له الاجتهاد فيهما, وعلى الثاني: يجب عليه الخلط. وهذا التخريج أبداه ابن الصباغ من عند نفسه. ومنها: ما إذا اشتبه علي ماء, وماء ورد انقطعت رائحته [قال الإمام] فعلى الأول: يجوز له الاجتهاد, وعلى الثاني: يتوضأ من كل إناء, ويصلي صلاة واحدة. قلت: وهذا البناء فيه شيء, والحق إلحاق هذه الصورة بما إذا اشتبه عليه ماء وبول , فإن ماء الورد والبول لا أصل لهما في التطهير. فرع: إذا غلب على ظنه طهارة إناء, وتوضأ به, قال الشافعي: أستحب له أن يريق الآخر؛ كي لا يدخل عليه وقت صلاة أخرى, ويتغير اجتهاده, فإن أراقه فذاك, وإن أبقاه حتى دخل عليه وقت صلاة أخرى: فإن لم يحدث فهو باق على طهارته, وإن أحدث: فإن كان قد بقي مما استعمله بقية تكفيه لطهارة أخرى, اجتهد في الآخر وفيما بقي من الذي تطهر منه: فإن علم أن ما توضأ به هو الطاهر أو ظن ذلك, توضأ منه, وإن تيقن أن ما توضأ به هو النجس أعاد الصلاة, وغسل ما أصاب يديه وثيابه. وفي المسألة قول شاذ: أنه لا إعادة عليه؛ كنظيره في القبلة, وهو محكي في كتب المراوزة ثَم. وإن غلب على ظنه أن ما تطهر به أولا هو النجس, قال القاضي الحسين: فلا يستعمله, وله أن يريقهما أو يصب أحدهما في الآخر, ويتيمم ويصلي, ولا إعادة عليه.

فرع: وإن تركهما تيمم وصلى وأعاد. والعراقيون قالوا: فيما يلزمه في هذه الحالة ثلاثة أوجه: أحدها: ما ذكرناه عن القاشي الحسين, وهو الذي نقله المزني عن الشافعي: أنه يتيمم ويصلي, وعليه الإعادة. والثاني- قاله ابن سريج -: أنه يتوضا بالثاني ويصلي ولا تجب عليه الإعادة؛ كم صلى إلى جهة بالاجتهاد, ثم إلى أخرى باجتهاد آخر. قال: والذي نقله المزني لا نعرفه للشافعي. قال أبو الطيب بن سلمة: وهذا الذي قاله ابن سريج غير صحيح, والذي نقله المزني رأيته في "حرملة", ويفارق مسالة القبلة؛ لأنا في القبلة لا نأمره بفعل فاسد قطعا؛ لانه محتمل أن تكون هذه الجهة الثانية هي جهة القبلة, وليس كذلك هنا؛ فإنا نتحقق أنا نأمره بفعل فاسد, أو بنقض الاجتهاد بالاجتهاد, وإنما قلنا ذلك؛ لأنا [إن] لم نأمره بإيراد الثاني على موارد الأول فهو مصل بغير طهارة من حدث أو خبث, وذلك يمنع الصحة, وإن أمرناه بأن يورده على موارد الأول فذاك نقض للاجتهاد بالاجتهاد, وهو لا يجوز, والإمام حكى عنه أنه أوجب إيراد الماء الثاني على موارد الأول. وقال ابن الصباغ: إن هذا ليس عندي بنقض للاجتهاد فيما فعله بالاجتهاد؛ لأنا ليس نبطل طهارته الأولى وصلاته, وإنما نأمره بغسل ما على بدنه من الماء الذي غلب على ظنه أنه نجس, ويكون ذلك بمنزلة منعنا له من استعمال بقية الإناء وحكمنا بنجاسته. قال: وعلى هذا ينبغي أن يغسل ما أصاب غير موضع الوضوء من الأول فإن مواضع الوضوء يطهرها الوضوء من الحدث ومن النجاسة. قلت: وهذا قد حكينا فيه خلافا من قبل.

والثالث: أنه يتيمم ويصلي، ولا يعيد؛ كمن به قروح أو وجد الماء وهو محتاج إليه للعطش؛ لأنه معذور. ومن رجح مانقله المزني قال: العذر هنا منسوب إلى تفريطه، ولا كذلك ثم. ولو كان الإناء الذي غلب على ظنه طهارته وتوضأ منه أولا لم يبق منه شيءٌ، قال الرافعي: فلا يجب عليه إعادة الاجتهاد. وفي "التتمة" حكاية وجهين في وجوب الإعادة؛ كما إذا انصب أحد الإناءين قبل الاجتهاد. وكيف كان فإذا أعاد الاجتهاد وأدى اجتهاده إلى طهارة غير الأول، فإن قلنا عند بقاء الأول: إنه يتيمم ويصلي [ولا] يعيدن فهاهنا أولى، وإن قلنا ثم إنه يتيمم ويصلي ويعيد كما نقله المزني - فهاهنا يتيمم ويصلي وهل تجب عليه الإعادة؟ فيه وجهان: وإن قلنا بمذهب ابن سريج توضأ بالثاني وصلى ولا إعادة عليه، وأورد الثاني موارد الأول؛ كما سلف. ولو كان قد بقي من الإناء الأول بقية لا تكفيه لطهارته: فإن قلنا: [إنه يجب عليه استعمال الوجود، كان كما لو بقي منه قدر ما يكفيه للطهارة. وإن قلنا]: لا يجب عليه استعماله، كان كما لو لم يبق منه شيءٌ آخر. وإذا اجتهد ولم يغلب على ظنه طهارة إناء، قال البندنيجي: فعليه أن يعيد الاجتهاد إلى أن يخشى خروج الوقت، فإن لم يظهر له شيءٌ صلى بالتيمم، وأعاد الصلاة إذا عرف الطاهر وعليه بعد ذلك أن يعيد الاجتهاد إلى أن يظهر له الطاهر. وغيره قال: إن إذا لم يظهر له الطاهر من النجس أراقهما، أو صب أحدهما في الآخر، وتيمم. ويجيء وجه ابن سريج في جواز تقليد غيره في ذلك؛ كما جرى مثله في

الأوقات، وقد يفرق بينهما. قال: وإن اشتبه ذلك، أي: البعض الذي وقعت فيه النجاسة على أعمى؛ ففيه قولان: أحدهما: يتحرى -[أي]: وجوبا - لأن له طريقا إلى معرفة الطاهر من النجس بالأمارات: كالشم، واللمس، والاستماع؛ فوجب عليه إذا لم يجد ماءً طاهراً بيقين؛ كما في الأوقات؛ وهذا مانص عليه في "الأم" وهو أصح في الرافعي، ولم يحك الماوردي، وكذا القاضي الحسين في باب استقبال القبلة غيره. والثاني: لا يتحرى - أي لا يجوز له أن يتحرى - لأن [للنظر أثراً في] حصول الظن بالمجتهد فيه، وقد فقد؛ فعنع من الاجتهاد؛ كما في القبلة؛ وهذا منا نص عليه في "حرملة". التفريع: إن قلنا بالأول جاء الخلاف في جواز اجتهاده عند قدرته على ماء طاهر بيقين، وإذا اجتهد ولم يظهر له شيءٌ، قال الشافعي" إن كان هناك بصير قلده". واختلف الأصحاب في تأويله: فقال بعضهم: أراد إذا كان البصير يعلم الطاهر من النجس، فأما إذا كان باجتهاد فلا [يجوز أن] يقلده؛ لأن المجتهد لا يقلد المجتهد. وقال بعضهم: يرجع إلى اجتهاد البصير، وهو ما صححه الرافعي. والتأويل الأول بعيد؛ فإنه إذا كان بصيراً يعلم الطاهر منهما من النجس لا يسوغ له الاجتهاد. وإن قلنا بالثاني تعين عليه تقليد بصير، فإن لم يجد من يقلد، أو لم يظهر للبصير شيءٌ - قال الشافعي: لا يتيمم، بل يتوضأ بما أدى إليه تخمينه على أبلغ مايقدر عليه. قال القاضي أبو الطيب: ولا يعيد. وعن الشيخ أبي حامد أنه يتيمم ويصلي ويعيد، وهو الأصح في" الروضة". وقال ابن الصباغ: إن ما يذكر أبو حامد أقيس وما ذكره أبو الطيب أقرب

إلى نص الشافعي. والخلاف في جواز اجتهاده في الأواني جار في اجتهاده في الثياب [كما] قال الإمام وغيره. وقد أفهمك كلام الشيخ: أنه لا فرق فبما ذكره بين أن يكون فيما وقعت فيه النجاسة من الآنية أقل من الباقي أو مثله أو أكثر منه، والحكم عندنا كذلك؛ قياساً على ما إذا وقد أفهمك كلام الشيخ: أنه لا فرق فيما ذكر بين أن يكون ما وقعت فيه النجاسة من الآنية أقل من الباقي أو مثله أو أكثر منه، والحكم عندنا كذلك؛ قياساً على ما إذا اشتبه عليه مثل ذلك في الثياب، وقد وافق الخصم-: وهو أبو حنيفة - على جوازه. نعم، لو كانت الآنية ثلاثا، وقد وقعت النجاسة في اثنين منها، واجتهد ثلاثة فيها،

وأدى اجتهاد كل واحد إلى طهارة إناء - لا يجوز أن يقتدي بعضهم ببعض في صلاة مابتلك الطهارة؛ كما لو وقعت النجاسة في أحد الإناءين، فاجتهد فيهما اثنان، وأدى اجتهاد أحدهما إلى طهارة إناء واجتهاد الآخر إلى طهارة الآخر. على ان في مسألة الاستشهاد وجه حكاه الشيخ أبو محمد في "كتاب الحج": أنه يجوز أن يقتدي أحدهما بالآخر؛ بناء على قول في أن من أحرم بنسك ثم نسيه، هل يتحرى؟ وإذا ثبت في هذه الصورة جرى في الأخرى. ولو كان النجس من الثلاثة واحداً وقد أدى اجتهاد كل شخص إلى طهارة واحد- ففي جواز اقتداء بعضهم ببعض كلام سبق في باب صفة الأئمة، وذكره [ثم أمس، والله أعلم]. قال: ومن اشتبه عليه ماء وبول - أي: من بصير أو أعمى - أراقهما وتيمم؛ لأنه لا يمكنه أن يجتهد فيهما؛ فإن الاجتهاد يقوي مافي النفس من الطهارة الأصلية، والبول لا أصل له في التطهير؛ فامتنع العمل به، وإذا لم يتمكن من الاجتهاد، وليس معه ماء آخر تعين التيمم والإراقة؛ لأجل ألا يتيمم ومعه ماء متيقن طهارته؛ فتلزمه الإعادة.

وصب أحدهما في الآخر في معنى الإراقة. فإن قيل: هو غير قادر على استعمال الماء، والصلاة بالتيمم مع وجود الماء الذي لا يقدر على استعماله تجزئه، ولا تقتضي القضاء؛ دليله ما إذا حال بينه وبينه سبع. قيل: قد أبداه بعض الأصحاب احتمالاً فجوز التيمم قبل صبه وخلط أحدهما بالآخر، وحكاه في "التهذيب" وجهاً، لكن المذهب الأول، و [الفرق] أنه فير مقصر في مسألة السبع، والمنع من استعمال الماء هنا جاء من تقصيره. فإن قيل: إذا كان الماء في هذه الحالة في حكم المقدور عليه بالنسبة إلى عدم إسقاط القضاء كالصلاة بالتيمم - فينبغي أن يتخرج وجوب القضاء إذا تيمم بعد إراقته على الخلاف فيما إذا صب الماء بعد دخول الوقت؛ كما سيأتي. قيل: هو ثم متعد بالصب وهاهنا هو مأمور به، أو هو محتاج إلى الإبقاء ثم وإلى الإراقة هنا، وما ذكره الشيخ هو ماذكره العراقيون، وألحقوا به في عدم الاجتهاد ما إذا اشتبه عليه ماء وماء ورد انقطعت رائحته، لكنهم قالوا في هذه الصورة يتوضأ من كل منهما. وفي طريقة الوراوزة حكاية وجه: في أنه يجتهد فيهما. قال الإمام: وهو متجه في القياس، ولم يحك في "التتمة" غيره؛ تفريعاً على اشتراط الاجتهاد في الأواني: نعم، لا يجوز الهجوم هنا ولا الأخذ بمجرد الظن كما حكاه عن رواية الشيخ أبي محمد بلا خلاف. والملوردي قال: إن اجتهاده في الماء وماء الورد؛ لأجل الصلاة فلا يجوز. وإن كان لأجل العطش حتى يشرب ماء الورد، ويبقى الماء - يجوز. ثم إذا اجتهد وظهر له ماء الورد أعده لشربه وبقي الآخر محكوماً عليه بأنه ماء؛ فيجوز له حينئذ أن يستعمله في الطهارة. وقد نجز شرح مسائل الباب؛ فلنختمه بشيء يتعلق به: إذا اشتبه عليه الطاهر من الطعام المأكول بالنجس منه، فهو كما إذا اشتبه الماء

الطاهر بالنجس حتى تجري طريقة أبي إسحاق فيه إن كان مضطرا إلى الأكل، وإلا فيجوز وجهاً واحدً كما قاله في "التتمة" و "الروضة". ولو اشتبه عليه الطعام المأكول بغيره، فهو كما لو اشتبه عليه ماء وبول قاله القاضي الحسين. وقال فيما إذا اشتبه عليه ميتة بمذكاة: لا يجتهد على الأصح، وإذا اجتهد فطريقه أن يضع اللحم على الماء، فإن طفا فهو الميتة. ولو اختلطت ميته بمذكيات، بلد أو إناء بول بأواني بلد، فله الأخذ من غير اجتهاد، وإلى متى يأخذ؟ قال في "البحر" فيه وجهان: أحدهما: إلى أن يبقى واحد. والثاني: إلى أن يبقى قدر لو كان الاختلاط به ابتداء منع الجواز. ولو اشتبه عليه غنمه بأغنام الناس, أو طيوره بطيورهم, أو رحله برحالهم جاز له الاجتهاد؛ قاله القاضي الحسين. ولا يجوز لمن اشتبه عليه منكوحته بأجنبية الاجتهاد في الزوجة بحال؛ إذ لا أمارة عليها والله أعلم.

باب السواك

باب السواك السواك - بكسر السين - والمسواك: اسم للخشب الذي يوضع على الأسنان حتى يقلع الوضر والقلح -: وهو صفرة الأسنان - من: ساك، إذا دلك، يقال: سكت الشيء سوكا؛ إذا دلكته، وقيل: من التساوك، وهو التمايل، يقال: جاءت الإبل تساوك؛ إذا كانت أعناقها تضطرب من الهزال؛ كذا قاله الخليل بن أحمد، ونقله ابن فارس. قال: السواك سنة عند القيام إلى الصلاة - أي: عند إرادة الصلاة - يشهد له ما روى مسلم عن حذيفة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام ليتهجد يشوص فاه

بالسواك"؛ فإن "كان" تشعر بالحالة الدائمة, والشوص: الدلك, وعن أبي عبيد أنه الغسل. وقال - عليه السلام-: " فضل الصلاة بالسواك على الصلاة بغير سواك سبعون ضعفا" أخرجه البزار عن عائشة, وهو يدل على أن ذلك غير واجب علينا. وكذا ما رواه البزار عن العباس بن عبد المطلب قال: " كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستاكوا, فقال: " ما لكم تدخلون علي قلحا؛ استاكوا فلولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك عند كل صلاة" ورواية مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة".

قال الشافعي: ولو كان واجباً لأمرهم به شق [عليهم] أو لم يشق. قال: وعند كل حال يتغير فيه الفم من أزم وغيره. والأزم - بفتح الحمزة وإسكان الزاي -: الإمساك عن الأكل؛ ولهذا يقال: نعم الدواء الأزم، وقيل: إنه السكوت، وأصله إمساك الأسنان بعضها على بعض. وعبارة البندنيجي: أنه السكوت الطويل، وقيل: فرط الجوع وغيره: كالنوم، وأكل ما له رائحة كريهة: كالثوم ونحوه. قال الماوردي: وكذا كثرة الكلام.

والأصل في ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك. أخرجه البخاري، والنائم ممسك عن الأكل والكلام، والفم يتغير بسببه غالباً؛ لأجل طبق الفم وانحباسا لأبخرة المتصاعدة من المعدة، لكن التغير قد يقل ويكثر؛ بسبب طول ذلك وقصره. وأكل ماله رائحة كريهة في معنى المنصوص عليه؛ فألحق به. قال القاضي الحسين: وينبغي للمستاك أن ينوي بالاستياك السنة؛ كما ينبغي للرجل ان يقصد بالجماع حصول النسب، وإن كان المقصود يحصل [بدونه]. وقد أفهم كلام الشيخ أن السواك ليس بسنة فيما عدا [الحالتين اللتين ذكرهما] وما نقله المزني عن الشافعي يفهم أخص منه؛ فإنه قال: "قال الشافعي: وأحب السواك للصلوات عند كل حال يتغير فيه الفم"، قال القاضي الحسين: وهذا يدل على أنه إنما يستحب السواك إذا اجتمع شيئان: الصلاة، وتغير الفم، وليس كذلك، بل إذا وجد أحدهما استحب. وهذا الجواب له مفهوم كمفهوم كلام الشيخ، لكن الأصحاب مصرحون بأنه سنة في غير هاتين الحالتين وهو فيهما آكد من غيرهما. وتحقيق الكلام في ذلك يتوقف على بيان أصل مقصود في نفسه، وهو أن السنة إذا أطلقت مايراد بها؟ فهي في اللغة: الطريقة؛ ومنه قال جابر: "مضت السنة في كل أربعن جمعة". وفي الشرع اختلف فيه، فقيل: ماكان فعله راجحاً على تركه في نظر الشرع، مع

جواز تركه. وقيل: ماعلم وجوبه أو ندبيته بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بإدامته عليه؛ وهذا مع الأول هو المذكور في كتب الأصول. ورأيت في "التهذيب" "وتعليق القاضي الحسين" في صلاة التطوع: أن السنة ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم على فعله، ومافعله مرة أو مرتين فهو مستحب، وليس بسنة. فإذا عرفت ذلك نزلت عليه ماصرح به الأصحاب، وما أفهمه كلام الشيخ والقاضي الحسين؛ فإنه على الحد الأول والثاني يصح أنه سنة في [غير] الحالتين المذكورتيين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث عليه، وأمر به مطلقاً، فقال: " السماك مطهرة للفم، مرضاة للرب" رواه النسائي. وقال فيما رواه مالك عن ابن شهاب عن ابن السباق: "وعليكم بالسواك" وقال: "طهروا أفواهكم بالسواك! فإنها مسالك القرىن". وعلى الحد الثالث لا يصح سنة في غير الحالتين المذكورتين؛ لأنه لم يصح أنه دوام صلى الله عليه وسلم على فعله في حالة غيرهما.

فإن قلت: قد روى مسلم عن شريح بن هانئ قال: سألت عائشة، بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك [ولفظ"كان" يؤذن بالدوام]. قلت: يحتمل أن يكون يفعل ذلك؛ لأجل تغير حصل في فمه، وفيه بعد إذا قد روى النسائي عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين ثم ينصرف فستاك. وبالجملة: فاستحبابه في الحالتين اللتين تعرض لهما الشيخ أشد وآكد من غيرهما؛ فيجوز أن يضم إلى كلام الشيخ بعد قوله: "سنة مؤكدة"-: ويتأكد أيضاً في حالة اصفرار الأسنان وغن كان ذلك بسبب غير التغير. قال الرافعي: ويشهد له [قوله] عليه السلام-: "ما لكم تدخلون علي

قلحاً؟! استاكوا". وكذا يتأكد في حالة قراءة القرآن والوضوء. وحكى الإمام عن شيخه أنه كان يقول: ينبغي أن يستاك عند كل صلاة، فإن أخطأ ذلك فعند كل طهارة، فإن أخطأ ذلك ففي اليوم والليلة مرة. وعن ابن سريج أنه عد السواك من سنن الوضوء، ويشهد له ما روي عن عائشة أنها قالت: "كان يوضع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءه وسواكه". وروى النسائي عن أبي هريرة أنه - عليه السلام - قال:"لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك مع كل وضوء". وعن ابن سريج أنه لم يعده من سننه؛ فإن حديث عائشة هذا مطلق، يجوز أن يحمل على ماورد مقيدا، وهو ما روي أنه - عليه السلام - كان يعد وضوءه وسواكه قبل أن ينام، وما روته عائشة قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرقد من ليل أو نهار فيستيقظ إلا يتسوك قبل أن يتوضأ" رواه أبو داود. قال: ويكره للصائم - أي فرضاً أو نفلا - بعد الزوال، أي: سواء أراد الصلاة أو لا؛ لقوله - عليه السلام -: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" رواه الترمذي وقال: حديث حسن. والخلوف - يضم الخاء واللام-: تبدل الرائحة، والسواك يزيل ذلك؛ فكره. ونظمه دليلا: أنه أثر عبادة مشهود له بالطيب؛ فكرهت إزالته؛ كدم

الشهيد، واختصاصه بما بعد الزوال؛ لأن التغيير قبل ذلك يكون من أثر الطعام، وبعد الزوال يكون بسبب الصيام؛ فهو المشهود له بالطيب وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "استاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه إلا كان نوراً بين عينيه يوم القيامة" وبهذا الخبر يختص قوله - عليه السلام -: "من خير خصال الصائم السواك" كما رواه ابن ماجه، ويحمل على ماقبل الزوال، وكذا قول عامر ابن ربيعة "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ما لا أحصي] يستاك وهو صائم"، كما أخرجه

الترمذي، وقال: إنه حسن. وقد حكى في "الروضة" قولاً غريباً: أنه لايكره السواك للصائم بعد الزوال؛ ولعل مستنده الأخذ بظاهر هذين الخبرين. قال: والمستحب أن يستاك بعود من أراك؛ لما روى أبو زجرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستاك بالأراك، تعذر عليه استاك بعراجين النخل، فإن تعذر استاك بما وجد. وتقديم الأراك على غيره؛ [لأجل أنه] طيب الطعم والريح؛ فيقوم مقامه في ذلك السعد والأشنان، لكن في الأراك أمر زائد عليهما، وهو أن فيه تشعيرة تظهر عند بله، فإذا كبس باليد على الأسنان دخلت فيما بينها فأزالت ما فيه من تغير؛ فلذلك قدم.

قال: وأن يستاك بيابس قد ندي بالماء؛ كي لا يجرح لثته لو لم يبله، ولا يحصل المقصود إن كان قد بلغ غاية اللين بالنقع في الماء. واللثة - بكسر اللام وتخفيف الثاء-: لحم الأسنان، وقيل: مغرسها. وعبارة بعضهم:"يكون عوداً بين عودين لا يابساً؛ فيجرح اللثة، ولا ليناً؛ فلا ينقي. ولو كان أصبعه في تحصيل الإنقاء كاليابس المندى بالماء؛ ففي الاكتفاء بالاستياك به خلاف، وأطلق أبو الطيب والبندنيجي القول بأنه لا يكفي؛ حملاً على أن الغالب أنه لا يتأثر له في الإنقاء. وأطلق المحاملي والقاضي الحسين القول بجوازه. وحكى الرافعي وجهاً ثالثاً: أنه إن وجد غيره لا يجزئه، وإلا كفاه؛ لمكان الفقد. ولا خلاف في أنه لو وضع عليه خرقة خشنة واستاك به، أجزأه؛ وكذا استياكه بكل عين تزيل القلح؛ ولا يرد على ذلك ما إذا تمضمض بماء الغاسول ونحوه فإنه لا يحصل سنة السواك وإن أزال القلح؛ لأنه لا يسمىى: مستاكاً. على أن الإمام قال: إنه ليس عرباً عن احتمال بعيد. قال: والمستحب أن يستاك عرضاً ويدهن غبا ويكتحل وتراً؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " استاكوا عرضاً وادهنوا غبا واكتحلوا وتراً". وقد روى أبو داود مرسلا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شربتم فاشربو مصا

وإذا استكتم فاستاكوا عرضاً". وهل المراد: عرض الأسنان - وهو عرض الوجه - أو عرض الفم: وهو [في] طول الوجه؟ يحتمل وجهين، لكن الذي ذكره أبو الطيب والمتولي: الأول لأنه أمكن وأسهل. وادعى الماوردي وجماعة أن الثاني مكروه؛ لما فيه من إيذاء اللثة أو فساد العود. وفي "النهاية": أنه يستاك في عرض الوجه وطوله محاولاً إزالة القلح، فإن اقتصر على أحد الجهتين، فينبغي أن يكون في عرض الوجه. قال ابن الصباغ: ويستحب أن يبتدئ من الجانب الأيمن - أي: من فمه - إلى الوسط، ثم يفعل يالأيسر مثل ذلك؛ لأنه - عليه السلام - كان يحب التيامن في

كل شيء. واستحب الماوردي أن يمر الآلة على ظاهر أسنانه [وباطنها وعلى أطراف أسنانه] وكراسي أضراسه، ويمره على سقف حلقه إمراراً خفيفاً؛ ليزول الخلوف عنه. والغب - كما قال ابن فارس -: أن ترد الإبل الماء يوما وتدعه يوماً؛ وبهذا فسره الإمام أحمد في الحديث، وبه قال بعض الشارحين. وقيل: المرادبه: أن يدهن ثم يترك على أن يجف، ثم يدهن؛ وهذا قول من فسر الغب بالوقت بعد الوقت. وفي "غريب" الهروي: يقال: أغب الرجل، إذا جاء زائراً بعد أيام. والوتر في الاكتحال: أن يضع في كل عين ثلاث مرات. وقيل: المراد: أن يكون المجموع وتراً؛ فيضع في اليمنى ثلاثاً وفي اليسرى مرتين، والأول أصح؛ لما روى الترمذي في شمائله - عليه السلام - أنه كانت له مكحلة يكتحل منها كل ليلة ثلاثا في هذه وثلاثاً في هذه. ولو خالف واكتحل شفعا حصل بعض السنة، روى أبو داود أنه - عليه السلام -قال:" من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج".

قال: ويقلم الظفر، وينتف الإبط - أي: من اعتاده، وإلا فليلحقه - ويحلق العانة، ويقص الشارب؛ [أي] ويستحب ذلك؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-"الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط متفق عليه. والاستحداد: حلق العانة؛ مأخوذ من استعمال الحديد. والإبط: بكسر الهمزة وسكون الباء. وكما يسستحب نتف الإبط يستحب نتف الأنف أيضاً. والأولى في قص الأظفار أن يكون مخالفا؛ فإنه ورد حديث:"من قص أظفاره

مخالفاً لم يرى في عينه رمداً". وفسره أبو عبد الله بن بطة بأن يبتدئ بخنصر اليمنى، ةثم بالوسطى ثم بالإبهام، ثم بالبنصر، ثم بالمسبحة، ثم بإبهام اليسرى، ثم الوسطى، ثم بالخنصر، ثم بالسبابة، ثم بالبنصر. وفي "الإحياء": انه يبتدى في اليدين بمسبحة اليمنى، ويختم بإبهامها، وفي الرجلين بالخنصر من اليمين، ويختم بخنصر اليسرى؛ كما في التخليل. وأما وقت وقت ذلك: فقد تعرض له الشيخ في باب هيئة الجمعة ولا يعارضه ما روى عن أنس، قال: وقت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة ألا تترك أكثر من أربعين يوماً. نعم، روى عن وصية على - كرم الله وجهه -: أن تقليم الأظافر يكون في كل عشرة أيام، ونتف الإبط في كل أربعين يوماً، وحلق العانة في كل عشرين يوماً ونتف الأنف في كل ثلاثين يوماً والحق الرجوع في ذلك إلى الحاجة. قال: ويكره القزع، [والقزع]: حلق بعض الرأس، سواء كان من [موضع] واحدا، أو متفرقاً؛ أخذاً من قولهم للقطعة من السحاب: قزعة. ودليل كراهته: ما روى [البخاري] عن ابن عمر قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع" وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى غلاماً قد بعضه، وترك

بعضا، فنهاهم عن ذلك. أخرجه مسلم وفي رواية: "احلقه كله أو دعه كله". أخرجه أبو داود ثم النهي لأجل مافيه من التشويه، وهو دأب أهل الشطارة. وكذا يكره نتف الشيب وخضبه بالسواد؛ كما ذكره في "التهذيب". وفي"الحاوي" أن خضبه بالسواد حرام إلا في الجهاد. ويجوز خضاب الشعر بالحناء، وهو سنة؛ قال - عليه السلام-: "إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم" رواه النسائي وخضابه بالحمرة والصفرة منه أيضاً.

واعلم أن ذكر الشيخ القزع في هذا الباب؛ لأنه مناسب لما تقدمه من الآداب، وأدخل مأتقدمه في الباب؛ لتعلق بعضه بحديث السواك، وتعلق بعضه ببعض في الحديث، وإلا فكراهة القزع مذكورة في "المهذب" في باب العقيقة، وثَم ذكره في "الروضة" وتعرض لأمور [أخر]: منها: أن حلق جميع الرأس لا بأس به لمن لا يخف عليه تعاهده ولا بأس بتركه لمن خف عليه. ومنها: أنه يستحب فرق جميع الرأس. ومنها غسل البراجم, وهي عقد الأصابع ومفاصلها, يلتحق بها إزالة ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وصماخها في الأنف وسائر البدن. ومنها: يستحب ترجيل الشعر, وتسريح اللحية؛ ويكره تبييضها بالكبريت أو غيره؛ استعجالا للشيخوخة, ونتفها [أول طلوعها] إيثارا للمرودة وحسن الصورة. وكذا يكره تصفيف شعر اللحية طاقة فوق طاقة, تحسينا, والزياده فيها والنقص منها بالزيادة في شعر العذارين من الصدغين, أو أخذ بعض العذار في حلق الرأس, ونتف جانبي العنفقة وتركها شعثة إظهارا لقلة المبالاة بنفسه, ولا بأس بترك سبالته, وهما طرفا الشارب. قال: ويجب الختان؛ لقوله تعالى: {واتبع ملة إبراهيم حنيفا} [النساء: 125] , وإبراهيم أول من اختتن, ويروى أنه ختن نفسه بالقدوم بالتشديد: وهو الفأس,

وبالتخفيف: وهو اسم المكان الذي اختتن فيه. قال الماوردي: وقد قيل: إنه اختتن وهو ابن سبعين سنة, وقيل: ثمانين, ولا يفعل ذلك في هذا السن إلا عن أمر الله تعالى, روى البخاري في باب قوله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} [النساء: 125] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم". وروي أنه - عليه السلام - قال لرجل أسلم: "ألق عنك شعار الكفر واختتن" , وهذا أمر, والأمر للوجوب. وروي أنه قال - على وجه المبالغة:- "أيما رجل حج قبل أن يختتن لم يقبل حجه". ولأنه قطع جزء [سليم] من البدن لا يستخلف؛ تعبدا؛ فكان واجبا؛ كالقطع في

السرقة. واحترزنا بالقيد الأول عن الظفر والشعر, وبالثاني عن القطع للأكِلَة؛ فإن ذلك ليس بواجب. وقد استدل له الجيلي بأن بقاء ما يجب قطعه يحبس النجاسة, وذلك يمنع صحة الصلاة, وفيه نظر؛ لأن القاضي أبا الطيب ذكر أن الخصم استدل على أن ذلك سنة بأنه أمر به حتى [لا] يجتمع تحتها بول, وهذا القدر من النجاسة لا يجب إزالته عندنا, وإنما هو مستحب؛ فيجب أن يكون القطع مثله, فأجاب عنه, ولم يمنعه الحكم؛ وذلك يدل على أنه عندنا كذلك, وما ذكره الشيخ هو الصحيح ووراءه

وجهان في "الرافعي": أحدهما: أنه سنة مؤكدة. والثاني: أنه واجب في حق الرجال, مستحب في حق النساء؛ وهذا قد حكاه القاضي الحسين مع الأول. وعن ابن كج حكاية قولين من غير تفصيل. والذي جزم به المعظم: الأول. وإذا قلنا به فالواجب في حق الرجال قطع الجلدة التي تواري الحشفة - ويقال لها: القلفة, وللقطع إعذار - حتى تنكشف جميع الحشفة. وقال الإمام: ولو بقي مقدار لا ينبسط على سطح الحشفة وجب قطعه؛ حتى لا يبقى جلدا متجافيا. وعن ابن كج أنه قال: عندي أنه قطع شيء من القلفة وإن قل, بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها. والواجب في حق المرأة قطع اللحمة كما قال الرافعي، أو الجلدة - كما قال الماوردي - التي في أعلى الفرج فوق ثقب البول وهي تشبه عرف الديك، فإذا قطعت بقي أصلها كالنواة، ويكفي أن يقطع ما يقع عليه الاسم. وروي أنه - عليه السلام - قال لأم عطية - وكانت تخفض النساء -: "يا أم عطية إذا خفضت فأشمي ولا تنهكي؛ فإنه أسرى للوجه، وأحظى عند الزواج" أي: لا تبالغي في القطع؛ فإنه يؤثر

انقطاع الشهوة؛ كما قاله القاضي الحسين، واتركي الموضع أشم، أي: مرتفعاً.

وقوله: "أسرى للوجه" أي: أصفى، وقيل عني به: ما يحصل لها في نفس الزوج من الحظوة بها. وختان المرأة يسمى: خفضاً، كما يسمى ختان الرجل إعذاراً. ومحل الوجوب بعد البلوغ؛ لأنه واجب في البدن، وليس الصبي من أهله، ويخالف العدة فإنها تتعلق بمضي الزمان؛ وكذا أطلقه الجمهور. وادعى القاضي الحسين أنه لا خلاف فيه، مقتضاه أنه لا يجب إلا على الشخص نفسه وإن كان عبداً؛ كما صرح به الأصحاب في كتاب الرهن. وقال البغوي هنا: إن عللى السيد أن يختن عبده، أو يخلي بينه وبين كسبه حتى يختنة نفسه. وعبارة القاضي الحسين في باب صلاة الإمام قاعداً بقيام: " إن كان له عبد غير مختون، فعلى مالكه أن يخلي بينه وبين كسبه زماناً يحصل فيه أجرة الختان بالكسب، ـ وإن لم يخله يجب عليه أن يختنه من ماله؛ وكذا أجرة تعليم الفاتحة". قال الماوردي: ويؤخذ من توجه عليه الختان في أول إمكانه، ولا يؤخر إلا بعذر؛ فإن امتنع منه ولا عذر، ختنه السلطان. وفي "الزوائد" للعمراني أن القاضي ذكر في كتاب الختان أن الصيدلاني

وأبا سليمان المروزي صاحب المزني قالا: "يعصي الأب يترك ولده حتى يبلغ"، وأن القاضي قال: "وظاهر كلام الصيدلاني أن الأب لا يجب عليه ختان ابنه قبل البلوغ؛ لأنه [لا] يعصي إلا بترك واجب". والمشهور، والذي جزم به الجمهور الأول، لكنهم قالوا: إنه يجوز قبل البلوغ، وادعى القاضي الحسين أنه لا خلاف فيه، ومع جوازه فهو سنة؛ كما صرح به الأصحاب، لكن في أي وقت؟ الذي حكاه الماوردي وأبن الصباغ: أنه يوم السابع إن لم يكن ضعيفاً لا يحتمله؛ لما روي أنه - عليه السلام - ختن الحسن والحسين في اليوم السابع؛ وهذا نسبه أبو الطيب إلى ابن هرية. وعلى هذا هل يدخل يوم الولادة في العدد؟ فيه وجها: قال ابن أبي هريرة: نعم. وقال الأكثرون: لا. فلو أخر عن السابع، [قال الماوردي]: والمستحب أن يختن في الأربعين، فإن أخر عنها، فالمستحب أن يختن في السنة السابعة؛ لأنه الوقت الذي يؤمر فيه بالطهارة والصلاة. وقال القاضي الحسين في "التعليق"، وهو المذكور في "التهذيب": "عندي أن وقته بعد استكمال العشر، فأما قبله فلا يجوز بحال؛ لأنه - عليه السلام - أمر بضربه وتأديبه للصلاة وغيرها بعد العشر؛ فدل على أن بدنه لا يحتمل الألم قبلها، ويحتمله

بعدها ذكره في كتاب الحدود، وفي باب الصلاة قاعداً بقيام. وهذا كله إذا كان البي يطيقه، فلو كان ضعبفا لا يطيقه، فيؤخر إلى الوقت الذي يحتمله؛ حتى قال الإمام: لو كان اللرجل على خلقة من الضعف بحيث لو [ختن] خيف عليه لم يجز أن يختن، بل ينتظر الممكن بأن يصير بحيث يغلب على الظن سلامته لو ختن؛ وبه صرح الماوردي أيضاً؛ موجهاً له بانه لا تعبد بما يفضي إلى التلف. ثم كل موضع قلنا: يجوز ختانه، فيستوي فيه الأب والجد والحاكم والوصي؛ صرح الماوردي، ويكون مؤنة الختان من مال الصبي؛ كما قاله القاضي الحسين والإمام لأنه يجب عليه بعد البلوغ. وفي "الرافعي" وجه آخر: أنها في مال الأب، وهو في غيره منسوب للقاضي الحسين، وقال: في "تعليقه" في باب صلاة الإمام قاعدا بقيام: إن أجرة الختان وتعليم القرآن، إن كان للولد مال كانت في ماله، وإلا فعلى الأب. [وقال فيه: إن ما يهدي عند ختان الولد يكون ملكا للولد، والأب يقبلها له]. فرع: الخنثى المشكل هل يجب خناته؟ المشهور نعم، فيختن الفرجين وجوبا؛ لأن أحدهما أصلي فيجب خناته، ولا يعرف؛ فتعين ختانهما؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد شبه ذلك بإتلاف الزوج البكارة؛ ليصل إبلى حقه من الوطء. وفي "التهذيب" في كتاب النكاح: أنه لا يجوز؛ لأن الجرح على الإشكال لا يجوز. ثم على الأول من يتولاه؟ قال العمراني في " الزوائد": قال القاضي في كتاب الجنايات: إن كان صغيراً ختنه الرجال والنساء على طريقة مشايخنا بخراسان: الصيدلاني والمروزي. وعلى طريقة البندنيجي لا يختن الصغير إذا كان خنثى، لا وجوباً ولا استحباباً؛ لأنه لا يتعين المحل، وإن كان بالغاً نظر: فإن كان يحسن ذلك تولاه، وإن لم يحسن

ولم يمكنه؛ لعجزه أو جزعه اشترى له جارية تحسن ذلك. فإن لم توجد جاز أن يتولاه اللرجال والنساء؛ لأنه موضع ضرورة. ولو خلق لشخص ذكران عاملان لم يتميز الأصلي منهما من الزائد ختنا جميعاً. واعلم أن إدراج الشيخ الختان في هذا الباب وإن ذكره الأصحاب في ذيل باب حد الخمر؛ اتباعاً للمزني في "المختصر"؛ لأجل مارواه أبو المليح عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: "عشر من الفطرة: المضمضة، والاستنشاق، وإحفاء الشارب، وإعفاء اللحية، وقلم الأظافر، وغسل البراجم، ـ وحلق العانة، ونتف الإبط، والختان" وقد تقدم ذكر مناسبة بقية الفطر هنا؛ فكذا بقيتها. وكما يجب الختان يجب قطع السرة، لأنه لا يتأتى ثبوت الطعام إلا بذلك والله أعلم.

باب صفة الوضوء

باب صفة الوضوء الوضوء - بفتح الواو -: الماء، وبضمها: الفعل، وهو المثوب عليه، مشتق من الوضاءة، وقد قيل: هما جميعاً بالفتح، وحكي ضمهما، وهو شاذ، والمشهور الأول. قال: إذا أراد - أي: الذي ليس بمتوضئ الوضوء نوى؛ لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} [المائدة: 6] إلى آخرها؛ لأن تقديرها: إذا قمتم إلى الصلاة، فاغسلو للصلاة وجوهكم، كما يقال: إذا لقيت الأمير فتلبس، أي: للقائه، وإذا لقيت العدو فتأهب أي: للقائه، وإذا رأيت العالم فقم، أي: له. وقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين} [البينة: 5] والوضوء عبادة. وقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىٍ ما نوى" متفق

عليه، والوضوء عمل لأنه طهارة موجبها في غير محلل موجبها؛ فافتقرت إلى النية كالتيمم؛ وبهذا يخرج إزالة النجاسة. والنية عبارة عن القصد بالقلب؛ يقول العرب: نواك الله بحفظه، [أي: قصدك

الله بحفظه]. وعبارة بعضهم: "أنها تصميم القلب على فعل الشيء"، والماوردي قال: إنها قصد الشي مقترناً بفعله، فإن قصده وتراخى عنه، فهو عزم، كذا قاله في كتاب الأيمان والقصد بالنية تمييز رتب العبادات عن العادات أو تمييز رتب العبادات. قال: رفع الحدث، أو الطهارة للصلاة، أو الطهارة لأمر لا يستباح إلا بالطهارة: كمس المصحف وغيره، أي: كالطواف، وسجود التلاوة، والشكر، ومس المصحف وحمله؛ لأن ذلك عين العبادة. واحترز بقوله: "للصلاة" عن نية مطلق الطهارة؛ [فإنها لا تكفي] عند الجمهور؛ لترددها بين طهارة الحدث والخبث، واللغوية والشرعية.

وحملوا ما نقله البويطي من قول الشافعي: " لو نوى طهارة مطلقة أجزأه" على إرادة الطهارة للصلاة أو من الحدث، والماوردي أجراه على ظاهره ولم يحك سواه، وحكى وجهين فيما لو نوى الوضوء، ووجه المنع بأنه ينقسم إلى الوضوء عن حدث ووضوء مجدد، واتفقوا على أنه لو نوى فرض الوضوء أو الوضوء المفروض أجزأه؛ لانتفاء ما سبق من الاحتمال. وقد أفهم كلام الشيخ اموراً: أحدهما: أنه لا فرق في إجزاء نية رفع الحدث بين أن يكون عليه مع الحدث الأصغر الحدث الأكبر أو لا يكون, ولا بأن يكون ماسحاً على الخفين أو لا، فلا خلاف في ذلك إذا لم يكن عليه غير الأصغر وليس بماسح، أمل إذا كان ماسحاً على الخفين فالمشهور الإجزاء. ومن الأصحاب من قال: لا يجزئه إلا نية الاستباحة كما في التيمم؛ بناء على أنه لا يرفع الحدث عن الرجلين، وهو غريب. ولو كان عليه مع الحدث الأصغر حدث أكبر: فإن قلنا باندراج الأصغر في الأكبر أجزأت عنهما نية رفع الحدث، وإلا فلا تجزئ عن واحد منهما؛ قاله الماوردي. والجمهولا أطلقوا القول بإجزاء نية رفع الحدث من غير تفصيل. الثاني: أنه لا يحتاج مع شيء مما ذكره التعرض غلى إضافة ذلك إلى الله تعالى والغزالي حكى في اشتراط ذلك وجهين، وهما من تخريج الإمام؛ فإنه قال: الوضوء من القربات؛ ولذلك أوجب الشافعي النية فيه، وإذا كان كذلك انقدح ذكر

خلاف في أنه هل يشترط أن يضيف الوضوء إلى الله - تعالى - كما في الصلاة؟ لكن قد قطع أئمة المذهب بأنه لو نوى أداء الوضوء أو [فريضة الوضوء] صحت نيته وارتفع حدثه؛ فالوجه أن يكتفي بما ذكر الأئمة. قال الرافعي: ولا يجعل اعتبار النية في الوضوء على سبيل القربات؛ بل الاعتبار التمييز. الثالث: أن نيته على غير هذا [النحو] الذي ذكر لا تصح، وذلك يشمل صوراً لا يسلم بعضها من نزاع: منها: ماإذا نوى استباحة مالا يستباح إلا بالطهارة كالصلاة وغيرها؛ فإن المشهور من المذهب إجزاؤها، ومن الأصحاب من قال: لا تجزئ؛ لأن هذه الأشياء تستباح مع بقاء الحدث بالتيمم، وهذا يشابه قول من اشترط من أصحابنا التعرض في الصلاة إلى الفرضية؛ احترازاً من طهر الصبي، والصحيح الأول، ويمكن أخذه من قول الشيخ: "نوى رفع الحدث" لأنه يشمل ما إذا أتى بذلك مطابقة أو تضمناً، ونية استبحة مالا يستباح إلا بطهارة تضمنت رفع الحدث؛ فكذلك إجزاؤه. وأيضاً فإنه تعرض في صفة الغسل إلى أن نية الاستباحة كافية فيه، وتعرض هنا إلى ذكر هيئة أخرى لم يتعرض لمثلها ثم؛ فكان كلامه في كل باب تنبيها على مالا يقبل مثله في الباب الآخر. والحكم فيما لو نوى استباحة صلاة معينة ولم يتعرض لغيرها بنفي ولا إثبات،

كالحكم فيما لو نوى استباحة [الصلاة. نعم، لو نوى استباحة] صلاة معينة دون غيرها ففي صحة نيته أوجه: أصحابها: أن الحكم كذلك، ويستبيح سائر الصلوات. والثاني: لا؛ لمخالفة وضع النية. والثالث: يستبيح ما عينه دون ما نفاه. ثم لا فرق فيما إذا لم يحدد صلاة معينة - وقلنا يرتفع حدثه - بين أن يمكن أداؤها بذلك الوضوء أم لا؛ كما حكاه الروياني في "تلخيصه" عن والده، مع وجه آخر: أنها إذا لم يمكن تأديتها بهذا الوضوء لا تصح نيته. ومنها: ما إذا نوى رفع الحدث الأكبر، وقد جزم الماوردي بأن ذلك يجزئ، بخلاف ما إذا كان جنباً فنوى رفع الحدث الأصغر - لا يجزئه؛ لأنه يصح أن يرتفع الأدنى بالأعلى دون العكس. وفي "الرافعي" وجه: أنه [لا يجزئه] في الأولى أيضاً؛ لأنه نوى طهارة غير مرتبة، وهو المختار في"تلخيص الروياني". وقال القاضي الحسين: لعل الخلاف مبني على أن الحدث الأصغر يحل جميع البدن أم لا؟ فإن قلنا: يحل، أجزأه، وإلا فلا؛ إذا كيف يصح الفرض بنية النفل؟! وكيف كان الأمر فالصحيح الأول؛ لأن النية لا تتعلق بخصوص الترتيب نفياً وإثباتاً.

وفي "التتمة": أنه يرتفع حدثه عن الوجه واليدين، وهل يرتفع عن الرأس والرجلين؟ إن قلنا: [إن] غسل الرأس يقوم مقام مسحها، ارتفع عنها أيضاً، وإلا فلا. ومنها: ما إذا نوى استباحة ما يستحب فعله على الطهارة: كقراءة القرآن، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلم، وزيارة قبره - عليه السلام - والجلوس في المسجد، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة - فللأصحاب في الاكتفاء بذلك وجهان: أصحهما عند الماوردي وغيره: ما أفهمه كلام الشيخ. وبعض المتأخرين [رجح مقابله]؛ لأن المقصود المتطهر تحصيل المستحب، وهو لا يحصل بدون رفع الحدث؛ فكانت نية ذلك متضمنة له، وهذا ظاهر نصه؛ فإنه قال:"لو توضأ لنافلة أو قراءة مصحف أجزأه". والوجهان جاريان - كما قال الماوردي وغيره - فيما إذا نوى تجديد الوضوء، وكلام المتولي يخصهما بما إذا نوى ذلك مع علمه بأنه محدث، وكلام ابن الصباغ في أثناء فروع ابن الحداد يخصهما بما إذا نوى ذلك وهو يعتقد أنه متطهر، وادعى في باب صفة الصلاة عند الكلام في النية: أن الأظهر ارتفاع حدثه، وفي هذه الحالة ادعى الإمام أن المذهب أنه لا يصح وضوءه. ومنهم من بنى الخلاف في هذه الصورة على الصورة الأولى، وأولى بألا تجزئ؛ وبهذا ينتظم في المسألة ثلاثة أوجه؛ كما حكاها القاضي الحسين، ثالثها: تصح في

الأولى دون الثانية، وهو اختيار القفال، والأصح في "الإبانة". ولا خلاف في أنه إذا نوى استباحة مالا يستحب له الطهارة: كزيارة الوالدين، وعيادة المريض، وتشييع الجنازة، و [دخول السوق]- لاتصح نيته. ومنها: إذا نوى رفع الحدث والتبرد، والذي نص عليه في البويطي الصحة، ولم يورد الجمهور غيره؛ لأن التبرد حاصل وإن لم ينوه؛ فأشبه ما إذا نوى عند دخول المسجد الفريضة والتحية؛ فإنه لا يضره. وعن ابن سريج أنه لا يصح لأجل الشريك؛ كما أفهمه كلام الشيخ. ومنها: لو نوى رفع حدث معين من بول، أومس، أو لمس، أو نوم. وللأصحاب فيه تفصيل: فقالوا: إن لم يكن عليه غير ما نواه أجزأه ذلك، وإن كان عليه غيره؛ ففيه ثلاثة أوجه حكاها أبو الطيب وغيره: أصحها: أنه يجزئه. والثاني: لا يجزئه؛ لأن المنع من الصلاة تعلق بمحل حدث على انفراده، فإذا نوى رفع بعض الأحداث ارتفع مت نوى، وخلفه ما بقي أيضاً. والثالث: إن كان مانواه أول الأحداث ارتفع وما بعده بارتفاعه؛ لأنه الذي صادف الطهارة فأقسدها، وبواقي الأحداث لم تفسد الطهارة. وإن كان الحدث الذي نوى رفعه غير الأول لم يرتفع البواقي. وعكس ابن الصباغ ذلك، فقال: إن نوى رفع الأخير صح؛ لأنه أقرب. وإن نوى ما قبله فلا. وجزم الماوردي والمتولي بأنه إذا عين حدثا، ولم ينف ما عداه [ارتفع الجميع. أما إذا نفى ما عداه]، ففي صحة نيته وجهان. وزاد المتولي ثالثاً: أنه إن عين الأخير صحت نيته، وإن عين غيره لم تصح. والشيخ أبو محمد عكسه، فقال: إن عين الأول صح، وإن عين غيره لم تصح. وقد حصل في كل حالة أربعة أوجه، وإذا جمعتها جاء منها وجه خامس: أنه إن

عين ونفى باقي الأحداث لم تصح نيته، وإن لم ينف صحت، وارتفع الجميع. وعلى الخلاف ينبني ما إذا غلط في التعيين من حدث إلى حدث: بأن نوى رفع حدث البول, ولم يكن عليه إلا حدث النوم؛ كما أشار إليه الإمام بعد أن جزم القول بارتفاع ما عليه بهذه النية, ولم يحك الجمهور سواه, ونقل المازني إجماع الجمهور عليه. ووجهه الإمام بأن عين الحدث لا سبيل إلى تخيل ارتفاعه, وإنما يثبت بسبب الحدث منع - وهو الحدث على التحقيق- ثم يرتفع ذلك المنع بالوضوء, وذلك المنع ليس جنسا معينا ولا نوعا مخصوصا, فلئن فرض غلط في التعرض لذكر السبب, فالمقصود ارتفاع الحكم الواقع بذلك السبب, على أن هذه الصورة شبيهة بما إذا نوى المكفر بالعتق كفارة معينة, وكان عليه غيرها؛ لأن أصل النية لا بد منه, وتعيين النية ليس بشرط, والحكم في الكفارة أنها لا تجزئ, ولعل الفرق بينهما أن النية هنا ليست نية القربة بل للتمييز بخلافها ثم. نعم, لو علم أن حدثه البول, فنوى رفع حدث النوم عمدا - ففي صحة وضوئه وجهان, أصحهما: المنع؛ لتلاعبه. ومنها: إذا فرق النية على أعضاء الوضوء. وللأصحاب فيها وجهان: الأظهر عند الغزالي: ما أفهمه كلام الشيخ. وعند غيره - ومنهم الماوردي-: الإجزاء، والوجهان عند بعضهم مبنيان على جواز تفريق الوضوء، واختار الإمام ترتيبهما عليه، وقال: إن قلنا: لا يجوز تفريق الوضوء فتبعيض النية أولى، وإلا فوجهان. والفرق أن الضوء قربة واحدة تربط حكم أوله بحكم آخره؛ فإن من غسل وجهه لم يقض بارتفاع الحدث عن وجهه ما لم يتم الوضوء؛ إذ لو أراد مس المصحف بوجهه المغسول لم يجد إلى ذلك سبيلا. قلت: وإذا تأملت ما حكيناه عن القاضي الحسين وغيره عند الكلام في تفريق الوضوء - عرفت أن الأمر عند الأصحاب كما قاله الإمام.

ثم الوجهان فيما إذا نوى عند غسل الوجه رفع الحدث عن الوجه، وكذا عند تطهير باقي الأعضاء، أو عند وجود ذلك وتبقية الحدث على العضو الذي بعده فيه - اختلف كلام المصنفين: فالذي ذكره الإمام الأول، والذي ذكره الماوردي الثاني. قال: ويستصحب النية إلى آخر الطهارة؛ اتباعاً للأصل، فإن الدليل يقتضي وجوب ذلك؛ فإن كل جزء من أجزاء الطهارة عمل وعبادة، لكن في ذلك مشقة؛ فطرح، واكتفى باقترانها بأوله؛ كما في الصلاة. ثم استصحاب النية على قسمين: أحدهما: أن يستصحبهما ذكراً معتقداً لها، وهذا هو الذي ذكرنا أنه لا يجب إلى آخر الصلاة، وإنما هو مستحب؛ كما قال القاضي الحسين. وعبارة الماوردي: أنه أكمل. نعم، إذا اقترنت النية بسنة من سنن الوضوء، قال الماوردي: فيجب استصحابها ذكراً إلى أن يغسل جزءاً من الوجه. وهذا الكلام فيه نظر؛ لأنه حكى بعد ذلك فيما إذا اقترنت النية بغسل الكفين أول الوضوء أو المضمضة والاستنشاق، ثم عزبت قبل غسل جزء من الوجه - هل يكون كعزوبها بعد غسل جزء من الوجه حتى يعتد بوضوئه، أو لا يعتد به؟ ثلاثة أوجه: أحدهما - قاله ابن الوكيل - أنه لا يضره ذلك؛ لأنها اقترنت براتب في الوضوء؛ فأجزأت؛ كما إذا اقترنت بغسل الوجه. والثاني - قاله أبو إسحاق - أنها إن اقترنت بغسل الكفين ثم عزبت لم تجزئه، وإن اقترنت بالمضمضة أو الاستنشاق أجزأته؛ لأنها وجدت عند أخذه في تطهير الوجه، فشأنه إذا اقترنت بغسله. والثالث - قالها ابن سريج-: أنها لا تجزئه مطلقا حتى تقترن بغسل أول جزء

[يغسله] من الوجه؛ لأنه أول واجب يلقاه؛ كما في الصلاة. فإذا عرفت ذلك عرفت أنه ليس واحد من الأوجه يقتضي ما قاله: أما على رأي ابن الوكيل وأبي إسحاق فظاهر، وأما على رأي ابن سريج - وهو الصحيح-: فلأن المعتبر عنده أن تقترن بغسل الوجه، ولا يلزم من ذلك القول بلزوم استصحابها ذكراً من حين نوى عند سنة من سنن الوضوء إلى أن يغسل جزءاً من الوجه؛ فإنه لو نوى عند غسل اليدين أو المضمضة أو الاستنشاق، ثم عزبت واقترنت بغسل الوجه - كفاه؛ ولهذا قال القفال - فيما حكاه الروياني عنه:- إنه من ينوي مرتين: عند غسل اليدين، وعند غسل الوجه. وقد حكى الروياني وغيره فيما إذا اقرنت نيته بالمضمضة والاستنشاق، ثم عزبت -: إن كان قد غسل جزءاً من ظاهر الوجه أجزأه، وإلا فلا، ورجحه الروياني، وغيره ضعفه؛ لأنه لم يقصد بذلك غسل الوجه. ومعنى عزوب النية: بعد ذكرها؛ قال الله - تعالى-: {لا يعزب عنه مثقال ذرة} [سبأ:3] أي: لا يبعد، ويقال: روض عزب عن الناس، أي: بعيد. و [القسم] الثاني: أن يستصحبها حكماً إلى آخر الطهارة، وهذا لا شك في وجوبه، ومعناه: ألا يحدث ما يخالف ما تقدم من نيته، مثل: أن يرفض النية ويترك الوضوء، أو يرتد - والعياذ بالله - فإذا فعل ذلك بطلت نيته في المستقبل، ولا يبطل ما مضى من وضوئه، حتى لو أراد البناء عليه فنوى في الحال: جاز، وفيه وجه آخر حكاه ابن الصباغ في الأولى والإمام في الثانية: أنه يبطل أيضا. قال الروياني: وليس بشيْ. وقد أشار الإمام إلى [أن] مأخذ الخلاف جواز تفريق النية على أعضاء الوضوء، وهذا في الردة إذا قلنا: إن الردة بعد إكمال الوضوء لا تبطله؛ كما هو في الصحيح وبه جزم الإمام، أما إذا قلنا: تبطله - كما حكاه ابن الصباغ وجهاً في المسألة - فهاهنا أولى. وإذا قلنا: لا يبطل الماضي بما ذكرناه، لاحظنا قصر الزمان وطوله؛ بناء

على وجوب الموالاة. فرع: طرآن قصد التبرد والتنظيف على الطهارة، هل يكون كطرآن ما ذكرناه؟ ينظر: إن كان غافلاً حالة قصد التبرد عن الوضوء لم يجزئه ذلك الغسل عن الواجب الوضوء؛ كما نص عليه، وبه جزم البندنيجي وغيره، وهو الأصح في "النهاية" والرافعي، مع وجه آخر: أنه لا يؤثر ذلك. وإن كان حال قصد التبرد ذاكراً للطهارة: فوجهان؛ كما في الابتداء، صرح بذلك في "المهذب" وغيره، وجزم القاضي الحسين والفوراني بالإجزاء. ومن مجموع ما ذكرناه يأتي في المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: إن غفل عن نية الوضوء لم يصح وإلا صح هو الأصح. والخلاف جار - كما قال القاضي الحسين - فيما إذا توضأ فغسل وجهه [ويديه]، ومسح رأسه، وزلق؛ فتوسخت رجلاه؛ فغسلهما غافلا عن نية الوضوء, هل يقع غسلهما عن جهة الوضوء أم لا؟ والمذهب الإجزاء. ثم حيث قلنا: إن قصد التبرد والتنظيف يمنع الاحتساب عن الوضوء - لم يعتد بغسل ما اقترن به قصد التبرد وما بعده؛ لأن الترتيب شرط, ولا يجزئه إعادة غسل ذلك من غير تجديد نية؛ كما صرح به ابن الصباغ وغيره, لكن هل هذا لأن قصد التبرد أبطل النية المستصحبة في المستقبل أصلا ورأسا, أو قوي عليها؛ فكان النظر إليه دونها من غير أن تبطل, وتكون هذه النية تقوية للأولى لا مبتدأة؟ هذا مما للنظر فيه مجال, والأظهر الثاني, وفائدته تظهر في أنه إذا تبصر القضية وقصد غسل ذلك عن الحدث, لا يتخرج على جواز تفريق النية. نعم, يلاحظ طول الزمن وقصره؛ بناء على وجوب الموالاة؛ وهذا ما حكاه ... الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ. والذي حكاه القاضي الحسين تخريجه على الوجهين في تفريق النية, وكذا حكاه الرافعي في نظير المسألة الذي سنذكره, وقال: إن قلنا: إنه يجوز التفريق بقي النظر في طول الفصل وعدمه: إن [اعتبرنا الموالاة] لم يحتمل طوله.

قلت: قد سلف منه أن الخلاف في تفريق النية مبني على القولين في الموالاة, أو مترتب عليهما, وأولى بألا يجزئ تفريق النية؛ فكيف يستقيم مع ذلك قوله: إن قلنا: يجوز تفريق النية ينظر إلى طول الفصل وقصره؛ نظرا إلى اعتبار الموالاة؟! فتأمله. ولو أغفل لمعة من أعضاء وضوئه في المرة الأولى, وغسلها في الثانية أو الثالثة - فهو قاصد غسلهما بنية النفل, وهل تؤثر في نية رفع الحدث المستصحبة؟ فيه وجهان: حكاهما القاضي الحسين: أحدهما: نعم؛ لأن نية النفل حاضرة, وتلك مستصحبة؛ فقويت الحاضرة, والفرض لا يقع بنية النفل؛ كما لو ترك سجدة من صلب الصلاة وسجد للتلاوة أو للسهو, لا تقوم مقام ما عليه. والثاني: لا؛ لأن الغسل عن النفل إنما يقع بعد فراغ المحل عن الفرض, وفي هذه الصورة لم يتفرغ المحل عن الفرض؛ فوقع الغسل عن الفرض. والفرق بين ما نحن فيه ومسألة السجود: أن نية الطهارة تشتمل على الغسل مرة ومرتين وثلاثا, ونية الصلاة لا تشتمل على سجدة التلاوة والسهو قطعا ويقينا؛ لأنها تطرأ عليها أحيانا. وفي "الرافعي" أن الوجهين مخرجان على أصلين سلفا: أحدهما: أن قصد التبرد إذا طرأ بعد عزوب نية الوضوء, هل يؤثر؟ وهذا اتبع فيه الإمام؛ فإنه كذا قاله. والثاني: أن تلك اللمعة ما صارت مغسولة بنية رفع الحدث وما في معناه, بل على قصد التنفل؛ فيكون كما لو نوى بوضوئه ما يستحب له الطهارة, أي: لا لأجل الحدث, كتجديد الوضوء. قلت: وتخريج ذلك على الأصل الأول فيه نظر؛ لأن مثار الخلاف فيه مفرع على أن مقارنة نية التبرد لنية رفع الحدث لا تؤثر, لأن التبرد يحصل بدون نية - كما سلف- فلم يؤثر بنيته شيئا, ونية رفع الحدث لو قارنتها نية للتنفل ثانية أو ثالثة لم تصح وجها واحدا؛ كما لو قصد [تكبيرة واحدة للإحرام] والهوي, فإذا كان مع

اقتران نية رفع الحدث مع نية التنفل مانعاً، فحدوث نية التنفل ونية رفع الحدث مستصحبة أولى. وأما تخريجه على الأصل الثاني ففيه نظر، والأولى ما قاله القاضي الحسين: أن الخلاف في ارتفاع الحدث بنية التجديد ممن ظن أنه متطهر - مرتب على الخلاف في هذه المسألة، فإن قلنا: لا يعتد بغسل اللمعة بالمرة الثانية أو الثالثة - فلا يرتفع الحدث بنية تجديد الوضوء، وإلا فوجهان. والفرق: أن نية الطهارة تشتمل على الغسل مرة ومرتين وثلاثاً نفلاً وفرضاً، وإذا غسلها في المرة الثانية كانت مغسولة بنية موجودة من قبل، ولا كذلك في تجديد الطهارة. ثم حيث قلنا: لا يعتد بغسل اللمعة في المرة الثانية والثالثة، فهل يستأنف الوضوء أم لا؟ فيه ما سلف، وهذا ما نص الرافعي فيه على ما ذكرناه من قبل. قال: ويسمي الله - تعالى - لقوله - عليه السلام-: "لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" [أخرجه أبو داود والترمذي.

والتسمية في ابتداء كل شيْ مطلوبة] حتى في الجماع، وفيه ورد خبر. وصورة التسمية أن يقول: باسم الله. ولو نسي التسمية عند ابتداء الوضوء وذكرها في أثنائه، أتى بها، نص عليها في القديم؛ كما قال البندنيجي وغيره، وابن الصباغ نسبه إلا نصه في الأم. وإن ذكرها بعد الفراغ منه، فلا يأتي بها؛ لفات محلها. ولو ترك التسمية عمداً، فهو كما لو تركها سهواً؛ قاله في الروضة. وللرافعي فيه احتمال مما إذا ترك القنوت ونحوه عمداً. قال: ويغسل كفيه ثلاثاً؛ لما روى البخاري عن عثمان بن عفان أنه دعا بوضوء، فأفرغ على يديه من إناء، فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء فتمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجليه ثلاثاً، ثم قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا".

قال: فإن كان قد قام من النوم -[أي] في ليل أو نهار-كره أن يغمس يديه في الإناء قبل أن يغسلهما ثلاثاً؛ لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استبقظ احدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في وضوئه؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده؟ "، وفي بعض طرقه: "فلا يغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثاً؛ فغنه لا يدري أين باتت يده" وهذه رواية الشافعي. وفي هذا الحديث تنبيه على أن المر بذلك كان لأجل توهم النجاسة؛ لنهم كانوا أصحاب أعمال، ويستنجون بالأحجار، وإذا ناموا جالت أيديهم، فربما وقعت على محل النجو أو بثرات في الجسد؛ فإذا صادفت ماء قليلا نجسته. وإذا كان هذا هو المعنى, فمن لم ينم إذا احتمل نجاسة يده, كان في معنى النائم, ومن تحقق طهارة يده, قال الشيخ أبو حامد: هو مخير بين أن يغمسها في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا, وبين أن يغسلها قبل غمسها, وهو ما حكاه أبو الطيب, والبندنيجي وابن الصباغ. وقال الماوردي: الذي عليه الجمهور من أصحابنا - وهو الصحيح من المذهب- :أنه لايغمس كفيه في الإناء إلا بعد غسلهما ثلاثاً، سواء كان قد قدم من النوم أو لم يقم؛ لأنهما استويا في سنة الغسل - وإن ورد النص في النائم - فاستويا في تقديم الغسل على الغمس، وهذا ما حكاه القاضي الحسين، واختاره الإمام، ووجهه بأن أسباب النجاسة قد يخفي دركها عن معظم الناس؛ فيعتقد المعتقد الطهارة على وجه يرى اعتقاده يقيناً، وليس الأمر على مل يعتقده؛ فاطردت السنة على الناس كافة، وهذا كالعدة المنوطة بالوطء، فإنها تجب لتبرئة الرحم، وقد تجب مع القطع ببراءة الرحم؛ تعميماً للباب. تنبيه: طلب غسل الكفين عند القيام من النوم قبل إدخالهما الإناء: هل هو غير طلب الثلاث المشروعة في أول كل وضوء؛ حتى إذا قام من النوم غسل ثلاثاً؛ لأجل إدخالهما الإناء، وثلاثاً؛ لأجل افتتاح الوضوء؟ أو الثلاث عند القيام من النوم هي

الثلاث المطلوبة في أول كل وضوء، لكن عند القيام من النوم وما في معناه - وهي حالة الشك في طهارة اليد - يكره ان يدخل يديه في الإناء قبل [أن يغسلهما]، وفي غير ذلك من الأحوال التي يتحقق فيها طهارة اليد لا كراهة في إدخالها الإناء قبل فعلها ولا بعد فعلها؟ الذي صرح به البندنيجي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ الثاني، وهو المفهوم من كلام الشيخ، وكنت أقول قبل ذلك: ينبغي أن يكون في ذلك خلاف مبني على أصلين، أحدهما: أن غسل اليدين ثلاثاً أول الوضوء، هل هو من سننه أم [لا]؟ وفي ذلك وجهان حكاهما المراوزة. فإن قلنا: إنه من سننه, انبنى على أن المحدث إذا كان على [بعض] أعضائه أو كلها نجاسة, وغسل ذلك مرة واحدة - هل يرتفع حدثه ويحكم بطهارة المحل أو لا يرتفع حدثه؟ وفيه وجهان ذكرتهما في باب صفة الغسل: فإن قلنا: تجزئ, فلا وجه إلا الاكتفاء بالثلاث مرة واحدة, وإن قلنا: لا تجزئ, فلا وجه إلا التعدد؛ لأن غسلهما ثلاثا مع تحقق طهارتهما مستحب؛ [لأجل الحدث, وغسلهما عند الشك في النجاسة ثلاثا مستحب]؛ لأجل الخبث؛ كما أفهمه الخبر, وقد قلنا: إن الغسلة الواحدة لا تكفي لأمرين؛ فيتعين الإتيان بالست. وما زلت على هذا إلى أن رأيت في كلام الإمام أن استحباب الثلاث في أول كل وضوء ليس لأجل الحدث؛ وإنما هي لأجل توقع خبث وإن بعد, حتى لو كان يتوضأ من قمقمه, فيستحب غسل اليدين؛ احتياطا للماء الذي يصبه على يديه وينقله إلى أعضائه؛ فرجعت عن التخريج, واعتقدت ما صرح به الأئمة والله أعلم. قال: ثم يتمضمض ويستنشق, لأنه - عليه السلام - كان يفعل ذلك؛ كما ذكرناه من قبل. والله أعلم. قال: ثلاثا؛ لما روي عن علي - كرم الله وجهه - أنه دعا بوضوء, فتمضمض واستنشق, فنثر يده اليسرى, فعل هذا ثلاثا, ثم قال: "هذا طهور نبي الله صلى الله عليه وسلم" أخرجه النسائي.

تنبيه: المضمضة - كما قال بعضهم-: أن يجعل الماء في فيه ويديره فيه, ثم يمجه. والاستنشاق: أن يجعله في أنفه, ويجذبه بنفسه إلى خياشيمه, ثم يستنثر. وخبر البخاري يدل على أن الاستنثار غير داخل في حد الاستنشاق, وكذلك قال بعضهم: المضمضة: وضع الماء في الفم وتحريكه, والاستنشاق: جعل الماء في الأنف وتحريكه. وقال أبو الطيب والمتولي: المضمضة: إيصال الماء إلى باطن الفم, حتى لو ملأ فاه ماء ثم بلعه من غير أن يديره فيه, لكان قد تمضمض. والاستنشاق: إيصال الماء إلى باطن الأنف على أي حال كان. وفي "الحاوي": أن المضمضة جعل الماء في مقدم الفم, والاستنشاق: جعل الماء في [مقدم] الأنف. وبالجملة: فالاستنثار مطلوب؛ لأحاديث صحيحة وردت فيه. واعلم أن بعضهم قال: أتى الشيخ هاهنا بـ "ثم", وعطف بالواو فيما تقدم؛ لأن الغرض أن تجتمع النية مع التسمية مع غسل الكفين؛ لتكون النية مقارنة لهما. قلت: وعلى هذا يعرض سؤال, وهو أن الأصحاب كافة استحبوا مساعدة اللسان الثلب بالنطق بالمنوي, وإذا كانت النية مقارنة للتسمية وغسل الكفين تعذر مساعدة اللسان القلب. نعم, قالوا في الصلاة: المستحب أن ينطق بالمنوي قبل الشروع في النية؛ لتعذر

النطق بالمنوي حالة النية؛ لأنها تتطبق على التكبير, فإن قيل بمثل هذا هنا لم يبعد, لكن بعضهم صرح بالفرق بين الموضعين. نعم, إتيان الشيخ بالواو بين المضمضة والاستنشاق يعرفك أن تقديم المضمضمة على الاستنشاق ليس بشرط في تأدية السنة, وهو [وجه] في المسألة - مع إجزائه - يشترط إذا قلنا: إنه يفصل بغرفتين؛ كما قاله الإمام, أو بست غرفات؛ كما قال الرافعي, وجعله أظهر من الأول, والماوردي أطلقهما وطردهما فيما إذا قدم المضمضة والاستنشاق على غسل اليدين. قال: ويجمع بينهما في أحد القولين؛ لما روي عن علي - كرم الله وجه - في

وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تمضمض مع الاستنشاق بماء واحد، ونقل مثله عن وصف عبد الله بن زيد. قال: بغرفة؛ لأن عبد الله بن عباس لما وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أنه غرف غرفة واحدة من ماء، فتمضمض واستنشق، رواه البخاري، وهذا مانص عليه في "الأم" ونقله المزني، ولم يحك الماوردي [على هذا غيره وعلى هذا] في كيفية ما يفعل وجهان: أحدهما: ياخذ غرفة يتمضمض منها ثلاثاً، ثم يستنشق ثلاثاً، وهذا ما حكاه القاضي الحسين؛ قياساً على سائر أعضاء الطهارة؛ فإنه يستكملها عضواً [عضواً]. والثاني: يأخذها فيتمضمض، ثم يستنشق، ثم يتمضمض، ثم يستنشق ثم يتمضمض، ثم يستنشق، وهذا ما حكاه ابن الصباغ، وقال: إنه يقدم المضمضة. والغرفة: بفتح الغين وضمها، وقيل: بالفتح مصدراً، وبالضم اسم للمغروف. قال: وقيل: بثلاث غرفات، أي: فيأخذ غرفة يتمضمض منها ويستنشق، ثم يفعل ذلك ثانية وثالثة؛ لأن عبد الله بن زيد هكذا فعل في وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرجه مسلم، ولفظه: "ثم أدخل يده فاستخرجها، فمضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلاثاً"، وهذا القول صدر به القاضي أبو الطيب كلامه واستبعد الأول، وكذلك جعله الرافعي والمتولي أظهر.

قال: ويفصل بينهما في الآخر - أي: في القول الآخر - لما روى عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق. وروي أن عثمان وعلياً كذلك روياه، ولأنه أقرب إلى النظافة، وهذا القول أصح في "الرافعي" وغيره، ومنهم من قطع به، وحمل الأول على بيان الجواز. قال: بغرفتين، أي: فيأخذ غرفة بتمضمض منها ثلاثاً، وغرفة يستنشق منها ثلاثا؛ لأن عليا - رضي الله عنه - كذلك رواه، وهذا ظاهر ما نقله البويطي، وهو الأصح في "الرافعي". قال: وقيل: بست غرفات: ثلاثاً للمضمضة، وثلاثاً للاستنشاق؛ لأنه أقرب إلى النظافة وأيسر، وفيه تشبيه بسائر الأعضاء المغسولة، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب على هذه الطريقة، واختاره في "المهذب"، وهذا الخلاف في الأفضل بلا خلاف، حتى لو تمضمض واستنشق كيف كان، أدى سنتهما.

قال: ويبالغ فيهما إلا أن يكون صائماً؛ فيرفق، ووجهه في الاستنشاق: ما روي عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن ابيه قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء، قال: "أسبع الوضوء، وبالغ في الاستنشاق، وإلا أن تكون صائماً" أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح.

وصبرة: بفتح الصاد وكسر الباء، ويقال: بإسكان الباء أيضاً ووجهه في المضمضة: القياس على الاستنشاق، وبجامع خوف توقع الإفطار لكل منهما. وفي "الحاوي" إثبات الحكم في محل النص فقط، وفرق بأن المتمضمض يتمكن من رد الماء عن وصوله إلى جوفه بأن يطبق حلقه، ولا يمكنه دفع الماء بالخيشوم، والجمهور على الأول، وعليه جرى هو في كتاب الصيام. و"يرفق" في كلام الشيخ برفع القاف. والنهي عن ذلك في حال الصيام، قال أبو الطيب في كتاب الصيام: إنه نهى تحريم، كذا رأيته فيما وقفت عليه من "تعليقه"، وتوجيهه ظاهر، والذي قاله البندنيجي وغيره ثم أن المبالغة للصيام مكروهة، وعبارة ابن الصباغ: تركها فيهما يستحب به. والمبالغة في المضمضة عند الماوردي: أن يجعل الماء في جميع فمه، وعند غيره: أن يبلغ الماء إلى أقصى الحنك وجهتي الأسنان واللثات، مع إمرار الأصبع عليها. والمبالغة في الاستنشاق: تصعيد الماء بالنفس إلى الخياشيم من غير تكلف شيءٌ فيه إضرار، مع إدخال الأصبع وإزالة ما فيه من الأذى. والخياشيم، قال بعضهم: هي أصول الأنف، وبعضهم يقول: هي العظام الرقاق التي فيه. وأبو الطيب يقول: هي ما علا من الأنف، واحدها: خيشوم، وهو أيبس من اللحم وألين من العظم، وتسمى الغضاريف، واحدها: غضروف. قال: ثم يغسل وجهه -[للآية والإجماع]- ثلاثاً؛ لما ذكرناه من فعله - عليه السلام - الذي وصفه عثمان، وروى مسلم عن عبد الله بن زيد ذلك - أيضاً في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وهو مابين منابت شعر الرأس - أي المعتادة - ومنتهى اللحيين والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضا؛ لأن الوجه مأخوذ من المواجهة، وهذا [ما] تقع به المواجهة.

واحترزنا بالمعتادة عن الأغم: وهو الذي أخذ الشعر جزءاً من جبهته أو كلها، فاتصل بالحاجب. وعن الأصلع الذي انحسر الشعر عن مقدم رأسه؛ فإنه لا اعتبار بالمنابت في حقه؛ كما أشار إليه الشافعي في "الأم" بقوله: "وليس ما جاوز من شعلر رأس الأغم النزعتين من الرأس، ولا أصلع مقدم الرأس صلعته من الوجه"؛ وهذا ما حكاه العراقيون وغيرهم. وفي"تعليق القاضي الحسين" ومن تبعه حكاية وجه فيما إذا لم يتصل شعر الأغم بحاجبيه: أن الاعتبار في حقه بمابت الشعر، وهو بعيد، والفوراني صححه، وبعضهم يحكيه في الأغم مطلقاً. واللحيان - بفتح اللام -: العظمان اللذان عليهما الأسنان، واحدهما: لحي، بفتح اللام. والذقن - بفتح الذال المعجمة والقاف -: مجتمعهما. وعبارة القاضي أبي الطيب في حد الوجه: "أنه من قصاص الشعر إلى ما استرسل من الذقن طولاً، ومن وتد الأذن إلى وتد الأذن عرضا، ووتد الأذنين ليس من الوجه". قلت: فإن كان قد استعمل "إلى" [في] قوله: "إلى ما استرسل من الذقن" بمعنى: "مع"، وأضمر: شعر الذقن - كان تقدير كلامه: من قصاص الشعر مع ما استرسل من شعر الذقن طولاً، ومن وتد الأذن غلى وتد الأذن عرضا؛ وحينئذ يكون هذا حدا لوجه الملتحمي؛ بناء على الصحيح في أنه يجب إفاضة الماء على ما نزل من اللحية عن الذقن، زما ذكره الشيخ حد الوجه الذي لا شعر عليه، فهو احسن؛ لأنه يشمل وجه الأمراد والمرأة، ووجه الملتحمي نبه من بعد على باقيه. وإن استعمل "إلى" على بابها، ولم يضمر شيئا - فسد الحد؛ لأنه يخرج ما استرسل من الذقن عن أن يكون من الوجه؛ إذ لغاية لا تدخل في المغيا إلا ان يريد إدخال الغاية؛ فتصح، وهو الأقرب؛ ألا ترى إلى قوله: "ووتد الأذنين ليس من الوجه"

لما كان مراده عدم الدخول بينه؛ وحينئذ يكون قد حد وجه الأمراد، ويجوز على هذا أن يجعل حد الوجه الذي تقع به المواجهة كيف كان. ثم إن عليه [عليه] شعر، فهل يجب غسل ما تحته؟ يأتي الكلام فيه ويمكن حمل كلام الشيخ على هذا أيضاً. وما ذكره الشيخ من الحد يدخل في الوجه أشياء، ويخرج منه أشياء: فمن الأول: الجبهة، والجبينان، ولا خلاف في ذلك، والجبهة: موضع السجود، والجبينان: جانباها. ومنه: الصدغان؛ لأنهما في موازاة ما دون الأذنين؛ وهذا ظاهر نصه في "البويطي"؛ فإنه قال: "إن كان أمرداً غسل صدغيه، وإن كان ملتحياً أمر الماء على الصدغ وما خلف الصدغ إلى الأذنين". وقد قال يه بعض الأصحاب ولم يحك القاضي الحسين غيره، وقال الماوردي: إنه قياس قول أبي إسحاق في مواضع التحذيف - كما سنذكره - وإن قياس قول ابن سريح وابن أبي هريرة فيهما أنهما من الرأس، وهذا ما حكاه البندنيجي لا غير، وحمل نصه في البويطي على إرادة العذار. وعن أبي الفياض البصري وجمهور البصريين أن ما علا من الصدغين عن الأذنين من الرأس، وأسلفهما - وهو ما انحدر عن رأس الأذنين - من الوجه. ومنه: داخل العين، ولا خلاف [في] أنه لا يجب غسله ولا هو سنة. نعم، قال الشيخ أبو حامد: إنه يستحب. وحكاه عن "الأم"؛ لأن ابن عمر كان يفعله، وقال سائر الأصحاب: لا يستحب؛ لما يلحقه من المشقة، ويناله من الضرر، وقد روى أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بأصبعه ما في عينيه، ولو كان غسل

العين مسنونا أو مستحبا لفعله، اختياراً لنفسه أو بيانا لغيره. ومن الثاني: النزعتان، وهما ما انحسر من الشعر من جانبي الناصية، ولا خلاف في أنهما من الرأس. ومنه: مواضع التحذيف، وهو الشعر الداخل إلى الجبين ما بين ابتداء العذار والنزعة كذا قاله البندنيجي، وابن الصباغ زاد فيه: أنه الداخل إلى الجبين من جانب الوجه، والماوردي قال: إنه الشعر النابت في أعالي الجبهة ما بين بسيط الرأس منحدراً إلى الوجه. وللأصحاب في مواضع التحذيف وجهان: أحدهما - قاله إبو إسحاق:- أنها من الرأس؛ كما أفهمه كلام الشيخ، وهو الصحيح في "الشامل" و"تعليق أبي الطيب"، و"التهذيب". وقال القاضي: إن نص الشافعي في "الإملاء" يومئ إليه. والثاني-: قاله ابن سريج وابن أبي هريرة:- أنها من الوجه؛ لأنه تقع بها المواجهة؛ وهذا ما اختاره البندنيجين وحكاه الإمام عن نص الشافعي؛ وبهذا يحصل فيها قولان. قال: وإن كان عليه شعلر خفيف لزمه غسل ما تحته؛ لأن المواحهة واقعة بالبشرة؛ فوجب غسلها. وكلام الشيخ قد يفهم أنه لا يجب عليه غسل الشعر الخفيف، وقد قال الماوردي: إنه كما يجب عليه غسل ما تحته، يجب عليه غسله - أيضاً - حتى لو أخل بشيء من

واحد منهما لم يجزئه، وعلى هذا [يكون] سكوت الشيخ عنه؛ [لأن الغالب] أن الشعر ينغسل بغسل ما تحته من البشرة، أو يحمل ما ذكره الشيخ من حد الوجه على حده كيف كان؛ لأنه حينئذ يدخل فيه ماوقعت به المواجهة من الشعر كما سلف. قال: وإن كان عليه شعر كثيف لم يلزمه غسل ما تحته، أي: بل الواجب إفاضة الماء على [ظاهر الشعر] فقط؛ لأنه صلى الله عليه وسلم غسل وجهه بغرفة، وتوضأ بما لا يبل الثرى، وقد كان صلى الله عليه وسلم كثير الشعر، عظيم اللحية، ومن المعلوم أن ذلك لا يصل إلى ما تحت شعره؛ فدل على الاكتفاء بالإفاضة على الظاهر، ولأنه باطن دونه حائل معتاد؛ فلا يجب غسله كداخل الفم. وعن المزني أنه قال في "المنثور": إنه يجب علينا إيصال الماء إلى البشرة التي تحت الشعر الكثيف. قال البندنيجي فظن بعض أصحابنا أنه حكاه عن الشافعي، وليس الأمر كما

ظن. نعم، بعضهم حكى ذلك قولاً عن القديم، وهو غريب. فلو كان عليه شعر خفيف وكثيف، غسل ما تحت الخفيف دون الكثيف، والماوردي [خص] ذلك بما إذا تميز أحدهما عن الآخر، فإن لم يتميز وجب غسل ما تحت الجميع؛ لما في ذلك من المشقة، وقيل: إنه يجب غيل ما تحت الجميع مطلقا، قال الإمام الرافعي: وهو المذكور في "التهذيب". قال العراقيون: والمراد بالخفيف: ما ترى البشرة من تحته, والكثيف: ما لا ترى من تحته, وهذا ما يشعر به النص, وعليه الأكثرون. وبعض المراوزة يقول: إن الخفيف: ما لا يشق إيصال الماء إلى البشرة تحته, والكثيف: ما يشق معه ذلك. قال الرافعي: ورأيت الشيخ أبا محمد والمسعودي وطبقة المحققين يقربون كل واحدة من العبارتين من الأخرى, ويقولون: إنهما راجعتان إلى معنى واحد. قال: وبينهما تفاوت مع التقارب الذي ذكروه؛ لأن لهيئة النبات وكيفية الشعر من السبوطة والجعودة تأثيرا في الستر ووصول الماء.

وقد حكى القاضي الحسين مع الوجه الأول وجها آخر: أن المرجع فيهما إلى العرف. قال: ويستحب أن يخلل الشعور, أي: يستحب أن يخلل الشعر الكثيف؛ لأنه - عليه السلام - كان إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك, ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها, رواه ابن ماجه, وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته, قال البخاري: وهذا أصح حديث في الباب. ولا جرم قال الترمذي: إنه حسن صحيح.

والشعر بفتح العين وإسكانها. قال: إلا الحاجب. وهو معروف, وحده القاضي الحسين بأنه الشعر النابت على طرف الجبهة, والشارب: وهو الشعر الذي على الشفة العليا, والعنفقة: وهي الشعر الذي على الشفة السفلى, والعذار: وهو الخط الممتد من الصدغ على العظم الذي يحاذي وتد الأذن, وبينه وبين وتد الأذن بياض. قال: فإنه يجب غسل ما تحتها. هذا استثناء من قوله: "وإن كان عليه شعر كثيف لم يلزمه غسل ما تحته", ووجه وجوب ذلك: أن الغالب في هذه الشعور الخفة, وكثافتها نادرة, ولا ينظر إلى النادر, لكن لك أن تقول: ما يندر وقوعه, لكنه إذا وقع دام - ينزل منزلة العذر العام؛ ألا ترى [إلى] قولهم الذي حكاه الإمام: إن المريض إذا حصلت له حالة منعته من الصلاة قاعدا, فإنه يصلي على جنب, ولا يجب عليه القضاء - وإن كان ذلك معدودا عندهم من الأعذار النادرة - لأنه إذا وقع دام؛ فألحق بالصلاة قاعدا؛ لأنه من الأعذار العامة. وإذا كانت هذه القاعدة مستقرة فما نحن فيه من هذا القبيل؛ فينبغي أن يلحق به, ولا جرم ذهب بعض الأصحاب إلى أنه لا يجب غسل منابت ما ذكرناه إذا كثف؛ كما لا يجب غسل ما تحت اللحية الكثيفة. وأعرض بعض المراوزة عن التعليل بما ذكرناه, وقال: إنما وحب غسل ما تحت هذه الشعور؛ لأن بياض الوجه يحيط بها. وقال لأجل ذلك: وإذا كثف شعر العنفقة واتصل بشعر اللحية, لا يجب غسل ما تحتها؛ لفقد إحاطة بياض الوجه بها في هذه الحالة, والذي ذكره العراقيون العلة الأولى.

وكما يجب غسل ما تحت هذه الشعور, يجب غسلها أيضا؛ كما ذكرنا مثيله من قبل؛ وقد صرح به هنا ابن الصباغ. وقد أفهم القول بإيجاب غسل ما تحت هذه الشعور إذا كثفت أمورا: أحدها: إيجاب غسل ما تحت الأهداب إذا كثفت. الثاني: إيجاب غسل ما تحت لحية المرأة؛ لأن كثافة الأهداب ونبات للحية للمرأة أندر من كثافة شعر الحاجبين ونحوهما, وبالمفهوم الذي ذكرناه صرح الأصحاب. وقال القاضي أبو الطيب والحسين: حلق لحية المرأة أحب إلي من إبقائها؛ كي لا تشبه الرجال. وما تحت لحية الخنثى المشكل يجب غسله إذا لم تترجح الذكورة بنبات اللحية؛ لاحتمال أنوثته. والثالث: أن ما لا يجب غسل ما تحته إذا كثف من الشعور, شعر اللحية والعارضين لا غير, والعارضان: الشعر النابت تحت العذارين على اللحيين. وعبارة القاضي الحسين: "أنهما الشعر النابت على منبت الأسنان العليا". قال: وفيما نزل من اللحية عن الذقن قولان, أي: نص عليهما في "الأم": أحدهما: يجب إفاضة الماء على ظاهره؛ لأنه تقع به المواجهة؛ فأشبه ما قابل حد الوجه, وقد روي أنه -عليه السلام- رأى أعرابيا غطى لحيته في الصلاة؛ فقال: "اكشف عن لحيتك؛ فإنها من وجهك", وهذا ما ينطبق عليه حد الوجه في "المختصر"؛ فإنه قال فيه: يغسل من منابت شعر رأسه إلى أصول أذنيه, ومنتهى اللحية إلى ما أقبل من وجهه وذقنه. وهو الأصح باتفاق متأخري الأصحاب.

والثاني: لا يجب؛ لأن الفرض إذا تعلق بما يوازي محل الفرض اختص بما يحاذيه كشعر الرأس والخفين في المسح؛ وهذا كما اختاره المزني. والقولان جاريان في إفاضة الماء على ما خرج من العارض عن حد الوجه؛ كما صرح به أبو الطيب وغيره. قال الرافعي: وهو يجري فيما خرج من حد الوجه من الشعور الخفيفة كالسبال. ومنهم من قطع في السبال بإيجاب غسلها، والأول أظهر. وعن الزيبري أن الشافعي ذكر قولين فيما خرج عن حد الوجه من الشعر: أحدهما: أنه يجب إفاضة الماء على ظاهره. والثاني: [أنه] يمسحه. قال أبو الطيب: وهذه الحكاية خطأ في المسح، ويقرب منها ما حكاه الزبيري عن العراقيين: أنا إذا أوجبنا [إفاضة الماء على ظاهر ما استرسل من اللحية الكثيفة، فقد أوجبنا] إمرار الماء على الوجه البادي من الطبقة العليا؛ فهل يجب إيصال الماء إلى الوجه الآخر من تلك الطبقة؟ فيه وجهان، أحدهما: يجب؛ حتى تصير الطبقة مستوعبة ظاهراً وباطناً. قال الإمام: وهذا خطأ محض، ولا ينبغي أن يعد من المذهب. فرع: إذا حلق الشعر الذي لا يجب غسل ما تحته [بعد إفاضة الماء عليه - لا

يجب غسل ما تحته]، وكذا في الشعر إذا حلق بعد المسح عليه، لا يعيد المسح على الرأس، بخلاف ما إذا ظهرت الرجل من الخف بعد المسح، والفرق: أن الشعر هنا أصل؛ بدليل أنه لو غسل ما تحته فقط، لم يجزئه؛ على الأصح - كما ستعرفه - والخف بدل؛ بدليل أنه لو غسل ما تحته فقط أجزأه. وعن ابن خيران إلحاق شعر الرأس بالخف، وهو بعيد. قال: ثم يغسل يديه؛ للآية - وهو إجماع - ثلاثاً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسلهما ثلاثاً، كما تقدم ذكره عن رواية البخاري ورواية مسلم عن عثمان في وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك. قال: ويجب إدخال المرفقين في الغسل؛ لقوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة:6] , واختلفت طرق الأصحاب في كيفية الاستدلال منها: فذهب المعظم- ومنهم: الرافعي- إلى أن "إلى" فيها بمعنى "مع"؛ كما في قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2] , وقوله: {وإذا خلوا إلى شياطينهم} [البقرة: 14] , وقوله تعالى: {من أنصاري إلى الله} [آل عمران: 52] , وقوله: {ويزدكم قوة إلى قوتكم} [هود: 52]؛ ويدل على أن هذا هو المراد: ما روى

عن أبي هريرة أنه توضأ فغسل وجهه وأسبغ الوضوء, ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد, ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد, ثم مسح رأسه, ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق, ثم غسل اليسرى حتى أشرق في الساق, ثم قال: "هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ" وأشرع: أي دخل فيها, ومنه: أشرع بابا إلى الطريق, أي: فتحه إليه؛ ذكره الجوهري؛ وهذا الطريق في الاستدلال قد حكاه الإمام عن معظم العلماء. قلت: وفيه نظر؛ لأن الناس اختلفوا في أن اليد تطلق حقيقة على ماذا؟ فالمشهور أنها إلى المنكب, وهو ما حكاه القاضي أبو الطيب هنا, ونسبه في كتاب السرقة إلى الخوارج, واختار أنها تتناول الكفين مع الأصابع دون ما زاد عليها؛ بدليل قوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6] , قال: ولو كان اسم "اليد" يقع على المناكب, لكان استثناء ما زاد على المرفق بحرف الاستثناء؛ لأن العرب تنقص بحرف الاستثناء, وتزيد بحرف الغاية, فلما قال: {إلى المرافق} [المائدة: 6] دل [ذلك] على أن هذه زيادة على ما يتناوله الاسم, وليس بنقصان, وأنه يجري مجرى قولهم: "سرت من الكوفة إلى البصرة". فعلى المذهب الأول لا يحسن هذا التأويل؛ لأنه يصير التقدير: وأيديكم مع المرافقو واليد اسم لجميعها إلى الآباط والمناكب, وهذا قد أشار إليه الزجاج

وقال: ينبغي على هذا أن يقال: إنه اقتطع المرفقين من اليد, وأدخلهما في الغسل. وعلى المذهب الثاني لا تصير الآية مقتضية لغسل ما بين الكف والمرفق؛ لأن الواجب غسله الكف, والأصابع والمرفق. ومنهم من قال: في الآية محذوف, والتقدير: اغسلوا أيديكم, وأنزلوا الغسل إلى المرافق, وهذا قول من يجعل اليد إلى المنكب. ومنهم من يقول: ما بعد"إلى" إذا لم يخالفه في الجنس: تارة ينتهي إليه، وتارة ينتهي به؛ فالآية مجملة، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على المراد منها بفعله الذي ذكرناه، ورواية البزار عن وائل بن حجر قال: "شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وأتي بإناء فيه ماء فأكفأه على يمينه ... " وساق الحديث إلى أن قال: "ثم أدخل يمينه في الماء فغسل بها ذراعه اليمنى حتى جاوز المرفق ثلاثا، ثم غسل يساره بيمينه حتى جاوز المرفق ثلاثا، ثم مسح على رأسه ثلاثا، وظاهر أذنيه ثلاثا، وظاهر رقبته - وأظنه قال: وظاهر لحيته ثلاثا -[ثم غسل بيمينه قدمه اليمنى ثلاثا،] وفصل بين أصابعه [أو قال خلل بين أصابعه]، ورفع الماء حتى جاوز الكعب، ثم رفعه في الساق، ثم فعل باليسرى مثل ذلك": تنبيه: المرافق: جمع مرفق، وفيه لغتان: كسر الميم مع فتح الفاء، وعكسه، وهو مجمع عظم الساعد وعظم العضد؛ وهذا ما حكاه البندنيجي وغيره من العراقيين. وقيل: إنه عظم الساعد فقط وحكاه بعضم عن رواية الربيع، واختاره في "التهذيب". وفائدة الخلاف تظهر لك من بعد. فروع: أحدها هل يجب إدخال ما طال من الأظفار في الغسل؟ فيه طريقان:

منهم من قال: نعم؛ لندرته؛ وهذا قول ابن أبي هريرة، واختاره في "المرشد". ومنهم من قال: فيه قولان؛ كالمسترسل من اللحية. الثاني: إذا خلق له يد زائدة أو أصبع زائدة، أو سلعة في محل الفرض - وجب غسل ذلك، ولو خلق ذلك في غير محل الفرض لم يجب غسله إلا أن يحاذي شيءٌ منه شيئا من محل الفرض؛ فيجب غسل المحاذي فقط. وفي "الشامل" و "الحاوي" وغيرهما حكاية وجه: أنه لا يجب؛ اعتباراً بمنبته. قال الرافعي: وقد صار إلى تقريره كثير من المعتبرين، وحملوا النص على ما إذا التصق شيءٌ من ذلك بمحل الفرض. والراجح عند كثير من الأصحاب الأول، وبه جزم البندنيجي والإمام؛ وهذا بخلاف ما إذا انقشطت جلدة من العضد وتدلت، ولم ينقلع معها شيء من جلد محل الفرض: لا يجب غسل شيء منه، سواء قابل محل الفرض أو لا؛ لأن اسم اليد لا يقع عليها. نعم، لو انقلع [معها] شيء من محل الفرض، وتدلى من محل الفرض - وجب غسل الجميع؛ كما لو كان-المنقشط جلد محل الفرض فقط ولم ينفصل. ولو كان المنقشط جلد محل الفرض مع شيء من جلد العضد، وتدلى من

العضد - لم يجب غسل شيء منه. نعم، لو التصق ما انقلع من محل الفرض بالعضد، قال الماوردي والإمام: وجب غسله. وقال ابن الصباغ: إنه لا يجب، والبندنيجي حكاه عن نصه في "النهاية" إلى العراقيين، وقال: إنه غلط. ولو انكشطت جلدة من العضد، والتصقت بشيء من محل الفرض - صار الملتصق كجلد محل الفرض؛ فيجب غسله والله أعلم. قال: فإن كان أقطع من فوق المرفق - أي: ولو من المنكب، كما قاله البندنيجي - استحب له أن يمس الموضوع ماء؛ لأنه روى عن ابن عباس استحبابة، ولكيلا يخلو العضو عن طهارة، وهذا علة أبي إسحاق المروزي، وهي تشبه باستحباب إمرار الموسى على رأس من لم يكن له شعر في الحج. قال أبو الطيب: ومنهم من يوجه ذلك بأنه كان يستحب له [غسل] ذلك عند بقاء اليد؛ لقوله - عليه السلام - "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء! فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله", وقال أبو هريرة: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" رواهما مسلم. وإذا كان هذا مستحبا عند بقاء العضو بقي بعد قطعه. قال بعضهم: وقد أفهم قول الشيخ: "فإن كان أقطع ... استحب", أنه لا يستحب ذلك لغير الأقطع, وهو متبع للمزني في ذلك, لكنه مستحب؛ لما ذكرناه, وابن الصباغ حكاه عن بعض الأصحاب وسيأتي الكلام فيما هي الغرة في الباب بعد, إن شاء الله تعالى. ويمس الموضع ماء: هو بضم الياء وكسر الميم، وماء: منصوب، والمراد بالإمساس - هاهنا-: الغسل، أما إذا كان مقطوعا من المرفق بأن فك عظم الساعد.

من عظم العضد-: [فقد أفهم كلام الشيخ أنه يجب غسل طرف عظم العضد] كما أفهمه قول الربيع عن الشافعي: إنه لو كان أقطعهما فوق المرفقين، فلا فرض عليه فيهما. [والذي نقله المزني أنه لا يجب؛ فإنه قال: إذا كان أقطعهما من المرفقين، فلا فرض عليه فيهما]. واختلف الأصحاب في ذلك على طريقين - ومنهم من قال: قولان-: أحدهما: عدم الوجوب؛ كما نقله المزني، ويحكى عن القديم أيضاً. والثاني: أنه يجب؛ كما أفهمه كلام الربيع، وهو الأصح. وقد قيل: إن القولين على هذه الطريقة مبنيان على أن المرفق اسم لماذا؟ فإن قلنا: اسم لعظم الساعد فقط، لم يجب غسل عظم العضد. وقيل: بل مبنيان على أن غسل عظم العضد وجب تبعاً أو مقصوداً؛ فعلى الأول لا يجب غسله؛ لزوال المتبوع، وعلى الثاني يجب؛ كما لو بقى شيءٌ من عظم الساعد. ولم يظهر لي فرق بين الطريقين من حيث المعنى. ومن الأصحاب من قطع بوجوب غسله، ونسب المزني إلى الإخلال بالنقل وترك بعض اللفظ؛ وهذه طريقة العراقيين والماوردي، وقال الإمام: إن الوجه القطع بها. قال: ثم يمسح رأسه؛ للآية، فيبدأ بمقدم رأسه، ثم يذهب باليدين إلى قفاه، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه؛ لما روى مسلم عن عبد الله بن زيد في وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمسح رأسه، فأقبل بيديه وأدبر". وفي رواية: "فأقبل بهما وأدبر: بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه".

قال الأصحاب: والمعنى في ذلك إيصال البلل إلى جميع الشعر؛ لأن منابت الشعر مختلفة: منها: ما يكون وجهه إلى مقدم الرأس. ومنها: من يكون وجهه إلى مؤخرها، فبالذهاب تبتل بواطن القسم الأول وظاهر الثاني، وبالرد تبتل ظواهر الأول وبوواطن الثاني؛ وبهذا فارق ما نحن فيه السعي: حيث عددنا الإقبال والإدبار مرة، وعددنا الذهاب والإياب في السعي مرتين، على الصحيح؛ لأن المقصود قطع المسافة، وهي منقطعة في كل مرة. وكيفية البداءة والمسح: أن يأخذ الماء بكفيه، ثم يرسله، ويلصق طرف إحدى سبابتيه بالأخرى، ثم يضعهما على مقدم رأسه، ويضع إبهاميه على صدغيه. قال الصيدلاني والقفال: وإنما يستحب [الرد] إذا لم يكن شعره محلوقا ولا طويلاَ، فإن كان، لم يستحب، فلو فعله في هذه الحالة، قال في "التهذيب": لم يحسب مرة ثانية؛ لأن الماء قد صار مستعملاً. قال: ويفعل ذلك ثلاثا؛ لخبر وائل بن حجر، ورواية أبي داود والنسائي عن علي: أنه توضأ ثلاثا ثلاثا، ومسح رأسه ثلاثا، وغسل رجليه ثلاثا، وقال: [هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم]. وروى أبو داود من حديث عثمان: أنه - عليه السلام - مسح رأسه ثلاثا. قال: وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على مسح الرأس أنه مرة، وقد جاء في

رواية لمسلم في وصف عبد الله بن زيد وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم [أنه مسح رأسه مرة واحدة، وكذا روى عن علي في وصف وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -] ولا جرم استحب بعض أصحابنا المسح مرة واحدة. وقيل: إن أبا عيسى الترمذي حكاه في "جامعه" عن الشافعي، والمشهور من مذهبه، وبه جزم الجمهور - ماذكره الشيخ. قال: ثم يمسح أذنيه: ظاهرهما، وباطنهما؛ [لما روى أبو داود عن المقدام بن معديكرب في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مسح بأذنيه: ظاهرهما وباطنهما]، وأدخل أصابعه في صماخي أذنيه"، وظاهر الأذن: مما يلي الرأس، وباطنها: مما يلي الوجه. قال: بماء جديد؛ لما روى ابن وهب بسنده عن عبد الله بن زيد قال: [رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فأخذ ماء لأذنيه خلاف الماء الذي مسح به رأسه]، ذكره أبو عبد الله الحاكم في علوم الحديث، قال عبد الحق: وهو حديث تفرد به اهل مصر.

قال بعضهم: ونبه الشيخ بقوله: [بماء جديد] على أنهما ليسا من الرأس [حتى يمسحا بمائه]. قال: ثلاثا؛ لما ذكرناه من خبر وائل بن حجر؛ فإنه نص في مسح الظاهر على الثلاث، والباطن بالقياس، وقد قيل: [لا] يستحب في مسحهما التكرار؛ كما قيل به في مسح الرأس. وكيفية المسح: أن يضع إبهامه على ظاهر الأذن، ويمرها نحو العلو، ويمسح باطن الأذن بالمسبحة؛ لأن ابن عباس - رضي الله عنه - ذكر في وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح باطنهما بالسبابتين، وظاهرهما بإبهاميه، أخرجه النسائي. وقد حكى الإمام عن شيخه: أنه يلصق كفيه بعد ذلك مبلولتين بالأذن؛ استظهاراً. قال: ويأخذ لصماخيه ماء جديداً؛ لأن الصماخ من الأذن كالفم من الوجه، وإذا أراد ذلك أدخل خنصريه فيهما بعد بلهما، والرافعي قال: إنه يدخل سبابتيه فيهما، ويفعل ذلك ايضاً ثلاثاً؛ وهذا ما حكاه الماوردي عن البصريين، وان البويطي حكاه عن الشافعي، ولم يحك ابن الصباغ غيره. وعن البغدادين من أصحابنا: انه يدخل [أصبعيه] في صماخيه بماء الأذنين، وقد حكاه الرافعي قولاً في المسألة، ولعله المراد به ما حكاه القاضي الحسين والإمام؛ فإنهما قالا: إنه يمسح ظاهر اذنيه وباطنهما بماء جديد، وكيفيته أن يدخل سبابتيه في صماخي أذنيه، ويمر إبهاميه على ظاهرهما. قال الماوردي: وليس في أعضاء الطهارة عضوان لا يستحب تقديم الأيمن منهما في تطهيره إلا الأذنين؛ فإن مسحهما معاً أسهل، وألحق بعضهم بهما الخدين. نعم، الذي لا يمكنه غسلهما ولا مسح الأذنين معاً - كالأقطع -

يبدأ بالأيمن منهما. وقد حكى عن ابن سريج أنه كان يغسل أذنيه مع الوجه، ويمسحهما مع الرأس، ويفردهما بالمسح احتياطا؛ فإن من العلماء من أوجب غسلهما، ومنهم من أوجب مسحهما، ومنهم من استحب إفرادهما [بالمسح] ويقال: إن ابن عمر كان يفعل ذلك. قال: ثم يغسل رجليه؛ للآية على قراءة النصب؛ فإنها تكون معطوفة على المنصوب ولا يضر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمسح الرأس؛ كما لم يضر ذلك في قوله تعالى: {يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه‘قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام} [البقرة 217]؛ فإنه عطف "المسجد الحرام" على "الشهر الحرام". ثم لو قيل بمنع ذلك، لقلنا: ذلك منصوب بفعل مضمر، والتقدير: وامسحوا برءوسكم، واغسلوا أرجلكم؛ كما قيل بمثل ذلك في قولهم [من الرجز]: علفتها تبناً وماء باردا أو [من الكامل]: . ... .... ... ..... ... متقلداً سيفاً ورمحا أو نقول: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برءوسكم، والتقديم والتأخير في الكتاب كثير؛ كما ستعرفه في باب التيمم. فإن قيل: قراءة الخفض تدل على وجوب مسحهما؛ لأن العطف يكون على مسح الرأس ولا جائز أن يكون خفضاً على الجوار؛ كقولهم: "جحر ضب خرب"؛ لأن

ذلك ضعيف لا يجري مثله في كلام فصيح، وقراءة النصب تجعلها معطوفة على موضع الجار والمجرور؛ فانتفت الدلالة بها على إيجاب الغسل. قلت في جوابه: لا نسلم أن الخفض على الجوار غير جائز في الكتاب العزيز، ألا ترى إلى قوله - تعالى-: {كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف} [ابراهيم:18] فخفض العاصف وإن كان مرفوعاً؛ لأنه [من] صفة الريح لا من صفة اليوم، و"الريح" مرفوع، واليوم المخفوض، لكن لما كان مجاوراً لليوم أعطاه إعرابه وإن لم يكن صفته؛ وكذا قوله تعالى: {عذاب يوم أليم} [هود:26]؛ فإن "أليم" وصف للعذاب؛ كذا قال الأول: الماوردي، والثاني: أبو الطيب، وقال: إنه [لا] حجة لمن قال: إن الخفض على الجوار إنما يكون بغير واو؛ لأنه جاء مخفوضاً مع العطف بواو. ولئن سلمنا أنها معطوفة على مسح الرأس، فلا يدل على وجوب المسح؛ لأن العرب قد تعطف الشيء على الشيء إذا كان بينهما اشتراك ما؛ كقولهم [من الرجز]: علفتها تبناً وماءً باردا و: متقلدا سيفاً ورمحاً والماء لا يعلف، والرمح لا يتقلد، لكن بينهما اشتراك في التغذي والحمل، وكذا هنا بين الرأس والرجل اشتراك في استعمال الماء. وبعضهم يقول: إنما جاز ذلك؛ لأن العرب تسمى خفيف الغسل: مسحاً؛ فتقول: "تمسحت للصلاة". قال بعضهم: ولعل السر في التعبير عن غسل الرجلين بالمسح في الآية - النهي عن الإسراف في الماء للابتداء فيهما بالصب دون غيرهما. وأما جعل قراءة النصب معطوفة على موضع الجار والمجرور: فغير جائز؛ لأنه لا يجوز ترك العطف على المفعول المصرح به، ويعطف على غيره، مع ان ذلك ضعيف لم يرد مثله في الكتاب العزيز، قال ابن الصباغ: وقد دلت السنة على ما ذكرناه؛ فتعين.

قال ثلاثاً؛ لأن عثمان وعلياً ذكرا ذلك في وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ويلزمه إدخال الكعبين في الغسل؛ لقوله تعالى: {إلى الكعبين} [المائدة:6] أي: مع الكعبين؛ بالنقل عن أئمة التفسير. وقد نقل عن المبرد أنه قال: الحد إذا كان من جنس المحدود دخل الحد في المحدود؛ كقولهم: "بعت الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف"، وإن كان من غيره لم يدخل؛ كقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة:187]، والحد هنا من جنس المحدود؛ فدخل فيه. قال: وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم؛ لما روى النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أقيموا صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم. فرأيت الرجل من يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وكعبه بكعبه"، رواه البخاري، وإنما يلصق الكعب بالكعب إذا كان ماذكرناه، دون ما قاله الشيعة ومحمد بن الحسن: إنه الذي عند معقد الشراك.

وقد حكى عن [أبي] عبد الله الزبيري من أصحابنا أنه قال: الكعب - في لغة العرب-: ما قاله محمد بن الحسن، وإنما عدل الشافعي عنه بالشرع. وأنكر سائر أصحابنا ذلك، بل الكعب - لغة-: ما ذكرناه. وقد حكى الرافعي عن ابن كج وغيره وجهاً: أن الكعب هو الذي فوق مشط القدم، ولعل مراده هنا-: ما ذكرناه. والناتئان: بالهمزة. والمفصل: بفتح الميم وكسرها أيضاً، واحد المفاصل، [والساق بلا همز وبالهمز]. قال: ويخلل بين أصابعه؛ لما روى الترمذي مرفوعا إلى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك"، وعن عاصم بن لقيط عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا توضأت فأسبع الوضوء وخلل بين الأصابع" أخرجه الترمذي وأبو داود، والأول صريح في استحباب تخليل أصابع اليدين والرجلين، والثاني يحتمل ذلك؛ فوجب أن يحمل عليه، وقد صرح بوفق الأول ابن كج، فقال: يستحب فيهما التخليل، والجمهور مصرحون باستحبابه في الرجلين، وسكوت عنه في اليدين. وكيفية تخليلها من الرجلين: أن يدخل خنصره من اليد االيسرى في باطن القدم، يبدأ بالخنصر من الرجل اليمنى، ويختم بالخنصر من الرجل اليسرى.

وعن أبي طاهر الزيادي أنه يخلل ما بين كل أصبع من أصابع رجليه بأصبع من أصابع يديه؛ ليكون بماء جديد. وقال الإمام: لست أرى لتعيين اليد اليمنى أو اليسرى في ذلك أصلا إلا الاستنجاء؛ فإنه - عليه السلام - نهى عن الاستنجاء باليمين، وليس تخليل الأصابع مشابهاً له؛ فلا حرج على المتوضئ استعمل اليمين أو اليسار. وإذا خلل بين أصابع اليدين، قال الرافعي: فالذي يقرب من الفهم أن يشبك بين الأصابع. قال: ويستحب إذا فرغ من الوضوء أن يقول -[وهو مستقبل القبلة]-:"أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شؤيك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله"؛ لأن عمر روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله صادقاً من قلبه فتح الله له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء" أخرجه مسلم، وزاد الترمذي فيه: "اللهم اجعلني من التوابين

واجعلني من المتطهرين"، وكذلك استحب ابن الصباغ الإتيان بهذه الزيادة. وزاد الرافعي عليها في الاستحباب: "سبحانك اللهم وبحمدك، [أشهد أن] لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك". وهذا الفصل من الشيخ مؤذن بأنه لا يستحب أن يأتي في أثناء الوضوء بذكر.

وقد وردت دعوات مأثورة صرح غيره باستحبابها، وهي أن يقول عند غسل الوجه: "اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"، وعند غسل اليد اليمنى: "اللهم أعطني كتابي بيمينى، وحاسبني حساباً يسيراً"، وعند غسل اليسرى: "اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري"، وعند مسح الرأس: "اللهم حرم شعري وبشري [على] النار"، وروى "اللهم احفظ رأسي وما حوى، وبطني وما وعى"، وعند مسح الأذنين: "اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"، وعند غسل الرجلين: "اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل فيه الأقدام". قال: وألا ينفض يديه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم؛ فإنها مراوح الشياطين"؛ قاله الماوردي والرافعي، ولأنه كالمتبرم من العبادة. قال بعضهم: ويستثنى من ذلك نفض اليد عند مسح الرأس والأذنين والرقبة؛ فإنه

يستحب إذاً أن يترشش عليه. وهذا فيه نظر؛ لأن المستحب في هذه الأحوال ان يرسل يديه لا أن ينفضهما؛ فما ذكره الشيخ على عمومه، وعليه اقتصر الرافعي. [ثم] إذا خالفونفض يديه لم يكن مكروها؛ لما روى عن ميمونة: أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل، فأتيته بالمنديل فلم يأخذه، وجعل ينفض الماء بيديه. متفق عليه. قال: ولا ينشف أعضاءه؛ لما [ذكرناه من خبر ميمونة، وقد] روى أن أم سلمة ناولت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوباً؛ ليتنشف به من وضوئه فأبى، وقال: "إني أحب أن أبقي علي وضوئي". وقد قيل إن ترك التنشيف غير مستحب، وفعله غير مستحب أيضاً؛ فيكون فعله وعدمه سيين. وقيل: إن التنشيف مستحب؛ لما فيه من الاحتراز عن الغبار. والذي حكاه العراقيون ما ذكره الشيخ. وإذا قلنا به، فهل يكون مكروهاً أو فاعله تاركاً للأولى؟ فيه وجهان في "التتمة"، والظاهر من كلام الشافعي منهما - كما حكاه الإمام عن العراقيين - الثاني، ويشهد له ما روى ابن المنذر بإسناده عن قيس بن سعد قال: "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعنا له غسلاً فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة ورسية فالتحف بها، وكأني أنظر إلى أثر الورس على عكنه.

وفي "الرافعي" وجه ثالث عن القاضي الحسين: أنه يكره في الصيف دون الشتاء، لعدم البرد. قال: ولا يستعين في وضوئه بأحد؛ لما روى أن أبا بكر هم بصب الماء على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا أحب أن يشاركني في وضوئي أحد"، وروى أن المقول له عمر حين أراد صب الماء على يده، عليه السلام. وقيل: إن القائل عمر. قال بعضهم: وفي كلام الشيخ رمز إلى أنه لو أمر غيره بغسل أعضائه، فالكراهة أشد وإن صح الوضوء؛ كالغسل المنوي تحت الماء وإن لم يوجد منه سوى النية. قال: وإن استعان به جاز، أي: من غير كراهة؛ لأن المغيرة بن شعبة أعان النبي صلى الله عليه وسلم

في [وضوئه]؛ لضيق كم جبة كانت عليه؛ كما ستقف عليه في باب المسح على الخفين. وروى عن صفوان بن عسال قال: "صببت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر"، وروى أن أسماء والربيع بنت معوذ صبتا الماء على يديه. وفي "تعليق القاضي الحسين" في باب الوكالة: أن الاستعانة بالغير في الطهارة، هل تكره؟ فيه وجهان حكاهما غيره هنا، وأصحهما: لا؛ وهذا في حق من يمكنه ألا يستعين. أما من لا يقدر على الوضوء إلا بالاستعانة - كالأقطع - فإنه يجب عليه أن يستعين، "لو بأجرة المثل إن وجدها فاضلة عن كفايته وكفاية من تلزمه كفايته ليومه وليلته وقضاء ديونه، فإن لم يجد صلى وأعاد؛ كمن لم يجد ماء ولا ترابا؛ لأن عدم وجدان معين نادر. وقد أفهم ما ذكره الشيخ في الباب أنه لا يستحب معه شيء آخر، وللأصحاب خلاف في استحباب مسح الرقبة بعد مسح الأذنين: فمنهم من قال: هو مستحب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنه أمان من الغل". ومنهم من قال: هو أدب. وعلى الوجهين يبني أنه هل يمسحها بماء جديد أو بماء الأذن؟ فإن قلنا: إنه مستحب مسحها بماء جديد، وإلا مسحها بماء الأذن؛ كذا حكاه الإمام عن شيخه، واقتصر عليه الرافعي. والقاضي الحسين قال: إذا قلنا: إنه سنة، اكتفي فيه بماء الأذنين. ومال الروياني

إلى أنه يمسحها بماء جديد. وقد بقي من الآداب أن يبدأ في غسل الوجه بأعلاه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعله، وهو أسهل. ويبدأ في غسل اليدين والرجلين بأطراف الأصابع إن كان يغسل بنفسه، وإن كان غيره يصب عليه غسل من مرفقه وعقبه إلى أطراف الأصابع. وأن يضع الإناء عن يمينه إن كان يغترف منه، وإن كان يقلب على يده منه وضعه على يساره. وسيكون لنا عود إلى شيء من ذلك الباب بعده, إن شاء الله تعالى.

باب فروض الوضوء وسننه

باب فروض الوضوء وسننه الفرض والواجب مترادفان عندنا، والمراد به- هنا-: الركن لا المحدود في كتب الأصول بأنه الذي يذم تاركه شرعاً، ولو على بعض الوجوه، إذ حكم الصبي ... فيه كالبالغ. قال وفروض الوضوء ستة: النية، لما تقدم، ومن هنا يظهر لك أن الكافر لا يصح ... وضوءه، لأنه ليس من أهل النية، وفيه وجه ستعرفه في "باب صفة الغسل" ... وهو مفرع على الصحيح في أنه إذا ارتد بعد الوضوء لا يبطل، وأما إذا قلنا: يبطل، فلا يصح في حال الكفر بلا خلاف. قال: عند غسل الوجه، أي: عند ابتداء غسل شيء من الوجه، لتكون مقترنة ... بأول العبادة، واحتجنا إلى ما ذكرناه من التقدير، لأن استمرار النية إلى تمام غسل ... الوجه ليس بشرط، حتى لو نوى عند أول شيء غسله منه وعزبت قبل تمام غسله ... لم يضره، بخلاف النية في الصلاة، فإنه يشترط أن تقترن بكل التكبيرة، لأن أول التكبيرة ترتبط إفادته بتكميلها، وغسل بعض الوجه لا يتوقف مقصودهعلى تكميله، وما ذكره ... الشيخ تفريع على الصحيح في أنه لو نوى عند غسل سنة من سنن الوضوء، ثم عزبت ... نيته قبل غسل شيء من الوجه- لم يعتد بها، ووراءه ما سلف من الأوجه. والوجه الصائر إلى الاكتفاء باقترانها بغسل الكفين- إذا قلنا: إنه من سنن ... الوضوء- جار فيما إذا اقترن بالسواك، وقلنا: إنه من سننه، كما صرح به الأئمة, لكن ... لك أن تقول: ذاك وجه معزي إلى ابن سريج, وابن سريج يرى أنه لا بد من اقترانها بالوجه كما سلف. ثم على ما ذكره الشيخ إذا اقترنت نيته بغسل الوجه لا يناله ثواب ما يتقدمه من ... السنن لخلوه عن النية.

وفي"الحاوي" وجه آخر: أنه يناله، كما لو نوى صوم التطوع في أثناء النهار، وقد ... أبداه الإمام احتمالاً لنفسه، ثم فرق بأن الصوم في حكم الخصلة الواحدة، والوضوء ... يشتمل على أركان متغايرات، فالانعطاف فيها أبعد. واحتاج الشيخ هنا إلى بيان وقت النية، لأنه لم يذكره في الباب قبله, بل أفهم ... كلامه أن المستحب أن تكون أول ما يشرع في الوضوء. قال: وغسل الوجه للكتاب والسنة والإجماع كما سلف, وهذا الفرض إنما ... يتحقق وجوده إذا غسل جزءا من الرأس ومن الحلق ومن تحت الحنك, وحينئذ ... يجب ذلك, إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, وقد صرح به المتولي وغيره. قال: وغسل اليدين مع المرفقين، لما تقدم، وغسل جزء من العضد لا بد منه، لما ... ذكرناه. ولو كان عليهما شعر كثيف لزمه غسل ما تحته، لأن ذلك نادر، صرح به القاضي ... الحسين وغيره. وقد تقدم الكلام فيما إذا نبت له إصبع زائد أو كف وتدلت له جلدة. ولو انقلع من ... محل الفرض شيء، وجب غسل ما ظهر منه. نعم، لو كان ذلك بعد الغسل لا يلزمه غسل ما ظهر، كما إذا حلق الشعر بعد ... المسح عليه، أو قص الظفر فظهر من اللحم شيء كان مستترا به. قال: ومسح القليل من الرأس، لأنه إذا فعله صدق عليه أنه مسح رأسه عرفاً، ... وتنزلت الآية عليه، كما تنزل قول القائل: فلان قبل رأس اليتيم، أو: مسحها، أو ... : ضرب رأس فلان – على بعضها، ولأن الآية وإن دلت بظاهرها على أنها [آلة] يمسح بها، فالإجماع على أن المراد: مسحها هي، وحينئذ تكون الباء في الآية للتبعيض، وإلا لم يكن لها فائدة، ويدل على ذلك أن السنة تثبت أن الاستيعاب غير واجب، فإن المغيرة بن شعية روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى عمامته، وفي رواية: بمقدم رأسه، والتقدير بجزء لا يهتدي إليه إلا بتوقيف، ولم يوجد، فتعين أن يكون الواجب مسمى المسح من غير تقدير.

فإن قيل: الشرع قد قدره بالناصية، إذ لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على أقل منها، والرواية الأخرى محمولة عليها، فينبغي أن يتقدر بها، ويكون فعله – عليه السلام – مبيناً للمراد من الآية، وقد اختار هذا صاحب "التهذيب". قيل: فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج مخرج البيان، إذ لم ينقل تعقبه لوقت الحاجة إليه، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولأنه لو كان بياناً لتعين المسح على الناصية، والخصم يجوز] مسح [قدرها من الرأس. فإن قيل: صيغة الأمر بمسح الرأس] في الوجه [في التيمم واحدة، وقد أوجبتم تعميم الوجه بالمسح. قيل: هو في التيمم بدل مغسول كله، لأجل الضرورة، ولا ضرر في التعميم، فوجب كالأصل، والمسح على الرأس هنا أصل، فكان مستقلا بحكمه. واحترزنا بقولنا: "لأجل الضرورة" عن المسح على الخفين، فإنه جوز للحاجة، وقيد عدم الضرر يخرجه أيضاً، لأن استيعاب مسحه يضر به. وقد أفهم كلام الشيخ أموراً: أحدها: أن المسح على الشعر بدل، لأنه قد جعل الفرض مسح القليل من الرأس، ... والشعر ليس برأس حقيقة، ويوافق هذا المفهوم ما حكاه الإمام ومن تبعه عن ابن ... خيران: أنه لو مسح على الشعر، ثم حلقه استأنف المسح على الرأس، كما لو مسح ... على الخف، ثم ظهرت الرجل. والعراقيون نسبوا هذا المذهب لابن جرير الطبري وهو صاحب مذهب، ... وجزموا بأنه لا يستأنفه، وأن الشعر أصل كبشرة الرأس، ويدل عليه أنه لو كان بعض ... بشرة الرأس ظاهرا وعلى بقيتها شعر, فمسح على الشعر – أجزأه.

وفي "زوائد" العمراني أن الفقيه أبا بكر بن جعفر قال: لو مسح شعر رأسه، ثم حلقه قبل الفراغ من الطهارة – وجب عليه إعادة المسح، وغسل القدمين؛ لأن المتوضىء مالم يفرغ. في حكم من لم يتوضأ؛ بدليل: أنه لو لبس الخف قبل كمال الطهارة، لا يمسح عليه. ثم على المشهور يحمل كلام الشيخ على إرادة مايسمى رأساً؛ فإن الشعر يسمى به؛ فإنه مأخوذ مما رأس وعلا، وليس في هذا إلا أن فيه جمعاً بين إرادة الحقيقة والمجاز بلفظ واحد، وذلك جائز عند بعض أصحابنا، وحس هنا؛ لأن فيه تنبيهاً على أنه لو مسح على الشعر الخارج عن الرأس – وإن كان منتبه فيها – لا يجزىء، وهو مما لا خلاف فيه. نعم، اختلفوا فيما لو مسح على شعر خرج عن منبته، ولم يتعد حد الرأس: هل يجزئه أم لا؟ والصحيح: الإجزاء. ووجه المنع: أنه زائل عن منبته؛ فشابه الخارج عن الرأس. ومن القسم الأول: ما إذا كان شعره أجعد على الرأس، وإذا مد خرج بالمد عن

سمت الرأس، فمسح على القدر الذي لو مد خرج عن سمتها. والقاضي الحسين قال: إنه كذلك إذا مده، ومسح على الطرف الخارج، أما إذا لم يمده، بل مسح عليه، وهو على الرأس، ففي الأجزاء وجهان، أصحهما: المنع. الأمر الثاني: أن المسح إذا كان على الشعر لا يتقدر بثلاث شعرات؛ لأن ما دونها بعض الرأس، وهو الذي نص عليه الشافعي، واختاره البغداديون من أصحابنا. وعن صاحب "التلخيص": أنه يتقدر بثلاث شعرات، كما في حلق الرأس في الحج، واختاره البصريون من أصحابنا. قال الرافعي: وقد أفهم كلام بعض النقلة احتمالاً في اعتبار قدر ذلك – أيضا - في المسح على البشرة. والقائلون بالأول فرقوا بأن المسح متعلق بالرأس في الآية، والشعر ليس متعيناً له؛ ولذلك لو مسح على محل لا شعر فيه، أجزأه؛ بخلاف الحلق؛ فإنه منصرف إلى الشعر إجماعاً، و"الشعر" اسم جمع؛ فلا يصدق على أقل من ثلاث. واختار صاحب "الحاوي" مذهباً لنفسه، وقال: الحق أن يكون المعتبر المسح بأقل شيء من أصبعه [على أقل شيء [من رأسه؛ لأنه أقل ما يقتصر عليه في العرف، وما دونه خارج عن حد العرف، فامتنع أن يكون حدا. الثالث: أنه لو أدخل يده تحت شعره، ومسح البشرة، أجزأه، وهو ما حكاه القاضي الحسين والمتولي، وصدر به الرافعي كلامه. قال القاضي: وهذا بخلاف الوجه، فإنه لو غسل البشرة وترك الشعر، لم يجزئه؛

لأن اسم الوجه لما يواجه به الإنسان غيره، وذلك يقع على ظاهر الشعر. والرأس: اسم لما رأس واعتلى، وهذا واقع على الكل. الرابع: أنه لو غسل الرأس بدلاً عن المسح، لم يجزئه؛ لأنه لا يسمى مسحاً. ومن طريق الأولى: إذا قطر الماء عليه ولم يجر، وكذا إذا وضع يده مبلولة على الشعر ولم يمرها؛ لفقد حقيقة المسح، وهو وجه في المسائل محكي في الثانية والثالثة عن اختيار القفال. لكن الصحيح في الكل – وهو المذكور في أكثر الكتب – الإجزاء، بل ادعى الإمام في الأولى: الوفاق عليه. نعم، لا يستحب، وهل يكره؟ فيه وجهان: أظهرهما عند العراقيين وصاحب "الروضة": لا، ومقابله: هو ما حكاه الإمام عن الأكثرين. الخامس: أنه لا فرق في الإجزاء بين أن يمسح بيده، أو بخرقة مبلولة أو خيشة، ونحو ذلك، وهو مما لا خلاف فيه. قال: وغسل الرجلين مع الكعبين؛ لما ذكرناه، وتعميمهما واجب، حتى لو كانت أصابعهما أو بعضهما ملتفة، لا يمكن إيصال الماء إلى باطنها إلا بالتخليل - وجب، وعليه حمل قوله- عليه السلام-: "خللوا بين أصابعكم؛ كي لا يخلل الله بينها بالنار".

نعم، لو كانت ملتصقة خلقة، لا يجب تفريجها، بل لا يستحب، ولو فرجها بعد الطهارة، لم يجب غسل ما ظهر إذا لم يحدث نجاسة، وكذا الكلام في أصابع اليدين. ثم هذا الفرض مخصوص بغير لابس الخف [في مدة المسح، أما لابس الخف]، فغسل الرجلين ليس فرضا متعينا في حقه؛ لما ستعرفه. قال: والترتيب - على ماذكرناه- للكتاب، والسنة، والقياس: أما الكتاب: فظاهر الآية، ووجه الدلالة منها: إذا قلنا: إن "الواو" للترتيب – كما

ذهب إليه الفراء، وثعلب، وأكثر أصحاب الشافعي، كما قال الماوردي – ظاهر. وإذا قلنا:] لا [تقتضيه، وهو الصحيح – فمن وجهين: أحدهما: أنه أمر بغسل الوجه بحرف الفاء الموجب للتعقيب والترتيب إجماعا، وإذا ثبت تقديم الوجه – ثبت استحقاق الترتيب؛ لأنه لا قاتل بوجوبه في بعض الأعضاء دون بعض. فإن قيل: الفاء الموجبة للتعقيب تكون في الأمر والخبر، وأما في الشرط والجزاء، فلا. قيل: هي موجبه للتعقيب في الموضعين، وليس فيها إذا أفادت الجزاء بعد الشرط ما ينبغي أن يسقط حكمها في التعقيب، على أن الجزاء لا يستحق إلا بعد تقدم

الشرط فلذلك استعمل فيه لفظ التعقيب دون الجمع. فإن قيل: سلمنا أنه توجبه هنا, لكن المعقب هنا غسل جميع الأعضاء, ولا يمكن التعبير عنها مفصلة إلا بذكر اسم كل واحد منها؛ فيقع ذكر الأول من ضرورة التفصيل, ونظيره قول القائل لغلامه: "إذا دخلت السوق, فاشتر اللحم والفاكهة والخبز"؛ فإنه لا يقتضي الترتيب في الشراء. وجوابه أن قوله - عليه السلام- في الحديث الذي سنذكره: "ثم يغسل وجهه كما أمر الله - تعالى- ثم يغسل قدميه مع الكعبين؛] كما أمر الله] " - يدل على أنه مقصود في نفسه. الوجه الثاني: أنه ذكر ممسوحا بين مغسولين, ومن عادة العرب أن تجمع بين المتجانسين إلا لفائدة في إدخال غير جنسه فيما بين جنسه؛ فلولا أن الترتيب مستحق, لجمع بين المتجانسين. وقد اعترض بعضهم على هذا, فقال: الترتيب وقع في الآية؛ لبيان أن أعضاء الحدث انقسمت إلى مكشوف - غالبا -: كالوجه واليدين؛ لتعرضهما للتلوث, والوجه أشرفهما؛ فلذلك قدمه؛ كما قدمت اليمين على اليسار, ثم قدمت الرأس على الرجلين؛ لأنه أشرف المستورين. وأما السنة: فما روى مسلم عن عمرو بن عبسة قال: "قلت: يا رسول الله, أخبرني عن الوضوء؛ فقال: ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق - إلا

خَرَّت خطايا فيه وأنفه من الماء, ثم يغسل وجهه - كما أمر الله - إلا خرت خطايا وجهه مع أطراف لحيته مع الماء, ثم يغسل يديه إلى مرفقيه إلا خرت خطايا يديه مع أطراف أنامله مع الماء, ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء, ثم يغسل قدميه مع الكعبين - كما أمر الله- إلا خرت خطايا رجليه من أطراف أصابعه مع الماء ". وفي البخاري أنه - عليه السلام- توضا مرتبا, وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة غلا به" أي: بمثله. وقد روي أنه - عليه السلام- قال: "لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه؛ فيغسل وجهه, ثم يمسح رأسه, ثم يغسل رجليه" , ولو ثبت هذا

لكان نصا في الباب. وأما القياس: فلأنه عبادة ترجع في حال العذر إلى شرطها؛ فوجب أن يكون الترتيب] من شرطها؛ كالصلاة. فإن قيل: قد ثبت أن الترتيب] شرط؛ فهل يسقط في حالة ما؟ قلنا: نعم، على قول للشافعي في صورة، ووجه للأصحاب في صورتين: فالأولى: إذا نسيه؛ فإن للشافعي قولاً قديماً: أنه لا يضر؛ كما لو نسي الفاتحة في الصلاة، أو الماء في رحله وتيمم، أو النجاسة على يديه وصلى. وفي الجديد: لا يجزئه، وهو ما يقتضيه كلام الشيخ. والثانية: إذا اغتسل في مكان الوضوء، فإن] الجمهور] على سقوطه في هذه الحالة. قال الماوردي: وهو ظاهر المذهب. ومنهم من قال: لا يسقط، والترتيب عليه في هذه الحالة - في أعضاء وضوئه واجب، وهذا الإطلاق يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون اغتساله في الماء بعد مكثه فيه قدر ما يترتب على أعضائه أو لا، وبه صرح الرافعي، والغزالي؛ تبعاً للإمام في حالة إمكان ترتبه على الأعضاء، لكن الجواز في هذه الصورة لم يحك القاضي الحسين والمتولي وابن الصباغ غيره؛ وعلى هذا لماذا أجزأه؟ قيل: لأن الماء يترتب على أعضاء وضوئه في لحظات لطيفة. وقيل: لأنه صير الوضوء غسلاً. وعلى المأخذين ينبني ما إذا لم يلبث في الماء قدر ما يترتب فيه الماء، أو نكس

الغسل؛ فعلى الأول: لا يجزئه، وعلى الثاني: يجزئه. والقاضي الحسين - وكذا المتولي - بنيا الخلاف على أن الحدث الأصغر يحل جميع البدن أو أعضاء الطهارة فقط؟ فعلى الأول: يجزئه الغسل؛ ولو أغفل لمعة في بدنه لا يجزئه؛ كما قال القاضي الحسين. وعلى الثاني: لا يجزئه إلا غسل الوجه إن اقترنت النية به. والثالثة: إذا أمر أربعة فوضئوه في حال واحد، هل يجزئه أم لا؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين" يقربان من الخلاف فيما لو كان على المعضوب حجة الإسلام، وحجة منذورة؛ فاستأجر شخصاً لإقاع حجة الإسلام عنه، وآخر لإقاع الحجة المنذورة عنه، فأحرما بهما في عام واحد - هل يجزئه أم لا؟ والمذهب منهما في "التتمة" -: أنه لا يحسب له إلا غسل الوجه، وهو المذكور في "الشامل" لا غير. ومن قال بالإجزاء يقول: الشرط في الوضوء عدم التنكيس. وقد ألحق القفال بهذه الصورة ما إذا شك هل الخارج من ذكره مني أو مذي، ونحوه؟ وستعرف ما فيه. قال: وأضاف إليه - أي: إلى ماذكرناه في القديم - التتابع. التتابع: عبارة عن تطهير العضو بعد العضو؛ بحيث لا يجف المغسول قبيله قبل شروعه فيه، مع اعتدال الزمان والمكان؛ فلا اعتبار بشدة الحر والبرد، ولا بالبلاد الشديدة الحرارة أو البرودة. قلت: وينبغي أن ينظر إلى اعتدال المستعمل له؛ فلا يعتبر بمن عليه حرارة،] أو ضدها]، والاعتبار في الغسل بآخر غسلة.

وقضية ما ذكره الأصحاب من الحد: أنه لا ينظر إلى جفاف الممسوح من الرأس قبل غسل ما بعده؛ بل المعتبر - في هذه الحالة - جفافها لو غسلت، وهو الحق، وقد أعرض بعضهم عن ذلك، وقال: المرجع في ذلك إلى العرف. ومنهم من يقول: إذا مضى بين العضوين زمان يمكن إتمام الطهارة فيه - انقطع التتابع. قلت: فلو اعتبر فيه ما يفوت به تدارك الخلل الواقع في الصلاة - لم يبعد؛ لأن التتابع فيها شرط بلا خلاف. وإذا عرفت ما المعنى بالتتابع، فوجه وجوبه: أن مطلق أمر الله - تعالى - يقتضي الفور والتعجيل، وذلك يمنع التفريق، ولأنه - عليه السلام - توضأ على الولاء، وقال: "هذاوضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وعني: إلا بمثله. ولأنها عبادة ترجع في حال العذر إلى شطرها؛ فوجب أن يكون التتابع من شرطها كالصلاة,] أو لأنها عبادة يبطلها الحدث؛ فأبطلها التفريق كالصلاة]. قال: فجعله سابعا، أي: فجعل الفرض سبعا. أتى الشيخ بهذه الزيادة؛ دفعا لتوهم من يتوهمون أن الضمير في قوله: "إليه" يعود إلى الترتيب؛ فلا يزيد الفرض على الست. وقد أضاف بعضهم إلى ذلك الماء الطاهر؛ فعده فرضا آخر, وبه تكمل الفروض ثمانية, حكاه الماوردي. والجديد: أن التتابع غير واجب؛ لأن ابن عمر روى أن النبي ?"توضأ في السوق, فغسل وجهه, ويديه, ومسح رأسه, فدعي إلى جنازة, فأتى المسجد, فدعا بماء فمسح على خفيه, وصلى عليها".

قال الشافعي: وبين ذهابه من السوق إلى المسجد تفريق كثير, وقد روى ذلك ... موقوفا على ابن عمر, ولم ينكره عليه أحد, ولأنه عبادة لا يبطلها التفريق اليسير؛ فلا يبطلها التفريق الكثير؛] كالحج, أو عبادة يجوز تفريق النية فيها على بعضها, فجاز التفريق الكثير] فيها؛ كالزكاة. قال البندنيجي وغيره: فعلى هذا هل يحتاج إلى تجديد النية؛ إن لم يكن ذاكرا لها؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأنه ما انقطع حكم النية. وعلى مقابله: هل يستأنف الوضوء أو يبني؟ قال القاضي الحسين وغيره: فيه وجهان ينبنيان على تفريق النية على أعضاء الطهارة. والقولان: في تفريق الوضوء جاريان في تفريق الغسل, وهل يجريان في تفريق التيمم؟ قال ابن القطان وطائفة: نعم. وقال الجمهور: لا؛ بل يبطل بالتفريق قولا واحدا. وبعضهم ألحق الغسل بالتيمم في حكاية الطريقين,] لكنه قال إن الصحيح فيهما

تخريجهما على القولين، والطريقة] الثانية: القطع بأنه لا يضر فيهما, وهل القولان فيما إذا كان التفريق بعذر أو بغير عذر؟ فيه طريقان: منهم من عمم، ومنهم من خصهما بغير المعذور بالجواز، وإليه يميل نصه في "الأم"، وهو المشهور، واستدل له المسعودي بأن الشافعي جوز في القديم تفريق الصلاة بالعذر؛ فإنه إذا سبقه الحدث يتطهر ويبني؛ ففي الطهارة أولى. والعذر، مثل انقلاب الماء فيسعى في طلبه، أو هربا من سبع، ونحوه، وهل يلتحق به النسيان؟ فيه وجهان للشيخ أبي محمد، قال الرافعي: والأظهر الإلحاق. فرع: إذا شك المتوضىء بعد فراغ الوضوء في أنه ترك فرضا أم لا _ فلا أثر لشكه؛ كما لو شك بعد الفراغ من الصلاة في ركن منها، ولا يقدح في ذلك الإقدام على الصلاة مع شك في الطهارة؛ كما لو تيقن الطهارة وشك في الحدث. وقال ابن الصباغ: يحتمل أن يقال: لا تجوز له الصلاة؛ لأن الوضوء يراد لغيره، والأصل عدم إتيانه بكل أركانه. وفي"تعليق" القاضي الحسين عند الكلام في الشك في النية في الصلاة: أنه لو شك بعد الفراغ من الوضوء: هل مسح رأسه أم لا؟ فيه قولان: القديم: أنه لا شىء عليه. والجديد: أن عليه المسح؛ لأن الأصل أنه لم يأت به. قال: وسننه عشر: التسمية؛ لأنه قد ثبت مشروعيتها، وقوله_ عليه السلام_:"من توضأ وذكر الله على وضوئه، كان طهورا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله، كان طهورا لأعضاء وضوئه"_ يدل على أنها غير فرض فيه؛ لأنه حكم بالتطهير بدونها.

ولأن الوضوء عبادة ليس في آخرها نطق؛ فلم يجب في أولها؛ كالصوم. وقوله_ عليه السلام_:" لا وضوء لمن لم يسم الله" _ محمول على الكمال. وقد ذهب بعض المراوزة إلى أنها ليست بسنة الوضوء، وقال: هي محبوبة في كل أمر ذي بال؛ فلا اختصاص لها بالوضوء. وعن الشيخ أبي حامد أنها هيئة فيه؛ فإن الهيئة: ما يتهيأ به لفعل العبادة، والسنة: ما كانت في أفعالها الراتبة فيها. قال الماوردي: وهذه ممانعة في العبارة مع تسليم المعنى. قال: وغسل الكفين؛ لأنه _ عليه السلام _ كان يفعله، ولم يذكره في حديث عمرو بن عبسة، ولو كان فرضا لذكره، وقال للسائل عن الوضوء:" توضأ كما أمرك الله تعالى"، وليس فيما أمر الله غسلهما مرتين. وعن بعض المراوزة: أنه ليس من سنن الوضوء. وأبو حامد قال: إنه هيئة فيه، لا سنة. قال: والمضمضة والاستنشاق؛ لأنه _ عليه السلام _ كان يفعلهما، وقال:"عشر من السنة ... " وعدهما منها، وفي رواية:"عشر من الفطرة ... "، والفطرة هي السنة. قال: ومسح جميع اللرأس _ أي: استكمال مسح جميع الرأس _ لأنه الأكثر من

فعله صلى الله عليه وسلم، وقد دللنا على عدم وجوبه؛ فكان سنة. وعن المزني أنه فرض، كما صار إليه مالك. وفي"الحاوي": أن مالكا يقول: إنه لو ترك ما دون ثلاث شعرات_ لم يضره. والمزني يوجب الاستيعاب، وعلى المذهب أنه لو كان به أذى يمنعه من الاستيعاب؛ فالمستحب أن يمسح على ناصيته وعلى عمامته؛ كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم نص عليه الشافعي. والناصية: ما بين النزعتين. وقد أفهم كلام الشيخ أنه إذا مسح جميع الرأس، كان الزائد على أقل ما يجزىء نفلا، وهو الصحيح. ومن الأصحاب من يقول: الكل سقط به الفرض والخلاف جار فيما لو طول الركوع في الصلاة، أوالقيام، أو أخرج البعير في الزكاة عن خمس، أو البدنة أو البقرة عن الشاة في دم التمتع؛ وأصله _ كما قال القاضي الحسين في [باب] صوم التمتع، والمتولي هاهنا _ أن الوقص في الزكاة عفو أو فرض النصاب يتعلق بالجميع؟ قال: ومسح الأذنين؛ لأنه _ عليه السلام _ كان يفعل ذلك، ولم يأمر به الأعرابي؛ فدل على أنه سنة.

فإن قيل: بل أمره بهما؛ لأنهما من الوجه، والوجه أمر الله بغسله؛ ويدل على أنهما من الوجه قوله _ عليه السلام _ في سجوده:" سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه". قيل: لو كانا من الوجه لغسلهما بمائه، وقد أفردهما بالمسح، والوجه المذكور في الخبر المراد به: الكل؛ كما في قوله تعالى: {ويبقى وجه ربك} [الرحمن: 27] ولأن العرب تعطف على الجوار. والمراد بالأذنين: ظاهرهما، وباطنهما، وصماخاهما، وبعضهم يجعل الصماخ سنة أخرى. ثم من شرط الاعتداد بمسحهما سنة: الإتيان بهما بعد مسح الرأس على الصحيح في "الروضة". قال: وتخليل اللحية الكثة _ أي: ومافي معناها _ لأنه _ عليه السلام _ كان يخلل لحيته؛ كما ذكرنا، ولا يجب؛ لأنه لم يأمر به السائل عن الوضوء؛ فكان سنة. [وعن المزني]: أنه واجب. ورواه ابن كج عن بعض الأصحاب. قال الرافعي: فإن أراد المزني: فمفرداته لا يعد من الذهب؛ إذ لم يخرجها

على أصل الشافعي، وإن أراد غيره، حصل وجه موافق لما ذهب المزني. قال: وتخليل أصابع الرجلين، أي: إذا كان الماء يصل إلى جميع بشرتها بدونه؛ لأنه – عليه السلام – كان يفعله؛ كما ذكرناه في خبر وائل بن حجر، ولم يأمر به السائل. قال: والابتداء باليمنى؛ لأنه _ عليه السلام – كان يفعل ذلك في اليدين والرجلين؛ كما سلف، وقالت عائشة:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يب التيامن ما استطاع في شأنه كله: في طهوره وترجله وتنعله" أخرجه مسلم، ولفظ البخاري موضع"يحب":"يعجبه". وقال _ عليه السلام، كما رواه أبو هريرة_:"إذا لستم إذا توضأتم؛ فابدأوا بأيمانكم" وهو محمول على الندب؛ لأن الله تعالى أطلق غسلهما؛ فلم يجب فيه ترتيب؛ لأنهما كالعضو الواحد؛ بدليل أن ظهور إحدى الرجلين من الخف؛ كظهورهما، والعضو الواحد لا ترتيب فيه. وكلام الشيخ يقتضي استحباب البداية باليمين في مسح الأذنين، وهو وجه حكاه في "الوضة"، عن "البحر"، لكن قد سلف ما قاله الماوردي فيه، فإن كان الشيخ يراه حملنا كلامه هنا على ما لا يستحب الإتيان به دفعة واحدة: وهو اليدان والرجلان، وفي غيرهما بالنسبة إلى العاجز؛ كما سلف. قال: والطهارة ثلاثا ثلاثا، أي: استكمال الطهارة ثلاثا ثلاثا في المغسول والممسوح؛ لأنه – عليه السلام – كان يفعل ذلك؛ كما سلف. وروى أنه "توضأ مرة

مرة" رواه البخاري عن ابن عباس. وروى – أيضا – عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله غليه وسلم "توضأ مرتين مرتين"، وقال البغوي: حديث حسن صحيح، وقال: إن أهل العلم اتفقوا على أن الواجب مرة مرة، وإذا أتى به مرتين [مرتين]، قال الشافعي: فهو فضيلة، وثلاثا ثلاثا سنة. ولو زاد على الثلاث – فهل يكون مكروها؟ قال الشيخ أبو حامد: لا؛ لأنه زيادة خير وبر. والجمهور على أنه مكروه، ومنهم: البندنيجي تلميذ أبي حامد؛ لأنه جاء في رواية: أنه توضأ ثلاثا ثلاثا وقال:"من زاد على هذا فقد أساء وظلم"، وفي رواية:"من زاد أو نقص فقد أساء وظلم "، ومراده: نقص عن الوحدة، وإلا فقد ذكرنا أنه اقتصر على مرة ومرتين. وإساءته تكون بالنقصان، وظلمه لازيادة؛ لأنه وضعها فب غير محلها، وقيل عكسه، ويشهد له قوله تعالى: {آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا} [الكهف: 33] [أي] ولم تنقص. وفي " الروضة " حكاية وجه ثالث: أن الزيادة على الثلاث محرمة. وعلى المشهور: لو شك: هل فعل شيئا من ذلك مرة أو مرتين أو ثلاثا؟ ففيما يقدره وجهان: أصحهما: أنه يأخذ بالأدنى؛ كما في الصلاة إذا شك في عدد ركعاتها. والثاني – ذكره الشيخ أبو محمد -: أنه يأخذ بالأكثر؛ حذارا من أن يزيد غسلة

رابعا؛ فإنها بدعة، وترك سنة أهون من إقحام بدعة. وقيل له: إنما تكون بدعة عند تحقيق الزيادة. فرع: تجديد الوضوء مستحب؛ لقوله – عليه السلام -: " من توضأ على طهر كتبت له عشر حسنات"رواه أبو داود. ومحل الاتفاق على استحبابه إذا صلى بالأول فرضا وأراد أن يصلي فرضا آخر؛ لأنه – عليه السلام-كان يتوضأ في غالب أحواله لكل صلاة. فلو صلى بالأول فرضا وأراد أن يصلي نافلة، فهل يستحب له التجديد؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين ". ولو صلى بالأول نفلا وأراد أن يصلي فرضا، فهل يستحب؟ فيه وجهان مشهوران بناهما القاضي الحسين على المعنيين في سلب طهورة الماء المستعمل: فإن قلنا: إنه يؤدي الفرض، فلا يستحب التديد هاهنا، وإلا استحب. ولو أدى [به] سجدة شكر أول تلاوة، أول فعل بعده ما يتوقف على الوضوء- غير الصلاة- قال في "التتمة":فلا يستحب له التجديد، ولا يكره؛ لأنه أدى بالأول ما له تحليل وتحريم. ولو لم يؤد به شيئا أصلا، فإن قلنا: لا يستحب عند الصلاة النفل به، فهنا أولى، وإلا فوجهان حكاهما الإمام، قال: ولعلهما فيما إذا مضى بعد الطهارة الأولى زمان يمكن فيه فعل النافلة دون ما إذا لم يمض ذلك؛ لأنه يصير في حكم غسلة رابعة.

قلت: ولو أخذ بما قلنا: إنه يقطع الموالاة على القديم، لم يبعد. واعلم: أن الشيخ ذكر في الباب قبله أشياء لم يعدها في هذا الباب من الفرائض ولا من السنن، وهي استصحاب النية إلى آخر الطهارة، والمبالغة في المضمضة والاستنشاق والاستعانة. وعد في الباب من السنن ما لم يذكره في الباب قبله، وهو: البداءة باليمين، ولعله نسيه في الأول؛ فاستدركه في هذا الباب. وأما ما لم يذكره هنا مما ذكره في الأول؛ فلعله يرى أن السنة ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم على فعله، وهذه الأشياء قام الدليل على طلبها، ولم يصح مواظبته- عليه السلام- عليها؛ فلذالك لم يدخلها في السنن وإن كانت مستحبة؛ ويرشد إليه قوله:"ويستحب إذا فرغ من الوضوء أن يقول .. " إلى آخره؛ وحينئذ فيكون مائلا لما قاله أبو حامد في غسل الكفين ونحوه؛ كما سلف. وقد أضاف غيره إلى العشرة تطويل الغرة والتحجيل. وتطويل الغرة: غسل مقدم الرأس حالة غسل الوجه؛ فإن الغرة - كما قال ابن ظفر في كتابه الملقب بـ "نجباء الأنباء" -: ما استدق من شعر الرأس. وعن بعض الأصحاب أنه فسره بذلك، مع غسل صفحة العنق، وهو ما حكاه المتولي. والتحجيل: غسل ما فوق المرفقين عند غسلهما، وما فوق الكعبين عند غسلهما. وقد فسر كثيرون - كما قال الرافعي - الغرة بما فسرنا به التحجيل وأعرضوا عن ذكر ما حوالي الوجه. والإمام قال: إن الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم تطويل الغرة غسل شيء من عضده.

وأضاف ابن القاص – كما قال في" الحاوي" – إلى ما ذكرناه مسح العنق بعد مسح الأذنين، وبعضهم أضاف إليه الدعوات المأثورة عند غسل الأعضاء؛ كما سلف. وزاد الغزالي: السواك، وهوالمحكي عن ابن سريج، وقد تقدم الكلام فيه. والموالاة- على الجديد – معدودة من السنن والآداب، وقد ذكناه في الباب قبله. ومنها- كما قال الرافعي-: استصحاب النية إلى آخر الطهارة، وأن يقول بعد التسمية:" الحمد لله الذي جعل الماء طهورا"، وأن يجمع في النية بين القلب واللسان، وأن يتعهد المؤقين بالسبابتين، وما تحت الخاتم بتحريك الخاتم ثم إن كان الماء يصل إليه بدونه، وإلا فهو واجب. وأن يبدأ في غسل الرأس والوجه واليدين والرجلين، بما ذكرناه. وألا يتكلم في أثنائه، ولا يلطم الوجه بالماء، وأن يتوضأ في مكان لا يرجع رشاش الماء إليه، وأن يمر اليد على الأعضاء المغسولة. والله تعالى أعلم.

باب المسح على الخفين

باب المسح على الخفين الأصل في جوازه - مع ما سنذكره من الأخبار - ما روى مسلم عن جرير قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه" قال الترمذي: وكان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن اسلام جرير كان بعد نزول"المائدة"؛ أي: فلا تكون آية "المائدة" الدالة على إيجاب غسل الرجلين، ناسخة للمسح كما صار إليه بعض الصحابة وغيرهم. ورواية مسلم عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم"صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه؛ فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه؟ قال:"عمدا صنعت يا عمر". يدل على ذلك - أيضا - أن سورة "المائدة" نزلت سنة ست من الهجرة قبل

الفتح، وقد روى عن الحسن البصري أنه قال:" روى المسح على الخفين سبعون رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقد ادعى الغزالي والمتولي أنه رخصة لم ينكرها إلا الروافض، وأضاف الإمام إليهم من يعرف بالانتماء إليهم. والقاضي الحسين نسب المنع إلى علي بن أبي طالب والشيعة. وأبو الطيب نسبه إلى الخوارج، والإمامية، وأبي بكر بن داود، وأنها رواية عن مالك؛ مستدلين بأن سورة "المائدة" ناسخة لها؛ فإنها تقتضي إيجاب غسل الرجلين على قراءة، أو مسحهما على أخرى، وليس مسح الخف واحدا منهما. وحجتنا عليهم: ما تقدم. قال: ويجوز المسح على الخفين؛ لما ذكرناه، وفي لفظ"الجواز" تنبيه على أمرين: أحدهما: أنه غير واجب، وغير مستحب، وغير مكروه، وهو المشهور. لكن أبو الطيب حكى ها هنا عن الشافعي: أنه مكروه، وحكى القاضي الحسين عنه في باب "القصر أنه قال:"وأحب للمسافر. أن يمسح على خفيه؛ إذا كان يغسل رجليه رغبة عن السنة"، ومفهومه أنه إذا كان يغسلهما – لا رغبة عن السنة- لا يستحبه. الآخر ثم القول بعدم وجوبه محمول على الغالب؛ وإلا فلو كان المحدث لابس خف بالشرائط التي تبيح المسح، وقد دخل عليه وقت الصلاة، ووجد من الماء ما

يكفيه لو مسح على الخف، ولا يكفيه لو غسل الرجلين – فالذي يظهر وجوبه؛ لقدرته على الطهارة الكاملة، ولا [يأتي فيه] الخلاف الذي سنذكره في التيمم؛ لوضوح الفرق. قال: في الوضوء؛ أي: ولا يجوز في الغسل؛ لما روى صفوان بن عسال قال:"كان رسول الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين وروى من طريق آخر: إذا كنا سفرا- ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من بول وغائط [ونوم] " رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح. وقد جاء في رواية عن صفوان بعد قوله."من بول"-. "من الحدث إلى الحدث" خرجهما القاسم بن زكريا المطرز بإسناده. وسفر: جمع"سافر"؛ كركب: جمع "راكب". ثم الفرق بين الوضوء والغسل من حيث المعنى: أن الوضوء يتكرر، والحاجة إلى

لبس الخف عامة، ولو كلف نزعه في كل وضوء لشق، ولا كذلك عند الجنابة؛ لأنها لا تتكرر كتكرره، ولأن الجنب لا يتمكن من المسح؛ لأن عليه غسل جميع بدنه، ومع ذلك ينزل الماء في الخف؛ فيؤدي إلى الإضرار به، ولا كذلك في الوضوء. قال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة؛ لما روى مسلم عن علي - كرم الله وجهه- قال:" جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم". وروى الشافعي بسنده عن أبي بكر أن" النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر، فلبس خفيه – أن يمسح عليهما" وهذا هو الجديد. وعن القديم: أنه يتقدر لا بمدة؛ بل له المسح إلى أن تصيبه الجنابة؛ كما هي رواية

عن مالك؛ لما روى أبو داود عن أبي بن عمارة- وكان قد صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى القبلتين - أنه قال: يارسول الله، أأمسح على الخفين؟ قال:"نعم".قال: يوما؟ قال: "ويومين". قال: ثلاثة؟ قال:"نعم، وماشئت" [ومن] طريق أخرى - قال فيه حتى بلغ سبعا-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نعم، وما بدا لك" ولأنه مسح بالماء؛ فلم يكن مؤقتا كمسح الرأس والجبيرة. والصحيح الأول، بل قد حكى ابن الصباغ عن الزعفراني أنه قال: إن الشافعي رجع عنه بـ"بغداد" قبل خروجه إلى" مصر"وكذا حكاه البندنيجي؛ وحينئذ فلا يكون في المسألة إلا قول واحد؛ كما ذكر الشيخ. والخبر المستدل به للقديم قد قال أبو داود: إنه اختلف في إسناده، وليس بالقوي،

وبعضهم يقول: في إسناده مجاهيل، ولو صح حملناه على مسحات يتخللها غسل الرجلين في أوقاتها؟ كما يحمل قوله – عليه السلام -:"التراب كافيك، ولو لم تجد الماء [عشر حجج" على تيممات]؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث. قال الإمام: والوجه عندي المعارضة بنصوص التأقيت، ثم الأصل غسل القدمين؛ فلا تثبت رخصة المسح إلا بثبت، والفرق بين ما نحن فيه والمقيس عليه: أما المسح على الرأس؛ فلأنه أصل، وأما الجبيرة؛ فلأن الداعي إلى المسح عليها في الأصل الضرورة، وهي موجودة في الدوام، والداعي إلى المسح على الخف الحاجة وهي تزول غالبا في المدة المذكورة.

قال الأصحاب: وعلى هذا يتصور أن يصلي المقيم في مدته ست صلوات في أوقاتها؛ بأن يحدث في وقت صلاة منها مضي ما يسعها، ويمسح ويصليها، ثم يصليها في اليوم الثاني في أول وقتها. ويتصور أن يوقع صلاة أخرى جمعا مع الأولى في وقتها إذا كانت الصلاة مما تجمع؛ وذلك بعذر المطر. ويتصور أن يصلي المسافر في مدته ست عشرة صلاة في أوقاتها، وأخرى بالجمع؛ كما ذكرنا. أما إذا أجنب في أثناء المدة انقطعت [مدة المسح]؛ لوجوب غسل الرجلين، وهكذا الحكم في المرأة إذا حاضت أو نفست، قاله الرافعي، واستدل له بحديث صفوان. وفيه نظر؛ لأن حديث صفوان يدل على أن المسح على الخف لا يقوم مقام غسل الرجلين في الجنابة، لا أنه تبطل مدة المسح. نعم، إن كان لا يتأتى غسل الرجل في الخف فالنزع واجب؛ لأجل الغسل، فإذا نزع بطلت به المدة، وإذا لم ينزع: هل نقول: تبطل؛ تنزيلا لوجوب النزع منزلته، أم لا؟ هذا محل الاحتمال. وإن كان يتأتى غسل الرجلين في الخف ينبغي ألا تبطل مدة المسح؛ [بناء على أن الوضوء لا يندرج تحت الغسل]، ويصير ذلك بمنزلة ما قاله الأصحاب فيما إذا دميت رجله في الخف؛ إن أمكن غسلها فيه – لم تبطل المدة، والله أعلم.

واعلم أن الشيخ اتبع في إطلاق لفظ السفر الخبر، وهو محمول عند أصحابنا على السفر الذي تقصر فيه الصلاة بلا خلاف؛ حتى تشترط فيه المسافة، وألا يكون معصية. فلو كان قصيرا أو معصية، لا يستبيح به مدة المسافر، ويستبيح في القصير مدة المقيم، وهل يستبيح في المعصية ذلك؟ فيه وجهان في "الشامل" وغيره في كتاب: صلاة المسافر؛ إذ هناك تكلم الشافعي والأصحاب فيها-: أحدهما- وهو ظاهر المذهب في " تعليق" القاضي الحسين، والأصح عند الغزالي وغيره:- نعم؛ لأن المعصية صيرت السفر كالمعدوم، والحاضر يجوز له ذلك. والخلاف جار في مقيم عاص بإقامته؛ كما إذا نوى القيام ببلدة؛ لفعل بعض المعاصي. والعبد إذا أمره سيده بالسفر فأقام، فإنه يجب عليه السفر؛ صرح به أبو الطيب في الأولى، والإمام عن رواية الصيدلاني في الثانية. وحكى عن شيخه أنه قال: الحاضر إذا كان [يدأب] في معصية، لا تتأتى إلا بإدامة الحركة [فيها]، ولو مسح على الخفين، لكان ذلك عونا له على ما هو فيه – فيحتمل أن يمنع الترخص. قال: وما ذكره حسن صحيح.

قال الأصحاب: والرخص التي تتعلق بالسفر ستة: منها ما يختص بالطويل بلا خلاف وهي: المسح على الخفين، ةالقصر، والفطر. ومنها ما يجوز في الطويل والقصير بلا خلاف، وهو: الصلاة على الراحلة ونحوها، وفي هذا شيء ستعرفه إن شاء الله. ومنها ما اختلف قول الشافعي فيه، وهو: الجمع في السفر، والتيمم، منهم من ألحقه بالقسم الأول، ومنهم من ألحقه بالقسم الثاني. قال: وابتداء المدة – أي: في حق المسافر والمقيم – من حين يحدث بعد لبس الخف؛ لما ذكرناه من رواية المطرزي عن صفوان، ولأنها عبادة مقدرة بوقت؛ فكان أول وقتها من حين جواز فعلها؛ كالصلاة، وهذا دليل على من ادعى أن أول وقتها من حين المسح، وهو أبو ثور، وأحمد. [و] على من قال: إنه من وقت اللبس، وهو الحسن البصري. ثم [هذا] الدليل يدل على امتناع تجديد [الوضوء] المشتمل على مسح الخفين، ولا شك في أنه مكروه.

قال: فإن مسح في الحضر ثم سافر، أو مسح في السفر ثم أقام – أتم مسح مقيم؛ لأنها عبادة يختلف حكمها بالحضر والسفر، فإذا اجتمع [فيها] الأمران غلب حكم الحضر؛ كما في القصر، ولا فرق على هذا بين أن يقع كل المسح في الحضر أو بعضه، حتى لو مسح إحدى رجليه في الحضر، ومسح الأخرى في السفر – أتم مسح مقيم، وهو المذكور في"التتمة"، وعن القاضي الحسين أنه اختار في هذه الصورة أنه يتم مسح مسافر؛ نظرا إلى تمام المسح. وقد أفهمك قول الشيخ في جواب المسألتين:"أتم مسح المقيم"- أمرين: أحدهما: أن الاعتبار في كون المدة مدة مقيم أو مسافر، بحالة وقوع المسح، لا بوقت الحدث، وهو كذلك. وعند المزني [أن] الاعتبار [في ذلك] بوقت الحدث؛ كما أنه الاعتبار في ابتداء المدة، واستدل لذلك لو لم يمسح في الحضر حتى مضى يوم وليلة، لا يمسح بعد ذلك، كذا حكاه الداركي عنه. وقال أبو الطيب: إن هذه الحكاية عنه ليست بصحيحة، ومذهبه فيها كمذهبنا، ووجهه أن المسح هو المقصود؛ فكان الاعتبار به؛ كما أن الصلاة لما كانت هي المقصودة – كان الاعتبار في قصرها بحالة فعلها؛ إذا وقع في وقتها، وقد وافق المزني على ذلك. ثم لا فرق على هذا بين أن يخرج وقت صلاة وجبت عليه بعد الحدث أو لا عند الجمهور. وعند أبي إسحاق أنه إذا أحدث في الحضر، ودخل عليه وقت صلاة، ولم يصلها حتى خرج الوقت وهو مقيم، وسافر ومسح في السفر – يتم مسح مقيم؛ لأنه كان

يجب عليه المسح في الحضر؛ فنزل منزلة فعله. الثاني: أن الثانية مصورة بما إذا بقي من مدة المقيم شيء؛ كما إذا [كان] قد مسح دون يوم وليلة؛ لأن فيه تنبيها على محل خلاف المزني. أما إذا كان قد مسح [في السفر يوما] وليلة فأكثر، ثم أقام – استأنف وفاقا. وإنما قلنا ذلك؛ لأن في"تعليق البندنيجي" أن أبا العباس – يعني ابن سريج - حكى عن المزني أنه قال: إذا كان مقيما ثم سافر، أو مسافرا ثم أقام – بنى إحدى المدتين على الأخرى، ويقسط ذلك على مر الزمان: فإن كان مقيما؛ فمضى من مدة الإقامة ثلثها من حين الحدث، ثم سافر – له أن يمسح بعد أن حصل مسافرا يومين وليلتين ثلثي مدة السفر في مقابلة ما بقى من مدة الحضر وهو ثلثا يوم وليلة. وإن كان مسافرا، فمسح يوما وليلة، ثم حضر – فقد مضى له ثلث مدة السفر؛ فيضيف إلى هذا ثلثي مدة الحضر، وقال: هذا هو القياس. قال أبو العباس: ولسنا نناظره إذا وافقنا على المذهب، ولو قال هذا الحكم - ناظرناه، وقلنا: إما أن يغلب حكم الحضر دون السفر، أو العكس، فأما الجمع بينهما فمحال؛ لأنه يفضي إلى أن يصلي ركعة من الظهر، وهو مسافر، ثم إذا أقام يضيف إليها ركعتين؛ فيصلي الظهر ثلاثا، وهو خلاف الإجماع. أو يصلي من الظهر ركعتين في الحضر، ثم يسافر؛ فيصلي الظهر ثلاثا، وهو خلاف الإجماع. قال: وإن شك في وقت المسح، أو في انقضاء مدة المسح – بنى الأمر على ما

يوجب الغسل؛ لأن الأصل وجوب الغسل، والمسح رخصة بشرط، فإذا وقع الشك في الشرط، رجعنا إلى الأصل. وصورة الشك في وقت المسح أن يتيقن أنه مسح في الحضر أو السفر، وشك: هل أحدث وقت الظهر أو وقت العصر مثلا؟ ويلزم بهذا التصوير الشك في الانتهاء أيضا. وصورة الشك في انقضاء مدة المسح: أن يتيقن أنه أحدث وقت الظهر مثلا، وشك: هل وقع مسحه في الحضر، فتكون آخر مدته ثاني يوم الظهر؟ أو في السفر؛ فتكون أخر مدته رابع يوم الظهر؟ وبهذا التصوير وقع الشك في الانتهاء دون الابتداء. وقد صور بعضهم الأولى بالصورة الثانية، والثانية بالأولى، وليس بشيء. وقد خالف المزني فيما إذا شك هل أحدث وقت الظهر أو العصر؟ فقال في "الجامع الكبير" – كما حكاه البندنيجي-: إنه يبني الأمر على أنه أحدث وقت العصر؛ لأن الأصل عدم حدثه وقت الظهر. وغلط فيه بما ذكرناه. قال: ولا يجوز المسح إلا أن يلبس الخف على طهارة كاملة. عنى بالكاملة: التامة، حتى [إنه] لا يجوز أن يمسح إذا تطهر، وغسل إحدى رجليه وأدخلهما الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلهما الخف، والدليل على ذلك: قوله- عليه السلام – في حديث أبي بكرة:"إذا تطهر فلبس خفيه – أن يمسح عليهما". وقوله – عليه السلام – للمغيرة بن شعبة حين رام نزع خفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وضوئه:" دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين" – كما أخرجه مسلم _[يدل على اشتراط الطهارة. وروى الشافعي بسنده عن المغيرة بن شعبة [قال]:قلت: يارسول الله، أأمسح

على الخفين؟ قال:"نعم، إذا أدخلتهما طاهرتين، ولفظ"إذا" شرط، والشرط يقتضي العدم بعدمه]. فإن قيل: هذا يدل على أن الرجل لا تدخل في الخف إلاطاهرة، وإذا غسل إحدى رجليه وأدخلهما في الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلهما الخف _ صدق ذلك؟ قلنا: ماكانت الطهارة شرطا فيه – اشترط تقدمها بجملتها عليه؛ كالصلاة. ثم خبر أبي بكرة يمنعه؛ لأن الفاء تقتضي التعقيب والترتيب، وقام الدليل على أن التعقيب هنا غير واجب؛ فبقى وجوب الترتيب على ظاهره. ثم إن إطلاق الطهارة يقتضي الكمال؛ يدل عليه: أن من توضأ، ولم يغسل إحدى رجليه – إذا حلف إنه غير متطهر لا يحنث؛ ولهذا قال الرافعي: إن لفظ"التمام" [في "الوجيز"] لا حاجة إلى ذكره. وجوابه: أنه أتى به؛ للتنبيه على محل الخلاف؛ فإن المزني وأبا ثور وأبا حنيفة قالوا- فيما إذا غسل إحدى رجليه، ,أدخلهما الخف قبل غسلهما، وغسلهما فيه - جاز له المسح. والمشهور عنه الأول. ثم عندنا إذا غسل إحدى رجليه، وأدخلهما في الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف – إذا أراد أن يمسح عليهما – ينزع الأولى ثم يلبسها. وعن ابن سريج: أنه لابد من نزعهما، ويستأنف لبسهما، لأن حكم كل واحدة منهما يرتبط بالأخرى؛ ألا ترى أن نزع إحداهما بعد الحدث يوجب نزع الأخرى؟! والمشهور الأول. والفرق: أن اللبس هنا لم يقع في محله؛ فكان كعدمه، بخلافه. ثم المراد باللبس الذي يشترط فيه الطهارة: إدخال القدم في موضع مقرها [من الخف] مستقرة، حتى لو أدخل الرجلين في ساق الخف قبل أن يغسلهما،

وغسلهما في الساق، ثم أدخلهما موضع القدمين – جاز له المسح. ولو أدخلهما الساق طاهرتين، ثم أحدث قبل استقرارهما في مقرهما – لا يستبيح المسح، وعلى هذا نص في"الأم"، بخلاف مالو كانت القدمان مستقرين في محلهما من الخف – حيث يجوز له المسح عليهما – فأخرجهما من مقرهما [إلى الساق، ثم أعادهما إلى مقرهما]_: فإن له المسح؛ كما نص عليه. والفرق استصحاب الحال في الموضعين. وقد حكى في كل من الصورتين [الأخريين] وجه آخر، حكاه في الأخيرة القاضي أبو الطيب قولا نسبه إلى الجديد، وصححه مع جزمه في التي قبلها بالمنصوص فيها. وفي "تعليق القاضي الحسين" حكاية الخلاف فيهما، فيما إذا كان بعض القدم في مقره فيهما، ومثاره أن البعض هل يقوم في ذلك مقام الكل، أم لا؟ واعلم: أن بعض الناس كان يقول: [يحتمل أن يكون] الشيخ احترز بلفظة "كاملة" عن طهارة المستحاضة ومن في معناها، والتيمم؛ فإن ذلك طهارة، لكنها غير كاملة؛ إذ لا يستبيح بها سائر الفرائض. قلت: ليس الأمر كذلك؛ لوجهين: أحدهما: أن الكامل ضد الناقص، والضعيف ضد القوي، [وطهارة المستحاضة والتيمم طهارة ضعيفة لا ناقصة،] والذي ذكره الشيخ:"الكامل"؛ فتعين أن يكون قد احترز به عن الناقص. والثاني: أن المحترز عنه يجب أن يكون ضد المدعي، وقد قال الأصحاب: المستحاضة ومن في معناها إذا تتوضأ، ولم تصل، ولبست الخف، ثم أحدثت الحدث المعتاد – يجوز أن تتوضأ وتمسح على الخف وتصلي فريضة واحدة، وما شاءت من النوافل، وكذا إذا كانت قد صلت الفرض، ولبست الخف، ثم أحدثت -

تتوضأ وتمسح على الخف، وتستبيح النافلة؛ كذا حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ. والشيخ أبو علي حكى في ذلك وجهين عن تخريج ابن سريج. والقاضي الحسين حكاهما قولين؛ بناء على أن المستحاضة، هل يرتفع حدثها بالنسبة إلى فريضة واحدة والنوافل، أم لا؟ فإن قلنا: لا يرتفع، لم تمسح، وإلا مسحت وصلت، وهو الأصح في "الرافعي". ويقال: إن أبا بكر الفارسي حكاه عن نص الشافعي في "عيون المسائل"؛ لأنها تحتاج إلى اللبس والارتفاق؛ كالطاهر؛ وعلى هذا إذا مسحت وصلت، ثم أحدثت - يجب عليها إذا توضأت غسل الرجلين. وعن الشيخ أبي حامد أن لها أن تستوفي مدة المسح يوما وليلة في الحضر، وثلاثة أيام ولياليهن في السفر، لكن عند كل فريضة تعيد الوضوء، وتمسح على الخف، ومال الإمام إلى هذا من جهة المعنى، وقطع بنفيه نقلا. ثم محل الخلاف في جواز المسح لها، إذا لم ينقطع دمها قبل المسح، فإن انقطع – فطريقان: منهم من قطع بوجوب النزع، والإتيان بالطهارة الكاملة؛ لأن الطهارة التي ترتب عليها المسح قد زالت بالشفاء الطارىء؛ فيمتنع ترتيب المسح عليها؛ وهذه طريقة ابن سريج. قال الرافعي: ومنهم من طرد الوجهين. والمتيمم – لأجل المرض – كالمستحاضة.

والمتيمم – لعدم الماء – لا يجوز له المسح أصلا؛ لأنه عند رؤيته يعود حدثه كما كان عليه أولا؛ وهذا ما حكاه الماوردي وأبو الطيب. وقال ابن سريج:" يجوز له المسح"؛ لأن التيمم عنده يرفع الحدث، ولا جرم أن القاضي الحسين سوى بين [التيممين: للجرح] ولعدم الماء، والمستحاضة. فإن قلت: المتيمم لعدم الماء [إذا رآه] بمنزلة المستحاضة إذا انقطع حيضها، وقد حكيتم عن ابن سريج في المستحاضة القطع بمنع المسح عند الانقطاع، وقضيته أن يقطع بمثله في المتيمم إذا رأى الماء؛ فلم خالفه؟ قلنا: قدذكر البندنيجي: أنه فرق بينهما بأن رؤية الماء أخف من انقطاع الدم؛ ولهذا لو رآه المتيمم في الصلاة أتمها على النص، ولو انقطع الدم في أثناء الصلاة - استأنفها على النص. لكن لك أن تقول: هذا الفرق لا يحسن من ابن سريج؛ لأنه هو المخرج من مسألة انقطاع الدم إلى المتيمم قولا: أنه تبطل صلاته برؤية الماء؛ كما خرج من المتيمم قولا إلى المستحاضة إذا انقطع دمها في الصلاة: أنها لا تبطل؛ لاستوائهما عنده؛ وحينئذ تتعين التسوية؛ كما فعل القاضي الحسين. وإذا عرفت ذلك، وعرفت أن الصحيح جواز المسح للمذكورين – لم يحسن الاحتراز عنهم. لكن لهذا القائل أن يقول: هؤلاء يجوز لهم المسح ويختص بصلاة واحدة، ثم

ينزعون الخف بعدها؛ على الصحيح، وكلام الشيخ فيمن يجوز له المسح، ولا ينزع الخف مدة المقيم والمسافر؛ فيحسن لذلك الاحتراز عنه. وجوابه: أن الشيخ أبا حامد قائل باستيفاءالمدة له، وهذا الكتاب مختصر من "تعليقه"؛ كما هو المشهور؛ وحينئذ لا يحسن معه هذا السؤال. والله أعلم. قال: ولا يجوز إلا على خف [صحيح]، أي: فلا يجوز على المقطوع: قل قطعه – بحيث لا يرى معه شيء من القدم – أو كثر وتفاحش أو لم يتفاحش؛ لأن قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} إلى قوله: {وأرجلكم إلى الكعبين} يوجب على كل قائم إلى الصلاة؛ إذا توضأ أن يغسل رجليه. وقام الإجماع [منا ومن الخصم] على تركه بالمسح على الخف؛ إذا كان صحيحا، وبقى على ظاهره في المقطوع، ولأن ما منع كثيره من المسح على الخف، وجب أن يمنع قليله منه؛ كترك لمعة من الرجل لم يصبها الماء. وللشافعي قول في القديم اختاره أبو بكر بن المنذر: أن القطع اليسير لا يضر كمواضع الخرز. والمضر منه: ما تفاحش، وعلى هذا فما المتفاحش؟ قال الأكثرون، ومنهم القاضي الحسين: ألا يتماسك في الرجل، ولا يتأتى المشي عليه. وقال في" الإفصاح": ما يبطل معه اسم الخف عنه. والصحيح ما ذكره الشيخ؛ لما ذكرناه. والفرق عند القائلين به بين ما نحن به، ومواضع الخرز – أنه لا يخلو منها خف، وهي تنسد بالخيط؛ فإن فرض انفتاح فيها بسقوط الخيط – لم يجز المسح عليها، والقول القديم جار فيها من طريق الأولى، وفي "البسيط" قطع به. وهذا إذا لم يكن الخف مبطنا، [أو كان مبطنا] وانقطع الخف [أي بحيث ترى منه البشرة] وما قابله من البطانة، أما إذا كان مبطنا والقطع في الظهارة فقط، قال

البندنيجي: جاز له المسح عليه؛ لأن هذا خف كله. وخصه الماوردي بما إذا كانت البطانة من جلود، وقال فيما إذا كانت من خرق: لا يجوز المسح عليه. وأبو الطيب قال: يعتبر في البطانة أن يمكن متابعة المشي عليها. ويجيء من مجموع ذلك خلاف في مسألة، وقد حكاه الرافعي وجهين، وصحيح الثاني. ولو كان في الخف قطع، وفي البطانة قطع لا يقابله، والرجل مستورة، وكلا القطعين في محل الفرض – جاز المسح عليه؛ كما حكاه الإمام عن الأصحاب. واعلم أنه لا يوجد في كثير من النسخ لفظة "صحيح"، والاقتصار على ما بعدها، وعليه جرى الشارحون، والموجود في بعض النسخ ذكرها، ولابد منها؛ إذ لفظة"ساتر" لا تغني عن الاشتراط الصحة؛ فإن المقطوع قطعا يسيرا لا تبين منه القدم مانع على الجديد؛ كما ذكرنا. فإن قلت: لفظة"صحيح" تخرج ما إذاكان الخف مقطوعا وله شرج تحت الكعبين، وكان إذا شرج لا يرى معه البشرة، ويمكن متابعة المشي عليه، ولا خلاف عند العراقيين في جوازه؛ تمسكا بنصه عليه في"الأم" وإن حكى المراوزة فيه خلافا. قلت: الشيخ أدخل بلفظ"الصحيح" ما لا يحتاج معه إلى تفصيل وتقييد، وأخرج ما لا يجوز المسح عليه مطلقا، وما لا يجوز المسح عليه في حال، ومنه مسألة الشرج؛ فإنه إنما يجوز المسح عليه إذا كان مشرجا، وإن لم تر الرجل منه قبل تشريجه؛ لأنها عند المشي تظهر، وإذا كان كذلك فلا يرد على الشيخ. والشرج: بالشين المعجمة، والراء المفتوحة، والجيم. قال: ساتر للقدمين؛ للآية، وطريق الاستدلال منها ماتقدم. ولأن ظهور إحدى القدمين مانع من جواز المسح على الأخرى؛ تغليبا لحكم الغسل، فكان ظهور بعض الرجل بالمنع من مسح الباقي منها أولى، ولا فرق في ذلك بين أن يكون ما ترى منه القدم [في] موضع الخياطة، أو غيره. والمراد بالقدم: ما يجب غسله من الرجل؛ وبالستر: الستر من الجوانب، والأسفل

لا من الأعلى؛ كما صرح الإمام، والقاضي الحسين، وهو بالضد من ستر العورة؛ فإن المعتبر فيه الستر من الجوانب والعلو لا من جهة السفل؛ كما ستعرفه. وعلى هذا لا يضر سعة الخف؛ بحيث يرى من أعلاه القدم، أو بعضه. وفي "الحاوي": أنه يشترط الستر من الأعلى أيضا ولو لم يجد غيره، وهو ما يفهمه قول البندنيجي:"أو قطع الخف من فوق الكعبين؛ فإن كان واسعا فشده، جاز المسح عليه"؛ فإنه يفهم أنه إذا كان واسعا، ولم يشده، لا يجزئه، وبه صرح الروياني في "تلخيصه" وقال: إنه إذا كان ضيقا لا ترى منه القدم؛ يجوز المسح عليه، وإن لم يشده. وهذا القيد احترز به الشيخ عن الخف الصحيح المتخذ من خروق خفيفة النسج ترى بشرة القدم من خلاله. وقد يحترز به – أيضا – عما إذا كان شفافا، برى من تحته لون البشرة؛ فإن البندنيجي جزم بأنه لا يجوز المسح عليه، وهو المحكى في بعض التصانيف عن الغراقيين. وعند المراوزة يجوز المسح عليه. والإمام نسبه إلى الصيدلاني، ولم يحك غيره [والله أعلم]. قال: يمكن متابعة المشي عليه؛ لأن المسح على الخف شرع رخصة لما تدعو الحاجة إلى لبسه، وما يمكن متابعة المشي عليه، الحاجة داعية إلى لبسه، ويعسر قلعه في كل وضوء، وما لا يمكن متابعة المشي عليه، ليس في معرض عموم الحاجة؛ فلم تتناوله الرخصة؛ كاللفافة. والمراد بإمكان متابعة المشي: أن يكون بحيث يمكن التردد عليه في المنازل؛ للاحتطاب والاحتشاش ونحو ذلك، لا أن تقطع به فراسخ ومراحل ومفازات؛ فإذا وجد إمكان ذلك، جاز المسح عليه، سواء كان من جلود الإبل، أو البقر، أو الغنم، أو من اللبود، والشعر، والخرق الغليظة المتراكبة، والخشب الخفيف، نص عليه الشافعي. وصور القاضي الحسين ذلك بما إذا كان مقطوع الرجل من أسفل من الكعبين؛

فجعل لها خفا من خشب، ونحوه، وأمكن مشيه عليه. وما لا يمكن متابعة المشي عليه؛ لضعفه: كالمتخذ من الخرق الرقيقة ونحوها - لا يجوز المسح عليه؛ وكذا ما لا يمكن متابعة المشي عليه؛ لقوته: كالمتخذ من الحديد، والخشب الثقيل، والزجاج، ونحو ذلك عند العراقيين؛ صرح به البندنيجي، وابن الصباغ، والمذكور في"الوسيط" جوازه. ولو كان عدم إمكان المشي فيه؛ لضيقه، أو اتساعه – ففيه وجهان في"تعليق القاضي الحسين": أحدهما – وبه صدر كلامه-: الجواز، وهو الذي صححه في "التتمة"؛لأنه يمكن متابعة المشي عليه لمن هو أصغر رجلا منه، أو أكبر. وأصحهما – في "الرافعي"-: المنع، وبه أجاب بعضهم. وكلام الشيخ يحتمل الوجهين، واحتماله للآخر ظاهر، وأما احتماله للأول فمن حيث إنه خصص الجواز بإمكان متابعة المشي عليه، وهو يدل على المنع فيما لا يمكن متابعة المشي عليه؛ وذلك يكون لضعفه، ولو أراد ذلك، لقال: يمكن متابعة المشي فيه. ومن هنا يمكن أخذ جواز المسح على الخف الحديد وغيره؛ كما قال الغزالي، والله أعلم. وقد أفهم كلام الشيخ أمورا: أحدها: أنه لا يجوز المسح على ما يسمى خفا، وذلك يشمل صورا: منها: إذا أخذ قطعة جلد، وأحكمها بالشد؛ بحث لا يرى معها بشرة القدم، ويمكن متابعة المشي عليها؛ وهو ما حكاه القاضي الحسين عن الأصحاب؛ لأنه غير مخروز، وأبدى جوازه احتمالا لنفسه.

ومنها: الزربون [الذي] إذا شدت سيوره لا يرى منه القدم، وهو ملحق بالخف المشرج، وقد تقدم حكمه. ومنها: الجورب إذا كان صحيحا، وساترا للقدم، يمكن متابعة المشي عليه، وهو ظاهر ما نقله المزني؛ فإنه قال: قال الشافعي: ولا يمسح على الجوربين إلا أن يكون الجوربان مجلدي القدمين إلى الكعبين؛ حتى يقوم مقام الخفين. وقد قال بظاهر هذا النص بعض الأصحاب؛ كما قال الماوردي، ومقتضى إطلاق الغزالي القول بأنه لا يجوز المسح على الجورب واللفافة. وبعضهم لم يشترط القول بأنه لا يجوز المسح على الجورب واللفافة. وبعضهم لم يشترط في جواز المسح عليه أن يكون مجلد القدمين، بل إذا كان منعلا؛ بحيث يمكن متابعة المشي عليه، وهو صحيح، ساتر للقدم – يجوز المسح عليه قال الماوردي: وهي رواية الربيع؛ فحصل في المسألة قولان. ومنهم من قطع بالثاني، قال: إنما ذكلا الشافعي تجليد القدمين؛ بناء على أن الغالب في الجورب الخفة، وعل هذا جرى أبو الطيب وابن الصباغ، والشيخ في "المهذب". والبندنيجي قال: إن ما ذكره المزني من عنده وليس بشرط. واتفقوا على أنه لو كان غير منعل، لا يجوز المسح عليه؛ لعدم إمكان متابعة المشي [عليه]، وحملوا رواية المغيرة بن شعبة "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين" على الحالة قبلها على أن أبا داود قال: إنه ضعيف، وقال الترمذي: إنه صحيح. الثاني: أنه لا يشترط وراء ما ذكره في الممسوح شيء آخر، ووراءه أمور: منها: أن الماوردي شرط فيه أن يكون مانعا من نفوذ بلل المسح إلى القدم؛ فإن وصل لخفة نسج أو رقة حجم لم يجز؛ وهذا حكاه الغزالي وجها، واستدل الإمام

لمقابله [وهو الصحيح في "الوسيط"] بما إذا كانت بطانة الخف مقطوعة في

[موضع، والظهارة] مقطوعة في آخر؛ فإنه يصل الماء من ظاهر الخف إلى القدم من القطعين، ولا يمنع جواز المسح. ومنها: أن صاحب "التلخيص": اشترط في الملبوس أن يكون حلالا؛ لأن المسح على الخف رخصة؛ فلا تباح بالمعاصي، ويندرج في ذلك الخف المغصوب والمسروق، والمتخذ من الذهب والفضة [عند من يجوز المسح على الحديد، وقد ادعى بعضهم أنه الأصح في الذهب والفضة] واختاره في "المرشد" في المغصوب. لكن الذي عليه عامة الأصحاب أنه لا يشترط ذلك، وصححه الغزالي [وابن الصباغ] ولم يحك البندنيجي في "باب: لبقصر" في المغصوب غيره؛ مستدلا بأن اللبس مستوفى به ما جعله الشرع للمقيم والمسافر، لا أنه السبب المثبت للترخص؛ وبهذا خالف القصر في السفر؛ فإن نقس السفر الذي جوز القصر. وبعضهم قاسه على الصلاة في الدار المغصوبة. ومن رجع مقابله – قال: الفرق بينهما أن استعمال الخف يبليه، بخلاف الصلاة في الدار، على أن في صحة الصلاة في الدار المغصوبة الخلاف في صحة المسح على الخف المغصوب، حكاه القاضي الحسين معه. ومنها: أن كافة الأصحاب اشترطوا أن يكون طاهرا؛ فلا يجوز على المتخذ من جلد كلب، أو خنزير، أو ميتة لم يدبغ، أو دبغ لكن أصابته نجاسة؛ كما قاله في "الذخائر" مالم يطهر؛ لأنه لا تجوز الصلاة معه، وعلى هذا يجيء – كما قال بعضهم

في جوازه على الخف الذي أزيلت النجاسة عنه بالمسح على الأرض خلاف مبني على جواز الصلاة فيه. ومنها: أن يستر ما يجب غسله من القدمين بما يجوز المسح عليه، فلو لبس الخف في إحدى الرجلين، وأراد أن يمسح عليه، ويغسل الأخرى – لم يجز؛ وكذا لو كانت إحدى رجليه مقطوعة، وبقى من محل الفرض شيء يجب ستره. نعم، لو قطع محل الفرض بجملته، جاز أن يقتصر على لبس خف واحد، والمسح عليه؛ لأن ذلك كالرجلين في حق غيره. قال: وفي المسح على الجرموقين قولان. الجرموق – بضم الجيم-: خف كبير، يلبس فوق خف صغير، سواء كان له ساق، أو لا، وفي معنى ذلك كما قال البندنيجي: لبس الخف فوق الجبائر، وفي جواز المسح عليهما – كما قال – قولان: أحدهما: يجوز؛ لما روى بلال"أنه – عليه السلام – توضأ، ومسح على عمامته، وموقيه" والموق: هو الجرموق، وهو بالفارسية"موك" فعرب، وقيل: موق. ولأن المسح على الخفين جوز رفقا وتخفيفا، وهذا المعنى موجود في الجرموق؛ فإن الحاجة تدعو إلى لبسه، وتلحق المشقة في نزعه عند كل وضوء. ولأن كل خف جاز المسح عليه إذا لم يكن بينه وبين الرجل حائل، جاز وإن كان بينهما حائل، [أصله]: إذا كان الأسفل مخرقا، وهذا ماقاله في القديم،"والإملاء"، واختاره المزني، ونص في "الأم" عليه؛ لأنه قال فيه – كما حكاه البندنيجي-: لو لبس ثالثا على ثان مسح على الثالث، وهو مطرد فيما لو لبس رابعا، صرح به في "التهذيب". والثاني: لا يجوز؛ لأن الأصل غسل الرجلين، والمسح رخصة عامة وردت في

الخفين؛ لعموم الحاجة لبسهما، والحاجة إلى لبس الجرموقين خاصة؛ فلا تلحق بالحاجة العامة وتثبت رخصة عامة. ولأن ماجعل بدلا في الطهارة، لم يجعل له بدل آخر؛ كالتيمم. ولأنه ساتر لممسوح؛ [فلم يقم في إسقاط الفرض مقام الممسوح] كالعمامة؛ وهذا ما نص عليه في الجديد و"الأم"؛ كما قاله أبو الطيب، وهو الأصح، وخبر بلال لا يدل للأول؛ لأن الموق هو الخف نفسه، ألا ترى أن بلالا روى مرة أنه مسح على خفيه، ومرة أنه مسح على موقيه، وقد حكى الماوردي أن الموق هو الخف المقطوع من فوق الكعبين، واستدل بهذا الخبر على جواز المسح عليه. والتعليل بمطلق الحاجة يبطل بالقفازين؛ فإن الحاجة تدعو إليهما، ولا يجوز المسح عليهما. والفرق بين مانحن فيه، وبين ما إذا كان الأسفل مخرقا – أن الرخصة تزول بزوال الأعلى؛ كما تزول بزوال الخف إذا لم يكن تحته شيء، ولا كذلك هنا. ولأنه لا مشقة عليه في هذه الصورة في المسح على الأسفل، وهناك لا يمكنه

المسح على الأسفل. والقولان فيما إذا كان الأعلى والأسفل يجوز المسح على كل [واحد] منهما لو انفرد؛ فلو كان كل منهما لو انفرد لا يجوز المسح عليه، فلا يجوز المسح قولا واحدا؛ وكذا لو كان الأعلى لا يمكن المسح عليه، ويمكن على الأسفل. نعم: لو مسح على الأعلى في هذه الصورة، فوصل البلل إلى الأسفل، فإن قصد المسح على الأسفل أجزأه، وكذا لو قصد المسح عليهما، وقيل: إذا قصدهما لم يعتد به، وإن قصد المسح على الضعيف لم يجزئه، وإن لم يقصد شيئا بل كان على نيته الأولى، وقصد المسح في الجملة فوجهان، أظهرهما: الجواز؛ لأنه قصد إسقاط فرض الرجل بالمسح، وقد وصل الماء إليه فكفاه. ولو كان الأسفل لو انفرد لا يمكن المسح عليه، والأعلى لو انفرد أمكن المسح عليه – جاز المسح عليه قولا واحدا. التفريع: إن قلنا بالأول، ففي كيفية تنزيل الأسفل مع الأعلى ثلاثة معان عن ابن سريج، حكاها البندنيجي وغيره: أظهرها: أن الأعلى [بدل عن] الأسفل، والأسفل بدل عن الرجل. والثاني: أن الأسفل كاللفافة، والخف هو الأعلى. والثالث: أن الأسفل بمنزلة طاقة من طاقات الخف والبطانة له. وعلى هذه المعاني بنى المراوزة فروعا: منها: إذا أراد أن يمسح على الأسفل، وقد لبسهما معا على طهارة كاملة، هل يجزئه؟ إن قلنا بالأول، فنعم، وإن قلنا بالثاني والثالث، فلا؛ فأبو الطيب حكى الوجهين من غير بناء، وقال: إنهما فيما إذا لم يمسح على الأعلى؛ فإن كان مسح على الأعلى [لا يجوز على الأسفل.

ومنها: إذا لبس الأسفل على طهارة، دون الأعلى؛] فعلى الأول والثاني لا يجوز المسح على الأعلى، وإن قلنا بالثالث جاز؛ كما لو لبس الخف على طهارة، وأحدث، وألصق عليه طاقا، والماوردي وأبو الطيب قطعا في هذه الصورة بالمنع. ومنها: إذا لبس الأسفل على الطهارة، ثم أحدث ومسح عليه، ولبس الأعلى – قال الإمام: إن قلنا: إنه لو لبسه قبل المسح يجوز، فهاهنا أولى، وإلا انبنى على أن المسح على الخفين هل يرفع الحدث، أم لا؟ فإن قلنا: يرفعه مسح [على] الأعلى، وإلا فلا. وعندي أنا إن قلنا: لا يرفعه، كان على وجهين؛ كما في طهارة المستحاضة؛ فإن طهارتها – عندي – لا ترفع الحدث أصلا، وهو ما كان شيخي يقطع به. قلت: لكن قد سلف أن المستحاضة إذا جوزنا لها المسح على الخف وجب عليها نزعه عند كل فريضة على المشهور، والظاهر أن ذلك لا يجري هنا، بل يستبيح المسح مدة المقيم والمسافر؛ لأن طهارة المسح وإن قلنا: لا ترفع الحدث – تفيد ذلك. وقد سلك الرافعي في هذا الفرع طريقا آخر؛ فقال: إن منهم من بناه على المعاني؛ فقال: إن قلنا بالأول والأخير، فله المسح عليه؛ وإن قلنا بالوسط، فلا؛ وهذه طريقة القاضي الحسين، وحاصلها وجهان، حكاهما أبو الطيب وغيره من غير بناء، وادعى البندنيجي أن المذهب: المنع. ومنهم من قال: إن قلنا بالوسط انبنى على أن المسح على الخفين هل يرفع الحدث، أم لا؟ فإن قلنا: إنه يرفعه، جاز له المسح، وإلا فلا. ومنهم من لم يبن هذا الفرع على المعاني، وبناه على أن المسح على الخفين يرفع

الحدث، أم لا؟ وليس في هذه طريقة توافق ما [حكيناه عن الإمام، ويكاد أن يقال: إنالطريقة الأخيرة هي التي] حكاها الإمام، وليس كذلك؛ لأنه قال: إن قلنا فيما إذا لبسهما قبل المسح على الأسفل: إنه يجوز، فهنا أولى. وقد تقدم أنا إنما نجوز له المسح إذا لبسه بعد الحدث وقبل المسح، إذا نظرنا إلى العلة الثالثة، ومن هنا يتنبه على المراد. ثم حيث جوزنا المسح على الأعلى؛ فابتداء المدة من حيث الحدث الأول والله أعلم. ومنها: إذا لبس الأسفل محدثا، ثم غسل رجليه فيه، ثم لبس الأعلى على طهارة كاملة – فلا يجوز المسح على السفل بلا خلاف، وهل يجوز على الأعلى؟ إن قلنا بالمعنى الأول والأخير، لا يجوز، وإن قلنا بالوسط، جاز، كما لو لبس لفافة محدثا، ثم غسل رجليه، ولبس الخف – فإنه يجوز. ومنها: لو تخرق الأعلى من الرجلين، أو نزع منهما بعد المسح عليه. فإن قلنا بالمعنى الأخير لا شيء عليه. وإن قلنا بالأول، احتاج إلى المسح على الأسفل، وهل يستأنف الوضوء؟ فيه خلاف يأتي.

وإن قلنا بالمعنى الأوسط احتاج إلى غسل الرجلين، وفي استئناف الوضوء قولان، ويرجع حاصل ما قيل إلى خمسة أوجه: أحدها: لا يلزمه شيء. والثاني: [يلزمه الوضوء، والمسح على الأسفل. والثالث: [يلزمه المسح على الأسفل فقط]. والرابع: يلزمه الوضوء، وغسل الرجلين. والخامس: يلزمه غسل الرجلين فقط. وابن الحداد قال: إنه يلزمه مسح الأسفل، وهل يستأنف الوضوء؟ فيه قولان. قال أبو الطيب: وهذا ليس بصحيح، بل هنا يجب عليه أن يجدد الطهارة فيغسل وجهه ويديه، ويمسح رأسه، وعلى خفيه قولا واحدا؛ لأن هذا تفريع على القديم، وفي القديم لا يجوز تفريق الوضوء، ونقض الطهارة لا يتبعض؛ فيحتاج [إلى تجديد] الطهارة، ويمسح على الخفين قولا واحدا. قلت: لو كان هذا تفريعا على القديم فقط، لزمه ما قاله القاضي، لكنه تفريع [عليه] وعلى ما نص عليه في"الإملاء"، و"الإملاء"- كما قال الرافعي – معدود من الكتب الجديدة، وحينئذ يحسن معه التخريج. وابن الصباغ قال: إن ما قاله ابن الحداد أصح؛ لأنه لا يمتنع أن يرجع عن وجوب استئناف الطهارة بنزع الجرموقين ولا يرجع عن جواز المسح على الجرموقين؛ فيصح أن يخرج [فيه] القولان. وفي هذا الجواب نظر. ولو كان التخريق أو النزع من أحدهما، فإن قلنا بالمعنى الأول، فهل يلزمه نزع الثاني؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، وهو ما حكاه القاضي الحسين؛ وعلى هذا يكون الحكم كما في المسألة قبلها تفريعا على هذا المعنى. والثاني: لا يلزمه نزعه؛ وعلى هذا هل يلزمه استئناف الوضوء، ويمسح على

الأسفل الذي ظهر والأعلى من الرجل الأخرى، أو يقتصر على مسح الأسفل الذي ظهر؟ فيه خلاف. وإن قلنا بالمعنى الأخير، لا يلزمه شيء. وإن قلنا بالمعنى الأوسط، نزع مافي رجليه، وفي لزوم استئناف الوضوء القولان. ومنها: لو تخرق الأسفل من إحدى الرجلين: فإن قلنا بالمعنى الأول – قال في "التهذيب": نزع واحدة من الرجل الأخرى؛ كي لا يكون جامعا بين البدلوالمبدل، وليس كما إذا تخرق الأعلى من إحدى الرجلين؛ حيث جرى في لزوم النزع من الأخرى الخلاف الذي سلف؛ لأن مالاقاه المسح هنا باق، ولا كذلك ثم؛ فإنه الذي نزع؛ فصار كالخف ينزع عن الرجل. وإن قلنا بالمعنى الثاني والثالث، فلا شيء عليه. ولا خلاف في أنه إذا تخرق الأسفل من الرجلين معا لا يضره على المعاني كلها. ومنها: لو تخرق الأعلى والأسفل من موضع واحد من الرجلين، أو من

إحداهما - لزم نزع الكل بلا خلاف. ولو تخرق من الأعلى من موضع، ومن الأسفل من آخر: فإن قلنا بالمعنى الأول فكذلك الحكم. وإن قلنا بالثالث, فلا يلزمه شيء. وإن قلنا بالمعنى الثاني, فقد قال القاضي الحسين: إن الحكم كذلك, وقال الرافعي يجب نزع الكل وهو الحق. ومنها: لو تخرق الأعلى من رجل والأسفل من أخرى: فعلى المعنى الأول ينزع المتخرق, وهل يستأنف الوضوء ويمسح على ما ظهر, أو يقتصر على مسح ما ظهر؟ فيه القولان. [وإن قلنا بالمعنى الثالث, لا يلزمه شيء]. وإن قلنا بالمعنى الثاني, وجب نزع ما في الرجلين. وإن قلنا بالثاني, فهل يجوز أن يدخل يده بين الخفين, ويمسح على الأسفل؟ ظاهر النص أنه لا يجوز؛ فإنه قال: إذا قلنا: لا يجوز, ألقى الفوقاني, ومسح على السفلاني. واختلف الأصحاب فيه: فأخذ بظاهره الشيخ أبو حامد, ولم يحك البندنيجي غيره. قال: وليس كما لو أدخل [يده] تحت العمامة, ومسح رأس؛ لأن مسح الرأس أصل فقوي في بابه, وهذا بدل. والذي ذهب إليه جمهور الأصحاب, وهو الصحيح في "الحاوي" وغيره - جوازه, وحملوا قول الشافعي على الغالب؛ لأن الماسح لا يتمكن من مسح التحتاني - في الغالب- إلا بطرح الأعلى. وإذا تخرق الأسفل, فهل يجوز المسح على الأعلى؟ ينظر: فإن كان عند التخريق على طهارة الغسل, قبل اللبس- جاز؛ وإن كان محدثا في تلك الحالة, فلا, وإن كان على طهارة المسح حيث جوزناه, [ففيه] وجهان؛ كما ذكرنا في التفريع على القديم. واعلم: أن فرض الشيخ القولين فيما إذا لبس الجرموقين احتراز عما إذا لبس جرموقا واحدا؛ فإنا إذا قلنا: يجوز على الجرموقين- كان في جوازه في هذه الصورة خلاف, مبني على المعاني: فعلى الأول لا يجوز المسح عليه؛ لأن إثبات البدل في

إحدى الرجلين ممتنع كما يمتنع المسح في إحدى الرجلين والغسل في الأخرى, وعلى الثالث: يجوز, وعلى الثاني وجهان: أحدهما: لا يجوز كما لو لبس خفا في رجله ولفافة في الأخرى. وأصحهما – ولم يذكر في "التتمة" غيره-: الجواز؛ لأنه إنما ينزل منزل اللفافة؛ إذا كان مستورا فأما إذا كان باديا فهو مستقل بنفسه بدل عن الرجل. قال: والسنة أن يمسح أعلى الخف وأسفله, هذا الفصل غني عن التعليل؛ لأن السنة إذا أطلقت كانت عبارة عما داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أتم في الدلالة هذا هو المشهور. وحكى القاضي أبو الطيب عن أبي بكر الصيرفي: أن التابعي إذا قال: "السنة [كذا" لا يتعين] حمله على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: "من سن سنة حسنة ... " وقال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ... ". وعلى هذا فالحجة لما ذكره الشيخ ما عم وداوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أتم في

الدلالة, ويشهد لأنه عليه السلام كان يفعل ذلك- ما رواه المغيرة بن شعبة قال: "وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك؛ فسح أعلى الخف, وأسفله" رواه ابن ماجه, واحتج به الشافعي في "المختصر". ويحتج له – أيضا- بأن ابن عمر كان يمسح أعلى الخف وأسفله, والمراد بالأعلى والأسفل: ما يواري القدم. وقد قيد في "الوجيز" استحباب مسح الأسفل بما إذا لم يكن عليه نجاسة؛ وهذا منه تفريع على جواز الصلاة في الخف الذي أزيل جرم النجاسة عنه؛ بمسحه

على الأرض، وإلا فقد تقدم أن الخف المتنجس، الذي لا تجوز الصلاة فيه لا يجوز المسح عليه. قال: فيضع يده اليمنى على موضع الأصابع، واليسرى تحت عقبه، ثم يمر اليمنى إلى ساقه، واليسرى إلى مواضع الأصابع. هذه الكيفية ليست منقولة عن فعله عليه السلام، ولكنها منقولة عن ابن عمر؛ فلذلك استحبها الشافعي؛ ولأنها أمكن من غيرها وأسهل. وجعل اليمنى من الأعلى؛ لأنها لما علا، واليسرى من الأسفل؛ لأنها لما دنا، والأسفل مظنة الخبث والأذى، قالت عائشة:" كانت يمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى".

وقد ذكرنا أن هذه الهيئة مستحبة في تحصيل مسح الأعلى والأسفل؛ فلو مسح ذلك على غير هذا النحو حصل السنة، وإن أساء في الطريق. ولا يشترط المسح باليد، بل بأي شيء مسح الخف من خرقة مبلولة، أو خشنة، أوغير ذلك - أجزاءه. نعم، لو غمسه في ماء أوقطرة عليه، أو وضع يده عليه من غير مد، ففي الاكتفاء به وجهان؛ كما في الرأس في الوضوء، ومختار القفال: أنه لا يكفي، وسائر الأصحاب على خلافه. وقد أفهم كلام الشيخ أن مسح العقب ليس بسنة، وهو كذلك؛ لأنه لم ينقل أنه - عليه السلام - فعله. نعم، اختلف أصحابنا في استحبابة على طريقتين، حكاهما في " المهذب" وغيره. إحداهما: القطع باستحبابه وعليه نص في"البويطي". والثانية: حكاية قولين فيه؛ لأنه نص في "البويطي" على ما ذكرناه، وظاهر نصه في "المختصر" يمنعه؛ فحصل فيه قولان؛ وهذه طريقة البندنيجي. والأصح في "الشامل"، وغيره - وإن ثبت الخلاف - استحبابه؛ لأنه خارج ملاق محل الفرض؛ فكان كالأعلى. ومقابله موجه بأنه يضعف الخف ويبليه وما يفعل ذلك في الخف غير مستحب؛ ألا ترى أن استيعابه بالمسح وتكراره لما كان يفعل ذلك، غير مستحب، بل قال في "الوسيط" في التكرار:"إنه مكروه"؛ وهذا لا يسلم من نزاع؛ فإن ابن كج حكى وجها: أنه يستحب تكراره؛ كما في مسح الرأس، والرافعي وغيره من المتأخرين حكوا عن "تعليق القاضي" أنه يستحب الاستيعاب؛ كما في مسح الرأس. قلت: وهذا قد رأيته فيصدر كلامه، وفي "الإبانة" و"التتمة" أيضا، لكنهم فسروا الاستيعاب بالهيئة التي ذكرها الشيخ؛ فلا خلاف فيه حينئذ. والله تعالى أعلم. قال: فإن اقتصر على مسح القليل من أعلاه - أجزاأه؛ لما روى [عن] المغيرة بن شعبة قال: " رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يمسح أعلى الخفين على ظهورهما"أخرجه

أبو داود، والترمذي، وقال: إنه حسن صحيح؛ ولأن التعميم غير واجب بالاتفاق، والتقدير لا يهتدي إليه إلا بتوقيف، ولم يرد؛ فكان الواجب ما ينطلق عليه الاسم. قال: فإن اقتصر على ذلك من أسفله – لم يجزئه على ظاهر المذهب؛ لأن الباب باب رخصة، والرخصة يرجع فيها إلى ما ورد إذا لم يعقل معناه، ولم يرد الاقتصار على مسح الأسفل، بل الوارد الاقتصار على مسح الأعلى، وروى عن على أنه قال: "لو كان الدين بالرأي – لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه" رواه أبو داود. ولأنه موضع لا يرى- غالبا – فلم يجز الاقتصار على مسحه؛ كباطن الخف الداخل. والمذهب الذي أشار إليه الشيخ هو نصه في" المختصر"، [ولفظه]:"فإن مسح على باطن الخف، وترك الظاهر – أعاد". ومقابله: أنه يجوز؛ لأنه موضع من الخف، ساتر لمحل الفرض؛ فأشبه الأعلى؛ أو لأنه محل لأداء السنة؛ فجاز أن يقتصر على مسحه؛ كالأعلى؛ فهذا حكاه الإمام عن رواية بعض الأصحاب قولا في المسألة، يوافقه قول القاضي الحسين والمتولي: إنه نص في موضع آخر على أنه لا يعيد إذا فعل ذلك. وبه يحصل في المسألة قولان،

وقد قال بذلك ابن أبي هريرة. وأبوإسحاق قال: إنه يجزئه قولا واحدا، وما نقله المزني لا نعرفه للشافعي. ومنهم من وافقه في الجزم به، وأول ما نقله المزني على ما إذا مسح باطن الخف الداخل، وهو الذي أشار إليه على، كرم الله وجهه. والصحيح – باتفاق الأصحاب-: الأول، بل قال ابن سريج: إنه لا خلاف فيه بين المسلمين، وما نقله المزني صحيح؛ لأن البويطي نقله، وهو في"الإملاء"أيضا. وقد جعل الرافعي محل الخلاف فيما يحاذي أخمص القدمين والكعبين، وقال: إنه لا كلام في أن ما يحاذي غير الأخمص وغير العقبين يجوز الاقتصار عليه. فرع: لو اقتصر على مسح العقب هل يجزئه؟ قال بعضهم: إن قلنا لا يجزئه الاقتصار على الأسفل – فهاهنا أولى، وإلا فوجهان. والفرق: [أن] النص ورد في مسح أسفل الخف، ولم يرد في العقب. ومنهم من عكس ذلك؛ فقال: إن قلنا: يجزئه الاقتصار على الأسفل – فهاهنا أولى، وإلا فوجهان. والفرق: أن العقب إلى ظهر الخف أقرب. حكى الطريقين القاضي الحسين. والماوردي قال: إن قلنا: يستحب مسحه، أحزاه الاقتصار عليه. وإن قلنا: لا يستحب، ففي إجزائه وجهان. والمختار في "المرشد": الإجزاء. والظاهر عند الأكثرين – كما قال الرافعي – المنع. قال: وإن ظهرت الرجل، أي: من الخف، أو انقضت مدة المسح، وهو على طهارة المسح؛ احترازا مما إذا ظهرت الرجل، أو انقضت المدة، وهو على طهارة الغسل؛

بأن كان بعد لبس الخف، والحدث- توضأ وغسل رجليه داخل الخف؛ فإنه في هذه الصورة لا يجب عليه شيء. نعم، إذا أحدث، وأراد المسح، توضأ وغسل الرجلين؛ ولبس الخف. قال: غسل القدمين- أي: وحدهما في أصح القولين. أما وجوب غسلهما؛ فلأنه الأصل، والمسح بدل؛ فإذا قدر على الأصل، زال حكم البدل؛ كالتيمم بعد وجودالماء. وأما الاقتصار على غسلهما فلأنه لم يترك بسبب الخف إلا غسل الرجلين؛ فلم يلزمه غير غسلهما، كما أن المتيمم للحدث الأصغر إذا وجد الماء لا يلزمه إلا غسل أعضاء الوضوء التي ناب التيمم عنها؛ وهذا ما نص عليه في"الأم"؛ كما قال أبو الطيب، وهو المذكور في" البويطي" و"حرملة"؛ كما قال ابن الصباغ، واختاره المزني، وابن الصباغ، والقاضي الحسين. قال: واستأنف الوضوء في [القول] الآخر؛ لأنها عبادة يبطلها الحدث؛ فإذا بطل بعضها – بطل كلها؛ كالصلاة؛ ولأن ذلك كالحدث بالنسبة إلى بطلان الطهارة في القدمين، والحدث لا يتبعض عوده حكما؛ وهذا ما نص عليه في القديم وكتاب ابن أبي ليلى، وقال ابن الصباغ: إنه نص عليه في"الأم". قال أبو الطيب: وهذا القول هو الذي ننصره وهو الصحيح. وهذان القولان قد اختلف الأصحاب في أن الشافعي [قد] بناهما على غيرهما، أو هما أصلان بأنفسهما على طريقين، والذاهبون إلى البناء اختلفوا على ماذا بنيا؟ فعن ابن سريج، وأبي إسحاق، وابن أبي هريرة، وجمهور البغداديين: أنهما مبنيان على القولين في تفريق الوضوء، فإن قلنا: يجوز، اقتصر على غسل القدمين وإلا استأنف، وضعف هذا البناء بأمور: منها: أنهما جاريان مع قصر الزمان وطوله، والقولان في تفريق الوضوء عند طوله.

ومنها: أن القولين في تفريق الوضوء مخصوصان بما إذا كان التفريق بغير عذر، وهو هنا بعذر. ومنها: أن القولين هنا منصوصان في الكتب التي مذهبه فيها جواز تفريق الوضوء. وعن الشيخ أبي حامد والقفال وأصحابهما أنهما مبنيان على أن المسح على الخفين هل يرفع الحدث، أم لا؟ وفيه قولان مستنبطان من معاني كلام الشافعي: أحدهما: نعم، كما في مسح الرأس؛ ولأنه يجمع به [بين] فرضين، ولو كان لا يرفعه، لم يجز. والثاني: لا؛ لأنه لو رفعه لما تقدر بمدة، ولا متد أثره إلى وجود الحدث. فعلى هذا يقتصر، وعلى الأول يستأنف. قال ابن الصباغ: وهذا ليس بالجيد؛ فإن مسح الخفين، وإن لم يرفع الحدث عن الرجلين؛ فقد حلت به الطهارة؛ فإذا بطلت، فقد انتقض بعضها وجرى مجرى انتقاضه في الرجلين. قلت: وهذا الذي ضعف به هذه الطريقة يضعف به ما اختاره لنفسه، فيما إذا غسل الصحيح، وتيمم عن الجريح، وصلى فريضة، ثم أراد صلاة فريضة أخرى؛ كما ستعرفه. وعن البصريين من أصحابنا أنهما مبنيان على أن بعض الطهارة هل يختص بالانتفاض، أم يتداعى انتقاض البعض إلى انتقاض الكل؟ وفيه قولان؛ فعلى الأول يقتصر، وعلى الثاني يستأنف.

قلت: ولو عكس البناء؛ فقيل: إن انتقاض الطهر هل يتبعض، أم لا؟ ينبني على أنه يقتصر هنا على غسل القدمين أو يستأنف الوضوء لكان أولى، ولو بني القولان في مسألتنا على أن تفريق النية على أعضاء الوضوء هل يجوز، أم لا؟ فإن قلنا: يجوز، اقتصر، وإلا استأنف – لم يبعد. ولا يقال: إن الخلاف في تفريق النية وجهان ولا يمكن بناء قولين على وجهين؛ لأنا نقول: الوجهان لا بد لهما من أصل يخرجان عليه من أصول الشافعي والبناء على ذلك الأصل. نعم، قد يقال: إن أصل الوجهين مانحن فيه، ولا يمكن بناء الشيء على نفسه والله أعلم. وقد سلك في"الذخائر" طريقا آخر؛ فقال: القولان في الموالاة مشهوران، وكذا في أن المسح على الخف هل يرفع الحدث، أم لا؟ ولا وجه – عندي _ لهما إلا التخريج على أن المسح هل يتأقت، أم لا؟ فإن قلنا: لا يتأقت، فهو رائع للحدث، وإلا فلا. وإذا كان الأصلان معلومين فلا بد من مراعاتهما، وذكر كيفية المراعاة، وفي بعضها نزاع يظهر لمن أتقن ما قدمناه من الطرق. والله أعلم.

باب ما ينقض الوضوء

باب ما ينقض الوضوء قد سلف في باب: ما يوجب الغسل ذكر ما لأجله حسنت هذه الترجمة هنا. قال وهو أربعة: أحدها: الخارج من السبيلين؛ أي: على البدل. إطلاق القول بأن الخارج من السبيلين ناقض للوضوء يدل على أنه لا فرق فيه بين أن يكون ريحا أو عينا، معتادا أو نادرا، نجسا أو طاهرا؛ وكذا صرح به الغزالي. ووجهه في الريح فقط قوله - عليه السلام -:" لا وضوء إلا من صوت، أو ريح" أخرجه الترمذي، وقد سئل أبو هريرة عن قوله - عليه السلام-:" لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث؛ فقيل له: ماالحدث؟ فقال: فساء، أو ضراط" ذكره البخاري. ووجهه في العين قوله - تعالى -: {أو جاء أحد منكم من الغائط} وأصل الغائط: المكان المطمئن من الأرض، وأطلق على الخارج من الإنسان؛ لملازمته له في العادة. وهذان الدليلان يشملان المعتاد والنادر، والنجس والطاهر؛ إذ انتقاض الوضوء لذلك غير معقول؛ فلا مدخل للأقيسة فيه؛ فحلت الظواهر فيها محل النصوص. قال الماوردي: ولأن الغائط كما يقصد لإخراج المعتاد يقصد للنادر؛ فالآية تشملهما.

وقد ورد في النادر دليل يخصه: روى أن عليا قال:" كنت رجلا مذاء فاستحييت أن أذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته؛ فأمرت مقداد بن الأسود فسأله؟ فقال: يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ"رواه أبو داود، وفي لفظ:" يغسل ذكره ويتوضأ" متفق عليه، ولفظ الترمذي:"عن علي قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي؛ فقال: "من المذي الوضوء، ومن المني الغسل"، وإذا أردت أن تستدل للمجموع بدليل واحد-فقل: لقوله – عليه السلام-:"الوضوء مما خرج". واعلم: أن من النادر الذي ينتقض الوضوء به عندنا بلا خلاف: خروج الريح من

ذكر الرجل، وفرج المرأة لأدرة، أو استرخاء الأير ونحوه، وكدوام الاستحاضة، وكذا خروج الدود والحصى ونحوهما مجردا عن رطوبة؛ كما قاله ابن الصباغ والماوردي وغيرهما، ومع ذلك يتعين أن يكون المراد بالطاهر – في لفظ الغزالي-: المني، وقد قال الرافعي: إنه ليس مرادا به، بل المراد الدود والحصى وسائر ما هو طاهر العين. وأما المني: فلا يوجب خروجه الحدث وإنما يوجب الجنابة؛ ألا ترى إلى تصويرهم الجنابة المجردة عن الحدث بمن أنزل بمجرد النظر، أو بالاحتلام قاعدا؟ نعم حكى صاحب"البيان" عن أبي الطيب أن خروج المني يوجب الحدث الأصغر؛ لأنه خارج من السبيلين، والأكبر لأنه مني. قال: والمذهب المشهور هو: الأول؛ فإن الشيء مهما أوجب أعظم [الأمرين بخصوصه لا يوجب أدونهما بعمومه؛ كزنى المحصن؛ لما أوجب أعظم] الحدين؛ لأنه زنى المحصن، لا يوجب أدناهما لأنه زنى. قلت: والظاهر نقض الوضوء به وأنه مراد الغزالي: أما الأول: فلأن الماوردي ادعى الاتفاق على وجوب الوضوء بخروج دم الحيض، وهو موجب لنقض الطهارة الكبرى بخصوصه كالمني؛ فوجب استواؤهما، ولا

ينفع في ذلك أن يقال: الموجب للغسل من الحيض: انقطاعه لا خروجه، والموجب للوضوء خروج الخارج، لا انقطاعه؛ فما أوجب الأكبر غير ماأوجب الأصغر؛ فأشبه ما إذا جامع، ولم ينزل؛ فإنه يجب عليه الوضوء بالتقاء البشرتين، والغسل بتغييب الحشفة؛ لأنا نقول: الصحيح – كما ستعرفه – أن الموجب لغسل الحيض طروءه أيضا، وإن كانت صحته تتوقف على انقطاعه؛ كما أن الوضوء يجب بخروج البول، ويتوقف صحته على انقطاعه، ثم إنه لو كان هذا مفرعا على ذلك لزم القائل الآخر ألا يحكم بايجاب الوضوء وهو متفق عليه. وأما الثاني: فلأن [ما] ذكره يلزم منه التكرار؛ بخلاف ما قلناه، وتصوير الأصحاب الجنابة المجردة عن الحدث بذلك لا يرد [على] ما قلناه؛ لأنا نقول: مرادهم تصوير جنابة لا يجب معها فعل الوضوء، بل الغسل كاف بلا خلاف، ونحن كذلك نقول في هذه الصورة، لا لأنه لم يوجد نقض الطهارة الصغرى؛ بل لأنه قد وجد في حال واحد ما يقتضي ايجاب فعلين في محل واحد في آن واحد، وذلك لا يمكن؛ فلا يخاطب به، ولا سبيل لإسقاطهما؛ فتعين الإتيان بأعمهما، وإدراج

الآخر فيه؛ وبهذا فارق ما إذا تقدم الحدث الأصغر على الأكبر، أو تأخر؛ حيث أوجبنا الوضوء والغسل على رأى؛ لأن حال وجود سبب أحدهما أو شرطه، لم يوجد سبب وجوب الآخر أو شرطه. ومسألة الزنى لا ترد؛ لأن الشرع شرط في إيجاب أدنى حديه فقد الإحصان؛ فلم يجب عند وجوده؛ لفقد الشرط، ولا كذلك في مسألتنا. ثم لو صح ما ذكره، لزم الاعتراض عليه في أحد الأمرين؛ لأنه قال: إن الخلاف المذكور في إجزاء الغسل فيما إذا اجتمع عيه وضوء وغسل جار فيما إذا تقدم الحدث الأصغر أو قارن الأكبر، ولا يتصور وجود المقارنة إلا إذا جعلنا المني موجبا لهما؛ فإن كان لا يوجب الوضوء تعذر تصوير اجتماع موجب الوضوء والغسل في حال واحد، وإن كان يوجبه، صح ما قلناه. والله أعلم. فرع: لو أخرجت دودة رأسها من المخرج، ثم ردت، ففي انتقاض الوضوء وجهان في"الحاوي"، سلف مثلهما فيما لو أخرج الجنين رأسه، ولم ينفصل – هل يجري عليه حكم المنفصل، أم لا؟ لكن الصحيح – كما قال الإمام في مسألة الجنين - المنع، والصحيح – كما قال في"الروضة" في مسألتنا – الانتقاض. واعلم: أنه لا فرق في نقض الخارج الوضوء [بين أن يكون شيئا لم يدخل في السبيل، أو شيئا أدخل فيه]. كما إذا أدخل مسبارا في ذكره، أو قطنة ونحو ذلك، ثم أخرجه؛ صرح به الأئمة. قال: فإن انسد المخرج المعتاد، وانفتح مخرج دون المعدة – أي: تحتها- انتقض الوضوء بالخارج منه؛ لأن الإنسان لا بد له من مخرج؛ فتعين ذاك مخرجا له. معدة: الموضع الذي استقر فيه الطعام، أشار إليه في "المجمل"وهي بفتح الميم، وكسر العين، ويجوز إسكان العين، مع فتح الميم وكسرها، ومحلها مابين

فوق السرة إلى الموضع المنخفض تحت الصدر الذي يخرج منه النفس. وكلام النواوي وغيره يدل على أنها السرة؛ لأنه قال: المراد بتحت المعدة تحت السرة وبفوقها: السرة. قال: وإن انفتح فوق المعدة – أي: والمخرج المعتاد منسد – ففيه قولان: وجه الانتقاض: ما ذكرناه. ووجه مقابله: أن ما أحالته الطبيعة تلقيه إلى الأسفل، لا إلى الأعلى؛ فهو إذن شبيه بالقيء، وهو لا ينقض الوضوء عندنا بلا خلاف؛ وهذا ما اختاره المزني، وصححه القاضييان: أبو حامد، وأبو الطيب، وغيرهم. قال الإمام: والحكم فيما إذا انفتح دون المعدة كالحكم في المنفتح فوقها. قال: وإن لم ينسد المعتاد لم ينتقض الوضوء بالخارج من فوق المعدة؛ لقوة شبهه بالقيء، وفيما تحتها قولان: وجه الانتقاض: القياس على ما إذا كان المخرج المعتاد منسدا. ووجه عدمه: فقدان العلة، وشبهه بالجائفة، وهذا ما صدر به أبو الطيب كلامه، ثم حكى عن المحاملي حكاية وجهين فيه، ولا جرم قال ابن الصباغ: المشهور أنه لا ينتقض. ومن أصحابنا من حكى فيه وجهين، والأصح في "الرافعي" وغيره: عدم الانتقاض. وما ذكر الشيخ في حالتي انسداد المخرج [المعتاد]، وانفتاحه هو ما ذكره الغزالي؛ تبعا لإمامه، والمتولي تبعا للفوراني، واقتصر على إيراده الرافعي، ووراءه أمور: أحدها – حكاه الماوردي، عن ابن أبي هريرة، فيما إذا كان المخرج المعتاد منسدا-:أنه لا ينتقض الوضوء بالخارج من فوق المعدة، وفيما تحتها قولان. ونسبه الأصحاب إلى الغفلة فيه. والثاني – قاله القاضي الحسين فيما إذا انفتح فوق المعدة، والمخرج المعتاد

منسد-: أنا إن قلنا: إذا انفتح فوق المعدة، والمخرج المعتاد منفتح – لا ينتقض؛ فهاهنا أولى، وإن قلنا: ينتقض ثم؛ فهاهنا وجهان. والثالث – حكاه الشيخ أبو حامد عن الأكثرين، فيما إذا كان المخرج المعتاد منفتحا، وانفتح مخرج فوق المعدة:_ أنا إن قلنا: إنه لا ينتقض بالخارج منه مع انسداد المعتاد؛ فمع انفتاحه أولى، وإلا فوجهان؛ كما في الأسفل. قال العمراني: وهذا هو القياس. ولعل الشيخ اقتصر على ما ذكره تفريعا على الأصح. وجميع ما ذكرناه من التفصيل والخلاف إذا كان انسداد المخرج المعتاد وانفتاح غيره لعلة طرأت، أما إذا كان ذلك من أصل الخلقة: ففي" الحاوي": أنه لا خلاف في الانتقاض بالخارج من المنفتح، سواء كان دون المعدة، أو فوقها. والله أعلم. وظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق فيما حكم بالانتقاض بخروجه من غير المخرج المعتاد بين أن يكون معتادا أو نادرا، وهو الأصح القولين، وبه جزم في "التتمة"؛ لأنه لما ساوى المخرج في المعتاد، وجب أن يسأله في النادر. ومقابله: أنه لا ينتقض بالنادر؛ لأن الضرورة في جعله كالمخرج إنما هي في المعتاد، دون النادر، وهذا ما اختاره البغوي، صاحب"الكافي" والشيخ أبو محمد، ووجهه: بأنا إنما حكمنا بانتقاض الوضوء بالخارج النادر من المخرج المعتاد؛ لأنه لا يخلو خروجه عن خروج شيء من المعتاد، ولو خفي وقل؛ وهذا يخالف نص الشافعي؛ فإن أبا الطيب وابن الصباغ حكيا أنه قال: سواء كان الخارج مسبارا أو حقنة، خرج على وجهه أو خالطه شيء. والمسبار: الميل. فرع: حيث قلنا: لا ينتقض الوضوء بالخارج من المنفتح، تعين في إزالته الماء، وحيث قلنا: إنه [ينتقض به]؛ كالخارج من الأصلي، فهل يجري به مجرى الأصلي في إيجاب الغسل بالإيلاج فيه، وانتقاض الوضوء بمسه، وتحريم النظر [إليه]-

إذا لم يكن في محل العورة – وعدم نقض الوضوء بالنوم قاعدا عليه متمكنا – كما [قال] في"الحاوي" – وجواز الاستنجاء فيه بالأحجار؟ فيه وجهان، أصحهما لا. وعن ابن كج حكاية الخلاف في الاستجمار قولين؛ فإذا قلنا: يكفي فيه الحجر؛ فذاك إذا كان الخارج معتادا؛ فلو كان نادرا تأتى فيه القولان، وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة أقوال كما حكاها الإمام، ثالثها: يجزىء الحجر؛ إذا كان الخارج معتادا لا نادرا. وأعجب منه القاضي الحسين؛ حيث حكى الخلاف في جواز الاستنجاء فيه بالحجر من الخارج المعتاد وجهين، وقال: إنهما ينبنيان على ما إذا خرج الدم والقيح ونحوهما من المخرج المعتاد هل يجزىء فيه الحجر؟ فإن قلنا: يجزئه، فذاك نظر إلى المخرج؛ فعلى هذا لا يجزىء هنا، وإن قلنا: لا يجزئه ثم، فذاك نظر إلى الخارج؛ فعلى هذا يجزىء هنا. وقياس هذا البناء أن الخارج لو كان نادرا لا يجزىء فيه الحجر وجها واحدا؛ وكذا صنع في"الكافي". لكن القاضي قال: إنه ينبني على ما إذا خرج النادر من السبيلين؛ فإن قلنا: لا يجزىءفيه الحجر وجها واحدا؛ وكذا صنع في "الكافي". لكن القاضي قال: إنه ينبني على ما إذا خرج النادر من السبيلين؛ فإن قلنا: لا يجزىء فيه الحجر، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان. ومن مجموع كلامه يأتي في المسألة ثلاثة أوجه، كما حكيناها أقوالا عن رواية الإمام؛ وكذا ذكرها الغزالي. قال الإمام: والتردد في هذه الأحكام مع بعده لا يتعداها؛ فلا يثبت في الإيلاج فيه شيء من أحكام الوطء، سوى ما ذكرناه من وجوب الغسل، أي: ولا يجب به المهر و [لا] الحد، ولا يلحق به النسب، ولا يحصل به الإحصان. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية الوجهين في إيجاب الحد بالإيلاج فيه. قال الرافعي: وقد رأيت لأبي عبدالله الحناطي طرد التردد في إيجاب المهر وسائر أحكام الوطء. واعلم: أن الخارج من إحدى آلتي الخنثى المشكل كالخارج من المنفتح تحت

المعدة من غيره؛ صرح به المتولي، والإمام قال في "الروضة":وقيل: ينتقض قطعا، وقيل عكسه. والخنثى غير المشكل حكم الخارج من المخرج الزائد [منه]، كما تحت المعدة بلا خلاف. قال: والثاني: زوال العقل إلا النوم قاعدا مفضيا بمحل الحدث إلى الأرض؛ لقوله - عليه السلام-:" من نام قاعدا فلا وضوء عليه، ومن اضطجع فعليه الوضوء"،

وهذا الخبر دلالته على [عدم النقض بالنوم قاعدا بالمطابقة، وأما دلالته على] النقض بزوال العقل هل هي من طريق المطابقة، أو من طريق الأولى؟ ذلك ينبني على اختلاف العلماء في حد العقل، والصحيح في حده عند علمائنا – على ما حكاه مجلى عنهم في كتاب الطلاق-: أنه صفة يتهيأ للإنسان بها درك النظريات العقلية، وتلك الصفة من قبيل العلوم الضرورية؛ [وعلى هذا فدلالته على ما عدا النوم قاعدا بطريق المطابقة أيضا، ومنه يظهر لك أن استثناء النوم قاعدا من زوال العقل استثناء متصل، لا من غير الجنس]. ومن قال بخلاف هذا الحد، يقول: الدلالة عليه من طريق الأولى؛ لأن ما عدا النوم، من: السكر، والإغماء، والجنون في الغلبة على العقل أقوى منه. [وقد بنى] الفوراني انتقاضه بالسكر المحرم على أن السكران يسلك به مسلك الصاحي، أم لا؟ فإن قلنا: لا، انتقض، وإلا لم ينتقض. والجمهور على الانتقاض به مطلقا. وقد حكى وراء ما ذكره الشيخ في النوم عن الشافعي أقوال بعيدة: أحدها: أنه لا ينتقض الوضوء، إذا وجد في الصلاة في الركوع والسجود والقيام؛

لقوله – عليه السلام-:"إذا نام العبد في سجوده، باهى الله به الملائكة، فيقول: [يا] ملائكتي انظروا إلى عبدي، روحه عندي وجسده بين يدي" فسماه ساجدا بعدما نام، وقد اختاره في "المرشد". والثاني – حكاه ابن الصباغ عن القديم:- أن النوم في الصلاة لا ينقض الوضوء، واستدل له بقوله تعالى: {يبيتون لربهم سجدا وقياما} فأخرجه مخرج المدح، وما تعلق به المدح انتفي عنه إبطال العبادة.

والثالث – حكاه [عنه] البويطي، مثل مذهب أبي حنيفة – أنه لا ينتقض بنومه على أي هيئة كان من [هيئات المصلين]، سواء كان في الصلاة أو غيرها؛ لقوله - عليه السلام-:"لا وضوء على من نام قائما، أو راكعا، أو ساجدا"، لكن أئمة الحديث ضعفوه. والرابع – حكاه الرافعي:- أن النوم قائما لا ينقض الوضوء، وهذا أخذ من قول الشافعي:"إذا نام قائما فزالت قدماه تبطل طهارته"؛ فإنه يفهم أنه إذا نام قائما، لم تزل قدماه لم تبطل. قال الفوراني: وهو غلط، والشافعي قصد أن سن أنه إذا تمكن منه النوم حتى زالت قدماه- تبطل، وإن لم يتمكن، ولكن نعس – لا تبطل. وأغرب المزني فقال: النوم مطلقا ينقض الوضوء على أي هيئة كان؛ كما ينتقض بالإغماء والسكر والجنون على أي هيئة كان؛ كذا حكاه [عنه] العراقيون، والماوردي، و [أنه] استدل له بعموم قوله – عليه السلام-"من نام فليتوضأ"، وكذا قوله في خبر صفوان:"أو نوم". قال الفوراني: والإمام قد خرج ذلك قولا للشافعي؛ وهو: إذا تفرد برأي، فهو صاحب مذهب، وإذا خرج للشافعي قولا، فتخريجه أولى من تخريج غيره، وهو يلحق بالمذهب لا محالة. وقد نسب بعضهم هذا قولا إلى رواية البويطي؛ لأنه قال فيه: "من نام جالسا, أو قائما؛ فرأى رؤيا- وجب عليه الوضوء". والقاضي الحسين نسبه إلى رواية الترمذي. وأيما كان, فقد حصل في انتقاض الوضوء بالنوم قاعدا قولان, وقد حكاهما أبو إسحاق المروزي ومدارهما أن النوم في نفسه حدث, أو هو مظنة الحدث, فالمزني

يقول: إنه حدث, ونحن نقول: هو مظنة الحدث الذي هو الريح, ويدل عليه قوله- عليه السلام- فيما رواه معاوية: "العينان وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء؛ فمن نام فليتوضأ"؛ فإنه إشارة لما ذكرناه. وإذا كان كذلك- فالنوم قاعدا- كما ذكرنا- ليس بمظنة له؛ فلذلك لم يحكم به, وقد روى مسلم أن "أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينتظرون العشاء [قعودا] فكانوا ينامون, ثم يصلون, ولا يتوضئون" والظاهر بلوغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا لا فرق بين أن يكون القاعد هزيلا, أو سمينا مستندا- بحيث إذا زال السناد سقط- أو لا؛ كما قاله في "التتمة", وهو مفهوم كلام الشيخ. وفي الهزيل وجه: أنه ينتقض وضوءه؛ لان اللحم ينضغط بأليتيه المحل. وحكى الإمام أن المعلقين عن شيخه نقلوا أنه كان يقول: إذا استند إلى شيء؛ بحيث لو زال السناد لسقط- بطل وضوءه, وهو غلط من المعلقين. نعم, لو نام قاعدا؛ فوقع؛ فإن لم ينتبه حتى زالت مقعدته عن الأرض, بطل وضوءه؛

وإن انتبه قبل ذلك, أو معه فلا ينتقض ولو لم يدر كيف كان الأمر فالأصل بقاء الطهارة. وقد أفهم كلام الشيخ أنه لا فرق في عدم النقض عند النوم قاعدا- كما ذكر- بين أن يكون متربعا, أو محتبيا بيديه, وفي هذه الحالة وجهان للتردد في أن محل الحدث هل ينضغط بها؟ وأصحهما في "الروضة" ما أفهمه كلام الشيخ. قال الماوردي: ولعل القول المخرج [في] أن النوم ناقض في حالة الجلوس محمول على هذا, وعن أبي الفياض البصري: أنه إن كان نحيف البدن معروق الأليتين - انتقض وضوءه؛ لأن السبيل لا يكون محفوظا. وإن كان لحيم البدن, تنطبق أليتاه على الأرض في هذه الحالة لم ينتقض وضوءه؛ لأن السبيل يكون محفوظا. والاحتباء: أن يجلس على أليته, رافعا لركبتيه محتبيا عليهما عليهما بيديه. والنوم الناقض: ما زال معه الاستشعار, مع استرخاء المفاصل, ولا ينقض مبادئه, وهو المسمى بـ "السنة", و "النعاس" و "الغفوة" وحده- كما قال المتولي- أن يغشى النوم الأجفان والقلب يقظان يدرك بسبب ذلك الكلام. قال: والثالث: أن يقع شيء من بشرته على بشرة امرأة أجنبية؛ لقوله تعالى: (أو لامستم النساء) , فعطف اللمس على المجيء من الغائط, ورتب عليهما الأمر بالتيمم عند فقدان الماء؛ فدل- والحالة هذه- على كونه حدثا كالمجيء من الغائط. والبشرة: ظاهر الجلد. واحترز الشيخ بها عن أمرين: أحدهما: ما إذا وقع شيء من شعره, أو سنه, أو ظفره على بشرة امرأة أجنبية- فإنه لا ينتثض وضوءه عند العراقيين, والفوراني, وبه قطع الشيخ أبو محمد, وهو المحكي في الشعر عن نصه في "الأم" والسن والظفر في معناه. ولا جرم, قال الماوردي: المذهب أنه لا ينقض, وحكى وجها عن بعض

الأصحاب: أنه ينقض، وهو مشهور في طريق المراوزة؛ لأن حكم الشعر حكم البشرة في ثبوت الحل بالنكاح؛ والتحريم بالطلاق، ووجوب الغسل؛ بسبب الجنابة والموت؛ فكذا هنا، والسن والظفر بذلك أولى. قال الإمام: وتشبت الصيدلاني بأن الخلاف في ذلك مأخذه أن الحياة هل تحل ذلك، أم لا؟ وهذا رديء؛ فإنه وإن لم يثبت لها حكم الحياة؛ فإنه يلحقها الحل والحرمة. قلت: وقضية البناء ترجيح الانتقاض؛ إذ الصحيح أنها تحله، والصحيح عدم النقض. والخلاف جار فيما إذا وقع شيء من بشرته على شيء من ذلك منها، ولو وقع شيء من شعره أو ظفره أو سنه على شيء من ذلك منها. قال القاضي الحسين: فإن قلنا فيما تقدم: إنه لا ينتقض فهنا أولى، وإلا فوجهان. والثاني: إذا حصل بين البشرتين حائل؛ فإنه لا ينتقض بلا خلاف، وإن كان الحائل دقيقا، يحصل معه الالتذاذ بالمصادمة؛ لأنه لا يسمى من فعل ذلك: لامسا. وقد روى عن ابن عمر وغيره أنهم قالوا:"المراد باللمس في الآية: الجس باليد، ويشهد له قوله تعالى: {فلمسوه بأيديهم} [الأنعام:7]، وقد استدل لذلك بقول الشاعر: [من الطويل] وألمست كفى كفه أطلب الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي والماوردي نسب هذا البيت إلى الشافعي، وقوله حجة في اللغة، وهذا القيد يقتضي أنه إذا وقع الزائد من يديه، أو الأشل منه على بشرة امرأة أجنبية – لا ينتقض

الوضوء وهذا هو الصحيح، وفيه وجه، واحترز بلفظ"المرأة" عما إذا وقع على عضو مبان من المرأة؛ فإنه لا ينقض الوضوء؛ لعدم شمول لفظ الآية له؛ لأن العضو المبان لا ينظمه لفظ "النساء", والمعنى الذي لأجله نقض لمس النساء- وهو: كونه مظنة الشهوة- مفقود فيه؛ وهذا ما جزم به ابن الصباغ وأبو الطيب. وفي طريق المراوزة حكاية وجهين فيه, والأصح: المنع. واحترز- أيضا- عما إذا وقع شيء من بشرته على بشرة أمرد مستحسن عند جمهور الأصحاب؛ لأنه ليس مظنة الشهوة, ولا يندرج تحت اسم "النساء", وعن أبي سعيد الإصطخري نقض الوضوء به؛ كالمرأة؛ لأن شهوات كثير من الناس تميل إليه. وهذا القيد يقتضي أمرين: أحدهما: أنه لا فرق في المرأة الأجنبية بين أن يشتهي مثلها, أو لا؛ لكبر أو صغر, وقد قال البندنيجي وأبو الطيب: إنه لا نص للشافعي في ذلك. وقال أصحابنا: نقض الوضوء بمسها على قولين؛ كالمحارم, وأصحهما في الصغيرة عدم اللمس, وفي الكبيرة النقض. ومنهم من قطع به في الكبيرة من حيث إن "لكل ساقطة لاقطة", وحكى الطريقين الفوراني, والأولى الماوردي وغيره, وأجراها في الشيخ الكبير العادم الشهوة إذا لمس, وقد زاد بعض الأصحاب في اعتبار المعنى, فاشترط في النقض بلمس من تشتهى وجود الشهوة, والحناطي رواه عن ابن سريج, عن الشافعي, وذاك يخرج ما وقع من غير قصد, أو عن قصد بغير شهوة. والثاني: أنه لا فرق فيها بين الحية والميتة, وهو ما حكاه البندنيجي, وصدر بع ابن الصباغ كلامه, وحكى عن [بعض] الأصحاب تخريجه على الوجهين في الصغار والكبار, واستحسنه, والمخرج هو القاضي أبو حامد, وقد حكى الفوراني الطريقين, وبنى القاضي الحسين الثانية على أنه هل يجب الحد بوطئها؟ وهل يجب تجديد

غسلها؟ فيه وجهان, وقضية البناء ترجيح عدم النقض, [وبه صرح الغزالي, والرافعي] , لكن الأظهر في "الحاوي": النقض. قال: وإن وقع على بشرة ذات رحم محرم- ففيه قولان, أي: في "حرملة": وجه الانتقاض: عموم الآية؛ ولأن ما نقض الوضوء من الأجانب نقضه من المحارم؛ كلمس الفرج, والتقاء الختانين, وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن الجديد. وقا أبو إسحاق المروزي: إنه أشبه بالآية. ووجه المنع: النظر إلى معنى الآية؛ فإنها تشعر بلمس اللواتي يقصدن باللمس للاستمتاع؛ ولذلك اختلف المفسرون في المراد باللمس [فيها: فذهب بعضهم إلى أنه الجماع, وبعضهم إلى أنه اللمس باليد؛] كما ذكرنا. ولأنه – عليه السلام-: "كان يحمل بنت ابنته [زينب] أمامة بنت أبي العاص في صلاته" كما أخرجه البخاري, ومسلم, والبنات الصغار لا يستر جميع بدنهن- في الغالب- فيغلب على الظن أنه لمسها؛ وهذا القول قال الماوردي, وغيره: إنه نص عليه في القديم والجديد [, وصححه] , وكذا الإمام, والخلاف مشهور في الكبار.

وفي الصغار منهن إذا قلنا: ينتقض بمس الكبار- الخلاف السابق, وأولى هنا بعدم النقض؛ لامتزاج المحرمية والصغر. واحترز الشيخ بقوله: "محرم" عما إذا وقع على ذات رحم ليست بمحرم: كبنت العم, والعمة, والخال, والخالة فإنه ينتقض الوضوء قولا واحدا. وبقوله: "ذات رحم" عما إذا وقع على ذات محرم, وليست برحم, كالمحرمة عليه بالرضاع, أو المصاهرة؛ فإن في نقض الطهارة طريقين, حكاهما العمراني في "الزوائد": أحدهما: طرد القولين. الثاني: القطع بالانتقاض ولم يذكر الرفاعي غيره. قلت: ولو فصل بين ما غذا كانت حلالا له في وقت, ثم حرمت عليه [بعد ذلك]؛ فينتقض الوضوء بمسها, وبين من لم تحل له أصلا؛ فيكون في لمسها القولان- لم يبعد ويشهد لذلك ما ستعرفه في باب: الظاهر. تنبيه: الرحم: علاقة القرابة, مأخوذ من الرحم؛ بضم الراء, وهو العطف.

والمحرم: مفعل, من "الحرمة" بمعنى: الحرام؛ مقتضب من قوله – تعالى-: (حرمت عليكم أمهاتكم) والمراد: من لا يحل له نكاحها؛ بسبب القرابة, وغيرها. قال: وفي الملموس قولان: وجه عدم النقض: ما روي عن عائشة أنها قالت: "فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة؛ فجعلت أطلبه؛ فوقعت يدي على قدميه, وهما منصوبتان, وهو ساجد يقول: "أعوذ برضاك من سخطك, وبعفوك من عقوبتك" رواه مسلم؛ وفي رواية: "فوقعت يدي

على أخمص قدميه", والأخمص: ما ارتفع من باطن الرجل, فلو كان وضوء الملموس ينتقض لم يمض صلى الله عليه وسلم في سجوده.

ولأنها مماسة تنقض وضوء اللامس، ولا تنقض وضوء الملموس؛ كمس الذكر، وهذا [أحد ما] نص عليه في القديم، واختاره في "المرشد". ومقابله: أنه ينتقض؛ لأنها مباشرة تنقض وضوء اللامس؛ فتنقض وضوء الملموس؛ كالجماع، وهذا قد نص عليه في القديم أيضا، والجديد وعامة كتبه؛ كما قال البندنيجي. قال الماوردي: ويشبه أن يكون مأخذ القولين من اختلاف القراءة: فمن قرأ {أو لمستم} أوجبه على اللامس فقط، ومن قرأ: {لامستم} أوجبه عليهما؛ لاشتقاقه من المفاعلة، وعلى هذا جرى القاضي الحسين. وقد طرد بعضهم – كما قال في"الإبانة" – القول بالنقض في الممسوس ذكره؛ فقال: إنه ينتقض، ولا وجه له. واعلم: أن جميع ما ذكرناه في الرجل – إذا كان لامسا – يجري في المرأة؛ إذا كانت لامسة، حرفا بحرف. وادعى الغزالي، ومن تبعه أنه لا خلاف في ذلك، حتى لو وجدت الملامسة من كل منهما، انتقضت طهارتهما جميعا بلا خلاف، وإن وجدت من المرأة فقط جرى القولان في نقض وضوء الجل الملموس، وعلى هذا فإفراد الشيخ الرجل بالذكر؛ لأنه على وفق الآية، والحكم في المرأة ثبت بالقياس عليه؛ لأنهما يشتركان في جميع النواقض؛ فكذا في هذا. وقد حكى القاضي الحسين طريقة أخرى [:أن] في نقض وضوئها – إذا كانت لامسة قولين؛ لأنها ملموسة في الحالين؛ ولهذا يقال لها: موطوءة، وإن استعلت على الرجل، وقد حكاها الرافعي أيضا، وعليها يمكن أن يجري كلام الشيخ، لكنه خلاف المشهور، ولا يعرفه العراقيون. وقضية ذلك: أن المرأة، إذا لمست الرجل ينتقض وضوءه قولا واحدا، وهو في نهاية البعد والله أعلم.

قال: والرابع: مس فرج الآدمي؛ أي: من قبل أو دبر، من رجل أو امرأة؛ لما روى عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال:"ويل للذين يمسون ذكورهم ويصلون، ولا يتوضؤن" قالت عائشة: فهذا للرجال؛ فما بال النساء؟ قال:"إذا مست إحداكن فرجها توضأت". وألحق الشافعي الدبر بالقبل؛ لأنه في معناه؛ كما أن الأمة في معنى العبد في قوله – عليه السلام -:"من أعتق شركا له في عبد قوم عليه" وفي هذا إشارة إلى أن هذا ليس من باب القياس؛ لأنه لا يتوقف على إيراد علة جامعة، بل من باب: لا فارق. ولوسميناه: قياسا، فإنما يمتنع في الأحداث قياس العلة، وما يلتحق به؛ لتوقفه على علة جامعة تفصيلا، وهي مفقودة فيها. وقد ورد عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ويل للذين يمسون فروجهم، ثم يصلون ولا يتوضؤن" قالت عائشة: بأبي أنت وأمي، أهذا للرجال خاصة؟ فقال:"لا؛ إذا مست المرأة فزجها فلتتوضأ". والفرج يشمل القبل والدبر. وقد روي في مس الذكر- خاصة – أحاديث رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال أبو الطيب-من الصحابة تسع عشرة نفسا، أصح حديث فيها كما قال البخاري: ما رواه بسرة بنت صفوان أنه – عليه السلام- قال:"إذا أفضى أحدكم بيده إلى

فرجه، ليس بينه، وبينها سترة فليتوضأ" قال الترمذي: وهو حسن صحيح.

والأحاديث دالة – على النقض بمس الشخص [فرج نفسه]، وطرد الشافعي ذلك في فرج غيره؛ من حيث إنه لا يمتنع على الإنسان أن يمس ذلك من نفسه، ثم اقتضى مسه من نفسه نقض وضوئه؛ فكان ذلك دالا– لا شك فيه– عل انتقاض الوضوء بفرج غيره لأن ذلك أفحش على أن الدارقطني روى عن بسرة أنه- عليه السلام – قال:"من مس الذكر الوضوء"، وهو يقتضي النقض من مس الذكر مطلقا. قال: بباطن الكف؛ لما روى الشافعي بسنده عن جابر أنه- عليه السلام- قال: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ"، وعن أبي هريرة:"إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فقد زجب عليه الوضوء" خرجه في "مسنده". والإفضاء- في اللغة – إذا أضيف إلى اليد كان عبارة عن اللمس بباطن الكف؛

تقول العرب: أفيضت بيدي إلى الأمير مبايعا، وأفيضت بيدي إلى الأرض ساجدا: إذا مسها بباطن راحته، قاله في"المجمل" و"الصحاح". ومن المعلوم أن المراد بهذا الخبر وما سلف واحد؛ فتعين حمله عليه، وإذا ثبت ذلك في الذكر؛ فغيره في معناه؛ فيلحق به في ذلك. وقد حكى ابن القاص عن القديم: أن مس البر لا ينقض الوضوء؛ حملا للفرج على المبال؛ فإنه المتبادر إلى الفهم عند إطلاقه، وهو الذي يمس بالشهوة؟ فاختص النقض به. [والجديد الصحيح]:الأول، ومنهم من قطع به، وقال: إنه لا يوجد في القديم خلافه. قال الإمام: ومن تشبث بخلاف في قبل امرأة – فقد أبعد، والمعنى بقبلها الذي ينقض الوضوء مسه: ملتقى الشفرين على المنفذ نفسه، والمعنى بحلقة الدبر: ملتقى المنفذ. وقد أفهم كلام الشيخ أمورا: أحدها: أنه لا ينقض الوضوء بمس ذكره بما خلا باطن الكف؛ وذلك يشمل صورا: منها: إذا مسه بباطن الأصابع؛ إذ لفظ الكف لا يشملها؛ ألا إلى قوله:"وفي الكفين مع الأصابع الدية" ولا خلاف في أن باطن الأصابع يلحق بباطن الكف المسمى بالراحة. نعم، رءوس الأصابع، وهي موضع الاستواء بعد المنحرف الذي يلي الكف، وإذا وضعت إحدى اليدين على الأخرى، مع تحامل تختفي وهل تلحق بالكف؟ فيه وجهان: أصحهما عند قوم: الإلحاق؛ لأنها من جنس بشرة الكف، ويعتاد اللمس بها بالشهوة وغيرها، وهذا ما حكاه البندنيجي؛ حيث قال: باطن الكف مابين الأظفار والزند. وأظهرهما عند آخرين: لا؛ لأنها خارجة عن سمت الكف، ولا يعتمد على اللمس بها وحدها من أراد معرفة ما يعرف باللمس من اللين والخشن، وغيرهما.

وعن أبي الفياض البصري: إن مس بما بين أصبعيه مستقبلا لعانته بباطن الكف- انتقض، وإن كان مستقبلا بظاهر كفه لا ينتقض؛ مراعاة للأغلب. قال الماوردي: وهذا لا وجه له؛ لاستواء المعنى في الحالين. وهل يجري طرف الكف، وهو حرف اليد، وما بين الأصابع مجرى باطن الكف؛ فيه طريقان: إحداهما: لا، وهي التي حكاها ابن الصباغ عن نصه في"مختصر البويطي"، ولم يحك غيرها؛ وكذا أبو الطيب، والبندنيجي، ويحكي عن رواية [حرملة] أيضا. والثانية: مس البر بالذكر، والأمر فيه كما أفهمه كلام الشيخ؛ صرح به ابن الصباغ في"شامله"، ورأيت في"الذخائر" أن ابن الصباغ قال: الذي يقتضيه المذهب أنه لا ينتقض؛ لأنه ليس بباطن الكف. والذي يقتضيه التعليل نقض الطهر؛ لأنه آلة اللذة والشهوة؛ كباطن الكف. وحكى الشيخ أبو بكر: أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي ذكر في تعليق الخلاف ما يوافق مقتضى المذهب. الأمر الثاني: أنه ينتقض بمس ذلك باليد الزائدة، وينتقض بمس الذكر الزائد، وهو المشهور فيما إذا كان الزائد عاملا، وكذا إن لم يكن عاملا، على المذهب في "التتمة". ومقابله جزم به الماوردي، والروياني، والبغوي، وفي" تعليق القاضي الحسين" حكاية الخلاف في الزائد مطلقا، وأن الذي عليه أكثر الأصحاب الانتقاض؛ كما يجب غسله في الوضوء. الثالث: أنه ينتقض بمس ذلك باليد الشلاء، وينتقض بمس الذكر الأشل، وهو الصحيح، وفيه وجه: أنه لا ينتقض فيهما. الرابع: أنه لا ينتقض [الوضوء] بمس العانة، والأنثيين والأليتين، ومابين الدبر والمبال؛ لأن ذلك ليس بفرج، وهو كذلك عندنا بلا خلاف.

الخامس: أنه لا بنتقض بمس فرج البهيمة، وهو الجديد؛ لأنه يجب ستره، ولا يحرم النظر إليه؛ فكذا لا ينتقض الوضوء بمسه. وعن القديم أنه ينتقض بمس الفرج المشقوق منها؛ لأنه يجب الغسل بالإيلاج فيه؛ فانتقض الوضوء بمسه؛ كفرج المرأة، وهذا حكاه يونس بن عبد الأعلى، وابن عبد الحكم، والصحيح: الأول، وبعضهم قطع به، وعلى هذا لو أدخل يده في فرجها، ففي انتقاض وضوئه وجهان. السادس: أنه لا فرق في فرج الآدمي بين الصغير والكبير، والحي والميت، والمتصل والمبان، وهو ما ذكره البندنيجي، ولم يورد القاضي أبو الطيب والفوراني والإمام في الأولى والثانية غيره، وحكوا خلافا في الثالثة. ومنهم من أجراه في الثانية والثالثة خاصة؛ حكاه الماوردي. ومنهم من اجراه في الجميع، وهو القاضي الحسين؛ فإنه قال: إنه نص فيما إذا لمس صغيرة أو ميتة أو يدا مقطوعة من امرأة – على عدم النقض، ونص فيما إذا لمس فرج صغير أو ميت أو ذكرا مقطوعا على أنه ينتقض؛ فقيل: قولان في الجميع. ومنهم من فرق بأن نقض الطهارة باللمس؛ لأجل أنه مظنة الشهوة والتلذذ، وذلك مفقود فيما ذكرناه، والنقض باللمس يهتك حرمة الفرج، وهو موجود فيما ذكرناه، ولا فرق على الصحيح – في النقض بمس ذكر الصغير بين الجلدة التي تستر الحشفة وتزول بالختان، أو غيرها ما دامت متصلة؛ فإن أبينت – لم ينتقض الوضوء بمسها؛ قاله الماوردي.

السابع: أنه لا فرق في النقض [بذلك] بين أن يكون قد انفتح معه مخرج آخر فوق المعدة أو دونها، مع انسداده وانفتاحه، وهو المذكور في "تعليق" البندنيجي، وأصح الوجهين في غيره. ومقابله: أنه إذا كان المخرج المعتاد منسدا، لا ينتقض الوضوء بمسه. وفصل الماوردي؛ فقال: إن كان انسداده خلقة، لم ينتقض، ولا يجب الغسل بالإيلاج فيه، وإن كان حادثا، وجب ذلك. ومس محل الجب من المجبوب ناقص على أصح الوجهين، ولم يحك الإمام غيره، وشبه القاضي الحسين الخلاف فيه بالخلاف في مس حلقة الدبر، وخصه بمس الثقبة. والرافعي قال: إنه لا يختص بالثقبة، بل يجري في محل الجب كله، وأن القفال قال: الوجهان ينبنيان على أحد أصلين، إما على مس حلقة الدبر: فإن قلنا: [إنه] لا ينتقض، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان؛ لأن الحلقة ظاهرة بأصل الخلقة، وهذا ظهر بعارض. وإما على مس الثقبة المنفتحة مع انسداد المسلك المعتاد: فإن قلنا: ينتقض ثم، فهنا أولى، وإلا فوجهان. ولا خلاف في أنه لو بقى شيء شاخص من الذكر، وإن قل، انتقض الوضوء بمسه. الثامن: أن ما صورته صورة الفرج، وليس بفرج لا ينقض: وذاك فيما إذا كان لرجل صورة الذكرين، وأحدهما عامل دون الآخر؛ فالعامل الذكر، والثاني خلقة زائدة فيه، لا يتعلق بها حكم. وإن كان يبول منهما جميعا؛ فالمذكور في"الحاوي" وغيره: أنه ينتقض بمس كل منهما. وحكى مجلي أن أبا بكر الشاشي قال: يقضى له بحكم

الخنثى المشكل؛ لأن الله أجرى العادة أن يكون للرجل ذكر واحد؛ فإذا وجد آخر كان زائدا لا محالة. والماوردي استشعر هذا السؤال؛ فقال: إنما انتقض به؛ لأنه ذكر لرجل. التاسع: أنه لا فرق في هذه النواقض بين سهوها وعمدها، وهوالمذهب. وفي لمس المرأة بغير شهوة ما سلف. وفي مس الذكر ناسيا وجه عن رواية الحناطي: أنه لا ينقض. واعلم: أن حصر ما ينقض الوضوء في أربعة المذكورة هو المتفق عليه، وإلافقد حكى في المملوس قولين، فإذا قلنا بالنقض، كانت النواقض خمسا؛ وكذا حكى - في نقضه بظهور الرجل، وانقضاء مدة المسح إذاكان ماسحا على الخف – قولين، فإن قلنا بالنقض، كانت ستا، لكن هذا لا يشمل كل وضوء. وقد حكى عن الشافعي قول قديم في نقضه بأكل لحم الجزور، واختاره أبو بكر ابن المنذر، وأبو بكر بن خزيمة من أصحابنا، وصاحب"الروضة" وقال: إنه اختاره جماعة من محققي أصحابنا المحدثين؛ لأنه ورد فيه حديثان صحيحان ليس عنهما جواب شاف. وأئمة المذهب تمسكوا للجديد بقول جابر:"كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار".أخرجه أبو داود؛ أي: وقد كان واجبا في ابتداء الإسلام، واختلف الأئمة في الذي كان واجبا، هل الوضوء للصلاة، أو غسل رأس اليدين؟ كذا حكاه الإمام، والمستحب أن يتوضأ من أكل لحم الجزور؛ للخروج من

الخلاف، وفيه نظر من جهة النية؛ فإن الجزم بها ممن لا يعتقد نقض الوضوء به غير ممكن ونية التجديد لا تفيد رفع الحدث على الصحيح؛ فأي فائدة فيه؟ وكذا الكلام في استحباب غسل المجنون عند الإفاقة. وقد افاد الحصر أنه لا ينتقض الوضوء بما عدا ما ذكره، وهو يشمل الفصد، منه والحجامة، والرعاف والقيء، وكل نجاسة خرجت من غير مخرج الحدث، والضحك في الصلاة، وغير ذلك، وكذا الردة، والمشهور فيها عدم النقض، وحكاية وجهين في بطلان التيمم بها، وابن الصباغ، والبندنيجي في كتاب: التيمم- جمعا بين الوضوء والتيمم، وقالا في بطلانها بالردة ثلاثة أوجه ثالثها: يبطل التيمم دون الوضوء، ولا يجري هاهنا الخلاف فيما إذا اغتسل ثم ارتد. وفي "الرافعي" في صفة الوضوء طريقة طاردة للخلاف في بطلان الغسل بالردة أيضا. ثم هذه النواقض هل يجب الوضوء عقبها وجوبا موسعا، أو يجب بدخول الوقت مع الحدث؟ [فيه] وجهان، المذهب منهما – كما قال ابن التلمساني – الأول؛ لأنه يسقط الفرض، ولا يفعل بنية التعجيل؛ فتعين وجوبه؛ إذ الفرض لا يسقط بدون ذلك، وهذا الخلاف قد حكاه الإمام عن العراقيين في الفصل الرابع، في أحكام الاستحاضة. وأشار الرافعي إلى وجه آخر: أنه يجب بدخول الوقت، والحدث شرط. قال: فإن تيقن الطهارة – أي: في وقت- وشك في الحدث – أي: في وقت

آخر – بنى على يقين الطهارة؛ لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم شكى إليه الرجل يخيل [إليه] في صلاته، فقال:"لا ينفتل حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا" أخرجه البخاري، ومسلم. و [روى البخاري، ومسلم] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا، وأشكل عليه أخرج منه شيء، أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا". وفي "التتمة" حكاية وجه: أن الشك إذا كان في الحدث قبل الدخول في الصلاة – لا يبني على يقين الطهارة، وإن كان بعد الدخول فيها، بنى عليه؛ كمذهب مالك، وحديث البخاري حجة عليه. والمراد بالشك هاهنا: مطلق التردد بين الشيئين، سواء كان على السواء، أو أحدهما أرجح، وهواصطلاح المتقدمين. والمتأخرون من الأصوليين يقولون: الشك تساوي الاحتمالين؛ فالراجح ظن، والمرجوح وهم. وقد أبداه مجلي احتمالا فيما إذا غلب على ظنه الحدث بأسباب عارضة في

تخريجه على القولين فيما إذا تعارض الأصل والغالب في النجاسة [، بعد أن حكى عن الأصحاب أنهم فرقوا بأن أسباب غلبة الظن في النجاسة] تكثر؛ فعارضت الأصل، وفي الحدث تقل؛ فلم تعارضه، وهذا الفرق ملخص من كلام الإمام. وعلى هذا يستحب له أن يتوضأ، وتصح طهارته؛ كما قال ابن الصباغ. قال مجلي في باب المسح على الخفين: وهذا فيه نظر عندي؛ لأنه مع وجود الشك لا يتأتى منه بمخص القصد إلى رفع الحدث؛ فكيف يصح مع التردد في النية؟! بل فيه وجهان. قلت: والمذكور في"النهاية" في كتاب الصيام أنه لا يصح وضوءه؛ بناء على استصحاب الحال في الطهارة. قال: وقياس مذهب المزني-[أي]: في نظير المسألة من الصوم – الصحة هنا. والغزالي ومن تبعه قالوا: لو توضأ عند الشك احتياطا، ثم تبين أنه كان محدثا؛ فهل يعتد بهذا الوضوء؟ فيه الوجهان المذكوران في ارتفاع الحدث بنية التجديد؟! واعلم: أن من جملة صور الشك في الحدث الذي لا يقدح في الطهارة ماإذا مس الخنثى المشكل أحدمباليه، أو مس الرجل منه آلة النساء، أو مست المرأة الممسوس عضوا أو ثقبة زائدة، وهذا إذا قلنا: إن مس المخرج المنفتح تحت المعدة لا ينقض الوضوء. نعم، لو مس الخنثى أو غيره المبالين منه، انتقض وضوء الماس؛ وكذا لو مس الرجل آلة الرجال [منه] أو المرأة آلة النساء منه؛ لأنه دائر بين أن يكون لامسا أو ماسا. ولو توضأ، ومس أحد مباليه، وصلى الظهر، ثم توضأ، ومس المبال الآخر، وصلى العصر – فهل يعيد الصلاتين، أو لا يعيد واحدة منهما؟ فيه وجهان في "الإبانة"، قربهما الإمام من الخلاف فيما إذا صلى بالاجتهاد إلى أربع صلوات، والأكثرون فيها على عدم وجوب الإعادة.

وقد بالغ القاضي الحسين في التشبيه [بذلك]؛ فقال: لو مس الخنثى آلة الرجال منه أياما، وصلى، ثم تبين أنه رجل – ففي لزوم الإعادة جوابان، ينبنيان عل أنه إذا صلى إلى جهات مختلفة، ثم تبين له يقين الخطأ – هل يلزمه الإعادة، أم لا؟ ولا خلاف في أنه لو مس أحدهما، وصلى، ثم مس الآخر قبل أن يتوضأ - امتنعت عليه الصلاة ولو مس أحد الخنثيين آلة الرجال من الآخر، ومس الآخر آلة النساء من الذي مسه انتقضت طهارة أحدهما لا بعينه فلا تمنع عليهما الصلاة؛ لأن الأصل في كل منهما بقاء طهارته. فرع: لو أن جماعة متناعسين في مكان؛ فسمع منهم صوت، ونفاه كل واحد منهم عن نفسه؛ فلهم أن يصلوا منفردين ومقتدين بالغير، وأئمة للغير، وهل يقتدي بعضهم ببعض؟ قال صاحب"التلخيص"، والداركي: لا؛ لأن الاجتهاد في حدث الغير لا يجوز؛ إذ ليس له أمارة على حدث الغير، وبهذا خالف ما إذا اختلفوا في الاجتهاد في الأواني؛ فإن لكل منهم الاقتداء بالآخرين؛ لأن له الاجتهاد في الأواني. وقال ابن الحداد: يجوز هنا أيضا؛ لأنه يجوز الاجتهاد في حدث الغير، وعلى هذا لو كانوا خمسة وأم كل واحد منهم في صلاة من الخمس- فعلى كل واحد أن يعيد آخر صلاة كان فيها مأموما: فعلى إمام العشاء إعادة المغرب، وعلى المأمومين في العشاء إعادة العشاء قاله القاضي الحسين. قال: وإن تيقن الحدث- أي: في وقت – وشك في الطهارة؛ أي: في وقت آخر بعده؛ بنى على يقين الحدث؛ لأن الأصل بقاؤه، وهذا إجماع؛ كما قال الماوردي. وادعى الرافعي أن هذا إذا كان التردد على السواء، أما إذا كان احتمال الطهارة راجحا وهو المعبر عنه بالظن – لم يستصحب حكم الحدث، بل له أن يصلي بالظن، قال: فإذا حكم الشك واحد في الطرفين، وحكم الظن في الحدث بخلاف حكمه في الطهارة. وما يفهمه هذا الإطلاق لم أره في غيره، ولعله محمول على ما [سنذكره عن]

الظن الذي أشار إليه ابن الصباغ، وسننبه عليه في الباب. وقد قال صاحب"التلخيص": اليقين لا يرفع بالشك إلا في أربع مسائل: [إذا وقع الشك] في انقضاء وقت الجمعة؛ فإنهم يصلون ظهرا، وظني أني ذكرت فيه خلافا في باب الجمعة. وإذا شك في انقضاء مدة المسح، بنى الأمر على ما يوجب الغسل. وإذا شك هل وصل إلى وطنه، أو لا؟ وإذا شك هل نوى الإتمام، أولا؟ يلزمه الإتمام فيهما. والأصحاب قالوا: بل ذلك [رجوع إلى] الأصل؛ فإن العدول عن الأصل إلى هذه الرخص منوط بشرط؛ فإذا وقع الشك فيه، رجعنا إلى الأصل: وهو عدم الرخصة، على أن أبا علي حكى في الأخيرتين وجها آخر. قال الإمام: ولعل الفرق أن انقضاء وقت الجمعة والمسح ليس مما يتعلق بالاختيار؛ فإذا فرض الشك فيه، لاح تعين الرد إلى الأصل؛ والانتهاء إلى دار الإقامة

والعزم عليها متعلق بفعل الشاك، ومنه يتلقى معرفته؛ فإذا جهله من نفسه؛ فقد يخطر أنه بمثابة ما لو [لم] يقع ذلك المعنى أصلا. قال: وإن تيقن الطهارة والحدث جميعا، وشك في السابق منهما، مثاله: إذا تيقن

أنه صدر منه وضوء وحدث وقت طلوع الشمس مثلا، ولم يدر هل السابق الحدث، أو الوضوء؟ قال: نظر فيما كان قبلهما – أي: قبل طلوع الشمس في مثالنا – فإن كان حدثا، فهو متطهر؛ لأنه تيقن أن الحدث السابق قد ارتفع بالطهارة اللاحقة، وشك هل ارتفعت بالحدث الآخر أم لا، والأصل بقاؤهما. وإن كان طهارة، فهو محدث؛ لأنه تحقق أن الطهارة السابقة رفعها الحدث اللاحق، وشك هل ارتفع، أم لا؟ والأصل بقاؤه؛ وهذا ما حكاه البندنيجي لا غير، وحكاه القاضي أبو الطيب وجها في المسألة، نسبه ابن الصباغ والإمام إلى صاحب "التلخيص"، والرافعي إلى الأكثرين، وخصه المتولي – وتبعه الرافعي – بما إذا كانت عادته أن يتوضأ مجددا أما إذا لم تكن عادته وطهارته الثانية بعد حدث؛ فتباح له الصلاة؛ فعلى هذا لو لم يتذكر حاله فيما كان قبلهما، فلابد من الوضوء؛ لتعارض الاحتمالين من غير ترجيح، ولا سبيل إلى الصلاة مع التردد المحض في الطهارة. وقد ذكر الصيدلاني عن بعض الأصحاب عكس ما ذكره الشيخ، وقال: إن كان محدثا فهو الآن محدث، وإن كان متطهرا فهو الآن متطهر؛ لأن الطهارة والحدث [عند الزوال] في مثالنا قد تعارضا؛ فعمل بالسابق. قال الإمام: وهذا غير صحيح، والصواب ما ذكره صاحب"التلخيص". والذي حكاه القاضي أبو الطيب عن عامة الأصحاب: وجوب الطهارة بكل حال؛ احتياطا للصلاة حتى يكون مؤديا للفرض بيقين؛ فهذا ما حكاه في "المرشد"،وإليه مال ابن الصباغ؛ حيث قال بعد ذكر الوجه الأول وهذا لا غير: وما ذكره صاحب الوجه الأول فليس مما يقوي به ظن الطهارة؛ لأنه تيقن حصول حدث بعد ذلك الحدث الأول وشك في أن الطهارة تأخرت عنه فأزالته، أم لا؛ فصارت الطهارة مشكوكا فيها. وفي"الروضة" حكاية وجه رابع: أنه يعمل بغلبة الظن. قال: ومن أحدث حرم عليه الصلاة؛ لما روي عن [ابن] عمر قال: سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول" قال

...............................................................

.............................................................

.......................................................

الترمذي: وهذا أصح شيء في الباب وأحسن، وهو إجماع في ذات الركوع، وسجود التلاوة [والشكر في معناهما]؛ كما ستعرفه. قال: والطواف؛ لقوله- عليه السلام-:"الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام. قال: ومس المصحف؛ لقوله-تعالى-: {إنه لقرءان كريم في كتاب مكنون} [الواقعة] [أي: مصون] {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة:79] والقرآن لا يصح مسه؛ فعلم أن المراد به: الكتاب الذي هو أقرب المذكورين، ولا يتوجه النهي إلى اللوح المحفوظ؛ لأنه غير منزل ومسه غير ممكن، ولا يمكن أن يكون المراد بـ"المطهرين" الملائكة؛ لأنه قد نفي، وأثبت؛ فكأنه قال: يمسه المطهرون، ولا يمسه

غير المطهرين، والسماء ليس فيها غير مطهر بالإجماع؛ فعلم أنه أراد المطهرين من الآدميين، ومن ذلك ماروي أنه- عليه السلام – قال في كتاب عمرو بن حزم:"ولا تمس القرآن إلا وأنت على طهر" وكذا روى عن كتاب حكيم بن حزام أيضا. وروى سالم بن عبد الله عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تمس القرآن إلا على طهر". [فإن] قيل: قد قال الواحدي: إن أكثر أهل التفسير على أن المراد: اللوح المحفوظ، وأن المطهرين الملائكة، ثم لو صح ما قلتم، لم يكن فيها دليل؛ لأن قوله: {لا يمسه} بضم السين ليس بنهي عن المس؛ إذ لو كان نهيا لكان بفتح السين، أو لقال: لا يمسسه؛ فهو إذن خبر. قلت: أما قول المفسرين فهو معارض بقول الباقين، والمرجع إلى الدليل. وأما كون المراد بالآية: الخبر؛ فجوابه: أنا نقول: اللفظ لفظ الخبر، ومعناه النهي،

وهو كثير في القرآن؛ قال الله- تعالى-: {لا تضار والدة بولدها} [البقرة:233] {والمطلقات يتربصن} [البقرة:228] ولأنه لو كان المرادبه الخبر، لزم الخلف في خبر الله تعالى؛ فإن من ليس بمطهر يمسه، والخلف في خبر الله تعالى محال؛ فتعين أن المراد النهي؛ والله أعلم. وقد أفهم كلام الشيخ أمورا: أحدها: أنه لا فرق في ذلك بين المس بأعضاء الوضوء وغيرها وإن قلنا: إن الحدث لا يحلها، ولا بين أن يقع المس بما غسله منها قبل تمام الوضوء أو بغيره، وهو مما لا خلاف فيه. الثاني: أنه لا فرق [فيه] بين مس الموضع المكتوب، والأبيض بين الأسطر والحواشي، والجلد؛ لأن اسم المصحف يشملها عرفا؛ ولذلك لو حلف لا يمس المصحف حنث بمس جلده وبياضه؛ كما يحنث بمس المكتوب [منه] وهذا ما حكاه الماوردي، والقاضي الحسين، والإمام، وغيرهم. وأبو الطيب حكاه عن النص، وألحق بذلك مس حليته من الذهب والفضة. وفي "الرافعي" حكاية وجه في عدم تحريم مس الجلد. والصحيح: الأول؛ لما ذكرناه؛ ولأنه يندرج تحت مطلق البيع؛ فكذا تحت مطلق النهي؛ وعلى هذا ففي تحريم مس الخريطة والصندوق والعلاقة إذا كان المصحف فيها وجهان: أظهرهما في "الكافي" وغيره التحريم أيضا؛ لأنها متخذة للمصحف منسوبة إليه، وإذا اشتملت على القرآن، اقتضى التعظيم ألا تمس إلا على طهارة. ومقابله هو ما أفهمه كلام الشيخ؛ حيث خص التحريم بالمصحف، وهذه لا تسمى: مصحفا. وقد أبعد بعض المصنفين: فسوى بين هذه الأشياء والجلد في إجراء الخلاف من غير ترتيب، وإذا ضممته إلى ما سلف، كان في الجميع ثلاثة أوجه، ثالثها: تحريم مس

الجلد دون الخريطة، والصندوق والعلاقة. الأمر الثالث: إباحة تقليب أوراقه بقضيب إذا كان موضوعا بين يديه؛ لأنه لا يصدق على ذلك لفظ"المس" ولا"الحمل" وهو وجه في المسألة لم يحك في "المهذب" و"الحاوي" غيره، وقال في "الروضة": وبه قطع العراقيون، وهو الراجح فإنه غير حامل، ولا ماس. والأصح في"الرافعي"أنه يحرم؛ لأنه حمل بعض المصحف مقصودا؛ فإن الورقة محمولة تنتقل من جانب إلى جانب. ولا خلاف في تحريم تقليبها بإصبعه، ولو مع حائل من ثوب؛ وكذا لو لف شيئا من ثوبه وقلبها به قال الإمام: ومن ذكر فيه خلافا كالخلاف في التقليب بالقضيب، فهو غلط. والله أعلم. قال: وحمله؛ لأنه إذا حرم المس؛ لإخلاله بالتعظيم، فالحمل بذلك أولى، وقد روى أنه- عليه السلام - قال:" لا يحمل المصحف ولا يمسه إلا طاهر". فإن قلت: قياس الحمل على المس منتقض بالمحرم؛ فإنه يحرم عليه مس الطيب دون حمله. قيل- في جوابه-: قد أشرنا إلى الفرق، وهو أن تحريم المس؛ للإخلال بالتعظيم وهو في الحمل أكثر، وتحريم مس الطيب على المحرم؛ لأجل الالتذاذ والاستمتاع، وهو مفقود في الحمل. وتحريم الحمل مخصوص بالحالة التي يأمن معها عليه، فإن خاف عليه من غرق، أو حريق، أو نجاسة، أوكافر، أو لم يتمكن من الطهارة - جاز له حمله؛ للضرورة بلا خلاف؛ لأن حمله في هذه الحالات من تعظيمه. وألحق أبو الطيب بذلك ما إذا حمله على طهارته، ثم أحدث، ولم يجد من يودعه

عنده، وظاهر [كلام الشيخ] أنه لا فرق في تحريم الحمل بين أن يقع منفردا، اومع غيره، ولا خلاف في تحريمه منفردا؛ وكذا في علاقته، وصندوقه الذي يختص به وإن قلنا: إنه لا يحرم مس الصندوق، والعلاقة. وفي"تعليق القاضي الحسين" حكاية وجه فيما إذا حمله بالعلاقة: أنه لا يحرم؛ وليس بصحيح. وأما إذا حمله في صندوق فيه ثياب وأمتعة معه، ففي التحريم وجهان؛ حكاهما الماوردي قولين: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه حامل للمصحف، وحمله الحمل لا يختلف بين أن يكون محمولا وحده أو مع غيره؛ ألا ترى أنه لو حمل نجاسة كذلك، لم تصح صلاته. وأصحهما في"الكافي"، وغيره: الجواز، وهو المذكور في "حرملة"؛ لأن الممنوع حمل يخل بالتعظيم، ولا إخلال في [هذه] الحالة، وخالف حمله في صندوقه وخريطته؛ فإن ذلك تبع للمصحف، وهنا بخلافه. وقد أفهم كلام الشيخ [تخصيص] تحريم المس والحمل [بما يسمى] مصحفا، وذلك يقتضي عدم تحريم مس ما لا يسمى مصحفا من القرآن. والأصحاب فصلوا فقالوا: ما كتب للدراسة ثم يمحى بعد ذلك؛ [كألواح الصبيان] – في تحريم مسه على البالغين وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لم يقصد بإثباته الدوام، وهذا ما حكاه الماوردي عن الأكثرين. وأصحهما في "تعليق القاضي الحسين" و"التهذيب" وهو المذكور في"النهاية"، و"الكافي"-: التحريم؛ لأنه أثبت قرآنا.

وما لم يكتب للدراسة: كالدراهم الأحدية: وهي المكتوب عليها"قل هو الله أحد"؛ وكذا ما كتب عليه [من الدراهم آية من القرآن] والعمامة المطرزة بآيات من القرآن، والحيطان المنقوشة، وكتب الفقه – ففيه أيضا وجهان، لكن الأصح فيها: عدم التحريم، وهو المذكور في" تعليق البندنيجي"، و"النهاية" و"الكافي"؛ لأنه – عليه السلام – كتب كتابا إلى هرقل، وكان فيه {تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ....} الآية [آل عمران:64] ولم يأمر الحامل بالمحافظة على الطهارة؛ لأن هذه الأشياء لا يقصد بإثبات القرآن فيها قربة؛ فلا تجري عليها أحكام القرآن؛ ولهذا يجوز هدم الجدران المنقوش عليها، وأكل الطعام. نعم، لا يجوز حرق الخشبة المكتوب عليها، كما قال القاضي الحسين. وفي"الروضة": أنه مكروه. وجزم في"الحاوي" في الثياب المطرزة بآي القرآن بالتحريم؛ لأن المقصود التبرك بكتبها، وقال في الدراهم: إن كان الناس لا يتعاملون بها كثيرا حرم مسها، وإن كانت المعاملة بها كثيرة – فوجهان؛ لأجل المشقة. والخلاف في الصورة السالفة عند بعضهم جار في كتب التفسير. ومنهم من قال: إن كان القرآن فيها أكثر حرم المس والحمل، وإلا فوجهان، وهذه طريقة الماوردي. ومنهم من قال: إن تميز القرآن في الكتابة عن التفسير حرم ذلك، وإلا فوجهان: أصحهما – وهو المذكور في "تعليق القاضي الحسين"-: عدم التحريم. واعلم: أن التحريم، وإن كان متعلقا بالمكلفين؛ فالصبي ممنوع من الصلاة

والطواف بغير طهارة، وهل يجب على وليه ومعلمه منعه من مس المصحف، وحمله للقراءة والدراسة فيه، وكذا الألواح حيث حرمناها على البالغ؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن البالغ إنما منع من ذلك؛ تعظيما للقرآن، [والصبي] أنقص حالا منه؛ فألى أن يمنع، وهذا ما صححه في "الكافي" والبندنيجي. ومقابله صححه الرافعي، وقال الماوردي: إنه ظاهر المذهب، وبه قال أكثر أصحابنا؛ لأن تكليفهم استصحاب الطهارة مما يعظم فيه المشقة. وفي"تعليق القاضي الحسين" الجزم بتمكينه من حمل الألواح، وحكاية الوجهين في تمكينهم من حمل [المصحف. والغزالي حكى الوجهين في تمكينهم من حمل] الألواح، وهو يفهم أنهم لا يمكنون من حمل المصحف وجها واحدا. والذي ذكره ابن الصباغ، وغيره: إجراء الوجهين في الحالين. فروع: كتابة المحدث القرآن على الشيء الموضوع بين يديه، من غير مس، ولا حمل - لا يحرم؛ على أصح الوجهين. وفي"الحاوي" الجزم بإباحة ذلك له، وحكاية الوجهين في إباحته للجنب، ووجه المنع: أنه بمثابة التلاوة. وكتابة [القرآن على] الحيطان والبساط والثوب مكروهة؛ وكذا كتب اسم من أسماء الله تعالى. ولا يجوز كتابته بالنجس، وهل يجوز لمن على بدنه نجاسة، وهو متطهر مسه؟ فيه وجهان أصحهما في"الحاوي"،"وتعليق أبي الطيب": لا يحرم، والفرق بين الخبث والحدث: أن الحدث يتعدى؛ بخلاف النجاسة. ولا يجوز المسافرة بالقرآن إلى دار الكفر، وهل يجوز تعليم الكافر شيئا من القرآن

؟ إن كان يرجى إسلامه يجوز، وإن كان معاندا، فلا. ويجوز إسماع الكافر القرآن، ولا يحرم مس التوراة والإنجيل، وحملهما، في أصح الوجهين في"الرافعي"، و"الحاوي"، وهو المذكور في "تعليق القاضي الحسين"، والخلاف جار في مس ما يستحب قراءته من القرآن وحمله. وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتحق بالقرآن فيما نحن فيه، لكن الأولى أن يكون على وضوء إذا مسه أو حمله، والله تعالى أعلم.

باب الاستطابة

باب الاستطابة الاستطابة، والاستنجاء، والاستجمار: إزالة الأذى عن السلبيين؛ إلا أن الاستطابة والاستنجاء يكونان بالماء والحجر، والاستجمار لا يكون إلا بالأحجار، مأخوذ من الجمار، وهي: الأحجار الصغار. والاستطابة مأخوذة من طلب الطيب؛ فإن طالب قضاء الحاجة يطلب طيب نفسه بإخراج الأذى وإزالته. والاستنجاء مأخوذ من: نجوت الشجرة، وأنجبيتها؛ إذا قطعتها؛ كأنه يقطع الأذى عنه. وقيل: من النجوة؛ وهي المرتفع من الأرض؛ لأنه يستتر عن الناس بنجوة، وقد قال بعض المفسرين: إن قوله - تعالى-: {فاليوم ننجيك ببدنك} [يونس:92] [من هذا]. قال: إذا أراد قضاء الحاجة، أي: في البنيان؛ كما دل عليه قوله من بعد: "وإن كان في صحراء"، فإن كان معه شيء في ذكر الله تعالى - نحاه؛ لما روى أنس بن مالك قال: " [كان] رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء؛ وضع خاتمه" رواه ابن ماجه، وأبو داود.

قيل: وسبب ذلك: أنه كان مكتوباً عليه: "محمد رسول الله" ثلاثة أسطر. والخلاء: ممدود، وأصله المكان الخالي، ثم نقل إلى موضع قضاء الحاجة؛ كما نقل لفظ "الغائط" عن المكان المطمئن، ولفظ العذرة عن فناء الأبنية. والسر - فيما ذكرناه - أن مواطن النجاسة مستقذرة، ومن تعظيم اسم الله - تعالى - ألا يدنى من القاذورات؛ ومن هنا يؤخذ اختصاص التحية بما إذا أراد دخول الخلاء؛ لأنه محل القاذورات، دون ما إذا أراد قضاء الحاجة في الصحراء؛ كما أفهمه كلام الشيخ، وكلام البندنيجي، والإمام أيضا؛ حيث قيدا ذلك بما إذا أراد دخول الخلاء، وهو وجه حكاه الرافعي مع وجه آخر ادعى أنه الأظهر: أن التنحية مطلوبة في الموضعين، وهو ما اقتضاه كلام الماوردي؛ حيث قال: إذا كان في يده خاتم فيه اسم الله - تعالى - خلعه قبل دخوله- أي: الخلاء - او جلوسه - أي: في الصحراء - وهذه التنحية في إحدى الصورتين أو كلتيهما على وجه الاستحباب، صرح به في "المهذب" وغيره. وقد حكى عن الصيرمي أنه قال: إذا كان على فص الخاتم ذكر الله - تعالى - خلعه قبل دخوله الخلاء، أو ضم كفيه عليه؛ مخيرا بينهما، والمشهور الأول. [نعم، لو غفل] عن النزع حتى اشتغل بقضاء الحاجة ضم كفيه عليه؛ حتى لا يظهر؛ وكذا يفعل إذا كان يخاف عليه لو نزعه. واعلم: أنه إذا نزع ما ذكرناه فيما عليه اسم الله - تعالى - ففيهما عليه شيء من

القرآن أولى، وقد ألحق به ما عليه اسم النبي صلى الله عليه وسلم، وضابطه: كل اسم معظم. قال: ويقدم رجله اليسرى في الدخول؛ لأنها لما دنا، واليمنى في الخروج؛ لأنها لما علا ودخول المسجد، والخروج منه على العكس من ذلك؛ لما ذكرناه، وهذا على وجه الاستحباب فيهما. وقد أفهم لفظ "الدخول" و "الخروج" مع قوله: "وإن كان في صحراء" اختصاص هذه السنة بدخول الخلاء؛ وكذا دل عليه [كلامه] في "الوسيط" وهو وجه في المسألة. قال الرافعي: لكن الأكثرين على أنه لا يختص حتى إنه يقدم رجله اليسرى إذا بلغ موضع جلوسه في الصحراء أيضاً، وإذا فرغ قدم اليمني. قلت: وتقديم اليمنى عند الفراغ ظاهر؛ لأنه يفارق مادنا [إلى ما علا]، وأما تقديم اليسرى إلى موضع الجلوس ففيه نظر؛ لمساواته - قبل قضاء الحاجة - لما قبله. قال: ويقول: أي: عند إرادة الدخول على وجه الندب: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك متفق عليه. والخبث - بضم الباء، وإسكانها:- جمع خبيث؛ وهم: ذكور الشياطين. والخبائث: جمع خبيثة: وهي إناثهم؛ فكأنه استعاذ من ذكور الشياطين وإناثهم. وقيل: هو بالإسكان: الشر، وقيل: الكفر، والخبائث: المعاصي. واعلم: أنه يوجد في بعض النسخ: ويقول: "باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" وإن كان ذلك، فوجهه ما روى أنه - عليه السلام - قال: "ستر [ما بين] عورات أمتي وأعين الجن، باسم الله".

واستحب الغزالي والبندنيجي أن يقول: "باسم الله، أعوذ بالله من الخبث المخبث الشيطان الرجيم". وبعضهم استحب أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم".

قال الأصحاب: ويستحب مع ذلك ألا يدخل الخلاء حاسر الرأس، حتى إذا لم يجد شيئاً فليلق كمه عليها؛ تخوفاً من الجن؛ وكذا يستحب ألا يدخله حافياً، صرح به في"الروضة". قال: ولا يرفع ثوبه؛ أي: عن عورته حتى يدنو من الأرض - أي: يقرب - لأنه - عليه السلام - كان يفعله؛ فيما رواه أبو داود، عن راويية [ابن] عمر؛ ولأنه لا حاجة به إليه قبل ذلك؛ وهذا على وجه الندب، وفيه نظر؛ لأن الصحيح أن كشف العورة في الخلوة لا يجوز من غير حاجة، وقبل دنوه من الأرض لا حاجة به إلى الكشف. قال: وينصب رجله اليمنى، ويعتمد على اليسرى؛ لما روى سراقة بن مالك قال:

"علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسرى"، وروى عن أنس نحوه؛ ولأنه أسهل لخروج الخارج. وقال البندنيجي: ويضم إحدى فخديه إلى الأخرى. قال في "المهذب" وغيره: ولا يطيل القعود؛ لأن لقمان قال: إنه يتجع منه الكبد، ويحدث منه الباسور - وهو بالباء: علة تحدث في [المقعدة - فيقعد] هوينى، ويخرج؛ فإن أطال كره؛ قاله في "الروضة". قال: ولا يتكلم؛ لما روى ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يخرجان الرجلان يضربان الغائط، كاشفي [عن] عورتهما يتحدثان؛ فإن الله يمقت على ذلك" رواه أبو داود. ومعنى يضربان: يطلبان، ومعنى "يمقت": يعيب، وقيل: يبغض أشد البغض،

وذلك لا يفضي إلى التحريم؛ كما لم يفض إليه في قوله -عليه السلام -: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"، لكن لك أن تقول: ثم اقترن به ما صرفه عن التحريم، وهو قوله: "الحلال"، ولا كذلك هنا؛ فحصل الفرق. ثم في معنى الكلام رد السلام، وتشميت العاطس والتحميد عند عطاسه، وموافقة المؤذن؛ كما صرح به في "المهذب" وغيره؛ فقد روى ابن عمر: "أن رجلاً سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبول؛ فلم يرد عليه" رواه مسلم وإذا لم يرد [السلام] مع أنه واجب؛ فغيره أولى. قال الأصحاب: وينبغي له ألا ينظر إلى ما يخرج منه، ولا إلى فرجه، ولا إلى السماء، ولا يعبث بيده. قال: فإذا انقطع البول, مسح بيده اليسرى من مجامع العروق إلى رأس الذكر؛

لاحتمال أن يكون فيه بقية؛ فتخرج بذلك. ومجامع العروق: مما يلي حلقة الدبر إلى أصل الذكر. قال: ثم ينتر ذكره ثلاثاً، أي: يجذبه بعنف ولا يبالغ، وهو بضم التاء؛ ووجهه ما سلف. فلو لم يفعل ذلك أجزأه؛ لأن الظاهر انقطاع البول، وعدم عوده، وقد قيل: إن الماء يقطع البول. وقد أفهم كلام القاضي الحسين وجوب ذلك؛ لأنه قال: وإذا فرغ من البول، وجب الاستبراء. والاستبراء: أن يأخذ ذكر بيده [اليسرى]، ويمده مداً متفاحشاً، حتى لو بقي في الإحليل قليل بول خرج بالمد، ثم إن كان في هبوط فيرتقي إلى الصعود، [وإن كان في صعود] من الأرض؛ فينحدر إلى الهبوط، أو يمشي خطوات، ويقفز قفزات ويتنحنح. والذي ذكره الرافعي: الأول، وقال: إن أكثر ماقيل في المشي أنه سبعون خطوة. وهذا النتر يكون قبل قيامه؛ كما أفهمه كلام الشيخ، وصرح به الماوردي، ويكره حشو الإحليل بقطنة ونحوها. قال: ويقول إذا خرج: "غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى، وعافاني" كذا رواه ابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عائشة قالت: كان رسول الله

صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء - قال: "غفرانك" قال الترمذي: حسن غريب. ثم في قوله: "غفرانك" وجهان: أحدهما: أنه سأله المسامحة؛ بسبب تركه الذكر في تلك الحال. والثاني: أنه يطلب منه دوام نعمائه عليه بتسهيل الأذى، وألا يحبسه كي لا يفضي إلى شهرته وانكشافه. والغفران: الستر، ونصبه على المصدر بتقدير: اغفر غفرانك، أو على المفعول، بتقدير: أسألك غفرانك. ومعنى: "عافاني"، أي: من احتباسه، أو من زوال الأمعاء معه؛ إذ جاء في بعض

الأحاديث: "الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني، وأبقى ما ينفعني" واعلم: أن ما ذكرناه [من] لفظ الشيخ؛ هو الصحيح. قال النواوي: وفي بعض النسخ التي لا تعتمد: "ويقول إذا فرغ". قال: وإن كان في صحراء - وهي: الفلاة - وثم غيره، أبعد, أي: بحيث لا يراه؛ لما روى الترمذي أنه - عليه السلام - "كان يبعد في الصحراء"، وقال: حسن صحيح. وروى مسلم عن المغيرة بن شعبة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق حتى توارى

عني؛ فقضى حاجته" والمعنى فيه ظاهر. قال: واستتر عن العيون؛ لقوله - عليه السلام-:"من أتى الغائط - فليستتر؛ فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من الرمل؛ فليستتر به" رواه أبو داود. والستر يحصل بأن يأوى إلى بقية جدار أو تل، أو ينزل في وهدة، أو يقرب من شجرة غير مثمرة، ولا يقصد ظلها، أو من راحلته؛ كما فعله ابن عمر. ولو استتر بذيله، ففي الكفاية به وجهان في "الوسيط": أصحهما وهو الذي رأيته في "الرافعي"، وقال الإمام: إنه الذي يجب القطع به: الإكتفاء. ويعتبر أن يكون بينه وبين الساتر قدر ما بين الصفين، وهو ثلاثة أذرع فما دونها، وما قرب؛ فهو أولى، وليكن ارتفاعه بقدر مؤخرة الرجل: لأنه يستتر من سرته إلى موضع قدميه. قال: وارتاد موضعا للبول، أي: لينا في مهب الريح؛ حتى لا يصيبه شيء من رشاشه، ولا يرده عليه الريح، وقد روى أبو موسى الأشعري قال:"كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم؛ فأراد ان يبول فأتى دمثا في أصل جدار فبال، ثم قال: إذا أراد أحدكم أن يبول؛ فليرتد لبوله" والدمث: الموضع اللين.

قال الأصحاب: فلو لم يجد إلا موضعا صلبا، دقه بشيء حتى يلين. قال: ولا يبول في ثقب، وهو [ما] استدار، ولا سرب؛ وهو الشق في الأرض؛ لأنه - عليه السلام-:"نهى أن يبال في الجحر"؛ لأنه مساكن الجن؛ ولأنه ربما كان في ذلك بعض الهوام؛ فخرج فآذاه، أو نجسه، وقد روي أن سعد بن عبادة "بال في جحر في الشام، ثم استلقى ميتا؛ فسمعت الجن تقول: نحن قتلنا سيد الخزر ... ج سعد بن عباده رميناه بسهمين ... فلم نخط فؤاده" وقد قيل: إن الثقب - وهو بفتح الثاء، وضمها-: الخرق النازل، وأن السرب - وهو بفتح السين والراء-: المنبطح؛ قاله النواوي. وقال غيره: السرب هاهنا - بفتح السين والراء-: بيت في الأرض، من قولهم: سر بالثعلب في جحره؛ قاله الجوهري. قال: ولا تحت الأشجار المثمرة؛ كي لا تتنجس ثمارها؛ فتفسد، وتعافها

الأنفس. والكراهة فيما إذا لم تكن مثمرة وعادتها أن تثمر أخف. والبول في الماء القليل مكروه؛ كالبول تحت الأشجار المثمرة؛ لأنه يفسده - وأما البول في الماء الكثير؛ فإن كان في الليل كره؛ لأنه قيل: إنه بالليل للجن؛ فيخشى أذاهم، وإذا كان في النهار؛ فيكره في الراكد أيضاً؛ لقوله -عليه السلام-: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم" [ويروى: "في الراكد]. قال: ولا في قارعة الطريق، ولا في ظل؛ لما روى معاذ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل" رواه أبو داود.

والبراز بفتح الباء: أصله الفضاء من الأرض، كني به عن قضاء الحاجة. والموارد: المواضع التي يرد إليها الناس، وقيل: إنها الطرق إلى الماء. وقارعة الطريق: أعلاه، وقيل: صدره، وقيل: ما برز منه، وهو متقارب، والطريق تذكر وتؤنث. وسميت: ملاعن؛ لأن كل من رأى ذلك يلعن فاعله. وفي مسلم: "اتقوا الملاعن" قالوا: وما الملاعن؟ قال: "الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم". ومواضع الشمس في الشتاء كمواضع الظل في الصيف. والمنع من البول على القبور أولى، وإليه يرشد قول الشيخ: "ولا يجلس [على قبر، ولا يدوسه". وقال في "الروضة": إن البول عليها حرام؛ وكذا] في المسجد. نعم، لو بال في إناء في المسجد - ففي تحريمه وجهان، أصحهما: التحريم أيضاً. ويكره البول قائماً إلا من عذر؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله لعذر. قال: ولا يستقبل الشمس والقمر؛ لأنهما من آيات الله الباهرة؛ وادعى الإمام: أن

العراقيين رووا فيه خبراً، وهذا على وجه الاستحباب؛ وكذا ما ذكرناه قبله إلى أول الباب إلا ما نبهنا عليه؛ فلو استقبل الشمس أو القمر، كان مكروهاً. وعن الصميري فيما حكاه صاحب "البيان" أنه يكره استدبارهما أيضاً، ولا يحرم. وقال الرافعي: إنه رآه في "الشافعي" لأبي العباس الجرجاني. وهو المفهوم من كلام الغزالي في "الوجيز"، وفي الخبر ما يدل عليه، والكتب المشهورة ساكتة عنه، وهذا المستحب مما يستوي فيه الصحاري والبنيان؛ كما صرح به المحاملي وغيره. قال: ولا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها؛ لما روى الشافعي بسنده عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا لكم مثل الوالد؛ فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط؛ [فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط] [أو بول]، وليستنج بثلاثة أحجار "ونهى عن الروث والرمة"،وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر الغائط في موضعه الأول وهو المكان المستفل بين عاليين، وما نقل إليه لنلازمته لذلك في الغالب: وهو الفضلة المستقذرة. وفي هذا الخبر دليل على ظان النهي مخصوص بالصحاري؛ كما هو مفهوم كلام الشيخ، وبه صرح غيره، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الغائط بها يكون دون البنيان، وقوله: "فإذا ذهب أحدكم" يدل عليه؛ لأن الذهاب [إنما يطلق] على التوجه إلى الصحاري، أما في المنازل: فيقال: دخل، وقد وردت أحاديث تعضده: روى مجاهد عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم"نهى عن استقبال القبلة واستدبارها، ثم إني رأيته قبل موته

بسنة وقد قعد مستقبل القبلة لقضاء حاجته"، وروي عن ابن عمر أنه قال: "إن ناساً يقولون: إذا [قعدت على] حاجتك؛ فلا تستقبل القبلة، ولا بيت المقدس، لقد ارتقيت على ظهر بيت لنا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبل بيت المقدس"؛ وهذا ما استدل به الشافعي على عدم تحريم الاستقبال، والاستدبار في البيوت؛ لأن من يستقبل بيت المقدس [من المدينة يستدبر الكعبة، وإلا فاستقبال" بيت المقدس] واستدباره؛ إذا لم يتضمن استقبال الكعبة، واستدبارها مكروه؛ كما قاله في "التتمة" ويغضد ذلك رواية البخاري، عن ابن عمر: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستدبر القبلة، مستقبل الشام". وروى عن عراك بن مالك قال: "سمعت عائشة تقول: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناساً يكرهون استقبال القبلة بفروجهم؛ فقال صلى الله عليه وسلم:

أو قد فعلوها؟! حولوا بمقعدتي إلى القبلة" رواه أصحاب السنن. والفرق من حيث المعنى بين الصحاري والبيوت من وجهين: أحدهما: أن الصحاري لا تخلو من مصل: من ملك، أو جني، أو إنسي؛ فربما وقع بصره على فرجه؛ فيتأذى به. وأما الحشوش في البناء؛ فإنها موضع الشياطين؛ فتخلو عن المصلين. والثاني: أنه لا مشقة في تجنب ذلك في الصحاري بخلاف البيوت؛ فإنه مع ضيقها يشق ذلك. وفي هذا كله دليل عدم التحريم، وإلا فالأدب أن يتوقى استقبالها واسدبارها في البنيان ويهيئ مجلسه مائلاً عن ذلك. فرع: لو جلس في الصحراء إلى ما يستره من جبل، أو جدار، أو دابة، هل يغلب حكم الصحراء في المنع من الاستقبال والاستدبار، أو يغلب حكم الستر في جواز ذلك؟ فيه وجهان في "الحاوي" جاريان فيما إذا كان في مصر من خراب قد صار فضاء، والعمراني في "الزوائد" حكاهما [فيما] إذا كان الساتر من جرم الأرض؛ بأن نزل في وهدة منها. والذي ذكره الجمهور في الولى عدم التحريم، واعتبروا في قدر الساتر وما بينه وبينه ما سلف؛ وفي الثانية التحريم؛ كما في الصحراء؛ نظراً للمعنى. قال: وإذا أراد الاستنجاء بالماء - انتقل إلى موضع آخر؛ لما روى عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يتوضأ؛ فمغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يتوضأ؛ فإن عامة

الوسواس منه" أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب. والمعنى فيه: التحرز عن أن يلحقه رشاش مما يقع على الخارج. قال بعضهم: وهذا متجه إذا كان يقضي حاجته على وجه الأرض، أو على موضع يترشش بمصادمته الأرض، أما إذا كان بعيد الهوي- فلا وجه للكراهة. ومغفل: بغين معجمة، وفاء مشددة مفتوحة. واحنرز الشيخ بقوله: "بالماء" عما إذا أراد الاستجمار؛ فإنه لا ينتقل عنه؛ لأن المعنى الذي لأجله شرع الانتقال مفقود فيه، بل في انتقاله نقل النجاسة عن محلها، وبه يتعين استعمال الماء؛ ولهذا المعنى استحب الأصحاب إعداع أحجار الاستجمار قبل قضاء الحاجة، وعليه يدل - أيضاص - قوله - عليه السلام -: "اتقوا الملاعن، وأعدوا النبل". والنبل: يروى بضم النون، وفتحها، وهي: حجارة الاستنجاء الصغار. قال الهروي: والمحدثون يروونها بالفتح، وهي من الأضداد، يقال للصغار: نبل، وللعظام: نبل.

وقال الأصمعي: هي برفع النون: جمع نبلة كيورة وسور. قال: والاستنجاء واجب من البول والغائط؛ لقوله - عليه السلام - في الخبر الذي رواه الشافعي عن رولية أبي هريرة: "وليستنج بثلاثة أحجار" فإنه أمر، وظاهره الوجوب، وقد روي [عن] عروة، عن عائشة أنه - عليه السلام - قال: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط؛ فليذهب [معه] بثلاثة أحجار يستطيب بهن؛ فإنها تجزئ عنه" أخرجه أبو داود؛ فلما أمر بالأحجار، وعلق الإجزاء بها، دل على وجوبها، وعدم الإجزاء بفقدها. وقد أبعد المزني؛ حيث صار إلى عدم وجوب [الاستنجاء؛ قياساً على عدم وجوب] إزالة الأثر الباقي بعد الاستجمار. وقاله - عليه السلام -: "تنزهوا من البول؛ فإن علمة عذاب القبر منه" وقوله -

عليه السلام - وقد مر بقبرين:"إنهما يعذبان ... " الخبر يرد عليه. وقد أفهم كلام الشيخ هذا أن الاستنجاء لا يجب فيما عدا البول والغائط، ولا شك في وجوبه من الرطوبات النجسة الخارجة من السبيلين وعدم وجوبه من خروج الريح، ولم يفرق الأصحاب بين أن يكون المحل رطبا أو يابسا، ولو قيل فيما إذا كان رطبا: في وجوبه خلاف؛ بناء على أن دخان النجاسة طاهر أم نجس؟ كما قيل بمثله في تنجيس الثوب الذي يصيبه إذا كان رطبا - لم يبعد. ولكن قد يقال في جوابه: إن ذلك لا يزيد على ما يبقى على المحل بعد الاستجمار، وذلك معفو عنه، والله أعلم. وعلى هذا فالجواب عما أفهمه كلام الشيخ هنا: أنه أراد انطباق دلالة الخبر الأول على دعواه، والاستنجاء من الرطوبة يفهم وجوبه قوله من بعد: "فإن كان الخارج حصاة، لا رطوبة معها ... " إلى آخره؛ فإنه يفهم الجزم بوجوبه عند خروج الرطوبة، والله أعلم. قال: والأفضل أن يكون قبل الوضوء؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وخروجا عن الخلاف؛ فإنه شرط عند أحمد على رواية هي قول لنا ستعرفه، ولأن تأخيره يعرض الوضوء للانتقاد بالمس. وإذا ثبت أن الأفضل تقده على الوضوء؛ فعلى التيمم مع ضعفه أولى؛ ولأجل ذلك فصل الشيخ؛ حيث قال: فإن أخره إلى ما بعد الوضوء؛ أي: ولم يمس شيئا من ذكره، [ولا دبره]- أجزأه؛ أي: الوضوء؛ لأن الوضوء موضوع لرفع الحدث، ورفع الحدث لا يتوقف على استباحة الصلاة؛ بدليل جوازه قبل الوقت؛ فلم يمنع من صحته قيام نجاسة مانعة من الاستباحة، وهذا ما نص عليه في البويطي.

وحكى الإمام عن رواية المزني في "المنثور" قولا آخر: أنه لا يجزئه، وبه يحصل فيه قولان، وقد حكاهما أبو علي في "الإفصاح"، عن رواية المزني في "المنثور". والقاضي الحسين قال: عدم الإجزاء مخرج من مسألة التيمم، وكيف قدر فهو ضعيف بالاتفاق، بل قال الإمام: لولا أن المزني نقله، لم أعده من المذهب. قال: وإن أخره إلى ما بعد التيمم، لم يجزئه؛ أي: التيمم؛ لأن التيمم موضوع لاستباحة الصلاة، لا لرفع الحدث، ولا استباحة مع قيام النجاسة، وهذا ما نص عليه في "البويطي" "والأم". قال: وقيل: يجزئه؛ قياسا على الوضوء، وهذا أخذ من قول الربيع: "وفي التيمم قول آخر: أنه يجزئه"، والقياس ظاهر على رأي من يعتقد أنه يرفع الحدث، لكن الجمهور على أنه لا يرفعه، واختلفوا في نقل الربيع: فمنهم من صححه، وأثبت في التيمم قولين، وقطع في الوضوء بالإجزاء؛ وهذه طريقة ابن القاص، وهي التي حكاها الإمام عن الأكثرين، ولم يحك أبو الطيب غيرها، واقتضى كلامه ترجيح القول بإجزاء التيمم. ومنهم من لم يصححه، وقال: ذلك من تخريجه وكيسه؛ فلا يصح التيمم قولاً واحداً؛ وهذه طريقة أبي إسحاق، وحكى البندنيجي أنه قال: [إذا قال] الربيع: "وله قول آخر"، فإنما هو من كيسه وتخريجه؛ فلا يلتفت إليه. وعلى هذا فالذي ذكره العراقيون في الفرق بين الوضوء والتيمم ما ذكرناه. والقاضي الحسين فرق بأنه يجب عليه طلب الماء؛ للاستنجاء، وطلب الماء بعد التيمم يبطله؛ فصار كما لو تيمم، ثم رأى سواداً أو نحوه، وطلب الماء [لا يبطل] الوضوء. قلت: وفي هذا نظر من وجهين: أحدهما: أن لا نسلم أن طلب الماء للاستنجاء واجب؛ إذ الحجر يقوم مقامه، ثم لو سلمناه بأن لم يكن الحجر موجوداً، أو كان الخارج لا يجزئ فيه إلا الماء؛ فهو يقتضي أن محل الخلاف فيه إذا كان التيمم لأجل فقد الماء، أما لو كان لمرض [ونحوه]، فيجوز وجها واحداً؛ لأن طلب الماء في هذه الحال لا يبطل التيمم،

والمفهوم من كلام الأصحاب حكايته في الحالتن. ثم الفرقان [يقتضيان] أنه لا يصح تيمم من على يديه نجاسة. والقائلون بالأول قالوا: في صحة تيممه وجهان: أصحهما عند أبي الطيب، والأقيس عند البندنيجي، وهو المنصوص في "الأم"؛ كما قال ابن الصباغ-: عدم الصحة، وعلى هذا لا فرق، وعلى مقابله فالفرق أن نجاسة الاستنجاء هي التي أوجبت التيمم؛ فجاز أن يكون [بقاؤها] مانعاً من صحته، وما عداها لا يوجب التيمم؛ فلا يكون بقاؤهل مانعاً من صحته، وقد حكاه الماوردي عن رواية أبي حامد عن الداركي، وفيه نظر. والقائلون بالثاني قالوا: إن كان عالماً في ابتداء التيمم بالنجاسة - لا يبطل تيممه؛ لأنه إذا طلب الماء في الابتداء؛ فذاك الطلب يقع عنها. وإن لم يعلم بالنجاسة حتى تيمم، أو طرأت النجاسة عليه - بطل تيممه؛ لأنه تجدد عليه الطلب لذلك، [ولم يظهر لي في اختصاص] هذا التفصيل بهذه الحالة معنى، بل هو في نجاسة النجو أولى. والفرق الأول يقتضي أنه لا يصح تيمم من هو مكشوف العورة، ولم يحك الإمام وغيره [فيه] خلافاً في الصحة، وبه قوى أبو الطيب القول بصحة التيمم قبل الاستنجاء، وغيره فرق بأن [باب] النجاسة آكد من ستر العورة. قال: والأفضل أن يجمع في الاستنجاء بين الماء والحجر، [أي]: ويقدم الحجر؛ لأن الله - تعالى - أثنى على أهل قباء بقوله:- (فيه رجال يحبون أن يتطهروا ...) الآية [التوبة: 108] فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فقالوا: "كنا نتبع الحجارة الماء" وفيه من طريق المعنى أن العين تزول بالحجر، والأثر بالماء فلا

يحتاج [إلى] مخامرة النجاسة، وقد قالت عائشة: "مرن أزواجكن أن يتبعن الحجارة الماء من أثر الغائط؛ فإني أستحبه منهم؛ كان رسول الله صلى الله علبيه وسلم يفعله" رواه أبو سعيد، واحتج به. قال: فإذا أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل؛ لأنه الأصل، ويزيل العين والأثر، والحجر لا يزيل إلا العين. والمستحب في كيفية الاستنجاء به من الغائط أن يعتمد على الوسطى من أصابع كفه اليسرى، وهل يندب له شمها بعد غلبة ظنه بزوال العين والأثر، أم لا؟ قال الماوردي: ذلك ينبني على أنه لو شمها؛ فرأى فيها رائحة النجاسة هل يكون ذلك دليلاً على نجاسة المحل، أم لا؟ فيه وجهان؛ فإن قلنا: إنه دليل - ندب إلى شمها، وإلا فلا. قال في "الكافي": ويستحب له بعد استنجائه أن يمسح يده على أرض طاهرة، أو جدار، ثم يغسلها. وأشار القاضي الحسين قبيل باب: الساعات إلى أنه - عليه السلام - فعله.

قال: وإن اقتصر على الحجر، أجزأه؛ لما ذكرناه من رواية عروة عن عائشة. وظاهر هذا أنه لا فرق [فيه] بين الاستنجاء من الغائط أو البول، وبين الرجل والمرأة، وهو مما لا خلاف فيهما من الرجل، وفي الغائط من المرأة، وأما في البول منها: فإن كانت بكراً، فالحكم كذلك، وإن كانت ثيباً فالنص في "الأم": أنه يجزئ أيضاً، وهو الذي ذكره أبو الطيب وابن الصباغ؛ لأن منفذ البول لم يتغير بزوال البكارة، والخارج معهود. وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه لا يجزئ؛ لأن الغالب أنها إذا بالت ينتشر البول إلى مدخل الذكر، ويتفاحش، وهذا ما حكاه صاحب "الحاوي" و "الفروع". وفي "تعليق البندنيجي"، والقاضي الحسين "والكافي": أنها إن تحققت أنه وصل إلى أسفل - لم يجزئها الحجر، وإلا أجزأها. وقال في "الإبانة": إن أمكنها إيصال الحجر إلى جميع [المواضع] التي يجب إيصال الماء إليها أجزأها الحجر وإلا فلا. قال: وإنما يجب إيصال الماء إلى الموضع الذي يظهر عند جلوسها. وفي "الرافعي" وجه آخر: انه يجب إيصاله إلى باطن فرجها؛ كما تخلل أصابع رجلها؛ لأنه صار ظاهراً في الثيوبة. فرع: الخنثى المشكل [هل] يجزئه الحجر عن الغائط وعن البول؟ أطلق الأصحاب أنه لا يجزئه، سواء خرج من فرج الرجال أو النساء أو منهما؛ لاحتمال الزيادة. قال الرافعي: ويجيء فيه الخلاف المذكور في إجزاء الحجر في الثقبة المنفتحة تحت المعدة، [مع انفتاح المخرج المعتاد]؛ بناء على أنه ينتقض الوضوء بالخارج منه. وهذا سبقه به الشاشي. واعلم: أن محل إجزاء الحجر بلا خلاف إذا كان الخارج من السبيلين بولاً أو غائطاً، أو ما هو معتاد مع بقائه رطباً على المحل، ولم يتعد المخرج، ولا انتقل عن الموضع الذي حصل فيه عند الخروج، ولا اختلط به نجاسة أجنبية؛ فإن اختلط به نجاسة أجنبية، أو انتقل عن المحل الذي صادفه وقت الخروج - لم يجزئ فيه إلا الماء بلا خلاف؛ وكذا لو جف الخارج قبل الاستنجاء؛ لأنه بعد الجفاف لا يمكن

إزالته بالحجر؛ وهذا يمكن أن يؤخذ من كلام الشيخ؛ كما سنذكره. وعن الروياني: أنه إن أمكن إزالته بالحجر؛ أجزأه، واختاره. وإذا تعدى المحل، أو كان الخارج نادراً، ففيه خلاف يأتي إن شاء الله. قال: وإن انتشر الخارج إلى باطن الألية؛ أي: انتشاراً متصلاً بحلقة الدبر؛ بحيث لم ينفصل بعضه عن بعض، ففيه قولان: أصحهما: أنه يجزئه [الحجر]؛ لأنه لم يزل في زمانه - عليه السلام - وإلى اليوم رقة البطون في الناس، خصوصاً من قوتهم التمر: كأهل المدينة؛ فإنه يرق البطون، ومن يرق بطنه ينتشر الخارج منه عن الموضع وما حواليه، ومع ذلك أمروا بالاستجمار، وهذا ما حكاه الماوردي عن القديم، وعن رواية الربيع، وغيره حكاه عن نصه في "الأم" و "حرملة" و "الإملاء"، وهو الأظهر، وبه قطع بعضهم، وأجاب به المحاملي في "المقنع". والثاني: لا يجزئه إلا الماء؛ لأن انتشاره لا يعم، ولا يغلب؛ فإذا أيقن وجب غسله؛ كما لو انتشر إلى ظاهر الألية، وهذا ما حكاه الجمهور عن القديم. وقال الماوردي: إن المزني نقله هنا، وأشار إليه البويطي، ورجحه الغزالي، والإمام والقاضي الحسين، وكثيرون منهم: صاحب "المرشد"، ومنهم من قطع به. والألية: ما ينبو عند القيامن وباطنها ما يستر بانطباقها؛ وهي مفتوحة الهمزة. التفريع: إن قلنا بالأول؛ فلو كان الانتشار منقطعاً، وجب غسل ما انقطع وانفصل عن حلقة الدبر. وإن قلنا بالثاني؛ فلو كان انتشاره عن المخرج، لكن لم ينتشر أكثر من القدر المعتاد أجزأ فيه الحجر؛ لأن ذلك القدر من الانتشار يتعذر - أو يتعسر - الاحتراز عنه؛ وهذا ما نص عليه في عامة كتبه؛ كما قال البندنيجي. ونقل المزني أنه يجزئه الحجر مالم يعد المخرج؟ فإن عدا المخرج لم يجزئه إلا الماء؛ فمن الأصحاب من أثبته قولاً آخر، وزعم أن الضرورة تختص بالمخرج؛ فلا يسامح فيما عداه بالاقتصار على الأحجار. والأكثرون امتنعوا من إثباته قولاً،

وانقسموا إلى مغلط، وعليه جرى البندنيجي، وإلى مؤول على إرادة المخرج، وما حوله، وأحوجهم إلى هذا قول الشافعي في "مختصر البويطي": "ومن تغوط، أو بال؛ فلم يعد الغائط المخرج، ولم يعد البول مخرجه - أجزأه أن يمسح بثلاثة أحجار"؛ فإنه مؤول على ذلك. قال: وإن انتشر البول - أي: عن الثقب - لم يجزئه إلا الماء؛ لأنه يخرج بتزريق؛ فيندر فيه الانتشار، ومع الندرة لا مشقة في الماء؛ وهذه طريقة أبي إسحاق، ولم يورد الماوردي سواها. وقيل: فيه قولان: أصحمها: أنه يجزئ فيه الحجر مالم يجاوز موضع القطع. والثاني: لا [يجزئ فيه] إلا الماء؛ إلحاقاً لموضع القطع بباطن الألية، والبول إلى ما وراء موضع القطع - أنه ينعين الماء، لأنه نادر بمرة، ولا فرق في هذه الحالة بين القدر المجاوز وغيره إذا كان متصلاً. ومنهم من جعل مالم يجاوز على الخلاف؛ وهذه طريقة أبي حامد. قال الماوردي: وهي خطأ، والذي عليه الجمهور أصحابنا الأول. ووجهه القاضي الحسين بأنه لا يمكن غسله فقط؛ لأن رطوبة المغسول تتعدى إلى الباقي. قال: وإن كان الخارج دماً أو قيحاً ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجزئه إلا الماء؛ لأن الاقتصار على الحجر تخفيف على خلاف القياس ورد فيما تعم به البلوى؛ فلا يلحق به غيره. قال القاضي الحسين: وهذا ما رواه الربيع؛ حيث قال: [لو تخلى دماً، أو قيحاً، فليس له أن يستنجى بالأحجار، وعليه يدل] قوله في القديم: لو كان في جوف مقعدته بواصير - بالباء والنون والصاد والصين - فخرج منها دم فلا يجزئه إلا الماء. والرافعي ذكر أن الربيع هو الذي روى ذلك، وأخذ منه هذا القول. والثاني: يجزئه فيه الحجر؛ نظراً إلى المخرج المعتاد؛ فإن خروج النجاسات من

على الانقسام إلى الغالب، والنادر مما يتكرر، ويعسر البحث عنها والوقوف عليها؛ فيناط الحكم بالمخرج، وهذا ظاهر ما نقله المزني وحرملة، وهو الصحيح في "الكافي" وغيره، ومنهم من قطع به، وتأول ما قاله في القديم على ما إذ كان بين الألتين، لا في الداخل. قال القاضي الحسين: ومنهم من قال في النقل تصحيف؛ لأنه قال: "ولو كان في جوف مقعدته بواصير". قلت: وهذا تأويل من لم يقف على نقل الربيع، ولا جرم اقتصر الشيخ على حكاية القولين. قال الفوراني: وقد اختلف الأصحاب في محل القولين: فقيل: محلهما: إذا كان الدم والقيح ملوثا بالمعتاد؛ فلو انفرد، لم يجزئه إلا الماء، وهو اختيار االقفال. ومنهم من قال: لا فرق، وصححه في "التتمة". والخلاف جار في كل خارج من القبل أو الدبر على وجه الندور، وقد عد منه في "المهذب" و "الحاوي" المذي والودي. واعلم: أنه يستثنى من الدماء دم الحيض؛ فإن الإمام حكى عن العراقيين ـنه يتعين في إزالته الماء، ثم قال: وليس هذا بعيداً عن الاحتمال. قلت: وما حكاه عن العراقيين قد رأيته في "تعليق البندنيجي"؛ فإنه قال: إن الاستنجاء بالحجر لا يغني فيه؛ لأن عليها غسل جميع البدن، وتبعه صاحب "الكافي" في ذلك، وهذه العلة [مدخولة؛ لأنها] تفهم جواز الاستنجاء بالحجر عند فقد الماء وإرادة التيمم. وفائدته: ألا يجب عليها الإعادة إذا كانت في السفر؛ إذ لو قلنا: إنها لا تستنجي [عن دم] الحيض بالحجر لكانت مصلية بالنجاسة؛ فيجب عليها الإعادة على الصحيح من المذهب، وقد صرح بالمفهوم - كما قال في "الروضة" - صاحب "الحاوي" وغيره، لكن الذي نص عليه الشافعي؛ كما حكاه الروياني في "تلخيصه": أن البكر يجزئها [فيه] الاستنجاء بالحجر دون الثيب،

وعلته ان البكر لا يجب عليها غسل ما وراء العذرة؛ فالحجر يأتي على ما يأتي عليه الماء؛ فأجزأها، والثيب يجب عليها غسل ما يبدو عند القعدة، والحجر لا يأتي على ذلك كله؛ فلا يجزئها، ويشهد له أن العراقيين قالوا: إن الثيب إذا بالت، وتحققت دخول البول في موضع الحيض تعين الماء؛ لما ذكرناه. ثم ما ذكره [الإمام] من الاحتمال، يجوز أن يكون مادته أن ما وراء ملتقى الشفرين لا يجب غسله في الجنابة والحيض؛ كما جزم هو به، وهو واجب في الاستنجاء؛ فلا يكون الغسل شاملا له، وهو خلاف ما قاله العراقيون، وحينئذ يكون كغيره من الدماء، والله أعلم. قال: وإن كان الخارج حصاة لا رطوبة معها؛ أي مشاهدة لم يجب الاستنجاء في أحد القولين؛ لأن المقصود من الاستنجاء: إزالة النجاسة، ظظظاو تخفيفها عن المحل؛ فإذا لم يلوث المحل فلا معنى للإزالة، ولا للتخفيف؛ وهذا مااختاره المزني، وصححه الرافعي، وصاحب "الكافي"، وقال ابن الصباغ: إنه أظهر. ويجب في الآخر؛ لأنها لا تخلو عن رطوبة وإن قلت وخفيت، والفوراني علله بالتعبد؛ وهذا القول صححه الإمام، والقولان منسوبان لـ "الجامع الكبير". والغزالي، وإمامه، والشيخ أبو محمد والصيدلاني أثبتوا الخلاف وجهين، وهو مشبه في "تعليق القاضي الحسين" بما إذا ولدت المرأة، ولم تر دماً. واعلم: أن ما ذكرناه من الخلاف جار فيما لو كان الخارج دودة، أو نواة، أو بعرة، لا رطوبة معها؛ كما صرح به ابن الصباغ وغيره، وعلى الثاني هل يجزئ فيه الحجر؟ قيل: نعم، وههو اختيار القاضي أبي الطيب، وادعى في "الروضة" أنه المذهب. وقيل: قولان، وهي المذكورة في"الشامل" و "تعليق البندنيجي"، "الروضة" إلى الجمهور، وقال: إن الأولى الصواب. قال: وإذا استنجى بالحجر، لزمه إزالة العين - أي: به - بمسحة واحدة، أو مسحات، زادت على الثلاث أو لا؛ لإمكان ذلك، ومن هنا يؤخذ أن شرط جواز الاستنجاء بالحجر أن يكون ما يستنجى منه رطباً؛ كما سلف. نعم، ما لا يمكن إزالته بالحجر

من العين، يعفى عنه، وصورته - كما قال الإمام - أن ترق النجاسة بعد الرقة، وانتشرت إلى معاطف الشرج المطبقة بالمنفذ؛ فإن النجاسة تغوص في [أثناء تلك المعاطف، والأحجار لا تلاقي إلا ظواهرها، وتبقى الأعيان على] تلك المعاطف. قلت: ولأجل هذا كره علي - كرم الله وجهه - الاقتصار على الأحجار إلا حالة الضرورة؛ كما قال الماوردي موجهاً ذلك بقوله: إنما كنا نبعر وأنتم تثلطون ثلطاً. ولا يكلف المستجمر إزالة الأثر اللاصق الذي لا يزيله إلا الماء؛ لأنه ليس في وسعه، وذلك محل العفو، وهذا بخلاف الاستنجاء بالماء؛ فإنه يلزمه إزالة العين والأثر؛ كما في سائر النجاسات لإمكانه من غير كلفة. ولو بقى بعد الاستنجاء بالحجر أثر لا يزيله الحجر، وتزيله الخرق، قال في "الحاوي": وظاهر مذهب الشافعي: أن عليه إزالته، وهو قول أكثر أصحابه. وفيه وجه آخر لبعض المتقدمين منهم: أنه لا تلزمه إزالته؛ لأنه لما كان فرضه يسقط بالأحجار لزمه إنقاء ما يزول بالأحجار. قال: واستيفاء ثلاث مسحات - أي: يعم بكل مسحة جميع المحل؛ كما نص عليه في "الأم"، وإن حصل الإنقاء بدونها: إما بحجر له ثلاث أحرف، أو بأحجار ثلاثة. ووجهه في الأحجار ظاهر الخبرين السابقين، وما رواه مسلم عن سلمان الفارسي وقيل له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ فقال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو أن نستنجي باليمين أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع، أو عظم". ووجهه في الحجر ذي الأحرف ما روى أنه - عليه السلام - قال:" إذا جلس

أحدكم لحاجته؛ فليمسح ثلاث مسحات"، ولأن المقصود من الأحجار الثلاث تعدد المسحات؛ إذ بها يحصل الإنقاء غالباً، وهو موجود في الحجر ذي الأحرف. وقد أفهم كلام الشيخ أنه لا يجزئه الاستنجاء بالحجر الواحد؛ إذا لم يكن له غير حرف، وإن غسله من أول دفعة [ونشفه]، ثم استنجى به، ثم غسله، ونشفه واستنجى به؛ وهو وجه حكاه الرافعي مقيساً على عدم جواز التيمم بالتراب المتيمم به، والحجر الواحد في الجمار، وتكرر شهادة الشاهد الواحد في الواقعة الواحدة. لكن المشهور أنه يجزئ من غير كراهة، وليس كما ذكرنا؛ لأن غلبة الظن في الشهادة هي المطلوبة، ولا تحصل بالتكرار، والتراب والحجر مستعمل في التيمم والجمار كله، ولا كذلك هنا؛ فإن المقصود: حصول الإنقاء، وإذا استعمله ثانياً [وثالثاً] كما ذكرنا حصل، والمستعمل منه فيه بعضه؛ ولهذا لو قسمه أقساماً أجزأه وفاقاً. وعلى هذا فالجواب عما أفهمه كلام الشيخ أن من شرط الاستنجاء بالحجر؛ كما [سلف أن] يكون ما على المحل رطباً؛ فتصوير جفاف الحجر مرتين، مع بقاء ما

على المحل رطباً يندر؛ فجرى كلامه على الغالب. فإن قيل: إذا كان المقصود الاستنجاء: الإنقاء واكتفيتم بالمسحات بحجر واحد؛ لحصوله؛ فينبغي إذا حصل الإنقاء بمسحة واحدة أن تكتفوا بها. قلنا: قد أبعد بعض أصحابنا، فقال به، لكن المشهور والذي نص عليه الشافعي عدمه؛ كما ذكره الشيخ؛ لأن الشارع إذا نص على عدد فلا بد له من فائدة، وهي [إما منع الزيادة] والنقصان أو منع أحدهما، والزيادة غير ممتنعة هنا؛ فتعينت في عدم النقص؛ ولأنها عبادة ورد الشرع فيها بالأحجار يستوي فيها الثيب والأبكار؛ فللعدد فيها اعتبار، دليله رمى الجمار. أو لأنها نجاسة شرع في إزالتها عدد؛ فوجب الإتيان به؛ كما في [غسلات] الإناء من ولوغ الكلب؛ [ولأن الإنقاء الحاصل بثلاث مسحات لا يوجد بالمسحة الواحدة؛ خصوصا والمحل الممسوح غير مشاهد للماسح؛ فتعين الإتيان بها]. فرعان: إذا لم تزل العين بالثلاث، وجب الزيادة عليها، ويستحب أن يكون وترا إن حصل الإنقاء بالشفع؛ لقوله - عليه السلام-:"من استجمر؛ فليوتر" وعن ابن خيران أنه يجب الوتر؛ لظاهر الخبر.

والثاني: إذا حصل الإنقاء بواحد؛ فاستعمال الثاني والثالث واجب؛ كما ذكرنا، وهل يجوز استعمالها مرة أخرى في استنجاء آخر؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما في الجمار. والثاني: لا؛ لأنه تأدى بها فرض الاستنجاء؛ فأشبهت الماء. قال: والمستحب أن يمر حجرا من مقدم الصفحة اليمنى، إلى أن يرجع إلى الموضع الذي بدأ منه، ثم يمر الثاني من مقدم الصفحة اليسرى إلى أن يرجع إلى الموضع الذي بدأ منه، ثم يمر الثالث على الصفحتين والمسربة؛ لقوله - عليه السلام-: "وليستنج بثلاثة أحجار، يقبل بواحد، ويدبر بواحد، ويحلق بالثالث" وهو اختيار ابن أبي هريرة، [والشيخ أبي زيد، كما قال القاضي الحسين]. فإن قلت: إذا كان هذا المستحب؛ فما الكيفية الواجبة؟ قلنا: إمرار كل حجر على جميع المحل كما ذكرنا، سواء بدأ بمؤخر الصفحة، أو وسطها، أو آخره؛ هكذا دل عليه كلام العراقيين، وحكوا عن أبي إسحاق المروزي

أنه قال: يمر حجرا على الصفحة اليمنى فقط، وحجرا على الصفحة اليسرى فقط وحجرا على المسربة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"حجرا للصفحة اليمنى وحجرا للصفحة اليسرى، وحجرا على الوسط"؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن نص الشافعي في "الكبير"، وخطأ الأصحاب أبا إسحاق فيه؛ من حيث إنه لم يقع استيعاب كل حجر لجميع المحل، ومن نقله عن النص قال: النص مؤول على الكيفية الأولى؛ وكذا الخبر؛ فيكون معنى قوله - عليه السلام-: "حجرا للصفحة اليمنى" أي: بدأ فيه بالصفحة اليمنى، وقوله" وحجرا للصفحة اليسرى" أي: بدأ فيه بالصفحة اليسرى، وقوله: "وحجرا للوسط" محمول على الإدارة على جميع المحل. قال الإمام: وهذا بعيد. قيل: حمل الوسط على الجميع بعيد لا يستقيم، وإن قيل: معناه: يبدأ بالوسط؛ فلست أرى [فيه] معنى. وهل خلاف أبي إسحاق في الوجوب أو الاستحباب؟ الذي حكاه الإمام عن العراقيين أنهم قالوا: هو في الاستحباب، وهو ما يفهمه كلامهم، والمسلكان جميعا جائزان عنده، ولا يجوز الثاني عند غيره. وعن الشيخ أبي محمد أن الوجهين موضوعان على التنافي؛ فصاحب الوجه الأول لا يجيز المسلك الثاني، وصاحب الوجه الثاني لا يجيز المسلك الأول، وعلى هذا فظاهر؛ لما ذكرناه، وأما كون صاحب الوجه الثاني لا يجيز المسلك الثاني فظاهر؛ لما ذكرناه، وأما كون صاحب الوجه الثاني لا يجيز المسلك الأول فلا وجه له؛ إذ الزيادة في استعمال الأحجار غير ممنوعة، وهذا كذلك، وقد حكاه في "الروضة" وجها. وجوابه يتوقف على معرفة شيء مقصود في نفسه، وهو كيفية ما يضع الأحجار،

وغيرها، وقد قال بعضهم: إنه يجب على المستجمر أن يضع الحجر أولاً في موضع طاهر - فإنه لو وضعه على موضع نجس؛ لخلف شيئاً من النجاسة - ثم يديره أولاً فأولاً؛ بحيث يلقي كل جزء طاهر منه جزءاً من النجاسة ينقلها، ويختطف ذلك خطفاً ولا يمسح به مسحاً؛ كي لا يكون ناقلاً للنجاسة من محل إلى محل فيتعين في إزالتها الماء، وهذا ما حكاه القاضي الحسين، عن أبي زيد. وحكى الإمام معه وجهاً آخر: أنه [لا] يجب ذلك، وهو ما يفهمه قول الشيخ: "له ثلاثة أحرف"؛ إذ مع الحرف قد لا يمكن الإتيان باليئة الأولى. ووجهه الإمام: بأن الاستجمار رخصة، لا توازيها في التساهل رخصة؛ فلا يليق بوضعها تكليف ذلك، وأنه لو كلف ألا تنتقل النجاسة في محاولة رفعها [أصلاً]، لكان ذلك تكليفا بأمر يتعذر الوفاء به، وذلك لا يليق بالفرائض التي ليست برخص؛ فكيف يليق بما مبناه على نهاية التخفيف؛ لذلك فالقدر الذي يعسر مع الاحتياط التصون منه في النقل يجب أن يعفى عنه. فإذا عرف ذلك عدنا إلى ما نحن فيه، وقلنا: إنما امتنع إمرار [كل] حجر من الأولين على الصفحتين؛ لأن ملاقاة كل جزء من النجاسة جزءا طاهرا من الحجر، لا يدركه المستنجي يقينا؛ لأنه لا يشاهده، وفي حصول ذلك عسر؛ كما ذكرناه، والشرع اكتفى به في أحد الصفحتين بالظن؛ للضرورة؛ فإنه لو لم يكتف به لما جاز الاستنجاء بالحجر؛ [كما ذكرنا]، ولا ضرورة في إمرار ذلك الحجر على الصفحة الأخرى بل يغلب على الظن عند إمراره عليها نقل النجاسة؛ فيتعين الماء؛ وهذا هو المعني بالوجوب: أنه لو أمر كل حجر منها على الصفحتين - تعين الماء, والله أعلم. وقد حكى البغوي وجها آخر في كيفية الاستنجاء: أنه يأخذ واحدا فيضعه على مقدم المسربة, ويديره إلى مؤخرها, ويضع الثاني على مؤخرها, ويديره إلى مقدمها, ويحلق بالثالث. قال الرافعي: وحاصله أنه رجع [إلى أنه] مثل الوجه الأول إلا في الحجر

الثالث؛ فإنه على الوجه الأول يمسح به الصفحتين والمسربة, وعلى هذا يمسح به المسربة فقط. تنبيه: الصفحتان: جانب مجرى الغائط [من الإنسان] والمسربة بضم الميم, وكذا الراء وفتحها, قال النواوي وغيره: مجرى الغائط, مأخوذ من سرب الماء. وقال الإمام: هي ملتقى الحجرين الأولين. وعليه ينطبق كلام الشيخ وغيره. ولو احتاج إلى أزيد من ثلاث مسحات, قال في "التتمة": كان ما عدا الثالثة كالثالثة. وقد سكت الشيخ عن الكيفية المستحبة في الاستجمار من البول, والذي ذكره العجلي وغيره: أنه لا يسمح في المرة الأولى, بل يضع الحجر على منفذ الذكر وضعا؛ لينقل البلة؛ وكذا في الثانية, وفي الثالثة يمسح. ووضع رأس الذكر على ثلاثة مواضع من حائط ونحوها كاف.

قال القاضي الحسين: ولو مسح بذكره من أعلى الحائط إلى أسفلها, أجزأه, ولو مسح من الأسفل إلى الأعلى, لم يجزئه. قال: ولا يستنجي بنجس- أي: بكسر الجيم- لأن المقصود من الاستنجاء: إزالة النجاسة, أو تخفيفها, والنجس يزيدها. ولا فرق في النجس بين نجس العين: كالرجيع ونحوه, أو المتنجس بغيره: كالحجر ونحوه. وقد استدل على المنع من الاستنجاء بخ بنهيه - عليه السلام- عن الاستنجاء بالرجيع, كما رواه [سلمان] الفارسي, وقالوا: لا علة إلا النجاسة, وفيه ما سنذكره. قال: ولا بمطعوم - أي: للجن والإنس:- كالعظم- أي: الطاهر- وجلد المذكي قبل الدباغ, ووجهه في الأول ما روى عن ابن مسعود أن وفد الجن أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد؛ انه أمتك عن الاستنجاء بالعظم, والروث؛ فإن الله جعل لنا فيه رزقا؛ فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال: "إنه زاد إخوانكم من الجن". وبعضهم استدل على منع الاستنجاء بالعظم, بحديث سلمان, وما ذكرته أولى؛ لأن فيه تعرضا لأنه مطعوم, وهذا إذا كان العظم على صفته, سواء جف أو لم يجف؛ فلو حرق, وخرج عن حال العظم, ففي جواز الاستنجاء به وجهان في "الحاوي", ووجهه في الثانية القياس على الأولى [وهو من باب الأولى] , وما ذكره الشيخ فيها عليه نص الشافعي- رضي الله عنه- في "الأم" و "حرملة", وبه قطع بعضهم.

قال أبو الطيب: لأن باطنه كاللحم, وظاهره عليه الشعر يمرسه, وكلاهما لا يحصل الإنقاء. وبعض الأصحاب قال: قد نص في "البويطي" على أنه يجوز الاستنجاء به؛ فيكون فيه قولان, وهذه طريقة أبي حامد وطائفة. وذهب الصيمري إلى تنزيل النصين على حالين؛ فقال: نصه في "الأم" و "حرملة" محمول على ما إذا كان رطبا, ونصه في "البويطي" محمول على ما إذا كان يابسا. قال الماوردي: ووجدت لبعض أصحابنا الخراسانيين أنه تحمل رواية المنع على باطن الجلد وداخله؛ لأنه باللحم أشبه, ورواية الجواز على خارجه؛ لأنه خارج عن حال اللحم؛ لخشونته وغلظه, وهذه الطريقة لم يحك القاشي الحسين غيرها. قال الماوردي: وهذا قول مردود مطروح, وإنما حكيته تعجبا. وقد أفهم كلام الشيخ أنه بعد الدباغ يجوز الاستنتجاء به جزما, أو على قول, وفيه طريقان: إحداهما: القطع بالجواز؛ لأنه في هذه الحالة غير مأكول, و [هذه الطريقة] لم يحك الماوردي وأبو الطيب وابن الصباغ سواها. والثانية: حكاية قولين فيه؛ أخذا مما سنذكره, [وهذه طريقة البندنيجي وغيره]. وقد أفهم كلامه أيضا أن جلد غير المذكى بعد الدباغ يجوز الاستجاء به قولا واحدا أو على قولين, والثاني هو المشهور؛ لأنه نص في "البويطي" و "الأم" - ونقله المزني- على جوازه. وقال في "حرملة": إنه لا يجوز الاستنجاء بشيء من الجلود؛ فحصل فيه قولان. قال أبو الطيب: والثاني على قياس القديم في منع بيعه. والقاضي الحسين قال: إن أصلهما أن الدباغ هل يطهر باطن الجلد؛ كما يطهر ظاهره, أو لا؟ فإن قلنا بالأول, جاز الاستنجاء به, وإلا فلا. وأعجب من قوله بعد هذا البناء: إن القولين جاريان في جلد المذكى بعد الدباغ. والماوردي قال: إن قلنا يجوز بيع جلد غير المذكى بعد الدباغ, جاز الاستنجاء به, وإلا فوجهان.

ووجه المنع: أنه لما أجري عليه حكم الميتة في عدم حل بيعه، وجب أن يجري عليه في الاستنجاء. واعلم أن تمثيل المطعوم بالعظم وجلد المذكى قبل الدباغ، يفيد منع الاستنجاء بغيرها من مطعومات الآدميين من طريق الأولى، وهو مما خلاف فيه، وهل يقتضي منع الاستنجاء بمطعوم البهائم فقط؟ يحتمل وجهين، وكل منهما قد صرح به؛ فإن ابن الصباغ قال: لا يجوز الاستنجاء بأوراق الأشجار؛ فإنها تعلف للدواب، وقد يستدل لهذا بنهيه - عليه السلام - عن الاستنجاء بالروث والرمة؛ لأنه في خبر قال: "أما الرمة فإنها زاد إخوانكم من الجن، وأما الروث فعلف دوابهم" فإذا علل منع الاستنجاء بالروث؛ لأنه علف [دواب الجن]- فدواب الإنس أولى. وقال الماوردي: لا يحرم الاستنجاء بعلف الدواب، وهل يحرم بما نأكله نحن وهي؟ ينظر: إن كان أكلنا له أكثر، حرم؛ وإن كان أكلها له أكثر، فلا، وإن استويا، فوجهان من اختلاف أصحابنا في أنه هل يجري فيه الربا، أم لا؟. قال: ولا بما له حرمة؛ لما في ذلك من امتهانه؛ ولأنه إذا منع من الطعام، [فما له حرمة] أولى، وقد مثل الأصحاب هذا النوع بما عليه مكتوب اسم معظم، أو الطيب، وابن الصباغ؛ وكذا الدراهم والدنانير المطبوعة، وحجارة الحرم، وماء زمزم؛ كما قال الماوردي. وفي "الرافعي": أنه لا يلتحق بالمحرمات الذهب والفضة على أصح الوجهين، ولعل مراده غير المطبوع.

وأوراق التوراة غير ملحقة بهذا النوع؛ كما قال القاضي الحسين؛ لأنه لا حرمة لها. قال: فإن استنجى بشيء من ذلك، لم يجزئه: أما إذا استنجى بالنجس؛ فلأنه زاد المحل نجاسة، وأما بالمطعوم؛ فلأن ما فيه من اللزوجة يمنع الإنقاء، وأما فيما له حرمة؛ فلأن الاستنجاء بالحجر رخصة؛ فلا تناط بالمعصية. وعلى هذا هل يتعين استعمال الماء؟ قال الأصحاب: ينظر: فإن [كان قد] استنجى بالنجس، ففيه وجهان: أحدهما: لا، لأن تحصيل الحاصل محال. والثاني: نعم؛ كما لو انفردت النجاسة الأجنبية. وفيما عداه إن انبسطت النجاسة تعين الماء، وإن لم تنبسط؛ وكان ما استنجى به رطبا - تعين ايضا، وإلا فلا. وقد قيل إذا استنجى بمطعوم حصل به الإنقاء [أو الشيء] المحترم يجزئه، وهو مجمع عليه في ماء زمزم؛ كما قال الماوردي. قال: ولا يستنجي بيمينه؛ أي: لا يجعل يمينه محركة للحجر، ولا للذكر إن جعل الحجر في يساره، ووجهه: ماذكرناه من خبر سلمان. وقد روى مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الماء". وكذلك لا ينبغي أيضا أن يستعين بيمينه فيه إلا عند الحاجة؛ كما إذا استنجى بالماء، أو بحجر لا يقدر على الاستنجاء به إلا بمسكه بها؛ قاله ابن الصباغ.

ثم هذا النهي: نهي تنزيه أو نهي تحريم؟ ظاهر كلام الاصحاب: أنه نهى تحريم, وبه صرح كلام بعضهم. وكلامه في "الكافي" يوهم خلافه؛ لأنه قال: "لو استنجى بيمينه, صح, كما لو توضأ من إناء ذهب أو فضة". قال: فإن فعل ذلك, أجزأه؛ لأن الاستنجاء يقع بما في اليد, لا باليد, ولا معصية في الرخصة. أو لأن النهي عن الاستنجاء باليمين لا يعود إلى الاستنجاء؛ فلم يمنع من صحته كالصلاة في الدار المغصوبة؛ وبهذا خالف النهي عن الاستنجاء بالعظم ونحوه؛ لأنه عائد إلى نفس المنهي عنه. فإن قلت: لم حملت قول الشيخ: "ولا يستنجي بيمينه" على ما ذكرت, [ولم تحمله على جعلها آلة الاستنجاء؟] قلت: لأن الماوردي قال: لأنه لو استنجى [بيد نفسه] لم يصح؛ بخلاف ما إذا استنجى بيد غيره؛ خلافا لابن خيران؛ فإنه قال: إنه يجوز بهما. وهو خطأ؛ فإن الفرق وقع بينهما في السجود؛ فإنه يجوز أن يسجد على كف غيره, دون كف نفسه, والشيخ قد قال: إنه إذا فعل ذلك أجزأه. فإن قلت: يجوز أن يكون الشيخ اختار مذهب ابن خيران. بل قال الإمام: لو استنجى بيد غيره؛ كما لو استنجى بعصفور حي [أي: فيكون] فيه وجهان. ولو استنجى بيد نفسه صح؛ [إذ لا حجر على المرء في تعاطي] النجاسة باليد. قلت: لو كان هذا مختار الشيخ لما خص المنع باليمين؛ إذ الشمال كذلك. وقد جزم ابن الصباغ بأنه: لا يصح بيد نفسه, ولا بيد غيره؛ وبذلك يتعين: أن مراده ما ذكرناه. [ومنه] يظهر لك أن المستحب: أن يستنجي بشماله؛ استدلالا بقول عائشة:"كان يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم لوضوءه وطعامه، ويساره لخلائه وماعدا

ذلك من أذى". ثم كيفية ما يفعل به في الغائط سلف، وأما البول: فإن كان يستنجي بحائط أو بصخرة أو أرض أخذ ذكره بيساره، ومسحه بذلك. وإن كان بحجر صغير, لا يمكن مسح ذكره به إلا بأن يمسكه بيده فقد اختلف الأصحاب: هل الأولى أن تكون يساره لأخذ الذكر والحجر؟ على وجهين: أحدهما: أن الأولى أن يأخذ بها الحجر؛ لأنه المقصود، ويكون ذكره بيميناه، وعلى هذا يمر الحجر على ذكره. والثاني: يأخذ الحجر بيمينه؛ لنهيه - عليه السلام - عن مس الذكر باليمين؛ فعلى هذا يمسح الذكر على الحجر؛ ليكون على الوجهين معا، ماسحا باليسرى دون اليمنى. فإن كان الحجر كبيرا يمكن حمله ووضعه بين يديه ويمسح ذكره به، فالأولى: ألا يحمله، ويضعه بين عقبيه أو إبهاميه، ويأخذ ذكره باليد اليسرى، ويمسحه به. واعلم أن قول الشيخ:"ولا يستنجي بنجس ... " إلى آخره، يفهمك أن الأحجار لا تتعين في الاستنجاء وإن نص النبي صلى الله عليه وسلم عليها؛ [إذ] لو كانت تتعين لما احتاج إلى تعديد ما لا يجوز الاستنجاء به، ولقال:"ولا يجوز إلا بحجر طاهر". وهذا مذهبنا، وعليه يدل قول سلمان:"وأن نستنجي برجيع أو عظم"،إذا سلكت فيه الطريق الذي ذكرناه. وقول وفد الجن لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أمتك عن الاستنجاء بكذا؛ يدل على أنهم لا يقتصرون على الأحجار. وكذا قوله - عليه السلام-: "وليستنج بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ولا عظم"،يدل عليه؛ لأن معناه: وليستنج بثلاثة أحجار وما قام مقامها. بل قد جاء في رواية سراقة بن مالك:"وليستنج بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع، أو ثلاثة أعواد"، كما سنذكره.

وعلى [هذا]؛ فحد ما يجوز الاستنجاء به غير الماء: كل جامد طاهر، قلاع للنجاسة، غير مطعوم، ولا محترم، ولا مخلف. [وعن ذلك عبر] الشيخ سهل الصعلوكي بأنه: كل ما نظف ونظف، وانصرف فزاد، ولم يخلف، وبالاستعمال لم يتلف. وبلفظ: "قلاع للنجاسة" يخرج العين المبلولة؛ فإنها لا تقلع النجاسة؛ لرطوبتها. والمشهور فيها: عدم الإجزاء. وفي "الحاوي" وجه أن البلل لا يمنع من الصحة؛ وإنما المانع كون الماء عليها. وعلى الأول، إذا استعملها مبلولة هل يتعين الماء؟ قال الأصحاب: إن انبسطت تعين [الماء]، وإن لم تنبسط؛ فعن الشيخ أبي محمد: أن الحكم كذلك؛ لأن البلل يتنجس بملاقاة النجاسة؛ فيصير حكمه حكم نجاسة أجنبية. قال الإمام: ولى فيه نظر؛ فإن عين الماء لا تنقلب نجسا، وإنما تجاور النجاسة، أو تخالطها. قلتك وما قاله أبو محمد تفريع على أنه: إذا استنجى بشيء نجس يتعين الماء؛ كما صار إليه أبو حامد. أما إذا قلنا: لايتعين كما حكاه البندنيجي عن الأصحاب فهنا أولى. ويخرج أيضا: الخرقة اللينة، ولبقطن اللين، والبيضة، والزجاج، والنحاس، والرصاص، ونحوه؛ إذا كان أملس، وكذا الحممة-: وهي الفحم - والتراب الذي لا يلتئم؛ لأن ذلك غير قلاع. وللشافعي- رضي الله عنه- في الحممة والتراب نصوص مختلفة حكاها المراوزة: أما في الحممة؛ فنص في "البويطي" على عدم الجواز.

ونقل الربيع جوازه بالمقابس، فمن الأصحاب من جعل المسألة على قولين، ومنهم من قال على حالتين: حيث قال: "يجوز" - أراد إذا كان صلبا، لا يتناثر؛ فإنه يحصل المقصود. وحيث قال: "لا يجوز" - أراد إذا كان رخوا. والذي أطلقه القاضي أبو الطيب والبندنيجي فيها - عدم الجواز. وأما التراب: فقد نص على جواز الاستنجاء به في القديم، وعليه يدل ما روت عائشة عن سراقة بن مالك: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التغوط فقال:"لا تستقبل القبلة، ولا تستدبرها، ولا تستقبل الريح، ولتستنج بثلاثة أحجار، ليس فيها رجيع، أو ثلاثة أعواد، أو بثلاث حثيات من التراب". وقال في موضع آخر: لا. فمن الأصاب من قال: في المسألة قولان، ومنهم من قال: [بل] على حالتين: فقوله في القديم محمول على ما إذا كان منعقدا مثل المدر، وقوله في الموضع الآخر محمول على ما إذا لم يكن منعقدا، وهذا أصح، ولم يحكي في "الحاوي" غيره. قال القاضي الحسين: وإذا قلنا: يجوز، فيحتاج إلى أن يستنجي [به] أربع مرات؛ لأنه إذا استنجى به مرة يلصق التراب بالمحل، وفي الثانية يتناثر عن المحل؛ ويستحب له الخامسة لأجل الإيتار. وإن قلنا: لا يجوز، فاستنجى به - تعين الماء، وكذا إذا استنجى بالحممة المفتتة، والله أعلم.

باب ما يوجب الغسل

باب ما يوجب الغسل الغسل- بفتح الغين-: مصدر غسل، وبضمها: اسم لذلك؛ قاله في "الصحاح" و"المجمل". قال بعضهم: وإنما قدم أسباب الغسل [هنا] على صفته، وعكس في الوضوء؛ لأنه ترجم أسباب الوضوء بنواقضه؛ فاستدعت شيئاً تنقضه، وترجم الأسباب هنا بالموجب؛ فاستدعت غسلاً بعده؛ لأن الأثر بعد المؤثر. وسبب ما ذكره من الترجمة أن الطهارة تقتضي ظاهراً وجوب الوضوء عند إرادة القيام إلى الصلاة، وإن لم يسبق ذلك حدث لو تصور، وأن الغسل لا يجب إلا بتقدم الجنابة؛ فدل على أنها توجبه. قال: ويجب الغسل على الرجل من شيئين: من خروج المني؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الماء من الماء" رواه مسلم. تنبيه: المني - مشدد الياء - سمي: منياً؛ لأنه يمنى، أي: يصب، وكذلك سميت منى؛ لما يراق بها من الدماء. ومني الرجل - في حال صحته - أبيض ثخين، متددفق في خروجه دفعة بعد دفعة بشهوة، ويتلذذ بخروجه، ويعقب خروجه فتور، ورائحته كرائحة طلع النخيل، قريبة من رائحة العجين، وإذا يبس كانت رائحته كرائحة البيض. وقد يفقد بعض هذه الصفات؛ بأن يرق ويصفر لمرض، أو يحمر لكثرة الجماع؛

فيصير كماء اللحم، وربما أخرج دما عبيطا؛ لضعف ما يبيضه، وهو في هذه الحالة طاهر على المشهور، وقد يخرج بغير لذة ولا شهوة؛ لاسترخاء وعائه، وهو في الأحوال كلها موجب للغسل. وخواصه التي إذا فقدت بجملتها لا يحكم بكونه منيا، وإن وجد بعضها ثبت أنه مني - ثلاث: إحداهما: خروجه بشهوة مع الفتور عقيبه. الثانية: الرائحة التي تشبه رائحة الطلع. الثالثة: الخروج بتدفق. وللإمام وقفة فيما إذا خرج دما عبيطا، مع وجود باقي الصفات؛ من حيث إنه لا يسمى منيا. قال: ومن إيلاج الحشفة في الفرج؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها؛ فقد وجب الغسل، وإن لم ينزل". قال ابن الأعرابي: و "الجهد" من أسماء النكاح، و "شعبها الأربع" قيل: هما الفخدان، والأسكتان: وهما حرفا الفرج، وقيل: اليدان، والرجلان. وعن عاثشة: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل؛ هل

عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني لأفعل ذلك، أنا وهذه، ثم نغتسل". أخرجه مسلم. وعن أبي موسى الأشعري أنه سأل عائشة - رضي الله عنهما - عن التقاء الختانين؛ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان - أو مس الختان الختان - وجب الغسل". ورواية الشافعي عنها، أنها قالت: "إذا التقى الختانان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا". وختان الرجل: موضع القطع من ذكره، وهو عند نهاية الحشفة. وختان المرأة: موضع القطع منها: والمراد بالتقائهما في الخبر-: تحاذيهما، وذلك يحصل بغيبوبة الحشفة في الفرج. قال الشافعي: يقال: التقى الفارسان، إذا تحاذيا وإن لم يتضاما، ولا يتصور أن تصادم الختانين؛ لأن ختان الرجل كما ذكرنا، وشفرا المرأة يحيطان بثلاثة أشياء: ثقبة في أسفل الفرج، هي مدخل الذكر، ومخرج الحيض والمني والولد. وثقبة أخرى - فوقها، مثل إحليل الذكر، هي مخرج البول لا غير. والثالث: فوق ثقبة البول، موضع ختانها؛ لأن هناك جلدة رقيقة قائمة، مثل عرف الديك. وقطع هذه الجلدة هو ختانها. قال: ويجب على المرأة من أربعة أشياء: من خروج المنى؛ لما روي عن أم مسلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسل، إذا هي احتلمت؟ قال: "إذا رأت الماء". أخرجه البخاري. وفي حديث آخر: فقالت أم سلمة: يا رسول الله، وهل تحتلم المرأة؟ فقال: "تربت

يداك؛ فبم الشبه؟! ". أخرجه الشيخان. وفي طريق لمسلم: "أن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيهما علا وسبق يكون منه الشبه". وأم سليم هذه هي بنت ملحان، زوج أبي طلحة الأنصاري، وهي أم أنس بن مالك، كما قاله أهل الحديث، ولم يختلفوا فيه. والغزالي قال - تبعاً لإمامه - والصيدلاني: إنها جدة أنس بن مالك.

والصحيح: الأول. ومني المرأة رقيق أصفر، وقد يبيض؛ لفضل قوتها. قال الإمام: وقد زعم بعض الأطباء أنه لا يخرج منها. ولا شك في [أنها إذا هاجت] خرج منها، وهذا أغلب فيهن منه في الرجال. وقال في موضع آخر: إنه لا يتصور الإحاطة بخروج المني منها إلا بفتور شهوتها فأثبت له خاصية واحد دون مني الرجل. وتبعه الغزالي؛ فقال في "الوسيط": ولا يعرف في حقها إلا من الشهوة. وقال في "الوجيز": والمرأة إذا تلذذت بخروج ماء منها - لزمها الغسل. قال الرافعي: لكن ما ذكره الأكثرون - تصريحاً وتعريضاً - التسوية بين مني الرجل والمرأة في طرد الخواص الثلاث، ومن ذلك قول البغوي: إن مني المرأة إذا خرج بشهوة أو بغير شهوة يوجب الغسل؛ كمني الرجل. وإذا وجب الغسل مع انتفاء الشهوة، كان الاعتماد على باقي الخواص. قال: ومن إيلاج الحشفة في الفرج؛ لما سلف من حديث عائشة. تنبيه: الألف واللام في "المني" للعهد؛ فإن المتبادر إلى الذهن منه في الشخص نفسه، وفائدة ذلك: أن الرجل لو أخذ منياً، فأدخله في ذكره، والمرأة إذا أخذت منياً فأدخلته في فرجها، ثم خرج لا يجب به الغسل؛ وهذا ما حكاه أبو الطيب، وقال: [إن] هذا بخلاف ما لو أخذ واحد منهما بولاً، فأدخله ثم أخرجه؛ فإنه يجب عليه الوضوء، ولا يجب الغسل بذلك كله، ولأن [البول] لا بد من أدنى بلة تظهر فيه؛ وهي موجبة للوضوء. وليس كذلك المني؛ فإنه يخلو من مني يخرج معه. والقاضي الحسين حكى فيما إذا استدخلت المرأة مني زوجها، أو من وطئ بشبهة فرجها: أه يتعلق به لحوق النسب بلا خلاف، وكذلك تاعدة على الظاهر، وهل يجب به الغسل؟ فيه وجهان، أصحهما في "الكافي": لا.

والخلاف يجري فيما إذا خرج مني الرجل الحاصل معها من وطئه، بعد غسلها، والأصح في "الكافي" - أيضا-: عدم وجوب الغسل به. وقال الإمام - بعد حكاية القول بوجوبه عن بعض الأصحاب، الذي لم يحك سواه-: هذا عندي إذا قضت وطرها، فإن خرج قبل أن تقضيه، أو كانت صغيرة؛ فلا يجب. وعليه جرى في "الوسيط". وقال القاضي الحسين - بعد حكاية القول بعدم وجوبه عن بعض الأصحاب، الذي لم يحك غيره-: هذا عندي إذا أنزل الرجل، ونزل ماؤه منها عقيبه، فأما إذا مكث بعد ذلك ساعة، ينبغي أن يلزمها الغسل؛ لأن منيها اختاط بمني الرجل؛ فإذا خرج لا يخلو عن منيها، لا محالة. وإذا جرينا على ما قيده الإمام والقاضي، لم يكن ذلك خارجا عن كلام الشيخ. وكلام الشيخ يقتض أمورا: أحدهما: أن المني لو انتقل من محل إلى محل، من الرجل إلى المرأة، ولم يخرج - لا يجب الغسل. وعليه يدل [مفهوم] قوله - عليه السلام - لعلي - كرم الله وجهه-: "إذا فضخت الماء؛ فاغتسل". رواه أبو داود. والفضخ: هو الظهور. وقال الهروي: فضخ الماء، أي: دفقه، وهو المفهوم، صرح به الأصحاب. وزاد الماوردي تفصيلا في مني المرأة، فقال: إذا وصل إلى باطن فرجها: فإن كانت ثيبا وجب عليها الغسل؛ لأن باطن الفرج في حقها كالظاهر؛ فإنه يجب عليها غسله في الاستنجاء. وإن كانت بكرا فلا؛ لأنه لا يجب غسله في الاستنجاء. الثاني: أنه لو خرج بقية المني، بعد الغسل، وجب الغسل ثانيا، وهو بذلك مقيس على ما لو خرج بقية البول، بعد الوضوء. الثالث: [أنه] لا فرق في خروجه بين أن يكون حال اليقظة أو النوم، بشهوة أو

دونها؛ لمرض من الذكر، أو الفرج، أو غيرهما. وهو المذكور في "التهذيب". وفي "الحاوي": فيما إذا انكسر فقار ظهر الرجل؛ فخرج منه المني، في وجوب الغسل منه وجهان، من اختلاف قوليه في وجوب الوضوء مما يخرج من سبيل مستحدث غير السبيلين؛ ولذلك قال المتولي: إن حكمه إذا خرج من غير الذكر حكم الخارج المعتاد من غير المخرج المعتاد؛ فيعتبر فيه: الانتفاح والانسداد والأعلى والأسفل. والمذكور في "تعليق القاضي أبي الطيب"، في كتاب الحجر، أنه: لا يوجب الغسل. وهذا إذا استحكم المني، فلو خرج قبل استحكامه منيا، قال في "الحاوي": فلا غسل فيه، وجها واحدا. فرع: إذا رأى الشخص منيا في ثوبه أو فراشه، ولم يتحقق أنه احتلم، فهل يجب عليه الغسل؟ قال صاحب "الفروع":لا، سواء نام معه فيه غيره، أو كان على غيره، أو انفرد به، والمشهور - وهو الأصح-: أن غيره، إن شاركه في لبسه - لا يجب عليه، وإن لم يشاركه [غيره] في استعماله: فإن كان المني من ظاهر الثوب - لا يجب أيضا. قال الماوردي: لاحتمال أن يكون قد علقه به من غيره. وإن كان من باطن الثوب، وجب، وعليه إعادة ما صلى من آخر لبسة لبسه فيها، والأولى: الإعادة من وقت الشك في حصول المني فيه. وكلام الشيخ في إيلاج الحشفة يقتضي أمورا: أحدهما: أنه لا يجب بإدخال ما دونها غسل، وهو المشهور. وعن ابن كج حكاية وجه: أن تغييب بعض الحشفة كتغييب كلها. الثاني: أن [إدخال مقدار] الحشفة من ذكر مقطوع الحشفة، لا يوجب الغسل، وهو وجه حكاه الرافعي عن رواية ابن كج. والإمام حكاه في باب: أجل العنين، عن رواية العراقيين. وقال الماوردي: إن الشافعي نص عليه في كتاب "الإملاء"، وقال في "الروضة": إنه الراجح عند كثير من العراقيين.

وعلى هذا إذا أولج باقي الذكر وجب الغسل. والذي جزم به القاضي الحسين، والإمام هنا، وكذا الفوراني، والمتولي: أن مقدار الحشفة من ذكر مقطوع قائم مقام الحشفة في ذلك وكل أحكامها غير الدية، وهو الأصح. الثالث: أنه لا فرق في ذلك، بين أن يكون إيلاجها مع حائل من ثوب أو لا، وهو عند فقد الحائل مما لا خلاف فيه ومعه فيه ثلاث أوجه في "الحاوي": أحدها: أن الأمر كذلك؛ قياساً على ما لو كان الحائل القافة، وبه قطع البغوي والإمام. والثاني: أنه لا يجب؛ لأن الحائل يمنع اللذة، وليست الخرقة من الذكر، بخلاف القلفة؛ ولهذا ينتقض بمسها الوضوء. والثالث - قاله أبو الفياض البصري، وأبداه القاضي الحسين احتمالاً، بعد ذكره الأول - أن الخرقة إن كانت خفيفة لا تمنع اللذة ووصول بلل الفرج إلى الذكر وجب؛ وإلا فلا. الأمر الرابع: أنه لا فرق في إيجاب الغسل - بإيلاجها - على الرجل، بين أن يكون مولجاً فيه، أو هو مولجها في قبل غيره أو دبره، من ذكر أو أنثى، حي أو ميت، آدمي أو غيره، وهو كذلك بلا خلاف في الآدمي، وكذا في غيره، على المشهور. وفي "الحاوي"، في كتاب حد الزنى: أنا إن أوجبنا الحد بالإيلاج في فرج البهيمة وجب به الغسل؛ وإلا فوجهان، وجه المنع: أنه في حكم المباشرة في غير الفرج، وهي لا توجبه بلا خلاف؛ مالم يتصل بها الإنزال. وإذا أدخل ذكر البهيمة في دبره، يشبه أن يكون على الخلاف؛ لما ستعرفه. ولو أدخل ذكر خنثى مشكل في دبره، لم يجب عليه الغسل، ويجب عليه الوضوء، كما قاله العراقيون.

والمراوزة قالوا: فيما يجب عليه الخلاف الآتي، فيما إذا شك: هل الخارج من ذكره مني أو مذي؟ وكذا لا فرق في إيجاب الغسل - بإيلاجها - على المرأة، بين أن يكون الإيلاج: في قبلها أو دبرها، من حي أو ميت، صغير أو كبير، في يقظة أو منام، متصلاً ذكره - أي: الحشفة - أو مقطوعاً وهو كذلك، وفي"التتمة" حكاية وجه في الذكر" المقطوع: أنه لا يوجب الغسل؛ كما لا ينقض مسه الوضوء، على وجه. والبهيمة: كلام الشيخ يقتضي إلحاقها بالآدمي في ذلك، وقد حكى الإمام عن شيخه ذلك؛ تعتباراً بالإيلاج في فرجها، ثم قال: وهذا فيه نظر - عندي - من جهة أن فرض ذلك في غاية الندور. قلت: ويظهر مجيء ما حكيناه عن الماوردي فيها. الخامس: أنه لا فرق قي إيجاب الغسل بإيلاجها، بين أن تكون: من ذكر صحيح أو أشل - وهو المذهب في "الروضة" - ولا بين أن يكون زائداً أو غير زائداً. ولا شك في أنه إذا كان زائداً - بأن كان لكل شخص ذكران يبول بأحدهما - في عدم إيجاب الغسل بإيلاجه. أما إذا كان يبول منهما؛ انتقض بإيلاج أيهما كان؛ لأنه ذكر رجل؛ وبهذا خالف ذكر الخنثى المشكل، والله أعلم. قال: ومن الحيض والنفاس؛ لنا ستعرفه في باب الحيض. قال: وقيل: يجب عليها أيضا من خروج الولد، أي: الذي لم يخرج بسببه نفاس؛ لأن الولادة مظنة خروج الدم، والحكم يدار على المظان؛ كما في الانتقاض بالنوم، وإيجاب الغسل بالإيلاج، وإن لم يتحقق إنزال الصغير. والجمهور وجهوه بأن الولد مني منعقد من مائها ومائه؛ وهذا ما حكاه الماوردي في كتاب الحيض، عن ابن سريج. وقال البندنيجي والروياني: ثم إنه المذهب، وهو الأصح في "النهاية"، و "الكافي"، والختار في "المرشد".

وقيل: لا يجب؛ لأن الولد لا يسمى منيا، والأحداث لا تثبت قياسا، وهذا قول ابن أبي هريرة. فإذا قلنا بالأول، ففي أي وقت يصح غسلها؟ فيه وجهان في "الحاوي"؛ بناء على أن أقل النفاس مجة أو ساعة. فعلى الأول: يصح عقيب خروج الولد، وما بعده. وعلى الثاني: لا يصح إلا بعد مضي ساعة. وعلى الخلاف في الأصل، يتخرج ما إذا ولدت في نهار رمضان: فعلى الأصح: يبطل صومها. وعلى الثاني: لا. ثم إذا أجرى الخلاف في وجوب الغسل [بخروج الولد بجريانه] بخروج المضغة والعلقة أولى، وبه صرح في "الكافي"، وصحح الوجوب. وجزم البغوي والقاضي الحسين بوجوبه بخروج المضغة، [وقالا بالوجهين] في العلقة. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي بأنه لا يجب الغسل بما عدا ما ذكره، من خروج: المذي، والودي، والمجنون، وغسل الميت، وهو كذلك في خروج المذي والودي بلا خلاف، وفيمل عداه كلام يأتي. وقد زاد بعضهم مع ذلك الموت؛ فعده موجبا للغسل. ولا يرد على الشيخ؛ لأنه يتكلم فيما يجب فرض عين على المرء المغتسل، وذلك فرض كفاية على غير المغتسل. وعدول الشيخ عن قوله: يجب على الرجل بشيئين، وعلى المرأة بأربعة أشياء، إلى ما ذكره - يعرفك [أن] اختياره: أن الغسل لا يجب بخروج ذلك، بل بإرادته القيام إلى الصلاة، بشرط تقدم ذلك، وهو وجه حكاه الأصحاب، مع آخر أنه يجب بهذه الأشياء، ولكن شرط ايجابها القيام إلى الصلاة، كما يقال: النكاح موجب لكمال المهر؛ بشرط التمكين من الوطء أو الموت، وهذا هو الصحيح في "التممة". وإذا قلنا به ففي الحيض هل نقول: طرآنه موجب، أو انقطاعه؟ فيه وجهان: الذي صدر به أبو الطيب كلامه: الأول، فقال: يجب بظهور الدم، وإنما يصح

عند الانقطاع، وهو المذكور في تعليق "البندنيجي"، في كتاب الحيض. وقال في "الكافي": إنه الأصح. ونسبه الإمام إلى أبي بكر الإسماعيلي، وغلطه فيه، ونقل عن أكثر الأصحاب مقابله، وقال: إنه لا يظهر للاختلاف كله فائدة. وبعضهم قال: فائدته في الحائض أنا إذا قلنا لها أن تقرأ القرآن؛ فأجنبت، هل يصح غسلها؟ إن قلنا: إن غسل الحيض يجب بطروئه، لم يصح. والأصح، والمذكور في "الإبانة"، [و "التتمة"]: صحته على هذا القول. وقد ذكرت في باب غسل الميت عند الكلام في الشهداء وجها ثالثا: في أنه يجب مجموع الأمرين، وفائدة الخلاف؛ فليطلب منه. قال: وإن شك، هل الخارج من ذكره مني أو مذي أي: مثل أن نام، وانتبه، فرأى في ثوبه شيئاً؛ فلم يدر أنه مني، أو مذي، وتحقق أنه أحدهما، وتعارضت عنده الأمارات، وام يذكر لذة حصلت في نومه - فقد قيل: يلزمه الوضوء؛ لأن وجوبه محقق؛ فإن الخارج إن كان مذياً انتقض وضوءه فقط، وإن كان منياً فهو نلقض للوضوء موجب للغسل ألا ترى إلى قول أبي الطيب الذي حكيناه من قبل: إن جميع ما يخرج من الذكر موجب للوضوء، وإذا ثبت أنه ناقض للوضوء، على كل حال وجب تجديده، دون الغسل؛ لأن الأصل عدم وجوبه، واحتمال كونه منياً لا يوجبه؛ كما إذا شك: هل أحدث، أم لا؟ وهذا ما اقتضى كلام العراقيين القطع به؛ حيث قالوا: لو أولج خنثى مشكل آلة الرجل في دبر الرجل، لم يجب على المولج فيه الغسل، ووجب عليه الوضوء. وهو [نظير هذه المسألة]؛ إذ يحتمل أنيكون الخنثى رجلاً؛ فيكون الواجب عليه الغسل، ويحتمل أن يكون امرأة؛ فيكون ما اولجه عضواً زائداً، يجب بولوجه االوضوء فقط.

ثم ظاهر كلام الشيخ أنه - على هذا - لا نكلفه غسل ما أصاب بدنه وثوبه من الخارج، وهو ظاهر؛ لأن الأصل عدم وجوبه، وهذا ما حكاه الماوردي في هذا الباب لا غير، وقال: إنه لو اختلط في الأمرين؛ فغسله واغتسل، كان أولى وأفضل. وما ذكرناه، وإن صح توجيهه، فهو مشكل؛ لأنه يلزم منه القطع بفقد شرط من شرائط الصلاة؛ لأنه إن كان منياً فالواجب استيعاب البدن بالغسل فقط، ولم يوجد. وإن كان مذياً: فالواجب [مع الوضوء] غسل ما أصابه من الخارج، فإذا لم يعم البدن بالغسل، ولا غسل ما أصابه تحقق فقد شرط منها، والقياس: عدم صحتها. ولا جرم قال الشيخ: ويحتمل - عندي - أنه يلزمه الغسل؛ لأن خروجه أوجب شيئاً محققاً، ولا تحصل البراءة منه يقيناً إلا بالغسل؛ فوجب. وإنما قلنا: إنها تحصل به يقيناً؛ لأن الخارج: إن كان منياً فهو واجبه، وإن كان مذياً فهو يغني عن الوضوء، في ظاهر المذهب عند الجمهور، كما قال الماوردي. وظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا يحتاج معه إلى وضوء؛ لما ذكرناه من التقرير، ولا إلى غسل ما أصابه من الخارج؛ إذا قلنا بطهارة المنى، وهو ظاهر؛ فإن الأصل عدم وجوبه. ولا شيء عند ملاقاته تحقق وجوبه، حتى نقول: يحتاط في البراءة عنه، لكنه قال في "المهذب": عندي [أنه] يجب أن يتوضأ مرتبا، ويغسل سائر بدنه، ويغسل الثوب منه؛ لأن جعله منياً ليس بأولى من جعله مذياً، ولا سبيل إلى إسقاط حكمهما؛ لأن الذمة قد اشتغلت بفرض الطهارة والصلاة؛ فوجب الإتيان بموجبهما؛ ليسقط الفرض بيقين. وهذا قد حكاه الرافعي وجهاً في المذهب، ولا يمتنع أن يكون أبدى في كل كتاب احتمالاً غير الآخر. وعن بعض الأصحاب حكاية وجه آخر: أنه يخير بين أن يجعله منياً ويجري جميع أحكامه، أو مذياً ويبني عليه؛ لأنه يحتمل الأمرين احتمالاً واحداص. وهذا ما أطلق الإمام في باب سنة الوضوء [حكايته، وحكاه] عن شيخه هاهنا، والقاضي الحسين حكاه عن القفال، وهو الأصح في الرافعي، ولم يذكر الغزالي سواه، وقال: إنه لو راد الاقتصار على الوضوء، ولم يغسل ما أصابه من الخارج فالمذهب: أنه لا يجزئه.

وفيه وجه بعيد، ادعى الإمام أنه غلط؛ لما أسلفنا. ومثله وجه مححكى في "النهاية" و "الوسيط": أنه يجزئه كالوضوء المنكس، وهو بالتغليط أولى. وقد حكى القاضي الحسين والفوراني عن القفال: أنه: لو توضأ، ولم يغسل الثوب لا تصح صلاته، ولا يجب عليه الترتيب في الوضوء، وأنه رجع عن ذلك؛ لأجل ما ذكرناه. والحكم فيما إذا شك: هل الخارج من ذكره مني أو مذي، كما في مسألة الكتاب وعليها تكلم الإمام في هذا الباب، وأبدى [وراء ما] حكاه عن شيخه احتمالا، وقال: قد صح في الأخبار والآثار تمييز المني بصفاته عن سائر الخارجات؛ فليس كالشاك في الحدث لا يجد علامة يتمسك بها؛ فإن العلامات - هاهنا - ثابتة. فإذا غلب على القلب أنه مني؛ من جهة أنه لا يليق بصاحب الواقعة الودي، أو ربما كان تذكر حلما رآه، ووقاعا تخيله، ثم شاهد الخارج؛ فيجوز أن يقال: يستصحب يقين الطهر، ويجوز أن يحمل الأمر على غالب الظن؛ تخريجا على غلبة الظن في النجاسة؛ فإن هذا الذي انتهى الكلام إليه مما يغلب في مثله وقوع غلبة الظن. ولو لم يغلب على الظن أنه مني، فلا يجب الغسل بلا الشك. قال: ومن أجنب: يقال: أجنب الرجل، وجنب بفتح الجيم وضم النون أي: صار جنبا؛ بجماع أو إنزال. والجنابة: البعد، وسمى بذلك؛ لبعده عن المسجد والقرآن. ويقال: "جنب" للرجل والمرأة، والاثنين، والجمع، كله بلفظ واحد؛ قال الله - تعالى-: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة:6]. قال: حرم عليه الصلاة؛ للإجماع، وفي معناها: سجود التلاوة والشكر والطواف؛ لقوله عليه السلام:"الطواف بالبيت صلاة ... " الخبر. قال: وقراءة القرآن؛ لقوله - عليه السلام-:"لا يقرأ الجنب، ولا الحائض شيئا من القرآن".

وعن عمر أنه قال: يا رسول الله، إنك تأكل وتشرب وأنت جنب؛ فقال:"إني آكل وأشرب وأنا جنب، ولا أقرأ وأنا جنب". وقد كان منع الجنب من القراءة مشهورا بين الصحابة. قال الرافعي: ولا يستثنى من ذلك إلا من لم يجد ماء أو ترابا؛ فإنه هل يقرأ الفاتحة في صلاة الفرض؟ فيه وجهان: أصحهما: التحريم؛ كما يحرم ما زاد عليها.

قال في "الروضة": والأصح الذي قطع به جماهير العراقيين وجوب قراءتها؛ لأنه مضطر إليها. ولا فرق في تحريم القراءة على الجنب بين الجهر والإسرار إذا نطق به بلسانه. وقراءته بالقلب من غير تلفظ باللسان، لا تحرم، وكذا النظر إلى المصحف؛ قاله الماوردي. وقال: إنه لا فرق في تحريم القراءة باللسان، بين قراءة جميع القرآن، أو آية منه، أو حرف؛ لعموم الخبر. وقال أبو الطيب: [إنه] لو كبر أو هلل، وقال كالآمر: خذ الكتاب بقوة، ونحو ذلك - إن قصد به غير القرآن جاز، وإن قصد به القرآن، لم يجز. وسكت عن حالة الإطلاق، والظاهر التحريم؛ كما هو مقتضى كلام الماوردي. وكلام الغزالي أصرح في المنع منه؛ فإنه قال: يستوي في التحريم الآية وبعضها، إلا أن يأتي بها على قصد الذكر، كقوله: باسم الله، والحمدلله. وكلام القاضي الحسين، في باب صفة الغسل [يدل] على عدم التحريم؛ حيث قال: والصحيح أنه يستحب للجنب التسمية؛ لأنها تجوز له على قصد قراءة القرآن؛ وهذا قد صرح الإمام بحكايته عن شيخه، وقال: إنه مقطوع به؛ فإن القصد مراعى في

هذه الأبواب؛ فاقتصر الرافعي على إيراده. قال: ومس المصحف، وحمله؛ لأنه إذا حرم ذلك على المحدث؛ فعلى الجنب أولى. وفروع ذلك مذكورة فيما تقدم. قال: واللبث في المسجد؛ لقوله عليه السلام:"لا أحل المسجد لحائض، ولا جنب". فإن قيل: هذا الخبر يقتضي تحريم مروره فيه، ولا خلاف عندكم في جوازه؛ كما أفهمه قول الشيخ:"واللبث في المسجد". قلنا: قوله - تعالى-: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} [النساء:43] دل

على جوازه؛ فإن المراد بالصلاة في الآية موضعها، قال الله - تعالى-: {لهدمت صوامع وبيع وصلوت} [الحج: 40]، والصلوات لا تهدم؛ وإنما يهدم مكانها. وقوله - تعالى-: {إلا عابري سبيل} يؤيد ذلك؛ فإن العبور على فعل الصلاة، لا يصح؛ وإنما يصح على مكانها؛ وحينئذ فتقديرها: لا تقربوا مواضع الصلاة ... إلى آخرها. قال أصحابنا: ونهيهم عن قربان مواضعها في حالة السكر الطافح؛ خشية من تلويثها. كما نهى - عليه السلام - عن إدخال الصبيان والمجانين الذين لا يستمسكون عنها. وقال أبو إسحاق: تقدير الآية: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوا مواضع الصلاة وأنتم جنب إلا عابري سبيل. قال الماوردي: وهذا التأويل نقل عن علي، وابن عباس. ولأنه مكلف أمن منه تنجس المسجد؛ فجاز له العبور فيه؛ كالمحدث. نعم، ذلك مكروه إلا لغرض؛ كما إذا كان المسجد في طريقه إلا مقصده، أو كان أقرب الطريقين إليه. وفي "تعليق القاضي الحسين": أنه: إذا كان في المسجد، وله طريقان أحدهما أقرب، والآخر أبعد؛ فاجتاز الأبعد، حتى لو بلغ مسافة القصر. وفي "الرافعي" حكاية وجه، فيما إذا كان له طريق غير المسجد: أنه لا يجوز له

العبور فيه، ولا يجوز له التردد في أكنافه، بلا خلاف. وإليه يرشد قول الشيخ:"واللبث في المسجد"؛ فإن التردد فيه لبث. قال الإمام، قبيل باب البياعات: ولا نكلف من أجنب في المسجد بالإسراع، بل يمشي على الاعتياد، ولعل الضبط فيه: ألا يعرج في موضع تعريجا يقتضي بأن مثله يكون أقل ما يجزئ في الاعتكاف؛ إذا جرينا على أن الاعتكاف شرطه اللبث. ثم تحريم اللبث مخصوص بما إذا لم تدع إليه ضرورة. فإن دعت: كما إذا نام في المسجد، فاحتلم، ولم يمكنه الخروج؛ لإغلاق الباب، أو لخوف فلا تحريم. وليتيمم في هذه الحالة تطهراً وتخفيفاً للحدث، بقدر الإمكان؛ وهذا إذا وجد تراباً غير تراب المسجد، فلو لم يجد سواه لا يتيمم به. وفي "تعليق القاضي الحسين" وجه: أنه يتيمم به. وهذا مخصوص بالمسلمين؛ فإن في منع الكافر الجنب من اللبث فيه خلافاً يأتي في الكتاب. وتخصيص الشيخ الجنب بما ذكره من الأحكام، وإن كانت الحائض والنفساء تشركه فيه؛ لامتيازهما بأمر ستعرفه في بال الحيض. وقد أفهم ذكر الشيخ ما يحرم على الجنب، وكذا ما يحرم على الحائض - إباحة ما عدا ذلك لهما من: الأكل، والشرب، والنوم، وغير ذلك، وعليه دلت الأخبار. نعم، قال الأصحاب: يستحب للجنب: ألا يأكل، ولا يشرب، ولا يجامع، ولا ينام؛ حتى يتوضأ وضوءه للصلاة، ويغسل فرجه، ولا يستحب مثل ذلك للحائض والنفساء إلا بعد انقطاع طمهما. قال ابن الصباغ وأبو الطيب: والفرق: أن وضوء الحائض لا يفيد شيئاً، ولا كذلك وضوء الجنب؛ فإنه يخفف الجنابة، ويزيلها عن أعضاء الوضوء، ويطهرها. والإمام قال: إنه لا يرفع الحدث، وقضية ذلك التسوية، والله أعلم.

باب صفة الغسل

باب صفة الغسل ومن أراد الغسل - أي: الواجب - نوى الغسل من الجنابة: أي إن كان جنباً، أو

الحيض، أي: إن كان حيضاً، وكذا الغسل من النفاس، إن اتصف به؛ [لأنه] الذي عليه. ولو حملنا "أو" في كلام الشيخ على التخيير، لكان له وجه؛ لأنه حكى وجهاً فيما إذا كان عليه حدث الحيض، فنوى رفع حدث الجنابة، أو بالعكس - أنه يجزئه؛ كما لو نوى المتيمم استباحة الصلاة من الجنابة، وكان حدثه حدثاً أصغر؛ فإنه يجزئه. والصحيح: أنه لا يجزئ، لأنه نوى غير ما عليه، والحدث الأكبر والأصغر بالنسبة إلى التيمم على حد واحد؛ لأنه لا يختلف الواجب فيه بسببهما. وعليه يتعين حمل كلام الشيخ على ما ذكرناه. قال: أو نوى الغسل؛ لاستباحة ما لا يستباح إلا بالغسل لتضمن نيته رفع ما عليه، ويندرج في ذلك: ما إذا نوت المرأة التي انقطع حيضها أو نفاسها استباحة الوطء. وفي "النهاية" وجه عن رواية أبي علي: أن غسلها لا يصح بهذه النية؛ فإنها نوت ما يوجب الغسل. والأصح: الأول. وفي "التهذيب": أنها تستفيد بهذا الغيل حل الوطء. وهل يباح لها الصلاة به؟ فيه وجهان: أصحهما: لا. وقد أفهم كلام الشيخ أن النية على نحو آخر سوى ما ذكره لا تجزئ. ولا شك في أن من نوى الغسل المفروض، أو فريضة الغسل، أجزأه، وكذا لو نوى رفع الحدث عن جميع البدن؛ صحت نيته. ولو نوى رفع الحدث الأصغر: فإن تعمد، لم يصح غسله، في أصح الوجهين.

وإن غلط، وظن أن الأصغر حدثه، لم يرتفع الحدث عن غير أعضاء الوضوء. وفي ارتفاعه عن المغسول من أعضاء الوضوء وجهان: أصحهما الارتفاع. وعلى هذا: وفي ارتفاعه عن الرأس وجهان؛ لأن واجبها في الوضوء المسح، وفي الغسل الغسل، والمسح لا يقوم مقام الغسل. قلت: وليت شعرى، القائل بارتفاعه: هل يقول بارتفاعه عن جملة الرأس، أو عن القدر المجزئ في الوضوء؟ والظاهر: الثاني، وإن صح فأي موضع هو؟ ولو نوى رفع الحدث مطلقاً، هل يجزئ؟ قال الإمام: الوجه الذي لا يتجه غيره: الإجزاء؛ لأن الحدث عبارة عن المنع من الصلاة، وهذا ما حكاه الماوردي، في باب النية في الوضوء. وغيرهما حكى فيه الوجهين، وصحح فيه الإجزاء. وهذا إذا لم يكن عليه غير الأكبر، فلو كان عليه معه حدث أصغر، قال في "الحاوي": إن قلنا: إن الأكبر يسقط الأصغر إذا اجتمعا، أجزأته نية رفع الحدث؛ وإلا فلا تجزئه عن واحد منهما. ولو نوى الشخص استباحة ما يستحب له الغسل: كالأذان، والمرور في المسجد - ففي ارتفاع حدثه وجهان، والوجه الثالث المذكور في الوضوء جار هنا. قال: ويتوضأ كما يتوضأ للصلاة؛ لما روي عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة توضأ وضوءه للصلاة، ثم يخلل بيديه شعره، حتى إذا ظن أنه قد روى بشرته [أفاض عليه الماء]، ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده". أخرجه البخاري ومسلم.

وهذا من الشيخ يقتضي أنه يأتي بالوضوء كاملاً؛ كما هو ظاهر الخبر، وبه صرح الماوردي. لكن قد جاء في البخاري، عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال: "توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة، غير رجليه، وغسل رجه وما أصابه من الأذى، ثم أفاض الماء عليه، ثم نحى رجليه فغسلهما". وذلك صريح في تأخير غسل الرجلين. ولا جرم قال الإمام، ومن تبعه: إن في استحباب تقديم [غسل الرجلين] وتأخيرهما - قولين، ونسب القول المرافق لرواية ميمونة إلى "الإملاء". والبندنيجي قال: إنه ظاهر نصه في "الويطي". وهو الأصح في "الكافي". قال الروياني، في "تلخيصه": إن ظاهر نصه في الجديد مقابله. وصححه، وكذا الرافعي. وقال القاضي الحسين: إنه يتخير - إن شاء قدم غسلهما، وإن شاء أخره - لصحة الروايتين. ثم في الأمر بالإتيان بالوضوء الكامل [في أول] الغسل، ما يغني عن التصريح بأمرين: أحدهما: الأمر بإتيان التسمية في أوله، كما صرح بذكرها العراقيون، والماوردي واستدل بقول عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله عزوجل على كل أحيانه". وفي "التتمة" حكاية وجه آخر، أنه: يكره [له] التسمية، وهو في "تعليق القاضي" وقال: إن من أصحابنا من قال: الأولى أن يقول: باسم الله العظيم، أو الحليم، الحمد لله على الإسلام؛ حتى لا يكون على نظم القرآن.

الثاني: غسل الكفين في أوله، وقد دلت رواية عن عائشة على ذلك؛ فإنه روى عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء، فيدخا أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه" أخرجه البخاري ومسلم. وهذا الحديث يدل على طلب غسل الفرج باليد اليسرى، قبل الوضوء للغسل. والنص في "المختصر"، الذي جرت عليه الأصحاب: أن ذلك مطلوب؛ لإزالة ما عليه من أذى. ومفهوم كلامهم: أنه إذا لم يكن عليه أذى لا يكون مطلوباً بخصوصه، وإذا كان كذلك لم يكن غسله من سنن الغسل؛ لأنه غير راتب فيه؛ فلذلك لم يذكره الشيخ فيه. فائدة: هذا الوضوء هل يحتاج إلى نية تخصه أو لا؛ لأنه من سنن الغسل؛ فنيته تشمله؛ كما تشتمل نية الوضوء المضمضة والاستنشاق؟ الذي حكاه الرافعي: الثاني، وهو ظاهر ملام الأصحاب والشيخ. وقال في "الروضة": المختار: أنه ينوي به سنة الغسل.

قال: ثم يفيض الماء على رأسه، ويخلل أصول شعره، أي: الذي في رأسه، ولحيته. اعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي: أن تخليل الشعر، يكون بعد إفاضة الماء على الرأس والذي دل عليه الخبر: أنه قبله، وهو الذي ذكره الأصحاب، فقالوا: يستحب بعد وضوئه أن يدخل يديه في الإنلء، ثم يخرجهما، ويخلل بأصابعهما مبلولة شعره، ثم يفيض الماء على رأسه، كذا قاله أبو الطيب، والماوردي، والقاضي الحسين. وهو صريح في أنه لا يخلله بما يفيضه. وابن الصباغ قال: إنه يدخل أصابعه العشرة في الإناء، فيأخذ الماء بها، فيشرب به أصول شعره، من رأسه ولحيته، أي: ليسهل إيصال الماء إليه. وعبارته في "المهذب" "المهذب": فيأخذ غرفة؛ يخلل بها لأصول شعره، من رأسه ولحيته". وإذا أردنا أن نرد كلام الشيخ إلى ذلك قلنا: "الواو" لا تقتضي ترتيباً، وتقدير كلامه: ثم يخلل أصول شعره بغرفة أو بلل الماء، ثم يفيض الماء على رأسه، والله أعلم.

قال: ثم يفيض الماء على سائر جسده؛ للخبر. و"سائر" - هاهنا - بمعنى الباقي، مأخوذ من "السؤر" بالهمز وهو البقية، والمراد به: ما عدا الرأس، وهذا يقتضي أنه يفيضه على ما غسله في الوضوء من يديه ورجليه. ولا يكتفي بغسل ذلك في الوضوء، وهو ظاهر؛ لأنه غسله على وجه السنة؛ فلا يغني عن الفرض. ولو قيل بأنه يجزئ عنه، لم يبعد؛ أخذاً مما حكيناه عن أبي الطيب آخر الباب قبله فيما إذا توضأ الجنب عند إرادة النوم، أنه يرتفع حدثه عن أعضاء وضوئه، والله أعلم. قال: ويدلك ما وصلت إليه يده من بدنه؛ لقوله عليه السلام: "بلوا الشعر، وأنقوا البشرة". وبه يحصل غنقاء البشرة. قال: يفعل ذلك -[أي: التخليل، والإفاضة، والدلك]- ثلاثاً. ووجهه في إفاضة الماء على الرأس: الخبر، وفي باقي الجسد القياس عليه، وعلى الوضوء. وفي الدلك القياس على المرة الأولى. زظاهر كلام الشيخ: أن التخليل والإفاضة على الرأس والجسد يفعل مرة ثم مرة ثم مرةة، والخبر يقتضي موالاة التخليل، وموالاة الإفاضة على الرأس، ثم غسل باقي الجسد بعد ذلك، وهو ما نص عليه في "المختصر"، والأصحاب كافة.

وقد استحب الأصحاب في الغسل أن يبدأ بشقه الأيمن، ثم اليسر؛ لما روى مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة - دعا بشيء نحو الحلاب؛ فأخذ بكفه: بدأ بشق لاأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه، فقال بهما على رأسه"، وقال البخاري: "على وسط رأسه". والحلاب: إناء ضخم يحلب فيه. قال: فإن كانت إمرأة تغتسل من الحيض -[أي]: أو النفاس - استحب لها أن تتبع أثر الدم - أي: في الموضع الذي يجب غسله من الفرج، كما قال البندنيجي فرصة من مسك؛ لما روي عن عائشة أنها قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله عن الغسل من الحيض؟ فقال:"خذي فرصة من مسك؛ فتطهري بها"، فقالت: كيف أتطهر بها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"سبحان الله! - واستتر بثوبه - تطهري بها"، واجتذبها فعرفتها الذي أراده. وقلت لها: يعني: تتبعي بها أثر الدم، يعني: الفرج". أخرجه البخاري ومسلم. والفرصة: بكسر الفاء على المشهور ويقال: بالضم، والفتح - أيضا - وبالصاد المهملة: القطعة من كل شيء، ذكره ثعلب؛ مأخوذ من: فرصت الشيء؛ إذا قطعته: وعن الجوهري: أن الفرصة: قطعة من قطن، أو خرقة تمسح المرأة بها دم الحيض. والمسك بكسر الميم: الطيب المعروف. وكانت العرب تسميه: المشموم.

وقد قيل: إن فرصة المسك في قوله - عليه السلام - قطعة من الصوف، أو القطن يذر عليها المسك، ويتبع بها أثر الدم، وعليه [يدل] قوله - عليه السلام - لأسماء: "ثم تأخذ فرصة ممسكة؛ فتطهر بها" رواه مسلم. وقال أبو عمرو: مراده: قطعة من السك بضم السين وهو طيب معجون بالمسك، يكون عند أهل المدينة، ولا يسمى: فرصة، إلا إذا كان فيه مسك؛ فإن لم يكن فيه مسك، سمي: سكيكة، حكاه في "الحاوي". وعن أبي عبيد: إنما هي "قرصة" بقاف مضمومة من "مسك" بفتح الميم أي: قطعة من جلد، تحك بها موضع الدم؛ كي لا يبقى منه شيء. والمشهور: الرواية الأولى. قال الماوردي: وإن كانت رواية أبي عبيد محفوظة، لم يمتنع أن تجمع بين الأمرين. وعلى المشهور قال الشيخ: فإن لم تجد؛ فطيبا غيره؛ لأن المقصود من استعمال المسك تطييب رائحة المحل؛ لتكمل لذة الزوج، وهذا المعنى موجود في غيره من الطيب، وهذا ما حكاه البندنيجي، والقاضي الحسين، والإمام [و] الغزالي، وغيرهم. وعليه نص في "الأم" حيث قال: فإن لم يكن مسك، فطيب ما كان؛ اتباعا للسنة. واشترط بعض الأصحاب في تأدية السنة به، أن يكون في الطيب المستعمل حرارة كالمسك؛ لاعتقاده أن المعنى في المسك: ما فيه من قطع الرائحة، يطيب المحل، مع أن فيه حرارة يتعجل العلوق بسببها. وصحف بعض الأصحاب لفظ المزني؛ فقال: فإن لم تجد؛ "فطينا" بالنون والصحيح: الأول؛ لما ذكرناه من نصه. نعم، لو عدم الطيب، فتتبعته بالطين، قال ابن الصباغ: فلا بأس. وقال البندنيجي: إن المستحب المسك، فإن لم تجد، فطيبا، فإن لم تجد فطينا. وكذا قاله الرافعي.

ثم في أي وقت تستعمل المسك، وبدله؟ فيه وجهان في "الحاوي"؛ بناء على ما ذكرناه من المعنيين: فمن قال: إن العلة طيب المحل فقط قال: تستعمله بعد كمال الغسل. ومن قال بالآخر، قال: تستعمله قبله. قال: فإن لم تجد، فالماء كاف؛ لأن رفع الحدث مقصور على الماء، والطيب تكميل وتزيين. فإن قيل: أي فائدة في قوله: "فالماء كاف"، مع قوله: "استحب لها أن تتبع أثر الدم ... " كذا، وهو يدل على أن الماء كاف؟ قلت: الفائدة فيه تعريفك: أن الخبر وإن كان ظاهره الوجوب؛ فهم محمول على الاستحباب. فإن قلت: الماء كاف، سواء وجدت الطيب أم لم تجده؛ فلا فائدة في تقييد ذلك بالفقد. قلت: بل له فائدتان: إحداهما: تعريفك أنها لا تنتقل إلى الطين؛ كما حكيناه عن غيره. الثانية: أنها عند عدم الطيب غير مقصرة في طهارتها، ولا كذلك عند وجوده؛ فتقدير كلامه: فالماء كاف في الخروج عن الأمر، والله أعلم. قال: والواجب من ذلك: النية؛ للخبر المشهور. وسكوت الشيخ عن وقتها يعرفك أنه ليس لها وقت تتعين فيه؛ بل الواجب الاتيان بها عند غسل [أول] جزء من البدن. ومنه يفهم أنه لا ترتيب في الغسل، كما صرح به الأصحاب؛ بل أي جزء بدأ بغسله، واقترنت به النية اعتد به وبما بعده، ولا يعتد بما غسله قبل النية. نعم، في "الحاوي" حكاية وجهين، في أن ما يتقدمه من السنن، إذا لم تقترن به النية، هل تنعطف عليه النية الطارئة؟ فيه وجهان، سلف مثلهما في الوضوء. والمذكور في "الرافعي" وغيره: أنه لا يعتد بها، وهو الأصح.

ثم هل يحتاج في النية مع ما ذكرناه إلى الإضافة إلى الله تعالى؟ فيه وجهان في "الوسيط"، في باب صفة الوضوء. ثم ذكر وجوب النية في الغسل يقتضي اشتراط الإسلام في صحة الغسل؛ إذ من شرط النية الإسلام، وهذا هو المشهور. وحكى ابن الصباغ وغيره وجهاً آخر: أنه لا يشترط، [حتى] إذا اغتسل الكافر، ثم أسلم، لا يجب عليه إعادته. وفصل الإمام، فقال: إن تعلق بغسله حق المسلم: كما إذا انقطع دم حيض المرأة أو نفاسها، وهي تحت مسلم، فاغتسلت؛ لأجل حل وطئه - فإنه يستبيح وطأها، وهل يجب عليها إعادة الغسل إذا أسلمت؟ فيه وجهان سلفا في باب الحيض: والمذكور منهما في "الحاوي"، في باب النية في الوضوء المنع. والذي صححه الإمام [ثم]: الصحة؛ قياسا على ما إذا وجب على الكافر الكفارة، فأخرجها، ثم أسلم لا يلزمه الإعادة؛ كما نص عليه الشافعي. قال: وكان الفرق على الوجه الآخر: أن الكفارة المؤداة بالمال لا تخلو عن غرض مرعي لآدمي: من تخليص عن رق، أو إطعام محتاج، أو كسوة عار؛ فكان أمر النية أضعف فيها. والغسل قد لا يتعلق بحق آدمي؛ فإن المرأة إذا لم تكن ذات زوج، كان غسلها لله عز وجل. وما صححه الإمام، إليه ميل ابن الصباغ؛ فأبداه احتمالا فيما إذا اغتسلت، ولم تنو الغسل من الحيض: أن زوجها لا يستبيح وطأها؛ كالمسلمة، وكالذمي إذا ظاهر وأعتق، ولم ينو، لا يجزئه. وإن نوى أجزأه. وأما إذا لم يتعلق به حق آدمي: كالخلية إذا اغتسلت [من الحيض]، والرجل إذا اغتسل من الجنابة - ففيه طريقان، أحدهما: القطع بأنه لا يجزئ، وطرد أبو بكر الفارسي الخلاف فيه. وحكى الإمام عن المحاملي رواية وجه: أنه يصح من كل كافر كل طهر: غسلا كان أو وضوءا أو تيمما، وهذا في غاية الضعف. قال: وإيصال الماء إلى الشعر والبشرة؛ لقوله - عليه السلام -: "تحت كل شعرة

جنابة؛ فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشرة". رواه أبو داود. فإن قلت: هذا يرويه ابن وجيه، وهو ضعيف. قلنا: يعضده ما رواه أبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسله، فعل به كذا وكذا من النار". وهو صحيح [الإسناد]. ولا فرق في الشعر الذي يجب غسله، بين شعر الرأس وغيره، وسواء فيه أصوله وما استرسل منه، وكذا لا فرق بين ما كثر منه أو قل، حتى لو بقيت شعرة واحدة، لم يصبها الماء لم يجزئه. ولا يستثنى من ذلك إلا مانبت في العين؛ فإنه لا يجب غسله؛ لأن إدخال الماء في العين لا يجب. وإذا ترك شعرة واحدة، لم يغسلها، ثم قلعها - قال الماوردي: إن كان الماء قد وصل إلى [أصلها، أجزأه؛ وإلى فيوصله إليه. وكذا لو أوصل الماء إلى] أصول شعره، ثم جزه أجزأه. وإن كان لم يوصله إليه، فيوصله. وعن "فتاوى ابن الصباغ": أنه يجب غسل ما ظهر. وفي "البيان" وجهان: أحدهما: يجب. والثاني: لا [يجب؛ لفوات ما وجب غسله]: كمن توضأ، وترك رجله، فقطعت. وقد أغنى ذكر هذا الواجب عن التصريح بأمور:

أحدهما: وجوب حل الذؤابة والضفائر؛ إذا كان الماء لا يصل إلى الشعر أو البشرة إلا به؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب - وبه صرح الأصحاب. فإن قلت: قد روى مسلم عن أم سلمة، أنها قالت: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال: "لا؛ إنما يكفيك أن تحتي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليه الماء؛ فتطهرين". قلنا: هذا محمول على ما إذا كان الشعر خفيفا، والشد لا يمنع من وصول الماء إليه، ولا إلى البشرة؛ فإنه في هذه الحالة لا يجب النقد عندنا. ولا يستثنى مما ذكرناه إلا باطن ما انعقد من الشعر، الذي لا يمكن حله؛ فإنه يسامح فيه. وعن الروياني، حكاية وجه آخر: أنه يلزمه قطعها. الثاني: وجوب غسل ما على الشعر أو البشرة؛ إذا كان يمنع وصول الماء إلى ذلك؛ لما ذكرناه. نعم، لو كان لا يمنع وصوله إليه: فإن كان طاهرا، لم يجب غسله، ولكن يستحب. وإن كان نجسا: فهل يجب إزالته قبل الغسل؟ وذلك ينبني على أن المرة الواحدة، هل تكفي في إزالة ما على المحل من نجس وحدث؟ وفيه وجهان: الظاهر من المذهب - كما [قاله الرافعي فيهما]-: أنه لا تكفي؛ وإنما يحصل إزالة النجاسة فقط، وهذا ما حكاه القاضي الحسين، في باب: النية في الوضوء، و "المتولي" عند الكلام في غسلات الكلب. وعلى هذا، لا بد من إزالته قبل الغسل، فإن لم يزله كانت الغسلة لإزالة النجاسة؛

ولأجله عد كثير من الأصحاب إزالة النجاسة عن المحل واجباً في الغسل، ولا حاجة إليه. وعلى مقابله، وهو ما حكاه ابن الصباغ في أثناء فرع أوله: إذا أدى اجتهاده إلى طهارة أحد الإناءين؛ فيتوضأ به، ولم يحك أبو الطيب في باب: النية في الوضوء غيره، وصححه في "الروضة"-: لا يجب ذلك، ويستحب. الثالث: [أنه] لا فرق في إيصال الماء إلى البشرة تحت الشعر، بين أن يكون خفيفاً أو كثيفاً، وهذا بخلاف الوضوء. والفرق: أنه يتكرر في اليوم والليلة؛ فيشق تكليفه غسل ما تحت الكثيف، بخلاف الغسل. الرابع: أنه يجب إيصال الماء إلى ظاهر أذنيه وباطنهما، وما ظهر من صماخيه؛ لأن اسم البشرة يشملهما، ولا يجب إيصاله إلى داخل الفم، والأنف، والصماخ؛ لعدم شمول الاسم له، وهو كذلك عند العراقيين؛ لأن ذلك لا يجب في غسل الميت، ولو وجب [في] غسل الحي، لوجب في غسل الميت. وفي "النهاية" حكاية وجه: في وجوب المضمضة، والاستنشاق. والمشهور: الأول. نعم، لو جدع أنفه؛ فهل يجب إيصال الماء إلى ما ظهر من جوفه؟ فيه وجهان في "التتمة"، أظهرهما في "الرافعي": الوجوب. وعكسهما: أنه هل يجب إيصال الماء إلى ما تحت القلفة من الأقلف؟ فيه الوجهان، والمذكور منهما في فتاوى العبادي؟ أنه لا يجب، وفي "الرافعي": أن أظهرهما الوجوب. الخامس: أنه لا يجب إيصال الماء إلى داخل الفرج، وهو ما ذكره الإمام ومن تبعه؛ قياساً على داخل الفم؛ وعلى هذا يكفي غسل ما وراء [ملتقى] الشفرين.

والجمهور على أنه يجب غسل ما يبدو في حال قعودها لقضاء الحاجة، دون ما جاوزه، وذلك يختلف باختلاف البكر والثيب، وهو مشبه في حق الثيب بما بين الأصابع، كما حكاه الماوردي، عن الشافعي. ومنهم من قال: يجب ذلك في حق الثيب، في الغسل من الحيض والنفاس خاصة؛ لإزالة الدم. وقال في "التتمة": إنه يجب عليها ذلك في الغسل من الحيض والنفاس. وهل يجب في الجنابة؟ إن قلنا: رطوبة فرجها نجسة، فلا يجب؛ وإلا فوجهان. ولفظ القاضي الحسين: "أنه: هل [يجب] إدخال الماء والأصبع في الفرج؟ فيه أوجه: أحدها: يجب؛ لأنه صار في حكم الظاهر. الثاني: لا؛ لأنه يزيده فساداً. الثالث: يجب ذلك في الغسل من الحيض، دون الجنابة؛ لأنها نجاسة عينية، بخلاف الجنابة. وقال القفال: ما يبدو منها عند القعدة، يجب إيصال الماء إليه. وهذا من القاضي يفهم أن الخلاف الأول جار فيما وراء ما يبدو عند القعد، وقد تقدم مثله وجهاً في الاستنجاء. قال: وسننه الوضوء. أما مشروعيته؛ فلما ذكرناه، وأما كونه غير واجب؛ فلقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فأطهروا} [المائدة: 6] وإذا اغتسل من غير أن يتوضأ يقال له: متطهر، ومغتسل، وخبر أم سلمة السالف يدل على ذلك. وقد ذهب أبو ثور إلى وجوبه؛ لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلوة ...} إلى أن قال: {وإن كنتم جنباً فأطهروا} [المائدة:6]، وليس جنب إلا وهو محدث؛ فوجب الجمع بينهما. ولأنه - عليه السلام - فعله، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مخرج البيان لمجمل واجب في القرآن، كان واجباً. ترى إلى قوله تعالى-: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228]، ثم

قال: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4] ولا يلزم الجمع بينهما. ولا نسلم أن [كل جنب] محدث، وإن سلمنا أن كل جنب محدث، قلنا: هما عبادتان من جنس واحد، فإذا اجتمعتا دخلت الصغرى في الكبرى كالحج والعمرة. وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم - بما ذكرناه - محمول على الاستحباب. قال: والدلك: أما مشروعيته؛ فلما سلف، وأما كونه سنة؛ فلأنه يسمى مغتسلاً بدونه، يقال: غسل السيل الوادي، وإن فقد الدلك. ويسمى السيل الكثير: غاسولاً، وخبر أم سلمة السالف يدل عليه. ولأنه غسل واجب؛ فلم يجب فيه إمرار اليد؛ كما في غسل الإناء من ولوغ الكلب. وقد أوجب المزني دلك ما وصلت إليه يده من بدنه في الغسل، وعلى أعضاء الوضوء في الوضوء؛ قياساً على التيمم؛ فإنه يجب إمرار اليد فيه بالتراب على الأعضاء. والأصحاب قالوا: الواجب إمرار التراب عليها. نعم، لو لم يحصل إلا بإمرار اليد وجب؛ لأجل ذلك، والماء يصل بدون اليد. قال: والتكرار؛ كما في الوضوء. فإن قلت: ما ذكرتم من الخبر لا يدل على تكرار غسل البدن، وتكرار إفاضة الماء على رأسها باليد ثلاثاً؛ لتحقق وصول الماء إلى شعرها وبشرتها؛ وكذلك علق الكفاية عليه في خبر أم سلمة. والقياس على الوضوء ممتنع؛ لأن الوضوء يستحب تجديده، بلا خلاف، وفي استحباب تجديد الغسل وجهان، أصحهما: لا؛ وذلك يدل على الفرق [بينهما. قلت:] ولأجل هذا الخيال احتاج الشيخ إلى ذكره، وإن كان في قوله: "الواجب من ذلك النية، وإيصال الماء إلى الشعر والبشرة" غنية عنه. قال: والمستحب ألا ينقص الماء في الغسل عن صاع، ولا في الوضوء عن مد؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا من الشيخ يغني عن التوجيه، وما استدل به رواه مسلم، فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع". زاد البخاري: "إلى خمسة أمداد".

وروى أيضاً عن سفينة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسله الصاع من الماء من الجنابة، ويوضئه المد". واختلف أصحابنا في الصاع والمد: هل هو صاع الزكاة ومدها، أم لا؟ المشهور: الأول. وقيل: إن الصاع هنا ثمانية أرطال، والمد رطلان، [وقد رواه أنس]. والتقدير بهما تقريب، لا تحديد. ويتقص - بفتح الياء - يقال: نقص الشيء، ونقصته. قال الله - تعالى-: {ننقصها من أطرافها} [الرعد: 41]. فإن نقص عن ذلك، وأسبغ أجزأه؛ لأن الله - تعالى - لم يقدر الغسل

والوضوء بشيء، وفعله - عليه السلام - محمول على الاستحباب؛ يدل عليه أنه روي: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي مد، وكان يتوضأ بما لا يبل الثرى. وروى مسلم عن عائشة، أنها قالت: كنت أغتسل، أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء يسع ثلاثة أمداد، أو قريباً من ذلك. وهذا ما نص عليه الشافعي، وأيده بأنه قد يرفق بالقليل؛ فيكفي، ويخرق بالكثير؛ فلا يكفي. وعبارة الإمام عنه: "قد يرفق الفقيه بالقليل؛ فيكفي، ويخرق الأخرق بالكثير؛ فلا يكفي". والإسباغ: أن يعم جميعه الماء، ويجري عليه، وما دونه مسح، لا غسل. وقد أفهم قول الشيخ: "والمستحب ألا ينقص" أن الزيادة على ذلك فيهما ليست مكروهة، وربما أنها محبوبة، وعليه تدل رواية البخاري عن عائشة قالت: "كنت أغتسل، أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، من قدح يقال له: الفرق". قال الشافعي في "الأم": و "الفرق": ثلاثة آصع، يكون ستة عشر رطلاً. وأما "الفرق" بسكون الراء، فمائة وعشرون رطلاً. وكلام الأصحاب يدل على ان المستحب الاقتصار على الصاع والمد؛ لأن الرفق محبةب، وعليه يدل ما روى أنه - عليه السلام - قال: "سيأتي أقوام يستقلون هذا؛ فمن رغب [عن سنتي، فليس مني، ومن رغب] في سنتي، وتمسك بها - بعث

معي في حظيرة القدس". قال: ومن وجب عليه وضوء وغسل، أجزأه الغسل، على ظاهر المذهب. هذا الفصل يعرفك [أن] ما ذكره آنفاً: [من كون] الوضوء من سنن الغسل، إذا لم يكن عليه حدث أصغر ثبت مستقلاً، وصورته: أن يولج في دبر ذكر، أو فرج بهيمة؛ وكذا لو لف على ذكره خرقة، وأولج في فرج امرأة؛ على الصحيح، زبها صوره الشيخ أبو محمد. وعدل عن التصوير بما إذا نظر بشهوة؛ فأنزل؛ لأن خروج المني - عنده - يحصل الحدثين، كما ذهب إليه القاضي أبو الطيب. ووجه ذلك بأنه لا يتصور خروج المني وحده؛ بل يخرج معه رطوبة، يتعلق بها وجوب الوضوء. قال الإمام: وفي هذا نظر؛ لأن المني إذا انفصل، فهو طاهر، وتلك الرطوبة التي قدرناها ينبغي أن تكون نجسة، ثم يجب الجكم بنجاسة المني. [قلت:] وهذ قاله الإمام بناء على اعتقاد أن رطوبة [باطن الذكر كرطوبة فرج المرأة، وإنما المنع من الحكم بنجاسة رطوبة بلطن الذكر؛ لأنها لا تخرج] كرطوبة

فرج المرأة؛ كما ستعرفه في باب إزالة النجاسة. وكلام غيره يدل على طهارتها. والذي ذهب إليه الشيخ أبو حامد أن خروج المني لا يوجب غير الحدث الأكبر. وألحق بها المسعودي الجماع في الفرج؛ لأن اللمس الذي يتضمنه مغمور [به]، واستشهد له بأن من جامع في الحج يلزمه بدنة لا غير، وإن كان متضمناً اللمس، ومجرد اللمس يوجب شاة. والأكثرون على أنه يوجب الوضوء والغسل. والفرق بين ذلك وبين خروج المني: أن سبب الحدث الأصغر - هاهنا - سبق سبب الأكبر؛ فلم يرفعه؛ كما إذا بال، أو مس ذكره، أو نام ثم أنزل، أو أنزل ثم بال، ونحوه - فإنه لا خلاف في أنه وجب عليه الوضوء والغسل، ولا كذلك في خروج المني؛ فإن سببهما وجد مقترناً؛ فدفع الأكبر الأصغر، ومسألة المحرم قد قيل بوجوب الشاة فيها مع البدنة؛ وعلى هذا لا فرق. ومن قال بعدم وجوبها وهو الأكثرون فرقوا بأن وضع الجنايات اندراج المقدمات في المقاصد؛ ألا ترى أن مقدمات الزنى لو انفردت أو جبت التعزير، لا يجب مع الحد عند وقوعهما؟! فإذا عرفت ذلك، عدنا إلى التعليل، وقلنا: إنما أجزأه الغسل عنهما؛ لما روي أنه -

عليه السلام - قال: "أما أن فأحئي على رأسي حثيات؛ فإذا انا قد طهرت"، ولم يفصل بين الجنابة المجردة والجنابة مع الحدث، مع أن الغالب أن الجنابة لا تتجرد. ولأنهما طهارتان؛ فوجب أن تتداخلا؛ كالجنابة والحيض. ومقابل هذا أوجه: أحدها: أنه يجب الوضوء والغسل؛ لأنهما عبادتان مختلفتان؛ فلا تتداخلان؛ كالصلاتين، وهذا ما حكى عن نصه في "الإملاء". وإذا قلنا به يخير في تقديم أيهما شاء. قال في "الحاوي": والأولى: تقديم الوضوء. والثاني: أنه يتوضأ مرتباً، ويفيض الماء على باقي جسده؛ لأن الترتيب خاصية الوضوء، والتداخل إنما يجزئ فيما يشترك المتداخلان فيه من الأفعال، دون خواصهما. فعلى هذا: هل يحتاج مع غسل الرأس إلى مسحها، أو يكفيه غسلها؟ فيه وجهان؛ بناء على أن غسل الرأس، هل يقوم مقام مسحها في الوضوء؟ والثالث: أنه يكفيه الغسل، ولا يشترط في أعضاء الوضوء الترتيب، لكن يشترط أن ينويهما؛ كما في الحج والعمرة. والأصح - باتفاق الأصحاب - ما ادعى الشيخ أنه ظاهر المذهب: فيكفيه الغسل من غير ترتيب، ولا نية للوضوء، وهو المنصوص عليه في "الأم" و "المختصر". قال الرافعي: وهذه الأوجه إذا وقع الحدث الأصغر والأكبر معاً، أو سبق الأصغر، أما إذا سبق الأكبر فطريقان: أظهرهما: طرد الخلاف، وهي طريقة ابن سريج، كما قاله الماوردي. والثانية: الاكتفاء بالغسل، قولاً واحداً، وهي التي عليها الأكثرون؛ لأن الأكبر إذا تقدم تأثر به جميع البدن؛ فلا يؤثر فيه الأصغر، بخلاف الأصغر، وبهذا يجيء وجه خامس في المسألة، وبه صرح بعضهم. وقد رأى الإمام: أن الأظهر الإدراج، فيما إذا كان سبب اجتماعهما الجماع، وإن قلنا عند انفراد الأسباب بعد الإدراج.

واعلم أن إجراء الخلاف فيما إذا وقع الحدثان معا، يدخل فيه ما إذانظر؛ فأنزل، وقد أفهم كلام الأصحاب فيه الاتفاق على الاقتصار على الغسل؛ وحينئذ يتعين أن يكون المراد غيره. قال: وإن اجتمع على المرأة غسل جنابة، وغسل حيض، فاغتسلت لأحدهما- أجزأها عنهما؛ لأن فرضهما واحد، فأجزأت نية أحدهما عنهما، وهذا ما رأيته للأصحاب. فإن قيل: قد حكيتم خلافا فيما إذا بال ونام، ولمس ومس، فنوى رفع أحدهما، في أن الجميع هل يرتفع أو لا؟ فما الفرق؟ قلنا: قد عسر على بعض المتأخرين، فقال: ما ذكره الأصحاب في الغسل، تفريع على الصحيح في مسألة الأحداث. وقد يقال في الفرق بينهما: إن تعرضه في مسألة االأحداث لرفع بعضها، مع أنه في غنية عن العرض له بأن يأتي بنية رفع الحدث ونحوها- يؤذن بتخصيصه بالرفع؛ فثار الخلاف لمنافاة مقصود الطهارة، ولا كذلك هنا؛ فإن نية الغسل المجرد لا تكفي اتفاقا؛ فاحتاج إلى تعيين لتمييزه عن الغسل المطلق؛ فلم يفهم منه التخصيص؛ فعمهما الغسل، والله أعلم. قال: ومن نوى غسل الجمعة لم يجزئه عن الجنابة؛ لأنه لم ينوها، ولا تضمنتها نيته؛ لأن الجنابة أخص، والأخص لا يستلزم الأعم. وقد أفهم كلام الشيخ أنه يجزئه عن الجمعة، وهو قول أو وجه حكاه أبو الطيب، وادعى البندنيجي أنه المذهب. ومعه وجه أو قول: أنه لا يجزئ عنها - أيضاً - لأن القصد أن يلقى ربه على أكمل حال؛ فإذا لم يرتفع الحدث لم يكن على أكمل حال؛ وهذا مجموع ما حكاه العراقيون. والقاضي الحسين قال: إذا نوى غسل الجمعة، هل يجزئه عن الجنابة؟ فيه وجهان: فإن قلنا: يجزئه عنها، فعن الجمعة أولى، وإلا فوجهان. قال الإمام: وإنما يظهر أثرهما إذا قلنا: لو نوى غيل الجنابة، ولم ينو غسل الجمعة لا يحصل غسل الجمعة. وإذا جمعت مافي المسألة جاءك ثلاثة أوجه؛ كما [هي] في "الحاوي":

أحدها: يحصل غسل الجنابة والجمعة به. والثاني: لا يحصلان. والثالث: يحصل الجمعة، دون الجنابة، وهو مذهب أبي إسحاق، وابن أبي هريرة، وجمهور البصريين. ومثل هذا الخلاف ما إذا نوى بالتيمم استباحة صلاة النفل، كما ستعرفهه. قال: ومن نوى غسل الجنابة لم يجزئه عن الجمعة، في أصح القولين؛ لأنه قربة مقصودة؛ فلم يندرج كسنة الظهر مع فرضه، وهذا ما حكاه الربيع. ومقابله: أنه يجزئه؛ لأن مقصود الجمعة التنظيف، وقد حصل، وهذا ما نقله المزني في "جامعه [الكبير] "، وصححه الرافعي، وصاحب "الكافي"، وجزم به القاضي الحسين في باب "غسل الجمعة". وعلى هذا لو نوى غسل الجنابة ونوى غسل الجمعة، قال الإمام: ففيه احتمال، جار فيما لو دخل المسجد، وصلى فريضة، ونوى تحية المسجد، والظاهر عدم حصولهما، وسبب الاحتمال أن مجرد الغسل في حق من ليس بجنب، لا يعتد به من غير نية. وقد تلخص أن الغرض منه النظافة، وإن كانت النية مشروطة فيه. وقد بنى الرافعي على القولين في الكتاب، ما لو نوى غسل الجنابة والجمعة، فقال: إن قلنا بالأول، لم يصح غسله؛ كما لو نوى بصلاته الفرض والنفل. وإن قلنا بالثاني، كان فيه وجهان؛ كما لو نوى بغسله رفع الجنابة والتبرد، وأصحهما الحصول. ومنهم من قال: إذا نوى غسل الجنابة والجمعة حصلا بلا خلاف، وهو المذكور في "تعليق القاضي الحسين"، وأبي الطيب، والبندنيجي، و"الشامل"، وعليه نص في "المختصر"، واستدل له بأن ابن عمر كان يغتسل لهما غسلاً واحداً. والفرق على هذه الطريقة بين ذلك وبين ما إذا نوى غسل الجنابة والتبرد على الوجه الذي نقول: إنه لا يصح وإن كان خلاف [الأصح والنص] في "البويطي"-: أنه ثم أشرك بين القربة وغيرها، ولا كذلك في مسألتنا. فرع: لو نوى بغسله الجمعة والعيد، قال في "الكافي": حصلا؛ لأن مقصودهما واحد، وكذا لو نوى [به] غسل الجنابة، والجمعة، والعيد - يحصل الكل. [والله أعلم بالصواب].

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء الثاني المحتوى تتمة كتاب الطهارة- كتاب الصلاة

باب الغسل المسنون

بسم الله الرحمن الرحيم باب الغسل المسنون وهو اثنا عشر غسلاً: غسل الجمعة: الأصل في مشروعيته مذكور في باب: هيئة الجمعة. ودليل سنيته قوله عليه السلام: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِبهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ".

00000000000000000000000000000000000000

00000000000000000000000000

00000000000000000000000000

فإن قلت: هذا الحديث، قال الترمذي: إنه مرسل، وإنه حسن، وأنتم لا ترون بالمراسيل. قلنا: قصة عثمان مع عمر- رضي الله عنهما- التي ستعرفها في باب هيئة الجمعة، تقويه، وتدل على المدعى؛ فإنه لو كان واجباً لما تركه عثمان، ولأمره عمر بالإتيان به. ولأنه غسل بسبب مستقبل؛ فاقتضى أن يكون سنة؛ كالغسل لدخول مكة، والوقوف بعرفة. نعم، تركه مكروه، كما قاله أبو بكر الصيدلاني. قال الإمام، في كتاب الجمعة: وهذا- عندي- جارٍ في كل مسنون صح الأمر به مقصوداً. ثم قوله عليه السلام: "فَبِهَا وَنِعْمَتْ" معناه: فبهذه الطريقة الكفاية، ونعمت الكفاية هي.

وقال ابن الصباغ: معناها، فبالفريضة أخذ. ونعمت، يعني: بالخلة الفريضة. تنبيه: المراد من قول الشيخ: "غسل الجمعة" الغسل لصلاة الجمعة، ومنه يفهم أنه يختص بمن يريد الصلاة، دون من لم يردها، وهو المذكور في "تعليق القاضي أبي الطيب"، و"النهاية" وغيرهما، وعليه يدل من قول الشيخ- أيضاً-: المستحب لمن أراد الجمعة أن يغتسل لها". وقد حكى بعض المراوزة وجهاً: أنه كغسل العيد، يستحب لمن يحضرها ولمن لا يحضرها، وهو منسوب في كتب العراقيين إلى أبي ثور. وتوسط الماوردي؛ فقال: هو سنة لمن يريد الحضور، وليس بسنة لمن ليس من أهل وجوبها. وأما من هو من أهل الوجوب، لكن تخلف لعذر، فهل هو سنة؟ له فيه وجهان. وتقديم الشيخ غسل الجمعة على غيره من الأغسال يؤذن بأنه آكدها. وقد اتفق جمهور الأصحاب على أنه والغسل من غسل الميت آكد الأغسال المسنونة، وأيهما آكد؟ فيه قولان.

أحدهما: غسل الجمعة؛ لاختلاف العلماء في وجوبه؛ تمسكاً بقوله- عليه السلام-: "غُسْلُ الجُمُعَةَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتلِمٍ". رواه مسلم. وقوله- عليه السلام-: "مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ؛ فَلْيَغْتَسِلْ". والثاني: الغسل من غسل الميت آكد؛ لاختلاف قول الشافعي في وجوبه، وقد نسب هذا القول إلى "الأم"، وهو المنقول في "المختصر"، والأول إلى القديم، وقال في "الكافي": إنه أصح. وقال صاحب "التلخيص": الغسل من غسل الميت لا يبلغ درجة الوكادة كباقي الأغسال. قال الإمام: وهو غلط باتفاق الأصحاب. قلت: ولا جرم قدمه الشيخ على الأغسال التي لا تتعلق بالصلاة؛ [كما قدم غسل الجمعة على الأغسال التي تتعلق بالصلاة] إذ الباب مشتمل عليها. قال بعضهم: وفائدة الخلاف في أيهما آكد تظهر فيما إذا أوصى شخص بماء لغسل أولى الناس به، وحضر من يريد الجمعة، ومن غسل ميتاً. قال: وغسل العيدين [والكسوفيين والاستسقاء]؛ لما ستعرفه في أبوابها؛ والقدر الشامل لها: أن ذلك موضع يشرع فيه الاجتماع؛ فيسن فيه الاغتسال؛ كالجمعة. قال: والغسل من غسل الميت؛ لما روى أبو هريرة، أنه- عليه السلام- قال: "مَنْ غَسَّل مَيِّتاً فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّا". أخرجه أبو داود، وقال الترمذي.

0000000000000000

حديث حسن. لكن الإمام أحمد قال: إنه موقوف على أبي هريرة؛ ولأجل هذا لم يقل بوجوب ذلك. وقد حكي أن للشافعي قولاً في القديم: أنه واجب، أعني: الغسل على من غسله، والوضوء على من مسه. ونقل المزني عن الشافعي أنه قال: "لو صح الحديث قلت به". واختلف الأصحاب في معنى قوله: "قلت به": فقال ابن سريج: قلت به استحباباً،

وقال أبو إسحاق: قلت به وجوباً، وهو ما صححه أبو الطيب، وعلى هذا: على ماذا يحملون وجوبه؟ فيه وجهان: أحدهما: [أنه تعبد. والثاني: أنه محمول] على نجاسة بدن الآدمي إذا مات- وهو وجه بعيد- لأن من غسل ميتاً يترشش الماء إلى مواضع من بدنه [لا يدري بها؛ فيجب تعميم البدن بالغسل؛ لتيقن طهارة بدنه] بعد ما علم نجاسته. ولا وجه لإيجاب الوضوء إلا التعبد. وقد خرج بعض أصحاب الحديث لصحته مائة وعشرين طريقاً، كما قاله الماوردي. قال: وغسل الكافر إذا أسلم؛ لما روى النسائي: "أنه أسلم قيس بن عاصم، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماء وسدر] وروي أنه أمر ثمامة بن أثال الحنفي أن يغتسل حين أسلم. ولأن في غسله تعظيماً للإسلام. واستحب أن يكون غسله بعد حلق شعر رأسه؛ لقوله- عليه السلام-: "أَلْقِ عَنْكَ شَعَرَ الكُفْرِ".

فإن قيل: لم لا قلتم بوجوبه لأجل الخبر؟ قيل: لأن جماعة أسلموا، ولم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ فدل لسنيته، ولو كان فرضاً لأمرهم به، ولأن الإسلام توبة من معصية؛ فلم يجب الغسل لها؛ كالتوبة من سائر المعاصي. ثم ظاهر كلام الشيخ أن غسله بعد الإسلام، وقد أبعد بعض الأصحاب، فاستحبه قبله. قال الإمام في كتاب الجمعة: وفيه نظر؛ فإن الأمر بتأخير الإسلام محال، والمعرفة إذا ثبتت لا يمكن دفعها. وإن كان المراد إظهار الشهادتين؛ فلا وجه لتأخيره، فإنه مما يجب على الفور. نعم، لو قيل: لو بدت تباشير الهداية؛ فابتدر الكافر واغتسل، ثم أقبل، وهداه الله؛ فما جرى في الحال التي وصفناها: هل يعتد به؟ فيه احتمال وتردد. ثم هذا في كافر لم يجب عليه في حال كفره الغسل، أما إذا وجب؛ فالمذهب أنه لا يسقط، ويجب عليه أن يغتسل بعد الإسلام. وذهب الإصطخري إلى سقوطه؛ لعموم قوله- عليه السلام-: "الإِسْلامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ"، حكاه الماوردي عنه. فإن قلنا بالمذهب، ولم يكن قد اغتسل في حال الكفر؛ فالأمر كما سلف، وإن كان قد اغتسل، فقد حكينا في الباب قبله في صحة غسله خلافاً.

قال: والمجنون إذا أفاق، أي وكذا المغمى عليه، والأصل فيه ما روي: أنه- عليه السلام- كان في مرضه الذي مات فيه يغشى عليه، فإذا أفاق قال: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ، وَكَانَ يَغْتَسِلُ". فإذا شرع ذلك في الإغماء؛ ففي الجنون أولى. وقد حكي عن الشافعي، أنه قال في "الأم": قلما جن إنسان إلا أنزل، وإن كان هكذا اغتسل المجنون للإنزال. وإن شك أحببت أن يغتسل احتياطاً، ولم أوجب ذلك عليه حتى يستيقن الإنزال. قال البندنيجي: وهذا صحيح، إن كان بزوال العقل [ينزل غالباً؛ فمتى أنزل أو لم ينزل تعلق الغسل بزوال العقل]؛ كما نقول في النائم: يجب عليه الوضوء؛ لأن النوم مظنة الحدث، وإن لم يغلب ذلك لم يجب. والجمهور على عدم وجوبه في الحال، وفرقوا بينه وبين النوم: بأن الحدث الذي النوم مظنته لا علامة تدل عليه بعد الإفاقة، بخلاف الإنزال؛ فإنه عين يمكن الوقوف عليها. قال: والغسل للإحرام، ولدخول مكة، وللوقوف- أي: بعرفة ومزدلفة- وللرمي- أي: إلى الجمرات الثلاث، في أيام التشريق، في كل يوم غسلاً واحداً؛ فيكون له ثلاثة أغسالٍ- وللطواف، أي: طواف الركن. وهذه الأغسال تذكر أدلتها في الحج. وقد حكى القاضي أبو الطيب: أن الغسل لطواف القدوم، منصوص عليه في القديم دون الجديد. وكذا الغسل لطواف الوداع، والغسل بعد حلق رأسه، وبذلك تكمل اغتسالات الحج عشراً. قال الأصحاب: ولا يختلف قوله: في أنه لا يستحب الغسل لرمي جمرة العقبة؛ لأنها

قريبة من الغسل للعيد والغسل للوقوف، وبهذا خالفت بقية الجمرات؛ فإن [وقتها بعيد] وأيضاً فإن وقتها يكون بعد الزوال، وهو وقت الحر، بخلاف جمرة العقبة، والناس يجتمعون في الجمرات، بخلاف جمرة العقبة؛ [فإن وقتها] أوسع. وقد أحسن في "المرشد" فقال: إن طواف الوداع وطواف الزيارة يغتسل له؛ إن ازدحم الناس؛ كما يرشد إليه تعليله في الجديد. وقد زاد صاحب "التلخيص" على ما ذكرناه: الغسل من الحجامة، ومن دخول الحمام، وأنكره المعظم عليه. وحكى الإمام في كتاب الجمعة عنه: أنه استحب الغسل لدخول الكعبة أيضاً والله أعلم.

باب التيمم

باب التيمم التيمم في اللغة: القصد والعمد، يقال، تيممت، ويممت فلاناً، إذا: قصدته. وفي الشرع: إيصال التراب الطاهر إلى الوجه واليدين مع النية بشرائط مخصوصة. قال: "ويجب التيمم عن الأحداث كلها إذا عجز عن استعمال الماء". "الأحداث": جمع "الحدث" وإن كان اسم جنس؛ لتعدد أفراد نوعيه: الأصغر والأكبر. ونظم بقوله: "عجز" العجز بسبب فقده، والعجز بسبب مرض، قام بالمتيمم، أو خوف، كما سيأتي، ودليل وجوبه [في] حالة المرض، وفي حالة العدم في السفر قوله- تعالى-: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] إذ في الآية- كما قال زيد ابن أسلم، فيما حكاه القاضي أبو الطيب، في باب الأحداث، عن الشافعي، عنه-: تقديم وتأخير، وذلك كثير في كتاب الله تعالى، قال الله- تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) قَيِّماً لِيُنذِرَ بَاساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} [الكهف: 1، 2]. وتقديرها: أنزل على عبده الكتاب قيماً، ولم يجعل له عوجاً. وقال- تعالى-: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ} [هود: 71]. والتقدير: فبشرناها؛ فضحكت. وقوله- تعالى-: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 5]. والتقدير: جعله أحوى غثاء، لأن الأحوى: الأخضر، والغثاء: اليابس. وإذا كان فيها تقديم وتأخير، فتقديرها- كما قال-: إذا قمتم من النوم إلى الصلاة، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء- فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، وإن كنتم جنباً فاطهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر، فلم تجدوا ماء؛ فتيمموا. وإذا ثبت ذلك في الجنابة، كان الحيض مثلها؛ لأن كلاً منهما يوجب الغسل.

أو نقول: الآية تدل على وجوبه في الحدث الأصغر، وهو إجماع، ويدل عليه في الجنابة قراءة من قرأ: {أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] وحملها على المجامعة، كما صار إليه علي وابن عباس. والخبر الذي نذكره عن عمران بن الحصين يدل عليه، والحيض والنفاس في معناها. وفي حالة العدم [في الحضر]: قوله- عليه السلام-: "الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ المُسْلِمِ، وَلَوْ لَمْ يَجِدِ المَاءَ، وَلَوْ إِلَي عَشْرِ حِجَجٍ" ولم يفصل. وكذا ما روى عن عمران بن الحصين: "أنه- عليه السلام- أمر رجلاً كان جنباً أن يتمم، ثم يصلي، فإذا وجد الماء اغتسل". أخرجه البخاري ومسلم. وظاهر الأمر الوجوب. قال الإمام: ومع وجوبه فهو رخصة. وقال البندنيجي: إنه عزيمة. فحصل فيه وجهان صرح بهما غيرهما. وأثرهما يظهر فيما لو سافر في معصية، وعدم الماء؛ فإنه يتمم، وهل يجب عليه الإعادة؟ إن قلنا: إنه رخصة، فنعم؛ وإلا فلا. والإمام حكى الوجهين في باب "صلاة المسافر" مع جزمه بأنه رخصة.

ووجه المنع: بأنه وجب عليه فعله؛ فخرج عن مضاهاة الرخص المحضة، وبأن وجوب القضاء يتعلق بالمآل وثاني الحال فلا تؤثر المعصية فيهما. وقد أطلق الشيخ هنا القول بوجوب التيمم، وعبارته في "المهذب": "يجوز التيمم عن الحدث الأصغر؛ للآية، ويجوز عن الحدث الأكبر". ولا منافاة بين قوله: ["ويجوز"، وبين قوله]: "يجب"؛ لأن الواجب جائز الفعل، وإذا كان كذلك؛ فلا حاجة إلى التأويل حتى يقال: إن ما ذكره هنا محمول على آخر الوقت، وما ذكره في "المهذب" محمول على أوله. ولو احتاج إلى التأويل لم يكن ما ذكره شافياً؛ لأن التيمم عند وجود شرطه في أول الوقت، واجب أيضاً، لكنه واجب موسع، وهو في آخره واجب مضيق. نعم، قد يقال: عدل في "المهذب" عن لفظ الوجوب إلى الجواز؛ لوقوع الخلاف في الجواز؛ فإن بعض الصحابة قال: لا يجوز عن الجنابة. ولا جرم صدر كلامه بجوازه في الأصغر؛ لكونه مجمعاً عليه، ثم ثنى بالأكبر، للاختلاف فيه. وفعل هذا في "المهذب" دون "التنبيه"؛ لأنه مبسوط يحتمل مثل ذلك، أو [لأنه لما] قرره في "المهذب"، أراد أن يبين- هنا- أمراً زائداً عليه؛ إذ لا يلزم من جوازه وجوبه، والمراد بكونه واجباً: وجوب الشرائط كاملة، حتى

يقول: يجب على الصبي والمتنفل. والله أعلم. قال: ولا يجوز التيمم إلا بتراب. أما جوازه بالتراب؛ فهو إجماع، وأما عدم جوازه بما عداه: كالزرنيخ، والنورة، والكحل، وما سحق من الأحجار، أو نشر من الأخشاب- وإن شابه التراب- فدليله: أن الله- تعالى- أوجب التيمم بالصعيد، وهو- كما قال بعض أهل اللغة- يقع على التراب، وعلى وجه الأرض، وعلى الطريق؛ فهو مجمل بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "جُعِلَتِ الأَرْضُ لِي مَسْجِداً، وَجُعِلَ تُرَابُهَا لِي طَهُوراً". هكذا حكاه [ابن التلمساني] عن رواية مسلم؛ والمشهور: "وَجُعِلَتْ تُرْبِتُهَا لَنَا طَهُوراً؛ إِذَا لَمْ نَجِدِ المَاءَ". وقوله: "التُّرَابُ كَافِيكَ، وَإِنْ لَمْ تَجِدِ المَاءَ عَشْرَ حِجَجٍ". ولا يقال: هذا لا حجة فيه؛ لأنه مفهوم لقب؛ لأنا نقول: قد قال بعض أصحابنا: إنه حجة.

وعلى الآخر نقول: التيمم على خلاف الدليل؛ فلا نعدل فيه عما ورد. أو نقول: لما انتقل النبي- عليه السلام- من اسم الأرض إلى التراب، دل على التفرقة بينهما؛ إذ الانتقال من الأعم إلى الأخص لا يكون إلا لذلك. وقد روى عن ابن عباس، أنه قال: "الصعيد هو تراب الحرث". وعن ابن مسعود، وعلي: "أنه التراب الذي يغبر". وقال الشافعي: "إنه كل تراب ذي غبار" وقوله حجة في اللغة. قال ابن الصباغ: ويشهد له قول المفسرين، في قوله- تعالى-: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} [الكهف: 40]: إنه التراب الأملس، وفي قوله- تعالى-: {صَعِيداً جُرُزاً} [الكهف: 8]: إنه التراب الذي لا ينبت. ولأن الطهارة تتنوع نوعين: جامد، ومائع، ثم ثبت أنها في المائع تختص بأعم المائعات وجوداً، وهو الماء؛ فكذلك في الجامد، يجب أن تختص بأعم الجامدات وجوداً، وهو التراب، وما ذكره الشيخ هو المشهور في المذهب. وقد أغرب الحناطي، فحكى في جواز التيمم بالذريرة، والنورة، والزرنيخ- قولين، وكذا في الأحجار المدقوقة، والقوارير المسحوقة، وأشباهها. وقد اندرج في لفظ التراب [التراب] الأحمر، والأصفر: وهو الطين الإرمني، والتراب الأسود، قال الإمام: وهو ما يستعمل في الدواء- والتراب الأبيض: وهو المأكول منه، والتراب الأعفر: وهو الذي بياضه ليس بخالص، والسبخ: وهو التراب

المالح الذي لا ينبت لا الذي يعلوه الملح، والمدر: وهو التراب الذي يصيبه المطر؛ فيجف، والبطحاء: وهو التراب الذي في مجرى الماء إذا جف واستحجر، والطين المختوم: إذا دق ذلك وصار له غبار. وحيث نص الشافعي على أنه لا يجوز بالبطحاء؛ فمراده- باتفاق الأصحاب- إذا لم يكن له غبار. وكما أدرج في لفظ "التراب" ما ذكرناه، يخرج ما سحق من الخزف والآجر، وإن صار له غبار؛ لأنه بالطبخ استجد له اسماً آخر، وخرج عن أن يكون تراباً، كذا نص عليه الشافعي. وكذا الطين الإرمني، يخرج- أيضاً- إذا أحرج ظاهره وباطنه، ودق. نعم، لو أحرق ظاهره فقط؛ ففي جواز التيمم به وجهان جاريان في الطين الخراساني، وهو المأكول، إذا دق: أحدهما: لا؛ لأن كل واحد منهما أصابته النار؛ فأشبه إذا صار خزفاً. والثاني: يجوز؛ لأن ذلك الإحراق لا يخرجه عن اسم الطين، [قاله أبو الطيب. والشيخ في "المهذب" أجرى الوجهين في الطين] المحروق مطلقاً. واختار الإمام: القطع بالجواز، وغلط مقابله. وتراب الأرضة إن أخرجته من خشب لا يجوز التيمم به، وإن أخرجته من مدر يجوز [به] إذا دق، لأن لعابها طاهر، قاله القاضي الحسين. قال: "طاهر"؛ لقوله تعالى: {طَيِّبًا} وأراد: طاهراً؛ لأن الطيب يطلق على ما تستطيبه النفس، وعلى الحلال، وعلى الطاهر. والأولان لا يحسن وصف التراب بهما؛ فتعين الثالث. وقوله- عليه السلام-: "وَتُرَابُهَا طَهُوراً" مصرح باعتبار الطهارة، ولا يجوز بالتراب النجس. والحكم في تراب المقبرة كالحكم في الصلاة عليها، وستعرفه. والقولان فيما إذا كن الغالب [نبشها يجريان] فيما لو كان على كلب تراب،

وشك في أنه لاقاه وهو مبلول، أو عرقان، أو يابس، وفي حال تيقن أنه أصابه وهو مبلول، لا يجوز، وفي حال تيقن أنه أصابه وهو جاف، يجوز. [تنبيه]: قيد الطهارة يشعر بأمور: أحدها: أن التراب لا يؤثر عنده في منع التيمم به الاستعمال؛ إذ لو كان يؤثر لأبدل لفظ "الطاهر" بـ"المطلق" حتى يخرج المستعمل أيضاً. وللأصحاب في ذلك وجهان: أصحهما في "الحاوي": أنه لا يؤثر، بخلافه في الماء؛ لأنه يرفع الحدث؛ فصار مستعملاً برفعه؛ بخلاف التراب. وهذا منه إشارة إلى أن [علة] الاستعمال في الماء انتقال المانع إليه لا تأدي العبادة. والأصح في غيره: مقابله، وهو المنصوص عليه، كما قاله القاضي الحسين. والمذهب في "النهاية" والمجزوم به في "التتمة"، و"تعليق" القاضي أبي الطيب، وكذا في "المهذب"؛ لأنه قال: لا يجوز التيمم بما استعمل في العضو، فأما ما تناثر من أعضاء المتيمم، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ كما لا يجوز الوضوء بما يسقط من أعضاء المتوضئ. والثاني: يجوز لأن المستعمل ما بقي على العضو، وما يتناثر غير مستعمل فجاز التيمم به، ويخالف الماء؛ لأنه لا يدفع بعضه بعضاً، والتراب يدفع بعضه بعضاً؛ فدفع ما أدى به الفرض في العضو ما تناثر منه؛ فرجع حاصل قوله إلى أن المستعمل في العضو، مستعمل. [وما يتناثر عنه]: هل هو مستعمل، أم لا؟ فيه وجهان: فإن قلنا: إنه مستعمل، لا يجوز التيمم به؛ وإلا جاز. وكذا صرح به غيره. وصرح البندنيجي وابن الصباغ بأن المنصوص عليه: أن المستعمل ما تساقط عن العضو، وهو ما ذكره القاضي الحسين والفوراني والإمام والمتولي. وما بقى على العضو بذلك أولى. ولا جرم، قال في "الكافي": المستعمل [ما] أخذ من وجه المتيمم، أو يديه، أو

أخذ مما يتناثر عنه حال الاستعمال. ولا خلاف في أنه يجوز لجماعة: التيمم من مكان واحد يضربون عليه؛ كما يجوز أن يتوضئوا من إناء واحد. الأمر الثاني: أن التراب الممزوج بماء الورد، والخل، ونحوهما، إذا جف؛ يجوز التيمم به، ولا خلاف فيه. الأمر الثالث: أنه يجوز بالتراب المغصوب، وهو كذلك إذا قلنا: إنه عزيمة، أما إذا قلنا: إنه رخصة؛ ففيه وجهان. قال: له غبار يعلق بالوجه واليدين؛ لقوله- عليه السلام-: "التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةُ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَهُ لليَدَيْنِ" مع تقديم قوله- تعالى-: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ

مِنْهُ} [المائدة: 6] فإنه يقتضي ذلك. إذ ما لا غبار له لا يتصور مع الضرب عليه مسح الوجه واليدين بشيء منه، وتفسير [عَلِيّ و] ابن مسعود والشافعي الصعيد يدل عليه. وقد أخرج هذا القيد التراب الندي والمعجون، وعليه نص في "المختصر". قال: فإن خالطه جص، أو رمل، لم يجز التيمم به؛ لأنه ربما حصل منه شيء على العضو، فمنع وصول التراب إليه؛ ومن هنا يؤخذ أن التيمم بالجص والرمل مفرداً لا يجوز، وهو المشهور في الجص، لكن في "الحاوي": أنه يجوز به إذا لم يحرق، وكذا بالإسفيداج، إذا كان لهما غبار، إلا أن يكون ذلك معدناً في الأرض، وليس منها؛ فلا يجوز التيمم به. وأما في الرمل، فهو نصه في الجديد، و"الأم". وعن القديم، "والإملاء": أنه يجوز؛ فحصل فيه قولان. وبهذه الطريقة قال ابن القاص. وقال أبو إسحاق: [ليست المسألة على قولين؛ وإنما هي على حالين: فحيث قال: لا يجوز]، أراد: إذا لم يكن في الرمل تراب. وحيث قال: يجوز، أراد: إذا كان فيه تراب يعلق باليدين. وهذه الطريقة صححها أبو الطيب، وجماهير الأصحاب، كما قال الإمام، وغلط في "الحاوي" من قال بالأولى، وقال: إن الرمل على ضربين: ضرب منه يكون له غبار يعلق بالوجه؛ فالتيمم به جائز؛ لأنه من جنس التراب، وطبقات الأرض. وضرب منه لا غبار له؛ فلا يجوز التيمم به؛ لعدم غباره الذي يقع التيمم به، لا بخروجه عن جنس التراب. وهذه الطريقة حكاها هكذا القاضي الحسين، والفوراني، والمتولي، واختارها في "الكافي"، والرافعي، وعليها الجواز بالمختلط به من التراب أولى، فحصل فيما قاله الشيخ طريقان.

وطريقة الشيخ تقتضي أنه لو خالط التراب دقيق، أو سويق، ونحوه، لا يجوز التيمم به من طريق الأولى، لأن علوقه باليد أسرع من علوق الجص والرمل بها، وهذا ما جزم به أبو الطيب، ولم يفصل بين أن يكون [التراب] غالباً أو مغلوباً، وهو المنصوص، كما ذكر البندنيجي وابن الصباغ، وينسب إلى ابن أبي هريرة. وقال أبو إسحاق وغيره من أصحابنا: إن كان التراب غالباً جاز؛ كما لو كان الماء غالباً. قال البندنيجي: وليس بشيء. والغلبة تعتبر بالطهر؛ كما قال الإمام. وقال الروياني في "تلخيصه": المعتبر في المنع أن يكثر المخالط، أو يغلب طعمه، أو لونه، أو ريحه. قال: وإذا أراد التيمم، فإنه يسمي الله- تعالى- كما في الوضوء ويضرب يديه على التراب؛ لقوله- عليه السلام- لعمار، وقد تمعك في التراب، وصلى، حين أجنب: "إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الأَرْضَ" وهذا ما حكاه المزني، عن

نص الشافعي، في موضع. وقال في آخر: إنه يضع يديه على التراب. ونصه الأول محمول على ما إذا كان التراب حرشاً، لا يعلق منه شيءُ بالكف بدون الضرب، [والثاني محمول على ما إذا كان ناعماً، فعلق باليد بدون الضرب]، وهذا مما لا خلاف فيه؛ فليحمل كلام الشيخ على ما حمل عليه كلام الشافعي. تنبيه: قول الشيخ: [ويضرب يديه على التراب] يعرفك أنه لا فرق فيه بين أن يكون التراب على أرض، أو نابت فيها، أو ثوب، أو حيوان- طاهراً كان الحيوان أو نجساً- إذا كان التراب محكوماً بطهارته، وبه صرح غيره، حتى قالوا: لو كان التراب على عضو من أعضاء بدنه، غير أعضاء التيمم جاز الضرب عليه، وأخذه منه، واستعماله في التيمم. نعم، لو كان التراب على وجهه، لا يجوز أن يضرب يديه عليه، ويمسح به الوجه، كما أطلقه القاضي الحسين. وقال الإمام: إن شيخه قال: لا فرق في عدم إجزائه بين أن يردده على الوجه، أو ينقله إلى يديه ثم ينقله إلى الوجه. وقال الفوراني: إذا [نقله] إلى اليد، ثم مسح به الوجه؛ ففي إجزائه وجهان. وهو الوجه؛ فإن التراب إذا علق باليد، فقد انقطع عنه حكم الوجه؛ فهو الآن تراب على اليد، وفي جواز نقل التراب الذي على اليد إلى الوجه وجهان جاريان في نقل التراب من على الوجه إلى اليدين. ويتصور ذلك- كما قال القاضي الحسين- بأن يمسح وجهه بتراب ثم يمسحه بخرقة، ثم تلقي عليه الريح تراباً، فينقله من عليه إلى اليدين. والمجزوم به في "الكافي"- وهو الأصح-: الجواز. وعلى هذا لو كان التراب على إحدى يديه، فضرب عليها؛ ليمسح به الأخرى: هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: [لا] لأن اليدين كالعضو الواحد؛ فيشبه ما لو كان على أسفل الوجه،

فضرب عليه؛ ليمسح به أعلاه. فرع: لو كان التراب على بشرة امرأة أجنبية، فهل يجزئ الضرب عليه؟ قال القاضي الحسين: إذا كان التراب كثيراً، يمنع من التقاء البشرتين أجزأ، وإلا فلا؛ لأن الحدث بعد الضرب يبطل حكم الأخذ، وهو مقارن له- هاهنا- فهو بمنعه أولى. وقال في "التتمة": إن أخذه للوجه، صح، وإذا أخذه لليدين، بطل مسحه على الوجه بالتقاء البشرتين؛ وهذا قاله بناء على أن الحدث بعد الضرب لا يبطل حكم الأخذ، والله أعلم. قال: ويفرق أصابعه؛ لأن تفريقها أبلغ في إثارة الغبار من التراب الحرش وهو محل الضرب، كما ذكرنا. وظاهر ما ذكره الشيخ هو ما نقله المزني، وبه أخذ طائفة، منهم: أبو الطيب، والماوردي، والبندنيجي. والتفريق في الضربة الثانية أولى، وهو متفق على وجوبه فيها. وذهب طائفة إلى تخطئة المزني فيما [نقله، وقالوا: التفريق إنما يكون في الثانية فقط، وعلى هذا] جرى الفوراني، والقاضي الحسين. وقال ابن يونس، ومن تبعه: إن هذا هو الصحيح، وتأول كلام الشيخ على التفريق في المرة الثانية.

قلت: إن كان الشيخ ممن يرى تخطئة المزني في ذلك؛ فتأويل كلامه على التفرقة عند مسح الوجه بالضربة أولى؛ لأن كلامه يرشد إليه؛ إذ لو كان مراده: أن التفرقة تكون حال الضرب، لقال: ويفرق أصابعه ويضرب، فلما أن قال: "يضرب ويفرق أصابعه" دل على ما ذكرناه، وإن كانت الواو لا تقتضي الترتيب؛ لأن التفريق عند مسح الوجه أبلغ، خصوصاً فيمن له لحية، لكن الغالب أنه إنما يروي ما حكيناه عن شيخه أبي الطيب، وهو الأصح في "الرافعي". والقائلون بخلافه اختلفوا في جواز التفريق في الضربة الأولى: فذهب الأقلون ومنهم القفال إلى منعه، وأنه لا يصح تيممه إذا فعله؛ لأن الغبار الحاصل بسببه من الأصابع يمنع الغبار الواجب إيصاله بالضربة الثانية، ولا يمكن الاكتفاء بالأول؛ فإنه في حكم غبار حصل على المحل قبل فرض النقل إليه، وهو لا يجوز، كما سنذكره. وذهب الأكثرون منهم إلى جوازه؛ لأنه إذا مسح الوجه، لم يبق على اليد كثير غبار؛ فلا يمنع من إيصال الغبار الثاني إليه. نعم، إن بقي ما يمنع؛ وجب إزالته قبل الضربة الثانية. والقول بالجواز وعدم الاستحباب هو الراجح عند الإمام، وقال: إن القائل بخلافه مجاوز للحد، وليس بالمرضي اتباع [شعب الفكر] ودقائق النظر في الرخص، وقد تحقق من فعل الشارع ما يشعر بالتسامح فيها، ولم يوجب أحد من أئمتنا على الذي يهم بالتيمم أن ينفض التراب عن وجهه ويديه، ثم يبتدئ بنقل التراب إليهما، مع العلم بأن المسافر في تقلباته لا يخلو عن غبار يرهقه، ولو صح ما ذكره هذا القائل، لوجب ذلك؛ ولأجل ذلك قال الغزالي: إن ما ذكره القفال بعيد؛ فإنه [تضييق للرخصة]. واعترض عليه بأنه إنما يكون تضييقاً إذا نشأ من أمر يتعذر الاحتراز منه. وقد تلخص مما ذكرناه أن التفرقة في الضربة الثانية لابد منها، وهل تستحب في

الضربة الأولى، أو لا تجوز، أو فعلها وتركها على السواء؟ فيه ثلاثة أوجه. والله أعلم. قال: وينوى؛ لما ذكرناه من الآية والخبر في الوضوء، ولأنه عبادة محضة طريقها الفعل؛ فافتقرت إلى النية؛ كالصلاة والزكاة. واحترزنا بقولنا: "محضة" عن العدة، وبقولنا: "طريقها الفعل" عن إزالة النجاسةن ورد المغصوب؛ فإن طريقهما الترك، وما طريقه الترك: الغالب عدم اشتراط النية فيه. قال: استباحة الصلاة؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما يبيح الصلاة؛ فتعين أن ينوي ذلك. والدال على أنه لا يرفع الحدث رواية أبي داود عن عمرو بن العاص، قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك؛ فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبُ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29] فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئاً.

ولأنه لو رفعه، لما عاد برؤية الماء. وقد قيل: إن نية الاستباحة على هذا لا تتعين؛ بل يجوز أن ينوي رفع الحدث، ويستبيح الصلاة؛ [لأن المعنى المقصود برفع الحدث إنما هو استباحة الصلاة]، والتيمم يبيح الصلاة، وإن لم يرفع الحدث. وهذا ما صححه ابن التلمساني. والمذكور في أكثر كتب العراقيين: أن نية رفع الحدث لا تجزئ؛ وكذا نية الطهارة عن الحدث، ولم يحك في "الوسيط" غيره. نعم، حكى عن ابن سريج: أنه يرفع الحدث في حق فريضة واحدة، وجعله ابن خيران قولاً للشافعي. وغلط فيه؛ لأن الحدث لا يتبعض. وقد حكى الماوردي عن رواية بعض الأصحاب، عن المزني: أنه يرفع الحدث، ولم يخصه بفريضة واحدة. قيل: هو غلط. قلت: ويشبه أن يكون وجهه أنه لو كان يرفع الحدث، لما عاد برؤية الماء قبل الشروع في الصلاة، كما صار إليه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وقد وافق المزني على عوده بذلك. ولأنه لو كان يرفع الحدث، لما بطلت الصلاة برؤية الماء في أثنائها، وهو يرى بطلانها، وبمثل هذا يبطل مذهب ابن سريج؛ لأنه وافقه في البطلان، كما ستعرفه، والله أعلم. وفي "النهاية"، في باب المسح على الخفين: أن القول بأن التيمم لا يرفع الحدث إذا لم يكن معه غسل، فإن كان التيمم مع الغسل، فهو بمثابة المسح على الخف مع غسل سائر أعضاء الوضوء.

فإذا قلنا: إن التيمم يرفع الحدث كيف كان، أجزأت نية رفع الحدث فيه بلا خلاف. وله فائدة أخرى سلفت. والرافعي جعل الخلاف في إجزاء نية رفع الحدث مبنياً على أنه يرفع الحدث أم لا. والخلاف جارٍ فيما لو نوى [الجنب] بتيممه رفع الجنابة. واعلم أن الشيخ [ذكر] من وصف النية [ما] لابد منه في كل تيمم، فرضاً كان أو نفلاً، وهو الاستباحة، وسكت عما عداه؛ لأن كلامه في مطلق التيمم، وما ذكره كافٍ فيه؛ فإنه يصح، ويستبيح به النفل، كما لو نوى استباحة صلاة النفل؛ حملاً للمطلق على أقل درجاته. نعم، هل يستبيح عند الاقتصار على نية الاستباحة الفرض [أيضاً؟ الحكم فيه كما لو نوى استباحة صلاة النفل، هل يستبيح الفرض؟] وفيه قولان: الجديد منهما- وهو الأصح-: لأن وهو ما حكاه البغداديون من أصحابنا: كالشيخ أبي حامد، وأبي الطيب، وكذا الماوردي، وصاحب "الكافي". والقديم: نعم، وحكاه في "المهذب" عن رواية أبي حاتم القزويني، عن أبي يعقوب الأبيوردي عن "الإملاء".

فعلى هذا لا يحتاج المتيمم مع التعرض لاستباحة الصلاة إلى آخر، ويصلى الفرض والنفل. وعلى الأول لابد لمن أراد فعل فريضة من التعرض إلى استباحة صلاة الفرض، وهل يشترط تعيين الفريضة: كالظهر والعصر ونحوهما أم لا؟ فيه وجهان: اختيار أبي إسحاق، وابن أبي هريرة، والصيمري، والشيخ أبي علي: نعم؛ لأنه لما تعين التعرض للفرض، وجب التعرض للفريضة نفسها؛ كما في الصلاة. والذي دل عليه نصه في "الأم"، والبويطي: لا؛ لأنها طهارة عن حدث؛ فلم تفتقر إلى تعيين الفريضة؛ كالوضوء. وهذا ما قطع به المراوزة؛ كما قال الإمام، وهو الأصح عند الأكثرين؛ وعلى هذا: لو نوى استباحة صلاة الظهر جاز أن يصلي بها غيرها، وعلى الأول: لا. فإن قلت: هل يمكن تنزل كلام الشيخ على هذا؟ قلت: نعم، بأن يضمر بعد قوله: "وينوي استباحة الصلاة": أي التي يقصد فعها، والله أعلم. وقد اختار الإمام فيما إذا نوى استباحة الصلاة، وأطلق، أنه بمنزلة ما لو نوى استباحة الفرض والنفل، [وأن الوجه القطع به فإن الصلاة اسم للجنس يتناول الفرض والنفل] والجمع بينهما في نية التيمم ممكن. وخالف هذا ما لو نوى المصلي الصلاة حيث نزلنا على النفل فقط؛ لأن الجمع بين الفرض والنفل لا يمكن فيها، مع عدم إمكان استيعاب كل المفروضات، [ووجوب تعيين كل فريضة، وحكى] عن شيخه [أن: نيته] محمولة على النفل فقط. وجزم [الغزالي] في "الوجيز" بما اختاره الإمام، وجعله في "الوسيط" المذهب، واستبعد مقابله، وهو المحكي عن القفال أيضاً. وبنى القاضي الحسين الخلاف في ذلك على أن التيمم للنفل من غير تعرض للفرض، هل يستباح به الفرض؟

فإن قلنا: نعم؛ فهنا أولى. وإلا فجوابان بناء على [أن] مطلق نذر الصلاة يحمل على أقل واجبها، أو أقل جائزها؟ فإن حملناها على أقل الواجب، استباح بنية استباحة الصلاة الفرض؛ وإلا فلا. وهذا البناء يقتضي أن يكون الصحيح: استباحة صلاة الفرض به؛ لأن الصحيح: أن مطلق نذر الصلاة منزل على أقل الواجب الشرعي، وهذا كله تفريع على ظاهر المذهب في أنه لا يشترط تعيين الفريضة. فرع: قال الإمام: لو نوى أداء فرض التيمم أو فريضة التيمم، هل يكفيه؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما في الوضوء. قال الروياني في "تلخيصه": وعلى هذا يكون كما لو تيمم للنفل. وأصحهما في "الرافعي": لا. والفرق: أن الوضوء قربة مقصودة في نفسها؛ إذ يستحب تجديده، والتيمم لا يعنى إلا لغيره؛ ولهذا لا يستحب تجديده. قال بعضهم: والوجهان جاريان فيما لو نوى الطهارة الواجبة. ولو اقتصر على نية التيمم، لم يجزئه، قاله الماوردي. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أمرين: أحدهما: أنه لا فرق في نية استباحة الصلاة بين أن يكون الناوي محدثاً الحدث الأصغر أو الأكبر، وبه صرح غيره، وقالوا: لا فرق بين أن يكون ذاكراً ما عليه من الحدث، أو ناسياً له؛ بل لو تيمم وهو يعتقد أنه جنب، فكان محدثاً، أو بالعكس أجزأه؛ لأنه [لو] ذكر لم يزد على ما نواه. والثاني: قوله: "وينوي استباحة الصلاة" بعد قوله: "ويضرب بيديه على التراب"- ظاهره يقتضي أنه لا يشترط مقارنة النية للضرب على التراب، أو ما في معناه؛ لأن الواو كما تستعمل في المعية، تستعمل في الترتيب وعكسه على السواء، وظاهر اللفظ الترتيب. وما اقتضاه كلام الشيخ، به صرح في "المرشد" حيث قال: ومحل النية عند أول

جزء من الوجه. لكن المذكور في "الرافعي": أن تقديم النية على الضرب، كتقديمها في الوضوء على غسل الوجه، ولا يجوز تأخيرها عن الضرب، بل الواجب اقترانها [به] لأنه أول واجب فيه، فكانت مقارنتها مشترطة به؛ كما في الوضوء. ومن فوائده: ما ذكره القاضي في "الفتاوى": أنه لو أحدث بعد الضرب، لا يجوز أن يتمم بما حصل من التراب بالضرب؛ لأن النقل ركن من أركانه؛ وكذلك لو أخذ التراب- أي: بكفه- قبل دخول الوقت، وتيمم به بعده- لا يجزئه؛ لأنه أوقع جزءاً منه قبل الوقت. نعم، لو عزبت نيته قبل إيصال التراب إلى شيء من الوجه، هل يؤثر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لو قارنت في الوضوء جزءاً من الوجه وعزبت. وأظهرهما- وهو المذكور في "التهذيب"، و"الكافي" وآخر ما أجاب به القاضي-: نعم؛ لأن النقل وإن كان واجباً، إلا أنه ليس بركن مقصود في نفسه، بخلاف غسل الوجه. وهذا كله فيما لو تيمم بنفسه، فلو يممه غيره بإذنه بحيث يجوز، قال القاضي: فينوي الضرب- أيضاً- إلا أنه لو أحدث بعد الضرب وقبل المسح، لا يضر، بخلاف ما لو أخذ التراب بنفسه، ثم أحدث؛ لأن هناك وجد القصد الحقيقي منه، والحدث منه؛ فبطل به، وهاهنا لم يوجد منه القصد حقيقة، بل أمره أقيم مقامه [حكماً] فصار هذا كالمعضوب إذا استأجر من يحج عنه، وأحرم الأجير، وجامع هو- لا يفسد حجه، وإن كان الحج واقعاً عنه. قال: ويمسح وجهه- أي: كله- بالتراب الذي على يديه؛ لقوله- تعالى-: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وقوله- عليه السلام-: "التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةُ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةُ للذِّرَاعَيْنِ إِلَى المَرْفَقَيْنِ" كذا حكي عن رواية ابن عمر. ورواية جابر: "التَّيَمم ضَرْبَةُ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةُ للذِّرَاعَيْنِ إِلَى المَرْفَقَيْنِ".

قال الماوردي: في كيفية مسحه وجهان: أحدهما: من أعلاه إلى أسفله؛ كما في الوضوء، وهو الذي ذكره الرافعي. والثاني: أنه يبدأ بأسفل وجهه، ثم يستعلي، وفارق الوضوء؛ لأن الماء إذا استعلى انحدر بطبعه؛ فعم جميع وجهه، والتراب لا يجري على الوجه إلا بإمراره باليد، فيبدأ بأسفل وجهه؛ ليقل ما يحصل في أعلاه من الغبار؛ فيكون أجمل وأسلم لعينيه. والوجهان في الاستحباب. وظاهر كلام الشيخ أنه لا يشرع نفخ اليدين بعد الضرب وقبل المسح للوجه بهما، وهو المحكى عن الجديد. وحكى الزعفراني، عن الشافعي، أنه قال في القديم: إنه يستحب؛ لأن عماراً روى ذلك عنه، عليه السلام. واختلف الأصحاب في المسألة على طريقين: أحدهما: أنها على قولين: والثاني- وعليه الجمهور-: أن نصه في "الجديد" محمول على ما إذا كان ما علق بيديه قليلاً، إذا نفخه لم يبق منه شيء يستعمل، ونصه في "القديم" محمول على ما إذا كان كثيراً، بل قال أبو الطيب: إن الشافعي نص في "القديم" و"الأم" على أن التراب إذا كان كثيراً خففه. قال: ثم يضرب ضربة أخرى؛ للخبر. والتفرقة فيها بين الأصابع مشروعة بلا خلاف، [بل] قال جمع من الأصحاب: إنه لو لم يفرق فيها لم يصح، وهو ما حكاه القاضي الحسين والمتولي، ولعل ذلك فيما إذا لم يوصل التراب إلى ما بينهما بالمسح، وبه صرح الرافعي. قال: فيضع بطون أصابع يده اليسرى- أي: سوى الإبهام- على ظهور أصابع يده اليمنى- أي: غير الإبهام- ويكون ذلك بحيث لا تجاوز أطراف أنامل يده اليمنى المسبحة من يده اليسرى، ولا تجاوز المسبحة من يده اليمنى أطراف أنامل يده اليسرى، ويمرها على ظهر الكف، فإذا بلغ الكوع- أي: وهو العظم الناتئ الذي يلي الإبهام، والكرسوع هو العظم الناتئ الذي يلي المختصر- أمر إبهام يده

اليسرى، على إبهام يده اليمنى؛ لأنا مأمورون بتقليل التراب ندباً؛ كما دل ليه خبر [عمار] الذي سنذكره، [و] باستيعاب اليدين مع المرفقين بالتراب وجوباً، وهذه الهيئة محصلة للمقصودين، وليس فيها نص من جهة الشارع. وقال الرافعي: وقد زعم بعض الأصحاب أنها منقولة عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه الهيئة لم يحك القاضي الحسين عن الشافعي غيرها. وحكى غيره عنه هيئة أخرى، ونسبها إلى "الأم": أنه يضع ظهر أصابع يده اليمنى على باطن أصابع يده اليسرى، ويمره على ظاهر أصابع يده اليمنى، حتى ينتهي إلى الكوع، ويمر باطن إبهام يده اليسرى على إبهام يده اليمنى؛ لأن هذه الهيئة أحفظ للتراب الذي على العضو. ولم يذكر أبو الطيب غيرها. والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهما حكوا الهيئتين. ثم محل استعمال الضربة الثانية في اليدين، إذا عمت الأولى الوجه، أما إذا لم تعمه؛ فيحتاج إلى تعميمه قبل مسح اليدين، لأن التعميم شرط، كما سيأتي. وهل يشترط حالة إمرار إحدى اليدين على الأخرى، ألا يرفعها حتى يستكمل مسحها؟ فيه وجهان، حكاهما المراوزة: أحدهما: نعم؛ لأنه إذا رفع صار التراب الباقي على اليد بالرفع مستعملاً. والثاني: لا –وهو الأصح- لأن المستعمل هو الذي يبقى على العضو الممسوح، والباقي على اليد في حكم التراب الذي ضرب عليه اليد مرتين. قال: ثم يمسح بيده اليمنى يده اليسرى مثل ذلك لما سلف. قال: ثم يمسح إحدى الراحتين على الأخرى، ويخلل بين أصابعهما؛ ليحصل مسمى المسح المأمور به؛ فإن مجرد حصول ذلك على التراب، وعلوقه به حين الضرب- لا يسمى مسحاً.

قال القاضي الحسين: وهذا إذا بقي على الراحتين بعد مسح الذراعين تراب، فإن لم يبق وجب أخذ تراب جديد لهما. قلت: وهذا بناء على وجوب مسح إحداهما بالأخرى، إذا فعلت الهيئة المذكورة. قال: والواجب من ذلك النية؛ لما سلف. قال: ومسح الوجه؛ للإجماع. وظاهر كلام الشيخ أنه يجب استيعابه، وبه صرح الماوردي وغيره. قال: إنه لو ترك موضعاً منه كان يغسله بالماء في الوضوء، فلم يمسحه بالتراب في التيمم- لم يجزئه، وإن قل. وهذا يقتضي أنه يجب إيصاله إلى ما تحت الشعور الخفيبفة، وهو وجه حكاه في "المهذب"، وقال: [إن المذهب] أنه لا يجب. والفرق: أن ذلك يعسر في التيمم، بخلاف الماء في الوضوء، وهذا ما ذكره البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين وغيرهم. وادعى الإمام أنه لا خلاف فيه، بل قال القاضي الحسين: إنه ليس بسنة، وفرع عليه: أنه لو كان على يديه شعور، لا يجب [عليه] إيصال التراب إلى البشرة. وقال: وكذلك المرأة إذا نبتت لها لحية، لا يجب عليها إيصال التراب إلى ما تحتها، على الصحيح من المذهب، وفيه وجه: أنه يجب. وهل يجب استعمال التراب في ظاهر ما نزل من اللحية عن الذقن أو لا؟ فيه خلاف كما في الوضوء. قال: "واليدين" أي: مع المرفقين. أما دليل [وجوب] مسح اليدين فللآية. وأما وجه تحديدهما بما ذكرناه؛ فلأن الله- تعالى- أطلق اليد في التيمم، وهي حقيقة إلى المنكب، ومقتضى الإطلاق الحمل على الحقيقة. لكن ادعى الخطابي أنه خلاف الإجماع؛ فتعين استعماله في مجازه، وحملناه

على ما ذكرناه؛ لما أسلفناه من الخبر، وحملاً لمطلق اليد في التيمم على المقيد في الوضوء، ولأنه ممسوح في التيمم؛ فوجب أن يكون مسحه كغسله، قياساً على الوجه. قال: بضربتين فصاعداً، أي: إذا لم يحصل استيعاب التراب لما ذكرناه بضربتين- زاد عليهما؛ ليحصل الاستيعاب. وقد روى أبو ثور عن الشافعي في القديم: أن الواجب مسح الكفين إلى الكوعين. ولم يصحح ذلك الشيخ أبو حامد وطائفة. وقال الإمام: إن في الفصل فائدة لا بد من التنبيه عليها، وهي أن الأصحاب متفقون على أنه يجب إيصال التراب إلى جميع محل التيمم يقيناً، حتى لو تردد المتيمم في ذلك، وأشكل عليه وجب إيصال التراب إلى موضع الإشكال، حتى يتقين انبساط التراب على جميع المحل. وقد ورد في الشرع الاقتصار على ضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين. والضربة إذا ألصقت غباراً في الكف، فالظاهر أنه يصل ما لصق بالكف إلى مثل وسعهما من الساعد، ولست أرى أن ذلك الغبار ينبسط على الساعدين ظهراً وبطناً، ثم على ظهور الكفين. ولا ينقدح في هذا إلا مذهبان: أحدهما: القول القديم. والثاني: استيعاب جميع المحل بالمسح باليد المغبرة من غير ربط الفكر بانبساط الغبار. وما عندي أن أحداً من الأصحاب يسمح بهذا. قلت: وإذا لم يسمح به أحد، تعين ترجيح القديم، وعليه يدل ما روى: أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت فلم أجد الماء؟ فقال عمر: لا تصل، فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين؛ إذ أنا وأنت في سرية فاحتلمنا، فلم نجد الماء: فأما

أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعتك في التراب وصليت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيدَيْكَ عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ تَنْفُخَ فِيهِمَا، ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ"؟ فقال عمر: اتق الله يا عمار، فقال: إن شئت لم أحدث به، فقال عمر: نوليك ما توليت". أخرجه الشيخان وقد قال الشافعي في مواضع- كما حكاه الإمام عند الكلام في تحريم الطيب على المحرم-: إذا صح خبر يخالف مذهبي، فاتبعوه، واعلموا أنه مذهبي. بل قد حكى الماوردي، عن رواية الزعفراني، عن الشافعي، أنه كان في القديم يعلق الاقتصار على اليدين إلى الكفين على صحة خبر عمار. والقائلون بالجديد قالوا: قد ورد عن عمار أنه أفتى بخلاف ذلك، أو روى خلافه، [ودل ما ذكرناه] من الأخبار على زيادة؛ فوجب الأخذ بها، وتحمل رواية الكفين على التجوز، قال الله- وتعالى-: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]. قال: وترتيب اليد على الوجه، أي: سواء كان التيمم عن حدث أكبر أو أصغر، لأنه طهارة في عضوين؛ فكان الترتيب شرطاً فيهما كما في الوضوء. وقد أفهم قوله: "وترتيب اليد على الوجه": أن الترتيب في أخذ التراب للوجه واليدين ليس بشرط، حتى إنه لو ضرب ضربة واحدة بيديه، ومسح بإحداهما وجهه واستوعبه، ثم بالأخرى يده- يجوز، وهو أصح الوجهين. قال: وسننه: التسمية، وتقديم اليمنى على اليسرى، كما في الوضوء. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أموراً: أحدها: أن الواجب مسح الوجه واليدين بالتراب، لكن هل ذلك لأنه أقل ما يخرج به عن العهدة؛ كما دل عليه خبر عمار، والواجب إيصال الترابإلى محل التيمم كيف كان، أو لأنه متعين في الإجزاء؟ هذا ما اقتضى كلام الأصحاب فيه خلافاً؛ فإنهم حكوا أن الشافعي قال في "الأم": وإن سفت الريح عليه تراباً ناعماً، فأمر يده على وجهه لم يجز؛ لأنه لم يأخذه لوجهه، والله- تعالى- يقول: {فَتَيَمَّمُوا

صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] [أي: اقصدوا الصعيد وامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه]، وهذا لم يقصده. واختلف الأصحاب فيه: فقال ابن القاص في "التلخيص"، وأبو على في "الإفصاح" بظاهره، وهو ما حكاه القاضي الحسين والفوراني، واختاره الإمام. وقال القاضي أبو حامد في "جامعه": النص محمول على ما إذا لم يصمد للريح، وينوي التيمم. فأما إذا صمد للريح، ونوى التيمم، أجزأه؛ كما يجزئ في الوضوء إذا جلس تحت ميزاب ونوى الوضوء، وهذا ما اختاره الحليمي، وقال ابن كج: إن الشافعي نص عليه. ولا جرم قال البندنيجي: إنه المذهب. والإمام حكاه وجهاً عن رواية صاحب "التقريب"، وقال: إنه غير معدود من المذهب. وعلى هذا إمرار اليد على الوجه: هل هو واجب؟ قال ابن الصباغ: ظاهر ما قالوه أنه واجب. وقال القاضي أبو الطيب: يجب أن يحمل وجوبه على ما إذا لم يتيقن حصول التراب في جميع الوجه، فأما إذا تيقن ذلك، لم يحتج إليه؛ كما نقول في الطهارة. وابن الصباغ مال إلى وجوبه مطلقاً؛ موجهاً له بأنه إذا لم يمر يده، لا يسمى مسحاً، والأمر هو بالمسح وليس كغسل الرأس في الوضوء بدلاً عن المسح؛ لأن الدليل قام في الوضوء على قيام الغسل مقام المسح بإجزائه في الجنابة؛ فأجزأ ذلك

في الوضوء ولم يثبت مثل ذلك في التيمم. فإذا عرفت ما قاله أبو الطيب، وما حكاه ابن الصباغ من ظاهر قول الأصحاب، واختاره عرفت أنه عين ما ذكرناه من الخلاف. ونظير ما سلف أن غسل الرأس في الوضوء، هل يقوم مقام المسح؟ وفيه خلاف. وكذا لو وضع يده على الرأس مبلولة، ولم يمرها، هل يجوز كما لو [أمرها؟] فيه خلاف. والأصح فيهما: الإجزاء؛ كما هو مقتضى قول أبي الطيب في مسألتنا، وقد رأيت في "تعليقه" التصريح بذلك؛ حيث قال: الواجب أن يوصل التراب إلى وجهه ويديه، على أي صفة وجد. ثم على ما ذكرناه من المأخذين يتخرج ما إذا معك وجهه في التراب ويديه، فوصل إلى جميع ما يجب إيصاله إليه، ونوى- فعلى رأي أبي الطيب: يجزئه، وعلى رأي غيره: لا؛ لأن الوجه ماسح وكذا اليدين، لا ممسوحين. وقد صرح بالخلاف فيها الأصحاب، وذهب الصيدلاني إلى القطع بالإجزاء. قلت: وهو ظاهر الآية؛ فإنها تقتضي أن يكون الوجه واليدين ماسحين. والله أعلم. وقد سلك الماوردي في النص الذي خرجنا منه المأخذين طريقاً آخر، فقال- بعد حكايته-: قد نص الشافعي فيما إذا وقف الجنب تحت ميزاب حتى عم الماء جميع شعره وبشرته أنه يجزئه. واختلف الأصحاب على وجهين: أحدهما: أن مراد الشافعي في الموضعين: إذا لم يمر يده على العضو، أجزأ في الغسل؛ لأن الماء يجري بطبعه؛ فيصل إلى البدن كله، وليس كذلك التراب، وقوله في الغسل: "يجزئه" أراد: إذا أحضر النية عند إصابة الماء الجسد، فإن تأخرت النية، لم يجزئه. وحاصل الوجهين يرجع إلى أنه في الغسل: إن نوى، أجزأه، قولاً واحداً؛ وإلا فلا.

وأما في التيمم: فإن لم ينو عند إصابة التراب، لا يجزئه، قولاً واحداً، وهو كذلك. وإن نوى، وأمر يده [عليه] أجزأه، وهو ما حكيناه عن القاضي أبي حامد. وإن لم يمر يده فوجهان: أحدهما: يجزئ كالماء. والثاني: لا يجزئ؛ لعدم تحقق استيعاب التراب للمحل، فلو تحقق استيعابه أجزأه، وهو ما حكيناه عن أبي الطيب. وقال في "الكافي": إن سفت الريح التراب على وجهه ويده، ولم يقصد الخروج للتيمم لا يجزئه، قولاً واحداً، وإن اقترنت نية التيمم بهبوب الريح. ولو وقف في مهب الريح على قصد التيمم، فسفت الريح التراب على وجهه ويديه؛ فمسحهما بنية التيمم: هل يصح؟ فيه وجهان، أظهرهما: لا؛ كما في الصورة الأولى، وما قاله من التفرقة مستمر على قاعدته في اشتراط اقتران نية التيمم بالضرب، كما سلف. الأمر الثاني: أن الضربة الواحدة لا تجزئ- وإن حصل الاستيعاب بها- لأنه جعل الواجب ضربتين فصاعداً، وهو ما أطلقه ابن الصباغ وغيره، لكن الذي ذكره البندنيجي: أن الواجب استيعاب ما ذكرناه، سواء كان بضربة أو ضربتين أو أكثر، ويجيء بمقتضى ذلك خلاف في المسألة، وقد حكاه الرافعي، وصحح عدم الوجوب. قلت: ولعل إطلاق من أطلق المنع محمول على ما إذا لم يحصل الاستيعاب بالضربة الواحدة، وهو الواقع، وذلك يظهر لك مما حكيناه عن الإمام، [ثم] على ما قاله البندنيجي؛ فالإتيان بالضربتين مستحب، دون الزيادة عليهما والنقص عنهما. وقيل: إنه يستحب أن يضرب ضربة للوجه، وأخرى لليد اليمنى، وأخرى لليسرى، وهو بعيد. الثالث: إيجاب الضرب، وقد قال الإمام: إنه ليس بشرط، حتى لو أخذ كفاً من تراب، فمسح به وجهه، ثم اخذ كفاً أو كفين، ومسح يديه، واستوعبهما جاز.

وعبارة الماوردي: "إن الضرب ليس بشرط، بل الواجب أن يعلق الغبار بيديه، فإن كان يعلق بهما بالبسط عليه [جاز أن يبسطهما عليه، وإن كان لا يعلق بيديه، لزمه أن يضرب بهما؛ حتى يعلق التراب بهما]. قلت: وهذا أقرب ما يمكن حمل كلام الشيخ عليه، وإن كانت عبارة المتولي وغيره تنازع في بعض ذلك؛ فإنهم قالوا: علوق التراب باليد ليس بشرط، حتى لو مسح يده بخرقة عليها تراب جاز، وهذا متفق عليه إذا كانت الخرقة حال حصول التراب عليها ليست معه، أما لو كانت معه؛ فقد حكى الرافعي فيما لو سفت الريح تراباً على كمه، فمسح به وجهه وجهين، أصحهما: الإجزاء، وهما جاريان فيما لو أخذ التراب عند هبوب الريح، ومسح به وجهه، وقلنا بظاهر النص في مسألة هبوب الريح. والعبارة الصحيحة أن يقال: المعتبر نقل التراب قصداً من محل غير محل التيمم إلى اليدين وما في معناهما من خرقة وغيرها، ثم إلى محل التيمم. وفي نقله من بعض أعضاء التيمم [إلى البعض الآخر، ثم] إلى المحل الذي يستعمل فيه- خلاف، والأصح: الإجزاء، كما سلف. الرابع: أنه لو يممه غيره، جاز فإنه جعل الواجب مسح الوجه واليدين، وذلك يصدق إذا فعله غيره به، وهذا ما ذكره البندنيجي، وحكاه ابن الصباغ عن نصه في "الأم". وعن ابن القاص: أنه لا يجزئ، قاله تخريجاً. قال ابن الصباغ: وهو خلاف النص، ولأنه يجوز أن يوضئه غيره؛ فكذلك التيمم. وقال الإمام والمتولي: إن فعل ذلك بأمره، وكان معذوراً في ذلك صح، بل هو الواجب عليه، وإن لم يكن معذوراً، فوجهان: أظهرهما في "الرافعي": الجواز. ولو يممه بغير إذنه، قال الإمام: فهو كما لو برز لمهب الريح، سواء قدر على أن يمتنع فلم يمتنع، أو لم يقدر. الخامس: أن الهيئة التي ذكرها ليست بواجبة ولا سنة فيه؛ لأنه لم يذكرها في

واحد منهما، وهو كذلك؛ لأنا ذكرنا أن المقصود إيصال التراب إلى الوجه واليدين كيف كان، وأن الهيئة المذكورة غير منقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا قد نسبه الرافعي إلى قول الصيدلاني، وأنه قضية كلام أكثر الشارحين لـ"المختصر". نعم، من قال من الأصحاب: إن الهيئة المذكورة منقولة عن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يبعد أن يقول: إنها سنة. ولا جرم قال الرافعي: المشهور أنها محبوبة؛ إشارة إلى ما ذكرناه، لكنه قال في آخر الباب: إنها سنة. والأول أصح؛ لما ذكرناه. السادس: أن مسح إحدى الراحتين بالأخرى، والتخليل بين أصابعهما إذا أتى بالهيئة المذكورة- لا من واجبات التيمم ولا من سننه؛ لأنه لم يذكرهما في واحد منهما. وجوابه: أن الشافعي قال ذلك، واختلف الأصحاب في أن ذلك واجب أو مندوب إليه. فمنهم من قال: إنه واجب، وبه جزم في "الكافي"؛ لأن به يصل التراب من كل يد منهما إلى الأخرى؛ فيحصل استيعاب العضو. ولا يقال: إن التراب الذي حصل حالة الضرب [بهما، أسقط فرض ذلك المحل؛ لأنا نقول: المتيمم حالة الضرب] قاصد أن يمسح بما حصل في كل يد الأخرى؛ فلا يسقط به فرضها؛ كالمتوضئ إذا أدخل يده الإناء بعد غسل الوجه بنية الاغتراف، ولأنه [لو] سقط بذلك الفرض عن الراحة وما بين الأصابع لم يجز استعماله [في اليد الأخرى؛ لأنه يصير مستعملاً] كما لو أخذ الماء في الوضوء من إحدى اليدين، وأراد أن يستعمله في اليد الأخرى. ومنهم من قال: إنه مستحب، وبه جزم البندنيجي وابن الصباغ؛ إذ فرض ذلك سقط بمجرد الضرب، ولا يرد جواز استعمال ما علق بذلك من التراب في اليد.

الأخرى؛ لأنا نقول: اليدان تجريان مجرى العضو الواحد، وإنما لم يجز نقل الماء في الوضوء؛ لانفصاله عن المحل المستعمل فيه، وها هنا لا يوجد الانفصال؛ ولأن به- هاهنا- حاجة إلى ذلك؛ ولأنه لا يمكنه أن ييمم ذراعه من يد بكفها؛ فصار بمنزلة نقل الماء في العضو الواحد من بعضٍ إلى بعض، ولا كذلك في الوضوء؛ فإنه يمكنه أن يقلبه من كفه على ذراع تلك اليد؛ فقلنا: لا يجوز أن يستعمل ما رفع الحدث عن كفه في اليد الأخرى. قلت: ولو خرج الخلاف على أن إمرار التراب على العضو هل هو شرط أم لا؟ لم يبعد، والله أعلم. السابع: أن الموالاة ليست من الواجبات ولا من السنن. والمشهور: أن في وجوبها قولين؛ كما في الوضوء. ومنهم من قطع بالوجوب، ومنهم من قطع بعدمه؛ وعلى هذا تكون من سننه. وكذلك قال البغوي: إن الموالاة من سننه؛ على الجديد. وعد من المستحبات فيه إمرار التراب على العضد وكذا ذكره غيره، ونازع بعضهم فيه. ولا يستحب فيه التكرار، كما أفهمه كلام الشيخ. وتجديده لا يستحب كما قاله الغزالي. وقال القاضي: سألت القفال عن تجديد التيمم، [هل هو سنة] فقال لي: كدت تغالطني، التجديد لا يتصور في التيمم؛ لأن التيمم إنما يجوز بعد طلب الماء، وطلب الماء يبطل التيمم، فإذا تيمم ثانياً فيكون هو [الفرض] لأنه بطل الأول بخلاف الوضوء. وفي "الذخائر": أن القفال قال: إنه لا يتصور لعدم الماء، وأما للجرح فيجدد المغسول، وهل يستحب تجديد التيمم؟ فيه وجهان: قال الشاشي وينبغي أن يجدد

لعدم الماء في النافلة. قلت: وما حكاه القاضي عن القفال مخصوص بالتيمم لعدم الماء؛ إذ هو الذي لأجله يجب الطلب. وهو ما صرح به مجلي عنه، ولا شك فيه إذا كان [التجديد بعد] الانتقال من المكان الذي وقع فيه التيمم الأول. أما إذا كان في الموضع الذي وقع فيه التيمم أولاً، ولم يغلب على ظنه حدوث ماء فيه، فإن قلنا: لابد في مثل هذه الحالة من تجديد الطلب فالحكم كذلك. وإن قلنا: لا يحتاج إلى طلب، فقد انتفت علة القفال؛ فحينئذ يكون كالتيمم لأجل الجرح؛ فيأتي فيه الوجهان اللذان ذكرهما مجلي عن القفال. ثم في جزم القفال باستحباب تجديد المغسول، مع تردده في استحباب تجديد التيمم نظر؛ فإنه إذا لم يستحب الإتيان بالتيمم لم يكن آتياً بالطهارة كاملة، والإتيان ببعض الطهارة غير مستحب، اللهم إلا أن يقال: لما لم يمكن استعمال الماء في الباقي والتيمم عنه غير مشروع صار ذلك البعض كالمفقود. وما ذكره الشاشي احتمالاً لا وجه له مع ما ذكره القفال فتأمله، والله أعلم. قال: ولا يجوز التيمم لمكتوبة إلا بعد دخول الوقت؛ لقوله- تعالى-: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] فإن ظاهرها المنع من الوضوء والتيمم إلا عند القيام إلى الصلاة، والقيام إليها بعد دخول الوقت، [وقد] خرج جواز الوضوء قبل ذلك بالدليل، وبقي التيمم على ظاهرها. وقوله عليه السلام: "جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِداً، وَتُرَابُهَا طَهُوراً، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلاَةُ تَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ"؛ فإنه يقتضي أن التيمم إنما يكون بعد إدراك الوقت، ولأنه قبل دخول الوقت مستغنى عنه؛ فلم يصح؛ كما في حالة وجود الماء، ولا يرد جوازه في أول الوقت؛ لأن الصلاة وجبت، وهو محتاج لبراءة ذمته، ولأنه محتاج إليه لأجل حيازة فضيلة [أول الوقت]. نعم، هل يجوز أن يتيمم في أول الوقت ويوقع الصلاة في آخره، أو يشترط تعقب الصلاة [له]، كما في طهارة المستحاضة؟ فيه وجهان في "الحاوي"، والمذكور

في "الرافعي": الجواز، وهو المنصوص. وهل من شرط هذا [الشرط] العلم به، حتى لو تيمم ظاناً أن الوقت لم يدخل، وكان قد دخل لا يصح تيممه، أو لا يشترط حتى [يصح] تيممه في الصورة المذكورة؟ فيه وجهان في "البحر" في كتاب الحج، ونظيرها ما إذا صلى الرجل خلف خنثى، فظهرت رجوليته بعد ذلك. تنبيه: المراد بعدم الجواز- كما قال بعضهم- عدم الصحة. قلت: ويجوز أن يراد به مع ذلك التحريم؛ لأن فيه تلاعباً بالعبادة، وستعرف تقديره في الحيض. وإذا لم تصح المكتوبة؛ فهل تستباح به النافلة المطلقة؟ المشهور: لا. ومنهم من خرجه على وجهين؛ بناءً على ما إذا تحرم بالظهر قبل الزوال، وهذه [الطريقة] مفرعة على الصحيح في أنه إذا تيمم للفرض استباح النفل قبله وبعده. والمراد بالوقت [الوقت] الذي يجوز إيقاع الصلاة فيه أصلاً أو تبعاً في الجمع، إذا قلنا: يجوز الجمع بين الصلاتين بالتيمم وهو الصحيح، دون ما إذا قلنا: لا يجوز للمتيمم الجمع، [وهو] ما جزم به الماوردي هنا. نعم، على الأول، إذا تيمم للعصر في وقت الظهر، ثم دخل وقت العصر قبل شروعه فيها لا يصليها بذلك التيمم؛ لأن الجمع قد بطل؛ فانحل الرباط، كذا قاله الرافعي. والمراد بالمكتوبة: إحدى الصلوات الخمس؛ يدل عليه قوله: "الصلاة المكتوبة خمس"، وهو يقتضي أمرين: أحدهما: أن التيمم للفائتة يجوز أي وقت شاء؛ لأن وقتها قد دخل، ولا شك في ذلك إذا كان ذاكراً لها، ووجهه الأصحاب بأنه تيمم لها بعد دخول وقتها، وهو وقت

الذكر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا". نعم، قبل الذكر لا يصح، وصور ذلك في "الكافي" بما إذا تيمم لفائتة ظنها عليه، ثم تذكر أنها عليه، وإذا صح فدخل وقت مكتوبة غيرها، فهل له أن يصليها بذلك التيمم؟ المشهور عن ابن الحداد: نعم، وهو الأصح في "الرافعي"، والمختار في "المرشد". واختيار أبي زيد، والخضري: أنه لا يجوز كما لو تيمم لها قصداً. وفي "تعليق القاضي الحسين": أن ابن الحداد قال: لو تيمم لفائتة قبل دخول وقت فريضة، ثم دخل وقت الفريضة لا يجوز له أن يصلي به فرض الوقت، ولو تيمم بعد دخول الوقت لصلاة الوقت، ثم ذكر فائتة- له أن يصلي به [تلك] الفائتة، وأن الأصحاب اختلفوا في ذلك: فمنهم من سوى بين المسألتين في المنع. ومنهم من سوى بينهما في الجواز. ومنهم من أقر كلام ابن الحداد، وفرق بأنه: في الصورة الأولى لم يكن الفرض الذي يريد أن يوقعه بالتيمم واجباً عليه حال تيممه، بخلاف الصورة الثانية، فإنه كان واجباً عليه حال تيممه. وصاحب هذه الطريقة يقول: لو أنه تيمم لفائتة ذكرها في وقت فريضة أخرى، يجوز أن يصلي به فريضة الوقت، وكذا لو تيمم لفريضة الوقت، له أن يصلي به الفائتة التي ذكرها في ذلك الوقت. والأولان أجريا مذهبهما فيهما، وطردا الوجهين. ومذهب ابن الحداد، وغيره جارٍ- كما حكاه الإمام- فيما إذا تيمم للنفل يصلي به الفرض، فدخل وقت المكتوبة، هل يصليها به أم لا؟

والخلاف يجري- كما قال القاضي- فيما إذا تيمم لفائتة، ثم تذكر فائتة غيرها، هل له أن يصليها به أم لا؟ وهذا كله تفريع على أن تعيين الفريضة في التيمم ليس بشرط. الأمر الثاني: أن التيمم لغير المكتوبة يجوز قبل دخول الوقت، وذلك يشمل صوراً، منها: الصلاة المنذورة في وقت بعينه، ويظهر أن ينبني ذلك على [أن] النذر، [هل] يسلك به مسلك جائز الشرع أو واجبه؟ فإن قلنا بالأول، كان كالنافلة، وإلا فكالفريضة، [وهو المذكور في "التتمة"]. ومنها: السنن الراتبة، وقد ألحق الرافعي بها صلاة الجنازة، وادعى أن المشهور عدم الصحة قبل الوقت، وأن الإمام حكى في ذلك وجهين، ووجه الجواز: أن الشرع تساهل في النفل بجواز القعود [فيه، وفعله] على الراحلة؛ ليكثر، وبهذا خالف الفرائض. قلت: وعندي أن الخلاف في صلاة الجنازة ينبغي أن يتخرج على أنه [هل] يجوز أن يجمع بينها وبين مكتوبة بتيمم واحد كما يجمع بين المكتوبة والنافلة، أو لا يجوز، كما لا يجوز أن يجمع بين مكتوبتين؟ فإن قلنا بالأول، فهي كالنافلة الراتبة، وإلا فكالفرائض، وعلى هذا فوقتها يدخل بغسل الميت. وهل يدخل بالموت؟ فيه وجهان: أصحهما- في "الكافي"، وهو المذكور في "تعليق القاضي الحسين"-: لا. وأصحهما- في "الحلية"، وبه أجاب الغزالي في "فتاويه"-: نعم. وصلاة الاستسقاء يدخل وقتها، باجتماع الناس لها في الصحراء. وتحية المسجد يدخل وقتها بدخوله. ومنها: النافلة المطلقة؛ فإن مقتضى كلام الشيخ جواز التيمم لها في وقت الكراهة وإن قلنا: لا يصح فعلها فيه؛ لأنه [تيمم قبل الوقت. وقد حكى في "التتمة" عدم الجواز عن نصه في "الأم"].

قال: وهل يصح؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي الحسين- أيضاً- وقال: إنهما ينبنيان على أن الصلاة في الأوقات المكروهة بلا سبب، هل تصح؟ إن قلنا: نعم، صح تيممه، وإلا فلا. وادعى القاضي أنه: لا خلاف في أنه إذا تيمم قبل الوقت المكروه، ثم دخل الوقت المكروه أنه لا يبطل، وهو صريح في أن التيمم للنافلة، في غير وقت الكراهة، يجوز متى شاء؛ لأنه وقت لها. قال: وإعواز الماء، أو الخوف من استعماله. إعواز الماء: عدمه، وتعذره بسبب حائل [وحشي] أو غير حائل، والمعوز: الذي لا شيء معه. والخوف من الاستعمال، المراد به: توقع تلف نفس أو عضو أو منفعة، وكذا حصول زيادة في المرض، ونحوها على قول يأتي. والدليل على اشتراط ذلك في التيمم ما ذكرناه [في] أول الباب. ويشترط أن يكون موجوداً بعد دخول الوقت، كما [هو] ظاهر لفظ الشيخ؛ لأنه وقت جواز التيمم. ثم ظاهر عطف "إعواز الماء، أو الخوف من استعماله" على "دخول الوقت" – أن يكون قيد المكتوبة قيداً فيهما- أيضاً- حتى لا يكون واحد منهما شرطاً في النافلة وغيرها مما ذكرناه. وليس كذلك بل لا يجوز التيمم كذلك إلا عند إعواز الماء، أو الخوف من استعماله، سواء خشي فوات ذلك أو لم يخشه هذا مذهبنا. والجواب عما يفهمه ظاهر لفظ الشيخ، أن مراده: أن "وجود" مجموع ما ذكره من دخول الوقت، وإعواز الماء، أو الخوف من استعماله- شرط في المكتوبة. ومفهومه: أن المجموع ليس شرطاً في غيرها، وهو كذلك، لأن المجموع كما

ينتفي [بانتفاء كله] ينتفي بانتفاء بعضه، والله أعلم. قال: فإن أعوزه الماء، أو وجده وهو محتاج إليه للعطش، لزمه طلبه، أي: طلب ما يستعمله. ووجهه في الأولى قوله- تعالى-: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] ولا يقال: لم يجد، إلا لمن طلب؛ فدل على الأمر به؛ كما سلمه الخصم في قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء:92] ولأن الماء شرط يختص بالصلاة، يتقدمها؛ فوجب إذا تعذر [عليه] أن يطلبه: أصله القبلة إذا تعذر عليه وجهها. ووجهه في الثانية الآية أيضاً إذ الحاجة صيرته كالمفقود. فإن قلت: ينبغي أن يجب استعماله في الطهارة، ويجمع، ويشرب، إذا كان ذلك ممكناً؛ إذ به يحصل المقصودان، ولا يقال: إنما لم يجب لأن النفس تعافه؛ فإن الماوردي وأبا علي الزجاجي، وآخرين قالوا فيما إذا كان معه ماء طاهر، وماء نجس، وهو عطشان-: إنه يتطهر بالماء الطاهر، ويشرب النجس، ولا يتمم، وإذا وجب شرب النجس لأجل الطهارة؛ فشرب الطاهر أولى.

ومن قال: إنه لا يشرب النجس في هذه الصورة، بل يشرب الطاهر ويتيمم، وهو الشاشي فإنما منع [منه]؛ لأجل النجاسة؛ فإنه لا يباح تناولها إلا عند الضرورة، ولا ضرورة، بخلاف الماء المستعمل. قلت: التعليل بالعيافة متعين، وما ذكره الماوردي وغيره دليل عليه؛ إذ لو لم يكن علة في منع استعماله لما جوزوا له شرب الماء النجس مع قدرته على شرب الماء طاهر بعد استعماله. تنبيه: الضمير في قول الشيخ: "وهو محتاج إليه؛ للعطش" يعود إلى الماء، والتقدير: والماء محتاج إليه؛ للعطش [أي: الحاجة] التي يخشى معها عند عدم الاستعمال ما ذكرناه؛ قاله الإمام [ثم] ومن تبعه. والمذكور في "الحاوي" و"تعليق أبي الطيب"، عند الكلام في المرض: أنه يختص بخوف التلف. قال الماوردي: ولو قيل: هما سواء، لكان أصح. ثم ذلك يكون حقيقة في الحاجة الناجزة، أما في الحاجة المتوقعة، كما إذا كان في برية يتحقق أنه لا يجد الماء فيها في غده، وهو مستغن عنه في وقته؛ فإطلاق الاحتياج إليه في الوقت مجاز، ولا نظر إليه عند الشيخ أبي حامد؛ فإن الشافعي قال في "الأم": إذا كان مع الرجل في السفر إناءان: أحدهما: طاهر، والآخر: نجس، فاشتبها عليه، وكان يخاف العطش فيما بعد إن توضأ بالماء فإنه يتحرى، ويتوضأ بالطاهر في ظنه، ويمسك الآخر، [حتى] إن احتاج إليه لعطشه شربه. قال الشيخ أبو حامد: وهو صحيح؛ لأن ترك التوضؤ بالماء، والعدول إلى التيمم؛ لخوف العطش فيما بعد لا يجوز؛ [وإنما يجوز] ذلك إذا خاف العطش في الحال؛ كذا حكاه في "البيان"، [في باب الشك في نجاسة الماء والتحري فيه]. والإمام وغيره أقاموا الحاجة المتوقعة في الصورة التي ذكرناها، كالحاجة الناجزة في جواز التيمم.

نعم لو لم يتحقق العدم في الغد، بل كان يرجو وجود الماء فيه: فهل يباح له التيمم، أو لا ويستعمل ما معه من الماء؟ فيه وجهان في "التتمة"، ومثلهما ما حكاه القاضي الحسين- ها هنا: أن من كان معه ماء يفضل عن حاجته في المنزل لكن يحتاج إليه في المنزل الثاني، وهناك من يحتاج إليه في المنزل الأول: فهل يجب دفعه لصاحب الحاجة الناجزة، أو لا؟ فيه وجهان. ولفظة: "محتاج إليه [للعطش] " تشمل حاجة صاحب الماء، وحاجة [غيره من آدمي أو حيوان محترم: وهو ما لا يباح قتله. وقيل: إن حاجة] غيره المتوقعة لا تبيح التيمم، وهذا ما أبداه الإمام احتمالاً، وتابعه في "الوسيط". قال الرافعي: والظاهر الذي اتفق عليه المعظم: أنه يتزود لرفقته؛ غذ لا فرق بين الروحين في الحرمة. وتقييد الحاجة بالعطش يفهم أن الحاجة لغير العطش لا تبيح التيمم، وليس كذلك؛ لأنه لو فضل عن قدر حاجته للشرب شيء من الماء، ولا طعام معه، واحتاج إلى بيعه؛ لينفق ثمنه في طعام يشتريه- كان الفاضل كالمعدوم، قاله في "التتمة". وهذا يمكن أن يجاب عنه بأنه في معنى الحاجة إليه للعطش؛ فإن [المأخذ] فيهما واحد. نعم، من وجد من الماء ما يكفيه لطهارته من الحدث، وعلى بدنه نجاسة، والماء الذي معه قدر ما تزول به، وهو محتاج إليه لإزالتها، إذ لا بدل له عن ذلك- فالماء في حقه كالمفقود، قاله الماوردي [والمتولي وغيرهما]. نعم، هل يصح تيممه قبل استعماله في إزالة النجاسة؟ فيه وجهان في "الحاوي"؛ مأخذهما أن التيمم قبل الاستنجاء، هل يصح، أم لا، كما سلف؟ قال: والأصح: الصحة، لأن المقروح يجوز أن يقدم التيمم على الماء، وإن كان لا يستبيح [به] الصلاة.

قال: فيما قرب منه؛ لأن في تكليفه طلبه فيما بعد مشقةً غير محتملة. وقد حد الغزالي ومن بعده القرب بما يلحقه فيه غوث الرفاق؛ أخذاً من قول الإمام: لا نكلفه التعدي عن مخيم الرفقة فرسخاً أو فرسخين، وإن [كانت الطريق] آمنة. ولا نقول: لا يفارق طنب الخيام؛ فالوجه القصد، وهو أن يتردد ويطلب إلى حيث لو استغاث بالرفقة لأغاثوه، مع ما هم عليه من التشاغل بالأشغال، والتفاوض في الأقوال، وهذا يختلف باستواء الأرض واختلافها صعوداً وهبوطاً. قال الرافعي: ولا يلفى هذا الضبط في كلام غيره، وليس في الطرق ما يخالفه. قلت: بل عبارة الماوردي توافقه؛ لأنه قال: عليه طلبه في المنزل الذي حصل فيه من منازل سفره، وليس عليه طلبه من غير المنزل الذي هو منسوب إلى نزوله. وفي عبارة القاضي الحسين ما يقتضي أمراً آخر، سنذكره. ثم كيفية الطلب- كما قاله البندنيجي وغيره-: أن ينظر في رحله، وفيما تحت يده أولاً- قال البندنيجي: ما لم يتحقق عدمه فيه- فإن لم يجده سأل من أصحابه وأهل رفقته. قال في "الروضة": قال أصحابنا: ولا يجب أن يطلب من كل واحد من الرفقة بعينه، بل ينادي فيهم: من معه ماء؟ من يجود بالماء؟ ونحوه حتى قال البغوي وغيره: لو قلت الرفقة لم يطلب من كل بعينه.

وفي "الرافعي": أنه إذا كان معه رفقة، وجب سؤالهم إلى أن يستوعبهم، فإن بذلوه له بثمن أو بغير ثمن، فالكلام عليه يأتي. وإن لم يبذلوه، وكان في القوم من له خبرة بماء ذلك المكان، فعليه أن يسأله عنه، فإن لم يخبره بشيء، فإن كان على مستو من الأرض، نظر في الجوانب الأربع، ويخص المواضع الخضرة واجتماع الطيور [بمزيد في] الطلب. وقال القاضي الحسين: إنه يجب في هذه الحالة عليه أن يمشي في طلبه غلوة سهم من الجوانب الأربع، وهذا منه قد يقتضي أن الطلب قد يختص بما يوازي هذه [المسافة عند عدم الاستواء] وهذا ما أشرت إليه من قبل. وإن كان على قلاع تسفل، أو وهاد ترفع. قال في "الشامل": ثم ينظر حواليه. قال الشافعي [في "البويطي"]: وليس عليه أن يدور في الطلب؛ لأن ذلك أكثر ضرراً عليه من إتيانه الماء في المواضع البعيدة. ثم ما ذكرناه من التسفل والترفع مخصوص بما إذا لم يكن عليه ضرر في ذلك، والضرر أن يخاف على رحله إن غاب عنه، أو على ماله أو نفسه في طريقه، أو

انقطاعه عن الرفقة؛ لارتحالهم قبل عوده، أو مشقة تلحقه من المشي كما قاله أبو الطيب، أو فوت وقت الصلاة؛ وذلك بألا يبقى من الوقت قدر الصلاة على وجه، وعلى آخر، بألا يبقى منه قدر ركعة. وفي "الرافعي" حكاية وجه: أن فوت الوقت ليس بعذر في ترك الطلب وأكثر ما ذكرناه كلام الشيخ الآتي ينبه عليه، كما بينته. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أموراً: أحدها: أن الطلب يكون بعد دخول الوقت؛ [لأنه شرط أن يكون بعد الإعواز، وقد بينا أن الإعواز المعتبر هو الموجود بعد دخول الوقت] وهذا مما لا خلاف فيه بين الأصحاب، حتى قالوا: لو طلب مع شكه في دخول الوقت، أو ظن دخوله- لا يجزئه؛ حكاه الماوردي. ومن طريق الأولى إذا طلب قبل الوقت، يلزمه أن يعيده بعد الوقت؛ لاحتمال الوجود. نعم، لو دام نظره إلى [المواضع التي] يجب النظر إليها بعد دخول الوقت كفاه ذلك؛ لأنه لو وجد ذلك بعد الوقت مفرداً كفاه، قاله ابن الصباغ. قلت: ولو خرج الأمر بتجديد الطلب على ما سنذكره، فيما إذا طلب لصلاة، ثم أراد التيمم لصلاة أخرى- لم يبعد. الثاني: أنه يجوز أن يطلب الماء بنفسه، وبمن يثق به، وهو المذكور في "الحاوي"، و"تعليق القاضي الحسين"، قال: وخالف طلب القبلة، حيث لا يجوز أن يفوضه إلى غيره؛ لأن أمر القبلة خفي غير معاين؛ فربما يخفى على واحد، ولا يخفى على غيره؛ لأن مبناه على الاجتهاد؛ فلا يقوم اجتهاد غيره مقام اجتهاده، وأما رؤية الماء فشيء مشاهد معاين، يستوي فيه الكل؛ إذ ليس مبناه على الاجتهاد؛ فجاز أن يقوم غيره فيه مقامه. وفي "التتمة" تخريج جواز الاستنابة في طلب الماء على أنه هل يجوز أن ييممه

غيره بإذنه، أم لا؟ والظاهر منهما في "الرافعي": الجواز؛ حتى لو بعث النازلون واحداً؛ ليطلب الماء لهم أجزأ طلبه عن الكل، ولو بعثه بعضهم دون باقيهم أجزأ ذلك عن الباعثين، دون من لم يأمره به. وهذا في حالة قدرة الباعث على الطلب بنفسه؛ فإن لم يقدر عليه إلا بغيره فهو واجبه. الثالث: أن محل وجود الطلب، إذا جوز وجود الماء، دون ما إذا تحقق عدمه؛ بأن كان في رمال [بعض] البوادي، ولا رحل له، ولا رفيق؛ فإن طلبه مع تحقق عدمه- عبث، وهذا هو الصحيح، وكلام البندنيجي السابق يفهمه. وفي "التتمة" حكاية وجه آخر: أنه يجب في هذه الحالة؛ لعموم قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا} [المائدة: 6]. وفي "النهاية": الجزم- في هذه الصورة- بعدم إيجاب الطلب؛ لما ذكرناه. وحكي عن بعض المصنفين حكاية وجهين في وجوبه في الموضع الذي يغلب على الظن فيه العدم ولا يتحقق، واستبعده. ثم وجه عدم الوجوب بأن طلبه [يحصل غلبة] الظن بالعدم، وهي حاصلة قبله؛ فلا معنى له. الرابع: وجوبه عند كل تيمم، سواء انتقل عن ذلك الموضع أو أقام به، [أو] غلب على ظنه حدوث ماء أو لم يغلب على ظنه، وهو مقتضى إطلاق العراقيين، وبه صرح الماوردي، لكنه قال: [إنه] ليس عليه إعادة طلبه في رحله؛ لأن عدم الماء في رحله متيقن، ووجوده في غيره يجوز. وقال المراوزة: إن انتقل من ذلك المكان إلى موضع لو كان فيه ابتداء لوجب عليه طلبه فيه- وجب، وكذا إذا لم ينتقل، وحدث ما يحتمل بسببه وجوده، مثل غيم أو قدوم ركب. أما إذا لم يحدث شيء من ذلك؛ فإن كان قد تيقن بالطلب الأول أنه لا ماء في ذلك الموضع؛ فلا يجب الطلب؛ بناء على ظاهر المذهب، وهو مقتضى تعليل

الماوردي السالف، وفيه الوجه السابق. وإن لم يتحقق العدم؛ بل غلب على ظنه؛ ففي وجوب إعادة الطلب وجهان: أصحهما في "الكافي": أنه لا يجب. وأصحهما في "النهاية" والأظهر في "الرافعي": وجوبه. قال الإمام: لكن يكون أخف من الطلب الأول. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون التيمم الثاني لصلاة غير الصلاة التي تيمم لها أولا، أو لها نفسها؛ بأن أحدث بعد التيمم الأول، وقبل الصلاة، قال الرافعي: أو حدث ركب قبل الصلاة. قلت: ولعل هذا محمول على وجوب الطلب فيما عدا سؤال أهل الركب؛ فإنه قد تقدم أنه إذا حدث ركب، وجب الطلب، بلا خلاف. وكل هذا فيما إذا لم يتحقق وجود الماء، فإن تحقق وجوده، فسنذكر حكمه. قال: فإن بذل له- أي: على وجه الهبة- أو بيع منه بثمن المثل- أي: وهو قادر عليه- لزمه قبوله: أما في الأولى فلأنه يعد واجداً للماء؛ فإن المسامحة غالبة به، ولا تعظم منه في قبوله- وأما في الثانية؛ فبالقياس على ما لو بذلت له الرقبة في الكفارة [كذلك]. وقيل في الأولى: إنه لا يجب قبوله؛ لما فيه من المنة في تلك الحالة، وبالقياس على هبة ثمن الماء؛ فإنه لا يجب [عليه] قبوله إجماعاً؛ كما قال الإمام. والمنصوص في "الأم"، وبه جزم الجمهور، ومنهم القاضي الحسين والإمام: الأول. ثم محل الإجماع على أن بذل ثمن الماء لا يجب قبوله- كما قال الرافعي- إذا كان الواهب أجنبياً. أما لو كان ولد المعوز أو أباه، فقد حكى بعض الأصحاب في وجوب قبوله وجهين، كالوجهين فيما إذا بذل الابن لأبيه- أو بالعكس- المال في الحج: هل يلزمه القبول، وهل يصير مستطيعاً به؟

قال: وهذا حسن، لكن الأظهر ثم أنه لا يجب [القبول] فيجوز [أن] يكون إطلاق من أطلق الجواب بعدم وجوب القبول جرياً على الأظهر واقتصاراً عليه. قلت: أو لأن الفرق بين البابين لائح، وهو أن للماء بدلاً-[وهو التراب]- بخلاف الحج- والله أعلم. والقدرة التي أردناها أن يكون واجداً له، أو لعرض تفي قيمته به في موضع البيع، أو واجداً لذلك في بلده، وقد رضي صاحب الماء ببيعه بثمن مؤجل؛ نص عليه في "البويطي"، وبه جزم في "الكافي" وغيره. وقيل: إنه في الصورة الثانية غير قادر؛ لأنه يحتمل أن يهلك ماله قبل وصوله إليه؛ وهذا ما جزم به الماوردي، وصححه بعضهم. والخلاف جار فيما لو أقرضه ثمن الماء، وهو واجد له في بلده، عادم له في موضعه. والأصح منه في "الكافي": وجوب القبول. وفي "الرافعي" مقابله؛ لما ذكرنا من العلة. وهو جار- أيضاً- فيما أقرضه الماء نفسه. وصحح في "الكافي" الوجوب- أيضاً- ووافقه الرافعي عليه، ووجهه بأنه إنما يطالب عند الوجدان؛ وحينئذ يهون الخروج عن العهدة. قلت: وفي ذلك نظر؛ لأنه إن أراد وجدان الماء، فقد نص الشافعي على أنه: إذا أتلف عليه ماء في مفازة، ولقيه في بلد [آخر] فإن الواجب قيمته في المفازة؛ فإن الماء في البلد تقل قيمته، وستعرف ذلك في كتاب الغصب. وإن أراد وجدان قيمته في البلد، فقيمته وثمنه الذي يقرضه إياه سواء في المعنى؛

فلا فرق، والله أعلم. ومع وجدانه لقيمة الماء المبذول نقداً أو عرضاً؛ بشرط أن يكون ذلك فائضاً عن [قضاء ما عليه من دين حال أو مؤجل] وعما يحتاج إليه في سفره لنفسه وأتباعه في ذهابه ورجوعه. وقيل: إن كان غريباً، لا يشترط فضله عن حاجته في الرجوع؛ كما في نظيره في الحج، وأشار إليه الإمام. وثمن المثل: هو الذي يبذل في مقابلته في ذلك الموضع، في عموم الأحوال؛ قاله أبو إسحاق المروزي، ولم يحك البندنيجي والماوردي وابن الصباغ غيره، واختاره الروياني. وقيل: ما يبذل في مقابلته في ذلك الموضع مع السلامة واتساع الماء؛ حكاه الإمام عن بعض المصنفين، وهو في "الإبانة". وقيل: ما يبذل في مقابلته في تلك الحالة؛ وهو ما حكاه الإمام عن الأكثرين، والأصح في "الإبانة"، ولم يحك الشيخ أبو حامد- كما قيل- غيره. وقيل: إن الماء لا ثمن له؛ و [إنما] المعتبر أجرة مثل استقائه ونقله إلى ذلك ىم بغؤبلي

المكان؛ وعلى هذا فالأجرة تختلف باختلاف المسافة طولاً وقصراً. قال الرافعي: فيجوز أن يعتبر المقصد الوسط، ويجوز أن يعتبر الحد الذي يسعى إليه المسافرون [عند تيقن] الماء؛ فإن ذلك الحد لو لم يقدر على السعي إليه بنفسه، واحتاج إلى بذل الأجرة لمن ينقل الماء منه إليه، يلزمه البذل إذا كان واجداً لها. قلت: والأشبه: اعتبار أجرة ذلك من أقرب المواضع التي جرت العادة بنقله منها إلى ذلك الموضع، سواء كان يجب على الحال به طلبه منه عند تيقنه أو لا، وهذا الوجه قال الإمام: إنه مبني على أن الماء لا يملك، وهو وجه سخيف، وقضية البناء تضعيفه. والغزالي قال: إنه جار وإن قلنا: إن الماء مملوك- على الأصح- وإنه الأعدل. قال الرافعي: ولم أر من رجحه غيره، ومن تبعهظتا بل يق يا يب لغ.

وقد أفهم كلام الشيخ أموراً: أحدها: أن محل وجوب القبول إذا كان البذل بعد دخول الوقت؛ لأنه وقت وجوب الطلب، كما تقدم، وبه صرح الماوردي، وقال: إنه لا يجب إذا بذل له قبل دخول الوقت؛ لأنه لا يجب عليه طلب اتهابه؛ [لأنه جعل] محل وجوب قبول الهبة إذا بذل له. وقد حكى المراوزة؛ [في وجوبه وجهين: أحدهما: أنه لا يجب]؛ لأن السؤال صعب على ذوي المروءات وإن هان قدر المسئول. وأصحهما في "التهذيب"، و"الرافعي": أنه يجب، وادعى البندنيجي أنه ظاهر نصه في "البويطي"، ولم يحك غيره؛ لأن ما وجب قبوله وجب طلبه؛ كالبيع. وعلى هذا فيجوز أن يقال: كلام الشيخ لا ينفيه، ويكون تقديره: إذا طلب اتهابه؛ فبذل له لزمه قبوله؛ وحينئذ يكون فيه [تنبيه] على وجوب السؤال عنه من رفقته، كما سلف. والوجهان جاريان- كما قال في "الوسيط"-[في وجوب] طلب استقراض ثمنه، إذا قلنا بوجوب قبوله عند بذله. ورأيت في كلام غيره القطع بعدم الوجوب. الثاني: أنه لو بذل له بأكثر من ثمن مثله لا يلزمه قبوله، قلت الزيادة أو كثرت، وهو ما حكاه الماوردي، والبندنيجي، والقاضي الحسين، والإمام. وفي "التتمة": أن القاضي الحسين قال: إن قلت [بحيث لو غبن] الوكيل بمثلها، صح البيع- يلزمه قبوله، ولا يباح له التيمم، وهو المذكور في "التهذيب". ثم ظاهر كلام الأصحاب: أنه لا فرق في الزيادة المانعة من لزوم القبول بين أن تكون بسبب تأجيله، إذا أوجبنا الشراء بثمن مؤجل يقدر عليه في بلده، أو لا، وبه صرح القاضي الحسين في "تعليقه". وفي "الرافعي" وجه آخر: أن الزيادة بسبب التأجيل إذا كانت لا تزيد على ثمن مثله

مؤجلاً ليست بزيادة، وجعله أظهر. الثالث: أنه لو خالف عند وجوب قبول البذل، وتيمم، لا يصح. وفي "الكافي" وغيره: أن الماء المبذول إذا كان باقياً عند تيممه، والباذل باق على بذله- لم يصح، وإذا صلى به أعاد. وإن كان تالفاً، أو رجع الباذل عن بذله؛ ففي الإعادة وجهان: فإن قلنا: يعيد؛ فمحل الإعادة إذا وجد الماء؛ فيستعمله، ويعيد، ولا يعيد قبل ذلك؛ قاله في "التتمة". وفيما يعيده وجهان، في "الإبانة" وغيرها: أحدهما: صلاة واحدة، وهي التي بذل له الماء عند التيمم لها ولم يقبل. والثاني- وهو الأصح-: ما يغلب على ظنه أداؤه بتلك الطهارة لو تطهر به. وفي "الرافعي" حكاية وجه ثالث، في نظير المسألة: أنه يقضي كل صلاة صلاها بالتيمم. وهو غريب. والحكم فيما لو كان معه ماء، فصبه عامداً بعد دخول الوقت- كالحكم فيما إذا لم يقبل الماء المبذول، وتيمم بعد تلفه. ولو وهب الماء الذي يجب عليه التطهر به بعد دخول الوقت- كالحكم فيما إذا لم يقبل الماء المبذول، وتيمم بعد تلفه. ولو وهب الماء الذي يجب عليه التطهر به بعد دخول الوقت، أو باعه؛ ففي صحة ذلك وجهان، أصحهما: الصحة، وشبههما الخلاف المذكور فيما إذا وهب الماء على سبيل الرشوة: فهل يملكه المرتشي، أم لا؟

فإن قلنا: إنه لا يملك الماء الموهوب، ولا يصح بيعه- وجب استرداده إن كان باقياً، ولا يصح مع وجوده تيمم مالكه، فإن تيمم وصلى، أعاد. وإن كان تالفاً، أو قلنا: يصح- فالحكم كما في مسالة الصب. ولا خلاف في أن ذلك لو كان لغرض صحيح، في صحة التيمم وعدم وجوب القضاء، وكذا لو استعمله في غسل وسخه وإزالة أذى وتبرد. ولو فرض إزالته عن ملكه، أو صبه قبل الوقت- صح تيممه بكل حال. فإن قيل: لو مر في أول الوقت بماء، وجاوزه إلى موضع لا ماء فيه جاز تيممه، ولا قضاء، وكان قياس ما ذكرتم أن يطرد فيه [أيضاً]. قيل: الفرق أنه لم يضع- هاهنا- شيئاً، وإنما امتنع من التحصيل، وثم فوت الحاصل، والتقصير في تفويت الحاصل أشد منه في الامتناع من تحصيل ما ليس بحاصل. قلت: وهذا الفرق قد يلغيه إجراء الخلاف في مسألة الصب، فيما إذا امتنع من قبول الهبة مع أنه لم يوجد منه إلا عدم التحصيل، ولا جرم حسن تخريج الشيخ أبي محمد الخلاف في المسألة الأخرى، وإن كان المذكور في "التهذيب" وغيره القطع فيها بما ذكرناه فيها أولاً. وعلى طريقهم يمكن الفرق بين ذلك وبين ما إذا امتنع من قبول المبذول: أن أهل العرف قاضون بأنه واجد الآن [والماء على الماء] في أول الوقت إذا جاوزه غير واجد له وقت التيمم، والله أعلم. فرع: هل يجب على السيد أن يشتري لمملوكه الماء للوضوء، والغسل من الجنابة، والحيض؟ فيه وجهان في "التتمة"، عند الكلام في الاغتسالات المسنونة. والمذكور منهما في "تعليق القاضي الحسين" هنا: لا؛ لأن له بدلا؛ فهو كالحر المعسر.

[قال وإن دل على ماء بقربه- أي: مما يقدر شرعاً وحساً على استعماله- لزمه قصده؛ لأنه فائدة الطلب، ولأنه يعد واجداً له]. قال: ما لم يخش الضرر في نفسه، أو ماله؛ لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ولأن الشرع أباح للخائف منه أن يترك أركان الصلاة من القيام والركوع والسجود، وكذا أن يصلي إلى غير القبلة، وكذا ترك استعمال الماء في الطهارة. وخشية الضرر في النفس تشمل ما إذا خاف من لص أو سبع، ونحو ذلك في طريق الماء، وما إذا خشي ذلك في طريقه إلى مقصده؛ بسبب ارتحال رفقته قبل عوده إليهم، والطريق غير آمن. نعم، لو كان الطريق آمناً، لا يخشى فيه- عند الانفراد- على نفسه وماله شيئاً، فالمشهور أنه لا يجب قصده- أيضاً- لأن الانفراد يؤثر وحشة، وهي ضرر. وقال الغزالي: إن في ذلك غموضاً. وعبارة الإمام: أن فيه احتمالاً. وقد حكى الرافعي وجهاً آخر: أنه يجب قصده، وهو ما يفهمه كلام الشيخ. وخشية الضرر في المال تشمل ما إذا خاف على ماله الذي معه، أو ماله الذي يخلفه في المنزل. وكلام الشيخ يفهم أنه مع الأمن على النفس والمال يجب قصد الماء الذي دل عليه بقربه، سواء كان الوقت لا يخرج قبل وصوله إليه أو يخرج. وهو يوافق الوجه الذي حكيناه عن رواية الرافعي: في أن الطلب من جميع الرفقة يجب، وإن خرج الوقت. وقد قال الرافعي: إن ما أفهمه كلام الشيخ هو ما اقتضاه كلام الأئمة؛ إلحاقاً لذلك بالماء الذي في رحله، إذا كان الوقت يخرج لو استعمله. وقد رأيت في "الإبانة" حكاية ذلك عن نص الشافعي، لكن الذي حكاه في "التهذيب"، وأبو الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ: أنه إنما يجب طلب الماء الذي

دل عليه إذا كان الوقت لا يفوت؛ فإن كان يفوت لم يجب قصده. وطرد البندنيجي ذلك فيما إذا كان قد رأى الماء. وبذلك يحصل في المسألة خلاف، ويشهد لمفهوم كلام الشيخ [نصوص حكاها] الإمام في مسائل: منها: إذا ضاق الوقت، ولاح للمسافر الماء، ولا عائق، وعلم أنه لو اشتغل به لفاتته الصلاة- أنه يطلبه، ويستعمله. ومنها: إذا انتهى طائفة في السفر إلى بئر، وكانت لا تحتمل إلا نازحاً واحداً، [ولم يكن معهم إلا دلو واحد]، وكانوا يتناوبون على ذلك، فعلم واحد أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد الوقت- يصبر حتى تأتي نوبته، ثم يقضي الصلاة. ومنها: [ما] إذا كان بين قوم من العراة ثوب يتناوبونه، فعلم واحد أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد انقضاء وقت الصلاة يصبر، ولا يصلي في الوقت عارياً. ويشهد لما قاله في "المهذب" وغيره نصه فيما إذا كان جماعة في بيت ضيق أو سفينة، وليس هناك إلا موضع واحد يتأتى فيه القيام للصلاة، وكانوا يتناوبون عليه، فعلم واحد أن نوبته بعد خروج الوقت أنه يصلي قاعداً في الوقت. وقد أشكل الفرق على أبي زيد، مع أنه أذكى الأئمة قريحة، فنقل وخرج، وجعل في كل مسألة من مسائل النص قولين: وتبعه غيره. وبعض الأصحاب أقر النصوص، وفرق بأن أمر القيام أهون؛ لأنه لا يشترط في النفل، بخلاف غيره. قال الإمام: وهو فاسد؛ مع القطع بأن القيام ركن في الصلاة. والقاضي الحسين قال: إنه لا نص للشافعي في مسألة البئر والدلو، لكنه [نص] في مسألة الثوب والسفينة على ما ذكرناه. واختلف الأصحاب فيهما: فمنهم من نقل وخرج. ومنهم من فرق بأن للقيام بدلاً بخلاف السفينة. ثم قال: فإن قلنا بطريقة القولين، طردناها في مسألة البئر والدلو.

وإن قلنا بالطريقة الأخرى، فمسألة البئر والدلو كنظير مسألة السفينة؛ لأن للماء بدلاً، وهو التراب، وعلى هذا التخريج جرى المتولي. وعلى النص في السفينة إذا صلى قاعداً يعيد إذا قدر؛ كما حكاه الماوردي في باب صلاة المسافر، والخلاف الآتي مطرد فيه. أما إذا كان ما دل عليه من الماء لا يقدر على استعماله شرعاً، وهو ما إذا كان في صهريج أو جب ونحوه- فإنه لا يجب عليه قصده؛ لأنه لا يجوز استعماله في الطهارة- كما قال في "التتمة" وغيرها- لأنه إنما يوضع كذلك للشرب، لا للاستعمال. ولو كان غير قادر على استعمال حساً؛ لكونه في بئر أو نهر لا يصل إليه بنفسه ولا بغيره إلا بدلو ورشاء فهو عادم له؛ لأنه لا يجب عليه قصده؛ لأنه عند حضوره كالمفقود في حقه، ويجوز له التيمم؛ فلا فائدة في طلبه. نعم، لو قدر غيره على النزول إليه، وقدر على ذلك بأجرة المثل، أو غير أجرة- وجب عليه. وكذا لو وجد من يبيعه أو يؤجره الدلو والرشاء بقيمة ذلك، وهو يجدها في الحال، وكذا لو كان لا يجدها إلا في بلده، ورضي صاحبه بالتأجيل، على أحد الوجهين. ولو وجد من يعيره ذلك، أطلق الجمهور الوجوب. وفي "الحاوي" وجه آخر: أن قيمة ذلك إن لم تزد [عن ثمن مثل الماء] وجبت، وإن زادت لم تجب؛ لأن العارية مضمونة. ولو كان يقدر على الوصول إليه بأن ربط عمامته في الدلو، ولو شقها نصفين، أو وضع طرفها في الماء، ورفعه، وعصره وجب ذلك إذا كانت قيمة العمامة لا تنقص بذلك، أو تنقص قدراً يوازي قيمة الماء. وإذا زاد النقص على ذلك، لم يجب، كذا قاله القاضي أبو الطيب، والماوردي. وقال المتولي وغيره: المعتبر ألا يزيد النقص عن أجرة مثل ذلك؛ فإن زاد لم يجب.

والحق ما قاله بعضهم: إن المعتبر ألا يزيد على قدر ثمن [مثل] الماء، أو أجرة مثل ذلك؛ فإن زاد لم يجب. وهذه الفروع كلها مذكورة فيما لو كان حاضراً عند الماء. وإذا لم يقدر على أخذه، قال في البويطي: فيؤخر الصلاة إلى آخر الوقت، أي: لعله أن يتمكن من أخذه، فإن صلى في أوله، ثم وجد ما يتوصل به إلى الماء في آخره، قال الشافعي: أحببت أن يعيد الصلاة. قال في "الأم": ولو ركب البحر، وعدم الماء في مركبه، كان ماء البحر [في حقه بمنزلة الماء] الذي ذكرناه في التفصيل. واعلم أن كلام الشيخ في هذا الفصل مشير إلى وجوب طلب الإرشاد إلى الماء، كما سلف، و [هو يفهم أيضاً أنه] لو كان في موضع أزيد من الموضع الذي يجب [عليه] طلبه فيه، لا يلزمه قصده؛ لأنه جعل المحل الذي يجب طلبه فيه والموضع الذي يجب قصده إذا دل عليه، منوطاً بالقرب، وأكد ذلك قوله من بعد: "وإن تيمم، وصلى ثم علم أن في رحله ماء، أو حيث يلزمه طلبه- أعاد".

وقد صرح الماوردي؛ حيث قال: كل موضع لو تيقن وجود الماء فيه منع من التيمم- وجب إذا جوز وجود الماء فيه ألا يجوز له التيمم؛ قياساً على رحله. وقضية ذلك: أنه إذا كان عن يمين المنزل الذي نزله، أو [عن] يساره، أو أمامه- أنه لا يجب عليه قصده؛ لأنه لا يجب [عليه] طلبه لو لم يدل عليه في ذلك، وعليه يدل قوله: "إِنَّ تيقنَهُ لوجود الماء في آخر الوقت، إن كان في منزله الذي هو فيه عند دخول الوقت- كان تأخير الصلاة إلى استعمال الماء واجباً؛ لأن المنزل كله محل للطلب. وإن كان تيقنه لوجود الماء في غير منزله- كان تأخير الصلاة مستحباً". وقد حكى الإمام عن رواية شيخه وبعض المصنفين عن النص: أنه يجب طلبه بالشروط السالفة؛ إذا كان عن يمين المنزل أو يساره دون ما إذا كان أمامه. واختلف الأصحاب في النصين: فمنهم من نقل، وخرج، وأثبت قولين فيهما. ومنهم من أقر النصين، وفرق بأن الماء إذا كان عن اليمين واليسار، فهو منسوب إلى المنزل، والنازل قد يتيامن، ويتياسر، وينتشر في حوائجه، ولا يمضي في صوب قصده، ثم يرجع القهقهري، وليس الماء بين يدي المسافر منسوباً إليه. ويشهد له ما روي: أن [ابن] عمر قفل من سفر له إلى المدينة، فلما انتهى إلى الحرة، دخل وقت العصر؛ فتيمم، وصلى. فقيل له: أتتيمم وجدران المدينة تنظر إليك؟ فقال: أو أحيا حتى أدخلها؟ ثم دخل المدينة والشمس حية، ولم يقض الصلاة. [وقد حكى صاحب "التهذيب" الطريقين على غير هذا النحو، كما سنذكره]. قال الإمام: فإن قلنا: لا يجب قصده فيما عدا المنزل، ويتمم: فلو كان أبعد من مسافة الطلب عند الإشكال، أي: ودون يمنة المنزل ويساره، وهو إذا كان على مسافة ينتشر إليها النازلون في الاحتطاب والاحتشاش، وتنتهي إليه البهائم في الرعي، ولم يكن حائل، وهو محقق الوجود فلا يبعد وجوب طلبه. وهذا ما جزم به الرافعي، ووجه بأنه إذا كان يسعى لاشتغاله إلى هذا الحد

فَلِمُهِمِّ العبادة [أولى]. قال: وهذا فوق حد الغوث الذي يسعى إليه عند التوهم. وإن محمد بن يحيى قال: ولعله يقرب من نصف فرسخ. قال: فإن لم يجد، أي: من يبذل الماء بعد طلبه ولا من يدل عليه، كان على ثقة من وجود الماء في آخر الوقت- أي: بأن كان سائراً عند دخول الوقت أو بعده، ويعلم أن أمامه ماء، وأنه يصل إليه قبل خروج الوقت. قال: فالأفضل أن يؤخره، أي: يؤخر فرض الصلاة بالتيمم؛ ليحوز فضيلة الطهارة بالماء؛ فإنها أبلغ من فضيلة الصلاة بالتيمم في أوله. ألا ترى أن تأخير الصلاة إلى آخر الوقت جائز مع القدرة على أدائها في أوله، ولا يجوز التيمم مع القدرة على الوضوء. فإن تيمم في أول الوقت، وصلى به جاز؛ لأنه فاقد للماء في الحال، وعليه تدل قصة ابن عمر السالفة. وفي "التتمة" حكاية وجه آخر: أن الأفضل التعجيل في أول الوقت في هذه الصورة. والصحيح الأول، وهو الذي حكاه البندنيجي، وأبو الطيب، وابن الصباغ. وهذا كله تفريع على [أنه لا يجب الصبر إلى آخر الوقت، وهو المذهب في "التهذيب" والمذكور من طريق العراقيين و"الحاوي". وفي "التهذيب"] أنه نص في "الإملاء" [على] أنه: لا يجوز له التيمم في أول الوقت؛ بل يؤخره حتى يأتي الماء في آخره. قال: وهذا بخلاف ما لو كان الماء على يمينه أو يساره في حالة سيره، أو وراءه، فإنه لا يلزمه إتيانه، قولاً واحداً، وإن أمكن في الوقت؛ لأن في زيادة الطريق مشقة عليه، وقيل بجريان الخلاف السابق فيهما [أيضاً].

قال: وإن كان على إياس من وجوده، أي: بأن كان قد سلك تلك الطريق وخبرها، وعلم أنه لا ماء بها، وأنه لا يقطعها في الوقت. قال: فالأفضل أن يقدمه، أي: يقدم فرض الصلاة بالتيمم؛ ليحوز فضيلة أول الوقت. قال بعضهم: وكان الصواب أن يقول: "على يأس"؛ فإن "إياس" مصدر: "آسه، يئوسه، إياساً وأوساً": إذا أعطى. قال: وإن كان يرجو- وهكذا عبارته في "الشامل"- ففيه قولان: أصحهما: أن التقديم أفضل؛ لأنه- عليه السلام- سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: "الصَّلاةُ لأَوَّلِ وَقْتِهَا"؛ فكان على عمومه، ولأن فضيلة الأولية ناجزة، وهي تفوت بالتأخير يقيناً، وفضيلة الطهارة بالماء غير معلومة؛ فلا يترك المحقق لأمر موهوم، وهذا ما نص عليه في "الأم". ومقابله [ما] نص عليه في "الإملاء" والبويطي: أن التأخير أفضل؛ لأن تأخير الظهر في الحر لأجل الإبراد مأمور به؛ حتى لا يختل معنى الخشوع؛ فالتأخير لإدراك الوضوء أولى. وقد جعل في "الوسيط" محل القولين إذا كان يتوقع وجود الماء بظن غالب. وقاس التقديم على ما إذا كان يرجو حضور الجماعة في آخر الوقت؛ فإن الأفضل صلاته منفرداً في أوله؛ فإن فضيلة الأولية ناجزة، والأخرى موهومة، وهكذا قاله الإمام، وادعى أنه لا خلاف في مسألة الاستشهاد، وفرق بينها وبين مسألتنا: بأن صلاة الجماعة فضيلة محضة، وكذا التعجيل- فكان تحصيل الناجز مع التساوي أولى، ولا كذلك في مسألتنا؛ فإن التعجيل محض فضيلة، والوضوء فريضة؛ فقوى التعجيل

بالتحقق، والتأخير بالفريضة، فتعارضا؛ فجاز القولان، هذا مبسوط كلامه. وقد جعل أبو علي في "الإيضاح" والماوردي مسألة الجماعة أصلاً للقول الثاني، وبمجموع النقلين يحصل فيها خلاف، وقد حكى البندنيجي- هاهنا- قولين، فيما إذا كان بين الخوف والرجاء في إدراكها في آخر الوقت، ونسب التعجيل إلى نصه في "الأم"، ومقابله إلى نصه في "الإملاء". وابن الصباغ حكى وجهين مخرجين من مسألتنا، وهما جاريان في المريض الراجي للقيام، والعريان الراجي للسترة؛ قاله في "البيان" وغيره. قال الرافعي: واحترز الغزالي بقوله: "بظن غالب" عما إذا تساوى الطرفان عنده، فلم يظن الوجود في آخر الوقت، ولا العدم. وأما إذا ظن العدم في آخر الوقت، وجوز الوجود فإنه لا جريان للقولين في هاتين الحالتين؛ بل التعجيل أولى لا محالة. ومحل القولين: ما إذا ترجح عنده الوجود على العدم، ولم يتيقنه، وربما وقع في كلام بعضهم نقل القولين [فيما] إذا لم يظن الوجود ولا العدم، ولا وثق به، وكأن هذا القائل أراد بالظن اليقين. قلت: وما ذكره الرافعي من القطع باستحباب التعجيل عند غلبة الظن بالعدم لا نقل فيه، وقطعه بذلك عند تساوي الطرفين، اتبع فيه الإمام، والقاضي الحسين، ومن تبعه؛ وإلا فكلام العراقيين مصرح بإجراء القولين فيها؛ ألا ترى إلى قول أبي الطيب: فإن كان يرجو وجود الماء، ويرجو عدمه، ففيه قولان. وإلى قول البندنيجي: وإن وقف بين الأمرين، فقولان، وإلى قوله في "المهذب": وإن كان يشك؛ ففيه قولان. وإلى قول الماوردي: إذا لم يكن أحد الأمرين غالباً، ففي الأفضل منهما قولان. ثم الخلاف فيما إذا أراد الاقتصار على صلاة واحدة، [أما لو أراد إيقاع صلاة في

أول الوقت بالتيمم، وأخرى في آخره] بالوضوء- قال الإمام: فهو النهاية في إحراز الفضيلة. قلت: وفيه نظر، إذا قلنا: إن الأولى هي الفرض؛ لأن فضيلة الطهارة بالماء لم تشملها، ولا يقال: إن هذا بعينه موجود في إعادة الصلاة في جماعة، ومع هذا فلا خلاف في استحبابها، ونقدر أن الوصف الزائد في الصلاة الثانية كأنه وقع في الأولى؛ لأن وصف فضيلة الجماعة يمكن إضافته إلى الصلاة الأولى، وفضيلة استعمال الماء بخلافه؛ لأنها فضيلة واجب، ولا يتصور أن يكون واجباً في الأولى. وقد رأيت في "تعليق القاضي الحسين" عند الكلام في رؤية المتيمم الماء في أثناء الصلاة- الجزم بأن من صلى بالتيمم، ثم وجد الماء لا يستحب له إعادتها بالطهارة بالماء، بخلاف ما لو صلى منفرداً، ثم أدرك جماعة يصلون؛ فيشبه أن يكون ما ذكرته مادته والله أعلم. قال: وإن وجد بعض ما يكفيه- أي: في غسله أو وضوءه- استعمله، ثم تيمم للباقي في أحد القولين، ويقتصر على التيمم في القول الآخر، فالتيمم على كل قول لابد منه، والخلاف في وجوب استعمال ما وجده من الماء. ووجه الوجوب قوله- تعالى-: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ .....} الآية، إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] فجعل التيمم مشروطاً بعدم ما ذكره على وجه النكرة في سياق النفي؛ فاقتضى أن يكون معتبراً بما ينطلق عليه اسم الماء. وأيضاً: فالآية موجبة لغسل جميع الأعضاء عند القدرة؛ فإذا عجز عن البعض- وجب أن يأتي بالمقدور؛ لقوله- عليه السلام-: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ". أخرجه البخاري. ولأن استعمال الماء في الطهارة شرط من شرائط الصلاة؛ فلا يسقط الميسور منه

بالمعجوز عنه؛ كستر العورة، وإزالة النجاسة. ووجه الثاني: قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} إلى قوله {مَاءً} [المائدة: 6] فإن فيه إشارة إلى ما تقدم ذكره من الماء المشروع في الاستعمال لجميع الأعضاء. ولأن في استعمال الموجود والتيمم جمعاً بين بدل ومبدل، والجمع بينما في الأصول لا يلزم؛ كالعتق والصوم في الكفارة، وهذا ما حكاه الجمهور عن القديم، "والإملاء". وقال ابن الصباغ: إنه نص عليه في موضع من "الأم" واختاره المزني. وعلى هذا: فالفرق بينه وبين السترة وإزالة النجاسة إن قلنا بوجوب استعمال الموجود فيهما، وهو المذهب في "تعليق القاضي الحسين": أن ذلك لا بدل له، بخلاف طهارة الحدث. نعم، نظير ذلك ما إذا وجد بعض ما يكفيه من الماء، ولم يجد التراب؛ فإن الأصحاب قالوا- كما حكاه الروياني والمتولي-: يجب استعماله؛ قولاً واحداً؛ لفقد البدل، بخلاف واجد نصف رقبة في الكفارة، وهو عاجز عن الصوم والإطعام- لا يجب عليه عتقها؛ لأن الكفارة ليست على الفور. قال الروياني: ويحتمل في مسألتنا في هذه الحالة- ألا يجب استعمال الماء، ويجعل كمن لم يجد ماء ولا تراباً؛ لأن هذا الماء وجوده كعدمه. وقد حكاه الرافعي؛ لأنه قال: وقد قيل بطرد القولين في هذه الحالة- أيضاً- والأظهر: الأول. قال الأصحاب: وعلى هذا القول [الثاني] الذي اختاره المزني، يستحب له أن يستعمل الموجود من الماء قبل تيممه. [ثم إن] كان الواجب عليه الوضوء، بدأ بغسل الوجه، ثم اليدين، على الترتيب وإن كان الواجب عليه الغسل- استحب [له] أن يبدأ بالرأس؛ لما سنذكره.

والصحيح عند كافة الأصحاب، وهو الذي نص عليه في "الأم"، في الباب الأول من التيمم، والجديد: [وجوب] استعمال الموجود من الماء، والآية دالة له؛ كما ذكرنا. ولو كان الماء المذكور ثانياً يعود إلى الأول- لم ينكره؛ لأن العرب إذا ذكرت شيئاً منكراً، ثم أرادت ذكره ثانياً- عرفته؛ قال الله- تعالى-: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15، 16] وقد قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً .....} الآية: [المؤمنون: 13، 14] وإذا لم ترد العود إليه نكرته؛ قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)} قال ابن عباس: لن يغلب عسر يسرين. ولا نسلم أنه إذا استعمل الماء، كان جامعاً بين بدل ومبدل؛ لأن التيمم بدل عما لم يستعمل الماء فيه، ومثله ما إذا عجز عن [بعض] الفاتحة؛ [فإنه] يأتي بما قدر عليه منها، وبالبدل عن باقيها. والفرق بين ما نحن فيه والكفارة من أوجه: أحدها- قاله أبو إسحاق-: أن الصوم بدل عن جميع الرقبة، ولا يجب عن بعضها، والتيمم يجب عن بعض الأعضاء، كما يجب عن كلها؛ بدليل الجرح. والثاني- قاله ابن أبي هريرة-: أن إعتاق بعض الرقبة لا يحصل مقصوداً، بخلاف [بعض] الطهارة؛ فإنه يمكنه البناء عليه. والثالث: أن الماء مستعمل في الوضوء على التبعيض والتجزئة؛ لأنه يستعمل في عضو دون عضو؛ فجاز أن يتبعض في الوجوب، والعتق لا ينبني على التبعيض والتجزئة؛ فلم يتبعض في الوجوب. ثم القولان مستقلان بأنفسهما، أو مبنيان على تفريق النية على أعضاء الوضوء، أو على وجوب الموالاة؟ فيه [خلاف:]

الذي مال إليه الإمام الثاني، والذي صححه الفوراني الأول، وقال: إن الثالث ليس بصحيح؛ لأن تفريق الوضوء بالعذر جائز قولاً واحداً، وهو هنا بعذر؛ فقياسه أن يجب استعمال الموجود من الماء، قولاً واحداً. تنبيه: قول الشيخ: "استعمله، ثم تيمم للباقي" يفهم أمرين: أحدهما: أن محل الخلاف [إذا أمكن التيمم، أما] إذا لم يمكن؛ لفقد التراب- فقد مر الخلاف فيه، ومثله جارٍ فيما لو وجد من التراب بعض ما يكفيه: هل يجب استعماله أو لا؟ والصحيح: طريقة القطع بالوجوب. الثاني: وجوب استعمال الموجود من الماء قبل التيمم على هذا القول سواء كان الواجب عليه الوضوء أو الغسل؛ وبه صرح الأصحاب. ورأيت في شرح [ابن] التلمساني حكاية وجه، فيما إذا كان الواجب عليه الغسل: أنه يتخير، إن شاء استعمل الماء أولا أو تيمم، ولم أرَ في غيره سوى الأول، ومنه يؤخذ أمران: أحدهما: أن محل القولين، إذا كان ما وجده يقدر على غسل بعض البدن به، دون ما إذا كان لا يقدر أن يفعل به سوى المسح: كالثلج، والبرد الذي لا يذوب؛ لأن ما يجب فيه المسح- وهو الوضوء- لا يجوز البداءة فيه بالمسح. وقد قلنا: إن الشرط على هذا القول البداءة باستعمال الموجود، ولأن ما احتججنا به من الآية مفقود في هذه الصورة؛ لأن ما لا يذوب من الثلج والبرد لا يطلق عليهما. وقد أغرب بعض الأصحاب؛ فطرد القولين في هذه الصورة- أيضاً- وقال: إذا قلنا بوجوب الاستعمال تيمم عن الوجه واليدين، ثم يمسح رأسه بالموجود من الثلج أو البرد، ثم يتيمم للرجلين؛ كذا حكاه الرافعي عن أبي العباس الجرجاني من أصحابنا. الثاني: أنه إذا كان الواجب عليه الوضوء، استعمل الموجود في الوجه، ثم اليدين

على الترتيب وهذا مما لا خلاف فيه. ولو كان الواجب الغسل، تخير في استعماله في أي موضع شاء من بدنه؛ لأنه لا ترتيب فيه. والأولى أن يبدأ بالرأس؛ لأن المستحب البداءة في الغسل بها. التفريع: إن قلنا بالقول بوجوب استعمال الموجود من الماء، فتيمم الجنب؛ لفقد الماء، وصلى الظهر مثلاً؛ فإن له أن يصلي بعده ما شاء من النوافل، على المذهب، كما سيأتي. فلو أحدث، ثم وجد من الماء ما لا يكفيه للغسل، ويكفيه للوضوء- وجب استعماله في الغسل، وتيمم عن الباقي، واستباح الفرض والنفل بشرطه. وإن قلنا بأنه لا يجب استعمال ما لا يكفي من الماء، ففي هذه الصورة قال العراقيون: له أن يتوضأ به، ويصلي به النافلة دون الفريضة؛ لأن الوضوء رده إلى ما كان عليه قبل الحدث، وقد قلنا: إنه قبل الحدث يباح له النفل على المذهب دون الفرض. قال البندنيجي: ويجوز أن يقال: هو بالخيار بين أن يتيمم ويصلي النافلة، وبين أن يتوضأ به ويصلي النافلة. [وهذا ما حكاه ابن الصباغ وجهاً في المسألة. وعن القاضي أبي الطيب قال: لا يصح تيممه، لأجل النافلة]؛ لأنه قادر على صحة الوضوء لها. نعم، يصح تيممه للفريضة؛ لأنه غير قادر على الغسل لها، وهذا ما حكاه في "شرح الفروع". وقال الإمام: الوجه أن يقال: الوضوء مع الجنابة لا أثر له، ولا يتضمن رفع الحدث الطارئ، ووجوده وعدمه بمثابة واحدة؛ فلا يستبيح النافلة إلا بالتيمم عن الجنابة؛ إذ الوضوء يندرج تحت الغسل في حق من أحدث وأجنب، على المذهب.

وما قاله العراقيون يقتضي إفراد الوضوء بحكمه، مع وجوب الغسل، وفيه بعد، وعلى الجملة: ففي المسألة احتمال. قال: وإن تيمم- أي: بعد [أن] طلب الماء فلم يجده، وصلى، ثم علم أن في رحله ماءً- أي: يجب [عليه] استعماله- وكان قد وضعه، ونسي، أو حيث يلزمه طلبه- أي: وكان قد علم به ونسيه- أعاد في ظاهر [المذهب] لأنه فات إمعان النظر في الطلب، الذي هو شرط الصحة. والرحل: منزل الإنسان، سواء [أكان] من شعر ووبر، أو حجر ومدر. وفي "حيث" ست لغات: ضم الثاء، وفتحها، وكسرها، و"حوث" بالواو كذلك. والمذهب الذي أشار الشيخ إليه في الأولى: هو نصه في عامة كتبه على وجوب الإعادة، وفي الثانية: هو نصه في "البويطي"؛ فإنه قال فيه: وكذلك البئر يكون إلى جنب المسافر، والبركة [في الموضع] الذي عليه فيه أن يطلبه، ويبلغه قبل تيممه، فإذا تيمم وهو لا يعلم [به]، ثم علم فعليه الإعادة. ووراءه في كل من الصورتين كلام للأصحاب: أما الأولى: فلأن أبا ثور قال: إنه سأل أبا عبد الله، فقال: لا إعادة [عليه] واختلف الأصحاب فيه: فأجراه أبو إسحاق على ظاهره، وأثبت في المسألة قولين: أحدهما: ما سلف. والثاني: لا إعادة عليه؛ لأن النسيان عذر حائل من استعمال الماء؛ فصح معه التيمم؛ كما لو حال بينه وبين الماء سبع أو غاصب. وقد زعم بعض الأصحاب أن أبا إسحاق خرج القول الثاني من نصه في القديم على أنه إذا نسي القراءة في الصلاة، أو الترتيب في الوضوء- لا يضره. وبعضهم يقول: إنه صوب أبا ثور فيما نقله. وقال: [لعل] الشافعي قال ذلك تفريعاً على ما ذكرناه. وبعضهم يقول: إنه خرجه من نصه في "الأم"، في المسألة الأخرى، كما سنذكره وغير أبي إسحاق قال: المسألة على قول واحد؛ وهو وجوب الإعادة.

وما نقله أبو ثور منهم من لم يثبته عن الشافعي، ويقول: [أراد بأبي] عبد الله مالكاً، [أو أحمد بن حنبل]. وضعف ابن الصباغ هذه الطريقة؛ فإن أبا ثور لم يلق مالكاً] ولم يرو عن أحمد شيئاً، وأيضاً فإن مذهب أحمد: وجوب الإعادة. ومنهم من أثبته عن الشافعي، لكن اختلفوا في تأويله مع النص الآخر: فقال ابن أبي هريرة: نصه في عامة كتبه محمول على أن رحله صغير يمكن الإحاطة به. ورواية أبي ثور محمولة على أن رحله كبير لا يمكنه الإحاطة به. وقال أبو الفياض: نصه في عامة كتبه محمول على ما إذا كان الماء موجوداً في رحله قبل الطلب، ورواية أبي ثور محمولة على ما إذا وضع الماء [في رحله] بعد الطلب. وطريقة أبي إسحاق هي التي مال إليها ابن الصباغ، وهي المذكورة في "الوجيز"، و [قد] قيل بطردها فيما إذا أدرج الماء في رحله قبل الطلب، وترك هو الطلب؛ لعلمه من قبل بأنه لا ماء فيه، وهو ما حكاه في "التتمة". وصحح في "الكافي" القول بوجوب الإعادة فيها، وجزم به في الصورة قبلها. والصحيح في "تلخيص الروياني" وغيره، وهو المذكور في "الإبانة": طريقة القطع بعدم الإعادة؛ لأنه غير منسوب إلى تفريط. وقال الإمام: إنها الطريقة المرضية، وقد حكاها القاضي أبو الطيب وجهاً في المسألة مع وجه آخر: أنه إن كانت على الماء أمارة وجبت الإعادة؛ وإلا فلا. وأما الثانية: فلأن الربيع حكى في "الأم"، عن نص الشافعي: أنه إن علم أن بئراً كانت قريبة منه، يقدر على مائها لو كان عالماً بها- فلا إعادة عليه، ولو أعاد كان احتياطاً. وحكاه البويطي عن رواية الربيع، وقال: إنه أصح القولين؛ فأثبت فيها القولين، لاختلاف النصين، وبها قال بعض الأصحاب. و [بعضهم] قال: إن كان قد علم بذلك، ثم نسيه، فهو كمسألة الرحل، أي: إذا

وضع الماء فيه، ثم نسيه فيكون فيها طريقان. وإن لم يكن قد علم به، فلا إعادة، قولاً واحداً، وهذه طريقة الفوراني. ومنه من قال: النصان على حالين: فنصه في "الأم" محمول على ما إذا "لم يعلمها أصلاً، وقد طلب مثله، ونصه في البويطي محمول على ما إذا] قصر في الطلب، مثل أن كان لها علامات قائمة وأعلام ظاهرة فتوانى فيها. وهذه مع الأولى نقلهما البندنيجي وغيره من العراقيين. والماوردي [قال]: إن كان قد علم به، ثم نسيه، فهو كمسألة البئر، وإن لم يكن قد علم به، فعن أبي علي بن خيرا،: أن عليه الإعادة. وعن ابن سريج: أنه لا يعيد. وقال أبو حامد وأبو الفياض وجمهور أصحابنا البغداديين والبصريين: إن كانت البئر ظاهرة الأعلام بينة الآثار؛ فعليه الإعادة. وإن كانت غير ظاهرة؛ فلا إعادة. وقد رجع حاصل ما ذكرنا في المسألتين إلى طريقين؛ لأنه إن كان علم بالماء في رحله، أو في الموضع الذي يلزمه طلبه، ثم نسيه- فمن الأصحاب من قطع فيهما بوجوب الإعادة، ومنهم من جعلهما على قولين. وقال الإمام في المسألة الثانية: وقد يكون للفقيه مزية نظر فيه، إذا كان عهد البئر، [وتقادم العهد]، بحيث لا يكون الناسي في مثل ذلك [الأمد] منسوباً إلى الذهول. وإن لم يكن قد علم بالماء في المسألتين، ولم يعد مقصراً في طلبه فمن الأصحاب من قطع بعدم الإعادة فيهما، ومنهم من جعلهما على قولين. فروع: إذا تاه عن رحله، وله فيه ماء، فلم يجده بعد طلبه- قال البندنيجي وغيره: فهو فاقد للماء؛ فيصح تيممه، ويصلي ولا إعادة [عليه].

ولو ضل رحله في الرحال، قال في "الأم": تيمم وصلى. ولم يذكر الإعادة. واختلف الأصحاب فيها على وجهين: أحدهما: أنها تجب؛ كما في الناسي. والثاني: لا؛ كما في المسألة قبلها. وهذا ما حكاه الماوردي والفوراني واختاره في "المرشد"، وكذا القاضي الحسين. و [أشار إلى أن] الخلاف يجري فيما لو أضل [ماء بين] رحال نفسه. وبه صرح في "التتمة". وجزم الفوراني فيها بالإعادة، وهو الأصح في "الكافي". والغزالي حكى الخلاف فيها [على] قولين. وقال الإمام وغيره: إنهما مخرجان من القولين فيما إذا طلب القبلة، وصلى، ثم تيقن الخطأ. وحكوا في المسألة قبلها طريقين: إحداهما: أنها على القولين. والثانية: القطع بعدم الإعادة. والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن مخيم الرفقة أوسع من الرحل، ورحله أضبط للماء من المخيم للرحل، وإذا كان كذلك، كان أبعد عن التقصير هاهنا. والثاني: أن من ضل الماء في رحله صلى بالتيمم مع الماء، ومن ضل رحله فقد صلى، وليس معه ماء. وإذا كان الماء يباع، فنسي الثمن، وتيمم، وصلى ثم تذكر-[قال ابن كج: يحتمل أن يكون مثل نسيان الماء في رحله، ويحتمل غيره]. قال الرافعي: والأول أظهر. قال: وإن تيمم، ثم رأى [الماء] قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه؛ لما روى

أبو ذر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " [إِنَّ] الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ المُسْلِمِ، وَلَوْ لَمْ يَجِدِ المَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ المَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرُ". قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. ولأنه قدر على المبدل قبل تلبسه بالمقصود- وهو الصلاة- فوجب الإتيان به، وبطلان البدل؛ كما لو رأى الماء في أثناء التيمم؛ فإن الإجماع على أنه يبطل. فإن قيل: الفرق بينهما: أن بالفراغ من البدل قبل القدرة على مبدله- تم الأمر؛ فلا ينقض؛ كما إذا رأت المعتدة بالأشهر الدم بعد فراغ الأشهر- لا تنتقل إلى الأقراء، ولا كذلك قبل الفراغ منه؛ ولهذا قال أبو موسى الأشعري، و [أبو سلمة بن] عبد الرحمن بالتفرقة. قلنا: هذا الفرق إنما يتم إذا قلنا: إن الإجماع بعد الاختلاف لا يؤثر، أما إذا قلنا: إنه مؤثر، فهو ملغًى؛ لأن الإجماع قد انعقد بعد موت أبي سلمة على بطلانه. وعلى الأول: فالفرق بين ما نحن فيه والعدة: أن مقصودها براءة الرحم؛ بدليل وجوبها وإن لم ترغب في زوج، وقد حصل بالأشهر، والتيمم مقصوده الصلاة؛ بدليل عدم وجوبه على من لم يردها. تنبيه: الألف واللام في "الماء" للعهد، وهو الماء الذي يقع في نفسه أنه يجب عليه استعماله، ولو على بعد. فلو رأى ماء علم حال رؤيته أنه لا يكفيه لطهارته، وقلنا: لا يجب عليه استعماله- لا يبطل تيممه؛ كما صرح به ابن الصباغ وغيره. وكذا لو رأى ماء علم حال رؤيته أنه لا يقدر على استعماله؛ لحائل حسي أو شرعي- لا يبطل. ولو توقع حال رؤيته أنه يكفيه، أو أنه لا مانع من استعماله، ثم ظهر خلافه- بطل. وقد اعترض بعضهم على عبارة الشيخ، فقال: لو قال: ثم شك [في وجود الماء]- كان أجود؛ ليعم [مع] ما ذكره ما لو رأى سراباً حسبه [ماء، أو

ركباً]، أو رجلاً قدم عليه، أو سمع شخصاً يقول: عندي ماء [ووديعةً] فإنه يبطل تيممه في هذه الصور لأنه تعين عليه عند سماع ذكر الماء طلبه، وهو مبطل للتيمم. ولو انتفى وجوب الطلب مع سماع ذلك، مثل أن قال شخص: عندي وديعة جرة ماء، أو رأى الشخص القادم عارياً [كما قال القاضي الحسين] – لا يبطل [تيممه] لأنه لا يتوجه عليه الطلب. وجوابه: أن الشيخ اتبع في العبارة الشافعي؛ فإنه قالها في "المختصر". وما ذكره القاضي من عدم البطلان عند رؤية القادم عارياً، فيه نظر؛ لأنه يجوز أن يدله على ماء؛ فيجب [عليه] طلبه. وقد رأيت في "تعليقه" فيما إذا قال لفلان: عندي ماء وديعة [لفلان]- أن بطلان تيممه يتخرج عندي على ما إذا قال: لفلان على ألف من ثمن خمر؛ هل يلزمه الألف؟ فإن قلنا: يلزمه، بطل تيممه؛ وإلا فلا. قال: وإن كان بعد الفراغ منها، أجزأته صلاته، إن كان مسافراً؛ لما روى عطاء ابن يسار عن أبي سعيد الخدري: أن رجلين خرجا في سفر، فعدما الماء، فتيمما صعيداً طيباً، وصليا، ثم وجدا الماء؛ فأعاد أحدهما في الوقت، ولم يعد الآخر، فجاءا [إلى] النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال للذي لم يعد: "أَصَبْتَ السُّنَّةَ، وَأَجْزَأَتْكَ صَلاتُكَ"، وقال للآخر: "لَكَ الأَجْرُ مَرَّتَيْنِ".

ولأنه عذر معتاد؛ فلم تجد معه الإعادة كالمرض. وقد أفهم كلام الشيخ أموراً. أحدها: أنه لا فرق بين أن يراه في الوقت أو بعده، وهو عندنا كذلك؛ للخبر، [ولما تدل عليه] قصة ابن عمر السالفة. الثاني: أنه لا فرق بين السفر الطويل والقصير [في ذلك]، وهو المنصوص

عليه في عامة كتبه، وبه جزم البندنيجي؛ لعموم الآية، ولأنه عدم الماء في موضع يعدم مثله في العادة؛ فوجب أن تسقط الإعادة في قصيره كطويله. وقد حكي عن نصه في "البويطي": أن ذلك يختص بالطويل كما في القصر [والفطر في السفر]. والصحيح: الأول. [قال أبو إسحاق:] والفرق بين ذلك والقصر والفطر: أنهما جوزا له والتيمم واجب عليه. وغيره فرق بأنهما جوزا لأجل الحاجة، ولا حاجة إليهما في القصر، والتيمم جوز لأجل الضرورة، والضرورة يستوي فيها طويل السفر وقصيره. الثالث: أنه لا فرق فيه بين سفر المباح وسفر المعصية، وهو في المباح بلا خلاف وكذا في سفر المعصية، إن قلنا: [إنه] ليس برخصة، وإن قلنا: إنه رخصة، فوجهان، ووجه الفرق ما سلف: أن التيمم واجب في السفر، والمعصية لا تمنع من صحة الواجب، ولا كذلك القصر والفطر. وفي "الرافعي": أن الحناطي حكى مع هذا الخلاف وجهاً آخر: أنه لا يتمم أصلاً، وقد حكاه العمراني في "الزوائد" عن "الفروع"، وأنه يقال له: تب ثم تيمم، كما يقال له إذا اضطر [إلى أكل] الميتة، تب وكل. الرابع: أنه لا فرق بين أن يعدم الماء وهو مسافر في بلدة لم ينو المقام فيها، أو في مفازة. وفي "التتمة" حكاية وجهين في الإجزاء فيما إذا كان تيممه [في بلد] لم ينو المقام فيه:

أحدهما: نعم، كما يجوز القصر والفطر فيه. والثاني: لا؛ لأن عدم الماء في البلد نادر، وهذا أظهر في "الرافعي". وقد قيد بعضهم كلام الشيخ بما إذا لم يكن تيممه عن جنابة خرجت بعد استنجائه بالحجر أو عن جماع، وقلنا: إن رطوبة فرج المرأة نجسة، ولم يغسل ذكره- فإنه في هذه الحالة يجب عليه الإعادة. قلت: ولا حاجة لهذا التقييد؛ لأن الإعادة لأجل النجاسة، [وقد دل عليها كلام الشيخ في باب إزالة النجاسة]. قال: ويلزمه الإعادة إن كان حاضراً لأن عدم الماء في الحضر نادر؛ فلا مشقة في الإعادة، وهذا هو الجديد. والقديم: أنه لا يلزمه الإعادة، وهو اختيار المزني. وعدول الشيخ عن قوله: إن كان مقيماً، إلى ما ذكر فيه تنبيه على [أن] من أقام بموضع يعدم فيه الماء، وصلى بالتيمم لا إعادة عليه، وبه صرح ابن الصباغ، حيث قال: إن الاعتبار بالتيمم بالموضع الذي يوجد فيه الماء نادراً أو معتاداً. ويؤيده حديث أبي هريرة، قال: [يا] رسول الله، "إِنَّا نَكُونُ بِأَرْضِ الرَّمْلِ فَلاَ نَجِدُ المَاءَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرِ أَوْ خَمْسَةً، فَتُصِيبُنَا الجَنَابَةُ؟ فقال: "عَلَيْكُمْ بِالأَرْضِ".

[وهذه إقامة]. لكن لك أن تقول: هذا يقتضي أنه: إذا كان حاضراً في بلد لم ينو فيها الإقامة، ولا حكمنا عليه بأنه مقيم- أنه يعيد إذا تيمم فيها لعدم الماء، وقد قلتم: إن كلامه يقتضي أنه لا إعادة عليه؛ وحينئذ يكون كلام الشيخ آخراً، يخص كلامه الأول؛ بناء على ما ذكرنا أنه الأظهر، وهذا حسن، والله أعلم. فرع: إذا تيمم لعدم الماء، وطاق، ثم وجده بعد ذلك، فهل يعيد الطواف؟ فيه وجهان في "البحر"، في كتاب الحج: أحدهما: نعم؛ لأن الطواف في البلد، فهو كالصلاة. والثاني: لا؛ لأن الحائض لو انقطع دمها، ولم تجد الماء، فتيممت، ثم طافت، وسافرت- لا يلزمها الدم بلا خلاف. ولو كان يجب عليها إعادة الطواف عند وجود

الماء لكان في وجوب الدم عليها قولان، كما لو نفرت بلا وداع. وهذا فيه نظر؛ من حيث إن الماء لم تجده وهي في محل الطواف، والإعادة إنما تجب عند القدرة عليه؛ فلا حجة في ذلك. قال: وإن رأى الماء في أثنائها- أي: وكذا ما في معنى الرؤية- أتمها إن كانت الصلاة مما يسقط فرضها بالتيمم- أي: وهي صلاة السفر- لأنه متيمم دخل في صلاة لا يعيدها لو رأى [الماء] بعد فراغها؛ فوجب ألا تبطل برؤيته في أثنائها؛ كصلاة الجنازة والعيدين. وقد وافق الخصم- وهو أبو حنيفة والثوري- على عدم بطلانها، وهذا ما نص عليه. وذهب المزني وابن سريج إلى بطلانها؛ تمسكاً بعموم قوله- عليه السلام-: "فَإِذَا وَجَدَ المَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ". والقاضي الحسين يقول: إن ابن سريج خرجه من نصه في المستحاضة إذا انقطع دمها في أثناء الصلاة، كما خرج- من نصه هنا إلى ثم- قولاً: أنها لا تبطل. والصحيح: تقرير النصين، والفرق ما ذكرناه في باب الحيض. والخبر محمول على ما إذا كان خارج الصلاة؛ لأنه قال: "كافيك .. "، وهذا خطاب له قبل الصلاة. فعلى هذا، هل يسلم التسليمة الثانية؟ حكى الروياني عن والده: أنه لا يسلم؛ لأنه خرج من الصلاة بالأولى وعندها يبطل التيمم، أو قبلها، كما ستعرفه. ومن طريق الأولى: ألا يصلي النفل بعدها حتى يتوضأ، وبه صرح الأصحاب. ولا فرق عند العراقيين في ذلك بين أن يكون الماء باقياً، أو تلف بعد سلامه، أو قبله، وعلم [به]؛ لأن التيمم بطل برؤية الماء، وإتمام الصلاة؛ لأجل الحاجة. وقال المراوزة: إذا علم بتلفه قبل السلام، فله التنفل، وهو ما أبداه ابن الصباغ احتمالاً. ولو كان قد شرع في نافلة، ثم رأى الماء في أثنائها، فعن ابن سريج [أنها]

تبطل؛ لأن حرمة النفل قاصرة عن حرمة الفرض؛ لأنها لا تلزم بالشروع. [والمشهور: لا]. وعلى هذا إن كان قد نوى عدداً أتمه على المشهور، وهو الذي أورده العراقيون، والماوردي، وحكاه البندنيجي عن نصه في "الأم". وفي "النهاية" وجه: أنه يقتصر على ركعتين. وعن القفال: أنه إذا كان قد نوى ركعتين، فأراد أن يتمهما بعد رؤية الماء أربعاً، جاز. والمذهب خلافه. وإن كان قد أطلق النية، فإن قلنا عند نية العدد: إنه يقتصر على ركعتين أو يزيد- فهاهنا أولى؛ وإلا فوجهان: أحدهما: أنه يقتصر على ركعة. والثاني: على ركعتين؛ بناء على أن مطلق النذر يحمل على ماذا؟ وبالثاني أجاب الماوردي وابن الصباغ، وهو المحكى عن "الأم". ووجهه: أن المستحب أن يكون النفل مثنى مثنى. وعلى هذا، لو كان حين رآه في ثالثة، قال أبو الطيب: عندي: أنه يتم هذه الركعة، ويسلم. قال الروياني في "تلخيصه": وهو على ما قال. وفي "الرافعي": أن القاضي الحسين قال: إذا أطلق النية، كان له أن يزيد ما شاء. وقد أفهم قول الشيخ: "أتمها"، وجوب الإتمام، وهو وجه حكاه القاضي أبو الطيب ومن بعده، موجهاً بأنها صلاة انعقدت فريضة؛ فلا ينصرف عنها كما لو كانت بالوضوء. قال ابن الصباغ: وهذا القائل تعلق بقول الشافعي في "البويطي": "الذي تيمم، ودخل في الصلاة، ثم طلع عليه الماء- مضى في الصلاة، ولا إعادة عليه". ويجوز أن يحمل قول الشيخ على الاستحباب، وهو وجه حكاه الماوردي، وكذا

الإمام عن العراقيين؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] لكن الذي عليه أكثر الأصحاب، وعليه نص في "الأم" – كما قال أبو الطيب-: أن الأفضل الخروج منها؛ ليصلي بطهر مقطوع به. فإن من العلماء من حرم الاستمرار، وظاهر هذا أنه لا يقلبها نفلاً؛ بل يبطلها. وهو ما حكاه الإمام عن العراقيين، موجهاً له بأنهما لا يختلفان فيما يتعلق بالطهارة. وهذا مجموع ما حكي عن العراقيين. والمراوزة قالوا: لا يمتنع عليه الخروج من الصلاة أصلاً. قال الإمام: اللهم إلا أن يكون في آخر الوقت؛ فإن الذي أراه: أنه لا يجوز كما في غير التيمم. وحيث يجوز الخروج، قال الشيخ أبو محمد: لا ينبغي أن يخرج من الصلاة؛ فيحبط عمله، ولكن هل يتمها على الفريضة أو يقلبها نفلاً؟ فيه وجهان. وهذه الطريقة قالها القاضي الحسين في "تعليقه" عن نفسه؛ حيث قال: قال أصحابنا: هل يستحب له الخروج من الصلاة، وأداؤها بالوضوء؟ فيه وجهان. وعندي: يكره له [إبطال] العبادة والخروج عنها، وجهاً واحداً. وهو ما حكاه الفوراني عن القفال. وعبارة المتولي: أن القاضي قال: لا يجوز [عندي] إبطال [الصلاة] [بالتيمم]، وجهاً واحداً. والوجهان في أنه: هل يستحب أن يقلب الصلاة نفلاً ويسلم عن ركعتين، أم لا؟ فمن قال بالأول، قاسه على ما نص عليه الشافعي في الجديد، فيمن أحرم منفرداً، ثم وجد جماعة- أنه يستحب له أن يقلب الفرض نفلاً، ويسلم عن ركعتين، ويقتدي بالإمام. ومن قال: لا يستحب، فرق بأن صلاته جماعة أفضل من صلاته منفرداً، ولا كذلك الصلاة بالماء؛ فإنها في الفضيلة كالصلاة بالتيمم. أو لأنه لو صلى منفرداً كل

الصلاة، ثم أدرك جماعة- استحب له الإعادة معهم، ولا كذلك لو صلى بالتيمم، ثم وجد الماء: لا يستحب الإعادة بالوضوء. وإذا جمعت ما ذكرناه، واختصرت، قلت: في المسألة أوجه: أحدها: أنه يجب إتمامها فرضاً. والثاني: يستحب. والثالث: يستحب إبطالها. والرابع: يستحب قلبها نفلاً، وقد حكاه الغزالي. والخامس: أنه يجوز إتمامها، وقلبها نفلاً، ولا يجوز إبطالها، والله أعلم. قال: وتبطل إن لم يسقط فرضها بالتيمم، أي: وهي صلاة الحضر؛ لأنها صلاة لا [يعتد] بها لو تمت؛ فلا حاجة إلى أن نأمره بإتمامها وإعادتها. [وفي "تعليق القاضي الحسين" وجه آخر: أنها لا تبطل؛ كسائر الصلوات. والصحيح: ما ذكره الشيخ]. قلت: وهو فيما إذا بقي من الوقت ما يمكن إيقاع الصلاة فيه أداء بالطهارة بالماء- ظاهر. أما إذا لم يمكن فيظهر أن يبنى على أن من قدر على الماء، وضاق الوقت عن استعماله: هل يؤخر الصلاة حتى يتوضأ، أو يتمم ويصلي في الوقت ثم يعيد بالوضوء؟ وفيه وجهان في "التهذيب"، المذهب منهما: الأول؛ فإن قلنا [به] لا يتم الصلاة [هنا]؛ وإلا أتمها. فرع على المذهب: إذا تحرم المسافر [بالصلاة]، ثم نوى الإقامة في أثنائها- فحكمه إذا أتمها كحكم المصلي في الحضر. ولو رأى الماء قبل نية الإقامة، فقياس المذهب بطلانها، وهو ما نقله أبو الطيب، وكذا الرافعي، يعرفه من تأمل بناءه، وهو في "الشامل" و"النهاية" محكي عن ابن القاص.

وقال الماوردي: إنه طرده فيما إذا نوى الإتمام. ووجهه بأن تيممه صح لركعتين من غير زيادة، وقد لزمه بذلك الأربع؛ فكانت رؤية الماء مبطلة لصلاته. وفي "النهاية": أن من أصحابنا من قال: لا حكم لرؤيته وهو في حكم المعدوم، وهذا ما حكاه الماوردي عن سائر الأصحاب. فرع آخر: إذا رأى المتيمم الماء في أثناء الطواف، قال الفوراني: إن قلنا: لا يجوز تفريقه، فحكمه حكم الصلاة. وإن قلنا: يجوز تفريقه توضأ، ثم بنى، وقلما يتصور هذا؛ لأن الطواف في الحضر، وقلما يفقد الماء في الحضر. قال: وإن خاف من استعمال الماء التلف لمرض، تيمم وصلى؛ للآية، وليس عدم الماء شرطاً في ذلك؛ كما صار إليه الحسن البصري وعطاء؛ لاعتقاده أن الآية تقتضيه. ووجه ما [ذكره الشيخ] قد سلف، ويؤيده ما رواه الشافعي بسنده عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف أنه- عليه السلام- بعث رجلاً في سرية، فأصابه كلم، فأصابته جنابة، فصلى ولم يغتسل، وخاف على نفسه؛ فعاب عليه أصحابه ذلك، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر ذلك له؛ فأرسل إليه، فجاء فأنزل الله- تعالى-: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29]. قال: ولا إعادة عليه؛ لأن المرض عذر عام، يشق معه الإعادة؛ فلم تجب؛ لقوله

تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. قال أبو الطيب: وهذا مما لا خلاف فيه بين الفقهاء، ولا فرق بين أن يكون ذلك في السفر أو الحضر، ولا بين خوف تلف المهجة أو تلف عضو، ثم الخوف الذي ذكرناه يكفي فيه [ظن] المتيمم إن كان عارفاً بالطب؛ وإلا فيرجع فيه إلى قول طبيب [حاذق] بالغ مسلم عدل. وعن أبي عاصم العبادي رواية وجهين في اشتراط العدل، والمذكور في "تعليق القاضي الحسين" و"التتمة": الأول، وجزما القول بأنه [لا] يقبل في ذلك قول الكافر. وفي "الرافعي" في كتاب الوصية، عند الكلام في المرض المخوف، عن أبي سليمان الخطابي وجه: أنه يجوز أن يعتمد على قوله. وعلى الأول، هل يجوز أن يعتمد [فيه] على قول الفاسق؟ فيه وجهان في "التتمة"، أجراهما القاضي الحسين في قبول قول المرأة والعبد في ذلك. ووجه المنع: أنهما لا يقبل قولهما في الشهادة؛ وعلى هذا لا يقبل قول الصبي المراهق؛ لأنه ليس من أهل الشهادة. وعلى مقابله، هل يقبل قوله؟ فيه وجهان، بناهما المتولي على القولين في قبول دلالته على القبلة. قال: وإن خاف الزيادة في المرض أي: مثل أن كان به نوع من المرض، ويحصل [له] باستعمال الماء نوع آخر منه، أو كان به نوع منه، ويزداد باستعمال الماء ففيه قولان: أصحهما: أنه يتيمم ويصلي، ولا إعادة عليه؛ لعموم الآية. ولأنه يخاف من استعمال الماء ضرراً؛ فأشبه ما إذا خاف التلف. ولأن هذا القدر من الضرر أشق من طلب الماء من فرسخ، وقبوله بزيادة يسيرة على ثمن مثله.

وهذا ما نص عليه في القديم، و"الإملاء"، و"البويطي"، وعامة كتبه؛ كما قال البندنيجي. واقتصر القاضي الحسين والفوراني على نسبته إلى القديم، واتفقوا على أنه الأصح. وعن ابن سريج والإصطخري: القطع به؛ كما حكاه ابن الصباغ عن رواية الشيخ أبي حامد مؤولاً ما سنذكره عن نصه في "الأم" على ما إذا كان لا يحصل له من ذلك إلا مجرد الألم والمشقة. [ومقابله] أنه لا يتيمم، بل يستعمل الماء؛ لأنه وجد ماء طاهراً، لا يخاف من استعماله التلف؛ فلم يجز له التيمم. أصله: إذا كان مريضاً من وجع الضرس أو حمى. قال الماوردي: ولأن كل معنى يستباح به التيمم مشروط بخوف التلف: كالعطش، وهذا ما حكاه أبو الطيب وغيره عن نصه في "الأم" ونقله المزني، وبه قطع بعضهم، وقال: ما نقل عن القديم وغيره محمول على ما إذا خاف زيادة مخوفة، وهذا منه يقتضي [أني] الزيادة إن كانت مخوفة تيمم قولاً واحداً. وهو ما حكاه المسعودي والفوراني وغيرهما، وقال الرافعي: إنه الذي يقتضيه كلام العراقيين. والإمام حكى الطريقة الأولى والثانية فيما إذا كانت الزيادة مخوفة، ونسب ذلك إلى رواية العراقيين. والصحيح من الطرق فيما ذكرناه طريقة القولين؛ كما ذكره الشيخ، ولم يحك أبو الطيب والبندنيجي غيرهما، وهما جاريان فيما لو خاف بطء البرء أو شدة الوجع؛ كذا حكاه الإمام عن رواية العراقيين. قال: وعندي أنهم [فهموا من إبطاء] البرء وشدة الوجع المرض المخوف، وأجروا الكلام في الجميع مجرىً واحداً، والذي تحققته من الطرق: أنا إذا قلنا: إن توقع المرض المخوف يبيح التيمم ففي هذه الصورة وجهان، وقد أجرى القاضي أبو الطيب القولين فيما إذا خاف شيئاً كثيراً. وقال في

اليسير: إنه لا يبيح التيمم، قولاً واحداً. وفي "الشامل" و"البيان": أن أبا إسحاق قال: لا يختلف قول الشافعي في أنه ليس له أن يتيمم. وقال غيره: إن كان يسيراً كأثر الجدري والجراحة- فكما قال أبو إسحاق. وإن كان يشوه خلقه، أو كان يسود أكثر وجهه فيكون على القولين، وهذا [تفسير ما] أطلقه القاضي من الكثير واليسير. وفي "الحاوي": أن القولين فيه خرجهما أبو إسحاق من القولين في خوف بطء البرء، وأن ابن سريج والإصطخري قالا: يتيمم، قولاً واحداً، وإن جرى القولان في بطء البرء. والفرق: أن [ضرر هذا] متأبد، وضرر ذلك غير متأبد. ولو كان [يخاف] شللاً في عضو، قال الإمام: فالظاهر- عندي- القطع بإباحة التيمم؛ لأن شلله كتلفه، وهذا ما حكاه الرافعي. وفي "الحاوي": أن الطريقين السالفين عن أبي إسحاق وابن سريج والإصطخري محكيان فيه، وأن أبا الفياض قال: إنه يتيمم في الشلل ولا يتيمم في الشين؛ لأن في الشلل إبطال العضو، وفي الشين قبحه؛ فكان الشلل ضرراً، ولم يكن الشين ضرراً. وفي "النهاية": أن الشين إن كان في عضو باطن؛ فلا أثر له، وإن كان في عضو ظاهر، قال الرافعي: وهو الذي يبدو في المهنة غالباً، كالوجه واليدين- ففيه وجان، حكاهما العراقيون، وأشار إليهما شيخي. وأصحهما في "التتمة": إباحة التيمم. قال: وإن خاف من شدة البرد- أي: أمراً لو خافه مع المرض لصلى بالتيمم ولا إعادة عليه- تيمم وصلى؛ لأنه مضطر إلى ذلك. قال الأصحاب: وذلك إنما يتحقق إذا لم يمكنه تسخين الماء، ولا يقدر على غسل شيء من بدنه وتدثيره، ولو قدر على ذلك؛ لم يتيمم.

قال: وأعاد إن كان حاضراً؛ لأنه لو عدم الماء في الحضر؛ أعاد فلأن يعيد إذا لم يعدمه أولى. وعن أبي الحسين [بن] القطان: أنا إذا قلنا: لا يعيد إذا كان مسافراً، فهل يعيد إذا كان حاضراً؟ قولان، والصحيح الأول. وهذا تفريع على [أن] المتيمم؛ لعدم الماء في الحضر، يعيد الصلاة. أما إذا قلنا: لا يعيد، فكذا هذا. وكذلك قال في "الإبانة": تلزمه الإعادة في ظاهر المذهب. قال: وإن كان مسافراً، أعاد في أحد القولين؛ لعموم قوله- عليه السلام-: "لاَ يَقْبَلُ اللهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ"، ولأنه عذر نادر لا يتصل؛ فلا يسقط القضاء؛ كالحيض مع الصوم. قال: ولم يعد في الآخر؛ كما لو خشى ذلك لأجل المرض. ولأنه- عليه السلام- لم يأمر عمرو بن العاص بالإعادة حين أخبره أنه تيمم في السفر، وقد تقدم الخبر متستوفى، وهذا ما صححه في "التتمة". ومال القاضي أبو الطيب إلى تصحيح الأول، واعتذر عن الحديث بأن الإعادة ليست على الفور؛ فلذلك لم يأمر بها، مع أنه يحتمل أنه علم أن عمراً لا يخفى عليه ذلك. وقد استنبط الحكم من الآية. والقولان منصوصان في "البويطي". قال: وإن كان في بعض بدنه قرح يمنع من استعمال الماء- أي: وجوده في محله؛ للخوف من فوات المهجة، أو عضوٍ، أو الزيادة في المرض، أو نحوها على الصحيح: غسل الصحيح- أي: إذا كان لا يتأذى به موضع القرح- وتيمم عن الجريح؛ لما روى أبو داود بإسناده عن جابر قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا [حجر]؛

فشجه في رأسه، ثم احتلم، فقال لأصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء؛ فاغتسل؛ فمات، فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك؛ فقال: "قَتَلُوهُ، قَتَلَهُمُ اللهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ العِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ ويعصر، أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ". قال: في الوجه واليدين؛ لأنهما محل التيمم، كما سبق؛ وذكر الشيخ ذلك نفياً لتوهم من يتوهم: أنه يمر التراب على المحل المعجوز [عنه] ولتوهم من يقول: إن القرح إذا كان في [غير] الوجه واليدين، لا يتيمم؛ لأنه يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل في أعضاء التيمم. ومثل عبارة الشيخ عبارة الماوردي وابن الصباغ والفوراني. قال: وصلى، ولا إعادة عليه؛ لأنه- عليه السلام- علق الكفاية على ذلك، ولم يتعرض للإعادة، وهذا ما نص عليه الشافعي، رضي الله عنه. وعن أبي إسحاق والقاضي أبي حامد وابن أبي هريرة تخريج قول: أنه يقتصر على التيمم، من نصه على قولين، فيما إذا وجد [بعض] ما يكفيه من الماء، وأثبتوا فيما نحن فيه قولين؛ لأنه عجز في الموضعين عن استعمال كل الأصل. والصحيح الذي ذهب إليه الجمهور: القطع بالمنصوص، وفرقوا بأن العجز ثم عن بعض الأصل [والعجز عن بعض الأصل] إذا كان له بدل، كالعجز عن كله.

دليله: وجدان بعض الرقبة في الكفارة. والعجز هنا عجز عن بعض المحل الذي يستعمل [فيه]، وذلك لا يجعل المقدور عليه كالمعدوم. دليله: ما لو كان مقطوع بعض الأعضاء. ولا يقال: إن القطع يسقط فرضه بالكلية، وليس عنه بدل، وإذا اعتل العضو، وجب بدله، والجمع بين البدل والأصل مستنكر؛ لأنا نقول: ذلك ينتقض بالمسح على الخفين، وبالمسح على الجبائر مع الغسل؛ فإنه جمع في كل منهما بين المبدل والأصل. فإن قيل: هنا يأتي ببدل كان يأتي به لو عجز عن جميع الطهارة، وهو بدل عن الكل، ولا كذلك فيما ذكرتم. قيل: ليس هو في هذه الحالة بدلاً عن الكل؛ فإنما هو بدل عما لم يغسله، ويجوز ذلك عما يقع تارة بدلاً عن غسل جميع البدن، وتارة بدلاً عن الوضوء. أما إذا كان غسل الصحيح يتأذى به موضع القرح؛ بأن كان يخاف إن غسله [أن] يسيل الماء إلى القرح، فإن لم يمكنه أن يمسحه [بخرقة] رطبة ينغسل الموضع بها، ولا يسيل الماء، ولا قدر على من يغسله له من غير سيلان فإنه يكتفي بالتيمم، ويصلي، ويعيد إذا قدر؛ كالمريض إذا [لم يجد] من يحمل إليه الماء- يصلي على حسب حاله، ويعيد إذا وجد. فإن وجد شيئاً مما ذكرناه، وجب، حتى لو لم يجد من يغسله إلا بأجرة المثل، وجبت؛ لأنه قادر على الغسل بهذه الطريق، ولو كان لا يتأتى فعل ذلك منه ولا من غيره إلا بضرر يلحقه؛ كما إذا كان في وجهه جراحات، وهو جنب لا يمكن غسل رأسه إلا بوصول الماء إلى الجراحات؛ فقد سقط فرض غسل الرأس عنه، قاله أبو الطيب وغيره، ومن

قول الشيخ: "يمنع من استعمال الماء" يمكن أخذه، والله أعلم. تنبيه: القرح- بفتح القاف وضمها- هو الجرح، قاله النووي. وقال غيره: إنه كالجدري على البدن، وإن الجرح في الحكم كهون وعلى هذا ينطبق قول الماوردي: "إذا كان بعض بدنه جريحاً أو قريحاً"، وقول الشيخ: "ويتيمم عن الجريح"، يجوز الأمرين، فتأمله. وقد أفهم كلام الشيخ أموراً: أحدها: أنه لا فرق فيما ذكره بين أن يكون الجريح أقل أو أكثر، أو هما سواء، ولا خلاف في ذلك عندنا. الثاني: أنه لا يجب عليه مع غسل الصحيح والتيمم عن الجريح شيء آخر. وظاهر الخبر يقتضي إيجاب تعصيب الجرح؛ ليمسح عليه؛ فإنه علق الكفاية به مع ما ذكرناه. وقد صار الشيخ أبو محمد إلى القطع بإيجاب إلقاء لصوق [على] الجرح إذا

أمكن من غير ضرر يلحقه، لكنه وجهه بأنه لو فعله لوجب عليه المسح بدلاً عما تعذر من الغسل؛ فيجب السير إليه إذا كان ممكناً. [و] قال الإمام: إنه لم يره لأحد من الأصحاب، وإن في إيجاب ذلك بعداً؛ لأنه لا نظير له في الرخص، وليس للقياس مجال فيها، بل هو يقتضي عدم الوجوب؛ فإنه لا خلاف في أنه إذا أمكن مسح القرح من غير حائل، لا يجب. ثم رتب على هذا مسألة، وهي: أن من كان على طهارة كاملة، وقد أرهقه حدث، ووجد ما يكفيه من الماء لو مسح على الخف، ولا يكفيه لو غسل الرجلين- فهل يجب عليه لبس الخف قبل أن يحدث؟ قال: قياس ما صار إليه شيخي: وجوبه، وهو بعيد؛ لأن [المسح على] الخف رخصة؛ فلا يليق بها إيجاب لبس الخف. وقد يفرق بين ما نحن فيه وما ذكره شيخي، بأنه من مسالك الضرورات؛ فيجب الإتيان فيه بالممكن، ومن الممكن إلقاء خرقة يمسح عليها. قلت: وهذا التردد في وجوب لبس الخف يظهر أن يكون محله إذا أرهقه الحدث بعد دخول وقت [الصلاة، ولم يصلها، دون ما إذا كان في غير وقت] صلاة [أو في وقت صلاة] صلاها؛ فإن الوضوء حينئذ يكون لصلاة لم تجب بعد؛ فلا يجب، وهذا مما لا نزاع فيه. وإن قلنا: إن الوضوء يجب بالحدث، [وجب لبس الخف]، ويشهد له ما ذكرناه من أنه لو صب الماء قبل دخول وقت صلاة- لم يأثم، بخلاف ما بعده. وأما في وضع اللصوق، فيظهر أن يكون محله كما ذكرناه في لبس الخف، وقد أورد الرافعي على تصوير محل الخلاف فيه سؤالاً اعتقد صحته، واستضعف به قول

أبي محمد، فقال: اعلم أن ظاهر المذهب اشتراط الطهارة عند إلقاء الجبيرة واللصوق؛ ليجوز المسح عليهما، وإذا كان كذلك، فالشيخ أبو محمد يأمر به قبل الحدث؛ ليمسح عليه إذا تطهر بعد الحدث، كما في مسألة لبس الخف، وذلك يضعف قوله؛ لأن الشخص إذا كان متطهراً، وقد أدى فريضة الوقت؛ فليس عليه طهارة أخرى حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى؛ فلا يكلف بإعداد أسباب الطهارة التي لم تلزمه بعد؛ لما ذكرناه. وإن لم يكن قد أدى فريضة الوقت، وهو متمكن من أدائها في الحال؛ فلا يكلف بأسباب طهارة لم تجب. قلت: ويمكن أن يجاب عما ذكره بوجهين: أحدهما: أن يصور ذلك بما إذا كان متطهراً، وقد أرهقه الحدث بعد دخول الوقت، وقبل فعل الصلاة. وأحسن منه: الثاني، وهو أن الطهارة إنما هي شرط عند إلقاء الجبيرة واللصوق، على ظاهر المذهب في إسقاط الإعادة لا في جواز المسح على ذلك، كما صرح به هو من قبل وإذا كان كذلك لم يقدح ما قاله فيما صار إليه الشيخ أبو

محمد، والله أعلم. الأمر الثالث: [أنه] لا ترتيب في استعمال الماء والتراب في هذه الحالة، وهو مما ادعى القاضي الحسين أنه المذهب، سواء كان الواجب عليه الغسل أو الوضوء، وحكى معه وجهاً آخر: أنه يجب تقديم استعمال الماء؛ كما يجب فيما إذا [وجد] بعض ما يكفيه من الماء، وقلنا: يجب استعماله. لكن الذي جزم به العراقيون فيما إذا كان واجبه الغسل: أنه مخير في تقديم ما شاء من استعمال الماء والتيمم، وقالوا: وقد نص الشافعي على أنه يبدأ بالتيمم؛ وإنما قال ذلك؛ لأنه إذا تيمم [ثم اغتسل، أذهب الماء التراب، وإذا اغتسل ثم تيمم] صار على وجهه طين. وجزموا فيما إذا كان واجبه الوضوء: أنه يمشي على ترتيب الأعضاء، ولا ينتقل عن عضو حتى يكمل طهارته بغسل ما صح منه والتيمم عما هو جريح فيه، وهو مخير في كل عضو بين تقديم التيمم عنه أو غسل الصحيح منه؛ لأنه لا ترتيب في [كل عضو] [من أعضاء الوضوء] كما لا ترتيب في كل البدن بالنسبة إلى الغسل، وهذا ما صححه جمهور المراوزة في الحالين. وحكوا وجهاً آخر فيما إذا كان واجبه الوضوء: أنه يتخير في تقديم أيهما شاء، كما إذا كان واجبه الغسل. ووجهاً آخر فيما إذا كان واجبه الوضوء [أو الغسل: أنه] يجب تقديم استعمال الماء على التيمم مطلقاً، سواء كان الجريح آخر أعضاء الوضوء أو أولها. وأثر الخلاف يظهر في أمرين: أحدهما: إذا كان الواجب الوضوء، وكان في كل عضو من أعضائه جرح وباقي العضو صحيح؛ فيجب عليه-[على] ما عدا مذهب العراقيين- تيمم واحد، وعلى مذهب العراقيين لابد من ثلاث تيممات: واحد يتم به طهارة وجهه، وآخر يتم به طهارة يديه والثالث: يتم به طهارة رجليه.

ولا يحتاج إلى تيمم للرأس؛ لأن مسح الصيح منها يكفي. نعم، لو كان جميع الرأس جريحاً احتاج إلى تيمم رابع عنها. فإن قيل: ألا يكفيه عن تتمة طهارة الوجه وتتمة طهارة اليدين تيمم واحد إذا غسل الصحيح من الوجه أو لا؟ مع أنه لا يجب [عليه] تخلل غسل بين التيممين في هذه الحالة. قلنا-: لو جاز ذلك [أدى] إلى أن يسقط الفرض عن جزء من الوجه واليدين في حال واحد، وذلك مبطل للترتيب. فإن قيل: يلزمكم مثل هذا فيما إذا كان جميع أعضاء الوضوء جريحاً؛ فإنه يكفيه تيمم واحد، وهو يسقط الفرض عن جميعها في حال واحد، وذلك مبطل للترتيب. قلنا: في هذه الحالة سقط حكم الوضوء، وحصل الترتيب للتيمم، ولا كذلك فيما ذكرناه؛ فإن ترتيب الوضوء باق. الثاني: إذا غسل الصحيح وتيمم عن الجريح، ثم صلى فريضة، ثم أراد أن يصلي أخرى قبل أن يحدث- فلا بد من إعادة التيمم؛ لما ستعرفه، وهل يحتاج إلى إعادة غسل الصحيح؟ المذكور في "الحاوي" و"الإبانة": لا، وهو ما حكاه ابن الصباغ عن ابن الحداد. وقال الإمام في الوضوء: رأيت الأصحاب مجمعين عليه، وإن كان يتطرق إليه احتمال [في الوضوء]. وقد أبدى الاحتمال ابن الصباغ، فقال: إن كان الجرح في رجله فلا يحتاج إلى الإعادة، وإن كان في وجهه أو يديه، فينبغي عندي أن يعيد التيمم وما بعده من الغسل؛ ليحصل الترتيب. ولا يقال: إن بحضور فريضة أخرى لم يعد الحدث إلى موضع الجرح؛ بدليل استباحة النوافل؛ لأنا نقول: حكم الحدث عاد إليه في حكم الفريضة؛ ولهذا منعناه من أن يصليها، فإذا أراد استباحتها تيمم لها؛ فينوب هذا التيمم عن غسل العضو في

حق الفريضة، فيحتاج إلى إعادة ما بعده؛ ليحصل الترتيب. وما أبداه ابن الصباغ احتمالاً هو ما ذكره القاضي الحسين تفريعاً على ما ذكرناه، وصرح بأنه لا يعيد ما غسله قبل التيمم، [وأن من أصحابنا من قال: يلزمه غسل ما غسله قبل التيمم] وما بعده؛ تخريجاً من القول بأنه لا يجوز تفريق الوضوء. والمتولي قال: إنه خرجه من القول بأن مدة المسح إذا انقضت يستأنف الوضوء؛ لأن الطهارة في الصورتين كملت من جنسين: أصل، وبدل؛ فإذا بطل حكم البدل بطل حكم الأصل. قلت: وهذا هو الحق، وما ذكره ابن الصباغ يرد عليه شيء سلف في باب المسح على الخفين. وهذا الطريق على اختلاف أصله جار فيما إذا كان واجبه الغسل، فغسل الصحيح من بدنه، وتيمم عن الجريح منه، وصلى فرضاً، ثم أراد أن يصلي فرضاً آخر، ولا تأتي الطريقة الأولى؛ لأنه لا ترتيب فيه. والطريقة الأولى هي الصيحة؛ لأن تفريق الوضوء بالعذر جائز، وهو هاهنا بعذر، واستئناف الوضوء عند ظهور الرجل أو انقضاء مدة المسح؛ بناء على أن المسح على الخف يرفع الحدث والتيمم لا يرفع الحدث عندنا. واعلم: أن ما أبداه ابن الصباغ احتمالاً فيما ذكرناه، قد حكى مثله نقلاً فيما إذا غسل الصحيح، وتيمم عن الجريح، ثم برأ الجرح؛ فإنه قال: إن تيممه يبطل، ووجب [عليه] غسل ما برأ. وهل يجب إعادة ما غسله من قبل؟ نظر: فإن [كان] في الوضوء غسل ما بعد ذلك العضو، فأما ما قبله أو كان جنباً، ففي غسل بقية بدنه قولان كالقولين فيما إذا ظهرت الرجل. فكأن الفرق بين المسألتين أن التيمم هاهنا بطل بالنسبة إلى [الفرض والنفل، وفي المسألة قبلها لم يبطل] بالنسبة إلى النافلة.

وقياس من منع النافلة بعد الفريضة مطلقاً، أو إذا خرج وقت الفريضة- أن يسوي بين المسألتين، والله أعلم. وهذا كله تفريع على الوجه الصحيح الذي لم يذكر العراقيون غيره. أما إذا قلنا بخلافه، فلا يجب إعادة غسل ما بعد العضو الجريح [فقط]. نعم، يأتي الخلاف في استئناف جملة المغسول؛ بناء على ما ذكرناه. فإن قلت: إذا كان مذهب العراقيين والصحيح [فيما] عند المراوزة: ما ذكرتم، وهو أنه لا ينتقل عن عضو حتى يكمل طهارته، فما وجه عدول الشيخ عنه، كما قلتم: إن كلامه يفهمه؟ قلنا: كلام الشيخ لا ينافيه؛ لأنا نقول: مراده: أنه لا ترتيب في استعمال الماء والتراب في [أي] عضو خلا منه. الرابع: أن القرح لو كان في محل التيمم [لا يسقط التيمم] وبه صرح الأصحاب، وقالوا: إن لم يكن للجرح غور، مسح التراب عليه، وإن كان له غور وأفواه مفتحة مسح على أفواهه؛ لأنها ظاهرة، ولا ضرر عليه في التراب. نعم، لو خاف من استعمال التراب [ما يخاف من استعمال الماء] لم يجب. الخامس: أن محل ما ذكره من عدم الإعادة إذا لم يكن على قرحه دم يخاف من غسله، فإن كان، فقد ذكره في باب إزالة النجاسة. قال: ولا يصلي بتيمم واحد أكثر من فريضة واحدة؛ لقوله- تعالى-: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} إلى آخرها [المائدة: 6] فإن ظاهرها يقتضي إيجاب الوضوء أو التيمم عند كل صلاة [وقد] خرج منها الوضوء بفعله- عليه السلام- فإنه صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد، فسأله عمر عن ذلك؟ فقال: "عَمْداً صَنَعْتُ يَا عُمَرُ" وبقى التيمم على مقتضى الظاهر، ولا يمكن أن يقاس عليه؛ لأنه

طهارة ضرورة، والطهارة بالماء طهارة رفاهية. وقد روى الدارقطني عن ابن عباس أنه قال: "من السنة ألا يصلي بتيمم واحد إلا صلاة واحدة، ثم يحدث للثانية تيمماً [ثانياً] والصحابي إذا قال: "من السنة" فإنما يعني سنته عليه السلام. ثم مفهوم قوله- عليه السلام-: "أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلاَةُ تَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ" يدل على ما ذكرنا. وقد صار المزني إلى أنه يصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الفرائض والنوافل؛ [بناء] على أصله في أنه يرفع الحدث؛ كالطهارة بالماء، وقد دللنا على خلافه. ثم فائدة ما ذكره الشيخ [تعريفك أن] نية استباحة الصلاة- إذا اكتفى بها- ونية استباحة صلاة الفرض، لا تبيح أكثر من فريضة واحدة، وأنه لا يجوز أن ينوي

استباحة صلاتين فرض، قضاء أو أداء. نعم، لو نوى ذلك فهل يصح تيممه، ويستبيح به فرضاً واحداً منهما، أو لا يصح؟ فيه وجهان خرجهما الإمام من الخلاف فيما إذا نوى استباحة صلاة بعينها ونفى غيرها. والأصح في "الرافعي" في مسألتنا: الأول. وهذا إذا قلنا بالصحيح: أن تعيين الفريضة ليس شرطاً. قال: وما شاء من النوافل، أي: ويصلي بتيمم واحد ما شاء من النوافل، إذا نوى استباحة الصلاة أو استباحة صلاة النفل، وإن كان القياس يقتضي أن يتيمم لكل نافلة؛ لأن النفل كالفرض في اشتراط الطهارة، وهو مقتضى ظاهر الآية، إلا أن النافلة- وإن تعددت- في حكم الصلاة [الواحدة]؛ بدليل: أنه إذا أحرم بركعة له أن يجعلها مائة وبالعكس، ولأن في تكليفه لكل نافلة تيمماً مشقة تؤدي إلى تركها، والشرع بنى أمر النوافل على التخفيف؛ فجوز فيها ترك القيام مع القدرة عليه، وترك استقبال القبلة وفعلها على الراحلة في السفر؛ لتكثر ولا ينقطع الشخص عنها؛ فيصير الترك له عادة؛ ولهذا المعنى قيل بجواز فعلها بالتيمم وإن كان القياس خلافه؛ من جهة أن التيمم [طهارة] ضرورة، ولا ضرورة في النوافل. نعم، الحاجة إليها ماسة؛ فإنها جبران للنقص الحاصل في الفرائض- كما [صح] في الخبر- والحاجة العامة بمنزلة الضرورة الخاصة؛ ولذلك قال بعض الأئمة: لا نافلة إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ ليس له ذهول عن ربه فتقع فريضته كاملة بخلاف غيره. تنبيه: الفريضة: تطلق على الصلاة الواجبة بأصل الشرع عيناً: كالخمس، وركعتي الطواف إذا قلنا بوجوبهما، أو على الكفاية [كالصلاة على الجنازة]، أو بالتزام

المكلف كالمنذورة. وتطلق على الطواف الواجب بأصل الشرع، وبالنذر. والمتبادر إلى الذهن منها عند الإطلاق: القسم الأول، ولا شك في أنه مراد الشيخ، ولا نزاع فيه عند الأصحاب. وأما غيره، فهل هو مراد له [كذلك؟] يتوقف على معرفة ما قيل فيه، وقد قال الأصحاب في صلاة الجنازة: هل يجوز أن تصلي مع الفرض بتيمم واحد، ويصلي بتيمم واحد على جنازتين ولو دفعة واحدة، أو يحتاج [لكل] جنازة [تيمما؟] الذي نص عليه في "المختصر": الأول، ويعضده قوله في "البويطي": إنه لو تيمم لنافلة جاز أن يصلي على الجنازة، واختلفوا فيه: فحمله ابن أبي هريرة والإصطخري على ما إذا لم تتعين، وقالا: إذا تعينت لا يجوز؛ لأنها فرض في حقه فتشابه الصلاة المكتوبة، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد في "التعليق"، وصححه البندنيجي. وقال ابن سريج وأبو إسحاق بظاهره، [وأنه لا فرق بين أن تتعين أو لا. ووجهه- حالة عدم التعين- ظاهر]، وفي حالة التعين: أن جنسها ليس من فرائض الأعيان، ولأنه لم يجز عند التعين [ما يتحرى عند عدم التعين] لأنه

إذا دخل فيها وجبت، وتعين عليه إتمامها، وهذا ما اختاره القاضي أبو الطيب، وقال ابن الصباغ: إنه أشبه. وسلك المراوزة طريقاً آخر، فقالوا: نص هنا على ما ذكرنا، ونص على أنها لا تفعل قاعداً مع القدرة على القيام، ولا على الراحلة. ومن الأصحاب من نقل، وخرج، وأثبت في المسألتين قولين. ومنهم من حمل النصين على حالين، فقال: نصه في التيمم محمول على ما إذا لم تتعين، فأما إذا تعينت لا يجوز قولاً واحداً، [ونصه الآخر محمول على ما إذا تعينت أما إذا لم تتعين فيجوز قولاً واحداً]. ومنهم من أقر النصين على ظاهرهما، وفرق بأن القيام أظهر أركانها، وتركه مع القدرة عليه يمحو صورتها. ومن مجموع ذلك يحصل في المسألة ثلاثة أقوال، ثالثها: إن تعينت لا يجوز أن يصلي على جنازتين بتيمم واحد: لا قاعداً، ولا على الراحلة، وإن لم تتعين جاز. وقالوا في الصلاة المنذورة: الصحيح أنها كالمكتوبة، وبه جزم القاضي أبو الطيب. وحكى الماوردي وجهاً آخر: أنها كالنافلة، قال: والفرق بينها وبين ركعتي الطواف إذا قلنا بوجوبهما حيث لا يجوز جمعهما مع مكتوبة بتيمم واحد أن وجوبهما راتب بأصل الشرع، بخلاف النذر. والمراوزة بنوا الخلاف فيها على أن النذر يسلك به مسلك واجب الشرع أو جائزه، وقالوا في الطواف: لا يجوز أن يجمع بينه وبين مكتوبة بتيمم واحد ولا بين طوافين. ولم يقيد ابن الصباغ ذلك بالطواف الواجب؛ [بل] أطلق الكلام فيه. والماوردي والمراوزة خصوه بالطواف الواجب، فقالوا: هل يجوز أن يجمع بين الطواف وركعتيه؟ إن قلنا: [إنهما سنة]، فنعم على المذهب، وإن قلنا: إنهما واجبتان، فلا، على أصح الوجهين في "تعليق القاضي الحسين".

ووجه مقابله- وهو المذكور في "الحاوي" و"التتمة"-: أنهما كالجزء منه. وإذا عرفت ما ذكرناه عرفت أن صلاة الجنازة [مرادة]؛ إذ الشيخ تابع في هذا الكتاب طريق أبي حامد، وكذا الصلاة المنذورة؛ لأن الصحيح أنها [كالصلاة المكتوبة] وأما الطواف: فلولا قول الشيخ: "ولا يصلي بتيمم واحد أكثر من فريضة واحدة" لقلنا: إنه مراد؛ [إذ] المتبادر إلى الذهن عند إطلاق الصلاة غير الطواف، وإن أردنا إدراجه قلنا: الطواف يطلق عليه صلاة مجازاً؛ فيجوز أن يكون مراد الشيخ بلفظ "الصلاة" حقيقتها ومجازها، وهو جائز عند بعض الأصحاب. فإن قلت: كان الأحسن على هذا أن يقول: ولا يؤدي بتيمم واحد أكثر من فريضة واحدة. قلت: [لا؛ لأن] تمكين المرأة زوجها من الوطء فريضة، ويجوز لها بالتيمم الواحد تمكينه [من الوطء] مراراً، والصلاة، والله أعلم. فروع: إذا نسي صلاة من الخمس، ولم يعرف عينها، فإنه يصلي الخمس، وهل يكفيه تيمم واحد؛ نظراً إلى أن الأصل صلاة واحدة، أو لابد من خمسة تيممات؛ لأن كلاً

من الخمس واجبة؟ فيه وجهان: الذي [نص] عليه أكثر الأصحاب كما قال الإمام وابن الصباغ وصححه الأول، وهما جاريان فيما لو نسي صلاتين من الخمس. فعلى الأول: يكفيه تيممان يصلي بكل [واحد] منهما الخمس، أو يصلي بالأول [الصبح والظهر والعصر والمغرب، وبالثاني: الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ إذ بذلك يخرج عن العهدة، فلو عكس فصلى بالأول] الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وبالثاني: [الصبح و] الظهر [والعصر] والعشاء- لم يخرج عن العهدة لجواز أن يكون الفائت: الظهر والعشاء؛ فيكون الظهر قد تأدى بالأول فلا يؤدي [به] العشاء؛ فطريقه أن يصلي العشاء مرة أخرى. وعلى الثاني: يلزمه خمسة تيممات. ولو نسي صلاتين من صلوات يومين: فإن كانتا مختلفتين؛ فعلى الوجه الأول يلزمه تيممان، كما ذكرنا. وعلى الثاني: يلزمه عشرة تيممات.

[وإن كانت الصلاتان من جنس واحد: فعلى الأول: يلزمه عشرة تيممات] يصلي بكل واحد صلاة يوم. وعلى الثاين: يأتي بعشرة تيممات. ولو شك هل هما متفقتان أو مختلفتان؟ بنى الأمر على اختلافهما؛ لأنه أحوط. وإذا صلى منفرداً بالتيمم، ثم أراد أن يصلي في جماعة: هل يحتاج إلى تيمم آخر؟ قال القاضي الحسين: إن قلنا: إن الفريضة الأولى، [فلا] على المذهب. [وإن قلنا: كلاهما فرض، فنعم]. وإن قلنا: يتقبل الله أيتهما شاء، فوجهان؛ كما لو نسي صلاة من الخمس [ولم يعرف عينها] وأراد أن يعيدها بالتيمم. قال الإمام: والاكتفاء في هذه بتيمم واحد أولى؛ فإنه لا يجب الإقدام على الصلاة الثانية وإن قلنا: إنها فرض، ومن نسي صلاة من الخمس يتحتم عليه الإقدام على الكل.

قال: ومن تيمم للفرض صلى به النفل؛ [لأن النفل] تابع للفرض ومكمل له، فإذا نوى استباحة المتبوع، تضمنت نيته استباحة التابع، وهذا مما لا خلاف فيه عند العراقيين والصيدلاني. نعم، هل يشمل ذلك [النفل] قبل الفرض وبعده؛ لأن التبعية تشملهما، أو يختص بالذي بعده؛ لأنه اللائق بالتبع؟ فيه قولان: الذي نص عليه في "الأم": الأول، وهو الأصح. والمذكور في البويطي: الثاني، وهو مقيس على الجمع في وقت الظهر. وفرق القائلون بالأول بينهما، بأن التبعية ثم في الفعل، وهنا في الاستباحة لا في الفعل؛ إذ لو كانت في الفعل لوجب أن تكون عقب الفرائض خاصة. وحكى الشيخ أبو محمد قولاً آخر: أنه لا يتنفل [بعده] أيضاً. قال الرافعي: و [هذا] هو اختيار القفال. وقال الإمام: إنه بعيد لا يتخرج إلا على الوجه المزيف في اشتراط التعيين. نعم، إذا قلنا بما نص عليه في "الأم" وهو المفهوم من كلام الشيخ، فخرج وقت الفريضة، هل يتنفل؟ فيه وجهان حكاهما العراقيون، وما ذكرناه على عمومه لا يستثنى [منه] إلا صورة واحدة على رأي أبي الطيب، و [هي] ما إذا أجنب وتيمم، وصلى فريضة، ثم أحدث الحدث الأصغر، ثم وجد من الماء ما يكفيه لوضوئه، ولا يكفيه للغسل، وقلنا: إذا وجد بعض ما يكفيه لا يجب عليه استعماله- فإن القاضي قال: يتيمم للفرض، ولا يصلي النفل؛ لأنه يقدر على الوضوء له، وقد تقدم، والله أعلم. قال: ومن تيمم للنفل لم يصل به الفرض؛ لأن نيته لم تتضمنه؛ فإنه غير تابع لما نواه، وإذا لم ينو ذلك ولا تضمنته نيته لم يستبحه؛ لقوله- عليه السلام-: "وَإِنَّمَا [لِكُلِّ] امْرِئٍ مَا نَوَى" وبالقياس على ما لو لم ينو. وفي المسألة قول آخر: أنه يصلي به الفرض، وقد سلف في أول الباب، والصحيح:

الأول، ولم يتعرض الشيخ- تفريعاً عليه- إلى أنه يصلي به النفل؛ اكتفاء بقوله: "وما شاء من النوافل". والمراوزة قالوا: إذا قلنا به، فهل يستبيح به ما نواه من النفل؟ فيه قولان، ووجه المنع أنه تابع فلا يفرد بتيمم. قال القاضي الحسين: والخلاف أخذ من قوله في "المختصر": "وينوي بالتيمم الفريضة": فمن أصحابنا من قال: أراد به صلاته الفرض، أي: ولا يجوز أن ينوي به النفل؛ لأنه لا ضرورة فيه؛ كما قاله في "التتمة". ومنهم من قال: أراد به فرض التيمم. ويجوز التيمم للنافلة؛ لأن التيمم للنافلة فرض كالفريضة، والخلاف مشبه بالخلاف في جواز الاستئجار على حج التطوع. فإن قيل: قد حكيتم قولاً: أنه إذا تيمم للفرض لا يصلي [به النفل]، وقولا: أنه لا يجوز أن يتيمم للنفل، وإذا جمعت بين القولين جاء منهما قول: أنه لا يصلي النفل بالتيمم أصلاً. قلت: وقد [حكاه في "التتمة" وجهاً، و] نسبه الإمام إلى إشارة بعض المصنفين، وزيفه، لكن المشهور خلافه. وعلى هذا فالجواب من وجهين: أحدهما: أن نقول: حيث قال الشافعي: إنه [إذا تيمم للفرض، لا يصلي به النفل- قال بأنه يجوز أن يتيمم للنفل. وحيث قال: لا يجوز التيمم للنفل- قال: إنه] إذا تيمم للفرض صلى به النفل؛ فلم يجتمع القولان. ومثل هذا الجواب يأتي في قسم الصدقات عند الكلام في المؤلفة. لكن لك أن تقول: الصحيح أنه إذا تيمم للفرض صلى به النفل، وأنه يجوز التيمم للنفل، وذلك يمنع الجواب.

والثاني: أن له طريقاً في صلاة النفل بالتيمم بأن ينوي استباحة صلاة الفرض والنفل؛ فإنه لا خلاف في أنه يستبيحهما، ويقدم ما شاء منهما، كما قاله الإمام والقاضي أبو الطيب وغيرهما، ووجهه ظاهر؛ فإنه قد يغتفر الشيء تبعاً، ولا يغتفر مقصوداً. فرع: إذا تيمم الصبي بعد دخول الوقت لصلاة الوقت، ثم بلغ- قال مجلي: قال أصحابنا: لا يجوز أن يصلي به؛ لأنها لم تكن واجبة عليه؛ فصار بمثابة من تيمم للفرض قبل دخول الوقت، وهذا ما حكاه الماوردي في باب نية الوضوء. قال أبو بكر الشاشي: فيه نظر، ولم يبينه. قلت: وكأنه- والله أعلم-[يشير إلى] أنه ينبغي أن يصلي به إذا قلنا: إنه لو صلى في أول الوقت، وبلغ في آخره يجزئه عن الفرض. وقد يفرق بينهما بأن الصلاة هي المقصودة، فإذا شرع فيها اتصل فعله بالمقصود؛ [فلا يبطله، والتيمم مقصود لغيره، فإذا تغير الحال قبل اتصاله بالمقصود]، [لم يمض] فيه. والمذكور في "الكافي" في باب ما يوجب الغسل: أنه لا يبطل ببلوغه؛ كالوضوء. واعلم: أنه حيث يستبيح صلاة النفل يجوز له مس المصحف، وحمله، وقراءة القرآن وإن كان جنباً، والجلوس في المسجد، وكذا الحائض تستبيح ذلك، وتمكن الزوج من وطئها، اللهم إلا أن يكون تيممها للفرض وقد صلته؛ فإن في حلها للزوج بدون تيمم له وجهين ذكرناهما في الحيض، ويجوز أن يكون أصلهما: أنها هل تتنفل بعد الفرض، أم لا؛ وحينئذ فلا حاجة إلى استثناء؟ وإذا تيمم الشخص لاستباحة شيء مما ذكرناه، قال في "التتمة": فهو كما لو تيمم للنفل؛ فيجري الخلاف في استباحة النفل والفرض به، والمذكور في "الحاوي" و"الشامل"، [وعليه جرى الرافعي:] أنه إذا تيمم لشيء من ذلك استباحه، ولا

يستبيح به الفرض، وهل يستبيح به [صلاة] النفل؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه مثل صلاة النفل. والثاني: لا؛ لأن النفل في باب الطهارة آكد؛ فإنه لم يختلف [فيها]، ولا كذلك ما ذكرناه. وقد حكى الرافعي وجهاً: أن الحائض إذا نوت بتيممها استباحة الوطء لا تستبيحه؛ كما تقدم مثله في الغسل، وليس [بشيء]. ثم إذا أبحنا للمتيمم شيئاً مما ذكرناه، لا يحتاج عند تكراره إلى تجديد تيمم، بل التيمم في حقه بالنسبة إلى ذلك كالغسل والوضوء: لا ينقضه إلا ما ينقضهما، وأما بالنسبة إلى الفرض فلا بد منه عند كل فريضة، صرح به الأصحاب. قال: ومن لم يجد ماء ولا تراباً، أي: لكونه محبوساً في موضع ليس فيه [تراب ولا ماء] أو على [جبل] هما معدومان فيه، ونحو ذلك- صلى الفريضة وحدها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ". وقد روى مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أناساً؛ لطلب قلادة أضلتها عائشة، فحضرت الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك [له] فنزلت آية التيمم، ولم ينكر عليهم، ولو كان لا يجوز لأنكره؛ إذ هو وقت الحاجة إليه؛ لأن الطهارة [شرط] في صحة الصلاة،

والعجز عنه لا يسقط وجوب فعلها؛ كالعجز عن ستر العورة، وإزالة النجاسة عن البدن، واستقبال القبلة. نعم، لو كان جنباً- أو حائضاً طهرت- فهل يقرأ [الفاتحة]؟ فيه وجهان، [المذكور منهما في "التهذيب": أنه لا يقرأ، وفي "الشامل": أنه يقرأ ما لا بد منه]، وهو ما يقتضيه كلام الشيخ. ووجهه: أن الصلاة آكد من القراءة؛ لأنه يشترط [فيها ما لا يشترط] في القراءة وقد أبيح له فعلها. وعلى الأول يأتي بالذكر [كالعاجز]. والخلاف جار- كما قال القاضي الحسين وصاحب "الكافي" –فيمن صلى في الحضر بالتيمم، وقلنا: تجب عليه الإعادة. قال في "الكافي": وهل يجوز له مس المصحف بعد التيمم؟ فيه الوجهان. وأما من فقد الماء والتراب: لا يجوز [له] التنفل، ولا مس المصحف، ولا حمله، ولا قراءة غير الفاتحة بلا خلاف. وإن كان امرأة: لا يباح وطؤها. قال: وأعاد إذا قدر على أحدهما، استدراكاً للمصلحة بقدر الإمكان، لأن عدمهما عذر نادر غير متصل؛ فلم يسقط القضاء؛ كالحيض في حق الصائمة. ثم ظاهر كلام الشيخ ومن وافقه في العبارة- وهو صاحب "الكافي"-: أنه يعيد عند قدرته على التراب، سواء كانت صلاته به يسقط فرضها بالتيمم أو لا، في الوقت أو بعده؛ كما أن هذا حكمه إذا قدر على الماء. وفي إعادته إذا قدر على التراب قبل فوات الوقت- والصلاة لا تسقط به- نظر يقوى في حالة قدرته عليه بعد خروج الوقت. ولا جرم خص الفوراني والماوردي وجوب الإعادة بحالة قدرته على الماء، والإمام خصه بحالة قدرته على طهور، وغيرهم لم يتعرض لحالة وجوب الإعادة.

وقد حكي عن الشافعي قول [آخر]: أنه لا إعادة عليه مطلقاً؛ لما ذكرناه من الخبر الذي [رواه] مسلم؛ [فإنه لم يأمرهم] بالإعادة، ولو كانت واجبة لأمر بها، وهذا ما اختاره المزني وطرده في كل [من] أمر بصلاة في الوقت على خلل فيها، ويقال: إنه قول الشافعي. وحكي عنه قول آخر: أنه لا يصلي في الوقت، ويصلي إذا قدر على الماء والتراب، واختلفوا في مراده بقوله: "لا يصلي": فقيل: إنه على وجه التحريم كمذهب أبي حنيفة، وقيل: على وجه الوجوب، وإلا فالمستحب له أن يصلي، وهذا ما حكاه البندنيجي عن القديم، وكذا الشيخ أبو حامد، وهو المشهور، وعبارته [فيه]: "يعجبني فعل الصلاة. والذي نص عليه في عامة كتبه، ولم يحك أبو الطيب غيره، وهو الصحيح- ما ذكره الشيخ؛ لما ذكرناه، والخبر الذي استدل به للثاني لا حجة فيه؛ لأن الإعادة لا تجب على الفور؛ ولذلك لم يأمر بها مع أنه يحتمل أنه- عليه السلام- علم أنهم عالمون بها؛ [كذا] قاله الأصحاب.

وعندي أنه- عليه السلام- إنما لم يأمر بالإعادة؛ لأن ذلك كان قبل نزول آية التيمم، وعدم الماء في السفر ليس بنادر؛ فصلاتهم- إذ ذاك- بغير طهارة نشأت عن عذر عام؛ كصلاتهم بعد ذلك بالتيمم في السفر، وذلك لا يقتضي إعادة، والله أعلم. ثم على الصحيح [فرعان:]. أحدهما: إذا أحدث في الأولى بطلت صلاته، قاله في "الكافي". الثاني: إذا صلى في الوقت، وأعاد؛ فأيهما الفرض؟ فيه أربعة أقوال حكاها الإمام، وقال: إنها مطردة في كل من أقام صلاة في الوقت على اختلالها مع عدم الإمكان، ثم أمرناه بالقضاء فقضاها. والماوردي حكاها أوجهاً عن رواية ابن أبي هريرة: أحدها: أن الفرض: الأولى؛ وإنما أمر بالثانية تلافياً لما اختل من شروط الأولى؛ فإنه لا يتأتى استدراكه وحده. والثاني: [أن] الفرض الثانية، وهو ما حكاه أبو الطيب عن نصه في "الأم"، واختاره في "التهذيب"، ولم يحك البندنيجي غيره، ونفى ما سواه؛ وإنما أمر بالأولى لحرمة الوقت؛ كما نقول فيمن نسي النية في رمضان، يجب عليه الإمساك؛ تشبهاً بالصائمين، واستبعده الإمام. والثالث: كلاهما فرض، وهو المنصوص في "الإملاء" والأصح. والرابع: أن الفرض أحدهما لا بعينه، خرجه أبو إسحاق من قول الشافعي في القديم فيمن صلى الظهر في بيته بعذر، ثم سعى إلى الجمعة، فصلاها يحتسب الله له بأيهما شاء. قال: وإذا وضع الكسير- أي: الشخص الكبير –الجبائر- أي: على موضع الكسر وما لابد منه من الصحيح- على غير طهر- أي: بأن وضعها، وهو محدث الحدث الأصغر، أو الأكبر، أو هما، وخاف من نزعها التلف- مسح عليها، أي: بالماء؛ لما روى عن علي- كرم الله وجهه – أنه انكسرت إحدى زنديه؛ فسأل

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يمسح على الجبائر. رواه ابن ماجه، وحديث المشجوج يدل عليه أيضاً. والمسح عليها واجب بلا خلاف بين أصحابنا، كما قال الإمام وغيره، وفيه شيءُ سنذكره. ولا يجب عليه أن يضعها على الكسر إذا كان ممكناً؛ ليمسح عليها على الأصح، خلافاً للشيخ أبي محمد كما سلف. أما إذا كان غير ممكن: فلا يجب بلا خلاف. والتلف المشار إليه: تلف النفس أو العضو، وخوف الزيادة في المرض، ونحوهما مما ذكرناه يلحق بهما على أصح القولين، وسكت الشيخ عنه؛ لفهمه مما تقدم مع ما ذكره هنا. وسكوت الشيخ عن التصريح بغسل الصحيح في هذه الحالة؛ استغناء بما سلف منه؛ لأن فيه دليلاً عليه، وغيره صرح به. وفي "الرافعي" حكاية طريقة أخرى حاكية لقولين في وجوبه، كالقولين فيمن وجد بعض ما يكفيه: هل يستعمله، أم يقتصر على التيمم؟ أحدهما: ما ذكرناه. والثاني: أنه يقتصر على التيمم. وهذه الطريقة مفرعة على أن التيمم لابد منه في مسألتنا، كما هو الصحيح.

والقول بعدم وجوب غسل الصحيح على هذه الطريقة، يجري في المسح على الجبيرة من طريق الأولى. وقد حكى الرافعي عن رواية أبي عبد الله الحناطي: أنه لا يمسح، ويكفيه التيمم. وعن القاضي أبي الطيب أنه قال: عندي يكفيه التيمم، وغسل الصحيح. والصحيح ما ذكره الشيخ، وهو المشهور في الطرق. قال: وأعاد الصلاة؛ لأن ذلك عذر نادر لا يتصل غالباً؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، وبه قطع بعض الأصحاب. وبعضهم قال بطرد القولين الآتيين فيه، حكاهما البندنيجي وغيره. وفي "النهاية" و"الإبانة": أن الذي نص عليه في الجديد في هذه الحالة ما ذكره الشيخ، وأنه نص في القديم فيها على قولين. قال: وإن وضعها على طهر مسح عليها، وصلى؛ لما ذكرناه. وفي الإعادة قولان: وجه اللزوم ما تقدم، ووجه عدمه وهو الصحيح عند بعضهم: القياس على من به سلس البول والاستحاضة والجريح؛ فإنهم لا يعيدون؛ وكذا الماسح على الخف. قال الغزالي: ولعل هذا أولى. والقولان في هذه الحالة- كما قال الإمام والفوراني- في الجديد، وفي القديم: القطع بأنه لا إعادة. وإذا جمعت ما ذكرناه في الأولى وهذه واختصرته- قلت: فيهما ثلاثة أقوال: ثالثها: إن وضعها على غير طهر أعاد، وإن وضعها على طهر لا يعيد، وهكذا حكاه الإمام والمتولي أيضاً: وصحح الثالث. وقد قيل: أصل الخلاف في الإعادة قول الشافعي: إن صح حديث علي قلت به، في أنه لا يجب عليه الإعادة؛ لأنه- عليه السلام- لم يأمره بذلك. واختلف الأصحاب: فمنهم من قال: إن صح حديث على لم تجب الإعادة، قولاً واحداً، وإن لم يصح، ففيه قولان، ووجههما ما سلف.

ومنهم من قال: لا يصح حديث علي؛ لأن راويه عمرو بن خالد الواسطي، وهو كذاب وضاع؛ فالمسألة على قولين. ومنهم من قال: هي على قولين ولو صح حديث على، حكاه الفوراني وغيره، وليس بشيء. فرع: التطهر قبل وضع الجبائر على الكسر هل يجب؟ قال في "البسيط": ذلك يبني على أنه إذا وضعها على غير طهر يعيد أم لا؟ فإن قلنا: يعيد، كان واجباً، وإلا كان مستحباً، والإمام حكاه عن شيخه. قلت: وبناء عدم وجوبه على القول بعدم الإعادة ظاهر. وأما بناء وجوبه على القول بالإعادة: [ففيه نظر] إذا قلنا: إنه لو وضعها على طهر يعيد أيضاً، ولا يخفي ذلك على متأمل. ثم ما سلف من سؤال الرافعي على قول [الشيخ] أبي محمد بوجوب إلقاء اللصوق عند إمكانه- يأتي هنا؛ لأنه حالة إرادة وضع الجبائر: إما أن يكون في وقت صلاة لم يؤدها، أو في وقت صلاة أداها، أو لا في وقت صلاة أصلاً. فإن كان لا في وقت صلاة، أو في وقت صلاة أداها، فهو لا يجب عليه [الآن] التطهر لصلاة أخرى. وإن كان في وقت صلاة لم يؤدها، فالتطهر واجب عليه- بلا خلاف- لأجلها، ولا معنى للاختلاف. ولا جرم جزم القاضي أبو الطيب والماوردي والمتولي بوجوب التطهر حالة الوضع مع حكاية الخلاف في القضاء. ومن ذلك يؤخذ أن المسألة مصورة بما إذا كان الخوف في نزع الجبائر، لا في غسل العضو، أو لم يكن عليه جبائر، وبه صرح الإمام والرافعي وابن الصباغ عند الكلام في وجوب التيمم.

قال: وهل يضم إلى المسح التيمم، أي: في الصورة الأولى والثانية؟ فيه قولان، أي: منصوصان في "البويطي"، كما قال البندنيجي وغيره. والفوراني والإمام والغزالي حكوهما وجهين: وجه المنع: أنه مسح على حائل دون العضو، فاقتصر عليه كالمسح على الخف، وهذا ما نص عليه في القديم، [ونقله] [المزني] إلى "المختصر"، وهو الأظهر في "تلخيص الروياني". ووجه الوجوب: أن هذه طهارة [ضرورة]؛ فاعتبر الإتيان فيها بأقصى الممكن، ولا كذلك المسح على الخف؛ فإنه رخصة لا يليق بها التشديد. وبعضهم استدل له بالخبر الذي ورد في المشجوج. ولا حجة فيه؛ لأنه ثم لا يتمكن من استعمال الماء على الجرح، وهنا هو متمكن منه، لكن المانع فعله: وهو وضع [الجبائر، وهذا ما نص عليه في "الأم"، وهو الصحيح في "النهاية" و"الرافعي"، والأظهر في "الكافي"، والقولان جاريان فيما إذا وضع اللصوق على الجرح؛ صرح به البندنيجي والإمام وغيرهما، حيث قالوا: إن ما ذكرناه في] الجبائر يجري فيما إذا ألقى اللصوق على الجرح حرفاً حرفاً. وصاحب "الكافي" خص ذلك بما إذا كان لا يخاف من استعمال الماء على الجرح ضرراً، لكنه يخاف من نزع اللصوق، وهو حسن؛ لأنه نظير مسألتنا. ومن المراوزة من نفي الخلاف في مسألة الجبائر، وقال: النصان محمولان على حالين: فحيث قال: "يتمم"، [أراد] [إذا كان بصفة لو رفع الجبيرة لا يمكنه استعمال الماء؛ فصار كمن كان بعض أعضائه صحيحاً وبعضه جريحاً. وحيث قال: "لا يتيمم"] أراد به إذا كان بصفة لو رفع الجبيرة يمكنه غسل ما تحتها؛ كذا قاله الرافعي والقاضي الحسين. وعبارة غيره في [حكاية] هذه الطريقة: أن نصه على وجوب التيمم، محمول

على ما إذا كان تحت الجبائر جرح؛ لأنه لابد من موضع صحيح كان يمكنه أن يغسله فالتيمم لأجله. ونصه على عدم وجوبه محمول على ما إذا كان ظاهر البدن صحيحاً. والمشهور طريقة القولين. وإذا قلنا بالصحيح منهما- وهو وجوب التيمم- فعليه فروع: أحدها: هل يجب تقديم استعمال الماء في الغسل والمسح عليه، أم لا؟ فيه [من] التفصيل [والخلاف ما سلف في الجريح]. [والثاني: يجب [إعادة التيمم] عند كل صلاة، وهذا يؤخذ من كلام الشيخ: "وفي إعادة المسح والغسل ما سلف في الجريح"]؛ صرح به القاضي الحسين وغيره. الثالث: لو كانت الجبائر على أعضاء التيمم أو بعضها، فهل [يمسح] على ذلك بالتراب؟ فيه وجهان: أصحهما في "الوسيط"، و"الرافعي": لا؛ لأن التراب ضعيف لا أثر له على ساتر، وهذا ما حكاه في "الحاوي" و"الكافي". والمذكور في "الشامل" و"التتمة" مقابله، قالا: وتجب الإعادة في هذه الصورة قولاً واحداً؛ لأن البدل لا يكون على بدل، وأعجب من صاحب "الكافي"؛ كيف جزم بوجوب إمرار التراب على اللصوق وبعدمه هاهنا مع عسر الفرق؟ تنبيه: الجبائر: جمع جبيرة، وهي الخشبة أو القصبة التي تعد للوضع على الكسر، ويشد عليها؛ لينجبر الكسر. وكلام الشيخ يقتضي أمرين: أحدهما: أنه يجب استيعاب الجبائر بالمسح، وهو أحد الوجهين؛ لأنه مسح أتى به بدلاً عن الغسل للضرورة؛ فوجب استيعاب الممسوح [به] كالوجه واليدين في التيمم؛ وهذا إليه ميل [كلام] أبي الطيب، والأصح في "الكافي" و"الرافعي".

ومقابله: أن الواجب ما ينطلق [عليه] اسم المسح: كمسح الخف، وهو المختار في "المرشد". ومن قال بالأول احترز عن ذلك بقوله: "للضرورة"، وفرق بأمر آخر: وهو أنه لا ضرر عليه في الاستيعاب هنا، بخلاف الخف؛ فإن الاستيعاب يبليه وهو ضرر. الثاني: أنه لا يتأقت المسح على الجبائر، وهو ما ذكره العراقيون والماوردي والقاضي الحسين والصيدلاني والمتولي وصاحب "الكافي". ومن المراوزة من حكى وجهاً آخر: أنه يتأقت في حق المقيم بيوم وليلة، والمسافر [بثلاثة أيام ولياليهن] كالمسح على الخفين. وأصل الخلاف في ذلك، وفي استيعاب [المسح على الجبيرة]، ووجوب التيمم: أن المسح على الجبيرة أخذ شبهاً من أصلين: أحدهما: المسح على الخفين؛ لأن ما تحت الجبيرة صحيح يمكن غسله. والثاني: الجرح إذا خاف من غسله التلف؛ لأنه يخاف هنا من الغسلح بسبب النزع- التلف. فبعض الأصحاب يغلب شبه المسح على الخفين؛ فيقول بمقتضاه، وبعضهم يغلب شبه الجرح ويطرد حكمه. وقد استشكل المتأخرون تصوير محل الخلاف في تأقيت المسح؛ من حيث إنه [إن] كان يخاف من نزعها عند انتهاء مدة مسح الخف ما يجوز المسح عليها ابتداء- فلا يجب، بلا خلاف. وإن كان لا يخشى منه ضرراً، وجب نزعها وغسل المحل، بلا خلاف. وعليه نص في "الأم"، كما قال البندنيجي. والإمام صوره بما [إذا] كان يتأتى النزع عقيب كل يوم وليلة، وهذا لا يشفى الغليل؛ لأنه الحالة الثانية. وبعضهم قال: محل الخلاف إذا كان لا يتأتى النزع بسبب الخوف، وفائدة التأقيت: أنه يعيد ما صلاه بعد المدة.

والذي يظهر لي: أن يكون [محل الخلاف] إذا كان في النزع خوف، وفائدة التأقيت: أنه بعد المدة [لا] يصلي ما لم يجدد المسح؛ تنزيلاً للمسح بعد المدة منزلة التيمم بعد فعل الفريضة. وإن صح هذا كان في احتياجه إلى تجديد الغسل ما سلف. [فرع:] إذا توهم الجريح أو الكسير الاندمال، فكشف الجبائر أو اللصوق، فوجده قد برئ- بطلت طهارة ما تحت ذلك وما بعده في الوضوء. وفي بطلان طهارة ما قبله وبطلان باقي جسده في الغسل- خلاف سبق. ولو وجده لم يبرأ، لم تبطل طهارته. نعم، لو كان قد تيمم، ففي بطلان تيممه في هذه الحالة وجهان: أحدهما: نعم؛ كما لو توهم وجود ماء [فطلبه] فلم يجده. والثاني: لا، وهو المذكور في "تعليق القاضي الحسين" و"الكافي"، والفرق: أن

طلب البرء غير واجب عليه؛ إذ الأصل بقاء المرض وطلب الماء واجب [عليه]؛ إذ الأصل وجوده. ولو كان الجرح أو الكسر في عضوين: كاليدين [والرجلين]، أو اليد والرجل، فكشف عن أحدهما، فوجده قد برئ دون الآخر- بطلت طهارة ما برئ، ولا يجب عليه نزع ما لم يبرأ، بخلاف ما إذا ظهرت إحدى الرجلين من الخف؛ [فإنه] يجب نزع الآخر؛ لأن لبسهما قبل المسح شرط فيه، ولا كذلك هنا؛ قاله في "التتمة" وغيره. فرع آخر: قال في "الكافي": إذا خاف من افتصد من إفاضة الماء على محل الفصد فهو كالجريح، ولو كان محل فصده مشدوداً بالعصابة، وخاف من حلها- فكالجبيرة. والله أعلم [بالصواب].

باب الحيض

باب الحيض هذا الباب مترجم بالحيض، وأودع فيه الاستحاضة والنفاس؛ ليتميز الحيض عنهما. وأصل الحيض: السيلان، تقول العرب: حاضت الشجرة: إذا خرج صمغها وسال [منها]، وحاض السيل: إذا فاض السيل، وسال من مجتمع الأمطار. وله ستة أسماء: الحيض، والعراك، والضحك، والإكبار، والإعصار، والطمث. وفي الحديث: أنه- عليه السلام- قال لعائشة "أَنَفسْتِ؟ "، ومقتضاه: أن يسمى نفاساً أيضاً، وبه صرح الإمام؛ لأجل الخبر. وهو دم مجتمع في قعر الرحم، ترخيه في سن البلوغ، يدفع على سبيل الصحة من [غير سبب] ولادة، وتعتاده في أوقات معلومة. قال الجاحظ في كتاب "الحيوان": الذي يحيض من الحيوان أربعة: المرأة، والضبع، والأرنب، والخفاش. قيل: أول من ابتلي به من النساء أمنا حواء: لما كسرت شجرة الحنطة ودمت الشجرة، قال الله- تعالى-: "وَعِزَّتِي وَجَلاَلي لَأُدمِيَنَّكِ كَمَا أَدْميتِ هَذِهِ الشَّجَرَةَ"

فابتليت به حواء وجميع بنات آدم إلى قيام الساعة. والاستحاضة: سيلان الدم في غير أوقاته- عن مرض وفساد- من عرف فمه في أدنى الرحم، يسمى: العاذل بكسر الذال المعجمة. والنفاس سنذكر في الباب تفسيره واشتقاقه، إن شاء الله تعالى. وما عدا هذه الدماء إذا خرج من الفرج، فهو دم فساد، كالدم الذي يخرج من النساء قبل سن البلوغ. قال: أقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين؛ كذا دل عليه الاستقراء. قال الشافعي: أعجل من سمعت من النساء تحيض: نساء "تهامة" تحيض لتسع سنين. فظاهر كلام الشافعي يقتضي أن الحيض يقع بعد استكمال التسع في العاشرة؛ لأنه الحقيقة. وكلام الشيخ يقتضي أنها إذا رأت الدم في التسع كان حيضاً؛ لأنه جعل أقل السن وهو التسع ظرفاً للحيض، ولا قائل بأن كل التسع ظرف. [نعم] ذهب [بعض] أصحابنا إلى أن التاسعة ظرف [له] فإذا رأت الدم فيها عد حيضها، واختاره في "المرشد"، ولعله مراد الشيخ وإن كان لفظه ينبئ عنه. وبعضهم ذهب إلى أن ما بعد ستة أشهر منها ظرف له، وهو ما حكاه الإمام في كتاب اللعان عن كثير من الأصحاب. والأصح في "التهذيب" و"الرافعي" وغيرهما ما قلنا: أن ظاهر كلام الشافعي- رضي الله عنه- يقتضيه. والكلام في السن الذي تبلغ فيه بالاحتلام إذا رأيناه بلوغاً في حقها كالكلام في سن الحيض، والصبي ملحق- عند الشيخ أبي حامد- بالصبية في ذلك.

وغيره فرق: فجعل سن البلوغ في حقه عشر سنين، وقد تقدم الكلام فيه، في باب الحجر. ثم التسع في حق الصبية تقريب أو تحديد؟ فيه [وجهان:]. فإن قلنا بأنه تقريب وهو ما رجحه الرافعي والروياني فلا يؤثر نقصان اليوم واليومين؛ كما قاله الماوردي فإذا رأت الدم قبله بيوم أو يومين كان حيضاً. والمتولي [قال:] إن قلنا: إنه تقريب ففائدته: أنها إذا رأته قبله بزمان لا يسع طهراً وحيضاً- يكون حيضاً، دون ما إذا كان يسعهما، وهذا ما أورده الرافعي. وفي "البحر" حكاية الأمرين. وإن قلنا: إنه تحديد، قال في "الحاوي" يتغير الحكم بنقصان يوم. وحكي أن الشافعي- رضي الله عنه- قال: إذا رأت الدم قبل استكمال تسع سنين، فهو دم فساد، ولا يقال له: حيض ولا استحاضة؛ لأن الاستحاضة لا تكون إلا على أثر حيض؛ ولأجل هذا أطلق الجمهور: أنها إذا رأت الدم قبل التسع، فهو دم فساد. وقال في "البحر" و"التتمة": إنا إذا قلنا إنها تحديد، فلو رأت قبلها يوماً وليلة دماً، وبعدها على الاتصال أقل من يوم وليلة فالكل دم فساد، وإن رأت قبلها أقل من يوم وليلة وبعدها يوماً وليلة فالكل حيض، وإن رأت قبلها وبعدها دماً مجموعه يوم وليلة،

ولا يبلغ واحد منهما أقل الحيض، فهل هو حيض أو استحاضة؟ فيه وجهان. وقياس قول الشافعي- رضي الله عنه- أن يقال: هل هو حيض أو دم فساد؟ فيه وجهان. ثم ظاهر كلام الشيخ: أن المرأة إذا رأت الدم فيما ذكره من السن يكون حيضاً سواء في ذلك من هي في البلاد الحارة: كتهامة، أو في البلاد الباردة: كالصين، وهو ما عليه الجمهور. وعن الشيخ أبي محمد حكاية وجهين، فيما إذا رأت ذلك في البلاد الباردة، التي لا يعهد في مثلها أمثال ذلك. قال الإمام: وهذا له التفات على أن سن الإياس في الحيض يعتبر فيه بعض نساء العالم، أو نساء القطر والناحية، أو نساء العشيرة؟ قال: وأقل الحيض يوم وليلة، ودليله- أيضاً- الاستقراء. وروي عن علي أنه قال: أقل الحيض يوم [وليلة] وأكثره خمسة عشر يوماً، وما زاد على ذلك فهو استحاضة، كذا حكاه عنه القاضي الحسين والماوردي. وعن أبي عبد الله الزبيري من أصحابنا أنه قال: في زماننا من تحيض يوماً وليلة، وفيهن من تحيض خمسة عشر يوماً، وهذا ما نص عليه الشافعي في عامة كتبه. وقال في كتاب الحيض من "الأم": وأقله يوم؛ كذا حكاه أبو الطيب. والماوردي قال: إنه نص في "الأم" و"المختصر" على أن أقله يوم وليلة، ونص في كتاب العدد على أن أقله يوم. فمن الأصحاب من جمع بين النقلين، وأثبت في المسألة قولين، وهي طريقة بعض المتقدمين من الأصحاب، كذا حكاه عنه أبو إسحاق المروزي. قال البندنيجي: وهي فاسدة؛ لأن هذا إنما يثبت بالعادة، ولا يصح أن يقع عرف

العادة على وجهين. ومنهم من قال: إنها على قول واحد: أن أقله يوم، وحيث قال الشافعي: "يوم وليلة" كان لم يثبت عنده وجوده يوماً فقط. وقد روي أنه قال: "رأيت امرأة، ثبت لي عنها: أنها لم تزل تحيض يوماً لا تزيد عليه". وقال عطاء: "رأيت من النساء من تحيض يوماً، ومن تحيض خمسة عشر يوماً. وقال الأوزاعي: "كانت عندنا امرأة تحيض بالغداة، وتطهر بالعشي"؛ وهذا ما اختاره في "المرشد"، وقال في "الشامل": إنه قال به أكثر الأصحاب. ومنهم من قال: إنها على قول واحد، وهو ما ذكره الشيخ، وحيث قال: "أقله يوم" [أراد] بليلته؛ لأن العرب كثيراً ما تفعل ذلك، وهذا ما صححه البندنيجي والماوردي والرافعي والقاضي [الحسين] وعليه تفاريع الحيض، وهذه الطريقة

تعزى إلى المزني وابن سريج. وقد حكى المرعشي في ترتيب الأحكام عن الشافعي نصاً لا تخريجاً: أن أقله دفعة؛ كما في النفاس وهو غريب. قال: وأكثره خمسة عشر يوماً، دليله الاستقراء. قال الشافعي: رأيت نساء أثبت لي عنهن: أنهن لم يزلن يحضن خمسة عشر يوماً، ورأيت امرأة اثبت لي عنها أنها تحيض ثلاثة عشر يوماً. وروي عن شريك قال: رأيت امرأة تحيض خمسة عشر [يوماً] حيضاً [صحيحاً] مستقيماً. وما ذكرناه عن [عَلِيَّ] وعطاء يدل عليه. والقاضي أبو الطيب استدل له بما روي أنه- عليه السلام- قال: "مَا رَأَيْتُ نَاقِصَاتِ عَقْل ودينٍ أَغْلَبَ لِعُقُول ذَوِي الأَلْبَابِ مِنْكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ" قيل: وما نقصان دينهن وعقلهن يا رسول الله؟ قال: "أَمَّا نُقْصَانُ عَقْلِهِنَّ: فَإِنَّ شَهَادَةَ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ بِشَهَادَة رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا نُقْصَانُ دِينِهِنَّ: فَإنَّ إِحْدَاهُنَّ تَمْكُثُ شَطْرَ دَهْرِهَا- ورُوِي شَطْر عُمُرِهَا- لاَ تُصَلي" وعبر بذلك عن زمن الحيض.

ثم قال: فإن قيل: هذا حجة على أن أكثره عشرة أيام؛ لأن الغالب من الأعمار ستون سنة، والغالب أن المرأة تمكث خمس عشرة سنة حتى تبلغ؛ فيبقى خمس وأربعون سنة، يمكن أن تكون منها في خمس عشرة سنة حائضاً وثلاثين طهراً، وحينئذ تكون قد مكثت نصف عمرها لا تصلي. قلنا: النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد التفرقة بينها وبين الرجل في ترك الصلاة، والمدة التي قبل البلوغ لا فرق بينها وبين الرجل فيها؛ فلا يجوز أن يحمل الخبر إلا على ما ذكرناه. وبالجملة فهذا الخبر لم يذكره أهل الحديث على هذا النحو، وذكروه على [وجه لا] حجة فيه للفريقين؛ فتعين أن يكون دليلنا ما ذكرناه من الاستقراء. فإن قيل: إذا كان مستندكم في التقدير لأقله وأكثره [الاستقراء] فينبغي إذا

وجد في عصر من الأعصار بسبب تغير الطباع أقل من ذلك أو أكثر أن تتبعوه. قلت: قد قال به جماعة من المحققين، منهم الأستاذ أبو إسحاق [الإسفراييني] وأبو إسحاق المروزي كما قال في "التتمة" والقاضي الحسين في جواب له، وعليه يدل ما سنذكره من نص الشافعي من بعد. ومنهم من منع النقصان عما ذكرنا والزيادة عليه، ووجهه بأن الإجماع منعقد على أنها لو كانت تحيض يوماً وتطهر [يوماً] على الاستمرار، لا تجعل كل نقاء طهراً، ولا كل دم حيضاً. وبعضهم وجهه بأن بحث الأولين أوفى من بحثنا، واحتمال كونه [دم] فساد أقرب من [انحراف العادة] المستمرة. وعبارة الإمام: أن المعتبر الوجود في اعتدال الأحوال، والحيض ليس من الأمراض والأعراض التي تميل البنية عن الاعتدال، والأمور الصحيحة إذا استمر عليها عصور، ثم بحث الباحثون عن الوجود فيها، فإن فرض نقصان أو زيادة، فهو ميل عن الاعتدال؛ فيحمل على الإعلال لا على الحيض، وهذا ما اختاره الإمام، وعليه تفاريع مسائل الحيض. ومنهم من قال: إن كان ما رأته قد قال بعض العلماء به- جاز اعتماده؛ لأنه قد بان صحة قوله بالوجود، والشافعي لم يقل به؛ لأنه لم يثبت عنده مستنده من خبر أو استقراء، أو لم يبلغه وإن لم يوافق حيضها قول قائل من الأئمة، فلا التفات إليه؛ لأنه على خلاف الإجماع.

قال: وغالبه ست أو سبع؛ لقوله- عليه السلام- لحمنة بنت جحش: "تحيضي ستة أيام أو سبعة، في علم الله، ثم اغتسلي، فإذا رأيت قد طهرت [واستنقأت]، فصلي أربعاً وعشرين ليلة [أو ثلاثاً وعشرين ليلة] وأيامهن، وصومي؛ فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي كل شهر كما تحيض النساء، وكما يطهرن، لميقات حيضهن وطهرهن" رواه أبو داود، وكذا الترمذي، وقال:

إنه حسن صحيح. قال: وأقل طهر فاصل بين الحيضتين خمسة عشر يوماً؛ لأن الشرع قد استقر نصاً بأن الشهر في مقابلة قرء جامع لحيض وطهر، فإنه تعالى جعل ثلاثة أشهر على المؤيسة في مقابلة ثلاثة أقراء في العدة، ولا يخلو ذلك: إما لأن الشهر يجمع أكثر [الحيض] وأقل الطهر، أو أكثر الطهر وأقل الحيض، أو أقل الحيض وأقل الطهر، أو أكثر الحيض وأكثر الطهر، ولا سبيل إلى ما عدا الأول؛ فتعين. وإنما قلنا: إنه لا سبيل إلى ذلك: أما الأخير؛ فلأن أكثر الطهر غير محدود، وأما الذي يليه؛ فلأنه يكون أقل من شهر، وأما الذي يليهما؛ فلأنه يكون أكثر من شهر، وإذا تعين الأول ثبت به أن أقل الطهر خمسة عشر يوماً؛ إذ قد دللنا على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً؛ هكذا ذكره الماوردي والجمهور [على] أن مستنده الاستقراء. وقال في "المهذب": لا أعلم فيه خلافاً ولو صح ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال [في] النساء: "نَاقِصَات عَقْلٍ وَدِينٍ .. " إلى آخره لكان دليلاً على ذلك، لكني لم أجده بهذا اللفظ إلا في كتب الفقه. وما قاله من أنه لا يعلم فيه خلافاً لا اعتراض عليه فيه وإن كان الماوردي حكى عن مالك أن أقله عشرة، وعن أحمد [أنه] لا حد لأقله، وحكى ابن الصباغ وغيره عن يحيى بن أكثم أنه قال: أقله تسعة عشر يوماً؛ لأنه لم ينف الخلاف مطلقاً، بل نفاه في علمه.

وشبه ما قاله يحيى أنه يرى أن أكثر الحيض عشرة [أيام] والشهر جامع للحيض والطهر غالباً، لكنه قد يكون تسعة وعشرين [يوماً] فجعل منها عشرة أيام حيضاً وتسعة عشر طهراً. [فإن قيل]: لو دل الاستقراء على أن أقل الطهر دون خمسة عشر يوماً، هل يجري فيه الخلاف السابق؟ قلت: الظاهر من كلام الأصحاب: إجراؤه؛ إذ لا فرق، لكن نص الشافعي على اتباع الوجود؛ فإن الماوردي قال في كتاب العدد: قال الشافعي: لو علمنا طهر امرأة أقل من خمسة عشر يوماً- جعلنا القول فيه قولها، وذلك بأحد وجهين: إما أن يتكرر طهر المرأة [مراراً متوالية أقلها] ثلاث مرات من غير مرض، فإن تفرق ولم يتوال- لم تصر عادة. [أو] لو وجد مرة واحدة من جماعة نساء أقلهن ثلاثة، وهل يراعى أن يكون

ذلك في فصل واحد من عام واحد؟ فيه وجهان. ولا يقبل ذلك إلا ممن تجوز شهادتهن، ولا يقبل خبر المعتدة معهن في حق نفسها، وفي قبوله في حق غيرها وجهان. تنبيه: احترز الشيخ بقوله: "فاصل بين الحيضتين" عن طهر المبتدأ والآيسة، والمسألة الآتية؛ فإن الطهر عبارة عن النقاء عن الدم. واحترز به- أيضاً- عما إذا رأت الحامل الدم، وقلنا: إنه حيض، ولم يكن بينه وبين النفاس أقل الطهر، بل دونه، فإنه لا يقدح في كون الدم حيضاً؛ على الأصح. قال: ولا حد لأكثره؛ لأن من النساء من لا تحيض، ومنهن من تحيض في عمرها مرة ومنهن من تحيض في السنة مرة، وسكت الشيخ عن غالب الطهر؛ اكتفاء بما ذكره من غالب الحيض؛ فإن الشهر منقسم عادة إلى حيض وطهر، فإذا كان غالب الحيض ستاً أو سبعاً، كان غالب الطهر أربعاً وعشرين أو ثلاثاً [وعشرين] وعليه دل خبر حمنة. قال: وإن رأت المرأة يوماً طهراً، ويوماً دماً ففيه قولان: أحدهما: تضم الطهر إلى الطهر، والدم إلى الدم؛ لأنه [ليس] جعل زمن الطهر حيضاً بأولى من عكسه، ولا صائر إليه ولا إلى أن لكل منهما حكم المنفرد؛ فتعين ضم كل منهما إلى مثله؛ وهذا ما نص عليه الشافعي في آخر كتاب الحيض من "الأم"؛ كما قال أبو الطيب. وقال القاضي الحسين: إنه غير منصوص عليه، ولكنه أخذه من مناظرة جرت بين الشافعي ومحمد بن الحسن في الأقراء، هل هي الأطهار أو الحيض؟ فقال محمد للشافعي: ما تقول فيما إذا رأت يوماً طهراً ويوماً دماً وهكذا؟ قال: أجعل زمان النقاء طهراً، وزمان الدماء حيضاً، فقال له محمد: يلزمك أن تحكم بانقضاء العدة بمضي ستة أيام، فقال له: لا أحكم بذلك؛ لأن الله إنما حكم بانقضاء العدة بمضي ثلاثة [أطهار] كوامل؛ وهذا طهر واحد مفرق. والثاني: لا تضم، بل الجمع حيض؛ لأن الله- تعالى- أجرى عادته بأن الدم

لا يسيل في زمن الحيض دائماً، بل يسيل تارة ويمسك أخرى، وحالة إمساكه يسمى: الفترات، وحكم الحيض منسحب عليها اتفاقاً؛ فوجب أن يكون ما زاد عليها كهي في ذلك، ولأن الناس أجمعوا على أن أقل الطهر خمسة عشر يوماً، فلو قلنا: يوم النقاء طهر، أدى إلى أن يكون يوماً، وَلانْقَضَتِ العدةُ بثلاثة أيام، ولا قائل به؛ هكذا قاله [القاضي] أبو الطيب، ونسب هذا القول إلى نصه في عدة مواضع، وصححه، وكذا الجمهور صححوه. وفي "الشامل" أن بعض أصحابنا قطع به، وقال: ما ذكره الشافعي مع محمد فإنما جرى في مناظرة، وقد ينصر الإنسان مذهب غيره فيها. والمشهور الطريقة الأولى، وبالأول قال أبو إسحاق المروزي، وصححه الشيخ أبو حامد والبندنيجي وطائفة من العراقيين؛ كما قال الرافعي، ولا جرم اختاره في "المرشد". وفرق هؤلاء بين ما نحن فيه والفترات بأنها في زمن القراب إذا أدخلت قطنة في الفرج خرجت حمراء وذلك يدل على بقاء الحيض، ومحل ما نحن فيه إذا أدخلت القطنة خرجت بيضاء، وذلك يدل على انعدامه، والإلزامان مندفعان بما قال الشافعي

[لمحمد]، والله أعلم. والقولان جاريان، كما قال ابن سريج فيما إذا رأت يومين دماً ويومين نقاء، أو ثلاثة وثلاثة أو خمسة وخمسة، أو يوماً دماً وثلاثة عشر يوماً نقاء ثم يوماً دماً، أو ثلاثة عشر يوماً دماً ويوماً طهراً ويوماً دماً، ونحو ذلك قل زمن الدم وكثر زمن النقاء أو بالعكس. تنبيه: إطلاق ذكر الدم يعرفك أنه لا فرق [فيه] بين الأسود والأحمر والأصفر، وهو كذلك. نعم، لو رأت يوماً دماً أسود أو أحمر، ويوماً دماً أصفر، قال ابن الصباغ: فهو بمنزلة ما لو رأت الدم والنقاء، وهو ما حكاه البندنيجي عن ابن سريج [والإصطخري]، وصرح [بأنه حكى] القولين، وكذا قال فيما إذا رأت يوماً دماً ويوماً كدرة. قال ابن الصباغ: لكني ذكرت فيما قبل أن الصفرة في أيام الإمكان حيض عند أكثر الأصحاب [أي]: وقضيته: أن يكون الجميع حيضاً بلا خلاف إذا قلنا به، وبه صرح الرافعي. قال البندنيجي: لو رأت يوماً دماً أسود ويوماً دماً أحمر، كان الجميع حيضاً؛ لأن الأحمر إلى الأسود أقرب وبالحيض أشبه، بخلاف الصفرة والكدرة؛ لأنها إلى النقاء أقرب، قال: وهذا بخلاف المستحاضة إذا رأت يوماً وليلة أسود، ثم عشرة أحمر، ثم أسود أربعة، ثم أحمر، واتصل فإن ما بعد الأربعة استحاضة، وما قبله من الأسودين حيض دون الأحمر. نعم، إذا قلنا بالسحب جعلناه حيضاً، وحكاية القول [الأول] في المسألة تعرفك أنها مصورة بما إذا تكرر الدم والطهر؛ إذ لا ضم إلا عند التعدد، على أن قوله: رأت يوماً كذا ويوماً كذا، صيغة مستعملة في التكرار، وحكاية القول الثاني مع ما سلف من أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوماً تدل على أن المسألة مصورة بما إذا كان مجموع زمن الطهر والدم لا يتجاوز مدة أكثر الحيض، سواء اقتصر عليها أو

نقص عنها؛ وبذلك صرح الأصحاب. وقوله: رأت يوماً طهراً ويوماً دماً، يعرفك أن الطهر المسحوب عليه حكم الحيض على القول الثاني هو المُحْتَوَش بدمين داخلين في المدة؛ لأن ظاهر [كلامه أن] المسألة مصورة بما إذا كان آخر ما رأته في مدة الحيض هو الدم، وجعله أول ما رأته من الطهر يوماً يقتضي تقدم دم عليه، وإلا لكان الطهر المتقدم أكثر من يوم ضرورة، وإذا كان كذلك صح ما ذكرناه، وقد صرح غيره بأنه شرط بالاتفاق في السحب. فإن قلت [قد يوجد في بعض النسخ، بل أكثرها وإن رأت يوماً دماً ويوماً طهراً، وهذا ينفي ما ذكره من الجواب. قلت]: لا بل منه يؤخذ الجواب؛ لأن آخر الأمرين لو كان الطهر، لم يكن الطهر يوماً، بل خمسة عشر يوماً أو أكثر منها؛ لأنه ينضم إلى ما بعده. وحيث اقتصر على جعله يوماً، دل على أن بعده دماً واحتوش ما سحبنا عليه [حكم الحيض]. وتمثيله باليوم يغني عن التصريح باشتراط ألا ينقص مجموع الدماء في المدة المذكورة عن أقل الحيض وهو يوم وليلة؛ كما ذكره في تصوير المسألة، وكما صرح غيره بأنه الصحيح، ومصرح بأنه لا يشترط على كلا القولين أن يكون الدم الأول أقل الحيض يوم وليلة، وكذا كل دم بعده، وهو أصح الوجهين. وهذه الإشارات إنما يفهمها المنتهي، ويحتاج المبتدئ إلى بسطها؛ فنقول: ما ذكرناه من الطريقين في المسالة محله بالاتفاق فيما إذا رأت يوماً وليلة دماً، ويوماً وليلة نقاء، أو [يوماً دماً و] يوماً نقاء، وهكذا، ما لم يتجاوز الدم الأخير خمسة عشر يوماً، فلو رأت نصف يوم دماً، ونصف يوم نقاء، وهكذا إلى تمام خمسة عشر يوماً، واستمر الطهر- فالذي ذهب إليه أبو العباس بن سريج وأبو إسحاق

وعامة أصحابنا- كما قال أبو الطيب- إجراء الخلاف فيها، بل قال الرافعي: إن أبا عبد الله الحناطي حكى طريقة قاطعة بأن هذه الصورة ونحوها محل القولين. أما إذا كان كل دم رأته قدر أقل الحيض، فالمسألة على قول واحد، وهو الثاني. والضابط عند هؤلاء في جريان القولين ألا ينقص مجموع ما تراه من الدم في المدة عن أقل الحيض بألا يكون ما انقطع الدم فيه فترة قل زمانه أو كثر، والفرق بين وبين الفترة ما سلف؛ كما نص عليه الشافعي في "الأم"، وبه قال الشيخ أبو حامد وأبو الطيب والمصنف. والإمام قال: لم ير فيه ضبط، ومنتهى الذكر فيه أن ما يعتاد تخلله بين الدفع فهو من الفترات وما يزيد على المعتاد [و] يكون أكثر منه هو محل الخلاف. ثم قال: وأنا أقول: الفرق بينهما أن الحيض مجتمع في الرحم، ثم الرحم يقطره شيئاً فشيئاً، وأنه ليس الرحم متنكساً في الخلقة حتى يسيل ما فيه دفعة، فالفترة ما بين ظهور دفعة إلى أن تنتهي أخرى من الرحم إلى المنفذ، والنقاء الذي فيه الخلاف يزيد على ذلك، والطهر الذي يجري عليه حكم الحيض على قول هو المحتوش بدمين: فعلى القول الأول يكون لها في المسألة التي فرضناها من الخمسة عشر يوماً سبعة أيام ونصف حيضاً ومثلها طهراً. وعلى القول الثاني يكون لها أربعة عشر يوماً ونصف حيضاً ونصف يوم طهراً وهو الأخير؛ لأنه غير محتوش بدمين. وحكى العراقيون عن بعض الأصحاب أنه لا يجري في هذه الصورة ونحوها من مسألة الكتاب وغيرها القول الأول، ويتعين الثاني، واختلفوا في سببه: فمنهم من قال: لأن شرط جريانه أن يكون أول ما تراه من الدم لا ينقص عن أقل الحيض، وقد نقص. ومنهم من يقول: لأن شرط جريانه ألا ينقص أول الدم عن أقل الحيض وكذا آخره؛ ليكون ما بينهما تبعاً لهما، ولم يوجد ذلك. قال ابن الصباغ: وهما فاسدان؛ لأنا إن قلنا: لا تضم، فالنقاء الذي بعد الدم حيض يكمل به [من غيره] وإن قلنا: تضم، فالدم كله حيض واحد، وهو زائد على أقل الحيض.

نعم، لو كان لا يبلغ مجموع الدماء أقل الحيض لم يجز القول الأول ولا الثاني، والدم دم فساد، وذلك يتصور فيما إذا رأت ساعة دماً وخمسة عشر يوماً إلا ساعة نقاء، ثم ساعة دماً ونحو ذلك. وأبعد بعض الأصحاب، فقال: لا يشترط في جريانهما ألا ينقص مجموع الدماء عن أقل الحيض، لكن إذا قلنا بالضم كان الدم جميعه دم فساد، وإن قلنا بمقابله كان زمن الدماء والنقاء حيضاً وهذا ينطبق عليه ما حكاه المراوزة عن الأنماطي، وقال الرافعي: إنه أظهر الطريقتين. والصحيح خلافه. وحكى القاضي الحسين والإمام غيرهما: أن محل جريان القولين ما إذا كانت ترى يوماً وليلة دماً، ومثل ذلك أو دونه نقاء. أما إذا رأت نصف يوم دماً ونصف يوم نقاء، فقد قال أبو بكر المحمودي: إنهما يجريان أيضاً. والضابط عنده في إجرائهما ما أسفلناه عن جمهور العراقيين. وقال غيره: إنه لا يجري القول الثاني، واختلفوا في سببه: فقيل: لأن الشرط ألا ينقص أول دم تراه عن أقل الحيض، فلو كان أول دم أقل الحيض، ورأت بعده نصف يوم دماً ونصف يوم نقاء إلى آخر المدة جرى القولان. وقيل: لأن الشرط في جريانه أن يكون أول دم أقل الحيض، وكذا آخر دم، ولم يوجد ذلك. نعم، لو وجد وكان الدم الموجود فيما بين الأول والآخر أقل من أقل الحيض جرى القولان. ولأن الشرط يوجد فيما تراه من الدم أقل الحيض متوالياً: إما أول دم، أو آخر دم، أو فيما بينهما، ولم يوجد، فلو رأت أقل الحيض متصلاً جرى القولان. وحيث قلنا: لا يجري القول الثاني، فما بلغ أقل الحيض متواصلاً، كان حيضاً، وما لم يبلغه، كان دم فساد.

التفريع: إن قلنا بالقول الألو في مسألة الكتاب ونحوها- قال ابن سريج: فيجب عليها عند انقطاع الدم الأول: الغسل؛ لأن الدم إذا عاد كان ذلك انتقالاً من بعض الحيض إلى بعض الطهر؛ فوجب الاغتسال؛ كما إذا انتقلت من جميع الحيض إلى بعض الطهر. قال ابن الصباغ: وعندي أنه لا يجب؛ لأن الدم الأول لم يحكم بأنه يحض، ولا يعلم معاودته، والظاهر عدم عوده؛ وهذا قد حكاه الإمام وجهاً [آخر] في المسألة وقربهما من القولين في أن الناسية هل تؤمر بالاحتياط أم لا؟ كما سنذكره. ثم قال ابن الصباغ: وإنما يتصور ما قاله ابن سريج في اليوم الثاني وما بعده. قلت: إن عنى بما قاله أن الغسل يجب في اليوم الثاني وما بعده فصحيح؛ إذ باليوم الثاني وما بعده يمضي أقل الحيض، والأصل بقاء الانقطاع؛ فيجب الغسل. وإن عنى أن ما علل به ابن سريج يتصور في اليوم الثاني وما بعده فغير مسلم. نعم، يتصور في الشهر الثاني وما بعده إن قلنا: إن العادة تثبت بمرة واحدة؛ كما هو الصحيح. أما إذا قلنا: لا تثبت إلا بمرتين، فلا يتصور إلا في الشهر الثالث وما بعده. وإن قلنا بالوجه البعيد: إن العادة لا تثبت إلا بثلاث مرات؛ فلا يتصور إلا في الشهر الرابع وما بعده. على أن بعض المراوزة قال إن التقطع لا يثبت عادة، وإن تكرر مراراً، وعلى هذا لا يستقيم ما علل به ابن سريج أصلاً. وإن قلنا بالقول الثاني فلا يجب عليها الاغتسال لانقطاع الدم الأول بلا خلاف؛ لأنه إن عاد كان النقاء حيضاً، وإن لم يعد كان الدم دم فساد؛ لأنه لم يبلغ أقل الحيض. وأما الدم الثاني والثالث وما بعده إذا انقطع: فإن كان لا يبلغ بما مضى من الدم والنقاء أقل الحيض فهو كالأول، وإن كان يبلغ [أقل الحيض] فإنها تغتسل عند كل انقطاع قولاً واحداً؛ لأنه يحتمل أن يكون انقطاعاً مبتدأ وقد وجد قبله أقل الحيض.

ولو كانت المرأة ترى يوماً وليلة دماً، وتطهر كذلك أو أقل منه وجب عليها عند انقطاع الدم الأول وما بعده الغسل؛ لاحتمال أن يكون انقطاعاً مبتدأ، وللزوج الوطء في حال النقاء بعد الغسل إن أوجبناه، وقبله إن لم نوجبه، ويجب عليها الصلاة وفعل الصوم عند انقطاع [الدم] الأول، فإذا طرأ الثاني وقلنا بالقول الثاني تبينا أن الصوم لم يصح، وأن الصلاة لم تجب، وأن الوطء لم يكن مباحاً أو حراماً أو محظوراً؛ على اختلاف عبارات الأصحاب، والكل متفقون على أنه لا إثم فيه؛ وهكذا حكم التلفيق إذا لم يزد الدم على مدة أكثر الحيض، فإن زاد فسنذكره. قال: وفي الدم الذي تراه الحامل قولان: أصحهما: أنه حيض؛ لقوله- عليه السلام- لفاطمة بنت أبي حبيش: "إِنَّ لدَمِ الحَيْضِ عَلاَمَات وَأَمَارَاتٍ: إِنَّهُ الأَسْود المُحتدِمُ، فَإِذَا أَقْبلَتِ الحيضةُ فدعى الصلاة" فوجب اعتبار هذه الصفة في جميع الأحوال، وتعليق الحكم عليها إذا وجدت. وقد روي أن رجلين تداعيا ولداً، وتنازعا فيه إلى عمر فدعا له القافة، فألحقوه بهما، فدعا بعجائز قريش فسألهن عنه؟ فقلن: إنها حملت به من الأول، وحاضت على الحمل فاستحشف الولد، فلما تزوج بها الثاني انتعش بمائه وأخذ الشبه منه، فقال عمر: الله أكبر، وألحق الولد بالأول. وكانت هذه قضية شهدها المهاجرون والأنصار، وسمعوا ما جرى فأقروا عليه ولم ينكروه، فدل على إجماعهم [عليه]، ولأنه عارض لا يمنع دم الاستحاضة، فلا يمنع دم الحيض كالرضاع، وتحقيق الجامع: أن الغالب في كل منهما منع الحيض؛ وعلى هذا لا يحرم الطلاق فيه ولا

تنقضي به [عدة صاحب الحمل، وهل تنقضي] به عدة غيره؟ فيه خلاف ستعرفه في العدد. والثاني: أنه استحاضة؛ لقوله- تعالى-: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} [الرعد: 8] فأخبر أن الحيض يغيض مع الحمل؛ فدل على أن ما ظهر من الدم ليس بحيض، وقوله – عليه السلام-: "أَلاَ لاَ توطَا حَامِل حَتَّى تَضَعَ وَلاَ حَائِلُ حَتَّى تَحيضَ"، ووجه الدلالة منه: أنه جعل براءة الرحم بكل واحد منهما؛ فدل

على تنافي اجتماعهما، ولأنها لا تحبل؛ فلا تحيض كالصغيرة، وهذا هو القديم، [كما حكاه الماوردي في باب اجتماع العدتين]. وقد أفهم كلام الشيخ: أنه لا فرق على الأول بين أن ترى الدم متصلاً بالولادة في

[عادة أدوارها] أو تراه [قريب الولادة] بحيث لا يبقى بينه وبينها أقل الطهر، أو يبقى، وهو أصح الوجهين في "النهاية". ومقابله: أنها إذا رأته، ثم اتصل به النفاس، أو رأته ثم طهرت، وولدت قبل مضى مدة أقل الطهر- لا [يكون حيضاً بل دم فساد؛ لأنه لم يستعقب طهراً كاملاً. ووجه الأول: أن نقصان الطهر] إنما يؤثر فيما بعده، لا فيما قبله، وهنا لم يؤثر فيما بعده؛ لأن ما بعد الولد نفاس بلا خلاف؛ فأولى ألا يؤثر فيما قبله، وهذا ما ذكرنا أن الشيخ احترز عنه بقوله: وأقل طهر فاصل بين الحيضتين خمسة عشر يوماً؛ لأنه هنا فاصل بين حيضة ونفاس. وقضية كلام الشيخ أيضاً: أن الدم الذي تراه حالة الطلق يكون حيضاً، وصاحب "الإفصاح" حكى وجهاً: أنه نفاس، والجمهور على أنه ليس بنفاس. قال صاحب "العدة": ولا هو حيض أيضاً. وأبو عبد الله الحناطي حكاه وجهاً [مع وجه] آخر: أنه حيض على القول الذي عليه يفرع، وأفهم أنه لا فرق على القول الثاني بين أن تراه وقد ظهر الحمل [أو قبله] وهو المشهور. وقيل: إنه يختص بحالة ظهور الحمل وحركته، والله أعلم. قال: وإذا انقطع دم المرأة لزمان يصح فيه الحيض، أي: لكونه لم ينقص عن أقله، ولم يزد على أكثره، وكان بينه وبين ما تقدم من حيض- إن كان- خمسة عشر يوماً طهراً فأكثر فهو حيض؛ لأن الظاهر منه حينئذ أنه دم جبلة لا دم علة، وكلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين أن تكون المرأة مبتدأ مميزة [أو غير مميزة]، لون الدم الذي تراه أسود أو أحمر أو أصفر، أو معتادة وافق ذلك عادتها أو خالفها، ولا خلاف في أنها إذا كانت مبتدأة وما رأته من الدم أسود أنه حيض، أما إذا كان أحمر، فهل هو حيض أو دم فساد؟ فيه وجهان في "الحاوي". والثاني يجري فيما إذا كان ما رأته دماً أصفر أو كدرة من طريق الأولى، وهو ما

حكاه ابن الصباغ عن الإصطخري؛ حيث قال: لا تكون الصفرة والكدرة [حيضاً] إلا في زمن العادة، والمبتدأ لا عادة لها. وحكى عن رواية ابن أبي هريرة عن بعض الأصحاب أنه قال: إن تقدم ذلك دم أسود ولو كان بعض يوم كان معه حيضاً، وإلا فلا. وهذا منسوب في "تعليق القاضي الحسين" إلى الإصطخري؛ فإنه قال: إنه ذهب إلى أن الصفرة والكدرة لا تكون حيضاً إذا انفردت. نعم، لو تقدمها دم قوي كان حيضاً. وخرج بعض الأصحاب على مذهبه اشتراط تقدم القوي وتأخره أيضاً؛ ليكون بينهما، واختلفوا [في أن] المتقدم إذا اكتفينا به، أو المتقدم والمتأخر على الرأي الآخر: هل يشترط أن يكون كل منهما أقل الحيض، أو يكفي في ذلك لحظة؟ على وجهين، فإن قلنا بما قاله الإصطخري، قلنا فيما إذا رأت خمسة صفرة، ثم خمسة حمرة، ثم خمسة سواداً: حيضها أيام الأسود فقط، وكذا لو توسط السواد حمرتين؛ بأن رأت خمسة حمرة، ثم خمسة سواداً، ثم خمسة حمرة. وإن قلنا بمقابله كان الجميع حيضاً، وهو المذهب، ولو انعكس الحال: فرأت خمسة دما أسود، وخمسة دماً أحمر، وخمسة دماً أصفر- فالجميع حيض على المذهب، وعلى أحد وجهي الإصطخري الذي نص عليه دون ما خرج على أصله، وهذا ما حكاه العراقيون والماوردي. وأما المعتادة إذا جرى الدم على عادتها [فهو حيض، وإن خالف عادتها] بأن كانت ترى خمسة دماً من كل شهر، فرأته في شهر أكثر من ذلك، ولم يزد على خمسة عشر يوماً وهو على لون واحد- فسواء تقدم على وقت عادته أو تأخر أو وجد بعضه في وقت العادة وبعضه قبلها أو بعدها أو قبلها وبعدها. وما حكيناه عن كلام الإصطخري يقتضي اطراده فيما إذا كان ما رأته صفرة أو كدرة، ولا جرم قال بعضهم: إن تقدم الصفرة [أو الكدرة] دم قوي ولو لحظة في أيام العادة أو غيرها فهو حيض، وإلا فدم فساد. ولو رأت المعتادة الدم زائداً على قدر عادتها، وهو مخالف في اللون لما اعتادته؛

بأن كانت تراه أحمر خمسة أيام، فرأته أكثر من ذلك ولم يزد على أكثر الحيض وهو أصفر- فخمسة أيام من ذلك حيض، بلا خلاف على المشهور؛ كما لو رأت الخمسة الأيام دماً أصفر فقط، وما زاد على الخمسة التي هي قدر العادة فيه وجهان: الذي [نص] عليه عادة أصحابنا كما قال أبو الطيب والماوردي-: أنه حيض؛ لما روى البخاري عن عائشة أن نساء كن يبعثن إليها بالدرجة فيها الكُرْسُفُ فيه الصفرة، فتقول: لا تَعْجَلْنَ حتى ترين القصَّة البيْضاءَ. والكُرْسُفُ: القطن، والقصَّةُ البيضاء: شيءُ كالخيط الأبيض يخرج عند انقطاع الدم. وقال الإصطخري: ما زاد على قدر العادة ليس بحيض؛ لما روى البخاري عن أم عطية، وكانت بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً".

وسبب اختلاف الأصحاب في ذلك: أن الشافعي قال: "والصفرة والكدرة في أيام الحيض [حيض] "، فقال ابن سريج ومن معه: أراد بأيام العادة، الأيام التي يمكن أن تكون حيضاً، وهي الخمسة عشر، وإن تجاوزت أيام العادة. وقال الإصطخري: أراد أيام العادة نفسها؛ أخذاً بظاهر النص. وقد كان أبو إسحاق المروزي يقول به فرجع إلى الأول، ولأنه وجد نص للشافعي في العدد على أن الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، وسواء كان لها أيام قبل ذلك، أو لم يكن، قال: فلما جعل حكم المبتدأة وذات الحيض سواء دل على ما رجعت إليه، وإن كان خلافه أصح في القياس، وهؤلاء يحملون قول أم عطية على ما بعد الخمسة عشر يوماً على أنه جاء في رواية أبي داود أنها قالت: [كنا] لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً. قال: وإن عبر الدم الأكثر- أي: بفتح الراء؛ إذ التقدير: عبر الدم أكثر مدة الحيض فجاوز خمسة عشر يوماً، فلا سبيل إلى جعله بجملته حيضاً كما تقدم. لكن ما يكون منه حيض؟ ينظر كما قال الشيخ: فإن كانت مميزة، وهي التي ترى في بعض الأيام دماً أسود، وفي بعضها دماً أحمر كان حيضها أيام الأسود؛ لقوله- عليه السلام- لفاطمة بنت أبي حبيش: "إِذَا كَانَ دَمُ الحيضِ فَإِنَّهُ دَم أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكي عَنِ الصَّلاَة، وإذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِ، وَصَلِّي؛ فَإنَّما هُوَ عِرْق .. "، أخرجه أبو داود والنسائي. وأطلق الشيخ القول بأن الحيض الأسود موافق للخبر، وهو محمول على ما إذا اجتمعت شرائط الحيض فيه، أما إذا فقدت أو بعضها، فلا تمييز، وظاهر [كلامه] يقتضي أموراً: أحدها: حصر المميزة في المتصفة بما ذكره، ولا قائل به من الأصحاب، بل هم متفقون في الطريقين على أن المميزة من انقسم دمها إلى قوي وضعيف. نعم، اختلفوا فيما به الاعتبار في القوة والضعف:

فمنهم من يقول: هو اللون فقط، فالأسود قوي بالإضافة إلى الأحمر، والأحمر قوي بالإضافة إلى الأشقر، والأشقر [قوي بالإضافة إلى] الأصفر والأكدر إذا جعلناهما حيضاً، وهذا ما حكاه الغزالي، وادعى الإمام أنه متفق عليه، وقال: لو رأت خمسة سواداً مع الرائحة المنعوتة في الخبر وخمسة سواداً بلا رائحة فهما دم واحد. والعراقيون [وغيرهم] يقولون: إن القوة تستفاد بثلاثة أمور: باللون، والثخانة، والرائحة الكريهة؛ لأنه روي عن ابن عباس أنه قال: "دم الحيض [أسود] محتدم بحراني، ذو دفعات، له رائحة تعرف". قيل: وليس المراد بالأسود: الحالك، بل الذي تعلوه حمرة مع سواد. والمحتدم: هو الحار، يقال: يوم محتدم؛ إذا كان شديد الحر، ساكن الريح. والبحراني: الشديد الحمرة، نسب إلى "البحر"؛ لصفاء لونه، بخلاف دم الفساد، فإنه ناصع اللون. وقيل: نسب إلى البحر؛ لأنه يخرج من قعر الرحم كما يخرج الماء من قعر البحر، حكاه البندنيجي. وقيل: هو الذي يخرج بسعة دفق وسرعة، كماء البحر. وعلى هذا فالأسود قوي بالنسبة إلى الأحمر، والأحمر قوي بالنسبة إلى الأشقر والأصفر، كما تقدم، والثخين قوي بالنسبة إلى الرقيق، وما له رائحة كريهة قوي بالنسبة إلى ما دونه. فلو اجتمع في دم صفتان من الثلاثة، وفي آخر وصف واحد [فما جمع]

الصفتين أقوى، ولو انفرد كل دم بوصف، مثل أن يكون أحدهما أسود رقيقاً، والآخر أحمر ثخيناً فالتمييز بالسبق يحصل، وهذا فيه منازعة تعرفها مما سنذكره. الثاني: أنه لا فرق في جعل الأسود حيضاً إذا وجد شرطه بين أن يكون مبتدأ به، أو متأخراً، أو متوسطاً، حتى لو رأت خمسة دماً أحمر، وخمسة دماً أسود، ثم أطبق الأحمر، أو رأت خمسة عشر يوماً دماً أسود، أو بالعكس- كان الأسود الحيض، وهو ما ادعى أبو الطيب وغيره أنه المذهب. وعن ابن سريج: [أنه] يشترط في جعله حيضاً أن يقع مبتدأ به، ولو وقع الابتداء بالأحمر، فلا تمييز. وحكى الغزالي وجهاً آخر أن النظر إلى ما وقع الابتداء به، فإن وقعبالأسود فهو الحيض، وإن وقع بالأحمر، فهو الحيض إذا [وجد] شرطه. قلت: وهذا يوافقه قول الشافعي الذي ذكرناه أول الباب: "إن الاستحاضة لا تكون إلا على أثر حيض وللقائلين بالأول أن يقولوا: [إنه] أراد أن لا يكون استحاضة

إلا في زمن الحيض، لا في زمن لا يصلح للحيض، وعليه يدل صدر الكلام. وعن بعض الأصحاب: أن النظر إلى الأولية معتبر [والنظر إلى القوي معتبر]، فإن أمكن جعلهما جميعاً حيضاً: كما إذا رأت خمسة دماً أحمر، ثم خمسة دماً أسود، ثم أطبق الأحمر-[فعل]، وكان حيضها العشر الأول. وإن لم يمكن الجمع بينهما بأن زادا على خمسة عشر يوماً، فوجهان حكاهما القاضي الحسين: أحدهما: أن الاعتبار بالقوي وهو الأسود في مثالها. والثاني: أنها فاقدة للتمييز، وهذا قد حكاه القاضي أبو الطيب احتمالاً لابن سريج أيضاً. وسلك الماوردي طريقاً آخر، فقال: المبتدأ إذا رأت الدم الأحمر والأسود فحيضها الأسود بلا خلاف، تقدم أو تأخر. والمعتادة إن تقدم الأسود كان حيضها، وإن تأخر وتقدم الأحمر، فوجهان: أحدهما- وهو قول أبي إسحاق وجمهور المتأخرين-: أن حيضها- أيضاً- الأسود. والثاني- وهو قول ابن سريج وابن أبي هريرة-: أن حيضها ما تقدم ااسود كان أو أحمر؛ وهذا إذا كان الأسود أو الأحمر قد اجتمعت فيه شرائط الحيض. ولو كان الأحمر ينقص عن أقل الحيض، وأمكن أن يكون الأسود وحده حيضاً؛ فالأسود- كيف كان- حيض بلا خلاف. ولو كان الأحمر يصلح أن يكون حيضاً، والأسود ينقص عن أقل الحيض، ولو جمع بينهما لزادا على أكثر الحيض- فالأحمر الحيض كيف كان [بلا خلاف]. أما إذا كان مجموعهما لا يزيد على أكثر [مدة] الحيض، فالكل في حق المعتادة حيض، وفي المبتدأة إذا كان الأحمر مبتدأ به وجهان. فرع: إذا رأت خمسة دماً أسود، وخمسة دماً أحمر، ودماً أصفر إلى آخر الشهر-

فالحمرة تلحق بالصفرة أو بالسواد؟ فيه وجهان يجريان فيما لو رأت خمسة سواداً وأحد عشرة حمرة، ثم أطبقت الصفرة، لكنها في الصورة الأولى: إذا ضممنا الحمرة إلى السواد، جعلنا حيضها عشرة أيام، وفي هذه الصورة نجعلها فاقدة للتمييز، وقد قطع بعضهم في الصورة الأولى ونحوها بضم الحمرة إلى السواد، وفي الصورة الثانية [بضم] الحمرة إلى الصفرة. ولو رأت سواداً ثم صفرة ثم حمرة، قال الرافعي: وهذه الصورة تترتب على ما إذا كانت الحمرة متوسطة، فإن ألحقناها بالسواد، فالحكم كما إذا رأت سواداً، ثم حمرة، ثم عاد السواد. وإن ألحقناها عند التوسط بالصفرة، فالصفرة المتوسطة هنا أولى أن تلحق ما بعدها. الثالث: أن المرجع إلى التمييز، سواء كانت المرأة مبتدأة أو معتادة. وقوله- من بعد-: "وإن كانت غير مميزة ولها عادة .. " إلى آخره فهو في المبتدأة مما لا خلاف فيه. نعم، اشترط صاحب "التتمة" في جعل القوي حيضاً- وراء ما ذكرناه-: ألا يزيد الدم القوي والضعيف على ثلاثين يوماً، فإن زاد سقط حكمه؛ لأنه يؤدي إلى تساوي المقادير فلأن [يكون ذلك] بجعل بعض المقادير حيضاً وطهراً أولى من غيره، وربما ترى في أول أمرها دماً أسود، ثم باقي عمرها دماً أحمر؛ فيؤدي إلى ألا يكون لها حيض أكثر من يوم وليلة مع جريان الدم طول العمر؛ فتعين أن يجعل المرجع شهراً؛ لأن العادة أن للمرأة في كل شهر حيضاً وطهراً؛ فلترد إليه؛ وبهذا تكمل الشرائط خمساً: ألا ينقص القوى عن أقل الحيض، وألا يزيد على أكثر الحيض، ولا ينقص الضعيف عن خمسة عشر يوماً؛ لأنا نجعله الطهر، وأن يكون القوي مبتدأ به على رأي، وألا يزيد مجموع [زمن] القوي والضعيف على ثلاثين يوماً. وأما المعتادة: فالمذهب فيها ما اقتضاه كلام الشيخ: أنها كالمبتدأة في تحيضها أيام القوي؛ لما أسلفناه من الخبر، ويظهر اعتبار ما قاله في "التتمة" من اعتبار عدم زيادة الدمين على ثلاثين يوماً. وفي "النهاية" ما ينازع فيه في الصورتين، كما سنذكره.

وعن الإصطخري وأبي علي بن خيران: أنها ترد أولاً إلى العادة، حتى لو كانت عادتها خمسة أيام من أول الشهر، فرأت القوي سبعة، ثم الضعيف بعده، فالمرجع إلى الخمس، ولو كانت المسألة بحالها، لكنها رأت الدم القوي ثلاثة أيام ردت إلى الخمس، ولو كانت بحالها، لكنها رأت القوي خمسة أيام من أول السادس ردت إلى الخمسة الأولى، ووجهه: ما روت أم حبيبة أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدم؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبسُكِ حَيْضَتُكِ، ثُمَّ اغْتسِلي وَصَلِّي" رواه مسلم وروت أم سلمة أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لِتَنُظرْ عِدَّة اللَّيالِي والأيام الَّتِي كَانَتْ تَحيضُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يُصِبها الَّذِي أَصَابَهَا، فَلْتَتْرُكِ الصَّلاةَ قَدْر ذَلِكَ مِنَ الشَّهْر، فَإِذَا خَلَّفتْ ذَلِكَ فَلْتغْتَسِلْ، ثَمَّ لْتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ، ثُمَّ لتُصَلِّ" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. فعلى هذا لو كانت لها عادة ونسيتها، فحكمها حكم ناسية لا تمييز لها. وفي "التتمة" حكاية وجه ثالث: [أنه] إن أمكن الجمع بين التمييز والعادة جمع، وجعلنا الزمانين حيضاً، وإن لم يمكن الجمع بأن كان مجموع الدمين يزيد على

خمسة عشر يوماً؛ فيتعارضان ويسقطان ونجعلها كامرأة لا تمييز لها ولا عادة؛ وهذا [لا] وجه له، بخلاف ما قبله؛ فإن حجته الخبر، والقائلون بالمذهب قالوا: ما استدللنا به يترجح بأن التمييز علامة ناجزة، والعادة انقطعت. ومنهم من يقول: خبر أم حبيبة وأم سلمة محمول على معتادة لا تمييز لها؛ جمعاً بين الأخبار. وعبارة أبي الطيب: أن أبا إسحاق المروزي قال في "الشرح": جميع ما يثبت في المستحاضة من الأحاديث ثلاثة: حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وحديث المرأة التي استفتت لها أم سلمة، وحديث حمنة بنت جحش. أما حديث فاطمة: فقد قال إبراهيم الحربي: إنه وارد في التي لها تمييز، لا يختلف قول الشافعي في ذلك. وأما حديث المرأة فوارد في التي لها عادة، ولا تميز لها هذا قول الشافعي في ذلك. وأما حديث حمنة: فاختلف فيه قول الشافعي: فقال: يحتمل هذا الخبر تأويلين: أحدهما: أن حمنة كانت مبتدأة؛ فردها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غالب عادة النساء؛ فيكون في المستحاضة ثلاثة أصول. والثاني: أنه عليه السلام ردها إلى ست أو سبع؛ لأنها كانت معتادة، ولكن نسيت عادتها، فقال: "تَحَيَّضِي فِي عِلْمِ الله- إنْ كَانَ [حَيْضاً] فِي عِلْمِ الله – سِتّاً أوْ

سَبْعاً"؛ فعلى هذا يكون في المستحاضة أصلان، ولا سنة في المبتدأة. فرع: إذا رأت المبتدأة الدم في زمن إمكان الحيض، وجب عليها ترك الصلاة والصوم بمجرد رؤيته، ولا يأتيها الزوج؛ لأن الظاهر أنه دم جبلة لا دم علة. وقيل: إن كانت قد بلغت بالسن لا يجوز لها ترك الصلاة والصوم حتى تمضي مدة أقل الحيض من أول ما ظهر الدم؛ لأن وجوب ذلك مستيقن، وكونه حيضاً مشكوك فيه؛ فلا يترك اليقين بالشك. وهذا ما أورده الشيخ أبو علي في "شرح الفروع"، والمذهب الأول. ثم على كل حال: لو رأت في أول الشهر يوماً وليلة دماً أسود، ثم دماً أحمر، واستمر فإنها تترك الصلاة إلى تمام خمسة عشر يوماً؛ لاحتمال أن ينقطع الدم عليها؛ فيكون الأسود والأحمر حيضاً، فإذا جاوز الأحمر ذلك إلى آخر الشهر قضت أيام الأحمر كلها، فإذا رأت في الشهر الثاني الدم الأسود تركت الصلاة، [فإن دام إلى ثلاثة أيام تركت الصلاة فيها] فإذا انقطع وطرأ الأحمر، اغتسلت وصلت، ولا تقعد إلى تمام خمسة عشر يوماً؛ لأنا تحققنا أنها مستحاضة. ولو رأت في الشهر الثالث خمسة أيام دماً أسود، ثم طرأ الأحمر- اغتسلت وصلت عند انقطاع الأسود؛ لما ذكرناه، وهكذا الحكم فيما لو دام الأسود خمسة عشر يوماً. ولو انعكس الحال: فرأت الدم الأحمر ابتداء، فهل تترك الصلاة؟ فيه وجهان سلفا عن الماوردي، فإن قلنا: تتركها وهو المشهور، فإذا استمر إلى تمام خمسة عشر يوماً، وانقطع، وطرأ الدم الأسود، فهل يدوم الترك؟ ينبني على أن الاعتبار بالدم الأول أو بالدم القوي؟ فإن قلنا: إن الاعتبار بالقوي، تركت الصلاة ما دام إلى تمام خمسة عشر يوماً، وهذه امرأة تؤمر بترك الصلاة شهراً كاملاً، ثم ينظر: إن انقطع الدم القوي على خمسة عشر يوماً قضت أيام الأحمر، وإن تعدى الخمسة عشر يوماً، فلا تمييز، وفيما تحيضه من أول الدم الأحمر قولان يأتيان في الكتاب. وابتداء دورها الحادي والثلاثين على القولين معاً، فإن قلنا: تحيض يوماً وليلة،

أمرت بترك الصلاة أحداً وثلاثين يوماً، وإن قلنا: تحيض ستاً أو سبعاً، أمرت بترك الصلاة ستاً وثلاثين أو سبعاً وثلاثين؛ قاله المتولي. وإن قلنا: إن الاعتبار بالدم الأول كيف كان فلا تترك الصلاة في زمن الأسود. وإن قلنا: إن الاعتبار بالأمرين، فالجمع متعذر، وهل تترك الصلاة في زمن الأسود أو لا؟ فيه وجهان، سبق أصلهما، فإن قلنا: تترك، فهي فاقدة للتمييز، وهو ما ذكره أبو الطيب، وفيما تحيض القولان الاثنان، لكن ما ابتداء حيضها، هل من أول الحمرة أو السواد؟ فيه وجهان في "تعليق أبي الطيب" و"الشامل"، قالا والمذهب منهما الأول. قال: وإن كانت غير مميزة، ولها عادة- أي: مستقرة- تذكرها، مثل: أن كانت تحيض خمسة من أول السادس من الشهر مثلاً، ثم استحيضت- كان حيضها أيام العادة؛ لما ذكرناه من رواية أم حبيبة وأم سلمة. نعم، لو كانت عادتها أن ترى الدم يوماً والنقاء يوماً، مدة خمسة عشر يوماً، وقلنا بضم الدم إلى الدم والنقاء إلى النقاء، فأطبق الدم حتى جاوز الخمسة عشر لا تلفق أيام الحيض من الخمسة عشر بلا خلاف بين فرق الأصحاب؛ كما قاله الإمام ومن تبعه. نعم، نحيضها [ما كنا نجعله حيضاً بالتلفيق ولاءً من أول الدم المطبق. قال الإمام: وللاحتمال فيه أدنى مجال].

ولو كان عادتها أن تحيض في شهر يوماً وليلة، وفي الذي بعده يومين، وفي الثالث ثلاثة أيام، ثم تعود إلى اليوم واليومين على هذا، ثم استحيضت رجعت في شهر الاستحاضة إلى ما تعودت، فإن كان الذي قبله حاضت فيه يوماً كان في شهر الاستحاضة حيضها يومين، وإن كان في الذي قبله يومين كان فيه ثلاثة؛ [وهذا ما حكاه ابن الصباغ لا غير. وحكى القاضي الحسين معه وجهاً آخر: أنها تحيض ما حاضت فيهالشهر الذي استحيضت فيه، فإن كان حيضها فيه يوماً حيضناها يوماً، وإن كان ثلاثاً حيضناها ثلاثاً، وهكذا أبداً]. ولو كانت تحيض في شهر يوماً، وفي آخر ثلاثة، وفي آخر خمسة، وفي آخر ثلاثة، فإن كان آخر ما رأته تكرر مرتين ردت إليه في شهر الاستحاضة؛ وإلا فقد قال أبو إسحاق المروزي: إنها ترد إلى أقل عادة، وهي في مثالنا يوم وليلة، وحكاه عن الشافعي في كتاب العدد؛ لدخول الأقل في الأكثر. ومنهم من قال: لا عادة لها؛ فيكون فيما ترد إليه القولان في المبتدأة. والمذهب كما قال ابن الصباغ والماوردي: أنها ترجع إلى ما حاضته في الشهر الذي قبل الاستحاضة وهذا ما جزم به القاضي الحسين. وعلى هذا هل يلزمها الاحتياط فيما تأتي به من الصلاة؟ فيه جوابان ينبنيان على الخلاف في المبتدأة، كما سنذكره، وهو جار في القسم قبله، إذا قلنا بالوجه الذي حكاه القاضي. وحيث قلنا بالاحتياط: فهو من أقل عادتها إلى أكثرها. مثاله في القسم الأول: إذا كان حيضها قبل شهر الاستحاضة ثلاثة أيام فإذا مضت ثلاثة أيام من شهر الاستحاضة اغتسلت، وقضت الصلاة من أقل عادتها وهي يوم إلى أكثر عادتها- وهي ثلاثة أيام- لاحتمال أن دمها انقطع على يوم، والباقي يكون استحاضة. ولو كان حيضها في الشهر الذي قبل الاستحاضة يومين، فإذا مضى من شهر الاستحاضة يومان، اغتسلت وصلت وصامت، فإذا مضى يوم بعده تغتسل- أيضاً-

وتصلي وتصوم، وتقضي الصلاة من أقل عادتها إلى أوسط عادتها، ولا تقضي صلاة اليوم الذي صلته؛ لأنها إن كانت حائضاً فلا صلاة عليها فيه، وإن كانت طاهرة فقد صلت. نعم، تقضي صومه ولا يطؤها زوجها فيه. ولو كان حيضها في الشهر الذي قبل الاستحاضة يوماً وليلة، فإذا مضى يوم وليلة اغتسلت وصلت وصامت، ثم إذا مضى يومان غيره اغتسلت ثانياً، ولا تقضي شيئاً من الصلوات، وتقضي صوم ثلاثة أيام؛ لاحتمال أن تكون حائضاً إلى تمامها، ولا يصح منها الصوم زمن الحيض، ولا يأتيها زوجها في الثالث؛ لما ذكرناه. فإن قيل: بماذا ثبتت العادة فيما ذكرتم؟ قلنا: أما العادة في المستحاضة فثبتت بمرة قولاً واحداً؛ لأنها علة مزمنة، إذا وقعت دامت غالباً. وأما العادة في الحيض فكذلك على الصحيح، وهو المنصوص عليه في "مختصر البويطي"، وبه قال أبو العباس وأبو إسحاق وعامة أصحابنا، كما [ذكره القاضي] أبو الطيب؛ لقوله- عليه السلام-: "لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ الَّتي كَانَتْ تَحِيضُهنَّ قَبْلَ أَنْ يُصِيبُها وَلْتَدَعِ الصَّلاَةَ قَدْرَ ذَلِكَ". وقيل: لا تثبت العادة فيه إلا بمرتين، ويحكي هذا عن ابن خيران؛ لأن العادة من العود، ولا يحصل بدفعة. وهذا ليس بصحيح؛ لأن ذلك اصطلاح من الفقهاء، فكيف يكون حجة يستفاد منها الأحكام الشرعية؟ وقيل: العادة تثبت في حق المبتدأة بالمرة الواحدة، فإذا رأت خمسة أيام دماً وخمسة وعشرين طهراً، ثم أطبق الدم في الشهر [الثاني]- جعلناها حيضاً خمساً. أما المعتادة إذا تكرر حيضها خمساً، فجاء في شهر سبعاً وباقيه طهراً، ثم أطبق الدم في شهر بعده فلا نردها إلى سبع، بل [إلى] خمس. نعم، لو تكرر السبع في شهرين رددناها عند الاستحاضة إليها؛ حكاه في "التتمة". وعن أبي الحسن العبادي حكاية وجه آخر: أن العادة لا تثبت إلا بثلاث مرات

مطلقاً لقوله- عليه السلام-: دعي الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ"، وأقل الجمع ثلاث، والمشهور خلافه. والخلاف فيما تثبت به العادة في الطهر كالخلاف فيما تثبت به عادة الحيض، ولا فرق في ذلك بين قدره ووقته؛ حتى إذا كانت تحيض خمسة من أول الشهر، وتطهر خمسة وعشرين [يوماً] فرأت في شهر الدم [في] أول السادس منه، واستمر عشرة أيام، وانقطع، ثم أطبق الدم في الشهر الثاني- كان حيضها عشرة أيام، أولها السادس على الصحيح، وصار طهرها خمسة من أول الشهر وخمسة عشر من آخره. ولا فرق فيما أثبتنا به العادة في الحيض والطهر بين أن يكون بالانقطاع: مثل أن كانت ترى الدم خمسة، ثم ينقطع بقية الشهر، أو بالتمييز: مثل أن تكون ترى خمسة دماً قوياً من أول الشهر، ثم ترى الضعيف بقيته، وتكرر ذلك مرتين أو ثلاثاً، ثم أطبق بها الدم على لون واحد. وفي "النهاية" حكاية وجه في الثانية: أنه لا تثبت بها العادة في المبتدأة، ونجعلها كمبتدأة ما تمكنت من التمييز قط. والمذهب- وبه جزم في موضع- الأول. ثم ما ذكرناه فيما إذا لم يتجاوز الدم شهراً، فإن تجاوزه، وكانت عادتها أن ترى الدم خمسة أيام، وينقطع بقية الشهر، ثم استحيضت، أو كانت عادتها أن ترى الدم القوي خمسة أيام والضعيف بقية السنة، ثم أطبق على لون واحد فقد قال البندنيجي والمتولي: إنها في الأولى ترد إلى العادة دون الثانية. وادعى الرافعي: أن ظاهر المذهب في الثانية اتباع العادة أيضاً؛ لأن الشافعي قال: "فإذا ذهب الدم- يعني: القوي- وجاءها الدم الأحمر الرقيق المشرق وهو عرق وليس بالحيضة فعليها أن تغتسل"، فأطلق الكلام إطلاقاً. وحكى الإمام عن القفال في الأولى: أنها لا ترد إليها حيث قال: لو كانت امرأة تحيض خمسة، وتطهر خمسة وعشرين يوماً، فرأت مرة خمستها وانقطع الحيض

عشر سنين مثلاً، ثم أطبق الدم- فلا يجوز أن يقال: نردها في مقدار الطهر إلى عشر سنين إذا فرعنا على أن العادة تثبت بمرة واحدة، وإذا لم يسغ هذا فالسنة الواحدة في معنى عشر سنين فصاعداً، فما المنتهى المعتبر في ذلك؟ قال: قد راجعت في ذلك مشايخي ولم يذكروا ضابطاً، والوجه عندي أن يقال: غاية طول الدور تسعون يوماً الحيض منها ما يتفق، والباقي طهر؛ إذ لو كانت تحيض خمسة، وتطهر خمسة وعشرين، فحاضت خمسة وطهرت خمسة وثمانين، ثم أطبق الدم- فنجعل طهرها خمسة وثمانين ودورها تسعين. وإن حاضت خمسة، وطهرت تسعين- فلا يعتبر هذا، ولكن نردها إلى الخمسة والعشرين التي كانت تطهر فيها قديماً، ولو لم يكن لها عادة قديمة، فهي كالمبتدأة. قال الإمام: وما ذكره القفال لا مزيد عليه. نعم، لو تكرر طهرها سنة مرتين أو مراراً، ففي ردها إلى ما تكرر احتمال، والظاهر عندي: أنه لا يبالي به وإن تكرر. فرع: إذا رأت المبتدأة خمسة دماً أسود، وباقي الشهر دماً ضعيفاً، وتكرر مراراً، ثم أطبق على لون واحد، وتعذر التمييز، ورددناها إلى الخمسة كما سلف، ثم جاءها دور فرأت عشرة- مثلاً- سواداً، وعشرين شقرة فهي الآن مردودة إلى العشرة ولا يخرج هذا على الخلاف في تقديم العادة والتمييز؛ فإن الأدوار التي استمرت كانت مميزة، وإنما الخلاف في عادات جرت في غير الاستحاضة مع أطهار وأدوار مستقيمة؛ قاله الإمام. قال: فإن لم تكن مميزة، ولا لها عادة، وهي المبتدأة- أي: بفتح الدال والهمزة: المرأة التي ابتدأها الدم من غير تمييز عادة على لون واحد- ففيها قولان: أحدهما: أنها تحيض أقل الحيض؛ لأن سقوط الصلاة عنها في هذا القدر مستيقن، وما عداه مشكوك فيه، ولا يترك اليقين إلا بيقين وأمارة ظاهرة: كالتمييز والعادة، وهذا أصح في "الرافعي". وعلى هذا فما ترد إليه من الطهر أوجه:

أبعدها: أقل الطهر أيضاً؛ فيكون دورها ستة عشر يوماً، فإذا جاوز السابع [عشر] استأنفت حيضة؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن رواية البويطي. وأظهرها: أن طهرها باقي الشهر؛ نظراً إلى الاحتياط. وأوسطها: أن طهرها غالب الطهر ثلاثة وعشرون أو أربعة وعشرون. وعن الشيخ أبي محمد: أنه كان يرى [على] هذا الوجه: أن ترد إلى أربعة وعشرين؛ احتياطاً للعبادة. والثاني: تحيض غالب الحيض؛ لما ذكرناه من خبر حمنة بنت جحش؛ فإنها كانت مبتدأة؛ إذ لو كانت معتادة أو مميزة لردها إلى ذلك، وهذا أصح عند بعضهم، واختاره ابن الصباغ وأبو إسحاق المروزي. وطهرها على هذا غالب الطهر بلا خلاف. وقوله في الخبر: "فِي عِلْمِ اللهِ" أي: فيما أعلمك الله من عادتهن، وقوله: "ستاً أو سبعاً" هل [هو للتخيير] أو التنويع، بمعنى: أنها تجتهد في العادة؟ فيه وجهان منسوبان في "تعليق أبي الطيب" إلى ابن سريج. ومختار أبي إسحاق المروزي الأول، وهو أصح عند الحناطي. ومختار الغزالي والمتولي الثاني، وهو ما ادعى البندنيجي أنه المذهب، ولم يحك الإمام غيره. وعلى هذا فمعنى الخبر: تحيضي ستاً إن كان عادتهن ستاً، وسبعاً إن كان عادتهن سبعاً، فلو نقصت عادتهن عن الست ردت إلى الست، ولو زادت على السبع ردت إلى السبع، وهل الاعتبار بنساء بلدها، أو [نساء] عشيرتها أو نساء العالم؟ فيه أوجه: المذكور في "تعليق القاضي أبي الطيب" و"الشامل" عن ابن سريج الأول والأخير، وفي "تعليق البندنيجي"الأخير والذي يليه، ومجموع ذلك ثلاثة أوجه: فإذا قلنا: إن المرجع إلى نساء عشيرتها وهو الأصح في "التتمة"، وإليه صار الأكثرون [كما] قال الإمام: فلو لم يكن لها نساء أقارب، فالمرجع إلى نساء بلدها؛ قاله في "التتمة" ولا فرق على هذا بين الأقارب من الأب أو الأم، بخلاف مهر

المثل؛ فإن المعتبر فيه [مهر] أقارب الأب، وفي "الرافعي": أنه قد قيل بمثله هاهنا أيضاً، والمشهور الأول. نعم، لو اختلفت عادة العشيرة في التقديرين تعين الست؛ لوقوع الاتفاق عليه، قاله الإمام، وحكى عن شيخه عند اتفاق عادتهن ومجاوزتها السبع أنه قال: يحتمل أن تثبت لها تلك العادة بعينها، ولا [تختص بالست] والسبع. قال: وهذا الذي ذكره حسن ولكني لم أره لغيره، وعندي أنه ما ذكره مخرجاً وجهاً وإنما أبدى وجهاً من الاحتمال. فائدة: ذكر القاضي الحسين في باب ما يعتبر بالأبوين أو أحدهما، فقال: الذي يعتبر بأحد الأبوين: الإسلام، وضرب الجزية، ووجوب الجزاء، وحرمة الأكل. والذي يعتبر بهما: استحقاق سهم الغنيمة- يعني: في الخيل- والزكاة، يعني: فلا تجب الزكاة في المتولد بين الظباء والمواشي كما صرح به في باب دية الجنين، وما يجزئ في الأضحية، وما يجزئ في جزاء الصيد، وحل الأكل. وفي حل الذبيحة والنكاح قولان: أحدهما: يعتبر بهما. والثاني: يعتبر بالأب. والذي يعتبر بالأم: الحرية، والملك.

والذي يعتبر بالأب: النسب، والكفاءة، وقدر الجزية كما ذكره في باب دية الجنين، ومنهم ذوو القربى. ومهر المثل [يعتبر] بنساء عصبة الرجل. وضمان الجنين يعتبر بخير الأبوين. والحيض يعتبر بنساء عشيرتها. وقال في باب دية الجنين: إن الإياس من الحيض يتبع فيه أغلظهما، وكذا حكاه الإمام. [ولو لم يكن لها أقارب، فالرجوع على هذا الوجه الذي عليه التفريع إلى نساء البلد، قاله الرافعي]. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ: أنا إذا حيضناها يوماً وليلة، أو ستاً، أو سبعاً- كانت فيما عدا ذلك في حكم الطاهرات من كل وجه، وهو كذلك فيما بعد الخمسة عشر [يوماً إلى آخر الشهر، أما ما قبل ذلك مما لم نحيضها فيه إلى آخر الخامس عشر] فهي في حكم طهر مشكوك فيه، فتؤمر بالعبادات، ولا يجب عليها قضاء الصلوات، وفي وجوب قضاء الصوم والطواف قولان، حكاهما البندنيجي وغيره، وعزاهما الماوردي إلى نصه في "الأم"، وأبو الطيب رواهما وجهين، [وتبعه في "المهذب"]، ووجه الوجوب بأنها قد تكون حائضاً؛ فلا تخرج عما عليها، والأصل شغل ذمتها، وخالف الصلاة؛ فإنها إن كانت [حائضاً] لم تجب عليها، وإن كانت طاهراً فقد صحت؛ فخرجت عن العهدة، والصوم يجب بكل حال. وعلى هذا فلا يمنع الزوج من وطئها؛ جزم به البندنيجي والرافعي وغيره، وقالوا: لا تمكن الزوج من وطئها في هذا الزمن، وتتجنب ما تتجنبه الحائض. والإمام اختصر في ذلك فقال: تحتاط على هذا القول كما تحتاط الناسية المتحيرة، وسيأتي تفسيره في الكتاب، لكن هذا من الإمام يقتضي [أمرين: أحدهما: منع الزوج من وطئها [في] هذه المدة، وبه صرح الرافعي، وفي "تعليق البندنيجي" الجزم بجوازه؛ تفريعاً على هذا القول.

[والثاني:] إيجاب قضاء الصلوات أيضاً [على رأي] كما ستعرفه. والذي ذكره العراقيون والقاضي الحسين والماوردي الجزم بعدم قضاء الصلوات؛ لما ذكرناه، وقد حكاه الإمام بعد ذلك عن الأئمة، وقال: لا يمنع إذا فرعنا على قول الاحتياط أن يغلو غال فيوجب قضاء الصلوات؛ فإنها لا تفرغ من صلاة إلا ويجوز تقدير وقوع صدرها في بقية من الحيض، ولو فرض ذلك لكانت الصلاة باطلة، وهي واجبة لإمكان الانقطاع في الوقت. وأبو زيد يوجب قضاء الصلوات على المتحيرة لمثل [ذلك]. نعم، لو أوقعت الصلاة في آخر الوقت على وجه لو فرض انقطاع الحيض بعد العقد لما وجبت الصلاة، مثل: أن توقع ركعة في آخر الوقت، والباقي وراءه؛ فلا يجب القضاء في هذه الصورة، إذا قلنا: لا تجب الصلاة بإدراك ما يقصر عن قدر الركعة. والصحيح باتفاق الأصحاب: أنه لا يجب عليها قضاء الصلوات والصوم، وأن حكمها فيما بين الزمن الذي حيضناها فيه إلى تمام الخمسة عشر يوماً- حكم الطاهرات؛ كما أن حكمها كذلك بعد الخمسة عشر يوماً إلى آخر الشهر بلا خلاف. ثم اعلم أن حصر من [لا] تمييز لها ولا عادة في المبتدأة لا يعم سائر أحوالها، [بل ذلك في بعض أحوالها]، وهو أن ترى الدم على صفة واحدة، وينقسم دمها إلى قوي وضعيف، ويفقد شرط مما شرطناه في التمييز، ويندرج فيه صور: منها: إذا رأت خمسة أيام دماً أصفر أو أحمر، ثم دماً أسود إلى باقي الشهر ففي هذه الصورة ونحوها، هل يكون ابتداء حيضها من أول الحمرة أو الصفرة أو من أول الدم الأسود؟ فيه وجهان: المذهب منهما: الأول، ومقابله منسوب إلى ابن سريج؛ لأن التمييز يفيد الابتداء والانتهاء، فإذا عدم الانتهاء لا يبطل الابتداء. قال أبو الطيب: وهذا غير صحيح؛ لأن التمييز إنما يثبت به حكم إذا صح وهذا لم يصح. ومنها: إذا رأت ستة عشر يوماً دماً أصفر وبعده دماً أسود، واتصل، ففيما ترد إليه

القولان، وقال ابن سريج: إن قلت: إنها ترد إلى يوم وليلة؛ فإني أردها إليه من أول الأصفر، ويكون بعد ذلك خمسة عشر يوماً طهراً صحيحاً، وبعد ذلك حيضاً، وتفارق المسألة قبلها ونظائرها؛ لأني لو رددتها إلى أول الدم الأصفر لم يبق طهر صحيح. وإذا قلت: إنها ترد إلى ست أو سبع، فإني أردها إلى ذلك من أول الدم [الأسود]؛ لأنه لو جعلته من أول الدم الأصفر لم يبق بينه وبين الدم الأسود طهر صحيح، اللهم إلا أن تكون الصفرة إلى آخر اليوم الثاني [والعشرين]؛ فإني أردها إلى أول الدم. فرع: إذا رأت المبتدأة الدم على صفة واحدة إلى آخر الشهر، ثم في الشهر الثاني رأت خمسة أيام دماً أسود والباقي أصفر، ثم في الثالث رأت الدم على صفة واحدة إلى آخره- ففي قدر حيضها في الشهر الأول القولان، وفي الشهر الثاني تغتسل وتصلي من ابتداء السادس، وفي الشهر الثالث كذلك [على المذهب] في أن العادة [تثبت] بمرة واحدة. [و] على مقابله [يكون] فيها القولان، كما في الشهر الأول، حكاه البندنيجي. وقال القاضي الحسين: إن قلنا: ترد في الشهر الأول إلى يوم وليلة، فكذلك في الثالث؛ لأنه تكرر في الأول ومن جملة الثاني، وإن قلنا: ترد في الأول إلى ست أو سبع، ففي الثالث ترد إلى خمس؛ لأنها قد تكررت فوجدت في الشهر الأول من جملة السبع ووجدت في الثاني فردت في الثالث إليها. فائدة: الأحوال الثلاثة المذكورة في المميزة والمعتادة والمبتدأة مفروضة- كما سلف- فيما إذا أطبق الدم، وجاوز خمسة عشر يوماً، فلو رأت يوماً وليلة دماً ويوماً نقاء، وجاوز ذلك الخمسة عشر فقد قال محمد أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي: إن اليوم السادس عشر طهر فاصل بين الحيضتين.

وهكذا لو رأت ثلاثة أيام دماً وثلاثة أيام نقاء، يكون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر طهراً فاصلاً بين الحيضتين. وكذا لو كانت ترى خمسة أيام دماً وخمسة أيام نقاء، تكون الخمسة الرابعة طهراً فاصلاً بين الحيضتين. ولو كانت ترى يومين دماً ويومين نقاء، فحيضها أربعة عشر يوماً، والخامس عشر والسادس عشر طهر فاصل. وكذا لو رأت يومين دماً ويوماً نقاء، يكون الخامس عشر طهراً فاصلاً. ولو رأت أربعة أيام دماً وأربعة [أيام] نقاء، كان الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر- طهراً فاصلاً. [و] على هذا النحو. قال الأصحاب: هذا إن كان يدعى أنه مذهب الشافعي [فهو خطأ؛ لأن الشافعي] نص على خلافه. وإن [كان] اختياراً له؛ [فهو] باطل؛ لأنه لو جاز أن يكون السادس [عشر] فاصلاً، لجاز أن يكون في أثناء الخمسة عشر فاصلاً؛ ألا ترى أن التمييز لما كان فاصلاً في آخر الخمسة عشر، كان فاصلاً في أثنائها. فإذا ثبت ذلك: فإن كانت مميزة؛ فإن كانت ترى يوماً دماً قوياً ويوماً نقاء إلى آخر العاشر، ثم رأت الحادي عشر دماً ضعيفاً والثاني عشر نقياً، وهكذا إلى أن جاوز الخمسة عشر فأيام [الدم] القوي حيض، وفي النقاء المتخلل بينها القولان في التلفيق، والدم الضعيف دم استحاضة. [ولو كانت] معتادة لا تمييز لها، مثل: أن كانت تحيض من أول كل شهر خمسة أيام، وصارت ترى يوماً دماً ويوماً نقاء، وجاوز الخمسة عشر فعلى قول السحب حيضها الخمسة الأولى، وعلى قول التلفيق وجهان: أحدهما: [حيضها ثلاثة أيام: الأول، والثالث، والخامس. وأصحهما في "النهاية"]: أن حيضها خمسة أيام: الأول، والثالث، والخامس،

والسابع، والتاسع. وعلى قياس هذا فلو كان عادتها تسعة أيام، فإن قلنا بالوجه الأول، كان حيضها خمسة أيام، وإن قلنا بالوجه الثاني كان حيضها ثمانية أيام؛ كما هو فيما لو كانت عادتها ثمانية أيام: الأول، والثالث، والخامس، والسابع، والتاسع، والحادي عشر، [والثالث عشر]، والخامس [عشر]. ولا يزاد على ذلك؛ لأنا [لا] نلتقط على هذا الوجه من أكثر مدة الحيض. ولو كانت عادتها خمسة من أول الشهر، فرأت يومين دماً ويومين نقاء إلى آخر الشهر فعلى قول السحب حيضها الخمسة الأول، وعلى قول التلفيق: إن حصرناه في أيام العادة، كان حيضها: الأول، والثاني، والخامس فقط. وذكر بعض الأصحاب وجهاً ضعيفاً أنه لا نحيضها اليوم الخامس؛ فإنها في السادس مستحاضة، وقد اتصل الخامس بدم ضعيف؛ فضعف واكتسب حكمه. وإن لم نحصر التلفيق بأيام العادة، فحيضها: الأول، والثاني، والخامس، والسادس، والتاسع. وفي التاسع الوجه الضعيف السالف. وعلى قياس هذا: لو كانت عادتها أن تحيض يوماً وليلة، وتطهر باقي الشهر، فصارت ترى يوماً دماً وليلة نقاء، واستمر، فإن قلنا بالسحب، فقد قال أبو إسحاق: لا حيض لها؛ لأن تحيضها يوماً محال، ولا سبيل إلى تحيضها اليوم مع الليلة؛ لأنها غير محتوشة بدمين من الحيض، ولا سبيل إلى مجاوزة العادة على القول الذي عليه نفرع؛ فتعين ما ذكرناه. وقال أبو بكر المحمودي: هذه الصورة يتعين فيها قول التلفيق؛ فإنه يبعد أن يقال: لا حيض لها، وهي ترى الدم في سن الحيض على صفة الحيض شطر عمرها. وقال الشيخ أبو محمد: عندي وجه آخر: أنا نحيضها في اليوم، وفي ليلة النقاء، وفي اليوم الذي بعدها؛ لأن زيادة الحيض ليست منكرة، فإن قلنا بالتلفيق، وقلنا بعدم حصره في أيام العادة فلا إشكال، وإن [قلنا] بحصره فيها، فيأتي مذهب أبي

إسحاق في أنه لا حيض لها- قال القاضي الحسين: و [هذا] هو الصحيح- ومذهب المحمودي [في] أنا نصير إلى مقابله وهو عدم حصره فيها فيكون لها يومان حيضاً. [قال الإمام]: وهو هنا حسن بالغ. وإن كانت مبتدأة، فإن قلنا: ترد إلى يوم وليلة، فلا كلام، وإن قلنا: ترد إلى غالب الحيض، فإن ردت إلى ست، وقلنا بالسحب كان حيضها خمسة أيام؛ لأن السادس نقاء غير محتوش بدمين، وإن ردت إلى سبع كان حيضها سبعة أيام. [وإن] قلنا بقول التلفيق، كان في قدر حيضها وجهان؛ كما فيمن عادتها ست أو سبع، وأثر هذا فيما تقضيه من الصلاة والصيام والطواف في الشهر الأول، وما تأتي به في الشهر الثاني عند تبين الاستحاضة، فلو كانت قد صلت وصامت في أيام النقاء في الشهر الأول، فماذا تقضيه؟ قال الشافعي: تقضي صوم خمسة عشر يوماً، وصلاة سبعة أيام. وقال الأصحاب: هذا تفريع على أنها ترد إلى يوم وليلة، لكن فيه إشكال؛ لأن قضية نصه على قضاء [صوم] خمسة عشر يوماً- أن تقضي صلاة أربعة عشر يوماً؛ لأنه لما حكم بعدم صحة الصوم في زمان النقاء، وجب أن يحكم بمثله في الصلاة. وقضية نصه على قضاء [صلاة] سبعة أيام أن تقضي صوم ثمانية أيام؛ لأنه لما حكم بصحة الصلاة في زمن النقاء، وجب أن يحكم بمثله في الصوم. فاختلف الأصحاب فيه: فمنهم من نقل وخرج، وجعل الصوم والصلاة على قولين. ومنهم من قال: الشافعي أجاب في الصلاة على قول التلفيق [و] في الصوم على قول السحب، وهو غلط؛ لأنه لا يحسن أن يجيب في مسألة واحدة في سطر واحد على قولين مختلفين. ومنهم من أقر النصين، وفرق بما ذكرناه من قبل، هكذا قال القاضي الحسين،

وقال: إن أبا زيد وغيره ذكروا القولين في قضاء الصوم، وسكتوا عن قضاء الصلاة، لكن أبا زيد قال: أصلهما ما إذا اقتدى الرجل بخنثى مشكل، ثم ظهرت رجوليته قبل القضاء هل يجب عليه قضاء الصلاة؛ لتردده في الصحة حال الإحرام أم لا؟ فإن قلنا: يجب لتردده، فكذا يقضي الصوم هنا؛ لتردده في النية. وقال القفال: ما ذكره أبو زيد إنما يستقيم في الشهر الأول؛ فإنه شهر التربص والتوقف، فأما إذا بان أنها مستحاضة في الشهر الثاني فلا تردد، وقد طرد الشافعي القولين في الصوم في الشهور كلها؛ فالوجه بناء القولين على القولين المتقدمين في أن المبتدأة هل تؤمر بالاحتياط إلى خمسة عشر يوماً أو لا؟ قال الإمام: وكأن الشيخ أبا زيد يطرد القولين في الشهر الأول وإن فرعنا على أنها غير مأمورة بالاحتياط؛ لمكان التردد الذي ذكرناه في الاقتداء بالخنثى. واعلم أن هذه إذا دام تقطع دمها، فالضابط في ابتداء حيضها الثاني أن تأخذ نوبة زمان حيضها ونوبة زمان طهرها، ثم تضربهما في عدد يبلغ ثلاثين يوماً أو ما يقرب منها، مثاله: إذا رأت يوماً [دما] ويوماً طهراً، فتضرب يومين في خمسة عشر يبلغ ثلاثين؛ فيكون يوم الحادي والثلاثين ابتداء حيضها في الشهر الثاني. ولو رأت يوماً ويومين طهراً، أو بالعكس فتضرب ثلاثة أيام في عشرة تبلغ ثلاثين. وهكذا لو رأت ثلاثة أيام دماً ويومين طهراً، أو بالعكس، فتضرب خمسة في ستة فتبلغ ثلاثين. ولو كانت ترى يومين دماً ويومين طهراً، ففيه وجهان: أحدهما: تضرب أربعة في سبعة تبلغ ثمانية وعشرين؛ فيكون ابتداء حيضها الثاني التاسع والعشرين. والثاني- وهو الصحيح-: أنك تضرب الأربعة في ثمانية تبلغ اثنين وثلاثين يوماً، فيكون ابتداء حيضها الثاني الثالث والثلاثين؛ لأنه مهما أمكننا ألا نحيضها في شهر واحد إلا مرة فعلنا.

ولو كانت ترى ثلاثة أيام دماً وأربعة أيام طهراً، أو بالعكس، فمجموع العددين سبعة، وفيم تضرب؟ فيه وجهان: أحدهما: أربعة؛ فتبلغ ثمانية وعشرين. والثاني: خمسة؛ فتبلغ خمسة وثلاثين، ويكون على هذا ابتداء حيضها الثاني السادس والثلاثين. ولو رأت أربعة أيام دماً وأربعة أيام طهراً فتضرب ثمانية في أربعة على الصحيح؛ فتبلغ اثنين وثلاثين، وعلى الآخر: تضربها في ثلاثة؛ فيكون ابتداء حيضها الخامس والعشرين، وعلى هذا فقس. قال: وإن كان لها عادة، فنسيت عددها ووقتها هذه المرأة تسمى بالمتحيرة: إما لتحيرها في شأنها أو لتحير الفقيه في أمرها. وصورتها أن يطرأ عليها وقد عرفت عادتها جنون أو غفلة، وأفاقت وهي مستحاضة ولا تدري كم العادة ووقت الحيض؟ ولا تمييز لها. وفي معناها من تكون [بلغت] مجنونة، وأفاقت وهي مستحاضة، [ولا تدري كم العادة ووقت الحيض؟ ولا تمييز لها]، وما حكمها؟ قال الشيخ: ففيها قولان: أحدهما: أنها كالمبتدأة؛ لأن العادة المنسية لا يمكن استفادة الحكم منها [فكانت كالمعدومة؛ ألا ترى أن التمييز لما لم يمكن استفادة الحكم منه]؛ لفوات بعض الشروط ألحق بالمعدوم، وإذا ثبت أنها كالمعدومة ولا تمييز، تعين أن تكون كالمبتدأة، وهذا القول قال بعضهم: إنه أخذ من قول الشافعي في العدد: تحيض في كل شهر حيضة؛ لأنه غالب وقت حيض النساء.

وقال الماوردي: إن بعض الأصحاب أخذه من قوله في العدد: "ولو ابتدأت مستحاضة [فنسيت] أيام حيضتها؛ تركت الصلاة لأقل ما تحيض له النساء، وذلك يوم وليلة"، قال: وهذا غير صحيح؛ لأن أقل زمان حيضها مجهول؛ فلا معنى لاعتبار الاجتهاد مع الجهل بالزمان، وكلام الشافعي عائد إلى المبتدأة دون الناسية؛ فإنه كثيراً ما يجمع بين المسألتين، ويجيب عن إحداهما، ويجوز أن يريد به الناسية لقدر حيضها، الذاكرة لوقته. فإذا قلنا به، كان فيما ترد إليه القولان في المبتدأة. وقيل: ترد إلى أقل الحيض، قولاً واحداً، ولم يذكر البندنيج غيره، وقال الروياني: إنه الذي نص عليه في كتاب العدد، وإن من قال بأنها ترد إلى ست أو سبع خرجه. والمشهور الطريقة الأولى، وهي الموافقة لإطلاق الشيخ. وكيف كان فابتداء حيضها من أول كل هلال تم الشهر أو نقص، فلو أفاقت المجنونة في أثناء الشهر الهلالي عد باقي الشهر استحاضة، وهذا أخذ من قول الشافعي: تستقبل العدة أول هلال يأتي عليها، فإذا أهل الرابع انقضت عدتها؛ فيكون حيضها من أول كل هلال؛ لأن لأول الشهر أثراً في التجارب؛ فتعتبر به. وعبارة الأصحاب: أن الغالب أن الحيض يبتدئ مع استهلال الشهر؛ فيرجع إليه؛ وهذه الدعوى يخالفها الحس. وعن القفال: أنها إذا أفاقت كان ابتداء حيضها من وقت الإفاقة؛ لأن التكليف حينئذ يتوجه عليها. قال الأئمة؛ وهو بعيد؛ فإنها قد تفيق في أثناء الحيض؛ وعلى هذا قدروها ثلاثين يوماً. وعن ابن سريج: أنه يقال لها: متى تعلمين لنفسك طهراً في عمرك؟ فإذا قالت: يوم كذا جعلنا عقبه ابتداء حيضها، حكاه البندنيجي. وحكى الروياني عنه أنه قال: يقال لها: متى رأيت ابتداء الدم؟ فإن عرفته جعلنا ابتداء حيضها من ذلك الوقت وعددنا لها ثلاثين يوماً، ثم حيضناها يوماً وليلة، وعلى ذلك أبداً.

وإن لم تعرف [ابتداء] حيضها، جعلنا ابتداء حيضها عقيب الزمن الذي تيقنت أنها كانت طاهرة فيه، فإن لم تعرف جعلنا حيضها من أول كل شهر، وهذا ما حكاه في "المهذب". وكلام ابن سريج والقفال مصرح بأن الشهر يعتبر في حقها بالعدد فيما ذكرناه، وهو خلاف النص، لكنه موافق لشهر المستحاضة؛ فإنه حيث أطلق فيما عدا ما نحن فيه حمل على العدد، أي سواء كان ابتداؤه من أول الهلالي أو لا. وفصل القاضي الحسين فقال: إن بلغت مجنونة وأفاقت، ردت إلى الشهر العددي، وإن بلغت عاقلة، فجنت ثم أفاقت، ردت إلى الشهر الهلالي، ثم ما جعناه حيضاً لها تقعد عن الصلاة فيه، وبعده تغتسل وتصلي، وتتوضأ لكل صلاة، ولا تقضي الصلاة، وهل تقضي الطواف والصوم؟ فيه طريقان في "تلخيص الروياني": إحداهما: أنهما على القولين السالفين في المبتدأة. والثانية: القطع بالقضاء، وهي التي أوردها البندنيجي. وهذا كله تفريع على القول الأول. قال: والثاني- وهو الصحيح- ألا يطأها الزوج؛ لأنه ما من زمن يمر عليها إلا ويحتمل أن تكون فيه حائضاً؛ كما يحتمل أن تكون فيه طاهراً، والوطء لا يستباح بالشك، وهذا ما نص عليه في كتاب الحيض. وفي "الحاوي" وجه آخر: أن له الوطء؛ لأنه مستحق للاستمتاع يقيناً؛ فلا يمنع منه بالشك، ولأن في منعها منه مع استدامة ما بها تحريماً عليه مع بقاء النكاح، وليست كالمبتدأة إذا أشكل حالها؛ لأن زمان الشك يسير. والسيد فيما ذكرناه كالزوج. ثم على المنصوص لو وطئها الزوج، وقلنا بالقديم أن الوطء في الحيض يوجب الكفارة- لم تجب. نعم، يجب التعزير. وكذا لو جومعت في رمضان حيث قلنا: يجب عليها الكفارة، لو كانت غير مستحاضة لا تجب هنا.

قال في "الروضة" على الصحيح؛ لأنها لا تجب بالشك، ونفقتها واجبة على الزوج وإن منع الوطء، ولا خيار له في فسخ نكاحها؛ لأن وطأها متوقع، وله الاستمتاع بها فيما فوق الإزار، وفيما تحته الخلاف الآتي في الحائض. قال: وتغتسل لكل فريضة، أي: تتوقف صحتها على الغسل كما لو كانت حائضاً- كالصلاة والطواف؛ لما روى أبو داود عن عائشة أن أم حمنة بنت جحش استحيضت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرها بالغسل لكل صلاة. وعن سليمان بن كثير عن الزهري عن عروة عن عائشة: استحيضت [زينب] بنت جحش، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغْتَسِلي لِكُلِّ صَلاَةٍ". ولأنه ما من زمن إلا ويحتمل انقطاع الحيض فيه؛ فوجب عليها الاغتسال أخذا بالأحوط، ولا يقدح في ذلك احتمال الانقطاع في أثناء الغسل؛ لأن اعتباره يؤدي إلى التسلسل، ويبطل شرع الغسل؛ وهذا إذا لم تكن تعرف وقت انقطاع دمها. أما إذا عرفته بأن قالت: كنت عند غروب الشمس أغتسل، فعليها أن تغتسل [عند] غروب الشمس من كل يوم، وتتوضأ لما سوى المغرب من الصلوات، واغتسالها في الحالة الأولى لأجل الصلاة، يكون بعد دخول الوقت، على الأصح. وقيل: لو وجد قبل دخوله، وانطبق آخره على أول الوقت جاز.

وفي "الحاوي": أنه يكون في آخر الوقت الذي لا يمكنها بعد الغسل إلا فعل الصلاة؛ لأنه يجوز أن ينقطع دمها في آخره؛ فلا يجزئها ما قدمت في أوله من الغسل والصلاة، وهذا يفهم [منه] أن الصلاة تفعل في آخر الوقت حتماً عقيب الغسل، وبه صرح من بعد نقلاً، وأبدى لنفسه بحثاً سنذكره. وكلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق بين أول الوقت وأوسطه وآخره، وَالَتْ بين الصلاة والغسل أو فرقت، وستعرف ما [في] جواز فعلها الصلاة في أول الوقت ووسطه وآخره، وأما الموالاة بين الغسل والصلاة ففيها وجهان: أحدهما: تجب كما في الوضوء. وأصحهما عند الإمام ومن تبعه: لا؛ لأنا إنما نوجب البدار إلى الصلاة بعد الوضوء؛ تقليلاً للحدث. والغسل إنما تؤمر به؛ لاحتمال الانقطاع، [ولا يمكن] تكرر الانقطاع بعد الغسل والصلاة، ولو بادرت فمن المحتمل كما ذكرنا أن غسلها يقع في الحيض وانقطع بعده؛ فإذن لا حيلة في دفع ذا الاحتمال وإن قرب الزمان [به]. قال الرافعي: ولصاحب الوجه الأول أن يقول: دفع أصل الاحتمال لا يمكن، لكن الاحتمال في الزمن الطويل أظهر منه في الزمن القصير والمبادرة تقلل الاحتمال. التفريع: إن قلنا بالأول، فأخرت الصلاة بعد الغسل، أعادت الغسل. وإن قلنا بالثاني، لزمها الوضوء، إذا لم يجز للمستحاضة تأخير الصلاة عن الطهارة، وقد سكت الشيخ عن فعل الفريضة التي ذكرها؛ لدلالة ما ذكره عليه، وهو مما لا خلاف فيه. نعم، الخلاف في أنها هل تزيد في الصلاة على قراءة الفاتحة كما يجوز لها قراءة الفاتحة، أو لا؛ كما لا يجوز لها القراءة في غير الصلاة؛ بناء على أن الحائض لا تقرأ القرآن؟ فيه احتمالان للإمام، حكاهما غيره وجهين وأظهرهما: الأول؛ فأفهم

كلامه أنها لا تغتسل للنوافل وتصليها. وللإمام في جواز صلاتها النوافل احتمالات، أقامها غيره أوجهاً، ثالثها: يجوز لها [فعل السنن الراتبة دون غيرها. والمذكور في "الحاوي" أنه لا يجوز لها] غير الراتبة وفي الراتبة وجهان. والأصح في "الرافعي" جواز الكل. والخلاف جار في نوافل الصوم والطواف، وصرح الماوردي بما ذكره في الطواف، وجزم في الصوم بالمنع، والقياس التسوية. ثم حيث جوزنا لها التنفل بالصلاة والطواف، فلا يلزمها الاغتسال كما أفهمه كلام الشيخ، وهو يطرد في ركعتي الطواف إذا قلنا: إنهما سنة، وقد قيل [على القول] بوجوبهما: إنها لا تغتسل لهما؛ لأنهما تبع للطواف، حكاه القاضي الحسين مع الأول. وبعضهم قطع به موجهاً له بأن دمها إن كان قد انقطع قبل الغسل للطواف، فهي الآن طاهرة، ولا تقدر على عوده. وإن كان قد انقطع في حال الطواف، فلم يحكم بصحة طوافها، وشرط الاعتداد بالركعتين أن يكونا بعد تمام الطواف. وإن فرض وقوع الطواف في بقية طهر، وابتداء الحيض حالة الاشتغال بالركعتين- فلا فائدة فيه. نعم، على هذا التقدير لابد من وقوع طواف آخر بغسله وركعتيه في طهر، كذا قاله الإمام. وعلى هذا هل يلزمها الوضوء لهما؟ فيه وجهان في الرافعي، وأصحهما الوجوب. قال: وتصوم شهر رمضان؛ لأنه ما من يوم إلا ويحتمل أن تكون فيه طاهراً، بل احتمال كونها في جميع الشهر طاهراً ممكن. قال: ثم تصوم شهراً آخر؛ لاحتمال كونها في رمضان قد حاضت أكثر الحيض؛ فلم يسقط به فرضها، بل الساقط منه إن كان كاملاً أربعة عشر يوماً؛ لأنه يحتمل أن يكون الحيض قد طرأ في أثناء يوم، وانقطع في أثناء آخره وهو خمسة عشر يوماً،

[فيفسد اليومان وما بينهما- وهو الأربعة عشر يوماً- فلا يصح لها إلا ما ذكرناه]. قال: فيصح لها من ذلك- أي: من صيام الشهرين إذا كانا كاملين- ثمانية وعشرون يوماً- أي: بيقين- لما ذكرناه، وهذا ما صار إليه أبو زيد ومن تبعه من الأصحاب وهم الأكثرون على اختلاف طبقاتهم. لكن المنقول عن الشافعي: أنه [يحصل لها] من الشهر الكامل خمسة عشر يوماً؛ [إذ لابد وأن يكون لها في الشهر طهر صحيح، وغاية ما يمكن امتداد الحيض خمسة عشر يوماً؛ فيقع صوم خمسة عشر يوماً] في الطهر. قال الرافعي: وقد ذكر هذا قوم من الأصحاب: كصاحب "الإفصاح" والشيخ أبي حامد؛ ولأجله أثبت الإمام في المسألة طريقين: إحداهما: القطع بما قاله أبو زيد، وحمل كلام الشافعي على ما إذا أخبرت أن دمها كان ينقطع بالليل. والثانية: حكاية خلاف في المسألة. والأصح الطريقة الأولى. قال: ثم تصوم ستة أيام من ثمانية عشر يوماً: ثلاثة في أولها، وثلاثة في آخرها؛ فيصح لها منها ما بقي من الصوم- أي: وهو يومان في مثالنا- لأن الدم إن كان قد طرأ في أثناء اليوم [الأول] منها، انقطع في مثله من السادس عشر منها؛ فيسلم لها السابع عشر والثامن عشر، [وإن طرأ في أثناء الثاني، انقطع في مثله من السابع عشر فيسلم لها الأول والثامن عشر] وإن طرأ في أثناء الثالث انقطع في الثامن عشر فيسلم الأول والثاني، وإن طرأ في أثناء السادس عشر انقطع في أثناء اليوم الأول؛ فيسلم الثاني والثالث وإن طرأ في أثناء السابع عشر انقطع في أثناء الثاني منها؛ فيسلم السادس عشر والثالث، وإن طرأ في أثناء الثامن عشر انقطع في أثناء الثالث؛ فيسلم السادس عشر والسابع عشر، وتخرج بهما عن العهدة، هذا تقرير [ما ذكره الشيخ، وهو يفهم اختصاص الخروج عن العهدة] بصوم الثلاث في أول الثماينة عشر متواليات وكذا في آخرها، [وليس كذلك، بل لو صامت يومين في

أول المدة ويومين في آخرها] ويومين [فيما بين ذلك] سواء كانا متصلين باليومين الأولين أو باليومين الآخرين، أو منفردين عنهما، متفرقين أو مجتمعين- خرجت عن العهدة أيضاً. وضابط هذا: أن تعرف ما عليها من صوم وتصومه، وتصوم مثله بعد استكمال خمسة عشر يوماً من أول صومها الأول، وتصوم يومين فيما بين الصومين. مثاله: إذا كان عليها ثلاثة أيام صامتها في أي وقت شاءت، وصامت يومين بعدها إلى تمام خمسة عشر يوماً، وتصوم ثلاثة أيام عقب الخمسة عشر؛ فتخرج عما عليها بيقين.

[وعلى هذا] فإن قيل: هل يتصور أن تخرج [عما عليها بيقين بدون ما ذكرتم؟ قلنا: أما في المدة التي ذكرها الشيخ ومثالها فلا. نعم، يتصور أن تخرج] عن العهدة فيما ذكره الشيخ بخمسة أيام لكن من تسعة عشر يوماً [فتصوم يوماً]، وتفطر يوماً، وتصوم الثالث والسابع عشر من اليوم الأول، والتاسع عشر منه وفيما بين الرابع والسادس [عشر] تصوم اليوم الخامس. وضابط هذا أن تعرف ما عليها من صوم، فتصوم يوماً وتفطر يوماً إلى أن تستوفيه، ثم تترك الصوم [تمام ستة عشر يوماً] من أول صيامها، فتصوم يوماً وتفطر يوماً قدر ما صامت وأفطرت من أول المدة، وتصوم يوماً آخر فيما بين آخر [فطرها بعد] صيامها الأول والسادس عشر. مثاله: إذا كان عليها صوم ثلاثة أيام تصومها من أحد وعشرين [يوماً]: تصوم [يوماً] وتفطر ثانيه، وتصوم ثالثه، وتفطر رابعه، وتصوم خامسه؛ فيحصل لها صيام ثلاثة أيام قدر ما عليها، وتصوم السابع عشر من أول يوم [صامته]، والتاسع عشر منه، والحادي والعشرين منه، وذلك قدر ما [صامته] أولاً، وتصوم فيما بين اليوم السادس من أول صيامها واليوم السادس عشر منه يوماً آخر؛ فتخرج عن العهدة، والله أعلم.

أما إذا كان رمضان والشهر الذي صامته ناقصين فعلى قياس النص الحاصل لها منهما ثلاثون يوماً، والواجب عليها صوم تسعة وعشرين يوماً، وقد حكاه الرافعي. لكن في "تلخيص الروياني": أن الشافعي قال: إذا صامت رمضان حصل [لها] منه خمسة عشر، فلو صامت شوال حصل لها أربعة عشر يوماً، وقياسه عند نقص شهر غيره أن يحصل لها منه أربعة عشر يوماً، ولا يقال: الفرق بينهما أن النقص في شوال [حصل في] أوله وفي غيره يكون من آخره، وللأولية أثر فيما نحن فيه؛ لأنا نقول: إن الشافعي إنما راعي أوائل الشهور بالنسبة إلى طروء الحيض وهو ضد ما نحن فيه. وعلى الطريقة المشهورة لا يصح لها منه غير ستة وعشرين يوماً؛ لما قررناه، ويكون الباقي عليها بعد ذلك ثلاثة أيام، تصومها على رأي الشيخ من ثمانية أيام من تسعة عشر يوماً: أربعة في أولها، وأربعة في آخرها. وعلى الطريقة الأخرى: تصومها من سبعة [من أحد] وعشرين يوماً؛ كما سلف. ولو كان رمضان ناقصاً والشهر الآخر تاماً: فعلى قياس قول الشافعي لا يخفى الحكم، وعلى الطريقة المشهورة الحاصل لها منهما سبعة وعشرون يوماً، والباقي عليها يومان فتقضيهما كما سلف. وقال في "المهذب": يلزمها قضاء يوم واحد. فمن النسا من خطأه؛ لأن تفاريعه السالفة تقتضي ما ذكرناه، وهذا جرى على ظاهر النص، ولم يقل به. ومنهم من أجراه على ظاهره، وهو صاحب "البيان"، فقال: الشهر الهلالي لا يخلو في الغالب عن طهر كامل، فيحصل منه أربعة عشر يوماً كالكامل. وبعضهم يحكي عنه غير هذه العبارة، ويقول: إنه قال: الشهر الهلالي لا يخلو من

طهر صحيح: إما متفرقاً، وإما متتابعاً، فإذا كان الشهر تسعة وعشرين يوماً، فلابد من وجود طهر كامل [فيه]؛ فيدخل النقص على أكثر الحيض؛ لأنه يجوز نقصه، ولا يدخل على أقل الطهر؛ لأنه لا يجوز نقصه. قال بعضهم: وهذا لا يصح، ومحل المنع فيه قوله: "إن الشهر الهلالي لا يخلو من طهر صحيح"، والمسلم أنه لا يخلو من طهر صحيح، إنما هو الدور إذا كان ثلاثين [يوماً] لا الشهر الناقص. قلت: وهذا لا يقدح في قول العمراني؛ لأن مراده: أن الشهر الهلالي لا يخلو عن طهر كامل وحيض عند الشافعي وكذلك اكتفى في عدة المتحيرة بثلاثة أشهر، ووافقه جمهور أصحابه كما ستعرفه، وجعل الله عدة الآيسة ثلاثة أشهر. والرافعي قال على العبارة الأولى: لك أن تقول: لا نسلم أن الله أجرى العادة بما ذكرتم، هب أنه كذلك، لكنا على قول الاحتياط لا نكتفي بالغالب، ولو اكتفينا به

لجعلنا الفاسد صوم سبعة أيام أو ثمانية؛ لأن الغالب من الحيض ست أو سبع؛ فإذن ما ذكره الشيخ ساقط. قلت: وجوابه ما سلف وحينئذ يصح ما قاله الشيخ، ولا يكون تفريعاً على ظاهر النص وإن كان موافقاً لما حيكناه عن رواية الروياني عن الشافعي. وقد أول بعضهم كلام الشيخ بما أول به كلام الشافعي؛ لما ضاق عليه المجال. وإذا جرينا على ظاهر كلام الشيخ، فقضية ظاهر النص أنها تقضيه من يومين بينهما أربعة عشر يوماً؛ وهو ما حكاه الروياني عن النص، وبه قال بعض الأصحاب. والجمهور على تأويله بما سلف. وعلى هذا ففي كيفية قضائه وجهان: أحدهما- وهو [قضية] ما ذكره الشيخ: أنها تقضي اليوم الواحد من أربعة أيام من سبعة عشر يوماً: [يومان] في أولها، ويومان في آخرها، وعليه جرى في "المهذب" وغيره. والمشهور أنها تقضيه من ثلاثة أيام من سبعة عشر يوماً أيضاً: فتصوم يوماً، وتفطر ثانيه، وتصوم ثالثه، ثم السابع عشر من اليوم الأول، ولا يتعين عليها صوم ثالثا اليوم الأول ولا السابع عشر من اليوم الأول؛ بل لها أن تصوم ما بعد الثاني إلى تمام خمسة عشر يوماً من اليوم الأول، وتصوم ما بعد السادس عشر منه إلى تمام تسعة وعشرين يوماً، لكن بشرط أن يكون المختلف من [أول] السادس عشر مثل ما بين صومها الأول والثاني، وأقل منه. مثاله: إذا صامت الأول والرابع، فتصوم الثامن [عشر] أو السابع عشر؛ فلو صامت التاسع عشر لم تخرج عن العهدة، وعلى هذا المثال. ولو كان رمضان تاماً والشهر الآخر ناقصاً، فالحاصل لها منهما على المشهور سبعة وعشرون يوماً؛ فيلزمها قضاء ثلاثة أيام. وعلى طريقته في "المهذب" يلزمها قضاء يومين. وعلى ظاهر النص: لا يلزمها شيء.

ثم ما ذكرناه في الصوم الذي لا تتابع فيه، فإن كان متتابعاً بنذر أو غيره: فإن كان يقدر ما يقع فيه في شهر صامته على الولاء، ثم مرة أخرى قبل السابع عشر، ثم مرة أخرى من السابع عشر. مثاله: عليها يومان: تصوم يومين متواليين والسابع عشر والثامن عشر، وتصوم بينهما يومين متتابعين. ولو كان عليها شهران متتابعان، صامت مائة وأربعين يوماً على التوالي: أربعة أشهر لستة وخمسين يوماً، وعشرين يوماً لأربعة أيام. واعلم: أن الأصحاب عبروا عن القول الثاني في المتحيرة: أنها تأخذ بالأحوط فلا يطؤها الزوج، ولا جرم عدل الشيخ عن ذلك إلى ما ذكره؛ لأنه أقرب إلى كلام الشافعي؛ فإنه قال: لا حيض لها في زمان بعينه؛ فيكون جميع زمانها مشكوكاً فيه؛ فتغتسل لكل صلاة، وتصوم، ولا يأتيها زوجها ما دامت مستحاضة، ولأن عبارة الأصحاب تقتضي أمرين: أحدهما: أنها إذا طلقت تصبر إلى سن اليأس، ثم تعتد بالأشهر؛ لأن من المحتمل تباعد حيضها، والاحتياط ما ذكرناه، وقد صار إليه بعض الأصحاب كما حكاه صاحب "التقريب". لكن الذي عليه المعظم أن عدتها تنقضي بثلاثة أشهر على القولين معاً؛ لأن الغالب أن

يكون للمرأة في كل شهر حيضة، وحمل أمرها على تباعد الحيض وتكليفها الصبر إلى سن اليأس فيه مشقة عظيمة، وضرر بين؛ فلا وجه لاحتماله بتجويز مجرد على خلاف الغالب، بخلاف العبادات فإن المشقة فيها أهون؛ ولأجل هذا قال الإمام: إنا إذا رأينا أن نرد المبتدأة إلى سبعة أيام أو سبعة في ثلاثين يوماً، ونحكم لها بالنقاء ثلاثة وعشرين يوماً؛ فيتجه أن نقدر حيض المتحيرة سبعة في كل ثلاثين؛ فإنه لا فرق بينها وبين المبتدأة في ذلك، فلنقدر لها سبعة أيام في شهر رمضان. ثم قد تفسد ثمانية أيام بسبعة؛ فيصح لها اثنان وعشرون يوماً. وليس هذا عوداً إلى القول الضعيف: أنها كالمبتدأة؛ لأن المبتدأة نحيضها من أول الدور، ثم تبنى أدوارها على ذلك الأول، ولا يتأتى ذلك على قول الاحتياط هنا. وهذا متجه لا ينقدح غيره، وأقصى ما يتخيله الفارق: أن المتحيرة قد كان لها عادة؛ فلا نأمن أن تخالف تلك العادة لو رددناها إلى الغالب، والمبتدأة ما سبقت لها عادة، وهذا الفرق لا يرتضيه الفقيه؛ فإن المبتدأة ربما كانت تحيض عشرة لو لم تستحض، والله أعلم. الثاني: أنها تقضي الصلوات؛ لأنها يحتمل أن تكون في وقت صلاتها حائضاً، ثم ينقطع الدم بعد ذلك، والذي جزم به البندنيجي والغزالي في "الوجيز" عدم القضاء، وهو في "الشامل" محكى عن أبي إسحاق، ولم يورد سواه. وقال الروياني في "تلخيصه": إن الشافعي نص عليه، ووجهه: أن قضاءها يفضي إلى حرج شديد، والله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وعن ابن سريج: أنها تقضي الظهر والعصر عند غسل المغرب، والمغرب والعشاء عند غسل الصبح؛ لأنه يجوز أن ينقطع دمها قبل المغرب بركعة؛ فيجب عليها صلاة الظهر والعصر ولا تجزئها صلاة في مثل ذلك الوقت، وكذلك يجوز أن ينقطع [دمها] قبل صلاة الفجر بركعة؛ فيلزمها المغرب والعشاء، كذا حكاه عنه الماوردي. وغيره يعزي إلى ابن سريج: أنها تقضي كل الصلوات؛ كما تقضي الصوم لما ذكرناه، ويعزى هذا إلى [أبي زيد].

قال الرافعي: وهو ظاهر المذهب عند الجمهور، ولم يورد صاحب "ألتهذيب و"التتمة"- تبعاً للقاضي الحسين- سواه. وعلى هذا يلزمها في الصبح أن تغتسل أول الوقت، وتصليه، وإذا خرج الوقت اغتسلت، وصلت مرة ثانية أي وقت شاءت، ما لم تنقض خمسة عشر يوماً من أول الوقت، وإذا فعلت ذلك خرجت عن العهدة بيقين؛ لأنها إن كانت طاهراً في المرة الأولى فهي صحيحة؛ وإلا فإن انقطع الدم في الوقت، فقد صحت الثانية، وإن لم ينقطع في الوقت؛ فلا شيء عليها. وقال الإمام: يجزئها أن تغتسل، وتوقع بعض الصلاة الثانية في الوقت، وباقيها خارجه، لكن يشترط أن يكون ذلك البعض دون تكبيرة، إذا قلنا: يلزمها الصلاة بتكبيرة، أو دون ركعة إذا قلنا: لا تدرك الصلاة إلا بركعة؛ لأنه إن فرض الانقطاع قبل المرة الثانية فقد اغتسلت وصلت، والانقطاع لا يتكرر، وإن فرض في أثنائها، فلا شيء عليها. قال الرافعي: ولك أن تقول إشكالاً: المرة الثانية يتقدمها الغسل، فإذا وقع بعضها في الوقت والغسل سابق، جاز أن يقع الانقطاع في أثناء الغسل، ويكون الباقي من وقت الصلاة من حينئذ قدر ركعة أو تكبيرة؛ فيجب أن ينظر إلى زمان الغسل، سوى الجزء الأول منه، وإلى الجزء الواقع من الصلاة في الوقت ويقال: إن كان ذلك دون ما تلزم به الصلاة جاز؛ وإلا فلا، ولا يقصر النظر على جزء الصلاة. قلت: وهذا من الرافعي تفريع على أنه لا يشترط في إدراك الوقت بدون تكبيرة أو ركعة إدراك وقت الطهارة وقد قيل: إنه يشترط ذلك- كما ستعرفه- وعليه يستقيم كلام الإمام، ويلزمها في الظهر أن تغتسل لها أول الوقت، فتصليها، وتصلي المرة الثانية في الوقت الذي تقضي فيه صلاة العصر بعد فوات وقت العصر، ولا يجزئها قضاء الظهر في وقت العصر؛ كما لا يجزئها إعادة العصر فيه. نعم، على رأى الإمام يجزئها إيقاع بعضها آخر وقت العصر بالشرط المذكور. وحكم المغرب حكم الظهر، وحكم العشاء حكم العصر. فإذا أعادت الظهر والعصر بعد الغروب فينظر: إن قدمتهما على أداء المغرب، فعليها أن تغتسل للظهر وتتوضأ للعصر، وتغتسل للمغرب، وإنما كفاها غسل واحد للظهر والعصر؛ لأن دمها إن انقطع قبل الغروب فقد اغتسلت بعده، وإن انقطع بعد

الغروب فليس عليها ظهر ولا عصر، [وإنما لزمها الغسل للمغرب؛ لاحتمال الانقطاع في صلاة الظهر أو العصر أو عقيبهما]. وهكذا الحكم فيما إذا قضت المغرب والعشاء بعد طلوع الفجر وقبل أداء الصبح؛ وحينئذ تكون مصلية للخمس مرتين بثمانية أغسال ووضوءين. وإن أخرت الظهر والعصر إلى أن صلت المغرب اغتسلت للمغرب، وكفاها ذلك للظهر والعصر؛ لأنه إن انقطع حيضها قبل الغروب، فلا تعود إلى تمام مدة الطهر، وإن انقطع بعده لم يكن عليها ظهر ولا عصر، ولكن تتوضأ لكل واحدة من الظهر والعصر، وهكذا القول في المغرب والعشاء إذا أخرتهما عن الصبح؛ وحينئذ تكون مصلية للخمس مرتين بالغسل ست مرات والوضوء أربعاً. وقد أفهم كلام القاضي الحسين: أنه يتعين عليها فعل الطريق الثاني؛ لأن به تخرج عن العهدة يقيناً بغير زيادة. وحكى وجهاً آخر: أنه يجوز سلوك الطريق الأول، واستبعده؛ لأنه بعيد عن الاحتياط، فإنها وإن خرجت به عن عهدة الظهر والعصر والعشاء، فلا تخرج به عن عهدة المغرب والصبح؛ لأنها أخرت كلاً منهما عن أول وقتها بقدر ما يسع الغسل وصلاتين: الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء. ويحتمل أن تكون في ذلك الوقت طاهراً ثم يطرأ الحيض؛ فيلزمها المغرب والصبح، ولا يجزئها ما فعلته من المرتين؛ لأنه واقع في الحيض ويجب عليها أن تفعلهما مرتين أخريين بغسلين إحداهما دون انقضاء وقت الرفاهية والضرورة، وقبل تمام خمسة عشر يوماً من افتتاح الصلاة المرة الأولى، والثانية في أول السادس عشر من آخر الصلاة المرة الأولى؛ وحينئذ تخرج عن العهدة بيقين؛ لأن الخمسة عشر المتخللة: إما أن تكون كلها طهراً فتصح المرة الثانية، أو كلها حيضاً فتصح المرة الأولى والثالثة، أو يكون آخرها طهراً؛ فيكون قدر ما بعدها طهراً أيضاً، فإن انتهى إلى آخر المرة الثانية فهي واقعة في الطهر وإلا فالثانية واقعة فيه، أو يكون أولها طهراً؛ فيكون بشيء مما قبلها طهراً أيضاً فإن كان افتتاحه قبل المرة الأولى فهي في الطهر، وإن كان في أثناء الأولى كانت الثانية في

الطهر؛ كذا قاله الإمام. وسلك الماوردي في كيفية أداء الصلاة طريقاً آخر لنفسه، فقال: تصلي الظهر في أول الوقت بالوضوء فقط؛ لأنه يحتمل أن يكون آخر طهرها بقدر ما يسع الوضوء والصلاة، ثم تصلي مرة ثانية في آخر الوقت بالغسل؛ لاحتمال أن يكون ذلك الوقت آخر حيضها. وتصلي العصر في أول وقتها بالوضوء فقط وفي آخر وقتها الذي يلزمها به صلاة العصر على اختلاف قول الشافعي، وتعيد صلاة الظهر مرة ثالثة في آخر وقت العصر؛ لاحتمال أن يكون ذلك آخر حيضها؛ فيلزمها الظهر والعصر [به]. ثم إن قدمت العصر الثانية على الظهر الثالثة أو أخرتها كفاها عنهما غسل واحد [ووضوء واحد. فإذا غربت الشمس صلت المغرب بالغسل صلاة واحدة] لأنه ليس لها إلا وقت واحد، فإذا دخل وقت العشاء صلتها في أول وقتها بالوضوء، ومرة ثانية في آخره بالغسل؛ لما ذكرناه، وتعيد المغرب مرة ثانية في آخر وقت العشاء ويكفيها للصلاة وضوء واحد وغسل واحد. فإذا طلع الفجر صلت الصبح في أول وقتها بالوضوء، وأعادتها مرة ثانية في آخر وقتها بالغسل، لما ذكرناه؛ فتصير مصلية للظهر ثلاث مرات: مرة في أول وقتها بالوضوء وثانية في آخره بالغسل، وثالثة في آخر وقت العصر بغسل واحد لها وللعصر. وتصير مصلية للعصر مرتين: في أول وقتها بالوضوء، وفي آخره بالغسل لها وللظهر الثالثة. وتصير مصلية للمغرب مرتين: في وقتها بالغسل، وفي آخر وقت العشاء بالغسل لها وللعشاء. وتصير مصلية [للعشاء مرتين: في أول وقتها بالوضوء، وفي آخره بالغسل لها وللمغرب].

وتصير مصلية للصبح مرتين: في أول وقتها بالوضوء، وفي آخره بالغسل. وهذا منه تفريع على أنها تصير مدركة للظهر والمغرب بما تدرك به العصر والعشاء. أما إذا قلنا: لابد من إدراك [وقت يسعهما] فيتغير التفريع فيهما، وكذا إذا قلنا: إن وقت المغرب يمتد إلى دخول وقت العشاء؛ فتأمله، والله أعلم. [ولو اقتصرت على أداء الصلوات الخمس في أوائل أوقاتها، ولم تقض شيئاً حتى مضت] خمسة عشر يوماً، أو مضى شهر فلا يجب عليها لكل خمسة عشر إلا قضاء صلوات يوم وليلة؛ لأن القضاء إنما يجب لاحتمال الانقطاع، [ولا يتصور الانقطاع في] الخمسة عشر إلا مرة. ويجوز أن يجب به تدارك صلاتي جمع- وهما الظهر والعصر أو المغرب والعشاء- فإذا أشكل الحال، أوجبنا قضاء صلاة يوم وليلة؛ كمن نسي صلاة أو صلاتين من الخمس. ولو كانت تصلي في أوساط الأوقات، لزمها أن تقضي للخمسة عشر صلوات يومين وليلتين؛ لجواز أن يطرأ الحيض في وسط صلاة؛ فتبطل، وينقطع في وسط أخرى، فتجب. ويجوز أن تكونا مثلين. ومن فاتته صلاتان متماثلتان، ولم يعرف عينهما- لزمه فعل صلاة يومين وليلتين. فإن قلت: كلام الشيخ وإن لم يقتض دخول هذين الأمرين فهو يقتضي أيضاً عدم دخول قضاء الطواف، ولا خلاف في وجوب قضائه. قلت: إنما لم يذكره؛ لأنه ملحق عند الأصحاب- كما سلف- بالصوم، وقد صرح في الصوم بوجوب القضاء، وكذا هو، [وفي كيفية قضاء الطواف الطريقان المذكوران] في كيفية قضاء الصوم، إلا أنا نقدر أزمنة الطواف وغسله وركعتيه كاليوم، والساعات واللحظات بالنسبة إليه كالأيام بالنسبة إلى الصوم؛ فعلى طريقة الشيخ إذا كان عليها طواف واحد، تغتسل وتطوف مرتين متواليتين على [السواء،

ثم] تفعل [مثل] ذلك بعد مضى خمسة عشر يوماً أولها حين اغتسلت أولاً. وعلى الطريقة الأخرى: تغتسل وتطوف، ثم تمسك قدر زمن ذلك، وتغتسل وتطوف بعد ذلك طوافاً آخر أي وقت شاءت إلى تمام خمسة عشر يوماً، وتمسك بعدها بقدر زمن اغتسالها الأول وصلاتها الأولى، ثم تغتسل وتطوف أي وقت شاءت إلى تمام تسعة وعشرين يوماً، لكن بشرط أن يكون المخلف من أول السادس عشر مثل ما بين طوافها الأول والثاني أو أقل منه، وقد سبق تمثيله في الصوم؛ وهذا ما أورده ابن الصباغ بمعناه. وقال الماوردي: عليها أن تطوف ثم تمسك تمام خمسة عشر يوماً من أول ساعة بدأت فيها بالطواف، ثم تطوف عقيب ذلك طوافاً ثانياً فيصح لها [أحد الطوافين]. مثاله: إذا بدأت الطواف مع زوال الشمس، فتمسك لزوال الشمس من اليوم الخامس عشر، ثم تطوف ثانية عقيب الزوال؛ فيكون أحد الطوافين مصادفاً لطهر بيقين؛ لأنه إن كان الأول في أول حيضها كان الثاني في أول طهرها، وإن كان الأول في وسط حيضها كان الثاني في وسط الطهر [فتخرج عن العهدة]. قلت: وهذا فيه نظر؛ لأنه يحتمل أن يكون بعض الأول في آخر حيضها وبعض الثاني في أول حيضها؛ فلا يصح لها من الأول شيء لا ما وقع في الحيض ولا ما يقع منه في الطهر [لأنه بغير طهارة. وأما الثاني: فيصح لها منه [بقدر] ما أدركته منه في الطهر] لكنه مجهول لا [يمكن أن] تبني عليه لو قلنا: إن الموالاة ليست شرطاً فيه؛ فتعين للخروج عن العهدة ما قاله غيره. والله أعلم. والحكم في قضاء الصلاة الواحدة كالحكم في قضاء الطواف الواحد. وقضاء الطوافين والصلاتين فأكثر تعرفه مما سلف في الصوم إذا ضبطت ما

ذكرناه من القاعدة. قال: وإن كانت ناسية للوقت ذاكرة للعدد، أو ناسية للعدد ذاكرة للوقت- فكل زمان تيقنا فيه حيضها جعلناها فيه حائضاً، وكل زمان تيقناً فيه طهرها جعلناها فيه طاهراً، وكل زمان شككنا فيه جعلناها في الصلاة طاهراً- أي: حتى نوجبها عليها- وكذلك غيرها من العبادات، وفي الوطء حائضاً- أي: حتى نحرمه على الزوج والسيد- وكذا ما في معناه كما سلف في المتحيرة. وكل زمان احتمل انقطاع الدم فيه أمرناها بالغسل. هذا الفصل نظم مسألتين؛ لاتفاقهما في الحكم: فالأولى مصورة بما إذا قالت: كنت أحيض في العشر الأول من كل شهر خمسة أيام- مثلاً- ولا أعرف هل هي من أوله أو وسطه أو آخره، وكنت أعلم أني في اليوم الأول طاهرة، فهذه المرأة لها أربعة أحوال، نبه عليها الشيخ: حال حيض بيقين: وهو اليوم السادس من الشهر؛ لأنك كيف قدرت ابتدءا حيضها دخل فيه؛ فإنه على تقدير أن يكون قد طرأ في اليوم الثاني، كان آخره بحكم العادة آخر السادس، وإن قدرت أن آخر حيضها آخر العشر، كان أوله بحكم العادة أول السادس، فهو داخل تحت التقديرين، وهذا ضابط ما يعرف به الحيض بيقين، فتؤمر فيه بما تفعله الحائض غير المستحاضة؛ [لتحققه]. وحال طهر بيقين: وهو [اليوم] الأول؛ كما نصت، وكذا من الحادي عشر إلى آخر الشهر؛ فيكون حكمها في ذلك حكم المستحاضات، كما سيأتي. وحال حيض مشكوك فيه: عبر الشيخ عنه بقوله: "وكل زمان شككنا فيه جعلناها في الصلاة طاهراً"، وهو في مثالنا من أول الثاني إلى آخر الخامس؛ لأنه يحتمل أن يطرأ فيه الدم، و [لا] يحتمل أن ينقطع فيه إذا جرى على عادتها، وهذا ضابط الحيض المشكوك فيه؛ فتؤمر بالصلاة فيه وغيرها من العبادات، ويؤمر الزوج باجتناب وطئها ونحوه؛ للاحتياط- كما ذكرناه- ولا يلزمها لكل صلاة غسل؛ لعدم احتمال انقطاع

الحيض، ويلزمها الوضوء؛ كما في حالة الاستحاضة المحققة، ولا يجب عليها في هذه المدة قضاء الصلوات بلا خلاف؛ لأنه لا يحتمل فيها الانقطاع. وحال طهر مشكوك فيه عبر الشيخ [عنه] بقوله: "وكل زمان احتمل انقطاع الدم [فيه]، أمرناها بالاغتسال"، وهو في مثالنا من أول السابع إلى آخر العاشر؛ لأن هذا الزمن يحتمل [فيه] انقطاع الحيض إن جرى على العادة؛ وهذا ضابط الطهر المشكوك فيه. ووجه إيجاب الغسل عند كل صلاة الاحتياط؛ كما في المتحيرة. وفي إيجاب إعادة الصلاة الواقعة في هذه المدة الخلاف السابق. فإن قلت: هذا المثال ينبو عنه كلام الشيخ؛ لأن فيه تعيين وقت الطهر، وكلام الشيخ لا يقتضيه، بل يقتضي تصويرها بما إذا قالت: كان حيضي عشرة أيام، لكني لا أدري هل [في كل] شهر أو شهور من سنة أو سنتين أو إذا قالت: كان حيضي خمسة من كل شهر، ونحو ذلك، من غير تعرض لوقت تتيقن فيه حيضاً أو طهراً. قلت: ليس الأمر كذلك، لأن الشيخ جعل الأحوال الأربعة جارية فيها، ولا يتصور ذلك إلا بما ذكرناه ونحوه؛ فتعين أنه المراد. وضابط جريانها: أن يكون عدد [المنسي أكثر من نصف عدد] المنسي فيه، والحيض باليقين منه- إذا كان كذلك- قدر ما زاد على النصف مرتين، أما إذا لم يزد على النصف من المنسي فيه، فلا حيض لها بيقين، وقد يكون لها طهر بيقين، مثل: أن تقول: [كان] حيضي خمسة من العشر الأول من كل شهر: فمن الأول إلى [آخر] الخامس حيض مشكوك فيه، ومن السادس إلى آخر العاشر طهر مشكوك فيه، ومن الحادي عشر إلى آخر الشهر طهر بيقين، على هذا المثال. وقد لا يكون لها أيضاً طهر بيقين بأن تقول: كان حيضي خمسة من كل شهر، ونحو ذلك، ولا تعرف شيئاً آخر، فإنا نجعلها من أول الشهر إلى آخر الخامس [في] حيض مشكوك فيه؛ لأنه يحتمل الطروء في ذلك دون الانقطاع، ومن

السادس إلى آخر الشهر في طهر مشكوك فيه؛ لأنه يحتمل الانقطاع فيه؛ وهذه إحدى الصورتين التي منعنا أن يكون كلام الشيخ يقتضيهما، [وقد لا يكون لها] من الأحوال الأربعة إلا حالة طهر مشكوك فيه؛ بأن تقول: كنت أحيض خمسة، ولا أدرى، هل كنت أخلط الشهر بالشهر في كل ثلاثين يوماً أو لا؟ لأنه ما من زمن إلا ويحتمل فيه الانقطاع، وهذا قريب من الصورة الثانية التي منعنا أن يكون كلام الشيخ يقتضيها، وقد قال الماوردي فيها: إنها كالمتحيرة إلا في أمر واحد، وهو أنها إذا صامت رمضان احتسب لها منه بما عدا أيام عادتها وهي عشرة أيام [من عشرين يوماً] إن علمت أن الحيض يطرأ قبل الفجر؛ وإلا فمن أحد عشر يوماً من ثلاثة وعشرين [يوماً]. وإن كان عليها صوم يوم، قضته من يومين بينهما تسعة أيام أو عشرة. وإن كان عليها صوم يومين، صامت يومين، وأمسكت تسعة أيام، وصامت يومني. ولو كان عليها صوم ثلاثة أيام صامتها وأمسكت ثمانية أيام، ثم صامت ثلاثة أيام. والثانية مصورة بما إذا قالت: لا أعلم [كم قدر ما كنت أحيضه لكني أعلم] أني أحيض في الشهر حيضة، وأكون في السادس من الشهر حائضاً- فالأحوال الأربعة موجودة فيها: الحيض باليقين ما نصت عليه. والطهر باليقين من الحادي والعشرين إلى آخر الشهر؛ [لأنه لا يحتمل طروءاً ولا انقطاعاً]. والحيض المشكوك فيه في أول الشهر إلى آخر الخامس؛ لأنه يحتمل الطروء دون الانقطاع. والطهر المشكوك فيه من السابع إلى آخر العشرين؛ لأنه يحتمل الانقطاع دون الطروء. وقد صورت أيضاً بما إذا قالت: أعلم أن لي [في] كل شهر حيضة من أوله، ولا

أدرى قدرها: فالأول حيض بيقين، ومن الثاني إلى آخر الخامس عشر طهر مشكوك فيه، ومن السادس عشر إلى آخر الشهر طهر بيقين؛ وهذا فيه نظر؛ لأن الأحوال فيها ثلاثة، وكلام الشيخ مصرح بأنها أربعة فالأول أشبه به. على أن الماوردي قال في المثال الثاني: إنها كالمبتدأة فعلى قول نحيضها أقل الحيض، وعلى قول غالبه، وما حيضناها فيه حكمه حكم الحيض بيقين، وما جاوز الخمسة عشر طهر بيقين، وفيما بينهما قولان سلفاً في المبتدأة، والله أعلم. قال: وإذا حاضت المرأة حرم الاستمتاع بها- أي: بوطء وغيره- فيما بين السرة والركبة؛ لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]. قال الماوردي: وهو في الآية قبلها الحيض باتفاق أهل العلم، وكذا فيها؛ وعليه يدل قول أم سلمة: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الغسل من المحيض" وهو مختار الشافعي؛ وحينئذ يكون سمي الدم باسم المصدر، وهو مستحسن عند العرب تقول [العرب]: حاضت المرأة حيضاً أو محيضاً، كما تقول: سار سيراً أو مسيراً، وجاءت مجيئاًن وباتت مبيتاً. وقد قيل: إن المراد بالمحيض فيها: زمن الحيض، وقد قيل غيره، كما سنذكره. والقولان الأولان يدلان على وجوب اجتنابها بجملتها، وقد حكاه الرافعي في كتاب النكاح [وجها] عن رواية ابن كج. والمذهب أنه لا يحرم إلا ما تحت الإزار، وهو ما ذكرناه؛ لما روي أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ قال "مَا فَوْقَ الإِزَارِ وَلَيْسَ لَهُ مَا تَحْتَهُ". وروى مسلم عن ميمونة أنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يباشر نساءه فوق الإزار،

وهن حُيَّض". وروى البخاري عن عائشة أنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] يأمر إحدانا إذا كانت حائضاً أن تأتزر، ويباشرها فوق الإزار". ورواية الترمذي [عنها] أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرني أن أتزر، ثم يباشرني. قال: وهو حسن صحيح. قال بعضهم: وبه يستدل على تحريم ما تحت الإزار؛ إذ لو كان يباشرها فيما تحت الإزار، لم يفد الاتزار شيئاً. قال الشافعي- رضي الله عنه- وعلة تحريم الوطء في الفرج ما به من الأذى، كذا حكاه الإمام عنه عند الكلام في وطء المرأة في دبرها، وعلة تحريمه فيما عداه، ودون السرة، [وفوق] الركبة خوف أن يصيبه شيء من الأذى، كذا قاله الأصاحب، وللإمام فيه كلام ذكرناه في كتاب النكاح. قال: وقيل: يحرم الوطء في الفرج وحده؛ لأنه الثابت بالإجماع؛ والمحيض في الآية اسم لموضع الحيض، وهو الفرج؛ كالمقيل: موضع القيلولة؛ فيكون تقدير الآية: ولا تقربوهن في فروجهن، ويؤيد ذلك: أنه لما نزلت ظن المسلمون أنه الاعتزال كما هو عند اليهود فإنهم إذا حاضت المرأة، لا يؤاكلونها ولا يشاربونها، ويحبسونها في موضع ويناولونها الطعام على رأس خشبة، فجاءوا [إلى] النبي - صلى الله عليه وسلم - وسألوه عن ذلك؟ فقال لهم: "افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلا الْجِمَاعَ"، ورواية مسلم: " افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ،

إلا النكَاحَ". وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن القديم، واختاره أبو إسحاق وابن خيران. وحكى الماوردي عن أبي الفياض البصري: أن من أمن غلبة الشهوة التي توقعه في الوطء [في الفرج] يحل له ما عدا الوطء في الفرج؛ وإلا فلا. قال: والمذهب الأول؛ لأنه نص عليه في "الأم"، و"أحكام القرآن"، وهو الراجح عند الجمهور، ووجهه ما سلف. وجعل المحيض في الآية التي ذكرناها الحيض، كما هو في التي قبلها- أشبه، وإن وقع نزاع فيه في التي قبلها؛ كما أفهمه كلام أبي الطيب وغيره- قلنا: قوله- تعالى-: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] يدل على ما ذكرناه؛ لأن الزمان والفرج نفسه ليس أذى، وإنما هو الدم؛ فإنه يلوث، وهو مستقذر والخبر نحمله على القبلة والمعانقة؛ جمعاً بين الأخبار. وقد أفهم كلام الشيخ إباحة الاستمتاع بها بما فوق السرة ودون الركبة، وهو المذهب، كما ذكرنا. نعم، لو أصابه شيء من أذى الفرج فهل يحل مباشرتها فيه؟ قال البندنيجي: لا نص للشافعي فيه. وقال أصحابنا: لو قيل: يحرم كما يحرم تحت الإزار، لم يبعد، ولو قيل: لا يحرم؛ لأنه لا يخاف أن يصيبه دم الحيض من الفرج بغير واسطة لم يبعد؛ ولأجل ذلك حكى صاحب "الفروع" و"المجموع" والروياني في "تلخيصه" ["والبحر"] في ذلك وجهين، وصحح الثاني، وبه جزم الإمام، كما ذكرناه في كتاب النكاح. فرع: إذا ادعت المرأة الحيض، فإن غلب على ظنه صدقها، حرمت عليه، وإن غلب على ظنه كذبها، وأنها تريد ممانعته، لم يحرم. وخالف ما لو علق طلاقها بحيضها؛ فإن القول قولها في الحالتين؛ لأنه مفرط في تعليقه.

نعم، لو توافقا على الحيض، واختلفا في انقطاعه، فالقول قولها؛ لأن الأصل بقاؤه. قال: ويحرم عليها الصلاة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حبيش: "فَإِذَا أَقْبلَتِ الْحَيضَةُ، فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَإذَا أَدْبَرَتْ [فَاغْسِلِي عَنْكِ] الدَّمَ وَصَلِّي". أخرجه الشيخان، وزاد الترمذي: "وَتَوَضَّئي لَكُلِّ صَلاَةٍ حَتَّى يجِيء ذَلَكِ الوَقْتُ"؛ وهذا مع [أن] قوله عليه السلام: "حُكْمِي عَلَى الوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ" يدل على المدعى، وأيضاً فهو إجماع. والحيضة بفتح الحاء هي المرة [الواحدة]، وبكسر الحاء الاسم، وذكر في "الغريب": أنه روى بالفتح والكسر. وكما يحرم عليها الصلاة؛ كذا يحرم السجود للتلاوة، وقد ذكره الشيخ في بابه، وسجود الشكر في معناه. قال: ويسقط عنها فرضها؛ لما روى مسلم أن معاذة سألت عائشة: "ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: "أحرورية أنت"؟ فقلت: "لست بحرورية، ولكني أسأل"، قالت: "كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر

بقضاء الصلاة". والحرورية: طائفة من الخوارج التزمت تشديدات لا أصل لها في الشرع. وروى مسلم أيضاً عن عائشة قالت: "كنا نحيض عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نطهر، ويأمرنا بقضاء الصوم ولا يأمرنا بقضاء الصلاة". قال: ويحرم عليها الصوم؛ للإجماع، ومفهوم خبر عائشة يدل عليه. ورأيت في "تعليق القاضي الحسين" في كتاب الصيام: أن عائشة قالتك "كنا إذا حضنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نؤمر بترك الصلاة والصوم، ثم نؤمر بقضاء الصوم دون الصلاة"، فإن صح هذا فهو نص من جهة السنة. وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه عليه السلام خرج في أضىح أو فطر إلى المصلى فقال: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ .. " إلى أن قال: "مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاِت عَقْل وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ" قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا؟ قال: "أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرأَةِ مَثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ " قلن: بلى، قال: "فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلهَا. أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ قلن: بلى، قال: "ذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِها". ثم ليس لتحريمه عليها معنى معقول؛ كما قال الإمام، ويدل عليه أن عائشة-

رضي الله عنها- لما سئلت عن الفرق عدلت إلى النص. وقد قيل: إن المعنى [فيه] أنه يضعفها. وقد أفهم سكوت الشيخ عن سقوط القضاء وجوبه، وهو مما لا خلاف فيه؛ لما ذكرناه، وبه صرح في كتاب الصيام، والفرق بينه وبين الصلاة أنه لا مشقة في قضائه؛ لأنه يأتي في السنة مرة بخلاف الصلاة، ولأن الصلاة لم يبن أمرها على أنه تؤخر ثم تقضى، بل: إما ألا تجب أصلاً، أو تجب بحيث لا تؤخر بالأعذار، بخلاف الصوم، لأنه قد يترك بعذر السفر والمرض ويقضي. نعم، الخلاف في أن الحائض مخاطبة بالصوم في حال الحيض أم لا؟ والصحيح عند الجمهور لا، وإن كان المذكور في "تعليق البندنيجي" مقابله، وكذا في "الشامل" "وتعليق أبي الطيب"؛ لأنهما قالا: الحيض يمنع وجوب الصلاة وصحتها، وصحة الصوم دون وجوبه. قال بعضهم: وفائدة الخلاف تظهر إذا قلنا: إنه يجب التعرض للأداء والقضاء في النية.

قال: والطواف؛ لقوله – عليه السلام- لعائشة وقد حاضت في الحج: "فَإِنَّ ذَلِكَ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلي مَا يَفْعَلُ الْحاجُّ غَيْرَ ألا تَطُوفي بِالبَيْتِ حَتى تَطْهرِي" رواه البخاري. وقوله- عليه السلام- في حديث صفية بعد أن أخبر بحيضها: "أحَاَبسَتُنَا؟ " قيل: يا رسول الله؛ إنها أفاضت يوم النحر، قال: "اخْرُجُوا" أخرجه مسلم. قال: وقراءة القرآن؛ لقوله- عليه السلام-: "لا تَقْرَأ الْحائِضُ وَلا الجُنُبُ شَيْئاً مِنَ القُرآنِ" رواه أبو داود؛ وهذا هو الجديد. وفي "التتمة" حكاية قول [آخر]: أن لها أن تقرأ، وغيره عزاه إلى رواية أبي ثور، وأنكره الأصحاب. قال الإمام- قبيل باب الاستطابة-: [وعلى هذا] هل تختص الإباحة بالمعلمة المحترفة بتعليم [القرآن] أو تعم النسوة؟ فيه وجهان: فعلى الأول تقتصر على ما يتعلق بحاجة التعليم في زمان الحيض. وعلى الثاني لا تختص؛ بل تصير كالطاهرة فيه؛ فلتقرأ ما شاءت. وقد حكى عن القديم: أن لها إذا خافت النسيان أن تقرأ. قال: ومس المصحف؛ لقوله- تعالى-: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]. وقد روى الدارقطني من طريق سليمان بن موسى عن سالم عن ابن عمر قال:

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا يَمَسَّ الُقْرآنَ إِلا طَاهِرُ". قال: وحمله؛ لأنه في معناه. قال: والجلوس في المسجد؛ لقوله- عليه السلام-: "إِني لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِجُنُبِ وَلاَ حَائِضٍ" رواه أبو داود؛ ولأن حدثها أشد من الجنابة، وقد قال- سبحانه وتعالى- فيها: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]. قال بعضهم: لو قال الشيخ: "واللبث في المسجد" كما قال في الجنب- كان أحسن من قوله: "الجلوس"؛ إذ يوهم أن القيام جائز، وقد رأيته كذلك في بعض النسخ. وإذا حرم اللبث حرم الاعتكاف؛ لأنه لبث مخصوص. قال: وقيل: يحرم عليها العبور فيه؛ حذاراً من التلويث؛ فإن الدم قد يزيد؛ فيلوث المسجد، وهو ظاهر نصه؛ فإنه قال: "وأكره مر الحائض في المسجد"، وهو الأصح في "النهاية"، ولم يحك الماوردي هنا غيره. [قال:] وقيل: لا يحرم؛ كما لا يحرم على الجنب، وهذا اختيار أبي إسحاق وابن سريج، وإليه ميل ابن الصباغ، وهو الأصح عند الرافعي، ولم يحك البندنيجي والشيخ في "المهذب" غيره، وكذا الماوردي في كتاب الصلاة. ومحل الخلاف إذا أمنت التلويث بأن تلجمت، واستثفرت على العادة، والدم على العادة، فإن تركت ذلك، أو جاوز الدم قدر العادة- حرم وجهاً واحداً. قال الرافعي وغيره: وهذا ليس من خاصية الحيض؛ بل المستحاضة ومن به سلس البول، ومن به جراحة نضاحة، يخشى من مروره التلويث- ليس له العبور. وقد رأيت في "تعليق القاضي أبي الطيب" عند الكلام في الصلاة على الميت في المسجد: أن الحائض إذا لم تكن قد استحكمت [من] نفسها، واستوثقت، فإنه

يكره لها دخول المسجد، وإن كان محكماً لم يكره لها دخوله، ودل كلامه-[ثَمَّ] – على أنها كراهة تنزيه. وقد عد الشيخ في "المهذب" من المحرمات عليها: الطهارة، واعترض عليه بأن المحرم يتعلق بالإثم بفعله، وأي إثم عليها في إمرار الماء على بدنها؟ وأجيب عنه بوجهين: أحدهما: أنه أراد بقوله: "حرم" امتناع الصحة؛ لأنه قال في تعليله: لأن الحيض يوجب الطهارة، وما أوجه الطهارة منع صحتها؛ كخروج البول، فاستنتج دليله بمنع الصحة؛ فدل على أنه مراده، وبه صرح أبو الطيب حيث قال: إنه يمنع من صحة الغسل؛ فإن الجنب إذا حاضت لم يصح غسلها عن الجنابة. واعترض عليه ابن الصباغ بأن ما قاله يرجع إلى تعلق الغسل بالحيض؛ لأن الغسل لا يفيد شيئاً؛ لوجود الحيض أي: وهو قد ذكر من أحكام الحيض وجوب الغسل؛ فهو إذن مكرر، ومثل هذا لا يرد على الشيخ؛ لأنه لم يذكر وجوب الغسل به. والثاني: إجراؤه على ظاهره، ويكون ذلك إذا قصدت بفعلها التعبد؛ فإنها فعلته في حال لا يصح منها مع العلم، ومن فعل ذلك فقد ارتكب محرماً؛ لتلاعبه؛ ولهذا المعنى قلنا: إنه يحرم عليها الصوم، وإلا فالإمساك بدون قصد القربة، لا يحرم عليها، ولا فرق في عدم صحة الطهارة منها بين الصغرى والكبرى. نعم، إذا قلنا: الحائض تقرأ القرآن، فأجنبت صح غسلها للجنابة، قاله الإمام. قال الشيخ أبو محمد: ويصح غسلها لأجل الإحرام والوقوف بعرفة؛ لأنه فيهما للنظافة لا للطهارة. قال: وإذا انقطع الدم ارتفع تحريم الصوم، لأن تحريمه بالحيض لا بالحدث؛ بدليل صحته من الجنب، والحيض قد زال؛ فوجب زوال موجبه؛ لأن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها. قال: وتبقى سائر المحرمات- أي: التي ذكرها- إلى أن تغتسل، ووجهه في

المباشرة قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أي: ينقطع دمهن، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: اغتسلن {فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ} فأتبع الشرط [الشرط] فتوقف الحل على وجودهما؛ كما لو قال لامرأته: لا تكلمي زيداً، فإذا كلمت زيداً ودخلت الدار، فأنت طالق- لا يقع الطلاق عليها إلا عند وجود الشرطين. ومثل هذه [الآية] قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. وقيل: إن نظيره قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فإن مفهوم الآية يقتضي ارتفاع التحريم السالف بنكاح [غيره] ومطلق التحريم لا يرتفع؛ بل الذي يرتفع: التحريم الناشئ من الطلاق الثلاث وإن بقي تحريم كونها أجنبية منه وفي نكاح غيره. كذلك تحريم الوطء في الحيض يرتفع بانقطاع الدم وإن بقي تحريم مواقعتها قبل الغسل الدال عليه قوله- تعالى-: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}، وهذا حسن بالغ. فإن قيل: لا نسلم أنهما شرطان؛ بل شرط واحد، والتقدير: لا تقربوهن حتى يطهرن- أي: ينقطع حيضهن- {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} - أي: انقطع حيضهن- {فَآتُوهُنَّ}. وإن سلمنا أن المراد بالثاني: التطهر [بالماء]، فلا نسلم أنه للغسل؛ بل هو غسل الفرج أو غسل أعضاء الوضوء. قلنا: أما الأول فعنه أجوبة: أحدها: أن ابن عباس ومجاهداً قالا: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: اغتسلن بالماء؛ وبهذا يحصل جواب الثاني أيضاً. والثاني: أن التطهر في الآية منسوب إليهن، وانقطاع الدم ليس إليهن، فلو كان هو المراد لقال: فإذا طهرن.

والثالث: أنه مدح المتطهرين، والمدح إنما يكون على ما يفعله المرء، وقد ذكرنا أن انقطاع الدم ليس إليهن. والرابع: أنه قرئ {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتشديد، وهي تقتضي توقف إباحة القربات على فعل الطهرة بعد انقطاع دمهن. وأما الثاني فجوابه- غير ما ذكرناه:- أن التطهر ورد في القرآن بمعنى الغسل؛ فحمل عليه، قال الله- تعالى-: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ووجهه فيما عدا المباشرة؛ لأن المنع منه لأجل الحدث، وهو باق. وقد أفهم كلام الشيخ أن التيمم [لا] يقوم مقام الغسل في إباحة ما ذكرناه إذا وجد شرطه، ولا شك في أنه يقوم مقامه؛ ولذلك قال بعضهم: كان الأحسن أن يقول: "ويبقى سائر المحرمات إلى أن يتطهرن"؛ ليندرج فيه التيمم. قلت: هذا قد دل عليه قوله: "يجب التيمم عن الأحداث كلها إذا عجز عن استعمال الماء"، فلم يكن به حاجة إليه، بل لو قال ذلك لكان صريحاً في أنها إذا عدمت الماء والتراب- يحرم عليها الصلاة، والمذهب وجوبها، كما سلف. لكن لك أن تقول: الصلاة عند فقد الماء والتراب ليست بصلاة حقيقة؛ وإنما هي صورة صلاة؛ ولذلك يحرم عليها فيها قراءة القرآن، على رأي، ويجب إعادتها. والمشهور في هذه الحالة: أنه لا يباح للزوج وطؤها، وبه جزم المتولي والقاضي الحسين والماوردي وحكى الرافعي وجهاً آخر: أنه يجوز كصلاة الفرض. وهذا القائل يشبه أن يكون هو القائل بأنه يحتاج عند كل وطء إلى تيمم؛ كما يحتاج عند كل صلاة فرض إليه؛ كذا حكاه الماوردي وجهاً في المسألة.

والمشهور أنه يكفيه تيمم واحد لوطئات. نعم، الخلاف مشهور في أنها إذا تيممت وصلت فريضة: هل تستبيح الوطء؟ وكذا [فيما] إذا تيممت لفريضة وخرج وقتها: هل تستبيح الوطء بعد خروجه، والصحيح فيهما: نعم. قال في "التتمة": ويباح وطؤها بالتيمم في الحيض كما تباح الصلاة. فرع: الذمية إذا انقطع حيضها لا يجوز للزوج وطؤها حتى يغسلها. قال القاضي الحسين: وينوي الزوج عنها، وإذا أسلمت لم يجب عليها الغسل، على أصح الوجهين في "تعليق القاضي الحسين" قال: وهما جاريان في المجنونة إذا انقطع حيضها، واغتسلت في حال جنونها لأجل الوطء، وأفاقت هل يجب عليها الغسل، أم لا؟ وقضية هذا التشبيه أن يكون المغسل لها الزوج، وينوي عنها. وقد قال الإمام في باب غسل الميت: إنا لا نبيح لزوجها قربانها حتى تغتسل، والنية لا تتأتى منها؛ فيكفي في استحلالها إيصال الماء إلى بدنها. نعم، لو أفاقت هل تعيد الغسل؟ فيه خلاف كالخلاف في الذمية إذا اغتسلت لتحل للزوج المسلم، ولم يصر أحد من أئمتنا إلى أن قيمها يغسلها وينوي عنها، كما ذكرنا أن غاسل الميت ينوي عنه، بل لم يتعرضوا لذلك بنفي [ولا إثبات]. والخلاف- كما قال الإمام- جار [فيما] إذا امتنعت، وغسلها زوجها؛ فإنه يستبيح وطأها، [وهل تستبيح الصلاة]؟ فيه الوجهان. قال الإمام: وفي المسألة احتمال حسن وهو القطع بإيجاب الغسل عليها من

حيث إنها امتنعت عن النية، وهي من أهلها. واعلم أن بعض الشارحين أورد على الشيخ سؤالاً، فقال: الطلاق يحرم بالحيض، فيزول [التحريم] بمجرد الانقطاع من غير غسل؟ ولم يستثنه الشيخ. قلت: وهو غير وارد؛ لأن كلامه عائد إلى ما ذكره من المحرمات، والطلاق لم يذكره؛ فإنه محرم على الزوج لا عليها. نعم، العبور في المسجد إذا قلنا: إنه يحرم عليها، يزول على وجه حكاه الماوردي والإمام ورجحه في "الروضة"، والشيخ لم يستثنه. وجوابه: لعل الشيخ رأى أنه لا يزول؛ كما اقتضى كلام الإمام ترجيحه وإن قال في "الروضة": إنه ليس بشيء. فإن قلت: قولك: إنه لم يذكر الطلاق؛ فإن تحريمه على الزوج- باطل بذكره تحريم الاستمتاع بها فيما بين السرة والركبة، وهو حرام على الزوج. قلت: لا؛ فإن تحريم الاستمتاع بذلك شامل لهما، بخلاف الطلاق في الحيض. واعلم أن تحريم الصلاة وإن دام إلى الغسل، لا يسقط قضاء ما فات من الصلوات بعد الانقطاع وقبل الغسل، كما في الجنب، وهذا مما لا خلاف فيه، وبه صرح الماوردي [وغيره]. قال: وأقل النفاس مجة. النفاس- بكسر النون-: الدم الخارج من الفرج بعد ولادة ما تنقضي به العدة. مأخوذ من النفس: وهي الدم، ولا فرق [فيه] بين أن يكون الخارج حياً أو ميتاً، ولا بين أن يكون الدم أسود أو أحمر، مبتدأة كانت المرأة في الولادة أو لا، وهذا مما لا خلاف فيه. نعم، اختلفوا [في أمور: أحدها:] الصفرة والكدرة، هل تكون نفاساً في غير المعتادة، أم لا؛ كما

اختلفوا في مثلها في الحيض؟ صرح به الفوراني، وصاحب "العدة" والبغوي وغيرهما، وقطع الماوردي بأنها نفاس [لأن الولادة للنفاس] فلم يحتج إلى اعتبار شاهد في الدم، وليس كذلك الحيض. الثاني: الدم الخارج عقيب العلقة والمضغة التي شهد القوابل أنه يخلق منها الولد لو بقيت، إذا قلنا: لا تنقضي بها العدة، ولا يثبت بها الاستيلاد- قال الماوردي: لا يكون نفاساً. وأطلق المتولي القول بأنه يكون نفاساً. الثالث: الدم الخارج مع الولد، لا قبله ولا بعده، هل يكون من النفاس أم لا؟ فيه وجهان: اختيار أبي إسحاق وابن القاص: أنه نفاس، وهو الأصح في "الشامل"، وقال في "الكافي": إنه الأصح في طريق العراق. والمذهب في "تعليق البندنيجي"، والأصح في غيره، وفي طريقة صاحب "الكافي": لا. الرابع: الدم الخارج قبل الولادة إذا اتصل بالدم الخارج بعدها، حكى الماوردي-[في أنه] هل يكون نفاساً أم لا- وجهين. أما إذا لم يتصل بما بعد الولادة، فلا يكون نفاساً، وجهاً واحداً. وسلك الإمام في حكاية الخلاف طريقاً آخر، فقال: إذا طلقت، وبدت مخايل الولادة، وانحل الدم- فالمذهب: أنه لا يكون نفاساً. وحكى صاحب "الإفصاح" وجهاً بعيداً: أنه نفاس حتى يعتبر ابتداؤه منه، وهو غير معدود من المذهب. ثم حيث قلنا: لا يكون ما قبل الولادة نفاساً فهل يكون حيضاً؟ إن قلنا: إن الحامل لا تحيض، فلا، ويكون دم فساد. وإن قلنا: إنها تحيض، وكان بين انقطاعه وبين ما جعلناه نفاساً مدة أقل الطهر فهو [دم] حيض؛ وإلا فوجهان:

أصحهما: أنه حيض، كما سلف. وقيل: إذا بدت مخايل الطلق لا يكون الدم الخارج نفاساً ولا حيضاً؛ حكاه في "العدة". إذا عرفت ما هو النفاس فأقله- كما قال الشيخ- مجة، [أي: دفعة] وهي برفع الميم، مأخوذة من "مججت الماء": إذا رميت به من فيك، وكأن الرحم رمى بالدم رمية واحدة، ثم ينقطع. ودليله الاستقراء. وعبارة الغزالي وإمامه والفوراني: أن أقله لحظة. وأبو الطيب يقول: [إن] أقله ساعة، وهو ما حكاه ابن الصباغ عن بعض نسخ المزني والبندنيجي وابن الصباغ والشيخ في "المهذب". والأكثرون يقولون: لا حد لأقله. وقال الماوردي: إنه لا نص للشافعي في كتبه عليه؛ وإنما روى أبو ثور عنه أنه قال: "أقله ساعة"، واختلف الأصحاب [في] أن الساعة حد لأقله أم لا؟ على وجهين: أحدهما- وبه قال أبو العباس وجماعة البغداديين-: نعم. والثاني- وبه قال البصريون-: أنه لا حد لأقله؛ وإنما ذكر الساعة تقليلاً وتعريفاً، لا أنه جعلها حداً، وأقله مجة من دم، وهذا ما ذكره الشيخ، وقد قال ابن يونس: إنه الموجود في بعض نسخ المزني. وأثر الخلاف [يظهر]- كما قال المزني- فيما إذا ولدت، ولم تر دماً، هل

يصح غسلها قبل مضي ساعة [من الولادة؟ إن قلنا: إن أقله ساعة]، فلا، [وهو] الأصح. وهذه المرأة تسمى ذات الجفوف، ومثلها في نساء الأكراد كثير. وقد اختار المزني لنفسه أن أقله [أربعة أيام؛ لأن أكثر النفاس أربعة أضعاف أكثر الحيض؛ فكان أقل النفاس] أربعة أضعاف أقل الحيض. قال الإمام: وهذا غير لائق بفقه المزني وعلو منصبه؛ فإن المقادير لا تنبني على الخيالات السخيفة. وأنا أقول: هذا إنما قاله المزني؛ تخريجاً على مذهب الشافعي: أن أكثره ستون يوماً؛ وإلا فمذهب المزني أنه أربعون يوماً، كما سنذكره. قال: وأكثره ستون يوماً، كذا دل عليه الاستقراء. قال الأوزاعي: عندنا امرأة ترى النفاس شهرين. وعن ربيعة: أنه كان يقول: أدركت الناس يقولون: أكثر ما تنفس المرأة ستون يوماً. وفي "ابن يونس" أن المزني قال: وأكثره أربعون يوماً، ولم أره في غير منسوباً إليه؛ بل تفاريعه التي [تأتي] تدل على موافقته المذهب في أن أكثره ستون يوماً. نعم، حكى عن صاحب "البحر" أنه روى عن بعض الأصحاب: أن أكثره أربعون يوماً؛ تمسكاً بما رواه أبو داود عن أم سلمة أنها قالت: "كانت النفساء تجلس على

عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين يوماً وأربعين ليلة".

0000000000000000000000000

وقال الخطابي: إن محمد بن إسماعيل أثنى على هذا الحديث. وحكى الدارقطني: أن أم سلمة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: [كم] تجلس المرأة إذا ولدت؟ قال: "أَرْبَعُونَ يَوْماً إِلا أَنْ تَرىَ الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ". وقد حكى أبو عيسى الترمذي في "جامعه" عن الشافعي- رضي الله عنه- ما يوافقه؛ فإنه روى فيه [عنه] أنه قال: إذا جاوز دم النفاس أربعين، لم تدع الصلاة بعد ذلك.

والصحيح الأول، والخبر محمول على بيان الغالب منه. وابتداؤه يكون من بعد الولادة إذا اتصل بها الدم على المذهب، وهو ما حكاه البندنيجي، ورد به على أبي إسحاق. وقيل: إنه من الم الذي خرج مع الولد؛ [بناء] على مذهب أبي إسحاق. وقيل: إنه من الدم الذي خرج قبل الولادة، وجعلناه نفاساً، كما سلف. أما إذا لم يخرج بعد [الولد دم]، ورأته بعد ذلك، ولم ينته النقاء إلى أقل الطهر، فهل يكون ابتداء النفاس من وقت الولادة أو من وقت رؤية الدم؟ فيه وجهان في "النهاية"، والمذكور منهما في "تعليق القاضي الحسين": [الثاني]. ولو كان الدم قد طرأ بعد مضي أقل الطهر من حين الولادة، فالأصح في "تعليق القاضي الحسين" أنه حيض. وقيل: إنه نفاس، ويظهر على هذا أن يجيء في وقت ابتدائه الوجهان. [قال: وغالبه أربعون يوماً؛ لما ذكرناه من الخبر، وهو الغالب في الوجود]. قال: وإذا عبر الدم الأكثر- أي: جاوز الستين- فهو كالحيض في الرد إلى التمييز، أي: إذا كانت [المرأة مميزة] بأن ترى الدم القوي والضعيف ولم يزد القوي على أكثره فترد إليه؛ كما ذكرناه في الحيض، وهذا إذا كان الدم القوي هو الأول. فلو كان الضعيف الأول، والقوي بعده- فيظهر أن يقال: إن كانت مدة الضعيف أقل من أقل الطهر، يتخرج على الوجهين في أنه هل يشترط في التمييز أن يقع القوي أولاً أم لا؟ وإن كان الضعيف أكثر من أقل الطهر فهو كما لو لم تر الدم عقيب الولادة، ورأته بعد خمسة عشر يوماً منها، وقبل مضي ستين يوماً، وقد سلف.

ولا فرق في الرد إلى التمييز عند وجود شرطه- كما سلف في الحيض- بين أن تكون المرأة معتادة أو غير معتادة [على المذهب]. [وقيل: النظر في المعتادة إلى العادة] دون التمييز، كما مضى مثله في الحيض. قال: والعادة، أي: إذا [كانت المرأة] لها عادة تعرفها؛ بأن ولدت ثلاث مراـ، ونفاسها فيها أربعون يوماً، ثم ولدت ودام بها الدم، وكذا لو ولدت مرتين، ونفاسها أربعون، على المشهور. ولو ولدت مرة واحدة، ورأت النفاس أربعين [يوماً] ثم ولدت ثانياً، واستمر بها الدم- ففيها الخلاف؛ كما في الحيض. قال: والأقل والغالب، أي: إذا كانت المرأة مبتدأة في النفاس، ففيما ترد إليه القولان في المبتدأة في الحيض. أحدهما: أقل النفاس. والثاني: غالبه. وقيل: إنها ترد إلى الأقل قولاً واحداً، والمشهور الطريقة الأولى؛ كما في الحيض. والتعليل السالف في رد المبتدأة إلى أقل الحيض يقتضي ألا يجعل للمبتدأة في النفاس إذا أطبق [بها] الدم [نفاس] أصلاً؛ بناء على أنه [لا أقل] للنفاس؛ فإنه يحتمل أن تكون ذات جفوف، وقد أشار إليه البندنيجي بقوله: إذا لم يكن لها

تمييز ولا عادة، فكم تنفس؟ على قولين: أحدهما: اليقين لحظة، أو لا شيء أصلاً. والثاني: غالب نفاس النساء. وهذا لم أره في غيره، وإن اقتضاه التخريج- كما ذكرنا- بل قال الأصحاب: لو كانت عادة المرأة أن تلد ولا تنفس إذا ولدت، وولدت واستحيضت- فهي كالمبتدأة في النفاس؛ فيجري فيها القولان، حكاه الإمام وغيره. ولهؤلاء أن يقولوا: لا نسلم أن تعليل رد المبتدأة في الحيض إلى أقله يقتضي ألا يجعل لها نفاس أصلاً؛ بل مقتضاه: أن يجعل لها نفاس؛ لإجماعهم على أن المبتدأة ما رأته من الدم حيض، وإن احتمل أن يكون جميعه دم فساد، وهو يدل على أن مرادهم باليقين في القدر، لا في أصل الوجود، والله أعلم. وما ذكره الشيخ في الأحوال الثلاثة هو المذهب في "تعليق البندنيجي" و"الكافي"، والأصح في غيرهما، ووراءه وجهان: أحدهما: أن الدم إذا جاوز الستين كانت الستين نفاساً، وما زاد استحاضة، وقد نسبه المتولي إلى المزني، وحكاه في "العدة" قولاً عن الشافعي والصورة كما ذكرنا. والثاني: أن النفاس ستون، وما زاد عليها حيض بشرطه. قال ابن الصباغ: وهذا بناء على قولنا: إنها إذا رأت الدم قبل الولادة يكون حيضاً إذا قلنا: [إن] الحامل تحيض، وهو ما حكاه الإمام عن الشيخ أبي حامد، وقال: إنه متروك عليه. والفرق بين أن يتصل الدم بآخر النفاس وبأوله: أن الدم المتصل بأوله قوي يتخلل الولادة؛ فإن الولادة إذا تخللت أقوى من الطهر يتخلل، ولا كذلك إذا [ما] اتصل بآخره. ومحل هذا الوجه – كما قال الماوردي- فيمن لم تكن مبتدأة بالحيض والنفاس، أما المبتدأة بهما: فلا خلاف في أن ما جاوز الستين استحاضة. نعم، هل يكون نفاسها الستين، أو ما سلف؟ فيه الخلاف، وكلام الرافعي كالصريح في أن الخلاف في المعتادة كالمبتدأة؛ لأنه لما ذكر أن ظاهر المذهب ما

ذكره الشيخ، قال: وفيه وجهان آخران: أحدهما: أن الستين نفاس وما زاد استحاضة بخلاف ما في نظيره من الحيض؛ لأن الحيض محكوم به ظاهراً لا قطعاً؛ فجاز أن ينتقل عنه إلى ظاهر آخر، والنفاس مقطوع به؛ إذ الولادة معلومة، والنفاس هو الدم الخارج بعد الولادة؛ فلا ينتقل عنه إلى غيره إلا بيقين، وهو مجاوزة الأكثر. فعلى هذا يجعل الزائد استحاضة إلى تمام طهرها المعتاد. والمردود إليه في المبتدأة، أي: من أكثر الطهر أو غالبه أو أقله، على ما مر. ثم ما بعده حيض. وعلى المذهب الذي اقتصر الشيخ على إيراده في الأحوال الثلاثة، ما حكمنا بأنه نفاس وانقضى، جعلناه بمنزلة حيضة كاملة، ويحكم بأن ما بعده طهر، ونحيضها على ما يقتضيه حالها، كما سلف. قال الإمام: ولا يبعد على طريقة أبي حامد أن نجعل ما نحيضها إياه [يعقب ما] اعتددنا به نفاساً، وهو غير معتد به.

وقد أفهم قول الشيخ: "فهو كالحيض .. " إلى آخره: أن المتحيرة، والذاكرة للعدد الناسية للوقت، والذاكرة للوقت الناسية للعدد- لا تكون في النفاس. ولا شك في أن المتحيرة لا تتصور في النفاس؛ بناء على المذهب المشهور [في أن] من عادتها ألا ترى نفاساً أصلاً إذا ولدت، ورأت الدم، وجاوز الستين-أنها كالمبتدأة؛ لأنه حينئذ يكون ابتداء نفاسها معلوماً وبه ينتفي التحير. وأما الذاكرة للعدد الناسية للوقت: فيتصور بأن تقول: عادتي أن أنفس عشرة أيام، وما أدري هل كنت أراها عقب الولادة أو [بعدها] وقيل: تقضي مدة أقل الطهر من حين الوضع. أو تقول: كنت أعلم أني لا أراه في أول يوم الولادة، ولا أعلم هل كنت أراه في ثانيه أو ثالثه أو رابعه؟ وهكذا إلى تمام أربعة عشر يوماً. وإذا تصور ذلك أمكن أن نجعلها كالذاكرة للعدد الناسية للوقت في الحيض، وإن لم أره للأصحاب؛ ولعل تركهم لذلك بناء على ما سلف في أن ذات الجفوف إذا رأت الدم [وأطبق بها] حتى جاوز الستين يكون لها نفاساً. نعم، هل تكون العشرة التي هي عادتها تعقب ولادتها أو لا؟ فيه نظر، والله أعلم. وأما الناسية للعدد الذاكرة للوقت فتصورها سهل، وقد صرح الأصحاب فيها بقولين: أحدهما: أنها كالمبتدأة، وهو ما رجحه الإمام؛ لأن ابتداءه معلوم. والثاني: أنها تأخذ بالأحوط في قضاء الصلوات. ولا تتصور فيما عدا ذلك؛ لأنا لا نأمرها بالاحتياط إلا عند مجاوزة الدم أكثر النفاس، وحينئذ يحكم بانقطاع حكم النفاس يقيناً؛ فلا يبقى معه احتياط في المستقبل. وفي "تعليق القاضي الحسين": أنا على قول الاحتياط نأمرها بالصوم، وتقضي وتصلي، ولا يأتيها زوجها أبداً. وهذا قد يستنكر؛ لما ذكرنا. وجوابه: أن هذا ليس لاحتمال أن يكون زمن صيامها وصلاتها ووطئها نفاساً؛ ولكن لأنه يجر لبساً في ابتداء دورها في الطهر والحيض، وإليه أشار الإمام.

وحكم التلفيق في النفاس كالتلفيق في الحيض، والستون [فيه] كالخمسة عشر يوماً في الحيض، والشروط: الشروط، فإذا ولدت ورأت ساعة دماً ثم [نقاء ساعة] أو يوماً أو أياماً دون خمسة عشر يوماً، ثم رأت دماً ثم نقاء، وهكذا- فالدم نفاس، وفي النقاء الذي بينه قولان، قال أبو الطيب: ولا يختلف المذهب فيه. نعم، لو رأت الدم أولا، ثم النقاء خمسة عشر يوماً، ثم رأت يوماً وليلة دماً، وهكذا إلى تمام الستين- فالدم الأول نفاس، وفي الدم الثاني وما بعده وجهان: أحدهما: أنه دم حيض، وهو ما صححه القاضي الحسين. والثاني: أنه نفاس. فعلى هذا في الطهر الذي بين الدماء القولان في التلفيق، فلو كان [ما رأته] من الدم بعد النقاء دون أقل الحيض، فعلى القول في المسألة قبلها: إنا نجعله حيضاً، نجعله في هذه [المسألة] دم فساد، وعلى القول الآخر نجعله نفاساً، وفيما بين الدماء من النقاء- على هذا- القولان. قال الصيدلاني: ومحل الخلاف في جعل الدم الطارئ بعد الطهر الكامل نفاساً- إذا انقطع على الستين، فأما إذا جاوز الدم الستين، وصارت مستحاضة: فالذي بعد الطهر الكامل ليس بنفاس وجهاً واحداً؛ وإنما هو حيض. قال الإمام: ولا وجه عندي غير هذا وما أطلقه الأئمة منزل عليه. فرع: محله تقدم، ولكن أخرناه؛ لأنه يتعلق بأصول سلفت: إذا ولدت توءمين بينهما زمان، فمن أي وقت يعتبر ابتداء النفاس؟ فيه أوجه: أحدها: عقيب ولادة الأول. قال الصيدلاني: بشرط ألا تنقضي مدة [أكثر] النفاس قبل ولادة الثاني، فإن انقضت قبل ولادته [اعْتُبِرَ له] نفاس ثان؛ باتفاق أئمتنا. وقال الشيخ أبو محمد: إذا فرعنا على أنه نفاس واحد، فإن ابتداءه من الأول، فما رأته بعد ولادة الثاني- وقد مضت مدة أكثر النفاس من ولادة الأول- دم فساد، وهذا ولد تقدمه النفاس.

ومنهم من قال: يكون ما بعد ولادة الثاني- والصورة كما ذكرنا- دم حيض. وقد حكى الوجهين القاضي الحسين، وكذا الإمام قال: إنهما مفرعان على قولنا: إن ما رأته الحامل من الدم قبل الوضع يكون دم فساد، أما إذا قلنا: إنه يكون حيضاً، فهنا أولى. والفرق: أن الغالب في الحامل أنها لا ترى دماً لانسداد فم الرحم، فإن رأته فقد تقدر أنه دم فساد؛ لندوره فنزل منزلة ما تراه الصبية قبل التسع، فأما إذا ولدت وانفتح فم الرحم فاسترخاء الدم من الرحم ليس بدعاً؛ بل النادر ألا ترى دماً [إذا ولدت]. قال: ثم إذا جعلناه حيضاً، فلو كان بين ما رأته قبل الولادة وبعدها أقل من أقل الطهر لم نحكم بأنه حيض؛ [إذ التفريع على أنه حيض] يوجب مراعاة أحكام الحيض فيه، وهذا بعيد عن التحصيل، وبه يظهر ضعف ما فرع عليه. والثاني: من عقيب ولادة الثاني، وهو المذهب في "تعليق البندنيجي"، والأصح في "الكافي" وكذا عند الشيخ أبي محمد والبغوي وأصحابنا العراقيين، كما قال الرافعي. فعلى هذا ما رأته من الدم قبل ذلك، هل يكون دم فساد أو حيض؟ فيه الوجهان. قلت: والوجهان في الأصل يشبه أن يكون مأخذهما: أن الدم الخارج مع الولد هل يكون نفاساً أو لا؟ لأن بقاء الولد الثاني بمنزلة بقاء بعض الولد الأول. وكذلك أجراهما المتولي فيما لو أسقطت عضواً من الولد، ورأت الدم بعده. والثالث- وهو الأصح عند الإمام والمتولي، والمختار في "المرشد" – أن لكل ولد نفاساً، فإن تم نفاس الأول قبل ولادة الثاني، ابتدأت للثاني نفاساً كاملاً، وإن ولدت الثاني قبل استكمال نفاس الأول، دخلت بقية النفاس الأول في الثاني، كما في العدة. قال: وإذا نفست المرأة- أي: رأت دم النفاس- حرم عليها ما يحرم على الحائض- أي: حتى تمكين الزوج أو السيد من الاستمتاع بها فيما بين السرة والركبة أو بالوطء فقط- ويسقط عنها ما يسقط عن الحائض- أي: إذا نفست غالب النفاس أو أكثره- ووجه ذلك: أنه دم حيض احتبس لأجل الحمل؛ فكان خروجه مجتمعاً كخروجه في وقته؛ ولهذا قال الأصحاب: إنه يحرم على الزوج الطلاق فيه، وبه صرح

الرافعي في كتاب الطلاق وإن كان كلامه هنا بخلافه. أما إذا جرى أقل النفاس فلا تسقط الصلاة وإن حرم فعلها، نبه عليه البندنيجي. تنبيه: نفست المرأة: بضم النون وفتحها، والفاء مكسورة فيهما؛ إذا ولدت- أي: ورأت الدم- ويقال في الحيض: نفست بالفتح لا غير، كذا قاله النواوي. وقال ابن التلمساني: نفست المرأة- بضم النون-: إذا ولدت لا غير، وبالفتح والضم إذا حاضت. قال: وتغسل المستحاضة فرجها؛ للطهارة عن النجاسة، وتعصبه- أي: وجوباً- إذا كان الدم كثيراً؛ ليرد الدم وعليه [يدل] قوله- عليه السلام-: "فَإِذَا خَلَّفَتْ [ذلك] فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لتَسْتثفِرْ بثَوْبٍ، ثُمَّ [لتُصَلِّ] " كما رواه أبو داود. وتستثفر بتاء معجمة باثنتين من فوق مفتوحة، وسين مهملة ساكنة، وتاء مفتوحة بثلاث ساكنة، وفاء مكسورة، وراء مهملة، ومعناه: أن تجعل المرأة على قبلها خرقة أو غيرها والقطن أمس؛ لأنه جاء في حديث حمنة بنت جحش: أنه- عليه السلام- قال لها: "أَنْعَتُ لَكِ الكُرْسُفَ؛ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ"، فلو احتاجت إلى حشو الفرج بذلك حشته. نعم، لو كانت صائمة، قال الرافعي: لا تفعل ذلك بالنهار، وهذا يدل على أنها

تفطر به، وهو آخر جوابي القاضي الحسين. ولقائل أن يقول: قد تعارض في هذا مصلحة الصلاة والصوم، فأيهما تقدم؟ ينبغي أن يتخرج على ما إذا ابتلع بعض خيط قبل الفجر، ثم طلع وطرفه خارج، كما سنذكره في الصوم. وإذا فعلت ما ذكرناه، أخذت خرقة أخرى مشقوقة الطرفين فتدخلها بين فخذيها، وتضعها على ما وضعته على الفرج، وتخرج أحد طرفيها إلى بطنها والآخر إلى صلبها، وتشد أحد الطرفين بالآخر إلى خاصرتها اليمنى، ثم تفعل بالطرف الآخر كذلك على خاصرتها اليسرى، وهذا مأخوذ من ثفر الدابة الذي يجعل تحت ذنبها يمسك به السرج، وهكذا يفعل بالميت إذا غسل. فإذا فعلت المستحاضة ذلك محكماً، وسال الدم بعد ذلك لم يضر، دون ما إذا قصرت في الشد؛ فإنه يلزمها استئناف الطهارة والصلاة، وهذا إذا سال في الصلاة. [فأما إذا] سال قبل دخولها في الصلاة- ولا تقصير من جهتها- ففي وجوب استئناف الطهارة وجهان في "الحاوي"، وبنى عليهما: أنه لو جرى في الصلاة ولا تقصير، هل تتنفل بعد فراغها أم لا؟ ولو كان الدم يسيراً كفاها سد الفرج [بقطعة قطن] ونحوها، ومحل وجوب التعصيب إذا كانت لا تتأذى به، فإن تأذت به، وأحرها اجتماع الدم في الموضع- فلا يلزمها، وتباح لها الصلاة مع السيلان، قاله في "التتمة". فرع: إذا زايلت العصابة محلها، وجب التبديل والتنظيف؛ لتعدي النجاسة محل العفو. وقال الإمام: إن كانت المزايلة بحيث لا يمكن الاحتراز منها عفي عنها؛ كما يعفى عن الانتشار في محل الاستنجاء. تنبيه: تعصبه: هو بفتح التاء وإسكان العين، وبتخفيف الصاد، ويجوز ضم التاء، وفتح العين، وتشديد الصاد. قال: وتتوضأ لكل فريضة؛ لقوله- عليه السلام- لفاطمة بنت أبي حبيش: "وَإِذَا

كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي فَإِنَّمَا هُوَ عِرْقُ" رواه أبو داود. وجاء في رواية الترمذي أنه- عليه السلام- قال لها: "فَإِذَا أَقْبَلَتِ الحَيْضَةُ، فَدَعي الصَّلاة، وَإِذَا أَدْبَرَتْ، [فَاغْسِلي عَنْكِ] الدم وتوضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت". ووضوءها يبيح الصلاة، ولا يرفع الحدث، على المذهب. فعلى هذا فلا يجزئها إلا نية استباحة الصلاة؛ كما في التيمم. وقد قيل: إنه يرفع الحدث، وقياسه: أن تصح بنية رفع الحدث فقط، ولم أره. وقيل: يرفع الحدث الماضي دون المستقبل والمقارن؛ وعلى هذا تنوي رفع الحدث الماضي، والاستباحة للمقارن والمستقبل، وبه قال القفال، وغلطه الإمام. تنبيه: قول الشيخ: "وتتوضأ" بالواو- يقتضي أنه لا يشترط تعقب الوضوء غسل الفرج وتعصيبه، وقد قال في "الحاوي": إنه شرط. وإن توضأت بعد تطاول الزمان من ذلك، كانت كالعادم للماء إذا تيمم وعلى بدنه نجاسة بقدر على غسلها، هل يصح؟ وفيه وجهان: أحدهما: أن وضوءها باطل بكل حال، وتستأنف غسل الفرج والوضوء. والثاني: أنه جائز، وتغسل الفرج إن أمكن. ويمكن أن يحمل كلام الشيخ على ما قاله في "الحاوي" بأن تحمل الطهارة [في] قوله: "بعد الطهارة" على طهارة الحدث والخبث، والله أعلم. وقوله: "لكل فريضة" ظاهره يفهم أنه عائد إلى الوضوء فقط، وهو وجه حكاه

الأصحاب، وقالوا: لا يجب تجديد غسل الفرج وتعصيبه إلا إذا ظهر الدم، والأصح وجوب ذلك عند كل صلاة؛ لأن باطن ذلك نجس، واحتمل في صلاة واحدة للضرورة. فعلى هذا يكون قول الشيخ: "لكل فريضة" عائداً إلى غسل الفرج وتعصيبه، والوضوء. وقوله: "لكل فريضة" يفهم أن النوافل لا يتوقف فعلها على ذلك، وهو المذهب سواء بقي وقت الفريضة أو خرج، وبه جزم في "الكافي" وغيره. وقيل: إنه إذا خرج الوقت لا تتنفل. وقيل لا تستبيح النافلة بحال، وإن استباحت الفريضة مع الحدث الدائم للضرورة، حكاه في "الروضة". قال: ولا تؤخر بعد الطهارة الاشتغال بأسباب الصلاة- أي: كستر العورة، والتحري في القبلة، والأذان، والإقامة، وانتظار الجمعة والجماعات، والدخول فيها؛ تصوناً من خروج الحدث بقدر الإمكان. ومن هذا يؤخذ أنها لو توضأت قبيل الوقت بحيث اتصل آخره بأول الوقت- يجوز، وقد حكاه بعضهم عن رواية ابن الصباغ عن بعض الأصحاب، لكن الأصح في "النهاية" وبه جزم البندنيجي والماوردي وأبو الطيب: [أنه] يجب أن يقع كله في الوقت. فرع: إذا كانت ترجو أن يقع الانقطاع في آخر الوقت، فهل الأفضل في حقها التأخير أو التعجيل؟ فيه وجهان كما في التيمم، حكاه في "التتمة". قال: فإن أخرت-[أي]: لغير سبب من أسباب الصلاة- ودمها يجري، استأنفت الطهارة- أي: ابتدأتها- لأن ما جرى من الحدث كان يمكن الاحتراز عنه؛ فنقض الطهارة؛ كما في غير المستحاضة؛ وهذا ما حكاه الماوردي وجهاً في المسألة، وصححه، واختاره في "المرشد"، وحكاه أبو الطيب احتمالاً عن ابن سريج مع آخر: أنها لا تستأنف؛ بل لها أن تصلى ما لم يخرج الوقت. وقال أبو الطيب: إنه [الذي] قاله الأصحاب، وردوا احتمال ابن سريج الأول. والماوردي لم ينسب لابن سريج غير الثاني، ثم قال: وفيه وجه ثالث: أنه يجوز تأخيرها؛ لانتظار أسباب كمالها: كالجماعة، وقصد البقاع الشريفة، وأن يبادر بسترة

يستقبلها وما جرى هذا المجرى؛ لأن تأخير الصلاة لهذه الأسباب مندوب إليه. ولا يجوز تأخيرها لغير هذه الأسباب؛ لأنه ليس مندوباً إليه. وهذا صريح في جواز التأخير لانتظار الجماعة، والمشهور الأول. وقيل: لها أن تصلي به وإن خرج الوقت، حكاه في "الشامل"، وهو ينسب [إلى] الخضري. قال: وإن انقطع دمها في أثناء الصلاة- أي: انقطاعاً مبتدأ لم تجر عادتها به- استأنفت الطهارة والصلاة؛ لأن علة العفو عما عليها من النجاسة وما يتجدد من الحدث بعد الوضوء- الضرورة، وقد زالت، وهذا نصه. وقيل: تمضي فيها؛ كالمتيمم إذا رأى الماء في [أثناء الصلاة] فإن النص: أنه يمضي، ومنه خرج ابن سريج هذا القول؛ كما خرج من هنا إلى ثم قولاً: أنه يستأنف، والصحيح تقرير النصين، والفرق: أن المستحاضة لم تأت عن طهارة الحدث المتجدد والخبث ببدل، بخلاف المتيمم؛ فإنه أتى عن طهارة الحدث بالبدل، ولا خبث عليه. نعم، لو كان على بدنه نجاسة غير معفو عنها، فهو نظير المسألة. وعن الشيخ أبي محمد: أن أبا بكر الفارسي حكى قولاً عن الشافعي- رضي الله عنه-: أنها تخرج من الصلاة، وتتوضأ، وتزيل النجاسة، وتبني على صلاتها. وقيل: يمكن أن يكون هذا بناء على القول القديم في سبق الحدث. وفي "تعليق القاضي الحسين" في كتاب التيمم: أن أبا بكر الفارسي حكى في "عيون المسائل" في المستحاضة قولين، ثم قال: إذا قلنا: لا تمضي على الصلاة، فإذا اغتسلت وعادت، هل تبني، أو تستأنف؟ حكمها حكم من سبقه الحدث وهو في الصلاة. قال في "الكافي": والمراد بالانقطاع ألا يخرج الدم إلى الظاهر. أما إذا كان عادته أن ينقطع ويعود قبل إمكان إتمام الصلاة- مضت فيها قولاً واحداً. نعم، لو دام الانقطاع أعادت، قولاً واحداً. وعن الشيخ أبي حامد حكاية عن ابن سريج: أنه يتخرج على الخلاف في الانقطاع المبتدأ في الصلاة.

وإن كان عادته أن ينقطع، ولا يعود حتى يمضي قدر إمكان الطهارة والصلاة، أو أخبرها أهل الخبرة بأن مثل هذا الدم هذا حاله- استأنفت، قولاً واحداً، وهذا يكون في حق من صلت عند ضيق الوقت؛ إذ من عادتها أن ينقطع عنها الدم هذا القدر- لا يجوز لها أن تصلي مع جريان الدم في آخر الوقت، كما قدمناه، فلو أنه عاد على خلاف عادتها قبل الإمكان، ففي وجوب إعادة الوضوء وجهان، أظهرهما: أنه لا يجب. ولو انقطع دمها قبل الدخول في الصلاة انقطاعاً مبتدأ، فقد أفهم كلام الشيخ: أنها تستأنف الطهارة، قولاً واحداً. والماوردي قال: إن كان ذلك ولم يبق من الوقت ما يسع الطهارة والصلاة- فحكمها كما لو انقطع في الصلاة، وإن كان الوقت يسعهما، استأنفت قولاً واحداً، فلو عاد قبل إمكان الطهارة، ففي وجوب إعادتها الوجهان. ولو خالفت حين انقطع وصلت، فعاد الدم: إن قلنا: لو عاد قبل الصلاة تستأنف الطهارة، فهنا تستأنف الطهارة والصلاة؛ وإلا فوجهان عن ابن سريج، أصحهما: الاستئناف المتردد في النية. قلت: ونظيرهما ما لو صلى رجل خلف خنثى، ثم ظهرت رجوليته من بعد. [والوجهان يجريان- كما قال الغزالي- فيما إذا انقطع دمها وبعد من عادتها العود]. قال الرافعي: وإذا قلنا بالصحيح فلو توضأت بعد الانقطاع، وشرعت في الصلاة، ثم عاد الدم- فهو حدث جديد، يجب عليها أن تتوضأ، وتستأنف الصلاة. قال: وحكم سلس البول وسلس المذي- أي: الذي يحدث من غير سبب من وطء ونحوه- حكم المستحاضة لأنها نجاسة متصلة لعلة، تنقض الطهارة؛ فكانت كدم الاستحاضة؛ فيجري فيها جميع ما سلف. ولا يجوز لمن به سلس البول أن يعلق قارورة يقطر فيها؛ لأنه يحمل نجاسة في غير معدنها بغير ضرورة. أما من يحصل له سلس المذي بسبب من الأسباب فحدثه كسائر الأحداث في

غسله، ووجوب الوضوء. ومن به سلس النجو كمن به سلس الاستحاضة [ومن به] سلس الريح، يتوضأ لكل فريضة، ومن به سلس المني، عليه أن يغتسل لكل فريضة. قال الماوردي: قال الشافعي- رضي الله عنه-: وقل من يستديم به المني؛ لأن معه تلف النفس. ومن به جرح يخرج منه الدم، أو ناصور- وهو علة تحدث في حوالي المقعدة، ويقال بالسين أيضاً- حكمه حكم المستحاضة فيما يرجع إلى سده وغسله في أول دفعة، وكذا عند كل صلاة على أحد الوجهين، ولا يجب تجديد الوضوء بحال إلا أن يخرج الدم من أحد السبيلين كدم البواسير. ولو كان به جرح غير سائل، فسال في حال الصلاة- انصرف، وغسل الجرح، واستأنف الصلاة وجوباً، قاله في "الكافي". فرع: من بها دم فساد، فيه وجهان في "الحاوي": أحدهما: أن حكمها حكم المستحاضة فيما ذكرناه. والثاني: أنه حدث كسائر الأحداث وإن كان في ندرته كسلس المذي، والفرق: أنه إذا وقع يدوم، وهذا لا يدوم، وإن دام فهو آيل إلى حيض أو استحاضة. تنبيه: سلس البول وسلس المذي: إن قرأته بنصب اللام، تعين أن تقول: "حكم الاستحاضة، وهو المذكور فيما وقفت عليه من النسخ، وإن قرأته بكسر اللام، تعين أن تقول: "حكم المستحاضة"؛ لأنه يكون صفة للرجل. فرع: إذا كان من به سلس البول لو صلى قائماً، سال بوله، وإن صلى قاعداً استمسك، فهل المستحب أن يصلي قاعداً أو قائماً فيه وجهان، أصحهما في "الروضة" و"الكافي": الثاني، ولا يعيد على الوجهين معاً، والله أعلم.

باب إزالة النجاسة

باب إزالة النجاسة قال: النجاسة: هي البول .. إلى آخره، فاعلم أن الشيخ لما تكلم في إزالة النجاسة احتاج إلى تعريفها؛ إذ الكلام على الشيء بالرد والقبول فرع كونه معقولاً. والنجاسة لغة: كل مستقذر. وفي اصطلاح العلماء: كل عين حرم تناولها على الإطلاق مع إمكانه، لا لحرمتها، أو استقذارها، أو ضررها في بدن أو عقل. وما ذكره الشيخ: أنواعها، وقد قيل: هذا يجوز؛ فإن النجاسة حكم الشرع على الأعيان المذكورة بامتناع استصحابها في الصلاة، وهذه الأعيان يتعلق الحكم بإطلاق النجاسة عليها كإطلاق العلم على المعلوم والقدرة على المقدور. قلت: ولأجله حسن قول الشيخ من بعد: "وما ينجس بذلك" وإلا كان كلاماً ركيكاً وقد اعترض بعضهم على الشيخ، فقال كلامه يدل على أمرين: أحدهما: أن هذه الأعيان نجسة. والثاني: نفي النجاسة عما سواها. وليس الثاني بثابت.؛ لما ستعرفه. وأنا أقول: الأول دال على أن هذه الأعيان نجاسة لا نجسة، والثاني ثابت؛ لأن كلام الشيخ يشمل ما ذكره وما في معناه، كما سنبينه- إن شاء الله تعالى- ومنه يظهر لك: أنه لا شيء بعده؛ فصح كلامه. والدليل على نجاسة البول قوله- عليه السلام-: "اسْتَنْزِهُوا منَ الْبَولِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الَقبْر مِنْهُ" رواه الدارقطني. وقال- عليه السلام لما مر بقبرين: "إِنَّهُما لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْله" رواه مسلم. وفي رواية "لاَ يَسْتَنْزِهُ عَنِ البَوْلِ أَوْ مِنَ البَوْلِ"؟

والظاهر أن الألف واللام في الخبر وكلام الشيخ؛ للتعميم، وقد استثنى أبو جعفر الترمذي بول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما روي عن أم أيمن أنها شربت بوله عليه السلام؛ فقال لها: "إِذَن لاَ تَلِجُ النَّارَ بَطْنُكِ". وبعضهم استثنى بول ما يؤكل لحمه، ويقال: إنه قول الشافعي. والرافعي قال: إنه قول الإصطخري، وإن الروياني اختاره؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت على البعير، فلولا أن بوله طاهر، لما فعل ذلك؛ خشية من التلويث المطلوب عكسه بقوله- تعالى-: {وَطَهِّرْ بَيْتِي} [الحج: 26]. وأئمة المذهب حملوا خبر أم أيمن على التداوي، وكذا قوله- عليه السلام- للعرنيين: "لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى إِبِلنَا، فَأَصَبْتُمْ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا"؛ فإن عندنا يجوز التداوي بجملة النجاسات إلا الخمر؛ كما تقدم في الأطعمة، وهي قضية عين

تطرق إليها الاحتمال فسقط بها الاستدلال. وقد قال الشافعي في خبر العرنيين: إنه منسوخ؛ إذ فيه أنه مثل بهم، ثم قام في مقام الأمر بالصدقة، ونهى عن المسألة؛ كذا حكاه الإمام عنه. وطوافه على البعير لا يدل على طهارة بوله؛ كما أن حمله أمامة بنت أبي العاص في الصلاة لا يدل عليه، والطفل أسوأ حالاً من البهيمة في إرسال النجاسة، على أن عادة الإبل أنها لا ترسل، النجاسة في سيرها. قال: والغائط؛ لقوله عليه السلام: "إِنَّمَا تَغْسِلُ ثَوْبَكَ مِنَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِي وَالدَّمِ وَالْقَيْء" رواه أحمد من حديث ثابت بن حماد بسنده عن عمار، وقد خرجه الدارقطني والبزار، وثابت بن حماد أحاديثه مناكير. والغائط – في الأصل-: [هو المكان] المطمئن، وأطلق على الفضلة المستقذرة

[من الآدمي]؛ لملازمتها له في الغالب. والسرجين من البهائم [في معناه]. وقد روى البخاري عن ابن مسعود أنه- عليه السلام- أُتِي بحجرين ورَوْثة؛ فألقى الروثة، وقال: "إِنَّهَا رِجْسُ"، ويروي: "رِكْسُ"، وهو الرجيع، وذرق الطيور في معناه. والقول- أو الوجه- المحكي في بول ما يؤكل لحمه مطرد في روثه وذرقه حكاه صاحب "البيان" والرافعي. وعلى الأول- وهو المذهب-[في] جرو السمك والجراد وما لا نفس له سائلة وجهان في "الإبانة"، وكذا الوجه المحكي في بول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جار في روثه، كما قال في "الإبانة" و"تعليق القاضي الحسين". وهما فيما لا نفس له سائلة مفرعان- كما قال الإمام- على قولنا بطهارة ميتته، واستبعد القول بطهارة روثه؛ فإن ميتته لا تحل؛ فلا يؤثر القول بطهارة ميتته في طهارة روثه؛ فإن الآدمي لا ينجس بالموت، وفضلاته نجسة ولكن الفرق واضح. وفي "تعليق البندنيجي" أنه سأل الشيخ- يعني: أبا حامد- عن جرو السمك والجراد؛ فإن الناس يأكلون الصغار من ذلك على جهته؟ فقال: كل هذا طاهر، فقلت: فما الذي يصنع بقول الشافعي: "لأنه بول"؟ فقال: ينبغي أن يقال: هو نجس، فقلت: فما تقول في جب أقام فيه سمك، ومعلوم أنه بال وذرق؟ فقال: ينبغي أن يكون الحكم في أبوال هذه وأوراثها- أنه نجس معفو عنه؛ لأن الاحتراز عنه لا يمكن. والإنفحة من السخلة المأكولة إذا لم تطعم غير اللبن إذا ذبحت، طاهرة؛ لإطباق الأمم على استحلال الجبن مع علمهم بأن انعقاده بالإنفحة فنزلت من جهة الحاجة منزلة أصل اللبن الذي أبيح لأجل الحاجة.

وحكى الغزالي وإمامه والماوردي وجهاً: أنها نجسة، وهو القياس؛ لأنها لبن مجتمع في باطن الخروف، يستحيل فيخرج إذا ذبح ويخثر به اللبن، والمستحيل نجس. قال الإمام في باب حد الزنى، والوجه القطع بالأول؛ لما ذكرناه. وهي بكسر الهمزة، وفتح الفاء، والحاء المهملة المخففة، ويجوز [بتشديد الحاء]. قال: والمذي؛ لما روي عن علي قال: كنت رجلاً مذاء، فكنت أستحيي أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته، فأمرت المقداد، فسأله فقال: "لِيَغْسِلْ ذَكَرَهُ، وَيَتَوَضَّا". رواه مسلم. والمذي: بسكون الذال المعجمة، والياء المخففة، وقيل: إنه مكسور الذال، مشدد الياء، وقيل: إنه مكسور الذال مخفف الياء الساكنة. وهو ماء أبيض رقيق [لزج] يخرج عند المداعبة والنظر بالشهوة وبغير شهوة. وقد قيل: إن جزء من المني؛ لأن سببهما جميعاً الشهوة. قال: والودي: وهو ماء أبيض ثخين يخرج عقيب البول، متقطعاً كدراً. قال الإمام: والغالب أنه يخرج عند حمل شيء ثقيل، وفيه ثلاث لغات: أشهرها: أنه بدال مهملة ساكنة. والثانية- حكاها الجوهري-: أنه بتشديد الياء. والثالثة- قالها صاحب "المطالع"-: أنه بالذال المعجمة. ودليل نجاسته: أنه خارج من مخرج البول، لا يخلق منه [مثل أصله]؛ فكان كالبول، ولأنه يصحبه. قال: وقيل: ومني غير الآدمي- أي مأكولاً كان أو غير مأكول- لأنه نجس بعد الموت؛ فكان نجساً قبل نفخ الروح فيه، وخالف مني الآدمي؛ فإنه طاهر بعد الموت، ولأنه

من الفضلات المستحيلة في الباطن؛ فكان نجساً كالبول؛ وهذا أظهر في "الرافعي. فإن قيل: قضية هذا التوجيه، وكذا الأول إذا قلنا: إن الآدمي ينجس بالموت- أن يكون منيه نجساً. قلنا: قد قال [به] صاحب "التلخيص" تخريجاً، كما قاله القاضي الحسين وغيره. والماوردي قال: إن الكرابيسي حكاه عن القديم. وفي "التتمة" حكاه عن الشافعي- رضي الله عنه- ولم يقيده بالقديم، وسوى بين رطبه ويابسه [وأنه يكفي فيه الفرك]، ويدل عليه خبر [عمار]. والصحيح: أنه طاهر؛ لخبر عائشة: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".

[أخرجه مسلم]، وفي بعض الطرق: "ثم يصلي فيه"، ولو كان نجساً لما اكتفى في إزالته بالفرك. قال بعضهم: وفي الاستدلال بهذا نظر مع الحكم بطهارة بوله عليه السلام. وجوابه: أنه ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على عدم اختصاصه بذلك، وهو ما روى الدارقطني عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المني يصيب الثوب، فقال: "أَمطْهُ عَنْكَ بِإذْخِرَةٍ؛ فَإِنَّمَا هُوَ كَمُخَاطٍ أَوْ بُزَاقٍ".

ولأنه لا يليق بكرامة الآدمي الحكم بنجاسة أصله؛ ولهذا حكمنا بطهارة لبنه. وظاهر كلام الشيخ: أنه لا فرق في طهارة مني الآدمي بين الرجل والمرأة، وهو ما قال أبو الطيب: إنه المذهب الصحيح [ولم يحك البندنيجي غيره. قال أبو الطيب:] وحكى ابن القاص [أن مني المرأة] نجس. وليس بمشهور. وقال في التيمم: ولم يرد بذلك أن مني المرأة نفسه نجس، بل هو طاهر؛ وإنما [المراد]: أنه ينجس بملاقاته عرق فرج المرأة؛ فإنه نجس فينجس بملاقاته. وعلى هذا ينطبق قول القاضي الحسين وغيره من المراوزة: إن طهارة مني المرأة تنبني [على] أن رطوبة فرجها طاهرة أم نجسة؟ وقد حكى الإمام عن صاحب "التلخيص"- وهو ابن القاص- طريقة على عكس ما ذكرناه، وهي الجزم بنجاسة مني المرأة، وحكاية القول في مني الرجل، وأن الأصحاب أنكروا عليه، ورأوا القطع بطهارة مني الرجل. قال: [وقيل]: ومني ما لا يؤكل [لحمه] غير الآدمي؛ لما ذكرناه، وخالف مني الآدمي؛ لكرامته، ومني مأكول اللحم؛ لأن لبنه طاهر؛ فألحق به منيه. وقد أفهم قول الشيخ: [وقيل] أن المذهب: أن مني كل حيوان طاهر، وهو وجه، قال في "الشامل": إنه ظاهر المذهب. وقال البندنيجي: إنه أقيس، واختاره في "المرشد". وبيض ما لا يؤكل لحمه في معنى مني ما لا يؤكل [لحمه] ففيه الخلاف وهو مطرد في بذر القز. والمذكور في "تعليق أبي الطيب" نجاسة بيض ما لا يؤكل لحمه. وبيض ما يؤكل لحمة طاهر إجماعاً، وهل يجب غسل ظاهره؟ فيه خلاف يأتي. نعم، لو ماتت الدجاجة ونحوها، وفي جوفها بيض، ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الماوردي هنا، والروياني في "تلخيصه": أحدها: أنه نجس؛ لأنه قبل الانفصال جزء منها.

والثاني: أنه طاهر؛ لتميزه عنها؛ فصار بالولد أشبه. والثالث: إن كان قوياً فهو طاهر [مأكول] وإن كان ضعيفاً رخواً فهو نجس؛ وهو قول أبي الفياض وابن القطان، ولم يورد [أبو الطيب] في باب الأطعمة غيره، ورجه الروياني. والقاضي الحسين والغزالي قالا: إن لم يتصلب، فهو نجس، وإن تصلب، فوجهان، وعليه جرى الرافعي. قال: والدم؛ لقوله- تعالى -: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، ولحديث عمار. وظاهر الخبر وكلام الشيخ: أنه لا فرق بين دم ودم، حتى دم [ما لا نفس له] سائلة: كالبراغيث، والقمل، والبق، ونحو ذلك، وبه صرح أبو الطيب والقاضي الحسين. والمعنى فيه ما قاله الإمام: [وهو] أن هذه الأشياء لا دم لها، ولكنها تقرص وتمتص، ثم قد تمجه. وقد قال أبو جعفر الترمذي: إن دم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاهر؛ لأن أبا طيبة الحاجم شربه؛ فقال [له]- عليه السلام-: "إذن لا تُتَّجع بَطْنك".

وأئمة المذهب يحملون ذلك على التداوي؛ ولذلك روي أنه- عليه السلام- نهاه عن ذلك. وقيل: إن دم السمك طاهر؛ لأنه ليس على حقيقة الدماء، وأنه يبيض إذا بقي وغيره يسود. والصحيح- كما قاله أبو الطيب قبيل كتاب الضحايا- أنه نجس؛ لما ذكرناه. وقيل: إن الدم المتحلل من الكبد والطحال طاهر. قال: والقيح؛ لأنه دم متعفن، والصديد في معناه، بل أولى، وكذا ماء القروح إن أنتن، وإن لم ينتن ففيه طريقان: إحداهما: أنه طاهر، وهو المختار في "المرشد". والثانية: حكاية قولين فيه: أحدهما- نص عليه في "الإملاء"-: أنه كالعرق. والثاني- نص عليه في "الأم"-: أنه كالقيح. قال: والقيء؛ لحديث عمار، ولأنه من الفضلات المستحيلة في مقرها إلى فساد؛ فكان كالغائط، وهو مهموز. وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه إذا لم يتغير يكون طاهراً. وهو بعيد.

وفي معنى القيء المدة الصفراء والسوداء؛ فهي نجسة. وفي البلغم الذي يقطع من المرئ وجهان: أصحهما- في "الكافي" وهو المحكى عن الشافعي في "التتمة"-: أنه طاهر كالذي نزل من الرأس وهي النخامة فإنه لا خلاف في طهارتها. وما يسيل من الفم عند النوم، قال في "التتمة"-: إن كان متغير الرائحة فهو كالقيء؛ وإلا فهو طاهر. وقال غيره: إن كان من اللهوات فطاهر، وإن كان من المعدة فنجس [كالقيء]، وإن شك في أنه من الرأس أو من المعدة، فالأولى الاحتياط. قال الأصحاب: والطريق في معرفة ذلك أنه ينظر: فإن طال زمنه فهو من المعدة، وإلا فمن اللهوات. وقال في "الكافي": إن كان يميل إلى الصفرة فهو من المعدة، وإن كان لا يميل إليها فهو من الدماغ. وظني أني رأيت لبعضهم: إن كان رأسه على وسادة، فهو من اللهوات؛ وإلا فمن المعدة. قال: والخمر؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة: 90] والرجس – بالسين- المرادبه: النجاسة، وأيضاً فقوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} أمر بالاجتناب من كل وجه. فإن قيل: بل المراد: المبعد؛ لأن الأنصاب والأزلام مبعدة [وليست بنجسة] قيل: حمله على المبعد مجاز؛ فيستعمل فيما لم يمكن استعمال الحقيقة فيه خاصة وهو الأنصاب والأزلام، دون ما يمكن استعمال الحقيقة فيه وهو الخمر؛ وذلك بناء على جواز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. ولأنه مائع غير مضر حرم تناوله لمعنى فيه؛ فأشبه الدم، وهذا هو المذهب، سواء كانت الخمرة محترمة أو غير محترمة. وقيل: إن كانت محترمة- وهي التي عصرت للخلية، فاستحكمت خمريتها- أنها

طاهرة؛ لحرمتها، ويضمنها متلفها. قال الإمام: وهو بعيد جداً؛ فإن ما يجب الحد بشربه، يبعد الحكم بطهارته وضمانه؛ فالوجه أنها ليست مضمونة وإن حرم إتلافها؛ كالجلد الذي لم يدبغ [بعد]. وعن الشيخ أبي على حكاية وجه في المثلث المسكر- الذي [نحرمه ويبيحه] أبو حنيفة-[أنه] طاهر مع القطع بالتحريم. قال الإمام: ولست أعرف له وجهاً. ثم ما ذكرناه إذا كانت الخمرة ظاهرة، فلو استحال باطن حبات العنقود خرماً، ففي الحكم عليه بالنجاسة خلاف قدمناه. وعبارة القاضي الحسين: أنه لو ألقى النورة وعناقيد العنب في الدن بنية الخل فصارت خمراً- لا خلاف أنها نجسة، وهل يجب الضمان على من أراقها، وهل يجوز بيعها؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا يحل البيع، ولا ضمان على المريق؛ كالمصفي. والثاني: يحل البيع ويجب الضمان على المريق؛ لأنها غير معدة للشرب، بخلاف المصفى، حكاه في كتاب الرهن. قال: والنبيذ؛ لأنه في معنى الخمر. وعن "البيان" حكاية وجه: أنه طاهر؛ لاختلاف الناس فيه، بخلاف الخمر. قال: والكلب؛ لقوله- عليه السلام-: "طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُم إِذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ أَنْ يغسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أُولاهُنَّ بالتُّرَابِ"، وفي رواية: "إِحْداهُنَّ"، أخرجه مسلم. وروى مسلم أيضاً أنه عليه السلام- قال: "إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاء أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ،

ثُمَّ ليَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ". وهذان يدلان على نجاسة سؤره؛ إذ الأمر بتطهير الطاهر وإراقته، خلاف الظاهر، وإذا كان سؤره نجساً دل على نجاسة فمه، وإذا كان فمه نجساً كانت سائر أعضائه كذلك، لأن فمه أطيب من غيره، ويقال: إنه أطيب الحيوانات نكهة؛ لكثرة ما يلهث. ومفهوم قوله- عليه السلام-[في] الخبر المشهور: "الهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجسَةٍ"

0000000000000

يعضد ما ذكرناه. ولأن ما وجب غسله وإراقته، وجب أن يكون كنجاسة سائر النجاسات. قال: والخنزير- قال [بعضهم]: للإجماع عليه، وفيه نظر؛ لأنه يقال: إن الإمام أحمد قال بطهارته، وحكى الفوراني ذلك عن مالك أيضاً، واستدل له الماوردي بقوله- تعالى-: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] فإن المراد بلحم الخنزير: هو جملته؛ لأن لحمه قد دخل في عموم الميتة فكان حمله على ما ذكرناه من الفائدة أولى من حمله على التكرار. وغيره قال: لأنه أسوأ حالاً من الكلب؛ لأنه يجب قتله، ولا يجوز الانتفاع به، بخلاف الكلب. قال: وما تولد منهما- أي: من كلب وخنزير- لأنهما أصله. قال أو من أحدهما- أي: وحيوان طاهر- لأن مبنى النجاسة على التغليب. قال: والميتة- أي: لحمها وإهابها: أما اللحم: فلقوله- تعالى-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]، وتحريم

ما ليس بمحرم ولا ضرر فيه، يدل على نجاسته. وأما إهابها: فلقوله- عليه السلام-: "أَيُّمَا إِهَاب دُبغَ فَقَدْ طَهرَ". [وفي "التتمة" حكاية وجه عن رواية ابن القطان أن جلد الميتة لا ينجس بالموت؛ وإنما الزهومة التي في الجلد تصيره نجساً؛ فيؤمر بالدبغ لإزالتها؛ كما يغسل الثوب من النجاسة]. قال: إلا السمك والجراد؛ يحل تناولهما لقوله- عليه السلام-: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ .. " الخبر المشهور.

والجراد- بفتح الجيم-: اسم جنس، واحدته: جرادة، ويطلق على الذكر والأنثى. قال: والأدمي- في أصح القولين- لأنه- عليه السلام- قبل عثمان بن مظعون بعد موته ودموعه تجري على خده، ولو كان نجساً لما قبله مع طهور رطوبته.

ولأنا تُعُبدنا بغسله، والنجس لا يتعبد بغسله؛ لأن غسله يزيد النجاسة، كذا حكى عن ابن سريج. ولأنه مكرم؛ كما دل عليه قوله- تعالى-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، ولا يليق بكرامته الحكم بنجاسبته؛ وهذا القول نص عليه في "الأم" وبه قال الأنماطي وأبو العباس. قال الماوردي في الجنائز وسائر أصحابنا: ومقابله أنه نجس؛ لأنه حيوان طاهر في الحياة، غير مأكول بعد الموت، فكان نجساً كغيره. ولأنا تعبدنا بغسله، ولا نؤمر بغسل الطاهرات. كذا قاله أبو إسحاق، وهذا القول أخذ من قول الشافعي: "إذا جبر عظمه بعظم نجس ومات لا يقلع؛ لأنه صار ميتاً كله"؛ فدل على أنه ينجس بالموت. وكذا قوله في الجنائز: "ويتخذ إناءين: إناء يغرف به من الماء المجموع، فيصب في الإناء الذي يلي الميت، فإن تطاير من غسل الميت إلى الإناء الذي يليه لم يضر بالآخر- يدل على نجاسته أيضاً. وكذا قوله: "لو اضطرب سن من أسنانه فأثبتها بذهب أو فضة لم تصح صلاته؛ لأنها صارت ميتة"، كذا حكاه عنه القاضي الحسين قبيل باب الساعات التي تكره فيها الصلاة، وابن الصباغ عزاه إلى نصه في "الأم" في باب الصلاة بالنجاسة. وقد اختار هذا القول الصيرفي وأبو إسحاق، كما قال البندنيجي في الأطعمة، وقال في كتاب الصلاة: إنه المذهب. وأبو الطيب نسب الأول إلى اختيار أبي إسحاق، والثاني إلى اختيار الأنماطي وأبي العباس، وقال: إنه القياس، فإنه لو قطع عضو منه في حياته لكان نجساً، ولو كان لا ينجس بالموت لم ينجس ما قطع منه كالسمك إذا قطع منه شيء لا ينجس. وهذا من القاضي يدل على الجزم بأن ما أبين من الآدمي نجس، وبه صرح في باب الصلاة بالنجاسة. وغيره حكى فيه طريقين: أصحهما: القطع بنجاسته، والثاني: حكاية خلاف فيه. وعلى ذلك جرى الإمام والرافعي [هنا والماوردي] في الجنائز، لكن الماوردي

قال: الصحيح أنه نجس، ونسب القول بطهارته إلى الصيرفي. والإمام قال: إنه الصحيح. وكذا الرافعي وطرد الخلاف في المبان من السمك والجراد ومشيمة الآدمي، وصحح القول بطهارة الجميع. والمذكور في "تعليق أبي الطيب"، والبندنيجي، و"التتمة" نجاسة المشيمة، وكلام الشيخ الذي سنبينه يدل عليه. وقد أفهمك استثناء الشيخ الأشياء الثلاثة التي ذكرها من الميتات نجاسة ما عداها منها، وذلك يشمل مسائل: منها: ما ليس له نفس سائلة: كالذباب ونحوه، وهو ما عليه العراقيون وغيرهم. وقال القفال: إنها طاهرة؛ لأن النجاسة إنما تأتي من قبل انحصار الدم وانحباسه في العروق بالموت، واستحالته وتغيره، وهذه الحيوانات لا دم لها ولا استحالة، وما فيها من الرطوبة كرطوبة النبات. ومنها: الدود المتولد من الطعام، وهو ما حكاه البندنيجي، وتضمنه كلام الإمام عند الكلام في تنجس الماء بما [لا نفس له سائلة] وبعضهم حكى قولاً آخر وصححه: أنه طاهر تبعاً لأصله، وعليه جرى في "الكافي"، وكذا الغزالي حيث قال: وما يستحيل من الطعام كدود التفاح والخل- طاهر، على المذهب. والرافعي قال: إن الخلاف فيه كالخلاف فيما لا نفس له سائلة، وإن ما ذكره الغزالي اختيار القفال. وعلى الأول: لا ينجس الطعام؛ عفواً. وعلى الثاني: يحل تناوله مع الطعامز قال في "الوجيز": على الأصح، وهو يشعر بخلاف فيه، وقد حكاه في "الوسيط"

والمذكور في "النهاية" حل أكله معه، وحكاية الخلاف في حل تناوله مفرداً، وصحح التحريم. ومنها- كما قال بعضهم-: الجنين الذي يوجد ميتاً عند ذبح الأم، وليس الأمر كما أفهمه كلامه؛ فإنه طاهر، وكذا الصيد إذا مات بالضغطة على أحد القولين. وكان ينبغي أن يستثنيه مع ما استثناه. وهذا السؤال قد أورد الرافعي مثله على الغزالي، ولا يرد عليهما: أما الجنين؛ فلأن ذكاته بذكاة أمه بنص الخبر، وليس داخلاً في اسم الميتة، والصيد الميت بالضغطة لعلهما لا يريان حله والله أعلم. قال: وما لا يؤكل لحمه إذا ذبح؛ لأن ذبحه لا يفيد حل أكله؛ فكذا طهارته؛ قياساً على ذكاة المجوس طرداً، والمسلم عكساً. قال: وشعر الميتة؛ لأنه متصل بالحيوان حالة حياته وموته اتصال خلقة؛ فينجس بموته كالأعضاء، ولأنه مندرج تحت اسم الميتة يدل عليه [أنه] لو حلف لا يمس ميتة حنث [بمسه]؛ كذا قاله الماوردي. والحكم في صوف الميتة ووبرها وريشها كالحكم في شعرها؛ لأن ذلك في معناه، وما سنذكره من الخلاف مطرد فيه؛ كما صرح الأصحاب. فرع: إذا رأى شعراً ولم يعلم أنه طاهر أم نجس: فإن علم أنه شعر مأكول اللحم، فهو طاهر، وإن علم أنه شعر غير ماكول فهو نجس، وإن شك فيه، قال الماوردي: ففي طهارته وجهان من اختلاف أصحابنا في أصول الأشياء: هل هي على الحظر [فيكون نجساً] أو على الإباحة فيكون طاهراً؟ وهذا فيه نظر؛ لأن الخلاف المذكور مفرع على القول بمسألة الحسن والقبح، ونحن لا نقول به.

قال: وشعر ما لا يؤكل لحمه إذا انفصل في حال حياته كالعضو الساقط منه حال حياته؛ وهذا ذكره الشيخ؛ بناء على ما جزم به في أن شعر الميتة نجس، وهو ما حكاه المزني والربيع بن سليمان المرادي والبويطي وحرملة وأصحاب القديم. وروى إبراهيم البلدي عن المزني: أن الشافعي رجع عن تنجيس الشعور، وكذا حكاه القاضي الحسين في رواية لكنه لم يعزها لإبراهيم، [لم يذكر الفوراني غيرها]، وفي أخرى- وهي المشهور في كتب العراقيين-: أنه رجع عن قوله في شعور بني آدم: إنها نجسة، [وهي المنسوبة لإبراهيم]. والماوردي قال: إن ابن سريج حكى الأول عن الأنماطي عن المزني عن الشافعي، واختلف الأصحاب في هذه الرواية: فمنهم من لم يصححها، ومنهم من صححها، وهؤلاء اختلفوا في تعليل رجوعه: فمنهم من علل ذلك بكرامتهم، وقال: الحكم في شعر غيره كما تقدم ومنهم من قال: إنما رجع؛ لأنه ذهب إلى أنه لا روح فيه، بل قال الشيخ أحمد البيهقي: إن الشافعي قال في "الجامع": "إن الشعر لا روح فيه"، [وقال في كتاب الديات: "الشعر لا روح فيه"]، وعلى هذا فكل حيوان طاهر؛ فشعره طاهر حال الحياة وبعد الوفاة، على كل حال، وهذا لفظ البندنيجي وغيره من العراقيين. وبعض المراوزة- لأجل هذه العلة- طرده في شعر الكلب والخنزير. وقال الشيخ أبو محمد: إنه ظاهر المذهب.

وقال الإمام: إن أبا حامد المرورذي اختاره، وبه يحصل في الشعور أربع مقالات: [طاهرة كلها]. طاهرة إلا شعر الكلب والخنزير. نجسة كلها إلا شعر الآدمي، وهو الصحيح في "الإبانة". نجسة كلها، وهو الصحيح. وعلى هذا في طهارة شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهان: أصحهما- في "تعليق القاضي الحسين"، وينسب إلى أبي جعفر الترمذي-: أنه طاهر؛ لأنه- عليه الصلاة والسلام- فرق شعره بين أصحابه. ثم ظاهر قول الشيخ: "وشعر ما لا يؤكل لحمه إذا انفصل في حال حياته" يقتضي إدخال شعر الآدمي وإن قلنا بطهارة جثته، [وهو ماض على طريقة أبي الطيب حيث جزم بنجاسة العضو المبان من الآدمي وإن حكمنا بطهارته] لأن الشعر على القول الذي عليه نفرع كالعضو، وقد صرح به الماوردي حيث قال- بعد حكاية [رواية] الرجوع عن تنجيس شعور بني آدم-: إن جمهور الأصحاب امتنعوا من تخريجها قولاً للشافعي- يعني في سائر الشعور وأما شعر بني آدم: فخرجوه على قولين: أحدهما- وهو الأشهر عنه:- أنه نجس بعد انفصاله عنه؛ لأنه شعر من غير مأكول.

والثاني- وهو محكي عنه في الجديد: أنه طاهر؛ لأن ابن آدم لما اختص بالطهارة ميتاً، اختص شعره بالطهارة منفصلاً. لكن البندنيجي وابن الصباغ والرافعي قالوا: إن الخلاف في طهارة شعر الآدمي ونجاسته مفرع على القول بأن الآدمي ينجس بالموت. أما إذا قلنا: لا ينجس بالموت، كان شعره طاهراً على اختلاف أحواله. قلت: والطريقة الأولى أقرب؛ عملاً بما قلناه، وأيضاً فإن القائل باختصاص الرجوع بشعر الآدمي علله بكرامة الآدمي، وهذا التعليل [ينافيه] الحكم بنجاسة [ميتته]. ثم حيث حكمنا بنجاسته عفي عن الشعرة والشعرتين منه في الثوب، وكذا في الماء القليل، كما حكاه البندنيجي وابن الصباغ. وقد حكى الروياني العفو عن ذلك في الماء عن بعض الأصحاب، [وقال: إنه غلط]. قال الجيلي: ولو قطعت شعرة واحدة أربع قطع، فحكمها حكم الشعرة الواحدة؛ على الأصح، وإن الخلاف مبني على ما إذا تبددت النجاسة التي لا يعفى عنها- على البدن بحيث لا يدرك الطرف آحادها؛ فحكمها حكم ما لا يدركه الطرف أو حكم ما يدركه؟ فيه وجهان، أصحهما: الثاني، ذكره الغزالي في بعض تعاليقه. قلت: وفي كلام الإمام الذي حكيته في باب طهارة البدن عند الكلام في العفو عن اليسير من سائر الدماء- إشارة إليه؛ فليطلب منه. أما شعر ما يؤكل لحمه إذا انفصل منه في حال حياته [بتناثر فطاهر] كما جزم به القاضي الحسين والمتولي وغيرهما، وكذا إن انفصل منه بقطع أو قص، أو فصل منه بنتف، فوجهان: وجه المنع: أن قطعه بمنزلة ذبح الحيوان، وقد حكاه الرافعي في المتناثر من الحيوان أيضاً.

والأصح فيهما الطهارة. تنبيه: جزم الشيخ بنجاسة شعر ما [لا] يؤكل لحمه إذا انفصل في حال حياته يقتضي أموراً: أحدها: إلحاق [ريش] ما لا يؤكل لحمه [به] كما ذكرناه؛ لأنه في معناه، وبه صرح غيره، وطرد القول بطهارته فيه. وأما ريش ما يؤكل لحمه إذا فصل منه في حال حياته، وكذا الصوف والوبر من المأكول- كالشعر إذا فصل أو انفصل من المأكول، وقد تقدم. الثاني: نجاسة ما انفصل منه من الأعضاء وغيرها من طريق الأولى، وذلك مما لا خلاف فيه إلا في الآدمي والمشيمة كما تقدم، وكذا فأرة المسك؛ فإنها تنفصل عن الظبية خلقةً وحشوها المسك، وتكون على موضع السرة منها، وهي ترمي في كل سنة فأرة، وينميها الرب- سبحانه- ملتحمة ثم تستشعر أطرافها قشفاً فتحتك بالصوان والمواضع الخشنة فتسقط. وفي طهارتها وجهان، [أصحهما] الطهارة؛ لأنها تنفصل بالطبع؛ فهي كالجنين، ولأن المسك فيها طاهر، ولو كانت نجسة، لكان المظروف نجساً. ومحل الوجهين إذا انفصلت في حياة الظبية كما ذكرنا أما إذا فصلت بعد موتها فهي نجسة؛ كاللبن. قال الرافعي: [وقد] حكي وجه آخر: أنها طاهرة كالبيض المتصلب. قال في "التتمة": والوسخ الذي ينفصل عن بدن الآدمي في الحمام وغيره- حكمه حكم ميتة الآدمي؛ لأن الوسخ متولد من البشرة. قال: وكذلك الوسخ المنفصل عن سائر الحيوانات حكمه حكم الميتة. الثالث: نجاسة ما انفصل منه من: قرن، أو ظفر، أو ظلف، أو سن، أو عظم- من طريق الأولى؛ لأن هذه بالأعضاء أشبه من الشعر بها، وقد اختلف الأصحاب في ذلك وفيه في الميت على طريقين:

إحداهما: إلحاقه بالشعر؛ فيكون فيه ما سلف من الخلاف؛ وهذه طريقة البندنيجي والماوردي. والثانية: القطع بالنجاسة، وهي الصحيحة، واستدل لها في العظام بقوله- تعالى-: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} الآية: [يس: 78] والإحياء للميت. ولأنها تألم؛ فيدل على أن الحياة تحلها، وما حلته الحياة ينجس بالموت، خلا ما استثناه. قال الغزالي: ولأن الودك فيها نجس فيدل على نجاسة الطرف؛ إذ لا حياة في الودك. وأراد أنا أجمعنا على أن الودك في حال الحياة طاهر، وبعد الموت نجس، والحياة لا تحله، فيقال: إنه ينجس بالموت؛ فدل على [أن] نجاسته بنجاسة ظرفه. قال: ولبن ما لا يؤكل لحمه غير الآدمي؛ لأنه عصارته، وكان مقتضى القياس نجاسته من الآدمي، كما صار إليه بعض أصحابنا، لكنه خلاف المذهب؛ تكريماً له، وهذا في لبن المرأة، أما لبن الرجل: فقد جزم [به] ابن الصباغ في كتاب الرضاع، وقاس عليه لبن الميتة. وعن الإصطخري: أنه قال بطهارة لبن ما يؤكل لحمه من الطاهرات، وبعضهم يحكي عنه طهارة لبن الأتن الأهلية، وجواز شربه لأن لحمها ولبنها كان مباحاً، فحرم اللحم وبقي اللبن على الإباحة فإن النسخ لا يثبت [فيه] قياساً. قال: والعلقة؛ لأنها دم خارج من الرحم؛ فكان نجساً كالحيض، قاله أبو إسحاق. ومقابله- قاله ابن أبي هريرة- أنه طاهر؛ لأنه مبتدأ خلق حيوان طاهر؛ فكان طاهراً [كالمني، ولأنها دم غير مسفوح فكان طاهراً] كالكبد والطحال، وهذا ما صححه الرافعي. وقد أفهم قول الشيخ وما ذكرناه من التعليل [القول] بطهارة المضغة، وهو الأشبه؛ لأنها إلى المني أقرب. وغيره صرح بإجراء الخلاف فيها، وصحح القول بطهارتها، وقال: إنه يجري في البيضة إذا صارت دماً.

وصحح الروياني القول بالطهارة أيضاً، وجزم في "الكافي" بنجاستها في هذه الحالة، وحكى الوجهين فيما إذا صارت علقة. [قلت:] ولو رتب الخلاف فيها على الخلاف في العلقة من الآدمي وأولى بنجاستها- لكان له وجه مما أسلفناه: أن مني الآدمي طاهر، على المذهب، ومني مأكول اللحم وغير مأكوله مختلف فيه، ولا خلاف في الطهارة إذا اختلط البياض والصفرة [ولم يتبين]. قال: ورطوبة فرج المرأة في ظاهر المذهب؛ لأنها رطوبة متولدة من محل النجاسة؛ فكانت منها، وهي ماء أبيض يخرج من قعر الرحم. وقيل: إنه طاهر كالعرق، وهو الأصح في "الكافي" [و"المحرر"] وقد حكاه الماوردي في باب ما يوجب الغسل نصاً عن الشافعي في [بعض] كتبه. والشيخ في دعواه أن الأول ظاهر المذهب- اتبع فيه البندنيجي؛ فإنه قال هكذا في باب التيمم؛ لأن الشافعي قال في "الأم" كما حكاه هو وغيره [ثم]: وللرجل المسافر الذي لا ماء [معه وللمغرب] في طلب الإبل- أن يجامع أهله، ويجزئه التيمم إذا غسل [ما أصاب] ذكره، وغسلت ما أصاب فرجها أبداً حتى يجدا الماء؛ فإذا وجداه فعليهما أن يغتسلا. [ولا جرم] قال ابن الصباغ في التيمم: إن القول بطهارتها خلاف النص. وقال القاضي الحسين- عند الكلام في بيع المسك في الفأرة-: لعل الأصح أنها نجسة. وقال الإمام في باب أجل العنين: وكان شيخي يقول: تردد الأصحاب في نجاسة بلل باطن فرج المرأة، مأخوذ من اعتقاد بعضهم أن ما وراء ملتقى الشفرين لا يثبت له

حكم البطون، ويلتحق بداخل الفم إلى قدر حشفة معتدلة، وهذا عندي [خطأ؛ فإن] ما وراء الملتقى، من باطن الفرج؛ فلا معنى [لإبداء المراء] في ذلك. وهذا من الإمام يقتضي ترجيح القول بالنجاسة. وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا جامع الرجل، هل يجب عليه غسل ظاهر ذكره وما أصابه من الرطوبة، وكذا غسل ظاهر البيض كما قال الماوردي والقاضي الحسين ونجاسة مني المرأة كما تقدم. وأما إذا خرج من باطن فرج المرأة رطوبة، قال الإمام- ها هنا-: فلا شك في نجاستها. ومأخذ القول بالطهارة- فيما ذكرناه- أنا لا نقطع بخروجها وبهذا ظهر الفرق بين رطوبة باطن فرج المرأة وباطن الذكر، حيث قلنا: إن رطوبة باطن فرج المرأة ينجس المني، ولا كذلك رطوبة باطن الذكر؛ لأنها لزجة لا يخرج منها شيء، ولا يمازجها ما يمر بها، وأمثالها من الرطوبات في الباطن لا حكم لها، ولا كذلك رطوبة باطن فرج المرأة. قال: وما ينجس بذلك، أي: من الأعيان الطاهرة؛ لقوله- عليه السلام-: "إِذَا وَقَعَتِ الفَارَةُ في السَّمْنِ، فَإِنْ كَانَ جَامِداً فَلْيُلْقِهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعاً فَلْيُرِقْهُ" رواه أبو داود.

00000000000000

وعدول الشيخ عن قوله: وما لاقى ذلك، إلى ما ذكره؛ لأنا مع الملاقاة قد لا نحكم عليه بالنجاسة، وذلك في صور: إحداها: الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره، فإنا لا نحكم باجتنابه وإن لاقته النجاسة؛ لأنا لم نحكم بنجاسته، وهذه الصورة ترد على من صور كلام الشيخ بأن تلاقي النجاسة العين الطاهرة وأحدهما رطب. والثانية: الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة لا يدركها الطرف؛ على طريقة من يقول: لا تنجسه. والثالثة: إذا وجدت الملاقاة بين جافين فإنا لا نحكم بالنجاسة.

نعم، دخان النجاسة إذا قلنا بنجاسته- كما هو الصحيح عند أبي الطيب وغيره في كتاب الأطعمة- إذا أصاب الثوب ونحوه وهو جاف في العفو عنه وجهان حكاهما القاضي الحسين في كتاب الصلاة من غير تفرقة بين القليل والكثير، وغيره فرق فقال: القليل يعفى عنه دون الكثير، وقال الماوردي: الكثير منه إذا أصاب الثوب في العفو عنه وجهان حكاهما في باب الأطعمة. فأفهم كلامه ذلك فيما إذا كان الملاقي له رطباً؛ فإنه قال: إذا قلنا: يعفى عن دخان النجاسة، فلو سجر التنور بالنجاسة، جاز الخبز عليه قبل المسح، وإلا فيجب مسح التنور قبل الخبز، والله أعلم. ثم اعلم أن المتنجس بغيره تارة ينجس ظاهره فقط، وتارة ظاهره وباطنه؛ كما إذا طبخ اللحم بماء نجس، أو أسقى الحديد ونحوه بماء نجس، ونحو ذلك، وفي كل من الصورتين يمكن تطهيره وهو في الأولى بإفاضة الماء على الظاهر، وفي كيفية في الثانية وجهان: أحدهما: يفعل بالماء الطاهر كما فعل بالنجس وهو ما حكاه المتولي، وكذا القاضي الحسين في كتاب الصلاة، وقال ثم: إن الدابة إذا راثت الشعير، فإن كان يصلح للزراعة ونبت فإنه يطهر إذا غسل بالماء، وإن كان بحيث لا ينبت لو زرع فإنه لا يطهر بالغسل. وعليه جرى في "التتمة" و"الكافي". والثاني: يكفيه إفاضة الماء على ظاهره، وفي اللحم يعصره، وظاهر نص الشافعي على هذا؛ فإن البندنيجي حكى في صلاة الخوف أن الشافعي قال: إذا حمى السلاح بالنار ثم صب عليه شيء نجس، فقيل: قد شربته الحديدة- فإن غسل ذلك طهر؛ لأن

الطهارة كلها إنما جعلت على ما يظهر ليس على الأجواف. وكذا حكاه ابن الصباغ وقال في توجيهه: إن الباطن يتعذر إيصال الماء إليه وغسله؛ فيعفى عنه، ولم يحك غيره، وأنه يجوز أن يحمله في الصلاة. والبندنيجي قال: إن هذا خلاف أصوله، لأنه يقول في الآجر إذا نجس ظاهره وباطنه: طهر ظاهره وجازت الصلاة عليه ولا تجوز فيه. وهذا يعضد الوجه الأول. والكلام في الآجر استوفيناه في باب طهارة البدن والثوب. ويقرب من هذا النوع ما حكاه القاضي الحسين في آخر باب ما يفسد الماء [لأن الخف] إذا خرز بالهلب لا تجوز الصلاة فيه قبل غسله؛ لنجاسته، وهل تجوز بعد غسله؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم. والثاني: لا؛ لأنه لا يتصور غسل باطن الثقب؛ لأنها مشدودة بالخيط، ولا يمكن إدخال الماء فيها وهي نجسة، لأن الهلب أصابها وقت الخرز. وكأن الهلب- والله أعلم-: ما يعمل في رأس الخيط [من شعر الخنزير]؛ ليوصل الخيط إلى الثقبة، وبه صرح الجوهري في "الصحاح"، والله أعلم. قال: ولا يطهر شيء من النجاسة بالاستحالة إلا شيئان. هذا الحصر يرد عليه- كما قال بعضهم-: العلقلة؛ إذا قلنا: إنها نجسة؛ فإنها تطهر باستحالتها آدمياً، وكذا البيضة المذرة تطهر إذا استحالت فرخاً، ودم الظبية إذا استحال مسكاً طهر. وجوابه: أن ما حكمنا بنجاسته من ذلك لا تتصور استحالته؛ إذ العلقة قبل انفصالها من المرأة، وكذا دم الظبية قبل انعقاده مسكاً وانفصاله عنها لا يحكم بنجاسته، وإنما يحكم بنجاسة ذلك بعد الانفصال، وحينئذ لا يتصور طرآن استحالته؛ لما ذكرناه، ومن ذلك يؤخذ أن الحكم بنجاسة البيضة المذرة إذا كسرت،

أما قبل كسرها فما في جوفها كالعلقة المتصلة بالمرأة، لكن قد حكى الرافعي وغيره في صحة بيعها وجهين جاريين في بيع حبات استحال باطنها خمراً، والمذهب: المنع؛ لأجل النجاسة، وحكى وجهين فيما إذا حمل البيضة المذرة في الصلاة والحبات المذكورة، وأظهرهما: المنع، فلو سلم ما ذكرناه عن هذه الصورة، لكان ما ذكره الشيخ من الحصر لا يرد عليه شيء. نعم، نقل وجه أن الأعيان النجسة إذا ألقيت في المملحة والطراية، فاستحالت، أو صارت الميتة تراباً: أنها تطهر كما ستعرفه في باب طهارة البدن [والثوب]، وهو خلاف المذهب. وقيل: إن طهارة الجلد بالدباغ من باب الإزالة. وتوسط الإمام، فقال: فيه إزالة الفضلات التي على الجلد وإحالة لنفس الجلد. والجمهور على ما ذكره الشيخ. قال: الخمر؛ فإنها إذا انقلبت بنفسها خلا طهرت؛ لما روي أنه عليه السلام قال: "خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ"، ولزوال علة التنجيس إلى غير خلف. ويقال: إنه لا يكون العصير خلاً إلا بعد انقلابه خمراً. قال: وإن خللت لم تطهر؛ لأنه توصل إلى استعجال الخل بفعل محظور، لا يحل؛ كما لو قتل مورثه، أو نفر صيداً من الحرم إلى الحل [وأخذه]. وإنما قلنا: إن التخليل محرم؛ لأن أبا طلحة أسلم وعنده خمور لأيتام، فقال:

يا رسول الله، أخللها؟ قال: "لاَ، أَهْرِقُهَا". وظاهر كلام الشيخ [يقتضي:] أنه لا فرق في ذلك بين المحترمة وغيرها، وبين التخليل بإلقاء شيء فيها أو نقلها من الظل إلى الشمس، وعكسه، ونحو ذلك. والعراقيون أطلقوا القول في التخليل إن كان بإلقاء شيء فيها لا يطهر، وإن كان بالنوع الثاني ففي الطهارة وجهان من غير تفرقة بين المحترمة وغيرها. واختار في "المرشد" عدم الطهارة. والمراوزة قالوا: التخليل حرام، وفي المحترمة وجه أنه لا يحرم؛ لأنها غير مستحقة الإراقة. قلت: وهذا التعليل نخصه بالنقل من الشمس إلى الظل ونحوه دون التخليل بإلقاء شيء فيها من خل أو عصير أو خبز حار ونحو ذلك، وكلام الرافعي في حكايته يقتضي جوازه بذلك أيضاً، وإن صح فلعله قول من يرى أن الخمرة المحترمة طاهرة كما سلف، والمذهب الأول. ولو خللت غير المحترمة بإلقاء شيء فيها لم تطهر لعلتين: إحداهما: سلفت. والثانية: أن ما ألقى فيها نجس بملاقاتها، فإذا زالت الشدة المطربة بقيت نجاسة الملقى؛ فينجس بها الخل؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن أبي يعقوب، وقال هو والإمام: إنه فاسد؛ فإنه لا معنى لتنجس الملح إذا كان هو الملقى مثلاً إلا اتصال الخمر، وجوهر الملح على الطهارة، فإذا انقلبت الخمر خلا فمن ضرورة ذلك أن تنقلب تلك الأجزاء التي لاقت الملح، فتطهر؛ كالدن. وهذا قد تعرض الغزالي وغيره لجوابه، حيث قالوا: الملح إذا تنجس بالخمر لا

تحصل طهارته إلا بالماء تعبداً، وخالف الدن، فإن ذلك من ضرورته. قالوا: وعلى العلتين يخرج ما لو نقلها من الشمس إلى الظل وعكسه، أو السدادة ونحو ذلك؛ فعلى العلة الأولى لا تطهر، وعلى الثانية تطهر، وهو الأصح "الكافي" و"الرافعي"؛ تبعاً لـ"الوجيز"، وعليهما يخرج أيضاً ما لو وقع فيها [شيء] من غير قصد، فعلى الأولى تطهر، وعلى الثانية لا، وهو الأظهر في "الرافعي". وعليهما يتخرج- أيضاً- ما لو ألقى في العصير ماء أو بصلاً بعد العصر فتخمر، ثم تخلل، فعلى الأولى يطهر، وعلى الثانية لا، وهو الأصح في "الكافي". وقال البغوي: إنه لو ألقى الماء حال العصر طهر بلا خلاف؛ لأنه من ضرورته، بخلاف إلقاء البصل ونحوه. ولو لم يوجد منه سوى قصد الإمساك للتخليل، قال في "الوسيط": فالظاهر طهارتها. وفيه وجه. أي: إنها لا تطهر، وبه صرح ابن كج، والقاضي الحسين، وقالا: أنها لا تحل؛ لأن إمساكها حرام؛ فلا يستفاد به نعمة. والخلاف في هذه الحالة مفرع على قولنا: إنه لو نقلها من الشمس إلى الظل لا تطهر. قال القاضي الحسين: ولو أمسكها بنية أن تشتد خمرتها، فانقلبت خلاً، فإن قلنا: لو أمسكها لتصير خلاً لا تطهر، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان. والفرق: أنه ثم قصد ما هو مباح، وهنا قصد محذوراً. وأما المحترمة فإن خللت بإلقاء شيء فيها، لم تطهر، [ويجيء على قياس القول بطهارتها وأن النظر إلى العلة الثانية الحكم بطهارتها] وإن نقلها من الشمس إلى الظل ونحوه فالوجهان جاريان عندهم بالترتيب وأولى بالطهارة، والقاضي الحسين سوى بينهما، وصحح القول بعدم الطهارة؛ وإن وجد مجرد الإمساك [فهي طاهرة] عندهم؛ بناء على أنه لا يجب إراقتها، وهو المشهور عندهم، وبه الفتوى. وحكى الإمام عن بعض أئمة الخلاف [وهو في "تعليق" القاضي الحسين] أنه

لا يجوز إمساكها، بل يضرب عن العصير إلى أن تصير خلاً، [فإذا تصور] منا اطلاعه وهو خمر أرقناه، وهذا ما حكاه العراقيون كما حكاه في "الاستقصاء" وغيره. ولا جرم أنهم لم يفصلوا بين المحترمة، وهي التي اعتصرت بقصد الخل فصارت خمراً، وغيرها وهي التي اعتصرت للخمرية. ولو ألقى العصير في الدن لا بنية الخمرية ولا بنية الخل، ثم أحدث نية الخل قبل أن تصير خمراً، فهي محترمة، ولو أحدثها بعد أن صارت خمراً، فهل يحل إمساكها على طريقة المراوزة؟ قال القاضي الحسين: يحتمل وجهين، أظهرهما: نعم. وحيث حكمنا بطهارة [الخمر، حكمنا بطهارة] ظرفها حتى الموضع الذي أصابه الخمر في حال الغليان وإن كان لا يصل إليه في حال كونه خلاً. وعن "البيان": أن الداركي قال: إن كان الظرف بحيث لا يتشرب شيئاً من الخمر طهر، وإن كان يتشرب منه لم يطهر. والمذهب الأول. قال: وجلد الميتة سوى جلد الكلب والخنزير- إذا دبغ فإنه يطهر؛ هذا الفصل يقتضي أمرين: أحدهما: أن ما حكم بنجاسته من الجلود غير جلد الكلب والخنزير يطهر ابالدباغ. ودليله: ما روي أنه تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت، فمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ " فقالوا: إنها ميتة! فقال: "إنما حرم أكلها، إذا دبغ الإهاب فقد طهر" أخرجه مسلم. وروى الشافعي بسنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما إهاب دبغ فقد طهر".

قال الترمذي: هو حسن صحيح، [وقد أخرجه مسلم]. والإهاب: اسم للجلد قبل الدباغ. فإن قيل: روى أبو داود بسنده عن عبد الله بن عكيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى جهينة: "إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب".

وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: إن إسناده جيد. وفي لفظ آخر: "أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته بشهر أو بشهرين" وهذا يدل على أن الانتفاع به منسوخ. قيل في جوابه: كل حديث نسب إلى كتاب ولم يذكر حامله فهو مرسل، ولا حجة عندنا في المرسل. وأيضاً: فقد قال علي بن المديني: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات ولعبد الله بن عكيم سنة، وكان يرويه مرة عن مشيخة قومه بأرض جهينة، ولو صح حملناه على الانتفاع [به] قبل الدباغ؛ فإن لفظ "الإهاب" منطبق عليه، [وبعد الدباغ يطلق عليه] أديما، وسختياناً. والدباغ المحصل للطهارة يكون بالشث [والقرظ] معاً والأشياء الحريفة المنشفة للفضلات المعفنة، المانعة من الفساد إذا أصابه الماء والمطيبة لريحه: كقشر الرمان، والعفص، ونحوهما، دون ما لا يفعل فيه ذلك كالتتريب والتشميس والتمليح، نص عليه حيث قال كما حكاه أبو علي في "الإفصاح": "لا يجوز بالتراب والرماد". وقال أبو الطيب: لم أر للشافعي في ذلك نصاً، وينبغي أن نرجع إلى أهل الصنعة، فإن كان للتراب [والرماد مثل] فعل القرظ ونحوه جاز الدباغ بهما.

وفي "الرافعي": أن بعض أصحابنا أطلق القول بالاكتفاء بالإلقاء في الشمس والتراب كما صار إليه أبو حنيفة، وبعضهم قال: [إنه] لا يجوز بما عدا الشث والقرظ؛ لقوله- عليه السلام-: "أليس في الشث والقرظ والماء ما يطهره"؛ ولأن التطهير من ولوغ الكلب يختص على الأظهر بما نص عليه الشرع وهو التراب؛ فكذا هذا، والصحيح الأول. والشب، قال الأزهري: بنقطة من أسفل: [شيء] يشبه الزاج، ومن رواه بالثاء ثالثة الحروف، فقد صحف. والذي صدر به أبو الطيب كلامه- وهو ما نقوله-: أنه بالثاء ثالثة الحروف، وهو شجر مر الطعم. قال في "الإفصاح": إنه شيء يدبغ به. وقال الأزهري: لا أعلم هل يدبغ به أم لا؟ ثم ما ذكرنا جواز الدباغ به هل يشترط أن يكون طاهراً أم لا؟ فيه وجهان: أصحهما في "الرافعي" وغيره: لا، وبه جزم في "التهذيب". ووجهه أنا لو قلنا: إنه لا يطهر بذلك، لزم أن يقال: إذا استعمل فيه دواء طاهراً

أن يحكم بطهارته، ومعلوم أن الثاني لم يؤثر فيه، فكيف يوجب الطهارة؟ والذي صححه في "التتمة" مقابله. والخلاف جارٍ في الدباغ بالرمل، وإن جزم بعضهم بالمنع فيه. ثم إذا قلنا باشتراط لطهارة في الآلة، فهل يشترط معها استعمال الماء؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو ما حكاه الإمام عن المحققين: لا. والثاني- وعليه يدل الخبر: نعم. فعلى هذا لو لم يستعمله، فالجلد نجس العين، فإن طلب تحصيل طهارته، استعمله، وهل يشترط أني ضيف إليه شيئاً من آله الدباغ؟ قال الشيخ أبو محمد: نعم. وقال الإمام: لا يبعد عدم اشتراطه، وقد حكاه الرافعي وجهاً. وعلى الوجهين: هل يشترط استعمال الماء بعد الفراغ من الدباغ؟ فيه وجهان: أصحهما في "التهذيب": لا. وأظهرهما- كما قال الرافعي-: نعم، وهو ظاهر المذهب في "التتمة"، والأقيس في "الشامل"، والأصح في "النهاية"، وهو المذكور في "تعليق البندنيجي" عن أبي إسحاق. [فإن قلنا بالأول، حكمنا بطهارة ما انفصل عن الجلد من فضول آلة الدباغ]. وإن قلنا بالثاني، حكمنا بنجاستها، واشترطنا أن يكون الماء طهوراً، بخلاف الماء المستعمل في أثنائه إذا اشترطناه؛ فإنه لا يشترط طهوريته [حتى يجوز] بالمتغير بآلة الدباغ. وإذا قلنا: يجوز الدباغ بالنجس، فالخلاف في استعمال الماء في أثناء الدباغ كما تقدم، ويجب إفاضة الماء الطهور عليه بعد الدباغ بلا خلاف، والله أعلم. الأمر الثاني: أن جلد الكلب والخنزير وفروعهما لا يطهر بالدباغ. ووجهه: أن الطهارة بالدباغ جاءت من جهة أنه يمنع تعرضه للفساد كالحياة،

والحياة لا تفيد طهارة ما ذكرناه؛ فالذكاة أولى. ووجه الأولوية: أن الدباغ يفيد طهارة الجلد فقط والحياة تفيد طهارة جملة الحيوان. وقد ألحق بعض الأصحاب بذلك كما حكاه ابن الصباغ وغيره جلد الآدمي إذا حكمنا بنجاسته، لكن من جهة أن دباغه معصية؛ فإن فيه امتهاناً [له]. وقد قيل: إنه لا يتأتى دبغه، فإن تأتي، فظاهر كلام الشيخ وغيره طهارته بالدباغ؛ فإنه لا امتهان فيه، وإنما الامتهان في استعماله، وهو لا يجوز بحال. قال: ويحل بيعه، أي: ويصح في أحد القولين؛ لأنه جلد طاهر منتفع به؛ فجاز بيعه؛ كجلد المذكى، وهذا هو الجديد. ومقابله محكى عن القديم: أنه لا يجوز؛ لأن النص ورد بالانتفاع فيختص به، ولو صح بيعه لكان الانتفاع بثمنه، لا به، ومثل ذلك أم الولد والعين الموقوفة يجوز الانتفاع بهما، ولا يجوز بيعهما، وهذا ما ذكره العراقيون من التوجيه، وجزموا مع ذلك بطهارة باطن الجلد كظاهره، وقال القفال: لا ينقدح هذ القول إلا أن نقولك يطهر بالدباغ ظاهر الجلد دون باطنه، وهذا قد حكاه القاضي الحسين عن القديم، وفرع عليه- أيضاً- عدم جواز الصلاة فيه والانتفاع به في الأشياء الرطبة. قال الماوردي: وإذا قلنا: لا يجوز بيعه، إذا أتلفه متلف، لا يجب عليه غرمه، حكاه في كتاب السرقة، والصحيح الأول؛ فإنه روي عن ميمونة أنها قالت: "ماتت شاة لنا، فدبغنا جلدها، وكنا ننبذ فيه حتى صار شنّاً" والشن: القربة البالية. وقد قال الإمام عقيب حكاية القول الثاني ونسبته إلى القديم: ومعتقدي: أن الأقوال القديمة ليست من مذهب الشافعي حيث كانت؛ لأنه جزم القول على مخالفتها في الجديد، والمرجوع عنه لا [يكون] مذهباً للراجع. وهذا رأي لبعضهم سبق به كما حكيته في أول باب ما يفسد الصلاة.

ثم محل القول بالصحة إذا لم يكن على الجلد شعر أو كان ولم يدخله في البيع، بل أخرجه. أما إذا كان قد أدخله فيه، فينبني على أن الشعر، هل يطهر بالدباغ تبعاً للجلد على قولنا: إنه نجس، أم لا؟ وفيه قولان: أولهما: رواه الربيع الجيزي واختاره في "المرشد" تبعاً للروياني وأبي إسحاق الإسفراييني. والمشهور عند الجمهور: الثاني، وعليه نص في "الأم"، وهو ما يفهمه كلام الشيخ حيث لم يستثنه. فإن قلنا: إنه طاهر، صح البيع، وإلا بطل في الشعر، وفي الجلد قولاً تفريق الصفقة. ولو أطلق بيع الجلد، ولم يتعرض لذكر الشعر نفياً ولا إثباتاً، فهل يدخل في المبيع؟ وجهان في "الحاوي"، ولا يخفى تفريعهما، والقولان في حل البيع جاريان-كما قال البندنيجي وغيره- في حل الأكل إذا كان الحيوان المدبوغ جلده مما يؤكل، وقد حكاهما الشيخ في باب الأطعمة، ويجريان في إجارته. وطردهما القفال في حل أكله من غير المأكول، وهو بعيد مع الخبر. وفي "تعليق القاضي الحسين": أنا إذا قلنا: لا يجوز بيعه، فلا يحل أكله، وفي إجارته وجهان. وإن قلنا: يحل بيعه تجوز إجارته، وفي حل أكله وجهان. والذي رجحه ابن الصباغ: المنع؛ للخبر. قال: وإذا ولغ الكلب أو الخنزير أو ما تولد منهما أو من أحدهما في إناء- أي: وتنجس بنجاسة ما فيه؛ إذ الولوغ يختص بما إذا كان في الإناء شيء، أما إذا لم يكن فيه

شيء، فيقال: [لحس الإناء، والشرب أعم من الولوغ؛ فإن كل شرب ولوغ، ولا يلزم] العكس- لم يطهر حتى يغسل سبع مرات- أي: الإناء- إحداهن بالتراب. ووجهه في الكلب قوله- عليه السلام: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب"، وفي رواية: "إحداهن بالتراب"، أخرجه مسلم عن رواية أبي هريرة وقال أبو داود: "السابعة بالتراب". وأما في الخنزير؛ فلأنه أسوأ حالاً منه؛ بدليل ما ذكرناه، وفروعهما في معناهما.

وفي "تعليق أبي الطيب": أن ابن القاص حكى أن الشافعي قال في القديم: يغسل دفعة واحدة، وفارق الكلب؛ لأنه مخالط مألوف لهم؛ فغلظ فيه زجراً [كما غلظ الحد في الخمر زجراً] دون غيره من المحرمات التي لا تؤلف، ولا كذلك الخنزير، ولأن في ولوغ الكلاب الكلب؟ فاعتبر فيه العدد؛ حذاراً منه، ولا كذلك الخنزير. والصحيح الأول، بل قال أبو علي الزجاجي: طلبت ما نسب إلى القديم فلم أجده؛ ولهذا قطع بعضهم بنفي القول القديم. ومنهم من يقول: الذي ذكره في القديم: أنه يغسل، ولم يقل مرة واحدة؛ فنحمله على الغسل سبعاً. فإن قيل: قد روى مسلم عن عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات، وعفروه الثامنة بالتراب"، وهذا يقتضي أن تكون الغسلات ثمانياً. قلنا: أخبارنا تدل على السبع، ويحمل هذا الخبر على ما إذا غسل السبع بالماء وحده؛ فإنه يجب عليه أن يغسله ثامنة بالتراب. وقال ابن الصباغ: المراد إقامة التراب في واحدة من السبع مقام ثامنة؛ لأنه أحد الطهورين. وهذا أقرب؛ لأن الخصم وهو الإمام أحمد يقول: يغسله سبعاً بالماء، والثامنة يعفره بالتراب وحده. ثم المستحب- كما نص عليه في "حرملة": أن يجعل التراب في الغسلة الأولى؛ للخبر، واعتضاده بالنظافة؛ فإنه إذا جعله فيها، ورد بعدها ما يزيله، بخلاف ما إذا جُعِلَ في الأخيرة. وبعض الأصحاب يقول: يستحب أن يكون في الثانية. وبعضهم يقول: يستحب أن يكون فيما قبل الأخيرة. ولا يكفي وضعه بدون مائع كما أفهمه كلام الشيخ، وما استدللنا به من الخبر، وهو يقتضي- أيضاً- أن يستعمل مع الماء، ولا يضر وضعه على المحل، وصب الماء فوقه، ولا وضعه في الماء وغسل المحل به كما قاله المتولي وغيره.

ولو استعمله مع مائع غير الماء، فوجهان في "التتمة"، أحدهما: لا يجزئ؛ لما ذكرناه. وغيره قال: إن جعل ذلك في ثامنة أجزأه، وإن جعله [في] سابعة، فهو محل الوجهين، وأصحهما: المنع؛ لأجل الخبر. ومقابله موجَّه بأن مقصود هذه الغسلة التراب، وقد وصل إلى المحل. ثم في قدر ما يكفي منه أوجه: أحدها: ما يتكدر به الماء، وهذا ما أبداه الإمام ومن تبعه. والثاني: ما ينطلق عليه الاسم. والثالث: ما يعم محل الولوغ. وحكاها الماوردي. وقد أفهم كلام الشيخ أموراً: أحدها: أنه لا يجب إراقة ما ولغ فيه الكلب وإن تنجس، وإن كان ظاهر الخبر السالف [ونحوه] في الباب يدل عليه، وللأصحاب في ذلك وجهان أُخِذَا من قول الشافعي- رضي الله عنه-: "وعليه أن يهريقه"، فبعضهم حمله [على] الوجوب؛ لما ذكرناه، وبعضهم حمله على الاستحباب، وهم الجمهور، وقالوا: الأمر به في الخبر لمن أراد التطهير؛ إذ لا يمكن إلا به. الثاني: أن الكلب ونحوه إذا لحس الإناء، كان ما ذكره من الحكم أولى، ووجهه ظاهر. الثالث: أن الكلب ونحوه لو أدخل رأسه الإناء، ولم يعلم: هل ولغ فيه [أم لا]؟ لا يثبت الحكم المذكور، لفقد تحقق الشرط، وهو كذلك بلا خلاف إن خرج فمه جافّاً، وإن خرج رطباً فوجهان في "الحاوي"، أصحهما: أن الحكم كذلك؛ عملاً بالأصل، ورطوبة فمه يجوز أن تكون من لعابه. الرابع: أن ما أصاب الإناء من بدنه غير فمه بإثبات ما ذكره من الحكم أولى؛ لأن فمه أطيب ما فيه، وعرقه ووبره في معناه، وروثه وبوله من طريق الأولى، وهذا هو المذهب، والمذكور في أكثر الكتب. وفي "التتمة" حكاية وجه: أن غير اللعاب كسائر النجاسات، واختصاص ما ذكرناه بمحل النص؛ إذ هو خارج عن القياس.

وفي "تعليق القاضي الحسين": أنه تفريع على القديم. وإذا قلنا بمقابله، فلو كانت العين التي أصابت الإناء لا تزول إلا بثلاث غسلات، قال في "التتمة": فالأولى محسوبة من السبع، وهل تحسب الثانية والثالثة منها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ فيغسل بعد ذلك ستّاً، واحدة منهن بالتراب، لأن غسلات ولوغ الكلب حكمية، والثانية والثالثة إزالة للعين. ولو وقعت قطرة من المائع الذي ولغ الكلب فيه على شيء، وجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب. [الخامس:] أنه لو ولغ الكلب الواحد مراراً في إناء، أو ولغ فيه كلاب: أنه يكفي في ذلك السبع؛ إذ الألف واللام في "الكلب" للجنس لا للعهد، وللأصحاب في ذلك أوجه: أصحها: أن الحكم كذلك، وعليه نص في "الأم" و"حرملة"، ولم يورد في "التتمة" سواه. والثاني: أنه يجب غسله لكل مرة سبعاً إحداهن بالتراب؛ لأن الشافعي قال: إذا بال رجل صُبَّ على بوله ذَنُوبُ ماءٍ، وإذا بال رجلان صُبَّ عليه ذنوبان. قال أبو الطيب: وهذا غير صحيح؛ لأن النجاسة ثّمَّ زادت مساحة محلها ببول الثاني، فزاد صب الماء، ولا كذلك ها هنا. ولأن تلك نجاسة عينية، وهذه نجاسة حكمية. والثالث- حكاه الماوردي-: أن الكلب الواحد وإن تعدد ولوغه لا يجب غير السبع، وإن تعدد الكلاب وجب لكل كلب [غسل] سبع مرات. ولا خلاف في أنه إذا وقعت في الإناء بعد الولوغ نجاسة، كفاه [غسله سبع مرات، بل لو وقعت قبل] غسل السابعة كفته.

قال: فإن غسل بدل التراب بالجص أو الأشنان- أي: وما في معناهما: كالصابون ونحوه- ففيه قولان، أي: منصوصان في "الأم": أصحهما: أنه يطهر؛ لأنه جامد أمر باستعماله في النجاسة، فقام ما هو في معناه في تحصيل المقصود مقامه كما في الاستنجاء. ومقابله: أنه لا يطهر؛ لأنه جامد عين للتطهير؛ فلا يقوم غيره مقامه؛ كما في التيمم. واختلف الأصحاب في محلهما على ثلاثة طرق، حكاها القاضي الحسين: أحدها: أن محلهما إذا لم يقدر على التراب؛ فإن الشافعي- رضي الله عنه- حيث [نص] عليهما فرض المسألة إذا كان في بحر، فإن كان يقدر عليه فلا يطهر قولاً واحداً. ومنهم من قال: بل محلهما إذا قدر على التراب، أما إذا لم يقدر عليه، فيجوز قولاً واحداً. ومنهم من قال: القولان في الحالين؛ وهذه الطريقة صححها الروياني، وهي طريقة أبي إسحاق، ولم يحك العراقيون والماوردي معها غير الأولى. ويجيء من مجموع الطرق في المسألة ثلاثة أقوال، ثالثها: يقوم ذلك مقام التراب عند العجز عنه، ولا يقوم مقامه عند القدرة عليه، وبها قال أبو الطيب [بن سلمة]؛ كما حكاه الماوردي، وهي التي حكاها الإمام. وفي "التتمة" و"الوسيط": [أن] من الأصحاب من جوز ذلك في الثوب دون الإناء؛ لأن التراب يفسد الثوب، وقد نسبه الروياني إلى القفال، وهو بعيد. وقد جعل في "الوسيط" مأخذ الخلاف في المسألة: أن التعفير تعبد محض، أو معلل بالاستطهار بغير الماء؛ ليكون فيه مزيد كلفة وتغليظ، أو معلل بالجمع بين نوعي الطهور؟ فعلى الأول: لا يقوم الصابون والأشنان مقامه عند الوجود، وعند العدم وجهان. وعلى الثاني: يجوز في الحالين. وعلى الثالث: لا يجوز في الحالين.

وعلى الخلاف تُخرج فروع أخر: منها: [أن] التراب النجس، هل يقوم مقام الطاهر؟ فعلى الأول والثالث: [لا. وعلى] الثاني: نعم. وعلى الخلاف يخرج ما لو ولغ الكلب في حفرة محتفرة في تراب، هل يجب التعفير؟ إن قلنا: يكفي التراب النجس؛ فلا يجب، وهو الأظهر في الرافعي، وإلا وجب. ومنها: التراب إذا مزج بالخل: فعلى الأول لا يكفي، وعلى الثاني والثالث يكفي. وقد صور ابن الصلاح هذه الصورة بما إذا غسله سبعاً بالماء وحده، ثم أوصل التراب مرة ثامنة إلى المحل بالخل، وإليه يرشد كلام الإمام، [قال]: أما إذا مزج التراب بالخل، ثم استعمل مع الماء، فذاك جائز قطعاً، ولا يتجه فيه خلاف إلا وجه ضعيف في أن ذلك يخرج التراب عن كونه طهوراً، وليس ذلك مراد المصنف؛ فإنه إنما منع منه على وجه التعبد. قال: وإن غسل بالماء وحده، أي: ثمان مرات، فأقام الثامنة مقام التراب، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يطهر؛ لأن الماء آكد من التراب في التطهير، ولأنا قد قررنا: أن التراب أقيم مقام غسلة ثامنة؛ فهي أولى مما أقيم مقامها. والثاني: لا يطهر؛ لأن الشرع ورد بالتراب؛ فلا يقوم الماء مقامه، وإن كان وكد منه وبدلاً عنه؛ كما نقول فيمن وجد ماء يكفيه لوجهه ويديه فقط، وقلنا: لا يجب عليه

استعماله، ويتيمم، فاستعمله في وجهه ويديه بدلاً عن التراب؛ وهذا ما صححه أبو الطيب وغيره، وقال الروياني: إنه ظاهر المذهب، والأوجه الثلاثة في معنى التعفير تنطبق عليه. وكلام الغزالي وابن الصلاح يقتضي أن مأخذ الأول النظر إلى الجمع بين نوعي الطهور. وهذا الخلاف- كما قال الماوردي- مفرع على قولنا: إن الجص والأشنان يقوم مقام التراب، أما إذا قلنا: لا يقوم مقامه، فلا يكفي الماء وجهاً واحداً، وكلام الغزالي ينازع فيه إذا تأملته. وقيل: إن الخلاف مفروض عند عدم التراب، أما مع وجوده فلا يجوز وجهاً واحداً حكاه الروياني والإمام احتمالاً؛ وهذا وجه ثالث حكاه الماوردي عن أبي إسحاق المروزي. والقائلون بإجراء الخلاف مع وجوده يظهر أن يكون هم القائلون بأن مأخذ الخلاف: أنه لو غمس الإناء في ماء كثير هل يكفي عن السبع والتعفير أم لا؟ [و] فيه خلاف سنذكره، فإن قلنا: إنه يكفي، كفت الثامنة، وإلا فلا. وقد أفهم قول الشيخ: أنه لا يكفي في تطهير الإناء جعله في ماء كثير، ولا مكاثرة ما فيه من الماء إذا كان دون القلتين حتى يبلغ قلتين وإن طهر الماء. وقد حكى الإمام وغيره: أنه إذا بلغ الماء قلتين، طهر على المشهور، وفي طهارة الإناء أوجه: أحدها: ما اقتضاه كلام الشيخ [أنه لا] يطهر، وهو ما حكاه الروياني عن ابن الحداد، وظاهر الخبر يعضده. والثاني: أنه يطهر؛ فإن الولوغ لو صادف الماء قلتين فأكثر لم ينجس الإناء، فكذا إذا بلغ قلتين، وجب أن يطهر؛ تبعاً له. والثالث: إن كانت نجاسة الإناء تبعاً لنجاسة الماء؛ بأن كان الولوغ في الماء، ولم يلق شيءٌ منه جرمَ الإناء، طهر تبعاً، وإن لاقى جزءاً منه فلا يطهر. والرابع: إن مكث الماء بعد بلوغه حد الكثرة في الإناء مقدار غسل سبع مرات،

حكم بطهارته، وإلا فلا. قال الإمام: وأصحها الثاني، ويليه الأول، والثالث والرابع ضعيفان جداً. وقد حكى الروياني وجهاً في المسألة: أنه يكفيه التراب بعد ذلك فقط، وصحح ما صححه الإمام. والخلاف يجري- كما قال الإمام- فيما لو وضع الإناء [في ماء] كثير، والذي ذكره العراقيون منه الأول والثاني. وقد قيل: إن الماء لا يطهر- أيضاً- إذا انتهى إلى قلتين؛ بناءً على أن الإناء لا يطهر وأن نجاسته كنجاسة عينية لا حكمية؛ كما هو أحد الوجهين، وأن التباعد من النجاسة العينية مقدار قلتين واجب. والقول بطهارته مفرع على ما عدا ذلك؛ كذا قاله الإمام، واستحسنه، وقال: إنا إذا حكمنا بطهارة الماء دون الإناء وأن نجاسته حكمية، فنقص عن القلتين- لا ينجس، دون ما إذا قلنا: إن نجاسته عينية. قال: ويجزئ في بول الغلام الذي لم يطعم النضج؛ لما روى البخاري ومسلم عن أم قيس بنت محصن: أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه، ولم يغسله. وفي رواية: فدعا بماء فرشه. وروى الترمذي عن عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بول الغلام الرضيع: "ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية".

وقد أبعد بعض الأصحاب، فحكى قولاً: أن الجارية ملحقة بالغلام فيما ذكرناه؛ لقول الشافعي- رضي الله عنه-: "ولا يتبين لي فرق بين الصبي والصبية". قال القاضي الحسين: وهو أقيس القولين، وكذا القفال كما حكاه الروياني في "التلخيص"، وقال: إنه اختيار جماعة [من أصحابنا]. وقال البندنيجي: إنه ليس بشيء. وقال الإمام: لست أعرف له وجهاً مع مخالفته القياس والخبر. وفي "التتمة": أن من الأصحاب من قال في بول الغلام قولاً: إنه لا يطهر إلا بالغسل كالجارية؛ لأجل ما ذكره الشافعي من عدم الفرق. والمذهب المشهور الأول، ومراد الشافعي: أنه [لا] يتبين لي بينهما فرق من جهة المعنى وإن فرقت السنة بينهما، وكذا حكاه البندنيجي عنه، وبه يظهر لك ضعف ما فرق به الأصحاب بينهما من [أن] بول الصبية ثخين أصفر منتن يلصق بالمحل، وبول الصبي رقيق أبيض لا رائحة له فهو كالماء. ويَطعم بفتح الياء والعين، والمراد: لم يطعم ما يستقل به: كالخبز، ونحوه. وعبارة القاضيين أبي الطيب والحسين، والبندنيجي وابن الصباغ: ما لم يأكل الطعام.

وقيل: ما لم يطعم شيئاً غير اللبن، وهو المذكور في "البحر". وفي "النهاية" ذكر العبارتين، والثانية هي التي ذكرها النووي. قال الإمام: وليس في الحديث تعرض لمطعم الغلام، وإنما فهم الفقهاء ذلك من وجهين. أحدهما: أنه نقل أنه- عليه السلام- أتى بالحسن ليسميه ويطعمه، وهذا على قرب العهد بالولادة. والثاني: أنا لا نتوهم امتداد هذا الحكم على الدوام ولا نرى منه مردّاً إلا أن يطعم ويحتوي جوفه [على] ما يستحيل، واللبن لا يناط به؛ فإنه لا يستحيل استحالة مكروهة. والنضح: الرش بالماء، والمجزئ منه هنا تعميم مواضع البول رشّاً وإن لم يتردد ولم يقطر؛ هكذا قال الصيدلاني، ولم يورد ابن الصباغ والبندنيجي غيره. وقال الخطابي: النضح هنا: صب الماء من غير رش ولا عصر، ومنه قيل للبعير الذي يستسقي عليه: الناضح؛ لأنه يصب عليه الماء. وعلى هذا ينطبق قول الشيخ أبي محمد إنه لا يكتفي بنضح وأدنى رش، ولكن يجب أن يكاثر بالماء حتى ينتقع، ولكن لا يجب عصر الغسالة؛ وبهذا يقع الفرق بينه وبين سائر النجاسات؛ فإن في العصر فيها خلافاً. وهذا ما حكاه القاضي الحسين، وقال [الإمام]: لست أعده من المذهب؛ فإن هذا ليس رشّاً، بل هو مكاثرة في غمر

وترك عصر، وقد يذكر أن الأصح أن العصر لا يشترط في إزالة جميع النجاسات إذا تحقق زوالها. وعبارة الرافعي: أنه لابد من أن يصيب الماء جميع موضع البول. ثم لإيراده ثلاث درجات: إحداها: النضح المجرد. الثانية: النضح مع المكاثرة والغلبة. الثالثة: أن ينضم إلى ذلك الجريان والسيلان. ولا حاجة في الرش إلى الدرجة الثالثة، وهل يحتاج إلى الثانية؟ فيه وجهان، أظهرهما: نعم. والرش والغسل يفترقان في أمر السيلان والتقاطر. قال: ويجزئ في غسل سائر النجاسات، أي: باقيها غير ما ذكرناه؛ أخذاً من "السؤر" بالهمز وهو البقية لا من "السور" المحيط بالشيء. قال: كالبول والخمر وغيرهما- أي: مما يزول أثره بالغسل- المكاثرة بالماء إلى أن يذهب أثره. ووجهه في البول: ما روى أبو هريرة أن أعرابيّاً دخل المسجد فقال: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد تحجرت واسعاً"، فما لبث أن بال بناحية المسجد، فكأنهم عجلوا عليه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بذَنُوب من ماء- أو سَجْل [من ماء]- فأهريق عليه، ثم قال عليه السلام: "علموا ويسِّروا ولا تعسروا" أخرجه البخاري. والذنوب- بفتح الذال المعجمة-: الدلو إذا كانت ملأى، والسجل: بسين مهملة مفتوحة وجيم ساكنة، وهي الدلو الكبيرة إذا كان فيها ماء. ووجه الدلالة من ذلك: أنه لو لم يكن مطهراً لما أمر به؛ إذ صب الماء تكثير للنجاسة في المسجد.

ووجهه فيما عدا البول القياس عليه. والمراد بذهاب الأثر: أن تصير النجاسة مستهلكة لا يظهر لها لون ولا طعم ولا ريح، فإذا وجد ذلك، حصلت الطهارة مهما كان قدر الماء، ولا يتعين له قذر. وقد حُكِيَ عن الشافعي نصان: أحدهما: أنه يطرح على البول سبعة أضعافه من الماء و [قد] قال باشتراطه بعض الأصحاب كما حكاه الصيدلاني. قال الإمام في باب الصلاة بالنجاسة: وهذا لست أعرف له توقيفاً، ولا له تحقيق من جهة المعنى. وقال ابن الصباغ في الباب: عن أبي إسحاق أنه قال: لم يقل الشافعي ذلك تقديراً، وإنما قاله تجربة؛ فعلم أن البول لا يغمره إلا سبعة أضعافه. والثاني: أن الذنوب متعين؛ لإزالة بول الشخص الواحد، وإن بال اثنان لم يطهر إلا دلوان، وبظاهره أخذ الإصطخري والأنماطي وابن خيران، [وقالوا: يتعين في بول الثلاثة ثلاثة، وهكذا في الزيادة]، قال أبو الطيب وغيره: وهذا غير صحيح؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون البول الكثير واليسير سواء، وهذا لا يجوز، ومراد الشافعي- رضي الله عنه-: أن بول الاثنين يريد من الماء أكثر مما يريده الواحد. وقد أفهم كلام الشيخ أمرين: أحدهما: أنه لا يشترط العصر فيما يمكن عصره كالثياب ونحوها، ولا ما يقوم مقامه فيما لا يمكن عصره وهو نضوب الماء في الأرض. والعراقيون مطبقون على عدم اشتراط النضوب في طهارة الأرض وفي اشتراط العصر فيما يمكن عصره وجهان: أصحهما عند أبي الطيب وغيره: لا؛ كما لا يشترط نضوب الماء في الأرض، وهو شربها له من غير جفاف؛ قاله في "الصحاح". والثاني: أنه يشترط؛ لأن النجاسة كامنة فيه، وقد صحح هذا [عن] آخرين، والشيخ أبو علي بني الخلاف في العصر على غسالة النجاسة، فقال: إن قلنا: إنها طاهرة، فلا يجب، وإلا وجب.

وكلام العراقيين لا ينافيه، بل يوافقه. ولو لم يتفق العصر، وقد قلنا باشتراطه، فزال الماء بهبوب الرياح ونحوه- ففي الحكم بالطهارة وجهان: أصحهما عند الإمام والعراقيين- كما قال في "الكافي"-[نعم؛ لأن المقصود ذهاب الماء من العين وقد حصل. والثاني: لا، [قال في "الكافي":] وهو الأصح في طريقنا؛] كما لو وقع شيءٌ من الغسالة قبل جفافها على شيء آخر؛ فإنه لا يطهر بالجفاف، ولكن الفرق ظاهر. والمراوزة طردوا الخلاف في اشتراط العصر في نضوب الماء في الأرض وطهارته بجفافه إذا اشترطناه كما ذكرناه، في الثوب. ولا خلاف في أن البلل الباقي بعد العصر والنضوب لا يضر. الأمر الثاني: أن الإجزاء المذكور يحصل إذا ورد الماء على النجاسة، وإن كان دون القلتين، وهو مما لا خلاف [فيه] بين الأصحاب، سواء وجد ذلك عن قصد أو بدون قصد، مثل: أن يصب الماء من غير قصد على ثوب نجس، وكان ينحدر منه، ودفع الماء متوالٍ حتى زالت النجاسة. نعم، لو وردت العين المتنجسة على الماء القليل، فالمشهور نجاسة الماء، وعدم طهارة العين، وهو ما قطع به الصيدلاني؛ لأنه عليه السلام فرق بين الوارد والمورود بقوله الذي أخرجه مسلم: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثاً". وقد قيل: إنه يطهر، وهو اختيار ابن سريج، كما لو كان الماء وارداً. وقيل: إنه قال: لو وقع في الإناء بطيران الريح، لم يطهرن بخلاف ما إذا طرحه قصداً، فظن به اشتراط القصد في إزالة النجاسة، وقد صرح [به] عنه القاضي الحسين في باب النية في الوضوء، وقال: إن أبا سهل الصعلوكي قال به أيضاً، وهو في "التتمة" كذلك. والقاضي أبو الطيب حكى هذا الوجه- أيضاً- لكنه لم ينسبه لأحد، ولفظه: إذا

طرح الثوب في الإناء وفيه الماء ففيه وجهان: الصحيح: أنه نجس. والثاني: أنه إن قصد بطرح الثوب فيه غسل النجاسة منه طهر الثوب، كما لو كان الماء وارداً. [قال:] وهذا ليس بشيء؛ لأن غسل الصبي والمجنون والكافر النجاسة جائز وإن لم يصح منهم قصد. فرع: وإذا تنجس الزيت بالنجاسة هل يمكن تطهيره؟ إن كانت النجاسة وَدَك ميتة ونحوه فلا، وإن كانت بولاً ونحوه مما لا دهنية فيه، ففي إمكان تطهيره خلاف: اختار أبو الطيب في باب الأطعمة إمكانه، وهو ما قال البندنيجي: إنه المذهب، [وقال الماوردي: إنه ظاهر المذهب]. وبه قال جمهور أصحابه: عدم إمكانه، وهو الأصح في "تعليق" القاضي الحسين، وقال: إن حكم السمن حكم الزيت، وأبو الطيب والبندنيجي جزماً فيه بعدم إمكان غسله، وألحق القاضي أبو الطيب به الودك. والزئبق متفق على عدم إمكان غسله. قال القاضي الحسين: لأنه لا يتقطع عند ملاقاة الماء على الوجه الذي يتقطع عند [إصابة] النجاسة.

قال: والأفضل أن يغسل ثلاثاً؛ لأن ذلك مستحب عند الشك في النجاسة بقوله عليه السلام: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ .. " الخبر؛ فذاك مع تحققها أولى، ولا يجب؛ لأنه روى أن ابن عمر قال: كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرات، وغسل النجاسة سبعاً، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمساً، والغسل من الجنابة مرة، وغسل النجاسة مرة. قال: وما لا يزول أثره بالغسل- أي: المعتاد- بحيث ينزل الماء بعد الحَتِّ والتحامل صافياً كالدم وغيره إذا غسل وبقي أثره، لم يضره. التمثيل بالدم يقتضي أن مراده بغيره ما هو مثله مما له لون لا يزول أثره بالغسل، فإن الذي يُبْقي الدم من الأثر بعد الغسل المعتاد إنما هو بقايا اللون، وإذا كان كذلك فوجهه في الدم ما روى أبو هريرة أن خولة بنت حكيم أتت النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله، إني ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه، فكيف أصنع؟ قال: "إِذا طَهُرْتِ فَاغْسِلِيهِ، ثُمَّ صَلِّي فِيهِ"، قالت: فإن لم يخرج الدم؟ قال: "يَكْفِيكِ المَاءُ لاَ يَضُرُّكِ أَثَرُهُ" أخرجه أبو داود، ورواية البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها دم الحيضة، كيف تصنع؟ قال: "تحته، ثُمَّ تَقْرُصهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ تَنْضَحُهُ ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ" وفي رواية: "لِتَقْرصْه، ثُمَّ لتَنضَحْهُ بِمَاءٍ ثُمَّ لتُصَلِّ فِيهِ"، وذلك يدل على المدعي أيضاً؛ إذ لم يفصل بين بقاء لونه بعد ذلك أو لا. [ثم هذه] الرواية وإن دلت ظاهراً على وجوب الحَتِّ وهو الحك بطرف شيء،

وهو بالتاء ثالثة الحروف، والقرص وهو الدلك بأطراف الأصابع- فالأولى تقتضي حمله على الاستحباب؛ للجمع بينهما، وبعض أصحابنا يحملها على أن الماء كان عندهم قليلاً فأمرها بذلك؛ لتخف النجاسة. ثم القول باستحباب الحت والقرص منسوب في "الرافعي" إلى معظم الأصحاب، وقال: إنَّ نقل بعضهم يشعر باشتراطه، وهو ظاهر كلام الغزالي. قلت: وهذا من الرافعي يوهم خلافاً في أنه إذا تأتي [إزالة ذلك] بالحت والقرص، هل يجب أم لا؟ وكلام أبي الطيب وابن الصباغ يوهمه، أيضاً. وكلام الماوردي يفهم أن محل استحبابه إذا كان أثر النجاسة يزول بدونه، فإن داود يقول: إنه لا يجزئ، ويجب الحت والقرص، [ولعل هذا] هو الأصح، وعليه ينطبق كلام المتولي، بل قال: إذا لم يقدر على إزالة رائحة الخمر إلا [بنوع] معالجة، وجب. وأعم منه قول القاضي الحسين في باب ما يفسد الماء: إن النجاسة العينية يجب إزالة عينها، فإن لم يذهب الأثر، فعليه أن يغسله بالأشنان وغيره، ويستقصي فيه، فإن لم يذهب فالظاهر أن يكون معفوّاً عنه؛ لقول عائشة: "كنا نغسل الثياب من دم الحيض، ويبقى فيه بقعة أو بقع، فنمسحها بالحناء، ونصلي فيها". وقد استحب الأصحاب لأجل ذلك لطخ الأثر بالحناء ونحوه. واقتصر بعض الأصحاب على العفو عن أثر الدم، وقال: لون غيره يدل على بقاء عينه؛ فلا يعفى [عنه]. وفي "الجيلي" حكاية قول عن "اللباب": أنه لا يعفى عن اللون مطلقاً، وهو في "الحاوي" و"التتمة" وجه نسبه الإمام إلى صاحب "التلخيص"، والصحيح العفو عن اللون الذي تعسر إزالته مطلقاً.

وقد أفهم كلام الشيخ- كما قررناه- اختصاص العفو بأثر اللون، وسكت عن ذكر المحل الذي يعفى عنه إذا بقي فيه، والمراوزة قالوا: الطعم لا يعفى عنه بلا خلاف؛ لأنه يدل على بقاء العين [قطعاً] ولا يعسر زواله. وصور الرافعي ذلك بما إذا دَمِيَتْ لثته أو تنجس فاه بنجاسة أخرى، فغسله، ودام طعم النجاسة فيه. وأما الرائحة فإن سهل إزالتها فلا يعفى عنها، وإن عسر- كما في بول المُبَرْسَم، والخمر العتيقة- ففي العفو عنها بعد المبالغة قولان: ينظر في أحدهما إلى أن الغالب من الروائح الزوال، والحكم للغالب، وفي الآخر إلى عسر الاستخراج. وهذا ما قال القاضي الحسين: إنه المنصوص، وهو أصح في "النهاية" موجهاً بأن رائحة الخمر الزكية قد تبقى في البيت أياماً بعد نقل ظرفها. واللون إذا سهل إزالته فلا عفو، وإن عسر كلطخات الدمامل فهو عفوٌ. وقال القاضي الحسين: يجب أن يرتب على الرائحة، فإن قلنا: بقاء الريح لا عفو عنه، فعند بقاء اللون أولى. وإن قلنا بالعفو عن الريح، فالعفو عن اللون يحتمل وجهين: أحدهما: أنه كالريح. والثاني: لا يعفي عنه. والفرق: أو اللون أقوى؛ لأنه في الحقيقة جزء لطيف من العين؛ فلا يتصور انفكاك اللون عن العين، والريح قد يُنفك عنها بدليل ما ذكرناه في نقل الخمر. واقتضى كلامهم: أنه لا فرق فيما ذكرناه بين أن يصيب الثوب ويبقى ما ذكرناه فيه، أو يصيب غيره، والقاضي الحسين [صرح] به فيما إذا أصاب الثوب، وقال: إنه لو صبغ الثوب بصبغ نجس، فغسله بالماء وأنعم الغسل، وبقي اللون، قالوا: يحكم بطهارته؛ لأن الماء يقدر على إزالة النجاسة ورفعها، ولا يقدر على قطع الألوان ورفعها من المحالِّ، فإذا أورد الماء عليه، علمنا أن ما [يمر] عليه من النجاسة قد

زالت وإنما بقي [اللون]. قال: ويدل على ذلك: أن الصبغ النجس عند الانفراد إذا غمر بالماء يحكم بطهارته، واللون دائم كما قبل الغسل. وكذا إذا اختضبت المرأة بالحناء النجس، ثم غسلته يحكم بطهارة المحل وإن بقي اللون؛ لما ذكرناه من المعنى. وقد ذكر القاضي هذا مرة أخرى في باب الأطعمة. وقال الإمام هنا فيما إذا صبغ الثوب بصبغ نجس معقود [و] لم ينفصل؛ لانعقاده، وزاد وزن الثوب [به]: الذي يظهر عندي اجتناب مثله، والذي ذكره الأصحاب من العفو عن الأثر أراه إذا لم يقدر له وزن، ويسبق إلى الذهن أنه لون بلا عين وإن كان غير ممكن، ولكن الشرع مبناه على ظواهر الأمور. قلت: وهذا لعله أقرب، وما ذكره القاضي من الاستشهاد على ما ذكره بأن المرأة إذا اختضبت بالحناء النجس ثم غسلته يحكم بطهارته- فقد قال الماوردي في باب الصلاة بالنجاسة: إنه حكى عن الشافعي- رضي الله عنه-: أنه نص عليه؛ لأن اللون عرض والنجاسة لا تخالط [العرض]، وإنما تخالط العين، فإذا زالت العين التي هي محل النجاسة، زالت النجاسة بزوالها. وقال في باب ما يفسد الماء: إنه لو خضب شعره أو بدنه بخضاب فيه بول أو خمر، ثم غسله، فبقى [لونه] فإن كان الباقي لون النجاسة، فالمحل المخضوب نجس لا يطهر حتى يزول اللون. وإن كان الباقي لون الخضاب فقط، ففي نجاسته وجهان: فإن قلنا بنجاسته، أعاد ما صلاه، وهو عليه بعد زواله. والعراقيون لم أقف في كلامهم على بقاء الأثر فيما عدا الأرض، وأما في الأرض، فقالوا: إن كان الباقي بعد الغسل لون النجاسة لا يعفى عنه بلا خلاف؛ فإن اللون عرض، والعرض لا يقوم بنفسه، فكان بقاؤه دليلاً على بقاء عينه. وإن بقي الريح، ففي العفو عنه وجهان في "تعليق" أبي الطيب وقولان منصوصان في "الحاوي" [وغيره]، وعزاهما ابن الصباغ إلى "الأم":

أحدهما: أنه كاللون. والثاني: [أنه] يطهر؛ لأن الرائحة تتعدى محلها، فعُفِي عنها، كما يعفَى عن تغير الماء بجيفة بقربه، ولا كذلك اللون؛ فإنه لا يتعدى محله؛ فلا يعفى عنه. والماوردي قال في الأرض ما قاله العراقيون، وقال: إنه لا يعفى عن الريح في الثوب قولاً واحداً؛ لأن حكم النجاسة في الأرض أخف؛ لكونها معدناً للنجاسة. وأما في الإناء إذا بقيت فيه الرائحة، ففي العفو طريقان: منهم من قال: هو كالأرض. ومنهم من قال: يطهر قولاً واحداً؛ لأن بقاء الرائحة [فيه]؛ لطول المكث وكثرة المجاورة. فإن قُلْتَ: قد رجع حاصل ما نقلته أنه لا يعفى عن اللون في الأرض والثوب والإناء قولاً واحداً، وفي العفو عن الريح ما سلف، وما ذكره الشيخ من المثال كما قررتموه يقتضي العفو عن اللون مطلقاً، وهو مخالف للمنقول. قُلْتُ: يمكن أن يحمل المنقول على ما إذا بقي لون النجاسة، وهو ظاهر اللفظ، وكلام الشيخ في بقاء أثر اللون لا اللون نفسه؛ فلا منافاة بينهما، والله أعلم. تنبيه: عدول الشيخ عن قوله: إذا غسل وبقي أثره طهر، إلى قوله: "لم يضر"- يفهم أن المحل لا يطهر، وإنما هو معفو عنه، وهو ما أبداه الرافعي احتمالاً [لنفسه]، وشبهه بالأثر بعد الاستنجاء ودم البراغيث، وأيده بأنه ليس في الأخبار تصريح بالطهارة، وإنما تقتضي العفو والمسامحة. وقد تعرض في "التتمة" لمثل هذا في الرائحة، فقال: إن قلنا: لا يطهر، فهو معفو عنه، كدم البراغيث، لكن الذي أطلقه الأكثرون القول بالطهارة. وقال القاضي الحسين: لأنه لو كان نجساً معفوّاً عنه، لكان إذا أصابه بلل تنجس، كمحل الاستنجاء، وها هنا لا يصير نجساً بإصابة البلل؛ لقول عائشة: "فنلطخه بالزعفران ونصلي فيه"، وعلى هذا يكون تقدير كلام الشيخ: لم يضر في منع الحكم

بالطهارة، والله أعلم. قال: وما غسل به النجاسة- أي: وهو قليل وارد عليها كما تقدم- فهو طاهر، أي: سواء طهر المحل أو لم يطهر؛ لعموم قوله عليه السلام: "خَلَقَ اللهُ المَاءَ طَهُوراً لَا يُنَجِّسُهُ إِلا مَا غَيَّرَ .. " الخبر. ولأنه لا يمكن حفظه من النجاسة؛ فلم ينجس إلا بالتغير، كالماء الكثير. و [لأنه] لا ينجس بملاقاة النجاسة قبل الانفصال وفاقاً؛ فوجب أن يكون بعد الانفصال كذلك؛ إذ ليس له بعد الانفصال حال لم يكن عليها قبل الانفصال؛ وهذا ما حكاه في "المهذب" وجهاً عن أبي العباس، و [عن] أبي إسحاق، وكذا أبو الطيب قبله، والماوردي نسبه إلى الداركي وطائفة، وقال في "الوسيط": إنه القديم، وقال القاضي الحسين: القديم أنه طهور، وعليه جرى الرافعي. وهذا الوجه يعبر عنه بأن حكم الغسالة إذا لم تتغير [كحكمها] قبل الغسل. وقيل: هو نجس- أي: في الحالين- لأنه ماء قليل لاقته نجاسة فنجسته، كما في غير حالة الإزالة، وهذا وجه في "المهذب" منسوب إلى الأنماطي، وفي "الشامل" وغيره نسبته إليه فيما إذا انفصل وقد طهر المحل، وأنه وجهه بأنا حكمنا بانتقال النجاسة إليه قطعاً. والقاضي الحسين قال: إنه نقله قولاً. والإمام قال: إنه خرجه قولاً. أي: في الجديد، كما قال الرافعي. وهذا الوجه يعبر عنه بأن حكم الغسالة حكم المحل قبل غسله بها، كالماء المستعمل في الحدث، ومنه خرج. وقيل: إن انفصل وقد طهر المحل فهو طاهر؛ لأنه- عليه السلام- أمر بصب ذنوب على بول الأعرابي في المسجد، ولو لم تكن الغسالة طاهرة، لما أمر بذلك؛ لأن فيه تكثيراً للنجاسة في المسجد.

وإن انفصل ولم يطهر المحل فهو نجس؛ لأن المنفصل جزء من المتصل، والمتصل نجس، فكذا المنفصل. وهذا وجه حكاه في "المهذب" عن ابن القاص، والماوردي نسبه إلى أبي إسحاق وجمهور الأصحاب، وصححه في "التتمة". وابن الصباغ والبندنيجي قالا: إنه ظاهر قوله- أي: الشافعي-[في "أحكام القرآن"، ولا جرم قال الإمام: إنه نص عليه، وأبو الطيب: إنه المذهب، والغزالي] والرافعي: إنه الجديد، ويعبر عنه بأن حكم الغسالة حكم المحل بعد الغسل. وأثر الخلاف يظهر فيما لو وقع من غسلة من غسلات الكلب شيءٌ على شيء طاهر، هل يجب غسله أم لا؟ وماذا يغسل؟ فإن قلنا بالأول، فالمشهور: أنه لا يجب غسله؛ لأن غسل الطاهر لا يلزم. وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر: أنه يجب؛ لما يعلق عليه من حكم الولوغ المستحق للغسل؛ وعلى هذا في قدر غسله وجهان: أحدهما: مرة. والثاني: بعدد ما بقي، كما سنصفه. وإن قلنا بالثاني، ينظر: فإن كان الواقع من [الغسلة] الأولى غسله سبعاً، إحداهن بالتراب. وإن كان من الثانية، فستّاً. وإن كان من الثالثة، فخمساً، وهكذا. ثم إن كان التعفير وجد فيما قبل الغسلة التي الماءُ الواقع منها، لم يحتج إليه، وإلا فلابد منه. وإن قلنا بالثالث: فإن كان الواقع من الأولى [غسله] ستّاً. [وإن كان من الثانية، فخمساً]. وإن كان من الثالثة، فأربعاً، وهكذا. اللهم إلا أن يكون من السابعة، فإنه لا يوجب الغسل؛ لأن المحل بعده طاهر، كذا

صرح به الإمام وأبو الطيب، وقال: إنه المذهب. وحكم التعفير كما سلف. وقال الماوردي فيما إذا كان من السابعة- والتفريع على ما ذكرناه-: يجب أن يغسل مرة أيضاً، ويكون حكم الولوغ ساقطاً، وحكم النجاسة باقياً. وحكى هو وغيره من أهل الفريقين وجهاً آخر: أنه يجب غسله مرة واحدة من أي غسلة وقع؛ لأن كل غسلة ترفع سُبع النجاسة، فلزم غسل ما أصابته مرة. أما إذا غسلت النجاسة بالماء الكثير، ولم يتغير، فهو طاهر بلا خلاف. وإن كان بماء قليل، وقد وردت النجاسة [عليه]، فحكمه قد سلف. وإن كان الغسل بماء قليل ورد على النجاسة، وانفصل متغيراً فهو نجس بلا خلاف. وفي الحكم بطهارة المحل إذا لم يبق للنجاسة أثر فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين، وأصحهما في "التتمة": الحكم بالنجاسة، وهو ما اقتضاه كلام ابن الصباغ؛ لأنه شرط في طهارة المحل مع ما ذكرناه انفصال الماء [غير متغير]. وألحق القاضي الحسين والمتولي بهذه الحالة ما إذا انفصل الماء غير متغير، لكن زاد وزنه، فيكون الماء نجساً، وفي طهارة المحل الوجهان، صرح بهما في "التتمة". فروع: إذا حكمنا بطهارة الغسالة لا يجوز استعمالها في إزالة نجاسة أخرى على الجديد، وبه جزم البندنيجي والإمام هنا، وفي جواز استعمالها في رفع الحدث وجهان: أصحهما: لا، وقال البندنيجي: إنه المذهب. وإذا حكمنا بنجاسة الغسالة إذا لم يطهر المحل، فلو لم تحصل الطهارة إلا بمجموع غسلات، فما عدا الأخيرة نجس، ولو خلط الجميع، ولم يبلغ قلتين وهو غير متغير- فوجهان: أحدهما- وهو الأصح في "الشامل"، والمذهب في "تعليق" أبي الطيب،

والمختار في "المرشد": أنه نجس؛ لأنه ماء قليل خالط ماء نجساً. والثاني: أنه طاهر؛ لأن جميع الغسلات في حكم غسلة واحدة؛ إذ بمجموعها طهر المحل. وهكذا الحكم فيما لو جمعت الغسلات من ولوغ الكلب وهي غير متغيرة. ولو بلغ مجموع الغسلات قلتين طهر، سواء كان من غسالة كلب أو غيرها. وفي "الكافي" وجه: أن غسالة الكلب لا تطهر وإذا بلغت حد الكثرة. والأصح الأول. والخلاف المذكور فيما إذا خلط ما حكمناه بطهارته ونجاسته من الغسالة جَارٍ فيما لو كان في الإناء بول أو ماء نجس فغمره بماء طهور حتى زال أثر النجاسة، هل يطهر الإناء وما فيه أو لا؟ قال أبو علي في "الإفصاح": إن الأشبه بمذهب الشافعي الطهارة. وفي "النهاية" نسبة هذا إلى ابن سريج وأن الشيخ أبا علي قال: هذا منه تفريع على أن العصر لا يجب، ولا يشترط غزالة الغسالة، فأما إذا شرطنا ذلك فهو غير ممكن؛ فإن الوارد لا يتميز عن المورود عليه، فالكل نجس. قال الإمام: وهذا عندي- إن صح النقل- من هفوات ابن سريج، ثم قال ابن سريج: ينبغي أن يكون الوارد أكثر من المورود عليه، حتى يحصل الغسل بهذه الجهة، وكلام الأصحاب السالف لا يقتضي ذلك. ***

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة الصلاة في اللغة: الدعاء، قال الله- تعالى-: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] أي ادع لهم، وقال- عليه السلام-: "إذا دعي أحدكم [إلى] طعام فليجب: فإن كان مفطراً فليطعم، وإن كان صائماً فليصل" أي: فليدع. وفي الشرع: أفعال وأقوال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة، سميت بذلك؛ لاشتمالها على الدعاء؛ كما سميت: قرآناً في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78]؛ لاشتمالها عليه، هذا هو [المشهور] والصواب الذي قاله الجمهور من أهل اللغة وغيرهم من أهل التحقيق. وقيل: سميت صلاة؛ لما يعود على فاعلها من البركة في دينه ودنياه، والبركة تسمى: صلاة. وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تفضي إلى المغفرة التي هي مقصود الصلاة ومقصود الشيء أحق بإطلاق اسمه عليه، والمغفرة والاستغفار تسمى: صلاة، قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 156] يريد بصلوات الله: المغفرة؛ لأنه ذكر بعدها الرحمة، وقال- تعالى-: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 16] يعني: المصلين. وقيل: سميت بذلك؛ لأن المصلي إذا قام بين يدي الله في الصلاة أصابه من خشيته ومراقبته ما يلين ويقيم اعوجاجه؛ مأخوذ من التصلية، يقال: صلَّيت العود، إذا ألنته بالنار فسهل تقويمه من الاعوجاج. قال النواوي: وهذا فيه غباوة [ظاهرة] من قائله؛ لأن لام الكلمة في "الصلاة" واو، وفي "صليت" ياء، فكيف يصح الاشتقاق

مع اختلاف الحروف؟!. وقيل: سميت بذلك؛ لأن المصلي يتبع فعل من تقدهم، فجبريل- عليه السلام- أول من سبق بفعلها فكان- عليه السلام- تابعاً له مصليّاً، ثم المسلمون بعده. وقيل: سميت بذلك؛ لأن رأس المأموم عند صَلَوَي إمامه؛ ولهذا كتبت في المصحف بالواو، والصلوان: عظمان عن يمين الذنب ويساره في موضع الردف. وقال النواوي: إنهما عرقان من جانبي الذنب، وعظمان ينحنيان في الركوع والسجود. وقيل: سميت بذلك؛ لأن المصلي يحني فيها ظهره في الركوع والسجود؛ تعظيماً لله- عز وجل- وتواضعاً له؛ ولأن العرب تقول: صلى فلان لفلان؛ إذَا عظمه؛ اشتقاقاً من "الصلا": وهو ظهر الإنسان. والأصل في وجوبها في الجملة- قبل الإجماع- من الكتاب آيات منها قوله- تعالى-: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 76]، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} إلى قوله: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [البينة: 4]، وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ..} إلى آخرها [التوبة: 4]، وفي القرآن من ذلك كثير. قال القاضي أبو الطيب: وما ورد من ذلك فهو محمول على الصلاة الشرعية دون اللغوية؛ لأن الشرع طارئ على اللغة وناسخ لها؛ فالحمل على الناسخ المتأخر أولى.

ولأنه- عليه السلام- مبعوث لبيان الشريعة، لا اللغة؛ إذ هو وغيره فيها سواء. وقال الماوردي: إن أصحابنا- في جملة العلماء- اختلفوا في أن لفظ "الصلاة" في قوله- تعالى-: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [يونس: 86] وغيرها من الآيات من المجمل الذي لا يعقل معناه إلا بالبيان، أو هو ظاهر معقول المعنى قبل ورود البيان؟ على وجهين، وبنوا عليهما أن اسم "الصلاة" هل جاء به الشرع؛ كما جاء ببيان الحكم، أو كان معروفاً عند أهل اللسان والشرع، مختصّاً ببيان الأحكام؟ فمن قال بالأول قال: إن الشرع أحدث الاسم [كالحكم]، ومن قال بالثاني قال: إن الاسم مأخوذ من أهل اللغة واللسان. والذي عليه [جمهور] أهل العلم مذهب ثالث، وهو ما قدمناه. ومن السنة- مع ما سنذكره في الباب والذي يليه- ما روى ابن عمر أنه- عليه السلام- قال: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان" أخرجه مسلم. قال: يجب فرض الصلاة على كل بالغ عاقل طاهر مسلم، هذا الكلام مسوق لبيان من هو المخاطب بفرض الصلاة، وهكذا فعل في الصيام والزكاة، ولاشك في أن من اتصف بالصفات التي ذكرها مخاطب به، ومن فقد في حقه وصف منها سيأتي الكلام فيه. والفرض في كلام الشيخ بمعنى: المفروضن فقد يظن بعض الطلبة أن الشيخ ساق ما ذكره؛ لتعريف ما يجب من الصلوات، فيقول: كيف يحسن أني قول: "يجب فرض الصلاة" مع أنه لا فرق عندنا بين الواجب والفرض؛ لأنه يصير معنى الكلام: يجب الواجب، وذلك في غاية الركة؟! وليس الأمر إلا كما ذكرناه، ومنه يظهر لك أنه في غاية الفصاحة؛ لأن اختلاف الألفاظ مع اتحاد المعنى من أساليب البلاغة. فإن قلت: يلزم- على هذا- ألا يكون الشيخ قد تصدى للكلام في فرضية

الصلاة، حتى يقام الدليل عليها، وهو خلاف ما جرت عليه الأئمة. قلت: صحيح، لكنْ في كلامه تلويح قائم مقام التصريح، فيحسن إقامة الدليل عليه بما صدرنا به الباب، مع أنه لو لم يكن في كلامه ما يرشد إليه لم يحسن الاعتراض عليه؛ لأن الذي يحتاج إلى التنبيه ما [يمكن] أن يقع الخلاف فيه، وفرض الصلاة معلوم من دين محمد صلى الله عليه وسلم بالضرورة، وبمثل هذا قال في كتاب الزكاة: لا تجب إلا على كذا، وفي كتاب الصيام: يجب صوم رمضان على كذا، فساق ذلك؛ لبيان من يخاطب به، ولم يصنع مثل ذلك في كتاب الحج وإن شارك ما نحن فيه فيما ذكرناه؛ لأن العمرة مما وقع الاختلاف فيها، وهي معطوفة عليه، والله تعالى أعلم. قال: فأما الصبي ومن زال عقله بجنون أو مرض- أي: وما في معناه- والحائض والنفساء؛ فلا يجب عليهم. هذا الفصل مسوق لبيان الحكم فيمن احترز عنهم في الفصل قبله، وهو يشتمل على مسائل: الأولى: الصبي لا تجب [الصلاة] عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل".

....................................................................................................

....................................................................................................

أخرجه أبو دود وابن ماجة، وكذا الترمذي وقال: حديث حسن. وهذا هو المشهور، وعنه احترز الشيخ بقوله: "بالغ". قال البندنيجي قبيل [باب] اختلاف نية الإمام والمأموم: وقد [أفتى الشافعي] في "الأم" في استقبال القبلة: أنه يجب على الصبي فعلها قبل بلوغه، لكنه لا يعاقب على تركها عقوبة مَنْتَرَكَهَا بعد بلوغه. قال: وليس هذا بمذهب؛ لأنه غير بالغ فلا يكلف بالعبادات. المسألة الثانية: من زال عقله بجنون أو مرض لا تجب عليه أيضاً: أما الجنون فللخبر، وأما من زال عقله بمرض: كالمغمى عليه والمبرسم، ونحوهما؛ فلأنه في معناه فألحق به، وقد روى الدارقطني أن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يغمى عليه فيترك الصلاة؟ فقال: "ليس من ذلك قضاء، إلا أن يغمى عليه،

فيفيق في وقتها؛ فيصليها". ومن شرب شراباً لا يرى جنسه مسكراً فكان مسكراً؛ وزال عقله بسببه- يلتحق بما ذكرناه؛ وهذا ما احترز عنه بقوله: "عاقل". واقتصاره على ما ذكر يفهم أن من زال عقله بما سوى ذلك، تجب عليه، وهو يشمل [صورتين]- على رأيه-. إحداهما: من زال عقله بالنوم، ويقوي هذا المفهوم قوله من بعد: "إلا نائم"، ويشهد له قوله- عليه السلام-: "من نسي صلاة، أو نام عنها؛ فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" رواه مسلم. لكن في "الذخائر": أنمن زال عقله بالنوم فطبق [الوقت] فهو غير مخاطب بتلك الصلاة. وصار بعض الفقهاء إلى تكليف النائم في بعض الأحكام. ثم قال: فإن قيل: فلم أوجبتم القضاء عليه؟ [قلنا]: للأمر الجديد، وقال: إن الحكم في الساهي والجاهل؛ كالحكم في النائم. وكلام الشيخ الآتي ينازع فيه. الثانية: من شرب ما جنسه مسكراً فزال عقله بسببه، وإليه أشار في "المهذب"، [وبه] صرح في "التتمة"، ووجهه: أن فعل ذلك معصية، وترك الوجوب [عن المجنون] بمعنى: عدم إيجاب القضاء رخصة، والرخصة لا تنال بالمعاصي. فإن قيل: لو ألقى نفسه من شاهق جبل عمداً؛ فانكسرت رجله؛ فصلى قاعداً- فلا قضاء عليه على [المذهب] وإن كان ما أتى به معصية. قيل: من رمى نفسه من شاهق؛ انتهت معصيته بسقوطه؛ فهو غير عاص في دوام القعود، ولا كذلك من ذكرناه.

قال الإمام في باب صلاة المسافر: وهذا يمكن أن يقال في السكر أيضاً؛ لأن نفس السكر ليس بمعصية، فإنه ليس فعلاً مقدوراً للمكلف، ولكن لما كان مرتباً على الشرب لم يتضمن تخفيفاً في باب العبادات، وهكذا ما نحن فيه. ويمكن أن نفرق بأن السكر محبوب في الجبلات، فلا يمنع أن يلحق بالمعاصي؛ حتى ينزجر الناس عن التسبب إليه، ولولا السكر لما اعتمد الشرب؛ فإن الخمر مرة شنعة. المسألة الثالثة: الحائض والنفساء لا تجب عليهما كما هو مذكور في باب الحيض، وعنهما احترز بقوله: "طاهر". وقد أفهم كلام الشيخ: أنه لا فرق في عدم وجوبها على المجنون والحائض والنفساء، بين أن يكون حصل ذلك من غير تسبب فيه أو بتسبب، ولا خلاف في ذلك إذا حصل من غير تسبب، وأما إذا حصل بتسبب: فقد قال بعض الشارحين فيما إذا حصل الجنون بتسببه: إن الصلاة تجب عليه، بمعنى: وجوب القضاء بعد الإفاقة، وهو المذكور في "التتمة" و"تعليق البندنيجي". وعبارة القاضي الحسين في باب صلاة المسافر: أنه إذا شرب الْبنْجَ وغيره مما يزيل عقله، فعليه قضاء الصلاة والصيام بعد الإفاقة كالسكران؛ لأنه جلب إزالة العقل بنفسه؛ فيؤخذ به. قال: ويمكن أن يفرق بين شرب الخمر والأدوية المزيلة للعقل بأن: الشارب يقصد به الدوام دون الابتداء؛ لأن ابتداءه يكره بالطبع، ودوامه يورث الطرب والنشاط، فاللذة في دوامه دون ابتدائه؛ فلزمه القضاء، بخلاف الأدوية المزيلة للعقل؛ فإن الإنسان لا يقصد بشربها الدوام ولا الابتداء؛ فإنها لا تفضي إلى ما فيه لذة. وهذا ما ادعى الإمام أنه المذهب؛ حيث قال: إذا تسبب الشخص في إزالة عقل نفسه؛ فجن، ثم أفاق- فالمذهب: أنه لا يلزمه قضاء [تلك] الصلوات الفائتة في زمن جنونه؛ لأن الجنون مناف لتبعات التكليف بخلاف السكر. قال: وذهب بعض أصحابنا إلى: أنه مأمور بقضاء الصلوات، قال: وهذه مرتبة على

ما إذا رمى نفسه من شاهق كما قدمناه، وأولى بعدم القضاء؛ لأنه [ثم] لم يخرج عن أهلية التكليف. وقال فيما إذا كانت المرأة حاملاً، فسعت في إسقاط جنينها ونفست: فالوجه: القطع بأن ما يفوتها من الصلوات في زمن النفاس؛ لا يلزمها قضاؤه، وذكر بعض الأصحاب فيه وجهاً بعيداً وهو حري ألا يعد من المذهب. وإذا كان هذا حكم النفساء فالحائض كذلك، وقد جزم ابن الصباغ بعدم القضاء. فرع: إذا ارتد ثم جن ثم أفاق وأسلم، قال الإمام في باب صلاة المسافر: فظاهر النص لزوم قضاء ما فاته في حال جنونه، وهو ما حكاه القاضي الحسين فيه، وهو بخلاف ما لو ارتدت المرأة أو سكرت، [ثم حاضت]، ثم طهرت وأسلمت أو أفاقت- لا يلزمها قضاء ما فات من الصلوات في زمن الحيض. قال الإمام: والفرق أن الحائض مخاطبة بترك الصلاة في زمن حيضها، وهي مؤدية ما أمرت به، والمجنون ليس مخاطباً بترك الصلاة في زمن جنونه حتى يقال: إنه أدى ما أمر به. ولو سكر ثم جن لزمه قضاء ما فاته في أغلب وقت السكر، ولا يلزمه قضاء ما فاته بعد ذلك في أيام الجنون، وإن اتصل بالسكر. وفيه وجه ضعيف: أنه يجب قضاء ذلك أيضاً، حكاه مجلي والمتولي. قال: ويؤمر الصبي بالصلاة لسبع، ويضرب على تركها لعشر؛ لقوله- عليه السلام-: "علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين، واضربوه [عليها] ابن عشر" رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح.

واختلف الأصحاب في حكمة الضرب في العشر: فقيل: لأجل المخالفة في سن يحتمل [فيه الضرب]، وعلى هذا يظهر أن تكون الصبية كالصبي. وقيل: لأنه سن يحتمل أن يكون قد بلغ فيه وكتمه؛ وعلى هذا فتضرب الصبية لِتِسْعٍ؛ وبه صرح في "الحاوي". والمعنى في الأمر بالصلاة في السن المذكور: أن يبلغ وهو يحسن ذلك. والآمر للصبي بذلك [وليه: وهو] الأب والجد والوصي والحاكم وأمينه؛ كما حكاه البندنيجي وغيره قبيل [باب] اختلاف نية الإمام والمأموم. وهل مخاطبة الولي بأمره الصبي بذلك على وجه الوجوب، أو الاستحباب؟ فيه وجهان: ظاهر النص منهما الأول، وهو الذي حكاه في "الحاوي"، [واختاره في "المرشد". وكما يؤمر الولي بأمره بالصلاة، يؤمر بأمره بحضور المساجد والجماعات؛ كما حكاه القاضي أبو حامد عن الشافعي، ويؤمر بتعليمه الطهارة، وما يجزئه في صلاته من القراءة. والخلاف في أن ذلك واجب على الولي أو مستحب، [جار فيه أيضاً؛] صرح به القاضي الحسين؛ حيث قال: هل يجب على الأب أن يعلم ولده الصغير الفاتحة، أم لا؟ فيه وجهان: ظاهر النص: الوجوب، ووجه المنع: أن القراءة إنما تجب بعد البلوغ. قال: وعلى الأول فالأجرة على الأب، فإن كان معسراً ففي مال الابن. قال: وهل له أن يعلمه ما سوى الفاتحة، ويعطي الأجرة من مال الصبي؟ فيه وجهان. وقال في باب حد الخمر: إن أجرة [تعليم] ما يجب تعليمه من القراءة؛ لأجل الصلاة تجب في مال الصبي، وما زاد على الواجب، وكذا أجرة تعليم صنعة أو أدب، هل يجوز صرفه من مال الابن؟ فيه وجهان. وهكذا حكى ذلك في "الكافي" ها هنا، وقال: إن الابن إذا كان معسراً وجب في مال الأب أجرة تعليم ما يجب من القراءة، فإن لم يكن، وجب ذلك على الأم.

وسيكون لنا عودة إلى شيء من ذلك في باب السواك. ثم ما ذكره الشيخ من السن في الحالين هو المشهور، ولم يورد البندنيجي غيره. وقال القاضي أبو الطيب: إن من أصحابنا من قال: لا يتقدر ذلك بمدة، ومتى حصل تمييز أمرناه بالصلاة، وضربناه على تركها، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قدر السبع؛ لأن التمييز في العادة يحصل عندها. وحكى عن اليحصبي: أنه إذا صار الصبي يَعُدُّ من واحد إلى عشرين، فقد حصل مميزاً، [و] يؤمر بفعل الصلاة، ويضرب على تركها. وعلى الأول: هل يكون الأمر والضرب في أثناء السنة أو بعد تمامها؟ فيه وجهان حكاهما الجيلي. فرع: صلاة الصبي الظهر ونحوها، هل هي نفل حتى تجوز قاعداً مع القدرة على القيام [، أو لا تجوز؟] فيه وجهان. قال: فإن بلغ في أثناء الصلاة- أي: بالسن- وأكمل الصلاة، أو صلى في أول الوقت وبلغ في آخره-[أي: بالسن أو بالاحتلام] ونحوه- أجزأه ذلك عن الفرض.

هذا الفصل ينظم مسألتين الثانية منهما مبنية على الأولى؛ إذ عليها نص الشافعي في "المختصر"، ولفظه: "ولو دخل غلام في صلاة أو صوم يوم لم يكمله حتى استكمل خمس عشرة سنة- أحببت أن يتم ويعيد، ولا يبين لي أن عليه الإعادة" فظاهر هذا النص وجوب إتمام الصلاة والصوم واستحباب الإعادة، سواء كان الوقت ضيقاً أم واسعاً. ولا جرم، قال الماوردي: إنه ظاهر مذهب الشافعي. و [قال] البندنيجي: إنه المذهب. واختاره أبو إسحاق المروزي وغيره- كما ستعرف- وقال الإمام: إنه الذي قطع به الأصحاب: القفال وأبو الطيب، [و] ادعى أنه لا خلاف في لزوم الإتمام، واستدل له ابن الصباغ بأن الشافعي قال: "ولا يبين لي أن عليه الإعادة"، ولا يجوز ألا تجب الإعادة والإتمام، وإذا كان هذا معنى النص فعليه ينطبق كلام الشيخ. ووجهه: أنه شرع في وظيفة الوقت بشرائطها فأجزأته، وإن تغير حاله إلى الكمال في أثنائها؛ كالعبد إذا شرع في الظهر يوم الجمعة ثم عتق قبل إتمام الظهر وفوات الجمعة. فإن قيل: كيف يصح ذلك، وأوله تطوع وآخره واجب؟ قال أبو إسحاق: لا يمتنع ذلك؛ لأنه لو دخل في صوم أو صلاة نافلة، ثم نذر إتمام ذلك ووجد الشرط؛ وجب عليه. قال القاضي أبو الطيب: وقد اعترض بعض الناس على أبي إسحاق، وقال: ما ذكره من النذر يصح في الصوم دون الصلاة؛ لأن النذر ينعقد بالكلام، والكلام يبطل الصلاة، واختلف الأصحاب في جوابه: فقال الداركي: النذر في الصلاة لا يبطلها؛ لأنه مناجاة لله، فهو من جنس الدعاء. وقال غيره: في النذر إيجاب عبادة بشرط، فهو بخطاب الآدميين أشبه؛ فتبطل به الصلاة، ولم يقصد أبو إسحاق جواز النذر في الصلاة، وإنما قصد جوازه في الصوم،

وأطلق ذلك لما جمع بين العبادتين. قلت: ويجوز أن يبقى كلام أبي إسحاق على إطلاقه، إذا قلنا: إن النذر يصح بالنية وحدها؛ كما سيأتي، ووراء ما ذكره الشيخ وجهان: أحدهما- حكاه القاضي الحسين وغيره-: أنه يتم صلاته وصيامه على وجه الاستحباب، ويعيد في الوقت وبعده وجوباً، وقد حكاه الماوردي عن ابن سريج، وكذا العراقيون؛ كما قال الإمام. وقال في "المهذب": إنه حكى عنه، مثل ما حكيناه عن أبي إسحاق، وهو ما حكاه البندنيجي وحكى عنه هذا أيضاً؛ فيجوز أن يكون له في المسألة وجهان. وعن المتولي أنه قال: هذان الوجهان ينبنيان على: [أن نية الفرضية للظهر]- مثلاً- هل تصح الصلاة من دونها، أم لا؟ وفيه وجهان يأتيان: فعلى الأول: يجزئه ما أتى به عن الفرض، وعلى الثاني لا. والثاني: إن كان وقت الصلاة واسعاً أعاد الصلاة واجباً، وإن كان فائتاً أعاد الصلاة استحباباً، ولا يعيد الصوم؛ وهذا قول أبي سعيد الإصطخري؛ كما حكاه الماوردي تبعاً لأبي حامد، وأبي علي، وحكاه عن بعض الأصحاب. وكيف كان، فقد قال الشيخ أبو حامد: إنه لا يُعرف للشافعي، ولو كان على ما ذكره؛ لوجبت الإعادة وإن لم يبق من الوقت ما يفعل فيه الصلاة؛ لأن المعذور عند الشافعي يدرك الصلاة بإدراك الركعة أو التكبيرة-[على قول]- فلا يصح هذا على أصله؛ وهذا حكم المسألة الأولى. وأما [المسألة] الثانية: فقد قال القاضي الحسين: إنه لا يجب عليه فيها الإعادة قولاً واحداً؛ كما لو صلت الأمة مكشوفة الرأس في أول الوقت، وعتقت في آخره، والماوردي وغيره قالوا: إن الأوجه السالفة جارية يها. فرع: إذا صلى [الصبي] يوم الجمعة الظهر قبل فوات الجمعة، ثم بلغ قبل

فواتها، فهل تجب عليه؟ فيه كلام ذكرناه في باب الجمعة. قال: وأما الكافر: فإن كان أصليّاً لم تجب عليه؛ لأنه لا يصح منه فعلها في حال كفره، وإذا أسلم لا يجب عليه قضاؤها؛ فلا يجوز أن يخاطب بها؛ كالحائض، وهذا ظاهر النص؛ فإن الشافعي قال في قسم الصدقات من "المختصر": "فرض الله على أهل دينه المسلمين في أموالهم حقّاً لغيرهم من أهل دينه المسلمين"، وإذا كان هذا نصه في الزكاة [وهي] من فروع الشريعة- فكذا باقيها؛ إذ لا قائل بالفرق، وبظاهر هذا النص أخذ بعض الأصحاب، ويقال: إنه الشيخ أبو حامد، وإنه طرده في جميع فروع الشريعة، وقال في "البحر" ثَمَّ: إنه قول العراقيين. والذي ذهب إليه أكثر الأصحاب؛ كما حكاه القاضي أبو الطيب والماوردي [وغيرهما ثم] وصححوه: أنهم مخاطبون بالفروع بشرط تقدم الإسلام، وهو المتقرر في الأصول بأدلته، وهؤلاء قالوا: مراد الشافعي بقوله: "فرض الله على أهل دينه"، تخصيص المسلمين بذلك؛ لأنهم إذا امتنعوا من العبادات أجبروا عليها وطولبوا بها، بخلاف الكفار؛ وإن كان المسلمون والكفار سواء في توجه الخطاب إليهم. قلت: وهذا تأويل كلام الشيخ، أيضاً. قال: وإن كان مرتدّاً؛ وجبت عليه، أي: بمعنى أنه يطالب بقضائها بعد إسلامه؛ لأنه حق لزمه بإقراره لا يسقط بالشبهة؛ فلا يسقط بالردة، والعود إلى الإسلام كالإقرار بالمال. قال: ولا يعذر أحد من أهل فرض الصلاة في تأخيرها عن الوقت؛ إذ لو عذر؛ لفاتت فائدة التأقيت وقد قال- عليه السلام-: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت أخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين

يتنبه لها" متفق عليه. قال: إلا نائم؛ للخبر، أو ناس؛ لقوله- عليه السلام-: "رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه".

....................................................................................................

....................................................................................................

قال: أو معذور بسفر أو مطر فإنه يؤخرها بنية الجمع؛ لما ستعرفه في بابه، أو من أكره على تأخيرها [للخبر]. فإن قلت: الشيخ جمع فيما استثناه بين ما هو متفق عليه: [وهو ما عدا التأخير بعذر المطر]، وما هو مختلف فيه: وهو التأخير بعذر المطر، وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي مما ينبغي أن يستثني- أيضاً- صور: منها: تأخير المغرب إلى العشاء بمزدلفة بعذر النسك لا السفر؛ فإن فيه خلافاً ستعرفه. ومنها: المحرم إذا خاف أنه متى صلى فاته الوقوف بعرفة، ولو مشى للوقوف فاتته الصلاة، فإنه يؤخر الصلاة على رأي لم يحك القاضي الحسين في باب الأحداث غيره، قال في "الروضة": وهو الصواب؛ لأنا نجوز تأخير الصلاة لأمور لا تكاد تقارب المشقة فيها هذه المشقة: كالتأخير للجمع. ومنها: العاري إذا كان بينه وبين قوم من العراة ثوب، وعلم أن الثوب لا ينتهي إليه إلا بعد خروج الوقت، فإنه: هل يؤخرها عن الوقت [أو يصلي فيه] عارياً؟ فيه قولان ستعرفهما في آخر باب ستر العورة، والمنصوص منهما في "الأم": أنه يؤخر. ومثل هذه المسألة ما تقدم في التيمم. قلت: إنما لم يستثن الشيخ ذلك- والله أعلم- لأن الخلاف في الصورة الأولى مذكور في طريق المراوزة، [وهو حاكٍ] طريق أهل العراق. وكذا الخلاف في الصورة الثانية محكي عن القفال، ولعل العراقيين لا يوافقون عليه، على أنه لو كان في طريقهم لقلنا: ما وقع استثناؤه لم يوجب فيه الشرع التأخير. ونحن إذا قلنا: إنه يمشي للوقوف ويؤخر الصلاة؛ كان ذلك على وجه الوجوب، وليس من قبيل ما نحن فيه، وبه يقع الجواب عن الصورة الثالثة- أيضاً- وما في معناها؛ كما تقدم في التيمم؛ وبه ينقطع إلحاق مشقة فوات الوقوف بمشقة الجمع؛ كما صار إليه النواوي؛ لأن تلك المشقة لا توجب الجمع.

قال: ومن امتنع من فعلها جاحداً لوجوبها- أي: منكراً لوجوبها- وهو غير معذور؛ بأن كان قد تقدم إسلامه وخالط المسلمين- كفر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "بين العبد و [بين] الكفر ترك الصلاة" رواه مسلم، ولأنه جحد أصلاً مقطوعاً به في الشرع، لا عذر له فيه، فتضمن جحده تكذيب الله ورسوله، ومن كذبهما؛ فقد كفر. قال الرافعي: وهكذا كل من جحد حكماً مجمعاً عليه [يكفر. وقال في "الروضة": ليس هذا على إطلاقه، بل هو مختص بمن جحد مجمعاً عليه] فيه نص، وهو من أمور الإسلام الظاهرة، التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام: كالصلاة، والزكاة، والحج، وتحريم الخمر، أو الزنى، أو نحو ذلك. ومن جحد مجمعاً عليه لا يعرفه إلا الخواص: كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، وتحريم نكاح المعتدة، وكما إذا أجمع أهل العصر على حكم حادثة- فليس بكافر للعذر، بل يعرف الصواب ليعتقده، ومن جحد مجمعاً عليه ظاهراً لا نص فيه، ففي الكم بتكفيره خلاف يأتي في باب الردة، وقد أوضح صاحب "التهذيب" القسمين الأولين في خطبة كتابه، والحكم بكفره في مسألة الكتاب مرتب على الجحد لا على الامتناع من الفعل والجحد؛ يدل عليه أن الجحد لو انفرد لاقتضى التكفير. قال: وقتل بكفره؛ لقوله- عليه السلام-: "من بدل دينه فاقتلوه" أخرجه البخاري. وفي قول الشيخ: "وقتل بكفره" تنبيه على أن كيفية قتله كيفية قتل المرتد؛ كما صرح به غيره، وسيأتي حكمه. أما من كان حديث عهد بالإسلام، وقد نشأ في بادية بعيدة- فيعرف

أن الصلاة واجبة عليه، فإن أصر على الإنكار كان حكمه حكم من نشأ في الإسلام. قال: ومن امتنع [من فعلها] غير جاحد حتى خرج الوقت، قتل في ظاهر المذهب؛ لأن المزني قال [وقد] قال الشافعي: يقال لمن ترك الصلاة حتى خرج [الوقت] لا يعملها غيرك، فإن صليت وإلا استتبناك، فإن تبت وإلا قتلناك. ووجهه: مفهوم قوله- عليه السلام-: "نهيت عن قتل المصلين"، وقوله- عليه السلام-: "من ترك الصلاة فقد برئت منه الذمة"، ولأنها تشتمل على عمل

بالجوارح، ونطق باللسان، واعتقاد بالقلب؛ فشابهت الإيمان؛ ولهذا سماها الله إيماناً

[في قوله]: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، ومن ترك الإيمان بعد تلبُّسِهِ به قتل؛ فكذا شبهه. فإن قيل: ومن ترك الإيمان فقد كفر؛ فينبغي أن يحكم بكفره. قلنا: قد قال بن شرذمة من أصحابنا، على ما حكاه الحناطي وصاحب "المهذب" وغيرهما، والقاضي الحسين نسب ذلك في باب قتل المرتد إلى أبي جعفر الترمذي وأبي عبيد بن حربويه من أصحابنا؛ تمسكاً بظاهر قوله- عليه السلام-: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة"، وقوله- عليه السلام-: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس"

ودمه مستحل وليس بزان ولا قاتل؛ فتعين أن يكون كافراً. لكن الجمهور على: أنه لا يكفر بذلك؛ لقوله- عليه السلام-: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق- أدخله الله الجنة على ما كان من عمل" متفق عليه، وقوله- عليه السلام-: "خمس صوات افترضهن الله على عباده، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن- كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل، فليس له عند الله عهد إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه" أخرجه أبو داود؛ ولأن الكفر بالاعتقاد، واعتقاده صحيح، والخبر الأول الذي استدل به الخصم: نحمله على ما إذا كان جاحداً لوجوبها، أو على أن يعامل معاملة من كفر في القتل؛ كما في قوله- عليه السلام-: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".

والخبر الثاني مخصوص بالأحاديث المستوجبة للقتل، ولعله كان قبل وجوب القتل بترك الصلاة؛ كما قيل في قوله- تعالى-: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...} الآية [الأنعام: 145]. وقد وافق الشيخ في ادعاء أن قتله بترك صلاة واحدة بظاهر المذهب- القاضي أبو الطيب وغيره، وهو اختيار أبي علي في "الإفصاح"، وظاهر كلامهم: أنه يقتل بعد خروج وقتها الاختياري. وفي "النهاية": أن الصيدلاني وغيره قالوا: لا يقتل ما لم يخرج وقتها الضروري- أي: إن كان- فلا يقتل بصلاة الظهر، حتى تغرب الشمس، ولا يقتل بصلاة المغرب، حتى يطلع الفجر، ويقتل بصلاة [الصبح] إذا طلعت الشمس. قلت: وعلى قياسه أنه يقتل بصلاة العصر إذا غربت الشمس، وبصلاة العشاء إذا طلع الفجر. قال الإمام: وما ذكره الصيدلاني لم أر في الطرق ما يخالفه، وهو حسن، وهذا ما حكاه الروياني في "تلخيصه" عن القفال، وقال: إنه خلاف النص؛ فإنه لم يعتبر فيه خروج وقت العذر والضرورة. قال: وقيل: يقتل بترك الصلاة الرابعة إلى أن يضيق وقتها؛ لأنه إذا ترك ذلك علم تهاونه، وإذا ترك دونها جاز أن يكون قد تركها؛ لعذر، وتأويلٌ مِنْ تَرْكه- عليه السلام- الصلوات يوم الخندق. قال: وقيل يقتل بترك الصلاة الثانية إلى أن يضيق وقتها؛ لأن الصلاة الواحدة يجوز أن يكون قد تركها بشبهة جواز الجمع، وأما تركه- عليه السلام- الصلوات يوم الخندق؛ فقد عرف من دين محمد- عليه السلام- أن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف؛ فلم تبق شبهة. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي [أمرين: أحدهما:] أنه لا فرق في قتله بسبب ترك الصلاة- عند فقد الأعذار السالفة- بين أن يبدي عذراً غيرها من برد أو نجاسة، أو يقول: تركتها كسلاً وتهاوناً، أو لا

يذكر شيئاً من ذلك، وهو ظاهر كلام الأصحاب، لكن في "التتمة": أنه إذا قال: تركتها ناسياً، أو للبرد، أو لعدم الماء، أو لنجاسة كانت عليَّ، ونحو ذلك من الأعذار- صحيحة كانت أو باطلة- يقال له: صل، فإن امتنع لم يقتل على المذهب؛ لأن القتل بسبب تعمد تأخيرها عن الوقت، ولم يتحقق. وفيه وجه: أنه يقتل لعناده. نعم، لو قال: تعمدت تركها ولا أريد أن أصليها، قتل قطعاً، وإن قال: تعمدت تركها بلا عذر، ولم يقل: ولا أصليها- قتل أيضاً على المذهب؛ لتحقق جنايته. وفيه وجه: أنه لا يقتل ما لم يصرح بالامتناع من القضاء. الثاني: أنتارك الصلاة، يقتل- على ظاهر المذهب- بالامتناع من قضاء الصلاة الواحدة الفائتة؛ وهو ما قال البندنيجي: إنه ظاهر النص، وعلى الطريقة الثانية: يقتل بالامتناع عن فعل الرابعة عند ضيق وقتها؛ وهو ما حكاه في "المهذب" [عن الإصطخري، وعلى الطريقة الثالثة: يقتل بالامتناع عن فعل الثانية عند ضيق وقتها؛ وهو ما حكاه في "المهذب"] عن أبي إسحاق. والأصحاب مفترقون في المسألة على فرق: فمن قائل: إنا- على ظاهر المذهب- نقتله بالامتناع عن الصلاة الواحدة عند ضيق وقتها، وهو قول أبي علي في "الإفصاح"، وعلى قول الإصطخري وأبي إسحاق: أن لحكم كما سلف؛ وهذه طريقة الروياني في "التلخيص"، وقال: إن ما صار إليه أبو علي هو الصحيح من المذهب؛ لأن الشافعي لم يعتبر التكرار ولا خروج وقت العذر والضرورة، ولا تضييق وقت الثانية. ومِنْ قائل: إن مذهب الشافعي: أنه إذا ترك صلاة واحدة متعمداً من غير عذر- استوجب القتل إذا امتنع من القضاء، وأن العراقيين حكوا عن أبي سعيد الإصطخري: أنه يستوجب القتل [إذا ترك] أربع صلوات وامتنع عن القضاء، فيقتل بعد الرابعة. وعن أبي إسحاق المروزي: أنه لا يستوجب القتل بترك صلاة واحدة، فإذا ترك الثانية، فقد عاد ملتزم القتل إذا لم يقض؛ وهذه طريقة الإمام، وحكى عن شيخه:

أن مذهب الإصطخري: أنه يستوجب القتل بترك ثلاث صلوات، والامتناع من القضاء بعد الثالثة، وأن في بعض التصانيف نقل مذهب الإصطخري: أنه لا تخصيص للقتل بعدد، ولكن إذا ترك من الصلوات ما انتهى إلى ظهور اعتياده ترك الصلاة قُتِلَ، وإن لم ينته إلى ذلك لم يقتل، وعنه عبر الغزالي بقوله: وقيل: لا يقتل إلا إذا صار الترك عادة له. قال الإمام: وهو غير معتد به. ومِنْ قائل: إن ظاهر كلام الشافعي: أنه يقتل بترك الفائتة الواحدة، ولا خلاف على المذهب: أنه لا يقتل بالفائتة، ولا بترك صلاة واحدة، ولكن بماذا يقتل؟ فيه وجهان: أحدهما- قاله الإصطخري-: بما إذا ترك ثلاث صلوات وضاق وقت الرابعة، فلم يعملها- فحينئذ- يجب قتله. والثاني- قاله أبو إسحاق-: بما إذا ترك واحدة، وضاق وقت الثانية- فحينئذ- يجب قتله. وهذه طريقة البندنيجي، ويقرب منها إيراد "المهذب"؛ ولأجل ذلك يقال: إن بعض علماء العصر كان يقول: ما يوجد في النسخ من قول الشيخ: "وقيل: يقتل بترك الصلاة الرابعة" بالواو غلط، وإنما هي [بالفاء]، وحينئذ لا يكون الشيخ قد حكى في المسألة إلا وجهين: وجه الإصطخري، ووجه أبي إسحاق، وهما مفرعان على استحقاقه القتل بترك الصلاة، وكما قال: إنه ظاهر المذهب، ويكون احترز بقوله: "في ظاهر المذهب"، عما قاله المزني؛ فإنه ذهب إلى أنه يحبس ويضرب [ولا] يقتل؛ لأن قتله إما أن يكون لأجل ترك الصلاة الحاضرة أو الفائتة: فإن كان للحاضرة، فهي لا تتعين عليه ما لم يضق الوقت؛ فلا يتوجه بسببها قتل. وإن كان بسبب الفائتة، فقد ترتبت في ذمته، وقضاؤها لا يجب على الفور، فكيف يقتل بسببها؟! فامتنع القتل. قال القاضي أبو الطيب: وما قاله يلزمه مثله في حبسه وضربه، وما أجاب به فهو

جواب لنا، على أنا نقول: إذا ضاق [وقت الصلاة]- بحيث يتحقق فواتها إذا لم [يؤدها- لوجب] عليه القتل في تلك الحال. وهذا جواب من لم ير وجوب القضاء على الفور، عند عدم العذر في الفوات. ومن يقول بوجوبه على الفور وهم المراوزة- كما ستعرفه- يقولون بقتله بالامتناع من القضاء؛ فبطل ما قاله من الحكم بإبطال القسمين. قال: ويستتاب كما يستتاب المرتد؛ لأنه ليس أسوأ حالاً منه، وفي مدة استتابة المرتد قولان تعرفهما في بابه، قال الإمام: وإجراؤهما هنا أظهر؛ لغموض مأخذ القتل في أصل الباب. وقال القاضي الحسين: إن المزني اختار للشافعي- رضي الله عنه- أنه يقتل في الحال؛ أي: لأن في تركه تفويت صلوات. ثم إذا ضربنا له مدة فقتله فيها قاتل، قال صاحب "البيان": لم يأثم، ولا ضمان عليه؛ كقاتل المرتد. وهذا إذا قتله من ليس مثله، أما لو قتله مثله، ففيه خلاف مذكور في الجنايات. قال: ثم يقتل إن لم يتب؛ لتحقق المفسدة الموجبة لقتله، أما إذا تاب فلا يقتل بحال؛ لأنه فائدة الاستتابة، وسكت الشيخ عن ذلك؛ لوضوحه. وتوبته بفعل الصلاة التي قيل: إنه يقتل؛ لأجل الامتناع من فعلها، وظاهر كلام الشيخ: أنه على الطريقة الثانية، التي نسبها في "المهذب" إلى الإصطخري: إذا صلى الرابعة، ولم

يصل ما قبلها لا يقتل؛ وكذا على الطريقة الثالثة المنسوبة إلى أبي إسحاق: إذا صلى الثانية دون الأولى لا يقتل؛ وهو ما أفهمه كلام أبي الطيب عند جواب المزني. وعلى طريقة المراوزة: لا يخفى الحكم. فرع: لو لم يصل بحضرتنا لكن قال: أنا أصليها في بيتي، أو حيث أوثر- ترك إلى أمانته. وقتله يكون بضرب عنقه؛ لقوله- عليه السلام-: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" وهذا نصه في البويطي، واختاره أبو إسحاق وأكثر الأصحاب؛ كما قال ابن الصباغ. وقيل: إنه يضرب بالخشب إلى أن يصلي أو يموت؛ قاله ابن سريج. وعن صاحب "التلخيص": أنه ينخس بحديدة، ويقال له: صل، فإن لم يفعل وإلا بالغ في نخسه إلى أن يموت، وهو متروك عليه. قال: [ويُغسل]، ويصلي عليه، ويدفن في مقابل المسلمين؛ هذا من الشيخ إشارة إلى أنه لا يكفر بذلك؛ كما تقدم تقريره، وإذا لم يكفر؛ عومل بذلك كسائر المسلمين. وحكى القاضي الحسين وغيره في كتاب الجنائز تفريعاً على هذا- أيضاً- أنه لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يرفع نعشه، ويطمس قبره؛ إهانة [له]. قال القاضي: وهذا لا يصح؛ إذ ليس أسوأ من الكافر، والكافر يكفن ويدفن، ويعرف موضع قبره. فرع: تارك الصلاة يقتل على الصحيح في "الروضة". وتارك الجمعة: إذا قال: أصلي الظهر، ولا عذر له، لم يقتل؛ قاله الغزالي في "الفتاوى"؛ لأنه لا يقتل بترك الصوم، فالجمعة ولى؛ لأن لها بدلاً، وتسقط بأعذار كثيرة.

[قال في "الروضة"]: لكن الشاشي جزم في "فتاويه" بأنه يقتل؛ لأنه لا يتصور قضاؤها، وليست الظهر قضاء عنها. قال: وقد اختار هذا غير الشاشي، واستقصيت الكلام عليه في كتاب الصلاة من شرح "المهذب". والله أعلم. ***

باب مواقيت الصلاة

باب مواقيت الصلاة المواقيت: جمع ميقات؛ كميعاد ومواعيد، وهي في كلامهم للحد؛ قال الله- تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 188] أي: حدّاً لآجالهم وعباداتهم، والمراد بها- ها هنا-: بيان أوقات الصلاة، والألف واللام في الصلاة للعهد، وهي [الصلاة المفروضة]؛ إذ مواقيت ما ليس بفرض منها مذكورة في باب صلاة التطوع وما بعده، وقد ذكرنا وقت صلاة الجنازة في بابها. قال: الصلاة المكتوبة- أي: في اليوم والليلة- خمس. عدل الشيخ عن قوله: "الصلاة المفروضة" إلى ما ذكر؛ تبركاً بلفظ الكتاب والسنة، قال الله- تعالى-: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 102] أي: واجباً موقوتاً، وروى مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً للناس فأتاه رجل، فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله وملاكئته وكتابه ولقائه ورسله، وتؤمن بالبعث الآخر"، قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان ... " وساق الخبر. والدليل على حصرها في خمس: ما روى أنس بن مالك في حديث الإسراء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " [فرض] الله على أمتي خمسين صلاة؛ فرضيت بذلك، حتى مررت على موسى فقال: ما فرض الله على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال: فارجع إلى ربك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجعت فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى،

فقلت: وضع شطرها، فقال: ارجع إلى ربك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك فراجعته؛ فقال: هي خمس و [هن] خمسون لا يبدل القول لدي، فرجعت إلى موسى فقال: ارجع إلى ربك، فقلت: استحييت من ربي" أخرجه البخاري. وروى أنس قال: جاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك .. وساق الحديث إلى أن قال: فزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: "صدق"، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرنا بهذا؟ قال: "نعم" ... ثم ساق الحديث إلى أن قال: ثم ولى، وقال: والذي بعثك بالحق نبيّاً لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن صدق ليدخلن الجنة" أخرجه مسلم. وما تمسك به أبو حنيفة على أن الوتر واجب، [سيأتي] الكلام فيه في باب صلاة التطوع، وقد كان الفرض في ابتداء الإسلام غير الخمس. قال الشافعي في [باب] استقبال القبلة: "سمعت من أثق بخبره وعلمه يقول: إن الله أنزل فرضاً في الصلاة، ثم نسخه بفرض غيره، ثم نسخ الثاني بالفرض في الصلوات الخمس". وشرح أصحابه ذلك فقالوا: كان الفرض في ابتداء الإسلام قيام نصف الليل، أو أنقص منه، أو زيادة عليه؛ لقوله- تعالى-: {قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ...} الآية [المزمل: 2]. قال أبو الطيب: وهذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولسائر الأمة. وكذا دل عليه قول الإمام أيضاً.

قال البندنيجي: وكان- عليه السلام- يفعل ذلك وطائفة من الذين معه سنة، ثم تاب الله على عباده، وخفف عنهم، فنسخه بعد السنة إلى اليسير من الليل بقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] فعبر بالقراءة عن الصلاة في آخر السورة، وبالقيام عنها في أول السورة؛ لأنهما ركنان فيها؛ ولذلك سمى الله صلاة الصبح: قرآناً، فقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 77] ثم نسخ ذلك. قال الشافعي: وبقوله: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 78]؛ كذا حكاه البندنيجي. وكلامه في استقبال القبلة صريح في أن الناسخ له الصلوات الخمس، وقد حكاه البندنيجي قولاً، ولم يسم قائله، ولم يحك القاضي أبو الطيب سواه، وأشار إلى أن الدال على ذلك من الكتاب قوله- تعالى-: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 77] أي: زوالها؛ كما قاله ابن عباس وغيره، واختاره الشافعي- رضي الله عنه- لخبر ورد فيه: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 77] أي: شدة الظلمة، وذلك يستوعب أربع صلوات: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم قال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 77] أي: صلاة الفجر؛ قال الشافعي: سمعت ذلك ممن أثق بعلمه انتهى. وقوله- تعالى-: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] إلى قوله: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] يدل عليه أيضاً؛ لأن معناها صلوا لله؛ قال الله- تعالى-: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 142] أي: من المصلين، فسماها تسبيحاً؛ لاشتمالها عليه، فإذا كان كذلك فقوله: {حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 16] يريد به المغرب والعشاء، وقوله: {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] يريد به الصبح وقوله: {وَعَشِيّاً} [الروم: 18] يعني: صلاة العصر، وقوله: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الإسراء: 18] يعني به: صلاة الظهر.

وفي "تفسير القشيري": أن ابن عباس قال: قوله: {حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 16] يريد المغرب، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الإسراء: 17] الصبح، {وَعَشِيّاً} [الإسراء: 18] يريد: العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الإسراء: 18] الظهر، وأما العشاء فدليلها قوله في النور: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 57]. وقد قيل: إن [في] الكتاب آيتين دالتين على ذلك، أيضاً: إحداهما: قوله- تعالى-: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} [ق: 38] أي: صل صلاة الصبح، {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 38] أي: العصر والظهر، {وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} [ق: 39] أي: [صل] صلاة المغرب والعشاء {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40] فيه تأويلان: أحدهما: أنه ركعتان بعد صلاة المغرب؛ وهو قول مجاهد. والثاني: أنها النوافل في أدبار المكتوبات. والثانية: قوله- تعالى-: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ} [هود: 114] ولاشك في أن الطرف الأول صلاة الصبح، والطرف الثاني: قال مجاهد: هو صلاة الظهر والعصر، والزُّلَف: صلاة المغرب والعشاء. رواه الحسن البصري عنه، عليه السلام. ومعنى الزلف من الليل: الساعات التي يقرب بعضها من بعض. وهذه الآيات- وإن دلت على المدعي من حيث التلويح- فالسنة مفسِّرة لها، ودالة عليه بالتصريح. ثم ظاهر كلام الأصحاب هنا: أن النسخ شامل للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته؛ كما قيل: إن قوله- تعالى-: {قُمْ اللَّيْلَ} [المزمل: 2] شامل له ولأمته وهو ما حكاه في "البيان" في

كتاب "النكاح" عن النص. وإن من أصحابنا من قال: إن قيام الليل كان واجباً عليه صلى الله عليه وسلم إلى أن مات، وهو في "النهاية"، ولم يورد في "الوسيط" غيره، وقائله يقول: [معنى] قوله: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 78]، أي: زيادة لك في درجاتك. والصحيح الأول، بل كلام الماوردي يدل على أن وجوب قيام الليل إنما كان على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وأنه نسخ؛ فإنه قال: أول ما فرض الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قيام الليل بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم نحواً من قيام شهر رمضان، وعلم به قوم من المسلمين؛ فقاموا معه حتى انتفخت أقدامهم وشق عليهم، فروت عائشة- رضي الله عنها- أنه- عليه السلام- خرج كالمغضب، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فقال: "يأيها الناس، اكلفوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل، وخير العمل ما دمتم عليه" ثم نسخ ذلك. قال البندنيجي: وكان فرض الخمس ليلة المعراج، قبل الهجرة بسنة. وقال الماوردي: إنه يقيل: إنها فرضت في شوال قبل الهجرة بستة عشر شهراً، وفرض الصوم بعد الهجرة بثلاث سنين، وفرض الحج بعد الهجرة بست سنين، [وقيل: في السنة التاسعة، قاله النووي، وقيل إنه الأشهر]، وقيل غير ذلك؛ كما ستعرفه- وفرضت الزكاة قبل الصوم، وقيل: بعده. قال: الظهر، أي: صلاة الظهر؛ لما ذكرناه من آي الكتاب، وما يأتي من السنة،

وهو إجماع الأمة. وبدأ الشيخ، والشافعي- رضي الله عنه- في "الجديد" بذكر صلاة الظهر، وإن كان في القديم قد بدأ بصلاة الصبح- كما قاله البندنيجي- لأن جبريل- عليه السلام- بدأ بها. قال القاضي الحسين: ولأنها أول صلاة وجبت بعد طلوع الشمس؛ ولذلك سميت الأولى، وفي تسميتها ظهرا تأويلان: أحدهما: سميت بذلك؛ لأنها أول صلاة ظهرت، حين صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال الماوردي: وفيها حولت القبلة على الكعبة، وفيه نظر ستعرفه في باب استقبال القبلة. والثاني: أنها سميت بذلك؛ لأنها تفعل عند قيام الظهيرة. وقال النواوي: هي مشتقة من "الظهور"؛ لأنها ظاهرة وسط النهار. وقد سكت الشيخ هنا عن استثناء صلاة الجمعة إذا وجدت شروط وجوبها؛ لوضوح ذلك واكتفاء بما ذكره في بابها، ولأن فيه تعريفك أن الأصل هو الظهر، والجمعة- حيث تصح- بدل عنه. ولا يقال: إنما سكت عن ذلك؛ لاعتقاده أن الجمعة ظهر مقصور، فهي داخلة في كلامه؛ لأنه خلاف الصحيح، وقوله: "من لزمه الظهر؛ لزمته الجمعة" يأباه. قال: وأول وقتها إذا زالت الشمس، والأصل في ذلك وغيره من مواقيت [الصلوات] الخمس، صلاة جبريل- عليه السلام- بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد من طرق ذكر الفقهاء [منها] طريقاً حسناً، وهو ما روى ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمني جبريل عند باب البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي- يعني: المغرب- حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد

صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إليّ، فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين" رواه أبو داود، وأخرجه الترمذي، وقال: إنه حسن.

وقال عبد الحق في "الأحكام" أصح شيء في إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكره البخاري كما في "كتاب العلل"- حديث جابر، وهو ما رواه النسائي، عن جابر ابن عبد الله: أن جبريل- عليه السلام- أتى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل [و] رسول الله صلى الله عليه وسلم [خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فصلى الظهر حين زالت الشمس، وأتاه حين كان الظل مثل شخصه، فصنع كما صنع: فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعني- فصلى صلاة العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس، فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى صلاة [المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق، فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى] صلاة العشاء، ثم أتاه حين انشق الفجر، فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الغداة، ثم أتاه اليوم الثاني، حين كان ظل الرجل مثل شخصه، فصنع مثل ما صنع بالأمس: صلى الظهر، ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثل شخصيه [فصنع كما صنع بالأمس فصلى العصر،] ثم أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس: فصلى [المغرب، فنمنا، ثم قمنا، فأتاه، فصنع كما صنع بالأمس: فصلى] العشاء، ثم قال: "ما بين هذين الصلاتين وقت". وله في طريق أخرى: "ثم جاءه للصبح حين أسفر جدّاً" يعني: في اليوم الثاني. وفي أخرى: "ثم جاءه للمغرب حين غابت الشمس وقتاً واحداً لم يزل عنه"

يعني: في اليوم الثاني. قال العلماء: وفي قول جبريل: "الوقت ما بين هذين" إشارة إلى أن ما بين أولاهما وآخر أخراهما وقت؛ فيكون على هذا قد بين الجمع بالقول، وقيل: أبان بصلاته الوقتين، وبقوله: "ما بينهما". وقد روى مسلم، عن أبي موسى الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه شيئاً، قال: فأقام بالفجر حين انشق الفجر، والناس لا [يكاد] يعرف بعضهم بعضاً، ثم أمره فأقام [بالظهر] حين زالت الشمس،

والقائل يقول: قد انتصف النهار، وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام [بالمغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام بالعشاء]، حين غاب الشفق، [ثم أخر] الفجر من الغد، حتى انصرف منها والقائل يقول: قد طلعت الشمس أو كادت، ثم أخر الظهر، حتى كان قريباً من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول: قد احمرت الشمس، ثم أخر المغرب عند سقوط الشفق، ثم أخر العشاء، حتى كان ثلث الليل [الأول]، ثم أصبح فدعا السائل، فقال: "الوقت ما بين هذين". قال القاضي الحسين، وابن عبد البر، وابن المنذر: وقد أجمعت الأمر على أن أول وقت الظهر إذا زالت الشمس، وفيه نظر؛ لأن القاضي أبا الطيب حكى أن بعض الناس قال: أول وقتها إذا كان الفيء قدر الشِّراك بعد الزوال؛ لحديث جبريل. وحكى الماوردي وغيره عن مالك: أنه لا يجوز فعلها إلا بعد الزوال بقدر الذراع، ولا يصح مع ذلك إجماع، وحجتنا عليهم ما سلف. والزوال: عبارة عن انحطاط الشمس بعد منتهى ارتفاعها، ويظهر ذلك بحدوث الظل وزيادته في جانب المشرق، بعد تراجعه من جانب المغرب. وإنما قلنا ذلك؛ لأن [في] بعض البلاد في بعض الأوقات لا يكون للشخص فيء عند الاستواء، والزوال في ذلك الموضع في ذلك الوقت، يظهر بحدوث فيء الشخص وإن قل. قال الشيخ أبو حامد: وذلك يكون بمكة يوماً واحداً في السنة، وهو أطول يوم فيها.

وقال أبو الطيب- وتبعه مجلي-: إن أبا جعفر الشاشي ذكر في "كتاب الزوال": عند انتهاء طول النهار في الصيف، لا يكون بمكة ظل لشيء من الأشخاص، مائة وعشرين يوماً قبل انتهاء الطول، ومائة وعشرين يوماً بعده. وقال القاضي الحسين: في "صنعاء اليمن"، في الصيف الصائف في أطول يوم في السنة، إذا استوت الشمس، لا يبقى لشيء ظل البتة؛ ولهذا قال الشافعي- رضي الله عنه-: ومعرفة زوال الشمس يقرب في البلاد الحارة، ويبعد في البلاد الباردة؛ لأنه في البلاد الحارة يعرف الزوال بنقص ظهور الظل، وفي البلاد الباردة تستوي الشمس ولكل شخص ظل، والزوال يكون بزيادته. قال أبو الطيب وغيره: وطريق معرفة ذلك في هذه الحالة: أن يقيم شيئاً، ويعلم موضعاً فيه، ثم ينظره بعد ساعة، فإن زاد فيه، فاعلم أن الشمس قد زالت، وإن نقص فيه فاعلم أنها لم تزل بعد. [واعلم أن] متعلق الوجوب وصحة الصلاة؛ حدوث الظل أو زيادته، وإن [كنا نعلم] قطعاً أن الزوال وجد قبل الظهور بلحظة، فلو صادفت التكبيرة ما قبل ذلك، ثم اتصل على القرب بها ظهور الفيء أو زيادته، لم نحكم بانعقاد الظهر؛ لأن ما قبل ذلك معدود في وقت الاستواء. وأيضاً فإن المواقيت الشرعية مبناها على ما يدرك بالحواس، وفي مساق حديث جبريل ما يدل عليه. قال: وآخره إذا صار ظل كل شيء [مثله؛ للخبر. وحكى الفوراني: أن المزني قال: آخره إذا صار ظل كل شيء مثليه]، والمشهور عنه خلافه؛ كما سنذكره. ثم المراد بصيرورة ظل الشيء مثله: أن يصير ما يحدث من ظل الشيء بعد

الزوال مثله، فإن كان ظل الشخص وقت الزوال قدر قدم، وطول الشخص أربعة أقدام، فإذا بلغ مجموع [فيء] الشخص خمسة أقدام؛ انتهى وقت الظهر، وعلى هذا المثال. قال: والعصر؛ لمثل ما قدمناه في الظهر. قال: وأول وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله، أي: على النعت الذي سلف للخبر. قال: وزاد أدنى زيادة؛ لأن بها يحصل تحقق صيرورة ظل الشيء مثله؛ كما أن بظهور الفيء أو زيادته بعد الاستواء، يتحقق الزوال وإن كان سابقاً على الظهور. وما ذكره الشيخ هو ما نقله القاضي أبو الطيب وأكثر العراقيين، وهو ظاهر ما نقله المزني عن الشافعي، حيث قال: فإذا جاوز المثل أدنى زيادة؛ دخل وقت العصر. وظاهر هذا مع ما تقدم: أن الزيادة فاصلة بين وقت الظهر والعصر، وبه قال بعض الأصحاب؛ كما حكاه مجلي والروياني في "تلخيصه". وبعضهم قال: إن ظاهر النص أنها من وقت الظهر. قال مجلي: وعليه كثير من الأصحاب، وبعضهم قال: إن الزيادة من وقت العصر؛ لظاهر الخبر، وإنما اعتبرها الشافعي- رضي الله عنه- لأنه قلما يعرف دخول [وقت] العصر إلا بها. وبقولهم: "قلما يعرف ... " إلى آخره يقع الاحتراز عما سلف في الزوال؛ لأنه لا يعرف وجوده إلا بحدوث الظل أو زيادته؛ فلذلك تعلق به التكليف؛ وهذا ما ادعى الروياني: أنه المنصوص، ولم يحك الإمام وكذا الرافعي سواه، وقال: إنه لا خلاف فيه، وعبارة بعضهم: أن المزني وهم في النقل. قال بعضهم: ومذهب الشافعي- رضي الله عنه- ما نص عليه في "الأم": أنه لا فصل بين وقت الظهر والعصر، فإذا صار ظل كل شيء مثله، فقد خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر، وهو المختار في "المرشد". نعم، لو وقع التكبير قبل الزيادة، ثم اتصل ظهورها بالتكبيرة لم تصح؛ لأنه أوقعها مع التردد في دخول الوقت.

فإن قيل: حديث جبريل يدل على أن وقت الظهر مشترك مع وقت العصر بمقدار أربع ركعات، وبه قال المزني، فلم عدلتم عنه؟ قلنا: الشافعي- رضي الله عنه- حمل صلاته العصر في اليوم الأول، على أنه شرع فيها حين صار ظل كل شيء مثله؛ لأنه بيان لأول وقتها، ويشهد له: الإجماع منا ومن الخصم على ذلك في وقت الظهر؛ إذ لو كان المراد: أنه صلى بمعنى: فرغ منها، لكان قد أحرم بها قبل الزوال، وذلك لا يجوز إلا على رأي ابن عباس. وحمل صلاته الظهرَ في اليوم الثاني على الفراغ منها، حين صار ظل كل شيءٌ مثله؛ لأنه بيان لآخر وقتها؛ وبهذا الحمل ينتفي الاشتراك في الوقت المفضي إلى خروج هاتين الصلاتين عن نظائرهما في فصل أواخر الأوقات عن أوائل ما يعاقبها، ويبقى قوله- عليه السلام-: "إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ: أَنْ تُؤَخَّرَ الصَّلَاةُ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى"- على عمومه؛ فإنه لو كان الوقت مشتركاً بينهما، لما سمَّى من أوقع الظهر فيه مفرطاً. وأيضاً فقد روى مسلم أنه- عليه السلام- قال: "وقت الظهر ما لم يحضر العصر"، وخبر أبي موسى الأشعري- الذي ذكرناه- يدل على ذلك- أيضاً- وهو متأخر عن بيان جبريل. قال: وآخره إذا صار ظل كل شيء مثلَيْهِ، أي: على النحو الذي ذكرناه؛ لحديث جبريل. قال: ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الجواز إلى الغروب؛ لظاهر قوله- تعالى-: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 38]، وقوله- عليه السلام-: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر" أخرجه مسلم. وخبر أبي موسى يدل عليه أيضاً.

قال الإمام: وقد ذهب الأقلون- أي: من الأصحاب-: إلى أنه يفوت وقتها بصيرورة ظل كل شيء مثليه؛ تمسكاً بحديث جبريل. قال: وهو غير معدود من متن المذهب، وقد عزاه الناقلون إلى الإصطخري، والذي نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- وتابعه عليه الأئمة: الأول. وقد أفهم كلام الشيخ أن من صيرورة ظل الشيء مثله إلى أن يصير [ظله مثليه] كله وقت اختيار، [ومنه] يفهم- أيضاً- أن جميع وقت الظهر [وقت] اختيار؛ لأن مستند جعل ما بين صيرورة ظل الشيء مثله إلى أن يبلغ مثليه، بيان جبريل، [وجميع وقت الظهر شمله بيان جبريل]، ولاشك في أن ما اشتمل عليه بيان جبريل في وقت العصر وقت اختيار، لكن منه ما يسمى وقت فضيلة: وهو أول الوقت؛ وعليه يدل قوله من بعد: "والأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت" وسنذكره، [وباقيه] إلى آخر بيان جبريل وقت اختيار لا غير؛ ولأجل ذلك قال أبو علي الطبري: للعصر ثلاثة أوقات: وقت فضيلة، ووقت اختيار- وقد بيناهما- ووقت جواز، وهو ما جاوز بيان جبريل إلى غروب الشمس. وبعضهم يقول: للعصر أربعة أوقات: وقت فضيلة، ووقت اختيار- كما ذكرنا- ووقت جواز من غير كراهة- وهو ما جاوز بيان جبريل إلى الاصفرار- ووقت جواز مع الكراهة: وهو وقت الاصفرار للمؤخِّر [من غير] عذر. والمعنيُّ بكون هذا وقت كراهة: أنه يكره تأخير الفعل إليه؛ لأنه روي أنه- عليه السلام- قال: "تلك صلاة المنافقين: يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً". وهذا كله بالنسبة [إلى أرباب] الرفاهية الذين لا عذر لهم، ولا ضرورة بهم. أما من له عذر: وهو المسافر والمقيم في موضع يصيبه المطر؛ [فيزداد] في حقه

وقت خامس: وهو وقت جمعهما بالتقديم في وقت الظهر. ومن به ضرورة: وهو الحائض [تطهر]، والمجنون يفيق، والصبي يحتلم، وقد بقي من الوقت ركعة أو دونها على الخلاف- فليس له في حقه إلا وقت [واحد] وهو ما ذكرناه، ولا كراهة تلحقهم. قال الأصحاب: والكافر إذا أسلم ملحق بأرباب الضرورات في الحكم؛ من حيث إنه لا يؤاخذ بعد الإسلام. وتقبح تسمية الكفر عذراً أو ضرورة. وقد جمع بعض الأصحاب بين ما ذكرناه، وعد للعصر ستة أوقات في الجملة. وبعضهم جعل وقت العذر والضرورة قسماً واحداً، وينسب هذا إلى أبي إسحاق. قال الروياني: وهو أصح، مع أنه لا خلاف في المعنى؛ فعلى هذا تكون الأوقات خمسة، وهي طريقة القاضي الحسين. وأما وقت الظهر فقد صرح مجلي فيه بما أفهمه كلام الشيخ، وحكى عن القفال: أنه قال: للظهر وقت اختيار: وهو من الزوال إلى [نصف] بيان جبريل، وما بعده إلى [آخر وقته] وقت جواز. وقال غيره: للظهر ثلاثة أوقات: وقت فضيلة: وهو أول الوقت، وإليه يرشد قول الشيخ: "والأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت"، ووقت اختيار: وهو باقي وقته، ووقت جمعه مع العصر في وقت العصر. والقاضي الحسين قال: إن لها أربعة أوقات: وقت فضيلة: وهو من [أول] الزوال إلى أن يصير ظل [كل] شيء مثل نصف نصفه، ووقت اختيار: وهو ما بعد ذلك إلى أن يصير ظل الشيء مثل نصفه، ووقت جواز: وهو ما جاوز ذلك إلى آخر وقته، ووقت أرباب الأعذار: وهو إذا جمع بينها وبين صلاة العصر في وقت العصر. ويجيء على طريقة من يقول: إن وقت العذر غير وقت الضرورة- وقت خامس: وهو قدر ركعة أو دونها، أو خمس ركعات من آخر وقت العصر، كما ستعرفه.

قال: والمغرب لمثل ما قدمناه في الظهر، وسميت بذلك؛ لأنها تفعل [عقيب] الغروب. قال الأصحاب: ويكره أن تسمى: العشاء؛ لما روى البخاري في "صحيحه" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلبنكم العرب على اسم صلاتكم إنها المغرب" [والعرب] يسمونها العشاء. قال: وأول وقتها إذا غابت الشمس؛ لما قدمناه من الأخبار، وعن علي، وابن مسعود: أن المراد بدلوك الشمس في قوله- تعالى-: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 77]: غروبها، لأنه قال: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}، وبين الزوال والغسق أوقات تكره فيها الصلاة، وهي من بعد [صلاة] العصر إلى الغروب؛ فلا يجوز استدامة الصلاة من الزوال إلى الغسق، ويصح ذلك في المغرب؛ لأنه تستمر الصلاة من ذلك الوقت إلى آخر وقت العشاء؛ فكان الحمل عليه أولى. ثم المعتبر في الغروب سقوط كل القرص. قال بعضهم: وقد شذ بعض الأصحاب فقال: المعتبر سقوط حاجب الشمس وهو الضوء المستعلي عليها كالمتصل بها. وكأنه يشير إلى الماوردي؛ فإنه هكذا قال، ولم يحك سواه، ويشهد له ما رواه أبو داود عن سلمة بن الأكوع قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس، إذا غاب حاجبها"، وأخرجه البخاري

ومسلم وغيرهما بنحوه. ثم معرفة الغروب تحصل بالمشاهدة، ومن هو قاطن في موضع محفوف بالتلال والجبال، يعرف ذلك بإقبال الظلام من المشرق وانهزام الضوء من المغرب؛ قال- عليه السلام-: "إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من هاهنا وغابت الشمس؛ فقد أفطر الصائم" متفق عليه. قال: ولا وقت لها إلا وقت واحد، أي: لا وقت لها يجوز افتتاحها فيه ولا يجوز تأخيرها عنه إلا وقت واحد في أظهر القولين؛ لأن جبريل- عليه السلام- صلاها في اليومين في وقت واحد لم يزل عنه. قال الإمام: ويشهد له اتفاق طبقات الخلق في الأعصار، على مبادرة هذه الصلاة في وقت واحد، مع اختلافهم فيما سواها من الصلوات. وقال غيره: إنما جعل وقتها واحداً؛ لأن علاماتها ظاهرة، وتلحق الناس على فراغ وتيقظ، بخلاف غيرها من الصلوات. قال: وهو بمقدار ما يتوضأ ويستر العورة ويؤذن ويقيم؛ لأن الوضوء لا يتعين فعله قبل الوقت، وكذا ستر العورة لأجل الصلاة، والأذان والإقامة لا يصحان قبل الوقت؛ لفوات مقصودهما، وهما مشروعان إجماعاً؛ فاقتضى ذلك جواز تأخير الإحرام عن أول الوقت هذا القدر، فإن أخر الافتتاح عنه، فقد عصى وجهاً واحداً؛ قاله البندنيجي، وقال: إن التقدير بما ذكره الشيخ هو المذهب، وعليه قال الشيخ: وله أن يستديمها- أي: إذا أحرم بها في الوقت المذكور- إلى أن يغيب الشفق؛ لقوله- عليه السلام-:

"إذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق" رواه مسلم، ولا يمكن حمله على الافتتاح؛ لحديث جبريل؛ فتعين حمله [على] الاستدامة؛ جمعاً بين الحدثين. وقد روى مسلم والبخاري، عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ "والطور" في المغرب، وقراءته لها مرتلة تستغرق ما ذكرناه. وروى البخاري عن زيد بن ثابت: أنه- عليه السلام- كان يقرأ في المغرب: بـ "الأعراف"، ورواية النسائي أنه قرأها في ركعتين منها، وهذا ما ادعى البندنيجي أن أبا إسحاق المروزي قال في: "الشرح": إنه المذهب، وابن الصباغ وأبو الطيب وغيرهما نسبوه إلى أبي إسحاق، والماوردي حكاه عن الإصطخري، وقال: إن أبا إسحاق اختاره. وقيل على ما ذكرنا أنه المذهب: [ليس] له أن يستديمها بعد ما ذكرناه، إلا بقدر ما يصلي فيه ثلاث ركعات كاملة [في تمام]، حكاه في "المهذب"، ونسبه البندنيجي إلى

رواية أبي إسحاق، وعليه ينطبق قول بعض الأصحاب: إن وقت المغرب بمقدار ما يتوضأ ويستر العورة ويؤذن ويقيم ويصلي ثلاث ركعات متوسطات، فإذا جاوز هذا الوقت، فقد خرج وقت المغرب، وصارت قضاء وإن هذا [معنى] قول الشافعي- رضي الله عنه-: "ولا وقت للمغرب إلا [وقتاً] واحداً"، كذا حكاه أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، وقال الماوردي: إنه الأشبه بمذهب الشافعي، رضي الله عنه. ولما رآه بعض الشارحين هكذا قال: قد أهمل الشيخ مقدار الصلاة؛ فكان ينبغي أن يقول: وهو بمقدار ما يتوضأ ويستر العورة ويؤذن ويقيم ويصلي ثلاث ركعات متوسطات. قلت: وحَذْف ما لم يذكره الشيخ متعين؛ لأن القائل بهذا: إما أن يكون يُجَوِّز إخراج بعض غيرها من الصلوات عن وقتها، أو لا يجوزه- كما ستعرف-[وأيّاً ما] كان، فلا يحسن معه القول: بأن له أن يستديمها إلى أن يغيب الشفق، ويجعل ذلك غاية الاستدامة، والشيخ قد جزم القول بأن له أن يستديمها إلى أن يغيب الشفق، فهو ضده؛ فتعين ما ذكرناه. وهذان مُفَرَّعان على: أن وقت افتتاحها بقدر ما يتوضأ ويستر العورة ويؤذن ويقيم. وقد حكى الماوردي [وجهاً]: أن وقت افتتاحها بقدر ما يتوضأ ويستر العورة، ويؤذن [ويقيم] [ويصلي] ثلاث ركعات على مهل. قال الروياني في "تلخيصه": ولا تعتبر صلاة كل رجل [وطهارته] في نفسه؛ لأن عادات الناس مختلفة، بل يعتبر الوسط من الدرجتين. قال: وهذا في الحقيقة تقدير وقته بالزمان لا بالفعل. وحكى وجهاً آخر: أن وقت افتتاحها بمقدار فعل ما ذكرناه وخمس ركعات، [قالي: وهو خلاف المذهب.

وحكى البندنيجي عن رواية أبي إسحاق في "الشرح" وجهاً آخر، ملخصه: أن وقت الإحرام بالمغرب ووقت استدامتها، بمقدار أول الوقت من كل صلاة. قال: وإنما يقال: أوقع الظهر [أو] العصر في أول وقتها، لمن فرغ منها مع نصف الوقت، أو قبل نصفه. وابن الصباغ قال: إن أول الوقت من كل صلاة [ما] لا يبلغ نصف وقتها. وهذا الوجه قد حكاه في "المهذب" بما يقرب من هذه العبارة، قال مجلي: وعليه يجوز أن يتراخى الإحرام بها عن غروب الشمس إلى أن يبقى لغيبوبة الشفق قدر فعل الصلاة؛ لأن الوقت الأول من كل صلاة قدر نصفه، ووقت المغرب جميعه قدر ذلك، وربما ينقص عنه. وهذا مجموع ما رأيته في كتب العراقيين، تفريعاً على هذا القول. وقالوا- على ما حكاه أبو الطيب وغيره في باب صلاة التطوع-: إن وقت سننها يدوم إلى غيبوبة الشفق. ولم يحكوا سواه. وأما المراوزة فلهم في وقتها على هذا القول أوجه: أحدها- ما قاله [النووي]-: أنه بمقدار زمان الطهارة والأذان [والصلاة، وحينئذ يخرج وقتها. والثاني- قاله الإمام-: أنه بمقدار ما يمضي وقت الأذان والإقامة والطهارة]، مع الاقتصاد بين التطويل وبين التعجيل، ومضيّ وقت يسع خمس ركعات بفاتحة الكتاب وقصار المفصل. قال: وإنما ذكرنا الخمس؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون ركعتين خفيفتين بين الأذان والإقامة بصلاة المغرب؛ فإن المؤذن كان لا يَصِلُ أول كلمة الإقامة، بآخر كلمة الأذان في المغرب. قلت: وفي هذا الاستدلال نظر؛ لأن المدعي أن يمضي بعد غروب الشمس قدر زمن الطهارة والأذان والإقامة، والصحابة- رضي الله عنهم- حين كانوا يصلون

الركعتين، لم يكونوا يؤخرون الطهارة إلى ما بعد الغروب؛ فجاز أن يكون إيقاعهم الركعتين في مثل الوقت الذي يسع الطهارة، وحينئذ لا يدل فعلهم على جواز التأخير بقدر زمن الطهارة وصلاة ركعتين، والله أعلم. قال الإمام: وعلى هذا له أن يأكل ما لا يُحَسُّ له أثر في الوقت؛ ولذلك قال الغزالي: ولا بأس بأكل لقمة أو لقمتين يكسر بهما سَوْرة الجوع، وعليه حمل الأصحاب قوله- عليه السلام-: "إذا قُرِّب العَشاء وحضرت الصلاة؛ فابدءوا به، قبل أن تصلوا صلاة المغرب" رواه مسلم.

والثالث: حكاه في "التتمة"، واقتضى إيراده ترجيحه-: أنه بمقدار ما يتوضأ ويستر العورة ويؤذن ويقيم ويصلي ثلاث ركعات [المغرب]، بقصار المفصل، وركعتين سنتها. فإن قلت: هذا عين الوجه قبله؛ إذ لا فرق بين أن تتقدم الركعتان على المغرب أو تتأخر. قلت: لا؛ لأن الركعتين إذا فعلتا قبل المغرب، فعلتا في وقت التخلل، بين

الأذان والإقامة، وهو محبوب بالنسبة إليهما؛ فإن السنة أن يؤذن على موضع عال، وأن يكون [الذي يؤذن] هو الذي يقيم، وألا يقيم وهو ماش، بل يقيم في غير موضع أذانه، وإذا فرغ مشى إلى الصف كما ستعرفه. وإذا كان كذلك، فالركعتان الواقعتان بين الأذان والإقامة واقعتان في وقتهما، بخلاف الركعتين بعد الصلاة، ويشهد لذلك أن الإمام قال بعد ذلك: إذا مضى بعد الغروب على قول التضييق ما وصفناه، فإقامة السنة بعد الفريضة محبوبة، ثم هي مؤداة. وفي هذا بقية نظر؛ فإن السنة التابعة للفريضة وقتها وقت الفريضة؛ فينبغي على قياس جواز أداء سنة صلاة المغرب، أن يجوز افتتاح أداء الفرض في وقت أداء السنة. ثم قال: والوجه عندي: أنا إن اعتبرنا مقدار خمس ركعات بعد التأهب، فإن مضى ما يسع خمساً فالسنة بعدها نافلة محبوبة، تسمى: صلاة الأوابين، وما أراه بمثابة سنة الظهر التي تلي الصلاة. وإن وقعت الركعتان قبل الفرض فذاك، وإن قدرتا بعد الفرض فوقتهما وقت افتتاح الفرض. أما ما يزيد على ذلك؛ فهو خارج عن الوقت. والرابع- حكاه المتولي أيضاً-: أنه بمقدار ما يؤذن ويقيم ويصلي ثلاث ركعات المغرب وركعتي السنة، وهذا والذي قبله، لم يَحْكِ القاضي الحسين غيرهما. ثم قال: فإن قيل: لا يجوز أن يقال: إن للمغرب وقتاً واحداً؛ لأنه يجوز الجمع بين المغرب والعشاء تقديماً، ومن شرط صحة الجمع: أن يقع أداء الصلاتين في وقت إحداهما، وذلك يدل على أن وقت المغرب [يمتد] أكثر مما وصفتم؛ حتى يصح الجمع فيه بين الصلاتين. قلنا: لا نسلم أن من شرط صحة الجمع ما ذكرتم، بل شرط صحته: أن تؤدي إحدى الصلاتين في وقتها، ثم توجد الأخرى عقيبها فحسب. وأيضاً: فإن عندنا وقت

المغرب يمتد إلى أن يصلي خمس ركعات متوسطات، ويمكنه الجمع بينهما في هذا الوقت: بأن يصلي المغرب ثلاث ركعات، ويصلي العشاء ركعتين- إن كان [مسافراً]- ولا يصلي السنة؛ حتى يقع الكل في وقت المغرب، وإن كان مقيماً يقع بعض صلاة العشاء في الوقت، فيجعل كما لو وقع الكل في الوقت على أحد الوجهين. قلت: وعلى الوجه الآخر يكون الجواب: أن الصلاتين في حالة الجمع كالصلاة الواحدة، وقد تقدم أن المغرب يجوز أن يستديمها؛ فكذا ما جعل في معناها، وهذا ما رأيته في كتب المراوزة، وفرعوا عليه: أنه لو أخر الإحرام بالصلاة حتى وقع بعضها في الوقت المحدود لها، فهل تكون قضاء أو أداء، أو ما فعله في الوقت أداء، وخارج الوقت قضاء؟ فيه خلاف كما في غيرها من الصلوات، وستعرف للشيخ أبي محمد تردداً في أنا إذا قلنا: إن كلها أداء، هل يجوز تعمد ذلك أم لا؟ وقضيته: أن يأتي

هنا. وقد حكي عنه أنه قال: [إنا إذا] جوزنا في غير صلاة المغرب إيقاع بعض الصلاة خارج الوقت، ففي تجويز ذلك في صلاة المغرب خلاف؛ لاختصاصها بالتضييق. قال الإمام: وهو غلط، والغزالي عكس ذلك فقال: إذا قلنا: إن غير هذه الصلاة مقضية، ففي هذه الصلاة وجهان، والإمام حكاهما عن العراقيين. ثم هذا كله تفريع على القول الذي ادعى الشيخ أنه أظهر القولين، وعليه نص في القديم، والبويطي و"الأم"، وحكاه المزني، ومقابله: أن وقتها يمتد إلى دخول وقت العشاء؛ كما أن وقت الظهر يمتد إلى وقت العصر؛ لما روى أبو داود، عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وقت الظهر ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تَصْفَّرُ الشمس، ووقت المغرب ما لم يسقط فَوْر الشفق- ويروي: ثور الشفق، بالثاء المثلثة- ووقت العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس" وأخرجه مسلم. وفور الشفق- بالفاء-: بقية حمرته في الأفق، سمى: فوراً؛ لفورانه وسطوعه، وعلى الرواية الأخرى سمي بذلك؛ لثورانه، وانتشار حمرته، وهذا القول رواه أبو ثور، عن الشافعي، رضي الله عنه. وقال في "التتمة": إنه يحكى عن القديم، والقاضي الحسين صرح بحكايته عن القديم، وتبعه غيره. [وقال ابن الصلاح: إنه علق القول به في "الإملاء" على صحة الحديث]، وقد اختاره ابن المنذر، والزبيري، وابن خزيمة، والخطابي، والبيهقي، والغزالي في "الإحياء" والبغوي [في "التهذيب"]. قال النواوي وغيره: وهو الصواب. وقال الرافعي: إن به الفتوى. وكذا قال

الروياني: وبه أفتي؛ لأجل ما ورد من الأخبار [الصحيحة] الدالة عليه، ومنها: ما سلف من حديث أبي موسى الأشعري وغيره، وذلك متأخر عن بيان جبريل. والذي أطلقه المتقدمون تصحيح الأول، بل حكى الماوردي: أن جمهور الأصحاب أنكروا خلافه؛ لأن الزعفراني- وهو أثبت أصحاب القديم- حكي عنه أن للمغرب وقتاً واحداً، والأحاديث المستشهد بها لمقابله محمولة على الاستدامة؛ جمعاً بين الأخبار. قال الأصحاب: وإذا قلنا بالقديم، كان للمغرب أربعة أوقات: وقت فضيلة: وهو مقدار نصف نصف وقتها، ووقت اختيار: وهو ما بعد ذلك إلى نصف وقتها، ووقت جواز: وهو ما بعد نصف الوقت إلى آخره، ووقت الجمع والضرورة عند من يراهما واحداً، وعند من يجعلهما وقتين يكون لها خمسة أوقات. قال: والعشاء؛ لمثل ما ذكرناه في الظهر. قال: ويكره أن يقال لها: العتمة؛ لما روى مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء؛ فإنها في كتاب الله: العشاء، وإنما يعتم بحلاب الإبل"، أي: يؤخر الحلب إلى أن يعتم الليل، وهو ظلمة أوله، ويسمون الحلبة الآخرة: العتمة؛ فلا تسموا القربة [باسم] ما ليس بقربة، وتسميتها في كتاب الله- تعالى- العشاء في قوله- تعالى- {وَمِنْ

بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 57]. قال: وأول وقتها إذا غاب الشفق؛ لما سبق، وهو إجماع. قال: الأحمر؛ لما روى مالك، عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشفق: الحمرة، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة"، وهذا الخبر قد رواه الشافعي- رضي الله عنه- موقوفاً على ابن عمر، وغيره أسنده- كما ذكرناه- وهو حجة على من زعم أن المراد بالشفق: البياض الذي بعد الحمرة، وهو المزني وغيره؛ تمسكاً بقوله- تعالى-: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 77] [وهو ظلمته، وبأن العشاء: آخر صلاة الليل]، والصبح: أول صلاة النهار، ولما وجب الصبح بالبياض المتقدم على الشمس، اقتضى أن تجب العشاء بالبياض المتأخر عن الشمس. ونحن نقول- مع ما ذكرناه-: قد روى أبو إسحاق بسنده أنه صلى الله عليه وسلم صلى العشاء قبل غيبوبة الشفق، وقد أجمعنا على أن ذلك لا يصح قبل غيبوبة [الشفق] الأحمر؛ فدل على أنه قبل غيبوبة الأبيض، ولأن الشفق في الخبر مطلق، والحكم إذا علق [على] اسم اقتضى أول ما ينطلق عليه الاسم، وقد قال الأزهري: الشفق عند العرب: الحمرة، قال الفراء: سمعت بعض العرب تقول: عليه ثوب مصبوغ؛ كأنه الشفق، وكان أحمر، وقد قيل في قوله- تعالى-: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 15]-: إنه الحمرة.

ولأنها صلاة تتعلق بأحد النَّيِّرين المتفقين في الاسم الخاص، فتعلق بأظهرهما وأنورهما؛ كالصبح. وما ذكره الشيخ هو الموافق لإطلاق المعظم، ولفظ الشافعي- رضي الله عنه- دال عليه؛ ألا تراه قال في "المختصر": وإذا غاب الشفق وهو الحمرة [فهو أول وقت العشاء. وعليه جرى في "الوسيط" فقال: والشفق: الحمرة] دون الصفرة والبياض. وقال بعضهم: إنه سهو، وصوابه: وهو الحمرة والصفرة، دون البياض؛ لأنه هكذا [قال] في "البسيط" اتباعاً للإمام، ولفظه: "إن الشمس تعقبها حمرة، ثم تَرِقُّ إلى أن تنقلب صفرة، ثم تبقى بياضاً، وأول وقت العشاء يدخل بزوال الحمرة والصفرة". قال: وبين غيبوبة الشمس إلى زوال الصفرة يقرب مما بين الصبح الصادق إلى طلوع قرن الشمس، وما بين زوال الصفرة إلى إلحاق البياض، يقرب مما بين الصبح الصادق والكاذب. فرع: إذا كان أهل [بلد] يقصر ليلهم، ولا يغيب عنهم الشفق- قال في "التتمة": اعتبرنا أقرب البلاد إليهم؛ كعادم القوت المجزئ في الفطرة في بلده. والرافعي نقله عن "فتاوى" القاضي. قال: وآخره إذا ذهب ثلث الليل في أحد القولين؛ لأنه تضافر على ذلك خبر جبريل الذي رواه ابن عباس- رضي الله عنهما- وخبر أبي موسى الأشعري، وهذا ما نص عليه في الجديد. قال القاضي أبو الطيب: قال أصحابنا: وهو الصحيح. قال: ونصفه في الآخر؛ لأنه- عليه السلام- قال في خبر ابن عمر الذي سلف: "وقت العشاء إلى نصف الليل". وقال: "لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت العشاء إلى نصف الليل"، وهذا ما نص عليه في القديم "والإملاء". قال أبو الطيب: قال أبو إسحاق: [وهو الصحيح، وغيره قال: إن الشيخ أبا حامد

صححه، واختاره في "المرشد"، قال] في "التتمة": وسبب [اختلاف قول الشافعي- رضي الله عنه-] اختلاف الرواية في حديث جبريل؛ لأنه جاء في رواية: "حين ذهب ثلث الليل"، وفي أخرى: نصف الليل"، فمن قال بالجديد، قال: الثلث محقق لا تعارض فيه؛ فعمل به، وترك ما وقع فيه التعارض، ومن قال بالقديم قال: الأخذ بالزيادة أولى. وفي "الحاوي": أن ابن سريج كان يمتنع من جعل المسألة على قولين، ويجعل اختلاف الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم واختلاف نص الشافعي- رضي الله عنه- على اختلاف حال الابتداء والانتهاء: فيستعمل رواية من روى: ["إلى ثلث الليل" على أنه آخر وقت الابتداء بها، ورواية من روى: "إلى] نصف الليل" على أنه آخر وقت انتهائها؛ حتى لا يعارض بعضها بعضاً، ولا يكون قول الشافعي- رضي الله عنه- مختلفاً. قال: ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني؛ لقوله- عليه السلام-: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة: أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقتُ أخرى" رواه أبو داود، وأخرجه مسلم بنحوه، وبالقياس [على العصر]؛ وهذا ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- في القديم؛ كما قال الماوردي. وعن أبي سعيد الإصطخري: أن وقت الاختيار والجواز يخرج إذا ذهب ثلث الليل الأول، وتكون قضاء بعده، وإنما يكون ما بعد ذلك إلى طلوع الفجر وقتاً لأصحاب الأعذار دون الرفاهية، كذا حكاه عنه الماوردي، وقال: إن الشافعي أشار إليه في موضع من كتاب "الأم"- أي: في استقبال القبلة- بقوله: "وآخر وقتها إلى أن يمضي ثلث الليل، فإذا مضى فلا أراها إلا فائتة"؛ ولأجل هذا قال الشيخ أبو حامد: إن الشافعي- رضي الله عنه- نص على أنها تكون بعد الثلث قضاء، لكن الصحيح الأول، وادعى أبو الطيب: أنه لا خلاف فيه عندنا، وما قاله الشافعي في استقبال

القبلة، قال [أصحابنا]: قصد به أن وقت الاختيار قد فات دون وقت الجواز؛ لأن الشافعي قال في هذا الكتاب: "إذا زالت أعذار المعذورين قبل طلوع الفجر بتكبيرةٍ، وجب عليهم العشاء والمغرب"، فلو لم يكن ذلك وقتاً لها، لما أوجبها عليهم. وقد حكى الإمام عن الإصطخري: أن وقتها يخرج بثلث الليل، وأن بعض الأصحاب وافقه، وإن خالفه في العصر والصبح؛ لأجل ورود الخبر فيهما. قال: وهذا غير مرضي؛ فإنا لا نعرف خلافاً أن الحائض إذا طهرت وقد بقي من الليل مقدار ركعة، تصير مدركة لصلاة العشاء، ولو لم يكن ذلك معدوداً من وقت العشاء، لما صارت مدركة لها؛ كما لو طهرت مع الفجر. والمنقول في "تعليق أبي الطيب" و"المهذب" وغيرهما، عن الإصطخري: أن وقت جوازها يخرج بوقت الاختيار: الثلث أو النصف، وهذا يقوي ما ذكره المتولي: أن سبب القولين اختلاف الرواية في صلاة جبريل؛ فإنه اقتصر عليها. قال: والصبح؛ لمثل ما ذكرناه في الظهر، وسميت بذلك؛ لأنها تقع بعد الفجر، الذي يجمع بياضاً وحمرة؛ فإنه يقال: وجه صبيح، للذي [ظهر] فيه بياض وحمرة. قال الشافعي في "الأم": وأحب ألا تسمى إلا بأحد اسمين: إما الصبح؛ لأنه- عليه السلام- سماها به، أي: في قوله: "من أدرك ركعة من الصبح"، وإما الفجر؛ لأن الله سماها به، أي: في قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 77]، ولا يستحب أن تسمى بصلاة الغداة. وكذلك قال [الشيخ] في "المهذب" وغيره: إنه يكره أن تسمى: صلاة الغداة. وبهذه الصلاة تمت الخمس، التي قدم الشيخ ذكرها في أول الباب، وقد ذهب الشافعي- رضي الله عنه- في "الأم" وأصحابه إلى أن صلاة الصبح: هي الصلاة الوسطى في الآية؛ لأن الله- تعالى- عقَّبها بقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 237]، والقنوت: طول القيام، وصلاة الصبح مختصة باستحباب طول القيام

فيها، ولأن الله بين فضلها في آية أخرى، فقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 77] قال المفسرون: تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، ولأنها بين [صلاتين ليليَّتين وصلاتين نهاريتين،] وبين صلاتين تجمعان وتقصران، وهي لا تجمع ولا تقصر، وهي حَرية بمزية الاستحباب من حيث إن وقتها يوافي الناس وأكثرهم في غمرات النوم والغفلات. وقد قيل: إنها الظهر؛ لأنها بين صلاتي نهار؛ إذ الصبح من صلاة النهار عندنا، وعند جماهير العلماء؛ لقوله- تعالى-: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ} [هود: 113]، والطرف الأول صلاة الصبح- في قول جميع المفسرين، ولأنها تفعل في وقت تحريم الطعام والشراب على الصيام، وذلك دليل [على] من قال: إن بطلوع الفجر ينقضي الليل، ولا يدخل النهار إلا بطلوع الشمس، وعليه يدل- أيضاً- قوله- تعالى-: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ...} [الحج: 60]؛ فإنه يقتضي نفي الفاصل بينهما، قال العلماء: ومعنى إيلاج أحدهما في الآخر، أخذه منه؛ حتى يكون أحدهما تسع ساعات [مستوية] والآخر خمس عشرة ساعة مستوية. وقيل: إنها العصر؛ لأنها بين صلاتي ليل [وصلاتي نهار]، وعليه تدل رواية مسلم عن عبد الله بن مسعود، قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس- أو اصفرت- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً"، أو: "حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً". وعن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى:

صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً. ثم صلاها بين العشاءين: المغرب والعشاء". وقد أشار في "الحاوي" إلى أن هذا قول للشافعي- رضي الله عنه- لأنه قال: نص الشافعي على أنها الصبح، وصحت الأحاديث أنها العصر، ومذهبنا إتباع الحديث فصار مذهبه أنها العصر.

قال: ولا يكون في المسألة قولان كما وهمه بعض أصحابنا. ومن انتصر للأول قال: العصر في كلام العرب يطلق على الصبح- أيضاً- فيحمل عليه، قال ابن قتيبة: يقال لصلاتي الفجر والعصر: العصران والبردان، ويدل عليه ما روى عبد الله بن فضالة الليثي، عن أبيه أنه قال: كان فيما علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: "حافظ على العصرين"، فقلت: وما العصران؟ قال: "صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها"، ثم على تقدير: أن يدل ما ذكرناه من الخبر على أنها العصر، فقد ورد ما يدل على أنها غيره. روى مسلم، عن [أبي] يونس- مولى عائشة- أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] قال: فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين"، قالت عائشة- رضي الله عنها-: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذا صح عن حفصة في هذه الآية: "وصلاة العصر"؛ ذكره [أبو] عمر بن عبد البر. وروى [مسلم]، عن شقيق، عن البراء قال: نزلت هذه الآية "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}؛ فقال رجل- كان جالساً عند شقيق-[له]: هي إذن صلاة العصر؟ فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله، والله أعلم. وإذا تعارضت الأخبار بقي ما ذكرناه سالماً عن التعارض؛ فعمل به. على أنا نقول بموجب الحديث وأنه يدل على أنها وسطى، لا أنها الوسطى المذكورة في الآية، ويشهد له ما قاله القاضي الحسين: إنه روي أنه- عليه السلام- قال في يوم الخندق: "شغلونا عن صلاة الوسطى: صلاة العصر، ملأ الله بطونهم وقبورهم ناراً"؛ فأنزل الله- تعالى- ذلك اليوم: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ....} الآية [البقرة: 238]؛ فإن ذلك يقتضي أن ما قاله- عليه السلام-[ليس] تفسيراً للآية. وقيل: إنها المغرب؛ لأنها بين صلاتين يُجْهَرُ فيهما، وبين صلاتين يُسَرُّ فيهما، وهي متوسطة في الركعات بين الأربع والاثنتين.

وقيل: إنها العشاء؛ لأنها بين صلاتي ليل، وصلاتين يجهر فيهما، وصلاتين لا تقصران. قال البغوي: ولم يقله أحد من السلف. وقيل: إنها جميع الصلوات. قال الماوردي: وهو ضعيف؛ لأن [أهل اللغة] لا يقدمون في كلامهم المفصل، ثم يردفونه بالمجمل. وقيل: إنها الجمعة؛ قاله المازري في "المعلم"، قيل: وهو ضعيف؛ لأن

المقصود الحث على الوسطى؛ لما فيها من المشقة المكسلة عنها، والجمعة لا مشقة [فيها]؛ لأنها تجب في سبعة أيام مرة. قال الإمام: والذي يليق بمحاسن الشريعة ألا تُبنى على يقين؛ حتى يحرص الناس على أداء جميع الصلوات كدأب الشرع في ليلة القدر. وهذا الاحتمال قد قاله القاضي الحسين في أول باب صلاة الخوف، وقال: إنه الصحيح، واستشهد له بليلة القدر وساعة يوم الجمعة، والله أعلم. قال: وأول وقتها إذا طلع الفجر الثاني؛ لأن خبر جبريل يقتضي أنه أوقع الصلاة في اليوم الأول حين حرم الطعام والشراب على الصِّيام، وإنما يحرم بالفجر الثاني، وهو المسمى بالصادق؛ لأنه صدق في إشعاره بالصبح، ويسمى: المستطير؛ لأنه يتطاير في الأفق. والفجر الأول أزرق يطلع مستطيلاً، وهو الكاذب؛ لأنه ينور ثم يسودُّ، والعرب تشبهه بذنب السِّرْحان، وهو الذئب إما لطوله، أو لكون الضوء في أعلاه دون أسفله؛ كما أن الشعر على أعلى ذنب الذئب دون أسفله. قال- عليه السلام-: "لا يغرنكم الفجر المستطيل، وكلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير". قال: وآخره إذا أسفر؛ لبيان جبريل. قال: ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الشمس؛ لقوله- عليه السلام-: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس؛ فقد أدرك الصبح"

رواه مسلم، وخبر أبي موسى السالف يدل عليه. وقد خالف الإصطخري، وقال: وقت الجواز يخرج بالإسفار؛ تمسكاً بخبر جبريل. وعلى الأول: فما ذكر الشيخ أنه وقت للجواز: منه ما يشتمل على كراهة في حق من لا عذر له، وهو من طلوع الحمرة إلى طلوع الشمس؛ قاله الشيخ أبو محمد والبغوي، وبه يكمل للصبح أربعة أوقات غير وقت أرباب الضرورات. قال: ومن أدرك من الصلاة ركعة قبل خروج وقتها فقد أدركها- أي: أداء- جميعها؛ لقوله- عليه السلام-: "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة"

أخرجه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة، ولأنه لو أدرك ركعة من الجمعة كان مدركاً لها، وهي مما لا يُقْضَى، وهذا ما حكاه البندنيجي عن نصه في القديم والجديد، وابن الصباغ [عن "الأم"] و"المختصر"، وبه قال ابن سريج، وأبو علي الطبري، وابن خيران. وقال أبو إسحاق المروزي: ما فعل في الوقت أداء، وما فعل بعده قضاء؛ نظراً إلى الواقع، ولأنه لو وقع ركعة من الجمعة في الوقت، وباقيها خارج الوقت؛ لا تتم جمعة، ولو كان الكل أداء لتمت؛ كما لو وقع [جميعها] في الوقت، قال: وما قاله الشافعي- رضي الله عنه- مختص بأرباب الأعذار، فأما غير المعذورين إذا أخر الصلاة عن وقتها كان مفرطاً، وكان فعل الصلاة قضاء. وقال: إن الشافعي- رضي الله عنه- نص عليه في غير ما موضع. وقد تحصل من هذا: أنه إن أخر بعذر كانت كلها أداء، وإلا فهو محل الخلاف، وبه صرح الماوردي، لكنه أثبت الخلاف وجهين. وحكى المراوزة وراءهما وجهاً ثالثاً: أن جميعها قضاء؛ نظراً إلى التسليم. وأصحهما ما ذكره الشيخ، بل قال أبو الطيب- على ما حكاه ابن الصباغ-: إن ما حكاه أبو إسحاق عن الشافعي- رضي الله عنه- لم أجده له. قال العراقيون والماوردي: وفائدة الخلاف: أنا إذا قلنا: إن كلها أداء، لا يأثم بتأخير الإحرام إلى أن يبقى من الوقت قدر ركعة، وإن قلنا بخلافه، أثم إذا أخر بحيث لم يبق قدر الصلاة. وعن الشيخ أبي محمد تردد جواب فيما إذا قلنا: إن كلها أداء في جواز التأخير، واختار الإمام المنع، قال: فإن جَعْل الصلاة مؤداةً مأخوذٌ عندي من وقت العقد والنية، وما أرى إخراجَ بعض الصلاة عن الوقت قصداً، جائزاً؛ وهذا ما أورده في "التهذيب" من غير ترديد.

وقال في "التتمة": إن فائدة الخلاف تظهر في مسافر شرع في الصلاة بنية القصر، فخرج الوقت، وقلنا: إن المسافر إذا فاتته الصلاة يلزمه الإتمام، فإن قلنا: صلاته أداء كلها، فله القصر، وإلا لزمه الإتمام، وهذا ما حكاه الرافعي، والقاضي الحسين ادعى إجماعنا على أنه لا يلزمه الإتمام في [مثل] هذه الصورة، مع التفريع على ما ذكرناه وجعلناه دليلاً للقول بأن كلها أداء. ثم على الأوجه كلها صلاته صحيحة، قطع به الأئمة، وقالوا: إن خطر للناظر أن القضاء لا يصح بنية الأداء، فهو مردود عليه؛ فإنا نصحح نية الأداء في محل الضرورة؛ كما لو صام المحبوس بالاجتهاد شهراً بعد رمضان. قال الإمام: وهذا عندي صحيح، إذا كان لا ينضبط الوقت الذي إليه التأخير، وكان يزعم المؤخر أنه يسع الصلاة، ثم يتفق خروج بعضها، فأما إذا كان ينضبط في العلم أن الوقت لا يسع إتمام الصلاة، وقلنا: إن الصلاة مقضية، فإذا نوى الأداء، [والوقت وقت القضاء على بصيرة- لم تصح الصلاة أصلاً؛ كما لو نوى الأداء] بعد خروج الوقت. نعم، لو أنشأ الصلاة في الوقت، وكان يسع تمامها، ثم مدها قصداً حتى خرج الوقت- فالذي رأيت الطرق متفقة عليه: أن الصلاة لا تبطل وإن قلنا: إنها مقضية؛ فإنه لما نوى الأداء كان ممكناً، فَطَرَآنُ حكم القضاء غير ضائر، وليس كما إذا وقع بعض الجمعة خارج الوقت؛ فإن الإيقاع في الوقت شرط في صحتها، وليس هو شرطاً في غيرها. وقد أفهم تقييد الشيخ والخبر الإدراك بإدراك ركعة، [عدمه] بدونها، وبه صرح المتولي، وادعى أنها تكون قضاء بلا خلاف. وفي "تعليق أبي الطيب" في صلاة المسافر: أن الداركي قال: ما دون الركعة فيما ذكرناه كالركعة. قال البندنيجي ثَمَّ:

وعليه ظاهر النص. ولم يَحْكِ في "الذخائر" غيره. وحكى الإمام عن شيخه: أنه كان يرد ذلك إلى تفصيل المذهب في إدراك الفريضة في حق أرباب الضرورات، وهو غير بعيد. والذي حكاه القاضي الحسين عن المذهب ما أفهمه الخبر، وأبدى القول بالإدراك احتمالاً من إدراك الفريضة بذلك، كالشيخ أبي محمد. قلت: ولو خرجه على خلاف ذكره، وتبعه فيه المتولي: أن ما ذكرناه من المواقيت، وقت للدخول والخروج، أو للدخول فقط؟ فإن قلنا: إنه وقت للدخول فقط، كان مدركاً؛ لأنه يدخل فيها بتكبيرة الإحرام- لكان أولى. وعبارة الغزالي تقتضي إجراء الخلاف في الإدراك بالركعة وما دونها من غير فرق؛ لأنه قال: لو أدى في آخر الوقت، ووقع بعضها خارج الوقت، فهي مؤداة على وجه، ومقضية على وجه، والواقع في الوقت أداء والخارج قضاء على وجه، وهي- أيضاً- تقتضي إجراء الخلاف فيما لو شرع فيها، وقد بقي من الوقت ما يسع الجميع، لكنه مدها بطول القراءة حتى خرج الوقت، وقد حكاه القاضي الحسين، وقال: إنه هل يعصي بذلك أم لا؟ فيه وجهان، المذكور منهما في "الرافعي" المنع، وحكاية الخلاف في الكراهة؛ عملاً بظاهر قول المتولي: إن ذلك هل يكره أم لا؟ بناءً على أن الأوقات للافتتاح والخروج، أو للافتتاح فقط؟ فإن قلنا: للمجموع كره، وإلا فلا، وهو الذي صححه الرافعي، وقد يستدل له بما روى أن أبا بكر مد الصبح، فقال له عمر: لقد كاد حاجب الشمس أن يطلع، فقال: لو طلعت الشمس ما وجدتنا غافلين. قال: ومن شك في دخول الوقت، أي: لكونه محبوساً في موضع لا يتمكن معه من العلم بالوقت، أو كان أعمى وارتجت عليه الدلائل، فأخبره ثقة، أي: بدخول الوقت [عن] علم- عمل به؛ لأنه خبر من أخبار الدين؛ فيرجع فيه المجتهد إلى قول الثقة؛ كما في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد شمل قول الشيخ: "ثقة" الذكر والأنثى، والحر والعبد، وخصص المسلم به؛ إذ الكافر [لا يوثق بخبره]، وكذا البالغ؛ إذ الصبي لا يوثق بخبره، وفيه ما ستعرفه في باب استقبال القبلة. قال: وإن أخبره عن اجتهاد لم يقلده، بل يجتهد، أي: بما يعتاده من قراءة، أو درس، وعمل منه أو من غيره، ويعمل على الأغلب عنده؛ لأنه يمكنه أداء فرضه بالاجتهاد؛ فلا يسوغ له التقليد؛ كالمجتهد في الأحكام لا يقلد فيها. وفي الأعمى وجه: أنه يجوز له التقليد، ويجوز له الاجتهاد، وصححه الرافعي. وعن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني: أنه لا يجوز الاجتهاد لمن قدر على الدخول في الصلاة في الوقت بيقين؛ كما قيل بمثله فيمن معه ماء طاهر بيقين: لا يجتهد فيما وقع الشك فيه، ويحكي هذا عن ابن المرزبان- أيضاً- والمشهور الأول. ويستحب له أن يصبر حتى يتحقق دخول الوقت وبقاءه، فلو لم يفعل ذلك وصلى من غير اجتهاد، ثم بان [أن] الوقت قد دخل- لم يصح فرضه، وإن صلى باجتهاد، ولم يظهر له شيءٌ يخالف ما اعتمد عليه، [فإذا ظهر له أنه في الوقت [صح] من طريق الأولى، ولو ظهر له أن صلاته وقعت بعد الوقت، فلا قضاء عليه]، لكن هل ما فعله أداء أو قضاء؟ فيه وجهان، أصحهما في "الرافعي": أنه قضاء حتى لو كان مسافراً يجب عليه إعادة الصلاة تامة إذا قلنا: لا يجوز له قصر الصلاة. قال الأصحاب: وأغنته نية الأداء عن القضاء للضرورة. وإن ظهر أن صلى قبل الوقت: إما بقول ثقة أخبر عن علم، أو بمشاهدته ذلك- فقد أطلق العراقيون والماوردي أنه يعيد. قال الماوردي: وخالف هذا ما لو تيقن الخطأ في القبلة على أحد القولين؛ لأن

الخاطئ في الوقت فاعل للصلاة قبل وجوبها فلم تجزئه، والخاطئ في القبلة فاعل لها بعد وجوبها فأجزأته. قلت: وهذا إن خصوه بما إذا ظهر ذلك في الوقت فهو ظاهر، وإن أجروه فيه، وفيما إذا كان بعد فوات الوقت- كما حكى الإمام عن الأصحاب القطع به- فيشكل بصوم الأسير، ولا جرم قال الشيخ أبو محمد: إن الخلاف في مسألة الأسير مذكور فيه، بل هنا أولى من الصوم؛ فإن الأمر فيها أخف؛ ولذلك سقط قضاؤها عن الحُيَّض دون الصَّوم. وبنى الرافعي هذا الخلاف على الخلاف السابق فيما إذا ظهر: أنه فعلها بعد الوقت، [هل] تكون أداء أو قضاء؟ فإن قلنا: أداء، لا يعيد ها هنا، وإلا أعاد؛ إذ القضاء لا يسبق الأداء. وقال الإمام في باب استقبال القبلة: الذي أراه في ذلك: أن المجتهد في الوقت إن كان ممن يتأتى منه الوصول إلى اليقين؛ بأن يصبر ساعة، فإذا فرض الخطأ في التقديم، فالوجه القطع بما قاله الأصحاب، والفرق بينه وبين الأسير: أن الأسير لا يمكنه الوصول إلى اليقين، وهذا يمكنه؛ فشرط في صحة الاعتداد بصلاته بالاجتهاد وقوع الإصابة، وكذا يقع بهذا الفرق بينه وبين الخطأ في القبلة. وإن كان المجتهد في موضع لا يتأتى منه الوصول إلى إدراك اليقين، فهو كالأسير. وعلى هذا جرى الغزالي عند الكلام في القبلة. ثم حيث قلنا: لا يعتد بما أتى به قبل الوقت، فهل يحكم ببطلانه، أو يحكم بانعقاده [نفلا]؟ فيه قولان، أصحهما: الثاني، وهو ما حكاه أبو الطيب في أول صفة الصلاة عن النص. والقولان يجريان فيما لو تعمد الإحرام بالصلاة قبل الوقت مع العلم، لكن أصحهما- في هذه الحالة-: البطلان؛ لأنه كالمتلاعب. أما إذا كان الشاك في دخول الوقت بموضع يمكنه الوصول إلى العلم بدخول الوقت، فأخبره ثقة بدخوله عن علم، فهل يرجع إليه؟ قال الماوردي: لا، وظاهر كلامه: نعم.

قلت: ويشبه [أن] يبنى ذلك على: أن من قدر على الوصول للصلاة في الوقت يقيناً بالصبر، هل يجتهد؟ فإن قلنا: نعم، جاز الرجوع إليه، وإلا فلا. وإن كان المحبوس لا يتمكن من معرفة الوقت بالاجتهاد، فقد قال ابن الصباغ والمتولي: إن ظاهر نص الشافعي في استقبال القبلة يدل على جواز التقليد له. وحكينا عن أبي حامد منعه؛ لأنه من أهل الاجتهاد؛ فأشبه غير المحبوس، وفارق القبلة؛ فإنه ليس من أهل الاجتهاد فيها. فرع: إذا سمع من لا يسوغ له التقليد مؤذناً، فهل له أن يقلده ويصلي؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي أبي الطيب" وغيره: أحدهما: لا؛ لأنه ربما قد أذن باجتهاد، وهذا أخذ من قول الشافعي- رضي الله عنه-: "وللأعمى أن يقلد البصير، ويقلد المؤذن"؛ فإنه يفهم أن البصير لا يقلدهما. والثاني: نعم، وهو ما أورده القاضي الحسين في استقبال القبلة، والبندنيجي هنا. قال الشيخ أبو حامد: ولا فرق فيه بين البصير والأعمى، وإن كان نصه في "الأم" في الأعمى، وبه قال ابن سريج، قال: ولعله إجماع؛ فإن الناس يحضرون [الجمعة] من صلاة الصبح، ويتشاغلون بالنفل، فإذا أذن المؤذن، عمل الكل على الأذان، ولم يعمل كل واحد منهم على مطالعة الشمس؛ فثبت أنه إجماع. وفي "الحاوي": أن بعض أصحابنا قال: يجوز الاعتماد عليه في الصحو دون الغيم، وقد أبداه ابن الصباغ احتمالاً لنفسه، وتردد على هذا في الأعمى في وقت الغيم؛ بناءً على أنه هل يجوز أن يقلد أم لا؟ وعليه جرى المتولي. قال الماوردي: ومذهب الشافعي: أنه إذا سمع المؤذن لا يسعه تقليده؛ حتى يعلم ذلك بنفسه، إلا أن يكون المؤذنون عدداً في جهات شتى، لا يجوز على مثلهم الغلط والتواطؤ. فرع آخر: هل يجوز أن يعتمد على صياح الديك في وقت صلاة الصبح وقت الغيم؟ قال القاضي في "تعليقه" في باب استقبال القبلة، وتبعه المتولي: إنه ينظر، فإن

اختبره في الأيام المتكشفة، فوجده يصيح في وقت الصبح في جميع الأيام- فإنه يجوز أن يعتمد عليه، وإلا فلا، وعن "فتاويه" حكاية وجهين فيه. قال: والأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت؛ لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 237]، ومن المحافظة عليها الإتيان بها أول وقتها؛ فإنه إذا أخرها عرضها للنسيان، وحوادث الزمان، وقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48] {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] والصلاة من الخيرات وتكسب المغفرة وقوله- عليه السلام-: "الْوَقْتُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّلَاةِ رِضْوَانُ الله، وَالْوَقْتُ الْأَخِيرُ عَفْوُ الله" قال الترمذي: هذا حسن غريب. وقد روي أن أبا بكر قال لما

سمعه: " [يا رسول الله،] رضوان الله أحب إلينا من عفوه .. " وقال الشافعي- رضي الله عنه-: الرضوان لا يكون إلا للمحسنين، والعفو يشبه أن يكون للمقصرين. وعن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ فقال: "الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا"، وفي رواية: "الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا" متفق عليه.

ثم ما المراد بالوقت الأول؟ فيه أوجه: أحدها- وهو ما حكاه العراقيون-: أن ينصرف منها نصف الوقت أو قبله؛ كما تقدم ذكره عند الكلام في المغرب. قال الإمام: وهذا بعيد عندي؛ فإن إقامة الصلاة في أول الوقت يقتضي بداراً، ومن أخر الصلاة إلى قريب من نصف الوقت في حكم المؤخر، ثم هؤلاء لاشك أنهم يجعلون البدار أولى، وهذا يقسم الأولى إلى الأفضل وغيره، وهذا وإن استبعده الإمام فلم يحك القاضي الحسين في التيمم غيره، وحمل عليه قول الشافعي: "والسنة أن يصلي فيما بين أول الوقت وآخره" أي: آخر أول الوقت، وقال: إنه لو قال لامرأته: "أنت طالق مع آخر أول الوقت" يقع الطلاق عليها عند انتصاف الوقت. والثاني: أن تنطبق تكبيرة الإحرام على أول الوقت. قال الإمام: وهو سرف؛ فإن مريد تحصيلها لا يمكنه الأذان والإقامة ولا إجابة ذلك إن لم يفعله بنفسه؛ وعلى هذا: لا يدرك فضيلة أول الوقت متيمم. قلت: اللهم إلا أن تجوز صلاة الوقت بالتيمم للفائتة. والثالث- ذكره صاحب "التقريب"، وهو الأعدل عند الإمام-: أن يشمِّر الإنسان لأسباب الصلاة عقيب دخول الوقت، بحيث لا يعد متوانياً ولا مؤخراً لها، والأذان والإقامة من الأسباب. وعن الشيخ أبي محمد اعتبار تقدم السترة على الوقت؛ لاستمرار وجوبها، بخلاف الطهارة، ولا يضر في ذلك أكل لُقَمٍ، ومخاطبة إنسان من غير تطويل، وكذا تقديم السنن التي قدمها الشرع عن الفرائض. وعن الشيخ أبي محمد: أنه كان يميل إلى ضبط الأَوَّلية بنصف الوقت، الذي دخل تحت بيان جبريل، وعليه ينطبق قول ابن الصباغ: وأول الوقت: ما لم يبلغ نصف وقت الاختيار. قلت: وهذا الوجه [يوافق] الوجه الأول في الظهر، ويخالفه في العصر والعشاء والصبح.

قال القاضي الحسين: ولا خلاف في أنه لو افتتح الصلاة في أول الوقت، وطوَّل القراءة حتى يبلغ الوقت آخره، ثم سلم قبل خروج الوقت أنه يكون مستحبّاً. قال: إلا الظهر [في الحر] لمن يمضي إلى جماعة؛ فإنه يُبْرِدُ بها؛ لم روى [مسلم عن أبي] ذر الغفاري، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال- عليه السلام-: "أَبْرِدْ"، ثم أراد أن يؤذن، فقال: له: "أَبْرِدْ" حتى رأينا فيء التلول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ شِدَّةِ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ؛ فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ". وعن المغيرة بن شعبة قال: كنا نصلي الظهر بالهاجرة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْرِدُوا بِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ". وقد حكى الإمام عن بعض المصنفين حكاية وجهين في استحبابه في المسجد المطروق الكبير، وهما في "تعليق القاضي الحسين" أيضاً. وقد أفهم كلام الشيخ أموراً: أحدها: أن الإبرام بالظهر بالشرط الذي ذكره، أفضل من إيقاعه في أول الوقت، وهو ما قال في "العدة": إن بعض الأصحاب قال: إنه ظاهر المذهب، والرافعي قال: إنه المذهب، وقال الإمام: إنه الذي ذهب إليه معظم الأصحاب. ومنهم من قال: إن التعجيل أفضل، وعبارة القاضي الحسين: أنه لا خلاف في أن الإبراد [مستحب، لكن الإبراد] أفضل أم التعجيل؟ فيه وجهان.

الثاني: أنه لا فرق في ذلك بين البلاد الحارة والباردة والمتوسطة، وهو وجه حكاه الماوردي، والإمام حكاه عن شيخه في البلاد المعتدلة. والذي نص عليه في "الأم"- كما قال أبو الطيب-: اختصاص ذلك بالبلاد الحارة: كالعراق والحجاز، ولم يحك البندنيجي غيره، وكلام الشيخ يجوز أن يحمل عليه؛ لأن بذلك يتحقق وجود الحر. الثالث: أنه لا فرق بين أن يكون موضع الجماعة قريباً أو بعيداً، وهو قول حكاه أبو الطيب عن رواية البويطي، واختاره في "المرشد"، وبعضهم قال: إنه الأصح، ويشهد له ظاهر الخبر. والذي نص عليه في "الأم"- ولم يحك البندنيجي غيره-: اختصاص ذلك بالموضع البعيد، وقائله يقول: لعل منازل من [كان زمن] النبي صلى الله عليه وسلم متفرقة بعيدة بعضها من بعض؛ على عادة المسافرين في النزول، والمسافة اليسيرة في البرية- فيما يرجع إلى المشقة- أعظم من المنازل البعيدة في الحضر. الرابع: إجراء خلاف في استحباب الإبراد بالجمعة؛ لأنها ظهر مقصور- على رأي فتندرج في قوله، وصلاة مستقلة على آخر، وكلامه يفهم إخراج غير الظهر. وقد صرح بالخلاف فيها غيره من العراقيين والمراوزة، واختار الغزالي: الإبراد. وما ذكرناه من كلام الشيخ يقتضي عكسه، وهو المختار في "المرشد" والأظهر في "الرافعي"، ويشهد له قول سلمة بن الأكوع: "كنا نُجَمِّع مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس" متفق عليه.

الخامس: أن من يصلي في بيته لا يستحب له الإبراد، وبه صرح أبو الطيب- عن نصه في "الأم"- وحكاه القاضي الحسين والمتولي وجهاً مع آخر: أنه يستحب؛ كما في القصر في السفر وإن انتفت منه المشقة. قال القاضي: وهما مبنيان على أن الجمع بين الصلاتين بعذر المطر، هل يجوز في مسجد في كِنِّ من الأرض، أم لا؟ وفيه قولان: إن قلنا: لا يجوز ثَمَّ، فلا يستحب ها هنا، والذي أورده الجمهور الأول، ومنه يظهر لك: أنه لو كان يمشي في كِنٍّ إلى جماعة لا يستحب له الإبراد، لاستوائهما في نفي المشقة، وهو الصحيح عند المراوزة، ومنه يؤخذ: أن الحد الذي يبرد إليه أن يصير للجدران فيء يمشي فيه، وبه صرح الغزالي والقاضي الحسين، وعبارته في "المهذب" تقرب منه، ويشهد له ما ذكرناه من الخبر، ورواية أبي داود والنسائي، عن ابن مسعود، قال: "كان قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيف ثلاثة أقدام". والشيخ أبو علي حَدّهُ في شرح "التلخيص": بأن يحصل للجُدُر ونحوها فيء يمشي فيه، ولا تخرج الصلاة بسبب ذلك عن نصف الوقت. قلت: وهذا يظهر أن يكون تفريعاً منه على أن وقت الفضيلة لا يمتد إلى نصف الوقت؛ إذ لو كان كذلك لم يكن الإبراد مستثنى.

ثم الظاهر: أن هذا القائل يحمل قول الشافعي: "ولا يبلغ بتأخيرها إلى آخر الوقت، بل يكون بين الفراغ منها وبين آخر الوقت فصل" أي: حمله على وقت الاختيار، دون وقت الجواز. ومنهم من أجرى النص على ظاهره، فقال: المعتبر أن ينصرف منها قبل آخر وقتها، وهو ما حكاه البندنيجي وأبو الطيب لا غير، وحكاه مجلي، عن سليم، [عن المذهب]. السادس: أن تأخير الصلاة عن أول الوقت؛ لأجل انتظار الجماعة، أفضل من تعجيلها منفرداً. وقد قال البندنيجي وغيره في كتاب "التيمم": إنه إن وثق بحصول الجماعة في آخر وقتها، فالأفضل التأخير، وإن أَيِسَ منها؛ فالأفضل التقديم. وإن كان يرجو فعلى قولين: قال في "الأم": التقديم أفضل، وقال في "الإملاء": التأخير أفضل. ثم اعلم أنه قد يقال: الشيخ لم يستثن من تفضيل التقديم في أول الوقت إلا الظهر في حال الحر، وقد قال في باب صلاة المسافر: المستحب لمن هو سائر: أن يؤخر الأولى على الثانية، وكان ينبغي أن يستثني ذلك- أيضاً. وجواب هذا: أني قدمته في باب صلاة المسافر. قال: وفي العشاء قولان: أصحهما: أن تقديمها أفضل؛ لما ذكرناه في غيرها، وقد روى النسائي، عن النعمان بن بشير قال: "أنا أعلم الناس بميقات عشاء الآخرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثلاث"، وهذا إخبار عن دوام فعله؛ وهذا ما نص عليه في

القديم؛ كما قال البندنيجي وأبو الطيب، وحكاه ابن الصباغ عن "الأم" أيضاً. والشيخ- في تصحيحه- اتبع أبا حامد وميل كلام ابن الصباغ غليه. ومقابله منسوب في "الشامل" إلى الجديد، وفي غيره إلى "الأم": أن تأخيرها ما لم يجاوز وقت الاختيار أفضل؛ لما روى جابر: أنه- عليه السلام- أعتم ليلة بالعتمة حتى ذهب غابر الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج وصلى، وقال: "إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي" أخرجه مسلم. قال الماوردي: وكان أبو علي بن أبي هريرة يمنع من جعل المسألة على قولين، ويحملها على حالين: فحيث قال: "التعجيل أفضل"، فهو في حق من يخاف أن يغلبه النوم عليها، وحيث قال: "التأخير أفضل"، فهو في حق من لا يخاف ذلك، وهو ما اختاره في "المرشد"، ومنه يؤخذ: أن النوم قبلها لا يؤثر، ويشهد له أنه- عليه السلام- نهى عن النوم قبلها والحديث بعدها؛ كما جاء في الصحيح. قال: ومن أدرك من الصلاة قدر ما يؤدي فيه الفرض، ثم جن، أي: ودام جنونه إلى أن خرج الوقت، أو كانت امرأة فحاضت- وجب عليهما القضاء، أي: عند الطهر والإفاقة. هذا الفصل يتضمن مسألتين: إحداهما أصل للأخرى، وتعرض الشيخ للفرع منهما؛ لأنه ينبه على الأصل: فالأصل منهما: أن الصلاة تجب بما أدركه المكلف من وقتها وجوباً موسعاً، إن

كان في الوقت فضلة عن مقدارها، بأن دخل الوقت وهو مكلف، أو دخل وهو غير مكلف، [ثم] وجدت شرائط التكليف في أثنائه وفي الوقت اتساع، ووجهه: قوله- تعالى-: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 77]، وهذا أمر وظاهره الوجوب، وقوله- عليه السلام-: "الشفق: الحمرة، فإذا غاب الشفق؛ فقد وجبت الصلاة"، وقول جبريل لنبينا صلى الله عليه وسلم حين بيَّن له في اليومين أول الوقت وآخره: "ما بين هذين وقت"، أي: وقت للوجوب والأداء؛ لأنه قصد بيان الأمرين، ولأن الوجوب أصل والأداء فرع، فلما كان أول الوقت يتعلق به الأداء- وهو فرع- لم يجز أن ينتفي عنه الوجوب، الذي هو أصل. ثم المعنيُّ بكونه موسعاً: أن المكلف مخير بين أن يوقعها في أول الوقت أو أثنائه أو آخره، لكن هل يجب عليه- إذا لم يفعل في أول الوقت- نية الفعل في الوقت أم لا؟ فيه وجهان في "الحاوي"، المذكور منهما في "تعليق أبي الطيب" الوجوب. وإذا فعلها في أول الوقت، ثم أفسدها، قال القاضي الحسين في ول باب صفة الصلاة، وتبعه المتولي: يجب عليه أني صليها في الوقت ثانية بنية القضاء؛ لأنها قضاء لا أداء؛ وكذا قال في أثناء الباب: أما إذا قلنا: يصح القضاء بنية الأداء، والأداء بنية القضاء، فلو أفسد صلاة الوقت فأراد قضاءها، فمقتضى قول أصحابنا: أنه ينوي القضاء؛ لأنه يقضي ما التزمه في الذمة؛ لأن الشروع يلزم الفرض في الذمة؛ بدليل أن

المسافر لو نوى إتمام الصلاة، وشرع فيها، ثم أفسدها- لا يقضيها مقصورة بل تامة؛ لأنه التزم الإتمام؛ وهذا ما أورده المتولي، أيضاً. والفرع منهما- ما صرح به الشيخ-: أنها تستقر بإمكان الأداء، ووجهه: أنها وجبت عليه، وتمكن من أدائها؛ فاستقرت في ذمته؛ كما لو هلك النصاب بعد الحول والتمكن؛ وهذا ما نص عليه الشافعي، رضي الله عنه. وخرج ابن سريج قولاً آخر من نصه في الشخص إذا سافر بعد إمكان فعل الصلاة: "أن له القصر": أنه لا يستقر الوجوب إلا أن يخرج الوقت من غير عذر يمنع الوجوب، والفرق بينه وبين الزكاة: أن أداءها على الفور، بخلاف الصلاة. والصحيح الأول: لما ذكرناه، وخالف القصر في الصلاة؛ لأن القصر من صفات الأداء: كالصحة والمرض، ولا كذلك ما نحن فيه. أما إذا أدرك من وقت الصلاة قدر ما يؤدي فيه الفرض، ثم جُنَّ وأفاق؛ فالذي يظهر أن يقال: يجب عليه أن يأتي بها في الوقت أداء لا قضاء، بخلاف الصورة التي حكينا فيها عن القاضي ما سلف؛ لأنه ثَم عيّن الوقت بشروعه. ثم من المعلوم أن الجنون إذا لم يمنع وجوب القضاء في الصورة التي ذكرها، فالإغماء أولى؛ لأنه دونه؛ ولهذا لا يمنع قضاء الصوم على رأي دون الجنون. والنفاس كالحيض كما تقدم. والموت يلحق بذلك إن قلنا: إن من مات وعليه صلاة يصلي عنه، أما إذا قلنا: لا يصلى عنه- كما هو المشهور- ففائدة الاستقرار عند بعض الأصحاب: الحكم بتأثيمه، وعند قوم: لا فائدة له، وهم القائلون: بأنه إذا مات في أثناء الوقت لا يقضي، وهو الصحيح، بخلاف نظيره في الحج، والفرق مذكور فيه. فلو أدرك من وقت الصلاة قدر ما يؤدي فيه بعض الفرض، ثم طرأ الجنون أو الحيض أو [ما] في معناهما- فلا يجب القضاء على المنصوص في "الإملاء"، وعليه عامة أصحابنا؛ كما في الزكاة والحج والصيام.

وعن أبي يحيى البلخي: أنها تجب بإدراك بعض الوقت وجوباً مستقراً، وليس إمكان الأداء فيها معتبراً؛ كما في آخر الوقت. قال الرافعي: وحكاه ابن كج، عن غيره من الأصحاب، وقد قيل: إن البلخي رجع عنه. والأصحاب فرقوا بين أول الوقت وآخره: بأنه في آخره يمكنه البناء لو شرع، ولا كذلك في أوله، ولا تفريع على هذا. وعلى مذهب البلخي: يلزمه العصر إذا أدرك من وقت الظهر ما يسع الصلاتين؛ كما قاله أبو الطيب وابن الصباغ، قال أبو الطيب: وهو فاسد؛ إذ يلزمه أن يقول: يلزمه العصر إذا أدرك من وقت الظهر خمس ركعات؛ كما في العصر. قلت: وهذا من القاضي مشعر بأنه لا يقول بذلك، وقد حكى غيره عنه أنه قال: [إنه] يكون مدركاً للعصر بإدراك ركعة من وقت الظهر على قول، وبإدراك قدر تكبيرة على آخر؛ بناءً على أنه يدرك العصر بإدراك ذلك من آخر وقته، ويدرك بذلك- أيضاً- الظهر. وعلى هذا ففساد مذهبه بالفرق بين ما نحن فيه وبين إدراك الظهر بما يدرك به العصر، وهو [أن] وقت العصر- تقديماً- تبعٌ لفعل الظهر؛ بدليل عدم صحة العصر قبل الظهر [في] وقت الظهر جمعاً. ووقت الظهر- تأخيراً- ليس تبعاً لفعل العصر؛ بدليل صحته قبل العصر [جمعاً]، وإذا كان كذلك فوقت العصر وقت الظهر؛ فلزم بإدراكه الصلاتان، ووقت الظهر ليس وقتاً للعصر؛ فلا يلزم من إدراكه الصلاتان.

تنبيه: الألف واللام في "الفرض" [الظاهر] أنها [هنا] مستعملة للعهد، وهو فرض الصلاة، ومقتضاه: أن يستقر في الذمة بمضي قدر الصلاة فقط، ولا يعتبر قدر مضي الطهارة والستارة، وهو ما جزم به غيره في الستارة؛ لتقدم إيجابها على وقت الصلاة، وقال في الطهارة: إن كان الشخص مما لا صح منه فعلها قبل الوقت: كالمتيمم والمستحاضة، فلابد من اعتبار مضي زمانها، وإن كان ممن يصح منه قبل الوقت، فهل يشترط مضي زمانها؟ فيه وجهان، وهذه طريقة المتولي. والقاضي الحسين أطلق ذكر الوجهين من غير تخصيص بهذه الحالة. والرافعي قال: إن كان ممن لا يصح منه [فعل] الطهارة قبل الوقت، فلابد من اعتبار زمانها، وإلا فلا يعتبر. قلت: ويشبه أن تكون مادة الخلاف في حق من يصح منه تقدم الطهارة على الوقت: أن الطهارة هل تجب بنفس الحدث، أو تجب عند دخول وقت الصلاة على من كان محدثاً؟ وفيه وجهان حكاهما البندنيجي في الباب، وقال: إن المذهب الثاني؛ فإن قلنا: تجب بنفس الحدث؛ فلا يشترط مضي زمن الطهارة؛ لسبق وجوبها؛ كالستر، وإلا وجب اعتباره. وعلى هذا يجوز أن تكون الألف واللام في "الفرض" لاستغراق ما يجب بدخول الوقت وهو الصلاة والطهارة لها. وكيف كان الحال، فالمعتبر من [قدر الصلاة] قدر وقت أخف صلاة. نعم، لو كان مسافراً والصلاة مما تقصر، فهل المعتبر قدر صلاة الحضر أو السفر؟ الذي ذكره الرافعي وصاحب "الكافي": الثاني، والأول محال يظهر مما سنذكره عن الإمام في الباب، وعن غيره في باب صلاة المسافر. قال: وإن بلغ صبي- أي: لم يصلِّ في أول الوقت- أو أسلم كافر، أو طهرت حائض أو نفساء، أو أفاق مجنون أو مغمى عليه قبل طلوع الشمس بركعة- أي:

بقدر ركعة- لزمهم الصبح؛ لقوله- عليه السلام-: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْح قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ العَصْرَ". وقيل: يعتبر أن يدرك مع ذلك قدر الطهارة، وهذا ما يعزى إلى القديم. قال الإمام: والأصح الأول؛ لأن الطهارة ليست شرطاً في لزوم الصلاة والخطاب بها، وإنما هي شرط في صحتها وعقدها؛ إذ الصلاة تجب على المحدث، ويعاقب على ترك التوصل إليها. وفيه نظر [يظهر] لك مما قاله الأصحاب في الرد على البلخي. ثم ما ذكره الشيخ إنما يتم إذا بقي من زال عذره على صفة التكليف إلى أن يمضي مقدار الصلاة؛ كما قاله القاضي أبو الطيب والقاضي الحسن وغيرهما، وكذا قدر الطهارة؛ كما قاله في "الكافي". فلو طرأ عليه- بعد ذلك- ما يمنع الوجوب ابتداء، فلا يجب القضاء؛ لعدم التمكن من الإتمام؛ كما قلنا في أول الوقت. قال: وإن كان بدون ركعة، ففيه قولان، أي: في الجديد؛ كما قال الماوردي. وجه المنع- وهو المذكور في القديم؛ [كما قال الماوردي]، واختيار المزني، والصحيح عند أبي إسحاق؛ كما قال أبو الطيب: مفهوم الخبر، والقياس على الجمعة. ووجه الوجوب، وهو المنصوص في استقبال القبلة في [باب] الغلبة على العقل، والصحيح عند أبي حامد؛ كما قال أبو الطيب: قوله- عليه السلام-: "إِذا أدرك أحدكم سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ- قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ- فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ [صَلَاتَهُ] " أخرجه البخاري.

وجه الدلالة منه: أنه ألزمه الإتمام بسجدة، وليست مما ينعقد بها ركعة؛ فدل على أن المعتبر قدر من الصلاة، ولأن الإدراك إذا تعلق به إيجاب؛ استوى فيه الركعة وما دونها؛ كما في اقتداء المسافر بالمقيم، وبهذا خالف ما نحن فيه الجمعة؛ لأن الإدراك فيها، إدراك إسقاط؛ فغُلِّظ فيه، وما نحن فيه إدراك إيجاب، فشابه المسافر، وهذا الفرق حكاه الماوردي عن ابن أبي هريرة، وحكى عن أبي إسحاق فرقاً آخر: أن الجمعة لما لم يجز أن يأتي ببعضها خارج الوقت غلظ حكمها، ولا كذلك غيرها. وعلى هذا يأتي في اشتراط زمن الطهارة القول السالف، وبه صرح القاضي الحسين. ثم المعتبر من الركعة ماذا؟ المشهور: أنها المشتملة على أقل ما يجزئ، وهل يشترط فيها زمن الرفع من الركوع والسجود كما هو في إدراك الجمعة، أو يكتفي بإدراك القيام والقراءة والركوع فقط؛ كما في إدراك المسبوق الركعة؟ هذا لم أَرَ للأصحاب فيه تصريحاً به، والقياس على الجمعة يقتضي إلحاق ما نحن فيه بها، وكلام الإمام الآتي يقتضي خلافه. وعن الشيخ أبي محمد: أن المعتبر ركعة من العقد والهُوِي من غير قيام وقراءة نظراً إلى ركعة المسبوق، وقد استبعده الإمام.

والمعتبر في إدراك ما دون الركعة إدراك تكبيرة الإحرام وما فوقها مما لم ينته إلى قدر ركعة. وحكى الإمام عن شيخه: أنه كان يتردد فيما إذا فرض فارض إدراك ما يسع بعض تكبيرة، وقال: إن فيه احتمالاً. قال: وإن كان ذلك- أي: وزال العذر على النحو الذي سلف- قبل الغروب، أو قبل طلوع الفجر بركعة- لزمهم العصر والعشاء: أما العصر فبإدراك ما قبل الغروب؛ كما دل عليه الخبران وأما العشاء فبإدراك ما قبل الفجر بالقياس. قال: وفي الظهر والمغرب قولان: أحدهما: يلزم بما يلزم به العصر والعشاء؛ لأنه روي عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس- رضي الله عنهما- أنهما قالا في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر بركعة: يلزمها المغرب والعشاء؛ ولأن وقت العصر وقت الظهر في حق أرباب الأعذار، وكذا وقت العشاء وقت للمغرب في حقهم وهؤلاء منهم، وهذا ما نص عليه في "الجديد" وفي "الأم". فإن قلت: المسافر ربُّ عذرٍ، وهؤلاء أرباب ضرورات، فهم غيره. قلت: قال الإمام: لا يبعد جعلهم كهو حتى كان من زالت ضرورته؛ في حكم من أخر الصلاة بعذر إلى آخر الوقت. قال بعضهم: ولقائل أن يقول: ذلك اعتبار تخفيف في الأداء، وهذا اعتبار التزام؛ فلا يشبه أحد الحكمين الآخر، وأيضاً فالمسافر يؤخر ترخيصاً مع توجه الخطاب، بخلاف أرباب الضرورات؛ فكان اللائق بحالهم التخفيف لا التغليظ، ثم كيف يستقيم أن تجعل التكبيرة تحريمة لصلاتين، حتى لزما جميعاً بقدرها؟ قال: والثاني: بقدر خمس ركعات؛ ليتصور الفراغ من إحداهما فعلاً، وإدراك الأخرى بركعة. وهذا من الشيخ ملاحظة لأصلين: أحدهما: أن الإدراك لا يحصل إلا بركعة، أما إذا قلنا: إنه يحصل بدونها، فالمعتبر

إدراك قدر أربع ركعات وتكبيرة؛ كما خرجه أبو إسحاق. والثاني: أن الصلاة التي يعتبر فراغها المدْرَكُ وقتها حقيقة، والتي يعتبر الشروع فيها التابعة لها، وهي طريقة أبي إسحاق، وعبر عنها الإمام بقول مخرج من معاني كلام الشافعي. أما إذا قلنا بالطريقة المشهورة، وهي طريقة ابن أبي هريرة- قال الماوردي وجمهور أصحابنا: إن التي يعتبر الفراغ منها الأولى، والتي يعتبر الشروع فيها صاحبة الوقت، فالحكم بالنسبة إلى إدراك الظهر والعصر لا يختلف، وأما بالنسبة إلى المغرب والعشاء: فإدراكهما يكون بإدراك مقدار أربع ركعات، وهو ما حكاه أبو الطيب والبندنيجي، وفي "المهذب" عن النص في القديم، وقال الإمام: إنه قول مخرج من معاني كلام الشافعي. وصححه. ومقابله مرجوح باتفاق الأصحاب، وبعضهم زعم: أنه غلط مخالف للسنة والمذهب: أما السنة؛ فلأنه- عليه السلام- جعل العصر مُدْرَكاً بركعة، وأما المذهب؛ فلما ذكرناه. وجعل المتولي القولين في الأصل مبنيين عليه، يدل على أنه غلط- أيضاً- فإنه قال: القولان في أنه: هل يدرك الظهر بما يدرك به العصر، أو بإدراك خمس ركعات- ينبنيان على أن الجمع بين الظهر والعصر في وقت [العصر] هل يشترط فيه التقديم؛ كالجمع في وقت الأولى، أو لا؟ فيه قولان. فإن قلنا: لا يشترط- وهو الصحيح- فجميع وقت العصر وقت للظهر، ويلزمه الظهر بما يدرك به العصر؛ لأنه صالح لكل من العبادتين. وإن قلنا: يشترط تقديم الظهر، فجميع وقت العصر وقت للظهر إلا مقدار ما يصلي فيه العصر؛ فلا يلزمه الظهر إلا بإدراك خمس ركعات، ويلزمه المغرب بإدراك أربع ركعات على وزان ذلك. وكيف كان الأمر، فالقول السالف في اعتبار زمن الطهارة مصرح به هنا أيضاً.

وقد حكي عن صاحب "الإفصاح" أنه يلزمه الظهر والعصر بإدراك مقدار أربع ركعات من وقت العصر، والمغرب والعشاء بمقدار ثلاث ركعات، وقياس ما تقدمت حكايته عن الشيخ أبي محمد من تعلق الإدراك بركعة المسبوق، أن نعلق الإدراك في الظهر والعصر على طريقة من يعتبر خمس ركعات بثلاث [ركعات]؛ اعتباراً بصلاة المسافر، [و] على طريقة من يعلقه بأربع ركعات وتكبيرة، نعلقه بركعتين وتكبيرة. وعلى طريقة من يعلقه بأربع ركعات فقط نعلقه بركعتين فقط؛ نظراً [لما] ذكرناه، وقياسه يطرد في المغرب والعشاء. وقد أشار الإمام إلى هذا الاحتمال، وقال: إن في مذهب الصيدلاني إشارة إليه وإن لم يكن مصرحاً به. وإذا تأملت ما ذكرناه من قول ووجه وولدته، وأردت أن تعرف ما قيل فيما تدرك الصلاة به عند زوال المانع في آخر وقتها من قول ووجه- قلت: في الصبح ثمان مقالات: تدرك بمقدار بعض تكبيرة بذلك وبمقدار الطهارة بتكبيرة بذلك وطهارة بركعة مسبوق بذلك وطهارة بركعة تشتمل على أقل ما يجزئ بذلك وطهارة. وفي الظهر هذا الخلاف إذا زال المانع في آخر وقته وإن زال في آخر وقت العصر ففيما يدرك به العصر هذا الخلاف، وفيه مع الظهر عشرون قولاً ووجهاً: الثمانية السالفة. والتاسع: بإدراك ركعتين فقط؛ تركيباً من طريقة الصيدلاني وصاحب "الإفصاح"؛ كما سلف. والعاشر: بذلك وقدر طهارة. والحادي عشر: بإدراك أربع ركعات وبعض تكبيرة. والثاني عشر: بذلك وطهارة. والثالث عشر: بإدراك أربع ركعات وبعض تكبيرة. والرابع عشر: بذلك وطهارة.

والخامس عشر: بإدراك أربع ركعات وتكبيرة. والسادس عشر: بذلك وطهارة. والسابع عشر: بإدراك خمس ركعات، إحداها ركعة مسبوق. والثامن عشر: بذلك وطهارة. والتاسع عشر: بإدراك خمس ركعات مشتملة على أقل ما يجزئ. والعشرون: بذلك وطهارة.

وفي المغرب وحدها ما سلف في الصبح وحده إن زال العذر في وقتها، وإن زال في وقت العشاء ففيما تدرك به العشاء ما سلف فيما يدرك به العصر وحده، وفيها مع المغرب- على طريقة الشيخ- ما سلف في الظهر مع العصر، وعلى الطريقة المشهورة [اثنتا عشرة مقالة]: يدركهما بثلاث ركعات، بذلك وزمن الطهارة، بثلاث ركعات وبعض تكبيرة، بذلك وطهارة بثلاث ركعات وتكبيرة، بذلك وطهارة بأربع ركعات إحداها ركعة مسبوق، بذلك وطهارة بأربع ركعات متساوية، بذلك وطهارة، وبهذه يكمل فيما يدرك به المغرب والعشاء [اثنان و] ثلاثون قولاً ووجهاً.

قال: ومن لم يصل حتى فات الوقت، وهو من أهل الفرض، بعذر أو غير عذر- لزمه القضاء: أما في الأولى؛ فملا روى البخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لا كَفَّارَةَ لَهَا إِلا ذَلِكَ"، ثم قال: سمعته يقول بعد ذلك: "فإن الله يقول: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] "، وزاد مسلم في رواية عن أنس- أيضاً-: "مَنْ نَامَ، أَوْ نَسِيَ ... " وتتمم الحديث. وعن جابر بن عبد الله قال: جاء عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش، ويقول: يا رسول الله، ما صليت صلاة العصر حتى كادت الشمس أن تغيب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَأَنَا وَاللهِ مَا صَلَّيْتَهَا بَعْدُ" قال: ونزل بُطَحان فتوضأ، وصلى العصر بعد ما غابت الشمس، ثم صلى المغرب بعدها. أخرجه البخاري ومسلم. وبطحان: بضم الباء، وأهل اللغة يفتحونها، وهو واد بالمدينة. فدل قوله- عليه السلام- وفعله [على قضاء] ما فات بالعذر. وأما في الثانية؛ فلأنه إذا وجب عند العذر فبدونه مع عدوانه أولى أما إذا لم يكن من أهل الفرض [فلا يجب عليه القضاء]. وكذا الصبي المأمور بالصلاة لا يجب عليه القضاء من جهة الشرع، لكن هل يأمره الولي به؟ ذكر الجيلي فيه وجهين عن "فتاوى الروياني" والله أعلم.

قال: والأولى أن يقضيها مرتباً؛ لأنه- عليه السلام- قضى العصر في وقت المغرب، ثم صلى المغرب بعدها كما ذكرنا. وروى النسائي وغيره: أنه- عليه السلام- شغله المشركون يوم الخندق عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله، وأمر بلالاً فأذن وأقام وصلى الظهر، ثم أمره فأقام فصلى العصر، ثم أمره فأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأقام فصلى العشاء، [ثم] قال: "صلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي". فإن قيل: هذا يدل على الوجوب. قلنا: فعله- عليه السلام- عند أكثر أصحابنا لا يدل عليه، [وإن دل عليه] عند قوم حملناه هنا على الندب؛ لأن الترتيب استحق لضرورة الوقت؛ فإنه حين وجب الظهر لم يجب العصر؛ كما أن صوم يوم من رمضان يجب بدخوله دون ما لم يأت، والصوم إذا فات لا يجب الترتيب في قضائه؛ فكذا الصلاة، ويشهد له ما روى الدارقطني بسنده عن مكحول عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ

فَتَذَكَّرَهَا وَهُوَ فِي صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فَإِنَّهُ يَبدَأُ بِالَّتِي هُوَ فِيهَا فَإِذَا فَرَغَ مِنها صَلَّى التي نَسِيَ". قال: إلا أن يخشى فوات الحاضرة فيلزمه البُداءة بها؛ لأن الوقت قد تعين لها فقدمت؛ كما لو أدرك رمضان وعليه قضاء رمضان، والفوات يتحقق بأن يبقى من الوقت لو صلى الفائتة دون ركعة، وكذا لو بقي قدر ركعة على رأي. والمذهب: لا؛ بناءً على أنها كلها أداء. وقيل: إذا فاتت بغير عذر، وقلنا: يجب القضاء على الفور- يخير بين فعل الفائتة والحاضرة؛ لأنه عاصٍ بتأخيرهما؛ قاله القفال، وفيه نظر. وعلى الأول: لو كان قد شرع في فائتة لظنّ أن الوقت يتسع للحاضرة، فبان قصره بانجلاء الغيم- سلّم منها، وشرع في الحاضرة؛ قاله البغوي في باب صلاة الجماعة. والصواب في "البداءة" ما ذكرناه: [المد وضم الباء، وتقع في النسخ: "البداية" بالياء، وهو لحن]. قال: والأولى أن يقضيها على الفور؛ تداركاً لما وقع من الخلل، وتعجيلاً لبراءة الذمة، والخبر يدل عليه. قال: فإن أخرها جاز؛ لأن القضاء وجب بالأمر المحدود، وهو قوله- عليه السلام-: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا .. " الخبر، ويتعين وقت الذكر فيه استحباباً؛ يدل عليه؛ أنه- عليه السلام- فاتته صلاة الصبح بالوادي، فلم يقضها حتى خرج منه، وإذا كان كذلك بقي الأمر به مطلقاً، وهو لا يقتضي الفور عندنا، فظاهر كلام الشيخ: أنه لا فرق في ذلك بين المعذور وغيره، وهو ما دل عليه كلام المزني في باب تارك الصلاة، وأشار إليه أبو الطيب في باب صلاة المسافر، عند الكلام فيما إذا فاتته صلاة في الحضر، فذكرها في السفر؛ حيث قال: لا فرق عندنا في الصلاة بين أن يتركها عمداً أو بعذر إلا في شيء واحد: وهو الإثم وعدمه.

وقيل: إن فاتت بغير عذر، لزمه قضاؤها على الفور؛ لأن توسعة الوقت في القضاء رخصة؛ فلا تتعلق بفعل المعاصي، وهذا ما حكاه في "المهذب" عن أبي إسحاق، وجزم به القاضي أبو الطيب والمراوزة في باب تارك الصلاة، واختاره في "المرشد"، واستدل له الإمام في كتاب الحج بأن المصمم على ترك القضاء مقتول عندنا، ولا يتوجه هذا إلا مع توجه الخطاب بمبادرة القضاء. وفي "الكافي" حكاية وجه [آخر]: أنه يجب القضاء فيما إذا فاتت بعذر؛ لظاهر الخبر، وبه يحصل في المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: إن فاتت بعذر وجبت على الفور، وإلا فلا. قال: ومن نسي صلاة من الخمس، ولم يعرف عينها- لزمه أن يصلي الخمس؛ لأن ما من صلاة منها إلا ويجوز ألا يكون قد فعلها، والأصل شغل ذمته بها، فيأتي بها وينوي أنها الفائتة؛ إذا قلنا: لابد من نية القضاء أو الأداء. وما ذكره الشيخ نص عليه في "الأم"؛ كما حكاه أبو الطيب في أول باب صفة الصلاة، والحكم لا يختص بهذه الصورة، بل لو نسي صلاة من صلاتين لا يعرف عينها، صلاهما، وكذا لو نسي صلاتين من يوم واحد صلى الخمس، ولو كانتا من يومين: فإن اختلفتا فكذلك، وإن اتفقتا لزمه أن يصلي عشراً. وقد خالف المزني في مسألة الكتاب، وقال: يكفيه أن يصلي أربع ركعات ينوي بها الفائتة، ويجهز في الأوليين، ويجلس في الثالثة والرابعة، ويسجد للسهو، ويسلم؛ لأن الفائتة إن كانت صبحاً، فقد أتى بها وزيادة ركعتين على وجه الشك؛ فلا يضر كزيادتهما سهواً، والسجود يجبره. وكذا إن كانت مغرباً، فالركعة الزائدة على وجه الشك فكانت كالزائدة سهواً. وإن كانت ظهراً أو عصراً أو عشاء، فالزائد تشهُّدٌ على وجه الشك؛ فكان كالسهو. وإنما قلنا: يجهر؛ لأن أغلب الصلوات الخمس جهرية. قال الأصحاب: وهذا غلط؛ لأنه لا يشبه الزيادة على وجه السهو؛ فإن السهو لا

يؤمن في القضاء، وهذا يؤمن، فيمكن الاحتراز عنه. فرع: من عليه فوائت لا يعرف عددها، قال القفال: يقال له: اقض ما تحققت تركه. قيل: وهو أشبه بالمذهب؛ لأن من شك [في] أنه ترك شيئاً من فروض الصلاة بعد السلام، لا يلزمه الإعادة. وقال القاضي الحسين: عندي يقال له: اقض ما زاد على ما تحققت فعله. قيل: وهذا أحوط. قال القاضي: وما قاله القفال يخرج على القديم في أن من شك هل ترك ركناً من الصلاة أم لا؟ يلزمه الإعادة، وفي الجديد: يلزمه الاستئناف. والله أعلم. ***

باب الأذان

باب الأذان الأذان والتأذين والأَذِين بمعنى، وهو في اللغة: الإعلام، قال الله- تعالى-: {وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 2] أي: إعلام، وقال- تعالى-: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] أي: أعلمهم، [ويقال لمن أعلَمَ] بالشيء: آذَنَ به، وإذا أكثر الإعلام به قيل: أذَّنَ، قال الله- تعالى-: {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء: 109]. قال الزجاج: و"الأذان" مشتق من "الأذن"؛ لأنه مما يسمع. وهو في اصطلاح العلماء: الذكر المخصوص، سمي به؛ لأنه شرع في الأصل للإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة؛ ليجمع الناس لها. والأصل في مشروعيته في الجملة قبل الإجماع من الكتاب قوله- تعالى-: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} [المائدة: 57]، وقوله- تعالى-: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا ...} [الجمعة: 8]. ومن السنة: أخبار كثيرة يأتي منها في الباب ما أمكن، وأمسها بما نحن فيه ما روى عبد الله بن زيد، قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل؛ ليضرب به لجمع الناس- طاف بي رجل وأنا نائم يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، فقال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت [له]: بلى، قال: فقال: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ ... وساق ما ذكره الشيخ سوى الترجيع. ثم استأخر غير بعيد، ثم قال: [تقول] إذا أقمت الصلاة: الله أكبر .. وساق كلمات الإقامة كما ذكرها الشيخ. [قال:] فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأيت، فقال: "إِنَّهَا رُؤْيَا حَقٍّ- إِنْ شَاءَ اللهُ- فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ؛ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتاً مِنْكَ"، فقمت مع بلال،

فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، فسمع ذلك عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وهو في بيته، فخرج يجر رداءه، فقال: يا رسول الله؛ والذي بعثك بالحق، لقد رأيت مثل الذي رأى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلِلَّهِ الْحَمْدُ"، رواه أبو داود، وذكر الترمذي آخره، وقال: هو حديث حسن صحيح. وذكر في "الوسيط" القصة والخبر على غير هذا النحو؛ إتباعاً لإمامه والقاضي الحسين، وتضمن- كما قالوا- أن عبد الله بن زيد أذن مرة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال القاضي [الحسين] والمتولي: إنه أول مؤذن أذن في الإسلام.

وقال ابن الصلاح: إن هذا لم أجده بعد البحث عنه، وكذا [ما] ذكره [من] أنه أتى بضعة عشر من الصحابة كلهم رأى مثل ذلك، لم أجده بعد إمعان البحث. ثم هذه القصة كانت بالمدينة؛ إذ بها شرع الأذان و [كذا] الجمعة والجماعات، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة يقيم الجمعة والجماعات. قال: الأذان والإقامة سُنة في الصلوات المكتوبة؛ لأنه صح بالنقل المتواتر- خلفاً عن سلف- أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك والمواظبة عليه فيها، ودلت الأخبار على أن ذلك ليس بفرض عين ولا كفاية؛ فتعين أنه سُنة. فمن الأخبار ما روى البخاري، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ". وما رواه- أيضاً- من أنه- عليه السلام- قال للمسيء في صلاته: "إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأحْسِنِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَكَبِّرْ" أخرجه مسلم بمعناه. ووجه الدلالة: أنه لم يأمره بأذان ولا إقامة، ولو كان واجباً لذكره. وروى أبو داود عن أبي محذورة قال: قلت: يا رسول الله، علمني سُنة الأذان، قال: فمسح [مُقدم] رأسي، وقال: "تَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ ... " وساق الخبر، فأقره على قوله: "علمني سُنة الأذان"، ولأن المقصود من الأذان والإقامة: الإعلام بدخول وقت حضورها؛ فلم يكن ذلك واجباً؛ كقوله: "الصلاة جامعة" في العيدين ونحوهما. وتقييد الشيخ ذلك بالمكتوبة يدل على: أنه غير سُنة في الصلاة المنذورة والعيد

والاستسقاء والجنازة، وهو كذلك؛ لأنه لم ينقل أن ذلك فعل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن أحد من الصحابة- وهم القدوة- بل قد ورد ما قد يدل على اختصاص ذلك بالمكتوبة، إذا ضم إلى ما قدمناه من خبر أبي هريرة، وهو ما روى ابن عمر قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثةٌ في كُثْبَانِ الْمِسْكِ- أراه قال: يَوْمَ الْقِيَامَةِ- يَغْبِطُهُمُ الأَوَّلُونَ وَالآخِروُنَ: رَجُلٌ نَادَى بِالصَّلَوَاتِ الخَمْسِ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَرَجُلٌ يَؤُمُّ قَوْمَاً وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ، وَعَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ". أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب. وهذه السُنة تتأدى إذا اشتهر ذلك في البلد بأذان واحد إن كان البلد صغيراً، أو بأكثر منه إن كان كبيراً، حتى لو كان به مَحَالّ توقف تأدية السُنة على الإتيان به في كل محلة. وإذا كان القوم في صحراء أو بادية، فتأديتها يكون بمثل ما هو في البلد، وإذا فعل ذلك فقد حصلت السُّنة، وظهر الشعار، لكن [هل] يستحب ذلك بعد ذلك، لمن أراد إقامة الصلوات في أوقاتها الأصلية، أو لا؟ فيه تفصيل يتعين ذكره، فنقول: من حضر في الموضع الذي تقام فيه الصلاة، الأذان والإقامة؛ فلا يستحب له أن يؤذن، ولا أن يقيم وفاقاً، وكذا لو لم يكن حاضراً فيه، لكنه بلغه النداء، فحضر في المسجد قبل أن تقام الصلاة، أو قد أقيمت، وأدرك الصلاة. وإنما كان كذلك؛ لأن الغرض الأظهر الذي انبنى عليه أصل الأذان: الدعاء إلى الصلاة وإعلام الناس دخول وقت الصلاة، والغرض من الإقامة: إعلام من حضر أو قرب مكانه ممن يحضر، أن الصلاة قد قامت، ومن سمع النداء وحضر فهو مدعو مجيب؛ فلا معنى إذن لإتيانه [بذلك]، وهذا ما حكاه ابن الصباغ، وكذا الإمام، وقال: إنه لا شك فيه. وفي "تعليق القاضي الحسين": أن بعض أصحابنا قال فيمن بلغه النداء، ووافى حضوره المسجد قبل أن تقام الصلاة، أو قد أقيمت: إنه يستحب له أن يؤذن في نفسه ويقيم، وإن كان قد تابع المؤذن وقت أذانه وقال مثل قوله، وأن الذي عليه عامة

أصحابنا، وهو ظاهر المذهب: الأولُ. نعم، لو وافى حضوره المسجد وقد صلت الجماعة [فيه]، استحب [له] أن يؤذن ويقيم مع خفض الصوت، ويكره رفعه؛ لأنه يوهم الجيران وقوع صلاتهم قبل دخول الوقت، خصوصاً إن كان ثَمَّ غيمٌ، وربما شق ذلك على المؤذن، وهذا قد حكاه ابن الصباغ عن نصه في "الأم"، وأنه لا فرق فيه بين أن يرجو حضور جماعة أو لا، ولم يحك سواه. وفي "تلخيص الروياني" أنه نص في "الأم" على: أنه يستحب أن يؤذن ويقيم، وقال في موضع آخر من "الأم" ما يدل على أنه لا يستحب. قال: وليست المسألة على قولين، بل هي على حالين: فإن كان الإمام والناس انصرفوا أو فرغوا يؤذن ويقيم، وإن دخل حين فرغ الإمام من الصلاة لا يؤذن ولا يقيم. فأفهم كلامه أنا إذا قلنا: يؤذن ويقيم، يرفع بهما صوته؛ لأنه قال بعد حكاية هذه الطريقة: ومن أصحابنا من قال: إنه يؤذن ويقيم في نفسه بكل حال، ولا يرفع صوته، وما قاله في "الأم" من: أنه يصلي بلا أذان ولا إقامة، أراد به الجواز. وفي "النهاية: ما يقتضي إجراء خلاف في الأذان فيه سواء وفي الإقامة بالترتيب؛ فإنه حكى عن صاحب "التقريب" فيما إذا حضر المسجد جماعة بعد أن أقيمت الجماعة فيه بأذان المؤذن الراتب، وأرادوا عقد جماعة أخرى: أنه لا ينبغي أن يؤذن مؤذنهم رافعاً صوته، وهل يؤذن في نفسه من غير إبلاغ في رفع الصوت؟ فيه نصوص مضطربة انتزع منها قولين: أحدهما: نعم، وهو ما حكاه المزني عن الشافعي في "المختصر الكبير"، ووجَّهه الغزالي: بأن الدعوة الأولى قد انتهت بالإجابة الأولى؛ فعلى هذا يقيم من طريق الأولى. والثاني: لا يؤذن؛ اكتفاء بما سبق من الأذان الراتب؛ فإنه تضمن دعاء كل من حضر أولاً وآخِراً إلى انقضاء [الوقت]، وعلى هذا: فهل يقيم؟ فيه وجهان، أصحهما: نعم.

وإذا ثبت الخلاف كما ذكرنا في حق الجماعة الثانية فالمنفرد أولى، ولا يقال: إن الخلاف المذكور إنما جاء في الجماعة؛ لأن في كراهية إقامة جماعة بعد جماعة في مسجد له إمام راتب خلافاً؛ فلا جرم كان في استحباب الأذان الخلاف؛ لأنا نقول: لو كان كذلك، لكنا نقطع بأنه يؤذن إذا قلنا: لا تكره إقامة الجماعة الثانية. وقد قال الرافعي: إن القولين جاريان، سواء قلنا: يكره إقامة جماعة ثانية فيه، أَوْ لا. قلت: ولأجل هذا صور الغزالي مسألة الخلاف في أذان الجماعة الثانية: بما إذا كان المسجد مطروقاً؛ فإنك ستعرف أنه لا خلاف في عدم كراهية إقامة جماعة ثانية فيه، فكان فيما ذكره تنبيه على أنه لا [ينبني] على الخلاف في إقامة جماعة ثانية فيه هل يكره أم لا؟ وأن قول المنع في غير المطروق يكون من طريق الأولى. وقال الرافعي: لعل الغزالي إنما فرض الخلاف في المسجد المطروق، وإن كانت رواية صاحب "التقريب" مطلقة؛ لأن إقامة جماعة بعد جماعة إنما تتفق غالباً في المساجد المطروقة. ولو بلغ الغائب عن الموضع- الذي تقام فيه الصلاة- الأذان والإقامة فيه ولم يحضره، ورام فعل الصلاة في مكانه، فهل يكفيه أذان المؤذن وإقامته أم لا؟ فيه احتمالان حكاهما الإمام عن صاحب "التقريب"، وحكاهما البندنيجي قولين: أحدهما- وعليه نص في القديم-: أنه يكفيه. والثاني- وهو الذي نص عليه في "الأم"-: لا يكفيه؛ فيأتي بالأذان والإقامة. قال الإمام: وليس أذانه إقامةَ الشعارِ الذي وصفناه؛ فإنه ليس بطلب دعاء جمع، وقد قام بالدعاء العام المرتبون له. ثم الظاهر: أنه على هذا القول يستحب له رفع الصوت بالأذان؛ لفقد علة المنع فيه، ويأتي فيه ما سنذكره عن الإمام فيه من بعد. ولو كان شخص منفرداً بنفسه في الصلاة، و [كان] ذلك في موضع لم ينته إليه صوت مؤذن، قال الإمام: فالظاهر من المذهب: أنه يؤذن ويقيم، وهو المنصوص عليه

في الجديد، وفي بعض التصانيف قول محكي عن الشافعي في القديم: أنه لا يؤذن المنفرد، ولكن يقيم، وقال بعض أئمتنا: إن كان يرجو حضور جماعة أذن، وإلا فلا. وهذا الإطلاق من الإمام يقتضي: أنه لا فرق في إجراء الخلاف في حق من ذكره [بين] أن يكون في البلد أو خارجاً عنها، ولا جرم حكاه في "الوسيط" في المنفرد في بيته، أو في سفر، إذا لم يبلغه نداء المؤذنين، وقال: إذا قلنا: لا يؤذن، فهل يقيم؟ فيه وجهان قدمنا مثلهما. وفي "التتمة" التصريح بحكاية القولين فيما إذا كان المصلي في البلد، وهو قضية كلام ابن الصباغ، حيث قال: قال الشافعي في "الأم": يؤذن سواء صلى منفرداً أو في جماعة، وأنا عليه في المساجد العظام أشد استحباباً. وقال في القديم: وأما الرجل يصلي وحده في المصر، فأذان المؤذنين وإقامتهم كافية له. فظاهر ذلك قولان. قلت: والقول القديم مصرح بأن الإقامة كالأذان، ووجهه المتولي: بأن أهل الجماعة لا يسن لكل [واحد] منهم الأذان والإقامة، بل [يكتفي] بأذان واحد منهم، وكذا في حق أهل البلد يكتفي بأذان المؤذنين، وجزم القول بأن المنفرد في صحراء أو طريق، إذا أراد أن يصلي، استحب له أن يؤذن، وهو ما أورده البندنيجي والقاضي الحسين؛ لما روي أنه- عليه السلام- قال: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، صَلَّى وَحْدَهُ، وَإِنْ صَلَّى وَأَقَامَ، صَلَّى مَعَهُ مَلَكَاهُ، وَإِنْ صَلَّى بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، صَلَّى مَعَهُ صَفٌّ مِنَ المَلَائِكَةِ: أَوَّلُهُ بِالمَشْرِقِ، وَآخِرُهُ بِالمَغْرِبِ".

قال القاضي في حق من كان خارج المدينة ونحوها: فإن قبلته تكون ما بين المشرق والمغرب. وقيل: إنه أراد به التمثيل، والغزالي استدل لهذا القول بما روي أنه- عليه السلام- قال لأبي سعيد الخدري: "إِنَّكَ رَجُلٌ تُحِبُّ البَادِيَةَ وَالغَنَمَ، فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَأَذِّنْ وَارْفَعْ صَوْتَكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَكَ شَجَرٌ، وَلَا مَدَرٌ، [وَلَا حَجَرٌ]، إِلا شَهِدَ لَكَ يَوْمَ القِيَامَةِ". وقد نوقش في نسبة هذا القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقائله إنما هو أبو سعيد لعبد الله ابن عبد الرحمن بن أبي [صعصعة]؛ روى البخاري أن أبا سعيد قال لعبد الله: "إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيءٌ، إلا شهد له يوم القيامة، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ورواية الشافعي عن مالك نحو هذا. وإذا صح إجراء الخلاف في [حق] من لم يبلغه النداء، سواء كانفي الموضع الذي وقع فيه النداء أو خارجاً عنه، وقد صح إجراؤه فيمن بلغه النداء ولم يحضر [ذلك]- جاز لك أن تقول لمن لم يحضر إلى الموضع الذي أذن فيه: هل يستحب له أن يؤذن ويقيم أم لا؟ فيه قولان: الجديد: نعم. والقديم: لا.

وفيه وجه: إن كان يرجو حضور جماعة أذن، وإلا فلا. والغزالي جعل الخلاف فيمن بلغه النداء مرتباً على من لم يبلغه، واولى بألا يؤذن؛ اكتفاء بالنداء العام، والحامل له على ذلك: أن الإمام لم يحك في حالة بلوغ النداء الخلاف منصوصاً، وحكاه احتمالين عن صاحب "التقريب"؛ فلذلك حسن الترتيب. [ويأتي] على هذا في مجموع المسألتين ثلاثة أقوال غير وجه الأصحاب؛ وكذا قاله الإمام، ثم قال: ولا ينبغي أن يختلف القول في المنفرد الذي لم تبلغه دعوة، وهو يرجو حضور جمع. ثم حيث قلنا: يؤذن فيما إذا لم يبلغه النداء، فهل يرفع [به] صوته؟ قال الإمام: الظاهر أنا نُؤْثِرُهُ له بحديث أبي سعيد الخدري. ومن أئمتنا من قال: إن كان يرجو حضور جمع؛ رفع صوته، وإن كان لا يرجو، أذن في نفسه. وحديث أبي سعيد، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس نصّاً في حالة انفراده؛ فإنه- عليه السلام- لم يتعرض لذلك، وليس يبعد عن الحال: أنه كان يقول مع عُصْبة من خدمه وحشمه. قال: والخلاف جار فيمن سمع النداء، وقصد فعل الصلاة في محله، وأولى بألا يرفع. قال: ويترتب من المسألة ثلاثة أوجه، قال: ثم حيث نقول: لا يرفع، لا يكره رفع الصوت، ولا ينهى عنه، بل هو أولى قطعاً، وإنما الكلام في الاعتداد بالأذان من غير رفع الصوت. قال: وهو أفضل من الإمامة، أي: ألشعار الذي تقدم ذكره من الأذان والإقامة أفضل من الإمامة؛ لقوله- تعالى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ}، [فصلت: 32].

قالت عائشة- رضي الله عنها-: هم المؤذنون. وروى أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللَّهُمَّ أَرْشِدِ الأَئِمَّة، وَاغْفِر للمُؤْذِّنِينَ" والأمانة أعلى من الضمان، والمغفرة أعلى من الإرشاد. قال بعضهم: ووصف المؤذن بالأمانة؛ للاعتماد عليه في المواقيت والإطلاع على الحريم، والأئمة بالضمان؛ لتحملهم سهو المأموم والقيام والقراءة عن المسبوق. وقد روى مسلم أنه- عليه السلام- قال: "المُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ أَعْنَاقاً يَوْمَ القِيَامَةِ"، وفي معنى طول أعناقهم أقوال: أحدها: أنهم أكثر الناس رجاء؛ لأن الراجي لشيء يتشوف إليه ويمد عنقه، والخائف يخنس. والثاني: أنهم أكثر الناس أعمالاً، يقال: لفلان عنق من الخير، أي: قطعة؛ قاله ابن الأعرابي. والثالث: أنهم أقرب إلى الله. والرابع: أنهم لا يلحقهم العرق؛ فإن العرق يأخذ الناس على قدر أعمالهم. والخامس: أنهم يكونون رُءوساً في ذلك اليوم، والعرب تصف السادة بطول العنق. والسادس: أنهم أكثر الناس جماعات، يقال: جاء عنق من الناس، أي: جماعة ومنه قوله- تعالى-: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا ..} الآية [الشعراء: 3] أي: جماعاتهم؛ ولذلك لم يقل: خاضعات.

وعلى هذا ما المراد بالجماعة الكبيرة؟ قيل: الذين يشفعون فيهم، وقيل: المصلون بأذانهم. وقد روي: "إعناقاً" بالكسر، أي: هم أكثر إسراعاً إلى الجنة؛ قاله البغوي. وما ذكره الشيخ، قد حكاه القاضي أبو الطيب والمراوزة وجهاً في المسألة، مع وجه آخر: أن الإمامة أفضل [منه]، وقال القاضي أبو الطيب والغزالي: إنه الصحيح وكذا الرافعي، وقال: إنه ذهب إليه صاحب "التقريب" والقفال والشيخ أبو محمد وغيرهم، ورجحه القاضي الروياني- أيضاً- وحكاه عن نص الشافعي- رضي الله عنه- في كتاب "الإمامة"، وعلله بأن الإمامة أشق، والقاضي أبو الطيب، ووجهه بأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين واظبوا عليها، وهو دليل الأفضلية، ولأن الغرض من الأذان الاستحثاث على الجماعة، [والإمامة] عين القيام بعقد الجماعة، والقيام بالشيء أولى من الدعاء إليه، وقول عائشة- رضي الله عنها- في تفسير الآية معارض بقول ابن عباس: إن المراد فيها أنصاره وأصحابه. وكأنه الصحيح؛ لأن السورة من آخر ما نزل بمكة، والأذان إنما ترتب بالمدينة؛ كما ذكرنا. وقوله- عليه السلام-: "الأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ" تنبيه على خطر الإمامة، ويشعر بعلو قدرها مع الحث على التوقي من الغرر ولا يقال: إنه عليه السلام- إنما امتنع من الأذان؛ لأنه لو قال: "أشهد أن محمداً رسول الله"، لأوهم أن محمداً غيره، ولو قال: "أشهد أني رسول الله"، لغير نظم الأذان، ولأنه دعاء وإجابته- عليه السلام-

واجبة، وإجابة المؤذن فيما دعا إليه لا تجب؛ فلذلك لم يفعله؛ لأنا نقول قد روى الترمذي بسنده أنه- عليه السلام- أذن، وذلك يمنع هذا. ولو لم يصح أنه- عليه السلام- أذن، قلنا: لو قال: "أشهد أن محمداً رسول الله" لم يكن قادحاً؛ فإنه كذا كان يقول في التشهد، وإجابته إذا دعا مخصوصة بما إذا لم يقرر أنها سنة، أما إذا فهم منه أن ما دعا إليه غير واجب، فلا نسلم أنها تجب، ولأن العلة لو كانت هذه لأذن أبو بكر وعمر؛ إذ هذا المعنى مُنْتفٍ في حقهما. والذي صححه في "الروضة" الأولُ، قال: وهو قول أكثر أصحابنا. وقد نص الشافعي- رضي الله عنه- في "الأم" على كراهة الإمامة، فقال: أحب الأذان؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غَفَرَ اللهُ للْمُؤَذِّنِينَ"، وأكره الإمامة؛ للضمان [وما على الإمام فيها]. قلت: وإلى هذا يميل كلام الإمام، وامتناع النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأذان؛ كان لاشتغالهم بما هو أهم منه؛ ولذلك قال عمر: "لولا الخلافة لكنت مؤذناً"، وكون القيام بالشيء أولى من الدعاء إليه صحيح؛ إذا لم يكن الداعي قد أتى به- أيضاً- أما إذا كان دعا إليه وقام به مع من قام، فهو أولى ممن قام به فقط، والأذان كذلك

[والإمامة التي يسبقها من أذن]، وما أجيبَ به عن السؤال المقدور: وهو القياس على التشهد، فالفرق: أن ذاك لا يقصد إظهاره، بخلاف الأذان والإقامة. وقد قيل: إن الأذان والإمامة سواء؛ قاله صاحب "الإفصاح". قلت: وعليه يدل قوله- عليه السلام-: "ثَلَاثَةٌ في كُثْبَانِ المِسْك" الحديث الذي سلف في أول الباب. وقيل: إن [من] كان يعلم من نفسه القيام بحقوق الإمامة، فهي أفضل في حقه، وإلا فالأذان أفضل في حقه، وقد اختاره صاحب "المرشد"، ويقال: إن هذا قول أبي علي الطبري والمسعودي. وعلى هذا لو صلح لهما، أمكن أن يقال: يأتي الخلاف [السابق] في حقه، وأمكن أن يقال: الأفضل في حقه الجمع بينهما، وهو ما حكاه في "الروضة" عن أبي علي الطبري، والماوردي، والقاضي أبي الطيب، وصححه، والرافعي حكاه عن ابن سريج واستغربه، وقال: لعله محمول على أن الأفضل في حقه أن يؤم قوماً، ويؤذن لآخرين. وقيل: إنه لا يستحب الجمع بينهما، وهو ما قاله الروياني في "تلخيصه"؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة فعل ذلك. وعن الشيخ أبي محمد: أنه مكروه؛ لنهي ورد فيه إن صح، وبه قال البغوي والغزالي في "الإحياء"، ولعله محمول على ما إذا كان يؤذن لقوم ويؤم بهم. وهذا الخلاف كله تفريع على أن الأذان والإقامة، [اللذين يعبر عنهما بالشعار سنة]، وهو ما قال البندنيجي: إنه المذهب. قال الشيخ: وقيل: وهو- أي: الشعار المذكور من الأذان والإقامة- فرض على الكفاية؛ [كما صرح به في "المهذب" وغيره]؛ لقوله- عليه السلام- لنفر أقاموا عنده عشرين ليلة: "ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَمُرُوهُمْ، فَإِذَا

حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ثمَّ ليَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ" هذه رواية مسلم، وزاد البخاري: "وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أصلي"، وهذا أمر وظاهره الوجوب. ولأن ذلك من الشعائر الظاهرة المستمرة في الشريعة، وقد صح أن رد السلام من فروض الكفايات؛ لأنه نم شعائر الإسلام، فما ذكره أولى. والكفاية تحصل إذا قام به البعض على النحو الذي قلنا: إن السُّنة تتأدى به على القول الأول؛ وحينئذ يسقط الفرض عن الباقين. قال النواوي في "التحرير لألفاظ التنبيه": وإذا فعلته طائفة أخرى كان فرضاً- أيضاً- وكلام الإمام يأباه؛ كما ستعرفه. وهذا القول محكي في "التتمة"، و"الشامل"، وغيرهما عن الإصطخري. وقال الإمام: إن بعض المصنفين في المذهب عكس ذلك، فذكر أن الأصح الذي ذهب إليه جمهور الأئمة: أن ذلك من فروض الكفايات وأن أبا سعيد الإصطخري ذهب إلى أنه سنة، وهذا منه إشارة إلى "الإبانة"؛ فإن لفظها قريب من ذلك، قال: والذي عليه التعويل الأول، ولم يحك الصيدلاني عن الأصحاب غيره، وحكى القول بأنه فرض كفاية، عن بعض أهل العلم. وعلى القول به قال الشيخ: فإن اتفق أهل بلد على تركه، قاتلهم الإمام- أي: أو من يقوم مقامه- بعد الإنذار؛ لأن هذا شأن فروض الكفايات إذا تركت، وهكذا الحكم فيما إذا امتنع أهل محلة من بلد كبير منه، دون باقي أهل البلد، قاتل الإمام أهل المحلة فقط. أما إذا قلنا: إنه سنة، فالمذهب أنهم لا يقاتلون، وهذا ما حكاه البندنيجي. وحكى الماوردي وغيره عن أبي إسحاق: أنهم يقاتلون- أيضاً- بعد الإنذار؛ استدلالاً بما روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- في زمانه- كانوا إذا مروا بناحية، ولم يسمعوا صوت الأذان؛ صابحوا أهلها بالقتال؛ ولأن النفوس تطمئن إلى إقامة الشعار الظاهر إلا إذا أضمروا ردَّ الشريعة واعتقدوا بطلانها.

وما ذكره لا حجة فيه؛ لأن ترك الأذان في ذلك الوقت كان علامة على الكفر؛ إذ كانوا قاطعين بأن قابلي الإسلام، ومصدقي الرسل في علو الدين وصدر الشريعة وصَفْو الملة كانوا لا يتركون الأذان، ولا كذلك في غير ذلك الزمان. وأيضاً الاستدلال بترك الأذان على إماتة الدين لا وجه له؛ إذ الكلام في قوم اعتقدوا أنه سُنة، وتَنَاجَى به الخواص [منهم] والعوام، وواظبوا على إقامة الصلوات. ثم كلام أبي إسحاق كالمتناقض؛ إذ المقاتلة قد تفضي إلى القتل، وهو نهاية العقوبات، وكل ما يتعلق بتركة عقوبة، يستحيل [القضاء بكونه سُنة؛ إذ حقيقة السُّنة جواز تركها، وما يجوز تركه يستحيل] أن يَجُرَّ قتلاً. وقد قيل: إن ذلك سُنة إلا في يوم الجمعة؛ فإنه فرض كفاية، وهذا ما حكاه البندنيجي، والشيخ في "المهذب"، عن أبي سعيد الإصطخري وابن خيران. والإمام اقتصر على نسبته إلى ابن خيران، وأنه وجهه: بأن الأذان دعاء إلى الجماعات، وإنما تجب الجماعة على الأعيان مع الاختصاص بأوصاف معروفة يوم الجمعة؛ فاختص الأذان الذي هو دعاء إليها بكونه فرضاً على الكفاية. وعلى هذا فالذي يتعلق به الفرض النداء الذي يحرم البيع عنده، وهو الذي بين يدي الخطيب، كذا حكاه البندنيجي عنهما. وحكى الإمام عن رواية شيخه وجهاً آخر: أنه يُكتفَى بالأذان الأول الذي ينادي به للجمعة. فإن قلت: قد نقل أن الإصطخري قال: إنه فرض كفاية مطلقاً أو سُنة مطلقاً، فكيف يحسن نسبة هذا القول إليه؟! قلت: بطريق الجمع بين النقلين: ما قاله الماوردي من أن الإصطخري قال: إنه فرض كفاية مطلقاً، وأنه ادعى أنه في الجمعة ثابت بالإجماع؛ فظن من وقف على آخر كلامه دون أوله أن ذلك مذهبه [لا غير] فنسبه إليه. والله أعلم.

تنبيه: قول الشيخ: "وقيل: هو فرض على الكفاية"، بعد قوله: "الأذان والإقامة سُنة في الصلوات المكتوبة" يفهم: أنه فرض كفاية في الصلوات المكتوبة، وهو ما يفهمه كلام البندنيجي- أيضاً- وهو ظاهر في الفقه؛ إذ الظاهر أن القائل بأنه فرض كفاية على الإطلاق، ولا يخصه بيوم الجمعة- هو القائل: بأن صلاة الجماعة فرض كفاية؛ إذ الأذان والإقامة وسيلة إليها. والجماعة على هذا القول فرض كفاية في الصلوات المكتوبة، وهي الخمس، وحكم الوسائل في الغالب حكم المتوَسَّل إليه. وقد حكى الإمام عن الفوراني أنه لم يَرَ هذا المذهب معزيّاً إلى [الأصحاب]، وإنما هو مذهب عطاء. نعم، الواجب على هذا القول الإتيان به في اليوم والليلة مرة واحدة. قال الإمام: على الصحيح. ولم أر هذه اللفظة في "الإبانة". قال: والأذان تسع عشرة كلمة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله- يخفض صوته بالشهادتين- ثم يرجع فيمد صوته فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله؛ لما روي عن أبي محذورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال له: "قُمْ فَأَذِّنْ بالصَّلاَةِ" فألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم] التأذين هو نفسه، فقال: "قُلِ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، [ثُمَّ قَالَ: ارْجِعْ فَامْدُدْ مِنْ صَوْتِكَ، ثُمَّ قُلْ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ]، حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلاح، حَيَّ عَلَى الفَلاح، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لا إِلَهَ إِلا اللهُ" أخرجه النسائي.

ورواية أبي دَاودَ أمسُّ بالمدَّعَى؛ فإنه رَوَى عن أبي محذورة قال: قلت: يا رسول الله، علمني سنة الأذان، قال: فمسح مقدّم رأسه، قال: "تَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ،- تَرْفَعُ بِهَا صَوْتَكَ، ثُمَّ تَقُولُ-: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، تَخْفِضُ بِهَا صَوْتَكَ، ثُمَّ تَرْفَعُ صَوْتَكَ بالشَّهَادَةِ- أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلاح، حَيَّ عَلَى الفَلاح- فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ الصُّبْح قُلْتَ: الصَّلاةِ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلاةِ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ- اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لا إِلَهَ إِلا اللهُ". لكن هذا يرويه الحارث بن عبيد عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة عن أبيه عن جده، قال عبد الحق: لا يحتج بهذا الإسناد؛ فلذلك بدأنا بالأول، وبه بدأ أصحابنا أيضاً، وقالوا: إن الشافعي- رضي الله عنه- رواه عن مسلم بن خالد عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة عن أبي محذورة، وكان يتيماً في حجر أبي محذورة، وإن الشافعي قال: وأدركت إبراهيم بن عبد العزيز المذكور يؤذن كذلك. وما ذكره الشيخ من أن الأذان تسع عشرة كلمة هو ما قاله كافة الأصحاب، وهو يقتضي أن الإتيان بالشهادتين- وهما: أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، وأشهد أن محمداً رسول الله مرتين، مع خفض الصوت-[ركن في الأذان، كالإتيان بهما مع رفع الصوت] وبقية ألفاظ الأذان؛ فلا يعتد بالأذان بدونهما، وهو وجه حكاه المراوزة، والروياني، وقال: إنه ليس بشيء، وقال الإمام: لعل الأصح والأظهر أنه لا يبطل بترك ذلك، وأنه ليس بركن، وأكثر العراقيين لم يتعرضوا للكلام في ذلك، لكن البندنيجي قال في "تعليقه"- بعد قوله: إن الأذان تسع عشرة كلمة-: إن الشافعي قال في "الأم": فمن نقص منه شيئاً، أو قَدَّم مؤخَّراً، أعاد حتى يأتي بما نقص وكل شيء منه في موضعه. وهذا عين ما قلنا: إن كلام الشيخ يقتضيه.

وقد حكاه القاضي الحسين عن رواية البيهقي عن الشافعي، وقال: إنه مشكل؛ لأنه أتى بأصل الأذان؛ فوجب أن يصح كما لو ترك التكبيرات السبع والخمس في صلاة العيدين. وجوابه: أن الدليل قام ثَمَّ على أن التكبيرات سنة، ولا كذلك ها هنا. فإن قيل: خبر عبد الله بن زيد- الذي هو الأصل في مشروعية الأذان- لم يذكر فيه ذلك؛ بل اقتصر فيه على الإتيان بالشهادتين مرتين من غير ترجيع، وبه كان يؤذن بلال في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلنا: العمل برواية أبي محذورة أولى؛ لأنه متأخر، وتشتمل على زيادة، والنبي صلى الله عليه وسلم لقَّنه إياه، وعليه أجمع أهل الحرمين. وروي [عن] سعدِ القَرَظِ أنه كان يؤذن، ويقول: هذا أذان بلال الذي كان يؤذن به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويؤيده- أيضاً- ما روي أنه- عليه السلام- قال: "الأَذَانُ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً" [ولا يكون ذلك عدده إلا مع الترجيع، وبه يقع الجواب- إن صح- عما تمسك به مالك من أنه سبع عشرة كلمة،] وهو ما رواه مسلم عن أبي محذورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه هذا الأذان: "الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة- مرتين- حي على الفلاح- مرتين- الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله". انتهى. وإن لم يصح فحجتنا عليه: أن الرواية التي تمسكنا بها قد اشتملت على زيادة، والعمل بها أولى، والله أعلم. وقد نوقش الشيخ في قوله: "ثم يرجع، فيمد صوته"، وقيل: [كان] الأولى أن

يقول: "فيرفع صوته"؛ فإن المراد رفع الصوت، ولا يلزم من المدِّ الرفعُ. وأجاب المناقش بأنه سمع من العرب: مد صوته، بمعنى: رفعه. وأنا أقول: إنما قال الشيخ ذلك؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال كذلك؛ كما ذكرناه في رواية النسائي. "ويَرْجِع"- بفتح الياء وإسكان الراء-: أي: يعود إلى رفع الصوت، وقد يصحفه بعض الناس، فيقول: "يُرَجِّع" بضم الياء وتشديد الجيم، وهو خطأ؛ لأن الترجيع: الإتيان بالشهادتين سرّاً، وقد انقضى ذلك، وإنما المراد ما ذكرناه؛ [كذا] قاله النووي. وكلام الإمام يقتضي أن الترجيع: مجموع الإتيان بالشهادتين مع الخفض والرفع، وعليه جرى الرافعي. والمراد بالخفض عند الشيخ أبي محمد والقاضي الحسين: أن يكون بحيث يسمع من بالقرب منه أو أهل المسجد إن كان واقفاً عليهم، وكان المسجد مقتصد الخِطَّة. قال الإمام: ويحتمل أن يكون المرجع فيه إلى مثل القراءة في الصلاة السرِّية، والأول أشبه؛ لأن الذي يؤذن في نفسه-[كما تقدم]- لا يقتصر على إسماع نفسه، وقد حكى الروياني في "تلخيصه" الأول عن نص الشافعي، رحمه الله. فرع: إذا لم يرجع في أذانه، وقلنا: يعتد به، فهل يثني على إقامته؟ حكى العمراني في "زوائده" فيه وجهين: أحدهما: يثنيها؛ لأنه إنما لم يثن فيها؛ اكتفاء بتثنية الأذان. والثاني: [لا]؛ لأن فيه تركاً لسنتها مع ترك سنة الأذان، وترك سنة أولى من ترك سنتين. قال: وإن كان في أذان الصبح، قال بعد الحيعلة: الصلاة خير من النوم، مرتين؛ لما تقدم من الخبر، وقد صح أن بلالاً كان يفعله.

قيل: وكان السبب فيه ما روى [ابن] عمر أن بلالاً أذن للصبح ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُؤْذِنَهُ، فقيل: إنه نائم، فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، الصلاة خير من النوم- مرتين- ثم دخل فحرك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي- عليه السلام-: "اجْعَلْهُ في تَاذِينِكَ، إذَا أَذَّنْتَ لِلصُّبْحِ فَقُلِ: الصَّلاةِ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلاةِ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ" كذا ذكره الروياني في "تلخيصه"، وما ذكره الشيخ هو ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- في القديم، واستدل له بفعل بلال؛ كما أفهمه كلام الإمام. وحكى الروياني أنه نص عليه في "الإملاء" أيضاً. وقال أبو الطيب: إن البويطي نقله. ونقل الكافة أنه كرهه في الجديد؛ لأن أبا محذورة لم يَحْكِهِ، واختلف الأصحاب بعد ذلك على طريقين: فمنهم من قال: فيه قولان، قال الإمام: وهي الطريقة المشهورة، وغيره حكاها عن أبي إسحاق المروزي، وأنه صحح القديم، وكذا المزني؛ لأن الزيادة في الإخبار أولى. قال الإمام: قال الأئمة: كل مسألة فيها قولان أحدهما جديد، فهو أصح من القديم، إلا في ثلاث مسائل، هذه إحداها. والطريقة الثانية: القطع بالقول القديم، وهي التي حكاها في "المهذب" عن الأصحاب، والصيدلاني عن المحققين، واختاره الشيخ أبو حامد؛ لأنه قيل: إن

الشافعي علق القول فيه على صحة خبر أبي محذورة، وقد صح بطرق أنه كان يُثَوِّبُ. وروى الدارقطني عن أنس قال: "من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر: حيَّ على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم"، والسنة إذا أطلقت حملت على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: "الصلاة خير من النوم" هو التثويب، سمي بذلك من قولهم: ثاب فلان إلى كذا، أي: رجع؛ فإنه لما قال: "حي على الصلاة" دعا إليها، وانتقل عن الدعاء إليها بقوله: "حي على الفلاح"، فإذا قال: "الصلاة خير من النوم" عاد إلى الدعاء إلى الصلاة، فسمي: تثويباً. وقد اعترض ابن المنذر على الأصحاب في تعليلهم كراهية الشافعي التثويب في الجديد، بأن أبا محذورة لم يَحْكِهِ، وأن الشافعي حكى ذلك في الكتاب العراقي عن سعد القرظ عن أبي محذورة، ولعل الشافعي نسيه بمصر؛ كذا قاله الروياني عنه. وأبو الطيب حكي عنه أنه قال: الشافعي في العراق روى حديث التثويب عن علي وعن بلال، ولعله [نسيه] بمصر؛ وعلى هذا لا تعارض بين ذلك وبين قول الأصحاب. ثم إذا قلنا [بأنه] يثوب فهو سنة لا ركن فيه باتفاق الأصحاب، حتى إذا لم يأت به اعتدَّ به، فقال الغزالي: فيه احتمال، وهو للإمام؛ من جهة أنه يضاهي كلمات الأذان في شرع رفع الصوت به؛ فكان أولى بالخلاف من الترجيع. [تنبيه:] "الله أكبر" معناه: أكبر ممن ينسب إليه ما لا يليق بجلاله ووحدانيته وصَمَدِيَّته. وقيل: معناه: الكبير. وقيل: معناه: الأكبر.

و"أشهد" معناه: أعلم. و"الرسول": هو الذي يبلغ خبر من أرسله وبايعه، من قولهم: جاءت الإبل رَسَلاً، أي: متتابعة. ومعنى "حي على الصلاة": تعالَوْا إليها. و"حي على الفلاح" معناه: هلموا إلى الفلاح، وهو الفوز، وقيل: البقاء الدائم. و"الحيعلة": حكاية قول المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح، كما يقال: البسملة، والحمدلة، والسَّبْحَلة. قال: والإقامة إحدى عشرة كلمة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله؛ لما ذكرناه من خبر عبد الله ابن زيد، وهو نص فيما ذكرناه. وقد روى البخاري ومسلم عن أبي قلابة عن أنس قال: "أُمِرَ بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر الإقامة"، وفي رواية: "إلا الإقامة"، وقوله: "أمر بلال" يريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك، يدل عليه أن النسائي أخرجه في سننه مبيَّناً من حديث أبي قلابة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة. قال الشيخ زكي الدين: ورجال إسناده [ثقات]. ومعنى "قد قامت الصلاة": دنت. والحكمة في تثنية الإقامة: أن ذلك نفس المقصود بها؛ فأكد؛ ولأن ما سواها من الألفاظ قد أعطي حقه من التثنية في الأذان. فإن قيل: قد روى أبو داود والنسائي عن ابن عمر قال: إنما كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة، غير أنه يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، فإذا سمعنا بالإقامة توضأنا، ثم خرجنا إلى الصلاة، وأنتم تثنُّون بعض

ألفاظها- وهو: الله أكبر- في صدرها، وفي آخرها. قيل: الإفراد في الإقامة على مقابلة تثنية الأذان في الخبر، وذلك يقتضي التشطير لا محالة، ولما تقرر في عرف الشرع ذلك كان التكبير مرتين في حكم اللفظ المفرد؛ إذ من المعلوم أن يؤتى به في صدر الأذان أربع مرات، وقد شهد الخبر أن الأذان مرتين مرتين، وذلك يدل على ما ذكرناه. [قلت: وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه يلزم منه أن يكون قوله: الله أكبر، الله أكبر، بعد الحيعلتين في الأذان في حكم الإفراد؛ وذلك يخرج الأذان عن أني كون مرتين مرتين. فإن قيل: المراد أن يكون معظم ألفاظ الأذان مرتين مرتين؛ بدليل ان قوله: لا إله إلا الله- في آخر الأذان- كلمة واحدة. قلت]: إذن معظمه مثنى وإن لم يقدر "الله أكبر الله أكبر" في حكم كلمة واحدة، ولا يرد على ذلك الترجيع؛ لأنا نقول ليس هو ركناً في الأذان، وإن قلنا: ركن، لكنه يعود إلى الكلمة بعد الانتقال عنها إلى غيرها، فكان كلفظ "الله أكبر" بعد الحيعلة؛ فلا حاجة مع ذلك إلى جعل قوله: الله أكبر- مرتين، في صدر الأذان- في حكم اللفظ المفرد، والله أعلم. وما ذكره الشيخ هو الجديد، ووراءه أقوال عزيت إلى القديم: أحدها- حكاه القاضي أبو الطيب عن رواية [القاضي] أبي حامد-: أنها عشر كلمات: ما ذكره الشيخ، غير أنه لا يكرر لفظ الإقامة، وقد حكاه الماوردي أيضاً، وقال: إنه مذهب مالك. والثاني- حكاه الإمام-: أنها تسع كلمات: ما ذكرناه قبله، غير أنه لا يكرر لفظ: "الله أكبر" في آخرها؛ ليكون قد رد الإقامة إلى شطر الأذان. والثالث- حكاه القاضي الحسين والمتولي والإمام أيضاً-: أنهما ثماني كلمات: ما ذكرناه آخراً، غير أنه لا يكرر لفظ "الله أكبر" في صدرها، وهذا هو المشهور عن

مالك؛ تحقيقاً للإفراد. وعن بعض الأصحاب- وهو محمد بن خزيمة؛ كما قال الرافعي-: إن رجع في الأذان فالسنة أن يثني الإقامة، وإن لم يرجع فيه فإنه يفرد الإقامة؛ لما روي عن أبي محذورة أنه قال: "لقَّنني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات الأذان تسع عشرة كلمة، وكلمات الإقامة سبع عشرة كلمة"، وإنما تكون الإقامة سبع عشرة كلمة إذا وجدت مَثْنى مَثْنى؛ كذا قاله القاضي الحسين وغيره. وقال المتولي: إن مراد هذا القائل: أنه إذا رجع في الأذان فسببه الأخذ بما تضمنه بعض الأخبار من الزيادة، وهذا الخبر اقتضى زيادة على غيره؛ فوجب الأخذ بها. وقد ذكر البغوي: أن هذا الوجه قولٌ للشافعي؛ وبه يكمل في المسألة خمسة أقوال، وأصحها باتفاق الأصحاب: ما ذكره الشيخ؛ لما ذكرناه، وبه عمل أهل الحرمين والشام. وقد أورد الشافعي على مالك سؤالاً لا جواب عنه، فقال: إن كنت تحقق الإفراد فاقتصر على التكبيرة الواحدة، ولا تعد إليها بعد كلمة الإقامة. ثم هذا الاختلاف هل هو من الاختلاف المباح [أوْ لا؟ قال ابن سريج: إنه من الاختلاف المباح] وليس بعضه أولى من بعض. قال الماوردي: وهذا قول مطَّرح بإجماع المتقدمين على أن الاختلاف في أولاه وأفضله، والله أعلم.

قال: ويستحب أن يرتِّل الأذان، ويُدْرِجَ الإقامة؛ لما روى أبو داود عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَا بِلَالُ، إذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فاحْذِمْ" وأخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب. وروي: "وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ". وعن عمر أنه قال لمؤذن بيت المقدس: إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحْذِمْ. قال أبو عبيدة: والرواية بالحاء، ومعناه: اقطع التطويل. ولأن الأذان للغائبين؛ فكان الترسل فيه أبلغ، والإقامة للحاضرين؛ فكان الإدراك فيها أشبه. وترسل الأذان: الإتيان به [مبيَّناً] حرفاً حرفاً على رسل: وهو إرسال النفس عند الإتيان بكل كلمة منه، واستثنى المتولي الإتيان بالتكبير، فقال: السنة أن تجمع كل تكبيرتين في صوت؛ لأن التكبير كلمة خفيفة؛ فلا يتعذر [جمع] تكبيرتين في صوت. وإدراج الإقامة: الإسراع فيها مع بيان الحروف، وقال الروياني: هو أن يدرج كلمة في كلمة، ويجمع بينهما في نفس واحد. وأصل الإدراج: الطَّيُّ، ومنه إدراج الميت في أكفانه. وفي قوله: "ويدرج" لغتان: بضم الياء وفتحها، وثالثة حكاها الأزهري: بتشديد الراء.

ويكره التمطيط: وهو التمديد، وكذا التغني: وهو التطريب، وقيل: أن يرفع صوته حتى يجاوز المقدار. قال القاضي الحسين: ويقرأ ولا يتغنى فيه، أي: لا يؤذن بحيث يشبه الغناء. قال: وتكون الإقامة أخفض صوتاً من الأذان. هذا وما بعده إلى قوله: "ويقول بعد الفراغ منه" معطوف على قوله: "ويستحب أن يرتِّل الأذان"؛ فيكون الكل مستحبّاً، وفي بعضه منازعة لبعض الأصحاب ستعرفها. ووجه استحباب خفض صوته في الإقامة عن الأذان: أنها إعلام لمن حضر، والأذان إعلام لغائب فكان الأولى فيه رفع الصوت، وقد أفهم قوله: "وتكون الإقامة أخفض صوتاً من الأذان" مع ما قدمناه من تقرير كلامه أن رفع الصوت فيهما لابد منه، وهو كذلك إذا كان ذلك للجمع؛ كما صرح به في "المهذب" وغيره، فإن أسر به لم يعتد به. وفيه وجه حكاه الرافعي وهو بعيد. نعم، لو كان ذلك لنفسه بأن كان منفرداً لا يرجو حضور جماعة اعتد به، وعلى هذه الحالة حمل الأصحاب- كما حكاه أبو حامد- قوله في "الأم": "لو جهر بشيء منه، وخَافَتَ في بعضه، لم يكن عليه إعادة ما خافت به؛ فإنه لو كان يؤذن في مسجد الجماعات، وخافت في بعضه- كان مخيراً: إن شاء أعاد ما خافت به، وإن شاء استأنف".

قال الشيخ أبو حامد: ويحتمل أن يريد الشافعي: إذا خافت بشيء منه بحيث لا يخرجه ذلك عن حصول الإعلام به: كتكبيرة أوْ شهادة، ويكون الباقي كافياً. ثم ما ذكرناه من الاعتداد بأذانه سرّاً إذا كان يؤذن لنفسه، [و] الإمام منازعٌ فيه؛ فإنه قال: إذا أذن في نفسه واقتصر على قدر قراءة القارئ في الصلاة السرية- لا يكون ما أتى به أذاناً ولا إقامة؛ وليرفع صوته بحيث ينتبه له من حضر أو على حدة وإن لم يحضر [أحد]. وعلى هذا فالمعتبر في القدر المجزئ في الأذان للجماعة من رفع الصوت ما يحصِّل مقصودَهُ، والمقصود بالأذان أمران: التنبيه على دخول الوقت، والدعاء إلى الجماعات، فليبلغ صوته كل من يقوم بالتبليغ ويحضر الجمع، أو يتصور حضوره في الأمر الوسط؛ فقد يحضر [في] الجمع طوائف تمتلئ بهم أرجاء المسجد، وقد لا يحضر إلا شرذمة تقوم بهم الجماعة؛ فالوجه اعتبار الوسط، وهؤلاء هم الذين عبر عنهم الأئمة بأن المؤذن يبلغ جيران المسجد. وأما غاية رفع الصوت فقد أفهم كلام الشيخ أنه لا نهاية لها إلا الانتهاء إلى حد يلحقه الضرر به، وعليه نص في "الأم" فقال: "يرفع صوته به إلى أن يجهده ذلك، ويدل عليه ما ذكرناه من حديث أبي سعيد الخدري ورواية أبي هريرة أنه- عليه السلام- قال: "المُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَى صَوْتِهِ، وَيَشهدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ سَمِعَهُ". وفي قوله: "يغفر له مدى صوته" تأويلان: أحدهما: أنه يستغفر [مَنْ سمعه] فيغفر له بسببه. والثاني: أنه إذا مد صوته جذب له الرحمة بقدر مد الأذان.

وقيل: المرعِيُّ في الرفع التوسط؛ لأنه روي عن عمر أنه قال لأبي محذورة حين بالغ في رفع صوته: "أَما خَشِيتَ أَن يَنْشَقَّ مُرَيْطَاؤُكَ"، وهو ما بين السرة والعانة. قال: وأن يؤذن ويقيم على طهارة: أما الأذان؛ فلقوله- عليه السلام-: "لَا يُؤَذِّنُ إِلا مُتَوَضِّئٌ" رواه الترمذي، والأصح أنه موقوف على أبي هريرة؛ ولأنه ذِكْر، والذكر على الطهارة أفضل؛ ولأنه يستحب له إذا فرغ من الأذان أن يركع ركعتين. وأما في الإقامة فبالقياس. فلو أذن وأقام على غير طهارة، كره وأجزأ، والكراهة في الإقامة أشد؛ لأنه يوقع الناس فيه بسبب انصرافه للطهارة، والكراهة في الجنابة أشد؛ لطول أمد التخلف. وعن "البحر": أنه يحرم الأذان على الجنب وإن كان يصح، والمذكور في "تلخيص الروياني" وغيره: تخصيص ذلك بما إذا كان الأذان في المسجد. ثم كلام الشيخ يفهم على هذا كراهية أذان المتيمم وإن استباح بتيممه الصلاة؛ لأنه على [غير] طهر عند الشافعي، ولاشك في أن تيممه إذا كان يبيح له الصلاة

كان كالمتطهر بالماء، بل قد روي أن رجلاً سلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده على حائط وتيمم، ثم أجاب، فقيل: إنه كان جنباً. وكأن التيمم في الإقامة وقع [موقع] وجود الماء، وفعل ذلك تعظيماً لرد السلام، وإن لم يفد التيمم إباحة محظور. قال الإمام: وعلى مقتضى الحديث: لو تيمم المحدث، وقرأ القرآن عن ظَهر قَلْبٍ كان جائزاً.

وقد [أفهم قول الشيخ: يؤذن ويقيم على طهارة، أن الذي يؤذن هو الذي يقيم، وهو كذلك عند الأصحاب؛ لأن بلالاً غاب فأمر النبي صلى الله عليه وسلم زياد بن الحارث الصُّدَائَّي أن يؤذن للصبح الأذان الأول، فملا حضر بلال أراد أن يقيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَخَا صُدَاءَ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ". فلو أذن جماعة واحداً بعد واحد، فالأول هو المستحق للإقامة إذا كان مؤذناً راتباً، ولو كان الذي أذن أولاً غير راتب ففي استحقاقه التقديم [في الإقامة] وجهان، وأبداهما الإمام احتمالين في المسألة، وأصحهما في "الوسيط": لا. وإن كان أذان الجَمْع في وقت واحد، فالذي يقيم منهم واحد، فإن رضوا بواحد فذاك، وإن تنازعوا فالمحكَّم القرعة، وهذا إذا حصلت الكفاية بواحد، فلو لم تحصل إلا بالجمع أقاموا؛ كما في الأذان. وقيل: لا بأس بأن يقيموا معاً وإن حصلت الكفاية بواحد، ما لم يؤد ذلك إلى التشويش، وهذا ما حكاه الروياني عن القفال. وحيث قلنا: يستحق شخص التقدم في الإقامة، فأقام غيره، أو أقام من لم يؤذن- ففي الاعتداد بإقامته وجهان حكاهما المسعودي: المشهور منهما، وهو الذي أورده: الاعتداد، وأن ذلك لا بأس به؛ لأنه- عليه السلام- قال لعبد الله بن زيد حين قص عليه الرؤيا المتقدمة: "أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ؛ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتاً مِنْكَ"، فألقاه عليه، فأذن بلال؛ فقال عبد الله: أنا رأيت، وأنا كنت أريده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَأَقِمْ أنت".

ومقابله: أنه لا يعتد به؛ تخريجاً من قولنا: إنه لا يجوز أن يخطب واحد يوم الجمعة، ويصلي غيره. قال: ويستقبل القبلة؛ لأن الذي رآه عبد الله بن زيد كان مستقبلاً حين أذن، وهو المنقول عن مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء. قال ابن الصباغ: وهو إجماع المسلمين. وهذا على سبيل الاستحباب؛ كما تقدم. وعن [أبي] سهل الصعلوكي: تخريج وجه أنه شرط، وإليه مال الشيخ أبو محمد في "مختصر المختصر" موجهاً ذلك بأن: شرائط الشعار تتلقى من استمرار الخلق على قضية واحدة، وهي ما بنى الشافعي عليها مذهبه في إيجاب القيام في الخطبتين، والقعود بينهما [يوم الجمعة]. قال: فإذا بلغ الحيعلة؛ التفت يميناً وشمالاً، ولا يستدير، لما روي عن أبي جحيفة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة حمراء من أَدَمٍ، فخرج بلال وأذن، فلما بلغ "حي على الصلاة، حي على الفلاح" التفت يميناً وشمالاً ولم يستدر.

رواه أبو داود. والمعنى في التفاته: إسماع من في الجهتين، وخالف الالتفات في الخطبة؛ لأن المخاطبين حضور فاستغنوا عن الالتفات. وفي عدم استدارته مراعاة خبر المجالس، وقد يقرأ: ولا يستدبر، وهو تصحيف. ولا فرق في ذلك بين أن يكون أذانه على الأرض أو على موضع عال؛ لأن بلالاً حين التفت كان على الأرض. وحكى الماوردي ذلك فيما إذا كان البلد صغيراً، وقال فميا إذا كان البلد واسعاً والعدد كبيراً كالبصرة: ففي جواز طوافه إذا أذن على المنارة في مجالها وجهان لأصحابنا، ووجه الجواز: ما فيه من زيادة الإبلاغ، والتسوية بين الجهات. وإن علماء الأمصار أقروا المؤذنين عليه ولم ينكروه، لكن لا يطوف إلا في قوله: "حي على الصلاة، حي على الفلاح". فإن قيل: ما المعنى في اختصاص الالتفات عند الحيعلة دون باقي الأذان؟ قيل: لأن بها يحصل الدعاء، وباقي الأذان ذكر؛ فكان استقبال القبلة به أولى. ثم في كيفية ما يلتفت وجهان: أحدهما: أنه يلتفت على يمينه، ويقول: "حي على الصلاة"، ثم على يساره ويقول: "حي على الفلاح"، وكذا يفعل في الأخرى للتسوية في الدعاء، وهو ما اختاره القفال. قال الروياني: وهو حسن إلا أنه انفرد به. والثاني- وهو الذي عليه الأكثرون وبه العمل-: أنه يلتفت على يمينه، ويقول: "حي على الصلاة" مرتين، ثم على يساره ويقول: "حي على الفلاح" مرتين. وعلى هذا ففي كيفية ما يفعل وجهان عن "البيان": أحدهما: أنه يلتفت يميناً ويقول "حي على الصلاة" مرتين، ثم يستقبل القبلة، ثم يلتفت [شمالاً، ويقول: "حي على الفلاح" مرتين. والثاني: أنه يلتفت عن يمينه ويقول: "حي على الصلاة"، ثم يستقبل القبلة، ثم يلتفت] عن يمينه، ويقول: "حي على الصلاة"، وكذلك يفعل في الجانب الآخر بـ "حي على الفلاح".

ثم حد التفاته فيه حدُّ التفاته في التسليم آخر الصلاة. ثم ظاهر كلام الشيخ: أنه يلتفت في الحيعلة في الأذان والإقامة، وهو المشهور، وعليه العمل. وحكى الإمام: أن بعض المصنفين ذكر أن القفال [ذكر] مرة: أن الالتفات غير محبوب في الإقامة [قال:] وهذا غير صحيح. وفي "التتمة"، و"الرافعي": أنه إن كان الجمع كثيراً؛ التفت يميناً وشمالاً فيها، وإلا فلا. قال: وأن يؤذن على موضع عال؛ لما روى عروة [بن الزبير،] عن امرأة من بني النجار، قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر. رواه أبو داود. وقد روي أن الذي رآه عبد الله بن زيد- حين أذن- طلع على جِذْم حائط أو نَشَزٍ من الأرض.

ولأن المقصود منه الإبلاغ، وهو إذا فعل على موضع عال أبلغ؛ ولذلك بنى عثمان المنابر. ومن هنا يؤخذ حكمان آخران: أحدهما: أن الإقامة لا تستحب على موضع عال؛ لفقد العلة، ويلزم من ذلك أن تكون مستحبة في غير موضع الأذان، وبذلك صرح الأصحاب. والثاني: أنه يستحب أن يكون المؤذن قائماً؛ ولذلك لم يذكره الشيخ هنا؛ [وعلى هذا إذا أذن قاعداً كره وأجزأ،] واستدل له في "المهذب" بقوله- عليه السلام- لبلال: "قُمْ فَنَاد بالصَّلَاةِ". وقد قيل: إن القيام شرط فيه؛ قاله أبو سهل الصعلوكي تخريجاً، وإليه مال الشيخ أبو محمد أيضاً؛ لأجل ما ذكرنا في فصل الاستقبال عنه وقال الإمام: الأصح القطع بأن القيام والاستقبال ليسا شرطين فيه، ومحل الخلاف إذا لم يكن عذر في ترك القيام، فإن كان ثم عذر جاز قاعداً [وجهاً] واحداً من غير كراهة، وكذا يجوز على الراحلة في السفر؛ كالنافلة. وإذا قلنا: يجوز قاعداً عند عدم العذر، وهو ما حكاه القاضي الحسين- فهل يجوز مضطجعاً؟ فيه وجهان، كما في التنفل، وهل يجوز أن يؤذن ماشياً؟ قال الماوردي: ينظر: فإن كان قد انتهى في مشيته إلى حيث لا يسمع من كان في الموضع الذي ابتدأ الأذان فيه بعض أذانه لم يجزئه، وإلا أجزأه. والإقامة كالأذان، ولا يستحب المشي فيها، بل يتمها وهو في موضع واحد، فإذا أتمها مضى إلى الصف الأول؛ لأن بلالاً كان يفعل ذلك. قال: وأن يجعل- أي: المؤذن- أصبعيه في صماخي أذنيه؛ لما روى البخاري [ومسلم] عن أبي جحيفة قال: "رأيت بلالاً يؤذن، ويُتبع فاه ها هنا وها هنا، وأصبعيه

في أذنيه"؛ ولأنه أجمع لصوته، وبه يستدل الأصم على الأذان. قال الروياني: ولا يستحب ذلك في الإقامة؛ لفقد المعنى المذكور. قال: وأن يكون المؤذن حسن الصوت؛ لأن الدعاء من العادات إلى العبادات حدث على خلاف ما يقتضيه استرسال الطبائع؛ فينبغي أن يكون الداعي حلو المقال؛

ليرق القلب، ويميل إلى الاستجابة. قال: وألا يقطع الأذان بكلام ولا غيره: كالسكوت الطويل، والنوم، ونحو ذلك؛ لأن تخلل ذلك في أثنائه يخرجه عن حد كمال الإعلام، فإن تكلم لمصلحة غيره: كما إذا رأى ضريراً يقع في بئر، ونحو ذلك، فحذره- لم يكره. وعبارة الرافعي: أنه لابد من إنذاره، وهي أصح. وإن تكلم لا لمصلحة كره. وفي الحالين يستحب له أن يستأنف الأذان؛ لما ذكرناه، وإن بنى عليه جاز؛ نص عليه الشافعي، حيث قال: وأحب ألا يتكلم في أذانه، فإن تكلم لم يعد؛ لأن سلمان ابن صرد كان يتكلم بحاجة له في أذانه ويبني، وكان له صحبة. ولأن الكلام في الخطبة لا يوجد استئنافها مع كونها فرضاً، فالأذان مع أنه سنة بذلك أولى. وهكذا [الحكم] فيما لو نام أو أغمى عليه أو جن، طال زمن ذلك أو قصر؛ نص عليه. والسكوت الطويل نص على أنه يستحب بعده الاستئناف، فإن لم يستأنف جاز. وظاهره: أن السكوت القصير لا يستحب بسببه الاستئناف، وهو المشهور. والفرق بينه وبين الكلام حيث لم يفرق في استحباب الاستئناف بين القليل والكثير: أن القليل من السكوت لابد منه، مثل النفس، والاستراحة، والكلام القليل مستغنى عنه. وعن أبي علي الطبري: أن الكلام اليسير لا يستحب بعده الاستئناف كالسكوت. والردة في أثنائه إن استمرت أوجبت الاستئناف، ولا يجوز لغيره البناء عليه، وإن زالت بالإسلام، فهل يجوز أن يبني عليه؟ وجهان، المذهب منهما في "تعليق البندنيجي" و"المهذب": البناء، وهو الأصح عند أبي الطيب والروياني؛ كما إذا جن، ثم أفاق.

وهذا مجموع ما وقفت عليه من كلام العراقيين والماوردي. وقال المراوزة: الكلام اليسير لا يضر كيف كان. والشيخ أبو محمد تردد فيما إذا رفع [به] صوته على حد الأذان؛ لأنه يحدث التباساً. والكلام الكثير هل يقطعه حتى يجوز له البناء عليه أم لا؟ قولان، المنسوب منهما إلى القفال: عدم جواز البناء. قال الروياني: وهو الأقيس، وقد اختاره كثير من أصحابنا. ولم يذكر في "التتمة" و"الكافي" غيره. والفرق بين الأذان والخطبة: أن كلمات الأذان متعينة فعد قاطعه معرضاً عنه، ولا كذلك الخطبة؛ فإن لفظها ليس بمتعين. وبعضهم جعل القولين مرتبين على ما إذا سكت سكوتاً طويلاً، وهما أولى بالبطلان، وقال: إن القولين في عدم البناء عند السكوت الطويل مرتبان على القولين في الموالاة على الوضوء، وأولى بالبطلان؛ فإن مقصود الأذان الإعلام، وإذا بنى ألبس بخلاف الوضوء؛ هذا معنى قول الغزالي: إنه يكاد يفوت مقصود الإبلاغ. قال الرافعي: وبعضهم بنى القولين في السكوت الطويل على القولين في جواز البناء على الصلاة عند سبق الحدث، وهي طريقة الفوراني، وقال: إنه إن قلنا: إنه يبنى في الصلاة فالأذان أولى، وإلا فقولان؛ لأن الأذان يتخلله ما ليس منه، بخلاف الصلاة. قالوا: والقولان فيما إذا طال سكوته يجريان فيما إذا أغمي عليه، أو نام، وطال زمن [ذلك] ثم زال، وقالوا فيما إذا طرأت الردة في أثنائه، ثم زالت: إن الذي نص عليه عدم البناء، ونص في الاعتكاف على أنه إذا ارتد في أثنائه، ثم زالت: إن الذي نص عليه عدم البناء، ونص في الاعتكاف على أنه إذا ارتد في أثنائه، ثم أسلم، بنى على اعتكافه. وإن من الأصحاب من نقل وخرج، فجعل في المسألتين قولين، ومنهم من قال: يجوز البناء، وحيث لم يجوزه أراد به إذا طال زمان الردة. قالوا: ثم حيث قلنا: لا يجوز له أن يبني على ما سبق فغيره أولى، وحيث قلنا:

يجوز له البناء، فهل يجوز لغيره؟ قال القاضي الحسين والفوراني: فيه قولان مرتبان على بناء الغير على الخطبة، وأولى هنا بألا يبنى؛ لأن البناء في الخطبة لا يؤدي إلى التباس الأمر على الناس؛ لأن ذلك خطاب للحاضرين بخلاف الأذان؛ فإنه إذا بني عليه اختلفت الأصوات؛ فالتبس الأمر على الناس؛ فظنوه استهزاء. وقال الرافعي: إن الخلاف يترتب على الخلاف في الاستخلاف في الصلاة، وأولى بالجواز هنا، والفرق: أن الصلاة تباين الكلام والإغماء، دون الأذان. والعراقيون لما حكوا في البناء على الخطبة طريقين، وفي الاستخلاف قولين جزموا بعدم البناء هنا، وقالوا: إن لم نجوز البناء على [الخطبة] والاستخلاف في الصلاة، [فلا كلام. وإن جوزنا البناء في الخطبة والاستخلاف في الصلاة]، فالفرق بين ما نحن فيه وبين الخطبة ما سلف، ولا فرق بين ما نحن فيه وبين الاستخلاف في الصلاة، لأن المستخلف في الصلاة متمم لصلاة نفسه [إن كان مأموماً، أو مبتدئ لصلاة نفسه] ومن وراءه متمم لنفسه، وليس بانياً على صلاة غيره. فرع: إذا زاد في أذانه ذكراً، [قال في "الكافي"]: فهو كما لو تكلم في أذانه، فلو قال في أذانه بعد الحيعلتين، في الليلة ذات الريح والمطر: "ألا صلوا في الرحال"- لم يكن قادحاً فيه؛ لما سنذكره من الخبر الصحيح عن ابن عباس. نعم، الأولى أن يقول ذلك بعد الفراغ من الأذان. قال: وأن يكون من أقرباء مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: ويقدم أولادهم؛ إذا اجتمعت فيهم الشرائط؛ لأن الصحابة جعلوا الأذان في أولاد أبي محذورة وسعد القرظ، والمعنى فيه: سبق آبائهم فيه، وهذا ما حكاه الروياني عن نصه في القديم. ومؤذنو رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة: بلال، وابن أم مكتوم وكانا بالمدينة- وأبو محذورة- وكان مؤذناً بمكة- وسعد القرظ وكان مؤذناً بقباء. فإن عدم أقرباؤهم فأقرباء الصحابة. ويستحب أن يكون القائم بهذا الشعار- ممن ينصبه الإمام- اثنين؛ اقتداء به عليه السلام، ومن فوائد ذلك: أن يؤذن أحدهما للصبح بعد نصف الليل، والآخر عند

طلوع الفجر، فإن اقتصر على مؤذن واحد جاز؛ لاقتصاره- عليه السلام- بمكة وقباء، ولو زاد على ذلك لحاجة جاز. وقال أبو علي الطبري: لا يزاد على أربعة؛ لأن عثمان جعل المؤذنين أربعة؛ وهذا ما حكاه البندنيجي، ومعناه: أن الزيادة على الأربعة مكروهة، كما قال في "التتمة". وقال أبو الطيب: الصحيح جواز الزيادة عليها، وهو ما حكاه الروياني عن نصه في القديم؛ وعلى هذا إن احتاج إلى زيادة على أربع جعلهم ستة، فإن احتاج إلى الزيادة على ذلك جعلهم ثمانية. قال الماوردي: ليكونوا شفعاً ولا يكونوا وتراً، ثم يؤذنون واحداً بعد واحد، إلا أن يضيق الوقت فيؤذنون متفرقين في جوانب المسجد إن كان كبيراً في وقت واحد، ولا يؤذنون دفعة واحدة؛ كذا أطلقه البندنيجي وأبو الطيب. وقال الماوردي: إن كان البلد كبيراً [أو] المسجد واسعاً، فلا بأس أن يجتمعوا في الأذان دفعة واحدة، كما في البصرة. ولأ، اجتماع أصواتهم أبلغ في الإعلام. وقال القاضي الحسين: إذا اتفقت أصواتهم جاز، وإن اختلفت أصواتهم لا يجوز. وقد خص الغزالي استحباب نصب مؤذنين بالمسجد المطروق، والماوردي قيده بما إذا كان المسجد كبيراً. قال: وأن يكون ثقة؛ لأنه يخبر عن دخول الوقت، ويطلع على الناس، وقد ذكرنا: أن هذا على وجه الاستحباب، [وهو يفهم أن الأذان يجوز ممن ليس بثقة، وإلا لم يكن لاستحباب] كونه ثقة معنى، ومن ليس بثقة يشمل أشخاصاً: منها الكافر ولا خلاف [في] أنه لا يعتد بأذانه. قال الأصحاب: ويتصور كماله منه مع كفره [بما] إذا كان من العيسوية، وهم طائفة من اليهود يزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب خاصة، وكذا إذا قلنا: إن نطقه بالشهادتين في التشهد لا يكون إسلاماً؛ حملاً على الحكاية، فإن مثله يجزئ في الأذان، وقد صرح به في "البيان" وإن كان الصحيح: أنه يكون مسلماً في المسألتين. ثم عدم الاعتداد بأذانه ليس لأنه لا تقبل روايته؛ لأنا نعتقد بأذان الفاسق؛ كما صرح

به البندنيجي وغيره، وكذا بأذان الصبي [وإن قلنا: لا تقبل روايته، بل لأنه ليس من أهل الصلاة؛ فلا يكون أهلاً للدعاء إليها. وقد قيل: إن مأخذه: منع قبول روايته، حتى قيل: إنه لا يعتد بأذان الصبي] [ويعتد بأذان المرأة لجماعة؛ لأنها من أهل الرواية دون الصبي]؛ كذا حكاه المتولي، وقضيته ألا يعتد بأذان الفاسق أيضاً، والصحيح الأول. وأذان الصبي وإن اعتددنا بأذانه فهو مكروه، وعبارة الشافعي في "الأم": "وأحب ألا يؤذن [إلا] بعد البلوغ". ومنها: الفاسق، وقد تقدم حكمه، ومن فسقه بالشرب إن لم ينته إلى حالة لا يميز فيها كالفاسق بغيره، وإن انتهى إلى حالة لا يميز فيها، ففي الاعتداد بأذانه قولان، كما في تصرفاته، والصحيح عدم الاعتداد به؛ كما أنه لا يعتد بأذان المجنون. ومنها: الأعمى؛ لأنه غير موثوق به في الإطلاع على دخول الوقت. وقد قال في "الأم": إذا كان له- أي: للمسجد- مؤذن بصير بالمواقيت، جاز أن يضم إليه أعمى، فإن كان البصير لا يعرف المواقيت فلا يجوز أن يكون أعمى. وقال البندنيجي: إن أذن قبله بصير أو كان مع بصير يعرف المواقيت فلا كراهة في أذانه، وإلا كره وأجزأ، وعليه ينطبق قوله في "المهذب"، وهذا مفسر للنص. قال: وأن يقول بعد الفراغ منه- أي: [بعد الفراغ] من الأذان-: "اللهم رب هذه الدعوة التامة .. " إلى آخرها. روي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يسمع النداء: اللهُمَّ ربَّ هَذِهِ الدَّعْوةِ التَّامةِ والصَّلَاةِ القَائِمَة، آتِ مُحمَّداً الوَسِيلَةَ والفَضِيلَةَ، وابْعَثْهُ مَقَامَاً مَحْمُوداً الَّذي وَعَدتَهُ- حَلَّتْ لَهُ شَفَاعتي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، رواه البخاري، وسيأتي بيان

الوسيلة في الخبر. والمقام المحمود: قيل: هو المقام الذي يشفع فيه؛ لأنه يحمده الأولون والآخرون، قال الله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء: 79] و"عسى" من الله للتحقيق. قال الأصحاب: ويستحب أن يقول بعد أذان المغرب: "اللهم هذا إقبال [ليلك، وإدبار نهارك]، وأصوات دعاتك، فاغفر لي"؛ لأن البخاري رواه، وكذا يقول بعد أذان الصبح: "اللهم هذا إقبال نهارك، وإدبار ليلك، وأصوات دعاتك، فاغفر لي". [وقد روى أنس أنه- عليه السلام- قال: "الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الأذانِ والإِقَامَةِ فَادْعُوا"]. ويستحب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله- عليه السلام-: "إذا سمعتم المؤذن

فقولوا [مثل ما] يقول، وصلوا عليّ، فإن من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة؛ فإنها منزلة لا تنبغي إلا لعبد من عباده، وأرجو أن أكون أنا [هو]، فمن سأل [لي] الوسيلة، حلت له الشفاعة". رواه مسلم. قال: ويستحب لمن سمعه، أي: لمن سمع أذان المؤذن، أو صوت المؤذن من رجل أو امرأة أن يقول كما يقول- أي: من الأذان والذكر بعده- لقوله- عليه السلام-: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن" متفق عليه. وروى [أبو] عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو أن رجلاً قال: يا رسول الله،

إن المؤذنين يفضلوننا، فقال: "قل كما [يقولون]، فإذا انتهيت فسل تعط". قال: إلا في الحيعلة؛ فإنه يقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"؛ لما روى النسائي عن معاوية أنه سمع المؤذن، فقال مثل قوله حتى بلغ "حي على الصلاة"، فقال معاوية: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، ثم قال: "حي على الفلاح"، فقال معاوية: لا حول ولا قوة إلا بالله"، ثم قال [مثل] قول المؤذن إلى آخر الأذان، فلما فرغ قال: "هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول". قال الشافعي في "الأم": "وبحديث معاوية نأخذ؛ لأنه متصل". ولأجل قول الشافعي ذلك، استدللت بهذا الخبر، وإلا فقد جاء في مسلم عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، قال: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه- دخل الجنة".

ولأن الحيعلة دعاء، فلو قالها السامع، لكان الناس كلهم دعاة، فمن يبقى المجيب؛ فحسن أن يقول السامع: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، ومعناه: لا حول لي عن المعصية، ولا قوة لي على ما دعيت إليه إلا بك. وقيل: معنى "لا حول": لا حيلة ولا حركة. وقد أفهم كلام الشيخ أموراً: أحدها: أن يقول في التثويب- في الصحيح- كما يقول المؤذن؛ لأنه لم يستثنه، وهو لا يقوله، بل يقول مكانه: "صدقت وبررت"؛ لخبر ورد فيه. وقيل: إنه يقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة خير من النوم، وحكاه الروياني والرافعي. الثاني: أنه يقول عند الحيعلة: "لا حول ولا قوة إلا بالله" مرة واحدة أو أربع مرات، والمذكور في "تلخيص الروياني" أنه يقول ذلك مرتين: مرة عند قول المؤذن: "حي على الصلاة" ومرة عند قوله: "حي على الفلاح"؛ لأنه ظاهر السنة. قال: ويحتمل خلاف ذلك. الثالث: أنه لا فرق بين أن يسمع ذلك وهو قارئ، أو ذاكر، أو مصل فرضاً أو نفلاً، أو على غائط، أو بول، ولاشك في استحبابه [في] حالة التلاوة والذكر، وفي حالة التدريس من طريق الأولى، فيقطع ذلك، ثم يعود [إليه] بعد الإجابة. وأما في الصلاة- كيف كانت- فقد حكى الإمام عن شيخه في استحباب

إجابته قولين: أحدهما: لا؛ لأنها تشغله عن صلاته. والثاني: نعم؛ لأنها لو أخر، فقد يطرأ عائق في تداركها. وحكى عن بعضهم أنه قال: لا يستحب ذلك قولاً واحداً، وهل يكره؟ فيه قولان؛ وهذه طريقة القاضي الحسين. وقال الصيدلاني: ليست المسألة على قولين، بل يقطع بنفي الاستحباب، ولا يكره، ولا يستحب قولاً واحداً، بل هو مباح؛ وهذه طريقة القفال، كما قال الروياني. قال الإمام: وهي الطريقة المرضية، والذي قاله أبو الطيب وغيره من العراقيين: أنه لا يستحب. نعم، يستحب أن يقول ذلك بعد فراغه. قال أبو إسحاق المروزي: وليس التأكد في ذلك مثل التأكد في حال ما يسمعه. والإمام قربه من تدارك سجود التلاوة، وفيه ما سيأتي. ولو خالف، وأتى به في الصلاة، قال الشافعي في "الأم": كانت صلاته صحيحة- إن شاء الله- لأنه ذكر لله. قال الأصحاب: وهذا إذا أتى بالإجابة على النحو الذي ذكرناه غير الصبح، فلو قال مثل [قول] المؤذن في جميع أذانه بطلت صلاته، لأن لفظ "حي على الصلاة" و"حي على الفلاح" دعاء [إلى الصلاة] وليس بذكر، وهكذا لو قال في الصبح: "الصلاة خير من النوم"، أو "صدقت وبررت". ثم هذا إذا كان عالماً بأنه في الصلاة، وأن ذلك مفسد، فإن كان ناسياً لم تبطل، وكذا إن كان جاهلاً عند الماوردي وابن الصباغ. وحكى القاضي الحسين معه وجهاً آخر: أنها تبطل. ولو سمعه وهو طائف، قاله في طوافه؛ لأن الكلام فيه سائغ؛ قاله الماوردي. ولو سمعه وهو على غائط أو بول لا يقوله، فإذا قضى حاجته، وخرج من الخلاء قاله، حكاه في "الحاوي".

قال: ويقول في كلمة الإقامة: "أقامها الله وأدامها ما دامت السماوات والأرض" رواه أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام: إنه يقول: "اللهم أقمها وأدمها، واجعلني من صالح أهلها" وقد قال في "التتمة": إن ذلك مروي- أيضاً- عنه عليه السلام. ثم ظاهر كلام الشيخ أنه يقول في الإقامة مثل ما يقول المؤذن إلا في كلمة الإقامة؛ فإنه يقول ما ذكرناه، وهو المشهور. وقال الإمام: إنه رأى في كلام صاحب "التقريب" رمزاً إلى أنه لا يجيب إلا في كلمة الإقامة فقط؛ وهذا فيه احتمال ظاهر. [والظاهر] من قول الأصحاب الأول. قال: ولا يجوز الأذان إلا مرتباً؛ لأنه- عليه السلام- علم أبا محذورة هذا الترتيب، وهو أمر لا يعقل معناه؛ فوجب أن يتبع فيه ما ورد. [والمراوزة] وجهوه بأن عكسه يفوت مقصود الأذان، ولا يمكن العراقيين التوجيه به؛ لأن ذلك موجود في التفريق الكبير، ومذهبهم أنه لا يبطله. وعلى المذهبين لو عكسه اعتد بأوله، وبنى عليه؛ نص عليه. ثم مقتضى ما وجه به العراقيون ما نحن فيه ألا يعتد بالأذان بغير العربية، وهو ما

ذكره الماوردي، إذا كان المؤذن يحسن العربية، وكذا إذا كان لا يحسنها بالنسبة إلى غيره، وأما بالنسبة إلى نفسه فيعتد به. قال: ولا يجوز قبل دخول الوقت؛ لأن مقصوده الإعلام به والدعاء إلى الصلاة، وكلاهما قبل الوقت غير ممكن. قال: إلا الصبح فإنه يؤذن لها بعد نصف الليل. الأصل في تقديم أذان الصبح على وقته قوله- عليه السلام-: "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم"، وكان رجلاً أعمى، لا يؤذن حتى يقال له: "أصبحت أصبحت" رواه البخاري. وفي اختصاص ذلك بما بعد نصف الليل القياس على الدفع من مزدلفة، ولأنه أقرب إلى وقته، وخالف الصبح غيره من الأوقات في ذلك؛ لأنه يدخل والناس في أطيب نوم، ومنهم الجنب والمحدث؛ فاستحب تقديم الأذان فيه؛ ليتأهب الناس للصلاة، ويدركوا فضيلة أول الوقت؛ ولهذا اختص الأذان له بالتثويب أيضاً. وقد قيل: إن وقته يدخل بخروج وقت الاختيار لصلاة العشاء؛ فإنه يجوز الأذان لكل صلاة في وقت اختيارها، فلو جاز الأذان قبل ذلك للصبح لالتبس بالأذان للعشاء. وعلى هذه الطريقة يجيء في وقت الأذان للصبح قولان: أحدهما: بعد نصف الليل؛ كما ذكر الشيخ. والثاني: بعد ثلثه، وهذه الطريقة حكاها الغزالي واستبعدها، وكذا القاضي الحسين، ثم قال: والصحيح: أنه يؤذن له في نحر السحر [كي لا] يؤدي إلى اشتباه الأمر على الناس. وضبط المتولي ذلك بما بين الفجر الصادر والكاذب، واستشهد له- بعد جعله المذهب- بما روي أن سعد القرظ قال: "كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في

الشتاء لِسُبع بقي من الليل، وفي الصيف لنصف سبع". وقيل: إن جميع الليل وقت لأذان الصبح، والتمييز بينه وبين أذان العشاء يقع بالتثويب، وهو بعيد؛ إذ قد لا يسمع الشخص التثويب. ثم هذا كله تفريع على أنه يؤذن للصبح قبل وقته، وهو المذهب. وقد قيل: إن كان في بلد عادتهم أن يؤذنوا بعد الفجر، لم يجز تقديمه على الوقت، وليس بشيء. وقد أفهم قول الشيخ: "ولا يجوز الأذان قبل دخول الوقت ... " إلى آخره أمرين: أحدهما: إذا أذن قبل الفجر لا يؤذن بعده، وليس كذلك باتفاق الأصحاب، ويدل عليه ما تقدم. نعم: إن أراد المؤذن أن يقتصر على أحد الأذانين، قال في "التتمة": اقتصر على الثاني. الأمر الثاني: أنه يجوز الأذان لكل صلاة بعد دخول الوقت، لكنه لم يبين أنه يجوز إلى متى، وقد قدمنا أنه يجوز الأذان لكل صلاة ما دام وقت اختيارها باقياً، ومنه يظهر أن المغرب يؤذن لها في [أول] وقتها؛ إذ لا وقت اختيار لها على المذهب- كما تقدم- ولأجل اتساع وقت الأذان في غير المغرب، قال الأصحاب- كما حكاه الإمام وغيره-: وقته منوط بنظر المؤذن؛ فلا يحتاج فيه إلى مراجعة الإمام، بخلاف الإقامة؛ فإنها منوطة بنظر الإمام، فلا يقيم المؤذن [إلا] بإشارته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤذن

أملك بالأذان، والإمام أملك بالإقامة" والمعنى فيه: أن السنة: اتصال الصلاة بالإقامة، والصلاة إلى الإمام؛ فينبغي أن يكون عازماً على الشروع عند تمامها. قال الإمام: فلو أقام المؤذن قبل إذن الإمام، ففي الاعتداد بإقامته تردد للأصحاب، ولم يصرحوا به، ولكنه بين في كلامهم. واعلم أن في قول الأصحاب: "إن الأذان منوط بنظر المؤذن، والإقامة منوطة بنظر الإمام"- نظراً من وجهين: أحدهما: أن الترمذي روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: "يا بلال إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر". وفي رواية: "فاحذف، واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء الحاجة، ولا تقوموا حتى تروني".

قال القاضي الحسين: معناه: لا تقوموا بعد الإقامة إلى الصلاة حتى تروني قد قمت. وهذا الخبر يدل على أن الإقامة موكولة إلى نظر المؤذن كالأذان. وجواب هذا: أن هذا الخبر إسناده مجهول؛ قال أبو عيسى-: [إلا] قوله: "لا تقوموا حتى تروني" فإنه قد روي بإسناد صحيح. والثاني: أن قولهم: " [إن] الأذان موكول إلى نظر المؤذن" إن عنوان به في دخول الوقت فصحيح، وإن عنوا به في وقته بعد تحقق دخول الوقت، بمعنى أنه إن رأى أن يؤذن في أول الوقت، أو في آخر وقت الاختيار، أو فيما بينهما، فله ذلك- فالمعنى الذي لأجله قالوا: إن أمر الإقامة موكول إلى الإمام موجود فيه؛ لأن الإقامة

تتبع الأذان، وهما يتقدمان الصلاة، وقد يرى الإمام إيقاع الصلاة في أول الوقت، ويرى المؤذن تأخير الأذان، والجمع بين المقصودين متعذر؛ فيتعين أن يكون المرجع إلى رأي الإمام فيه- أيضاً- على هذا التقدير. وقد ذكرنا عن رواية البخاري عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن يستدل به لكل من الأمرين؛ فليطلب منه. ثم الخبر الذي ذكرناه يقتضي استحباب الفصل بين الأذان والإقامة بقدر ما يفرغ الآكل من أكله ونحوه، والأصحاب ضبطوه بقدر ما يتأهب الناس، ويحضر الإمام ويتنفل بالقدر المسنون، وهو في غير المغرب، [وأما المغرب]: فإن المؤذن يوالي بين الأذان [لها] والإقامة؛ لأنه لا تنفل قبلها؛ كذا قاله الماوردي. قال: وتقيم المرأة للنساء استحباباً؛ لأن جابراً سئل: أتقيم المرأة؟ فقال: "تقيم"؛ ولأن مقصود الإقامة إعلام الحاضرين أو من قرب، وذلك يحصل من غير محذور، وهو رفع الصوت الذي [يخشى] منه الفتنة؛ وهذا ما نص عليه. نعم: قال في "الأم": لو تركت ذلك، لم أكره لها من تركها ما أكرهه للرجل. قال: ولا تؤذن، أي: لا يستحب لها أن تؤذن لهن؛ لما روي عن أنس وابن عمر أنهما قالا: "ليس على النساء أذان"، ولأن مقصوده إعلام المغيب، وإنما

يتحصل ذلك برفع الصوت، وفي رفعه توقع فتنة لمن سمعه من الرجال وإن قلنا: إنه ليس بعورة. قال القاضي الحسين: ولهذا قلنا: لا يجوز للمرأة أن تجهر في صلاة الجهر، ولا أن ترفع صوتها بالتكبير، فلو خالفت وأذنت، كره وأجزأ؛ كذا قاله في "المهذب"، والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ في باب إقامة المرأة. وقال ابن الصباغ- هنا-: إن الشافعي قال: إنه لا يكون مكروهاً. وقال في رواية البويطي: يكون مجزئاً. وقد حكى الإمام وراء ما ذكره الشيخ قولين: أحدهما: أنها لا تقيم كما لا تؤذن، وهو ما حكاه القاضي الحسين في باب إقامة المرأة. والثاني: أنها تؤذن كما تقيم، و [لكن] لا ترفع به صوتها؛ فإنها ممنوعة من رفع الصوت منع تحريم. وقد حكى عن المتولي: أن رفع صوتها به مكروه، وهو ما صرح به في "الشامل" في باب إقامة المرأة. وقال في موضع آخر: إنه لم يفرق أصحابنا بين سماع الغناء من الرجل والمرأة وإن

كان سماعه من المرأة أشد كراهة. وستكون لنا عودة إلى ذلك في باب ستر العورة. أما الرجال فلا تقيم لهم ولا تؤذن؛ خشية الافتتان بصوتها. وعبارة البندنيجي: أنه [لا] يجوز أن تؤذن للرجال، فلو خالفت وأذنت، قال في "المهذب": لم يعتد به كإقامتها لهم. وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه يعتد بأذانها لهم؛ لأنه إعلام بدخول الوقت، وخبرها مقبول. وفي أذان المرأة وإقامتها في حالة الانفراد- إذا قلنا: إن المنفرد يؤذن- الخلاف المذكور في [أذانها و] إقامتها لجماعة النساء. قال: ومن فاتته صلوات، أي: وأراد قضاءها في وقتِ واحدة، وليس بوقت لحاضرة، أو جمع بين صلاتين، أي: في وقت الثانية، وبدأ بالأولى منهما- أذن وأقام للأولى وحدها، وأقام للتي بعدها في أصح الأقوال، ووجهه في الفوائت ما روى الترمذي عن ابن مسعود أن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء. فإن قيل: هذا الحديث مرسل؛ لأن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود رواه عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لم يسمع من أبيه، وأنتم لا تقولون بغير مراسيل ابن المسيب. قلنا: سنذكر خبراً مسنداً في معناه من رواية أبي قتادة وعمران بن الحصين يعضده. ووجهه في الجمع ما رواه مسلم عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان وإقامتين. وهذا هو القديم، وقد اختاره ابن المنذر،

وصححه أئمة العراقيين، كما قاله الروياني في "تلخيصه"، والشيخ اتبعهم، وكأنهم أخذوا ذلك من قول الشافعي: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، أو: "فاضربوا بمذهبي عرض الحائط"، وقد صح الخبر كما ذكرنا. والقول الثاني: وهو المعزيُّ إلى الجديد، وعليه نص في "الأم" و"البويطي": أنه لا يستحب أن يؤذن للأولى، [ولا لما بعدها، ويقيم] لكل صلاة؛ لما روى عن أبي سعيد الخدري قال: حبسنا عن الصلاة يوم الخندق حتى كان بعد المغرب بِهَوِيٍّ من الليل، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً، فأقام الظهر فصلاها، [ثم أقام العصر فصلاها]، ثم أقام المغرب فصلاها، ثم أقام العشاء فصلاها، ولم يؤذن لها مع الإقامة. وروى ابن عمر أنه- عليه السلام- جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة، ولم يناد في واحدة منهما إلا بالإقامة. رواه البخاري.

وهذا ما اختاره في "المرشد"، وقال الروياني: إنه الأظهر. والقول الثالث- وهو ما نص عليه في "الأمالي"-: أنه إن رجا حضور جماعة أذن للأولى، وأقام [لما بعدها فقط]، وإلا أقام للكل من غير أذان؛ لأن مقصود الأذان- كما تقدم- الإعلام بدخول الوقت، والاجتماع للصلاة، ولا وقت يعلم به في الفوائت والجمع، وإذا رجا حضور جمع، أمكن حصول ما بقي من فائدة الأذان فيأتي به دون ما إذا لم يرج ذلك؛ ولهذا لما كان الناس مجتمعين بمزدلفة، لم يأمر- عليه السلام- بالأذان، وهذا ما اختاره أبو إسحاق المروزي، كما قال أبو الطيب. قال القاضي الحسين والإمام: فالأذان على القول الأول لحق الصلاة، وعلى القول الثاني لحق الوقت، وعلى الثالث لحق الجماعة. وإذا عرفت الأقوال، علمت أنه يقيم لكل صلاة بلا خلاف، وإما الخلاف في الأذان للصلاة الأولى فقط، وأنه [لا خلاف في أنه] لا يؤذن لما عداها إذا كان الأمر كما ذكرناه؛ وبذلك [كله] صرح الأصحاب. وقد يوهم كلام الشيخ أن الخلاف في الإقامة لما عدا الصلاة الأولى، ودفع الوهم سهل على من علم أن قوله: "أذن وأقام للأولى وحدها، وأقام للتي بعدها"- حكاية لقول واحد فيما يفعله لأجل الصلاة الأولى والثانية. ثم كلام الشيخ يقتضي أن الأقوال منصوصة فيما إذا كان عليه فوائت، وأراد فعلها في وقت واحد، وفيما إذا أراد الجمع بين الصلاتين في وقت الثانية كما ذكرناه، ولاشك أنها منصوصة فيما إذا كان عليه فائتة [واحدة]، وألحق الأصحاب بها ما عداها مما ذكرناه؛ ولذلك جعل القاضي أبو الطيب الخلاف في مسألة الجمع أوجهاً: ووجَّهَ الأصحاب منع الأذان للثانية منهما وإن كانت واقعة في وقتها بأنه لو أذن لانقطع الجمع وهو على رأي شرط، وعلى رأي سنة في نفس العبادة؛ فلا يفوت لأجل سنة خارجة عنها، وقال الإمامُ: هذا [عندي] فيه نظر، ويظهر أن يقول: فيؤذن

للصلاة قبل الظهر. ثم ينقدح في ذلك وجهان: أحدهما: أن الصلاة مؤداة، وهذا وقت أدائها في السفر إذا أخرت. والآخر: أنه يبعد أن يدخل وقت العصر ولا يؤذن له، ثم لا يمتنع أن يقال: يقع الأذان لصلاة العصر وتتقدم عليها صلاة الظهر، والإنسان يؤذن لصلاةٍ، ثم يأتي بعد الأذان بنوافل وتطوعات إلى أن تتفق الإقامة. والوجه عندي: القطع بأنه يؤذن مثل صلاة الظهر ويقيم، ثم يقيم بعد الفراغ من صلاة الظهر ويفتتح صلاة العصر [، أي:] وإن قلنا: إنه لا يؤذن للفوائت. قلت: ولأجل هذا قال بعض المتأخرين: وقد قيل: إنه يؤذن للأولى عند الجمع في وقت الثانية إذا بدأ بها كما صورنا، وإن قلنا: لا يؤذن للفائتة؛ لأنها في حكم الحاضرة؛ ولذلك ينوي الأداء، وقد رأيته مصرحاً به هكذا في "تعليق" القاضي الحسين و"التتمة". أما إذا أراد قضاء الفوائت [في أوقات] متفرقة، [أو لم تكن عليه إلا فائتة واحدة كان في كل صلاة في الصورة الأولى] وفي أذانه في الصورة الثانية الأقوال الثلاثة، ويقيم بلا خلاف كما ذكرنا. ويشهد للقول والتأذين في ذلك ما رواه أبو قتادة أنه- عليه السلام- قال لبلال لما ناموا بالوادي حتى طلعت الشمس: "قُمْ فأذِّنْ" متفق عليه. ورواه عمران بن حصين- أيضاً- وقال فيه: "فأمر بلالاً فأذن، فصلينا ركعتين، ثم أمره فأقام، فصلينا". متفق عليه. ولو أراد قضاء الفائتة في وقت صلاة حاضرة: فإن أراد تقديم الصلاة الحاضرة أذن

لها بلا خلاف، ولا يؤذن للفائتة، قال القاضي الحسين والإمام: لأنها تابعة فعلاً، والوقت لها، ولو تبعت فائتة لم يؤذن لها، فهذه أولى. وكلام الماوردي الذي سنذكره يقتضي أن الأقوال تجري فيه أيضاً. وإن أراد تقديم الفائتة كان في حكم أذانه لها الأقوال، فإن قلنا: يؤذن لها؛ فأذن؛ فلا يؤذن للحاضرة، ولكن يقيم؛ لأنه- عليه السلام- لم يأمر بلالاً في يوم الخندق بأذان العشاء، وإن كانت مقامة في وقتها، بل بالإقامة. وإن قلنا: لا يؤذن للفائتة، قال القاضي الحسين في "تعليقه": أذن لفرض الوقت، وهو الأصح، ولم يحك الإمام غيره، وفيه وجه: أنَّه لا يؤذن لفرض الوقت، قال الرافعي: وهو الأظهر. ولو كان الجمع في وقت الثانية، وبدأ بالثانية- أذن لها، وأقام للأولى، ولم يؤذن، وقال الماوردي: إنَّه يؤذنُ للثانية ويقيم، وهل يؤذن للأولى؟ فيه الأقوال؛ لأنه قد أبطل الجمع بتقديمها؛ فصارت كالفائتة. قلت: ويشبه أن يكون هذا تفريعاً على أن تقديم الأولى شرط إذا جمع في وقت الثانية؛ وقد حكى الإمام عن بعض المصنفين أنه قال: إذا قلنا: عن تقديم الأولى شرط في الجمع، فقدم الثانية كانت الصلاة الفائتة في حكم صلاة مقضية؛ فإنها أخرت عن وقتها الموظَّف لها شرعاً في ترتيب الجمع المثبت رخصة، قال: وهذا خطأ صريح؛ فإن صلاة العصر مؤداة في وقتها قطعاً، وما جرى من إخلال بالترتيب آيلٌ إلى صلاة الظهر؛ فإنها خرجت عن حكم الرخصة، وقد أساء فاعلها بتأخيرها، وحرم على نفسه رخصة الجمع. ولو كان الجمع في وقت الأولى فإنه يؤذن [ويقيم للأولى،] ويقيم للثانية ولا يؤذن بلا خلاف كما فعله- عليه السلام- بعرفة على ما رواه مسلم. قال الإمام: ولا يعهد أن يوالي بين أذانين إلا في صورة واحدة على خلاف فيها، وهي ما إذا قضى فائتة قبل الوقت وقلنا: يؤذن لها، فأذن، فلما فرغ منها دخل الوقت، فأراد أن يقيم الحاضرة- فإنه يؤذن لها.

قلت: وعلى طريقة الماوردي لا ينحصر في ذلك، وقد أغرب ابن كج فحكى عن أبي الحسين بن القطان أنه خرَّج وجهاً: أنه يؤذن لكل صلاة من صلاتي الجمع، قدَّمَ أو أخَّرَ. قال: وإذا لم يوجد من يتطوع بالأذان، أي: الذي يحصل به الشعار- كما تقدم- رَزَقَ الإمام من يقوم به، أي: من مال المصالح، وهو خُمس الخمس، وكذا أربعة أخماس الفيء على قولٍ؛ لأن عثمان فعله، وهو من المصالح. قال القاضي الحسين: وهذا لا خلاف فيه، وقد حكاه ابن المنذر عن نص الشافعي، رضي الله عنه. والمستحب للمؤذن: ألا يأخذ ذلك؛ لما روي عن عثمان بن أبي العاص قال: آخر ما عهد إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنِ اتَّخِذْ مُؤَذِّنَاً لَا يَاخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْراً". قال: فإن استأجر عليه، جاز، لأنه عمل معلوم؛ فجاز الاستئجار عليه [وإن كان قربة] ككتابة المصحف، ولأنه إعلام بدخول الوقت؛ فجاز الاستئجار عليه [كالإعلام بغير الأذان]، وهذا ما حكاه أبو الطيب والمتولي عن أكثر الأصحاب، ولم يحك القاضي الحسين غيره، وكذا أبو علي في "المحرر"؛ على ما قاله أبو الطيب.

وقيل: لا يجوز؛ لأنه قيام بعبادة بدنية؛ فلم يجز بذل الأجرة في مقابله؛ كالاستئجار لقراءة القرآن، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد والقفال، وحكاه ابن المنذر عن النص؛ على ما حكاه ابن الصَّبَّاغ، وقال أبو الطيب: إنَّه ليس بشيء. أما إذا وجد من يتطوع به؛ فلا يجوز الرزق عليه، والاستئجار أولى. نعم، لو كان المتطوع فاسقاً أو حرش الصوت، جاز أن يرزق أميناً أو حسن الصوت، على وجه حكاه المتولي وغيره. واختار أبو محمد منعه. ومنهم من جزم بجواز الرزق عند تطوع الفاسق، وحكى الخلاف في الصورة الأخرى، وكلام ابن الصباغ يميل إلى ذلك. وقد شبَّه المتولي الخلاف المذكور بالخلاف فيما إذا وجد [الأب] من يرضع ولده بغير أجرة، وامتنعت الأم إلا بأجرة. والقاضي الحُسَيْنُ قال: إنَّ الخلاف المذكور هنا مَبْنِيٌّ على القولين ثَمَّ. ولو كان في البلد مساجد، وأمكن جمع أهله في مسجد واحد، فهل يجوز أن يرزق مؤذن كلِّ مسجد كما لو كان الشعار لا يحصل إلا بذلك ولا يمكن الجمع، أو لا يرزق إلا واحداً؛ كما لو كان في المسجد مؤذنان يمكن إقامة شعاره بأحدهما؟ فيه وجهان في "التهذيب" و"التتمة" وغيرهما. وحكى الإمام عن بعض المصنفين: أنه حكى عن ابن سريج أنه كان يُجَوِّزُ للإمام أن يرزق أكثر من واحد. ثم إذا جوزنا للإمام الاستئجار عليه، فهل يجوز لآحاد الناس ذلك؟ فيه وجهان: ادعى الإمام هنا أن المذهب منهما التصحيح، واختار في "المرشد" مقابله. ويجيء من مجموع ذلك فيهما ثلاثة أوجه، ثالثها: يجوز للإمام دون الآحاد، وبها صرح الإمام في باب الجعالة من كتاب النكاح، وصحح الجواز مطلقاً، والغزالي حكاها في الإجارة.

وإذا جوزنا للإمام وغيره تبعت الإقامة، وفيما مقابله الأجرة أوجه ذكرناها في كتاب الإجارة. قال البغوي وغيره: ولا يحتاج الإمام إذا استأجر من مال بيت المال إلى تعيين المدة، بل يقول: استأجرتك؛ لتؤذن في هذا المسجد كل شهر بكذا. وإن استأجره من مال نفسه أو آحاد الرعية، ففي الاحتياج إلى بيان المدة وجهان في "التهذيب". ***

باب ستر العورة

باب ستر العورة الستر- بفتح السين-: مصدر: ستر يستر، والسترة-[بضم السين]: ما يستتر به، والستر- بكسر السين-: واحد [الستور] والأستار. والعورة في اللغة: النقص والخلل، وكل ما يستحيا منه؛ قال الله تعالى: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] ومنه سمي الناقص [إحدى] العينين: أعور، والكلمة القبيحة عورة. والمراد بها في الباب: كل ما يجب ستره من البدن في الصلاة، وسنودعه ما يجب ستره عن أعين الناظرين. قال: ويجب ستر العورة، أي: من الذكور والإناث والخَنَاثَى، عن العيون، أي: في الصلاة وغيرها؛ لما روى أبو داود والدارقطني عن علي- كرم الله وجهه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تكْشِفْ فَخِذَكَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى فَخِدِ حَيٍّ ولَا مَيِّتٍ"، وفي رواية: "لَا تُبْرِزْ فَخِذَكَ". والفخذ من العورة- كما ستعرفه- وإذا وجب ستره،

فغيره أولى؛ لأنه أفحش. وقد روى [مسلم] عن المسور بن مخرمة قال: أقبلت بحجر أحمله ثقيل، وعليَّ إزار خفيف، فانحدر إزاري، ومنعني الحجر، فلم أستطع أن أضعه حتى بلغت به إلى موضعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارْجِعْ إِلَى ثَوْبِكَ فَخُذْهُ وَلاَ تَمْشُوا عُرَاةً". والمراد بالعيون: عيون الجنس والإنس والملائكة؛ لقوله من بعدُ: وهو شرط في صحة الصلاة، والشرط فيها الستر عن الكل، حتى لو كان في خلوة لم تصح بدونه اتفاقاً. وقد قيل: لا يجب الستر في الخلوة في غير الصلاة، وبه قال الشيخ أبو محمد؛ إذ يجوز التكشف بسبب استحداد وقضاء حاجة من [غير] إرهاق وضرورة، ومعه لا معنى لإيجاب الستر في الخلوة، وهذا ما حكاه ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب عند الكلام في اشتراط ذلك في الصلاة. وقال الجيلي: إنه أصح في بعض الكتب. والأصح في أكثرها- ومنها: "المهذب" و"الرافعي"- الأول، وهو اختيار الشيخ أبي علي، وقال الماوردي والبندنيجي والروياني: إنه مذهب الشافعي؛ لظاهر الخبر، وقد روى الترمذي: أنه- عليه السلام- سئل عن ذلك فقال: "واللهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيا مِنْهُ".

ثم الستر يجب من الجوانب كلها، وهل يجب من العلو [والسفل؟ فيه كلام يأتي. ولا يجب ستر عورته عن نفسه، بل نظره إليها مكروه]، وإن كان لفظ "العيون" يشمله. قال: بما لا يصف البشرة؛ إذ به يحصل الستر، ويدل عليه من السنة: ما روي عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: دخلت أختي أسماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رِقَاقٌ؛ فأعرض عنها، وقال: "يَا أَسْمَاءُ، إِنَّ المَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ المَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلا هَذَا. وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ". وفي "البحر": أن بعض أصحابنا قال: يجوز الصلاة في الثوب الواصف للون. قال: وكذا ذكره القفال زماناً، وألزم عليه فساد صلاة العريان في الماء الصافي؛ فرجع عنه. وقد أفهم قول الشيخ: بما لا يصف البشرة، أموراً: أحدها: أنه لا يتعين للقيام بواجب الستر شيءٌ مخصوص مما يقع به ستر البشرة، بل يكفي فيه الجنس الذي يلبس عادة: كالمتخذ من الكتان، والقطن، والصوف، والشعر، والوبر. أو غير عادة: كالمتخذ من الجلود، والرقوق، والورق المصنوع والمخلوف، والليف، ونحو ذلك. وما لا يلبس أصلاً: كالماء الكدر، والطين،

والتراب، والدِّنان الضيقة الرأس، والحفرة في الأرض؛ لأن ذلك يستر البشرة، وهو كذلك عند الأصحاب إلا الماوردي؛ فإنه قال: إذا قلنا بوجوب الستر في الخلوة، فهل يجوز أن ينزل في ماء النهر والعين بغير مئزر؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن الماء يقوم مقام التراب في ستر عورته. والثاني: لا؛ لما روي أنه- عليه السلام- نهى أن ينزل بغير مئزر، وقال: "إنَّ لِلْمَاءِ سُكَّاناً". وتعليل الوجه الأول يُؤْذِن بأن محل الخلاف إذا كان الماءُ كدراً. الثاني: أنه يتعين أيُّ الأنواع قدر عليه عند عجزه عن غيره، ولاشك فيه فيما يعد لبساً معتاداً، أو نادراً، حتى لو لم يقدر إلا على ربط الورق أو الحشيش على عورته، وجب.

أما ما لا يُعَدُّ لبساً: كالتطيين ونحوه، فللإمام فيه كلام ستعرفه. الثالث: أنه يجوز الستر بما يصف تكوين الأعضاء دون البشرة، وبه صرح غيره، وقالوا: الأولى للرجل ألا يقتصر على ذلك، ويكره للمرأة؛ قاله الماوردي. والبشرة: ظاهر الجلد، وعدم وصفها: ألا يرى بعد اللبس بياضها وسوادها. ثم ما ذكره الشيخ وإن كان ظاهره تعميم وجوب الستر في كل حالة، فهو مخصوص بمحل الحاجة: كقضاء الحاجة، ونحوها، وكشف ذلك للختان من طريق الأَوْلى؛ لأنه واجب، وألحق به المداواة. وعبارة الغزالي في ضبط ذلك: ولا يحل كشفها إلا لحاجة مؤكدة: كمعالجة مرض يخاف منه فوات العضو، وطول الضَّنَى. قال: ولتكن الحاجة في السوءتين أشد، وضابطها: ما لا يعد الكشف لأجله في العرف هتكاً للمروءة. [واعلم أنه كما يجب سترها عن العيون يجب على الناظرين كف أبصارهم عنها إلا في حال الحاجة إلى النظر؛ كما سيأتي في باب تحمل الشهادة]. قال: وهو- أي: الستر عن العيون بما لا يصف البشرة- شرط في صحة الصلاة، أي: المفروضة والنافلة؛ لقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، قال ابن عباس: عني بذلك الثيابَ عند الصلاة. وإذا كان كذلك، فالأمر ظاهره الوجوب، وأفاد التقييد بالصلاة: شرطيته فيها؛ إذ هو واجب في غيرها- كما تقدم- ويشهد له قوله- عليه السلام-: "لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاة حَائِضٍ إِلا بِخِمَارٍ"، وأراد التي: بلغت سن الحيض؛ كما يقال: مُحْرم ومُتْهِمٌ

ومُنْجِدٌ، لمن دخل الحرم وتهامة ونجداً، وإلا فالحائض في زمان حيضها لا تقبل صلاتها بوجه ما. قال الماوردي: وقد روي: " لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاة امْرَأَةٍ تَحِيضُ إِلا بِخِمَارٍ". فإن قيل: الستر لا يختص وجوبه بالصلاة؛ فوجب ألا يكون شرطاً فيها؛ كالنظر إلى المحرمات، والكف عن لصلوات في الدار المغصوبة. فجوابه: أنا لا نسلم أنه لا يختص بالصلاة، أما على قولنا: إنه لا يجب في الخلوة، فظاهر، و [أما] على قولنا: إنه يجب في الخلوة؛ فهو يجوز في حال دخول الخلاء، وحلق العانة، ونحو ذلك، وبه يظهر أنه مختص بالصلاة. ثم لو صح، لكان [منتقضاً] بالإيمان والطهارة عن الحدث؛ فإنها تجب لمس المصحف؛ فثبت ما ذكرناه. والشرط في اللغة: العلامة، يقال: من أشراط الساعة كذا، أي: من علاماتها، والمراد به في اصطلاح الفقهاء فيما نحن فيه ونظائره: ما يلزم من انتفائه انتفاءُ الشيء الذي جعل شرطاً فيه، مع أنه ليس بمفهوم له؛ فعدمه حينئذ علامة على النفي. واحترزوا بقولهم: وليس بمفهوم له، عن الركن؛ فإنه يلزم من نفيه النفيُ لكنه مفهوم له، بمعنى: أنه داخل في مسماه، ولا يتصور ركن إلا لمركب، والشرط يتصور

للمركب والبسيط. تنبيه: قول الشيخ: وهو شرط في صحة الصلاة، يفهم أموراً: أحدها: أنه شرط مطلقاً، وقوله من بعد: فإن لم يجد صلى عرياناً، ولا إعادة عليه- يدل على أنه شرط [مطلقاً] عند القدرة، أما مع العدم فلا. نعم، إذا قلنا: يصلي [عارياً] ويعيد، كان شرطاً مطلقاً. ثم قضية كونه شرطاً مطلقاً أو مع الوجود: أنه لو صلى عارياً ظانّاً للعدم، ثم تبين أنه غير عادم؛ بأن مات له قريب في ملكه سترةٌ حاضرة عنده، أو صلى ظانّاً أنه مستور كل العورة، فظهر أنه مكشوف بعضها؛ بأن ظهر له بعد الصلاة أن في ثوبه على محل عورته قطعاً كان في الصلاة أو بعضها، أو كان المصلِّي أمةً صلة مكشوفة الرأس، ثم ظهر أنها عَتَقَتْ قبل الصلاة- أن تجب الإعادة، وهذا هو الصحيح في الكل. وقيل: لا تجب؛ تخريجاً مما إذا صلى ثم رأى في ثوبه نجاسة كانت عليه في الصلاة لم يعلم بها قبل الدخول؛ حكاه في الأولى المتولي، وفي الثانية والثالثة هو وغيره من العراقيين. وقال الماوردي: إنَّ الأصحاب اختلفوا مِمَّ خُرِّج في الأخيرة؟ فمنهم من قال: إنه خرج من [المتيمم] إذا صلى، ثم علم أن في رَحْلِهِ ماء. ومنهم من قال: إنَّه خرج من قوله في المسافرين: إذا رأوا سواداً فظنوه عدوّاً، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان لهم أنه إبل أو وحش. وبعضهم امتنع من تخريج قول فيها، وقطع بوجوب الإعادة، وفرق بينها وبين

مسألة النجاسة بأن الأمة كانت مندوبة للستر؛ فهي مفرِّطة في الترك، ولا تفريط من غيرها. قلت: وهذا الفرق ظاهر إذا تمكنت من ستر الرأس دون ما إذا كانت في حال ظنها الرق غير متمكنة. ثم إذا قلنا بعدم الإعادة تخريجاً على مسألة النجاسة، [فلو] كان قد علم بالسترة ثم نسيها، أو بالقطع في الثوب ثم نسيه، أو علمت [الأمة بالعتق ثم نسيته- فالقياس أن يأتي في الإعادة الطريقان في] نظير المسألة من النجاسة، كما سيأتي. وقد أشار إليه القاضي الحسين في الصورة الثانية منهما بقوله: فالمذهب وجوب الإعادة. الثاني: أن ما ذكرنا أنه واجب في الصلاة وغيرها هو الشرط في صحة الصلاة، وذلك يقتضي جواز الستر في الصلاة بالماء الكدر والطين مع وجود الثياب وغيرها كما قررناه، ووجوب الستر بذلك عند فقد غيره، وهو الظاهر من كلام الأصحاب. وبعضهم جزم بالاكتفاء بالستر بهما، وقال في وجوب ذلك عند التعيُّن وجهين، وهذه [الطريقة] طريقة الإمام؛ فإنَّه قال: لو وقف المصلي في ماء كدر، فهو مستور تصح صلاته، ولو طلى طيناً فهو أستر باتفاق الأصحاب، وهو كافٍ مع القدرة على الستر بالثياب. فلو لم يكن معه ثوب، وكان متمكناً من التسبُّب إلى تحصيل طين ينطلي به، فهل يجب؟ حكى العراقيون فيه وجهين، وهما في "المهذب" وغيره: وادعى البندنيجي: أن المذهب منهما: اللزوم؛ لأنه لو طلى رأسه بطين وهو محرم افتدى. ووجه مقابله- وهو قول أبي إسحاق-: أنَّه تلويث. قال الإمام: ولأنه لو وجب لدام الوجوب في الصلاة وغيرها، وتكليف ذلك عظيم مُنْتَهٍ إلى مشقة ظاهرة. والقاضي الحسين حكى الخلاف في الطين، هل يكفي ساتراً في الصلاة أو لا؟

لأنه يتشقق عند الركوع والسجود، وحكاه في الماء [الكدر]؛ لأنه [لا] يعد ساتراً. وقضية هذا التوجيه: أن يطرد هذا الوجه فيما إذا صلَّى على جنازة في دَنٍّ ضيق الرأس لا تظهر منه عورته. وقد جزم القاضي والمتولي فيه بالصحة، والنواوي حكى الوجه فيه وفيما إذا حفر حفرة ووقف فيها، ولم يَرُدَّ عليه التراب [على قدره]. وقال فيما إذا رد عليه التراب حتى ستره: صحت صلاته. ولم يحك غيره. ومثل هذا مصرَّحٌ به فيما إذا صلى مضطجعاً على جنبه، فاستتر بالتراب. وقد أفهم كلام الشافعي في "الأم" أنه لا يجوز الستر بغير الثياب مع القدرة عليها؛ لأنه قال: "إذا لم يجد ثوباً، ووجد ورق الشجر ستر عورته وصلى". قال ابن الصباغ: لأنَّه أندر ما يقدر عليه من الستر. والماوردي جرى على ذلك في الطين، فقال: إنَّه يكفي عند عدم الثياب ونحوها. فلو لم يجد من الطين ما يستر العورة ووجد ما يغير [به] لونها- لا يجب، ولكن يستحب، قاله الماوردي. الثالث: أن ما كان شرطاً في صحة الصلاة هو الواجب في غيرها؛ وذلك يقتضي أمرين: أحدهما: أنَّ الواجب في السَّتْر على المشهور إنَّما هو من جهة الجوانب والعلو دون السفل، حتى لو وقف على طرف سطح، وكان من تحته يرى عورته من أسفل ثيابه، لا يحرم عليه ذلك؛ لأن المشهور أن صلاته كذلك تصح. وقال المتولي: إنّه لا خلاف فيه. قال القاضي الحسين: وخالف هذا لابس الخف؛ فإنه يعتبر الستر في [حقه] [من] الجوانب والسفل دون العلو؛ لأن الخنف إنما يتخذ للبس الأسفل في العادة؛

فاعتبر ستر الأسفل، والقميص إنما يتخذ [لستر] الأعلى دون الأسفل؛ فاعتبر ستر الأعلى به خاصة. وحكى الروياني في "تلخيصه" وجهاً نسبه في "البحر" إلى رواية والده: أن صلاته لا تصح [كذلك، وقال]: [لأنه كما يلزمه الستر لحق الآدمي من الأعلى والأسفل كذلك يلزمه لحرمة الصلاة. وهذا التعليل مؤذن بأن ذلك يجب في غير الصلاة وجهاً واحداً، وقد توقف الإمام، وتبعه صاحب "المعتمد" في صحة الصلاة كذلك، وقال]: لست أجيز القول بأنه يحل [له] ذلك؛ فإنه [يعرض] نفسه للنظر. وإذا فرض الواقف على شاخص ولا عين تقدر لإدراك السوءة منه، فهذا لا يعد في العرف مستتراً أصلاً إلا أن يكون ملتف الساق. الثاني: إجراء وجهين فيما إذا كان في ثوبه خرق على محل عورته، فوضع يده [عليه] من غير أن يجمع بها الثوب، وفيما إذا لبس ثوباً واسع الطَّوْق، ولم يَزُرّه، ولا شاكه بشوكة، بل كانت لحيته عريضة استترت بسببها عورته، وفيما إذا كان طوق القميص مفتوحاً، لكنه لا يظهر منه [عورة] في حال قيامه، وكانت بحيث تظهر لو ركع أو سجد- فإن الأصحاب حكوا في [كل من] الأولين وجهين في صحة الصلاة، ووجهوا المنع- وهو الذي جزم به ابن كج والماوردي، وصححه الروياني- بأن الساتر ينبغي أن يكون غير المستور، وقال الإمام: المذهب عندي مقابله، وهو الذي صححه الرافعي؛ لأنه لا يعصي بذلك في غير الصلاة، والستر لا يختلف في الصلاة وغيرها. والصورة الثالثة الخلاف فيها من تخريج الإمام؛ فإنه قال: هل نحكم فيها ببطلان الصلاة عند الركوع، أو نحكم بصحتها ابتداء؟ يظهر أن يكون فيها

الخلاف السابق من جهة أن سبب الستر وعدم [التكشيف] التصاق صدره في قيامه بمواضع [أزراره. قال الرافعي: وتظهر فائدة الخلاف فيها فيما لو اقتدى به غيره قبل] الركوع وفيما إذا وضع ثوباً على عاتقه قبل الركوع، أو [زَرَّه] أو شاكه بشوكة- فإنها لا تبطل كما لو فعل ذلك في ابتداء الأمر. قلت: وهذا ظاهر فيما إذا لم يكن عزمه حالة الدخول في الصلاة الاستمرار على تلك الحالة التي شرع فيها، أما إذا كان عزمه الاستمرار عليها فيظهر أن يكون في البطلان من الخلاف ما ستعرفه في باب ما يفسد الصلاة. ولا خلاف في أنه لو جمع الثوب المخرق، وأمسكه بيده- في صحة صلاته، حكاه المتولي والقاضي الحسين لانتفاء علة المنع، وهي إيجاد الساتر [و] المستور، وقضيتها: [الطرد فيما إذا وضع الغير يده على موضع الخرق وإن كان فعل ذلك] محرماً؛ كما لو سترها بقطعة ديباج، وبه صرح القاضي أيضاً. قال: وعورة الرجل- أي: حرّاً كان أو عبداً، مسلماً أو ذميّاً- ما بين سرته وركبته، وهذا لفظ [الخبر]، وهو يقتضي أن الركبة والسرة ليستا من العورة، وما عداهما منها، وهو الصحيح في "المهذب"، والمذهب في "النهاية"، والمنصوص عليه في عامة كتبه- كما قال البندنيجي- ولم يورد القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والفوراني والمتولي غيره، وكذا الماوردي، واستشهد له بقوله- عليه السلام-: "مَا فَوْقَ الرُّكْبَتَيْنِ مِنَ العَوْرَةِ، وَمَا أَسْفَل السُّرَّةِ عَوْرَةٌ"، رواه الدارقطني، وقال: إنه لا يقدر على ستر عورته إلا بستر بعض السرة والركبة؛ كما لا يقدر على غسل الوجه إلا

بالمجاوزة إلى غيره؛ فيجب ذلك وسيلة لتحصيل المقصود. وقد قيل: إن السرة والركبة من العورة- أيضاً- حكاه في "المهذب" وجهاً، وقال الإمام بعد روايته عن العراقيين: إنه غير معدود من المذهب. وقال الروياني: إن أبا جعفر الترمذي حكاه عن الشافعي، ثم قال: وهذا لا يعرف [له]، ولكنه قول بعض أصحابنا. وقيل: إن السرة منها دون الركبة؛ لأنها أفحش، ولا يتأتى ستر ما دونها إلا بسترها؛ حكاه ابن يونس وابن التلمساني والنواوي في "الروضة". وقيل: إن الركبة منها دون السرة؛ حكاه الرافعي عن رواية أبي عاصم العبادي. وقيل: إن العورة القبل والدبر خاصة؛ حكاه الحناطي عن الإصطخري. وهو غلط؛ لما روى ابن المنذر والإمام أحمد عن جرهد- وكان من أصحاب الصُّفَّة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه قد كشف عن فخذه فقال: "غَطِّ فَخِذَكَ؛ فَإِنَّ الفَخِذَ مِنَ العَوْرَةِ". ورواية أبي داود عنه قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا، وفخذي منْكشفة، فقال: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الفَخِذَ عَوْرَةٌ". وجرهد: بفتح الجيم، وسكون الراء، وفتح الهاء، ودال مهملة، ذكره في "الاستيعاب".

فإن قيل: هذا الخبر يعارضه ما روته عائشة- رضي الله عنها- أنه- عليه السلام- كان مضطجعاً في بيتها، كاشفاً عن فخذه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحالة، ثم استأذن عمر فأذن له كذلك، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوَّى ثيابه، فدخل يحدث، فلما خرج قلت: يا رسول الله، إنه دخل أبو بكر [فلم] تَهَشَّ له ولم تُبَالِهِ، ثم دخل عمر فلم تهش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسَوَّيْتَ ثيابك، فقال: "أَلا أَسْتَحْيِ مِنْ رَجُلٍ اسْتَحْيَتْ مِنْهُ المَلائِكة"؛ [فإن هذا] يدل على أن الفخذ ليس بعورة. قلنا: هذا الخبر قد [اختلف الرُّواة] فيه: فبعضهم يرويه: "كاشفاً عن فخذه" كما ذكرنا، وعلى رواية: "كاشفاً عن ساقيه"، وليسا بعورة، وإذا اختلفت [الرواية] لم يقع به تعارض، على أنه يحتمل أن يكون الموضع المكشوف ليس في الناحية التي جلس فيها أبو بكر [وعمر]، وعثمان أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرب مجلسه؛ ليزول حياؤه؛ فيقول حاجته، وكان من جلس ذلك المجلس منه يرى انكشاف فخذه؛ فلذلك غطاه. ويحتمل أن يكون كاشفاً ثوبه عن فخذه مع استتاره بغيره، ولم يغطه لأجل أبي بكر وعمر؛ لما بينهما من الصِّهارة، وعثمان كان حيّاً؛ فغطاه من أجله؛ خشية أن يستحيي فلا يقول حاجته. وقد جاء في رواية قالها أبو الطيب: أنه صلى الله عليه وسلم قال حين سألته عائشة: "إنَّ عُثْمَانَ رَجُل حَيِيٌّ خَشِيتُ إنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الحَالِ أَلَّا يُبَالِغَ فِي حَاجَتِهِ". قال: وعورة الحرة جميع بدنها إلا الوجه والكفين؛ لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]. قال ابن عباس: ما ظهر منها: وجهها وكفاها،

وحكاه في "التتمة" عن عائشة- أيضاً- والرافعي عن المفسرين، وخبر عائشة الذي أسلفناه في أول الباب يعضد هذا التفسير. قال بعضهم: وخص الله- تعالى- الزينة بالذِّكْر دون مواضعها؛ مبالغة في التستُّر والتصوُّن. ولأنهما لو كانا من العورة؛ لما وجب كشفهما حال الإحرام، والحاجة تدعو إلى كشفهما في البيع والشراء والأخذ والعطاء. وهذه العلة تفهمك أن المراد بالكف: من مبتدأ رءوس الأصابع إلى الكوعين ظهراً وبطناً، وهو الذي حكاه جمهور الأصحاب هنا. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن من أصحابنا من قال: [ظهرهما] عورة كظهر القدمين، وقد حكاه الرافعي في كتاب النكاح. وقال المزني: ظهر القدمين ليس بعورة كظهر الكفين، ولأنه مكشوف في العادة؛ فلم يلزمها ستره؛ كالوجه والكفين. وبعض الأصحاب ألحق أخمص القدمين ببطن الكفين حكاه الفوراني وغيره من أصحاب القفال عن روايته. قال الروياني: ويقال: إنه حكاه قولاً في المسألة. والمذهب الأول؛ لما ذكرناه؛ فإن من ضرورة ظهور الكف ظهور ظهره، وفي تكليف ستر البطون فقط مشقة أشد من مشقة ستر الجميع، وأما أخمص القدمين فمستوران في الغالب، وكذا ظهر القدمين؛ ولهذا لم يجب على المحرمة كشفهما مع أنه ورد عن أم سلمة أنها قالت: قلت: يا رسول الله، أتصلي المرأة في درع وخمار، وليس عليها إزار؟ فقال: "نَعَمْ، إِذَا كَانَ سَابِغاً يُغَطِّي ظُهُورَ قَدميها". رواه أبو داود.

قال: وقد روي موقوفاً على أم سلمة. وقد أفهم قول الشيخ: "وعورة الحرة كذا"، أنه لا عورة [لها] غير ذلك، ومنه يظهر أن صوتها ليس بعورة، وهو الذي جزم به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما عند الكلام في التلبية في الحج، والقاضي الحسين قاله ثَمَّ [، و] قال في كتاب الصلاة: إنه هل هو عورة بالنسبة إلى الصلاة وغيرها حتى لو فعلت ذلك تبطل صلاتها أم لا؟ فيه وجهان. قال: وعورة الأمة ما بين السرة والركبة؛ لقوله- عليه السلام-: "إِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ [خَادِمَهُ عَبْدَهُ] أَو أَجِيرَهُ فَلا يَنْظُرْ إِلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ". رواه أبو داود. ولأن الإجماع على رأسها ليس بعورة؛ فإن عمر ضرب أمة لآل أنس رآها مقنعة، وقال: اكشفي رأسك، ولا تتشبَّهي بالحرائر. وفي رواية أخرى: ضربها، وقال: يا لكعاء، لا تتشبهي بالحرائر. ولم ينكر عليه أحد. وما روي عن الحسن [البصري] أنه يوجب عليها لبس الخمار إذا تزوجت أو اتخذها سيدها لنفسه- متأخر عن ذلك. وإذا ثبت ذلك قلنا: من رأسه ليس بعورة لا يكون ما عدا بين سرته وركبته عورة؛ كالرجل. وعلى هذا يجيء في دخول السرة والركبة فيها الخلاف السابق، وما ذكره هو المذهب في "المهذب" و"تعليق" البندنيجي و"تلخيص" الروياني. وقال ابن الصباغ تبعاً لأبي الطيب: إن الشافعي لم يذكر قدر عورة الأمة، ونسب ما ذكرناه إلى اختيار أبي إسحاق، وهو الذي صححه القاضي- أيضاً- ووراءه وجهان: أحدهما: أن عورتهما كعورة الحرة إلا الرأس؛ قاله أبو علي في "الإفصاح"،

واستدل [له] بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "المَرْأَةُ عَوْرَةٌ". قال بعضهم: وهو حديث حسن صحيح؛ فثبت بهذا [الخبر] أن كلها عورة، وخرجت الرأس بما ذكرناه؛ فبقي باقيها على حكم الخبر. قال الروياني: وقد اختار هذا ابن بنت [أبي] أحمد؛ يعني: صاحب "التلخيص". والثاني: أنها كالحرة إلا مواضع التقليب منها، وهو ما يبدو منها عند العمل. قال في "المهذب": مثل الوجه والكفين والذراعين. وأضاف ابن الصباغ وأبو الطيب والروياني إلى ذلك على [هذا] الوجه: الساق. وأضاف القاضي الحسين إلى ذلك كله على هذا الوجه: العنق. وقال البندنيجي: إنه الوجه والرأس والرجلان، هذه طريقه. وقال في "الحاوي": لا يختلف المذهب أن رأسها وساقها ليس بعورة، وأن ما بين سرتها وركبتها عورة، وفيما بين سرتها ورأسها من صدرها وظهرها وجهان: أحدهما- وهو قول أبي إسحاق، وعليه أصحابنا-: أنه ليس بعورة، ويجوز النظر إليه عند التقليب. والثاني- وهو قول ابن أبي هريرة-: أن ذلك عورة في الصلاة ومع الأجانب، وهذه الطريقة لم يحك الإمام غيرها، غير أنه جعل طرف الساق ملتحقاً بالرأس، وحكى وجهين فيما تحت الركبة مما لا يظهر في المهنة. وقد أدخل الشيخ بلفظ الحرة: المكلفة وغيرها، والمسلمة وضدها، وبلفظ الأمة:

القنة، والمدبرة، والمكاتبة، والمعلق عتقها بصفة، وأم الولد؛ لأنهم- الكل- يُضْمنون بالقيمة. ولاشك فيما أفهمه كلامه إلا ما سنذكره في الصغيرة في بعض الأحوال. قال الروياني: [والمكاتبة] إذا كان معها ما توفيه في النجوم، وقد حَلّت- يُكْره لها أن تصلي مكشوفة الرأس. فلا يدخل في اللفظين مَنْ بعضها حر، وللأصحاب في إلحاقها بالحرة في ذلك أو بالأمة وجهان حكاهما الماوردي، وصحح الأول منهما، وهو ما [أورده البندنيجي] وادعى الشاشي أنه ظاهر المذهب. ومقابله هو المذكور في "الشامل" و"تعليق" أبي الطيب والبندنيجي و"التتمة". ولفظ" الرجل" ينظم: الحر والعبد، [ويخرج الخنثى، والذكر من الأطفال، وهو حسن بالنسبة إلى نظمه الحر والعبد]، وإخراج الخنثى فإن حكمه مغاير؛ لأن الماوردي قال: إن عورته في صلاته ومع الرجال كعورة النساء؛ فإن كان حرّاً فعورته عورة الحرائر. وقال الشافعي: آمره أن يلبس القناع، وأن يقف بين صفوف الرجال والنساء. وإن كان رقيقاً فيستر ما تستره الأمة. فإن قلنا: إنه أزيد مما بين السرة والركبة، فخالف واقتصر على ستر ما بينهما، وصلى، فهل يجزئه؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي عن "البيان"، مأخذهما: أن الأصل شَغْل الذمة ولا تبرأ إلا بيقين، وكون الزيادة [عورة] مشكوك فيها، وفي "زوائد" العمراني حكاية الوجهين فيما إذا كان حرّاً فصلى مكشوف الرأس، ونحوها. وأما الذكور من الأطفال فقد قال الماوردي فيهم وفي الأطفال الإناث: إنه لا حكم لعوراتهم فيما دون سبع سنين، فإذا بلغ الغلام عشر سنين والجارية تسع سنين كانا كالبالغين من الفريقين في حكم العورة وتحريم النظر إليها؛ لأن هذا زمان يمكن فيه بلوغهم؛ فجرى حكمه عليهم؛ لتغليظ حكم العورات. وأما الغلام فيما بين العشر والسبع، والجارية فيما بين السبع والتسع فيحرم النظر

إلى فرجهما، ويحل فيما سواه، وسنتمُّ ما قيل في ذلك في آخر الباب، إن شاء الله تعالى. قال: والمستحب أن يصلي الرجل في ثوبين: قميص، ورداء؛ لظاهر قوله تعالى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، والثوبان أهم الزينة، وقد روي أنه- عليه السلام- قال: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَلْبَسْ ثَوْبَيْهِ؛ فَإِنَّ اللهَ أَحَقُّ مَنْ تُزُيِّنَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوْبَانِ، فَلْيَاتَزِرْ إِذَا صَلَّى، وَلَا يَشْتَمِلِ اشْتِمَالَ اليَهُودِ". قال الجيلي: أخرجه رزين في صحيحه. ورواية أبي داود، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ لأَحَدِكُمْ ثَوْبَانِ، فَلْيُصَلِّ فِيهمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ [لَهُ] إِلَّا ثَوْبٌ فَلْيَتَّزِرْ بِهِ، وَلَا يَشْتَمِلِ اشْتِمَالَ اليَهُودِ". واشتمال اليهود: أن يخلل يديه الثوب ويسبله من غير أن يشد طرفه. وقال بعضهم: إنه اشتمال الصمّاء أو قريباً منه. والصحيح: أنه غيره؛ فإن اشتمال الصماء: أن يلتحف بثوب، ويخرج يديه من قِبَل صدره؛ فيصير كالصخرة الصماء التي ليس فيها فرق ولا صدع؛ فيعسر عليه الركوع والسجود. وقال في "التتمة": إن اشتمال الصماء: أن يلتحف به مثلما تلتحف النساء، وهو- أيضاً- مكروه. وما ذكره الشيخ هو عين ما نص عليه في "المختصر"، والمراد منه: بيان أول درجات المستحب، والأكمل منه لا ينحصر في ذلك، وكذلك قال القاضي الحسين: إن الاستحباب لا [يقتصر على] ذلك، بل المستحب أن يتعمم مع القميص والرداء

ويتَطْيْلس؛ لأنه فيه زيادة الزينة، وفي الآثار: "العمائم تيجان العرب". ويروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "صَلاةٌ بعمَامَةٍ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ صَلاةً بغَيْرِ عِمَامَةٍ". والقميص معروف، والرداء قد يخفي، وهو ما يستر العورة والأكتاف. ولاشك أنه مع القميص أكمل من القميص مع الإزار، وهو ما يستر العورة فقط، أو مع السراويل؛ لأن ستره يعم. ولفظ البندنيجي والروياني وكثير من الأصحاب: والمستحب أن يصلي في ثوبين: قميص، ورداء، [أو قميص وإزار]، أو قميص وسراويل. ولعل مرادهم التنويع بحالة الوجود لا التخيير عند وجود الكل؛ لما ذكرناه. ولفظ الماوردي: المستحب أن يصلي في قميص ورداء، أو رداء وسراويل. قال: فإن اقتصر على ستر العورة، أي: [بأي] شيء كان من ثوب أو غيره، جاز؛ لأن الشرط سترها، وقد حصل. وقد يفهم من قول الشيخ: "فإن اقتصر على ستر العورة جاز"- أن مراده: [أنه إذا اقتصر على سترها بثوب واحد جاز، وليس كذلك؛ بل مراده] ما ذكرناه، ولئن كان كذلك فوجهه: ما روى أبو هريرة أن سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في ثوب واحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَ لِكُلِّكُم ثَوْبَانِ؟ " أخرجه الشيخان، وفي رواية: "أَوَ

كُلُّكُم يَجِدُ ثَوْبَيْنِ؟! ". فإن قيل: هذا وإن كان لفظه لفظ استفهام، فمعناه الإخبار ما كان يعلمه من حالهم في العدم وضيق الثياب، فكأنه يقول: وإذا كنت بهذه الصفة، وليس لكل واحد منكم ثوبان، والصلاة واجبة عليكم، فاعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد [جائزة]، وإذا كان كذلك فلا يدل أن ذلك يكفي عند القدرة على أكثر منه. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لجابر: "إِذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقَاً؛ فاشْدُدْهُ عَلَى حَقْوَيْكَ"- كما رواه أبو داود- يحتمل أن يحمل على حالة العدم. والحقو- بفتح الحاء المهملة وكسرها-: الإزار، والأصل فيه: معقد الإزار، ثم سُمِّيَ به الإزار؛ للمجاورة، والنبي صلى الله عليه وسلم أطلقه باعتبار الأصل. فالجواب: أن فعل جابر يرد ذلك؛ فإنه روي أن جابراً صلى في إزاره، ورداؤه على المِشْجَب، فقال واحد: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصلي في إزارٍ ورداؤك على المشجب؟! فقال: عمداً فعلتُ؛ ليراني جاهلٌ مثلُك فيعلم أن ذلك جائز، فأينا كان له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبان؟! قال: إلا أن المستحب أن يطرح على عاتقه شيئاً؛ لما روى عن عمر بن أبي سلمة "أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة، واضعاً طرفيه على عاتقه". أخرجه الشيخان، وفي رواية أخرجها الترمذي: "واضعاً طرفيه على منكبيه". قال البغوي: وهو متفق على صحته.

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ"، وفي رواية: "لَيْسَ عَلَى مَنْكِبِهِ مِنْهُ شَيء" أخرجه البخاري ومسلم. قال بعضهم: والمعنى فيه: أنه إذا طرح طرفيه على عاتقه، كان بمنزلة الرداء، وقد أوجب الإمام أحمد ذلك؛ عملاً بظاهر الخبر، وقال: إنه يكفيه أن يضع على عاتقه حبلاً. واستحب أصحابنا ذلك؛ للخروج من خلافه، [ولقوله صلى الله عليه وسلم: "زُرَّ، وَلَوْ بِشَوْكَةٍ، وارْتَدِ وَلَوْ بِحَبْلٍ"]. [والعاتق:] ما بين العنق والمنكب، وهو مذكر، وقيل: إنه يؤنث، وجمعه: عوانق وعُتَّق. قال الأصحاب: ثم الأفضل في حالة الاقتصار على ما يستر العورة إذا وجد الإزار والسراويل لبس الإزار؛ لأنه لا يلصق بالعورة فيصف تكوينها، بل يجافيها فلا يحاكيها، ولا يصف سمنها وهزالها. وقد قال القاضيان أبو الطيب والحسين، والشيخ في "المهذب"، والمتولي: إنه المنصوص في "الأم". وقال المحاملي، وكذا البندنيجي بعد حكايته عن النص: إن السراويل أولى؛ لأنه

أجمع في الستر. ويحكى عن الشيخ أبي محمد. وقال الروياني في "تلخيصه": إنه الذي قاله أصحابنا. [و] في "زوائد" العمراني: أن الفقيه أبا بكر قال: السراويل الواسع أولى. وعلى الأول: إذا كان معه ثوب واحد ائتزر به إذا كان ضيقاً، وجعل على عاتقه شيئاً، فإن كان واسعاً التحف به، وخالف بين طرفيه [على عاتقه] ما يفعل القَصَّار إذا كان في الماء. واعلم أن بعضهم أورد سؤالاً على كلام الشيخ، وأجاب عنه، فقال: قوله: "والمستحب أن يصلي الرجل في ثوبين" يفهم أنه ليس بشرط؛ فأي فائدة في قوله: "فإن اقتصر على ستر العورة جاز؟! وأجاب بأنه: أراد أن يعرف بأن نهيه- عليه السلام- أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه [شيء]- كما رواه مسلم- ونهيه- عليه السلام- أن يصلي [الرجل] في السراويل ليس عليه رداء- كما رواه أبو داود- محمولٌ على الاستحباب، لا [على] اشتراط الطرح على العاتق كما قاله الإمام أحمد، كما في غير العاتق مما ليس بعورة. قلت: ولذلك فائدة أخرى، وهي أنه لما قال: المستحب أن يصلي في ثوبين، لم يقتصر على ذلك، بل قال: قميص ورداء، وكل منهما يستر أكثر من العورة؛ فيجوز أن

يعتقد أن الواحد منهما ثوب واحد ساتر للعورة وما فوقها؛ فلذلك قال: فإن اقتصر على ستر العورة جاز؛ تنبيهاً على أنه لا يتعين ذلك ولا جنس الثياب؛ بل الجلد والورق وما تقدم ذكره [يجزئ] إذا حصل به الستر، والله أعلم. قال: والمستحب أن تصلي المرأة [- أي:] حرة كانت أو أمة- في ثلاثة أثواب: درع وهو قميص النساء الذي يغطي البدن والرِّجْل، وخمار: وهو الثوب الذي يستر الرأس والعنق، ويقال له: مِقْنَعة، وسراويل وهو معروف؛ لأن ذلك زينة النساء. وقد روي عن عمر أنه قال: تصلي المرأة في ثلاثة أثواب: درع، وخمار، وإزار. والشيخ أقام السراويل مُقَام الإزار؛ جرياً على ما حكيناه عن البندنيجي والمحاملي من [أن] السراويل في حق الرجل أولى من الإزار؛ لأنه أجمع؛ فهو في المرأة أولى، وهو المعهود عندهن زينة في هذا الزمان. والمحذور من كونه يصف تكوين العودة مفقودٌ في حقها؛ لأن القميص فوقه يستره؛ فإنا ذكرنا أن المستحب في حقها الدرع: وهو القميص الذي يستر البدن والرِّجْل. والأصحاب لم يتعرضوا للسراويل، بل جعلوا عِوَضَهُ الإزار؛ كما جاء في الأثر، وعليه جرى في "المهذب"؛ اتباعاً لظاهر نصه في الرَّجُل، وفسره ابن الصباغ بالجلباب، والمشهور غيره، كما ستعرفه. قال: ويستحب لها أن تكثف جلبابها. هذا الفصل اقتضى أمرين: أحدهما: أنه يستحب لها أن تلبس فوق ذلك جلباباً كما صرح به غيره؛ لأنه يستر تكوين أعضائها وسمنها [وهزالها] وذلك كمالٌ في سترها. والجلباب- على الصحيح-: هو الملاءة التي تلتحف بها فوق ثيابها. قال النووي: وهو مراد الشافعي والمصنف والأصحاب، ونقل عن أبي عبيد: أنه الخمار والإزار. وعن الخليل: أنه أوسع من الخمار وألطف من الإزار.

وقيل: [إنه أقصر من الخمار، وأعرض من المقنعة. وقيل: هو ثوب واسع دون] الرداء يغطي ظهرها وصدرها. الثاني: أنه يستحب لها أن تكثفه؛ لأنه أبلغ في تحصيل المقصود [به]. وتكثفه- بالثاء المثلثة على المشهور- معناه: أن تتخذه صفيقاً، غليظ الغزل، شديد النسج؛ بحيث لا يظهر منه لون بشرتها ولا لون ثيابها، ويجافيها في الركوع والسجود، كذا حكاه القاضي الحسين تفسيراً لقول الشافعي: "وأن تكثف جلبابها". قال أهل اللغة: والكثيف والكثاف- بضم الكاف وتخفيف الثاء-: هو الغليظ المكثف من كل شيء. وقيل: إن قول الشافعي: "وأن تكتف جلبابها" بالتاء ثالثة الحروف، ومعناه: أن المستحب لها أن تعقده؛ كي لا ينحل في ركوعها وسجودها فتنكشف. وقيل: إنه بفتح التاء في أوله وإسكان الكاف وكسر الفاء؛ فيكون معناه: أن المستحب في حقها أن تجمعه؛ فإن الكَفْت: الجمع، وهذا يَنْبُو عنه اللفظ؛ فإنه ضد المقصود- الذي ذكرناه- بالجلباب. قال: ومن لم يجد- أي: من الذكور والإناث- إلا ما يستر به بعض العورة، ستر به السوءتين. هذا الفصل اقتضى [أمرين]: أحدهما: وجوب الستر به، وهو مما لا خلاف فيه؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور، وقال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَاتُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ"، وخالف هذا ما لو وجد من الماء ما يكفيه لبعض طهارته، لا يجب عليه استعماله على قول؛ لأن للماء بدلاً يرجع إليه وهو التيمم، ولا كذلك ها هنا؛ قاله الأصحاب. وقد يقال: إنه ينتقض طرداً وعكساً:

أما طرداً ففيمن عدم الماء وقدر على بعض ما يكفيه من التراب؛ فإنه لا يستعمله على رأي وإن كان لا بدل يرجع إليه. وأما عكساً ففيمن قدر على قراءة آية من الفاتحة، فإنه يأتي بها جزماً وإن [كان] للقراءة بدل يرجع إليه. الثاني: أنه يستر بذلك السوأتين، ووجهه: أنهما متَّفَق على أنهما عورة، وهما أفحش من غيرهما، بل ما عداهما كالحريم [لهما]؛ ولذلك خصهما الله- تعالى- بالذكر في قوله: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121]. والسوأتان: القبل والدبر، وسميت بذلك؛ لأنه يسوء صاحبهما انكشافهما ووقوع الأبصار عليهما. قال: فإن وجد [بعض] ما يكفي أحدهما، ستر به القبل؛ لأنه بارز، وهو يواجه به القبلة؛ [فكان ستره أولى من الدبر؛ لأنه مستور بالأليتين، ولا يستقبل به القبلة]، وهذا أصح في "المهذب"، وهو المنصوص في "الأم"، ولم يذكر الفوراني غيره. ولفظ "القبل" يشمل "الذكر" و"الفرج"؛ ولذلك صرح غيره أنَّا على هذا القول لا نفرق بين الذكر والفرج. وهو مضموم الأول والثاني، وكذا الدبر، ويجوز إسكان الثاني منهما. وقيل: يستر به الدبر؛ لأنه أقبح في حال الركوع والسجود؛ وعلى هذا الخنثى المشكل يتخير. وقد حكى الإمام الوجهين عن العراقيين، ثم قال: وقد يتجه التخيير في ذلك؛ وهذا حكاه القاضي الحسين وجهاً وقال: إنه الصحيح؛ لاستوائهما في وجوب الستر وتغليظ حكمهما. وقيل: إن الستر للقبل في الرجل أولى، والدبر في المرأة أولى؛ حكاه القاضي-

أيضاً- وصاحب "الروضة". ثم هذا الخلاف في الاستحباب، وإلا فلو ستر به الفخذ جاز؛ لأن الكل عورة؛ حكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد، وعبارة أبي الطيب تدل عليه- أيضاً- لأنه قال: إذا وجد ما يستر به بعض العورة فالمستحب أن يستر [به] السوأتين وإن وجد ما يكفي أحدهما أحببنا. وقيل: إنه في الوجوب، وهو ظاهر نصه في "الأم". وقال الإمام: إن في كلام الأصحاب ما يدل على تحتُّمِهِ، وأبدى الأول احتمالاً. قال: وإن بذل له سترة- أي: على وجه العارية- لزمه قبولها؛ لأنه لا مِنَّة عليه في ذلك عادة، فلزمه قبولها؛ كما لو وهب له الماء عند إرادته التيمم لِفَقده. وفي "الروضة" حكاية وجه: أنه لا يلزمه قبولها. قال بعضهم: وهذا بعيد وإن كان له اتجاه من حيث إن العارية مضمونة. قلت: وما جعله متجهاً لأجله فيه نظر؛ لأنه لو وجده بثمن مثله، وجب عليه شراؤه؛ فلا يزيد توقع ضمانه على توقع تلفه في ملكه، ومن هنا يظهر لك أنه لو قدر على استئجاره بثمن مثله؛ وجب أيضاً، ولا يجب عليه الشراء و [لا]

الاستئجار بأكثر من ثمن المثل. ولصاحب "التهذيب" كلام في نظيره من الماء والكفارة، ولا يبعد مجيئه هنا، والخلاف في قبول العارية مثله ما تقدم في إعارة الدلو والرِّشاء لاستقاء الماء. وإذا قبل العارية: إما وجوباً، أو جوازاً، فرجع صاحبها في أثناء الصلاة فيها- أخذها، وأتم المستعير صلاته [عارياً]، قاله الماوردي. أما لو بذلت له على وجه الهبة؛ فلا يلزمه القبول؛ [لما فيه من المنة؛ كما في هبة الرقبة في الكفارة. وقيل: يلزمه؛ كما لو وهب منه الماء. وقيل: يلزمه القبول،] وإذا صلى فيه رده، وحينئذ يكون القبول للمنافع دون العين. وهو بعيد بالاتفاق. والأول أصح بالاتفاق، بل الشيخ في "المهذب" والقاضي الحسين جزماً به. وقد أفهم قول الشيخ: "فإن بذلت له سترة لزمه قبولها": أنه لا يلزمه طلبها على وجه العارية، والظاهر من كلام الأصحاب وجوبه. وعبارة أبي الطيب: [أنه] إذا كان لرجل ما يستره، وليس لزوجته سترة؛ لزمها أن تسأله إعارتها تلك السترة حال الصلاة، ويستحب له أن يعيرها، فإن لم يفعل أساء. وعلى هذا فيمكن أن يؤخذ وجوب الطلب من قوله من بعدُ: "فإن لم يجد"؛ لأنه لا يقال: لم يجد، إلا لمن طلب؛ على ما هو [مقدَّر] في التيمم، ولا يجوز له عند وجود السترة وغَيْبَة مالكها أن يصلي فيها وإن لم يجد غيرها، سواء كانت في يده وديعة أم لا، ومن طريق الأَوْلى إذا منعها منه، وليس له أن يقاتله عليها، بخلاف الطعام في المخمصَة؛ لأنه يمكنه الصلاة عارياً وهي مجزئة. قال: وإن لم يجد، أَي ذلك، صلى عرياناً [ولا إعادة عليه؛ لأنه عذر عام]؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"، [وهذا حد استطاعته].

وظاهر كلام الشيخ: أن يتم الركوع والسجود، وهو ما حكاه العراقيون والماوردي، وقال الماوردي: إنه لا خلاف فيه. وحكى الغزالي في كتاب التيمم في كيفية صلاته ثلاثة أوجه: أصحها: ما ذكرنا. والثاني: أنه يصلي قاعداً، ولا يتم الركوع والسجود؛ حذاراً من كشف السوأتين، وقد اختاره المزني. والوجهان المذكوران في كتب المراوزة هنا قولان. قال القاضي: إنا إذا قلنا: يصلي قاعداً، فهل يأتي بالسجود أو يومئ به وبالركوع؟ فيه وجهان، وهما في "التتمة". والثالث: [أنه] يتخير بين [موجبي] القول [الأول] والثاني. قال: وكذا الأوجه في المحبوس في موضع نجس إن سجد سجد على النجاسة، وكذا من ليس معه إلا إزار نجس؛ فهو مخير بين أن يصلي عارياً أو مع النجاسة، وسنذكر هذين الفرعين، إن شاء الله تعالى. قال: ولا إعادة عليه؛ لأنه عذر عام ربما اتصل ودام، فلو أوجبنا الإعادة لشق عليه، والله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ". وقيل: تلزمه الإعادة إن عدم ذلك في الحضر؛ لأنه لا يدوم.

وقال الفوراني والقاضي الحسين: إن صلى قائماً، فلا يجب عليه الإعادة، وإن صلى قاعداً، فهل يعيد؟ فيه وجهان: المذكور منهما في "التتمة": الإعادة، سواء سجد أو أومأ به. وقال كثير من الأصحاب: إن كان في قوم يَعُمُّ العُرْي فيهم، فلا قضاء، وإن اتفق في ناحية يندر العري فيهم: فإن قلنا: يتم الركوع والسجود، فظاهر المذهب أنه: لا يجب القضاء. ومنهم من أوجبه؛ لندور العذر، وعدم الدوام. وإن قلنا: يومئ، فالأصح وجوب القضاء، وهذه طريقة "الوسيط" في كتاب التيمم. وقد بنى الأصحاب على وجوب القضاء وعدمه جواز [اقتداء] الكاسي بالعاري، فإن قلنا بالأول، جاز، وهو ما نص عليه في "الأم"، وإلا فلا يجوز، وهو وجه حكاه الروياني عن بعض الأصحاب. فرعان: أحدهما: لو أتلف السترة قبل وقت الصلاة أو بعد دخول الوقت، وصلى عارياً- فحُكْمه في القضاء وما يقضيه من الصلوات حكم [من] كان معه ماء فأراقه قبل [دخول] الوقت أو بعده، وقياسه: أن يكون فيما لو وهب الثوب بعد دخول الوقت، أن يكون في صحة هبته وجهان كما في هبة الماء كذلك. الثاني: لو وجد ثوباً يستر عورته، لكنه كان في موضع نجس إن صلى في الثوب صلى على النجاسة، وإن فرشه تحته صلى مكشوف العورة، فهل يصلي فيه أو يفرشه تحته ويصلي عارياً؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين: فإن قلنا: يبسطه، ففي كيفية صلاته [والإعادة ما سبق. وإن قلنا: يصلي فيه، ففي كيفية صلاته] خلاف يأتي في الباب بعده. قال: وإن وجد السترة في أثناء الصلاة وهي بقربه، أي: بحيث لا يحتاج في تناولها إلى مشي يبطل الصلاة، ستر؛ لقدرته على الستر.

قال: وبنى؛ لأن زمن التكشف قبل القدرة معفو عنه، وبعد الرؤية وقبل الستر هو مضطر إليه مع أن زمنه يسير، وفعل الستر قليل؛ فلم يقدح في الصحة، كما لو كشف الريح عورته، فرد السترة على قُرْبٍ. قال القاضي أبو الطيب والماوردي وابن الصباغ: وهذا إذا لم يستدبر القبلة، فإن استدبرها، بَطَلَتْ. وابن يونس ومن تبعه حكى في البطلان عند الاستدبار وجهين، وظاهر كلام الشيخ عدم البطلان. قلت: والاختلاف في المسألة يظهر أنه جاء من جهة واحدة، وهو أن احتياجه إلى أخذ السترة في أثناء الصلاة [هل ينزل منزلة سبق الحدث حتى يجري في بطلان الصلاة] عند كثرة الأفعال- الخلاف الذي سنذكره، أو لا يجري؟ فإن قلنا: لا يجري- وهي طريقة العراقيين- بطلت عند الاستدبار كما تبطل بالمشي. وإن قلنا: يجري، جرى الخلاف في البطلان [عند الاستدبار مع قلة الفعل؛ كما يجري في البطلان] عند الكثرة مع الاستقبال وعدمه، والله أعلم. وهذا من الشيخ تفريع على أنه إذا لم يجد وصلى عرياناً، فلا إعادة [عليه]، أما حيث تجب الإعادة فلا يبني، وهو ظاهر. وما ذكرناه من ضبط القرب هو المنقول، ولو ضبط بما لا يحتاج الستر فيه إلى لبث محسوس- كما قاله الإمام فيما إذا كشف الريح عورته وردَّها- لم يبعد. قال: فإن كانت بالبعد [منه]، أي: بحيث يحتاج في الستر إلى مشي يبطل الصلاة، أو إلى مكث محسوس- على ما أبديناه- ستر؛ لما ذكرناه، واستأنف؛ لأجل ما صدر منه من الفعل المبطل.

وقال الإمام: إن المحققين قالوا: إن الكلام في هذه المسألة كما في سَبْقِ الحدث؛ لأن ذلك حصل من غير تقصير منه. وللعراقيين أن يفرقوا بأن سَبْقَ الحدث لا يُؤْمن في القضاء، ولا كذلك ها هنا. فإن قيل: لو رأى المتيمم [الماء] في أثناء الصلاة التي يسقط فرضها بالتيمم، لا يجب عليه استعماله، وَوِزَانه: أنه لا يجب عليه- إذا قدر على السترة في أثناء الصلاة- السترة؛ لأن الصلاة عارياً تُسْقط الفرض. قيل: الفرق بينهما من ثلاثة أوجه: أحدها: أن فعل الطهارة يجب قبل الصلاة، وإذا أحرم بها، ووجد الماء، كان وجوده بعد فوات وقته؛ فلم يجب استعماله، وستر العورة يجب في جميع الصلاة، فإذا قدر عليه في أثنائها قدر عليه ووقتُه باقٍ؛ فوجب فعله فيه. فإن قيل: لا فرق بينهما؛ لأنه يلزمه استصحاب [الطهارة في جميع أجزاء الصلاة، كما يلزمه ستر العورة في جميع الصلاة. قيل: الواجب في الطهارة إنما هو استصحاب] حكمها مع أفعال الصلاة، لا الطهارة، وهو في الثوب يستعمل الستر مع أفعالها لا حكم الستر؛ فافترقا. والثاني: أن استدامة اللبس كابتدائه؛ بدليل أنه لو حلف لا يلبس ثوباً، فاستدام لبسه، حنث، بخلاف الطهارة. والثالث: أن المتيمم أتى ببدل الماء؛ فجاز ألا يستعمله، والعريان لم يأتِ عن السترة ببدل، فأتى بها كما قلنا في المستحاضة: [لما] لم تأت عن طهارة الخبث ببدل، لزمها عند انقطاع الدم الاستئناف، وهذا الفرق يرد عليه ما إذا قدر على قراءة الفاتحة بعد الإتيان ببدلها في القيام. وما ذكرناه من التفصيل والخلاف في وجود الستر في أثناء الصلاة جارٍ في الأمة إذا عَتَقَتْ في أثناء الصلاة وهي مكشوفة الرأس، ونحوها، بل الأصحاب جعلوها أصلاً فيما ذكرناه، وألحقوا بها غيرها؛ لأن الخصم وافق فيها وخالف في غيرها. ولو كان السيد قد قال لها: إن صليت مكشوفة الرأس، فأنت حرة قبلها، فصلت مكشوفة

الرأس- صحت صلاتها، ولم تَعْتِقْ؛ لأجل الدَّوْر؛ قاله الأصحاب في باب صلاة القاعد بقيام. فرع: إذا كانت السترة بالبعد من المصلِّي، وقلنا: لو مشى إليها بطلت صلاته، فلو وقف حتى أُتِيَ بها، فهل تبطل؟ حكى القاضي أبو الطيب وابن الصباغ في باب صلاة القاعد بقيام: أن أبا إسحاق قال: لا تبطل؛ لأن ذلك يجري مجرى العمل [القليل]، وهو ما ادعى بعضهم أنه الأصح، واختاره في "المرشد". ومن أصحابنا من قال: تبطل؛ لأن عورته كانت مكشوفة في بعض الصلاة؛ فلم تجز. وقال الماوردي: إن الخلاف في البطلان ينبني على أن السترة إذا كانت بالبعد منه هل تبطل الصلاة بمجرد رؤيتها أو بالمشي إليها؟ وفيه خلاف: فإن قلنا بالأول، بطلت وإن ناولها إياه كمن انتظره ولم يوجد منه فعل. وإن قلنا بالثاني، فلا تبطل إذا انتظر من يناوله، ولم يوجد منه فعل، أي: كثير. وقال: إن الأول بعيد؛ فإنه يلزمه عليه أن تبطل برؤية السترة القريبة. قلت: وفي هذا نظر، والقاضي الحسين جعل الخلاف في البطلان بالانتظار- على القول الذي عليه تفريع- مشبَّهاً بالخلاف فيما إذا زاد انتظارين في صلاة الخوف. وإذا قلنا: إنها إذا كانت بالبعد منه، ومشى إليها، لا تبطل؛ [بناء] على القول بأن سبق الحدث لا يبطل- فلو ثبت قائماً حتى أتي له بها، قال القاضي الحسين: فلا تبطل من طريق الأولى. وهو القياس. وحكى الإمام عن بعض التصانيف: أن ذلك بمثابة ما لو أطال السكوت في صلاته، فهل تبطل أم لا؟ [فيه] وجهان. ثم قال: وهذا كلام ملبس، والوجه أن يقول: إن أتاه بالسترة في مدة لو مشى لنالها فيها، فلا تبطل؛ فإن السكوت أولى في الصلاة من المشي والعمل الكثير. وإن زادت مدة سكوته على مدة مشيه إلى السترة لو مشى، فإن [لم] يبن أمره

على أن يُؤْتَى بالسترة، بطلت، وإن بنى أمره على ذلك وأُتِيَ له بها، فهذا سكوت طويل وتَرْكٌ للساتر، وفي معارضته أنه ترك عملاً كثيراً، وهو يجري احتمالاً ظاهراً في المسألة، ولعل الظاهر الحكم بالبطلان؛ فإنا إذا ألحقنا هذه الصورة بسبق الحدث، وقد ثبت أنه شرع المشي في تدارك ما وقع في القول الذي عليه التفريع- فوجود المشي وعدمه بمثابةٍ، فالوجه: النظر إلى الشرع إلى التدارك من غير مبالاة بالأفعال، وهذا التفصيل قال الرافعي: ينبغي أن يطرد هو والخلاف في طلب الماء عند سبق الحدث. وقد نَجَزَ شرح مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به وما تقدم الوعد بذكره: إذا كان معه ثوب يستر عورته، وثم جماعة عُراة، لا يجوز له أن يؤثر غيره من العُرَاة [به] ويصلي عارياً، بل يصلي فيه، ويستحب له إذا صلى أن يعيره، فإذا أعاره لواحد تعين [عليه، ولو] أعاره لجميعهم، صلى [فيه] واحد بعد واحد بالقرعة، وهل يجوز لمن علم أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد خروج الوقت أن يصلي عارياً في الوقت أَوْ لَا؟ فيه قولان حكاهما القاضي أبو الطيب [وغيره] عن رواية أبي علي الطبري عن نصه في "الإملاء"، والمشهور أن الذي نص عليه منهما في "الأم": أنه لا يصلي عارياً. قال الشيخ أبو حامد: ويشهد له أنه لا خلاف في المذهب [في] أن من كان معه ثوب نجس يشغله غسل النجاسة إلى أن يخرج الوقت: أنه لا يجوز له أن يصلي عرياناً، ويغسله وإن خرج الوقت، وأنه نص في المتضايقين في سفينة في البحر إذا لم يمكنهم أن يصلوا [جميعاً] قياماً: أن كل واحد يصلي بعد الآخر بالقرعة قائماً، إلا أن يخافوا فوت الوقت؛ فإنهم يصلون قعوداً. وإن من الأصحاب من خرج من كل صورة إلى الأخرى قولاً وأثبت فيهما قولين،

ومنهم من أقر النصين، وفرق بأن القيام أخف حالاً من السترة؛ لأنه يجوز تركه في النافلة مع القدرة دون السترة، والقيام إذا تركه أتى عنه بالقعود بدلاً، والسترة إذا تركها لم يأت عنها ببدل. ولو كان في العراة رجل وامرأة، فالأولى أن يؤثر به المرأة؛ لأن عورتها أفحش. ولو كان ثَمَّ رجلان، ومعه ثوب فاضل عن حاجته، [وهو يكفي واحداً منهما]، ولو قسم بينهما لحصل [لكل] منهما بعض سترة- فما الأولى فيه؟ قال الإمام: هو محتمل، ولعل الأظهر أن يستر به أحدهما، وإن أراد الإنصاف؛ أقرع. و [هذا تمام] الفروع. أما ما تقدم الوعد به من بيان العورة بالنسبة إلى أعين الناظرين، فهو يختلف فيه بالنسبة إلى الذكور والإناث، والأحرار والأرقاء، والمحارم وغيرهم، فلنرتبهم على ترتيب الكتاب، ونقول: عورة الرجل في الصلاة عورة بالنسبة إلى النظر إليه، رجلاً كان الناظر أو امرأة كيف كانا، اللهم إلا أن تكون المرأة زوجاً يحل له الاستمتاع بها بألا تكون [في عدة شبهة من غيره، أو أن يحل له الاستمتاع بها بألا تكون] زوجة لأحد، ولا في عدته، ولا محرمة عليه بسبب نسب وولاء سبب؛ فإنه يحل له التكشف عليها، ويحل لها النظر إلى ما عدا السوءتين، وفي حِل نظرها إلى فرجه كلام سبق في النكاح. وما عدا عورة الصلاة منه، فليس بعورة بالنسبة إلى الرجل، وكذا لو كان مراهقاً أو أمرد، فيحل لهم النظر إلى ذلك منه، اللهم إلا أن يكون حسن الوجه، نقي البدن،

يخشى منه الافتتان؛ فحينئذ يحرم النظر إليه؛ كما قاله القاضي الحسين. وعبارة المتولي: أنه إذا خشي من النظر إليه الفتنة؛ حرم، وإلا جاز، والأولى ألا ينظر. وقال في "المهذب": إنه لا يجوز النظر إلى الأمرد من غير حاجة. وقال الغزالي: إن النظر إلى الأمرد بشهوة حرام، وبغير شهوة عند الأمن من الفتنة [يجوز، ومع الخوف من الفتنة] فيه وجهان: وجه التحريم: أنه في معنى النساء. ووجه الحل- وهو المحكي عن صاحب "التقريب"، واختاره الإمام-: ما روي أن قوماً قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم [وفيهم] غلام حسن الوجه، فأجلسه وراءه، وقال: "أَلا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي مَا أَصَابَ أَخِي دَاوُدَ؟! "، ولم يأمره بالاحتجاب عن الناس، بخلاف النساء، ولم يزل الصبيان بين الناس مكشوفين، فالوجه الإباحة إلا في حق من أحس من نفسه بالفتنة؛ فعند ذلك يحرم فيما بينه وبين الله- تعالى- إعادة النظر. قال القاضي الحسين: وما قاله صلى الله عليه وسلم أراد به تعليم أمته؛ لأنه كان معصوماً من الزلات. وأما النساء الأجانب، فهل ذلك مستحب في حقهن كما هو في حق الرجال الأجانب؟ فيه وجهان: أصحهما في "الوسيط" و"الرافعي": نعم. وعلى هذا يكره النظر إليه عند الأمن من الفتنة من غير حاجة؛ لما روي عن أم سلمة قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده

ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال صلى الله عليه وسلم: "احْتَجِبَا" فقلنا: يا رسول الله، [أليس] أعمى لا يبصر؟! قال: "أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا؟! ". والثاني: لا. وعلى هذا فيما هو عورة منه بالنسبة إليهن وجهان: أحدهما: ما عدا الوجه والكفين. والثاني: ما هو عورة من المرأة بالنسبة إلى محارمها. فإذا جمعت ذلك واختصرت، قلت: في المسألة ثلاثة أوجه كما هي في "الوسيط"، والذي جزم به القاضي الحسين: أن العورة منه بالنسبة إليهن كالعورة منهن بالنسبة إليه، واستدل بالخبر السالف، وحكى الأوجه السالفة في عورته بالنسبة إلى محارمه النساء. والقائلون بالطريقة الأولى قالوا: عورته بالنسبة إلى محارمه النساء كعورتهن بالنسبة إلى محارمهن الرجال، وسنذكرها. وقال الإمام: إن المحققين على أن ما فوق السرة وتحت الركبة من الرجل كما يبدو في حال المهنة من النساء. وعورة الحرة بالنسبة إلى النسوة الأجنبيات وغيرهن كعورة الرجل بالنسبة إلى الرجل

والمرأة التي تميل إلى النساء إن خافت الفتنة من النظر إلى وجهها أو بدنها؛ حرم عليها ذلك. وهل المسلمات وغيرهن فيما ذكرناه عند الأمن [سواء]، أو يختص ذلك بالمسلمات مع المسلمات؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، وهو ما يدل عليه قول الشيخ في باب عقد الذمة: "ويكون في عنقها خاتم يدخل معها الحمام"؛ إذ من يقول بعدم التسوية لا يجوِّز للمسلمة دخول الحمام مع الكتابيات. والثاني: أن ذلك يختص بالمسلمات؛ لقوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31]. وروي عن عمر أنه كتب كتاباً إلى أبي عبيدة بن الجراح: أما بعد: فإنه بلغني أن نساء [من المسلمات] يدخلن الحمامات ومعهن نساء [من] أهل الذمة؛ فامنع ذلك. وفي رواية: فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها. وعلى هذا في عورتها بالنسبة إليهن وجهان: أحدهما: كعورتها بالنسبة على الرجال. والثاني: أنها كل البدن إلا ما يبدو حال المهنة. قال الرافعي: وهو أشبه. وأما عورتها بالنسبة إلى الرجال غير المحارم والزوج، فجميع بدنها، وهو [محكي] عن الإصطخري وأبي علي [الطبري]، واختاره الشيخ أبو محمد والمتولي والإمام، وقال: إن العراقيين مالوا إليه؛ لاتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات وجوهُهُنَّ، ولو حل النظر إليه لنزلناهن منزلة الْمُرْدِ. قال الرافعي: وهذا ما أجاب به البغوي والروياني. ومن الأصحاب من استثنى من كل البدن الوجه والكفين، وجوز النظر غليهما حيث تؤمن الفتنة، وقال في أخمص القدمين وجهين، كما في الصلاة. وما المراد بالكف:

هل الظهر والبطن، أو البطن فقط؟ فيه ما سبق. وهذا الوجه هو الذي مال إليه أكثر الأصحاب، لاسيما المتقدمون [؛ للآية،] والإمام حكاه عن الجمهور. وقال الشيخ أبو حامد: إنا على القول به نكره ذلك. والغزالي استبعده؛ لأنه يؤدي إلى التسوية بين النساء والمرد، والشهوة وخوف الفتنة أمر باطن؛ فكان [الضبط] بالأنوثة التي هي من الأسباب الظاهرة أقرب إلى المصلحة. وقال في "الحاوي" في كتاب الشهادات: إن الخلاف ينبني على اختلاف العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم لعلي- كرم الله وجهه-: "لَا تُتْبعِ النَّظْرةَ النَّظْرَةَ" وسنبين [وجه البناء] في باب تحمل الشهادة. وهل صوتها عورة حتى لا يجوز استماعه من غير حاجة، أو ليس بعورة حتى يجوز استماعه عند الأمن من الفتنة؟ فيه وجهان [حكاهما المتولي في كتاب النكاح، والقاضي الحسين في كتاب الصلاة، والذي جزم به الماوردي في كتاب الصلاة الأول]، وأصحهما: الثاني، وهو ما أورده الجمهور في كتاب الحج كما أشرنا إليه. قال القاضي الحسين: ولا خلاف في أنه إذا كانت لها نغمة حسنة أنه عورة يحرم على الرجال استماعه.

وأما عورتها بالنسبة إلى الرجال المحارم بالنسب أو الرضاع أو المصاهرة، ففيها وجهان: أحدهما: ما بين السرة والركبة فقط كالرجال مع الرجال؛ لأنها ليست محلاً للشهوة. قال القاضي الحسين: وهذا يدل عليه نص الشافعي حيث قال في كتاب الرضاع: وشهادة النساء جائزة فيما لا يحل للرجال غير ذوي المحارم أن يتعمد النظر إليه. فإن هذا يدل على أن لذوي المحارم النظر إلى بدنها، وهذا ما حكاه الماوردي، وكذا الأكثرون على ما قاله الرافعي؛ للآية. والثاني: أن عورتها ما لا يظهر في العادة مثل الظهر والبطن، فأما ما يظهر في العادة: كالأطراف، وأطراف الشعر، والرقبة، وبعض الساعد، والقدم [فلا]؛ لأن في تكليفهن ستر ذلك مع كثرة الخلوة بهن والدخول عليهن في أحوال الغفلة- مشقة عظيمة. وعلى هذا هل يلحق الثدي في زمن الرضاع بما يبدو في حال المهنة أوْ لا؟ فيه وجهان في "البسيط"، وفي "الوسيط" لم يخص الخلاف بحالة الرضاع. وعن شرح الجويني حكاية وجه: أن المحرم بالمصاهرة والرضاع لا ينظر إلا إلى ما يبدو في حال المهنة. والصحيح أنه لا فرق. ولا عورة لها بالنسبة على الزوج إلا الفرج على خلاف فيه. وأما عورتها بالنسبة إلى مملوكها؛ ففيه وجهان: أصحهما عند الأكثرين- ومنهم المتولي-: أنها كعورتها بالنسبة إلى محارمها؛ لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]. وروي أن فاطمة سترت رأسها عند دخول غلام لها [عليها]، فقال لها

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَاسٌ إِنَّما هُو أَبُوكِ وَغُلامُكِ". وعلى هذا يأتي الوجهان في أن ذلك هل يختص بما تحت السرة وفوق الركبة أو بما لا يبدو في حال المهنة؟ فالأول منهما منسوب إلى ابن سريج وابن أبي هريرة. والثاني- وهو الذي صححه الشيخ أبو حامد-: أن عورتها بالنسبة إليه كعورتها بالنسبة إلى الأجانب، [وهو المحكي في "الحاوي" عن أبي إسحاق المروزي وأبي سعيد الإصطخري، وقال: إنه لا يختلف المذهب أنه لا يلزمه الاستئذان إلا في الأوقات الثلاثة المذكورة في الكتاب العزيز. وأما عورتها بالنسبة إلى الممسوح من الرجال الأجانب] إذا لم تكن له شهوة، قال القاضي الحسين: فيه وجهان: أحدهما: أنها كالعورة بالنسبة إلى غير الممسوح؛ فلا يجوز له النظر. والثاني: أنها كعورتها بالنسبة إلى المحارم، وهذا ما حكاه المتولي حيث قال: إن عورتها بالنسبة [إليه كعورتها بالنسبة] إلى الشيخ الفاني، ومن لم تتكامل القوة في أعضائهم ولا تكاملت عقولهم، وعورتها بالنسبة إلى هؤلاء كعورتها بالنسبة إلى المحارم؛ لقوله تعالى: {غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ} الآية [النور: 31]. وحُكِي [عن] ابن عباس أن "غير أولي الإربة": هو المغفل الذي لا يكترث بالنساء، ولا يشتهيهن. وقال الحسن: هو الذي لا عقل له، ولا يشتهي النساء. وفي "تعليق" القاضي الحسين: [قيل: إنهم الشيوخ].

وقيل: أراد بهم الصبيان. وهو بعيد؛ لأنهم مذكورون من بعد. وقيل: أراد بهم الخِصْيان. وقيل: أراد بهم المخنثين. ولأجل هذا الاختلاف، أطلق أبو مجالد البصري- وهو من متأخري الأصحاب- أن في [حل نظر] الخصي والمخنث [إليها] وجهين. وابن الصباغ قال: لا يحل لهما النظر إليها إلا عند الكبر وذهاب الشهوة. وغيره أطلق القول بأن الخصي- وهو الذي ذكرُهُ باقٍ وقطعت خُصيتاه- والمخنث لا يحل لهما النظر كالرجال؛ لأنه- عليه السلام- نفي المخنثين عن المدينة. وقيل بطرده في الممسوح والمجبوب الذكر، الباقي الخصيتين. والعِنِّين كالخصي. ومنهم من ألحق المجبوب بالممسوح. قال الرافعي: وهم الأكثرون. وأما عورتها بالنسبة على الصبيان الذين قاربوا مبادئ الشهوة، فكعورتها بالنسبة إلى البالغين. وقال القفال: ثبت الحِلُّ؛ فلا يرتفع إلا بسبب ظاهر، وهو البلوغ. وحكى ابن الصباغ الوجهين في المراهق والصبيان الذين بلغوا مبلغ الحكاية، ولم ينتهوا إلى حد تتحرك فيه الشهوة: يجب الستر عنهم، وألحقهم الماوردي بالمحارم، ومذهبه فيهم الجزم بأن العورة في حقهم ما بين السرة والركبة. ومن لم يبلغ مبلغ الحكاية كالمعدوم. وأما الأمة فعورتها بالنسبة على سيدها الذي تحرم عليه بسبب [مؤبد] أو غيره،

كعورتها بالنسبة إلى الأجنبي، وفي عورتها بالنسبة إلى الأجنبي ثلاثة أوجه: أظهرها: أنها كعورة الحرة، وفي حالة الحاجة إلى تقليبها لأجل الشراء، ينظر إلى ما يبدو في حال المهنة. قال الغزالي: وهو القياس. وقال الرافعي: إنه لا يكاد يوجد هكذا إلا الغزالي. والثاني: أنها كالرجل. والثالث: أنها كعورة الحرة إلى ما يبدو في حال المهنة. وقال في "التتمة": لا خلاف أن وجهها ورأسها وبدنها وأطراف ساعديها وقدميها ليس بعورة، وفيما عدا ذلك وجهان. وهذه طريقة القاضي الحسين. والمدبرة، والمكاتبة، والمعلَّق عتقها بصفة، وأم الولد كالقِنِّة. والمعتق بعضها كالحرة. وأما الخنثى المشكل، فقد قال في "التتمة": لا [يحرم عليه] النظر إلى بدن المرأة، ولا إلى بدن الرجل، ولا [يحرم] على الرجال و [لا على النساء] النظر إلى بدنه؛ كما لا يبطل وضوءه بلمس النساء ولا بلمس الرجال، ولا يبطل بلمسه طهر الرجال ولا طهر النساء، وهذا ما حكاه الرافعي عن القفال. وحكى وجهاً آخر: أنه يجعل بالنسبة إلى الرجال امرأة، وبالنسبة إلى النساء رجلاً؛ احتياطاً، وهذا ما حكاه الماوردي [هنا. وأما الأطفال فقد ذكرنا عن الماوردي] في حكم عوراتهم تفصيلاً سلف. وقال في "الوسيط": إنه لا يجوز النظر إلى فرج الصَّبِيَّة، وفي النظر إلى وجهها وجهان: أحدهما: المنع؛ لأنها من جنس النساء. [وأصحهما] في "الرافعي": الجواز؛ لأنها ليست في مظنة الشهوة. قال الرافعي: فعلى هذا لا فرق بين حد العورة وغيره. نعم: لا ينظر إلى الفرج.

وقال في "التتمة" في كتاب النكاح: هل يحرم النظر إلى فرج الأطفال؟ فيه وجهان. ثم اعلم أن ما أبحنا النظر إليه من بدن النساء الأجانب [لا يحل لمسه، وكذا ما أبحنا للنسوة النظر إليه من الرجال الأجانب] لا يحل [لهن] لمسه بغير زوجية، ولا ملك، ولا حاجة. قال في "التتمة": لأن اللمس أغلظ حكماً من النظر إليه؛ بدليل أنه لو لمس فأنزل؛ بطل صومه، ولو نظر فأنزل؛ لا يبطل. وطرد القاضي الحسين ذلك في المحارم، وهو المحكي في "الرافعي". وقال القاضي في "تعليقه": إنه إذا كان للرجل ابنة، وبلغت [عشر سنين]، لا يجوز له أن يضاجعها، وليس لها أن تغمز [يديه ورجليه]؛ كي لا يقعا في الفتنة، وكذا الابن الكبير مع الأم، وقد نسب ذلك إلى القفال، وأنه منع من تقبيل وجهها. وحكى عن القاضي أنه كان يقول: العجائز اللاتي يكحلن الرجال يوم عاشوراء مرتكبات للمحظور، والناس يحسبون أنهن مقيمات للسنة. ولا يجوز للرجلين أو المرأتين أن يتجردا في ثوب واحد وإن كان كل منهما في جانب، وعليه دل الخبر في صحيح مسلم. وما ذكرناه من تحريم اللمس إذا لم [يكن] تدعو إليه حاجة، فإن دعت لعلة ونحوها: كالفصد، والحجامة، ونحو ذلك- جاز، وكذا لو احتيج إليه في المواضع التي لم يبح النظر إليها، لكن يشترط أن يكون ثَمَّ محرم. ويشترط في جواز النظر إلى من المرأة: ألا يكون هناك امرأة تعالج، وفي جواز النظر إليه من الرجل: ألا يكون هناك رجل يعالج؛ كما قال أبو عبد الله الزبيري

والقاضي الروياني، وعن ابن القاص خلافه. قال الأصحاب: ثم أصل الحاجة كاف في جواز النظر إلى الوجه واليدين إن جعلناه عورة، وفي النظر إلى سائر الأعضاء يعتبر التأكد، وضبطه الإمام بما يجوز الانتقال بسببه من الماء إلى التراب، ولو على رأي. وفي النظر إلى السوأتين [يعتبر] مزيدُ تأكُّدٍ، وهو مما لا يعد الكشف بسببهما هتكاً للمروءة. فرع: الجزء المبان هل يجوز النظر إليه؟ قال في "الوسيط": إن لم يتميز المبان بصورته: كالقلامة، وما ينتف من الشعر، والجلدة المنكشطة- فلا يحرم. وإن تميز بصورته: كالعضو، والعِقْصَة فلا يحل. وهذا التفصيل رَايٌ رآه الإمام، والذي حكاه المتولي: أنه لا يجوز النظر إلى الجزء المبان مطلقاً. ومعلوم أنه إذا كان من محل لا يجوز النظر إليه عند الاتصال، ومنه: شعر [رأس] الحرة، وشعر العانة، وقلامة الأظفار من الرِّجْلين. وألحق القاضي الحسين بذلك دم الفصد والحجامة. وفي "الرافعي" حكاية [وجه في العضو] المتميز بصورته: أنه يجوز النظر إليه، وقد أشار إليه الغزالي والإمام عند الكلام في وصل الشعر. والأصح الأول، والله أعلم.

باب طهارة البدن والثوب وموضع الصلاة

باب طهارة البدن والثوب وموضع الصلاة الأصل في اعتبارها في البدن قوله- عليه السلام-: "اسْتَنْزِهُوا مِنَ البَوْلِ؛ فَإِنَّ عامَّةَ عَذَابِ القَبْرِ مِنْهُ" رواه الدارقطني. وقال- عليه السلام- وقد مَرَّ بقبرين: "إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كبيرٍ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتتِرُ مِنَ البَوْلِ، أَوْ عَنِ البَوْلِ"- وفي رواية: "من بوله"- وأما الآخَرُ فكانَ يَمْشِي بالنَّميمة" رواه مسلم. وفي الثوب قوله- تعالى-: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) ..} [المدثر: 4، 5] [قال الماوردي: والرجز: النجس. والظاهر من قوله: {فَطَهِّرْ}] إرادة الحقيقة فيهما، وبه قال ابن سيرين والفقهاء. وما رواه أبو داود عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تصنع إحدانا بثوبها إذا رأت الطهر، أتصلي فيه؟ قال: "تَنْظُر فيهِ، فَإِنْ رَأَتْ فِيهِ دَماً فَلْتَقْرصْهُ بِشَيءٍ مِنْ مَاءٍ، وَلْتَنْضَحْ مَا لَمْ تَرَ، وَلْتُصَلِّ فِيهِ". وفي موضع الصلاة: نهيه- عليه السلام- عن الصلاة في المقبرة، والمجزرة، والمزبلة، ولا علة للمنع إلا النجاسة. على أن قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} بالتفسير الذي ذكرناه، وقوله- عليه السلام-: "تَنَزَّهُوا مِنَ البَوْلِ؛ فَإِنَّ [عَامَّةَ عَذَابِ القَبْرِ مِنْهُ] " يجوز أن يستدل بهما للجميع. قال: واجتناب النجاسة-[أي: في ذلك]- شرط في صحة الصلاة؛ لأنه قد ثبت الأمر باجتنابها، ولا يجب في غير الصلاة- كما سنذكره- فتعين أن يكون في

الصلاة شرطاً كما في طهارة الحدث. قال بعضهم: بل أولى؛ لأنه إذا اشترط رفع الحدث فيها مع أنه ليس بعين، فأولى أن يشترط إزالة النجاسة مع كونها [عيناً] [من باب] أولى، وما قاله في النجاسة العينية ظاهر دون الحكمية. وعلى هذا قال الشيخ: فإن حمل نجاسة في صلاته [أو لاقاها ببدنه أو ثيابه]] وهي غير معفو عنها- أي: سهواً وعمداً- لم تصح صلاته؛ لأن ما كان شرطاً في الصلاة لا يسقط بما ذكرناه [كالطهارة من الحدث]. قال: وقال في القديم: إن صلى، ثم رأى في ثوبه نجاسة كانت [عليه] في الصلاة، لم يعلم بها قبل الدخول [فيها]- أجزأته صلاته؛ لما روى أبو داود أنه- عليه السلام- خلع نعليه في الصلاة، فخلع الناس نعالهم، فقال: "مَا بَالُكُمْ خَلَعْتُم نِعَالَكُمْ؟ " فقالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأخْبَرَنِي أَنَّ فِيهما قَذَراً". أو قال: "دم حلمة". وجه الدلالة منه: أنه لم يستأنف الصلاة، ولو كان ذلك يبطل الصلاة، لاستأنفها. والفرق بين ما نحن فيه وطهارة الحدث: أن الحدث في ذاته يخصه، فانتسب في الجهل به إلى التفريط؛ لأن الإنسان يحيط علماً بما يقع في ذاته ويخصه حسب ما لا يحيط بما هو أجنبي منه، فنظير الحدث: أن يعلم النجاسة، ثم ينساها، وهو مما [لا] تصح معه الصلاة قولاً واحداً كما قاله القاضي أبو الطيب، وإليه أشار الشيخ

بقوله: لم يعلم بها قبل الدخول. لكن قد حكى الماوردي وغيره عن القاضي أبي حامد أنه قال بجريان القول القديم في هذه الصورة أيضاً. قال بعضهم: وكأن هذا القائل يقول: اجتناب [النجاسات] من قبيل المأمورات؛ فلا يكلف به في حالتي الجهل والنسيان. والصحيح الأول، والخبر محمول على أن الذي كان بالخفين من المستقذرات الطاهرات أو من النجاسة المعفو عنها؛ لقلتها، وتنزيهه- عليه السلام- منها؛ محافظة على التصون استحباباً. [على أنها] قضية حال، وقضايا الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها الإجمال، ويسقط بها الاستدلال، ومن جمل ما تطرق إليها: أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل استقرار حكم النجاسات، وتحريم فعل الصلاة معها، ثم نسخ ذلك، ولعل النسخ ورد في خلال تلك الصلاة، فخلعهما- عليه السلام- قاله القاضي الحسين، وقال: إن القولين هنا كالقولين فيما لو ترك قراءة الفاتحة ناسياً في الصلاة، وفيما لو ترك الترتيب ناسياً في الوضوء، وفيما لو نسي الماء في رحله. وما قاله في الأخير مشابه لطريقة أبي حامد، وإلا فلا مشابه له هنا على طريقة أبي الطيب التي أفهمها كلام الشيخ. تنبيه: كلام الشيخ يفهم أموراً: أحدها: [أنه لا يجب اجتناب النجاسة في غير الصلاة؛ إذ لو كان كذلك، لنبه عليه كما فعل في باب ستر العورة. نعم: هل يجوز أن ينتفع بالنجاسات في بدنه من غير حاجة؟ فيه كلام يأتي في باب ما يكره لبسه؛ لأن له تعلقاً به. الثاني:] أن القول القديم لا يجري فيما لو علم بعد الصلاة بنجاسة كانت على بدنه [أو] في موضع صلاته. وقد صرح في "المهذب" وغيره بأنه جارٍ فيهما، وهو

قضية طريقة القاضي أبي حامد في إجرائه فيما إذا علم بها ونسيها، وقضية طريقة من قال إذا علم بها ثم نسيها: إنه لا يجري فيها القول القديم؛ لما ذكرناه من الفرق- ألا يجري فيها إذا كانت على بدنه، ولم أره. الثالث: أنه لا فرق في اشتراط اجتنابها في موضع الصلاة بين أن يكون يصلي لابثاً أو ماشياً، ولاشك في ذلك فيما إذا صلى لابثاً في مكان واحد. وعبارة الإمام فيما إذا صلى ماشياً: أنه إذا مشى في نجاسة قصداً، وكان له مندوحة عنه- فالذي أراه: الحكم ببطلان الصلاة، ولست أرى عليه أن يتصون ويتحفظ من ذلك ويرعاه؛ فإن كل رخصة متعلقة بما يليق بها من الحاجة، والطريق يغلب فيها النجاسة، والتصون فيها عسر، ورعاية هذا الأمر يلهي المسافر عن جميع أغراضه في السفر ليلاً ونهاراً، وإذا انتهى في ممره إلى نجاسة ولا يجد عنها معدلاً، فهذا فيه احتمال، ولاشك أنها إذا كانت رطبة فالمشي فيها يبطل الصلاة وإن كان من غير قصد؛ فإن المصلي يصير بالمشي فيها حاملاً للنجاسة. انتهى. والراكب المصلي: الشرطُ في حقه طهارة ما يلاقيه بدنه وثيابه مما هو عليه ولو كانت الحَكَمَةُ نجسة، وبها شيءٌ هو بيده؛ ففيه الخلاف الذي سنذكره. ولو أوطأ الدابة النجاسة عمداً، لم يضره؛ كما صرح [به] الإمام، وهو عند المتولي مُبْطِلٌ. الرابع: أنه لا فرق في اشتراط اجتنابها مع العلم بين أن يكون قادراً عليه مع إتمام الركوع والسجود، أم لا كما إذا كان محبوساً في حُشٍّ وهو مذهب العراقيين؛ فإنهم قالوا: إذا كان [محبوساً في حش] لا يتمكن معه من الركوع والسجود، يصلي، ويتجافى عنها بحسب الطاقة، ويومئ إلى القدر الذي لو زاد عليه لاقى النجاسة، ولا يسجد عليها. وحكى المراوزة مع هذا وجهين: أحدهما: أنه يكمل الركوع والسجود.

والثاني: أنه يتخير. واختلفوا في محل الخلاف: فقيل: مع مطلق النجاسة: رطبها، ويابسها. وقيل: مع اليابسة، أما مع رطبها؛ فلا يباشرها قولاً واحداً؛ لأنه يستصحب النجاسة في جميع الصلاة. وهذه طريقة القاضي الحسين و [والد] الإمام. وإذا صلى بالإيماء فهل يعيد؟ فيه قولان: القديم: لا؛ لأنه صلى على حسب حاله؛ كالمريض. والجديد- وهو المختار في "المرشد"-: أنه يعيد؛ لأنه عذر نادر غير متصل. وعلى هذا فما فرضه [من الصلاتين؟] فيه خلاف سبق في التيمم. الخامس- وهو المفهوم من قوله: "فإن حمل نجاسة في صلاته أو لاقاها ببدنه أو ثيابه، لم تصح صلاته"-: صحتها إذا فقد ذلك، وهو يفرض في [صور نذكر] منها [ما] وقع اختلاف الأئمة فيه: فمن ذلك: إذا كانت النجاسة تحت صدره في حال سجوده، ولم يلقها ثوبه ولا بدنه: هل تصح؟ فيه وجهان، المنصوص منهما في القديم- كما قال في "الحاوي"-: الصحة، وهو ما ادعى الروياني أنه المذهب، ولم يحك في "التتمة" سواه. قال القاضي الحسين: والوجهان جاريان فيما لو كان [يصلي ماشياً، فكان بين خطوتيه نجاسة، لم يصبها شيء من بدنه. ومنها: إذا كان] على النجاسة ثوب شفاف ترى من تحته النجاسة، ولا تلقى شيئاً من بدن المصلي ولا ثيابه، هل تصح صلاته أم لا؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين، وهما جاريان- كما قال الروياني وغيره- فيما لو كان الثوب [الذي] على النجاسة خفيفاً بحيث تقابل النجاسة بدنه في السجود، ولا يلقى النجاسة. وجزم في "التتمة" فيها بالصحة.

وكلام الإمام يشير إلى أن الخلاف جارٍ إن لاقت ثيابه النجاسة من خَلَلِ النسج؛ لأنه قال: [إذا صلى] على بساط نجس، وكان قد بسط إزاراً سخيفاً مهلهل النسج؛ فقد ذكر الأئمة فيه خلافاً من حيث إنه يعد حائلاً. والظاهر: المنع؛ لأن بدن المصلي وثوبه الذي هو لابسه يلقى البساط النجس من خلال الفُرَج في أثناء النسج السخيف. قال: والمسألة مصورة في البساط النجس الجاف. قال: وإذا منعنا الرجل من الجلوس على الحرير، فبسط فوقه إزاراً صفيقاً، وجلس عليه- جاز، ولو بسط إزاراً سخيفاً- كما ذكرناه- ففي جواز الجلوس التردد الذي ذكرناه في البساط النجس في حق المصلي. وقد احترز الشيخ بقوله: "أو لاقاها ببدنه أو ثيابه"، عما إذا وقعت نجاسة يابسة، فنحَّاها في الحال؛ فإن الملاقاة لم توجد منه. وفي معناها ما لو ألصق إليه شخص- وهو في الصلاة- ثوباً نجساً، فإنه لا تبطل صلاته إن نحاه في الحال؛ كما قال القاضي الحسين. وإن كان هو الذي [قد] مس بثوبه الثوب النجس، بطلت صلاته. وكذا لو كان الماسُّ غيره ولم ينحِّها في الحال. واحتكاكه بالجدار النجس كملاقاته الثوب النجس؛ قاله الإمام وغيره. [ثم وراء] ما ذكرناه في كلام الشيخ بحثان: أحدهما: أن قوله: "وهي غير معفو عنها"، احتراز عن النجاسة المعفو عنها، لكن هل ذلك عائد إلى الحمل والملاقاة، أو إلى الملاقاة [فقط؟ يحتمل وجهين]: فإن قلنا: إنه يعود إلى الكل- وهو الظاهر- أفادنا ذلك أن اختياره: [أنه لو حمل مستجمراً [في صلاته] أو ثوباً به دم براغيث معفو عن مثله لو كان لابسه، ونحو ذلك- أن صلاته تصح. وإن قلنا: إنه يعود إلى الملاقاة فقط، لا يكون في كلام الشيخ تعرض لذلك.

وقد قال الأصحاب:] إنه لو حمل مُسْتَجْمِراً في صلاته أو ثوباً به دم براغيث يعفى عن مثله حالة لبسه، هل تصح صلاته أم لا؟ فيه وجهان مأخذهما: النظر إلى أن ذلك معفو عنه في الجملة، أو إلى أنه لا يشق الاحتراز عن ذلك. والخلاف في حمل المستجمر مفرع- كما قال الإمام- على قولنا: إنه لو حمل طائراً لم يغسل محل النجو منه، ولا نجاسة عليه بادية: أنه لا تصح صلاته. أما إذا قلنا: تصح، فها هنا أولى. والخلاف جارٍ فيما لو حمل من على ثوبه نجاسة معفو عنها بالنسبة إليه. الثاني: أن الحمل ظاهر في بعض الصور وقد يخفى في بعض؛ فنذكره للتنبيه: فمن ذلك: إذا كان على رأسه طرف عمامة طاهر، وطرفها الآخر متنجس، فإن صلاته لا تصح؛ لأنه حامل للنجاسة. قال الأصحاب: سواء تحرك الطرف النجس بحركته أو لا؛ لأنه لو مشى لانجر معه، وهذا بخلاف قولهم فيما لو كان الطرفان طاهرين، فسجد على الخارج عنه حيث لا يتحرك بحركته؛ فإنه تصح صلاته خلافاً للقاضي الحسين- كما ستعرفه- وبخلاف ما لو صلى على طرف بساط طاهر، والآخر نجس؛ فإنه تصح صلاته وإن تحرك الطرف النجس بحركته؛ لأنه ليس بحامل. ولو كان بعض العمامة على رأسه، والبعض الآخر على نجاسة يابسة، فهو كما لو كان الطرف نفسه نجساً فطرحه على نجاسة رطبة. ومنها: إذا ابتلع طرف خيط، فاتصل بمعدته، وباقيه طاهر- لا تصح صلاته كما قال المتولي؛ لاتصال طرفه بالنجاسة. ومنها: إذا شد كلباً بحبل، وطرف الحبل بيده- فقد أطلق ابن الصباغ في صحة صلاته وجهين خصهما القاضي أبو الطيب بما إذا كان الكلب كبيراً حيّاً، وجزم بالبطلان [فيما] إذا كان ميتاً أو صغيراً حيّاً.

وصرح الماوردي والقاضي الحسين بالخلاف في الصغير الحي والكبير؛ من جهة أن للكلب اختياراً. وخصه الإمام بما إذا كان لا يتحرك بحركة المصلِّي، ولم يتعرض غيره لذلك. وحكى المراوزة وجهاً آخر: أن الحبل إن كان مربوطاً في ساجور، والساجور في عنق الكلب- لم تبطل، وإن كان الحبل مربوطاً في عنق الكلب بطلت. وقالوا: إن الخلاف يجري فيما لو أمسك حبلاً مربوطاً في عنق حمار وعلى الحمار نجاسة، لكن بالترتيب، وأولى هنا بالصحة. و [ربط الحبل] في يده أو وسطه فيما ذكرناه كالمسك باليد، والبغوي جزم في الشد بالبطلان، وحكى الخلاف في المسك باليد. ولا خلاف في أنه لو وضع الحبل تحت رجله [وصلى]: أن صلاته صحيحة؛ لفقد الحمل. ومنها: لو شد حبلاً في سفينة فيها نجاسة، وكانت السفينة في الماء- فقد أطلق ابن الصباغ فيما إذا أمسك الحبل بيده في البطلان وجهين، وخصهما القاضي أبو الطيب بما إذا كانت السفينة كبيرة، ولا يلقى شيءٌ من الحبل النجاسة، وقال: إن الأصح الصحة، وجزم [القول] بالبطلان فيما إذا كانت السفينة صغيرة بحيث تنجز بجره لها، أو كبيرة وطرف الحبل يلاقي النجاسة. وما أطلقه ابن الصباغ إليه يميل كلام العراقيين [الذي] حكاه الإمام عنهم؛ فإنه حكى الخلاف فيما لو أمسك بيده حبلاً وطرفه نجس، لكنه لا يتحرك بحركته. والقاضي الحسين حكى الخلاف فيما لو أمسك طرف عمامة طاهرة وطرفها الآخر نجس، ولم [يقيده بعدم] التحرك بحركته. ولو كانت السفينة في البر، أو كان قد وضع الحبل تحت رجله وهي في البحر- لم تبطل قولاً واحداً، صغيرة كانت أو كبيرة.

ومنها: إذا حمل حيواناً مذبوحاً يحل أكله، وقد غسل موضع الذبح؛ لأنه حامل لما في جوفه من النجاسة، وهذا بخلاف ما لو حمل حيّاً؛ فإن صلاته تصح؛ لأن النجاسة التي في جوف الحي يعفى عنها [كما يعفى] عن النجاسة التي في جوف المصلِّي، وقد حمل صلى الله عليه وسلم أمامة بنت أبي العاص في الصلاة، وهذا إذا لم يكن على منفذ الحيوان نجاسة بأن طهر بالماء، فلو لم يطهر ولا شيء عليه بادٍ، قال الإمام: فمن أئمتنا من جرى على القياس، ومنع صحة الصلاة، والوجه القطع به، وهو الذي أورده في "التتمة". ومنهم من قال: يعفى عن ذلك. قال الرافعي: والخلاف جارٍ فيما لو وقع هذا الحيوان في ماء قليل، وخرج حيّاً. قال: والظاهر عدم التنجس، والفرق: أن حمله نادر، ووقوعه في الماء ليس بنادر، وصيانة الماء عن ذلك مما يشق. والطفل الميت في هذا- إن قلنا: لا ينجس بالموت- كالحيوان المأكول بعد الذبح؛ كذا قاله أبو الطيب. والبيضة المذرة، هل تلحق بالطائر؛ لأن باطنها نجس، أو بالنجاسة البادية؛ لأن البيضة لا حياة فيها؟ فيه خلاف جارٍ فيما لو حمل عنقوداً قد استحال باطن حباته خمراً، ولكنه مستور بالقشور من غير رشح، والأصح: المنع. والقارورة المتضمنة للنجاسة إن لم تكن مصممة الرأس برصاص ونحوه كالحيوان المذبوح؛ فتمنع الصحة، والمصممة بذلك كذلك على المذهب في "تعليق" القاضيين أبي الطيب والحسين وغيرهما. وقال ابن أبي هريرة: تصح؛ كالحيوان الحي؛ لأن كلاًّ منهما في جوفه نجاسة. والإمام قال: إنه ألحق ذلك بالبيضة المذرة، وقد طرد مذهبه- كما قال أبو الطيب والفوراني- في الآخر إذا قلنا: ظاهره طاهر وباطنه نجس.

وعن ابن كج إلحاق سد القارورة بالشمع ونحوه بتصميمها بالرصاص ونحوه، والمشهور تشبهي ذلك بلفها في خرقة ونحوها، وهو يمنع صحة الصلاة بلا خلاف، بل ما ادعاه ابن أبي هريرة في المصممة بالرصاص ونحوه غلط فيه؛ فالفرق بينها وبين الحيوان: أن نجاستها مستودعة فيها، ونجاسة الحيوان في محلها؛ فجرت مجرى النجاسة في جوف المصلِّي. ومنها: إذا صلى على جنازة، وأصابع رجليه في مداسه النجس- لا تصح صلاته؛ لأنه حامل له وهو نجس، نعم: لو جعله تحت قدميه جاز. ولو نزع أصابع الرجلين عنه، قال القاضي الحسين: ينظر: فإن كان شيءٌ من رجله بحذاء ظهر المداس [فلا يجوز؛] لأنه يصير حاملاً له، وإلا فيجوز. وفي "الجيلي": أنه لو أخرج أصابعه من المداس، وبقَّى إصبعاً واحداً وتحاذيها النجاسة، ففيه وجهان. فائدة: داخل الفم ملحق في اعتبار الطهارة بظاهر البدن، حتى لو تناول شيئاً نجساً من نخمر، أو ميتة، ونحوهما- لا تصح صلاته ما لم يغسله. وللأصحاب خلاف في وجوب إيصال الماء إليه في الغسل من الجنابة، و [من] لم يُوجب غسله يجعله في حكم الباطن، والفرق بين الغسلين غامض. قال: وإن أصاب أسفل الخف نجاسة، فمسحه على الأرض، أي: بحيث أزال عين النجاسة، وصلى فيه- ففيه قولان: أحدهما: يجزئه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَاءَ أَحدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلْينظُرْ نَعْلَيْهِ: فإنْ كَانَ بهمَا خَبَثٌ فَلْيَمْسَحْهُ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ لْيُصَلِّ فِيِهمَا"، ولأنها نجاسة تلحقه المشقة في إزالتها بالماء، فأجزأ فيها المسح؛ ما في الاستنجاء، وهذا ما نص عليه في

الأمالي القديمة؛ كما قال البندنيجي، وهو الأصح في "الجيلي". والثاني: لا يجزئه؛ لأنها نجاسة مقدور على إزالتها بالماء من غير مشقة؛ فلم يجز الاقتصار فيها على المسح على الأرض؛ كما لو كانت على ثوبه. قال البندنيجي: وهذا ما نص عليه في القديم والجديد، وهو الأصح عند المعتبرين، والخبر مختلف في رجاله. ثم إن صح كان محمولاً على الخبث من المستقذرات الطاهرات. والفرق بين الاستنجاء وما نحن فيه: أن ذلك يتكرر، ولا كذلك ما نحن فيه. والنعل والمداس فيما نحن فيه كالخف سواء، ولا خلاف في أن مسح ذلك [على الأرض] يجوِّز دخول المسجد به، وعليه حمل أصحابنا قوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَطِئ أَحَدُكُم بِخُفَّيْهِ الأَذَى فطَهُورُهُمَا التُّرابُ"، وفي لفظ: "إِذَا وَطِئَ بِنَعْلِهِ أَحَدُكُمُ الأَذَى

فَإِنَّ التُّرابَ لَهُ طَهُورٌ" أخرجه أبو داود. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أموراً: أحدها: أنه لا فرق على الأول في النجاسة حالة المسح بين أن تكون رطبة أو جافة. ويقال: إنه ظاهر ما نقله الشيخ أبو حامد، وكذا أكثر الأصحاب كما قال العمراني في "الزوائد". قال الجيلي: وعلى هذا: فينبغي أن يكون المسح على وجه لا يتعدى محل النجاسة كما في الاستنجاء؛ فإن بعض الناس ذهب إلى أنه لابد أن يكون على وجه لا تبقى مع الرائحة. وهو بعيد؛ إذ زوال الرائحة ليس بشرط في الاستنجاء وجهاً واحداً. والقاضي أبو الطيب فرض الخلاف فيما إذا كانت النجاسة قد جفت؛ [فأفهم] كلامه: أنها لو كانت رطبة لم يجزئ فيها المسح قولاً واحداً، وهو ما حكاه في "المهذب" و"الشامل"، والبندنيجي في "تعليقه"، والرافعي، وهو عكس ما تقدم في الاستنجاء بالأحجار. الثاني: [أنه] لا فرق في النجاسة بين أن يكون لها جِرْم أو لا: كالبول ونحوه، والمحكي في "الرافعي" عن الأصحاب: أن محله إذا كان لها جِرْم، أما إذا لم يكن فلا يكفي فيها الدلك بحال. الثالث: أنه لا فرق على الثاني بين قليل النجاسة وكيرها، سواء كانت من طين الشوارع المتحقق نجاسته أو من غيره، وكذا أطلقه [غيره، وأبدى] الرافعي احتمالين لنفسه في أن ذلك هل يختص بما لا يعفى عنه أو يكون عاماً فيه وفي غيره. وقد أفهم كلام الشيخ أموراً: أحدها: أن الخف لا يطهر على القول الأول، والأصحاب مُطْبِقون عليه، وهو

نظير قولهم: إن المحل بعد الاستنجاء بالحجر نجس وإن جازت الصلاة قبل غسله، حتى لو انغمس في ماء قليل نجَّسه. والثاني- وهو مفهوم قوله: أسفل الخف-: أنها لو أصابت القدم والساق لم يكف فيها المسح بلا خلاف، وهو كذلك؛ لأنه لا مشقة في غسله. والثالث: أن النجاسة لو وقعت على أسفل الخف وهو ملقى، كان الحكم كما لو حصل ذلك بسبب مشيه [عليها]. والشيخ أبو محمد قال: إن [محل] الخلاف إذا كان يمشي في الطريق، فأصابته النجاسة من غير تعمد منه، فأما إذا تعمد تلطيخ الخف بها، وجب غسله لا محالة. وكلامه يفهم أن الصورة التي ذكرناها كذلك؛ لأنها نادرة، ولا جرم قال بعضهم: إنه الذي ينبغي القطع به؛ لأنه لا مشقة في غسله. قال: وإن أصاب الأرض نجاسة، فذهب أثرها بالشمس والريح، [فصلى عليها- ففيه قولان: أحدهما: يجزئه؛ لأن الشمس والريح] من شأنهما أن يحيلا الشيء عن طبعه؛ فتأثيرهما آكد من تأثير الماء، وهذا ما نص عليه في القديم، ولفظه فيه- كما قال

القاضي الحسين-: ولو شك في أرض، فأشرقت عليها الشمس، ومضى عليها أزمانٌ- جاز أن يصلي عليها، ولا يتيمم بترابها. والثاني: لا يجزئه؛ كما لو صلى في ثوب وقع عليه بول وجفَّ أثره بالشمس والريح، وهذا هو الجديد. قال بعضهم: وهو الجاري على أصل الشافعي- رضي الله عنه- إذ ليس المقصود من طهارة الحدث: الإزالة فحسب، وأنه لو وقعت قطرة من الدم على شيء صقيل منحدر، ووالى عليها بدفع ماء الورد، لم يحكم بطهارته ما لم يستعمل الماء، مع القطع بزوال عين النجاسة وأثرها، ولا يسمع أحد بطهارتها ممن ينتحل مذهب الشافعي- رضي الله عنه- وفارق طهارة الخمر بالاستحالة؛ فإنها تنجست بالاستحالة، وطهرت بها، وهذه نجاسة بالملاقاة؛ فلا تطهر بالاستحالة؛ كما لو فضخ الدِّبْس النجس ناطفاً أو جعل منه خلا، وهذا القول هو الصحيح بالاتفاق، ولم يحك الجمهور غيره، بل قال الماوردي: إن الأول حكاه ابن جرير الطبري عن نص الشافعي في القديم، ولا يعرف له. وقال البندنيجي في كتاب التيمم: إن من الأصحاب من نفاه، وقال: ما قاله في القديم من الحكم بطهارته، فإنما هو إذا مضت عليه السنون. وإذا كان كذلك، فمياه الأمطار تطهره، والرياح تسفي عليه التراب، فتغطيه، فكيف يحكم بطهارته بالشمس؟! ولا يختلف مذهبه أن النار لا تطهر شيئاً. والقولان جاريان- كما قال القاضي الحسين- فيما لو استنجى بحجر، وزالت النجاسة عنه بالشمس والريح، فإنه قال في "الإملاء": لو استنجى بالحجر، وألقاه في مَضْحَاة حتى جف وتناثرت منه النجاسة، جاز أن يستنجي به. وقال في الاستنجاء: ولا يمسح بحجر قد مسح به مرة، إلا أن يكون قد طهر بالماء. فحصل فيه قولان. وقال الإمام- حكاية عن الأصحاب-: إنهما يجريان في الثوب أيضاً. وهو بعيد؛ لأن للتراب قوة محيلة تحيل الأشياء إلى صفته، بخلاف الثوب.

وهل يقوم التراب مقام الشمس؟ المشهور: لا. وقيل: نعم، وحكاه الفوراني. ورأيت فيما وقفت عليه من "النهاية" حكايته عنه في الثوب إذا قلنا: إن الشمس والريح تؤثر في الصلاة فيه، وقال: إنه في نهاية البعد. وقد أفهم قول الشيخ: "وذهب أثرها"، أن المسألة مصورة بما إذا كان للنجاسة أثر، مثل: أن تكون مائعة، أو جامدة وهي رطبة، فأزال عينها، وذهب أثرها بالشمس والريح، وكذلك صوَّرها البندنيجي في باب التيمم وغيره، وقال: إن النجاسة لو كانت جامدة واستهلكت في الأرض: كعظام الموتى، وجلودهم، والسرجين، والعذرة- فلا تطهر بالشمس والريح قولاً واحداً، بل لا تطهر بصب الماء عليها وإن كوثر، وطريق تطهيرها قلع التراب حتى يتحقق أنه لم يبق من النجاسة شيءٌ بحال، أو يطيّن المكان بطين طاهر؛ فيكون حائلاً دون النجاسة. والمراوزة حكوا فيما إذا قلبت الأرض الأعيان إلى طبعها في الطهارة وجهين. والأثر الذي تجوز الصلاة عند زواله على القديم هو الطعم، واللون، والرائحة؛ كما قاله البندنيجي وغيره. وعلى القولين معاً: الأرض محكوم بنجاستها كما تقدم في الخف، ولا يجوز التيمم بترابها، والقاضي الحسين قال: إنَّا هل نحكم بطهارتها أم لا؟ فيه قولان، فإذا قلنا: تطهر، فهل تطهر ظاهراً وباطناً، أو ظاهراً فقط؟ فيه قولان. وقضية ذلك: أن يجوز التيمم بترابها، وقد حكاه الجيلي وجهاً في المسألة، والمشهور الأول، وهو المنصوص في "الإملاء"، وقد وافق عليه الخصم، وهو أبو حنيفة. فرع: إذا قلنا: إن الشمس والريح تطهران فالنار بذلك أولى، وإلا فوجهان؛ لأن النار أقوى. قال القاضي الحسين: وعلى هذين الوجهين السماد وعظام الميتات، هل نحكم بطهارته أم لا؟ الذي ذهب [إليه أبو] زيد المروزي والخضري: طهارته. والصحيح: أنا لا نحكم بالطهارة؛ لأن عين النجاسة قائمة.

والخلاف في الدخان مفرع على ذلك، فإن قلنا: إن الرماد يطهر؛ فكذلك الدخان، وإلا فوجهان. قال القاضي الحسين: فإن قلنا بنجاسته، فإن أصاب ثوباً رطباً نجَّسه، وإن كان الثوب يابساً، فوجهان. قال: ومثل ذلك ما إذا دخل الإسطبل، وراثت الدواب، وخرج منه دخان، أو دخل المستحَمَّ، وبال، وتغوَّط، وخرج منه دخان في الحال، فأصاب ثوبه- فإن كان رطباً ينجس، وإن كان يابساً ففيه وجهان. وأصل هذا ما حكيناه عن الحليمي في كتاب الطهارة: أن الإنسان إذا خرج منه ريح، وكانت ثيابه رطبة، تنجست، وإن كانت يابسة فلا. والآجر المعجون بالماء النجس، قضية ما حكيناه عن القاضي: أن يطهر ظاهره وباطنه على وجه، وقد أشار إليه الإمام حيث قال: إن قلنا: إن الشمس تطهِّر، فالنار أقوى أثراً وأبلغ؛ فينبغي أن تطهر الآجر. وعلى وجه يطهر ظاهره فقط، وهو ما حكاه في "الوسيط" تفريعاً على القديم، وإن كان قد قال عند حكاية القديم: إنه لا تفريع عليه. وأجاب بعضهم عن ذلك بأن اللَّبِنَ في معنى قطعة من الأرض؛ فيكون مِن صُوَر المسألة، لا فرعاً لها. وطريق تطهير باطنه: أن يدق حتى يصير تراباً، ثم نفيض عليه الماء؛ قال الروياني: وقال بعض أصحابنا: إذا صب الماء عليه، وكاثره حتى خلص الماء إلى الوجه الآخر وتقطر بالرشح، طهر كما يطهر بالأرض. قال: وهذا أصح. نعم: لو كان عجن بالسرجين، فلا يطهر باطنه ولا ظاهره على الجديد، وعلى القديم يطهر ظاهره فقط؛ لأن النار تأكل السرجين الظاهر؛ فيطهر محله، وهو ما حكاه في "الإبانة" عن تخريج الخضري. وإذا قلنا بالجديد، فإذا صب عليه الماء بعد ذلك، فهل يطهر ظاهره حتى تجوز الصلاة عليه، ولا تجوز مع حمله إلا على رأي ابن أبي هريرة- كما أسلفناه- أو لا يطهر باطنه ولا ظاهره؟ فيه وجهان في "الإبانة": المنسوب منهما إلى القفال: الأول، وهو ما أورده ابن الصباغ وغيره. ونسب إلى الشيخ أبي حامد الثاني، موجهاً له بأن النجاسة صارت جامدة، وقد

صار اللَّبِنُ حجراً لا ينشِّف الماء، وهذا ما حكاه الروياني في تلخيصه عن "الأم". والإمام حكى خلاف القفال والشيخ أبي حامد فيما إذا كان الآجر معجوناً بالماء النجس، وقلنا: لا تطهره النار، وغسل ظاهره بالماء، فالباطن لا يطهر، وفي الظاهر الوجهان. ثم قال: والأمر في ذلك مفصل عندي: فإن كانت نجاسة الآجر بسبب أنه عجن ببول أو ماء نجس، فالوجه القطع بأنه يطهر ظاهره؛ فإن النار قد نشفت الماء قطعاً، ولكنا في التفريع على الجديد لا نحكم بطهارته تعبداً حتى يتفق استعمال الماء على ظاهره، ولا يبقى بعد ذلك قذر، فأما إن كان سبب نجاسة الآجر خلط ترابه بالزبل أو الرماد النجس فلا يطهر ظاهره بصب الماء عليه؛ فإن تلك الأعيان مُسْتَحْجِرة، لا يزيلها الماء من ظاهر الآجر، ولا وجه لخلاف ذلك. وإن كان القفال يقول في الآجر الذي سبب نجاسته الزبل والرماد النجس: إنه يطهر- فلا وجه لقوله، وإن كانا يفصِّلان، فلا خلاف بينهما إذن. قلت: فقول الإمام فيما إذا كان مختلطاً بالرماد ظاهر، وأما إذا كان مختلطاً بالزبل، فهو يذهب بمبادئ النار كما حكيناه من قبل؛ فتبقى نجاسة الآجر حكمية؛ فيصير كما لو كانت نجاسته بالماء النجس أو البول. نعم: إن كانت النار قد قلبت الزبل رماداً، ولم تزله عن المحل فالأمران واحد، ولعل هذا مراد الإمام، والله أعلم. قال: وإن صلى في مقبرة منبوشة، أي: بحيث صار أسفلها أعلاها، وذلك يكون في المقابر القديمة التي تكرر الدفن فيها- لم تصح صلاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجدٌ إِلا المَقْبَرَةَ والحمَّامَ" رواه الترمذي.

ولأنها اختلطت بأجزاء الموتى إن قلنا: إنها نجسة، وبما في أجوافهم؛ فتنجست؛ فلم تصح الصلاة عليها، وهذا فيما لم يجعل بينه وبين المقبرة شيئاً ظاهراً، فإن جعله، صحت، لكن مع الكراهة، كما سنذكره في المسألة التي تليها. قال: وإن كانت غير منبوشة، أي: بأن كانت مقبرة جديدة، كرهت، وأجزأته صلاته: أما إجزاؤها؛ فلأن المحل الذي صلى عليه طاهر، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على مسكينة وقد ماتت ليلاً. وأما كراهتها؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه كلما أفاق من غَشْيته: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبيائِهِم مَسَاجِدَ"، قالت عائشة: وإنما كان يقصد به تحذيراً من اتخاذ قبره مسجداً. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجْعَلُوا شَيْئاً مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكم وَلَا تَتخذُوهَا

مَقَابِرَ"؛ فدل على أن المقابل لا يصلَّى فيها. ولأي معنى كرهت؟ كلام العراقيين مشير إلى أن الكراهية لأجل ما تحت مصلاه من النجاسة؛ فإنه تكره الصلاة على شيءٌ طاهر تحته نجاسة لا يلقاها شيء من ثيابه ولا بدنه، وقد حكاه الروياني عن الشافعي- رضي الله عنه- ولفظه: قال الشافعي: وتكره الصلاة في المقبرة؛ لأنها مدفن النجاسات. والذي دل عليه كلام القاضي الحسين: لحرمة الموتى؛ ولهذا قال: إنه لو بسط ثوباً طاهراً على المزبلة والمجزرة، وصلى عليه، أجزأته صلاته، ولم تكره، والأولون يخالفون في ذلك، وهو ما حكاه الرافعي. ولا فرق في الكراهة بين أن يصلي على القبر أو بجانبه أو إليه، ومنه يؤخذ: أنه تكره الصلاة بجانب النجاسة أو خلفها. قال: وإن شك في نبشها، أو شك في أنها من المقابر القديمة أو المستجدة- صحت صلاته؛ لأن الأصل عدم النبش، وهذا ما نص عليه في "الإملاء"؛ حيث قال: إن صلى فيها لم أَرَ عليه الإعادة. وقد اختاره ابن أبي هريرة، وصاحب "المرشد"، وهو الأظهر في "الرافعي". وقيل: لا تصح؛ لعموم الخبر، ولأن الظاهر والغالب من المقابر النبش، وهذا ما نص عليه في "الأم"، واختاره أبو إسحاق. قال البندنيجي في كتاب التيمم: والقولان جاريان في جواز التيمم بترابها. قال القاضي الحسين وغيره: والقولان كالقولين في وحل الطريق إذا أصاب الماشي منه شيئاً زائداً على القدر الذي يعفى عنه من الطين الذي تحققت نجاسته: هل تصح صلاته أم لا؟ لأن الأصل طهارته، والغالب نجاسته، والقدر الذي لا يعفى عنه [من الطين المتحقق النجاسة- كما حكاه الإمام عن شيخه في باب الآنية- ما ينسب من أصابه إلى سقطة أو نكبة أو قلة تحفُّظٍ عن الطين، وما دون ذلك مما يلحق

ثياب الطارقين هو القدر الذي يعفى عنه]. وما ذكره في الحقيقة يرجع إلى أن ما يشق الاحتراز عنه لا يعفى عنه مع تحقق النجاسة، ومع الشك فيه القولان في الصحة، لا في العفو. وما ذكره الشيخ من محل القولين هو الذي ذكره الجمهور، وقال القفال: إنه إن شك في النبش، فالأصل الطهارة، وإن كان الغالب النبش ولم يتيقن، فقولان. قال الروياني في "تلخيصه": وهو حسن، لكنه خلاف النص. والمقبرة: بضم الباء وفتحها وكسرها، والجمع: مقابر، والقبر: المدفن، وجمعه: قبور. قال: وإن جبر عظمه بعظم نجس، أي: بعظم كلب أو خنزير أو غيرهما- إذا قلنا: إنه نجس، وكذا ما خرج منه أيضاً إذا قلنا: إنه نجس- كما قاله الماوردي- وخاف التلف من نزعه، أي: خاف تلف النفس أو العضو- كما قاله البندنيجي والماوردي، وأبداه الإمام احتمالاً لنفسه- فصلى فيه، أجزأته صلاته، أي: وإن كان متعدياً بوضعه، مثل: أن كان لا يخاف التلف لو لم يجبره، أو يخاف التلف لكنه قادر على دفعه بجبره بعظم طاهر. ووجهه: أن خوف التلف يسقط حكم النجاسة، بدليل حل أكل الميتة عند خوف التلف، وإذا سقط حكم النجاسة، صحت الصلاة؛ كما في حال المسايفة. نعم: في هذه الحالة هل يجوز أن يكون لغيره؟ فيه وجهان. وظاهر كلام الشيخ: أنه لا يلزمه قلعه؛ إذ لو لزمه، لم تصح معه صلاته؛ كما لو حمل نجاسة؛ وهذا حكاه القاضي أبو الطيب والبندنيجي والرافعي عن المذهب، وهو الصحيح بالاتفاق. وحكوا وجهاً آخر: أنه يجب عليه نزعه؛ لأنه يقتل بترك الصلاة الواحدة عامداً؛ فجاز أن يؤمر بصحتها وإن خشي التلف؛ لأن الجاني بفعل المعاصي مؤاخذ بها وإن تلف؛ كالقاتل والزاني. وعلى هذا: إذا لم يقلعه، وصلى فيه، وجب عليه الإعادة، وقد ادعى الغزالي أن هذا القول ظاهر نص الشافعي، أي: في "المختصر" و"الأم"؛ كما قاله غيره.

قال: ولعله محمول على ما إذا كان متعدياً بأن وجد عظماً طاهراً، واستعمل النجس. والغزالي في هذا الاحتمال متبع الإمام، والأمر عند الأصحاب كذلك، وادعاء الغزالي مع ذلك غلط؛ فإنه لا خلاف أنه لو لم يجد في الابتداء عظماً طاهراً، وخاف التلف إن لم يَصِلْه بعظم نجس- جاز أن يصلي به؛ فوجب إذا خاف التلف من قلعه أن يقر على حاله؛ لحراسة نفسه، وليس كذلك فعل الزاني وقاتل النفس؛ لأنهما لا يحلَّان في ضرورة ولا في غيرها. على أن الفرق بينهما: أن حد الزنى والقصاص ردع له إن عاش، وزجر لغيره إن مات، وقلع ما وصله من نجاسة لأجل صلاته يتلفه، وبتلفه تسقط عنه الصلاة؛ فكان تركه حيّاً يؤدي الصلاة حسب إمكانه أولى. وفي "التتمة": أنه في الابتداء لو لم يجد إلا عظماً نجساً، أو كان لا ينجبر الكسر إلا به، فهل يجوز استعماله؟ يبنى على أنه لو فعل هل يقلع أم لا؟ إن قلنا: يقلع، فلا يجبره به، وإلا جبره به، وهذا جرياً منه على ظاهر النص، والمشهور خلافه. ثم الخلاف جارٍ- كما قال البندنيجي- سواء كان العظم قد استتر باللحم أم لم يستتر؛ لأن العلة خوف التلف، وهي موجودة في الحالين. والغزالي قال ما ذكره فيما إذا كان العظم ظاهراً، [وأما إذا كان مستتراً] [فإنه يبعد] إيجاب النزع، وهذا ما أبداه الإمام، وقال: لولا أن المذهب نقل، لكان القياس، بل القواعد الكلية تقتضي أن أقول: لا ينزع عند الخوف وجهاً واحداً، ولا عند الاكتساء بالجلد وحصول الستر، أي: وإن لم يكن ثم خوف. وجزم في "الوجيز" بأنه [لا ينزع] إذا خاف التلف عند النزع بعد أن استتر باللحم، وخص الخلاف بما إذا لم يستتر. أما إذا لم يخف تلف النفس والعضو من نزعه، لكن خشي طول الضنى أو حصول شَيْن فيه، فمفهوم كلام الشيخ: أنه لا تصح صلاته، ومقتضاه وجوب قلعه، والقياس

أن يجري فيه ما في نظير المسألة من التيمم إذا قلنا: إن خوف تلف النفس أو العضو يمنع وجوب القلع، وقد أبداه القاضي الحسين احتمالاً، وجزم به المتولي، لكن في "زوائد" العمراني في باب حد الخمر أن الشافعي نص على أنه: لو جبر عظمه بعظم خنزير أو ميتة أو كلب، والتحم الجرح، وثبت اللحم والجلد- على أنه عليه شق الجلد، وإتلاف اللحم، واستخراج العظم؛ لاستحقاق إزالة النجاسة، وأنه لو لم يفعل أجبره الحاكم وإن جر ذلك شدة ألم، وإبطاء برء. وإذا كان هذا نصه في هذه الحالة، فالإجبار على القلع ولا شيءٌ من ذلك من طريق الأولى، وبه صرح الأصحاب، وحينئذ لو دخل عليه وقت الصلاة قبل نزعه، وصلى، قال البندنيجي وغيره: فعليه إعادة كل صلاة صلاها وهو حامل له. وخالف هذا ما لو شرب خمراً أو أكل ميتة أو شيئاً نجساً؛ فإنه لا يجب عليه أن يتقيأ على المذهب في "تعليق" القاضي أبي الطيب؛ لاتصال النجاسة بالمحل النجس، ولا كذلك ها هنا. وعلى قول بعض الأصحاب: أنه يجب عليه أن يتقيأ؛ استدلالاً بأن عمر- رضي الله عنه- شرب لبناً، فقيل له: إنه من إبل الصدقة؛ فتقيأه. فالمخالفة ثابتة أيضاً؛ لأنه لو صلى ولم يتقيأ صحت صلاته. وقد ادعى في "التتمة": أن إيجاب تقيؤ الخمر ونحوه نص عليه الشافعي في صلاة الخوف، وكذا حكاه ابن الصباغ في باب الصلاة بالنجاسة، وقال: إنه الأصح. ثم إذا قلنا: يجب القلع، فلم يتفق حتى مات الشخص، فهل يقلع؟ فيه وجهان في "تعليق" أبي الطيب: أحدهما- قاله أبو إسحاق-: أن وليه بالخيار: إن شاء قلعه، وإن شاء تركه، إلا أن المستحب قلعه؛ كي لا يلقى الله وعليه نجاسة. والثاني: لا ينزعه؛ لأن التكليف قد سقط عنه؛ وهذا ما حكاه الماوردي والمتولي؛ عملاً بقول الشافعي: فإن مات صار ميتاً كله والله حسيبه- أي: محاسبه- إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. وقال أبو سعيد الإصطخري: إنه يجب قلعه، بحيث لا يلقى الله- عز وجل- حاملاً نجاسة. [كذا حكاه البندنيجي].

وفي "تلخيص" الروياني نسبة هذا القول إلى أبي إسحاق، قال البندنيجي: وليس بشيء. وقال الإمام: إنه يبعد كل البعد إذا كان العظم قد اكتسى بالجلد واللحم؛ فإنه قد انقطعت عنه وظائف الصلاة والماء يجري على بشرة طاهرة، ومصيره إلى الله. وظهور النجاسات والكم فيما إذا [داوى] جرحه بدواء نجس، أو خاطه بخيط نجس، أو وشم جلده بشيء نجس- كما قاله الماوردي في النجاسات- كما لو جبر عظمه بعظم نجس فيما ذكرناه، وخالف ما لو غصب خيطاً فخاط به جرحه، وخاف التلف من نزعه؛ فإنه لا ينزع بلا خلاف؛ لأنه يمكنه جبر حق مالكه بقيمته، وحق الله- تعالى- ها هنا من الطهارة لا جابر له؛ ولذلك وجب نزعه على وجه أو قول. فرع- يقرب مما نحن فيه-: إذا وصلت المرأة شعرها بشعر نجس على قولنا بنجاسة الشعور، وجب عليها نزعه أمة كانت أو حرة، خلية من زوج أو متزوجة. نعم: لو كان الشعر شعر حيوان طاهر غير الآدمي، فهل يجوز لها ذلك؟ ينظر: فإن كانت ذات زوج، وفعلت ذلك لأجله، أو كانت أمة وفعلت ذلك لأجل الزينة لسيدها- جاز. وإن لم تكن ذات زوج، ووصلت ذلك لتخطب، أو كانت أمة ففعلت ذلك ليرغب في شرائها: فعبارة القاضي أبي الطيب وغيره من العراقيين: أن ذلك لا يجوز. وقال البندنيجي: إنه مكروه؛ لأن فيه تغريراً، وهذا ما حكاه الرافعي عن الشيخ أبي حامد وطائفة؛ فإنهم قالوا: لا يحرم. وعبارة الإمام في هذه الحالة: أن ذلك حرام، واستدل له بقوله- عليه السلام-: "مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا"، وقوله- عليه السلام-: "المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ" رواه مسلم.

ومعنى ذلك: أن عادة أهل الحجاز أن يتخذ المرء لنفسه ثوبَيْ جمال، فإذا أراد الرجل أن يخوِّف غريمه يلبس ثوبي جمال، ويحضر معه مجلس الحكم؛ ليوهم الغريم أنه يشهد عليه؛ فيقر سريعاً. وقال هو وغيره من المراوزة فيما إذا كان لها زوج: إنه لا يجوز لها فعل ذلك بغير إذنه، وهل يجوز بإذنه؟ فيه وجهان: أصحهما: الجواز. ووجه المنع: عموم قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي سعيد الخدري: "لَعَنَ اللهُ الوَاصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ، والوَاشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ، والوَاشِرَةَ والمُسْتَوْشِرَةَ، والنَّامِصَةَ والمُتَنَمِّصَةَ، وَالعَاضِهَةَ والمُسْتَعْضِهَةَ"، والواصلة: هي التي تصل الشعر، والمستوصلة: المستدعية ذلك. وقيل: إن الواصلة التي تصل بين الرجال والنساء. والتفسير الأول أشهر، وهو يقتضي المنع مطلقاً بالإذن ودونه. وطرد القاضي الحسين والصيدلاني التفصيل والخلاف في تحمير وجهها، وتسويد شعرها، وتطريف أصابعها بالحناء مع السواد، أما مع الحناء وحده فهو جائز. وقال الإمام: إنه يبعد إجراء الخلاف في تحمير الوجه مع إذن الزوج؛ إذ لم يرد خبر فيه حتى يجري على عمومه، ولا ينظر إلى معناه كما قلنا في الواصلة ونحوها، واحمرار الوجه قد يصدر عن غضب أو فرح ونحو ذلك. قال: ولست أرى تسوية الأصداغ وتصفيف الطُّرَرِ محرماً، وتجعيد الشعر قريب من تحمير الوجه. قلت: وفيما قاله نظر؛ لأن- عليه السلام- جعل النامصة والمتنمصة شريكة

الواصلة والمستوصلة في اللعن، والنامصة- كما قال الماوردي-: هي التي تأخذ الشعور من حول الحاجبين وأعالي الجبهة، والمتنمصة: المستفعلة لذلك، وإذا شاركتها بسبب ذلك في اللعنة، دل على أنه محرم. وأخذ الشعر من حول الأصداغ وكذا تجعيده في معنى أخذه من أعالي الجبهة وحول الحاجبين؛ لأن كلاًّ منها يُفْعَل زينةً، ومنه أخذ الصيدلاني وغيره إلحاق تحمير الوجه بالوصل. وقال الغزالي: ولا خلاف في جواز تجعيد الشعر وتصفيف الطرر، وفي تحمير الوجه تردُّدٌ للصيدلاني، كذا هو في بعض النسخ، وفي بعض: تردد، ولم يذكر فيها الصيدلاني، [وهو الحق؛ لأن التردد نشأ من قول الصيدلاني] والإمام؛ فالصيدلاني كما ذكرنا قائل بأنه على التفصيل والخلاف، والإمام قاطع بالجواز كيف فرض الأمر. وأما وصل شعرها بشعر آدمي: إن قلنا بنجاسته، فلا يجوز، وإن قلنا بطهارته، فلا يجوز أيضاً. قال القاضي الحسين: لأن من كرامة الآدمي ألا يستعمل جزء منه، بل يدفن ويوارى. وحكى الإمام عن الأئمة أنهم وجهوه بأنه دائر بين أن يكون شعر امرأة أو رجل، فإن كان شعر امرأة، فلا يجوز لزوج الواصلة النظر إليه، وكذا سيدها إن كانت أمة، وإن كان شعر رجل، فلا يجوز لها النظر إليه. قال: وللنظر فيه مجال؛ فإن الأئمة اختلفوا في النظر إلى جزء منفصل من امرأة أجنبية، ويرد عليه لو وصلته بشعر محارمها ومحارم الزوج. قلت: وهذا فيه نظر؛ [لأنها إنما] تصله ليحصل للزوج الاستمتاع [به، و] ذلك لا يجوز بشعر المحارم أيضاً. ويجوز لها أن تصل شعرها بالوبر، وبما يخالف لونه لون شعرها. قال الروياني في "تلخيصه": ثم حيث قلنا: إن [وصل الشعر] حرام، فلا يمنع من صحة الصلاة إذا قلنا بطهارته.

وقد تضمن الخبر لعن الواشمة والمستوشمة والواشرة والمستوشرة والعاضهة والمستعضهة. والواشرة: هي التي تبرد الأسنان بحديدة؛ لتحدها وتزينها، والمستوشرة: المستدعية ذلك. والعاضهة: هي التي تقع في الناس. والواشمة: هي التي تنقض بدنها وتَشِمُه بما كانت العرب تفعله من الخضرة في غرز الإبرة؛ فيبقى لونه على الأبد. والكل حرام. قال العجلي: قال القاضي في "التعليق": ويزال الوشم بالعلاج، وإن لم يمكن إلا بالجرح، فلا يجرح، ولا إثم عليه بعد التوبة. وفيما قاله نظر من حيث إنه إنما يدوم إذا وضع والدم جار؛ فقد ينجس؛ فيشبه أن يكون كما لو حشا الجرح بدم أو دواء نجس، وهو يمنع من صحة الصلاة، ويجب إزالته إذا لم يخف من ذلك. والوشم بالحناء والخضاب، قال الماوردي: إنه مباح، ليس مما يتناوله النهي. وهو مخالف لما حكيناه عن القاضي الحسين في بعض الأحوال، وهذا كله في حق النساء. أما الرجال فيباح لهم خضاب الشعور بالحناء والكَتَم، وهو بالسواد محظور إلا أن يكون في جهاد العدو، قال الماوردي: لخبر ورد فيه. ولا يجوز أن يخضب يديه بالحناء إلا لحاجة. قال: وإن صلى وفي ثوبه دم البراغيث، أو اليسير من سائر الدماء أو سلسل البول أو دم الاستحاضة- جازت صلاته؛ لأن ذلك يتعذر الاحتراز منه، فجعل عفواً؛ لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله- عليه السلام-: "بُعِثْتُ بِالحنيفيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ". وقد أفهم كلام الشيخ أموراً: أحدها: أن البدن ليس كالثوب في العفو عما ذكره، وهذا وإن أمكن توجيهه بما

سنذكره عن القاضي في الفرق بين دم البراغيث وغيره، لكن المنقول أن البدن في ذاك كالثوب إذا صادفه ذلك ابتداء، أما لو صادف الثوب، ثم اتصل سببه إلى البدن كما إذا حصل ذاك في الثوب [واتصل ذلك ببدنه]، أو لبس الثوب الذي فيه ذلك وبدنه رطب، أو حصل ذلك ببدنه، فعرق فتعدَّى من ذلك الوضع إلى غيره- ففي العفو عنه وجهان، المذكور منهما في "تعليق" القاضي الحسين: المنع، قال: بخلاف ما لو كثر دم البراغيث حيث يعفى عنه على وجه، والفرق: أنه علم هذا بإصابة ثوبه وبدنه، ثم طرأ العرق عليه، بخلاف دم البراغيث؛ فإنه لا يقع له العلم بوقوع دم البراغيث في الأصل. والخلاف جارٍ فيما لو عرق، فتعدى ما بقي على المحل بعد الاستنجاء بالحجر من الأثر إلى موضع آخر. قال الرافعي: لكن [الأظهر] هنا: الصحة. الثاني: أن دم البق والقمل والبعوض والزنابير ونحو ذلك مما ليس له نفس سائلة، لا يلتحق بدم البراغيث، وهو ملحق به بلا شك، وكذا ونِيمُ الذباب وبول الخفاش.

الثالث: أنه لا يلحق بدم الاستحاضة دم القروح السيالة التي يدوم مثلها ونزف الدماء، وفي ذلك خلاف حكاه الرافعي عن رواية الإمام وغيره في أنه: هل يلحق بدم البراغيث البثرات فيعفى عن القليل منه، وفي الكثير وجهان، أو يلحق بدم الاستحاضة [فلا يعفى] عنه مع القلة والكثرة وجهاً واحداً؟ والذي حكاه الإمام عن شيخه: الثاني، [وهو ما أورده في "الوسيط"، ولفظ "النهاية" سنذكره، وهو دال على خلاف ما فهمه الرافعي عنه كما سنبينه. وإذا جرينا على إلحاقه بدم الاستحاضة]، فالجواب عن الكل: أن الشيخ نبَّه بما ذكره على ما لم يذكره؛ لأنه في معناه. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أموراً: أحدها: أنه لا فرق في دم البراغيث بين قليله وكثيره في زمن جرت العادة بحصوله فيه ومكان ذلك، أو لا خلاف في أنه إذا كان قليلاً في الزمان الذي جرت العادة أن يكون فيه والمكان، في صحة الصلاة معه مع الحكم بنجاسته؛ لما ذكرناه من التعليل. ومنهم من جعل علة العفو القلة، وأثر التعليلين يظهر عند الكثرة. نعم: لو حصل القليل في ثوبه أو بدنه [بفعله]، كما إذا قتل برغوثاً أو قملة ونحو ذلك عمداً- ففي العفو عنه وجهان مشبَّهان في "التتمة" و"الرافعي" في كتاب الصيام بما إذا فتح فاه قصداً، فدخله غبار الطريق، ومأخذهما: أن النظر إلى أن ذلك

القدر معفو عنه في الجملة أو إلى أن ذلك لا تعم به البلوى. ومثلهما جارٍ فيما لو صلى على ثوب فيه دم براغيث، [أو لبس ثوباً فيه دم براغيث. أما إذا كان ما أصاب ثوبه الذي هو عليه أو بدنه من دم البراغيث] ونحوه كثيراً، ففي العفو عنه وجهان: أحدهما- وهو المحكي في "تعليق" [القاضي] أبي الطيب عن ابن سريج وأبي إسحاق-: العفو- أيضاً- وإن تفاحش؛ كما اقتضاه كلام الشيخ؛ إلحاقاً لنادره بغالبه؛ كما قلنا في المسافر: يجوز له القصر والفطر وإن لم يلحقه مشقة فيه. قال الرافعي: وهو الأصح عند العراقيين وغيرهم. قال البندنيجي والروياني في "تلخيصه": إنه المذهب. والثاني- وهو الأصح في التهذيب، [وظاهر المذهب] في "النهاية"، والمجزوم به في "الحاوي" [و"الوجيز"]-: المنع؛ لأن ذلك لا يشق الاحتراز عنه، وهذا ما نسبه البندنيجي والروياني إلى الإصطخري. فإن قلنا بالأول فلا يختلف الحال بالزمان والمكان كما اقتضاه كلام الشيخ. وإن قلنا بالثاني، فهل يختلف بهما؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو الذي ذهب إليه المحققون-: أن الأمر يختلف؛ فإن التفاوت بهما

غالب بين؛ فمن الوفاء برعاية تعذر الاحتراز النظر إلى تفاوت الأسباب. والثاني: لا يعتبر أقل ما يتوقع في أنقى الأمكنة والأزمنة ولا أكثرها، ولكن يعتبر وسطاً بين الطرفين. قال الإمام: وهذا ليس بشيء، فإن ضبط هذا الوسط أعسر من التزام يتبع الأحوال. ولو كان الدم الذي حصل بثوبه أو بدنه بفعله كثيراً، لم يعف عنه وجهاً واحداً؛ قاله في "التتمة". والفرق بين القليل والكثير يأتي. الأمر الثاني: أنه لا فرق في اليسير من الدم بين أن يكون منه أو من غيره، وعليه يدل قوله: من سائر الدماء. وهو ما حكاه البندنيجي عن نصه في القديم و"الأم"، وحكاه الماوردي وجهاً مع وجهين آخرين: أحدهما: [أنه] لا يعفى عن اليسير من سائر الدماء؛ كما لا يعفى عن اليسير من العذرة ونحوها، وقد حكاه البندنيجي والقاضي أبو الطيب عن نصه في "الإملاء". والثاني: أنه يعفى عن اليسير من دم نفسه دون اليسير من دم غيره، وبعضهم ينسب هذا إلى نصه في القديم و"الأم". ثم قضية الوجه الأول الذي هو ظاهر كلام الشيخ: العفو عن دم الكلب والخنزير، وبعض المتأخرين استثناه، وقال: إنه نص على استثنائه الأئمة؛ لما خُصَّا به من التغليظ في النجاسة. وسلك القاضي الحسين [في "تعليقه"] طريقاً آخر، فقال: دم البثرات ونحوه إذا كان من بدن المصلي عفي عنه؛ لأنه يشق الاحتراز عنه، وهو قليل في نفسه، فلو كثر فهل يعفى عنه؟ فيه وجهان ينبنيان على أن علة العفو في المسألة قبلها تعذر الاحتراز أو القلة؟

فإن قلنا بالأول، عفي عنه أيضاً؛ إذ الاحتراز عما يتعذر عن القليل يتعذر عن الكثير. وإن قلنا بالثاني فلا يعفى عنه. والخلاف جار فيما لو أصابه القليل من دم البثرات بتعاطيه؛ بأن فجرها كما حكاه المتولي وأبداه الإمام احتمالاً لنفسه، واستشهد على العفو عنه بما روي أن ابن عمر حَكَّ بثرة من وجهه، فخرج منها شيءٌ، فدلكه بين إصبعيه، وصلى. ولو كان الخارج كثيراً لم يعف عنه وجهاً واحداً، كما قلنا في قتل البرغوث، بل قياس ما تقدم في ذلك عن القاضي الحسين يقتضي قطعه فيما إذا كان الخارج من البثرة قليلاً بفعله: أنه لا يعفى عنه، وأثر ابن عمر قد قال الإمام: لا يبعد أن يقال: لعله جرت يده بذلك في غفلةٍ، وقد تطوف اليد على البدن في النوم وأوقات الغفلات. قلت: ولعل الخارج منها ما لا رائحة له، والمذهب أنه طاهر، كما سنذكره. قال القاضي الحسين: ولو أصابه شيءٌ من دم غيره: [فإن كان قدر ما لا يعفى عنه إذا كان من دم نفسه، فمن دم غيره] أولى، وإن كان مما يعفى عنه من دم نفسه، فهل يعفى عنه من دم غيره؟ فيه وجهان، وهذا يقتضي أني كون فيما إذا أصابه من دم غيره شيءٌ كثير: أنه يعفى عنه على وجه؛ [لأنه] يعفى عنه من دم نفسه على وجه لا يعرفه العراقيون، وكلام الإمام وغيره مصرح بأنه لا يعفى عن الكثير من دم غيره، وهل يعفى عن اليسير منه؟ فيه وجهان: أصحهما عند الغزالي: المنع، وقال الإمام: إنه الذي يجب القطع به. والأظهر عند البغوي [والعراقيين- كما قال الرافعي]-: العفو كما [يعفى] عن ذلك من دم نفسه، وهو مما لا خلاف فيه عندهم، ولم يَحْكِ الرافعي غيره. نعم: قال الشيخ أبو محمد: لطخات الدماميل والقرح التي لا تدوم غالباً ملحقة بدم الأجنبي. قال الإمام: وهو ظاهر حسن؛ من جهة أن البثرات إذا كانت تكثر- وقد لا يخلو

معظم الناس في معظم الأحوال عنها- فلا يكاد ذلك يتحقق في الدمامير والجراحات. وفي المسألة على الجملة احتمال؛ فإن الفصل بين البثرات وبين الدمامير الصغار عسير لا يدركه إلا ذو الدراية. وذكر صاحب "التقريب" تردداً في الدماميل وما خرج من دم الفصد، ومال إلى إلحاقه بدم البراغيث، وصححه، على خلاف ما كان يراه الشيخ أبو محمد. وظاهر هذا: أن التردد في الدماميل التي لا يدوم مثلها غالباً؛ لأن دم الفصد مما لا يدوم غالباً، وقد سَوَّاه به. وهذا حكم الدماء، والقيح والصديد في معناه؛ لأنهما يكثران، ويحصل بهما الابتلاء، والبدن لا يخلو منهما؛ فلذلك لم يحتج الشيخ إلى التصريح بذكرهما. وأيضاً: فإنهما دم استحال وتعفَّن في البدن، وهذا ما نص عليه في عامة كتبه [إلا "الأم"؛ فإنه] قال فيه: إن القيح والصديد أخف حالاً من الدم، ولكنه يمنع إذا بلغ لُمْعةً، حكاه البندنيجي والروياني، وقال: إن أبا حامد [قال:] وهذا لا يحكى. والمذهب الأول. وأطلق في "الحاوي" القول بالعفو عن المِدَّة وماء القروح [والبثرات، وقال غيره في ماء القروح] وهو ما يعرق منه وينزل عنه-: إن كانت له رائحة، فهو كالقيح، وإن لم تكن له رائحة، فقد نص في "الإملاء" على ما يدل على أنه طاهر كالعرق، وأجراه في "الأم" مجرى القيح والصديد. قال البندنيجي: فحصل في ماء القروح قولان: المذكور منهما في "تعليق" [القاضي] أبي الطيب: الطهارة، وهو المذهب في "تلخيص" الروياني، وعلى هذا فلا يقال: إنه إذا صلى معه بأنه يعفى عنه؛ إذ العفو إنما

يكون عن النجس. نعم: إذا قلنا: إنه نجس، فهو كالقيح. الثالث: أن سلس البول ودم الاستحاضة معطوف على "اليسير من سائر الدماء"، لأنه أقرب مذكور؛ فهو يفهم عدم العفو عما كثر من ذلك. كما يفهم قوله: "أو اليسير من سائر الدماء"، أنه لا يعفى عن الكثير منها، وليس الأمر كما أفهمه كلامه في سلس البول ودم الاستحاضة؛ بل العفو شامل للقليل منه والكثير، وحينئذ يتعين أن يكون معطوفاً على قوله: دم البراغيث؛ فإنه- على رأيه- لا يفرق فيه بين القليل والكثير، ويدل عليه من كلامه ذكر دم الاستحاضة؛ فإنه لو كان المعفو عنه منه قدر ما يعفى عنه من سائر الدماء، لم يكن لإفراده بالذكر معنى. قال بعضهم: وكان الأحسن بالشيخ أن يقول: أو دم الاستحاضة أو سلس البول؛ [لأن دم الاستحاضة هو الأصل في العفو، وسلس البول] ملحق به. وقد بقي الكلام في الفرق بين القليل المعفو عنه مما ذكرناه، والكثير الذي لا يعفى عنه، ونصوص الشافعي مختلفة فيه ما حكاه الروياني وغيره: فقال في القديم: القليل من دم البراغيث وما في معناه، قدر الكف؛ حكاه الإمام وغيره. وقال في موضع آخر منه- كما حكاه أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما-: القليل دون الكف، والكثير قدر الكف.

وحكى الإمام أنه قال في القديم أيضاً: إن القليل قدر الدينار. وهو مشكل لا نعرف له مستنداً، وهو في حكم المرجوع عنه. وحكى البندنيجي والروياني في "تلخيصه": أنه قال في "الأم": القليل هو اليسير كدم البراغيث؛ لأن الناس لا يتعافونه ويتجاوزونه، وأما اللمعة- وهو ما دون الدينار والدرهم- فلا يُعفَى عنه قالا: وهذا هو المذهب. قلت: ويشهد له قوله- عليه السلام-: "تُعَادُ الصَّلاةُ فِي قَدْرِ الدِّرْهَمِ [مَن الدَّمِ] " أخرجه الدارقطني. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب أنه قال في "الأم": وحد اليسير ما يتعافاه الناس. وهو الصحيح، وحكى الإمام أن الأئمة استنبطوا وجوهاً من مسالكه في الجديد، فقال قائلون: إن كان موضع التلطيخ بحيث يلوح ويلمع للناظرين من غير احتياج إلى تأمل، فهذا في حد الكثير، قال: والمسلك للفقيه في ذلك أن المقدار الذي يجري التلطيخ به، ويتعذر التصوُّن منه هو القليل المعفو عنه؛ فيأخذ القليل مما يأخذ منه أصل الفعل، وهو تعذر الاحتراز. فلو ارتاب المصلي، فلم يدر أن اللطخ [الذي] به في حد ما يعفى عنه أو في

حد الكثير- قال: فهذا فيه احتمال [عندي]؛ من جهة أن القليل معفو عنه، وقد أشكل أن ما فيه الكلام هل تعدى الحد لا؟ والأصل العفو. ويجوز أن يقال: الكثير منه معفو عنه، وقد أشكل أن ما فيه الكلام هل هو منحط عن حد الكثير أم لا؟ والأصل إيجاب إزالة النجاسة. ويمكن أن يقرب هذا من صلاة المرء وهو ناسٍ لنجاسته، ثم يعتضد الكلام بظهور العفو في النجاسات. قال: ثم الذي أقطع به: أن للناس عادةً في غسل الثياب في كل حين؛ فلابد من اعتبارها؛ فإن من لا يغسل ثوبه الذي يصلي فيه عما يصيبه من لطخ سنة مثلاً، تتفاحش مواقع النجاسات من هذه الجهة عليه، وهذا لاشك في وجوب اعتباره. قال: ومما أتردد فيه [أن] الثوب السابغ إذا تبدلت النجاسة عليه، فلتفريقها أثر في العفو فيما أحسب، ولاجتماعها؛ فإن من توالت منه أفعال كثيرة تبطل صلاته، وإن فرقها وخلل بينها بسكتة لم تبطل، والاحتمال [في هذا] ظاهر. وفي "التتمة" ما يوهم أن الكلام في أن المعفو عنه كذا، أو كذا حال التفرق بحيث إذا جمع بلغ ذلك؛ فإنه لما حكى أن العفو عنه قدر الكف، قال: فإذا كان على ثوبه متفرقاً في مواضع ما لو جمع لم يزد على قدر الكف جعل عفواً. قال- رحمه الله-: وإن كان على ثوبه أو بدنه نجاسة لا يدركها الطَّرْف من غير الدماء، فقد قيل: يصح؛ لأنها نجاسة يشق الاحتراز منها، فعفا [الشارع] عنها كغبار السرجين، وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن القديم، وقال النواوي: إنه الأصح. وقال الإمام: إن الأصحاب استدلوا له بأن السلف كانوا لا يحترزون من عود الذباب الواقع على النجاسة وقت قضاء الحاجة إلى [ثيابهم]. وقيل: لا يصح، [قال القاضي حسين: كما لا تصح] صلاته إذا أصاب ذلك

بدنه، [قال:] وهو الأظهر، وما نقل عن الأولين فلا دلالة فيه؛ لأن أرجل الذباب تجف في الهواء بين ارتفاعها على النجاسة ووقوعها على الثوب، [وأيد ذلك أنه لا يظهر لذلك أثر على الثوب] وإن كثر، والقليل إذا توالى وكثر [ظهر] أثره على الثوب. وقيل: فيه قولان، ووجههما ما ذكرناه، وقد تقدم مثل هذه الطرق فيما إذا أصاب ذلك ماء قليلاً. وإذا جمعت بينها حصل في المسألتين طرق: أحدها: أنه يعفى عن ذلك فيهما، وهو المختار في "المرشد". والثاني: لا يعفى عنه فيهما، [وهو ما قال البندنيجي هنا: إنه المذهب. والثالث: في العفو عنه فيهما] قولان. والرابع: يعفى عنه في الثوب دون الماء؛ [لأن] الثوب أحسن حالاً من الماء؛ فإنه يعفى عن دم البراغيث ونحوه فيه، ولا كذلك الماء. والخامس: يعفى عنه في الماء دون الثوب؛ لأن الماء قوة الدفع للنجاسات. وهذه الخمسة حكاها البندنيجي هكذا في كتاب الطهارة. قال: وإن كان على قرحة دم يخاف من غسله، أي: ما ذكرنا أنه يبيح التيمم، وهو أزيد مما يعفى عنه- صلى فيه؛ لمجموع قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29]، وقوله- عليه السلام-: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ". قال: وأعاد، أي: إذا غسله وجوباً؛ لأن ذلك عذر نادر لا يدوم غالباً، وإذا أعاد فما الفرض منهما؟ فيه الأوجه السالفة. وقال في القديم: لا يعيد؛ لأنها نجاسة عذر في تركها، فلم تجب عليه الإعادة بسببها، كدم الاستحاضة.

قال: وتكره الصلاة في الحمام. قال الإمام: لأنه صح أنه- عليه السلام- نهى عن الصلاة في سبعة مواطن: المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، وبطن الوادي، والحمام، وظهر الكعبة، وأعطان الإبل. وقد أخرج هذا الخبر بمعناه الترمذي، لكن في بعض رجاله مقال. واختلف الأصحاب في على النهي: فقيل: إنها النجاسة؛ فإن الحمام محل النجاسات، وقد نص على هذا في "الأم" كما قال البندنيجي والروياني. فعلى هذا: لو صلى في المَسْلَخ لا يكره، وقضيته أن يقال: لو غسل موضعاً منها، وصلى فيه لا يكره أيضاً. وقيل: إنها كون الحمام مأوى الشياطين ومحل كشف العورات. فعلى هذا يكره في المسلخ. وفي "الحاوي": أن الأصحاب اختلفوا في معنى النهي عن الصلاة في الحمام والمجزرة: فمنهم من قال: خوف النجاسة؛ فعلى هذا تكون الصلاة فيهما كالصلاة في المقبرة: إن تيقن النجاسة لم تصح، وإن تيقن الطهارة صحت صلاته مع الكراهة، وإن شك فعلى وجهين. ومنهم من قال: العلة في الحمام أنه مأوى الشياطين، وفي المجزرة: خوف نفور الذبائح.

فعلى هذا تكره مع تحقق الطهارة ومع الجهل بها، وتكره في المسلخ؛ قاله الروياني. وإذا عرفت ذلك عرفت أن كلام الشيخ على إطلاقه عند تحقق الطهارة. قال: وقارعة الطريق؛ للخبر، والمعنى فيه: أذى المارة والمجتازين، وتأذِّي المصلي بهم، وقلة خشوعه بسبب اجتيازهم. وقيل: بل المعنى: أن الغالب عليها النجاسة. فعلى الأول: لا تكره في طريق في البرية، وعلى الثاني تكره مطلقاً. وتكره في طريق البلد مع الحائل بكل حال، وبدون الحائل في صحتها مع الكراهة أو البطلان القولان المذكوران في تعارض الأصل والغالب. قال: وأعطان الإبل؛ للخبر، وقد روى أبو داود أنه- عليه السلام- قال: "لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الإِبِلِ؛ فإنَّهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ". وأعطان الإبل: مباركها عند الماء، واحدها: عَطَن، والذي نص عليه الشافعي: أن العطن هو الموضع الذي تحول إليه الإبل إذا شربت؛ لِيَرِدَ غيرها. قال [القاضي] أبو الطيب: وقد قيل: إنه الحوض الذي تشرب منه، ويكون على بئر يستقي منها الماء، وتشرب من الحوض. قال: ولا يكره في مُرَاح الغنم؛ لما روى مسلم عن جابر بن سمرة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: "أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أنصلي في مبارك الإبل؟

قال: لا". وروى عبد الله بن المغفل أنه- عليه السلام- قال: "إِذَا أَدْرَكْتُمُ الصَّلاةَ فِي مُراَح ِالغَنَم فصَلُّوا؛ فإِنَّها سَكِينَةٌ وَبَرَكَةٌ، وَإِذَا أَدْرَكْتُمُ الصَّلاةَ فِي أَعْطَانِ الإِبِلِ فَاخْرُجُوا ثُمَّ صلُّوا؛ فإِنَّها جِنٌّ مِنْ جنٍّ خُلِقَتْ، أَلا ترونَها كَيْفَ تَشْمَخُ بِآنَافِهَا إِذَا نَفَرَتْ؟! وهذا الخبر فيه إشارة إلى الفرق بين المكانين؛ فإن أعطان الإبل محل الشياطين، والصلاة في ذلك مكروهة، قال- عليه السلام-: "اخْرجُوا مِنْ هَذَا الوَادِي؛ فإِنَّ فِيهِ شَيْطَاناً" ومراح الغنم فيه البركة، روي أنه- عليه السلام- قال: "إِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ". وأيضاً: فإن الصلاة في الأعطان تعرى عن الخشوع؛ لما يخاف المصلِّي على نفسه من نفورها، وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله- عليه السلام-: "أَلا ترَوْنَهَا كَيْفَ تَشْمَخُ

بآنافِهَا"، ولا كذلك في مراحل الغنم، وإليه الإشارة بقوله- عليه السلام-: "فَإِنَّهَا سَكِينَةٌ". قال الشافعي في "الأم": ومراح الغنم: هو الذي تأوي إليه الغنم بالليلن وهو ما طابت تربته، واستعلت أرضه، واستدار من مهب الشمال موضعه. قال الأصحاب: وفي هذا إشارة إلى أنها ليست بوسخة، وإلى الفرق بينه وبين أعطان الإبل؛ فإنها يراد بها الموضع الوسخ والمكان الخرب؛ لأنها عليه أصلح، والأصلح للغنم الموضع الخالي عن ذلك. ثم اعلم أن محل الكلام في أعطان الإبل ومراح الغنم إذا كانا خاليين عن البول، أما لو كان بهما ذلك، فلا تصح الصلاة فيهما مع عدم الحائل الطاهر، ومعه تصح مع الكراهة كما تقدم. قال: ولا تحل الصلاة في أرض مغصوبة، ولا ثوب مغصوب؛ لأجل حق الغير، وقد قال- عليه السلام-: "لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ".

قال: ولا ثوب حرير، أي: إذا كان المصلي رجلاً- كما ستعرفه في باب ما يكره لبسه- وما أكثره إِبْرَيْسَم في معناه. قال بعضهم: وإنما ذكر الشيخ ذلك في هذا الباب؛ لأنه شبيه بالثوب والحل النجس في الستر واللبث والتحريم، وإن خالفهما في عدم الإعادة كما ستعرفه. قال: فإن صلى فيه لم يُعِدْ؛ لأن المنع لا يختص بالصلاة. نعم: هل يقال: إنها صحيحة فيسقط الفرض بها، أو سقط عندها لا بها؟ هذا ما اختلف فيه الناس في الأرض المغصوبة، والذي ذهب إليه الأكثرون: الصحة. قال القاضي الحسين: ومن أصحابنا من قال: لا تصح. وهو مذهب المعتزلة، وكلام الشيخ يميل إليه، وهو ما اختاره الإمام فخر الدين.

ثم ظاهر كلام الشيخ المنع من الصلاة في الثوب الحرير، سواء وجد غيره أو لا، وهو وجه في المسألة مبني على ما إذا لم يجد إلا ثوباً نجساً لا يصلِّي فيه؛ حكاه القاضي الحسين. وقال ابن الصباغ: [والذي] عندي أنه يصلي فيه؛ لأن العذر يبيع [كالحِكَّة]، وبه جزم في "التتمة"، وهذا نظير ما سلف: أنه إذا لم يجد إلا إناء من ذهب أو فضة، جاز له استعماله. والفرق بينه وبين الثوب النجس: أن الصلاة تصح فيه بلا خلاف مع القدرة على غيره، ولا كذلك الثوب النجس. ولا خلاف في أنه لا تحرم عليه الصلاة في الثوب ذي الأعلام والصور. نعم: تكره فيه وإليه وعليه؛ إذا كان يلهيه؛ لما روي عن عائشة قالت: كان لي ثوب فيه صور، فكنت أبسطه، وكان- عليه السلام- يصلي عليه، فقال: "أَخْرِجِيهِ عَنِّي. فجعلت منه وسادتين". قال: وإن اشتبه عليه ثوب طاهر وثوب نجس، صلى في الطاهر على الأغلب عنده، أي: بالاجتهاد؛ لأن طهارة الثوب شرط في الصلاة، فجاز الاجتهاد فيها عند الاشتباه كالقبلة. وظاهر كلام الشيخ: أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون قادراً على غيرهما أو معه ثوب طاهر غيرهما، وهو المذهب، لكن الأفضل أن يصلي في الطاهر بيقين. وقيل: لا يجوز له الاجتهاد مع وجود ثوب طاهر بيقين، وقد تقدم مثله في الأواني، وهو جارٍ فيما إذا كان معه ما يقدر على غسل أحد الثوبين المشتبهين به. قال في "التتمة": لكن بالترتيب؛ لأنه ثَمَّ لا يلحقه ضرر إذا منعناه من الاجتهاد،

وهنا يلحقه ضرر بتفويت الماء عليه، وربما يحتاج إليه لأمر آخر؛ فلا يلزمه ذلك. نعم: لو اجتهد، فأدى اجتهاده إلى نجاسة أحدهما وطهارة الآخر، فغسل النجس بزعمه، فهل يصلي في الآخر؟ فيه الوجهان. وقد منع المزني من الاجتهاد في الثوبين مطلقاً، موجهاً ذلك بأنه قادر على الوصول إلى أداء فرض بيقين بأن يصلي في كل ثوب صلاة، ولا يجوز أن يؤديه بالاجتهاد كمن نسي صلاة من الخمس [لا يعرف عينها، يصلي الخمس]، قال: وخالف هذا الإناءين حيث جاز له الاجتهاد فيهما؛ لأنه لو أمر أن يتطهر بكل واحد منهما، لكان حاملاً للنجاسة بيقين. وهذا من المزني تخريج على مذهب الشافعي، وإلا فمذهبه فيمن نسي صلاة من الخمس: أنه يصلي صلاة واحدة أربع ركعات ينوي بها الفائتة، ومذهبه في الأواني: أنه يريقها، ويتيمم. وقد رد الأصحاب عليه قوله، وقالوا: لو فعل ما ذكره، كانت الصلاتان باطلتين؛ لأنه يدخل في كل منهما بثوب لا يتحقق طهارته، ولا هو ظان لها؛ فهو متردد في الشرط، والشك في الشرط شك في المشروط؛ فلا يصح منه؛ للإخلاص المأمور به في العبادة، ويلزمه عليه ألا يجتهد في جهة القبلة، وأن يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات. وهذا الإلزام يمكنه أن يخرج عنه بأن يقول: الأصل في كل ثوب الطهارة، فإذا صلى فيه تمسك بأصل سابق فأثار له ظناً بالصحة، ولا كذلك القبلة؛ فإنه ليس الأصل في كل جهة أنها القبلة. نعم: الفرق بين ما نحن فيه وبين ما تمسك به: أنه إذا صلى خمساً، فهو دائر بين صلاة فريضة أو نافلة بنية الفريضة، والكل قربة صحيحة، وهو في الثوبين دائر بين صلاة صحيحة أو باطلة. ولأن المشقة تلحقه في الثياب؛ فإنا لو كلفناه ذلك، للزم أن نكلفه إذا اشتبه عليه

ثوب نجس بعشر ثياب طاهرة فأكثر: أن يصلي في كل ثوب صلاة، ولا كذلك فيما إذا نسي صلاة من الخمس؛ فإنه لا يزيد عليها. والحكم عندنا فيما لو اشتبه عليه ثوب طاهر بثياب نجسة أو بالعكس، كما لو اشتبه الثوب بالثوب، ولا يجب عليه عندنا إعادة الاجتهاد لصلاة أخرى. قال الماوردي: والفرق بينه وبين القبلة: أنها في موضعها لا تنتقل في أحوالها؛ فيكون مهبُّ الشمال في وقت قبلةً له، ومهب الجنوب في وقت قبلة له، وقد يكون ضدُّهما في وقت قبلةً له، ومهب الجنوب في وقت قبلة له، وقد يكون ضدُّهما في وقت قبلةً له؛ لتغير أحوال وتنقّل أماكنه؛ فلأجل ذلك وجب تكرار الاجتهاد؛ لتكرُّر الصلوات، والثوب الطاهر محكوم له بالطهارة في كل زمان؛ ولأجل ذلك لم يلزمه إعادة الاجتهاد. وقال القاضي الحسين والمتولي: يجب عليه أن يعيد الاجتهاد ثانياً، وهو الذي صححه الرافعي والنواوي، فإن أدى اجتهاد إلى ما [أدى] إليه الأول فذاك، وإن أداه إلى طهارة الثاني، قال القاضي الحسين: فحكه حكم ما لو وجد ثوباً نجساً فقط، وفي وجوب استعماله وجهان: فإن قلنا: يجب، استعمل أي الثوبين شاء، وأعاد الصلاة. وإن قلنا: لا يجب، فلا يصلي في واحد منهما، بل يصلي عارياً، [وقد] بينا حكم العاري. وقال في "التتمة" فيما إذا أدى اجتهاده الثاني إلى طهارة الثاني، ونجاسة الأول: كان عليه- على الصحيح من المذهب- أن ينزع الأول ويلبس الثاني، وتصح

الصلاتان كما في القبلة، وهو ما ذكره في "الروضة". قال المتولي: وخالف هذا ما إذا اجتهد في الأواني، وتغير اجتهاده؛ حيث لا نأمره بموجب الثاني؛ لأنا لو أمرنا به، احتجنا أن نأمره بغسل ما وصل إليه الماء في الكرة الأولى من جوارحه وثيابه، وتلك أفعال تلزمه بسبب استعمال الماء الأول لا بسبب الصلاة، وها هنا لبس الثوب الآخر يلزمه بسبب الفرض المتوجه عليه لا بسبب اللبس الأول؛ فصار نظير مسألة القبلة. قلت: وأيضاً: فإنه في الأواني يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد، ولا كذلك في الثياب. وقال الماوردي فيما إذا أعاد الاجتهاد، فبان له نجاسة ما صلى فيه وطهارة ما تركه: إن علم ذلك قطعاً أعاد صلاته، وإن كان عن اجتهاد فلا يعيد ما صلى بالأول، ولا يسعه أن يصلي في الأول، ومذهب الشافعي: أنه يصلي عرياناً، وعليه الإعادة. وقال ابن سريج: يصلي في الثاني ولا يعيد. على نسق ما قاله في الإناءين. وفي "الوسيط" في باب استقبال القبلة: أن القولين في الإعادة عند تيقن الخطأ في القبلة جاريان في الثياب والأواني، وذلك صريح بإجراء الخلاف في الحالة التي جزم بها الماوردي بالإعادة. فروع: أحدها: إذا تلف أحد الثوبين قبل الاجتهاد، فهل له أن يجتهد في الثاني؟ فيه وجهان، أصحهما: لا، وهو اختيار ابن سريج. [الثاني:] إذا غلب على ظنه نجاسة أحدهما فغسله، قال العراقيون: فله أن يصلي في كل واحد منهما منفرداً. وقال القاضي الحسين: في جواز صلاته فيما لم يغسله الوجهان في صلاته بالاجتهاد مع إمكان صلاته في ثوب طاهر بيقين. فإن قلنا: يجوز، فهل يجوز أن يصلي فيهما جميعاً؟ فيه وجهان، أصحهما في "الحاوي": نعم.

والخلاف جارٍ فيما لو كانت النجاسة في أحد كميه واشتبه عليه، وقلنا: يجوز الاجتهاد فيهما، فاجتهد، فأدى اجتهاده إلى نجاسة أحدهما، فغسله- فهل يصلي في الثوب أم لا؟ حكاه القاضي الحسين وغيره، واختار الشيخ أبو محمد فيهما المنع، واختار الصيدلاني الجواز، قال الإمام: وهو الظاهر عندي. [الثالث:] إذا اجتهد، ولم يغلب على ظنه طهارة واحد منهما، فإن أمكنه تطهير أحدهما، لزمه. وفي "التتمة" وجه آخر: أنه لا يلزمه؛ لأنه لا يتحقق نجاسة ما يغسله، وتكليفه غسل ما لا يتحقق نجاسته إضرار به. وإن لم يمكن غسل واحد منهما، صلى عرياناً، وأعاد؛ لأنه صلى ومع ثوب طاهر بيقين؛ قاله ابن الصباغ. وحكى المتولي معه وجهاً آخر: أنه يصلي في أيهما شاء، ويعيد. وقال الماوردي: إن مذهب المزني: أنه يصلي في أحدهما، ويعيد في الآخر- قد ساعده عليه بعض الأصحاب في هذا الموضع، ولو فعل ذلك أجزأه على مذهب الشافعي- أيضاً- وإن كان لا يوجبه عليه، وفيه نظر؛ لما أسلفناه عن غيره. قال: وإن خفي عليه موضع النجاسة في الثوب غسله كله؛ لأن أثر غلبة الظن الحاصل من الاجتهاد إنما هو في دفع المانع العارض للسبب الأصلي المقتضي للطهارة، وإذا زال المانع عمل السبب الأصلين والثوب الواحد زال عنه اليقين بتحقق النجاسة، ولم يبق فيه أصل يرجع إليه بعد الاجتهاد، وطهارة موضع منه لا تفيد غلبة الظن والطهارة فيما عداه. نعم: إذا كانت النجاسة في أحد كميه، واشتبه عليه، فهل يتحرى فيهما؟ فيه وجهان، المختار في "المرشد" منهما: الجواز. قال الماوردي: وعلى الوجهين يتخرج ما إذا أخبره شخص بوقوع النجاسة في أحدهما، هل يجوز له قبول خبره؟ إن قلنا: لا يجوز الاجتهاد، فلا يجوز، وإلا فيجوز. والوجهان في الأصل جاريان- كما قال القاضي الحسين- فيما لو أصاب أحد

طرفي العمامة نجاسة، وخفي عليه، فلا خلاف في أنهما إذا فصلا، جاز الاجتهاد فيهما، بخلاف ما لو شقَّ الثوب النجس نصفين؛ فإنه لا يجوز [له] الاجتهاد؛ لاحتمال وقوع النجاسة في محل القطع. وقال ابن سريج: إذا خفي عليه موضع النجاسة [من الثوب] فغسل بعضه كفاه. والمذهب: الأول. وقد أفهم قول الشيخ: "وإن خفي عليه موضع النجاسة"، أنه لو عرف موضع النجاسة غسلها فقط، وهو كذلك، اللهم إلا أن يكون الثوب قبل وقوع النجاسة- أيضاً- مغسولاً؛ فإن المتولي حكى وجهين: أحدهما: يغسل موضع وقوعها فقط. والثاني: يغسله كله. وأفهم قوله: غسل كله، أنه لو غسل نصفه مرة، ثم نصفه الآخر مرة أخرى: أنه لا يجزئه، وهو المحكي عن صاحب "التلخيص"، وفي "النهاية" و"الإبانة" و"تعليق" القاضي الحسين والبندنيجي؛ لأن ورود النجاسة مُتَيَقَّن، والغسل على هذه الصفة لا يفيد زوال النجاسة بيقين؛ فإنه لا يمنع تقدير النجاسة على منتصف الثوب، ولو فرض الأمر كذلك لكان الغسل المفروض فاسداً. وقال صاحب "الإفصاح": إن ذلك يجوز وإن كان الثوب متضمِّخاً بالنجاسة؛ كما قاله القاضي الحسين، ويقال: إنه الأصح في "التهذيب". وقال الإمام: إنه مزيف، متروك عليه، غير معدود من المذهب، والوجه: القطع بالأول. قال القاضي الحسين: وهو اختيار القفال، والأصح. ومن الأصحاب من قال: يتصور غسله في دفعتين بأن يصب [الماء] على أعلى الثوب إلى النصف، ثم [يصبه] على النصف الباقي؛ لأن البلة لا تترادُّ إلى الأعلى؛

فلا تنتشر إليها؛ لأن طبع كلِّ مائِع الانحدارُ. قال: وهذا غير صحيح. [والبندنيجي قال: إن خلافه ليس بشيء]. فرع: لو لم يجد ما يغسل به الثوب، ولا شيء معه غيره، صلى عرياناً، ولا إعادة عليه؛ نص عليه في "المختصر" وعامة كتبه؛ كما قال البندنيجي، ولم يَحْكِ الماوردي غيره. وقال في "مختصر" البويطي مثل هذا، ثم قال: وقد قيل: يصلي فيه [ويعيد. قال جمهور العراقيين: وهذا ليس قولاً في المسألة، ولكنه] حكاه عن غيره. والخراسانيون والقاضي أبو الطيب والروياني في "تلخيصه" أخذوا بظاهره، وجعلوه قولاً ثانياً في المسألة. ومنهم من حكى الخلاف في المسألة وجهين مع وجه ثالث: أنه يتخير بين أن يصلي فيه أو عرياناً. ثم إذا قلنا بمذهب العراقيين، فاضطر إلى لبسه- لحرٍّ أو برد- صلى فيه، وأعاد على الجديد، وعلى القديم: لا يعيد؛ كما لو صلى وعلى قَرْحَةِ دم يخاف من غسله. والخلاف في الإعادة جارٍ- على ما حكاه المتولي- فيما إذا قلنا: إنه [لا] يجب عليه أن يصلي فيه عند فقد الخوف. [والقاضي الحسين قال: إن قلنا: يلزمه لبسه، صلى فيه، وأعاد، إلا على رأي المزني في أن من ترك ركناً أو شرطاً؛ للعجز- لا إعادة عليه. وإن قلنا: لا يصلي فيه، فهل يصلي قائماً أو قاعداً؟ فيه قولان، أظهرهما: الأول، وعلى هذا: لا إعادة عليه. وعلى الثاني: هل يضع الجبهة على الأرض أو يدنيها من الأرض؟ فيه وجهان.

وعلى الوجهين يلزمه الإعادة في ظاهر المذهب]. ولو كانت المسألة بحالها، لكن عرف موضع النجاسة من الثوب، فهل يجب قطع موضعها، قال القاضي الحسين والمتولي: إن كان أرش النقص يزيد على أجرة مثله، لم يلزمه، وإلا لزمه. وقال الشاشي: هذا تعسف؛ فإن الزمان الذي يصلي فيه لا أجرة لمثله حتى يقابل بها الأرض، بل الوجه أن يقابل الأرش بقيمة الثوب؛ فإنه يلزمه ابتياعه بثمن المثل. قلت: وهذا لا وجه له؛ لأنه إذا ابتاع الثوب، صلى فيه، وبقيت ماليَّته، وبالقطع تزول المالية. وقد نَجَزَ شرحُ مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به: أحدها: إذا خفي عليه موضع النجاسة من أرض: فإن كانت واسعة: كالصحراء، صلى في أي موضع شاء منها بغير اجتهاد. وإن كانت ضيقة، أو كانت النجاسة في بيت- لم يجز أن يصلي فيه حتى يغسله على أصح الوجهين؛ لأنه كالثوب الواحد. ومقابله: أن يصلي فيه حيث شاء من غير اجتهادٍ؛ كالصحراء؛ كذا قاله أبو الطيب، وكلام البندنيجي يشير إليه. قال بعضهم: وهذه المسألة شبيهة بما إذا اختلطت أخته بنسوة: فإن كثرن جاز أن ينكح من شاء منهن، وإلا فلا يجوز. والرافعي قال: إنه هل يجوز أن يجتهد فيه، ويصلي فيما يغلب على ظنه طهارته، أو هو كالثوب إذا وقعت فيه نجاسة لم يعرف موضعها؟ فيه الوجهان، وقال: إنهما جاريان في البساط إذا وقعت فيه نجاسة. والذي حكاه القاضي الحسين والمتولي فيه: أنه يتحرى في البساط عند كل صلاة إلى أن يبقى من البساط قدر محل النجاسة.

وألحق في "التتمة" البيت به. ولا خلاف في أن النجاسة لو كانت في أحد البيتين، اجتهد فيهما. الفرع الثاني: إذا أصاب ثوبَهُ أو بدنَهُ نجاسةٌ، واشتبه عليه محلها، وأصاب بيده المبلولة بعض بدنه أو ثوبه- لم ينجس؛ لأن الأصل الطهارة. الفرع الثالث: وقد جرت العادة بأن يستعان بالثيران في دَوْس الغلة، وكثيراً ما تبول وتروث، فإذا اتخذ خبزاً من غير غسل الحنطة فهو طاهر، ولا يجب غسل الفم [من تناوله؛ لعدم تحقق النجاسة، والاحتياط غسل الفم]، قاله القاضي الحسين، والله أعلم.

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء الثالث المحتوى تتمة كتاب الصلاة

باب استقبال القبلة

بسم الله الرحمن الرحيم باب استقبال القبلة سميت [القبلة] قبلة؛ لأن المصلي يقابلها وتقابله، وهي الكعبة، روى البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ركع [في] قُبُل البيت [ركعتين]، وقال:"هذه القبلة"،

وسميت-: كعبة؛ لارتفاعها عن الأرض، ومنه كعبة الرجل.

وقيل: سميت بذلك؛ لاستدارتها وعلوها، وقد بنيت خمس مرات، آخرها بناية الحجاج، وسنوضح ذلك في" [باب] صفة الحج" إن شاء الله تعالى. وهي المسجد الحرام، قال الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 97]، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لما فرضت الصلاة بمكة يستقبل بيت المقدس؛ كما قاله المتولي وغيره. وقال الإمام: إنه كان يستقبل الصخرة من بيت المقدس؛ فإنها قبلة الأنبياء قبله، وهذا مروي عن الزهري، ولم يوجد له إسناد صحيح، ومشهور: أن إبراهيم-عليه السلام-كانت قبلته الكعبة، وكذا إسماعيل-عليه السلام-يدل عليه قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]. واختلف العلماء [وكذلك أصحابنا] في أنه-عليه السلام-[كان] يستقبل ذلك برأيه واجتهاده أو عن أمر من ربه على قولين: ووجه الأول-قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]. ووجه الثاني: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه} [البقرة: 143]. نعم، هل [كان] ذلك بقرآن أو بغير قرآن؟ أفهم كلام الأصحاب خلافاً فيه، واستدل أبو الطيب على [أنه] كان واجباً بالقرآن بقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} الآية [يونس: 87] وكان – عليه السلام-مدة مقامه بمكة يجعل الكعبة بينه وبينها، فيقف بين الركنين اليمانيين، ويستقبل الكعبة وبيت المقدس معاً؛ فيجمع في الاستقبال بين قبلة إبراهيم -عليه السلام-وغيره من الأنبياء -عليهم السلام- فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه ذلك إلا باستدبار الكعبة؛ [لأن المدينة عن يسار الكعبة، فشق ذلك عليه، واختلف في سببه: فقيل: لأنه كان يحب أن يصلي إلى قبلة أبيه إبراهيم -عليه السلام- وهو ما رواه

ابن جرير الطبري بإسناده عن ابن عباس. وقيل: لأن اليهود-لعنهم الله-قالوا: يخالفنا محمد، ويتبع قبلتنا، وهذا قول مجاهد. وبعضهم يقول: لأن اليهود-لعنهم الله-قالوا: يخالفنا محمد، ويتبع قبلتنا، وهذا قول مجاهد. وبعضهم يقول: لأن اليهود عيرته، وقالوا: هو على ديننا، ويصلي إلى قبلتنا. والأول أقوم، ثم الثاني إن صح فهو مثول بمعنى: أنه على ديننا في القبلة. ولما شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل أن يسأل ربه أن يجعل قبلته الكعبة؛ فعرج جبريل لذلك؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء؛ فأنزل [الله] عليه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية [البقرة:144] قال بعضهم: وكان بمسجد بني سلمة، وقد صلى بأصحابه ركعتين من الظهر، فتحول في الصلاة، واستقبل الميزاب فسمي ذلك [المسجد] بمسجد القبلتين. وقد جاء في البخاري ما يدل على أن ذلك [كان] قبل العصر؛ فإنه قال في حديث البراء: "وصلى، ثم خرج بعد ما صلى، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه نحو الكعبة". [لكن] روى مسلم عن البراء من طريق، [و] عن عبد الله بن عمر: بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، [وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة]. وهكذا رواه مالك، والشافعي، والترمذي، وقال:

"وانحرفوا وهم ركوع". وفي البخاري عن البراء: أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم ركوع، فقال: أشهد بالله لقد صليت [مع] رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم [قبل البيت]. والجمع بين هذه الرواية وما ذكرناه أولاً: أن تحمل هذه الرواية على أن أول صلاة صلاها كاملة إلى الكعبة صلاة العصر. وقد اختلف العلماء في أي شهر كان [ذلك]؟ فقيل: كان في رجب قبل بدر بشهرين. وقيل: بل في شعبان. وسبب ذلك اختلاف الرواية في مدة صلاته إلى بيت المقدس حين تحول إلى الكعبة، والذي جاء في مسلم أن ذلك ستة عشر شهراً، وفي البخاري ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وروى أبو داود عن قتادة ثمانية عشر شهراً. وفي رواية شاذة عن معاذ بن جبل ثلاثة عشر شهراً. واتفقوا على أن ذلك في سنة اثنتين. قال ابن عباس: وأول ما نسخ من القرآن فيما [ذكر لنا]-والله أعلم- بيان

القبلة، والصيام الأول. وأول من صلى [إلى الكعبة]، وأوصى بثلث ماله، وأمر أن يوجه إلى الكعبة-البراء بن معرور. وقد دل كلام ابن عباس على أن استقبال بيت المقدس كان ثابتاً بالقرآن؛ فحينئذ يكون القرآن قد نسخ بالقرآن، ومن قال: إنه كان بالسنة من أصحابنا، قال: أصح قولي الشافعي: أن القرآن ينسخ السنة؛ كذا حكاه أبو الطيب وهو خلاف المنقول عنه في كتب الأصول. قال: واستقبال القبلة شرط في صحة الصلاة؛ لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، وسيأتي بيان معنى الشطر إن شاء الله تعالى، والاستقبال لا يجب في غير الصلاة؛ فتعين أن يكون [المراد] في الصلاة، ويدل عليه من السنة قوله-عليه السلام-للمسيء في صلاته كما سنذكره في "باب فروض الصلاة": "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، واستقبل القبلة، وكبر"، فأمره بالوضوء، والاستقبال، والوضوء شرط إجماعاً؛ فكذلك الاستقبال. وقيل: إنه ركن، وليس بشرط، وسنذكر وجهه في "باب فروض الصلاة"، وسنذكر من كلام الأئمة في الباب ما يدل على أنه ليس بركن ولا شرط، [بل] واجب مع الذكر فقط.

قال: إلا في شدة الخوف، أي: عند التحام القتال والاضطرار إلى ترك الاستقبال، كما سنبينه في "باب صلاة الخوف"، نعم: لو قدر على أني صلي قائماً إلى غير القبلة، وراكباً إلى القبلة، صلى إلى القبلة راكباً، ولم يجز أن يصلي إلى غير القبلة قائماً؛ لأن استقبال القبلة أوكد من فرض القيام؛ أن فرض القيام يسقط في النافلة مع القدرة من غير عذر، بخلاف فرض الاستقبال. قال: وفي النافلة في السفر، أي: حيث لا يمكنه التوجه إلى القبلة، فإنه يصليها حيث توجه، أما إذا كان راكباً؛ فلقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]،وروى سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه قال: نزلت هذه الآية في المتطوع خاصة حيثما [توجه بك] بعيرك. وروى الشافعي عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته [في السفر] حيثما توجهت به. وروى بسنده عن جابر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي على راحلته النوافل في كل جهة.

وجاء أنه -عليه السلام- كان يسبح على راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه، أخرجه البخاري ومسلم. قال مسلم: إلا أنه لا يصلي عليها المكتوبة. وقال البخاري: إلا الفرائض. وأما الماشي: فبالقياس على الراكب؛ لأن المشي أحد السفرين، وأيضاً: فقد استويا في صلاة الخوف؛ فكذا في صلاة النفل. والمعنى في جواز ذلك إلى غير القبلة في السفرين؛ كما قال الخضري-: أن بالناس حاجة إلى الأسفار، وهي مظنة المشاق، فلو شرط فيها الاستقبال، لترك الناس التنفل فيها، فعفي عنه؛ كما عفي عن القيام. [وعكس أبو زيد] ذلك، فقال: ولو لم يجز للناس ذلك، لترك الناس السفر؛ لاشتغالهم بأورادهم. قال القفال: فانظر إلى فضل [ما بين] الاعتقادين؛ فإن أبا زيد كان رجلاً زاهداً يقدم أمر الآخرة، والخضري كان مشغولاً بأمر الدنيا؛ فكان يصلي كما يصلي الفقهاء في العادة؛ فلهذا قدم أمر الدنيا، وهذا هو المشهور. وعن الصيدلاني: أنه لا يجوز صلاة العيد والاستسقاء والكسوف على الراحلة، أي: وإن قلنا: إنها سنة؛ لندرتها. تنبيه: الألف واللام في كلام الشيخ في "السفر" لا للمعهود-وهو السفر الذي يجوز فيه القصر-بل هما لتعريف الماهية؛ فإن السفر الطويل والقصير في هذه

الرخصة سواء عند العراقيين والماوردي؛ عملاً بقوله في "الأم": و"طويل السفر وقصيره سواء"، وهو أصح القولين عند المراوزة؛ لأن المعنى المجوز لترك الاستقبال المشقة اللاحقة [له] بسبب انقطاعه عن السفر، واستكمال النوافل، وهذا موجود في طويل السفر وقصيره؛ كالتيمم، وبهذا فارق القصر. والقول الثاني: أنه يشترط أن تبلغ مسافة القصر؛ لأنه تغيير ظاهر في الصلاة، وهو ترك استقبال القبلة؛ فهو حري بأن يشبه بالقصر وغيره من خصائص السفر الطويل، وهذا أخذوه من قوله في البويطي: "وقيل لا يتنفل على دابته إلا في سفر يقصر [في مثله] الصلاة". والعراقيون قالوا: هذا ذكره حكاية عن مذهب مالك، وليس قولاً له، وهو ظاهر اللفظ. وقال في "التتمة": إنه منصوص في القديم؛ وعلى هذا قال المراوزة: ويشترط أن يكون [له] صوب واحد، فراكب التعاسيف لا يترخص بهذه الرخصة؛ لفقد ذلك في حقه؛ لأنه الذي يستقبل تارة ويستدبر أخرى؛ إذ ليس له صوب ومقصد معين. نعم: لو كان لمقصده صوب، ولكن لم يسلك طريقاً معلوماً، فقولان. ثم المراد من السفر الذي هذا حكمه: السفر الذي لا يمكنه معه الاستقبال إلا بمشقة؛ يدل عليه قوله: "وإن كان ماشياً أو على دابة ... " إلى آخره، وحينئذ ينحصر في السفر في البر على الراحلة التي لا محمل عليها يمكن المصلي فيه الاستقبال ونحوه، وهي مقطَّرة، سائرة كانت أو واقفة، وكذا غير المقطرة إذا لمتنك طوعاً له، وبه صرح العراقيون، ومنه يظهر لك الحكم في مسألتين: أحداهما: أن سفر البحر لا يجوز إلى غير القبلة، بل يشترط فيه الاستقبال في جميع الصلاة، كما في الفرض، وبه صرح الأصحاب كافة، وخص الماوردي وصاحب "العدة" بما إذا لم يكن المتنفل مسير المركب، فإن كان سقط عنه

فرض التوجه وصلى إلى جهة مسيره، ثم غير المسير يجو له أن يصلي الفريضة فيها قائماً إن استطاع، واقفة كانت أو سائرة، وينحرف إلى جهة القبلة عند انحرافها في أثناء صلاته. ولو هبت ريح، فحولت السفينة، فتحول بها [وجه المصلي عن القبلة- لم تبطل صلاته. قال القاضي الحسين: وهذا بخلاف ما لو حول شخص وهجه عن جهة القبلة فنها تبطل]؛ لأن ذلك نادر، وهو في السفينة غالب. وغيره قال: أما إن أمال قاهر المصلي عن القبلة، فإن كثر بطلت صلاته؛ لأنه يندر، وإن قل فوجهان. قال الغزالي: وهذا بخلاف جماح الدابة؛ [فإن الظاهر] أنه إذا حدث ذلك لا تبطل صلاته؛ لأنه عام. وما ذكرناه من جواز إقامة الفريضة في السفر في البحر لا يختص بالسفر؛ بل يجوز لمن هو مقيم ببغداد وغيرها، وكذا في الزوارق-وهي المراكب اللِّطاف-إذا كانت مشدودة مع الوفاء بإتمام الشرائط والأركان وتحرك الزورق تصعداً أو تسفلاً كتحرك السرير وغيره تحت المصلي. نعم، لو كانت سائرة، فهل يصلي الفريضة فيها مع تمام الاستقبال والأفعال؟ قال الإمام: فيه تردد ظاهر واحتمال؛ فإن الأفعال تكثر بجريان الزورق، وهو قادر على دخول الشط وإقامة الصلاة، فليتدبر الناظر ذلك. الثانية: أن الراكب على ظهر بعير أو دابة أو بغل أو حمار، في كنيسة أو محمل ونحوهما على صفة يمكنه التوجه إلى القبلة، ويتسع له الركوع، والسجود بجبهته-يكون التوجه في حقه شرطاً، [وعليه ينطبق] قول البندنيجي: إن التنفل عليها كالتنفل في المركب. وحكى الماوردي والقاضي الحسين وجهاً آخر: أنه لا يلزمه ذلك؛ لأن فيه إضرار بركوبه.

وابن كج حكاه عن النص. وعلى هذا يكون كالراكب في غيره. وفي "حلية الشاشي": أن الأول هو الصحيح، ولا يجوز له أداء الفرض عليها في محمل ولا غيره وإن تمكن من القيام أيضاً؛ كما حكاه الشيخ أبو حامد، وفرق بينه وبين المركب حيث يجوز له إقامة الفريضة فيها: بأن السفينة لا اختيار لها؛ فلا يخشى فيها الانحراف عن جهة القبلة، وللبهيمة اختار، وتسير بنفسها؛ فلا نأمن الانحراف. والبغوي فرق: بأن سير الدابة منسوب إلى راكبها؛ بدليل أنه يجوز الطواف عليها، بخلاف السفينة؛ فإنها كالدار يقام فيها. وهذا فيه نظر؛ لأنه لو فرض سيل حول الكعبة حتى ركب شخص في شيء فيه وطاف، لم يظهر إلا صحة طوافه، وحينئذ فلا فرق. والقاضي الحسين فرق: بأن العادة جارية بأن الشخص يبقى في السفينة شهراً أو دهراً؛ فجعلت في حقه من البحر كالبيت من الدار في حق البري، وما جرت العادة بأن يبقى على ظهر الدابة أكثر من يوم أو نصف يوم. وهذه الطريقة لمي حك الإمام غيرها موجهاً لها بأن الدابة لا تراد للاستقرار، وهو معنى كلام القاضي. وطرد لأجل ذلك المنع في صلاة المكتوبة على الأرجوحة المربوطة بالحبال؛ فنها لا تعد في العرف مكان التمكن، وهو مأمور بالتمكن والاستقرار. وحكى ابن الصباغ عن القاضي أبي الطيب أنه قال: يجوز فعل الفريضة على الراحلة الواقفة إذا تمكن من تمام الاستقبال، والركوع والسجود والقيام؛ كما يجوز فعلها على سرير يحمله أربعة؛ وهذا ما جزم به القاضي الحسين، والبغوي، وغيرهما، وقالوا: لو كانت الدابة سائرة، فهل يجوز فعلها عليها؟ فيه وجهان. وقضية قياس القاضي الحسين على السرير: أنه لا خلاف فيه، والذي أورده [الإمام] فيه: المنع. والبغوي أجرى الوجهين في الصلاة عليه إذا كانوا سائرين به.

وإذا جمعت ما قيل في الصلاة المكتوبة على المحمل ونحوه على الدابة واختصرت، قلت: فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كانت واقفة جاز، وإن كانت سائرة فلا. والمنصوص عليه في "الإملاء": المنع. قال: فإن كان، أي: المسافر ماشياً، أو على دابة-أي: سائرة-يمكنه توجيهها إلى القبلة، أي: مثل أن يكون زمامها بيده، وهي طوع-لم يجز حتى يستقبل القبلة في الإحرام والركوع والسجود. وهذا الفصل مسوق لباين ما هو مستثني من كلامه الأول، وبه يعرف صحة ما أسلفناه من بيان مراده، وهو ينظم مسألتين: الأولى: الماشي في السفر إذا أراد التنفل، لم يجز حتى يستقبل القبلة في الإحرام والركوع والسجود؛ لأن المعنى الذي لأجله لم يجب الاستقبال في النافلة المشقة في الانقطاع عنه، وزمن هذه يسير؛ فلا مشقة فيه تلزمه؛ وهذا ما أورده العراقيون والبغوي والفوراني والمتولي. قال بعضهم: وهو ما لم يختلف المذهب فيه. قال البندنيجي: وعليه نص في القديم و"الإملاء"؛ فكأنه اعتبر أن يتوجه إلى القبلة في كل ركن يفتتح بالتكبير. قلت: وفي قول بعضهم: إن هذا مما لم يختلف المذهب فيه، فيه نظر؛ لما ستعرفه من تفريع ما خرجه ابن سريج أو غيره، وقيل: إنه منصوص للشافعي. وإن خرجت على ظاهر قوله في "الوسيط": "إن حكم الماشي في الاستقبال حكم راكب بيده زمام الناقة"-لم يحتج إلى نظر، بل نقول: هذا غير صحيح؛ لأن في استقبال الراكب خلافاً يأتي، لكن هذا من الغزالي ليس يجري على إطلاقه، بل هو محمول على أنه لا يشترط في حق الماشي الإتيان بالركوع والسجود بالفعل، بل بالإيماء، كما هو وجه-أو قول-ستعرفه، وبذلك صرح الإمام، وألا فلا خلاف في طريقهم: أن الراكب لا يلزمه الاستقبال فيما عدا تكبيرة الإحرام والسلام، وفي تكبيرة الإحرام والسلام خلاف، والظاهر في الماشي اشتراط الاستقبال في حال تكبيرة

الإحرام؛ [هذا ملخص ما في "الرافعي"]. ثم الماشي يجب عليه أن يركع مطمئناًّ، ويسجد على الأرض كذلك؛ لأنه يتيسر عليه، بخلاف الراكب في [غير] محمل ونحوه؛ كما سنذكره-ولا يجب عليه الجلوس للتشهد عند العراقيين والمتولي، وهو ظاهر المذهب عند الرافعي؛ لطول زمانه، كالقيام وعن الشيخ أبي محمد حكاية نص عن [الشافعي]: أنه يلزمه أن يقعد فيه، ويسلم، ولا يمشي إلا في حال القيام، وبه قال الإمام ومن تبعه، وحكى هو وغيره عن ابن سريج تخريج قول: أنه لا يلزمه شيء من ذلك، ويقتصر على الإيماء في الركوع والسجود، كي لا يتعطل مقصود السفر، ويحكي هذا عن القفال أيضاً، ويقال: إنه وجد منصوصاً للشافعي، والمشهور في كتبه: الأول. وقد أفهم كلام الشيخ: أنه لا [يجب عليه] الاستقبال فيما عدا الأحوال الثلاثة؛ وهذا ما حكاه ابن الصباغ. وفي "حلية" الشاشي و"الحاوي": أنه يجب عليه-أيضاً- في حالة الجلوس بين السجدتين، وهو قضية قول البندنيجي السالف، فكأنه اعتبر أن يتوجه إلى القبلة في كل ركن يفتتح بالتكبير، وخالف هذا القيام عند الرفع من الركوع حيث لا يشترط فيه الاستقبال، فإن مشى القائم يسهل [عليه]؛ فسقط عنه التوجه فيه؛ ليمشي فيه شيئاً من سفره قدر ما يأتي بالذكر المسنون فيه، ومشى الجالس لا يمكن إلا بالقيام، وقيامه غير جائز؛ فكان عليه التوجه فيه؛ كذا قاله في "التهذيب" وغيره، وقد حكينا عن رواية الشيخ أبي محمد عن النص: أنه يجلس حال تشهده؛ وعلى هذا يستقبل القبلة، وبه صرح الرافعي وغيرهن وإذا قلنا به فلابد من الاستقبال حال السلام، وإذا قلنا بمقابله، فلايحتاج إلى الاستقبال حال التسليم. وفيه وجه حكاه الماوردي عن البصريين من أصحابنا: أنه يلزمه الاستقبال فيه كما لزمه حال تبكيرة الإحرام؛ قياساً على النية، وهو ضعيف.

والفرق بينه وبين وجوب النية في السلام: أن السلام بصورته مناقض للصلاة، فيفتقر إلى صارف يصرفه إلى مقصود الصلاة والتحلل؛ فاعتبرت النية صارفاً، وهذا لا يتحقق في الاستبدال. وإذا قلنا بأنه يكفيه الإيماء كان حكم الماشي في حكم الاستقبال، حكم راكب بيده الزمام كما تقدم. المسألة الثانية: الراكب على دابة يمكنه توجيهها إلى القبلة يلزمه الاستقبال في الإحرام والركوع والسجود فقط؛ لما ذكرناه في الماشي؛ وهذا ما صدر به الروياني كلامه في "التلخيص"، وحكاه القاضي أبو الطيب وجهاً في المسألة، وعليه ينطبق قول البندنيجي: إنه إذا كان على دابة سهلة تطيعه، كان استقباله كالماشي. قال أبو الطيب: والصحيح: أنه لا يلزمه الاستقبال إذا كانت جهة سيره إلى غيره القبلة؛ لأن في تحويل الدابة عن جهة سيره مشقة. وفي "الشامل": أن هذا الراكب هل يلحق بالماشي حتى يستقبل القبلة حال الإحرام، أو لا يلزمه [شيء من] ذلك؟ فيه وجهان. وهذا يفهم أن الخلاف في وجوب الاستقبال حال الإحرام فقطن وبه صرح الماوردي، ونسب القول بعدم الوجوب إلى البصريين، وصححه، وقال في "المهذب": إنه المذهب. ونسب مقابله إلى البغداديين، وعليه نص في "الأم"، وصححه الروياني؛ لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر وأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة، وكبر، ثم صلى حيث كان وجهه ركابه، رواه أحمد في مسنده وأبو داود. وقال ابن الصباغ: والقياس على هذا: أنه مهما دام واقفاً فلا يصلي إلا [إلى القبلة]، فإذا أراد السير انحرف إلى طريقه؛ وهذه الطريقة مذكورة في "التتمة" مع أخرى قاطعة بالوجوب؛ لأنه قال: لا خلاف [في] أنه ليس عليه أن يصرف وجه الدابة إلى القبلة في شيء من أركان صلاته غير التكبير، [فأما حالة التكبير] هل

يلزمه ذلك أم لا؟ قال الشافعي في موضع: يفتتح الصلاة إلى القبلة. وفي آخر: إن كان وجه الدابة إلى القبلة يفتتح الصلاة إلى القبلة، وإن كان وجهها إلى الطريق يفتتح إلى الطريق، وإن لم يكن وجهها إليهما، واختلف الأصحاب: فمنهم من قال: المسألة على قولين: أحدهما: ليس عليه استقبال القبلة [وقت التكبير]؛ كما في باقي الأركان. والثاني: يجب؛ لأنها حالة العقد؛ فيعتبر فيها وجود الشرائط، ثم يجعل ما بعدها تابعاً لها، كما قلنا في النية. ومن أصحابنا من قال: المسألة على حالين: إن كان زمام الناقة ولجام الفرس في يده، فعليه أن يستقبل حالة الافتتاح؛ لأنه لا يشق عليه ذلك، وإن كانت الجمال مقطرة، وهو راكب واحداً منها، فلا لأن ذلك يشق. والقاضي الحسين قال: إن كان وجه دابته إلى غير جهة سيره وإلى غير القبلة، فلا بد من توجيهها إلى القبلة حالة الإحرام، وإن كان وجهها إلى جهة سيره، وليست جهة القبلة، فقد نص في موضع على أنه يلزمه الاستقبال عند الافتتاح، وفي آخر: على أنه لا يلزمه ذلك. واختلف الأصحاب في ذلك على طريقين هما المذكوران في "التتمة". وفي "الوسيط" في وجوب الاستقبال في ابتدءا الصلاة أربعة أوجه، ثالثها: إن كان العنان بيده، وجب الاستقبال، وإن كانت مقطرة فلا، والرابع: إن كان وجه الدابة إلى القبلة، فلا يجوز تحريفها عنها، وإن كان إلى الطريق [فلا يلزمه تحريفها] إلى القبلة، وإن كان إلى غيرهما، فلابد من التحريف، فليحرفها إلى القبلة، ثم إلى جهة سيره. قال: ثم من اشترط الاستقبال حال الإحرام، تردد في وجوبه في وقت السلام كما في النية، وقد تقدم الرد على ذلك. ولا يلزم المتنفل الراكب في غير محمل ونحوه تحقق الركوع والسجود، بل يومئ بهما، ويكون سجوده أخفض من ركوعه، ولو تمكن من أن يمس جبهته شيئاً من

إكاف الدابة ونحوه، لم يلزمه؛ لأن نزغات الدابة لا تؤمن. وللإمام احتمال في اشتراط الانحناء إلى حيث يساوي الساجد على الأرض. قال: والظاهر ندي أنه لا يتعين؛ لما ذكرناه من التعليل. ولو قيل: ينحني إلى حيث لا يتوقع ذلك في حال الغفلات، لم يبعد. تنبيه: الألف واللام في "الصلاة" في قول الشيخ: "شرط في صحة الصلاة"، لاستغراق الجنس؛ فلهذا حسن بعده الاستثناء، وهو يقتضي مع الاستثناء أن الاستقبال شرط فيما عدا ما استثناه، وحينئذ يدخل فيه صور، ننبه على ما قد يخفى منها. فمنها: المحرم إذا خاف إن صلى فوت الوقوف، وإن مضى ليقف بعرفة خرج وقت الصلاة، لا يصلي إلى غير القبلة ماشياً، بل قوله:"ولا يعذر أحد من أهل فرض الصلاة في تأخيرها عن الوقت ... " إلى آخره يقتضي أنه يصلبها في الوقت وإن فاته الوقوف. وللأصحاب [في المسألة] ثلاثة أوجه ذكرتها في صلاة الخوف. ومنها: النافلة في الحضر لابد من الاستقبال فيها كما في الفريضة. وعن الإصطخري أنه جوزها على الراحلة ونحوها إلى حيث تتوجه إذا كانت سائرة؛ للحاجة إلى ذلك. ويقال: إنه كان يفعله في صكوك بغداد وهو محتسب بها. وحكى البندنيجي والروياني عنه: أنه جوز ذلك للماشي في الحضر أيضاً. وقال القاضي الحسين: تنفل الماشي في الحضر يترتب على الراكب، فإن قلنا [ثم]:لا يجوز، فالماشي أولى، وألا فوجهان. والفرق: أن الماشي يمكنه أن يدخل إلى المسجد، ويصلي فيه من غير ضرر يلحقه، بخلاف ما لو كان راكباً. والجواز في الحالين هو مختار القفال، كما حكاه في "التتمة". وقال الشيخ أبو محمد: إن القفال كان يختار جواز التنفل على الراحلة إن كان

يستقبل القبلة في جميع صلاته، وألا [فلا يجوز]. قال الإمام: وهذا يلتفت إلى أن المتنفل القادر على القيام له أن يتنفل مضطجعاً، والمذهب: المنع. أما إذا لم يكن المقيم في البلد سائراً، فقد أفهم كلام بعضهم أنه لا يجوز بلا خلاف على مذهب الإصطخري. وكلام الإمام كالصريح [في] أنه لا يشترط على هذا المذهب أن يكون سائراً كما لا يشترط ذلك في المسح على الخفين يوماً وليلة في الحضر، ون كان الترخص بالمسح شرع إعانة للسائر على مقاصده. ومنها: الغريق على لوح يخاف إن توجه إلى القبلة غرق، والمربوط على خشبة إلى غير القبلة، والمريض العاجز عن الحركة إذا لم يجد من يوجهه إلى القبلة-أن الاستقبال في حقه في [النفل والفرض] شرط. وقد قال الرافعي: إن من هو على اللوح في اللجة كمن هو في شدة الخوف، وكذا سائر وجوه الخوف [ملحقة] به، وليس القتال معنيًّا لعينه، وإنما المعتبر الخوف. وأما المربوط والمريض الذي لا يقدر على التحول فهو معذور؛ فلا يكلف بما ليس في وسعه؛ [الأجل هذا] قال بعض الشارحين: ينبغي أن تستثني هذه الأحوال من كلام الشيخ. قلت: وليس الأمر كذلك؛ فإن المنقول في المربوط إلى غير القبلة: أنه يلزمه الإعادة، وهو المشهور في الغريق إذا صلى إلى غير القبلة أيضاً والمريض، ولزوم الإعادة يدل على أن الاستقبال شرط؛ إذ لو لم يكن شرطاً لما لزمته الإعادة، كما في صلاة شدة الخوف، ويشهد لذلك أن الطهارة لما كانت شرطاً حال وجود الماء أو التراب وعدمهما، ألزمناه الإعادة عن فقد الماء والتراب، ولما لم تكن السترة شرطاً حال عدمها، لم تلزمه الإعادة إذا صلى عرياناً؛ للعدم على الصحيح.

وفي "التتمة": [أن من الأصحاب] من قال في الغريق: إذا صلى على اللوح إلى غير القبلة، في الإعادة قولان بالنقل والتخريج. ومنهم من قطع بالإعادة كما في المربوط على خشبة. وحكى في "الإبانة" الطريقة الأولى وطردها فيما إذا صلى إلى القبلة أيضاً. والمريض العاجز، منهم من ألحقه بالغريق. ومنهم من قال: تجب الإعادة قولاً واحداً؛ لندرته؛ حكاها المتولي وشيخه. ومنها: من خاف فوت الرفقة أو على ماله-فقد قال الأصحاب: إنه يصلي على حسب حاله، ويعيد. وقال القاضي الحسين: هل يعيد؟ يحتمل وجهين. ومنها: صلاة الجنازة في الحضر والسفر؛ لأنها فرض كفاية، وعليه نص في "الأم"، ومنه يؤخذ أنه لا يجوز فعلا على الراحلة؛ إذ لو جاز لم يشترط فيها الاستقبال، وهو الصحيح. والغزالي وجهه بأن معظم أركانها القيام، ومقتضاه: أنه [لو تمكن] من القيام عليها أن يجوز، خصوصاً إذا قلنا: إن فعل الفريضة على الراحلة [إذا تأتَّى الإتيان بجميع شرائطها وأركانها تامةً-يجوز. وقد قال الإمام ها هنا: الظاهر الجواز. وإن قال في الفريضة: إنه لا يجوز مطلقاً.

وحكى ابن الصباغ عن صاحب "التقريب" جواها على الراحلة] مطلقاً إذا لم يتعين عليه، وهو قول البصريين؛ كما قال الماوردي. وفيه وجه آخر: أنه يجوز وإن تعينت. ومنها: الصلاة المنذورة وهو المحكي عن نصه في "الأم"، والأصحاب قالوا: هو جواب على أن لانذر كواجب الشرع، كما هو الصحيح. أما إذا قلنا: إنه كجائزه؛ فتجوز على الراحلة، كما في النفل. وفي "الرافعي" حكاية وجه آخر: أنه إن أوجبها وهو بالأرض لا يصليها على الراحلة، وإن أوجبها وهو راكب أجزأه فعلها على الدابة. ومنها: ركعتا الطواف، وذلك ظاهر، إذا قلنا: إنهما [فرض، أما إذا قلنا: إنهما سنة]، فقد قال الرافعي والمتولي والفوراني: إنه يجوز فعلهما على الراحلة. والذي رأيته لغيرهم: أنه لا يجوز- أيضاً-[لفقد السير حال] الإتيان بهما مع كونه في البلد، والأصحاب متفقون على أنه لايجوز للمسافر وهو في البلد أن يتنفل على الدابة في حال سكونه، بل لو قدم بلداً أو قرية وهو في أثناء الصلاة على

الراحلة، ينزل ويبني على صلاته، سواء كان البلد مقصده أو في طريقه. نعم: لو كان البلد طريقه، ولا أهل له فيه ولا مال، ولم يقف للنزول، بنى عليها؛ لأنه [مسافر سائر]؛ فكان جوف البلد كالصحراء؛ وهذا بخلاف ما لو وصل إلى مقصده؛ فإنه لا يجوز له الإتمام على الدابة وإن كان سائراً؛ لأن سفره انقطع؛ فينزل، ويتم صلاته إلى القبلة كالمقيم. وإن كان له في البلد الذي مر به أهل أو مال، فهل يكون كوصوله إلى مقصده؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين" جاريان في أنه هل يقصر فيه أم لا؟ وقالوا: لو أنه وقف في أثناء الطريق للاستراحة أو لانتظار رفقة-لزمه الاستقبال ما دام واقفاً، فإن سار بعد ذلك، نظرت: فإن كان سيره لأجل سير الرفقة، أتم صلاته إلى جهة سفره، وإن كان هو المختار لذلك من غير ضرورة، لم يجز [أن يسير] حتى تنتهي صلاته؛ لأنه بالوقوف قد لزمه فرض التوجه. وإذا [قد] عرفت أن استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة إلا ما استثنى، فاعلم: أنه واجب في جميع الصلاة، فلو ولاها ظهره في شيء منها عمداً، بطلت صلاته، وإن انحرف عنها يميناً وشمالاً، فكلام الشافعي [الآتي] يدل على أنها لا

تبطل إن لمي تعمد ذلك، بل وقع منه سهواً، والذي ذكره العراقيون: أنها [لا تبطل، طال زمن] استدباره لذلك أو قل، لكنه إن طال سجد للسهو، وإن لم يطل فلا يسجد. وحكى المراوزة في البطلان ند طول الفصل وجهين، أصحهما البطلان، وهو الذي ذكره الصيدلاني وصاحب "التهذيب"، وقال القاضي الحسين: [إن عليه نص] الشافعي. ووجهه بأن الصلاة لا تحتمل [الفصل] الطويل، وهذا من [كلامهم] يدل على أنه في حال عدم استقبال القبلة ساهياً ليس في الصلاة، ومنهي ظهر أن قول من قال: إن الموالاة في الصالة ركن- ما ستعرفه-غير صحيح. والخلاف في البطلان في هذه الصورة مشبه عندهم بالكلام الكثير ناسياً، وسيأتي مثلها عن حكاية الماوردي في نظير المسألة. ولو كان المُحَرِّف له عن القبلة غيره قهراً: فإن طال الزمان، بطلت، وإن قصر، فوجهان، أصحهما: البطلان. والفرق بني السهو وقهر الغير: أن النسيان مما يكثر ويعم، والإكراه في مثل ذلك يندر؛ ولهذا قلنا: لو أكره على الكلام في صلاته تبطل على الصحيح، بخلاف النسيان. ثم جهة مسير المتنفل راكباً وماشياً إذا اكتفينا بها عن جهة القبلة مقامة في حقه مقام القبلة في حق غيره مطلقاً- على وجه- حتى لو عدل عنها إلى جهة القبلة عمداً تبطل صلاته، حكاه في "التتمة"، وصورة ذلك ما إذا أدار وجهه إلى دبر الدابة. وهذا الخلاف أبداه القاضي الحسين في "فتاويه" احتمالين. والمشهور: [أن] عدوله إلى جهة الكعبة لا يقدح في صلاته؛ لأن ذلك هو الأصل وترك رفقاً به، فإذا عدل إليه لم يضره. نعم: لو عدل [عن جهة سيره، ولست جهة القبلة، فالأمر كما لو عدل عن القبلة

إلى غيرها] إن فعل ذلك عمداً-قال الشافعي-:بطلت صلاته، كما إذا ولى ظهره القبلة. قال أبو الطيب: وهذا يدل على أنه إذا انحرف يميناً وشمالاً لا تبطل. وإن لم يتعمده، بل فعله ساهياً أو جاهلاً بالطريق، لم تبطل عند العراقيين، طال الزمان أو قصر. [قال الشافعي: ويسجد للسهو إن طال زمن ذلك دون ما إذا قصر]. وقال المراوزة: في بطلان صلاته عند طول الفصل القولان: فإن قلنا: لا تبطل، سجد للسهو، وكذا عند قصر الفصل؛ لأن فعل ذلك عمداً يبطل، فاقتضى سهوه السجود. وغلبة الدابة له بحيث أمالته عن جهة سيره عند الشيخ أبي حامد وأتباعه كالنسيان. وقال الماوردي: إن عدلت به عن جهة مسيره إلى جهة القبلة، فهو بالخيار بين [أن يبقيها وبين أن يردها إلى جهة [سيره]. ولو عدلت به إلى غير جهة القبلة، فهو بالخيار بين أن يردها إلى جهة القبلة أو إلى جهة] مقصده، فإن عدل إلى إحدى الجهتين في الحال، أجزأته صلاته، وفي سجود السهو وجهان. وإن لم يردها إلى إحدى الجهتين مع القدرة، بطلت، ومع العجز: إن قصر الزمان، لم تبطل، وفي السجود وجهان، وإن طال، ففي البطلان وجهان، كما في الكلام الكثير ناسياً. والغزالي جعل جماح الدابة عن جهة قصده بمنزلة إحالة الشخص عن القبلة، فقال: إن طال الزمان، بطلت صلاته، وإن قصر، ففي البطلان وجهان. وقال الإمام: الظاهر عدم البطلان؛ فإن نفرة الدابة وجماحها مع ردها على قرب مما يعم وقوعه، وتظهر البلوى به، ولو قضينا ببطلان الصلاة بقليل ذلك؛ لأثر هذا في قاعدة الرخصة.

وأما صرف الرجل الرجل عن [جهة] القبلة فنادر، لا يعهد وقوعه إلا في غاية النذور، ولهذا قطع الأئمة بأن جماح الدابة في زمان قريب لا يبطل الصلاة، ولم أر ما يخالف هذا للأصحاب. قال الرافعي: وأنت إذا تصفحت كتب الأصحاب وجدت الأمر كما قال، وإذا جمعت بين كلام الماوردي والغزالي واختصرته، قلت: في بطلان صلاته [عند] انحرافه عن جهة سيره بسبب جماح الدابة [ثلاثة أوجه]، ثالثها: إن طال [الفصل] أبطل، وألا فلا. وإذا قلنا: لا يبطل، فهل يسجد للسهو؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها- وهو ما اختاره الصيدلاني، ومال إليه الإمام [لا يسجد]؛ لأن سجود السهو لا يثبت إلا عند سهو المصلي بترك شيء أو فعل شيء، ولم يوجد من المصلي شيء. والثاني: يسجد؛ لجبر ما وقع من خلل [في] صلاته. والثالث: إن طال الفصل سجد، وألا فلا، وهو ما حكاه الشيخ أبو حامد عن النص. قال: والفرض في القبلة إصابة العين- أي: عين الكعبة-لقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:144]، أي: نحوه، وجهته، قال الشاعر: ألا من مبلغِّ عمراً رسولاً وما تغني الرسالة شطر عمرو أراد: نحو عمرو، وتقول العرب: شاطرنا بيوت بني فلان، أي: حاذينا البيوت. وحديث البخاري الذي قدمناه في أول باب يدل عليه، ويدل-أيضاً-على أن استقبال الحجر وإن ثبت بالسنة أنه من البيت [لا] يكفي، وهو أصح الوجهين في

"الحاوي" وقد قال القاضي أبو الطيب في كتاب الحج: إن الحنفية قالوا: إن ذلك مجمع عليه بيننا وبينهم. قال: وهذه المسالة لانعرف عن الشافعي ولا عن أحد من أصحابنا نصًّا فيها؛ فيحتمل ألا نسلمه، وإن سلمناه، فنقول: إنما لم يسقط الفرض عن المصلي بالتوجه إليه؛ لأن قدر الخارج من البيت مختلف فيه؛ لما اختلف فهي قلنا: لا يسقط الفرض عن المصلي إلا بيقين، وهو أن يتوجه إلى البنية. قلت: وهذا التوجيه فيه نظر؛ لان الكلام فيما اتفقت الروايات على أنه من البيت إذا استقبله لا ما وقع الاختلاف فيه. نعم: العلة الصحيحة ما قالها الماوردي: أن الحجر ليس ثابتاً من البيت قطعاً وإحاطة، وإنما هو بغلبة الظن؛ فلم يجز العدول عن [اليقين] والنص لأجله. ثم إصابة عين الكعبة تتحقق بمقابلة كل البدن لها، وهل يكفي مقابلتها [ببعض البدن؟ ينظر:] فإن كانت المقابلة ببعض العرض في كل الطول؛ بأن وقف مقابلة بعض الأركان، وبعض بدنه خارجاً عن سمتها-فهل يصح؟ حكى القاضي الحسين فيه قولين كالقولين فيمن لم يقابل الحجر بجميع بدنه في ابتداء الطواف: هل [يعتد به] أم لا؟ والذي ذكره الروياني في "تلخيصه": أنه لا يكفي، وهو ما حكى الإمام عن الصيدلاني القطع بهن والأصح في الرافعي. [و] إن كنا الاستقبال بكل العرض لكن ببعض الطول، مثل: أن وقف داخل الكعبة [واستقبل ما شخص من العتبة]، والباب مفتوح، ففيه-أيضاً- خلاف بين الأئمة، والذي حكاه بعضهم عن الشيخ أبي حامد: أنه يكفي، سواء كان الشاخص قدر مؤخرة الرحل أو دونه. وحكى الإمام عن رواية العراقيين وجهاً: أنه لا يكفي ما لم يكن ما يستقبله قدر قامة المصلي.

[قال: وهو منقاس حسن. ورأيت في "زوائد العمراني": أن الطبري قال في "عدته": هل يشترط أن يكون الشاخص بقدر قامة المصلي؟] فيه وجهان ذكرهما أبو حامد: أحدهما: نعم؛ لأنه إذا لم يكن كذلك لا يكون مستقبلاً بجميع بدنه. والثاني: لا يشترط، بل إذا كان قدر مؤخرة رحل البعير جاز، ودونه لا يجوز، وهذا هو المشهور، ولم يذكر المسعودي غيره. ومؤخرة الرحل، سنذكر عند الكلام في المرور بين يدي المصلي حدها. و [القاضي] أبو الطيب رأى [أن] المعتبر قدر ذراع، فلو نقص عنه لم تصح صلاته، ولم يحك سواه؛ لاعتقاده أن مؤخرة الرحل ذراع، والقائلون بهذا الوجه، قال الإمام: كأنهم راعوا في هذا القدر أن يكون [في] سجوده يسامت بمعظم بدنه ذلك الشاخص، لكنه فيه شيء؛ من جهة أنه في حال قيامه خارج بدنه عن مسامته ذلك الشيء، وقد تردد الأصحاب في الخروج ببعض البدن عن المحاذاة، ولكن هؤلاء نزلوا هذا منزلة ما لو استعلى الواقف والكعبة أسفل منه، ومع هذا ففيه نظر، فإن جميع الكعبة إذا تسفل، فهو القبلة بلا مزيد؛ فينزل عليه اسم الاستقبال، وهذا الشاخص في حق الواقف أمامه جزء من الكعبة، وفيه من تبعيض الأمر في المحاذاة ما ذكرناه. [وجميع] ما ذكرناه في العتبة جار كما قال الأصحاب فيما إذا صلى على ظهر الكعبة وبين يديه سترة متصلة. وقال الإمام: إننا إذا اعتبرنا قدر قامة المصلي؛ فيجب طرده في اعتبار عرضه أيضاً. قال: فمن قرب منها، لزمه ذلك-أي: إصابة العين- بيقين؛ لقدرته عليه، ولا يسوغ له الاجتهاد، كما لا يسوغ لمن قدر على النص في واقعة أن يجتهد فيها؛ لاحتمال تطرق الخطأ إليه.

ثم اليقين تارة يحصل بالمشاهدة حال دخوله في الصلاة، وتارة يكون بعلمه ذلك بالمشاهدة قبل الدخول، فإن لم توجد المشاهدة حال دخوله في الصلاة؛ لظلمة ونحوها، وقف في موضع وقوفه حال المشاهدة. قال: ومن بعد عنها، لزمه ذلك بالظن في أحد القولين؛ لأن المطلوب في المكان القريب والبعيد واحد؛ قال الله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]،وقد ثبت بذلك أن فرض القريب من الكعبة التوجه إلى عينها؛ فكذا فرض البعيد، لكن [القريب] يمكنه اليقين؛ فلزمه، والبعيد لا يمكنه اليقين؛ فتعين الظن، وهذا ما نص عليه في "الأم"، واختاره البغوي، وهذا [الظن طريق] تحصيله عند عدم مخبر بالمشاهدة-الاجتهاد. قال: و [في] القول الآخر الفرض لمن بعد الجهة؛ لقوله عليه السلام: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" أخرجه الترمذي، وقال: إنه حسن صحيح.

ولأنه لو كان فرضه العين، لما صحت صلاة الصف الطويل؛ لأن فيهم من يخرج عن العين لو مد خيط مستقيم من عين الكعبة إليه، وهذا ظاهر ما نقله المزني؛ ولأجله قال بعضهم: إنه الجديد، واختاره في "المرشد". وقال الشيخ أبو حامد وأتباعه: [إنه] لا يعرف للشافعي، وإنما [هو] مذهب للمزني وجهة القبلة لمن هو بمصر ما بين المشرق والمغرب، فإذا جعل المصلي المشرق على يساره والمغرب على يمينه كان مستقبلاً جهتها. وقد أجاب القائلون بالأول عن الخبر بما قاله [ابن الصلاح]: أنه قيل: إنه موقوف على عمر. قال: وهو المشهور، والصف الطويل إنما صحت صلاتهم عند البعد عن الكعبة؛ لأن مع البعد يتسع الصف المحاذي؛ فنه لو اشتعلت نار على رأس جبل، ووقف جماعة يهم كثرة على بعد منها؛ فإن كلا منهم يرى النار في محاذاته، ولو مد من موضعه خيطاً إليها تهيأ. وهذا الجواب كلام الإمام يأباه، فإنه قال: لو وقف صف في آخر المسجد بحيث لو قاربوا الكعبة يخرج بعضهم عن السمت، صحت صلاة جميعهم، بخلاف ما لو كانوا بالقرب من الكعبة؛ فإنه لا تصح صلاة من خرج عن سمتها. قال: مع أنا نعلم بالقطع أن حقيقة المحاذاة لا تختلف بالقرب والبعد: فتعين أن يكون المتبع في ذلك وفي نظائره حكم الإطلاق والتسمية لا حقيقة المسامتة، فمن يطلق عليه اسم الاستقبال عند البعد تصح صلاته، وإن كان لو قرب يخرج عن السمت. قال: وعلى ذلك بنى الشافعي تفصيل القول في الصلاة على ظهر الكعبة، فقال: إن لم يكن على طرف السطح شيء شاخص من بناء الكعبة- لا تصح صلاته؛ فإن من علا شيئاً لا يسمى مستقبلاً، [ولو وقف على أبي قبيس، فالقبلة مستقلة]

عن موقفه، وصلاته صحيحة؛ لأنه يسمى مستقبلاً. وقال بعضهم: إنما صحت صلاة الصف الطويل؛ لأنه لم يتعين الخارج منه عن السمت. وإلى هذا يميل كلام ابن الصباغ؛ لأنه قال بعد حكاية صحة صلاة الصف الطويل: وهذا لعمري يكون مع [تقوس الصف، فأما مع] الاستواء فلا يمكن المحاذاة، وإنما طريقه الظن، فإذا لم يتعين المخطئ؛ فلا يجب على واحد القضاء. قلت: وقول ابن الصباغ "وهذا لعمري يكون مع تقوس الصف" مؤذن بأن محل الكلام إذا كان بمكة، وألا فلا معنى للتقوس. وقوله: "إن مأخذ الصحة عند الاستواء الظن"، فيه نظر؛ لأنه يلزم منه ألا تصح صلاة من في [آخر] الصف إذا كان بينه وبين إمامه أكثر من قدر عرض الكعبة؛ لأنه دائر بني أن يكون هو خارجاً عن الكعبة أو إمامه، وأياً ما كان فلا تصح القدوة، ولم يمنع من ذلك أحد، وحينئذ فلا مأخذ إلا ما قاله الأولون والإمام. واعلم أن قول الشيخ: "في أحد القولين" يعود إلى ما ذكرناه من أول الفصل إلى قوله: "بالظن"، فكأنه قال: الفرض [في القبلة] في أحد القولين إصابة العين، فمن قرب منها، لزمه ذلك بيقين، ومن بعد عنها، لزمه ذلك بالظن؛ ولذلك [عبر عنه] العجلي بأن الواجب على ظاهر المذهب إصابة العين على حسب الوسع.

وفي القول الآخر: الفرض لمن بعد الجهة. وقد أطلق الشيخ القرب والبعد ولم يحده، [ولعل مراده] بالقرب أن يكون بموضع [يمكن] أن يرى الكعبة منه، وبالبعد ما إذا كان في موضع لا يمكن أن يرى الكعبة [منه] عادة لا لحائل موجود. فإن قلت: لو كان [هذا] مراده، لكان مقتضاه لزوم طلب اليقين عند إمكان الرؤية، لولا ما بينهما من حائل. وقد قال الأصحاب: إنه إذا كان بمكة وبينه وبين الكعبة حائل خلقي: كالجبال، والتلال-جاز له الاجتهاد عند فقد المخبر [كما سنذكره]. وإن كان الحائل طارئاً: كالبناء، فهل يلزمه طلب اليقين، أو يجوز له الاجتهاد، كما لو كان الحائل خلقيًّا؟ فيه وجهان. قال في "المهذب" و"التتمة": إن ظاهر المذهب منهما الثاني، وهو المختار في "التهذيب" و"المرشد". وقال القاضي أبو الطيب: إنه أشبه بالصواب. وقال الغزالي: إنه بعيد؛ إذ كيف يرجع إلى الاجتهاد مع إمكان درك اليقين في عين المطلوب.

وهذا الاعتراض وارد على ما إذا كان الحائل خلقيًّا، والوجه الأول هو الذي حكاه البندنيجي عن الأصحاب حيث قال: إن الشافعي ذكر في أول استقبال القبلة من "الأم": "فكلما كان يقدر على رؤية [البيت] ممن بمكة في مسجدها أو منزل منها أو سهل أو جبل، فلا تجزئه صلاته حتى يستقبل البيت بالصواب". وقال بعد مسائل من هذا الكتاب: "ومن كان بمكة لا يرى البيت، أو خارجاً من مكة؛ فلا يحل له كلما أراد المكتوبة أن يدع الاجتهاد [في طلب] صواب الكعبة بالدلائل من الشمس والنجوم والقمر والجبال ومهب الريح، وكلما كان عنده دلائل على القبلة". قال أصحابنا: وليست على قولين، بل على اختلاف حالين: فقوله الأول [محمول] على ما إذا كان الحائل حادثاً. وقوله الثاني [محمول] على ما إذا كان الحائل خلقياً. قلت: لا شك أن [ظاهر] كلامه يقتضي إيجاب طلب اليقين عند القرب، سواء وجد الحائل أو لم يوجد، لكن قوله من بعد: "ومن غاب عنها ... " إلى آخره يدل على أن مراده بما ذكره ها هنا إذا لم يغب عنها، وبه يعرف أن قوله: "أو غاب عنها"، لا فرق فيه بين أن يكون بسبب حائل أصلي أو حادث، وهو ظاهر المذهب؛ كما حكيناه عن "المهذب" وغيره. ثم ظاهر كلام من حكى الخلاف والوفاق عند وجود الحائل: أنه لا فرق في ذلك بين المكي وغيره وبين من هو بمكة [أو خارجاً عنها قريباً منها، وبالثاني صرح الروياني وغيره]، وقال أبو الطيب: إن من كان بمكة ففرضه [طلب] اليقين، سواء كان الحائل أصلياً أو طارئاً، ومن كان خارجاً عنها: فإن كان مكياً، ففرضه-أيضاً- طلب اليقين كيف كان الحائل، وإن كان غريباً، فإن كان الحائل أصليًّا، ففرضه الاجتهاد، وإن كان حادثاً ففيه الوجهان.

قال: ومن صلى في الكعبة أو على ظهرها وبين يديه سترة متصلة، جازت صلاته: أما في الأولى؛ فلما روى البخار يعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسام بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال بن رباح- رضي الله عنهم-فأغلقها عليه، ومكث فيها. قال ابن عمر: فسألت بلالاً حين خرج: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "جعل عموداً عن يساره وعمودين عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه- وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة-ثم صلى". وأخرجه مسلم لكن قال: "عمودين عن يساره". وإذا ثبت جواز ذلك في النفل، جاز في الفرض؛ لأن الاستقبال شرط في [النفل كما هو] في الفرض ولأنه صلى إلى جزء من البيت؛ فصحت صلاته كما لو صلى خارج الكعبة قبالة الباب وهو مفتوح. وأما في الثانية: فلأنه متوجه إلى جزء من البيت؛ فصحت صلاته، كما في الكعبة، والاتصال يحصل بالبناء والتسمير، وهل يحصل بغرز خشبة ونحوها؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنها تندرج تحت مطلق بيع الدار؛ فدل على اتصالها. والثاني: لا؛ إلحاقاً لذلك بالشيء الموضوع بين يديه؛ وهذا ما صححه البغوي والإمام. والكلام في قدر السترة قد تقدم. أما إذا لم يكن سترة [ثَمَّ] لم تصح صلاته, ووجهه فيما إذا كان على السطح قوله-عليه السلام-: "سبعة مواطن لا يجوز الصلاة فيها ... " وذكر منها: فوق بيت الله العتيق.

ولأنه صلى عليه من غير عذر؛ فلم يصح؛ كما لو وقف على طرف السطح، واستدبر باقيه. وفيما إذا كان في الكعبة، فبالقياس على العلو؛ بجامع ما اشتركا فيه من عدم الصلاة إليها، ويتصور ذلك بما إذا وقف قبالة الباب، واستقبله وهو مفتوح، ولا شاخص من العتبة ولا غيرها. ولو تهدم البيت-والعياذ بالله-ولم يبق من جدرانه شيء شاخص، [فالواجب] أن يستقبل جميع العرصة [وهواءها]، فلو وقف بوسط العرصة، واستقبل باقيها، لم يصح. وعن ابن سريج: أنه يصح، كما لو وقف خارجها، واختاره في "المرشد"، وهو خلاف النص. والصحيح [ما] قال الإمام: "ولا شك وأن تخريج ابن سريج يجري فيما لو صلى على ظهر الكعبة"، وهذا منه دال على أن ابن سريج إنما نص على الجواز في العرصة، وكذا حكاه بعضهم، وصرح في "التهذيب" عنه بنفي الجواز على ظهر الكعبة. والفرق لائح؛ إذ لا شيء عند انهدامها يستقبل غير العرصة، فقام بعضها مقام

كلها، كما قام بعض البناء مقام كله، ومع بقائها لا تستقبل عرصتها؛ فلذلك امتنعت الصلاة على ظهرها من غير شاخص، ولا خلاف [في] أنه لو وقف على طرف العرصة عند انهدامها، وجعل باقيها خلفه، لا تصح صلاته، وتلال الرمل [والتراب] في العرصة كالبناء، حتى تصح صلاته باستقبالها؛ كذا قاله في "التهذيب"، وصرح به في الشجرة أيضاً والزرع. وفي "النهاية" أن الحشيشة إذا علت في أرض الكعبة لا حكم لها في الاستقبال. وحكى في "الزوائد" عن رواية الطبري فيما إذا نبتت شجرة في البيت، وارتفعت على السطح، فاستقبلها، هل تصح أم لا؟ وجهان. ولو حفر [حفرة] في أرض الكعبة وصلى فيها، صحت صلاته. قال في "الذخائر": هكذا أطلقه بعض الأصحاب، وذلك إذا لم يجاوز

الحفر قواعد البيت، فإن جاوزها بحيث لا يحاذي بأعلى بدنه شيئاً [منها]، [لم تصح، وألا] فهو كالصلاة على ظهرها إلى سترة قصيرة. قلت: وفيما قاله نظر من وجهين: أحدهما: ما ظهر لك مما حكيناه عن الإمام في تعليل ما اكتفى به الأصحاب من الشاخص. والثاني: أن المعتبر عند فقد البناء [الظاهر] العرصة، لا ما بها من أساس؛ ولهذا لو أزيلت القواعد-والعياذ بالله-كان حكم الاستقبال باقياً [كما] عند بقائها، وحينئذ فلا فرق بين أن يتجاوز القواعد أو لا، كما أطلقه الأصحاب. واعلم: أنا حيث جوزنا الصلاة في الكعبة، صلاة النفل فيها أفضل منها خارجها، وكذا الفرض إن لم يرج جماعة، وإن رجاها فخارجها أفضل؛ قاله في "الروضة"؛ وهذا يؤخذ من قوله في "المهذب": "والأفضل أن يصلي الفرض خارجها؛ لأنه يكثر الجمع؛ فكان أفضل، وفيه نظر؛ لأن من قاعدة الشافعي: أنه إذا دار الأمر بين إدراك فضيلة [وبين بطلان العبادة، على اعتقاد غيره-كان ترك الفضيلة] إذا حصلت العبادة مجمعاً عليها أولى، دليله: ما ستعرفه في القصر ونحوه. قال: ومن غاب عنها، فأخبره ثقة-[أي: حر أو عبد، رجل أو امرأة عن علم-

[عمل به]؛ كالمفتي إذا أخبره ثقة] في الواقعة بخبر لا يجتهد، بل يعمل به. [وصورة ذلك] إذا كان بينه وبين الكعبة جبل، عليه شخص يراها، فأخبره بها. وكذا لو كان يعلم أن الكعبة حيث تغيب الشمس في وقت مخصوص، فأخبره [من] على موضع عال: أنه رآها غربت في هذا الموضع، ونحو ذلك. أما لو أخبره عن اجتهاد، وهو من أهل الاجتهاد، ولم يضق الوقت-لا يقلده؛ لما تقدم في المواقيت. وكذا لو ضاق الوقت على المذهب، [بل] يصلي على حسب حاله في الوقت، [ويعيد] إذا عرف جهة الصواب، وإن كان قد وافق بصلاته الأولى القبلة. وعن ابن سريج: أنه يقلد غيره، ولا إعادة عليه، وطرده في الحاكم؛ كما ستعرفه في موضعه. وقال الماوردي: إنه يقلده بلا خلاف، وهل يعيد أم لا؟ قال الشافعي فيه كلاماً محتملاً، فقال ها هنا: "ومن خفيت عليه الدلائل، فهو كالأعمى"، وظاهره يقتضي سقوط الإعادة، وقال في موضع آخر حكاه [[عنه] المزني] ها هنا: " [ومن دله من المسلمين، وكان أعمى، لزمه اتباعه]،ولا يسع بصيراً خفيت عليه الدلائل اتباعه"، وظاهره يقتضي سقوط وجوب الإعادة. [و] اختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق: إحداها-وهي طريقة المزني وأبي الطب بن سلمة وأبي حفص بن الوكيل، وهي التي صححها في "المهذب"-: أن وجوب الإعادة على قولين: على الخلاف الظاهر في الموضعين، واختار المزني منهما عدم الإعادة. والطريقة الثانية-طريقة ابن سريج-: أنه لا إعادة عليه قولاً واحداً، وحمل قول الشافعي: "ولا يسع بصيراً خفيت عليه الدلائل اتباعه"- على ما إذا كان الوقت واسعاً. والطريقة الثالثة-طريقة أبي إسحاق المروزي-: أن الإعادة واجبة عليه قولاً واحداً، وحمل قوله: " [فهو] كالأعمى" على وجوب الاتباع، لا على سقوط الإعادة.

والغزالي قال تبعاً لإمامه: [إن] الحكم كما لو تناوب [مع] جمع على بئر، وعلم أن النوبة لا تنتهي إلهي إلا بعد خروج الوقت. وقد أفهم كلام الشيخ: أنه إذا أخبره غير ثقة- وهو الفاسق- بالقبلة: انه لا يرجع إلى قوله، وهو وجه في المسألة مقيس على ما لو أخبر عنه عليه السلام، و [لم] يحك الإمام غيره. وحكى القاضي الحسين [وغيره وجها] [آخر]: أنه يرجع إليه. وقال في "التتمة": إنه المذهب؛ لأنهم لا يتهمون في ذلك. ولا يقبل خبر الكافر [بحال]. وفي قبول رواية الصبي في ذلك وجهان، وقيل: قولان؛ لأن القاضي الحسين قال: إن القفال سأل أبا زيد عن ذلك، فقال: [إن الشافعي نص على قبول روايته؛ إذا كان مراهقاً، وانه سأل أبا عبد الله-أعني: الخضري-عن ذلك، فقال:] لا يجوز له تقليده نصاًن فأخبرته بقول أبي زيد، فقال: أنا لا أتهمه في ذلك. ويحتمل أن [يكون] الشافعي أراد بذلك [النص] إذا دله فإنه يجوز، وبالنص الثاني إذا أخبره بجهة القبلة باجتهاد من قبله. وبالجملة: فمعظم الأصوليين على عدم قبول روايته، والفوراني قال في كتاب الصيام: إن الأصح قبولها. قال [الإمام]: وعلى هذا يشترط أن يكون مميزاً، ولا يكون كذاباً. قال: وكذلك إذا رأى محاريب المسلمين في بلد صلى إليها، ولم يجتهد. قال ابن الصلاح: لأن الإجماع منعقد على اتباعها والعمل بها؛ فإن السلف والخلف مجمعون على [أن] من انتهى إلى بلد صلى إلى قبلة أهله، ولم يجتهد؛ وعلى ذلك يحمل ما حكاه ابن الصباغ من الإجماع، وبعضهم حمله على الإجماع

على نصها، فقال: لعل ذلك فيما إذا تكرر عليها الزمان، ووقف عليها العدد الكثير، وعدم الطاعنون والمنكرون؛ فإن ذلك ينزل منزلة إجماعهم عليها، وإلا يجوز [أن يكون] [الوضع] عن اجتهاد، والمخبر عن اجتهاد لا يعمل بخبره القادر عليه. والحكم في القرية الكبيرة المطروقة كالبلد، بل قال في "التهذيب": لو وجد محراباً، أو علامة للقبلة [في طريق] جادة المسلمين، وجب عليه التوجه إليها. وكذلك لو أخبره عدل بأنه رأى جماعة من المسلمين اتفقوا على هذه الجهة، فعليه قبوله، وليس بتقليد، بل هو قبول الخبر من أهله، كما لو أخبره أني رأيت الشمس طالعة. وإذا ثبت هذا الحكم في محاريب بلد صلى إليها المسلمون، ففي محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وبكل موضع صلى فهي أولى؛ لأنه لا يقر على الخطأ، وبه صرح الأصحاب كافة، وقالوا: حكم ذلك حكم الكعبة فيما ذكرناه، ولا يجوز أن يجتهد فيه بالتيامن والتياسر. ولو تخيل عارف بأدلة القبلة: أن الصواب في ذلك أن يتيامن أو يتياسر قليلاً فخياله باطل. وهل يجوز أن يجتهد في محاريب المسلمين بالتيامن والتياسر؟ وفيه وجهان: ظاهر المذهب منهما في "النهاية" الجواز، وهو الذي أورده القاضي الحسين والفوراني والبغوي والمتولي والأكثرون، [كما] قال الرافعي. والمذكور في "الحاوي" مقابله، وهو ما حكاه الإمام عن شيخه. وقال بعض المتأخرين: إنه الصحيح؛ إذ لو جاز لمنع من الصلاة بدونه، ولا قائل به. وعبارة الإمام: أن من قال بالجواز، يلزمه أن يقول: حق على من يرجع إلى بصيرة إذا دخل إلى بلد أن يجتهد في صوب قبلته، وقد يلوح له [أن] التيامن وجه الصواب. قال: وهذا إن ارتكبه مرتكب، ففيه بعد ظاهر.

وقال القاضي الروياني وغيره: قبلة الكوفة يقيناً كقبلة المدينة؛ لأنه صلى إليها الصحابة، بخلاف قبلة البصرة. قال الرافعي: وقضية هذا جواز الاجتهاد في التيامن والتياسر في قبلة البصرة دون الكوفة، وفيما نقل عن ابن يونس القزويني: أن قبلة الكوفة قد صلى إليها عليّ مع عامة الصحابة، ولا اجتهاد مع إجماع الصحابة. قال: واختلف أصحابنا [في قبلة البصرة]: فمنهم من قال: هي كقبلة الكوفة. ومنهم من جوز فيها الاجتهاد؛ لأن ناصبها عتبة بن غزوان وناصب قبلة الكوفة عليّ، والصواب في فعل على أقرب. وألحق القاضي الحسين بالمحاريب الكوَّةَ الواحدة في المسجد، وقال: لو كان فيه كوى على نمط واحد على جوانب المسجد، يصلي ويعيد، اللهم [إلا] أن يكون بجانب واحدة منها علامة المحراب كالوتد للسراج ونحوه؛ فنه يصلي نحوه، ولا يعيد. وقد احترز الشيخ بقوله: "محاريب المسلمين" [عما] إذا رأى محاريب بلد خراب [لنكه] لا يعلم من أسسه؛ فإنه لا يجوز أني صلي إليها من غير اجتهاد، كما قال البندنيجي، ومحاريب القرية التي لا يدري: [أبناها] الكفار أم المسلمون بذلك أولى؛ صرح به في "التهذيب". وبقوله: "في بلد" عن القرية الصغيرة التي يجوز أن يتطرق الخطأ لأهلها إذا لم

يكثر المرور عليها- فإن محاريبها لا تمنع من الاجتهاد، بل لا يجوز إلا عن اجتهاد. نعم، لو نشأ فيها قرون من المسلمين، كان حكمها حكم البلد؛ قاله في "التهذيب"؛ وكذا إذا دخل إلى دار إنسان [يستخبر صاحبها]، ولا يجتهد. قال: وإن كان في برية، واشتبهت عليه القبلة، اجتهد في طلبها بالدلائل، أي: إن كان يعرفها، والوقت متسع؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا} [الأنعام: 97] وقال عز من قائل: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، ولأن له طريقاً يتوصل بها إلى معرفة المطلوب، وهي الاجتهاد، فلزمه سلوكه؛ كالحاكم إذا لم يجد في الحادثة نصًّا. ومما ذكرناه يظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين ما إذا شك: هل صلى ثلاثاً أو أربعاً؟ أو نسي صلاة من الخمس، حيث قلنا: إنه يبني على اليقين فيهما؛ لأنه لا مجال للاجتهاد يهما؛ لفقد العلامات، وهي موجودة هنا. وإذا كان عليه طلبها بالدلائل، فلو تركه، وصلى [بالاجتهاد] إلى جهة، ثم ظهر أنها جهة [القبلة أو] غيرها، وجبت عليه الإعادة بلا خلاف. قال في "الذخائر": [وهذا بخالفي ما لو اشتبه عليه إناء طاهر، فهجم، وتوضأ بواحد من غير اجتهاد، فظهر أنه طاهر قبل شروعه في الصلاة-فإنه يصح وضوءه على الصحيح من المذهب؛ لأن المقصود من الوضوء الصلاة وقد وجد حال الدخول فيها العلم بها، بخلاف ما نحن فيه. وإذا اجتهد وغلب على ظنه في جهة [أنها القبلة] صلى إليها، ولا إعادة عليه، إلا أن يظهر خلافه، كما سيأتي. والدلائل، قد حكينا عن الشافعي أنه قال: هي الشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، ومهب الرياح، ونحو ذلك. ونسب الإمام عد الريح منها إلى الصيدلاني، وقال: إنه بعيد جداً؛ فإن الرياح

التفافها في مهابها أكثر من اشتدادها. ثم لا يتأتى التمييز فيها، والعلامات تختلف باختلاف البلاد؛ فالنجم المسمى بالقطب الشمالي يجعله المصلي بمصر على عاتقه الأيسر، وبالعراق على الكتف الأيمن. قال بعضهم: فيكون مستقبلاً باب الكعبة إلى المقام، وباليمن قبالة المستقبل مما يلي الجانب الأيسر، وبالشام يكون وراء المصلي، وقيل: ينحرف بدمشق وما قاربها إلى الشرق قليلاً، وكلما قرب من الغرب كان انحرافه أكثر. قيل: وأعدل القبلة قبلة حران؛ فإن القطب بها يكون خلف ظهر المصلي من غير انحراف، وهو نجم صغير واقع بين الجدي والفرقدين، ومحله النصف من الخط الخارج بالوهم من الجدي إلى [الكوكب المنير] بين الرقدين. وطريق معرفة القبلة بمصر [أن يستقبله ثم] ينزع رجليه من نعليه ويتركهما بحالهما، ويدير قدميه مستدبراً له، وذلك خط الاستواء. [قالوا]: والواقف فيه كذلك يكون مستقبلاً للجنوب مستدبراً للشمال، والمغرب على يمينه، والمشرق على يساره-ثم يميل قدمه اليسرى إلى شماله قدر شبر، ثم يلحقها الأخرى فيكون متوجهاً للقبلة، والله أعلم. قال: فإن لم يعرف الدلائل، [أو كان أعمى، قلد بصيراً يعرف]؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] وقال-عليه السلام- في قصة المشجوج "هلا سألوا إذا لم يعلموا؛ إنما شفاه العي السؤال". فلو وجد بصيرين يعرفان، واتفق اجتهادهما فلا كلام، وإن اختلف: فهل يجب عليه تقليد أعلمهما وأعرفهما وأوثقهما عنده، أم يجوز [له تقليد] الآخر؟ فيه وجهان: الذي حكاه القاضي أبو الطيب عن نصه في "الأم": الأول؛ فإنه قال: [قال] في "الأم": "عليه أن يقلد أوثقهما وأعلمهما عنده"، وغيره نسب ذلك إلى ابن سريج،

وطرده في العامي إذا اختلف الفقهاء في واقعة له، يجب عليه أن يأخذ بقول الأفقه، وقد حكاه أبو الطيب عن ابن سريج. والذي حكاه في "المهذب" والبندنيجي والأكثرون: الثاني، وعليه يدل قول الشيخ: "قلد بصيراً يعرف". ولو كانا عنده في العلم سواء، قال في "الحاوي": فهو كالبصير إذا تساوت عنده جهات، فيكون على وجهين: أحدهما: يكون متخيراً في الأخذ بقول من شاء منهما. [والثاني: يأخذ بقولهما] ويصلي إلى جهة [كل] واحد منهما. وقال القاضي الحسين: إنه يصلي إلى أي الجهتين شاء، ويعيد. وقد اقتضى كلام الشيخ أمرين: أحدهما: أنه لا فرق في البصير الذي لا يعرف الدلائل بين أن يكون قادراً على تعلمها والوقت واسع لذلك وللاجتهاد، أو غير قادر؛ إما لكونه لا يتأتى منه تعلم ذلك، أو لكونه يتهيأ منه لكنه لم يجد من يعلمه. ولا شك في أنه كالأعمى من كل وجه إذا لم يقدر على التعلم، أما إذا قدر على التعلم والوقت واسع له للاجتهاد، فالذي قاله [القاضي] أبو الطيب: أنه يجب عليه أن يتعلم، ويجتهد لنفسه، فإن قلد غيره وصلى، كان كمن قدر على تعلم الفاتحة [في الوقت، وصلى بالبدل، وسيأتي حكمه، وهذا من القاضي يدل على وجوب تعلم دلائل القبلة على كل احد، كما يجب عليه تعلم الفاتحة]. وقد حكى المراوزة في وجوب تعلم دلائل القبلة وجهين: أحدهما: أن ذلك فرض عين، وقال في "التهذيب": إنه الأصح. والثاني: أنه فرض كفاية. قال القاضي الحسين: وهما مستنبطان من نصين ذكرناهما في أن من هو من أهل الاجتهاد هل يقلد غيره ند ضيق الوقت، ولا يقضي أو لا؟ فإن قلنا بالأول، [فهو فرض كفاية، وألا] فهو فرض [عين].

وحكى الإمام أن من لا يعرف الدلائل إن قلنا: لا يجب عليه تعلم الأدلة، قلد [وصلى]، ولا إعادة [عليه]. وإن قلنا: يجب عليه التعلم، فقد فرط؛ فيلزمه القضاء، ثم يصلي؛ لحق الوقت من غير تقليد أو بتقليد؟ فيه تردد. وفي "الإبانة": هل يجوز أن يقلد في القبلة؟ إن قلنا: يجب، تعلم [لدلائل القبلة]، فلا يجوز التقليد، وإلا جاز. قال الإمام: والوجه المذكور في وجوب التعلم خاص بالمسافر، وإذا قلنا به قال الفوراني: فيكفي فيه الرجوع إلى قول واحد، ولا يكون ذلك تقليداً [كما أنه يرجع في خبر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الراوي الواحد، ويجتهد هو فيما يدل عليهن ولا يكون تقليداً]. قال [الماوردي]: ويجوز أن يتعلمها من كافر إذا وقع في قلبه صدقه. والأمر الثاني: أنه لا فرق في جواز تقليد البصير الذي يعرف بين أن يكون كافراً أو مسلماً، ثقة أو غير ثقة، ذكراً أو أنثى، بالغاً أو صبياً ولا خلاف في أنه يشترط أن يكون مسلماً، ولايشترط أن يكون ذكراً، وهل يشترط فيه الأمانة والبلوغ؟ فيه ما تقدم. قلت: ويمكن أن يقال: قول الشيخ ثَمَّ: "فأخبره ثقة عن علم، عمل به" يؤخذ منه: أنه لابد في المقلد أن يكون ثقة؛ لأنه إذا اشترط ذلك فيما يخبر عنه يقيناً، ففيما يخبر عنه ظناً أولى، وإذا كان كذلك، استلزم –أيضاً- اشتراط الإسلام والبلوغ؛ لأن الكافر لا يوثق به، وكذا الصبي؛ لأنه لا [يخشى عقاباً] فيما يخبر به كذباً؛ فانتظم كلامه حينئذ على ما قاله الأصحاب. والغزالي مال إلى أنه لا تشترط فيه العدالة؛ لأنه قال: قلد مكلفاً مسلماً عارفاً بأدلة القبلة، وهو ما ادعى في "التتمة" أنه المذهب. وقول الغزالي: "قلد مكلفاً مسلماً" يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة

عنده، وفيه ما تقدم، والله أعلم. فرع: إذا أبصر الأعمى في أثناء الصلاة، فإن ظهر له حين أبصر أنه على جهة القبلة؛ بأن رأى محراباً أو نجماً يعرف به جهة القبلة، أتمها، وألا استأنف؛ لأن فرضه في هذه الحالة الاجتهاد دون التقليد، وزمن الاجتهاد يطول؛ فأبطل الصلاة، كما لو وجد العاري في أثناء الصلاة بالبعد منه سترة؛ قاله الماوردي وغيره. وقال القاضي الحسين: إن ذلك ينبني على أنه لو كان بصيراً: هل يجوز أن يقلد غيره عند عجزه؟ فإن قلنا: يجوز، مضى [في صلاته، وإلا فوجهان: أحدهما-وهو الصحيح-: أنها تبطل. والثاني: لا تبطل؛ لأن صلاته] انعقدت في الابتداء بالتقليد، ففي الدوام مثله؛ لأن الدوام ينبني على الابتداء وقال في "التتمة" فيما إذا لم يظهر له جهة الصواب حين بصره، ينظر: فإن بان له يقين الخطأ، فهو كالبصير يظهر له ذلك في أثناء صلاته، وسنذكره. وإن وقع له أن الجهة غيرها بالاجتهاد، [قال]: فينحرف، وحكمه حكم بصير تغير اجتهاده. وإن لم يعرف، أو لم تظهر له الدلائل، فوجهان ذكرناهما عن القاضي. وعكس هذا الفرع: لو اجتهد بصير وصلى، ثم كف بصره في أثناء الصلاة، مضى عليها، إلا أن يعلم أنه انحرف عنها؛ فحينئذ تبطل، ولا يصلي غيرها إلا بتقليد. قال بعضهم: اللهم إلا أن يبقى مكانه فيأتي [فيه] الخلاف الذي سنذكره في البصير. قال: فإن لم يجد من يقلده، أي: إما لفقد المجتهدين، أو لوجودهم ولم

يظهر لهم جهة القبلة-صلى على حسب حاله، أي: على ما حدد حاله في الفقد أو في الجهل-فإن الحسب مأخوذ من "الحساب"، وهو بفتح السين، ووجهه: قوله -عليه السلام-: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". قال: وأعاد، أي: إذا وجد من يقلده، سواء صادف جهة القبلة أو خالفها؛ لأن الشرط في حقه التقليد؛ فإنه المحصل لغلبة الظن بجهة القبلة، وقد فقد؛ فكان كمن لم يجد ماء ولا تراباً، يصلي لحرمة الوقت، ويعيد إذا قدر على أحدهما؛ لفقد الشرط في الأولى. قال الجيلي: ويجري الخلاف المذكور ثَمَّ هاهنا. والصحيح في الموضعين ما ذكره الشيخ. وقد أفهم كلام الشيخ في هذه الحالة: "وأعاد": أن في الحالة الأولى وهي إذا وجد من يقلده، لا يعيد، وهو في الأعمى كذلك، وأما في البصير الذي لا يعرف الدلائل، ففيه ما أسلفناه من التفصيل والخلاف، والبصير العارف بدلائل القبلة إذا اجتهدن ولم يظهر له جهة القبلة، أو كان محبوساً في مطمورة ولم يجد من يقلده- يصلي على حسب حاله أيضاً، ويعيدن فإن وجد من يقلده، كما إذا كان الاشتباه على شخصين، فأدى اجتهاد أحدهما إلى جهة القبلة، ولم يظهر للآخر جهتها- ففيه ما ذكرناه من الطرق الثلاثة، والمذكور منها، في "التهذيب" طريقة أبي إسحاق، وهو المذهب في "تعليق البندنيجي". وقال في "الوسيط": الأصح: أنه يقلد ويعيد؛ لأن هذا عذر نادر، وما قاله يتركب مما حكيناه عن الماوردي وغيره من قبل. والطرق الثلاث تجري-كما قال البندنيجي-فيمن ضاق عليه الوقت عن التعليم والاجتهاد. قال: ومن صلى بالاجتهاد، أعاد الاجتهاد للصلاة [الأخرى]؛ كالحاكم إذا حكم في واقعة باجتهاد، ثم وقعت له-أيضاً- لا يحكم فيها إلا بعد الاجتهاد؛ لاحتمال تغيره؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، ومثله يجري في المقلد إذا وقعت له واقعة واستفتى فيها، ثم وقعت له مرة أخرى لا يجوز أن يعمل فيها بما قاله [له]

المفتي الأول، بل لابد [أن يعيد] الاستفتاء؛ قاله [القاضي] أبو الطيب. وكلام القاضي الحسين يقتضي تخصيص ذلك بما إذا كانت المسألة مجتهداً فيها، أما لو كان المفتي حين أفتاه قال له ذلك عن نص، [قال]: فلا يحتاج إلى الإعادة، بل قال: إن للعامي أن يفتي فيها بما ذكر له. ثم ظاهر كلام الشيخ: أن محل ما ذكره إذا لم ينتقل عن مكانه، وإذا انتقل من طريق الأولى. وقيل: [إنه] إذا لم ينتقل منه، ولم يتغير اجتهاده، لا يلزمه الإعادة، وقد تقدم مثله في التيمم، ولا خلاف في جواز صلاة النفل بالاجتهاد الأول. وما ذكرناه في المجتهد مثله يجري في المقلد إذا قلد في صلاة، ثم دخل عليه وقت صلاة أخرى، فلابد له من التقليد ثانياً على المذهب، كما قال البندنيجي. وقال الروياني في "تلخيصه": إن الأعمى لو كان له مسجد يصلي فيه على الدوام، فدخل إليه، وجس محرابه بيدهن لا يجوز أن يصلي إليه حتى يقلد بصيراً يعرفه الصواب. والقاضي الحسين: قال: إنه إذا دخل مسجداً، فوجد المحراب في أحد جوانبه الأربع بالمس باليد، فله أن يصلي إليه، و [هو] ما حكاه في "المهذب" [و"التهذيب" و"التتمة"]. وحكى الرافعي عن صاحب "العدة": أنه إنما يعتمد على لمس المحراب إذا شاهد المحراب قبل العمى، أما لو لم يشاهده، فلا يعتمد عليه. قال: فإن تغير اجتهاده، عمل بالاجتهاد الثاني فيما يستقبل؛ لأنه الصواب في ظنه الناجز، ولا يعيد ما صلى بالاجتهاد الأول؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد؛ بدليل الحاكم. وقيل: يعيده فقط، حكاه الإمام. وقيل: [يعيد] الكل؛ لأنه صلى بعض ذلك إلى غير القبلة؛ فصار كمن

نسي صلاة من الخمس ولم يعرف عينها، وهذا ما حكاه القاضي الحسين والمتولي عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني، والإمام حكاه عن صاحب "التقريب"، وهو مفرع على قولنا: إنه إذا تيقن الخطأ في صلاة معينة يجب قضاؤها. [و] قال القاضي الحسين: والفرق على الأول بين ذلك وبين ما قاس عليه: أنه ها هنا [ما] من صلاة يؤديها [إلا] وهو يعتقد سقوط ما عليه بها؛ فلهذا لا يلزمه قضاء الكل، ولا كذلك من نسي صلاة [من الخمس]؛ لأنه إذا صلى صلاة أو صلاتين لا يعتقد أنه [أدى الصلاة] المنسية، وأنها سقطت عنه قطعاً؛ لاحتمال أنها في الصلوات التي لم يقضها، والأصل شغل ذمته بها. [وما] ذكره الشيخ مصور في "تعليق القاضي الحسين" بما إذا كان الاجتهاد الثاني أقوى من الأول. أما لو كان دون الأول، فلا عبرة به، ويصلي إلى الجهة التي صلى إليها أولاً، وإن كان مثله فإنه يكون كالمتحير يصلي إلى أي الجهتين شاء، ويقضي الصلاة الثانية دون الأولى و [لكن] لا يعصي. نعم: لو صلى إلى جهة ثالثة عصى، وهكذا الحكم فيما إذا دخل عليه صلاة ثالثة ورابعة [وأكثر]، وهذا [لو] تغير اجتهاده بعد الفراغ من الأولى، فلو تغير اجتهاده في أثنائها، وكان الاجتهاد الثاني مثل الأول أو أقوى منه، أتمها على موجب الاجتهاد الأول على وجه حكاه الماوردي. وقيل: يلزمه أن يعدل عن الأول قولاً واحداً، إذا كان الثاني أقوى، وهي طريقة البندنيجي، وهل يلزمه أن يستأنفه أم لا؟ قال في "المهذب" وغيره: فيه وجهان، المذهب منهما في "تعليق" البندنيجي: البناء، وهو ما حكاه الماوردي، وبه يحصل في المسألة ثلاثة أوجه. [وقصة] أهل قباء تشهد له، وهو مطرد-كما قال القاضي الحسين-فيما لو صلى إلى أربع جهات بأربعة اجتهادات أربع ركعات، والقائلون بالاستئناف

هاهنا، قالوا: الفرق بين ما نحن فيه، وبين أهل قباء- إن قلنا: إن النسخ يثبت قبل العلم به على رأي-:أنهم كانوا على قبلة صحيحة بالنص، ولم يصلوا باجتهاد، وإنما صلوا بناء على الأصل؛ فلم يلزمهم طلب الناسخ، وهذا مطالب بالاجتهاد في طلب الصواب، وقد ظهر تقصيره. وخالف هذا ما لو صلى أربع صلوات إلى أربع جهات حيث لا يقضي على المذهب؛ لأن الصلاة الواحدة عبادة واحدة لا تتجزأ في البطلان والصحة، بل آخرها متصل بأولها ويتداعى فساد آخرها إلى فساد أولها؛ فجاز أن يقال بأنها تبطل بتغير الاجتهاد فيها، وليس كذلك الصلوات؛ لأن كل واحدة منهن لا تكون مرتبطة بالأخرى. وحكم الأعمى في تغير اجتهاد مقلِّده بعد الصلاة وفي أثنائها حكم المجتهد في نفسه، والله أعلم. قال: فإن تيقن الخطأ، أي: ووجد الصواب بعد الفراغ من الصلاة، لزمه الإعادة في أصح القولين؛ لأن الله تعالى أمر باستقبال البيت الحرام، وقد بان أنه لم يستقبله؛ فلم يعتد بما أتى به، كالحاكم إذا حكم بالاجتهاد، ثم وجد النص بخلافه. ولأن ما لا يسقط بالنسيان من شروط الصلاة لا يسقط بالخطأ، كالطهارة، والوقت. قال في "المهذب" وغيره: ولأنه تيقن الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء؛ فلم يعتد بما مضى، كالحاكم إذا حكم، ثم وجد النص بخلافه، وهذا ما نص عليه في "الأم"، وفي استقبال القبلة من الجديد. ومقابله: أنه لا يلزمه الإعادة؛ لأنه روي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة؛ فخفيت علينا القبلة؛ فجمع كل واحد منا أحجاراً، وصلى إليها، فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115].

ولأنه صلى إلى جهة مأمور بالصلاة إليها؛ فسقط الفرض بالصلاة إليها؛ كما لو صلى إلى غير القبلة في شدة الخوف، وهذا ما نص عليه في القديم، والصيام من الجديد؛ [كما] قال الماوردي وغيره، واختاره المزني، وقال: إن الآية محمولة على

حالة العلم، وفارق الحاكم، لأن الخطأ منه يندر؛ فكان نقضه أحق، وهو يتعلق بحق [العبد؛ فاحتيط] له، ولا كذلك هاهنا. والفرق بين الطهارة من الحدث والخبث: أنها أغلظ؛ بدليل أنه لو توضأ بالإناءين اللذين وقع الاشتباه فيهما، أو صلى بالثوبين اللذين وقع الاشتباه فيهما صلاتين باجتهادين- وجب عليه إعادتهما. ولو صلى إلى جهتين باجتهادين، لم تجب الإعادة. والقائلون بالأول، قالوا: الخبر لا يعرف إلا من طريق أشعث السمان، وقد قال الترمذي: إنه ضعيف الحديث، ولو صح فهو معارض بقول ابن عمر: إن الآية نزلت في صلاة النفل في السفر. أو نحمله على الخطأ من العين إلى الجهة. والفرق بين ما نحن فيه وصلاة شدة الخوف: أنا نأمره ثم بالصلاة إلى غير القبلة مع تحققها، ولا كذلك هاهنا، وإنما لم تجب الإعادة على المصلي إلى جهتين؛ لأنه لم يتعين له الخطأ في إحداهما. وما ذكرناه من [تصوير] محل القولين اتبعنا فيه البندنيجي والقاضي الحسين والغزالي، وإليه يرشد ما ذكرناه عن "المهذب" وغيره من علة [القول الأول؛ إذ] لو كانت المسألة مصورة بما إذا تيقن الخطأ، ولم يتحقق جهة الصواب- لم يحسن ذلك. نعم: لو تيقن الخطأ، وظهرت له جهة الصواب بالاجتهاد، ففي "الوسيط" و"التتمة": أن القولين يأتيان بالترتيب، وأولى بعدم وجوب القضاء؛ لأن الخطأ غير مأمون في القضاء؛ فلا تجب [كما] في خطأ الحجيج، وهذا ما حكاه

الإمام عن شيخه، وقال: إنه خطأ عندي، فإنه يمكنه أن يصير إلى بقعة يتيقن فيها جهة الصواب [ولا عس] في ذلك بخلاف خطأ الحجيج. وما قاله الإمام فيه نظر من حيث إن ذلك يوجب المصير إليها في الابتداء، ويمنع الاجتهاد. وابن الصلاح قال في تقرير الترتيب: إنه لو وجب القضاء، [لجاز على [الفور حال] الاجتهاد؛ فإنه لا يجب تأخيره، وحينئذ فلا يؤمن الخطأ في القضاء]؛ فحسن الترتيب، وكلام المتولي صريح في أنه على [أحد] القولين يعيد في الوقت بالاجتهاد، ولو تيقن الخطأ، [ولم تبن له جهة الصواب] أصلاً فطريقان: منهم من قال: لا يعيد قولاً واحداً، ومنهم من قال: [إنه] على القولين. [قال بعضهم]: وهو الأصح. وقد جمع الفوراني والروياني بين الطرق، وقالا: اختلف أصحابنا في محل القولين على طرق: فقيل: محلهما إذا تيقن [مع الخطأ جهة الصواب] أما إذا لم يتيقنها فلا تجب قولاً واحداً. وقيل: محلهما إذا [لم يتيقن] جهة الصواب، فإن تيقنها، وجبت قولاً واحداً؛ وهذه الطريقة يفهمها كلام أبي الطيب. وقيل: القولان في الحالين، وهو الذي نقله الشيخ أبو محمد والماوردي. أما لو ظهر له يقين الخطأ ووجه الصواب في أثناء الصلاة: فإن قلنا: [إنه] إذا تيقن ذلك بعد الفراغ يعيد، فها هنا يستأنف، [وإلا] فوجهان أو قولان. قال الفوراني: ومنهم من قطع بأنه يستأنف؛ لما ذكرناه من الفرق من قبل. ولو ظهر [له] في أثناء الصلاة الخطأ يقيناً أو بالاجتهاد، ولم يبن له جهة

الصواب- قال ابن الصباغ: بطلت صلاته، وهو نظير ما حكيناه عن الماوردي وغيره فيما إذا أبصر الضرير في أثناء الصلاة، ولم تبن له جهة الصواب. وقال غيره: إن عجز عن درك الصواب بالاجتهاد مع طول الفصل، بطلت. وإن قصر فوجهان، سواء مضى ركن أو لم يمض؛ كذا قاله ابن الصلاح، وأن المرجع في القصر والطول إلى العرف، وأن فيما علقه بخراسان في الدروس تحديد طويل الزمان [بأن يمضي] ركن أو وقت مضى ركن. قال: وهذا غير مرضي. قلت: والأشبه: أن يأتي فه ما ذكرناه عن القاضي والمتولي في مسألة إبصار الضرير. إذا قال له خلاف مقلده بعد الفراغ من الصلاة: قد أخطأ [بك] مقلدك- فإن كان عن علم أو بلغ المخبرون حد التواتر – كان في وجوب القضاء عليه القولان، وإن [لم] يبلغ المخبرون حد التواتر: قال الماوردي: فعند أبي إسحاق لا تلزمه الإعادة؛ لأنه لا يتيقن الخطأ بخبرهم، كما يتيقنه البصير بمشاهدته. وقد قال غيره من أصحابنا: في الإعادة عليه القولان، كما لو كان المخبر له مقلده. قال أبو علي بن أبي هريرة: وقد كنت أذهب إلى ما قاله أبو إسحاق حتى وجدت للشافعي ما يدل على التسوية بين مقلده وغيره. وإن قال له خلاف مقلده وهو في الصلاة: أخطأ بك مقلدك: فإن كان مثل مقلده او دونه، لم يرجع إليه، وإن كان أرفع من مقلده في العلم والأمانة صار [إلى قوله]. قال أبو الطيب والبندنيجي: ثم ينظر: فإن أخبره عن اجتهاد بني على صلاته. قال الماوردي: قولاً [واحدا]. وفي "تلخيص الروياني" حكاية وجه آخر: أنه يستأنف. وإن كان عن يقين، انحرف إلى الجهة التي قالها [له]، وهل يبني أو يستأنف؟

[فيه] قولان؛ بناء على ما لو صلى باجتهاد نفسه، ثم تبين له يقين الخطأ [هل] يقضي أم لا؟ فإن قلنا: يقضي، استأنف، وإلا بنى. قلت: والذي يظهر، إنه إذا أخبر عن علم بالخطأ ألا يفرق في المخبر بين أن يكون دون مقلده أو أعلى منه، وكلام أبي الطيب وغيره الذي ذكرناه يقتضي التفرقة. ولا جرمن قال الإمام: إنه إذا اخبره عن يقين من هو دون مقلده أو مثله، رجع إلى قوله، اللهم إلا أن يكون مقلده أيضاً قد قطع بالجهة أنه جهة الصواب؛ فلا يرجع إلى غيره، ولعل هذا مراد من أطلق ممن ذكرنا، والله أعلم. وقد حكى بعضهم وجهاً فيما إذا كان المخبر مثل مقلده: انه يعمل بقوله. ثم ظاهر كلام الشيخ أن المراد بيقين الخطأ: خطأ العين؛ إذا قلنا: إنها الفرض، أو خطأ؛ إذا قلنا: إنها الفرض، وهو ما حكاه الروياني في "تلخيصه"، وكلام الماوردي مصرح بأن محل الخلاف إذا اخطأ من جهة إلى جهة، أما إذا أخطأ من العين إلى الجهة، فلا يضره ذلك. وحكاه عند حكايته القولين في أن الفرض العين أو الجهة عن نص الشافعي في "الأم". ولو ظهر له أنه انحرف عن الجهة يميناً أو شمالاً، والجهة واحدة بعد الفراغ من الصلاة-فلا يضره ذلك؛ قاله في "المهذب" وغيره.

وإن كان في الصلاة: فإن بانت له جهة الصواب يقيناً، انحرف إليها، وبنى على [النص]. وخص الروياني ذلك بما إذا لم يتفاحش انحرافه إلى حيث يقارب الجهتين، ووجه ذلك بأنه لا يكاد ذلك يتيقن. وإن كان من جهة الاجتهاد، قال الروياني: فقد قال بعض أصحابنا: إنه يستأنف. وهو غلط، بل يبني على صلاته، وهل يعدل إلى الثاني أو يستمر على ما كان عليه أولاً؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي. وقال الإمام: إن العراقيين حكوا وجهين في أنه هل يمكن إدراك الانحراف عن الجهة يقيناً [أو لا] يدرك إلا ظناً؟ والأقرب: الثاني. وقال في "الوسيط": إنه لو ظهر له الخطأ في التيامن والتياسر، فهل يؤثر؟ فيه خلاف مبني على أن المطلوب جهة الكعبة أو عينها؟ هكذا قاله الأصحاب، وفيه نظر من حيث إن الجهة لا تكفي؛ بدليل أن القريب من الكعبة إذا خرج عن محاذاة الركن لا تصح صلاته، مع القطع باستقبال الجهة، ومحاذاة العين ليست بشرط؛ بدليل صحة صلاة الصف الطويل. قال: ولعل مراد الأصحاب أن بين موقف المحاذي الذي يقول الحاذق فيه: إنه على السداد، وبين موقفه الذي يخرج عن الاستقبال بالكلية- مواقف بعضها أسد من بعض، فهل واجبه طلب الأسد مع حصول مسمى الاستقبال بدونه، أو يكفيه السديد؟ قال ابن الصلاح: [وحاصله]: أنه يجب على المجتهد أن يطلب باجتهاده استقبال عين الكعبة ومحاذاتها من حيث الاسم، لا من حيث الحقيقة التي من شأنها أنه لو مد خيطاً مستقيماً من موقفه إلى الكعبة لانتهى إلى نفسها. ورد الخلاف

المذكور إلى أنه هل يجب طلب الأقوم والأسد مما يشمله اسم الاستقبال، أو يكفي مجرد ما هو سديد يشمله اسم الاستقبال وإن لم يكن بالأسد، وهي طريقة اخترعها إمام الحرمين، واتبعه هو فيها مع تصرف يسير، والذي عليه نقلة المذهب: الأول، وما شكك فيه يندفع بأن الحكم يدور مع اسم الاستقبال نفياً وإثباتاً، والمعتبر مع الحضور تحقق الاسم [بالإضافة إلى العين؛ لعدم المشقة، والمعتبر في الغيبة على القول الأول تحقق الاسم] بالإضافة إلى العين؛ لعدم المشقة، والمعتبر في الغيبة على القول الأول تحقق الاسم] بالإضافة [إلى العين، وعلى مقابله: تحقق الاسم بالإضافة إلى] الجهة، ولا إشكال في ذلك، وهو ظاهر نص الشافعي ومذهبه. وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به: إذا اجتهد جمع في القبلة، فأدى اجتهاد كل واحد، إلى جهة- لا يجوز أن يقتدي بعضهم ببعض، وإن جوزنا اقتداء الشافعي بالحنفي؛ لأن المخالفة ها هنا ظاهرة، بخلافها ثَمَّ. ولو اختلف اجتهادهم بالتيامن والتياسر، فهل يجوز أن يقتدي بعضهم ببعض؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين" وغيره. ولو أدى اجتهادهم إلى جهة واحدة، جاز أن يقتدي بعضهم ببعض، فلو تغير اجتهاد المأمومين في أثناء الصلاة دون الإمام، [و] قلنا: يمضون على موجب الاجتهاد الثاني- نَوَوْا مفارقته، وهي مفارقة بعذر، وفيها ما ستعرفه من الخلاف في البطلان. ومنهم من يقول: إنها مفارقة بغير عذر؛ لأنهم مفرطون في الاجتهاد. وإن تغر اجتهاد الإمام دونهم، نووا مفارقته أيضاً. ومنهم من يقول: الحكم في البطلان كما في المسألة قبلها. ومنهم من قال: الصحيح أنهم يبنون على صلاتهم قولاً واحداً؛ لأنهم معذورون في ذلك؛ [لأنهم] لا يمكنهم أن يتحفظوا من اجتهاد الإمام؛ قاله القاضي الحسين، والله أعلم.

باب صفة الصلاة

باب صفة الصلاة هذا الباب مسوق لبيان صفة الصلاة الكاملة الشاملة للفرض والسنة، وتفصيل ذلك يأتي في الباب بعده، وقد تعرض في هذا الباب [إلى] ما ليس بصفة للصلاة، بل هو صفة لبعض المصلين كما سنبينه. قال: إذا أراد الصلاة، قام إليها، أي: القادر على القيام، وقعد العاجز عنه، القادر على القعود، ونحو ذلك، بعد فراغ المؤذن من الإقامة؛ لأن الإقامة بجملتها إعلام، وإنما يثبت حكمها في الإجابة إلى المدعو بعد التمام؛ [لأنه قبل التمام] مشغول بالإجابة، كما تقرر في موضعه، وهذا ما حكاه البندنيجي قبل [باب] صلاة المسافر عن نصه في "الأم"،ولفظه: "ووقت القيام إلى الصلاة وقت الافتتاح بعد فراغ المؤذن من كمال الإقامة بكل حال". [وقال الماوردي في باب الأذان: إن هذا في [حق الشاب] السريع النهضة، فأما الشيخ البطيء النهضة، فينبغي أن يقوم عند قوله: "قد قامت الصلاة"، والجمهور على عدم التفصيل]. فإن قيل: كيف يصح قول المؤذن: "قد قامت الصلاة" قبل عقدها؟ قيل: المراد: قد قارب قيامها، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة:234]، وقوله-عليه السلام-: ["من وقف بعرفة فقد تم حجه" أي: قارب التمام، وكذا

..............................................................

..............................................................

قوله- عليه السلام-] لابن مسعود لما علمه التشهد:"إذا قلت هذا فقد تمت صلاتك"، وأراد مقاربة التمام. وبعضهم قال: قيام الصلاة عَرْضُ مراتب الثواب ببذل الدخول فيها على ذوي الرغبات، كما يقال: قامت السوق عند الأخذ في النداء والعرض وإن [لم] يجر عقد، والعرض حاصل بالشروع في الإقامة. ومن قول الشيخ: "بعد فراغ المؤذن من الإقامة" يُعرَف أن مراده بالصلاة: الصلاة المفروضة إذا أقيمت في جماعة؛ إذ هي التي تشرع لها الإقامة. فرع: من دخل المسجد والمؤذن في الإقامة- قال الشيخ أبو حامد-: المستحب أن يقعد ثم يقوم إلى الصلاة؛ ليكون قيامه خالصاً للصلاة. قال القاضي الحسين: والذي عندي أن المستحب أن يدوم قائماً حتى يفرغ المؤذن من الإقامة، ولا يقعد؛ ليحوز فضيلة الانتظار للعبادة، ولأنه إذا قعد فقد ترك تحية المسجد، والسنة ألا يشتغل بشيء بعد حصوله في المسجد حتى يصلي تحية المسجد. قال: ثم يسوي الصفوف إن كان إماماً [أي: بأن] يقول-ملتفتاً يميناً وشمالاً-: أقيموا صفوفكم، [أو سووا صفوفكم] رحمكم الله؛ لما روى أنس قال: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري" أخرجه البخاري.

وقال -عليه السلام-: "سووا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة" أخرجه البخاري ومسلم. وقد كان لعمر قوم موكلون بتسوية الصفوف، فإذا رجعوا إليه كبر. وهذا والذي قبله من السنن المختصة ببعض المصلين: أما الأولى؛ فلأنها تختص بمن يصلي في جماعة، ولم يكن مؤذنا، وأما الثانية؛ فلأنها تختص بالإمام، ولما كانا كذلك لم يذكرها الشيخ في الباب بعده؛ لأنه مرسوم لبيان ما يشترك فيه كل مصل، وإنما قلنا: إنه سنة؛ لأنه هيئة في سنة؛ فلا يزيد عليه. وقد ذهب بعض أصحابنا كما قال الروياني في "تلخيصه"- إلى أنه يسوي الصفوف في آخر الإقامة، فإذا فرغ المؤن منها كبر، وهو خلاف النص. قال: ثم ينوي المصلي الصلاة بعينها إن كانت الصلاة مكتوبة أو سنة راتبة، فإن كانت نافلة غير راتبة أجزأته نية الصلاة. هذا الفصل يشتمل على شيئين: أحدهما: إتيان المصلي بالنية، والأصل فيه قبل الإجماع من الكتاب قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، قال الماوردي: والإخلاص في كلامهم هو النية. ومن السنة قوله-عليه السلام-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما [لكل امرئ] ما نوى"، أخرجه مسلم. ومن جهة المعنى: أن الصلاة قربة محضة، فلم تصح من غير نية؛ كالصوم، والنية قد تقدم شرحها في [باب] صفة الوضوء، وشرطها: العلم بالمنوي؛ إذ لا يصح قصد الشيء ما لم يعرف، فلو نوى الشخص الصلاة، ولم يعرفما يفعل فيها، لم تصح.

نعم: لو عرف جملة أفعالها، لنكه اعتقد أن جميعها فرض، صحت. قال في "التتمة": لأن النفل يتأدى بنية الفرض. وفيه وجه: أنها لا تصح، حكاه البغوي. وادعى القاضي الحسين في أول "تعليقه": أنه المذهب [الصحيح]، وهو مستمد –كما قال غيره-مما إذا تحرم بالظهر قبل الزوال. ولو عرف جملة أفعالها، لكنه لم يعرف أبعاضها وأركانها وسننها وهيآتها، فهل تصح؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين": أحدهما: لا، كما لو جهل فرضية أصل الصلاة، وهذا ما حكى في "الروضة" القطع به، وعزاه إلى القاضي الحسين والمتولي والبغوي. والثاني: نعم؛ لأن هذا مما يشتبه على العوام، ويخفي على أكثر الناس، ولو لم تصح صلاتهم أدى ذلك إلى الفساد، بخلاف الجهل بفرضية أصل الصلاة؛ فإنها لا تخفى إلا على حديث عهد بالإسالم. وعن "فتاوي الغزالي": أنه يصح بشرط إلا يفعل ما هو فرض بقصد النفل، فإن فعله بذلك لم يعتد به، وإن غفل عن التفصيل أجزأه. ومحل النية القلب -[قيل]-: ولأجل ذلك سميت: نية؛ لأنها تفعل بأنأى عضو في الجسد، وهو القلب، والله أعلم. الثاني: ما ينوي من الخصوصيات، والعلة فيه: أن النية شرعت؛ لتمييز رتب العبادات من العادات، أو تمييز رتب العبادات، والصلاة [مراتب]: فرض، وسنة مقيدة، وسنة مطلقة؛ فلذلك احتاجت الصلاة المكتوبة، والسنة المقيدة-التي عبر عنها الشيخ بالراتبة- إلى التعيين، وكفى في النافلة المطلقة نية الصلاة؛ لأن بها يتحقق كون الفعل قربة، ولا خصوص لها يفتقر إلى أن يخصه بالقصد.

وحينئذ فينوي في المكتوبة فعل الظهر، والعصر، ونحو ذلك. [ولا فرق بي أن يكون بالغاً أو صبياً، كما حكاه ابن الصباغ قبل صفة الصلاة]. ولا يقوم مقام ذلك نية فرض الوقت على أصح الوجهين في "التهذيب"؛ لأن من قضى فائتة في قوت الظهر والعصر ونحوها، كانت فرض ذلك الوقت؛ لقوله-عليه السلام-: "فإن ذلك وقتها لا وقت لها غيره". ووجه مقابله: أن الحالة تصرف فعله إلى الأداء، دون القضاء. وفيما ينويه في الجمعة كلام يأتي في بابها. وينوي في السنة الراتبة في صلاة عيد الفطر سنة عيد الفطر، وفي عيد الأضحى: سنة عيد الأضحى، وفي الوتر عند إتيانه بالركعة المفردة: الوتر، وفيما ينويه عند إتيانه بالشفع قبلها خلاف يأتي في موضعه، وفي ركعتي الفجر: سنة الفجر، أو سنة الصبح، وقبل الظهر وبعده: [سنة الظهر]، وكذا قبل العصر: سنة العصر، ونحو ذلك، وفي رمضان: قيام شهر رمضان، وعند الضحى: ركعتي الضحى أو سنة الضحى، وفي النافلة المطلقة ينوي فعل الصلاة فقط. وقد اقتضى كلام الشيخ أموراً: أحدها: أنه لايحتاج مع تعيين المكتوبة-كما ذكرنا-إلى شيء آخر، سواء كانت المكتوبة أداء أو قضاء، أتى بها في وقت مكتوبة أخرى، أو في مثل وقتها، وهو وجه للأصحاب، ورواءه وجوه: أحدها-قاله أبو إسحاق المروزي-: أنه لابد مع التعيين في القضاء والأداء من وصف الصلاة بكونها فرضاً؛ لتتميز عن صلاة الصبي والصلاة المعادة في جماعة، وقد حكاه الإمام عن صاحب "التلخيص" أيضاً، وقال الرافعي: إنه الأظهر عند الأكثرين [قال الرافعي عند الكلام في نية الوضوء] وهو يجري في سائر العبادا، -أي: المفروضة-والبندنيجي والماوردي وغيرهما قالوا: إنه لا يجري في الحج

والعمرة والطهارة؛ لأنه لو غير ذلك إلى نفل لانعقد بالفرض دون النفل، وقد حكاه الإمام ونسبه إلى العراقيين، ولم يحك غيره. قال في "التتمة": وعلى هذا إذا نوى فرض صلاة الظهر أجزأه، وإن نوى فرض الظهر، فوجهان: وجه المنع: أن الظهر اسم للوقت، لا للعبادة، وكلام غيره يقتضي الجزم بمقابله. وما أفهمه كلام الشيخ من عدم اشتراط التعرض [للفرضية]، قد قال ابن أبي هريرة: وهو الأصح في "تلخيص الروياني"، والمختار في "المرشد". ووجهه: أن الظهر ونحوه من المكلف الذي هو مخاطب بفعله، لا يكون إلا فرضاً، وحينئذ فقد تضمنت نيته الفرضية؛ فلا حاجة للتعرض لذلك قصداً، وصلاة الصبي حجة لنا؛ لأن الشافعي نص على أنه إذا صلى في أول الوقت، وبلغ في آخره أجزأه وإن لم ينو الفرض. ومن يعيد الصلاة في جماعة، ينوي الفرضية على الصحيح -كما قال الرافعي من بعد- فلا حاجة [إلى] الاحتراز عنه. قال بعضهم: ووجه أبي إسحاق يجري في صلاة الجنازة والمنذورة؛ إن قلنا: [إنه] يسلك بهما مسلك واجب الشرع، ومثلهما يأتي في التعرض في النافلة

الراتبة للنفلية، وعليه دل اختلاف كلام الناقلين كما قال الرافعي، وقد اعترض على قول أبي إسحاق فقال: إن عني بالفريضة في هذا المقام كونها لازمة على المصلي بعينه، وجب ألا ينوي الصبي الفريضة بلاخلاف، والأئمة لم يفرقوا بين الصبي والبالغ، بل أطلقوا الوجهين. وأيضاً: فإنهم قالوا فيمن صلى منفرداً، ثم أدرك جماعة [يصلون: الصحيح] أنه ينوي بالثاني الفرض، وهو غير لازم عليه. وإن عني كون الصلاة من الصلوات اللازمة على أهل الكمال [فمن ينوي الظهر أو العصر [فقد] تعرض لأحد الصلوات اللازمة على أهل الكمال]، وكونها [ظهراً] أخص من كونها صلاة لازمة عليهم، والتعرض للأخص يغني عن التعرض للأعم. وإن عني بالفريضة شيئاً آخر، فليلخصه أولاً، ثم يبحث عن لزومه. قال: وبهذا كان التعرض للصلاة مغنياً عن التعرض للفريضة ونحوها من الأوصاف، والله أعلم.

الوجه الثاني: قاله الشيخ أبو حامد وغيره: أنه لابد من التعرض في الأداء [للأداء]، وفي القضاء للقضاء؛ لتميز أحدهما عن الآخر؛ فإن لكل واحد منهما رتبة عند الله تعالى. وبعضهم ينسب إليه وجوب التعرض للقضاء، ويسكت عن التعرض للأداء، وقد حكاه البندنيجي هكذا عن نص الشافعي في "الأم"، ولم يحك غيره. وادعى الإمام أن ذلك في الحالين أصل متفق عليه، ولا جرم لم يورد في "الوسيط" غيره. وما اقتضاه كلام الشيخ هو ما اختاره القاضي أبو الطيب وصاحب "المرشد"؛ [لأنه] إذا نوى الظهر مثلاً، فقد نوى صلاة وقت بعينه فكيفما وقع قضاء أو أداء أجزأه، ويشهد له أن الشافعي نص في المجتهد في وقت الصلاة والأسير في رمضان إذا وافق فعلهما ما بعد الوقت، أجزأه عن القضاء وإن كان قد نوى الأداء، وكذا نص فيمن ظن خروج الوقت؛ فنوى القضاء، ثم بان أن الوقت باق- يجزئه عن الأداء وقد نوى القضاء. ولو كان تعيين الأداء والقضاء شرطاً، لما اغترف عند

الجهل؛ كتعيين الصلاة ظهراً أو عصراً. قال الروياني في "تلخيصه": وعلى الوجهين يتخرج ما لو كان عليه [ظهر] قضاء، فأحرم في وقت الظهر بأربع ركعات نوى بها الظهر، ثم صلى ثانياً أربع ركعات نوى بها الظهر- فعلى رأي الشيخ أبي حامد: لا تجزئه واحدة منهما، وعلى رأي القاضي: تجزئه عنهما. ومن رأى من الأصحاب أن خلاف الشيخ أبو حامد خاص بالقضاء، قال في هذه الصورة: تقع الصلاة الأولى عن فرض الوقت؛ لأن الحالة تصرفها إليه، والثانية لم تصح؛ لعدم التعرض للقضاء. قال في "الشامل": ويرد على ما قاله القاضي: أنه لو كان عليه فائتة الظهر، فصلى الظهر قبل الزوال، وهو يعتقد أن الوقت قد دخل، ولم يكن قد دخل- فإن قياس قوله: أن تجزئه عن فائتة الظهر. يعني: وهي لا تجزئه، بل تنقلب نفلاً، كما ستعرفه. والماوردي جزم القول بأنه إذا كان عليه صلاة ظهر فائتة وصلاة الوقت، فأوقع أربع ركعات بنية الظهر- لا تصح ما لم ينو ظهر يومه أو القضاء. ثم القائلون بطريقة أبي حامد اختلفوا فيما ينويه عند أداء فرض الوقت: فمنهم من قال: ينوي أداء الظهر أو أداء فرض الظهر، إن اعتبرنا نية الفريضة أيضاً، وهو ما حكاه الشيخ أبو محمد عن القفال. ومنهم من قال: [إنه] لابد أن ينوي الظهر فرض الوقت؛ لأنه قد يعبر بالأداء عن القضاء؛ فإنك تقول: أديت الدين؛ إذا قضيته. وقال الإمام: إن من اعتقد مثل هذا خلافاً، فليس على بصيرة في الإحاطة بالغرض؛ لأن الألفاظ ليست مجزئة في غرضنا، والمقصود العلوم بالصفات، فإذا حصلت العلوم بحقائق صفات المنوي، فهو الفرض، ثم يقع تجريد القصد إلى ما أحاط به العلم، وإذا لاح هذا فالتناقش في العبارات تخييل خلاف لا حاصل له، ومن هاهنا صح للرافعي سؤال على أصل مقصود في نفسه له تعلق

بما نحن فيه، وهو أن القضاء: هل يصح بنية الأداء، والأداء هل يصح بنية القضاء؟ فيه وجهان حكاهما المتولي تبعاً للقاضي الحسين: أحدهما: لا؛ لما بينهما من التغاير. وأصحهما: عند الأكثرين- كما قال الرافعي-: الجواز؛ لأن الأداء يعبر به عن القضاء- كما ذكرنا- والقضاء يعبر به عن الأداء، قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] أي: أديتموها. قال المتولي: وهذا ظاهر نصوص الشافعي، وذكر ما حكيناه من الاستشهاد لقول القاضي أبي الطيب من قبل. قال الرافعي: ولك أن تقول: الخلاف في أن نية الأداء [هل تشترط في الأداء؟] [ونية القضاء] هل تشترط في القضاء-منقدح، والخلاف في أن الأداء يصح بنية القضاء، وبالعكس، إن عنيت به ما إذا تعرض في الأداء لحقيقته، ولكنه جرى في قلبه أو على لسانه لفظ القضاء، وفي القضاء تعرض لحقيقته، ولكنه جرى في قلبه أو على لسانه لفظ الأداء-فينبغي أن يقطع بالصحة؛ لأن الاعتبار في النية بما في الضمير ولا عبرة بالعبارات. وإن عنيت به ما إذا تعرض في الأداء لحقيقة القضاء، وفي القضاء لحقيقة الأداء- فلا ينبغي أن يقع نزاع في المنع؛ لأن قصد الأداء مع العلم بخروج الوقت، والقضاء مع العلم ببقاء الوقت هزو وعبث؛ فوجب ألا ينعقد به [الصلاة]؛ كما لو نوى الظهر ثلاث ركعات أو خمساً. وإن عنيت به أمراً آخر فبينه. قلت: وهذا السؤال متجه، ولا يقال: إن ذكره إنما يتم إذا كان صورة محل الخلاف فيمن تعمد ذلك مع العلم بالوقت.

وكلام المتولي يقتضي أن محله إذا جزم به مع ظنه بقاء الوقت أو خروجه؛ ألا تراه قال: إن وجه الصحة هو ظاهر النص؛ لأجل ما ذكره الشافعي في مسألة الأسير [ونحوها، بل يتعين [أن يكون محله ما إذا فعل ذلك مع العلم ببقاء الوقت] أو خروجه، وألا لزم أن يكون في مسألة الأسير] خلاف في الصحة، ولا قائل بعدم الصحة فيها، وإنما الخلاف بين الأصحاب في أن ما يفعله خارج الوقت باجتهاده هل يكون قضاء أو أداء؟ نعم: قد يقال في الجواب: إنهم عنوا الحالة الأولى، وهي ما إذا أراد شيئاً فسبق لسانه إلى غيره، وسنذكر خلافاً في أن التلفظ بما يجب أن ينويه في الصلاة هل يجب قبل تكبيرة الإحرام أم لا؟ فإن قلنا: لا يجب؛ فلا وجه لإجراء الخلاف كما قال. وإن قلنا: يجب وإن نية الأداء والقضاء لابد منهما، فحينئذ ثار الخلاف: فمن قائل: لا يجزئه؛ لأنه لم يتلفظ [بما وجب عليه أن ينويه، وهو شرط. ومن قائل: إنه يجزئه]؛ لأن أحد اللفظين يعبر به عن الآخر؛ فكأنه نطق به، ولما كان الصحيح عدم اشتراط النطق بالمنوي، كان الصحيح صحة القضاء بنية الأداء والعكس، والله أعلم. ثم الخلاف الذي حكيناه عن الشيخ أبي حامد والقاضي في المكتوبة جار في السنة الراتبة [كما قاله الأصحاب. [قلت:] ولعل ذلك تفريع منهم على] القول بأنها تقضي، أما إذا قلنا: لا تقضي، فيظهر أنه لا يحتاج إلى التعرض للأداء؛ إذ لا شيء غيره حتى يحترز عنه. الثالث -قاله ابن القاص-: أنه لابد من التعرض إلى الإضافة إلى الله تعالى، وقد توجه بقوله تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى* إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الأعلى: 19، 20]. وجه الدلالة [منه]: أنه أخبر أن المجازاة لا تقع بمجرد الفعل حتى يبغي به

الفاعل وجه الله تعالى بإخلاص النية؛ وهذا الوجه قال الغزالي في باب صفة الوضوء: إنه يجري في سائر العبادات. ووجه ما أفهمه كلام الشيخ وهو اختيار الأكثرين كما قال الرافعي: أن العبادة من مسلم لا تكون إلا لله تعالى، ومصداق ذلك قول الشافعي حين لم يشترط التسمية على الذبح: "اسم الله تعالى على قلب المسلم سمى أو لم يسم". الرابع -قاله بعض الأصحاب-: أنه لابد من التعرض لعدد الركعات، وبعضهم أضاف إلى ذلك التعرض لاستقبال القبلة، وجعل ذلك وجهاً واحداً. والفوراني ومن تبعه جزم القول بأن التعرض لعدد الركعات لا يجب، وحكى وجهاً في وجوب التعرض للاستقبال، وغلطه الإمام فيه، والفوراني نفسه استبعده، وهو مع ضعفه جار في النافلة [الراتبة]، وكذا يجري الوجه لوجوب التعرض للاستقبال فقط في النافلة المطلقة. الخامس- قاله [أبو] عبد الله الزبيري من أصحابنا، كما قال الماوردي وغيره-: أنه يشترط النطق بما ينويه في كل صلاة؛ ليساعد اللسان القلب؛ أخذاً من قول الشافعي: "ومن نوى حجا أو عمرة، [أجزأه] وإن لم يتلفظ به، وليس كالصلاة". قال البندنيجي: وهذا إنما يتصور إذا نطق قبل التكبير، ثم كبر ناوياً. وقد اتفق الأصحاب على تغليطه؛ فإن مراد الشافعي: أن الحج والعمرة لا يتوقف انعقادهما على النية والتكبير. نعم: يستحب أن يساعد اللسان القلب. ولا خلاف أنه لا يشترط التعرض لليوم في الصلاة، فلو تعرض له فإن كان في القضاء مثل أن نوى ظهر يوم الخميس [مثلا]، فكان عليه ظهر يوم غيره، لا يجزئه، ولو كان ذلك في الأداء فقال: أصلي ظهر اليوم يوم كذا، وكان غيره-لا يضر ذلك؛

لأن تعيين الوقت من الصلاة. قال في "التتمة": فإذا عرفت ما ذكرناه، عرفت أن الحالة الكاملة في المكتوبة: أن ينوي صلاة الظهر أداء فرضاً أربع ركعات مستقبل القبلة لله تعالى، [وينطق بذلك قبل] والتكبير. الأمر الثاني: أنه يكفي في تحية المسجد وصلاة الكسوف [والخسوف] والاستسقاء وركعتي الإحرام وركعتي الطواف إذا لم نقل بوجوبهما، ونحو ذلك: نية الصلاة؛ لأنها نافلة غير راتبة؛ فإن الراتب ما كان له وقت معلوم: كتوابع الفرائض، والعيد، والضحى، وقيام رمضان، وهذه الصلوات لا وقت لها، وهذا يظهر لك من قول الشيخ في باب صلاة التطوع: "ومن فاته من هذه السنن الراتبة شيء قضاه في أصح القولين". ولا شك في أن تحية المسجد تحصل بمطلق نية الصلاة؛ لأن المقصود منها شغل البقعة قبل الجلوس بصلاة كيف كانت، وقد حصل، وأما ما عداها [مما ذكرناه] ونحوه فلا يحصل مقصوده ما لم يعين الصلاة، [فينوي سنة] صلاة كسوف الشمس، وخسوف القمر، والاستسقاء، وركعتي الإحرام، وركعتي الطواف، كما ينوي ركعتي الفجر، صرح بذلك الأصحاب. وحينئذ فالعبارة السديدة في ذلك أن يقال: وينوي الصلاة بعينها إن كانت الصلاة مكتوبة أو نافلة مقيدة، وإن كانت نافلة غير مقيدة أجزأته نية الصلاة، وهي عبارة ابن الصباغ، وقد أبدى لنفسه احتمالاً في بعض الرواتب، فقال: "عندي أن السنن التابعة للفرائض لا تفتقر إلى [تعيين النية؛ لأن فعلها قبلها وبعدها يعينها. نعم: ركعتي الفجر لابد فيهما من] التعيين؛ فإنها تفعل سابقة للصلاة في أول طلوع الفجر وإن صلى الفرض في آخره، وكذا يصليها-أيضاً- بعد الفريضة إذا تركها. وهذا الاحتمال أقامه الروياني في "تلخيصه" وجهاً في المسألة. ولا جرم حكاه

الرافعي وجهاً عن الأصحاب، ولم ينسبه لأحد، وهذا لا وجه له، فإن فعل الصلاة نفلاً مطلقاً قبل فعل الظهر وبعده وقبل صلاة العصر وبعد صلاة المغرب والعشاء -جائز، فكيف ينصرف ما أتى به بنية الصلاة المطلقة إلى الراتب، خاصة ونحن لا نكتفي في صوم رمضان بمطلق نية الصوم وإن كان الوقت لا يقبل غيره؛ لاحتمال أن ينوي غيره؛ فلا يصح واحد منهما، فكيف بك هاهنا مع أن غير السنة الراتبة تصح فيوقتها. وما فرق به بين الفجر وغيره من الرواتب لا يصلح أن يكون فارقاً؛ لأن سنة الظهر التي [قبله كركعتي] الفجر يجوز فعلها [بعده]، وعلى ما ذكره يقتضي أن تكون ركعتا الفجر عند إطلاق نية الصلاة أولى بالحصول؛ لأن [فعل النفل] المطلق قبل الصبح وقبل صلاة الفجر لا يجوز على وجه ادعى هو: أنه ظاهر المذهب، وبعد صلاة الصبح لا يجوز بلا خلاف؛ فكان حمل مطلق الصلاة في هذين الوقتين على ما يسوغ- وهو ركعتا الفجر- أولى من حملها على النفل المطلق؛ فإن الغالب من المتعبد قصد ما ليس بمكروه. الأمر الثالث: أنه في النافلة غير الراتبة إذا أتى بالنية المطلقة فعل ما شاء، وهو الصحيح من المذهب، ولم يحك القاضي الحسين غيره. وعن الشيخ أبي محمد: أنه يصلي أربع ركعات وما دونها، وفي الزيادة عليها تردد. وقيل: يقتصر على ركعتين. وقيل: بل على ركعة؛ لأنها أقل صلاة عندنا. وما عدا الأول ليس بشيء؛ لأنه مع تعيين عدد الركعات له أن يبلغها ما شاء، وكذا عند الإطلاق. نعم: إن كان المخالف يقول: إنه عند إطلاق النية إذا نوى في

أثناء الصلاة أن يبلغها [أكثر ما] له الاقتصار عليه يجوز أن يفعله كما قلنا عند تعيين العدد، فلما قاله وجه. قال الإمام في كتاب الاعتكاف: والقياس الأول، وهو ما رأيت لشيخي القطع به، والله أعلم. قال: وتكون النية مقارنة للتكبير، لا يجزئه [غير ذلك]. هذا الفصل يتضمن حكمين: أحدهما: أن التكبير لا تنعقد الصلاة بدونه، والدليل عليه قوله -عليه السلام- للمسيء في صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر" رواه البخاري ومسلم، وسنذكر [تتمته]، وقوله -عليه السلام-: "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" رواه أبو داود.

قال الترمذي: وهو أصح شيء روى في هذا الباب. ووجه الدلالة منه: أن ظاهره للحصر؛ فإن العرب تفرق في لغتها بين قول القائل: زيد صديقي وبين قوله: صديقي زيد، في اقتضاء حصر الصداقة في [زيد في] الصورة الثانية دون الأولى، ونظير قولهم في الأولى، ونظير قولهم في الأولى: "التكبير تحريمها"، ونظير قولهم في الثانية: "تحريمها التكبير". والفرق من حيث المعنى: أن المبتدأ ينبغي أن يكون معلوماً للسامع؛ ليصح أن يسند إليه من الخبر ما لعله مجهول للسامع، فالمبتدأ معتمده البيان، والخبر معتمده الفائدة، فإذا قلت: "زيد صديقي" فـ"زيد" معلوم، والصداقة في زعم المخبر هي المجهولة للسامع، فأثبتها له بخبره، وإذا قلت: صديقي زيد، فالصداقة معلومة، والمجهولمحلها، فإذا كان محلها زيداً وغيره، [لم] يحسن الاقتصار على زيد، وهذا معنى ما أبداه الإمام. قال بعضهم: وتمام التقريب فيه: أن المبتدأ لا يصح أن يكون أعم من الخبر، فلو كانت الصداقة ثابتة لزيد وغيره، لكان أعم، ولا يصدق مع العموم كقولك: الحيوان إنسان، وكذلك تحرمي الصلاة لو صح بغير التكبير، لكان التحريم ثابتاً معه وبدونه، فيكون أعم من خبره، ولا يقال: إنا نجعل "تحريمها" خبراً مقدماً، والمبتدأ هو "التكبير"، وحينئذ يكون الخبر هو الأعم؛ لأن المبتدأ والخبر متى كانا بحيث يصح أن يكون كل واحد منهما خبراً عن الآخر: كقولك: زيد أخوك، وأخوك زيد- فإنه يجب فيه حفظ الترتيب؛ دفعاً للبس، وما نحن فيه كذلك. و [الحكم] الثاني: بيان زمان النية في الصلاة، ودليله: أن التكبير أول أفعال العبادة؛ فيجب أن تكون النية مقارنة له؛ كما في الحج وغيره، وخالف هذا الصوم؛ لأنه يدخل فيه بغير فعله؛ فتشق مراقبة أوله، ولا كذلك الصلاة؛ فإنه يدخل فيها بفعله؛ فلا تشق عليه المراقبة، ولا ترد الزكاة والكفارة حيث جوزنا تقدم النية عليهما على وجه؛ لأن [النيابة تجوز فيهما؛ لمشقة تولي ذلك بالنفس، وحينئذ لم

يكن بد من تقديم النية عليهما؛ لأن] في اتفاق إجرائها على نية الموكل تغريراً بماله؛ فلهذا أجزنا تقديم النية. فإن قيل: قد جوزتم النيابة في الحج، ولم تجوزوا تقدم النية. [قلنا: في الحج العبادة فعل النائب، وذلك لا يكون عباد إلا بالنية]، وإذا لم ينو عن غيره وقع عن نفسه؛ فاعتبرت نيته عن المنوب عنه، وهاهنا إنما الواجب هو المال، وهو مال المنوب عنه. ولأن الحج ليس فيه تغرير بماله، بخلاف الزكاة. ثم مقارنة الشيء للشيء تكون حقيقة إذا انطبق أوله على أوله وآخره على آخره، وقد قال بذلك بعض الأصحاب هاهنا فاشترط أن يكون أول النية مع أول التكبير، وآخرها مع آخره؛ أخذاً بظاهر قول الشافعي: "وينوي صلاته مع التكبير لا قبله ولا بعده"، وهذا ما حكاه الإمام عن شيخه وغيره. [و] قال الفوراني والمسعودي: إنه قول المتقدمين من مشايخنا، ولم يورد الغزالي في "الخلاصة" غيره، وهو ظاهر كلام الشيخ، وعبارة بعضهم في حكاية ذلك: أنه لو وزع النية على حروف التبكير فقرن أولها بأوله وآخرها بآخره جاز. قال الروياني في "تلخيصه": وهذا قول أصحابنا المتقدمين. والمذهب الصحيح: أنه لا يجوز ذلك، وكذا قاله القاضي الحين، وهو المحكي في "الإبانة" عن القفال، لكن بين القاضي والقفال اختلاف في علة عدم الجواز: فالقاضي يقول: إنما لم يجز ذلك؛ لأنه حينئذ يفتتح التكبير، ولم يوجد منه جميع النية؛ فقد خلا بعض التكبير وهو من أركان الصلاة عن النية الكاملة؛ فلا يجوز، كما لو نوى بعد التكبير. والقفال قال: لأن النية ليست شيئاً يمتد، أي: حتى يكون لها وسط وأول وآخر وجريان في الضمير على ترتيب، وإنما هي قصد واقع في آن أو لحظة واحدة لا يتصور بسطها.

نعم: الفعل المنوي قد شرطنا أن يكون الناوي حال النية عالماً به وبصفاته، وحصول العلوم بذلك يكون واقعاً في أزمنة في العادة، فإذا حضرت في الذهن، ولم يقع الذهول عن أوائلها توجه القصد إلى العلوم بصفاتها في لحظة واحدة، بلا ترتيب ولا استرسال. وما قاله القفال حسن لا شك فيه، وعلى هذا قول الشافعي: "لا قبله ولا بعده" محمول على ما إذا نوى قبل التكبير، [واستحضر ذلك [ذكراً] إلى أن فرغ من التكبير]؛ صرح بذلك الشيخ أبو علي السنجي، وأبو منصور بن مهران شيخ أبي بكر الأودني، وغيرهما، واختاره القاضي الحسين والمسعودي والفوراني، وإنما كان كذلك حذراً من أن يتأخر أول النية عن أول التكبير. وقولنا: يستحضر ذلك ذكراً، [احترزنا به] عما إذا استصحب ذلك حكماً؛ فإنه لا يكفي، وإنما يكتفي به بعد الفراغ من التكبير إلى آخر الصلاة. وقد وافق هؤلاء القفال على اشتراط تقديم النية على أول التكبير، خالفهم في اشتراط استصحابها إلى آخره، وقال: يكفي أن يكون مستحضراً لها في أوله، ولا يضر

عزوبها في آخره، كما في غسل الوجه في الوضوء، يكفي اقتران النية بجزء من الوجه، ولا يضر عزوبها عند غسل باقيه؛ ولأنا لو قلنا: إنه يلزمه استصحابها ذكراً إلى الفراغ منه، لكان ذلك تكراراً للنية، وذلك لايجب عليه، كما لا يلزمه ذلك إلى آخر الصلاة. قال القاضي الحسين: وهذا لا يصح، بل الصحيح ما قاله الشيخ أبو علي؛ لأن الواجب عليه أن يأتي بالنية عند [افتتاح الصلاة] إلى أن تنعقد له الصلاة، وإنما تنعقد له إذا فرغ من التكبير دون ما إذا أتى ببعضه، وبهذا خالف غسل جزء من الوجه؛ لأن الوضوء انعقد بغسل ذلك الجزء؛ فإنه محسوب من وضوئه. قلت: وإلزام التكرار وارد على القفال؛ فإنه شرط التقدم والاستمرار ذكراً حتى يأتي بجزء من التكبير، وخالف تمام التكبير تمام الصلاة حيث لا يعتبر فيها الاستصحاب ذكراً؛ لأن ذلك يشق، ولا مشقة في استصحابها ذكراً إلى أن يفرغ التكبير. ولأن المصلي مندوب إلى التفكر في قراءة صلاته، ومع ذلك لا يمكن استحضار النية. قال الأصحاب: ويؤيد الفرق بين [الحالين] أن المتيمم لو رأى الماء قبل الفراغ من التكبير، بطل تيممه، دون ما إذا رآه بعد فراغه، والصلاة مما يسقط فرضها بالتيمم. وقد حصل مما ذكرناه في المسألة ثلاثة أوجه ليس [منها شيء] في طريقة العراق، والذي ذكروه وتابعهم القاضي الحسين في أثناء الباب والصيدلاني -كما قال الإمام-: أنه يجوز أن يقدم النية على التكبير، ويستصحبها ذكراً إلى أن يفرغ منه، ويجوز أن يقرنها بأول جزء منه، ويستصحبها ذكراً إلى أن يفرغ منه، وحملوا نص الشافعي على ذلك، فهم فيه موافقون لجمهور المراوزة في اشتراط الاستدامة ذكراً إلى آخر التكبير، ومخالفون لهم في عدم اشتراط التقدم على التكبير، [و] لكنه مستحب عندهم؛ فإن لم يفعله جاز، والمراوزة لا يجوزون ذلك، ويقولون: لا تنعقد الصلاة بدونه، كما صرح به الإمام، وعليه ما سلف. وأجاب القاضي الحسين عن ذلك حين وافق العراقيين في عدم اشتراط التقدم بأن

النية من أركان الصلاة، وأركانها لا تنفصل، ولا تتقدم ولا تتأخر؛ وبذلك يحصل في المسألة أربعة أوجه: أضعفها بالاتفاق الأول، ويليه في الضعف ما صار إليه القفال، والأخيران متعادلان؛ لأن الشيخ أباً علي في طائفة رجح اشتراط التقدم، والعراقيون في طائفة رجحوا وجه التخيير. ونظير الوجهين ما ستعرفه في صفة الحج في محاذاة الحجر: فقوم يشترطون أن يتقدم الشق الذي يجب به المحاذاة على أول جزء من الحجر حتى يمر كل جزء منه على جميع الحجر. وقوم يكتفون بأن يقع جملة الشق في مقابلة جملة الحجر، وهو الموافق لقول العراقيين. ثم ما ذكره العراقيون هنا من التخيير يرجع حاصله إلى أن الواجب اقتران النية بأول جزء من التكبير، واستصحابها ذكراً إلى آخره، وإنما قلنا ذلك؛ لأنه إذا اقتصر عليه أجزأه، وإذا قدم النية على التكبير استصحبها ذكراً إلى آخره، فالمقارنة ثابتة، وهي المعتد بها دون ما قبل التبكير؛ بدليل أنه لا يضر تركه، لكن على هذا شيء سنذكره وجوابه. [ثم] على هذا ينبغي أن يحمل ما ذكره الشيخ من المقارنة، وإن كان ظاهره يقتضي الانبساط كما ذكرناه عن المتقدمين من المراوزة؛ إذ هو الحقيقة، لكن الحقيقة قد يعدل عنها؛ [للقرينة، ويتعين العدول عنها] إلى المجاز عند عدم إمكان العمل، وما نحن يه كذلك؛ لما أسلفناه عن القفال من أن النية لا تقبل البسط. والإمام لما رأى ذهاب المتقدمين من الأصحاب وشيخه إلى القول بتوزيع النية على التكبير مع أنها لا تقبل ذلك-احتاج إلى تأويله وتأويل كل قول أيضاً، فقال: مرادهم من اشتراط بسط أجزاء النية على أجزاء التكبير: بسط أزمنة العلوم -أي: بالمنوي- وهي الأفعال الموصوفة؛ فيبتدئ باستحضار العلوم من: نوع الصلاة، وكونها ظهراً أو عصراً، ونحو ذلك مع التكبير، ثم يقدر تمام حصولها مع أجزاء التكبير، وعند ذلك يجرد القصد إلى ما حضر من العلوم به؛ فينطبق هذا القصد على أجزاء التكبير؛ إذ هو حالة العقد.

ثم قال: ولا يبعد على هذا أن يجوز هذا القائل إخلاء أول التكبير عن افتتاح العلوم بالمنوي إذا كان يتأتى يطبق القصد على أول وقت العقد. قال: ومن اشترط تقديم النية على التكبير فمقصوده: أن يقدم العلوم بما ينويه قبل التكبير، ثم ينطبق القصد على أول التكبير؛ فنه أول الصلاة، فإن خلا عن القصد لم يصح. قال: ومن خير بين التقديم والتأخير آل حاصل كلامه إلى أن التخيير يكون بين إطباق القصد على أول التكبير، وبين إطباقه على أول العقد، لكن مساق هذا التقدير ألا يشترط القائلون باشتراط تقديم النية أو بالتخيير استدامتها ذكراً بعد اقترانها بأول التكبير إلى آخر التكبير كما صار إليه القفال، وقد قالوا: إنه يجب أن يكون مستديماً للنية جملة إلى الفراغ من التكبير. ولا جرم قال الإمام: إن إيجاب استدامة النية إلى آخر التكبير قول [من لم] يحط بحقيقة النية؛ فإن من ضرورة تقديم النية-أي: بالتفسير الذي ذكرناه- أن تنطبق النية على أول التكبير، والمقدم هو العلوم، ثم إذا حضرت العلوم، ووقع القصد، ليس ما يدام نية، وإنما هو ذكر النية، وذكر النية علم بأنها وقعت كما وصفنا وقوعها، وحينئذ فالمراد: دوام العلم بأنه صدر منه النية. والقفال حيث اكتفى بالمقارنة لم يشترط دوام العلم بها إلى أن ينقضي التكبير، ولم يتفطن لهذه الدقيقة من الفقهاء غيره. قلت: وهذا السؤال بعينه يرد على ما ذكرناه أن حاصل مذهب العراقيين يرجع إليه، وقد أجيب عنه بأن المراد من استدامة النية جملة إلى الفراغ، ذكر يجدد قصداً بعد قصد إلى آخر التكبير من غير تخلل زمان، وكما لا يمتنع استمرار العلوم بمعنى تجددها شيئاً فشيئاً بزعمه، لم يمتنع ذلك في المقصود، وحينئذ يستقر ما ذكرناه من التأويل، لكن الشيخ تقي الدين بن الصلاح ادعى أن هذا التأويل فاسد؛ لأن تجديد [النية] الثانية يتضمن إبطال الأولى على ما عرف فيمن كبر في إحرامه للصلاة تكبيرات بنيات متباينات؛ إذ من ضرورة إنشاء عقد حل ما انعقد

قبله؛ لأن المنعقد لا ينعقد؛ فكيف يستقيم إلحاق النيات بالعلوم المتواترة؟! قلت: وهذا فيه نظر: لأن النية الأولى في مسألتنا قبل تمام التكبير لم تتم، وتمامها موقوف عند هذا القائل على تكرارها؛ ولهذا لم يحكم بانعقاد الصلاة قبله، وإذا كان كذلك، فلا يجوز أن يجعل ما يتم به الشيء مبطلاً له، ولا كذلك في الصورة المستشهد بها؛ فإن النية فهيا قد تمت، وانعقدت الصلاة، وعقد المعقود ممتنع؛ فاضطررنا إلى الحكم [بحله]، بخلاف الأول، وحينئذ يستقر ما ذكرناه من التأويل، والله أعلم. وقد سلك صاحب "الغاية" في الرد على الإمام طريقاً آخر، فقال: ما نزل عليه الوجوه بعيد في الفقه والتحقيق: أما من جهة الفقه؛ فلأنه على قول البسط يجوز خلو أول التبكير عن النية، ومن شأن النية أن تقترن بأول العبادة، [وليس له أن يحكم بعطف النية على أول العبادة] كما في الصوم على وجه؛ لأن الصوم استثنى لحاجة لا تحقيق لها هاهنا. وظاهر كلام الشافعي يشعر ببسط النية؛ إذ قال: "ينوي مع التكبير لا قبله ولا بعده". وأما من جهة التحقيق: فلا مانع من بسط النية إلا لكونها عرضاً فرداً، والعرض الرد لا يتصور انبساطه، وذلك لازم في أنواع العلم والذكر؛ لأنها أعراض لا يمكن بسط الفرد منها، فإن عني ببسط العلوم توالي الأمثال؛ [فذلك جوابنا] في بسط النية؛ إذ لا معنى لبسط العرض [واستمراره] إلاتوالي أمثاله. قلت: وما ألزمه الإمام غير لازم؛ لأن الإمام لم يشترط استحضار جميع العلوم في وقت واحد، بل اكتفى بحصولها شيئاً فشيئاً من أول التكبير إلى آخره، وذلك لا يقتضي توالي أمثالها؛ فاندفع هذا السؤال بهذا الطريق، [والله أعلم]. وقد سلك صاحب "الذخائر" في تقرير الوجه الأول الذي قلنا: إنه ظاهر

النص- طريقاً بني الطريقة التي حكاها الإمام والطريقة الأخرى، فقال: النية لا تقبل البسط، وإنما الذي ينبسط على التكبير العلوم، فكلما استحضر علماً جرد القصد إليه إلى أن يتم التكبير، [فإن تم التكبير] قبل تمام الاستحضار لم تنعقد، وإن تم الاستحضار قبل تمام التكبير، فوجهان: أحدهما: يجب استدامة المنوي والقصد، ويصح. والثاني: لا يكفي، ويستأنف. والحق من ذلك [كله] ما رآه الإمام بعد استيفاء المباحث: أن الشرع [ما أراه] مؤاخذاً بما ذكرناه من التدقيق، والغرض المكتفَى به أن تقع النية بحيث تعد مقترنة بعقد الصلاة، فإن تمييز الذكر عن الإنشاء والعلم بالمنوي منهما عسير، لا سيما على عامة الخلق، ولم يكن السلف الصالحون يرون المؤاخذة بهذه التفاصيل، والقدر المعتبر ديناً انتفاء الغفلة بذكر النية حالة التكبير، مع بذل المجهود في رعاية الوقت. فأما التزام حقيقة مصادفة الوقت الذي يذكره الفقيه ما تحويه القدرة البشرية؛ وهذا ما اختاره الغزالي في "الإحياء. قال بعضهم: وهو في الحقيقة [راجع] إلى حمل المقارنة في كلام الشافعي على المقارنة العرفية، لا المقارنة العقلية، وهو حسن بالغ، لا يتجه سواه. وقد أورد بعضهم سؤالاً، فقال: إذا اقترنت النية بآخر التكبير، ولم توجد في أولهن لا يحصل مقصودها على المشهور، فما الفرق بين ذلك وبين ما إذا اقترنت النية باللفظ الآخر في قوله: "أنت طالق" مع أن النية معتبرة في كل من الأمرين؟ وأجاب بان الانعقاد منوط بكل التكبير، والذي يقع به الطلاق ما اشعر به، وهو الكلمة الثانية. فرع: لو كبر ناوياً، ثم كبر ناوياً، نظرت:

فإن كان على وجه السهو، لم تبطل صلاته؛ قاله القاضي الحسين في باب سجود السهو. وإن كان عامداً، قال صاحب "التلخيص": بطلت الأولى، ولم تصح الثانية، فإن كبر ثالثة صحت، ولو كانت التكبيرة الثانية بغير نية لم تضر. قال في "الزوائد": قال القاضي الحسين: قال القفال: ولو كان قد نوى الافتتاح قبل شروعه في الثانية، بطلت الأولى، وصحت الثانية. قال: وإنما كانت نية الافتتاح في الصلاة مبطلة [لها]؛ لأن الافتتاح يقتضي سبق الخروج؛ فجعل كما لو نوى الخروج. ونظيره [ما قاله] الشافعي: لو نكح امرأة يوم الخميس على مسمى، ثم نكحها يوم الجمعة على مسمى آخر يلزمه المهران. قال: والتكبير أن يقول- أي: القادر على القول-: الله أكبر، أي: من غير فصل بينهما؛ لأنه روى أنه-عليه السلام- كان يبتدئ الصلاة [بقوله]: "الله أكبر"، كما روته [عنه] عائشة، ولم ينقل عنه غيرهن وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". فإن قيل: التكبير قول وهو لا يرى. قلنا: المراد كما علمتموني أصلي، والرؤية يعبر بها عن العلم، قال الله تعالى:

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] [أي:] ألم تعلم. وإذا كان المراد العلم، شمل فعله- عليه السلام-وقوله. قال: أو: الله الأكبر؛ لأن ذلك يأتي على معنى قوله: "الله أكبر" وزيادة لا تخل بالمعنى، فألغيت، وصح التكبير، كما لو قال: الله أكبر كبيراً؛ وهذا ما نقله المزني، وحكاه غيره أيضاً. قال القاضي الحسين: وقد حكى أبو الوليد النيسابوري قولاً آخر للشافعي: أنه لا ينعقد به- كما صار إليه مالك-عملاً بما ورد، وبالجملة فالأول: أولى؛ للخروج من الخلاف، واتباعاً للسنة. قال: لا يجزئه غير ذلك، أي: مثل قوله: الله الكبير، أو: الله الجليل، أو: الله العظيم، ونحو ذلك، أو: الرحمن أكبر، أو: الرحيم [أكبر]، ونحو ذلك، أو: الأكبر الله، [أو: أكبر الله]، [ونحو ذلك؛ لما ذكرناه. وقيل: إذا قال: الرحمن أكبر، أو: الرحيم] أكبر- يجزئه؛ حكاه ابن كج، وكذا قيل: يجزئه قوله: "الأكبر الله"؛ لأنه ينطلق عليه اسم التكبير، وقد قال- عليه السلام-: "تحريمها الكبير وتحليلها التسليم"، حكاه أبو الطيب وغيره عن رواية أبي إسحاق في "الشرح"، وصححه. والذي اختاره القاضي أبو حامد وأبو علي الطبري والماوردي والإمام: الأول، وقال البندنيجي: إنه المذهب، ولم يحك القاضي الحسين غيره؛ لأن فيه [تغيير ما] ورد به الشرع من الترتيب؛ فلا يجوز، كما في القراءة. وقال في "الشامل": إن الشيخ أبا علي علله بأنه قدم النعت على المنعوت، وهو لا يجوز، وإن بعض الأصحاب رد عليه ذلك، وقال: هو جائز، كقولك: الخالق الله. قال بعضهم: والتعليل والرد عليه كلاهما فاسد، فإن قوله: "الأكبر الله" ليست بنعت ولا منعوت، وإنما هو مبتدأ وخبر، ولو كان نعتاً لافتقر الكلام إلى خبر؛ لأن

النعت والمنعوت في تقدير مفرد، لا ينتظم منهما جملة، ولأن اسم "الله" معرفة، و"الأكبر" نكرة، ولا ينعت معرفة بنكرة، وقوله: "الخالق الله" مبتدأ وخبر أيضاً، وهذا الوجه قد ادعى المراوزة أنه قول خرج من نصه في "الأم" على أنه إذا قال: "عليكم السلام" أنه يجزئه كما خرج من نصه هنا على [عدم] الإجزاء، إلى ثم قول آخر: أنه لا يجزئ. ومن أقر النصين فرق بأن قوله: "الأكبر الله" لا يسمى تكبيراً، وقوله: "عليكم السلام" يسمى: تسليماً. قال الرافعي: وللقائلين بالتخريج أن يمنعوا هذا الفرق، ويقولوا: إن كان ذلك يسمى: تسليماً، فهذا يسمى: تكبيراً. ثم الخلاف في الانعقاد بقوله: " [الأكبر الله] " هل يجري في قوله:"أكبر الله"؟ فيه طريقان:

أحداهما: نعم، وهي التي أوردها العراقيون كما قال الإمام، ولم يذكر في "المهذب" سواها. والثانية: لا، وهي التي أوردها الماوردي، فقال: لا يجزئه وجهاً واحداً، وهو رأي الشيخ أبي محمد؛ لأن ذلك غير منتظم، بخلاف: "الأكبر الله". قال الإمام: وهذا كذلك غير لائق به مع تميزه بالتبحر في علم اللسان؛ إذ لا يمتنع تقديم الخبر على المبتدأ، ولا خلاف في أنه إذا قال: "الله هو أكبر"، أو "الله أكبار" [أنه] لا تنعقد صلاته، وإن اعتقد ذلك كفر؛ لأن "أكبار" جمع: "كبر"، وهو الطبل. وهل يستحب أن يرتل التكبير أو يجذمه -وهو قطع التطويل [منه]-؟ فيه وجهان في "التتمة"، المذكور منهما في "الشامل": الأول، وفي "التهذيب" مقابله، وإليه يميل كلام المتولي -أيضاً– وقال: إن القائل بمقابله هو القائل ببسط النية على التكبير. ثم التكبير عندنا من الصلاة وهو أولها؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: " [إن] صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، وإنما هي التكبير والتسبيح والقراءة".

و [لأنا نشترط] فيه ما يشترط فهيا؛ فكان كالقراءة؛ وهذا [ما] نص عليه في "الإملاء". قال الروياني: ومن أصحابنا من [قال]: هو أول الصلاة. قال: وبالفراغ منه يخل فيها، وهذا غير صحيح، بل يجب أن يدخل في الصلاة بأول التكبير مع النية حتى يصح قولنا: [إن] التكبير من الصلاة. أما العاجز عن النطق لخرس أو غيره، فالواجب في حقه أن يجريه على لسانه ما أمكن، فإن عجز عنه نواه بقلبه، كما يأتي في صلاة المريض. وقد أفهمك قول الشيخ: "والتكبير أن يقول": [أنه] لابد من القول، وأقله أن يسمع نفسه مع سلامة حاسة أذنه؛ لأن ما دون ذلك خطور، لا قول. وقوله: "لا يجزئه غير ذلك": أنه إذا قال: " [الله] الجليل أكبر"، ونحوه، لا يجزئه، وهو وجه ادعى ابن التلمساني: أنه الصحيح. وقيل: [إنه] يجزئه، وادعى الرافعي: انه الأظهر. والمشهور: أنه إذا طال ما بين الكلامين بأن قال: "الله لا إله إلا هوا لحي القيوم أكبر" أنه لا يجزئه. وقال بعضهم: لا عبرة [بطول] ما بين الكلامين، وإنما العبرة بنظم الكلام في مقصوده. قال: ومن لا يحسن التكبير بالعربية- أي: وضاق عليه الوقت عن التعلم- كبر بلسانه؛ لقوله -عليه السلام-: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، وهذا حد

استطاعته، ولا يجوز [له] أن يعدل إلى ذكر آخر؛ لأنه قادر على أن يأتي [بمعنى التكبير] بلغته، مع أن لفظه ليس بمعجز، ولم يجز أن ينتقل عنه إلى غير معناه؛ وبهذا فارق العاجز عن الفاتحة، لا يأتي بها بلسانه؛ لأن نظمها معجز. وقد أفهم كلام الشيخ تعين الإتيان بالتكبير بلسانه عند العجز بالعربية، والذي حكاه البندنيجي: أنه يجوز له في هذه الحالة أن يكبر بغير لسانه؛ إذ لا فرق بينهما، وهذا وجه حكاه غيره وصححه. وقال في "الحاوي": إن كان لا يحسن العربية، ويحسن الفارسية والسريانية، فبأيهما يكبر؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بالفارسية؛ لأنها أقرب اللغات إلى العربية؛ فعلى هذا لو كان [يحسن] الفارسية وغيرها لا يأتي [إلا] بالفارسية. والثاني: بالسريانية؛ لأن الله -تعالى- أنزل بها كتاباً، ولم ينزل بالفارسية؛ فعلى هذا لو كان يحسن السريانية وغيرها لا يكبر إلا بالسريانية. والثالث: يكبر بأيهما شاء؛ فعلى هذا لو كان يحسنهما، ويحسن غيرهما، كبر بأيهما شاء. وقد ادعى الرافعي: أن العبرانية أنزل بها كتابٌ، وهي حينئذ كالسريانية؛ فيجيء فيها مع الفارسية الأوجه، [وفيها] مع [غير] الفارسية الوجهان، والله أعلم. قال: وعليه أن يتعلم -[أي]: [العربية]- لأن ما لا يتأتى الواجب إلا به فهو واجب. [فإن قيل: لا نسلم أن التكبير بالعربية واجب]؛ لأن الله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15]، والذاكر بغير العربية ذاكر لله تعالى. قلنا: دليل وجوبه قد تقدم من أنه -عليه السلام- لم يكبر إلا بها، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي".

وإذا تقرر [ذلك]، فلو لم يتعلم مع القدرة عليه وأتى به بلسانه، لم تنعقد صلاته إن كان في الوقت سعة، وإن لم يبق في الوقت سعة، كبر بلسانه؛ لحرمة الوقت، وأعاد بعد التعلم. قال الرافعي: وفيه وجه ضعيف: أنه لا يعيد، وهو مستمد مما ذكره عند الكلام فيمن لم يجد ماء ولا تراباً. ثم إطلاق الشيخ وجوب التعلم يقتضي: أنه لا فرق بين أن يكون المعلم في الموضع الذي فيه المتعلم أو غيره، ما إذا كان المعلم في البلد والمتعلم في البادية، وهو المشهور. وقيل: لا يجب على البدوي قصد البلد للتعلم، وهو ما أورده الماوردي لا غير؛ قياساً على قَصْدِهِ لطلب الماء، والأول: أصح. قال الرافعي وغيره: والفرق بين ما نحن فيه والماء: انه إذا وجد الماء لا يقدر على إدامته معه، وتكليفه قصد البلد في كل وقت يشق، ولا كذلك [قصد البلد؛ للتعلم؛ فإنه إذا تعلم دام معه ما تعلم؛ فلا يحتاج بعده إلى قصد آخر. ومما يظهر الفرق بين البابين: أن] العاجز عن الماء في أول الوقت يتيمم وإن قدر عليه في آخر الوقت على الصحيح، ولا كذلك العاجز عن التعلم في أول الوقت وهو يقدر عليه قبل آخره. فإن قيل: لم كان الحكم كذلك؟ قال ابن الصباغ: قلنا: لو جوزنا ذلك لم يتوجه ليه فرض التكبير بالعربية جملة؛ لأنه بعد أن صلى لا يلزمه التعلم في هذا الوقت، وفي الوقت الثاني مثله، ويفارق الماء؛ فإن وجوده لا يتعلق بفعله؛ لأنه ذا وجد الماء بطل تيممه. فرع: كما يجب عليه أن يتعلم العربية؛ لأجل التكبير، يجب عليه أن يعلمها غلامه، وهو مخير بين أن يتولى ذلك بنفسه أو يخليه والاكتساب حتى يكتسب أجرة المعلم، فلو لم يعلمه، واستكسبه، عصى بذلك؛ قاله القاضي الحسين والمتولي.

ثم ما ذكره الشيخ من أنه يكبر [بلسانه، منصرف إلى تكبيرة] الإحرام، [و] في معناها التشهد؛ لأنه ذكر واجب كهي، وليس فيه نظم معجز، وهذا مما لا خلاف فيه. وما عدا ذلك من الأذكار المسنونة: كدعاء الاستفتاح، والتعوذ، وتكبيرات الانتقالات، والتسبيح، والدعاء بعد التشهد- فهل يأتي بها بلسانه عند العجز والقدرة أو عند العجز فقط أو لا يأتي بها؟ اختلف فيه نقل الأئمة: فالذي حكاه القاضي الحسين عن المراوزة: أنه لا يأتي بها عند القدرة على العربية [إلا بالعربية]، ونسبه [في "التتمة"] إلى قول بعض الأصحاب، وأن القفال اختاره، وفرع عليه: أنه لو أتى بذلك بلسانه عمداً، بطلت صلاته، وكذا هو في "الإبانة"، وقاسه على ما لو تكلم عامداً. وعن العراقيين: أنه يجوز أن يأتي بذلك بلسانه، والأولى أن يأتي بها بالعربية. وعند العجز عن العربية على مذهب العراقيين يجوز، وعند المراوزة هل يجوز أنا يأتي به بلسانه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز [كما] في تكبيرة الإحرام والتشهد، وهذا ما صححه البغوي. والثاني: لا؛ لأنها ليست واجبة، بخلاف التكبير والتشهد، فلو فعل ذلك بلسانه بطلت صلاته. قال القاضي الحسين: والوجهان صدورهما من لفظ الشافعي حيث قال -يعني: في "المختصر" [بعد] ذكر التكبير-: "وكذلك الذكر، وعليه أن يتعلم"، [وهو يحتمل أنه أراد به التشهد دون التسبيحات؛ لأنه قال: "وعليه أن يتعلم"، وإنما يجب تعلم التشهد دون سائر الأذكار. ويحتمل أنه أراد به الكل؛ لأن اسم الذكر ينطبق على الكل، وقوله: "وعليه أن يتعلم"] ينصرف إلى التشهد، والاحتمال الثاني هو المحكي في "الحاوي"، وكذا في "الشامل"، وقال: إنه فسره في "الأم" كذلك. وإن جمعت ما ذكرناه واختصرت، قلت: هل يجوز أن يأتي بالأذكار المسنونة في

الصلاة، وكذا الدعاء المشروع فيها بغير العربية؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كان يحسن العربية، فلا يجوز إلا بها، وإلا جاز بغيرها؛ وهذا أصحها بالاتفاق. وادعى الغزالي أنه لا يجوز أن يدعو بالعجمية بحال. وأما سائر الأذكار المسنونة: كدعاء الاستفتاح، والقنوت، وتكبيرات الانتقالات، وتسبيحات الركوع والسجود-فهل يأتي بها بالعجمية عند العجز عن العربية؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: ما يجبر تركه بالسجود يأتي بترجمته، وما لا فلا. وعبارة الإمام تقتضي أن الممنوع من إتيانه بغير العربية هو الدعاء المخترع في الصالة لا ما هو مسنون يها؛ فإنه قال: ليس للمصلي أن يخترع دعوة بالعجمية، ويدعو بها في صلاة وإن كان له أن يدعو بغير الدعوات المأثورة بالعربية. ثم حكى الأوجه الثلاثة في الأذكار المسنونة، وذلك مشعر بجريان الأوجه في الأدعية المسنونة في الصلاة. قال الرافعي: وبه صرح غيره من الأصحاب؛ فليحمل ما أطلقه الغزالي [على] من منع الدعاء بالعجمية على ما يخترعه المصلي؛ كما صرح به الإمام. قال: ويجهر بالتكبير إن كان إماماً؛ ليسمع من خلفه، فيتبعه. قال الأصحاب: ورفع المرأة صوتها إذا أمت نسوة دون رفع الرجل صوته؛ خشية افتتان من يسمعها من الأجانب. أما المأموم فيستحب له الإسرار به؛ لئلا يشوش على غيره، فلو هر به كان مكروهاً، وإسماعه نفسه -كما تقدم-واجب. قال: ويرفع يديه مع التكبير، أي: فيكون ابتداء الرفع مقروناً بابتداء التكبير؛ لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير. [ووراء] ما ذكره الشيخ وجهان يأتيان من بعد. قال: حذو منكبيه، أي: بحيث لا تجاوز أطراف الأصابع طرف المنكبين؛ [كما] قاله الإمام؛ لما روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه

حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة. وقد روي عن أبي حميد الساعدي: أنه قال في عشرة من الصحابة: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فاعرض، قال: كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي [بهما] منكبيه، ثم يكبر حتى يقر كل عظم موضعه معتدلاً، ثم يقرأ، ثم يكبر فيرفع يديه حتى يحاذي [بهما] منكبيه، ثم يركعن ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدلن فلا يصوب رأسه ولا يضعه، ثم يرفع رأسه، ويقول: "سمع الله لمن حمده" ثم يرفع يديه حتى يحاذي منكبيه معتدلاً، ثم يقول: "الله أكبر"، ثم يهوي إلى الأرض، يجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه، ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعة كبر، فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما كبر عند افتتاح الصلاة، ثم يفعل ذلك في بقية صلاته، حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم، أخرج رجله اليسرى، وقعد على شقه الأيسر، فقالوا: صدقت، هكذا كان يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مالك في "الموطأ"، والترمذي، وقال: إنه حسن صحيح. وفي لفظ رواه البخاري، قال: فإذا رفع رأسه، استوى قائماً حتى يعود كل فقار

مكانه، فإذا سجد سجد غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، فإذا جلس في الركعتين، جلس على اليسرى، وجلس متوركاً على شقه الأيسر، وقعد على مقعدته. وقيل: ينبغي أن يرفعهما إلى حيث تحاذي رءوس أصابعه أذنيه؛ لرواية وائل بن حجر: أنه لما بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه لحذو أذنيه. وقيل: ينبغي أن يرفعهما بحيث تحاذي أطراف أصابعه أذنيه، وكفاه منكبيه، وإبهامه شحمة أذنيه، وهو ما حكاه المتولي، وقال القاضي الحسين: إنه الأولى. فإن لم يفعل ذلكن فالسنة عندنا أن يرفعهما إلى حذو المنكبين، وإنما قلنا: إن ذلك أولى؛ لأن فيه جمعاً بين الأخبار. وقد قيل: إن الشاعي لما قدم العراق اجتمع عنده أحمد والكرابيسي وأبو ثور، فسئل عن أحاديث الرفع، وأنه روي عنه -عليه السلام- أنه رفع حذو منكبيه، وحذو أذنيه، وحذو شحمة أذنيه؟ فقال: أرى أن يفعل ما ذكرناه. فاستحسن [ذلك منه] في الجمع بين الروايات، وهي كلها في "سنن أبي داود".

وفي "تعليق القاضي الحسين": أن الشافعي هو السائل عن الجمع بين الروايات، والمجيب بما ذكرناه عند عجزهم عن الجواب، وأنهم استحسنوه. فرع: لو كان بيديه علة تمنعه من ذلك، رفعهما إلى حيث يمكنه، ولو كان ذلك بإحدى يديه، رفع الصحيحة كما سلف، والأخرى إلى حيث يمكنه، فلو كان يقدر على الرفع فوق ما ذكرناه ودونه، ولا يقدر على القدر المستحب، أتى بما فوق؛ لأنه أتى بالسنة وزيادة. ولو كان مقطوع الكفين، رفع الساعد. ولو كان مقطوع المرفق، رفع عظم العضد في أصح الوجهين. قال: ويفرق أصابعه؛ لما روى [أبو هريرة] أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر نشر أصابعه. رواه الترمذي. ولأنه أشبه بالتخوية في السجود، والمعنى فيه: أن يكون لكل عضو استقلال في العبادة بصورته. [و] قال الغزالي: لا يتكلف ضمها ولا تفريجها، أي: بل يتركها على حالها. وقال القاضي الحسين: إنه يتركها بين بين، ويستحب إذا رفعها أن يكشفها وينشرها. قال في "التتمة": وينبغي قبل رفع اليدين والتكبير أن ينظر إلى موضع سجوده، و [يطرق برأسه] قليلاً، ثم يرفع يديه، ويكبر. قال: فإذا انقضى التكبير حط يديه؛ لأن الرفع كان لأجله؛ فزال بفراغه، وما ذكره

الشيخ هو المحكي في "تعليق البندنيجي" عن نصه في "الأم". وقيل: ينبغي أن [يفرغ من] يديه مع فراغ التكبير كما بدأ برفعهما معه؛ لأن الرفع لأجل التكبير، وهذا ما حكاه في "المهذب" وقال: إنه لو سبق بيديه أثبتهما مرفوعتين حتى يفرغ من التكبير؛ نص عليه في "الأم". وعن أبي إسحاق وأبي علي أنه يكون انتهاء الرفع مع انتهاء التكبير، وهو خلاف النص. وقيل: يرفع يديه من غير تكبير، ويرسلهما بتكبير؛ لرواية أبي حميد الساعدي السالفة. وقيل: يرفعهما قبل التكبير، ويكبر وهما قارَّتان، ثم يرسلهما بعد الفراغ، رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، واختاره البغوي. وهذان [الأخيران وما] حكيناه عن "المهذب"، حكاهما الغزالي وغيره عن المراوزة. ثم من الأصحاب من يرى الأوجه اختلافاً، قال الإمام: وكان شيخي يقول: ليس

هذا اختلافاً في المستحب، بل صحت الروايات كلها؛ فبأيها أخذ كان إتياناً بالسنة على نسق واحد. فرع: لو نسي الرفع ثم ذكره بعد الفراغ من التكبير، لا يأتي به؛ لفوات محله. وإن ذكره قبل انقضاء التكبير، أتى به، كذا قاله البندنيجي والقاضي الحسين. ثم لا فرق في ذلك بين أن يكون التكبير من قيام، أو في حال القعود، أو الاضطجاع في الفريضة أو النافلة؛ لأنه لا عسر فيه، وكذا لا فرق فيه بين الإمام والمأموم، [والمنفرد] والرجل والمرأة. قال: وأخذ كوعه الأيسر بكفه الأيمن؛ لما روى قبيصة بن هُلْبٍ عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنا، فيأخذ شماله بيمينه. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو واضع شماله على يمينه، فأخذ بيمينه فوضعها على شماله، رواه أبو داود.

وروي أنه -عليه السلام- قال: "ثلاث من سنن المرسلين: تعجيل الفطر، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة".

قال الشافعي في "الأم": "والقصد من ذلك تسكين يديه، فإن أرسلهما، ولم يعبث، فلا بأس به"؛ [كذا] حكاه ابن الصباغ، ونسب المتلوي هذا إلى أبي إسحاق المروزي بعد أنا قال: ظاهر المذهب: أن إرسال اليدين مكروه. ثم له في كيفية أخذ الكوع طريقان: أحدهما: أن يبسط أصابعه على عرض المفصل. والثاني: أن ينشرهما في صوب ساعد اليسرى. وهو في الحالين قابض على كوعه، ويده اليمنى عالية، والكيفيتان نقلتا عن القفال، وانه كان يخير بينهما. قال الرافعي: ويحكي ذلك عن أبي إسحاق أيضاً. قال: وجعلهما تحت صدر؛ لأنه روي في قصة وائل بن حجر أنه -عليه السلام- وضع يده المنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد، ثم وضعهما تحت صدره، وقد جاء في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أي:

ضع اليمنى على اليسرى تحت النحر؛ حكاه أبو الطيب عن ابن عباس وعن علي ابن أبي طالب، رضي الله عنهما. وقال أبو إسحاق: يجعلهما تحت سرته؛ لأنه روي عن علي أنه قال: "من السنة وضع اليمين على الشمال تحت السرة" رواه أحمد وأبو داود. وقال ابن المنذر: إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في ذلك؛ فهو بالخيار: إن شاء جعلهما تحت السرة، وإن شاء جعلهما فوقها؛ حكاه أبو الطيب. وفي "النهاية" أن الشيخ أبا بكر -يعني: الصيدلاني-قال: لم أر ذلك-[أي: الوضع تحت الصدر] منصوصاً عليه للشافعي في شيء من كتبه، ولكن الأئمة اعتمدوا فيه نقل المزني، وقالوا: لعل ما نقله اعتمد فيه [على] سماعه من الشافعي. قال: وجعل نظره إلى موضع السجود؛ لأنه روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استفتح الصلاة لا ينظر إلا إلى موضع سجوده. وقد قيل: إن أبا طالب العُشاري روى في "الأفراد" عن بعض الصحابة قال:

قلت [لرسول الله]: أين أجعل بصري في صلاتي؟ قال: "موضع سجودك" قال: قلت]: يا رسول الله، إن ذلك لشديد، قال: "ففي الفريضة إذن". ثم ظاهر هذا أنه لا فرق فيه بين حال القيام والركوع والسجود والجلوس، وهو المذهب. وفي "التتمة" وجه آخر: أنه ينظر في قيامه إلى موضع سجوده، وفي ركوعه إلى قدميه، وفي سجوده إلى أنفه، وفي القعود إلى حجره؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين قبيل الكلام في التشهد. وقال الماوردي: إنه ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده، وفي حال جلوسه إلى حجره. وسكت عن بقية الحالات. ولا منافاة بين ذلك وبين ما ذكره الشيخ؛ لأن كلام الشيخ مفروض في حال القيام، وقد حكاه المتولي في موضع آخر عن نصه في "البويطي"، ثم قال: "وهذا في حال القيام، فأما في حال الركوع، فينظر إلى قدميه ... " وساق بقية ما أسلفناه. واعلم أن حط اليدين بعد الرفع من الركوع، هل يكون على وجه الإرسال، ثم بعد ذلك يقع أخذ اليسار باليمين، أو يحطهما واضعاً يده اليمنى على اليسرى؟ اضطرب فيه كلام الأئمة: فكلام الغزالي في "الإحياء" مصرح بالأول، وعليه يدل قوله في "الأم": "وليس إرسال اليدين من هيئات الصلاة، ولكن يتوصل بها إلى الهيئة التي هي وضع اليمين على الشمال". وكلام صاحب "التهذيب" وغيره مشعر بالثاني. قال: ثم يقول: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شركي له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين"؛ لأنه روي عن علي-كرم الله وجهه-أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة كبر، ثم قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، [إن صلاتي] ... " إلى أن قال:

"وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين" أخرجه مسلم. وإنما قال ذلك؛ لأنه أول مسلمي هذه الأمة، وغيره لا يقول ذلك بل، يقول ما ذكره الشيخ؛ لأنه ليس أول المسلمين. ثم معنى قوله: "وجهت وجهي" أي: قصدت بعبادتي؛ أنشد الفراء: أستغفر الله ذنباً لستُ محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل يعني: إليه القصد والعمل. وقوله: "للذي فطر السموات والأرض" أي: خلقهما. وقيل: الفطر: الاختراع. قال ابن عباس: "ما كنت أعرف معنى "الفاطر" حتى اختصم إلى رجلان في بئر، فقال أحدهما: فطرها أبي، أي: اخترعها". وقوله: "حنيفاً" أي: مائلاً [إلى الإسلام]؛ إذ أصل "الحنف": الميل. قال أبو عبيد: "الحنيف" عند العرب: ما كان على دين إبراهيم عليه السلام. ولا جرم قال: مسلماً. والنسك: التقرب. ورب العالمين: مالك الجن والإنس. واعلم أن ما ذكره الشيخ من دعاء الاستفتاح هو ما ذكره المزني في "المختصر" لا غير، وقد روى مسلم وأبو داود في تتمة حديث علي [بن أبي طالب] أنه -عليه السلام- كان يقول بعد ذلك: "اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي؛ فاغفر لي ذنوبي جميعاً؛ إنه لا يغفر

الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك". وقال الشافعي [في "الأم"]: وبهذا قولي في الفرض والسنة، وبه آمر، وأحب ألا يغادر منه شيئاً، فإن زاد فيه شيئاً أو نقص، كرهتهن ولا سجود عليه؛ كذا حكاه البندنيجي والروياني في "تلخيصه"، ونقلاً عن المزني أنه قال: معنى قوله-عليه السلام- في الخبر: "والشر ليس إليك"، أي: لا ينسب إليك وإن كنت فاعله، كما لا يقال: خالق القردة والخنازير، وإن كان خالقهما. وقال محمد بن خزيمة: معناه: لا يتقرب به إليك، وهو ما حكاه القاضي الحسين، وقال: إنه منقول عن الفضل بن شميل، وبه قال الخليل. وقيل: معناه: والشر ليس يصعد إليك؛ قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]. وقد زعم بعضهم أن الشافعي لم يقل إلا ما حكاه المزني في "المختصر"، فقال: إنما اقتصر الشافعي على ذلك؛ لطول ما بعده، ولاشتماله على مقاصد تأتي على جملة ما اشتمل عليه الحديث بكماله مع لطائف لم يتضمنها آخره المتروك. والأحسن في تأويله: أن الشافعي اقتصر في "المختصر" على ذلك؛ لأنه يعم كل مصلّ: من إمام، ومنفرد، وما ذكره في "الأم" من تتمة الحديث مخصوص -كما قال الأصحاب- بالمنفرد دون الإمام، إلا أن يؤثر من خلقه التطويل، وسيأتي نظيره ودليله. فإن قيل: قد روى مسلم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، وهذا يدل على أنه لم يكن يأتي بالدعاء.

قلنا: خبرنا مثبت، وهذا تضمن النفي، والمثبت مقدم [على النافي]؛ على أنا نحمله على افتتاح قراءة الصلاة؛ للجمع بين الحديثين، وقد جاء مثل ذلك في قوله -عليه السلام-: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"، وأراد قراءة الفاتحة. فإن قيل: قد روت عائشة: أنه -عليه السلام- كان إذا افتتح الصلاة، قال: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك" أخرجه

الترمذي؛ فلم رجحتم ما ذكرتم عليه؟ قلنا: لأن طلق بن غنّام انفرد به، وليس بالقوي، وحديثنا أليق بالمحل، وأكثر ألفاظه ألفاظ القرآن، وهو يشتمل على أنواع، وذلك نوع واحد، على أن القاضي الحسين قال: إنا نستحب أن يجمع بين ذلك في الدعاء؛ فيبدأ بما روته عائشة، ثم يقول: "وجهت وجهي ... " إلى آخره. قال الرافعي: وهذا يحكي عن القاضي أبي حامد وأبي إسحاق وغيرهما. وحكى الروياني عن الطبري: أن المستحب أن يقول في التوجيه: "الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وجهت وجهي ... " إلى آخره. قلت: وفي هذا مع ما حكيناه عن نص الشافعي في "الأم" نظر. فرع: المسبوق إذا كبر تكبيرة الإحرام، والإمام في التشهد الأخير، وجلس، ثم سلم الإمام، قام، وأتى بالفاتحة، ولا يأتي بالدعاء؛ [لأنه يؤمر] به من يفتتح الصلاة، وبجلوسه مع الإمام ذهب الافتتاح، نعم، لو سلم الإمام عقيب تحرم المأموم أتى به، وكذا لو كان تكبيره عند قول الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقال: آمين، له أن يأتي به. قال القاضي الحسين: لأن قوله: "آمين" دعاء، والدعاء لا يمنعه من الإتيان بدعاء آخر. قال: ثم يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". الأصل في استحباب التعوذ عند إرادة قراءة القرآن في الصلاة وغيرها قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] والسبب في ذلك أنه- عليه السلام-كان قرأ سورة "والنجم" في صلاة الصبح، فلما بلغ قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 19، 20] ألقى الشيطان في أمنيته-أي: في قراءته، لا على لسانه-: "تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجي"؛ ففرح به المشركون، وقالوا: إن محمداً أثنى على آلهتنا؛ فأنزل الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية [الحج: 52]،

[ونزل] قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. قال القاضي الحسين: ومن أصحابنا من قال: إن ذلك اللفظ جرى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم سهواً، والصحيح: أنه لم يجر على لسانه؛ لأنها كلمة كفر، بل ألقى الشيطان تلاوته. فإن قيل: إن الآية تقتضي أن الاستعاذة بعد القراءة. قلنا: في الآية محذوف، والتقدير: إذا أردت قراءة القرآن؛ تنزيلاً للمشرف على الشيء منزلة المباشر له؛ كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6]، وقوله -عليه السلام-: "من قتل قتيلاً فله سلبه"، وقد روى نافع بن جبير بن

مطعم عن أبيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم [يصلي]، فقال: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه" وقال: ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر، وهمزه: الجنون. وعن أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام يقول: "أعوذ بالله [السميع العليم] من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه [ونفثه] "ثم يقرأ". فإن قيل: هذا الخبر يقتضي خلاف ما ذكرتم من [صيغة] التعوذ. قلنا: لا شك أن كلا منهما جائز مؤد للغرض، وكذا كل ما يشتمل على الإجارة بالله من الشيطان الرجيم؛ كذا قاله الرافعي. وقال الماوردي: الأولى ما ذكره الشيخ، ثم يليه في الأولوية ما رواه أبو سعيد الخدري، ثم يليه قوله: "أعوذ بالله العلي من الشيطان الغوي" ثم معنى "أعوذ": ألتجئ، والشيطان: من شطن الشيء؛ إذا بعد، وإبليس بعيد من الخير. وقيل: إنه مأخوذ من: شاط؛ إذا احترق، وإبليس كذلك مآلاً. والرجيم: المطرود، وهو "فعيل" بمعنى "مفعول". قال: ويقرا فاتحة الكتاب؛ لما روى مسلم عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن". وروى البخاري ومسلم أنه قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب".

وروى الشافعي بإسناده عن رفاعة بن رافع: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي أساء في صلاته حين قال: علمني يا رسول الله كيف أصلي؟ قال: "إذا توجهت إلى القبلة، فكبر، ثم اقرأ بأم الكتاب، وما شاء الله أن تقرأ" وهذا أمس في الدلالة من الأولين؛ لأنه يقتضي قراءة الفاتحة في الركعة الأولى، والأولان يقتضيان قراءتها في الصلاة، وظاهرها نفي الصلاة [عند انتفاء قراءتها فيها، لا نفي الكمال، وهو حجة على أبي حنيفة، حيث لم يعينها في الصلاة]، ويؤيد ذلك رواية سفيان عن العلاء بن عبد الرحمن [عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم] قال: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب"، ذكره ابن المنذر. وفي رواية الدارقطني: "لا تجزئ صلاة إلا بفاتحة الكتاب". وسنذكر في الباب بعده- إن شاء الله تعالى- ما يتم به الاحتجاج عليه. قال العلماء: [وسميت {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة]؛ لافتتاح قراءة الصلاة والقرآن بها.

وسميت [بأم الكتاب]؛ لأنها أوله، وأصله، وكذلك سميت مكة: أم القرى؛ لأنها أول الأرض وأصلها، ومنها دُحِيت. وسميت: السبع المثاني؛ لأنها سبع آيات، وتثنى في الصلاة، أو ثني نزولها، أو تثني البطلة، أو هي قسمان: ثناء، ودعاء، أو من الاستثناء، لأنها استثنيت لهذه الأمة. وقيل: لأن أكثر كلماتها مثنى. و [قد] قيل: إن السبع المثاني في الآية: السبع الطوال من البقرة إلى النفال مع التوبة، وقيل: غير ذلك. والصحيح: الأول؛ لأنه جاء في صحيح البخاري وغيره: أن [أبا] سعيد بن المعلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثاني التي أوتيت والقرآن العظيم". ثم القراءة تحصل بأن يحرك لسانه بحيث يسمع نفسه عند عدم علة به. قال الشافعي: [و] لا يجزئه أن ينطق بصدره ولا ينطق بلسانه. قال القاضي الحسين: لأن ذلك فكرة، وليس بقراءة. وحكى عن أبي إسحاق أنه قال: ما ناظرت عاميّاً قط إلا وغلبني، إلا في هذه المسألة؛ فإنه قال لي أعرابي ببغداد: أنت تقولك يقرأ بحيث يسمع نفسه، وأنت تقرأ في الصلاة ولا نسمع قراءتك، فقلت له: أنا قلت: يسمع نفسه، ونفسك ليست بنفسي، فسكت. قال: أولها: "بسم الله الرحمن الرحيم".

قال الإمام -وتبعه الغزالي-: لأن محمد بن إسماعيل البخاري روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "عد فتاحة الكتاب سبع آيات"، وعد {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} [الفاتحة: 1] آية منها. قيل: وهذا الخبر لا يوجد في كتابه المشهور، بل هو في "تاريخه"، نعم، روى الدارقطني في "سننه" من حديث أبي بكر الحنفي [عن الحميد] بن جعفر بسنده إلى أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قرأتم {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فاقرءوا: {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ}؛ إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني. و {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} أحد آياتها". وروي عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بفاتحة الكتاب في الصلاة {بِسْمِ اللهِ

الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} [الفاتحة:1] آية، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] [آيتين] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: الآية1] ثلاث آيات، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] أربع آيات، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وجمع خمس أصابعه.

وروى هذا الحديث البويطي، وقال: حدثني غير واحد عن حفص بن غياث عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم عد {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} آية و {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [آية] ... ست آيات"؛ وبهذا قال علي وابن عباس وابن عمر وابن الزبر، ولا مخالف لهم من الصحابة. ونقل القفال أن أبا نصر المؤذن، قال: اتفق قراء الكوفة وفقهاء المدينة على أن البسملة آية من الفاتحة، وقال قراء المدينة وفقهاء الكوفة: [إنها ليست منها. فإن قيل: قول فقهاء الكوفة] يؤيده رواية مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وروى -أيضاً- عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا نهض في الثانية، استفتح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وروايته-أيضاً-عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج-ثلاثاً-غير تمام" فقيل لأبي هريرة: إنا تكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] قال الله: أثنى على عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال: مجدني عبدي-وقال مرة: فوض إلي عبدي- وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، قال: هذا بيني وبين

عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل". وهذا الخبر أقوى في الاستدلال على أنها ليست منها، وألا لكانت آيات الثناء أربعاً ونصفاً. وأيضاً: فإن فيما ذكره الشافعي إثبات قرآن بالظن، وطريق إثبات القرآن القطع. قيل: الجواب عن الخبرين الأولين: أن مراد راوييهما: أنه قرأ السورة الملقبة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، لا أنه قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وما رواه الدارقطني عن ابن عبد الله بن مغفل عن أبيه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرؤها" معارض

بقول ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بـ {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ}، كذا رواه الترمذي، وبما رواه الدارقطني عن نعيم بن عبد الله

المجمر، قال: "صليت خلف أبي هريرة، فقرأ {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} حتى إذا بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}، قال: آمين، فقال الناس: آمين ... " وذكر الحديث، ثم قال في آخره: "والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هذا أولى؛ لأنه إثبات؛ فهو مقدم على النفي؛ لاحتمال أن يكون

النافي بعيداً لم يسمع، أو تركت القراءة لعلة حصلت في وقت اقتدائه [به] عليه السلام. والجواب عن الخبر الثالث: أن ترك عدها فيه إنما يدل لو كان ذكر ذلك لغرض يتعلق بحقيقة "الفاتحة"، أو بالكمية، والظاهر أنه ذكر ذلك لبيان انقسام الصلاة إلى ما هو لله سبحانه وتعالى وإلى ما هو للعبد؛ فلذلك قال: "قسمت الصلاة"، ولم يقل: "قسمت القراءة" أو الفاتحة، ثم تنصيف الشيء قد يكون بغير جزأين متساويين في المقدار؛ قال-عليه السلام-: "تعلموا الفرائض، وعلموها الناس؛ فإنها نصف العلم"، وقال في الوضوء: "إنه شطر الإيمان"، ويؤيد ذلك أن النصف باعتبار الكلمات والحروف غير معتبر، على أنه قد جاء في بعض طرق الحديث: "إذا قال العبد: {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ}

يقول الله تعالى: ذكرني عبدي"، لكن هذه الرواية أثبتها عبد الله بن زياد بن سمعان، وهو متروك عند مالك وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم، ولو سلم عن ذلك، لاستغنينا عن الجواب. ثم الذي يشترط في إثباته القطع هو متن القرآن، وليس ذلك محل النزاع؛ فإن البسملة من القرآن في "النمل" بالإجماع، وإنما النزاع في إثبات محل، فلم قلتم: إنه يشترط في مثله القطع؟ وإذا ثبت أنها آية منها، كانت الآية السابعة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ...} إلى آخرها، ومن لم يجعلها آية منها، قال: الآية السادسة {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، والسابعة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ...} إلى آخرها، كل سورة -أيضاً- إلا "براءة"؛ كذا قاله أبو الطيب، وحكى ابن الصباغ أن الشيخ أبا حامد حكى قولاً آخر: أنها من "الفاتحة" و"النمل] فقط، و [كذا] حكاه البندنيجي. وابن القطان حكاه عن [رواية بعض الأصحاب، وقال: لا يعرف هذا. والإمام ومن تبعه حكوه عن رواية] الشيخ أبي بكر الصيدلاني. [والذي جزم به في "الحاوي": الأول]، وهو الصحيح باتفاق الأصحاب، واختلفوا في طريق إثباته: فمنهم من قال: طريقه القطع. ومنهم من قال: طريقه الظن. وهذا ما حكاه القاضي الحسين والماوردي وغيره، وقالوا: [هل] هي من أول كل سورة حتى "الفاتحة" قطعاً أو ظناً؟ فيه خلاف: الذي صار إليه ابن أبي

هريرة الأول، والجمهور على الثاني، وهو الصحيح. وحجة ابن أبي هريرة ما روي أنه لما كثر القتل في المسلمين يوم اليمامة في قتال مسيلمة، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: أرى [أن] القتل قد كثر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أخشى أن يذهب القرآن جميعه، فقال أبو بكر لزيد بن ثابت: أجمعه، فجمعه زيد بمحضر من الصحابة ووفاقهم في مصحف، فكان عند أبي بكر مدة حياته، [ثم عند عمر بعده]، فلما مات دفعه إلى ابنته حفصة حتى قدم حذيفة بن اليمان من العراق على عثمان، وذكر له اختلاف الناس في القرآن، فأخذ عثمان المصحف من حفصة، وكتب منه ست نسخ، وأنفذ كل مصحف إلى بلد، وأمر الناس بالرجوع إليه، فأجمعوا على ما بين الدفتين قرآنا، وكانت {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} مكتوبة في أول كل سورة بخط المصحف، إلا "براءة"، وكتابتها بخط المصحف: إما أن يكون لأنها قرآن في موضعه، أو لفاتحة كل سورة أو لخاتتها، أو للفصل بين السورتين، أو للتبرك، ولا يجوز أن [يكون] كتابتها بسبب الافتتاح؛ لأنهم تركوها في أول "براءة"، ولا يجوز أن يكون كتبوها للخاتمة؛ لأنهم تركوها في خاتمة "الأنفال" وخاتمة "الناس"، [ولا يجوز أن تكون للفصل]؛ لأنهم لم يفصلوا بها بين "الأنفال" و"براءة"، وكتبوها في "الفاتحة"، وليس هناك ما يحتاج إلى الفصل، ولا يجوز أن تكون للتبرك؛ فإنه لا شيء أبرك من كلام الله تعالى؛ ولهذا لم يبدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأ آية الإفك؛ فعلم أنهم إنما كتبوها في [أول] [كل]

سورة؛ لأنها قرآن هناك. فإن قيل: قد أثبت في المصحف أسماء السور والأعشار، ولم يدل ذلك على أنه من القرآن. فجوابه: أن هذا أمر ابتدعه الحجاج في زمانه؛ فلم يكن به اعتبار، ثم ذلك مكتوب بغير خط المصحف، بخلاف البسملة. وحجة الجمهور: ما رواه مسلم عن أنس بن مالك قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا، إذا أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: "نزلت علي آنفاً سورة"، فقرأ: {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ * إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3]. وروى أبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف فصل كل سورة حتى ينزل عليه: {ِبسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ}. فإن قيل: قد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1]، وقد أجمع القراء

على أن تبارك ثلاثون [آية] سوى البسملة. قيل في جوابه: النبي- عليه السلام- قصد عد الآي التي تختص بها دون البسملة التي هي مبتدأ كل سورة، وبهذا يقع الجواب عما ورد من نحو ذلك. التفريع: إن قلنا بما قاله الجمهور، [فثمرة] كونها من أول كل سورة: أنه إذا تركها، لم يكن [قد] قرأ السورة بجملتها؛ فلا يخرج عن نذره، ولا يبر يمينه؛ إن كان قد حلف على قراءة سورة من القرآن، ولاتصح صلاته إذا تركها من الفاتحة؛ وهكذا الحكم فيما إذا قلنا بقول ابن أبي هريرة. وفي "الزوائد": أن صاحب "الفروع" قال: إذا قلنا: إنها آية قطعاً، كفَّرنا رادَّها، وفسقنا تاركها. والذي حكاه ابن الصباغ والمحاملي وغيرهما من أهل الطريقين القطع بعدم تكفير من ردها؛ لحصول الشبهة بالاختلاف، وكيف يقال بكفره، والإمام مالك -رحمه الله- هو المخالف. وقد أنكر ابن مسعود كون المعوذتين من القرآن، وقال: إنهما عوذتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكفر لأجل الشبهة. وعلى كل حال، فهل هي في أول كل سورة غير "الفاتحة" و"براءة" آية مستقلة أو آية مع غيرها؟ فيه قولان أو وجهان:

أحدهما: أنها بعض آية، ويدل عليه خبر أبي هريرة في سورة "تبارك"، والشيء من القرآن قد يكون آية في موضع، وبعض آية في آخر؛ كقوله تعالى: {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ}؛ فإنها آية في "الفاتحة"، وبعض آية من غيرها في قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10]، وفي قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45]. ووجه مقابله-وهو ما ادعى الروياني في "تلخيصه" أنه ظاهر المذهب: أنها تقرأ في أول كل سورة كما تقرأ في أول "الفاتحة"،وتكتب في أولها كما تكتب في أول "الفاتحة"؛ فكانت منها كهي من الفاتحة. وأيضاً: فقد روي عن ابن عباس أنه قال: "من ترك {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية". وفي "التتمة" حكاية طريقة أخرى: أن كل سورة آخر آيها بالياء والترادف مثل: البقرة وغيرها فـ {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} منها [آية كاملة]، وكل سورة آخرها على نمط آخر مثل سورة اقتربت، فـ {بِسْمِ اللهِ} بعض آية، اعتباراً لآخر [الآيات]. قال: ويرتل القراءة؛ لقوله تعالى: {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 4]، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يسرع في القراءة، فقال: "أهذا كهذِّ الشعر؟! " أو قال: "كهِّذ الأعراب؟! "، والمصلي بالترتيل أولى؛ ولذلك قال [في

"الأم"]: وأجب ما وصفت لكل قارئ في الصلاة وغيرها، وأنا في الصلاة أشد استحباباً. وأدنى الترتيل: ترك العجلة، وأعلاه: ما كان أبين ما لم يبلغ به التمطيط. قال: ويرتبها، أي: يأتي بالآية بعد الآية؛ لأن نظم القرآن معجز، وترك الترتيب يزيل إعجازه، وهو مقصود. قال: ويأتي بها على الولاء، [أي]: المعتاد في القراءة حتى لا يكون بترك ذلك في صورة متلاعب، ويذهب بهجة القراءة. قال: فإن ترك ترتيبها أو فرقها، لزمه إعادتها: أما في ترك الترتيب؛ فلزوال المقصود من القراءة، وهو الإعجاز. وأما في التفريق، فلأنه يشعر بالإعراض. وترك الترتيب يحصل بما إذا قرأ آية من وسط الفاتحة قبل أولها [ثم أولها]، ثم آخرها، ونحو ذلك، ومثله في الحكم ما إذا قدم آخر الآية الواحدة على أولها، أو قدم وسطها، مثل: أن قال: لله الحمد رب العالمين، وهو في هذه الحالة أشنع. ولو تركه بأن قرأ النصف الآخر من الفاتحة، ثم أولها، لزمه إعادة ما قرأه أولاً دون استئناف الجميع. وترك الحرف [الواحد منها ملحق بترك الآية حتى لا يعتد بما بعده حتى يأتي به، ولا فرق فيه بين الحرف] الظاهر وغيره، كما إذا ترك تشديدة من تشديداتها؛ فإن الحرف المشدد بحرفين، وعدد حروفها المشددة أربعة عشر: ثلاثة في البسملة: اللام من اسم {اللهِ}، والراء من {ِ الْرَّحْمَنِ} ومن

{الْرَّحِيِمِ} واثنان في {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} اللام من اسم {اللهِ} والباء من {رَبِّ} وفي {الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} حرفان، وفي {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} حرف واحد، وهو الدال من {الدِّينِ}، وفي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} حرفان، وهما الياء من {إِيَّاكَ}، وحرف في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} هو الصاد منها، وحرف في قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، وهو اللام من {الَّذِينَ}، وحرفان في قوله: {وَلا الضَّالِّينَ} هما الضاد واللام. والتفريق المبطل لها تارة يحصل بالسكوت الطويل، وهو الذي يشعر مثله بأن القراءة قد انقطعت: إما باختيار، أو بمانع، وهذا إذا قلنا: إن السكوت الطويل [في الركن الطويل] لا يبطل الصلاة- كما هو الصحيح في "النهاية"- دون ما [إذا] قلنا: إنه يبطلها. والسكوت اليسير الذي لا يعد قاطعاً للقراءة، لا يبطل القراءة. وضبط المتولي ذلك بألا يزيد سكوته على ما جرت به العادة للتنفس والاستراحة. وتارة يحصل بإتيانه بآية من غيرها، أو دعاء، أو تسبيح ليس بمشروع في أثنائها، ولو في زمان لو سكت قدره في أثنائها لم يبطلها. قال الإمام: وإعادتها في هذه الصورة ليس لانقطاع ولائها، ولكن من حيث تغيير نظمها، فلو كان ما أتى به من الذكر اليسير في مثل ذلك الزمن القليل لا يضر بالقراءة بحيث لا ينتظم معها؛ فلست أبعد أن يقال: لا تنقطع القراءة. ويؤيده ما سنذكره من عدم انقطاعها بالتأمين، والمذهب الأول. فإن قيل: نص الشافعي يدل على أن تخلل الكلام اليسير بين الإيجاب والقبول في العقود لا يؤثر في قطع الولاء؛ فإنه نص على انه إذا خالع زوجتيه، ثم ارتدتا، ثم قبلتا وعادتا إلى الإسلام-صح الخلع، فما الفرق؟

قيل: الفرق: أن الكلام اليسير بين الإيجاب والقبول لا يشعر بإضراب عن الجواب؛ لأنه [كلام صادر من شخصين]؛ فلا جرم لم ينقطع به الولاء، ولا كذلك هاهنا؛ فإن الكلام والقراءة صادران من شخص واحد؛ فقطع الولاء. أما إذا أتى في أثنائها بدعاء مشروع، كما إذا قال الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ}، والمأموم في أثناء الفاتحة، فقال: "آمين"، ففيه وجهان: أحدهما-وهو ما حكاه في "المهذب" و"الشامل" عن الشيخ أبي حامد والبندنيجي عن الأصحاب، ولم يحك غيره-: أنه يعيدها؛ لقول الشافعي: "فإن عمد فقرأ فيها من غيرها استأنفها". وقال في "التتمة": إن الشافعي نص في "الأم" على [أن] "آمين" تقطعها، وصحح ذلك. والثاني: لا يعيدها، وهو ما حكاه الروياني عن اختيار صاحب "الإفصاح"، والقاضي أبي الطيب وجماعة، ولم يحك سواه، وعزاه في "التتمة" إلى القتال، واختاره في "المرشد"، وقد قاسه القاضي أبو الطيب على ما لو سمع آية رحمة؛ فسأل الله، أو آية عذاب؛ فاستعاذ بالله منه، أو قرأ الإمام {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8]، فقال: بلى، ونحو ذلك-فإنه مستحب، ولا يقطعها، وهذا مشعر بنفي الخلاف في ذلك. والغزالي قد طرده في الاستعاذة والرحمة، وكذا فيما إذا سجد بسجود الإمام؛ لأن هذه أسباب [مقتضية لذلك]؛ فلا يعد بملابستها منتقلاً عنها. وحكاهما الروياني -أيضاً- فيما لو فتح على إمامه وهو في أثناء الفاتحة، أو أجاب المؤذن؛ إذا قلنا: إنه يستحب في الصلاة، كما تقدم. وجزم القاضي الحسين في إجابة المؤذن والفتح على الإمام بأنه يقطعها،

وكذا في تشميت العاطس، والسلام على من سلم عليه؛ إذا قال: "وعليه السلام"، وفرق بين ذلك، وبين ما عداه مما ذكرناه- على احد الوجهين-بأن هذه الأشياء ليست من مصلحة صلاته، بخلاف ما قبلها؛ فإنها من مصلحة صلاته. قال: وصار هذا كما لو قال لشخص: بعتك داري بألف، وارتهنت عبدك به، فقال: اشتريت، ورهنت-يصح، وإن وجد أحد [مصراًّ على] عقد الرهن قبل وجوب الثمن؛ لأنه من مصلحة البيع. ولو قال لعبده: كاتبتك، وبعتك، فقال العبد: قبلت الكتابة، واشتريت-لا يصح البيع؛ لأنه ليس من مصلحة عقد الكتابة. ولو كرر آية أو كلمة من الفاتحة؛ لعذر-كالشك-لم تنقطع، وكذلك إن كان بغير عذر، إن قلنا: إن تكرار الفاتحة لا يبطل، كما هو الصحيح، كذا قاله بعضهم، وهو مستمد من كلام صاحب "الذخائر"، وهو يوهم أن في تكرار بعض الفاتحة عمداً خلافاً في البطلان، كما في تكرار الفاتحة؛ وهذا لم أعثر عليه في شيء من كتب الأصحاب، بل الذي رأيته فيها عدم الإبطال. والفرق بين الإتيان بكلها وبعضها: أن كلا ركن؛ فهي عند من أبطل بمنزلة تكرار ركوع، ولا كذلك تكرار بعضها؛ فإنه بعض من ركن. وقد تردد الشيخ أبو محمد في إلحاق تكرار الآية بغير عذر بالذكر اليسير. قيل: ولا وجه لتردده؛ لأن النظم يتغير بيسير الذكر، ولا يتغير بتكرار القراءة، ولا يعد انتقالاً عنها. وقال في "التتمة": إن كرر الآية التي هو فيها، لم يضره ذلك، وإن كرر

غيرها، مثل أن وصل إلى قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ} [الفاتحة: 7]، فعاد إلى قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]-نظرت: فإن استمر، وقرأ إلى آخر الفاتحة- حسبت له، وإن لم يقرأ إلا هذه الآية، ثم عاد وقرأ من الموضع الذي كان قد انتهى إليه، لم يحتسب له بها، وعليه الاستئناف؛ لان مثل ذلك غير معهود في التلاوة. وهذا كله إذا وجد على وجه العمد، فإن وجد على وجه السهو والنسيان، قال البندنيجي: ففي ترك الترتيب الحكم كذلك؛ لأنه شرط مع الذكر والنسيان، كما في الترتيب في الركوع والسجود، والترتيب في الطهارة، وقد حكاه القاضي أبو الطيب وغيره عن نصه في "الأم"، حيث قال: "إذا قرأ الفاتحة، ونسي [التسمية] في أولها، ثم ذكرها-قرأها، وقرأ الفاتحة ثانياً". وفي ترك الموالاة، والإتيان بالتفريق لا يضره، بل يبني على ذلك؛ فإنها شرط مع الذكر دون النسيان، وقد حكاه أبو الطيب عن نصه في "الأم" أيضاً. وإلى ما ذكرناه في الحالين صار الشيخ أبو محمد، وفرق بما ملخصه: أن الترتيب في [الصلاة في] نظر الشرع آكد من نظره إلى الموالاة؛ ألا تراه لو سجد قبل الركوع ناسياً لا يعتد بسجوده؟! ولوطول ركناً قصيراً ناسياً، وأخل بالموالاة بني الأركان بهذا السبب- لم يضره، ويؤيده أن ترك الترتيب في الوضوء يبطله، بلا خلاف على المذهب، وترك الموالاة لا يبطله على الجديد. ووراء ذلك [في التفريق] أوجه: أحدها -حكاه الإمام عن العراقيين-: أن السكوت الطويل عمداً لا يقطع الموالاة. قال: وهو مزيف متروك، وإن كان لا يبعد توجيه. وقد ادعى مجلي أن هذا ظاهر كلام الشافعي؛ [فإنه قال: ولو سكت في القراءة سكوتاً طويلاً، ولم ينو قطعها، أو تعب فوقف، أو غفل؛ فأدخل آية أو آيتين من غيرها-رجع حتى يقرأ من حيث غفل، ويأتي بها متوالية. وقال:] إنه

المنقول عن العراقيين، [وقال: إنهم فرقوا] بين ذلك وبين ما إذا طال السكوت بين الإيجاب والقبول؛ [فإنه يضر؛ لأنه لو أتى بين الإيجاب والقبول] بذكر يسير، لا يبطل، ولو أتى في أثناء الفاتحة بذكر يسير، قطعها. قلت: وهذا الفرق يقتضي عكس الحكم والنص، فيمكن حمله في السكوت على حالة النسيان؛ عملاً بنصه الآخر الذي قدمناه؛ على أن جوابه يمكن عوده إلى ما عدا السكوت؛ ألا ترى إلى قوله: "رجع حتى يقرأ من حيث غفل، ويأتي بها متوالية". والثاني- حكاه الروياني في "تلخيصه"-: أن السكوت الطويل مع النسيان يوجب الإعادة، وهو خلاف النص. والثالث- حكاه مجلي-: أنه إن طال ما أتى به [من] الذكر في أثنائها، حتى يشعر بأنه إعراض عن الفاتحة، وترك لها- بطلت الموالاة، واستأنف القراءة؛ لأنه أخل بالواجب من غير عذر. فروع: إذا نوى قطع القراءة، ولم يقطعها، لم يضره، بخلاف ما لو نوى قطع الصلاة؛ نص عليه في "الأم". والفرق يأتي في باب: ما يفسد الصلاة. نعمن لو اتصل بنية قطع القراءة سكوتهن بطلت. قال الروياني: وهذا إذا طال سكوته، فإن لم يطل، ثم عاد، وقرأ قبل طول الفصل-فلا ينبغي أن تبطل. وغيره أطلق القول ببطلانها. والماوردي قال: إن طال سكوته انقطعت، وإن قصر ففي انقطاعها وجهان: الأصح: أنه تنقطع. قال الرافعي: وهذا ما أورده المعظم؛ لأنه اقترن بنية الفعل. ومقابله موجه: بأن النية وحدها لا تأثير لها، والسكوت القليل بمجرده لا يكون قطعاً لها.

إذا لحن في "الفاتحة"، هل يؤثر؟ الكلام فيه مستوفٍ في باب: صفة الأئمة. ولو أنه أبدل حرفاً بحرف، بطلت، وكذا في غير "الفاتحة" إلا أن يكون قد وردت به قراءة شاذة، مثل قوله: (إنا أَنْطَيْنَاكَ الكوثر)؛ فإنها لا تبطل. وللشيخ أبي محمد تردد في إبدال الظاء بالضاد في قوله: {وَلا الضَّالِّينَ}، قال: لأن هذا لا يبين إلا للخواص، وهو مما يتسامح فيه عند بعض أصحابنا، والغزالي وجهه بقرب المخرج، وعسر التمييز. وقال الإمام: الصحيح: القطع بأن ذلك لا يجوز، وهو الذي أورده ابن الصباغ؛ لأن الفصل بينهما ممكن، ومخرجهما مختلف، وهذا عند إمكان التعلم، فلو لم يقدر إلا على ذلك-صحت صلاته؛ كالألثغ ونحوه. ولو كان يأتي بالحرف بين الحرفين، ككاف العرب، بين القاف والكاف- لم يضر، وسيأتي ذلك في باب صفة الأئمة. قال: وإذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، قال: "آمين"؛ لما روى الترمذي، عن وائل بن حجر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، قال: "آمين" مد بها صوته. وقال: حديث حسن.

وإذا ثبت أنه -عليه السلام- قاله، اتبعناه؛ لقوله -عليه السلام-:"صلوا كما رأيتموني أصلي". قال: يجهر بها، أي: بكلمة التأمين [الإمام] فيما يجهر فيه، أي: من الركعات؛ لما تقدم من رواية ابن حجر؛ فإنه-عليه السلام-لو لم يجهر به –لما سمعه، وقد روى أبو داود عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع به صوته"، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمن الإمام، فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين

الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه"، أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح. ورواية النسائي عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقولوا: آمين؛ فإن الملائكة تقول: آمين، وإن [الإمام يقول]: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة- غفر [الله] له ما تقدم من ذنبه". ورواية الترمذي تقتضي أن الإمام يجهر حتى يسمع فيوافق. فإن قيل: قد روى شعبة في حديث وائل بن حجر أنه -عليه السلام-: "خفض بها صوته". قلنا: قد أشار القاضي الحسين في "تعليقه" إليه بقوله: يجهر به على الصحيح من المذهب، والجمهور [لم] يحكوه. و [أما] الخبر، فقد قال البخاري: إن حديث سفيان أصح، وهو ما ذكرناه أولاً. قال: وأخطأ شعبة في قوله: "وخفض بها صوته". ثم ظاهر ما ذكرناه من رواية النسائي عن أبي هريرة، مساوقة المأموم الإمام في التأمين، وهو ما حكاه الإمام عن شيخه، حيث قال: "ينبغي للمأموم أن يترصد

فراغ الإمام من الفاتحة؛ فيبادر التأمين، ويساوق الإمام فيه، ولا يستحب مساوقة الإمام فيما عداه". قال الإمام: [ويمكن تعليله بأن التأمين لقراءة الإمام]، لا لتأمينه، وكلام الشيخ-رحمه الله- يجوز بأن ينزل عليه؛ بأن يضمر بعد قوله: وإذا قال-أي: الإمام-: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال-أي: المصلي-: آمين. فإن قلت: إذا حملته على ما ذكرت، كان كلام الشيخ ساكتاً عن حال المنفرد؛ فالأولى أن يضمر بعد قوله: [وإذا قال]-أي: المصلي-: {وَلا الضَّالِّينَ} قال: آمين؛ ليشمل الإمام، والمأموم، والمنفرد. قلت: لو قدرت ذلك، أدى إلى أن المأموم لا يؤمن لتأمين الإمام؛ لأنه لا يستحب له قراءة الفاتحة إلا بعد فراغ الإمام منها، وحينئذ لا يقع قوله: {وَلا الضَّالِّينَ} موافقاً لقول الإمام ذلك. ولا نسلم أنه ليس في كلام الشيخ على ما قدرناه إشارة إلى تأمين المنفرد؛ لأن فيه إشارة إلى أن الإمام يؤمن. وكل ما استحببنا للإمام الإتيان به من سنن الصلاة، استحببناه للمنفرد؛ فحينئذ فيه تنبيه عليه، والله أعلم. قال: وفي المأموم قولان: أصحهما: أنه يجهر؛ لما روي أبو هريرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمن، أمن من خلفه، حتى إن للمسجد ضجة"،وروي: "لجة" بفتح اللام، وهي اختلاف الأصوات.

وروي عن نعيم المجمر قال: "صليت وراء أبي هريرة، فلما قال: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: آمين، وقال [الناس]: آمين، فلما فرغ، قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولأن المأموم تأمينه تابع لتأمين الإمام فليتبعه في كيفيته؛ وهذا هو القديم، كما حكاه الجمهور إلا القاضي الحسين؛ فإنه قال: إنه الجديد. وكذلك وافق الشيخ على تصحيحه البغوي، والروياني في "تلخيصه" والرافعي. ومقابله: أنه لا يجهر به؛ كما لا يجهر بالتكبير؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، وقال القاضي الحسين: إنه القديم، والمنتصرون له قالوا: لا حجة فيا لحديث الأول؛ لأن الجمع إذا كثروا، استجمعت أنفاسهم، وحصل من ذلك لجة، وهذه الطريقة حكاها الماوردي، عن أبي إسحاق، وابن أبي هريرة، والإمام حكاها عن الأكثرين. وقد قيل: إنهما منزلان على حالين: فحيث قال: يجهر، [أراد]: إذا كان الجمع لا يبلغهم صوت الإمام؛ لكثرتهم. وحيث قال: لا يجهر [به، أراد]: إذا كان المسجد صغيراً، يبلغ كل المأمومين تأمين الإمام. قال بعضهم: وهذه طريقة الجمهور، وقد اختارها صاحب "المرشد". والقائلون بالأولى اختلفوا في محلها:

قيل: محل القولين إذا جهر الإمام، أما إذا لم يجهر، جهر المأموم قولاً واحداً، ليسمع الإمام فيؤمن؛ وهذا ما حكاه في "المهذب"، والبندنيجي. وقال أبو الطيب: إنه نص عليه في "الأم". وقيل: القولان في الحالين، وهي طريقة المراوزة. قال الإمام:: وهي التي كان شيخي يختارها. تنبيه: التأمين، بتخفيف الألف والميم في لغة، وفي أخرى بمد الألف، وتخفيف الميم-وهي التي اختارها في "الخلاصة"-صوت موضوع لتحقيق الدعاء، معناه: اللهم استجب، وهو الأصح في "النهاية". قال: كما أن المراد من قولهم: "صه": اسكت. قال الشافعي: وبه يستدل على أن للعبد أن يسأل ربه في الصلاة بأمر الدين والدنيا؛ حكاه ابن الصباغ. وقيل: إنه دعاء؛ لقوله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89]، وإنما كان الداعي موسى، وهارون مؤمن، صلى الله على نبينا، وعليهما. وقيل: معناه: كن ذلك. وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى. وقيل: اسم قبيل من الملائكة. قال الماوردي: وقد قيل: إنه بتشديد الميم، في لغة. وقال البندنيجي: إنه لو شدد الميم، ومد الألف، كقوله: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] لم يجز، وكذا حكاه في "التتمة"، وقال: إنه إن تعمد ذلك-بطلت صلاته، وقد حكاه الروياني عن والده أيضاً. قال الأصحاب: ولا ينبغي أن يصل قوله: "آمين" بقوله: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، ولو قال: "آمين رب العالمين"، وما زاد من ذكر، كان حسناً؛ نص عليه في "الأم". قال: ثم يقرأ السورة.

قراءة السورة مشروعة في الصلاة بعد الفاتحة للإمام والمنفرد؛ لأخبار سنذكرها في الباب- إن شاء الله تعالى- وفي مشروعيتها للمأموم تفصيل يأتي، ولا يقوم قام السورة قراءة الفاتحة مرتين، إذا قلنا: لا تبطل الصلاة؛ لأن الفاتحة مشروعة في الركعة فرضاً، والشيء الواحد لا يؤدي به الفرض والسنة في محل واحد. قال الأصحاب: ويستحب للإمام أن يسكت سكتة لطيفة بعد [فراغه من] قراءة الفاتحة، وقيل قراءة السورة بقدر قراءة الفاتحة، وكذا يستحب له أن يسكت بعد تكبيرة الإحرام وقبل قراءة الفاتحة؛ لما روى سمرة بن جندب قال: "حفظت مع رسول الله سكتين: سكتة بعد التكبير، وسكته بعد أم القرآن". قلت: وقد يؤخذ استحباب ذلك في الحالتين من قول الشيخ: "ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم يقرأ السورة"؛ لأن لفظة "ثم" تقتضي الترتيب والمهلة. ومنه يؤخذ أنه لو قرأ السورة قبل الفاتحة، لا تقع موقعها، وعليه نص الشافعي-رحمه الله-وقال: إذا أراد تحصيل السنة فليعدها. كذا حكاه القاضي الحسين.

وحكى الإمام في الاعتداد بها قبل قراءة الفاتحة-وجهين، عن رواية العراقيين، والمذكور في كتبهم الأول. ثم الألف واللام في "السورة" للعهد، وهو ما سنذكره من سور المفصل. وقول الشيخ هذا يفهم اختصاص الاستحباب بقراءة سورة كاملة بعد الفاتحة، وقد قال بعضهم: إنه لا يختص، بل المستحب أن يقرأ بعد الفاتحة سورة، أو ما دونها؛ لقول أبي سعيد الخدري: "أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب، وما تيسر" رواه أبو داود، وروى النسائي أنه -عليه السلام-: "قرأ سورة "الأعراف" في المغرب" وما ذكره الشيخ لا شك أنه الأفضل؛ فإن السورة وإن قصرت أولى من بعض سورة أطول منها؛ حكاه الرافعي والمتولي؛ فإنه -عليه السلام-لم يقرأ في الفرض إلا بسورة كاملة. وفيه نظر؛ لأن النسائي روى عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب بسورة "الأعراف"، فرقها في ركعتين، والله أعلم. [قال:] يبدؤها بـ {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} [الفاتحة:1]؛ لما

تقدم أنها من أول كل سورة آية، أو بعض [آية]، نعم: إذا قلنا: ليست من أول كل سورة، فهل يقرؤها؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين"، أحدهما: نعم؛ لأنه –عليه السلام- كان يقرؤها بين كل سورتين. قال: فإن كان المأموم في صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: "هل قرأ معي أحد منكم آنفاً؟ " فقال رجل: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أقول: مالي أنازع القرآن؟! " قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه" رواه مالك في "الموطأ" وأبو داود.

قال: وفي الفاتحة قولان: أصحهما: أنه يقرأ- أي: وجوباً- لما تقدم من الأخبار عند الكلام في الفاتحة، وقد روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج غير تمام" قال الراوي: "فقلت يا أبا هريرة: إني أحياناً أكون وراء الإمام، فغمز ذراعي، وقال: اقرأ بها [يا] فارسي في نفسك". قال الخطابي: خداج: ناقصة نقص فساد، يقال: خدجت الناقة: إذا ألقت ولدها

وهو دم، ولم يستبن خلقه. وروى أبو داود عن عبادة بن الصامت قال: "كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: "لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ " قلنا: نعم، هذَّا يا رسول الله، قال: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" قال الترمذي: وهو حسن. والهذُّ: السرعة، وأراد: يهذُّ [القرآن] هذَّا فيسرع فيه من غير تفكر، ولا ترتيل، كما يسرع في قراءة الشعر. ونصبه على المصدر. وقيل: المراد بالهذ: الجهر بالقراءة. ولأن القراءة ركن في الصلاة أدرك محله؛ [فلا يسقط بمتابعة] الإمام كسائر الأركان. واحترزنا بقولنا: "أدرك محله" عن المسبوق [الذي] لم يدرك محل القراءة؛ وهذا القول نص عليه في الجديد، و"الإملاء"، كما قال الماوردي. وقال البندنيجي: إنه نص عليه في "البويطي"، و"الأم". قال القاضي الحسين: وبعض الأصحاب قطع به، وحمل نصه [في] الآخر على حكاية مذهب الغير. قال أبو زيد المروزي: وقد حكى هذا المذهب عن نيف وعشرين من الصحابة، منهم: عمر، وعثمان، وعليٌّ. ومقابله: أنه لا يقرأ؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204]،وروى مسلم، عن أبي موسى قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا،

فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال: "إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، وليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا"، والقراءة تمنع ما أمر به من الإنصات، وما تقدم في الحديث في الفصل قبله [من قول الراوي: "فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم] فيما يجهر فيه"-يشهد له أيضاً؛ فإنه يقتضي التعميم؛ وهذا القول نص عليه في القديم [وبعض الجديد، كما قال الماوردي. وقال البندنيجي: إنه نص عليه في القديم] و"الإملاء"، وفي صلاة الجمعة من الجديد. والقائلون بالأول قالوا: المراد بالآية: الخطبة؛ كما قالته عائشة وعطاء، وإن أجريت على ظاهرها، فالقراءة لا تمنع الإنصات؛ لأنا قد ذكرنا أنه يستحب للإمام سكتة بعد قراءة الفاتحة [بقدر الفاتحة، فيقرأ فيها المأموم الفاتحة. والقائل: "فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله فيما يجهر به" من كلام الزهري، كما قال الخطابي وعبد الحق وغيرهما؛ فلا حجة فيه؛ على أنا نحمله على قراءة السورة، وكذا خبر أبي موسى؛ جمعاً بين الأحاديث. التفريع: إن قلنا بالأول؛ فيستحب له أن يقرأ في سكتة الإمام بعد الفاتحة. قال الماوردي والغزالي: فإن لم يسكت الإمام قرأها المأموم في قراءة الإمام السورة. وقد ادعى بعضهم: أن المستحب أن يقرأها في سكتة الإمام قبل قراءة الفاتحة]، وفي سكتته بعد فراغه من الفاتحة، وقبل قراءته السورة، وقال: [إنه] لو قرأ بعضها في السكتة الأولى، ثم شرع الإمام في القراءة- أنصت له، فإذا فرغ منها، أتم ما بقي عليه، ولم يستأنف، وحكاه عن صاحب "المرشد"، وهو [المشهور في] "تعليق القاضي أبي الطيب"،وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أن المتولي ذكر أن المأموم يكره له أن يشرع في قراءة الفاتحة قبل

شروع الإمام فيها؛ [لأنه تقدم] على الإمام في ركن، فإن فرغ المأموم منها قبل قراءة الإمام-بطلت على وجه، وقد ذكرنا ذلك في صلاة الجماعة. والقاضي الحسين هاهنا حكى الخلاف في أنه لو قرأ قبل إمامه-هل يعتد بقراءته، أم لا؟ وحينئذ: فالمستحب أن تكون قراءة المأموم لها في السكتة بعد الفاتحة، كما ذكرنا، وهو جار فيما إذا كانت الصلاة سرية، ويأخذ فيها بالظن؛ قاله في "التتمة". والثاني: أن هذا مخالف لما تقدم من أن الفصل الطويل في الفاتحة بما هو من مصلحة الصلاة يقطع الفاتحة. وصاحب "المرشد" والقاضي جرياً على أصلهما في أن ذلك لا يقطعها، كما تقدم. وإن قلنا بالثاني، فمحله إذا كان يسمع قراءة الإمام، فلو كان في موضع لا يسمعها، قرأ؛ لأنه غير مأمور بالإنصات؛ هذا مذهب العراقيين، ولم يحك الروياني غيره، وهو موافق لما ذكره الشيخ فيما إذا كان لا يسمع الخطبة. وحكى المراوزة في وجوب القراءة في هذه الحالة وجهين، صرح بهما القاضي الحسين وغيره، وطردهما فيما إذا كان الإمام أخرس، وقال: إنهما كالوجهين في وجوب الإنصات إذا كان بعيداً عن الإمام لا يسمع الخطبة. قال الإمام والغزالي: والقياس ما ذكره العراقيون. وعلى هذا القول الذي عليه نفرع، هل يستحب للمأموم أن يأتي بالتعوذ في حالة جهر الإمام بالقراءة؟ فيه وجهان في "زوائد العمراني" عن "العدة" للطبري، عن شيخه: أحدهما: نعم؛ لأنه شريك للإمام في الذكر المسنون. أما إذا كان مأموماً في صلاة يسر فيها الإمام؛ فإنه يقرأ الفاتحة قولاً واحداً؛ وكذا السورة عند العراقيين، وحكى القاضي الحسين وجهاً آخر: أنه لا يقرؤها،

كما في الجهرية. قال: والذي عندي أنه يقرأ السورة في الجهرية والسرية. وهذا التفصيل لا يوجد للشافعي، وإنما قاله أصحابنا؛ ليستقيم لهم تأويل قوله -عليه السلام-:"من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة"، والشافعي لم

يشتغل بتأويله؛ لأنه لم يصح عنده فن راويه جابر الجعفي، وهو مردود الرواية

عند أهل الحديث.

ولو كان مأموماً في صلاة يجهر فيها الإمام، فأسر، أو يسر فيها فجهر- فهل

يكون الحكم كما لو جهر، أو أسر؟ مقتضى كلام الشيخ [أنه] كذلك؛ فلا يقرأ السورة في الأولى، ويقرأ الفاتحة، على الصحيح، ويقرأ في الثانية السورة والفاتحة قولاً واحداً، وهو وجه [حكاه المتولي وغيره، وادعى القاضي الحسين أنه الأظهر. وفيه وجه] آخر بالعكس من ذلك. واعلم: أن بعضهم قال: إن كلام الشيخ يوهم أن الخلاف في وجوب قراءة الفاتحة على المأموم يجري في الأخيرة من المغرب، والأخيرتين من العشاء، فلو قال: في ركعة يجهر فيها الإمام، لكان أحسن. قلت: هذا الوهم وهم؛ لأن الشيخ يتكلم في الركعة الأولى فقط؛ يدل عليه قوله من بعد: ثم يصلي الركعة الثانية مثل الأولى، إلا في كذا، وإذا كان

كذلك، فقوله: " [فإن كان] في صلاة يجهر فيها [الإمام]، لم يقرأ السورة"، أي: في الركعة التي يتكلم فيها، وفي الفاتحة-أي: فيها-قولان، والله أعلم. قال: والمستحب أن تكون السورة في الصبح والظهر من طوال المفصل؛ لأنه –عليه السلام- "قرأ في الصبح بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} كما رواه مسلم. قال الترمذي: "وكان ذلك في الركعة الأولى، وقرأ فيها "الواقعة"،وقرأ فيها "تنزيل السجدة"، و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} في يوم الجمعة" ورواية ابن عباس: أنه قرأ فيها سورة "الجمعة" و"المنافقون"،وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في صلاة الظهر، في الركعتين الأوليين، في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخيرتين قدر خمس عشرة آية- أو قال: نصف ذلك-وفي العصر، في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية، وفي الأخيرتين قدر النصف من ذلك". وعن أبي سعيد-في رواية أخرى-قال: حزرنا قيامه-عليه السلام-في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية، قدر {الم * تَنزِيلُ} "السجدة"، وحزرنا قيامه في الأخيرتين قدر النصف منذ ذلك، وحزرنا

قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخيرتين من الظهر، وفي الأخيرتين من العصر على النصف من ذلك" أخرجه أبو داود، ومسلم. وهذا يمنع أن يكون ما جرى في الأوليين من الظهر نصفين؛ إذ لو كان كذلك، لزم أن يكون قد قرأ في كل ركعة من الأخيرتين من العصر أقل من الفاتحة. وروى أبو داود عن ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في صلاة الظهر، ثم قام، فركع، فرأينا أنه قرأ: تنزيل السجدة" وهذه الأخبار تدل على المدعى. وقد استحب الماوردي أن تكون السورة في الظهر، أقصر من السورة في الصبح قليلاً؛ لأن ما ورد عنه-عليه السلام-يدل على ذلك، روى مسلم، عن جابر بن سمرة: "أنه -عليه السلام-كان يقرأ في الظهر بـ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وفي الصبح بأطول من ذلك"، وما ذكره هو ما أورده الرافعي. قال: وفي العصر والعشاء من أوساط المفصل، أما العصر؛ فلما ذكرناه، وأما العشاء؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ في القصة المشهورة: "اقرأ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [كما أخرجه مسلم، وكان عثمان قرأ في العشاء بأوساط المفصل]، وجمع بين العشاء والعصر؛ لشبهها بها؛ لأنها الثانية من صلاتي

جميع النهار؛ [كما أن العشاء هي الثانية من صلاتي جميع الليل]. قال: وفي المغرب من قصار المفصل؛ لما روى [أن] ابن عمر -رضي الله عنه- قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في المغرب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: الآية1] " أخرجه ابن ماجه. وقد روي عن أبي بكر "أنه كان قرأ فيها بقصار المفصل". وكذلك روي عن أبي موسى الأشعري، ولا وجه لذلك إلا الاتباع. فإن قيل: هذا يعارضه ما روي عن مروان بن الحكم قال: "قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ [في المغرب] بطولي الطويلتين؟! قال: قلت: ما طولي الطوليين؟ قال: الأعراف" قال-[أي]: ابن جريج-: وسألت أنا ابن أبي مليكة، فقال لي من قبل نفسه: "المائدة والأعراف" أخرجه أبو داود، والبخاري مختصراً.

قلنا: لا معارضة بين ما ذكرناه وهذا؛ لأن ما ذكرناه يقتضي الحالة الدائمة، ومثله: ما روي عن جابر قال: "كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم ننصرف إلى دورنا في بني سلمة، ونحن نرى موقع النبل"، ولا يجوز أن يستوعب النبي صلى الله عليه وسلم إحدى الطويلتين، وهما-على المشهور- "الأنعام" و"الأعراف" في قدر ذلك الزمان مع ترتيل القراءة، وما قاله زيد بن ثابت لا يقتضي أنه-عليه السالم-كان يداوم عليه؛ فيجوز أن يكون فعله بياناً للجواز ثم لو ثبتت المعارضة فإما أن نقول: يسقط الخبران؛ لتعارضهما، أو نجمع بينهما، فنقول: قرأ شيئاً من "الأعراف" قبل نزول جميعها، أو الآية المذكورة فيها قصة الأعراف، وكذلك القول في سورة "الأنعام"، وقد اختصر البندنيجي ما ذكرناه، قال في الدليل على ما ذكرناه: إنه صح في [كل] ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الإمام: ولعل السبب فيه: أن وقت الصبح طويل، والصلاة ركعتان فحسن تطويلهما، ووقت [صلاة] المغرب ضيق؛ فشر فيها القصار، وأوقات صلاة الظهر والعصر، والعشاء [طويلة، ولكن الصلوات] كاملة الركعات؛ فتعارض ذلك عليه؛ [فرتب عليه] التوسط. ثم المفصل من سورة "الحجرات" إلى [آخر الختمة]. وقيل: من "قاف".

وقيل: من "القتال". وقيل: "من "الجاثية". سمي: مفصلاً؛ لكثرة الفصول بين سوره. وقيل: لقلة المنسوخ فيه. وطوال المفصل، مثل: "الحجرات"، و"قاف"، و"الذاريات"، و"الطور"، و"الواقعة"، و"المرسلات". وأوساط المفصل: كـ"الجمعة" و"المنافقون". وقصار المفصل: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ كذا قاله البندنيجي، وغيره. وقال بعضهم: إن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} من أقصر المفصل: وقصار المفصل، كـ"العاديات" ونحوها. و"السورة" بلا همز، وبالهمز؛ لأن سور البلد-بلا همز-سمي: سوراً؛ لارتفاعه، وسؤر الطعام والشراب-: [بقيته]-مهموز، وسورة القرآن أشبهتهما، فجاز فيها الهمز، وتركه. وما ذكره الشيخ بيان للأكمل في حق الإمام؛ فلا يستحب له الزيادة على ذلك في حق من لا يؤثرون التطويل؛ لقصة معاذ، [أما] المنفرد؛ فيطيل ما شاء إلا في المغرب؛ فإنه والإمام سواء؛ لتعلق ذلك بالوقت؛ كذا قاله الإمام. ولو خالف الإمام أو المنفرد، فقرأ في الصبح [والظهر] من أوساط المفصل، أو قصاره، قال في "الشامل": قال أصحابنا: لا يكون خارجاً عن السنة؛ لما روى عمرو بن حريث قال: "كأني أسمع صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الغداة، فقرأ {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير:15] ".

وروى أبو داود بإسناده، عن رجل من جهينة "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقرأ في الصبح: إذا زلزلت". وروى-أيضاً-عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أنه قال: "ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم] يؤم الناس بها في الصلاة المكتوبة". قال: ويجهر الإمام والمنفرد بالقراءة في الصبح، والأوليين من المغرب والعشاء. أما جهر الإمام في ذلك فبالإجماع المستفاد من نقل [الخلف عن السلف]. والخلف -بفتح اللام- من يتبع السلف، ويقوم مقامهم في الفضل والخير؛ فإن خلفوهم بشر؛ فهم خلف- بإسكان اللام -قال الله تعالى-: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم: 59]. وأما جهر المنفرد؛ فلأنه غير مأمور بالإنصات؛ فأشبه الإمام. ولا يجهر المأموم اتفاقاً، جهر إمامه أو أسر، والإسرار فيما عدا [ما] ذكره الشيخ من الصلوات المفروضة سنة، كالجهر فيما ذكرناه؛ قال -عليه السلام-:"إذا رأيتم من يجهر بالقراءة في صلاة النهار، فارجموه بالبعر" رواه أبو حفص بإسناده.

وما روي أنه-عليه السلام-قال: "صلاة النهار عجماء" فقد قال الدارقطني: إنه من قول الفقهاء. ويستثني من ذلك صلاة الجمعة والعيدين، والاستسقاء؛ لأخبار وردت، تأتي في أبوابها. قال المتولي، والقاضي الحسين: وقد كان الجهر مشروعاً في كل الصلوات في ابتداء السنة، إلا أن المشركين كانوا يسبون القرآن ومن أنزله؛ إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإسرار في الظهر والعصر، والجهر في المغرب والعشاء، والصبح؛ لاشتغالهم في هذه الأوقات بالأكل في منازلهم. وقد قيل: إن قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:110] دال على ذلك؛ فإن معناه: [ولا تجهر في جميع الصلوات، {وَلا تُخَافِتْ بِهَا}، أي: لا تسر في الجميع {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}، أي: اجهر في البعض، وأسرَّ في البعض.

وقيل: معناه]: لا تجهر جهراً بليغاً، {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} أي: لاتخفض خفضاً بليغاً، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ}، أي: بين الجهر والسر {سَبِيلاً} فإن خير الأمور أوسطها. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أموراً: أحدها: أنه لا فرق في الإمام والمنفرد بين الرجل والمرأة، وبه صرح البندنيجي وغيره. وقالوا: يكون جهرها دون جهر الرجال، وذلك في موضع لا أجانب فيه من الرجال، فإن كان فيه منهم -قال القاضي أبو الطيب-: فالمستحب لها الإسرار. وقال الماوردي: إنها تسر في جميع الصلوات جماعة وفرادى؛ لأن صوتها عورة. ولعل مراده: أنها لاتجهر جهر الرجال، كما قلناه. والقاضي الحسين قال [هنا]: السنة أن تخض صوتها في الصلوات كلها، سواء قلنا: إن صوتها عورة، أو ليس بعورة. قال: ولأصحابنا في صوتها وجهان: أحدهما: أنه عورة؛ فعلى هذا لو رفعت صوتها في الصلاة، بطلت صلاتها. والثاني: لا، وهو الأصح؛ لأن العورة: ما يشاهد، ويمسن ويستمتع بها؛ وعلى هذا فمنعها من الجهر؛ لخوف الفتنة، كما تمنع من كشف وجهها، نعم، لا نأمرها بالإسرار [كإسرار] الرجل في صلاة السر، بل لها أن تجهر [أدنى جهر]، بحيث تسمع نفسها قليلاً، وإن كان حولها محارم فلا بأٍن أن تسمعهم. وقال في باب الأذان: [إنه لا يجوز] للمرأة أن تجهر في صلاة الجهر، ولا أن ترفع صوتها بالتكبير. الثاني: أنه يجهر بقراءة الفاتحة والسورة، وهو مما لا خلاف فيه، وحينئذ فيجهر بالبسملة يهما؛ لأنها منهما كما قررناه، وقد صح من رواية

علي، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وعائشة -رضي الله عنهم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهر بـ {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ}. وروى أنس بن مالك أن معاوية لما قدم المدينة، صلى صلاة جهر، فقرأ {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ}، ولم يجهر بها في السورة، فناداه المهاجرون والأنصار من كل مكان: أسرقت الصلاة يامعاوية، أين {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ}. قال الماوردي وغيره من أصحابنا: فدل هذا الإنكار منهم على الإجماع في الجهر بها.

واعترض بعضهم على دعوى الإجماع، وقال: من أين لهم أن كل الصحابة كانوا حضوراً في ذلك المجلس؟! فإنه يجو أن يكون فيهم من لم يحضر، وهو الظاهر. وجوابه: أن مبادرتهم إنكار تدل على أنه مجمع عليه؛ إذ لو لم يكن كذلك، لما أنكروه؛ إذ المختلف فيه لا ينكر على فاعله على الصحيح، خصوصاً إذا كان مجتهداً. ولأنها من القرآن؛ فاستحب الجهر بها؛ كسائر [آي] القرآن. وفي "الزوائد": أن صاحب "الفروع" حكى عن أبي علي بن أبي هريرة: أنه يسر في البسملة فيما يجهر فيه؛ فيخالف أهل البدع. الثالث: أنه لا فرق في الجهر في الصبح والمغرب والعشاء، والإسرار في الظهر والعصر بين أن تفعل في وقتها، أو في غير وقتها، ليلاً، أو نهاراً. وقد حكى المتولي وغيره وجهين: في أن الاعتبار في الجهر والإسرار بوقت الأداء، أو القضاء، حتى إذا قضى الظهر ليلاً يجهر، والعشاء نهاراً يسر. وأصحهما في "التهذيب": أن الاعتبار بحالة القضاء. وقال المتولي: إنه ظاهر المذهب. والمذكور في "الحاوي"، و"المرشد" مقابله؛ لأن القضاء لا يزيد على الأداء. والوجهان-عند القاضي الحسين-ينبنيان على أنه إذا قضى صلاة في أيام التشريق، فاتته في غيرها-هل يكبر [خلفها]؟ وفيه قولان. وذكر البندنيجي طريقة أخرى، فقال: صلاة الليل إذا فاتت، إن قضاها نهاراً أسر؛ [حكاه أبو ثور عن نص الشافعي، وإن قضاها ليلاً جهر. وصلاة النهار أي وقت قضاها أسر]. وحيث قلنا: إنه يجهر فيما يقضيه نهاراً من صلاة الليل؛ فينبغي أن يكون جهره دون جهره بالليل. الرابع: أنه لا يجهر في النوافل ليلاً كان أو نهاراً.

وغيره ضبط ما يجهر فيه، ويسر، فقال: جميع الصلاة الواقعة في الليل فرضاً أو سنة يجهر فيها، إلا صلاة الجنازة على وجه؛ لأن الغالب أنها تفعل نهاراً؛ فغلب، ولأنه لا يسن فيها قراءة السورة؛ فكانت كالركعتين الأخيرتين من العشاء. وأما الصلاة في النهار، فما لانظير لها في الليل، وهي الجمعة، والعيدان، والاستسقاء؛ لأنه يشرع فيه الصوم، فالسنة الجهر فيها، وما لها نظير من صلاة الليل، وهي: الظهر، والعصر، والكسوف، والنوافل المطلقة، والمقيدة، فالسنة الإسرار فيها. ونظير الظهر والعصر من صلاة الليل العشاء، ونظير الكسوف الخسوف، والنوافل بالنوافل. الخامس: أنه لايستحب الجهر بدعاء الاستفتاح، والتعوذ، ولاخلاف في [ذلك في] دعاء الاستفتاح، وأما التعوذ، فقد قال الشافعي في "الأم": "كان ابن عمر يتعوذ في نفسه، وكان أبو هريرة يجهر، فأيهما فعل جاز". وقال في "الإملاء": يجهربه، وإن أخفاه، جاز. فأخذ الأصحاب بذلك، وجعلوا في المسألة قولين: أحدهما: يتخير فيه. والثاني: يجهر؛ لأنه تبع للقراءة؛ فجرى مجراها؛ كما في التأمين؛ وهذه طريقة الشيخ أبي حامد، والقاضي الحسين، والإمام. وغيرهم قالوا في المسألة قولين: أحدهما -وهو الجديد-[لا يجهر به أصلاً. والثاني -وهو القديم]-: أنه يجهر [به] في الجهرية. وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة أقوال: يجهر، يسر، يتخير بينهما. والذي اختاره في "الإفصاح": الإسرار، كما في دعاء الاستفتاح، [وهو المذكور في "الحاوي"،و"المرشد".

وقد ادعى الجيلي: أن الخلاف المذكور جارٍ في دعاء الاستفتاح]، والمشهور الأول. فرع: إذا لم يجهر في الأوليين من العشاء، لا يجهر في الأخيرتين منها؛ لان الإسرار فيهما سنة، فلا يترك لسنة أخرى في غير محلها؛ حكاه في "الوسيط" في باب صفة الحج. ثم حد الجهر أن يسمع من حوله، وحد الإسرار أن يسمع نفسه من غير علة. وقول الشيخ: "والأوليين من المغرب والعشاء" بتكرير الياء المثناة من تحت، وكذلك جاء تثنية المؤنث. قال: ومن لا يحسن الفاتحة-أي: بالعربية-وضاق [عليه] الوقت عن التعلم-قرأ بقدرها من غيرها؛ أي: إن كان يحفظه، ولا يأتي بها بالعجمية إن قدر. ووجه كونه لا يأتي بها بالعجمية قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44]، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [يوسف:2]، فأخبر أن القرآن عربي. وقال عليه السلام: "أحبوني لثلاث: لأني عربي، ولأن القرآن عربي، و [لأن] كلام أهل الجنة عربي".

وإذا ثبت أنه عربي، كان فيه دليل على أن العجمي ليس بقرآن؛ فلا يأتي به. ولأن الإتيان به بالعجمية فرع فهم المراد منه، ولا غاية له، وخالف التكبير؛ حيث يأتي به العاجز عنه بالعربية بالعجمية؛ لأن معناه مفهوم، والآتي به بالعجمية يكبر، وخالف الخطبة بالعجمية، وكذا النطق بكلمة الشهادة؛ إذا جوزناها بالعجمية؛ كما هو الصحيح؛ لأن المقصود من الخطبة: الإعلام، ومن النطق بالشهادتين: الإخبار عما في الضمير، وهو يحصل بها، ولا كذلك القرآن؛ فإن المقصود منه: لفظه، ومعناه؛ فلا تقوم لغة أخرى مقامه. ووجه كونه يقرأ بقدرها من غيرها: أنه لو لم يحسن شيئاً-لزمه أن يأتي بالذكر؛ كما سنذكره، والقرآن أقرب إلى الفاتحة منه؛ لأن نظمهما معجز؛ فتعين. ثم ما المراد من القدر؟ هل هو [قدر] الآي [والحروف]، أو قدر الآي فقط؟ فيه قولان، أو وجهان؛ كما حكاه البندنيجي: أحدهما -وهو ما نقله المزني-: الأول؛ لأن بذلك يتحقق أنها قدرها؛ ولأن الفاتحة مشتملة على آي وحروف، ولابد من الإتيان بعدد الآي، حتى لو قرأ

آية طويلة بقدر كل آي الفاتحة- لا تجزئه؛ فكذا لابد من عدد الحروف. والثاني-ذكره في استقبال القبلة من "الأم"، حيث قال-:يجب عليه قدر سبع آيات قصاراً كن أو طوالاً، وسواء [قرأ بهن] من سورة واحدة أو سور. ووجهه القياس على قضاء رمضان؛ فإنا نعتبر فيه الأيام [دون الساعات]. والراجح: هو الأول، والفرق بين ما نحن فيه، والصوم: أن الواجب منه يختلف طولاً وقصراً؛ بحسب الزمان؛ فلذلك لم نعتبره في قضائه، ولا كذلك الواجب من القراءة؛ فإنه [لا] يختلف؛ فاعتبرنا المساواة في بدله. ولأن مراعاة قدر الزمان في رمضان يشق، ولا كذلك مراعاة قد رالحروف. وعلى هذا يكفي أن يكون [جملة] عدد حروف السبع عدد حروف الفاتحة، ولا يشترط أن [تكون حروف] كل آية بقدر حروف كل آية [من الفاتحة]؛ حتى يجوز أن نجعل آيتين مقام آية من الفاتحة. وقيل: يجب أن يكون عدد حروف كل آية قدر حروف الآية من الفاتحة، أو أطول منها، ويحكي هذا عن الشيخ أبي محمد، وهو بعيد. ثم الحرف المشدد من الفاتحة يعد بحرفين. فرع: لو كان لا يحسن الآيات إلا متفرقات، أتى بهن. وإن كان يحسن آيات متفرقات، وآيات مجتمعات، وكل منها بحيث تجزئ عن الفاتحة؛ فظاهر النص في "الأم": أنه يجزئه أيها شاء، والذي كان الشيخ أبو محمد يقوله، وتبعه الإمام: أنه يتعين عليه الإتيان بالمجتمعات؛ لأن للنظم تأثيراً عظيماً في الإعجاز، وعلى ذلك جرى الرافعي وغيره موجهين ذلك بأن المتواليات أشبه بالفاتحة. وأما النص؛ فيمكن حمله على الحالة الأولى. أما إذا لم يضق الوقت عن التعليم فلا يقرأ بقدرها من غيرها، بل يجب عليه أن يتعلم، وهذا يؤخذ من قول الشيخ [في] التكبير: إنه يجب عليه أن يتعلم؛

لأنه إذا وجب مع أنه يأتي بمعناه بلسانه؛ فلأن يجب تعلم الفاتحة، وهو لا يأتي بها بلسانه أولى. فلو لم يتعلم مع القدرة، أوجبنا عليه إعادة كل صلاة واجبة صلاها بدون الفاتحة إلى أن يتعلم. وقيل: إلى أن يشرع في التعلم؛ حكاه الماوردي، وتبعه الروياني. والحكم فيما إذا لم يمكنه التعلم، وأمكنه أن يقرأ من مصحف يشتريه، أو يستأجره، أو يستعيره كذلك، حتىلو كان في الليل، كان عليه مع ذلك تحصيل ضوء عند الإمكان. ولو قدر على من يلقنه الفاتحة في الصلاة، قال القاضي الحسين في فتاويه: لا يجب عليه ذلك، وله أن ينتقل إلى البدل. ولو لم يكن في البلد إلا مصحف واحد، وكان لا يمكنه التعلم إلا منه، فلا يجب على مالكه إعارته؛ وكذا لو لم يكن إلا معلم واحد، لا يلزمه التعليم على ظاهر المذهب؛ كما لو احتاج إلى سترة في الصلاة ومعه ثوب، أو احتاج إلى الوضوء ومع غيره ماء. قال: وإن كان [يحسن] آية-أي: [فقط]-من الفاتحة، أو غيرها- ففيه قولان؛ أي: منصوصان في "الأم" كما قاله البندنيجي، وغيره حكاهما وجهين: أحدهما: يقرؤها، ثم يضيف إليها من الذكر [ما يتم به قدر الفاتحة؛ لأنه لو

كان لا يحسن شيئاً من القرآن يأتي بالذكر] عن جميعها؛ كما ستعرفه؛ فلأن ينوب عن بعضها أولى، ونظيره ما إذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لوضوء أو غسل؛ فإنه ستعله، ويتيمم عن المفقود؛ لأنه لو عدم جميعه تيمم، وهذا ما صححه في "المهذب"، و"الحاوي"، و"تلخيص" الروياني، واستدل له ابن الصباغ بما رواه أبو داود قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن؛ فعلمني ما يجزئني في الصلاة؛ فقال: "قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، قال: هذا لله فما لي؟ قال: تقول: "اللهم اغفر لي، وارحمني، وارزقني، واهدني، وعافني". قال: وفي هذا الذكر "الحمد لله"، ولا يتعذر عليه أن يقول: رب العالمين، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتكرارها. قلت: وفي هذا الاستدلال نظر من وجهين: أحدهما: أن المأمور به في الخبر بعض آية، والنزاع إنما هو فيما إذا كان يحسن آية، وما دونها لا يجب عليه أن يأتي به؛ إذ لا إعجاز فيه.

ثم لو صح ما قاله، للزم ألا يجب عليه قراءة الآية إذا كان يحفظها، بل ينتقل إلى الذكر، ولا خلاف في أنه يجب. والثاني: أنه يكرر ذلك سبعاً؛ لأنه أقرب إلى الباقي من الذكر؛ فيتعين الإتيان به؛ كما إذا أحسن غيرها من القرآن؛ فإنه لا يعدل للذكر، ويتركه. والخلاف جارٍ -كما حكاه البندنيجي، والشيخ في "المهذب"،وغيرهما-فيما إذا كان يحسن آية من الفاتحة، وباقي القرآن، هل يكررها سبعاً، أو يأتي بها، ويكمل من القرآن؟ قال الإمام: ولو كان يحسن آيتين مثلاً- ففي التكرار احتمال يجوز أن يقال: لو كررهما أربعاً، كفى؛ فإنه أتى بالسبع، وزاد. فليتأمل الناظر ذلك؛ فإنه محل النظر. ولا خلاف في تعين الإتيان بالآية؛ إذا كان لا يحسن غيرها من الذكر، وقد تقدم في نظير المسألة من التيمم؛ وهي: إذا وجد بعض ما يكفيه من التراب-هل يكون في استعماله القولان يما إذا وجد بعض ما يكفيه من الماء، [أو يجب] قولاً واحداً؛ كما نحن فيه؟ في طريقان. كأن الفرق أنه هنا لا يجب عليه الإعادة عند العجز عن كل البدل؛ فاحتيط [بالإتيان بالمقدور عليه، ولا كذلك في التيمم؛ فإنه عند العجز عن [كل] البدل يصلي، ويعيد-على الصحيح- فلا ضرورة] في الإتيان ببدل ناقص. ثم إذا قلنا بأنه يقرأ الآية، ويأتي بالذكر؛ فظاهر كلام الشيخ أنه يأتي بالآية أولاً، ثم بالذكر، سواء كانت الآية في أول الفاتحة، أو وسطها، أو آخرها، وهو ما اقتضاه كلامه في "المهذب" أيضاً؛ لأنه قال: إن كان يحسن آية وغيرها قرأ الآية، ثم يقرأ ست آيات من غيرها. وغيره من الأصحاب اختلف كلامهم: فقال البغوي: لا يشترط الترتيب بين البدل، والأصل، وكيفما قرأ جاز. وقال القاضي الحسين، والمتولي، والأئمة- كما قال الإمام-: إنه إن كان

يحسنها من الفاتحة وجب الترتيب؛ فإن كانت أول الفاتحة أتى بها، ثم بالذكر، وإن كانت من آخرها أتى بالذكر، ثم بها، وإن كانت في وسطها أتى بالذكر أولاً عما قبلها، ثم بها، ثم بالذكر عن الباقي. قال الإمام: وعلة الترتيب هاهنا ليست علة الترتيب في الفاتحة؛ لأن الترتيب يراعى في الفاتحة؛ حفظاً لنظمها المعجز، وليس بين البدل وما يأتي به من الفاتحة [نظم يرعى. قلت: وعلى هذا لو كان يحسن الآية من غير الفاتحة] ينبغي أن ينظر في عدد حروفها؛ إذا قلنا باعتبار عدد الحروف، فإن وافقت آية [من] أول الفاتحة، أو وسطها، [أو] آخرها- قدر أنها بدلها، وأتى بالذكر بدلاً عما بقي. وإن لم تكن حروفها قدر حروف آية منها، بل أقل-فيظهر أنه يتخير في تقديم الذكر [وتأخيره]، ويجوز أن يتعين تقديم الآية؛ لأنها أقرب إلى الأصل، والله أعلم.

قال: وإن لم يحسن شيئاً من القرآن، لزمه أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله اكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله [العلي العظيم] للخبر السابق؟ قال: ويضيف إليه كلمتين من الذكر؛ لتكمل الكلمات سبعاً؛ كعدد آي الفاتحة. ولأنه لو أتى بالبدل من القرآن، أتى بسبع آيات؛ فالذكر أولى، وهذا قول أبي إسحاق؛ كما قاله أبو الطيب، وعلى هذا فالأولى أن يضيف إليه ما روي في بعض الأخبار: "ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن"؛ وهذا القول لم يحك الشيخ أبو حامد غيره، ولم يذكر في "المهذب" غيره. وقيل: لا يلزمه أن يضيف إلى الكلمات الخمس شيئاً آخر؛ لأنه-عليه السلام- اقتصر حين سئل عن بيان ما يجزئ في الصلاة على ذكر ذلك، وهذا قول أبي علي الطبري، واختاره القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والروياني، وهو الأصح، وخالف ما إذا كان البدل قرآنا؛ لأنه من الجنس؛ فاعتبر المقدار، وهذا بدل من غير الجنس؛ فيجوز أن يكون ون أصله؛ كالتيمم مع الوضوء والغسل. قال: وقيل: يجوز هذا وغيره؛ أي: لا يتعين ذكر للبدل، بل سائر الأذكار فيه سواء؛ لأن القرآن بدل عن الفاتحة، والذكر بدل عن القرآن، وغير الفاتحة من القرآن لا يتعين؛ فكذا بدله؛ كذا قاله القاضي أبو الطيب. ولأنه لا مزية لبعض الذكر عن بعض من حيث النظم؛ وهذا ما يحكي عن أبي إسحاق المروزي، ونسبه الروياني في "تلخيصه" إلى أبي علي بن أبي هريرة. وهو على تقدير صحة النسبة الأولى فيما حكيناه عنه من أنه يضيف إلى الذكر المذكور [في] الخبر كلمتين من الذكر-محمول على [ما] إذا أراد أن يأتي به. وقد صحح عدم تعيين الذكر الرافعي، والروياني في "تلخيصه"، ولم يحك الإمام عن المراوزة غيره. وأمره-عليه السلام-الأعرابي بالذكر المخصوص محتمل؛ لأنه كان

يحفظه، ولا يحفظ سواه؛ ولذلك لم يكرره عليه؛ وعلى هذا يشترط أن تكون حروف ما يأتي به من الذكر بقدر حروف الفاتحة؛ لأنه [لا] يمكن اعتبار قدر الآي إلا بذلك. وحكى الرافعي وجهاً آخر: أنه لا يشترط، وعلى هذا يأتي بسبع أنواع من الذكر، ويقام كل نوع مقام آية، وهذا ما حكاه في "التهذيب". قال الرافعي: وهو أقرب تشبيهاً لمقاطع الأنواع مقام الآيات. وهل الأدعية المحضة كالأثنية؟ فيه تردد للشيخ أبي محمد. قال الإمام: والأشبه أن ما يتعلق من الأدعية بأمور الآخرة كالأثنية، دون ما يتعلق بالدنيا. وسلك الرافعي طريقاً آخر؛ فقال: يشترط أن تكون حروف الأذكار معادلة لحروف الفاتحة، ويعد الحرف المشدد من الفاتحة بحرفين من الذكر، ولا يراعي في الذكر التشديدات. وهل يشترط أن تكون كلمات الذكر معادلة لعدد آي الفاتحة؟ فيه وجهان.

ويشترط ألا يقصد بالذكر المأتي به شيئاً سوى البدلية؛ كما إذا استفتح أو تعوذ على قصد إقامة سنتهما. ولا يشترط قصد البدلية فيهما، ولا في غيرهما من الأذكار في أظهر الوجهين. قال: فإن لم يحسن شيئاً، وقف بقدر القراءة: لأنه كان يجب عليه- في حال قدرته على القراة-أمران: أحدهما: القيام. والثاني: القراءة. فإذا فات أحدهما بقي الآخر. ومثل هذا: التشهد الأول، والقنوت؛ إذا كان لا يحسنهما يمكث بقدرهما؛ ولهذا عد الأصحاب القنوت، والقيام له، والتشهد، والجلوس له مما يسجد لكل منها عند السهو؛ كما ستعرفه. فإن قلت: القيام إنما وجب لأجل القراءة، والقراءة قد سقطت؛ فوجب أن يسقط ما وجب لأجلها. قلنا: القيام وجب عندنا لنفسه وعينه، وبه صرح الإمام في صلاة المريض، وإن كان قد قال -عند الكلام في المسبوق-: إنه إنما وجب تبعاً للقراءة، والصحيح: ما ذكرناه. فرع: لو تعلم الفاتحة في الصلاة، فهل يجب عليه قراءتها؟ نظر: فإن كان ذلك قبل [الشروع في القراءة، وجب بلا خلاف. وإن كان بعد] الركوع، فلا يجب في تلك الرجعة بلا خلاف. وإن كان بعد الشروع في البدل، وقبل استكماله، فهل يتمه، أو يقطعه؟ فيه

وجهان؛ حكاهما الروياني، والإمام، والفوراني: أحدهما: أنه يتمه؛ كما إذا قدر على العتق في الكفارة بد الشروع في البدل. والثاني: لا وهو المشهور، ولم يحك الرافعي سواه. وعلى هذا فهل يستأنف الفاتحة، أو يأتي نها بقدر ما بقي من الذكر؟ فيه وجهان؛ أصحهما- في "التتمة"، وغيره-: الأول؛ كما لو قدر على الماء قبل فراغ تيممه؛ فعلى هذا لو لم يتعلم إلا بعد الفراغ من الذكر، وقبل [الشروع في] الركوع؛ فهل يستأنف، أو لا؟ فيه وجهان؛ أصحهما-عند الروياني-نعم؛ كما لو قدر على الماء بعد الفراغ من التيمم؛ لأن محل القراءة باقٍ، وهذا ما أورده الماوردي، [والقاضي أبو الطيب] في باب: صلاة الإمام قاعداً بقيام. وأظهرهما في "الرافعي" الثاني. ومنهم من قطع به؛ لأن البدل قد تم، وتأدى به الفرض؛ فأشبه ما لو أتى المكفر بالبدل، ثم قدر على الأصل، أو صلى بالتيمم، ثم قدر على الماء. والفوراني شبه الخلاف في هذه الحالة والحالة [التي] قبلها بالخلاف فيما إذا انقطع المطر بعد [فراغ] صلاة العصر، وقد جمع في وقت الظهر. [فرع آخر]: الأخرس عليه أن يحرك لسانه بقصد القراءة؛ لأن القراءة تتضمن نطقاً، وتحريك اللسان؛ فالقدر الذي تعذر جعلناه عفواً، وما يقدر عليه لابد له من الإتيان به؛ قاله في "التتمة"، وحكاه الإمام عن رواية العراقيين عن النص، ثم قال: وهو مشكل؛ فإن التحريك بمجرده لا يناسب القراءة، ولا يدانيها؛ فإقامته بدلاً بعيد. ثم يلزم -على قياس ما ذكروه- أن يلزموا التصويت من غير حروف، مع تحريك اللسان، وهذا أقرب من التحريك المجرد. وبالجملة لست أرى ذلك بدلاً عن القراءة، ثم إذا لم يكن بدلاً، فالتحريك الكثير ملحق بالفعل الكثير، وسنذكره.

قال: ثم يركع؛ لقوله تعالى: {ارْكَعُوا} [الحج: 77] وقوله -عليه السلام- للمسيء في صلاته: "ثم اركع حتى تطمئن راكعاً" وهو إجماع. قال: مكبراً؛ لما روى أبو هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ويكبر حين يركع، ثم يقول: "سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه من الركوع، ويقول وهو قائم: "ربنا لك الحمد" ثم يكبر حين [يهوى، ثم يكبر حين يرفع رأسه، يفعل ذلك في صلاته كلها، وكان يكبر حين] يقوم لاثنين من الجلوس، رواه مسلم، والبخاري. وكان أبو هريرة يكبر في كل خفض، ورفع، ويقول: "أنا أشبهكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم". رواه البخاري. قال: رافعاً يديه؛ لما روى ابن عمر: أنه عليه السلام كان يرفع يديه حذو منكبيه؛ إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال: "سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد"، وكان لا يفعل ذلك في السجود. رواه مسلم، والبخاري. وهكذا يرفعهما إذا صلى جالساً، أو مضجعاً. ثم في كيفية الرفع الخلاف السابق [في كيفيته في] تكبيرة الإحرام، وهو جار في الرفع من الركوع أيضاً؛ قال الرافعي. والذي ذكره الجمهور هاهنا أنه يرفع ذلك حذو منكبيه. قال الأصحاب: ويستحب أن يكون ابتداء التكبير مع ابتداء الرفع، وهل يمد التكبير إلى آخر الركوع؛ كي لا يخلو فعل من أفعال الصلاة عن ذكر، وكذا في

سائر تكبيرات الانتقالات؟ فيه قولان: الجديد الأول، وهو مختار البغوي. ووجه الثاني- وهو القديم-: [الحذر من التغيير]،وقد روي أنه عليه السلام قال: "التكبير جزم". قال: وأدنى الركوع أن ينحني؛ أي: القادر المعتدل الخلقة؛ حتى تبلغ يداه ركبتيه -أي: لو أراد ذلك -بدون إخراج الركبتين، أو انخناس؛ لأنه بدونه لا يسمى راكعاً حقيقة؛ فحمل الأمر عليه، وما دونه يسمى: انحناء. قال الرافعي: وفي لفظ "الانحناء" إشارة إلى أنه لو انخنس، وأخرج ركبتيه، وهو مائل، أو نتصب- لم يكن ذلك ركوعاً، وإن صار بحيث لو مد يده، لنالت راحتاه ركبتيه؛ لأن نيلهما ركبتيه لم يكن بالانحناء. قال الإمام: لو خرج الانحناء بهذه الهيئة، وكان التمكن من وضع الراحتين على الركبتين بهام جميعاً-لم يعتد بما جاء به ركوعاً أيضاً. ولا فرق في ذلك بين أن يقدر عليه بنفسه، أو لا يتمكن منه إلا بمعين، أو الاعتماد على شيء، أو بأن ينحني على شيء. وإن لم يقدر، انحنى القدر المقدور عليه؛ فإن عجز، أومأ بطرفه عن قيام. وهذا حد ركوع القائم، أما القاعد، فحد ركوعه مذكور في باب صلاة المريض. فرع: لو قرأ في صلاته آية سجدة؛ فهوى ليسجد للتلاوة، ثم بدا له [بعد] ما بلغ حد الراكعين أن يركع- لم يعتد بذلك ركوعاً؛ لأنه لم يقطع

القيام؛ لقصد الركوع، بل يجب عليه أن يعود إلى القيام، ثم يركع؛ قاله البغوي، ومثله ما سنذكره في الباب بعده. قال: والمستحب أن يضع يديه على ركبتيه، ويفرق أصابعه؛ لما روى البخاري، ومسلم في حديث [أبي] حميد الساعدي في صفه صلاته عليه السلام قال: "ثم ركع، فوضع يديه على ركبتيه؛ كأنه قابض عليهما". وفي رواية: "ويفرج بين أصابعه". فلو كان بإحدى يديه علة، أو كانت مقطوعة- وضع الأخرى، وينصب ركبتيه. [والغزالي والإمام قالا: إنه] يترك الأصابع على حالها منشورة نحو القبلة. ويكره التطبيق؛ وهو: أن يطبق يديه، ويجعلهما بين ركبتيه؛ لأنه نهى عن ذلك بعد أن كان يفعل؛ رواه أبو حميد، وأنه [يضرب فاعله بالأكفّ] على الركب، رواه البخاري.

قال: ويمد ظهره وعنقه؛ لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يمد ظهره، وعنقه. قال الراوي: حتى لو صب على ظهره ماء لركد؛ [يعني]: لاستواء ظهره. ورواية أبي حميد: "فيهصر ظهره، غير مقنع رأسه، ولا صافح بخده". قال الشافعي في القديم: ويجعل [رأسه] وعنقه حيال [ظهره]. وقال في "الإملاء" ولا يتبازخ، ولا يجعل ظهره محدودياً. والتبازخ: أن يخرج صدره، ويطأطئ ظهره؛ يكون كالتبزُّخ. والمحدودب: أن يعلي وسط ظهره، وعبارة الشيخ تنظم اللفظين. قال: الأصحاب: ويستحب-مع ذلك-أن ينصب ساقيه. قال: ويجافي مرفقيه عن جنبيه؛ لما روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع- وضع يديه على ركبتيه، ويجافي مرفقيه عن جنبيه. قال: وتضم المرأة بعضها إلى بعض؛ لأنه أستر لها، والخنثى في هذا المعنى كالمرأة.

قال: ويقول: سبحان ربي العظيم؛ لما روى أبو داود أنه عليه السلام لما نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]، قال: "اجعلوها في ركوعكم"، ولما نزل قوله تعالى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] قال: "اجعلوها في سجودكم". قال بعضهم: والمعنى في جعل وصفه بالعظمة في الركوع: أنه لم يعبد [به] غيره، وعن حذيفة: أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى، وما مرّ بآية رحمة إلا وقف عندها يسأل، ولا بآية عذاب إلا وقف عندها؛ متعوذاً. أخرجه مسلم، وغره بنحوه مختصراً، ومطولاً. قال: ثلاثاً، وذلك أدنى الكمال، وهذا لفظه في المختصر، ووجهه ما روى ابن مسعود أنه عليه السلام قال: "إذا ركع أحدكم؛ فقال: سبحان ربّي العظيم ثلاث مرات؛ فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، وإذا سجد [فقال في سجوده]

سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات، فقد تم سجوده، وذلك أدناه". رواه الترمذي، وقال: إن إسناده غير متصل؛ لأنه يرويه عون عن ابن سعود، ولم يلقه. ولو اقتصر على قوله [مرة]:سبحان ربي العظيم في الركوع، وسبحان ربي الأعلى في السجود-كان مؤدياً لأصل السنة؛ قاله في "التتمة"، إلا أن المستحب ألا ينقص عن الثلاث. ولو قال في كل مرة من الثلاث: "وبحمده"، كان حسناً؛ لأن عقبة بن عامر روى أنه عليه السلام كان يقول ذلك [ثلاثاً] في الركوع والسجود، [رواه أبو داود]. والقراءة فيه مكروهة؛ وكذا في السجود؛ لقوله عليه السلام: "ألا إني نهيت أن أقرأ راكعاً، أو ساجداً، أما الركوع؛ فعظّموا فيه الرب، وأما السجود فابتهلوا فيه بالدعاء؛ فقمن أن ستجاب لكم" أخرجه مسلم، وقوله: "فقمن" بفتح الميم

وكسرها؛ ومعناه: جدير، وحقيق، قال القلعي: والصواب هاهنا: الفتح لا غير؛ لأنه مصدر، ويقال: فقمين، بالياء، قال الجوهري: من فتح أراد المصدر؛ فلا يثني، ولا يجمع، ولا يؤنث؛ ومن كسر أراد الصفة؛ فيصح تثنيته، وجمعه. وقد قيل: لو قرأ في غير القيام [الفاتحة] [عامدا]، بطلت صلاته؛ كما ستعرفه في باب: سجود السهو. قال: فإن قال [مع ذلك]: اللهم لك ركعت، [وبك آمنت، ولك أسلمت، أنت] ربي، خشع لك سمعي، وبصري، وعظامي، وشعري، وبشري، وما استقل به [قدمي] لله رب العالمين- كان أكمل. قال الشافعي: لأنه حدثني إبراهيم بن محمد، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله. [وفي] رواية أبي داود، عن [علي، عن] النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "اللهم لك ركعت، ولك خشعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، وعظمي، ومخّي، وعصبي"؛ وهذا ما استحبه في "المرشد". قال بعضهم: وسبب الاختلاف في ذلك وأمثاله: اختلاف طرق الأحاديث، مع تقارب المعنى.

وقد قيل: إن أكمل الكمال أن يقول: سبحان ربي العظيم خمساً، أو سبعاً؛ كذا حكاه ابن يونس. وقال الماوردي: إن أكمل الكمال أن يقول ذلك إحدى عشرة مرة، أو تسعاً. ثم ظاهر [كلام الشيخ] أنه لا فرق في ذلك بين الإمام والمأموم، [والمنفرد]، وهو ما حكاه البندنيجي عن نصه في "الأم"، ولفظه: وأحب ألا يقصر عن هذا إماماً كان، أو منفرداً، وهو تخفيف، لا تثقيل. وقال الماوردي، والمتولي، والقاضي الحسين، وغيرهم: إن هذا مختص بالمنفرد، أما إذا كان إماماً، فلا يستحب له الزيادة على الثلاث حذراً من التطويل على المأمومين، إلا أن يؤثره. قال القاضي الحسين، والماوردي: ومن العلماء من قال: ينبغي أن يقولها خمساً؛ ليقولها المأموم ثلاثاً، وقد حكاه الروياني وجهاً لنا، ولم يذكر في "الحلية" -كما قيل- غيره. قال: ثم يرفع رأسه؛ لقوله عليه السلام للمسيء في صلاته: "ثم ارفع حتى تعتدل قائماً". وقالت عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع، لم يسجد حتى يستوي قائماً" رواه مسلم.

قال: قائلاً: سمع الله لمن حمده؛ لحديث أبي هريرة السالف. وعن ابن كج أنه يبتدئ بقوله: سمع الله لمن حمده، وهو راكع، ثم إذا انتهى، أخذ في رفع الرأس واليدين. ومعنى "سمع الله لمن حمده": أجاب الله حمد من حمده، وقد جاء مثله في الكتاب العزيز في قوله تعالى: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 25]، أي: اسمعوا مني سمع طاعة وإجابة، والعرب تقول: اسمع دعائي، أي: أجبه. وقيل: معناه: غفر له. ولو قال: لك الحمد ربنا، أو من حمد الله سمع له -قال الشافعي في "الأم"-: أجزأه؛ لأنه أتى باللفظ والمعنى. والأول أولى. والإمام يجهر بذلك؛ ليسمع من خلفه؛ كما في التكبير، والمأموم يسر به؛ قاله الماوردي. قال: ويرفع يديه؛ أي: مع صلبه؛ لحديث ابن عمر. قال: فإذا استوى قائماً-قال: ربنا لك الحمد ملء السموات و [ملء] الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد؛ لما روى عبد الله بن أبي أوفى أنه عليه السلام كان إذا رفع ظهره قال ذلك، رواه مسلم، وفي رواية: "ربنا ولك

الحمد" بإثبات الواو. ولذلك قال في "الأم": وإذا أتى بها كان أحب إلي؛ كذا حكاه البندنيجي، وحينئذ فتكون الواو مزيدة. [قال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عنها؟، فقال: هي مزيدة]، تقول العرب: "بعني هذا الثوب [بكذا وكذا]؛ يقول: نعم، وهو لك"، وتقديره: نعم هو لك. وقال بعضهم: يمكن أن يقال: ليست مزيدة، ويكون المعنى فيه: أن قوله: "سمع الله لمن حمده" ثناء وجب على حمد الله -تعالى- فكأنه قال: دعوتني إلى حمدك، وحمدتك يا رب لدعوتك إليه؛ فتكون الواو عاطفة لإحدى الجملتين على الأخرى. وقيل: هي عاطفة على جملة مضمرة؛ كأنه قال: ولك الحمد على ما وفقتنا إليه من القول الحسن، والعمل الصالح؛ قاله في "الغريب". ولو قال: "اللهم ربنا لك الحمد"، جاز أيضاً؛ لان أبا سعيد الخدري رواه، أخرجه مسلم. قال: وذلك أدنى الكمال؛ أي: أخصر ذكر كامل، شرع في الاعتدال، وفيه تنبيه على [أن] ما دونه ليس من الكمال في شيء. ومعنى قوله: "ملء السموات، وملء الأرض" أي: أحمدك حمداً يملأ ذلك. وقوله: "وملء ما شئت من شيء بعد"؛ كالكرسي، وما غمض عن إدراك عبادك؛ قال الله -تعالى-: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [البقرة:255]

وقيل: ثوابه يملأ السموات والأرض، وما شئت من شيء بعد. وقيل: ذكر ذلك على سبيل التمثيل، والتقريب؛ أي: لو كان بدل هذا القول أجراماً، لملأت ذلك. وفي "ملء السموات" ومثله لغتان: النصب، والرفع، والنصب أشهر، وممن حكاهما ابن خالويه، وصنف في المسألة. قال: فإن قال معه: "أهل الثناء والمجد، حق ما قال العبد: كلنا لك عبد، لامعطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" كان أكمل؛ لأن أبا داود روى ذلك، عن رواية أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه مسلم، إلا أن الرواية: "أحق ما قال العبد" بالألف، "وكلنا لك عبد" بإثبات الواو. قال النواوي: وما ذكره الشيخ هو المذكور في معظم كتب الفقه، وهو صحيح من حيث المعنى، ولكن الذي [ثبت] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكرناه، قال: وتقديره حينئذٍ: أحق ما قال العبد: لا مانع لما أعطيت ... إلى آخره، واعترض بينهما: "وكلنا لك عبد"؛ ولهذا الاعتراض نظائر في القرآن، وغيره. وعلى تقدير حذف الألف؛ فـ"حق ما قال العبد"، خبر لمبتدأ تقديره: ما قال العبد حق، لا باطل. وقوله: "أهل الثناء" منصوب على النداء. قيل: ويجوز رفعه؛ على تقدير: أنت أهل الثناء، والمشهور النصب. و"الثناء" ممدود، وهو بتقديم الثاء موضوع للمدح، وما يقال من أنه ورد في الذم، فهو شاذ مؤوّل على إقامة الذم مقام المدح، والنثا؛ بتقديم النون مقصور يستعمل في المدح والذم معاً. والمجد: العظمة، والرفعة. وقوله: "كلنا لك عبد" فيه إشعار بأنه من كانت هذه صفته، كان الانقياد إليه والخضوع واجباً.

ومعنى: "لا ينفع ذا الجد منك الجد"، أي: لا ينفع ذا النسب في الدنيا نسبه في الآخرة. أو لا ينفع ذا الحظ في الدنيا حظه في العقبى، وإنما ينفعه العمل وطاعتك. وهذا ما صححه النواوي. و"الجد" مرفوع فاعل "ينفع"، أي: لا ينفع الجد صاحبه. و"ذا الجد" مفعوله، وهو بفتح الجيم؛ على الصحيح، ورواه جماعة قليلة بكسر الجيم؛ وهو: الإسراع في الهرب، أي: لا ينفعه هربه منك. وقيل: المعنى-على هذه الرواية-: لا ينفع ذا الاجتهاد في العمل منك اجتهاده، إذا لم يسبق له سابقة خير، إنما النجاة بفضل الله ورحمته. قال الأزهري: "ومنك" هاهنا بمعنى: عندك. [ثم ظاهر] كلام الشيخ أنه لا فرق في ذلك بين الإمام والمنفرد، وهو ما حكاه البندنيجي. وقال الإمام: يحتمل أن يختص هذا بالمنفرد، أما الإمام فإنه مأمور بالتخفيف؛ فيقتصر على أدنى الكمال، وهو الموافق لما حكيناه عن غيره في الركوع، وهذا ما أورده الرافعي، وقال في "الحاوي": إنه المختار. قال: ثم يكبر، ويهوي ساجداً؛ لخبر أبي هريرة السابق، وهو يقتضي أنه يمد التكبير إلى السجود، وهو الجديد. ومقابله وهو القديم: أنه لايمده، بل يحذفه؛ لما تقدم من الخبر أيضاً. ولا يستحب فيه رفع اليدين؛ لما تقدم من خبر ابن عمر. ويهوي؛ بفتح الياء؛ أي: يقع، قال الله -تعالى-: {تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} [الحج: 31]، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]. والسجود أصله: التطامن، والميل. وقيل: أصله: الخضوع، والتذلل، وسمي سجود الصلاة: سجوداً؛ لأنه غاية الخضوع. قال: فيضع ركبتيه، ثم يديه؛ لما روى وائل بن حجر قال: رأيت رسول الله

صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه.

أخرجه أبو داود، والتمذي، وقال: إن حسن غريب، لا نعرف واحداً رواه غير شريك. قال الخطابي: هو أصح مما رواه النسائي، عن أبي هريرة؛ انه عليه السلام قال: "إذا سجد أحدكم فليضع يديه قبل ركبتيه، ولا يبرك برك البعير".

وقد قيل: إنه منسوخ؛ لأن أبا سعيد الخدري قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين؛ فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين. قال: ثم جبهته، وأنفه؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رئي على جبهته وعلى أرنبته أثر طين من صلاة صلاها بالناس. رواه أبو داود، وأخرجه البخاري، ومسلم بنحوه أتم منه. قال: وأدنى السجود: أن يباشر بجبهته المصلى؛ لما روى مسلم [وغيره] عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا؛ فلم يُشْكِنَا، أي: لم يزل شكايتنا. والرمضاء: [الرمل] المتوقد من شدة [حر] الشمس. وقيل: لابد مع السجود على الجبهة من السجود على الأنف؛ لقوله عليه

السلام: "لا صلاة لمن لم يضع أنفه على الأرض"، رواه الدارقطني عن ابن عباس، وهذا ما حكاه في "الزوائد" قولاً عن رواية أبي زيد. والمشهور في الكتب: الأول؛ لأنه عليه السلام سجد على جبهته على قصاصة الشعر، وهو حيث ينتهي بنانه من مقدمه أو مؤخره، وضم القاف أفصح لغاته، ومعلوم أن من سجد على ذلك لا يكون أنفه على الأرض. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمرين: أحدهما: الاكتفاء بإمساس الجبهة المصلى؛ إذ به يصدق اسم المباشرة؛ كما هو مذكور في باب ما ينقض الوضوء، وليس ذلك بكاف، بل لابد معه من إرخاء الرأس على المصلى؛ لأنه جاء عنه عليه السلام أنه [قال]: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء ... " إلى أن قال: "فيسجد؛ فميكن جبهته". قال همام: وربما قال: "جبهته من الأرض؛ حتى تطمئن مفاصله، وتسترخي"، أخرجه أبو داود؛ فلو حصل الإمساس مع حمل الرأس عنه لم يجزئه؛ للخبر. وزاد الشيخ أبو محمد، فقال: إذا كان السجود على شيء محشو بقطن ونحوه، فلابد من التحامل عليه؛ ليظهر أثر السجود. وهو معنى ما ذكره البغوي، والقاضي الحسين. وقال الإمام: إنه يكفي الإرخاء أيضاً، بل هو أقرب إلى هيئة التواضع من تكلف التحامل، وإليه الإشارة بقول عائشة: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سجوده كالخرقة البالية"، وهذا ما أورده في "الوسيط".

الثاني: إيجاب مباشرة المصلى بجميع الجبهة، وهو وجه حكاه ابن القطان؛ لظاهر قوله عليه السلام: "إذا سجدت فمكن جبهتك من الأرض"، لكن المذهب أنه يكفيه أن يسجد على بعضها؛ لما روي عن جابر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على جبهته على قصاص الشعر. رواه تمام في "زوائده"، ومع هذا يشكل قول الشافعي في "الأم": "وإن سجد على بعض جبهته، كرهته، وأجزأه"؛ لأنه عليه السلام لا يفعل مكروهاً، وإن فعل المباح، وترك الأولى [مرة]؛ لبيان الجواز.

نعم، لو سجد على جبينه- وهو جانب الجبهة-لم يجزئه. وقد أفهم كلام الشيخ أنه لو كان على جبهته شيء يمنع مباشرتها المصلى-لم يجزئه، وهو كذلك، إلا أن يكون عليها عصابة؛ لمرض، أو جرح؛ فنه يجزئه، ولا إعادة عليه؛ حكاه البندنيجي. وقيل: عليه الإعادة. قال الماوردي: وهو مخرج من المسح على الجبائر، وليس بصحيح. ثم ما ذكره [من مجرد] الاكتفاء بمباشرة الجبهة للمصلى مقيد بشرطين: أحدهما: ألا يكون المصلى متصلاً [به] اتصالاً يتحرك بحركته، [فلو صلى على طرف عمامة، وهي تتحرك بحركته لم يصح، وإن لم تتحرك بحركته]- جاز؛ نص عليه الشافعي؛ قاله أبو الطيب. وقال القاضي الحسين: لا يجزئه في الحالين؛ كما في النجاسة. الثاني: ألا تكون أعاليه- في حالة سجوده- على المصلى أعلى من أسافله، ويتصور ذلك بأن يسجد على مخدة، أو ربوة، ونحو ذلك؛ فلو كانت، لم يصح. وإن كانت أسافله- في حال سجوده- أعلى من أعاليه- صح. وإن استوت الأسافل، والأعالي-فوجهان؛ أظهرهما: عدم الصحة أيضاً، وهو المذكور في "الوجيز"، و"التهذيب". ثم هذا في حق المتمكن من ذلك، أما من به علة تمنعه من التنكيس، أو الاستواء-فلا يلزمه، لكن هل يجب عليه وضع شيء؛ ليسجد عليه، أو يكفيه الإيماء؟ فيه وجهان: أظهرهما -عند الغزالي-: الوجوب. ومقابله: أشبه بكلام الأكثرين؛ كما قال الرافعي. ولا خلاف في أنه إذا عجز عن وضع الجبهة على المصلى، وقدر على وضعها على وسادة، مع مراعاة هيئة التنكيس: أنه يلزمه ذلك.

ولو عجز عن الانحناء أشار بالرأس، ثم بالطرف. والمراد بالمصلى: ما يصلي عليه من أرض، أو ثوب، أو حصير، ونحو ذلك، والأصل في جواز ذلك ما رواه أنس قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فيضع أحدنا الثوب من شدة الحر في مكان السجود. أخرجه البخاري، ومسلم. قال: وفي وضع اليدين [والركبتين]، والقدمين- أي: أطراف أصابع القدمين -قولان- أي: منصوصان في "الأم". أحدهما: يجب؛ لقوله عليه السلام:"أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء: على الجبهة وأشار بيده إليها- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، ولا أكف الثوب، ولا الشعر" أخرجه البخاري، ومسلم، عن رواية ابن عباس، وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت، وربما قال: أمر نبيكم أن يسجد على سبعة آراب"

أخرجاه أيضاً. وهذا القول اختاره في "المرشد"والشيخ أبو علي، وقال البندنيجي: إنه المذهب. وأبو الطيب: إنه ظاهر المذهب، وعليه عامة الفقهاء، وإذا قلنا به، فلا يكفي وضع ظهر الكف، والواجب ما ينطلق عليه الاسم من بطنها. والثاني: لا يجب؛ لأن الله -تعالى- أفرد الجبهة في ذكر السجود؛ فقال: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]، وقال: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} [الإسراء: 107]، وقال عليه السلام: "إذا سجدت؛ فمكن جبهتك من الأرض" وإفرادها بالذكر يدل على أنها مخالفة [لما عداها، ولأنه لو وجب السجود عليها مع القدرة، لوجب الإيماء إليها عند العجز؛ كما] في الجبهة؛ ولأن المقصود منه [وضع] أشرف الأعضاء على مواطئ الأقدام، وذلك خصيص بالجبهة، وذلك نهاية الخضوع. والأمر في الحديث محمول على الاستحباب. وهذا القول نص عليه في "الإملاء" أيضاً، واختاره البغوي، وقال الرافعي: إنه الأظهر، ومنهم من قطع به في الركبتين والقدمين، واقتصر على إجراء القولين في الكف، ويشهد له ما رواه أبو داود، عن ابن عمر رفعه، وقال: "اليدان تسجدان كما يسجد الوجه؛ فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه، وإذا رفع فيلرفعهما" وأخرجه النسائي. ثم ظاهر [كلام] الشيخ أنه لو لم يعتمد على شيء من اليدين والركبتين والقدمين على القول بعدم وجوبه، بل اقتصر على وضع جبهته على الأرض- أنه يجزئه، وعليه ينطبق قول البندنيجي: [إنا] إذا قلنا: لا يجب السجود على

ذلك؛ فالواجب وضع الجبهة فقط، ولو تمكن من وضعها دون سائر الأعضاء أجزأ ذلك، وكيفما شاء وضع هذه الأعضاء مكشوفة، ومستورة، وضع راحتيه، أو [وضع] ظهر كفيه، وقد حكاه في "الروضة" عن الشيخ أبي حامد، وصاحب "العدة"، وقال: إن ذلك مصَّور بما إذا رفع الركبتين والقدمين، ووضع ظهر الكفين، أو حرفهما؛ فإنه في حكم رفعهما. وهذا التصوير مؤذن بصحة ما قاله بعض الشارحين لهذا الكتاب: [أنه] لا خلاف في أنه لا يجزئه أن يضع جبهته على الأرض، ويمد يديه ورجليه؛ لأنه لا يسمى: سجوداً؛ فإن السجود في اللغة: التطامن، ومنه قولهم للبعير إذا تطامن؛ ليركبه راكبه: قد سجد. قال: وفي مباشرة المصلى بالكف قولان؛: أي: منصوصان في "الأم" في موضعين: أصحهما: أنه لا يجب؛ لأنه عليه السلام صلى في مسجد ابن عبد الأشهل، وعليه كساء ملتف به يضع يديه عليه؛ يقيه برد الحصا. رواه ابن ماجه.

ولأن ذلك لا يكشف إلا لحاجة؛ فلم يجب في حال السجود؛ كالقدم. ومقابله: أنه يجب؛ لقول خباب: "فلم يُشْكِنَا"؛ وهذا ما اختاره في "المرشد"، وإذا قلنا به، كفاه مباشرته بجزء من باطن الكف؛ كما قلنا في الجبهة. والقائلون بالأول قالوا: المراد من قوله: "فلم يشكنا" أي: في مجموع الوجه، واليدين، أو لم يشكنا بالإبراد بالجمعة الواجب حضورها. واقتصار الشيخ على ذكر الخلاف [في مباشرة المصلى بالكف، يعرفك أنه لا يجري في كشف الركبتين والقدمين، وهو كذلك، ولا خلاف] فيه، بل المستحب- كما قال البندنيجي في الركبتين- أن [يكتي بسترهما]، وإن قلنا: إنهما ليستا من العورة، والرجلان [إن كانتا في الخف، فلا يستحب نزعهما]. وإن كانتا في نعلين؛ فيستحب نزعهما، ويكشف عن موضع السجود، فيباشر به المصلى. قال: والمستحب أن يجافي-أي: يباعد-مرفقيه عن جنبيه رواه أبو حميد؛ كما ذكرناه في أول الباب. وروى ابن بحينة أنه عليه السلام "كان إذا سجد، فرج بين يديه حتى يرى بياض إبطيه] رواه البخاري ومسلم. قال: ويقلّ بطنه عن فخديه؛ لما روى أبو داود أنه عليه السلام: "كان إذا

سجد لو مرت بهيمة لنفذت". وعن ابن عباس قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم من خلفه؛ فرأيت بياض إبطيه، وهو مجخ، وقد فرغ، رواه أبو داود، والمجخي: المخوي، ورواية مسلم: "أنه عليه السلام كان إذا سجد خوى" أي: جخ. ويستحب في السجود- وراء ما ذكره الشيخ- أمور: أحدها: أن يفرج رجليه؛ لأن أبا حميد الساعدي رواه؛ قال في "المهذب": وكذا ينبغي أن يفرج بين فخذيه؛ نص عليه. قال أبو الطيب: قال أصحابنا: يكون بينهما قدر شبر. الثاني: أن يوجه أصابع رجليه نحو القبلة في السجود، ويوجههما إلى القبلة؛ [نقله المزني. وصورة ذلك: أن يضع أصابع رجليه؛ بحيث تكون رءوسهما قبالة القبلة]؛ حكاه أبو الطيب. ويدل عليه رواية أبي داود، عن أبي حميد الساعدي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتخ أصابع رجليه إذا سجد". والفتخ بخاء معجمة: تعويج الأصابع. ورواية البخاري: "استقبل بأطراف رجليه القبلة".

وفي "النهاية": أن ما ذكره المزني يحتاج إلى تأمل، والذي صححه الأئمة أن يضع أطراف الأصابع على الأرض، ولا يرسلها في صوب القبلة. الثالث: أن يضم أصابع يديه بعضها إلى بعض، ويضم الإبهام إليها، ويستقبلهما إلى القبلة. قال الغزالي: ولا يؤمر بضمها مع النشر إلا هاهنا. وفي حديث أبي داود: "أنه عليه السلام كان إذا سجد، ضم أصابعه، وجعل يديه حذو منكبيه. الرابع: أن يرفع مرفقيه، ويعتمد على راحتيه؛ لقول وائل بن حجر: "فإذا سجد وضع يديه [غير مفترش]، ولا قابضهما". رواه البخاري. الخامس: أن يرفع ظهره، ولا يحدودب، ولفظه في "الأم": "يرفع ظهره، ولا يعمد رفع وسطه عن أسفله وأعلاه". [قال: وتضم المرأة بعضها إلى بعض؛ لأنه أستر لها، والخنثى في هذا المعنىكالمرأة]. قال: فإن قال معه: "اللهم لك سجدت، ولك أسلمت، وبك آمنت، أنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره- أي: منفذهما- فتبارك الله أحسن الخالقين- كان أكمل؛ لأن عليًّا- كرم الله وجهه- روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله، أخرجه البخاري.

ورواية أبي داود: "الذي خلقه؛ فأحسن صورته، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين"، وبها قال في "المرشد". قال البندنيجي: وقد حكى الشافعي في بعض كتبه أنه كان يقول: "سجد وجهي حقّاً حقّاً، عبوديةورقّاً". وقال في "المهذب": "إنه لو قال: سبوح قدوس رب الملائكة والروح- فهو حسن؛ لما روي عن عائشة أنه عليه السلام كان يقوله في ركوعه وسجوده". والسبوح والقدوس: اسمان من أسماء الله تعالى- معناهما: التنزيه البليغ، وجاء [على] وزن "فُعُّول"، قيل: ولا يعرف على هذا البناء سواهما، وغرابة الوزن فيهما تنبيه على اختصاص الله -تعالى- بالمذكور. وقوله: "تبارك الله" أي: تعالى، والبركة: العلو، والنماء؛ حكاه الأزهري عن ثعلب. وقال ابن الأنباري: تبرك العباد بتوحيده وذكر اسمه. وقال ابن فارس: معناه: ثبت الخير عنده. وقيل: تمجد، وتعظم. [قال الخليل]: وقيل: استحق التعظيم. وقوله: "أحسن الخالقين" أي: المصورين المقدورين. قال: وإن سأل الله -تعالى- في سجوده ما يشاء، [أي: من أمر الدين والدنيا]، كان حسناً؛ لقوله عليه السلام: "وأما السجود، فأكثروا فيه من الدعاء؛

فقمن أن يستجاب لكم" أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد". وقال مجاهد: ألم تسمع قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. وقد روى مسلم أنه عليه السلام كان يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، آخره وأوله، علانيته، وسره". ثم ظاهر نصه في "الأم" أنه لا فرق-في ذلك-بين الإمام والمنفرد. وقال في "الإملاء": لايزيد الإمام على ما ذكرناه من الدعاء؛ كذا قاله البندنيجي. وقال الرافعي: إن ما ذكرناه في فصل الركوع: أن المستحب للإمام ماذا وللمنفرد ماذا-يعود كله ههنا. قال: ثم يعرف رأسه؛ لقوله عليه السلام للمسيء في صلاته: "ثم ارفع حتى تعتدل جالساً". وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السجود، لم يسجد حتى يستوي قاعداً، أخرجه البخاري [ومسلم].

قال: مكبراً؛ لحديث أبي هريرة السالف. قال: ثم يجلس مفترشاً [أي: يفرش] رجله اليسرى؛ أي: فيجعل ظهرها على الأرض، ويجلس عليها؛ لما ذكرناه من خبر أبي حميد الساعدي في أول الباب. قال: وينصب اليمنى؛ أي: قدمه اليمنى؛ فيضع بطون أصابعها على الأرض، ويستقبل بها القبلة؛ لما روى البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا جلس في الركعتين- جلس على رجله اليسرى، ونصب [اليمنى، وإذا كانت الجلسة التي فيها السلام-قدم رجله اليسرى ونصب] الأخرى، وقعد على مقعدته"؛ فثبت بهذا أن السنة في جلوس السلام التورك، وفيما عداه الافتراش. وعن الخطابي أنه قال: الأحاديث الثابتة في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي حميد، ووائل بن حجر: أنه قعد بين السجدتين مفترشاً قدمه اليسرى. وعن رواية أبي علي في "الإفصاح" حكاية قول آخر: أنه يجلس على صدور قدميه. [وروى البويطي، عن الشافعي أنه يجلس على عقبه، وتكون صدور قدميه] على الأرض؛ لأن العبادلة-وهم: عبد الله بن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير- كانوا يفعلون ذلك بين السجدتين، وهذا هو الإقعاء. والمشهور من مذهب الشافعي أن الإقعاء فيها مكروه؛ لقول عائشة: "كان

رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن عقبة الشيطان والإقعاء". وقال عليه السلام لعلي: "لا تُقْعِ بين السجدتين". و [قيل] في تسير الإقعاء غير ذلك، وقد ذكرناه في [باب] صلاة المريض. قال: ويقول: "اللهم اغفر لي، وارحمني، وارزقني"؛ لماروت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في جلوسه بين السجدتين: ["اللهم اغفر لي وارحمني، واجبرني، وارزقني، واهدني إلى الطريق الأقوم"، ورواية ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول بين السجدتين]: "اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني،

وعافني، وارزقني" رواه أبو داود، وروى غير ذلك. قال الأصحاب: والشافعي لم يذكر ما يقوله بين السجدتين، وأي شيء قاله من الذكر فهو حسن. قال: ثم يسجد الثانية -للإجماع- مكبراً؛ لما روى البخاري عن أبي هريرة: أنه [كان] يكبر في [كل] خفض ورفع، ويقول: "أنا أشبهكم [صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم] ". قال: ثم يرفع رأسه-للإجماع-مكبراً؛ لحديث أبي هريرة. ولا يرفع يديه في هذا التكبير على المذهب؛ لحديث ابن عمر. وقيل: إنه يرفع يديه عند قيامه من السجود، ومن التشهد؛ [لأن عليّاً روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند القيام من التشهد]،وهذا ما يعزى إلى أبي بكر بن المنذر، وأبي علي الطبري. وأجاب القائلون بالمذهب بأن ما رواه على يحتمل أن يكون منسوخاً؛ لترك

الصحابة العمل به. قال: ويجلس جلسة الاستراحة في أصح القولين؛ لما روى ابن الحويرث: أنه رأى [رسول الله] صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاته-لم ينهض حتى يستوي جالساً، رواه البخاري. ولأنه رفع من سجود؛ فوجب أن يكون القعود فيه مشروعاً؛ كالرفع من السجدة الأولى، وهذا ما نقله المزني. ومقابله: أنه لا يجلس؛ لما روى وائل بن حجر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من السجود استوى قائماً، وقال عليه السلام للمسىء في صلاته: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم قم حتى تعتدل قائماً". ولأن هذه الجلسة لو كانت مستحبة لكان لها ذكر مشروع، ولما أجمعنا على أنها لا ذكر فيها، دل على أنها غير مستحبة؛ كذا قاله الطحاوي، وهذا القول رواه الربيع، عن المزني؛ [كما] قال أبو الطيب. وقال البندنيجي: إن الشافعي نص على ثلاث جلسات في الصلاة: جلستي التشهد، والجلسة بين السجدتين، ولم يذكر هذه، [و] لكن المزني ثقة. قال الأصحاب: والعمل بالخبر الأول أولى؛ لاشتماله على زيادة، وما ذكره الشيخ طريقة في المذهب، عليها عامة الأصحاب. وقال أبو إسحاق: ليست المسألة على قولين، بل على حالين: فإن [كان] المصلي كبيراً ضعيفاً، جلس للاستراحة، وإن لم يحتج إليه، قام من غير جلوس.

ثم جلسة الاستراحة من الركعة الأولى، أو من الثانية؟ قال الشيخ أبو حامد: الذي يجيء على قول الشافعي: أنها من الثانية؛ لأنه يبتدئ التكبير بعد الفراغ من الأولى. قال بعضهم: وهو بعيد؛ لأن الجلوس لا يعهد في ابتداء الركعة. وقال مجلي: يحتمل أن يكون من الأولى؛ تبعاً للسجود. وقال ابن الصباغ: ليست من واحدة منهما، وإنما هي للفصل كالتشهد الأول، وهو الصحيح. ثم الجلوس فيها يكون مفترشاً؛ لأن يتعقبه قيام. وحكى الماوردي وجهاً آخر: أنه يجلس فيها على صدور قدميه غير مطمئن. وقال في "التتمة": يكون قدرها بقدر الجلسة بين السجدتين، ويكره أن يزيد على ذلك، ويضع يديه على فخذيه، قريبة من ركبتيه، منشورة الأصابع. قال الإمام: ولو انعطف أطرافهما على الركبة، فلا بأس، ولو تركهما من جانبي فخذيه، كان كإرسالهما في القيام. قال: ثم ينهض قائماً معتمداً على يديه؛ لما روي عن مالك بن الحويرث: أنه أراهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نهض، اعتمد على الأرض بيديه. قال الشافعي: ولأنه أشبه بالتواضع، وأعون للمصلي، وأحرى ألا ينقلب. قال في "الوسيط": ويضع يديه، كما يصنع العاجن؛ لأنه روى عنه صلى الله عليه وسلم ذلك، وهي بالنون، وتُصحَّفُ بالزاي المعجمة.

قال: ويمد التكبير إلى أن يقوم؛ كي لا يخلي ركناً من ذكر، وهذا هو الجديد؛ كما تقدم. والقديم: أنه لا يمده. ثم ظاهر كلام الشيخ: أنه لا فرق في مد التكبير إلى القيام بين أن نقول: يجلس للاستراحة، أو لا. وبه صرح البندنيجي عن المذهب. وحكى عن أبي إسحاق أنه قال: هذا إذا لم يجلس للاستراحة؛ فإن جلس لها، كان انتهاؤه مع انتهاء الجلوس، ثم يقوم غير مكبر؛ لأن التكبير للرفع، لا للقيام؛ بخلاف القيام بعد التشهد؛ فإنه للقيام، لا للجلوس. قال البندنيجي: وليس بشيء. ونقل العجلي وجهاً [ثالثاً]: أنه يرفع غير مكبر، ويبتدئ التكبير جالساً، ويمده حتى يقوم، ويحكي هذا عن اختيار القفال. وقال الماوردي: إن هذا مفرع على قولنا: [إنه يجلس غير مفترش، وإن قول

أبي إسحاق مفرع على قولنا]: إنه يجلس مفترشاً. ولم يحك سواهما، وكذلك الإمام والصيدلاني، والغزالي [في "الوسيط]، وأعرضوا عن ذكر المذهب الذي هو الأظهر عند الجمهور. والقاضي الحسين حكى الأوجه كلها، وقال: [إن للشافعي] ما يدل على الوجه الذي اختاره القفال؛ لأنه قال في صلاة العيد: ويكبر في الركعة الأولى سبعاً، سوى تكبيرة الافتتاح، وفي الثانية خمساً، سوى تكبيرة القيام عن الجلوس. فأضاف التكبيرة إلى القيام. ومن قال بالأولين أول النص، وقال: إنما أضافه إلى القيام؛ لقربه من الجلوس. ولا خلاف في أنه لا يكبر تكبيرتين: تكبيرة للرفع، وتكبيرة للقيام؛ كي لا يوالي بين تكبيرتين في الصلاة، وهو غير مشروع، وخالف التكبير حين يرفع من السجدة الثانية في الركعة الثانيةن ويكبر حين يقوم من التشهد؛ لأن التشهد يفصل بين التكبيرتين. قال: ثم يصلي الركعة الثانية، مثل الأولى؛ هكذا نص عليه في "المختصر". ووجهه في الفروض خلا ما استثناه منها، قوله عليه السلام للمسيء في صلاته: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها"، وفي بعض السنن-وهو قراءة السورة-ما سلف من الأخبار؛ وفي باقيها القياس. قال: إلا في البنية؛ لأنها تراد للعقد، وقد انعقدت [، و] في معناها تكبيرة

الإحرام، ورفع اليدين فيها. قال: والاستفتاح؛ لأنه للافتتاح، والتعوذ؛ [لأنه يراد] للدخول في القراءة، وقد دخل فيها في الركعة الأولى. وما ذكره في التعوذ هو ما ذكره الماوردي، و [نقل] عن ابن سيرين أنه يتعوذ في كل ركعة، وقال: إنه خطأ؛ لأن ما قبل القراءة من الدعاء محله الركعة الأولى؛ كالاستفتاح. وقد حكى غيره قول ابن سيرين قولاً للشافعي، وهو ظاهر نصه في "المختصر"؛ فإنه قال [فيه ما ذكرناه] ولم يستثن شيئاً، وبعضهم ذكر ذلك وجهاً للأصحاب، وعليه جرى القاضي الحسين، والإمام، ومن تبعه، وقال: إن الأول مأخوذ من قوله: "لو ترك التعوذ في الركعة الأولى يقضيه في الثانية"، ولو كان يسن عنده في الثانية على جهة الأصل؛ لما سماه قضاء. وعن نصه في "الأم": "أنه إن تعوذ في كل ركعة، فحسن، ولا آمره به في [كل ركعة؛ كما آمره به في] الركعة الأولى"،وقد أخذ به بعض الأصحاب، وقال: هو مستحب في كل ركعة، وفي الأولى أشد استحباباً. قال الرافعي: وسواء أثبتنا الخلاف في المسألة، أو لم نثبته؛ فالأظهر أنه ستحب في كل ركعة. وبه قال القاضي أبو الطيب الطبري، وإمام الحرمين، والروياني، وغيرهم. ولا خلاف في أنه إذا تركه في أول ركعة أتى به في ثاني ركعة؛ بخلاف دعاء الاستفتاح، وبه يبطل ما أبطل به الماوردي مذهب ابن سيرين. ثم ظاهر كلام الشيخ –رحمه الله- أن القراءة في الركعة الثانية مثلها في الركعة الأولى، وهو ما حكاه البندنيجي، وقال في "المهذب": إنه ظاهر نصه في "الأم" أيضاً. ووجهه: ما سلف من خبر أبي سعيد الخدري وغيره. وعن الماسرجسي من أصحابنا أنه يستحب أن تكون السورة في الركعة الأولى

أطول من الثانية، ولا سيما في الفجر؛ ليدركه القاصد، ويشهد له ما روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين [الأوليين] بفاتحة الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية أحياناً، [وكان يطيل في الركعة الأولى من الظهر ويقصر في الثانية، وكذلك في الصبح. وفي رواية: قال]: وكان يطيل في الركعة الأولى ما لا يطيل في الثانية، وهكذا في صلاة العصر، وهكذا في صلاة الغداة. وفي رواية: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى. وهذا الوجه صححه القاضي أبو الطيب، وقال: إن به قال أصحابنا الخراسانيون. والقائلون بظاهر النص قالوا: خبر أبي قتادة [يحمل على أنه أحس بداخل، ويحتمل أن يكون أبو قتادة] أراد إطالة القيام؛ فإن القيام في الأولى أطول؛ لأجل دعاء الاستفتاح. وعلى كل حال فالمستحب أن تكون السورة التي في الركعة الثانية بعد السورة التي قرأها في الركعة الأولى، لا قبلها؛ قاله المتولي، وصاحب "المرشد"، وغيرهما؛ فلو اتفق أنه قرأ في الأولى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ففي الثانية يبدأ بالبقرة، ولو قرأ سورة قبل ذلك -جاز، ولو أعاد: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} جاز؛ فإن أبا داود روى عن معاذ بن عبد الله الجهني: أن رجلاً من جهينة أخبره انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح: {إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ} في الركعتين

كلتيهما، قال: ولا أدري أسها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمداً؟ قال: وإن كان في صلاة هي ركعتان، جلس بعد الركعتين متوركاً، يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى-أي: القدم اليمنى-ويخرجها من تحته، ويفضي بوركه- أي: الأيسر-إلى الأرض؛ لما قدمناه من رواية أبي حميد الساعدي. ثم هذا إذا لم يكن عليه سجود سهو؛ فإن كان، فهل يجلس متوركاً؛ لأنه آخر صلاته، أو مفترشاً؛ لأنه يعقبه حركة السجود؛ فشابه الجلسة بين السجدتين؟ فيه وجهان، المذكور منهما في "الإبانة": [الثاني]، وقد حكاه الإمام، عن الأئمة، والروياني في "تلخيصه" عن القفال، وقال: إنه حسن، لكنه خلاف ظاهر المذهب. قال: ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويقبض أصابعه إلا المسبحة؛ فإنه يشير بها متشهداً؛ لرواية ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى. ورواية مسلم عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، [وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بالسبابة. وعن ابن الزبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة، جعل قدمه اليسرى بين فخذيه وساقيه، وفرش قدمه اليمنى، ووضع اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى] وأشار بإصبعه". أرجه مسلم.

وهذا أشهر الأقوال، وإذا قلنا به، ففي كيفية قبض أصابع يده اليمنى وجهان: أحدهما: يضع الإبهام على وسطاه، والثلاثة مقبوضة. والثاني: يضعها على بطن الكف، بجنب الأصابع الثلاثة. كذا حكاه القاضي الحسين، ثم قال: وقيل: إنه يقبضها؛ كأنه عاقد ثلاثة وخمسين فيوجه، وفي وجه: كأنه عاقد ثلاثة وعشرين. وهذان الأخيران هما المذكوران في غيره، واستدلوا للأول برواية ابن عمر التي ذكرناها، وللأخير بأن ابن الزبير رواه. قال بعضهم: واصطلاح المتقدمين في عقد الثلاثة كالتسعة عند أهل مصر من غير تركيب الخنصر [على البنصر]. والقول الثاني: أنه يقبض ثلاثة أصابع، ويبسط السبابة والإبهام؛ قاله في "الإملاء"؛ لأن أبا حميد الساعدي رواه؛ كذا قاله أبو الطيب. وعلى هذا هل يضع السبابة على الإبهام؛ كأنه عاقد تسعة وعشرين، أو يرسلهما غير متراكبين؟ فيه وجهان: والقول الثالث: أنه يقبض الخنصر والبنصر، ويحلق الإبهام مع الوسطى حلقة؛ رواه وائل بن حجر. وفي كيفية التحليق وجهان: أحدهما: يضع أنملة الوسطى بين عقدتي الإبهام.

وأصحهما: أنه يحلق بينهما برأسيهما. وما ذكرناه من الأحاديث في ذلك، كلها خرجها الترمذي، وهي تدل على أنه عليه السلام كان يفعل كذا مرة، وكذا أخرى؛ ولأجله قال بعض الأصحاب- كما قال الروياني في "تلخيصه": إنه يتخير فيها، وهو المذكور في "الشامل"، وغيره؛ كما قال الرافعي. ومفهوم كلام الأكثرين أن الخلاف في الأفضل.

وأصح الأقوال على [هذا] ما ذكره الشيخ، وهو الذي نقله المزني، والربيع، والبويطي؛ لان رواته أفقه من رواة غيره. وإشارته بالسبابة على الأقوال كلها، ويكون قصده بها التوحيد والإخلاص عند كلمة الإثبات؛ وهي: "إلا الله"؛ كذا قاله القاضي الحسين، والإمام، وغيرهما. وقال بعضهم: إنه يشير بها من أول كلمة الإثبات، وهي "إلا" من قوله: "أشهد أن لا إله إلا الله"، وعزاه إلى رواية الإمام. والذي رأيته في "النهاية": الأول. وهل يحرك السبابة، أم لا؟ فيه وجهان: أصحهما في "الحاوي"، وغيره: لا، وهو ما ادعى الروياني أنه المذهب؛ لرواية عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يحركها، أخرجه أبو داود. واحتج القائل بمقابله [بما روي] أنه عليه السلام: كان يحرك الأصابع في الصلاة مَرْغََمَةً للشيطان. قال البندنيجي: وليس بشيء. قال: ويبسط اليد اليسرى على الفخذ اليسرى؛ لما ذكرناه من خبر ابن عمر، رضي الله عنه.

قال الرافعي: وينبغي أن يجعلها قريبة من طرف الركبة؛ بحيث تسامت رءوسها، وهل يضم أصابعها، أو يفرقها؟ فيه وجهان: الذي أورده المحاملي، والبندنيجي، وأبو الطيب، والمتولي: الأول، وقال الروياني: إنه [الذي] نص عليه. والذي حكاه ابن الصباغ، والغزالي-تبعاً لإمامه-: الثاني، وقالا: يفرقها تفريقاً مقتصداً. فرع: لو كان مقطوع اليد اليمنى، وضع اليسرى منشورة، ولا يشير بها؛ لأنه لو فعل ذلكن ترك سنة في محلها؛ لأجل سنة في غير محلها، وصار هذا كما نقول: لو ترك الرمل في الأشواط الأول لا يأتي به في الأخيرة. قال: [الشيخ رحمة الله عليه]: ويتشهد؛ فيقول: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علنا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله"، هكذا رواه الشافعي بسنده، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يعلمنا ذلك؛ كما يعلمنا السورة من القرآن -يعني: الفاتحة- وقد رواه عنه الترمذي كذلك، لكنه قال فيه: "السلام عليكن السلام علينا" بإثبات الألف واللام فيهما، وقال: إنه حسن صحيح. ورواية أبي داود عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد؛ كما يعلمنا القرآن، وكان يقول: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى

عباد الله الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله" وأخرجه مسلم، وفي رواية له: "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". قال الشيخ أبو حامد: وإثبات اللف واللام في السلام وحذفهما واحد؛ لأن التنوين يقوم مقامهما. قال بعضهم: وفيه نظر؛ لأن التنوين مصحوب فيه بالتنكير وإرادة واحد من جنس، والألف واللام في اسم الجنس تفيد إرادة الطبيعة المشتركة. وما ذكره الشيخ هو الذي ذكره البندنيجي، والإمام [عن رواية الصيدلاني، وشيخه، وصححه. وما حكيناه عن الشيخ أبي حامد يقتضي أن إثبات الألف واللام] وحذفهما في قوله: "السلام عليك، السلام علينا"، في الفضيلة سواء. وقد حكى الإمام وراء ذلك، عن رواية العراقيين، عن الشافعي-طريقين في الأفضل: أحداهما: أن يقول ما ذكره الشيخ إلا قوله: "سلام علينا"، فإنه يثبت الألف واللام فيها فقط. والثانية: أنه يثبت الألف واللام في قوله: " [سلام عليك]، سلام علينا"، لكنه يسقط لفظة: "أشهد"، من المرة الثانية؛ فيقول: "وأن محمداً رسول الله". قال: والطريقان مردودان عند المراوزة. وحكى العراقيون عن بعض الأصحاب أن الأفضل أن يقول: "باسم الله، وبالله، التحيات المباركات ... " إلى آخره؛ لأنه روي ذلك عن جابر بن عبد الله.

وفي "التتمة": أن بعض أصحابنا استحب أن يقول: "باسم الله خير الأسماء"؛ [لأنه] روي ذلك عن عمر. وحجة المذهب -وهو ما ذكره الشيخ- ما روى أبو موسى الأشعري "أنه عليه السلام كان أول ما يتكلم به عند القعدة: [التحيات لله". ورواية أبي داود عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فليكن من أول قول أحدكم:] التحيات الطيبات [لله] ... " إلى آخره. قال في "المهذب": وذكر التسمية غير صحيح عند أهل الحديث. وهو في ذلك مقتف لابن المنذر؛ فنه قال: ليس في الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر التسمية. فإن قيل: قد روى مسلم [عن] ابن مسعود [أنه] قال: كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام على الله، السلام على فلان؛ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو السلام؛ فإذا قعد أحدكم في الصلاة؛ فليقل: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا،

وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، و [أشهد] أن محمداً عبده ورسوله، ثم يتخير من المسألة ما شاء". وروي عن عمر أنه كان يعلم الناس على المنبر: "التحيات لله الزاكيات،، الصلوات الطيبات لله". وقال الشافعي: وكنا صبياناً في المكتب، ونحن نعلمه. فلم رجحتم رواية ابن عباس على ذلك؟! قيل: أما تقديمها على ما كان عمر يعلمه: فلأن أثر ابن عباس أسنده، والعمل بما كان عليه السلام يفعله أولى من فعل الصحابي. وتقديمه على خبر ابن مسعود؛ [لأن ابن عباس من متأخري الصحابة، وابن مسعود] من متقدميهم، وحديثه متقدم يدل على ذلك ما جاء في بعض الطرق عنه: "كنا قبل أن يفرض علينا التشهد، نقول: كذا ... " إلى آخره، وإذا كان كذلك؛ فالمتأخر يقضي به على المتقدم. وفي لفظ ابن عباس ما يدل على ضبطه لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: "كان يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن"، وفي روايته زيادة:"المباركات"، والأخذ بالزيادة أولى، وهي تقرب من نظم القرآن، قال الله تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61]. فإن قيل: فيما ذكره ابن مسعود زيادة الألف واللام، والإقرار بالعبودية.

قيل: التنوين يقوم مقام الألف واللام، على أن السلام الوارد من الله -تعالى- في القرآن كله منون من غير ألف ولام، إلا [في] قوله: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47]، على أنه يجوز أن يكون من قول هارون وموسى، وقوله: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى} [مريم: 33] سلام من عيسى على نفسه، لا من الله؛ فلا حاجة إلى استثنائه. وأما الإقرار بالعبودية: فمقابله التصريح باسم الله. وقد استحب بعض أصحابنا الجمع بين الروايات؛ فقال: الأفضل أن يقول: "التحيات المباركات الزاكيات والصلوات الطيبات لله"؛ ليكون آتياً بما اشتملت عليه الروايات. والمذكور في "تعليق" القاضي الحسين: أنه لا يستحب، نعم هو جائز. قال: والواجب منه خمس كلمات؛ وهي: "التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا على عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله"؛ لأن هذا يأتي على معنى الجميع، وهو المتفق عليه في [جميع] الروايات، وما عداه مسكوت عنه في بعض، أو تابع لغيره. وهذا ما رأيته فيما وقفت عليه من "التهذيب"، وقد حكاه الإمام، عن رواية الصيدلاني، [وأن العراقيين] ذكروه، غير أنهم نقصوا كلمة واحدة وهي: "أشهد" في المرة الثانية؛ فقالوا: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله"، وهذا ما حكاه القاضي الحسين أيضاً، وعليه تدل رواية النسائي، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك. [قال] الإمام: والذي ذكروه من الإسقاط أمثل، وأليق بذكر الأقل. وقال الرافعي: إن الذي حكاه العراقيون عن نص الشافعي: "التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسوله"، وتابعهم القاضي الروياني،

وكذا صاحب "التهذيب"، إلا أنه نقل: "وأشهد أن محمداً رسوله"، وأن الصيدلاني والقاضي ابن كج [تبعا العراقيين] بما حكاه عنهم، إلا في لفظة: "وبركاته"؛ فإنهما أسقطاها، وقالا: يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. والمذكور في "المهذب"، و"الشامل"، و"التتمة"، و"تلخيص" الروياني إسقاط لفظة "وبركاته" ولفظة "أشهد" في المرة الثانية. وقال في "الأم": إنه [إذا] اقتصر على ذلك [كره وأجزأه]. كذا حكاه الروياني في "تلخيصه". وقد أوجه ابن سريج؛ فاعتبر الأقل من حيث المعنى؛ فقال: الواجب: "التحيات لله، سلام عليك أيها النبي، سلام على عباد الله الصالحين، أشهد أن

لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" كذا حكاه عنه الإمام، والقاضي الحسين، والمتولي. وقال القاضي [الحسين]: إن الشافعي اعتبر أقل ما ورد في الأخبار، وابن سريج اعتبر المعنى؛ فلما وجد الرحمة داخلة في السلام، حذفها، ولما وجد قوله: "سلام علينا" داخلاً، في قوله: "على عباد الله الصالحين" حذفها. قال: ويلزمه أن يقول حيث نظر إلى المعنى: سلام عليك أيها النبي وعلى عباد الله الصالحين، ولا يقول: سلام على عباد الله الصالحين. وحكى عن الحليمي أنه قال: ولو حذف "الصالحين" على هذا، جاز؛ لأن مطلق اسم "العباد" يقع على عباد الله الصالحين؛ فانصرف ذكر "العباد" إليهم؛ كما في قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] ونظائره. وقد حكى [الإمام عن] بعض المصنفين أنه عزا [هذا القول] إلى ابن سريج أيضاً، وكذا رأيته في "الإبانة" و"تلخيص" الروياني، قال [الإمام]: وهو غلط. وقد آذن إتيان الشيخ بهذه الكلمات من غير حرف عطف يدل على الترتيب والتعقيب أن ذلك غير واجب، وهو في عدم وجوب الترتيب موافق لما نص عليه في "الأم"، ولم يحك العراقيون والروياني غيره، وقاسوه على الترتيب في الخطبة؛ لأن نظمها غير معجز، وبهذا خالف الفاتحة. وقال في "التتمة": إن الترتيب واجب؛ فلو تركه لم يعتد به، وهو ماصدر به القاضي الحسين كلامه. ثم حكى الأول قولاً عن الشافعي. والماوردي حكى الخلاف في المسألة وجهين: وكلام الغزالي يميل إلى ترجيح الأول؛ حيث قال: لو قدم المؤخر منه، ولم يخل بالمعنى؛ فهو قريب من قوله: "عليكم السلام"، والنص فيه الإجزاء. وقد صرح في "التتمة" أيضاً بوجوب التعقيب في كلماته، وهو قياس ما سلف

في قراءة الفاتحة. وقوله: "ويتشهد فيقول ... " إلى آخره مؤذن أيضاً بأن كلماته متعينة، وهو ما حكاه الغزالي، والقاضي الحسين. ويتعين الإتيان بذلك بالعربية عند القدرة؛ كما قلنا في التكبير، وعند العجز يجب عليه التعلم؛ كالتكبير أيضاً؛ فإن [ضاق عليه] الوقت عن التعلم، وكان يحسن ذاكراً غيره بالعربية-أتى به، وإن كان لا يحسن ذكراً غيره- أتىبه بالعجمية، وألا صلى على حسب حاله، ولا إعادة عليه. قال البندنيجي: ويستحب للإمام أن يرتله؛ بحيث يعلم أن من في لسانه ثقل ممن خلفه قد أتى به؛ فإن حدره كره، وأجزأ. ويستحب أن يسر به؛ وكذا سائر الأذكار في حال الجلوس إلى السلام؛ قاله البندنيجي؛ وحجته قول ابن مسعود: "من السنة إخفاء التشهد"، رواه أبو داود. والتحيات: جمع "تحية"، وهي الملك؛ قاله أبو عمرو بن العلاء. قيل: وهو الأقرب؛ لأن أصله أن الملك كان يحيا؛ فيقال [له]: عمت صباحاً، وأبيت اللعن، ولا يقال ذلك لغيره؛ ولذلك قال زهير: وكل ما نال الفتى قد نلته إلا التحيه يريد: إلا أنه لم يصر ملكاً؛ فسمي ذلك: تحية؛ لما كانت التحية لا تكون لغير [الملوك، فجا ءالشرع فأمر بالتحية لله]؛ [لأن الملك حقيقة لا يكون لغير الله. وقال ابن قتيبة: وجمعت؛ لأن كل واحد من ملوكهم كان له تحية يحيا بها،

فقيل لنا: قولوا: التحيات لله]. وقيل: إنها البقاء الدائم، واستدل له الماوردي بما [ذكرناه من قول زهير. وقيل: إنها العظمة؛ قاله ابن عباس. وقيل: إنها سلام الخلق على الله]؛ قال الله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44]؛ قاله محمد بن زهير. وقيل: إنها السلامة من الآفات وجميع وجوه النقص. والمباركات: الثابتات الناميات. والصلوات: قيل: إنها الصلوات الخمس؛ قاله ابن عباس، وتبعه ابن المنذر، وآخرون من أصحابنا. وقيل: كل الصلوات. وقيل: [كل العبادات، أي: فلا يستحقها غير الله تعالى. وقيل: إن المراد منها الدعاء. وقيل: الرحمة. وقيل]: السنة. والطيبات: الأعمال الصالحة. وقيل: الثناء على الله تعالى. وقيل: ما طاب من الكلام. وقيل: الكلمات الخمس التي قلنا: إنها تتعين بدلاً عن الفاتحة -على رأي- وسميت: طيبات؛ لأنها تطيب [بطيب قائلها؛ بخروجه عن دنس العيب، ودنس الكفر، ودنس الشرك، ودنس العلائق، والتكبر، والتجبر، والاقتدار. قال العلماء: الأصل في هذه الكلمات: "التحيات والمباركات والصلوات والطيبات لله، كما جاء في الصحيح، في غير هذه الرواية، ولكن حذفت الواو في هذه الرواية؛ تخفيفاً كما حذفت في اليمين في قوله: "الله لأفعلن"، وفي قولك: "أكلت خبزاً سمناً تمراً"، ومثله قول الشاعر، وهو الأخفش، كما قال

القاضي أبو الطيب: كيف أصبحت كيف أمسيت مما يزرع الود في فؤاد الغريم وأراد: وكيف أمسيت. والسلام، قيل: معناه: اسم السلام عليك، وهو الله. وقيل: من: سلم الله عليك تسليماً، واسمه -عز وجل-: السالم؛ لأنه المسلم للعباد، أو على عباده الصالحين؛ أو لأنه ذو السلامة من كل نقص. والعباد: جمع "عبد"، قال أبو علي الدقاق: ليس شيء أشرف من العبودية، ولا اسم [للمؤمن أتم] من الوصف بالعبودية؛ ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وكانت أشرف أوقاته صلى الله عليه وسلم في الدنيا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء:1] وقال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] والصالحون: جمع صالح؛ وهو: القائم بما عليه من حقوق الله تعالى، وحقوق العباد. وقد سبق بيان معنى "الشهادة" و"الرسول" [في باب: الأذان]. ولا يقوم قوله: "أعلم" مقام [قوله]: "أشهد" على أحد الوجهين في "تعليق" القاضي أبو الطيب. ومقابله موجه بأن معناهما [واحد]، وهذا الوجه جار في الشهادة عند القاضي وعند شهود الفرع من شهود الأصل؛ كما ستعرفه. قال: ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم -أي: وجوباً- لقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [الأحزاب:56]، فأمر بالصلاة عليه، وأجمعنا على أنه لا يجب في غير الصلاة؛ فثبت أنه في الصلاة؛ كذا قاله الأصحاب. وقال الشافعي: أوجب علينا أن نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأولى الأحوال أن

تكون في الصلاة. فإن قيل: الآية تقتضي ذلك [مرة] في العمر، والدعوى وجوبها في كل صلاة. قلنا: لأصحابنا في [أن] الأمر هل يقتضي التكرار؟ وجهان: فإن قلنا: يقتضيه، ارتفع السؤال. وإن قلنا: لا يقتضيه، فجوابه: أن السنة تثبت وجوب التكرار؛ قال عليه السلام: "لا صلاة إلا بطهور والصلاة [عليَّ] ". وروى الترمذي، عن فضالة بن عبيد قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته؛ فلم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "عجل هذا"، ثم دعاه؛ فقال له، ولغيره: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله، والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بما شاء". قال: وهو حسن صحيح، وسنذكر من بعد ما يدل عليه أيضاً، على أن الخلاف مع أبي حنيفة، وهو يمنع وجوبها عليه بحال، [والآية] حجة عليه. قال: فيقول: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد"؛ لما روى البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة؛ فقال: أو لا أهدي.

إليك هدية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج علينا؛ فقلنا: يا رسول الله، الله قد علمنا كيف نسلم عليك؛ فكيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد [كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد] كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". ومراد القائل: قد علمنا كيف نسلم عليك؛ فكيف نصلي عليك؟ أن الله تعالى أمرنا بهما في قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [الأحزاب: 56]، وقد عرفنا كيفية السلام عليك؛ أي: بما قلته في التشهد؛ فكيف نصلي عليك؟ فكان قول النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا كذا، بياناً لذلك. وقد روى أبو مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد ابن عبادة؛ فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله؛ فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت

على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما علمتم" أخرجه مسلم. ومعنى قوله: "كما علمتم"، أي: كما سبق في التشهد من قوله: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين". وقد ذكر الدارقطني حديث ابن مسعود، وقال فيه: [يا] رسول الله: أما السلام عليك فقد عرفناه؛ فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ ... وساق الحديث. قال: والواجب منه: "اللهم صلّ على محمد" أي: ولا يجب على الآل؛ لظاهر الآية؛ فإنه لم يذكر فيها الآل. والجواب عن قوله عليه السلام: "قولوا ... " إلى آخره، إنما هو "اللهم صل على محمد"؛ لأنه المسئول عنه، وقوله: "وعلى آل محمد" ليس بياناً لما سئل عنه، وإنما هو كلام مستأنف؛ فنحمله على الاستحباب. ولأنه محل يجب فيه ذكر الله ورسوله دون صحابته؛ فلا تجب الصلاة فيه على آله؛ كالأذان؛ وهذا ما حكاه الماوردي. وحكى غيره وجهاً آخر: أنها تجب؛ لقوله عليه السلام: "من صلى صلاةً لم يصل فيها علي ولا على أهل بيتي-لم تقبل منه" رواه الدارقطني، عن أبي مسعود الأنصاري.

قال في "المهذب": والمذهب: الأول؛ للإجماع، وأما الخبر؛ ففي رجاله جابر بن زيد الجعفي. قال بعضهم: وفي دعواه الإجماع نظر مع مخالفة أحمد. وإذا قلنا بالوجوب، فالواجب " [اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. قال القاضي الحسين: وقياس قول ابن سريج أن يقول:] اللهم صل على محمد، وآله، ولا يقول: وعلى آله. وقال الرافعي: إن كلام الغزالي يشعر بأنه يجب أن يقول: وعلى آل محمد؛ لأنه ذكر ذلك، ثم حكم بأن ما بعده مسنون. والأول هو الذي ذكره صاحب "التهذيب"، وغيره. وقد رأيت في "الزوائد" حكاية طريقة عن صاحب "الفروع": أن الخلاف في الصلاة على آل الرسول صلى الله عليه وسلم جارٍ في الصلاة على إبراهيم، عليه السلام. وآل النبي صلى الله عليه وسلم: الذين تحرم عليهم الصدقة، ويستحقون من الغنيمة؛ وهم: بنو هاشم، وبنو المطلب بلا خلاف عندنا. وأما الذين يصلي عليهم في التشهد، اختلف فيهم: فمن أصحابنا من قال: هم من اتبع دينه، وصدق بشريعته؛ لقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} [غافر: 46] وأراد من كان على دين فرعون. وقال أبو إسحاق، وجماعة-كما قال الروياني-: هم بنو هاشم، وبنو المطلب، قال في "التتمة": وهو مختار الشافعي. وقيل: [هم من انتسب إلى النَّضْر بن كنانة، أبي قريش. قال القاضي الحسين: وقيل: هم أصحابه، وعشيرته. وقيل:] هم الأتقياء من المسلمين؛ لأنه عليه السلام سئل عن آله؛ فقال: "كل مؤمن تقي".

وروي أنه قال: ["آلي [كل] من] آمن بي إلى يوم القيامة". فرع: لا يقوم قوله: "اللهم صل على النبي"، أو" [على] الرسول" مقام قوله: "اللهم صل على محمد". وهل يجزئه قوله: ["صلى الله على محمد؟ فيه وجهان؛ كما في قوله: "عليكم السلام"؛ حكاه الماوردي، وجزم الرافعي بأنه إذا قال]: "صلى الله على محمد" أو "على رسوله" جاز، وحكى وجهين فيما إذا قال: "صلى الله عليه"، ووجه الجواز: أن الكناية ترجع إلى محمد في كلمة الشهادة، قال: وهذا نظر إلى المعنى؛ أي: الذي اعتبره ابن سريج في كلمات التشهد. فائدة: كثيراً ما يقال: [قد تقرر] أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء؛ فكيف نسأل أن تكون الصلاة عليه كالصلاة على إبراهيم؟! قيل: إن الشافعي قال: إن الكلام ينتهي عند قوله: "اللهم صلّ على محمد"، ويستأنف: "وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم". وقال بعضهم: [إنه يمكن] أن يقال: طلب من الله تعالى له، ولآله وليسوا بأنبياء؛ مثل منازل إبراهيم، وآله، مع أن آل إبراهيم أنبياء، ومثل منازل آل إبراهيم بجملتها لا تصلح لآل محمد؛ لأن الأنبياء لهم مقامات لا يمكن أن تحصل للأتباع؛ فيختص آل محمد بما يليق بهم، ويتوفر الباقي له عليه السلام. أو يقال: طلب أن يحقق الله حصول رحمته ونعمته على المجموع من محمد وآله؛ كما حقق ذلك لإبراهيم ولآله، ولا يلزم من [ذلك] فضل المشبه به إبراهيم على المشبه؛ كما يقول الولد: أعطني كما أعطيت الأجانب. قال: ثم يدعو بما يجوز من أمر الدين؛ لما روى مسلم، عن أبي هريرة

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال". [وفي لفظ آخر: "إذا فرغ أحدكم من التشهد [الآخر] فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرّ المسيح الدجال"]. وسمي الدجال: مسيحاً؛ لأنه ممسوح إحدى العيني. وقيل: لمسحه الأرض بالطواف. قال الماوردي: والدعاء بأمر الدين مستحب. قال: والدنيا؛ لما روى مسلم في حديث عبد الله بن مسعود، الذي أسلفناه في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد: "ثم ليتخير من المسألة ما شاء". وفي رواية: "ما أحب". وفي رواية أبي داود: "فليتخير من الدعاء ما أعجبه". قال الماوردي: والدعاء بأمر الدنيا مباح. وقال بعض أصحابنا: المباح أن يدعو بما يجوز أن يطلب من الله تعالى، وأما مايجوز أن يطلب من المخلوقين فلاي جوز، وإذا سأله بطلت صلاته؛ كذا حكاه ابن يونس، ومن بعده من الشارحين، ولم أره في مشاهير الكتبن بل الرافعي حكاه عن بعض أصحاب أبي حنيفة، وكيف كان فليس بشيء.

قال: والمستحب أن يدعو بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت"؛ لأن علي بن أبي طالب روى أنه عليه السلام كان يقول ذلك من آخر ما يقول بين التشهد والسلام. قال مسلم بن الحجاج: وفيه رواية أخرى: أنه كان يقول ذلك إذا سلم، وقد أخرجها أبو داود. وتكره قراءة القرآن في التشهد؛ كما تكره في الركوع والسجود، وإذا فعل، كان في البطلان الوجه السابق. وظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين الإمام والمنفرد، ولا شك فيه في حق المنفرد، بل قال الأصحاب: [إن] له أن يطيل الدعاء ما شاء؛ ما لم يخرجه ذلك إلى السهو عن الصلاة، وأما الإمام فيستحب له أن يدعو [دعاء أقل من قدر التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ كذا حكاه عن الشافعي. وعن نصه في "الإملاء" أنه يدعو] بقدر التشهد. قال الأصحاب: وليس هذا باختلاف قول؛ لأن قدر التشهد أقل من قدر التشهد والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله. وحكى الإمام عن [رواية] الصيدلاني أن الإمام الأولى في حقه أن يقتصر على التشهد والصلاة، مع ذكر "الآل" وذكر "إبراهيم"، ويسلم؛ رعاية للتخفيف على من معه، ثم قال: فإن أراد الدعاء، فينبغي أن يكون الدعاء في مقداره أقل

من التشهد. قال الإمام: وما ذكره من الاقتصار على التشهد لم أره لغيره. قال: ثم يسلم؛ لقوله عليه السلام: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم"، وتقرير [حصر] التحلل فيه يؤخذ مما ذكرناه في حصر التحريم في التبكير، وقد روى مسلم، عن جابر بن سمرة قال: [كنا إذا] صلينا مع [سول الله] صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله- وأشار بيده إلى الجانبين-فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علام تومثون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس، وإنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه [من] على يمينه وشماله". وجه الدلالة منه: أنه جعل كفايته ذلك؛ فدل على أنها لا تحصل بدونه. ولولا حديث عائشة الذي سنذكره، لوجبت التسليمتان؛ كما هو أصح الروايتين عن أحمد. ومن الخبر يؤخذ أن السلام يجب أن يفعله وهو جالس، وبه صرح الرافعي، وصيغته الكاملة -كما قال الرافعي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ لما روى أبو داود، عن وائل بن حجر قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله". وغيره قال: أكمله: "السلام عليكم ورحمة الله، وأقله: السلام عليكم". فلو قال: [عليكم السلام]، النص في "الأم" الإجزاء؛ كما تقدم. وقال ابن الصباغ: إنه نص عليه في كتاب: استقبال القبلة؛ حيث قال في آخر

باب السلام: [فإن قال: عليكم السلام]، كرهت ذلك، ولا إعادة عليه. وقد حكى البندنيجي هذا وجهاً عن ابن سريج، وصححه، وكذا الروياني، وقال: إنه مكروه. وفيه قول مخرج: أنه لا يجزئه من نصه على انه إذا قال: الأكبر الله، لا يجزئه. قال البندنيجي: وعليه طائفة من الأصحاب. والماوردي حكى الخلاف في المسألة قولين منصوصين، وأن القديم منهما: الصحة مع الكراهة، وأن القائل بعدم الإجزاء حمل قوله في القديم: "لا إعادة عليه"، على أن الصلاة [لا تفسد به]. ولو قال: "سلام عليكم" بالتنوين، فوجهان: المختار في "المرشد": الإجزاء كما في التشهد. قال في "الشامل": وهو الأقيس. وظاهر نصه في "الأم": المنع؛ فإنه قال: فإن نقص من هذا حرفاً، أعاد السلام. ولا جرم. قال البندنيجي: إنه المذهب. وقال أبو الطيب: إنه الصحيح، وفارق التشهد؛ لأن الشرع ورد بذلك فيه، ولم يرد به في السلام. ولو قال: "سلام عليكم" من غير تنوين، فالمشهور أنه لا يجزئه قولاً واحداً؛ قاله الروياني، والمتولي، وغيرهما. وقال القاضي الحسين: إنه يترتب على ما [إذا] أتى به التنوين، وأولى بعدم الإجزاء. ووجه الإجزاء: أن ترك التنوين لا يغير معناه، فهو كما لو قال منوناً. ولو قال: "عليكما السلام"، ففي الإجزاء وجهان في تعليق القاضي الحسين. [ولو قال::سلامي عليكم"، أو: "سلام الله عليكم"- لم يجزئه.

قال القاضي الحسين]: وحيث قلنا: لا يجزئه ذلك؛ فإن تعمده بطلت صلاته، وألا أعاد السلام، وسجد للسهو. وهذا بخلاف ما لو قال: "السلام عليهم"، أو "عليه"؛ فإنه لا يجزئه أيضاً، لكن لو تعمده لا تبطل صلاته. قال الأصحاب: ويستحب ألا يمده؛ لقوله عليه السلام: "جزم السلام سنة"، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال: تسليمتين؛ لما روى ابن مسعود أنه عليه السلام كان يسلم عن يمينه، وعن يساره: [السلام عليكم]، [أخرجه مسلم، ورواية النسائي [عنه] أنه

عليه السلام كان يسلم عن يمينه] السلام عليك ورحمة الله: حتى يرى بياض خده الأيمن، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده الأيسر. قال: أحداهما عن يمينه؛ لما تقدم. قال بعضهم: وكان الأحسن أن يقول: أولاهما عن يمينه؛ كما جاءت السنة. [وحد] التفاته وقت التسليم فيها، وكذا في الثانية: أن يرى بياض خده؛ كما نص عليه الخبر، وهو المذكور في "المختصر"، ورواية مسلم: أنه عليه السلام كان إذا سلم التفت حتى يرى بياض خده من هاهنا وهاهنا. ومن أصحابنا من قال: يلتفت حتى يرى بياض خديه من كل جانب. وهو سرف. قال الرافعي: وينبغي أن يبتدئ بها مستقبل القبلة، ثم يلتفت؛ بحيث يكون انقضاؤها مع تمام الالتفات. قال: ينوي بها الخروج من الصلاة؛ ليخرج من الخلاف الآتي. والسلام على الحاضرين؛ أي: من الملائكة، والإنس، والجن؛ ليحوز فضيلة التسليم، وقد روي أنه عليه السلام كان يصلي قبل العصر أربعاً، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين، ومن معه من المؤمنين، رواه الترمذي. قال: والأخرى عن يساره؛ للخبر، ينوي بها السلام على الحاضرين؛ لما تقدم. قال الإمام: ويشترط في الاعتداد بالثانية دوام الطهارة؛ هذا هو الظاهر عندي؛ فإنها وإن كانت تقع بعد التحلل، فهي من الصلاة. ثم نية السلام على الحاضرين في التسليمتين ثابتة في حق المنفرد. وأما الإمام فينوي ذلك في حق من على يمينه وشماله، إذا تأخر سلامهم عن سلامه؛ كما قال القاضي الحسين وغيره: إن المستحب ألا يسلم

المأموم الأولى حتى يسلم الإمام الثانية. أما إذا سلموا الأولى عقيب سلام الإمام [الأولى]- كما قال في "التتمة": إنه المستحب –فكلام بعضهم يشير إلى أنه ينوي بالثانية الرد على من [على] يساره، والسلام على الملائكة والجن. والجمهور على أنه لا فرق.

ومنه يؤخذ أن الشخص إذا قال: السلام عليكم؛ فقال له الآخر: السلام عليكم –كان في معنى الرد في إسقاط جواب السلام، وسنذكره في باب: ما يفسد الصلاة. وإن كان المأموم خلف الإمام، فهو مخير: إن شاء نوى السلام عليه بالأولى أو بالثانية. وأما المأموم: فإن كان عن يمين الإمام- نوى بالأولى الخروج من الصلاة، والسلام على الحاضرين في صفه عن يمينه وقدامه ووراءه، ونوى بالثانية على طريقة الجمهور السلام على الحاضرين من الملائكة، والإنس، والجن. وعلى الطريقة الأخرى ينوي الرد على الإمام، والسلام على الحاضرين من المأمومين والملائكة والجن، ويشهد له ما روى جابر بن سمرة قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام، وأن يسلم بعضنا على بعض، رواه أبو داود. وإن كان [عن] يسار الإمام، نوى بالأولى الخروج من الصلاة، والسلام على الحاضرين من الإمام، والمأمومين، والملائكة، والجن، وهذا على طريقة الجمهور. وعلى الأخرى ينوي الخروج من الصلاة، والرد على الإمام، والسلام على الحاضرين، وينوي بالتسليمة الثانية السلام على الحاضرين، أو الرد على المأمومين، والسلام على الملائكة والجن. وإن كان خلف الإمام، [قال في الأم]: فهو كما لو كان على يسار الإمام؛

فإن نوى السلام على إمامه في الأولى، وألا نواه في الثانية. ومن أصحابنا من قال: هو بالخيار؛ إن شاء رد على الإمام عن يمينه، وإن شاء رد عليه عن يساره. واعلم: أن ما ذكره الشيخ من أنه يسلم تسليمتين هو الجديد الذي نص عليه في "الأم". وفي "المهذب" و"تعليق" البندنيجي و"الحاوي" و"التتمة" و"الإبانة" حكاية قول آخر عن القديم: أنه إن صغر المسجد، أو كبر وقل الجمع -سلم واحدة، وإن كثر الجمع، سلم تسليمتين؛ وهذا ما حكاه الغزالي، والإمام، والقاضي الحسين عن رواية الربيع، وبه يحصل الجمع بين ما ذكرناه من الخبر، وبين ما روته عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم واحدة تلقاء وجهه، وكان يميل إلى الشق الأيمن شيئاً. أخرجه الترمذي، وقد أشار إليه الشافعي بقوله في القديم: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم واحدة [وأنه سلم اثنتين. وحكى الغزالي والإمام قولاً ثالثاً عن القديم: أنه يسلم تسليمة واحدة] ولا يسن تسليمتين. والصحيح: الأول، والحديث الوارد في التسليمة الواحدة، قال في "المهذب":

إنه غير ثابت عند أهل النقل، وغيره صرح بأنه يرويه زهير بن محمد، وقد قال أبو عمرو: إن حديثه لا يصح مرفوعاً، وهو قد ضعفه ابن معين وغيره في التسليمتين. وإذا قلنا بالقديم، فالخبر يقتضي أنه يسلم واحدة تلقاء وجهه، ويميل إلى الشق الأيمن قليلاً، وكذا حكاه البندنيجي. وفي "النهاية" في باب: التكبير في صلاة الجنازة أن في بعض النصوص أنه يبتدئ التسليم ملتفتاً إلى يمينه، ويتمها ووجهه مائل إلى يساره؛ فيدير وجهه من يمينه إلى يساره في حال التلفظ بالسلام، وقد اختلف أئمتنا في ذل: فمنهم من رأى ذلك رأياً؛ فأخذ به. ومنهم من يقول: إذا كان يسلم واحدة، فإنه يأتي بها تلقاء وجهه من غير التفات. قال: وظني أني لم أذكر مثل هذا في كتاب الصلاة، ولا شك في جريانه فيه. والذي ذكره فيه هو الثاني فقط. قال: ثم يدعو؛ لما ذكرناه من رواية علي-كرم الله وجهه-أنه عليه السلام كان يقول بعد السلام: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت [... إلى آخره] ". ولو أتى بالذكر بدل الدعاء، كان أولى؛ لأنه يحصل مقصوده وزيادة؛ قال عليه السلام: [يقول الله-عز وجل-]: "من شغله ذكري عن مسألتي-أعطيته أضل ما أعطى السائلين".

وقد روى عنه عليه السلام أذكار مختلفة: منها: أنه كان يقول إذا سلم من صلاته بصوته الأعلى: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولا نعبد إلا إياه، وله النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين، لو كره الكافرون" أخرجه مسلم، والشافعي في كتاب: الصلاة. وروى النسائي وأبو داود بإسنادهما أنه عليه السلام قال: "من قال خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين تبكيرةً، وثلاثاً وثلاثين تسبيحة، وثلاثاً وثلاثين تحميدةً،

ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير- غفرت خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر". وروى مسلم قال: كتب المغيرة إلى معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". قال: سراًّ؛ لقوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء: 110]، قالت عائشة: نزلت هذه الآية في الدعاء. وقال الماوردي: إن الشافعي قال: معناه: لا تجهر بدعائك جهراً يسمع، ولا تخافت به إخفاء لا يسمع. وقال غيره: معنى التخافت: ألا يسمع نفسه، وقد أثنى الله تعالى على عبده زكريا؛ فقال: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [مريم: 3]. وهذا إذا لم يكن إماماً؛ فإن كان إماماً، فقد قال في "التتمة": إنه يجهر، [وعليه [يحمل] ما روي أنه عليه السلام كان يقول بصوته الأعلى ما ذكرناه من حديث جابر]، وكلام المصنف يقتضي تخصيصه بحالة إرادة التعليم؛ ألا تراه قال: إلا أن يريد تعليم الحاضرين؛ فيجهر؛ لقصد التعليم. والمريد للتعليم إنما يكون هو الإمام، ثم جهره يكون على هذا إلى حين يتعلمون. قال الأصحاب: وينبغي للإمام-بعد فراغه من الدعاء-ألا يثبت في مكانه،

بل يثب؛ لأنه جاء في الحديث: "إذا لم يقم إمامكن فانسخوه"؛ وهذا يدل على أن الجميع محبوسون إلى أن يقوم الإمام، وألا لما أمر بنخسه. ثم إذا وثب أقبل على الناس بوجهه. واختلف أئمتنا في أنه من أي قطر يميل. فمنهم من قال يفتل يده اليسرى [ويجلس] على الجانب الأيمن من المحراب. ومنهم من يقول-وهو القفال-: يفتل يده اليمنى، ويجلس على الجانب الأيسر؛ كما قلنا في الطواف: إنه يبتدئ من الحجر الأسود، وتكون يده اليسرى إلى الكعبة، واليمنى إلى الناس. وقال الإمام: إذا لم يصح في هذا نقل، فلست أرى في ذلك إلا التخيير، ثم ينصرف إلى أي جهة شاء. واستحباب قيامه عقيب الدعاء؛ إذا لم يكن ثم نسوة؛ فإن كان، فيستحب له أن يجلس كيما يخرجن؛ حتى لا يجتمعن مع الرجال حال الخروج، وكذا إذا

كان فراغه من صلاة الصبح؛ فيستحب له أن يشتغل بالذكر إلى أن تطلع الشمس؛ لما روي أنه عليه السلام قال: " لأن أجلس في قوم يذكرون الله من صلاة الغداة إلى أن تطلع الشمس أحب إلى من أن أعتق ثمانية من أولاد إسماعيل، دية كل واحد اثنا عشر ألفاً"؛ قاله في "التتمة". والأولى فعل النوافل بعد الصلاة في بيته؛ فإن صلاها في المسجد جاز. قال القاضي الحسين: ويتأخر عن موضعه قليلاً؛ لأن [روي ذلك عنه]، عليه السلام.

وهذا يعارضه قول الإمام في كتاب النذور: إنه عليه السلام لم ير متنفلاً في المسجد إلا في ثلاث ليال من شهر رمضان؛ فإنه صلى التراويح في المسجد. ويستحب للمأموم ألا يخرج من المسجد قبل إمامه، قاله الماوردي. قال: وإن كان في صلاة هي ثلاث ركعات أو أربع: جلس بعد الركعتين؛ [للإجماع] مفترشاً؛ لما أسلفناه من خبر أبي حميد الساعدي في صفة صلاته، عليه السلام. قال الأصحاب: والفرق بين الجلوس في آخر الصلاة، وبين ما عداه من الجلسات فيها أن التورك هيئة مستقر؛ فكان آخر الصلاة به أولى، والافتراش هيئة مستوفز [للحركة]؛ فكان ما قبل الآخر به أولى؛ لأنه يعقبه حركة السجود. وحمل الشافعي ما ورد من الأخبار الدالة على الافتراش، و [الأخبار] الدالة على التورك على حالين؛ كما قررناه؛ لأنه متى ورد في النفي والإثبات خبران مطلقان في واقعة، وورد فيها خبر مفصل-فالمطلقان محمولان على التفصيل لا محالة. ولا فرق في استحباب الجلوس مفترشاً بعد الركعتين بين الإمام والمأموم والمنفرد؛ لاشتراكهم في المعنى الذي ذكرناه؛ ولأجله قال الأصحاب: إن المسبوق يجلس مع الإمام إذا جلس في آخر صلاته مفترشاً، وإن كان الإمام متوركاً. [وقيل: إذا جلس الإمام في آخر صلاته متوركاً]، جلس المسبوق كذلك؛ متابعة له؛ حكاه الشيخ أبو محمد. وعن الشيخ أبي طاهر الزيادي حكاية وجه ثالث: أنه [إن] كان محل تشهد

للمسبوق؛ كأن أدرك ركعتين من صلاة الإمام جلس مفترشاً، وألا جلس متوركاً؛ لأن الجلوس في هذه الحالة تمحض للمتابعة [فيتابعه] أيضاً. والأكثرون على الأول، وهو الذي نص عليه، وادعى القاضي الحسين أن كل جلسة لا يسلم عنها يفترش فيها إلا في مسألة واحدة، وهي: إذا كان مسبوقاً، ويكون خليفة؛ فإنه يجلس في آخر صلاة الإمام متوركاً؛ كما يقنت في موضع قنوته، ويجهر في موضع أن يجهر. قال: وعند القفال: خليفة الإمام يراعي نظم صلاة الإمام، إلا أنه يجلس مفترشاً؛ لأنه يريد أن يقوم، والقنوت والجهر خلاف ظاهر. قال: ويتشهد؛ لقول عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في كل ركعتين التحية، رواه مسلم. قال: ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وحده في أصح القولين؛ لقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56]؛ فجمع بين الصلاة والسلام، وهو يسلم عليه فيه؛ [فكذا يصلي عليه فيه؛ ولأنه أحد التشهدين؛ فشرع] فيه الصلاة؛ كالأخير، وهذا ما نص عليه في "الأم"، وهو الجديد، والمختار في "المرشد". قال: ولا يصلي في الآخر؛ لأن مبناه على التخفيف، روى ابن عباس: أنه عليه السلام كان يجلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف حتى يقوم، رواه أبو داود، والرضف: الحجارة المحماة، وهذا ما ذكره في القديم.

قال أبو الطيب: وهو [ظاهر] ما نقله المزني. فعلى هذا: لا يصلي على الآل فيه، ولو صلى عليهم فيه، كان ناقلاً ركناً إلى غير محله، وفي بطلان الصلاة به الخلاف الذي سنذكره في باب سجود السهو. وكذا لو صلى على آله فيه، وقلنا: إنه فرض في التشهد الأخير. وعلى الأول هل يصلي على الآل؟ فيه الذي ذكره العراقيون، لا كما أفهمه قول الشيخ: وحده. وحكى بعض المراوزة فيه وجهين، مبنيين على وجوب ذلك في الأخير؛ [فإن قلنا: يجب، كان كالصلاة عليه، وألا فلا يأتي به. وصاحب "الفروع" جعل الخلاف في وجوبه في الأخير] مرتباً على استحبابه في الأول؛ فإن قلنا: يستحب فيه، وجب في الخير، وإلا فلا. فرع: لو أطال التشهد الأول، كره له. قال القاضي الحسين: ويجب أن تبطل صلاته؛ لأنها جلسة خفيفة كالجلسة بين السجدتين، ويحتمل ألا تبطل؛ لأنه محل الدعاء. قال: ثم يصلي ما بقي من صلاته، مثل الثانية؛ لقوله عليه لسلام للمسيء في صلاته: "وافعل ذلك في جميع صلاتك"؛ وهذا دليل على الفرائض منها، وأما التكبير فدليله قول ابن مسعود وأبي هريرة: إنه عليه السلام كان يكبر في كل [رفع وخفض، والباقي] نأخذه بالقياس. قال: إلا أنه [لا] يقرأ السورة بعد الفاتحة، في أحد القولين؛ لما روى

البخاري ومسلم، عن أبي قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب [وسورة، ويسمعنا الآية أحياناً، ويقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب]. وهذا ما نقله البويطي عن الشافعي والمزني؛ كما قال أبو الطيب، وقاله في القديم، وادعى أبو إسحاق المروزي أنه الصحيح، وقال الغزالي: إن العمل عليه. قال الرافعي: وبه أفتى الأكثرون، وجعلوا المسألة من المسائل التي يفتى فيها على القديم. قال: ويقرأ في الآخر؛ لما ذكرناه من خبر [أبي سعيد]؛ عند الكلام فيما يقرؤه في الصبح والظهر، وهذا ما نص عليه [في "الأم"]، واختاره الشيخ أبو حامد، والبغوي، وطائفة. قال بعضهم: واعلم أنه يستثني من قول الشيخ الجهر بالقراءة؛ فإنه يجهر في الأولى والثانية، دون بقية صلاته. قلت: ولا حاجة إلى استثنائه؛ لأن الشيخ بين الحل الذي يجهر فيه قبل ذلك؛ حيث قال: ويجهر الإمام والمنفرد بالقراءة في الصبح، والأوليين من المغرب والعشاء، ومع ذلك لا حاجة إلى استثنائه. نعم يحتاج أن يستثني قدر القراءة؛ إذا قلنا: إنه يقرأ السورة؛ لأن الخبر دل على أن القراءة في الركعتين الأخيرتين على النصف من المقروء في الركعتين الأوليين، وبه قال في "المرشد". وعبارة القاضي أبي الطيب: أنه لا يختلف المذهب أنه يستحب أن تكون الأخيرتان أقصر من الأوليين.

وكلام الشيخ يقتضي التسوية [بينهما ويقتضي التسوية] بين الثالثة والرابعة، وهو كذلك؛ لأن القاضي أبا الطيب قال: إنه لا يختلف المذهب أيضاً في أن المستحب مساواة الثالثة للرابعة. وقال الرافعي: [إن] الوجهين في تطويل الركعة الأولى على الثانية يجريان في تطويل [الركعة] الثالثة على الرابعة. قال: ويجلس في آخر الصلاة متوركاً؛ كما إذا كانت الصلاة ركعتين، والله أعلم. قال: وإن كنا في الصبح فالسنة أن يقنت؛ لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وقد ثبت أن الوسطى الصبح؛ فدل على أن القنوت فيها؛ لاقترانه بها، وقد روى الدارقطني بإسناده عن أنس بن مالك قال: "ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا". وقد رأيت في كلام بعض الشراح أن مسلماً خرج هذا الخبر، وبعضهم نسبه إلى رواية الإمام أحمد في "مسنده".

فإن قيل: قد روت أم سلمة: أنه عليه السلام نهى عن القنوت في الفجر، وعن أنس: أنه عليه السلام قنت شهراً وترك. رواه مسلم. قلنا: يحمل ذلك على الدعاء على الكفار؛ جمعاً بين الأحاديث، وحديث أم سلمة ضعيف عند أهل الحديث. ثم القنوت في اللغة: الدعاء بالخير والشر، يقال: قنت فلان على فلان؛ إذا دعا عليه، وقنت له: إذا دعا له بالخير، لكن صار القنوت بالعرف مستعملاً في دعاء مخصوص. قال: بعد الرفع من الركوع [في الركعة الثانية]؛ أي: وبعد فراغه من الذكر الراتب عقيب الرفع؛ كما قال البندنيجي، وهو قوله: "سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد" كما قاله الماوردي وغيره؛ لما روى البخاري بإسناده، عن أبي هريرة أنه قال: "والله لأنا أشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقنت بعد الركوع. وروى أبو داود، عن أنس، أنه سئل: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الصبح؟ فقال: نعم؛ فقيل له: قبل الركوع، أو بعده؟ قال: بعده.

وروى مسلم، عن أبي هريرة أنه عليه السلام قنت بعد الركوع. فرع: لو قنت قبل الركوع، فهل يعتد به؟ [فيه وجهان] في "الحاوي"؛ أظهرهما: لا، ويعيده، وعلى هذا هل يسجد للسهو؟ فيه وجهان. وقال القاضي الحسين: لو قنت قبل الركوع، [هل تبطل صلاته] أم لا؟ فيه وجهان، سيأتي أصلهما. ولا خلاف في أنه إذا دعا بعد القراءة، ولم يرد القنوت- لا سجود عليه. قال: فيقول -أي: المنفرد-: "اللهم اهدني فيمن هديت، عافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت وتعاليت"؛ لأن الحسن بن علي قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت ... " إلى آخره: قال الترمذي: وهو حديث حسن

صحيح، لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم [في القنوت] شيء أحسن منه. وكذلك قال الإمام: إن المقدار الثابت في كلمات القنوت ما نقله المزني في "المختصر"، وهي هذه الكلمات الثماني التي ورد بها الخبر، ولم يزد في "المرشد" عليها. وقال في "الشامل": إن بعض الناس زاد: "ولا يعز من عاديت، ولك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك" ولا بأس به. وقال الشيخ أبو حامد: إنه حسن. وقال القاضي أبو الطيب: قوله: "ولا يعز من عاديت"، ليس بحسن؛ لأن العداوة لا تضاف إلى الله، سبحانه. ورُدَّ عليه ذلك بقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [البقرة:98]. والذي رأيته في "تعليقه": أنه لا يستحب له أن يقول: "ولا يعز من عاديت"؛ لأن قوله: "لا يذل من واليت" يغني عنها؛ ولأن الأمر لم يرد بها. وهذا فيه

نظر؛ لأنه لا يظهر من قوله: "ولا يذل من واليت" [ذلك]، وقد ادعى القاضي الحسين أنه جاء في بعض الروايات في الخبر المذكور "ولا يعز من عاديت"، وفي بعض الآثار: "ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ربنا ونتوب إليك". وزاد في التتمة على ما قاله القاضي أبو الطيب فقال: لا يستحب له أن يزيد على الكلمات [الثمان]؛ فلو زاد عليها؛ لا تبطل صلاته؛ لأن المحل محل الذكر. وقال القاضي الحسين: [إنه] إذا طول القنوت على العادة كان مكروهاً، ويحتمل-عندي- أن يقال: تبطل؛ لأنها قومة قصيرة مدها بالذكر الممدود؛ كالجلسة بين السجدتين، والاعتدال في الركوع. ويحتمل الفرق؛ لأنها محل الدعاء. أما الإمام-فيقول: "اهدنا" نص عليه في "الأم"، [وهذا يؤخذ من قول الشيخ: "ويؤمن المأموم على الدعاء"؛ إذ لو لم يأت به بصيغة الجمع، لما كان لتأمين المأموم فائدة ترجع إليه]. ولو خص نفسه بالدعاء، جاز؛ إلا أنه ترك المستحب؛ لخبر ورد فيه. ثم ظاهر كلام الشيخ تعين كلمات القنوت التي ذكرها، وهو ما ادعى بعض الناس: أنه المذهب؛ فلا يجزئه غيره، ولو ترك منه كلمة، سجد للسهو. وعبارة الإمام من حيث المعنى الذي يجب القطع به: تعين الكلمات الثماني المنقولات عن الحسن، ولا يقوم غيرها مقامها؛ لأنه [شبيه] بالتشهد الأول؛ فإنهما من الأبعاض؛ ولأجل ذلك قال في "الوسيط": وكلماته متعينة. وفي "فتاويه": أنه لو عدل عن الدعاء المشهور في القنوت إلى غيره، أو أتى ببعضه –لزمه سجود السهو. والمنقول عن العراقيين أنه لا يتعين له ذكر.

وإن قنت بما روي عن عمر؛ وهو ما سنذكره في باب: صلاة التطوع- كان حسناً؛ قاله في "المهذب"، وحكاه في "المهذب" عن [نص] الشافعي، قوال: إنه لو جمع [ينه] وبني قنوت الحسن، كان حسناً. نعم: إن أراد الاقتصار على أحدهما؛ فقنوت الحسن أولى. وما قاله العراقيون من عدم التعين سنذكره عن القفال في باب ما يسد الصلاة، وهو المنقول عن "فتاويه" أيضاً، ولم يورد القاضي الحسين غيره، وكذا الماوردي، [و] قال: إنه لو قرأ آية فيها دعاء كآخر البقرة ونحوها، أجزأه في تأدية السنة، وإن قرأ ما لا يتضمن دعاء؛ كآية الدين-فوجهان. قال: ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]: قال المفسرون: أي: لا أذكر [إلا وتذكر] معي. قال في "المهذب": ولأنه نقل ذلك في رواية الحسن بن علي. قال بعضهم: وقد أخرجه [أبو] عبد الله النيسابوري في "سننه". ولأنه دعاء، وقد روي عن عمر أن الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد يها شيء حتى تصلي على نبيك. ولا يقول هذا إلا توقيفاً وهذا هو المشهور. وقد قيل: إنه لا يشرع فيه، وهو ما أورده القاضي الحسين؛ فإن فعله، كان كما لو قرأ الفاتحة في التشهد. قال: ويؤمن المأموم على الدعاء؛ لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت، ونحن نؤمن خلقه، ولأن التأمين يجري مجرى الدعاء، وقد قيل: إنه

دعاء؛ كما تقدم؛ ولذلك قال ابن الصباغ: إنه ينبغي أن يتخير في ذلك. وحكى المراوزة وجهين: أحدهما: أنه يؤمن. والثاني: يشاركه فيه؛ قياساً على سؤال الرحمة، والاستعاذة من النار. وهذا إذا جهر، وسمع المأموم صوته؛ فإن كان قد أسر، أتى المأموم به. وإن كان قد جهر، لكن المأموم لم سمع، فهل يؤمن، أو يقول كما يقول؟ حكى المراوزة فيه وجهين؟ كما تقدم مثلهما في قراءة السورة، ويأتي في الذكر والإمام يخطب إذا كان المأموم بعيداً لا يسمع الخطبة، وقياس مذهب العراقيين في ذلك أن يأتي به هاهنا. قال: ويشاركه في الثناء؛ [إذلا] يمكن تحصيل مقصوده بالتأمين؛ ولذلك حمل الأصحاب ما رواه ابن عباس على الدعاء. قال ابن الصباغ: وهذا لا يحفظ عن الشافعي فيه شيء، إلا أنه قال: "وإذا قرأ الإمام آية رحمة، سألها، وكذلك المأموم"؛ فشرك بينهما في الدعاء، وهذا مثله. وفي "الرافعي" حكاية وجه عن رواية الروياني وغيره: أن المأموم يؤمن في كل كلمات القنوت، والأصح: الأول. وقد أفهمك كلام الشيخ أن الإمام يجهر [به]، وهو ما ادعى البغوي-تبعاً للقاضي الحسين-أنه الأصح، وقال: إن من سننه في حق المنفرد الإسرار، وهذه الطريقة حكاها الماوردي أيضاً. وأطلق البندنيجي القول بأن المصلى يجهر به، وطرده في القنوت في جميع الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة؛ إذا قلنا بالقنوت فيها. والغزالي أطلق القول بأن الأصحاب اختلفوا في الجهر به، وكذا الفوراني. قال الغزالي: والظاهر أنه مشروع. فرع: هل يرفع يديه فيه؟ قال في "المهذب": لا نص فيه، والذي يقتضيه المذهب: أنه لا يرفع. وهو ما

حكاه أبو الطيب في بعض كتبه، واختاره القفال والبغوي؛ قياساً على سائر الأدعية في الصلاة. وقال القاضي أبو الطيب في "تعليقه"، وابن الصباغ، والغزالي، والروياني في "الحلية": إنه يستحب فيه الرفع، وهو الذي حكاه القفال، عن أبي زيد المروزي، وصححه في "التتمة"، و"المرشد"؛ لأنه منقول عن جماعة من الصحابة، وقوله -عليه السلام- الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه: "إذا دعوت، فادع ببطون كفيك، ولا تدع بظهورهما؛ فإذا فرغت، فامسح بهما وجهك" –يدل عليه. ولأنه دعاء في حالة ليس فيها هيئة مسنونة؛ فاستحب فيه الرفع؛ كخارج الصلاة؛ وعلى هذا قال الجيلي: ففي كيفية الرفع وجهان.

أحدهما: يرفع بطن كفه نحو السماء؛ لظاهر الخبر، وهو ما ذكره القاضي أبو الطيب. والثاني: يرفع ظهر كفه. قال: وهكذا الحكم في كل دعاء. ومنهم من قال فيه: إن كان يسأل الله -تعالى- مغفرة ورحمة، وما هو من أمور الآخرة -فيجعل بطن كفه [إلى السماء]، وإن دعاه رهبة وخوفاً، جعل ظهر كفه نحو السماء. وكيفما قلنا: إنه يرفع؛ فيستحب أن يمسح وجهه بكفيه؛ لما ذكرناه؛ ولأنه سنة الدعاء. قال ابن الصباغ [وغيره]: ولا يستحب مسح غير الوجه، بل يكره. وقال الروياني، والبغوي: إن أصح الوجهين أنه لا يمسح بهما وجهه أيضاً، وهو اختيار القفال. فرع: إذا صار القنوت شعاراً للروافض، فهل يترك؟ فيه خلاف ذكرته عند الكلام في تسطيح القبر. والرافعي نسب هاهنا وجه المنع إلى رواية أبي الفضل بن عبدان، عن [ابن] أبي هريرة، وهو المذكور في "الوسيط" ثَمَّ. قال: وإن نزلت بالمسلمين نازل، قنتوا في جميع الصلوات؛ أي: الفرائض؛ لما روى ابن عباس قال: "قنت رسول الله - شهراً متتابعاً في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وصلاة الصبح، وفي دبر كل صلاة؟ إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة يدعو على أحياء من سليم على رعل،

وذكوان، وعصية، ونؤمن [من] خلفه" أخرجه أبو داود.

وروى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة أنه قال: "إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وكان أبو هريرة يقنت في الظهر والعشاء الآخرة، ويدعو للمسلمين، ويلعن الكافرين". وروي عن علي "أنه قنت في المغرب"، وبه وقع الرد على الطحاوي؛ حيث قال: إن القنوت في غير الصبح لم يقل به أحد إلا الشافعي. وحكى المراوزة قولاً: أنه لايجوز القنوت [في غير الصبح] بسبب النازلة. وحكى ابن يونس طريقة أخرى: أنه لا يقنت السرية، ويقنت في الجهرية. وإذا قلنا بالصحيح -فإيراد "الوسيط" يشعر بأنه [يسر في الصلوات السرية]، وهو ما حكاه البندنيجي، [و] في الجهرية الخلاف في قنوت الصبح. قال الرافعي: وإطلاق غيره يقتضي [طرد] الخلاف في الكل. أما إذا لم تنزل نازلة، فمفهوم كلام الشيخ أنه لايجوز، وهو ما حكاه الإمام عن شيخه، والغزالي في "الوسيط" عن المراوزة، ولم يحك في المهذب غيره، وعليه نص في "لأم"، وقال في "الإملاء": إن شاء قنت، وإن شاء ترك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قنت فيها وترك، ولا يقال في هذا ناسخ ولا منسوخ؛ حكاه البندنيجي، وهو يقتضي أنه غير مستحب، ولا مكروه. قال الرافعي: وهو قضية كلام أكثر الأئمة. ومنهم من يشعر إيراده باستحبابه [في جميع الصلوات. قال في "الروضة": والأصح: استحبابه]، [وصرح به] صاحب

"العدة"، ونقله عن نص الشافعي في "الإملاء". وعلى الأول: فقد قال بعضهم: إن اختصاص الصبح بالقنوت عند فقد النازلة؛ لكونها أشرف؛ فإنها الوسطى؛ كما تقرر، ويدخل وقتها والناس في غفلة، ويشرع في أذانها التثويب، ويجوز الأذان لها قبل الفجر، وهي أخصر صلوات الفريضة في كل يوم، فكانت بالزيادة أليق من غيرها من الصلوات، والله أعلم.

باب فروض الصلاة وسننها

باب فروض الصلاة وسننها لما ذكر الشيخ في الباب قبله صفة الصلاة عل الكمال من غير تمييز لفرض فيه من السنة-احتاج إلى رسم هذا الباب؛ لبيان ما هو الفرض من ذلك؛ ليفعله المصلي حتماً إن كان يعرفه، ويتعلمه وجوباً إن كان يجهله؛ [كما دل عليه] قوله في الباب قبله: "ومن لا يحسن التبكير بالعربية، بكر بلسانه، وعليه أن يتعلم"، وبه صرح الإمام عند الكلام في التكبير؛ فقال: ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أن من أسلم، فعليه أن يبتدر تعليم شرائط الصلاة وأركانه، ويعرف ما هو سنة؛ ليتخير في فعله وتركه، وأيضاً لتصح نيته؛ كما أسلفناه. وقد فعل مثل ذلك في الوضوء والحج، ولم يصنع كذلك في الغسل؛ لأن مضمون واجبه يحصره كلمتان؛ [فما رأي] أن يفرد صفته بباب، وتفصيله بباب آخر. ثم "الفروض": جمع "فرض"، وأصله في اللغة: التقدير، يقال: فرض الخياط الثوب: إذا قدره، [و] لما كانت هذه الأمور مقدرة في الصلاة، سميت: فروضاً. وقيل: أصله الحز في القدح وغيره، والقدح- بكسر القاف والحاء المهملة-: السهم إذا قوم واستوى قبل أن ينصل ويراش، فإذا ركب فيه النصل والريش فهو سهم؛ فلما كانت هذه الأشياء لازمة للصلاة ملازمة الحز للقدح سميت: فروضاً. وبعضهم يعبر عنها بالأركان، ويقول: الصلاة تشتمل على شرائط وأركان وأبعاض وهيئات: فالشرائط ست، وهي: الطهارة عن الحدث، والطهارة عن الخبث في البدن والثوب، وموضع الصلاة على الجديد، وستر العورة، والعلم بدخول الوقت،

أو ظنه، واستقبال القبلة في حال الأمن في الفرض دون النافلة في السفر؛ كما سلف. وقيل: إنه ركن؛ حكاه الإمام عن صاحب "التلخيص"، ولم يذكر في "المهذب" في صفة الصلاة غيره. قال الإمام: وهو الأقرب؛ من حيث إن الطهارة تتقدم على الصلاة، وستر العورة لا يختص وجوبه بالصلاة؛ فلم تكن أركاناً، بل هي شرائط، ووجوب استقبال القبلة يختص بالصلاة، ولا يجب تقدمه على عقدها، وهذا ما استحسنه القفال. وحكى القاضي الحسين أن بعض أصحابنا [قال] بمثله في الطهارة والستارة، وهو بعيد. والسادس: الإسلام، فنه لابد من تقدمه على العبادة، ولو زال في أثنائها بالردة، بطلت. والأركان: ما عده الشيخ فروضاً، وستتضح [مع] ما يتعلق بها. والأبعاض والهيئات: هي ما عبر الشيخ عنها بالسنن وسنبينها. وقد حاول بعضهم عبارة فارقة بين الشرط والركن في الصلاة؛ فقال: الشرط: ما يتقدم عليها، ويجب استدامته إلى آخرها، والركن: ما لا يتقدم عليها، ولو تركه عمداً بطلت صلاته، ولو تركه سهواً لزمه العود إليه، ولا ينجبر بالسجود، وإليه يميل كلام الإمام؛ حيث جعل القول بأن استقبال القبلة ركن أقرب؛ لكونه لا يجب تقدمه عليها؛ بخلاف الطهارة والستارة. وقال الرافعي: إنه يرد على هذا ترك الكلام والفعل الكثير، وسائر المفسدات؛ فإنها لا تتقدم على الصلاة، وهي معدودة من الشروط دون الأركان. وظن أن هذا لا جواب عنه؛ فقال: ولك أن تفرق بين الركن والشرط بعبارتين: إحداهنا: أن تقول: الأركان: المفروضات اللاحقة التي أولها التكبير، وآخرها

التسليم، ولا يلزم التروك؛ فإنها دائمة لاتلحق ولا تلحق، والشروط: ما عداها من المفروضات. والثانية: أن تقول: [الشرط يعتبر] في الصلاة؛ بحيث يقارن كل معتبر سواه، والركن: [ما يعتبر لا على] هذا الوجه: مثاله: الطهارة: تعتبر مقارنتها الركوع والسجود، وكل أمر معتبر ركناً كان، أو شرطاً، والركوع معتبر، لا على هذا الوجه. قلت: [وهذا يخرج] استقبال القبلة عن أن يكون شرطاً؛ لأنه لا يعتبر [في كل ما هو واجب في الصلاة؛ فإنه إنما يعتبر] في حال القيام والقعود دون الركوع والسجود؛ فإنه حينئذ يكون مستقبلاً موضع ركوعه وسجوده، وإن كانت جثته على هيئة مخصوصة يستقبل بها القبلة، لكنه غير الاستقبال في القيام والقعود، والمشهور: أنه شرط؛ كما قال الشيخ. وما ذكره من أن ترك الكلام ونحوه شرطن وهو لا يتقدم الصلاة فيه مساهلة، والحق أن وجود ذلك مانع؛ كما هو مقرر في الأصول. والغزالي ناقشه في عده ذلك ركناً مع أنه أصولي، واعتذر عنه بأنه في ذلك اتبع الفوراني. وقد يقال: ما كان وجوده مانعاً كان عدمه شرطاً، وإليه صار سيف الدين الآمدي- رحمه الله- لكنا لا نسلم [أن] ما كان وجوده مانعاً كان عدمه شرطاً. وقد ادعى البندنيجي أن بين شروط الصلاة وأركانها [خصوصاً وعموماً]؛ فقال: كل ركن فيها شرط، وليس كل شرط ركناً، وهي طريقة حكاها الرافعي،

وقال: إن الأكثرين على أنهما يفترقان افتراق [العام و] الخاص. قال: وفروض الصلاة ثمانية عشر، ودليل حصرها في ذلك ما سنذكره من الأدلة [على سنة ما عداها مما هو مشروع فيها]، ووراء ذلك وجوه سنذكرها، وأدلة فرضيتها منها ما تقدم في الباب قبله؛ كما سننبه عليه، ومنها ما سنذكره، والعمدة فيه في أكثر الفروض ما روى أبو داود عن أبي هريرة "أنه -عليه السلام- دخل المسجد؛ فدخل رجل فصلى، ثم جاء، فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم [عليه] السلام، وقال: "ارجع فصلّ؛ فإنك لم تصلّ"؛ فرجع الرجل فصلى كما كان يصلي، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، [فسلم عليه]؛ فقال له [رسول الله] صلى الله عليه وسلم: ["وعليك السلام"] ثم قال:"ارجع فصلّ؛ فإنك لم تصلّ"، [حتى] فل ذلك ثلاث مرات؛ فقال الرجل: والذي بعثك بالحق، ما أحسن غير هذا؛ فعلمني؛ فقال: "إذا قمت إلى الصلاة، فكبّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اجلس حتى تطمئن جالساً"، [وفي رواية-وهي التي ذكرها القاضي الحسين والإمام-: "ثم اجلس حتى تعتدل جالساً]، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" وفي رواية: "فإذا فعلت هذا، فقد تمت صلاتك، وما انتقصت من هذا فإنما انتقصت من صلاتك". وقال فيه: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء"، وأخرجه البخاري، ومسلم بنحوه، وهذا الخبر يعرف بخبر المسيء في صلاته. قال: النية وتكبيرة الإحرام؛ لما تقدم من الأخبار، ومحلهما القيام في حق القادر، وما يقوم مقامه، وهو القعود ي حق العاجز، [و] في النفل، وكذا الاضطجاع في حق العاجز قولاً واحداً، والمتنفل على وجه ستعرفه، والدال على أن محلهما القيام: قوله من بعد: "والترتيب على ما ذكرناه"، وعني في الباب قبله، وهو قد ذكر فيه أنه ينوي ويكبر بعد قيامه؛ فلو نوى الفرض وكبر، وهو

قائم وأتم التكبير في حال ركوعه؛ بأن كان مسبوقاً- لا تنعقد صلاته فرضاً، وهل تنعقد نفلاً؟ فيه وجهان في "الحاوي" وغيره، [و] المذكور منهما في "تعليق" أبي الطيب: الانعقاد، وخصهما الروياني في "تلخيصه" بحالة العلم؛ بأن ذلك لا يجوز، وان الأصح عدم الانعقاد مطلقاً؛ كما لو تحرم بالظهر قبل الزوال وهو عالم، أما إذاجهل ذلك، فالنص أنها تنعقد نفلاً، ولم يحك سواه. ولو كان المسبوق قد كبر تكبيرة واحدة، نوى بها تكبيرة العقد [وتكبيرة] الهُوِيِّ؛ فهل تنعقد نفلاً، أو تبطل؟ قال الروياني: فيه وجهان، أصحهما: الأول، وهما في "تعليق" أبي الطيب مخصوصان بما إذا كنا ذلك في صلاة لانفل، وقال: إنه لو كان [ذلك] في صلاة الفرض، بطلت. ثم كلام الشيخ مصرح بأن النية وتكبيرة الإحرام فرضان، وهو قياس الطريقة التي قلنا: إن الإمام يميل إليها؛ لأنهما من أجزاء الصلاة عندنا كالركوع والسجود. وكلام القاضي أبي الطيب يقتضي عدهما شرطين؛ لأنه قال: في الصلاة الرباعية خمس وأربعون خصلة، ثمان منها قبلا لدخول؛ وهي: الطهارة من الحدث، وطهارة البدن والثوب، والبقعة التي يصلي عليها من النجس، وستر العورة، والعلم بدخول الوقت، واستقبال القبلة، والنية، والتكبير، ولم أر لغيره من أصحابنا خلافاً في [أن] التبكر ليس بشرط. نعم، النية، حكى البندنيجي؛

تبعاً للشيخ أبي حامد وغيره في كونها ركناً أو شرطاً، وجهين: أولهما: هو ما ذكره الماوردي في باب: أقل ما يجب، وكذا البغوي، والقاضي الحسين، وعزاه -في موضع- إلى صاحب "التلخيص"، ولم يحك غيره، وقال الرافعي: إنه الأظهر عند الأكثرين؛ لاقترانها بالتكبير وانتظامها مع سائر الأركان. وثانيهما: هو ما حكاه الماوردي في أول باب صفة الصلاة؛ وكذا ابن الصباغ حكاه في باب: أقل ما يجزئ، موجهاً له بأنها ليست فعلاً [فيها] وإنما هي صفة؛ كسائر الشروط التي ذكرناها. ووجهه الرافعي بأن النية تتعلق بالصلاة؛ فتكون خارجة عنها، وألا لكانت متعلقة بنفسها [ولافتقرت] إلى نية أخرى. والقائلون بالأول قالوا: لا يبعد أن تكون من الصلاة، وتتعلق بسائر الأركان، ويكون الناوي إذا قال: "أصلي" معبراً بلفظ الصلاة عن معظمها، وهو ما عداها من الأركان، وقد أشار في الوسيط بقوله: "إنها بالشروط أشبه"، إلى أنها آخذة شبهاً [من الأركان]، وشبهاً من الشرائط، لكنها بالشروط أشبه. أما شبهها بالفرائض؛ فمن حيث إنا لا نعقل وجود نية الصلاة معتداً بها منفكة عن جزء من الصلاة؛ فهي كالجزء الذي لا يعتد به دون بقية الأجزاء، خصوصاً وقد قال الماوردي في كتاب: الأيمان: إنها [إنما] تكون [نية] عند اقترانها بالفعل؛ فإن تجردت عن الفعل، كانت قصداً.

وأما شبهها بالشروط، فمن حيث إنه يشترط دوامها إلى آخر الصلاة حتى لو حصل تردد فيها في ركن من الصلاة، لم يعتد به؛ كما ستعرفه في باب: ما يفسد الصلاة؛ فهي كالطهارة من الحدث ونحوها. ومن حيث إنه يشترط على الصحيح عندهم تقدمها على تكبيرة الإحرام؛ كما أنه لابد من تقدم الطهارة ونحوها على التكبير، وهذا كلام الإمام الذي أسلفناه ينازع فيه، وكلام غيره من طريق الأولى؛ [لأن الأكثرين] قالوا مع التقديم: يجب [استصحابها ذكراً] إلى آخر التكبير، وذلك يكون بتوالي الأمثال، وحينئذ فالمعتد به إنما هو ما قارن التكبير لا ما قبله، وبه صرح الروياني في تلخيصه. فإن قلت: قد عد الغزالي النية في الصوم ركناً، وهو مخالف لما ذكره هنا. قلت: يمكن أن يقال [في] الرق بينهما: إن النية في الصلاة صفة لأفعال؛ فكانت كالطهارة ونحوها، والصوم لا فعل فيه؛ بل هو ترك، والترك ليس بفعل؛ كما أن النية ليست بفعل؛ فلا يحسن أن تكون وصفاً له؛ ولذلك لم يعتبرها في باقي التروك، ولولا الخبر لما اعتبرناها في الصوم، وإذا كان كذلك، تعين أن تكون فيه ركناً؛ لاستواء الإمساك والنية في عدم الفعلية، خصوصاً إذا قلنا: إن نية الخروج من الصوم لا تؤثر في إبطاله؛ فإنها-حينئذ-تصير كالركوع والسجود في الصالة، إذا وجد حصل مقصوده، ولا يشترط دوامه، وهذا بخلاف الصلاة؛ فإن قطع النية مؤثر في إبطالها بلا خلاف؛ فشابهت الطهارة ونحوها من الشروط، والله أعلم. قال: والقيام؛ أي: وما يقوم مقامه، وهو القعود في حق العاجز، وصلاة النفل ونحوه؛ لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وقوله-عليه السلام- لعمران بن الحصين: "صلّ قائماً؛ فإن لم تستطع فقاعداً؛ فإن لم تستطع،

فعلى جنب". رواه البخاري. وحده -كما قال في "الوسيط"-: الانتصاب مع الإقلال، واحترز بالانتصاب عما لو ثني شيئاً من حقوه ومحل نطاقه، لم يجزئه؛ وكذا لو ثني فقار ظهره، ولم يثن معقد النطاق إن أمكن. ولا يضر خفض الرأس على هيئة الإطراق؛ لأنه صح أنه -عليه السلام- كان يطرق رأسه؛ ولذلك قال في "الخلاصة": إن الإطراق سنة. وقد قال القاضي الحسين في باب سجود السهو باحتمال وجه: أنه يكفيه أن يقف على هيئة بين حد أقل الركوع والانتصاب. وغيره صرح بحكايته وجهاً. والأظهر: الأول، وهو ما حكاه القاضي في موضع آخر، ولم يورد الإمام غيره، وقال: إن بعض الناس قد يعتاد أن يتحرك قليلاً في صوب الركوع، وينحني قليلاً، ثم يرتفع؛ فمهما زال الاعتدال، وأوقع في حال زواله حرفاً من قراءته الواجبة- فلا يعتد بذلك الواقع خارجاً عن اعتدال القيام. فلو كان يفعل ذلك قبل اشتغاله بالقراءة المفروضة، ففي البطلان عندي تردد، والظاهر البطلان، وإن لم يبلغ حد الكثرة في الأفعال؛ لأنه يعدد القومات في ركعة واحدة؛ فيصير كما لو عدد الركوع في ركعة. ثم قال: وهو عندي قريب من انحراف الرجل عن قبالة القبلة قصداً، وقد ذكرت أن ذلك مبطل للصلاة؛ فالخروج عن السمت المرعي في القيام، يتنزل هذه المنزلة. وسمعت شيخي يجعل الانحناء الذي لا ينتهي إلى الركوع بمثابة الأفعال؛ فإن

قل زمانه، لم يضر، وإن كثر، فهو كالفعل الكثير. واحترز بالإقلال عما إذا اتكأ على شيء، أو استند له من غير ضرورة، ولا حاجة- لم يجزئه، وإن كان منتصباً؛ لفقد الإقلال، وهذا ما حكاه الإمام، وحكاه القاضي أبو الطيب عن ابن القطان. وحكى صاحب "التهذيب، والقاضي الحسين، وغيرهما -كما قال الرافعي-: أنه إذا وجد الانتصاب، [لا يضر] الاستناد، وإن كان بحيث لو زال السناد لسقط، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب، عن رواية أبي علي الطبري في "الإفصاح"، وقال: إنه الصحيح، ذكره عند الكلام في سبق الحدث. نعم، يكره له ذلك. وفي بعض "التعاليق" أنه إن كان بحيث لو أزيل السناد لسقط-لم يجزئه. أما إذا كان الاستناد لعلة، فسيأتي في باب صلاة المريض. فرع: لو وقف على إحدى قدميه، قال القاضي الحسين في "تعليقه": يجب أن يجوز؛ لوجود القيام، وقد صرح غيره، وقال: [إنه] مكروه، ويسمى ذلك: "الصُّفون"، ومنه قوله تعالى: {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31]. ثم الواجب من القيام قدر قراءة الفاتحة، على النحو الذي يجزئه مع تكبيرة الإحرام، وقد دل على ذلك قول الشيخ في الباب قبله: "فإن لم يحسن شيئاً، وقف بقدر القراءة"؛ فلو زاد المصلي على ذلك، فهل يوصف الكل بالفرضية أم لا؟ حكى المتولي فيه وجهين؛ بناء على أن الوقص هل يتعلق به الواجب، أم لا؟ والإمام حكاهما عن رواية الشيخ [أبي] علي، وأنه بناهما على [أن] من استوعب رأسه بالمسح؛ فهل [نقول: وقع [مسح جميع] الرأس فرضاً أم

لا؟] قال الإمام: وهذا عندي خارج عن الضبط؛ فإنه إذا جاز الاقتصار على ما ينطلق عليه اسم المسح؛ فكيف ينتظم القول بأن الزيادة عليه فرض، ثم إن تخيل متخيل ذلك؛ فشرطه عندي مع بعده أن [يوصل] الماء إلى رأسه دفعة؛ بحيث لا يتقدم جزء على جزء، حتى لا يكون جزء أولى بأن يضاف إليه الوجوب من جزء، أما إذا وصل الماء إلى رأسه شيئاً شيئاً حتى استوعبه؛ فتخيل الفريضة فيما عدا الجزء الأول محال، ووزانه مد القيام بعد قراءة الفاتحة، نعم ما لو خلا أول القيام عن قراءة الفاتحة، ثم افتتح القراءة فما هو [محل] قراءة الفاتحة مفروض، وما تقدم عليه فيه احتمال من جهة أنه كان يتأتى إيقاع القراءة المفروضة فيه، وكان لا يسوغ قطعه قبل جريان القراءة. قال: وقراءة الفاتحة؛ لما ذكرناه من الأخبار. فإن قيل: الكتاب قد دل على أن الواجب قراءة ما تيسر من القرآن؛ قال الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} [المزمل:20]، والقرآن لا يجب في غير الصلاة؛ فتعين أن يكون الأمر به في الصلاة، ويدل عليه ما أسلفناه من خبر المسيء في صلاته؛ وقوله-عليه السلام-: "لا [صلاة إلا] بقرآن، ولو بفاتحة الكتاب"؛ [فدل على أن الفاتحة غير متعينة، وكذا قوله: "لا صلاة إلا

بفاتحة الكتاب] أو بغيرها". وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الواجب ما ينطلق عليه اسم القراءة؛ ولأن غيرها من الذكر كهي في كل الأشياء؛ فوجب أن يكون كهي في وجوب الصلاة. قيل في الجواب: إن المراد بالقراءة [في الآية صلاة الليل]؛ كما ذكره المفسرون؛ [وإن ذلك] نسخ. أو المراد بها: الخطبة؛ كما في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204]. وإن كانت قراءة الصلاة، فهي مجملة؛ فسرها قوله-عليه السلام-: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وغيره؛ كما أسلفناه.

ولأن ظاهرها متروك إجماعاً؛ فإنه لو تيسر له قراءة سورة البقرة، لم يجب، ولو تيسر عليه بعض آية، لم يجزئه، وأما الفاتحة فهي متيسرة في الغالب؛ فنزل ظاهر الآية عليها. وأما الخبر الأول: فقد ذكرنا [أن] رواية الشافعي: "ثم اقرأ بأم الكتاب وما تيسر"، فهو مشتمل على زيادة؛ فوجب قبولها. وأما الخبر الثاني: فهو دليل لنا؛ لأنه دل على [أنه] لا أقل من الفاتحة يجزئ: والخبر الثالث: نحمله على ما إذا لم يكن يحفظ الفاتحة، ولولا ذلك لم يكن لتخصيص الفاتحة بالذكر معنى. وأبو حنيفة وإن لم يوجب الفاتحة، فهو يرى أن تركها مكروه، ويجبر بالسجود، وانه لو نسيها، وقرأ ثلاث آيات، وركع وتذكر في الركوع أنه نسيها – كان عليه أن يعود إلى القيام، ويقرأ الفاتحة، وبهذا يقطع؛ إلحاقاً ببقية القرآن. قال: والركوع؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا} [الحج: 77]، وهو إجماع. فرع: لو أراد الركوع فسقط من رأسه إلى الأرض، عاد وانتصب قائماً، ثم يركع؛ فلو قام راكعاً، لم يجزئه؛ لأن الإهواء للركوع؛ يجب أن يكون مفصوداً؛ فلو كان قد انحنى للركوع فسقط إلى الأرض قبل انتهائه إلى حد الركوع؛ فعليه أن يعود إلى الموضع الذي سقط منه في حال انحداره، ويبني على ركوعه؛ قاله الماوردي. قال: والطمأنينة فيه؛ لخبر المسيء في صلاته، وروى البخاري، عن زيد بن وهب قال: "رأى حذيفة رجلاً لايتم الركوع والسجود، قال: ما صليت، ولو مت، مت على [غير] الفطرة التي فطر الله محمداً صلى الله عليه وسلم ". والطمأنينة فيه-كما قال ابن الصباغ-: أن يمكث [إذا بلغ حد الركوع قليلاً.

وعبارة القاضي الحسين: "أن يمكث] بعد هويه لحظة؛ بحيث تنال يداه ركبتيه". وقال الإمام: ليس يعني بها [لبث ظاهر]، ولكن ينبغي أن يفصل الراكع منتهى هويه عن حركاته في ارتفاعه وانحطاطه؛ فإذا فعل [ذلك] فقد اطمأن، وإن لم تنفصل حركات هويه عن أول حركات ارتفاعه، بل اتصل الآخر بالأول؛ فهذا لم يطمئن. وعبارة بعضهم-وهي أرشق-: أنها السكون؛ بحيث يستقر كل عضو في محله، وينفصل هويه وركوعه من ارتفاعه، ولا يقوم مقامها زيادة في الهوى على أقل الركوع؛ لأن مقصود الطمأنينة تميز الركن عما قبله وما بعده، ولا يحصل بذلك تمييز. واستغنى الشيخ عن ذكر الطمأنينة في الباب قبله في جميع الأركان بما ذكره من استحباب ما يأتي به فيها من الذكر. وقد أفهم كلامه أن الواجب منا لركوع القدر الذي يحصل معه الطمأنينة وفيه إذا اقتصر عليه، أما إذا زاد عليه؛ ففي وصف الزائد بالواجب ما تقدم من الخلاف في الزيادة في القيام، وهو جار فيما إذا طول السجود؛ قاله في "التتمة". وادعى في "الروضة" أن الصحيح في المواضع الثلاثة أن الكل واجب، وكذا في البعير المخرج عن الشاة في الزكاة" والبدنة المضحي [بها] بدلاً عن شاة منذورة. قال: والاعتدال، أي: في الفرض؛ لخبر المسيء في صلاته، وقد روى أبو مسعود البدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم

ظهره في الركوع والسجود" أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن [صحيح]. ولأن الرفع قيام مشروع في الصلاة؛ فوجب أن يكون واجباً [في الصلاة]؛ كالقيام في حال القراءة، وهذا ركن قصير على المشهور، كما ستعرفه في باب سجود السهو وهل هو مقصود في نفسه، أم لا؟ فيه خلاف، سنذكره في [باب] صلاة الجماعة. قال: والطمأنينة فيه؛ لأنه ركن في الصلاة؛ فكانت الطمأنينة ركناً فيه؛ كالركوع. وقال الإمام: في قلبي من عدها ركناً في الاعتدال من الركوع، وكذا في الاعتدال من السجود [شيء]؛ فإنه- عليه السلام- لم يتعرض للطمأنينة فيهما في قصة المسيء في صلاته، وهما من الأركان القصيرة، ولو وجبت الطمأنينة فيه لما امتنع مذهباً؛ كالركوع والسجود، ولاجرم لم يتعرض للطمأنينة فيهما الصيدلاني، لكن سماعي عن شيخي، وهو ما ذكره بعض المصنفين اشتراط الطمأنينة فيهما، وهو محتمل من طريق المعنى، وما ذكرته احتمال، والنقل الذي أثق به: اشتراط الطمأنينة. قلت: ويدل عليه في الرفع من السجود ما ذكرنه من الرواية الأخرى، وفي

الرفع من الركوع القياس عليه، أما الاعتدال من الركوع والسجود في النفل فهل يجب؟ قال في "التتمة": فيه وجهان؛ بناء على ما لو صلى النفل مضطجعاً مع القدرة على القيام، وفيه خلاف يأتي، وكلام الشيخ يقتضي وجوبه أيضاً. فروع: لو ركع، واطمأن، ثم سقط على الأرض؛ فإنه يقوم منتصباً، ولا يحتاج إلى إعادة الركوع والانتصاب منه؛ لأن الركوع قد أسقط فرضه، والانتصاب يحصل بقيامه إليه؛ قاله في "الأم" وفيه شيء يظهر لك مما سنذكره عن ابن سريج في آخر الباب. ولو كان سقوطه قبل الطمأنينة، وجب عليه العود إلى الركوع، ولو أنه أتى بقدر الركوع؛ فاعترضته علة منعته من الانتصاب، ومن الرفع أيضاً؛ فإنه يسجد عن ركوعه، ويسقط عنه [الرفع]؛ فإن زالت العلة، نظرت: فإن زالت بعد ما حصلت جبهته على الأرض ساجداً؛ فإنه لا ينتصب؛ فإن انتصب عالماً بأنه لا يجوز، بطلت صلاته، وألا سجد للسهو، وإن لم يكن قد سجد، عاد إليه؛ قاله ابن الصباغ. قال: والسجود؛ لقوله تعالى: {وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]،والطمأنينة فيه؛ لخبر المسيء في صلاته. فرع: إذا أراد السجود؛ فوقع على الأرض، فهل يعتد به؟ نظرت: فإن خر على وجهه، اعتد به عن السجود؛ نص عليه في الأم، واتفق عليه الأصحاب. وإن خر على جنبه فاستدار، وأصابت جبهته الأرض، اعتد به؛ لأن الهوى غير مقصود. وكذا لو انقلب حال وقوعه؛ فأصابت جبهته الأرض، ونوى حال الانقلاب- أجزأه؛ قاله في (المهذب) [كما لو نوى بوضوئه رفع الحدث والتبرد، وإن لم ينوه

أطلق في "المهذب"] أنه لا يجزئه. وقال الغزالي: إن لم ينوه، ولم يقصد صرف ذلك عن السجود، بل قصد الاستقامة غافلاً عن الصلاة؛ فالنص أنه لا يجزئه؛ كما لو صرفه عن السجود ذاكراً له. وفيه وجه مخرج: أنه يجزئه، ويجري نظيره في اتباع الغريم في الطواف. والإمام حكى هذا الوجه هاهنا، وفي الطواف عن الأصحاب الذين قالوا بأنه إذا قصد بوضوئه التبدر ذاهلاً عن العبادة، وعن قطعها. قال مجملي: والواجب: بناء هذه المسألة على ما لو غسل رجليه في الوضوء، بنية التبرد، إن كان مع حضور نية الوضوء، قال العراقيون: فالنص: أنه يجزئه، [وفيه وجه]. وقال الخراسانيون: يجزئه قولاً واحداً. وإن تجردت نية التبرد، قال العراقيون: لايجزئه قولاً واحداً. وقال الخراسنيون: فيه وجهان؛ فكذلك هذه المسألة. ثم إذا قلنا: لا يعتد بسجوده؛ فلو رام أن يديم السجود؛ ليقع عن فرضه، قال الإمام: فلا سبيل إليه، [وفيما] يلزمه احتمالان: أنه يقوم ثم يسجد؛ لأنه كما صرف سجوده عن الصلاة؛ فكذا هويه، وهذا أوجه الاحتمالين. والأظهر عندي: أنه يعتدل جالساً، ثم يسجد؛ لأن الجلسة كافية في الفصل بين السجدتين؛ فليقع الاكتفاء بها الآن. ولاجرم قال الغزالي: [إنا] إذا قلنا: لا يعتد بالسجود؛ فيكفيه أن يعتدل جالساً، ثم يسجد، ولا يلزمه القيام على الظاهر، وهو المختار في "المرشد"؛ فعلى هذا: لو قام ليسجد، قال الإمام: فهذا قد زاد قياماً في صلاته من غير حاجة، وسيأتي حكمه. قال: والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة فيه؛ لخبر المسيء في صلاته، وقد

تقدم احتمال الإمام في الطمأنينة فيه. قال: والجلوس في آخر الصلاة؛ للإجماع، والتشهد فيه؛ لقول ابن مسعود: كنا قبل أن يفرض علينا التشهد نقول: السلام على الله، السلام على جبريل، وميكائيل، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "الله السلام؛ فإذا صلى أحدكم، فليقل: التحيات [لله والصلوات] ... " إلى آخره، [كما تقدم؛ فقول ابن مسعود: "قبل أن يفرض علينا التشهد"، صريح في أنه مفروض، وأيده قوله -عليه السلام-: "فليقل التحيات لله ... " إلىخره]. قال: والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم [فيه]؛ لما تقدم في الباب قبله. وفي "الجيلي": أن صاحب "الشافي" حكى قولاً: أنها لا تجب فيه، وليس بمشهور، والخلاف: في الأول؛ كما تقدم. قال: والتسليمة الأولى؛ لقوله –عليه السلام-:"وتحليلها التسليم"، وتقرير الحصر فيه قد تقدم عند الكلام في التكبير في الباب قبله، وبالتسليمة الأولى [قد] حصل المسمى، وقد دل [عليه] ما ذكرناه من خبر عائشة وغيره من أنه -عليه السلام- اقتصر على تسليمة واحة، [وأنه لا يجب غيرها. ولأنه أحد طرفي الصلاة؛ فلم يجب فيه ذكران من جنس واحد]؛ قياساً على الطرف الآخر، وما تمسك به الخصم من قوله -عليه السلام-:"صلوا كما رأيتموني أصلي" فلا حجة فيه؛ لأنه كان يفعل في صلاته الواجب، والمستحب، وقد دل على أن الثانية مستحبة تَرْكُهُ ذلك مرة.

فإن قيل: لا نسلم أن التسليمة الأولى واجبة؛ لأنه -عليه السلام- لم يذكر السلام للأعرابي، وقال لابن مسعود حين علمه التشهد: "فإذا قلت هذا -أو قضيت [هذا]- فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم [فقم]، وإن شئت أن تقعد فاقعد" كما أخرجه أبو داود، والنسائي مختصراً. وروى أنه -عليه السلام-قال:"إذا رفع الإمام رأسه من آخر ركعة، وقعد، ثم أحدث قبل أن يتكلم، فقد تمت صلاته". وهذا يدل على أنها غير واجبة؛ ولأنه سلام للحاضر؛ فاقتضى أن يكون غير واجب في الصلاة كالتسلمية الثانية. قلنا: أما كونه -عليه السلام-لم يعلمه للأعرابي، فيحتمل أن يكون [لأنه علم أنه يحسنه؛ فلم تكن به حاجة إلى تعليمه. ويجوز أن يكون] ذكره لكن الراوي سكت عنه، وسكوت الراوي لا حجة فيه، وإنما الحجة فيما ينطق به. وأما حديث ابن مسود، فعنه جوابان: أحدهما: أن ابن مسعود هو القائل: "إن شئت أن تقم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد"، وقد بينه شبابة بن سوار في روايته عن زهير بن معاوية، وفصل كلام

ابن مسعود من كلامه عليه السلام. والثاني: على تقدير أن يكون ذلك من كلام الرسول؛ كما حكاه الخطابي عن بعض العلماء، وأن فيه دلالة-[إن صح]- على أن الصلاة على الرسول لا تجب في التشهد- أن نحمل قوله: "فقد قضيت صلاتك" على: أنك قاربت قضاءها، أو: قضيت عظمها؛ لنجمع بذلك بين هذا وبين ما ذكرناه من الخبر. وأما الحديث الثالث: فهو غير صحيح، وإن صح، حملناه على ما بعد التسليمة الأولى، وقبل الثانية. والفرق بين الأولى والثانية: أنه لما لم يجب ما قام مقام الثانية، لم تجب، وليس كذلك الأولى. قال: ونية الخروج من الصلاة؛ لأنه نطق وجب في أحد طرفي الصلاة؛ فلم يصح من غير نية كالتكبير، أو لأن السلام في وضعه مناقض للصلاة؛ فإنه [من] خطاب الآدميين، ولو جرى في أثناء الصلاة قصداً، لأبطلها؛ فإذا لم تقترن به نية تصرفه إلى قصد التحليل وقع مناقضاً؛ فأفسد، وبهذا خالف الصوم؛ فإنه ينقضي بانقضاء زمانه، والحج؛ فإن ما يقع به التحلل فيه ليس من قبيل المفسدات. وهذا ما يحكي عن نصه فيه "البويطي"؛ ولأجله ادعى الماوردي أنه الظاهر من مذهب الشافعي، وغيره قال: إنه المذهب. وقيل: لايجب ذلك؛ لأن النية السابقة نسحبة على جميع الصلاة، وهذا قول أبي حفص بن الوكيل، وأبي الحسين بن القطان، وهو الصحيح عند القفال، والقاضي الحسين، والبغوي، والروياني، وقال القاضي في موضع آخر: إنه المذهب، والإمام قال: إنه الذي ذهب إليه الأكثرون، وهو اختيار المتأخرين. وهؤلاء اختلفوا: فمنهم من لم ينسب للشافعي في المسألة نصاً، ونسب الأول إلى صاحب "التلخيص".

ومنهم من يعزيه إلى ابن سريج. ومنهم من يقول: النص محمول على الاستحباب. والبندنيجي قال: إنه ليس للشافعي في المسألة نص. والأكثرون على الأول. التفريع: إن قلنا بالأول، فلا يختلف المذهب في أنها ركن، وافق عليه ابن الصباغ وغيره، وتكون النية ممتزجة بالتسليم، لا قبله ولا بعده؛ فإن قدمها عليه، بطلت صلاته، وإن سلم بدونها، بطلت أيضاً. نعم لو نوى قبل السلام الخروج به، لا تبطل، ولكن لا يكفي [فليأت بالنية] مع السلام؛ قاله الإمام. ولا يشترط تعيين الصلاة؛ لأنها قد تعينت بالشروع. وإن قلنا بالثاني، كانت من جملة السنن بلا خلاف. وعلى الوجهين: لو عين في نيته صلاة غير التي هو فيها عمداً، بطلت صلاته. قال القاضي الحسين: لأنه أبطل ما هو فيه بنية الخروج عن غيره. نعم لو فعل ذلك سهواً: فعلى الأول: يسلم ثانياً ويسجد للسهو، وعلى الثاني: لا. وفي "الرافعي": أن القول بالبطلان عند التعمد مفرع على القول بالوجوب. أما إذا قلنا: لا يجب، فلا يضر الخطأ في التعيين.

وعلى الوجهين يتفرع أيضاً سلام المأموم مع الإمام؛ فإن قلنا بالأول، لم يجز؛ كما في تكبيرة الإحرام، وإلاجاز. والمستحب تأخيره عن تسليمة الإمام الثانية، وفيه ما ذكرناه عن المتولي في الباب قبله. وقد ذكر الجيلي أن الخلاف في وجوب النية ينبني على أن السلام من الصلاة، أم لا؟ قال: وفيه قولان؛ فإن قلنا: إنه منها، أوجبناها، وإلا فلا. والذي رأيته فيما وقفت عليه: أنها من الصلاة عندنا مع حكاية الخلاف في وجوب النية. نعم قال الإمام: إذا قلنا: لابد من نية الخروج، فيبعد عندي أن يكون قصد الخروج-مع خطاب هو مناقض للصلاة-من الصلاة-من الصالة، والعلم عند الله. قال: والترتيب؛ أي: بين الأركان على ما ذكرناه؛ لأنه-عليه السلام-قال

للأعرابي: "فإذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ كذا، ثم كذا" فذكر واجبات الصلاة بصيغة "الفاء" أولاً، ثم عقبها بصيغة "ثم" ومقتضاهما الترتيب. وقد ادعى الإمام أن التعويل في وجوبه علىلإجماع. أما الترتيب في السنن؛ فليس بركن فيها. نعم، هو شرط في الاعتداد بها؛ كما تقدم. وقد يقال: إنه في بعضها شرط؛ أخذاً مما سنذكره في باب: ما يفسد الصلاة، وسجود السهو. وقد عبر الإمام عن الترتيب بين الفروض بأنه واجب في الصالة، ولم يذكر أنه فرض، وعلى ذلك جرى كثيرون، ومنهم من قال يه كما ذكر الشيخ، وعليه جرى المتولي، وزاد؛ فقال: إن الموالاة في الأفعال فرض. وفيه نظر؛ لأن التفريق على وجه السهو [لا يقدح؛ كما سنذكره، والركن لا يغتفر فهي السهو]، نعم التفريق من باب المنهيات؛ فيختص بحالة الذكر؛ ولذلك لم يعده الشيخ من الفروض. وقد أفهم كلام الإمام أن المراد بالموالاة عدم تطويل الركن القصير؛ كما ستعرفه في باب: سجود السهو. وقد عد بعض الأصحاب الفروض أربعة عشر، وأسقط الطمأنينة من العدد، وقال: إنها بعض الركن، وعليه جرى القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والشيخ في "المهذب"، وغيرهم. وإسقاط الطمأنينة [من الأركان] هو ما حكاه القاضي الحسين عن صاحب "التلخيص" بعد [أن] صدر كلامه بعدها في [كل] محل ذكرناه ركناً. ثم كلام الشيخ كالمصرح بأن السجدة الأولى والثانية في الركعة الواحدة ركن [واحد] وهو الصحيح؛ كما قال ابن يونس، ومنهم من جعل الأولى ركناً والثانية ركناً آخر، وعليه جرى القاضي الحسين، وحكاه أيضاً عن صاحب "التلخيص"،وبه تكمل الفروض خمسة عشر؛ لأن قائله لا يعد الطمأنينة ركناً، ويظهر [أثر] الخلاف فيما إذا سبق الإمام بذلك؛ كما سيأتي.

ثم هذه الفروض لا تخلو صلاة ما عنها، فرضا ًكانت أو نفلاً، إلا ما نبهنا عليه. ولا فرق بين أن تكون الصلاة ركعة أو أكثر. نعم إذا كانت ركعة واحدة لا يتكرر فيها شيء مما مضى، وإن كانت أكثر؛ فإن كانت ركعتين تكرر جملتها ما خلا النية، وتكبيرة الإحرام، ويزيد التكرار بزيادة الركعات. قال: وسنن أربع وثلاثون: هذه السنن قد تقدم الدليل على مشروعيتها في الباب قبله، ودليل عدم فرضيتها سنذكره، وبه يتعين أنها سنة، ثم منهم من يعبر عنها؛ كما ذكر الشيخ، ومنهم من يقول: ما عدا الفرائض والشروط في الصلاة مما هو مطلوب فيها تنقسم إلى أبعاض، وسنن، وهيئات: فالأبعاض: ما يتعلق بتركه سجود السهو؛ وهي خمسة على الصحيح؛ كما سيأتي في بابه. والسنن: ثمان وهي: رفع الدين في تكبيرة الإحرام، والركوع، والرفع، ودعاء الاستفتاح، والتعوذ، والتأمين، وقراءة السورة، ووضع اليمين على الشمال، وتكبيرات الانتقالات، والتسبيح في الركوع، والسجود. والهيئات: باقيها؛ لأنها تابعة لغيرها. وقال الروياني في "تلخيصه": والصحيح أن ما عدا الأبعاض هيئات، ثم لماذا سمي ما يتعلق السجود بتركه أبعاضاً؟ قال الإمام: لست أرى فيه توقيفاً شرعياً، ولعل معناها: أن الأبعاض تنطلق على الأقل، وما يتعلق به سجود السهو من السنن اقل مما لا يتعلق به؛ فلذلك سماها الفقهاء: أبعاضاً، ثم قال: ويتم على مذهبنا في غير القنوت شيء، وهو أن كل سنة ذهب إلى وجوبها طائفة من الأئمة فهي من الأبعاض، وأحمد بن حنبل أوجب الجلوس الأول، والتشهد، والصلاة؛ فجرى ما ذكرناه، والقنوت في صلاة الصبح لم يبلغني فيه خلاف في الوجوب؛ فلعل المتبع فيه الآثار.

وقال بعضهم: إن ما ذكره لا يتجه طرداً وعكساً: أما الطرد؛ فلأن طائفة ذهبت إلى أن قراءة ثلاث آيات مع الفاتحة واجبة. وطائفة قالوا بوجوب التحميد والتسبيح، والتكبير، وليس ذلك بعضاً. وأما عكساً؛ فبالقنوت؛ كما ذكر. نعم يحسن أن يقال: إنما سميت: أبعاضاً مجازاً؛ لشبهها ببعض أجزاء الصلاة من حيث إن صورة الصلاة تنتقص بتركها [من] حيث كانت [شبيهاً بها] عمل البدن، وهو معنى قول الغزالي في تمييزها بأن تركها [يؤدي إلى تغيير شعار ظاهر خاص بالصلاة. ثم مجموع هذه السنن لا يكون] في كل صلاة، بل في بعضها، وأنت إذا تأملت ذلك، لم يخف عليك. قال: رفع اليدين، أي: إلى حذو المنكبين مفرقة الأصابع في تكبيرة الإحرام والركوع والرفع، [أي: ورفعهما في الركوع والرفع] منه، ومنهم من يضيف إلى ذلك: [وحين] يرفع الرأس من السجدة الثانية إلى القيام، ومن التشهد الأول إلى القيام. قال: ووضع اليمين على الشمال، والنظر إلى موضع السجود، ودعاء الاستفتاح والتعوذ والتأمين؛ لأنه-عليه السلام- لم يأمر بذلك المسيء في صلاته؛ حين سأله عن تعليم ما يجزئه، ولو كانت فروضاً، لبينها؛ إذ لا يجوز مع ذلك تأخير البيان. قال: وقراءة السورة؛ لقوله -عليه السلام-:"أم القرآن عوض من غيرها، وليس غيرها منها عوضاً".

ومفهوم ما قدمناه من الأحاديث، يدل على ذلك أيضاً. ولأن ما لم يتعين من القراءة لم يجب في الصلاة؛ كسائر السور. فإن قيل: قد روي عن أبي هريرة أنه قال: "قال [لي] رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرج فناد في المدينة أنه لا صلاة إلا بقرآن، ولو بفاتحة الكتاب، فما زاد". وعنه قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أنه لا صلاة إلا بقراءة الفاتحة؛ فما زاد". وعن عبادة بن الصامت يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة [الكتاب] فصاعدا" أخرجها أبو داود. وأخرج البخاري ومسل وغيرهما حديث عبادة، لكنه ليس في حديث بعضهم: "فصاعداً". قلنا: هذه الأحاديث تدل على أنه لا يجوز ترك الفاتحة، لا على أنه تجب قراءة ما زاد عليها؛ كقول القائل لوكيله: بع بعشرة فما زاد؛ فإنه أذن في البيع بعشرة، وبما فوقها، ونهى عن البيع بما دونهاز نعم ما رواه الشافعي في قصة المسيء في صلاته، يدل على الوجوب؛ فإنه قال: "ثم اقرأ بأم القرآن، وما شاء الله أن تقرأ"؛ [وقد] أخرجه أبو داود. قال: والجهر، والإسرار، أي: في القراءة، ودعاء الاستفتاح والتعوذ والتأمين، ونحو ذلك؛ لأنه -عليه السلام- لم يذكره للمسيء في صلاته. [قال: والتكبيرات؛ أي: على الصفة] [التي ذكرناها؛ لأنه –عليه

السلام- لم يذكر سواها في قصة المسيء في صلاته]؛ [كما] ذكرناها عن رواية أبي هريرة. قال: والتسميع، والتحميد في الرفع من الركوع؛ لأنه-عليه السلام- لم يذكره للمسيء في صلاته في خبر أبي هريرة. فإن قيل: قد ورد في هذه القصة ما يدل على وجوب ذلك، وهو ما رواه أبو داود، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن عمه أن رجلاً دخل المسجد فذكر نحواً مما قاله أبو هريرة؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لاتتم صلاة لأحدكم حتى يتوضأ؛ فيضع الوضوء-يعني: مواضعه-ثم يكبر ويحمد الله-تعالى- ويثني عليه، ويقرأ بما شاء الله من القرآن، ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: [سمع الله لمن حمده]، حتى يستوي قائماً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع رأسه؛ فيكبر؛ فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته". قيل: المحفوظ في هذا على بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع، وهو حسن، والأول صحيح فكان العمل به أولى. قال: والتسبيح في الركوع، والتسبيح في السجود؛ لما ذكرناه في خبر المسيء في صلاته؛ ولأنهما هيئتان مخالفتان للهيئة المعتادة؛ فلذلك لم يشترط فيهما ذكر؛ بخلاف القيام والقعود؛ فإنه واقع في الاعتياد؛ فخصص بقراءة في العبادة. فإن قيل: قد روي أنه -عليه السلام- لما نزل قوله تعالى: [{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قال: "اجعلوها في ركوعكم" ولما نزل قوله تعالى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] قال: "اجعلوها في

سجودكم"، وهذه صيغة أمر؛ فكانت مقتضية للوجوب. قلنا: نحمله على الاستحباب؛ لما ذكرناه. قال: ووضع اليد على الركبة في الركوع، ومد الظهر، والعنق فيه؛ لأنه -عليه السلام- لم يذكره للمسيء في صلاته في خبر أبي هريرة، وهو مجمع على عدم وجوبه، وبه يعلم أن ما جاء في رواية عن علي بن يحيى بن خلاد، عن رفاعة بن رافع في قصة المسيء في صلاته أنه -عليه السلام- قال: "إذا قمت فتوجهت إلى القبلة، فكبر، ثم اقرأ أم القرآن، وما شاء الله أن تقرأ، فإذا ركعت؛ فضع راحتيك على ركبتيك، وامدد ظهرك، وإذا سجدت، فمكن سجودك؛ فإذا رفعت، فاقعد على فخذك اليسرى"-بيان للاستحباب، لا للوجوب.

قال: والبداءة بالركبة، ثم باليد في السجود؛ [لأنه- عليه السلام- لم يذكره للمسيء في صلاته. قال: ووضع الأنف على الأرض في السجود]؛ لأن اسم "السجود" يصدق بدونه، وقد تقدم في وجوبه وجه. قال: ومجافاة المرفق عن الجنب في الركوع والسجود -أي: في حق الذكور- والدعاء في الجلوس بين السجدتين، وجلسة الاستراحة- أي: على الصحيح- لأنه عليه السلام لم يذكر ذلك للمسيء في صلاته. قال: والافتراض في سائر الجلسات؛ لأنه لم يذكره للمسيء في صلاته [في خبر أبي هريرة، ولم يقل أحد بوجوبه، وبه يعلم أن ما جاء في رواية علي بن يحيى بن خلاد في قصة المسيء في صلاته]: "فإذا جلست في وسط الصلاة، فاطمئن، وافترش فخذك اليسرى، ثم تشهد" –بيان للاستحباب. قال: والتورك في آخر الصلاة؛ لأنه لم يقل أحد بوجوبه، نعم، اختلفوا في استحبابه. قال: ووضع اليد اليمنى على الفخذ [اليمنى] مقبوضة، والإشارة بالمسبحة، ووضع اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطة؛ لقوله -عليه السلام- لابن مسعود لما علمه التشهد: "فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك"، ولم يأمره بذلك؛ فدل على أنه غير واجب، وهو مما لا خلاف فيه. قال: والتشهد الأول- أي: والجلوس له- لأنه عليه السلام جبره بالسجود،

ولو كان ركناً لما جبر به؛ كغيره من الأركان. قال: والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه؛ لأنها تبع للتشهد؛ فإذا لم يجب، فالتابع أولى، وقد تقدم [قول]: أنها لا تستحب. قال: والصلاة على آله في التشهد الأخير، [أي: على الصحيح]، لما ذكرناه في الباب قبله. قال: والدعاء في آخر الصلاة، والقنوت في الصبح-أي: والقيام له-لأن الإجماع على أنه لا يجب؛ فتعين أن يكون سنة. وما ذكرناه من الجلوس للتشهد، والقيام للقنوت يظهر لك معناه من بعد. قال: والتسليمة الثانية -أي: على الجديد- لما ذكرناه، وبه يقع الرد على الإمام أحمد بن حنبل؛ حيث قال بوجوبها. قال: ونية السلام على الحاضرين؛ لأنه لا يجب في غر الصلاة؛ في الصلاة أولى، وقد ذكر في "المهذب"سنة أخرى، وهي الاعتماد على الأرض عند القيام، ولم يعدها هنا، وإن كان قد ذكرها في الباب قبله، وكذا ذكر فيه ترتيل القراءة، ولم يعده هنا؛ لأنه لا يختص بالصلاة. قال: وإن ترك فرضاً ساهياً، وهو في الصلاة- أي: وتذكره وهو في الصلاة-لم يعتد بما فعله بعد المتروك حتى يأتي بما تركه، ثم يأتي بما بعده؛ أي: فيعتد به؛ لما قدمناه من وجوب الترتيب، وقد قال -عليه السالم-: "لا صلاة لمن عليه صلاة".

ولنضرب لذلك مثالاً؛ وهو: إذا تذكر في الركعة الثانية أنه ترك سجدة من الركعة الأولى -حسبت له ركعة إلا سجدة، ثم ينظر: إن تذكر قبل أن يسجد في الثانية فالمذهب: أنه يسجد من قيام، وقال أبو إسحاق: بل يجلس، ثم يسجد من قعود؛ لأن السجدة هكذا تجب، وهذا يشبه ما قاله ابن سريج فيما إذا قام إلى خامسة ناسياً بعد تشهده: إنه يقعد، ويعيد التشهد، ويحكي عن النص، وأن المعنى في رعاية الموالاة بين التشهد والسالم؛ فإن تشهده في الرابعة قد انقطع بالركعة الزائدة؛ فلابد من إعادته؛ ليليه السلام؛ فكذا هنا لابد من إعادة الجلوس ليليه السجود، وهذا مطرد في سائر الأركان، حتى لو ترك الركوع، [ثم تذكر] في السجود، يجب عليه أن يعود إلى القيام، ويركع منه. ومنهم من قال: معنى النص في مسألة ابن سريج: أنه لو لمي عد التشهد، لبقي السلام فرداص غير متصل بركن، لا قبله ولا بعده، وهذا المعنى لا يوجد في مسألتنا. وقضية من قال به ألا يوجب في مسألتنا العود إلى الجلوس، وإن قال به في مسألة ابن سريج، وهو [المذهب كما ذكرناه، وقد قيل بمثله في مسألة ابن سريج وهو] الذي قال به معظم الأصحاب؛ فيجلس، ويسلم من غير تشهد. قال ابن الصباغ: وما قاله أبو إسحاق في مسألتنا ليس بصحيح؛ لأنه قد أتى بالجلوس بين السجدتين؛ فلا يبطل بما حصل من السهو بعده، بل يعفي عنه، ويكون كأنه سجد عقيبها. وأيضاً فقد سلم أنه لو نسي أربع سجدات من أربع ركعات؛ ثم تذكر، تحسب له ركعتان؛ وإن كانت السجدة الأخيرة من كل ركع منها إنما حصلت

عن قيام، نعم، لو كان [لم] يجلس بين السجدتين، وجب عليه الجلوس مطمئناً، ثم يسجد عقيبه، على أصح الوجهين. وقيل: إن القيام يقوم عند السهو مقام الجلوس بين السجدتين. قال الإمام: وهذا الخلاف يئول إلى أن الجلسة بين السجدتين هل المقصود منها الفصل؛ فيكفي القيام فاصلاً مع النسيان، وأما مع العلم فلا، أو هي مقصودة في نفسها؛ كالسجود؛ فلا ينوب عنها القيام. ولو كان قد ظن أنه سجد السجدتين؛ فجلس للاستراحة، ثم ظهر له أنه لم يسجد غير واحدة؛ وأنه لم يجلس جلسة الفصل بعد الأولى-قال القاضي الحسين: فمنهم من رتب الخلاف على الخلاف في المسألة قبلها، وهاهنا أولى بألا تقوم جلسة الاستراحة مقام جلسة الفصل؛ لان القيام ركن؛ فجاز أن يقوم مقام ركن آخر، وجلسة الاستراحة سنة؛ فلا تقوم مقام فرض. ومنهم من قال: إن قلنا: يقوم القيام مقامها، فهاهنا أولى، وألا فوجهان؛ لأن الجلوس من جنس الجلوس؛ وهذه الطريقة هي المشهورة التي ذكرها العراقيون، ونسبوا المنع إلى ابن سريج، وانه وجهه بأنه اعتقدها نافلة؛ فلا تجزئه عن فرضه؛ كما قلنا فيمن عليه سجدة من صلاة؛ فسجد للتلاوة: لا تجزئه عنها. وقال في "التهذيب": إن قول ابن سريج هو المذهب، والصحيح عند العراقيين: الإجزاء؛ لأن هذه الجلسة وقعت في محلها؛ فلا يضر اعتقاد سنيتها؛ كما لو جلس في التشهد الأخير وهو يظن أنه الأول، ثم تذكر عقيب التشهد؛ فإنه يحسب له عما عليه، وإن أتى به على وجه السنة، وهذا منهم يدل على أنه لا خلاف في المسألة المستشهد بها. لكن الرافعي حكى عند الكلام فيما إذا قام إلى خامسة-الخلاف فيها أيضاً؛ وحينئذ يتعين أن يكون قياسهم عليها، إما لأن المخالف هنا -وهو ابن سريج- قد وافق عليها، وإن خالف غيره، أو لأن الشافعي نص عليها؛ فيحسن الرد على ابن سريج [به.

قال الشيخ أبو حامد: وما استشهد به ابن سريج] من أن من عليه سجود لا تجزئه عنه سجدة التلاوة ليس للشافعي فيه نص، ويحتمل أن يقال: تجزئه. قلت: وابن الصباغ قد حكاه في باب النية في الوضوء وجهاً في المسألة مع الوجه الآخر. قال الشيخ أبو حامد: ثم إن سلمناه، فالفرق: أن سجود التلاوة من غير جنس سجود الصلاة؛ لأنه ليس براتب فيها؛ فلم يقع عما هو راتب فيها، وجلسة الاستراحة راتبة في الصلاة؛ كجلسة الفصل؛ فحسبت عنها، وبهذا فرق الماوردي أيضاً، وأيده في موضع بأنه لو ترك سجدتين من آخر صلاته سهواً، ثم سجد في آخر الصلاة؛ للسهو، لا تحسبان له؛ لأنه غير راتب فيها. قال ابن الصباغ: وما قاله أبو حامد: من أنه لا نص للشافعي في المسألة المستهشد بها، سهو؛ فإن الشافعي نص على أن ذلك لايجزئه، والفرق: أن سجود التلاوة وقع في موضعه؛ فلا يقع عن غيره؛ بخلاف جلسة الاستراحة؛ فإنها لم تقع في موضعها؛ لأنه لا يعتد بها قبل تمام المتروك؛ فوقعت عنه، ولا يقال: إن القراءة أيضاً لا تقع موقعها؛ فلا تقتضي سجوداً؛ لأن السجود منوط بالقراءة التي ليست بمكروهة، سواء اعتد بها، أم لا، وهذه كذلك. واحترزنا بقولنا: "ليست بمكروهة" عن القراءة في الركوع والسجود؛ فإنها لا تقتضي سجوداً؛ كما ستعرفه. وقد شبه الخلاف في المسألة بما لو أغفل المتوضئ لمعة في المرة الأولى، وغسلها في الثانية، أو الثالثة، والأصح -عند العراقيين-: الإجزاء، بخلاف ما إذا انغسلت في تجديد الوضوء؛ لأن قضية نيته في ابتداء الوضوء: ألا يقع شيء عن السنة حتى يرتفع الحدث؛ كذلك ها هنا قضية نيته السابقة، ألا يكون الجلوس عن الاستراحة إلا بعد الفراغ من السجدتين. ولو كان تذكره ترك السجدة الثانية من الأولى بعد سجوده في الثانية، كملت الركعة الأولى بسجدة من سجدتي الثانية، وأبطلنا بقية الثانية، لكن بأي السجدتين

يكمل؟ هي على ما مضى. فإن قلنا بقول أبي إسحاق، كان التكميل بالسجدة الثانية. وكذا إن قلنا بمقابله، ولم يكن قد جلس بين السجدتين، و [قلنا]: إن القيام [لا] يقوم مقامها، [وإن كان قد جلس بين السجدتين، وقلنا: إن القيام يقوم مقامها] فالذي حصلت به التكملة السجدة الأولى، ولا فرق في ذلك بين أن يقصد الساهي بسجوده في الثاني السجود للركعة الثانية، أو لا. وقال أبو إسحاق: إنما تتم الركعة الأولى بالسجود في الثانية؛ إذا لم يقصد به السجود فيها؛ فإن قصد به السجود للثانية، فلا تتم به؛ لأن نية الصلاة مستدامة، وقد حدثت نية أخرى حقيقة تخالف تلك النية؛ فكانت الحقيقة مغلبة، وهذا في "تعليق" القاضي الحسين و"تلخيص" الروياني منسوب إلى ابن سريج، وانه استشهد له بنص الشافعي، على أنه لو هوى إلى السجود؛ فسقط على الأرض؛ إن نوى الاعتماد على الأرض، لا يحسب له عن فرض السجود. قال الروياني: وهو صحيح، والذي عليه الجمهور: الأول. قالوا: ونظيره ما لو نوى التنظيف في أثناء الوضوء بعد عزوب النية حقيقة، لا حكماً، وذلك لا يؤثر، لكن لأبي إسحاق أن يمنع في مسالة الوضوء أيضاً، ويتمسك فيها بظاهر ما نقله المزني؛ فإنه قال: يجزئه ما لم يحدث نية أن يتبرد، أو يتنظف. فإن قيل: إذا حصل التذكر لترك سجدة من الأولى، وهو في سجود الثانية: [لم] لا أبطلتم الأولى، وجعلتم السجود لثلانية؛ كما قلتم فيما إذا زوحم عن السجود في الجمعة في الأولى حتى ركع الإمام في الثانية؛ فإنه يتابعه على قول، ويحسب الركوع عن الركعة الثانية، لا عن الأولى، على قول؟ قلنا: إنما حسبنا الركوع عن الركعة الثانية في مسألة الزحام؛ لحاجته إليه حتى

لا تكون الركعة ملفقة؛ فلا يدرك بها الجمعة، ولا حاجة به هاهنا، وقد صحت الأولى؛ فكيف تلغي؟! مع أنا ثم نأمره بالركوع قصداً، وفيه إبطال لما سلف، وهاهنا ركع وسجد في الثانية وهو غير عالم بأن عليه شيئاً؛ فكان فعله سهواً؛ فصح ما يلي فعله على وجه الصحة، وهو السجود. ثم الحكم فيما لو تذكر أنه ترك ركوعاً؛ كما ذكرناه في السجود، ولو تذكر أنه ترك القراءة، فسيأتي الخلاف فيه. فإن قلنا: لا تسقط بالنسيان، كان الحكم كما في الركوع والسجود. فرع: لو تذكر [وهو] في الركوع أنه ترك قراءة الفاتحة؛ فعليه أن يعود في الحال؛ فإن تأخر ساعة، بطلت صلاته. ولو تذكر وهو قائم أنه تركها؛ فتباطأ ساعة، لا تبطل؛ لأن القيام محل القراءة؛ بخلاف الركوع؛ قاله القاضي الحسين في باب: سجود السهو. قال: فن لم يعرف معوضه، بني الأمر على أسوأ الأحوال موجباً لطلب اليقين الذي دل على اعتباره الخبر الذي سنذكره في أول سجود السهو. قال: فإن كان المتروك سجدة من أربع ركعات، جعلها –أي: قدر أنها- من غير الأخيرة، ويأتي بركعة؛ لأنه الأحوط؛ فإنه لو جعلها من الخيرة، لم يلزمه إلا سجدة [واحدة]، ويعيد التشهد وما بعده، وإذا جعلها من غير الأخيرة، لزمه ركعة؛ كما ذكر؛ لأنها إن كانت من الأولى، انجبرت بسجدة من الثانية [إما الأولى، أو الثانية؛ على الخلاف السابق، وبطل باقي الثانية]، وصح ما بعدها؛ فحصلت له الركعة الأولى؛ وصارت الثالثة ثانية، والرابعة ثالثة، وبقي عليه ركعة فيأتي بها. وإن كانت السجدة من الثانية، انجبرت بسجدة [من الثالثة وبطلت، فصارت الرابعة ثالثة، يأتي برابعة. وإن كانت السجدة من الثالثة، انجبرت بسجدة] من الرابعة، وبطلت؛ فيأتي برابعة.

قال: [ويسجد للسهو]؛ لخبر ابن مسعود، وغيره، الذي سنذكره في باب سجود السهو. قال: وإن كان سجدتين، جعل واحدة من الأولى، وواحدة من الثاثلة، ويأتي بركعتين؛ لأن الأولى تنجبر بسجدة من الثانية، ويبطل باقي الثانية، وتنجبر الثالثة بسجدة من الرابعة، وتبطل الرابعة، وحينئذ تكمل له ركعتان؛ فيبقى عليه ركعتان؛ فيأتي بهما. نعم، لو علم أن السجدتين من ركعة واحدة، جعلهما من غير الأخيرة، وأتى بركعة؛ لأن هذا أسوأ الأحوال، ولو علم أنهما من ركعتين متواليتين؛ فالأحوال كلها في حقه سواء، ويلزمه ركعة كيف جعلها، وهو مما لا خلاف فيه. قال: [ويسجد للسهو]؛ لما ستعرفه.

قال: وإن كان ثلاث سجدات، جعل سجدة من الأولى، وسجدة من الثالثة، وسجدة من الرابعة، ويأتي بركعتين؛ لأن الأولى تنجبر بسجدة من الثانية، ويبطل ما بقي منها، وتنجبر الثالثة بالسجدة التي في الرابعة، ويبطل ما أتى به بعدها، وحينئذ تكمل له ركعتان [فيبقى عليه ركعتان]، فيأتي بهما، ويسجد للسهو. ولو جعل واحدة من الأولى، واثنتين من الثالثة، كان الحكم كذلك، وكذا لو جعل واحدة من الأولى، [وواحدة من الثانية]، وواحدة من الثالثة- كان الحكم كذلك. قال: وإن كان أربع سجدات، جعل سجدة من الأولى، وسجدة من الثالثة، وسجدتين من الرابعة، ويأتي بسجدة، وركعتين؛ لأن الأولى تنجبر بسجدة من الثانية، ويبطل باقيها، ومعه قيام الثالثة، وركوعها، والرفع منه؛ فيأتي بسجدتين تتم بهما، وتكون ثانية له؛ فيبقى عليه ركعتان، وهذا تفريع على المذهب في أنه لا يعيد الركن الذي قبل المتروك. أما إذا قلنا: إنه يعيده-كما هو وجه مفرع على ما اختاره ابن سريج من أنه

إذا قام إلى خامسة بعد التشهد الأخير يعيد التشهد-فهاهنا يلزمه أن يركع، ثم يسجد سجدتين، ويأتي بركعتين. وما ذكره الشيخ من أنه يجعل واحدة من الأولى، وواحدة من الثالثة، وثنتين من الرابعة- لا يتعين في كونه أسوء الأحوال، بل لو جعل واحدة من الأولى، وثنتين من الثالثة، وواحدة من الرابعة-كان كذلك، وكذا لو جعل واحدة من الأولى، وثنتين من الثانية، وواحدة من الرابعة، أوجعل ثنتين من الأولى، وواحدة من الثانية، وواحدة من الرابعة. وحكى الإمام عن الشيخ أبي محمد أنه كان يقول: يلزمه-إذا كان المتروك أربع سجدات من أربع ركعات-أن يسجد سجدتين، ثم يقوم إلى ركعتين أخريين؛ لاحتمال أنه ترك ثنتين من الثانية، وثنتين من الرابعة، ولو كانكذلك، لكان عليه أنيسجد سجدتين، ثم يقوم إلى ركعة أخرى؛ فيجب أن يسجد سجدتين؛ لجواز أن يكون المتروك على وجه يقتضي ذلك، ثم لا يجزئه إلا ركعتان؛ لجواز أن يكون الترك على وجه آخر؛ فيصلي ركعتين أخريين؛ ليكون آتياً بكل ما قدر وجوبه. قال الإمام: وهذا عندي غير سديد؛ فإن السجدة الثانية التي أمر بها لا تقع وقع الاعتداد، ويعارض ما ذكره أن السجدة الثانية قد تكون زائدة، والإتيان بسجدة في غير أوانها يبطل الصلاة؛ فإذا تعارضا، تعين صرف الأمر عند الإشكال إلى ما يقدر وقوعه معتداً به. قال العجلي: ويمكن أن يجاب عن هذا: بأنا لا نعلم كون هذه السجدة زائدة [وهو المبطل بدليل أن السجدة الواحدة يجب الإتيان بها، ويحتمل أنها زائدة]. قال: ويرد على هذا: أن فيما ذكره الشيخ أبو محمد زيادة قطعاً: إما سجدة، وإما ركعة. [قال]: ويجاب عنه: بأن الزائد غير متعين، ولا يمكن ترك واحد منهما؛ كي لايكون إخلالاً بالواجب، وقد اتبع الشيخ في اقتصاره على ذكر هذه الصور الشيخ أبا حامد، والماوردي.

وغيرهم ذكرها، وزاد عليها؛ فقال: ولو كان المتروك خمس سجدات من أربع ركعات، فقد قيل: الحاصل له ركعتان إلا سجدتين؛ فإن أقل أحواله أنه أتى بواحدة في الأولى وثنتين في الثانية؛ فتتم الأولى بالانية، ولم يأت للثالثة ولا للرابعة بسجود؛ فيلزمه سجدتان وركعتان. قال بعضهم: قال صاحب "الشامل": هكذا ذكره أصحابنا. ويحتمل أنه أتى بسجدة في الأولى، وسجدتين في الرابعة؛ فتتم الأولى بالرابعة، ولا يعتد فيها بقيام ولا قراءة ولا ركوع! والحاصل له- على هذا التقدير- ركعة واحدة؛ فيلزمه ثلاث ركعات. وهذا ما حكاه القاضيان: أبو الطيب، والحسين، وغيرهما، وهو المذكور في "المرشد"، وإن كان المذكور في "المهذب" الأول. ولو ترك ست سجدات لزمه ثلاث ركعات أيضاً. ولو ترك سبع سجدات لزمه سجدة، وثلاث ركعات. ولو ترك ثماني سجدات؛ بأن كان بين جبهته والمصلى حائل، لزمه سجدتان، وثلاث ركعات. ولو ترك الجلوس بين السجدتين في الأربع؛ فإن لم يكن جلس للتشهد، ولا للاستراحة. فإن قلنا: إن القيام يقوم مقامها، كان الحكم كما لو ترك من كل ركعة سجدة. وإن قلنا: لا يقوم، فقد حصل له قيام، وركوع، ورفع منه، وسجدة واحدة، وحينئذ ينظر إن كان جالساً، سجد الثانية، وتمت له ركعة، وإن كان قائماً، جلس وسجد وتمت له ركعة، ثم يأتي بثلاث ركعات، وإن كان قد أتى بالتشهد الأول، أو جلس للاستراحة مرة، أو أكثر-فلا يخفى تفريعه مما تقدم. فرعان: لو كان يصلي المغرب، فصلى أربعاً ناسياً، ثم تذكر أنه ترك من كل ركعة سجدة-حصلت له ركعتان؛ فيأتي بركعة أخرى؛ قاله في "الحاوي". ولو كان يصلي الظهر قصراً؛ فصلاها أربعاً سهواً، وتذكر أنه ترك من كل ركعة.

سجدة-حصلت له ركعتان، وأجزأته؛ قاله في "التتمة". قال: وإن ذكر ذلك بعد السلام، ففيه قولان: أحدهما: [أنه] يبني على صلته ما لم يتطاول الفصل؛ لأنه -عليه السلام- "سلم من اثنتين، وقام ومشى إلى مقدم المجلس، وجلس متفكراً؛ فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة، أم نسيت؟ فقال: "كل ذلك لم يكن"، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم [أصحابه] عن ذلك؛ فأخبروه به؛ فعاد، وأتم صلاته". ولأنه إذا لم يطل الفصل، كان في حريم الصلاة؛ فألحق بها، وهذا ما حكاه الماوردي وغيره، وعليه نص في "المختصر"، ولم يورد الجمهور غيره. وعلى هذا فلا فرق فيه بين أن يقوم من المجلس، أو لا، ولا بين أن يستدبر القبلة ويتكلم، أو لا، نعم، يشترط ألا يدوس نجاسة على المذهب في "التتمة"، وهو ما أورده القاضي الحسين؛ فإن مشى عليها، لم يبن. والفرق بين ذلكن ويبن ترك الاستقبال، والكلام: أن القبلة يجوز تركها في النافلة في السفر، ولا تبطل الصلاة بالكلام ناسياً، وتبطل على الصحيح إذا كان عليه نجاسة لم [يعلم بها] قبل الدخول في الصلاة. وليس له العود عن تذكره إلى موضع صلاته أولاً؛ لأن عوده ليس من الصلاة. قال: والثاني: يبني ما لم يقم من المجلس. هذا القول لا يوجد في الكتب المشهورة في هذه المسألة، بل هو مذكرو في سجود السهو؛ كما ستعرفه. [قال بعضهم: فيجوز أن يكون الشيخ قد أخذه من ثم؛ لما ستعرفه]، ومجلي قد حكاه في هذه المسألة، عن رواية العراقيين، عن القديم. قال: فإن ذكر بعد ذلك، استأنف؛ لأن الفصل الطويل مغير لنظم الصلاة، ثم

الإشارة بـ"ذلك" يجوز أن تكون إلى المجلس، وحينئذ فلا فرق بين أن يكون الفصل قد طال، أو لم يطل؛ كما قلنا بمثله في سجود السهو. ويحتمل أن يكون عائداً إلى ما ذكر أنه حد التدارك: إما التدارك: إما قرب الفصل، أو المجلس، وهو الأقرب. وقد حكى القاضي الحسين طريقة أخرى، حاكية لقول آخر: أنه يبني [وإن تطاول] الفصل؛ كما قلنا بمثله في سجود السهو. ومنهم من يجعله قولاً مخرجاً من ثم، وبه يظهر صحة القول الذي ذكره الشيخ في اعتبار المجلس. ومنهم من قطع بأنه إذا طال الفصل لا يبني، وإن بنى في سجود السهو، والفرق: أن سجود السهو تتمة لفضيلة، لو حذف لم يضر؛ فتساهلنا فيه، ولا كذلك ما نحن فيه، والصحيح- وإن ثبت الخلاف-الأول، والوجه للثاني أصلاً، مع ما صح في مسلم أنه-عليه السلام-: "قام فدخل حجرته، ثم صلى ما نسبه"، وعلى هذا بماذا يعتبر قصر الفصل وطوله؟ فيه أقوال: أحدها-وعليه نص في "مختصر" البويطي-: أن القصير قدر ركعة معتدلة، لا طويلة ولا قصيرة. والثاني- وعليه نص في "الإملاء" كما قال أبو الطيب-: أن القصير ما دون ركعة تامة، والطويل بمقدار فعل ركعة كاملة. وعبارة البغوي: أن الشافعي قدر طول الفصل بقدر ركعة لا طويلة، ولا قصيرة. والثالث- وهو ظاهر نصه في "الأم"-: أنه يرجع فيه إلى العرف، وهو المختار في "الحاوي" و"المرشد" و"تلخيص" الروياني. وقال: إن ما نص عليه في "مختصر" البويطي تقريبٌ، لا تحديدٌ؛ وكذا نقول فيما ذكره في "الإملاء" أيضاً، ووراء ذلك أوجه: أحدها: أن حد القريب ما بين الخطبة والشروع في صلاة الجمعة، أو ما بين

الصلاتين إذا أراد الجمع؛ قاله القاضي الحسين. ويقابله ما حكى عن ابن أبي هريرة: أن القصير قدر الصلاة المتروك منها ما ذكر؛ كذا حكاه ابن الصباغ عنه. والثالث -قاله المتولي، واختاره-: أن قدر ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين قصير، وما زاد عليه طويل. قال بعضهم: وفي هذا رد إلى جهالة؛ فإنا لانعلم قدر ذلك، وهذا الفصل هو الذي احترز عنه الشيخ بقوله أولاً: "وهو في الصلاة"، ومنه يؤخذ أن كلامه فيما إذا لم يكن المتروك تكبيرة الإحرام، ولا النية؛ إذ عند فقد واحد منهما لا يكون في صلاة، ولا بعدها، وبه صرح الأصحاب؛ حيث قالوا: لو كان الذي تذكره النية، أو تكبيرة الإحرام، استأنف قولاً واحداً. وألحق الروياني به ما إذا تذكر أنه ترك ركناً من [صلاته، ولم يعرف عينه، ومثله: ما لو تذكر أنه ترك ركناً من] ركعته، ولم يعرف [عينه، يقدر] أنه أول ركن منها، وهو الفاتحة، حتى يلزمه إعادة ما بعدها؛ قاله في "التتمة". قال: وإن ترك سنة-أي: ولم يفت محلها-فإن ذكر [ذلك] قبل التلبس بفرض، عاد إليه؛ أي: إلى ما تذكره [ندبا]. قال: وإن تلبس بفرض، لم يعد إليه؛ أي: وجوباً؛ مثاله: إذا ترك التشهد الأول، وتذكره قبل أن ينتصب قائماً، يعود إليه، وإن تلبس بالقيام، لم يعد إليه؛ لقوله عليه السلام: "إذا قام الإمام في الركعتين؛ فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً، فليجلس، وإن استوى قائماً، فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو" رواه أبو داود.

أما إذا تذكرها بعد فوات محلها؛ كما إذا تذكر أنه ترك رفع اليدين في تكبيرة

الإحرام بعد فراغها. ثم ظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق في الفرض الذي شرع فيه بين أن يكون فعلياً، أو قولياً، والفعلي شهد له الخبر، والقولي إن قلنا: إن تكرره مبطل كالفعلي كان في معناه، وألا فينبغي أن يعود إلى المتروك، وبه صرح القاضي أبو الطيب وغيره في صلاة العيد؛ حيث قالوا: إذا تذكر تكبيرات العيد بعد شروعه في الفاتحة، كان له العود إليها؛ على القديم. وحكى الغزالي ثم: أن من الأصحاب من طرده فيما إذا تذكر أنه ترك دعاء الاستفتاح بعد شروعه في الفاتحة، وهو بعيد، وستعرف وجه بعده. وقد أفهم كلام الشيخ أنه إذا تذكر بعد أن تلبس بسنة، يعود إليها، وهو يقتضي أنه إذا تذكر دعاء الاستفتاح بعد التلبس بالتعوذ: أنه يعود إليه. وقد صرح القاضي أبو الطيب بأنه لا يعود إليه، وعليه ينطبق قوله في "المهذب": إنه إذا ذكر قبل التلبس بغيره، عاد إليه، وإن تلبس [بغيره لم يعد إليه]. والمنع في مسألة دعاء الاستفتاح يؤخذ مما أسلفناه؛ لأن محله أول الصلاة، وقد فات، والله أعلم.

باب صلاة التطوع

باب صلاة التطوع التطوع من الطاعة، والشافعي يطلقه-كما قال القاضي الحسين-على ما عدا الفرائض من الصلوات. وقال بعضهم: إنه في اصطلاح الفقهاء: فعل ما هو قربة غير واجبة. قال في "التهذيب" و"الكافي": وكذلك النافلة. وقضية الاشتقاق: أن يكون موضوعاً لما يكسبه الإنسان باختياره من الوظائف والأوراد، وهو ما حكاه القاضي الحسين، وقال: إن السنة تطلق على ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن المستحب: ما فعله مرة أو مرتين، وتبعه صاحب "التهذيب"، و"الكافي". ثم الشيخ عقب باب فروض الصلاة وسننها به؛ لأنه متمم للفرائض؛ كما جاء في الخبر عنه عليه السلام؛ فكان كالسنة فيها، وحينئذ حسن منه أن يذكر بعده [باب] ما يفسد الصلاة وما لا يفسدها؛ مما هو مكروه فيها أو غير مكروه. قال: أفضل عبادات البدن: [الصلاة؛ أي: بعد الشهادتين]. وهذه عبارة "التهذيب" أيضاً. ووجهه قوله -عليه السلام-: "استقيموا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة". رواية أبو داود، [وغيره]. ورأيت في كلام بعضهم: "استقيموا، ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم

الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن". ولأنها تلو الإيمان الذي هو أفضل القرب، وأشبه به؛ لاشتمالها على نطق باللسان، وعمل بالجنان، واعتقاد بالقلب؛ كما هي فيه؛ ولذلك سماها الله -تعالى-: "إيماناً، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: الآية 143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس. قال العلماء: ولأنها تجمع من القرب ما تفرق في غيرها من ذكر الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم والإمساك عن الأكل والكلام، والإتيان بالقراءة والتسبيح، واللبث، والاستقبال، والطهارة، والستارة إلى غير ذلك، مما لا يخفى أنه من القرب، مع اختصاصها بمقاصد تشتمل عليها: كالركوع والسجود.

واحترز الشيخ بـ "البدن" عن عبادة القلب؛ وهي: الإيمان؛ فإنه أفضل العبادات، ولا يقال في العرف: إنه من عمل البدن؛ ولذلك قال بعض الحكماء لما قيل له: أيما أصعب: تعب القلب، أو تعب البدن؟ فقال: "إنما يتعب البدن إذا تعب القلب"؛ فجعل القلب قسيماً للبدن. وقد ادعى بعضهم أنه احترز بذلك -أيضاً- عن العبادة المالية؛ فإنها أفضل من الصلاة؛ لتعدي نفعها، وفيه شيء سأذكره، وإن صح ما قاله فمنه نأخذ أن العبادة المشتملة على عمل البدن والمال أفضل من المتمحضة؛ وهي: الحج؛ لجمعها بين الأمرين، وبه صرح القاضي الحسين في أول كتاب الحج. ولأنا دعينا إليه في أصلاب الآباء؛ فكان كالإيمان الذي فعل فيه كذلك، وهذه العلة تقتضي أن الجهاد لا يلحق بالحج في هذا المعنى، والأول يقتضي أنه كهو؛ لأنه يشتمل على عمل بدن ومال، وحينئذ يكون أفضل من الصلاة. بل أقول: الخبر يدل على أنه مقدم عليه؛ روى أبو هريرة أنه-عليه السلام-سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "ثم جهاد في سبيل الله".قيل: ثم ماذا؟ قال: "ثم حج مبرور".

وقد ادعى الماوردي في كتاب الحج: أن الطواف أفضل من الصلاة، واستدل له بأخبار ستعرفها فيه- إن شاء الله تعالى- وفي كتاب الصوم: أن الصوم أفضل أعمال القرب. وبعضهم حكى قولاً: أنه أفضل من الصلاة؛ لقوله -عليه السلام-: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، يقول الله -عز وجل-: " [إلا الصوم؛ فإنه لي] وأنا أجزي به؛ يدع شهوته وطعامه من أجلي" رواه مسلم. قال بعضهم: ومن بديع التأويل في هذه الإضافة: أنه أراد بها التنبيه على أن كل عمل ابن آدم من القرب مما يليق ببشريته، إلا ترك الأكل والاستغناء عنه؛ فإنه إنما يليق بالله سبحانه وتعالى. والمشهور: أن المراد: أن كل الأعمال قد يدخلها الرياء إلا الصوم. وقد قيل: إن الصلاة بمكة أفضل، والصوم بالمدينة أفضل. والصحيح ما أورده الشيخ؛ لما ذكرناه، وخبر أبي هريرة معارض بما رواه عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيٌّ الأعمال أفضل؟ فقال: "الصلاة لأول وقتها". قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين". قلت: ثم أي؟ قال: "ثم

الجهاد في سبيل الله" فجعل الجهاد مؤخراً عن بر الوالدين الذي هو مؤخر عن الصلاة، وهو في الحديث السالف مقدم على الحج؛ فكان تقديم الصلاة على الحج من طريق الأولى، وتركه -عليه السلام- ذكر الصلاة فيه يحتمل أن يكون لعلمه بمحافظة السائل عليها أو علمه بفضلها، وحاجته لبيان ما سواها. ولأن الحج والجهاد، وإن اشتمل كل منهما على نوعين من العبادة فالصلاة تشتمل على أنواع-كما ذكرنا- فكان تقديمها أولى، وبهذا يقع الجواب عن الصوم أيضاً. قال: وتطوعها أفضل التطوع؛ لعموم قوله -عليه السلام-: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة". ولأن نسبة نفل كل عبادة إلى فرضها كنسبة نفل الصلاة إلى فرضها في تحصيل المقصود الذي شرعا له، وهو ترك اللوم أو العقاب عليه، ويؤكده أن النوافل تكمل الفرائض، وقد ثبت أن الصلاة أفضل العبادات البدنية؛ فكان تطوعها أفضل التطوعات. وإطلاق الشيخ القول بأن تطوعها أفضل التطوعات يعرفك أنه لم يحترز عن

العبادة المالية؛ إذ لو كان كذلك، لقال: وتطوعها أفضل التطوعات البدنية؛ ليخرج التطوع بالمال. والإيمان لا يكون إلا واجباً؛ فلا يدخل فيما ذكره حتى يحتاج [إلى] أن يحترز عنه. قال: وأفضل التطوع ما شرع له الجماعة -[أي: تثبت له الجماعة-] لأن الشرع شبهه بالفرائض، والفرائض أفضل من التطوعات؛ لقوله –عليه السلام-: "لن يتقرب إليَّ متقرب بمثل أداء افترضته عليه" فكان ما شبه بها أقرب إليها من غيره. قال الأصحاب: ولأن الفرائض لما كانت على ضربين: ضرب فرض في جماعة وهو الجمعة، وضرب لم يفرض في جماعة وهو ما عداها، ثم وجدنا ما هو فرض في جماعة أوكد وأفضل مما لم يسن يه [الجماعة، وجب أن يكون ما سن فيه الجماعة أوكد وأفضل مما لم تسن فيه]. فإن قيل: قد روى أبو هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" رواه مسلم. فجوابه: أنه محمول على النافلة المطلقة؛ لقيام الإجماع، على أن رواتب

الفرائض أفضل منها [وما سن فيه] الجماعة قد دللنا على أنه أفضل منها؛ فتعين ما ذكرناه. قال: وهو العيد، والكسوف، والاستسقاء: في هذا الفصل تنبيه على أمور: أحدها: مشروعية الجماعة فيما ذكره، ودليله يأتي في محله. والثاني: أن ذلك تطوع، وليس بفرض عين، ولا كفاية، وهو المشهور في الكسوف والاستسقاء، وأما العيد، ففيه خلاف يأتي في الكتاب، وستعرف ما فيه. وقد ادعى الماوردي هاهنا أن الخلاف في الجميع. ووجه كونها فرض كفاية بقوة سببها، وظهور قوة شرائع الإسلام فيها. قال: وعلى هذا لا يكون بعضها أفضل من بعض، وعلى الثاني وهو أنها سنة مؤكدة، وهو ما ادعي أنه مذهب الشافعي والصحيح، فهل بعضها أفضل من بعض؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لاستواء أمره صلى الله عليه وسلم بها، وفعله لها وحثه عليها. والثاني -وهو الأظهر-: أن بعضها آكد من بعض؛ فعلى هذا أوكدها صلاة العيدين؛ لأن لها وقتاً راتباً في السنة معيناً في اليوم؛ فشابهت الفرائض، ثم تليها صلاة كسوف الشمس، ثم خسوف القمر؛ لورود القرآن بهما، وهما مجمع على سُنَّيّتهما، ثم يلي ذلك صلاة الاستسقاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها مرة، واقتصر مرة أخرى على الدعاء، وقد اختلف في سببها؛ ولأجل هذا جرى الشيخ في التبويب على تقديم الأفضل فالأفضل، وقدم كلامه في الكسوف على الكلام في الخسوف لما جمعهما في باب واحد، وبه نبه على ما ذكره في هذا الباب كذلك. والثالث: أن قيام رمضان، وهو التراويح، وإن قيل: إنه يفعل في جماعة؛ كما

سيأتي، فليست أفضل من كل النوافل التابعة للفرائض؛ كصلاة العيد ونحوها، بل الوتر وركعتا الفجر أفضل منها، وهذا ما يعزى إلى ابن سريج وأبي إسحاق وغيرهما؛ كما قال ابن الصباغ، وستعرفه، وإليه مال ابن الصباغ، ووجهه: بأنه -عليه السلام- داوم على الوتر وركعتي الفجر، وترك قيام رمضان بعد أن فعله ليلتين أو ثلاثاً. والإمام قال: إن جميع النوافل التابعة للفرائض أفضل منه على الأصح، ولم يحك صاحب "العدة" غيره. وتشبث بعض أئمتنا بتفضيلها؛ لأن الجماعة أقوى معتبراً في التفضيل؛ كما تقدم ذكره، وعلى ذلك ينطبق ما قاله القاضي أبو الطيب: إن صلاة التراويح أفضل من جميع ما [لم] يشرع فيه الجماعة من الرواتب وغيرها. وقد أفهم كلام صاحب "الذخائر" حكاية وجه: أن صلاة التراويح أفضل من توابع الفرائض، وإن قلنا: لا يشرع فيها الجماعة، ولم أره في غيرها. قال: وفي الوتر ركعتي الفجر قولان: أصحهما: أن الوتر أفضل؛ لأن أبا حنيفة يرى وجوبه، ولم يختلف أحد في عدم وجوب ركعتي الفجر، وما اختلف في وجوبه آكد مما لم يختلف فيه، وهذا هو الجديد. ومقابله -وهو القديم، وإلخ ترجيحه يميل كلام الماوردي-: أن ركعتي الفجر أفضل؛ لقول عائشة: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النوافل أسرع منه إلى ركعتين قبل الصبح" أخرجه البخاري، ومسلم. وقال -عليه السلام-:"ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" أخرجه مسلم.

قال بعض أهل المعاني: أراد النبي صلى الله عليه وسلم: أن الناس عند قيامهم من منامهم يبتدرون إلى معاشهم وأسباب اكتسابهم؛ فأعلمهم أن هاتين الركعتين خير من الدنيا وكل ما فيها، فضلاً عما عساه [أن] يحصل لكم منهما؛ فلا تتركوهما وتشتغلوا به. ولأنها صلاة مشهودة ومحضورة، في عدد لا يزيد ولا ينقص؛ فأشبهت الفرائض. قال الماوردي: ولأنها تتقدم على متبوعها، والوتر متأخر عن متبوعه، وما يتقدم متبوعه أولى. ولأنها تبع لصلاة الصبح، والوتر تبع للعشاء، والصبح آكد من العشاء؛ [لأنه الصلاة الوسطى عند الشافعي؛ فوجب أن يكون متبوعها أوكد من متبوع العشاء. وعن البيان] أن بعض الأصحاب قال: إن الوتر وركعتي الفجر مستويات في الفضيلة. وهو بعيد، والكل متفقون على أن الوتر وركعتي الفجر أفضل مما سواهما مما يتبع الفرائض، وعليه نص الشافعي؛ حيث قال: ولا أرخص لمسلم في ترك واحد منهما، وإن لم أوجبهما، ومن تك واحدة منهما كان أسوأ حالاً ممن ترك جميع النوافل. ثم ما يتبع الفرائض يليه في الفضل صلاة الضحى؛ كما قاله القاضي الحسين وغيره؛ ولهذا ذكره الشيخ تلوها. وعن الشيخ أبي محمد: أن صلاة الضحى أفضل من توابع الفرائض؛ لاستقلالها بوقت. وهو ضعيف؛ إذ لم تنقل مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها كمواظبته على تبع الفرائض.

ثم يلي صلاة الضحى في الفضل ركعتا الطواف إذا لم نقل بوجوبهما، وركعتا الإحرام، وتحية المسجد. وترتيب الشيخ مؤذن بأن الذي يلي الضحى قيام رمضان، ثم التهجد. بل حكى ابن الصباغ وغيره عن رواية أبي إسحاق، عن بعض الأصحاب: أنا إذا قلنا: إن الوتر أفضل، فالتهجد بعده، ثم ركعتا الفجر؛ لأن الشافعي قال: "الوتر، ويشبه أن يكون التهجد، ثم ركعتا الفجر"؛ فإن معناه: ويشبه أن يكون الذي يتبع الوتر في التأكيد صلاة التهجد، ثم ركعتا الفجر. والمحققون قالوا: هذا لايصح، ومراد الشافعي: أن الوتر نفسه يشبه أن يكون التهجد، وقد صرح به في "الأم"؛ كما حكاه البندنيجي، وقصد به أن التهجد الذي أمر الله -سبحانه وتعالى- به نبيه يشبه أن يكون هو الوتر نفسه؛ لأن الوتر كان واجباً عليه، يشهد له قوله -عليه السلام-: "كتب عليَّ الوتر، وهو لكم تطوع"، ولا يقدح في ذلك قوله تعالى: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] لأن معناه-كما قال المفسرون-: أنها تكون زيادة لك على حسناتك؛ فإن نوافل غيره تقع جبراناً لنقصان الفرائض، وكانت فرائضه-عليه السلام-مبرأة عن النقص؛ ولأجل هذا قال بعض أصحابنا: إن المراد بالتهجد في الآية: الوتر. وقال غيره: بله هو غيره. وهو ما يفهمه كلام الغزالي في "الوسيط" في كتاب النكاح؛ حيث قال: إنه-عليه السلام- اختص بواجبات: كالضحى، والأضحى، والوتر، والتهجد ... إلى آخره. ومن العجب أن الرافعي [قال]: ولك أن تعلم قول الغزالي: "ويشبه أن

يكون الوتر هو التهجد" بالواو؛ لأن القاضي الروياني حكى أن بعضهم قال: بأن الوتر غير التهجد، وأول كلام الشافعي؛ فجعل كلام غيره سبباً لإعلام كلامه، مع أنه [هو] حكاه؛ فكان إعلامه لأجل كلامه أولى. واعلم أن الأصحاب أطلقوا القول بأن ركعتي الفجر أفضل من الوتر، أو الوتر أفضل منهما، ولم يبينوا ما أرادوا من الوتر: هل أقله، أو أكثره، أو أدنى الكمال منه؟ والذي يظهر من كلامهم أنهم أرادوا مقابلة الجنس [بالجنس]، وقد كان يقع لي أنه يختص بأدنى الكمال منه؛ لأنهم جعلوا علة ترجيح الوتر على ركعتي الفجر أنه مما اختلف في وجوبه، والذي اختلف في وجوبه ليس الأقل، ولا الأكمل؛ فإن أبا حنيفة هو القائل بوجوبه، وهو عنده ثلاث ركعات لا تجوز الزيادة عليها، ولا النقص منها: [فتعين أن يكون ذلك] محل الاختلاف في الترجيح. ثم وقع لي أنه لو كان الأمر كذلك، لاختص محله بالثلاثة الموصولة؛ كما صار إليه أبو حنيفة، وهو لا يختص؛ فظهر من ذلك أن المراد مقابلة الجنس بالجنس، ولا يبعد أن يجعل الشرع العدد القليل أفضل من العدد الكثير، مع اتحاد النوع؛ دليله القصر في السفر؛ فمع اختلافه أولى، والله اعلم. قال: والسنة أن يواظب -[أي: يداوم]- على السنن الراتبة مع الفرائض. قد تقدم أن السنة إذا أطلقت تناولت ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب عليه، وفي ذلك كفاية عن ذكر دليل آخر، وسيأتي تفاصيل ذلك، ولا فرق في ذلك- عندنا- بين المقيم، والمسافر، قصر، أو أتم. قال: وهي ركعتا الفجر؛ لما تقدم. قال الأصحاب: ومن السنة تخفيفهما؛ لما روي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر، فيخفف فيهما، حتى أقول: [هل]

قرأ فيهما بأم القرآن" رواه البخاري، ومسلم. واستحب المحاملي أن يقرأ فيهما {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لرواية مسلم، عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر صلى الله عليه وسلم و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. وقد روى مسلم أيضاً عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ ...} الآية، وفي الأخرى منهما {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ} [آل عمران: 52]. وهذا يدل على فتح الباب، وكذا يستحب أن يتكئ بعدهما، وقبل صلاة الصبح، أو يتكلم؛ لأنه-عليه السلام-كان يفعل ذلك؛ [كما ثبت] في الصحيح. ويدخل وقتهما بطلوع الفجر. [قال الشيخ أبو حامد: ووقت الاختيار من [حين] طلوع الفجر] إلى أن يصلي الفريضة؛ فإذا صلى الفريضة، يعقبها وقت الجواز إلى طلوع الشمس، وليس بوقت اختيار لها؛ فإذا طلعت الشمس، خرج الوقت. وكلام الغزالي يوافقه؛ لأنه تكلم في أن النوافل إذا فاتت، هل تقضي، أم لا؟ ثم قال: أما ركعتا الفجر فتؤدي بعد صلاة الصبح، ولا تكون قضاء؛ فإن تقديمها أدب. وهذه عبارة الشيخ أبي محمد، واستحسنها الإمام، وأيد ذلك بأن الأئمة متفقون على أنها تفعل بعدها، ولو كانت تفوت بصلاة الصبح لاختلفوا فيها؛ كما اختلفوا في قضاء الفوائت، وهذا منهم مؤذن بأن غير ركعتي الفجر مما سن تقديمه على الفريضة [يفوت بفعل الفريضة حتى يكون في قضائه بعد الفريضة] ما سيأتي من الخلاف، وسنذكر ما قاله الأصحاب فيه.

وقد حكى في "المهذب" وغيره وجهاً ادعوا أنه ظاهر النص: أن وقت ركعتي الفجر يستمر إلى الزوال؛ لأجل قول الشافعي- رضي الله عنه-: "وإن فاتت ركعتا الفجر حتى فعل الظهر، لم تقض". وعكس هذا وجه حكاه في "التتمة" وصححه: أن وقتها يفوت بفعل الصبح؛ لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخيرها عن الفرض، وهذا قد يؤخذ مما حكاه البندنيجي عن نصه في "الأم": أنه إذا دخل المسجد، وأحرم بركعتي الفجر؛ فأقيمت الصلاة، وعلم أن تفوته الجماعة [لو] أتمها، قطعها، ودخل معه، وقضاهما بعد الفريضة. قال: وأربع قبل الظهر، [وركعتان بعدها]؛ لما روى مسلم عن عبد الله [ابن شقيق] قال: "سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطوعه؟ فقالت: كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعاً، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصل ركعتين؛ [وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ويصلي بالناس العشاء؛ فيدخل [بيتي] يصلي ركعتين"]. وروى النسائي، عن علي بن أبي طالب قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، صلى أربع ركعات قبل الظهر حين تزول الشمس؛ فإذا صلى الظهر، صلى بعدها ركعتين، وقبل العصر أربع ركعات، يفصل بين كل ركعتين". قال: وأربع قبل العصر؛ لحديث علي -كرم الله وجهه- وروى أبو داود، عن ابن عمر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعاً".

قال: وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء؛ لحديث عائشة. ويستحب أن يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب؛ لرواية أبي داود، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد". وإذا عددت ما ذكره الشيخ من الركعات إلى هنا بلغت ست عشرة ركعة، وهي أكثر ما حكاه في "الوسيط" عن الأصحاب، وهو وجه في المسألة لم يذكره في "المهذب"، وعزاه القاضي أبو الطيب إلى ابن القاص، والبندنيجي عزاه إلى بعض الناس، ووراءه أوجه: أحدها: أنها ثماني عشرة؛ فتضيف إلى ما ذكره الشيخ ركعتين بعد الظهر؛ فيكمل ما بعده أربعاً؛ لقوله-عليه السلام-: "من حافظ على أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، حرمه الله على النار" رواه أبو داود والترمذي. وهذا ما حاكه ابن الصباغ، والقاضي أبو الطيب، عن أبي علي في "الإفصاح"، وقال في "المهذب": إنه الأكمل. والثاني: أنها أربع عشرة ركعة: ركعتا الفجر، وأربع قبل الظهر، وأربع بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء؛ حكاه أبو الفتح نصر في "تهذيبه"،

وهو كالذي قبله إلا فيما قبل العصر. وهذا القائل وإن لم يثبت الأربع قبل العصر سنة؛ فهو قائل بأنها مستحبة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاها مرتين، أو ثلاثاً؛ قاله القاضي الحسين، و [إليه] أشار في "الوسيط" بقوله: ولم يواظب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قبل العصر حسب مواظبته على ركعتين قبل الظهر. والثالث: أنها اثنتا عشرة ركعة: ما ذكره الشيخ إلا الأربع قبل العصر؛ وهذا حكاه الشيخ أبو حامد في "التعليق" وغيره. والرابع: أنها عشر ركعات: ما ذكرناه قبله إلى ركعتين مما قبل الظهر، وهذا ما صدر به البندنيجي والغزالي كلامهما، وقال الرافعي: إنه قول الأكثرين، وإن صاحب "العدة" قال: إنه ظاهر المذهب. وقد حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه عن رواية البويطي في "مختصره". وقال في "المهذب" وجماعة: إنه أدنى الكمال. والخامس: أنها ثماني ركعات؛ ما ذكرناه قبله، إلا ركعتين بعد العشاء، وهذا ما رواه البويطي عن الشافعي؛ كما قاله ابن الصباغ، وعزاه الإمام وغيره إلى [أبي] عبد الله الخضري. وأنت إذا تأملت ما ذكرناه من أدلة ما ذكره الشيخ [عرفت أن ما قاله الشيخ] هو السنة؛ عملاً بما قدمناه من حقيقتها. وقول من قال: إن الأربع قبل العصر ليست بسنة؛ لأنه-عليه السلام-لم يصلها إلا مرتين أو ثلاثاً-يعارضه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمله ديمة، وإذا عمل عملاً أثبته". وأيضاً: فهو إذا أتى بما ذكره الشيخ، وركعة الوتر، كان ما أتى به من الركعات بعدد ما يأتي به من عدد الركعات المفروضة، والنوافل مكملة لما ينقص من

الفرائض؛ فكان أشبه. قال الإمام: وقد استحب بعض الأصحاب ركعتين قبل المغرب؛ لرواية أبي داود عن عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا قبل المغرب ركعتين"، ثم قال: "صلوا قبل المغرب ركعتين، [صلوا قبل المغرب ركعتين] لمن شاء؛ خشية أن يتخذها الناس سنة" وأخرجه البخاري بنحوه. ولمسلم: أن أنس بن مالك قال: "كنا بالمدينة؛ فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب، ابتدروا السواري؛ فركعوا ركعتين؛ حتى إن الرجل الغريب ليدخل [المسجد]؛ فيحسب أن الصلاة صليت؛ لكثرة من يصليهما". وجاء في "صحيح" مسلم عن انس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرانا نصلي ركعتين بعد غروب الشمس، قبل صلاة المغرب؛ فلم يأمرنا، ولم ينهنا". قال الرافعي: ومن الأصحاب من قال: [إنهما] لا تستحبان؛ لما روي عن ابن عمر: أنه سئل عنهما؟ فقال: "ما رأيت أحداً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما".

وعن عمر -رضي الله عنه-: "أنه كان يضرب عليهما". تنبيهات: الأول: الأربع قبل الظهر، وكذا بعده-إن أثبتناها- والأربع قبل العصر، قال النواوي في "فتاويه": تجوز بتشهد واحد، وتشهدين، والأفضل تسليمتان. قلت: ويشهد له حديث على السالف. وأيضاً ففي ذلك جمع بين ما ورد من استحباب ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وبين الحديث الآخر. الثاني: سنة الجمعة كسنة الظهر-على الصحيح- الذي لم يحك القاضي الحسين هنا غيره، ولا جرم لم يفردها الشيخ، والجمهور بالذكر؛ وعلى هذا يكون في عدد ركعاتها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها أربع: ركعتان قبلها، وركعتان بعدها. والثاني: أنها ست: أربع قبلها، وركعتان بعدها. والثالث: أنها ثمان: أربع قبلها، وأربع بعدها وهذا ما حكاه ابن القاص وغيره؛ لما روى ابن ماجه في "سننه" أنه -عليه السلام-: "كان يصلي قبلها أربعاً"، وهذا ظاهر، إذا قلنا: إن الجمعة ظهر مقصور. أما إذا قلنا: إنها صلاة مستقلة بنفسها، فهو محل النظر، وقد جزم المحاملي في "اللباب" بأنها ربع بعدها بتسليمتين؛ لقوله -عليه السلام-: "إذا صليتم الجمعة، فصلوا بعدها أربعاً" أخرجه مسلم. ويشبه أن يكون هذا تفريعاً على أنها صلاة مستقلة؛ كما هو الصحيح، والخبر الذي رواه ابن ماجه إسناده ضعيف جداً.

الثالث: ما يفعل من السنن قبل الفرض يدخل وقته بدخول وقت الفريضة، ويبقى إلى ذهابه، وما يفعل بعد الفريضة يدخل وقته بفعل الفريضة، ويدوم إلى أن يخرج وقتها؛ فإذا خرج كان في قضائها ما سيأتي؛ كذا حكاه في "المهذب" و"التتمة"، وهو يقتضي أن في آخر وقت سنة المغرب قولين؛ كما في صلاة المغرب، وبه صرح البندنيجي؛ حيث قال: إن وقتها يخرج بخروج وقت المغرب. وقال القاضي أبو الطيب: إن وقتها يخرج بدخول وقت العشاء، ولم يحك سواءه. وفي التتمة حكاية وجه آخر مع ما حكاه القاضي: أنه يخرج بفعل العشاء، ثم كلام البندنيجي يقتضي أن سنة الظهر [التي قبلها وبعدها يدخل [وقتها] بدخول وقت الظهر، ويخرج بخروج وقته؛ لأنه قال: ووقت سنة الظهر] دخل بالزوال، ويخرج بصيرورة ظل كل شيء مثله، وبه صرح القاضي أبو الطيب. قال: والوتر- أي: سنة راتبة تفعل بعد العشاء أيضاً-لقوله عليه السلام:"يا أهل القرآن أو تروا؛ فإن الله وتر يحب الوتر" أخرجه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن. وعن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة المغرب وتر النهار؛ فأوتروا صلاة الليل". فإن قيل: هذا أمر؛ وظاهره الوجوب؛ فينبغي أن يجب. ويؤيده ما رواه أبو داود والإمام أحمد أنه-عليه السلام-قال: "الوتر حق؛ فمن لم يوتر، فليس منا".

ورواية أبي داود، عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوتر حق على كل مسلم؛ فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يؤثر بواحدة فليفعل". ورواية البزار أنه-عليه السلام- قال: "الوتر واجب على كل مسلم".

قلنا: صرفنا عن ذلك-إن سلم من الطعن- قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فلو كان الوتر واجباً، لم يكن لنا وسطى؛ لأن الستة لا وسط لها؛ كذا قاله الماوردي. وقوله -عليه السلام- في قصة السائل عن الإسلام، وقد قال: هل على غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع"، وقوله -عليه السلام-: "كتب عليَّ ثلاث .... " الخبر المشهور. ولأنه-عليه السلام- كان يوتر على الراحلة؛ كما رواه البخاري، ومسلم، عن رواية ابن عمر، وغيره. وروى مسلم، عن سالم، عن أبيه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة" وحينئذ [فيحمل ما ورد دالاً على الوجوب على تأكد الاستحباب]. وما ذكرناه من أنه -عليه السلام- أوتر على الراحلة هو ما استدل به الشافعي. قيل: ولا دلالة فيه؛ لأن الوتر واجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن الصلاح: وطريق الجواب عن ذلك أنه لو كان واجباً على المكلفين على العموم، لما جاز أداؤه على الراحلة، [كسائر الواجبات التي هي على

العموم، وقد جاز أداؤه على الراحلة]؛ بدلالة فعله عليه السلام؛ فلا يكون واجباً على العموم، ولا أثر للنزاع في التسمية التي لا مستند لها عند التحقيق. ثم قد بينا أن كلام الشيخ يقتضي أن وقته يدخل بفعل العشاء، وبه جزم الماوردي وابن الصباغ. وقال في "التتمة": إنه لا خلاف فيه؛ لرواية أبي داود، عن خارجة بن حذافة العدوي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله قد أمركم بصلاة وهي خير لكم من حمر النعم؛ وهي: الوتر؛ فجعلها [فيما] بين العشاء إلى طلوع الفجر" وأخرجه الترمذي، وقال: إنه غريب. وقد حكى الإمام وجهاً آخر: أنه يعتد به قبل صلاة العشاء، سواء فعله سهواً

أو عمداً، وعند هذا القائل يدخل وقته بدخول وقت العشاء. وكلام غيره يقتضي أن هذا الوجه مخصوص بما إذا ظن أنه فعل العشاء؛ فصلاه، ثم بان أنه لم يفعلها؛ كمذهب أبي حنيفة. والجمهور على عدم الاعتداد به في هذه الحالة أيضاً. ثم آخر وقته [إذا طلع] الفجر؛ على المذهب. وفي "التتمة" حكاية قول آخر: أنه يخرج وقته بصلاة الصبح. قال: وأقله ركعة؛ لما ذكرناه من حديث أبي أيوب الأنصاري. قال الماوردي: وقد ظن المزني أن أقله ثلاثة من قول الشافعي في موضع: "يوتر بثلاث" وحكايته عن أهل المدينة أنهم يوترون بثلاث. قال: وليس الأمر كما ظنه، ولا يختلف مذهب الشافعي أن الوتر واحدة. والقاضي الحسين حكى عن المزني ما ذكرناه، ولم يتعرض له بنكير. ثم الركعة الواحدة هل تكون موترة لفرض العشاء، أو لغيره؟ فيه خلاف ينبني على أنه لو صلى ركعة فردة بعد الفرض بنية الوتر، هل تصح؟ وفيه وجهان، ادعى الإمام أن في كلام الشافعي إشارة إليهما: وأصحهما في "الوسيط" الصحة، وهو ظاهر النص؛ فإن ابن الصباغ وغيره حكوا عن المزني أنه قال في كتاب "اختلافه مع مالك": قلت للشافعي: أيجوز أن يوتر بواحدة ليس قبلها شيء؟ قال: نعم، والذي اختاره ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وكان يصلي إحدى عشرة ركعة، يوتر [منها] بواحدة. وقد يستدل له بما روى الدارقطني عن المغيرة بن شعبة، عن قيس بن أبي حازم

قال: "رأيت سعداً صلى ركعة بعد العشاء؛ فقلت: ما هذه؟ فقال [رأيت] رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بركعة؛ فعلى هذا تكون الركعة موترة للفرض؛ إن لم يتقدمها شيء". والوجه الثاني: أنها لا تصح وتراً؛ لما روي عن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن البتراء: أن يصلي الرجل ركعة واحدة يوتر بها"؛ فعلى هذا تكون الركعة موترة لما يتقدمها من النفل؛ فإن لم يتقدمها، لم تصح وتراً. قال الإمام: وكانت له تطوعاً. قال الرافعي: وينبغي أن تكون على الخلاف فيما إذا نوى الظهر قبل الزوال، هل يكون تطوعاً أم يبطل من أصله؟ وهذا أخذه من كلام الإمام، الذي سنذكره في آخر الباب. ثمّ حيث صححنا إيتاره بركعة فقد ذكرنا عن الشافعي أنه خلاف مختاره؛ ولأجله قال القاضي أبو الطيب: إن الإيتار بركعة مكروه. قال: وأكثره إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين؛ لما روى مسلم، عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين [أن] يفرغ من صلاة العشاء-وهي التي يدعو الناس العتمة-إلى الفجر [إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر]، وتبين له الفجر، وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن [حتى] يأتيه المؤذن للإقامة".

وعن ابن عباس قال: "بت ليلة عند ميمونة أم المؤمنين؛ فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل- أو قبله بقليل، أو بعده بقليل -استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح النوم عن [وجهه] بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم إذا توضأ فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاه المؤذن؛ فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح"، أخرجه مسلم. وعلى هذا ماذا ينوي بكل تسليمة يصليها؟ فيه أوجه: أحدها: الوتر. والثاني: سنة الوتر. والثالث: مقدمة الوتر، ثم يصير وتراص بما بعدها. قال الروياني في "تلخيصه": والأول أصحن وبه جزم في "الذخائر"؛ حيث قال: لو نوى بما يأتي به قبل الركعة الفردة سنة العشاء أو التهجد لم يكن وتراً، وإن نوى الوتر، صح، وأوترها الفردة، ولو جمع الكل بتسليمة واحدة، ونوى بها الوتر، جاز، لكنه خلاف الأفضل؛ وكذا يجوز أن يصليها تسعاً بتسليمة، وسبعاً، وخمساً، وثلاثاً، ورد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضه فعلاً، وبعضه قولاً. وإذا جمع بين أكثر من ركعتين، فلا يزيد على تشهدين؛ على المذهب. وفي "التهذيب" "والإبانة" وجه آخر: أنه يجوز؛ كما في النافلة المطلقة وفي النافلة المطلقة وجه: أنه لا يجوز فيها الزيادة على تشهدين؛ [كما ستعرفه. والذي جزم به الإمام: أنه لا يجوز أن يتشهد] في كل ركعتين من الوتر من غير سلام؛ لأن هذه الزيادة لم تنقل، وليس كما لو أراد أن يتطوع بعشر ركعات أو أكثر بتسليمة واحدة، وأراد أن يجلس في إثر كل ركعتين؛ لأن التطوعات لا

ضبط لها في عدد. وأما أقدار التشهدات في صلاة الوتر فحقها أن يقتصر فيها على ما ورد في الأخبار، ويجوز أن يتشهد فيها تشهدين في الأخيرة، وما قبلها؛ لورود الخبر بذلك. روى مسلم عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة؛ فيذكر الله ويحمده، ويدعو، [ثم ينهض، ولا يسلم، ثم يقوم فصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله، ويحمده ويدعو]، ثم يسلم تسليماً يسمعنا". وفي "الإبانة" حكاية وجه آخر: أنه لا يجوز أن يزيد على التشهد الأخير، وما روي من الجلسة؛ فإنه كان يسلم عند كل جلسة. وقد تلخص من ذلك أن له أن يقتصر على تشهد واحد بلاخلاف، وعليه تدل رواية مسلم، عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يوتر منها بخمس لا يجلس في شيء من الخمس حتى يجلس في الآخرة، ويسلم".

وهل تجوز الزيادة على الواحد.؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: [لا]، وهو ما حكيناه [عن الفوراني. قال الإمام: وهو ردئ لا تعويل عليه. والثاني: نعم، فيتشهد ما شاء، وهو ما حكيناه] عن روايته، ورواية البغوي معه، وهو ضعيف أيضاً. والثالث -وهو الأصح-: يجوز بتشهدين، ولا تجوز الزيادة عليهما. وهذا كله إذا اقتصر على إحدى عشرة ركعة فما دونها؛ فلو زاد عليها؛ فبلغها ثلاث عشرة بتسليمة واحدة، قال في "الإبانة": جاز، بلا خلاف. وعليه تدل أخبار صحاح؛ منها: ما رواه زيد بن خالد الجهني أنه قال: "لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة؛ فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين [طويلتين]، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما [ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما]، ثم أوتر؛ فذلك ثلاث عشرة ركعة"، خرجه مسلم. ومنها: ما أسلفناه عن عائشة، رضي الله عنها. وكلام الجمهور والشيخ يقتضي أنه لا تجوز الزيادة على إحدى عشرة؛ كما لا تجوز الزيادة على ركعتي الفجر ونحوهما؛ ولأجل ذلك جعل مجلي في المسألة وجهين، وهما مأخوذان -أيضاً- من كلام الإمام؛ لأنه قال: وفي بعض التصانيف أنه يجوز بثلاث عشرة، ولا ينبغي أن يعتمد ذلك. قال: وهذا التردد في الإتيان بثلاث عشرة هل نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ولا جرم قال في "الوسيط": إن النقل متردد في ثلاث عشرة، وبما ذكرناه عن كتاب مسلم ينتفي التردد. وقد قال بعضهم: إنه لم يرد أن النقل [تردد في أنه-عليه السلام-أوتر بها

أو لا؛ لأنه قد صح أنه أوتر بها، وإنما أراد أن النقل] عن الأصحاب تردد في أن أكثره إحدى عشرة [أو ثلاث عشرة: فالشيخ أبو حامد وابن كج ومن تابعهما قالوا: أكثره: إحدى عشرة]، والبغوي وآخرون قالوا: غايته ثلاث عشرة؛ وهذا وإن أمكن حمل كلام الغزالي عليه، فلا يمكن حمل كلام الإمام عليه، والظاهر أن الغزالي اتبع الإمام. ثم الذين قالوا بأن أكثره ثلاث عشرة، قالوا: لو زاد عليها، ففي صحة إيتاره وجهان: وجه المنع- وهو الأظهر-: أنه سنة مؤكدة؛ فيتبع في حدها التوقيف؛ كركعتي الصبح وغيرهما. ووجه الجواز: أن اختلاف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على فتح الباب. قال: وأدنى الكمال ثلاث ركعات؛ لأن سنتها أن يوتر شفعاً قبلها، وأقل شفع اثنان، وأقل وتر واحدة، وقد روى النسائي، عن أبي بن كعب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات، يقرأ في الأولى {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. وقال الترمذي في حديث عائشة: "وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين.

قال: بتسليمتين؛ لأن في ذلك زيادة تكبير وسلام. وأيضاً فقد روى مسلم، عن ابن عمر: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بينه وبين السائل؛ فقال: يا رسول الله، كيف صلاة الليل؟ فقال: "مثنى مثنى؛ فإذا خشيت الصبح، فصل ركعة، واجعل آخر صلاتك وتراً"، والوتر من صلاة الليل، وهذا أظهر في "الوجيز" وعند البغوي، وقال القاضي الحسين: إن عليه الأكثرين، ومنهم: الصيدلاني؛ كما قاله غيره. وقيل: إنها موصولة أفضل؛ لأن الركعة الفردة ليست بصلاة عند قوم؛ فليحترز عن شبهة الخلاف، وصار هذا كما قلنا: إن الأفضل ألا يقصر إلا في سفر يبلغ مسيرته ثلاثة أيام؛ تحرزاً عن الخلاف، وهذا ما اختاره الشيخ أبو زيد، وعليه أهل مسجده إلى الآن. قال القاضي الحسين: وهو قول قديم، والقائلون بالأول قالوا: إنما يصير الشافعي إلى الخروج عن شبهة الخلاف؛ إذا لم يؤد [إلى ارتكاب محظور أو

مكروه، وهذا يؤدي] إليه؛ [لأنه يخالف] فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله؛ فإنه يرى أن يجلس بعد الأولى، وبعد الثالثة. وقيل: إن كان الموتر إماماً، فالأفضل في حقه وصلها؛ لتقع صلاة من خلفه صحيحة، مع اختلاف مذاهبهم، وهذا ما حكاه الرافعي عن رواية الموفق بن طاهر، عن الخضري والشريف ناصر، وقال: [إن] الروياني عكسه، فقال: أنا أصل إذا كنت منفرداً، وإذا كانت في جماعة أفصل؛ كي لا يتوهم خلل فيما صار إليه الشافعي، وهو صحيح ثابت بلا شك. ثم إذا قلنا بوصلها، فهل يؤثر أن يكون بتشهدين في الثانية والثالثة، أو بتشهد واحد في الأخيرة؛ كي لا يشبه المغرب؟ فيه وجهان؛ اختار الروياني منهما الثاني. وقال صاحب "التهذيب": والأكثرون أنه إن شاء فعل ذلك، وإن شاء فعل هذا. وإطلاق التخيير يقتضي التسوية. وعن القاضي الحسين أنه لا يجوز أن يوتر بثلاث بتشهدين وتسليمة واحدة؛ كالمغرب، [وربما يقول]: ببطلان صلاته إذا تعمد ذلك؛ كذا حكاه بعضهم. ورأيت في "تعليقه" أن القفال قال: إذا جلس بعد الثانية متعمداً، بطلت صلاته، وإن كان ساهياً، فعليه سجود السهو؛ لقوله -عليه السلام-: "لا توتروا بثلاث، وأوتروا بخمس، أو سبع، ولا تشبهوا بصلاة المغرب" أخرجه الدارقطني، وقال: كل رواته ثقات. وقد أفهم كلام الشيخ أن الركعة الفردة لا تكون أفضل من الثلاث، بل قد حكينا عن القاضي أبي الطيب أنها مكروهة، وقال: إن الواحدة أقل أجراً من الثلاث.

وفي "الرافعي" أن الثلاث الموصولة أفضل من ركعة فردة لا شيء قبلها، أم هي أفضل من الثلاث الموصولة؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها -وبه قال القفال-: أن الثلاث الموصولة أفضل منها؛ لزيادة العدد. والثاني: أن الركعة الفردة أفضل؛ لمواظبة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها. قال الإمام: وعلى هذا القائل، يقال: إذا أوتر بإحدى عشرة [ركعة] وأوتر بركعة فردة-فالركعة الفردة أفضل من إحدى عشرة. والثالث: الفرق بين المنفرد والإمام؛ كما سبق. وعبارة الغزالي في "الوسيط" تنبو عن جعل الركعة الفردة التي لا شيء قبلها أفضل من ثلاث موصولة، وحكاية هذا الوجه على نعت آخر؛ فإنه قال: في الأفضل أربعة أوجه: أحدها: أن ثلاثاً موصولة أفضل؛ فإن الركعة الفردة ليست بصلاة عند قوم. والثاني: أن ركعة فردة أولى من ثلاث موصولة، بل من إحدى عشرة موصولة؛ لأنه صح مواظبته صلى الله عليه وسلم على الفردة في آخر التهجد. والثالث: أن ثلاثاً مفصولة بسلامين أفضل من ثلاث موصولة، ولكن الواحدة ليست أفضل من ثلاث موصولة. والرابع: التفصيل بين أن يكون إماماً أو منفرداً. فقوله: "إن ركعة فردة أولى من ثلاث موصولة، بل من إحدى عشرة [ركعة] موصولة؛ لأنه صح مواظبته صلى الله عليه وسلم على الفردة في آخر التهجد"-مؤذن مع ما أسلفناه من مذهبه أن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير تهجده؛ بأن محله إذا قدم على الركعة الفردة تهجداً لم يقصد به الوتر، دون ما إذا لم يأت قبلها بشيء أصلاً، وفارق هذا الوجه الوجه الصائر إلى أن الثلاث المفصولة أفضل من ثلاث موصولة؛ لأن قائله يصور المسألة بما إذا قصد بالركعتين قبل الركعة الوتر؛ ولهذا التفات على ما أسلفناه في أنه ماذا ينوي بالشفع قبل الوتر. ويؤيد ذلك أن المتولي حكى عن القفال أنه قال: كل أحد يعلم أن الثلاث من

الجنس أفضل من واحدة منه. زاد الروياني: ولكن صورة المسألة في رجل صلى ركعتين بنية النفل، وأوتر بعدها بركعة، وآخر صلى بنية الوتر ثلاث ركعات، أو في رجل صلى عشر ركعات، وأوتر بواحدة، وآخر صلى إحدى عشرة بنية الوتر وعلى ذلك ينطبق قول البغوي: ليس المراد من قولنا: إن الوتر بواحدة أفضل، أن يقتصر على ركعة واحدة، بل المراد أن إفرادها عما قبلها أفضل من وصلها بما قبلها. قال الإمام: ثم كل هذه الترددات بين الثلاث الموصولة، وبين الركعة الفردة، أو الثلاث المفصولة؛ فأما الزيادة على الثلاث، فلا يؤثرها من طريق الفضيلة أحد من الأئمة، وإنما يحمل فعل الشارع فيه على الجواز، لا على الأولى. وهذا اللفظ إن أجرى على ظاهره، كان فيه نظر؛ لأن الروياني قال في "تلخيصه": إن الخمس أفضل من الثلاث، وقياسه أن تكون السبع أفضل من الخمس، والتسع أفضل من السبع، وبه صرح في "التتمة" والقاضي أبو الطيب. قال: يقرأ في الأولى-بعد الفاتحة: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و"المعوذتين" لما ذكرناه من خبر أبي بن كعب، وعائشة، وقد روى الترمذي، عن علي قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث، يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل، يقرأ في كل ركعة بثلاث سور؛ آخرهن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. وفي حديث أبي بكر البزار: يقرأ في الأولى {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ} و {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} و {إِذَا زُلْزِلَتْ} وفي الركعة الثانية {وَالْعَصْرِ} و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الركعة الثالثة {تَبَّتْ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ".

قال: ويقنت في الأخيرة منها؛ أي: بعد الرفع من الركوع؛ كما نص عليه في حرملة في النصف الأخير من رمضان؛ لما روي عن ابن عمر أنه قال: "السنة إذا انتصف الشهر من رمضان أن يلعن الناس الكفرة في الوتر بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، وقد فعله أُبَيِّ" أي-لما جمع عمر الناس عليه؛ ليصلي بهم التراويح، ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك. والقنوت بعد الرفع من الركوع، قد حكاه القاضي أبو الطيب، عن شيوخهما، مع وجه آخر يعزى إلى ابن سريج: أنه يقنت [فيه] قبل الركوع؛ لأنه جاء في رواية أبي بن كعب التي أسلفناها: "وكان يقنت قبل الركوع". قال: والقياس [يقتضي] أن يخالف بين الفرض والنفل، كما فرقوا في الخطبتين؛ فجعلوهما في الفرض-وهو: الجمعة-قبل الصلاة، وفي النفل بعد الصلاة؛ وهو: العيدان، وغيرهما. وعن "البيان" أن بعض متأخري الأصحاب قالوا: يتخير بين التقديم والتأخير، وأنه إذا قدم كبر بعد القراءة، ثم قنت. وقال في التتمة: إذا قلنا. يقنت قبل الركوع، يبتدئ به بعد الفراغ من القراءة من غير تكبير. وقد قيل: إن القنوت في الوتر لا يختص بالنصف الآخر من شهر رمضان، بل يجوز في جميع السنة؛ حكاه في "المهذب" عن أبي عبد الله الزبيري من أصحابنا؛ لظاهر خبر أبيِّ. وقد حكاه الرافعي عن أبي الفضل بن عبدان، وأبي منصور بن مهران، وأبي الوليد النيسابوري من أصحابنا، وهو ضعيف. قال الروياني: بل كلام الشافعي يدل على كراهته في [غير] النصف الأخير؛ فضلاً عن استحبابه، وخبر أبيِّ قد قال أبو داود: إنه غير صحيح، وقد

كان أبيَّ لا يقنت إلا في النصف الأخير. ثم إذا قلنا: إنه يقنت في جميع السنة؛ فتركه، [قال الروياني]: فلا يسجد للسهو-على وجه-بخلاف ما لو تركه في النصف الأخير، يسجد. قال: وهذا اختيار مشايخ طبرستان، وهو حسن. ثم المشروع من القنوت هاهنا ما ذكرناه في الصبح؛ لرواية أبي داود، عن الحسين بن علي قال: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في [قنوت] الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وأنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت"، وأخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن. قال في "الشامل": قال القاضي أبو الطيب: كان شيوخنا يقولون بعده: "اللهم عذب كفرة أهل الكتاب، والمشركين الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويدعون معك إلهاً، لا إله إلا أنت، تباركت وتعاليت عما يقول الظالمون علواً كبيراً، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم [عليه] وتوفهم على ملة رسولك، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واجعلنا برحمتك منهم، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". فإذا فرغ من القنوت، فالمستحب أن يقول: "سبحان الملك القدوس رب

الملائكة والروح"؛ لما روي في خبر أبي: "أنه-عليه السلام-كان يقول ذلك ثلاث مرات، ويطيل في آخره". وقال صاحب "التلخيص" وغيره من الأئمة-ومنهم القاضي الحسين-: يستحب أن يقول فيه-مع قنوت الصبح- ما كان عمر يقوله: "اللهم إنا نستعينك [ونستغفرك] ونستهديك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد-أي: نسرع- نرجو رحمتك، ونخشى عذابك؛ إن عذابك بالكافرين ملحق". [بكسر الحاء؛ يعني: لاحق. قال الأصمعي: لا يجوز غيره، وحكاه عن أبي عبيد؛ كذا قاله الماوردي في صفة الصلاة]. وهل يستحب الجهر بالقنوت، ورفع اليدين فيه؟ [فيه] ما في قنوت الصبح؛ قاله الرافعي قال: "ويصلي الضحى"؛ لقوله تعالى: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص: 18] قال ابن عباس: {وَالإِشْرَاقِ}: صلاة الضحى. كذا قاله المحاملي في "اللباب". وروى أبو هريرة وأبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنها صلاة الأوابين". قال: "ثماني ركعات"؛ لما روى مسلم، عن أم هانئ قالت: "ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح؛ فوجدته يغتسل، وابنته تستره بثوب؛ قالت: فسلمت عليه؛ فقال: من هذه؟ فقلت: أم هانئ بنت أبي طالب؛ فقال: مرحباً بأم هانئ.

[قالت] فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفاً في ثوب واحد، قالت: وذلك ضحى". وفي رواية: "لا أدري أقيامه فيها أطول، أم ركوعه، أم سجوده؟ كل ذلك منه متقارب". قال في "الحاوي": وهذا آخر ما روي عنه من فعل الضحى، وأنه واظب على ذلك إلى أن مات. وفيه نظر؛ لأن أبا داود روى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "ما أخبرنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى غير أم هانئ؛ فإنها ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم [فتح مكة] اغتسل في بيتها وصلى ثماني ركعات؛ فلم يره أحد صلاهن بعد"، وأخرجه البخاري ومسلم. وفي "الذخائر" عن "تهذيب" نصر المقدسي: أن المستحب أن يصليها باثنتي عشرة ركعة؛ لما روى أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة، بنى الله له قصراً في الجنة من ذهب".

قال: وأدناها ركعتان؛ لما روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة قال: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد". وروى مسلم- أيضاً-أنه-عليه السلام- قال: "يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة؛ فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك كله ركعتان يركعهما من الضحى"، وهذا الحديث في الدلالة على المدعى أمس؛ لأنه يقتضي أن الضحى أكثر من ركعتين. والسلامي: مضمومة السين، مفتوحة الميم: عظام الأصابع والأكف والأرجل، هذا أصله، ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله، وهي كما جاء في "صحيح مسلم" عن عائشة "ثلاثمائة [وستون مفصلاً، وحينئذ فمعنى الحديث: يصبح على كل عضو ومفصل من بدن ابن آدم] صدقة؛ قاله الجوهري.

وإذا [عرفت أن أدناها ركعتان، وأكملها ثمانية]، عرفت أن ما بينهما في الرتبة الوسطى، وقد روى مسلم عن معاذة أنها سألت عائشة: "كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: أربع ركعات، ويزيد ما شاء". وروى النسائي، عن علي بن أبي طالب قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس-يعني: من مطلعها-قيد رمح، أو رمحين؛ كقدر صلاة العصر من مغربها، صلى ركعتين، ثم أمهل حتى إذا ارتفع الضحى صلى أربع ركعات". وروى النسائي أيضاً عن نعيم بن هبار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه -تعالى- قال: " [يا ابن] آدم صل أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره". ووقت صلاة الضحى يدخل بزوال الوقت المكروه، ويدوم إلى الزوال؛ قاله مجلي، وغيره. قال بعضهم: ولم يتعرض الشيخ لذكر الوقت؛ اكتفاء بما أعطاه لفظ "الضحى". وفي "المهذب": [أن] وقتها يدخل إذا أشرقت الشمس، وعليه تدل الآية. وهو متقارب؛ لأن إشراقها يكون بعد ارتفاعها. قال بعض الأصحاب: والمستحب أن يصليها على قدر ما يمضي ربع النهار؛ لتكون على نظير العصر في [النصف] الثاني، وهذا ما أورده الماوردي، لكنه لم يذكر هذه العلة، وقد روى مسلم، عن زيد بن أرقم قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون؛ فقال: صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال". ومعنى "ترمض"، أي: حين يشتد الحر عليها؛ مأخوذ من "الرمض"، وهو شدة حر الحجارة؛ لكثرة حر الشمس. وقد أفهمك قول الشيخ: "ويصلي الضحى ثماني ركعات" أن هذا حكم

منفصل عما قبله، وليست هي من السنن التابعة للفرائض، بل هي مستحبة. وقد فهم بعضهم ضد ذلك؛ فقال مؤاخذاً للشيخ: ولم أر [أن] أحداً من أصحابنا قال: إن الضحى من السنن الراتبة؛ لأنه -عليه السلام- لم يواظب عليها مواظبته على توابع الفرائض من الوتر وغيره؛ فإن أبا سعيد الخدري. قال: "كان –عليه السلام- يصلي الضحى حتى نقول: لايدعها، ويدعها حتى نقول: لا يصليها". رواه الترمذي. وليس الأمر كما ظنه، بل الشيخ أراد أن يذكر أن فعلها مستحب، وتركه عليه السلام لها قد بينت عائشة -رضي الله عنها- سببه؛ روى مسلم عنها قالت:"ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به؛ خشية أن يعمل به الناس؛ فيفرض عليهم". فإن قيل: كيف يجمع بين هذا، وبين ما تقدم من روايتها: "أنه -عليه السلام- صلاها أربعاً"؟ قيل: يحمل ما سبق على أنها علمت صلاته بإخباره، أو إخبار غيره. وقد يكون معنى قولها: "ما رأيته يصلي سبحة الضحى" تعني: معلناً بها. قال: "ويقوم [شهر] رمضان"؛ لقوله-عليه السلام-:"من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه"، وما سنذكره من الخبر يدل على

مشروعية قيامه أيضاً. والشيخ في هذه التسمية متبع لقوله عليه السلام: "من قام رمضان". والمراد بالقيام: صلاة التراويح، سميت بذلك؛ لأنهم كانوا يصلون بتسليمتين، ثم يتروحون ساعة. قال: "بعشرين ركعة في الجماعة"؛ لأن الصحابة أجمعت على ذلك في زمن عمر -رضي الله عنهم- وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في المسجد ليلتين، أو ثلاثاً، ولم ينقل كم صلى، ثم تركها؛ خشية أن تفرض على أمته، حين كثروا وازدحموا، ولم يصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بقية عمره، ولا أبو بكر في زمن خلافته، وكذلك عمر في صدر [من] خلافته، ثم خرج في ليلة من رمضان فرأى الناس قزعاً في المسجد؛ فمن واحد يصلي، ومن اثنين يصليان، ومن ثلاثة يصلون؛ فقال: "لو جمعتهم على إمام واحد"، فجمعهم على إمام واحد؛ فوظف عليهم عشرين ركعة، وأمم عليهم أبي بن كعب، وأجمع الصحابة معه على ذلك.

وروي عن علي -كرم الله وجهه-[أنه] قال: "نور الله قبر عمر؛ كما نور مساجدنا"، وكان فعل عمر ذلك لأمنه مما حذره رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرضها؛ لأنه لا فرض بعد وفاته -عليه السلام- وقد قال الإمام في آخر الباب: إنه روى بعض من يعتمد في رواية غريبة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى التراويح عشرين ليلة، ولم يقنت في الوتر إلا في النصف الأخير". قلت: وأغرب من ذلك ما حكاه الماوردي، أن أبي بن كعب كان بعد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج في الليلة الثالثة أو الرابعة- كما حكاه غيره-في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وأول خلافة عمر، يجمع الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلي بهم العشر الأول، والعشر الثاني، ويتخلى لنفسه [في العشر الثالث] إلى أن قررها عمر، وجمع الناس عليها. قال: وكان السبب فيه ما روي أن الناس كانوا يصلون في المسجد؛ فإذا سمعوا قراءة طيبة سعوا؛ فقال عمر: قد جعلتم القرآن أغاني؛ فجمعهم على أبي؛ فصارت سنة قائمة، ثم عمل بها عثمان، وعلي، والأئمة من سائر الأعصار، وهي من أحسن سنة سنها إمام. فإن قيل: أهل المدينة يصلونها ستاً وثلاثين [ركعة]، أو تسعاً وثلاثين، وهم أعلم بفعل الصحابة فيها؛ فما وجه عدولكم عن ذلك؟ قيل: قد بين الشافعي مستندهم في ذلك؛ فقال: "أدركت أهل المدينة يصلون تسعاً وثلاثين ركعة، وذاك أن أهل مكة كانوا إذا صلوا ترويحة، وهي أربع ركعات، طافوا طوفة، إلا في الأخيرة، وأهل المدينة كانوا ينافسونهم في العبادات، ولم يكن عندهم شيء يطوفون به؛ فجعلوا بين كل ترويحتين أربع ركعات؛ فيجيء من ذلك ست عشرة ركعة، وثلاث ركعات الوتر، يكون الكل تسعاً

وثلاثين ركعة؛ فأما غير أهل المدينة؛ فلا يجوز لهم أن يجاروا أهل مكة، ولا ينافسوهم؛ لأن الله-تعالى-فضلها على سائر البلاد. وقد قيل: بل [كان] السبب في ذلك أن عبد الملك بن مروان كان له تسعة أولاد؛ فأراد أن يصلي جميعهم بالمدينة؛ فقدم كل واحد منهم فصلى ترويحة؛ فصارت ستاً وثلاثينن والوتر ثلاث. وقيل: بل كان السبب أن تسع قبائل حول المدينة سارعوا إلى الصلاة، واقتتلوا، فقدمت كل قبيلة من صلى بهم ترويحة، ثم صارت سنة. والأول: أصح. فإن قيل: قد قال الشافعي: "فأما قيام شهر رمضان، فصلاة المنفرد أحب إلي منه"؛ وهذا يدل على أن فعلها فرادى أفضل عنده، وهو مخالف لقوله-عليه السلام-:"صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة"، ومخالف لما أجمع عليه الصحابة فيها. قيل في جوابه: قد اختلف الأصحاب في مراده: فمنهم من قال: لم يرد الشافعي أنها لا تفعل في جماعة؛ فإنه نص في "البويطي" على أن فعلها في جماعة أفضل، وإنما أراد أن صلاة المنفرد في الوتر وركعتي الفجر أحب إلى من صلاة التراويح في جماعة؛ وهذا قول ابن سريج، وأبي إسحاق، وغيرهم، وبه يندفع السؤال. ومنهم من قال: [مراده]: أن فعلها فرادى أفضل، وزعم أنه نص عليه في القديم، لكن يشترط ألا يخاف الكسل عنها في بيته، ويقرأ أكثر مما يقرؤه إذا صلاها في جماعة، وكانت الجماعة لا تتعطل بغيبته؛ لأنها من صلاة الليل. قال الماوردي: [وبهذا] قال أكثر أصحابنا: وهو الأصح في "الإبانة". ومنهم من قال بظاهره مطلقاً حكاه القاضيان: أبو الطيب، وابن كج، والإمام -رحمهم الله تعالى- لأنه عليه السلام كان يصليها منفرداً، وقال: " [أفضل]

صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". قال القاضي أبو الطيب: وهو خطأ؛ لإجماع الصحابة عليها. واعلم أن الشيخ سكت عن أمرين لابد من معرفتهما، وسكوته عنهما؛ لأن العرف ظاهر في أحدهما، وكلامه دال على الثاني: فالأول: كونه يصليها ركعتين ركعتين، وهذا مما لم يختلف فيه [، صرح الرافعي وغيره، وحينئذ]؛ فلو صلاها أربعاً بتسليمة واحدة، لم يصح؛ لأن الباب باب اتباع، ولم يرد ذلك؛ قاله القاضي الحسين. والثاني: وقتها، وهو كوقت الوتر سواء، يدخل بصلاة العشاء، ويدوم إلى طلوع الفجر على الأصح. وهل يجوز أن تفعل قبل صلاة العشاء؟ فيه خلاف، والأصح: لا، وقد صرح به القاضي الحسين في "الفتاوي". والذي يدل من كلام الشيخ على أن وقتها كوقت الوتر قوله من بعد: "ويوتر بعدها في الجماعة". وقد يقال: إن كلام الشيخ دال على أنه يجوز فعلها بعد المغرب؛ لأنه عبر عنها بالقيام، والقيام هو صلاة الليل، والليل يدخل بغروب الشمس، [وبه صرح مجلي، فقال: إن وقتها يدخل من غروب الشمس،] ويستمر إلى طلوع الفجر، وقد جرت العادة بفعلها بعد صلاة العشاء، وإن فعلها قبل ذلك، جاز، وكان حسناً، واتبعه في ذلك أبو إسحاق والعراقي في التعليق على "المهذب". والمشهور الأول. قال: ووتر بعدها في الجماعة؛ لأن أبي بن كعب كان يفعل ذلك بمحضر الصحابة، وكان يجهر بالقراءة فيه، والجهر بالقراءة في الوتر سنة في رمضان وغيره، وادعى الماوردي وغيره الإجماع عليه عند الإتيان بثلاث مفصولة،

وجعلوه حجة على من قال: إن الثلاث مع الفصل صلاة واحدة؛ إذ لو كان كذلك، لما جره في الآخرة منها، والله أعلم. قال: إلا أن يكون له تهجد؛ فيجعل الوتر بعده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ["اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً" أخرجه البخاري ومسلم، وقال-عليه السلام]-: "صلاة الليل مثنى مثنى؛ فإذا أحس أحدكم الصبح فليوتر بركعة".

وروى مسروق قال: "قلت لعائشة: في أي وقت من الليل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر؟ فقالت: كان يوتر [في] أول الليل، وفي وسطه، وفي آخره، [ثم أوتر] عند موته في آخر الليل" أخرجه الترمذي. وقيل: الأولى أن يوتر قبل أن ينام، ثم يقوم، ويتهجد؛ لقول أبي هريرة: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أوتر قبل أن أنام" أخرجه البخاري ومسلم. وقد كان أبو بكر يوتر قبل أن ينام، ثم يقوم ويتهجد، [وعمر ينام قبل أن يوتر، ويقوم ويتهجد]، ويوتر؛ فترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هذا أخذ

بالحزم -يعني: أبا بكر- وهذا أخذ بالقوة. يعني: عمر"، وقد روي عن عثمان مثل [ما] فعل أبو بكر، [وعن علي وعبدالله بن مسعود مثل ما فعل عمر". قال في "الوسيط": واختار الشافعي-رضي الله عنه-فعل أبي بكر]، [وعبارة الإمام]: وميل الشافعي إلى حزم أبي بكر. ولفظ القاضي الحسين: المختار -عندنا- فعل الصديق- رضي الله عنه- لأنه أبعد من الآفة، وأحوط لأمر العبادة، وعلى هذا إذا قام وتهجد -لا يحتاج إلى إعادة الوتر؛ لقوله -عليه السلام-:"ولا وتران في ليلة" رواه الترمذي. وقد روي عن ابن عمر: "أنه كان يوتر قبل أن ينام، فإذا قام صلى ركعة، وجعل وتره شفعاً، وتهجد، ثم أعاد الوتر"، ويسمى ذلك: نقض الوتر. وقد

اختاره بعض أصحابنا، ولم يورد القاضي الحسين غيره. وقال الإمام: إنه لم يقل به إلا بعض المصنفين، وهو خطأ غير معدود من المذهب، وعلته أنه-عليه السلام- قال: "لا وتران في ليلة"، وهذا يؤدي إلى أن يكون فيها ثلاثة؛ إذ الماضي لا يصير شفعاً وقد تم. [وقيل]: الأولى في حق من طمع أن يقوم في آخر الليل أن يؤخر الوتر، وفي حق من لم يطمع أن يوتر قبل أن ينام؛ لقوله -عليه السلام-:"من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله، ومن طمع أن يقوم من آخره فليؤخر" رواه مسلم. وهذا ما حكاه في "الذخائر"، والذي أورده القاضي أبو الطيب والماوردي وابن الصباغ: ما ذكره الشيخ. وقال في "الذخائر": إنه اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة الشيخين: "وهذا أفضل"، يعني: ما فعل عمر.

وقد أفهم كلام الشيخ أن من لا تهجد له في رمضان ولا غيره، المستحب له تعجيل الوتر، وهو الظاهر؛ عملاً بقوله عليه السلام، [وقد سئل: أي الأعمال أفضل؟ -قال: "الصلاة لميقاتها"]. وقد حكى المتولي في أن الأفضل تعجيل الوتر في أول الليل أو تأخيره؟ فيه وجهان، [ويشهد للتأخير ما أخرجه مسلم من رواية [ابن] عمر وابن عباس: أنهما سعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الوتر ركعة من آخر الليل". وقال الشيخ أبو حامد: إن وقت الاختيار له أول الليل، وفي آخر وتقه قولان؛ كما في قوت الاختيار لصلاة العشاء، حكاهما البندنيجي وأبو الطيب. قال: ومن فاته من هذه السنن الراتبة شيء، قضاء في أصح القولين. الإشارة بقوله: هذه السنن، يحتل أن تكون إلى ما قدم ذكره من حين قال: "والسنة أن يواظب على السنن الراتبة ... " إلى هنا، وأما ما تقدم على ذلك فلم يدخل في كلامه؛ ألا ترى أنه تعرض في "باب صلاة العيد" إلى قضائها، وقال في باب "صلاة الكسوف": إنها لا تقضي، وفي باب "صلاة الاستسقاء": إنهم إذا سقوا قبل الصلاة صلوا شكرا، أي: ولا يكون قضاء؟! وهو في ذلك موافق للأصحاب؛ فإنهم متفقون على أن صلاة الكسوف والاستسقاء لا تقضين ولو قلنا: إن الإشارة تعود إلى ما ذكره من أول الباب إلى هنا -لاقتضى طرد الخلاف فيها، ويحتمل أن يعود إلى ما ذكره من أول الباب، وصلاة الكسوف والاستسقاء تخرج بقوله: "الراتبة"؛ فإنها ليستا براتبتين، وإنما تفعلان بسبب حادث غير مستقر، وعلى هذا يكون قد كرر حكاية الخلاف في قضاء صلاة العيد في باب صلاة العيد؛ لأجل ما سنذكره من الزيادة في التفريع.

ثم إذا تقرر ذلك عدنا إلى توجيه القولين، ووجه القضاء: قوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها؛ فإن ذلك وقتها"، وقوله -عليه السلام-:"من نام عن وتره فليصله إذا أصبح" رواه الترمذي، وقد تقدم أنه-عليه السلام-قضى الركعتين بعد الظهر بعد صلاة العصر، لما شغله عنهما الوفد.

وقد روى [رجاء بن مرجّي] في "سننه بإسناده، والترمذي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لم يصلّ ركعتي الفجر حتى طلعت الشمس-فليصلهما"، ولأنها صلاة مؤقتة بوقت؛ فإذا فات وقتها قضيت؛ كالفرائض، وهذا القول نص عليه في الجديد، وهو أحد قولي القديم؛ كما قال أبو حامد. ومقابله-وهو ما نص عليه في القديم-: أنها لا تقضي، وكذا في "المختصر" هاهنا؛ حيث قال: وإن فاته الوتر حتى يصلي الصبح، لم يقض، وإن فاته ركعتا الفجر حتى يصلي الظهر، لم يقض؛ لأنها صلاة نفل فلا تقضي؛ كصلاة الاستسقاء والكسوف. وحكى الإمام ومن تبعه قولاً آخر: أن ما تبع الفرائض لا يقضي، وما لا يتبعها، بل هو مستقل بنفسه-كالضحى، العيد-فيقضي. وعن أبي إسحاق القطع بالقضاء في الكل. وقول الشافعي: "لا يقضي"، أي: وجوباً، وقصد به الرد على أبي حنيفة؛ حيث قال: يقضي الوتر بعد طلوع الشمس، ويعيد الصبح؛ بناء على أصله في أن الوتر واجب، وأن الترتيب في القضاء واجب، وألا فهو يقضي استحباباً عنده.

ويحتمل أن يكون مراده: لا يقضي على سبيل التأكيد، وهذا ما حكاه ابن الصباغ عنه، وقد ادعى الماوردي أن هذه الطريقة هي الصحيحة، وهي التي عليها عامة الأصحاب، واختارها القاضي أبو الطيب مستدلاً بقول الشافعي في سنة الصبح: يفعلها ما لم يصل الظهر، ولو كانت تسقط بالفوات لسقطت بطلوع الشمس. التفريع: إن قلنا: تقضي، فإلى متى تقضي؟ أما صلاة العيد فسيأتي الكلام فيه. وأما توابع الفرائض فقد حكى المراوزة فيها ثلاثة أقوال: أصحها: أبداً، وهو ما حكاه العراقيون عن نصه في الجديد، حتى إنها تفعل في الوقت المكروه؛ لعموم قوله-عليه السلام-: "فليصلها إذا ذكرها". ورواية أبي سعيد الخدري: أنه -عليه السلام- قال: "من نام عن الوتر، أو نسيه فليصله إذا ذكره، أو إذا استيقظ" أخرجه الترمذي. والثاني: أن فائتة النهار تقضي في بقية ذلك النهار، وفائتة الليل تقضي في بقيته، وهذا ما حكاه المسعودي عن القديم. وإذا قلنا به، قضيت ركعتا الفجر في جميع النهار. والثالث: أنها تقضي ما لم يدخل وقت صلاة أخرى ويصلها؛ فإذا دخل ولم يصلها لم يفت وقت قضائها، وإن فات وقت أدائها؛ كذا قاله الإمام وغيره. وقيل: إن ركعتي الفجر تقضي ما لم [يدخل وقت صلاة الظهر؛ فإذا دخل فلا تقضي، وإن لم] يصل الظهر، وهو ظاهر النص، [كما] حكاه الماوردي وغيره، وهو بناء على أنها تفوت بفعل الصبح أو بطلوع المس، كما تقدم. وإن قلنا: لا تقضي؛ فإذا أتى بها كانت نافلة مطلقة، حتى إنها لا تجوز في الوقت المكروه، ويكون في انعقادها فيه الخلاف الآتي. ولبعضهم احتمال في انعقادها في غير وقت الكراهة أيضاً؛ بناء على ما إذا تحرم بالظهر قبل الزوال: هل تنعقد نفلاً [أو تبطل؟].

قال: ويسن التهجد. التهجد في اللغة: اسم لدفع النوم بالتكلف، والهجود: هو النوم، يقال: هجد، إذا نام، وتهجد: إذا أزال ذلك النوم؛ كما يقال: حرج، إذا أثم، وتحرج، إذا تورع عن الآثام. [وهو] في الاصطلاح: صلاة التطوع في الليل بعد النوم؛ لأنها تؤدي بعد الهجود، وهو النوم؛ كذا قاله القاضي الحسين. وقال في "الحاوي": إن التهجد من الأضداد، يقال: تهجدت، إذا سهرت، وتهجدت: إذا نمت. والأصل في استحبابه قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17]. وقد كان واجباً، فنسخ، وبقي الاستحباب، قال الله تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الإسراء: الآية79]. وقال-عليه السلام-: "أفضل الصلاة- بعد الفريضة- صلاة الليل"رواه مسلم. وعن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله -تعالى- خيراً من [أمر] الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة" رواه مسلم. وروى الترمذي، عن عبادة بن الصامت، عن رسول الله -[قال]: "من تعارض من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله اكبرن ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي- أو قال: ثم دعا-استجيب له؛ فإن عزم فتوضأ، ثم صلى قبلت صلاته". قال: وهذا حديث حسن صحيح غريب.

وقال-عليه السلام-: "يعقد الشيطان على قافية أحدكم، إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة؛ فأصبح نشيطاً طيب النفس، وألا أصبح خبيث النفس كسلان" أخرجه البخاري. قال: والنصف الأخير [من الليل] أفضل من النصف الأول، أي: من أراد أن يقوم نصف الليل فقط، فالنصف الأخير في حقه أفضل من الأول؛ لقوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [آل عمران: 17] وقال- عز من قائل-: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] فحث على الاستغفار [في الأسحار]، وقال تعالى: {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34] والسحر في النصف الأخير؛ فهو شامل لمحل الرحمة والمغفرة والتنجية. قال: والثلث الأوسط، أي: لمن أراد قيام ثلث الليل فقط، أفضل من الأول والأخير؛ قال الشافعي: لأن الغفلة فيه أكثر، والعبادة فيه أثقل، وقد قال -عليه السلام-: "ذاكر الله في الغافلين كشجرة خضراء [بين أشجار] يابسة". فإن قيل: قد روى مسلم، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا-تبارك وتعالى- كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير،

فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له؟! " وفي طريق آخر: "حتى ينفجر الفجر"، وهذا يدل على أن الثلث الأخير أفضل، مع أن فيه السحر، وفيه ما تقدم ذكره. قيل في جوابه: قد روى النسائي، عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله – عز وجل- يمهل حتى يمضي شطر الليل، ثم يأمر منادياً ينادي، فيقول: هل من داع فيستجاب له، هل من مستغفر فيغفر له، هل من سائل فيعطي" وهذه زيادة مقبولة، وكون السحر اشتمل على ما ذكرناه؛ لأنه وقت الغفلة، والغفلة في الثلث الأوسط أكثر؛ كما تقدم. نعم، يشكل ما ذكرناه بما رواه مسلم [والبخاري] عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود: كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، [وكان يصوم يوماً، ويفطر يوماً"؛ ولهذا قال في "المرشد": إذا أراد أن يجزئ الليل ثلاثة أجزاء، فالأفضل أن ينام نصفه، ويقوم ثلثه وينام سدسه.

ثم ما المعنى بالنزول المنسوب إلى الله -تعالى- في الخبر الأول؟ قيل: المراد به: معنى يصح إضافته [إلى الله تعالى] يجب الإيمان به، وإن لم نعلمه مع نفي [التشبيه] والانتقال الذي هو من عوارض الأجسام؛ فإن لفظ "النزول" لا يختص بالانتقال؛ كما لا يفهم من قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] بل "النزول" لفظ مشترك في اللغة يطلق على الانتقال؛ كقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] وبمعنى الخلق؛ كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَاسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] وبمعنى الإعلام؛ كقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] و {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193] وبمعنى النزول كما يستحقه، وبمعنى القول؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93] أي: سأقول، وبمعنى الإقبال، وإذا كان اللفظ مستعملاً بمعان عديدة؛ فيتعين حمله على ما يصح في وصف الباري. فمن ذلك الإقبال بالرحمة والعطف، ويحتمل أن يراد به ظهور فعله بأمره؛ فأضيف إليه؛ كقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَاتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ} [البقرة:210]. قيل: معناه: أن يأتيهم عذاب الله، وهذا هو الأظهر، ويدل عليه الخبر [الأخير] الذي ذكرناه عن رواية النسائي. وقد أفهم كلام الشيخ أنه لا يؤثر له قيام كل الليل، وبه صرح غيره. وفي "المهذب" قال: إنه مكروه، وعليه دلت السنة؛ روى مسلم، عن عبد الله ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله لا تكن مثل فلان؛ كان يقول الليل فترك قيام الليل"، وروى البخاري ومسلم عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: نعم. قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لنفسك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً"، ولأن الإنسان قد لا يطيق ذلك؛ فيمل، وهو منهي عنه. روت عائشة-أنه-عليه السلام-كان يقول: "خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا"، وكان يقول: "أحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه، وإن قل" رواه البخاري ومسلم. [قال الأصحاب: وقوله: "لا يمل حتى تملوا" من مجاز المقابلة؛ فإن الله -تعالى- لا يوصف بالملال؛ فإنه عليه محال. ويستحب إذا قام في الليل أن ينظر إلى السماء ويقرأ الخواتم من آل عمران؛ فإنه-عليه السلام-فعل ذلك، كما أخرجه البخاري ومسلم]. وكذا ينبغي أن يقول ما ثبت في "صحيح مسلم": أنه -عليه السلام- يقول إذا استيقظ من نومه: "اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض.

ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت؛ فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت، وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت"، وما رواه الترمذي، عن عبادة بن الصامت، عنه-عليه السلام- قال: "من تعار من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ... " إلى آخره؛ وقد ذكرناه [من قبل]. قال: وتطوع الليل أفضل من تطوع النهار؛ لقوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل: 6] والناشئة: هي الطائفة التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة، أي: تنهض، ووطئاً، أي: أشد موافقة لما يراد في العبادة من الخشوع والإخلاص والانقطاع عن رؤية الخلائق، وقال -عليه السلام-: "أفضل الصلاة بعد الفرض صلاة الليل"؛ ولهذا قال العلماء: إن الليل مطية العابدين، وواحة المجتهدين. قال الأصحاب: ويستحب له إذا فاته شيء مما يصليه في أحدهما أن يأتي به في الآخر؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} [الفرقان: 62].

قال: وفعله في البيت أفضل من فعله في المسجد؛ لقوله -عليه السلام-: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة" رواه أبو داود. ورواية البخاري ومسلم: "فعليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته، إلا [الصلاة] المكتوبة" والمعنى فيه: أنها أبعد عن الرياء. وروي أنه -عليه السلام- قال: "صلاة في مسجدي [هذا] أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا، وأفضل من هذا كله ركعتان يصليهما المرء في جوف بيته، لا يطلع عليهما إلا الله عز وجل"؛ كذا قاله القاضي

الحسين، وتبعه الإمام.

...............................................................................

....................................................................................

وهذا ما ذكره الأصحاب هاهنا، وقد قال القاضي أبو الطيب في "كتاب النذور" عند الكلام فيما لو نذر أن يصلي ركعتين في الكفر: إنه لو أخفى صلاة النافلة في المسجد كان أفضل من صلاتها في البيت؛ لأن القصد من صلاتها في البيت: الإخفاء، وهل الأفضل في الصلاة المنذورة فعلها في المسجد أو في البيت؟ فيه وجهان في "التتمة" في باب النذر. واعلم أن الضمير في قوله: "وفعله في البيت ... " إلى آخره، يعود إلى التطوع في الليل والنهار، وهو يفهم أن الرواتب ليست كذلك، بل فعلها في المسجد أفضل، ويدل عليه قول القاضي أبي الطيب في باب صلاة العيد: إن الشخص إذا دخل المسجد، والإمام يخطب للعيد، وقلنا: إنه يقدم تحية المسجد-فإذا فرغ الإمام من الخطبة صلى العيد في المسجد؛ لأن المساجد أفضل البقاع، نعم لو كان دخوله، والإمام في الخطبة إلى المصلي، فإنه يجلس؛ فإذا فرغ الإمام من الخطبة- تخير بين أن يصلي العيد في بيته، أو في المصلى.

وكلام غيره يفهم أن الرواتب في ذلك كالنفل. قال: والأفضل أن يسلم من كل ركعتين؛ لأنه -عليه السلام- سئل كيف صلاة الليل؟ فقال: "مثنى مثنى" أخرجه مسلم. ولأبي داود: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى". قال: "فإن جمع ركعات بتسليمة واحدة، أو تطوع بركعة واحدة- جاز"؛ لقوله-عليه السلام-: "الصلاة خير موضوع؛ فمن شاء استقل، ومن شاء استكثر". وقد روى أبو داود، عن أبي أيوب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع قبل الظهر، لا يسلم فيهن، يفتح لهن أبواب السماء".

وحديث عائشة السالف دال على جمع أكثر من ذلك، وقد ثبت جواز إفراد ركعة في الوتر وغيرها بالقياس عليها، وقد روي عن ابن عمر أنه صلى ركعة، ثم خرج من المسجد؛ فقيل له في ذلك؛ فقال: هو تطوع؛ فمن شاء زاد، ومن شاء نقص. ولا فرق في ذلك بين أن يكون قد نوى ركعات، أو ركعة من أول الصلاة، أو أطلق نية الصلاة ثم اقتصر على ركعات أو ركعة؛ على المذهب المشهور. وعن المسعودي: أنه يجوز أن يجمع بين ثلاث عشرة ركعة بتسليمة واحدة، وهل يجوز أن يزيد؟ فيه وجهان. وفي "الذخائر" أن أبا الفتح سليم قال في "تقريبه": لو نوى عدداً من النوافل لا تجوز الزيادة عليه، ولم يحك سواه، ويجوز عند عقده الصلاة بركعة أن يبلغها ما شاء، لكن بشرط أن ينوي ذلك قبل الزيادة؛ فلو قام عامداً، ولم يقصد الزيادة بطلت، ولو كان ساهياً سجد للسهو. نعم، لو أراد في هذا القيام أن يزيد على ما نواه فينبغي أن يجلس، ثم يقوم من جلوس قاصداً للزيادة.

وقيل: لا يرجع ويتمادى، وسيأتي الكلام فيه في باب: سجود السهو. وكذا يجوز أن ينوي عدداً، ثم يقتصر منه على بعضه؛ بشرط أن ينوي الاقتصار قبل السلام؛ فإن سلم ولم يقصد التحلل: فإن كان سهواً سجد للسهو، وإن كان عمداص فقد حمله الأئمة على الكلام عمداً. وفي "الزوائد": أن الطبري ذكر في "عدته" أنه إذا أحرم بست ركعات، أو ثمان، وسلم من اثنتين عامداً-بطلت صلاته؛ على أحد الوجهين، وإن سلم ناسياً أتمها، وسجد للسهو؛ على أحد الوجهين، ذكره شيخنا. [ثم ما ذكرناه] من جواز الزيادة والنقص في النفل المطلق، أما الراتب فقد قال الإمام: إنه لو زاد في ركعة الفجر ثالثة بطلت؛ لمخالفته وضع الشرع. قال: ويجوز أن يقال: تنقلب تطوعاً، أو تبطل؛ فعلى خلاف سبق في مواضع. فرع: إذا جمع ركعات بتسليمة واحدة، وتشهد واحد- جاز، بل حكى صاحب "البيان" وجهاً: أنه لا يجوز إلا ذلك، ولا تفريع عليه. قال القاضي الحسين: وحينئذ يسن له أن يقرأ السورة في كل ركعة، سواء كان المنوي أربع ركعات أو ستاً؛ لأن كل قومة شرعت فيها الفاتحة لا يتقدمها جلوس تشهد، يسن فيها السورة، ولو أراد أن يأتي بتشهدين: فإن كان المنوي أربع ركعات أتى بالأول بعد الركعتين، والثاني آخر صلاته؛ فلو ترك الأول سهواً، قال الإمام: لم يسجد للسهو؛ لأن بعضية هذا التشهد لا تظهر في النفل؛ فكذلك لو تركه قصداص بعد ما نواه، وإن كان المذهب أن تارك التشهد الأوسط من الفريضة قصداً يسجد. وفي هذه الحاية قرأ السورة في الركعتين الأوليين، وهل يقرؤها في الأخيرتين؟ قال في "التتمة": فيه وجهان؛ بناء على القولين في الركعتين الأخيرتين من الفرائض. وإن كانت الصلاة المنوية ست ركعات أتى بالأول بعد الرابعة، والآخر آخر صلاته؛ لأن التشهد الأخير لا يجوز أن يسبقه أكثر من ركعتين. ولو صلى سبعاً جعل الأول في السادسة، والآخر في السابعة.

ولو تشهد في الصور كلها في الركعة الثانية بطلت صلاته، قاله القاضي الحسين، وفيه ما ستعرفه. ولو أراد أن يأتي بأكثر من تشهدين، قال القاضي: فلا يجوز، وهذا ما حكاه في "التتمة"، وقال في "الفتاوي": إنها تبطل عند القيام إلى الركعة الخامسة، والعراقيون قالوا: يجوز ذلك، ويتشهد بين كل ركعتين، وهو الأولى، وقد أبداه البغوي في "فتاوي" القاضي الحسين احتمالاً، والذي حكاه الإمام أنه لو أراد أن يجلس على أثر كل ركعتين، وقد نوى عشر ركعات، وأطلق- جاز. ولو أراد أن يجلس على أثر كل ركعة؛ فهذا فيه احتمال من جهة أنا لا نلقي صلاة على هذه الهيئة في الفرائض، وقد أقام مجلي هذا وجهاً في المسألة، وحكاه عن الأصحاب، ثم قال الإمام: والأظهر-عندي-جواز ذلك؛ فإن له أن يصلي ركعة فردة متطوعاً، وينحل عنها؛ فإذا جاز ذلك جاز له القيام عنها وزيادة ركعة أخرى عليها، وعلى هذا لو كان يصلي ثلاثين ركعة بتسليمة واحدة، وكان يقعد للتشهد في كل ثلاث ركعات-جاز. قال: ويسن لمن دخل المسجلد، أي: ولم يجلس-أن يصلي ركعتين تحية المسجد؛ لما روى أبو داود، عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليصل سجدتين قبل أن يجلس" وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وهذا إذا كان متطهراً؛ فإن كان محدثاً-فليقل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله [العلي العظيم]؛ فإنه قائم مقام الركعتين. ثم ظاهر الخبر: أنه لو دخل، وصلى فيه فرض الوقت، أو سنة، أو قضاء

حصلت التحية وإن لم ينوها، وبه صرح الأصحاب، وقالوا: لو نوى الفرض والتحية لم يضره. وقال الرافعي: ينبغي فيما إذا نوى الفريضة، ولم ينو التحية- أن يكون في حصولالتحية الخلاف السالف فيما إذا نوى غسل الجنابة: هل يجزئه عن العيد والجمعة إذا لم ينوهما؟ وكذا مفهوم الخبر: أنه لو صلى ركعة واحدة لا تتأدى التحية؛ إذ السجدة يعبر بها عن الركعة، ومن طريق الأولى عدم تأديها بصلاة الجنازة وسجود التلاوة، وقد قال القاضي الحسين: إن صلاة الجنازة هل تتأدى بها تحية المسجد أم لا؟ يحتمل وجهين؛ فإن قلنا: يجوز، تأدت بركعة واحدة من طريق الأولى، وألا فوجهان، قال: ويمكن بناء الخلاف فيها على ما إذا نذر صلاة هل يخرج بها عن موجب نذره أم لا؟ ووجه الشبه: أنه بدخول المسجد ألزم سنة التحية؛ كما أنه بالنذر ألزم فعل المنذور. قال: وأما سجود التلاوة وسجود الشكر فيترتب على صلاة الجنازة، وأولى بعدم التأدية؛ لأن صلاة الجنازة تسمى صلاة عرفاً، ولا كذلك سجود التلاوة والشكر. أما إذا جلس قبل الصلاة، فإن طال جلوسه فلا خلاف -عندنا- أنه يسقط. وإن قصر، قال في "الروضة": فالذي قال أصحابنا: أنها تفوت -أيضاً– فلا يفعلها. وذكر الإمام أبو الفضل بن عبدان في كتابه المصنف في العبادات: أنه لو نسي التحيةوجلس، فذكر بعد ساعة-صلاها، وهذا غريب. وفي صحيح البخاري، ومسلم- في حديث الداخل يوم الجمعة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب-ما يؤيده. قال: إلا أن يدخل، وقد حضرت الجماعة، أي: ويخشى إن تشاغل بها فاتته فضيلة تكبيرة الإحرام؛ كما نبه عليه القاضي أبو الطيب غيره في كتاب

الجمعة- فالفريضة أولى؛ لقوله -عليه السلام-: "إذا أقيمت الصلاةفلا صلاة إلا المكتوبة" أخرجه مسلم. فرع: مصلى العيد أطلق الأصحاب في باب صلاة العيد [القول] بأنه لا تحية لها، موجهين ذلك بأن التحية للمسجد، وليست مصلى العيد مسجداً. وقد حكى النواوي، عن الدارمي في تحريم عبور مصلى العيد على الحائض وجهين، وأنه أجراهما في منع الكافر منه بغير إذن. قلت: وقضية ذلك أن يجريا في تحية المسجد أيضاً، والمذهب أن هذه الأحكام لا تثبت فيها أيضاً. قال: ويجوز فعل النوافل قاعداً، أي: مع القدرة على القيام؛ لقوله -عليه السلام-: "من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله [نصف أجر] القائم، [ومن صلى نائماً فله نصف القاعد"] أخرجه البخاري، ولفظ مسلم:

"صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة"، وعن عائشة قالت: "لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان كثير من صلاته وهو جالس"، وبنحوه عن عبد الله بن عمرو وجابر، أخرجهما مسلم. وقد أفهم كلام الشيخ أنها لا تجوز مضطجعاً ولا بالإيماء، وهو أحد الوجهين في "تعليق" القاضي الحسين وغيره؛ لأن القعود ثبت رخصةً في النافلة مع الإتيان بكمال الأركان، [فإذا أراد أن يسقط جميع الأركان]؛ قياساً على القيام فقط- لم يجز، وهو أظهر في "الرافعي" في الصلاة بالإيماء، ومقابله منسوب في "النهاية" إلى الصيدلاني، ولم يحك الماوردي هاهنا غيره، وهو الأصح في "الرافعي"؛ إذا أتى بالركوع والسجود مع الاضطجاع، [وحكى عن الإمام أنه قال: ما عندي أن من] [يجوز الاضطجاع] يجوز الاقتصار على الأركان الذكرية –كالتشهد- وغيرها على ذكر القلب، وبهذا يضعف هذا الوجه من أصله، وإن التزمه من صار إليه كان طارداً للقياس، لكنه يكون خارجاً عن الضبط مقتحماً. قال الرافعي: ولمن جوز الاضطجاع أن يقول: ما روينا من الخبر صريح في جواز الاضطجاع، فلتحريم المضطجع، وإن جوزنا له الاقتصار على الإيماء [في

الركوع والسجود فلا يلزم من جواز الاقتصار على الإيماء] في الأفعال جواز الاقتصار على ذكر القلب في الأذكار، [وبهذا يضعف هذا الوجه من أصله]؛ فإن الأفعال أشق من الأذكار؛ فهي أولى بالمسامحة، وقد أشار الإمام في موضع آخر إلى أن الخلاف في جوازها بالإيماء فقط يلتفت على إقامة النافلة على الراحلة في الحضر، ثم كيفية القعود مبينة في باب صلاة المريض. قال الرافعي: ولا فرق في النوافل [فيما ذكرناه] بين الرواتب وغيرها. وقال ابن كج: صلاة العيدين، والكسوف، والاستسقاء لا يجوز فعلها [عن قعود]؛ كصلاة الجنازة. والصلاة المنذورة هل يجوز فعلها قاعداً مع القدرة [على القيام]؟ فيه خلاف مبني على أنها كواجب الشرع أو جائزه؟ نعم، لو نذر أنا يصلي أربع ركعات قائماً لزمه، ولو نذر أن يصلي النوافل قائماً هل ينعقد نذره؟ قال الصيدلاني: لا ينعقد؛ لأن فيه تغيير رخصة أثبتها الشرع. قال الإمام: وهو حسن. وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن الأصحاب، ثم قال: وعندي أنه ينعقد؛ لأن القيام في النوافل زيادة طاعة، وإن رخص في تركه مع القدرة؛ كما لو نذر أن يقرأ سورة البقرة في صلاة الفرض، ينعقد نذره؛ لما في إطالة القراءة من القربة. فرعان نختم بهما الباب: يستحب لمن توضأ أن يصلي ركعتين بعده، وكذا يستحب لمن أذن؛ لقوله -عليه السلام-: "يا بلال بما سبقتني إلى الجنة؛ فما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي؟ فقال: ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث إلا

توضأت عنده، ورأيت أن لله علي ركعتين؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما" قال الترمذي: حديث حسن صحيح. يستحب أن يصلي بين المغرب والعشاء عشرين ركعة؛ لأنه -عليه السلام- كان يصليها، ويقول: "هذه صلاة الأوابين؛ فمن صلاها غفر له" وكان الصالحون يصلونها ويسمونها: صلاة الغفلة، قاله الماوردي. والله تعالى أعلم.

باب سجود التلاوة

باب سجود التلاوة تلاوة القرآن مندوب إليها، ومحثوث عليها؛ لأن الذكر مطلوب، وتاركه مذموم، قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب: 41، 42] وقال -تعالى- ذماً للمنافقين: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 142] والقرآن من أفضل الذكر؛ فهو بذلك أولى، وقد قال -عليه السلام- حكاية عن ربه- سبحانه وتعالى-: "من شغلته قراءة القرآن عن دعائي ومسألتي أعطيته أفضل ثواب الشاكرين". وإذا كان ذلك مطلوب الشرع فالسجود عند قراءة آياته مطلوبة أيضاً؛ روي عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله، في سورة "الحج" سجدتان؟ فقال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما" رواه أبو داود والترمذي، وليس هذا

مختصاً بهما، بل هو جار فيما سواهما من آيات السجود في القرآن، وخصهما بالذكر؛ لدفع توهم من يقول: إنه ليس فيها إلا واحدة كما ذهب إليه أبو حنيفة- رحمه الله-وقد روى سلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلتي! أمر ابن آدم بالسجود فسجد؛ فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت؛ فلي النار". هذه توطئة الباب. قال: وسجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع"، أي: حيث يندب للقارئ القراءة، وللمستمع الاستماع؛ لما روى مسلم، عن ابن عمر قال: "ربما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فيمر بالسجدة؛ فيسجد بنا حتى ازدحمنا عنده، حتى لم يجد أحدنا مكاناً يسجد فيه في غير صلاة"، ورواية أبي داود عنه: كان يقرأ علينا القرآن، وإذا مر بالسجدة كبر، وسجد وسجدنا"،وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم [كان] على وجه الندب، يدل عليه ما روى أبو داود، عن زيد بن ثابت قال: "قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة "والنجم" فلم يسجد فيها" وأخرجه البخاري. قال أبو داود: وسبب ذلك أن زيداً كان الإمام، ولم يسجد؛ فلذلك لم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقال: يحمل هذا الحديث على أنه لا سجود في المفصل؛ لما

سنذكره من أن السجود في المفصل من عزائم السجود، وإذا كان كذلك فقد ثبت أنه سنة، وليس بواجب. فإن قيل: قد ذم الله-تعالى-من قرئ عليه آية السجود فلم يسجد؛ فقال: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] وذلك يدل على وجوب السجود. قيل: الآية واردة في حق الجاحدين لشريعته؛ يدل عليه ما قبل الآية وما بعدها: أما ما قبلها فقوله: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20]، وأما ما بعدها فقوله: {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق: 22]. أما من قرأ حيث لا تندب له القراءة: كالمصلي يقرأ في ركوعه، أو سجوده، أو نحو ذلك-فلا يستحب له السجود؛ فإن سجد بطلت صلاته، وهذا بخلاف ما لو قرأ آية السجدة قبل الفاتحة فإنه يسجد؛ لأن القيام محل القراءة في الجملة، بخلاف الركوع، وكذا مناستمع؛ حيث لا يندب له الاستماع، وهو إذا كان منفرداً، أو مأموماً والقارئ غير إمامه، فلا يسجد؛ لأن الاستماع لقراءة غيره، أو غير إمامه مكروه؛ فكيف تترتب عليه قربة؟! وحكى الإمام عن أبي حنيفة: أن المنفرد والإمام [إذا استمع لقراءة غيره سجد كما إذا] استمع خارج الصلاة، ثم قال: وفي بعض طرقنا ما يشير إلى ذلك، وهو بعيد جداً، وعلى المشهرو لو خالف وسجد عند سجود ذلك القارئ، قال البغوي: بطلت صلاته؛ لأن سببها لم يوجد في صلاته، وهو الذي أورده الرافعي. وقول الشيخ: "وإن زاد في صلاته ركوعاً ... " إلى آخره، يدل عليه. وفي "الذخائر" حكاية وجه آخر، نسبه إلى القاضي الحسين: أنها لا تبطل؛ لأنها زيادة من جنس الصلاة، وهذا التعليل يقتضي العكس؛ لأن الزيادة من جنس الصلاة-مع العمد-مبطلة. دليله: ما زاد ركوعاً، ولو حصل سماع الإنسان القراءة من غير قصد الاستماع،

فلا يتأكد السجود في حقه تأكد المستمع، نص عليه في "البويطي"؛ لقول ابن عباس: "السجدة لمن جلس لها". وروي عن عثمان بن عفان وعمران بن حصين أنهما قالا: "السجدة على من استمع لها"، ولا مخالف. نعم، إن سجد فحسن، وعبارة البندنيجي والروياني في "تلخيصه": أن من طرق ذلك سمعه اتفاقاص، فهو غير مسنون في حقه. ومن أصحابنا من قال: إنه يتأكد في حقه كالمستمع، وقد حكاه الرافعي أيضاً. وفي "النهاية": أن السامع غير المستمع لا يسجد؛ لأنه لم يقرأ، ولا قصد الاستماع؛ فلو سجد لكانت سجدته منقطعة عن سبب، وبه يحصل في المسألة ثلاثة مذاهب. ثم كلام الشيخ يفهم أن هذه السنة ثابتة للقارئ والمستمع، كل منهما على انفراد، لا يتوقف استحبابها في حق أحدهم على فعل الآخر، وهو كذلك، على ما نص عليه في البويطي فيما إذا لم يكونا في الصلاة، ومنه يظهر لك أنه لا فرق بين أن يكون القارئ متطهراً أو محدثاً أو صبياً أو كافراً. وقيل: إنما يتأكد السجود في حق المستمع إذا سجد القارئ؛ لأنه تبع له، وقد روي أنه -عليه السلام-: "أتى إلى نفر من أصحابه، فقرأ رجل منهم سجدة،

ثم نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال -عليه السلام-: "إنك كنت إماماً، ولو سجدت سجدنا"، رواه الشافعي في "مسنده" وقال عبد الحق: إنه في "المراسيل". وقول أبي دود في أول الباب حجة على المدعي. وقيل: إنه لا يسن [للمستمع السجود إلا إذا سجد القارئ، حكاه الصيدلاني وجهاً، وحكاه الإمام عن معظم الأئمة. واستدل] له بما ذكرناه من الخبر. وقياس هذا أن القارئ لو كان محدثاً أو صبياً أو كافراً، لا يسجد، وقد حكاه في "البيان" وجهاً، والقائلون بما اقتضاه كلام الشيخ يقولون: هذا الخبر محمول على حث التالي على السجود، ثم لو سجد التالي، وتبعه السامع-لا يحتاج إلى نية الاقتداء، قاله في "التهذيب"، وأنه يجوز أن يرفع قبله، وكذلك لو كان القارئ في الصلاة، والمستمع خارج الصلاة، وسجد القارئ؛ فإنه يستحب للمستمع أن يسجد معه على الأصح، وبه جزم القاضي الحسين. وفيه وجه عن رواية صاحب "البيان": أنه [لا] يستحب له أن يسجد. فإذا قلنا بالأول، وسجدمعه، وسها القارئ في سجود التلاوة-لا يتابعه المستمع في سجود السهو؛ لأنه غير مقتد به، ولو كان قد عقد الاقتداء به-فهو

لم يعقده إلا بسجدة؛ فلا يتبعه في غيرها؛ قاله القاضي الحسين. أما إذا كان القارئ والمستمع في الصلاة؛ فإن سجد القارئ سجد المستمع [له] وغير المستمع؛ إذا كان مأموماً، حتى لو كانت الصلاة سرية، وقرأ الإمام السجدة، وسجد-تبعه المأموم؛ فإن لم يسجد بطلت صلاته. نعم، لو سجد إمامه، ولم ينتبه المأموم لذلك حتى رفع الإمام رأسه من السجود-فلا يجوز له أن يسجد؛ كذا ذكره في "التهذيب"، وذكره القاضي في "الفتاوى"، وقال في مرة أخرى: إنه يسجد ولو أراد الإمام أن يركع، ويكون كالمزحوم، والأول: أصح، وهو الذي ذكره في "التعليق"؛ لأن المتابعة واجبة؛ فلا تترك بالسنة؛ كما لو جلس إمامه للتشهد الأول، وقام ولم يعلم، أو قنت ولم يعلم- لا يجوز له أن يشتغل بتداركه، ويترك المتابعة. نعم، لو أراد هاهنا أن ينوي مفارقته؛ ليسجد-ليس له ذلك، بخلاف ما لو نوى مفارقته ليأتي بالتشهد أو القنوت، والفرق: أنهما من أبعاض الصلاة؛ فتركهما يوجب [نقصاناً في] الصلاة، و [لا] كذلك سجود التلاوة، وعلى هذا: لو هوى المأموم للسجود، فرفع الإمام رأسه قبل سجوده- فإنه يرفع معه، ولا يسجد، وكذا الضعيف [الذي] هوى مع الإمام في سجود التلاوة، فقبل وصوله إلى الأرض قام إمامه- فإنه يقوم ولا يسجد.

ولو لم يسجد الإمام، وقد قرأ آية سجدة- لا يسجد المأموم وإن استمع؛ فإن سجد بطلت صلاته. قاله الفراء في "تعليقه"، وكذا القاضي الحسين؛ كما لو ترك إمامه التشهد الأول والقنوت فأتى به. وفي "الذخائر" وجه: أنها لاتبطل. قال بعضهم: وينبغي أن يخرج على الخلاف في المفارقة، وقد تقدم الفرق. والله أعلم. قال: وهي أربع عشرة سجدة: [سجدة] في "الأعراف" [أي]: عند قوله: {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [206] وسجدة في "الرعد" أي: عند قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [15] وسجدة في "النحل"، أي عند قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [50] وسجدة في "سبحان"، أي: عند قوله: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء: 109] وسجدة في "مريم"، أي: عند قوله: {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58] وسجدتان في "الحج" أي: الأولى عند قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [18] والثانية عند قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [77] وسجدة في "الفرقان" أي: عند قوله: {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [60] وسجدة في "النمل" أي: عند قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [26] وسجدة في "الم تنزيل" [السجدة] أي: عند قوله: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [15] وسجدة في "حم السجدة" أي: عند قوله: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]، قاله ابن سريج، ولم يورد القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمتولي غيره، وهو الأصح في "التهذيب" و"الرافعي". وقيل: إنها عند قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]؛ لأن ذلك تمام الآية، وهذا ما صححه القاضي الحسين، ولم يورد الماوردي غيره. والمشهور: الأول؛ لأن الآية الثانية من تمام الكلام؛ فكان السجود عندها؛ كما في النحل في قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ...} الآية [49]، ولأن الشافعي أخذ في التسمية بقول قراء الكوفة وفقهاء المدينة، ولم يأخذ بقول فقهاء الكوفة وقراء المدينة، ومذهب قراء الكوفة هذا. قال القفال: ولأن محل السجود إن كان هذا الموض فذاك، وإن كان عند الآية

الأولى فلا يضر التأخير إلى هذا الموضع؛ لأنه قدر يسير. قال القاضي الحسين: وسبب هذا الاختلاف أن الشافعي لم ينص على موضع السجود، ونص على ما عداه. وسجدة في "النجم" أي: عند قوله: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [62] وسجدة في "إذا السماء انشقت" أي: عند قوله: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [21] وسجدة في "اقرأ" أي: عند قوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. والدليل على هذه السجدات- ما عدا السجدة الأخيرة في "الحج" وسجدات المفصل-الإجماع؛ كما قاله بعضهم، وفي السجدة الأخيرة من "الحج" ما أسلفناه من حديث عقبة بن عامر في أول الباب، وما سنذكره. قال أبو إسحاق: وقد أدركنا الناس منذ سبعين سنة يسجدون في "الحج" سجدتين، وهذا يدل على استفاضته من غير نكير، وهذا ذكره؛ لأن حديث عقبة في رجاله ابن لهيعة ومشرح بن هاعان، ولا يحتج بحديثهما.

وفي سجدات المفصل- وهي سجدة "النجم" و"الانشقاق" و"اقرأ" – ما رواه أبو داود وابن ماجه، عن عمرو بن العاص: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي سورة "الحج" سجدتان". وقد قال الشافعي في القديم: السجدات إحدى عشرة سجدة. وأسقطت سجدات المفصل؛ لما روي عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل لم يسجد. وعلى هذا قال الشافعي: وأحب أن أسجد في سورة "إذا السماء

انشقت" وفي سورة "اقرأ". والصحيح ما ذكره الشيخ، وهو الجديد؛ لأن إسناد خبر ابن عباس ليس بالقوي؛ لأن في رجاله قدامة، وهو لا يحتج بحديثه. وأيضاً فقد روي عن ابن عباس أنه- عليه السلام-: "قرأ "النجم" وسجد، وهي من المفصل" كما رواه مسلم، عن رواية ابن مسعود، [و] أنه سجد من كان معه. وروى مسلم أيضاً، عن أبي رافع قال: "صليت مع أبي هريرة العتمة؛ فقرأ: "إذا السماء انشقت ... " فسجد فيها؛ فقلت له: ما هذه السجدة؟ فقال: سجدتها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم [فلا أزال أسجدها حتى ألقاه]. وعن أبي هريرة قال: "سجدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم] في "إذا السماء انشقت" و"اقرأ باسم ربك الذي خلق"" أخرجه مسلم، وإسلام أبي هريرة متأخر؛ فإنه قدم "المدينة" في سنة سبع، مع

أن تركه السجود يحمل على بيان الجواز، وتركه-عليه السلام- السجود مرة في سورة "النجم"، قد بين أبو داود سببه [في سننه]. قال: وسجدة "ص" سجدة شكر ليست من عزائم السجود، أي: وإن كان العدد في الخبر الذي استدللنا به للجديد يتم بها، ووجهه ما رواه النسائي، عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في "ص" وقال: سجدها داو توبةً، ونسجدها شكراً"، وروى أبو داود، عن أبي سعيد الخدري قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر "ص" فلما بلغ السجدة نزل، فسجد، وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود-فقال-عليه السلام-:"إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود، فسجد وسجدوا". ومعنى "تشزنتم": أي: استعددتم.

وقد حكى عن ابن سريج وأبي إسحاق أنهما عداهما من عزائم السجود؛ لظاهر الخبر الأول، ولا حجة فيه؛ لأنه يجوز سجودها شكراً؛ كما نطق به الخبر الثاني. وعلى هذا قال:"فإن قرأها في الصلاة لم يسجد"؛ كما لا يسجد للشكر والنعمة في الصلاة، وهذا ما صححه الفوراني، وحكاه القاضي أبو الطيب عن أكثر الأصحاب. وقيل: يسجد شكراً؛ لأنها متعلقة بالتلاوة؛ فأشبهت عزائم السجود، وهذه الطريقة حكاها هكذا ابن الصباغ والفوراني والمتولي. وعلى هذين الوجهين يتخرج البطلان عند سجوده عمداً عالماً بأنها ليست من العزائم؛ فإن قلنا: لا يسجد، بطلت، وألا فلا. أما إذا قلنا بقول ابن سريج فله السجود، ولا تبطل صلاته وجهاً واحداً. وقال القفال والماوردي والروياني: إنه لا يسجد فيها قولاًواحداً، وإذا سجد هل تبطل صلاته أم لا؟ فيه وجهان، أصحهما في "الحاوي"؛ عدم البطلان، وادعى الروياني أن ظاهر المذهب مقابله، وهو الأصح في "الرافعي"، وعلى هذا إذا كان إمامه يعتقدها من عزائم السجود، وسجد-لا يتابعه؛ بل ينتظره حتى يرفع أو يفارقه، وإذا انتظره قائماً فهل يسجد للسهو؟ فيه وجهان في "التتمة". وقد أفهم قول الشيخ: "لم يسجد، وقيل: يسجد" أمرين: أحدهما: أن ما عداها من السجدات إذا قرأها في الصلاة سجد، وهو كذلك، ومنه يؤخذ أن قراءتها في الصلاة غير مكروهة، سرية كانت أو جهرية، للإمام أو المنفرد، وهو مذهبنا، خلافاً لمالك في الإمام. وحجتنا [عليه]: ما روى البخاري "أنه-عليه السلام-كان يقرأ [في] يوم الجمعة في صلاة الفجر "الم تنزيل ... " السجدة، و"هل أتى". والثاني: أن السجود المستحب يكون عقيب التلاوة، ومنه يؤخذ فرعان: أحدهما: أنه لو كان محدثاً حال التلاوة، أو غير محدث، فلم يسجد حتى

طال الزمان-لا يسجد من بعد، وعليه يدل قوله من بعد: "وحكم سجود التلاوة حكم صلاة النفل في [استقبال] القبلة وسائر الشروط"؛ إذ لو كانت حكم النفل في القضاء لم يقل: "وسائر الشروط"، ولكفاه أن يقول: حكم صلاة النفل. وبه صرح البندنيجيوالروياني والصيدلاني والفوراني؛ لأنها تعلقت بسبب؛ فإذا فات سقط، وهذا ما صدر به القاضي الحسين كلامه، [ثم] قال: ويحتمل أن يقال: يأتي به فإن الشافعي نص [على] أنه إذا سمع المؤذن وهو في الصلاة لا يجيبه، وإذا سلم أجابه، وهذا ما ذكره في "التهذيب". وقال في "الوسيط": إنها تفوت بطول الفصل، وفي قضائها قولان؛ كما في النوافل، حكاهما صاحب "التقريب"، وقال: ما لا يتقرب به ابتداء لا يقضي؛ كصلاة الخسو، والاستسقاء. قال الغزالي: وهذا منه إشارة إلى [أن] التقرب بسجدة واحدة من غير سبب جائز. وقال الإمام: إن صاحب "التقريب" روى ما قال الغزالي: إنه مشار إليه عن الأصحاب. وقال: إنه لم يره إلا له، وإن شيخه كان يكره ذلك ويشدد نكيره على من يفعله. قال الإمام: وهو الظاهر عندي، ولا جرم قال في "الوسيط": إنه الصحيح؛ فعلى هذا يبعد القضاء. وإذا قلنا بالقضاء، قال مجلي: فإذا قرأ آيات تقتضي السجود وهو غير متطهر، فإنه يتطهر، ويأتي بجميع السجدات، ولا تتداخل، وعزا ذلك إلى القاضي الحسين. قلت: وفيه نظر؛ فإنه لو قرأ آيات السجود [مرات كفاه عن الجميع سجدة واحدة، ولا يستحب له جمع آيات السجود] وقراءتها دفعة واحدة؛ لأجل السجود؛ قاله القاضي الحسين.

وقد حكى الإمام عن صاحب "التقريب" شيئاً واستغربه؛ فإنه قال الإمام: والمنفرد إذا سمع قارئاً يسجد فلا يسجد، وإذا سلم ففي القضاء ما ذكرناه. قال الإمام: وفيه نظر؛ فإن الظاهر أن ما جرى لم يكن مقتضياً للسجود، وإذا لم يجر ما يقتضي السجود أداء فالقضاء بعيد، ولكن صاحب "التقريب" يرى ذلك مقتضياً، ويرى الصلاة مانعة من الأداء، وينزل ذلك منزلة ما لو استمع الرجل وهو محدث؛ فإذا تطهر فإنه في القضاء يخرج عند الأصحاب على الترتيب المتقدم. الثاني: أنه لو كرر قراءة الآية في مجلس واحد مراراً سجد؛ لتجدد السبب، وهو ما ذكره القاضي الحسين والبغوي والمتولي. وحكى الغزالي والفوراني في ذلك وجهين، واختار البغوي السجود. قال الرافعي: وفيه وجه آخر: إن طال الفصل سجد، وإلا فلا يسجد. قال في "العدة": وعليه الفتوى؛ فالركعة الواحدة كالمجلس الواحد، والركعتان كالمجلسين. ولو قرأ الآية في الصلاة، ثم قرأها خارجها، والمجلس واحد-قال الرافعي: فمقتضى قياس الأصحاب طرد الخلاف. فرع: لوكان قد قرأ آية التلاوة في الصلاة؛ فهوى ليسجد، فلما بلغ حد الراكعين عن له ألا يسجد-قال القاضي الحسين: عليه أن يعود إلى القيام، ثم يركع؛ لأن هويه كان لأجل النفل، والركوع فرض. ولو قرأ آية السجدة، ووقع له ألا يسجد، ويركع، فلما هوى عن له أن يسجد للتلاوة، فإن كان قد انتهى إلى حد الراكعين-فليس له ذلك، وإلا فهو له. قال: ومن تجددت عنده نعمة ظاهرة، أي: كقدوم غائب، وحدوث ولد، وشفاء مريض، ونحو ذلك، أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة، أي: مثل: أن نجاه الله مما غلب على ظنه وقوعه فيه، وهو مما يؤذيه: كالهدم، والغرق، ونحو ذلك-استحب له أن يسجد؛ شكراً لله-تعالى-أي: في غير الصلاة؛ لما روى

أبو داود وابن المنذر بإسنادهما عن أبي بكرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم [كان] إذا جاءه أمر سرور، أو سر به-خر ساجداً؛ شكراً لله تعالى". وروى عب الرحمن بن عوف قال: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، فسجد وأطال، فسألته عن ذلك؛ فقال: إن جبريل -عليه السلام- أتاني؛ فبشرني أن من صلى علي [صلاة واحدة] صلى الله عليه عشراً؛ فسجدت لله شكراً".

ولأنه -عليه السلام- سجد في "ص" شكراً، ووجه الشكر فيه: أنها توبة من الله -تعالى- على نبيه داود، على نبينا وعليه السلام، وقد روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي -رضي الله نهم- فأبو بكر سجد عند [فتح اليمامة، وقتل مسيلمة، وعمر سجد عند فتح اليرموك، وعلي سجد عند] رؤية ذي الثديين قتيلاص بالنهروان؛ وقال: لو أعلم شيئاً أفضل منه لفعلته. وأما النعم الباطنة فلا يسجد لها؛ لأنها ملازمة له في كل أوان؛ [فلو سجد لها لاستغرق عمره بالسجود. قال الأصحاب:] ومما [يستحب له السجود] رؤية الفاسق المتظاهر بفسقه، والمبتلي بمرض -عافاه الله منه- روى أنه -عليه السلام- "رأى نغاشيّاً؛ فسجد لله"، والنغاشي قيل: إنه ناقص الخلقة، وقيل: هو مختلط العقل.

لكنه عند رؤية الفاسق يظهر له السجود؛ لكي ينزجر، وفي رؤية المريض يخفي سجوده عنه؛ كي لا يؤذيه بما لا قدرة له على دفعه. أما لو وجد تجدد النعمة، أو دفع النقمة، ونحوهما، وهو في الصلاة- فلا يسجد؛ فإن سجد بطلت صلاته وجهاً واحداً. قال: ومن سجد للتلاوة في الصلاة كبَّر للسجود، وللرفع منه؛ لأنه سجود في الصلاة؛ فاستحب فيه ذلك كسجود الصلاة، ولا يرفع يديه في هذا التكبير؛ كما لا يرفع يديه في التكبير للسجود على المنصوص. وعن ابن أبي هريرة أنه لا يكبر لهذا السجود ولا للرفع منه، حكاه عنه-هكذا-الشيخ أبو حامد وأبو الطيب وغيرهما، ورأيت فيما وقفت عليه من "الحاوي" أنه قال: يسجد من غير تكبير [ويرفع مكبراً، ورأيت في "تعليق" القاضي الحسين عنه: أنه لا يكبر] لرفع الرأس منه، وسكت عن التكبير للسجود، وقد غلط في قوله: "مطلقاً". ولا يحتاج في هذه السجدة إلى نية اتفاقاً؛ لأن [نية] الصلاة تنسحب عليها، قال القاضي الحسين- وتبعه في "التهذيب": فإذا رفع منها لا يجلس للاستراحة، بخلاف السجدة التي من قلب الصلاة. فرع: إذا كان سجوده في آخر سورة، كما في "الأعراف" ونحوها؛ فيجب عليه أن ينتصب بعد السجود ليركع، وهل يستحب له أن يقرأ شيئاً من سورة أخرى؟ قال في "الشامل"، وأبو الطيب: نعم. وحكى عن العجلي في الاستحباب رواية وجهين. قال: ومن سجد في غير الصلاة كبر للإحرام؛ لما ذكرناه من رواية أبي داود في أول الباب، قال عبد الرزاق: كان الثوري يعجبه هذا الحديث. قال أبو داود: وإعجابه به؛ لأنه كان يراه، ولأنه صلاة ذات سجود؛ فوجب [فيها] تكبيرة الإحرام؛ كسائر الصلوات. قال: "رافعاً يديه"؛ لأنه تكبيرة مشروع في ابتداء العبادة؛ فاستحب فيه رفع

اليدين؛ كما في الصالة. وفي "الوسيط" ما يقتضي أنه لا يرفع يديه فيها؛ لأنه قال بعد حكاية الأوجه فيما يشترط في حق الساجد في غير الصلاة، [وراء الشروط: أما المصلي فيكفيه سجدة، يستحب في حقه تكبيرة الهويّ، ولا يستحب رفع اليدين] [في غير الصلاة]. [وقال العراقيون: يستحب رفع اليد]؛ لأنه تكبيرة التحريم. فأشعر هذا من كلامه أن محل الخلاف في تكبيرة التحريم هل يرفع فيها اليد، أم لا؟ وقد أسقط الرافعي من نسخة "الوسيط" "غير"، فقال: أنه قال: ولا يستحب رفع اليد في الصلاة، وقال العراقيون .. إلى آخره، ثم قال: وهذا بدع حكماً وعلة، ولايكاد يوجد نقله لغيره، ولا ذكر له في كتبهم. ولا شك في أن المر كما قال لو كان المذكور في "الوسيط" كما قال بإسقاط لفظة "غير"، أما إذا اكنت ثابتة-كما رأيته في غير ما نسخة- فالتعليل ليس ببدع. وأما النقل عن العراقيين فصحيح، وما نقله عن غيرهم لم أر له ذكراً في الكتب، بل هي ساكتة عنه. واعلم أن [في] قول الشيخ: "للإحرام" دليلاً علىمرين: أحدهما: اشتراط النية؛ إذ لا إحرام بدونها، وهو مما لا خلاف فيه بين الأصحاب. والثاني: أنه يكون في حال استقراره قبل هويّه [إلى] السجود إما قائماً أو جالساً، وكلامه من بعد يدل عليه أيضاً.

قال القاضي الحسين: ويستحب-عندي-أن يقوم قائماً، ثم يكبر للافتتاح؛ ليحوز فضيلة القيام؛ لأن للقيام من الفضيلة ما ليس للقعود، وهذا ما حكى الإمام عن شيخه أنه كان يفعله، وقال: لم أر له أصلاً ولا ذكراً، ولم يورد في "التتمة" و"التهذيب" سواه. قال: ثم يكبر للسجود، ويكبر للرفع؛ كما في صلاة النفل، وهو في حال السجود من تخريج ابن سريج، وقال الرافعي: إنه من تخريج أبي إسحاق. واتفقا على أنه لا يرفع فيهما اليد؛ لما سلف. هكذا قاله أبو الطيب، وتبعه ابن الصباغ. وقال الروياني: إن الشافعي نص عليه في البويطي. ومذهب ابن أبي هريرة جار هاهنا أيضاً؛ فلا يكبر للسجود ولا للرفع منه،

صرح به أبو الطيب عنه، وعن أبي جعفر الترمذي أنه يكبر عند السجود لا غير، أي: ويقرن [به] النية. قال القاضي أبو الطيب: وذلك مذهب له لم ينقله غيره. وحكى الإمام عنه مع هذا أنه كره أن يأتي بتكبيرة فردة للإحرام؛ لأن في ذلك تشبيهاً لها بالصلاة، ولعل هذا مستند القاضي أبي الطيب في قوله: "ولم يقل به أحد من الأصحاب"؛ فإن الأصحاب مطبقون على أن ذلك وإن لم يجب فيستحب، وقد حكى الإمام وجهاً أبعد منه: أنه لا يشترط في ذلك تكبيرولا تسليم؛ بل يكفي الإتيان بصورة السجود مع استجماع الشراطئ من الطهارة ونحوها. قال: وهذا لم يذكر شيخي غيره؛ لأنه لو فرض [فيه تحريم وتحليل] لكان صلاة، والسجدة الفردة لا يجوز أن تكون صلاة. قلت: وهذا الوجه قد صححه الغزالي، وهو ما نص عليه الشافعي في كتاب استقبال القبلة، وعليه ينطبق قول البغوي: إن الشافعي قال: وأقله أن يضع جبهته بلا شروع ولا سلام.

قال الأصحاب: ويستحب له أن يقول في سجوده: "اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عنّي بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود"؛ لأن ابن عباس قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رأيتني وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة، فسجدت فسجدت الشجرة؛ فسمعتها [وهي] تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً .. إلى آخره، قال: فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة، ثم سجد؛ فسمعته [يقول] مثل ما أخبر الرجل عن قول الشجرة" رواه الترمذي، وقال: حسن غريب. وصحح رواية عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن [بالليل]: سجدي وجهي للذي خلقه، وصوره، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته". ولا جرم استحب في "المهذب" أن يقول ذلك في سجوده، وأنه لو قال الأول كان حسناً. ولو قال [مثل] ما يقول في سجود الصلاة جاز. قاله الغزالي وغيره، وقال القاضي الحسين: إنه مستحب، وهو في سورة "الم تنزيل" أكثر استحباباً؛ لقوله

تعالى: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15]. قال: ويستحب إذا سجد في "الفرقان" أن يقول: سجدت للرحمن، وآمنت بالرحمن؛ فاغفر لي يا رحمن. وكذا ذكره في "التتمة"، وقال: إن الخبر ورد به. قال: وقيل: يتشهد ويسلم؛ لأنها صلاة ذات إحرام؛ فوجب أن يكون فيها تشهد وسلام؛ كسائر الصلوات، وهذا ما حكاه أبو علي الطبريعن بعض الأصحاب، وقال القاضي الحسين: إنه الذي حكاه البويطي. وهو منتقضبصلاة الجنازة؛ فإنها صلاة ذات إحرام وسلام، ولاتشهد فيها. وقيل: يسلم ولا يتشه؛ كما في صلاة الجنازة، ولأن التشهد يقابل القراءة، والسلام يقابل تكبيرة الإحرام؛ فلما لم يقرأ لم يتشهد؛ ولما كبر للإحرام سلم، وهذا ما نص عليه في "المسائل المنثورة"؛ كما قال أبو الطيب، وادعى أنه أظهر القولين، واختاره القفال وصاحب "المرشد"، وادعى القاضي الحسين في آخر "باب سجود السهو": أنه ظاهر المذهب، وهنا: أنه الأصح، وكلام الشيخ يشير إلى أنه من تخريج الأصحاب، وكذا قال الماوردي، وهومعزيّ في "تلخيص" الروياني إلى ابن سريج وأبي إسحاق. وعلى هذا هل يستحب التشهد؟ فيه وجهان، حكاه الإمام. قال: والمنصوص، أي: في "مختصر" البويطي-كما قال الراقيون، وهم أقعد بالنفل-: أنه لا يتشهد ولا يسلم؛ كما لو سجد في الصلاة، وهذا ما عليه جماعة الأصحاب؛ كما قال أبو الطيب، وحينئذ يكون رفع الرأس من السجود نهايته، والقائلون بالوجه قبله قالوا: مراد الشافعي أنه لا يجمع بينهما. قال: وحكم سجود التلاوة، أي: والشكر، حكم صلاة النفل في [استقبال] القبلة، وسائر الشروط؛ لأنها في الحقيقة صلاة، وهذا القول معزيّ في "تلخيص" الوياني إلى ابن سريج وأبي إسحاق. ولا يقوم الركوع عند وجوب سبب السجود مقامه؛ كما لا يقوم مقامه

في سجود السهو. [و] قال في "الكافي": ولو أقام التصدق أو صلاة ركعتين مقام سجود الشكر كان حسناً. وقد أفهم قول الشيخ جواز فعل السجود على الراحلة [إذا كان في الصلاة] وفي حال المشي في السفر، وبه صرح ابن الصباغ والغزالي في حال كونه على الراحلة إذا كان في الصلاة، وكذا اقتضاه إطلاق القاضي الحسين وأبي الطيب وغيرهما يما إذا لم يكن في صلاة أيضاً؛ وهو وجه حكاه الغزالي تبعاً لإمامه، والفوراني. وقد يوجه بما رواه أبو داو عن ابن عمر قال: "قرأ النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح سجدة؛ فسجد [وسجد] الناس كلهم-منهم الراكب والساجد في الأرض، حتى إن الراكب ليسجد على يده". وإذا جاز على الراحلة جاز بالإيماء أيضاً، وبه صرح البندنيجي والقاضي الحسين في آخر باب سجود السهو، ولم يحك غيره. وقد حكى الإمام والفوراني-وتبعهما الغزالي-وجهاً آخر: أنه لا يجوز على الراحلة؛ لأن أظهر أركانها إلصاق الجبهة بالأرض؛ كما أن معظم أركان صلاة الجنازة القيام، وهي لا تجوز على الراحلة على الأظهر. قال الرافعي: والأصح أنه يكفي الإيماء. والفرق بينه وبين صلاة الجنازة: أنه يندر وجود الجنازة على الراحلة، ولا كذلك التلاوة، وأيضاً: فلمراعاة حق الميت. والخلاف في هذه الحالة مشبه بصلاة النفل بالإيماء مع القدرة على القيام. وقد أفهم ما ذكرناه من علة وجه المنع: أنه لو كان على الراحلة فيما يمكنه أن

يضع جبهته عليه، جاز وجهاً واحداً، وبه صرح الأصحاب. وأما إذا كان القارئ ماشياً فهو في الاستقبال ووضع الجبهة على الأرض كالمتنفل، صرح به ابن الصباغ أيضاً. فرع نختم به الباب: قال المتولي: جرت عادة بعض الناس بالسجود بعد الفراغ من الصلاة يدعو فيه، وتلك سجدة لا يعرف لها أصل، ولم تنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأولى أن يدعو بعد الفراغ؛ كما وردت به الأخبار، والله أعلم.

باب ما يفسد الصلاة وما لا يفسدها

باب ما يفسد الصلاة وما لا يفسدها هذه الترجمة مسوقة؛ لبيان ما حُمِلَ من المناهي على الفساد، وما حمل منها على الكراهة دون الفساد، أو لبيان ما يفسد، وما لا يفسد مع مشابهته لما يفسد، وألا فما لا يفسد الصلاة لا ينحصر من حيث الصورة، وإن حصره بيان ماي فسد. قال: إذا أحدث في صلاته بطلت صلاته؛ لقوله-عليه السلام-:"إذا فسا أحدكم في صلاته فلينصرف وليتوضأ، وليعد صلاته" رواه أبو داود [و] قال الترمذي: وهو حسن. وهو إجماع، ولا فرق في ذلك بين أن يفعله قصداً أو سهواً، ومن هنا يظهر لك أن ما يقع في بعض النسخ من تقييد البطلان بالحدث عامداً لا صحة له؛ بل الصحيح ما ذكرناه، وهو المضبوط عن نسخة عليها خط المصنف، وكذا لا فرق بين أن يصدر ذلك في وقت السلام أو قبله؛ لما تقدم من دليل اشتراط السلام. قال: "وإن سبقه الحدث ففيه قولان: أحدهما: لا تبطل؛ فيتوضأ، ويبني

على صلاته"؛ لقوله عليه السلام: "من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف، وليتوضأ، وليبن على صلاته، ما لم يتكلم". قال الإمام: وهذا الحديث مدون في الصحاح، عن رواية ابن أبي مليكة، عن عائشة، وليس المراد ما إذا فعل ذلك عامداً بالإجماع؛ فتعين أن يكون السبق مراداً، ولأنه حدث حصل في صلاته بغير فعله؛ فوجب ألا يبطلها قياساً على حدث المستحاضة وسلسل البول، وهذا ما نص عليه في القديم، قال الماوردي في "باب صلاة المسافر": وفي "الإملاء" أيضاً. وقال البندنيجي هنا: إنه في "الإملاء".

ولا فرق على هذا بين الحدث الأصغر والأكبر-ويتصور بأن ينام في الصلاة؛ فيجنب-ولا بين أن يستقبل القبلة في حال مضيّه إلى الطهارة أو يستدبرها؛ إذا كان لا يمكنه إلا ذلك. وله يشترط قرب الفصل بين حدثه وطهارته أم لا؟ الذي أورده الماوردي: نعم، والذي أورده الإمام: أنه لا يشترط، حتى لو كان بينهما فرسخ لم يضر، ولا يجب عليه أن يخرج في مشيته عن مألوف عادته من عدو ويدار إلى رفع الحدث، ولكنه يقتص، ويجوز له استقاء الماء من البئر؛ لأنه من مصلحة الصلاة. قال: والثاني: أنها تبطل؛ لما روى أبو داو بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قاء أحدكم في صلاته فلينصرف، وليتوضأ، وليعد صلاته". ولأنه حدث في الصلاة يمنعه من المضي فيها؛ فوجب أن يمنعه من البناء عليها، أصله: حدث العامد، وعكسه: سلس البول والاستحاضة. والحديث الأول، فقد قال الشيخ أبو حامد: إنه مرسل؛ لأنه يرويه ابن جريج، عن ابن أبي مليكة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن أسنده- وهو إسماعيل بن عياش عن ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم -فهو سيء الحفظ، كثير الغلط فيما يرويه عن غير الشاميين. وابن أبي مليكة ليسمنهم، ولو سلم من ذلك كله لكان قوله-عليه السلام-: "وبنى علىصلاته" [محتملاً لأمرين]: أحدهما: أن معنى البناء: الاستئناف؛ كما تقول العرب: بنى الرجل داره، إذا استأنفها. والثاني: أنه محمول على مسافر أحرم بالصلاة ينوي الإتمام، ثم أحدث؛ فعليه البناء على حكم صلاته في وجوب الإتمام. فيحمل على أحدهما بدليل ما ذكرناه، وهذا هو الجديد، والصحيح بالاتفاق،

بل ادعى الإمام هاهنا أن القول القديم ليس معدوداً من المذهب؛ فإن الشافعي [بما] نص عليه في الجديد على جزم رجع عما صار إليه في القديم، ولكن أئمة المذهب يعتادون توجيه الأقوال القديمة على أقصى الإمكان. وماقاله فيه منازعة من وجهين: أحدهما: [أنا حكينا القول] الأول عن "الإملاء" أيضاً، وهو-كما قال الرافعي في غير ما موضع-معدود من الكتب الجديدة. والثاني: أن الأصحاب مختلفون في أن الشافعي إذا نص في القديم على شيء وفي الجديد [على] خلافه-هل يكون رجوعاً عن القديم كما لو صرح به، أم لا؟ وقد حكينا ذلك عن رواية الصيدلاني والقاضي الحسين، في باب صفة الأئمة، عند الكلام في الاقتداء بالأمي. ثم إذا قلنا بالجديد فلا تفريع. وإن قلنا بالقديم فعليه فروع: الأول: إخراج باقي الحدث عمداً هل يبطلها؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ كما لو فعل ذلك ابتداء، وهذا ماصدر به الإمام كلامه. والثاني: لا، وهو ما حكاه القاضي الحسين، عن الشافعي، ولم يورد ابن الصباغ والشيخ في "المهذب" والبغوي غيره. قال ابن الصباغ وغيره: واختلف أصحابنا في تعليله: فقيل: لأن الحدث لا يؤثر بعد نقض الطهارة. قال: وهذا يلزمه أن يقول: إذا أحدث حدثاً آخر: لا يبطل. قال بعضهم: ولا قائل به. قلت: بل قيل به، وبه صرح صاحب "البيان"، وادعى المتولي أنه الصحيح من

المذهب، ولفظ البندنيجي: أن الشافعي قال في القديم: لو خرج للوضوء، فحدث عامداص غير الأول-لم تبطل صلاته؛ لأنه حدث يرد على حدث؛ فلا يؤثر في الأول، ولايزداد. وقيل: لأنه يحتاج إلى إخراج بقيته، وهو حدث واحد؛ فكان حكم آخر حكم أوله. الثاني: هل له أن يعود بعد طهارته إلى موضع صلاته، [أو يتمها حيث أمكنه بعد الطهارة؟ قال في "التتمة": إن كان مأموماً، والإمام -بعد- في الصلاة- كان عليه أن يعود إلى موضع صلاته،] إلا أن ينوي مفارقته، وإن كان منفرداً، [أو إماماً]، أو مأموماً علم أنه لا يدرك الإمام في الصلاة-فلا يجوز له العود؛ فلو عاد، بطلت، إلا أن يكون بينه وبين موضع الصلاة قدر خطوتين؛ فلا تبطل. وفي "الرافعي": أن في "التتمة" أن الإمام إذا لم يستخلف كان له العود، وهذا أشار إليه المتولي عند الكلام في مسألة الاستخلاف. الثالث: يجب عليه أن يسلك أقرب الطرق إلى موضع الطهارة، فلو كان للمسجد بابان، أحدهما أقرب؛ فسلك الأبعد- بطلت صلاته؛ قاله القاضي الحسين. الرابع: إذا تطهر هل يعود إلى الركن الذي أحدث فيه، أو إلى ما بعده؟ حكى الرافعي عن الصيدلاني أنه قال: إن سبقه في الركوع فيعود إلى الركوع، لا يجزئه غيره، وهو ما حكاه الإمام عن أبي حنيفة، ثم قال: وهذا فيه تفصيل عندي على القديم، فأقول: إن سبق الحدث في الركوع مثلاً قبل حصول الطمأنينة عاد إليه، وإن جرى بعدها ففيالعود احتمال، والظاهر أنه لا يعود؛ فإن موجب هذا القول أن الحدث لا يبطل ما مضى. وهذا ما أورده في "الوسيط"، والذي يظهر قول الصيدلاني؛ فإن الرفع من الركوع جزء من الصلاة، وإن لم يكن مقصوداً؛ فيشترط أن يكون على طهارة، ولم توجد.

ثم الكلام في هذا التفات على ما إذا قدر المريض على القيام في أثناء الصلاة، وستعرف ما ذكرناه عن الإمام فيه. الخامس-وهو كالأجنبي-: إذا صلى بطهارة المسح، وظهرت الرّجل في أثناء الصلاة بسبب تقطعه-فهل يلتحق بسبق الحدث، أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لتقصيره بلبس خف خلق؛ فشابه ما لو انقضت المدة وهو فيها؛ فإنها تبطل قولاً واحداً، ولا يتخرج على سبق الحدث، قال الرافعي: وعلىقياس هذا ينبغي أن يقال: لو شرع في الصلاة على مدافعة الأخبثين، وهو يعلم أنه لا يبقى له قوة التماسك في أثنائها، ووقع ما علمه-فتبطل-لا محالة-صلاته، ولا يتخرج على القولين. والثاني: نعم؛ لان التقصير لا يظهر فيه. قال الرافعي: وهذا أظهر. قال: وإن لاقى نجاسة غير معفو عنها بطلت صلاته؛ كما لو تعمد الحدث. ولا فرق في ذلك بينأن ينسى أنه في الصلاة، أو عرف ذلك على القول الجديد. أما إذا قلنا بالقديم: إن اجتناب النجاسة من قبيل المناهي؛ فإذا نسي ذلك لم تبطل، ولو لاقى نجاسة معفواً عنها، مثل: أن قتل قملة ونحوها لم تبطل صلاته؛ لأن دمها معفو عنه، قاله البندنيجي في باب العمل في الصلاة. قال: وإن وقعت عليه نجاسة يابسة؛ فنحاها في الحال-لم تبطل صلاته؛ لتعذر الاحتراز عن ذلك، مع أنه لا تقصير منه، والرفع في الحال، وبهذا فارق سبق الحدث؛ حيث كان الجديد فيه البطلان؛ لأن زمن الطهارة يطول. فإن قلت: لو جرى سبق الحدث وهو في ماء كثير؛ فانغمر فيه [وهو] على قرب من الزمان-فقد شابه هذه الصورة؛ فينبغي أن يجزم فيها بالبناء. قيل: في جوابه نظر الشرع إلى الطهارة من الحدث آكد من الطهارة من الخبث؛ بدليل العفو عن اليسير من الدماء وما لا يدركه الطرف من النجاسات. وصورة التنحية التي لا تقدح في الصلاة: أن ينفض ثوبه؛ فتسقط. قاله في

"المهذب" وغيره. ولا يجوز أن ينحيها بيده أو كمّه؛ لأنه يكون حاملاً لنجاسة قصداً، وذلك مبطل؛ كما سلف. وفي "تعليق" القاضي الحسين، عند الكلام في "ستر العورة": أنه إذا كانت النجاسة يابسة، ووقعت على مسجده-فإن نحاها وسجد، جاز، ولو سترها بثوب آخر، جاز، ولو نحاها، بكمه تبطل، ولو أخذ قدراص من الأرض نحاها به عن مسجده فوجهان، ولوأخذ طرفاً من مسجده، وزعزعه حتى سقط؛ فالظاهر أنه لا تبطل صلاته. أما إذا كانت النجاسة رطبة، واحتاج في إزالتها إلى مدة- فالكلام فيها كما سبق في الحدث؛ قاله الماوردي. قال: وكذا الحكم فيما لو خرجت من بدنه نجاسة مثل قيء، أو رعاف، أو دم خراج حصل على ظاهر البدن- فعلى قوله القديم: يغسل النجاسة، ويبني على صلاته [ما لم يتطاول] الفصل، وعلى الجديد: يستأنف، ولو ثار دم جرحه فلم يصب شيئاًمن بدنه، مضى على صلاته في القولين معاً، قال في "التتمة": لأن المنفصل منه غير مضاف إليه. قال الرافعي: ولعل هذا فيما [إذا] لم يمكن غسل موض الانفتاق، أو كان ما أصابه قليلاً؛ فإن القليل من الدم معفو عنه، وألا فقد تنجس [ذلك] القدر من الظاهر؛ فيجب غسله. قال: وإن كَشَفَ عورته، بطلت صلاته، هكذا ضبط عن نسخة المصنف. ووجهه: أن الستر شرط فيها، وقد زال بفعله؛ فشابه الحدث. قال: وإن كشفها الريح لم تبطل، أي: إن أعاد السترة عن قرب؛ كام لو وقعت عليه نجاسة؛ فنحاها في الحال، وكما لو غصبت منه فردها في الحال، وهكذا الحكم فيما لو انحل الإزار، وأعاده على قرب. ولو قيل: إنها تبطل؛ لأنه ينسب في انحلاله إلى تريط-لم يبعد، فلو

طال الزمان في الرد بطلت على الجديد، وحد الطول -كما قاله الإمام-: أن يكون بينهما مكث محسوس، وهذه المسألة التي ذكرها الشيخ مما استأنس بها الغزالي للقول القديم في سبق الحدث، وسببه: أن الإمام قال: القياس تنزيلها على قولي سبق الحدث، ولو كان ذلك محطوطاً عنه؛ لقرب الزمان-لكان إذا تعمد كشف الإزار ورده على القرب لا تبطل صلاته، وقد قالوا بالبطلان. وغيره فرق بينهما بأن نظر الشرع إلى الطهارة آكد؛ بدليل: أنه يوجب الإعادة عند الصلاة بفقدها على الصحيح، ولا كذلك عند فقد السترة على الصحيح؛ فاقتضى ما بينهما من التفاوت اختلافهما في الحكم، وإن اتفقا في الشرطية. واستؤنس كذلك بأن استقبال القبلة شرط في [صحة] الصلاة؛ كالطهارة، ولو تيقن الخطأ فيها كان في الإعادة قولان، ولا كذلك إذا تيقن أنه صلى بغير طهارة. قال: وإن قطع النية، أو عزم على قطعها، أو شك هل يقطعها، أو ترك فرضاً من فروضها-بطلت صلاته. هذا الفصل ينظم أربع صور: الأولى: إذا قطع النية، مثل: أن نوى الخروج من الصلاة بطلت؛ لأنها إما شرط في جميع الصلاة أو ركن؛ لقوله-عليه السلام-:"لا عمل إلا بنية"، واكتفى الشرع بالاستمرار الحكمي؛ لعسر الوفاء باستمرار حقيقة النية، وقد زال بالقطع، وهذا مما لا خلاف فيه. والفرق بين ذلك وبين ما إذا نوى الخروج من الصوم؛ حيث لا يبطل على الصحيح: أن الصوم عبارة عن الإمساك عن المفطرات؛ فهو من باب التروك؛ فضعف تأثير النية في إبطاله، بخلاف الصلاة؛ فإنها مخصوصة بوجوه الربط، ولا

يتخللها ما ليس منها إلا على قدر الحاجة، ثم هي ذات أفعال مختلفة، والرابط بينها النية؛ فإذا زالت زال ما ينظمها، وخالف ما نحن فيه أيضاً ما لو نوى وهو في أثناء الفاتحة قطعها، واستمر على القراءة: لا تبطل؛ لأن النية لا تشطر في القراءة؛ فلا يؤثر قطعها فيها. [فرع]: قال: لو نقل النية من عبادة إلى عبادةهل تنزل منزلة قطع النية، أو تنقلب نفلاً؟ فيه خلاف مشهور، وانقلابها نفلاً [فيما إذا نقل نية الفرض إلى النفل أولى من انقلابها نفلاص وقد نقلها] من فرض إلى فرض، واستهشد القاضي الحسين على الإطلاق في كتاب الجمعة بثلاثة نصوص: أحدها: لو [أحرم بالحج في غير أشهره، قال: انعقد إحرامه عمرة؛ كما لو] أحرم بالظهر قبل الزوال ينعقد نفلاً. والثاني: [أن] مسبوقاً لو كبر هاوياً إلى الركوع؛ ليدرك الإمام فيه- قال: تنعقد صلاته نفلاً. والثالث: لو أحرم بالصلاة منفرداً، ثم حضر القوم؛ ليقيموا الجماعة- قال: يسلم من ركعتين، وتكونان له نافلة. الثانية: إذا عزم علىقطعها، مثل: أن جزم وهو في الأولى أنه يقطعها] في الثانية، بطلت صلاته في الحال؛ لقطعه موجب النية؛ إذ موجبها الاستمرار إلى منتهى الصلاة. فإن قيل: قد حكى [عن] المتولي أنه لو عزم في أثناء صلاته على أن يفعل فعلاً مخالفاً للصلاحة، أو يتكلم عامداً- لم تبطل صلاته في الحال، وهو نظير العزم على قطع النية؛ فهلا سويتم بينهما؟ قلنا: يمكن أن يكون في كل واحدة في المسألتين قول مخرج من

الأخرى، وإن لم يصرح الأصحاب بالتخريج، لكن في كلامهم ما يدل على الحكم؛ وذلك أن القاضي أبا الطيب قال في "صلاة الخوف"-كما حكاه نه بعضهم-: ثم إن في [تصحيح صلاة الطائفة الأولى] والثانية، فيما إذا كانت الصلاة رباعية، وفرقهم أربع فرق، وقلنا: تبطل صلاة الإمام-ما يعرفك أن الإنسان إذا نوى بعدما أحرم بالصلاة أن يفعل ما يبطل الركعة الثانية والرابعة، لا تبطل صلاته في الحال، وأن من قال ببطلانها في الحال من الأصحاب فقد أخطأ. وهذا منه تصريح بالبطلان في الصورة المحكية عن المتولي، ويشبه أن يكون قد خرج من مسألتنا. وقد حكى الإمام ان في كلام الشيخ أبي علي في "شرح التلخيص" ما يدل علىن من علق الخروج بانتصاف الصلاة أو مضى ركعة مثلاً- أن الصلاة لا تبطل في الحال، ولو رفض المصلي ذلك قبل الانتهاء إلى الغاية التي ضربها، فتصح صلاته. وهذا تصريح في مسألتنا بعدم البطلان في الحال، فيشبه أن يكون قدخرج من الصورة الأخرى. والصحيح - عند الجمهور-: أن الصلاة تبطل بالعزم على قطع النية دون العزم على فعل ما يبطل. والفرق: أن النية لما كان سحبها على جميع أفعال الصلاة شرطاً، فالعزم على قطعها يخل بما يقع بعده؛ لفوات الجزم في الحال، والفعل المناقض لا يتحقق قبل حصوله، والله أعلم. الثالثة: إذا شك هل يقطعها، مثل: أن تردد في أنه هل يخرج منها أو يستمر- بطلت؛ لأن الاستمرار الذي اكتفى به الشرع في الدوام زال بهذا التردد؛ فبطلت، وشبه ذلك بالإيمان؛ فإنا وإن لم نشترط استمراره على وجه الذكر والجزم، فلا بد من اشتراط ألا يدركه شك وتردد. قال الإمام: وليس من الشك عرض التردد بالبال كما يجري للموسوس؛ فإن

الإنسان قد يعرض بذهنه تصور الشك وما يترتب [عليه] [على] تقدير الجواز، وذلكمن الفكر والهواجس، ولو أبطل الصلاة لما سلمت صلاة مفكر. قال الإمام: والحكم ببطلان الصلاة عند التردد في قطعها لم أر فيه خلافاً للأئمة. نعم، لو علق نية الخروج علىمر يجوز أن يفرض طرآنه ويجوز ألا يفرض، مثل: أن ينوي الخروج لو دخل فلان، فهل نقضي ببطلان الصلاة أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: أنها لا تبطل؛ فإنه لا يمتنع ألا يدخل من ذكره، وتتم الصلاة على مقتضى ما أحدثه من التردد، وهذا غير سديد. والأقيس والأصح: البطلان؛ كما لو نوى الخروج عن اسلام، وكما لو شرع في الصلاة علىهذهالنية لا تنعقد صلاته بلا خلاف؛ كذا قاله الرافعي، وما قاله لا يسلم عن نزاع؛ فإن القاضي الحسين قال- بعد حكاية الخلاف في الصورة الأولى-: إن هذه الصورة أولى بعدم الانعقاد؛ لأن المضاد قَرَنَهُ بالعقد. ويؤيده أن الإمام حكى في "باب الاعتكاف": أنه لو نذر صوماً، ثم شرع فيه وفاء بالنذر، وشرط أن يتحلل منه إن عرض عارض عيّنه مما يعد عرضاً، [وإن لم يكن] في عينه مُبيحاً [للخروج]-قال العراقيون: ينعقد الصوم، ويثبت التحلل على شرط القضاء؛ لأجل الاستثناء، وعلى هذا لا تفريع، وعلى الأول إذا وجدت الصفة التي علق الخروج عليها، وكان ذاهلاً عما قدمه من تعليق النية-قال الإمام: فهذا فيه احتمال، وحفظي عن الإمام: أن الصالة لا تبطل. وفي كلام الشيخ أبي علي أنا نقضي بالبطلان. وهذا ما حكاه الرافعي عن الأكثرين، وادعى القاضي الحسين أنه لا خلاف فيه. قال الإمام: والذي أراه أنه إن صح هذا أن يقال: إنا نتبين عند وجود الصفة أن

الصلاة بطلت من وقت تغير النية؛ فإنا يجريان الصفة نتبين أن ما جرى من التغيير خالف مقتضى النية على كل ما وقع. أما إذا وجدت الصفة، وهو ذاكر للتعليق، قال الرافعي: بطلت بلا خلاف. الرابعة: إذا ترك فرضاً من فروضها، أي: من فروض الصلاة -بطلت؛ لقوله –عليه السلام- للمسيء في صلاته-حيث لم يطمئن: "ارجع فصلّ؛ فإنك لم تصلّ". وإذا كانذلك في فرض هو صفة لفرض آخر، ففي الفرض الذي ليس بصفة أولى. فإن قلت: الصلاة لم يتقدم لها هاهنا ذكر حتى يعود الضمير في قوله: "من فروضها" إليها، بل المتقدم ذكره إنما هو النية؛ فلم لا أعدته إليها، ويكون التقدير: أو شك هل ترك فرضاً من فروض النية، مثل: اقترانها بالتكبير، وتعيين الصلاة، وكونها فرضاً على رأي، ونحوذلك، وحينئذ تكون حقيقة ذلك أنه شك هل نوى أو لا؟ قلت: لأن الشيخ أطلق القول بالبطلان فيها، ولو كان مراده ما ذكره السائل لم يطلقه؛ لأن الأصحاب فصلوا، فقالوا: لو شك [هل نوى مع تكبيرة الإحرام أو قبلها أو بعدها؟ أو شك] هل قطع النية أم لا؟ فإن زال الشك والتردد على قرب، وظهر أنه نوى في محل النية [قبل مضي ركن في حال الشك] والتردد-استمرت الصلاة على الصحة، وهذا بخلاف ما إذا شك المسافر هل نوى القصر، ثمظهر أنه نواه على قرب؛ فنه يلزمه الإتمام. وقد ذكرنا الفرق بينهما ثَمَّ. وإن دام الشك في النية حتى مضى ركن بطلت، ولو بان عدم القطع. قال الإمام: لأن الركن الذي قام به التردد لا يعتد به؛ فيأتي ببدله؛ فكأنه زاد في صلاته ركناً في غير أوانه، ولو فعل هذا لحكمنا بالبطلان، كما ستعرفه؛ فكذا هنا، وهو وإن كان معذوراً في الإعادة فهو غير معذور في الإنشاء على الشك؛ فإنه كان يجب عليه التوقف.

وهذا التعليل من الإمام يقتضي أن محل الكلام فيما إذا زاد ركناً فعلياً؛ كما إذا حصل التردد وهو قائم فركع، ورفع، ثم تذكر، ويفهم أن الذكر لو كان قولياً كالقراءة لم تبطل على المنصوص، دون القول المخرج الذي سنذكره، وبذلك صرح القاضي الحسين، لكن الماوردي جزم القول بالتسوية بين القراءة والركوع، وهو ما حكاه ابن الصباغ والبغوي وغيرهما، عن الشافعي، وأنه ألحق بهما الرفع من الركوع أيضاً، وقياسه: أن يلحق به ما إذا تشهد مع الشك، وقد قال في "التهذيب": إن الشيخ الحقه بالفاتحة. ثم إذا قلنا بالبطلان عند قراءتها في الشك، فلو جرى بعضها مع التردد، ثم زال، وأعادما جرى في حال الشك-لم تبطل، قاله الإمام، وجزم به. وقال فيما إذا طرأ الشك في الركوع، ثم زال، وهو في بقيته، واستمر صاحب الواقعة بعد الذكر ساعة راكعاً، ثم رفع: إن الأئمة قطعوا بعدم البطلان؛ لأن الركو الممتد واحد في الصورة؛ فلا يجعل بعضه كركوع منفرد زائد غير محسوب. ولو لم يمض في حال الشك والتردد ركن قولي ولا فعلي، لكن طال الزمان-ففي البطلان وجهان حكاهما الماوردي والإمام: أظهرهما-في "الرافعي"-: البطلان. ومقابله: هو ظاهر النص في "الأم"،ولم يحك في "المهذب" غيره، وعليه أورد ابن الصباغ سؤالاً، فقال: فإن قيل: هو في هذه الحالة متلبس بالصلاة، وقد مضى جزء منها مع الشك؛ فينبغي أن تبطل جزماً قبل ذلك الجزء، [و] لو خلت منه الصلاة لجاز؛ فعفى عن الشك فيه، وبهذا خالف الأفعال. قلت: وفيه نظر؛ لأن خلو الصلاة عنه لا يقطع الموالاة، وكونه بغير نية يقطع ذلك. ثم الوجهان مصوران في "النهاية" بما إذا كان الشك قد طرأ في التشهد الأول، والقاضي الحسين حكاهما [فيما] إذا كان ذلك في القيام، وبناهما على أن السكوت الطويل في القيام هل يبطل الصلاة، أم لا؟

فإن قلنا: يبطل، فهاهنا أولى، وألا فوجهان. والفرق: أن هناك لم يكن له غرض ومقصود [في السكوت]؛ فأولى أن تبطل [به صلاته]، بخلاف ما نحن فيه، قال: و [هكذا] لوحصل الشك في أثناء الفاتحة، سكت سكوتاً طويلاً-كان فيه الوجهان، فإن قلنا: لا تبطل [الصلاة]، يلزمه استئناف الفاتحة. قال الماوردي: وما ذكرناه عند مضي الركن وعدمه في حال الشك، يجري فيما لو شك هل نوى ظهراً أو عصراً [ثم انكشف] الحال. وهذا ما اختاره القاضي الحسين بعد أن حكى عن القفال أنه قال: تبطل صلاته بكل حال؛ لأن ما مضى في حال الشك يكون نفلاً؛ صار كما لو قلب الفرض نفلاص، ولو قلبه نفلاً يبطل فرضه؛ فهاهنا كذلك، وإن لم يغير النية فقد شك في وجودها؛ فحل محل تغير النية إلى فرض آخر، وليس كما قلنا: إذا شك في أصل النية، فتذكر من بعد؛ لأن هاهنا شك في صفتها دون أصلها، وقد عكس في "البيان" هذه الطريقة، قال: لو شك هل عين النية للفرض أم لا؟ ثم ذكر أنه عينها-ففيه التفصيل السابق، وإن كان شكه في أصل النية؛ فوجهان: أحدهما: أن الحكم كذلك. والثاني: تبطل الصلاة بنفس الشك؛ لأنه لم يتيقن الدخول في الصلاة. وإذا عرفت ما قاله الأصحاب في ذلك عرفت أن الشيخ لم يرده، وتعين عود الضمير إلى الصلاة؛ لأنها مذكورة في التبويب، والله أعلم. قال: وإن ترك القراءة ناسياً ففيه قولان، أصحهما: أنها تبطل؛ لأنها ركن واجب في الصلاة؛ فلم تسقط بالنسيان؛ كالركوع والسجود، وهذا هو الجديد. ومقابله، وهوالقديم: أنها لا تبطل؛ لما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "صلى بنا عمر- رضي الله عنه-المغرب، فترك القراءة، فلما فرغ قيل له: تركت القراءة؛ فقال: كيف كان الركو والسجود؟ قالوا: حسناً. فلا بأس إذن".

قال الشافعي: وهذا من الأمر العام، ولأن النسيان عذر لا يتقاعد عن السبق، والسبق مسقط لها، والقائلون بالجديد أجابوا عن أثر عمر بجوابين: أخدهما: أنه إنما ترك الجهر بالقراءة، قال الشافعي: وهو الأشبه بعمر، رضي الله عنه. والثاني: أن الشعبي روى عن عمر "أنه أعاد تلك الصلاة"، وليس النسيان كالسبق؛ ألا ترى أنه لا يسقط القيام، والسبق يسقطه؟! ومحل القولين في المسألة إذا لم يتذكر الترك إلا بعد السلام وطول الفصل؛ فإن تذكر في الصلاة فعلى الجديد: إن كان في الركوع عاد إلى القيام، وقرأ، وإن تذكر بعد القيام للثانية صارت أولى، ويلغو ما سبق. وإن تذكر بعد السلام وقرب الفصل، فهو كما لو ترك السجود ونحوه. وعلى القديم: إن تذكر بعد الركوع لا يلزمه أن يأتي بها. قال القاضي الحسين: ويحتمل أن يقال: يأتي بها ما لم يسلم؛ لأن الظاهر من أثر عمر أنه إنما سئل بعد الفراغ من الصلاة. قال: وإن زاد في صلاته ركوعاً، أو سجوداً، أو قياماً، أو قعوداً عامداً، أي: وهو عالم بالتحريم-بطلت صلاته؛ لأنه متلاعب بالصلاة. قال الإمام: ولا يشترط في زيادة ذلك أن يطمئن فيه كما يشترط في الركوع والسجود المعتد به؛ لأن ذلك إنما بطل لأن فيه تغيير نظمها، وهذا المعنى يحصل وإن لم يطمئن، بخلاف الركن المعتد به؛ فإن المقصود منه الخضوع، ولا يتأتى ذلك من غير تثبت ومكث يفصل الركن [عن الركن]. فإن قيل: العمل القليل في الصلاة لا يبطلها مع العمد، وهذا لا يبلغ مبلغ العمل الكثير؛ فينبغي ألا تبطل؛ كما صار إليه أبو حنيفة. فجوابه: أن القلة والكثرة [لا يعنيان لأعيانهما]، وإنما المتبع المعني، وهو

تغيير نظم الصلاة ظاهراً، وعدمه، وزيادة الركن وإن لم تكن عملاً كثيراً تظهر به المخالفة، فكذلك، ولا فرق في زيادة ذلك [بين أن يكون] ليتدارك ما فاته من ذكر فيه أو لا. وما حكي عن الربيع من أنه إذا أعاده لأجل الذكر، لا تبطل-محمول على ما إذا كان جاهلاً بالمنع من العود. فرع: تطويل الركن القصير عمداً: كالرفع من الركوع إذا طوله بالسكوت-هل يبطل الصلاة؛ كزيادته، أم لا؟ فيه وجهان: وجه البطلان، وهو الظاهر: أنه يقطع الموالاة. فإن قلنا به فلا كلام. وإن قلنا بمقابله؛ فلو نقل معه إليه ركناً كالفاتحة، والتشهد، والقنوت-فثلاثة أوجه، ثالثها قاله القفال: إن طوله بالقنوت بطلت، وإلا فلا، واختاره في "المرشد". وقال غيره: [الظاهر] البطلان مطلقاً، [وسيكون لنا عودة إلى ذلك في الباب الذي يليه؛ فليطلب منه]. قال: وإن قرأ [الفاتحة مرتين، أي: في قومة واحدة] عامداً-لم تبطل صلاته على المنصوص؛ لأن المعنى في إبطالها بتكرار الركن الفعلي اختلاف نظم الصلاة [به]، وهو لا يختلف بتكرار الفاتحة، ولأنه تكرار ذكر؛ فلا تبطل؛ كما لو قرأ غيرها مرتين. قال ابن الصباغ عند الكلام في صلاة القاعد: وهذا أخذ من قول الشافعي: "إن المريض إذا قدر على القيام بعد قراءة الفاتحة استحب له أن يعيد القراءة؛ ليكون قد أتى بها في الحالة الكاملة"؛ فإنه يدل على أن تكرار الفاتحة لا يبطل الصلاة، وقد حكى عن أبي الوليد النيسابوري صاحب ابن سريج أن الصلاة تبطل؛ لأنها ركن من الأركان؛ فأشبهت الركوع؛ كذا حكاه نه ابن الصباغ والإمام، ونسب

القاضي الحسين هذا القول إلى تخريج أبي سعيد البلخي، والمتولي نسبه إليه وإلى ابن سريج، [ثم] قال الإمام حكاية عن الأصحاب: وهذا من غوامض محال الاستقرار، والأمر فيه قريب، والفرق ما قدمناه. وقال ابن الصباغ: إنه ليس بصحيح؛ لأنه لا تقاس الأذكار على الأفعال في ذلك؛ ألا ترى أن تكرار ما ليس بركن في الصلاة، مثل: الجلوس للتشهد الأول-لا يجوز، والقراءة التي ليست بواجبة يجوز تكرارها، ولا تبطل الصلاة؟! كذلك الواجب فيها، ولأن الركوع إذا كرره فإنما يأتي به في غير موضعه، وهاهنا يأتي بالقراءة ثانياً في موضع القراءة؛ فوزانه أن يطيل الركوع. والخلاف المذكرو جار فيما إذا كرر التشهد الواجب في الصلاة في محله، أما إذا كرر الفاتحة في غير القيام: فإن كان في رنك قصير فقد ذكرناه، وإن كان في ركن طويل، وقلنا: لا يبطل إذا كررها في محل القراءة- فهاهنا وهجان [حكاهما الماوردي في باب صفة الصلاة]، ويجريان فيما لو قرأ في الركن الطويل غير الفاتحة؛ كما ستعرفه في سجود السهو. وتكرار الكلمة الواحدة من الفاتحة ليس كتكرارها بجملتها؛ لأن الكلمة ركن فيها، لا في الصلاة، [وهي ركن في الصلاة]، صرح به القاضي الحسين، نعم لو كررها عمداً هل يقطع نظم الفاتحة؟ فيه كلام سبق عن الشيخ أبي محمد وغيره. قال: وإن تكلم عامداً، أي: بما يصلح لخطاب الآدميين؛ لمصلحة الصلاة أو غيرها، أو قهقه عامداً- بطلت صلاته. هذا الفصل ينظم مسألتين: الأولى: أن الكلام عمداً يبطل الصلاة، والأصل فيه: ما روي عن زيد بن أرقم قال: "كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]؛ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام" أخرجه مسلم.

وقال -عليه السلام-لمعاوية بن الحكم السلمي- وقد شمت في الصلاة عاطساً-:"إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس هذا، إنما هي التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآ،"،أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي وائل: "إن الله-عز وجل -يحدث من أمره ما شاء، وإن الله قد أحدث [من أمره] ألا تكلموا في الصلاة" رواه أبو داود، وأخرجه النسائي.

فإن قيل: قد روى أبو هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي الظهر- أو العصر-فسلم على ركعتين؛ فخرج سرعان القوم، وقالوا: قصرت الصلاة؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم وجلس على خشبة المسجد كالمتفكر، وهبنا أن نسأله، وكان في القوم رجل [إحدى يديه أطول من الأخرى]، يقال له: ذو اليدين؛ فقام فقال: أقصرت الصلاة أم نسيتها يا رسول الله؟ فقال-عليه السلام-:"كل ذلك لم يكن"؛ فقال: لقد كان بعض ذلك، وكان في القوم أبو بكر وعمر؛ فقال لهما-عليه السلام-:"أكما قال ذو اليدين؟ " فقالا: نعم؛ فقام وأتم الصلاة، وسجد سجدتين"، وهذا يدل على أن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها؛ فوجب أن تختص الأحاديث [الأول] بما لا يتعلق بمصلحة الصلاة، وهو إجماع. قيل: لا حجة في هذه القصة للمدعي؛ لأن كلام ذي اليدين إنما لم يبطل صلاته؛ لاعتقاده أن الصلاة قد قصرت، وجوابه -عليه السلام- لاعتقاده تمام صلاته، وكلام أبي بكر وعمر إجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي لا تبطل الصلاة -كما ستعرفه- على أنه روي أنهما أشارا بذلك ولم يتكلما.

وأيضاً فقوله -عليه السلام-:"إذا نابكم شيء في [الصلاة، فليسبّح] الرّجال، وليُصَفِّح النساء"-كما أخرجه أبو داود- يقتضي عدم التفرقة بين ما هو لمصلحة الصلاة وغيرها. ثم الكلام المبطل هو المسموع المهجي، وأقله حرفان إن لم يحصل الإفهام بدونهما، ولا يشترط فيهما أن يكونا مفهمين، بل لو نطق بحرفين [ليس] لهما معنى بطلت صلاته، والحرف الواحد إن كان مفهماً، مثل: قوله: ["قِ"] من الوقاية، و"عِ" من وعاية الكلام، و"شِ" من: وَشَى يُشِي-مبطل للصلاة؛ كالحرفين، صرح به البندنيجي وغيره من اهل الطريقين، وإن كان غير مفهم فلا يبطل. ولو كان بعده صوت غُفْلٌ مُوصَلاً به، قال [الإمام]: فقد كان شيخي يتردد فيه، وهو لعمري محتمل؛ فإن الكلام حروف، والأصوات المرسلة من مباني الكلام، والأظهر -عندي - أنه مع الحرف كحرف مع حرف؛ فإن الصوت [الغفل]- مدة، والمدات تقع "ألفا" أو "واواً" أو "ياءً"، وإن كانت إشباعاً لحركات ممدودة، وعندي أن شيخي لم يتردد فيها، وإنما تردد في صوت غفل لا يقع على صورة المدات، والحرف إذا سبقه همزة، كقوله:"آه"، مبطل، سواء

كان من خوف النار أو [من] غيرها، قاله البندنيجي، وهو جار على ما سلف؛ لأنه نطق بحرفين. وقال المحاملي: إن كان ذلك من خوف النار لم يبطل. وهو يقرب مما سنذكره عن السرخسي، والمشهور: خلاه. ثم ظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق في كون الكلام مبطلاً بين الكلام الواجب وغيره، وقد فصل الأصحاب؛ فقالوا: الحكم كذلك فيما ليس بواجب، أما الواجب: كمكالمةرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعاه، فلا يبطل؛ لقصة أبي بن كعب، وهي مشهورة. وفي "الرافعي" في "كتاب النكاح" حكاية وجه: أن إجابته لم تكن واجبة، ولو أجابه بطلت الصلاة. والذي ذكره الأصحاب هاهنا: الأول، وألحق أبو إسحاق به إنذار الأعمى والصغير ونحوهما من الوقوع فيما يهلكه، وهو الأصح في "الحاوي"، واختيار جماعة من أصحابنا. وقيل: [إن] ذلك لا يجب عليه، ولو فعله بطلت صلاته؛ كذا قاله في "المهذب". وغيره جزم بالوجوب، وقال بالبطلان عند الإنذار، وفرق بين ذلك وبين إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قد لا يقع فيما يخاف عليه الهلاك فيه. وهذا ماحكاه البندنيجي لا غير، وقال الرافعي: إنه الأصح عند الأكثرين.

ثم محل الخلاف إذا لم يمكن الإنذار بغير الكلام؛ فإن أمكن يفعل واحد أو فعلين، فتكلم-بطلت؛ لأن الكلام في هذه الحالة مستغني عنه. فرع: قراءة الآية المنسوخة في الصلاة مبطلة لها؛ كما في الكلام [عمدا]، وفي "الرافعي" عند الكلام في [حد الزنى] حكاية وجه عن رواية ابن كج: أنها لا تبطل بقراءة [آية] الرجم، والقراءة بالرواية الشاذة لا تبطل، لكنها تكره. قاله القاضي الحسين. واشتراط الرافعي: ألا يكون فيها تغيير معنى، ولا زيادة حرف، ولا نقصان حرف؛ كذا حكاه في [باب] صفة الصلاة. الصورة الثانية: أن القهقهة عامداً تبطل الصلاة؛ لأن منافاتها للصلاة أشد من منافاة الكلام؛ فكانت بالإبطال أولى، وهذا ما نص عليه في "البويطي"؛ حيث قال: من ضحك في صلاته أعادها. والقهقهة هي الضحك بالصوت. وقد استدل لذلك بعضهم بما روي أنه-عليه السلام-قال: "الضحك ينقض الصلاة، ولا ينقض الوضوء"، وروي: "الكلام ينقض الصلاة، ولا ينقض

الوضوء". والتبسم لا يبطلها بحال؛ لأنه -عليه السلام-: "تبسم في الصلاة، فلما سلم قيل له في ذلك؛ فقال: مر بي ميكائيل؛ فضحك لي؛ فتبسمت له". قال: وإن كان ناسياً، أي: [كونه] في الصلاة، أو جاهلاً بالتحريم، أي: لقرب عهده بالإسلام، كما قاله البندنيجي والماوردي وغيرهما، أو لكونه سلم من اثنتين ناسياً؛ كما قاله البندنيجي والماوردي وغيرهما، أو لكونه سلم من اثنتين ناسياً؛ فظن أنه خرج من الصلاة؛ فتكلم عامداً، كما قاله البندنيجي في كتاب الصيام، أو مغلوباً" [عليه]، أي: مثل: أن غلبه الضحك، أو بدره الكلام

من غير قصد، "ولم يُطِل"- لم تبطل؛ لقصة ذي اليدين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين كلمه كان غير ذاكر أنه في الصلاة، وذو اليدين كان جاهلاً بتحريم الكلام، وكلام أبي بكر وعمر كان على حكم الغلبة؛ لأنه كان يجب عليهما الإجابة. وقد توهم بعضهم أن هذه القصة كانت بـ"مكة" قبل تحريم الكلام في الصلاة، وحينئذ فلا حجة فيها، وغلط فيه؛ لأن أبا هريرة راويها، وإسلامه سنة سبع من الهجرة. [قيل:] وإذا كان كذلك ففي الحديث اضطراب؛ لأن ذا اليدين قتل يوم بدر سنة اثنتين من الهجرة. قيل: هذا غلط أيضاص؛ فإن الذي قتل يوم بدر ذو الشمالين، وذو اليدين مات في زمن معاوية، ثم لو لم يكن [في] هذه القصة دلالة على المدعي لاكتفينا بقوله -عليه السلام-:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، ولأجله قال [بعض] أصحابنا: لو أكره على الكلام لم تبطل صلاته، لكن الأصح البطلان، وبه جزم في "التهذيب"؛ لأن ذلك نادر، بخلاف ما ذكرناه. ولأنه لو أكره على الصلاة قاعداص أو بغير وضوء؛ ففعل- وجبت الإعادة؛ فكذا هنا، والخلاف في الإكراه مشبه بالقولين في أن الصوم هل يبطل بالأكل مكرهاً [أم لا؟]. قال: وإن أطال فقد قيل: تبطل؛ لأن ذلك يقطع نظم الصلاة؛ فألحق بكثير الأعال، أو لأنه يمكن الاحتراز عن ذلك؛ فإنه نادر، بخلاف القصير منه. هذا ما ادعى في "التتمة" أنه ظاهر المذهب؛ لأن الشافعي قال في "المختصر": وإذا تكلم ساهياً، أو سلم ناسياً، أو ترك شيئاً من صلب الصلاة-بنى ما لم يتطاول، وإذا تطاول استأنف. وقال في "المهذب": إنه نص عليه في "البويطي"، وكذا ابن الصباغ، واختاره

وتبعه صاحب "المرشد" وغيره. وقيل: لا تبطل؛ لعموم الخبر؛ ولأنه لوأبطل كثيره أبطل قليله؛ كالعمد. قال في "المهذب": ولأنه لا يبطل قليله البادة؛ فكذا كثيره؛ كالأكل في الصوم، وهذا قول أبي إسحاق، وهو الأصح في "الحاوي". قال: ويفارق الفعل؛ لأنه فيما نحن فيه آكد من القول، وقول الشافعي عائد إلى ما ترك من صلب الصلاة، لا إلى الكلام. والقائلون بالول لم يسلموا مسألة الصوم، بل بعضهم قال بالبطلان فيها أيضاً؛ كما قلنا هنا بالبطلان، وبعضهم قال: في بطلان الصوم بالأكل الكثير ناسياً خلاف مبني [على] أن العلة في بطلان الصلاة ماذا؟ فإن قلنا بالمعنى الألو لم يبطل الصوم؛ إذ ليس في الصوم نظم [يقطع بالفعل]، وإن قلنا بالمعنى الثاني، وهو إمكان الاحتراز-بطل الصوم أيضاً. وقد أفهم قول الشيخ: "أو جاهلاً بالتحريم"، أنه لو كان عالماً بالتحريم جاهلاً بأنه مبطل- أنها تبطل، وبه صرح الغزالي وغيره؛ قياساً على ما لو علم أن الزنى حرام، وجهل أنه يوجب الحد؛ فإنه يجب عليه الحد، وعقب الغزالي ذلك بقوله: وإذا جهل كون التنحنح مبطلاً أو ما يجري مجراه، هل يكون عذراً؟ فيه تردد، وهو وجهان. قال الرافعي: ويبعد أن يكون التصوير فيما إذا جهل كون التنحنح مبطلاً [مع العلم بتحريمه؛ فإنه لا يظهر بينه وبين المسألة قبلها فرق] مع التسوية في الحرمة والجهل بكونهما مبطلين، ولكن الأقرب شيئان: أحدهما: أن يكون التردد في الجاهل بكون التنحنح مبطلاً، بعد العلم بكون الكلام مبطلاً وحراماً؛ لأن التنحنح وإن بان منه حرفان لا يعد كلاماً؛ فلا يلزم من العلم بالمنع من الكلام العلم بالمنع منه، والتردد على هذا الترتيب قريب من التردد فيما [إذا علم أن] جنس الكلام محرم على الجملة، وجهل أن ما أتى به

هل هو محرم أم لا؟ وقد قال الفوراني والمتولي: إن صلاته تبطل. وقال الإمام: الذي يظهر أنها لا تبطل. والثاني: أن يكون التردد في حق بعيد العهد بالإسلام، إذا جهل كون التنحنح مبطلاً: هل يعذر أم لا؟ فعلى رأي: لا؛ كما إذا جهل كون الكلام مبطلاً. وعلى رأي: نعم؛ [لأن تحريمه] مشهور لا يكاد يجهله مسلم، بخلاف هذا. قال: وإن نفخ، ولم يبن منه حرفان-لم تبطل صلاته؛ لأنه لا يسمى كلاماً، وهكذا الحكم فيما لو بكى، أو ضحك، أو تنحنح، ولم يبن منه حرفنا، ومصداقه قول الشافعي [في "الإملاء"] كما قال ابن الصباغ: التنس والتنحنح [والنفخ] ليس من الكلام إلا أن يكون معه كلام؛ كقوله: "أفّ" ونحوذ لك؛ لأنه لا يسمى كلاماً، ولا يفهم منه معناه، أما لو بان منه حرفان فقد أفهم كلام الشيخ بطلان صلاته؛ لأن أقل الكلام إذا لم يكن مفهماً حرفان، كما تقدم، ونصه في "الإملاء" يرشد إليه أيضاً، وفي "التتمة" أن الشافعي قال في "الإملاء": التنفس والتنحنح والنفخ ليس بكلام إلا أن يكون معه كلام. وقال في "البويطي": إن من ضحك في صلاته أعادها. وأصحابنا جعلوا المسألة على قولين: أحدهما: أن جميع ذلك لا يبطل وإن بان من حرفان، وفعله مختاراً. والثاني: أن جميع ذلك يبطل؛ لأن التفوه بما يتهجى حرفين قد وجدوا على وجه يسمع عن قصد؛ فصار كما لو تكلم بكلمة واحدة. قال: ولعل الأظهر في الضحك البطلان؛ لما في ذلك من هتك الحرمة، [واختار في التنحنح عدم الإبطال؛ لأن الكلام ما تحرك به اللسان من الشفة،

وأما صوت يخرج من الحلق فليس من جنس الكلام، والتنحنح يحصل عند طبق الشفتين؛ فجرى مجرى صوت يخرج من الأمعاء والأحشاء،] وقد حكى عن القفال أنه فرق في المتنحنح بين أن يكون منطبق الفم؛ فلا تبطل صلاته؛ لأنه لا يكون على هيئة الحروف، وبين أن يكون فاتحاً فاه؛ فتبطل. قال الإمام: وليس بشيء؛ لأن الأصوات لا تختلف في السمع بذلك، وهذا – [كما ذكرنا-مصور بما] إذا فعله مختاراً. أما لو فعله لامتناع القراءة عليه إلا به، فلا خلاف في أنه لا يبطل، ولو كانت القراءة ممكنة بدونه، لكن امتنع عليه الجهر بها إلا به: فهل يكون عذراً أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه تابع لها فكان [كامتناعها]. والثاني: لا؛ لأن الجهر هيئة وأدب، وترك ما هو من قبيل الكلام حتم، وهذا ما رجحه الرافعي. ثم الخلاف المذكرو في التنفس والضحك ونحوهما-جار-كما قاله المتولي-في البكاء في الصلاة إذا بان معه حرفانن ولا فرق على القول بالبطلان-وهو المشهور-بين أن يكون بكاؤه للخوف من النار ونحوها، أو لحزن على ميت ونحوه. وعن الروياني أن القاضي أبا الطيب الطبري قال: سمعت الماسرجسي يقول: إن كان [بكاؤه] من خشية الله فلا تبطل، وإن كان لحزن على ميت بطلت، وهذا محكي عن أبي حنيفة، وبه يحصل في المسألة ثلاثة أوجه، والله أعلم. ولا خلاف في أن فيض العين بالدمع من غير شهيق ولا إظهار حرف: أنه لا يبطل.

قال: وإن خطا ثلاث خطوات متواليات، أو ضرب ثلاث ضربات متواليات- بطلت صلاته. الأصل في ذلك: [أن الإجماع] منعقد على أن العمل الكثير في الصلاة يبطلها؛ لأنه مغير لنظامها وهيئاتها، ومخالف لمقصودها؛ فإنه يذهب الخشوع، وهو مقصودها. روي أنه -عليه السلام- قال فيمن يعبث بيده في الصلاة: "لو خشع هذا لخشعت جوارحه"، ولأن القليل لا يبطلها؛ فإنه في محل الحاجة، وليس منه بد؛ فإنه يقع بحكم حركة الجبلة؛ فعفي عنه، ويشهد لذلك قوله -عليه السلام- وفعله؛ قال –عليه السلام- في مسح الحصا: "إن كنت فاعلاص فمرة واحدةً" أخرجه مسلم، وأمر بدفع المار بين يدي المصلي، وبقتل الأسودين في الصلاة؛ الحية، والعقرب، وأدار ابن عباس من يساره إلى يمينه، وغمز

رجل عائشة في السجود، وأشار لجاب"، كل ذلك على ما ثبت في الصحيح.

[و] روى الدارقطني أنه -عليه السلام- "كان يشير في الصلاة"، وذلك

مشعر بالحالة الدائمة، وقد روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي، والباب عليه مغلق، فجئت، فاستفحت، [فمشى]، ففتح لي، ثم رجع إلى مصلاه" رواه أبو داود، وفيه أن الباب بالقبلة. فثبت بما ذكرناه أن الكثير مبطل، وأن القليل لا يبطل، وليس لذلك ضابط؛ فرجع فيه إلى العرف، والعرف يعد الثلاث المتواليات كثيرة، ولأن ما نقل عنه-عليه السلام-من قول أو فعل لم يبلغ الثلاث، والفعل بوضعه مناف للصلاة؛ فليقع العفو عما ورد بمثله الشرع، ولايتعداه؛ أخذاً بالأصل. وما ذكره الشيخ هو طريقة الشيخ أبي حامد، ولم يخالف منطوقها أحد من الأصحاب. نعم، مفهومها يقتضي أن الخطوة والخطوتين والضربة والضربتين لا تبطل، وبه صرح الشيخ في الباب بعده، وهو المحكي عن أبي حامد أيضاً، و [قال] القاضي أبو الطيب: إن الفعلة الواحدة لا تبطل، وفي الفعلتين وجهان:

أحدهما: البطلان؛ لتكرر الفعل كالثلاث. قال الروياني في "تلخيصه" في صلاة الخوف: وهو ظاهر النص، واختيار كثير من أصحابنا. وأصحهما -وهو الذي أورده البغوي وغيره ثم-: عدم البطلان؛ لأنه -عليه السلام- "خلع نعله في الصلاة، ووضعها إلى جنبه"، وذلك فعلان، ثم الخطوة الواحدة إنام لا تؤثر إذا لم تخرج عن المعتاد؛ فإن خرجت: كالطَّفْرة والوثبة، أبطلت- قاله في "التتمة"- لمنافاة ذلك [الصلاة] عرفاً. ويؤيد ذلك قول الإمام: إن قول الأئمة: إن الخطوة والضربة لاتبطل، والثلاث تبطل -ليس الرجوع في هذا التقريب إلى القدر؛ فإن من حرك أصابعه مراراً كثيرة لم يقابل ذلك خطوة، ولست أنكر أن للتعدد والتقطع أثراً معتبراً في هذا الباب؛ فإن الخطوة الواحدة لا تبطل، ولو قطعها المصلي، فجعلها ثلاث خطوات متواليات -أبطلت، ولست أنكر أنه لو خطا خطوتين واسعتين ولاءً؛ فإنهما في العرف قد يوازيان ثلاث خطوات. والخطوة، بفتح الخاء: المرة الواحدة، وبالضم: اسم لما بين القدمين، وقيل: لغتان مطلقاً. ثم في ضبط ما عدا ما ذكرناه من الأفعال قلة وكثرة، وراء القول باعتبار العرف فيها، طرق: إحداها -قالها القفال-: أن ما يظن الناظر إلى فاعله -إذا رآه من البعد- أنه ليس في الصلاة من أجل فعله-فهو كثير، وما اكن بخلاف ذلك فهو قليل، وهذا في الحقيقة راجع إلى [أن] الاعتبار بالعرف، وبه صرح الإمام. وقال الغزالي: إن هذا غاية ما قيل فيه، وهو لا يقبل التحديد، واعترض الرافعي على القفال، فقال: الظن الحاصل لمن يراه إما أن ينشأ من أنه غير محتمل في الصلاة شرعاً، أو من ان غالب عادات المصلين الاحتراز عنه عن غير أن ينظر إلى أنه محتمل أم لا؟ فإن كان الأول فإنما يحصل هذا الظن أو

الخيال لمن عرف حد الكثير المبطل، ونحن نجيب عنه؛ فكأنا قلنا: الكثير هو الذي يحكم ببطلان الصلاة به من عرف أنه مبطل، ومعلوم أن هذا لا يفيد شيئاً، وإن كان الثاني أشكل بما إذا رآه حاملاً صبياًّ، أو يقتل حية أو عقرباً؛ فإنه محتمل، مع أن الناظر إليه يتخيل أنه ليس في الصلاة؛ لأنه على خلاف عادة المصلين غالباً. ثم إذا قلنا بهذه الطريقة، فلو وقع تردد في فعل هل انتهى إلى حد الكثرة أم لا؟ قال الإمام: فينقدح فيه ثلاثة أوجه: أحدها: استصحاب حكم الصحة. والثاني: الحكم بالبطلان؛ فإنا مطالبون بالإتيان بهيئة مخصوصة، ونحن شاكون في حصولها. والثالث: أنا نتبع الظن؛ فإن استوى الظنان فالأصل دوام الصحة، والأظهر استصحاب الحكم بدوامها؛ فإن الهيئة التي ذكرناها وبينا الكلام عليها ليست ركناص مقصوداً في الصلاة، وكأنها النظام والرابطة للأركان؛ فإذا لم يتحقق انقطاعها دامت. والطريقة الثانية- حكاها الفوراني، والمتولي، وغيرهما-: أن الفعل الكثير [ما يحتاج] فيه إلى اليدين: كتكتوير العمامة وربط السراويل، والقليل ما لا يحتاج إلى ذلك، ومنه: وضع العمامة عن الرأس وحل السراويل. وهذهالطريقة قال القاضي الحسين: إن القفال سمع أبا نصر المؤدب ينحاز بقولها. قال الفوراني والمسعودي: [و] ليست بشيء. والطريقة الثالثة- حكاها الرافعي عن صاحب "العدة"-: أن القليل ما لا يسع زمانه لفعل ركعة من الصلاة؛ فإن وسع فهو كثير. وقد أفهم إطلاق الشيخ القول بالبطلان عند وجود الثلاث: أنه لا فرق فيه بين العمد والسهو، والعالم بالتحريم والجاهل به، وبه صرح العراقيون والماوردي، وقالوا: الفرق بينه وبين الكلام الكثير إذا وقع على وجه السهو أو الجهل؛ حيث

لا تبطل على أحد الوجهين: أن تأثير الفعل أقوى؛ بدليل اعتبار إحبال المجنون في أم الولد، وعتقا بموته، ولا يعتبر إعتقاه، وأن المكره على القتل يجب عليه القصاص؛ على أصح القولين، والمكره على الطلاق لا يقع طلاقه. وأما المراوزة فإنهم حكوا في ذلك طريقين: أحداهما: أن الفعل الكثير كالكلام الكثير ناسياً؛ فيأتي فيه الوجهان، وهذه الطريقة لم يحك في "الكاي" غيرها، وصحح القول بالبطلان، وكذا القاضي الحسين، وقال: إن الذي يقتضيه قول الشافعي فيما لو انحرفت به دابته عن جهة قصده، وطال ذلك: أن صلاته تبطل، سواء كان مخطئاً أو ساهياً؛ قاله في باب استقبال القبلة. والمتولي صحح مقابله، مستدلاص بقصة ذي اليدين؛ فإنه-عليه السلام-لم يأمر سرعان الناس بالإعادة والطريقة الثانية: القطع بأنه لا يبطل كالكلام اليسير ناسياً؛ لأن الفعل الكثير عمداً مساوٍ للكلام القليل عمداً في الإبطال؛ فوجب أن ستويا عند النسيان في عدمه؛ هكذا حكاه مجلي عن الغزالي. والمذكرو في "النهاية" وغيرها موضع هذه الطريقة: أن أول مبلغ الكثير في الفعل هو الذي يبطل الصلاة كالكلام اليسير عامداص؛ فإن الكلام اليسي ريحرم أبهة الصلاة؛ كما أن الفعل الكثير يحرمه؛ فإذا وقع هذا من الناسي لم يبطل، وما تجاوز مبلغ أول الكثرةوينتهي إلى السرف، فهو من الناسي كالكلام الكثير في حال النسيان، وفيه الخلاف. وأجاب العراقيون عن ذلك: بأن مناط العفو في الكلام اليسير مشقة الاحتراز عنه، وهي الناط في الفعل القليل؛ فنه لما شق الاحتراز نه عفي عن سهوه وعمده، والمشقة منتفية في الفعل الكثير. فرع: لو عد الآي في الصلاة عقداً بدون التلفظ لم تبطل صلاته. قال الشافعي: وتركه أحب إلي؛ ولأجل هذا قال بعض أصحابنا: إنه يكره.

واختاره في "المرشد"، والمذهب أنه لا يكره، بل [هو] جائز؛ لأنه روي أنه –عليه السلام-عد الفاتحة في الصلاة، وهذا يدل على أنه جائز. قال ابن الصباغ: ولكنه يحتمل أن يقال: إنما فعل ذلك؛ ليبين عددها؛ فجاز لغرض، ومن هنا قال مجلي: يحتمل أن يقال: إن كان لغير حاجة [كره]، وإن احتاج إليه لميكره. فإن قلت: قد تردد جواب القفال في تحريك الإصبع على التوالي في حساب، أو إدارة مسبحة أو حكة، ونحو ذلك-هل يبطل، أم لا؟ من حيث إن الفعل متكرر، لكن كثير البدن ساكن، وهيئة الخشوع غير مختلة؛ فهل يستدل بها [على] النص على عدم البطلان؟ قلت: نعم، إن قلنا: إن حد التوالي قدر ركعة كما تقدم، ثم محل تردد القفال إذا وضع يده في موضع واحد وحك بإصبع واحد مراراً، أو بالجميع مراراً، من غير أن يحرك كفه ذاهباً وجائياً، وفي هذه الحالة جزم صاحب "الكافي" و"التتمة" بأنها لا تبطل. وقال في "الكافي": إنه [إن] كرر الحك عمداً بذهاب جميع يده وردها-بطلت، إلا أن يدفعه إلى ذلك جرب لا يقدر معه على عدم الحك؛ فلا تبطل. وعلى هذه الحالة يحمل ما أطلقه البغوي أن الحك ثلاث مرات يبطل الصلاة، ورد اليد وجذبها حكة واحدة، وكذا رفع اليد عن الصدر ووضعها في محل الحك جذبة واحدة، قال في "الكافي". قال: وإن أكل عامداً بطلت صلاته؛ لأنه إذا أبطل الصوم، وهو لا يبطل بالأفعال؛ فلأن يبطل الصلاة وهي تبطل بها أولى. والمعنى فيه: أنه يعد معرضاً عن الصلاة؛ فإن المقصود من الصلاة ونحوها من

العبادات البدنية: تجديد الإيمان، ومحادثة القلب بالمعرفة، والرجوع إلى الله-سبحانه-ولذلك وجب الانقطاع عن الأفعال المعتادة، وخطاب الآدميين، وملازمة صوب واحد، وهو القبلة، والأكل والشرب يناقض هذا المقصود. قال: وإن كان ساهياً لم تبطل صلاته؛: كالصوم، وهكذا لو كان جاهلاً بتحريم ذلك لقرب عهده بالإسلام ونحوه، كما تقدم: لا تبطل؛ لأن الجهل بالتحريم ملحق بالنسيان فيما نحن فيه، ومن هاهنا يظهر لك من كلام الشيخ أمران: أحدهما: أنه لم يسلك بالأكل في الصلاة مسلك الأفعال [فيها] وإن كان فعلاً؛ إذ لو سلك به هذا المسلك لما فرق فيه بين العامد والساهي، [ولا فرق] فيه بين القليل والكثير عند السهو، وظاهر كلامه يقتضي التسوية. والثاني: إجراء الصلاة في وجوب الإمساك فيها مجرى الصيام، ويلزم منه الحكم بالبطلان فيما إذا وضع في فيه سكرة، ووصلت إلى جوفه من غير فعل، أو تعاطي في الصلاة ما يبطل الصيام، وهو وجه محكي عن العراقيين في "النهاية"، ولم يورد البندنيجي والماوردي غيره، واختاره الشيخ أبو محمد، وقال: إنه الذي قطع به الأئمة في طرقهم، وعلى هذا: إذا كان بين [أسنانه] ما يجري به الريق إلى المعدة، ولم يتمكن من قلعه؛ فجرى إليها-لا تبطل الصلاة؛ كما لا يبطل الصوم، وبه صرح البندنيجي أيضاً، وحكاه مجلي عن نصه في "الجامع الكبير". وقال في "البسيط"؛ تبعاً لإمامه: إن من العراقيين من لاحظ في الأكل في الصلاة كونه فعلاً؛ ففرق بين القليل والكثير مع العمد، وقد حكاه في "التتمة" أيضاً. قال الرافعي: والمرجع فيه على هذا قلةً وكثرةً إلى العرف. وأفهم كلامه أن كلامهم عائد إلى قلة المأكول كثرته. والذي يظهر على هذه

الطريقة: أن يكون النظر إلى قلة الفعل والمضغ وكثرته، وهذا الوجه قال مجلي: لعمري له وجه. والفرق بينه وبين الصيام: [أن حقيقة الصوم الإمساك: مع النية؛ فإذا وجد الأكل لم يوجد حقيقة الصوم]؛ فانتفت العبادة، وهاهنا الصلاة موجودة، وإنما أحدث فيها ما ليس منها؛ فكان كسائر الأفعال، وما ذكره من مقصود الصلاة بغير الأكل من الأفعال-أيضاً-ينافيه، وقد فرقوا فيه بين القليل والكثير. والمنتصرون من المتأخرين للأول قالوا: القليل من الفعل في محل الحاجة، ولا يكاد يستغني عنه في الصلاة؛ ففي الاحتراز عنه مشقة، ولا كذلك جنس الأكل والشرب. ثم ما ذكره الشيخ من عدم البطلان عند السهو من غير تفرقة بين القليل منه والكثير جرى فيه على قاعدته في أن الأكل لا يفسد الصوم كيف كان، ومن قال بأن الكير [منه] يبطل الصوم؛ فهو قائل به هنا من طريق الأولى، وقد صرح بحكاية الخلاف فيه الرافعي، وصحح القول بالبطلان، والماوردي والبغوي وأبو الفتح سليم جزموا بهن وسلك القاضي الحسين في ذلك طريقاً آخر؛ فقال: إن أكل أقل من سمسمة لم تبطل صلاته، وإن أكل بقدر سمسمة فوجهان، الأظهر: البطلان، وحكى عنه مجلي وجهين فميا إذا وضع في فيه شيئاً يذوب: كسكر، أو فانيذ مما يجري به الريق، فوصل إلى جوفه-هل تبطل صلاته أم لا؟ وأنه قال: إن الأظهر البطلان ثَمَّ.

ثم قال مجلي: وهذا بناء على قولنا: إن الفعلة الواحدة منه تبطل الصلاة، ولا خلاف في أنه إذا وضع في فيه شيئاً لا يذوب، ولمي رد رده، ولم يمنعه من القراءة الواجبة-أن صلاته لا تبطل، وأن ذلك مكروه؛ لأنه يزيل الخشوع، قال: وإن فكر في الصلاة، أي: في أمور الدنيا، أو في مسألة فقهية ونحوها، كما قال القاضي الحسين، او التفت فيها، أي: من غير حاجة يميناً أو شمالاً، ولم يحول قدميه عن القبلة-كره. أما في الأولى: فلما روى أبو داود عن عقبة بن عامر [قال]: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من أحد يتوضأ، فيحسن الوضوء، ثم يقوم فيركع ركعتين يقبل عليهما بقلبه [ووجهه] إلا وقد أوجب الله له الجنة". وأما في الثانية: فلقوله-عليه السلام-: "لا يزال الله مقبلاً على العبد، وهو في صلاته ما لم يلتفت؛ فإذا التفت انصرف عنه" أخرجه أبو داود والنسائي.

...........................................................................

وقالت عائشة: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في الصلاة، فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد" أخرجه البخاري. ولأن مقصود الصلاة الخضوع والخشوع، والتفكر والالتفات يمنعهما؛ فكرها لذلك، وقد قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2] فكان ترك الخشوع دالاً على عدم الفلاح. قال العلماء: وعماد الصلاة وعلامة قبولها الخشوع، وهذا هو المشهور، وفي "التتمة" في صفة الصلاة: أن الالتفات في الصلاة حرام؛ لما ذكرناه من الخبر. قال: ولم تبطل صلاته؛ أما في الأولى فلقوله -عليه السلام-: "إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها" رواه أبو داود. وأما في الانية فبالقياس على الأولى. [ولأنه لم يفقد من الصلاة] في الصورتين إلا الخشوع، وذلك لا يوجب البطلان؛ فإنه -عليه السلام- "صلى، وعليه خميصة ذات أعلام، فلما فرغ قال: ألهتني أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي الجهم، وائتوني بإنبجانية" أخرجه

البخاري ومسلم. ولم ينقل أنه أعاد الصلاة. والخميصة: كساء أسود معلم، قال في "المجمل": فإن لم يكن معلماص فليس بخميصة. والإبنجانية: بهمزة مكسورة، ونون خفيفة ساكنة، وباء مكسورة معجمة بواحدة، وجيم، وألف، وبعدها نون مكسورة، وياء آخر الحروف مشددة، منسوبة إلى أنبجان -بفتح الهمزة- وهو اسم موضع. وما ذكره الشيخ هو المشهور. وفي "الرافعي" حكاية وجه عن القاضي ابن كج: أن حديث النفس إذا كثر أبطل الصلاة، وسيأتي مثله. وقال القاضي الحسين في باب سجودالسهو: يخاف لمن فكر في أمور الدنيا [فيها] أن يحرم فضيلة الجماعة؛ لقوله -عليه السلام-: "لا صلاة لامرئ لا يحضر قلبه". أما لو فكر في الصلاة في مقروئه فيها فهو مستحبن ولو تفكر في أمور الآخرة فلا بأس. وإذا حول قدميه عن جهة القبلة: فإن فعله عامداً بطلت صلاته، وكذا إن كان ناسياً، وطال الزمان، وإن قرب وقصر كانت جائزة؛ لأنه عمل يسير، وعليه سجود السهو. وقد استقصيت الكلام في ذلك في باب استقبال القبلة؛ فليطلب منه. وإن كان الالتفات لحاجة لم يكره؛ لأنه -عليه السلام -التفت لأجل ذلك. وقراءة شيء مكتوب في الصلاة في نسه من غير تلفظ لا يبطل الصالة، ولكن يكره؛ لأنه نوع من التفكر.

قال الشافعي: ولأنا لو أبطلنا صلاته بذلك لأبطلناها بما يخطر على باله. قال: ولا يصلي، وهو يدافع الأخبثين، أي: أو أحدهما؛ لقوله -عليه السلام-: "لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافع الأخبثين" رواه مسلم. وهكذا لا يصلي، وهو يدافع الريح. قال: ولا يدخل فيها وقد حضره العشاء، ونفسه تتوق إليه؛ للخبر، وقد قال -عليه السلام-: "إذا قرب العشاء وحضرت الصلاة، فابدءوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب" رواه البخاري ومسلم. قال الأصحاب: والمراد بالبداءة: أن يتناول منه لقمة أو لقمتين يكسر بهما

سَوْرة الجوع، لا أن يتم أكله، اللهم إلا أن يكون مشروباً كالسويق ونحوه، فيستوفيه؛ فإن زمنه يسير. والتوقان: الاشتياق إلى الشيءن وتعلق [القلب به]. قال: فإن فعل ذلك أجزأته صلاته؛ لأن الموجود لا يقدح في غير الخشوع؛ فلم يمنع من الصحة؛ كحديث النفس. قال الإمام في باب صلاة الجماعة: وقد بلغت عن القاضي حسين أنه قال: لو صلى، وضاق الأمر عليه في مدافعة البول او الغائط، وخرج عن أن يتأتى منه الخشوع أصلاً لو أراده-فلا تصح صلاته؛ فإن ما هو عليه ليس يوافق هيئة المصلين، بل هو في التقحيق هازئ بنفسه، مستوعب الفكر بالكلية فيما هو مدفوع إليه، ومن أنكر أن المقصود من الصلاة الخشوع والاستكانة؛ فليس عالماً بسر الصلاة. قال: وهذا إن صح فهو غير بعيد عن التحقيق، ولكنه هجوم على أمر لم يسبق إليه، وليست أعرف خلافاً أن الساهي البارق الذي يلتفت في جانبيه، وإنما يقتصر على قراءة الفاتحة والتشهد، ولا يأتي بذكر غيرهام-بعيد عن هيئة المصلين، ثم لم نحكم في ظاهر الأمر ببطلان صلاته. قلت: وقوله: "إن ما قاله القاضي لم يسبق إليه"، فيه نظر؛ لأن أبا زيد المروزي قاله أيضاً، وقدتقدم مثله في حديث النفس. ثم النهي عن الصلاة عند مدافعة أحد الأخبثين كيف كان، وما في معناه وهو

مدافعة الريح، وعن الصلاة بحضرة العشاء مع توقان النفس، واستحباب إزالة ذلك قبل الشروع فيها- مخصوص بما إذا كان في الوقت سعة؛ فإن ضاق الوقت عن إزالة ذلك صلى على حسب حاله؛ لأن إخراج الصلاة عن الوقت مع الإمكان لا يجوز بحال؛ كذا قاله القاضي الحسين في باب صلاة الجماعة. وحكى البغوي ثم في هذه الحالة [في صورة] المدافعة وجهاً آخر: أنه يزيل ما يدافعه، ويصلي خارج الوقت. قال الرافعي: ويشبه أن يكون هذا مفرعاً على أنه لا تصح صلاته؛ لانسلاب الخشوع. قال المتولي: هل الأولى هذا أو ذاك؟ فيه وجهان: وطردهما في الصورة الأخرى. قال: وإن كلمه إنسان، أو استأذن عليه، وهو في الصلاة -سبح إن كان رجلاً، وصفقت إن كانت امراة؛ لما روى أبو داود في الحديث المشتمل على قدوم النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يصلي بالناس [، وتصفيق الناس] حين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم: "ما لي رأيتكم أكثرتم من التصفيق؟! من نابه شيء في صلاته فليسبح؛ [فإنه إذا] سبح التفت إليه، وإنما التصفيح للنساء] وأخرجه البخاري ومسلم. وقد قيل: إن التصفيح والتصفيق بمعنى [واحد]، وقيل خلافه، كما سنذكره. وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء". واختلف أصحابنا في كيفية تصفيقهن: فقيل: تضرب ظهر كفها الأيمن على بطن كفها الأيسر. وقيل: بل تضرب بطن كفها الأيمن على ظهر كفها الأيسر. وقيل: تضرب بإصبعي يمينها على بطن كفها الأيسر. وهذا ما قال أبو أيوب: إنه التصفيح في الحديث؛ كما رواه أبو داود.

وفي "الحاوي": أن ظاهر مذه الشافعي أنها كيفما صفقت جاز، سواء فيه بباطن الكف على ظاهر الآخر، وبباطن أحدهما على باطن الآخر. وقال الإصطخري: لا تصفق بباطن الكف على باطن الكف، ولو صفق الرجل، وسبحت المرأة-لم تبطل الصلاة، لكنهما تركا السنة. قال في "الحاوي": وقال بعض أصحابنا: تسبيح المرأة جائز، وتصفيق الرجل عامداً يبطل، وساهياً لا يبطل، لكنه إن تطاول سجد للسهو كالعمل الكثير، وإن لم يتطاول فلا سهو عليه. قال: وهذا غير صحيح؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبطل صلاة من صفق خلف أبي بكر، ولا أمرهم بالإعادة. قلت: وفي هذا الرد نظر؛ لأنهم كانوا جاهلين بمشروعية التسبيح لهم وعدم مشروعية التصفيق؛ فال جرم لم يأمرهم بالإعادة، مع أنه محتمل أن يكون كثرة التصفيق التي نقلت عنهم باعتبار صدورها من الأشخاص، لا باعتبار كثرتها من كل شخص شخص، والظاهر من كلام الشيخ في "المهذب" عدم البطلان. ولو تكرر التصفيق من المرأة لم يبطل، ولم أر فيه خلافاً. فرع: لو أبدل المصلي التصفيق او التسبيح عند الاستئفان بالدخول، بقوله: "ادخلوها بسلام آمنين" وقصد الإذن في الدخول، وكذا لو رأى شخصاً يمشي على بساطه بنعله؛ فقال: "اخلع نعليك" وقصد أمره بخلع نعليه-فهل تبطل صلاته؟ قال الأصحاب: إن قصد مع ذلك القراءة لم تبطل؛ لأن عليّاً -رضي الله عنه- "كان في الصلاة بـ"الكوفة" فدخل شخص من الخوارج، وهو يقول: لا حكم إلا لله ولرسوله، وأراد بذلك الإنكار على علي-عليه السلام- حيث حكم؛ فتلا عليِّ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم: 60]، ولما سلم قال: "كلمة حق أريد بها باطل"، ولو كان ذلك يبطل الصلاة لما أقدم عليه عليّ.

وعن صاحب "البيان" حكاية وجه آخر: أنها تبطل، وعزاه الطبري إلى العراقيين. وإن قصد المصلي بما ذكره المخاهطبة فقط بطلت صلاته، ولاخلاف في أنه إذا قصد القراءة فقط انها لا تبطل وإن نبه بها الداخل؛ كما لو رفع صوته بالتكبير والتأمين في الصلاة. نعم، لو جمع كلمات من القرآن، ونطق بها موصولاً- بطلت صلاته، وإن فرقها فلا. قال: وإن سلم عليه رد بالإدارة، يعني: برأسه أو بإصبعه؛ لما روى [أبو داود والترمذي عن] ابن عمر، عن صهيب قال: "مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلمت عليه؛ فرد علي، قال: ولا أعلم إلا قال: إشارة بإصبعه". وروى أبو داود، عن عبد الله بن عمر قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه، فجاءه الأنصار، فسلموا عليه وهو يصلي، قال: فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا، وبسط جعفر بن عون كفه، وجعل ظهره إلى فوق"،وقد أخرجه الترمذي، وقال: إنه صحيح. وما ذكره الشيخ هو ما نص عليه في القديم، وبه قال جميع الأصحاب؛ كذا قاله الروياني في "تلخيصه". وفي "التتمة" أن الأولى ألا يرد حتى يفرغ من الصلاة، وقد يستدل له بما روي عن ابن مسعود قال: "قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلمت عليه، فلم يرد عليه السلام؛ فأخذني ما قدم وما حدث؛ فلما قضى صلاته قال: إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله قد أحدث ألا تكلموا في الصلاة. فرَدَّ علي

السلام". وفي "الذخائر" أنه حكي عن الشافعي: أن الرد بالإشارة في الصلاة مكروه وإن جاز، والذي نقله أصحابنا نه ما ذكرناه مطلقاً، ولم يذكروا عنه كراهة، ولا يجب الرد في هذه الحالة ولا بعد السلام بحال؛ إذ وجوبه منوط باستحباب الابتداء؛ فحيث يستحب يجب، وألا فلا، والسلام على المصلي لا يستحب، بل قد نص الشافعي على كراهة السلام على الإمام في الخطبة. قال ابن الصباغ: والمصلي أولى بذلك، ويشهد له قوله -عليه السلام-: "لا غرار في الصلاة ولا تسليم" أخرجه أبو داود. وقال أحمد بن حنبل: يعني -فيما أرى-: لا تسلم ولا يسلم عليك. وقيل غيره.

وقد أفهمك قول الشيخ: "رد بالإشارة" أمرين: أحدهما: أنه لا يرد بالقول؛ فلو رد به فقد أفهم كلام ابن الصباغ أن الصلاة تبطل، وبه صرح الروياني في "تلخيصه"، وحكاه مجلي عن النص، ثم قال: ومن أصحابنا من قال: إن رد عليه خطاباً بالكاف؛ بأن قال: وعليك السلام- بطلت صلاته؛ لأنه كلام آدمي، وإن قال: وعليه السلام-لم تبطل. وهذا ما أورده في "التتمة". قال مجلي: وليس بشيء؛ لأن الجميع خطاب لآدمي-في العادة- ولذلك يحصل به الجواب في رد السلام. ثم إذا امتنع رد السلام بالقول من المصلي فامتناع تشميت العاطس أولى؛ لأن الرد واجب في الجملة، بخلاف التشميت، وقد يقال: ليس الأمر كذلك؛ لأن المسلم مقصِّر في التسليم على المصلي، بخلاف العاطس، ويشهد لذلك ما ستعرفه في باب هيئة الجمعة، وبالجملة: فلو شمت العاطس، وهو في الصلاة- قال ابن الصباغ: فالمذهب أن صلاته بطلت [، وهو ما حكاه الروياني عن عامة الأصحاب؛ لأنه موضوع لخطاب الآدميين] وإن كان دعاء. وحكى يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي أنه قال: لا بأس أن يقول له: يرحمك الله. قلت له: ولم؟ قال: لأنه دعاء.

وقد حكى البويطي هذا عنه أيضاً. قال الروياني في "تلخيصه": وهو أصح إذا قصد به الدعاء، لا الخطاب، وفارق السلام؛ لأنه موضوع لخطاب الآدمي، وهذا موضوع للدعاء. وقال ابن الصباغ: الأول أشبه بالسنة؛ فإن معاوية بن الحكم قال: "صلتي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم؛ فقلت: يرحمك الله؛ فرماني القوم بأبصارهم .. وساق الحديث، إلى أن قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح يها شيء من كلام الناس ... " رواه أبو داود، وأخرجه مسلم. وعن القاضي الحسين: أنه إن واجهه بالخطاب، فقال: يرحمك الله-بطلت صلاته؛ كما لو قال لوالديه: يرحمكما الله. وإن قال: يرحمهما الله-لم تبطل؛ كما لو قال في حق والديه: اللهم ارحمهما؛ لأنه يخاطب بذلك الله، عز وجل. واختاره في "المرشد"، وهذا وزان ما حكيناه عن المتولي في رد السلام. وقد قال مجلي هنا حكايةً عن الأصحاب: إنه ليس بشيء؛ لأن الجميع خطاب آدمي، وبه يحصل جواب ما وضع له كيف فرض بالكاف والهاء. وتشميت العاطس وتسميته-بالشين والسين-بمعنى واحد. واستحبابه منوط بما إذا قال العاطس: الحمد لله. ويستحب له إذا قال له المشمت: يرحمك الله، ان يقول: يهديك الله ويصلح بالك، أو نحوه. [و] الثاني من الأمرين: [أن] الإشارة في الصلاة لا تبطلها وإن أفهمت، وذلك مما لا خلاف فيه إذا صدرت من الناطق؛ لما روى جابر قال: "أرسلني النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق، أتيته وهو يصلي على بعيره؛ فقال بيده هكذا، ثم كلمته؛ فقال بيده هكذا، وأنا أسمعه يقرأ؛ فلما فرغ قال: ما فعلت في الذي

أرسلتك؟ فإنه لم يمنعني أن أكلمك إلا أنني كنت أصلي" أخرجه أبو داود. وأما الأخرس فإشارته تقوم مقام عبارته؛ فإذا أشار في الصلاة بما يقوم مقام الكلام من الناطق، فهل تبطل صلاته؟ فيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب في باب حد الزنى، والذي أجاب به منهما القاضي الحسين في "الفتاوي"-كما حكاه بعضهم-: البطلان، وهو ما قال الرافعي: إنه رآه بخط والده وجهاً في المسألة، والذي أجاب به الغزالي في "الفتاوى": مقابله، وادعى في "الوسيط" في كتاب الطلاق: أنه الأصح. واعلم أنه كما يكره السلام على المصلي والخطيب، ولا يستحق فاعله الرد-يكره على من كان مشغولاً بأم ريكره قطعه: من أكل، أو نوم، أو قضاء حاجة؛ لخبر ورد فيه؛ كذا قاله المتولي. وكذا لا يستحب لمن دخل الحمام أن يسلم على من فيه؛ لأنه بيت الشيطان، وليس موضع تحية. وقد يكون الابتداء بالسلام حرماً، وذلك مثل أن تسلم الرأة [الشابة على شاب غير محرم لها، صرح به في "التتمة". ومثله: إذا ابتدأ الشاب بالسلام على الشابة] الأجنبية، ويكره له الرد، وعند وجود المحرمية أو الزوجية فلا تحريم، وكذا لوكان أحدهما شيخاً. ويستحق الرد، وقد يكون الابتداء به أدباً، وليس بسنة متأكدة، قال الماوردي في "السير": وهو سلام المتلاقيين، وهو خاص، وليس بعام؛ فإنه لو سلم على كل من لقي لتشاغل [به عن] كلمهم، وليقصد به أحد أمرين: إما جلب مودة، أو دفع شر.

والأولى فيه: أن يبتدئ الصغير بالسلام على الكبير، والراكب على الماشي، والقائم على القاعد؛ فإن استويا فأيهما بدأ كان له فضل التحية، ولو لقي الشخص الواحد جماعة، فأراد أنا يخص طائفة منهم بالسلام-يكره؛ لما فيه من إيغار [صدور من] لم يسلم عليهم؛ فهو [ضد] مطلوبه. نعم، لو سلم على الجميع، وخص بعد ذلك بعضهم بالسلام-قال في "الحاوي": فهو أدب. وفيه-أيضاً- نظر. والسلام عند دخول مسجد أو بيت ليس فيه أحد، مطلوب، ويشبه أن يكون ملحقاً بهذا النوع. ومن هذا النوع: السلام عند القيام عن القوم ومفارقتهم؛ فإنه دعاء مستحب، ولا يجب به الرد؛ كذا قاله المتولي، وفيه نظر؛ لأن أبا داود روى عن سعيد [بن أبي سعي] المقبري عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم؛ فإذا أراد أن يقوم فليسلم؛ فليست الأولى [بأحق من الآخرة] " وأخرجه النسائي، وكذا الترمذي وقال: إنه حسن. والسلام الذي ندب الشرع إليه وحث عليه، وسنه بغير سبب مجتلب- هو سلام القاصد على المقصود. قال الماوردي: وهو عام يبتدئ به كل قاصد على كل مقصود صغير وكبير، وراكب وماش.

والأصل فيه قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَانِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] وقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النور: 61] ومعناه: فليسلم بعضكم على بعض، ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أمر منادياً حتى نادى: "أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". ثم حيث كان الابتداء به أدباً أو سنة، فالرد على المبتدأ-إذا كان مكلفاً-واجب؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] وظاهره الوجوب، وهل الأفضل الرد، أو الابتداء بالتسليم؟ [قال القاضي الحسين:] فيه وجهان. ثم إن اكن المسلم عليه واحداً فالرد [عليه] فرض عين؛ إذا كان من أهل الوجوب، ويكفيه إذا كان واحداً والمسلم عليه جماعة أن يقول: وعليكم السلام، ويقصد به الرد على الجميع؛ كما يسقط الفرض بصلاة الواحد على جمع من الجنائز: وإن كان المسلم عليهم جماعة فالرد فرض كفاية يسقط بفعل البعض، ويأثم الكل بالترك، ولو كان فيهم صبي لم يسقط الفرض به؛ كذا قاله القاضي الحسين في "كتاب الجمعة"، والمتولي، وأشار القاضي في موضع آخر منه إلى أنه يسقط على وجه، والخلاف جار فيما لو سلم الصبي على مكلف: هل يجب عليه الرد أم لا؟ وقد اختلف في أصله: فالقاضي [الحسين] بناه على أن عمده عمد أو خطأ؟ والمتولي بناه على أنه يصح إسلامه أم لا؟ والاختلاف في البناء يقتضي الاختلاف في التصحيح، ولا خلاف في أنه يستحب إذا لم يجب.

وأكمل السلام أن يقول للواحد والجمع: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ولو اقتصر علىقوله: السلام عليكم، للجمع، أو: عليك، للواحد- تأدت السنة، [وفيه نظر؛ لأنه روي عن أبي جري الهُجَيمي قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول الله. قال: لا تقل: عليك السلام؛ فإن "عليك السلام" تحية الموتى" أخرجه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح]. ولو قال: سلام عليكم، أو عليك- كفى أيضاً، ولو قال: سلامي عليكم، أو عليك- لم يكن مسلماص؛ فلا يستحق الرد، بخلاف ما لو قال: سلام الله عليمك، أو عليك، وهذا حكم الابتداء. وأما الجواب فأكمله أن يقول [للواحد والجمع]: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأقله-كما قال المتولي-أن يقول: وعليك السلام؛ فلو ترك واو العطف لا يكون مجيباً، ولو قال كل منهما لصاحبه معاً، أو على الترتيب: السلام [عليكم]، استحق على صاحبه الرد، وقال القاضي الحسين: إن ذلك

يكفي، ويسقط الرد، وكذا فيما لو قال كل [واحد] منهما لصاحبه ابتداءً. وعليكم السلام-سقط الرد. نعم، لو قال الشخص ابتداء: عليكم السلام-لا يستحق الجواب، قاله القاضي الحسين. وقوله: إنه يسقط [الرد] عند [قول] كل واحد منهام: وعليكم السلام مؤذن بأن المبتدئ بذلك يستحق الجواب. وقد قال في "التتمة": إنه لا يكون مسلماً؛ فلا يستحق الجواب، وبه يحصل في المسألة وجهان. ولو قال الشخص ابتداء: وعليكم السلام [، فقال الآخر: عليك السلام-[وجعلناه ابتداءً]-لا يسقط الجواب،]؛ لأنه للابتداء؛ فكأنه لم يقبل سلامه، بخلافما إذا قال: وعليكم السلام؛ فإن إتيانه بالواو قبول؛ كذا قاله القاضي [الحسين]. ثم [إنما يسقط] الرد إذا سمع المسلم الجواب؛ كما لا يستحق المسلم الجواب ما لم يسمع سلامه. ولو سلم عليه من وراء حائط، أو كان غائباً فكتب إليه كتاباً، وكتب فيه: السلام على فلان، أو أرسل إليه رسولاً، وقال له: سلم على فلان، فبلغه الصوت والكتاب والرسالة-قال في "التتمة": يجب عليه الجواب؛ لأن تحية الغائب تكون بالمناداة والكتاب والرسالة؛ فعليه أن يجيب بمثله أو بخير منه. والأخرس إذا سلم بالإشارة يردعليه باللسان، إلا أن يكون أصم؛ فيشير إليه بالإصبع. وقال في "التتمة": إنه يسلم عليه بلسانه، ويشير إليه، واشترط في استحقاق الناطق الجواب على الأصم: أن يتلفظ بالسلام بلسانه؛ لقدرته عليه، ويشير إليه باليد ليحصل له الإفهام؛ فإن فعل أحدهما لم يستحق الرد عليه. وهذا الفصل ذكرته؛ لأن له تعلقاً بكلام الشيخ هنا، وبعض الأصحاب ذكره

في كتاب "الجمعة"، وبعضهم في "السير"، والشيخ أهمله بالكلية؛ فأحببت ذكره في هذا الباب؛ لأن له تعلقا به، وقد بقي منه، ومما يتعلق به فروع، نذكر منها ما تيسر؛ لأن الشروع ملزم: قال الماوردي: إذا دخل على قوم فيهم كثرة، بحيثلاتعمهم المرة الواحدة-فسنة السلام تحصل بابتدائه به أول دخوله، ويدخل في فرض الرد جميع من سمعه؛ فلو أرا الجلوس فيمن لم يسمع سلامه ففي سقوط سنة السلام وجهان يظهر أثرهما في أنه لو رد عليه من لم يسمع سلامه: فإن قلنا: إن سقطت، [سقط] برد هذا وجوب الرد على من سمع، وإلا لم يسقط. إذا كان الداخل على قوم يحتاج إلى الاستئذان؛ فهو مامور بالاستئذان والسلامن وبايهما يبدأ؟ فيه وجهان. قال الماوردي: والأولى-عندي- حمل الوجهين على حالين: فإن وقع بصره ابتداء على المقصود بدأ بالسلام، وألا بدأ بالاستئذان. ثم إذا أمرناه بتقديم السلام؛ فسلم، فهل يكون سلامه استئذاناً؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، وعلى هذا يكون الرد عليه أدباً. والثاني: لا؛ فعلى هذا يكون الرد عليه واجباً، ويكون هذا السلام مسنوناً، وتسقط به سنة السلام. إذا كان الداخل على الشخص الواحد جماعة، فالسلام في حقهم سنة على الكفاية إذا أتى به البعض سقطت [به] السنة عن الباقين؛ قاله القاضي الحسين في باب الجمعة. قال: ولا توجد سنة على الكفاية إلا هذه، وغيره أضاف إليها الأضحية، كما ستعرفه في موضعه. جرت عادة بعض أهل زماننا عند السلام أن يقبل يد المسلم عليه، وينحني له، وتقبيل اليد جائز لأجل فقه، أو زهد، أو أبوة، أو أمومة، وغير جائز إذا فقد ذلك، وكان المقبل يده من أرباب الدنيا أو الأغنياء.

وحكم القيام للشخص حكم تقبيل يده، قاله المتولي، وهذا عند الأمن من ضرر يلحق الشخص إن لم يفعل. والانحناء أطلق بعضهم جوازه مع كراهة فيه. وفي "التهذيب" عند الكلام في الركوع في الصلاة: أنه لا يجوز لأحد أن يثني ظهره لمخلوق. والله أعلم. قال: وإن بدره البصاق، أي: في الصالة؛ كما يشعر به سياق الكلام، [وإن كان لفظ الكتاب عاماً]، [ويقتضيه الخبر الذي سنذكره،] وهو في المسجد-بصق في ثوبه، أي: دون المسجد؛ لقوله-عليه السلام-:"البزاق في المسجد-وفي رواية: النخاعة في المسجد-خطيئة، وكفارتها دفنها" رواه أنس بن مالك، وأخرجه البخاري. ورواية مسلم عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النفل في المسجد خطيئة، وكفارته أن يواريه". وإذا كان البصاق في المسجد ممتنعاً؛ والخروج منه في الصلاة ممتنعاً- تعين أن يضعه أي ثوبه، وسيأتي في الخبر ما يرشد إليه. قال: وحك بعضه ببعض؛ إذهاباً لصورته.

وفي الخبر الذي سنذكره ما يدل عليه أيضاً. ولو بصق في المسجد كان كفارته دفنه؛ للخبر. قال: وإن كان في غير المسجد بصق على يساره، أو تحت قدمه؛ لما روى أبو داود، عن أبي سعيد الخدري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فرأى نخامة في قبلة المسجد؛ فحكها، ثم أقبل على الناس مغضباً، فقال: "أيسر أحدكم أن يبصق في وجهه؛ إن أحدكم إذا استقبل القبلة فإنما يستقبل ربه- عز وجل- والملائكة عن يمينه؛ فلا يتفل عن يمينه ولا في قبلته، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه؛ فإن عجل به أمر فليتفل هكذا". ووصف لنا ابن عجلان ذلك: أن يتفل في ثوبه، ثم يدلك بعضه على بعض". قال بعضهم: وهذا الخبر [فيه] دليل على أن المصلي لا يكون عن يساره ملك؛ لأنه لا يجد ما يكتب؛ لكونه في طاعة، وإنما قال ذلك؛ لأنه-عليه السلام-علل منع البصاق عن اليمين بكون الملك هناك، وأباحه على اليسار.

ثم قوله: "عن يساره أو تحت قدمه" ليس على التخيير؛ بل هو على حالين، يدل عليه ما روى أبو داود، عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام الرجل إلى الصلاة- أو: إذا صلى أحدكم-فلا يبزق أمامه ولا عن يساره، ولكن عن تلقاء يساره إن كان فارغاً، أو تحت قدمه اليسرى، ثم ليقل به" وأخرجه الترمذي، وقال: إنه حسن. وعلى هذا يجب حمل كلام الشيخ أيضاً، ولوتعذر عليه جهة اليسار وتحت القدم بصق عن يمينه ودفنه، لكنه يتحامى ذلك ما أمكن. قال: وإن مر بين يديه مار، وبينهما، أي: بين المصلي والمار سترة، أو عصا بقد رعظم [الذراع]- لم يكره، أي: المرور؛ لأنه لا يؤثر في صلاة المصلي، قال -عليه السلام-: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل-فليصل، ولا يبال ما مر وراء ذلك" رواه مسلم.

وروى مسلم-أيضاً-عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره؛ إذا كانبين يديه مثل آخرة الرحل، وإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود. قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا بن أخي، سألت رسولا لله صلى الله عليه وسلم كما سألتني؛ فقال: الكلب الأسود شيطان". وقد أخذ بهذا الحديث الإمام احمد، ولخلافه أثر ستعرفه. ومؤخرة الرحل. ذراع. قاله عطاء. وقيل: إنها تداني ثلثي ذراع. وروى مسلم أيضاً: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ركزت له عنزة؛ فتقدم، فصلى الظهر ركعتين، يمر بين يديه الحمار والكلب، لا يمنع". وفي طريق آخر: "ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العنزة". وفي أخرى: "فكان يمر من ورائها المرأة والحمار". والعنزة: عصا في أسفلها زج من حديد، وفي رأسها سنان مثل الحربة. [قال الإمام: ولعل السر في ذلك أن يتبين للمار المسجد الذي يتجنب

المرور فيه، فيتنكبه. وإذا لم يكن بين يديه شيء يعلم حده، والمار في مروره يعسر عليه الاشتغال برعاية ذلك-فيكون المصلي في تركماي ستتر به كالمقصر فيالاهتمام بحماية حد مصلاه. قال: ولا يحاول في الستر [الستر] الحقيقي، كما ذكرناه في نصب شيء في سطح الكعبة يستقبله المصلي؛ فإن ذلك الشاخص قبلة للمصلي، وهذا لإعلام حد المصلي؛ حتى] [يمر]، ولو كان مروره من وراء السترة كره، بلا خلاف؛ كما أفهمه كلام الشيخ؛ لقوله-عليه السلام-: "لأن يقف أحدكم مائة عام خير له من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي" أخرجه مسلم. وفي رواية [له]: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه". و [في] رواية البخاري: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ما عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه".

قال أصحابنا: وقوله: "يقف أربعين" يحتمل أنه أراد أربعين سنة، أو شهراً، أو يوماً، أو ساعة، ويوافقه قول أبي النضر: لا أدري أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة. لكن في "مسند" البازر: "أربعين خريفاً". وظاهر الخبر: أن الكراهة كراهة تحريم، وهو ما صرح به العجلي، وعبارة صاحب "التهذيب" و"التتمة" توافقه؛ حيث قالا: ولا يجوز لأحد أن يمر بين يدي المصلي إذا صلى إلى سترة، وهو الأظهر في "الرافعي"، وفي "الوسيط" تبعاً لـ "النهاية" أن المرور ليس بمحظور، وإنما هو مكروه، والمبالغة؛ لتأكد الكراهة، وقد ادعى بعض المتأخرين أنه الأصح اقتفاء لأثر صاحب "المحيط"؛ فإن أم سلمة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجرة، فمر بين ييه عبد الله، أو عمر بن [أبي] سلمة؛ فقال بيده؛ فرجع؛ فمرت زينب بنت أم سلمة؛ فقال بيده هكذا؛ فمضت؛ فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: هن أغلب" رواه ابن ماجه، ولو

كان المرور حراماً لصرح به. ثم على كلا الوجهين للمصلي دفعه ومنعه من المرور؛ لقوله-عليه السلام-: "إذا كان أحدكم يصلي إلى سترة تستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه-فليدفعه في نحره، فإن أبي فليقاتله؛ فإنما هو شيطان" أخرجه مسلم. وفي لفظ البخاري: "إذا مر بين يدي أحدكم شيء وهو يصلي فليمنعه، [فإن أبي فليمنعه]، فإن أبي فليقاتله؛ فإنما هو شيطان". واختلف في [معنى] قوله: "فإنما هو شيطان". فقيل: معه شيطان؛ لأن الشيطان لا يجسر أن يمر بين يدي المصلي منفرداً. وقيل: هو شيطان من شياطين الإنس، لكن هل الدفع مستحب أو واجب؟ المحكي عن "المحيط": أنه مستحب؛ إذ لو كان واجباً لما أهمله النبي صلى الله عليه وسلم في القصة التي اسلفناها عن رواية أم سلمة؛ ولأجل الخبر المذكور قال الإمام: إنه لا ينتهي دفع المصلي المار إلى منع محقق، بل يومئ ويشير برفق في صدر من يمر به، وينبغي تنبيهه. وعن "الكافي" للروياني: أن للمصلي أن يدفعه، وله أن [يصر على ذلك] وإن أدى إلى قتله. وهذا يظهر أنه تفريع على القول بأن الكراهة كراهة تحريم، وما قاله الإمام بناء على ما اعتقده: أنها كراهة تنزيه.

قال: وكذلك إن لم تكن عصا، وخط بين يديه على ثلاثة أذرع خطّاً- لم يكره أي: المرور؛ لأن مروره لا يؤثر في صلاة المصلي؛ لقوله-عليهالسلم-:" إذا صلى أحدكم فليجعل أمام وجهه شيئاً؛ فإن لم يجد فلنيصب عصاً؛ فإن لم يكن معه عصا فليخط خطّاً، ثم لا يضره ما مر أمامه" أخرجه أبو داود، ثم قال: والخط بالطول. وما ذكره الشيخ من الخط ذكره القاضي أبو حامد في "جامعه". وقال ابن المنذر: إن الشافعي كان يأمر به في العراق، وقد كتبه في كتبه الجديدة، ثم خط عليه. قال الإمام: [فاستقر أن] الخط لا يكفي؛ إذ الغرض الإعلام، وهو لا يحصل بالخط. لكن الشافعي حكى عنه البويطي: أنه لا يخط المصلي بين يديه خطّاً إلا أن يكون في ذلك حديث ثابت؛ فيتبع؛ فعلق القول [فيه] بصحة الخبر، وقد صححه الإمام أحمد وابن المديني. وابن المنذر أطلق القول بأنه صح؛ فلا جرم جزم الشيخ القول به، واختاره الغزالي في "الخلاصة"، وكذا البغوي وصاحب "المرشد" والأكثرون، كما قال الرافعي: إن حكم الخط الشاخص من الأرض فيكراهة المرور بينه وبين المصلي، وتسليط المصلي على الدفع، [لكن لمن] قال باستقرار الأمر على أن الخط لا يكفي- ومنهم الإمام والغزالي في "الوسيط"- أن

يقولوا: الخبر، وإن صححه من ذكرتم، فقد ضعفه غيرهم؛ كما قاله عبد الحق وغيره، وإن ما ورد [فيه] عن أبي هريرة من طرق مختلفة لا يصح [في كتب الحديث]. ثم إذا قلنا بما قاله الشيخ ففي كيفية الخط وجهان: أحدهما: يكون كهيئة الهلال، وهو اختيار الإمام أحمد. والثاني متوافقان على أن الخط يكون من المشرق إلى المغرب، وإليه أشار [الشيخ] بقوله: "بين يديه". وقد قيل: إنه يكون خطّاً مستقيماً إلى جهة القبلة؛ لما ذكرناه من قولأبي داود، وقد يستأنس له بما روى أبو داود عن المقداد قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصل إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على جانبه الأيمن، أو الأيسر، [ولا يصمد إليه صمداً] " يعني: لمي جعله قصده بين عينيه، والصمد في اللغة: القصد.

ووجه التمسك به –على المدعي-أنه لم يجعل السترة قصده، وجعل الخط بين يديه يكون قصده؛ فكان جعله بالطول يمنة المصلي أو يساره أقرب إلى ذلك. وقد نبه الشيخ بقوله: "على ثلاثة أذرع خطّاً، لم [يكره" على أن حريم] المصلي يكون إلى ثلاثة أذرع، وأن السترة أو العصا ينبغي أن يكون بينهوبينها قدر ذلك، وبه صرح في "المهذب" وغيره، فقال: يستحب أن يجعل بينه وبين ما يستتر به قدر ذراعين إلى ثلاثة، وكذا بين الصفين، وهو مقدار مسجد على التوسع. قال الشافعي: وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وكان بينه وبين الحائط قريب من ثلاثة أذرع، [و] هكذا رواه البخاري عن ابن عمر. ورواية مسلمعن سهل بن سعد قال: "كان بين مصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر الشاة". فلو خالف المصلي ذلك، فتباعد عن سترته أكثر من ذلك-[كان] كما

لو صلى إلى غير سترة. قال ابن المنذر: كان مالك يصلي متباعداً عن السترة، فمر به رجل لا يعرفه، فقال له: أيها المصلي، ادن من سترتك، [قال]: فجعل يتقدم ويقول: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء: 113]. ثم [في] معنى الخط بسط شيء للصلاة كالسجادة ونحوها؛ قاله في "النهاية" و"الوسيط" و"التهذيب". قال: وإن لم يكن شيء من ذلك كره، أي: المرور؛ لأنه يقطع صلاة المصلي على مذهب أحمد [بن حنبل]، ما تقدم؛ للخبر السابق. وأجزأته صلاته؛ لقوله –عليه السلام-: "لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم؛ فإنما هو شيطان" أخرجه أبو داود عن رواية أبي سعيد الخدري، وهذا ناسخ لما تمسك به أحمد. وكذا مارواه البخاري ومسلم: "أنه -عليه السلام- كان يصلي وعائشة معترضةبين يديه كالجنازة".

ورواية مسلم عن ابن عباس قال: أقبلت راكباً على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، فتخطيت بين يدي بعض الصف، فنزلت، فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك عليّ أحد. قال البخاري: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار. وفي بعض طرقه: "فصار الحمار بين يدي بعض الصف". وروىلنسائي في هذا الحديث: فلم يقل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئاً. وكل هذه الأحاديث دالة على النسخ. ثم إذا ثبت أن المرور فيهذه الحالة مكروه فهل للمصلي منع المار منه؟ حكى الإمام ومن تبعه فيه وجهين: أحدهما: نعم؛ لعموم الخبر، وهو ما أورده البندنيجي. والثاني: لا؛ لتقصيره، وهو ما صححه الرافعي، ولمي ورد البغوي غيره. وهل القول بالكراهة مطرد في حالة إمكان المرور من موضع آخر وعدمه، أو مختص بالحالة الأولى؟ الذي حكاه الإمام عن الأئمة: الثاني، وتبعه في "الوسيط"، وقال الرافعي: إن الكتب ساكتة عن ذلك. وفي "صحيح" البخاري ما ينازع فيما حكاه الإمام، وتعميم الكراهة. وقد صرح الأصحاب بأنه لو كان بالصف الأول فرجة لم يسدها الصف

الثاني، جاز المرور بين يدي الصف الثاني لسد الفرجة، وليس لهم دفعه؛ لأنه كان عليهم أن يفعلوا ذلك، فلما لم يفعلوه جاز المرور، ومن هذا يؤخذ أن محل النزاع فيالمسألة قبلها إذا لم يكن المصلي منسوباً إلى التقصير بالصلاة في المكان، فإن كان مقصراً-كما إذا وقف في قارعة الطريق-فلا كراهة. فرع: قال في "التتمة": لو تستر بآدمي أو حيوان، لم يستحب له ذلك؛ لأنه يشبه عبادة من يعبد الأصنام، [و] لأنه لا يؤمن أن يشتغل به؛ فيتغافل عن صلاته. وفي مسلم ما يرد عليه؛ فإنه روى عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض راحلته فيصلي إليها، قلت: أرأيت إذا هبت الركاب؟ قال: كان يأخذ الرحل، فيعدله، فيصلي إلى آخرته، أو قال: مؤخره، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يفعله، والله أعلم.

باب سجود السهو

باب سجود السهو السهو: الغفلة. وفائدة السجود لأجله: جبر ما حصل من النقص بسبب زيادة شيء مخصوص في الصلاة، أو نقصان شيء مخصوص من المسنونات، وهي المسماه بـ"الأبعاض"، وذلك يتضح بشرح مسائل الكتاب. وعبارة بعضهم: أنه يشرع بسبب ترك مأمور أو ارتكاب منهي. والأولى أولى؛ لأن فيها اتباعاً لما ورد [في الخبر،] قال-عليه السلام: "إذا زاد أحدكم أو نقص فيسجد سجدتين". وبذلك يظهر لك أنه لا يختص بالفرض؛ بل يشركه فيه السنة، وهو المذهب. وقد حكى عن القديم قول: أن سجود السهو لا يشرع في السنة؛ لأنها اخف حالاً من الفريضة. قال القاضي أبو الطيب: ولا يعرف هذا القول للشافعي، بل قال ابن الصباغ: إن الشافعي نص في القديم على انه يسجد فيها. ثم قاعدة الباب: أنه متى شك في فعل مأمور مما يسجد لتركه بعد فوات محله، سجد للسهو؛ لأن الأصل أنه لم يفعله، وإذا شك في ارتكاب [منهي معين يقتضي تحققه سجود السهو] فالأصل أنه لم يفعله؛ فلا سجود عليه [إلا في مسألة] واحدة، وهي ما صدر بها الشيخ الباب وما يليها. وقولنا: "معين"، احتراز مما إذا شك هل ترك مأموراً في الجملة أم لا؟ فلا

يسجد كما لو شك هل سها أم لا؟ قاله البغوي وغيره. قال: إذا شك في عدد الركعات، وهو في الصالة -بنى الأمر على اليقين وهو الأقل، يأتي بما بقي، ويسجد للسهو؛ لما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته؛ فلم يدر كم صلى: أثلاثاً، أم أربعاً- فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم. فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع- كانتا ترغيماً للشيطان". قال القاضي الحسين: وليس المعنى بقوله -عليه السلام-: "شفعن له صلاته" أنها بالسجدتين تصير ستاًّ؛ إذ السجدتان لا تقومان مقام ركعة، وإنما عني به: أن السجدتين تردانها إلى الأربعة، وتحذفان الزيادة؛ لأن سجود السهو كما يجبر النقصان يدفع الزيادة. ومعنى ترغيم السجدتين الشيطان، أو أنفه، كما جاء في رواية: أنهما "تسخطانه"؛ فكأنه لفرط إذلاله قد ألصق أنفه بالرغام، وهو التراب الذي يخالطه الرمل. فإن قيل: قد روى البخاري ومسلم، عن [ابن مسعود: "أن] النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب؛ وليبن عليه، ثم ليسجد سجدتين"، والتحري: طلب أحد الأمرين وأولاهما بالصواب في ظنه؛ فلم

عدلتم عن العمل به، مع أنه معتضد بالقياس على ما إذا شك في الأواني وفي القبلة ونحوهما؟! قيل في جوابه: إنا نحمل التحري المذكور [في هذا الخبر] على طلب اليقين؛ جمعاً بينه وبين الخبر الأول، والتحري قد يكون بمعنى اليقين؛ كما في قوله تعالى: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} [الجن: 14]. والفرق بين ما نحن فيه وبين الأواني والقبلة: أنه هنا يمكنه البناء على اليقين في المجتهد يه من غير كبير مشقة، ولا علامة يستدل بها لى المطلوب، ولا كذلك في الأواني والقبلة ونحوهما. فإن قيل: لو أخبره جمع كثير بأنه ترك ركعة من صلاته أو فرضاً منها، واعتقد هو أنه أتى بها، أو [أنه] أتى به، [واعتقد هو] أنه لم يأت به- وجب عليه البناء على قولهم، وإن أمكنه البناء على اليقين فهو يبطل ما ذكرتم. قلنا: لنا في رجوعه إلى قولهم وجهان حكاهما الرافعي وغيره هنا، وقد حكيناهما عن رواية أبي علي في باب صلاة الجماعة قولين: فإن قلنا: إنه لا يرجع إلى قولهم؛ كما لو أخبره واحد أو اثنان-وهو الظاهر من كلام الأصحاب-فلا إشكال. وإن قلنا: إنه يرجع إلى قولهم-كما هو الأصح في "التتمة"-فمعتمده قصة ذي اليدين، وهو قائم مقام اليقين؛ إذ المسالة مصورة بما إذا تردد في قولهم، والله أعلم. قال: وكذلك إذا شك في فرض من فروضها، أي: غير النية والتكبير؛ لأن الشك فيهما شك في كل فروضها-وقد تقدم الكلام فيه- بنى الأمر على اليقين، وهو أنه لم يفعل؛ فيأتي به، ويسجد للسهو؛ لما تقدم. قال بعضهم: وإنما أورد الشيخ المسألة الأولى، وعطف هذه عليها، [وإن كانا

في الحكم سواء؛] لأن الأولى مورد صريح الحديث. قلت: لأن ما ورد في "سنن" أبي داود وإن أمكن الاستدلال بعمومه على هذه المسألة أيضاً؛ فآخر الخبر يدل على أن المراد: [الصورة] الأولى، وصيغة الخبر المشار إليه: "إذا شك أحدكم في صلاته فَلْيُلْقِ الشك، وليبن على اليقين، وإذا استيقن التمام سجد سجدتين: فإن كانت صلات تامة كانت الركعة نافلة، والسجدتان، وإن كانت ناقصةً كانت الركعة تماماً لصلاته، وكانت السجدتان مُرْغِمَتَ الشيطان". فإن قيل: ما وجه دعواكم: أن هذه المسألة والتي قبلها خرجت عن القاعدة التي ذكرتموها؟ ولأي معنى خرجت؟ قلنا: أما وجه خروج ذلك عن القاعدة؛ فلأنه [على تقدير أن يكون] لم يأت بما شك فيه؛ فإذا أتى به لا خلل حتى يجبر، وعلى تقدير أن يكون قد أتى به فإعادته تؤثر خللاصفي الصلاة؛ فيحتاج إلى الجبر، فإذا شك في الفعل، وأتى به فإعادته تؤثر خللاً في الصلاة؛ يحتاج إلى الجبر، فإذا شك في الفعل، وأتى به فقد شك: هل ارتكب ما يقتضي السجود أم لا؟ والأصل عدمه. وأما كونه يسجد فقد قال الشيخ أبو محمد وطائفة من الأصحاب-[كما قال الإمام-: إنه] لا وجه له إلا [الخبر] الذي أسلفناه؛ ولهذا قال في "الوجيز": إنه يسجد خبراً؛ أي: لأجل الخبر، وهذا صوابه، وقد تصحف الخاء فيه بالجيم. وليس بصحيح. وعلىهذا: لو زال الشك قبل السلام، وانكشف الحال على أن الذي [أتى] به [جابراً] زائد-سجد للسهو؛ لتحقق الزيادة، وإن بان أنه [غير] زائد فلا، قال: لأن [الظاهر من] الخبر أن الشك دام إلى السلام، وهذا القول وتفريعه مال إليه الإمام والغزالي في "الوجيز".

وقال الشيخ أبو عليّ: إنما سجد، وإنما احتمل أن يكون ما أتى به غير زائد؛ لأنه يأتي به مع تجويز ان يكون زائداً؛ فقد تطرق إليه نوع خلل؛ فلذلك سجد. وهذا ما صححه في "التتمة" ويحكي عن القفال أيضاً، ولم يورد صاحب "التهذيب" وكثيرون -كما قال الرافعي- سواه، وهو الذي اورده ابن الصباغ. وقد تعرض الإمام لنقض العلة المذكورة بأن من قضى فائتة وهو يتردد، في تركها [لا يأتي بسجود السهو]، مع أنه أتى بجميعها مع التردد في الوجوب من حين اقتران النية. وأجيب: بأن النية في مسألة النقص لم تكن مترددة في مبطل ولا في باطل، بل في واجب أو مندوب، والنية هاهنا مترددة في واجب أو مبطل؛ فكان تأثير التردد هاهنا أثم. وعلى هذا قال الشيخ أبو عليّ: إذا تيقن قبل السلام أن ما أتى به غير زائد، سجد؛ لأجل التردد حالة الفعل. وهو مخصوص بالاتفاق بما إذا مضى في التردد ركن يحتمل أن يكون زائداً، فأما إذا خطر الشك، فزال ولم يمض معه ذلك-فلا أثرله ولا سجود. وقد ضبط ذلك في كتاب "التهذيب" بقوله: ومن شك في ركن، ثم تذكر أنه أتى به: فما أتى في حالة الشك إن كان زائداً على أحد المحتملين سجد، وإلا فلا. مثال ذلك: إذا كان في ركعة من الصبح، فشك أنها أولاه، أو ثانية: فإن تذكر قبل القيام إلى الثانية أنها أولاه لم يلزمه سجود السهو؛ لأن ما هو فيه على كل احتمال [من] أصل صلاته، وإن تذكر بعد القيام إلى الثانية سجد؛ لأن قيامه يحتمل أن يكون زائداً. وكذا لو شك في ركعة من الظهر أنها أولاه أو ثانية: فإن تذكر قبل القيام إلى الثانية لم يلزمه السجود، وإن تذكر بعد القيام إلى الثانية فعليه السجود؛ لأنها إن كانت ثانية فقد ترك التشهد الأول، وإن كانت أولاه.

فقد أتى بها مع الشك في أنه ترك التشهد الأول أم لا؟ قال القاضي الحسين: ويحتمل أن يقال: لا سجود عليه. [وإن كان شكه أن الركعة التي هو فيها ثالثة أو رابعة: فإن بان قبل أن يرفع رأسه من السجود الحال فلا سجود عليه]، وإن بان بعد أن قام فعليه؛ لأنه يجوز أن يكون زائداً، وعبارته في ذلك [أنه]: إن أتى مع الشك بركن تام سجد، وإلا فلا، وقد قدمت تفصيل القول في الركن التام ومقارنة الشك إياه في فصول النية في أول باب: صفة الصلاة. وأنا فصلته في الباب قبله، وبين العبارتين فرق لمن تأمل. أما إذا وقع الشك في عدد الركعات، أو في فرض من فروض الصلاة بعد الخروج منها-فلا أثر لذلك، طال الزمان أو قصر؛ لأنه مما يكثر جنسه، ولا يمكن الاحتراز عنه، ولا يأمن مثله في القضاء، هذه طريقة العراقيين، وللمراوزة في المسألة ثلاثة طرق: إحداها: أن فيها قولين: [أحدهما]: كما صار إليه العراقيون، وهو ما حكاه في التتمة عن القديم، وكذا القاضي الحسين عند الكلام في ستر العورة. والثاني: أنه كما [لو] كان في الصلاة؛ فإن الأصل أنه لم يفعل؛ فإن قرب الزمان تدارك، وبني على صلاته، وسجد للسهو؛ لأنه سلم في غير محله؛ فإن طال الزمان استأنف. قلت: ويأتي وجه آخر مع طول الزمان: أنه يبني أيضاً؛ بناء على أنه لو تذكر ذلك وقد طال الفصل، بنى؛ كما تقدم. وهذه الطريقة طريقة الفوراني. والثانية: إن طال الزمان لم يؤثر شكه قولاً واحداً؛ لأنه لا يمكن ضبطه، ويؤدي إلى ما لا يتناهى، وإن لم يطل قولان؛ لأن وجه التأثير أن وقوعه يندر ولا يعم؛ فهو كالشك في الصلاة. وهذه طريقة الشيخ أبي حامد، واستحسنها الإمام.

الثالثة-حكاها القاضي الحسين هنا لا غير: أن ذلك يؤثر، [لكن] إن كان الفصل يسيراً بنى على صلاته، وإن طال الفصل فقولان: الجديد: أنه يستأنف. والقديم: أنه يبني على صلاته. قال: ونظير المسألة: المعتدة بالأقراء إذا ارتابت بالحمل: إن كانت في خلال العدة لا يحكم بانقضائها، وإن كانت قد انقضت عدتها فعلى قولين: أحدهما: لا ينعقد النكاح. والثاني: ينعقد موقوفاً. ووجه الشبه: أن الريبة هناك طرأت بعد الحكم بانضاء العدة؛ فأوجبت نقض الحكم [ببقاء العدة؛ فكذا هنا: الريبة إذا طرأت [أوجبت نقض] الحكم] بصحة الصلاة، ويلزمه الاستئناف. قلت: وهذا التشبيه بالطريقةالأولى أقرب منه بهذه، وبالجملة فحاصل الطرق عند الاختصار أربعة أقوال: أحدها: لا أثر لذلك أصلاً. والثاني: أنه يؤثر، لكن إن قرب الزمان بنى، وإن بعد استأنف. والثالث: أنه يؤثر، ويبني على كل حال. والرابع: أنه إن قرب الزمان أثر، وبني، وإن بعد [استأنف] ولا أثر له، وهذا ما اختاره البغوي. والغزالي اقتصر على حكاية ما عدا الثالث، وقال: وليس من الشك ألا يتذكر كيفية الصلاة السابقة؛ بل الشك أن يتعارض اعتقادان على التناقض بأسباب حاضرة. فن قلت: قد أفهم قول الشيخ: "في فرض من فروضها" أنه إذا شك في سنة من سننها: كالتشهد الأول، والقنوت، ونحوهما-لا يكون الحكم كذلك، وقد قال البندنيجي، وغيره: إنه الجديد، وهو مقتضى القاعدة التي سلفت، وكذا

يقتضي أنه إذا شك هل سجد للسهو أو لا؟ أو سجد واحدة أو اثنتين-أنه لا يأتي بما شك فيه، وهو يأتي به بلا خلاف. قلت: أما الأول فلا يخالف ما أفهمه كلام الشيخ؛ لأن الشيخ قال: إنه يأتي [بأمرين]: بما شك فيه، وبسجود السهو، ومن شك في ترك القنوت ونحوه لا يأتي إلا بأحدهما؛ لأن شكه يه إن كنا في محله أتىبه، ولا سجود، وإن كنا بعد فوات محله سجد فقط، وعلى هذه الحالة يحمل كلام البندنيجي وغيره، لكني رأيت-فيما وقفت عليه من "الحاوي"-أنه إذا شك هل أتى بالتشهد الأول، أو قنت في الصبح، [أو قرأ الفاتحة] أو سجد سجدة أو سجدتين-فإنه يطرح الشك، ويبني على اليقين، ويأتي بما شك في فعله، ويسجد للسهو، وهذا لا وجه له. وأما الثاني فلا نسلم أن كلام الشيخ يفهمه؛ لأن فرض الصلاة يحترز به عن سننها، والمفهوم من سنن الصلاة إنما هو الراتبة فيها، دون ما يطرأ فيها بسبب يحدث، وذلك واضح في باب فروض الصلاة وسننها، وإذا كان كذلك فسجود السهو ليس من السنن التي لا تنتقل الصلاة عنها؛ فلذلك قلت: إن كلام الشيخ لا يفهم ذلك. ثم لو سلمنا أنه يفهم إخراج السنن الراتبة وغيرها، فهو لا يفهم إلا عدم ثبوت الحكمين، كما ذكرناه، وهو كذلك؛ لأنه يأتي بما شك فيه، ولا يسجد لأجله للسهو؛ كما صرح به الأصحاب. نعم، هاهنا مباحثة، وهي أن الجابر للخلل الواقع بالشك [في الصلاة إنما يكون [بسجدتي السهو]، وهو كذلك فيما إذا وقع الشك] في أنه هل سجد للسهو أم لا؟ فإنه يأتي بسجدتي السهو التي شك فيهما، وهما جابرتان

للخلل؛ كالشاة من الأربعين تزكي نفسها وغيرها، وهذه المسألة [هي] التي سأل عنها أبو يوسف الكسائي حين جمعهما مجلس، فادعى الكسائي أن من تهدي إلى علم، وتبحر فيه- تهدى إلى الفنون كلها؛ فقال له أبو يوسف: أنت قد تبحرت في علم العربية، فما تقول فيمن سها في سجود السهو هل يسجد؟ فقال لا. فقال: لم [قلت]؟ فقال: لأن التصغير لا يصغر؛ إذ لو صغر لصغر تصغير التصغير؛ فيؤدي إلى ما لا يتناهى. فأصاب في الحكم والتعليل. فأما إذا وقع الشك في أنه هل سجد واحدة أو اثنتين، فقد قال الأصحاب: إنه يأتي بسجدة أخرى، ولا يسجد. قال الإمام: وهو متفق عليه، ولم يحك الجمهور غيره، وإذا كان كذلك فالخلل الذي وقع بالشك لم يحصل بعده إلا سجدة واحدة؛ فهو مخالف للقاعدة. [وجوابه هذا] يتوقف على تقديم مسألة مقصودة في نفسها، وهي [أنه]: إذا سها في صلاته؛ فسجد سجدتي السهو، ثم قام قبل السلام ناسياً، أو فعل ما يقتضي سجود السهو فهل يعيد سجدتي السهو، ثم قام قبل السلام ناسياً، أو فعل ما يقتضي سجود السهو فهل يعيد سجدتي السهو أم لا؟ فيه وجهان: أصحهما- في "الرافعي"،وهو المذهب المشهور؛ كما قال في "التتمة"-: أنه

لا يعيده، وحكى الإمام اتفاق الأصحاب عليه. والثاني-وهو قول أبي إسحاق؛ كما قاله البندنيجي، وابن القاص؛ كما قاله ابن الصباغ، وغيره-: أنه يعيده، وهو الأصح في "الحاوي"؛ إذ لو كان السجود يجبر ما بعده لم يكن لتأخيره إلى آخر الصلاة معنى، وكان يكون عقيب سببه؛ كما في سجود التلاوة. [وللمنتصرين للأول أن يقولوا: سجود التلاوة] في الصلاة يلزم محلاً واحداً، وهو حالة القيام للزوم سببه له؛ فإنه لو قرأ آية سجدةفي غيره لم يسجد؛ إذ لا تشرع القراءة في الصلاة في غيره، وسجود السهو لو كان عقيب سببه لم يلزم محلاً واحداً؛ لأن سببه لايلزمه؛ فقد يقع في محل سجود؛ فيؤدي إلى الإتيان بأربع سجدات متواليات، فرضاً ونفلاً، ولك يخل بصورة الصلاة؛ فلا جرم أخر إلى آخر الصلاة وإن جبر ما بعده، والله أعلم. إذا عرفت ذلك عدنا إلى ما نحن فيه: فإن قلنا -فيما إذا وقع السهو بعد استكمال السجود- بعدم الإعادة، في صورتنا أولى. وإن قلنا: يعيد ثم، فالفرق أن بعض الجابروقع في مسألتنا متأخراً عن الخلل؛ فاغتفر وقوع [البعض] الآخر قبله، وثم وقع مجموع الجابر قبل الخلل فلا يكون جابراً؛ لأن السيل لا يسبق المطر- وهذا جواب الكسائي في نحو من ذلك أيضاً، على أني رأيت في "الحاوي" في مسألتنا حكاية وجه آخر: أنه يأتي بعد الشك بسجدتين؛ كما صار إليه قتادة: أحداهما: يتم بها جبران السهو الأول، وتحسب من السهو الثاني. والثانية: يتم بها جبران السهو الثاني؛ كما نقول في المعتدة إذا وطئها الزوج بشبهة، وقد بقي من عدتها قرء: فعليها أن تعتد بثلاثة أقراء بعد الوطء الأول منها تتم العدة الأولى، وتحسب من الثانية، والباقيان تتم بهما العدة الثانية.

وحينئذ فلا فرق بين المسألتين، والأولى الترتيب؛ لما ذكرناه من الفرق. والله أعلم. قال: وإن زاد في صلاته ركوعاً، أو سجوداً، أو قياماً، أو قعوداً -على وجه السهو- سجد للسهو؛ لما روى أبو داود، عن عبد الله –وهو ابن مسعود-قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر خمساً؛ فقيل له: أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟ قال: صليت خمساً؛ فسجد سجدتين بعدما سلم" وأخرجه البخاري ومسلم. ومعنى قول ابن مسعود: "بعدما سلم" أي: من الصلاة أولاً، يدل عليه أنه جاء في رواية عنه قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً، فلما انفتل توشوش القوم [بينهم]؛ فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله، هل زيد في الصلاة؟ قال: لا. قالوا: فإنك قد صليت خمساً؛ فانفتل فسجد سجدتين، ثم سلم، ثم قال: إنما أنا بشر [مثلكم] أنسى كما تنسون" وأخرجه مسلم. قال بعضهم: وفي رواية لمسلم: "إذا زاد أحدكم أو نقص فليسجد سجدتين"،

وعلى هذه الرواية فالدلالة على المدعي بنفس الخبر، وعلى الأخرى فوجه الدلالة القياس؛ لأن زيادة الركن الواحد عمداً تبطل؛ كزيادة الركعة عمداً؛ فوجب أن يكون حكمهما عند السهوسواء، ثم في الخبر دلالة علىن زيادة الركعة في الرابعة لا تبطلها، ويسجد بسببها للسهو، وهو كذلك عندنا، ونقيس عليه إذا أتى بركعة سهواً في الثلاثية والثنائية؛ لأن الزيادة لو اثرت في جعل الوتر شفعاً لأثرت في جعل الفع وتراً. ثم في قول الشيخ: "على وجه السهو" احتراز عما إذا فعل ذلك على وجه العمد؛ فإنه في حالة يبطل؛ كما ذكره في الباب قبله، وفي حالة لا يبطل [و] لا يقتضي سجوداً عندنا، وهو إذا أدرك الإمام بعد الرفع من الركوع؛ فإنه زاد في صلاته سجوداً وقياماً وقعوداً في التشهد، ولا سجود عليه؛ لأنه يفعله وجوباً. قال: وإن تكلم، أو سلم ناسياً، أو قرأ في غير موضع القراءة، أي: قرأ في غير القيام سجد للسهو. ووجهه في الكلام والسلام ناسياً قصة ذي اليدين، وقد سلفت في الباب قبله. وقد روى مسلم، عن عمران بن حصين: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصرن فسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له: الخرباق، وكان في يديه طول، فقال: يا رسول الله ... ، وذكر له صنيعه، وخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال: "أصدق هذا؟ " قالوا: نعم؛ فصلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم". وقال أبو داود: سجد سجدتين، [ثم تشهد]، ثم سلم. ووجهه في القراءة [: أنها قول أتى به في غير محله؛ فشابه الكلام.

أما إذا قرأ في موضع القراءة] وهو القيام؛ فمفهوم كلام الشيخ أنه لا يسجد، وهو كذلك. أما إذا قرأ الفاتحة والسورة فظاهر، وكذا إذا قرأ الفاتحة وحدها، وإن قرأها مرة بعد مرة: فإن كان عامداً، وقلنا: إن تكرارها يبطل-فلا سجود، وإن قلنا: إنه لا يبطل- فقد استوى عمد ذلك وسهوه. ومفهوم كلام الشيخ أنه لا يسجد، وهو موافق لما حكاه القاضي الحسين في نظير المسألة، وهي: إذا شك المأموم بعد سلام إمامه هل ترك التشهد أم لا؟ قرأه، ولا سجود عليه؛ لأن أقصى ما فيه أنه كرر قراءة التشهدنوتكرير قراءة التشهد لا يقتضي سجود السهو. [فقوله: "وتكرير قراءة التشهد لا يقتضي سجود السهو"، هو] ما أراده من النظر؛ إذ تكرار الفاتحة كتكرار التشهد، كما قررناه؛ لأن كلاً منهما ركن قولي، والله أعلم. وقد وفاق الشيخ في هذه العبارة البندنيجي؛ فإنه هكذا قال؛ فظاهرها يقتضي أموراً: أحدها: أنه لا فرق في الكلام ناسياً بين القليل والكثير، وهو جار على ظاهره؛ إذا قلنا بأن الكلام الكثير ناسياً لا يبطل الصلاة، دون ما إذا قلنا: إنه يبطل؛ فإنه يختص بالكلام القليل؛ إذ لا سجود مع البطلان. وحكم الفعل والأكل ناسياً كحكم الكلام، وقد ذكرناه. وضابط هذا النوع أن يقال: كل ما اختص عمده ببطلان الصلاة، ولا يخرج منها بسهوه؛ فسجود السهو مشروع لجبره. وقولنا:"اختص عمده ببطلان الصلاة" احترزنا به عن الردة؛ فإنها تبطل سائر العبادات كلها؛ فلو ارتد ناسياً للصلاة لم شرع له سجود السهو. وقولنا: "ولا يخرج منها بسهوه" احترزا به عن الأكل والفعل، والكلام الكير ناسياً؛ إذا قلنا: إنه مبطل، وكذا عن الحدث على وجه السهو؛ فإنه يبطل الصلاة، ولا سجود مع البطلان.

الثاني: أنه لا فرق في القراءة بين أن تكون الفاتحة أو بعضها أو غير ذلك، وهو في الفاتحة متفق عليه إذا كان على وجه السهو، وفي غير الفاتحة وجهان في "الحاوي": أحدهما: أن الحكم كذلك، وبه صرح ابن الصباغ؛ حيث قال: لو قرأ السورة في الركوع أو السجود سجد؛ لأن الركوع والسجود ليس بمحل للقراءة، وكذا حكاه الإمام عن الشيخ أبي علي في "شرح التلخيص" وقال: إنه حسن متجه. قال ابن الصباغ: وهذا بخلاف ما لو قرأ السورة قبل الفاتحة؛ فنه يعيدها بعد الفاتحة، ولا سجود عليه؛ لأن القيام محل القراءة على الجملة، وإنما شرع [فيه] ترتيبها وتقديم الفاتحة؛ فإذا أخرها وقدم غيرها لم يسجد. والوجه الثاني: أنه لا يسجد إذا قرأه في الركوع والسجود. قال الإمام: وهو ينقدح علىمذهب طوائف من جهة أن هذا ليس نقل ركن من محله إلى غير محله. وفي هذا شيء سنذكره. الأمر الثالث: أنه لا فرق في القراءة بين أن تكون علىوجه السهو أو عمداً، وبعضهم قيد كلام الشيخ بما إذا فعل ذلك ناسياً، وحكى معه وجهاً آخر عن المراوزة: أنه لا يسجد؛ لأن عمده لا يبطل الصلاة-على الصحيح-والظاهر إجراء كلام الشيخ على ظاهره؛ لأنا قد قررنا أنه لا فرق في القراءة بين الفاتحة وغيرها، وتكرار غير الفاتحة لا يبطل، عمداً كان أو سهواً؛ فظهر أنه لا فرق بين أن يكون ذلك عمداً أو سهواً، وبه صرح البندنيجي في باب السجود من صفة الصلاة، وكذا القاضي أبو الطيب عند الكلام في الركوع؛ حيث قال: إذا دعا [بعد

الانتصاب] في الركوع، أو وقف ساكتاً وقواً طويلاً سهواً-لم يضره، ولا يسجد، ولو قصدبقيامه القنوت، أو تعمد الدعاء- كان عليه سجود السهو، وكذا لو قرأ بعد قيامه ساهياً أو عامداً كثيراً من القرآن، أو يسيراً، كان عليه سجود السهو. قال: والقراءة في الركوع والسجود والتشهد، حكمها كما ذكرنا في الانتصاب. نعمن إذا قرأ الفاتحة مرة أخرى عمداً في محل القراءة، وقلنا: إنها تبطل- كما إذا قرأها في غير موضع القراءة أولاً، وبه صرح الماوردي في باب صفة الصلاة، وعلى هذا فلا يسجد عند تعمد ذلك، ويسجد على المذهب. قال بعضهم: ولا يمتنع تعلق السجود في نوع الزيادة بفعل ما لا يبطل فعله عمداً، كما يتعلق في نوع النقص بما لا يبطل تركه عمداً: كترك القنوت ونحوه. الرابع: أنه لا فرق فيها بين أن تكون في الركوع أو السجود أو الرفع منهما، وهو كذلك عند العراقيين، وطردوه فيما إذا تشهد في غير موضع التشهد، أو قنت في غير موضع القنوت [على الصحيح]، صرح به ابن الصباغ وغيره. وعند المراوزة فيه تفصيل وخلاف يتوقف معرفته على أصلين مقصودين في أنفسهما: الأول منهما: أن نقل القراءة عمداً من محلها إلى الركن الطويل هل يبطل الصلاة أم لا؟ وفيه خلاف جار فيما لو نقل التشهد من محله إلى ركن طويل. قال الرافعي: أو نقلهما إلى ركن قصير ولم يطول، كما إذا أتى ببعض ذلك. والثاني: إذا طول الركن القصير هل تبطل الصلاة أم لا؟ وفيه خلاف. ووجه البطلان -كما قال الإمام-: أن تطويله يؤدي إلى ترك الموالاة في الصلاة؛ لأن سائر الأركان يجوز تطويلها؛ فإذا طول القصير أيضاً لم تبق الموالاة، وهي شرط في الصلاة، وادعى أن هذا الوجه ظاهر المذهب، ولم يورد في "التهذيب" غيره.

قال الرافعي: ولمن ذهب إلى الوجه الآخر أن يقول: إن كان معنى الموالاة ألا يتخلل فصل طويل بين أركان الصلاة بما ليس منها؛ فلا يلزم من تطويل الأركان فوت الموالاة، وألا فلا نسلم اشتراط الموالاة بمعنى آخر، ثم الركن الطويل القيام، والركوع والسجود والقعود [للتشهد]، والرفع من الركوع حيث لا يشرع قنوت، وليست الصلاة صلاة التسبيح-ركن قصير، فأما ما شرع يه القنوت والتسبيح فإنه مطول، وقد صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستدل الأصحاب لقصره عند فقد ذلك بأنه لم يسن فيه تكرار الذكر المشروع فيه، بخلاف التسبيح في الركوع والسجود، قالوا: فكانه ليس مقصوداً لنفسه وإن كان فرضاً؛ وإنما المقصود منه: الفصل بين الركوع والسجود، ولوكان مقصوداً لنفسه لشرع فيه ذكر واجب؛ لأن القيام هيئة معتادة؛ فلابد من ذكر يصرفه عن العادة إلى العبادة؛ كالقيام قبل الركوع، والجلوس في آخر الصلاة: لما كان كل واحد منهما هيئة تشترك فيها العبادة والعادة، وجب فيهما شيء من الذكر. فإن قيل: لو كان الغرض الفصل لما وجبت الطمأنينة فيه. قيل: إنما وجبت؛ ليكون على سكينة وثبات؛ فإن تناهي الحركات في السرعة يخل بشرية الخشوع والتعظيم، ويحرم الأبهة. والرفع [من السجود] هل هو ركن قصير أو طويل؟ فيه وجهان: الذي عليه الجمهور -كما قال الإمام-: الثاني، وهو اختيار ابن سريج، ويهشد له رواية أبي داود، عن البراء: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سجوده وركوعه وقعوده وما بين السجدتين قريباً من السواء" وأخرجه البخاير ومسلم. وقال أبو عليّ: إنه قصير؛ لأن المقصود الظاهر منه الفصل بين السجدتين؛ فشابه الرفع من الركوع.

قال بعضهم: بل هو أولى؛ لأن الذكر المشروع في الاعتدال [من الركوع] أطول من المشروع في الجلسو بين السجدتين؛ فكان إلى الطول أقرب. وهذا ما ذكره القاضي الحسين والبغوي، والشيخ أبو محمد في "الفروق". وقال الإمام: إنه منقاس. وادعى الرافعي أنه الأصح؛ إذ لا يظهر فرق بينه وبين الرفع من الركوع. قلت: وبعضهم -لعدم الفرق-قال: الذي يظهر في الرفع من الركوع أنه طويل، وهو الذي يقتضيه قول الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي- وقد روى مسلم، عن أنس قال: "ما صليت خلف أحد أوجز من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإتمام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده -قام حتى نقول: قد أوهم، ثم يسجد، ويقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم. وروى البخاري عن البارء بن عازب قال: "كان [ركوع] رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع رأسه من الركوع، ما خلا القيام والقعود- قريباً من السواء"، [وأورده مسلم بمعناه، ولم يذكر فيه: "ما خلا القيام والقعود قريباً من السواء"]. ثم الخلاف في الأصلين المذكورين -وهما نقل القراءة أو التشهد إلى الركن الطويل، وتطويل الركن القصير- مأخوذ، كما قال القاضي الحسين، من نص الشافعي. على انه لو أطال القيام بعد رفع الرأس من الركوع، فذكر الله، أو قنت ساهياً- سجد للسهو، وهذا يدل على أنه لو فعل ذلك عامداً بطلت صلاته؛ لأن ما اقتضى سهوه السجود أبطل عمده الصلاة، ولأي معنى كان ذلك؟

اختلف الأصحاب فيه: فقيل: لأنه نقل ذكراً مقصوداً مشروعاً في محل إلى محل غيره. فعلى هذا: إذا قرأ في غير القيام عمداً بطلت صلاته، وسهواً يسجد للسهو؛ لأجل النقل، وكذا لو تشهد في غير محل القعود، أو قنت في غير محل القنوت عمداً أو سهواً. وقيل: إنه تطويل الركن القصير؛ فعلى هذا لو طول الركن القصير بقراءة، أو تشهد، أو قنوت من حيث لا يشرع، أو بذكر آخر حيث لا يشرعن أو سكوت عمداً- بطلت، ويسجد للسهو، وإن فعل ذلك في الركن الطويل فلا. وعن القفال: أنه إن قنت في الرفع من الركوع حيث لا يشرع، [أو أتى فيه بذكر مشروع بقصد القنوت،] وطول الرفع عمداً- بطلت صلاته، وإن فعله سهواص سجد للسهو، وإن أتى فيه بذكر مشروع [بقصد القنوت سجد لسهو، وإن أتى فيه بذكر مشروع] [طول به]، ولم يقصد به القنوت عمداً- لا تبطل، وسهواً لا يسجد للسهو؛ كذا حكاه الفوراني عنه، [وهذا ما حكاه البندنيجي- أيضاً-في باب السجود من صفة الصلاة]. وقد اقتضى الأصلان المذكوران: أنه متى طول الركن القصير بذكر منقول من محل في الصلاة إليه عمداً، تبطل صلاته، وسهواً، يسجد قولاً واحداً؛ كما هو ظاهر النص، وهو ما حكاه الإمام عن الأصحاب، ولم يورد في "الوجيز" غيره. وبعضهم رتب هذه الحالة على ما سبق؛ فقال: إن قلنا: إذا وجد أحد الأمرين عمداً أو سهواً ثبت ما ذكرناه، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان، الأظهر منهما- كما قال في "الوسيط"-: الإبطال. وإذا عرفت ما ذكرناه تلخص لك منه: أنا حيث قلنا بالبطلان في تطويل القصير، أو نقل ذكر مقصود إلى الطويل عمداً؛ إذا وجد ذلك على حكم السهو- سجد. وحيث قلنا: إن عمد ذلك لا يبطل؛ فإذا وجد على وجه السهو هل يقتضي السجود؟ فيه وجهان:

أحدهما [لا]، وهو ما حكيناه عن المراوزة. والثاني: نعم، وهو ما حكيناه عن العراقيين، وهو الأصح في "الرافعي". وفي شرح "الوجيز" للعجلي: أن القراءة في غير القيام: إن كانت هي الفاتحة فحكمها ما سلف، وإن كانت غيرها: فإن قلنا: علة البطلان تطويل القصير، فالحكم كذلك. وإن قلنا: العلة النقل، فلا. وهذا منه إشارة إلى أن المتواتر فعله هو الركن، لا الذكر المقصود، وهو نازع إلى ما ذكرناه عن افمام في الفصل قبله، والذي صرح به القاضي الحسين، والمتولي: أنه الذكر المقصود في محله ركناً كان أو سنة؛ كما هو ظاهر النص، والله أعلم. فرع: إذا أتى بالتشهد أو بعضه سهواً بعد الأولى، أو الثالثة من الرباعية-فقد أتى به في موضع جلسة الاستراحة، وهي قصيرة، ومقتضى ما سلف: أنه إذا لم يرد ما أتى به من الذكر على قدر جلسة الاستراحة، ألا يسجد، ولو فعل ذلك عمداً ألا يبطل؛ إذا لاحظنا تطويل الركن، فإن لاحظنا نقل الذكر المقصود [من محل] إلى محل أبطل عمده، واقتضى السجود سهوه، وهو ما أورده القاضي الحسين وابن الصباغ وغيرهما، وصرح الماوردي بالعلة، فقال: لأنه نقل سنة على الندب من محل إلى محل؛ فلزمه سجود السهو؛ لما أوقعه من الزيادة في صلاته؛ لقصة ذي اليدين. ولو زاد جلوسه على قدر جلسة الاستراحة عمداً، بطلت صلاته، وسهواً، سجد، بلا خلاف، ولو قصر جلوسه عن جلسة الاستراحة، فلا سجود عليه؛ إذا لم يشغله بذكر، بلا خلاف، وإن شغله فحكمه ما تقدم، ولو جلس للتشهد بسن السجدتين، وأتى به-فقضية قولنا: إنه ركن قصير، أن يكون في بطلانه عند العمد، والسجود عند السهو الخلاف السابق؛ كذا قاله القاضي الحسين. قال: لكن الأصحاب متفقون على أنه إذا أتى به على وجه السهو، لا يسجد؛

لأن ما بين الجلستين محل الجلوس، بخلاف ما لو جلس بعد الرفع قائماً من الركوع وقبل السجود؛ فإنه يسجد؛ لأنه ليس بمحل الجلوس؛ إذ لا جلوس بعد الركوع. قلت: وهذا مناقض لما حكيناه عنه وغن غيره في الفرع قبله، إلا أن يقال: الجلوس ثم ليس بركن في الصلاة، وهاهنا هو ركن أو بعض ركن؛ فقوي. ثم قياس ما قاله القاضي هنا: أنه إذا فعل ذلك عمداً أن تبطل صلاته؛ لأن قاعدتهم: أن ما اقتضى السجود سهوه أبطل عمده الصلاة؛ كما تقدم، وبالعكس. نعم، لو لم يطل لا تبطل، وقد قال الإمام: إنه لو جلس من قيام لما انتهى إلى السجود جلسة خفيفة لم يشغلها بذكر، لا تبطل صلاته؛ لأن الجلوس في الصلاة يعهد غير ركن: كجلسة الاستراحة، والتشهد الأول؛ فلا تبطل الصلاة بزيادته على وجه لا يظهر في الصلاة، وبهذا خالف بزيادة قيام أو ركوع أو سجود؛ فإنه لا يعقل في الصلاة إلا ركناً؛ فزيادته زيادة ركن؛ فأبطل وإن كان فعلاً قليلاً. وحكى عن الشيخ أبي علي أنه صرح عند إتيانه بالتشهد في هذه الجلسة بمثل ما حكيناه عن القاضي احتمالاً، والله أعلم. قال: وإن فعل ما لا يبطل عمده الصلاة، أي: سهواً، كالالتفات، والخطوة والخطوتين- لم يسجد للسهو؛ لأنه إذا عفي عن عمده لكثرة جنسه، وعسر الاحتراز منه- فسهوه أولى، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم الفعل اليسير في الصلاة، ورخص فيه، ولم يسجد للسهو، ولا أمر به. ومن هاهنا تؤخذ قاعدة قررها الأصحاب في الباب: أن ما لا يبطل الصلاة ارتكابه من المنهيات على وجه العمد لا يقتضي السجود سهوه، ولم يستثن من ذلك إلا قراءة الفاتحة أو غيرها في غير المحل؛ كما تقدم حكايته عن

العراقيين، وكلام القاضي الحسين يقتضي أنه يسجد للسهو مما ذكره الشيخ ونحوه؛ لأنه قال: كل عمل يلزمه سجود السهو إذا أتى به ساهياً؛ فإذا أتى به عامداً بطلت صلاته، وكل عمل قلنا: لا يلزمه به سجود السهو، إذا فعله متعمداً لا تبطل صلاته، [إلا في مسألة واحدة، وهي إذا عمل عملاً قليلاً لا من جنس الصلاة؛ فإنه يلزمه سجود السهو، وإن تعمده [لا] تبطل صلاته]. قال: وإن نهض للقيام، أي: ساهياً، في موضع القعود، أي: وهو محل التشهد الأول، ولم ينتصب قائماً فعاد إلى القعود-ففيه قولان: أحدهما: يسجد؛ لأنه روي عن يحيى بن سعيد قال: "رأيت أنس بن مالك تحرك للقيام في الركعتين من العصر؛ فسبحوا به؛ فجلس، ثم سجد سجدتين وهو جالس". ولأنه زاد في الصلاة زيادة من جنسها على وجه السهو؛ فاقتضى السجود؛ كما لو زاد ركوعاً, وهذا ما أورده الماوردي لا غير، وصححه القاضي أبو الطيب: وصاحب "المرشد". والثاني: لا يسجد؛ لمفهوم قوله -عليه السلام-: "إذا قام الإمام في الركعتين: فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس، وإن استوى قائماً فلا يجلس،

ويسجد سجدتي السهو" رواه أبو داود عن المغيرة بن شعبة. ولأنه عمل يسير؛ فأشبه الخطوة والخطوتين. وهذا ما صححه في "المهذب"، وهو الأظهر عند العراقيين؛ كما قال الرافعي. ومن صحح الأول منهم قال: خبر المغيرة ضعيف، وإن صح فالأمر بالسجود فيه منصرف إلى من استتم قيامه وإلى من لم يستتم، ومن قال: إنه منصرف إلى من استتم، فقد أخطأ، والفرق بين الزيادة من جنسها وغير جنسها تقدم. وهذه الطريقة التي ذكرها الشيخ هي طريقة الشيخ أبي حامد والعراقيين. وقد صار كثيرون إلى أنه إن صار إلى القيام أقرب منه إلى القعود سجد، وإن كان إلى القعود أقرب منه إلى القيام فلا يسجد. [و] يحكي هذا عن القفال، وحمل القولين على هذين الحالين، وهذه الطريقة بها أجاب البغوي، والروياني في "الحلية" كما قال الرافعي. وإذا قلنا بها، فلو كان نسبته إلى القيام والقعود على السواء لا يسجد أيضاً، قاله الإمام، وحكى عن شيخه عبارة أخرى، فقال: إن انتهض في قيامه إلى حد الراكعين سجد؛ لأنه زاد ركوعاً سهواً، وألا فلا. وهذه العبارة مختصة بما إذا نهض منحنياً، أما لو نهض منتصباً فلا، ويتعين النظر إلى القرب من حد الركوع أو القعود، وإليه صار الصيدلاني، فقال: لو انتهض منتصباً، وبلغ إلى حد هو أقرب إلى القيام والقعود، ورجع-سجد؛ لأنه فعل كثير من جنس الصلاة بجملة البدن؛ فتغير النظم، وفارق الخطوة والخطوتين؛ فإن التعويل في المشي على الرجلين والبدن محمول عليهما. قال الغزالي: ويحتمل أن يقال: فعل الخطوتين يزيد عليه؛ فلا تبطل الصلاة بعمده. أي: ولا يسجد لسهوه. وقد أفهم كلام الإمام أن المراد بالانتهاء [إلى حد الراكعين على طريقة شيخه: الانتهاء إلى حد أكمل الركوع، لا الانتهاء] [إلى أقل ما يجزئ فيه، وهو أن

ينحني حتى] تبلغ يداه ركبتيه من غير علة، بل قال: إنه لو قرب في ارتفاعه من حد أكمل الركوع، ولم يبلغه-فهو في حد الراكعين أيضاً. وسلك القاضي الحسين طريقاً آخر، فقال: إن كان انتهاضه قريباً من القعود؛ فإن لم ينصب ساقيه عاد، وتشهد، ولا سجود عليه؛ لأن هذا القدر لو زاده عمداً لم تبطل صلاته، وإن انتصب ساقاه، وبلغ هيئة الراكعين-عاد، وسجد للسهو؛ لأنه لو زاد هذا القدر عمداً بطلت صلاته، ولو ارتفع عن هيئة الراكعين، ودون هيئة القائمين، هل له العود؟ يحتمل وجهين حكاهما الروياني في "تلخيصه" عن الأصحاب: أحدهما: نعم؛ كما لو كان في هيئة الراكعين، ويسجد للسهون وهذا ما صححه القاضي من بعد. والثاني: لا؛ كما لو بلغ هيئة القيام، وحكمه إذا عاد حكم من عاد بعد انتصابه قائماً، وسنذكره. وظاهر النص أن المعتبر: الانتصاب التام؛ كما قاله الشيخ، وهو الذي أورده الجمهور، وبمقابله فسر المسعودي كلام الشافعي، وبه قال الشيخ أبو محمد، ولم يحك في "التتمة" سواه؛ حيث قال: وحد الانتصاب أن يبلغ حداً لو مد يده إلى ركبته لا تصل [راحتاه إلى ركبتيه]. قال الرافعي: وهذا الاختلاف يرجع إلى شيء، وهو أن من قام في صلاته منحنياً فوق حد أقل الركوع، هل يجزئه ذلك، أم لا؟ وفيه وجهان: فمن قال ثم: لا يجزئه -وهو الأصح- قال هاهنا: [له أن يعود، ومن قال ثم: يجزه-قال هاهنا:] إذا صار إليه لا يعود؛ لأنه وصل حد الفرض. قلت: وهذان الوجهان اللذان بنى عليهما الغزالي الخلاف أبداهما القاضي الحسين احتمالين له؛ بناءً على ماذكره هاهنا؛ فهو عكس المدعي. أما لو لم يعد إلى القعود، بل تمم القيام بعد تذكره، أو كان تذكره

لذلك بعد أن انتصب قائماً-فقد ترك التشهد الأول، وسيأتي حكمه؛ فلو عاد عالماص بأن لا يجوز له العود بطلت صلاته؛ لأنه ترك فرضاً لأجل سنة، وإن كان جاهلاً، قال القاضي الحسين: فالمذصهب: أنها لا تبطل، وهو ما جزم به البندنيجي، وابن الصباغ وكذا المتولي، وقال: إنه إذا علم بعد جلوسه لا يقيم، بل يقوم في الوقت. وعن أبي إسحاق أنه تبطل صلاته مع الجهل أيضاً؛ لأنه أتى بعمل طويل في صلاته على وجه العمد، ووجهه البغوي بأنه غير معذور بترك التعلم. ومقتضى التعليلين أنه لو عاد ناسيا ًلا تبطل جزماً، وبه صرح الرافعي. قال الماوردي: والأصح الأول؛ لأنه لمي قصد بعمله منافاة الصلاة؛ فصار كمن قام إلى خامسة. وقد حكى الرافعي عن رواية أبي الحسين، عن بعض الأصحاب أنه إذا تذكر بعد الانتصاب، ولم يشرع في القراءة-يجوز له العود، ولو شرع يها فلا، كمذهب الإمام أحمد. قال الرافعي: والخالف فيما إذا جلس للتشهد في محله، لكنه لم يأت بهن وانتهض للقيام ناسياً أنه لم يأت به، في عوده وسجوده للسهو- كالخلاف فيما إذا انتهض للقيام ولم يجلس أصلاً، وقد ذكرناه. وهذا كله في المنفرد والإمام، أما المأموم إذا طرأ ذلك لإمامه فسنذكره. فرع: لو كان يصلي قاعداً، فافتتح بعد الثانية القراءة: فإن كان على ظن أنه فرغ من التشهد، وجاء وقت الثالثة-لم يعد بعد [ذلك] إلى قراءة التشهد في أصح الوجهين، وإن سبق لسانه إلى القراءة، وهو عالم بأنه لم يتشهد فله العود إلى قراءة التشهد. قال: وإن ترك التشهد الأول، أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول، وقلنا: إنه سنة فيه، او ترك القنوت، أي: حيث يشرع، وهو في الأخيرة من الصبح، أو في الأخيرة من الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان- سجد للسهو.

هذا الفصل ينظم ثلاث مسائل: الأولى: إذا ترك التشهد الأول فإنه يسجد للسهو؛ لما روى أبو داومد، عن عبد الله بن بحينة قال: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم قام؛ ولم يجلس؛ فلما قضى صلاته، وانتظرنا التسليم-كبر، فسجد سجدتين وهو جالس قبل السلام، ثم سلم" وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وفي رواية: "وكان منا المتشهد في قيامه". وخبر المغيرة بن شعبة السالف يدل عليه أيضاً. الثانية: إذا ترك الصالة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول، وقلنا: إنه سنة فيه-سجد للسهو؛ لأن ترك الصلاة عليه عمداً في الأخير يبطل الصلاة؛ كترك التشهد فيه عمداً؛ فوجب أن يكون تركها في التشهد الأول كتركه فيه حتى يشرع له السجود. وفي "الحاوي" في "صفة الصلاة" حكاية وجه آخر: أنه لا يسجد عند تركها؛ [لأنه تبع للتشهد فلا تشهد لتركه، وإن سجد لترك التشهد]، وإن قلنا: إنه سنة. أما إذا قلنا: إنه ليس بسنة فيه فلا يسجد الثالثة: إذا ترك القنوت حيث يشرع-كما ذكرنا- سجد للسهو؛ لأن تطويل محل القنوت [مشروع لأجل القنوت] أصلاً لا تبعاً؛ فاقتضى السجود بتركه؛ كالتشهد الأول، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه؛ فإن المحل لما كان مشروعاً لهما قصداً سجد لتركهما، وبهذا خالف ما ذكرناه من [باقي] سنن الصلاة؛ فإنه لا يسجد لها على الجديد؛ فإنها إنما تقع تبعاً لغيرها، أو على وجه الهيئة له؛ فإن دعاء الاستفتاح يراد للافتتاح والتعوذ للقراءة، وقراءة السورة تبع للفاتحة في

محلها، والتكبيرات هيئات للرفع والخفض، والتسبيحات هيئات للركوع والسجود تسقط بسقوط محلها. والغزالي قال: إنما اختص السجود بما ذكرناه؛ لأنه تعلق به شعار [ظاهر] خاص بالصلاة. واحترز بقوله: "خاص بالصلاة" عن تكبيرات العيد؛ فإنها وإن كانت من الشعائر [الظاهرة] لكنها لا تختص بالصلاة؛ فإنها تشرع في الخطبتين، وفي أيام العيد. والصلاة على الآل، إذا قلنا باستحبابها في التشهد الأخير يلحقه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا تركها في الأول. وقد اختار القاضي الحسين أنه يسجد لترك السورة؛ لأنها سنة مؤكدة. قال: ولعلها [آكد من القنوت] والتشهد الأول؛ فإنه-عليه السلام-قال: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وشيء معها". وعن الداركي [ذكر] وجه فيمن نسي التسبيح في الركوع والسجود: أنه يسجد للسهو. وهذا تفريع على الجديد، وألا فقد حكى ابن الصباغ، عن رواية أبي إسحاق عن القديم: أنه يسجد لترك جميع السنن، وقال: إنه مرجوع عنه، والمستقر: أنه يسجد لما ذكرناه فقط؛ ولأجله سمي أبعاضاً؛ لأنه أقل من السنن التي لا يتعلق بتركها السجود؛ إذ "البعض" إذا أطلق وقع على الجزء الأقل. وقيل غير ذلك؛ كما ذكرناه في باب فروض الصلاة. فرع: إذا هوى إلى السجود، وترك القنوت؛ فهل يعود إلى الانتصاب ليقنت أم لا؟ حكمه حكم ما لو نهض للقيام في موضع القعود، والسجود ههنا كالانتصاب ثم، والطريقة المفصلة بين ان ينتهي إلى حد الراكعين أم لا، مكتفية هاهنا بأقل الركوع؛ لأنه أول ما يأتي عليه الأخذ في الانحناء للسجود، بخلافما ذكرناه ثم؛ فإن أكمل الركوع أول ما يأتي عليه الراكع.

ثم لا فرق في السجود عند ترك التشهد والقنوت والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بين ان يتركه عمداً أو سهواً؛ لأن ما تعلق الجبران بسهو" تعلق بعمده؛ كما في الإحرام، ولان المتعمد إلى الجبر أحوج، وهذا ما أورده الفوراني. قال الشيخ: وقيل: إن ترك ذلك عمداً لم يسجد؛ لأن السجود مضاف إلى السهو شرعاً؛ فلا يثبت بدونه؛ كما أن سجود التلاوة لما كان مضافاً إلى التلاوة لا يثبت بدونها، وهذا ما حكاه ابن الصباغ وغيره قولاً، وهو في "المهذب" محكيوجهاً، نسيه البندنيجي إلى أبي إسحاق، وقال في "الوجيز": إنه الأظهر. والمذهب المنصوص: الأول، وهوالأصح عند عامة الأصحاب؛ لما ذكرناه، وبعضهم قطع به، ونسب القائل بخلافه إلى الغلط. قالوا: وإضافة السجود إلى السهود لا تنافي شرعيته في العمد؛ كفدية الأذى؛ فإنها مضافة إلى "الأذى"، وتجب بحلق الشعر من غير أذى. ثم كلام الشيخ يفهم أنه لو ترك الجلوس للتشهد الأول، أو القيام للقنوت دونهما بأن يكون لا يحسنهما- أنه لا يسجد للسهو، والبندنيجي والبغوي وغيرهما قالوا: إن السجود يتعلق بترك الجلوس للتشهد الأولن [وبترك التشهد الأول]، وكذا بترك القنوت، وبترك القيام له، وحينئذ فيكون ما يتعلق به السجود أربعة أشياء متفق عليها، واثنان مختلف فيهما: وهو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الأول، وعلى آله في الأخير. وقد نوقش الغزالي لجل ذلك في عدها خمسة. والجواب عن الشيخ: أنه جرى على الغالب. والله أعلم., قال: وإن سها سهوين أو أكثر، أي: من نوع واحد أو [من] أنواع- كفاه للجميع سجدتان؛ لقصة ذي اليدين، وقصة الخرباق؛ فإنها اشتملت على أكثر من سهو واحد، واقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على سجدتين، ولأن السهو شبيه بالأحداث، وهي تتداخل. وأيضاً فذاك فائدة التأخير إلى آخر الصلاة.

قإن قيل: قد روى ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل سهو سجدتان". قلنا: عنه جوابان: أحدهما: أن راويه زهير بن أسلم، وهو مجهول. [والثاني:] أنا نحمله على بيان ما يسجد لأجله، كثيراً كان السهو أو قليلاً؛ كقوله-عليه السلام-:"لكل ذنب توبة" أي: لا تختص التوبة ببعض الذنوب دون بعض، بل تعم كل الذنوب. ثم ما ذكره الشيخ لا خلاف فيه إذا لم يتخلل السهوين حالة اقتداء؛ فإن تخللهما حالة اقتداء فسنذكره. قال الأصحاب: وقد يتعدد السجود للسهو صورة في الصلاة الواحدة مرتين فأكثر، فمن القسم الأول إذا صلى الجمعة؛ فسها وسجد، ثم دخل وقت العصر قبل السلام-يعيد السجود قبل السلام؛ [ناء على أنها تنقلب ظهرا]، وكذا إذا صلى الصلاة المقصورة، وسها فيها؛ فسجد في آخرها، ثم وصل إلى وطنه، او نوى الإتمام قبل السلام-يعيد السجود، والمسبوق إذا سجد مع إمامه يعيد السجود آخر صلاته على الجديد، وكذا إذا سها اشخص؛ فسجد، ثم سها قبل السلام-يعيده على وجه سلف، وكذا إذا ظن انه ترك القنوت؛ فسجد للسهو، ثم بان أنه لم يتركه-فإنه يعيد السجود على أصح الوجهين، وبه جزم القاضي الحسين والمتولي؛ لأنه زاد سجدتين سهواً؛ فاحتاج إلى جبرهما بالسجود، ومقابله: لاي حتاج، قال الشيخ أبو محمد: لأن سجود السهو يجبر كل خلل في الصلاة؛ فيجبر نفسه؛ كما يجبر غيره. وصار كالشاة من الأربعين تزكى نفسها وغيرهان ولو كانت المسالة بحالها،

فظن أنه ترك القنوت؛ فسجد، فبان أنه لم يتركه، لكنه سها عن شيء آخر: فهل يعيد السجود؟ فيه جوابان للقاضي، وأظهرهما: لا؛ لأنه قصد جبر الخلل، وهو يجبر كل خلل. قال: وإن سها خلف الإمام لم يسجد؛ لقوله -عليه السلام-:"ليس على من خلف الإمام سهو؛ فإذا سها الإمام فعليه وعلى من خلفه" رواه الدارقطني، عن رواية ابن عمر. وقد تكلم معاوية بن الحكم في الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بالسجود. ثم في قوله الشيخ: "خلف الإمام" أراد به الخلفية في تبعيته في الأفعال لا في الموقف؛ لأن الواقف إلى جنبه كذلك. وفيه احتراز عن مذهب أبي علي بن خيران، في أن من لم يكن خلف الإمام، لكن مقتدياً به في قدوة حكمية، كالطائفة الثانية في صلاة "ذات الرقاع" إذا خرجت إلى وجه العدو؛ فإنها إذا سهت في الركعة التي تأتي بها- لا يتحمل عنها عنده، وكذا المزحوم في الصلاة إذا سها فيما يأتي به حيث تكون القدوة حكمية-كما ستعرفه-لا يتحمل عنه الإمام على رأي، والمنصوص خلاف

ما قاله ابن خيران، كما ستعرفه. ويندرج فيما ذكره الشيخ صورتان: أحداهما: إذا سمع المأموم صوتاً؛ فظن أن الإمام سلم؛ فقام، وأتى بما عليه وجلس، والإمام بعد في صلاته-لا يعتد له بذلك، ولا سجود عليه؛ لان القدوة باقية؛ فإذا سلم الإمام تدارك ما عليه، ولو علم في القيام أن الإمام لم يتحلل ليرجع؛ فلوسلم الإمام حالة علمه بذلك فهل يجلس ثم يقوم، أو يستمر قائماً ويبتدئ قراءة الفاتحة؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين و"التهذيب" وغيره، وبنوا عليهما-كما قال الرافعي-ما لوسلم الإمام، ولم يتنبه لذلك حتى أتم الركعة؛ فقالوا: إن جوزنا المضي فركعته صحيحة، أي: إذا كانت القراءة بعد السلام، ولا يسجد للسهو، وإن قلنا: عليه القعود، لم تحسب له، ويسجد للسهو؛ لزيادته في الصلاة بعد تسليم الإمام. [الثانية]: إذا كان المأموم في التشهد، وتيقن أنه ترك الفاتحة في ركعة من الصلاة، وقلنا: لا تسقط القراءة عنه-فإذا سلم الإمام قام، وأتى بركعة، ولا سجود عليه. ولو كان قبل سلام الإمام شك هل ترك القراءة، أم لا؟ قال القاضي الحسين: فعليه بعد سلام امام، أن يأتي بركعة. وهل يسجد للسهو؟ كنت أقول: نعم؛ لأنه ما يتأتى بعد سلام الإمام زيادة في أحد محتمليه؛ فإن من الجائز أنه لم يتركها؛ فيلزمه سجود السهو؛ كالمسبوق إذا سها في قضاء ما فاته. ثم رجعت، وقلت: لا

يلزمه؛ لأن هذه الركعة التي يفعلها بعد سلام الإمام صادرة عن تشكيك صدر في حالة الاقتداء؛ فلم يسجد؛ اعتباراً بتلك الحال. قال: وإن سها إمامه-[أي: بعد اقتدائه به أو قبله]-تابعه في السجود؛ للخبر السابق، ولقوله-عليه السلام-: "فإذا سجد فاسجدوا". وحكى القاضي الحسين وجهاً: أن املسبوق لا يلزمه أن يتابعه [في السجود، سواء سها قبل اقتدائه [به] أو بعده، وقدحكاه الإمام وغيره عن رواية الصيدلاني عن بعض الأصحاب. ووجهه: أنه لاي عتد له به؛ فإنه يأتي آخر صلاته؛ فلا حاجة [به] إليه. ورأيت في "تعليق" القاضي أبي الطيب وجهاً فيما إذا كان سهوه قبل اقتدائه به: أنه لا يتابعه فيه، بخلاف ما إذا كان بعد اقتدائه. وقال الإمام: إنه الظاهر]. وبه يحصل في السألة ثلاثةأوجه، أصحها- وهو الذي لم يورد الجمهور سواه-:ما ذكره الشيخ، وبعضهم ادعى الإجماع عليه، وهو محمول على ما إذا لم يكن مسبوقاً. واحتج الأصحاب على المخالف في المسبوق بأنه يجب عليه متابعة الإمام فيما لاي عتد له به، وهو إذا أدركه بعد الرفع من الركوع؛ كذا هاهنا، وعلى هذا: إذا لم يتابعه في السجود بطلت صلته، صرح به الإمام والقاضي الحسين وغيرهما من المراوزة. قال الرافعي: ولا فرق بين أن يعرف المأموم سهوه أو لم يعرفه، وهذا بخلاف ما لو قام إلى ركعة خامسة لا يتابعه؛ حملاً على أنه ترك ركناً [من

ركعة]؛ لأنه لم يتحقق الحال، ثم لم يكن له متابعته؛ لإتمامه صلاة نفسه يقيناً. ثم هذا فيما إذا كان سجوده قبل السلام، اما لو كان بعده على القول القديم، فلا يتابعه فيه؛ لأن القدوة قد انقطعت عندنا بسلامه؛ فلا يعود بسجوده بعد السلام؛ فلو تابعه في السجود مع العلم بطلت صلاته؛ قال الماوردي. نعم، لو كانقد سلم ناسياً، وقلنا: إن السجود قبل السلما، فتذكر الإمام سهوه عن سجود السهو قبل سلام القوم؛ فسجد- فهل يجب على المأموم متابعته فيه؟ قال القاضي الحسين: ذلك ينبني على أن الإمام هل عاد إلى حكم الصلاة أم لا؟ وفيه وجهان: فإن قلنا: عاد، لزمته متابعته، وألا فلا. والخلاف جار فيما لو سل الإمام والمأموم أيضاً جاهلين. ولو كان الإمام سلم ساهياً، وسلم المأموم عالماً بسهوه، فعاد الإمام وسجد-لا يتابعه [المأموم] وجهاً واحداً. وكذا لو كان الإمام قد سلم ساهياً، ثم سجد المأموم سجدة، ثم تذكر الإمام؛ فسجد-لا يتابعه وجهاً واحداً؛ لأنه يؤدي إلى زيادة سجدة في الصلاة، قال القاضي الحسين: ولو لم يسه الإمام، لكنه ظن أنه سها، وتيقن المأموم أنه مخطئ في ذلك، كما إذاظن أن الإمام ترك الأبعاض، والمأوم يعلم أنه أتى بها- فلا يوافقه في السجود. فرع: إذا سجد الإمام إحدى سجدتي السهو، وأدركه مسبوق فيها فقط، ثم أحدث الإمام، وانصرف-فهل يتم المسبوق السجود، ثم يمشي على ترتيب صلاته، أو لا يتم ويبني على ترتيب صلاته من حين حدث الإمام؟ فيه وجهان: الذي ذكره عامة أصحابنا -كما قال أبو الطيب-: الثاني. وقال ابن أبي هريرة بالأول. قال: وإن ترك الإمام، أي: بأن سلم، وانفصل، ولم يسجد عامداً أو ساهياً، أو كان يعتقد أنه بعد السلام، والمأموم يعتقد أنه قبله- كما قال أبو الطيب سجد

المأموم؛ جبراً للخلل الواقع في صلاته؛ بسبب ارتباطها بصلاة الإمام. وقال المزني، والبويطي، وأبو حفص بن الوكيل، وطائفة من الأصحاب-كما قال الغزالي-: إنه لا يسجد، قال الإمام: وهو منقاس. وقد احتج المزني له بأنه لم يسه، وإنما سها أمام، وسجوده معه كان للمتابعة؛ فإذا لم يسجد التابع فالمتبوع أولى، قال الأصحاب: وهذه العلة تبطل بمن سمع قارئاً يقرأ السجدة، ولم يسجد القارئ؛ فإن السامع يسجد، وليس هو التالس، والسجود يسقط عن التالي بتركه إياه. وهذا فيه نظر؛ لأن من الأصحاب من يقول: إن التالي لا يسجد أيضاً-كما تقدم-فيجوز أن يكون الخصم قائلاً به. واحتج أبو حفص وغيره بأن المأموم يلزمه متابعة الإمام في ترك النفل، وهذا نفل. قال الأصحاب: وهذا لا يصح؛ لأن بسلام الإمام انقطعت القدوة؛ فلا تلزمه المتابعة بعده؛ ولهذا له أن يطيل الدعاء ما شاء، ولو سها المأموم في هذه الحالة لم يتحمل الإمام سهوه، وعلى هذا: لو ترك الإمام سجدة من سجدتي السهو سجد المأموم الثانية؛ حملاً على أنه نسي. وهذا كله إذا بان الإمام متطهراً، وهو موافق للمأموم في أن سجود السهو متوجه؛ فلو بان أن الإمام محدث لم يسجد المأموم، وفيه نظر؛ فإن الصلاة خلف المحدث جماعة. ولو كان الإمام يعتقد أن لا سجود عليه، والمأموم يعتقد توجه السجود عليه، أو بالعكس: فهل يسجد، والتفريع على المذهب المشهور؟ فيه وجهان ينبنيان على أن النظر إلى اتقاد الإمام أو إلى اعتقاد المأموم؟ وعلى هذا الأصل تنبني صحة صلاة الشافعي خلف الحنفي، وبالعكس، كما ستعرفه في باب صفة الأئمة، والله أعلم. قال: وإن سبقه الإمام بركعة؛ سجد معه- أي: لسهو حصل بعد اقتدائه به أو قبله- أعاد في آخر صلاته في قوله الجديد؛ لأن الخلل قد تطرق إلى

صلاة المأموم أيضاً؛ بسبب ارتباطها بصلاة الإمام، والجبر بسجود السهو محله آخر الصلاة؛ فتوجه عليه عند إرادته إعادته، وما أتى به مع الإمام فهو للمتابعة، وأشار الشيخ بالجديد إلى أنه منصوص في "المختصر"، وقد عزي إلى "الأم" أيضاً، وهو الأصح في "الحاوي" وغيره. قال: ولا يعيد في قوله القديم؛ لأن الخلل كما تطرق لصلاة المأموم؛ بسبب سهو الإمام-وجب أن ينجبر بجبره إذا كان الاقتداء باقياً إلى حين الجبر؛ ولهذا التقييد فائدة تظهر لك من بعد. وهذا القول قد نص عليه في "الإملاء" أيضاً، وهو معدود من الجديد؛ كما قال الرافعي في غير ما موضع، وحينئذ فيكون القولان في الجديد، وقد اختار ما حكاه [الشيخ] عن القديم المزني وصاحب "المرشد". وقيل: إن اكن سهو الإمام قبل اقتداء المأموم به فلا يعيد قولاً واحداً؛ لأنه لم يحضر السهو، والصحيح هي الطريقة الأولى باتفاق الأصحاب. ثم الطريقان مفرعان على المذهب في أن الإمام إذا لم يسجد سجد المأموم، أما إذا قلنا: [إنه] لا يسجد [، فلا يعيد قولاً واحداً. وقد احترز الشيخ بقوله: "فسجد معه" عما إذا لم يسجد] معه، أو لم يسجد الإمام؛ فإن المأموم-على الطريقة التي عليها نفرع-يسجد قولاً واحداً. فإن قلت: قد قلتم: إنه إذا لم يسجد معه بطلت صلاته؛ فكيف يحسن الاحتراز؟ قلنا: يتصور ذلك بصورتين: أحداهما: في صلاة الخوف؛ إذا فارقت الطائفة الثانية الإمام قبل التشهد، وقدسها بعد اقتدائها به أو قبله، وتشهد في غيبتها، وسجد للسهو، ثم عادت [إلى القدوة] بعد ذلك؛ فإنه إذا سلم يأتي بالسجود. والثانية: أن ينوي المسبوق الفارقة قبل سجود الإمام للسهو؛ حيث لا تبطل صلاته.

فرع: لو سها هذا المسبوق بعد مفارقة الإمام؛ فقد ذكرنا: أن الإمام لا يتحمل عنه هذا السهو، ثم إن كان قد سجد مع الإمام، وقلنا بقوله القديم [ثم]- سجدسجدتين قبل سلامه، وإن قلنا بقول هالجديد فكذلك على الصحيح، وهو المحكي عن نص الشافعي في القديم أيضاً. ومن أصحابنا من قال: يسجد أربع سجدات: سجدتين لسهو الإمام، وسجدتين لسهوه. وخطئ فيه؛ لأنه يلزمه-إذا سها بالزيادة والنقصان- أن يسجد أربع سجدات، ولا قائل به عندنا، وعلى هذا: لو سها المنفرد في صلاته، ثم دخل مع الإمام، وجوزناه؛ فسا الإمام، ثم سلم، وأتم المأموم صلاته منفرداً؛ لكونها أطول من صلاة الإمام؛ أو لكونه أحرم منفرداًن ثم تابع من سبقه بركعة؛ فلم يسجد- ينبني على أن من سها منفرداً، ثم لحق بإمام، هل يتحمل عنه، أم لا؟ وفيه وجهان؛ حكاهما الفوراني، والغزالي في باب صلاة الخوف؛ إلحاقاً لذلك بما إذا سهت الاطئفة الثانية في الركعة الثانية في صلاة ذات الرقاع، واستبعد الإمام الخلاف في هذه الصورة ثم، وقال: الوجه القطع بأن القدوة لا ينعطف حكمها على ما تقدم [من] الانفراد، وهذا ما [أورده الماوردي] والبندنيجي والرافعي هاهنا. فإن قلنا: يتحمل عنه، كان كالمسألة قبلها؛ فيسجد أربع سجدات [على هذا الوجه الذي عليه نفرع. وإن قلنا: لا يتحمل عنه سجد ست سجدات]؛ على رأي؛ نظراً إلى تعدد السهو، وأربعاً- على رأي- نظراً إلى [أن] السهو الأول والأخير نوع واحد؛ [فانجبر] بسجدتين، والأخير بسجدتين. والمذهب أنه يكفيه عن الجميع سجدتان. قال: وإن ترك إمامه فرضاً، أي: ولم يرجع إليه بعد ما نبه عليه-نوى مفارقته، ولم يتابعه؛ لأنه إذا كنا قد تركه عمداً فقد بطلت صلاته، وخرج عن

كونه إماماً، وإن كان جاهلاً-ففعله خطأ؛ فلا يتابعه فيه، [فإنه إنما] يتابعه فيما كان من صلاته. وهذكا لو ارتكب إمامه محظوراً؛ مثل: أن قام إلى خامسة، لا يتابعه؛ لما ذكرناه. ولا فرق بين ان يكون المأموم قد دخل مع افمام في أول صلاته، أو كان مسبوقاً بركعة؛ لأن أفعال إمامه غير معتد بها فيها؛ فكيف يقتدي به فيها؟! نعم لو جهل المسبوق أنها خامسة؛ فتابعه فيها، حسبت له؛ فإذا سلم افمام، [سلم] معه. فإن قيل: يحتمل أن يكون الإمام قد ترك فرضاً من صلاته؛ لأجله قام إلى خامسة؛ فإنها رابعته، وإذا كان كذلك [فلم لا] يتابعه المأموم فيها؛ كما لو سجد من قيام سجدة، أو في آخر صلاته سجدتين -فإنه يتابعه؛ لاحتمال أنه قرأ آية سجدة، أو سها في صلاته؟! قيل: أنه لو تحقق أنه ترك ذلك يقيناً، لم يكن له متابعته؛ لأن صلاته قد تمت يقيناً؛ فلا يزيد فيها. نعم لو تنحنح الإمام؛ فبان منه حرفان، وقلنا: إن ذلك عمداً يبطل؛ فهل للمأموم متابعته بعد ذلك، او لا؟ فيه وجهان، في "تعليق" القاضي الحسين: أحدهما: لا؛ لأن الأصل سلامته، وصدور أفعاله عن اختياره. وأظهرهما: نعم؛ لأن الأصل بقاء العبادة، والظاهر من حاله الاحتراز عن مبطلات الصلاة؛ فيحمل على كونه [مغلوباً فيه]. والحكم فيما لو ترك الإمام والمأموم فرضاً على وجه النسيان، ثم تذكره المأموم دون الإمام؛ مثل: أن تركا سجدة من الركعة الأخيرة، ثم تذكر المأموم- كام إذا تركه الإمام وحده ابتداء؛ ينوي مفارقته؛ قاله القاضي الحسين، وقال: إنه لا يجوز أن ينتظره [حتى يتذكر أو يسلم. وكلامه فيما إذا قام الإمام إلى ما

يعلمه المأموم زائداً أنه لا يتعين عليه المفارقة، بل له أن ينتظره]. ثم ما ذكره الشيخ مصور بما إذا كان الإمام والمأموم يعتقدان أن ما تركه الإمام فرض؛ فلو كان المأموم يعتقده فرضاً دون الإمام؛ كما إذا كان الإمام حفياً فترك الطمأنينة، أو قراءة الفاتحة [والمأموم شافعياً]، وقلنا: يصح اقتداؤه به لو أتى بالطمأنينة، والفاتحة؛ فهل ينوي مفارقته، او لا؟ وإذا لم ينو مفارقته؛ فلا يتابعه في تركها، والكلام في هذا مسوق في باب صفة الأئمة، والذي حكاه القاضي الحسين هاهنا: أنه إذا ترك الطمأنينة لا يتابعه فيها؛ بخلاف القراءة؛ لان هذا في ظاهر الأفعال. قال: وإن ترك فعلاً مسنوناً؛ أي: واشتغل بفرض، لم يخرج به من الصلاة؛ مثل: أن ترك التشهد الأول، أو ترك سجود التلاوة؛ حين [قرأ آية] سجدة- تابعه، ولم يشتغل بفعله؛ لأن متابعة الإمام واجبة؛ فلا تترك لأجل سنة؛ فلو اشتغل بفعله بطلت صلته إن لم ينو مفارقته، وإن نوى مفارقته، جاز؛ على الأصح؛ لأن هذه مفارقة بعذر، صرح به في "التهذيب". ولو كان الإمام قد ترك التشهد الأول، ولم ينتصب قائماً، وتابعه المأموم في القيام، ثم عاد الإمام إلى التشهد؛ فهل يتابعه المأموم في العود؟ ينظر: إن لم يكن المأموم قد انتصب أيضاً، تابعه وجوباً بلا خلاف؛ كما قاله ابن الصباغ والماوردي، وإن كان قد انتصب هو دون إمامه؛ فهل يتابعه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه وصل إلى فرض؛ فلا يتركه؛ لاتباع إمامه.

وأصحهما في "الحاوي" و"الشامل"، وهو المذهب في تعليق البندنيجي: أن عليه أن يتابعه؛ لأن المأموم يترك الفرض؛ لاتباع إمامه؛ كما لو رفع عن الركوع قبل إمامه؛ فإنه يعود، ويركع معه، وإن كان قد أسقط فرض الركوع. والوجهان في الجواز، لا في الوجوب، وهذه طريقة الإمام؛ فإنه حكى الوجهين، ثم قال: ولم يوجب أحد الركوع؛ فنه لو قام قصداًن وترك متابعة إمامه في التشهد-لم يقض ببطلان صلاته، وكان في حكم من تقدم على إمامه بركن؛ فانتظره فيه حتى لحقه. وطريقة الشيخ أبي حامد ومن تبعه: أنهما في الوجوب حتىلو لم يعد-على القول به-بطلت صلاته. ويجيء من مجموع الطريقين ثلاثة أوجه، ذكرت مثلها في باب صلاة الجماعة، والمذكور منها في "التهذيب" في هذه المسألة هاهنا الوجوب. ولو كان الإمام قد انتصب قائماً قبل المأموم ثم عاد الإمام إلى الجلوس جاهلاً-قال في الشامل: فالذي يقتضيه المذهب أن المأموم [لا يرجع؛ لأن المأموم] وإن لم يكن قد انتصب؛ فهو يجب علهي الانتصاب؛ لانتصاب الإمام، ولا معنى لمتابعته في فعل لا يعتد به، وهل ينتظره قائماً؟ قال القاضي أبو الطيب: نعم. وقال القاضي الحسين: لا ينتظره قائماص؛ لأن اتظاره فعل لا يعتد به مع طوله؛ فلينو مفارقته، ويتم صلاته لنفسه. ولو كان الإمام والمأموم قد انتصبا جميعاً قياماً، ثم عاد الإمام؛ فلا يتابعه في العود؛ لأجل ما ذكرناه، ويفارقه، ولا فرق بين أن يعلم المأموم أنه عاد إلى ذلك عامداً، او ساهياً، وصرح به القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وغيرهما. وحكى البغوي في أن المأموم إذا جهل حاله، فهل يجوز أن ينتظره قائماً؛ حملاً على أنه عاد ناسياً؟ فيه وجهان، تقدم مثلهما في التنحنح، وهذا [منه]

يدل على أنه لو عرف أنه عاد ساهياً، لا يفارقه؛ فحصل في المفارقة عند عوده ساهياً، وجهان. أما إذا ترك الإمام فعلاً مسنوناً، وانتقل عنه إلى فرض خرج به من الصلاة؛ كما إذا ترك سجود السهو، وسلم؛ فقد ذكرنا أن المأموم يأتي به، وكذا إذا ترك افمام التسليمة الثانية- يأتي بها المأموم؛ إذ لا مخالفة. وقد استثنى بعضهم هذه الصورة من كلام الشيخ، ولا حاجة إليه؛ لأنه لا شيء بعد السلام يتابعه فيه، وليس السلام بفعل؛ حتى يندرج في كلام الشيخ. فرع: إذا ترك الإمام القنوت؛ لأنه لا يراه؛ فإن علم المقتدي أنه لو قنت سبقه الإمام بالسجود على التفصيل المشهرو فيه؛ فلا يقنت، وإن علم أنه لا يسبقه، وإن قنت؛ فهل يؤثر [له] القنوت؟ فيه قولان كالقولين في تكبيرات العيد، حكاه الإمام في باب تكبير صلاة الجنازة. قلت: ويشبه أن يكون مأخذ الخلاف أن النظر في الأفعال في الصلاة إلى اعتقاد امام، أوالمقتدي، وفيه خلاف يأتي في باب: صفة الأئمة. فإن قلنا: النظر إلى اعتقاد الإمام، فلا يقنت؛ كما لو كان المأموم لايراه أيضاً، وألا فيقنت، وحينئذ يظهر أن يقال: إن الإمام لو كان يعتقد مشروعية القنوت، لكنه تركه قصداً، أو سهواً، وتمكن منه المأموم من غير مخالفة له فعله قولاً واحداً؛ لتوافق الاعتقادين. وأطلق الغزالي والرافعي القول: بأنه لا بأس بانفراده بالقنوت إذا لحقه على القرب. والقاضي الحسين في باب صلاة المسافر أطلق القول بأن مصلي الصبح، لو اقتدى بمن يصلي الظهر قصراً أو إتماماً، وقنت هو انه تبطل صلاته؛ لأن المتابعة فرض، والقنوت نفل، ولعل ذلكمصرو بحالة المخالفة، وهو الظاهر، ثم قال: ولو أخرج نفسه من متابعته، ثم قنت-جاز. قال الغزالي: ولا بأس بانفراده بجلسة الاستراحة؛ كما لا بأس بزيادتها في غير موضعها.

قال: وسجود السهو سنة؛ لأنه ينوب عن المسنون دون المفروض، والبدل في الأصول على حكم مبدله، أو أخف؛ فلما كان المبدل مسنوناً- وجب أن يكون البدل مسنوناً؛ ولأنه سجود يثبت فعله؛ بسبب حادث في الصلاة؛ فوجب أن يكون [مسنوناً]؛ كسجود التلاوة وقد قال عليه السلام: "كانت الركعة والسجدتان نافلة [له] ". فإن قيل: قوله عليه السلام: "وليسجد سجدتين" أمر، وظاهره الوجوب، وهو جبران نقص في عبادة؛ فوجب أن يكون واجباً؛ كما في الحج. قيل: صرفنا عن الظاهر من الخبر ما ذكرناه من الخبر، وأما الحج فإنما

وجب جبرانه؛ لكونه بدلاً من واجب، وليس كذلك سجود السهو. قال: فإن ترك جاز؛ لأن السنة يجوز تركها، ثم هو سجدتان بينهما جلسة، يسن في هيئتها الافتراش، وبعدهما إلى أن يسلم يتورك. قال الرافعي: وكتب الأصحاب ساكتة عن الذكر فيهما، وذلك يشعر بأن المحبوب فيهما هوالمحبوب في سجدات صلب الصلاة. قلت: بل صرح في "التتمة" بأنهما كسجدتي الصلاة في الذكر، ووضع الجبهة على الأرض، والطمأنينة، والتسبيح، وإطالة الذكر حتى يرفع منهما. قال الرافعي: وسمعت بعض الأئمة يحكي أنه يستحب أن يقول فيهما: "سبحان من لا ينام، ولا يسهو"، وهو لائق بالحال. قال: ومحله قبل السلام؛ أي: وبعد التشهد الأخير والصلاة فيه على النبي صلى الله عليه وسلم [وعلى] آله؛ لحديث معاوية بن الحكم، وابن بحينة، وقد تقدما في الباب. وقد روى أبو هريرة أنه عليه السلام قال: "إذا صلى أحدكم؛ فلم يدر كم صلى؟ زاد أو نقص؛ فليسجد سجدتي السهو، [وهو جالس]، ثم يسلم". ولأنه سجود عن سبب وقع في صلاته؛ فوجب أن يكون محله في الصلاة؛ قياساً على سجود التلاوة؛ ولأنه جبران الصلاة؛ فوجب أن يكون محله في الصلاة؛ كمن نسي سجدة منها. قال: وقال في موضع آخر: إن كان السهو زيادة، فمحله بعد السلام؛ لأنه عليه السلام في قصة ذي اليدين- سجد بعد السلام؛ كما رواه ابن بحينة؛ لأن ذلك بسبب النقص؛ فدل على اختلاف محله؛ لاختلاف سببه؛ ولأن سجود السهو جبران؛ فإاذ كان لنقصان اقتضى أن يكون قبل السلام؛

لتكمل به الصلاة، وإن كان لزيادة أوقعه بعد السلام؛ لكمال الصلاة، وهذا ما أشار إليه الشافعي في كتاب "اختلافه مع مالك"، وهو المنقول عن مالك، والمزني-رحمهم الله-واختاره ابن المنذر. فإذا قلنا به، وكان قدسها سهوين: أحدهما: زيادة، والآخر: نقصان. قال في "التتمة": يسجد قبل السلام؛ لأنه صحيح بالاتفاق؛ فإن الذين ذهبوا إلى أنه بعد السلام في الزيادة قالوا بصحته قبله، وأما السجود بع السلام؛ فمختلف فيه؛ فإن الذين قالوا بأنه قبل السلام إذا سجد بعده لا يصح سجوده. وهذا فيه كلام يأتي. قال: والأول أصح؛ لما ذكرناه، وسجوده-عليه السلام-في قصة ذي اليدين بعد السلام؛ لأنه نسي السهو، ثم ذكره بعد السلام، فأتى به إذ ذاك، والزيادة نقص من حيث المعنى؛ كما في الأصبع الزائد، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون قبل السلام؛ كالنقص المحقق. فإن قيل: قد روي [أنه] عليه السلام [قال]: "لكل سهو سجدتان بعد السلام". وروي أن ابن مسعود سها في صلاته؛ فسجد سجدتي السهو بعد السلام، وقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذان يقتضيان أن محله بعد السلام، زيادة كان أو نقصاناً؛ ولأن السلام من الصلاة؛ فوجب أن يكون سجوده للسهو بعده؛ كسائر أركان الصلاة.

قيل: ما ذكره من الأخبار منسوخ؛ لقول الزهري: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود قبل السلام. ولا يقول الزهري ذلك إلا عن سماع من الصحابة. ويؤيده ما رواه ابن المنذر بإسناده: أنا أبا هريرة كان يأمر بسجدتي السهو قبل السلام، وهو راوي قصة ذي اليدين، وسائر أفعال الصلاة لايخرج بها منها؛ ولذلك قلنا: يأتي بالسجود بعدها، ولا كذلك السلام؛ فإنه يخرج به من الصلاة. وقد حكى عن القديم قول آخر: أنه يتخير بين تقديمه على السلام وتأخيره عنه، زيادة كان السهو أو نقصاناً؛ لتقابل الأخبار. وما ذكره الزهري فلا حجة فيه؛ لان الفعل لا يدل على نفي جواز الأول. قال الروياني في "تلخيصه": وهذا أخذ من قول المزني: سمعت الشافعي يقول: إذا كانت سجدتا السهوبعد السلام تشهد لهما، وإن كانتا قبل السلام كفاه التشهد الأول. وقال الطبري: إن أبا علي ذكر هذا في "الشرح" من تخريج الأصحاب، وأن الشافعي أشار إليه في القديم، ونقله المزني إلى "الجامع الكبير"، وبه يحصل في المسألة ثلاثة أقوال، ثم هي في الجواز ... والاعتداد به، أو [في] الاستحباب؟ فيه وجهان في "النهاية": أصحهما-عند بعضهم- الأول، وادعى الإمام، والرافعي: أنه المشهور بين الأصحاب، قال الإمام: وعليه التفريع. والذي حكاه الماوردي: الثاني، وادعى أنه [لا] خلاف بين الفقهاء أن سجود السهو جائز قبل السلام وبعده، وإنما اختلفوا في المسنون، وهذه الطريقة حكاها ابن كج أيضاً، وحينئذ يكون التقديم أفضل في قول، والتأخير أفضل عند السهو بالزيادة دون النقصان. والثالث: أن التقديم والتأخير في الفضل سواء، زيادة كان السهو، أو نقصاناً، كذا صرح به الإمام.

وقد أفهم كلام الشيخ أنه على القولني لا يتشهد بعد السجود؛ إذ لو كان يشرع عنده لذكره، وما حكيناه عن رواية المزني سماعاً من الشافعي صريح في أنه إن كان نيل السلام لا يتشهد بعده، وإن كان بعد السلام تشهد، وقد حكى هذا النص أيضاً القاضي الحسين. واتفق الأصحاب على العمل به [فيما] إذا كان السجود قبل السلام، بل ادعى الماوردي أنه لا خلاف فيه بين العلماء، وأما إذا كان السجود بعد السلام، فقد اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من عمل بظاهر النص فيه أيضاً، وقال: الشافعي قصد بذلك بيان حكمة المسألة. وهذا اختيار أبي زيد؛ كما قال الرويانين وقال الماوردي: إنه مذهب الشافعي، وجماعة الفقهاء. فعلى هذا يتشهد بعد سجوده، ويسلم، سواء كنا ممن يرى سجود السهو بعد السلام، أو كان ممن لا يراه؛ فأخره قصداً. وقيل: إنه يتشهد أولاً، ثم يسجد، ثميسلم؛ قاله ابن سريج، ويعزي إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني. والحناطي أثبت هذا الخلاف قولين. ومنهم من قال: إنما أجاب الشافعي بما ذكره؛ تفريعاً على قوله: إن السجود للزيادة بعد السلام. قلت: وهذه الطريقة ادعى البندنيجي والروياني أنها المذهب؛ حيث قالا: كل موضع قلنا: إنه يسجد قبل السلام فأخره إلى ما بعده، عامداً، أو ساهياً-المذهب: أنه يسلم عقيبه، ولا يتشهد. وقال ابن الصباغ: إن قائلها أبو علي صاحب "الإفصاح" وأبو غسحاق، وصححاها، وتنسب الأولى إلى صاحب "التلخيص". ومنهم من قال: [إن] هذا من الشافعي تفريع على مذهب غيره، وإذا كان كذلك، فلا يتشهد لهما.

والإمام اختصر هذا التطويل، وقال: إذا قلنا: إن سجود السهو بعد السلام، كان حكمه في السجود والتشهد، كحكمه في سجدة التلاوة خارج الصلاة، وقد تقدم. وأنت إذا تأملت ما حكيناه عن البندنيجي وغيره، عرفت أنه تفريع على أن الخلاف في السجود قبل السلام أو بعده، في الاستحباب، لا في الاعتداد به. أما إذا قلنا بالطريقة الأخرى، وأنه قبل السلام؛ فإذا أخره إلى ما بعد السلام قصداً، فقد فوته على نفسه؛ كما ستعرفه. قال: فإن لم يسجد حتى سلم، ولم يطل الفصل، سجد؛ لما قدمناه من خبر ابن مسعود عند الكلام في زيادة الركوع سهواً. قال: وإن طال، ففيه قولان؛ أصحهما: أنه لا يسجد؛ لأنه جبران للصلاة، وما اكن من أحكام الصلاة لا يصح فعله بعد تطاول الزمان؛ فسجود السهو أولى؛ ولأنه لا يجوز أن يقع بين أفعال الصلاة فصل طويل؛ فلا يجوز أن يتأخر الجبران عنها، وهذا كالتسليمة الثانية، فإنها، وإن كانت خارجة عن الصلاة؛ فالشرط ألا تتراخى عن التسليم الأول، وهذا ما نص عليه في الجديد، وهو أحد قوليه في القديم. ومقابله-وهو الثاني في القديم-: أنه يسجد؛ لأنه جبران لنقص حصل في العبادة؛ فلا يؤثر فيه [طول] الزمان؛ كجبران الخلل الواقع في الإحرام؛ فعلى هذا. أي [وقت] فعله وقع موقعه. وعلىلأول: فالمرجع في [طول] الصل وقصره إلى العرف. وحكى البندنيجي والمحاملي وغيرهما قولاً آخر عن القديم: أنه لا يسجد بعد قيامه من المجلس، ويسجد إذا لم يقم، والجديد أن الرجوع إلى العرف؛ كام ذكرناه. وقد حاول افمام ضبط العرف؛ فقال: إذا مضى زمان يغلب على الظن أنه أضرب عن السجود؛ قصداً، أو نسياناً؛ فهذا فصل طويل، وألا فليس ذلك بفصل طويل. ثم

قال: هذا إذا لم يفارق المجلس؛ فإن فارقه، ثم تذكر على قرب من الزمان؛ فهذا محتمل عندي؛ لأن الزمان قريب، لكنا إن نظرنا إلى العرف فمفارقة المجلس تغلب على الظن الإضراب عن السجود؛ لطول الزمان، والذي قاله المحاملي تفريعٌ على أن المرجع إلى العرف أنه لا يضره مفارقة المسجد واستدبار القبلة. قلت: ويشهد له قصة الخرباق. وقد أضرب بعضهم عن الكلام هاهنا في بيان طول الفصل وقصره، وأحاله على الكلام في آخر باب فروض الصلاة وسننها من هذا الكتاب، ومستنده في ذلك أن القاضي الحسين لما حكى القولين عند [طول] الفصل وقصره كما ذكرناه قال: وهذان القولان كالقولين فيما [إذا] تذكر عبد السلام أنه ترك فرضاً من الصلاة هل يبني، أو يستأنف؟ [ومنهم من قال: القولان هاهنا، وثم يستأنف] قولاً واحداً. والفرق: أن سجود السهو تتم الصلاة دونه؛ لأنه ليس بفرض، وإنما هو سنة، بخلاف الأركان. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمرين: أحدهما: أن ما ذكره من السجود عند قرب الزمان فالقولان عند طوله مفرعان على أن محله قبل السلام، وبذلك قيده الشارحون لكلامه، ولا يظهر للتقييد معنى؛ فإنا إذا قلنا: إن محله بعد السالم إذا كان السهو زيادة، ولم يطل الزمان -سجد في وقت السجود، وإن طال، ففيه القولان، صرح بهما البندنيجي، وغيره، والإمام حكاهما وجهين عن رواية الصيدلاني، تفريعاً عل الطريقة

المشهورة بزعمه أن الخلاف في الاعتداد بالسجود، وقال: [إنا إذا] قلنا بفوات السجود تنزل منزلة سجود التلاوة إذا فات، وقد ذكرنا قولين في أنها هل تقضي، أم لا؟ فيجري القولان في سجود السهو لا محالة، وحينئذ يكون حاصل ما قيل في المسألة تفريعاً على هذه الطريقة ثلاثة أوجه، أو قولان [ووجه]: أحدها: يأتي به عند طول الفصل أداء. والثاني: يأتي به قضاء. والثالث: لا يأتي به أصلاً. الأمر الثاني: أنه لا فرق- فيما ذكره- بين أن يكون [عدم] سجوده قبل السلام عمداً أو سهواً، وهو كذلك إذا قلنا بأن الخلاف في أنه قبل السلام أو بعده عند الزيادة، في الاستحباب، لا في الاعتداد؛ كما هي طريقة الماوردي، وبه صرح، وكذا البندنيجي، وكلام البندنيجي والروياني وغيرهما السابق يعضده؛ كما أسلفنا التنبيه عليه. أما إذا قلنا: إن الخلاف في الاعتداد به؛ كما ادعى الإمام أنها الطريقة المشهورة، وأن عليها نفرع. فإن قلنا: إن محله بعد السلام، فقد تقدم حكمه، ويعود الخلاف في أنه هل يتشهد، أو لا؟ وإذا قلنا: يتشهد؛ فهل قبل السجود، أو بعده؟ فيه الوجهان، وبهما صرح في "البيان" و"الزوائد" في هذه الحالة. وإن قلنا: قبل السلام؛ فإن سلم عامداً، فقد فوت على نفسه السجود، وإن كان سلامه [قد] صدر، وهو ساه عن السهو؛ فهل يحكم بفوات السجود، أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن سجود السهو سنة، والسلام فرض قد جرى محللاً؛ فلا يعود إلى سنة قبله، وهذا ما مال إليه الإمام، والغزالي في "الفتاوي". والصحيح: أنه يسجد، وبه قطع الجمهور، وعليه نص الشافعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم [صلى خمساً وسلم] ثم عاد وسجد.

وعلى هذا فهل يحكم بعوده للصلاة إذا سجد، مع طول الفصل، أو قصره؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ بدليل أنه لا يجب عليه إعادة السلام والعود إلى الصلاة لو لم يرد السجود، وهذا أرجح عند البغوي. ومقابله منسوب إلى أبي زيد، وهو الأصح عند القفال والإمام، وبه قطع الغزالي في "الفتاوى". وسلامه الأول- على هذا- موقوف: فإن عن له أن يسجد تبينا أنه لم يخرج [به] من الصلاة، وإن عن له ألا يسجد تبينا أنه وقع موقعه؛ هكذا أبداه الإمام احتمالاً لنفسه، بعد أن قال: إنه رأى في أدراج كلام الأئمة تردداً في أنه هل يعيد السلام؟ قلت: ومقتضى وجوب الإعادة أنه لو لم يتذكر إلا بعد طول الفصل أن تبطل، وقد استشعره من بعد. وقال: [الوجه] القطع في هذه الصورة بصحة التحلل. ثم فائدة الخلاف تظهر فيما إذا أحدث بعد سجوده، وقبل سلامه ثانياً، أو كان يصلي الجمعة؛ فخرج الوقت قبل السلام، أو مسافراً؛ فوصل إلى وطنه أو نوى الإتمام قبل السلام. فإن قلنا: إنه عاد إلى الصلاة، بطلت صلاته عند الحدث، وأتمها ظهراً فيما إذا خرج الوقت، وكذا الإتمام إذا كان قد نوى القصر، ونحو ذلك. قال القاضي الحسين: وعلى الوجهين ينبني إعادة التشهد. فإن قلنا: إنه عاد إلى الصلاة [لم يعده، وإلا أعاده. وغيره قال: إن قلنا: إنه لا يعود إلى الصلاة]، فهل يتشهد، أم لا؟ فيه وجهان، أصحهما: أنه لا يتشهد؛ كذا حكاهما الرافعي، وصاحب "الزوائد" عن رواية الطبري، وأنهما كالوجهين في سجود التلاوة خارج الصلاة، وهذا عين ما حكيناه عن الإمام من قبل. قال الرافعي: وقد بنى الأصحاب على الوجهين في أنه هل يعود إلى الصلاة أم

لا أنه هل يكبر للافتتاح، أم لا؟ إن قلنا: إنه يعود إلى الصلاة فلا، وإلا كبر. وقضية كلام الإمام أن يأتي فيه الوجه الذي سبق في سجود التلاوة. قال في "التهذيب": والصحيح أنه يسلم، سواء قلنا: يتشهد، أم لا. ولا خلاف في أنه إذا سلم عامداً، وقلنا: إنه يسجد بعده؛ فسجد؛ لا يعود إلى الصلاة، صرح به الرافعي، والإمام، وفقهه ظاهر، وكلام الفوراني قد يوهم إجراء الخلاف فيه؛ لأنه قال: لو ترك السجود للسهو، وسلم ناسياً: إن لم يتطاول الزمان فإنه يتشهد، ويسجد استحباباً، وإن تطاول فهل يعود؟ فعلى قولين، ولو سلم عامداً، وترك سجود السهو؛ فهل يعود إلى السجود؟ فعلى وجهين: فإن قلنا: يعود على السجود؛ فهل يعود إلى حكم الصلاة حتى لو أحدث في هذه الحالة تبطل صلاته، أو لا؟ فعلى وجهين، وهل يتشهد مرة ثانية؟ إن قلنا: يعود إلى الأول، فلا يتشهد، وإن قلنا: لا يعود، يتشهد. فإن قلت: كلام الفوراني هذا مصرح بأنه إذا سلم عامداً هل يسجد، أم لا؟ فيه وجهان، وهما محكيان في غيره- أيضاً- منسوبان إلى رواية الطبري، وقد جزمتم القول بأنه إذا سلم عامداً، فقد فوت السجود على نفسه. قلنا: بل نحن قد حكينا الوجهين أيضاً، لكن بالترتيب والبناء، وذلك لا يخفى على متأمل. والله أعلم. ***

باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها

باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها وهي خمسة أوقات، إنما ذكر الشيخ الأوقات، ولم يقتصر على قوله: وهي خمسة؛ ليعرفك أنه ليس القصد بالساعات الساعات الفلكية، بل مجرد الزمن، ولو اقتصر على قوله: وهي خمسة، لابتدر الذهن إلى الساعات الفلكية؛ كما هو مذهبهم في قوله عليه السلام: "من راح في الساعة الأولى .. " الخبر المشهور. قال: عند طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، وعند الاستواء حتى تزول، وعند الاصفرار حتى تغرب، وبعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر. الأصل في الثلاثة: الأول ما روي عن عقبة بن عامر قال: "ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي [فيهن، أو نقبر فيهن] موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين تقوم قائمة الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب"، أخرجه مسلم. ومعنى "تضيف"، أي: تميل، ومنه سمي الضيف: ضيفاً؛ لأن المضيف يميله إليه. وقيد رمح، أي: قدر رمح، وهو بكسر القاف.

والاستواء وقت وقوف الظل، قبل الانقلاب إلى جانب المشرق. وفي "النهاية" حكاية وجه: أن وقت الكراهية يزول بطلوع قرص الشمس بكماله. والخبر الذي سنذكره يرد عليه، واتفقوا على أن ابتداءه من حين [بدو] بوادر الإشراق. وهذه الثلاث ساعات الكراهة فيها متعلقة بالوقت من أجل ما اشتمل عليه، قال عليه السلام: "إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان؛ فإذا ارتفعت، فارقها؛ فإذا استوت، قارنها؛ فإذا زالت فارقها؛ فإذا دَنَتْ للغروب، قارنها؛ فإذا غربت، فارقها" رواه الشافعي- رحمه الله- بإسناده.

وقرن الشيطان: جنده من الجن، الذين يصرفهم في أعماله، وينهضهم في مرضاته في هذه الأوقات. وقيل: هم حزبه من الإنس الذين يعبدون الشمس، ويسجدون لها في هذه الأوقات، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} [مريم: 74]، وقال عليه السلام: "خيركم القرن الذي أنا فيه". وقيل: إنه قرن الرأس، وأراد به [أن] الشيطان يضم قرنه إلى الشمس،

ويلصق ناصيته [بها] في هذه الأوقات حتى إن: من عبد الشمس، وسجد لها، كان عابداً للشيطان ساجداً له. وقد جاء في رواية أخرى: "قرني الشيطان" فعلى الأول والثاني يكون المراد الأولين والآخرين من أمته، وعلى الثاني يكون معناه: ناحيتي رأسه، وقد تضمن الخبر المذكور علة المنع. وقيل: إن علة المنع في وقت الطلوع أن يكون قويّاً على صلاة الضحى، وفي وقت الغروب أن يقوى على قيام الليل، وفي وقت الاستواء القائلة والاستراحة. قال: وبعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر؛ لقوله عليه السلام: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس" أخرجه البخاري ومسلم. وقد روى مسلم حديثاً جامعاً للأوقات الخمسة عن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الصلاة؟ قال: "صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، حتى ترتفع؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل؛ فإن الصلاة محضورة مشهودة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة؛ فإن حينئذ تسجر جهنم؛ فإذا أقبل الفيء فصل؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار".

قال الفقهاء: والنهي في الوقتين الأخيرين متعلق بفعل الصبح والعصر، إن قدمه اتسع وقت الكراهة، وإن أخره تضيق، ولا يكره قبل فعلهما. وقيل: يكره التنفل بعد طلوع الفجر، وقبل صلاة الصبح بما عدا ركعتي الفجر، حكاه القاضي أبو الطيب، وغيره وجهاً عن الأصحاب. وقال الروياني في تلخيصه: إنه ليس بشيء. وادعى ابن الصباغ أنه ظاهر كلام الشافعي، ولم يذكر كلامه، لكنه قال عند الكلام في سجود التلاوة: إن الشافعي قال: يجوز له السجود إذا تلا السجدة بعد صلاة الفجر، وعند الزوال، وبعد العصر، وبعد طلوع الفجر. قال تبعاً للقاضي أبي الطيب: وهذا يدل على أن الصلاة من غير سبب في هذه الأوقات تكره، وهذا الوجه لم يحك المتولي غيره، وهو المختار في "المرشد". وقال الترمذي: إنه مما أجمع أهل العلم عليه؛ لرواية ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين" قال: وهو غريب.

وعلى هذا تكون الأوقات التي تتعلق الكراهة [فيها] بالفعل أيضاً [ثلاثة]. وحكى الرافعي وجهاً آخر: أنها [تكره بعد ركعتي الفجر، ولا تكره بعد الفجر، وقبل ركعتي الفجر. وعلى هذا] تكون الكراهة المتعلقة بالفعل ثلاثة أيضاً، والذي حكاه الشيخ هو ما أورده الماوردي. ثم النهي عن ذلك نهي تحريم؛ قاله ابن يونس، وعليه ينطبق قول القاضي الحسين: إنه لو صلى في الوقت المكروه، وحكمنا بصحة الصلاة- فلا يصير ذلك سبباً متجهاً له فيما بعد في ذلك الوقت؛ لأن الأول معصية، وفعل المعصية لا يجلب الطاعة. وادعى الروياني في "تلخيصه" انعقاد الإجماع على عدم تحريم فعل الصلاة

في ذلك الوقت؛ وبذلك يحصل في التحريم وجهان أشار إليهما الإمام؛ حيث قال هو وغيره: لو صلى فيها؟ فهل تنعقد، أو لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كصوم يوم العيد، وهو الأصح. والثاني: تنعقد؛ كالصلاة في الحمام؛ فإنه لا خلاف في انعقادها. قال الإمام: وهذا القائل النهي عنده كراهة في الباب. وكلام غيره يقتضي أن الخلاف في الصحة مع القول بالتحريم؛ لأنهم فرقوا على قول الصحة بين ذلك وبين صوم يوم العيد؛ بأن الأوقات المكروهة قابلة للفعل؛ فإنه يجوز فيها فعل ما له سبب، وقد استقصيت الكلام في ذلك في باب صلاة العيد. ولو نذر الصلاة فيها، ففيه خلاف ذكرته في باب النذر. قال: ولا يكره فيها ما لها سبب؛ أي: من الصلوات؛ كصلاة الجنازة؛ لقوله عليه السلام: "يا علي ثلاثة لا تؤخرها .. " وعد منها: "الجنازة إذا حضرت". قال ابن المنذر- رحمه الله-: والإجماع منعقد على جوازها بعد الصبح،

وبعد العصر؛ فنقيس باقي الأوقات عليهما. فإن قيل: خبر عقبة بن عامر يدل على الكراهة فيها؛ لأنه نهى عن الدفن فيها، وهو عقيب الصلاة. قلنا: الخبر محمول على توخي الدفن في هذه الأوقات على أنه لا يلزم من الدفن في الوقت المكروه الصلاة فيه. قال: وسجود التلاوة؛ لأنه يفوت بالتأخير؛ فهو أولى من صلاة الجنازة. قال: وقضاء الفائتة؛ لما روي أنه عليه السلام رأى قيس بن فهد يلي ركعتين بعد الصبح؛ فقال: "ما هاتان الركعتان يا قيس؟ " فقال: ركعتا الفجر لم أكن صليتهما؛ فسكت، ولم ينكر عليه. وقوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها" يدل عليه. وروي أنه عليه السلام صلى ركعتين بعد العصر؛ فسئل عن ذلك؛ فقال: "أتاني ناس من عبد القيس بإسلام قومهم؛ فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر؛

فهما هاتان" أخرجه البخاري ومسلم بمعناه، ولما قضاهما عليه السلام بعد العصر داوم عليهما، وهل يجوز مثل ذلك لواحد منا حتى إذا قضى فائتة في الوقت المكروه يصلي مثلها في ذلك الوقت من غير سبب؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ اقتداء به. والثاني: لا. قال البغوي: وهو الأصح؛ لأن ذلك ليس بسبب، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكان التزم أنه إذا فعل شيئاً داوم عليه، وغيره ما التزم ذلك. وصلاة الكسوف ملحقة بصلاة الجنازة، بل هي أولى؛ فإنها معرضة للفوات. والصلاة المنذورة ملحقة بسجود التلاوة؛ وكذا تحية المسجد؛ لأنه منشأ السبب في الكل؛ فلا يكره، اللهم إلا أن يكون دخوله؛ لأجل الصلاة، فإن في الكراهة في حقه وجهين حكاهما العراقيون والقاضي الحسين، وجزم الإمام بعدم الكراهة، وقاسه على ما إذا قصد تأخير قضاء الفائتة إلى ذلك الوقت؛ فإنه لا يكره، وهذا فيه نظر؛ لأن المتولي قال: إن الصلوات التي لها أسباب إنما لا يكره إقامتها في هذه الأوقات إذا اتفقت فيها؛ فلو قصد تأخيرها؛ ليفعلها في هذه الأوقات كره. ومنهم من حكى الوجهين على الإطلاق عند الدخول، وبه يحصل في المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: إن دخل ليصلي التحية لا غير، كره، وإلا فلا. والمنع المطلق منها منسوب في "تلخيص" الروياني إلى البصريين من أصحابنا، والصيدلاني نسبه إلى أبي عبد الله الزبيري من أصحابنا، موجهاً له بأن التحية ليست مقصودة في نفسها؛ فإن قضاء الفائتة يقوم مقامها. والوجهان جاريان فيما إذا توضأ في هذه الأوقات ليصلي ركعتي شكر. وقد أفهم كلام الشيخ أن ركعتي الإحرام في هذه الأوقات مكروهة؛ لأنه لما حكم بكراهة الصلاة فيها، ثم قال: "ولا يكره فيها [ما] لها سبب؛ كصلاة

الجنازة .. " إلى آخره- فقوله: كصلاة الجنازة وكذا، [يقتضي] اختصاص السبب بما هو مثل ذلك، وكل ما ذكره سببه متقدم عليه، وركعتا الإحرام سببهما متأخر عنهما، [وهو الإحرام؛ فلم يكن داخلاً في قوله، وهذا ما ادعى الإمام اتفاق الطرق عليه؛ لأن سببهما متأخر عنهما]، وحصوله غيب؛ فلا يجوز الإقدام عليهما؛ ليوقع السبب، فلا تلتحقان بما تقدم سببه. وقال الروياني: إن من أصحابنا من حكى عن الشافعي أنه قال في كتاب الحج: إنه يجوز ذلك؛ لأنها صلاة لها سبب. وهذا ما أورده البندنيجي في كتاب الحج، وقد ورد في الخبر ما يدل عليه لو صح. قال الروياني: وهو غلط ظاهر لا يصح عن الشافعي، وقد أشار البغوي إلى هذا الوجه بقوله: لا يجوز على الأصح. وصلاة الاستخارة ملحقة فيما نحن فيه بركعتي الإحرام؛ كما صرح به الإمام. فإن قلت: إن راعيت ما ذكره الشيخ من التمثيل؛ فينبغي أن تقول بكراهة صلاة الاستسقاء والعيدين في الأوقات المكروهة؛ لأن سببهما غير متقدم عليهما، بل مقارن لهما. قلت: أما صلاة العيد، فعند الشيخ أن وقتها يدخل بعد زوال وقت الكراهة؛ كما [ستعرفه؛ فلا] يجوز فعلها قبله عنده بحال. ولو قلت: إن وقتها يدخل بطلوع الشمس؛ كما صار إليه جماعة؛ فهي كصلاة الاستسقاء، وحينئذ فلي أن أقول بالكراهة فيهما، وهو ما جزم به ابن الصباغ في باب صلاة الكسوف؛ [موجهاً ذلك بأنهما لا يختصان بالوقت المنهي عنه، وخالفتا صلاة الكسوف]؛ لأنه يخاف انجلاؤها، لكنه قال ها هنا: إن صلاة العيد لا تكره في الوقت المكروه؛ كصلاة الكسوف، وبه جزم البندنيجي والروياني. وقضية ذلك: أن يطرد في صلاة الاستقساء، وبه صرح الماوردي فيهما، وكذلك القاضي أبو الطيب في "تعليقه" هاهنا، وحينئذ يكون في كراهة صلاة الاستسقاء، والعيد إن قلنا بدخول وقته بطلوع الشمس في الأوقات المكروهة- وجهان، وقد حكاهما الإمام في صلاة الاستسقاء؛ موجهاً قول من قال بالكراهة- وهو ما

ذكره القاضي الحسين- بأن وقتها لا يفوت. قال: والأكثرون على جوازها، [ويَرِدُ على [من] منع، قضاء الفوائت؛ فإن وقتها متسع، ولم يمنع ذلك جوازها] في هذه الأوقات. قال: ولا يكره شيء من الصلوات في هذه الساعات بمكة؛ لما روى جبير بن مطعم أنه عليه السلام قال: "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحداً يطوف بهذا البيت، ويصلي أي ساعة [شاء] من ليل أو نهار" أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقوله عليه السلام: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة. قاله ثلاثاً" رواه الدارقطني، عن أبي ذر.

قال الماوردي: وهذا ما اختاره أبو إسحاق وجمهور أصحابنا، وهو الأصح. ووافقه الروياني على ترجيحه. وقيل: إنها تكره؛ لعموم الأخبار السالفة، والصلاة المذكورة في هذا الخبر المراد بها ركعتا الطواف، وهذا ما نسبه الماوردي إلى أبي بكر الشاشي، وهو القفال الكبير. وقال الروياني: إنه اختيار ابن سريج. قال الإمام: وهذا بعيد؛ لأن الطواف سببهما فلا حاجة إلى أن تخصص بالاستثناء، ثم الطواف بالبيت صلاة، ولو كرهت الصلاة بها، لكره. ثم كلام الشيخ يصرح بأن مسجد مكة وبيوتها فيما ذكره على السواء، وهو المذكور في "الشامل" وغيره نصاً.

وفي "التتمة" و"الحاوي" وجه: أنه يختص بمسجدها؛ لحديث جبير بن مطعم، وحديث أبي ذر. قال الدارقطني في رواية عبد الله الموصلي: وهو ضعيف. قال الماوردي: والخلاف في سائر الحرم كالخلاف في بيوت مكة. وعلى هذا يكون الشيخ قد عبر بمكة عن كل الحرم؛ كما فعله مرة أخرى؛ حيث قال: "أو يدخل مكة لحاجة"، كما ستعرفه في الحج، وهو في ذلك متبع لابن عباس؛ فإنه قال: "لا يدخل أحد مكة إلا محرماً". قال: ولا عند الاستواء يوم الجمعة؛ لما روى أبو سعيد الخدري "أنه عليه السلام نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة" رواه أبو داود. وظاهر كلام الشيخ هذا يفهم أمرين:

أحدهما: أن ذلك لا يختص بمن حضر الجمعة؛ [كما هو ظاهر الخبر، وهو وجه للأصحاب، ادعى في "التهذيب" و"الكافي" أنه الأصح. وقيل: إنه يختص بمن حضر الجمعة]؛ لطرد النعاس. قال البندنيجي: وهو الأقيس. وقال أبو الطيب: إنه الأصح. وقال ابن الصباغ: إنه المذهب. وقيل: يختص بمن غلبه النعاس؛ فيصلي ركعتين يدفع بهما النعاس، حكاه في "الوسيط"، وتبعه ابن يونس، ولم أره في غيرهما. وهل يكون حكم ركعتي الإحرام في وقت الاستواء يوم الجمعة، كغيرها؟ فيه وجهان في "الزوائد" عن المسعودي؛ لأن سببهما بعد يوم الجمعة. الثاني: أن باقي الأوقات فيه، كهي في غيره، وهو المذهب. وقال أبو علي في "الإفصاح": يحتمل أن يستثني جميع النهار؛ لأنه روي أن النار تسجر في هذه الأوقات [إلا] في يوم الجمعة. ومنهم من وجهه بأن فيه ساعة الإجابة؛ فرخص في الصلاة فيها؛ لطلبها. واعلم أن في "الحاوي" شيئاً قد يستنكر؛ فلذلك أخرته إلى آخر الباب، وهو أن صلاة الجمعة لا يكره فعلها في الأوقات المكروهة. ووجه استنكاره: أنها لا تقضي، ووقتها يدخل بعد الزوال، ويخرج بدخول وقت العصر، وذلك ليس من أوقات الكراهة. وجوابه: أن وقت أدائها قد يكون في وقت الكراهة، وذلك يفرض فيما إذا جوزنا الجمع بعذر المطر في وقت الثانية؛ فيصلي العصر، ثم الجمعة بعدها؛ فإنها لا تكره، وإن كانت بعد فعل العصر، والله أعلم.

باب صلاة الجماعة

باب صلاة الجماعة الأصل في مشروعية الجماعة في الصلوات الخمس- قبل الإجماع- من الكتاب قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} الآية [النساء: 102] فأمر بالجماعة في حال الخوف والشدة؛ ففي غيرها أولى. ومن السنة ما سنذكره من الأخبار، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بمكة ثلاث عشرة سنة، لا يصلي جماعة؛ لأن أصحابه كانوا مقهورين متفرقين، فلما هاجر إلى المدينة، أقام الجماعة، وواظب عليها. قال: والجماعة سنة في الصلوات الخمس؛ لما روى أبو هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعاً وعشرين درجة" [أخرجه مسلم].

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" أخرجه البخاري، ومسلم. ووجه الدلالة منهما على السنة أن لفظة "أفضل" موضوعة فيما لأحدهما مزية فيما شاركه فيه، وسأذكر من الأخبار في الباب ما يدل عليه أيضاً. ولأن الجماعة فضيلة في الصلاة لا تبطل بتركها؛ [فلم] تكن واجبة فيها؛ كالتكبيرات والتسبيحات. وهذا ما حكاه أبو علي في "الإفصاح" عن بعض الأصحاب؛ كما حكاه أبو الطيب. وقال الماوردي: إن به قال ابن أبي هريرة، وسائر أصحابنا، واختاره الغزالي، والبغوي.

قال: وقيل: هي فرض على الكفاية؛ للآية؛ [فإنه أمره] بالجماعة في حال الخوف؛ ففي حال الأمن أولى، والأمر للوجوب. وعن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يقول:] "ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة، إلا [قد استحوذ] عليهم الشيطان؛ فعليك بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب القاصية" أخرجه أبو داود، [والنسائي]. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " [لقد] هممت أن آمر [ناساً أن يجمعوا] حزماً من حطب، ثم آتى قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة، فأحرقها عليهم" قلت ليزيد بن الأصم: يا أبا عوف، الجمعة عني، أو غيرها؟ قال: [صمّتا] أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر جمعة، ولا غيرها. أخرجه مسلم، والترمذي مختصراً. والأخبار والآثار [الدالة] على ذلك كثير، ولا جرم صار إليه ابن سريج، وأبو إسحاق. قال الماوردي وجماعة من أصحابنا، وهم الأكثرون؛ كما قال ابن الصباغ، كقول الشافعي- رضي الله عنه- في "المختصر" ها هنا: "ولا أرخص لمن قدر

على صلاة [الجماعة] في ترك إتيانها إلا من عذر، وإن جمع في بيته، أو مسجد وإن صغر أجزأ عنه". قال القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والشيخ في "المهذب"، وغيرهم: قد نص عليه الشافعي- أيضاً- في كتاب الإمامة. والقائلون به يحملون الأدلة السالفة على ما إذا كان ثم عذر من مرض أو نحوه، أو على صلاة النافلة.

[وعلى هذا] قال [الشيخ]: فإن اتفق أهل بلد على تركها من غير عذر، قوتلوا؛ لأن هذا شأن فروض الكفايات [وعلى هذا] إذا عطله من توجه عليه قوتل؛ لأنه آثم، والمقاتل لهم هو الإمام، أو نائبه دون آحاد الرعية. أما إذا قلنا بالأول، فقد أطلق البندنيجي والماوردي وابن الصباغ وغيرهم القول بأنهم لا يأثمون، ولا يقاتلون، [وقد] تركوا خيراً كثيراً، وأجراً عظيماً. وفي "الرافعي" حكاية وجهين في المقاتلة؛ كما سيأتي مثلهما في العيد؛ إذا قلنا: إنه سنة. واعلم أن ما ذكرناه في حكاية لفظ الشيخ هو الموجود في أكثر النسخ، وقال النواوي: إن الذي ضبطناه عن نسخة المصنف: "وقيل: هي فرض على الكفاية؛ إن اتفق أهل بلد على تركها من غير عذر، قوتلوا"؛ بحذف الفاء، والحكم لا يختلف. وفي "تعليق" القاضي الحسين، والتتمة: أن أبا سليمان الخطابي خرج قولاً للشافعي: أنها فرض عين من كلام له في الكبير، وذلك أنه تلا آيتين: إحداهما: قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} [المائدة: 58]، والثانية: قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} الآية [الجمعة: 11]، ثم قال: ويحتمل أن اله قصد به الرد على المنافقين، وزجرهم عما هم عليه. ويحتمل أن [الذي] قصد [به] التحذير لمن ترك الجماعة، وهذا القول قد اختاره أبو ثور، وابن المنذر، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة من أصحابنا؛ كما قال الرافعي، والصحيح أنه ليس في المسألة إلا ما ذكره الشيخ، بل ادعى الماوردي أنه لا يختلف مذهب الشافعي وسائر أصحابه: أنها ليست فرضاً على الأعيان؛ إذ لو كان كذلك، لكانت شرطاً كالجمعة.

ثم هذا الخلاف إذا فعلت الخمس في وقتها؛ فإن فعلت قضاء خارج الوقت، فلا يتأتى القول بأنها فرض عين، ولا كفاية، بل الجماعة فيها سنة قولاً واحداً؛ لأن في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه [الصبح] جماعة حين فاتتهم الصلاة في الوادي. وما أطلقه الرافعي فيما إذا أقيمت الصلاة، وهو في قضاء فائتة، لا يقتصر على ركعتين من أن الفائتة لا تشرع فيها الجماعة محمول على أنه لا يصليها في جماعة خلف من يصلي أداء؛ لأن صلاة الفائتة عندنا لا تستحب خلف من يصلي أداء؛ كما قاله المتولي وغيره للخروج من خلال العلماء في صحة ذلك. واحترز الشيخ بقوله: "في الصلوات الخمس" عن المنذورة؛ فإن ما ذكره لا يجري فيها، صرح به الرافعي في أثناء باب الأذان، وغيره هنا، وعلته ظاهرة؛ فإنه لا شعار يظهر في إقامتها؛ بخلاف الخمس. تنبيه: كلام الشيخ يفهم أموراً: أحده: أن بعض أهل البلد لو أقاموا الجماعة [فيه]، لم يقاتلوا، وحصل تأدية الفرض، وهو ما يفهمه كلام الصيدلاني أيضاً؛ فإن الإمام حكى عنه أنه قال: إذا فعله قوم، سقط الفرض عن الباقين، ولاشك في ذلك إذا ظهر به الشعار، وذلك يختلف باختلاف البلاد؛ فإن كان البلد صغيراً، كفى أن يظهر في موضع واحد، وإن كان كبيراً، قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي والفوراني: وجب إقامتها في كل محلة منه، فلو تعطلت محلة، كان كتعطل البلد. وعبارة الماوردي- فيما إذا كان البلد واسعاً-: لا تسقط بإقامتها في مسجد واحد؛ لعدم ظهورها وانتشارها حتى تقام في عدة مساجد تظهر بها

الجماعة وتنتشر؛ فيسقط الفرض عن الباقين، ويجوز أن يصلوا منفردين. والمحكي عن الشيخ أبي حامد [أنه قال:] حد الظهور [فيها] إن كانت قرية [فيها] عشرون، أو ثلاثون رجلاً- أن تقام في مسجد واحد، وإن كانت قرية عظيمة؛ فبأن تقام في كل طرف منها، وإن كانت مثل بغداد فبأن تقام في كل محلة منها. وكلام الإمام قريب من كلام الماوردي، وعطف عليه [أنه] لا يضر مع ظهور الشعائر تخلف معظم أهل البلد [عن] إقامتها؛ كما في الصلاة على الموتى، نعم لو كان [يحضر في كل مسجد] اثنان أو ثلاثة؛ بحيث [لا يبدون للمارِّين]؛ فلا يحصل ظهور الشعائر بهذا. ثم قال: ولا يبعد أن [يقال: لا] يعتبر في القرى الصغيرة من البلاد إظهارها [إذا استقلت البلد بإظهارها]؛ ولهذا اختصت الجمعة بالبلاد والقرى [الكبيرة]. قلت: وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أن خبر أبي ذر الذي هو دليل على هذا القول يرد عليه. الثاني: أن إظهارها في القرى التي لا تقام بها الجمعة أولى؛ كي لا تتعطل عن إظهار شعار فيها، وهل يكفي إقامتها في البيوت؟ الأظهر- كما حكاه الروياني في "تلخيصه" عن بعض الأصحاب-: أنه يكفي؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه- قال: "وإن جمع في بيته أجزأه"، وهذا ما حكاه القاضي الحسين. وقال أبو إسحاق- كما حكاه البندنيجي وغيره عنه-: لا يكفي؛ إذا اتفقوا على ذلك، وألا يخرجوا إلى المساجد؛ فلا يسقط الفرض عنهم. وظاهر هذا أنه لا فرق [فيه] بين أن يشتهر بذلك الشعار أو لا، لكن القاضي أبو الطيب حكى [وجهاً] عنه: أنه قال: [إن] هذا إذا كانت المحلة [التي] صليت

فيها الجماعة في البيوت، والأسواق، [غير ظاهرة، فإن كانت ظاهرة كفى في تحصيل السنة وإسقاط الواجب]. وهذا قريب مما حكاه ابن الصباغ، وإليه يرشد قول الماوردي: إذا كان البلد واسعاً لا يكتفي بإقامتها في المنازل والبيوت؛ لعدم ظهورها وانتشارها. وحكى الروياني في "تلخيصه" وجهاً آخر: أنه لا يكفي في إسقاط فرضها إقامتها في البيوت، وقال: إنه الأصح. وبالجملة فصلاة الفرض في المسجد جماعة أفضل منها في البيت؛ لقوله عليه السلام: "خير صلاة [المرء] في بيته إلا المكتوبة". نعم لو كان إذا صلى في بيته صلى في جماعة، وإذا صلى في المسجد صلى وحده، كانت صلاته في بيته في الجماعة أولى؛ قاله الأصحاب عند الكلام في القرب من البيت في الطواف في كتاب الحج. ولو كانت الجماعة في بيته أكثر من الجماعة في المسجد، قال في "الحاوي": الجماعة اليسيرة في المسجد أفضل منها في المنزل. وقال القاضي أبو الطيب: الصلاة مع الجماعة الكبيرة في بيته أفضل؛ كما حكاه في كتاب الاعتكاف. وأفضل الصلاة في المساجد [الثلاثة:] الصلاة في المسجد الحرام، ثم بعده مسجد المدينة، ثم المسجد الأقصى؛ قاله في "التتمة". [وآكد الصلوات في الجماعة الصبح والعشاء، قال في "التتمة"]: وآكدهما صلاة الصبح؛ قاله في الروضة، وهو في يوم الجمعة آكد منه في غيره؛ لورود الأخبار الصحاح في ذلك. الأمر الثاني: أن أهل البوادي إذا اتفقوا على تركها، لا يقاتلون، وأبدى الإمام

فيهم لنفسه احتمالين، الذي جزم به في "الكافي" منهما: أنهم كأهل القرى؛ لأنه قال: لو امتنع أهل البادية أو [قرية أو] محلة، أو قبيلة على تركها؛ قوتلوا. وهذا [ما] يدل عليه خبر أبي ذر. والمسافرون لا يتعرضون لهذا الفرض بلا شك، [كما] قاله الإمام. وهذا الحكم فيما إذا قل عدد الساكنين في البلد؛ فإنهم وإن أظهروا الجماعة فلا يحصل بهم ظهور الشعار؛ لأن الإنسان في نفسه بصلاته لا يتعرض لهذا الفرض، وإنما المرعي فيه أمر كلي عائد إلى شعائر الإسلام. الثالث: اختصاص ما ذكره من أن الجماعة سنة أو فرض كفاية بالرجال، أو فرض الكفاية الذي هو [من] الشعائر إنما يخاطب به الرجال، وهذا ما ذكره القاضي الحسين في باب [إمامة النساء]؛ حيث قال: إقامة الجماعة لا تشرع للنساء؛ حيث تشرع للرجال؛ فإنها فرض كفاية على الرجال، أو سنة مؤكدة، ليست بفريضة، ولا سنة على النساء؛ كما أن النساء لا يسن لهن الأذان، ولا يشرع لهن الإقامة. وقال غيره: لا خلاف عندنا أنها [لا] تكون فرضاً بالنسبة إليهن، وهي مستحبة لهن في بيوتهن؛ لأنه عليه السلام أمر [أم] ورقة بنت نوفل أن تتخذ لها مؤذناً، وأن صلي في دارها، كما خرجه أبو داود، والترمذي.

وقد روى عن عائشة- رضي الله عنها- وأم سلمة أنهما أمتا نسوة، ووقفتا وسطهن. قال الإمام في باب اختلاف نية الإمام والمأموم: فإن قيل: هلا قدمتم استحباب الجماعة فيما قدمتموه في باب الأذان في الاختلاف في أذانهن [وإقامتهن؟]. قلنا: في الأذان إظهار وترك للستر، وليس في إقامة الجماعة ذلك؛ فلو خفضت المرأة صوتها- أي: في الأذان- كان [تركا لمقصوده]. قلت: هذا فرق بين الأذان والصلاة جماعة، وبه يحصل الفرق بين الجماعة والإقامة؛ لأن السنة أن يقيم المؤذن. ثم فضيلة جماعة النساء هل تساوي فضيلة جماعة الرجال، أو هي دونها؟ قال الماوردي: في باب إمامة النساء، ومن تبعه: فيه وجهان، أظهرهما: الثاني؛ لقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]. والذي أورده أبو الطيب مقابله. قلت: ويمكن أخذ الوجهين من أنها فرض كفاية أو سنة: فإن قلنا: إنها فرض كفاية، رجحت جماعة الرجال على جماعة النساء؛ لأنها تسقط فرضاً في الجملة. وإن قلنا: إنها سنة، فيجوز أن يقال بالاستواء، ويجوز أن يقال بالترجيح أيضاً. وأما حضورهن المساجد، فالشواب المستحب لهن ترك ذلك، والستر، ولزوم

البيت لهن؛ لقوله عليه السلام: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها" أخرجه أبو داود. وحجرتها: صحن بيتها. والمخدع: بضم الميم وكسرها: البيت [الذي] في جوف البيت تخبئ المرأة فيه ثيابها. ولو خالفن، وحضرن المسجد، كره لهن، وصح اقتداؤهن بالإمام، سواء نوى الإمام بهن أو لا. والعجائز لا يكره لهن الخروج لذلك؛ لقوله عليه السلام: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" وبالحالين يحصل الجمع بين الخبرين. وقد روي أنه- عليه السلام- كره للنساء الخروج إلى الجماعة إلا أن تكون عجوزاً في منقلها، والمنقل: الخف. وقيل: المندل، وهوب كسر الميم، قاله الهروي وقال في "الصحاح": إنه

بفتحها، والوجه الكسر، لولا أنها وردت في الحديث. وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إلى [أنها في] خروجها تكون مبتذلة، وأنها لو تشبهت بالشواب كره لها ذلك [بلا خلاف]. ثم حيث نفينا الكراهة قال الإمام: والذي رأيته للأئمة أنه لا يترجح خروجها على لزومها بيتها؛ فإنه يتعارض في حقها رعاية الستر، وإقامة الجماعة مع الرجال؛ فيخرج على تعارض الأمرين نفي الكراهة في الحضور، واستواء الأمرين. قال: وأقل الجماعة، [أي]: التي تحصل بها السنة، وسقوط الفرض اثنان: إمام، ومأموم؛ لقوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة" [رواه ابن ماجة] وروى أبو موسى الأشعري قال: جاء رجل، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيكم يتجر على هذا؟ "؛ فقام رجل فصلى معه.

قال الترمذي: هذا حديث حسن. ولا فرق في ذلك بين أن يصلي الشخص مع زوجته، أو ولده، أو رقيقه، نص عليه في "الأم". وفي "الزوائد" [للعمراني] أن صاحب "الفروع" ذكر أن أقل الجماعة [في الصلاة] ثلاثة يؤمهم أحدهم؛ فأما اثنان يؤم أحدهما صاحبه، فقد توقف الشافعي فيه في موضع، وقطع في آخر بأنه جماعة. وقد حكاه الروياني في "تلخيصه" عن بعض الأصحاب، وقال: إنه غلط. فإن قيل: المشهور من مذهب الشافعي أن أقل الجماعة ثلاثة؛ فما الفرق على هذا؟ قيل: الفرق أن الحكم [على الاثنين] بالجماعة حكم شرعي، مأخذه التوقيف الشرعي، وأقل الجمع بحث لغوي [مأخذه اللسان]. قال: ولا تصح الجماعة حتى ينوي المأموم الائتمام؛ لأن التبعية عمل؛ فافتقر إلى النية؛ لعوم قوله عليه السلام: "لا عمل إلا بنية". ويكفيه أن يقتدي بالمتقدم من القوم، وإن لم يعرف عينه. قال الإمام: وهو الأولى؛ فلو عين شخصاً، وكان الإمام غيره، نظرت: فإن لم يوجد مع التعيين إشارة؛ مثل: أن نوى الصلاة خلف زيد؛ فإذا هو عمرو- لم تصح بلا خلاف، واستبعد الإمام تصوير ذلك من غير ربط بمن في المحراب، وقال: إنه في غاية العسر، أو يعلم [أنه]؛ يعني: من حضر، ومن [سيركع بركوعه ويسجد بسجوده؛]. وإن وجد مع [ذلك] التعيين إشارة؛ مثل: أن نوى الاقتداء بزيد هذا؛ فإذا هو عمرو- فالمنقول عدم الصحة أيضاً. [و] قال الإمام: يتجه أن يتخرج فيه وجه آخر: أنه يصح؛ نظراً إلى

الإشارة؛ كما إذا قال: بعتك هذه الشاة؛ [فإذا هي] رمكة؛ فإنه يصح على وجه؛ ولأجل ذلك أثبت الغزالي في المسألة وجهين. وهذه المسألة من المسائل التي [لا] يشترط فيها التعيين، بل أصل الشيء، وإذا عين، و [أخطأ، ضر] ومثله: ما إذا نوى التكفير عن الظهار، وكان عليه كفارة يمين، أو الصلاة على زيد؛ فإذا هو عمرو، أو الزكاة عن ماله الغائب، وكان تالفاً- لا يجزئه، ولو أطلق لأجزأه. ويقوم مقام نية الائتمام نية الصلاة في جماعة، أو مأموماً؛ كما قاله مجلي. وقد أفهم من كلام الشيخ أمرين: أحدهما: صحة صلاة المأموم وإن لم ينو الائتمام، بل تابعه في الأفعال من غير نية؛ إذ لو كان عنده أنه لا يصح- لكان بالبيان أولى. والذي جزم [به] الغزالي، و [أبو نصر] المقدسي [في "تهذيبه"]: البطلان، وحكى القاضي الحسين، والمتولي في باب النية للصلاة وجهين في البطلان. قال الطبري في "عدته": وهما مذكوران في طريقة العراق؛ وطريقة القفال، والخراسانيين من أصحابنا: البطلان. وقال في "الذخائر": إن هذا يحتاج إلى تفصيل؛ فيقال: إن تابعه في الأفعال، وأخل بشيء [من ترتيب صلاته الواجب عليه؛ لأجل المتابعة- بطلت، وإن أخل بسنة، أو لم يخل بشيء] [من ذلك؛] فإن انتظر في القيام، أو السجود، أو الركوع، مع ترك اشتغاله بالذكر؛ فينبغي أن يكون [على] القولين في السكوت الطويل، وأولى بالبطلان؛ لانتفاء الإخلاص، وإن انتظره مع الاشتغال بالأذكار؛ فقد أشرك في عبادته؛ فينبني على انتظار الإمام في الركوع إذا أحس بداخل.

قال: وينبغي أن يبطل هاهنا قولاً واحداً على قول الفوراني؛ لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى. الثاني: أن الجماعة تصح وإن لم ينو الإمام [الإمامة]، وهو ما ادعى القاضي الحسين في باب صفة الصلاة أنه المذهب؛ فإنه قال ثَمَّ: الصحيح [من المذهب] أنه لا [يلزمه نية] الجماعة؛ لأنه مستقل بالفعل؛ فلا يحتاج إلى النية؛ بخلاف المأموم؛ فإنه تابع؛ فافتقر إلى قصد الإتباع. قال: وقال الأستاذ [الإمام] أبو إسحاق: إنه ينوي الجماعة؛ لأنه أحد ركني الجماعة؛ فيلزمه نية الجماعة؛ كالمأموم. والفرق ما تقدم. نعم يستحب له أن ينوي؛ للخروج من الخلاف؛ لأن الإمام أحمد يوجب ذلك [ويقول:] ولو لم ينو لبطلت [صلاة المأمومين] خلفه. وقد حكاه العبادي في "الزيادات" وجهاً لبعض أصحابنا، وعزاه في "الحاوي"- قبيل باب صلاة الجماعة وصفة الأئمة- إلى أبي إسحاق، وهو فاسد؛ لما سنذكره من خبر ابن عباس، وجابر، وجبار بن صخر في باب صفة الأئمة. وعلى المشهور هل يحصل له فضيلة الجماعة؛ إذا لم ينوها؟ قال الغزالي: لا. قال مجلي: وهذا لم أره لغيره. ويحتمل أن يقال: تحصل؛ لأن أصل نية الإمام غير واجبة، ومعنى كونه إماماً وجود القدوة [به]، وقد وجدت؛ فينبغي أن يحصل له فضيلة الجماعة، ويشهد لذلك أن المأمومين يكثر أجرهم بكثرة العدد، وليس لهم نية في ذلك. وقد حكى في "التتمة" في حصول فضل الجماعة وجهين، وبنى عليهما ما لو لم ينو الإمامة في الجمعة، هل تصح [له]، أم لا؟ إن قلنا: يحصل له

فضيلة الجماعة، صحت له، وإلا فلا. ولا خلاف على المذهب في أنه إذا نوى الإمامة بزيد، وكان عمراً أنه لا يضر؛ لأن [أصل النية ليست] بشرط في حقه، بخلاف نية الائتمام. قال: وفعلها فيما كثر فيه الجمع من المساجد [أفضل]، لرواية أبي داود في أثناء حديث أنه عليه السلام قال: "وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل". وهذا مخصوص عندنا بما إذا لم يكن إمام الجماعة [الكثيرة] مبتدعاً، ولا حنفياً، فإن كان، وصححنا الصلاة خلفه- كما ستعرفه- فالصلاة في المسجد القليل الجماعة أفضل بالاتفاق، وهل الأفضل صلاته منفرداً، أو مع الحنفي في جماعة؟ فيه خلاف سنذكره. ولا فرق فيما [ذكره الشيخ] بين أن يكون المسجد الكثير الجمع قريباً من الشخص، أو بعيداً منه. وقيل: إنها في مسجد الجوار أولى، مع قلة الجماعة فيه؛ قاله المسعودي، وغيره. قال الإمام: وهو غير سديد؛ فإن صح النقل فيه فيشبه أنه قد يحظر

قصد الجماعة الكثيرة لغيره؛ فيؤدي ذلك إلى تعطيل مسجد الجوار، ولعل ذلك في مسجد السكة-[أي: التي يسكنها]- فأما إذا كان على طريقه، وكان أقرب من المسجد المشهور، فلا ينقدح الوجه الضعيف في هذه الصورة. وفي "التهذيب" أنه يصلي في مسجد الجوار، ثم يلحق بالمسجد الأكثر جماعة؛ فيصلي معهم أيضاً؛ ليحوز الفضيلتين. والذي أورده العراقيون: الأول، وأيده أبو الطيب بأن الشافعي- رضي الله عنه- كان ببغداد بالقرب منه مسجد لا يغلس فيه، وبالبعد مسجد يغلس فيه بالصلاة، وكان يمضي إلى المسجد الذي يغلس فيه، ويترك المسجد الذي لا يغلس فيه. قال: فإن كان [في] جواره مسجد ليس فيه جماعة، [أي]: وبصلاته فيه تحصل الجماعة، كان فعلها في مسجد الجوار أفضل؛ لما في ذلك من عمارة مسجد الجوار وإحيائه بالجماعة. قال الروياني في "تلخيصه": وفيه وجه آخر: أن فعلها في المسجد [الأكثر] جماعة أولى بكل حال، وهو غلط. أما إذا كان لو صلى في مسجد الجوار صلى وحده، فقد قال في "التهذيب" تبعاً للقاضي الحسين: الأولى أن يصلي منفرداً، ثم يدرك [مسجد] الجماعة؛ فيصلي معهم. وعلى هذا يمكن إجراء لفظ الشيخ على ظاهره، ولا يعارضه ما ذكرناه من قبل من أنه إذا صلى في بيته صلى في جماعة، وإذا صلى في المسجد صلى منفرداً- أن صلاته في بيته أولى؛ لأن ذلك يمكن حمله على غير مسجد الجوار، أو على مسجد أقيمت الجماعة فيه [قبل حضوره إليه، والله أعلم. فرع: إذا كان بجواره مسجدان استوت الجماعة فيهما، فإن كان يسمع النداء

من أحدهما فصلاته فيه أولى، وإن كان يسمعه منهما]، فإن كان أحدهما [أقرب من الآخر] إليه؛ فصلاته فيه أولى، وإلا تخير؛ قاله الروياني. والجوار: بكسر الجيم وضمها. قال: وإن كان للمسجد إمام راتب، كره لغيره [إقامة] الجماعة فيه- أي: بغير إذنه- لما فيه من الإيحاش وإيذاء القلوب، وهذا ما نص عليه في "الأم". وظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الإمام الراتب قد صلى فيه أو لا، وإذا لم يصل بين أن يخاف [فوات] فضيلة [أولي الوقت، أو آخره [أو لا]. وللأصحاب فيما إذا كان الإمام قد صلى [فيه في جواز إقامة جماعة ثانية- فيه]- خلاف، والمنصوص: الكراهة. قال الشافعي- رضي الله عنه-: لأنه روي هذا عن بعض السلف. ثم قال: وأحسب الكراهة في حق قوم يعادون الإمام الراتب؛ فكره ذلك؛ لأنه يؤدي إلى العداوة وإلى الاختلاف؛ [فيفقد] مقصود الجماعة. وحكى الروياني في "تلخيصه" وجهاً عن أبي إسحاق: أنه يجوز من غير كراهة؛ كما لو لم يكن للمسجد إمام راتب، واختاره ابن المنذر. وقيل: إنه يكره أيضاً في المسجد الذي لا إمام له راتب، ولا مؤذن؛ حكاه القاضي الحسين. والوجهان ضعيفان، والمذهب: الكراهة عند وجود الإمام الراتب، وعدمها عند عدمه. وكذا لا يكره إقامة جماعة بعد الجماعة في مسجد [في موضع] لا

يسمع [فيه] جيرانه لضيق المكان؛ قاله البندنيجي، والروياني. ثم محل الخلاف السابق إذا كان [المسجد] في غير ممر الناس، ولم تجر العادة فيه [بتكرار الجماعات]، أما إذا كان كذلك، فلا [تكره]. قال في "المهذب": [لأنه لا يحمل التكرار فيه على الكياد]. وقال في "الذخائر": إن بعض أصحابنا استحب إقامة الجماعة ثانية فيه. ولو كان الإمام تأخر عن الحضور وإقامة الجماعة [فيه]، قال القاضي أبو الطيب وغيره: إن كان [بيته] قريباً؛ [أي]: بحيث لو أراد الحضور لم يفتهم إذا صلى بهم فضيلة أول الوقت- كما نص عليه في "الأم"- بعثوا إليه حتى يحضر، أو يستنيب؛ وإن كان موضعه بعيداً؛ بحيث لا يدرك أن يصلي بهم في أول الوقت، أو لم يحضر: فإن لم يخافوا فتنة في صلاتهم جماعة فيه قدموا واحداً منهم، وإن خافوا الفتنة انتظروه إلى أن يخافوا فوت الصلاة، ثم يقدموا واحداً [منهم] يصلي بهم. قيل: والأصل في ذلك أنه عليه السلام لما مضى إلى صلح بني عمرو بن عوف قدم الصحابة أبا بكر الصديق- رضي الله عنه- فصلى بهم.

وروي أنه عليه السلام في غزوة تبوك تأخر عن صلاة الصبح؛ لحاجة، فتقدم عبد الرحمن بن عوف، فصلى ركعة، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلفه الركعة الثانية، فلما سلم قال: "أحسنتم". وجه الدلالة منه: أنهم كانوا آمنين منه صلى الله عليه وسلم. قال: ومن صلى منفرداً، ثم أدرك جماعة يصلون، استحب له أن يصليها معهم؛ لما روى الترمذي عن يزيد بن الأسود قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [حجة الوداع]؛ فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف؛ فلما قضى صلاته وانحرف فإذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه؛ فقال: علي بهما"، فأتي بهما ترعد فرائصهما؛ فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟! " قالا: يا رسول الله [إنا] [كنا] قد صلينا في رحالنا، قال: "فلا تفعلا، إن صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة؛ فصليا معهم؛ فإنها لكما نافلة".

قال: وهو حسن [صحيح]. ورواية أبي داود: "إذا صلى أحدكم [في رحله]، ثم أدرك الإمام، ولم يصل، فليصل معه؛ فإنها له نافلة". والفرائص: جمع "الفريصة"، وهي لحمة في وسط الجنب قريبة من القلب ترتعد عند الفزع؛ قاله الخطابي. وهذا الخبر كالمصرح بأنه لا فرق في الصلاة المعادة بين أن تكون مما يكره الصلاة بعدها، أو لا؛ لأنه نص في الصبح وهو مما تكره الصلاة بعده؛ فغيرها أولى، وهذا ما يقتضيه كلام الشيخ، وهو المذكور في "الشامل"، و"الحاوي"، و"تعليق" القاضي الحسين، وغيرها. [و] في "المهذب" أن أبا إسحاق حكى عن بعض [الأصحاب] أنه لا يعيد صلاة الصبح والعصر، ويعيد ما سواهما؛ لأن الصلاة بعد الصبح والعصر مكروهة بغير سبب. وحكى الإمام [عن شيخه أنه] حكى في درسه و"تعليقه" وجهاً عن بعض الأصحاب: أنه لا يعيد الصبح والعصر؛ لما ذكرناه، وكذا المغرب؛ لأنها وتر النهار، ويعيد الظهر والعشاء. والوجهان ضعيفان باتفاق الأصحاب؛ للخبر، بل قال الإمام- فيما حكاه عن رواية شيخه: [إني] لا أعتد به. وعلى كل حال: إذا أعاد الصلاة في جماعة؛ حيث استحببناه، فأي الصلاتين فرضه؟ فيه قولان: الجديد- وهو الصحيح-: أنه الأولى، والثانية نفل. والقديم- كما قال أبو إسحاق-: أن الله تعالى يتقبل أيتهما شاء. وقال القاضي الحسين: إنه قول مخرج، وقد قيل: إنه مذكور في "الإملاء"، ولم

يورد في "الوجيز" سواه، ووراء القولين وجهان: أحدهما حكاه الإمام عن رواية شيخه عن بعض الأصحاب-: أن الفرض الثانية؛ لأنه استحب له إعادة الفريضة؛ ليكملها بالجماعة، ولو كانت نفلاً لما حصل فيها الكمال؛ فتبين بالآخرة أن الأولى وقعت نفلاً، وبعضهم نسب هذا إلى القديم أيضاً. قال الإمام: وهو مزيف، لا أعده من المذهب. وبعضهم يقول: إنه ليس بشيء؛ لأجل أنه [يخالف الخبر]. وقد قال في "الذخائر": إنه موافق للخبر؛ لأن أبا داود روى عن يزيد بن عامر قال: جئت والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، [فجلست، ولم أدخل معهم في الصلاة، فانصرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم]؛ فرأى يزيد جالساً؛ فقال: "ألم تسلم يا يزيد؟ " قلت: بلى يا رسول الله. قال: "فما منك أن تدخل مع الناس في صلاتهم؟ " فقال: إني كنت قد صليت في منزلي، وأنا أحسب أن قد صليتم. قال: "إذا جئت إلى الصلاة فوجدت [قوماً من الناس يصلون]؛ فصل معهم وإن كنت قد صليت، تكن لك نافلة"، وهذه مكتوبة. والثاني- حكاه في "التتمة"، ولم أره في غيرها-: أن كلتا الصلاتين فرض؛ لأن الخطاب سقط بالأولى، وكانت فرضاً، وقد فاتت صفة الجماعة فيها، فأمرناه بإعادتها، وليس يمكن إعادة الصفة وحدها؛ فحكمنا بأن الجميع فرض. التفريع: إن قلنا بما عدا الجديد، نوى بالثانية الفرض؛ [فلو نوى الظهر مثلاً، ولم يتعرض للفرضية- كان كمن [ترك نية الفرضية] في] الصلاة

المقامة من غير إعادة، وفي وقوعها عن الفرض وجهان: فإن قلنا: لا تقع عن الفرض، فهل تبطل]، أو تنقلب نفلاً؟ فيه الخلاف المشهور. وإن قلنا بالجديد، حكى الإمام عن الصيدلاني تردداً في كيفية نيته: أحدهما: أنه ينوي بها [النفل. والثاني: أنه ينوي] الفرض، واختاره، وادعى في التتمة أنه الصحيح. والرافعي [قال:] إن به قال الأكثرون. قال الإمام: وهو هفوة من الصيدلاني؛ فإن أمره بنية الفرض مع القطع بأن الصلاة [التي يقيمها] ليست فريضة محال. وقد حكى الروياني في "تلخيصه" الوجهين، ووجهاً ثالثاً ذكره في "الإبانة" أيضاً: أنه يتخير بين أن يطلق النية وبين أن ينوي الفرض، واختار الإمام أنه ينوي الظهر، أو العصر، أو نحو ذلك؛ كما ينوي الصبي؛ فإن نية الفريضة- ولا فريضة- محال؛ كما قدمناه. ولو نوى النفل، ولم ينو الظهر أو العصر؛ [بعد أن يصير بالجماعة] الثانية مستدركاً لما فات من الجماعة في صلاة الظهر والعصر، وقال القاضي الحسين: إنه على القول الجديد والقديم معاً ينوي إعادة ما صلى، أو نفل ما صلى؛ لأنا إن قلنا: الثانية نفل؛ فهو يريد [أن يكتسب بها فضل] الفريضة المؤداة، وهو فضيلة الجماعة؛ فكان فضيلة الجماعة منها؛ فتلحق بالأولى، وبقيت [هي] نفلاً. قال الشيخ أبو علي: وعلى القولين يجوز أن يصلي الصلاتين بتيمم واحد. قال مجلي: وهذا إنما يتجه على القول القديم إذا قلنا: إن من نسي صلاة من الخمس، يصليها بتيمم واحد، دون ما إذا قلنا: لابد من خمسة تيممات.

[قلت:] وعلى القول بأن الثانية هي الفرض، لا يحتاج إلى الإعادة، وعلى القول بأنهما فرض [يقرب الشبه من] صلاة من الخنمس. قال الشيخ أبو بكر الصيدلاني: ولو كانت الصلاة [المعادة مغرباً]، وقلنا بالجديد: إن المعادة نفل زاد فيها حال الإعادة [ركعة]؛ فإن الأحب في النوافل أن تكون شفعاً. وهذا ما حكاه القاضي الحسين لا غير، وقال الإمام: إنه حسن بالغ. ثم قال: لكنه مع القول بأنه ينوي بالثانية الفرض- كما اختاره- خبط وخروج عن الضبط؛ فإن المغرب لا يكون أربع [ركعات]. وقد أفهم قول الشيخ: "وإن صلى منفرداً ... " إلى آخره، أنه لو صلى في جماعة، ثم أدرك جماعة يصلون-[لا يستحب له أن يصليها معهم، كيف كانت] وهو وجه حكاه الشيخ أبو محمد، وغيره، وصححه الصيدلاني، والغزالي، وصاحب المرشد؛ لأن أبا داود روي عن سليمان- يعني: مولى ميمونة- قال: أتيت ابن عمر- رضي الله عنهما-[على] البلاط، وهم يصلون؛ فقلت: [ألا] تصلي معهم؟ قال: قد صليت؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تصلوا صلاة [في يوم] مرتين".

والبلاط: موضع مبلط بالحجارة بين المسجد والسوق، بالمدينة، [شرفها الله تعالى]. ولأن الإعادة لتحصيل فضيلة الجماعة، [وقد حصلت له، ولو قيل بالإعادة، لقيل: إنه يعيدها في جماعة] ثانية وثالثة ورابعة، وهو مخالف لما كان عليه الأولون. [وخبر يزيد بن الأسود مختص بحالة الانفراد؛ تدل عليه الرواية الأخرى؛ فعلى هذا: إذا [أعاد] الظهر أو العشاء، كانت نفلاً وجهاً واحداً]، وإذا أعاد الصبح، أو العصر، [كان فاعلاً] مكروهاً، وإذا أعاد المغرب، قال في "التتمة": فالصحيح أنها كإعادة الظهر، وفيه وجه: أنه يكره إعادتها. [وعلى الصحيح يأتي قول الصيدلاني إنه يضيف إليها ركعة أخرى. وبه صرح الرافعي وغيره، و] قال الروياني: إن القفال قال به، وإنه قيل: إنه ظاهر المذهب، وإنه لا يضم إليها شيئاً. وقيل: إنه لا يستحب له الإعادة في الصبح والعصر [والمغرب]، أما الصبح والعصر؛ فلنهيه عليه السلام عن الصلاة بعدهما، وأما المغرب؛ فلأنها وتر النهار. ويستحب في الظهر والعشاء؛ إذ التنفل بعدهما جائز؛ [حكاه القاضي الحسين. وقيل: إنه لا يستحب له إعادة الصبح والعصر، واستحبوا إعادة ما سواهما]؛ حكاه ابن الصباغ، والماوردي. وهذا والذي قبله مفرعان على المذهب [في أنه] إذا صلى منفرداً الصبح والعصر والمغرب، يستحب إعادتها [في جماعة، أما إذا قلنا في هذه الصورة: لا يعيد ذلك، فها هنا أولى. وقيل: يستحب إعادة ما صلاها] في جماعة كيف كان؛ لأنه عليه السلام صلى في خوف الظهر؛ فصف بعضهم خلفه، وبعضهم بإزاء العدو؛ فصلى

ركعتين، ثم سلم، [فانطلق الذين صلوا معه، فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلم]، أخرجه أبو داود، والنسائي، وقصة معاذ مشهورة، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم التطويل دون الإعادة؛ فثبت في الظهر والعشاء استحباب ذلك، وقيس باقي الصلوات عليهما، ولا نظر إلى أن الصلاة بعد الصبح والعصر مكروهة؛ لأن ذلك إذا لم يكن ثم سبب، [وها هنا سبب]، وهو حيازة فضيلة الجماعة. قال ابن الصباغ: وهذا [أشبه بكلام] الشافعي؛ لأنه أطلق، ولم يفصل. وقال الرافعي: إنه الأصح عند عامة الأصحاب. وقال القاضي الحسين: يحتمل أن يقال: إن كانت الجماعة [الثانية] أكثر، وإمامهم أروع، وأهدى لأركان الصلاة، وشرائطها، وهيئاتها- يستحب له أن يعيد الصلاة التي صلاها مع الجماعة؛ لأنه يكتسب زيادة فضيلة [الجماعة التي] لم تحصل له في الأولى، [وإن كانت الجماعة الثانية مثل الأولى] أو دونها، لا يستحب، وهذا ما صححه في "الكافي"، والله أعلم. وقد اتفق الكلام على أن من رأى شخصاً يصلي منفرداً؛ لسبق الجماعة له استحب [له] أن يصلي معه، وإن كان قد صلى في جماعة؛ لورود الخبر بذلك. قال: ويعذر في ترك الجماعة- أي: على [كل] قول- المريض؛ لقوله عليه السلام: "من سمع النداء، فمل يجبه؛ فلا صلاة له إلا من عذر". قالوا: وما العذر؟ قال: "خوف، أو مرض".

ولأنه عليه السلام ترك الجماعة، واستناب أبا بكر- رضي الله عنه- لمرض حصل له. قال في "الحاوي": وهو وفاق. قال الرافعي: ولا "يشترط] فيه أن يبلغ مبلغاً يجوز القعود في الفريضة، ولكن المعتبر أن تلحقه مشقة؛ مثل ما يلقاه الماشي في المطر؛ قاله في "النهاية". قال: ومن تأذى بالمطر؛ لما روى مسلم، عن جابر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمطرنا؛ فقال: "ليصل من شاء في رحله". وروى أبو داود عن أسامة بن عمير: "أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في يوم الجمعة؛ فأصابهم مطر، لم يبتل أسفل نعالهم؛ فأمرهم أن يصلوا في رحالهم"؛ وفي تأويل النعال أربعة أوجه: أحدها: التي يمشي فيها، والثاني: أنها وجه الأرض؛ حكاه القاضي الحسين وغيره، والثالث: أنها الأقدام. [والرابع: أنها الحجارة الصغار تكون في الطريق، فإنها تسمى: النعال؛ حكاه والذي قبله الماوردي]. قال الصيدلاني: ويستحب أن يقول المؤذن في أذانه وقت المطر بعد الحيعلتين: "الصلاة في الرحال".

قال الإمام: وهو مشكل؛ فإنه لم يصح فيه [شيء] ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتغيير الأذان بشيء يثبت في أثنائه من غير نقل فيه صحيح بعيد عندي، وليس في ذكره بعد الأذان ما يفوت مقصود النداء. والقاضي الحسين قال: إن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك بعد الحيعلتين موضع التثويب. وقيل: كان يقوله بعد الفراغ من الأذان؛ فإن صح ذلك، كان حجة لما قاله الإمام، لكن في "مسلم" أن ابن عباس- رضي الله عنه- قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله؛ فلا تقل: حي على الصلاة، [لكن] قل: صلوا في بيوتكم. قال: وكأن الناس استنكروا ذلك؛ فقال: أتعجبون من ذا؟! قد [فعل هذا] من هو خير منه. إن الجماعة عزمة، وإني كرهت أن أحرجكم؛ فتمشوا في الطين [والدّحض]. والدحض: من أدحضت الثوب؛ إذا غسلته؛ [كني به] عن المطر. قال: والوحل، أي: الذي لا يؤمن معه التلويث؛ لأنه أشد من المطر [في الأذى]. وحكى المراوزة وجهاً آخر: أنه بمجرده ليس بعذر ما لم ينضم إليه المطر،

وعليه ينطبق قوله في "الوسيط": والمطر مع الوحل عذر فيها. ومثل ذلك قاله القاضي الحسين في الجمعة. وعلى هذا فالفرق بينه [وبين] المطر: أن الوحل [له أمد] ينتظر، ولا كذلك المطر. والأظهر عند الإمام: الأول، وإن لم يتفاحش الوحل. قال: والريح الباردة في الليلة المظلمة؛ لما روى البخاري ومسلم، عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح؛ فقال عليه السلام: "ألا صلوا في الرحال". أما الريح الباردة في النهار فليست بعذر في تركها عند الجمهور.

وحكى مجلي وجهاً آخر: أنها عذر فيها. قال: ومن له مريض يخاف ضياعه؛ أي: قريباً كان، أو أجنبياً، أو قريب يخاف موته؛ لأن ذلك يسقط حضور الجمعة؛ كما ستعرفه؛ فالجماعة أولى؛ ولأن المشقة في ذلك فوق مشقة المطر، وهي تجوز الترك. قال: ومن حضره الطعام ونفسه تتوق إليه؛ لما روى مسلم، عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قرب العشاء، وحضرت الصلاة فابدءوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم". وروى أيضاً عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بحضرة الطعام، ولا [و] هو يدافع الأخبثين". وهذه المسألة مصورة في الحاوي وغيره بما إذا حضر الطعام عشاء، أو غداء، ونفسه تتوق إليه، وكان [بحيث] إذا تشاغل بأكل تمرة، أو تمرتين، أو لقمة، أو لقمتين فاتته الجماعة- فإنه يعذر بذلك، ويكمل [أكله] إذا لم يخش منه فوات الوقت. أما إذا كان لا يفوته مع تناول اللقمة واللقمتين الجماعة؛ فلا تسقط عنه؛ لأن سورة الجوع قد انكسرت بتناول ذلك؛ فلا يُتِمّ طعامه حتى يصلي. قال الإمام: اللهم إلا أن يكون مما يستوفي في دفعة واحدة؛ كالسويق واللبن يشرب. والحكم فيما إذا لم [يكن بحضرة] الطعام، وكانت نفسه تتوق إليه- كما لو حضره؛ لوجود المعنى، وهو [ترك] الخضوع المطلوب في الصلاة، وإنما أراد الشيخ التبرك بالخبر. قال: أو يدافع الأخبثين؛ لخبر عائشة- رضي الله عنها- السابق، وليس

المراد أن يجتمعا، بل المراد [أنه] متى وجد أحدهما، كان عذراً، والحكم فيما لو كان يدافع الريح كذلك. ومدافع الغائط يقال له: حاقب، ومدافع البول يقال له: حاقن؛ قاله في "الغريبين"، ومدافع الريح يقال له: حازق؛ حكاه القاضي الحسين. قال: أو يخاف ضرراً في نفسه؛ مثل: أن يخاف من ظالم، أو [فوت] القافلة، والسير معهم، ونحو ذلك، أو ماله؛ أي: مثل: أن يكون قد نسي باب داره مفتوحاً، وإذا رجع لغلقه [فاتته] الجماعة، أو كان يحرس متاعه، ولا يتمكن أن يمضي ويتركه، أو كان له مال؛ فخرج في طلبه [ولو لم يبتدر ذلك لفات]، ونحو ذلك. والأصل فيه: قوله عليه السلام في الحديث السابق: "خوف، أو مرض"، وقد دخل فيما ذكرناه من عليه دين، وهو معسر عن وفائه، ويخاف أن يحبس عليه، وهل يدخل في قول الشيخ: "أو يخاف ضرراً [في نفسه] " من [عليه] قصاص ويخشى أن يمسك؛ فيستوفي منه، أم لا؟ فيه كلام استوفيناه في باب صلاة الجمعة. وقد ألحق الأصحاب بهذه الأعذار غيرها: فمنها: ما إذا كان [قد أكل ما له] رائحة كريهة، وعجز عن دفع ذلك: كالثوم والبصل قبل الطبخ؛ لقوله عليه السلام: "من أكل من هاتين الشجرتين، فلا يقربن مصلانا" يعني: الثوم والبصل، أما إذا [كان قد] أمتهما طبخاً، وأكلهما، لم يكن ذلك عذراً في الترك. ومنها: الحر الشديد، عده ابن الصباغ منها، وصورته: أن تقام [الجماعة]

في وقت الحر من غير إبراد. قال في "الكافي": ولم يكن في طريقه كن يمشي فيه إليها. والقاضي أبو الطيب جعل شدة الحر عذراً في تأخير [الجماعة]، لا في تركها؛ للخبر المشهور. ومنها: البرد الشديد؛ كما قاله في "التهذيب"، ولم يفرق فيه بين الليل والنهار. ومنها: أن يخاف إذا حضر وانتظر إقامة الصلاة أن يغلبه النوم؛ قاله الروياني وغيره. ومنها: أن يكون عارياً في بيته؛ قاله الفوراني والغزالي. قال الرافعي: ولا فرق في ذلك بين أن يجد ما يستر عورته، أو لا. وهذا يندرج تحت قول الشيخ: "أو يخاف ضرراً في نفسه". ومنها: حصول الزلزلة؛ كما قاله الماوردي. واعلم أن هذه الأعذار؛ كما تنفي الحرج عن التارك تحصل له فضيلة الجماعة وإن صلى منفرداً؛ إذا كان قصده الجماعة [لولا العذر؛ للأخبار] الواردة في ذلك؛ قاله الروياني في "تلخيصه"، ويشهد له ما رواه أبو داود، عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن وضوءه، ثم راح فوجد الناس قد صلوا- أعطاه الله [مثل] أجر من صلاها وحضرها، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً". أخرجه النسائي. ثم حصر الأصحاب الأعذار فيما ذكرناه مفهم أن الرق ليس بعذر في ترك الجماعة. وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب كفارة [يمين] العبد بعد أن يعتق أن للسيد [أن] يمنع [عبده] من حضور الجماعات، إلا ألا يكون له معه شغل، أو يقصد تفويت الفضيلة عليه [فحينئذ] لا يجوز له منعه منها.

قال: ومن أحرم منفرداً، ثم نوى متابعة الإمام؛ أي: من غير أن يقطع صلاته- جاز في أحد القولين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بأصحابه، ثم ذكر أنه جنب؛ فقال لهم: "كونوا كما أنتم"، ودخل واغتسل، وخرج ورأسه يقطر ماء، واستأنف الإحرام، وبقي القوم على إحرامهم. فملا سبقوه بالإحرام، ولم يأمرهم باستئنافه؛ فقد خرجوا بعلمهم بجنابته من الإمامة؛ ودل [ذلك] على صحة صلاة من سبق الإمام ببعض الصلاة. وقال الإمام: إن وجه الاستدلال منه أنا علمنا أنهم أنشأوا اقتداء جديداً؛ فإن اقتداءهم الأول لم يكن [صحيحاً. وفيه نظر؛ لأن ظهور الإمام محدثاً لا يقدح في كون صلاة المأمومين] جماعة على الأصح؛ كما ستعرفه. [و] لأن أبا بكر [الصديق] صلى بالناس عند ضعف رسول الله صلى الله عليه وسلم [بأمره]؛ فلما وجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة خرج يتهادى بين [اثنين] العباس وعلي، والقوم في الصلاة؛ فوقف عن يسار أبي بكر، وصلى بالناس، وأبو بكر يبلغ عنه. ووجه الدلالة منه: أن أبا بكر [صار] مأموماً بعدما كان إماماً، والإمام في حكم المنفرد؛ [لأنه لا يتبع غيره. ولأنه لما جاز أن يكون منفرداً ثم يكون إماماً بأن يأتي من يقتدي به- جاز أن يكون منفرداً]، ثم يكون مأموماً؛ لأن الجماعة تتوقف على المأموم كما تتوقف على الإمام.

وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب وصاحب "التهذيب" و"الكافي" عن الجديد، والشيخ في "المهذب" عن القديم والجديد. وقال البندنيجي: إنه نص عليه في القديم و"الأم" و"المختصر"، ولفظه فيه: ويصلي الرجل، وقد صلى مرة مع الجماعة كل صلاة؛ فالأولى فريضة، والثانية سنة، وهو الأصح عند الجمهور. واقتصر القاضي الحسين والصيدلاني والغزالي على نسبته إلى القديم وأن المزني اختاره، [و] عن بعضهم القطع به. ومقابله: أنه لا يجوز؛ لقوله عليه السلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فإذا كبر فكبروا" فأمر بالتكبير بعد تكبير الإمام، وهذا كبر قبل تكبير الإمام؛ ولأن في صحة ذلك تضادّاً للأحكام؛ من حيث إنه كان يسجد لسهو [نفسه] دون من اقتدى به، وقد انعكس ذلك، وقد كان في ابتداء الإسلام إذا حضر المسبوق سأل من في الصلاة عما فاته، فيشيرون بالأصابع إلى أعداد الركعات التي فاتت؛ فيبتدر إلى فعل ما فاته، ثم يصل صلاته بصلاة الإمام فيما يصادفه من بقية صلاته؛ فدخل [معاذ] يوماً [وكان] مسبوقاً؛ فاقتدى وصلى ما وجد، ثم قام لما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى ما فاته؛ [ثم لما] تحلل رسول الله صلى الله عليه وسلم [عن صلاته] قال: "إن معاذاً سن لكم سنة حسنة؛ فاتبعوها، وأكد ذلك بقوله: "فما أدركتم؛ فصلوا، وما فاتكم فأتموا، أو: فاقضوا"؛ ولأجل ذلك قال الشافعي- رضي الله

عنه- في "الكبير"- كما قال الإمام-: إن جعل [صلاة] الانفراد جماعة كان في ابتداء الإسلام، ثم نسخ. أي: ولا يجوز العمل بالمنسوخ، وهذا القول حكاه القاضي أبو الطيب عن نصه في "الإملاء" والقديم؛ لأنه قال في "الإملاء": ولا يجوز أن يبتدئ الصلاة لنفسه، ثم يأتم بغيره، وهذا منسوخ. وقال في القديم: إذا افتتح الصلاة فرداً، ثم جاء الإمام، وأحرم بالصلاة؛ فمن الناس من قال: يضم صلاته إلى صلاة الإمام. وعندي: أنه لا يجوز، ومن أجاز هذا، أجاز الصلاة بإمامين، ومن لم يجز الصلاة بإمامين، لم يجزه. وعني بالإمامين: مسألة الاستخلاف. والقاضي الحسين والصيدلاني والغزالي قالوا: إنه نص عليه في الجديد. ولا بعد في ذل؛ لأن "الإملاء" معدود من الجديد. وعن بعضهم القطع به، حكاه القاضي الحسين؛ فإنه حمل قوله في "المختصر": "وكرهت أن يفتتحها صلاة انفراد، ثم يجعلها صلاة جماعة" على كراهة التحريم، والصحيح أنها على القولين. واختلف الأصحاب في أنهما أصلان بأنفسهما، أو [مبنيان] على غيرهما: فمنهم من قال: إنهما أصلان، وهو الأصح في "تلخيص" الروياني وغيره. ومنهم من قال: إنهما مبنيان على القولين. [وهؤلاء اختلفوا: فمنهم من قال: هما مبنيان على القولين] في الاستخلاف هل يجوز، أم لا؟ وهذا يعضده قول الشافعي- رضي الله عنه- في القديم: "من أجاز هذا، أجاز الصلاة بإمامين، ومن لم يجز الصلاة بإمامين، لم يجزه". وقال القاضي الحسين [بناء] على ما نقله: إن هذا لا يصح؛ لأن جواز الاستخلاف قول جديد، وجواز جعل صلاة الانفراد جماعة قول قديم، ولا

يجوز بناء القديم [على الجديد]. ومنهم من قال: هما مبنيان على أنه إذا أخرج نفسه من الجماعة هل يجوز، أم لا؟ ووجه البناء: أنه يصلي بعض صلاته مع الإمام دون بعض. [وقال القاضي [الحسين:] هذا لا يصح أيضاً؛ لأن المسبوق تصح صلاته، وقد فعل بعض صلاته مع الإمام، دون بعض]؛ لأن المسبوق يخرج من صلاة الإمام بغير فعله، وذلك [بسلام الإمام]؛ فجاز أن يخرج بنفسه؛ بخلاف [ما لو صلى] بصلاة الإمام؛ فإنه لا يحصل بالشروع من غير فعله وقصده. وإذا ثبت ضعف هذين القولين، تعين الأول، وهو أنهما أصلان بأنفسهما، واختلف الأصحاب في محلهما على ثلاث طرق، حكاها القاضي أبو الطيب وغيره: إحداها: إذا لم يختلف [ترتيب] صلاة الإمام والمأموم؛ بأن يكون [قد] تابعه قبل أن يركع في الأولى أو الثانية، وهي أولى الإمام، أما إذا اختلف بأن تابعه في الثانية، وهي أولى [الإمام]، فلا يجوز قولاً واحداً؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه- نص على المنع بعد الركعة في القديم؛ فقال: إذا صلى ركعة، ثم جاء الإمام؛ شفعها بركعة وقطع، وقال قائل: يدخل مع الإمام، ويعتد بما مضى، ولسنا نقول به، وأطلق الجواز في الجديد، وأطلق المنع في "الإملاء". وهذه الطريقة تنسب إلى أبي إسحاق. [والثانية: أن محلهما إذا اختلف الترتيب، أما إذا لم يختلف فيجوز قولاً

واحداً، وقد نسبت إلى أبي إسحاق] أيضاً. وقال ابن الصباغ: إن القاضي أبا الطيب اختارها. والثالثة: طرد القولين في الجميع، وهي التي اقتضاها إطلاق الشيخ هنا، وقال البندنيجي: إنها ظاهر المذهب. وقال في "المهذب"، و"التهذيب"، و"التتمة"، و"الكافي": إنها الصحيحة. قال ابن الصباغ: وهي التي أوردها القاضي أبو الطيب مع التي قبلها لا غير. [و] الأولى حكاها الشيخ أبو حامد مع الثالثة لا غير. ثم إذا قلنا بالجواز، وجب على المأموم أن يتابع الإمام في ترتيب صلاته؛ كالمسبوق، [ثم] إن كان قد سبق الإمام بركعة؛ فإذا قام الإمام إلى الإتيان بها، فلا يتابعه فيه؛ فإن تابعه، بطلت صلاته، ثم هو بالخيار بين أني خرج نفسه من صلاة الإمام ويتشهد ويسلم، وبين أن يطول الدعاء في التشهد حتى يفرغ الإمام ويسلم؛ لأن مفارقة الإمام بالعذر جائزة؛ كما ستعرفه، والانتظار بعذر جائز؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر الطائفة الثانية في صلاة ذات الرقاع؛ لتأتي، وقعد [في] أثنائها؛ لتتم صلاتها، مع أنه ليس بتابع لغيره، والتابع أولى. وبالجملة فمتابعة الإمام من غير قطع الصلاة التي يحرم بها منفرداً مكروهة؛ كما هو ظاهر نصه في "المختصر". وقد أطلق الشيخ في "المهذب" القول بأنه إذا أحرم منفرداً، ثم أدرك جماعة يصلون: أن المستحب [له] أن يقطع الصلاة، ويبتدئها في الجماعة. وقال في "المختصر": أحب له أن يكمل ركعتين ويسلم، تكونان له نافلة، ويبتدئ الصلاة معه. ونصه في القديم الذي حكيناه من قبل يوافقه، وجمهور الأصحاب عليه؛ وقالوا: يستحب له أن يتجوز فيهما، وهذا إذا كانت [الصلاة] ثلاثية أو رباعية،

ووجدت الجماعة قبل تمام الركعتين، ولو وجدت بعد قيامه إلى الثالثة، أتمها. ومحل ذلك إذا لم يخف خروج الوقت عليه لو قطع الصلاة وصلى معهم؛ فإن خاف ذلك، لم يجز، [القطع]؛ قاله في "التتمة"؛ لأن مراعاة الوقت فرض عين، والجماعة سنة، أو فرض كفاية، ولو قطع الصلاة حيث قلنا: يستحب أن يتمها ركعتين ويسلم، قال في "الحاوي": جاز. وقال في "الكافي": إنه غير مستحب. وقال في "التهذيب": إنه مكروه. وفي "التتمة": لا خلاف [في] أنه لا يجوز؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. والقاضي الحسين قال: يستحب له أن يتمها ركعتين، ثم يسلم، ثم قال: وفيه ثلاث مسائل: إحداها: أن يسلم من [كل] ركعتين من غير أن يغير نيته الأولى؛ فتبطل صلاته. والثانية: أن يترك نية الفريضة، ولا يغير نية الأصل فتصح صلاته نافلة وترتفض الفريضة. والثالثة: أن يغير نية الفرض إلى النافلة، وظاهر النص: أنها تنقلب نافلة، ولا تبطل، وقد ذكرنا في نظائرها قولين [فيخرج] في هذه المسألة قول آخر: أنها تبطل، وقد حكاه في "التتمة" أيضاً، والأصح هو الأول، وبه جزم البندنيجي، ونسبه إلى نصه في "الأم" أيضاً. وقال: إنه في غير هذه الصورة إذا نوى الفرض، [ثم قلبه] إلى نفل مطلق، هل يصح، أو يبطل؟ فيه طريقان: إحداهما: القطع بالبطلان. والثانية: أن في المسألة قولين:

أحدهما: هذا؛ قاله في بعض كتبه. والثاني: يصح؛ قاله في "الأم"، ونقله المزني. وعكس ابن الصباغ؛ فقال: إن الذي نص عليه في "الأم" البطلان، وها هنا الجواز. والأصح- كما قال، وكذا الماوردين وأبو الطيب-: البطلان؛ لأن النفل لم ينوه في جميع صلاته، وما نص عليه في "الإبانة" ليس بقول آخر في المسألة، وإنما أجازه للحاجة إلى إدراك الجماعة. ولا خلاف [في] أنه لو نقل الفرض إلى فرض آخر، لا يجوز، وكذا لو نقله إلى نافلة راتبة؛ كما قال البندنيجي وغيره، ولم يحرم بالظهر قبل الزوال، جزم الماوردي ها هنا بصحة النفل. وقال القاضي أبو الطيب: إنه لا يختلف المذهب في ذلك. لكنه صور المسألة بما إذا ظن دخول الوقت، ثم تبين أنه لم يدخل. فرعان: أحدهما: إذا كان الشخص في جماعة، وحضرت جماعة أخرى، وأحرموا بتلك الصلاة؛ فهل يجوز أن يدخل فيها، ويترك الأولى؟ قال في "التتمة": [إنه] على المسألتين، وقد ذكرناهما. وأراد أن ذلك مفرع على ما إذا أحرم منفرداً، ثم نوى متابعة إمام- هل يجوز، أم لا؟ وعلى ما إذا أحرم مع الإمام، ثم أخرج نفسه من الجماعة، هل يجوز أم لا؟ فإن قلنا: لا يجوز لم يجز ها هنا. وإن قلنا: يجوز، كان كما لو أحرم منفرداً، ثم نوى متابعة إمام، وقد سلف. الثاني: لو أحرم منفرداً بفائتة ما، ثم حضر من يصلي صلاة الوقت في جماعة، لا يجوز أن يسلم من ركعتين؛ ليصلي معهم؛ لأنه إن أراد أن يصلي تلك الفائتة التي يقطعها معهم فقد أراد خلاف الأفضل؛ لأن الأفضل ألا يصلي فائتة خلف من يصلي صلاة الوقت؛ للخروج من خلاف العلماء، وهذا ما حكاه

في "التتمة"، ونسبه البغوي إلى القاضي الحسين. وإن أراد أن يصلي معهم صلاة الوقت؛ فكذلك؛ فإنه لا يجوز أن يقطع فريضة لمراعاة مصلحة فرضية أخرى. نعم، لو كان قد شرع في الفائتة ظانّاً أن الوقت متسع، ثم زال الغيم، وظهر ضيق الوقت عن الصلاتين- فيستحب أن يقطع الفائتة، ويصلي صلاة الوقت؛ قاله القاضي الحسين في "الفتاوى" ونقله عنه في "التهذيب". قال: ومن أحرم مع الإمام؛ أي: في غير الجمعة، ثم أخرج نفسه من الجماعة؛ لعذر، وأتم منفرداً- جاز؛ لأن الطائفة الأولى في صلاة ذات الرقاع فارقت النبي صلى الله عليه وسلم وأتمت لنفسها، وهي مفارقة بعذر. قال: وإن كان لغير عذرن ففيه قولان: أصحهما: أنه يجوز؛ لما روي أن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم يصليها بقومه، وكان عادته إذا افتتح سورة لا يقطعها حتى يتمها؛ فأخر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ليلة؛ فصلى معه، ثم عاد على قومه؛ فصلى بهم؛ فشرع في سورة البقرة فأخرج رجل نفسه من صلاته؛ فلما سلم معاذ، أخبر بذلك؛ فقال: نافق الرجل؛ فبلغ [ذلك] الرجل قول معاذ؛ فغاظه ذلك، وقال: والله لأغدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بصنيع معاذ؛ فجاء في الغد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقص عليه القصة؛ فلم يقل شيئاً حتى دخل معاذ؛ فلما دخل [معاذ] قال له: "أفتان أنت يا معاذ؟ أين أنت من سورة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ...}، فما رُئِي رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد منه فيها.

وجه الدلالة [منه]: أنه عليه السلام أنكر على معاذ، ولم ينكر على الرجل، ولا أمره بإعادة الصلاة، ولو بطلت [الصلاة، لأمره بها؛] ولأنه تبرع بالاقتداء، والتبرع بالصلاة لا يلزم بالشروع؛ فكذا في وصفها، وهذا ما نص عليه في الجديد، والشيخ في تصحيحه متبع لسائر الأصحاب، وحكى الروياني والرافعي: أن الإصطخري قطع به. ومقابله- وهو القديم-: أنه لا يجوز؛ لقوله عليه السلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فلا تختلفوا عليه". ولأن صلاة الجماعة تخالف صلاة الانفراد في الأحكام؛ فلا يجوز الانتقال من إحداهما إلى الأخرى؛ كما لا يجوز أن ينتقل من الظهر إلى العصر، وقد رأيت في "تعليق" البندنيجي: أن الإصطخري قطع به. وهذه الطريقة هي الطريقة المشهورة الصحيحة، ووراءها طريقان: إحداهما: أن المفارقة إن كانت بغير عذر فلا يجوز قولاً واحداً، وإن كانت بعذر فقولان؛ حكاهما القاضي الحسين والبغوي. والثانية: إجراء القولين في الحالين، وهذه الطريقة تحكي عن اختيار الحليمي. [ثم إن العذر المجوز] لذلك على الطريق الأول ما يجوز بسببه ترك الجماعة، هكذا قاله الإمام، وألحق بذلك ما إذا ترك الإمام سنة مقصودة كالتشهد [الأول] والقنوت. وأما إذا لم يصبر؛ لطول القراءة؛ لضعف، أو شغل، قال الرافعي: وعن الشيخ أبي محمد ما ينازع في الأخير؛ لأن صاحب "البيان" حكى عنه أنه جعل انفراد الرجل عن معاذ [انفراداً] من غير عذر.

[قلت]: وهذا ما اقتضاه كلام غيره؛ حيث جعلوا حديث معاذ حجة لأحد القولين في المفارقة بغير عذر. وفي "الذخائر": أن من الأصحاب من حكى قولين في أن ترك القنوت هل يكون عذراً في المفارقة، أم لا؟ وأن المأموم لو شك بعد ركوع الإمام: هل أتى هو بالقراءة، أم لا- هل يكون [عذراً] في المفارقة، أم لا؟ فيه قولان. فرع: لو كان في جماعة، فانتقل إلى جماعة أخرى- قال بعضهم: جاز على القول الذي يجوز المفارقة بغير عذر؛ لأنه إذا جاز أن ينتقل إلى نقصان؛ فإلى زيادة أولى. قلت: هذا ظاهر إن قلنا: إن القولين في جواز الانتقال من الانفراد إلى الجماعة مبنيان على القولين في الانتقال من الجماعة إلى الانفراد، أما إذا قلنا: إنهما أصلان، فيشبه أن [يكون] القول بالجواز من جماعة إلى جماعة مفرعاً على القول الصحيح في جواز الانتقال من الانفراد إلى الجماعة، وحيث جاز فهو من جماعة إلى جماعة غير مستحب، ومن جماعة إلى انفراد مكروه، [و] الانتقال من الجماعة إلى الانفراد لا يجوز؛ ولو كان في الركعة الثانية. قال: وإن أحدث الإمام، [أي:] في أثناء الصلاة؛ فاستخلف مأموماً-

جاز في أصح القولين؛ لأن أكثر ما فيه أن القوم يصلون بعض صلاتهم خلف من لم يكن إماماً لهم في ابتداء صلاتهم، وهذا لا يمنع صحة الصلاة؛ لقصة أبي بكر- رضي الله عنه- لأنه أم الناس في ابتداء صلاتهم، و [أمَّهُ و] أمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في باقيها، وهذا ما نص عليه في "الأم"، وقد وافق الشيخ على تصحيحه كل الأصحاب. قال: إلا أنه لا يستخلف إلا من لا يخالفه في ترتيب الصلاة؛ حفظاً لنظام صلاة المأمومين، ومراده بذلك- والله أعلم-: ألا يستخلف إلا من علم كيفية صلاة الإمام، وما صلى منها؛ فإنه إذا استخلف من لا يعرف ذلك؛ بأن كان مسبوقاً، لم يمكنه المشي على ترتيبها، وهذا أحد القولين؛ كما حكاه صاحب "الكافي" وغيره. ومقابله: أنه يجوز غير أنه إذا صلى ركعة رقب لقوم، فإن هموا بالقيام، قام، وإلا قعد؛ كالإمام إذا سبح به القوم. وقد حكى القولين هكذا في "العدة" عن رواية صاحب "التلخيص"؛ فإن الشيخ أبا علي قال: إنهما لابن سريج، وإنما القولان إذا سبح القوم ينبهونه على السهو، وهو لا يذكر هل يقلدهم؟ قولان: أحدهما: لا، بل يبني على يقينه. والثاني: [أن المنبهين إن كانوا] جمعاً كثيراً؛ بحيث لا يقع [لهم الغلط]، قلدهم؛ [لأجل قصة] ذي اليدين. قال: والصحيح من وجهي ابن سريج: الجواز. قلت: والذي أجاب به القاضي الحسين في "الفتاوى" مقابله؛ ويتعين حمل كلام الشيخ عليه، وإلا فمتى استخلف مأموماً [مسبوقاً أو غير مسبوق]، وجب [عليه] أن يمشي على ترتيب [صلاة] إمامه على المذهب؛ كما

سنذكره، ولا حاجة مع ذلك إلى قوله "إلا [أنه] لا يستخلف إلا من لا يخالفه في ترتيب الصلاة"، ولما عرف بعض الشارحين ذلك، وضاق عليه الأمر، قال: الصواب أن يقول: فاستخلف إنساناً. ويشبه أن يكون هذا عين الخطأ؛ إذ لو كان كذلك، لاختص محل [ذلك بغير صلاة الجمعة]؛ لما ستعرفه [أنه لا يجوز أن يستخلف] في صلاة الجمعة إلا مأموماً، وكلام الشيخ الآتي صريح في أن ما ذكره جار في الجمعة وغيرها؛ فافهم ذلك. والقول الثاني الذي سكت عنه الشيخ: أنه لا يجوز أن يستخلف؛ لأنه عليه السلام لما ذكر أنه جنب؛ لم يستخلف، وقال: "مكانكم"، ودخل واغتسل، وخرج، وصلى بهم، ولو كان يجوز لفعله؛ ولأنه لا يجوز الاتئمام بشخصين معاً في صلاة واحدة، [فكذا على] التعاقب فيها، وهذا ما نص عليه في القديم، و"الإملاء". وأجاب المنتصرون للأول عن الخبر بأن رواية البخاري له صريحة في أنه لم يكن قد أحرم بعد، وإنما ذكر ذلك قبل التحرم؛ فلا حجة فيه، وإن كان ذلك بعد إحرامه فليس فيه أكثر من أنه لم يستخلف، وذلك جائز عندنا، وأما أن الاستخلاف لا يجوز، فليس في الخبر ما يدل عليه، على أنه لو كان فيه ما يدل لقلنا: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستخلاف؛ فإن استخلاف أبي بكر- رضي الله عنه- كان في [اليوم] الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. والفرق بين ذلك وبين ما إذا اقتدى باثنين معاً: أنه لا يمكنه متابعتهما، وها هنا يمكنه [ذلك]. ثم ظاهر كلام الشيخ: أنه لا فرق في جريان القولين [بين] أن يكون ذلك في الجمعة، وغيرها، وبه صرح الجمهور، وحكى الإمام وغيره أن منهم من خصص القولين بصلاة الجمعة؛ فإن الجماعة ركن [فيها]، ويشترط فيها شرائط لا يشترط منها شيء في سائر الصلوات؛ فيليق بها اشتراط اتحاد الإمام، ويجوز في غير الجمعة قولاً واحداً.

التفريع: على المشهور: إن قلنا: يمنع الاستخلاف؛ فإن كان حدث الإمام في غير الجمعة، أتم المأمومون لأنفسهم فرادى، وإن كان في الجمعة؛ فهل يجوز للمأمومين أن يتموا لأنفسهم صلاتهم، ظهراً، أو جمعة؟ قال القاضي أبو الطيب والمتولي: فيه قولان: أحدهما- نقله المزني في "المختصر" عن الشافعي- رضي الله عنه-: أنه يجوز إن كان حدث الإمام في الثانية، ولا يجوز إن كان في الأولى؛ لقوله عليه السلام: "من أدرك من الجمعة ركعة، فليصل إليها أخرى". وقد قيل: إن من هذا القول خرج المزني: أن القوم لو انفضوا في الركعة الثانية، أتمها الإمام جمعة؛ كما ستعرفه في موضعه. والقول الثاني نقله المزني في "جامعه الكبير": أنه يجوز، سواء أكان حدثه في [الركعة] الأولى أو الثانية؛ لأن المعنى الذي لأجله منعنا الإمام من الاستخلاف هو أن حكم صلاته باق لم يبطل، وإن كان حكمها باقياً، جاز لهم أن يتموها جمعة؛ كما لو كان حدثه بعد أن صلى ركعة. وقد قيل: إن المزني خرج منه قولاً فيما إذا انفض القوم عن الإمام في الأولى: أنه يتمها جمعة، والقولان هكذا حكاهما ابن الصباغ عن رواية أبي إسحاق، وملخصهما: أنه إذا [كان] حدثه في الثانية، أتموها جمعة [قولاً واحداً، وإن كان في الأولى، فهل يتمونها جمعة،] أو ظهراً؟ [قولان. وعكس الماوردي ذلك؛ فقال: إن كان حدثه في الأولى، أتموها ظهراً،] لا

يختلف فيه مذهب الشافعي، وسائر أصحابه، وإن كان في الثانية، فمذهب الشافعي: أنهم يتمونها ظهراً، وعلى قياس مذهب المزني في مسألة الانفضاض، يتمونها جمعة. ويجيء من مجموع النقلين في المسألة ثلاثة أقوال، حكاها مجلي: أحدها: أنهم يتمونها جمعة، كيف كان الأمر. والثاني: يتمونها ظهراً، كيف كان الأمر، وهذا إذا ضاق الوقت عن إمكان إعادة الخطبة والصلاة؛ فإن أمكن أعيدت. والثالث: إن كان حدثه في الأولى، أتموها ظهراً إن ضاق الوقت، وإن كان في الثانية، أتموها جمعة، وهذا ما أورده البندنيجي والبغوي. قال الإمام: إن الأصحاب قطعوا بما إذا كان حدثه في الثانية أنهم يتمونها جمعة، وإن كان في الأولى؛ فهل يتمونها ظهراً، أو نفلاً، أو تبطل؟ فيه خلاف يأتي مثله في مسألة الزحام ونظائرها. ثم قال: وكان شيخي يقول: قد ذكرنا في مسألة الانفضاض قولاً: أن القوم إذا انفضوا في الركعة الأولى، وبقي الإمام وحده- أن الجمعة تصح، وعلى هذا لا يمتنع أن نقول: إذا بطلت صلاة الإمام في الركعة الأولى، وزال [الإمام] عنهم- كان كانفضاضهم عن الإمام، فإذا كان الإمام يتم الجمعة، [فأولى أن يتم المأمومون]، وإن جرى الانفضاض في الركعة [الأولى]، فكذلك القوم يتمون الجمعة وإن زال إمامهم في الركعة الأولى، وهذا قياس حسن، غير أن قياسه: أن صلاة الإمام إذا بطلت في الركعة الثانية ألا يتم المأمومون الجمعة على قول؛ [بناء] على أن الانفضاض لو حصل في الركعة الثانية، لا يتمها الإمام جمعة، وقد قال الأصحاب: إنهم يتمونها جمعة، ووافقهم شيخي، وعندي [أنه] يقتضي طرد القياس؛ إذ لا يكاد يظهر فرق؛ فإن الإمام ركن الجماعة في حق المقتدين؛ كما أن القوم ركن الجماعة في حق الإمام، وليس كانفراد المسبوق بركعة؛ فإنه قد صحت الجمعة للإمام والجمع؛ فأثبت للمسبوق إدراك الجمعة على طريق التبعية لأقوام صحت جمعتهم.

قلت: وأنت إذا تأملت ما ذكره من التخريجين، عرفت أن ما قاله شيخه هو الذي نقله المزني في الجامع الكبير عن الشافعي، وما قاله الإمام هو عين ما حكاه الماوردي عن النص؛ فلا يحتاج إلى التخريج، ثم فيما قاله شيخه نظر من وجه آخر، وهو: أنا قد حكينا أن القول بصحة جمعة الإمام [إذا انفض القوم بجملتهم في الأولى مخرج من هنا؛ فكيف يخرج من الفرع أصله؟! نعم ستقف في باب صلاة الجمعة على أن القول بصحة جمعة الإمام] مع انفضاضهم في الأولى منصوص للشافعي، وحينئذ يستقيم التخريج منه إلى هنا لو عدم النص فيه، وأما تخريج الإمام، وقوله: "إنه لا يكاد يظهر بين المسألتين فرق"، فالأصحاب صرحوا به في كتاب الجمعة، وسنذكره ثم- إن شاء الله تعالى- فإن قلنا: يجوز الاستخلاف، جاز أن يستخلف في غير الجمعة من كان معه قبل حدثه من أول الصلاة، أو في آخرها، ويجب عليه أن يمشي على ترتيب صلاة إمامه؛ فيجلس؛ للتشهد [في موضع تشهد إمامه، ويقنت حيث يقنت، وإن لم يكن ذلك محلاً لتشهده] وقنوته؛ قاله ابن الصباغ. فإذا تمت صلاة المأمومين، قام إلى تتمة صلاته، وقنت في موضع قنوته، وتشهد في موضع تشهده، ويخير القوم بين أن ينتظروه حتى يسلم بهم، وبين أن ينووا المفارقة [ويسلموا، وبين أن يقدموا واحداً منهم، ليسلم بهم؛ أي: بعد نية المفارقة]. وحكى مجلي في جواز انتظارهم له خلافاً، والمشهور: الأول. وفي "زوائد" العمراني أن القاضي سليم قال في "فروعه": إنه لا يجب على المستخلف أن يمشي على ترتيب صلاة مستخلفه، بل على ترتيب صلاة نفسه، وهو في حكم إمام منفرد، وهل يشترط أن ينوي المأموم الاقتداء بالخليفة، أم لا؟ الجمهور على عدم الاشتراط. قال في "الكافي": وهو الأصح. وأشار بذلك إلى وجه حكاه في "التهذيب": أنه يشترط ذلك.

قلت: ولا يبعد أن يكون قائله هو الصائر إلى أن الخليفة يمشي على ترتيب صلاة نفسه. وهذا كله فيما إذا كان الاستخلاف في غير الجمعة، أما إذا كان في الجمعة فيجوز أن يستخلف من كان معه في الركعة الأولى، سواء كان حدثه في الثانية، أو [في] الأولى، لكن [هل] يشترط أن يكون قد سمع الخطبة؟ فيه قولان حكاهما الصيدلاني وغيره: أحدهما: لا، وهو ما نص عليه في "الأم". والثاني: نعم، وهو ما حكاه القفال وغيره عن نصه في "البويطي". والأصح الذي لم يورد العراقيون سواه: الأول. وهل يجوز أن يستخلف من لم يكن معه في الأولى؟ فيه خلاف صرح به الشيخ؛ حيث قالك وقيل: لا يجوز أن يستخلف في صلاة الجمعة إلا من كان معه في الركعة الأولى. ووجهه: أنه إذا لم يكن معه في الأولى دار بين أن يكون قد اقتدى بالإمام بعد ركوعه في الثانية، أو قبله، وأيّاً ما كان؛ ففرضه الظهر، أما في الأولى، فظاهر، وأما في الثانية؛ فلأنه لم يدرك معه ركعة تامة، والجمعة لا تدرك بركعة ناقصة؛ كما ستعرفه في مسائل الزحام، وإذا كان كذلك، فالجمعة لا تصح خلف من يصلي الظهر؛ كما سيأتي. وهذا القول حكاه المراوزة، وعبارتهم في حكايته: أنه هل يجوز أن يستخلف من لم يكن معه في الأولى؟ ذلك [ينبني] على أنه هل يجوز أن يستخلف في الأولى من كان معه فيها قبل الركوع، لكنه لم يسمع الخطبة؟ وفيه ما تقدم: فإن قلنا: لا يصح [ثمّ]، لم يصح هاهنا. وإن قلنا: يصح ثم، [فهاهنا] قولان، وهذا يجوز أني كون مرادهم به ما إذا كان من لم يدرك الأولى، لم يسمع الخطبة؛ إذ هو الغالب، أما إذا كان قد سمعها، لكنه لحقه وسوسة؛ فلم يدرك الإمام إلا في الثانية؛ فلا يجيء فيه إلا قولان من غير ترتيب، ويجوز أن يقولوا: مأخذ الترتيب عندنا [أنا] إذا شرطنا

في المستخلف [في الأولى] أن يكون قد سمع الخطبة؛ فكأنا نشترط فيه أن يدرك كل واجبات الجمعة مع الإمام، وإذا كان كذلك؛ فهو إذا لم يدرك الأولى مع الإمام، وأدرك الثانية، و [قد] سمع الخطبة- لم يدرك كل واجباتها معه، وحينئذ يأتي الترتيب والله أعلم. قال: والمنصوص: أنه يجوز أن يستخلف في الجمعة [في] الثانية من لم يكن معه في الأولى؛ لأنه باستخلافه ناب منابه، ولو استمر لصحت القدوة؛ فكذا من ناب منابه، وإن لم توجد فيه الشرائط؛ ألا ترى أن الإمام في الجمعة لو أحرم بأربعين سمعوا الخطبة، ولحقهم أربعون لم يسمعوها؛ فأحرموا معه، ثم انفض الذين سمعوا الخطبة، وبقي من لم يسمعها- لم يقدح ذلك في صحة الجمعة؛ لأن بإحرامهم معهم، انسحب عليهم حكمهم؛ فكذا هنا. وقد أفهم كلام الشيخ أن المنصوص الجواز، سواء أدرك المستخلف الإمام قبل الركوع في الثانية، أو أدركه في الركوع، أو أدركه بعد الرفع منه؛ لأن من لم يدرك الأولى، يتنوع حاله إلى ذلك، وهو فيما إذا أدرك الركعة الثانية منصوصه في "الأم"؛ لأنه قال فيه: "ولو أحدث في الركعة الأولى؛ فاستخلف من أحرم معه، صح، ثم إذا صلى المستخلف منها ركعة؛ فلما قام إلى الثانية أحدث، واستخلف من أدرك الركعة الثانية، وأشار إليهم أن يسلم بهم أحدهم، وقام هو؛ فأتمها ظهراً"؛ ولأجل هذا جزم القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وغيرهما بصحة استخلافه فيها. وأما إذا كان المستخلف لم يحرم مع الإمام إلا بعد الرفع من الركوع؛ فالجواز في هذه الصورة محكى في "المهذب" و"تعليق" أبي الطيب وغيرهما وجهاً عن بعض الأصحاب، ونسبه البندنيجي إلى الشيخ أبي حامد، وأبداه ابن الصباغ احتمالاً لنفسه؛ أخذاً من نصه في "الأم" في المسألة قبلها؛ لأنه لما صح استخلافه؛ مع أنه التزم إتمام صلاته ظهراً، دل هذا منه على أنه يجوز أن يستخلف في الثانية من يصلي الظهر، ومن أدرك الإمام بعد الرفع من الركوع يصلي ظهراً؛ فوجب صحة استخلافه.

وقال في "الحاوي": إن الجواز في هذه الصورة، قال الأكثرون: إنهم حكوه عن النص. وإذا صح ذلك، صح ما قاله الشيخ: إن الجواز مطلقاً هو المنصوص، وعلى هذا فلا خلاف في أن المأمومين الذين أدركوا مع المستخلف ركعة قبل حدثه يتمون صلاتهم جمعة، وهل يكون المستخلف مدركاً للجمعة؟ إن كان إحرامه بعد رفع الإمام رأسه من الركوع فلا، وإن كان قبل الركوع أو فيه، فالذي حكاه القاضي أبو الطيب، والماوردي أن يكون مدركاً للجمعة؛ لأنه أدرك مع الإمام الركوع؛ فأدرك به الجمعة؛ كالمسبوق، وكما لو استخلف في الأولى من أدرك معه الركوع فيها؛ فإنه لا خلاف في أن صلاته جمعة؛ كما قاله القاضي الحسين، مع أنه لم يدرك مع الإمام ركعة كاملة؛ فإذا أتم الركعة وتشهد- قام وأتى بركعة أخرى وتخير القوم في انتظاره، ومفارقته، وتقديم من يسلم بهم؛ كما سبق مثله في غير الجمعة. وقال في "الذخائر": [إن في جواز] انتظارهم له الخلاف السابق أيضاً. والمشهور: الأول، وهذا ما حكاه البندنيجي عن الأصحاب، وابن الصباغ والمتولي عن أكثرهم. ثم قالوا: وظاهر النص أنه لا يكون مدركاً للجمعة، بل يتمها ظهراً، وأشاروا بذلك إلى ما حكيناه عن الإمام، وبعضهم صرح به، وقد أخذ به المراوزة، وقالوا: لا يكون مدركاً للجمعة بلا خلاف؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة تامة من الجمعة، وهو ما اختاره ابن سريج، وصححه الرافعي وغيره، وفرقوا بين ما نحن فيه وبين المسبوق بفرقين: أحدهما- قاله أبو حامد-: أن المسبوق تبع لإمامه، وإمامه قد حصلت له الجمعة كاملة مع الجماعة؛ فتبعه فيها، ولا كذلك هاهنا؛ فإن المستخلف والمستخلف لم يكمل لواحد منهما الجمعة مع الجماعة. والثاني- أشار إليه الإمام-: أن المسبوق إذا أدرك مع الإمام الركوع، وكمل معه الركعة، حصلت له ركعة كاملة [تحسب له، وها هنا لم يدرك معه ركعة كاملة]؛ [فلم تحسب] له من الجمعة، ويشهد لذلك أن من أدرك الإمام في الركوع، وزوحم عن

السجود حتى سلم الإمام، [لا يكون] مدركاً للجمعة، وفرقوا بين ما نحن فيه، وبين ما إذا استخلف في الأولى من كان معه فيها بفرقين: أحدهما- قاله القاضي الحسين-: أنه إذا استخلفه في الأولى، تأكد إدراكه؛ بأن توقف صحة جمعة القوم على صلاة الإمام؛ فصار [الإمام] ركناً في صحة جمعتهم؛ فلهذا يحصل له الجمعة، بخلاف الركعة الثانية؛ فإنه لم يتأكد إدراكه؛ فإنه لم تتوقف صحة جمعة القوم على صلاة الإمام؛ [فإنهم] لو صلوا وحداناً، جاز؛ فالإمام في حقهم، وعدمه سواء؛ فلهذا قلنا: لا يصير مدركاً للجمعة. والثاني- قاله المتولي-: أنه إذا استخلفه في الأولى، حصل له مع الجماعة ركعتان؛ فكان الحكم بإدراك الصلاة جمعة من طريق الحقيقة، لا من طريق الحكم، والبناء على صلاة الغير، وها هنا هو منفرد في إحدى الركعتين؛ فلابد أن يوجد ما يمكن البناء عليه، وخالف المسبوق بركعة بما ذكرناه. وقد حكى الرافعي عن رواية صاحب "التلخيص" وجهاً فيما إذا استخلف من أدركه في الركعة الأولى أنه يصلي الظهر [أيضاً]] والقوم يصلون الجمعة. وأوهم كلام الرافعي: أنه لا فرق [فيه] بين أن يكون حدثه في الأولى أو الثانية، وإن صح فيما إذا كان حدثه في الثانية كان في غاية الإشكال، والمشهور الأول. ثم إذا قلنا بظاهر النص الذي جزم به المراوزة، فأدركه مسبوق في الركعة الأخيرة التي استخلف فيها في الركوع؛ فهل يكون ذلك المسبوق مدركاً للجمعة، أم لا؟ فيه خلاف مبني على أن المستخلف هل يتم صلاته نفلاً، أو ظهراً؟ وفيه خلاف خرجه ابن سريج على أصلين: أحدهما: أن من نوى [الأول لو بقى في الصلاة، ولكنه في نفسه مدرك للجمعة؛ لما ذكرناه، وعلى هذا من يؤدي] الجمعة، ولم تحصل له هل تقع صلاته نفلاً، أو ظهراً؟ وفيه قولان. والثاني: أن المتحرم بالظهر قبل فوات الجمعة ممن لا عذر له؛ هل ينعقد ظهره، أو ينقلب نفلاً؟ فيه قولان، والوجه: الترتيب؛ فيقال: إن قلنا: إذا نوى

الجمعة، ولم تحصل [له] تنعقد صلاته ظهراً، انبنى على أن من لا عذر له إذا صلى لظهر قبل فوات الجمعة؛ هل تصح ظهره، أم لا؟ فإن قلنا: تصح، أتمها ظهراً، وغلا أتمها نفلاً، وإنما كان كذلك؛ لأنه كان يمكنه ألا يقبل الاستخلاف؛ فهو المفوت على نفسه الجمعة بغير عذر. وعن بعض الأصحاب القطع بالصحة هاهنا، [وإن لم تصح صلاة الظهر قبل فوات الجمعة؛ لأنه هاهنا] معذور؛ حيث استخلفه الإمام، وإن تقدم هو؛ لأنه لا يمنع من الإمامة؛ فإذا تقدم، صارت الجمعة في حقه؛ كالفائتة؛ فصح ظهره، وهذا ما صححه الروياني، وقال الرافعي: إنه [الأظهر] عند الأكثرين. قال الإمام: [فإن قلنا]: إن صلاته تكون ظهراً، أدرك المسبوق الجمعة؛ إذا أدرك [معه] الركوع، وأتم الصلاة. قال في "التهذيب": ولا يتخرج فيه الوجه المذكور في أن الجمعة لا تصح خلف من يصلي الظهر؛ لأنه صلى ركعة خلف من يراعي صلاة الإمام؛ بخلاف مصلي الظهر. وإن قلنا: إنها تقع نفلا، انبنى على [أن] المتنفل هل يجوز أن يكون إماماً في الجمعة؟ وفيه قولان: فإن قلنا: يجوز أن يكون إماماً في الجمعة، كان مدركاً أيضاً، وإلا فلا؛ لأن الجماعة شرط في إدراك الجمعة؛ فإذا لم يجز أن يكون الإمام متنفلاً؛ فقد انتفت الجماعة؛ فلا يكون مدركاً. فإن قيل: هذا يقدح في اقتداء المأمومين غير هذا المسبوق به، وقد قلتم بالجواز؛ إذ هذا تفريع على جواز استخلافه. قيل في جوابه: إنما جاز اقتداء المأمومين به الذين ليسوا بمسبوقين، مع أنهم يتمون صلاتهم جمعة؛ لأنهم أدركوا مع الإمام المستخلف الركعة الأولى، ولو انفردوا بالثانية لكانوا مدركين للجمعة؛ فليست الجماعة شرطاً في حقهم؛ فلا يمتنع أن يقتدوا فيها بمتنفل؛ كما يشرع الاقتداء في سائر الفرائض بالمتنفل.

فإن قيل: [قد قيل:] إن من نوى الجمعة، ولم [تصح تبطل] صلته على وجه، وكذا من تحرم بالظهر قبل فوات [الجمعة] ولا عذر له، لا تصح صلاته [ظهراً، ولا نفلاً على وجه؛ فهلا فرعتم عليه؟ قلنا: لو فرع على ذلك، لامتنع استخلافه؛ إذ به تبطل صلاته]، والتفريع على صحة استخلافه؛ فلذلك امتنع التخريج عليه. وبالجملة: فظاهر نص الشافعي في "الأم" أن المستخلف يتم صلاته ظهراً، وقد حكي عنه أنه نص على [أن] المسبوق؛ إذا أدركه في الركوع في الثانية، وأتمها معه، يكمل صلاته جمعة، وأن القفال تعجب منه. ووجهه الإمام وغيره: بأن المستخلف يجري على ترتيب صلاة الإمام؛ فكأنه هو في حق المقتدين؛ فهو حال محل الأول لو بقي في الصلاة، ولكنه في نفسه غير مدرك للجمعة؛ [لما ذكرناه]، والله أعلم. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أموراً بالتصريح، والتلويح: الأول: أنه لا يشترط في استخلاف الإمام أن يكون [قبل] حدثه، بل يجوز بعد تعمده الحدث، ومع سبقه من طريق الأولى؛ لأنه معذور، وقصد الشيخ بهذا اللفظ التنبيه على مذهب أبي حنيفة؛ فإنه قائل بعدم الجواز عند تعمد الحدث، وبه عند سبق الحدث؛ بناءً على أصله في أن سبق الحدث لا يبطل الصلاة، وتعمده يبطل صلاته وصلاة المأمومين خلفه، و [قد] قال القاضي الحسين في الكرة الثانية في دروسه: عندي أنه إذا أحدث متعمداً، لا يجوز له الاستخلاف؛ كما صار إليه أبو حنيفة؛ لأن صلاته قد بطلت، ولا يجوز البناء على صلاة باطلة، ولو سبقه الحدث، لم تبطل صلاته على القديم؛ فيجوز له الاستخلاف. [وقيل: [إن الشافعي] جوز الاستخلاف] على قوله الجديد،

وسبق الحدث على هذا القول يبطل الصلاة؛ فكيف يستقيم هذا البناء؟ وهذا السؤال قد تعرض له الإمام في "النهاية"، وإن لم يذكر مذهب القاضي، وقد أجاب عنه القاضي بأن قال: [من] هنا يستنبط [أن] للشافعي قولاً في الجديد: أن سبق الحدث لا يبطل الصلاة؛ كذا رأيته في "تعليقه". قلت: ويجوز أن يكون لهذه الطريقة التي اختارها [القاضي مأخذٌ آخر، وإن قلنا بأن سبق الحدث يبطل صلاة الإمام علي] الجديد: وهو أن صاحب "التلخيص" حكى قولاً للشافعي: أن الإمام إذا تعمد الحدث، بطلت صلاة من خلفه دون ما إذا سبقه الحدث؛ كما صار إليه أبو حنيفة، وحينئذ لا يرد السؤال، والله أعلم. فرع: هل يجوز الاستخلاف قبل الحدث؟ قال أبو حاتم مُلْقِي أبي العباس بن سريج: نعم، إذا أحس بالحدث. وقد سئل الشيخ أبو محمد عنه، فجعل الإحساس عذراً، وقال: متى حضر إمام هو أفضل منه، أو حاله أكمل من حاله يجوز استخلافه؛ كذا قاله الرافعي في باب صلاة المسافر عند رعاف الإمام، وسنذكره فيه- إن شاء الله تعالى- مع شيء يتعلق بما نحن فيه. الثاني: اختصاص جواز الاستخلاف بالإمام؛ كما هو مذهب أبي حنيفة، وقد قال الأصحاب كافة: إنه يجوز للمأمومين أن يستخلفوا واحداً منهم يتم بهم الصلاة؛ إذا لم يستخلف الإمام قبل استخلافهم أحدهم، ولو تقدم واحد منهم من غير استخلاف، قال الإمام: ففيه احتمال عندي من جهة أنه من القوم؛ فتقديمه نفسه كتقديمه [آخر. وهذا] ما صححه بعضهم، وهو يؤخذ من ظاهر نصه في "المختصر"؛ فإنه قال: وإن أحدث الإمام في صلاة الجمعة؛ فتقدم رجل بأمره، أو بغير أمره، وقد [كان] دخل مع الإمام قبل حدثه؛ فإنه يصلي بهم ركعتين. ولو استخلف الإمام شخصاً، والقوم غيره، قال الإمام: فليس عندي في هذه المسألة نقل، والمسألة محتملة، ولعل الأظهر أن المتبع من يستخلفه القوم؛ فإن الإمام قد بطلت صلاته، وإنما يستخلف بعلقة إمامة كانت وزالت، والقوم باقون

في الصلاة؛ فهم أولى بالاستخلاف. ولو تقدم شخصان معاً، قال القاضي الحسين: ليس لهم أن يقتدوا بواحد منهما، ولا يجوز لبعضهم أن يقتدي بواحد، وللبعض بالآخر؛ لأن الإمام الأصل واحد؛ فيجب أن يكون الخليفة واحداً، و [قد] ذكر في الكرة الثانية أنه في صلاة الجمعة لا يجوز، وفي سائر الصلوات يجوز؛ لأن الجمعتين لا تقامان في بلد واحد، بخلاف سائر الصلوات، وهذا ما أورده في "الكافي". الثالث: اختصاص جواز استخلاف [الإمام] بالمأموم، دون من لم يكن مأموماً معه. قال الرافعي: وهذا ما أطلق جماعة من الأئمة اشتراطه، ولاشك في أن ما ذكره من التفاريع في الجمعة وغيرها يختص بما إذا كان المستخلف مأموماً، أما إذا كان غير مأموم، فقد قال الإمام: [إنه] إن كان في غير الجمعة فتقديم الإمام له ليس باستخلاف، والمتقدم ليس خليفة، وإنما هو عاقد صلاة نفسه، جار على ترتيبها، وقد انقطعت قدوة المقتدين بإمامهم؛ فإن اقتدوا بهذا الرجل، فسبيلهم كسبيل منفردين يقتدون في أثناء الصلاة برجل، وقد ذكرنا ما فيه من الخلاف، وإن كان في الجمعة: فإن كان حدثه في الركعة الأولى، ففي صحة الظهر لهذا المتقدم قولان؛ فإن قلنا: لا تصح، ففي صحة صلاته نفلاً وبطلانها قولان؛ فإن لم نصححها أصلاً، فلاشك أنه لا يصح الاقتداء به، وإن صصحناها، فقد انقطعت قدوة القوم؛ فلا جمعة لهم؛ فإنهم لم يدركوا ركعة مع إمام الجمعة، فلم تصح الخلافة على هذه الصورة في حق [هذا] الرجل، وهل تنقلب صلاتهم نفلاً، أو تبطل؟ فيه الخلاف؛ فإن صحت، ونووا الاقتداء بهذا المتقدم، كانوا كما لو نوى القدوة في أثناء الصلاة. وفي "تلخيص" الروياني: أنا إذا حكمنا بصحة صلاة هذا المستخلف ظهراً، جاز استخلافه؛ لأن الشافعي جوز الجمعة خلف الصبي في أحد القولين، وصلاته نافلة؛ فإذا جازت خلف من يصلي نافلة، جازت خلف من يصلي الظهر. قال:

وهذا خلاف النص. وإن كان حدثه في الركعة الثانية، وفرعنا على المشهور في أنا إذا منعنا الاستخلاف يتم المأمومون صلاتهم- والحالة هذه- جمعة؛ فلو تقدم الدخل، ونوى الجمعة، فقد نقول: لا تصح صلاة المتقدم؛ [فلا يصح اقتداؤهم به؛ فإن اقتدى القوم به مع العلم بذلك- بطلت صلاتهم، وأن تصح صلاة المتقدم]؛ [فلا تصح صلاته ظهراً]، أو نفلاً؛ فالقوم قد انقطعت قدوتهم، ولم يصح الاستخلاف؛ فإن اقتدوا به، كان هذا اقتداء طارئاً على الصلاة، بعد ثبوت جمعة الانفراد، وفي جواز ذلك الخلاف السابق. هذا ما ذكره الإمام، وكلام العراقيين، والماوردي يوافقه ويخالفه: أما موافقته له ففي منع استخلافه في صلاة الجمعة غير مأموم، قال الماوردي: ولا يختلف في ذلك. وأما مخالفته له ففي غير الجمعة؛ فإنهم قالوا: يجوز أني ستخلف فيها من أحرم بعد حدثه، والفرق بينها وبين الجمعة: أنه لما صح أداء الفرض منفرداً، [صح استخلاف من لم يعلق صلاته بصلاته، ولما لم يصح أداء الجمعة منفرداً]، لم يصح استخلاف من لم يعلق صلاته بصلاته، لكنه لا يستخلف إلا من لا يخالفه في ترتيب صلاته؛ مثل: أن يكون حدث الإمام في الركعة الأولى قبل الركوع أو في الركعة الثالثة، فاستخلف من شرع في الصلاة، والمعنى في ذلك: صيانة صلاة المأمومين عن اختلال الترتيب؛ فلو كان حدث الإمام في الثانية أو في الرابعة؛ فاستخلف من شرع في الصلاة- لا يجوز؛ لأنه لا يلزمه أن يمشي على ترتيب صلاة المستخلف؛ لأنه لم يلزمها، بل يمشي على ترتيب صلاة نفسه، وذلك يقتضي المخالفة؛ وهي: تمنع القدوة. قلت: ويشهد لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم فوجد عبد الرحمن بن عوف صلى ركعة من الصبح صلاها خلفه؛ فلما سلم، صلى أخرى، ولم يتقدم؛ لأنه لو تقدم إماماً، لاقتضى المخالفة، وفي واقعة أبي بكر تقدم؛ لأن ترتيب صلاته لم

يخالف [ترتيب] صلاتهم. [الأمر] الرابع: أن استخلاف الإمام جائز، غير واجب، ولاشك أنه كذلك، نعم هل يجب على القوم أن يستخلفوا من يتم بهم الصلاة؟ قال الأصحاب: إن كان ذلك في غير الجمعة، فلا يجب، وإن كان في الجمعة؛ فإن كان في الركعة الأولى، وجب؛ غذ عليه ترتيب إدراك الجمعة، ولو أرادوا أن ينفردوا، لم تصح جمعتهم، وإقامة الجمعة واجبة عليهم؛ فتعين الاستخلاف. قال الإمام: ثم ينبغي أن يجري الاستخلاف على القرب؛ بحيث لا يطول الفصل؛ فإن فعلوا ركناً على الانفراد، ثم استخلفوا، لم يجز، وإن طولوا الركن الذي هم فيه، ثم استخلفوا بعد طول الزمان، ففي المسألة احتمال. قال: وهذا تفريع على ما ذكره الأصحاب من أنهم لو لم يستخلفوا [في الركعة الأولى، لا يتمون الصلاة جمعة، يعنيك على القول بمنع الاستخلاف] كما سبق. قال: والذي حكيته عن شيخي في تخريج ذلك على الانفضاض لا تفريع عليه. قلت: ولو فرع عليه، لاقتضى القياس وجوب الاستخلاف أيضاً هاهنا؛ لأن الإمام في مسألة الانفضاض لا سبيل له إلى استدراك ما فات من الخلل؛ فلا جرم حسن التخريج منه إلى القوم عند حدث الإمام، وقد منعنا الاستخلاف؛ لأن القوم- أيضاً- لا سبيل لهم إلى استدراك الخلل. أما إذا جوزنا الاستخلاف، فهم سبيل من استدراكه [بالاستخلاف]؛ فيجب. ولو كان حدث الإمام في الثانية، فلا يجب عليهم؛ إذ سبب وجوبه في الأولى أنهم لم يدركوا مع الإمام ركعة، فأما إذا صلوا ركعة؛ فلو انفردوا وقد فسدت صلاة الإمام، لصحت جمعتهم؛ فلا يلزمهم الاستخلاف. قال الإمام: بل لو استخلف الإمام، فهم بالخيار: إن شاءوا تابعوه، وإن شاءوا انفردوا، ولو اقتدى بعضهم، وانفرد آخرون؛ جاز. قلت: وهذا فيه نظر؛ لأن الإمام حكى عن الأصحاب أن الإمام إذا استخلف، استمرت صلاة المأمومين، ولا حاجة بهم إلى تجديد نية الاقتداء بالخليفة؛ فإن

فائدة الاستخلاف تنزيل الخليفة منزلة الإمام الأول حتى كأنه هو، ولو استمرت الإمامة من الأول لم يكن [لتجديد نية الاقتداء معنى، ولو انقطعت القدوة من الأول، لكان الظاهر] من القياس: انقطاع الجمعة، وهذا مع القول بأنه لا يجب على المأمومين متابعة الخليفة، مما لا يجتمعان. وجوابه: أنا نحمل كلامه في عدم اشتراط النية على ما إذا كان الاستخلاف في الأولى؛ ألا ترى إلى قوله: إن القدوة لو انقطعت من الأول، لكان الظاهر من القياس انقطاع الجمعة؟! وانقطاع الجمعة إنما يكون عند انقطاع القدوة في الركعة الأولى دون الثانية. نعم، ما قاله من عدم وجوب الاستخلاف في الثانية يظهر أنه قاله تفريعاً على ما حكاه عن الأئمة في أن حدث الإمام إذا كان في الثانية، وقد منعنا الاستخلاف، يتم القوم صلاتهم جمعة. أما إذا قلنا: إنهم يتمونها ظهراً؛ كما حكيناه عن رواية الماوردي عن المذهب- فيظهر أن يلزمهم الاستخلاف أيضاً؛ كما لو كان حدثه في الأولى؛ فاعلم ذلك. قال: ويستحب للإمام أن يخفف في الأذكار؛ أي: كالتسبيح في الركوع والسجود والتشهد؛ بحيث لا يزيد على أدنى الكمال، ولا ينقص. والأصل في ذلك رواية مسلم عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: "إذا أم أحدكم بالناس، فليخفف؛ فإن فيهم الكبير والضعيف والمريض، وإذا صلى وحده فليطل كيف شاء". وروى مسلم أيضاً، عن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطول بنا؛ فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ؛ فقال: "أيها الناس، إن منكم منفرين؛ فأيكم أم الناس أم الناس فليوجز؛ فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة".

قال: إلا أن يعلم من حال المأمومين أنهم يؤثرون التطويل؛ أي: بأن يكونوا في موضع غير مطروق، أو في سفر، وفهم منهم ذلك؛ فحينئذ يطول حتى يأتي بأعلى الكمال؛ لأن العلة في التخفيف انتفت، ولو كان بعضهم يؤثر التطويل دون بعض، قال الجيلي: راعى الأكثر، ويحتمل أن يقصر مطلقاً. قلت: وهو الذي يدل عليه الخبر؛ قال عليه السلام: " [إني] لأدخل في الصلاة أريد أن أطول فيها؛ فأسمع بكاء الصبي؛ فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه"، أخرجه البخاري. قال القاضي الحسين في "تعليقه": وحيث يستحب له التطوير، فالمستحب له أن يطول القراءة في القيام، والقيام فيها أشد استحباباً من القيام في سائر الأركان، وهل يكون جميع قيامه فرضاً، أو قدر الفاتحة فقط؟ فيه وجهان. واحترز الشيخ بقوله: "في الأذكار" عن التخفيف في القراءة؛ فإنه غير مستحب، بل المستحب فيها ما تقدم، وهو في الصبح والظهر من طوال

المفصل، وفي العصر والعشاء من أوساط المفصل، وفي المغرب من قصار المفصل؛ كما قال القاضي الحسين. أما المنفرد فإنه يزيد ما شاء. وقوله: "يخفف في الأذكار" يعرفك أنه لا يترك شيئاً منها، ويندرج في ذلك طلب الرحمة عند قراءة آية المغفرة، والتعوذ عند قراءة آية العذاب، ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله، وقد صرح بذلك القاضي الحسين، عند الكلام في صلاة القاعد. فإن قلت: قد قال الشافعي عقيب ذكره الخبر الذي ذكرناه في أول الباب: "ومعنى التخفيف: أن يقصر الأذكار؛ فيذكر ما لابد منه، ويطيل الأفعال؛ فيأتي بها على الكمال"، فقوله: "فيذكر ما لابد منه"، يوهم أنه يترك الأذكار. قلت: مراده: بما لابد منه في إدراك الفضيلة، ألا ترى إلى قوله: "يقصر الأذكار"؟! والله أعلم. قال: وإذا أحس الإمام بداخل، وهو راكع، استحب له أن ينتظره في أصح القولين؛ لما روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر

رجلاً يصلي وحده؛ فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا؛ فيصلي معه" وأخرجه الترمذي، ولفظه: "أيكم يتجر على هذا" وقال: حديث حسن. وفيه: فقام رجل يصلي معه. وهذا يدل على أن الصلاة لأجل إتمام صلاة أخيه فضيلة. وروي: أنه عليه السلام صلى إلى جنب الحسن عند قدميه؛ فلما سجد، ركب الحسن ظهره؛ فأطال السجود؛ فلما فرغ، قيل له: أطلت السجود؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن ابني ركبني؛ فأطلت؛ ليقضي وطره"؛ فإذا جاز الانتظار لحاجة غير الصلاة، فلحاجة الصلاة أولى. ويشهد له أيضاً انتظاره عليه السلام في صلاة ذات الرقاع، وهذا ما نقله القاضي [أبو الطيب] في تعليقه عن حكاية أبي إسحاق في شرحه عن الجديد. قال: ويكره في [القول الآخر]؛ لقوله عليه السلام: "إذا أم أحدكم بالناس، فليخفف". ولأنه يأتي بجزء من صلاته؛ لأجل الآدمي، وهو مأمور بالإخلاص، وألا يشرك بعبادة ربه أحداً. قالا لإمام: ولأنه لو أقيمت الصلاة، لم يحل له انتظار من لم يحضر، لا يختلف فيه المذهب؛ فلألا يجوز ذلك [في] وسط الصلاة أولى، وهذا ما

اختاره المزني والإمام، وقال صاحب "الفروع": إنه الصحيح. والقائلون بالأول قالوا: محل ما ذكرناه [إذا قصد بانتظاره وجه الله تعالى بنفع الآدمي، وذلك لا يقدح في العبادة؛ دليله رفع الصوت في الأذان وتكبيرة الإحرام. أما] إذا قصد [بذلك] غير وجه الله تعالى بأن كان يميز [في انتظاره] بين داخل وداخل- لم يصح قولاً واحداً؛ للإشراك. وهذه الطريقة التي ذكرها الشيخ حكاها أبو إسحاق المروزي في "الشرح"، ووراءها طرق: إحداها: أنه لا يستحب قولاً واحداً، والقولان في أنه هل يكره، أم لا؟ وهذه طريقة الشيخ أبي حامد، والبندنيجي، واختارها الماوردي وصاحب "الفروع"، وقالا: إن القول بالكراهة هو الجديد، ومقابله هو القديم. وفي "تعليق" البندنيجي نسبته إلى أبي إسحاق. والثانية: أنه لا يكره قولاً واحداً، وهل يستحب، أم لا؟ فيه قولان، حكاهما مجلي وغيره. والثالثة: أن القولين في البطلان. قال الإمام: وهذا فيه بعد، ولكن في كلام الشافعي ما يدل عليه. والقاضي الحسين حكى في باب: صلاة الخوف القولين في الاستحباب، وعدمه، ثم قال: فإذا قلنا: لا يستحب، فهل تبطل الصلاة، أم لا؟ فيه قولان مخرجان من القولين في بطلان صلاة الإمام؛ إذا فرق الناس في صلاة الخوف الرباعية أربع فرق، وصلى بكل فرقة ركعة. والرابعة: نفي الخلاف عن المسألة، وتنزيل النصين على حالين، والقائلون بهذا اختلفوا: فمنهم من قال: إن كان يعرف الداخل بعينه [فلا ينتظره؛ لأنه لا يخلو عن تقرب إليه، وإن كان لا يعرفه بعينه] انتظره، وعليهما تنزيل القولين؛ [حكاهما في "التتمة".

ومنهم من قال: إن كان الداخل ممن يلازم الجماعة وعرفه انتظره، وإن كان غريباً فلا، وعليهما ينزل القولان]، حكاهما صاحب "البيان"، عن [رواية] صاحب "الفروع". ثم ظاهر كلام الشيخ: أنه لا فرق في الانتظار الذي جرى فيه الخلاف بين أن يطول أو يقصر. وقد قيل: إن محله إذا لم يزد على حد الركوع المشروع للأئمة، أشار إليه ابن الصباغ وغيره. ولعل المراد [به] إذا زاد على الركوع المشروع للأئمة؛ إذا آثر القوم التطويل، وإلا فقد حكى الإمام عن الصيدلاني أنه قال: إن محل الخلاف إذا كان لا يطول على السابقين، ثم قال: وهذا موضع التأمل؛ فإنه لو لم يطل الركوع الذي هو فيه- لم يجعل الانتظار قصوراً حتى يفرض التردد فيه، وإن طول الركوع، وزاد على المعتاد فيه، فقد حصل التطويل؛ فالذي أراه في ذلك أنه لو طول ركوعاً واحداً تطويلاً لو وزع على [جميع] الصلاة، لم يظهر له في كل ركعة أثر محسوس في التطويل، لكن يظهر في الركن الذي انتظره فيه، ولو كان يظهر على كل الصلاة ظهوراً محسوساً؛ فهو ممنوع عند الصيدلاني قولاً واحداً، وهذا حسن بالغ، ولا وجه غيره، وعلى هذا لو حصل الانتظار في ركوعين؛ فإن لم يظهر التطويل؛ كما ذكرنا- قال الإمام-: هذا فقد يخرج على الخلاف، وإن كان يظهر فقد يقطع بالمنع؛ كما لو كان الإفراط في ركوع واحد. وإذا تأملت ما قاله الصيدلاني، كان طريقة سادسة في أصل المسألة، وهو التفرقة بين الانتظار القليل والكثير، وقد حكاها صاحب "الفروع"، وقد يقال: إن كلام الشيخ دال عليها؛ لأنه قال: "إذا أحس [الإمام] بداخل"؛ أي: في المسجد، ومسافة انتظار من دخل [المسجد] قريبة؛ فاختص كلامه بها، ويؤيد ذلك أن البندنيجي والقاضي أبا الطيب وغيرهما قالوا: إن محل الخلاف إذا كان الشخص قد دخل المسجد، أما إذا لم يكن قد دخل بعد، فلا ينتظره قولاً واحداً. قلت: ولو قيل: إن محله إذا لم يدخل، أما إذا دخل فلا ينتظره قولاً واحداً-

لكان له وجه؛ لأنه إذا دخل أمكنه الإحرام والاقتداء بالإمام؛ فتحصل له فضيلة الجماعة، وإدراك الركعة التي شرع لأجلها الانتظار عند من يراه، ولا كذلك إذا كان خارج المسجد؛ فإنه قد لا يمكنه ذلك، والمنقول الأول. ولعل القصد بالانتظار مع ما ذكرناه القرن من الإمام، وهو لا يحصل بدونه؛ لأن الإحرام في آخر المسجد، والانتقال في أثناء الصلاة إلى قرب الإمام منهي عنه [لأنه] جاء أبو بكرة مسرعاً، والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة؛ فأحرم في طرف المسجد، ثم انتقل إلى قرب النبي صلى الله عليه وسلم فلما انصرف قال [له] النبي صلى الله عليه وسلم: "زادك الله حرصاً، ولا تعد". واحترز الشيخ بقوله: "وهو راكع" عما إذا أحس به وهو قائم في القراءة، أو بعد [الرفع من] الركوع؛ فإنه لا ينتظره قولاً واحداً؛ لأنه لا فائدة فيه؛ قاله ابن الصباغ وغيره. قال الإمام: وقد رأيت لبعض الأئمة طرد القولين في الانتظار في القيام والسجود؛ لإفادة الداخل بركة الجماعة، وهذا لا أعتمده. وأغرب منه ما حكاه ابن كج: أن محل القولين في الانتظار في القيام، أما الركوع، فلا ينتظر فيه قولاً واحداً؛ لأن القيام موضع تطويل، والركوع ليس موضع تطويل. قلت: وكلام صاحب "التتمة" يشير إلى القطع بأنه يجوز في حال القيام؛ لأنه لما ذكر قول المنع من الاستخلاف- قال: إن قائله أجاب عن انتظار النبي صلى الله عليه وسلم الطائفة الثانية في صلاة الخوف بذات الرقاع؛ بأنه كان في القيام؛ [فلا يلحق به الركوع، وهذا يدل على أنه لو انتظره في القيام] لجاز، والمشهور الأول. وألحق العراقيون [والمتولي] الانتظار في التشهد الأخير بالانتظار في

الركوع؛ لأجل إدراك فضيلة الجماعة، وحكوا فيه القولين، وبعضهم يرونهما وجهين، واختار في "المرشد" منهما الانتظار أيضاً. وعلى قياس طريقة الفوراني والغزالي التي سنذكرها من أنه لا يدرك فضيلة الجماعة بدون ركعة: أنه لا ينتظره فيه، وأعرض الرافعي عن ملاحظة هذا الأصل، وقال: القياس أن يكون الانتظار فيه كالانتظار في القيام. والأوجه ما ذكرناه. وإذا قلنا بما قاله العراقيون، قال بعضهم: ينبغي أن نجري الخلاف في الانتظار في القيام في الركعة الأولى، وإن لم نُجْرِهِ في مطلق القيام ولا في السجود؛ بناءً على أن فضيلة تكبيرة الإحرام تدرك بإدراك القيام فقط؛ كما سنذكره في آخر الباب، وهو حسن. قال: ويعضد ذلك ما روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطول في الأولى من الصبح، ويقصر [في] الثانية، أخرجه البخاري ومسلم، وفيه قال: "فظننت أنه كان يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى". فائدة: هل محل الخلاف في الاستحباب وغيره مخصوص بما إذا لم يؤثر [المأمومون التطويل، أو يشمل الحالين؟ هذا لم أقف فيه على نقل، ولكن كلام بعضهم يفهم أنه مخصوص بما إذا لم يؤثروه]، أما إذا آثروه، فلا؛ لأنه يستحب له التطويل. وينطبق على هذا ما حكاه الرافعي، عن صاحب "الإفصاح": أن الانتظار إن كان لا يضر بالمأمومين، ولا يدخل عليهم مشقة- جاز؛ كانتظار النبي صلى الله عليه وسلم في

حمل أمامة ووضعها في الصلاة، وإن كان ذلك مما يطول، ففيه الخلاف. وما ذكرته مما أفهمه كلام بعضهم يعضده ما [أسلفناه] من أن المراد من التطويل أن يبلغه حد الركوع المشروع للأئمة، عند إيثار المأمومين التطويل، وقد يقال: إنه يجري فيما إذا آثروه، ويكون محل الخلاف إذا كان انتظاره يزيد على ما يؤثر من التطويل. والله أعلم. قال: [و] من أدرك الإمام قبل أن يسلم؛ أي: وإن لم يدرك الركوع [من] الركعة الأخيرة معه- فقد أدرك الجماعة؛ لقوله عليه السلام: "إذا جاء أحدكم الصلاة ونحن سجود، فاسجدوا، ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركوع؛ فقد أدرك الركعة". وروى الترمذي [عن معاذ نحوه، وقال عليه السلام: "فما أدركتم فصلوا"، ولو لم يكن مدركاً]، لفضيلة الجماعة بذلك لم يكن لأمره بفعل ما لا يعتد له من الصلاة فائدة، ولما جاز له المتابعة؛ لكونها زيادة في الصلاة غير معتد بها عن قصد وذكر. [و] لأنه قد أدرك في الجماعة ما يعتد له به، وهو النية، وتكبيرة الإحرام؛ فوجب أن يكون به مدركاً لفضيلة الجماعة؛ كما لو أدرك ركعة، وهذا ما حكاه العراقيون والمتولي عند الكلام في المسألة قبلها، وهو قياس قول القفال المروزي شيخ المراوزة وأستاذهم بجواز اقتداء مصلي الظهر خلف من يصلي على

الجنازة، ولا يتبعهم في التكبيرات، وأن فائدة الاقتداء: اكتساب فضيلة الجماعة، بل قد صرح بحكايته عنه القاضي الحسين في باب سجود السهو؛ حيث قال: فرع: الإمام إذا قام على خامسة ساهياً؛ فجاء مسبوق واقتدى به، وهو عالم بحاله، قال القفال: تنعقد صلاته جماعة؛ لأن قيامه إلى الخامسة لم يخرجه من الصلاة؛ فانعقد تحريمه خلفه، إلا أنه لا يتابعه في شيء. وهذا المذهب قد أشار إليه القاضي الحسين في موضع آخر ولم يحك سواه؛ حيث قال: هل يسن للمسبوق دعاء الاستفتاح؟ نظر: إن أدرك جزءاً من الصلاة مع الإمام فلا، وإن لم يدرك جزءاً من الصلاة مع الإمام، مثل: أن سلم لمَّا كبر للافتتاح-[فإنه] يأتي به؛ لأنه افتتاح، وفي الصورة الأولى إذا قام هو غير مفتتح للصلاة، فإن الجزء الذي أدركه من صلاة الإمام، وهو محسوب له في استحقاق الفضيلة والثواب، وفي هذه الصورة هو يفتتح الصلاة، وصرح به قبيل باب سجود الشكر؛ حيث قال: لو دخل جماعة المسجد، فوجدوا الإمام في القعدة الأخيرة- فالمستحب لهم أن يقتدوا به، ولا يتركوا الاقتداء به حتى يسلم فيصلوا الجماعة ثانياً؛ لأن تلك الفضيلة محققة، وها هنا موهومة. لكنه قال في باب سجود الشكر، في الفرع الذي أسلفنا حكايته عنه: إن الذي قال به عامة أصحابنا: أن صلاته لا تنعقد جماعة، بل تنعقد منفرداً؛ ولذلك قال الفوراني، وتبعه الغزالي: فضيلة الجماعة لا تحصل، إلا إذا أدرك ركعة مع الإمام، ولو أدركه بعد الركوع الأخير، لا يكون مدركاً للجماعة؛ لأنه ليس محسوباً له من صلاته، والمختار الأول. قال القاضي: والخلاف المذكور جار بين القفال، وعامة الأصحاب فيما إذا اقتدى من يصلي الفرض بمن يصلي على الجنازة؛ فعند عامة أصحابنا لا تنعقد صلاته بالجماعة، وعند القفال تنعقد، وكذا لو اقتدى به وهو في سجود التلاوة، فعلى هذا الاختلاف. وهذا ما يدرك به أصل فضيلة [الجماعة]، أما ما يدرك به أكملها؛ فهو: إدراك تكبيرة الإحرام؛ لأنه [قد] ورد في فضلها أخبار، وقد اختلف

الأصحاب فيه على خمسة أوجه: أحدها- وهو ما صححه الرافعي، ومجلي-: أن يشاهد تكبيرة الإحرام، ويشتغل عقيبها بعقد الصلاة؛ فإن أخر، لم يدركها. والثاني: أن يشرع في الاقتداء به قبل شروعه في القراءة للفاتحة، حكاه القاضي الحسين. والثالث: أن يدركها من أدرك قيام الركعة الأولى. والرابع- وهو ما اختاره في "الكافي"-: أنه يدركها من أدرك الإمام في الركوع. والخامس: يدركها من أدرك الركوع إن لم يشتغل بأمور الدنيا، واشتغل بأسباب الصلاة؛ مثل: الطهارة، ونحوها، وإن اشتغل بأمور الدنيا؛ فلا يكون مدركاً لها ما لم يدرك القيام. قال في "البسيط": والوجه الثالث والرابع يختص بمن [لم] يحضر إحرام الإمام، أما إذا حضر وأخر فقد فاتته فضيلة التكبيرة وإن أدرك الركعة. قال: وإن أدركه راكعاً- أي: ركوعاً محسوباً له- فقد أدرك الركعة؛ لخبر أبي داود السالف؛ ولأنه بإدراك الركوع يدرك [أكثر] الركعة؛ فجاز أن يقوم مقام إدراك جميعها. قال في "الحاوي": وهو قول مجمع عليه. وفيه نظر؛ لأن القاضي [حكى قبل الكلام في السلام في الصلاة أن الداركي] حكى عن محمد بن إسحاق بن خزيمة- وهو من أصحابنا-: أنه إذا أدركه في الركوع يعيد الركعة، وهو مذهب أبي هريرة؛ لقوله عليه السلام: "من أدرك الإمام راكعاً فليركع معه، وليعد الركعة" وكذا الإمام حكاه عن رواية أبي عاصم العبادي، عن ابن خزيمة.

قال القاضي: والأول أصح. [لكن هل نقول: إن الإمام يتحمل عن المأموم المسبوق الفاتحة، أم هي لم تجب عليه أصلاً، مع قولنا: إن الفاتحة تجب على المأموم غير المسبوق؟ فيه خلاف حكاه القاضي الحسين في باب صفة الصلاة عن الأصحاب، وأثره يظهر [من] بعد]، ولا فرق عليه بين أن يكون قد قصر ولم يكبر حتى ركع الإمام؛ فكبر، أو لم يقصر؛ قاله الإمام في موضعين: أحدهما: في آخر [باب] اختلاف نية الإمام والمأموم، ورأيت في بعض شروح "المهذب": أنه إذا قصر في التكبير حتى ركع الإمام، لم يكن مدركاً للركعة. وكذا لا فرق [فيه] بين أن يتم الإمام الركعة فيتمها معه، أو لا يتمها [الإمام]، بل يدركه في الركوع، ثم يحدث الإمام في السجود؛ لأنه أدركه في ركوع محسوب من الصلاة، وهذا بخلاف ما سنذكره في إدراك الجمعة، كذا رأيته في "تعليق" القاضي الحسين في باب الصلاة بالنجاسة، وفي "التهذيب" أيضاً. والحكم فيما لو أدرك الإمام رافعاً، ولم يخرج عن حد الراكعين حتى وصل هو إليه؛ فاجتمعا في أول الركوع- كما إذا أدركه مستقراً في الركوع. أما [لو لم ينته] المسبوق إلى حد الراكعين حتى جاوزه الإمام، لا يكون مدركاً للركعة، وأطلق القاضي الحسين القول في صفة الصلاة بأن [الإمام] لو كان في الهُوِيِّ، [والمأموم] في الارتفاع- لا يكون مدركاً لها، ولعله منزل على الحالة الثانية. ولو شك هل أدركه قبل أن يجاوز أقل الركوع، أم لا؟ حكى الإمام فيه وجهين؛ أخذاً من تقابل الأصلين؛ فإن الأصل عدم الإدراك، والأصل بقاء الإمام في الركوع، والأظهر في "الرافعي": عدم الإدراك؛ لأن الحكم بإدراك ما قبل الركوع بالركوع على خلاف الحقيقة؛ فلا يصار إليه إلا عند تيقن الركوع. ثم ظاهر كلام الأئمة: أنه لا يشترط مع إدراك الإمام في حد الراكعين أن يطمئن المأموم قبل خروج الإمام عند حد الراكعين، قال في "الرافعي": ورأيت في

"البيان" اشتراط ذلك صريحاً، وبه يشعر كلام كثير من النقلة، وهو الوجه. قلت: وعليه ينطبق قول القاضي الحسين في صفة الصلاة: وإنما يدرك المسبوق الركعة إذا هوى إلى الركوع، واجتمع مع الإمام في الحالة التي لو أراد كل واحد منهما أن يضع يديه [على ركبتيه، لنالت] يداه ركبتيه. أما إذا كان ركوع الإمام غير معتد به [للإمام؛ مثل:] أن يدركه في ركوع خامسة فعلها الإمام ساهياً، أو في ركوع عاد إليه الإمام عوضاً عن ركوع أتى به خالياً عن تسبيح، وظن أنه غير معتد به؛ لفقد التسبيح منه، أو في ركوع فعله الإمام، وقد نسي سجدة مثلاً من الركعة التي قبله، أو القراءة على الجديد، أو كان الإمام محدثاً- فإذا أدركه المسبوق فيه، لا يكون مدركاً للركعة؛ لأنه فيما يدركه تبع الإمام، وهو لا يحسب للإمام؛ فالمأموم الذي هو تابع أولى، وقد نص الشافعي على ذلك في الصورة الأولى، [كما] حكاه القاضي الحسين في كتاب الجمعة، وفي الثانية [حكاه] البندنيجي عن نصه في "الأم"، وباقي الصور في معناهما. وفيه وجه: أن يكون مدركاً لها؛ حكاه الجماعة في كتاب الجمعة. قلت: ويشبه [أن يكون] هذا قول من قال: إن الإمام لا يتحمل عن المسبوق، [بل] القراءة لا تجب عليه؛ كما أسلفناه. وهو مفرع على القول بأنه إذا أدرك مع الإمام جميع الخامسة التي قام إليها ساهياً، والمأموم يظنها رابعة- أنها تحسب له؛ كما هو المنصوص. أما إذا قلنا: لا تحسب له، فها هنا أولى، وهو الصحيح؛ كما ذكرنا. قال الشيخ أبو علي: والخلاف في هذه المسألة- عندي- ينبني على القولين في جواز الجمعة خلف المحدث والمتنفل، ووجه الشبه: أن المقتدي في الجمعة يسقط فرضاً عن نفسه لو كان منفرداً [للزمه، وهو رد الأربع إلى ركعتين؛ كما أن المقتدي في الركوع يسقط فرضاً عن نفسه لو كان منفرداً]، وهو القيام، والقراءة في تلك الركعة.

وما ذكرناه في إدراك الخامسة بإدراكها مع الإمام- كما ذكرنا- مصور بما إذا جهل المأموم أنها خامسة الإمام، فلو علم ذلك، قال القاضي الحسين: فهل يصح إحرامه خلفه؟ فيه وجهان: المذهب: أنه لا يصح. فإذا قلنا: يصح، فلا يتابعه فيها، ولو تابعه، بطلت صلاته، والله أعلم. قال: [فإن أدركه] في الركعة الأخيرة؛ فهي أول صلاته، وما [يأتي به]، أي: منفرداً- فهو آخر صلاته؛ لما روى أبو هريرة أنه عليه السلام قال: "إذا سمعتم الإقامة، فامشوا وعليكم السكينة والوقار؛ فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" أخرجه البخاري ومسلم. وإتمام الشيء لا يكون إلا بعد أوله؛ ولأنه فعل صلاة [تلي] تكبيرة الإحرام؛ فوجب أن يكون أولها؛ كالإمام؛ ولأنا أجمعنا [مع الخصم] على أنه لو أدرك ركعة من المغرب، أتى بأخرى، وجلس للتشهد، وذلك يدل على أن ما أدركه مع الإمام أول صلاته. فإن قيل: قد جاء: "وما فاتكم فاقضوا"، ولو كان ما يأتي به آخر صلاته، لم يكن قاضياً، ولأنه يتبعه في التشهد والقنوت، وليس ذلك من حكم أول صلاته. قلت: القضاء [في الخبر] لا يمكن حمله على حقيقته الشرعية؛ لأنه عبارة عن فعل العبادة خارج وقتها، وإذا تعذر حمله على حقيقته، حملناه على أصل الفعل؛ كما في قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200]. وأما كونه يتبعه في التشهد، والقنوت؛ فذاك لأن عليه إتباع إمامه؛ كما يتبعه فيما لا يعتد له به من السجود، ونحوه. قال: يعيد فيه القنوت؛ [لأنه] إذا [ثبت أنه] آخر صلاته أعاد فيه القنوت؛ [لأن محل القنوت آخر الصلاة.

وفي قول الشيخ: "يعيد فيه القنوت"] إشارة إلى أنه يستحب له أن يقنت معه، وهو ما ذكر الماوردي في أثناء كلامه أنه وفاق منا، ومن الخصم، وكذا التشهد. نعم حكى ابن الصباغ وغيره فيما إذا أدرك الإمام في التشهد الآخر أنه يجب عليه أن يجلس معه، وهل يتشهد معه، أو لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه ليس موضع تشهده. والثاني: نعم؛ لأنه إذا جاز أن يقعد في غير موضع قعوده؛ لمتابعة الإمام- جاز أن يتابعه في التشهد، إلا أن هذا التشهد لا يكون واجباً عليه؛ لأنه إنما يلزم المأموم متابعة الإمام في الأفعال الظاهرة دون الأذكار. وجزم الماوردي بأنه يأتي به واجباً، قال: لأنه بالدخول في صلاة الإمام لزمه إتباعه، والتشهد مما يلزم إتباع الإمام فيه؛ كما يلزمه في الأفعال. وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة أوجه، ويظهر أن يقال: إن الوجهين الأولين يأتيان في القنوت في مسألتنا، وظني أني رأيت ذلك في "تعليق" القاضي الحسين، ويظهر أن يقال: لا، بل يأتي به ندباً وجهاً واحداً- كما أفهمه كلام الشيخ- والفرق: أن التشهد ركن في الصلاة، وفي الإتيان به تكرير ركن من غير ضرورة، ولا كذلك القنوت. فإن قلت: [أنتم تغتفرون] الأركان الفعلية؛ لأجل متابعة الإمام، فالقولية أولى. قلت: الضرورة ألجأت إلى المتابعة في الفعلية؛ لأجل نظم الصلاة، ولا ضرورة في القولية، [وبالجملة: فلا يبعد أن يكون في القنوت طريقان: إحداهما: إجراء الوجهين في التشهد فيه، ومأخذهما ما سلف من أنه إذا قنت في الركعة الأولى، وهو منفرد، عامداً أو ساهياً؛ فهل تبطل صلاته عند العمد، ويسجد عند السهو؛ لأنه طول ركناً قصيراً؛ ولأنه نقل ذكراً مقصوداً من محله إلى غير محله؟ فإن قلنا بالأول؛ فها هنا لم يكن الرفع من الركوع في حق المأموم قصيراً لأجل وجوب المتابعة، ولو كان منفرداً لكان قصيراً في حقه؛ فيأتي بالقنوت، ولا يضره. وإن قلنا بالثاني، فمحل قنوت المأموم ركعته الثانية، وفي قنوته مع الإمام نقل ركن مقصود في محله إلى غير محله، ولا ينبغي أن يأتي به مع استغنائه عنه،

وهذا يظهر أن يكون مأخذ الوجهين في التشهد أيضاً؛ فإن محل تشهد المسبوق ثانيته، لا أولاه، ومنه يظهر لك- لو قيل به- أن الوجهين في الجواز، لا في الاستحباب. والطريقة الثانية: أن يقنت مع الإمام وجهاً واحداً؛ بناءً على أن المتفق على البطلان [فيه] عند العمد، وسجود السهو عند السهو: ما إذا طول الركن القصير بركن قولي: كالفاتحة والتشهد، وهل مأخذ ذلك أنه طول الركن القصير، أو أنه نقل ركناً من محله إلى غير محله، والقنوت مع الإمام لا يوجد فيه تطويل ركن قصير، ولا نقل ركن؛ فلذلك جاز وجهاً واحداً، وجاء في تشهده مع الإمام الوجهان. والله أعلم. فإن قيل: قد نص الشافعي على أنه إذا فات الرجل مع الإمام ركعتان من الظهر، قضاهما بأم القرآن وسورة، والسورة إنما تشرع في أول الصلاة. قيل: في جوابه وجهان: أحدهما- قاله أبو حامد في "جامعه"-: أن للشافعي قولين في أنه هل يقرأ السورة في الركعتين الأخيرتين من الظهر، أم لا؟ وهذا جواب على أنه يقرأ، وهو ما نص عليه [الشافعي] في ["الإملاء" و] "الأم". والثاني: أنا وإن سلمنا أنه لا يقرأ السورة في الأخيرتين؛ كما نص عليه [في القديم، ونقله المزني في "المختصر"؛ فهذا [محله] إذا أدرك فضيلة السورة في الأوليين، إما منفرداً، أو مأموماً أدرك أول الصلاة، وهذا لم يدرك تلك الفضيلة؛ فيأتي بالسورة؛ ليحوز فضلها، ومثله ما نص عليه]: أنه إذا لم يتعوذ في الأولى، يتعوذ في الثانية، وهذا جواب أبي إسحاق، وأكثر الأصحاب. قال ابن الصباغ: وهذا أصح عندي. وكذا الإمام رجحه. فإن قيل: يلزم على هذا أن يجهر فيما يأتي به إذا كانت صلاته عشاء؛ لأن الجهر سنة في الأوليين منها، ولم يدركه مع الإمام.

قلنا: لنا في استحباب الجهر له قولان: أحدهما: [يجهر] حكاه الشيخ أبو علي في "الإفصاح"؛ فعلى هذا يندفع السؤال. والثاني: لا يجهر، وهو ما نص عليه في "الإملاء"، والأصح. والفرق على هذا: أن الإسرار سنة في الأخيرتين؛ فلا يترك سنة في محلها ليتدارك سنة أخرى؛ ألا ترى أن الطائف إذا ترك الرمل في الطوفات الأول، لا يأتي [به] في الأخيرة؛ لهذا المعنى، وكذا لو كانت يده اليمنى مقطوعة، لا يشير بيده اليسرى في التشهد كما كان يفعل بيمناه؛ لأن بسطها سنة، ولا كذلك القراءة؛ فإن تركها من الأخيرتين؛ [كسنة منسية]، فحسن التدارك فيها. فرعان: [أحدهما]: إذا حضر مسبوق فاته بعض الصلاة، قال في "التتمة": فإن كان يرجو حضور جماعة أخرى في ذلك المسجد، أو في مسجد آخر؛ فالأولى ألا يقتدي بذلك الإمام، بل ينتظره حتى تكون جملة صلاته جماعة، وإن كان لا يرجو جماعة أخرى، فالأولى أن يقتدي به؛ حتى يدرك الفضيلة، وما قاله لا يخلو من احتمال، وقد أسلفنا في الباب عن القاضي الحسين خلافه. [الثاني]: إذا سلم الإمام، وخلفه مسبوق، متى يقوم؟ قال القاضي الحسين في موضعين من كتابه، وتبعه المتولي: يستحب له ألا يقوم حتى يسلم الإمام التسليمة الثانية؛ ليحوز المأموم فضلها. وعن بعض علماء زمانا: [أنه] لا يفعل ذلك؛ فإن فعله بطلت صلاته. ووقع لي فيه تفصيل حسن، وهو إن كان جلوس المسبوق مع الإمام فيا لتشهد الأخير في محل جلوس المسبوق للتشهد الأول، فالأمر كما قاله القاضي [الحسين]، وإن لم يكن محلاً لجلوسه الأول، فالأمر كما قاله الآخر. ثم رأيت في "تعليق" القاضي الحسين في باب: سجود السهو ما يفهم ذلك؛ فإنه قال: إذا سلم إمامه فعليه أن يقوم في الحال؛ فلو لم يقم في الحال،

وطول الدعاء، نظر: إن [لم يكن] محل تشهده؛ بأن أدركه في الثانية، أو في الرابعة، بطلت صلاته؛ لأنه قعد في محل القيام، وإن كان محل تشهده، لا تبطل. لكن قوله: "أن يقوم بعد سلامه" يحتمل أنه أراد السلام التام، وبه صرح في باب موقف الإمام والمأموم. والله أعلم. قال: ومن أدرك [الإمام] قائماً، فقرأ بعض الفاتحة، ثم ركع الإمام؛ فقد قيل: يقرأ، ثم يركع؛ لأنه لما لزمه بعض القراءة، لزمه إتمامها، ولا فرق على هذا بين أن يكون قد تشاغل بدعاء الاستفتاح [حين أحرم أو شرع في القراءة، إلا في دعاء الاستفتاح]، كما سنذكره. وقيل: يركع، ولا يقرأ؛ لقوله عليه السلام: "وإذا ركع فاركعوا"، ولأن المسبوق تسقط عنه [كل] القراءة؛ لفوات محلها؛ فبعضها أولى، وهذا ظاهر النص، وادعى في "التتمة" أنه المذهب. قال القاضي الحسين: ولا فرق فيه بين أن يشتغل بدعاء الاستفتاح والتعوذ، أم لا؛ لأنه من جملة معقود صلاته؛ كالفاتحة. وعن الشيخ أبي زيد أنه إن اشتغل بدعاء الاستفتاح والتعوذ، قرأ بعد ركوع الإمام بقدره، وإن لم يشتغل بشيء من ذلك، ركع مع الإمام، وهذا أصح عند القفال والمعتبرين؛ كما قال الرافعي. وقال القاضي أبو الطيب في باب صفة الصلاة: إن الشافعي نص في "الأم" على أنه إذا اشتغل بدعاء الاستفتاح والتعوذ، مع علمه بأنه إذا فعل ذلك لا يتمكن من قراءة كل الفاتحة؛ حتى يرفع الإمام رأسه من الركوع- نوى مفارقته، وأتم صلاته لنفسه. التفريع: إن قلنا بالأول؛ فركع مع الإمام، بطلت صلاته، وإن أتم القراءة، وأدرك الإمام في الركوع [فذاك، وإن لم يدركه في الركوع]، فهذا متخلف عن الإمام بعذر؛ كذا قاله الأصحاب، والمتخلف عن الإمام بالعذر قد ذكرنا حكمه في مسألة الزحام.

وقال القاضي الحسين: إن الحكم كذلك؛ إذا لم يكن المسبوق قد اشتغل بدعاء الاستفتاح والتعوذ، أما إذا كان قد اشتغل به، فهو كالمتخلف بغير عذر، وسنذكره. وإن قلنا بالثاني؛ فتشاغل بالقراءة، وترك متابعة الإمام؛ فهو كالمتخلف عن الإمام بغير عذر، والمتخلف عن الإمام بغير عذر قال الأصحاب فيه: إن أدركه في الركن الذي تخلف [عنه] فيه؛ لتباطؤ صدر منه- فلا تبطل صلاته وجهاً واحداً، وإن تخلف عنه بركنين، بطلت صلاته وجهاً واحداً، لكن يشترط أن يكونا مقصودين؛ حتى لو تخلف عنه بركن مقصود، وآخر غير مقصود، لا تبطل، أو لا يشترط ذلك؟ فيه وجهان، ثم ما المراد بالسبق بالركن؟ هل الشروع فيه أو الانتقال عنه إلى غيره؟ فيه احتمالان للقاضي الحسين. والركن المقصود هو الركن الطويل. والركن القصير كالرفع من الركوع، وكذا من السجود على رأي أبي علي: هل هو ركن مقصود، أم لا؟ تردد فيه الأئمة، وقد ذكرنا حجته في باب سجود السهو: فمن قائل: لا؛ لأن الغرض منه الفصل؛ فهو إذن تابع لغيره، وهذا ما ذكره في "التهذيب". ومن قائل: نعم، وادعى بعضهم أنه المذهب؛ بدليل اشتراط الطمأنينة فيه، ولو كان المقصود منه الفصل، لاكتفى به من غير طمأنينة، ولمجاوزته حد أقل الركوع من غير اعتدال؛ فإن الفصل يحصل به. فإذا عرفت ذلك، عدنا إلى مسألتنا: فإذا أتم المسبوق الفاتحة، وأدرك الإمام راكعاً كما هو- فقد حصلت له الركعة، ورأيت فيما وقفت عليه من "تعليق" القاضي الحسين: أن المسبوق، إذا أحرم والإمام راكع؛ فاشتغل بالقراءة؛ فحكمه حكم المتخلف عن الإمام بغير عذر. وقيل: إنه إن قرأ، وأدرك الإمام بعد فراغه من الركوع، لا تصح صلاته، وإن أدركه في الركوع؛ فعلى وجهين. قلت: ووجه البطلان يظهر أن يجيء في مسألتنا، لكن المنقول فيها عدم البطلان، وحصول الركعة له، وإن رفع الإمام من الركوع قبل فراغه من القراءة؛

فمن قال: إن الرفع من الركوع ركن مقصود، وإن الشروع في الركن يكفي في السبق- حكم ببطلان صلاته؛ لأنه سبقه بركنين عنده، وكذا الحكم عند من قال: إنه غير مقصود، واكتفى بالشروع في الركن، كالفراغ منه. ومن قال: لابد من الانتقال عنه؛ فلا تبطل صلاته عند من يرى أن النظر إلى التخلف بركنين كيف كانا، أو بركنين مقصودين، وأن الرفع من الركوع مقصود ما لم يسجد والإمام قائم لم يركع، وعند من يرى أنه غير مقصود، لا تبطل صلاته ما لم يرفع من السجود؛ [و] هذا ملخص ما قاله القاضي الحسين في "تعليقه". وفي "الذخائر" أن بعض أصحابنا قال: إن السجدة الأولى مع الثانية ركن واحد. فعلى هذا لا تبطل عند هذا القائل ما لم يرفعه رأسه من السجدة الثانية والمأموم قائم لم يركع. وعلى قول من يكتفي بالشروع في الركن، تبطل عند سجود السجدة الثانية، وهي طريقة حكاها في "التهذيب". ثم حيث لم نحكم بالبطلان فيما عدا الحالة الأولى، حكمنا بفوات الركعة؛ لأنه لم يدركها مع الإمام، وهذا مما لا خلاف فيه. وقد سلك بعضهم في ذلك طريقاً [آخر]؛ فقال: إذا تخلف عنه بركن واحد كامل، هل تبطل صلاته، أم لا؟ فيه وجهان حكاهما الإمام: أحدهما: أنها تبطل؛ لما فيه من المخالفة. وأظهرهما- وهو الذي أورده الغزالي-: أنها لا تبطل؛ لقوله عليه السلام: "لا تبادروني بالركوع والسجود، فمهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني إذا رفعت، ومهما أسبقكم [به] حين سجدت تدركوني حين رفعت". وإن تخلف عنه بركنين، بطلت صلاته قولاً واحداً، وهل يعتبر أن يكون الركنان والركن مقصوداً إذا قلنا: إن من الأركان ما ليس بمقصود في نفسه، أو

لا يعتبر؟ فيه خلاف. فإذا تقرر ذلك؛ فإن ركع الإمام، وتباطأ المأموم، ثم أدركه في ركوعه؛ فهذا ليس تخلفاً بركن؛ فلا تبطل به الصلاة وفاقاً، ولو اعتدل الإمام، والمأموم بعد قائم؛ فهل تبطل صلاته؟ فيه وجهان، واختلف في مأخذهما: فقيل: مأخذهما التردد في أن الاعتدال ركن مقصود، أم لا؟ إن قلنا: نعم، فقد فارق الإمام ركناً، واشتغل بركن آخر مقصود؛ فتبطل صلاة المتخلف. وإن قلنا: ليس بمقصود، فهو كما لو لم يفرغ من الركوع؛ لأن الذي فيه تبع له؛ فلا تبطل [به] صلاته. وقيل: إن مأخذهما: أن التخلف بركن واحد هل يبطل، أم لا؟ إن قلنا: نعم، فقد تخلف بركن الركوع تامّاً، فتبطل صلاته. وإن قلنا: لا؛ فما دام في الاعتدال لم يكن الركن الثاني تامّاً؛ فلا تبطل. قلت: ومن الطريقين في هذه نأخذ طريقين في أن التخلف بركن واحد هل يبطل، أم لا؟ إحداهما: أنه يبطل قولاً واحداً إذا أتم، وتمامه يكون بانتقاله عنه إلى ركن مقصود؛ إن قلنا في الأركان ما ليس بمقصود في نفسه وهذا ملخص المأخذ الأول. والثانية: أن التخلف بركن تام هل يبطل، أم لا؟ فيه وجهان، سواء أكان تمامه بانتقاله إلى ركن مقصود، أو غير مقصود، وأثرهما يظهر فيما إذا سجد الإمام السجدة الثانية، ورفع منها قائماً، والمأموم في الجلسة بين السجدتين؛ فعلى الأول تبطل صلاته قولاً واحداً، وعلى الثاني في البطلان الوجهان، ويظهر أثرهما أيضاً فيما إذا ركع الإمام، ورفع من الركوع، وهوى إلى السجود، والمأموم بعد قائم لم يركع: فعلى الأول يكون الحكم كما لو لم يهو الإمام بعد إلى السجود، وقد تقدم، وعلى الثانية تبطل قولاً واحداً؛ لأن ركن الاعتدال قد تم؛ فوجد السبق بركنين.

قال الرافعي: وقياسه: أن يقال: إذا ارتفع عن [حد الركوع والمأموم بعد في القيام- أن تبطل صلاته عند من يرى أن] التقدم بركن واحد مبطل. وعلى الطريقين لو انتهى الإمام إلى السجود، والمأموم بعد في قيامه- بطلت صلاته وفاقاً، وهي طريقة حكاها القاضي الحسين. قال الإمام: وإذا قلنا بأنه لا تبطل صلاته بالتخلف بركن تام، وكان تخلفه عن الركوع، ورفع الإمام وهو بعد قائم فلا ينبغي [له] أن يركع؛ فإنه لو ركع، لم يكن الركوع محسوباً له، ولكن ينبغي أن يتابع الإمام الآن فيما يأتي به من هويه إلى السجود، ويقدر كأنه أدركه الآن، ولا تحسب له هذه الركعة. ثم هذا كله فيما إذا تخلف عن الإمام في أركان الصلاة؛ فإن تخلف عنه بما هو في صورة ركن تام، وليس بركن؛ كما إذا سجد الإمام للتلاوة، ورفع من السجود، والمأموم قائم في قراءة [الفاتحة] أو غيرها- قال العبادي: بطلت صلاته وجهاً واحداً، وإن كانت لا تبطل فيما إذا ركع الإمام، ورفع [و] المأموم قائم؛ ليتم الفاتحة، والفرق: أن القيام الذي هو محل القراءة يفوت بركوع الإمام؛ فعذر فيه، وفي مسألة سجود التلاوة: القيام لا يفوت؛ لأن الإمام يعود إليه؛ فيمكنه إتمام الفاتحة. قلت: وفي هذا الفرق نظر؛ إذ التفريع على أن التخلف لإتمام الفاتحة ليس بعذر. نعم، هذا يستقيم على ما قاله في "الوسيط": إنا إذا قلنا: يجب على المأموم إتمام قراءة الفاتحة، فأتمها وقد رفع الإمام رأسه من الركوع- فقد فاتته الركعة، وفي بطلان صلاته وجهان، وهذا مما انفرد به؛ فلا تفريع عليه. ولا خلاف في أن المسبوق إذا أدرك الإمام في القيام، ولم يتمكن من قراءة شيء من الفاتحة حتى ركع الإمام- أنه يركع معه، ولا يشتغل بالقراءة، ومن طريق الأولى إذا أحرم والإمام راكع، وقد تقدم الكلام فيما إذا خالف وقرأ في هذه الحالة: هل تبطل صلاته [أم لا]؟

فروع: أحدها: من تحرم بالصلاة مع الإمام، لكن المأموم بطيء القراءة؛ فلم يتم الفاتحة حتى ركع الإمام- فهل يكون حكمه حكم المسبوق، أو يجب عليه إتمام الفاتحة وجهاً واحداً؟ فيه وجهان حكاهما البندنيجي عن ابن سريج، كالوجهين في المزحوم عن السجود إذا أتى بما عليه، وأدرك الإمام قائماً؛ فقرأ بعض الفاتحة، ثم ركع الإمام، والمذكور منهما في "التتمة" في مسألتنا، وهو الذي صححه البغوي، وإبراهيم المروزي: الثاني؛ وهو ما صححه الأصحاب كافة في النظر الذي ذكرناه، وعلى هذا يكون [حكمه] حكم المزحوم، وسيأتي. [آخر] إذا تحرم مع الإمام، لكن الإمام سريع القراءة؛ ولسرعته ركع قبل أن يتم المأموم الفاتحة- قال القاضي الحسين والمتولي: أتم الفاتحة، وكان كالمتخلف عن الإمام بالعذر. وقال الإمام: إن الأصحاب اختلفوا في هذه الصورة أن التخلف فيها كالتخلف بعذر، أو بغير عذر. [آخر]: الموسوس إذا كان يردد القراءة؛ فركع الإمام قبل أن يفرغ- يجب عليه أن يتمها، قاله القاضي، ويظهر أن يكون كالمتخلف بغير عذر. [آخر]: إذا تحرم مع الإمام، وترك قراءة الفاتحة عمداً؛ حتى ركع الإمام، قال القاضي الحسين: فالمذهب أنه يخرج نفسه من متابعته. آخر: إذا تحرم مع الإمام، ونسي القراءة، ثم تذكرها بعد ركوع الإمام- حكى القاضي الحسين والمتولي ثلاثة أوجه في المسألة: أحدها: أنه يتابعه في الركوع، ولا تحسب له تلك الركعة. والثاني: يقرأ، ويكون حكمه حكم المتخلف بغير عذر.

والثالث: يقرأ ويكون حكمه حكم المتخلف بالعذر. ولو كان التذكر بعد أن ركع مع الإمام، قال الرافعي: فلا يعود إلى القيام ليقرأ، وقد فاته الركعة؛ بناءً على الجديد. وقال القاضي الحسين: هل [يعيد القراءة]، أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ كما لو لم يكن قد ركع، وعلى هذا يجعل كالمتخلف عن الإمام بالعذر؛ إذ النسيان عذر ظاهر؛ لقلة إمكان الاحتراز عنه. والثاني: يتابع الإمام، ولا يعود إلى القيام؛ لأجل القراءة؛ فإن عاد كان كالمتخلف عن الإمام بغير عذر حتى تبطل صلاته إذا سبقه الإمام بركنين، على التفصيل الذي ذكرناه. قال: ويكره أن يسبق الإمام بركن؛ لقوله عليه السلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فلا تختلفوا عليه؛ فإذا ركع فاركعوا .. " إلى آخره. وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس، لا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالانصراف؛ فإني أراكم من أمامي، ومن خلفي". أخرجه مسلم. قال في "التتمة" و"التهذيب": والكراهة كراهة تحريم؛ لقوله عليه السلام: "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار" أخرجه مسلم. وهذا الاستدلال يعرفك أن مرادهم بالسبق بالركن: أن يشرع فيه والإمام في الركن قبله، لا أن يشرع في ركن ويفرغ منه، أو ينتقل إلى غيره؛ كما تقدم في التخلف بركن، وبه صرحوا، ويؤيده ما ستعرفه من قولهم: "عاد إلى متابعته، أو لم يعد"، وإذا كان كذلك، كان الأحسن في التعبير عن ذلك أن يقال: ويكره أن

يسبق الإمام إلى ركن؛ إذ هو الحقيقة، وهذا السؤال قد لا يرد على الشيخ؛ غذ كلامه الآتي يقتضي أن صورة السبق بركن أن يركع قبله مثلاً؛ فإذا أراد الإمام أن يركع رفع هو، وهو قضية ما سنذكره عن نصه في "الأم"- إن شاء الله تعالى- لكن الظاهر أنه أراد ما ذكره الأصحاب. قال: فإن سبقه بركن- أي: مثل أن ركع قبله، أو سجد- عاد إلى متابعته؛ أي: وجوباً؛ فيعود إلى الانتصاب؛ إن كان السبق بالركوع، أو السجود؛ لأن متابعة الإمام فرض؛ فإن وافق فانتصب، وركع الإمام، ركع معه، أو سجد؛ لأن الأول لم يحسب له؛ لأجل المخالفة، ولم لم يعد للانتصاب حتى أدركه الإمام في الركوع- لم تبطل صلاته؛ لأنها مفارقة قليلة، وكذا لا تبطل فيما إذا رفع المأموم من الركوع، والإمام شارع فيه، ولم يجتمعا على الركوع معاً في حالة واحدة، ولو عاد للانتصاب قبل ركوع الإمام، حسبما أمرناه [به]؛ فركع الإمام؛ ولم يركع معه، بل بقى منتصباً إلى أن رفع الإمام من الركوع- لم تبطل؛ كذا نص على الجميع في "الأم". ولفظه فيه: "وإن سبقه فركع قبل إمامه كرهت له ذلك، وأمرناه بالانتصاب؛ فإن فعل؛ فأدرك إمامه منتصباً، ركع بعد ركوعه؛ فإن أقام على ما هو عليه راكعاً؛ فلحق به الإمام؛ فاجتمعا على الركوع- لم تبطل صلاته، ولو أراد الاعتدال؛ فجعل الإمام يركع، وهو يرفع؛ فما اجتمعا على الركوع معاً في حالة واحدة، فقد سبق إمامه بركن واحد؛ فلا تفسد صلاته". فقول الشافعي: "كرهت له ذلك"، دليل على أنه فرض المسألة في حالة تعمد المأموم السبق دون حالة جهله به؛ فإن من ركع؛ لظنه أن الإمام في الركوع؛ لصوت سمعه، ولم يكن في الركوع- لا يكره له ذلك. وقوله: "وأمرناه بالانتصاب"، دليل على عدم بطلان الصلاة، وظاهره الوجوب. وقد قيل: إن العود إلى المتابعة- والصورة كما ذكرنا- مستحب، لا واجب،

وهو ما حكاه ابن الصباغ؛ إذ في العود تكثير المخالفة؛ ولأجل هذه العلة قال المراوزة: إذا سبق إمامه بركن عامداً؛ بأن ركع قبله، [أو رفع من الركوع]، أو سجد، لا يعود إلى متابعته، وهل تبطل صلاته بذلك؟ قال الشيخ أبو محمد: نعم تبطل، وإن لحقه الإمام فيما سبقه إليه؛ لأنه مناقض لصورة الاقتداء؛ ولهذا قلنا: إن التقدم على الإمام في الموقف بجزء قليل يبطل صلاته، وخالف هذا التخلف عن الإمام بمثل ذلك؛ فإنه لا يبطل صلاته؛ لأن رتبة المأموم التخلف، وهذا قد حكاه القاضي أبو الطيب في صفة الصلاة، ونسبه إلى أبي علي صاحب "الإفصاح". والمذهب: عدم البطلان في التقدم؛ لأن هذه المخالفة يسيرة، وعلى هذا لو عاد إلى متابعته بطلت صلاته؛ إذا لم يكن حين ركع قبل الإمام، أو رفع، أو سجد- نوى المفارقة. نعم لو كان قد سمع صوتاً ظن به أن الإمام ركع، أو رفع، أو سجد؛ ففعل هو ذلك، ثم بان له أن الإمام لم يفعله بعد؛ فهل لا يجوز له العود؛ كما في الصورة قبلها، أو يجوز ولا يجب، أو يجب؟ فيه ثلاثة أوجه من مجموع كلامهم: أصحها في "التهذيب" ها هنا: أوسطها، وهو ما ادعى في "الكافي" أنه المذهب، ولم يورد الفوراني غيره في باب سجود السهو. والمذكور في "التتمة" و"تعليق" القاضي الحسين: الآخر، وإذا قلنا به، قال القاضي: فلو لم يعد لم تبطل صلاته في ظاهر المذهب. وفيه وجه آخر: أنها تبطل أخذاً من قول الشافعي: لو رفع رأسه من السجود؛ لينتقل؛ فعليه أن يعود؛ فلو لم يعد؛ بطلت صلاته. والقائلون بالأول أجابوا عن ذلك بأن المأموم في هذه الصورة لم يرفع رأسه لأجل قطع السجدة، وإنما رفع لحاجة، وها هنا رفع بنية قطع الركوع والسجود. قلت: وهذا الخلاف يمكن تخريجه على أن الركوع، أو [الرفع، أو السجود] الذي سبق به الإمام هل يعتد [له] به، أو لا؛ لأنه أتى به على وجه السهو؟

وفيه وجهان في "التتمة": فإن قلنا: يعتد به، لا تبطل إذا لم يعد. وإن قلنا: لا يعتد به، فيعود؛ ليأتي بما عليه؛ فإذا لم يفعله بطلت صلاته؛ لأجل ذلك. ولو عاد إلى الانتصاب حسبما أمرناه به والإمام منتصب، [فركع الإمام، وبقي المأموم منتصباً] حتى رفع الإمام، وسجد، فسجد معه- فقياس ما تقدم أن يكون في بطلان صلاته وجهان من أصلين: أحدهما: أن ركوعه الأول هل اعتد له به، أم لا؟ فإن قلنا: قد اعتد له به، لم تبطل. وإن قلنا: لا؛ انبنى على أن التخلف عن الإمام بالركوع والرفع منه هل يبطل، أم لا؟ وقد سبق. ولو شرع المأموم في الانتصاب، وشرع الإمام في الركوع، ولم يجتمعا معاً في حالة تجري في الركوع-[قال في "التتمة": فهل يجب عليه أن ينتصب ثم يركع، أو يتابع الإمام في الركوع؟] فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه الانتصاب؛ كما لو لم يركع الإمام بعد. والثاني: يتابع الإمام؛ فإن الانتصاب كان لمتابعة الإمام، وهو في عوده إلى الركوع متابعٌ له. قلت: وهذا الخلاف يظهر أنه مبني على ما سلف أن الركوع الأول اعتد له به، أو لا؟ إن قلنا: لا فيجب عليه أن ينتصب، ليركع. وإن قلنا: نعم، فالانتصاب كان لأجل المتابعة؛ فليتابع الإمام في الركوع. وهذا مجموع ما وقفت عليه لأهل الطريقين، وأنت إذا جمعت بينهما واختصرت قلت: في عوده عند سبق الإمام بركن- كما ذكرنا- إلى متابعة الإمام، أوجه: أحدها: أنه لا يجوز مطلقاً، وهذا الوجه لم يورد الإمام في باب سجود السهو

غيره، وفيه صرح بأن ما فعله المأموم على حكم السهو سبق يعتد به، وأنه لو عاد في هذه الصورة إلى الانتصاب؛ بطلت صلاته. والثاني: يجوز مطلقاً. والثالث: إن تعمد سبقه بالركن مع علمه بالحال؛ فلا يجوز العود، وإلا فيجوز. وحيث قلنا: يجوز؛ فهل هو على وجه الاستحباب، أو الإباحة، أو الوجوب؟ فيه أوجه. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أموراً: أحدها: أن كراهة التقدم على الإمام بركن يعم الركن القولي والفعلي، ولا شك في أنها ثابتة في الركن الفعلي، مقصوداً كان في نفسه أو غير مقصود؛ كالرفع من الركوع والسجود. وأما الركن القولي- كالفاتحة والتشهد- فقد قال في "التتمة": إنه يكره أن يشرع في قراءة الفاتحة قبل الإمام، ولو فرغ منها قبل أن يشرع فيها الإمام؛ فالمذهب أن صلاته لا تبطل، وفيه وجه آخر: أنها تبطل؛ كما لو ركع قبل إمامه؛ أي: ورفع، [قال:] وليس بصحيح؛ لأن هناك يظهر المخالفة بين الإمام والمأموم، وهنا لا تظهر. وعبارة القاضي الحسين في ذلك: أنه لو قرأ قبل إمامه، من أصحابنا من قال: لا تحسب عن قراءته؛ قياساً على سائر الأركان يسبق فيها إمامه؛ فعلى هذا لا تبطل به الصلاة في ظاهر المذهب. وعلى طريقة أبي يحيى البلخي، تبطل؛ لأن عنده لو كرر الفاتحة، بطلت صلاته. وظاهر المذهب أنه يحسب عن القراءة، لكنه يكره؛ بخلاف سائر الأركان، والفرق ما سلف. قلت: وإذا كان هذا حكم القراءة، وجب أن يكون حكم التشهد كذلك؛ إذ لا فرق بينهما. الثاني- وهو مرتب على الأول في أن كلامه يشمل الأركان القولية

والفعلية-: أنه إذا سبق إمامه بالسلام: أنه يعود إلى متابعته، ويسلم [معه]، وليس كذلك، بل إن تعمد السلام، كان حكمه حكم من فارق الإمام، ويجيء فيه التفرقة بين أن يكون بعذر، أو بغير عذر، وإن ظن أن الإمام سلم؛ فسلم، يظهر أن يبنى على ما إذا ظن أن الإمام ركع؛ فركع، ثم تبين [له] أنه لم يركع، هل يعتد بركوعه، أم لا؟ فإن قلنا: يعتد به، فكذا هنا، ولا يعود إلى متابعته، وإلا فيعود، ويسلم معه. الثالث: أنه لا يكره المساوقة في الأركان، وقد يؤخذ ذلك من قول الإمام: "إنه لو ساوقه فيها، جاز، لكن الأولى التأخير عنه"، لكن في "التهذيب" وغيره- كما قال الرافعي-: أنها تكره؛ لقوله عليه السلام: "فإذا كبر، فكبروا" فإنه يقتضي أني جري على أثر الإمام؛ بحيث يكون ابتداؤه بكل واحد من الأركان متأخراً عن ابتداء الإمام، ومتقدماً على فراغه؛ فإذا فعل ذلك معه، فقد وجدت المخالفة؛ فلا تحصل له فضيلة الجماعة. قال: ومن أطلق الجواز، فمراده: أنها لا تفسد الصلاة. وعلى هذا يكون مفهوم كلام الشيخ غير معمول به، ولا يقال: إنا نحمل الكراهة في كلامه على التحريم؛ كما ذكرتم أن صاحب "التهذيب" وغيره صرح به، وكراهة المساوقة كراهة تنزيه؛ لأن قوله بعد ذلك: "ولا يجوز أن يسبق الإمام بركنين"، يأباه، ولو كان المراد بالكراهة: التحريم، لسوى بينهما. وهذا كله في الأركان الفعلية والقولية، ما عدا تكبيرة الإحرام والسلام: أما تكبيرة الإحرام، فلا تجوز المساوقة فيها؛ بلا خلاف، ولو وجدت لم تنعقد صلاته؛ لأنه علقها بصلاة من لم تنعقد له صلاة بعد؛ فلم تصح، ومن طريق الأولى إذا تقدم تكبير المأموم على تكبير الإمام. وقد حكى في "الذخائر" عن القاضي أبي الطيب أنه قال في هذه الصورة: يحتمل عندي وجهاً آخر: أنه يصبر إلى أن يكبر الإمام، ويدخل معه من غير قطع؛ بناءً على نقل الصلاة من الانفراد إلى الجماعة. قلت: والقاضي في "تعليقه" لم يقل هذا احتمالاً، بل حكاه عن بعض

الأصحاب في أوائل صلة الصلاة، والشيخ مجلي اتبع فيه ما قاله ابن الصباغ؛ فإنه هكذا قال، وأبدى لنفسه تفصيلاً بين أني كون قد ظن أن الإمام أحرم، أولا؛ ولهذا قال مجلي: إن بعض أصحابنا قال: هذا إنما يكون إذا اعتقد أن الإمام [قد] كبَّر، أما إذا كبر قبله مع العلم بأنه لم يكبر، لم تنعقد صلاته. وأما السلام، ففي جواز المساوقة فيه وجهان، بناهما بعضهم على أنه هل يشترط فيه نية الخروج، أم لا؟ فإن قلنا: تشترط، كان كتكبيرة الإحرام، وإلا كان كباقي الأركان. وضعف هذا البناء من حيث إن الصحيح اشتراط نية الخروج، والصحيح: أن المساوقة لا تضر، وبالغ الإمام؛ فقال: إن القول بمقابله زلل عظيم، غير معتد به من المذهب. قال: ولا يجوز أن يسبقه بركنين، [أي]: من غير عذر؛ فإن [سبقه بركنين بأن] ركع قبله؛ فلما أراد أن يركع رفع؛ فلما أراد أن يرفع سجد؛ لفحش المخالفة. قال: فإن فعل ذلك مع العلم بتحريمه؛ بطلت صلاته؛ [لكثرة المخالفة]. قال: وإن فعل مع الجهل، لم تبطل [صلاته]؛ لأنه معذور، وقال عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه". قال: ولم يعتد له بتلك الركعة؛ لمخالفة الإمام في معظمها. قال الماوردي: قال الشافعي: ولو جاز هذا، لجاز أن يقال: إذا أحرم مع الإمام، ثم سبقه بالقراءة، والركوع، والسجود- أن يجزئه، وهذا غير جائز بالإجماع. واعلم: أن ما ذكره الشيخ من الحكم، والتصوير موافق لما حكاه البندنيجي عن نصه في "الأم"؛ حيث قال: "ولو أنه ركع قبل إمامه، [واعتدل قبل أن يركع إمامه، فإنه يركع معه إذا ركع، فإن ركع قبل إمامه]، ثم أراد الاعتدال؛ فجعل الإمام يركع، وهذا يرفع؛ فما اجتمعا على الركوع [معاً] في حالة واحدة؛ فقد سبق إمامه بركن واحد؛ فلا تفسد صلاته؛ فإن أقام على الانتصاب حتى لحق به

الإمام، فانتصبا معاً، أجزأه. وإن رفع من الركوع، فركع إمامه، ثم سجد قبل اعتدال إمامه من الركوع- فقد سبقه بركنين". وقد تبع الروياني في "تلخيصه" هذا النص؛ فلم يخرج عنه بلفظ، وغيره وافق على الحكم، ونازع في التصوير؛ فقال: السبق بركنين لا يجوز، ومع العلم بالتحريم تبطل الصلاة، ومع الجهل تبطل الركعة، لكن هل يشترط أن يكون الركنان مقصودين، أم يكفي أن يكون أحدهما مقصوداً، والآخر غير مقصود؟ فيه وجهان، وعلى كلا الوجهين هل يترتب بطلان الصلاة أو الركعة على شروعه في الركن الثاني، أو [على] الفراغ منه؟ فيه وجهان، وذلك يتضح بالمثال في معرض التفريع: فإن قلنا: يترتب على الشروع في الثاني، ولم نشترط في الركنين أني كونا مقصودين، أو شرطنا ذلك، وقلنا: إن الرفع من الركوع أو السجود مقصود في نفسه؛ فإذا ركع [قبل] إمامه، ورفع، والإمام بعد لم يركع- بطلت صلاته، وهذا ما جزم به البغوي، وادعى القاضي الحسين أنه لا خلاف فيه، لكنه سمى هذا: سبقاً بركن واحد، [ثم] قال: فإن قيل: الإمام لو سبق بركن واحد لا تبطل صلاته؛ فما الفرق؟ قلنا: لأن الإمام متبوع، وأبداً المتبوع يتقدم على التابع؛ ولهذا يتقدمه في الموقف، وإن اعتبرنا في البطلان الانفصال عن الركن الثاني؛ بطلت صلاته إذا شرع في الهُوِيِّ للسجود والإمام قائم لم يركع، ولا تبطل، إذا أدركه الإمام في الرفع من الركوع، وهو ما أورده في "المهذب" و"الشامل". وإن قلنا: لا يبطل [إلا ركنان مقصودان،]، وإن الرفع من الركوع ليس بمقصود في نفسه؛ فإن اكتفينا في البطلان بالشروع في الركن الثاني، بطلت صلاته بالهُوِيِّ إلى السجود أيضاً. وإن قلنا: لابد من الانفصال عن الركن الثاني، فقياسه ألا تبطل ما لم يرفع المأموم رأسه من السجود والإمام قائم لم يركع، وقد ادعى بعضهم أنه لا خلاف في أنه يكفي في البطلان ملابسة السجود. قال بعضهم: وإذا عرفت ذلك، عرفت أن كلام الشيخ مخالف لما قاله

الأصحاب: أما على رأي الشيخ أبي محمد فظاهر، وأما على رأي الجمهور إذا [اشترطنا ملابسة الثاني]؛ فلأنه كاف في البطلان؛ ولا يفتقر على ضرورة أخرى للإمام، ولا للمأموم. وإذا شرطنا الانتقال من الثاني؛ فيشترط أن يتوسط بين الإمام والمأموم ركنان ينفصل عنهما. وفيما أبداه من التصوير لم يتوسط سوى ركن واحد، وهما في الحقيقة مثالان أدرجهما في مثال واحد. [قال:] وكذا رأيته لبعض المصنفين، والحق ما ذكرناه. قلت: وهذا الذي ذكره هذا القائل مخالف لما قاله الأصحاب والشافعي، ومخالفته لما قاله [الشافعي ظاهر؛ فإن نصه في "الأم" كما ذكره الشيخ، وأمام خالفته لما قاله] الأصحاب؛ فلأنهم جازمون بأنا إذا قلنا: لابد من الشروع في الركن الثاني، وأن الرفع من الركوع ليس بمقصود- لا تبطل ما لم يسجد؛ لأن السجود هو الركن دون الهُوِيِّ له. نعم، إذا قلنا: إنه يكفي في البطلان الإتيان بركن تام، وأن الرفع من الركوع غير مقصود، وهو من توابع الركوع- فتبطل صلاته إذا شرع في الهوى إلى السجود؛ لأن به فارق الرفع وإن لم يشرع في السجود، وهذا ظاهر من كلام الأصحاب في مسألة التخلف، وقد سلفت، وإذا كان كذلك عرفت أن ما رامه من الاعتراض عاد عليه، وأن كلام الشيخ هو الموافق للنص؛ فإتباعه أولى. فرع: لو كان سبق المأموم الإمام بركن غير مقصود؛ كما إذا ركع معه، ورفع قبله، وسجد والإمام بعد راكع- قال في "الكافي": فالأصح أنه لا تبطل صلاته؛ لأن الرفع يتبع الركوع؛ فشابه ما لو سبقه بالركوع، ولحقه الإمام فيه، وهذا ما ادعى في "التهذيب" أنه المذهب، وأن الحكم فيما إذا سجد مع الإمام، ورفع قبله، وسجد الثانية، ولم يرفع الإمام من الأولى- كذلك، ولا خلاف على

المذهب في أنه إذا سبقه بالركوع، وأدركه الإمام فيه، ثم رفع قبله، وأدركه الإمام رافعاً، ثم سجد قبله، وأدركه الإمام فيه، وهكذا إلى آخر الصلاة- لم تبطل صلاته؛ صرح به القاضي الحسين وغيره، وأما على رأي الشيخ أبي محمد، فتبطل بمجرد الركوع قبله؛ كما تقدم، والله أعلم. قال: ومن حضر، وقد أقيمت الصلاة؛ لم يشتغل [عنها] بنافلة، أي: تحيةً كانت أو غير تحية؛ لقوله عليه السلام: "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة" أخرجه مسلم. ولا فرق في ذلك بين أن يمكنه مع صلاة النافلة إدراك أول الصلاة، أو لا؛ لظاهر الخبر. قال: وإن أقيمت وهو في النافلة، راتبة كانت كركعتي الفجر، أو غير راتبة كتحية المسجد، ولم يخش فوات الجماعة-[أتمها]؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، ولأنه يمكنه إحراز الفضيلتين؛ فلا يفوت إحداهما. أما لو خشي فوتها، اقتصر على ما أمكن منها؛ ليدرك فضيلة الجماعة؛ فإنها صفة فرض، وفرض على رأي، فكانت أولى من النفل. ولو أقيمت وهو في الفرض، فقد ذكرناه في أثناء الباب. وما ذكره الشيخ في الصورتين هو ما حكاه البندنيجي عن نصه في "الأم"، وظاهره: أنه متى أقيمت، وأمكنه أن يدرك تكبيرة قبل سلام الإمام أنه يتم النافلة، وبه صرح الجيلي؛ بناءً على مذهب العراقيين في إدراك الفضيلة بذلك. وقال مجيلي: [الذي] ينبغي أن يقال: يراعى فوات أول الصلاة بمساوقة [تكبيرته] تكبيرة الإمام؛ فليقطع الآن، وإن رأينا إدراك أول الصلاة بما وراء ذلك- على اختلاف الأقوال- فيجوز له التأخير؛ للاشتغال بالنفل إلى ذلك الحد. ويحتمل أن يقال: يجوز له ذلك ما لم يَخَفْ فوات الركوع؛ إذ به تفوت الركعة الأولى. قلت: وهذا هو الوجه، ويعضده ما ذكرناه من نص الشافعي أنها إذا أقيمت وهو في الفرض منفرداً، يقطعه، ويقلبه [نفلاً]، والله أعلم.

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء الرابع تتمة كتاب الصلاة

باب صفة الأئمة

بسم الله الرحمن الرحيم باب صفة الأئمة هذا الباب مسوق؛ لبيان الصفات المطلوبة في الإمام ندباً وشرطاً، ونبه بما ذكره [فيه] على ما لم يذكره من الأضداد؛ إذ بضدها تتبين الأشياء. قال: السنة أن يؤم القوم [أقرؤهم]، أي: أصحهم قراءة لكتاب الله، وأفقههم، أي: في دين الله. أشار الشيخ بذلك إلى ما ثبت في الصحيح: روى مسلم، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم". وروى البخاري في حديث عمرو بن سلمة الطويل: "وليؤمكم أكثركم قرآناً".

وروى مسلم عن أبي مسعود عقبة بن عامر البدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة؛ فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة؛ فإن كانوا في الهجرة سواء، [فأقدمهم سلماً"، وفي روأية]: فأقدمهم سنّاً"، ولا يؤم [الرجل] الرجل في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه". فثبت بهذه الأخبار تقديم الأقرأ. قال الشافعي: والمخاطب بذلك الذين كانوا في عهده، وكان أقرؤهم أفقههم؛ فإنهم كانوا يسلمون كباراً، ويتفقهون قبل آن يقرءوا؛ فلا يوجد قارئ منهم إلا وهو فقيه، وكان يوجد الفقيه وهو ليس بقارئ؛ فإنه قيل: لم يحفظ القرآن من الصحابة - رضي الله عنهم - إلا خمسة: أبو بكر، وعثمان، وعلي، وأبي بن كعب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وقيل: عبد الله بن عباس؛ فلذلك ذكر الأقرأ، وأمر بتقديمه، ولم يذكر الأفقه؛ ألا تراه لم يذكر النسب، وهو مما يقدم به؛ لأنهم كلهم كانوا ذوي أنساب. ويشهد لقول الشافعي: "إن أقرأهم حينئذ أفقههم"، قول ابن مسعود: "كنا لا

نجاوز عشر آيات حتى نعرف أمرها ونهيها وأحكامها"، وقول ابن عمر: "ما رأيت السورة تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم إلا ونعلم أمرها ونهيها". فإن قلت: هل قول الشافعي: "إن أقرأهم كان أعلمهم"، عام في كل أحد من القراء، أو هو الأغلب؟ قلنا: آثار الإمام إلى الثاني؛ من أجل أن عمر - رضي الله عنه - لم يعد ممن يحفظ القرآن؛ لأنه كان يعسر عليه الحفظ، وهو يفضل على عثمان وعلي - رضي الله عنهم - مع حفظهما القرآن، وتفضيله على غيرهما ممن يحفظه أولى؛ لأنه أفضل منهم. قلت: ويحتمل أن يبقى كلام الشافعي على عمومه؛ لأنا قد ذكرنا آن المراد بالأقرأ: الأصح قراءة، لا أنه الأكثر حفظاً، [وإذا كان كذلك فيجوز أن يكون عمر - رضي الله عنه - أصح قراءة من غيره. وقد استفدنا مما قاله الإمام: أن المراد بالأقرأ عنده: الأكثر حفظاً]، والذي رأيته في [كلام] بعضهم الأول. قال: فإن زاد واحد في الفقه، أو القراءة، فهو أولى. هذا المصل مسوق؛ لبيان مسألتين: إحداهما: أن يستوي الحضور في القراءة، ويزيد واحد عليهم بالفقه أو فيه؛ فهو أولى. والثانية: أن يستوي القوم فى الفقه، ويزيد واحد منهم عليهم بالقراءة؛ فهو أولى. ووجهه في الصورتين امتيازه بالفضل. وما ذكرناه من لفظ الشيخ هو الذي حفظناه، وقال الشيخ محيي الدين النواوي: إنه الذي ضبطه عن نسخة المصنف، وقد رأيته في نسخة عليها خطه. كذلك قال، ويقع في كثير من النسخ أو أكثرها: "فإن زاد واحد في الفقه والقراءة؛

فهو أولى"، والصواب الأول. قلت: إذ لو لم يكن كذلك، لاحتجنا إلى جعل الواو في قوله: "السنة أن يؤم القوم أقرؤهم وأفقههم" بمعنى "أو"؛ دفعاً للتكرار. قال: وإن زاد واحد في الفقه، أي: مع معرفته [من] القراءة ما يكفيه لصلاته، وزاد آخر في القراءة، أي: مع معرفته من الفقه ما يكفيه لصلاته - فالأفقه أولى؛ لأن عمر قدم على عثمان وعلي؛ لزيادة علمه، مع زيادة قراءتهما عليه، ولأن حاجة الصلاة إلى الفقه أدعى، ولأن ما يحتاج إليه من القراءة فيها محصور، بخلاف الفقه فقد ينوبه في الصلاة ما لا يعلم كيف يفعل فيه إلا بالعلم، ولا يعلمه من لا فقه له. قال الرافعي: وقد حكى [القاضي] الروياني وغيره وجهاً: أنهما سواء؛ لتقابل الفضيلتين. قلت: وهذا ما حكاه البندنيجى عن الشافعى [حيث قال: قال الشافعي:] هما سواء، وأيهما [تقدم، فحسن]. قال: والذي قاله الأصحاب: أن الأفقه أولى، وهو ما ادعى ابن الصباغ أن الشافعي أشار إليه؛ فإنه قال: قال الشافعي في كتاب الإمامة: "فإن قدم الفقيه إذا كان يقرأ ما يكفي في الصلاة؛ فحسن، وإن قدم القارئ إذا علم ما يلزمه في الصلاة؛ فحسن"، ثم قال بعده: ويشبه أن يكون من كان فقيهاً، وقرأ من القرآن شيئاً أولى؛ لأنه قد ينوبه في الصلاة ما يعلم كيف يفعل فيه بالفقه، ولا يعلمه من لا فقه له. ولا جرم قال الإمام: إن هذا مذهب الشافعي، رحمه الله. وقد حكى القاضي أبو الطيب، وابن الصبإغ، عن ابن المنذر أنه اختار تقديم الأقرأ. قال: فإن استويا في ذلك، أي: استويا في القراءة والفقه؛ قدم أشرفهما، وأسنهما؛ لاجتماع فضيلتين دلت عليهما الأخبار فيه، روى الشافعي بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"الأئمة من قريش"، وقال عليه السلام: "قَدِّموا قريشاً، ولا تَقَدَّموها". وقال صلى الله عليه وسلم في حديث مالك بن الحارث الطويل: "إذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، تم ليؤمكم أكبركم" أخرجه مسلم، وزاد البخارى: "وصلوا كما رأيتمونى أصلى".

وروى مسلم، عن مالك أيضاً قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وصاحب لي؛ فلما أردنا الإقفال من عنده قال: "وإذا حضرت الصلاة فأذنا، نم أقيما، وليؤمكما أكبركما". والشرف الذي آثار إليه الشيخ: الشرف بالنسب. قال ابن الصباغ: فيقدم بنو هاشم وبنو المطلب على غيرهم من قريش، وتقدم قريش على غيرها. قال البندنيجي: وتقدم العرب أيضاً على العجم. وهل يقدم بالانتساب إلى العلماء والصالحين؟ قال الإمام: رأيت في كتب أئمتنا ترددا فيه، والظاهر أن كل نسب معتبر في الكفاءة مرعى هاهنا. والسن المشار إليه هو الحاصل في الإسلام؛ فمن أسلم من شهر وهو ابن عشرين مقدم على من أسلم بعده وإن كان ابن ثلاثين فأكثر؛ كذا قاله العراقيون، وحكاه الإمام عنهم، واستحسنه، وحكى عن شيحه شيئاً سنذكره. قال البغوي: ومن أسلم أحد آبائه قبل آباء الآخر؛ فهو المقدم، نعم من أسلم بنفسه أولى ممن أسلم بأحد أبويه، وإن تأخر إسلامه عن إسلام من أسلم أبواه؛ لأنه إذا أسلم بنفسه فقد اكتسب هو تلك الفضيلة، بخلاف الآخر؛ كذا قاله في "التهذيب" أيضاً. قلت: ويظهر أن يقال: هذا ظاهر إذا كان إسلام من أسلم بنفسه، قبل بلوغ من حكمنا بإسلامه تبعاً لأبيه، [أما إذا كان بعد بلوغ من حكمنا بإسلامه تبعاً لأبيه؛ فالذي يظهر تقديم من حكمنا بإسلامه تبعاً لأبيه]، والله أعلم. قال: فإن استويا في ذلك، أي: استويا في القراءة، والفقه، والخرف، والسن - قدم أقدمهما هجرة؛ لقوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاَتلَ ...} الآية [الحديد: 10]. فإن قيل: الخبر دال على التقديم بالهجرة بعد القراءة، وقد قلتم: إن القراءة في ذلك الوقت تستلزم الفقه، ويقتضي ذلك أن يقدم بها بعدهما؛ فلم قدمتم بالشرف

والسن بعدهما، وأخرتم الهجرة؟! قلنا: لأن الهجرة فضيلة واحدة؛ فإذا وجد في مقابلها فضيلتان، قدمتا عليها، نعم لو وجد في مقابلها إحدى الفضيلتين؛ فهل تقدم، أم لا؟ فيه خلاف سنذكره. قال الأصحاب: ثم الهجرة المقدم بها في الإمامة لا تنقطع إلى يوم القيامة؛ فإذا أسلم اثنان، وتقدم أحدهما الآخر في الهجرة؛ فإنا نقدمه عليه في الإمامة، ويقدم أولاد المهاجرين على أولاد غيرهم، [ويقدم أولاد المهاجرين بعضهم على بعض]؛ يتقدم هجرة آبائهم. قال القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وغيرهما من العراقيين; فإن قيل: قد روي أنه عليه السلام قال: "لا هجرة بعد الفتح". قلنا: أراد بذلك؛ كما قال بعضهم: لا هجرة واجبة، أو لا هجرة [من مكة] إلى المدينة. [و] كذلك نقول: لأن مكة يعد الفتح صارت دار إسلام. أو نقول: أراد: لا هجرة كاملة؛ ويدل عليه رواية معاوية، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها". قال: فإن استويا فى ذلك، أي: استويا في القراءة، والفقه، والشرف، والنسب، والهجرة - قدم أورعهما؛ لأن للورع تأثيراً في تكميل الصلاة. والمراد به: حسن, الطريقة، والعفة، لا مجرد العدالة المسوغة لقبول الشهادة. وأصل الورع: الكف. وما ذكره الشيخ هو ما أورده ابن الصباغ، وقال الإمام: إنه الذي يقتضيه قياس المذهب.

وحكى البندنيجي [معه] وجهاً عن بعض الأصحاب: أنه يقدم عند الاستواء في القراءة والفقه والشرف والنسب والهجرة، بحسن الوجه. وسبب هذا الاختلاف قد شرحه القاضى أبو الطيب وغيره، فقال: حكي عن بعض السلف أنه إذا اجتمع إمامان يوجد في كل واحد منهما الشرائط الخمسة - يقدم أصبحهم وجهاً. واختلف أصحابنا فى ذلك: فمنهم من قال: أراد بذلك أحسنهم ذكراً عند الناس في الدين والصلاح؛ لأن الناس شهداء الله في أرضه؛ فإذا شهدوا للرجل بالصلاح، كان دليلاً على أنه صالح عند الله. ومنهم من قال: أراد أحسنهم وجهاً في الصورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اطلبوا الحوائج من حسان الوجوه". وفي "الحاوي" أن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤمكم أحسنكم وجهاً؛ فإنه أحرى أن يكون أحسنكم خلقاً".

قال القاضي أبو الطيب: وهذا الوجه ليس بشيء. واختار الشخ أيو محمد تقديم الأورع على الأفقه، ولم يذكر القاضي الحسين، والمتولي، واليغوي غيره، وقضية ذلك تقديمه على الشرف والسن وغيرهما من طريق الأولى. قال القاضي: وهذا بخلاف الفتوى؛ فإنه يقدم فيها الأفقه على الأورع. وزاد فقال: لو اجتمع فقيه [و] قارئ وورع، فالأورع أولى؛ لأن هذه سفارة بين العبد وبين الله - تعالى - وفي السفارات يرجح لها من هو الأوجه هد وقوع الحاجة [إليه]، والأوجه عند الله والأكرم هو الأتقى. قال: ويحتمل أن يقال: الفقه والقراءة أولى؛ لأن الخبر ورد فيهما، والنبي صلى الله عليه وسلم تعرض لهما دون الورع؛ فدل على أنهما أهم، وهذا ما اختاره الإمام. قال: فإن استويا في ذلك، أي: استويا في القراءة، والفقه، والشرف، والسن، والهجرة، والورع، أقرع يينهما؛ إذ لا مزية لأحدهما على الآخر. وقال غيره: يقدم بنظافة الثوب، وحسن السمت، وطِيب النَّعْمة، وحسن الصنعة، من غير ترتيب بين هذه الأشياء. وفي "التتمة": أنه تقدم النظافة، ثم حسن الصوت، ثم حسن الصورة. وإذ قد عرفت ما ذكره الشيخ، علمت أن الصفات المرجحة عنده في هذه الإمامة ست، وترتيبها كما ذكر، والورع آخرها، وليس في كلامه تصريح بما إذا استويا فى القراءة، والفقه، وأحدهما شريف، والآخر من غير شريف؛ من المقدم منهما؟ وسنذكر ما فيه، والبغوي عد الصفات أيضاً ستّاً، لكنه جعل الورع أولها؛ كما ذكرناه عنه وعن غيره، وجعل الفقه يليه، ثم القراءة، ثم الإسلام مع الهجرة، وقال: إن ذلك مقدم على السن والشرف؛ للخبر؛ فإنه يقتضي تقديم الهجرة، [بعد]، القراءة والفقه؛ فإن استويا في الإسلام والهجرة فالأسن والأنسب لغيره مقدم، وإن كان ثم نسب؛ بأن كان أحدهما ثيخا عجميّاً، والآخر شاباً قرشياً؛ ففي المقدم منهما قولان.

والغزالي وغيره عدوا الصفات خمساً، وأسقطوا الهجرة من العدة. والشافعي لم يذكر الورع، وذكر الهجرة مع باقى الصفات؛ فهى خمس عنده أيصاً. قال الشيخ أيو حامد، وتبعه البندنيجي وغيره: ولا يختلف قوله أن القراءة والفقه يقدمان على باقي الخمس: وهو موافق لما في الكتاب وغيره من كتب العراقيين هاهنا، لكن الإمام قال في كتاب الجنائز: إن العراقيين حكوا عن نص الشافعي: أنه يقدم في صلاة الجنازة الأسن، ويقدم في سائر الصلوات الأفقه، وأن منهم من نقل وخرج، فجعل في كل مسألة قولين، وأن المراوزة لم يذكروا هذا هكذا، بل قطعوا في سائر الصلوات بتقديم الأفقه، وأجروا الخلاف في الجنازة فقط. [و] على ظاهر النص؛ فالأفقه مقدم على الأقرأ - على المشهور - وفيه ما تقدم، والصفات الثلاث الباقية من الخمس التي ذكرها الشافعي، وهى: النسب، والسن، والهجرة، ما المقدم منها عند وجودها في ثلاثة أشخاص في كل شخص صفة منها؟ فيه قولان: الجديد: أن المقدم الأسن على النحو الذي ذكرناه. قال الإمام: وكان شيخي يشير إلى اعتبار الشيخوخة، ويروي فيها أخباراً؛ مثل: قوله عليه السلام: "من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم". قال: وهذا يقتضي أنه إذا اجتمع ابن عشرين وابن ثلاثين، وابن العشرين قرشي - فالقرشي مقدم؛ من حيث إن صاحبه ليس شيخاً، ولكن أجمع أئمتنا على أنه لا تعتبر الشيخوخة، بل يكفي كبر السن. ثم المقدم على الجديد بعد السن - كما ذكرنا - ذو النسب، ثم ذو الهجرة، على النعت الذي ذكرناه، وإلى هذا القول يرشد كلام الشيخ؛ حيث جعل الهجرة

آخر الخمس، وبعدها الورع. والقديم: أن المقدم ذو النسب، [ثم ذو الهجرة، ثم ذو السن، وهو الذي صححه أبو إسحاق المروري، والشيخ في "المهذب" وجماعة من الأصحاب؛ كما قال الرافعي؛ مستدلاً بما ذكرناه من الخبرين، وبأن قولي الشافعي متفقان؛ على تقديم النسب] على الهجرة، والهجرة مقدمة على الن في الحديث الذي رواه أبو مسعود [قبله]؛ فيلزم تقديم النسب؛ لأن المقدم على المقدم مقدم، والقائلون بالجديد قالوا: الأخبار واردة بتقديم الأسن؛ فكان العمل بها أولى من العمل بما سواها؛ لأوجه: أحدها؛ [أن] ما ورد في تقديم الأسن يدل على الحكم بخصوصه، وما ورد في النسب يدل عليه بعمومه؛ لتناوله الإمامة الكبرى والصغرى؛ [فيحتمل قصره على الكبرى، وهو الظاهر. والثاني: أن اعتبار الن أظهر فى]، مقصود الصلاة؛ لأن سرها الخشوع، والأكبر أخشع غالباً. والثالث: أن السن فضيلة في الذات، والنسب خارج. قلت: ويجوز أن يستأنس في ذلك أيضاً بما روي أنه اجتمع على باب عمر بن الخطاب أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وسلمان الفارسي، وبلال، وصهيب، وجماعة من وجوه العرب؛ فأذن لسلمان، وبلال، وصهيب؛ فتغير وجه أبي سفيان؛ فقال له سهيل بن عمرو: يا أبا سفيان، إن هؤلاء قوم دعوا ودعيت، فأجابوا، وتأخرت؛ ولئن حسدتهم اليوم على باب عمر؛ لأنت غدا أشد حسداً لهم على باب الجنة. وأما كونه - عليه السلام - قدم الهجرة على الأسن، فلا ينافي ما ذكرناه؛ لأن المهاجرين في زمنه كانوا من قريش؛ فوجد في حقهم فضيلتان؛ فقدموا على من لم توجد فيهم إلا فضيلة واحدة؛ وهى: السن؛ وبهذا يحصل الجواب أيضاً عما ذكره البغوي من تقديم الذي أسلم وهاجر على السن والشرف؛ لأجل الخبر؛ فإنه إذا كان الغالب في المهاجرين أنهم من قريش؛ فقد اجتمع فيهم

الشرف والإسلام والهجرة؛ فقدموا على من لم يوجد فيهم إلا مجرد السن، أو السن والنسب. والقاضي الحسين حيث قال: يقدم الأورع، ثم الأفقه، ثم الأقرأ، ثم السبق بالهجرة – قال: ومعنى السبق بالهجر: أن يكون أحدهما أسلم منذ عشر سنين، والآخر أسلم منذ عشرين منة؛ فالذي أسلم منذ عشرين سنة أولى؛ لأنه اكتسب من الطاعات والخيرات ما لم يكتسبه حديث العهد بالإسلام. وهذا عين تقديم الأسن التفسير الذي ذكره العراقيون، وزعموا أنه القول الجديد، وإذا أردت ضبط الخلاف المحكي عن الشافعي فقل: السن هل هو أوسط الخمس، أو آخرها؟ فيه القولان. قال الإمام: فإن قلت: الأخبار دلت على ترجيح السن والنسب؛ [فهلا دلت] على استوائهما؟ قلنا: لا سيل إلى ذلك؛ فإن ما يتعلق به ناصر كل قول يشير إلى التقديم؛ لقوله عليه السلام: "قدموا قريشاً" وقوله: "فأقدمكم سناً"، فكذا نفهم على القطع إذا نظرنا في مأخذ ذلك أن المسألة على التفضيل والتقديم، [ودلالة الشريعة أين وجدت دالة على ذلك؛ فتعين وجوب التقديم]، ثم ينظر في الأولى، قال: وهذا عن دقيق النظر؛ فليفهم، ووجوه الترجيح قد تقدمت. قال: وصاحب البيت أحق من غيره، [أى]: إذا اجتمع فيه شرائط الإمامة، سواء كان غيره أكمل منه، أو لا؛ لقوله عليه السلام؛ "ولا يُؤَّمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه"، ورواية أبي داود: "ولا يؤم الرجل في بيته، ولا فى سلطانه"، والمراد بصاحب البيت: مستحق منافعه، مالكاً كان أو مستأجرا أو مستعيراً، نعم لو كان الساكن عبداً؛ فسيده أحق منه، والمكاتب أحق من سيده، وفي المستعير مع المعير تردد جواب القفال: فقال مرة: المعير أولى، وهو الذي حكاه الروياني في تلخيصه عن الشيخ أبي حامد، ولم

يحك البندنيجي وفي "الوجيز" غيره، وهو الأظهر عند الأئمة. وقال مرة: المستعير أولى؛ فإنه صاحب السكنى، إلى أن ينصرف ويمنع. وهذا ما أورده القاضي الحسين، وتبعه البغوي، وعلى هذا قال الإمام: فالفرق بين المعير والسد مع عبده: أن العيد في سكونه ممتثل أمر مولاه، وسكون العبد من عرض السيد؛ فإنه ملكه؛ فإذا حضر السيد فهو المالك، وإليه ترجع فائدة السكون، [وفائدة السكون] في حق المستعير [إليه]؛ فإذا لم يرجع المعير في العارية؛ فيجوز أن يقدر دوام الحق للمستعير. وقد حكى الروياني في "تلخيصه" الوجه المذكور في تقديم المستعير، في تقديم العبد على سيده، والذي جزم به المعظم: الأول. ولا خلاف في أن المعير إذا رجع في العارية فهو أولى. وسلك الماوردي طريقاً آخر؛ فقال: إذا كان صاحب الدار مثل الحاضرين عنده، فهو أولى، وإن كانوا أقرأ منه فلا حق له في الإمامة، وليس لهم أن يجمعوا إلا بإذنه؛ فإن أذن لأحدهم، فهو أحق إمامتهم، وإن لم يأذن، صلَّوْا فرادى. ولو كان صاحب الدار امرأة، فلا حق لها في الإمامة إلا بالنساء. ولو كان مجنوناً أو صبياً، اسنؤذن وليه؛ فإن أذن لهم جمعوا، وإلا صلوا فرادى. وقد اختلف في التكرمة المذكورة في الحديث: فقيل: إنها بساطه، وفراغه، ووسادته؛ قاله ابن رجاء. وقيل: مائدته.

فرع: لو كان للبيت مالكان، فحضرا، لم يقدم أحدهما إلا بإذن الآخر، ولو حضر أحدهما، فالأمر كما لو كانا حاضرين؛ قاله فى "التهذيب". قال: وإمام المسجد أحق من غيره، أي: وإن كان أفضل منه؛ للخبر، وقد روي أن ابن عمر كان له مولى يصلي فى مسجده؛ فأتى يوماً إلى المسجد؛ فتأخر مولاه؛ فقال له ابن عمرت تقدم؛ فإنك أحق بمسجدك. قال: والسلطان أحق من صاحب المنزل، أي: عند إرادة إقامة الصلاة جماعة في منزله؛ كما آثار إليه الإمام - رحمه الله تعالى - لأن ولايته عامة، وفي تقدمه على السلطان خروج عن موجب المتابعة وبذل الطاعة، ولا فرق بين أن يكون أكمل من صاحب المنزل، أو دونه؛ قال عليه السلام؛ "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برّاً كان أو فاجراً، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، برّاً كان أو فاجراً" رواه أبو داود. وقد صلى ابن عمر، وأنس خلف الحجاج. وحكى الماوردي وغيره قولاً: أن رب المنزل أحق من السلطان؛ لقوله عليه السلام: "رب الدار أحق بالدار"، ولأنه مالكها، وأحق الناس يمنافعها؛ فوجب أن يكون أحق الناس بالإمامة فيها؛ لكون الإمامة تصرفاً فيها، وهذا مذكور في القديم. والجديد، وهو الأصح، وإليه أشار في القديم: الأول، وعلى هذا لو أذن اللطان لغيره، كان أولى، قاله ابن الصباغ. قال: وإمام المسجد؛ أي؛ السلطان أحق من إمام المسجد، وإن كان دونه؛ لما

ذكرناه من عموم ولايته، وقوله عليه السلام: "لا يؤم الرجل في سلطانه" يدل عليه أيضاً، ووالي البلد في البلد، وقاضيها مع الرعية، كالسلطان معهم؛ قاله الماوردي وغيره. وإمامة المسجد تارة تحصل بولاية الإمام، وتارة تحصل بنصب الشخص نفسه إماماً فى مسجده، وترتضيه الجماعة. وهذا في مساجد المحال والعشائر والأسواق، وأما في المسجد الجامع للبلد فلا يجوز أن يكون إماماً إلا بإذن الإمام؛ فإن عدم؛ فارتضى أهل البلد بتقدبم أحدهم؛ جاز حينئذ. وقد أفهم كلام الشيخ هذا وما قبله، أن ما أسلفه في أول الباب، فيما إذا اجتمع جماعة في صحراء، أو مسجد ليس له إمام راتب، وليس فيهم صاحب ولاية، وكلهم بالغون، مقيمون، أو مسافرون، أحرارٌ، عدولٌ، ليس فيهم ولد زنى، ووقع بينهم تنازع في التقديم. وقوله: "أحق" و"أولى"، هذه الصيغة في كلام العرب لها معنيان: أحدهما: استيعاب الحق؛ كقولك: فلان أحق بماله [من غيره]؛ أي: لا حق لغيره فيه، ومثله قولهم: أحق الناس بالصلاة على الميت أبوه، وبإنكاحها أبوها، وصار المقطع أحق به، وشبهه. والثاني: ترجيح الحق، وإن كان للآخر فيه نصيب؛ كقولك؛ فلان أحسن حالاً من فلان. [كذا] قاله الأزهري، قال: وعلى الثاني معنى [قول النبي] صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها" أي: لا يفتات عليها فيزوجها بغير إذنها، ولم ينف [هذا اللفظ] حق الولي؛ فإنه [هو] العاقد عليها، والناظر لها.

قال: والبالغ أولى من الصبي. هذا الفصل ينظم حكمين: أحدهما: أن إمامة الصبى جائزة فى الصلوات، وذلك مما لا خلاف فيه عندنا، إلا في الجمعة؛ كما سيأتي. ووجهه: ما روى البخاري، عن عمرو بن سلمة قال: كنا بماءٍ ممرَّ الناس، وكان يمر بنا الركبان؛ فنسألهم: ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله، أوحى إليه؛ فكنت أحفظ ذلك الكلام؛ فكأنما يقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامها؛ فيقولون: اتركوه وقومه؛ فإنه إن ظهر عليهم؛ فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح، بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم؛ فلما قدم، قال: جئتكم والله من عند نبى الله حقاً، قال: صلوا صلاة كذا فى حين كذا، [وصلوا صلاة كذا فى حين كذا]؛ فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أقرؤكم؛ فلم يكن أحد أكثر قرآناً مني؛ لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموتي يين أيديهم، وأنا ابن ست سنين، [أو سبع سنين]. ولأنه تصح صلاته في النفل؛ فكذا في الفرض، ولا ترد الجمعة على أحد القولين لنا؛ لأنها مختصة بشرائط، دون سائر الصلوات. الثاني: أن البالغ أولى منه بالإمامة. ووجهه: أنه أكمل منه، وأكثر احترازاً في صلاته؛ لأنه يخاف العقاب بإخلاله بها، ولا كذلك الصبي. وفي "الرافعي" حكاية وجه: أن الصبي القارئ أولى من البالغ الذي ليس بقارئ، والخير يشهد له. قال: والحاضر أولى من المسافر، لأن صلاته أتم، ولأنه إذا أم؛ صلى المقيم

معه جمح صلاته، والمسافر يتم. قال الشافعي: فيحصل له فضيلتان؛ فضيلة الجماعة، وفضيلة الإتمام، [ولا كذلك لو أم المسافر؛ فإنه لا يمكن المقيم الإتيان بجمع صلاته خلفه، والمسافر تفوته فضيلة الإتمام]. قال الأصحاب: ومن هنا أخذ القول بأن الإتمام عند الشافعي - على قول - أفضل من القصر. ثم المسالة مصورة بما إذا اجتمع جمع ليس فيهم إمام، وبعضهم مقيم وبعضهم مسافر؛ فلو كان معهم إمام فهو أولى وإن كان مسافراً؛ قاله ابن الصباغ وغيره. ثم حيث قلنا بتقديم الحاضر؛ فلوتقدم [المسافر]، وأم، فهل يكره؟ فيه قولان: قال في "الأم": كرهته. وقال في "الإملاء": [لا بأس به. قال الروياني: وقد قيل: إنه قال في "الإملاء":] المسافر والمقيم سواء. وهو غير صحيح. قال: والحر أولى من العبد؛ لأن الإمامة منصب جليل؛ فكان الحر بها أليق؛ وكذلك الحرة أولى من الأمة في إمامة النساء؛ لكمالها، وعموم سترها، وهذا من الشيخ مؤذن بصحة إمامة العبد في الفرض والنفل كيف كان، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: ["اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة"، أخرجه البخاري. ولفظ ابن الصباغ والماوردي وغيرهما من الفقهاء في رواية هذا الخبر]: "اسمعوا وأطيعوا، ولو أمر عليكم عبد حبشي أجدع ما أقام فيكم الصلاة".

قال الماوردي: وقد روي أن عمر بن الخطاب أمر صهيب بن سنان الرومي فصلى بالمهاجرين والأنصار، وكان عبداً لأنس بن مالك؛ فلم يكره إمامته أحد من الصحابة. قال الماوردي: ولا يشترط إذن السيد في إمامته، إن كان ما يؤم فيه بقدر صلاته، وإن كان أزيد من ذلك كالجمعة، فلا بد من إذنه. قال: والعدل أولى من الفاسق؛ لطيب النفس بأنه يأتي بالصلاة على أكمل حال. ولفظ الشافعي: "وأكره إمامة الفاسق والمظهِرِ للبدع، ولا يعيد من ائتم بهما". والمراد بالبدعة: بدعة لا يكفر بها، وهذا منه دليل على صحة الصلاة خلفه، وقد وجه ذلك بقول أبي ذر: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ " قال: فقلت: ما تأمرني؟ قال: "صل الصلاة لوقتها؛ فإذا أدركتها معهم فصل؛ فإنها لك نافلة" أخرجه مسلم. ورواية أبي داود السالفة تدل عليه أيضاً. وروى الدارقطني أنه عليه السلام قال: "صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله".

قال الشافعي: وقد صلى ابن عمر وأنس خلف الحجاج، وكفى به فاسقاً. قال: لغير ولد الزنى أولى من ولد الزنى؛ لكماله. ولفظ الشافعي: "وأكره أن ينتصب من لا يعرف أبوه إماماً"، وإذا كرم إمامة من لا يعرف أبوه؛ فولد الزنى أولى، والشافعي وافق في قوله عمر بن عبد العزيز؛ فإنه روي عنه؛ أنه رأى رجلاً يؤم ناساً بالعقيق، لا يعرف أبوه فيها؛ فنهاه، ولم ينكر عليه أحد. وقد اختار ابن المنذر أنه لا تكره إمامته؛ لأنه روي عن عائشة أنها قالت؛ ما عليه من وزر أبويه شيء؛ قال الله [تعالى]: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. وأجاب أصحابنا عن ذلك بأي ذنب للعبد [حتى] لا تقبل شهادته، ويُؤَخَّر، إذا اجتمع مع الحر في الصلاة، وكذلك المرأة أي ذنب لها؟ قال: والبصير أولى عندي من الأعمى؛ لأنه أشد توقياً للنجاسة التي اجتنابها شرط في الصحة، وعِلماً بالاستقبال، وهذا قد حكاه ابن الصباغ وغيره وجهاً للأصحاب، واختاره في "المرشد". واختار أبو إسحاق المروري أن الأعمى أولى منه؛ لأنه أخشع، واختاره الغزالي. قال: وقيل: هما سواء؛ لقابل الفضيلتين، وهذا ما نص عليه في "الأم" في كتاب الإمامة؛ حكاه كذا أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، [ولم يحك] البندنيجي غيره، وكذا الصيدلاني والإمام والبغوي. وإذا عرفت [ذلك؛ عرفت]، أن الوجهين الالفين مخالفان لنص الشافعي؛

كذا قاله ابن الصباغ. وقال في الحاوي: إن الشافعي قال: ولا أوثر إمامة الأعمى، ولا أكرهها، ولا أوثر إمامته على غيره، ولا أكره إمامته، وأوثر غيره عليه. قال: يريد أن إمامة الأعمى والبصير في عدم الكراهة سواء، غير أن إمامة البصير أفضل، وإن كانت إمامة الأعمى لا تكره، وعلى هذا لا يكون ما اختاره الشخ مخالفاً للنص، بل هو النص، ويكون قوله: "عندى" إشارة إلى حمل النص على الحالة التي حمله عليها الماوردي، وعلى هذا لو اجتمع حر ضرير، وعبد بصير، قال الماوردي: فالحر الضرير أولى قال: ويكره أن يؤم الرجل قوماً وأكثرهم له كارهون؛ لقوله عليه السلام: "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، والمرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام يؤم وهم له كارهون" أخرجه الترمذي، وقال: إنه حسن غريب. وروى أبو داود، عن ابن عمر أنه عليه السلام قال: "ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة: الرجل يؤم القوم وهم له كارهون، ورجل لا يأتي الصلاة إلا دباراً، ورجل اعتبد محرراً"، وفي رواية "محرره". أما إذا كرهه أقلهم، فلا تكره إمامته لهم؛ لأنه لا يخلو أحد ممن يكرهه، وكذا لو كرهه النصف؛ قاله في "الروضة". لكن في "تعليق" القاضي أبي الطيب أن الشافعي قال: "إذا أم قوماً وفيهم من يكرهه، كرهنا له ذلك، والأفضل ألا يصلي بهم". ثم قال: فإن قيل: قد قال الشافعي: إذا كره بعض الناس القاضي؛ فإن كان من يريده النصف أو أكثر؛ فلا يتخلف عنهم، بل يستخلف عليهم، وإن كان الأكثر يكرهونه، تركهم - هلا قلتم

فى الإمامة مثله؟ قلنا: الفرق أن القاضي إذا حكم، فنصف الناس يكرهونه؛ لأن من حكم عليه يكرهه، ومن حكم له لا يكرهه؛ فلو قلنا له: اترك القضاء؛ لما ولي أحد القضاء بحال، وليس كذلك إذا قلنا له بترك إمامة من كرهه؛ فإنه لا يؤدي إلى إبطال الإمامة. وهذا من القاضي يدل على إجراء النص على ظاهره، والقول بالكراهة [ثَمَّ كرره] بعضهم. ثم الاعتبار في الكراهة بأهل الدين دون غيرهم، حتى قال في "الإحياء": لو كان الأقلون هم أهل الدين والخير، فالنظر إليهم. وبعضهم يقول: هذه الكراهة منوطة بمن ليس أهلاً للإمامة فيتغلب عليها، ويكره الناس إمامته، أما من هو مستحق لها؛ فاللوم على من كرهه. وكلام الشيخ الذي اتبع فيه نص الشافعي في "الأم" ينبو عنه؛ إذ لو [كان] هذا مناط الكراهة، لما اختص بالأكثر، بل صور في التتمة المسألة بما إذا كان أهلاً للإمامة، واجتمعت فيه شرائطها. وقال القاضي الحسين: إن ذلك منوط بما إذا كانوا يكرهون إمامته؛ لمعنى فيه من زنى، أو شرب، ونحوه؛ فأما إذا كانوا يكرهونه من غير موجب، لم يكره له أن يؤم بهم؛ لأن الذنب لهم، ووبال الكراهة عليهم. وقد ادعى القفال أن محل القول بالكراهة إذا لم يكن منصوباً من جهة الإمام؛ فإن كان منصوباً من جهته؛ فلا يبالي بكراهة القوم [له]؛ كذا حكاه عنه الروياني في "وتلخيصه"، ولم يورد الإمام غيره. قال في "الروضة": [والصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لا فرق بين من نصبه الإمام أو غيره. ثم هذه الكراهة] الظاهر من كلام الجمهور أنها كراهة تنزيه، وكلام أبي الطيب السالف صريح في ذلك.

وفي "الحاوي": أن الشافعي قال: ولا يحل لرجل أن يصلي بجماعة وهم له كارهون؛ لأنه قد جاء في الخبر: "لا يصلي أحدكم بقوم وهم له كارهون" [وروي: "ملعون ملعون من صلى بقوم وهم له كارهون]، فإن أمهم أجزأهم وإياه". فرع: لا يكره - عندنا - أن [يحفر المسجد من يكرهه أهل المسجد؛ حكاه في "الروضة" عن نص الشافعي، والأصحاب، وكذا لا يكره] [أن] يؤم قوماً فيهم أخوه الأكبر، أو أبوه؛ لأن الزبير كان يصلي خلف ابنه عبد الله، وأنس بن مالك كان يصلي خلف ابنه أبي بكر، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن سلمة أن يصلي بقومه وفيهم أبوه. قال: ولا تجوز الصلاة خلف كافر؛ لأنه لا صلاة له؛ فكيف يقتدى به، وهذا ينظم من كفره مجمعٌ عليه، ومن كفرناه من أهل القبلة: كالقائلين بخلق القرآن، وبأنه لا يعلم المعدومات قبل وجودها، ومن لا يؤمن بالقدر، وكذا من يعتقد أن الله جالس على العرش؛ كما حكاه القاضي الحسين هنا عن نص الشافعي، وقد وقع الكلام في هذا الباب، في كتاب الشهادات؛ فليطلب منه. فإن قيل: هل تحكمون بإسلام الكافر بصلاته؟ قلنا: إن كانت صلاته في دار الإسلام؛ فلا نحكم به؛ كما لو صام رمضان، وحج البيت، أو صلى منفرداً، ونعزره على ذلك، وإن كانت صلاته في دار الحرب، قال القاضي أبو الطيب - وهو المذكور فى تعليق القاضي الحسين -: عندي أنه يكون مسلماً؛ كما لو صلى المرتد في دار الحرب؛ فإن الشافعي نص على أنه يكون مسلماً بذلك. قال الرافعي: وقد حكي ذلك عن النص. وأشار بذلك [إلى ما] ذكره المتولي؛

فإنه قال: إن الشافعي نص عليه. لكن ابن الصباغ قال: إنه لم ير ذلك لغير القاضي، نعم لو تلفظ بالشهادتين في الصلاة، فهل نجعله مسلماً بذلك؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: نعم، وهو الذي جزم به القاضي الحسين، وكذا في الأذان، وصححه الماوردي وغيره. وقال غيره -[وهو ابن أبي هريرة؛ كما قال القاضي أبو الطيب وغيره-:] لا؛ فإنه يجوز أن يكون [أتى بهما على سيل الحكاية، وهو جار فيما إذا] أتى بهما في الأذان، وفيما إذا أتى بهما من غير استدعاء وإشهاد على نفسه. قال الماوردي: وهذا القائل يشترط في الحكم يإسلامه بهما أن ينوي بهما الإسلام، ويأتي بهما قاصداً بإتيانه إظهار الإسلام. قال: ولا مجنون؛ لأنها إذا لم تصح خلف الكافر مع كونه مكلفاً؛ لعدم صحة صلاته؛ فالمجنون بذلك أولى. قال: ولا محدث ولا نجس؛ لما ذكرناه. والمراد بالمحدث: المحدث الذي لم تصح صلاته؛ فكذا بالنجس، وإلا فمن تيمم وصلى صلاة يسقط بها فرضه، يصح الاقتداء به مطلقاً بلا خلاف، وإن كان التيمم لا يرفع حدثه على المذهب، وكذا يصح الاقتداء بالمستجمر، وإن كان لو نزل في ماء قليل نجسه على الأصح. نعم تردد الشيخ أبو محمد في أن من لم يجد ماء، ولا تراباً، وأمرناه بالصلاة، وقلنا: عليه الإعادة؛ هل يجوز أن يقتدي به [مثله]، أو لا؟ والذي جزم به الماوردي - عند الكلام في ظهور الإمام كافراً - الصحة، والصحح خلافه، وبه جزم القاضي الحسين؛ كما اقتضاه كلام الشخ. أما إذا قلنا: لا إعادة عليه؛ فيصح أن يقتدي به من هو مثله، ومن وجد الماء والتراب؛ كما يصح اقتداء المتوضئ بالمتيمم. قال الرافعي: وفي معنى من لم يجد ماء، ولا تراباً صلاة المقيم بالتيمم لعدم الماء، وصلاة من أمكنه أن يتعلم الفاتحة، ولم يتعلم، ثم صلى لحق الوقت،

وصلاة العاري، والمربوط على الخشبة؛ إذا ألزمناهم الإعادة. قلت: وكذا المحبوس في حش. وقد نبه الشيخ يقوله؛ "ولا محدث، ولا نجساً، على أمور: أحدها: أنه [لا] تجوز الصلاة خلف من أخل بشرط من شرائط الصلاة، مع قدرته عليه؛ كالستارة، واستقبال القبلة، أما إذا لم يكن قادزاً عليهما؛ كمن لم يجد سترة، ولو بطريق العارية، والمصلى في شدة الخوف إلى غير القبلة؛ فيصح الاقتداء به؛ لأن صلاته صحيحة، مسقطة للقضاء - كما تقدم؛ ويأتي - ولما اختلف حال المصلي مكشوف العورة وغير مستقبل القبلة إلى حال يصح الاقتداء به، وإلى حال لا يصح الاقتداء به - لم يعطفه الشيخ على المحدث والنجس. ومراده بالنجس: المتنجس، وفى معناه حامل النجاسة، والواقف عليها حالة صلاته من غير حائل. الثاني: أنه لا يجوز لمن اختلف اجتهادهما في الأواني أن يقتدي أحدهما بالآخر؛ إذا غلب على ظنه أن ما توضأ به نجس؛ لأنه بزعمه محدث ونجس، وذلك يصور فيما إذا وقع في أحد الإناءين نجاسة، واجتهد شخصان فيهما؛ فأدى اجتهاد أحدهما إلى طهارة أحدهما، والآخر إلى طهارة الآخر، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأصحاب. نعم، لو كانت الأواني ثلاثاً والأشخاص ثلاثة؛ فإن كان الطاهر منها واحداً، فالحكم كذلك، وإن كان النجس واحداً فقط، وأدى اجتهاد كل واحد إلى طهارة إناء: فإن غلب على ظن بعضهم طهارة إناء آخر غير الإناء الذي توضأ منه، صح اقتداؤه بمن توضأ به، وامتنع اقتداؤه بالذي توضأ بالإناء الثالث؛ لأنه يعتقد أنه محدث نجس. وإن لم يغلب على ظنه إلا طهارة ما توضأ منه فقط، قال صاحب "التلخيص": لا يجوز لواحد منهم الاقتداء بواحد من صاحبيه؛ لأنه متردد في أنه محدث ونجس، أو متطهر؛ فلم يصح اقتداؤه به؛ كالخنثى المشكل. وقال أبو إسحاق وابن الحداد - وهو الأصح - يجوز لكل واحد منهم أن

يقتدي بواحد من صاحبيه؛ فإذا اقتدى به فى صلاة لا يجوز أن يقتدي بالآخر في صلاة أخرى. وعلى هذا لو اقتدى يكل واحد في صلاة، قال أبو إسحاق: وجب عليه إعادة الصلاتين؛ لأن إحداهما باطلة لا بعينها؛ فيلزمه قضاؤهما. وقال ابن الحداد والأكثرون: لا يجب إلا قضاء الثانية فقط؛ فإنه لو اقتصر على الاقتداء بالأول لما كان عليه قضاء. ونظير الخلاف في هذه المسألة ما إذا باع الوكيل بأكثر مما يتغابن [الناس] بمثله، [فهل يضمن القيمة، أو الزائد على القدر الذي يتغابن بمثله، و] من حيث الصورة ما إذا كان له زوجتان؛ فأرضعت امرأة إحداهما بعد الأخرى؛ هل ينفسخ نكاحهما، أو نكاح الثانية فقط؟ وعن بعضهم: أن محل خلاف أبي إسحاق وغيره في قضاء الصلاتين أو الثانية فقط؛ إذا سمع بينهم صوت، وأنكر كل منهم أن يكون الخارج منه. أما فى مسألة الأوانى [فلا يجب إلا قضاء الأخيرة فقط [بلا خلاف]. والفرق: أن الاجتهاد في الأواني] جائز؛ فكأن كل واحد اجتهد في إنائه وإناء إمامه إلى أن تتعين النجاسة في الأخير، ولا مجال للاجتهاد في مسألة الصوت. ولا يخفى بعد ما ذكرناه عليك الحكم فيما إذا كثرت الأواني، والمجتهدون. الثالث - وهو فرع الأول-: لا يجوز لمن اختلف اجتهادهما في القبلة أن يقتدي أحدهما بالآخر؛ لأنه بزعمه غير مستقبل، والحكم في الجمع هكذا؛ لأن جهة القبلة واحدة. الرابع: أن صلاة الشافعي خلف حنفى [إذا] توضأ، ومس فرجه - لا تصح؛ لأنه بزعمه محدث، وهو ما حكاه الرافعي عن الشيخ أبي حامد، وقاسه

على [اختلاف] اجتهادهما في القبلة. قال الرافعي: وهو أظهر عند الأكثرين، ولم يذكر الرويائي في الحلية سواه. وقال القفال: تصح صلاته خلفه؛ لأن صلاة الإمام صحيحة عند نفسه، وخطؤه عندنا غير مقطيع به؛ فلعل الحق ما ذهب إليه. والخلاف جار فيما لو صلى الحنفي خلف شافعي على وجه لا يراه الحنفي صحيحاً؛ مثل أن فصد وصلى من غير وضوء. وحاصله يرجع إلى [أن] الاعتبار في الصحة والفاد باعتقاد المقتدي، أو المقتدى به، وعلى هذا [المأخذ] يخرج ما لو صلى الحنفي على وجه لا يعتقده صحيحاً، فاقتدى به شافعي، وهو يعتقده صحيحاً - فعلى ما ذكره الشيخ أبو حامد يصح اقتداؤه، وعلى ما ذكره القفال: لا يصح. وعليه أيضاً يخرج ما إذا ترك الإمام قراءة الفاتحة، أو الاعتدال في الركوع والسجود؛ لاعتقاده عدم وجوب ذلك، هل يصح اقتداء من يرى وجوب ذلك به، أم لا؟ وسنذكره في الباب، إن شاء الله تحالى. قال: ولا صلاة رجل ولا خنثى خلف امرأة؛ أما امتناع صلاة الرجل [خلف المرأة]؛ فلقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِسَاءِ} [لنساء: 34]. قال الشافعي - رحمه الله -: فقصرن عن أن يكن لهن ولاية، وقيام، ولقوله عليه السلام: "أخروهن من حيث أخرهن الله سبحانه". فإذا أوجب تأخيرهن حرم تقديمهن، وإن صح قوله - عليه السلام-: "لا تؤمن امرأة رجلأ" أغنى في ذلك.

وقد حكي عن المزني وأبي ثور أنه يجوز أن تؤم الرجال في صلاة التراويح. وبعضهم يضيف إلى ذلك شرطاً آخر: ولا يكون ثم قارئ غيرها، وأنها تقف خلفهم. واحتجا على ذلك بما روي عن أم ورقة بنت نوفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزورها في بيتها؛ فجعل مؤذناً يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها. رواه أبو داود. وجه الدلالة منه أنه عام في التراوح وغيرها، وفي الرجال والنساء. وجوابه: أن الدارقطني قال: إنما أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها، ويجب الحمل على ذلك؛ فإنها كانت تؤم في الفرائض؛ [ولذلك] جعل لها مؤذناً، والأذان إنما يشرع في الفرائض. وامتناع صلاة الخنثى [خلفها]، لاحتمال أن يكون رجلاً. قال: ولا خنثى، أي: ولا تجوز صلاة رجل ولا خنثى خلف الخنثى. ووجه امتناع صلاة الرجل خلف الخنثى احتمال كون الخنثى امرأة. ووجه امتناع صلاة الخنثى [خلف الخنثى] احتمال كون الخنثى الذي هو إمام امرأة، والخنثى الذي هو مأموم رجلاً. ثم هذا مخصوص بالخنثى المشكل، الذي لم تبن رجولته ولا أنوثته؛ فإن بانت ذكورته جاز للرجال الاقتداء به مع الكراهة [وإن بانت أنوثته جاز له الاقتداء بالمرآة مع الكراهة]، ومع الإشكال قال القاضي الحسين والإمام: إنه من المسائل التي يلغز بها: إذا اجتمع جماعة من الخناثى، وأمّهم أحدهم أين يقف؟ واعلم: أن الشيخ لو قال: ولا تجوز صلاة ذكر خلف امرأة ولا خنثى، كان أولى من قوله: "رجل"؛ لأن لفظ "الرجل" مختص بالبالغ، والصبي في هذا كالبالغ؛ نص عليه في "الأم"، ولفظ "الذكر" يشملهما.

وقد أفهم كلام الشيخ جواز اقتداء المرأة بالخنثى، وذلك جائز اتفاقاً؛ لأنه كيف كان صحت قدوتها به. قال في "الزوائد": وإذا صلى بنسوة لا يقف وسطهن، [بل] أمامهن، ولا يجوز أن يصلي بهن إلا أن يكون معهن محرم لإحداهن، ولو كثرن فهل تحرم الخلوة بهن؟ فيه وجهان حكاهما القاضي في كتاب الجنايات؛ بناء على أن المرأة إذا أرادت الحج، ووجدت نساء ثقات - هل يقمن مقام المحرم، والمذكور منهما في "البندنيجي": الجواز؛ لأنه قال: يكره للرجل أن يؤم نساء غير محرم لهن، ولا يكره إذا كان محرماً لهن؛ فإن كان معهن رجل، لم يكره بحال. والذي حكاه الإمام في كتاب الحج، عن [نص الشافعي: المنع؛ فإنه قال:] نص الشافعي على أنه لا يجوز للرجل أن يؤم بنساء مفردات؛ فيصلي بهن، إلا أن تكون إحداهن محرماً له. قال: [ولا طاهر] خلف المستحاضة؛ لأن طهارتها طهارة ضرورة، وهى حاملة للنجاسة، وهذا ما ادعى أبو الطيب - عند الكلام في إمامة المرأة - أنه المشهور. قال وقيل: يجور دلك؛ كما تجوز صلاة المستنجي خلف المتجمر، والغاسل للرجلين خلف الماسح للخف، والمتوضئ خلف المتيمم، وهذا أصح في "التهذيب"، و"الكافي" و"الرافعي". وقال الإمام: إنه الذي كان يقطع به شيخي، وهو مذهب نقلة المذهب، وإن الأول ذكره بعض أئمة العراق، وهو زلل لا أصل له، والخلاف جار في اقتداء من لا سلس بول به بمن به سلس البول؛ قاله القاضي الحسين. أما من به ذلك، فقد أفهم كلام الشيخ صحة اقتدائه بمثله، وهو نظير ما جزم به الأصحاب فى صحة إمامة الأمي بمثله. وهذا إذا كانت المستحاضة غير مأمورة بالقضاء، أما إذا أمرناها بقضاء الصلوات؛ بأن كانت ناسية للعادة والوقت، وقلنات [نأخذ بالأحوط -] فيظهر أن

يكون حكم الصلاة خلفها كالصلاة خلف من لم يجد ماء ولا تراباً، وقد سبق، ويرشد إلى ذلك تصوير الرافعي محل الخلاف في المستحاضة بالمعتادة، وقد رأيت النواوي في "الروضة" صرح به في كتاب الحيض؛ فقال: لا تجوز صلاة المتحيرة خلف مثلها على الصحيح. قال: ولا تجوز صلاة قارئ خلف أمي، ولا أخرس، ولا أرت، ولا ألثغ في أحد القولين. هذا الفصل ينظم أربع مسائل مشتركة في الحكم والتعليل: فالأولى - وهى الأصل وما بعدها كالفرع لها-: صلاة القارئ، والمراد به هاهنا: من يحفظ الفاتحة، خلف الأمى، والمراد [به] هنا: من لا يحفظ الفاتحة، وإن كان حقيقة فيمن لا يكتب، قارئاً كان أو غير قارئ، سمى بذلك؛ لأنه على الهيئة التي ولدته أمه. وقد قال الشيخ: في صحتها قولان: أحدهما: أنه لا يجوز؛ لقوله عليه السلام؛ "يؤم القوم أقرؤهم" فلا يجوز مخالفته؛ بجعل الأقرأ مأموماً، ولأن الإمام بصدد أن يتحمل عن المأموم القراءة لو أدركه راكعاً، والأمي لا يصلح للتحمل. والقول الثاني: سكت عنه الشيخ هنا، والمتبادر إلى الفهم منه الجواز مطلقاً، وبه صرح هكذا في "المهذب". ووجهه: القياس على جواز اقتداء القادر على القيام بالقاعد والمومئ بالركوع والسجود، وإن تورعنا في ذلك، قلنا: اقتداء القائم بالقاعد هو آخر الأمرين من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجب اتباعه، ونأخذ جواز اقتداء القائم والقاعد بالمومئ بالقياس. وهذا القول قد اختاره المزني، وابن المنذر، والقاضي أبو الطيب، كما رأيته في "تعليقه"، وادعى الغزالي أنه قول قديم، وهو في ذلك متبع لإمامه، [والقاضي الحسين]؛ فإنه قال هكذا في باب صلاة الإمام قاعداً. وغيرهم ذكر عوض هذا القول: أنه لا تصح صلاته خلفه في الجهرية، وتصح

في السرية، وعزوا ذلك إلى نصه في القديم، وهو اختيار المزني، كما قال البندنيجي، وقال [إن] ابن سريج وأبا إسحاق قالا: هذا من الشافعي تفربع على أن المأموم لا يقرأ في الجهرية، ويقرأ في السرية. وأن القول بالصحة خلفه مطلقاً من تخريجهما، خرجاه في الجديد من معنى قوله في القديم؛ لأنه [رعى] القديم حيث جوز وجوب القراءة على المأموم، ومذهبه في الجديد أن القراءة تجب على المأموم في الجهرية والسرية؛ فوجب أن يكون له قول بالجواز مطلقاً، وقد حكاه هكذا الجمهور، وكذا القاضى الحسين فى باب اختلاف نية الإمام والمأموم، وقال هو والصيدلاني; إن من الأصحاب من لم يثبت هذا القول المخرج، وسبب الاختلاف أن أصحابنا اختلفوا فيما إذا كان للشافعي نصان خالف الأخير منهما الأول هل يكون الآخر رجوعاً عن الأول؛ كما لو صرح بالرجوع عنه، أو لا؟ فمنهم من قال: يكون رجوعاً؛ فعلى هذا: لا يأتي في الجديد إلا قول واحد: أنه لا يصح اقتداء القارئ بالأمي. ومنهم من قال: [لا] يكون رجوعاً؛ لأنه قد ينص في موضوع واحد على قولين، فيجوز أن يدكرهما متعاقبين؛ فعلى هذا: يكون له قول آخر في الجديد: أنه يصح. والأصح في الطرق الأول، والفرق بين ذلك وبين اقتداء القاعد والقائم بالمومئ: أن سائر الأركان من القيام والركوع ونحوهما، لا مدخل للتحمل فيها، وكذا الطهارة، بخلاف القراءة. قال الإمام: ولا يعارض ذلك سقوط القراءة عن المسبوق في القيام؛ فإن القيام تبع للقراءة؛ فإذا سقطت، سقط المحل. وهذا منه فيه نظر؛ لأنه قال في صلاة المريض: إن القيام في الصلاة عندنا [يجب] لنفسه وعينه. وقد حكى ابن يونس طريقة أخرى في المسألة؛ وهى: تنزيل النصين على

حالين؛ فحيث قال: لا تصح؛ أراد: إذا كان يقدر على إصلاح لسانه، وحيث قال: تجوز، [أراد]: إذا كان لا يقدر على ذلك. [وهذه الطريقة لم أرها كذلك، بل الإمام جعل محل الخلاف إذا كان لا يقدر على ذلك،] وبه صرح في التهذيب أيضاً، قال: ويلتحق بذلك ما إذا كان يقدر، لكنه لم يمض عليه بعد إسلامه زمان إمكان التعلم؛ فإن مضى، ولم يتعلم، لم يصح الاقتداء به؛ فإن صلاته مفتقرة إلى الإعادة. وظاهر كلام الشيخ والأصحاب: أن محل الأقوال مع علم المأموم بحال الإمام، أما إذا لم يعلم فسيأتي حكمه. وقال في "الحاوي": إن علم ذلك، لم تصح صلاته قولاً واحداً، ولا يختلف مذهب الشافعي في ذلك، وإن لم يعلم، فعلى الأقوال. والذي دل عليه كلام الأصحاب الأول؛ فإنهم قالوا: إذا اقتدى القارئ بمن لا يعرف أنه قارئ أو أمي؛ هل يجب عليه البحث عن حاله، أو لا؟ وهل يعيد الصلاة، أو لا؟ ينظر: فإن كانت الصلاة سرية، فلا [يجب عليه البحث] عن حاله؛ كما لا يجب عليه البحث عن طهارة الإمام، ولا يجب عليه إعادة الصلاة [إذا استمر اللبث]؛ لأن الظاهر من حاله أنه يحسن القراءة، وأنه تطهر. وإن كانت جهرية، قال الإمام: فالذي ذهب إليه أئمتنا: أنه يجب البحث عن حاله؛ فإن أسر - والصلاة جهرية - يخيل أنه لو كان يحسنها، لجهر بها؛ فإن صلى خلفه من غير بحث؛ لم تصح صلاته. قال الإمام: ومن أصحابنا من قال: لا يجب البحث في هذه الصورة أيضاً؛ فإن الجهر الذي تركه هيئة من هيئات الصلاة؛ فلا أثر له، وللإسرار محتمل آخر سوى جهل القراءة، وهو أنه نسي أن الصلاة جهرية؛ فأسر بها، وعلى هذا يكون الحكم كما لو كانت سرية.

والذي أورده العراقيون: الأول؛ لأن الأصل أنه لا يحسنها، وقد اعتضد بالظاهر، [نعم، إن]، قال: [أنا] أحسنها، ولكني لم أجهر؛ لعلمي بأن الجهر ليس بواجب، وقد قرأت - فلا تجب [عليه الإعادة]. قال القاصى الحسين: ويستحب. الثانية: صلاة القارئ خلف الأخرس، وفيها الخلاف السابق؛ لأنه أمي حقيقة. الثالثة، والرابعة: صلاة القارئ خلف الأرت، والألثغ، وفيهما الخلاف السابق؛ لأنه أمي في البعض الذي، [لا] يقدر على النطق به. والأرت - بالتاء ثالثة الحروف -: الذي يسقط بعض الحروف في كلامه؛ كذا قاله بعضهم. ويقرب منه ما حكاه فى "الحاوي"؛ عن الشافعى: أنه الذي لا يقدر على الكلمة إلا بإسقاط بعضها. وقال غيره: هو الذي يبدل حرفاً بحرف [ولا يبين الحروف. وقال في "الشامل": هو الذي في لسانه رتة؛ فيدغم حرفا في حرف، ولا يبين الحروف. وفي "التهذيب": أنه الذي يبدل الراء بالياء. والألثغ: هو الذي [يبدل حرفاً بحرف]؛ كإبدال الراء غيناً، والسين ثاء؛ قاله الجوهري.

وقيل: هو الذي] يبدل الراء باللام. وقيل: هو الذي في لسانه رخاوة، ولا يمكنه الإتيان بالتشديدات كلها، كلسان الصبي. قال القاضي الحسين: فعلى هذا ينظر فيه؛ فإن أمكنه أن يأتي بأصل التشديدات، ولكن لا يبالغ [فيها؛ فتكره الصلاة خلفه، وتجوز، وإن لم يمكنه الإتيان بأصل التشديدات]؛ ففي صحة الصلاة خلفه الخلاف. وإذا قلنا بالجديد الصحيح في هذه المسائل؛ فلا تجوز صلاة الألثغ خلف الأرت، وبالعكس، قاله القاضي الحسين، وهل تصح صلاة من يبدل حرفاً بحرف خلف من يبدل حرفاً غيره بحرف آخر؟ فيه وجهان في "الحاوي"، أصحهما: المنع. فرع: هل تجوز صلاة القارئ خلف من يلحن في الفاتحة؟ ذلك ينبني على أن صلاته مع اللحن هل تصح، وقد قال الأصحاب: إنه ينظر فيه: فإن كان لحنه لا يخل بالمعنى؛ بأن ينصب الدال من {الْحَمدُ} [الفاتحة: 2]، أو يرفع الهاء في اسم "الله" - تعالى - أو قال: الهمد لله؛ كما قال القاضي الحسين فى باب صفة الصلاة - صحت صلاته. وقال القاضي الحسين هنا: يحتمل عندي فيما إذا قال: "الحمد لله" بالنصب أو الخفض، وجهين: أحدهما: الصحة؛ لأنه خطأ فى الإعراب. والثاني: لا تصح؛ لأنه لا يكون قرآناً؛ لأنه كما يكون إعجازاً في نظمه؛ فكذا في الإعراب؛ فينبغي أن يأتي به نظماً وإعراباً. وقد أقام المتولي هذين الاحتمالين وجهين في المألة في الاعتداد بالقراءة؛ هكذا قله فى صفة الصلاة. وإن كان لحنه يحيل المعنى، أو يعطله، كضم تاء {أَنْعَمْتَ} [الفاتحة: 7]، وكسر الكاف في {إِيَّاكَ} [الفاتحة: 5]-لم تصح صلاته إن تعمد ذلك؛ لأنه كلام عمد، وإن كان ساهياً سجد للسهو.

قال القاضي الحسين في باب صفة الصلاة: ويقطع [به] نظم الفاتحة. وهذا إذا أمكنه التعلم فلم يتعلم، وصلى، وإن لم يمض عليه زمان يمكنه فيه التعلم، [أو كان] لا يطاوعه لسانه على الصواب صحت صلاته. وعلى هذين الحالين - أعني: حالة إمكان التعلم، وعدمه - حمل الأصحاب قول الشافعي هاهنا: "أجزأهم دونه"، وقوله في استقبال القبلة: "لا تجزئ صلاته، ولا صلاة من خلفه"، كذا قاله ابن الصباغ. فإذا عرفت ذلك، قلنا: صلاة القارئ خلفه حيث لا تصح صلاته في نفسه، [لا تصح، وحيث تصح صلاته في نفسه]، صحت مسقطة للقضاء، [و] في صحة اقتداء القارئ به الخلاف في الأمي، وصلاة من هو مثله خلفه جائزة وجهاً واحذاً، نعم لوكان لحنه في آية من الفاتحة، ولحن من [خلفه فى] أخرى من الفاتحة، وقلنا: لا يجوز أن يقتدي القارئ بالأمي - ففي صحة القدوة هنا وجهان في "الحاوي": وجه الجواز: اشتراكهما في اللحنين، وإن اخلف. وأصحهما: المنع؛ لأنه يفضل على إمامه فيما قصر عنه، وهذا ما أورده الإمام؛ حيث قال: من يلحن في النصف الأخير، لا يقتدي بمن يلحن في النصف الأول. ولو كان لحنه في غير الفاتحة، قال الأصحاب: فصلاته صحيحة، وكذا صلاة من خلفه. قال الإمام: وهذا إذا كان لا يقدر على تصحيح لسانه، أوكان قادراً على الإتيان باللفظ معرباً، لكنه سبق لسانه إلى اللحن، أو جهل، أما إذا تعمد ذلك، وكان اللحن يغير المعنى؛ فصلاته باطلة وصلاة من خلفه، كالصلاة خلف المحدث. ثم في منع من لا يقدر على إصلاح لسانه من القراءة نظر؛ لأن الكلمة التي يلحن فيها بمنزلة كلمة من غير القرآن، وهذا مادته ما حكيناه عن القاضي الحسين [من قبل، وبالجملة فإمامه من يلحن في قراءته مكروهة، قاله القاضي الحسين]، وغيره؛ اتباعاً لنص الشافعي.

والاقتداء بالعجمي الذي يأتي بالقراءة بالعجمية، كالاقتداء بمن يلحن في الفاتحة سواء؛ قاله الماوردي وغيره؛ اتباعاً للنص أيضاً. واعلم أن ما ذكره الشيخ في هذا الفصل يفهم أموراً: أحدها: جواز صلاة الأمي والأخرس والألثغ والأرت، خلف مثله، نبه على ذلك قوله: "قارئ"، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأصحاب. الثاني: أن صلاة القارئ خلف الفأفاء، وهو الذي يردد الفاء ثم ينطق بها، وخلف التمتام، وهو الذي يردد التاء ثم ينطق بها صحيحة، نبه عليه قوله; "ولا أرت، ولا ألثغ"؛ إذ لو كان غيرهما في الحكم كهما لذكره، وقد صرح الأصحاب بذلك، وقالوا: يكره أن يؤما؛ لأجل التطويل. قال الشافعي: الاختيار في الإمام أن يكون فصيح اللسان، حسن البيان، مرتلاً للقرآن؛ فكذا يكره إمامة من ينطق بالحرف بين حرفين؛ كالعربى الذي ينطق بالقاف بين الكاف والقاف؛ قاله الروياني وغيره. الثالث: منع اقتداء القارئ من الشافعية خلف الحنفي إذا لم يأت بالفاتحة؛ بناء على أن صلاته خلف الأمي لا تصح؛ لأنه كالأمي في [حقه، وكذا خلف المالكي؛ لأنه كالأمي في] البعض؛ بسبب أنه يسقط بعض الفاتحة، وهو البسملة. وقد حكى الفوراني، وشيخه المسعودي، والمتولى فى صلاة الشافعى خلف الحنفى ثلاثة أوجه: أحدها: الصحة مطلقاً؛ سواء قرأ الفاتحة أو لا؛ نظراً لاعتقاد الإمام؛ كما تقدم، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب عن الداركي، واختاره القفال، واستشهد له- كما قال القاضي الحسين - بأن الشافعي نص على أن الإمام لو ترك [قراءة أم] القرآن مع القدرة عليها؛ بأن كان حنفي المذهب - صحت صلاة القارئ خلفه. قال القاضي: وهذا صريح فيه. قال في "التتمة": وعلى هذا لو ترك إمامه الاعتدال في الرمع والسجود،

وفعله هو؛ فهل تصح صلاته، أم لا؟ فيه وجهان. ووجه المنع: أن المخالفة قد ظهرت في الأفعال؛ بخلاف ترك القراءة، والرافعي جعل المسألتين على السواء. والثاني; عدم الصحة مطلقاً؛ نظراً لاعتقاد المأموم؛ فإنه إذا لم يأت بها، أخل بركن الصلاة بزعمه، وإن أتي بها، فكذلك؛ لأنه لا يعتقد وجوبها؛ فصار كأنه لم يأت بها. قال المتولي: وهذه طريقة من يقول: إن الفرض لا يتأتي بنية النفل. وعلى هذا قال القاضي الحسين; [النص محمول على ما إذا ترك الإمام القراءة ناسياً. وهذا ما حكاه القاضي الحسين]، والرويانى، عن أبي إسحاق، وهو الإسفراييني؛ كما قال الرافعي، والقاضي الحسين قبل باب سجود الشكر بثلاث عشرة ورقة، لا المروزي؛ كما ستعرفه، وهو اختيار الشيخ أبي حامد والقاضي الحسين أيضاً. والثالث: إن لم يأت بها، لم يصح اقتداؤه [به]؛ لفقد الركن بزعم المأموم، وإن أتى بها، صح. قال الغزالي في بعض كتبه: ولا أثر لقول من يقول: إنه لا يعتقدها ركناً، واجبةً؛ لأن نية الصلاة شاملة لجمع أركانها، ولا يشترط إفراد كل فعل بنية. قال المتولي: وهذه طريقة من يقول: إن الفرض يتأدى بنية النفل. وقد نسب الماوردي وأبو الطيب هذا الوجه إلى أبي إسحاق المروري؛ حيث حكينا عنه أنه قال: إن تيقنا أنهم تركوا شرطا، مثل: النية في الوضوء،

و {بسم الله الرحمن الرحيم} في الفاتحة - فلا تصح الصلاة خلفهم؛ لأنا نتيقن بطلان صلاة من ترك ذلك، وإن تيقنا أنهم أتوا به، صحت الصلاة خلفهم، وقد اختار هذا الجمهور؛ كما قال الرافعي. وعلى هذا: لو شككنا هل ترك ذلك، أو أتى به- صح أيضاً؛ كذا حكاه عن "فتاوي" الغزالي، وهو المعزيُّ إلى أبي إسحاق؛ موجهاً له بأن الظاهر منه أنه أتى به؛ لأنه يستحب عندهم، وقد اقتصر البندنيجي على حكاية هذا. وفيه دليل على اختيار الوجه الثالث؛ لأن هذا فرعه. وعن أبى الحسن العبادي: أن الأودني والحليمي قالا: إذا أم الوالي أو نائبه بالناس، ولم يقرأ التسمية، والمأموم يراها واجبة - فصلاته خلفه صحيحة، عالماً كان أو عاميًّا، وليس له المفارقة؛ لما فيها من الفتنة. قال الرافعي: وهو حسن، وقضيته: الفرق بين الإمام وخلفائه وبين غيرهم. يعني: فيما إذا ترك الوضوء بعد مس الذكر، أو الاعتدال في الركن والسجود، وقد قدمنا فيه وجهين فى الباب، ووعدنا ثم بذكر زيادة فيه، وهى ما ذكرناه هاهنا. وعلى كل حال؛ فهل تكره صلاة الشافعي خلف الحنفي، أو لا؟ قال في "الكافي": لا تكرم. وقال البندنيجي: تكره؛ لاحتمال أنه لم يأت فيها بما يعتقده ركنا. وفي "الزوائد": أن صاحب "الفروع" حكى عن أبي إسحاق: أن صلاة الرجل منفرداً أفضل من الائتمام بالحنفي. وقيل: بل الائتمام بالحتفي أفضل من الانفراد. قال: ولا تجوز صلاة الجمعة خلف من يصلي الظهر؛ أي: إتماماً، آو قصرا؛ لأن الإمام شرط في الجمعة، ومصلي الظهر ليس في جمعة؛ فقد صارت الجمعة بغير إمام؛ فلم تصح. وفى "المهذب" حكاية وجه آخر: أنه يجوز؛ لأن أكثر ما فيه أن نيته مخالفة لنية المأمومين، وذلك لا يمغ صحة الصلاة؛ كما قلنا في مصلي الفرض خلف المتتفل، والمقيم خلف المسافر.

وقد ادعى بعضهم أن هذا هو النص؛ أخذاً من قوله في "الأم": "وإذا أحدث الإمام في الجمعة، بعدما أحرم وأحرموا؛ فقدم رجلاً منهم لم يدرك الخطبة، إلا أنه كبر خلفه قبل الرمح في الركعة الأولى؛ فصلى [بالناس تمام الركعة، ثم أحدث؛ فقدم رجلاً لم يدرك معه الركعة الأولى، فصلى] هذا الإمام الثالث الركعة الأخرى -[تمت]، صلاة القوم، وأضاف هو إلى الركعة التي صلاها ثلاث ركعات، تكون له ظهراً"؛ فقد جوز الجمعة خلف من يصلي الظهر. ومن قال: إنه لا تجوز الجمعة خلف من يصلي [الظهر]، قال: يحتمل أن يكون الشافعي إنما أجاز هذا؛ لأنه انعقدت صلاته جمعة؛ فجاز تقديمه، ولم تجز جمعته؛ لأنه يكمل بنفسه إذا لم يدرك الركعة الأولى، ولم يكمل بإمامه؛ لأن إمامه لم يحضر الخطبة، وإنما هو تابع للإمام الأول؛ كذا قاله الروياني في "تلخيصه". والجواب الصحيح ما قدمناه في مسألة الاستخلاف؛ فليطلب منه. وقيل: إن كان يصلى الظهر مقصورة، جازت الجمعة خلفه؛ بناء على أن الجمعة ظهر مقصور، وهو ما ادعى فى "التتمة"، أنه ظاهر المذهب، قال: لأن الجمعة ظهر مقصور على ظاهر المذهب. قلت: ويظهر أن يقال: إن تم العدد بالإمام، فلا تصح الجمعة خلفه؛ سواء أتى بالظهر قصراً أو إتماماً، وإن تم بدونه فهو محل الخلاف، ويشهد لذلك ما سنذكره في صلاة الجمعة خلف المحدث، والذي ذكره الشيخ لم يورد ابن الصباغ والماوردي- في باب اختلاف نية الإمام والمأموم- غيره، وهو ما حكاه البندنيجي عن الأصحاب، إلا الشيخ أبا حامد، وإلى ترجيحه يرشد كلام القاضي

أيي الطيب في مألة الاستخلاف. وكون الجمعة ظهراً مقصوراً، ستعرف ما فيه فى باب: صلاة الجمعة. وقد أفهم قول الشيخ منعها خلف من يصلي غير الظهر من طريق الأولى؛ فإن الظهر أقرب إليها من غيرها، وإذا امتنعت كان غيرها بالامتناع أولى، والوجه المذكور فى صحتها خلف من يصلى الظهر مذكور فيه أيضاً. قال: وفي جوازها خلف صبي، أو متنفل- أي: بها - كالعبد، والمسافر يصلي الظهر، ثم يصلي الجمعة؛ كما قاله البندنيجي- قولان؛ أي: إذا تم العدد بدونه. ووجه المنع: أنه ليس من أهل فرض الجمعة؛ فلم تنعقد وراءه؛ كالمرأة. وهذا ما رجحه الشيخ أبو محمد، وأبو القاسم الكرخي، وطائفة. ووجه الجواز: أنه ذكر: [أنه]، تصح جمعته مأموماً؛ فوجب أن تصح جمعته إماماً؛ كمن هو من أهلها، وبالقياس على سائر الصلوات. وهذا ما اختاره في "المرشد"، قال الرافعي: وهو قضية كلام الأكثرين، [وأطبقوا على] أن الجواز في المتنفل أظهر منه في الصبي. قلت: وفيه نظر؛ لأن القاضي أبا الطيب وابن الصبلغ حكيا القولين في الصبي، ونسبا المنع إلى نصه في "الأم"، والجواز إلى نصه في "الإملاء"، وقاسا المنع على المتنفل، وهذا يدل على أنه لا خلاف عندهما في المتنفل في عدم الصحة، لكن المشهور طرد الخلاف فيه كما ذكره الشيخ؛ صرح به البندنيجي، والفوراني، والإمام، وغيرهم؛ وكذا القاضي أبو الطيب في باب اختلاف نية الإمام والمأموم، واستشهد للجواز فيه بنص الشافعي في صلاة الخوف؛ حيث قال: "ولو اشتد الخوف، وأحاط بهم العدو؛ فصلى الإمام [يوم الجمعة بهم] صلاة الظهر، ثم انكشف العدو، والوقت بعد باق؛ فخطب، وأم طائفة منهم لم يصلوا الظهر - جاز، والإمام متتفل؛ لأنه قد أدى فريضة الوقت". وما ذكرناه من تصوير المتنفل مفرع على الجديد في أن أرباب الأعذار إذا

صلوا الظهر، ثم الجمعة، كانت نفلاً دون ما إذا قلنا: إن الله يتقبل أيهما شاء؛ كما هو القديم. وقد أفهم كلام الرافعي أن الخلاف في المتنفل غير الخلاف في العبد، والمسافر؛ إذا صليا الظهر، ثم أما في الجمعة. أما إذا لم يمل العيد والمسافر [الظهر] جاز أن يكون إماماً فيها؛ لأن بها يسقط فرض الوقت عنه، وعلى ذلك نص في "المختصر"، وكذا في "الأم" في حق المسافر؛ حيث قال: إذا تقدم مسافر؛ فصلى بالناس الجمعة، ثم إن مسافراً آخر صلى خلفه، ونوى الظهر مقصورة - يلزمه الإتمام، وقد وجه بقوله – عليه السلام-: "صلوا الجمعة وراء كل بر وفاجر، وإن أُمِّر عليكم عبد حبشي؛ فاسمعوا وأطيعوا ما أقام لكم الصلاة". وحكى القاضي الحسين أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني خرج قولاً: أنها لا تصح خلفهما أيضاً، [قال]: وهو القياس. ويقرب منه ما قاله الشخ أبو محمد: إن ذلك ينبنى على أن الإمام هو من الأربعين، أو لا: فإن كنا لا نعده من الأربعين فلا يضر أن يكون الإمام عبداً أو مسافراً؛ إذا كمل العدد دونه. وإن قلنا: إنه معدود من الأربعين، وكمل العدد دونه؛ ففي صحة إمامة العبد والمسافر وجهان: أحدهما - وهو ظاهر المذهب-: الصحة؛ فإن العدد قد تم في كاملين، وجمعة العبد صحيحة.

والثاني: أنه لا يصح؛ فإن الإمام إذا عد في الأربعين، فهو ركن؛ فينبغي أن يشترط فيه الكمال، وإن كثر القوم وكملوا. قال الإمام: وهذا، وإن أمكن توجيهه، فلا أعده من قاعدة المذهب. وقد أفهم كلام الرافعي استشكال البناء المذكور؛ حيث قال: هذا البناء واضح لو كان الخلاف في أن الإمام هل هو واحد من العدد المشروط، أم لا؟ ولكن الخلاف في أنه هل يشترط أن يكون زائداً على الأربعين، أم يكتفى بأربعين أحدهم الإمام، ولا يلزم من الاكتفاء بأربعين أحدهم الإمام أن يكون الإمام واحداً من العدد المشروط إذا زاد على الأربعين. قال: ولا تجوز الصلاة خلف من يصلي صلاة يخالفها في الأفعال الظاهرة: كالصبح خلف من يصلي الكسوف، والكسوف خلف من يصلي الصبح؛ لما بينهما من الاختلاف المفوت لاتظام الاقتداء؛ ولأنه لا يمكن الاقتداء به مع المخالفة. وهذا ما حكاه العراقيون والماوردي، وهو الأصح عند المراوزة، وحكوا وجهاً آخر: أنه يجوز، وطردوه فى المصلي على الجنائز، وخلف الساجد للتلاوة والشكر؛ كما قاله القاضي الحسين أيضاً، وعلى هذا إذا اقتدى مصلي الصح خلف مصلي الكسوف تابعه في الركوع الأول؛ فإذا شرع الإمام في القيام الثاني للكسوف - انتظره راكعاً؛ فإذا رفع الإمام من الركوع الثاني، رفع معه وسجد، وهذا ما حكاه المسعودي عن القفال. قال الإمام: وإنما انتظره في الركوع دون الرفع منه؛ لأن الركوع ركن طويل، والرفع منه قصير؛ [فلو انتظر فيه، لكان مطولاً لركن قصير]. وفي "الكافي" أن القفال قال: تصح القدوة، وإذا قام الإمام إلى [القيام] الثاني، فارقه. قلت: وليس الأول على وجه الجزم، وكذا الثاني، بل الأمران إلى خيرة المقتدي: فإن رام ألا يفارق الإمام حتى يسلم معه، انتظره راكعاً، وإن رام أن يفارقه، فارقه عند القيام الثاني، وبه صرح الأصحاب. قال الإمام: ولم يَصِرْ أحد من أصحابنا إلى أنه يوافق إمامه؛ فيركع

ركوعين، وإن كان المأموم قد يأتي بأفعال لا تحسب له؛ يسبب الاقتداء؛ كما في المسبوق يدرك الإمام بعد الرفع من الركوع، والسبب فيه: أن نظم صلاة الكسوف يخالفه نظم الصلاة التي تلبس المقتدي بها، وتلك الأفعال التي يوافق الإمام فيها المقتدي المسبوق، وإن كانت لا تحسب له من صلاة المقتدي في الجملة، والمقتدي بالمصلي على الجنازة لا يتابعه في التكبيرات وغيرها؛ كما قاله القاضي الحسين وغيره، وفائدة اقتدائه به حصول فضيلة الجماعة. وكل هذا تفريع على هذا الوجه البعيد، وإذا فرعنا على مقابله، وهو عدم صحة صلاة الظهر خلف من يصلي الكسوف؛ فهل صلاة الاستسقاء والعيدين، كصلاة الكسوف، أم لا؟ قال الرافعي: فيه خلاف: الذي ذكره ابن الصباغ في صلاة الاستسقاء: أنها كغيرها، وكذا الإمام، [و] قال القاضيان أبو الطيب والحسين: إنها كالكسوف. قال في "الروضة": والصحيح [أنها كالصبح،] وبه قطع صاحب "التتمة". وقد أفهم كلام الشيخ جواز اقتدائه بمن يوافقه في الأفعال الظاهرة، نإن اختلفت الأفعال الباطنة، وهي النيات، كما قاله القاضي الحسين وغيره؛ مثل: أن يصلي الظهر [قضاء] خلف من يصلى العصر أو العشاء، وبالعكس، [وكذا صلاة الصبح والمغرب خلف من يصلي الظهر ونحوه، والمفترض خلف المتنفل، وبالعكس،] وهو المذكور في طريقة العراق والمراوزة في أكثر الصور، والأصل فيه أن معاذاً كان يصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ويمضي إلى قومه؛ فيصلي بهم، والقصة مشهورة، وصلاته في قومه نافلة [له]، ولا يقال: إنها الفرض والأولى نافلة؛ لأنه كان يحضر إقامتها، وقد قال عليه السلام: "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة"، ومعاذ لا يترك ذلك، وقد قال جابر - وهو راوي الحديث-: "إن معاذاً كان يصلي خلف النيي صلى الله عليه وسلم العشاء، ئم ينصرف، ويصلي بقومه، هي لهم فريضة، وله نافلة"، وهذا لا يقوله إلا عن علم منه بالحال،

ويوافقه إجماع الصحابة في زمن عمر - رضي الله عنهم - روي أن عمر سمع صوتاً خلفه في الصلاة؛ فلما فرغ أعاد والحاضرون الصلاة والوضوء، وكانت صلاته وصلاة من لم يخرج منه الصوت [الثانية نافلة، وصلاة من خرج منه الصوت] فرضاً، ولم ينكره نكير، بل وقع ذلك باتفاق الحضور عليه. وقد حكى المراوزة وجهاً آخر: أنه لا يجوز أن يصلي المغرب أو الصبح خلف من يصلي صلاة رباعية؛ لأجل التخلف عن الإمام لو صحت القدوة، نعم لو كان الإمام قد سبقه بركعتين جاز أن يقتدي به في الصبح، أو سبقه بركعة، جاز أن يقتدي به في المغرب؛ إذ لا تخلف حينئذ، وقد حكى الإمام والمسعودي هذا قولاً للشافعي، وادعى القاضي الحسين أن ظاهر كلامه في "المختصر" يدل عليه، وعلى هذا فهل يجوز أن يصلي صلاة الفرض خلف من يصلي صلاة التسبيح؟ فيه وجهان، فإن قلنا: يجوز؛ فإذا رفع الإمام [رأسه] في الركوع هل يلزمه الخروج عن متابعته؟ يحتمل وجهين: الأصح: لا. والصحيح صحة صلاة الصبح [والمغرب] خلف من يصلي الرباعية، وعلى هذا إذا صلى الصبح خلفه، تخير المأموم عند رفع الإمام رأسه من ركوع الثانية بين أن يفارقه ويقنت، وبين أن يتابعه، ولا محجوب عليه للسهو، وكذا في عكسه إذا صلى الظهر خلف من يصلي الصبح؛ فإذا قنت الإمام إن شاء أخرج نفسه من الجماعة، وإن شاء صبر ذلك القدر إن لم يطل. ولو صلى المغرب خلف من يصلي الظهر، جلس عند قيام الإمام [في الثالثة]، وتشهد وسلم؛ فلو أراد أن ينتظره حتى يقعد؛ فيسلم معه، قال الإمام: لم يكن له ذلك، [و] على ظاهر المذهب: فإنه فارقه لما جلس للتشهد؛ فلا يتتظره بعدما فارقه. قال الرافعي: ومنهم من أطلق جواز الاتتظار أيضاً. قلت: ومادته صحة صلاة الخوف على النحو الذي رواه ابن عمر؛ كما ستعرفه، وحينئذ يجيء الكلام في تحمل الإمام سهوه بعد قيامه، أو لا؛ كما هو

مذكور ثم، ولو انعكس الحال؛ فكان الإمام في المغرب، والمأموم في ظهر أو عصر؛ فإذا جلس الإمام [للثالثة]، جلى المقتدي معه؛ للمتابعة، ولا يبعد أن يوافقه في التشهد، وإن كان لا يحسب له، وإذا سلم الإمام، قام إلى الرابعة. قال: فإن صلى أحد هؤلاء خلف أحد هؤلاء، ولم يعلم ثم علم، أعاد؛ لبيان فقد شرط القدوة بتقصير المقتدي؛ فإن على كل [ما منع] منها أمارة ظاهرة تدل عليها. قال: إلا من صلى خلف المحدث، [أي: حدثاً أصغر أو أكبر]؛ فإنه لا إعادة عليه في غير الجمعة؛ لما روي [أنه] عليه السلام: "خرج ذات يوم، وكبر لصلاة الصبح، وكبر الناس خلفه، ثم تذكر أن قد أصابته جنابة؛ فأومأ إلى القوم: كما أنتم، ثم دخل الحجرة، واغتسل، وخرج ورأسه يقطر ماء؛ فأتم [بهم] الصلاة"0 وجه الدلالة منه: أن القوم عقدوا الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حينئذ جنب، ولم يأمرهم بالاستئناف. قال الرافعي: وقد روي أنه عليه السلام قال: "إذا صلى الإمام بقوم وهو على غير وضوء، أجزأتهم ويعيد هو". والفرق بين الحدث وغيره: أنه لا تقصير من جهة المقتدي بالمحدث؛ إذ لا أمارة على الحدث. ولا فرق بين أن يكون الإمام عالماً يحدثه، [أو جاهلاً. وعن صاحب "التلحيص" حكاية قول: أنه إن كان عالماً بحدثه]، أعاد من صلى خلفه. وهو بعيد.

قال: ويجب في الجمعة؛ لأن الإمام شرط فيها ضرورة؛ فوقف حصول الجماعة التي هي شرطها عليه، ولم يوجد؛ ولأنها لما لم تصح خلف من يصلي الظهر، مع أنه في صلاة؛ فَلاأَلأَّ تصح خلف من ليس في صلاة أصلاً أولى. وظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق في ذلك بين أن قد تم به العدد، أو تم بغيره، وهو وجه حكاه القاضي أبو الطيب فى باب الصلاة بالنجاسة، وادعى القاضي الحسين [ثم] أنه المذهب، وحكاه الماوردي في كتاب الجمعة، وقال القاضي الحسين ثم، والشيخ أبو علي، وأبو محمد: إنه الأصح. ولا يخفى عليك وجهه مما سبق عن الشيخ أبي محمد، وقد ادعى ابن الصباغ أن صاحب "التلخيص" قال: إنه قول مخرج. وأشعر كلام الإمام في باب الغسل للجمعة أن الشافعي نص عليه؛ فإنه قال: اختلف قول الشافعي في أن [إمام الجمعة] لو بان محدثاً، هل تصح جمعة القوم، أم لا؟ وحكى في الباب قبله القولين أيضاً، ثم قال: وكان شيخي يرتب القولين [على القولين] في صحة الجمعة خلف صبي أو متنفل، وهنا أولى باليطلان، والذي رجحه العراقيون وذكروه عن نصه في "الإمام"، وبه جزم أبو الطيب [في كتاب الجمعة]- أنه ينظر: فإن تم العدد به، فالحكم كما ذكر الشيخ، وإن تم بدونه صحت. وبنى المتولي الخلاف فى هذه الصورة بعد حكاية القول المنصوص والمخرج، على أن الصلاة خلف المحدث تكون جماعة، أو فرادى؟ قال: وفيه وجهان: فإن قلنا: جماعة، وهو ظاهر ما قله المزني- قلت: ولم يورد البندنيجي وابن الصباغ غيره - لم تجب الإعادة، وإلا وجبت. وعليهما ينبني أيصاً ما إذا أدرك المسبوق في غير الجمعة الإمام المحدث راكعاً، وعلم ذلك بعد فراغه: فإن قلنا: إن صلاتهم جماعة، كان مدركاً

للركعة، وإلا فلا، وهو الأصح؛ كما ذكرناه في باب صلاة الجماعة. [وما] إذا سها الإمام المحدث، والمأموم خلفه، أو سها المأموم خلفه؛ هل يسجد المأموم في الأولى، ويتحمل عنه في الثانية، أم لا؟ [والحكم فيما إذا كان القوم أربعين لا غير، وبان حدث أحدهم - كما لو بان حدث الإمام، صرح به القاضي أبو الطيب وغيره في باب الصلاة بالنجاسة؛ فتجب الإعادة قولاً واحداً]. وقد أفهم كلام المتولي أن القول بعدم الإعادة جار فيما لو كان العدد قد تم بالإمام المحدث؛ فإنه قال بعد حكاية القولين; ومأخذهما- كما ذكرناه-: أنه لو بان بعض المأمومين محدثاً في صلاة الجمعة؛ فإن قلنا: إذا كان الإمام محدثاً، [فالصلاة جماعة، فإذا كان المأموم محدثاً]، كان كذلك؛ فلا تجب الإعادة على الإمام، وعلى من كان متطهراً. وإن قلنا: الصلاة صلاة انفراد؛ فعليه إعادة الجمعة. قال: وصورة المسألة إذا لم يتم عدد الأربعين دون المحدث. وعلى هذا جرى صاحب البيان؛ فقال: إذا قلنا بأنه لا يضر حدث الإمام [المأمومين، فلو صلى بأربعين، وكان القوم كلهم محدثين، صحت صلاة الإمام] دونهم، بخلاف ما لو كانوا عبيداً أو نساء؛ فإن ذلك مما يسهل الاطلاع عليه. كذا حكاه الرافعي عنه، ئم قال: وقياس من ذهب إلى المنع أنه لا تصح جمعة الإمام؛ لبطلان الجماعة. وهذا منه تقرير لما قاله قي "البيان"، وهو عجيب من نجيب؛ فإنه جعل محل الكلام في حدث الإمام [إذا كان زائداً عن الأربعين، وجزم القول بأنه لو كان من الأربعين أنه يجب عليهم الإعادة؛ فكيف يسعه مع هذا أن يسكت عما ذكره صاحب "البيان"؟! نعم، لو كان الخلاف فيما إذا بان حدث الإمام] فيما إذا تم العدد به، لم يظهر على ما قاله قي "البيان" اعتراض.

واعلم أن قول الشيخ: "فإن صلى أحد هؤلاء خلف أحد هؤلاء، ولم يعلم، ثم علم، أعاد"، يقتضي أن كلامه في الإعادة عائد إلى ما ذكره من قوله: "ولا تجوز صلاة رجل، ولا خنثى ... " إلى قوله: "في الأفعال الظاهرة؛ لأنه ثم تعرض للمقتدي، والمقتدى به، ولا يدخل [في ذلك من صلى خلف الكافر، والمجنون، والمحدث، والنجس، ثم علم بذلك؛ لأنه] حين منع من الاقتداء بالمذكورين لم يخص المنع بأحد، وحينئذ فيكون كلامه يقتضي أمرين: أحدهما: أن الإعادة عند ظهور الحال في سبع صور: الأولى: ظهور الإمام امرأة أو خنثى، والمقتدي ذكر. والثانية: ظهور إمام المرأة الطاهر مستحاضة؛ كما اقتضى كلامه ترجيحه. والثالثة: ظهور إماما القارئ أميًّا أو أخرس، أو أرت، آو ألثغ. والرابعة، والخامسة، والسادسة: ظهور إمام الجمعة صبيّاً، أو متنفلاً، آو مصلياً ظهراً. والسابعة: ظهور الإمام مصلياً صلاة تخالف صلاة المأموم في الأفعال الظاهرة. والمسائل الست تارة يُفرض ظهور حال الإمام فيها بعد فراغ الصلاة، وتارة فيها. وإذا كان بعد فراغها، أعاد، وإذا كان فيها استأنف. والسابعة يكون الظهور في أثنائها فقط؛ إذ لا يمكن أن يخفى ذلك على المصلي في كل الصلاة، ولو فرض خفاؤه عليه؛ بأن يكون المقتدى ائتم به، وهو في القيام الثاني من الركعة الثانية، وقلنا: إنه يسجد في صلاة الكسوف؛ كما يسجد في غيرها، وأتم المأموم صلاته بعد سلام الإمام، ثم اطلع على الحال- فيظهر أن يقال قي هذه الحالة بصحة القدوة، بل مع العلم بالحال؛ إذ علة المنع المخالفة، ولا مخالفة. [و] يشهد لذلك أن من منع من أصحابنا اقتداء من يريد صلاة المغرب خلف من يصلي الظهر أربعاً قال: لو كان الإمام قد صلى ركعة من الظهر؛ فاقتدى به من يريد صلاة المغرب - جاز. وهذا ما ظهر لي، وقد ينقدح لذي

خاطر شيء آخر؛ أخداً مما سنقف عليه في أن مدرك الإمام في صلاة الكسوف في الركوع الثاني هل يكون مدركاً للركوع الأول؟ والله أعلم. الأم الثاني - وهو ما يقتضيه مفهوم كلامه-: أنه لا إعادة على من بان إمامه كافراً، أو مجنوناً، أو محدثاً، أو نجساً، لكن قوله: "إلا من صلى خلف المحدث؛ فإنه لا إعادة عليه" [يقتضى إذا جعلنا الاستثناء متصلاً - وهو الظاهر - دخول المحدث] قي كلامه الأول، ومتى دخل، [دخل] الكافر ومن بعده من طريق الأولى، وهذا هو الظاهر، وحينئذ فيضم إلى الصور السبع أربع بها تكمل الصور إحدى عشرة، استثنى الشيخ منها صورة واحدة، وهي ما إذا ظهر كونه محدثاً في غير الجمعة، وقد استثنى غيره معها صوراً: الأولى: الكافر إذا لم يكن متظاهراً بكفره، وهو المرتد، والزنديق - قال القاضى الحسين: فلا تجب عليه الإعادة؛ كما لو بان محدثاً؛ لأنه يعرس عليه الاطلاع على كفره، وهو وجه حكاه في "التتمة"، وقد صححه في "التهذيب"، وكذا أبو الطيب [وغيره] فى باب الصلاة بالنجاسة، وبه قال المزنى [فيما] لو ظهر كافراً متظاهراً يكفره أيضاً. وما ذكره الشيخ هو ما ادعى الماوردي أنه مذهب الشافعي، والذي عليه أصحابه، والعلة فى الإعادة عند ظهوره متظاهراً بكفره - ما أشار إليه الشافعى، وهو أنه ربط صلاته بصلاة من لا يصلح أن يكون إماماً له بحال؛ أي: مع العلم [بحاله]؛ كما قال الماوردي، وهذه العلة تقتضى أنه لا فرق بين أن يتظاهر بكفره، أو يخفيه؛ ولذلك استحسنها ابن الصباغ، وخالف الاقتداء بمن ظهر محدثاً؛ [فإنه] ربط صلاته بمن يصلح أن يكون إماماً له في حال مع علمه لحدثه، وهو كما قال [الماوردي والمتولي: إذا اقتدى المتوضئ بالمتيمم الذي تسقط صلاته بالتيمم القضاء؛ فإنه محدث عندنا. الثانية: من على بدنه نجاسة، قال] في "التهذيب"، و"التتمة"، والنهاية في باب الصلاة بالنجاسة; إنه كالمحدث؛ نظراً إلى أنه لا أمارة على ذلك، [وطرد في "التتمة" ذلك] بما إذا كانت على ثوبه أيضاً، وادعى القاضي الحسين أنه

ظاهر المذهب. وما ذكره الشيخ هو مقتضى علة الشافعي في الكافر؛ إذا جرينا على الأصح في أنه لا يجوز أن يقتدي به مثله. وهذا فى النجاسة التى يخفى مثلها، أما الظاهرة فمقتضى العلتين -[وهو ما حكاه القاضي الحسين في باب الصلاة بالنجاسة]- وجوب الإعادة، وقد قال الإمام; فيه احتمال عندي؛ لأنها من جنس ما يعفى عنه. وهذا منه يدل على أن المنقول وجوب الإعادة. الثالثة: [المستحاضة]، ادعى الماوردي أن ظهور حالها كظهور حدث الإمام؛ فلا إعادة على المرأة الطاهرة إذا اقتدت بها؛ لأن الاستحاضة مما يخفى؛ إذ لا أمارة عليها، ويصح أن تقتدي بها مثلها؛ فانتفت العلتان في حقها. الرابعة: ظهوره أميًّا، قال الإمام: هو كظهوره جنباً. وعليه جرى ابن يونس، وهذا في السرية، وكذا في الجهرية إذ لم نوجب عليه البحث عن حال الإمام عند إسراره فيها. والذي ذكره القاضي الحسين والبغوي: ما ذكره الشيخ، وفرق القاضي بينه وبين الجنب؛ فإن الحدث، والطهارة يتعاقبان على الإنسان؛ فإنه يكون متطهراً في حالة؛ فيصير محدثاً فيها، ثم يصير متطهراً، وهو مما يخفى، ولا يظهر؛ فلا يمكنه أن يطلع عليه غالباً؛ فلم ينسب إلى تفريط، وإن غفل عنه؛ بخلاف ما نحن فيه؛ فإن كونه أميّاً، وقارئاً لا يتعاقبان؛ فإن الإنسان لا يكون قارئاً، ئم يصير أميًّا، ثم يعود قارئاً، وهو مما يظهر، ويطلع عليه في الغالب، وقد حكينا عن الماوردي أن محل الخلاف ما [إذا] ظهر بعد الصلاة أميًّا. الخامسة: إذا بان إمام الجمعة متنفلاً، أو مصلياً ظهراً مقصورة، يشبه إلحاقه بالجنب؛ لفقد العلتين فيه أيضاً. السادسة: إذا ظهر اختلاف الصلاتين في النظم، قال بعض الشارحين: يجب على المأموم أن ينوي المفارقة عند العلم فإن دام؛ بطلت صلاته. ثم حيث لم نوجب عليه الإعادة فيما ذكرناه عند جهله بالحال، تم علمه؛ فلو

كان قد علم حال الإمام، ثم نسي؛ فاهتدى به، وعرفه بعد ذلك - وجبت عليه الإعادة؛ لتقصيره؛ قاله الرافعى وغيره. فرع- عكس ما نحن فيه-: إذا صلى الرجل خلف خنثى، أو خنثى خلف امرأة، طولب بالقضاء؛ فلو بان ذكورة الإمام في الأولى، وأنوثة المأموم في الثانية قبل الإعادة؛ فهل يبقى مخاطباً به أيضاً، أو لا؟ حكى الإمام فيه قولين، واقتصر في "الوسيط" على حكايتهما في الأول، وهما يجريان - كما قال الرافعي - فيما لو اقتدى خنثى بخنثى، ثم بانا رجلين، أو امرأتين، أو بان المأموم امرأة، أو الإمام رجلاً، وذلك فيما لو أقدم المأموم على الاقتداء، مع علمه بالحال؛ ألا ترى إلى قول الإمام؛ لو اقتدى برجل، وهو شاك، لا يدري أنه مقتد بغيره، أو لا - فلا تصح قدوته مع هذا التردد؛ كما لو اقتدى بخنثى مشكل، ولو استمر على القدوة [ثم] بان أن إمامه لم يكن مفتدياً؛ فهل يجب على المفتدي قضاء الصلاة، والحالة هذه؟ فعلى قولين؛ كالقولين فيه؛ إذا اقتدى يخنثى، ثم لم يقض حتى يبين أن الخنثى ذكر، وأصحهما - كما قال [ثم-: وجوب الإعادة. قال] الرافعي: ولهذه الصورة نظائر: [منها؛ إذا باع مال أييه على ظن أنه حي، فبان ميتاً. و] منها: إذا وكل وكيلاً بشراء شيء معين، وباع ذلك الشيء من إنسان على ظن أنه ما اشتراه وكيله بعد ما كان اشتراه وكيله فى الصحة قولان. والذي جزم به الماوردي فيما [إذا] كان المقتدي عالماً بخنوثة الإمام - البطلان، سواء ظهر امرأة أو رجلاً، وحكى القولين فيما إذا اقتدى به جاهلاً، ثم ظهر أنه خنثى، ثم أنه ذكر، وكذا فيما إذا اقتدى الخنثى بمن ظنه رجلاً، ثم بان [له] أنه امرأة، وبانت أنوثة الخنثى، وأن القول بعدم الإعادة مخرج من [اختلاف] قول الشافعي فيما إذا رأوا سواداً فظنوه عدوًّا.

وإذا جمعت بين النقلين جاءك في المسألة ثلاثة أقوال؛ أصحها: وجوب الإعادة مطلقاً. وقد أفهمك كلام الإمام أنه لا يجوز أن يقتدي بالمقتدي مع العلم بالحال، وبه صرح الأصحاب، وفرعوا على ذلك فروعاً: منها: أنه إذا دخل المسجد، فوجد صفًّا طويلاً؛ فنوى الداخل الاقتداء بالإمام منهم، ولم يعرفه- لا تصح صلاته؛ لعدم التمييز. قال القاضي الحسين: وهذا بخلاف ما إذا كان شخص في المحراب؛ فنوى الاقتداء به، ولم يعرفه تصح القدوة؛ للتمييز بينه وبين غيره. ومنها: لو التبس على الواقفين الحال؛ فاعتقد كل واحد منهم أنه المأموم، بطلت صلاتهم، ومن طريق الأولى: إذا أحرموا في الابتداء كل منهم بنية أنه مأموم، وهذا بخلاف ما لو اعتقد كل واحد منهم أنه إمام، صحت صلاة الجميع؛ لأن كل واحد [منهم] لم يربط صلاته بصلاة غيره، ولو اعتقد أحدهما أنه مأموم، وشك الآخر أنه إمام [أو مأموم - بطلت صلاتهما ولو انعكس الحال؛ فاعتقد أحدهما أنه إمام، وشك الآخر في أنه مأموم]، أو إمام - صحت صلاة من لم يثك، وبطلت صلاة الشاك. [وهذا] كله تفريع على ما حكاه العراقيون من أن مجرد الشك في النية يبطل الصلاة، وآما على طريقة المراوزة المفصلة بين أن يمضي مع الشك ركن لا يزاد مثله في الصلاة، أو لا؛ فقياسها أن يأتي ذلك هنا، وبه صرح القاضي الحسين؛ فقال فيما إذا شكَّا معاً: إن تذكرا قبل أن يحدثا شيئاً من أفعال الصلاة، وقرب الزمان -[صحت صلاتهما جميعاً، وإن طال الزمان]، ولم يفعلا شيئاً؛ فعلى وجهين. وإن لم يذكرا إلا بعد ما فعل أحدهما فعلاً مع الشك، وتابعه الآخر، ثم تبين أنه تابع الإمام - فعلى وجهين؛ [بناء] على من اتبع الإمام في الأفعال من غير نية.

قال مجلي: وهذا لا يصح؛ لأن المتابعة في الأفعال فقط، وهذا نوى الاقتداء مع المتابعة؛ فبطلت صلاته؛ لأنه ائتم بمن لا يعتقده إماماً، وإن بقيا على الشك، بطلت صلاتهما. ومنها: لو اقتدى مقيمون بمسافر، أو مسبوقون بإمام، وسلم الإمام؛ فهل يجوز لهم أن يقدموا من يؤمهم في بقية صلاتهم؟ إن كان ذلك في صلاة الجمعة، لم يجز، وإن كان فى غيرها، فوجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب، والبندنيجى، وابن الصباغ في كتاب الجمعة، وفي "المهذب" في باب صلاة الجماعة، والأصح: المنع. وإذا عرفت ما ذكرناه، عرفت أن ضابط من يصح الاقتداء به في الجملة على المذهب: كل من صحت صلاته في نفسه صحة مُغْنِيَةً عن القضاء صح الاقتداء له إلا المقتدي، وما لا فلا، وإن أردت التفصيل، فطالع ما ذكره الشيخ مع ما ذكرناه، يحصل لك المقصود، والله أعلم.

باب موقف الإمام والمأموم

باب موقف الإمام والمأموم قال: السنة: أن يقف الرجل الواحد عن يمين الإمام، أشار الشيخ بذلك إلى ما روي عن جابر قال: سرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [في غزوة، فقام فصلى، فتوضأت، ثم جئت فقمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم] فأخذ بيدي؛ فأدارني حتى أقامني عن يمينه؛ فجاء جبار بن صخر حتى قام عن يساره؛ فأخذنا بيديه جميعاً حتى أقامنا خلفه، أخرجه مسلم. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: بت عند خالتي ميمونة؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل؛ فقمت معه عن يساره؛ فتناولني من خلف ظهره؛ فجعلني عن يمينه، أخرجه البخاري ومسلم. وروي: فأخذني بيمينه. وهذا وإن ورد في حق الصبي؛ لأن ابن عباس كان -إذ ذاك- صغيراً؛ فهو يثبت ذلك في حق الكبير من طريق الأولى، [ومنه يؤخذ أن الصبي في هذه السنة كالرجل؛ كما يفهمه قول الشيخ: "وإن حضر رجلان، أو رجل وصبي، اصطفا] خلفه". قال في "التتمة": ويستحب أن يتأخر الواقف عن يمين الإمام عنه قليلاً. ثم قول الشيخ: "السنة أن يقف الرجل عن يمين الإمام"، يفهم أنه ليس

السنة في حق المرأة أن تقف عن يمينه، وأفهم قوله من بعد: "والمرأة خلف الخنثى"، أنها تقف خلفه، وبذلك صرح الأصحاب؛ مستدلين برواية أبى داود عن [أبي] إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته؛ فأكل منه، ثم قال: قوموا فلأصلي لكم؛ فقام عليه السلام فصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا؛ فصلى لنا ركعتين، ثم انصرف. وأخرجه البخاري، ومسلم. واليتيم: ضميرة بن أبي ضميرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، له ولأبيه صحبة؛ قاله في مختصر السنن. وقيل: كان أخاً له اسمه عبد الله. والعجوز هى: مليكة جدة إسحاق أم أبيه عبد الله بن أبي طلحة، وهي [أم سليم] زوج أبي طلحة، وهي أم أنس بن مالك؛ قاله أبو عمرو النميري. وقال غيره: هي جدة أنس بن مالك أم أمه. ووجه الدلالة منه على المدعي: أنه جعلها خلف صف الرجال، ولم يسوها به؛ فلئلا تقف إلى جانب الإمام أولى. وقد أفهم قول الشيخ: "والسنة كذا": أنه لو تركه، وفعل خلافه جاز؛ ولذلك احتاج أن يذكر الحكم في حال التقدم؛ لأنه كالمستثنى من ذلك، ولا خلاف

في أنه إذا خالف ذلك صحت صلاته، إلا أنه فعل مكروها؛ [لأن ترك السنة مكروه]، واستدل الأصحاب للصحة فيما إذا كانت المخالفة بالوقوف على اليسار بخبر جابر وابن عباس؛ فإنه عليه السلام لما يأمرهما بالاستئناف. قال: والخنثى خلفهما؛ لجواز كونه امرأة، ومن هنا يؤخذ [أنه] لو لم يكن مع الإمام إلا خنثى وقف خلفه، وعليه نص في "المختصر"، ولم يحك الأصحاب سواه. وقد أفهم العطف أن السنة وردت بوقوف الخنثى خلف الرجل وإمامه، وفيه نظر؛ لأن المفهوم من لفظ "السنة": ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر به صريحاً، ولو كان ذلك موجوداً لما استدل الأصحاب بوقوفهما خلفه إلا أنه قال: وإن حضر رجلان، أو رجل، وصبي، اصطفا خلفه؛ لحديث جابر، وحديث أنس؛ ولأن به يحصل التمييز بين الإمام والمأمومين للداخل؛ فلو قام الجميع صفاً واحداً- كره؛ قاله القاضي الحسين. فإن قيل: قد روى أبو داود أن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود؛ فلما فرغ قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل. وهذا يدل على أنه سنة؛ فضلاً عن كونه مكروهاً.

قلنا: أما كونه سنة؛ فلا خلاف في أنه ليس بسنة عندنا، وخبر [ابن مسعود]، قال: القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وغيرهما: إنه منسوخ بخبر جابر؛ لأن ابن مسعود من متقدمى الصحابة، وجابر وجبار بن صخر من متأخري الصحابة، وهذا الدليل إن صح كان مساعداً على القول بالكراهة؛ لأن المنسوخ كالمعدوم، ومخالفة ما ثبت في السنة مكروه. لكن بعضهم قال: إن كون جابر، وجبار بن صخر من متأخري الصحابة لا يوجب النسخ؛ لأن المتقدم قد يروي [عن] المتأخر، بل لو ثبت أن حديث جابر متأخر لم يقتض النسخ أيضاً؛ لأن النسخ إنما يصار إليه عند التناقض وتعذر الجمع، ولا تعذر هنا؛ لأنه يمكن الجمع بحمل خبر ابن مسعود على الجواز، وخبر جابر على الأولى، وعلى هذه الطريقة يمتنع القول بالكراهة. وقد حكى الإمام عن الشافعي القول بأن خير ابن مسعود منسوخ بخبر أنس، قال: لأنه ثبت عنده تأخره، ثم قال: وفي بعض كلامه تقديم رواية أنس؛ لأنه كان يدخل حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك؛ فرأى روايته أثبت، وما رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد يصلي باثتين، قال: وهذا أسلم من دعوى النسخ. فرع: إذا اجتمع رجل وصبي، وقف الرجل عن جهة يمين الإمام؛ لأنه أكمل، وكانت جهة اليمين أولى به. قالت عائشة: ثال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف" أخرجه أبو داود. وروي عن البراء بن عازب أنه قال: كان يعجبنا الوقوف عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: وإن كانوا عراة، وئف الإمام وسطهم؛ أي: إذا أمكن؛ كي لا يقع بصر واحد منهم على عورته. أما إذا لم يمكن لكثرة القوم، وضيق المكان عن أن يجعلوا صفاً واحداً، قال الإمام والمتولي: يقفون صفوفاً، مع غض البصر. وقد أفهم كلام الشيخ أنه تستحب الجماعة في حق العراة، وهو القول الجديد؛ لأن صلاتهم مع عدم السترة صحيحة تسقط القضاء للعجز؛ فكانوا كالقادرين على الستر. وفي القديم أن صلاتهم فرادى أفضل؛ لأن السنة في الجماعة للرجال: أن يتقدم إمامهم، وإذا تعذرت الجماعة على الوجه المسنون؛ فالوجه تركها، كذا حكاه العراقيون، وهو لا يجري فيما إذا كان العراة نسوة؛ لأن السنة أن تقف إمامة النساء وسطهن؛ قاله في "التتمة" في باب ستر العورة. وسين "وسطهن" ساكنة. قال الجوهري: يقال: جلت وسط القوم؛ بالتسكين؛ لأنه ظرف، وجلست وسط الدار بالفتح؛ لأنه اسم. قال: وكل موضع صلح فيه "بين" فهو وسط بالإسكان، وإذا لم يصلح [فيه "يين"] فهو وسط بالفتح، وربما سكن، وليس بالوجه. وقال الأزهري: كل ما كان يبين بعضه من بعض كوسط الصف، والقلادة، والسُّبْحة، وحلقة الناس؛ فهوبالإسكان، وما كان مصمتاً لا يبين بعضه من بعض: كالدار، والساحة؛ فهو وسط. قال: وقد أجازوا في المفتوح الإسكان، ولم يجيزوا في الساكن الفتح؛ فافهمه. قال: وإن حضر رجال، وصبيان، وخَنَاثَى، [ونساء]، تقدم الرجال، ثم الصبيان، ثم الخناثى، ثم النساء.

أما تقديم الرجال على الصبيان؛ فلقوله عليه السلام: "ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" أخرجه مسلم. والأحلام، قيل: يحتمل أن يكون جمع حلم بضم الحاء، وهو الاحتلام، ومعناه: البالغون. [ويحتمل أن يكون جمع حلم بكسر الحاء، ومعناه: ذو الحلم. والنهي: العقول]. والمعنى في ذلك: أن الصف الأول أفضل؛ قال عليه السلام: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، فلم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا" أخرجه البخاري، والرجال أكمل؛ فاختصوا به. وقيل: إنه يقف بين كل رجلين صبي؛ ليتعلم منهم، حكاه الماوردي، والبندنيجي، وأبو الطيب، وغيرهم. وأما تقديم الصبيان على الخناثى، ثم الخناثى على النساء، فوجهه ما تقدم، مع أنه عليه السلام قال: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، [وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها"] أخرجه مسلم. وقد دل كلام الشيخ على أن ما ذكره من التقديم مخصوص بما إذا حضروا جميعاً، ومن طريق الأولى إذا حضر الرجال، ثم الصبيان، [ثم الخناثى]، ثم النساء، نعم لو حضر الصبيان أولاً، ثم الرجال، وقد استوعب الصبيان الصف الأول، فليس لهم إزالتهم عن موضعهم، قاله القاضي الحسين وغيره في كتاب الجنائز.

وقال الإمام: ثم إنه يخرج فيه الوجه الذي في نظيره من الجنائز، وهو إذا حضر جنازة صبي، ثم رجل؛ فإنه يجعل الرجل مما يلي الإمام على وجه، والمذهب أنه يجعل الصبي مما يلي الإمام. ولو حضر النساء أولاً، والخناثى؛ فمحلهم في الوقوف كما لو حضروا مع الرجال والصبيان معاً، ولو كان الصف الأول لم يكمل بالرجال، كمل بالصبيان دون الخناثى والنساء. قال: ومن حضر، ولم يجد في الصف فرجة، جذب واحداً؛ أي: بعد أن يحرم بالصلاة، واصطف معه؛ فإن لم يفعل، وصلى وحده كره؛ لما روي أنه عليه السلام قال لرجل صلى خلف الصف: "أيها المنفرد خلف الصف، هلاّ اتصلت بالصف، أو جذبت إلى نفسك واحداً؛ فصليت معه".

....................................................

وروى البخاري، عن أبي بكرة أنه: "انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع؛ فركع قبل أن يصل إلى الصف؛ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: زادك الله حرصاً، ولا تعد". ومن طريق الأولى: إذا وجد في الصف فرجة وصلى منفرداً، أنه يكره، وهذا مما لا خلاف فيه، بل قال ابن الصباغ: إنه لو أحرم منفرداً، ثم دخل الصف، كره له. قال الأصحاب: ويستحب للمجذوب موافقة الجاذب؛ لتحصل له فضيلة الصف؛ فإن في ذلك معاونة على البر والتقوى، وصار هذا كما قلنا: يستحب لمن رأى شخصاً يصلي وحده أن يصلي معه. قال: وأجزأته صلاته؛ لأنه عليه السلام لم يأمر أبا بكرة بالإعادة. فإن قيل: قد روى أبو داود أنه عليه السلام رأى رجلاً يصلي خلف الصف؛ فأمره أن يعيد.

وروي أنه عليه السلام صلى، فلما انصرف، أبصر رجلاً يصلي خلف الصف وحده؛ فوقف عليه؛ فلما فرغ قال: "أعد صلاتك؛ فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف"، وهذا صريح في الإعادة. قلنا: قد قال به أبو بكر الحميدي من أصحابنا؛ كما قال أبو الطيب، وأبو بكر بن المنذر، لكن الصحيح الأول؛ لما ذكرناه، والخبر الأول حجة فيه؛ لأن الخصم سلم ترك العمل به، وأن المنفرد إذا كان جاهلاً لا تبطل صلاته، والذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة كان جاهلاً بالحال، على أن الشافعي قال: إن هلالاً راويه تارة يرويه عن عمرو بن راشد، وتارة عن زياد بن [أبي] الجعد، وذلك يدل على أنه سيئ الحفظ؛ فلا يحتج بحديثه. وأما الثاني، فهو دليل لنا؛ لأنه لم يقطع عليه الصلاة، بل انتظره، ولو كانت باطلة لما فعل ذلك؛ فتعين حمله على الأولى، ونحن نقول به. ثم ما ذكره الشيخ من الجذب ما حكاه ابن المنذر عن بعض الناس. قال أبو الطيب: وقد حكاه الشيخ أبو حامد عن مذهبنا، وليس بشيء؛ فإن الشافعي قال في "مختصر" البويطي: إذا لم يكن في الصف فرجة، ولا له موضع يقف فيه؛ فإنه يقف حيث شاء؛ ولأن جذبه لا يجوز؛ لمعنيين: أحدهما: أنه يؤدي إلى الإخلال بالصف؛ فلا يجوز أن يجعل في الصف خللاً؛ فإنه عليه السلام كان يأمر بسد الخلل. والثاني: أنه ينقله من الموضع الذي سُنَّ له إلى موضع لم يُسنُّ له، وهذا لا يجوز. وقد حكى النص المذكور البندنيجي أيضاً، ونسب ما قاله الشيخ إلى

الأصحاب ولم يورد الماوردي والقاضي الحسين غيره؛ وكذا أكثر الأصحاب؛ كما قال الرافعي، وعلى هذا فلا يجوز له جذبه قبل أن يحرم بحال؛ لأن في ذلك جعل المجذوب منفرداً عن الصف إلى أن يحرم هو؛ فيفوت عليه فضيلتين. أما إذا وجد في الصف فرجة فإنه يدخلها، سواء كانت في الصف الأول، أو ما بعده وقد صف الناس دونها. قال القاضي الحسين: قال الشافعي: وكان له أن يخرق الصفوف، ويسد تلك الفرجة؛ لأنهم ضيعوا حقوقهم بترك الفرجة في الصف الأول. قال الأصحاب: وكذا لو كان بين الصف الأول وبين الإمام ما يسع صفاً آخر، [وكان بين صفين ما يسع صفاًّ آخر]، جاز للداخلين أن يصفوا في ذلك المكان. تنبيه: الفرجة: الخلل يين شيئين، وهو بضم الفاء، وفتحها، ويقال لها أيضاً فرج، ومنه قوله تعالى: {وَمَا لَهَا مِن فُرُوج} [ق: 6]: جمع "فَرْج". وأما الفرجة بمعنى الراحة من الغم؛ فقد ذكر الأزهري فيها فتح الفاء وضمها وكسرها. و"الجذب" و"الجبذ": لغتان بمعنى؛ وهو: مد الشيء إليك، يقال: جذب، وجبذ، واجتذب. قال: وإن حضر، ومع الإمام واحد عن يمينه، أحرم عن يساره؛ لحديث جابر، وجبار بن صخر، ثم يتقدم الإمام؛ أي: إن كان خلفهما ضيقاً؛ لتعينه طريقاً؛ لتحصيل السنة في الموقف، أو يتأخر المأمومان؛ أي: إذا كان خلفهما واسعاً؛ لخبر جابر. وقيل: إذا أمكن الإمام التقدم أيضاً، فالأفضل تقدمه دون تأخر المأمومين؛ لأنه ينظر ما يتقدم إليه؛ فلا يخشى ضرراً يلحقه؛ بخلاف المأمومين في تأخرهما؛ ولأنه إذا تقدم، كان الموجود فعلاً من واحد؛ فكان أولى من فعلين، وهذا ما اختاره القاضي أبو الطيب والقفال.

والذي حكاه الماوردي، وكذا الأكثرون؛ كما قال الرافعي: ما ذكره الشيخ. ثم هذا إذا أدرك الإمام قائماً؛ فإن أدركه جالساً في التشهد، أو ساجداً، وأحرم معه، فلا يتقدم الإمام، ولا يتأخر المأمومان؛ لكثرة الفعل، لكنا ننظر: فإن كان ذلك في آخر الصلاة، انتظر سلام الإمام وقام، وإن كان قبل ذلك؛ فإذا قام الإمام، كان الحكم كما لو أدركه قائماً. قال: والمستحب ألا يكون موضع الإمام أعلى من موضع المأمومين؛ لما روى أبو داود، عن عدي بن ثابت الأنصاري قال: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن؛ فأقيمت الصلاة؛ فتقدم عمار، وقام على دُكَّانٍ يصلي والناس أسفل منه؛ فتقدم حذيفة؛ فأخذ على يده؛ فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة؛ فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أم الرجل القوم؛ فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم"؟، أو نحو ذلك. قال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي. وروى أيضاً عن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان؛ فأخذ أبو مسعود بقميصه؛ فجذبه؛ فلما فرغ من صلاته، قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى، فذكرت حين مددتني.

والمدائن: مدينة قديمة على دجلة، تحت بغداد بينهما سبعة فراسخ. قال: إلا أن يريد تعليمهم [أفعال] الصلاة؛ فالمستحب أن يقف على موضع عال؛ كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشار بذلك إلى ما رواه سهل بن سعد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه – يعني: على المنبر - فكبر، وكبر الناس وراءه، ثم ركع، وهو على المنبر، ثم رفع، ونزل القهقرى؛ حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس؛ فقال: "أيها الناس، إنما فعلت هذا؛ لتأتموا يي، وتعلموا صلاتي" أخرجه البخاري، ومسلم. ولأن الارتفاع في هذه الحالة أبلغ في الإعلام؛ فكان أولى؛ فلو خالف الإمام، وصلى في موضع عال، [لا] لأجل التعليم، كان تاركاً للأولى. وقال أبو حنيفة ومالك: إنه مكروه.

وأطلق ابن الصباغ والمتولي في ذلك لفظ الكراهة عندنا أيضاً، والمشهور الأول. وفي "ابن يونس"، و"شرح" [ابن] التلمساني: أن في "الحاوي" أنه يكره أن يكون موضع الإمام أعلى من موضع المأمومين إن كان ارتفاعه يجاوز القامة، ولم أره فيه في هذا الموضع، وهو في "الشامل"، محكي عن رواية الطحاوي، [عن] أبي حنيفة. وكما يستحب ألا يكون موضع الإمام أعلى من موضع المأمومين، يستحب ألا يكون موضع المأمومين أعلى من موضع الإمام، ولفظه في التتمة: "يكره أن يكون موضع المأموم أعلى من موضع الإمام"، وهذا إذا أمكن وقوفهم على مستو من الأرض، [أو يرها؛ فإن كان لابد من وقوف أحدهما أعلى من الآخر، قال القاضي الحسين: فالأولى أن يقف الإمام على العالي. قال: وإن تقدم المأموم على الإمام، أي: في المسجد، أو في غيره - لم تصح صلاته في أصح القولين؛ لقوله عليه السلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" والائتمام: الاتباع، والمقدم على الإمام لا يكون تابعاً، بل يكون متبوعاً؛ ولأن على المأموم اتباع إمامه في موقفه وأفعاله؛ فلما لم يجز له التقدم عليه في إحرامه، وأفعال صلاته - لم يجز له التقدم عليه في موضع صلاته أولى؛ لأن المخالفة فيه أفحش وأظهر، وهذا هو الجديد. وقد وافق الشيخ على تصحيحه الجمهور، وجزم به في "الوجيز"، وعلى هذا لو كان متأخراً عند الإحرام، ثم تقدم عليه بعد ذلك، بطلت صلاته، ولو شك هل تقدم على الإمام، أو تأخر عنه؛ بأن يكون قد اقتدى به في ظلمة - قال القاضي الحسين: نظر: فإن كان مجيئه من وراء الإمام، صحت صلاته؛ لأن الأصل عدم التقدم، وإن كان مجيئه من قدام الإمام، لم تصح؛ لأن الأصل تقدمه عليه. وفي "فتاوي" [النواوي] أن الذي نص عليه الشافعي: أن صلاته صحيحه، وسواء جاء من قدام الإمام أو من ورائه.

والأول أوجه. والاعتبار في التقدم بالعقب، أو بالكعب؟ فيه وجهان في "ابن يونس": أحدهما: بالكعب، وهو ما ذكره فى "الوسيط" لا غير. والثاني: بالعقب، وهو الأصح، ولم يحك القاضي الحسين والمتولي والبغوي غيره، وادعى الإمام أنه لا خلاف فيه؛ لأن الأصابع قد تطول وقد تقصر؛ فعلى هذا لو ساواه في العقب، وكانت رءوس أصابعه أطول، لم يضر، ولو انعكس الحال، فكان المأموم قصير الأصابع؛ فساواه فيها، وتقدم عليه بالعقب- جعل متقدماً عليه؛ فتبطل صلاته. وفى "التتمة" حكاية وجه آخر: أنه لا يضره ذلك؛ بناء على [أن] محاذاة الكعبة ببعض البدن كافية في الصلاة. والقاضي الحسين حكى الخلاف فيما إذا تقدم بجزء قليل من العقب موجهاً لعدم البطلان؛ بأن هذه المخالفة لا تظهر؛ فلا تضر؛ كما أن ما لا يظهر من المخالفة فى الأفعال لا يضر. ومقتضى ما ذكرناه أنه لو كان الإمام مساوياً للمأموم في طول الرجل وقصرها، وساواه في العقب، لكن كان المأموم أطول من الإمام - أن تصح القدوة، وهو الصحيح، وبه جزم في التتمة؛ لأن ابن عباس صلى بعلقمة والأسود، أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، [وعبد الله كان] قصيراً. وحكى العبادي في "زوائد" وجهاً آخر: أنه لا يجوز؛ لأنه يتقدم إمامه في حال ركوعه وسجوده. والقول الثاني في الأص: أن التقدم على الإمام لا يضر، وهو القديم؛ لأنه

ليس في ذلك أكثر من المخالفة في الموقف؛ فلا يقدح في القدوة؛ كما لو وقف عن يسار الإمام، أو الجماعة عن يمينه ويساره؛ أو لأنه ليس فيه أكثر من أن المأموم أقرب إلى الكعبة من الإمام، وذلك لا يمنع جواز الصلاة؛ كما لو وقفوا في الحرم مستديرين بالكعبة يجوز، وإن كان بعض المأمومين أقرب إلى الكعبة من الإمام، والقائلون بالأول فرقوا بين ما نحن فيه، وبين ما إذا وقف المنفرد عن يسار الإمام والجماعة عن يمينه ويساره: بأن اليسار موقف للمأمومين بحال، وهو إذا كانوا ثلاثة عراة، إذا أحرم الإمام وواحد عن يمينه، ثم جاء آخر؛ فإنه يحرم عن يساره، ولا كذلك أمام الإمام؛ فإنه ليس موقفاً للمأموم بحال. وفرقوا بين ما نحن فيه، وما إذا صلوا حول الكعبة: بأن التقدم [ثم] لم يكن من الجهة التي فيها الإمام؛ فلذلك [لم يمتنع، ولا كذلك هاهنا؛ فإن التقدم من جهة الإمام؛ ولذلك] اتفق الأصحاب على أنه لو تقدم على الإمام في الجهة التي هو فيها في الكعبة -[كان على القولين، بإن اختلفوا فيما إذا كان أقرب إلى الكعبة] من غير تلك الجهة؛ كما سنذكره. وقد أفهم كلام الشيخ أموراً: أحدها: أنه لا تضره المساواة، وهو كذلك بالاتفاق. نعم، الأدب أن يتخلف عن الإمام قليلاً؛ إذا كان واحداً؛ كذا قاله المراوزة، وقد حكينا5 عن المتولي من قبل، وكلام البندنيجي وابن الصباغ [يقتضي] أن المساواة مكروهة؛ فإنهما قالا: لو صلى على ظهر المسجد بصلاة الإمام، فينبغي أن يكون وراءه؛ فإن كان بإزائه، كره، وأجزأه. الثاني: أنه لا فرق في التقدم بين أن يكون في الكعبة أو غيرها، [وقد ذكرنا أنه لا فرق في ذلك؛ إذا كان التقدم من الجهة التي فيها الإمام، أما إذا كان من جهة غيرها]؛ بأن كانوا أقرب إلى الكعبة من الجهات التي ليس الإمام [فيها]؛ مثل: أن كانوا منها على ثلاثة أذرع، والإمام على أربعة؛ فالذي نص

عليه الشافعي في "الأم": أن صلاتهم جائزة. وقال في "الجامع": إذا توجه الإمام إلى الكعبة؛ فائتم به قوم على ظهر الكعبة - أجزأتهم صلاتهم، ومعلوم أن من على ظهر الكعبة أقرب إليها من الإمام. واختلف الأصحاب فى ذلك: فقال أبو إسحاق: هذا من الشافعي جواب على أحد القولين في أن التقدم لا يضر، وإلا فالقولان فيهم أيضاً. وقال الجمهور: [إنه] لا يضر هذا قولاً واحداً؛ فإن اختلاف الجهة أعظم من الاختلاف في القرب والبعد؛ فإذا لم تمتنع القدوة مع الاختلاف في الجهة، والموقف على هيئة التقابل؛ فلا معنى وراء ذلك في النظر إلى القرب والبعد؛ كذا قاله الإمام. وغيره [فرق بين ما نحن فيه، والتقدم في الجهة من وجهين: أحدهما: أنه غير موصوف بالتقدم؛ بخلاف غيرهم]. والثاني: [أنهم يمكنهم مشاهدة أفعاله والاهتداء به، وغيرهم] إذا تقدم إمامه لم يقدر على اتباعه، ولا على فعل الصلاة بفعله. وقال ابن الصباغ: إن الشافعي أشار إلى فرق في كتاب الإمامة: أن القرب [من الكعبة] لا يكاد ينضبط ويشق مراعاته؛ بخلاف غيرهم؛ فإنه لا يشق مراعاتهم أن يكونوا خلفه. الثالث: أنه لا تبطل صلاة الإمام بتقدم المأموم، رجلاً كان المأموم، أو امرأة، وبه صرح الأصحاب، وما ورد من أنه عليه السلام قال: "لا يقطع صلاة المرء إلا ثلاث: الكلب الأسود، والأتان، والحائض"، قال القاضي الحسين: إنه منسوخ؛ لحديث عائشة؛ فإنه روي عنها: "أنه لما بلغها هذا الخبر قالت: بئس ما عدلتمونا بالكلاب! كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة؛ فكان إذا سجد غمز رجلي؛ فقبضتهما؛ فإذا قام، مددتهما". قال: وإن صلت المرأة بنسوة، قامت وسط الصف؛ لما روى الشافعي بسنده

أن عائشة، وأم سلمة أمتا نساء؛ فقامتا وسطهن. وروي أيضاً أن صفوان بن سليم قال: من السنة إذا أمت المرأة النساء، [أن] تقف وسطهن. وذلك ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأن ذلك أستر لها، ولو خالفت، وتقدمت، لم تبطل صلاتها، و [لا] صلاتهن. قال: ومن صلى مع الإمام في المسجد جازت صلاته إذا علم بصلاته؛ لأن المسجد الواحد إنما بني لجماعة واحدة؛ [بدليل أنه يكره إقامة جماعتين فيه، فكل من أحاط به المسجد، فهو في جماعة واحدة]، وإذا كان المأموم مع إمامه في جماعة واحدة صحت صلاته؛ كما لو كان وراءه، وقد روي أن أبا هريرة كان يصلي على طرف المسجد بصلاة الإمام في المسجد ولم ينكر عليه أحد؛ ولأجل ذلك قال بعضهم: إنه إجماع. والعلم بصلاة الإمام يحمل بمشاهدته، أو مشاهدة من خلفه، أو سماع تكبيرهم، أو تبليغ. قال الأصحاب: ولا فرق في ذلك يين أن تنقطع بينهم الصفوف أو تتصل، كان بينه وبين الإمام حائل أو لم يكن، جمعهما مكان واحد، أو لا، حتى لو كان الإمام والمأموم في المنارة، والآخر في [بئر في] المسجد - جاز، ولو كان أحدهما في السطح، والآخر في المسجد، كان من طريق الأولى. وعن ابن القطان حكاية وجه فيما إذا كان باب المرقى مغلقاً: أنه لا يصح، نعم لو كان في المسجد نهر لا يخوضه غير السابح؛ فهل يؤثر في منع القدوة؛ حيث يمتنع في الموات لأجله، أو لا؟ قال الإمام، والرويانى في "تلخيصه": لا خلاف أنه لا يؤثر في المنع. وقال القاضي الحسين: إن اتخذ النهر بعد جعله مسجداً؛ فهو لا يجوز، لكنه

لا يمنع الاقتداء، وإن كان قبل أن يتخذ مسجداً؛ فهل يمنع الاقتداء؟ فيه وجهان، واقتصر في "التهذيب" و"الكافي"؛ منهما على حكاية [وجه] المنع. قال البغوي: لأنهما مسجدان متلاصقان؛ فيشترط في جواز الاقتداء اتصال الصف من أحدهما بالآخر. وهذا منه تصريح بأن المسجدين المتجاورين لا يجوز اقتداء من فى أحدهما بمن فى الآخر إلا عند اتصال الصنوف. وقد جزم ابن الصباغ والبندنيجي والقاضي الحسين والمتولي في أن المساجد اللطِّا المتصلة بالجامع وأبوابها شارعة إليه؛ إذا اقتدى من فيها بمن في الجامع - كان كما لو كانوا في الجامع واقتدوا به. قال القاضي أبو الطيب: وكذا لو وقف المأموم في الزيادات في الجامع. وإنه لا فرق في المساجد يين أن تكون أبوابها مقفلة، أو مفتحة. وقال الإمام: إن من [في] أحد المسجدين المتجاورين، وبينهما باب مفتوح، أو مردود - يصح اقتداؤه بمن في الآخر؛ كما في المسجد الواحد. قال: وكذا لو كان مغلقاً على المذهب الظاهر. وأبعد بعض أصحابنا؛ فمنع إذا لم يكن حالة الاقتداء منفذ؛ لأن أحدهما يعد عند غلق الباب منفصلاً عن الثاني، ولا يعدان مجتمعين عرفاً، ولست أعده من متن المذهب، والقائلون به يقولون: لو كان الجدار الحائل بينهما مشبكاً لا يمنع من رؤية من هو واقف في المسجد الذي فيه الإمام، والباب [مغلق]- فوجهان. وعن الشيخ أبي محمد: أنه لو كان كل مسجد ينفرد بإمام ومؤذن، وجماعة، كان كل واحد منهما - بالإضافة إلى الآخر - كالملك المتصل بالمسجد، وسنذكره. وهذا كله إذا لم يكن بين المسجدين حائل غير الجدار؛ فلو كان بينهما شارع، فقد ادعى المتولي أن ظاهر المذهب أنه لا يجوز إلا أن يكون الصف متصلاً؛ لأن أحد المسجدين منفرد عن الآخر؛ ولهذا لو صُلِّي فى أحد المسجدين [منفرداً

عن الآخر] بالجماعة، لا تكره إقامة الجماعة فى الآخر، وهذا التوجيه يعضد ما قاله الشيخ أبو محمد. أما إذا لم يعلم من في المسجد بصلاة الإمام، لم تجز صلاته؛ لأن عليه اتباعه في أفعاله، وعدم العلم بها يمنع من اتباعه فيها. فإن قلت: قد أفهم قول الشيخ: "مع الإمام في المسجد": أنه إذا صلى الإمام في المسجد، والمأموم في رحبة المسجد، أو غيرها – [لا يكون حكمه كذلك. قلت: أما إذا كان الإمام في المسجد، والمأموم في غيره فسنذكره]. وأما إذا كان في المسجد، والمأموم في رحبة المسجد، فإن عنيت به الرحبة في وسط المسجد، [فهي من المجد]، وإن عنيت به التي خارج حيطان المسجد، فقد قال الرافعي: إن الأكثرين عدوها من المسجد، ولم يذكروا فرقاً بين أن يكون بينها وبين المسجد طريق، أو لا، وقد رأيت ذلك فى "تلخيص" الرويانى، ونزلها ابن كج إذا كانت منفصلة [منزلة مسجد آخر. وقال البغوي: إن الوقوف في حريم المسجد كالوقوف في الموات؛ لأنه ليس بمسجد]. وعلى هذا ينطبق كلام الشيخ، والله أعلم. قال: وإن صلى به خارج المسجد، واتصلت به الصفوف جازت صلاته؛ لأن ذلك في عد صلاة الإمام والمأموم جماعة واحدة [آكد من عد صلاة الإمام والمأموم في المسجد مع عدم الاتصال جماعة واحدة]؛ فكانت الصحة بذلك أولى. ثم [الاتصال بالصف] إن كان عن يمينه [أو يساره، يحصل بلصوق الجنب بالجنب، وإن كان من ورائه فبأن يكون بينه] وبين الصف ثلاثة أذرع، فما دونها. قال الرافعي: والتحديد بها على سبيل التقريب حتى لو زاد شيئاً يسيراً، لا يثبت في الحس، ولا يذرع لا يعد منفصلاً. واعلم أن الذي يوجد في أكثر النسخ: "وإن صلى به خارج المسجد، واتصلت

به الصفوف، جازت صلاته" وحينئذ فيكون التقدير: وإن صلى الإمام والمأموم جميعاً خارج المسجد، واتصلت به- أي: بالمأموم - الصفوف جازت صلاته. ويوجد في بعض النسخ: "وإن صلى خارج المسجد، واتصلت به الصفوف جازت صلاته" [وحينئذ فيكون] التقدير: وإذا صلى [المأموم أي]، خارج المسجد، واتصلت به الصفوف، [أى: اتصلت على المأموم الذي هو خارج المسجد الصفوف، ويجوز أن يكون التقدير: وإن صلى مع الإمام خارج المسجد واتصلت به الصفوف] جازت صلاته، وحينئذ فيكون موافقاً للصورة التي بيناها على تقدير إثبات لفظة "به"، لكنه خلاف الظاهر من اللفظ، وإثبات لفظة "به" [هو] الذي حفظناه، ووقفنا عليه فى نسخة عليها خط المصنف. وأثر ما ذكرته يظهر عند الانقطاع؛ كما ستعرفه، ونحن في الشرح عند عدم الاتصال نجري على إثبات لفظة "به" كما [هو] الموجود في [أكثر] النسخ، والمفهوم من لفظه في "المهذب"، ئم نذكر الحكم على التقدير الثانى؛ فاعلم ذلك. قال: وإن انقطعت، ولم يكن دونه حائل، جازت صلاته إذا لم يزد ما بينه وين آخر الصف على ثلاثمائة ذراع؛ لقربه في العادة، وبعد ما زاد عليها عادة. وهذا التوجيه ادعى البندنيجى أنه ظاهر المذهب؛ لأن الشافعى قال: ما يعرفه الناس قرباً، وهو ثلاثمائة ذراع فما دونها. وقد اختاره ابن خيران؛ كما قال البندنيجي، وأبو الطيب بن سلمة، كما قاله القاضي أبو الطيب، وابن الوكيل؛ كما قال الرافعي. وقال ابن سريج وأبو إسحاق وغيرهما - كما قال البندنيجي-: إن الشافعي أخذ هذا الحكم من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بعسفان على رواية ابن عمر، والصحيح أن رواية ابن عمر إنما كانت لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، وكذا صرح بها الإمام؛ وسنذكر روايته ثم، إن شاء الله تعالى.

ووجه الدلالة منها على المدعى هنا – وإن كان الشافعي لا يقول بالعمل بها-: أنه عليه السلام وقف، ومن صلى معه في موضع لم يصل إليهم أذى أعدائهم، وأبعد أذاهم رمي السهام، وغاية سهام العرب في الغالب ما ذكرناه. قال ابن الصباغ: والتوجيه الأول أشبه. وقال الإمام: وكنت أود لو قال قائل من أئمة المذهب: يرعى في التواصل مسافة يبلغ فيها صوت الإمام المقتدى لو رفع صوته قاصداً تبليغاً على الحد المعهود [فيه]. [تنبيه:] كلام الشيخ على ما قررناه يقتضي أموراً: أحدها: أنه إذا زاد ما بينهما على ثلاثمائة ذراع شيئاً، لا يجوز الاقتداء، وللأصحاب خلاف في أن الذراع المذكور هل هو تحديد حتى [تقدح الزيادة عليه، ولو بذراع واحد عليه في الاقتداء، أو تقريب حتى لا] يقدح في ذلك نيابة ثلاثة أذرع فما دونها؟ والذي نص عليه في "الأم" - كما قال البندنيجي، والروياني -[الثانى]، ونسبه القاضي أبو الطيب إلى صاحب "الإيضاح"، وهو الأصح باتفاق الأصحاب. وقال الماوردي: إن من قال بأنه تحديد، فقد غلط. وباب الإمام: كيف يطمع الفقيه في التحديد، ونحن في إثبات التقريب على كلالة؟! وقد نسب هذا الوجه إلى أبي إسحاق المروزي، وادعى في "تلخيصه" أنه ظاهر المذهب، وكلام ابن الصباغ يقتضي ترجيحه؛ فإنه قال: إذا كان لابد من تقدير، لم يكن بد من حد فاصل، وإن شاركه غيره في معناه؛ كمدة البلوغ، والسفر بما دون مرحلتين. وقول المزني: إنه اختار العرف في "الإملاء"؛ فلا توقيف.

قال أصحابنا: إطلاقه في موضع محمول على تحديده في آخر. الثاني: أن الاعتبار في القرب والبعد بآخر صف إن كان، وبه صرح الماوردي والمتولي والإمام، وحكي وجهاً عن بعض المصنفين: أن الاعتبار بموقف الإمام، وقد حكاه المسعودي أيضاً. قال الإمام: وهو مزيف لا تعويل عليه، وقد وجدت رمزاً إليه لبعض أئمة العراق؛ فلابد من توجيهه، فأقول: إن تواصلت الصفوف على الحد المألوف فقد يكون بين الواقف الأخير وبين الإمام ميل أو أكثر، والقدوة صحيحة، فأما إذا لم يحصل الاتصال المألوف، ولكن وقف الإمام، ووقف صف بعد الصف الذي يتكلم فيه، أي: بحيث يكون بينه وبين الإمام ثلاثمائة ذراع فما دونها؛ فهذا محل الخلاف، ولو لم يكن مع الإمام غيره؛ فالاعتبار في المسافة من موقف الإمام بلا خلاف، ولو كان البعيد واقفاً عن يمين الإمام أو يساره، فاعتبار المسافة تكون من آخر واقف [من] الجهة التي فيها البعيد على المشهور، وعلى الوجه الذي حكاه المسعودي وغيره يكون من موقف الإمام. الثالث: أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون في صحراء أو غيرها [، صرح به الإمام والمتولي]، وهي طريقة أبي إسحاق المروزي؛ كما حكاه الشيخ أبو محمد عنه. قال الرافعي: وهي التي يوافقها كلام معظم أصحابنا العراقيين. وقال في "التتمة": إن القائل بهذه الطريقة أبو علي الطبري. وقالت المراوزة: إن كانت الصلاة في صحراء مباحة، فالحكم كما تقدم، وللقاضي الحسين احتمال وجه آخر: أنه يجب الاتصال. وإن كانت في ساحة مملوكة لشخص واحد - فالحكم كذلك على المذهب، ولم يحك القاضي الحسين وصاحب "الكافي" غيره. وقيل: نعتبر فيها اتصال الصف، حكاه الشيخ أبو محمد وغيره. قال الغزالي: وهو بعيد. وإذا قلنا بالمذهب، فلو كان الإمام في ساحة مملوكة لشخص، والمأموم في

ساحة أخرى متصلة بها؛ بحيث يشاهدان شيئاً واحداً- ففي الصحة وجهان حكاهما الصيدلاني، والقاضى الحسين أيضاً، وبنى عليهما ما إذا صلى في موات منخفض من الأرض والإمام [في] مستو منها، قال: فإن قلنا هناك: لابد من الاتصال؛ لاختلاف المالك، فهاهنا لا يشترط الاتصال. لأن قلنا ثم: لا يشترط الاتصال؛ للاستواء، فهاهنا يشترط؛ إذ لا استواء. وقضية هذا البناء: أن يكون الاشتراط هو الصحيح؛ لأن الأصح في "الكافي" في المسألة المبني عليها عدم اشتراط الاتصال. وقال المسعودي، والرويانى في "تلخيصه": إن القفال كان يقول بالاشتراط، ثم رجع [عنه]. وإن كانت فى بنيان: كالدار؛ والرباط، والمدرسة، والخانقاه، ونحو ذلك؛ فإن كان الإمام والمأموم في بقعة واحدة؛ مثل: صفة، أو إيوان، أو مجلس، أو صحن دار، ونحو ذلك؛ فإن اتصلت الصفوف صحت القدوة، وإن لم تتصل، بل كان بينهما أكثر [من ثلاثة] أذرع، [ودون الثلاثمائة ذراع]- ففيها الخلاف السابق فى الساحة المملوكة. [قال الإمام: وهذا عندي أقرب إلى الاقتضاء الصحيح من الساحة المملوكة] [الممتدة]؛ فإن البناء الواحد وإن اتسعت خطته يعد مجلساً واحداً جامعاً في العرف. والخلاف جار فيما إذا كان الواقف عن يمين الإمام، أو يساره، وبينهما فرجة تع واقفاً فأكثر منه. أما إذا كانت لا تسع واقفاً، والتفريع على اشتراط الاتصال؛ فهل يؤثر في منع القدوة؟ فيه وجهان يأتي مثلهما. وإن اختلف موقف الإمام والمأموم، بأن وقف أحدهما في صفة، والآخر في الصحن، ونحو ذلك؛ فإن اتصل صف واحد طولاً، صح، وإن تخلل بينهما فرجة؛

فإن كانت تسع واحداً، [لم يصح، وإن كانت لا تسع واحداً] فوجهان، أصحهما: الجواز. [فإن كان الاتصال في الصف من وراء الإمام، ففي صحة القدوة وجهان؛ أصحهما: الجواز]. وإن لم يوجد الاتصال على النحو السالف، وهو أن يزيد ما يين الصفين على ثلاثة أذرع، لم تصح القدوة. قال الإمام: وهذا ما أجمع عليه أئمتنا. ثم هذا في حق أول واقف في البناء المختلف، أما من بعده، وهو مع أول واقف في موضع واحد؛ فحكمه مع أول واقف إذا صحت صلاته [في] اشتراط الاتصال وعدمه - حكم المأموم مع الإمام إذا جمعهما مكان واحد. ولنوضح ذلك بالمثال فنقول: إذا وقف الإمام في الإيوان مثلاً، ووقف شخص [في] آخر الإيوان من جهة يمين الإمام أو يساره، ووقف إلى جانب هذا الشخص شخص في الصحن بحيث اتصل جانبه بجانبه - صحت صلاة من في الإيوان، ومن في الصحن؛ فإذا وقف واقف عن يمين الواقف في الصحن، أو يساره في الصحن أيضاً؛ فإن لم يكن بينهما فرجة، صح، وإن كان بينهما فرجة، فعلى الخلاف السابق. ولو وقف في آخر الإيوان من وراء الإمام شخص، ووقف آخر وراءه في الصحن، وبينه وبينه ثلاثة أذرع فما دونها - صحت [صلاة من] فى الإيوان، وهذا الواقف في الصحن [على الأصح. وإذا وقف واقف عن يسار هذا الواقف فى الصحن]، أو يمينه، أو خلفه -[كان حكمه فى اشتراط الاتصال وعدمه كما لو وقف عن يمين الإمام أو يساره أو خلفه] فى ساحة

وفرع القاضي الحسين على هذا ما لو تحرم من في الصحن بعد تحريم الإمام، وقيل تحريم من جعلناه تابعاً له - لم يصح؛ كما لو تحرم المأموم بالصلاة قبل إحرام إمامه، حكاه عنه صاحب "التهذيب"، و"الكافي". ثم هذا كله إذا لم يقع اختلاف في الارتفاع والانخفاض؛ فلو وقع في المكان الواحد ارتفاع وانخفاض، ووقف الإمام في أحدهما، والمأموم في آخر - قال الغزالي: فهو كاختلاف الأبنية؛ فلا بد من اتصال محسوس، وهو أن يلقي رأس المستفل ركبة العالي لو قدر لكل واحد منهم قامة معتدلة، وهذا ما حكي عن نص الشافعي، وهو اختيار الشيخ أي محمد. وفيه وجه آخر حكاه الإمام عن صاحب "التقريب": أنه إن كان رأس المستفل يلاقي قدم العالي؛ فهو اتصال. قال الإمام: وهذا هو المقطوع به؛ إذ المرعي أن يلاقي شيء من بدن المنخفض شيئاً من بدن العالي. وهذا ما أورده في "الكافي". قال الرافعي: وعلى هذا لا يحتاج إلى اعتدال القامة في حق العالي. قلت: ويجيء وجه آخر: أنه لا يعتبر الاتصال بشيء من العالي إذا جعلنا الساحة المملوكة كالصحراء، ومادته ما حكيناه من تخرج القاضي من قبل. قال: بإن حال بينهما حائل يمنع الاستطراق، والمشاهدة؛ أي: كالحائط الذي

لا فرجة فيه، ولا شباك في الموضع الذي وقف المأموم بإزائه، وإن كان ذلك فيه في غيره - لم تصح صلاته؛ أي: وإن علم بصلاة الإمام؛ لأن الحيطان معدة للفصل بين الأماكن. قال الشافعي: ولو كفى مجرد العلم في صحة القدوة، لما وجب السعي إلى الجمعة على العالم بصلاة الإمام في الجامع، وقد روي عن عائشة أنها قالت لنسوة صلين في حجرتها: " [لا تصلين] بصلاة الإمام؛ فإنكن دونه في حجاب". قال: وإن مع الاستطراق دون المشاهدة؛ بأن يكون بينهما شباك، فقد قيل: يجوز؛ لوجود القرب والمشاهدة، ولا عبرة بالاستطراق؛ ألا ترى إلى قول عائشة، وإلى أنه في الصحراء إذا كان البعد بينهما أكثر من ثلاثمائة ذراع، لا يجوز الاقتداء، بإن كان الاستطراق ممكناً. وهذا ما قال أبو الطيب: إنه الصحيج. وكذا الإمام؛ كما قال الرافعي. ولا شك أنه يؤخذ من كلامه من طريق الأولى، وإن لم يكن نصاً في هذه الصورة، وقد اختاره في "المرشد"، ونص الشافعي يؤيده؛ فإنه قال - كما حكاه الماوردي-: لو صلى رجل على جبل الصفا، أو جبل المروة، أو على أبي قبيس بصلاة الإمام في المسجد [الحرام]- جاز؛ لأن ذلك متصل، لكن في "الكافي"- حكاية عن النص - خلافه؛ كما ستعرفه. وقيل: لا يجوز؛ لأن الحائل موجود، ولا اعتبار بالمشاهدة؛ فإنه لو وقف على أكثر من ثلاثمائة ذراع، لا يصح الاقتداء مع وجود المشاهدة، [وهذا ما قال في "الكافي": إنه الأصح، وعبر عن الشباك بالدرابزين، وكذلك قال الرافعي: إن المسعودي، والأكثرين رجحوه، وادعى البندنيجي أنه ظاهر المذهب، وأن الأول ليس بشيء]. وعكس هذه [الصورة]: ما إذا حال بينهما حائل يمنع المشاهدة دون

الاستطراق؛ كالباب المردود من غير قفل، وقد حكى في "الوسيط" [فيه] الوجهين في المسألة قبلها، وألحق ابن التلمساني بالباب المردود الستر المرخى، والمختار في مسألة الباب المردود في "المرشد": الجواز أبضاً. قلت: وكلام العراقيين وغيرهم يدل على المنع؛ لما ستعرفه من قولهم: إنه إذا كان الإمام في سفينة، والمأموم في أخرى، وهما مستوران، أو المستور سفينة الإمام فقط - أن الصلاة لا تصح؛ لعدم المشاهدة. مع قطعهم بالصحة عند المشاهدة، وتخطئه الإصطخري في القول بعدم الصحة. وقد أفهم قول الشيخ: "وإن منع الاستطراق دون المشاهدة بأن يكون بينهما شباك": أن ما يمنع الاستطراق دون المشاهدة غير ذلك، مثل: أن يكون بينهما نهر لا يخوضه غير السابح، ولا جسر عليه-: أنه لا يجري فيه الوجهان؛ إذ لو كانا يجريان عنده في هذه الصورة، لقال: مثل أن يكون بينهما شباك. ولا شك في أن الذي نص عليه الشافعي في مسألة النهر الجواز، ونسب إلى الإصطخري المنع؛ إلحاقاً له بالحائط؛ فإنه [لا يمكن معه التطرق]؛ فأشبه ما نص عليه الشافعي أنه لا تجوز صلاة من بجوار المسجد فى السطح بمن في قرار المسجد. وقد جزم بهذا القاضي الحسين، والجمهور على [تصحيح النص]، وبعضهم نسب الإصطخري إلى الخطأ. ووجه الماوردي ذلك: بأن الحائل ما اتخذ حائلاً، ومنع من المشاهدة، والماء ليس بحائل، وإنما لا يقدم عليه؛ خوفاً من الهلاك؛ فصار كالنار التي تمنع من الإقدام عليها؛ خوفاً [من] الهلاك، ولا يمنع من صحة الائتمام يإجماع، ولو جاز أن يكون الماء حائلاً؛ لأنه يمنع من الإقدام عليه، لوجب أن يقع الفرق بين السابح وغيره، فلا يكون حائلاً في السابح؛ لأنه يمكنه الإقدام عليه، [ويكون حائلاً لغير السابح]؛ لأنه لا يمكنه الإقدام عليه، وفي إجماعهم على أن ذلك غير معتبر دليل على أن الماء غير حائل.

قلت: وقد ادعى بعضهم أن النار كالماء سواء؛ فتمنع عند الإصطخري، ولا خلاف في أن ما يخوضه [غير]، السابح لا يمنع القدوة، وكذا إذا كان لا يخوضه إلا السابح، وكان عليه جسر. وينبغي [أن يكون محل ذلك إذا وقف المأموم بإزاء الجسر دون ما إذا وقفا بعيداً عنه، فإنه حينئذ] يشبه ما إذا كان بينهما حائط فيها باب أو شباك أو فرجة، فلم يقف المأموم بإزائها، ولكن وقف يإزاء ما هو مسدود منه؛ فإنه لا يصح اقتداؤه وجهاً واحداً؛ كما لو كان الباب من جهة أخرى. وقد خص البغوي الجواز بما إذا كان النهر في الصحراء، أما إذا كان [النهر] في مسجد، وقد حفر قبل بنائه، فقد تقدم عنه الجزم بأنه لا بد من الاتصال، دون ما إذا حفر بعد جعل البقعة مسجداً. والطريق المسلوك كثيراً كالشارع إذا كان بين الإمام والمأموم، وهما على سطحين - قال المتولي: فهو كالنهر، إن كان غير عريض بحيث لا يمنع الاستطراق، لم تمتغ القدوة، لأن كان عريقاً يمنعه؛ فعلى الوجهين. وإن كان الإمام والمأموم على الأرض، وبينهما الطريق فقط، فقد أفهم كلام الماوردي أنه لا يعد حائلاً؛ [لأنه ما اتخذ حائلاً]، وقضية ذلك صحة الاقتداء، وهو ما أورده المتولي والعراقيون. قال في "الحاوي": وقد غلط بعض أصحابنا؛ فقال: إنه حائل يمنع من صحة الصلاة، وكذا حكاه الإمام، وقال: إنه مزيف، لا أصل له. ووجهه: أن أنس بن مالك صلى في بيت حميد بن عبد الرحمن [بن عوف] الجمعة بصلاة الإمام في المسجد، وبينهما طريق. والقاضي الحسين والفورانى جزما القول بأنه حائل. ثم محل الخلاف في غير الصحراء، أما إذا كان في الصحراء؛ فكلها طريق، [فلا]، تمنع؛ قاله في "الكافي". وقال الرافعي: إنه لا فرق في جريانه بين الصحراء وغيرها ما لم يكونا في المسجد.

وهذا كله فيما إذا كانت صلاة الإمام والمأموم جميعاً خارج المسجد؛ كما قررناه. أما لو كان الإمام في المسجد، والمأموم خارج المسجد؛ كما يقتضيه تصوير ما جاء في بعض نسخ الكتاب، وهو الذي شرحه ابن يونس وغيره، ويجوز أن يحمل عليه ما جاء في أكثر النسخ؛ بجعل الحال من المفعول، لا من الفاعل، ولا منهما؛ فإن اتصلت بالمأموم الصفوف، فلا خلاف بين أهل الطريقين في الصحة، وإن انقطعت، ولم يحل بينهما حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة- جازت صلاته؛ إذا لم يزد الانقطاع على ثلاثمائة ذراع، وإن كان المأموم في موات، أو شارع يستوي فيه الكافة. وقيل: إذا كان في شارع، فلا بد من اتصال الصفوف، وحكاه الرافعي. وعلى الأول، فمن أي موضع تعتبر المسافة؟ فيه أوجه: أحدها: من آخر صف في المسجد إن كان، وهو ما صححه الإمام والمسعودي؛ فإن لم يكن مع الإمام في المسجد غيره؛ فيعتبر من موقف الإمام؛ كذا حكاه المتولي، والروياني في "تلخيصه"، ومجلي. والثاني: من آخر المسجد، وهو ما حكاه القاضي الحسين عن النص، وبه جزم القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، وقالا فيما إذا خرجت الصفوف من المسجد: فالاعتبار بآخر صف. وعلى هذا قال الإمام: لو كان الإمام خارج المسجد في صحراء، والمأموم في آخر المسجد - فلا يحسب عليه ما بينه وبين آخر المسجد من ناحية الإمام من الذرع المذكور. والثالث: إن كان المسجد لا فناء له، فمن المسجد، وإن كان له فناء، وهو موضع مطرح الثلج، ومصب ماء الميازيب، وملقى ترابه - فمن الفناء، حكاه المتولى، والقاضى الحسين، وهو ظاهر ما نقله المزنى. وقال الماوردي: الاعتبار في ذلك بسور المسجد؛ لا من موقف الإمام؛ ولا من انتهاء الصفوف الداخلة فيه؛ فإذا كان بينه وبين سور المسجد ثلاثمائة ذراع فما دونها، صحت صلاته، وإن كان المأموم في دار بقرب المسجد، فظاهر نصه

في "المختصر" أنه لا يجوز اقتداؤه ما لم تتصل الصفوف، ولفظه: بإن صلى في دار قرب المسجد، لم يجز إلا بأن تتصل الصفوف به، ولا حائل بينه وبينها؛ فأما في علوها، فلا يجوز بحال؛ لأنها بائنة عن المسجد. واختلف الأصحاب في ذلك: فذهب أبو إسحاق إلى الأخذ بظاهره، وقال: لا بد من اتصال الصفوف من المسجد إلى الطريق، ومن الطريق إلى الدهليز، ومن الدهليز إلى صحن الدار، وحينئذ تكون [صلاة من] في صحن الدار، وصلاة من وراءهم جائزة؛ لرواية أنس بن مالك أن الناس كانوا يصلون في [حجرة النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الإمام في المسجد، وروى أن الناس كانوا يصلون في] المسجد بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته. وهذا بخلاف ما إذا كان الإمام في المسجد، والمأموم في صحراء، والفرق أن داره لم تجعل لمرافق الناس، والصحراء جعلت لمرافق الناس؛ ولهذا راعينا اتصال الصفوف في الدار، ولم نراع ذلك في الصحراء. وهذه الطريقة لم يحك الماوردي غيرها، وقال: إن صلاته في علو الدار وسردابها باطلة يكل حال؛ لتعذر اتصال الصنوف. وكلام المراوزة في صلاته في سفل الدار يوافقه، وأما في علوها؛ فيتصور عندهم الاتصال بأن تتصل الصفوف من المسجد إلى سفل الدار، ويكون الواقف [فى علوء الدار على طرف سطحها المرتفع؛ بحيث يحاذي رأس الواقف سفل الدار ممن اتصلت به الصنوف جزءاً من بدن الواقف على السطح، ولا فرجة بينهما؛ فإذا تصور عندهم الاتصال حكمنا بصحة القدوة عند وجوده ولذلك قال المتولي: إذا صلى الإمام في المسجد، والمأموم على سطح دار له بجوار المسجد على يمين الإمام، أو شماله؛ فإن كان علو السطح بحيث يحاذي رأس الواقف في المسجد رِجْل الواقف على السطح، ولم يكن بين الواقف على السطح والواقف في المسجد فرجة تسع موقف رجل؛ فالاقتداء صحيح، وإن كان بينه وبينه فرجة، نظر: فإن كان الواقف على السطح على طرف السطح، ولم يكن بينه وبين المسجد

فرجة؛ فعلى الوجهين في أن الاعتبار في ابتداء الذرع من المسجد، أو بالواقف فيه. فإن قلنا: الاعتبار بالمسجد، صحت القدوة؛ لوجود الاتصال؛ وإلا فلا. وإن كان الذي على السطح متباعداً عن طرف السطح؛ فلا يصح الاقتداء على ظاهر المذهب. وذهب أبو علي الطبري في "إفصاحه" إلى أنه إن كان بين من في الدار، وبين الصف الذي في المسجد مقدار ثلاثمائة ذراع فما دونها، ولا حائل يمنعه من مشاهدة الصف - يجوز؛ كما لو كان الإمام والمأموم واقفين في الصحراء. وكذا حكاه عنه المتولى فيما إذا صلى فى علو الدار، وبينه وبين المسجد فرجة، سواء كان السطح بحيث يحاذي شيء من بدن الواقف فيه شيئاً من بدن الواقف فى المسجد، أو لا. وأوَّل أبو علي قول الشافعي: "إلا أن تتصل الصفوف" على ألا يكون بين كل صفين أكثر من ثلاثمائة ذراع؛ لأن هذا عنده حد الاتصال؛ وهذا ما اختاره العراقيون، وقال القاضي [أبو الطيب] وغيره منهم: إن أبا إسحاق أخطأ؛ لأن الدار، وإن لم تكن لمرافق الناس، فقد ثبتت لمرافق نفسه، والصلاة فيها من جملة مرافقه. وقد رأيت في "تعليق" أبي الطيب أن أبا علي في "الإفصاح" حكى وجهين فيما إذا صلى في داره بصلاة الإمام في المسجد، وهو يشاهده، وبينهما طريق، أصحهما: الصحة، وأن أبا علي قال: والآخر لا أعرف له وجهاً. فرع: إذا قلنا بظاهر النص، واتصلت الصفوف إلى الصحن، [كان حكم من في الصحن [مع] من وراءه، عن يمينه ويساره وأمامه، حكم الإمام لو كان واقفاً في الصحن]، واقتدى به من هو في الصحن أيضاً، ووقف عن يمينه، أو يساره، أو من خلفه، أو أمامه حتى يعتبر فيمن خلفه ألا يزيد على ثلاثمائة ذراع، وكذا من عن يمينه وعن يساره، وفيمن أمامه القولان في صحة صلاته؛ كما أشار إليه الماوردي والمتولي رحمهما الله تعالى.

ولو وقف المأموم على جبل أبي قبيس، والإمام في الحرم، فقد حكينا عن رواية الماوردي عن النص الصحة. وقال في "الكافي": إن الحكم كذلك فيما لو وقف على جبل مشرف على المسجد؛ بحيث يرى صلاة الإمام والقوم في المسجد؛ إذا لم يكن بينهما ملك، ولم يزد ما بينهما على ثلاثمائة ذراع، وإن كان بينهما موضع مملوك، لم يجز [إلا باتصال] الصف، قال: ولذلك لم يجوز الشافعي الصلاة على أبي قبيس بصلاة الإمام في المسجد؛ لأن بينهما دوراً مملوكة. قلت: فحصل بمجموع النقلين - إن لم يحملا على حالين - في صحة صلاة من على جبل أبي قبيس بصلاة الإمام في المجد [الحرام عند عدم اتصال الصفوف]، قولان، والله أعلم. أما إذا كان بينهما حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة، لم تجز صلاته، سواء كان ذلك الحائل حائط المسجد أو غيره؛ لقول عائشة للنسوة في دارها: "لا تصلين بصلاة الإمام في المسجد؛ فإنكن دونه قي حجاب"، رواه الشافعي، واحتج به. قال بعضهم: وهذا كالتفسير لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لو صليتم في بيوتكم لضللتم".

وعن أبي إسحاق المروزي: أن حائط المسجد لا يعد حائلاً؛ لأنه من مصالحه، وبعض من أبعاضه؛ [فصار] كالسوارى التي تحول بين من في المسجد وبين الإمام، وذلك لا يمنع [من] صحة الصلاة. وكأنه - والله أعلم - عني بذلك: إذا كان المأموم واقفاً في صحراء، وإلا فقد حكينا عنه أنه إذا صلى في داره وهو يشاهد الإمام في المسجد، لا تصح صلاته ما لم تتصل الصفوف؛ فكيف يقول مع عدم المشاهدة والاتصال بالصحة؟! ويجوز أن يكون مراده هاهنا ما إذا وقف بحذاء حائط المسجد؛ بحيث لا يكون بينه وبينه فرجة، ويكون موافقاً لما حكيناه من قبل عن الماوردي أن الاعتبار في الذرع من حائط المسجد، وبه صرح في "الحاوي"، لكن الظاهر: الأول، وقد ادعى القاضي أبو الطيب أن نصه في "الأم" يدل على ما قاله أبو إسحاق؛ لأنه قال: "ولو صلى خارج المسجد في رحبة المسجد بصلاة الإمام، صح ذلك، اتصلت الصفوف، أو لم تتصل"، ورحبة المسجد: [ما] حواليه. وقد استبعد ابن الصباغ ما قيل عن أبي إسحاق من حيث النقل عنه، والمعنى: أما النقل؛ فلأنه قال في "الشرح" خلافه. وأما المعنى فلأن الحاجز متى فصل بينه وبين غيره قطع الاجتما بخلاف الداخل. قال الماوردي: والذي عليه عامة أصحابنا - وهو الصحيح- أن ذلك حائل يمنع من صحة القدوة. وفي "النهاية": أنه إذا كان الشخص وراء المسجد على يمين الصف في المسجد، وكان بينه وبين الصف الجدار؛ فمن الأصحاب من جعل الجدار

قاطعاً، مانعاً من الاقتداء؛ إذا كان ذلك الجدار مانثا من الاستطراق، وهو الذي صححه العراقيون. والثاني: يصح. قال: وهذا يخرج على قولنا: إن اعتبار المسافة في المقتدى خارج المسجد من حريم المسجد. ولا فرق - على هذا - بين أن يكون باب المسجد مفتوحاً أو مغلقاً، وذكر صاحب "التقريب وجهاً، مال إليه. واختاره: أن الباب إذا كان مغلقاً، لم يصح اقتداء الواقف خارج المسجد، قال: وهذا نطرده في كل واقف خارج المسجد أين وقف. وهو قريب مما صححه العراقيون من كون الجدار حائلاً مانعاً، والصحيح – عندنا-: أن الجدار [المانع] من الاستطراق، وباب المسجد المغلق لا أثر له. وهذا من الإمام يوهم أن الخلاف في الجدار، سواء كان للمسجد، أو لغيره، لكن الروياني في "تلخيصه"، والرافعي قالا: إن محله في جدار المسجد، أما في غيره، فلا خلاف أنه يمنع. ولو كان الحائل يمنع الاستطراق دون المشاهدة، كالشباك، ففيه الخلاف السابق. وقال الروياني في "تلخيصه": [إن محله] إذا كان الجدار للمسجد، ولم نقل بقول أبي إسحاق، أما إذا كان المشبك جدار غير المسجد منع. ولم يحك غيره، وفيه نظر. فرع: صلاة الجماعة في السفينة جائزة؛ فإن كانت ذات طبقة واحدة، فصلاة الإمام والمأمومين صحيحة، وكذا لو كانت ذات طبقتين، وصلى الإمام بهم في طبقة واحدة منهما، ولو صلى هو في طبقة، وبعض المأمومين في أخرى؛ فإن كان بينهما منفذ يرى بعضهم بعضاً، ويعلم بعضهم بصلاة بعض، صحت صلاة جميعهم، وإلا صحت صلاة من مع الإمام في الطبقة دون من في الطبقة الأخرى، وهذه طريقة أهل العراق، وقضية طريقة المراوزة أن يراعى اتصال الصفوف؛ لأجل الانخفاض. ولو صلى الإمام في سفينة، والمأموم في سفينة أخرى؛ فإن كانت إحدى

السفينتين مغطاة، أو كلاهما - لم يصح الاقتداء، وإن كانتا مكشوفتين؛ فإن كانتا مشدودتين، صارتا كالسفينة الواحدة؛ فيصح الاقتداء، وإن كانتا مرسلتين، قال الماوردي: فذهب الشافعي [إلى] أن صلاة المأموم في السفينة الأخرى جائزة إذا علم بصلاة الإمام، وكان ما بينهما قريبًا، واعتبار القرب من موقف الإمام إن كان وحده، أو من آخر صف ممن ائتم به إن كان في جماعة، وكذلك لو صلى في سفينة، والمأموم على الشط، أو الإمام على الشط، والمأموم في السفينة. وقال الإصطخري: لا يصح اقتداء من في إحدى السفينتين بمن في الأخرى عند إرسالهما؛ لأن الماء يمنع الاستطراق. قال: فأشبه ما نص عليه الشافعي: أنه لا تجوز صلاة من بجوار المسجد في السطح بمن في قرار المسجد؛ كما حكاه عنه أبو الطيب والمتولي. وحكى الإمام عنه أنه وجهه بأنه يحتمل أن تتقدم السفينة التي فيها المأموم على الفينة التي فيها الإمام؛ فتبطل، وأبطل الأصحاب قوله الأول؛ بأن الاستطراق في كل موضع بحسب ما يليق به، وهو في البحر يكون بالسفن، وذلك ممكن، نعم لو كان بينهما [جزيرة فالحكم كما لو كان بينهما فى] البر نهر واسع. والفرق بين السطح، و [بين] السفينتين: أن السفينتين في قرار واحد، وهو الماء، ولا كذلك الواقف في السطح، والمسجد؛ فإن القرار مختلف. وأبطل قوله الثاني: بأن الأصل عدم التقدم؛ فلا يحكم بالبطلان قبل وجوده. وقد حكى القاضي أبو الطيب الخلاف فيما إذا كانت السفينتان مربوطتين [بحبل]، وجعل محل الجزم بالصحة، إذا كانتا مُسَمَّرتين. والله أعلم.

باب صلاة المريض

باب صلاة المريض قال: إذا عجز - أي: المريض - عن القيام، صلى قاعداً؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] قال أهل العلم: [معناه] الذين يصلون قياثا مع القدرة عليه، وقعوداً مع العجز عن القيام، وعلى جنوبهم مع العجز عن القعود. ولرواية البخاري عن عمران بن حصين قال: "كانت بي بواسير؛ فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، قال: "صلّ قائماً، فإن لم تستطع [فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب"، زاد النسائي: "فإن لم تستطع] فمستلق، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها". وعن أنس قال: سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم فخُدِشَ - أو جُحِشَ - شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده؛ فحضرت الصلاة؛ فصلى قاعداً. رواه البخاري، ومسلم.

[و] معنى "جحش شقه": انخدش. وقد نقل الثقات أن الإجماع منعقد على أن من عجز عن القيام كان له أن يصلى قاعداً. قال في "التهذيب": ولا ينقص ثوابه. وقوله عليه السلام على هذا: "من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً، فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً، فله أجر نصف القاعد" كما أخرجه البخاري رواية عن عمران بن حصين- محمول على صلاة النفل في حال القدرة. ثم المفهوم من [لفظ العجز عن] القيام: ألا يتمكن منه بحال، وليس ذلك شرطاً بالاتفاق، وقد نص الشافعي على أن كل من لم يطق القيام إلا بمشقة غير محتملة أنه يصلى الفرض قاعداً.

قال بعضهم: وعني: بمشقة غليظة. وفي معناه: ما إذا كان يزيد مرضه بسبب القيام؛ صرح به ابن الصباغ وغيره. وبعضهم ضبط ذلك: بأن يحصل له من المشقة [ما] يضجره ويقلقه، ويسلب خشوع الصلاة؛ فمتى وجد ذلك، جاز له القعود، وعليه يدل خبر أنس السابق، وإن قدر على دفع ذلك باعتماد أو اتكاء على شيء؛ فليس بعاجز عنه؛ فلا، يجوز له القعود؛ قاله الإمام والمتولي. وفي "تعليق" القاضي الحسين في آخر باب صلاة التطوع: أن العاجز عن القيام إذا أمكنه القيام بالعكازة، وأن يعتمد على شيء- لا يلزمه ذلك، وعلى ذلك يخرج ما لو قدر [على القيام]، لكن بمعين طلب منه أجرة، أو لم يطلب، وقد قال المتولي: إنه لا يجوز له القعود [أيضاً، ويجب عليه بذل الأجرة كثمن الماء. وفي "التهذيب": قيل: إنه لا يلزمه ذلك، بل يصلي قاعداً]. وهو ما حكاه العبادي في "فتاويه" موجهاً له بأنه عليه السلام قعد، ولو استعان لأعين [، وهو قياس ما ذكره القاضي من قبل]. فرعان: أحدهما: إذا قدر على أن يصلي قائماً منفرداً، وإن صلى في جماعة قعد - قال الشافعي: أمرته أن يصلي منفرداً. أو كان له عذر في ترك الصلاة مع الإمام، فإن صلى مع الإمام، جاز له أن يجلس إذا لم يستطع القيام؛ كذا قاله الماوردي، وظاهره أن القيام، أفضل له، وبه صرح في "المهذب" وابن الصباغ عن نصه في "الأم" موجهين له بأن القيام ركن من أركان الصلاة؛ فالإتيان به في جميع الصلاة أفضل، وعلى ذلك جرى القاضي الحسين والمتولي والبغوي، وقالوا فيما لو قدر أن يصلي منفرداً بأم القرآن قائماً، ولا يقدر أن يصلي قائماً إذا أضاف إلى ذلك سورة [أخرى]- كان الأفضل أن بصلي بأم القرآن فقط. وعن الشيخ أبي حامد أن الأفضل فعلها جماعة، وحكي عنه أنه قال: يتخير. قال مجلي: ويحتمل أن يقال: لا يجوز فعلها مع الجماعة؛ فإنه يحوز فضيلة بفوات ركن.

الثاني: لو كان يقدر على الصلاة قائماً على الأرض، ولا يقدر على ذلك في المركب؛ لأجل دوار يعتريه؛ بسبب ذلك - لا يمنع من ركوبها، وبصلي قاعداً؛ قاله في التتمة، وكذا ابن الصباغ في باب موقف الإمام والمأموم. والمفهوم من لفظ القيام: الانتصاب، وكلام الشيخ الذي اتبع فيه الخبر يوهم أنه متى عجز عنه، جاز أن يصلى قاعداً، سواء قدر على دونه أو لا، وهو وجه حكاه قي "التهذيب"، [لكنه] خلاف ما نقله الأصحاب؛ فإن الإمام قال: إنه إذا قدر على القيام على انحناء وجب. ولو لم يقدر على الارتفاع من حد الراكعين، فالذي دل عليه كلام الأئمة أنه يقعد، ولا يجزئه غير ذلك؛ فإن حد الركوع مفارق لحد القيام وحكمه، وهو أيضاً هيئة ركن في نفسه، بخلاف هيئة القائمين، [و] لو عجز عن الانتصاب على قدميه، وقدر على الانتهاض على ركبتيه، فقد كان شيخي يتردد في وجوبه، وهو محتمل من جهة أن هذا لا يسمى: قياماً. والذي حكاه الماوردي: أنه متى قدر على قيام ما، وجب عليه الإتيان [به] حتى لو لم يقدر إلا على حد الراكعين، أتى به؛ فإذا أراد الركوع، خفض قليلاً، وهكذا حكاه الرافعي عن العراقيين، والمتولي، والبغوي، [و] قال: إنه المذهب. وهو الذي حكاه ابن كج عن نص الشافعي. ووجه الأصحاب أنه - عليه السلام - لما قال: "صل قائماً؛ فإن لم تستطع، فقاعداً؛ فإن لم تستطع، فعلى جنب" علم أن الحالات المتوسطة أولى مما هي دونها؛ لأنها أقرب إلى الأصل؛ فلا يعدل عنها إلى الأبعد، وعلى هذا يتعين حمل كلام الشيخ على مطلق قيام، لا على القيام الذي يجب عند القدرة. وقد اعترض بعفهم على علة الأصحاب؛ فقال: الشرع أمر بإيقاع العبادة في الأحوال العادية؛ لتكون على سكون وطمأنينة، وحال الهوى ليس حال استقرار؛ فلا يلحق بما ورد فيه النص، ولا يلزم من كونه أقرب إلى القيام أن يعطى حكمه؛ كما [لم] يلزم أن يعطى المسح على الأعضاء حكم الوضوء، وإن كان أقرب إلى

الوضوء من التيمم، والمائع أقرب إلى الماء في الوضوء من التراب. قال: ويقعد متربعاً في أحد القولين؛ لأنه عليه السلام كان يصلي النفل متربعاً؛ كذا ذكره ابن الصباغ عن رواية عائشة، ورواية النسائي عنها أنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلي متربعا. وقد روي [عن] أنس، وابن عمر أنهما كانا يفعلان ذلك. والعجز عن القيام يلحق فرض الصلاة بنفلها في القعود، والمعنى فيه: أنه يدل على القيام؛ فاستحب أن تكون صورته مخالفة لصورة القعود؛ [كما] في صلاة الصبح، [و]، لأنه أبعد عن السهو. [وهذا ما نص عليه في "لبويطي"،] وحكاه عنه ابن المنذر أيضاً، وقال الروياني في "تلخيصه": إنه أصح. وكذا الجيلى. قال: ومفترشاً في الآخر؛ لأنها هيئة مشروعة في الصلاة؛ فكان الإتيان بها أولى من التربيع؛ لأنه لا يليق بهيئة الخضوع لله تعالى، وكذلك قال ابن مسعود؛ "لأن أجلس على رضف أحب إلي من [أن] أصلي متربعا". وهذا ما حكاه القاضي أبو حامد عن الشافعي. وقال الطحاوي: إن المزني رواه [عنه] أيضاً، واختاره الشيخ أبو محمد، وهو أصح في "الرافعي"؛ تبعاً لـ"التهذيب"، وهو مخصوص في "الحاوي" بالرجال، وقال: [إن] الأولى للمرأة التربع في قعودها؛ لأن ذلك أستر لها.

وحكى الفوراني عوض هذا القول: أنه يقعد متوركاً؛ كما في آخر الصلاة. قال الإمام: وهو عندي غلط صريح لا يتوجه، وقد بلغني ممن أثق به أن القاضي الحسين كان يرى أن الأولى أن ينصب ركبته اليمنى، وينحني عليها، كالذي يجلس في اعتيادنا قارئاً على من يقرئه ويثني اليسرى. قال: وبهذا يخرج عن هيئة الإقعاء المنهي عنه، وأشار بذلك إلى قوله عليه السلام: "لا تقعوا إقعاء الكلاب". والإقعاء - كما قال-: هو الجلوس على الوركين، ونصب الفخذ والركبتين، وبه فسر أبو عبيدة مع زيادة أخرى، [وهي وضع] اليدين على الأرض.

ومنهم من قال: الإقعاء: أن يفرش رجليه، ويضع أليتته على عقبيه. ومنهم من قال: أن يجعل يديه على الأرض، ويقعد على أطراف أصابعه؛ كالمصطلي. قال القلعى: وأظنه وهماً، وإنما هو على أطراف أليتيه. ثم ما ذكرناه من الخلاف في الاستحباب، صرح به الإمام والمتولي وغيرهما؛ فلو قعد على أي هيئة، ولو مقعياً أجزأه. قال الروياني: والقولان في الكتاب جاريان في كيفية قعوده في النفل. وقد أفهم كلام الشيخ أن ركوعه في [حال] صلاته [قاعداً؛ كركوعه في حال صلاته] قائماً؛ فإنه تعرض لكيفية القعود، وسكت عن كيفية الركوع، وهو كذلك؛ لأنه فرض الكلام فيما إذا عجز عن القيام، وظاهر هذا أنه لم يعجز عن غيره؛ إذ لو عجز عن غيره معه، لقال: إذا عجز عن القيام، وكذا، وإذا كان لم يعجز إلا عن القيام، وجب عليه أن يأتي بما قدر عليه من الركوع، وغيره؛ كما لو كان قادزاً على القيام، وبه صرح الأصحاب، فقالوا: لو كان قادزاً على الركوع الكامل، وجب عليه أن يرتفع إلى حد الراكعين، نعم لو كان يعجز عن ذلك أيضاً، ركع، وهو جالس، وأقله أن ينحني حتى يقال وجهه ما وراء ركبتيه من الأرض أدنى مقابلة، كذا حكاه الإمام عن بعضهم، بعد أن حكى عن صاحب "التقريب" في ضبط أقله: [أنا نجعله] كأن قامته مقدار انتصابه في قعدته، ويعتبر نسبة انحنائه من قيامه لو كان قائماً، ثم ينتسب مثل تلك النسبة في قعوده، وتأمره بمثل ذلك في حالة القعود. [ثم] قال: وليس بين الكلامين مخالفة. وأكمله: أن يطأطأ رأسه حتى تحاذي جبهته موضع سجوده؛ فإنه يناظر الكمال قي هيئة الركوع من القيام الذي لا مانع به من مد ظهره، ولو عجز [مع ذلك] عن السجود، أتى بغاية إمكانه حتى لو كان ما قدر عليه هو الانتهاء إلى أقل الركوع - كما سبق - وجب عليه أن يأتي به عن الركوع، ئم يركع، ثم يرفع

[ثم] يأتي به عن السجود. قال الإمام: ولا نقول في هذه الحالة: يقسم ما يقدر عليه من الانحناء بين الركوع والسجود، ويصرف شيئاً إلى الركوع والزيادة عليه إلى السجود؛ ليتميز الركوع عن السجود؛ لأنا لو فعلنا هذا، كنا مسقطين عنه أقل الركوع، مع قدرته عليه. ولو كان يقدر على الانحناء إلى حد الكمال في الركوع، قال الإمام: فليس يظهر لي تكليفه أن يأتي بأقل الركوع، ثم يأتي بالفاضل عنه في حال السجود، وإن كان يحصل بذلك التمييز بين الركوع [والسجود]؛ فله أن يأتي بذلك عن الركوع الكامل، ثم عن السجود، ولو كان [لا] يقدر إلا على أقل من حد الركوع، أتى به عن الركوع، ثم عن السجود. قال الإمام: وهل يجب عليه أن يتخيل تمامه بقلبه، ويجريه على ذكره، هذا محتمل عندي؛ [لجواز أن يقال: الفكر للعاجز عن أصل الفعل بالكلية؛ فأما إذا كان يقدر على شيء من الفعل أغناه عن الفكر، وهو الظاهر عندي]. [و] لا خلاف أن القاعد العاجز عن القيام لا يلزمه أن يجري القيام في فكره. ولو لم يقدر على انحناء أصلا، أومأ، وجعل السجود أخفض من الركوع، وهكذا لو لم يعجز عن القيام، ولا يقدر على الركوع والسجود أصلاً، صلى قائماً، وأومأ بالركوع والسجود؛ قاله في "المهذب"، والإمام، وغيرهما. ولو كان العاجز عن السجود على جبهته يقدر على الجود على صدغيه، فعله؛ لأنه إذا فعل ذلك، قرب جبهته من الأرض؛ قاله ابن الصباغ. قال: وإن عجز عن القعود- أي: والقيام - صلى مضطجعاً على جنبه؛ للخبر السابق. قال: الأيمن، لفضله، ولذلك يوضع الميت في لحده على شقه الأيمن. ويجب أن يكون في هذه الحالة مستقبل القبلة؛ لأنه مقدور عليه. وقد ادعى الإمام أن من يعتمد عليه روى في "رءوس مسائله" [عن

علي]، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يصلي المريض قائماً؛ فإن لم يستطع صلى جالساً؛ فإن لم يستطع السجود، أومأ، وجعل السجود أخفض من الركوع؛ فإن لم يستطع، صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، وأومأ بطرفه؛ فإن لم يستطع صلى على قفاه مستلقياً، وجعل رجليه مستقبلة القبلة".

وقد أخرجه بمعناه الدارقطني، لكن عبد الحق قال: [إن] في إسناده الحسن بن الحسين العرني، ولم [يكن] عندهم بصدوق، وكان من رؤساء الشيعة. وما ذكره الشيخ هو ما نص عليه في ["مختصر"] البويطي. وقال الإمام: إنه المذهب المشهور الذي عليه التعويل. وقال أبو علي في "الإفصاح": يستلقي على قفاه، ورجلاه إلى القبلة؛ كما يوضع الميت على المغتسل؛ لرواية جعفر بن محمد عن آبائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: "يصلي المريض قائماً؛ فإن لم يستطع، فقاعداً؛ فإن لم يستطع، فمستلقياً على قفاه، ورجلاه مما يلي القبلة، ويومئ بطرفه؛ [ليكون] إيماؤه بالركوع والسجود إلى القبلة"، وضعفه الأصحاب، وقالوا: ما ذكرناه من الخبر أصح، وما ذكره من الاستقبال لا يصح؛ لأن المتمكن من الركوع والسجود لا يكون متوجها إلى القبلة فيهما؛ بل إلى الأرض؛ فكذلك عند العجز؛ ولأنه إذا كان كالموضوع في اللحد استقبل بجميع مقادمه القبلة. [قال الإمام: وفي بعض التصانيف وجه ثالث: أنه يكون على جنبه الأيمن، ولكن يكون أخمصاه إلى القبلة، وهو محكي في "الزوائد" عن المسعودي]. قال الإمام: وهو غلط غير معتد به، ولست أرى له وجهاً. وادعى الروياني في "تلخيصه" أنه اختاره صاحب "الإفصاح"، وزاد فيه: أن رجليه تكونان إلى القبلة، ووجهه إلى القبلة أيضاً؛ حتى إذا أومأ بالركوع والسجود برأسه أومأ إلى القبلة. وهذا الخلاف في الوجوب؛ لأجل الاختلاف في كيفية الاستقبال، بخلاف الاختلاف في القعود؛ فإنه مستقبل فيه على كل حال، نعم كونه على جنبه الأيمن مستحب، حتى لو خالف فصلى على جنبه الأيسر مستقبل القبلة، جاز؛ لقوله عليه السلام: "فإن لم يستطع فعلى جنب"، ولم يفرق، نعم يكون تاركاً للسنة؛ قاله

القاضي الحسين والبغوي. ثم محل الخلاف إذا كان قادزاً على الأمرين معاً؛ فلو لم يقدر إلا على أحدهما - تعين؛ لأنه الممكن؛ قاله المتولي وغيره. قال: ويومئ- أي: برأسه - الركوع والسجود- أي: إذا عجز عن السجود بجبهته على الأرض- ويكون سجوده أخفض من ركوعه؛ لما روى البيهقي بسنده، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضاً، فرآه يصلي على وسادة؛ فأخذها، فرمى بها، فأخذ عوداً يصلي عليه؛ فأخذه فرمى به، وقال: "صل على الأرض إن استطعت، وإلا فأومئ إيماء، واجعل سجودك أخفض من ركوعك". وفي رواية: "إن أطقت أن تصلي على الأرض فافعل، وإلا .. " وساق الحديث. والإيماء: الإشارة، وهو مهموز. وقد اعترض بعضهم علي الشيخ؛ فقال: قوله: ويكون سجوده أخفض من الركوع، ليس على إطلاقه، بل يجب عليه أن يخفض رأسه في سجوده نهاية ما يمكنه؛ لأنه أقرب إلى الواجب الأصلي. وجوابه: أنه اتبع فيه النبي صلى الله عليه وسلم فإن هكذا لفظ الخبر؛ كما تقدم. ومن حيث المعنى: أن المراد: أن يجعل إيماءه للركوع فوق إيمائه للسجود، وذلك لا ينافي كونه يخفض رأسه في السجود إلى نهاية ما يقدر عليه. ثم هذا في "الرافعي" و"النهاية" مخصوص بما إذا كان يقدر على زيادة على أفضل الركوع، وللإمام فيه احتمال. أما إذا كان لا يقدر إلا على حد الركوع- إما على وجه الكمال، أو على وجه الأقل والإجراء- فقد سبق ما يمكن منه أخد الحكم فيه. وقد أفهم كلام الشيخ أن العجز عن القعود السجوز للاضطجاع، مثل العجز عن القيام المجوز للقعود، وقد سبق بيانه. قال الرافعي: وكذلك إطلاق الجمهور يقتضي التسوية بين العجزين. واعتبر الإمام هنا أن يلحقه بسبب القعود كلفة فوق الكلفة التي تجوز له ترك القيام إلى القعود.

قال: وأقرب شبيه به ضرورة المتيمم، وقد تقدمت. قال: ويشهد للفرق بين الحالين: أن الأئمة لما قسموا الأعذار إلى العامة، والنادرة، عدوا ما يقعد المصلي لأجله من الأعذار العامة، والمرض الذي لا يتصور معه القيام ليس بعام، ولكنهم [لما اعتقدوا] أنه يكتفى في ترك القيام بما دون الضرورة - ألحقوا ذلك بما عم، وأما ما يضطجع المصلي لأجله؛ فإنهم ألحقوه بما يندر ويدوم. قال: فإن عجز عن ذلك، أومأ بطرفه؛ لظاهر الخبر؛ ولأن ذلك حد طاقته. قال: ونوى بقلبه؛ أي: إن عجز عن الإيماء بالطرف؛ مثل أفعال الصلاة بقلبه؛ كذا رأيته في كلام بعض الشارحين، وعليه ينطبق كلام الإمام. وفي كلام بعضهم أن مراد الشيخ: أنه عند العجز عن الإيماء بالرأس، يومئ بالطرف وينوي بالقلب ما يومئ إليه؛ لأن الإيماء إلى أركان الصلاة مشبه صورة؛ فلا يتميز لبعضها دون بعض إلا بالنية. ثم في هذه [الحالة] إذا قدر على النطق بالتكبير والقراءة والتشهد والسلام نطق به، وإلا أجراه على قلبه. قال في "التهذيب" ولا ينقص ثوابه. قال: ولا يترك الصلاة ما دام عقله ثابتاً؛ لأن الصلاة تجري مجرى الإيمان؛ فلا تسط مع العقل والفهم بحال. وقد استدل الغزالي على [إيجاب إمرار] الصلاة بالقلب بقوله عليه السلام: "فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" [كما أخرجه مسلم، وهذا حد استطاعته. واعترض الرافعي على الاستدلال به؛ فقال: هذا الخبر أمر بالإتيان بما يشتمل عليه [المأمور عند العجز عن ذلك] المأمور به؛ فإنه قال: "فأتوا منه ما استطعتم"] وإجراء الأفعال على القلب لا تشتمل عليه الأفعال المأمور بها؛ يعنى: في خبر عمران بن الحصين. قال: ألا ترى أنه إذا أتى بالأفعال، ولم يحضرها في ذهنه حينما أتى بها،

أجزأته صلاته؟! فلا تكون هذه المسألة متناولة للخبر. قلت: وهذا قاله بناء على رواية [البخاري، وأما على رواية] النسائي، والخبر الذي حكاه الإمام عمن يثق به عن علي - كرم الله وجهه - عنه عليه السلام، فالدلالة منه ظاهرة؛ لأنه لما أمر المستلقي بالصلاة، [والصلاة] في الشريعة عبادة مخصوصة، ذات أركان قولية وفعلية؛ فلا يتصور اعتقادها عند سقوط الأفعال الظاهرة إلا بإجرائها في الفكر؛ كذا قاله الإمام، وقال: إنه حسن لطيف. وعن "العدة" أنه إذا لم يقدر على الإيماء، سقطت الصلاة، كمذهب أبي حنيفة، وقد حكاه الرافعى وجهاً عن رواية صاحب "الييان"، والذي رأيته في "زوائد" العمراني: أن الطبري ذكر في "عدته" أنه إذا عجز عن الإشارة، وعجز لسانه عن القراءة، وعقله معه، صلى يقلبه، ويجري القرآن على قلبه، وكذلك أفعال الصلاة. وقال أبو حنيفة: تسقط عنه الصلاة قى هذه الحالة. وحكى شيخنا الإمام تأخير أنه لا يصلي في هذه الحالة، ولكن يقضي إذا قدر على الأصح، وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة أوجه: أصحها: ما ذكره الشيخ: أنه يصلي، ولا إعادة عليه. والثانى: لا يصلى، ولا يعيد. والثالث: يعيد، ولا يصلي. ثم ما ذكرناه من كون المريض لا يتركها ما دام عقله ثابتاً، ثابت في غيره من طريق الأولى، وبه صرح الأصحاب؛ فقالوا: المصلوب إذا دخل عليه وقت الصلاة، يلزمه أن يصلي، نصى عليه الشافعي، ثم إن صلى مستقبل القبلة، لا إعادة عليه، وإن صلى غير مستقبل، عليه الإعادة، وكذلك الغريق في البحر إذا كان على خشبة، هذا حاله؛ قاله القاضي الحسين. وقال الماوردي في باب موقف الإمام والمأموم: إن الحكم كذلك في الغريق على لوح. وقال: إن الشافعي فرق بين الحالين؛ بأن الخائف يسقط عنه [فرضه

بالإيماء]، وهو المريض؛ فكذا هذا جاز أن يسقط عنه] فرضه، وغير الخائف لا تصح صلاته، مع ترك القبلة؛ فلم تصح هنا. قال القاضي الحسين: ثم إذا أعاد الصلاة ففي الفرض من الصلاتين أوجه ذكرناها في الطهارة. وقد ألحق بالمريض فى جواز القعود فى الصلاة من إذا صلى قائماً أبصره العدو؛ حكاه في "التتمة"، وقال: إنه إذا صلى قاعداً، لا تجب عليه الإعادة على الصحيح من المذهب؛ لأنا نجوز لمن يخاف من سيل أو سبع أن يصلي صلاة شدة الخوف؛ فلأن نبيح له ترك القيام وحده، وتصح صلاته أولى. نعم الكمين إذا صلوا في وهدة قعوداً هل تصح صلاتهم؟ حكى الشيخ أبو عاصم العبادي فيها قولين: أحدهما: نعم؛ لأنهم يتركون القيام لغرض، وهو التوصل إلى حرب العدو؛ فصار كمن صلى راكباً في حال القتال. والثاني: لا؛ لأنهم آمنون لا خوف عليهم، وهذا ما حكاه الرافعي. ومن به سلس البول، وإذا قام لحقه، يصلي قاعداً على أصح الوجهين، وعليهما لا إعادة عليه. قال: فإن قدر على القيام في أثناء الصلاة؛ أي: وقد صلى جالساً، أو مضطجعاً، أو القعود؛ أي: وقد صلى مضجعاً- انتقل إليه؛ لقدرته عليه، وأتم صلاته، [أي]: ولا إعادة عليه؛ لأنه إذا جاز فعل جميعها كذلك من غير إعادة، ففعل بعضها أولى، وخالف هذا المتيمم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة، لا يستعمله؛ لأن استعماله يبطل ما مضى على الصحة، ولا كذلك ها هنا. ثم في حال انتقاله إلى القعود، أو القيام إذا كان لم يقرأ الفاتحة بجملتها، أو قرأ بعضها لا يأتي بما عليه منها في حال انتقاله؛ لأنه ينتقل إلى حالة هي أعلى مما هو

عليه، وبمكنه القراءة فيها؛ فلو قرأ في حال انتقاله، [لم يجزئه] قال البغوي: فلا تبطل صلاته، ولا يسجد للسهو، وهذا بخلاف ما إذا عجز عن القيام أو القعود وقد شرع فيه؛ فإنه ينتقل إلى ما دونه، ويجوز [له] أن يقرأ في حالة الانتقال إليه؛ لأنه لزمه القراءة قاعداً أي مضطجعا، والانتقال أعلى منه؛ فأجزأه، وهى عبارة المتولي والبغوي، وهي تؤذن بأنه في حالة عجزه عن القيام يتخير بين القراءة في حال هويه إلى القعود والاضطجاع، وبين أن يصبر إلى حالة قعوده أو اضطجاعه، وكلام الغزالي يقتضي أنه يجب عليه القراءة في حال هويه، وبه صرح الرافعي، وقال في "المرشد": لا تجزئه قراءته فيه - كما في الحالة الأخرى- حتى يستقر. ثم محل وجوب الانتقال إلى القيام؛ إذا بقي محله؛ بأن كانت القدرة حصلت له في الركعة الأولى، أو في الثانية قبل الركوع، أو بعده، وقبل السجود، دون ما إذا حصلت بعد السجود، ثم إذا حصلت بعد فراغ القراءة، قام؛ ليركع، وهل يجب عليه أن يطمئن قائماً فى هذه الحالة؟ قال الإمام: فيه تردد عندي؛ فإنه إن ظن ظان أن الاعتدال عن الركوع ركن مقصود فما أرى ذلك ظاهزاً في هذه القومة التي وجبت لأجل الهوى منها إلى الركوع؛ فإنها غير مقصودة قطعاً ولا يمتنع أيضاً أن يقال: ينبغي أن يكون الركوع عن سكون وقيام، ولا يجزئه في هذه الحالة أن يقوم إلى حد الراكعين، ثم يطمئن، ثم يرفع، ثم يسجد. كذا قاله الإمام هنا، وخرج في باب سجود السهو وجها آخر: أنه يكفيه أن يرتفع إلى حد الراكعين، ثم يطمئن، ويسجد؛ أخذاً مما قاله ابن سريج فيما إذا هوى القائم إلى السجود وقد ترك الركوع ناسياً؛ فإنه على رأي ينتصب قائماً، [ثم يركع؛ ليلي الركوع القيام، وعلى رأي: يكفيه أن يرتفع إلى حد الراكعين، ولا ينتصب قائماً]، ومن ها هنا خرج الوجه في مسألتنا. قلت: وإذا لاحظنا هذا في الأصل في مأخذ الخلاف امتنع على القول بإيجاب الانتقال إلى القيام ها هنا، ثم السجود بعده إجراء تردد في اشتراط الطمأنينة في

هذه القومة، بل يتعين الإتيان بها؛ [لأنا نشترط] ذلك في الأمل المبني عليه؛ كما تقدم في باب فروض الصلاة، فلو قدر عليه وهو راكع؛ فلا نأمره بالرفع، ثم بالركوع، بل نقول: لو فعل ذلك بطلت صلاته، ولو رفع في هذه الحالة إلى حد الراكعين القادرين على القيام، قال الأصحاب: جاز، ولم ينصوا على أن ذلك يجب. قال الإمام: وأنا أقول فيه: إن قدر قبل الطمأنينة في الركوع، فالظاهر أنه يجب، وإن ركع، واطمأن عن قعود، ثم وجد القدرة- فالظاهر أنه لا يجب، ولا يمتنع أن يقال: يجب ذلك ما دام ملابساً للركوع تخريجاً على أن الركن إذا مد، فجميعه فرض، أم الفرض منه مقدار الاكتفاء؟ ولو حصلت قدرته على القيام بعد الرفع من الركوع، وقبل السجود، قام ليسجد، واطمأن قبل سجوده. فرع: حيث قلنا: يجب [عليه] القيام؛ فلو لم يقم، بطلت صلاته. قال في الحاوي: ومن أصحابنا من قال: لا تبطل، ولكن تصير نفلاً. ولا وجه له. وهذا قد ادعى المتولي أنه مخرج من نصه فيما إذا كبر وهو يهوي إلى الركوع أنه تنعقد صلاته نافلة؛ كما خرج من نصه هنا إلى ثم [قولاً]: أنها لا تصح. وقال القاضي الحسين: إن الخلاف المذكور جار فيما لو تحرم بالفرض قاعداً مع القدرة على القيام، وقال: إن المذهب البطلان. وعليه في مسألتنا: لو عاوده العجز، ومنعه من القيام، قال في "الحاوي" في كتاب الصلاة: نظر في حاله حين أطاق القيام: فإن كان قاعداً في موضع جلوس من صلاة المطيق، كالتشهد والجلوس بين السجدتين- فصلاته جائزة، ولا إعادة عليه، وإن كان قاعداً في موضع قيام من صلاة المطيق؛ فصلاته باطلة، وعليه الإعادة؛ لأنه لما استدام القعود في موضع القيام، صار كالمطيق إذا قعد في موضع القيام. قال: وإن كان به وجع العين؛ فقيل [له]: إن صليت مستلقياً أمكن

مداواتك، وهو قادر على القيام- احتمل أن يجوز له ترك القيام؛ كما يجوز له ترك الصيام؛ لأجل رمد العين، وهذا ما اختاره في "المرشد"، وكثير من أصحابنا؛ كما قاله الروياني في "تلخيصه". واحتمل ألا يجوز؛ لأن ابن عباس لما قرب من العمى، قال له بعض الأطباء: لو صليت سبعة أيام مضطعاً وعالجتك برأت عينك؛ فاستفتى عائشة وأم سلمة وأبا هريرة؛ فنهوه عن ذلك، ويخالف الصوم؛ لأنه يرجع إلى بدل تام مثله، ولا كذلك ها هنا، وخالف الاضطجاع لأجل المرض؛ لأن هناك المشقة تحصل من نفس القيام؛ فتركه دافع للضرر قطعاً؛ فلذلك لم نوجبه، وها هنا القيام لا تحصل به مشقة، [بل الموجود ظن حصول البرء لو اضطجع، وبينهما فرق. ثم هذا التردد من الشيخ] مؤذن بأنه ليس في المسألة نص للشافعي، ولا لأصحابه، وإنما الاحتمالان له، ولا شك بأنه لا نص فيها للشافعي، والاحتمالان لغيره، وقد حكاهما في "المهذب" وجهين. وقال العبادي في "زوائده": إن الطبري شبه ذلك بما لو كان يخاف من استعمال الماء طول الضنى فهل له أن يتيمم؟ وفيه قولان. وعلى هذا يمكن أن يحمل كلام الشيخ على أنه أراد أن التردد لشخص واحد، [لا أنه] قال بكل احتمال شخص، ومنع غيره. ويؤيد ذلك أنه قال فيما إذا وكل عبده في شيء، ثم أعتقه: احتمل أن ينعزل، واحتمل ألا ينعزل. والاحتمالان لابن سريج، ولا جرم صرح في "المهذب" بحكاية وجهين في الانعزال؛ كما فعل في هذه المسألة. ثم [هذا] التردد ظاهر الشبه بما ذكره الطبري، إذا كانت المسألة مصورة بما ذكرناه [من أنه] لا يخشى من القيام زيادة في الوجع [إلى أن يفضي إلى العمى. أما إذا كان يحصل منه زيادة في الوجع؛] فقضية تشبيه الطبري أن يجيء فيه الخلاف بالترتيب، وأولى بالجواز كما في التيمم؛ ومن ها هنا يقوى ما ذكره الإمام

من أن المرض الذي يجوز الاضطجاع في الصلاة فوق المرض الذي يجوز القعود فيها، وأن أقرب شبه به المرض المجوز للتيمم، لكنه قال في هذه المسألة بعد أن قال: "إنه لا نص للشافعي في هذه المسألة"-: إذا لم يكن للشافعي فيها نص، وقد نقل أصحابنا فيها خلاف العلماء؛ فالمسألة محتملة، وفساد البصر شديد، وتكليف المصلي ما يغلب على الظن منه العمى بعيد، وحديث ابن عباس واستفتاؤه تعلق بمذهب آحاد من الصحابة، وحكاية حال؛ فلعلهم لم يثقوا بقول الطبيب، ورأوا أن الأمر شديد، وأن العلاج غير مُجد. وقد أفهم كلام ابن الصباغ الميل إلى جواز الاضطجاع؛ فإنه قال بعد حكاية التردد: إن ما ذكر من الجواب عن الصوم والمرض فاسد؛ لأن فعل الصوم في غير زمانه بدل ناقص، والآخر يبطل بما إذا خاف الزيادة في المرض من استعمال الماء؛ فإنه غير متحقق، ويجوز تركه به. قال الإمام: ثم إن صح ما قاله العراقيون، فالذي أراه لو كان [القعود] معيناً على البرء، جاز بلا خلاف؛ ولذلك ذكر شيوخ الأصحاب الخلاف في المسألة فص صورة الاضطجاع، وسكتوا عن صورة القعود. قال الرافعي: وهذا قاله بناء على ما حكاه من أنه يجوز ترك القيام بما لا يجوز به ترك القعود، والمفهوم من كلام غيره أنه لا فرق. واعلم: أن الشيخ محيي [الدين] النواوي قال: إن المذكور في الأصل: "وإن كان به وجع؛ فقيل: إن صليت ... " إلى آخره، ويقع في أكثر النسخ: "وجع العين"، والصواب: حذفها؛ [لأنه أعم]. وفيه نظر، والله أعلم.

باب صلاة المسافر

باب صلاة المسافر هذا الباب مسوق لبيان ما اختص به المسافر من التخفيف في إقامة أكثر الصلوات؛ لأجل ما يلحقه من تعب السفر، وهو نوعان: [تخفيف] في نفس الصلاة وهو القصر. وتخفيف في رعاية وقتها، وهو الجمع. والمطر في الحضر، في هذا النوع ملحق بالسفر. ثم المهم من النوعين: القصر؛ ولذلك قدمه. والأصل فيه - قبل الإجماع - من الكتاب: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فأباحه الله- تعالى- فى السفر بشرط الخوف من الكفار، وبينت السنة جوازه عند الأمن؛ روى أبو داود، والترمذي، عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: أرأيت إقصار الناس الصلاة اليوم، وإنما قال الله تعالى في السفر: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ} [النساء: 101] وقد ذهب ذلك اليوم؟! فقال: عجبت مما عجبت منه؛ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم؛ فاقبلوا صدقته" أخرجه مسلم.

وقد ادعى بعضهم أن قول الله تعالى {إِنْ خِفْتُمْ} جرى على الغالب عن أسفارهم؛ فلا مفهوم له، وفيه نظر؛ لأن قول عمر ويعلى يأباه. نعم، هو متأول الظاهر؛ [لظاهرخبر] يعلى، وقد جاء مثله في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. ومن السنة: ما روي أنه عليه السلام كان يقصر [الصلاة] غازياً، وحاجاً، ومعتمراً، وفي مرجعه إلى المدينة [من ذلك]. وقد روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: صليت مع النبي ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، [ومع عمر ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، ووددت لو أن لي من الأربع ركعتين متقبلتين]. وروى الترمذي عن ابن عمر قال: سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وعثمان فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين [ركعتين]، لا يصلون قبلهما

ولا بعدهما. قال: إذا سافر في غير معصية سفراً يبلغ مسيرة ثمانية وأربعين ميلاً بالهاشمى، فله أن يصلي الظهر والعصر والعشاء ركعتين [ركعتين]؛ للآية، مع ما ذكرناه من الأخبار؛ فإن الآية، وخبر يعلى [بن أمية] يقتضي جواز قصر الصلاة عند الضرب فى الأرض، وهذا السفر، خائفاً كان المسافر أو آمناً، واجباً كان أو مندوباً أو مباحاً، وأيد ذلك فعله - عليه السلام-[فإن غدوه في أسفاره] كان طاعة، وعوده إلى المدينة مباحاً، وقد قصر في الجمبع، ومن معه أيضاً قصروا في ذلك، وهو حجة على من ادعى أن القمر لا يسوغ في السفر [المباح]. والمسافة التي ذكرناها يصدق عليها اسم السفر فشملها الحكم، وخير ابن مسعود، وابن عمر يدل على أن القصر ركعتان في الرباعية؛ فثبت ما ذكرناه. والسفر: قطع المسافة، وجمعه: أسفار، سمي بذلك؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، أي: يكشفها. وقيل: إنه مشتق من "الإسفار"، وهو الخروج. وفي "الوسيط": أن حد السفر الانتقال مع ربط [القصد بمقصد] معلوم؛ فالهائم وراكب التعاسيف [لا يترخص وإن مشى ألف فرسخ. وما ذكره إذا أراد أنه حد لمطلق الفر فليس الأمر كذلك؛ لأن الهائم، وراكب التعاسيف يسمى: مسافراً، وإن لم يربط قصده بمقصد. وإن أراد حد السفر الذي يجوز [فيه] القصر، وهو الأقرب- فصحيح، وحيتئذٍ فعلى كلامه مناقشة من وجهين:

أحدهما: أنه جعل] راكب التعامسيف قسيم الهائم، وقد قال [العجلي]: إنه هو. ولعل الأقرب ما ذكره هنا؛ فإن الهائم: الضائع، [وراكب التعاسيف لا] قصد له معلوم، مع أنه لم يضع، بل يمضي على وجهه. والثاني: أن [قيد كون] لص السفر طويلاً يغني عنه؛ لما ستعرفه، وقد ذكره. واحترز الشيخ بقوله: "فى غير معصية" عن سفر المعصية؛ فإنه لا يقصر فيه؛ خلافاً للمزني؛ فإن القصر رخصة شرعت إعانة للمسافر على مقاصده، والعاصي لا يعان؛ لقوله تعالى {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فعلم بذلك أن سفر المعصية غير مراد فى الآية، [وإن شمله عمومها]. والسفر [فى المعصية]: هو السفر لقطع الطريق، والعبد يأبق من سيده، والمراة سافر بغير إذن زوجها، والغريم يهرب ممن له عليه حق وهو قادر على آبائه، ونحو ذلك. وعن الصيدلاني أنه ألحق بذلك السفر لغير غرض؛ لأن ركض الدابة لغير غرض حرام؛ لإتعابها، فإتعاب نفسه أولى، وقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً} [الأنفال: 47] يدل عليه. فإن قيل: لا نسلم أن القصر رخصة، بل هو عزيمة، ويدل عليه ما رواه مسلم، عن ابن عباس قال: فرض الله - عز وجل -[الصلاة] على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين ركعتين.

وروى البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت: رأفرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر" والأربع في الحضر عزيمة؛ فوجب أن تكون الركعتان فى السفر كذلك، [وإن كان كذلك فلا] يختلف الحكم بين أن يكون السفر طاعة أو معصية. قلنا: سنبين أنه ليس بعزيمة. وقد شمل قول الشيخ: "في غير معصية": الأسفار الواجبة: كالسفر للحج، والعمرة، والجهاد، ودفع البغاة، والهجرة، ونحو ذلك. والأسفار المندوبة: كالسفر لحج التطوع، ولطلب العلم، [ولزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو للصلاة في مسجده، أو في المسجد الأقصى] ولزيارة الوالدين، أو أحدهما. والأسفار المباحة: كالسفر للتجارة، والنزهة، [ونحو ذلك]، كما حكاه العراقيون، والبغوي، وهذا هو المشهور. وعن صاحب "التلخيص" أنه قال: [إنما] يقصر المسافر في سفر الطاعة. وقال الإمام: وهذا يدل على أنه لا تثبت رخص السفر [في] السفر المباح. وقد اتفق الأصحاب على أن كون السفر طاعة ليس بشرط، بل الشرط ألا يكون معصية؛ فإذا كان ما ذكره زللاً في اللفظ من جهة أن اللسان يبتدر إلى مقابلة المعصية بالطاعة ازدواجاً فهو سهل، وإن كان ذلك عن قصد، فهو خطأ بالاتفاق. وعن الشيخ أبي محمد: من الأغراض الفاسدة طوف الصوفية لرؤية البلاد فقط.

وكلام الشيخ يفهم أنه لا فرق في جواز القصر في السفر [الذي] ليس بمعصية بين أن يوجد [فيه] معصية، أو لا؛ إذ المستثنى سفر المعصية، لا السفر الذي تقع فيه المعصية، وهو كذلك؛ لأن المعصية لم تكن في السبب المرخص. نعم: لو نوى في أثناء السفر الذي يقصر في مثله قلبه إلى سفر هو معصية، مثل: أن خرج قاصداً التجارة، فعن له إتمامه لقطع الطريق ونحوه، فهل يمتنع عليه إذ ذاك القصر، أو يستدام نظراً إلى ابتداء قصده؟ قال الماوردي: لا نص للشافعي - رضي الله عنه -[فيها، ولأصحابنا] فيها وجهان، حكاهما البندنيجي والفوراني والبغوي وغيرهم: أحدهما - وهو قول الداركي وغيره-: لا يجوز له القصر؛ [كالمنشئ السفر لذلك]، وهذا ما ادعى البندنيجي أنه الأصح؛ وتبعه الروياني في "تلخيصه" في ذلك. والثاني: أنه يجوز [له] القصر؛ لأن الذي جلب له هذه الرخصة إحداث السفر، بإحداثه لم يكن معصية؛ وهذا قول عامة الأصحاب، والأصح في "الإبانة". وادعى الإمام - رضي الله عنه - أن الأول من تخريج ابن سريج؛ لأنه لو ترخص، لكان متبلغاً إلى معاصيه بالرخصة. قال: وهذا من اختياراته، وهو ظاهر القياس، وإن كان الأول ظاهر النص. ولو انعكس الحال؛ فكان [ابتداء سفره] بقصد المعصية، ثم تاب [فى أثنائه؛ مثل: أن خرج في قطع الطريق، ونحوه، ثم تاب] واستمر على قصد قطع المسافة التي قصدها أولاً - فعن الشيخ أبي محمد أن ذلك بمنزلة [طرآن] قصد المعصية على سفر الطاعة، أي: في النظر إلى ابتداء القصد، أو إلى ما طرأ عليه، وحينئذ قال الإمام: فالذي يقتضيه قياس النص أن الحكم للقصد الأول.

وأما ابن سريج فإنه يتبع [موجب] قصده الطارئ. قال في "الوسيط": وهذا أوضح، وبه قطع بعض المصنفين والبغوي، والرويانى في "تلخيصه". وعلى هذا: إن كان في مقصده بعد توبته مسافة القصر جاز له القصر، وإلا فلا. وهذا هو الموافق لما حكيناه [عن] القاضي الحسين والبغوي، فيما إذا سافر من لزمه فرض الجمعة بعد الزوال؛ لأنه لا يترخص ما لم تفته الجمعة، ثم من حينئذ يكون ايتداء سفره. وقال الإمام: لا سبيل إلى القطع [به]؛ لأن طرآن الطاعة على المعصية كطرآن المعصية على الطاعة. ويقرب من الخلاف [فى المسألة الخلاف] في مسألتين: إحداهما: أن من خرج رابطاً قصده بمسافة القصر، ثم نوى بعد خروجه أنه مهما لقي فلاناً في طريقه، انصرف، وإن لم يلقه تمادى إلى مقصده الأول- فهذه النية لو كانت موجودة في ابتداء السفر، لم يقصر؛ كما ستعرفه، لكنها في هذه الحالة هل تؤثر في قطع السفر؟ قال الإمام: ظاهر المذهب: لا. وهو ما أورده القاضي الحسين لا غير. نعم: إذا لقي فلاناً، خرج عن كونه مسافراً، وحكمه إذ ذاك حكم المقيم. ومن أصحابنا من قال: [إن] ما طرأ من نيته يمنعه من الترخص [كما] [لو وجد] ذلك في الابتداء، وهو ما حكاه مجلي عن العراقيين. والثانية: إذا خرج من بلده رابطاً قصده بمسافة القصر، ثم بعد خروجه بدا له أن يقيم ببلدة في وسط الطريق أربعة أيام فأكثر، ولبس بينها وبين مخرجه [أولاً مسافة القصر - فهذه النية الطارئة قبل وصوله إلى البلدة التي نوى المقام بها هل تمنعه من الترخص كما لو قصد ذلك ابتداء، أو لا؟

الذي نص عليه الشافعي: الثاني وهو ما حكاه القاضي الحسين لا غير، نعم إذا وصل إلى تلك البلدة]، وقصد الإقامة، بطل الآن السفر. وعن بعض أصحابنا وجه آخر: أنه يمتنع عليه الترخص بمجرد نية الإقامة في تلك البلدة، وقبل وصوله إليها، وهذا ما ادعى في "التتمة" أنه المذهب. و [احترز الشيخ] بقوله: "سفراً يبلغ [مسيرة] ثمانية وأربعين ميلاً بالهاشمي" عن أمرين: أحدهما: السفر الذي [لا] يبلغ مسيرة ذلك؛ فإنه لا يقصر عندنا فيه، آمناً كان أو خائفاً، وإن كان عموم ما ذكرناه من الآية والخبر يقتضي أنه يقصر [فيه]، ووجهه: ما روي عن ابن عباس أنه قال: "يأهل مكة، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان"، وفي رواية: "من عسفان إلى مكة"، قال الخطابي: وهذا هو أصح الروايتين عن ابن عباس، ومثل ذلك لا يكون إلا عن توقيف. وقد قيل: إن ابن عباس رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما ذكره القاضي الحسين، وكذا أبو الطيب، ولفظه: روى أبو بكر بن محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه الذي سماه بـ"مختصر المختصر"، والدارقطني في "سننه" بإسنادهما، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يأهل مكة، لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان". وقد ذكر الماوردي الموقوف والمرفوع، ثم قال: إن مذهبنا أن الخبر إذا ورد موقوفاً

ومسنداً- حمل الموقوف على أنه مذهب الراوي، والمسند على أنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم. فإذا [ثبت ذلك] كان [ذلك] مخصصاً لما دل عليه عموم الآية، وأنه لا يجوز القصر في أقل من أربعة برد. والبريد على المشهور: أربعة فراسخ، والفرسخ: ثلاثة أميال بالهاشمي، ومجموع ذلك ثمانية وأربعون ميلاً بالهاشمي؛ كما ذكره الشيخ. والميل- بكسر الميم-: اسم لمسافة معلومة، قال الأزهري: الميل- عند العرب-: ما اتسع من الأرض؛ حتى لا يكاد بصر الرجل يلحق آخره. والميل الهاشمي: منسوب إلى هاشم بن عبد مناف بن قصي، جد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه الذي قدر أميال البادية، وبردها، وهو بالخطا أربعة آلاف خطوة، كل خطوة ثلاثة أقدام؛ فذلك [اثنا عشر ألف] قدم، وهو بالأذرع ستة آلاف ذراع، [كل ذراع] أربعة وعشرون أصبعاً معترضات، والأصبع: ست شعيرات معتدلات [معترضات]، وإذا قدرت جميع المسافة بالسير، كانت مسيرة ليليتين فقط [لا] يوم بينهما، [سير الثقل ودبيب الأقدام في العادة، أو مسيرة يومين لا ليلة بينهما]، أو مسيرة يوم وليلة على الولاء؛ لأن الغالب أن يقطع في كل ليلة ويوم ثمانية فراسخ. والمعنى في جواز القصر في هذه المسألة: أنه يلحق المسافر فيها مشقة

الشد والترحال والحط؛ كما [يلحقه فيما] جاوزها، ولا يلحقه ذلك فيما دونها، [فلم يلق به شرعية الترخيص، هذا مذهبنا المشهور. ولفظ الشافعي الذي حكاه البويطي في ضبط المسافة كلفظ الشيخ، وقد حكى عن نصه في "الأم" و"الإملاء": أن مسافة القصر ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي، وهو الذي ذكره في المختصر. وقال [في القديم]: يقصر إذا جاوز أربعين ميلاً. وقال في موضع آخر: أربعة برد. وقال في موضع آخر: مسيرة ليلتين قاصدتين حمل الأثقال، ودبيب الأقدام. وقال في موضع آخر: مسيرة يوم وليلة]. واتفق الأصحاب كافة على أن المسألة على قول واحد، وأقواله وإن اختلفت [ألفاظها] فمعانيها متفقة، لكن ما هو ذلك [القول] الذي حكاه الجمهور؟ [إنه ما] ذكره الشيخ، وهو في "الأم" و"الإملاء" أسقط الميل الأول والأخير، وفي القديم أبهم المسافة التي فوق الأربعين، ولكن فسرها في غيره؛ فرجع إليه؛ كذا قاله البندنيجي وغيره. وقال الماوردي في تأويله: إنه أراد أميال بني أمية، وهي تبلغ ثمانية وأربعين ميلاً بالهاشمي؛ كما قال الرافعي. وقوله: "إنها مسيرة [ليلتين"] أراد بذلك: إذا سار في الليل، دون النهار؛ لأن الغالب أنه يقطع في كل ليلة ثمانية فراسخ. وقوله: "يوم وليلة" أراد: إذا [اتصل سير الليل] باليوم. وقال القاضي الحسين في "تعليقه": إن ذلك القول المتفق عليه: أنها ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي؛ [لقول ابن عباس: أقصر إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف، وأقرب ذلك، إلى مكة –كما قال الشافعي- ستة وأربعون ميلاً، بالهاشمي].

قال: وكل ثلاثة [أميال] منها فرسخ، ومجموعها: خمسة عشر فرسخاً، وثلث فرسخ، إلا أن الأصحاب قدروه بستة عشر فرسخاً؛ للاحتياط. وحيث قال: "ثمانية وأربعون ميلاً"، عد الميل الذي يرتحل منه، والميل الذي يرتحل إليه. وحيث قال: "إذا جاوز الأربعين قصر" هو مطلق، وما ذكرناه مقيد؛ فحمل المطلق على المقيد. وحيث قال: "أربعة برد"، أراد به: برد الحجاز، [وذلك] يكون بالبغال لكل بريد منها أربعة فراسخ. وحيث قال: "مسيرة ليلتين قاصدتين، أو يوم وليلة"، أراد ما ذكرناه. وبذلك يحصل في قدر المدة قولان يمكن أخذهما أيضاً مما قاله بعضهم: إن ما ذكره الشيخ من المسافة تحديد، أو تقريب؟ والأصح أنه تحديد، وبه جزم المتولي، وكذا ابن الصباغ في باب موقف الإمام والمأموم. ومقابله ينسب إلى أبي إسحاق المروزي؛ فإنه قال- كما حكاه البندنيجي-: إنما اختلف قول الشافعي؛ لأنه على التقريب. قال غيره: وعلى هذا لا يضر نقص الميل والميلين، وقد حكى الطبري في "عدته" [قولاً] عن رواية الشيخ أبي يعلى: أنه يجوز القصر في السفر القصير في الخوف، وحكاه المحاملي أيضاً. والمذهب: الأول؛ لخبر ابن عباس. قال الأصحاب: [وهو مخصص لما] اقتضاه عموم الآية، وناسخ لما ورد في "صحيح" مسلم، عن يحيى بن يزيد الهنائيّ قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؛ فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ- الشك من شعبة- صلى ركعتين"، ولما روى من هذا النوع؛ لأن

قول ابن عباس وقوله عليه السلام، إن كان قد صح إسناده: [لا تقصروا"]، دليل على أنهم كانوا يقصرون في أقل من ذلك. ثم ترك الأئمة العمل بذلك دليل نسخها. ثم هي وقائع عين يتطرق إليها احتمال أنه كان قد قصد فوق ما ظنه الراوي، ولم يكمل [ما وقع] عليه القصد، وذلك ليس بشرط [في إباحة رخص] السفر، وبه صرح المتولي وغيره. وأيضاً فيحتمل أن يكون مراد [الراوي: [أنه عليه السلام] ابتدأ بالقصر عند هذا القدر من سفره بحضور الصلاة في] ذلك الوقت، وقد قال أنس: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً، و [العصر] بذي الحليفة ركعتين"، أخرجه أبو داود، والترمذي. ثم المفهوم من لفظ "السفر": الذي يبلغ مسيرة ما ذكرناه للمضي ذهاباً وإياباً؛ فلو كان كل من الذهاب والإياب لا يبلغ ذلك، ومجموعهما يبلغه لم يبح القصر. وفيه وجه: أنه يبيحه، وليس بشيء. الثاني: إذا لم يعلم مدى سفره، هل يبلغ ذلك، أم لا؟ فإنه لا قصر؛ لعدم تحقق الشرط، وذلك يفرض في صور: إحداها: [الهائم، لا يقصر؛ حكاه ابن الصباغ وغيره.

وعن صاحب "البيان" رواية وجهين فيه؛ بناء على ما] لو سلك الطريق الأبعد لغير غرض. قال الرافعي: ولعل هذا بعد أن يسير مسافة القصر، وقال: إنه لو استقبل برية، واضطر إلى قطعها، أو ربط قصده بقصد معلوم، بعد ما هام على وجهه أياماً- فهو منشئ للسر من حينئذ. قلت: ولا يبعد أن يأتي فيه وجه؛ أخذاً مما مما ذكرناه في سفر المعصية إذا تاب فيه؛ نظراً إلى ابتداء السفر، ويمكن الفرق. الثانية: الخارج في طلب عبد له قد أبق، أو غيرم له [قد] هرب، ولم يعرف موضعه، وعزمه أنه متى وجده، رجع - فإنه لا يقصر وإن طال، إلا أن يكون في ابتداء سفره قد علم أنه لا يلقاه قبل مرحلتين؛ فله القصر. وقد اقتضى كلام الرافعي فيما إذا لم يعلم ذلك قبل ابتداء السفر، وطال أنه يترخص حينئذٍ على وجه؛ لأنه جعله كالهائم، وقد تقدم في الهائم وجهان عند طول السفر، وله أيضاً، نظير يأتي. وعلى كل حال إذا وجد مطلوبه، وعزم على الرجوع إلى بلده، وبينه وبينها مسافة القصر يترخص إذا ارتحل عن ذلك الموضع. الثالثة: العبد إذا سافر مع سيده، والزوجة مع زوجها، والجندي مع الأمير، ولا يدري أين مقصده- ليس له القصر، [وإن تعدى مسافة] القصر؛ لما ذكرناه. قال الأصحاب: ولا أثر لقصد العبد والمرأة مسافة القصر؛ لأنهما مقهوران، وقصد الجندي معتبر؛ لأنه ليس تحت يد الأمير وقهره. الرابعة: الأسير في يد العدو إذا ساقوه معهم لا يقصر؛ لما ذكرناه، ولكن قال الأصحاب: إنه إذا سافر ستة عشر فرسخاً، قصر؛ لأنه علم طول المسافة، وهو ما حكاه في "التتمة" [عن النص]، ثم قال: [و] قياس ما ذكرناه في الآبق أنه لا

يترخص؛ لأن القصد في الابتداء ما وجد. فتكون المسألة على قولين. ونظيره ما لو باع مال أبيه على تقدير أنه حي، وكذلك في الحج، [لو كان عنده أن مرضه مما يرجى زواله، فاستنابه في الحج]، ثم بان أنه كان ميئوساً من الزوال: هل يصح حجه، أو لا؟ نعم: لو علم أولاً: أنهم يحملونه إلى بلد بعيد؛ فإن نوى الهرب إذا قدر، أو الرجوع متى أطلقوه- لم يقصر، وإن قصد البلد أو بلداً غيره على مسافة القصر، [قصر]. قال في "التتمة": والعبد والزوجة إذا خرجا مع السيد أو الزوج، وعلما مقصده، وكان على مسافة القصر- كالأسير في القصر وعدمه. الخامسة: إذا كان من السيارة يتبع مواقع القطر فيحله، وإذا شام [برقا]، انتجعه- لم يقصر، وإن طال مسيره؛ لما ذكرناه. ومعنى "شام": أي [أبصر]، والانتجاع: طلب الكلأ. [ثم] في هذا القيد تنبيه على أن سفر البحر إذا بلغ مسيره في البر ذلك- جاز القصر فيه، وإن قطع تلك المسافة في ساعة، وعليه نص في "الأم"؛ كما قاله أبو الطيب. ولا فرق في المسافر فيه في جواز القصر له إذا بلغ سيره ذلك بين أن يكون ملاحاً أهله وماله معه في السفينة دائماً، أو لا. وفي "زوائد" العمراني أن صاحب "الفروع" حكى في جواز القصر للملاح إذا كان أهله وماله معه وجهين. و [احترز الشيخ] بقوله: "الظهر والعصر والعشاء" عن المغرب والصبح؛ فإنه [لا قصر] فيهما بإجماع أهل العلم؛ كما قاله ابن المنذر.

[وروي] عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: "فرض الله [الصلاة] على [لسان] نبيكم صلى الله عليه وسلم بمكة ركعتين ركعتين إلا [صلاة] المغرب، [فلما هاجر إلى المدينة واتخذها دار هجرة زاد إلى كل ركعتين ركعتين إلا صلاة] الغداة؛ لطول القراءة فيها، وإلا صلاة الجمعة؛ للخطبة، وإلا صلاة المغرب؛ فإنها وتر النهار، افترضها الله على عباده؛ فلما سافر صلى الصلاة التي كان افترضها عليه". ولأن الصبح لو قصرت لم تكن شفعاً، والمغرب لا يمكن قصرها إلى شطرها، ولا أن تكمل الثانية؛ فلا تكون وتراً، ولا الاقتصار على ركعة منها [فيسقط] أكثر من شطرها؛ فتخرج عن باقي الصلوات. [وقد أفهم قوله: "فله أن يصلي الظهر والعصر والعشاء ركعتين ركعتين": أنه لا يجب القصر]، وهو عندنا كذلك بلا خلاف؛ لقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ} [النساء: 101]؛ [فدل] على جواز تركه؛ لأنه لا يستعمل رفع الجناح إلا في المباح دون الواجب؛ كذا قاله الرافعي؛ واستشهد بقوله تعالى: [{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وقوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} [البقرة: 236]، وقوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235]، وقوله:] {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَاكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} [النور: 61]، وقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] من ذلك أيضاً؛ لأن الآية نزلت على سبب، وهو أن الجاهلية كان لها على الصفا صنم يقال له: إساف، وعلى المروة صنم يقال له: نائلة،

قيل: إنهما كانا آدميين؛ فسخط عليهما، ويعزى ذلك إلى قول ابن عباس: كانت الجاهلية يطوفون حول الصفا والمروة؛ تقرباً إلى الصنم؛ فظن المسلمون أن السعي بين الصفا والمروة غير جائز؛ فنزلت الآية. والفرق: أن الجاهلية كانوا يفعلون ذلك؛ تقرباً للصنم، ونحن نفعله تقرباً إلى الله تعالى. وكان السعي الذي ورد في الآية مباحاً وغير واجب؛ لأن السعي الواجب بينهما، والآية واردة [في السعي] بهما. ولأن الآية، وإن تضمنت السعي بينهما؛ فهو [حين نزلت] لم يكن واجباً؛ لأنها نزلت [في أول الإسلام قبل وجوب] الحج والعمرة، ألا ترى إلى قول عروة: "إني أرى أن لا جناح عليّ إذا لم [أطف بهما"]، وقول عائشة- رضي الله عنها- له: "بئس من قلت؛ إنما كان ذلك في أول الإسلام، ثم سنه النبي صلى الله عليه وسلم". وقيل: إنها نزلت حين كان العرب يعتقدون أن العمرة في أشهر الحج [من أفجر الفجور، وثبت جواز العمرة في أشهر الحج].

وأيضاً: فالسنة دلت على جواز الإتمام؛ روى أبو داود عن عائشة أنها قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان؛ فأفطر وصمت، وقصر وأتممت؛ فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت؟ فقال: "أحسنت". وروى الدارقطني عنها- رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصر الصلاة وتتم ويفطر وتصوم. قال: وهذا إسناد صحيح. ورأيت في كلام بعضهم: أن البخاري ومسلماً رويا عنها أنها كانت تتم الصلاة. فإن قيل: خبر ابن عباس السابق، وعائشة يدل على أن القصر عزيمة، لا يجوز تركه، وكذلك [قال به] أبو حنيفة وغيره، وهو قول جمع من الصحابة.

قلنا: ما ذكرناه من فعله- عليه السلام- وقوله لعائشة يرد على ذلك. [و] لأن القصر لو كان عزيمة، لما وجب الإتمام إذا اقتدى المسافر بالمقيم؛ كما لا يلزمه إذا صلى الصبح خلف من يصلي الظهر، أن يكمل الصلاة أربعاً، كذا قاله الشافعي في "الأم"، وعليه يحمل ما ذكره في "المختصر". وقول عائشة السابق يحتمل أن يكون مرادها به أن الذي يخاطب به المسافر إذا أراد القصر الركعتان؛ فإنه لو اقتصر عليهما، كانتا فرضه. قال: إذا فارق بنيان البلد؛ لأن بوصوله إلى بنيان البلد يقع انتهاء سفره إجماعاً منا ومن الخصم؛ فوجب أن يقع ابتداؤه من طريق الأولى؛ لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء. ثم المراد ببنيان البلد الذي يشترط مفارقته: السور إن كان البلد مسوراً، وإن لم يكن مسوراً فما يمكن سكنه منه من الجهة التي يريد المسافر مجاوزتها، أما ما لا يمكن سكنه – لسقوطه جدرانه – فلا يشترط مجاوزته؛ صرح به البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما من العراقيين. وقد أبدى الغزالي تردداً في اشتراط مفارقة الخراب الذي بقيت [آثار العمارة فيه]. والمذكور منه في "تعليق" القاضي الحسين أنه لابد من مجاوزته، وهو ما حكاه الإمام عن شيخه، وقال: الذي أشعر به فحوى كلام الصيدلاني وكلام [بعض] المصنفين مقابله، وهو: أن مجاوزة العمران كاف، والخراب لا حكم له. قال: وظاهر النص دال على ذلك؛ لأنه قال: فلا يقصر حتى يفارق المنزل. [و] اسم [المنازل] يختص بالعامر الذي يمكن أن يسكن. وهذا يظهر تعليله بأن المسافر هو النازل من مكان الإقامة، والخراب ليس

مكان إقامة، ولكن شرط ذلك ألا يكون وراء الخراب عمارة معدودة من البلد، وإن كانت، فلا شك أن الخراب من البلد، ولابد من مجاوزته منتهى العمارة. وقد وافق الشيخ أبو محمد على أن الخراب إذا اتخذه الناس مزارع لا يشترط مجاوزته، وكذا لو سوروا على العامر سوراً، وجعلوا الخراب وراءه، وكان يقول: لو حوطوا على العامر، وحوطوا سوراً آخر على الخراب؛ فلابد من مجاوزة السورين. ولو اندرس الخراب بالكلية، ولم يبق له أثر؛ فلا يشترط مجاوزته اتفاقاً. ولو اتخذ من الخراب بساتين، وكانت منازل ودوراً، فإن كان ملاكها لا يسكنونها، ولا يخرجون إليها إلا متنزهين، أو لنقل الثمار – فلا تعتبر مفارقتها أيضاً. وإن كان ملاكها يسكنونها فهي من البلدة، وكذا إن كان ملاكها يأوون إليها في بعض الفصول، وهي محل نزهة من البلد؛ فلابد من مجاوزتها. وقد أفهم كلام الشيخ أموراً: أحدها: أن النهر العظيم في وسط البلدة لا يكفي قطعه إلى الجانب الآخر: كنهر بغداد، وهو ما ذكره أبو الطيب، وغيره؛ فإنه لا يعد فصلاً؛ فإنه لمنافع الجانبين. وفيه وجه [آخر]: أنه يُعد فصلاً، [و] سنذكره في باب: صلاة الجمعة. الثاني: أنه لا يشترط مفارقة الخندق المحيط بالبلد. وفي "الجبيلي" أنه لابد من مجاوزته، وعليه يدل كلام غيره أنه إذا كان بباب البلد قنطرة، فلابد من مجاوزتها. الثالث: أنه لا يشترط مجاوزة البساتين خارج البلد، وقد صرح به ابن الصباغ، وإن كانت متصلة ببنيان البلد في طرفها؛ لأنها ليست مبنية للسكن. نعم: لو كان في البساتين قصور، أو دور يسكنها ملاكها في جميع السنة، أو في بعض فصولها- فلابد من مجاوزتها؛ صرح به الرافعي وغيره، وهذا إذا لم يكن البلد مسوراً.

فإن كانت البساتين خارج السور، فلا يشترط مجاوزتها، وصرح به أبو الطيب وغيره؛ موجهين ذلك بأن حيطان البلد جعلت لحراسة ثمارها دون السكنى. وقضية هذه العلة: أنه لو كان بها منازل تصلح للسكنى: أنه يشترط مفارقتها؛ كما ذكرناه في البلد الذي ليس بمسور، ولم أر أحداً من الأصحاب قال به، وهكذا نصه؛ فإنه إذا كان بجوار السور من خارج دور يمكن الإقامة فيها يشترط أن يجاوزها، وهذا صرح به المتولي؛ حيث قال: من سافر من بلد عليها سور؛ فلابد أن يخرج من السور، وإن كان على بابها نهر فيعبر النهر. وإن كان حولها رياض ومنازل متفرقة، فحتى يفارقها، ونسب الرافعي ذلك لبعض تعاليق المَرْوَرُّوذيين. قلت: ويجري هذا في الصورة قبلها من طريق الأولى، والذي [دل] عليه كلام الغزالي، وكثير من الأئمة- كما قال الرافعي-: أنه لا يشترط مفارقة ذلك. ثم اعلم أنا حيث لم نشترط مجاوزة البساتين الخارجة عن البلد، فالمزارع بذلك أولى. وفي "التتمة" حكاية وجه عن القاضي: أنه يشترط مجاوزة البساتين والمزارع التي حول البلد المضافة إليها؛ لأن العادة أن يتردد [أهل البلد إلى هذه] البقاع على زيهم وهيئتهم؛ فيعتبر الحصول في موضع يقصد بغير الزي والهيئة عند قصد الخروج إليه؛ حتى يجعل مخالفاً للمقيمين. الرابع: أنه لا يشترط مفارقة المقابر المتصلة بالبلد، وهو الذي يقتضيه إطلاق الجمهور.

وقال الرافعي: إنه رأى في بعض التعاليق المروروذية: اشتراط مجاوزتها. فرع: القرية- فيما ذكرناه عند العراقيين - كالبلد الذي لا سور له؛ صرح به المحاملي وغيره. وفي "الوسيط": أنه لابد من مفارقة بساتين القرية ومزارعها المحوطة، وما ذكره في البساتين هو الذي ذكره القاضي الحسين والإمام، إذا كانت بقرب العمران؛ لأنها معدودة من القرى، بخلاف بساتين البلد. [قال القاضي]: وكذا يشترط فيها مفارقة المقابر، وبه جزم في "التهذيب". وما ذكره الغزالي في المزارع لم ينقله الإمام، بل ادعى أنه لا يشترط مفارقة المزارع اتفاقاً، ولم أقف في كلام غيره على ما يخالفه. نعم: قال: لو كانت بساتينها غير محوطة [على هيئة] المزارع أو مزارعها محوطة؛ فلا يشترط - عندي- مجاوزتها، وقد يتردد الناظر في ذلك، والوجه -عندي -: القطع بما ذكرته. ولو كانت قريتان متجاورتين، فلا يشترط مجاوزتهما؛ إن كان بينهما فرجة، [ولو اتصل] بناؤهما؛ فلابد من مجاوزتهما؛ كذا جزم به أبو الطيب، وغيره، وهو في الثانية المنصوص؛ لأنهما في الصورة كالبلد الواحد. وقال أبو العباس: إذا قرب ما بينهما كانتا في حكم المتصلتي البناء؛ لأن أهل كل قرية يترددون إلى الأخرى من غير تغيير زي، فكانتا كالقرية الواحدة. قال الإمام: فعلى هذا: فلعل الوجه في القرب أن يكون مثل ما يقع بين محلتين متواليتين في بلدة. وأبعد من قول ابن سريج قول من قال من أصحابنا: إنه يجوز القصر عند مجاوزته بناء قريته، وإن اتصلت أبنيتهما؛ كما ستعرفه في باب صلاة الجمعة. وادعى في "الوسيط" هنا أنه القياس [من أجل] قول الإمام: إن للاحتمال فيه مجالاً [بيناً].

والفرق بين ما نحن فيه والمحال في البلدة أن المحال تعزى إلى بلدة، وخطتها شاملة لها، وها هنا القرية منفصلة عن القرية باسمها وحدودها؛ والدليل عليه: أنا لو فرضنا قرى كثيرة متصلة تمتد خطتها مراحل؛ فيلزم على قياسهم ألا يستيبح الخارج من أقصاها الترخص ما لم يخرج عن جميعها، وهذا بعيد جدّاً، والمذهب الأول. ولو جمع القرى المتفاصلة سور، فلا يشترط في القصر [في الواحدة منها] مجاوزة السور، وكذا لو قدر في بلدتين متقابلتين؛ صرح به الرافعي. فرع: إذا لبث في ظاهر البلد في موضع لو كان فيه سائراً لقصر، ينتظر الرفقة؛ فهل له أن يقصر؟ نظر: إن نوى أنهم [إن] لم يجتمعوا قبل أربعة أيام سافر، فله القصر مدة مقامه، وإن قصد الإقامة حتى يجتمعوا، ولم ينو ذلك، لم يقصر حتى يجتمعوا؛ قاله في "المهذب"، وغيره، ويحكى عن نصه في "البويطي". قال: أو خيام قومه، أي: الذين يرحلون برحلته، أو يرحل برحلتهم؛ إن كان من أهل الخيام؛ لأن الخيام في حق أهلها كالدور في البلد. وعن ابن سريج حكاية وجه: أنه يكفيه مفارقة خيمته خاصة. والمذهب الأول. وقد اقتضى كلام الشيخ أنه لا فرق في اشتراط مفارقة خيام قومه بين أن تكون مجتمعة أو متفرقة، وبه صرح في "الحاوي" إذا كان كل قوم [يتميزون بمحلة،] وحكاه الروياني في "تلخيصه" عن النص، وقل فيما إذا كانت الخيام غير متميزة، ولم تتميز البطون: فإن اتصلت؛ فلا بد من مفارقة جميعها؛ نص عليه في "الأم"، وإن تفرقت قصر، إذا فارق ما يقارب خيمته، وهذا ما أورده في "المهذب". والمراد بالتفرق: أن يكون بحيث لا يستعير بعضهم من بعض في العادة؛

صرح به في "الوسيط". وقد اعتبر المراوزة مع مجاوزة الخيام مفارقة موضع مرتفقهم، مثل: مطرح الرماد، وملقى السماد، ومتحدثهم – وهو المسمى بالنادي- ومعاطن الإبل، ومجتمع البهائم، وملعب الصبيان، وإن نزلوا على ماء، أو محتطب، فلابد من مجاوزته، إلا أن يتسع بحيث لا يختص بالنازلين، وهذا إذا كانت الخيام في مستو من الأرض، فلو كانت في واد، فقد قال في "الأم": "إن كان السفر في طوله؛ فلا يشترط الخروج من الوادي، وإن كان السفر في عرضه؛ فلابد من جدعه"، أي: قطعه. قال الماوردي والقاضي أبو الطيب في تعليقه: وقد اختلف الأصحاب في تأويل قوله: "في العرض": فمنهم من قال: أراد إذا كانت الخيام قد استوعبت جميع عرض الوادي، وأنه لا يصير خارجاً عن المحلة حتى يقطعه، ويصير في الجانب الآخر، أما إذا لم تستوعبه، فيكفيه مجاوزة الخيام؛ وهذا ما حكاه البندنيجي، والإمام والروياني في "تلخيصه". ومنهم من قال: [إنما قال] هذا لأن عرض الوادي كالحائط للمحلة؛ لأنه يمنع الاستطراق إليهم، وقد ثبت أنه لا يجوز للقروي أن يقصر حتى يجاوز حائط البلد، كذلك لا يجوز للبدوي حتى يجاوز عرض الوادي؛ لأنه بمنزلة الحائط، وهذا [ما عزاه الماوردي إلى البصريين من أصحابنا، وكلام ابن الصباغ في حكاية ذلك] عن القاضي أبي الطيب يشعر بأن القاضي صار إلى ذلك من عند نفسه، وعليه جرى الرافعي. وإن كان القوم على ربوة؛ فلا بد من الهبوط منها، ولو كان الشخص لا خيمة له، بل يأوي إلى بقعة من البر، فلابد من مجاوزة ذلك [الموضع]؛ نص عليه. ولو كان سفره في البحر [و] الساحل متصل بالبلد، قال في "التهذيب": فلا

يقصر حتى يركب السفينة، وتجري، ولو كانت السفينة كبيرة لا تتصل بالساحل، وينقل المتاع بالزوارق؛ فله أن يقصر في الزورق. وقد ظهر [لك] مما ذكرناه أن الشيخ احترز بقوله: "إذا فارق بنيان البلد، أو خيام قومه" عن أمرين: أحدهما: ما إذا نوى السفر، ولم يفارق ذلك. والثاني: ما إذا فارق منزله، ولم يفارق ذلك. وقد قال بجواز القصر في كل من الحالين بعض العلماء، وممن نسب إليه الجواز في الحالة الأولى الإمام مالك؛ كما حكاه الروياني في "تلخيصه"، والماوردي نسبه إلى عطاء، والأسود، والحارث بن [أبي] ربيعة، وقال: إنهم قالوا: لما صار مقيماً بمجرد النية، [من غير فعل، [وجب أن] يصير مسافراً بمجرد النية]. وفي "الحاوي": أنه لا فرق بينهما؛ فإن الإقامة [إنما تحصل إذا اقترنت بفعل، وهو المكث في المكان، حتى لو نوى الإقامة] وهو ماش، أو سائر، أو راكب في سفينة- كانت نيته لغواً، وجاز له القصر حتى ينوي الإقامة مع اليث، وهو ما حكاه البندنيجي أيضاً، والبغوي وشيخه. وغيرهم فرقوا بأن الأصل في الإنسان الإقامة؛ ولذلك عاد إليها بمجرد النية، والسفر عارض لا يثبت حكمه إلا بوجود فعل السفر، ونظيره مال القنية لا يصير للتجارة بالنية حتى ينضم إليها التصرف، وينقطع حكم التجارة بمجرد نية القنية؛ لأنها الأصل. تنبيه: الخيام- بكسر الخاء- جمع "خيم" بفتح الخاء، وإسكان الياء؛ ككلب وكلاب، وواحد "الخيم": خيمة؛ كتمر وتمرة؛ حكاه الواحدي. وقال أهل اللغة: لا تكون الخيمة من ثياب، وصوف، ووبر، وشعر، ولا تكون إلا من أربعة أعواد، ثم تسقف بالثُّمام، وإنما يسمى المتخذ من صوف، ووبر، وشعر: خباء، وهذا مراده المصنف، ولكنه مجاز.

قال: والأفضل ألا يقصر إلا في سفر يبلغ مسيرة ثلاثة أيام؛ لأن أبا حنيفة، والحسن بن صالح [و] الثوري، وعبد الله بن مسعود [وسويد] بن غفلة قالوا: لا يجوز القصر في أقل من ذلك؛ لقوله عليه السلام: "يمسح المسافر على خفة ثلاثة أيام" ولا يمكن [للمسافر أن يمسح] ذلك إلا إن كان سفره ثلاثة أيام. وقوله عليه السلام: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم لها". ولأن الثلاثة أقل الكثير، وأكثر القليل، ولا يجوز له القصر في قليل السفر؛ فوجب أن يكون أقل الكثير، وهو ثلاثة حدّاً له؛ فاستحب الشافعي ألا يقصر المرء في أقل من هذه المدة؛ للخروج من خلافهم، ولفظه المحكي في "المختصر": "فأما أنا فأحب ألا [أقصر في] أقل من ثلاثة أيام؛ احتياطاً على نفسي". قال القاضي أبو الطيب: وهذا كقوله: "إذا مرض الإمام، فإنه يصلي قاعداً، والناس قياماً خلفه، والأفضل له أن يستخلف من يصلي بهم حتى يخرج من الخلاف"، [وكقوله: "إذا حلف، فالأفضل ألا يكفر بالمال إلا بعد الحنث [حتى يخرج] من الخلاف"،] ومثله قوله في الزكاة، بعد أن بين مذهبه في أن

الواجب في المعدن يختص بالذهب [و] الفضة، ولا يزيد على ربع العشر، وفي الركاز [يخمس الذهب والفضة]-: "ولو كنت أنا الواجد، لخمست القليل والكثير، والذهب والفضة وغيرهما، ولو فخارة". وإنما لم يشترط الشافعي مجاوزة الثلاث؛ لما تقدم من الأدلة. قال القاضي الحسين: ولأن ما اعتبرناه لا يتفاوت في البر والبحر، كان الطريق سهلاً أو حزناً، وكان أولى مما اعتبروه؛ لأن ذلك يختلف بالصعود والهبوط والخشونة؛ فلا يمكنه أن يسير معها [الشخص] أكثر من عشرة فراسخ، ومع السهولة يسير أكثر من ذلك، وكذا في سفر البحر. والخبر الأول يمكن العمل به وإن كانت المسافة ما ذكرناه؛ بأن يقطعها الشخص في ثلاثة أيام، على أن المراد به: بيان مدة المسح لا بيان مدة السفر، ألا ترى إلى قوله فيه: "ويمسح المقيم يوماً وليلة"، وأقل الإقامة عندنا أربعة أيام، وعندهم خمسة عشر يوماً [وليلة؟!]. والخبر الثاني [قد] روي بألفاظ مختلفة: روي: "ثلاثة أيام"، وروي "يوماً وليلة"، [وروى: "ليلتين"،] وروي: "بريداً"، وإذا اختلفت ألفاظهم وجب التوقف [في العمل به] إلى أن نتبين الصحيح منها. و [لأنه] إنما نص على الثلاث؛ لأن الغالب الخوف فيها. وأما قولهم: إن الثلاثة أقل الكثير ... إلى آخره، فلا يصح؛ لأن الثلاثة تعتبر في الشرع بحكم ما دونها، [لا بحكم ما فوقها كشرط الخيار، وحد المقام، واستتابة المرتد؛ فاقتضى أن يعتبرها في السفر [بحكم ما] دونها]، ونحن كذلك نقول. وقد اقتضى كلام جمع من الأئمة: أن أبا حنيفة يعتبر المسافة بالأيام، كماتقدم. والماوردي وغيره حكوا عنه أنه اعتبرها بأربعة وعشرين فرسخاً،

وحينئذٍ فيكون مراده بالأيام الثلاثة- على رأي الأولين- معظم النهار دون الليل؛ كما قلنا: إن الشافعي أطلق الليلتين، وأراد أن يكون بينهما نهار، لكن ما ذكر من الأدلة يقتضي اعتبار الثلاث ليلاً ونهاراً والله أعلمز فرع: لو قصر المسافر فيما دون ذلك، كان مكروهاً، صرح به الماوردي في كتاب "الرضاع" في أثناء مسألة: هي وطء المخلوقة من ماء الزاني. قال: فإذا بلغ سفره ذلك، كان القصر أفضل من الإتمام، لقوله- عليه السلام-: "خير عباد الله الذين إذا سافروا قصروا". ولأنه – عليه السلام – كان يداوم على القصر، ولا يداوم إلا على الأفضل. ولأن القصر متفق عليه، والإتمام مختلف فيه؛ فإن القائلين بأن القصر عزيمة لا يجوّزون الإتمام، ويقولون: إذا أتم ما يقصر فسد، وفعل ما يسقط الفرض بالاتفاق أولى.

وهذا ما نص عليه في كتاب "الإمامة"، كما قال أبو الطيب، ولفظه في "المختصر": وأكره ترك القصر رغبة عن السنة. واعترض ابن داود عليه؛ فقال: الرغبة عن السنة كفر. وأجيب بجوابين: أحدهما: أن لفظ الشافعي في "الأم": والقصر سنة، [و] أكره تركه. وإنما المزني [غير العبارة]. والثاني: على [تقدير صحة] ما قاله المزني: أنه أراد به من تركه في حال الأمن؛ عدولاً عن العمل بخبر الواحد، والأخذ بظاهر القرآن في اشتراط الخوف، وأراد به من تركه رغبة عن الرخصة الثابتة بالسنة، وأخذاً بما ثبت عنده بالتواتر والإجماع؛ فإن من اعتقد ذلك [لا] يكفر. وقد حكي عن الشافعي قول آخر، نقله المزني في "جامعة الكبير" واختاره، [وكذا كثير من الأصحاب اختاروه] أيضاً، [كما قاله] الماوردي: أن الإتمام [أفضل؛ لأن القصر رخصة من رخص السفر، فإذا تركها وعدل إلى الأصل كان أفضل، أصله المسح على الخفين، وفطر رمضان إذا كان لا يجهده الصوم؛ ولأن الإتمام] أكثر عملاً، وما كان أكثر عملاً كان أكثر أجراً. قال ابن الصباغ: وهذا القول أخذ من قوله في باب الإمامة: ويؤجر المسافرون على الجماعة، وإتمامهم الصلاة، وأراد: إذا قدموا مقيماً صلى بهم. وهذا منه يدل على أن الإتمام أفضل. وقد حكيت ذلك عن غيره في باب صفة الأئمة. وقد حصل في المسألة قولان، والصحيح- عند الجمهور- الأول، وعن الصيدلاني القطع به. والمسح على الخف موافق لما صرنا إليه في القصر؛ فإن غسل الرجل متفق على إجزائه، والمسح [في المعنى] مختلف فيه؛ فكان غسل الرجل أولى. والفرق بين القصر والفطر في رمضان: أن في الفطر تغريراً بالعبادة؛ فإنه لا يدري

أيعيش حتى يقضيه [بنفسه]، أو لا، وليس كذلك القصر؛ فإنه به تبرأ الذمة؛ ولأن [في] القصر حيازة فضيلة الرخصة، [وفضيلة فعله العبادة في وقتها، والمفطر في رمضان، وإن حصل فضيلة الرخصة]، لكنه فوت فضيلة الوقت. وقد أتى بعضهم بفرق شامل بين ما نحن فيه، وبين المسح والفطر، وهو أن الماسح والمفطر لم يأت [أحد منهما] في محل الرخصة بشيء من الأصل، بخلاف المقصر؛ فإنه أتى بشيء منه. فإن قيل: قد ذهب أهل الظاهر إلى عدم صحة الصوم في السفر، [وقياس ما ذكرتم: أن يكون الفطر أفضل. قلنا: قد قال الصيدلاني بأنه قول للشافعي؛ ولأجله جعل في الفطر قولين، وإن جزم في الصلاة بأن القصر أفضل]. وقياس المأخذ الذي ذكرناه: استواء الفطر والقصر، وقد حكاه صاحب "الفروع" وجهاً للأصحاب؛ كما قاله في "الزوائد". والصحيح: الطريقة الأولى؛ فإن المحققين من علماء الشريعة لا يقيمون لمذهب أهل الظاهر وزناً، كذا قاله الإمام، وفيه نظر؛ فإن القاضي الحسين نقل عن الشافعي أنه قال في الكتابة: وإني لا أمتنع عن كتابة عبد جمع القوة والأمانة، وإنا استحبه للخروج من الخلاف؛ فإن داود يوجب كتابة من جمع القوة على الكسب والأمانة من العبيد. وداود من أهل الظاهر، وقد أقام الشافعي لخلافه وزناً، واستحب كتابة من ذكره؛ لأجل خلافه.

نعم: الجواب الذي لا شك فيه ما أشار إليه القاضي: أن الشافعي إنما يستحب الخروج من الخلاف، إذا لم يكن [بسببه فاعلاً] محظوراً، أو مكروهاً عنده؛ لنص ورد في ذلك بعينه؛ ألا ترى أن مذهبه استحباب القصر في سفر الأمن وإن خالف فيه داود؛ لأنه – عليه السلام- قصر وهو آمن. ولم يستحب قضاء صلاة الفرض خلف من يصليه أداء في جماعة؛ للخروج من الخلاف؛ لأنه ما عارضه شيء مما ذكرناه. ثم قضية ما تقرر استحباب الإتمام للملاح الذي أهله وماله معه؛ فإن أحمد خالف في جواز القصر له، وإن وافق على جوازه للجمّال، وهو حجتنا عليه، وقد نص على استحباب الإتمام له الشافعي في "الأم" كما حكاه ابن الصباغ وغيره، وكذا قضية استحباب الإتمام لمن عادته السفر دائماً، وبه صرح صاحب "الفروع"، كما حكاه العمراني في "زوائده" وحينئذٍ تستثنى هاتان الصورتان من كلام الشيخ. وقد يعرض ها هنا سؤال، فيقال: لم راعى الشافعي الخروج من خلاف أحمد وغيره في هاتين المسألتين، ولم يراع خلاف أبي حنيفة ومن معه فيهما؛ ولم يحضرني عن ذلك جواب، والله أعلم.

قال: وإن كان للبلد الذي يقصده طريقان، يقصر في أحدهما، ولا يقصر في الآخر، فسلك الأبعد لغير غرض-[أي: غير القصر]- لم يقصر في أحد القولين؛ لأنه طول الطريق على نفسه من غير غرض؛ فصار كما لو سلك الطريق القصير، وكان يذهب يميناً وشمالاً، ويطول على نفسه حتى بلغت المسافة مرحلتين؛ فإنه لا يترخص وفاقاً، وهذا ما نص عليه في "الأم"، واختاره أبو إسحاق. قال: ويقصر في [القول] الآخر؛ لأنه سفر مباح تقصر الصلاة في مثله؛ فجاز له القصر، [كما لو] لم يكن له طريق سواه، وقصده الترخص غرض صحيح؛ فإن الله – تعالى- يحب أن تؤتي رخصه كما [يحب أن] تؤتي عزائمه، ويخالف المشي في المسافة طولاً وعرضاً؛ لأنه لا يصل به إلى محل قصده؛ وهذا ما نص عليه في "الإملاء"، واختاره المزني، وقد صححه الماوردي وتبعه في "المرشد". لكن الجمهور على ترجيح الأول. وقول المنتصرين للثاني: إنه سفر مباح- ممنوع، بل هو محظور؛ لقوله – عليه السلام-: "إن الله يبغض المشائين في الأرض من غير أرب"؛ كذا قاله القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما. واستدل الصيدلاني على حظره بأن من كان يركض فرسه من غير غرض، ورياضة، ورعاية أدب معلوم- عاص بإيذاء دابته، وإذا كان كذلك، فلأن يكون عاصياً بإيذاء نفسه من غير غرض أولى. وحكى الإمام والقاضي الحسين طريقة ثانية، حاملة للنصين على حالين؛ فحيث قال: يقصر، أراد [إذا كان له غرض ظاهر في سلوك أبعد الطريقين، وحيث قال: لا يقصر، أراد:] إذا لم يكن له غرض ظاهر. ولا خلاف في أنه إذا سلك الأقرب: أنه لا يقصر، وفيما إذا سلك الأبعد؛

لغرض ظاهر مثل كونه أسهل، أو آمن، أو ليزور في ممره صديقاً، أو يحصل شيئاً، أو نحو ذلك- أنه له القصر. نعم: لو كان الأطول نزهاً؛ فسلكه لأجل ذلك، فهل يعد من الأغراض حتى يقطع القول بجواز القصر له، أم لا؟ فيه تردد للشيخ أبي محمد، وأقامه في "الوسيط" وجهين. قال الإمام: ولعل الظاهر عدّه من الأغراض. [قلت: وهو الموافق لما حكيناه من قبل عن العراقيين أن السفر لأجل النزهة فقط من الأسفار التي تبيح القصر، والله أعلم]. قال: وإن أحرم في البلد، أي: وما في معناها- ثم سافر، أو أحرم في السفر، ثم أقام، أو شك في ذلك؛ أي: شك [في] أنه أحرم في البلد، أو في السفر، أو شك: هل أقام في أثنائها أم لا؟ أو لم ينو القصر، أو ائتم بمقيم في جزء من صلاته، أو بمن لا يعرف أنه مسافر، أو مقيم- لزمه أن يتم. هذا الفصل ينظم مسائل متفقة في الحكم، مختلف أكثرها في التعليل؛ فلنفرد كلاً منها؛ لتظهر بالتصوير، ثم نقيم عليها الدليل: فالأولى: إذا أحرم في البلد، ثم سافر: صورتها: أن يكون [في وسط] البلد الذي يقصد إنشاء السفر منه بحر، فيحرم بالصلاة في المركب قبل مفارقتها البلد، ثم يفارقها وهو بعد في الصلاة؛ كذا صوره ابن الصباغ وغيره. وفي معناها: ما إذا كان بظاهر البلد الذي يقصد إنشاء السفر منه [بحر]؛ فأحرم بالصلاة في المركب قبل تسييرها، ثم سارت وهو بعد في الصلاة. فإن قلت: هل نوى في الحالين القصر أو نوى الإتمام؟ فإن كان قد نوى الإتمام، أو أطلق [النية]، فالإتمام يلزمه؛ لأجل النية، لا لأجل أنه جمع فيها بين الحضر والسفر. وإن كان قد نوى القصر، فهو متلاعب؛ فلا يصح، وأيما كان امتنع التصوير.

قلت: يجوز أن تكون مصورة بما إذا نوى الإتمام، أو أطلق، ولا يمتنع أن يكون وقوعها في السفر والحضر مانعاً من إتمامها، وإن كانت نيته الإتمام، والنية المطلقة تلزمه الإتمام، وإن تمحضت الصلاة في السفر؛ لأن الشيء قد يمتنع لمعنى واحد، ويمتنع لمعنيين لو انفرد كل [واحد] منهما لرتب الحكم عليه. وأيضاً: فإن المخالف في لزوم الإتمام [في هذه الحالة، غير المخالف فيما إذا تمحضت الصلاة في السفر، وقد نوى الإتمام وأطلق؛ فإن المزني يوافق على لزوم الإتمام فيما] إذا أحرم بها في البلد ثم سافر، ويخالف فيما إذا وقعت النية منه مطلقة في السفر - كما ستعرفه -[وكذا] فيما إذا نوى الإتمام في السفر، كما حكاه عنه الرافعى فقط. وابن الصباغ وغيره اقتصروا على حكاية مخالفته في الأولى دون الثانية، وقالوا: إن المخالف في الثانية المزني. وصرح القاضي أبو الطيب بأن مذهب المزني في الثانية لزوم الإتمام. وإذا كان الأمر كذلك احتجنا إلى ذكر المسألتين - أعني: مسألة ما إذا أحرم في البلد، ثم سافر، وما إذا لم ينو القصر - لنقيم الدليل على كل واحدة منهما. ويجوز أن تكون مصورة بما إذا نوى القصر ظاناً جوازه بمجرد نية القصر، أو مفارقة منزله دون مفارقة البلد، ومسير السفينة؛ فإن نية القصر في هذه الحالة غير مفسدة؛ للجهل. ونظيره ما حكاه الإمام فيما إذا نوى القصر على اعتقاد أنه مسافر، ثم تبين أنه كان قد انتهى إلى الإقامة؛ فإن صلاته [صحيحة]، ويلزمه الإتمام، قال: ولست أعرف خلافاً في ذلك. فإن قلت: هل يمكن أن تصور بما إذا نوى القصر، مع علمه بأنه لا يجوز

القصر في هذه الحالة؟ قلت: لا؛ لأن صاحب "العدة" قال: إن المسافر إذا جهل القصر، وقصر - لم تصح صلاته؛ لأنه متلاعب بالصلاة؛ فلم تصح، وهذا في الحاضر بطريق الأولى. والرافعي حكى أن المقيم إذا نوى القصر لا تنعقد صلاته، وهذا قبل مجاوزة البلد مقيم عندنا، نعم: للإمام فيه احتمال؛ فإنه قال: إذا نوي، وهو عالم بأن السفينة في حد الإقامة فهو كمقيم ينوي القصر، ولو نوى -وهو مقيم- القصر احتمل أن يقال: يبطل أصل قصد الترخص، ويثبت أصل الإتمام؛ لما قررناه أن نية القصر تقتضي من طريق التضمن الإتمام. واحتمل أن يقال: نية القصر من المقيم تبطل صلاته؛ فإنه غير معذور في نيته بوجه، والذي جاء به نية فاسدة، وفساد النية بتضمن فساد الصلاة. وهذه المسألة شييهة عندي بما لو نوى المتوضئ يوصوئه استباحة صلاة الظهر دون غيرها؛ ففي فساد نيته خلاف، ووجه الشبه: أن رفع الحدث إذا وقع التعرض له، فإنه لا يتبعض، فإذا قصد تبعيضه، فمن أئمتنا من أفسد النية، وقال: كأنه لم ينو أصلاً، ومنهم من حذف التخصيص من النية، والذي يجمع بين المسألتين: أنه لو نوى صلاة الظهر لم يحتج إلى ربط القصد بأربع ركعات، بل هي مرتبطة بها شرعاً؛ وكذلك من نوى الاستباحة بوضوئه، لو لم يعلق قصده بتعميم الإباحة صح وضوءه وجهاً واحداً، ولو نوى استباحة الظهر، ولم ينو غيره - صح وضوءه وعم بلا خلاف. وما ذكره الإمام حسن، ولم يذكره الرافعي، بل اقتصر على حكاية الإبطال، وفرق بينه وبين إذا اقتدى المسافر بمن علمه مقيماً، أو ظنه، حيث قالوا: لا تبطل، وتلغى نية القصر-: بأن المقيم ليس من أهل القصر، والمسافر من أهله؛ فلا يضر فيه القصر؛ كما لو شرع في الصلاة بنية القصر، ثم نوى الإتمام، أو صار مقيماً.

وإذا تحرر تصوير المسألة، قلنا: إنما لزمه الإتمام؛ لأنها عبادة يختلف حكمها بالسفر والحضر، وقد اجتمعا فيها؛ فوجب أن يقدم حكم الحضر. أصله: إذا أنشأ صوم رمضان في الحضر، ثم سافر بعد الفجر. ولأنه إذا اجتمع في الصلاة الواحدة ما يوجب الأخذ بالأكثر، وما يوجب الأخذ بالأهل وجب الأخذ بالأقل؛ كما لو شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً. واعلم: أنه يمكن أن يؤخذ من قول الشيخ: وإن أحرم في البلد، ثم سافر - لزوم الإتمام فيما إذا أحرم بالصلاة بنية الإتمام ثم فسدت صلاته، فأتى بها في السفر، وبه صرح الأصحاب لالتزامه السابق. والمسألة الثانية: إذا أحرم في السفر، ثم أقام. وهى مصورة بما إذا أحرم بها في سفينة، ثم وصلت إلى وطنه الذي عزم على الإقامة فيه وهو فيها، أو نوى الإقامة وقد وصلت السفينة إلى موضع يصلح للإقامة، وهو بعد في الصلاة. ووجه لزوم الإتمام فيها: القياس على ما إذا قدم وهو صائم، لا يسوغ له الفطر. فإن قيل: ألا قلتم: إن وجود الإقامة في أثناء الصلاة لا يوجب إتمامها؛ حيث صح القول فيها مقصورة؛ كما قلتم في المتيمم إذا رأى الماء في أثنائها؟ قال ابن الصباغ: قلنا: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن المتيمم وجب عليه الدخول في الصلاة عند عدم الماء، والقصر رخصة لم تجب؛ فإذا زال سببها انقطعت. والثاني: أن المتيمم لو وجب عليه استعمال الماء في أثنائها لبطل ما فعله في الماضي، وهاهنا يبني، وهذا ما ذكره الماوردي. وقد ألحق الأصحاب بهذه المسألة ما إذا أحرم بالصلاة بنية القصر بعد مفارقة البلد؛ ثم رعف؛ فرجع إلى البنيان لغسل الدم فغسله، ثم مضى فيها، تفريعا على قولنا: إن سبق الحدث لا يبطل الصلاة، وعلى ذلك حملوا ما أطلقه الشافعي

في "الإملاء" من لزوم الإتمام، وقالوا: إذا قلنا بقوله الجديد: إن سبق الحدث يبطل الصلاة؛ فإن استأنفها في البلد أتم، وإن أوقعها في السفر بعد خروجه، فله القصر؛ كذا حكاه العراقيون. ويجيء فيه على طريق المراوزة شيء آخر يحتاج إلى ذكر مسألة مقصودة في نفسها، وهي: إذا خرج المسافر ووصل إلى موضع يجوز له فيه القصر؛ فعاد إلى الموضع الذي خرج منه؛ لأخذ شيء نسيه، فهل له أن يقصر في رجوعه، وفي البلد الذي خرج منه أو لا يقصر حتى يفارق بنيان البلد، كما تقدم؟ قالوا: ينظر: فإن كان ذلك البلد وطنه، فلا يقصر ذاهباً إليه، ولا فيه. وإن كان غريباً لم ينو الإقامة فيه أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج، فله القصر [ذاهباً إليه وفيه. وإن كان قد أقام به أكثر من ذلك، فهل له القصر] في ذهابه إليه وفيه أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، وهو ما ذكره في "التهذيب". والثاني: نعم، وهو الأصح في "النهاية"، ولم يحك الروياني في "تلخيصه"، والمتولي وأبو الطيب غيره؛ لأن البلد لم تكن وطنه، ولكن أقام بها، ثم أقلع عنها؛ فصارت البلد في حقه كسائر المنازل. وحكى الرافعي عن صاحب "العدة" رواية وجه: أن له أن يقصر في طريقه [ذاهباً وجائياً] ما لم يدخل البلد، [فإذا دخل لا يقصر. والعراقيون أطلقوا القول بأنه لا يقصر إذا عاد إلى البلد]، [وهذا يحتمل أن يريدوا: في الطريق والبلد، ويحتمل أن] يكون مرادهم: في البلد فقط، وهو الأظهر. ويدل على ذلك: أن الروياني في "تلخيصه" قال: إن الشافعي نص في "الإملاء" على أنه إذا خرج مسافراً، ثم ذكر شيئاً نسيه في منزله، فعاد إلى بلده؛ لأجل ذلك الشيء- لم يكن له أن يقصر؛ لأنه صار مقيماً بعوده. وإنه نص في "البويطي" على أنه إذا رجع واحد ممن له القصر إلى منزلة في حاجة، فحضرته

الصلاة ذاهباً وجائياً- قصر، وهذا ما أورده البندنيجي في "تعليقه". قال الروياني: وليست المسألة على قولين: فالذي قال: لا يقصر، أراد: إذا حصل في جوف البلد، والذي قال: يقصر، أراد: إذا كان في الطريق، وليس في شيء من البلد. فإذا عرفت ذلك، قلنا في مسألة الرعاف: إن كان البلد وطنه، فالحكم كما ذكره العراقيون، وإن كان غريباً فيه لم ينو الإقامة، فلا يلزمه الإتمام، سواء أوقع الصلاة في البلد أو في الطريق. وإن كان قد نوى الإقامة فيه أربعة أيام، فإن قلنا: إنه لا يقصر فيه، كان كما لو كان وطنه وإن قلنا: يقصر فيه، كان كما لو كان غريباً فيه. هذا قياس [مذهبهم]؛ فتأمله، والله أعلم. أما إذا وصل في أثناء الصلاة [إلى مقصده ووطنه الذي عزم على الخروج منه قبل استكمال أربعة أيام- فعن القفال في انقطاع سفره حكاية قولين، ستعرف مثلهما فيما بعد. قال الرافعي: والمشهور أنه يصير مقيماً بنفس الدخول بلا خلاف، ولذلك قطعوا فيما إذا رجع إلى وطنه [لأخذ شيء نسيه: أنه لا يقصر. قلت: والوجه: التفصيل: فإن كان بين وطنه] وبين مقصده دون مسافة القصر فما قاله الرافعي من الاستشهاد صحيح. وإن كان بينهما مسافة القصر، فالفرق بين ما ذكره القفال وبين ما التزمه ظاهر؛ لأنه بعوده إلى وطنه رافض لقصده الأول، وليس ما قصده مما تقصر إليه الصلاة، ولا كذلك في مسألة القفال. ثم إذا قلنا بالمشهور؛ فلو كان وصوله] إلى مقصده ووطنه غيره؛ فقضية كلام الماوردي: أن الحكم كما لو وصل إلى وطنه؛ لأنه جزم القول بأنه إذا وصل إلى مقصده انقطع ترخصه، نوى الإقامة [فيه أو لا.

وغيره قال: إن كان قد نوى الإقامة] في المقصد أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج – أتم فيه. وقياسه: أنه إذا أراد وصل إليه في أثناء الصلاة يتم. وإن كان قد نوى [إقامة] دون ذلك فله القصر فيه. وقياس هذا: أنه إذا وصل إليه في أثناء الصلاة لا يلزمه الإتمام، والله أعلم. ولو نوى المقام في موضع لا يصلح للإقامة، فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله. والمسألة الثالثة: إذا شك في ذلك. وهي تشمل حالين، وصورتهما تقدمت، وإنما لزمه الإتمام فيهما؛ لأنه شك هل يجوز له الاقتصار على ركعتين، أو يلزمه الأربع؛ والأصل لزوم الأربع. والمسألة الرابعة: إذا لم ينو القصر- أي: بل أطلق النية-[يلزمه الإتمام؛ لأنه الأصل، فإذا أطلق النية] انصرفت إليه. وقال المزني: لا يلزمه؛ لأن المعهود المعروف في حق المسافر الصلاة المقصورة، فإذا أطلق النية انصرفت إلى المعهود؛ كذا حكاه عنه أبو الطيب. وفي "الحاوي" أنه [قال:] لا يفتقر إلى نية القصر مع الإحرام، بل يكفيه أن يسلم ناوياً القصر، وإن سلم غير ناوٍ له كان كمن سلم ساهياً. ووجه بأن القصر رخصة، والرخص في الأصول لا تفتقر إلى النية مع أول العبادة، ألا ترى أنه لو نوى الطهارة عند غسل الوجه كان له المسح على الخفين، وإن لم تتقدم النية؟! قال الماوردي: وهذا غلط؛ لأنا متفقون على وجوب النية، وإنما الخلاف في محلها، وكل صلاة افتقرت إلى نية كان محل تلك النية فيها الإحرام كنية الصلاة. ولأنها مقصورة من أربع إلى ركعتين؛ فوجب أن يكون الشرط في أثنائها موجوداً في ابتدائها؛ كالجمعة. وقد أفهم ما ذكرناه من لزوم الإتمام عند الإطلاق لزومه عند نية الإتمام من طريق الأولى، وقد نقل عن المزني المخالفة فيه أيضاً، والمشهور موافقته عليه،

ونسبة ذلك إلى المغربي، وهو مقيس على ما إذا نوى القصر، ثم الإتمام، وعلى ما لو نوى المسافر الصوم، ثم عن له أن يفطر. وأصحابنا فرقوا بين نية القصر، ونية الإتمام بأنه إذا نوى القصر، ثم الإتمام-[انتقل من الأدنى إلى الأعلى، ولا كذلك إذا نوى الإتمام ثم القصر؛ فإنه] انتقل من الأعلى إلى الأدنى، وصار هذا كمن عليه كفارة، وهو من أهل الصوم، فأراد الانتقال إلى العتق- يجوز، ولو كان من أهل العتق، فأراد التكفير بالصوم: لا يجوز. وكذا من وجب له القصاص، فعفا عن الدية إلى القصاص يجوز له أن يعفو عن القصاص إلى الدية، ولو عفا عن القصاص إلى الدية لم يجز له أن يرجع إلى القصاص. وفرقوا بين القصر والفطر بأن: الفطر مضمون بالقضاء؛ فلم ينحتم عليه الصوم بدخوله فيه، والقصر لا يضمن بالقضاء؛ فانحتم عليه الإتمام بدخوله فيه. ثم اعلم أن كلام الشيخ لو أجري على ظاهره لانتظم حالة نية الإطلاق، وحالة نية الإتمام، وحالة ثالثة، وهي: إذا نوى الظهر أو العصر أو العشاء ركعتين، ولم يخطر له الترخص بالقصر، وقد قال الإمام: إنه لا نقل فيها، ويظهر أن يقال: إن صدر ذلك ممن يعلم القصر، ولم يتعرض للترخص ولا كيفيته، فهو محمول على الصحة، وهو الترخص بعينه، ولو صدر ذلك من حديث عهد بالإسلام الذي لم تبلغه رخصة القصر، وظن أنها كصلاة الصبح- ففي نيته شيء؛ فإن صلاة الظهر أصلها أربع، وإنما يقع الاقتصار على ركعتين ترخصا، وهذا ما قصد الترخص. وفي "الرافعي": أنه إذا كان يجهل القصر وقصره، لم يجزئه؛ لأنه عابث في اعتقاده غير مصلّ، وأن ذلك يحكى عن نصه في "الأم". ولو صدر الاقتصار على نية الركعتين ممنن علم بالرخصة، لكنه لم يجدد ذكره، وإنما اعتمد نفي الترخص، وجزم النية في ركعتين- قال: الإمام: فهذا فيه احتمال. والذي أراه: أن المقيم لو نوى الظهر ركعتين، ولم ينو الترخص – ينبغي أن

تبطل صلاته، وإنما الاحتمال السابق فيما إذا نوى الترخص بالقصر. فرع: إذا شك هل نوى القصر، أو لا؟ [ثم بان [أنه لم] ينو القصر]- لزمه الإتمام، وإن لم يمض ركن في حال شكه، وهذا بخلاف ما إذا شك هل نوى أو لا؟ ثم ظهر أنه كان قد نوى قبل أن يمضي ركن من صلاته- فإن صلاته صحيحة. والفرق: أنه حالة شكه في القصر، لزمه الإتمام في تلك الحالة، وإن خفت، وإذا لزمه الإتمام في بعض الصلاة، لزمه في جميعها؛ فإنه قد اعتد بتلك اللحظة من حساب الإتمام؛ فلا يتبعض الأمر، وإذا كان الشك في أصل النية، فلا يعتد بتلك اللحظة، وهي غير مفسدة للصلاة؛ لأنه إذا تذكر، فالباقي من الركن كاف، وذلك الشك محطوط غير معتدّ به؛ كذا قاله الإمام، وأرشق منه قول القاضي الحسين: إن الشك في الصورتين غير محسوب عما شك فيه، [إلا أن في مسألة القصر، إذا لم يكن محسوباً عما شك فيه فيكون ملتزماً للإتمام؛ فيلزمه، وفي النية زمان الشك غير محسوب عما شك فيه،] إلا أن ذلك المقدار لو تعمده في صلاته، لم يبطلها؛ فجعلناه كأنه عمل عمداً ليس من الصلاة. قال الرافعي: ولو تردد: هل ينوي الإتمام أو يتم على نية القصر، لزمه الإتمام- أيضاً، نعم: لو قام إلى ثالثة ناسياً، وأتم الصلاة، ثم تذكر في التشهد أنه نوى القصر، قال الشافعي في "الأم": يسجد سجدتي السهو، ولو أراد أن يتمها، قال الغزالي: لزمه أن يقوم، ويأتي بركعتين، ولو كان التذكر في حال قيامه، وأراد الإتمام، قال في "التهذيب": لزمه أن يقعد، ثم يقوم، ويأتي بركعتين. وقيل: له أن يمضي قائماً. ولو أراد الاقتصار على ما مضى، جلس، وتشهد، وسجد سجدتي السهو. قال القاضي أبو الطيب وغيره: ولا نظير لهذه المسألة؛ لأن سجود السهو يكون في الموضع الذي إذا عمد للزيادة، بطلت صلاته؛ فإذا أتى بها ناسياً،

سجد للسهو، وهذا الإتمام إذا أتى به عامداً لا تبطل [صلاته]، ثم قال: إذا أتى به ناسياً، يسجد للسهو. قلت: بل هذه المسألة ماشية على القاعدة المذكورة؛ فإنه لو تعمد الإتمام من غير نية، بطلت صلاته؛ كما صرح به القاضي الحسين، والفوراني، والإمام، والرافعي، وإنما الذي لا يبطل الإتمام بعد نيته، والله أعلم. والمسألة الخامسة: إذا ائتم بمقيم في جزء من صلاته، يلزمه الإتمام؛ لقول ابن عباس: إن صلينا معكم صلينا أربعاً، وإن صلينا في بيوتنا صلينا ركعتين؛ ذلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وفي الصحيحين عن ابن عمر نحوه، وروي أن ابن عباس سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد، وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة. والمفهوم: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم هذا اللفظ من الشيخ يشمل صوتاً ثلاثاً: أن يحرم خلف مقيم، أو خلف مافر ثم ينوي إمامه الإقامة، أو يحدث؛ فيستحلف مقيماً، ويتبعه المأموم، وفي الكل يلزمه الإتمام؛ للخبر، ويقتضي أموراً: أحدها: أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون ما أحرم به ظهراً خلف من يصلي الظهر، أو خلف من يصلي الصبح، وهو المشهور في الطرق. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجهين فيما إذا صلى الظهر، أو العصر، أو العشاء ركعتين خلف من يصلي الصح قضاء: هل يقصر، أو يلزمه الإتمام؟ وقد حكاهما الرافعى أيضاً. الثاني: أنه لا فرق بين أن يأتم به فيما هو مقصور في حقه أو لا، كما إذا

ائتم بمقيم يصلي الجمعة، ونوى هو الظهر قصراً، وقلنا: إن الجمعة ظهر مقصور، [وهو الذي حكاه العراقيون. وقال الفوراني والمتولي: إذا قلنا: إن الجمعة ظهر مقصور]، لا يلزم المقتدي به الإتمام، وإن قلنا: إنها صلاة مستقلة بنفسها، [فيلزمه أن يتم. وقال القاضي الحسين وغيره: إن قلنا: إنها ظهر مقصور، لا يلزمه الإتمام، وإن قلنا: إنها صلاة مستقلة بنفسها،] فهل يلزمه الإتمام؟ فيه الوجهان فيما إذا أحرم بالظهر خلف من يصلي الصبح، والحكم فيما لو كان [الإمام في الجمعة مسافراً، وصححنا إمامته، كالحكم فيما لو كان] مقيماً؛ لأن الجمعة فرض الحضر. نعم: قال الشيخ أبو حامد في هذه الصورة: إذا قلنا: إن الجمعة ظهر مقصور، لم يلزمه الإتمام. قال ابن الصباغ: وليس بشيء، والمنصوص عليه في "الإملاء": أنه يلزمه، حكاه الماوردي. الثالث: أنه لا فرق في ذلك بين أن تتم صلاة الإمام والمأموم على الصحة، أو تفسد، والأمر كذلك؛ للخبر، ولأنها صلاة تعينت عليه تامة، فإذا أفسدها، لزمه قضاؤها تامة، كما إذا أحرم بها في الحضر، ثم أفسدها؛ فإنه يقضيها تامة، ولأن العبادة إذا وجبت بالدخول فيها، لا يسقط قضاؤها بإفسادها إذا أمكن قضاؤها، كالحج إذا تبرع به ثم أفسده. الرابع: أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الإمام متطهراً أو محدثاً؛ لأن القدوة بالمحدث في غير الجمعة صحيحة، وبه صرح الإمام والقاضي الحسين؛ لأن خوضه في الصلاة صحيح، وقد خاض خوضاً موجبه الإتمام؛ فلا نظر إلى فساد صلاة الإمام، وهكذا الحكم فيما لو اقتدى بمن ظنه مسافراً، فبان مقيماً محدثاً، فإن ظهر للمأموم كونه مقيماً قبل ظهور حدثه، لزمه الإتمام وجهاً واحداً، وإن بان له الأمران معاً، أو بان له كونه محدثاً أولاً- ففي لزوم الإتمام وجهان: يحكي أحدهما عن صاحب "التلخيص"، ولم يورد جماعة سواه: أنه لا يلزمه. قال الإمام: وتابعه عليه المحققون.

ومقابله: رواه الشيخ أبو علي في "الشرح" عن محمد. قال الإمام: وكثير ما يحكي عن محمد، ولست أدري من يعني؟ ولست أعد ذلك من المذهب. وفي "التتمة" بناء الوجهين على أن صلاة المؤتم بالمحدث تقع جماعة أو لا؟ فإن قلنا: تقع جماعة، لزمه الإتمام، وإلا فلا. وقال في "الوسيط": إنهما ينبنيان على أن المسبوق: هل يصير مدركاً بالركوع إذا بان كون إمامه محدثاً؟ وفيه خلاف، ذكرته في باب هيئة الجمعة. وقد شاحح بعضهم الشيخ في العبارة، فقال: لو [قال: أو] ائتم بمتمّ في جزء من صلاته- لكان أولى؛ لأنها تشمل المقيم والمسافر إذا أتم. قلت: وليست بأولى؛ لوجهين: أحدهما: أن هذه العبارة [لا] تقتضي لزوم الإتمام لكل من اقتدى بمقيم؛ فإن من ائتم في صلاة الظهر قصراً بمقيم يصلي الجمعة، يلزمه الإتمام. قال القاضي أبو الطيب: ولا يقال: إنه اقتدى بمتم؛ لأن صلاة الجمعة أقل عدداً من الظهر. وعبارة الشيخ تقتضي إدخاله؛ فقد صارت كل من العبارتين تدخل شيئاً لم تدخله الأخرى. والثاني: أن عبارة الشيخ تقتضي أنه إذا اقتدى بمقيم محدث، يلزمه الإتمام، وهذه العبارة لا تقتضي ذلك؛ لأن من صلاته فاسدة لحدثه لا يقال: إنه متم؛ ولذلك كان له أن يصلي ما عليه- إذا كان مسافراً- قصراً، وإن كان قد نوى في الفاسدة الإتمام، ولو قيل: إنه يصدق عليه أنه اقتدى بمتم لزم منه أن يقال إذا اقتدى بمن ظنه مسافراً، فبان مقيماً محدثاً: إنه يلزمه الإتمام، لأنه مقتد بمتم، والصحيح: أنه لا يلزمه الإتمام، ولا يقال: إن الشيخ لو قال: أو ائتم بمصلِّ صلاة حاضر، لكان أولى؛ لأن هذه العبارة تدخل من صلى الظهر خلف من يصلي الجمعة؛ لأنا نقول: إن هذه العبارة إن سلمت من الوجه الأول الذي رددنا به ما تقدم لم تسلم من الوجه الثاني، والله أعلم.

والمسألة السادسة: إذا ائتم بمن لا يعرف أنه مسافر، أو مقيم- يلزمه أن يتم؛ لما ذكرناه في المسألة الثالثة، ولا فرق في ذلك بين أن يظهر له بعد ذلك أنه مقيم أو مسافر. وحكى الإمام عن شيخه رواية قول عن الشافعي: أنه إذا بان له أنه مسافر قاصر، كان له أن يقصر، كما لو تردد في أن إمامه المسافر نوى القصر أو لا؟ ثم بان أنه قاصر؛ فإنه يقصر وفاقاً، وقد حكى ذلك بعد ذلك وجهاً عن رواية صاحب "التقريب"، ثم قالك ولست أعده من المذهب، والفرق بين التردد في نية الإمام وبين التردد في حاله: هل هو مسافر أو مقيم؟ أن النية لا يطلع عليها، مع أن الظاهر من حال المسافر نية القصر؛ لأن العاقل لا يظن به أنه يختار العمل الطويل مع قلة الأجر، على العمل القصير مع كثرة الأجر، ولا كذلك السفر والإقامة؛ فإن الإطلاع عليهما ممكن، والأصل: الإقامة ولزوم الإتمام، نعم: لو غلب على ظنه أن الشخص مسافر، جاز له نية القصر عند الاقتداء به، صرح به في "الحاوي". وقد أفهم قول الشيخ: أنه لا يلزمه الإتمام عند الاقتداء بمن عرفه مسافراً، وهو مما لا خلاف فيه، نعم، اختلف الأصحاب في كيفية نيته: [فمنهم من قال: ينوي القصر،] ومنهم من قال: ينوي القصر إن قصر إمامه، والإتمام إن أتم؛ لأن هذا مقتضى نيته فلا يضره عقدها كذلك، وهذا ما حكاه القاضي الحسين، وهو الأصح في الرافعي، والقائل به يجوّز الجزم بالقصر؛ ولذلك قال في "الحاوي": إن كلا الأمرين جائز، والقائل بالأول لا يجوز الثاني، ثم له بعد الاقتداء بالمسافر ثلاث أحوال: إحداها: أن يراه يتم الصلاة. والثانية: أن يراه قصرها. وفي هاتين الحالتين حكمه حكمه. والثالثة: أن يحدث، وينصرف، فإن أخبره أنه أتم أو قصر، وصدقه- عمل بمقتضى قوله، وإن لم يصدقه، فسيأتي حكمه.

ولو رآه توضأ، وعاد، فصلى ركعتين أو أربعاً- كان حكمه حكم ما لو علمه قصر أو أتم، قاله البندنيجي. [وإن لم يخبره بشيء، ولم يعد، وأشكل عليه أمره، فعند ابن سريج: يقصر، وعند أبي إسحاق: يتم]. وادعى الماوردي أن الثاني هو مذهب الشافعي ومنصوصه، وأن به قال عامة أصحابنا، واقتصر القاضي الحسين على إيراده، وقد وافق ابن سريج على المحدث لو كان هو المأموم، فانصرف ولم يعلم حال إمامه- أنه يلزمه الإتمام؛ لأنه كان يمكنه الإطلاع على حال الإمام في القصر والإتمام، فإذا لم يفعل عد مقصراً؛ فلزمه أن يتم، بخلاف ما إذا أحدث الإمام وانصرف؛ لأنه لم يبق من فعله ما يدرك به نيته، قاله البندنيجي والماوردي. ولو كان المسافر الذي اقتدى بالمسافر مسبوقاً أدرك من صلاة الإمام ركعة، فإن ذكر الإمام [له] أنه كان مقيماً: فإن تحقق صدقه، فعليه أن يتم، وإن استراب في قوله، وكان يجوز كذبه، فهل يلزمه الإتمام؟ فعلى وجهين حكاهما الإمام عن العراقيين، ثم قال: والظاهر- عندي- أنه يلزمه الإتمام، ولو كان الإمام عدلاً موثوقاً به عند المقتدي، لكنه لا يقطع بصدقه، فالذي أراه في هذه الصورة القطع بوجوب اعتماد قوله، ولا يشترط في ذلك اليقين؛ فإن العدل الواحد إذا أخبر عن مشاهدة بطلوع الشمس أو غروبها، أو طلوع كوكب- فعلى السامع أن يعتمد قوله، وصورة الوجهين فيه: إذا لم يكن الإمام موثوقاً به، أو [إن] كان لا يدري حقيقة حاله، بأن كان مستوراً. فرعان: أحدهما: إذا اقتدى مسافرون [بمسافر]، ثم قام إلى ثالثة ساهياً، فإن تبعوه في السهو، فلا كلام، وإن ظنوا أنه أتم، لزمهم الإتمام، وكذا لو ترددوا في ذلك ثم بان لهم سهوه، وهذا بخلاف ما إذا ترددوا: هل نوى القصر أو الإتمام؛ فإنه إذا بان أنه نوى القصر، لا يلزمهم الإتمام. والفرق: أن النية لا يطلع عليها، وحال

المسافر ظاهره القصر، بخلاف ما إذا قام إلى ثالثة؛ فإنه [تأكد ظن] الإتمام بالقيام، ولو عرفوا أنه قد سها حال سهوه، لم يلزمهم الإتمام، وسجدوا للسهو، وسلموا، أو صبروا حتى يسلم، فيسلموا معه، وقد استشكل المزني معرفتهم سهوه، وصوره القاضي الحسين ومن بعده، بأن يكون الإمام حنفيّاً متعصباً في مذهبه، يعلمون من حاله أنه لا يتم في السفر، مع ما تقرر من أصله أنه إذا أتم لم تصح صلاته. الثاني: إذا اقتدى مقيمون ومسافرون بمسافر، فرعف الإمام، وقدم مقيماً- قال الشافعي: "كان على جميعهم وعلى الراعف أن يصلوا أربعاً؛ لأنه لم يكمل واحد منهم الصلاة حتى كان فيها في صلاة مقيم" هذا آخر كلامه. وما ذكره في المأمومين محله إذا لم ينو المفارقة عند حدثه، كما تقدم، [و] في "الرافعي": أنه يأتي فيهم وجه أنهم لا يلزمهم الإتمام، [إلا إذا نووا الاقتداء بالمستخلف؛ لأنه سيأتي وجه: أنه يجب على القوم أن ينووا الاقتداء بالخليفة، فإذا لم ينووا لا يلزمهم الإتمام؛ لأنهم ما نووا الإتمام] ولا اقتدوا بمقيم. قلت: وهذا التخريج ظاهر على القول الصحيح في أن الإمام الراعف لا يلزمه الإتمام إذا لم يعد، أما إذا قلنا: يلزمه وإن لم يعد؛ بناءً على أنه باستخلافه صارت صلاته صلاة مقيم- فلا؛ لأنا حينئذ نتبين أن اقتداءهم وقع بمن لزمه الإتمام، فلعل القائل بوجوب نية الإتمام هو هذا القائل، فيرتفع الخلاف في المأمومين، كما أطلقه الأصحاب. وأما الراعف- فقد قال المزني: إن ما ذكره الشافعي فيه غلط؛ لأن الراعف يبتدئ ولم يأتم بمقيم، وليس عليه إلا ركعتان. واختلف الأصحاب في ذلك: فقال أبو إسحاق وغيره- وهو أصح الأجوبة-: مراد الشافعي إذا عاد الإمام، وائتم به: إما بناءً على القول القديم، وإما استئنافاً على الجديد؛ ألا ترى إلى قوله: "لأنه لم يكمل واحد منهم الصلاة، حتى كان فيها في صلاة مقيم"؟!

وقال ابن سريج بإجراء لفظ الشافعي على ظاهره، موجهاً له بأن الشافعي بناه على قوله في القديم: إن الراعف لا تبطل صلاته، فإذا استخلف مقيماً في صلاة هو فيها، لزمه أن يتم؛ لأنه مؤتم بمتمّ. وأما على قوله الجديد، فلا يلزمه الإتمام. قال البندنيجي: وهذا فاسد؛ لأنه على القديم في حكم صلاة نفسه، فأما أن يكون فيها في جماعة، فلان قال الإمام: وهذا الوجه مع ضعفه غير مستقيم في نظم الأقوال قديما ًوجديداً فإن الاستخلاف في القديم باطل، وصلاة الراعف في الجديد باطلة؛ فلا يتسق هذا التفريع إذن. وهذا قد سبقه به القاضي الحسين. وعن ابن سريج أنه قال: ومن أصحابنا من قال: يلزم الراعف الإتمام، وإن لم يرجع إلى الصلاة؛ لأن خليفته القائم مقامه يلزمه الإتمام فهو أولى. وأبو الطيب نسب هذا القول إلى ابن سريج نفسه، وقال: إنه ليس بشيء؛ لأن خليفته مقيم فأتم، وهو مسافر فلم يتم. قلت: والصحيح أن قائله غيره؛ لأن ابن سريج لما ذكره قال: هذه شبهة، وليست بدلالة. وحكى البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما أن أبا غانم مُلْقِي أبي العباس بن سريج حمل النص على ما إذا أحس الإمام بالرعاف، فاستخلف، ووقف خلف خليفته، ثم رعف فانصرف- فإنه ها هنا يلزمه أن يتم؛ لأنه صار خلف مقيم. قال البندنيجي، وكذا المحاملي: وهذا فاسد؛ لأن الرجل لا يصح أن يستخلف في الصلاة، ويكون فيها مأموماً قبل الانصراف. قال الرافعي: وقد سئل الشيخ أبو محمد عنه، فجعل الاحتباس عذراً، وقال: متى حضر إما هو أفضل منه، أو حاله أكمل- جاز استخلافه. ولا خلاف في أنه لو استخلف مسافراً نوى القصر، لا يلزمه ولا من خلفه من المسافرين الإتمام، وكذا لو لم يستخلف وأتم المسافرون لأنفسهم، ولو استخلف المسافرون مقيماً، فهل يكون الحكم كما لو استخلفه الإمام؟ فيه وجهان في "الحاوي": أحدهما: نعم. والثاني: لا. فعلى هذا: للإمام أن يقصر؛ لأنه لم يستخلف المقيم، وعلى

هذا: لو استخلف المقيمون مقيماً، والمسافرون مسافراً نوى القصر- جاز للمسافرين القصر، وكذلك لو افترقوا ثلاث فرق [أو أكثر]، وقدمت كل فرقة منهم إماماً جاز وإن كان إمامهم قبل الحدث واحداً، نص عليه. قال: وإن نوى المسافر إقامة أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج- أتم، أي: من حين نيته. هذا الفصل مسوق لبيان أمرين: أحدهما: دل عليه منطوقه، وهو لزوم الإتمام عند نية المقام أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج. والثاني: دل عليه المفهوم، وهو جواز القصر عند نية المقام أقل من ذلك. والدليل على الأمرين قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} [النساء: 101]، فأباح القصر بشرط الضرب في الأرض، فالعازم على المقام مدة، غير ضارب في الأرض؛ فاقتضى مفهوم الشرط أنه لا يستبيح القصر. أو نقول: الأصل قبل ورود هذه الآية لزوم الإتمام، والآية جوزت القصر عند الضرب في الأرض، وناوي الإقامة غير ضارب في الأرض؛ فلا يجوز له القصر عملاً بالأصل، لكن السنة بينت أن إقامة ما دون الأربع غير يوم الدخول ويوم الخروج لا تمنع القصر، فاستثنيت مما ذكرناه، وبقي فيما عدا ذلك على ما اقتضاه الدليل، وإنما قلنا: إن السنة بينت أن نية مقام ما دون الأربع غير يوم الدخول ويوم الخروج لا تؤثر في منع القصر؛ لما روى جابر بن عبد الله قال: "أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج خالصاً حتى أتى مكة صبيحة رابعة مضت من ذي الحجة، فأقام اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع يقصر الصلاة، فلما كان اليوم الثامن صلى بالأبطح صلاة الصبح، ثم رفع إلى منى"، وهذا عين ما ذكرناه، ومنه يظهر لك أن دخوله- عليه السلام- كان يوم الأحد، وخروجه إلى منى كان يوم الخميس؛ لأن ذلك كان في حجة الوداع، وكانت

الوقفة فيها يوم الجمعة، وبذلك صرح الرافعي. وقد أطلق بعضهم أنه إذا نوى إقامة ثلاثة أيام، غير يوم الدخول ويوم الخروج- له أن يقصر، وصور ذلك بما إذا قدم يوم الأحد وخرج يوم الخميس، وعلى ذلك جرى البندنيجي، ولاشك أن العبارة الأولى أولى؛ لأن هذا التمثيل يقتضي أن المنوي إقامة ثلاثة أيام وأربع ليال، غير يوم الدخول ويوم الخروج، وذلك أكثر من ثلاثة أيام، وأقل من أربعة أيام غير يوم الدخول والخروج، فكانت العبارة الأولى- لأجل ذلك- أولى، لكن لهم أن يقولوا: الليلة الزائدة هي ليلة يوم الخروج، وهو غير محسوب؛ فكذا ليلته، كما أن الثلاثة الأيام محسوبة بلياليها، ولولا أن ليلة القدوم فاتت، لأمكن أن نقول بعدم حسابها- أيضاً- تبعاً له. وقد تمسك القائلون بالعبارة الثانية في الاستدلال على لزوم الإتمام عند نية المقام أربعة أيام غير يوم الدخول والخروج، وعلى جواز القصر عند نية المقام ثلاثة أيام- بأن الأربعة مدة الإقامة، والثلاثة مدة المسافر، يدل عليه قوله- عليه السلام-: "يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً" متفق عليه. وكان هذا في عمرة القضاء، وإذا ذاك كان لا يحل للمهاجر المقام بمكة، ومن أقام بها بطل ثواب هجرته، فلما بين لهم جواز الإقامة ثلاثاً، دل على أنها ليست إقامة محققة، وإنما هي من حكم السفر، وأن ما زاد عليها مدة الإقامة، وكذا لما أجلى عمر أهل الذمة عن الحجاز، جعل لمن قدم منهم تاجراً مقام ثلاثة أيام"؛ فدلت السنة والأثر على أن ما زاد على الثلاث في حد الإقامة، والزيادة على الأيام من نوعها إنما تتحقق بالرابع بكماله لأن يوم الدخول ويوم الخروج

غير محسوبين؛ لأن في احتسابهما تكليف ما لا يطاق؛ فإن أكثر الناس لا يعرفون الساعات، ولا يقدرون على تلفيقها، فلو كلفوا بذلك لخرجت الرخصة عن وضعها؛ فحسبت الأيام الكوامل، وهذا كما جوزنا في رمضان النية قبل الفجر؛ [لأن في تكليف الناس أن ينووا مع طلوع الفجر] أعظم المشقة، ولأن العادة أن المسافر لا يدوم على السير في جميع نهاره؛ فلذلك لم يعد يوم دخوله يوم إقامة، وعد يوم خروجه يوم سفر. قالوا: ولأنا أجمعنا على أن المدة القليلة لا تقطع حكم السفر، والمدة الكثيرة تقطعه، فبنا حاجة إلى فاصل بين المدة القليلة والمدة الكثيرة، وليس ذلك إلا الثلاثة الأيام؛ لأنها آخر حد القلة، وأول حد الكثرة، ومنه قوله تعالى: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَاخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ* فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 64، 65] ولأن من أقام أربعة أيام لا يجوز له الجمع بين الصلاتين بوفاق الخصم- وهو أبو حنيفة- فنقول: من لا يجوز له الجمع، لا يجوز له القصر؛ كما لو نوى إقامة عشرين يوماً. فإن قيل: قد روي عن أنس بن مالك قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة، فقلنا: هل أقمتم بها شيئاً؟ قال: [أقمنا] عشراً" أخرجه البخاري ومسلم. وهذا يدل على أنه بنية إقامة أربعة أيام لا يصير مقيماً. قلنا: لاشك في أن هذه القصة كانت في حجة الوداع، وهي محمولة على أنه أقام العشرة متفرقة: في مكة ثلاثة، ومنى يوماً وليلة، وبعرفة يوماً، وبمزدلفة يوماً، وبمنى باقيها، وقد ادعى الإمام أن جابراً ذكر ذلك، ويؤيده "أنه- عليه السلام- دخل مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة- كما تقدم- وبات في المحصب ليلة

الأربعاء، وفي تلك الليلة اعتمرت عائشة- رضي الله عنها- ثم طاف- عليه السلام- طواف الوداع سحراً قبل صلاة الصبح يوم الأربعاء، وخرج صبيحته، وهو الرابع عشر". وما ذكره الشيخ من عدم اعتبار يوم الدخول والخروج في المدة هو ما ذكره العراقيون، والأصح عند المراوزة- كما حكاه في "الكافي" وغيره- وحكى القاضي الحسين وجهاً آخر: أنهما يحسبان من المدة، كما يحسب في مدة المسح يوم الحدث، ويوم نزع الخف. قال: ومن قال به، أجاب عن الحديث بأنه يحتمل أن يكون- عليه السلام- دخل مكة بعد الزوال، وخرج قبله على عادة الحجيج، فعلى هذا إذا كان دخوله يوم الجمعة عند الزوال، ونوى أن يقيم السبت والأحد والاثنين، ويخرج قبل الزوال من يوم الثلاثاء- جاز له القصر، قال في "التتمة": ولا يختلف المذهب فيه. وإن نوى أن يخرج يوم الثلاثاء بعد الزوال، لزمه الإتمام من حين قدومه؛ لأنه [قد] نوى مقام أربعة أيام. [و] كذا ما ذكره من أنه إذا نوى مقام أربعة أيام، غير يوم الدخول ويوم الخروج يلزمه الإتمام- هو الذي عليه الجمهور. وذهب المزني إلى أن له [أن يقصر ما لم] ينو مقام خمسة عشر يوماً، غير يوم الدخول والخروج، كما صار إليه أبو حنيفة. واختار ابن المنذر من أصحابنا ما صار إليه أحمد، وهو أنه إذا نوى مقام مدة يفعل فيها أكثر من عشرين صلاة أتم، وقال ابن الصباغ: إنه قريب من مذهب الشافعي. واعلم: أن بعض الشارحين قد اعترض على الشيخ، فقال: كلامه يفهم أنه يشترط إقامة أربعة أيام في لزوم الإتمام، وليس كذلك، بل [لو] نوى الإقامة ثلاثة أيام ولحظة، صار مقيماً. وهذه عبارة الإمام؛ فإنه قال: "إذا انتهى المسافر إلى بلدة أو قرية، دون مقصده، ولم يكن له بها حاجة يرتقب نجازها: فإن أقام ثلاثة أيام بلياليها فهو مسافر، وإن انبرم عزمه على مقام أربعة أيام أو على مقام

ثلاثة أيام ولحظة، ولم يكن له حاجة يرتقبها، فهو مقيم، وانقطعت عنه الرخص المشروطة بالسفر وفاقاً"، وهذا فيه نظر؛ لأنه حكى عن شيخه، وعن الصيدلاني أنه لا يحسب من الثلاث التي لا نجعله بنية مقامها مقيماً يوم الدخول والخروج، ولم يحك سواه، وحينئذ فإن كان مراده أن ليلة يوم الخروج [غير محسوبة عليه؛ تبعاً ليوم الخروج، استحال أن يوجد مقام ثلاثة أيام وشيء، وهو دون أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج، وإن لم يرد جعل ليلة يوم الخروج] تابعة له، كان مقتضى قوله أن من دخل يوم الأحد، وعزم على الخروج يوم الخميس- يلزمه الإتمام؛ لأن مدة مقامه قد زادت على ثلاثة أيام بليلة بعد إخراج يوم الدخول ويوم الخروج، وذلك عين المدة التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو يقصر فيها. فإن قلت: لعله أراد باللحظة من بياض النهار، لا من الليل؛ ولذلك أبهمها في موضع آخر، فقال: "إذا نوى مقام ثلاثة أيام وزيادة لزمه الإتمام". قلت: هذا مع جزمه بأنه لا يحسب عليه يوم الدخول ويوم الخروج- غير متصور. نعم: ذاك يتصور إذا قلنا بحسابهما عليه؛ كما تقدم حكايته وجهاً، وهو لم يذكره، والذي وقفت عليه من كلام القاضي الحسين وغيره، تفريعاً على أن يوم الدخول ويوم الخروج لا يحسبان من المدة: ما ذكرناه عن العراقيين من قبل، وهو ما جرى عليه الأكثرون؛ كما قاله الرافعي. ثم قال الإمام: إنه لو كان الدخول ليلاً، فهو المستثنى فقط، ولا نقولك يسقط عنه في الحساب يومه من الغد، بل هو من الأيام الثلاثة، ومقامه في هذه الحالة- على ما حكيناه عن الجمهور- أقل من مقامه فيما إذا دخل نهاراً؛ إذ مدة مقامه فيها ثلاثة أيام وثلاث ليال، ومبتدأ يوم الخروج وأواخر ليلة القدوم، ولا يجيء في هذه الحالة اختلاف نقل الإمام وغيره، ولو وقع دخوله قبل الغروب، بحيث لم يتكامل فراغه من الحطّ والشيل إلا [في الليل]، فالذي يقتضيه كلام الجمهور: أنه كما لو قدم في النهار، وانقضى جميع شغله فيه، وقال الإمام: الذي

أراه أن بقية النهار مع بقية الليل كله غير محسوب عليه؛ نظراً للشغل، ووقوعه في الليل. قلت: وهذا قاله بناءً على ما اقتضاه كلامه السابق: أنه إذا دخل يوم الأحد، ونوى الخروج يوم الخميس: أنه يلزمه الإتمام؛ لأجل زيادة ليلة يوم الخروج؛ فإنه إذا لم يحسب الليلة التي تم قضاء شغله من الحط فيها [لم تحصل الزيادة على ثلاثة أيام وثلاث ليال؛ فيجوز له القصر فيها]. ثم إذا جرينا على ذلك، لاح في المسألة بحث له التفات على أن العاكف بمنى إذا تشاغل بالترحال والشد حتى غربت الشمس في اليوم الثاني من أيام التشريق، هل يلزمه أن يقيم أو لا؟ فليطلب منه. تنبيه: سكوت الشيخ عن بيان المكان الذي تؤثر نية المقام فيه في القصر وعدمه، يؤذن بأمرين: أحدهما: أنه لا فرق عنده فيه بين أن يكون ذلك الموضع محل قصده أو غيره؛ كما إذا نوى ذلك في طريقه إلى محل قصده، ولاشك في ذلك إذا كان المكان في طريقه إلى محل قصده، وأما إذا كان المكان هو محل قصده ابتداء، فالذي جزم به الماوردي: أنه لا يتوقف لزوم الإتمام على نية المقام أربعة أيام، بل بمجرد وصوله إليه يلزمه الإتمام، وإن نوى مقام ثلاثة أيام فما دونها، وادعى أنه لا خلاف بين الفقهاء في ذلك. وهذه طريقة أبي حامد، كما حكاها الطبري في "عدته" عنه، وعليه يدل قول البندنيجي: إن من خرج من بلده مسافراً، وبين يديه بلد قبل البلد الذي يقصده، فنوى أن يقيم في الأول أربعاً، ثم يسير إلى الثاني، أو لم ينو أربعاً، لكنه قال: أسافر إلى الأول، ثم منه إلى الثاني- فإن كان بينه وبين الأول مسافة القصر، قصر، وإذا انتهى إليه، انقطع قصره. وهذا يدل على أن الوصول إلى المقصد وإن لم يكن وطناً قاطع للترخص، والذي حكاه الإمام عن الصيدلاني، وصاحب "العدة" عن القفال: أنه إذا كان عزمه على المقام به مقام المسافرين، ثم يعود إلى موضع خروجه، أو إلى موضع هو منه على مسافة القصر: أن له أن

يقصر في المقصد، وعليه يدل نص الشافعي في مواضع: الأول: ما حكاه الإمام إذا خرج المكي إلى "جدة" ليعود منها، ويخرج من "مكة" إلى سفر بعيد- فلا شك أنه يقصر ذاهباً إلى "جدة" وراجعاً منها؛ لأنها على مسافة مرحلتين من "مكة"، ثم يقصر بـ "جدة" أيضاً إذا كان مقامه بها مقام المسافرين. قال الإمام: وأما "مكة" في عودة من "جدة" هل يقصر فيها، أم لا؟ على قولين، وهذان القولان هما القولان اللذان أشرت إليهما من قبل. الثاني: ما نص عليه في كتاب استقبال القبلة، كما حكاه أبو الطيب فيما إذا خرج مسافراً إلى بلد بينه وبينه ستة عشر فرسخاً، ونوى أنه إذا وصل إليه أقام فيه يوماً واحداً، فإن لقي فلاناً- يعني رجلاً بعينه- أقام أربعة أيام، وإن لم يلقه رجع، فله القصر من حين يخرج [من بلده] إلى أن يصل إلى البلد الذي نواه، فإذا وصل إليه: فإن لم يلق فلاناً فإنه يقصر إلى أن يرجع، وإن لقيه فإنه يتم من حين يلقاه؛ لأنه نوى الإقامة إن رآه، وقد رآه؛ فقد صار مقيماً، والبندنيجي والماوردي صوراً هذه المسألة بما إذا خرج إلى بلد، فدخل إلى بلد في طريقه، وقال: إن لقيت فلاناً أقمت أربعاً. الثالث: ما حكاه البندنيجي فيما إذا كان من مكة على مسافة القصر، فخرج حاجّاً- كان له القصر حتىي دخلها، فإذا دخل "مكة" نظرت: فإن نوى مقام أربعة أيام، أتم، فإذا خرج إلى عرفة يريد قضاء نسكه [نظرت: فإن نوى مقام أربعة إذا رجع أتم بعرفة ومنى، وإن نوى قضاء نسكه] والانصراف، ولم ينو مقاماً، أو نوى مقام أقل من أربعة- قصر بعرفة ومنى. قلت: فهذه المسائل الثلاث تدل على أن الوصول إلى المقصد إذا لم ينو المقام [به] أربعة أيام، غير يوم الدخول والخروج- لا يقطع الترخص. وإذا جمعت بين النقلين، جاء في المسألة خلاف، وقد حكاه في "التهذيب" قولين، وادعى أن المذهب منهما: أن له القصر في مقصده، كما في الانصراف، وادعى الرافعي: أنه أصح، وأن غير البغوي ذكره.

وفي "التتمة" الجزم بمقابله. نعم: حكى الخلاف فيما إذا لم ينو المقام بها ولا الرجوع، فهل يكون نفس الحصول فيها قاطعاً للترخص أم لا؟ واستشكل الإمام جواز قصره في البلد، من حيث إن سفره ينقطع على منتهى المقصد، وهو في إيابه في حكم من يبتدئ [سفراً]، وليس الإياب متصلاً بالذهاب في الحساب؛ فإنه لو كان مجموع مسافة ذهابه وإيابه مرحلتين، لا يقصر عندنا، وقضيته: ألا يقصر في مقصده أصلاً وإن طال السفر. قال: والذي ذكرته أبدى إشكالاً، وليس عندي فيه نقل أعتمده، إلا ما ذكره الشيخ أبو بكر. الثاني: أنه لا فرق فيه بين أن يكون صالحاً للإقامة أو لا، كما إذا نوى المقام بمفازة لا ماء فيها ولا كلأ، وهو مجزوم به في الحالة الأولى، والصحيح في الثانية، ووراءه وجه آخر: أنها لا تقطع حكم السفر، ومنهم من يثبت الخلاف في المسألة قولين. قال الفوراني: وهو مبني على ما إذا نوى الإقامة في الحرب، عند مواجهة العدو، هل يجب عليه الإتمام أم لا؟ وفيه قولان يأتيان. وقال القاضي الحسين والبغوي: إنه مبني على قولين، حكاهما الإمام- أيضاً- فيما إذا دخل بلداً مجتازاً، وله به أهل وولد: هل يجعل مقيماً فيه أم لا؟ أحدهما: لا يصير مقيماً؛ لعدم نية الإقامة، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب، والبندنيجي وابن الصباغ فيما إذا كان له فيه زوجة ومال وقماش، وقال الإمام: لعله أقيس. فعلى هذا: يصير مقيماً بنية الإقامة في المفازة. والثاني من القولين: أنه يصير مقيماً [لصلاح المكان لإقامة مثله فيه؛ فإن الغالب أنه يقيم ببلد أهله وولده؛ فعلى هذا لا يصير مقيماً] بالمفازة إذا نوى المقام بها؛ لأن المكان غير صالح لإقامة مثله، وهذا ما صححه الغزالي. والوجهان جاريان فيما لو نوى المقام في سفر البحر، كما حكاه في "الزوائد" والقاضي الحسين في باب استقبال القبلة.

قال: وإن أقام في بلد لقضاء حاجة، أي: ولا يعلم أنها تمتد إلى أربعة أيام، وقد تمتد، ولم ينو الإقامة- قصر إلى ثمانية عشر يوماً في أحد القولين، ويقصر أبداً في القول الآخر. اعلم: أن الحاجة تارة تكون لأجل القتال، مثل: أن يكون مقيماً على حرب، أو مستعدّاً للحرب، أو خائفاً من الحرب، وتارة تكون لأجل غيره، مثل: بيع شيء، أو شرائه، أو استخراج مال، أو اجتماع بشخص، ونحو ذلك، ولا خلاف بين الأصحاب في إجراء القولين في القسم الأول. قال الماوردي: وعليهما نص في "الإملاء"، وعزاهما البندنيجي إلى نصه في "الأم": أحدهما: يقصر إلى ثمانية عشر يوماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في حرب هوازن ثمانية عشر يوماً يقصر الصلاة ينتظر انجلاء الحرب ولنا فيه أسوة حسنة. وقد ادعى الإمام أن هذا كان بعد الفتح بـ "مكة"؛ لتدبير المسير إلى "هوازن"، ووافقه الروياني عليه، وعلى هذا: إذا جاوز الثمانية عشر، أتم؛ لما ذكرناه من التقرير عند نية إقامة أربعة أيام، وقد روي عن ابن عباس أنه- عليه السلام- أقام بهوازن ثمانية عشر يوماً يقصر الصلاة؛ فمن أقام ذلك قصر، ومن زاد عليه أتم. وروي أنه قال: "نقصر الصلاة ما بيننا، وبين تسعة عشر يوماً، فإذا جاوزنا ذلك أتممنا". فإن قيل: قد روى جابر بن عبد الله: "أنه- عليه السلام- أقام بـ "تبوك" عشرين يوماً يقصر الصلاة"، رواه أحمد في "مسنده". وروى عمران بن حصين:

"أنه- عليه السلام- أقام سبعة عشر يوماً يقصر الصلاة"، وروى البخاري: "أنه- عليه السلام- أقام في بعض أسفاره تسعة عشر يصلي ركعتين"، و [قضية ما ذكرتم] من التقرير أن يجوز له القصر في ذلك. قلنا: قد قال [به] بعض المراوزة، وأثبت في هذه المسألة على هذا القول أقوالاً: أحدها: أنه يقصر عشرين يوماً. والثاني: تسعة عشر. والثالث: ثمانية عشر. والرابع: سبعة عشر. لكن الصحيح في "الإبانة" ولم يحك العراقيون غيره: أنها ثمانية عشر، وقد ادعى في "التهذيب" أنها رواية عمران بن حصين، وأن الشافعي اختارها؛ لأنها [لم تختلف]، والرواية عن ابن عباس [قد] اختلفت، وحديث جابر محمول على أنه [أدخل] في العدد يوم الدخول ويوم الخروج، ونحن لا ندخلهما فيه. والقول الثاني: يقصر أبداً؛ لأنا عرفنا أنه- عليه السلام- كان يقصر منتظراً للفتح، فاتفق المقام في هذه المدة، والظاهر: أنه لو تمادى الفتح، لكان يتمادى على سجيته. قال الإمام: وهذا يقرب من القطعيات في مأخذ الكلام على الوقائع،

[وبمثله] أثبتنا استرسال الأقيسة، ووجوه النظر في الوقائع من غير نهاية؛ فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاسوا في [...] روي أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، ويقول: أخرج اليوم وأخرج غداً. وأقام أنس بن مالك بنيسابور سنة أو سنتين يقصر الصلاة، وأقام علقمة بـ "خوارزم" سنتين يقصر الصلاة، وكذلك عبد الرحمن بن سمرة أقام بـ "كابل" سنتين يقصر الصلاة؛ فدل ذلك من فعلهم مع عدم الإنكار على أنه إجماع، ولأنه عازم على الرحيل، غير ناو المقام؛ فجاز له القصر كما في الثمانية عشر. والصحيح الأول، قال القاضي أبو الطيب: وهو مختار الشافعي، وعليه أكثر الأصحاب، كما قاله ابن الصباغ. والجواب عن فعل الصحابة: أنا نحمله على أنهم كانوا ينتقلون من بلد إلى بلد، كما روى أنس "أنه- عليه السلام- أقام بـ "مكة" عشرة أيام [يقصر] الصلاة" و [معلوم] أنه فرقها، كما ذكرنا، على أنه معارض بقول ابن عباس. وعن القياس: أن الثمانية عشر مخصوص بها التخفيف؛ فلا يجوز أن يقاس عليها غيرها، كما لا يجوز أن يقاس على الأيام الثلاثة في المسح غيرها من المدة. وأما القسم الثاني، وهي: الحاجة التي لا تعلق لها بالقتال، فللأصحاب فيها طريقان، حكاهما العراقيون: أحدهما: إجراء القولين فيها، وعلى هذه الطريقة ينطبق ما حكاه الشيخ هنا،

وقد حكى القول الأول منهما في هذا القسم البندنيجي عن نصه في "الإملاء" وأشار إليه في "الأم" أيضاً في كتاب استقبال القبلة، بقوله: "فإن زاد على أربع، أحببت أن يتم، فإن قصر أعاد" يعني: استحباباً؛ لأنه جعل الإتمام مستحباً. والقول الثاني فيه أخذ من قوله في "الأم" بعد ذلك: ولو قيل: الحرب وغير الحرب سواء في هذا، كان مذهباً. والطريقة الثانية- قالها أبو إسحاق المروزي وغيره-: أن في المسألة قولاً ثالثاً: أنه يقصر أربعة أيام، فإذا زاد عليها، أتم. قال في "المهذب": لأن الإقامة لا يلحقها الفسخ، والنية يلحقها الفسخ، ولو نوى مقام أربعة أيام- لم يقصر، فلألا يقصر إذا أقام أولى، والفرق بينه وبين من حاجته قتال من وجهين: أحدهما: أن الحرب تؤثر في الصلاة تخفيفات ورخصاً، ستأتي مشروحة في باب: صلاة الخوف، كصلاة ذات الرقاع، وصلاة عسفان، وصلاة شدة الخوف، ولا كذلك غيرها من الحاجات. والثاني: أن القتال ينتهي إلى مبلغ لا يجوز الانكفاف عنه فيسقط فيه [أثر] قصد الإقامة؛ فإن الشرع جازم أمره بالإقامة، وسائر الحاجات قد لا تكون كذلك. وهذا القول ادعى القاضي الحسين أنه نص عليه في "الإملاء"؛ لأنه نص عليه في حاجة القتال، ثم قال: "والحرب وغيره سواء، ولو قال به قائل كان مذهباً"، وادعى الماوردي: أنه من تخريج المزني، وقال غيره: إن أبا إسحاق أخذه من قول المزني في "المختصر" حكاية عن الشافعي: فإن زاد على أربع أتم، وإن قصر أعاد. قال البندنيجي- تبعاً لشيخه الشيخ أبي حامد-: وليس بشيء، والمزني ترك قول الشافعي: "أحببت"، وهو الدال على أن الإعادة على وجه الاستحباب كما تقدم. وادعى ابن الصباغ أن ما نقله المزني صحيح؛ لأنه وجد في كتاب استقبال القبلة من "الأم" بعد هذا الموضع بأسطر: "وإن كان محارباً أو خائفاً، مقيماً في

موضع سفره- قصر ثمانية عشر يوماً، فإذا جاوزها أتم [وإذا كان غير خائف قصر أربعاً، فإذا جاوزها أتم"]، وهذا مثل ما نقله المزني، قال: ويحتمل أن يكون قوله: أحببت، خطأ القلم؛ لأنه في الموضع الذي يستحب فيه القصر لا يؤمر بالإعادة إذا أتم، ولأنه إذا لم يجب الإتمام، ينبغي أن يكون حكمه حكم المسافر، والمسافر لا يستحب له عنده الإتمام في هذا الباب. وهذا من ابن الصباغ يقتضي ترجيح طريقة أبي إسحاق الحاكية لثلاثة أقوال في الحاجة إذا لم تكن قتالاً. وقد حكى عن القاضي أبي حامد المروروذي أنه قال في "جامعة": إنها أظهر. وحكى الإمام- عوضاً عن القول الثالث منها- أنه يقصر ثلاثة أيام، وبعد الثلاثة يتم، وكذا حكاه الفوراني أيضاً، وصحح القول بأن فيها ثلاثة أقوال: هذا أحدها. والثاني: يقصر ثمانية عشر يوماً. والثالث: يقصر أبداً. وعبارته في "المهذب" في حكاية القول الثاني، الذي هو أول في الكتاب: أنه سبعة عشر يوماً، وعبارة الماوردي في حكايته: أنه يقصر سبعة عشر يوماً، أو ثمانية عشر يوماً، [وهذا التردد منه ليس للتخيير؛ بل لبيان أن للشافعي في هذا القول قولين في أنه هل يقصر سبعة عشر يوماً،] أو ثمانية عشر يوماً؛ لاختلاف الرواية، وأخذ الشافعي بهما؛ لتقاربهما، وقد تقدم نسبة ذلك لبعض الأصحاب من المراوزة في حاجة القتال. قال الماوردي: والأقوال تجري فيما إذا كان سائراً في البحر، فمنعه الريح من السير، وأقام ينتظر سكونه أياماً، وأنه لا يختلف الحكم على الأول بين ألا يستقيم الريح إلى أربعة أيام، أو يستقيم له الريح، فتسير السفينة عن مكانها، ثم رجعت الريح، فردته إلى موضعه الأول؛ [فإنه يقصر] تمام الأربع، ويأتي فيما بعدها الأقوال. وقد حكى القاضي الحسين أن من الأصحاب من أرجى القول بوجوب الإتمام بعد الأربع [في حاجة القتال أيضاً، لأجل قول الشافعي: "الحرب وغيره

سواء"، فجعل في الجميع الأقوال، وأن من الأصحاب من خص الأقوال بالمحارب، وقطع في غيره بوجوب الإتمام بعد الأربع،] وأن منهم من قال: الأقوال في المحارب، وفي غيره قولان: أحدهما: يتم بعد الأربع. والثاني: يتم بعد الثمانية عشر. وإذا جمعت بين المسألتين، وما قيل فيهما في الطريقين، وركبت بعض الوجوه مع بعض، واختصرت- قلت: في ذلك ثمانية عشر قولاً ووجهاً: أحدها: يقصر ثلاثة أيام، وبعدها يتم. والثاني: يقصر أربعة أيام، وبعدها يتم. والثالث: يقصر سبعة عشر يوماً، وبعدها يتم. والرابع: يقصر ثمانية عشر يوماً، وبعدها يتم. والخامس: يقصر تسعة عشر يوماً، وبعدها يتم. والسادس: يقصر عشرين يوماً، وبعدها يتم. والسابع: يقصر أبداً. والثامن: من حاجته غير قتال يقصر ثلاثة أيام، ومن حاجته قتال يقصر سبعة عشر يوماً]. والتاسع: من حاجته غير قتال يقصر ثلاثة أيام، ومن حاجته قتال يقصر ثمانية عشر يوماً. والعاشر: من حاجته غير قتال يقصر ثلاثة أيام، ومن حاجته قتال يقصر تسعة عشر يوماً. والحادي عشر: من حاجته غير قتال يقصر ثلاثة أيام، ومن حاجته قتال يقصر عشرين يوماً. [والثاني عشر: من حاجته غير قتال يقصر ثلاثة أيام، ومن حاجته قتال يقصر أبداً]. والثالث عشر، والرابع عشر: والخامس عشر، والسادس عشر، [والسابع

عشر]: من حاجته غير قتال يقصر أربعة أيام، ومن حاجته قتال يقصر سبعة عشر يوماً، أو ثمانية عشر يوماً، أو تسعة عشر يوماً، أو عشرين يوماً، أو أبداً. والثامن عشر: يقصر من حاجته غير قتال ثمانية عشر يوماً، ومن حاجته قتال يقصر أبداً، والله أعلم. أما إذا كان الحاجة يعلم أنها لا تنقضي إلا بعد أربعة أيام: كالمتفقّه، ومن له تجارة كبيرة- فإنه لا يقصر إذا جاوزها، ومن طريق الأولى إذا نوى مقام أربعة أيام، وهذا في الحاجة التي لا تتعلق بالقتال، وكلام الشيخ يفهم أن حاجة القتال كغيرها، وقد صرح الأصحاب بأنه إذا نوى- والحاجة بسبب القتال- مقام أربعة أيام أو أكثر، فهل تصح نيته، ويجب عليه الإتمام، ولا تصح نيته، ويكون حكمه كما لو لم ينو؟ فيه قولان في القديم، وهما محكيان في "الحاوي" و"تعليق" أبي الطيب وغيرهما، والمنصوص منهما في الجديد "والأم"، والأصح- عند القاضي- الأول؛ لقوله- عليه السلام-: "وإنما لكلّ امرئ ما نوى"، ووجه مقابله: أنه ربما هرب بغير اختياره؛ فلا يصح عزمه على الإقامة. ولأن أعذار الحرب تخالف ما سواها، وهذا ما اختاره المزني. وقد حكى الإمام القولين هكذا فيما لو نوى المحارب إقامة ثمانية عشر يوماً؛ تفريعاً على قولنا: إنه لو أقام ثمانية عشر يوماً فيه، كان له أن يقصر، وحكاهما أيضاً في التاجر، إذا قلنا: إنه كالمحارب في جواز القصر ثمانية عشر يوماً. ووجّه القصر بأن هذه المدة في حق هؤلاء كثلاثة أيام في حق مسافر لا شغل له، ثم

لو نوى المسافر ثلاثة أيام كان له القصر فيها؛ فكذا هؤلاء. وحكى القولين- أيضاً- فيما لو علم المحتاج أن شغله لا يتنجز إلا في ثمانية عشر يوماً، وقد فرعنا على أنه يقصر فيها إذا كان على تردد من نجاز حاجته فيها. قال: وقياس ذلك على ما ذكرناه بيّن، وإذا قلنا: يقصر ثمانية عشر يوماً، ففيما زاد عليها الخلاف السابق؛ قاله الرافعي، والذي أورده العراقيون والجمهور: الأول. ولو أقام غير محارب، ولا مشغول بغيره، ولا نية له في إقامة ولا رحيل- فهذا يقصر تماماً أربع، ثم عليه أن يتم فيما زاد قولاً واحداً، وقياس قول الإمام السالف: أنه يقصر ثلاثة أيام، وبعدها يتم. ثم لا يخفى أن ما ذكره الماوردي مصور بما إذا لم يكن البلد الذي أقام فيه مقصده، أما إذا كان مقصده، فقد حكينا عنه أنه بوصوله إليه تنقطع عنه رخص السفر، ويشبه أن يكون العبد إذا أقام مع سيده في بلد في طريقه هذه المدة، وكذا الزوجة إذا أقامت إذا أقامت مع زوجها فيه هذه المدة، وقد جوزنا لهما القصر- ألا يقصرا بعد الأربع؛ لأن مقامهما خال عن قصد، ولا يضرهما قصد السيد والزوج الإقامة أكثر من ذلك؛ كما لا يفيدهما معرفتهما مسافة السفر في جواز القصر إذا لم يعرفاها، قاله القاضي الحسين. ولو نوى العبد أو الزوجة الإقامة أربعة أيام، ففي لزوم الإتمام له وجهان في "التهذيب" و"الزوائد" و"تلخيص الروياني"، وجه المنع: أنه لا يستقل بنفسه؛ فنيته كالعدم، وألحق البغوي والروياني بهما الجيش إذا نوى المقام دون الأمير، وفيه نظر؛ لما تقدم من الفرق بينهما عند الكلام في ربط السفر بمقصد معلوم. قال: وإن فاتته صلاة في الحضر، فقضاها في السفر، أتم؛ لأنه تعين عليه فعلها أربعاً فلم يجز له النقصان عنها، كما لو [لم يسافر]، وقد ادعى ابن المنذر والإمام أحمد الإجماع على ذلك، وقال المزني: له القصر؛ لأن الاعتبار في العبادات بوقت الأداء دون وقت الوجوب. أصله: إذا وجبت عليه الصلاة، وقدر على أدائها قائماً، فأخرها حتى عجز عن

القيام- قضاها قاعداً، وكذا عكسه، وقد حكاه الماوردي عن بعض الأصحاب، وغلطه فيه، ولم أره لغيره، بل جزموا بالمنع، وفرقوا بين ذلك وبين المرض بأن المرض ليس إليه، وكذا إزالته، وهو معرض أن تخترمه المنية في كل ساعة، فلو كلفناه التأخير حتى يزول المرض، ويقدر على القيام ربما مات؛ فتبقى ذمته مرتهنة بالصلاة، بخلاف ما نحن فيه؛ فإن إتمام الصلاة في مقدوره، والسفر إليه، وبعضهم فرق بأن القصر رخصة، وليس كذلك الصلاة قاعداً، ومن ثم قلنا: لو افتتح الصلاة قائماً، ثم عجز عن القيام- جلس، ولو افتتح الصلاة في الحضر، ثم سافر- أتم. فإن قيل: لو أفطر في رمضان في الحضر، ثم سافر، وشرع في القضاء- كان له الفطر فيه؛ كما كان له في الأداء الفطر إذا وقع في السفر، فهلا كان ها هنا مثله؟! قلنا: إن كان فطره في الحضر بغير عذر، فلأصحابنا فيه وجهان: أصحهما- كما قاله البندنيجي وغيره-: أنه ليس له الفطر، وعلى هذا فلا فرق بينهما. والثاني: له الفطر؛ كما لو كان الفطر في الحضر بعذر. وعلى هذا: فالفرق ما سبق: أن القصر غير مضمون بالقضاء، بخلاف الصوم، ثم الفوات الموجب لفعل الصلاة تماماً في السفر، يحصل بخروج كل الوقت وهو مقيم، ثم يسافر، وهل يحصل بخروج أكثره بحيث لم يبق منه ما يسع كل الصلاة؟ فيه خلاف ينبني على أن من فعل بعض الصلاة في الوقت، وباقيها خارج الوقت هل توصف كلها بالأداء أو بالقضاء، أو ما وقع منها في الوقت أداء، وما وقع خارجه قضاء؟ فيه خلاف مر، والصحيح- كما قاله البندنيجي هنا، وغيره-: الأول، فإن قلنا به لم يتحقق الفوات، وجاز له القصر إذا سافر وقد بقي من الوقت ما يسع ركعة، وعليه نص الشافعي، كما قال القاضي الحسين، وإن قلنا بما عدا الأول، فقد تحقق الفوات، ولزمه الإتمام، ومحل ذلك- بالاتفاق- إذا كان المدرك في الوقت ركعة تامة، أما إذا كان دونها فقد ادعى المتولي أنه لا خلاف في أن الكل قضاء، وقضيته: أن يلزمه الإتمام قولاً واحداً،

وهو ما جزم به الروياني في "تلخيصه" تبعاً للفوراني والمتولي، لكن القاضي أبو الطيب حكى [عن] الداركي أنه قال: الخلاف المذكور فيما إذا [بقي] من الوقت ركعة، جار فيما لو أدرك في الوقت تكبيرة الإحرام فقط. وهذا يقتضي المنازعة فيما ذكره المتولي من اختصاص الخلاف بما إذا كان المدرك في الوقت ركعة، وعليه تنطبق عبارة البندنيجي؛ حيث قال: المذهب أنه إذا أدرك من الصلاة في الوقت شيئاً، وفعل باقيها خارج الوقت يكون الكل أداء. وقال الإمام: إنه إذا أدرك في الوقت تكبيرة، ترتب على ما إذا أدرك في الوقت ركعة، وها هنا أولى بالإتمام؛ لأن الركعة يدرك بها المسبوق الجمعة، دون التكبيرة؛ فكذا يكون بها مدركاً للقصر دون التكبيرة. ثم هذا كله تفريع على أنه إذا سافر، وقد بقي من الوقت ما يسع أربع ركعات: أنه لا يلزمه الإتمام، كما حكاه في "الإبانة" عن النص، وهو اختيار أبي إسحاق، أما إذا قلنا: يلزمه في هذه الصورة الإتمام، كما حكاه أبو الطيب، عن رواية الداركي، عن أبي الطيب بن سلمة؛ لأنه سافر وقد تعينت عليه الصلاة، فكان كفعلها ففيما إذا سافر وقد بقي من الوقت ما يسع ركعة أو دونها أولى. ثم الخلاف في هذه الصورة مفرع على النص في أنه إذا مضى عليه- وهو مقيم- من وقت الصلاة ما يسعها، ثم سافر: أن له القصر. قال الماوردي: وهو الذي ذكره الشافعي في عامة كتبه، وعليه عامة أصحابنا. وقال المزني: قياس الشافعي فيما إذا أدركت المرأة من الوقت [قدر] ما تؤدي فيه الفرض، ثم حاضت أو جنت: أنه يجب عليها القضاء- أنه يلزم من سافر وقد مضى عليه من الوقت قدر ما يؤدي فيه الفرض أنه يلزمه الإتمام؛ لأن الحيض والجنون يسقط فرض الصلاة رأساً؛ كما أن السفر يسقط ركعتين، فإذا كنا لا نسقط عنها الأربع كذلك لا تسقط الركعتان. فمن الأصحاب- وهم القياسون، كما قال الإمام- من صوب المزني في التخريج؛ لضيق الفرق، وجعل في المسألتين قولين بالنقل والتخريج. قال الإمام: ومأخذهما أن من أخر صلاة الظهر عن أول الوقت إلى وسطه، ثم مات، فهل يلقى الله عاصياً أم لا؟ وفيه خلاف، والأصح: لا، بخلاف من أخر الحج؛ فإن

الصحيح أنه يعصى؛ فإنه لو لم يعص لما انتهى الحج إلى حقيقة الوجود، فإن خاصة الوجوب ما يعصي بتركه، والصلاة المؤقتة إفضاء الأمر فيها إلى المعصية، بأن يبقى المكلف حتى ينقضي الوقت عليه، وهو غير معذور. وقد حكى في "التتمة" القولين منصوصين، وعزى الثاني إلى نصه في القديم، والجمهور على ما نص عليه في الجديد، وفرقوا بين ما نحن فيه وبين ما إذا حاضت المرأة أو جنت بأنا لو لم نوجب على الحائض والمجنونة القضاء لخرج أول الوقت عن أن يكون وقتاً لوجوب الصلاة، والصلاة- عندنا- تجب بأول الوقت، وليس كذلك إذا قلنا: لا يجب على المسافر الإتمام؛ فإنه لا يؤدي إلى أن نكون قد أخرجنا أول الوقت عن أن يكون الوجوب متعلقاً به؛ لأنا قد أوجبنا به الصلاة المقصورة. وفرق بعضهم بأن ما تدركه الحائض والمجنونة بالإضافة إلى الإمكان كأنه كل الوقت؛ إذ لا تقدر على الفعل بعد الحيض والجنون، بخلاف المسافر. ويرجع حاصل ما ذكرناه إلى ثلاثة أوجه، وقد حكاهما القاضي أبو الطيب: أحدها: لا يلزم الحائض والمجنونة الصلاة، ولا [يلزم] المسافر الإتمام. [والثاني: يلزمهم ذلك، وهي طريقة ابن سريج. والثالث: يلزم الحائض والمجنونة الصلاة، ولا يلزم المسافر الإتمام،] وهي الطريقة الصحيحة. قال الأصحاب: وإذا قلنا بأنه إذا سافر وقد بقي من الوقت ما يسع [أربع ركعات: أنه لا يلزمه الإتمام، وإذا سافر وقد بقي من الوقت] ما يسع ركعة أنه يلزمه الإتمام- فلو سافر، وقد بقي من الوقت ما يسع ركعتين، والسفر مما تقصر فيه الصلاة: فهل له القصر؛ لأنه قد بقي من الوقت قدر صلاة مقصورة، أو يلزمه الإتمام؛ لأنه كان يجب عليه أن يحرم بها في السفر؟ فيه خلاف، المنسوب منه إلى أبي علي بن أبي هريرة الأول، والصحيح في "تلخيص الروياني" الثاني. ولا خلاف في أنه إذا سافر قبل أن يمضي من الوقت ما يمكن إيقاع جملة [الصلاة] فيه، [ثم سافر]: أنه لا يلزمه الإتمام. قال الماوردي: إلا على قياس

مذهب أبي يحيى البلخي. أي: في أن الحيض إذا طرأ على المرأة وقد مضى من الوقت ما لا يسع كل الصلاة [أن الصلاة] تلزمها؛ فإن قياسه- إذا ألحقنا المسافر بالحائض، كما قاله المزني- أنه يلزمه الإتمام، وقد أبدى الإمام ذلك احتمالاً، و [قوّاه بأن] المسافر يمكنه أن يتم، والحائض لا يمكنها أن تتم على الركعة. قال: وإن فاتته في السفر، فقضاها في السفر أو في الحضر- ففيه قولان: أصحهما: أنه يتم؛ لأنها صلاة ذات ركوع وسجود؛ فكان من شرطها الوقت كالجمعة، وقد وافق الشيخ في تصحيحه القاضي الحسين، والمتولي، والبغوي. ومقابله: أن له القصر؛ لأنها صلاة تقضى وتؤدى؛ فوجب أن يكون قضاؤها مثل أدائها؛ كالصبح والمغرب، ولا يرد عليه الجمعة؛ لأنها لا تقضي، ولأن الفرض يسقط في الوقت بركعتين؛ فكذلك بعد فوات الوقت كالصبح؛ وهذا ما حكاه البندنيجي عن نصه في القديم "والأم"، وغيره قال: إنه نص عليه في القديم، وأما في "الإملاء" فإنه منصوص عليه فيما إذا كان القضاء في السفر، وقد حكاه القاضي أبو الطيب في هذه الحالة عن الجديد، وهو الأصح في "المهذب" فيها، تبعاً لـ "الحاوي"، وتبعهما الروياني في "تلخيصه"، ووجهه بالمشقة. قال القاضي الحسين: والقولان فيما إذا كان الفوات في السفر وأراد القضاء في الحضر، شبيهان بقولنا: إن الاعتبار في الكفارات بحالة الوجوب أو حالة الأداء؟ وقد رتب المراوزة الخلاف فيما إذا وقع القضاء في السفر على ما إذا وقع في الحضر، فقالوا: إن قلنا: يقصر إذا قضاها في الحضر، فإذا قضاها في السفر أولى، وإلا فوجهان، وهذا إذا كان السفر الذي قضاها فيه هو السفر الذي فاتته فيه، فلو كان غيره، فوجهان مرتبان على ما إذا كان هو هو، وأولى بالإتمام. وإن رتب على ما إذا وقع القضاء في الحضر، كان أولى بالقصر، وفي كلام القاضي

الحسين إشارة إلى الفرق بين أن يتذكر في الحضر المتخلل، أو لا، والله أعلم. ولا خلاف في أنه إذا فاتته في الحضر، فقضاها في حضر آخر- أنه يتم، سواء لم يتخلل بينهما سفر، أو تخلل؛ نظراً لحالة الوجوب والأداء، وهي أغلظ الحالين، وكذا لو أدركه الوقت وهو في السفر، فأقام وقد بقي من وقت الصلاة شيء، ولم يفعلها حتى فات جميع الوقت- فإنه يقضيها تماماً قولاً واحداً، كما قال البندنيجي، وهو في "التتمة" مخصوص بما إذا كان قد بقي من الوقت قدر أربع ركعات أو ركعة، أما إذا أدرك دون ركعة، فإن قلنا: إنه يصير مدركاً للصلاة وجوباً بدون ركعة، فهاهنا يصير مدركاً [حكم المقيمين؛ فيلزمه الإتمام. وإن قلنا: لا يصير مدركاً] للصلاة بذلك، فيصير كما لو فاتته الصلاة في السفر، وأراد قضاءها في الحضر. قال: ويجوز الجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما في السفر الطويل، أي: إذا كان يسوغ القصر فيه؛ لما روى أبو داود، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة: "أن معاذ بن جبل أخبرهم أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فأخر الصلاة يوماً، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، [ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً"] أخرجه مسلم.

قال: وفي السفر القصير- أي: وهو ما لا تقصر فيه الصلاة- قولان: وجه الجواز: أن أهل "مكة" يجمعون بين الظهر والعصر بـ "عرفة" وبين المغرب والعشاء بـ "مزدلفة"، ولم ينكره عليهم منكر، وسفرهم قصير، ولأنه لما كان الجمع بالحضر بالعذر، فجوازه في السفر اقتضى ألا يفرق فيه بين طويل السفر وقصيره؛ كما في التيمم وأكل الميتة، ولأنه يجوز فيه ترك استقبال القبلة في الصلاة على الراحلة؛ فجاز فيه الجمع كالسفر الطويل، وهذا ما ادعى الماوردي أنه مخرج من القديم، وكلام القاضي الحسين الذي سنذكره يدل عليه. قال الماوردي: وقد امتنع كثير من أصحابنا من تخريجه. ووجه المنع: أنه إخراج عبادة عن وقتها؛ فلا يجوز إلا في السفر الطويل كالفطر في رمضان، ولأنه- عليه السلام- لم ينقل عنه أنه جمع إلا في سفر طويل، وهذا ما نص عليه في "الأم"، وهو الصحيح، وأهل مكة يجمعون بعذر النسك. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن القولين ينبنيان على أن الجمع بـ "عرفة": هل يجوز لأهل منى؟ وفيه قولان: الجديد: لا، والقديم: نعم. وعلى هذا: لأي معنى جاز؟ فيه مأخذان: أحدهما: لأجل النسك؛ فعلى هذا: لا يجوز الجمع في السفر القصير. والثاني: لأجل السفر؛ فعلى هذا: يجوز في السفر القصير. قال الرافعي: وظاهر المذهب- عند الأئمة-: أن الجمع بعلة السفر في الآفاقي. وقد أفهم قول الشيخ: "ويجوز الجمع ... " إلى آخره، أمرين: أحدهما: أنه لا يجوز الجمع بين الصبح وغيرها، وبين المغرب والعصر؛ وذلك لأنه لم ينقل أنه- عليه السلام- جمع بين ذلك، وخالف جمع الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء؛ لأن الظهر والعصر صلاتا نهار، وقت إحداهما

متصل بوقت الأخرى، [والمغرب والعشاء صلاتا ليل، ووقت إحداهما متصل بالأخرى]، على قول، وعلى آخر: ما بينهما من الفصل قصير. وقال القاضي الحسين: لأن الظهر والعصر يتفقان في وقت الضرورة؛ فكذلك في وقت العذر، وكذلك المغرب والعشاء. الثاني: أن فعل كل صلاة [في وقتها] أفضل من الجمع، وهو كذلك عند الأصحاب، إلا في حق الحاج؛ فإن إيثار الفراغ عشية "عرفة" أهم وأولى من كل شيء؛ كذا قاله الإمام [ثمَّ]. قال: والمستحب لمن هو في المنزل في وقت الأولى أن يقدم الثانية إلى الأولى، ولمن هو سائر أن يؤخر الأولى إلى الثانية؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. أشار الشيخ- والله أعلم- بذلك إلى ما رواه الشافعي بسنده، عن كريب وعكرمة، عن ابن عباس أنه قال: "ألا أخبركم عن صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم؟ فيروي أنهم قالوا: بلى. وروي أنه قال: إذا زالت الشمس وهو [في] منزله، جمع بين الظهر والعصر في الزوال، وإذا سافر قبل الزوال، أخر الظهر حتى يجمع بينها وبني العصر في وقت العصر، وكذلك المغرب مع العشاء"، وقد روى أبو داود عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن ترتفع الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر، ثم ركب"، وفي رواية أخرى قال:

"ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق" وأخرجه البخاري ومسلم، وليس في حديث البخاري: "ويؤخر المغرب .. " إلى آخره. وروى أبو داود عن أيوب، عن نافع أن "ابن عمر استُصْرِخَ على صفية وهي بـ "مكة"، فسار حتى غربت الشمس، وبدت النجوم، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل به أمر في سفر، جمع بين هاتين الصلاتين، فسار حتى غاب الشفق، فنزل فجمع بينهما"، وأخرجه الترمذي من حديث عبد الله ابن عمر، [عن نافع، وقال: "حسن صحيح"، وأخرجه النسائي من حديث سالم عن عبد الله بن عمر] عن أبيه بمعناه أتم منه، وأخرج المسند بمعناه مسلم من حديث مالك، عن نافع. قال: وإن أراد الجمع في وقت الأولى لم يجز إلا بثلاثة شروط: أحدها: أن يقدم الأولى منهما؛ لأن وقت الثانية لم يدخل، وإنما جوز فعلها تبعاً للأولى، والتابع لا يتقدم على المتبوع، وبهذا الشرط يبين لك أربع مسائل، يرجع حاصلها إلى واحدة: الأولى: إذا صلى [العصر قبل الظهر]، لا تصح.

الثانية: إذا صلى الظهر ثم سبقه الحدث، فتوضأ وصلى العصر، وتبين أنه محدث في الظهر- لا تصح العصر. الثالثة: إذا صلى الظهر، ثم العصر، ثم تبين أنه صلى الظهر قبل الزوال، لا تصح العصر. الرابعة: إذا صلى الظهر، ثم العصر، وتذكر أنه ترك سجدة من الظهر- لا تصح العصر. ولهذه الصورة تتمة ستأتي، إن شاء الله تعالى. قال: وأن ينوي الجمع عند الإحرام بالأولى في أحد القولين، ويجوز في القول الثاني قبل الفراغ من الأولى. هذا الفصل مسوق لبيان أمرين هما الشرط الثاني: أحدهما: أن نية الجمع لابد منها؛ لأن فعل الصلاة في غير وقتها يجوز أن يكون على وجه الجمع، ويجوز أن يكون على وجه السهو والجهل بالوقت؛ فلابد من النية [للتمييز، ولأنه: لما لما يجز تأخير الأولى إلى الثانية إلا بالنية] مع إمكان فعلها في الحال، وفي وقت الثانية- كان إيجاب النية في تقديم الصلاة عن وقتها مع تعذرها في الحال أولى، وتحريره قياساً: أنها صلاتان مجموعتان في وقت إحداهما؛ فوجب ألا يصح إلا بنية الجمع، أصله: إذا جمع بينهما في وقت الثانية. وقد حكى ابن الصباغ وغيره عن المزني: أنه جوز أن يأتي بالثانية عقيب الأولى من غير نية الجمع؛ لأن الجمع قد حصل بفعله، وقد حكاه الإمام، عن رواية الصيدلاني، عن بعض الأصحاب، ونسبه مجلي إلى رواية صاحب "التقريب" عن بعض الأصحاب، وبنى عليه أن نية التمتع هل تشترط [في التمتع] بالعمرة إلى الحج؟ قال الإمام: ووجه الشبه بيّن [و] هذا، وإن كان متجهاً في القياس فهو بعيد عن مذهب الشافعي. الثاني: وقت النية، [وفيه]- كما قال الشيخ- قولان، ادعى الماوردي أنهما منصوصان: أحدهما: أنه وقت الإحرام بالأولى؛ لأن الرخص المتعلقة بالصلاة في السفر

رخصتان: جمع، وقصر، فلما لم تجز نية القصر إلا مع الإحرام لم تجز نية الجمع إلا مع الإحرام، وتحريره قياساً: أنه رخصة متعلقة بالسفر مفتقرة إلى النية؛ فكان محلها [مع] الإحرام كالقصر، وهذا القول ادعى الجمهور أنه مخرج من نصه على مثله في الجمع في المطر. والثاني: أنه يجوز قبل الفراغ من الأولى؛ لأن الجمع هو الضم والمتابعة، ووقت الضم حال السلام، فملا جاز أن ينوي الجمع في غير وقت الضم، وهو حال الإحرام، جاز أن يجزئه إذا نوى في وقت الضم، وحين الفراغ، وما قاربه أولى، وخالفت هذه النية نية القصر؛ لأنها تراد لتنعقد ركعتين؛ فلذلك اشترطت في أولها، وهذا القول هو المنصوص في المسألة كما ادعاه الجمهور، وهو الجديد كما قال أبو الطيب، واختيار أبي إسحاق، وقال المزني: إنه أشبه بأصل الشافعي، ولا جرم [كان] هو الأصح في "المهذب" و"الرافعي"، وقد خرج [منه] إلى مسألة الجمع بعذر المطر قول آخر، وبه يحصل في كل من المسألتين قولان بالنقل والتخريج. وقد امتنع بعض الأصحاب من التخريج في الصورتين، فأقر النصين، وفرق بأن المطر لا يشترط دوامه في جميع الصلاة الأولى، ويشترط دوام السفر في جميع الأولى؛ فلا يمتنع أن تكون صلاة الظهر وقتاً للنية من حيث اشترط سبب الجمع فيها، ولا يكون الأمر كذلك في عذر المطر؛ بل يتعين لنية الجمع وقت التحريم بالأولى؛ فإنه يشترط المطر عنده. قال الإمام: والصحيح طريقة القولين. وقد خرج المزني قولاً ثالثاً: أنه يجوز [إيقاع نية] الجمع بعد الفراغ من الظهر وقبل التحرم بالعصر؛ لأن اتصال صلاة الظهر بالعصر لا يزيد على اتصال سجود السهو، أي: وهو يجوز بعد السلام إذا لم يطل الفصل. قال الإمام: وقد قبل الأئمة منه هذا التخريج على هذه الطريقة؛ فإن الجمع

يتعلق بالصلاتين فلا يبعد وقوعه بينهما. قال الروياني في "تلخيصه": وقد قيل: إن الشافعي نص على هذا في كتاب استقبال القبلة. قال الإمام: وإذا قلنا به، فلو أوقع النية مع التحريم بالثانية، فالظاهر من كلام المفرّعين عليه منع ذلك، وليس يبعد عن القياس تجويز ذلك؛ إذ لا فرق بين ربط الأولى بالثانية، وبين ربط الثانية بالأولى، نعم: لو نوى بعد التحرم بالثانية الجمع، فلا أثر لذلك، وصلاة العصر غير منعقدة، وفي كلام الصيدلاني إشارة إلى ذلك، [ومن] منع تخريج المزني- وهم العراقيون- قالوا: ما بعد السلام من الأولى ليس بوقت للضم، لِتَقَضِّي الأولى بالفراغ منها؛ فلا يكون جامعاً بينهما. والفرق بين ما نحن فيه وسجود السهو: أنه أتى فيه بالنية مع الإحرام؛ لأنه نوى الصلاة مع الإحرام، وموجب الصلاة الإتيان بفروضها وسننها، وسجود السهو بدل عن المسنون؛ فلم يفتقر إلى نية مجردة، وليس كذلك الجمع بين الصلاتين. وقد أفهم كلام الشيخ أنا على القول الثاني نعتبر أن تكون النية قبل السلام؛ فإنها لو كانت معه، لكانت مع الفراغ، [وهو ما حكاه الإمام عن شيخه، وإن الذي اختاره الشيخ أبو بكر: أنه يجوز إيقاعها] مع التحلل عن الأولى. وهو ما يقتضيه كلام الماوردي وغيره. قال: وألا يفرق بينهما؛ لأنها إنما تفعل تبعاً، ولو فرق بينهما لم تكن تبعاً، ولأن الجمع يكون بالمقارنة أو بالمتابعة، والمقارنة متعذرة؛ فتعينت المتابعة. ثم المرجع في التفرقة وعدمها إلى العرف عند العراقيين: فما يعد تفرقة يبطل الجمع، وما لا فلا، وإن كانت حقيقة الاتصال وقوع الإحرام بالثانية عقيب [سلام] الأولى، وبعضهم لم يضبط ذلك بحدّ. بل قال: لو أتى بكلمة أو كلمتين، أو الإقامة دون الأذان- لم يضر؛ لأنه يسير في العادة، وقد شهد للتفريق بالإقامة فعله- عليه السلام- فإنه صح أنه كان "يأمر بلالاً بالإقامة

بين صلاتي الجمع"، ولأنها من مصالح الصلاة، والتيمم بينهما مع طلب الماء مغتفر على المذهب في "التهذيب"، وعليه عامة الأصحاب، ولم يحك البندنيجي غيره، والوضوء بالاغتفار أولى؛ لأن زمنه يقصر عن زمن طلب الماء والتيمم، وهو مما لا خلاف فيه. وعن أبي إسحاق: أن الفصل بالتيمم يبطل الجمع. وقال الماوردي: إن طال زمن الطلب للماء بطل الجمع، وإن قرب لم يبطل. وفي "الروضة" في كتاب الحيض: أن المتحيرة لا يجوز لها الجمع بعذر السفر، ولا المطر على الصحيح، ومقابله: أنه يجوز كغيرها. وقد ألحق الإصطخري بذلك التنفل بينهما، فجوزه. قال الأصحاب: وهو خلاف النص؛ لأنه قال: "ولا يسبح بينهما، ولا عقيب الثانية"، وأراد: لا يصلي؛ لأنه إن صلى بينهما طال الفصل، وإن تطوع بعد الثانية فقد تطوع بعد العصر، وهذا لا يجوز. حكاه البندنيجي. وفي "التتمة": أن الإصطخري قال: لا تشترط الموالاة في الجمع بينهما في وقت الأولى؛ فيجوز وإن طال الفصل ما لم يخرج وقت الأولى منهما. قال الرافعي: ويروي مثله عن أبي علي الثقفي. وقال الموفق بن طاهر: سمعت أبا عاصم العبادي يحكي عن "الأم": أنه إن صلى في بيته، ونوى الجمع، وجاء إلى المسجد، وصلى العشاء فيه- جاز، والمشهور خلافه، ويدل عليه قول الشافعي: لو سها بعد الفراغ من الأولى سهواً طويلاً، أو أغمي عليه، ثم أفاق- لم يجز له الجمع. وفي "تعليق القاضي الحسين": أنه يشترط ألا يزيد زمان التفريق بين صلاتي الجمع على الزمان الذي يتخلل بين الإيجاب والقبول، والإقامة وعقد الصلاة، والزمان الذي [يتخلل بين الخطبتين، والزمان الذي] يبني فيه على الصلاة إذا ذكر ركناً نسيه. وقد ذكر بعضهم مع ما صرح به الشيخ من الشروط الثلاثة شرطاً آخر، وهو دوام السفر إلى الفراغ من الثانية، فلو قدم وطنه، أو نوى الإقامة قبل الشروع في العصر لم يجز له أن يتلبس بها، ولو نواها بعد الشروع فيها، لم تقع عن الفرض.

قلت: وهذا يؤخذ من قول الشيخ: "ويجوز الجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما في السفر .. "، وهو يعني أيضاً ما نبه عليه القاضي الحسين [من أنه لابد أن تقع الأولى منهما في وقتها. وقد حكى الإمام والقاضي الحسين] وغيرهما من المراوزة وجهاً فيما إذا طرأت الإقامة في أثناء الثانية: أنها لا تؤثر في بطلانها، وهو ما حكاه البندنيجي عند الكلام في الجمع بعذر المطر، وصاحب هذا الوجه لا يشترط دوام السفر إلى دخول وقت الثانية من طريق الأولى. وأما القائلون بالأول، فقالوا: هل يشترط دوام السفر إلى دخول وقت الثانية، أم لا؟ فيه وجهان: أظهرهما في "الرافعي": لا، قياساً على ما لو نوى القصر، وفرغ من الصلاة، ثم أقام والوقت باق. والثاني: نعم؛ قياساً على ما لو عجل الزكاة، ثم خرج عن أهلية الوجوب، أو استغنى الفقير قبل الحول؛ فإن ما أداه لا يقع موقع الزكاة. وعلى هذا: فهل يشترط أني مضي من وقت الثانية مقدار الصلاتين وهو مسافر، أو لا؟ قال القاضي الحسين: فيه خلاف. وفي "التهذيب" و"الكافي": أنه إن مضى بعد دخول [وقت] الثانية ما يسعها، ثم طرأت الإقامة- لا يضر وجهاً واحداً، وإن كان قبل ذلك ففيه الخلاف. وأغرب الإمام، فقال: إذا قلنا لو طرأت الإقامة في أثناء الصلاة: إنها تؤثر، فهل تؤثر إذا طرأت بعد الفراغ من الثانية: إما في وقت الأولى، أو في وقت الثانية؟ فيه وجهان. ولم يقيد ذلك بما إذا كان لم يمض من وقت الثانية ما يسعها أو لا. ثم حيث قلنا بأن صلاة العصر لا تحسب له عما عليه، فهل تبطل أو تنقلب نفلاً؟ فيه خلاف سبق نظيره، وبه صرح الروياني ها هنا، والله أعلم. فرع: إذا صلى الظهر ثم العصر، ثم تذكر أنه ترك سجدة من الظهر- بطل الظهر والعصر، كما تقدم، ولو تذكر أنها من العصر بطل الجمع، وأعاد العصر

في وقتها، ولو جهل أنها من الظهر أو العصر، أعاد كل صلاة في وقتها؛ أخذاً بالاحتياط؛ قاله القاضي الحسين. وفي "زوائد العمراني": أنه يجيء فيه قول آخر: أن له أن يجمع إليها العصر؛ قياساً على ما حكاه الربيع في الجمعتين إذا أقيمتا في بلد واحد، ولم تعرف السابقة منهما: أن لهم أن يصلوا الجمعة. وقال الرافعي: إنه حكاه في "البيان" عن الأصحاب. ثم هذا فيما إذا طال الفصل، فلو قرب أعاد الصلاتين جَمْعاً، قاله الرافعي. قال: وإن أراد الجمع في وقت الثانية كفاه- أي: في نفي الإثم، وجواز قصر الأولى، إن كان السفر طويلاً- نية الجمع [قبل خروج وقت الأولى بقدر ما يصلي فرض الوقت؛] لأن تأخير الصلاة عن وقتها تارة يكون معصية: وهو أن يؤخرها عامداً لغير الجمع، وتارة يكون مباحاً: وهو أن يؤخرها للجمع، وصورة التأخيرين سواء؛ فلابد من نية تميز بينهما. وقد أفهم قول الشيخ: "كفاه نية الجمع قبل خروج وقت الأولى، بقدر ما يصلي فرض الوقت ... " أموراً: أحدها: أن ذلك شرط، وهو كذلك؛ بل قال في "الحاوي": إنه لا يختلف مذهب الشافعي في اشتراط ذلك، وسائر أصحابه. وفي "شرح" ابن التلمساني أن الإمام قال: إنا إذا قلنا: لا يجب الترتيب والموالاة، لا تجب نية الجمع، وكأن نفس السفر مسوغ للتأخير. وحكاه الفوراني وجهاً، والذي رأيته في "النهاية": أنا إذا لم نشترط الترتيب

والموالاة، فلا تشترط وجهاً واحداً. وقال الرافعي: إنه محمول على نية الجمع عند الإحرام بالأولى في وقت الثانية، ويؤيد هذا التأويل أنه حكى عن شيخه والصيدلاني في آخر الباب: أنه لو لم ينو، عصى بالتأخير. [ثم] قال: وفيه شيء؛ فإنا إذا لم نشترط نية الجمع عند إقامة الصلاة، فلا يبعد أن يقال: نفس الشرع يسوغ التأخير، ويصير الوقت مشتركاً. الثاني: أنه لا يكفيه نية الجمع إذا بقي من الوقت ما لا يسع كل فرض الوقت، وهو [وجه حكاه الأصحاب؛ بناءً على أنه إذا أوقع ركعة في الوقت] وباقيها خارج الوقت- تكون قضاء، أو قضاء وأداء، والمذهب- كما تقدم- أنها تكون بجملتها أداء، وعلى هذا يكفيه إذا بقي من الوقت قدر ما يؤدي فيه ركعة، [وبه صرح الروياني في "تلخيصه"، وعلى رأي الداركي: يكفيه إذا بقي من الوقت قدر ما يؤدي فيه تكبيرة أيضاً،] وجواب هذا أنا نقول: تقدير كلام الشيخ بقدر ما يؤدي فيه فرض الوقت، أي: أداء، وحينئذ لا يخرج وجه من ذلك عن كلام الشيخ. الثالث: أنه لا يشترط معه شيء آخر، وقد قال بعضهم: إنه لابد من شرط آخر، وهو بقاء السفر إلى وقت الجمع، وبه صرح ابن الصباغ، وجوابه: أن قول الشيخ من قبل: ويجوز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في وقت إحداهما في السفر الطويل- ينبه عليه، ويغني عنه، وسنذكر عن المراوزة وجهاً آخر في اشتراط الترتيب والموالاة.

وقد أشار الشيخ إلى نفيه؛ حيث قال: والأفضل أن يقدم الأولى [منهما]، وألا يفرق بينهما؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كذا كان يفعل، وإنما لم يجب؛ لأنه لو أخر الأولى إلى الثانية بغير عذر- لما وجب، بل جاز له تقديم [العصر على الظهر] كما تقدم في باب المواقيت، وجاز له التفريق؛ فمع العذر أولى. قال الإمام: وقد غلط بعض أصحابنا، فقال تفريعاً على هذا: إن صلاة الظهر تكون مقضية، وفائدة الرخصة رفع الإثم، وتجويز قصر الظهر. وهذا زلل، وقلة بصيرة بالمذهب؛ فإن أصحاب الضرورات إذا زالت ضروراتهم، وقد بقي إلى الغروب قدر خمس ركعات، فنجعلهم مدركين لصلاة الظهر؛ حملاً على الوقت المشترك، ولو كان الظهر مقضياً في وقت العصر في حق المعذورين، لما تحقق الاشتراك في الوقت قطعاً؛ فيلزم ألا يكونوا مدركين لصلاة الظهر، ولأنها [لو] كانت مقضية بالتأخير، لوجب أن يتوسع في وقت قضائها في العمر حتى يقال: يقضيها المرء متى شاء. ولا خلاف في أنه لا يجوز للمسافر أن يخرج صلاة الظهر عن وقت العصر. وهذا كله تفريع على عدم وجوب الترتيب والموالاة، المذكور في طريقة أهل العراق، والأصح عند المراوزة- وحكوا معه وجهاً آخر-: أن الترتيب يجب؛ لأن فعلها يكون أداء كما في التقديم، وقد اختاره في "البسيط". وقال في "التتمة" هاهنا، والقاضي الحسين قبيل كتاب الجنائز: إن وجوب الموالاة مفرع على وجوب الترتيب. [وقال الإمام: إن الصيدلاني لم يتعرض لذكر الخلاف في الترتيب، والذي فهمته من مساق كلامه قصر الخلاف على الترتيب]؛ فإنه ظاهر، وأما اشتراط الموالاة، فلا معنى له عندي؛ فإنا إذا قلنا: تقدم العصر والفراغ منها يلحق الظهر بالفائتة، فهذا له وجه، وأما أن نقول: إذا أقام الظهر تعين فعل صلاة الظهر [بعدها] وصلاة العصر] مؤداة في وقتها- فليس لذلك وجه، بل إذا قدم العصر،

فيجوز أن نقول: شرط إجزاء صلاة العصر مقدمةً أن توصل بالظهر، فإن لم توصل لم تصح؛ لأنها مقدمة، فشرط إجزائها وهي مقدمة: الموالاة، هذا بين، فأما إيجاب تعجيل العصر على أثر الفراغ من الظهر في وقت العصر، فيبعد جدّاً، فتأمل ذلك؛ فإنه حسن بالغ. فروع: أحدها: إذا قلنا بوجوب الموالاة، فيجب عليه أن ينوي عند الشروع في الصلاة الأولى الجمع، كما في الأولى؛ قاله في "الفتاوي"، وكذا الإمام، وإن قلنا: لا تجب، فلا يشترط [وإن] أوجبنا الترتيب؛ قاله الإمام. الثاني: إذا قلنا بوجوب الترتيب، فإذا قدم العصر على الظهر؛ فلا يجوز له أن يصلي الظهر قصراً، إذا قلنا: إن الفائتة في السفر لا تقضي قصراً، وعصى الله تعالى، وهل يجوز له أن يصلي العصر قصراً؟ قال القاضي الحسين قبيل صلاة الجنائز: المذهب نعم؛ لأنه يصليها في وقتها وهو مسافر، وقيل: لا؛ لأنه إنما جوز له قصر كلتيهما للجمع، [وهو قد] ترك الجمع- علة قصر إحدى الصلاتين- فلذلك بطل عليه قصر الصلاة الثانية. الثالث: إذا راعينا الترتيب والموالاة، فصلى الظهر قبل العصر، وتحقق أنه ترك سجدة من الظهر- فسد عصره، وعليه إعادة الظهر تامة، ويجيء فيه القول الآخر، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بعدم وجوب الترتيب والموالاة؛ فإنه يعيدها قصراً، بلا خلاف، ولو تحقق أنه تركها من العصر بنى إن كان الفصل يسيراً، وعليه أن يعيد العصر إن كان الفصل طويلاً، والظهر إن كان قد أتمها فلا شيء عليه، وإن كان قد قصرها فعليه إعادتها تماماً على وجوب الموالاة؛ لأنه بطل حكم الجمع، وفات الظهر، وإن شك هل هي [من] الأولى، أو [من] الثانية- أعاد كلتيهما، ولا يجوز الجمع بينهما؛ بناءً على أن التفريق لا يجوز، ويجب أن يتم الظهر. وقد سلك الماوردي طريقاً آخر، فقال: إن صلى الظهر، ثم العصر عقيبه- فقد

حصل له الجمع، وكان مؤدياً لكلتا الصلاتين، وإن صلى الظهر، ثم تنفل، أو صبر زماناً طويلاً، ثم صلى العصر- لم يكن جامعاً بينهما، وكان قاضياً للظهر، مؤدياً للعصر، ولا يكون بذلك عاصياً؛ لأنه قد صلى العصر في وقتها، والظهر كان له تأخيرها. وإن قدم العصر، ثم صلى الظهر بعدها، فلا يكون جامعاً بينهما في الحكم، وتجزئه الصلاتان معاً، ثم إن كان قد صلى الظهر عقيب العصر من غير تطاول، لم يكن عاصياً، وكان بمنزلة من نسي صلاة الظهر، ثم ذكرها وقد دخل وقت العصر. وإن تطاول الزمان، بأن صلى العصر، ثم صبر زماناً طويلاً، ثم صلى الظهر- فهذا عاص بتأخير الظهر بعد العصر؛ لأن له تأخيرها إلى وقت العصر بنية الجمع، ويجوز له تقديم العصر عليها إذا ترك الجمع، ولا يجوز له تأخيرها [بعد صلاة العصر، فإن أخرها كان عاصياً. وكذلك الحكم في المغرب مع العشاء]. قال: ويجوز للمقيم الجمع في المطر في وقت الأولى منهما، إن كان يصلي في موضع يصيبه المطر، وتبتل ثيابه؛ لما روى أبو داود، عن ابن عباس قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولا سفر". قال مالك: أرى ذلك كان في مطر. وأخرجه مسلم وليس فيه كلام مالك، وقد ذكر بعض الشارحين أن الشافعي ومالكاً قالا: "نرى ذلك بعذر المطر .. ". والمشهور في "التتمة" وغيرها: أن الشافعي قال: "قال مالك: لا أرى ذلك إلا بعذر المطر"، وأن الشافعي استأنس بقول مالك، كما استأنس بقول ابن جريج في تحديد القلتين. فإن قيل: قد روى مسلم، عن ابن عباس قال: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بالمدينة من غير خوف، ولا مطر، فقيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته"، وهذا ينفي تأويل مالك.

قلنا: ذلك لا يضرنا؛ لأنه يقتضي الجمع من غير مطر، فمع المطر أولى. على أنا نؤوّله، فنقول: مراده: ولا مطر يصيبه، بأن كان تحت سقف، وقد روى نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم "جمع بين الظهر والعصر في المطر"، وروى الأثرم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "إن من السنة إذا كان يوم مطر أن يجمع بين المغرب والعشاء"، وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أفهم كلام الشيخ أموراً: أحدها: أنه لا فرق في الجمع بسبب المطر بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وهو المشهور، وعن صاحب "التقريب" رواية قول غريب في اختصاص ذلك بالمغرب والعشاء، [وهو المشهور] لمذهب مالك. قال الإمام: وقد حكاه العراقيون وأسقطوه، ولم يعدوه من المذهب، وأولوه، وقد ادعى بعضهم أن له اتجاهاً من جهة الظلمة، وهو شبهة مالك. وأصحابنا نقضوا عليه بالليلة المقمرة؛ فإنه يجوز الجمع فيها مع انتفاء الظلمة. الثاني: أنه لو كان يصلي في موضع لا يصيبه المطر، بأن كان في بيته، أو تحت سقف [في المسجد] وهو يمشي إليه في كنّ، أو كان متصلاً ببيته- أنه لا يجوز له الجمع، وهذا ما حكاه الماوردي، والبندنيجي، والقاضي أبو الطيب عن نصه في "الأم"، وقال الروياني: إنه الأقرب، وهو الظاهر في "النهاية" والأصح في "التهذيب" و"الرافعي"، وقد عزاه في "المهذب" إلى القديم، وقال: إنه نص في "الإملاء" على الجواز؛ لأنه- عليه السلام- كان يجمع في المسجد، [وبيوت بعض أزواجه في المسجد] وباقيها بقربه. وقد اختاره في "المرشد"، وصححه ابن يونس. والخلاف يجري فيما لو حضروا المسجد وكان مكشوفاً، بحيث يصيبهم فيه المطر، وأرادوا أن يصلوا فرادى؛ حكاه الإمام عن الشيخ أبي بكر.

الثالث: أن المطر لو كنا لا يبل الثياب، لا يجوز الجمع بسببه، وبه صرح في "المهذب"؛ لأنه لا يتأذى به. الرابع: أنه لا يجوز الجمع بعذر البرد والثلج؛ لأنه لما خص الجواز بعذر المطر، أفهم أنه لا يجوز بما سواه من ذلك، وقد قال الماوردي: إن البرد أقل ما يكون بدون مطر، فإن كان وحده قال البندنيجي وأبو الطيب: فلا يفيد الجمع. وأما الثلج: ففي "المهذب" و"التهذيب" و"الحاوي": أنه إن بل الثياب؛ لذوبانه بسبب حر الهواء، جوّز الجمع، وإلا فلا، وألحق في "الشامل" حالة نزوله قطعاً كباراً بحالة ذوبانه، فجوز الجمع به، وقد أطلق في "الوسيط" حكاية وجهين في جواز الجمع بعذر الثلج، وهما في "النهاية" محكيان عن رواية الشيخ أبي محمد، من حيث إنه لا يبل الثوب، وهذا يؤذن بأن محلهما إذا كان لا يبل الثوب، وبه صرح في "التتمة"، وأبداهما القاضي الحسين في "تعليقه" احتمالين لنفسه فيما إذا كان يبل الثوب، ووجه المنع: بأن السنة وردت في المطر، وهو خصوص من القياس؛ فلا يقاس عليه غيره. قال: ويكون المطر- أي: وما في معناه- موجوداً عند افتتاح الأولى، وعند الفراغ منها وافتتاح الثانية؛ لأن المطر هو المبيح له، والعذر المبيح يعتبر وجوده في الصلاتين كالسفر. قال الروياني في "تلخيصه": وقيل: إذا انقطع المطر عند سلامه من الأولى، ثم عاد على قرب عند إحرامه بالثانية- لا يؤثر في بطلان الجمع. وهو الأشبه. وفي "النهاية": [أنه] الذي مال إليه المعظم، إلا الشيخ أبا زيد. وأعجب من قول

الإمام ذلك مع أن القاضي الحسين والعراقيين قالوا به أيضاً، وتبعهم البغوي، وغيره؛ كما قال الرافعي. ولابد مع وجود المطر في الأحوال الثلاثة من الشرائط الثلاث التي تقدمت في الجمع في وقت الأولى في السفر؛ لأن المطر هاهنا سبب كالسبب ثم، وبه صرح الأصحاب. وقد أفهم كلام الشيخ أمرين: أحدهما: أن المطر لو لم يكن موجوداً عند افتتاح الأولى، لا يجوز الجمع، وبه صرح في "المهذب" والبندنيجي والقاضي الحسين وغيرهم؛ لأن سبب الرخصة حدث بعد الدخول، فلم تتعلق به؛ كما لو دخل في الصلاة، ثم سافر: لا يجوز له الجمع، وقد حكاه ابن الصباغ عن نصه في استقبال القبلة، ثم قال: وهذا إنما قاله؛ لأنه يحتاج أن يوجد العذر المبيح في جميع الصلاتين كالسفر، ثم قال: "قال أصحابنا: وسواء قلنا: يحتاج إلى نية الجمع، أو لا يحتاج"، وهذا عين ما أورده القاضي أبو الطيب في "تعليقه"، ثم قال ابن الصباغ: وهذا- عندي- ينبغي أن يكون فمرعاً على قوله: إنه يحتاج إلى نية الجمع في ابتداء الصلاة، أما إذا قلنا: يكفيه نية الجمع قبل السلام، فيجوز له الجمع إذا كان [المطر] موجوداً قبل الفراغ من الأولى، [وقد حكاه ابن الصباغ عن نصه في استقبال القبلة]، وهذا ما حكاه الماوردي والمتولي قال بعضهم: والفرق بين هذا وبين ما إذا افتتح الصلاة في الحضر، وسافر، فإنه لا يجمع قولاً واحداً؛ لأن المبيح هو السفر، والسفر هو الضرب في الأرض، ولا يوجد إلا بعد انقضاء الصلاة، ومجرد العزم على السفر لا يكون سفراً، فإذا نوى الجمع، والحالة هذه، فقد نواه بدون المبيح، والعذر في المطر هو ما يلحقه من المشقة بالعود إلى الثانية، وهو موجود حالة نية الجمع. قلت: وهذا فرق في غير محل الجمع؛ لأن محله إذا افتتح الصلاة ولا مبيح، ثم وجد المبيح في أثنائها، [وذلك يتصور في سفر البحر، بأن يحرم في سفينة في وسط البلد، ثم تسير وهو في أثنائها،] وتخرج من البلد؛ فإنه لا يباح له الجمع، وإن وجد سبب الرخصة وقت اعتبار النية.

الثاني: أنه لا يشترط وجود المطر في غير الأحوال الثلاثة التي ذكرها، وهو الذي أورده العراقيون، وصاحب "الكافي" و"التتمة"، وحكى الفوراني وجهاً آخر: أن انقطاع المطر في أثناء الصلاة الثانية يبطل الجمع، كما حكيناه فيما إذا طرأت الإقامة في أثنائها، وعلى هذا: لو انقطع بعد الفراغ من الثانية، كان كما لو طرأت الإقامة بعد فراغها، وقد سبق. قال الإمام: وهذا لا وجه له؛ لأنا إذا لم نعتبر دوام المطر في أثناء الظهر، فكيف نعتبره في أثناء العصر وما بعده؟! والفرق بين الجمع بعذر المطر والسفر: أن دوام السفر إليه، وانقطاع المطر ليس إليه. فرع- قاله في "التهذيب" عن القاضي- أنه لو قال لشخص بعد سلامه من الأولى: انظر هل انقطع [المطر] أو لا؟ بطل الجمع؛ لأنه شك في سبب الجمع. واعلم: أنه يعترض على ما ذكره الشيخ والأصحاب ها هنا سؤال؛ من حيث إن شرط الجمع أن تقع الصلاتان في وقت إحداهما، وهذا مما لا خلاف فيه، وقد اختلف قول الشافعي في أن وقت المغرب يدوم على غيبوبة الشفق الأحمر، وهو بمقدار ما يتوضأ، ويستر العورة، ويؤذن، ويصلي خمس ركعات، وقضية هذا أن يكون للشافعي قول: أنه لا يجوز الجمع بين المغرب والعشاء في وقت المغرب في الحضر بعذر المطر؛ لأن العشاء لا تقع بجملتها في وقت المغرب، بل ركعتان منها، لكن الأصحاب مطبقون على جوازه على [كل] قول؛ عملاً بظاهر الخبر المتقدم، وتكلف بعضهم لذلك جواباًن فقال: هذا يقوي القول بأن وقتها ممتد إلى غيبوبة الشفق، أو يكون تفريعاً على أنه إذا أوقع بعض الصلاة في الوقت، كان جميعها أداء. قلت: ويظهر أن يقال في جوابه: إن الصلاة الثانية إذا جمعت مع الأولى في وقت الأولى، كانت كالجزء منها، ويدل عليه أنه لو فصل بينهما بأكثر مما يفصل به بين أركان الصلاة عند الجهل أو النسيان- لم يصح الجمع، ولو بان بطلان الأولى بان بطلان الثانية إذا كانت كالجزء منها، وقد تقدم أنا على القول

بأنه لا وقت لها إلا وقت واحد، يجوز له أن يستديمها إلى غيبوبة الشفق؛ فلا جرم جاز الجمع بينهما، وإن كانت وقت الأولى يخرج في أثناء الصلاة الثانية، والله أعلم. قال: وفي جواز الجمع- أي: بعذر المطر- في وقت الثانية قولان: وجه الجواز: أنه عذر يجوّز التقديم؛ فجوز التأخير كالسفر، وهذا ما اقتصر الشيخ على إيراده في كتاب الصلاة، وادعى البندنيجي أنه القديم، وقال في "المهذب": إنه نص عليه في "الإملاء". [وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: إنه نص عليه في القديم و"الإملاء"]. وإذا قلنا به، قال الطبري في "عدته": اعتبرنا وجود المطر في وقت الأولى، وهو ما حكاه مجلي عن "تهذيب" نصر المقدسي، فلو انقطع قبل وقت العصر، لا يجوز الجمع. قال في "التهذيب": ويصلي الظهر في آخر وقته، كالمسافر إذا أخر نية الجمع، ثم أقام قبل دخول وقت العصر، ولو انقطع المطر بعد دخول وقت الثانية، جاز له الجمع؛ ذكره الطبري وصاحب "الفروع". وقال الرافعي: إن قضية ما ذكره البغوي: أنه لو انقطع المطر في وقت الثانية

قبل فعلها- أنه يمتنع الجمع أيضاً، وصارت الأولى قضاء كما [لو] صار مقيماً. وقال العراقيون: يصليها مع الثانية، سواء كان المطر باقياً أو لا. ووجه المنع: أن المطر قد ينقطع، فيؤدي إلى الجمع من غير وجود عذر. قال بعضهم: وعلى هذا لو كان راكباً في البحر، وجوز أن تشتد الريح، فتوصله إلى مقصده قبل وقت الثانية- لم يجز له التأخير، وهذا القول نص عليه في "الأم". وهذه الطريقة طريقة المراوزة أيضاً إلا الفوراني؛ فإنه قال في "الإبانة": يجوز أن يؤخر الأولى إلى الثانية في المطر، وهل يجوز أن يقدم الثانية إلى الأولى؟ فيه وجهان. وقد أفهم كلام الشيخ هاهنا منع الجمع للمقيم بغير عذر المطر، سواء كان ثم عذر من خوف أو مرض أو وحل، ونحو ذلك أم لا، وبه صرح في كتاب الصلاة في جمع التأخير، حث قال: ولا يعذر أحد من أهل فرض الصلاة في تأخيرها عن الوقت إلى آخره، وهو المذهب فيه، وفي التقديم أيضاً، وبه جزم القاضي الحسين في باب صلاة الخوف، وكذا الإمام، وادعى الإجماع على أنه لا يجوز بعذر المرض، والمتولي حكى عن القاضي: أنه اختار جوازه بعذر الخوف والمرض، وأيده في المرض بأنه يجوّز الفطر كما يجوّزه السفر؛ فالجمع أولى. وحكى الرافعي أن الخطابي جوز الجمع بعذر المرض والوحل، وأن الروياني في "الحلية" استحسنه. وحكى في "الروضة" أن الخطابي حكى عن القفال الكبير الشاشي، عن أبي إسحاق المروزي جواز الجمع في الحضر؛ للحاجة، من غير اشتراط الخوف والمطر والمرض، وبه قال ابن المنذر من أصحابنا، وابن الصباغ حكى عن ابن المنذر: أنه أجاز الجمع في الحضر من غير مرض؛ لأجل خبر ابن عباس السابق، وروي عنه- أيضاً-[أنه] قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثمانية وسبعاً الظهر والعصر، والمغرب والعشاء" أخرجه البخاري ومسلم. والحمل على

المطر قد جاء في رواية أخرى ما يدفعه، كما تقدم. وأجاب أصحابنا عن ذلك: بأنه يحتمل أن يكون قوله: "ولا مطر"، راجعاً إلى أن المطر انقطع في الصلاة الثانية، أو لم يكن واقعاً عليهن بأن كان قد صلى في المسجد، والسقف يحول بينه وبينه، ويحتمل: أن يكون أراد بالجمع: التأخير، بأن صلى الأولى في آخر وقتها، والثانية في أول وقتها، وهذا التأويل إنما يستقيم على أن وقت المغرب يمتد إلى غيبوبة الشفق، وحديث جبريل- عليه السلام- وإن كان دالاً على ذلك أيضاً، لكن بعد العهد به، وتجدد قوم لم يبلغهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين لمن عرف ذلك أن حكمه باق، ولمن لم يعرفه أن هذا هو الحكم. قال الأصحاب: فإن قيل: جوزتم ترك الجمعة والجماعة بالوحل، ولم تجوزوا الجمع بسببه. قلنا: الفرق: أن تارك الجمعة يفعل الظهر بدلاً منها، وتارك الجماعة يصلي منفرداً في بيته، وأما الذي يجمع لأجل الوحل، فإنه يترك وقت الصلاة إلى غير بدل. فروع نختم بها الباب: الفرع الأول: قال في "البيان": إذا أراد جمع صلاة العصر إلى صلاة الجمعة في المطر، لا أعلم فيها نصّاً، والذي يقتضيه القياس: أنه يجوز بشرط وجود المطر عند الإحرام بالجمعة، وعند السلام منها، وعند الإحرام بالعصر، ولا يشترط وجوده في الخطبتين، وإن أراد أن يؤخر الجمعة إلى العصر على القول القديم جاز، ولا يشترط وجود المطر في وقت العصر على ما مضى، ويخطب وقت [العصر] ويصلي الجمعة؛ لأن كل وقت جاز فعل الظهر فيه، جاز فعل صلاة الجمعة فيه، كآخر وقت الظهر. وهذا القول ضعيف، وكذا ما يتفرع عليه. وقد حكى الرافعي جواز جمع العصر إلى الجمعة، وقال: إن قول صاحب

"البيان": إنه لا يشترط وجود المطر في الخطبة، قد ينازع فيه إذا قلنا: إن الخطبتين بدل من الركعتين. قلت: وقد يظهر أن يقال: إنا وإن قلنا بجواز الجمع في وقت العصر، لا نجوّز تأخير الجمعة له؛ لأن لنا قولاً، أو وجهاً: أن الصلاة الأولى إذا فعلت في وقت الثانية بسبب السفر، تكون قضاء، وفائدة الجمع رفع المأثم، فإذا قلنا بهذا، لا يجوز تأخيرها؛ لأن الجمعة لا تفعل قضاء وقد يكون هذا قول من قال بجواز الجمع بعذر المطر في وقت الثانية؛ فيرتفع الخلاف. والله أعلم. الفرع الثاني: إذا نوع الجمع، ثم نوى تركه في أثناء الأولى، ثم نوى الجمع ثانياً- قال في "الروضة"- حكاية عن الداركي: إن فيه قولين. الفرع الثالث: إذا جمع الصبي بين الظهر والعصر في وقت الظهر، ثم بلغ، ووقت العصر باق- لا إعادة عليه؛ قاله العمراني في "زوائده". الفرع الرابع: إذا نوى الكافر أو الصبي السفر إلى مسافة القصر، ثم أسلم الكافر، وبلغ الصبي في أثناء الطريق- فلهما القصر في بقيته؛ قاله في "الروضة"، ووجهه ظاهر، والله أعلم. ***

باب صلاة الخوف

باب صلاة الخوف صلاة الخوف مشروعة في حقنا، باقية إلى يوم القيامة، والأصل فيها من الكتاب قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ...} الآية [النساء: 102] والمراد بها: صلاة الخوف إجماعاً. ومن السنة: ما سنذكره من الأخبار. وإذا ثبت حكمها في حق النبي صلى الله عليه سولم ثبت في حقنا أيضاً؛ لقوله عز وجل: {فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلّي"، ولأنها صلاة قد اشترك في سببها الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من أمته؛ فوجب أن يجوز لهم فعلها إذا وجد سببها كصلاة السفر والمرض، وعلى ذلك جرى الصحابة- رضي الله عنهم-: روي أن سعيد بن العاص قال لصحابه بطبرستان، وهو بإزاء العدو: "أيكم حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى صلاة الخوف، فقال حذيفة: أنا .... وذكر الخبر، فأمره سعيد، فصلى بهم"، وصلاها أبو موسى ببعض بلاد فارس، وصلاها عليٌّ بـ "صفّين" ليلة الهرير، ولم ينكر ذلك أحد. وقد ادعى أبو يوسف، ومحمد: أنها مختصة به- عليه السلام- للآية، وما ذكرناه حجة عليه، والرسول قد يخاطب بالشيء وتشركه فيه أمته؛ كما في قوله

تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103]، وقد قام الإجماع على قيام غيره مقامه في ذلك. وقال المزني: إن صلاة الخوف منسوخة في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه- عليه السلام- "أخر يوم الخندق أربع صلوات؛ لاشتغاله بالقتال، ولم يصل صلاة الخوف". قال الأصحاب: وما قاله المزني على العكس؛ فإنه- عليه السلام- صلاها، كما سنذكره في غزوة ذات الرقاع، وكانت لعشرين من المحرم سنة خمس، وصلاة الخندق كانت في شوال سنة اربع. كما ذكره البخاري. [ولما كان] هذا هو المذهب، قال الشيخ: إذا كان العدو في غير جهة القبلة- أي: بحيث لا يمكن الصلاة إلا باستدبارهم، أو بالانحراف يميناً أو شمالاً- ولم يأمنوا- أي: إذا أقام المقاتل لهم الصلاة- من الكبسة عليهم، وقتالهم غير محظور- أي: غير محرم- فرق الإمام الناس فرقتين، [أي]: إذا كان فيهم كثرة بحيث تكون كل فرقة منهم تقاوم العدو، كما نبه عليه قوله: "وإن كان العدو في جهة القبلة، وفي المسلمين كثرة"؛ فإنه إذا اعتبر الكثرة في هذه الحالة، كان اعتبارها فيما نحن فيه أولى، وقد صرح بذلك الأصحاب، وظن بعض الشارحين أن الشيخ أهمل ذلك؛ فاعترض عليه. قال: فرقة في وجه العدو، وفرقة خلفه، فيصلي بالفرقة التي خلفه ركعة، فإذا

قام إلى الثانية، فارقته [- أي نوت مفارقته-] وأتمت الركعة الثانية [لنفسها، ثم تخرج إلى وجه العدو، وتجيئه الطائفة الأخرى، فيصلي بها الركعة الثانية]، ويجلس، وتصلي الطائفة الركعة الثانية، ثم يسلم بهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في غزوة ذات الرقاع؛ كما أخرجه البخاري ومسلم، عن رواية مالك عن يزيد بن رومان، عن صالح [بن] خوات، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ورواه شعبة عن صالح بن خوات بن جبير عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فبين المبهم في رواية مالك. وسميت هذه الغزوة بغزوة "ذات الرقاع"؛ لأن الواقعة كانت عند جبل ألوان حجارته مختلفة: شيء منه أحمر، وشيء أبيض، وشيء أسود، كالرقاع. وقيل: سميت بذلك؛ لأنها كانت عند شجرة تسمى بذلك. وقيل: سميت بذلك؛ لرقاع كانت في ألويتهم. وقيل: لأنها كانت في وقت حر، وكان أكثر المسلمين حفاة، فلفوا الخرق والرقاع على أرجلهم، وهذا ما نقله أبو موسى الأشعري؛ فهو أصح ما قيل. "وخوات" بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الواو [وفتحها]، وبعد الألف تاء ثالثة الحروف. "وحثمة" بفتح الحاء المهملة، وسكون الثاء المثلثة، وبعدها ميم [مفتوحة]، وتاء [تأنيث]. فإن قيل: قد روى البخاري من حديث شعيب عن الزهري قال: "سألته هل

صلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني صلاة الخوف؟ فقادت أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم [قل نجد، فوافينا العدو، فصاففناهم]، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنا، فقامت طائفة معه، وأقبلت طائفة على العدو، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه، وسجد سجدتين، [ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاءوا، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقام كل واحد منهم، فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين] ". ورواه مسلم من حديث نافع، عن ابن عمر [بلفظ آخر، وفي آخره قال: "وقال ابن عمر]: فإذا كان خوف أكثر من ذلك، فصلِّ راكباً أو قائماً، تومئ إيماء"، فلم رأيتم العمل برواية ابن خوات، دون رواية ابن عمر؟ وهل إذا عمل برواية ابن عمر هل تصح الصلاة أو تبطل؟ قلنا: قال الأصحاب: ترجحت رواية ابن خوات على رواية ابن عمر من وجوه: أحدها: أن رواتها أكثر. والثاني: أنها أقل أفعالاً في الصلاة.

والثالث: أن نص التنزيل يوافقها، قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَاتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102]. وظاهر ذلك أنه أراد جميع الصلاة، وإذا كان كذلك حملنا السجود في الآية الأولى على الركعة الباقية للطائفة الأولى؛ لتكون الآية على وفق الخبر، والركعة يعبر عنها بالسجدة، كما جاء في قوله - عليه السلام-: "إذا أدرك أحدكم سجدةً من الصلاة قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته" أخرجه البخاري ومسلم. وأما صحة الصلاة إذا فعلت على نحو ما رواه ابن عمر ففيها قولان حكاهما الفريقان، وادعى في "الحاوي" أنهما منصوصان في "الأم": أحدهما: أنها باطلة؛ لما وقع فيها من العمل المنافي لها، وأما خبر ابن عمر، فقد قال: إنه مسوخ بخبر ابن خوات؛ لأنها آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الإمام: وهذا فيه إشكال؛ فإن الشافعي لا يرى النسخ [بالاحتمال، وما لم يتحقق تقدم المنسخ بالتاريخ على الناسخ، فادعاء النسخ] يبعد وينأى عن أصله. والثانى: أنها صحيحة؛ عملاً بالخبر. وقال القاضى الحسين: قال الشافعى فى "الكبير": والاختلاف فى ذلك من الاختلاف المباح، فإن فعل ذلك فقد أساء وتجزئه، والأحوط والأليق بأمر الصلاة أن يصلي كما ورد في رواية ابن خوات. وقد نص عليه في كتاب "الرسالة"، وهو الصحيح في "الرافعي"، ولو عدل عن الصلاتين، وصلى بهم كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ببطن النخل - جاز ذلك: بأن يصلي بكل طائفة كل الصلاة؛ لأن غاية الأمر أنه صلى بالطائفة الثانية وهي له نفل، ولهم فرض، وصلاة المفترض خلف المتنفل في حال الأمن جائزة؛ ففي حال الخوف أولى. لكن الأولى أن يصلي بهم كما ذكر الشيخ. [ثم كلام الشيخ] مصرح بأن الطائفة الأولى تفارق الإمام بعد قيامه إلى الثانية، وهو ما أورده الماوردي، وحكاه الإمام مع وجه آخر عن رواية شيخه أنها

تفارقه عقيب رفعه من السجود؛ لأن الركعة تنتهي بمفارقة السجدة الأخيرة، وحكى الرافعي عن البغوي وغيره: أنه مخير بين الأمرين، والأولى المفارقة بعد القيام، وفيه نظر؛ لأن المجوّز للمفارقة العذر ولا عذر لهم قبل القيام، بل لو قيل: لا يجوز لهم المفارقة قبل فراغ الإمام من القراءة، إذا قلنا: إنه يقرأ في حال الانتظار - لم يبعد؛ ولذلك قال الإمام: إنا إذا قلنا بالأول الذي ذكره الشيخ، لا يبعد [أن] نقول: إنما ينفرد القوم، إذا ركعوا وتركوا الإمام قائماً؛ فإنهم إنما يفارقونه حساً إذ ذاك، ثم قال: وهذا احتمال. والذي نقلته ما تقدم، وكأن وجهه أن القصد التسوية بين الطائفتين؛ ولهذا استحب الشافعي انتظار الإمام الطائفة الثانية؛ ليسلم معهم ليحصل لهم فضيلة السلام معه، كما حصل للأولى فضيلة الإحرام معه، ولو قلنا: إن مفارقة الأولى إنما تكون بعد فراغ قراءته في الثانية - ترجحت الأولى على الطائفة الثانية، وفات مقصود التسوية، والله أعلم. وقد بنى الإمام على الوجهين أمر سجود السهو، وسنذكر، وما فيه. وأما الطائفة الثانية: فظاهر كلام الشيخ والخبر: أنها تقوم إلى الثانية عقيب رفعه من السجود؛ فلا تجلس معه، وهو ما نص عليه في "الأم" والقديم و"الإملاء"؛ لأن الطائفة الأولى لم تحصل لها فضيلة التشهد مع الإمام؛ فكذا [تكون] الثانية؛ إذ التسوية بينهما مطلوبة، ولأنها لو جلست حتى يتشهد لطالت الصلاة؛ فإنهم يحتاجون إلى إتمام صلاتهم بركعة، وهو ينتظرهم حتى يسلم [بهم]، وصلاة الخوف وضعت على التخفيف، وقد حكي [عن] الشافعي أنه نص في سجود السهو على أنهم يفارقونه بعد فراغه من التشهد وقبل السلام؛ لأن المسبوق يفارق الإمام بعد التشهد، وهؤلاء مسبوقون بركعة. قال القاضي أبو الطيب وغيره: وهذا غير صحيح؛ إذ لو كانوا كالمسبوق لما قاموا حتى يسلم الإمام، وليس كذلك. وقد حكى القاضي الحسين وغيره من المراوزة قولاً عن القديم عوضه: أنهم يفارقونه بعد السلام، كالمسبوق سواء؛ لأنه قال فيه: "لو سها الإمام في الثانية،

وسجد للسهو، فالطائفة الثانية تجلس معه حتى يتشهد، وإذا سجد للسهو سجدت معه متابعة له، فإذا سلم الإمام تقوم وتقضي الركعة، وسجدت في آخر الصلاة قبل السلا". قال الإمام: وهذا القول صحيح لا شك فيه؛ فإن ذلك لو فرض اختياراً لصح، وإنما الكلام فى تصحيح ما رواه ابن خوات، وصححه الشافعي فى الجديد. وقد تحصل في المسألة عند كل فريق قولان، وإذا جمعت بين ما حكاه الفريقان، جاء فى المسألة ثلاثة أقوال، وحكى البندنيجى وغيره عن بعض الأصحاب أنه نزل النصين على النحو الذي أورده العراقيون على حالين: فحمل نصه في "الأم" على ما إذا كانت الصلاة ركعتين، وأنه أعاد المفارقة إلى الطائفة الثانية، وحمل نصه في سجود السهو على ما إذا كانت [الصلاة رباعية]، وأعاد المفارقة إلى الطائفة الأولى، قال: والأول أصح؛ لأن هذا يخالف نص قوله في سجود السهو؛ فإنه قال: "تفارقه إذا سجدت للسهو معه"، والتشهد الأول لا يسجد للسهو عقيبه. ثم اعلم أن مفارقة الطائفة الأولى للإمام تكون فعلاً وحكماً؛ لأنها تنوي مفارقته، كما ذكرنا، حتى لو فارقته من غير نية بطلت صلاتها؛ صرح به الماوردي وغيره، وفيه ما سنذكره مما يفهمه كلام الإمام، وحينئذٍ فإن سها الإمام في الثانية، لم يلحقها سهوه، ولو سهت هي فيها سجدت للسهو، ولا يتحمل الإمام عنها، نعم: لو سها الإمام في الأولى، سجدت في آخر صلاتها، [وإن لم يسجد الإمام بعد،] ولو سهت هي فيها لم تسجد؛ لأن الإمام يتحمل عنها، ولو سها الإمام قبل انتهائها إلى حد الاعتدال، فهل يلحقها سهوه؟ قال الإمام: إن قلنا: إن القدوة تنقطع عند رفع الإمام رأسه من السجدة الثانية، لم يلحقهم سهوه، وإلا لحقهم. قال الرافعي: ولك أن تقول: قد نصوا على أنهم ينوون المفارقة عن الإمام، وأنه يجوز [ذلك] عند رفع الرأس وعند الاعتدال، وإذا كان كذلك فلا معنى لفرض الخلاف في أن الانقطاع يحصل بهذا أو بذاك؛ فإنه ليس شيئاً يحصل

بنفسه، بل هو منوط بنية المفارقة؛ [فوجب قصر النظر على وقتها. قلت: ويمكن أن يؤخذ مما حكاه الإمام أن نية المفارقة] لا تشترط، [و] حينئذ فلا اعتراض. وأما الطائفة الثانية: فإنها على المذهب المنصوص تفارق الإمام فعلاً لا حكماً؛ لأنها تعود فتسلم معه، ولو كانت قد فارقته فعلاً وحكمًا، لاحتاجت عند العود إلى نية القدوة، ولم يقل به أحد، كما قال الإمام، وعلى هذا: فإذا سهت في الركعة الثانية تحمل الإمام عنها، ولو سها الإمام لحقهم سهوه، حتى لو لم يسجد سجدت هى فى آخر صلاتها. وحكى البندنيجي وغيره عن أبي العباس بن سريج وابن خيران: أن القدوة قد انقطعت حكماً أيضاً، وقد حكاه القاضي الحسين عن القفال أيضاً. فعلى هذا: يكون حكمها في السهو في الثانية وفي سهو الإمام بعد مفارقتها كحكم الطائفة الأولى. وليس بشيء باتفاق الأصحاب، وبعضهم لم يذكره، وهو جار – كما حكاه الفوراني وشيخه المسعودي – في المزحوم إذا سها في حال انفراده، وفيما إذا سها منفرد ثم لحق بالجماعة، وقلنا بصحة اقتدائه، وقال الإمام: الوجه القطع بأن الإمام لا يتحمل عنه في هذه الصورة؛ لأن القدوة لم تكن حال السهو. وهذا كله إذا قلنا بطريقة أهل العراق: إن المفارقة تكون قبل التشهد، أو بعده، وقبل السلام، أما إذا [قلنا] بأنها تفارقه بعد السلام- كما حكاه المراوزة- قولاً عن القديم، فلا يتحمل سهوها بعد مفارقته قولاً واحداً، قاله الرافعي، وقد رفع الشافعي على الجديد، فقال في "الأم": "ويشير إليهم بما يعلمون أنه قد سها". واختلف الأصحاب فيه: فمنهم من قال: أراد بذلك إذا خفى عليهم السهو، مثل: أن كان قد قرأ في غير موضع القراءة، أما إذا كان سهوه ظاهراً فلا يشير، وهذه طريقة أبي إسحاق، ولم يورد في "الحاوي" غيرها، وحكاها البندنيجي عن نصه في "الإملاء".

ومنهم من قال: يشير بكل حال؛ كي لا يغفلوا عن سجود السهو، قال القاضي أبو الطيب: وإنما يمكن الإشارة إذا كان قد واطأهم عليها قبل الصلاة: كأن يقول: إذا رأيتموني أشير بكذا وكذا، فاعلموا أني قد سهوت. قال ابن الصباغ: وقد يمكن أن يشير إليهم بأن اسجدوا، فيعلموا أن ذلك للسهو؛ لأن السجود الذي يأمرهم به لا يكون إلا للسهو، وقد أشار القاضي الحسين إلى الكلامين، فقال: قلما يعرفون أنه سها ما لم يواطئهم على ذلك قبل الصلاة. فرع: يستحب للإمام أن يقرأ بعد الفاتحة في الأولى سورة "سبح اسم ربك الأعلى" وما أشبهها. كما نص عليه في "الأم" قال: "فإن قرأ "قل هو الله أحد" أو قدرها من القرآن، لم أكرهه، وقال في موضع آخر: "إنه يقرأ سورة قصيرة". قال: وهل يقرأ في حال الانتظار- أي: للفرقة الثانية- ويتشهد- أي: في حال انتظاره للفرقة الثانية أيضاً- أم لا؟ فيه قولان. هذا الفصل ينظم مسألتين: إحداهما: إذا فارقت الطائفة الأولى الإمام؛ ففي حال إتمامها الصلاة لنفسها وإلى أن تحرم معه الطائفة الثانية: هل يقرأ الفاتحة والسورة، [أو] لا يقرأ حتى تحرم الثانية معه؟ الذي قاله في "الأم" و"الإملاء" ونقله البويطي- كما قال أبو الطيب وغيره-: أنه ينتظرهم وهو يقرأ، ونقل المزني أنه لا يقرأن وإذا جاءت الطائفة الثانية قرأ بهم، وعبارة الإمام وطائفة- في حكاية ما نقله المزني- أنه يقرأ بالطائفة [الثانية] إذا لحقت به أم القرآن وسورة، وقد حكى الماوردي ذلك عن نصه في "الأم"، وهو يتضمن أنه في قيامه وانتظاره لا يقرأ الفاتحة، واختلف الأصحاب في المسألة على طرق: إحداها: أن المسألة على قولين؛ عملاً بالنصين، وهي طريقة الشيخ وشيخه [القاضي] أبي الطيب: أحدهما: لا يقرأ حتى تحرم الثانية؛ طلباً للتسوية بين الطائفتين، وعلى هذا: إن شاء سكت إلى أن تحضر الطائفة الثانية، وإن شاء

اشتغل بذكر آخر. والثاني- وهو الصحيح في "الكافي" وغيره-: أنه يقرأ؛ لأن القيام ركن يجب فيه القراءة؛ فلا يجوز السكوت عنها فيه، ولا الاشتغال بغيرها من الأذكار؛ لأنه ليس محلاً له، فعلى هذا: يقرأ الفاتحة وهي فرضه، ثم يقرأ بعدها ما شاء من القرآن بقدر ما تحرم الطائفة الثانية بالصلاة وتقرأ الفاتحة، وكذا سورة قصيرة. كما قاله البندنيجي، وقد حكى القاضي الحسين ذلك عن رواية الربيع، فإن لم يفعل ذلك، بل قرأ الفاتحة وسورة قصيرة، ولما أحرمت الثانية خلفه ركع- قال في "الأم": ركعوا معه وأجزأهم، قال الشيخ أبو حامد: ولكنه ترك سنة صلاة الخوف، وكذا الحكم فيما لو ركع قبل أن تلحقه، ثم لحقته في الركوع. قاله في "الحاوي". والطريقة الثانية: تنزيل النصين على حالين: فالموضع الذي قال: "يقرأ"، أراد إذا أراد تطويل القراءة. والموضع الذي قال: لا يقرأ، إذا أراد تقصير القراءة، وهذه الطريقة تعزى إلى أبي إسحاق. والطريقة الثالثة: أن المسألة على قول واحد، وهو ما رواه الربيع، والمزني غلط فيما نقله، ولفظ الشافعي: "يقرأ بعد إتيانهم بقدر أم القرآن وسورة قصيرة"، ولم يقل: إنه يقرأ بأم القرآن. وهذه طريقة الصيدلاني. المسألة الثانية: إذا فارقته الطائفة الثانية قبل أن تتشهد – كما هو الصحيح- لتأتي بما عليها، ثم تلحقه فتسلم معه، [فهل يتشهد قبل أن تلحقه، أو لا يتشهد حتى تجلس معه؟] فيه طريقان، كما ذكر الشيخ وغيره: إحداهما: فيه القولان. كما في القراءة، ولم يورد في "الحاوي" غيرها، وصحح القول بأنه يتشهد، وقال –تفريعاً عليه-: إنهم إذا أتوا تشهد، وسلم [بهم]. وقيل: يتشهد قولاً واحداً، وهذه الطريقة صححها الريواني في "تلخيصه"، والفرق بينه وبين

الفرقتين؛ لأنه قرأ مع [الأولى فكذا ينبغي أن يفعل] مع الثانية، ولا كذلك التشهد؛ فإن الطائفة الأولى لم تدركه معه؛ فكذا الثانية طلباً للتسوية. ثم هذا الخلاف في الصورتين خلاف في الاستحباب بلا خلاف. فرع: أقل طائفة يستحق للإمام أن يصلي بها صلاة الخوف عند اشتغال الجيش بالقتال ثلاثة أنفس، نص عليه؛ لقوله تعالى عند ذكر الطائفة الأولى: {وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102]، فعبر عنهم بواو الجمع، وكذا يفعل في الطائفة الثانية؛ حيث قال: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]، وأقل ما يعبر بواو الجمع عن ثلاثة، وقد استعمل الله – تعالى- في كتابه العزيز الطائفة في الجمع الكبير والجم الغفير في قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] واستعملها في [أربعة في قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، واستعملها في] الواحد في قوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] [ثم] قال الشافعي: وأكره أن يصلي بأقل من ذلك، وأن يحرسه أقل من ذلك. قال القاضي الحسين: [و] لم يرد بذلك أن العسكر كلهم ستة نفر، ولكن [كأنه] يقول: إن شغل أكثر الناس بالقتال، فأقل من يصلي بهم ثلاثة، وإن شغل أكثر الناس بالصلاة، فأقل من يحرس ثلاثة، حتى لو كان ثَمَّ شِعب أو مضيق، فقال [قائل] واحد من الشجعان: أنا أسد هذا الشعب لكم، فاشتغلوا بالصلاة – جاز، ولكنه يكره. [وقال القاضي أبو الطيب: معناه: أنه إذا كان مع الإمام ستة أنفس- لم يكره] أن يصلي بهم صلاة الخوف، فيجعل ثلاثة منهم بإزاء العدو، ويصلى بثلاثة، فإن كانوا خمسة – كره [له] أن يصلي بهم صلاة الخوف، لكن يصلي ببعضهم جميع صلاته، ويقفون في مواقف أصحابهم حتى ينصرفوا، فيصلوا لأنفسهم جماعة.

تنبيه: احترز الشيخ بقوله: "إذا كان العدو في غير جهة القبلة" عما إذا كان في جهتها، وسنذكره. واحترز بقوله: "ولم يأمنوا" عما إذا أمنوما، فإنه لا يصليها؛ لأن الخوف لم يتحقق، فلو صلاها فهل تصح؟ فيه كلام سنذكره في آخر الباب، إنش اء الله تعالى. ثم الأمن يفرض في صور: إحداها: أن يبعدوا عن القوم، بحيث يعلم أنهم لو راموا الوصول إليهم بإيذائهم في الصلاة، لم يقدروا على ذلك، وكذا لو كان بينهم خندق أو ما يمنع من ذلك. والثانية: أن يكون العدو شرذمة يسيرة لا يخشون. والثالثة: أن ينهزم العدو منهم، ولا يخافون رجوعه عليهم، وهو غاية الأمن، وقد نص على المنع في هذه الحالة الشافعي. وإذا امتنعت صلاة الخوف في هذه الأحوال، فصلاة شدة الخوف أولى؛ لأنها في منافاة الصلاة أشد، وقد أشار الشيخ إلى ذلك في بعض الصور في آخر الباب. قال الأصحاب: ولا فرق في ذلك بين أن يعلم أنه إذا صلى متمكناً فاته مال العدو الكافر أو لا؛ إذ لا خوف، وإنما هو فوات مطلوب لم يحصل. فإن قيل: قد حكي عن القفال احتمال ثلاثة أوجه فيما إذا قرب فوات الوقوف، وعلى المحرم بالحج صلاة لو أتى بها متمكناً لفاته الحج، ولو سعى للوقوف لخرج وقت الصلاة- أقامها في "الوسيط" أوجهاً: أحدها: أنه يترك الصلاة، لأجل تحصيل الوقوف؛ فإن قضاء الصلاة ممكن، وأمر الحج خطير، وقضاؤه ليس بالهين. والثاني: أنه يصلي؛ فإن الصلاة [تلو] الإيمان، ولا سبيل لتخلية الوقت عنها؛ فإنه لا يسقط الخطاب بها مع بقاء التكليف. والثالث: أنه يصلي صلاة شدة الخوف ماشياً؛ ليكون جامعاً بين التسرع

للحج وبين إقامة الصلاة. فعلى هذا: ما الفرق مع أن الصلاة في هذه الحالة لأجل تحصيل مطلوب؟ قلنا: قد فرق الإمام بينهما بأن الحج في حكم شيء حاصل في حق المحرم، والفوات طارئ عليه؛ فأشبه ما إذا خشي على ماله فقط، فهرب به؛ فإن له أن يصلي صلاة شدة الخوف، كما سنذكره. وقد ضعف بعضهم هذا الفرق؛ لأنه يمكن أن يقال: العدو الكافر إذا انهزم، وأمكن إدراكه صارت أمواله كالحاصلة في يد المسلمين، وفيه بعد. واحترز الشيخ بقوله: "وقتالهم غير محظور" عن قتال أهل البغي أهل العدل، وقطاع الطريق أهل القافلة؛ فإنه لا يشرع لأهل البغي وقطاع الطريق صلاة الخوف؛ لأنها رخصة فلا تناط بالمعاصي، ومن طريق الأولى ألا يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لشدة منافاتها الصلاة، وهكذا الحكم في المنهزم من المسلمين من الكفار إذا كان انهزامه محرماً، كما ستعرفه في قتال المشركين، فلو صلّيت في هذه الأحوال، كان الحكم في صحتها وبطلانها، كما إذا فعلت في الأمن، وسنذكره. [وقد أفهم قوله هذا أنه لا فرق في جواز فعلها عند القتال الذي ليس بمحظور بين أن يكون القتال واجباً: كقتال الكفار، وكذا من يقصد إذهاب النفس أو الحريم على الأصح، أو يكون مباحاً كقتال من يطلب ماله فقط، وهو في الأولى غني عن التعليل، ووجهه في الثانية: أن السفر المباح كالسفر الواجب في إباحة الرخص؛ فوجب أن يكون القتال كذلك]. وقد اقتضى كلام الشيخ: أنه لا فرق فيما ذكره بين الجمعة وغيرها؛ إذ كلامه مفروض فيما إذا كانت الصلاة ركعتين، وذلك يفرض في الصبح سفراً وحضراً، وفي الجمعة في الحضر، وفي الظهر والعصر والعشاء سفراً مع نية القصر، وفيها تكلم الشافعي، [ولأجل ذلك] عد ابن الصباغ من شروط

صلاة الخوف وراء ما ذكره الشيخ: أن تقع في السفر، وليس الأمر كما قال؛ فإن صلاة الصبح تصلي صلاة الخوف في الحضر، وأما صلاة الجمعة: فإن وقع مواجهة العدو خارج البلد لم تقم؛ لأنها لا تقام خارج البلد، وإن وقعت والقوم في البلد، والعدو على بابها، فقد حكى ابن الصباغ وغيره عن الشافعي: أن الإمام إذا أراد أن يصلي بهم صلاة الجمعة في هذه الحالة- فرقهم فرقتين، فيصلي بكل فرقة ركعة، ثم تفارقه، وتتم لنفسها، ثم تأتي الطائسفة الأخرى، فيصلي بها الركعة الأخرى، ثم تتم في حكم إمامته ولا تجهر بالقراءة، والأولى تجهر؛ لأنها منفردة، وقد عزا الروياني في "تلخيصه" هذا النص إلى "الأم". واختلف الأصحاب في ذلك على طريقين: منهم من قال: هذا منه جواب على أحد القولين في أن انفضاض القوم بجملتهم في الركعة الثانية، لا يبطل الجمعة. أما إذا قلنا: يبطلها، فلا تصلى كذلك؛ بل لا بد أن يبقى مع الإمام أربعون ممن سمع الخطبة وصلى معه الركعة الأولى. ومنهم من قال: بل ذلك جائز على القولين معاً؛ لأنهم ها هنا معذورون في فراق الإمام، بخلاف الانفضاض. وهذه الطريقة لم يورد المتولي غيرها. ثم هذا إذا كانت الطائفة الأولى قد سمعت الخطبة وهم أربعون، فلو سمعها أربعون، وخرجوا إلى وجه العدو، وصلى بأربعين غيرهم الركعة الأولى -لم تصح وجهاً واحداً، وكذا لو كانت الطائفة الأولى دون الأربعين [وقد سمعوا الخطبة، ولو كانت الطائفة الثانية دون الأربعين] ففي الصحة الطريقان: طريقة الشيخ أبي حامد: أن ذلك لا يضر، وطريقة غيره: فيهم قولا الانفضاض. واغتفر الأصحاب على قول الصحة - كيف فرض الأمر- إحرام الطائفة الثانية [بها] بعد سلام الأولى، وإن كان مذهبهم ألا تقام جمعة بعد أخرى؛ [لكون الإمام] لم يتحلل بعد، وهذا ما أورده العراقيون. وفي "النهاية" ما يقتضي خلاف ذلك؛ فإنه قال: إذا أراد الإمام إقامة الجمعة

على صفة صلاته بذات الرقاع – كما رواه ابن خوات – فقد اختلف الأصحاب فيه: فذهب بعضهم إلى إلحاقها بالصبح والظهر والعصر فيما ذكرناه؛ لمكان العذر، وقال: إن الانفضاض إنما يقدح فيها إذا كان بغير عذر. ومنهم من قال: لا تصح إلا بالشرائط المرعية فيها. [قال]: وعلى هذا: إذا فعلت كما وصفنا، فالإمام في الركعة الثانية منفرد إلى حيث تقدم الطائفة الثانية، فإن قلنا: إن الانفضاض في هذه الحالة لا يقدح في صلاته، فينبغي ألا تصح صلاة الطائفة الأولى؛ فإنهم وإن صلوا ركعة في جماعة فقد انفردوا في الركعة الثانية، ولو فرض انفراد قوم بركعة حالة الاختيار قصداً، فلا مساغ لهذا، [و] في كلام أئمة العراق ما يشير إلى تردد في ذلك في حق المختارين، إذا صلوا ركعة مع الإمام؛ تخريجاً على الانفضاض، وهذا بعيد جداً. ولو أراد الإمام أن يصلي بهم على النحو الذي رواه ابن عمر، وقلنا بأنها تصح كما هو الصحيح- فهو أولى بالجواز، وصلاة عسفان كذلك، وأما صلاة بطن النخل فلا تجوز بالنسبة إلى الطائفة الثانية قولاً واحداً؛ لأن في صحتها القول بصحة جمعة بعد جمعة. والله أعلم. قال: وإذا كانت الصلاة مغرباً، صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة، في أحد القولين؛ لأن ذلك أقرب إلى المساواة بين الطائفتين؛ إذ كل واحدة منهما تتشهد تشهدين، ولو قلنا بالعكس لأدى إلى تطويل الصلاة على الطائفة الثانية؛ لأنها تحتاج أن تجلس معه للتشهد جلستين في ركعتين: أما الأول فلمتابعته، وأما الثاني فلأنه بعد ثانيتها وتجلس للتشهد الأخير؛ فكان الأول أولى. قال الماوردي: [ولأنه] لا بد له أن يصلي بطائفة ركعتين، [وبالأخرى ركعة؛ فكان صلاته بالأولى ركعتين] أولى؛ لوجهين: أحدهما: أن لها حق السبق.

والثاني: أن أول الصلاة أكمل من آخرها؛ لما تضمنته من قراءة السورة بعد الفاتحة، فلما اختصت الأولى بأكمل الطرفين، وجب أن تختص بأكمل البعضين، وهذا ما نص عليه في "الأم"، ولفظه فيه- كما قال الروياني في "تلخيصه"-: "فإن صلى بالطائفة الأولى ركعة، وبالثانية ركعتين، أجزأه- إن شاء الله تعالى- وأكره له ذلك". وقد نقله في "المختصر"، وهو الأصح في "المهذب" وغيره، وحكى الروياني طريقة قاطعة به، ولم يحك الماوردي، والقاضي الحسين، والغزالي في "الوجيز"، وكذا صاحب "الكافي" غيرها، وعلى هذا: متى تفارقه الطائفة الأولى؟ قال الجمهور: إنها تفارقه بعد التشهد، وهل الأولى أن ينتظر الإمام الثانية جالساً أو قائماً؟ فيه قولان، أصحهما: الأول. وقال البندنيجي: في وقت المفارقة قولان ينبنيان على أن الإمام ينتظر الطائفة الثانية في هذه الصورة قائماً أو جالساً، وفيه قولان نص عليهما في "الإملاء": أحدهما: قائماً، وهو ما نقله المزني، وعليه نص في "الأم"، ولفظه: "فإن انتظرهم قائماً فحسن، وإن ثبت جالساً، وأتموا لأنفسهم- فجائز، ووجهه: أن القيام في الصلاة أفضل من القعود فيها، ولأن القيام مبني على التطويل، والجلوس [للتشهد] الأول مبني على التخفيف؛ كان جلوس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه كالجالس على الرضف- وهي الحجارة المحماة – فعلى [هذا] تفارقه بعد القيام. والثاني: ينتظرها جالساً؛ لأنه إذا فعل ذلك أدركت معه تمام القيام، وإذا انتظرهم قائماً فاتهم معه بعض القيام، فعلى هذا: يحرمون وهو جالس، فإذا كبر لقيامه كبروا معه بعد إحرامهم تبعاً له، قاله الماوردي والبندنيجي. وعلى هذا: تفارقه الأولى بعد التشهد. وقد نسب ابن الصباغ إثبات الخلاف في أنه ينتظرها قائماً أو جالساً إلى أبي حامد، وقال: إنه ليس بصحيح؛ بل هما على السواء، وقد دل على ذلك نصه في "الأم".

وإذا صلت معه الطائفة الثانية الركعة الثالثة، وجلس للتشهد- فارقته قبل أن يتشهد على المذهب الصحيح. وهل يتشهد الإمام قبل أن تعود إليه أو ينتظرها؟ فيه القولان، قال الروياني في "تلخيصه": ولا تجيء الطريقة الجازمة بأنه يتشهد قبل مجيئهم؛ لأنه يؤدي إلى تفويت فضيلة عليها، وقد أدركت الأولى مع الإمام فضيلة التشهد الأول. قال: وفي القول الآخر يصلي بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين؛ لأن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – "هكذا صلاها بصفّين ليلة الهرير"، ولأنه لابد أن تكون صلاته مع إحدى الطائفتين أزيد منها مع الأخرى؛ فيجب أن يكون ذلك مع الطائفة الثانية؛ لتحصل التسوية بين الفريقين؛ فإن الأولى حازت فضيلة أول الصلاة، وهذا ما قاله في "الإملاء"، وقد حكاه الإمام عن رواية بعض المصنفين، وقال: إنه مزيف لا أعده من المذهب. فعلى هذا: تفارقه الطائفة [الأولى] في الوقت الذي تفارقه لو كانت الصلاة ركعتين، وقد تقدم، والإمام ينتظر الثانية قائماً وجهاً واحداً، ولو انتظرها جالساً كان كما لو انتظر الثانية جالساً والصلاة ركعتين، وقد قال الأصحاب: إنه إن كان جاهلاً بأن ذلك لا يجوز لا تبطل، وإن كان عالماً بأن ذلك لا يجوز بطلت صلاته، وصلاة الطائفة الأولى صحيحة إذا نوت مفارقته، وكذا الطائفة الثانية إن جهلت بطلان صلاته؛ كالصلاة خلف المحدث، وباطلة إن علموا بطلان صلاته. قال البندنيجي: قال الربيع: وفيها قول آخر: إذا كان الإمام أفسد صلاته عامداً، بطلت صلاة من خلفه؛ علم بذلك أو لم يعلم، وهذا [لا] يجيء على قوله. قال البندنيجي: وما رأيت أحداً من أصحابنا حكاه. والطائسفة الثانية تفارقه ها هنا بعد التشهد قولاً واحداً، حكاه البندنيجي، وهذا الخلاف في الأفضلية. قال: وإن كانت الصلاة رباعية، وهي: الظهر، والعصر، والعشاء، إذا فعلت في

الحضر، أو [في] السفر وأرادوا الإتمام، كما قاله الروياني - صلى بكل طائفة ركعتين؛ لأن صلاة الخوف كما تجوز في السفر تجوز في الحضر، لعموم الآية. فإن قيل: الآية تقتضي ذلك إذا كانت الصلاة ركعتين، وهي صلاة السفر. قلنا: لا يتعين [مع] كونها ركعتين أن تكون صلاة السفر؛ لأن الصبح والجمعة ركعتان في الحضر؛ فيجوز أن يكون [ذلك هو المراد] بالآية. فإن قيل: الصلاة الرباعية يطول الانتظار فيها؛ لأنها إذا كانت ركعتين انتظر بقدر ركعة، وفي الرباعية ينتظر بقدر ركعتين. قيل: انتظار الركعة يجوز أن يكون بقدر انتظار الركعتين؛ إذ لا ضبط فيه؛ فإن المأموم يجوز أن يطول القراءة. فإذا ثبت ذلك فرقهم الإمام فرقتين، وصلى بكل طائفة ركعتين- كما قال الشيخ- طلباً للتسوية مع إمكانها، ويتشهد بكل طائفة تشهداً، وهذا مما لا خلاف فيه؛ لما ذكرناه. لكن هل يستحب له انتظار الثانية جالساً أو قائماً في الثالثة؟ فيه القولان، قاله الماوردي. قال فإن فرقهم أربع فرق، [أي:] لكون العدو ستمائة والقوم أربعمائةن كما قاله البندنيجي وأبو الطيب والإمام - لم يكن له ذلك، كما أفهمه كلام الماوردي؛ حيث قال: إذا أراد الإمام ذلك [منع]، فإن فعل فقد أساء. وقال الرافعي: إنه نص عليه، وإن القول بالإساءة يشعر بالتحريم. قال: وصلى بكل فرقة ركعة، أي: وأتمت لنفسها باقي صلاتها؛ وذلك مثل: أن يصلي بمائة ركعةً، فإذا قام إلى الثانية فارقته وأتمت الصلاة، وانتظر الثانية، وقرأ أو ترك القراءة على الخلاف السابق، ثم صلت معه مائة أخرى [الركعة الثانية، فإذا جلس للتشهد فارقته على الجديد، وأتمت الصلاة، ثم صلت معه مائة أخرى] الركعة الثالثة، وفارقته عند قيامه إلى الرابعة، وأتمت لنفسها، وقرأ

هو أو ترك القراءة على الخلاف، ثم اقتدت به المائة الباقية في الركعة الرابعة، فإذا جلس للتشهد الأخير، قامت لتتم، أو تجلس معه على القول القديم، فإذا فعلوا ذلك ما حكم صلاتهم؟ قال الشيخ: ففي صلاة الإمام قولان- أي: منصوصان في "الأم" و"المختصر"-: أحدهما: أنها صحيحة، وهو الأصح؛ لأن الموجود منه مخالف لما أمر به؛ لأنه طول قيامه وتشهده، وذلك لا يبطل الصلاة في حال الاختيار، فها هنا أولى؛ إذ المسألة مصورة بما إذا دعت الحاجة إليه، كما ذكرناه عن البندنيجي وغيره. وإن لم يكن كذلك – كما أفهمه كلام الماوردي – فهو عند عدم الحاجة كالصلاة في حالة الأمن، وبه صرح الإمام، وقد قلنا: إن ذلك لا يبطل، ولأنه لو انتظر في ركوعه داخلاً في صلاته في صلاة الأمن، لم تبطل، وإن كان الشرع لم يرد بمثله فلألا تبطل بانتظار ورد الشرع بمثله أولى، قال الإمام: ولأن انتظار الطائفة الثانية في معنى انتظار الطائفة الثالثة، وقد تمهد – أي: عند الكلام في الغسل من ولوغ الكلب- أن ما لا يجوز القياس فيه [يجوز أن] يلحق بالمنصوص ما في معناه، وهذا القول قد جزم به في "الإملاء". وعلى هذا قال الشيخ: و [في] صلاة المأمومين قولان، أي: منصوصان في "الأم" و"الإملاء": أحدهما: أنها تصح. والثاني: تصح صلاة الطائفة الأخيرة، وتبطل صلاة الباقين. وحقيقة ما ذكره الشيخ يرجع إلى أن صلاة الطائفة الأخيرة صحيحة قولاً واحداً؛ لأنها اقتدت بمن صلاته صحيحة، ولم يصدر منها فعل يخالف وضع الصلاة في حال الخوف؛ فصحت، وما عداها: هل تصح صلاتهم، أو تبطل؟ فيهم [قولا المفارقة] بغير عذر، والمنصوص منهما في "الأم": عدم البطلان، كما قاله البندنيجي، وكذلك هو فيها في المسألة التي نحن فيها، والمنصوص في "الإملاء": البطلان، وكذا هو منصوص فيه في مسألتنا أيضاً، وإنما قلنا: إن هذه

مفارقة بغير عذر؛ لأن الطائفة الأولى في الصلاة المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فارقت النبي صلى الله عليه وسلم في نصف صلاتهم، وكل من هؤلاء الطوائف فارق الإمام قبل ذلك، ومنهم من قال: لا تبطل صلاتهم قولاً واحداً؛ لأنهم معذورون؛ فإن إخراج أنفسهم لم يكن إلى اختيارهم، ولو أرادوا المقام على الإتمام لم يمكنهم، قال الماوردي: وهذا أظهر، وكلام الشيخ أبي محمد يميل إلى أن ذلك ليس بعذر؛ لأنه قال: إذا منعنا الإمام من انتظار الطائفة الثالثة فلا نقيم لما يجري من العذر وزناً في جواز انفراد القوم؛ فإن هذا على خلاف وضع الشرع. قال: والقول الثاني: أن صلاة الإمام باطلة؛ لأن الرخصة وردت في انتظارين؛ فلا تجوز الزيادة عليهما؛ ألا ترى أن العمل القليل في الصلاة لا يبطلها، وإذا زاد أبطلها؟! كذا هنا، وأيضاً: فإن مدى انتظاره يطول؟ فإنه كان ينتظر بقدر ركعتين، وصار ينتظر بقدر ثلاث ركعات، لكن في أي وقت يحكم ببطلانها؟ فيه قولان، منصوص، ومخرج: أحدهما- وهو من تخريج ابن سريج-: أنها تبطل بالانتظار الثالث؛ فإنه نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظاران، إلا أنهما كانا للطائفة الثانية، وهما هنا للطائفة الثانية والثالثة؛ فلا تبطل [بهما، فإذا] زاد عليهما بطلت صلاته حينئذٍ؛ لأنه الزائد؛ فعلى هذا تبطل صلاة الطائفة الرابعة فقط. [والثاني – وهو المنصوص-: أنها تبطل بالانتظار الثاني؛ لمخالفته الانتظار] الثاني في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين: أحدهما: في المنتظر. والثاني: في القدر. أما في المنتظر فهو ظاهر؛ لأنه – عليه السلام- انتظر فيه الثانية، وهنا ينتظر به الثالثة. وأما في القدر: فلأن النبي صلى الله عليه وسلم انتظر في الركعة الثانية قدر فراغ الطائفة الثانية من ركعة فحسب، والإمام ها هنا ينتظر فراغ الثانية، وذهابها إلى وجه العدو ومجيء الثالثة.

لكن على هذا: هل تبطل بعد مضي [قدر] ركعة من انتظاره الثاني، أو تبطل بمضي الطائفة الثانية؟ فيه وجهان: اختيار الشيخ أبي حامد منهما: الأول. وعلى هذا القول الذي هو المنصوص فرع الشيخ حيث قال: فتصح صلاة الطائفة الأولى والثانية؛ لأنها تابعت الإمام، وفارقته قبل بطلان صلاته، وتبطل صلاة الطائفة الثالثة والرابعة؛ لأنها اقتدت به بعد [بطلان] صلاته. وقال في "الروضة": إن في صحة صلاة الطائفة [(الأولى والثانية] على هذا القول أيضاً قولي المفارقة بغير عذر، كما قلنا في الطوائف الثلاث على قول صحة صلاة الإمام، وإنه صرح به جماعة من أصحابنا. وقد تلخص من تفريع القول بأن صلاة الإمام باطلة: أن صلاة الطائفة الرابعة باطلة قولاً واحداً، وفي الأولى والثانية والثالثة وجهان. وإذا جمعت بين ما اقتضاه تفريع هذا القول والقول الأول، واختصرت – قلت:- في المسألة – إذا فرقهم أربع فرق، وصلى بكل فرقة ركعة – خمسة أوجه: أحدها: أن صلاة الإمام والمأمومين كلهم صحيحة. والثاني: أن صلاة الكل باطلة، وقد حكاه في طالروضة" هكذا. والثالث: أن صلاة الإمام صحيحة، وكذا الطائفة الرابعة دون الأولى والثانية والثالثة. والرابع: أن صلاة الإمام باطلة، وكذا الطائفة الرابعة، وصحت صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة. والخامس: أن صلاة الإمام والطائفة الثالثة والرابعة باطلة، وصلاة الطائفة الأولى والثانية صحيحة. وعن القاضي أبي الطيب أنه قال، في صحة صلاة الطائفة الأولى والثانية مع القول ببطلان صلاة الإمام: ما يعرفك أن الإنسان إذا نوى بعدما أحرم بالصلاة أن يفعل ما يبطل الركعة الثالثة والرابعة، لا تبطل صلاته في الحال، وأن من قال ببطلانها في الحال من الأصحاب فقد أخطأ. ثم ما ذكرناه من بطلان صلاة المأمومين مخصوص بما إذا علموا ذلك، [أما

إذا لم يعلموا] فلا تبطل، وبأي شيء يعتبر علمهم؟ قال ابن الصباغ- تبعاً لأبي الطيب-: فيه وجهان: أحدهما: أن يعلموا بتفريقه الطوائف، ولا يعتبر علمهم بأن ذلك مبطل، كما إذا علموا أنه جنب، وعبارة القاضي: أن يعلم أن الإمام ينتظر من لا يجوز انتظاره. والثاني: أن يعلموا أن ذلك مبطل، ويفارق الجنب؛ لأن كل أحد يعلم أن الإمام ينتظر من لا يجوز انتظاره، وأن ذلك مبطل، بخلاف ما نحن فيه. وما ذكرناه من بطلان صلاة المأمومين – تفريعاً على القول بصحة صلاة الإمام – مخصوص بما إذا علموا أن مفارقة الإمام بغير عذر مبطلة، أما إذا لم يعلموا ذلك فلا تبطل، وقال الإمام: في حالة العلم بالبطلان نظر؛ من حيث إنهم انفردوا عمن صلاته باطلة في علم الله – تعالى – وكذا من اقتدى بجنب على جهل، ثم فعل الانفراد عنه، ثم تبين آخراً حقيقة الحال، وينقدح في البطلان تردد ينبني على أن حكم القدوة هل يثبت إذا كان الأمر هكذا؟ وفيه خلاف مذكور فيما إذا كان إما مالجمعة جنباً، وأدرك المسبوق الإمام في ركوع ركعته، والإمام محدث. قال: ويجوز أن يقال: إذا منعنا المقتدي من المفارقة، فانفراده ببقية صلاته – والإمام جنب- غير سائغ من جهة قصد المقتدى وإضماره مخالفة من يعتقده إماماً. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون العدو في جهة واحدة، أو [في] جهتين، أو ثلاث، أو أربع؛ فإنا حيث قلنا: إن الصلاة صحيحة، يفرقهم فيما إذا كان العدو في أربع جهات أربع فرق، [وحيث] قلنا: إنها لا تصح، يصلي في هذه الصورة بكل فرقة كل الصلاة، ويكون ما عدا الأولى في حق الإمام نافلة، قاله البندنيجي. ولو كانت المسألة بحالها، لكن فرق الإمام الناس فرقتين، فصلى بالأولى ركعة، وبالأخرى ثلاث ركعات، أو عكس ذلك – قال في "الحاوي": فهو

[مسيء، وصلاة] جميعهم جائزة. وهذا ما نص عليه في "الأم؛" فإنه قال: "فإن صلى بطائفة ثلاث ركعات، وطائفة ركعة – كرهت ذلك له، ولا تبطل صلاته؛ لأن الإمام لم يزد في الانتظار". وفي "التتمة": أنا إذا قلنا: لا تبطل صلاته فيما إذا فرقهم اربع فرق، فالشرع [قد] جعل له أن ينتظر بعد الركعة الثانية، وقد نقل الانتظار إلى غير محله، وهو ما بعد الثالثة، أو بعد الأولى؛ فينبني على من قنت في الركعة الأولى من الصبح أو في آخر صلاة أخرى، وأما صلاة الطائفتين فعلى ما سبق ذكره في أصل المسألة. وعلى النص قال في "الإملاء": إن الإمام يسجد سجدتين للسهو، وكذلك الأخرى؛ لأنه وضع الانتظار في غير موضعه. وقد حكاه الروياني في "تلخيصه" عن نصه في "الأم"، [ثم قال]: وهذا يدل على أن العامد كالساهي في سجدتي السهو. ثم قال: قال أصحابنا: ويجب – على قياس هذا- إذا فرقهم أربع فرق [أن يسجد] سجدتي السهو أيضاً؛ لأنه وضع الانتظار في غير موضعه. قال الماوردي: ولو فعل مثل ذلك في المغرب، لم يلزمه سجود السهو، والفرق: أن المغرب في العدد لا يمكن تنصيفها؛ فأدى ذلك إلى تفضيل إحدى الطائفتين اجتهاداً، فسقط سجود السهو لمخالفته، ولما استويا في الظهر شرعاً لا اجتهاداً، لزم سجود السهو؛ لمخالفته. فرع: لو فرقهم في المغرب ثلاث فرق، وصلى بكل فرقة ركعة، قال القاضي الحسين: فصلاة الطائفة الأولى والثانية صحيحة، وفي صلاة الثالثة قولان؛ [أي]: المنصوص، والمخرج: فعلى المنصوص تبطل، وعلى المخرج: لا. قال: وإن كان العدو في جهة القبلة يشاهدون في الصلاة، أي: بأن يكونوا في أرض مستوية، وفي المسلمين كثرة- أحرم بالطائفتين، وسجد معه الصف الذي يليه، فإذا رفعوا رءوسهم- أي: وقاموا- سجد الصف الآخر، أي: وقاموا، وقرأ بهم جميعاً، وركع ورفع منه بهم جميعاً، فإذا سجد في الثانية حرس الصف

الذي سجد في الأولى، وسجد الصف الآخر، فإذا رفعوا رءوسهم سجد الصف الآخر؛ لأن هذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، رواه أبو داود عن أبي عياش الزرقي، وكذا النسائي والبيهقي، وأخرجه من طريق آخر بإسناد أجود منه عن مجاهد، ورواه مسلم، عن عطاء عن جابر بن عبد الله، ولفظه قال: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصفنا صفين [: صفٌّ] خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والعدو بينه وبين القبلة، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعاً، ثم ركع وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع، فرفعنا جميعاً، ثم انحدر – عليه السلام- بالسجود والصف الذي يليه، وأقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود، قام الصف الذي يليه، وانحدر الصف المؤخر بالسجود،

وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه- انحدر الصف المؤخر بالسجود، فسجدوا، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً"، قال جابر: كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم. ومراده بتقدم [الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم: أن الصف الذي يليه تأخر إلى مقام الآخرين]، وتقدم [الصف] الأخير إلى مقام الصف الأول، كما دل عليه بقية الخبر، وقد جاء هكذا مفسراً في رواية أبي داود، عن أبي عياش، وقد روى أبو داود، وغيره أنه – عليه السلام- صلاها كذلك يوم بني سليم. وعسفان: قرية جامعة بها منبر، على ستة وثلاثين ميلاً من "مكة"، سميت "عسفان"؛ لعسف السيول فيها، كذا ذكره الشيخ زكي الدين في "حواشيه"، وهو مغاير لما ذكرناه عن الشافعي في الباب قبله. فإن قلت: قد دل الحديث على انتقال الصف الثاني إلى موضع الصف الأول، والصف الأول إلى موضع الصف الثاني، فهل تقولون به؟ قلنا: نعم، وقد نص عليه الشافعي، كما ستعرفه؛ لأن هذا الفعل قليل، وقد ثبت بالسنة. ثم ما ذكره الشيخ من الكيفية ها هنا قد ذكره في "المهذب" أيضاً، وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وقال: إنه يجب أن يكون المذهب؛ لأن الشافعي قال: "إذا رأيتم قولي مخالفاً للسنة، فاطرحوا قولي في الحش" وقد صح الخبر، والذي نقله المزني عن الشافعي خلافه؛ فإنه قال: إذا كانت الصورة كما ذكرنا، صلى بهم جميعاً، وركع [بهم جميعاً]، وسجد بهم جميعاً، إلا صفاً يليه أو بعض صف ينظرون العدو- أي: إذا كان في بعض الصف كفاية في الحراسة- فإذا قاموا

بعد السجدتين سجد الذين حرسوا، فإذا ركع ركع بهم جميعاً، فإذا سجد سجد معه الذين حرسوه أولاً، إلا صفاً أو بعض صف يحرسونه منهم، فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا، سجد الذين حرسوه. وهذا يقتضي أن الحارس أولاً الصف الذي يليه، والحارس ثانياً الصف الآخر، وهو على العكس مما قاله الشيخ، وقد اتبع القاضي أبو الطيب، والحسين، والماوردي، والإمام، وغيرهم المزني فيما نقله، ولم يحكوا سواه، وقال الماوردي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا صلاها بعسفان، كما رواه أبو الزبير عن جابر، وعكرمة عن عبد الله بن عباس، وكذا قال القاضي الحسين ومن بعده: إنه – عليه السلام- فعلها كذلك بعسفان عام الحديبية سنة ست من الهجرة، وقالوا: إن الافعي قال: "لو أن الصف الأول تأخر في الركعة الثانية إلى مكان الصف الثاني، وتقدم الثاني إلى مكان الأول؛ ليكون من يحرس أبداً هو الصف الأول – فلا بأس"، ولأجل ذلك قال البندنيجي: إن المختار هو الترتيب الأول، [أي]: الذي نقله المزني، والجائز هو الترتيب الثاني، وادعى الماوردي أن الثاني أولى؛ لأمرين: أحدهما: أن الحرس يكون أقرب إلى العدو. والثاني: أنهم أقدر على حراسة الجميع. وغيره وجهه بأنه إذا فعل ذلك ستر المسلمين عن أبصار العدو؛ فلا يعرفون قدرهم ولا صفتهم، وقد حكى ابن الصباغ ما قاله المزني وغيره من نص الشافعي، ثم قال في آخر الفصل: والأولى اتباع الخبر، أي: كما قاله أبو حامد. واختار الرافعي طريقاً آخر، فقال: ما نقل [من] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاها على النحو الذي ذكره في "المختصر" لم ينقله أحد من أصحاب الأسانيد؛ بل

الذي رواه مسلم وابن ماجه وغيرهما ما ذكره الشيخ أبو حامد، غير أنه جاء في بعض الروايات أن طائفة سجدت معه، ثم في الركعة الثانية سجد معه الذين كانوا قياماً، وهذا يحتمل الترتيبين جميعاً، والشافعي لم يقل: إن الكيفية التي ذكرها صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان، ولكن قال: وهذا نحو صلاته- عليه السلام- يوم عسفان. فالأشبه [تجويز] كل واحد منهما؛ إذ لا فرق في المعنى، وقد صرح به الروياني وصاحب "التهذيب" وغيرهما. قلت: لكن الروياني أبداه في "تلخيصه" احتمالاً لنفسه، وقد وافق الجمهور على أن الحراسة إنما تكون في السجود دون الركوع؛ للخبر، والمعنى فيه: أن الراكع يمكنه المشاهدة، بخلاف الساجد، وحكى أبو الفضل بن عبدان: أن من أصحابنا من قال: يحرسون في الركوع أيضاً. قال الرافعي: وفي بعض الروايات ما يدل عليه. فرع: إذا كان الحارس في الركعتين طائفة واحدة، فقد قال في "الأم": "رجوت أن يجزئهم، ولا إعادة عليهم، ولو أعادوا كان أحب إلي"، كذا حكاه البندنيجي، وقال لأجله: إنه جائز، والأولى خلافه. وحكى غيره وجهاً آخر: أن صلاتهم باطلة، وأن أصل الخلاف ما إذا زاد الإمام انتظاراً في [الصلاة] الرباعية؛ حيث فرقهم أربع فرق، وهو من تخريج القاضي الحسين، كما ذكره في "تعليقه"، وكذلك أثبت الإمام الخلاف في المسألة وجهين، والغزالي حكاه قولين، والأصح في "الكافي" وغيره الجواز. قال الرافعي: ولم يورد جماعة سواه. ووجه الإمام مقابله: بأن المتبع في تغايير وضع الصلاة: النصوص، وما يصح النقل فيه، وقد صحت الحراسة على التناوب، وفيه معنى معقول؛ فإن في الحراسة تخلفاً عن الإمام بأركان، فإذا تناوب فيها القوم قل التخلف من كل فريق، وإذا تولاها قوم في الركعتين جميعاً كثر تخلفهم، وكانوا خارجين عن اتباع الشارع. وقد حكى القفال نص الشافعي في المسألة على نحو آخر، فقال عنه: إنه قال: "لو

كان الحارس في الركعتين واحدة – أحببت لها أن تعيد الركعة"، قال القفال: وفيه إشكال؛ لأن حراستها في الركعة الأولى جائزة، وحراستها في الركعة الثانية لا تخلو إما أن تبطل صلاتها أو لا، فإن أبطلت فعليها أن تقضي جميع الصلاة، وإن لم تبطل فليس عليها قضاء شيء. قال: إلا أنه يمكن أن نجعل لهذا وجهاً، وهو: أنه إذا كان جاهلاً بأن حراستها في الثانية لا تجوز؛ فلم تبطل صلاته للجهل، ولم تصح تلك الركعة لها؛ لمخالفتها للإمام؛ فعليها أن تقضي تلك الركعة. قال القاضي الحسين: ومن أصحابنا من قال: معناه: أن سبب بطلانها هو حراستها في الركعة الثانية، وليس لها أن تحرس في الركعتين معاً، وقد قيل: أراد بالركعة جميع الصلاة، والعرب تسمي الشيء باسم ما يشمله ويتضمنه، فيسمون الصلاة ركعة؛ لأنها تتضمن الركوع، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204] وأراد: الخطبة؛ لاشتمالها على القرآن. وقوله: "أحببت أن يعيد" معناه: أوجبت، فعليه إعادة جميع الصلاة، وقيل: معناه: على طريق الاستحباب. قال: والمستحب أن يحمل السلاح في صلاة الخوف في أحد القولين؛ لأنه غير مقاتل في الصلاة؛ فلم يجب لذلك حمله كما في سائر الصلوات، ويخشى أن يحصل له القتال؛ فلذلك استحب له، وقد وجهه القاضي بقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [النساء: 102] فأباح وضع السلاح بالمطر؛ فدل على أنه غير واجب، وهذا ما حكاه المزني، وقال الماوردي: إنه الجديد. قال: ويجب في الآخرة؛ لقوله تعالى: {وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]، وظاهره الوجوب، وقد أكده بقوله في آخر الآية: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً}؛ فدل على أن عليهم جناحاً في وضعها عند فقد ذلك، وهذا ما نص عليه في القديم، كما قال في "الحاوي"، وغيره عزاه إلى "الأم"،

ولفظه: "وأحب للمصلي أن يأخذ سلاحه في الصلاة ما لم يكن نجساً، ولا يأخذ الرمح إلا أن يكون في حاشية الناس"، ثم قال بعد ذلك: "ولا أجيز له وضع السلاح كله في صلاة الخوف"، ثم قال: "فإن وضعه لم تفسد صلاته؛ لأن معصيته في ترك السلاح ليس من الصلاة"، وقد أبدى الإمام القول بعدم البطلان فقهاً لنفسه، وكأنه لم يقف على هذا النص. وهذه الطريقة التي ذكرها الشيخ هي طريقة أبي إسحاق المروزي وغيره، وبعضهم قطع بالقول الأول، وآخرون قطعوا بالثاني؛ فحصل في المسألة ثلاث طرق مذكورة في "النهاية". ومنهم من قال: ليست المسألة على قولين؛ وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي استحبه، قصد بذلك السلاح الكامل الذي يدفع به عن نفسه وعن غيره: كالرمح والنشاب ونحو ذلك، والموضع الذي أوجبه، قصد به السلاح الذي يدفع به عن نفسه خاصة: كالسيف والسكين. والصحيح عند الشيخ وشيخه القاضي أبي الطيب طريقة أبي إسحاق التي أوردها في الكتاب، وهي التي قال بها أكثر الأصحاب، كما قال الماوردي، وأصح القولين الأول. والجواب عن الآية الأولى: أن صلاة الخوف كان فعلها محظوراً، ثم أمر الله بها، والأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة لا الوجوب، كما في قوله: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة: 10]، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. وعن الثانية: أنه وضع عنهم [بها] جناح الكراهة في حال العذر، وذلك يقتضي أنها لا ترتفع عند فقده، ونحن قائلون به؛ فإن حمله مستحب، وتركه مكروه إلا في حالة العذر. وادعى الإمام أن الذي لا بد من التنبه له: أنهم لو بعدوا الأسلحة عن أنفسهم، وظهر بهذا السبب مخالفة الحزم والتعرض للهلاك- فيجب منع هذا

قطعاً؛ فإنه في صورة الاستسلام للكفار، وإن وضع الواضع سيفه بين يديه إذا لم يكن في حال مطاردة، ولم يكن مخالفاً للحزم- فلست أرى في ذلك احتمال التردد في الجواب؛ بل الوجه القطع به؛ فإن مد اليد إلى السيف الموضوع على الأرض في اليسر كمد اليد إليه وهو يتقلد، فإذا كاني قطع به في غير الصلاة، فلأن يقطع بجوازه في الصلاة أولى وأحرى. وإن لم يظهر في تنحية السلاح إمكان خلل، ولكن كان لا [يؤمن] أيضاً إفضاء مثل تلك التنحية إلى خلل، فلعل التردد واختلاف النص في هذا، ولكن الأصحاب ذكروا حمل السلاح في عيبته في الصلاة، وأنا أرى الوضع بين اليدين في حكم رفع السلاح وحمله. وهذا كله في السلاح الطاهر، أما النجس فلا يجوز حمله. قال القاضي أبو الطيب: وكذا لا يجوز حمل ما يمنعه من إكمال الصلاة، مثل: السيور التي لا يمكنه فيها الركوع والسجود، ومثل البيضة السابغة التي تمنعه من السجود، ومثل الخوذة التي لها أنف يحول بين جبهته وبين الأرض. وهذا يؤخذ مما تقدم في الأبواب السالفة، على أن في كلام البندنيجي الذي سنذكره ما ينازع فيه. وكذا لا يجوز أن يحمل ما يؤذي به غيره من المسلمين، مثل: الرمح يحمل في وسط الناس؛ لأنه إن حمله قائماً لم يتمكن من الركوع والسجود في تلك الحالة، وإن مده آذى المسلمين به، نعم لو كان في حاشية الناس جاز له حمله؛ لأنه لا يؤذي به أحداً إذا وضعه ممدوداً حال صلاته، وكلام البندنيجي يدل على أنه في الحال الأول مكروه؛ لأنه قال في كتاب الرمي: إن الصلاة في حال حمل السلاح جائزة، وهو على ثلاثة أضرب: حرام وهو النجس، ومكروه وهو ما يشغله عن الخشوع كالجعبة التي فيها النشاب والرمح، ومباح وهو السيف والخنجر والسكين، وقال هنا- وكذا الماوردي-: إنا إن حملنا النصين على اختلاف حالين، فحمل السلاح على خمسة أضرب: حرام، ومكروه، وواجب، ومستحب، وما اختلف حكمه باختلاف مكان حامله: فالحرام: ما كان نجساً، قال الماوردي: أو مانعاً من الركوع والسجود، ونحوه.

والمكروه: ما كان ثقيلاً يشغله عن الصلاة كالجوشن والمغفر السابغ على الوجه، وما له أنف. والواجب: مما يدفع به عن نفسه: كالسيف، والسكين. والمستحب: ما يدفع به عن نفسه وعن غيره: كالقوس، ونحوه. وما اختلف حكمه باختلاف المكان: وهو الرمح: إن كان في حاشية الناس لم يكره، وإن كان في أثناء الصف كره له ذلك. وإن قلنا: المسألة على قولين، فالسلاح على أربعة أضرب: محرم، ومكروه، وما اختلف باخلاتف المكان- وقد تقدم بيان ذلك- وما اختلف القول فيه: وهو ما يدفع به عن نفسه، أو عن نفسه وغيره، فهل يجب حمله أو لا؟ على قولين. وقد أفهم ما ذكرناه: أن السلاح الذي وقع الكلام فيه يشمل ما يلبس وقاية، وما يحمل للدفع. وعن ابن كج: أن السلاح يقع على السيف والسكين والرمح والنشاب ونحوها، أما الترس. فليس بسلاح، وكذا لو لبس الدرع لا يسمى حاملاً لسلاح، وتفصيل الإمام السابق في تنقيح محل الخلاف يرشد إليه. [تنبيه: كلام الشيخ يفهم أن ما ذكره من استحباب حمل السلاح أو وجوبه، مختص بما ذكره من صلاتي الخوف: صلاة ذات الرقاع، وصلاة عسفان، وبه صرح] الإمام، أما صلاة شدة الخوف فذاك واجب فيها قولاً واحداً. وصلاة بطن النخل، قد قال الرافعي: يظهر أن تكون كصلاة عسفان وذات الرقاع؛ لأن معنى الخوف يشملها، وقد أطلق الأصحاب ذلك في صلاة الخوف إطلاقاً. قال: وإذا اشتد الخوف، أي: بحيث لا يمكن الإمام أن يقسم القوم قسمين؛ لكثرة العدو ونحو ذلك، والتحم القتال، أي: فلم يقدروا على النزول عن دوابهم، أو على الانحراف، وهم رجالة – صلوا رجالاً وركباناً؛ [لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] ومعناه: إن خفتم رجالاً وركباناً]

فصلوا رجالة وركباناً؛ و"رجالاً": جمع "راجل"؛ كصاحب وصحاب، وقوله - عليه السلام- في حديث البخاري السابق في غزوة ذات الرقاع: "وإن كانوا أكثر من ذلك، فليصلوا قياماً وركباناً". قال: إلى القبلة، وغير القبلة؛ لأنه روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} أنه قال: مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها. كذا رواه مالك عن نافع عنه، [ثم] قال مالك: ما أراه ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال القاضي أبو الطيب: إن أبا بكر بن المنذر قال: إن موسى بن عقبة رواه عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً. وفي "الحاوي" و"التهذيب" وغيرهما: أن القائل: "ما أراه ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم هو نافع، وهو المذكور في كتب الحديث، ثم قال الماوردي: والشافعي رواه عن محمد بن إسماعيل عن [ابن أبي ذئب] عن الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان ذلك نصّاً مرويًّا، ولأن الضرورة تدعو إلى الصلاة على هذه الصفة؛ إذ لا يجوز إخلاء الوقت عن الصلاة؛ فجاز ذلك للضرورة، ولا يجب عليهم في هذه الحالة أن يستقبلوا القبلة، لا في الإحرام ولا في الركوع ولا في السجود، وإن كانوا رجالة، صرح به البغوي وغيره. ولا تجب عليهم الإعادة إذا كان الانحراف عن القبلة لأجل القتال، فلو كان لأجل جموح الدابة، وطال الزمان- بطلت صلاته، كما في غير حال الخوف، قاله الرافعي، وحكى ابن التلمساني في باب استقبال القبلة: أن العراقيين حكوا وجهاً في صلاة المسايفة إذا وقعت إلى غير القبلة: أنه يجب القضاء.

قال: فإن لم يقدروا على الركوع والسجود؛ أي: للخوف من العدو- أو مثوا؛ لقول ابن عمر في الخبر الذي ذكرناه من قبل عن رواية مسلم، عن نافع، عن ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك، فصلى راكباً أو قائماً يومئ إيماء. ولا فرق في ذلك بين الراكب والراجل، بخلاف ما تقدم في صلاة النافلة في السفر في حق الماشي. والإيماء: الإشارة، ويتعين عند الإتيان بها أن يكون إيماؤه بالسجود أخفض من الركوع؛ ليحصل التمييز. ويجوز فعل هذه الصلاة [عندنا] فرادى وجماعة؛ لعموم الآية. قال ابن الصباغ: والجماعة أفضل. قلت: وفيه نظر؛ لأن أبا حنيفة يقول: لا تصح الصلاة جماعة في هذه الحالة، كما حكاه القاضي أبو الطيب عنه، ومن شأن الشافعي استحباب الخروج من خلاف الخصم إذا أمكن، ما لم يكن قد ورد نص يقتضي المخالفة، كما تقدم ذكره في القصر. ثم إذا أقيمت جماعة، فلا يضر تقدم المأمومين وتأخرهم بالكر والفر؛ كما لا يضر ذلك في المستديرين حول الكعبة، بخلاف من اختلف اجتهادهم إلى أربع جهات لا يقتدي بعضهم ببعض، وفي هذه الحالة أيضاً لا يجب عليهم- إذا صلوا كذلك- الإعادة؛ لأنهم فعلوما ما أمروا به، وقد أسقط أبو حنيفة وجوب الفعل على الحاضر في هذه الحالة، ولديلنا عليه- مع الآية- أنه مكلف تصح منه الطهارة غير متخوف من القتل لأجل الصلاة؛ فوجب ألا يخلي الوقت من الصلاة، أصله: الأمن. فرعان: الفرع الأول: الكمين يجوز أن يصلي قاعداً؛ مخافة أن يراه العدو، وفي الإعادة قولان حكاهما الفوراني؛ بناء على المحبوس في الحُش، المذكور منهما في "التهذيب" و"الكافي": الوجوب، وكلام الإمام يقتضي الجزم بمقابله. الفرع الثاني: لو لم يمر بالمصلي قرن، ولكن كان ترتيب القتال يقتضي أن

يقصد وإن لم يقصد- قال الإمام: فهذا أراه من الأفعال الضرورية؛ فإن من لا يقصد في القتال – هتضم ويتغشى في التقاء الصفوف. قال: فإن اضطروا إلى الضرب المتتابع ضربوا؛ ولا إعادة عليهم، كما لو اضطروا إلى المشي فمشوا، وهذا قول ابن سريج، كما قاله البندنيجي، وحكاه الماوردي عنه وعن أبي إسحاق؛ جرياً على مذهبهما في حمل نصيه في "المختصر" و"الأم"- فيما إذا خاف فركب في أثناء الصلاة- على حالين، كما ستعرفه، وبهذا جزم البغوي والقاضي الحسين، ويقال: إن القفال قطع به، كما حكاه الروياني، وقال الرافعي: إن الأكثرين رجحوه، سواء وقع في شخص واحد أو في أشخاص. وقيل: عليهم الإعادة؛ لأنه عذر نادر فيها، فأشبه من لم يجد ماء ولا تراباً؛ فإنا نأمره بالصلاة مع أنها باطلة لفقد شرطها، وبالإعادة، وهذا ما حكاه البندنيجي عن النص، وعبارته في حكايته: "أنها تبطل، ويمضي في صلاته، ويعيد"، وهكذا حكاه الروياني في "تلخيصه" عن "الأم" فقال: إن تابع الضرب، أو ردد الطعنة، أو عمل ما يطول- بطلت صلاته، ويمضي فيها، ثم إذا قدر أعادها، لا يجزئه غير ذلك، ولأجل ذلك ذكر البندنيجي في موضع آخر أنه المذهب. قال الماوردي: وهو ما عليه سائر أصحابنا، ووجهه بعضهم بأن إقامة هذه الصلاة راكباً مومئاً، مستقبل القبلة وغير مستقبلها، كما فسره ابن عمر- من الرخص الظاهرة، فالزيادة على ذلك مجاوزة للنص في محل لا مجال للقياس فيه، كذا نقله صاحب "التقريب"، وفيه نظر؛ لما تقدم في الباب: أن الرخصة إذا عقل معناها ألحق بها ما هو في معناها، والقائلون بالأول حملوا النص على ما إذا فعلوا ذلك من غير ضرورة. وقد أفهم كلام الشيخ في "المهذب" أن القول بالبطلان قول ثالث في المسألة غير القولين؛ لأنه لما حكى النص حكى بعده أن أبا حامد حكى عن ابن سريج أنه إن كان مضطراً لم تبطل صلاته؛ كالمشي، ثم قال: وحكى بعض أصحابنا أنه

إن اضطر فعل، ولكن يلزمه الإعادة؛ كما نقول فيمن لم يجد ماء ولا تراباً: إنه يصلي، ثم يعيد. وعلى ذلك جرى ابن يونس، وكلام البندنيجي والروياني مصرح بأن هذا هو النص، وحينئذٍ فليس في المسألة معه إلا قول ابن سريج وأبي إسحاق، والله أعلم. ولا خلاف أن الضربة الواحدة والطعنة الواحدة لا تبطل، وكذا الضرب والطعن المتفرق فيها. والضربتان المتواليتان ونحوهما هل تبطلان؟ إن قلنا في الثلاثة: إنها تبطل، قال البندنيجي: لا نص فيها للشافعي، والذي يجيء على مذهبه أن ذلك لا يبطل؛ لأنه في حد القلة؛ لأنه لا ينطلق عليه اسم الجمع المطلق، وهذه طريقة في المسألة، وطريقة القاضي أبي الطيب التي ذكرها في "تعليقه": أن الضربة الواحدة والطعنة الواحدة لا تبطل اتفاقاً، وقال: إنه لا يختلف المذهب أن الثلاث المتواليات تبطل؛ لكون ذلك عملاً كثيراً، وأما إذا ضرب ضربتين [أو طعن طعنتين] ففي البطلان وجهان: أحدهما: تبطل؛ لأن الشافعي نص على أن الضربة الواحدة والطعنة الواحدة لا تبطل الصلاة، ثم قال: "إن ردد الطعنة، بطلت"، وهو في الطعنة الثانية قد ردد الطعنة؛ فوجب أن تبطل صلاته. وطريقة الإمام: أن الضرب الكثير عند عدم الحاجة مبطل، وفي معناه الزعقة والصيحة؛ فإنه لا حاجة إليها؛ لأن [الكمي] المقنع السّكوت أهيب في نفوس الأقران، وزاد الماوردي، فقال: إنه لو تكلم عند الضرورة للكلام، بطلت وجهاً واحداً؛ لأن يسير العمل مباح، ويسير الكلام غير مباح، وعند الحاجة لو كثرت ضرباته وأفعاله في أشخاص، قال: فالذي قطع به شيخي أن ذلك لا يقدح، وقياسه بين. وذكر صاحب "التقريب" نصوصاً دالة على أن كثرة الأفعال تبطل، وأن العراقيين والشيخ أبا عل حكوا ذلك. وقال الأصحاب: ظاهر المذهب ما ذكره شيخي، وفرعوا عليه ما إذا كرر الفعل الواحد في الشخص الواحد ثلاث مرات، وقالوا: هذا مبطل؛ لأنه في المحل الواحد نادر؛ فلا يُعد مما يظهر مسيس

الحاجة إليه، وفيه نظر؛ [فإنه] قد يعم من جهة أن القرن قد يتقي ببيضته الضرب وتمس الحاجة إلى أخرى، وقد لا تؤثر الضربات لمكان الدروع وغيرها من الملابس الواقية؛ فالحكم بأن الغالب ان تزيح الضربة دون الضربات غير ظاهر، وكلام الصيدلاني مصرح في فحواه بأن الحاجة إذا مست إلى ذلك في مضروب واحد لم تبطل الصلاة، ولا وجه له عندي إلا هذا، وما نقله عن الصيدلاني قد قال الفوراني: إنه نص عليه، وإن مقابله خرجه أبو حامد مما إذا حمل سلاحه الملطخ بالدم، كما ستعرفه. ثم قال الإمام: والقول القريب فيه: أنا حكينا قولاً في كتاب الطهارة: أن من أمرناه بالصلاة مع اختلال صلاته بعذر نادر لا يدوم لا قضاء عليه، وهو مذهب المزني؛ فينبغي أن يتخذ هذا أصلاً، ويترتب عليه جريان الضربات في مضروب واحد، وهذا أولى بإسقاط القضاء؛ لما أشرت إليه. وإذا جمعت ما ذكره عند الحاجة إلى الضرب واختصرته، قلت: في المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كثر في شخص واحد أوجب الإعادة، وغلا فلا، وقد حكاها في "الوسيط" أقوالاً ثلاثة. ثم محل القول بعدم البطلان عند الأصحاب فيما إذا كانت الضربة واحدة أو أكثر، إذا لم يكن في حمل السلاح بعد الأولى ملابسة النجاسة، فإن كانت بأن تلطخ سيفه بالدم: فإن ألقاه على القرب، أو رده في قرابه تحت ركابه في قريب من زمان الإلقاء- فلا يضره ذلك، كذا قاله الإمام، وقاله الروياني في "تلخيصه": الظاهر فيما إذا رده في قرابه تحت [وركه أنها] تبطل؛ لأنه كان يمكنه أن يطرحه من يده في الحال. ولو أمسكه، ولم يفارقه؛ للاحتياج إليه - قال الفوراني: فهل عليه الإعادة؟ فيه قولان؛ كمن صلى في الحش، والذي حكاه القاضي الحسين عن النص: أن صلاته باطلة، وهو ما حكاه الإمام عن الأصحاب، ثم قال: وفيه نظر عندي؛ [فإن تلطّخ] السلاح، والطعن [والضرب] على الولاء، وشدة الخوف من الأمور العامة في القتال، فإذا ثبت أن ما يقتضيه القتال محتمل، فليلتحق هذا به

خصوصاً، ونجاسة المستحاضة لا تبطل الصلاة، للتولي. قال: وإن أمن وهو راكب، فنزل، أي: لم يستدبر القبلة في نزوله- بنى، [أي:] على صلاته؛ لأن النزول عمل قليل، وهو لا يبطل في حال الأمن. وظاهر كلام الشيخ أنه [لا] فرق في البناء بين أن يكثر منه الفعل- لثقل جسمه- أو لا، وهو وجه حكاه الفوراني وصاحب "التقريب"، مع وجه آخر لم يحك القاضي الحسين غيره: أنه يستأنف، ويجب على الآمن في حال الركوب أن ينزل ليتم صلاته على الأرض؛ كما يجب على المريض القيام إذا قدر عليه في أثناء صلاته. أما إذا استدبر القبلة في نزوله، فقد قال في "المهذب" وغيره من العراقيين: إن صلاته بطلت؛ لأنه ترك الاستقبال في الفرض من غير خوف، وهذا ما حكاه الروياني في "تلخيصه" عن النص، نعم: لو انحرف عن القبلة يميناً أو شمالاً لا تبطل، كما صرح به القاضي أبو الطيب وغيره، وقالوا: إن ذلك يكره، وكان يتجه في حال استدباره القبلة في نزوله أن يتخرج على الوجهين [فيما] إذا وجد السترة في أثناء الصلاة [وهي بقربه،] وكان في أخذها مستدبراً للقبلة، اللهم إلا أن يكون ما ذكروه ها هنا مفروضاً فيما إذا أمكنه الاستقبال في حال نزوله، وما ذكروه ثم إذا لم يمكنه في حال أخذه السترة الاستقبال. قال: وإن كان راجلاً، أي: فخاف فركب، استأنف على المنصوص، وقيل: إن اضطر إلى الركوب، فركب، لم ييستأنف، وقيل: فيه قولان. اعلم: أن الذي نص عليه في "المختصر" أنه إذا افتتح الصلاة آمناً، فأظله العدو؛ فخاف، فركب فرسه- أنه يستأنف الصلاة؛ لأن الركوب عمل كثير، وقال في "الأم": "بنى على صلاته". واختلف الأصحاب في ذلك: فمنهم من أخذ بنصه في "المختصر"؛ نظراً لما عمل، ولم يفرق بين أن يكون مضطراً إلى الركوب أو لا، وهذه [هي] الطريقة التي قدمها الشيخ،

[ولم يحك في "الكافي" غيرها]. ومنهم من قال – وهو أبو إسحاق، وابن سريج، وأكثر أصحابنا، كما قال في "الحاوي"-: إن النصين محمولان على اختلاف حالين: فحيث قال: "يستأنف"، أراد: إذا ركب مختاراً من غير ضرورة داعية، بل ركب طالباً لهم، وحيث قال: "يبني"، أراد: إذا كان قد دعته الضرورة إلى الركوب؛ إما للدفع عن نفسه، أو للهرب الجائز له من شدة الخوف وهجوم العدو؛ لأنه في هذه الحالة مضطر إليه؛ فلم تبطل كالمشي. وهذه الطريقة هي الطريقة الثانية في الكتاب، ولم يورد القاضي الحسين غيرها عن الأصحاب، وأنهم أيدوا ذلك بقول الشافعي في "الإملاء": "إذا صلى نازلاً فركب، استأنف؛ لأنه مستغن عنه"؛ [فإن مفهومه: أنه إذا صلى نازلاً، فلحقه شدة الخوف؛ فركب- بنى؛ لأنه غير مستغن عنه]، وقد حكى الإمام هذه الطريقة عن الصيدلاني، وقال: لا شك أنها المذهب. ومنهم من حكى في المسألة قولين: أحدهما: يبني مطلقاً؛ لأن الركوب كالنزول، ولأن العمل الكثير في الصلاة للحاجة جائز، والحاجة موجودة. والثاني: يستأنف مطلقاً، قال الروياني: وهو الأقرب؛ لما ذكرناه من علة الشافعي، ووجهه الفوراني بأنه التزم صلاة ليس فيها فعل مخالف لموضوعها، فإذا فعل ما يخالفها لزمه استئنافها، قال الإمام: وهذا ليس بشيء؛ فإن من التزم الصلاة قائماً، ثم اضطر إلى القعود أو إلى الإيماء بمرض، فعله ولا تبطل صلاته، وإنما يؤثر الالتزام في الرخص، كما إذا نوى الإتمام لا يقصر، بخلاف الضرورات. [وهذه الطريقة هي الطريقة الثالثة في الكتاب، وفي "تلخيص الروياني": أن القاضي أبا الطيب قال: الذي يقتضيه كلام الشافعي في "الأم": أنه إذا فعله للحاجة يمضي في صلاته، ويعيد الصلاة قولاً واحداً؛ لأن هذا العمل يضاد الصلاة؛ فاستوى فيه حال شدة الخوف وحال الأمن؛ كالحدث]. قلت: وهو شبيه بنصه على أن الضرب المتتابع فيها يبطلها، ويمضي فيها،

والذي رأيته في "تعليقه" أنه يستأنف الصلاة ولا يبني عليها، ولم يحك غيره، وحكى الإمام طريقة أخرى: أن العمل إن كثر في الركوب أبطل الصلاة، وإلا فلا، وحمل قائلها النصين على هذين الحالين. قال الإمام: وهذا ليس بشيء؛ لأن كثرة العمل بسبب الخوف محتمل على قاعدته، نعم: إن أكثر العمل من غير حاجة، بطلت صلاته. قال: وإن رأوا سواداً، أو إبلاً، أو نحو ذلك، فظنوه عدوًّا؛ فصلوا صلاة شدة الخوف، أي: بالإيماء، ثم بان لهم أنه لم يكن عدواً- أجزأتهم صلاتهم في أصح القولين؛ لأن علة الجواز شدة الخوف، قال الله – تعالى-: {فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: 229]، وقد تحقق الخوف حال الصلاة؛ فصحت وأجزأت. قال في "المهذب": كما لو رأى عدواً، فظن أنهم على قصده؛ فصلى بالإيماء، ثم تبين أنهم لم يكونوا على قصده. وهذا ما نص عليه في "الإملاء"، كما قال المزني في "المختصر"، وتبعه القاضي أبو الطيب والحسين في ذلك، وتبع الشيخ في تصحيحه القاضي أبا الطيب، وتبع الشيخ في ذلك الروياني في "تلخيصه"، وقال الإمام: إنه غير سديد؛ فإن الله – تعالى – أراد الخوف في القتال القائم على تحقق، والعلم عند الله. ومقابله: أنها لا تجزئ، فتجب الإعادة؛ لأن الله – تعالى – أجاز لهم صلاة الخوف بشرط وجود العدو، ولم يوجد؛ فلا تجزئهم وإن ظنوا الصحة؛ كمن صلى في ثوب على ظن أنه طاهر، فبان [أنه] نجس، أو من غير سترة ظاناً عجزه عنها، ثم ظهرت قدرته عليها، وهذا ما نص عليه في "الأم"، ونقله المزني أيضاً، وقال الإمام: لعله الأصح، [وصرح في "التهذيب" و"الكافي" بأنه الجديد والأصح]، وقال الماوردي والرافعي: إنه الأصح. وعليه الجمهور. وحكى القاضي الحسين والبغوي أنه قال في القديم: إن كان هذا في دار الإسلام، فعليهم الإعادة، وإن كان في دار الحرب، لا يعيدون.

وإذا ضممت ذلك إلى ما في الكتاب، حصل في المسألة ثلاثة أقوال، وكذا حكاها في "التهذيب"، لكن القاضي قال بعد حكاية ما ذكرناه: واختلف الأصحاب في ذلك: فمنهم من قال: إن كان في دار الإسلام وجبت الإعادة قولاً واحداً، وإن كان في دار الحرب فقولان. والفرق: أن الغالب في دار الحرب أن ذلك عذر، بخلاف دار الإسلام، وهذه الطريقة لم يورد الماوردي غيرها، وقال: لم أر من أصحابنا من خالف في ذلك، ولا وجدت للشافعي نصّاً يعضده أو يعارضه إلا الحجاج؛ فإنه يقتضي تسوية الحكم في الحالين. [ثم] قال القاضي الحسين: ومنهم من قال: القولان في دار الإسلام ودار الحرب، وربما شبّه القولان بالقولين بالمعضوب إذا حج عنه، ثم برئ: هل يجزئه أم لا؟ وكذا غير المعضوب إذا استأجر من يحج عنه، ثم بان آخر الأمر عضبه: هل يجزئه أم لا؟ وبالقولين فيما إذا باع مال أبيه على ظن أنه حي، فبان ميتاً. وفي "تعليق البندنيجي": أن ما نقله المزني عن نصه في "الإملاء" في صورة مسألة الكتاب- وهم منه، والذي نص عليه في "الإملاء" أن عليهم الإعادة أيضاً، نعم: نص فيه على أنه إذا أخبرهم ثقة أن السواد عدو؛ فصلوا صلاة شدة الخوف، فبان أن لا عدو أنه لا إعادة عليهم، فمن الأصحاب من أجرى النصوص على ظاهرها، ومنهم من خرج، وقال: الكل على قولين، قال ابن الصباغ: ومنهم من قال في مسألة الكتاب: تلزمهم الإعادة قولاً واحداً، وفيما إذا أخبرهم ثقة، ثم بان خلاف قوله: في الإعادة قولان، وبهذا يحصل في المسألة أربع طرق: إحداها: في المسألة ثلاثة أقوال، كما هي في "التهذيب". الثانية: إن كان ذلك في بلاد العدو، لا يعيدون قولاً واحداً، وإن كان في دار الإسلام، فقولان. الثالثة: إن لم يخبرهم بذلك ثقة، ثم بان خلافه، أعادوا قولاً واحداً، وإن أخبرهم ثقة بذلك ففي الإعادة قولان. الرابعة: إجراء القولين في دار الإسلام ودار الحرب فيما إذا ظنوا بذلك، أو

أخبرهم ثقة به، ثم بان خلافه. والله أعلم. والخلاف يجري فيما إذا هربوا؛ ظنًّا منهم أن في العدو كثرة؛ فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم تبين لهم خلافه. قال: وإن رأوا عدوا، فخافوهم؛ فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان أنه كان بينهم خندق، أي: يمنع الوصول إليهم، وكذا ما في معناه من حائط لا ينقب، أو بحر لا يخاض- أعادوا؛ لتفريطهم في الكشف والتأمل مع إمكانه، وقيل: فيه قولان كالمسألة قبلها، وقد حكى الطريقين هكذا البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما، واختار الأخيرة منهما الشيخ أبو حامد، وصححها الروياني في "تلخيصه"، ولم يورد القاضي أبو الطيب والماوردي وكذا المراوزة غيرها؛ لأنهم جعلوا قول الشافعي بوجوب الإعادة فيها مفرعاً على أنه يجب عليه الإعادة في المسألة قبلها، وقالوا: حاصل الكلام: أن المجوِّز للصلاة بالإيماء هو حقيقة وجود العدو مع الخوف منه، أو وجود الخوف؟ فإن اعتبرنا الخوف فلا إعادة في الصورتين، وإن اعتبرنا وجود العدو حقيقة أعادوا، ولأجل ذلك طردوا الخلاف فيما لو صلوا بالإيماء؛ لظنهم: أن فيهم قلة عن العدو، فبان [أن هناك] مدداً من المسلمين قريباً منهم، أو بان لهم أن هناك حصناً يمكنهم أن يلتجئوا إليه- قال القاضي الحسين: ويقرب الوقلان من القولين فيمن نسي الماء في رحله، وصلى بالتيمم. قال بعضهم: والصحيح الطريقة الأولى؛ لما ذكرناه. ولو بان أن ما بينهم وبين العدو الذي رأوه كان على المصالحة والمشارطة، قال البندنيجي: فلا إعادة قولاً واحداً. وقد أفهم كلام الشيخ أمرين: أحدهما: أن صلاة شدة الخوف لا تجوز عند وجود الخندق بينهم وبين العدو، وهو كذلك إذا كان لا يمكن طمه قبل انقضاء الصلاة. أما إذا أمكن ذلك، وكان العدو علم ذلك- فهو كالمعدوم، وكذا لو كان بينهم حائط وهم [على]

نقبه، فإن كان لا يمكن ذلك قبل فراغ الصلاة، لم يصلوا صلاة شدة الخوف. الثاني: لو بان لهم أن ما رأوه من السواد ونحوه لم يكن عدواً، أو بان أنه عدو، وأن بينهم خندقاً ونحوه، وكان القوم قد صلوا صلاة الخوف لا صلاة شدة الخوف – أن الحكم لا يكون كما ذكره في صلاة شدة الخوف، [وإلا لم يكن لتقييده بشدة الخوف فائدة، وبه صرح الماوردي فقال: إذا صلوا صلاة ذات الرقاع، أو صلاة عسفان، أو صلاة بطن النخل في هاتين الحالتين، ثم بان الأمر- لا تجب عليهم الإعادة قولاً واحداً؛ لأنهم لم يسقطوا فرضاً، ولا غيروا ركناً، بخلاف صلاة شدة الخوف]. قلت: ويؤيد ذلك أنا نتساهل في المرض المجوز للقعود من قيام، ويشترط في الصلاة على جنب أزيد من ذلك، وفي الصلاة بالإيماء أشد من ذلك؛ لأجل إسقاط فرض منها. وقال غيره: [الكلام في ذلك ينبني على أن هذه الصلوات لو صليت في حال الأمن هل تصح، أم لا؟ ولا خلاف] أن صلاة بطن النخل صحيحة؛ لأن أكثر ما فيه أن الطائفة الثانية صلت الفرض خلف متنفّل، وذلك جائز عندنا وأما صلاة ذات الرقاع [إذا فعلت كما رواه ابن خوات] فالكلام فيها يقع في الإمام والمأمومين: أما الإمام: فصلاته صحيحة، كما حكاه البندنيجي؛ لأنه طول الصلاة بالانتظار مشتغلاً بالقراءة أو الذكر، وذلك لا يمنع صحة الصلاة، وقال القاضي أبو الطيب والماوردي: في ذلك قولان ينبنيان على ما إذا فرقهم أربع فرق؛ لأنه انتظر في غير موضع الانتظار. وأما صلاة المأمومين: فالطائفة الأولى فارقت الإمام [بغير عذر]؛ ففي صلاتها قولان إن علمت أن ذلك لا يجوز، والطائفة الثالثة خالفته في ركعة مع بقاء القدوة؛ فتبطل صلاتها إذا علمت بأن ذلك لا يجوز قولاً واحداً، وقال ابن سريج وابن خيران: فيها قولان أيضاً؛ لأن عندهما أنها فارقت الإمام فعلاً

وحكماً، وكذلك قالا: لا يتحمل عنها السهو الذي وجد منها في حال انفرادها. قال البندنيجي: وهذا ليس بشيء. ولا فرق فيما ذكرناه في الطائفة الأولى بين أن نقول: [إن] صلاة الإمام باطلة، أو صحيحة، وأما في الطائفة الثانية: فإن قلنا: إن صلاة الإمام صحيحة، فالحكم كما تقدم، وإن قلنا: إنها باطلة، قال الماوردي: فصلاة الطائفة الثانية باطلة إذا علموا ببطلان صلاة الإمام؛ لأنهم ائتموا به بعد بطلان صلاته، وإن لم يعلموا صحت صلاتهمز وإذا فعلت كما رواه ابن عمر، فإن قلنا: لا تصح في حال الخوف كذلك، ففي حال الأمن أولى، وإن قلنا: تصح في حال الخوف، فقد قال القاضي أبو الطيب: إنها لا تصح قولاً واحداً؛ لأن فيها عملاً كثيراً واستدباراً للقبلة، وهذا بالنسبة إلى المأمومين. أما الإمام: ففي صلاته الخلاف السابق لأجل الانتظار. ولو صلى بهم صلاة "عسفان" فصلاة الإمام صحيحة بلا خلاف، وكذا صلاة من تبعه في السجودن وأما من خالفه فحرس، فقد سبقه الإمام بالسجدتين والجلسة بينهما. قال ابن الصباغ: فمن أصحابنا من قال: تبطل صلاتهم؛ لأنهم خالفوا الإمام بركنين. وقال البندنيجي: لأنهم خالفوه بثلاثة أركان. ومن اختلاف كلامهما يؤخذ أن الرفع من السجود هل هو ركن أم لا؟ وقد صرح بالخلاف فيه القاضي الحسين، كما تقدم. وقال أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا- كما قال الماوردي-: السجدتان تجريان مجرى الركن الواحد، والجلسة بينهما للفصل؛ فلا تبطل صلاة من لم يتبعه فيه، وهذا ما صححه الماوردي، وادعى أبو الطيب والبندنيجي أنه ظاهر المذهب؛ لأن الشافعي قال – كما حكاه القاضي الحسين-: "أحببت أن يعيد". إذا تقرر ذلك عُدنا إلى ما نحن فيه، فحيث قلنا بالصحة في حال الأمن، ففي

هاتين الصورتين أولى، وحيث قلنا: لا تصح، فهل تصح ها هنا أم لا؟ فيه وجهان حكاهما في "الإبانة"، وقال في "التهذيب": إن صلاتهم إن كانت صلاة عسفان، فهل عليهم الإعادة؟ فيه قولان؛ كما لو صلى صلاة شدة الخوف، وكذا لو صلى بهم صلاة ذات الرقاع، وقلنا: لا تجوز مع عدم الخوف. واعلم: أنه كما يجوز للجماعة صلاة شدة الخوف، يجوز للواحد، مثل: أن يظهر عليه ثلاثة من الكفار، وقد خاف خروج وقت الصلاة، أو قاطع طريق يريد دمه أو حريمه، وكذا لو قصد ماله على الأصح، وبه جزم العراقيون، والماوردي. وفي "النهاية": أن الأئمة والصيدلاني نقلوا قولاً عن الشافعي: أنه لا يجوز إقامة صلاة شدة الخوف في الذبّ عن المال، مثل: أن ركبه سيل، وعلم أنه لو مر مسرعاً بماله، وصلى فارًّا مومئًا سلم وماله، ولو صلى متمكنًا أمكنه أن يهرب ويتلف [ماله] وهذا غريب، وظاهر النصوص الجديدة يخالف هذا؛ فهو إذن بعيد مزيف، وقد حكاه القاضي الحسين في المال، حيواناً كان أو غيره. وقال الفوراني: إن الحيوان [يجوز أن] يصلي لأجله صلاة شدة الخوف، والخلاف في غيره. ويجوز للواحد والقوم إذا غشيهم سيل، أو أظلهم سبع، أو صال عليهم فحل، أو طلبهم حريق، ولم يجدوا نجوةً عالية، أو وجدوها لكن لو صعدوها لم يجدوا طريقاً للخلاص، وخافوا على أنفسهم- أن يصلوا صلاة شدة الخوف بالإيماء، ولا إعادة عليهم. وكذا يجوز للمعسر المديون إذا كان غريمه لا يصدقه في إعدامه، ولو أدركه لحبسه- أن يهرب، ويصلي بالإيماء إذا كان يعلم أنه لو صلى لأدركه. وفي "الرافعي": أن الحناطي حكى عن "الإملاء" أنه إن طلب لا ليقتل، ولكن ليحبس، أو يؤخذ منه شيء- لا يصلي صلاة شدة الخوف، وغاية المحذور ها هنا هو الحبس، والمشهور الأول. وقال الفوراني: وكذا من عليه قصاص يجوز له أن يهرب؛ لرجاء العفو،

ويصلي صلاة الخوف في حال هروبه. قال [الإمام]: وهذا قد ذكرته في أعذار الجماعات، وهو بعيد عندي على الجملة؛ فلعله جوزه في ابتداء الأمر حيث يفرض سكون غليل الطالب قليلاً في تلك المدة، وفي مدة رجاء العفو. قلت: وأنت إذا وقفت على ما ذكرته فيه عند الكلام في الأعذار المسوّغة لترك الجمعة، علمت أن ذلك هو المنقول. ثم مما يستأنس به في الباب ما رواه أبو داود، عن ابن عبد الله بن أنيس، عن أبيه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي، وكان نحو عرنة وعرفات، فقال: "اذهب فاقتله" قال: فرأيته، وحضرت صلاة العصر، فقلت: إني أخاف أن يكون [بيني وبينه] ما أن يضطرني أؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه، فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، فجئتك في ذلك. قال: إني لفي ذلك. قال: فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد. والله أعلم. * * *

باب ما يكره لبسه، وما لا يكره

باب ما يكره لبسه، وما لا يكره المراد بالكراهة ها هنا: التحريم، وإطلاق ذلك جائز لغةً وشرعاً؛ ألا ترى إلى قول الشافعي: "وأكره لبس الديباج والدروع المنسوجة بالذهب، والقباء بأزرار الذهب"، وهو من أهل اللغة، وإلى قوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 38]؟! والمجوّز لذلك أن المحرم والمكروه اشتركا في كون الترك أرجح من الفعل؛ فجاز إطلاق أحدهما على الآخر كذلك. قال: يحرم على الرجل استعمال ثياب الإبريسم. استعمال الثوب يصدق على لبسه ظهارةً أو بطانة، وعلى الجلوس عليه والتدثر به والاستناد إليه، والكل حرام على الرجل، صرح به البندنيجي وأبو الطيب وغيرهما، والأصل فيه ما روى أبو داود، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: "رأى حلةً سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه لتلبسها يوم الجمعة، وللوفود إذا وفدوا عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة"، وأخرجه البخاري ومسلم. [وعن] سالم [بن عبد الله] عن أبيه بهذه القصة، قال: "حلة استبرق" وأخرجه البخاري.

والحلة: ثوبان غير لفيقين رداء وإزار، سميا بذلك؛ لأن كل واحد منهما يحل على الآخر. والسيراء- بكسر السين المهملة، وفتح الياء آخر الحروف وبعدها راء مهملة، وهي ممدودة-: الحرير الصلب؛ فمعناه: حلة حرير، وقيل: السيراء: نبت ذو ألوان وتخطيط سميت به بعض الثياب. وقيل: السيراء: المضلع بالقزّ، [ويدل عليه رواية أبي داود التي أخرجها البخاري عن أنس بن مالك: أنه رأى على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم برداً سيراء. قال: والسيراء: المضلع بالقز]. وقد رواه بعضهم بالتنوين على الصفة، قال الخطابي: كما قالوا: ناقة عشراء، وقيده المتقنون على الإضافة. والوفود: جمع وافد، وهم القوم يأتون الملك ركباناً، والقوم يجتمعون ويزورون البلاد. وما روي أنه –عليه السلام- قال: "لا تلبسوا الحرير؛ فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" أخرجه البخاري ومسلم. فثبت بهذين الخبرين تحريم اللبس، وفيه تنبيه على تحريم ما سواه من الافتراش وغيره؛ لأن المعنى في التحريم ما في لبسه من الخنوثة التي لا تليق بشهامة الرجال. وخبر أبي موسى الأشعري الذي سنذكره يدل عليه، وأصرح منه رواية البخاري عن حذيفة بن اليمان: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن نلبس الحرير

والديباج، وأن نجلس عليه"، وقد قال الإمم: إن ما ذكرناه من المعنى هو علة التحريم، وإن كان معنى الفخر والخيلاء مرعيًّا في الحرير ولذلك حرمنا البطانة منه. قال الرافعي: وهذا حسن، إلا أن هذا القدر لا يقتضي التحريم عند الشافعي؛ فإنه قال في "الأم": "ولا أكره لباس اللؤلؤ إلا للأدب؛ فإنه من زي النساء". ثم ما ذكره الشيخ هو المشهور، وألحق به الشيخ أبو حامد تعليق الستور ونحوها، موجهاً ذلك بأن كل هذا ابتذال [وسرف]، وهو ما أورده الرافعي، وعن الشيخ أبي نصر المقدسي تنجيد البيوت بالثياب المصورة وغير المصورة من الحرير وغير حرام. قال في "الروضة" في غير الحرير والمصور: والكراهة دون التحريم. ومثل هذا في الغرابة ما حكاه الرافعي عن أبي الفضل العراقي من أصحابنا، كما حكاه أبو عاصم العبادي عنه: أنه لا يحرم الجلوس على الحرير، كما قاله أبو حنيفة، وحديث حذيفة بن اليمان حجة عليهما. قال: أو ما أكثره إبريسم؛ لأن الحكم يدار على الغالب، خصوصاً إذا اجتمع الحلال والحرام والحرام غالب، وغذا قلنا: إن السيراء المضلع بالقز؛ كان الخبر دالاً على التحريم أيضاً، ولا فرق في ذلك عند العراقيين بين أن يكون الحرير ظاهراً على ما خالطه، أو الظاهر المخالط، وقال القفال وطائفة: إذا كان [الظهور للمخالط لا يحرم، وهذا في الحقيقة نظر إلى معنى الخيلاء، وقد قال الإمام: إنها ليست] علة في التحريم، بدليل تحريم البطانة من الحرير. تنبيه: احترز الشيخ بقوله: "الرجل" عن أمرين: أحدهما: المرأة؛ فإنه لا يحرم عليها الحرير، وغن شملها ما ذكرناه من الأخبار؛ لما روى ابن ماجه عن علي بن أبي طالب قال: "إن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ

حريراً فجعله في يمينه، وأخذ ذهباً فجعله في شماله، ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي، حلّ لإناثهم"، وأخرج الترمذي من حديث أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حرّم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم"، وقال: حسن صحيح. ومقتضى قول الشيخ إباحة افتراش الحرير للمرأة؛ لأنه من جملة الاستعمال، وهو ما صرح به العراقيون، والمتولي موجهاً ذلك بأن الحرير في حق النساء كالقطن [في حق الرجال]. وفي "الروضة": أنه الصحيح. وقال المراوزة: إنه يحرم عليها ذلك، ولم يحك البغوي غيره، وقال الرافعي: إنه الأصح.

قلت: ويشبه أن يكون أصل هذا الاختلاف أن المرأة أبيح لها الحرير؛ لأن خنوثتها لا تأباه، أو لأجل الزينة؟ فإن قلنا بالأول لم يحرم عليها استعماله كيف كان، وإن قلنا بالثاني لم يبح لها منه إلا ما كان زينة. وقد أشار الأصحاب إلى المأخذ المذكور في "كتاب العدد"؛ حيث قال العراقيون: لا يحرم على من لزمها الإحداد لبس الحرير. وقال القفال والإمام والبغوي: إنه يحرم؛ لأنه إنما أحل لها للزينة؛ فالتحقت في حال الإحداد بالرجال. والخنثى المشكل في استعمال الحرير كالرجال، حكاه في "البيان". قال الرافعي: ويجوز أن ينازع فيه. والثاني: الصبي؛ فإنه لا يحرم عليه ذلك عند العراقيين، كما صرح به القاضي أبو الطيب، والبندنيجي في كتاب صلاة العيد، وكذا الفوراني؛ لأن شهامته لا تأبى ذلك، وعليه نص الشافعي؛ حيث قال في كتاب الزكاة: "ويزين الصبيان بالمصبغ والحلي"؛ فإنه لم يفصل في الحلي بين الذهب والفضة، ومن أبيح له ذلك أبيح له استعمال الحرير، وهذا ما صححه في "الروضة"، وكذا الرافعي في الحرير. وحكى الماوردي وجهاً آخر: أنه يحرم عليه ذلك، بمعنى: أن وليه يمنعه من لبسه، أو لا يحل له أن يلبسه إياه، كما صرح به المراوزة وجهاً هكذا، ويقال: إنه اختيار القاضي الحسين؛ لأنه قال: ما لا يجوز استعماله بعد البلوغ يجب أن يكون محظوراً قبله؛ لأن الصبي وإن كان لا يعصي لصغره، فالولي مأمور بمنعه منه حتى لا يعتاده. وفي المسألة وجه ثالث: أنه يحرم عليه ذلك بعد سنّ التمييز، ولا يحرم قبله، وهو ما صححه الرافعي في "الشرح"، وبه جزم في "التهذيب" كما قال، والذي

رأيته [فيه] جواز تلبيس الصبيان الديباج، غير أن الصبي إذا بلغ سنًّا يؤمر فيه بالصلاة نهي عن لبسه حتى لا يعتاده. واحتزر الشيخ بقوله: "ثياب الإبريسم" عن استعمال ما ليس بثياب من الإبريسم، كما إذا اتخذ جبة من مباح وحشاها إبريسماً؛ فإنه لا يحرم عليه لبسها، كما حكاه البندنيجي والمتولي عن نصه في "الأم"، وادعى الإمام أنه لا خلاف فيه، لكنه أبدى احتمالاً فيه، وأشار في "التهذيب" إلى وجه فيه بقوله: "يجوز له لبسها على الأصح"، وجزم القول بأنه يجوز له أن يجلس فوقها، وكذا فوق الديباج، إذا وضع عليه ثوباً من قطن. والفرق بين حشو الجبة من الحرير حيث لا يحرم، وبين بطانة الجبة إذا كان حريراً حيث يحرم: أن لابس الجبة المحشوة به لا يعد لابس حرير، بخلاف لابس ما بطانته حرير. قال الإمام: ولا ينبغي أن يخرج هذا على ما سبق في الأواني من فرض إناء قد غُشي بالنحاس؛ فإن في هذا سرًّا ينبغي أن ننبّه عليه، وهو أن المعنى المعتبر في الأواني: الخيلاء والفخر، وهذا المعنى ليس يجري اعتباره في لبس الحرير، والدليل عليه: أنا لم اعتبرنا في الأواني الفخر أجريناه في الجواهر النفيسة على تفصيل قدمناه، وقد تتحقق النفاسة في غير الإبريسم من الأجناس، وقد ينقدح للناظر أن يقول: ما عدا الإبريسم ترتفع قيمته بالصنعة؛ فهو كالأواني التي قيمتها في صنعتها، وفيه نظر وتفصيل. واحترز الشيخ بقوله: "أو [ما] أكثره إبريسم" عن أمرين: أحدهما: ما أقله إبريسم: كالخز؛ فإن لحمته من صوف، وسداه إبريسم، والسدى في الغالب أقل من اللحمة، وذلك لا يحرم اتفاقاً، وقد روى أبو داود، عن عبد الله بن سعد، عن أبيه سعد قال: "رأيت رجلاً ببخاري على بغلة بيضاء، عليه عمامة من خز سوداء، فقال: كسانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ولا فرق عند العراقيين فيما إذا كان الحرير أقل بين أن يكون ظاهراً كالقباء، أو لا. وعند القفال وطائفة: أنه إن كان ظاهراً حرم أيضاً؛ لأن المعنى الذي لأجله حرم المصمت من الحرير- وهو الفخر والخيلاء، أو التشبه بالنساء- موجود في هذه الحال’، وهذا أصح عند الإمام، لكن الأصح في "الكافي" وغيره: الأول. واتفق الفريقان على أنه لا يحرم عليه الثوب المطرز بالحرير، والمطرف به، لحاجة وغير حاجة؛ "إذ كانت جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج" كما أخرجه مسلم، وروى أبو داود عن أبي عثمان [النهدي] قال: "كتب عمر إلى عتبة بن فرقد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير، إلا ما كان هكذا وهكذا، إصبعين وثلاثة وأربعة" وأخرجه البخاري ومسلم بنحوه. وضبط الجيلي المباح من ذلك بأن يكون لو جمع جميعه لكان أقل من نصف الثوب، فلو زاد لم يجز، وإن تساوى فوجهان. والمذكور في "الكافي" الضبط بأربع أصابع مضمومة؛ اتباعاً للخبر. وضبطه بعضهم بالعادة، فما زاد على المعتاد كان حراماً. قال الإمام: فلو وقع التردد في مجاوزة العادة، فهل نحكم بالتحريم؟ يحتمل أن يقال: الغالب

[في] الباب التحريم، حتى يقال في مظان الإشكال: نستديم التحريم إلى ثبوت التحليل، أو يقال: الغالب في الباب الإباحة حتى يثبت محرّم، وظاهر قوله- عليه السلام-: "هما حرام" يوضح أن الغالب التحريم. وطوق الجبة ملحق بما ذكرناه في الإباحة، وكذا ترقيعها، كما حكاه في "الكافي". وهل يجوز [أن يكون] في [كل] طرف من طرفي العمامة قدر أربع أصابع من حرير؟ قال في "الكافي": يحتمل وجهين، وقال: إن حكم الحكمين حكم طرفي العمامة. وفيه نظر؛ لأن الخبر ورد بإباحته في الكمين. الأمر الثاني: ما استوى فيه الإبريسم وغيره؛ فإن في تحريمه وجهين في "المهذب" وغيره من كتب العراقيين: أصحهما عند الشيخ والقاضي أبي الطيب والبغوي والرافعي: الإباحة. وقال في "الحاوي": إن الأصح التحريم؛ لأن الإباحة والحظر إذا اجتمعا غلب حكم الحظر. قلت: وقضية هذا التوجيه أن يقضي بالتحريم عند قلة الحرير، وقد جزم فيه بالإباحة، كما تقدم، والقائلون بالإباحة- عند التساوي- تمسك بعضهم بقول ابن عباس: "إنما نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عن الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم من الحرير، وسدى الثوب، فلا بأس" أخرجه أبو داود. قلت: وفيه نظر؛ لأن في إسناده خصيف بن عبد الرحمن، وقد ضعفه غير واحد، ولو سلم من ذلك لكان حجة على جوازه فيما إذا كان أقل؛ لما تقدم أن السدى أقل من اللحمة، كما صرح به ابن الصباغ والمتولي وغيرهما، وطريقة الشيخ أبي محمد ومن معه لا تخفى عليك بعد معرفتك ما تقدم، والله أعلم. وقد أفهم قول الشيخ: "ثياب الإبريسم، وما أكثره إبريسم" أن القز لا يحرم،

وإن كان حريراً مصمتاً، ولكن هو كمد اللون، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الإبريسم هو الحرير الذي حل من على الدودة بعد موتها داخله، والقز: ما قطعته الدودة، وخرجت منه حية؛ فإنه لا يمكن حله، ويغزل كالكتان، كذا رأيته في كلام بعضهم. وما أفهمه كلام الشيخ هو وجه حكاه في "البحر" و"التتمة"؛ لأنه ليس من ثياب الزينة، لكن الصحيح- وبه جزم الجمهور، وادعى الإمام اتفاق الأصحاب عليه- التحريم، والإبريسم قد يطلق على الكل، وعلى ذلك جرى غير واحد من المصنفين، والشيخ اتبعهم. والإبريسم بفتح الهمزة وكسرها والراء مفتوحة فيهما، وذكره ابن السكيت والجوهري بكسر الهمزة والراء، والله أعلم. قال: وكذلك يحرم عليه- أي: على الرجل-[لبس] المنسوج بالذهب؛ لخبر أبي موسى الأشعري السالف؛ فإن المظهر فيه الاستعمال أو اللبس، وأيما كان فهو دال على المدعي، ومراد الشيخ بالمنسوج بالذهب: [المعمول منه كالدرع المرصدة للحرب، أي: التي جرت العادة بعملها من الحديد والجوشن، ونحو ذلك من آلة الحرب، ولفظ الشافعي الذي نقله المزني: "وأكره لبس الديباج، والحرير، والدروع المنسوجة بالذهب]، والقباء بأزرار الذهب". وفي ذكر الشيخ ذلك تنبيه على منع الرجل من استعمال الذهب كيف كان؛ لأنه إذا حرم لبس آلة الحرب، وقد سامح الشرع في تحليتها بالفضة، فلأن يحرم لبس ما عداها من طريق الأولى. وقد فهمت مما تقدم أن [في] معنى اللبس غيره من أنواع الاستعمال، وقد اقتضى كلام الشيخ والخبر أنه لا فرق في المعمول من الذهب بين أن يكون صغيراً أو كبيراً، ويؤيده ما جاء في "صحيح

مسلم": "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القَسِّيِّ، والمعصفر، وعن التختم بالذهب"، والخاتم في حد القلة. وقد يفهم كلام الشيخ أن لبس المعمول من الذهب وغيره كالحرير؛ إذ الذي صرح بتحريمه: المنسوج منه، وقد بينا أن مراده به: المعمول منه، والأصحاب مصرحون بأن [المعمول منه ومن غيره حرام، قل الذهب فيه أو كثر، حتى قال في "التتمة": إنه لو اتخذ خاتماً من فضة، وعمل أسنانه من ذهب، أو اتخذ حلقة من فضة، وجعل موضع الفص فصّاً من ذهب- حرم، وكذا جزموا بتحريم الطراز من الذهب، والتطريف] [به]، ونسب مشايخنا صاحب "الباب التهذيب" إلى السهو؛ حيث سوى بين الحرير والذهب، فقال: لا بأس [بالمطرف بالديباج، ولا] بالطراز من الذهب إن لم يزد على أربعة أصابع خصوصاً. والمجزوم به في "التهذيب" المنع منه بكل حال، والفرق بينه وبين الحرير: أن اليسير منه يظهر فيه قصد الخيلاء والفخر، بخلاف الحرير. نعم، قال في "الكافي": إن علم الذهب إذا كان بحيث لو أحرق لا يحصل منه شيء- كان كالإبريسم، وإن كان يحصل منه ذهب، لا يجوز، فلعل صاحب "أللباب" أراد الحالة الأولى، والله أعلم. قال: والمموه به- أي: حرام أيضاً- لما فيه من إظهار الخيلاء. وظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق في تحريم لبسه بين أن يجتمع من الذهب شيء بالنار أو لا، وهو مخالف لما ذكرناه في باب زكاة الناضّ من أن تمويه السقف بالذهب حرام، ثم إن موّه، وكان يجتمع منه شيء بالنار حرم إبقاؤه، وإلا فلا، وجاز الجلوس تحته، ولاشك في أن الصورتين من حيث المعنى واحد، فلتستويا في الإباحة- عند عدم حصول شيء من الذهب بالنار- أو في التحريم؛ ولذلك حكى المتولي في إباحة ما نحن فيه خلافاً، كما قيل بمثله في الأواني.

وقد أفهمك ما قدمناه من بيان ما احترز عنه الشيخ بكلامه في الفصل قبله، ومثله جار هاهنا، وبه صرح الأصحاب، غير أن في "الحاوي" في كتاب الزكاة أن المرأة لو اتخذت ملبوساً- لم تجر عادة النساء به مما يلبسه عظماء الفرس- كان محظوراً، وكذا لبس نعال [الفضة والذهب]، وأن في جواز لبس الثياب المثقلة بالذهب المنسوجة به لها- وجهين، ووجه المنع بأن فيه كثرة إسراف وخيلاء، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك ثم، فليطلب منه. قال: إلا أن يكون قد صدئ، [أي]: فلا يحرم؛ لزوال علة التحريم. وهذا الاستثناء يجوز أن يعود إلى المموه بالذهب والمنسوج به؛ لأن الشيخ أبا حامد قال: لو كان في الثوب ذهب فصدئ، وتغير، بحيث لا يبين- لم يحرم، والمموه من طريق الأولى، ون القاضي أبي الطيب أنه قال: إن الذهب لا يصدأ، وأجيب بأنه يصدأ إذا كان مشوباً بغيره. قال البندنيجي: وقد ألحق أصحابنا بهذا الطراز من الذهب إذا حال لونه واتسخ، وذهب حسنه. قال الماوردي: وكذا إذا طلي الذهب بغيره حتى لم يظهر، جاز لبسه. وصدئ: بفتح الصاد، وكسر الدال، وبعدها همزة، قال أهل اللغة: صدأ الحديد: وسخه، مهموز، وقد صدئ يصدأ، [صدأ] مهموز ومقصور. قال النواوي: وقد رأيت من غلط فيه، فتوهمه غير مهموز. قال: ويجوز للمحارب لبس الديباج الثخين الذي لا يقوم غيره مقامه في دفع السلاح، ولبس المنسوج بالذهب، إذا فاجأته الحرب ولم يجد غيره. اعلم أن الشرط الذي ذكره الشيخ، وهو قوله: "إذا فاجأته الحرب ولم يجد غيره"، يجوز أن يكون الشيخ أراد عودة إلى المسألتين؛ عملاً بالقاعدة المستقرة عندنا أن الشرط إذا تعقب جملاً عاد إلى جميعها، وهو ما نقله المزني؛ حيث اعتبر في لبس الحرير أن تفاجئه الحرب، ولا يجد غيره، وكذلك في لبس المنسوج بالذهب؛ إذ بذلك تتحقق الضرورة، وعلى ذلك جرى صاحب "الحاوي"، والبغوي، ولفظ "الوسيط" هاهنا قد يفهمه؛ لأنه قال: لبس الحرير وجلد الكلب جائز عند مفاجأة القتال، وليس جائزاً في حال الاختيار.

ويجوز أن يكون الشيخ أراد عوده إلى المسألة الأخيرة فقط، وأما المسألة الأولى فلا يشترط فيها مفاجأة الحرب، وعدم وجدان غيره؛ بل يجوز لبسه ابتداء، وإن وجد غيره من آلة الحرب؛ لأن [حاجة] القتال لا تتقاعد عن حاجة القمل والحكة، وهو إذا كان به حكة أو قمل- جاز له لبس الحرير، كما ستعرف دليله، وهذا ما حكاه الرافعي عن [ابن] كج؛ حيث قال: إنه جوز اتخاذ القباء ونحوه مما يصلح في الحرب من الحرير، ولبسه فيها على الإطلاق؛ لما فيه من حسن الهيئة وزينة الإسلام؛ لتنكسر قلوب الكفار منه كتحلية السيف ونحوه. وعبارة البندنيجي توافق ذلك؛ فإنه قال: المذهب أن الحرير مباح [حال الحرب لحاجة وغير حاجة، والذهب يباح لحاجة، وغير مباح] لغير حاجة: وهو ما ذكره ابن الصباغ أيضاً، ولم يحك غيره، وقال: المستحب ألا يلبس الحرير أيضاً؛ لقول

الشافعي في "الأم": "ولو توقى المحارب أن يلبس ديباجاً، أو قزّاً ظاهراً- كان أحب إلي، وإن لبسه؛ ليحصنه فلا بأس إن شاء الله". والفرق على هذا بينه وبين المنسوج بالذهب: أن تحريم الحرير أخف؛ ولذلك جاز استعمال القليل منه في غير الحرب، ولا كذلك الذهب، ولأن المنسوج بالذهب ثقيل على المحارب، كثقل غيره من الحديد؛ فلا حاجة إليه مع وجود غيره، و [لا] كذلك الديباج الثخين؛ فإنه أخف من غيره من آلات الحرب: كالدرع، والجوشن، فكانت الحاجة إليه ماسة، وإن وجد غيره من آلات الحرب؛ لأن الخفة في المحارب مطلوبة، وحينئذ فيكون قول الشيخ: "الذي لا يقوم غيره مقامه في دفع السلاح" بياناً لما يجوز لبسه منه في حالة الحرب، لا أنه يجوز أن يلبس فيه أي ثوب حرير كان، ومن ذلك يظهر لك أنه لا يجوز له ليس ما أكثره إبريسم في الحرب؛ لأنه لا يقوم مقام الديباج الثخين في دفع السلاح، وعليه نص في "الأم" حيث [قال]: "إن القز إذا كان غالباً، كرهته في الحرب وغير الحرب، وإن كان القز خالصاً كان مباحاً في الحرب"، وفرق بينهما بأن قال: "الخالص يحصنه، وإذا لم يكن خالصاً لم يحصنه إحصان ثياب القز". قال البندنيجي: هذا نصه، وما رأيت أحداً من أصحابنا نقله، وأعجب من الإمام الرافعي كيف حمل قول الغزالي في باب صلاة العيد: ["و] حيث حرمنا الحرير أبحناه؛ لحاجة القتال" على حالة مفاجأة الحرب، وعدم وجدان غيره، وقال: "إن ذلك إذن تكرار"؛ لأن الغزالي قال في صلاة الخوف ذلك، مع كونه حكى عن ابن كج أن ذلك جائز مع وجود غيره، وهو المذهب، كما ذكرناه، ومع ذلك لا يحسن أن يقال: إنه تكرار؛ لأنه يجوز أن يكون اختار في موضع ما قاله المزني، وفي آخر ما نص عليه في "الأم". والله أعلم. قال: ويجوز شد السنّ بالذهب؛ للضرورة، ووجهه: أن ما عدا الذهب من الفضة وغيرها ينتن، بخلاف الذهب؛ فإنه لا ينتن، ويشهد لذلك ما روي "أن

عرفجة أصيب أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفاً من فضة، فأنتن عليه؛ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً [من] ذهب"، وقد روي أن "عثمان بن عفان شد أسنانه بالذهب" ولم ينكر عليه أحد. وشد السن بالذهب: ربطه به، قاله البندنيجي في باب زكاة الحلي. فإن قلت: قد حكى القاضي الحسين قبل باب الساعات التي تكره فيها الصلاة

عن نص الشافعي أنه لو اضطرب سن من أسنانه، فأثبتها بذهب، أو فضة- لم تصح صلاته؛ لأنها صارت ميتة، وهذا يدل على منع الشد. قلت: النص محمول على ما إذا لم يبق لها ثبات في موضعها لولا الشد؛ ألا ترى إلى قوله: "صارت ميتة"؟! [وكلام] الشيخ محمول على ما إذا ضعفت مع بقائها ثابتة، والله أعلم. وكذا يجوز أن يتخذ له أنفاً من ذهب- للخبر- وأنملة، وهل يجوز أن يتخذ إصبعاً، فيه كلام سبق في باب زكاة الناضّ، [وهو كلام متقدم عن موضعه، وسيأتي فيما بعد]. قال: ويجوز لبس الحرير للحكة، أي: إذا كان لبس غيره يؤذيه؛ لأنه- عليه السلام- "رخص للزبير بن العوام، ولعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير؛ لحِكَّةٍ كانت بهما" أخرجه البخاري ومسلم، وزاد أبو داود: "في السفر". وفي "النهاية": أن الصيدلاني روى "أنه- عليه السلام- أرخص لحمزة في لبسه؛ لحِكَّةٍ كانت به". وقيل: لا يجوز- أي: لبسه- عملاً بعموم خبر أبي موسى الأشعري، والرخصة يجوز أن تكون خاصة بالمذكورين لأمر آخر، وظن الراوي أن السبب الحكة، وهذا الوجه قد حكاه الرافعي في كتابه عن "التنبيه"، وهو دليل على أنه لم يجده في غيره؛ ولذلك قال بعضهم: إنه لم يره هكذا في مشاهير الكتب، بل المنقول فيها ما ذكره الشيخ أولاً، وفي بعضها حكاية وجه آخر: أنه لا يجوز لبسه لأجل ذلك في الحضر؛ لأن الرخصة [فيه] وردت في السفر، كما ذكره

أبو داود، والمقيم يقدر على تعاهد ذلك بالمداواة. وكما يجوز لبسه للحكة يجوز لبسه، لدفع القمل؛ لأنه روي أنه- عليه السلام- "أرخص للزبير بن العوام، ولعبد الرحمن بن عوف في لبسه لذلك" رواه أنس. قال: ويجوز أن يلبس دابته الجلد النجس، أي: إما لكون الحيوان لا يحل بالذكاة فذُكِّي أو مات، أو يَحَل بها لكنه مات من غير ذكاة، ووجهه: أنه يجوز له أن ينتفع بالنجس فيما لا يلاقي بدنه: كتسميد الأرض بالسرقين ونحوه إجماعاً؛ فإن الأثبات نقلوا ذلك عن الصحابة، كما حكاه الإمام، ولم ينكره منكر، وإذا جاز ذلك، جاز أن ينتفع به بتلبيس دابته إياه بالقياس، وقد روي أنه- عليه السلام- قال في شاة ميمونة: "هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به"، ولم يفصل بين انتفاع وانتفاع؛ فكان على عمومه. قال: سوى جلد الكلب والخنزير، أي: وما تولد منهما؛ لأن نجاستهما أغلظ؛ فإنها لا تندفع بالدباغ، بخلاف ما عدا [ذلك، ولأنه لا يجوز له الانتفاع بالخنزير في حال الحياة مطلقاً، ولا بالكلب فيما عدا] الاصطياد ونحوه، فلألا يجوز له أن ينتفع بهما بعد الموت- مع أن الموت يقتضي الاجتناب- أولى. نعم: لو كان له كلب: هل يجوز أن يجلّله بجلد كلب؟ قال الإمام: الظاهر جوازه. [وفيه نظر من حيث إن التصرف فيه [واقتناءه [يخالف] ما نأمره به من اجتناب ملابسته، ولأجل ذلك حكى في "الوسيط" فيه تردداً، وقال: إن الظاهر جوازه]. ما ذكره الشيخ هو المنصوص في "المختصر"؛ فإنه قال [فيه]: ويلبس فرسه وأداته جلد ما سوى الكلب والخنزير من جلد قرد ونمر وفيل وأسد، ويجوز ذلك؛ لأنه جنة للفرس، ولا تعبد على فرس. وكلام الشيخ والنص يفهم أنه لا يجوز له أن يلبس الجلد النجس، وهو ما حكاه القاضي الحسين وغيره، ونص الشافعي في باب الأواني على أنه لا يدّهن

في عظم فيل، دليل عليه، وكذا قوله: "ولو جبر عظمه بعظم نجس، أجبره السلطان على قلعه"، وخرج الأصحاب منه وجهاً: أنه لا يجوز أن يلبسه دابته أيضاً، والفرق بينه وبين تسميد الأرض بالسرقين: أن في ذلك حاجة ماسة قريبة من الضرورة، على أن الرافعي قال: إن في كلام الصيدلاني ما يقتضي إثبات خلاف فيه، وهو في "التتمة" كما سنذكره، والمذهب التفرقة، كما ذكرنا. والفرق بين نفسه والدابة: ما أشار إليه الشافعي أن منعه من لبس النجاسة تعبد، والدابة لا تعبد عليها، وهذه طريقة الأصحاب. وفي "تعليق البندنيجي": أنه يكره له أن يلبس الجلد النجس، كما يكره له لبس الثوب النجس، ويجوز له أن يلبسه دابته من غير كراهة، ومن أصحابنا من خرج إليه وجهاً: أنه يكره أيضاً. وهكذا حكى هذه الطريقة ابن الصباغ، عن الشيخ أبي حامد، واقتصر القاضي أبو الطيب على حكاية الكراهة في لبسه الجلد النجس، وقال: إنه إذا لبسه لا يصلي فيه، فإن صلى فيه- ولو مع الضرورة- وجبت [عليه الإعادة]. ولفظ الماوردي: "أنه يجوز أن يلبسه، لكن لا يصلي فيه؛ لأن توقي النجاسة إنما يجب في الصلاة"، وهذا التعليل منه موافق لقول الإمام عند الكلام في وطء المرأة في دبرها: إنه لا يحرم على المرء التضمخ بالنجاسة. وإن حكى في صلاة الخوف أن في كلام الصيدلاني ما يدل على أن استعمال النجاسة في البدن لا يجوز عن اختيار، وكأنه يحرم ملابسة النجاسة من غير حاجة. وقال في "البسيط" لأجله: إن التضمخ بالنجاسة من غير حاجة منع منه الصيدلاني. وقد تلخص لك مما ذكرناه أن جلد الكلب والخنزير وما تولد منهما، لا يجوز للشخص لبسه، ولا أن يلبسه دابته، وجلد ما عدا ذلك إذا كان نجساً هل يجوز لبسه، وان يلبسه دابته، أم لا؟ فيه أربعة أوجه: أحدها: لا يجوز ذلك. والثاني: لا يجوز له لبسه، ويجوز أن يلبسه دابته.

والثالث: يجوز له مع الكراهة، ويلبسه دابته من غير كراهة. والرابع: يجوز له لبسه، وأن يلبسه دابته، [لكن] مع الكراهة في الصورتين. وقد حكى القاضي الحسين ما حكيناه عن نصوص الشافعي، ثم قال: [إن] من الأصحاب من ضرب النصوص بعضها ببعض، وجعل في الكل قولين. وذلك منه يقتضي إثبات الخلاف الذي ذكرناه، وبه صرح المتولي، وطرده في جواز استعمال النجاسة في تسميد الأرض، والجبر بعظم نجس، والاستصباح بالنجاسة، وفي جواز عجن الشيء بماء نجس؛ ليطعمه ناضحه، وفي جواز ادّهانه بشحوم الخنزير، ووجه المنع في الكل بقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]؛ فإنه يقتضي الاجتناب من كل وجه، ووجه الجواز بأن الطهارة إنما تعتبر في العبادات لا في العادات، بدليل عدم اشتراط الطهارة من الحدث. واستحسن القاضي الحسين طريقة أبي بكر الفارسي، وهي: أنه لا يجوز أن يلبس الجلد النجس، ويجوز أن يلبسه لدابته، سوى جلد الكلب والخنزير، وهي طريقة الكتاب كما قررناها، وقال في "التتمة": إنها الطريقة الصحيحة. وفي "الجيلي" أنه قال في "المقنع": يجوز أن يضع في جلد الكلب إذا كان يابساً قمحاً ونحوه. وحكم استعمال الجلد النجس إذا كان عليه شعر، ودبغ، وقلنا: لا يؤثر الدباغ في طهارة الشعر- كما هو أحد القولين فيما ذكرناه فيه- كحكمه قبل الدباغ، صرح به البندنيجي. واعلم أن الشيخ أفهمك بالتبويب، وبذكر ما أودعه فيه أنه لا يحرم على الرجال والنساء ما عدا ما ذكره فيه مما ليس في معناه؛ لأنا قد بينا أن مراده بالكراهة في التبويب كراهة التحريم، كما دل عليه كلامه من بعد، وحينئذ يجب علينا أن نوضح ذلك بذكر المسائل، وما قيل فيها، وهي تتنوع إلى ما الإباحة ظاهرة فيه، وإلى ما قد تخفى الإباحة [فيه]:

فمن النوع الأول: الكتان، والقطن، والصوف، والوبر، والمركب من ذلك، ولا فرق في ذلك بين أن تكثر قيمته أو تقل؛ لأن نفاسة ذلك في صنعته، وما نفاسته في صنعته لا يلتحق بما نفاسته في ذاته، دليله: الأواني المحكمة من الزجاج. وما ذكرته في الثياب لم أر خلافه، وإن كان لا يبعد تخريج وجه في تحريم ما نفاسته في صنعته من الثياب، كما قيل بمثله في الأواني، والمذهب نقل. وكما لا يحرم لبس الناعم من ذلك [لا يكره. نعم، قال في "التتمة" و"البحر": لبس الخشن مكروه، لا لغرض شرعي] مع الاستغناء عنه؛ لأن في ذلك تعذيباً للنفس. قاله في باب صلاة العيد. ثم لا فرق فيما ذكرناه من الأنواع في الإباحة بين الباقي على أصله خلقته، والمصبوغ منه أحمر أو أخضر أو أسود؛ لورود الأخبار بذلك، روى البخاري ومسلم، عن البراء قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له شعر يبلغ شحمة أذنيه، ورأيته في حلة حمراء لم أر شيئاً قط أحسن منه"، وقال أنس: "كان أحب اللباس وأعجبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرة" أخرجه البخاري ومسلم، والحبرة قد قيل:

إنها شملة اجتمع فيها بياض وحمرة. وروى أبو داود عن أبي رمثة قال: "انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عليه بردين أخضرين" وأخرجه الترمذي، والنسائي. ورمثة: بكسر الراء المهملة، وسكون الميم وبعدها ثاء مثلثة مفتوحة، وتاء تأنيث. وروى مسلم، عن جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح، وعليه عمامة سوداء". وروى جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه" أخرجه مسلم أيضاً، ومن ثم كان شعار بني العباس في الخطبة: لباس الأسود، والله أعلم. وأما المصفرُّ من الثياب، فهل يحرم؟ الذي يدل عليه الخبر الإباحة؛ فإن زيد بن أسلم روى أن "ابن عمر كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى تمتلئ ثيابه من الصفرة" فقيل: لم تصبغ بالصفرة؟ فقال: "إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها، ولم يكن أحب

إليه منها، وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها، حتى عمامته" أخرجه أبو داود والنسائي، لكنه وقع في إسناده اختلاف، وأخرج البخاري ومسلم من حديث عبيد ابن جريج، عن ابن عمر قال: "وأما الصفرة، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها؛ فأنا أحب أن أصبغ" واختلف الناس في ذلك: فقال بعضهم: أراد الخضاب للحية بالصفرة، وقال آخرون: أراد كان يصفر ثيابه، ويلبس ثياباً صفراً. وبالجملة: فالمزعفر منها حرام لبسه على الرجال؛ لأنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن المزعفر" كما أخرجه البخاري ومسلم، صرح بذلك صاحب "البيان"، ونقل البيهقي وغيره عن الشافعي أنه "نهى الرجل عن المزعفر،

وأباح له المعصفر". قال البيهقي: والصواب: إثبات نهي الرجل عن المعصفر أيضاً، وبه قال الحليمي؛ للأحاديث الصحيحة، وقد قدمت منها شيئاً عن رواية مسلم في الباب. قال البيهقي: ولو بلغت الأحاديث الشافعي- رحمه الله- لقال بها؛ فقد أوصى بإتباع الحديث حتى نقل عنه أنه قال: "إذا صح الحديث، فاضربوا بمذهبي عرض الحائط". ثم ما أبحنا لبسه من المصبوغ، ظاهر كلام الأصحاب: أنه لا فرق فيه بين ما صبغ غزله، ثم نسج، أو ما صبغ بعد النسج، وفي "تعليق القاضي الحسين" في باب هيئة الجمعة: أن المصبوغ بعد النسج إذا كان صبغه ليمنع الوسخ، جاز لبسه، وإن صبغ للزينة، فلا يجوز للرجال لبسه؛ لأنه لباس النساء. ومن النوع الأول- أيضاً- لبس خاتم الفضة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم به. روى أبو داود عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: "أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى بعض الأعاجم، فقيل له: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا بخاتم؛ فاتخذ خاتماً من فضة، ونقض عليه: محمد رسول الله"، وفي رواية: "فكان في يده حتى قبض، وفي [يد] أبي بكر- رضي الله عنه- حتى قبض، وفي يد عمر- رضي الله عنه- حتى قبض، وفي يد عثمان- رضي الله عنه- فبينما هو عند بئر، إذ سقط في

البئر؛ فأمر بها فنزحت، فلم يقدر عليه"، وأخرجه البخاري بنحوه مختصراً، والبئر التي سقط فيها الخاتم بئر أريس، كما جاء في خبر آخر قيل: وكان مدة مقام الخاتم في يد عثمان لم يختلف الناس عليه، وكان سقوطه بعد أن أقام في يده ست سنين. وعن أنس- رضي الله عنه- قال: "كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من فضة كله" أخرجه البخاري. وينبغي أن ينقص وزنه عن مثقال؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأى رجلاً، وعليه خاتم من حديد، فقال: "ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟! " فطرحه، فقال: يا رسول الله، من أي شيء أتخذه؟ قال: [اتخذه] من ورق، ولا [تتمه] مثقالاً". أخرجه أبو داود، وكذا الترمذي، وقال: إنه غريب. ثم قضية الخبر: أن يكره لبس الخاتم من الحديد، وقد قال في "الروضة": إن الصحيح: أنه لا يكره لبسه، ولا لبس الخاتم من الرصاص والنحاس، وبه قطع في "التتمة"؛ لقوله- عليه السلام- للذي أراد أن يتزوج: "التمس ولو خاتماً من حديد". ويجوز التختم في اليمين، وفي اليسار، [و] لكنه في اليمين أفضل على

الصحيح، قال في "الروضة": لأنه- عليه السلام- "كان يتختم في يمينه" أخرجه أبو داود والترمذي. ورواية مسلم عن أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خاتم فضة في يمينه، فيه فص حبشي، كان يجعل فصه مما يلي كفه". ومن قال بأن التختم في اليسار أفضل- وهو ما أورده الفوراني والمتولي- تمسك بما روي عن ابن عمر أن "النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره، وكان فصه في باطن كفه" وبما رواه مسلم، عن أنس قال: "كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى"، ولأن التختم في اليمين صار شعاراً للروافض؛ فاستحب مخالفتهم، وهذا ما اختاره في "الوسيط" في كتاب الجنائز، وقد قدمت الكلام فيه. ومن النوع الثاني: لبس الرجل اللآلئ؛ فإنه جائز لهم، كما قاله الإمام في كتاب العدد، والقاضي أبو الطيب هنا، وقال: إن الشافعي قال: "إلا أني أكرهه لهم من طريق الأدب، وأنه زي النساء، وقد نهى الرجال أن يتشبهوا بهن في التزين"، وهذا النص عزاه البندنيجي إلى "الأم" وقال: إنه قال فيه: "ولا أكره لباس الياقوت ولا زبرجد إلا من جهة الترف والخيلاء". وقال في "التتمة": إن هذا ظاهر، إذا قلنا: يجوز استعمال الأواني المتخذة منها، ولا يكره، أما إذا قلنا: لا يباح استعمال الأواني المتخذة منها، فحيث قلنا: يجوز استعمال حلي الفضة، يجوز استعمالها، وحيث قلنا: لا يجوز، فلا. ومنه لبس المنطقة من الفضة، وكذا حلية آلة الحرب: كالسيف والسكين

والدرع، والخوذة، والخف- كما قال البندنيجي- والزان، وقد سبق ذكره في باب "زكاة الناض". ومنه لبس دمالج الفضة، كما أطلقه الغزالي في "فتاويه"، وكذا المتولين وألحق به الطوق في عنقه، والسوار في يده، بشرط ألا يكون في ذلك إسراف، فإن أسرف فيه، وخرج عن حد العادة، فلا يجوز؛ لأن الإسراف في كل الأمور منهي عنه. وفي "الحاوي" في الزكاة: أن المباح لبسه للرجال خواتم الفضة، وأما الدمالج، والأطواق، والأسورة، والخلاخل من الذهب والفضة- فمباح للنساء دون الرجال. وهو قضية كلام غيره، وقد ذكرت كل ذلك في باب "زكاة الناض"، فليطلب منه؛ فإنه مستوفىً فيه. والله أعلم. * * *

باب صلاة الجمعة

باب صلاة الجمعة الجمعة: بضم الميم، وإسكانها، وفتحها، ثلاث لغات حكاها الفراء والواحدي، وسميت بذلك؛ لاجتماع الناس لها؛ فإن الجمعة جمع الجماعات، وقد اجتمعت في ذلك اليوم. وقيل: [إنما] سميت بذلك؛ لكثرة ما جمع الله- تعالى- في ذلك اليوم من خصال الخير. والجمعة اسم شرعي، جمعها: جمعات وجمع، وكان يقال ليوم الجمعة في الجاهلية: العروبة. قال في "الأم": و"اعلم أن يوم الجمعة اليوم الذي بين الخميس والسبت، من العلم الذي نقلته الجماعة عن الجماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما نقلت أن الظهر أربع، والمغرب ثلاث". وأراد بذلك بيان أن ذلك ثابتٌ بالتواتر؛ رادّاً على من قال بخلافه. وقد دل على وجوبها- قبل الإجماع، وما سنذكره من الأخبار- من الكتاب قوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] أي: في يوم الجمعة {فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] أي: فامضوا، من قولهم: فلان يسعى في الأرض مرحاً، وقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم: 39] وقد روي عن عمر أنه كان يقرأ: "فامضوا إلى ذكر الله"، [كذا] قال ابن الصباغ- {إِلَى

ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] فأمر بالسعي إلى الذكر، وهو الصلاة أو الخطبة على اختلاف فيه، وظاهر الأمر الوجوب، وإذا كان السعي واجباً، فكذلك ما يسعى إليه، ونهى عن البيع وهو مباح، ولا ينهى عن فعل المباح إلَّا لفعل ما هو واجب، ووبّخ تاركها بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا} الآية [الجمعة: 11] ولا يوبخ إلا على ترك واجب. قيل: وكان السبب في نزول السورة أنه قيل: يا رسول الله، لليهود يوم، وللنصارى يوم؛ فاجعل لنا يوماً؛ فنزلت. وسبب نزول قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا} الآية، ما رواه جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة، فجاءت عيرٌ من الشام، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً، فأنزلت هذه الآية التي في "الجمعة": {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [11]، أخرجه مسلم. ورواية البخاري عنه أنه قال: "بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعاماً، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً؛ فنزلت. وقال- عليه السلام- وهو على أعواد منبره: "لينتهيَنَّ أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمنَّ الله على قلوبهم ثمَّ ليكوننَّ من الغافلين"، أخرجه مسلم.

وقال: "من ترك الجمعة ثلاث مرَّات تهاوناً بها، طبع الله على قلبه" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن رواية أبي الجعد الضمري. وأول جمعة أقيمت في الإسلام بالمدينة قبل الهجرة، أنفذ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير أميراً عليها، وأمره أن يقيم الجمعة، فنزل على أسعد بن زرارة، وكان من النُّقباء، فأخبره بأمر الجمعة، وأمره أن يتولى الصلاة بنفسه، فصلى أسعد بالناس الجمعة في حيِّ بني بياضة، فهي أول جمعة صليت في الإسلام، ولم يقمها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة؛ لأنه لم يكمل عددها عنده، أو لأن الجمعة من شعارها

الإظهار والانتشار، وقد كان- عليه السلام- خائفاً من قريش، لا يقدر على مجاهرتهم؛ فلذلك لم يصلها. قال الماوردي: على أنه يجوز أن تكون الجمعة قبل الهجرة [لم تفرض على الأعيان، ثم فرضت على الأعيان بعد الهجرة]؛ لأن جابراً سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على منبره بالمدينة: "إنَّ الله- عزَّ وجلَّ- فرض عليكم الجمعة في عامي هذا، في شهري هذا، في ساعتي هذه، فريضةً مكتوبةً"؛ فدل على أن الجمعة لم تكن فرضاً قبل ذلك اليوم. وهي أفضل الصلوات، كما قاله الماوردي في باب صلاة التطوع. ويومها أفضل أيام الأسبوع على وجه حكيناه عن رواية القاضي الحسين في باب صوم التطوع، ويشهد له قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ* وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ* وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ*} [البروج]، قال أهل التفسير: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة. وقد روى ذلك عطاءٌ وابن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما ذكره البندنيجي.

وقوله- عليه السلام-: "نحن الآخرون الأوَّلون يوم القيامة، ونحن أوَّل من يدخل الجنَّة، بيد أنَّهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فاختلفوا، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحقِّ؛ فهذا يومهم الَّذي اختلفوا فيه هدانا الله له- قال يوم الجمعة- فاليوم لنا، وغدٌ لليهود، وبعد غدٍ للنَّصارى" أخرجه مسلم. فقوله: "فهذا يومهم الَّذي اختلفوا فيه" بيان أنه ما من أمّةٍ من الأمم إلا أمروا بتعظيمه، إلا أن اليهود ضلوا عنه إلى يوم السبت، والنصارى إلى يوم الأحد. وقوله- عليه السلام-: "خير يومٍ طلعت فيه الشَّمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه تقوم السَّاعة، وما من دابَّةٍ إلا وهي مصيخةٌ يوم الجمعة من حين تصبح إلى [حين تطلع] الشَّمس؛ شفقاً من السَّاعة، إلا الجنَّ والإنس، وفيه ساعةٌ لا يصادفها عبدٌ مسلمٌ وهو يصلِّي يسأل الله- عزَّ وجلَّ- شيئاً إلا أعطاه" أخرجه أبو داود. وزاد مسلم: "فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنَّة، وفيه أخرج منها". وقال في شأن الساعة: "وهي ساعة خفيفة"، وقال: "لا يوافقها مسلمٌ قائمٌ

يصلِّي". ومعنى "مصيخة"، أي: مستمعة. ويروي: "مسيخة"، أي: جادَّة حذرة، وهي من الأضداد، يقال: أساخ: إذا أقبل، وأساخ، أي: أعرض؛ قاله القاضي الحسين. وقال الخطابي: أصاخ وأساخ، بمعنىً واحدٍ. قال: "من لزمه الظهر"، أي: في غير يوم الجمعة، وهو البالغ، العاقل، المسلم؛ كما قاله البندنيجي والماوردي، وهو رأي الشيخ- لزمه الجمعة؛ لقوله- عليه السلام-: "اعلموا أنَّ الله فرض عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي وله إمامٌ عادلٌ أو جائرٌ؛ استخفافاً أو جحوداً- فلا جمع الله شمله، ولا بارك في أمره". ولما تقدم من خبر أبي الجعد وغيره، [وسيأتي] ما يعضده. وقد بين الشيخ بقوله: "من لزمه الظهر .. لزمه الجمعة" أنها فرض على الأعيان؛ لأن الظهر كذلك، وقد قال بعض أصحابنا: هي فرض على الكفاية؛ أخذاً من قول الشافعي: "ومن وجب عليه حضور الجمعة، وجب عليه حضور العيدين"، والعيدان من فروض الكفاية؛ فكذلك الجمعة؛ حكاه القاضي أبو الطيب، وابن كجٍّ؛ ولأجله زعم بعض الأصحاب أنه قول للشافعي. [قال في "البحر": وهو غلط منه، ولا يجوز حكاية هذا عن الشافعي]. وهو في ذلك متبع لأبي إسحاق؛ فإن القاضي أبا الطيب حكى عنه أنه قال: لا يحل أن يحكي هذا المذهب عن الشافعي، والذي قاله أخطأ خطأ عظيماً، ولا يختلف المذهب أن الجمعة فرض على الأعيان، والعيدان سيأتي الكلام فيهما، وتأويل النص مذكور ثمَّ. نعم، اختلف الأصحاب في أن الجمعة صلاة على حيالها أو هي ظهر

مقصور بشرائط؟ وكذا حكاه الإمام عن رواية صاحب "التقريب". وقال القاضي الحسين عند الكلام في مسائل الزحام: إن القفال قال: إنّ ذلك مستنبط من مسألة قالها الشافعي: لو أن جماعة شرعوا في صلاة الجمعة، فأخبروا في [خلال الصلاة] بأن طائفة أخرى قد سبقتهم بصلاة الجمعة، قال الشافعي: "أحببت لهم أن يستأنفوا الظهر؛ فإن أتموها ظهراً، لم يبن لي أن عليهم الإعادة". فقوله: جاز لهم أن يتموها ظهراً- دليل على أن الجمعة ظهر مقصور. وقوله: "أحببت لهم أن يستأنفوا الظهر"- دليل على أن الجمعة فرض آخر. والماوردي حكى ذلك قولين، ونسب الأول إلى الجديد، والثاني إلى القديم. وغيره عبَّر عن ذلك بأن فرض يوم الجمعة: الجمعة، أو الظهر والجمعة بدل؟ فيه قولان: الجديد الأول، والقديم الثاني، كذا حكاه البندنيجي وغيره. وبنى صاحب "التقريب" على ما حكاه أمر النية، فقال: إن قلنا: إنها صلاة على حيالها، نوى الجمعة، ويكفيه. وإن قلنا: إنها ظهر مقصور، فإذا نوى الجمعة، فهل يتعرض لقصد القصر أم يكفيه؟ فيه وجهان، أصحهما: الاكتفاء أيضاً. ولو نوى ظهراً مقصوراً من غير تعرض لكونها جمعة؛ فعلى الأول لا تصح، وعلى الثاني وجهان: وجه الصحة: أنه نوى الصلاة على حقيقتها. ووجه المنع: أن القصد [بالنيات] التمييز ولم يحصل. قال: إلا العبد؛ لما روى طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الجمعة حقٌّ واجبٌ على كلِّ مسلمٍ في جماعةٍ إلا أربعةً: عبدٌ مملوكٌ، أو امرأةٌ، أو صبي، أو مريضٌ". أخرجه أبو داود.

...................................................................................................

فإن قيل: قد قال أبو داود: إن طارقاً لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم [فهو مرسل. قلنا: قد قال: إن طارقاً] صحابي، وإرسال الصحابي كالمسند عند الشافعي- رحمه الله- لأن الصحابة كلهم عدول بتزكية الله- تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولأنه ممنوع من التصرف لحق السيد؛ فأشبه المحبوس لحق الغريم. ولا فرق في ذلك بين أن يأذن له السيد في الحضور أو لا. وادّعى القاضي أبو الطيب الإجماع عليه. وفي "الجيلي" حكاية وجه في الوجوب في حالة الإذن، ولم أره في غيره. نعم، قالوا في هذه الحالة: يستحب له الحضور. وكذا لا فرق [فيه] بين القنِّ، والمكاتب، والمدبَّر، والمعلَّق عتقه بصفة؛ لانطلاق الاسم عليه. ومن بعضه حرٌّ وبعضه عبد كذلك عند الجمهور. وقال البندنيجي: إنه قال في "الأم": إذا كان بينه وبين سيده مهايأة، ووافق يوم نفسه لم أرخص له في تركها، ولا يبين لي أن يخرج كما يخرج الحر. قال: فكأنه جعلها في حقه آكد من العبد، وأما الوجوب فلا. وقد حكى الفوراني- وتبعه المسعودي- قولاً في هذه الحالة في الوجوب، وكأنه- والله أعلم- أخذ ذلك من هذا النص. ووجه المنع: أن فيه شعبةً من الرق. وقال الإمام: إنه مدفوع في نوبة نفسه إلى الجدِّ في الكسب لنصيبه الحر؛ فهو في شغل شاغل لمكان الرق. قال: والمرأة؛ للخبر، ولأنها مأمورة بالستر والانعزال، وحضور الجمعة يستلزم المخالطة؛ فلا يؤمن الافتتان. قال القاضي أبو الطيب: ولأن الأنوثة نقص لازم لا يزول، والرق نقص يزول، فلما كان إجماعنا على أن ارق يسقط الجمعة؛ فالأنوثة بذلك أولى. وقد ادعى ابن المنذر الإجماع على ذلك. نعم، هل يستحب لها حضورها؟ ينظر: إن كان شابة فلا، وإن كانت عجوزاً فنعم.

قال الشافعي في "الأم": وأحبُّ للعجائز- إذا أذن لهن أزواجهن- في حضورها. والخنثى المشكل هل تجب عليه؟ فيه وجهان في "الذخائر": أحدهما: نعم؛ لاحتمال كونه رجلاً، وأمر العبادات يؤخذ فيه بالاحتياط. والثاني: لا، وهو ما حكاه الرافعي عن البغوي، ولم يذكر غيره؛ لأن الأصل عدم الوجوب إلا بالشرط، ولم يتحقق. قال: والمسافر؛ لما روي عن تميم الداري أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الجمعة واجبةٌ إلا على خمسةٍ: امرأة، أو صبي، أو مريض، أو مسافر، أو عبد" خرَّجه رجاء بن المرجى الحافظ في "سننه"، وقد كان- عليه السلام- يكثر الأسفار، ولم ينقل أنه صلاها في سفره قط، ولو كانت واجبة على المسافر لفعلها، ولو فعلها لاشتهرت ونقلت. ولأنه مشغول بالسفر وأسبابه، وفي توجُّه الجمعة عليه قطع له عن ذلك، وفيه إضرار به؛ فلم تجب. ولا فرق في ذلك بين السفر الطويل والقصير؛ صرح به القاضي الحسين. قال: والمقيم في موضع، أي: خارج عن البلد، لا يسمع فيه النداء [من الموضع الذي يصح فيه الجمعة؛ لمفهوم قوله- عليه السلام- "الجمعة على من سمع النِّداء"] أخرجه أبو داود.

قال الإمام: وقوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] مشعر باعتبار النداء. والمراد بالنداء الذي يتعلق به وجوب حضور الجمعة، وبعدم سماعه عدم الوجوب- ليس الأذان كما قال المتولي؛ بل أن ينادي من له صوت عالٍ عرفاً غير متجاوز في العادة في وقت تكون الرياح فيه ساكنة؛ لأن الريح قد تمنعه أو توصله والأصوات هادئة وهو في جنح الليل كما قال الإمام، ويكون من ليس بأصم مصغياً قاصداً إلى الاستماع. وكلام القاضي الحسين مصرح بأنه الأذان. وعلى كل حال فأي موضع يعتبر أن يكون فيه المنادي؟ فيه أربعة أوجه، حكاها القاضي الحسين: أضعفها: أنه يكون بين يدي الخطيب يوم الجمعة. والثاني- وهو دونه في الضعف-: يكون في الموضع الذي تقام فيه الجمعة. والثالث- قال: وهو الأعدل-: يكون بوسط البلد، وقد حكاه الإمام عن رواية بعض المصنفين، وقال: إنه ساقط غير معتدٍّ به؛ فإن البلد قد تتسع خطته بحيث يكون صوت المنادي إذا كان وسطه [لا] يبلغ الأطراف، فضلاً عن أن يتعداها إلى قراها. والرابع- وهو ما أورده القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما من العراقيين

والغزالي، وقال في "الإبانة": إنه الأصح-: أنه يكون في موضع يجوز أن تقام فيه الجمعة من الجانب الذي يلي المستمع بحيث لا يكون إلى ذلك الجانب موضع يصح أن تقام فيه الجمعة أقرب منه. ولا يعتبر أن يصعد على منارة أو موضع عال؛ لأن حد الارتفاع لا ينضبط. قال القاضي أبو الطيب: اللهم إلا أن يكون البلد بين شجر وغياض، مثل طبرستان؛ فإن أصحابنا قالوا: لابد من أن يعلو المؤذن على السور والمئذنة؛ لأنه إذا نادى على وجه الأرض لا يسمع لاشتباك الشجر؛ فوجب أن يعتبر نداؤه على مكان عال؛ لأجل ذلك. هكذا رأيته في "تعليقه"، وعبارة ابن الصباغ في حكاية ذلك عنه قريبة منه. وقال الرافعي: إنه قال في طبرستان: ينبغي أن يقف على موضع يعلو عليها. وأطلق القاضي الحسين القول [بأنه] يقف على نشزٍ أو مكان مرتفع، ولم يخص ذلك بطبرستان ولا غيرها. وقد سكت الأصحاب عن الموضع الذي يقف فيه المستمع، والظاهر أنه موضع إقامته كيف كان. وإذا لم يعتبر في [حقِّ] المنادي الصعود على موضع عالٍ، فهل يعتبر استواء الأرض؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، وإليه ميل ابن الصباغ، حتى لو كانت قرية على جبل تسمع النداء؛ لعلوها، ولو كانت مستوية لم يسمع- لم تجب، ولو كانت في وادٍ لا يسمع النداء؛ لاستفالها، ولو كانت مستوية لسمع- وجبت، وهذا ما حكاه القاضي أب الطيب. ومقابله: أنه لا يعتبر؛ فتجب على من سمع [كيف كان، ولا تجب على من لم يسمع]؛ ذكره الشيخ أبو حامد في "التعليق"، ولم يحك البندنيجي، والطبري في "عدته"، وكذا القاضي الحسين- غيره، وفرَّع عليه ما إذا كانت قرية على

جبل يقام فيها الجمعة، وبإزائها قرية على جبل لم يكمل فيها العدد وهم يسمعون النداء؛ [وبين الجبلين قرية لا تسمع النداء]، ولم يكمل فيها العدد- فإنه يجب على أهل القرية التي على الجبل الحضور إلى القرية التيتنعقد فيه الجمعة، وفي أهل القرية المستفلة وجهان: وجه الوجوب: أنها إذا وجبت على الأبعد، فلأن تجب على الأقرب أولى. وحكي الإمام عن شيخه أنه كان يقول: لو فرضت قريتان في جهة واحدة، وكانت إحداهما في وَهْدَةٍ، وكان النداء لا يبلغها لذلك، وكان يبلغ الأخرى الموضوعة على الاستواء، وهي في مثل مسافة القرية الأخرى- فيجب على أهل القرية الموضوعة في الوهدة [الجمعة]؛ نظراً للمسافة، ومصيراً إلى أنهم في محل السماء للنداء، ولكن انخفاض قريتهم مانع من السماع. قلت: وقياس ذلك أن يقال: إذا ضبطت المسافة التي يسمع فيها النداء على الوجه السالف، يجب أن تكون تلك المسافة هي المعتبرة في سائر البلاد، ولا حاجة بعد ذلك إلى اعتباره في كل ناحية وقطر، ولا يقال: إن الناس يختلفون [في] الاستماع وحدَّته؛ لأنا إنما نعتبر المعتاد في ذلك، ولا ننظر إلى من جاوز العادة في حد السماع كما يحكي من حدَّة [نظر] زرقاء اليمامة، والله أعلم. أما من هو داخل البلد، فيجب عليه الحضور، سواء سمع النداء أو لم يسمعه اتفاقاً؛ لأنه ما من موضع إلا وهو محل للنداء، [ومحل] لأن تقام فيه الجمعة، كذا قاله البندنيجي. وغيره قال: إن البلد بني للجمعة الواحدة كما أن المسجدين للجمعة الواحدة. قال: والمريض، أي: الذي يخاف الزيادة في المرض إذا حضر أو تلحقه مشقة غير محتملة؛ لخبر تميم الداري، وسنذكر ما يدل عليه أيضاً. ولا يشترط في المشقة أن تبلغ الحد الذي يجوز لأجله القعود في الصلاة المفروضة، بل يكفي أن تكون مقيسة بما يلقاه الماشي في الوحل والمطر، وبما

ينال من يفوته موت قريبه من المضض؛ قاله الإمام. وأما من لا تلحقه مشقة في حضوره أو مشقة محتملة، وهي ما دون ذلك- فيلزمه الحضور. وعبارة القاضي الحسين في التعبير عن ذلك: أن المريض إذا كانت داره قريبة من المسجد بحيث يمكنه حضور الجامع، فعليه أن يحضر، ويصلي الجمعة، ولا يجوز أن يصلي الظهر. وإن كانت داره بعيدة، وكان يجد مركباً يركبه- إما ملكاً أو استئجاراً أو عاريَّة- فعليه أن يركب، ويحضر. وإن كان لا يجد وتلحقه المشقة، فلا يجب. ومن لا يقدر على المشي لزمانةٍ أو كبر سنٍّ يلحق عنده بالمريض: إن قدر على من يحمله إلى الجامع، لزمه الحضور، وإلا فلا. قال في "الحلية": وليس بصحيح. وكذا حكي عنه في الأعمى أنه قال: إن كان يحسن المشي بغير قائد، لزمه الحضور، ثم قال: وليس بصحيح. والمذكور في "المهذب": أنه إن قدر على قائد لزمه، وإلا فلا؛ لأنه يخاف الضرر مع عدم القائد. قال في "التتمة" عند الكلام في صلاة المريض: ويجب عليه أن يستأجر القائد، أي: إن لم يتبرع. قال: والقيِّم بمريض، أي: قريب له أو أجنبي يخاف ضياعه، أي: إن غاب، سواء كان لا خادم له غيره أو له خادم مشغول بشراء الأدوية ونحوها؛ لأن دفع الضرر عن المسلم من المهمَّات الدينية، ولا جابر لها في هذه الحالة، والجمعة لها بدل. ولا فرق في ذلك بين أن يخشى معه الهلاك أو لا. وقيل: إن كان لا يخاف على نفسه الهلاك، بل يلحقه ضرر ظاهر لا يبلغ دفعه مبلغ دفع فروض الكفايات- فهذا ليس بعذر؛ لأن ذلك مما يكثر، وتجويز التخلُّف بذلك قد يتداعى إلى تعطيل الجمعة. وقيل في هذه الحالة: يفرق بين الأجنبي والقريب؛ لزيادة المشقة والرقة على القريب.

والأفقه الأول، وهو اختيار الصيدلاني؛ لأنه ربما اعترضه أمر أفضى به على الهلاك. قال: أو قريب يخاف موته؛ لأنه روي عن ابن عمر- رضي الله عنه- أنه تطيَّب للجمعة، فأخبر أن سعيد بن زيد منزولٌ به، وكان قريباً له؛ فأتاه، وترك الجمعة. والمعنى فيه: شغل القلب السالب للخشوع لو حضر. وألحق القاضي الحسين والبغوي بذلك ما إذا كان لا يخاف موته، لكنه كان يستأنس به. وكلام الشيخ يأبى التخلف لذلك، وكذا التخلف عند عدم الأنس به من طريق الأولى، وإن كان يلحقه شغل قلب عليه؛ لشدة مرضه، وبه قال أبو إسحاق في الأخيرة، وهو المذهب كما قال في "الفروع". وعن [ابن] أبي هريرة: أنه يجوز له ترك الجمعة فيها. وقد أفهم كلام الشيخ [أن ما ذكره] لا يجري في غير القريب مملوكاً كان أو زوجاً أو صهراً أو صديقاً أو غير ذلك، ولاشك فيه عند انتفاء ما ذكرناه، وأما مع وجود الملك أو الزوجيَّة أو المصاهرة، فقد قال ابن الصباغ: إن ذلك كالقرابة، وطرده القاضي أبو الطيب والبندنيجي والمحاملي والماوردي في الصديق. وقال الإمام: لا يجوز الترك لمكان الصداقة أصلاً، وأبدى ما ذكرناه في المملوك والزوجة احتمالاً لنفسه، حيث قال: هما عندي في معنى القريب؛ لأن الأصحاب لم يفصلوا في القريب بين من يقرب إدلاؤه، وبين من يبعد. قال: ومن تبتلُّ ثيابه بالمطر في طريقه؛ لأنه روي عن ابن عباس أنه أمر مؤذِّنه في يوم الجمعة في يوم مطر: "إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله .. ، فلا تقل: حيَّ على الصلاة، وقل: صلُّوا في بيوتكم"، فلما استنكر الناس ذلك قال: "فعله من هو

خير مني". رواه مسلم. وروى أبو داود عن أسامة بن عمير أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية يوم الجمعة، فأصابهم مطر، لم يبتلَّ أسفل نعالهم؛ فأمرهم أن يصلوا في رحالهم. وظاهر كلام الشيخ أنه لا يشترط مع ذلك الوحل، وقد اشترطه القاضي الحسين، وقال: لو وجد أحدهما لم يجز الترك. نعم: لو ركب المطر سطوح الدكاكين في الأسواق، وتقطَّر الماء من سقوف الأسواق، فإنه يجوز ترك الجمعة لأجله؛ لأن الغالب نجاسته. وحكى الروياني في "تلخيصه" في باب صلاة الجماعة: أنّ المطر والوحل لا يجوز عند اجتماعهما ترك الجمعة عند بعض أصحابنا، وليس بشيء. قال: ومن يخاف من ظالم، أي: على نفسه، أو ماله؛ لسرقة، أو غصب، أو غير ذلك؛ لقوله- عليه السلام-: "من سمع النِّداء فلم يجبه، فلا صلاة له إلا من عذرٍ"، قالوا: وما العذر؟ قال: "خوفٌ أو مرضٌ" رواه أبو داود عن رواية ابن عباس. ومنهم من أوقفه على ابن عباس. وروى أبو بكر بن المنذر عن عمر وأبي هريرة وأنس مثل ذلك. وقد أفهم كلام الشيخ أن الخوف ممن ليس بظالم لا يمنع الوجوب؛ كالخوف من الإمام أن يستوفي منه [حدّ الزنى والسرقة ونحوهما، ومن المقذوف أن

يستوفي حد القذف منه] ومن مستحق القصاص عليه أن يستوفيه. ولاشك في أن الخوف من استيفاء الإمام حد الزنى والسرقة لا يمنع الوجوب؛ لأنه يسوغ العفو عن ذلك بعد ثبوته، والخوف من استيفاء القصاص يسقطها إذا كان يرجو منه العفو على مال أو [غير] مال؛ كذا حكاه الإمام في باب صلاة الجماعة عن رواية شيخه عن النص. وحكى الفوراني وغيره مثله في ترك الجماعة عن النص أيضاً، واستشكله الإمام [ثمَّ]. والخوف بسبب استيفاء حد القذف ألحقه ابن الصباغ وأبو الطيب ومجلي بالخوف من حد الشرب؛ لأنه لا بدل له. وألحقه البندنيجي والعجلي بالخوف من استيفاء القصاص؛ لأنه يسوغ العفو عنه. وإن لم يرج العفو عنه وعن القصاص لم يكن عذراً؛ قاله البندنيجي [وغيره]، قالوا: وذلك يحصل بظهور الأمارات، والاختفاء في هذه الحالة معصية أيضاً. وقد أحال الأصحاب الكلام في باقي الأعذار على ما قدموه في باب صلاة الجماعة، وقالوا: كل عذر رخَّص ترك الجماعة المسنونة، فإنه يرخص في ترك الجمعة أيضاً؛ قاله البندنيجي والإمام وغيرهما من أهل الطريقين. والقاضي أبو الطيب [نسب] هذا القول لأبي إسحاق وقال: إن العلة الجامعة بينهما أنه عذر يبيح ترك السعي إلى المسجد. قال: فلا جمعة عليهم وإن حضروا؛ لأن العذر الذي منع الوجوب قبل الحضور باق بعد الحضور فمنعه أيضاً. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الأعذار المذكورة تمنع الوجوب، وهو

الذي نص عليه الشافعي. وقال بعض الأصحاب: إن الأعذار [المذكورة مرخصة للترك. قال مجلي: وفائدة الخلاف أن هذه الأعذار] إن كانت موجودة قبل حدثان سبب الوجوب- وهو دخول الوقت- لم يتوجه الخطاب على أربابها بفعل الجمعة، وكانت مسقطة للوجوب على قول الشافعي. وعلى قول الآخر: وجبت، ويجوز تركها إلى غيرها. ولو دخل وقت الوجوب [ولا عذر، وجبت الصلاة، فإذا طرأت الأعذار قبل فعل الصلاة سقط عنه الوجوب] على قول الشافعي، وجاز الترك مع بقاء الوجوب على القول الآخر. قال: إلا المريض، ومن في طريقه مطر، أي: ومن في معناه؛ فإنهما إذا حضرا لزمهما الجمعة؛ لأن منع الوجوب كان لأجل مشقة الطريق، وقد زالت. وقد أطلق الأصحاب ذلك في حق المريض، ووافق الإمام عليه في حالة حضوره حالة إقامة الجمعة، وقال فيما إذا حضر قبل الوقت: إن الوجه القطع بأن له الانصراف. قلت: وكان لا يبعد تخريجه على جواز المسافرة قبل الزوال سفراً لا تصلي فيه الجمعة. قال: ولو حضر بعد دخول الوقت، وقبل إقامة الجمعة، وكان بين ذلك مدة- نظر: فإن كان لا يناله مزيد مشقة في مصابرته في الجامع حتى تقام الجمعة، فيلزمه ذلك. وإن كان تناله مشقة في ذلك، فالذي أراه أن له الانصراف. قال الرافعي: وهذا فقيه، فالوجه حمل ما أطلقه الأصحاب عليه. وألحق القاضي الحسين بمن استثناه الشيخ المريض، وكل من له شغل مهم مثل: أن يخاف ضياعاً على ماله و [ما] أشبه ذلك، وفيه نظر.

وعن صاحب "التلخيص" أنه ألحق العبد إذا حضر بمن في طريقه مطر في لزوم الجمعة له. قال الإمام: وهو غلط باتفاق الأصحاب. ونقل صاحب "الفروع" وجهاً أن المسافر إذا حضر، تعين لعيه فعل الجمعة، وقال: إن المذهب الأول. وعلى هذا لو تحرم بالصلاة لا يجوز له الانصراف كالمريض، وهل يجوز للمرأة والعبد ذلك بعد التحرم بالصلاة؟ فيه وجهان عن حكاية الصيمري أصحهما في "الروضة": المنع؛ لأن صلاتهما انعقد بعد فرضهما؛ فتعين إتمامها. واعلم أن قول الشيخ: "من لزمه الظهر ... لزمه الجمعة .. " إلى آخره- يقتضي أموراً: منها: أن المقيم في موضع لا يسمع فيه النداء من الموضع الذي تصح فيه الجمعة إذا حضره، لا تلزمه الجمعة، وبه صرح البندنيجي، وقال: إنه يكره له الانصراف قبل صلاة الجمعة. ومنها: أن المقيم في موضع لا ينعقد فيه الجمعة [لكنه يسمع فيه من الموضع الذي تصح فيه الجمعة] أنه يلزمه الجمعة، سواء أكان يوم الجمعة يوم عيد وقد حضر العيد أو لا. وهو وجه حكاه العراقيون مع وجه آخر: أنها لا تجب عليه وإن حضر في ذلك الموضع لصلاة العيد. وادعى البندنيجي والماوردي أنه المنصوص، أي في "الأم"؛ لأنه قال فيه: "فيخطب الإمام، فيأذن لأهل السواد في الانصراف إلى أهاليهم إن شاءوا، وليس ذلك لأحد من أهل المصر"، وهذا ما صححوه؛ لأنه روي عن أبي هريرة أنه قال: اجتمع عيدان في يوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العيد، وخطب، فقال: "أيُّها

النَّاس، قد اجتمع عيدان في يومٍ، فمن أراد أن يشهد الجمعة فليشهد، ومن أراد أن ينصرف فلينصرف". وفي هذا الحديث دليل على أن الجمعة تقام، ولا تسقط عن أهل المصر؛ لأنه قال: "فمن أراد أن يشهد الجمعة فليشهد". والمعنى فيه: أنا لو أمرناه بالقعود، لحقه المشقة بفوات المقصود في يوم العيد من الانقلاب إلى الأهل والأكل معهم، ونحو ذلك مما يختص به العيد. وإن أمرناه بالمضيِّ والعود لأجل الجمعة- قطع يومه بالغدو ذهاباً ورجوعاً، وفي ذلك مشقة شديدة، والجمعة تسقط بالمشقة بسبب الطين والمطر، وهي دون ذلك، ولا يكره لهم- لأجل ما ذكرناه من التعليل- الانصراف. والقائلون بالأول حملوا نص الشافعي على أهل السواد الذين لا يبلغهم النداء. ومنها: المستأجر في يوم الجمعة يجب عليه الجمعة؛ لأنه يلزمه الظهر، ولم يستثنه، وهو المذهب، ويجعل وقتها مستثنى من الإجارة كأوقات الصلاة. وعن ابن سريج فيما رواه أبو الفضل أنه يجوز [له] ترك الجمعة بهذا السبب؛ حكاه الرافعي في أواخر كتاب الإجارة. ومنها: المحبوس تجب عليه الجمعة؛ لأنه يلزمه الظهر، ولم يستثنه. ولا خلاف في عدم الوجوب إذا كان لا يقدر على الخلاص، فإن قدر وجبت عليه. قال: ومن لا جمعة عليه [مخيَّر بين الظهر والجمعة، أي]: فهو مخير بين الإتيان بالظهر؛ لأنه فرض وقته، وبين الإتيان بالجمعة؛ لأنها أكمل من الظهر،

والشرع أسقطها عنه؛ رفقاً به. ولفظ الشافعي: "أن الظهر صلاة المعذورين، والجمعة صلاة من لا عذر له، فإذا اختار من له عذر أن يصلي صلاة من لا عذر له لم يمنع من ذلك، وسقط بها فرضه؛ ألا ترى أن المريض له أن يصلي صلاة الصحيح بتمام الأركان والأفعال؟! فكذا ها هنا". ثم ظاهر لفظ التخيير يقتضي استواء الأمرين في الفعل والترك، وليس الأمر كذلك فيما نحن فيه، بل المستحب في حق العبد إذا أذن له السيد [في] الحضور، وسكت الأصحاب عما إذا لم يأذن له، والظاهر: أنه لا يجوز له ذلك إذا كان حضوره يفوت على سيده منفعة مقصودة لا تفوت عليه إذا صلى الظهر. وإن [كان لا يفوت] حضوره ذلك فالظاهر أن فعل الجمعة أفضل- أيضاً- لأن له الصلاة في أوّل الوقت. وقد حكى القاضي الحسين في باب كفارة يمين العبد بعد أن يعتق: أن السيد لا يجوز له منع عبده من الجماعة إذا لم [يكن له] معه شغل، ويقصد بمنعه تفويت الفضيلة عليه، وهذا دليل على ما ذكرناه. و [ما] ذكره الماوردي في باب اختلاف نية الإمام والمأموم أنه لا يجوز للعبد أن [يؤم الناس] في الجمعة إلا بإذن سيده؛ لما فيها من تفويت خدمته- فيه أيضاً ما يشير إلى ما ذكرته، والله أعلم. والمرأة لا يستوي في حقها الأمران، بل حضور الشابة مكروه، والعجوز مستحبٌّ، كما تقدم. والمسافر الأفضل في حقه الجمعة، وكذا المريض- كما قاله البندنيجي- وإن تحمل المشقة. وأما الذي لا يسمع النداء، فلم أقف فيه على نقل، والظاهر أن المستحب له حضورها، خصوصاً إذا كان في موضع داخل فيما حدَّ به بعض الأئمة المكان الذي يلزم الحضور منه.

وعلى هذا يكون تقدير كلام الشيخ: فهو مخير فيما يسقط به الفرض بين الإتيان بالظهر أو الجمعة. قال: والأفضل ألَّا يصلي- أي من لا يجب عليه الجمعة- الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة؛ لأن الأفضل في حق المعذورين أن يصلوا الظهر جماعة، وفي إقامة الجماعة قبل فراغ الإمام من الجمعة تغيير لشعار اليوم وافتياتٌ عليه؛ فلذلك كان الأفضل ما ذكره الشيخ، وإلى هذا أشار الشافعي بقوله في "المختصر": "ولا أحب لمن ترك الجمعة لعذر أن يصلي حتى يتأخى انصراف الإمام، ثم يصلوا جماعة". ولأن من تلزمه الجمعة لا يجوز له فعل الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة؛ فاستحب لمن لا تلزمه ألا يفعله حتى يفرغ الإمام من الجمعة. ولأن الجمعة فرض عام، والظهر فرض خاص للمعذورين؛ فاستحب تقديم العام على الخاص. وبما ذكرنا يندفع قول من قال: كان الصواب أن يقال: [قبل] فوات الجمعة، أو تحقق الفوات لو قصدها المعذور؛ لأن العلة في ذلك حثه على الجمعة؛ لأنها فريضة الوقت العامة، فإذا فاتت بالرفع من الركوع، أو تحقق فواتها؛ بأن يكون بينه وبين الموضع الذي تقام فيه مسافة يعلم أن الجمعة تفوته قبل قطعها- زالت على استحباب التأخير؛ فلا يبقى الحكم. وقد جعل بعضهم علة استحباب التأخير توقع زوال العذر قبل فوات الجمعة فيدركها؛ ولأجل ذلك خصه بمن يرجو زوال عذره قبل الفوات: كالعبد يعتق، والمريض يبرأ، ونحو ذلك. وقال فيمن لا يرجى زوال عذره: كالمرأة، والزمن، والمريض الذي لا يرجى برؤه: المستحب في حقه التقديم، وعلى هذا جرى الماوردي، والإمام، ومجلي، والرافعي. والأول عليه ظاهر النص، ولم يحك القاضي الحسين عن الأصحاب غيره؛

فإنه قال: قال أصحابنا: كل شخص لا يجب عليه حضور الجمعة الأفضل أن يصلي بعد فراغ الإمام. قلت: وللكلام مجال فيما أورده الإمام من وجهين: أحدهما: أنه أطلق القول بأن التعجيل في حق النساء أولى، وقد تقدم أن العجوز يستحب لها حضور الجمعة، وفي استحباب التعجيل حث لها على منع الحضور. وجوابه: أن الكلام فيها إذا عزمت على عدم الخروج. الثاني: أنه قد تقدم أن المعذورين الأفضل في حقهم فعل الجمعة، وحينئذ فلا يظهر أن يكون رجاء زوال عذره علة في استحباب التأخير؛ إذ هو متمكن في الحال من حيازة ذلك الفضل؛ فإنه إذا فعلها وقعت فرضاً، اللهم إلا أن يقال: إن فوات [الإحرام] بصلاة الجمعة بعد زوال العذر أكثر منه مع بقاء العذر، وهذا يحتاج إلى توقيف. نعم، هذا يصلح أن يكون علة في العبد إذا لم يأذن له سيده في الجمعة، وكان يرجو الإذن أو العتق، وفي المريض إذا كان لا يقدر على الحضور أصلاً ويرجو زوال مرضه، والله أعلم. وقد تقدم هنا أن الشافعي استحب فعل الظهر للمعذورين في جماعة، وقال في "الأم": "وأحب لهم إخفاء جماعتهم؛ كي لا يتَّهموا بالرغبة عن صلاة الجماعة خلف الأئمة". قال الأصحاب: وهذا يدل على أنه يستحب الإخفاء لمن كان عذره في تركها خفيّاً، فأما من كان عذره واضحاً جليّاً فلا يستحب له إخفاء الجماعة، مثل: أن يجتمع عبيد معروفون بالرق أو قافلة نزلت فيجمع فيها مسافرون؛ كذا قاله أبو الطيب وابن الصباغ. وقال الماوردي: إنه يكره التظاهر بفعل الجماعة خوف التهمة؛ سواء كان ذعره ظاهراً كالسفر والرق، أو باطناً: كالمرض، والخوف. وحكى الرافعي وجهاً: أنه لا يستحب فعلها في جماعة، وعليه يدل قول

البندنيجي: "لا يكره لهم فعل الظهر في جماعة"، وقول القاضي الحسين: "الأفضل الإفراد، فإن فعلوا ذلك في جماعة جاز". فرع: إذا زال الرق قبل فوات الجمعة- وكذا المرض- وقبل فعل الظهر، وجب عليهما الجمعة، وإن كان فرضهما وقت الزوال الظهر؛ قاله الماوردي في باب صلاة المسافر. ولو خالف المعذور ما ندب إليه، فصلى الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة، ثم زال عذره قبل الفوات- أيضاً- لم تجب عليه الجمعة، نص عليه، وأشار الجيلي إلى خلاف فيه بقوله: "لا يلزمه على الأصح"، ولم أره في غيره. نعم، الخلاف مشهور في الصبي إذا صلى الظهر، ثم بلغ، ولم تفت الجمعة، قال ابن الحداد: تجب عليه الجمعة؛ لأنه فعله وهو غير مكلف به. وغلَّطه الأصحاب فيه، وإطلاق القول بتغليطه فيه نظر؛ بل الوجه أن يقال: إن أراد بما ذكره من [التكليف]: التكليف من جهة الولي؛ لأنه مأمور من جهته يوم الجمعة بالجمعة لا بالظهر- فلكلامه وجه؛ فإن الأصحاب لما قالوا: إذا صلى الصبي الظهر في أول الوقت، وبلغ في آخره، أجزأه ذلك عن الفرض، وجهوه بأنه أدّى ما أمر به كما أمر به، وهو هاهنا لم يؤد ما أمر به كما أمر به؛ فلا جرم قال ابن الحداد: إنه يجب عليه الجمعة. وإن كان ابن الحداد أراد بما ذكره من التكليف: التكليف من جهة الشرع، فالتغليط على وجهه؛ لأن الشافعي نص على أن الصبي إذا صلى الظهر في غير يوم الجمعة، ثم بلغ ووقته باق، لا تجب عليه إعادة الظهر مع أنه صلاه وهو غير مكلف به من جهة الشرع. والظاهر من كلام الأصحاب: أنه أراد ذلك؛ ولذلك ردوا عليه بما ذكرناه، وبه صرح الإمام، وقال: إنه فرعه على قياس مذهب أبي حنيفة في أن الصبي إذا صلى الظهر في غير يوم الجمعة في أول وقته، ثم بلغ في أثناء الوقت- تلزمه الإعادة؛ لأنه لم يكن مكلفاً لما صلى الظهر. وقد رأيت في "تعليق" القاضي الحسين قبل صفة الصلاة: أن القفال قال:

الفتوى على ما ذكره [ابن الحداد]، ولكن المعنى فيه غير ما ذكره، وهو أن الصبي مندوب بالحضور [إلى الجمعة] ومأمور بذلك، ومضروب عليه، بخلاف العبد والمسافر فإنهما غير مأمورين بالحضور، ولا مندوبين إلى الجمعة؛ فلهذا لا يلزمهما الإعادة؛ لأنهما لم يتركا ما ندبا إليه. ولو صلى الخنثى الظهر، ثم تبين [أنه رجل قبل فوات الجمعة، قال في "البيان": يلزمه الجمعة؛ لأنه تبين] كونه رجلاً حين صلى الظهر، ومثل هذا لا يوجد في سائر المعذورين. وما ذكره يظهر أنه فرعه على أن [من] يلزمه فرض الجمعة إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة لم يصح، أو يصح ولا يسقط عنه الخطاب بالجمعة كما سيأتي. أما إذا قلنا: يسقط الخطاب عنه بالجمعة، فهذا أولى. ولو صلى المعذور الظهر في أول الوقت، ثم زال عذره، وصلى الجمعة- قال ابن الصباغ وغيره: فالذي نص عليه الشافعي: أن الفرض سقط عنه بالظهر، والجمعة تطوع. ونقل أبو إسحاق أنه قال في القديم: يحتسب الله بأيهما شاء. والإمام قال: إن حكم ذلك حكم من صلى منفرداً، ثم صلى جماعة. وقضية ذلك: أن يكون في المسألة ثلاثة أوجه أو أربعة، لكنه فسر ذلك بالقولين الماضيين لا غير، وعلى ذلك جرى الفوراني والرافعي. ولو زال العذر [وهو] في أثناء الظهر، ولم تفت الجمعة، فقد أجرى القفال هذا مجرى ما لو رأى المتيمم الماء في الصلاة، وهذا ما أورده في

"الوسيط"، وهو يقتضي إثبات خلاف في البطلان؛ لأنه مذكور في رؤية الماء في الصلاة، وقد حكى عن رواية الشيخ أبي محمد فيما علق عنه التصريح به في مسألتنا، وظاهر المذهب استمرار الصلاة على الصحة. قال الإمام: وما قاله القفال مفرع على أن غير المعذور لا يصح ظهره قبل فوات الجمعة، فإن صححناه فلا نحكم بالبطلان هنا بحال، وعلى ذلك جرى في "البسيط". وقال مجلي: إن في هذا البناء نظراً؛ لأن هذه الصلاة انعقدت على الصحة إذ لا مفسد، وإنما [طرأ] زوال العذر بعد ذلك، فكيف تعتبر بصلاة لم تنعقد أصلاً، والوجه: أن تبنى على الخلاف في أن الأعذار مسقطات [للوجوب، أو مرخصات للترك مع تقدم الوجوب؟ فإن قلنا: مسقطات]، فالصلاة صححية، وإن قلنا: مرخصات، فالقول ها هنا كالمتيمم يرى الماء في الصلاة. قال: ومن لزمه فرض الجمعة لا يصلي الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة؛ لأنه مخاطب بالسعي إليها، وفي إقامة الظهر قبل فراغ الإمام إذا فاته إدراكها، لكن ظاهر كلام الشافعي أنه لا يجوز إلا بعد فراغ الإمام. والفوات بماذا يكون؟ فيه وجهان عن رواية الشيخ أبي محمد: أحدهما: بالرفع من ركوع الإمام في الركعة الثانية. والثاني: أن يكون في موضع يعلم أنه لا يصل إلى موضع الجمعة إلا وقد رفع الإمام رأسه من ركوع الثانية. قال: فإن صلاها قبل فوات الجمعة، لم تصح صلاته في أصح القولين؛ لقوله- عليه السلام-: "من سمع النِّداء فلم يجبه فلا صلاة له"، وقد قال الأصحاب: إن مأخذ الخلاف أن فرض الوقت الجمعة أو الظهر؟ وقد تقدم الخلاف فيه. فإن قلنا: فرضه الجمعة، لم تصح صلاته ظهراً؛ لأن المأتي به غيره، وهل تبطل أو تبقى نفلاً؟ فيه خلاف مشهور في نظائره.

وإن قلنا: فرضه الظهر، والجمعة بدل، صحت صلاته ظهراً. والصحيح: أن الفرض الجمعة؛ لأن الأبدال على ضربين: بدل مرتب، وبدل مخير، فلو كانت الجمعة بدلاً من الظهر، لم يكن عاصياً بتركها إلى العصر، وهو عاصٍ بلا خلاف. وهذا الخلاف جارٍ في المنفرد بلا خلاف، وهل يجري في أهل البلد إذا صلَّوا كلهم الظهر، وتركوا الجمعة؟ قال أبو إسحاق: لا، فيجزئهم ظهرهم وإن أثموا بترك الجمعة؛ لأن كل واحد منهم لا تنعقد به الجمعة؛ كذا حكاه عنه في "المهذب"، والقاضي أبو الطيب وغيره عند الكلام في انفضاض القوم [بعد الفراغ من الخطبة وقبل الصلاة]. والصحيح: أنه لا يجزئهم ظهرهم على الجديد؛ لأنهم صلوا وفرض الجمعة متوجه عليهم. التفريع: إن قلنا بالصحيح، فالأمر بحضور الجمعة قائم كما كان، فإن حضرها فذاك، وإن فاتت قضاها الآن بأربع. والفوات في حق المنفرد بما تقدم، وفي حق أهل البلد يكون بخروج الوقت أو ضيقه بحيث لا يسع الخطبتين والصلاة. وإن قلنا بالقديم- وهو الصحة- فهل يسقط الخطاب بالجمعة؟ الذي حكاه الإمام في صدر الفصل: السقوط؛ لأن مع الصحة يستحيل بقاء الخطاب بغيره في وقته. قال: وهذا [منه] أمر غريب؛ فإنه بالإقدام على الظهر في حكم الساعي في ترك الجمعة، وذلك معصية؛ فكان ما جاء به طاعة من وجه [و] معصية من وجه، والاختلاف في صحته قريب من الاختلاف في صحة الصلاة المقامة في الوقت المكروه، والذي أورده الجمهور: عدم السقوط. وعلى هذا: إذا لم يصل الجمعة حتى فاتت، اعتدَّ له بما صلاه أولاً عن فرضه. وإن صلى الجمعة، قال ابن الصباغ: احتسب الله له بأيهما شاء. وهذا ما حكاه

البندنيجي عن نصّه في القديم؛ فإنه قال فيه: "وعند الله سعة أن يكتب له أجرهما وأجر أكملهما"، وهو كذلك واسع. وقال الإمام: إذا صلى الظهر ثم حضر إقامة الجمعة، فلا شك أنه خرج عن المأثم الآن، ولكن المفروض من الصلاتين أيتهما؟ ذكر شيخي ها هنا أربعة أقوال: أحدها: الأول؛ فإنه لو اقتصر عليها برئت ذمته، والتفريع على أن الظهر مجزئ. والثاني: الفرض: الجمعة؛ فإنه بها خرج عن الحرج. والثالث: أنهما جميعاً فرضان. والرابع: أن الفرض أحدهما [لا] بعينه. ثم قال: ولاشك أن من ضرورة القول بأنهما فرضان أن يقول: خطاب الجمعة باقٍ إلى الفوات، وإن فرعنا على إجزاء الظهر؛ ولأجل ذلك حكى الغزالي في سقوط الخطاب بالجمعة على قولنا بصحة الظهر قولين، وقال: إن الأربعة الأقوال في "أن الفرض ماذا؟ " مفرعة على القول بأن الخطاب بالجمعة لا يسقط، وإن أطلق الإمام حكايتها. وقال الرافعي: ينبغي [أن] يجري فيما إذا قلنا بسقوط الخطاب بالجمعة بفعل الظهر، كما إذا صلى منفرداً، وأعاد في جماعة- فإنه غير مخاطب بالثاني. وهذا منه يفهم أن الأقوال الأربعة جارية فيما إذا صلى منفرداً ثم في جماعة، والمشهور منها في هذه المسألة ما عدا الثالث. وإن كان الثالث يجري فيها- كما حكيناه عن المتولي- قدح ذلك في قول الإمام: "إن من ضرورة القول بأنهما فرضان أن الخطاب بالجمعة [باقٍ] إلى الفوات" وحينئذ لا يكون في المسألة إلا قول واحد، وهو ما [صدَّر به] الإمام الكلام في أول الفصل من أنه بفعل الظهر سقط عنه الخطاب بالجمعة؛ فتأمل ذلك، والله أعلم. وقد أفهم كلام الشيخ أنه لو صلاها بعد الفوات وقبل فراغ الإمام من الجمعة:

أنها تصح قولاً واحداً؛ لأنه منع من إقامتها قبل الفراغ، وحكم بالبطلان في أصح القولين إذا فعلها قبل الفوات؛ فتعين ما ذكرناه. قال: ومن لزمه فرض الجمعة، لم يجزئ له أن يسافر سفراً لا يصلي فيه الجمعة، أي: في يومه بعد الزوال، وبعد الزوال متعلق بالسفر لا بالصلاة، والتقدير: لم يجز له أن يسافر بعد الزوال سفراً لا يصلي فيه الجمعة. ووجهه: أن الفرض توجه عليه بدخول الوقت- وهو الزوال- فلا يجوز تفويته بالسفر، وقد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من سافر من دار إقامته يوم الجمعة دعت عليه الملائكة: لا يصحب في سفره، ولا يعان على حاجته" أخرجه الدارقطني في "الأفراد"، ومثل هذا لا يكون على مباح. فإن قيل: إذا زالت الشمس، لم تتعين إقامة الصلاة؛ فإن الصلاة إن وجبت فإنما تجب وجوباً موسعاًن وظاهر المذهب أن من أخّر الصلاة عن أوّل وقتها، ومات في أثناء الوقت، لم يمت عاصياً؛ فهلا خرج وجه في جواز السفر بعد الزوال؟! قال الإمام: قلنا: الناس تبع للإمام في هذه الفريضة، فلو عجلها تعينت متابعته، وسقطت خيرة الناس في التأخير، وإذا كان كذلك فلا يدري متى يقيم الإمام الصلاة؛ فتعين انتظار ما يكون منه. وعلى هذا لو سافر، كان سفره معصية؛ فلا يترخَّص ترخُّص المسافرين ما لم يمض وقت الجمعة، ثم حينئذ من حيث بلغ يكون ابتداء السفر؛ قاله القاضي الحسين والبغوي. ثم محل ما ذكرناه إذا لم يخش فوت الرفقة لو تأخر لأجل الصلاة، [أما إذا كان في تأخيره لأجل الصلاة] فوت الرفقة جاز له السفر قولاً واحداً من غير كراهة؛ قاله القاضي أبو الطيب وغيره. وفي الرافعي حكاية وجهين فيه.

قال: وهل يجوز قبل الزوال؟ فيه قولان، أي: في "الأم"؛ كما قال البندنيجي. وجه الجواز أنه- عليه السلام- خرج لسفر يوم الجمعة أوّل النهار. وروي عن عمر- رضي الله عنه- أنه رأى رجلاً عليه أهبة السفر، فقال الرجل: إن اليوم يوم الجمعة، ولولا ذلك لخرجت، فقال عمر: "إن الجمعة لا تحبس مسافراً". ولأن وجوبها بالزوال؛ فلا يحرم قبله؛ كبيع النصاب قبل تمام الحول من غير قصد الفرار، وهذا ما نص عليه في القديم وحرملة. وقال في "العدة": إن الفتوى عليه. وقال الغزالي: إنه القياس. وإذا قلنا به قطعنا بكراهية الخروج؛ قاله القاضي الحسين. ووجه المنع [مع] ما تقدم من الخبر: أنه وقت التسبب إليها؛ بدليل وجوب السعي فيه لمن بعد، وجواز الغسل لها فيه، ووجوب التسبب كوجوب الفعل، ولأن اليوم ينسب إليها. وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب عن الجديد، وهو الصحيح عند العراقيين. وقد قطع بعض المراوزة بمقابله، قال الفوراني: لأنه نص في موضع على أنه لا يسافر، [وقال في آخر: "أحببت ألا يسافر"، فنصُّه على أنه لا يسافر] محمول على نصِّه الآخر. والمشهور طريقة القولين، ومحلهما- كما قال أبو إسحاق المروزي-: إذا لم يخف فوت الرفقة، ولم يكن السفر واجباً، فإن خاف فوت الرفقة أو كان السفر واجباً- كسفر الجهاد، جاز قولاً واحداً؛ كذا حكاه البندنيجي عنه، ووجه بما روي أن عبد الله بن رواحة تخلف عن جيش جهزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلل

بصلاة الجمعة لما سأله- عليه السلام- فقال صلى الله عليه وسلم: "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما أدركت غدوتهم". وألحق الصيدلاني والقاضي الحسين وكثير من أئمتنا- كما قال الرافعي والبغوي- سفر الطاعة بالسفر الواجب. وقال الإمام: إن ما قالوه في السفر الواجب لاشك فيه، وهكذا كانت سفرة من جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم متعين، وكان رأى رأياً، واتبع واجباً. فأما القطع بذلك في سفر طاعة لا يجب، ففيه نظر، مع العلم بأن إقامة الجمعة مقدمة على الطاعات التي لا تجب، ولكن ما ذكره متجه من جهة أن الجمعة قبل الزوال لا تجب؛ فانتظارها قبل الزوال في حكم طاعة، غير أن مساق هذا تخيره في السفر؛ فإنّ الطاعة إذا لم تجب، جاز تركها بالمباح. وقد أطلق ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب وغيرهما القولين من غير تفصيل بين سفر وسفر. وقال بعضهم: الحكم مما أخرجه الترمذي، وضعفه، وقال شعبة: لم يسمع من مقسم إلَّا خمسة أحاديث، وليس هذا منها، وإن صح فلعله كان [قد] جهزهم قبل الجمعة، [وتأخر عبد الله إلى يوم الجمعة]. ولا خلاف في جواز السفر قبل طلوع فجر يوم الجمعة، وقبل الزوال وبعده؛ إذا كان يصلي في طريقه.

فرع: يجوز البيع قبل الزوال من غير كراهة إذا لم تتعطل بسببه الجمعة؛ لأن الله- تعالى- أمر بالسعي بعد النداء، فأفهم أنه قبل النداء لا يجب، والنداء إنما يكون بعد الزوال لا قبله. نعم، لو تعطلت بسببه؛ لبعد المسافة، وهو ممن يلزمه الجمعة، فهو كما لو وقع بعد جلوس الإمام على الموضع الذي يخطب فيه الخطبة، يحرم، ويصح؛ كما لو فوت صلاة غيرها بسبب البيع، والذبح بسكين الغير. وبعد الزوال وقبل جلوس الخطيب يكره، وهذا إذا كان المتبايعان من أهل الجمعة. ولو كانا من غيرها [كالمسافرين ونحوهم، فلا تحريم في حقهما ولا كراهية. ولو كان أحدهما من أهلها، والآخر من غير أهلها] فحكم من هو أهلها كما لو كانا من أهلها، [وحكم من ليس من أهلها] كحكمهما إذا كانا كذلك، إلا في الصورة التي يحرم على من هو من أهلها البيع، فإنه يكره لمن ليس من أهلها مبايعته في تلك [الحالة؛ لإعانته] على المعصية؛ قاله البندنيجي. وفي "المهذب": أنهما آثمان. وحكم غير البيع من التصرفات فيما ذكرناه حكم البيع. قال: ولا تصح الجمعة إلا بشروط، أي: خارجة عن شروط سائر الصلوات، وهي كما ذكر ستة، وبعضهم أضاف إليها سابعاً، وهو نية الإمامة ونية الخطبة، ويمكن أن يضاف إليها ثامن، وهو إذن الإمام في إقامتها؛ فإن صاحب "العدة" حكاه قولاً عن القديم. قال: أحدها: أن تكون في أبنية مجتمعة؛ لأنه لم ينقل أنها أقيمت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده إلا في أبنية مجتمعة، ولو كان يجوز إقامتها في غيرها لفعلت، ولو مرة؛ لبيان الجواز، ولو فعلت لنقل. والمراد بكونها في الأبنية: أنها تفعل بين الأبنية، سواء في ذلك المساجد

والساحات والرحاب المسقفة وغيرها، لا أنها تفعل في موضع بني لأجل الصلاة؛ فلو أقيمت خارج المصر في الصحراء لا يجوز، نص عليه الشافعي في كتاب صلاة الخوف. قال البندنيجي ثمَّ: وقد كنا نحكي ذلك عن أبي إسحاق، وقد نص أصحابنا على المسألة، ولا فرق عندنا بين أن تكون الأبنية من خشب، أو حجر، أو لبن، أو سعف، أو جريد؛ كما قال البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما؛ لأن [كل] ذلك مما يوضع للاستيطان وعدم النقل، وقد حكى الإمام ذلك عن مذهب العراقيين، وقال: إن هكذا معظم القرى في الحجاز، يعني: أنها تكون بزعف وجريد وقصب. وفي "الحاوي": أن المبني بالقصب والسعف لا تنعقد فيه [الجمعة]. وكذا لا فرق عندنا بين أن يكون ذلك في مصر جامع أو قرية، وهو في المصر إجماع، وفي القرية مستدلٌّ عليه بما روي عن ابن عباس أنه قال: أول جمعة جمِّعت بعد جمعة المدينة بـ "جواثي": قريةٍ من قرى عبد القيس. أخرجه أبو داود. وجه الدلالة منه: أن هذا [كان] في صدر الإسلام، ولا يجوز أن يفعل ذلك إلَّا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ فيه نقل فرض إلى فرض غيره خصوصاً، والخصم- وهو أبو حنيفة- لا يصحِّح إقامة الجمعة إلا بإذن الإمام. ولأنه لو فعل بغير أمره لا يكره؛ إذ مثل هذا لا يخفى مع قلة الإسلام. ولأن القرية موضع بني للاستيطان والاستقرار؛ فوجب أن تنعقد فيه الجمعة كالمصر. فإن قيل: قد قال- عليه السلام-: "لا جمعة ولا تشريق إلا في

مصرٍ جامعٍ". قلنا: يشبه أن يكون لأجله قال به الشافعي في القديم، كما حكاه في "الزوائد" عن رواية صاحب "التلخيص"، لكن المشهور الأول؛ لأن ذلك لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم بل هو منقول عن علي- كرم الله وجهه- مرسلاً، ولو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لحملناه على أنها لا تقام خارج المصر. وإن صح إسناده عن علي، قلنا: قد خالفه عثمان- رضي الله عنه- فإن أبا هريرة كتب إليه وهو أمير على البحرين يستأذنه في إقامة الجمعة، فكتب إليه عثمان: أن جمِّعوا حيثما كنتم. أو نحمله على ما ذكرناه. فإذا تقرر ذلك، فلو أقيمت خارج البنيان حيث يصلَّى العيد لم تصح؛ لما ذكرناه. واحترز الشيخ بقوله: "مجتمعة" عما إذا تفرقت بحيث يجوز القصر لمن أراد السفر من بعضها قبل مفارقة باقيها؛ فإنه لا يجوز إقامة الجمعة فيها. وعن "البحر" أنه حد التفرق بما زاد على ثلاثمائة ذراع، وما دون ذلك في حد الاجتماع. وقد أفهم كلام الشيخ أمرين: أحدهما: أنها لا تقام في الخيام وإن استوطنت شتاءً وصيفاً، وهو قضية كلامه في "الأم"؛ ولأجله حكاه بعض الأصحاب قولاً عن الشافعي، وأثبته البغوي وغيره وجهاً، وكيف قدِّر فهو الصحيح في "الرافعي"؛ لأن قبائل العرب

كانوا يقيمون حول المدينة، وما كانوا يصلون الجمعة، ولا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها؛ ولأجل ذلك جزم به الماوردي والفوراني والإمام، وكلام القاضي أبي الطيب الذي سنذكره يقتضيه أيضاً، والذي حكاه البندنيجي عن رواية البويطي ولم يحك سواه: أنها تنعقد فيها. الثاني: أنه لو احترق البناء الذي تقام في مثله الجمعة، وانهدمت جدرانه، وكان أهله مقيمين [في] موضعه عازمين على إعادته وتجديده- لا تصح إقامة الجمعة فيه، وقد نص الشافعي في "الأم" على انعقادها في ذلك الموضع، ولزوم الجمعة لهم، وهو مما لا خلاف فيه، بخلاف ما لو نزلوا موضعاً، وأقاموا فيه؛ ليعمروا بلدة أو قرية [لا] تنعقد لهم فيه الجمعة قبل البناء؛ استصحاباً لما كان الأمر عليه قبل ذلك في الحالين. قال القاضي أبو الطيب: ولا تنعقد على مذهب الشافعي جمعة في غير بناء إلا في مسألة الاحتراق وحدها، وهي شاذة عن الأصول. قال: والثاني: أن تكون في جماعة؛ لقوله- عليه السلام- في حديث طارق السابق: "الجمعة حقٌّ واجبٌ على كلِّ مسلمٍ في جماعةٍ"، وهو إجماع؛ لأنها إنما سميت: جمعة؛ للاجتماع. قال: والثالث: أن تقام بأربعين نفساً، أي: من الرجال؛ لما روى عطاء عن جابر قال: "مضت السنة أن في كل ثلاثة إماماً، وفي كل أربعين وما فوق ذلك جمعة"، أخرجه الدارقطني. وجه الدلالة منه: أن قول الصحابي: "مضت السنة" بمنزلة قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم". وقد روي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: "كنت قائد أبي من بيته حين عمي، فكان إذا سمع [النداء] بالجمعة أكثر الترحم على أبي أمامة- سعد بن

زرارة- واستغفر له، فسألته عن ذلك؟ فقال: إنه كان أوّل من جمع بنا في هزم من [حرّة] بني بياضة، في نقيع الخضمان: قلت: يا أبه، كم كنتم؟ قال: أربعون"، أخرجه أبو داود، وأثبته الإمام أحمد. وقد ذكر في "الحاوي" و"التتمة" أن سليمان بن طريف روى عن مكحول عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا اجتمع أربعون رجلاً فعليهم الجمعة، وسيكون بعدي أمراء يتواضعون .. " الحديث. وذكر ابن كج أن الحناطي روى عن [أبي إمامة أن] النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا جمعة إلا في أربعين"، فإن صح هذان الخبران، أغنيا عما سواهما، وإن انتفت الأدلة المنصوصة على ما ادعيناه، قلنا: الأصل الظهر تماماً، وإنما يرد إلى ركعتين

بشرائط منها: العدد، وأصله مشروط بالإجماع، ولم ينقل عن الشارع لفظ صريح في التقدير، وفهم منه طلب تكثير الجماعة؛ لأنه لم يشرع جمعتين في بلد فأكثر كما في غيرها من الصلوات، وأكثر ما قيل فيه: أربعون، فهو عدد توافقنا على عقدها به، فمن ادعى أنها تنعقد بأقل منه، فعليه إقامة الدليل. وقد اعترض بعضهم على هذا، فقال: الإمام أحمد اشترط في عقدها خمسين؛ لأنه- عليه السلام- قال: "لا تجب الجمعة إلا على خمسين رجلاً، [و] لا تجب على ما دون ذلك"، رواه أبو بكر النجاد، عن عبد الملك الرقاشي، عن رجاء بن سلمة، عن عباد المهلبي، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة. وبإسناده عن الزهري، [عن أبي هريرة] أنه قال: "لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين، جمع بهم". وجوابه: أن القاضي أبا الطيب والماوردي وابن الصباغ قالوا: إن مذهب الإمام أحمد مثل مذهبنا. وجعفر بن الزبير، قال عبد الحق: متروك الحديث. وما ذكره الشيخ هو ما أورده العراقيون، وقد حكي قول أو وجه: أنه يشترط أن يكون الإمام وراء الأربعين، ولم يورد في "الحاوي" غيره عند لكلام في العدد. وقال عند الكلام في إمامة الصبي: إن مذهب الشافعي ومنصوصه في جميع كتبه خلاف هذا، وإن القائل بأنه يشترط أن يكون وراء الأربعين هو ابن أبي هريرة.

وغيره قال: إن [ابن] أبي هريرة أخذه من قوله في "المختصر": "وإن خطب بهم وهم أربعون، ثم انفضوا عنه"، فأعاد قوله: "وهم أربعون" إلى من خطب بهم. وقال في "التتمة": إنه مأخوذ من أحد القولين في صحة الجمعة خلف الصبي، ومقابله مأخوذ من عدم الصحة خلفه. وعن صاحب "التلخيص" حكاية قول عن القديم: أنها تنعقد بثلاثة الإمام أحدهم، وأنكره الأصحاب عليه. قال الإمام: وسببه أنهم بحثوا عن كتب الشافعي في القديم، فلم يجدوا هذا القول أصلاً. وفي "الزوائد" للعمراني: أن من أصحابنا من سلَّم هذا النقل، ووجهه بأن الثلاثة جمع مطلق، ولعله أخذه من أحد الأقوال المنصوص في الانفضاض إذا بقي معه رجلان يصلون الجمعة؛ ذكره الطبري. وقد حكى الماوردي أن المزني اختار أنها تنعقد بثلاثة سوى الإمام. والصحيح في "التهذيب"، و"الرافعي"، وهو الأظهر في "النهاية": أن الإمام من جملة الأربعين، وهو اختيار القفال، وأعاد قوله: "وهم أربعون" إلى الخطيب والقوم، وهذا ما يفهمه قول الشيخ. وقد يقال: إن الخلاف يؤخذ من قوله: "وفي جوازها [خلف] صبي أو متنفِّل قولان"، وليس كذلك؛ لما ستعرفه. قال: أحراراً، بالغين، عقلاء؛ أي لا تنعقد بالعبيد والمجانين لأنها لا تجب عليهم؛ لما بهم من نقص؛ فلم تنعقد بهم؛ كالنساء. ولأن النساء والمجانين لا تنعقد بهم إجماعاً؛ فكذا العبيد بجامع ما ذكرناه من عدم الوجوب؛ لأجل النقص. ولا يرد علينا المرضى؛ فإنها لا تجب عليهم، وتنعقد بهم على الأصح؛ لأنه لا نقص فيهم، وعدم الوجوب شرع؛ رفقاً بهم.

وعلى القول بعدم الانعقاد بهم- كما حكاه ابن كج عن رواية أبي الحسين عن الشافعي-[يحتاج إلى أحرار]. قال: مقيمين في الموضع، أي: الذي تقام فيه الجمعة، لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفاً إلا ظعن حاجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده- رضي الله عنهم- لم يأمروا بالجمعة من ظعن مع أمرهم أهل القرى بها، ولو كانت تجب عليهم لأمروا بها. وقد وافق يوم الوقوف في حجة الوداع يوم الجمعة، ولم يصلها النبي صلى الله عليه وسلم ولو وجبت على غير المستوطن لصلَّاها. قيل: إن الشافعي ومحمد بن الحسن اجتمعا عند الرشيد، فسأل الرشيد محمد بن الحسن عن صلاته- عليه السلام- بعرفة: هل كانت جمعة أو ظهراً؟ فقال محمد: كانت جمعة؛ لأنه خطب قبل الصلاة. ثم سأل الشافعي عن ذلك؟ فقال: كانت ظهراً؛ لأنه أسر فيها، فقال له: صدقت. وقيل: إن ذلك [جرى] للإمام مالك وأبي يوسف، رضي الله عنهم أجمعين. وقول الشيخ: "يظعنون": بفتح العين، يقال: ظعن يظعن، إذا سار. واعلم أن هذا الشرط ينبه على مسألتين قد يخفي حكمهما على المبتدئ: الأولى: ما إذا كان في بلدٍ أو قرية من هو بصفة من تنعقد بهم الجمعة، لكنهم أقل من أربعين، [وبقربهم بلد أو قرية أخرى فيها بهذه الصفة أقلُّ من أربعين]، ولو اجتمع أهل الموضعين [لبلغوا أربعين- فإنه لا تنعقد بهم الجمعة؛ لأن الأربعين غير مقيمين] في الموضع الذي يصح فيه الجمعة، وإن كان أهل كل ناحية يسمعون النداء من الأخرى، ويجب عليهم السعي إليها؛ لأجل الجمعة لو كان أهلها أربعين، وبه صرح في "الحاوي" و"التهذيب"- أيضاً- فإنه قال: "إذا كان في قرية أربعون بالصفات التي تنعقد بهم الجمعة، وهم يسمعون النداء من مصرٍ جامع، فهم مخيرون بين أن يحضروا البلد [إذا كانت الجمعة فيه

وبين أن يقيموها في قريتهم، وإذا حضروا البلد] لا يكمل بهم العدد؛ لأنهم في حكم المسافرين". والمراد بما ذكره من التخيير: التخيير فيما يسقط به الفرض، لا أنهما في الفضيلة سواء، فإن الأولى فعلها في قريتهم اتفاقاً. وبعضهم قال: إن فعلها في غير قريتهم والحالة هذه مكروه، ولعيه جرى القاضي الحسين. وقال الماوردي: إنهم إذا فعلوا ذلك كانوا مسيئين، وأجزأتهم الصلاة. الثانية: أن المقيم في بلد أو قرية لشغل، إذا نوى الإقامة بها أكثر من أربعة أيام؛ لأجل شغله، وعزمه العود إلى أهله عند نجاز شغله: كالمتفقِّهة، وغيرهم- تنعقد به الجمعة؛ لأنه حر بالغ عاقل مقيم، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة. قال البندنيجي: وهو ظاهر قوله في "الأم": "وإن كان مسافراً قد أجمع مقام أربع فمثل المقيم". ولأنه يجب عليه الجمعة؛ فانعقدت به كالمقيم من أهل البلد. وعلى هذا فالناس على ثلاثة أضربٍ: من تجب عليهم الجمعة، وتنعقد بهم. ومن لا تجب عليهم، ولا تنعقد بهم. ومن لا تجب عليهم، وتنعقد بهم، وهم المرضى على المذهب. وقد حكي عن أبي إسحاق في المقيم في بلد؛ لأجل قضاء شغله: أن الجمعة تجب عليه، ولا تنعقد به. وعلى هذا تكون الأقسام أربعة، هؤلاء رابعها. وقد عكس القاضي الحسين المشهور، فنسب القول بالانعقاد إلى أبي إسحاق. [قال]: من أول الصلاة إلى أن تقام [الجمعة]. مراد الشيخ: أن هذا الشرط- وهو قيامها بأربعين- يعتبر من أول الصلاة إلى

أن تقام الجمعة، أي: تفرغ وتتم؛ لأن الصلاة إنما يتم مقصودها بالفراغ؛ فأنيط حكم الاجتماع به. وقد يقع في بعض النسخ والشروح: "من أول الخطبة إلى أن تقام الجمعة"، قال الشيخ محيي الدين النواوي: والذي ضبطناه عن نسخة المصنف الأول. وكذا قال غيره. وقال: إن ما يوجد في بعض النسخ جاء لإشكال قوله: "إلى أن تقام الجمعة" وأن الخطبة يشترط فيها العدد أيضاً. وهذا يفسده قوله من بعد: "فإن انفضوا عنه، وبقي الإمام وحده، أتمها ظهراً"، والتي تتم ظهراً الصلاة [لا] الخطبة. ولأنه يقول: "والسادس: أن يتقدمها خطبتان"، وذلك عائد إلى الصلاة؛ فوجب هاهنا مثله؛ لأن الشروط واحدة، وكون العدد شرطاً في الخطبة قد صرح به عند ذكرها؛ فلو حمل الأول على إرادة الخطبة، لزم التكرار. فرع: لو حضر من لا تنعقد بهم الجمعة مع من تنعقد بهم، فإن حرم الذين لا تنعقد بهم الجمعة قبل الذين تنعقد بهم، لا تصح؛ لأن الجمعة إنما تصح لهؤلاء تبعاً، وقبل انعقاد الصلاة للمتبوعين كيف يحكم بصحتها للتابع؟! فهو كالحمل في البيع يتبع الأم في البيع؛ فإذا لم يصح في الأم لا يبقى في الحمل؛ كذا قاله القاضي الحسين في "الفتاوى". ولو أحرموا بعد إحرام أهل الجمعة، انعقدت لهم. وينبغي لأهل الكمال ألا يؤخروا إحرامهم؛ لحيازة فضيلة تكبيرة الإحرام، وتيسير عقد الجمعة لغيرهم، فلو تأخروا عن تكبيرة إحرام الإمام، وأتوا به [بعد أن رفع الإمام رأسه من الركوع- فلا جمعة، وإن أتوا به] قبل ذلك، فقد قال الشيخ أبو محمد: الوجه أن يشترط ألا ينفصل تحريمهم بالصلاة عن تحريم الإمام بما يعد فصلاً طويلاً. وقال القفال: الضبط المرعي فيه: أنه إذا أدركه في الركوع، صحت الجمعة. قال الإمام: وما ذكره شيخي حسن، ويجوز أن يقال: ينبغي أن يتحرموا بحيث

لا يسقط عنهم من القراءة شيء، ولا يثبت لهم حكم المسبوق؛ فإنهم لو أدركوه [في الركوع، فحكم ذلك حيث يصح سقوط القراءة، وهو من أحكام المسبوقين، وإذا أدركوه] في بعض القيام بحيث لا يتأتى منهم إتمام القراءة، فهذه صورة الاختلاف فيما يفعله المسبوق؛ فلا يجوز الانتهاء إلى هذا الحد في التأخير، وهذا ما صححه الغزالي، لكنه جعل ذلك تفريعاً على قولنا: إنهم إذا انفضوا عنه في أثناء الصلاة، يتمها ظهراً. وعلى ذلك جرى الرافعي، وفيه نظر. قال: فإن انفضوا عنها، أي: عن الصلاة، وبقي الإمام وحده- أتمها ظهراً؛ [لأن الجماعة شرط في وقوعها جمعة في الابتداء، فإذا فقدت في أثنائها أتمها ظهراً]؛ كالوقت إذا فات في أثنائها؛ وهذا ما نص عليه، ووراءه تخريجان للمزني: أحدهما: أنه يتمها جمعة؛ لأنه ليس في قدرة الإمام ضبط القوم؛ فلم يعتبر اجتماعهم إلا عند العقد. ولأن مراعاة ذلك عند العقد [ممكن، بخلاف الدوام، فشابه النية، لما أمكن اعتبارها عند العقد] دون الدوام، اعتبرت عند العقد فقط، وبهذا فارق الوقت؛ لأنّه يمكن أن يشرع فيها في وقت يعلم انقضاءها قبل زواله، وهذا خرجه من نصه الآتي من بعد فيما إذا بقي معه واحد؛ كذا أشار إليه ابن الصباغ، ومن نص الشافعي في القديم على أنه إذا أحدث الإمام، وانصرف، أتمها المأمومون جمعة؛ فإنه لا جمعة له إلا بهم، ولا جمعة لهم إلا به. والثاني: أنهم إن انفضوا عنه، وقد صلى ركعة تامة بركوعها وسجدتيها- كما قال أبو الطيب وغيره- أتمها جمعة؛ كالمسبوق. وقيل: إنه أخذه من قوله في القديم: "لو صلى بهم ركعة، ثم سبقه الحدث، وانصرف- لم يستخلف بهم، وأتموا لأنفسهم جمعة".

قال: فإذا جاز أن ينفردوا عن إمامهم بإتمامهم إذا انصرف عنهم، جاز أن ينفرد بإتمامها إذا انصرفوا عنه؛ لأن الجمعة لا تنعقد إلا بإمام ومأموم. قال الإمام: وقد وافقه على هذا معظم أئمتنا. وقال القاضي أبو الطيب: هو عندي أشبه. وقال القاضي الحسين عند الكلام في خروج الوقت في أثناء الصلاة: إنه الأظهر، وقد وجه بقوله- عليه السلام-: "من أدرك من الجمعة ركعةً فليصل إليها أخرى". ومن الأصحاب من منع ذلك، وقال: ووضع الشرع على أن يتبع المقتدي الإمام، [وهنا يلزم أن يتبع الإمام المقتدي] وفيه بعد. ولأن المسبوق تبع لإمام صحت له جمعة تامة، والإمام تبع لقوم لم تصح لهم جمعة. والفرق بين ما نحن فيه وبين مسألة الحدث: أن الإمام في القديم إذا سبقه الحدث في حكم الصلاة؛ فكأنه لم يفارقهم؛ فلهذا أتموها جمعة، وليس كذلك

إذا انصرفوا عنه وبقي وحده؛ لأنهم خرجوا من الصلاة؛ فلهذا يتمها ظهراً؛ قاله البندنيجي. وقد رأيت في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الشامل" في صلاة الخوف عند الكلام في صلاة الجمعة: أن ذلك قول للشافعي، وقد ذكرته ثم، وهذا مغن عن التخريج. قال: وإن نقصوا عن الأربعين، أتمها ظهراً في أصح الأقوال؛ لما ذكرناه، ولأن العدد شرط في استدامة الخطبة بلا خلاف، ففي الصلاة أولى؛ لأن الخطبة أخف حكماً من الصلاة؛ ألا ترى أن الشخص يصلي وإن لم يحضر الخطبة؟! ولا فرق في ذلك بين أن يبقى معه واحد أو اثنان أو أكثر من ذلك. قال: وإن بقي معه اثنان، أتمها جمعة في الثاني؛ لأن الثلاثة جمع مطلق كالأربعين، وقد روي أنه- عليه السلام- انفض عنه أصحابه حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً- كما تقدم في الخبر- وأتم الجمعة، ولو كان بقاء الأربعين شرطاً لم يتمها جمعة. والفرق على هذا بين الابتداء والدوام: أن الأصل في [سائر] الأيام الظهر، وإنما يعود إلى الجمعة بشرائط، [و] إذا وقع الشك: هل حصل مقصود الشرع أم لا؟ لم يعدل عن الأصل؛ فلذلك لم يحكم بانعقادها ابتداء، [و] في الدوام: الجمعة محكوم بانعقادها، ووقع الشك في أن ما نقص من العدد يبطلها أو لا؟ والأصل الصّحة. وهذا القول والذي قبله نصّ عليهما في "الأم"، ونقلهما المزني. قال: وإن بقي معه واحد، أتمها جمعة في الثالث؛ لوجود اسم الجماعة كالأربعين، ولأنه لما بطل أن يكون العدد المعتبر في ابتدائها شرطاً في استدامتها؛ لما ذكرناه في علة القول قبله، وافتقرت إلى الجماعة- كان أقلها في الشرع اثنين؛ لقوله- عليه السلام-: "الاثنان فما فوقهما جماعةٌ"، وهذا ما نص عليه في القديم.

وعلى هذا والذي قبله قال الإمام: فالظاهر: أنا نشترط فيمن بقي شروط الكمال المرعية في الانعقاد ابتداء. وقال صاحب "التقريب": يحتمل أن نكتفي بالعبد والمسافر؛ فإنا اكتفينا آخراً باسم الجمع والجماعة لا العدد؛ فلا يبعد ألا يشترط الكمال. قال الإمام: وهذا مزيَّف غير معتد به. وقد حكى الماوردي ما ذكرناه عنهما وجهين في المسألة، وأقام الصبي والمرأة في ذلك مقام العبد والمسافر. ولاشك أن ما حكيناه من تخريج المزني- إذا صححناه- جارٍ فيما إذا نقصوا عن الأربعين من طريق الأولى. وبعضهم لم يحكه إلا فيها. وإذا جمعت بين هذه المسألة والتي قبلها مع تصحيحك التخريج، قلت: بقاء الأربعين في كل الصلاة هل هو شرط أو لا؟ قولان: فإن قلنا: لا، فهل [يشترط بقاء عدد أم لا؟ قولان: فإن قلنا: لا، فهل] يفصل بين الركعة الأولى والثانية أم لا؟ قولان. وإن قلنا: نعم، فكم عدد يشترط؟ قولان: أحدهما: ثلاثة. والثاني: اثنان. وإذا أردت اختصار ذلك [كله] قلت: في المسألة خمسة أقوال: أحدها: يتمها ظهراً كيف كان، وهو الصحيح. والثاني: جمعة كيف كان. والثالث: إن بقي معه اثنان فما فوقهما أتمها جمعة، وإلا ظهراً. والرابع: إن بقي معه واحد فما فوقه، أتمها جمعة، وإلا ظهراً. والخامس: إن انفضوا أو بعضهم بعد تمام ركعة له بسجدتيها، أتها جمعة، وإلا أتمها ظهراً.

ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يحرم معه بعد الانفضاض أربعون لم يحضروا الخطبة أو لم يحرموا. نعم، لو لحقهم أربعون على الاتصال ممن سمع الخطبة، استمرت الجمعة؛ قاله في "الوسيط"، وكذا لو حصل انفضاضهم بعد أن أحرم معه أربعون، أتمها جمعة بلا خلاف، وإن كان من بقي معه لم يسمع الخطبة؛ صرح به القاضي الحسين، وكذا الإمام وأبدى احتمالاً لنفسه في الصحة في هذه الصورة، وقال: ينبغي أن نشترط بقاء أربعين سمعوا الخطبة إذا اشترطنا بقاء العدد. قلت: وهذا الاحتمال يعضده وجه حكاه هو وغيره في أنه يشترط فيمن يستخلفه الإمام في صلاة الجمعة عند حدثه وقد أدرك معه الركعة الأولى- أن يكون قد سمع الخطبة، لكن الجمهور [ثمَّ] على عدم الاشتراط. وهذا حكم الانفضاض في الصلاة، وحكم الانفضاض في الخطبة أو بعدها وقبل الصلاة سنذكره- إن شاء الله تعالى- عند ذكرها. قال: والرابع: أن يكون وقت الظهر باقياً؛ لأن الوقت شرط لافتتاحها؛ فكان شرطاً في دوامها؛ كالطهارة. ولا يرد غيرها من الصلوات؛ لأن الوقت ليس بشرط فيها؛ لجواز قضائها في غير الوقت. وقد أفهم قول الشيخ أن وقت الظهر هو وقتها ابتداء وانتهاء، وبه صرح غيره؛ لأنهما [صلاتا وقتٍ] على البدل؛ فكان وقت إحداهما وقتاً للأخرى؛ كصلاة الحضر والسفر. ولأن آخر وقتهما واحد [إجماعاً؛ كما قال ابن الصباغ؛ فوجب أن يكون أول وقتهما واحداً]، كصلاة السفر والحضر؛ فلا يجوز فعلها قبله، خلافاً لأحمد حيث جوز إقامتها في الخامسة أو السادسة أو في وقت صلاة العيد؛ كما حكاه أصحابه عنه.

وحجتنا عليه ما تقدم، وقد روى البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع قال: "كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت، ثم نرجع نتبع الفيء"، وصح عنه أنه قال: "صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي". فإن قلت: كلام الشيخ كالمصرح بأن هذه الشرائط شرائط الصلاة، [و] إذا كان كذلك، فكيف يقال: إن وقتها يدخل بزوال الشمس، ولابد أن يتقدمها خطبتان؟! نعم: يحسن أن يقال: الذي يدخل بالزوال وقت الخطبة لا الصلاة؛ فإن وقتها إنما يدخل بعد فعل الخطبتين. قلنا: قال الأصحاب: لا يمتنع ذلك؛ ألا ترى أن وقت الظهر يدخل بالزوال وإن لم يتمكن الشخص من الفعل إلا بعد تقدم الطهارة، خصوصاً عند فقد الماء؛ فإنه لا يمكنه فعلها إلا بعد دخول الوقت. لكن لقائل أن يقول: تقدم الطهارة على دخول الوقت في الجملة ممكن؛ ولذلك تعقب الصلاة الزوال، ولا كذلك ها هنا؛ فإنه لا يعقل جواز [إقامة] الصلاة عقيب دخول الوقت، والله أعلم. قال: فإن فاتهم الوقت، أي: فات الذين انعقدت بهم الجمعة الوقت وهم في الصلاة- أتموها ظهراً. هذا الفصل ينظم حكمين: أحدهما: أن الجمعة فائتة في هذه الحالة، سواء كان قد مضى من الصلاة ركعة، أو أقل منها، أو أكثر حتى لم يبق إلا تسليمة الإمام. ووجهه عند بقاء الأكثر الإجماع، وعند بقاء ما دونه: أنه خرج وقتها قبل الفراغ من فعلها؛ ففاتت كما إذا كان الماضي أقل من الباقي. ولأن ما كان شرطاً في الركعة الأولى من صلاة الإمام، وجب أن يكون شرطاً

في جميع صلاته، أصله: الطهارة، وستر العورة. فإن قيل: قد قال- عليه السلام-: ["من أدرك من الصَّلاة ركعةً فقد أدركها". وقال- عليه السلام]-: "من أدرك ركعةً من صلاة الجمعة فليضف إليها أخرى وقد تمَّت صلاته". قلنا: هما محمولان على المسبوق، على أن بعض أصحابنا قال- إذا فرغ الإمام من الجمعة، وأدرك معه مسبوقٌ ركعة تامة، وخرج الوقت قبل أن يتمَّ المسبوق صلاته-: إن الحكم كما لو وقع ذلك للإمام ومن معه من ابتداء الصلاة، وهو الصحيح في "الرافعي". الثاني: أن الصلاة لا تبطل، بل يتمها ظهراً أربعاً. ووجهه: أنهما صلاتان يسقط فرض إحداهما بفعل الأخرى؛ فجاز أن يبني التام منهما على المقصور، أصله: إذا أحرم المسافر بالصلاة، ثم صار مقيماً قبل إتمامها. ولأن الوقت شرط كالعدد، وهي لا تبطل بنقص العدد؛ فكذلك لا تبطل بخروج الوقت، وهذا ما نص عليه، ولم يورد العراقيون غيره. وقال في "الإبانة": إنه الظاهر، لكن هل يحتاج إلى تجديد نية الظهر، أو لابد من نقلها ظهراً من حينئذ؟ فيه وجهان حكاهما صاحب "الفروع" و"العدة": أصحهما: الأول. ومقابله: مفرع على المشهور في [أن] الظهر لا تنعقد بنية الجمعة. قال الرافعي: أما إذا قلنا: إنها تنعقد بها- كما هو وجه ضعيف- فهاهنا أولى. وفيه نظر. وعلى كلا الوجهين يسرُّ بالقراءة من حينئذ، وقد حكي أبو علي في "شرح

التلخيص" عن بعض الأصحاب وجهاً: أن الصلاة تبطل بخروج الوقت كمذهب أبي حنيفة. والفرق بين ما نحن فيه والمسافر إذا نوى القصر ثم أقام- حيث له أن يكمل الصلاة قولاً واحداً، وليس عليه الاستئناف-: أن للمسافر في الابتداء أن يصليها أربعاً؛ فلهذا قلنا في الانتهاء: له ذلك، بخلاف ما نحن فيه؛ فإنه ليس له أن يوقع الصلاة أربعاً ابتداء عند جهله بخروج الوقت قبل التمام. والفرق بين ما نحن فيه وبين مسألة الانفضاض: أن الاحتراز عن خروج الوقت في أثناء الصلاة ممكن، بخلاف الانفضاض؛ فلذلك لم نحكم بالبطلان عند وجده. وسلك القاضي الحسين في ذلك طريقاً آخر، فقال: القول بعدم البطلان صحيح إذا قلنا: إن الجمعة ظهر مقصور، أما إذا قلنا: صلاة مستقلة بنفسها، فهل تنقلب نفلاً أو تبطل؟ يخرج على وجهين، أو يقال: له قول في الجديد: أن الجمعة ظهرٌ مقصور؛ لتنصيصه في هذا الموضع، وهذا منه جواب لسؤال مقدر، وهو أن كون الجمعة ظهراً مقصوراً هو قوله في القديم، ونصه على أنه يتمها ظهراً قاله في الجديد، فكيف يكون مبنيّاً عليه؟! فلذلك قال: "أو نقول: له قول في الجديد: أنها ظهر مقصور"؛ لنصه هنا. قال: أو نقول: يتمها ظهراً وإن قلنا: إنها صلاة مستقلة؛ لأنها والظهر فرضَا وقتٍ واحد وإن اختلفت التسمية، ولا كذلك أداء الظهر بنية الصبح. وقال بعد ذلك: إن أحداً من أصحابنا لم يقل بأنه إذا دخل وقت العصر في خلال الجمعة: إن الصلاة تبطل. وإن قلنا: إنها فرض آخر، وجب أن تبطل. وما قال به أحد من أصحابنا. فروع: الأول: إذا وقع سلام الإمام في الوقت، وسلام المأمومين بجملتهم خارج

الوقت، [أو سلم معه في الوقت] من لا يتم العدد به- قال الرافعي: فالصورة شبيهة بمسألة الانفضاض. ولو سلم معه في الوقت تمام العدد، حصل لهم الجمعة، وفيمن وقع صلاته خارج الوقت الخلاف السابق. الثاني: إذا تحقق في الوقت أنه لو شرع في الخطبتين والصلاة مع الاقتصار على ما يجزئ، خرج الوقت وهو في أثناء الصلاة؛ ففرضهم الظهر، ويفعله في الوقت، نص عليه في "الأم". الثالث: إذا شك بعد السلام هل وقع السلام في الوقت أو بعده، صحت الجمعة للكل. ولو حصل الشك قبل السالم، فهل يتمها جمعة أو ظهراً؟ فيه [قولان، وقيل:] وجهان، أصحهما: الأول، وهو ما حكاه الماوردي هنا، والقاضي الحسين في كتاب الصيام لا غير، وهو قول الأكثرين؛ كما قال الرافعي. وقال الإمام في كتاب الصيام: إن الصيدلاني حكاه عن النص وهو غريب، وقد ذكر صاحب "التلخيص" في مسائله التي استثناها في ترك اليقين بالشك هذه المسألة، ثم قال الإمام: والوجه عندي أنا إن قلنا: [إن] الجمعة صلاة على حيالها، فيتجه ما ذكره الصيدلاني. وإن جعلناها ظهراً مقصوراً، فالأصل الظهر، فمهما طرأ الشك لم تصح الجمعة؛ رجوعاً إلى الأصل. الرابع: إذا وقع الشك في بقاء الوقت قبل عقدها، قال في "الإشراف": ففي جواز التجميع خلافٌ، أصله: أن الجمعة فريضة على حيالها [أو ظهر مقصور؟ إن قلنا: فريضة على حيالها]، جازت، وإن قلنا: ظهر مقصور، فلا. والذي حكاه الإمام في كتاب الصيام في هذه الصورة: أن الجمعة لا تنعقد، وأن الصيدلاني قال: إنما كان كذلك؛ لأن الوقت يخرج وهم في أثناء الصلاة غالباً.

قال: والخامس: ألا يكون قبلها ولا معها جمعة أخرى، أي: في البلد. قال الشافعي: لأنه لو جاز فعلها في مسجدين، لجاز في مسجد العشائر، وذلك لا يجوز إجماعاً؛ فكذا هنا، والعشيرة: المحلَّة، والعشائر: جماعة. ولأن القدوة في هذا بالرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، ولم ينقل أنهم جمَّعوا في أكثر من موضع واحد في المدينة. ولأن الجمعة إنما سميت؛ لاجتماع الجماعات من الجوانب. قال الأصحاب: وقوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] يدل عليه؛ فإن الظاهر أنّ هذا أمر بالسعي إلى صلاة واحدة عند نداء واحد. ولا فرق في ذلك بين أن يقل الجمع في البلد أو يكثر. فإن قيل: قد دخل الشافعي- رحمه الله- بغداد، وصلى الجمعة في جامع المنصور، وكانت الجمعة تقام في الجانب الغربي في الرصافة، ولم ينكر ذلك ولا غيره؛ فدل على جواز إقامة جمعتين في البلد الكبير. قلنا: اختلف أصحابنا في جواب ذلك على أربعة أوجه: أحدها- قاله أبو الطيب بن سلمة-: أن ذلك إما جاز فيها؛ لأنها ذات جانبين يفصل بين كل منهما النهر الذي لا يخوضه غير السابح؛ فكلُّ جانبٍ بلد بنفسه، والشافعي إنما منع إقامة جمعتين في البلد إذا كان ذا جانب واحدي، وهذا منه يقتضي أن البلد إذا كان ذا جانبين- كبغداد- يجوز إقامة جمعة في كل جانب، وقد صرح به عنه القاضي أبو الطيب، وأنه لا يجوز أن يقام ببغداد أكثر من جمعتين، قال القاضي أبو الطيب وغيره: وما ذكره ليس بشيء، بل هما كالبلد الواحد؛ بدليل أنا أجمعنا على أن من سافر من أحد الجانبين لا يقصر حتى يفارق الجانب الآخر، لكن في الرافعي أن ابن كج نقل أنه ألزم هذه المسألة، فقال بها، وقال: يجوز القصر.

والثاني- حكاه أبو إسحاق عن بعض الأصحاب-: أن ذلك إنما جاز؛ لأنها كانت قرى متفاصلة، [فحدث العمارات الواصلة]؛ فاستمر الحكم، ومقتضاه: منع إقامة أكثر من جمعة واحدة في بلد أنشئ دفعة واحدة كبيراً، وجواز إقامة جمعة في كل ما كان قرية منفردة قبل اتصال العمارة كبغداد ونحوها. وقد حكي عن أبي حامد أنه [قالي: لو كان كذلك، لجاز القصر قبل مفارقة كلها لمن أراد السفر من بعضها، وهو لا يجوز. لكن لمن قال بذلك أن يلزم جواز القصر كما ألزمه ابن سلمة حيث أورد عليه مثل ذلك، ويؤيده أن الإمام حكى عن صاحب "التقريب": أنه قال: إذا جرينا على ما ذكره الأصحاب في هذا، فيحتمل أن يقال: لو جاوز هامٌّ بالسفر قريةً من تلك القرى إلى أخرى، والعمارة متصلة، ينبغي أن يترخص [ترخص] السفر؛ فإنه لم يثبت لها حكم الاتحاد، لكن يحتمل أن يقال: إذا اجتمعت البلاد، زال حكم التفرق منها، وصارت البقعة كأنها بنيت على الاتحاد. والثالث- حكاه أبو إسحاق عن بعض الأصحاب أيضاً؛ كما قال البندنيجي-: أنه إنما جاز ذلك ببغداد؛ لعسر الاجتماع في موضع واحد، فإذا وجد ذلك في غيره من البلاد، ولم يمكن اجتماعهم في موضع واحد لكبر البلد، جاز إقامتها في موضعين؛ لدفع المشقة وخفاء أفعال الإمام عن المأمومين. ولأنه لو منع ذلك، لأدّى إلى أن يجب التبكير إليها قبل الفجر؛ لبعد الجامع وأحد لا يقول هذا، والشافعي حيث منع من إقامة جمعتين في بلد، إنما منعه عند إمكان الاجتماع في موضع واحد من غير مشقة. وقد نسب القاضي أبو الطيب وغيره هذا القول إلى أبي إسحاق نفسه وابن سريج. وقال الماوردي: [إنه به أفتى] أبو إبراهيم المزني، وهو اختيار ابن كج، والحناطي، والروياني.

قال الرافعي: وعليه يدل قوله في "الوسيط". والرابع- قاله الشيخ أبو حامد-: أن مذهب الشافعي أنه لا يجوز إقامة جمعتين ببغداد أيضاً، وإنما ترك الكلام في هذا حين دخلها؛ لأنها مسألة خلاف؛ فإن أبا يوسف قال: إذا كان البلد ذا جانبين، ليس بينهما جسر، فلكلٍّ حكم نفسه. وكل ما ذكر من التأويل يخرَّج على مذهب الشافعي، وهذا الجواب قد ذكره القاضي أبو الطيب وابن الصباغ أيضاً. وعلى هذا قال الشيخ: فإن كان قبلها جمعة، فالجمعة هي الأولى؛ لأنها أقيمت بشرائطها، والثانية باطلة؛ لفقد شرطها؛ فيجب على من صلاها الظهر إن لم يتمكن من إدراك الأولى. ولفظ الشافعي: "فعليهم أن يستأنفوا الظهر، وليس كالمسافر ينوي القصر أربعاً؛ لأن أصل فرضه أربعٌ، ولو أتموا أربعاً لم يبن لي أن عليهم الإعادة؛ لأنه قد يحرم بالجمعة ثم يخرج الوقت؛ فيصليها ظهراً". قال الطبري: فقد حصل فيها قولان حكاهما الإمام- أيضاً- والذي حكاه البندنيجي عن نصّه الثاني فقط، وقال: إنه يستحب أن يستأنف الظهر أربعاً. [والرافعي] قال: إن الحكم في ذلك كما لو خرج الوقت وهم في صلاة الجمعة، وقد سبق. ثم هذا فيما إذا لم يكن الإمام مع الثانية، أما إذا كان معها، فسيأتي حكمه. ثم بماذا تعتبر القبليّة؟ فيه قولان حكاهما العراقيون: أحدهما: بالفراغ من الصلاة، وهو ما ذكره المزني في "جامعه". والصحيح- بالاتفاق-: بالإحرام. وعلى هذا: هل الاعتبار باستكمال تكبيرة الإحرام، أو بالشروع فيها؟ فيه وجهان: أصحهما في "الرافعي": الأول.

وحكى المراوزة مع الثاني في الأصل وجهاً بدلاً عن الأول: أن المعتبر الشروع في الخطبة، وبه يحصل في المسألة أربع مقالات. وقد أشار الإمام والقاضي الحسين إلى أنّ الخلاف الذي حكيناه عن المراوزة له التفات على أن الخطبتين بدل عن الركعتين أولاً؟ قال: وإن كان معها جمعة أخرى، [ولم تُعلم السابقة] منهما، ولم تنفرد إحداهما عن الأخرى بإمام- فهما باطلتان. هذا الفصل ينظم صورتين كل منهما مصورة بما إذا لم تنفرد إحداهما [بإمام: فالأولى: إذا وقعت الجمعتان معاً فهما باطلتان اتفاقاً؛ إذ لا مزيّة لإحداهما] على الأخرى؛ فيستأنف جمعة أخرى إن اتسع الوقت، وإلا صلوا الظهر، ويقع النظر في هذه الحالة في أن كل طائفة تستأنف الظهر، أو تبني على ما مضى؟ ولا يبعد تخريجه على ما سبق. الثانية: إذا وقعت إحداهما بعد الأخرى، ولم تعلم السابقة منهما- فقد قال: إنهما باطلتان أيضاً؛ لما ذكرناه. فعلى هذا يجب على كل من الطائفتين إعادة الصلاة كما نص عليه. وقال المزني: لا إعادة عليهما؛ لحصول الجمعة لهما في الظاهر؛ فلم يجز إبطالها بالشك الطارئ. قال الماوردي: وهذا خطأ؛ لأن اليقين ثبوت الصلاة في الذمة، والشك طارئ في سقوطها عن الذمة؛ فوجب أن يكون الفرض باقياً لا يسقط إلا بيقين. وعلى هذا: فما الصلاة التي يجب إعادتها؟ حاصل ما قيل فيه طريقان:

إحداهما- قالها البندنيجي-: أنها الظهر، ولا يجب إعادة الجمعة بلا خلاف، لكن هل يجوز للطائفتين إقامتها؟ فيه قولان: قال في "الأم": يجوز. وقال الربيع: فيه قول آخر: أنها لا تقام؛ لأنا وإن جهلنا عين السابقة فما جهلنا أن فيهما سابقة؛ فلا تقام بعدها جمعة. والثانية- حكاها الماوردي وأبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم-: أن الواجب إعادة الظهر أو الجمعة؟ فيه قولان، نص عليهما في "الأم"؛ كما قال الماوردي. وادّعى الإمام والغزالي: أن الأظهر إقامة الجمعة، وهو ما يقتضيه كلام الشيخ. وإذا قلنا بمقابله، كان معنى قول الشيخ: "فهما باطلتان" بالنسبة إلى الإجزاء، وإلا فالأولى صحيحة؛ ولذلك منعت انعقاد جمعة أخرى. ولو وقعت إحداهما بعد الأخرى، وعلمنا السابقة ثم أشكلت، [فالذي] قاله البندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ: أن الحكم كما لو [لم] نعلم ذلك ابتداء، ووقعت إحداهما بعد الأخرى، ومقتضاه: مجيء الطريقين. وقال الإمام: الذي صار إليه الأصحاب: أنهم لا يقيمون الجمعة، ويجب على جميعهم صلاة الظهر. وذكر شيخي في بعض دروسه أن من أصحابنا من ألحق هذه الصورة بما إذا تقدمت جمعة قطعاً، ولم تتعين المتقدمة. وهذا وإن كان متجهاً في المعنى، فهو بعيد في الحكاية، والقاضي الحسين حكى الطريقين عن القفال، فقال: إنه أجاب في كرَّة بمنع إقامة الجمعة ثانياً، وقال في موضع آخر: إن محل القولين في إقامة الجمعة ثانياً إذا عرف عين السابقة ثم اشتبه الحال. وأما إذا لم تعرف، وتحقق السبق، فهو يترتب على هذه الصورة، وأولى بالبطلان، وبإعادة الجمعة. ولو وقعت الصلاتان، واحتمل أن تكون إحداهما وقعت بعد الأخرى أو وقعتا

معاً- فالذي أورده ابن الصباغ وأبو الطيب: أن الحكم كما لو وقعتا معاً، وهذا يوافقه قول الماوردي: إن عليهم إعادة الجمعة قولاً واحداً. وهو ما حكاه الإمام عن الأصحاب حيث قال: الذي قطع به الأئمة تنزيل هذا منزلة ما لو وقعتا معاً؛ فلا جمعة لواحد، ثم قال: والجمعتان إذا وقعتا معاً أمرناهم بإعادة الجمعة عند اتساع الوقت، ويسقط بها الفرض. والقول بمثل هذا هنا فيه إشكال؛ فإنا نجوز أن إحدى الجمعتين تقدمت على الأخرى، وإذا كان كذلك فلا يصح عقد جمعة أخرى، وإذا فرض ذلك فلا تحصل البراءة يقيناً، والذي يقتضيه الاحتياط في ذلك أن يقيموا جمعة ثم يصلوا [من] عند آخرهم الظهر؛ فيخرجون عما لزمهم قطعاً، هذا حكم القياس في طلب اليقين في الخروج عما يلزم، لكن الذي ذكره الأئمة: أنهم إذا أقاموا الجمعة مرة أخرى- والصورة كما ذكرنا- كفتهم؛ كما لو وقعت الجمعتان معاً. قلت: وهذا الذي ذكره الإمام من الاحتمال إنما يتم على قولنا بأ، الجمعة تقام عند تحقق سبق إحداهما، ولم تتميز عن الأخرى كما ادعى أنه الأظهر. أما إذا قلنا بأن الواجب إعادة الظهر- كما حكاه الربيع- فلا. وقد ادّعى البندنيجي أن الحكم في هذه الصورة كما إذا وقعت إحداهما بعد الأخرى، ولم يعرف عين السابقة في جميع ما ذكرناه. [وإن كان الإمام مع الثانية، ففيه قولان: أحدهما: أن الجمعة جمعة الإمام؛ لأن في تصحيح خلاف جمعته إفضاءً إلى فتح باب الافتيات عليه؛ إذ لا يؤمن أن تقوم كل شرذمة وتعقد جمعة في طرف البلد تبطل عليه جمعته. وعلى هذا: إذا كان الإمام مع إحدهما ووقعتا معاً، فالجمعة جمعة الإمام، والأخرى باطلة. والثاني: أن الجمعة هي السابقة؛ لأن حضور الإمام وإذنه في عقدها ليس بشرط في صحتها على المذهب، كما في الحج.

وعلى هذا: إذا وقعتا معاً، والإمام مع إحداهما بطلتا أيضاً. ويجري الخلاف فيما لو وقعت إحداهما بعد الأخرى، ولم تعلم السابقة منها، والإمام مع إحداهما. والمراد بالإمام الذي يرجح به: الإمام الراتب المنصوب من جهة الإمام الأعظم، والإمام الأعظم لو كان مع إحداهما كان أولى بالترجيح. ولو أقيمت الجمعتان بإمامين من جهة الإمام فهو كما لو لم يكن الإمام مع واحدة منها]. قال: والسادس: أن يتقدمها خطبتان. هذا الفصل ينظم حكمين: أحدهما: أن من شرطها: الخطبتان، ودليله: قوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، فأمر بالسعي إلى ذكر الله، وذلك يتضمن الخطبة والصلاة؛ فاقتضى أن يكون الأمر بهما واجباً. أو نقول: الذكر في الآية مجمل يفتقر إلى بيان، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بفعله، فخطب خطبتين، وصلى ركعتين، وأيّده بقوله: "صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي"، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده أقاموها إلا بخطبتين، ولو جاز بغيرهما لفعل مرة؛ لبيان الجواز. وقد روي عن عمر وغيره- رضي الله عنهم- أن الصلاة إنما قصرت للخطبة. والخطبة- بضم الخاء-: الكلام المؤلف المتضمن وعظاً وإبلاغاً، وخطبة المرأة- وهي طلب نكاحها-: بالكسر. والثاني: أن من شرط الاعتداد بهما وقوعهما قبل الصلاة، خلافاً للحسن البصري فقط.

ووجهه- قبل إجماع من قبله ومن بعده- من الكتاب: قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10]، فأباح الانتشار بعد انقضاء الصلاة، وقد ثبت أن الخطبتين شرطان فيها، ولو كانتا بعد الصلاة، لما جاز الانتشار بعد الصلاة؛ فتعين أن تكونا قبلها، وعلى ذلك جرى فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وفرق الأصحاب بين الخطبتين في الجمعة، وبين الخطبتين في العيد حيث كانتا فيه بعد الصلاة، وكذا سائر الخطب- بفرقين: أحدهما: أن خطبة الجمعة واجبة؛ فقدمت؛ ليجلس الناس لسماعها قبل الصلاة؛ فلا ينتشروا قبل ذلك، وخطبة العيد ونحوها غير واجبة، فإذا انتشر الناس عنها، لم يقدح فيها. والثاني: أن الجمعة لا تؤدي إلا في جماعة مرة واحدة، ولا تقضي؛ فقدمت الخطبة عليها؛ ليمتد الوقت، ويلحق الناس الصلاة، وصلاة العيد تؤدي من غير جماعة. وكما يشترط وقوعهما قبل الصلاة يشترط وقوعهما بعد الزوال أيضاً؛ لأنه- عليه السلام- كان يخطب يوم الجمعة بعد الزوال، ولو جاز التقديم لقدمهما صلى الله عليه وسلم؛ تخفيفاً على المبكرين، وإيقاعاً للصلاة في أوّل الوقت. قال: ومن شرطهما الطهارة، أي: عن الحدث والخبث المشترطين في الصلاة، والستارة، [أي:] المشترطة في الصلاة في أحد القولين. هذا الفصل ينظم حكمين: أحدهما: الطهارة من الحدث والخبث هل شرط فيهما أو لا؟ وقد حُكي فيها قولان: أحدهما: نعم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب، ويصلي من غير فاصل؛ فعلم أنه كان يخطب على طهارة، وإذا كان كذلك، وجب إتباعه؛ لما تقدم من التقرير؛ وهذا ما نص عليه في "الأم".

ومقابله: أن ذلك ليس بشرط كما لا يشترط فيهما استقبال القبلة. ولأنهما ذكر يتقدم الصلاة؛ فلم يشترط فيهما الطهارة؛ كالأذان. وهذا ما نص عليه في القديم. قال في "الوسيط": وهو الأقيس. وقد روى الإمام هذا الخلاف وجهين، وكذا القاضي الحسين، وبناهما على أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا؟ وهما قولان صرح بحكايتهما الإمام: فإن قلنا: إنهما بدل عن الركعتين، اشترطت، وإلا فلا، وهذه الطريقة هي المذكورة في الوسيط، وكلام العراقيين يرشد إليها. [و] قال الإمام: هذا البناء لا أرضاه مع القطع بأن الاستقبال ليس مشروطاً فيهما. والوجه أن يقال: هذا مبني على أن الموالاة بين الخطبة والصلاة هل هي شرط أم لا؟ إن قلنا: نعم، فلابد أن يكون متطهراً؛ لأنه يحتاج بعد الخطبة إلى الطهارة؛ فتختل الموالاة. وإن قلنا: لا تشترط الموالاة، فلا تشترط الطهارة. وقد وافق بعض المتأخرين الإمام على تضعيف البناء الأوّل، وأيّد تضعيفه بأن الكلام جائز فيهما، ولو كانتا بدلاً عن الركعتين لم يجز. وهذا لا يصح؛ لأن القاضي الحسين قال: في جواز الكلام فيهما جوابان مبنيان على أنهما بدل أم لا؟ وقد أفهم كلام الشيخ: أنّه لا فرق في جريان القولين في الطهارة من الحدث بين الصغرى والكبرى، وبه صرّح في "التتمة"، لكن المذكور في "التهذيب": أنه لو خطب جنباً، لم تحتسب له قولاً واحداً؛ لأن القراءة شرط، ولا تحسب قراءة الجنب، قال الرافعي: وهذا أوضح. قلت: ستعرف أن المنقول عن "الإملاء" أن أركان الخطبة: الحمد [لله]، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوعظ. ولم يذكر القراءة، وكذلك لم يعدها صاحب "التلخيص" من أركان الخطبة، وبه قال أبو إسحاق.

وإذا كان كذلك فلعل الشافعي حيث قال بأن الطهارة ليست بشرط قال بأن القراءة ليست من الأركان، وحينئذ فلا إشكال. ثم على تقدير اشتراط القراءة وإجراء القولين في الطهارة مع ذلك، فما قاله البغوي ينبغي أن ينبني على أن قراءة الجنب [القرآن] هل يخرج بها عن نذر القراءة أم لا؟ وفيه خلاف حكاه القاضي الحسين في كتاب الاعتكاف: فإن قلنا: إنه يخرج بذلك عن نذره، فقد جعلنا قراءة الجنب معتدّاً بها؛ فكذا هنا، ولعل القائل بالاعتداد بها ثمَّ أخذه من القول بعدم اشتراط الطهارة في الخطبة. وإن قلنا: لا يعتد بقراءة الجنب- وهو الأصح- فينبغي أن ينبني ذلك على أن الموالاة شرط أم لا؟ فإن قلنا: إنها شرط، فلا وجه إلا ما قاله البغوي. وإن قلنا: [إن] الموالاة لا تشرط فيها؛ فيجيء القولان في اشتراط الطهارة [فيما عدا القراءة، وتشترط في القراءة قولاً واحداً. وهذا إذا قلنا: إن القولين في الطهارة] ليسا مبنيين على أن الموالاة تشترط أم لا؟ أما إذا قلنا: إنهما مبنيان [على ذلك] فلا يجيء على القول باشتراط الموالاة إلا ما قاله البغوي، وعلى عدم اشتراطها إلا الجواز فيما عدا القراءة، والوجوب في القراءة. وقد أفهم كلام الماوردي أن القول القديم في عدم الاشتراط إنما هو في الحدث الأصغر؛ كما قاله البغوي؛ لأنه قال: فأما الطهارة للخطبة فمأمور بها، فإن خطب من غير طهارة، فقد أساء، وفي إجزائها قولان: أحدهما- وهو قوله في القديم: تجزئه لأنه قال في القديم: "وإذا أحدث الإمام على المنبر، أحببت أن ينزل، ويتطهر، ويعود؛ ليبني على خطبته، وإن لم ينزل، ومضى على خطبته، فقد أساء، وأجزأه".

وفي "الروضة": أن الصحيح- أو الصواب- قول صاحب "التتمة"، وبه جزم في "المحرّر"، وأيد ذلك بأن أبا حامد والماوردي وآخرين قالوا: لو بان لهم بعد فراغ الجمعة: أن إمامها كان جنباً أجزأتهم، ونقله أبو حامد والأصحاب عن نصه في "الأم"، ولا شاهد له في ذلك؛ لأن الكلام في اشتراط الطهارة فيهما مع العلم لا مع الجهل، [وإلا فكون] الإمام متطهراً شرطٌ في صحة الصلاة بلا خلاف، ومع ذلك لو بان محدثاً لا إعادة عليهم، والله تعالى أعلم. والثاني: أن الستارة: هل هي شرط [فيهما أم] لا؟ وقد حكى الشيخ فيها قولين، ولم أر أحداً من الأصحاب حكاهما قولين، بل وجهين. والقاضي الحسين بناهما على أنهما بدل عن الركعتين أم لا؟ والإمام لما رأى ضعف هذا البناء وجه الاشتراط بذم الخطيب، وما فيه من هتك الانكشاف لو لم يستتر، مع العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلا مستتراً، وقال "صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي". والوجه الآخر يوجه بما وجهنا به مثله في الطهارة. والستارة: بكسر السين، وهي السترة، وتقديره: لبس الستارة، فحذف المضاف، ولو قال: الستر، كان أوضح وأخصر. فرع: على قولنا باشتراط الطهارة، فسبقه الحدث في الخطبة، فهل يبني غيره عليها إذا جوزنا الاستخلاف في الصلاة؟ فيه وجهان في "الشامل" وغيره، وهما في "تعليق" القاضي الحسين في أثناء فصل من الباب، ومبنيان على أن الخطبتين بدل عن الركعتين أو لا؟ وهما جاريان كما حكاه الإمام والقاضي الحسين- أيضاً- فيما لو أحدث بعد الفراغ من الخطبة، وقبل الشروع في الصلاة: هل يجوز أن يستخلف من يصلي أم لا؟ وان شيخه مال إلى المنع وإن كان يجوز الاستخلاف في نفس صلاة الجمعة؛ لأن الجمعة لما

انعقدت فقد اشتمل عقدها على الإمام الأول، والمستخلف بدله، والنظر إلى اتحاد العقد، وإذا فرض التعدد في الخطبة والمصلي، فقد انقطع شرط الصلاة- وهو الخطبة- عن الصلاة؛ فلم يقم بهما واحد مع تميز أحدهما عن الثاني. والذي أورده ابن الصباغ وأبو الطيب والبندنيجي: الجواز، [حتى] قال البندنيجي: إنه لو خطب بهم واحد، وقبل أني حرم أحرم بهم من حضر الخطبة، صحت صلاتهم خلفه مع بقائه على الطهارة. وقيل: [إنه] يجوز أني ستخلف من يصلي بهم وإن لم يكن قد سمع الخطبة؛ حكاه القاضي الحسين [وكذا] الماوردي. وقال الروياني في "تلخيصه": إنه قول. والأصح اشتراط سماعه الخطبة. ولو تطهر الأول وعاد فيما إذا كان حدثه في أثناء الخطبة، فهل يبني؟ نظر: إن طال الفصل فلا، بل يستأنف الخطبة إن شرطنا الموالاة، وإن لم نشرط الموالاة، ولم يطل الفصل- فوجهان: أظهرهما: الاستئناف- أيضاً- لأنها عبادة واحدة؛ فلا تؤدي بطهارتين كالصلاة؛ كذا قاله الرافعي تبعاً للغزالي، وهو منهما بناءً على [أن] اشتراط الطهارة في الخطبتين ليس مبنيّاً على اشتراط [الموالاة، ومن بناه على ذلك لا يحتاج إلى أن يقول: [إن شرطنا] الموالاة بطلت. ولا يقال: إن القولين في اشتراط] الطهارة إنما بنيا على القولين في أن الموالاة بين الخطبة والصلاة: هل هي شرط أم لا؟ لا على أن الموالاة بين آخر الخطبة هل هي شرط أم [لا]؟ لأن من اشترطها بين الخطبة والصلاة، اشترطها في آخر الخطبة من طريق الأولى، والله أعلم. قال: والقيام، أي: شرط، بلا خلاف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده لم يخطبهما إلا

قائماً، قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة: 11]. وقد روى مسلم أن الترك كان والنبي صلى الله عليه وسلم [قائم] يخطب. قال الشافعي: ولم أعلم مخالفاً من أهل العلم: أنهم انفضوا عنه صلى الله عليه وسلم في حال قيامه في الخطبة، وإذا كان كذلك، وجب إتباعه؛ لما تقدم من التقرير. ولأنه ذكر يختص بالصلاة، ليس من شرطه القعود، فكان من شرطه القيام؛ كالقراءة، والتكبير. وقولنا: "ليس من شرطه القعود" احترزنا به عن التشهد. وهذا هو المشهور، ولم يورد العراقيون غيره، وحكى القاضي الحسين فيه وجهاً آخر: أنه غير واجب فيهما؛ بناءً على أن الخطبتين غير بدل عن الركعتين، وقد حكاه القاضي ابن كج أيضاً، وحكاه بعضهم قولاً معزيّاً إلى "حلية" الروياني. وعلى الأول: لو عجز عن القيام، جاز أن يخطب قاعداً؛ كما في الصلاة، والأولى له أن يستنيب، وإن عجز عن القعود، خطب مضطجعاً، ويجوز للناس الاقتداء به في حالة قعوده واضطجاعه، سواء صرح لهم بأنه عاجز عن ذلك أو سكت عنه؛ فإن الظاهر [أنه] إنما يفعل ذلك لعجز، فإن بان أنه كان قادراً، فهو كما لو بان جنباً. قال: والقعود بينهما، أي: شرط- أيضاً- بلا خلاف؛ لأنه [يحصل به التمييز] بين الخطبتين. ولأن الباب باب إتباع، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، روى جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم، فيخطب. قال: فمن نبَّأك أنه كان

يخطب جالساً، فقد كذب؛ فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة. أخرجه مسلم. ورواية أبي داود عنه: [أنه] كان يخطب قائماً، ثم يقعد قعدةً، فلا يتكلم. وساق الحديث. قال الأصحاب: ويكون جلوسه بقدر قراءة سورة الإخلاص. حكاه البندنيجي، وعزاه الإمام والقاضي الحسين إلى نصه في "الكبير"، وهذا أكمله. وأقله- كما قال الإمام-: أن يقعد مطمئناً؛ كما في الجلوس بين السجدتين. وفي "الرافعي": أنّ الروياني حكى في "البحر" أنه يجب أن يكون جلوسه بقدر قراءة سورة الإخلاص، ولا يجوز أقل من ذلك، ونسبه إلى النص. وقد حكى ابن كج عن رواية ابن القطان عن بعض الأصحاب: أنها لا تجب، وأنه يكفي الفصل بينهما بسكتة خفيفة وهو قائم. [وفي "زوائد" العمراني، في باب صلاة العيد: أن صاحب "الفروع" ذكر: إذا خطب للعيد قائماً جلس بين الخطبتين؛ على معنى السنة، وقيل: الجلسة بعينها ليست بمعتبرة في شيء من الخطب، وإنما المعتبر حصول الفصل، سواء كان بجلسة أو بسكتة أو كلام من غير ما هو فيه، والمشهور ثمَّ] ما ذكره الشيخ. نعم، يكفي السكوت فاصلاً في حال خطبته قاعداً؛ للعجز عن القيام، وهل يجب ذلك أو هو مستحب؟ فيه وجهان: أصحهما: الأول. والذي أورده القاضي أبو الطيب: الثاني لا غير. فإن قيل: لم عددتم [القيام والقعود] هنا من الشروط، وهما في الصلاة

يعدَّان من الأركان. قلنا: قال الإمام: الأمر فيهما قريب، ولا حجر على من يعدُّهما من الأركان كما في الصلاة، ولا على من يعدهما من الشروط في الصلاة أيضاً. أو نقول: المقصود ما يقع فيهما، وهما محلَّان. ويجوز الفرق بأن الغرض من الخطبة: الوعظ، وهو أمر معقول، ولا يتضح في الصلاة أمر معقول، فجعل القيام [ثم] بمثابة ما فيه، وهاهنا عدّ شرطاً ومحلّاً لما هو المقصود. وقال بعض المتأخرين: الفرق: أن المطلوب بالصلاة الخدمة بحالتيه اللتين يلابس فيهما شئونه ويقضي مآربه وهما القيام والقعود، فلا جرم عدا ركنين؛ لكون المقصود بهما التعظيم، بخلافهما في الخطبة؛ فإن مقصودها الموعظة، والقيام فيها لا يعد وعظاً، ولا له مدخل فيه، والقعود مقصود بالفصل؛ فكان بالشروط أشبه. قال: والعدد الذي تنعقد به الجمعة؛ لأنه قد جعل شرطاً في صحة الجمعة؛ فكان من شرطهما حضور العدد فيهما: كتكبيرة الإحرام، وإذا ثبت أن العدد [شرط فيهما]، فلو انفض القوم بجملتهم في أثنائهما، أو بعضهم بحيث نقص العدد عن الأربعين- فالذكر المأتي به في حال غيبتهم غير معتد به، بلا خلاف. قال القاضي الحسين: اللهم إلا أن تبدر منه لفظة أو لفظتان. والفرق بين الخطبة إذا انفضوا فيها، وبين الصلاة إذا انفضوا فيها حيث لا يضر ذلك على رأي: أن كل مصل يصلي لنفسه؛ فجاز أن يسامح في نقصان العدد في الصلاة، وفي الخطبة الخطيب لا يخطب لنفسه، وإنما الغرض إسماع الناس وتذكيرهم، فما جرى ولا مستمع أو مع نقصان عدد المستمع- فات فيه مقصود الخطبة؛ فلم يحتمل ذلك.

وإذا ثبت ذلك نظرت: فإن لم يعد المنفضون ولا غيرهم، امتنعت إقامة الجمعة. وإن عاد غيرهم، فقد قال في "التهذيب" و"التتمة": إنه لابد من استئناف الخطبة، طال الفصل أو لم يطل. وقال في "الوسيط": إنه إن عاد مكانهم آخرون، فالحكم كما لو عادوا بأنفسهم. [ولو عادوا بأنفسهم]، نظرت: فإن كان الفصل يسيراً، بنى على الخطبة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّم سليكاً الغطفاني في الخطبة، وكذلك كلم قبله أبا الحقيق في أثنائها- كما سنذكره- ثم بنى، ولم يجعل للفصل اليسير حكماً. وأيضاً: فالفصل اليسير كعدم الفصل؛ ألا ترى أنه لو سلم ناسياً، ثم تذكر، ولم يطل الفصل، جاز البناء؟! فكذلك يحتمل الفصل اليسير بين صلاتي الجمع. [وحد القرب بقدر ما بين صلاتي الجمع] كما قاله القاضي الحسين. وابن الصباغ جعل المرجع فيه إلى العرف. وإن عادوا بعد طول الفصل، فهل يبني أو يستأنف؟ فيه قولان جاريان فيما لو سكت قدر ذلك، والقولان مخرجان- كما قال الإمام؛ حكاية عن الأصحاب- على قولين في أن الموالاة في الخطبة هل تشترط أم لا؟ أحدهما- وهو ما قال البندنيجي: إنه القديم-: [لا]؛ لأن الغرض الوعظ والذكر، وذلك حاصل مع تفريق الكلمات. والثاني- وهو ما قال البندنيجي: إنه نص عليه في "الأم"، وهو الجديد؛ كما قال غيره-: نعم؛ لأن للولاء وقعاً في استمالة القلوب، ولأن الأوّلين خطبوا على الولاء؛ فيجب إتباعهم، وهذا هو الأصح بالاتفاق، وبه جزم الماوردي، وقال: إن غرض الخطبة باقٍ، وأنه لا يختلف المذهب في ذلك.

وقد بنى المتولي وآخرون الخلاف في المسألة على أن الخطبتين [بدل عن] الركعتين أو لا؟ إن قلنا: نعم، وجب الاستئناف، وإلا فلا. وقال الفوراني: إنهما مبنيان على المولاة في الوضوء. وقال في "الوسيط":إنهما يقربان من [قولي] الموالاة في الوضوء. ولم يبنهما عليهما، لكن ظاهر المذهب ثمَّ: أنها لا تجب، وهنا: أنها تجب، ويدل على الفرق بين البابين: أن الفصل بالعذر ثمَّ لا يقدح على أظهر الطريقين، وهنا لا فرق بين أن تفوت الموالاة بعذر أو بغير عذر؛ كما أبداه الإمام احتمالاً لنفسه، فقال: الذي أراه ذلك، ولولا ذلك لما ضر الفصل الطويل هاهنا؛ لأن سببه عذر الانفضاض. وجعل الإمام الفرق بين ما ادعاه هنا وبين الوضوء: أن الطهارة غير معقولة المعنى، ولا يختل بترك الموالاة فيها غرض، ولكن من حيث إن الطهارة عهدت متوالية كما عهدت مرتبة، اشترطناه في قول [فيها]، فإذا فرض عذر لم يمتنع أن يعذر صاحب الواقعة. على أنه قد ورد على حسب ذلك أثر عن [ابن] عمر، رضي الله عنه. وأما اشتراط الموالاة في الأذان والخطبة، فإنه متعلق بمعنى معقول، فإذا اختل ذلك المعنى المعتبر، لم يظهر فرق بين المعذور وغيره. ولو انفضوا بعد الفراغ من الخطبة، نظر: فإن لم يعودوا، وحضر غيرهم، فليس له إقامة الجمعة بهم من غير إعادة الخطبة، بلا خلاف. قال القاضي الحسين: لأن من شرط الجمعة أن تنعقد جمعة بأولئك الذين سمعوا الخطبة؛ لأن الصلاة والخطبة في معنى واحد [و] كالشيء الواحد. وإن عادوا بأنفسهم، نظرت: فإن عادوا قبل طول الفصل، صلى الجمعة بتلك الخطبة؛ لأن الخطبة والصلاة بمنزلة صلاتي الجمع، والفصل بينهما في يسير لا يقطع الجمع. وإن عادوا بعد طول الفصل، ففي وجوب الجمعة- والحالة هذه- خلافٌ

مأخذه: أن الموالاة: هل هي شرط بين الخطبتين والصلاة أم لا؟ وفيها وجهان أو قولان، أصلهما: أن المزني نقل أن الشافعي قال: "فإن خطب بهم وهم أربعون، ثم انفضوا عنه، ثم رجعوا مكانهم صلى الجمعة، وإن لم يعودوا حتى تباعد أحببت أن يبتدئ خطبة، فإن لم يفعل صلاها بهم ظهراً" واختلف الأصحاب في ذلك: فذهب بعضهم إلى الأخذ بظاهر النص، وقال: إعادة الخطبة مستحبة، وهو بالخيار بين أن يخطب ويصلي الجمعة، أو لا يخطب ويصلي الظهر أربعاً؛ لأنه لا يأمن في القضاء ما لحقه في الأداء. وهذه الطريقة تنسب إلى أبي علي صاحب "الإفصاح". وقال البندنيجي: إنها أضعف الطرق. وقال في "الحاوي": إن بها قال أكثر أصحابنا، وهي أصح الطرق، وأولاها؛ لأن ظاهر كلام الشافعي عليها، وكذا قال ابن الصباغ: إنها ظاهر كلام الشافعي. قال الماوردي: ولا يجوز له عندها، ولا إذا خطب بهم وفي الوقت اتساع: أن يصلي الظهر؛ بل يصلي الجمعة. وذهب ابن سريج إلى أن الخطبة التي فعلها قد بطلت، ويجب عليه استئنافها والإتيان بالجمعة إذا بقي الوقت؛ لأن الخطبتين بمنزلة صلاتي الجمع أو ركعة من ركعتي الصلاة، ولو فصل بين ذلك فصلاً، بطل ما أتى به، ووجب الاستئناف، فكذا هنا. وقول المزني: إن الشافعي قال: "أحببت أن يبتدئ خطبة" لا نعرفه للشافعي، وقد أخطأ فيه. وبعضهم يروي عنه: أنه قال: ويجوز أن يكون خطأ من الناقل، وإلا فهو: "أوجبت عليه أن يبتدئ خطبة"، أو [يكون] قال: "أحببت"، وأراد: أوجبت؛ لأنه يقول: "أحب" ويريد الإيجاب، كما يقول: "أكره"، ويريد: المحرم، كما جاء في

قوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 38] أي: محرماً. وقوله: "فإن لم يفعل، صلى بهم ظهراً"، أراد به: إذا لم يرجعوا حتى ضاق الوقت، ولم يمكن فعل الجمعة فيما بقي منه، وهذه طريقة القفال- أيضاً- والأكثرين؛ كما قال الرافعي. وقال في "الحاوي": إنها وإن كان لها وجه، فالأولى أظهر، وقد أخطأ في تخطئة المزني؛ لأن الربيع والبويطي والزعفراني هكذا نقلوا عن الشافعي: أنه قال: "أحببت"، ولم ينقل عنه أحد: "أوجبت"؛ فعلم أن المزني لم يخطئ في قوله، وإنما أخطأ أبو العباس في تأويله. وذهب أبو إسحاق المروزي إلى أنّ الخطبة التي فعلها لا تبطل بطول الفصل، وأنّ إعادتها مستحبة له، ولكن عليه أن يصلي الجمعة، فإن صلاها ظهراً، أجزأه- كما قال الشافعي- قولاً واحداً؛ لأن للإمام إقامة الظهر مكان الجمعة، ولو ابتدأ الإمام هذا، فقد سقط الفرض قولاً واحداً، وليس هذا كمن صلى الظهر [في يوم الجمعة قبل صلاة الإمام الجمعة على أحد القولين؛ لأنه ترك الجمعة ليقيمها غيره، وصلى هو الظهر]، وها هنا ما يترك الجمعة ليقيمها غيره؛ فلهذا أجزأه. وهذا الطريق لم يذكره [الماوردي]، وذكر عوضه طريقاً آخر بعد تصوير مسألة الخلاف فيما إذا كان انفضاضهم لعارض من فتنة أو غيرها: إن عادوا والعذر باقٍ خطب استحباباً، وإن زال العذر خطب واجباً. قال: وهذا لا وجه له؛ لأنّ ما لم يكن عذراً في سقوط الخطبة ابتداء، لم يكن عذراً في سقوطها انتهاء. فإذا عرفت ذلك عرفت أنّ ابن سريج وأبا علي توافقا على أنّ الموالاة شرط، وهو الأصح، لكن ابن سريج يوجب استئناف الخطبة وعقد الجمعة، وأبو علي يستحبهما، وأن أبا إسحاق لا يشترط الموالاة، ويوجب عقد الجمعة؛ فصح ما قلناه: إن في وجوب عقد الجمعة والحالة هذه خلافاً، وهو وجهان: أحدهما- وهو قول ابن سريج وأبي إسحاق-: أنها تجب.

والثاني- وهو قول أبي علي صاحب "الإفصاح"-: أنها لا تجب، بل تستحب. وأن في اشتراط الموالاة بين الخطبتين والصلاة وجهين. وعبارة الغزالي في [حكاية ذلك]: أنهم إن انفضوا بعد الخطبة وقبل الصلاة، وطال الفصل ففي جواز بناء الصلاة قولان يعبر عنهما بأن الموالاة بين الخطبة والصلاة هل تشترط؟ [فإن قلنا: تشترط] فلابد من إعادة الخطبة، فإن لم يعد أثم المنفضُّون، وفي إثم الخطيب قولان. [و] قال القاضي الحسني: لا خلاف في أنه لا يصلي بهم الجمعة بتلك الخطبة، [ولا خلاف في أنه لو صلى بهم الظهر صح]، ولا خلاف في أنه لو أعاد الخطبة، وصلى بهم الجمعة جاز، والخلاف في أنه: هل يجب عليه أن يعيد الخطبة حتى لو لم يعد يأثم بذلك؟ وقال: إنّ الحكم فيما لو انفضوا بعد فراغ أركان الخطبة، وقبل استكمال سننها كالحكم فيما لو انفضوا بعد فراغ الجميع. قال: وفرضها: أن يحمد الله- تعالى- لما روى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة: يحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: "من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته: "الحمد لله، نحمده ونستعينه

ونستغفره، ونؤمن به ونتوكَّل عليه"، وقد قال: "صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي". وقوله: "يحمد الله" هو بفتح الياء والميم. ولا يقوم مقام لفظ "الحمد" سائر ألفاظ الثناء، قال الإمام: وهذا هو اللائق بقاعدة الشافعي في بناء الأمر على الإتباع. وفي بعض التصانيف- في ذكر أركان الخطبة- إطلاق القول باستحباب الثناء على الله، وهو مشعرٌ بأن الحمد لا يتعين، بل يقوم غيره مقامه، وهذا لا أعده من المذهب، ولا أعتد به.

وهل يقوم قوله: "الحمد للرحمن الرحيم" مقام قوله: "الحمد لله"؟ قال الرافعي: الذي يقتضيه كلام الغزالي: لا؛ وذلك مما لا بعد فيه؛ كما في كلمة التكبير، لكني لم أره مسطوراً. قال: ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، قيل في تفسيره: لا أذكر إلا وتذكر معي، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] وهذا أمر، وظاهره الوجوب. والمخالف لا يوجب الصلاة عليه في غير الجمعة؛ [فيجب أن يكون واجباً في الجمعة، ولأنها عبادة مفتقرة إلى ذكر الله تعالى] فافتقرت إلى ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم كالأذان والصلاة. وقد تعجب بعض المتأخرين من أصحابنا من كون الشافعي أوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة، والخطبة التي نقلت عنه صلى الله عليه وسلم ليس فيها صلاة عليه، والآية وإن دلت على الصلاة عليه، تعين حملها على الاستحباب؛ لترك النبي صلى الله عليه وسلم لها. والمنقول الأول. ولا يقوم مقام الصلاة ذكره بالرسالة والنبوة، وسائر وجوه المناقب التي خصه الله تعالى بها، وهذا مما اتفقت عليه الطرق. قال الإمام: ويشهد لتعيُّنها تعيُّنها في الصلاة بعد التشهد. وحكى عن العراقيين أنهم ذكروا ذكر الله تعالى وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرضوا للحمد ولا للصلاة. قال: وظني أنهم أرادوا الحمد، ولكن لفظه ما نقلته. قلت: والأمر كما ظنه؛ لأن البندنيجي وأبا الطيب وغيرهما صرحوا به، ولا يتعين ذكر "الرسول"، ويكفيه أن يقول: الهم صل على محمد، أو على النبي، كما نص عليه في "المختصر". قال: ويوصي بتقوى الله تعالى؛ لما روى مسلم عن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يجلس بينهما: يحمد الله، ويقرأ آية،

ويذكِّر الناس. وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه [حتى] كأنه منذر جيش يقول: صبّحكم ومسَّاكم، ويقول: "بعثت أنا والسَّاعة كهاتين" ويقرن بين أصابعه: السَّبابة والوسطى، ويقول: "أمَّا بعد، فإنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمَّدٍ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالةٌ". وروي عنه- عليه السلام- أنه قال: في خطبةٍ: "الدُّنيا عرضٌ حاضرٌ يأكل فيها البرُّ والفاجر، والآخرة وعدٌ صادقٌ يحكم فيها ملكٌ قادرٌ، ولكلِّ واحدةٍ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدُّنيا". ووجه الدلالة من ذلك قد سبق تقريره.

قال الفوراني: وهذا الغرض هو مقصود الخطبة، والحمد والصلاة وإن وجبا وفاقاً [فهما] في حكم الذريعة إليه. قال الإمام: ولا أصل لهذا الكلام ولا فائدة فيه، مع إيجاب الجميع، ولا يتعين للوصية ذكرٌ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نوعها لينبه على عدم تعين نوع منها، وهل يتعين لفظ الوصية؟ فيه وجهان، أصحهما في "تعليق" القاضي الحسين: لا، وهو المذكور في "الإبانة". والفرق بين ذلك وبين كلمات التشهد: أن مقصود الخطبة الاتِّعاظ، فلو التزم فيها شيئاً واحداً، أنس الناس به؛ لتكرره على مسامعهم، وذلك يوشك ألا يحصل فائدة الوعظ؛ فإن النفوس مجبولة على قلة الاكتراث بالمعادات، لكن اتفق الأصحاب على أن الخطيب لو لزم شيئاً واحداً، أجزأه؛ لأنه قد يحضره من لم يسمع ذلك، ويغيب من سمعه؛ فيحصل المقصود. ثم الوصية بتقوى الله تعالى؛ لجمعها الأمر بإتيان المأمورات، واجتناب المحرمات، وفي أحدهما إشعار بالثاني، فيكتفي بأحدهما؛ كذا قاله الإمام. وفي "الوسيط": أن الشافعي قال ذلك، واستشهد به على أن فرض ذلك يسقط بقوله: أطيعوا الله. وقال الإمام: إن كلام الأئمة مؤذنٌ بأنه لو اقتصر على قوله: أطيعوا الله، واجتنبوا معاصيه- كفى؛ لصدق الاسم. ولكني لم أر هذا القول من أبواب المواعظ التي تنبِّه الغافلين، وتستعطف القلوب الأبية العصية إلى مسالك البر والتقوى، وإن كان المتبع مسالك الأوّلين في العُصُر الخالية فالغرض فضل مجموع نهر، ويقدر واقعاً من السامعين موقعاً. وقد بالغ الشافعي في الإتباع حتى أوجب الجلوس بين الخطبتين، وليس يليق بمذهبه أن يجعل قول الخطيب: الحمد لله، والصلاة على رسول الله، أطيعوا الله- خطبة تامة. وقد قال في "الوسيط": إن ذلك يكفي فيها. ثم قال الإمام: وقد ذكر الشافعي لفظ الوعظ في "الإملاء"، وفيه إشعار بما

ذكرته، ثم الذي يظهر لي أنه لا يكفي في هذا الفرض الاقتصار على ذكر التحذير والاغترار بالدنيا؛ فإن المنكرة للبعث يتواصون به، وكذلك ذكر الموت وما فيه من الفظاعة والألم. نعم، لو اشتملت الوصية على الأمر بالتأهب والاستعداد له، فهو كاف. وذكر الأمر بالإحسان المطلق من غير تعرض لذكر الله تعالى ما أراه مجزئاً؛ وذلك مثل أن يقول: "أحسنوا". قال: فيهما، أي: يفعل جميع ذلك فيهما؛ لظاهر الأدلة. قال: ويقرأ في الأولى شيئاً من القرآن؛ تأسياً به صلى الله عليه وسلم فإن الأثرم روى عن الشعبي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة، استقبل الناس، وقال: السَّلام عليكم"، ويحمد الله، ويثني عليه، ويقرأ سورة، ثم يجلس، ثم يقوم، فيخطب، ثم ينزل وكان أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما- يفعلانه. والسورة لا تجب؛ لأنه اقتصر على قراءة آية كما دل عليه خبر جابر بن سمرة السابق؛ فتعين أن الواجب شيء من القرآن. وهذا الذي ذكره الشيخ في القراءة هو نصه في "المختصر"؛ فإنه قال فيه: وأقل ما يقع عليه اسم خطبة منهما: أن يحمد الله، ويصلي على محمد النبي صلى الله عليه وسلم ويوصي بتقوى الله، [ويقرأ آية في الأولى]، ويدعو في الآخرة؛ لأن معقولاً أن الخطبة تجمع بعض الكلام من وجه إلى بعض. وهذا أوجه. وقال الروياني في "شرح التلخيص": إن تعين القراءة في الأولى هو الذي نص عليه في "الأم". وهذا الوجه لم يورد القاضي أبو الطيب غيره، وقد قال بعضهم:

إنه حكاه في "الإفصاح"، وهو غريب. وقيل: تجب القراءة فيهما كالتحميد، ولأن الخطبتين قامتا مقام الركعتين، وقد ثبت أن القراءة تجب في الركعتين؛ فكذلك في الخطبتين، وهذا الوجه مشهور في طريق العراقيين، وهو خلاف النص؛ كما قال الروياني في "شرح التلخيص". والذي ادّعى البندنيجي وابن الصباغ أنه المنصوص: أن القراءة تجب في واحدة منهما، إما الأولى أو الثانية، وهو ما ادعى الإمام: أنه الظاهر. وحكى الروياني عن بعض الأصحاب القطع به، وقد قال في "الحاوي": إنه نص عليه في "المبسوط"، فقال: ولو قرأ في الأولى، أو قرأ في الثانية دون الأولى، أو قرأ بين ظهراني ذلك مرة واحدة، أجزأه. ولا خلاف [في] أن الأولى الإتيان بها في الأولى؛ لأن الذي نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في الخطبة الأولى حسب، فإن فاتته في الأولى، قرأها في الثانية، وقد حكاه البندنيجي عن نصه في "الأم"، واستحب الأصحاب له أن يقرأ سورة "ق" في الأولى؛ لأن بنت حارثة قالت: ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس. أخرجه مسلم. فإن لم يقرأ ذلك، فيستحب أن يقرأ آية هي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب: 70] قاله البندنيجي. وقد أطلق الأصحاب القول بالاكتفاء بآية. وقال الغزالي: يحتمل ألا تجزئ إذا لم تكن مستقلة بالإفهام: كقوله: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21]. ولفظ الإمام في ذلك: "أنه لا شك في أنها لا تكفي إذا لم تستقل بالإفهام".

ولو قرأ شطر آية طويلة، فليست أبعد كفاية ذلك، ولعل الأقرب أن يقرأ ما لا يجري على نظمه ذكر من الأذكار، وهو المقدار الذي يحرم قراءته على الجنب. نعم، لو قرأ ذلك في أثناء قصة، وهو لا يستقل بإفادة معنى على حياله، فهذا مما أتردد فيه. وقد عرفت مما ذكره الشيخ: أن الحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والوصية بتقوى الله- تعالى- فرض في كل خطبة منهما والقراءة فرض، لكن في الأولى فقط أو فيهما؟ فيه خلاف. وأفهم كلامه: أنه لا فرض غير ذلك، ووراء ما ذكره وجوه: أحدها: أن القراءة لا تجب في الخطبتين، ولا في واحدة منهما؛ قاله أبو إسحاق، وعليه يدل ما حكاه الشيخ أبو علي في "شرح التلخيص" عن "الإملاء": أن أركان الخطبة: الحمد لله، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوعظ. ولم يذكر القراءة؛ وكذلك لم يعدَّها في "التلخيص" من الفروض، ويؤيده- أيضاً- قوله في القديم: "أقل الخطبة كأقصر سورة في القرآن". الثاني: أن فرض القراءة واجب في واحدةٍ لا بعينها، كما تقدم. الثالث: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة في واحدة منهما، فإن أتى بها في الأولى أو الثانية أجزأه؛ حكاه الحناطي. الرابع: اشتراط النية فيما حكاه القاضي الحسين؛ بناءً على أن الخطبتين بدل عن الركعتين. وقال في باب صلاة الكسوف: إن قول الشافعي فيما إذا اجتمع الكسوف وصلاة الجمعة: "إنه يخطب للجمعة"- دليل على أن النية لخطبة الجمعة شرط. الخامس: أن الدعاء للمؤمنين والمؤمنات فرض في الثانية، لا يعتد بها دونه، وهو ظاهر نصه في "المختصر"؛ كما تقدم ذكره. وحكي الروياني في "شرح التلخيص" طريقة قاطعة به، ولم يورد الفوراني والقاضي الحسين غيرها.

قال الإمام: ولم أر من [ترك] عدَّه من الواجبات إلا صاحب "التلخيص"، ولا يحمل سكوته عنه على غفلة؛ فإن المقصود الأظهر من كتابه الحصر والعدد والاستثناء، وقد ظهر وفق قوله في "الإملاء"؛ فإنه عدّ الأركان ولم يذكر الدعاء، ولو تأمل الناظر مقصود الخطبة ألفاه راجعاً بعد ذكر الله وذكر رسوله إلى حمل الناس على مراشدهم بالموعظة في كل جمعة، وهذا ليس ما قاله بعض المصنفين. وأما الدعاء: فلا يبعد خروجه عن الأركان، ولكن هذا غريب. وهذا مجموع ما وقفت عليه مما قيل في ذلك. وقد أفهم ما حكيته من نص الشافعي في "المختصر": أنه لو اقتصر الخطيب على الإتيان بالقراءة في الخطبة، وقرأ محل كل ركن من الأركان [آية] مشتملة على المعنى المطلوب- لا يجزئه ذلك، وبه صرح الشيخ أبو محمد. وقال الإمام: إنه مقطوع به في المذهب؛ فإن ما جاء به لا يسمى خطبة. نعم، لو أوقع القراءة مقام ركن واحد: كما إذا أوقع التحميد آيةً، فليس يمتنع ذلك، وكذا لو أوقع الوعظ آية أو آيات مشتملة على مواعظ، وقد نص عليه الشيخ أبو محمد. قال الإمام: ولكن لا ينبغي أن تحسب القراءة وعظاً، ويعتد بها عن جهة القراءة أيضاً؛ فإن ذلك لا يليق بمذهبنا. وأبدى احتمالاً في اشترط إيقاع الوعظ ذكراً، لمأخذ لم أره قويّاً؛ فلذلك لم أذكره. واعلم أن بعض الأصحاب عدّ من أركان الخطبة رفع الصوت فيها. وقال آخرون: إن ذلك مستحب، [وعليه ظاهر نصه في "المختصر"، وليس ذلك باختلاف في المسألة، بل مراد من قال: إنه مستحب]، أن يبالغ فيه حتى يسمع كل من في المسجد إن أمكن، وإلا فقدر طاقته؛ لما تقدم أنه- عليه السلام- كان إذا خطب علا صوته، وقد صرح بذلك البندنيجي.

ومراد من قال: إنه ركن، الرفع بحيث يسمع أربعين، حتى لو خطب في نفسه، ولم يسمع أحداً لا يجزئ؛ وبذلك صرح القاضي الحسين [وغيره]، وهو الأصح. وحكي الروياني وغيره وجهاً آخر: أنها تجزئ، وهو ما يفهم من كلام الماوردي الذي سنذكره عند الكلام في الإنصات. والمشهور: الأول. نعم، اشتهر خلاف الأصحاب في أنه لو خطب بأربعين كلهم صمٌّ أو أحدهم، هل يجزئ أم لا؟ وقاسوا وجه عدم الإجزاء- وهو الصحيح- على ما لو تباعدوا عنه بحيث لا يبلغ صوته إليهم؛ فإنه لا يجزئ. ووجه الإجزاء على ما لو كانوا عرباً لا يفقهون معنى ما يقوله وهم يسمعون، والخطبة بالعربية؛ [فإن الظاهر أنه يجزئ، بخلاف ما لو كان الخطيب لا يعرفها، فإن الظاهر- كما قال القاضي الحسين- أنه لا يجزئ] وقال القاضي: إن الوجهين كالوجهين فيما لو كانوا بعيدين من الإمام: هل يجب عليهم الإنصات أم لا؟ فرع: هل تجوز الخطبة بالفارسية؟ فيه وجهان في "التتمة": أصحهما: لا، وبه جزم الفوراني والروياني في "شرح التلخيص"، وهذا إذا كان القوم عرباً، فإن كانوا لا يفقهون إلا الفارسية، فخطب بها أجزأه؛ قاله القاضي الحسين وغيره. ثم على الصحيح: يجب أن يتعلم واحد منهم الخطبة بالعربية كالعاجز عن التكبير بالعربية، فلو مضت مدة إمكان التعليم، ولم يتعلموا عصوا، وليس لهم إقامة الجمعة؛ قاله الرافعي.

تنبيه: إتيان الشيخ بالواو في قوله: "وفرضهما: أن يحمد الله تعالى، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويوصي بتقوى الله تعالى فيهما، ويقرأ في الأولى شيئاً من القرآن"- يؤذن بأن الترتيب ليس بشرط؛ إذ لو كان شرطاً لأتى بالفاء، أو بـ "ثم"؛ لأن ذلك هو الذي يقتضيه، وقد صرح به الماوردي، والروياني في "شرح التلخيص"، وصاحب "العدة"، والقاضي أبو الطيب عند الكلام في التكبير، وكثيرون من العراقيين؛ كما قاله في "الروضة". وقال الماوردي: إن الشافعي نص عليه، وهو ظاهر نصه في "المختصر"؛ لأن لفظه كلفظ الشيخ. وقال في "التتمة": إن الترتيب بين أركان الخطبة واجب؛ فيقدم حمد الله تعالى، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم الوصية، ثم تلاوة القرآن، ثم الدعاء. وحكي الرافعي عن صاحب "التهذيب" وغيره أن البداءة بالحمد، ثم بالصلاة، ثم بالوصية، ولا ترتيب بين القراءة والدعاء، ولا بينهما وبين غيرهما، وهو ما ذكره القاضي الحسين أيضاً. والذي صححه في "الروضة": الأول. قال: وسننها: أن تكون على منبر؛ لما روى مسلم عن سهل بن سعد- وذكر له المنبر- قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة: "أن مُرِي غلامك النَّجار يعمل لي أعواداً أكلِّم النَّاس عليها"، فعمل هذه الثلاث درجات، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب عليها؛ فتواترت بذلك الأخبار، قال القاضي الحسين: وقد كان قبل أن يعمل المنبر يخطب في المسجد عند جذع نخلة يابسة، ويجعلها على يساره، ويعتمد عليها، فلما عمل المنبر، ودخل المسجد، جاوز الجذع؛ فحنَّ الجذع حنين الوالهة؛ فعلاً البكاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرجع النبي صلى الله عليه وسلم واحتضنها،

وسارَّها، ثم أصغى إليها كالمستمع، ثم قال لأصحابه: "هل سمعتم صوتها؟ " قالوا: نعم، قال: "إنَّها تأسف على مفارقتي، فخيَّرتها بين شيئين: بين أن أدعو الله تعالى حتَّى يجعلها شجرةً خضراء في الدُّنيا إلى يوم القيامة، أو تكون شجرةً من أشجار الجنَّة، فاختارت أن تكون من أشجار الجنَّة". فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به حتى قطع، ودفن تحت المنبر. وخطبته صلى الله عليه وسلم على الأرض قبل عمل المنبر تدل على أنها على المنبر سنة. والمنبر- بكسر الميم-: مشتق من "النبر"، وهو الارتفاع. وقد كان منبر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث درجٍ، غير الدرجة التي تسمى المستراح، وهي التي يجلس عليها، [و] كان يقف على الدرجة الثالثة التي تلي المستراح. ثم إن أبا بكر كان يقف على الثانية دون موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرجة، ثم جاء عمر، فوقف على الدرجة الأولى دون موقف أبي بكر بدرجة، ثم جاء عثمان، فصعد على الثانية موقف أبي بكر، ثم جاء علي، فوقف على الثالثة موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن مروان بن الحكم قلع المنبر في زمن معاوية، وزاد فيه ست درجٍ، [فصار] عدد درجه تسعاً، وكان الخلفاء يقفون على الدرجة السابعة، وهي أوّل مراتب الخلفاء الراشدين. واستحب الشافعي للخطيب أن يقف على الدرجة التي تلي المستراح إن كان

المنبر قصيراً، فإن كان طويلاً، قال في "الحاوي": وقف على الدرجة السابعة. والسنة: أن يكون وقوفه على يمين المنبر [وبقية المنبر على يساره؛ كذا قال القاضي الحسين. وليكن المنبر على يمين القبلة] وهي الجهة التي تلي يمين المصلي؛ لأن منبر النبي صلى الله عليه وسلم كان في تلك الجهة. ومن خطب على الأرض، فيستحب له أن يكون هناك مقامه؛ [قاله أبو الطيب وغيره. وقال الماوردي: إنه يكون مقامه] على يسار القبلة، [وهي] [الجهة] التي تلي يسار المستقبل، وأين وقف جاز. قال: أو على موضع عالٍ؛ لقيامه مقام المنبر في تحصيل المقصود، وهو الإبلاغ التَّام. قال: وأن يسلم على الناس إذا أقبل عليهم؛ لحديث الشعبي السابق. وقد روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر سلم. رواه ابن ماجة، لكن في رجاله ابن لهيعة. وقد حكي عن الشافعي أنه قال: "إذا وقف على الثالثة، أقبل بوجهه على الناس، وسلم؛ لأن هذا يروى عالياً". واختلف أصحابنا في مراده بالعالي: فقيل: إسناد ذلك. وقيل: أراد السلام؛ فإنه يفعل عالياً. وقيل غير ذلك.

وقد استحب الشافعي أن يسلم عند قربه من المنبر على من حضره؛ فإنه روي عن ابن عمر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دنا من منبره يوم الجمعة سلم على من عنده من الجلوس، فإذا صعد المنبر، استقبل الناس بوجهه، ثم سلم"، أخرجه أبو أحمد، وحسن السلام الثاني ليبلغ من لم يبلغه الأول. ولأنه في حال صعوده المنبر كالمفارق لهم، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم بعضهم على بعض إذا حالت بينهم الشجر. قال: وأن يجلس إلى [أن] يؤذن المؤذن؛ لما روى ابن عمر- رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم، فيخطب. رواه أبو داود. وهذا الجلوس للاستراحة، وليس بفرض اتفاقاً. وقد أشعر كلام الشيخ هذا أن الأذان يكون بعد جلوسه على المنبر بين يديه، وهو كذلك؛ لما روي عن نافع عن ابن عمر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج قعد على المنبر فأذن بلال، فإذا فرغ من خطبته، أقام الصلاة". ذكره أبو أحمد. وقد روى البخاري عن السائب بن يزيد قال: إن الأذان يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان في خلافة عثمان، وكثروا، أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث،

فأذن به على الزوراء وثبت الأمر على ذلك. وفي طريق أخرى: "الثاني" بدل "الثالث". وفي "الحاوي": أن الشافعي حكى عن عطاء أنه أنكر أن يكون عثمان أحدثه، والذي فعله عثمان إنما هو تذكير، والذي أمر به إنما هو معاوية، وبه قال بعضهم. قال الشافعي: وكيف كان ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي. واستحب الأصحاب- لأجل ذلك- أن يكون المؤذن بين يدي الخطيب واحداً دون الجمع. قال: ويعتمد على قوس أو سيف أو عصا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب في السفر [اعتمد على قوس، وإذا خطب في الحضر] اعتمد على عنزةٍ، وهي عصا في طرفها حديدة.

وروي أنه اعتمد على السيف، وإن لم يثبت، فهو في معنى القوس. قال القاضي الحسين، وتبعه البغوي: ويجعل ما يعتمد عليه في يده اليسرى؛ لأنه- عليه السلام- جعل يساره على الجذع، واعتمد عليه، ويجعل يده اليمنى على حرف المنبر. ولو لم يعتمد على شيء استحب [له] أن يسكِّن جسده، ويجعل يده اليمنى على اليسرى، أو يرسلهما؛ قاله القاضي أبو الطيب وغيره. والعصا: مقصور، ولا يقال: عصاة، قال الفراء: أول لحن سمع: هذه عصاتي. وقال غيره: إنه يلي ذلك قولهم: "لعل لها عذر وأنت تلوم"، والصواب: "عذراً". قال: وأن يقصد قصد وجهه، أي: فلا يلتفت يميناً ولا شمالاً، لا في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا [في] غيرها؛ كما صرح به الماوردي وغيره؛ روى البراء بن عازب قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب يستقبلنا بوجهه، ونستقبله

بوجوهنا". ولأنه إذا التفت يميناً قصر سماع يسرته، وإذا التفت شمالاً قصر سماع يمنته، فإذا قصد قصد وجهه، كان أعم [لسماع] الجميع. وقد أفهم كلام أبي الطيب: أن الالتفات لا يجوز؛ لأنه قال: إن في التفاته إعراضاً عن بعض الحاضرين، وذلك لا يجوز؛ لما فيه من سوء الأدب. ومن طريق الأولى: لا يستدبر القوم ويستقبل القبلة، فلو فعله، فهل يعتد به؟ فيه وجهان: المذكور منهما في "الوسيط" تبعاً للإمام: الاعتداد بها، لكن مع الكراهة. والذي ذكره القاضي الحسين: أنه لا يعتد بها؛ كما لو خطب جالساً مع القدرة على القيام، وهو في "البيان" وغيره؛ كما قال الرافعي. وكلام القاضي أبي الطيب يرشد إليه. والفرق على هذا بين الخطبة والأذان حيث نقول: لو ترك المؤذن استقبال من حضره يجوز-: هو أن الأذان دعاء للغيب، وليس بمختص بالحاضرين،

والخطبة يقصد بها الحاضرون؛ فكانت مختصة بهم. ويستحب للناس أن يحولوا وجوههم إلى الإمام؛ لما تقدم من خبر البراء بن عازب، ولرواية علقمة عن ابن مسعود أنه قال: "كان إذا استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، استقبلناه بوجوهنا"، قال ابن المنذر: واستقبال الناس الخطيب بوجوههم إجماع؛ ولهذا استحب أن يوضع المنبر في جهة القبلة، لأنه لو وضع أمامها، لكان الإمام مستقبلاً القبلة، والقوم إن استقبلوا القبلة استدبروه وهو قبيح، ولأنه في حكم الإعراض عنه. وإن استقبلوه واستدبروا القبلة، كان قبيحاً- أيضاً- فجعل في تلك الجهة. و [أن] يكون الإمام مستدبراً القبلة أهون من استدبار جميع المستمعين لها، فلو جعل المأمومون ظهورهم إلى الإمام لم يقدح ذلك في صحتها. وقال في "الروضة": إن الدارمي طرد الوجه السالف فيه. قال: وأن يدعو للمسلمين، أي: في الثانية؛ لأنه روي أنه- عليه السلام- كان يقول في خطبته عند الفراغ منها: "وأستغفر الله لي ولكم"، وإنما لم يجب؛

لأن مقصود الخطبة التذكرة والموعظة، وليس هذا المعنى موجوداً في الدعاء؛ فلذلك لم يجب؛ وهذا ما حكي عن أبي حامد، ولم يورد البندنيجي غيره. قال الروياني في "شرح التلخيص": وهو خلاف النص، وقد قطع بعضهم بالوجوب؛ لقوله- عليه السلام-: "صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي". قال: وحكى آخرون فيه قولين، وقد تقدم الكلام فيه. وليكن مما يتعلق بالآخرة، غير مقتصر فيه على أوطار الدنيا. والدعاء لشخص معين- كالسلطان- لا يستحب فيها. وأطلق الشيخ في "المهذب" وغيره لفظ الكراهة؛ لما روي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: "هو محدثٌ، وإنما كانت الخطبة تذكيراً"، والكراهة أخذت من قول الشافعي: "فإن دعا لرجل بعينه، أو على رجل بعينه فيها كرهته، ولا إعادة عليه". وقيَّد القاضي الحسين ذلك بما إذا لم يقطع نظم الخطبة، وخص في "الروضة" الكراهة بما إذا جازف في الوصف والدعاء له، وقال: "الاختيار: أنه لا بأس به إذا لم يكن فيه مجازفة في وصفه، ولا يجوز ذلك؛ فإنه يستحب الدعاء بصلاح ولاة الأمور"، وكذلك قال غيره من المتأخرين؛ لأن ضبة بن محصن روى أن أبا موسى كان [إذا] خطب فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم،

أخذ يدعو لعمر، فأنكر عليه ضبة البداءة بعمر قبل الدعاء لأبي بكر، ورفع ذلك إلى عمر، فقال لضبة: "أنت أوفى منه وأرشد". وروي عن الحسن البصري أنه قال: "لو علمت أن لي دعوة مستجابة، لخصصت بها السلطان؛ فإن خير غيره خاص، وخيره عامُّ". قال: وأن يقصر الخطبة؛ لما روى مسلم عن عمار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ طول صلاة الرَّجل وقصر خطبته مئنَّةٌ من فقهه، فأطيلوا الصَّلاة، واقصروا الخطبة؛ فإنَّ من البيان سحراً". والمئنة: العلامة، وقيل: ذكاؤه وفطنته بالفقه. ولا ينبغي أن يخرجهما عن القصد؛ لما روى مسلم عن جابر بن سمرة قال: "كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات، فكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً"، زاد في طريق آخر: "يقرأ آيات من القرآن، ويذكِّر الناس". قال البندنيجي: ويستحب أن يخطب بما رواه ابن عباس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم [يوماً] فقال: "الحمد لله، نستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونستنصره،

ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، فمن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، حتى يفيء إلى أمر الله". فإن قال "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى"، كره له ذلك حتى يقول: "ومن يعصِ الله ورسوله"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك. ولفظ الشافعي: "كرهت ذلك له؛ حتى يفرد اسم الله، ثم يفرد بعده اسم رسوله، لا يذكره إلا منفرداً". قال الشافعي: "وقد قال رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما شئت؛ فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن العطف في المشيئة بالواو، ونقله إلى حرف "ثم"؛ ليدل بذلك أن مشيئته بمشيئة الله تعالى، [وأنه إنما يشاء؛ لأن الله شاء أن يشاء، ولا يشاء شيئاً إلا بمشيئة الله تعالى"]. قال البندنيجي: وقد دلل الشافعي- رحمه الله- بذلك على أن مذهبه مذهب

أهل الحق، وأن قول من قال: الإنسان يشاء ما لا يشاء الله تعالى- محالٌ من القول. ويستحب أن تكون الخطبة المأتي بها بكلام معربٍ، مبين، من غير تمطيط وتقطيع لها، ومن غير عجلة، ولا يكون لفظها مرذولاً، ولا غريباً مستثقلاً، [بل] بين الأمرين؛ لأن ذلك أسرع إلى فهم من حضره. ويذكر في كل أوان ما يليق به. وإذا حصر الإمام وأرتج عليه في الخطبة أو القراءة، فقد نقل المزني أنه يلقَّن. وقال في موضع [آخر]: لا يلقن. وليست على قولين، بل على اختلاف حالين: فحيث: قال: "لا يلقن"؛ إذا كان بصفة من [لو] فتح عليه لازداد حصره، وإذا ترك استدرك غلطه؛ فهذا يترك، ولا يلقن، وهو معنى قوله- عليه السلام- لعلي: "إذا حصر الإمام فلا تلقنه". والموضع الذي قال: "يلقن"؛ إذا انغلق الكلام عليه، فسكت، وكان بحيث لو لقن زال حصره، ومضى في خطبته وقراءته، وكان الراد يحفظ ما يرد به عليه؛ فهذا يلقن، [ويفتح عليه]؛ لما روي أنه- عليه السلام- كان يقرأ في الصلاة، فأرتج عليه، فلما فرغ قال: "أفيكم أبيٌّ؟ " قالوا: نعم. قال: "هلَّا ذكّرتني؟ " فقال: ما كان الله- سبحانه- يرى أننا نلقن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

................................................................................................

وإذا فرغ من الخطبة الثانية شرع المؤذن في الإقامة بحيث يكون فراغه منها عند دخول الإمام المحراب؛ قاله الإمام وغيره. وقد حكى في "الروضة": أن الجهلة من الخطباء يفعلون أموراً مكروهة: كالدق على المنبر في حالة الصعود، والدعاء إذا انتهى صعوده قبل أن يجلس، والإشارة باليد. قال: والجمعة ركعتان؛ لما روي عن عمر قال: "صلاة الجمعة ركعتان [تمام] غير قصر، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم".

ولأن الخلف نقلوا عن السلف أن صلاة الجمعة كانت ركعتين، وهو إجماع؛ كما قاله ابن المنذر. وأفادنا قول عمر: أنه لا يجوز أن يتمها أربعاً كالصبح. قال: إلا أنه يسن أن يجهر فيهما بالقراءة؛ لنقل الخلف عن السلف. وقد روي أنه- عليه السلام- قال: "صلاة النَّهار عجماء إلا الجمعة والعيدين". قال: [ويقرأ بعد الفاتحة في الأولى] [سورة] "الجمعة"، وفي الثانية "المنافقين"؛ لما روى [مسلم] عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة "الجمعة" و"المنافقين". وروى عن أبي هريرة أنه كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الأولى "الجمعة" وفي الثانية "المنافقين". أخرجه مسلم.

وهذا ما حكاه الإمام عن الجديد، وأن الصيدلاني حكى عن القديم أنه يقرأ في الأولى: "سبح اسم ربك الأعلى .. " وفي الثانية "هل أتاك حديث الغاشية .. "؛ لأنه روي أنه- عليه السلام- قرأ في الجمعة بـ "سبح" و"الغاشية"، أخرجه مسلم عن رواية النعمان بن بشير. قال: وكان إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين؛ وهذا قد حكاه القاضي الحسين عن نص الشافعي في "الإملاء". وقال في "الروضة": عجب كيف جعلت المسألة ذات قولين: قديم وجديد؟! والصواب أنهما سنتان تفعلان، ثبت كل ذلك في صحيح مسلم من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقرأ هاتين في وقت، وهاتين في وقت؛ ومما يؤيده أن الربيع- وهو راوي الكتب الجديدة- قال: "سألت الشافعي عن ذلك؟ فذكر أنه يختار "الجمعة" و"المنافقين"، ولو قرأ بـ "سبح .. " و"هل أتاك حديث الغاشية .. " [كان حسناً]. قلت: وكلام الأصحاب ينازع في أنهما ليسا على السواء، وأن الأولى ما ذكره الشيخ، ووجهوه بأن في سورة "الجمعة" الأمر بالسعي عند سماع النداء، وذم الانفضاض عن الإمام، وفي سورة "المنافقين" تقريعهم والذم لهم، والله أعلم.

فرع: لو قرأ في الأولى سورة "المنافقين"، قرأ في الثانية "الجمعة"، ولو قرأ في الأولى غيرهما قرأهما في الثانية؛ نص عليه في "الكبير"، ويخالف ما إذا ترك الجهر في الأوليين لا يفعل في الأخريين؛ لأنه مكروه فيهما، وإذا ترك الرمل في الأشواط الأول، لا يفعله في الباقية؛ لأن تركه فيها سنة، وفعله مكروه، ولا كذلك صلاة الجمعة؛ فإنه لا يكره قراءتهما في الركعة الثانية. ويستحب أن يقرأ في صلاة صبح يوم الجمعة في الأولى {الم ...} السجدة، وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ ...} فإنه- عليه السلام- كذا صح عنه أنه فعل. ***

باب هيئة الجمعة

باب هيئة الجمعة هيئة الجمعة: عبارة عن الحال التي توقع عليها. قال: السنة لمن أراد الجمعة: أن يغتسل لها؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة قال: بينا عمر بن الخطاب يخطب الناس يوم الجمعة، إذ دخل عثمان بن عفان، فعرَّض به عمر، فقال: ما بال رجالٍ يتأخرون بعد النداء؟ فقال عثمان: يا أمير المؤمنين، ما زدت حين سمعت النداء أن توضأت، ثم أقبلت، فقال عمر: والوضوء أيضاً؟ ألم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل؟! ". والمراد: إذا أراد صلاة الجمعة، وهذه القصة تدل على أن الأمر بها أمر ندب؛ إذ لو كان الغسل واجباً، لرجع عثمان، وفعله، ولما تركه عمر لم يفعله، وعليه حمل [الشافعي]- أيضاً- قوله صلى الله عليه وسلم: "الغسل يوم الجمعة واجبٌ على كلِّ محتلمٍ"، كما أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري، فقال: أراد بهذا الوجوب

وجوب الاختيار، وأيده بقوله- عليه السلام-: "من توضَّأ فأحسن الوضوء، ثمَّ أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة، وزيادة ثلاثة أيَّامٍ، ومن مسَّ الحصى فقد لغا". رواه أبو داود عن أبي هريرة، وأخرجه مسلم. وروى النسائي عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضَّأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل، فالغسل أفضل"، ورواه البزار من حديث أبي سعيد بمثله.

ولأنه غسل لأمرٍ مستقبل؛ فلم يكن واجباً، كالغسل للعيدين والإحرام. وقد اختلف في معنى قوله- عليه السلام-: "فبها ونعمت": فقيل: معناه: فبالفريضة [أخذ، ونعم الخَلَّة الفريضة. وقيل: فبالسنة أخذ. وقيل: فبالرخصة أخذ]. ونعمت: بالتاء وصلاً ووقفاً؛ لأنها التاء الداخلة على الفعل. قال: عند الرواح، أي: عند الذهاب إليها؛ لأن مقصود الغسل قطع الروائح الكريهة التي تحدث عند الزحمة بسبب ما عليه من صوف، أو على جسده من وسخ، قالت عائشة: كان الناس يتناوبون الجمعة من منازلهم ومن العوالي، فيأتون في الغبار، وقد يصيبهم الغبار، فيخرج منهم الريح، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسان منهم، وهو عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أنَّكم تطهرتم ليومكم هذا" أخرجه مسلم. قال: فإن اغتسل لها بعد الفجر، أجزأه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناط الغسل بيوم الجمعة، وهو يدخل بطلوع الفجر. ولا فرق في ذلك بين من يلزمه الحضور ومن لا يلزمه إذا أراد الحضور. [وقيل: إنما يسن لمن لزمه الحضور] دون من لم يلزمه. تنبيه: ما المراد بقوله: "أجزأه"؟ يحتمل أن: يكون أراد: أجزأه في تحصيل السنة. ويحتمل: أنه أراد: أجزأه في دفع المكروه. والاحتمالان ينبنيان على أن ترك [الغسل للجمعة] هل يكره أم لا؟ وفيه وجهان حكاهما ابن التلمساني، وقال: أصحهما: أنه مكروه. وهو ما أورده القاضي الحسين، وحكاه الإمام عن الصيدلاني، قال: وهو عندي جارٍ في كل

مسنون صح الأمر به مقصوداً. وقد أفهم قول الشيخ أمرين: أحدهما: أن الاغتسال في يوم الجمعة لا يسنُّ لمن لم يحضرها، وهو كذلك على المذهب؛ لفقد العلة التي لأجلها استحب. ومنهم من قال: إنه يستحب لمن لم يحضرها أيضاً، كما في العيد أيضاً. والخلاف مبني- كما قال في "البيان"- على أنّ الغسل للصلاة أو لليوم؟ وفيه خلاف: فإن قلنا بالأول لا يستحب إلا لمن حضر. وإن قلنا بالثاني- وهو الذي يشهد له خبر عائشة السابق- استحبَّ لكل أحد كما في العيد. ومن الأصحاب من قال: من لم يحضر وهو من أهلها، لكنه حبسه العذر عن الحضور- يستحب له الغسل، حكاه في "الحلية" و"الذخائر". والصحيح الأول؛ لما ذكرناه، وقد روى عبد الواحد بن ميمون عن عروة عن عائشة أنه- عليه السلام- قال "الغسل يوم الجمعة على من شهد الجمعة"، أخرجه العقيلي. الثاني: أنه لا يجزئ قبل الفجر، وهو المذهب؛ لأن الشرع علقه باليوم؛ فلا يجزئ في الليل. ومنهم من قال: يجزئ كما في العيد، على قولٍ. قال الإمام: وهو خطأ لاشك فيه، والفرق بينهما مذكور ثمَّ. فرع: إذا تعذر استعمال الماء، هل يتيمم؟ وذلك متصوَّر في صورتين:

إحداهما: أن يتوضأ القوم ثم يعدمون الماء. والثانية: أن يكون جريحاً في جميع جسده غير أعضاء وضوئه. قلنا: أما الأولى، فقد حكى ابن التلمساني فيها وجهين، قال: وأصحهما: لا؛ لانتفاء الحكمة فيه. ومقابله هو الذي أورده القاضي الحسين. وأما الثانية فقد حكى الإمام عن الصيدلاني أنه قال: يتيمم؛ لأنه جعل بدلاً في غيرها؛ فكذا فيها. وقال في "الوسيط": إنه بعيد؛ لأن الغرض نفي الروائح الكريهة، والتنظُّف؛ ولذلك كان تأخيره إلى الرواح أحب إلينا. ولأجل هذا المعنى أبدى الإمام احتمالاً فيه، وحكاه في "الوجيز" وجهاً، ثم قال الإمام: والظاهر ما ذكره الصيدلاني. [و] قال غيره: لأن المقصود بالوضوء أيضاً النظافة، وهو يقوم مقامه. قال: وأن يتنظف بسواك؛ لقوله- عليه السلام-: "السِّواك مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرَّبِّ" رواه الإمام أحمد في مسنده. وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "غسل [يوم] الجمعة على كلِّ محتلمٍ، وسواكٌ، ويمسُّ من الطيِّب ما قدر عليه". وفي رواية: "ولو من طيب المرأة". قال: وأخذ ظفرٍ وشعر؛ لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقلم

أظفاره، ويقص شاربه يوم الجمعة [قبل] أن يخرج إلى الصلاة. ذكره البزار، ولنا فيه أسوة حسنة. وأخذ الظفر يكون إذا طال، وقد قيل فيه شيء محله باب السواك، وكذا حلق الشعر. قال: وقطع رائحة، [أي]: كريهة: كالصنان؛ لئلا يؤذي الناس به؛ فيتعاطى ما يزيله من مرتكٍ ونحوه. قال: ويتطيب؛ لخبر أبي سعيد السابق، وفيما سنذكره من خبر سلمان الفارسي دليل عليه أيضاً، وهذا مختصٌّ بالرجال. أما العجوز إذا حضرت، فلا يستحب لها ذلك، بل يكره، وكذا لبس الشهرة من الثياب. قال: ويلبس أحسن ثيابه؛ لما روي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما على أحدكم أن يكون له ثوبان سوى ثوبي مهنته لجمعةٍ أو غيرها"؛ ذكره أبو

عمر في "التمهيد" في باب "مالك عن يحيى"، وخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن سلام. قال أبو داود في طريق: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك على المنبر. وبهذه السنة يكمل في هيئة الجمعة سبع خلال؛ ذكرها الشافعي أيضاً. قال: وأفضلها: البياض؛ لقوله- عليه السلام-: "البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنَّها من خير ثيابكم، وكفنوا فيه موتاكم"، أخرجه الترمذي عن ابن عباس، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وقد قال بعضهم: تقدير كلام الشيخ: وأفضل ألوانها البياض، ولو قال: البيض، لكان [أخصر] وأحسن. وهذا القائل غفل عن أن مراد الشيخ اقتفاء لفظ الخبر. وعلى [كل] حال فإن جاوزه، قال الشافعي: فعصب اليمن والقطري: وعصب اليمن: البرود المخططة، يصبغ غزلها، ثم ينسج. والقطري: ثيابٌ حمرٌ: لها أعلام، فيها بعض خشونة، منسوبة إلى قطر، وهو موضع نحو عمان والبحرين. ولبس المصبوغ بعد النسيج، أطلق البندنيجي وغيره القول بكراهته. وقال القاضي الحسين: إن كان صبغه ليمنع الوسخ، فجائز لبسه، وإن صبغ للزينة فلا يجوز للرجال لبسه؛ لأنه لباس النساء. قال: ويزيد الإمام على سائر الناس في الزينة، أي: فيما يتزين به؛ لأنه يقتدي به، وينبغي أن يعتَّم، وأن يرتدي؛ لأنه- عليه السلام- كان يفعل ذلك. قال القاضي الحسين: وقد روي: "صلاةٌ بعمامةٍ أفضل من سبعين صلاة بغير عمامةٍ". قال: ويبكّر لها، أي: الرائد للجمعة؛ لقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]، وقال- عليه السلام-: "باكروا؛ فإنَّ في البكور بركة".

وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "على كلِّ بابٍ من أبواب المسجد ملكٌ يكتب الأوَّل فالأوَّل". وروى أبو داود عن أوس بن أوس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثمَّ بكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، فاستمع ولم يلغ- كان له بكلِّ خطوةٍ عمل سنةٍ أجر صيامها وقيامها"، وقوله: "غسل واغتسل" يروي بغين معجمة، وسين مخففة، ويروي الأول- أيضاً- بغين معجمة وتشديد السين، ويروي- أيضاً- بعين غير معجمة وتشديد السين. فعلى الأوّل: معناه: من غسل أعضاء الوضوء، واغتسل في جميع بدنه. وقيل: غسل: كرر الغسل، كما يقال: فتحت الأبواب بمعنى التكثير والتكرار؛ قاله القاضي الحسين. وعلى الثاني والثالث يكون معناه: من جامع؛ فأوجب الغسل على غيره قبل خروجه. والمعنى فيه: أنه لا يأمن أن يقع طرفه على ما يحرك شهوته فينشغل قلبه؛ وهذا في الرواية الثالثة أظهر. وقوله: بكَّر وابتكر": قال الأزهري: ويروي بالتشديد والتخفيف؛ لأنه يقال: بكر، وبكَّر: مشدد، ومخفف. قال الماوردي: ومعنى الخبر: من بكر في الزمان، وابتكر في المكان. وقيل: بكر: أتى الصلاة لأول وقتها، وابتكر، أي: أدرك أول الخطبة، وهو باكورتها، ومنه: باكورة الثمرة.

وقيل: بكر إلى صلاة الصبح، وابتكر إلى صلاة الجمعة؛ قاله الإمام. وقيل: بكر في الحضور، وابتكر إلى الصلاة والذكر عند حضوره؛ قاله أبو الطيب. وقيل: بكر وابتكر، بمعنى واحد؛ قاله القاضي الحسين. قال: بعد طلوع الشمس؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثمَّ راح في السَّاعة الأولى، فكأنَّما قرَّب بدنةً، ومن راح في السَّاعة الثَّانية، فكأنَّما قرَّب بقرةً، ومن راح في السَّاعة الثَّالثة، فكأنَّما قرَّب كبشاً، ومن راح في السَّاعة الرَّابعة، فكأنَّما قرَّب دجاجةً، ومن راح في السَّاعة الخامسة، فكأنَّما قرَّب بيضةً، فإذا خرج الإمام، حضرت الملائكة يستمعون الذِّكر". والساعات: أولها من طلوع الشمس عند أهل الحساب؛ فلذلك استحببنا التبكير منه، وهذا أحد الوجهين في المسألة؛ كما حكاه القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ. قال في "الحاوي": وهو الأصح؛ ليكون ما قبل ذلك من طلوع الفجر زمان غسل وتأهب.

قلت: وقول الشافعي: "ويجزئه غسله لها إذا كان بعد الفجر"، يؤذن به. ثم قوله- عليه السلام- في الخبر: "غسل الجنابة"، أي: غسلاً مثل غسل الجنابة؛ كقوله تعالى: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88] [أي: مرّاً كمرّ السحاب]. وقيل: معناه: جامع، واغتسل، ويؤيده ما تأكد. والوجه الثاني في المسألة: أن التبكير يكون من طلوع الفجر، وهو الذي صححه الشيخ في "المهذب"، وكذا الرافعي والروياني في "شرح التلخيص"، وقال: إنه ظاهر كلام الشافعي؛ لأنه أول النهار في عرف الشرع، وبه يتعلق جواز الغسل. وحكى القاضي الحسين وغيره من المراوزة معه وجهاً آخر، عزاه في "العدة" إلى القفال: أنه ليس المراد بالساعات ساعات الليل والنهار؛ لأن ساعات النهار في الشتاء تنقص وتزيد في ساعات الليل حتى تتراجع إلى تسع ساعات وشيء، وفي الصيف ساعات النهار تزيد، فلو قلنا بذلك، لأدى إلى أن يكون وقت الجمعة في الشتاء عند العصر؛ لأنه- عليه السلام- عدّ خمس ساعات، ثم جعل السادسة وقتاً للجمعة، ولكن المراد: أن يبين فضل السابق على المتأخر، وفضل الثاني على الثالث، على ضرب المثل، ويكون معنى الحديث: أن من كان أسبق إتياناً فهو أعظم أجراً، وإن كان بينهما لحظة، وليس أن الدرجات خمس لا غير، غير أنه إذا جاء خمسة نفر مرتبين فللخامس أجر من قرّب بيضة، والسادس من بعده أقل من ذلك أو مثله. وعلى هذه الطريقة جرى المتولي فلم يحك غيرها، لكن يختص التبكير إليها بما بعد الزوال، أو بما قبله؟ فيه وجهان حكاهما القاضي وغيره:

وجه الأول: أن الشرع أناط الحكم بالرواح، [والرواح إنما يكون] بعد الزوال، يقال: غدوت إلى فلان: إذا كان قبل الزوال، ورحت إليه: إذا كان بعد الزوال، ويشهد له- كما قال المتولي- قوله- عليه السلام-: "المهجّر إلى الجمعة كالمهدي بدنةً، ثمَّ كالمهدي بقرةً، ثمَّ كالمهدي شاةً، ثم كالمهدي شاةً، ثمَّ كالمهدي بطَّةً، ثمَّ كالمهدي دجاجةً، ثمَّ كالمهدي بيضةً". أخرجه النسائي عن رواية أبي هريرة، وأخرجه مسلم معناه. ووجه الثاني: ما تقدم من الأخبار. والرواح إن ثبت [أنه] إنما يستعمل حقيقة فيما بعد الزوال، فنقول: أطلقه على ما قبل الزوال مجازاً؛ لأن القصد منه أمر بفعل بعد الزوال، على أن الأزهري قال: [يقال]: راح إلى المسجد، أي: مضى، وقد توهم كثير من الناس أن الرواح لا يكون إلا في آخر النهار، وليس ذلك بشيء؛ لأن الرواح والغدو عند العرب مستعملان في السير أي وقتٍ كان من ليل أو نهار، يقال: راح في أول النهار وآخره، [و] تروح، وغدا: بمعنى. وهذا كلام الأزهري، وهو إمام [في] عصره. وقد سلك الرافعي في حكاية ذلك طريقاً آخر، فحكى الوجهين اللذين حكيناهما عن العراقيين، ثم قال: ونقل صاحب "التهذيب" والروياني وجهاً ثالثاً: أن الاعتبار من وقت الزوال، ثم قال: وليس المراد من الساعات على اختلاف الوجوه الأربع والعشرين التي قسم اليوم والليلة عليها، وإنما المراد ترتيب الدرجات، وفضل السابق على الذي يليه، وإن القفال احتج عليه بوجهين: أحدهما: لو كان المراد الساعات المذكورة، لاستوى الجائيان في الفضل في ساعة واحدة مع تعاقبهما في المجيء. والثاني: أنه لو كان كذلك لاختلف الأمر باليوم الشاتي والصائف، ولفاتت

الجمعة في اليوم الشاتي لمن جاء في الساعة الخامسة. قلت: وجزمه بأن المراد ما ذكره على الأوجه، فيه نظر؛ لأن الإمام قال: اختلف أئمتنا في معنى الساعات المذكورة في الحديث: فذهب بعضهم إلى حمل الساعات [على الساعات] التي قسم عليها الليل والنهار، وحمل الساعة الأولى على الساعة الأولى من النهار، وهكذا إلى استيعاب جميع ساعات النهار، قال: وهو غلط؛ فإن الماضين ما كانوا يبكرون إلى الجامع في الساعة الأولى. ثم الساعة الخامسة في النهار الصائف تقع قبل الزوال، وفي اليوم الشاتي تقع قريبة من العصر؛ فلم يرد بالساعات ما يذكره أصحاب التقاويم، وإنما أراد ترتيب منازل السابقين واللاحقين. نعم، [كلام] القاضي الحسين يقتضي أن الخلاف ليس في المراد بالساعات التي قسم الليل والنهار عليها شتاء وصيفاً على ما يعتقده أهل الحساب؛ فيكون نهار الشتاء منها تسع ساعات وشيئاً، ونهار الصيف منها أربع عشرة ساعة [وشيئاً]؛ فإنا لو اعتبرنا ذلك لزم ما تقدم. وحكى الخلاف في [أن] الاعتبار في حيازة الفضيلة التي قدرها الشرع بجعل النهار اثنتي عشرة ساعة صيفاً كان أو شتاء، والمقدر يحصل في إدراك خمس ساعات منها طالت في الصيف أو قصرت في الشتاء؟ أو الاعتبار في ذلك بالساعات الزمانية، وإن تعاقبت لحظات؟ [ثم] ما ذكره القفال في إبطال القول باعتبار الساعات الفلكية إذا جعل النهار اثنتي عشرة ساعة من أنه يلزم تساوي المجيئين في الفضل في ساعة واحدة- فيه نظر من حيث إن من قرب بقرة [سمينة، وآخر بقرة دونها- تساويا

في أصل الفضل في التقرب ببقرة]، وإن كان الفضل بينهما من جهة أخرى، وكذا الصلاة المفروضة إذا أتى بها شخص بسننها، وآخر اقتصر على فعل الفرض فقط، فإنهما تساويا في إسقاط الفرض، وإن تفاوت أجرهما، كذلك ها هنا لا يبعد أن يسوي الشرع بينهما في أصل الفضل إذا حضرا في ساعة واحدة، ويزاد فضل الحاضر فيها أولاً؛ لتقدمه. والله أعلم. وقد أفهم قول الشيخ: "ويبكر لها"، أن ذلك يشمل الإمام والمأموم، ولا شك فيه في المأموم. فأما الإمام فقد قال في "الحاوي": إنه يختار للإمام أن يأتي الجمعة في الوقت الذي تقام فيه الصلاة، ولا يبكر؛ اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واقتداء بالخلفاء الراشدين. قال: ويدخل المسجد من أقرب أبوابه إلى المنبر، فإذا دخل توجه نحو منبره من غير ركوع ولا تنفل، وهو ما اختاره في "الروضة". لكن في "تعليق" البندنيجي: انه يستحب للإمام إذا دخل المسجد، أن يصلي ركعتين تحية المسجد، ثم يصعد المنبر. وقد حكاه في "الروضة" عن "العدة" و"البيان"، وقال: إنه شاذ غريب مردود؛ فإنه خلاف ظاهر المنقول عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده. قال: ويمشي إليها، أي: على سجية مشيه، وعليه السكينة والوقار؛ لقوله- عليه السلام-: "إذا نودي بالصَّلاة [فلا تأتوها] وأنتم تسعون [و] لكن ائتوها وأنتم تمشون وعليكم السَّكينة والوقار، فما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فاقضوا؛ فإنَّ أحدكم في صلاةٍ ما دام يعمد إلى الصَّلاة"، وفي رواية مالك: "وما فاتكم فأتموا". والسكينة: السكون والطمأنينة. والوقار- بفتح الواو-: الحلم والرزانة، ويقال: إنه رتبة وسطى بين التكبر والتذلل.

وقوله تعالى: {فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] قد بينا أنه من باب {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم: 39]. وقال أبو إسحاق المروزي: إن خاف فوت التكبيرة الأولى، أسرع، بحيث لا يخاف عثرة ولا سقطة. قال الشافعي: وإذا مشى على سجية مشيه، كرهت أن يشبك بين أصابعه؛ لأنه في حكم المصلي في الثواب. قال: ولا يركب؛ لحديث أوس السابق، ولأن فيه تضييقاً على الناس، وفيه ترفع وكبر، وقد روي أنه- عليه السلام- لم يركب في عيد ولا جنازة، ولم ينقل مثل ذلك في الجمعة؛ لأنه كان يقيمها في المسجد بجوار بيته. نعم، لو كان له عذر من مرض ونحوه لم يكره له الركوب، قال الأصحاب: ويسيِّر دابته على هينته. ويستحب له إذا دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى في الدخول، ويقول: "باسم الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك".

...............................................................................................

وقال المزني: [يقول]: اللهم اجعلني من أوجه من توجه إليك، وأقرب من تقرب إليك، وأنجح من سألك وطلب إليك. قال: ويدنو من الإمام؛ لحديث أوس، وقد روى سمرة بن جندب: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "احضروا الذِّكر وادنوا من الإمام؛ فإنَّ الرجل لا يزال يتباعد حتَّى يؤخَّر في الجنَّة وإن دخلها" أخرجه أبو داود.

فروع: لا يجوز لأحد أن يقيم غيره من مجلسه ويجلس في مكانه؛ لأن السابق إلى المكان أحق به. نعم، يقام من جلس في موضع الإمام، أو في الطريق بحيث يمنع الناس عن الاجتياز، أو بين الصفين مستدبر القبلة والمكان ضيق، دون ما إذا كان متسعاً؛ كما قاله في "التتمة" وغيرها. ولو قام الشخص من مكانه وأجلس غيره فيه، لم يكره لذلك الغير الجلوس فيه، وأما الأول: فإن تحول إلى مكان يسمع الخطبة منه على ما كان عليه لم يكره، وإن تباعد عن ذلك كره له؛ قاله البندنيجي وغيره. ويجوز من غير كراهة أن يبعث غلامه أو غيره ليجلس في مكان حتى إذا حضر قام عنه، وجلس فيه. ولو بعث شيئاً يفرش له حتى إذا جاء جلس عليه، [وصلَّى- قال في "الأم": لم يكن لغيره أن يجلس عليه]. قال أبو حامد: لكن له أن ينحيه، ويجلس في ذلك المكان. ولو سبق الرجل إلى مكان، ثم قام لحاجة، ثم عاد إليه- كان أحق به. ويستحب لمن جلس فيه عند قيامه أن يتنحى عنه؛ قاله ابن الصباغ عن النص.

قال: ويشتغل بذكر الله- تعالى- والتلاوة؛ لقوله- عليه السلام-: "إنَّ الملائكة تصلِّي على أحدكم ما دام في مجلسٍ، تقول: اللَّهمّ اغفر له، اللَّهمَّ ارحمه، ما لم يحدث، وإنَّ أحدكم في صلاةٍ ما دامت الصَّلاة تحبسه" أخرجه مسلم. ولو اشتغل بالصلاة فحسن. قال: ويستحب أن يقرأ سورة "الكهف" [يوم الجمعة]؛ لقوله- عليه السلام-: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصومٌ إلى ثمانية أيَّامٍ من كلِّ فتنةٍ، وإن خرج الدَّجَّال عصم منه". وفي حديث: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة". وأراد: الجمعة الماضية، وقيل: المستقبلة. والمعنى في قراءتها فيه: أن فيها [ذكر] هول يوم القيامة، والجمعة مشبَّهة بالقيامة؛ لما فيها من اجتماع الخلق، ولأن القيامة تقوم فيه. وقد نقل عن الشافعي أنه استحب في "الأم" قراءتها في ليلة الجمعة أيضاً؛ لقوله- عليه السلام- "من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة ويمها، وفي الفتنة". قال بعضهم: والمناسبة في كونها واقية من الفتن، ما اشتملت عليه من حفظ أصحاب الكهف، وهو كالبتي منقور في الجبل.

ونقل في "الروضة" عن الشافعي: أنه استحب فيها ما استحبه في ليلة العيد؛ لأنه يقال: إن الدعاء فيها مستجاب. قال: وأن يكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في يومها وليلتها؛ لقوله- عليه السلام-: "أقربكم مني في الجنَّة أكثركم صلاةً علي في اللَّيلة الغرَّاء واليوم الأزهر". قال الشافعي: يعني- والله أعلم- ليلة الجمعة ويومها. ونقل عنه أنه قال: وأحب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على كل حال وأنا في [يوم الجمعة] وليلتها أشد استحباباً.

قال: و [أن] يكثر في يومها من الدعاء؛ رجاء أن يصادف ساعة الإجابة. هذا من الشيخ مغنٍ عن التعليل. وساعة الإجابة، قيل: إنها من حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها؛ لقول عمرو بن عوف المزني: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في يوم الجمعة ساعةٌ من النَّهار لا يسأل العبد الله- عزَّ وجلَّ- شيئاً إلا أعطاه له". قيل: أي ساعة هي؟ قال: "حيث تقام الصَّلاة إلى الانصراف منها"، رواه مسلم. وهذا القول صححه في "الروضة"؛ لأجل هذا الخبر. وقيل: إنها من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

وقيل: ما بين الزوال إلى أن يدخل الإمام الصلاة. وقيل: بعد العصر إلى غروب الشمس. وقيل: إنها آخر ساعة منه، ويشهد لذلك رواية أبي داود عن جابر بن عبد الله قال: "يوم الجمعة ثنتا عشرة- يريد ساعة- لا يوجد مسلمٌ يسأل الله- عزَّ وجلَّ- شيئاً إلا آتاه [إيَّاه]، فالتمسوها آخر ساعةٍ بعد العصر". وذكر ابن عبد البر عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ السَّاعة التي يتحرَّى فيها الدُّعاء يوم الجمعة هي آخر ساعةٍ [يوم] الجمعة". فإن قيل: قد جاء في الحديث "لا يصادفها عبدٌ مسلمٌ وهو يصلِّي يسأل الله شيئاً غلا أعطاه"، والصلاة بعد العصر ممنوعة. قيل: قد فسر عبد الله بن سلام الصلاة بانتظارها، وروى ابن ماجة ذلك مرفوعاً، وأنه فسر الصلاة فيها بالانتظار، وقال: [إن] العبد إذا صلى، ثم

جلس لا يحبسه إلا الصلاة، فهو في صلاة. فإن قيل: جاء في بعض ألفاظ الخبر: "وهو قائمٌ يصلِّي". قيل: المراد بهذا القيام: الملازمة في الطلب من باب: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [آل عمران: 75]. وقال كعب: لو قسم الإنسان جمعة في جمع أتى على تلك الساعة. وقال ابن عمر: "إن طلب حاجةٍ في يومٍ يسيرٌ" وأشار بذلك إلى أنه ينبغي أن تطلب في جميع اليوم. قال: وإن حضر والإمام يخطب، لم يتخط رقاب الناس؛ لما روى أبو داود عن عبد الله بن بسر قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اجلس فقد آذيت". وأخرجه النسائي. وقال- عليه السلام-: "من تخطَّى رقاب النَّاس يوم الجمعة اتّخذ جسراً إلى جهنَّم" أخرجه الترمذي. ولا فرق في ذلك بين من ألف موضعاً [في الصلاة]، ولا يصل إليه إلا بالتخطي أو لا، كما قال البندنيجي وغيره.

وقال في "التتمة": إن كان له موضع يألفه وهو معظم في نفوس الناس، لا يكره له التخطي، وهو المحكي عن القفال؛ لأن عثمان- رضي الله عنه- تخطى رقاب الناس، وجاء إلى موضعه وعمر يخطب، ولم ينكر عليه. ثم محل الكراهة إذا لم يكن ثم فرجة، أو كانت وكان له طريق إليها يمكن سلوكه من غير تخطٍّ؛ فإن لم يمكن ذلك إلا بالتخطي، فقد قال الشافعي: إنه لا يكره للإمام ذلك في هذه الحالة، وكذا غيره إذا دخل وبين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بأن يتخطى صفّاً أو صفين؛ لأنهم قصروا. وخص الماوردي ذلك بما إذا لم يجد الداخل موضعاً يصلي فيه. وإن كان بين يديه خلق كثير؛ فإن رجا أنهم إذا قاموا إلى الصلاة يتصفَّفون، جلس حتى يقوموا، وإن لم يرج ذلك جاز أن يتخطاهم؛ ليصل إلى الفرجة؛ لأنهم فرطوا؛ نص عليه في "الأم". وقال في "الإحياء": مهما كان الصف الأول خالياً، لم يكره له التخطي. واعلم أنّ المنع من تخطي رقاب الناس لا يختص بمن دخل والإمام يخطب، بل هو جار في حق من دخل قبل الخطبة أيضاً. نعم، الغالب أن الذي يحتاج إلى التخطي الداخل وهو يخطب، وإذا كان كذلك فلا مفهوم له. قال: ولا يزيد على تحية المسجد بركعتين يتجوّز فيهما، أي: يسرع؛ لما روى جابر بن عبد الله قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له: "يا سليك، قم فاركع ركعتين، وتجوَّز فيهما" ثم قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوَّز فيهما" رواه مسلم.

ويجوز له أن يصلي ركعتين سنة الجمعة، إن قلنا: إن لها سنة، إن لم يكن قد صلاها، وتدخل تحية المسجد فيهما؛ كما قال الأصحاب في العيد: إذا دخل الشخص المسجد والإمام يخطب فيه للعيد، [فإن له] أن يصلي ركعتي العيد، ويدخل فيهما تحية المسجد، لكنهم قالوا ثم: هل الأولى له ذلك أو الأولى أن يصلي ركعتي التحية، ويأتي بصلاة العيد بعد فراغ الإمام؟ فيه وجهان عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة، ولا يبعد مجيئهما. هذا إذا قلنا: إن السنة قبل الصلاة لا تفوت بفعل الصلاة، أما إذا قلنا تفوت، فيتعين فعلها عن سنة الجمعة، والله أعلم. وقد قال القاضي الحسين: إنه يأتي بالتحية قبل أن يجلس، وأما سنة الوقت فإن قلنا: إنها قبل الصلاة ركعتان، فإنه إن نوى السنة جاز، ودخلت فيها [تحية المسجد]، وإن لم ينو السنة إن قلنا: إن سنة الوقت أربع ركعات، قال: فيمكن أن يقال: إنه يشتغل بالسنة؛ لأن تحية المسجد دون السنة الراتبة، ثم لما جاز ترك استماع الخطبة؛ لأجل تحية المسجد، فلأن يجوز لأجل السنة أولى. ولأن تحية المسجد تدخل في السنة إذا نواها بلا خلاف، [والسنة لا تدخل في تحية المسجد بلا خلاف]. وقوله عليه السلام لسليك: "اركع ركعتين" يحتمل أنه أراد السنة. وقوله الشافعي: "خروج الإمام يقطع الركوع"، أراد به: إذا كان قد صلى السنة، وأراد أن يتنفل. قال: وفيه وجه آخر: أنه لا يصلي السنة. والفرق: أن تحية المسجد تفوت بالتأخير، بخلاف السنة؛ وهذا ما أشار إليه الشيخ، ثم هو مخصوص بما إذا علم أنه يدرك الإمام قبل دخوله في الصلاة، فإن كان [يعلم أنه] إذا صلى التحية لم يدرك ذلك؛ بأن يكون دخوله آخر الخطبة، فيكره له صلاة التحية، ولو فعل استحب للإمام أن يزيد في كلام الخطبة بقدر ما يكملها، فإن لم يفعل الإمام ذلك، قال في "الأم": كرهته له. قال: وكذا لو ترك الداخل التحية حيث أمرناه بها كرهنا ذلك، فإن صلاها وقد

أقيمت الصلاة، كرهت ذلك له؛ حكاه البندنيجي. وقد أفهم كلام الشيخ: أنه إذا حضر قبل أن يخطب الإمام أن له الزيادة على تحية المسجد، ولاشك فيه فيما إذا كان ذلك قبل جلوس الإمام على المنبر، وأما بعد جلوسه على المنبر، وقبل شروعه في الخطبة، فظاهر نصه في "المختصر": أنه لا يجوز؛ لأنه قال: "فإذا زالت الشمس، وخرج الإمام، وجلس على المنبر، وأذن المؤذن- فقد انقطع الركوع" يعني: الصلاة. ولفظه في "الأم": "خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام". وقد قال القاضي الحسين: إنه يجوز له أن يصلي سنة صلاة الجمعة؛ لأن هذه الصلاة لها سبب، والأذان والخطبة لا تمنع عنها؛ كتحية المسجد تجوز في حال الأذان والخطبة، وقول الشافعي يحمل على النفل. ثم ظاهر كلام الشافعي الذي نقله المزني: أن التنفل إنما ينقطع إذا فرغ المؤذن. قال البندنيجي: وإليه أومأ في القديم. وليس على ظاهره، بل معناه: إذا ابتدأ المؤذن، انقطع التنفل. قال: ويستمع الخطبة إن [كان] يسمعها؛ لقوله- تعالى-: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204] قال أكثر المفسرين: إنها نزلت في الخطبة؛ لاشتمالها على القرآن. واستدل له عبد الله بن المبارك بأن الخطباء بأجمعهم يقرءون هذه الآية في الخطبة؛ فدل على أنها نزلت فيها. ولقوله- عليه السلام-: "من توضَّأ فأحسن الوضوء وأتى الجمعة، فاستمع وأنصت- غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى وثلاثة أيَّامٍ". ولأن القصد بالخطبة: الاتعاظ، فإذا لم تسمع لم يحصل مقصودها. قال: ويذكر الله- تعالى- إن كان لا يسمعها؛ إذ لا فائدة في سكوته؛ فاشتغاله بالذكر أولى، [وهذه طريقة البندنيجي].

ولفظ القاضي أبي الطيب: "يستحب لمن لا يسمع الخطبة أن ينصت؛ لقول عثمان- رضي الله عنه-: إذا خطب الإمام فأنصتوا؛ فإن للمنصت الذي لا يسمع الخطبة مثل ما للسامع"، فإن اشتغل بقراءة القرآن، وبالتسبيح، وغيره من الأذكار، قال الشافعي: لم يكره [له] ذلك. وبذلك يحصل في استحباب الاشتغال بالقراءة والذكر وجهان. قال: ولا يتكلم- أي: الحاضر- سواء كان يسمعها أو لا يسمعها؛ كما صرح به البندنيجي، وابن الصباغ؛ لما روى [البخاري] عن سلمان الفارسي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة، ويتطهَّر ما استطاع من الطُّهر، ويدّهن أو يمسُّ من طيب بيته، ثمَّ يخرج، فلا يفرِّق بين اثنين، ثمَّ يصلِّي ما كتب له أن يصلِّي، ثم ينصت إذا تكلَّم الإمام- إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى"، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك: أنصت، يوم الجمعة [والإمام يخطب] فقد لغوت" أخرجه البخاري ومسلم، ولفظ البخاري: "فقد

لغيت"، وهي لغة أبي هريرة. قال: فإن تكلم، أي: الذي يسمع الخطبة والذي لا يسمعها؛ لبعد أو صمم- كما صرح به الماوردي، وغيره- لم يأثم في أصح القولين. هذان القولان يعبر عنهما كثير من الأصحاب بأنه: يجب الإنصات إلى سماع الخطبة أم لا؟ أحدهما: لا؛ لأنه- عليه السلام- كان يخطب، فدخل داخل، فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ فأشار إليه الناس: أن اسكت، فكرر ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم عند الثالثة: "ما أعددت لها؟ " فقال: ما أَعْدَدْتُ لها شيئاً غير أني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحبَّ". وجه الدلالة منه: أنه لم ينكر عليه، ولو كان يجب عليه الإنصات، ويأثم بتركه بالكلام، لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك. وكذا لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الذي سأله الاستسقاء وهو يخطب. قال الماوردي: ولأنه لو كان الإنصات لها واجباً، لكان إبلاغها برفع الصوت بها واجباً؛ فلما لم يجب على الإمام إبلاغها، لم يجب على المأمومين الإنصات لها. [و] لأنها عبادة لا يفسدها الكلام؛ فوجب ألا يحرم فيها؛ كالطواف والصيام؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، واشتهر في الطرق أنه الجديد. ومقابله: أن الإنصات واجب، ويأثم المتكلم؛ نص عليه في القديم و"الإملاء"؛ لخبر أبي هريرة السابق؛ فإن اللاغي آثم؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ

مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3]. وقد روى جابر أن ابن مسعود جلس إلى أبي بن كعب والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فكلمه، فلم يجبه، وظن أنه غير مؤاخذ به، فلما فرغوا قال: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنك تكلمت والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب؛ فلا جمعة لك. فأتى ابن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال "صدق أبي"، أو قال: "أطع أبيّاً". والمراد: لا جمعة لك كاملة؛ إذ لم ينقل أنه- عليه السلام- أمر ابن مسعود بإعادة الصلاة. وقد حكى الرافعي عن العراقيين: أنهم حكوا عن رواية أبي إسحاق طريقة قطعة بهذا القول، وأنه أول كلامه في الجديد. وإذا قلنا به، فكما يحرم الكلام تحرم الصلاة أيضاً؛ صرح به القاضي أبو الطيب والمتولي. وبنى الصيدلاني والقاضي الحسين الخلاف في المسألة على أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا؟ كما جعلا هذا الأصل أصلاً لاشتراط الطهارة في الصلاة. قال الإمام: "ويبعد عندي اشترط الطهارة في سامعي الخطبة"؛ وهذا منه يدل على أن الخلاف في اشتراط الطهارة في السامعين، ولم أره إلا في "الإمام". وحكى المراوزة وجهاً في عدم وجوب الإنصات على من لم يسمع الخطبة؛ فلا يأثم بالكلام؛ لأنهم حكوا القولين فيمن يسمع، وقالوا فيمن لا يسمع: هل يجب عليه إذا قلنا: يجب على السامع؟ فيه وجهان، وهي طريقة حكاها القاضي الحسين مع الطريقة الأولى.

وقال الفوراني: إنها مبنية على الخلاف في المأموم إذا لم يسمع قراءة الإمام في الصلاة هل يقرأ السورة أم لا؟ وقد اقتضى كلام الشيخ أموراً: أحدها: أن محل القولين في الكلام حالة كون الإمام يخطب، ومقتضاه: أنه لو تكلم قبل الشروع في الخطبة أو بين الخطبتين حالة جلوسه أو بعد فراغهما وقبل الصلاة: أنه لا يحرم قولاً واحداً، وبه صرّح في "المهذب" و"الوسيط"، وكذا في "المرشد"، وقال بذلك في الكلام حالة الدعاء للأمراء. والمذكور في "الشامل" و"تعليق" البندنيجي، إجراء القولين في الكلام وهو في الجلسة بين الخطبتين، والأولى تركه بكل حال. الثاني: أن القولين يجريان في حق كل من حضر الجمعة؛ لأنه أطلقهما، وكذا أطلقهما غيره من أهل الفريقين. وقال الإمام: أنا أقول: من أنكر وجوب الاستماع إلى الخطبة، فليس معه من حقيقة هذه المسألة شيء؛ فيجب القطع على مذهب الشافعي بأنه يجب الاستماع إلى الخطبة، وكيف يستجاز خلاف ذلك على طريقة الشافعي في مسألة الإتباع، وقد بنى إيجاب الخطبة والقعدة بينهما على ذلك؟! وفهم أن الغرض من الخطبة: تجديد العهد في كل جمعة بوعظ الناس، وكيف يتحقق مع هذا تجويز ترك الإصغاء إلى الخطبة، ولو كان كذلك لما كان في إيجاب حضور أربعين من أهل الكمال معنى وفائدةٌ، ولوجب أن يشرع أن يحضروا ويناموا والإمام رافع عقيرته، وإذا كان كذلك فيجب أن يحضر أربعون من أهل الكمال [، ويجب أن يصغوا، ويجب على الخاطب أن يسمعهم أركان الخطبة، وحينئذ يتعين أن نقول: إن حضر أربعون من أهل الكمال] الخطبة لا غير، وقعد آخرون- سقط الفرض في الاستماع عن الكافة.

وإن حضر الخطبة عدد كثير، وكان كل منهم بحيث يسمع، فهو محل القولين في جواز التكلم. ووجه الوجوب: أنا لو جوزنا لكل واحد أن يتكلم؛ تعويلاً على أنه يبقى أربعون غيره، لجرَّ ذلك جواز الكلام للكل؛ ولأجل ذلك قال الغزالي: ففي وجوب الإنصات وترك الكلام على من عدا الأربعين قولان. فأفهم [أن] الخلاف فيمن جاوز الأربعين، وأنه يجب الإنصات وترك الكلام على أربعين قولاً واحداً. وقال الرافعي: إنه بعيد في نفسه، ومخالف لما نقله الأصحاب: أما بعده في نفسه: فلأن الكلام في السامعين للخطبة؛ ألا تراه يقول بعد ذلك: في وجوبه على من لا يسمع الخطبة وجهان؟! وإذا حضر جمع زائد على الأربعين، وهم بصفة الكمال؛ فلا يقال بأن الجمعة تنعقد بأربعين منهم على التعيين حتى يفرض تحريم الكلام عليهم قطعاً، والتردد في حق الآخرين؛ بل الوجه: الحكم بانعقاد الجمعة بهم وبأربعين منهم لا على التعيين. وأما مخالفته لنقل الأصحاب؛ فلأنك لا تجد إلا إطلاق القولين في السامعين، ووجهين في غيرهم. قلت: ولاشك في أن ظاهر كلام الغزالي وإن اقتضى أن الأربعين الذين يجب عليهم الإنصات معينون، فمراده: أربعون لا على التعيين، وحقيقته ترجع إلى الواحد من الحاضرين؛ إن غلب على ظنه استماع أربعين فأكثر الخطبة، جاء في جواز الكلام له القولان. ومع هذا ينتفي الاعتراض من هذه الجهة. وقد قال الإمام بعد تقرير ما ذكرناه عنه: إن هذا يضاهي ما لو تحمّل جماعةٌ شهادةً وكان الحق يثبت بشاهدين، فإذا طالب ذو الحق واحداً منهم بإقامة الشهادة، ففي جواز امتناعه عن إقامة الشهادة- تعويلاً على أن الغرض يحصل بغيره- خلاف، ولكن الأظهر في الشهادة تعين المدعو، والمنصوص عليه في

الجديد هنا: أن الإنصات لا يجب، وميل أئمة المذهب إلى الجديد في محل الخلاف، ولعل السبب الفارق فيه أن المدعو من الشهود قد تعلق به طلب ذي الحق على التعيين، وآحاد من يحضر المقصورة لا يتخصص بمطالبة. ثم قال: وعندي أن هذا يضاهي ما لو قال ذو الحق للشهود- وهم مائة-: لا تغيبوا؛ فحاجتي ماسّة إلى إقامة الشهادة، فلو غاب جمع منهم، وكان الحق يستقل بمن بقي- فيظهر أن الذين غابوا لا يحرجون. ثم الصحيح- كيف فرض محل القولين عند الفريقين-: عدم وجوب الإنصات، وجواز الكلام؛ كما ذكره الشيخ، وقاسه المراوزة على الخطيب إذا تكلم في أثناء الخطبة، فإنه لا يأثم؛ لقوله- عليه السلام- لسليك الغطفاني: "قم فصلِّ ركعتين"، ولأنه كلَّم قَتَلَةَ ابن أبي الحقيق حين مقدمهم وهو على المنبر، وهذه طريقة حكاها الإمام، وأن شيخه قال بطرد القولين في تحريم الكلام على الخطيب أيضاً؛ لأن الشافعي في الجديد لما أباح الكلام للحاضر، احتج بتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته، ولو لم يكن ذلك في محل النزاع لما احتج به، وهذه الطريقة لائقة بطريقة الصيدلاني والقاضي الحسين أيضاً؛ فإنهما بنيا القولين في المأمومين على أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا؟ فإن قلنا: نعم، حرم، وإلا فلا. وهذا البناء بالخطيب أشبه، وقد أشار إليه القاضي الحسين في موضع من كتابه، وألحق به القيام في الخطبة والنية، وصرّح بحكاية القولين فيها من العراقيين: البندنيجي والقاضي أبو الطيب، [وقال الماوردي: إنه نص في القديم على تحريم الكلام على الخطيب].

قال الإمام: وهذا غلط عظيم مشعرٌ بالذهول عن حقيقة المسألة؛ فإن الإمام إذا تكلم فليس متمادياً في عمل الخطبة حتى يقال: فات بكلامه سماع ركن؛ فكان كما لو سكت لحظة. ثم على القول بطرد قول المنع فيه، فذاك فيما لا يتعلق ببيان الشرع والأحكام، أما ذلك فلا يحرم بحال؛ كذا قاله الشيخ أبو محمد؛ موجهاً له بأن الخطيب يجوز له أن يضمن خطبته بيان حكم، وتعليم الناس أمراً شرعيّاً، سيما إذا كان متعلقاً بما هو لائق بالحال، وعليه [حمل] كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتلة ابن أبي الحقيق؛ لأنه يتعلق بأمرهم بالجهاد، وهو من أهم قواعد الشرع. وأما كلامه لسليك الغطفاني، فذاك ظاهر في التشريع. الثالث: أن القولين جاريان في حال استقرار المأموم جالساً، وفي حال مروره [و] قبل أن يأخذ لنفسه موضعاً. وقد حكى صاحب "التقريب" والصيدلاني عن نص الشافعي في الحالة الأخيرة الجواز؛ ولأجله جعلا محل القولين حالة الاستقرار، ووجها النص بأنه لما جاز أن يصلي ركعتي التحية، ويقرأ وهو مناقض للإنصات، دل على عدم وجوبه، وقصة عثمان مع عمر- رضي الله عنه- تدل على ذلك أيضاً؛ [لأنه كالمه] قبل استقرار جلوسه. التفريع: إن قلنا بالقديم- وهو تحريم الكلام- فإذا دخل شخص، وسلم على الحاضرين، لا يجوز لهم رد السلام بالنطق؛ لأنه أوقعه في غيره محله، وفرض السكوت سابق. وإن رد بالإشارة فحسن. وقال الرافعي: إنه يستحب إجابته بالإشارة كما في الصلاة. ولفظ القاضي الحسين يقرب منه، فإنه قال: "يرد السلام بالإشارة". ولو عطس شخص فهل يشمَّت؟ فيه وجهان في "تعليق" البندنيجي وغيره:

أحدهما: لا؛ كرد السلام، وهو ما نص عليه. والثاني: نعم، وهو من تخريج أبي إسحاق. والفرق أنه غير مختار في سببه. قال القاضي الحسين: وهذا لا يصح؛ لأنه تشميت العاطس سنة، والإنصات فرض؛ فلا يترك الفرض بالسنة. ثم قال الإمام: إذا قلنا بالجواز، فهل يستحب؟ فيه وجهان. وعن "البيان": أن بعض الأصحاب قال: إنه يرد السلام، ولا يشمت العطس؛ لأن تشميت العاطس سنة، ورد السلام واجب فلا يترك بالسنة، وقد يترك بواجب آخر. وإن قلنا بالجديد، فله تشميت العاطس وجهاً واحداً. وفي استحباب السلام وجهان في "النهاية": أحدهما: نعم؛ لأنه فرض كفاية، وبه جزم البندنيجي وأبو الطيب. والثاني: لا؛ لأنه [لا] يستحب للداخل، فهو مفرِّط بالإتيان به؛ فلا يستحق جواباً. قال الإمام: ولا يجب وجهاً واحداً؛ لتقصيره. وحكى القاضي الحسين والبغوي في وجوبه وجهين. وعلى القولين معاً: إذا رأى رجلاً يقع في بئرٍ، أو رأى عقرباً تدب إليه، أو جداراً يريد أن ينقض عليه- فلا يحرم كلامه له فيها على ذلك قولاً واحداً، ويقاس عليه ما في معناه. قال القاضي أبو الطيب: ولو قال الخطيب: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] فضج الناس بالصلاة عليه كره؛ لأنه يقطع عن الخطبة، وعن السماع إليها. وقال في "الروضة": يجوز للمستمع أن يصلي عليه رافعاً [بها] صوته. وقال الروياني في "التلخيص": إنه لا نص للشافعي فيها، وإن أصحابنا قالوا:

يجب أن تكون بمنزلة تشميت العاطس؛ لأن كل واحدة منهما سنة. قال: وإن أدرك- أي: المسبوق- الإمام راكعاً في الثانية- أي: وهي محسوبة للإمام- أتم الجمعة، أي: بأن يضيف إليها أخرى بعد سلام الإمام؛ لما روى الدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك الركوع من الآخرة يوم الجمعة، فليضف إليها أخرى، ومن لم يدرك الرُّكوع من الآخرة، فليصلِّ الظُّهر أربعاً". فإن قلت: هذا الخبر في رجاله ضعيفان [كما] قال عبد الحق. قلت: قد قال: إن الصحيح حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك من الجمعة ركعةً، فليصلِّ إليها أخرى" ذكره الدارقطني أيضاً، وهذا قد أدرك ركعة. والمراد بإدراك الركعة: أن يحرم المأموم ويركع والإمام راكع؛ فيجتمعان في جزء منه- كما قاله ابن الصباغ- ويتابع الإمام في بقية الركعة إلى أن يتم. وعبارة غيره: "أن يلتقيا على صفة الإجزاء في الركوع". أما إذا لم تكن الثانية محسوبة للإمام؛ بأن كان محدثاً، فهل يكون مدركاً للجمعة بها أم لا؟ الذي حكاه القاضي أبو الطيب في شرح "الفروع": أنه لا يكون مدركاً قولاً واحداً، ولا للركعة. قال: وهكذا الحكم فيما لو أدركه مسبوق في غير الجمعة في الركوع وهو محدث، لا يكون مدركاً لتلك الرجعة. والمراوزة حكوا في كل من المسألتين خلافاً، لكنهم جعلوا الخلاف في الأولى مبنيّاً على الخلاف في الثانية، مع ملاحظة أصل آخر، وهو أن المصلي للجمعة خلف المحدث هل يعيد؟ فإن قلنا: يعيد، فها هنا لا يكون مدركاً للجمعة. وإن قلنا: لا يعيد: فإن قلنا: إذا كان محدثاً في غير الجمعة، لا يكون المقتدي به في الركوع

مدركاً للركعة، فكذا هنا. وإلّا كان مدركاً للجمعة. والصحيح: [أنه] لا يكون مدركاً للركعة؛ لأن الحكم بإدراك الركعة بالركوع خلاف الحقيقة، وإنما يصار إليه إذا كان الركوع محسوباً من صلاة الإمام؛ ليتحمل عنه، والمحدث لا يصلح للتحمل عن الغير، وقد ذكرنا ذلك في باب صلاة الجماعة. قال: وإن أدركه بعد الركوع- أي: فيها- أتم الظهر؛ لخبر أبي هريرة إن صح، وإن لم يصح فلمفهوم خبر ابن عمر؛ فإنه يقتضي أنه لا يقتصر على ركعة أخرى. ولا فرق في ذلك بين أن يحرم والإمام راكع، فيرفع قبل هويِّ المسبوق للركوع أو بعده؛ كما نص عليه في "الأم". ولو وقع الشك في أنه أدركه راكعاً أو رافعاً منه لزمه الظهر؛ لأن الأصل عدم الإدراك؛ نص عليه في "الأم"، ولم يخرج على تقابل [الأصلين]؛ احتياطاً للعبادة. وهكذا الحكم فيما لو تحقق إدراك الركوع مع الإمام ووقع الشك في أنه: هل أدرك معه تمام الركعة أم لا؟ مثل: أن يصلي بعد مفارقته ركعة أخرى، ويذكر أنه فاته من إحدى الركعتين سجدة، ولم يعرف عينها- يتم الظهر؛ لأن الأصل عدم إتمامها مع الإمام؛ نص عليه في "المختصر". ومن طريق الأولى: إذا علم أنه تركها من الأولى أن الحكم كذلك. نعم، لو عرف الحال قبل مفارقة الإمام، وسجد، ورفع منه [والإمام] بعد في التشهد- أتمها جمعة في أصح القولين في "الشامل"؛ لأنه أدرك ركعة ملفقة، وفي الإدراك بها خلاف.

وبعضهم جزم بأنه يدرك؛ لأنه لا يرى هذا تلفيقاً، وستعرفه. والوجه عندي بناء ذلك على ما سيأتي في الزحام عن السجود في الأولى إذا لم يزل حتى جلس الإمام للتشهد، وسنذكره إن شاء الله تعالى. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ: أنه يتم الظهر إذا أدركه بعد الركوع، وإن كان قد نوى الجمعة، ولاشك أن له فيما إذا لم يدرك الركوع حالين قبل التحرم: إحداهما: أن يظن إدراك الجمعة، فهو يحرم بالجمعة لا محالة، وإن أحرم بالظهر، فالظاهر أنه يجيء في صحة نيته ما تقدم في أول الباب قبله. والثانية: أن يتحقق الفوات بأن كان الإمام قد رفع، ففي هذه الحالة هل ينوي الظهر أو الجمعة؟ فيه وجهان عن [رواية] صاحب "البيان" وغيره: أحدهما: أن ينوي الظهر؛ لأنه الذي عليه. والثاني- وهو الأظهر، وبه جزم الروياني، وظاهر كلام الجمهور يقتضيه-: أنه ينوي الجمعة موافقة للإمام. وإذا عرفت ذلك فنقول: إن كان المأموم قد نوى الظهر، وصححنا نيته، فلا إشكال. وكذا إن لم نصححها. وإن نوى الجمعة، فالذي قاله القاضي الحسين في "الفتاوى" إن نوى بعد تحقق الفوات: أن يصلي الجمعة ركعتين، فإذا سلم الإمام قام وصلاهما نافلة، ثم يصلي الظهر أربعاً. وإن نوى صلاة الجمعة [مطلقاً، ففيه وجهان: أحدهما: يقتصر على ركعتين، ثم يصلي الظهر أربعاً]. والثاني: يكملهما ظهراً؛ بناءً على ما لو خرج وقت الجمعة وهم في الجمعة، فإن المذهب المنصوص: أنه يتم أربعاً. وفيه قول آخر: أنه يقتصر على ركعتين ثم يصلي الظهر. قلت: ويجيء في المسألة وجه آخر: أنها تبطل كما قيل بمثله فيما إذا خرج

الوقت وهم في الصلاة. وأصله: أن من تحرّم بصلاة قبل وقتها هل تبطل أو تنقلب نفلاً؟ وفيه خلاف مشهور. والجامع: اختلال شرط [من شرائط] المنوي. ويجيء فيما إذا قلنا: إنه يتمها ظهراً، أنه هل يحتاج إلى تجديد النية أم تكفي الأولى؟ ما تقدم- أيضاً- عند خروج الوقت، وهم في الصلاة، ولاشك في جريان جميع ما ذكرناه فيما إذا تحرَّم بالجمعة، واعتقاده أنه يدركها، والقول بعدم البطلان أظهر فيها، والله أعلم. واعلم أنه قد اندرج تحت قول الشيخ: "وإن أدركه بعد الركوع، أتم الظهر" ما إذا قام الإمام في الجمعة إلى ثالثة ساهياً، فأدركه المسبوق فيها، وأتى معه بالقراءة، أو لم يأت بها بل أدركه في الركوع، وظن المسبوق أن الإمام في الأولى أو الثانية، وهو ما أورده القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين. وبعضهم ينسب ذلك إلى قول ابن الحداد، ولم يحك غيره، وعليه جرى ابن الصباغ. وقال المراوزة فيما إذا أدرك معه القراءة [فيها، وركع معه]، وتابعه حتى سلم: هل يكون مدركاً للجمعة بذلك أم لا؟ يبنى على أن من اقتدى بمن قام إلى ثالثة في الصبح أو خامسة في الظهر ساهياً، وادرك معه القراءة- فهل يعتدُّ له بتلك الركعة أم لا؟ فإن قلنا: لا يعتد له بها- كما هو وجه حكاه الشيخ أبو علي؛ قياساً على ما لو بان [كافراً- فها هنا أولى. وإن قلنا: يعتد له بذلك- وهو المذهب؛ قياساً على ما لو بان] محدثاً- فها هنا هل يكون مدركاً للجمعة؟ فيه وجهان مشهوران مبنيان- كما قال الإمام-

على القولين في الإمام لو بان محدثاً: هل تصح الجمعة لمن خلفه أو لا؟ وفيه قولان: فإن قلنا: تصح كما يصح غيرها خلف المحدث، أدرك المسبوق الجمعة بإدراك الركعة الثالثة التي قام إليها الإمام ساهياً. [وإن قلنا: لا تصح الجمعة خلف المحدث، لا يكون مدركاً للركعة التي قام إليها ساهياً] في الجمعة، مدركاً للجمعة. وقالوا فيما إذا أدركه في ركوع الثالثة، وقد قام لها الإمام ساهياً: إن قلنا فيما إذا أدرك القراءة معه فيها لا يكون مدركاً للجمعة، فها هنا أولى، وإلا فوجهان يبنيان على ما سبق فيمن أدرك القائم في صلاة الصبح إلى ثالثة ساهياً في الركوع: هل يدرك الركعة أم لا؟ فإن قلنا: لا يدركها- كما هو الصحيح- لم يدرك الجمعة هنا، وإلا أدركها. وهذا كله إذا اعتقد المسبوق أن الثالثة التي أدرك الإمام فيها أو في ركوعها أوَّلة الإمام أو ثانية، فأما لو عرف قبل تحرمه بالصلاة أنها ثالثة، فقد قال القاضي الحسين: صح اقتداؤه، وإن تابعه بطلت صلاته. وإن من الأصحاب من قال: لا تنعقد صلاته خلفه، وهو المذهب؛ لأن الركعة الثالثة لا تكون محسوبة للإمام؛ وهذا ما حكاه الرافعي، وكذا الإمام قبله، وادعى الاتفاق عليه. وحيث قلنا بانعقاد صلاته، وأنه لا يكون مدركاً للجمعة، أتم الظهر أربعاً؛ فيأتي في الصورة الأولى بثلاث ركعات [بعد سلام الإمام] على المذهب، وهو ما حكاه القاضي الحسين، وقال: إنه لا يقرأ التشهد مع الإمام، بخلاف المأموم المسبوق؛ فإنه إذا قعد الإمام للتشهد فإنه يقرأ مع التشهد؛ لأن ذلك موضع تشهده. وفي الصورة الثانية يأتي بأربع ركعات على المذهب. فرع: لو قام الإمام إلى ثالثة ساهياً، وكان مسبوقٌ قد أدركه في الثانية، وقرأ معه، وظن أنها أولة الإمام، فإذا قضى الإمام الصلاة، سلم المسبوق معه،

وتمت جمعته؛ لأنه حصل له ركعة مع الإمام على حكم المتابعة، وهي أولته، وركعة معه على حكم الانفراد، وهي الثانية. ولو كان الإمام- والصورة هذه- قد نسي سجدة، ولم يعرف موضعها، فقد تمت جمعته، وأما المأموم، فهل يتابعه في السلام؟ قال البغوي: إن كانت السجدة من الثانية؛ فلابد من ركعة أخرى بعد سلام الإمام، وكذا لو شك أنها من الأولى أو الثانية. وإن تحقق أنها من الأولى، فقد قال القفال- كما حكاه الصيدلاني، ولم يحك غيره، وهو المذكور في "شرح الفروع" للقاضي أبي الطيب لا غير-: إنه يتابع الإمام في السلام، ويكون كالمسبوق يصلي مع الإمام ركعة [وركعة] منفرداً، غير أن هاهنا الركعة الأولى في حكم الانفراد، حتى لو كان أدرك الركوع من الركعة الثانية لا تحسب له هذه الركعة، والثانية محسوبة له من الجمعة، فإذا سلم الإمام قام وصلى ركعة أخرى. ومن أصحابنا من قال: يلزمه ذلك وإن كان قد أدرك الإمام في أوّل الثانية؛ لأن الثانية غير محسوبة للإمام؛ فلم يجز أن تقع للمأموم عن الجمعة؛ لأنه منفرد بها، فإدراك ركعةمن الجمعة بعدها لا تصير جائزة من الجمعة؛ لأن انفراد المأموم بركعة إنما يصح إذا كان قد أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة؛ فتكون الثانية تبعاً للأولى، فهو كما لو صلى ركعة منفردة، ثم وصل صلاته بجمعة الإمام، [وصلى معه ركعة، لا تتم جمعة، وإن جوزنا وصل صلاته بصلاة الإمام. وقال الإمام:] إن القفال [استشعر] هذا سؤالاً، وأورده على نفسه، وانفصل عنه بأن [من] نيته الانفراد في غير هذه الصورة تارك للقدوة في ابتداء الصلاة، والقدوة شرط الجمعة، ووقت نيتها التحرُّم وتكبيرة العقد، وفي المسألة التي نحن فيها نوى القدوة في وقتها؛ فحصلت، وتحقق الإدراك في ركعة. وفي "الذخائر": أن القاضي حسيناً حكى ما ذكرناه عن القفال- أيضاً- وقال:

إن هذا بالعكس مما وضعت عليه الجمعة؛ [فإنا بنينا] الجمعة في حقه على ركعة محسوبة من الظهر، وإنما يبنى الظهر في هذه الصلاة على الجمعة. وإن الشيخ أبا بكر قال: وفيه نظر؛ فإن المأموم هنا إنما نوى صلاة الجمعة، فمن أين يحصل ما ذكره؟! فهذا سهو. قال: وإن زحم [عن السجود]، أي: المقتدي في الركعة الأولى أو الثانية، وأمكنه أن يسجد على ظهر إنسان- فعل؛ لقول عمر- رضي الله عنه-: "إذا اشتد الزحام، فليسجد أحدكم على ظهر أخيه"، ولا يعرف له مخالف. ولأنه إذا سجد على ظهر أخيه، فليس فيه إلا أنه سجد على موضع ناشز بين يديه، وهذا لا يمنع صحة الصلاة؛ كما إذا سجد على ما ارتفع من الأرض، أو سجد المريض على مخدة؛ لعلة منعته من السجود على الأرض. والحكم فيما لو قدر على أن يسجد على رجل غيره، أو رأسه، أو عضو من أعضائه، كالحكم فيما إذا قدر أن يسجد على ظهره من طريق الأولى؛ لأن الكل دون الظهر في الارتفاع، ومقصود السجود الانخفاض؛ ولهذا اشترطنا ألا يكون أعالي الساجد أعلى من أسافله. وهل يشترط أن تكون أسافله أعلى من أعاليه حتى لا يجزئه استواؤهما؟ فيه وجهان: اقتصر بعضهم على حكاية الاشتراط. وصور الأصحاب الاستفال ها هنا: بأن يكون الساجد على موضع شاخص والمسجود على ظهره في وهدةٍ من الأرض. وعن صاحب "العدة" أنه قال: لا يضر ارتفاع الظهر ها هنا، والخروج عن هيئة

الساجدين؛ لمكان العذر. ويحكى عن صاحب "الإفصاح" أيضاً. وما ذكره الشيخ هو الجديد، وعليه نص في "الأم"، ولفظه فيها: "إن تمكن أن يسجد على ظهر إنسان، لزمه". وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب وغيره: أنه يحكي عن القديم [ثم] قول آخر: أنه بالخيار: إن شاء سجد على ما [قدر عليه] مما ذكرناه، وإن شاء ترك السجود إلى أن يزول الزحام، ثم يسجد، كما هو مذهب الحسن البصري؛ لأنه إذا سجد مع الإمام على ظهر إنسان أحرز فضيلة السجود في الجماعة، وإذا سجد على الأرض وحده، أحرز فضيلة السجود على الأرض؛ فتقابلت في حقه فضيلتان؛ فخير بينهما. قال البندنيجي: وهذا أخذ من قوله في القديم: "إن سجد على ظهر إنسان أجزأه". وسها في ذلك؛ فإن قصد الشافعي بما ذكر في القديم بيان مذهبه، والرد على مالكٍ؛ فإنه لا يجزئه لو سجد على ظهر غيره، لا أن قصده أنه مخير فيه؛ فالمذهب أن عليه ذلك قولاً واحداً، وما ذكر من علة التخيير يبطل بالمريض؛ فإنه لا يخير بين فعلها في الوقت على حسب الإمكان، وبين تأخيرها ليأتي بها على فضيلة الكمال في الأفعال؛ بل الفرض: أن يأتي بها في الحال على حسب الإمكان وإن تقابل في حقه الفضيلتان، كذا ها هنا. وقد رأيت في بعض الشروح: أن صاحب "الإفصاح" أومأ إلى أنه يصبر ولا يسجد على الظهر. واعلم أن الشيخ محيي الدين النواوي قال: إن قول الشيخ: زحم- بغير واو- هكذا ضبطناه عن نسخة المصنف، ويقع في أكثر النسخ بالواو، والأول أصوب؛ لأنه أعم؛ فإن الزحم يكون بمزاحمة وبغيرها، يقال: زحمه يزحمه زحماً، وقد زحم. قال: [و] قوله: "وأمكنه أن يسجد على ظهر إنسان" الأولى حذف لفظ

"إنسان"؛ لأنه أعم. قلت: لكن الشيخ اتبع فيه الشافعي؛ فإنه قاله هكذا، وهو الغالب. قال: فإن لم يمكنه، انتظر حتى يزول الزحام؛ لأن ذلك نهاية قدرته واستطاعته، وقد قال- عليه السلام-: "إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم". وحكى الشيخ أبو محمد وراءه وجهين: أحدهما: أنه يومئ بالسجود كالمريض. والثاني: أنه يتخير بين الانتظار والإيماء. قال الإمام: وهذه الوجوه كالوجوه في العاري يقعد ويومئ في وجه، ويقوم ويتم الأركان في آخر، ويتخير بينهما في الثالث. ولست أرى لما ذكره وجهاً، ولم يتعرض له أحد من أصحابنا؛ فإن الاقتصار على الإيماء خارج عن القانون، لا أصل له، وتشبيهه بالمريض ساقط؛ فإن هذا مما يندر ولا يدوم، وتمكن المصلي من السجود قائماً والاستئخار عن الإمام بأركان، أقرب من الاقتصار على الإيماء في ركن لا يتطرق إليه التحمل؛ فإذاً الوجه: القطع بما ذكره الشيخ وهو الانتظار، وقد رأيت الطرق متفقة على أن التخلف بعذر الزحمة لا يقطع حكم القدوة على الإطلاق. قال الإمام: ولو صار إليه صائر من جهة أن الإتباع على شرط الوفاء بالقدوة عند الاختيار متعذر، وإذا تعذر تحقيق الاقتداء فعلاً، وأحوج الازدحام إلى التخلف بأركان- لم يكن بعيداً عن القياس، ولكن لم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب، والمذهب نقل، وأنا لا أعتمد قط احتمالاً إلا إذا وجدت رمزاً أو تشبثاً لبعض النقلة. نعم، قال الشيخ أبو بكر الصيدلاني: إن الزحام والحالة هذه عذر يجوز الانفراد، وقد حكاه القاضي الحسين عن النص حيث قال الشافعي: إن أمكنه أن يسجد على ظهر رجل فعل، فإن لم يفعل خرج من صلاة الإمام، وأتم لنفسه الصلاة.

قال: يعني: فليخرج نفسه، وينوي الخروج من إمامته، فإذا فعل، جاز، ولكن هل يتم ظهره أم لا؟ فيه قولان؛ إذ هو ظهر قبل فوات الجمعة. وقد اقتصر في "التهذيب"- لأجل ذلك- على حكاية جواز الخروج بعذر الزحمة. وحكاه [في] "الحاوي" وجهاً مع وجه آخر: أنه ليس بعذر يجوز الانفراد، ثم قال الإمام: وما ذكره الشيخ أبو بكر حسن في غير الجمعة، أما في الجمعة فيظهر عندي منعه من الانفراد؛ لأن إقامة الجمعة واجبة، والخروج عنها قصداً مع توقع إدراكها لا وجه له، فإن جوزنا له الخروج، فخرج، وأراد أن يتمها ظهراً، فهل يصح؟ فيه قولان؛ لأنه ظهر قبل فوات الجمعة، وفيه خلاف سبق. قال: ثم يسجد، أي: عقيب زوال الزحام؛ لأن التأخير كان لعذر الزحمة وقد زال. قال الأصحاب: ولا يضره سبق الإمام له بالسجدتين؛ لأنه كان معذوراً في التخلف، ومثل ذلك يجوز للعذر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم عسفان صلاة الخوف بجميع [الجيش] وركع بهم، وسجد بطائفة، وحرست طائفة، فلما رفع النبي صلى الله عليه وسلم والناس من السجود، سجدت الطائفة الحارسة، ولم يضرهم سبقه حيث كانوا معذورين في ذلك؛ كذا هاهنا. وما ذكرناه مفروض فيما إذا كان الزحام في الثانية أو كان في الأولى، وزال قبل الركوع في الثانية، أما إذا زال عند ركوع الإمام في الثانية، فسيأتي حكمه. قال الأصحاب: ويستحب للإمام إذا كان الزحام في الأولى، وزال قبل الركوع في الثانية: أن يطيل القيام؛ ليدركه المزحوم، ويقرأ معه الفاتحة. قال: فإن أدرك الإمام، أي: بعد فعل ما عليه من السجود قبل السلام، أي: وقد كان الزحام في الثانية، أو في الأولى، وزال قبل الركوع في الثانية كما ذكرناه- أتم الجمعة؛ لأنه أدرك مع الإمام ركعة بعضها حسّاً- وهو ما عدا السجود- وبعضها حكماً وهو باقيها؛ فاندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعةً من الجمعة،

فليصلِّ إليها أخرى". ولأنّه أدرك مع الإمام ركعة يحتسب له بها؛ فوجب أن يكون بها مدركاً للجمعة، كما لو أدركها كلها حسيّاً، وهذا هو الصحيح بالاتفاق. وفي بعض الصور جزم به بعضهم، وليس الجزم خال عن نزاع، وسنبينه، إن شاء الله تعالى كما ستعرفه. أما إذا زال الزحام حال ركوع الإمام في الثانية فسيأتي حكمه. ثم قوله: "أتمّ الجمعة" ظاهر في أنه يفعل ذلك قبل سلام الإمام، سواء وافق في ذلك ترتيب صلاة الإمام أو خالفه. والأصحاب قالوا: إن كان الزحام في الأولى، فله في إدراكه الإمام أربعة أحوال: الحالة الأولى: أن يدركه قائماً في الثانية، وتمكن من قراءة الفاتحة قبل ركوعه، وجب عليه ذلك، ثم يتابعه إلى السلام إذا تمكن من المتابعة، وقد حصلت له الجمعة قولاً واحداً؛ وهذا مما لا خفاء فيه. قال البندنيجي: وهكذا الحكم في كل من فاته السجود مع الإمام؛ لعذر من مرض أو سهو، وقد ركع معه، ثم قدر على السجود قبل أن يركع إمامه في الثانية- فإنه يسجد، ويلحق به. نعم، لو زوحم المزحوم في الأولى في الركعة الثانية أيضاً، وتمكن من السجود قبل السلام- سجد، فإذا أدرك الإمام قبل أن يسلم سلم معه، وحصلت له الجمعة عند الشيخ أبي حامد أيضاً قولاً واحداً. وقال القاضي أبو الطيب: هل يدرك بذلك الجمعة أم لا؟ فيه الخلاف الذي سنذكره في الركعة الملفقة هل يدرك بها الجمعة أم لا؟ كذا حكاه ابن الصباغ عنه، وقال: إنه ضعيف؛ لأنه أدرك جميع الصلاة بعضها فعلاً وبعضها حكماً؛ فثبت له حكم الجماعة. والذي رأيته في "تعليقه": حكاية الخلاف فيما إذا زحم عن الأولى، ثم زال، وسجد، وأدرك الإمام قائماً، ثم زحم عن السجود في الثانية فأتى به بعد سلام

الإمام؛ لعجزه عنه قبل السلام، قال: لأنه حصل له ركعة ملفقة؛ فإنه فعل بعضها متابعاً للإمام، وبعضها في حكم متابعته. وعلى كل حال فهذه الطريقة تقتضي أن من زوحم عن السجود في الأولى، وأتى به والإمام قائم في الثانية يكون الحاصل له ركعة ملفقة؛ فيأتي فيها الخلاف الذي سنذكره، وحينئذ فيكون ضابط التلفيق: التخلف عن الإمام بالسجود تخلفاً لو فعله بلا عذر لأبطل الصلاة، لكن الإمام جزم القول بأن هذه الركعة لا يجري عليها حكم التلفيق، وجعلها في حكم المأتي بجميعها في قدوة حسية، وتبعه في ذلك الرافعي، [ولم يحك] سواه. الحالة الثانية: أن يدرك الإمام قائماً في الثانية، ولا يتمكن من قراءة [كل الفاتحة قبل ركوع الإمام، بل تمكن من قراءة بعضها، أو لا يتمكن من] قراءة شيء منها، أو يدركه وقد ركع- ففي هذه الصور: هل يجعل كالمسبوق حتى يقال: في وجوب إتمام قراءة الفاتحة عليه في الصور الأولى الخلاف في المسبوق، ولا يجب عليه القراءة في الصورة الثانية والثالثة قولاً واحداً؛ بل يركع مع الإمام؟ أو يقال: ليس هذا كالمسبوق؛ لأنه أدرك مع الإمام محل القراءة، وهو القيام بجملته، لكنه اشتغل عنها؛ فيجب عليه أن يأتي بالقراءة في الصور الثلاث؟ هذا مما اختلف فيه الأصحاب من أهل الطريقين على وجهين، والأصح منهما في الصورتين الأوليين: الثاني، وبه جزم الفوراني فيهما. وفي الصورة الثالثة، الصحيح عند الجمهور، ومنهم ابن الصباغ والماوردي، الأول، وقال القفال- وتبعه القاضي الحسين والبغوي-: إن الصحيح فيها الثاني أيضاً. وإذا قلنا بالأول، ففي الصورة الأولى: هل يجب عليه أن يتم القراءة؟ فيه خلاف، فإن أوجبنا إتمامها، وأتمها، وأدرك الإمام في الركوع، أو لم نوجب الإتمام- فإنه يركع مع الإمام، وكذا في الصورة الثانية والثالثة، ويعتد [له]

بتلك الركعة، وهل يتم بها جمعته؟ يظهر أن يأتي ما تقدم من أنه إن أتم معه الركعة حصلت له الجمعة. وإن زوحم عن السجود في الثانية، ففيه الطريقان: طريقة الشيخ أبي حامد، و [طريقة] القاضي أبي الطيب المتقدمتان، والله أعلم. وإذا قلنا بالثاني، قال ابن الصباغ: يقرأ ما لم يخف فوت الركوع، فإن خاف فوته، فهل يتم القراءة أو يركع؟ فيه خلاف مبني على القولين فيما إذا لم يزل الزحام حتى ركع الإمام في الثانية. وقال القاضي الحسين: إنه يقرأ، ويمشي على ترتيب صلاة نفسه، وإن سبقه الإمام بثلاثة أركان، [وإن] زاد عليها فوجهان: أحدهما: أن الحكم كذلك، وهو ما أورده الإمام الغزالي. والثاني: يخرج نفسه من متابعته، فإن تابعه بطلت صلاته. وحكى في نظير المسألة من بعد وجهاً ثالثاً: أنه يتابع الإمام من حيث بلغ الإمام، ثم يقضي ما فاته بعد سلام الإمام. وفي "الكافي" قبيل [باب] موقف الإمام [والمأموم]، حكاية ثلاثة أوجه [في المسألة]: الأولان، ووجه ثالث: أنه يتخير: إن شاء أخرج نفسه عن متابعته، وأتم لنفسه، وإن شاء ثبت على متابعته، وماذا يصنع؟ وجهان: أحدهما: يجري على أثره أبداً. والثاني: يتابع الإمام في الركن الذي هو فيه، ثم بعد سلام الإمام يقضي ما فاته. وفي "التتمة": أنه يمشي على ترتيب صلاة نفسه ما لم يسبقه الإمام بثلاثة أركان، فإن سبقه بثلاثة أركان، ففيه الأوجه الثلاثة التي حكيناها عن القاضي. قال القاضي: والاعتدال من الركوع والجلسة بين السجدتين هل يعد ركناً؟ فيه وجهان.

وهو في حال مشيه على ترتيب صلاة نفسه إلى حيث يدرك الإمام على حكم الجماعة، وإن لم يقتد بالإمام فيها حسّاً؛ فإن حكم القدوة منسحب عليه، فلو سها لم يسجد، قاله الإمام. الحالة الثالثة: أن يدركه رافعاً من ركوع الثانية أو ساجداً، فهل يقضي ما عليه من القراءة وغيرها أو يتبعه في السجود؟ فيه وجهان: إن جعلناه كالمسبوق تابعه، وإلا أتى بما عليه على ترتيب صلاته. وحكى الإمام طريقة أخرى: أنه في هذه الصورة [ليس له] إلا متابعة الإمام، ولم يورد البندنيجي غيرها؛ ولأجلها قال بعضهم: إن قلنا فيما إذا أدركه في الركوع: إنه يتبعه، فها هنا أولى، وإلا فوجهان. والصحيح ها هنا- كما قال القاضي أبو الطيب والبغوي- الإتباع، والفرق: أن هذه الركعة لم يدرك منها شيئاً يحتسب له به؛ فيكون بمنزلة المسبوق إذا أدرك الإمام رافعاً أو ساجداً، وليس كذلك إذا أدركه راكعاً؛ فإنه أدرك الركوع وما قبله فيلزمه أن يفعل ما بعده من السجود، وعلى هذا هل يدرك بالركعة التي أتى بها الجمعة أم لا؟ قال البندنيجي: فيه الخلاف المذكور في الركعة الملفقة، وكلام الإمام يقتضي الإدراك بها وجهاً واحداً، وقال: إنه إذا سلم الإمام قام، وأتى بركعة، وهل يثبت له في هذه الركعة حكم القدوة بالإمام حتى لو سها لا يسجد للسهو؟ فيه خلاف حكاه شيخي، وإثبات القدوة ضعيف لا أصل له، وكيف يقدر ذلك بمن ليس في الصلاة؟! الحالة الرابعة: أن يدركه في التشهد، فهل يتابعه، أو يمشي على ترتيب صلاته؟ فيه طريقان كما في الحالة قبلها. قال الإمام: وإذا جوزنا له التخلف، وأمرناه بالجريان على ترتيب صلاة نفسه، فالوجه أن يقتصر على الفرائض، فعساه أن يدرك الإمام، ويحتمل أن يجوز له

الإتيان بالسنن مع الاقتصار على الوسط فيها. فرع: حيث قلنا: لا يدرك الجمعة بالركعة التي [أدرك] بعضها مع الإمام حسّاً، وبعضها حكماً- كما تقدم- فهل يتمها ظهراً أو تبطل؟ فيه طريقان عند العراقيين: [أحدهما]: القطع بأنه يتمها ظهراً. والثاني: أنها هل تبطل أو يتمها ظهراً؟ فيه قولان؛ بناءً على القولين في إيقاع الظهر قبل فوات الجمعة. وقال المراوزة: هل تبطل، أو تنقلب نفلاً، أو يتمها ظهراً مع تجديد النية، أو بدونها؟ فيه خلاف مرَّ نظيره فيما إذا خرج وقت الظهر والإمام في الجمعة، وله التفاتٌ على أن الجمعة ظهر مقصور أو صلاة مستقلة بنفسها؟ وعلى أن الظهر هل يصح قبل فوات الجمعة أو لا؟ وعلى أنّ المتحرم بالصلاة قبل وقتها هل تبطل أو تنقلب نفلاً؟ فاعرف ذلك. قال الأصحاب: وإن كان الزحام في الثانية، وقد أدرك المزحوم مع الإمام الأولى من غير زحام، سجد، وسلم مع الإمام، وحصلت له الجمعة. وإن لم يدرك المزحوم معه الأولى، وهي إحدى صور مسألة الكتاب كما ذكرنا؛ لقول الشيخ من بعد: "وإن لم يدرك السلام، أتم الظهر"؛ إذ لو كان قد أدرك مع الإمام الأولى لأتم الجمعة بلا خلاف، كما ذكرناه، فقد قال القاضي الحسين: إن الزحام إذا زال فيها سجد المزحوم، فإذا أدرك الإمام لم يسلم بعد، تابعه حتى يسلم، فيقوم، ويأتي بركعة أخرى، وقد تمت جمعته. قلت: ويشبه أن يكون في إدراكه بهذه الركعة الجمعة الطريقان اللذان تقدما فيما إذا كان الزحام في الأولى، ووقع السجود والإمام قائم في الثانية؛ إذ جلوس الإمام للتشهد ها هنا كقيامه للثانية ثم، فتأمل ذلك. ويشبه أن يكون في متابعته الإمام حتى يسلم، أو اشتغاله بقضاء ما عليه قبل

سلام الإمام الطريقان في الحالة الرابعة من أحوال الإدراك، وقد حصل الزحام في الأولى؛ فاعرف ذلك. وإذا تأملت ما ذكرناه، عرفت أن جزم الشيخ القول بأنه إذا أدرك الإمام قبل السلام، أتم الجمعة- لا يخلو عن نزاع، والله أعلم. قال: وإن لم يدرك السلام، أي: بل سلم الإمام قبل فراغه مما عليه من السجود، وقد زوحم عن السجود في الأولى أو في الثانية، ولم يدرك مع الإمام الأولى- أتم الظهر؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة؛ فاندرج تحت مفهوم قوله- عليه السلام-: "من أدرك من الجمعة ركعةً فليصلِّ إليها أخرى". ولا فرق بين أن يقع رفعه من السجود وقد أتى الإمام بالتسليمتين أو بإحداهما. وللإمام احتمال في الإدراك فيما إذا رفع المزحوم رأسه من السجدة الثانية، وسلم الإمام قبل أن يعتدل المزحوم. وفي "تعليق" القاضي الحسين و"التهذيب" حكاية وجه: أنه يتمها جمعة وإن وقع سجود المزحوم بعد سلام الإمام؛ لأن هذا السجود بني على ركوعٍ أتى به مع الإمام، والمشهور الأوّل. ثم ما ذكره الشيخ من أنه يتمها ظهراً هو إحدى الطريقتين المذكورتين في كتب العراقيين. والطريقة الثانية: أنه هل يتمها ظهراً أو تبطل؟ قولان؛ بناءً على ما لو تحرم بالظهر قبل فوات الجمعة لعذر، والمزحوم ها هنا معذور. وطريقة المراوزة: أنها هل تبطل، أو تنقلب نفلاً، أو يتمها ظهراً بالنية السابقة أو بنية جديدة؟ فيه خلاف سبق. قال: وإن لم يزل الزحام، أي: الواقع في الركعة الأولى حتى ركع الإمام في الثانية، ففيه قولان، [أي] منصوصان في "الإملاء":

أحدهما: يقضي ما عليه؛ لقوله- عليه السلام-: ["وإذا سجد فاسجدوا". فوجب على المأموم أن يسجد؛ لظاهر الخبر، ولقوله- عليه السلام-:] "وما فاتكم فأتمُّوا"، أو: "فاقضوا". ولأنه شارك الإمام في جزء من الركوع؛ فوجب أن يسجد بعده؛ قياساً على ما إذا زالت الزحمة والإمام قائم في القراءة، وهذا ما ادّعى في "الحاوي" أنه الجديد، وصححه البندنيجي، وقال: [إن] ابن سريج وبن خيران وغيرهما قالوا: إنه اختيار المزني. والثاني: أنه يتبع الإمام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا ركع فاركعوا" والإمام راكع، وهو مقتد به؛ فوجب أن يركع معه، ولا يعارضه قوله- عليه السلام- "وإذا سجد فاسجدوا"؛ لأنه أمره بالسجود عقيب سجود الإمام، وقد فات. وإنما قلنا ذلك؛ لأنه أتى بالفاء المقتضية للترتيب والتعقيب، وقد أيد ذلك بقوله: "وإذا رفع فارفعوا". وأما قوله: "وما فاتكم فأتمُّوا"، أو: "فاقضوا"- فجوابه: أنه أمر بالمتابعة وبقضاء ما فات، فلو قلنا: يشتغل بقضاء ما فات، ولا يتابع، عطلنا أوّل الخبر، وإذا قلنا بأنه يتابع الإمام، فقد عملنا بأوّله وآخره؛ فإنا نأمره في الحال بالمتابعة، ونأمره بقضاء ما فاته إذا سلم، وهذا ما نص عليه [في] "الأم" أيضاً، وادعى البغوي أنه الجديد، وقال أبو إسحاق: إنه اختيار المزني. وسبب الاختلاف في ذلك: أنه صدر كلامه بحكاية ما نص عليه في "الأم"، ثم حكى القولين المنصوصين في "الإمام": أحدهما: فرضه القضاء دون المتابعة. والثاني: فرضه المتابعة دون القضاء. ثم قال: والأوّل أولى؛ لأن السجود لا يعتد به قبل الركوع، ولأنه لو سها خلف إمامه، فلم يفطن حتى ركع إمامه في الثانية، تبعه في ركوعه، فالذين قالوا:

إنه اختار أنه يقضي ما عليه، قالوا: أراد بالأول: الأول من القولين اللذين حكاهما عن "الإملاء"، وأبو إسحاق قال: أراد بالأول ما صدر به كلامه، وهو ما حكاه عن "الأم"؛ لأنّ تعليله يرشد إليه، ولأجل ذلك اختاره القفال أيضاً، وقال الفوراني والبغوي: إنه الأصح. وقد فرض الماوردي القولين أيضاً فيما إذا زال الزحام قبل ركوع الإمام في الثانية، لكن المزحوم علم أنه إن تشاغل بفعل السجود، فاته الركوع مع الإمام. والقولان جاريان- كما حكاه القاضي أبو حامد- فيما لو أحرم مع الإمام، ثم سها عن السجود في الركعة الأولى، ولم يذكره إلا والإمام في ركوع الثانية. وقال بعض الأصحاب: إنه في هذه الصورة يتابع الإمام قولاً واحداً؛ لتفريطه، بخلاف المزحوم؛ فإنه لم يوجد من جهته تفريط، بل هو مضطر إلى [ما] فعله، وهذه الطريقة هي المفهومة من كلام المزني الذي سبق، ولم يورد في "الحاوي" غيرها. التفريع: إن قلنا بالأول، فأتى بما عليه فقد خرج عن العهدة الأمر، ولكن ركعته التي كملت: هل يدرك بها الجمعة أم لا؟ حكى في "الوسيط" فيها وجهين؛ [لأنها تمت في قدوة حكمية، والقدوة الحكمية قد حكى في إدراك الجمعة بها وجهين] وفسرها بشيء ستعرفه. وقال الرافعي: إن الوجهين مشهوران في كلام الأصحاب في هذا الموضع. ثم على كل حال إذا رفع فله في إدراك الإمام ثلاث أحوال: الحالة الأولى: أن يدركه راكعاً؛ لأنه طوَّله، وأسرع هو في السجود، فقد قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ: إنه يركع معه. وقال القاضي الحسين والرافعي: هل يقرأ الفاتحة، ثم يجري على أثره، أو يركع معه؟ فيه وجهان:

قلت: وهو قياس ما تقدم. قال القاضي: فإن قلنا: يقرأ، ثم يتبع أثره، فذاك إذا لم يزد في المخالفة على ثلاثة أركان، فإن زاد، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يفعل ذلك أيضاً. والثاني: أنه يخرج نفسه من الجماعة، فإن لم يخرج وتابعه، بطلت صلاته. والثالث: أنه يتابع الإمام من حيث بلغ، ثم يقضي ما فاته بعد سلام الإمام. الحالة الثانية: أن يدركه رافعاً من الركوع، أو ساجداً، أو متشهداً؛ لسرعة الإمام، وإبطائه في السجود، فهل يمشي على ترتيب صلاته أو يتابع الإمام؟ فيه وجهان تقدم مثلهما، وأقواهما هنا بالاتفاق- وبه جزم في "الوجيز" وغيره-: الإتيان بما عليه؛ إذ التفريع على أنه مشتغل بفعل ما عليه. ثم إن قلنا: يتابعه، قال البندنيجي: فالذي حصل له مع الإمام ركعة بعضها كان متابعاً له فيها فعلاً، وبعضها كان متابعاً له فيها حكماً، ولا خلاف بين أصحابنا: أنها كالملفقة؛ فيكون في إدراك الجمعة بها وجهان، وقد حكاهما القاضي أبو الطيب أيضاً. [و] قال الشيخ أبو محمد- فيما حكاه الرافعي عنه-: إنّ المزحوم لو رفع رأسه من السجود، فوجد الإمام ساجداً، وقلنا: يجب عليه متابعته، فسجد معه- فالمحسوب له عما عليه من السجود: السجود الأوّل، أو السجود الثاني الذي تبع فيه الإمام؟ فيه وجهان يأتي مثلهما فيما إذا قلنا: إنه لا يقضي ما عليه، بل يركع مع الإمام، قال الرافعي: وأقربهما للصواب احتساب الأول. الحالة الثالثة: أن يدرك الإمام بعد السلام، فهو كما لو زال الزحام قبل الركوع، ولم يدرك الإمام إلا بعد السلام، وقد تقدم. وإن خالف المزحوم، فلم يأت بما عليه، بل تابع الإمام: فإن اعتقد: أن فرضه الاشتغال بما عليه، فقد بطلت صلاته. ثم إن كان الإمام راكعاً بعد، كبّر معه بنية الجمعة وأدركها، فإذا سلم الإمام،

أتم الجمعة قولاً واحداً. وإن كان رافعاً من الركوع أو ساجداً، فقد فاتته الجمعة؛ فيحرم معه، وفرضه الظهر، وماذا ينوي؟ فيه الخلاف السابق. ويبني إذا سلم الإمام قولاً واحداً عند العراقيين؛ لأنه إنما أحرم بالظهر بعد فوات الجمعة؛ قاله البندنيجي وغيره. وعلى طريقة المراوزة يجيء في البطلان، وانقلابها نفلاً، وإتمامها ظهراً بنية مجددة أو بالنية الأولى- الخلاف إذا كان قد نوى الجمعة، وقلنا: إنها صلاة مستقلة بنفسها. وإن اعتقد أن فرضه متابعة الإمام، فتابعه وليس بمجتهد- لم تبطل صلاته، ولا يعتد بركوعه معه، ويتبعه في السجود، فإذا سجد معه تمت ركعته الأولى. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجه: أنه لا يعتد به عما عليه؛ لأنه إنما أتى به على عزم المتابعة، وقد حكاه الرافعي عن رواية الشيخ أبي محمد في "السلسلة"، ووجهه بأنه إنما سجد؛ لكونها من الثانية في زعمه؛ فوجب ألا تحسب له [عن الأولى]؛ كما [لو] سجد للتلاوة أو للسهو، وكان عليه سجدة من صلب الصلاة وقد نسيها. فعلى هذا: إذا سلم الإمام، سجد سجدتين، وأتمها ظهراً على الصحيح. قال القاضي: وإذا رفع رأسه من السجود، وجلس للتشهد، فهل يجلس معه، أو ينوي مفارقته ويقوم ليكمل الظهر؟ [فيه] وجهان، والمشهور: الأول. وما ذكره أبو محمد يبطل بمن ترك سجدة من الأولى ناسياً، وأتى بالثانية، ثم تذكر؛ فإنه يجبر الأولى بالثانية، وإن كان قد سجد في الثانية على أنه للثانية. وخالف سجود التلاوة والسهو؛ لأنه أتى بهما على نية السنة؛ فلا يسقطان فرضاً. وعلى هذا: فالركعة ملفَّقة، وفي إدراك الجمعة بها خلاف: الذي قاله أبو إسحاق- وهو الصحيح بالاتفاق-: إنه يدرك بها الجمعة؛ لما

تقدم في توجيه كلام الشيخ. والثاني- قاله ابن أبي هريرة-: إنه لا يدرك بها الجمعة، وإن تمت له الركعة على حكم القدوة؛ لأنه لم يحصل له مع الإمام ركعة متوالية الأركان. والجمعة على نظامها ركن الجمعة. وإن قلنا بالثاني، فركع مع الإمام، فقد حصل له ركوعان متواليان، وأيهما يحسب له؟ الذي نص عليه في كتاب الجمعة: أنه الثاني، وأن الأوّل يلغى. وقال في صلاة الخوف: لو صلى، ونسي من الركعة الأولى السجود، ثم ركع في الثانية، [وذكر أنه نسي السجود- فإن ركوعه في الثانية] كلا ركوع، ويسجد، ويحتسب به من الأولى، وهذا يدل على أن الركوع الأول هو المحتسب به. قال البندنيجي: فحصل في المسألة قولان. وقد حكاهما الشيخ في "المهذب"، وكذا ابن الصباغ، وقال مع البندنيجي: إن أصحابنا يطلقون في المسألة وجهين، والصحيح: أنها على قولين. فإن قلنا: إن الركوع الثاني هو المعتد به، وتابع الإمام إلى أن سلم الإمام- فقد أدرك الجمعة قولاً واحداً؛ فيأتي بركعة بعد سلام الإمام. وإن قلنا: [إن] المعتد به الركوع الأوّل، فهل يكون مدركاً للجمعة أم لا؟ فيه خلاف أبي إسحاق وابن أبي هريرة بلا إشكال. فإن قلنا بمذهب ابن أبي هريرة، جاء الخلاف السابق في أنه هل يتم الصلاة ظهراً، أو لابد من نية الظهر، أو تنقلب نفلاً، أو تبطل؛ بناءً على [أن] من نوى فرضاً، ولم يحصل له ما نواه لتخلف شرطٍ عن الفرضية، فهل له النفل؟ على قولين. قال الإمام: هكذا رتبه الأئمة، والقول بالبطلان على هذا [النسق مختل] عندي؛ إذ يرجع حاصل الأمر: أنا نأمره بشيء، ونقدر موافقته، ثم نخرج من تفريعنا عليه بطلان عمله رأساً، وهذا محال لا يعتقد في مساق كلام؛ فالوجه أن

يكون الأمر بالركوع مع الإمام مفرعاً على القول بعدم البطلان، وإلا فالأمر [بما] قصاراه الفساد محال. وسئل الغزالي [عن] ذلك، فقال بالبطلان عند فوت الجمعة: لا نأمره في مسائل الزحام بالفعل الذي أمرناه به إذا كان آخره يفضي إلى البطلان؛ فإنه تفريع يدفع آخره أوله، والله أعلم. وإن خالف المزحوم، وأتى بما عليه: فإن اعتقد أن فرضه المتابعة، فإن لم ينو المفارقة، فقد بطلت صلاته، ثم عن كان الإمام بعد راكعاً، وجب عليه أن يحرم معه، ويدرك الجمعة بهذه الركعة، فإذا سلم الإمام أضاف إليها أخرى، وإن كان الإمام قد رفع من الركوع، قال أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما: أحرم معه، وتبعه، ولا يكون مدركاً للجمعة، ويقوم بعد سلام الإمام، ويتمها ظهراً، ولا يستأنف تكبيرة الإحرام؛ لأنه بمنزلة المسبوق الذي أدرك الإمام بعد فوات الركوع في الثانية. قلت: بل هو هو، ويظهر أن يكون في كيفية نيته الوجهان السابقان. وإذا نوى الجمعة: هل تصح، أو لا؟ على ما سبق. وإن نوى مفارقة الإمام، ففي بطلان صلاته قولاً المفارقة بغير عذر؛ كذا قاله الجمهور. وقال الماوردي: إن لم يكن له عذر غير الزحام، فهل يكون الزحام عذراً، أم لا؟ فيه وجهان: فإن قلنا: إنه عذر، فالحكم كما لو فارق بعذرٍ لا تبطل صلاته، ويتمها ظهراً، وتجزئه قولاً واحداً. وإن قلنا: ليس بعذر، ففي البطلان القولان: فإن قلنا: تبطل، فالحكم كما إذا لم ينو المفارقة. وإن قلنا: لا تبطل، فقد قال العراقيون: إن الجمعة فاتته، قولاً واحداً، وهل يستأنف الظهر، أم لا؟ فيه الطريقان، وطريقة المراوزة لا تخفى. وإن أتى بما عليه، لاعتقاده أنّه فرضه، وهو غير مجتهد في ذلك، ولا

مقلد- فلا يعتد بسجوده قبل سجود الإمام؛ لأن فرضه المتابعة، ولا تبطل صلاته؛ لجهله. ثم إن أدرك الإمام راكعاً كما هو، تبعه في الركوع، ويكون الحكم كما لو تبعه ابتداء فيه، وقد سبق حكمه. وإن أدركه ساجداً؛ فليسجد معه، ولا يشتغل بقراءة ولا ركوع؛ فإذا فعل ذلك بقصد متابعة الإمام فسجوده محتسب به للركعة الأولى، وبه يحصل له ركعة ملفقة، وفي إدراك [الجمعة] بها الخلاف السابق: فإن قلنا: [لا] يدرك بها الجمعة، [جاء ما تقدم من احتسابها من الظهر وعدمه. وإن قلنا: يدرك بها الجمعة، فقد أدرك الجمعة] ها هنا وجهاً واحداً؛ صرح به العراقيون والإمام ومن تبعه. وألحق القاضي الحسين بهذه الصورة: ما إذا وقع سجود المزحوم بعد سجدتي الإمام في الثانية، وهكذا الحكم فيما إذا أدركه رافعاً من الركوع، وسجد معه من غير اشتغال بقراءة وركوع؛ صرح به القاضي الحسين والإمام. نعم: لو اشتغل المزحوم بعد رفعه من السجود والإمام رافع من الركوع برعاية ترتيب صلاة نفسه؛ بأن قام وقرأ الفاتحة، وركع، وسجد، ووافى سجوده سجود الإمام- فسجوده معه في هذه الحالة سجود مقتفٍ لا سجود مقتدٍ على التحقيق، وبه تتم ركعته الأولى؛ كما قال الأصحاب. قلت: ويتجه أن يأتي في الاعتداد به عن الأولى الوجه المحكي في "السلسلة". ثم [على] المشهور: فالركعة ملفقة بلا خلاف، وفي إدراك الجمعة بها عند الجمهور الخلاف المشهور. وقال الإمام: إن قلنا: إن الركعة الملفقة لا يدرك بها الجمعة، فلا تفريع. وإن

قلنا: يدرك بها الجمعة، فها هنا المزحوم مقتد حكماً، وليس متابعاً عياناً، وقد اختلف أئمتنا في ذلك. قال: وكشف سر ذلك: أنه إن [سجد] المزحوم في قيام الإمام قبل ركوعه- كما تقدم- فقد جرى سجوده وهو متخلف عن الإمام تخلفاً لو اختاره بطلت قدوته، ولكن ذلك القدر معفو عنه؛ لعذر الزحام وفاقاً. وإن لم يسجد حتى ركع الإمام في الثانية، [ثم أمرناه بالركوع، فسجد- فلا يعتد به، فلو سجد في الركعة الثانية] مقتفياً لا مقتد حسّاً، فهذا اعتقدوه تخلفاً مفرطاً؛ فترددوا فيه. وخرج من هذا: أن ما يقع قبل الركوع ملحق بالاقتداء الحسي، وإن جرى في تخلف لا يحتمل في حاله الاختيار، وما يقع بعد فوات الركوع اقتفاء فهو في حكم اقتداء حكمي لا عيانِّي، ثم في إدراك الجمعة بمثله الخلاف الذي ذكرناه. وسئل الغزالي [عن] ذلك، فقال: إذا رفع المزحوم رأسه من السجود وقد فات ركوع الإمام في الثانية- فإن راعى ترتيب صلاة نفسه، فإذا سجد في الركعة الثانية، حصلت له ركعة ملفقة؛ لوقوع السجدة بعد الركوع الثاني، فإن قلنا: يدرك بالملفقة، فقد حصل السجود في قدوة حكمية، فهل تصلح الحكمية لإدراك الجمعة؟ فيه وجهان. ومن منع حصول الركوع الثاني نهاية انسحاب حكم القدوة، فإذا سجد قبله، كان كالمقتدي حسّاً، وإن كان بعده، كان كالمقتدي حكماً. وقد حكى الرافعي كلامه ثم قال: والتردد في إدراك الجمعة كما قال؛ فلا شك أنه مخصوص بما إذا وقعت السجدتان اللتان كملت بهما ركعته قبل سلام الإمام. على أن في أصل الاحتساب بهما- والحالة هذه- إشكالاً؛ لأنَّا على القول

الذي عليه التفريع نأمره بالمتابعة بكل حال، فكما لا يحتسب له بالسجود والإمام راكع؛ لأن فرضه المتابعة، وجب ألا يحتسب له والإمام في ركن بعد الركوع، والمفهوم من كلام الأكثرين المتابعة، وإذا سلم الإمام سجد سجدتين لتمام الركعة [الأولى]؛ ولا يكون مدركاً للجمعة. نعم، صرح الصيدلاني باحتساب السجدتين له، وبنقل الوجهين في إدراك الجمعة بها؛ كما ذكره الغزالي. قلت: وفيما ذكره الرافعي نظر؛ لأنه إن ظن أن المحل الذي قال الغزالي فيه ما قال؛ إذا كان سجود المزحوم في الركعة الثانية التي أتى بها المزحوم على ترتيب صلاة نفسه بعد رفعه من السجود الذي اعتقد أنه يجزئه عما غلب [عليه] من سجود الأولى قبل سجود الإمام في الثانية-[فليس كذلك؛ بل مراده: ما إذا وقع سجوده مع سجود الإمام في الثانية]، لكن المزحوم قصد بها ترتيب صلاة نفسه، كما نبهت عليه؛ أخذاً من كلام الإمام. وإن كان قد ظن أن محله ما إذا وقع سجود المزحوم في الثانية مع سجود الإمام، [فلا إشكال، وحينئذ فيكون ما نقله عن الصيدلاني موافقاً لما ذكره غيره من الأصحاب، كما قدمته. وإن كان قد ظن أن محله: إذا وقع سجود المزحوم في الثانية بعد سجود الإمام في الثانية]، فقد حكينا عن القاضي الحسين أنه قال باحتسابهما أيضاً؛ فهو موافق للصيدلاني، وحينئذ يرجع حاصل القول الذي عليه نفرِّع: أنه يجب على المزحوم متابعة الإمام فيما هو فيه إذا لم يفته السجود معه، فإن فات فلا تجب عليه متابعته، بل يمضي على ترتيب صلاة نفسه، ولا إشكال إذن، لكن غيرهم يقول بوجوب الإتباع على هذا القول مطلقاً؛ [و] لذلك قالوا- كما حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبندنيجي- إذا رفع المزحوم رأسه من السجود، وقد قلنا: إن الواجب عليه متابعة الإمام في الركوع، فوجد الإمام في

التشهد-: إنه يتبعه، وإذا سلم الإمام، جاء الخلاف في أنه يتمها ظهراً، أو يستأنف. ولا يتمها جمعة بلا خلاف، والله أعلم. وقد بقي من تفاريع مسائل الزحام فروع: [الأول]: إذا لم يزل الزحام حتى سجد الإمام في الثانية، فإنه يسجد معه وجهاً واحداً؛ قاله القاضي أبو الطيب والماوردي والبغوي، [لكن القاضي والماوردي] قالا: إنه يحصل له إذا سجد معه ركعة ملفقة: من ركوع من الأولى، وسجود من الثانية؛ فيكون فيها الوجهان. وقال البغوي: إن قلنا: إنه يجب عليه متابعة الإمام، كانت الركعة ملفقة. وإن قلنا: يمشي على ترتيب صلاة نفسه، حصلت له ركعة من الجمعة. كذا رأيته فيما وقفت عليه منه. لكن في "الرافعي": أنه قال: إن قلنا: إن الواجب عليه [رعاية ترتيب صلاة نفسه، حصلت له ركعة ملفقة. وإن قلنا: الواجب عليه] متابعة الإمام، فالحاصل له ركعة [غير] ملفقة. وهذا كأنه أقرب إلى الصواب. لكن إن صورت المسألة بأنه لما ركع الإمام في الثانية تمكن من الركوع فركع معه، وفرعنا على أن الركوع الثاني هو المعتد به، كما تقدم.

أما إذا قلنا: المعتد به الركوع الأول، أو لم يتمكن المزحوم من الركوع مع الإمام- فلا وجه إلا كونها ملفقة. وقد رأيت في كلام الإمام تفريعاً على القول بأن المسبوق إذا فرغ من السجود وقد زوحم في الركعة الأولى، فأدرك الإمام رافعاً من ركوع الثانية: أنه يتبعه- أن المزحوم [إذا] لم يتمكن من تدارك السجود، ولا من متابعة الإمام في الركعة الثانية حتى رفع الإمام رأسه من الركوع، ثم تمكن من السجود- فلا يصير مدركاً للجمعة، وإن سجد عن الركعة الأولى فإن التخلف جاوز الحد. [الفرع الثاني]: إذا لم يزل الزحام حتى تشهد الإمام، قال في "التتمة": سجد، ثم إن أدرك الإمام، فقد أدرك الجمعة، وإلا فلا. وعليه ينطبق قول الشيخ من قبل. قلت: ولاشك في أن هذه الركعة ملفقة، وقد كملت في قدوة حكمية إن كان الزحام قد وقع في الركعة الأولى، ولم يتمكن المزحوم من الركوع مع الإمام في الثانية. أما إذا كان الزحام في الثانية، ولم يدرك مع الإمام الأولى، فلا تلفيق، والأمر كما قال، إلا على ما اقتضته طريقة القاضي أبي الطيب، كما تقدم. ولو كان الزحام في الأولى، وتمكن من الركوع مع الإمام في الثانية فقط: فإن قلنا: يمشي على ترتيب صلاة نفسه، فهي- أيضاً- ملفقة كملت في قدوة حكمية. وإن قلنا: يتبع الإمام، وتبعه: فإن قلنا: إنّ الركوع الأوّل هو المعتد به، فكذلك. وإن قلنا: المعتد به الثاني، فلا تلفيق إلا على ما اقتضته طريقة القاضي أبي الطيب. [الفرع الثالث]: إذا كان الزحام حصل في الركوع في الأولى، ولم يزل حتى ركع الإمام في الثانية، تابعه على الركوع قولاً واحداً، فإذا فرغ الإمام، فقد حصل للمأموم ركعة. قال الشيخ أبو حامد وغيره: فيضيف إليها أخرى وقد صحت له الجمعة.

وقال القاضي أبو الطيب: إنما يكون كذلك على قولنا فيما إذا لم يزل الزحام في السجود حتى ركوع الإمام: إنه يركع معه، ويكون المعتد به الركوع الثاني. أما إذا قلنا: المعتد به الركوع الأوّل، فيجيء في هذه المسألة وجهان؛ لأن الركعة ملفقة. وقال المعلق للتعليق المنسوب إليه: [ما] قاله القاضي فيه نظر؛ لأن التلفيق جمع بين فعلين، لو أسقط أحدهما، لم يكن مدركاً للجمعة بالآخر؛ فأما في مسألتنا فإنه ضم القيام والقراءة من الركعة الأولى إلى الركوع وما بعده من الركعة الثانية، ولو أدرك الركوع من الركعة الثانية وما بعده في هذه الحالة، لكان مدركاً ركعة كاملة؛ فلم يكن لإضافة القيام والقراءة من الركعة الأخرى إليه تأثير؛ لأن الركعة تصح مع إسقاطه. ولنوع من ذلك قال ابن الصباغ: إنّ قول الأصحاب أشبه. وأنت إذا تأملت ما قاله المعترض، استحسنته، ووجدت الأمر كما قال، والله أعلم. خاتمة: الزحام كما يفرض في الجمعة يفرض في سائر الصلوات، وإنما يذكر في الجمعة خاصة؛ لأنّ الزحمة فيها أكثر؛ ولأنه يجتمع فيها وجوه من الإشكال لا تجري في غيرها، مثل: التردد في أن الركعة الملفقة هل يدرك بها الجمعة، وكذا التردد في القدوة الحكمية على رأي المراوزة الذي لا يعرفه العراقيون، والتردد في النية على أنّ الجمعة ظهر مقصور أم لا؟ ولأن الجمعة شرط فيها الجماعة، ولا سبيل إلى المفارقة ما دام يتوقع إدراك الجمعة على رأي- كما تقدم- بخلاف سائل الصلوات؛ فإنه عند تعذر السجود بالزحمة في الركعة الأولى يخرج نفسه من الصلاة، ولا ينتظر الزوال، لكنه لو أقام، و [لم] يزل الزحام حتى ركع الإمام في الثانية- قال الرافعي: اطرد فيه القولان. وحكى ابن كج طريقين: أحدهما: أنه يركع معه بلا خلاف. والثاني: أنه يراعي ترتيب [صلاته نفسه] بلا خلاف. ***

باب صلاة العيدين

باب صلاة العيدين العيد: مشتق من العود والرجوع، وسمي كل من اليومين المشهورين به؛ لتكرره بتكرر السنين. وقيل: لعود السرور بعوده. وقيل: بل لكثرة عوائد الله- تعالى- على عباده في ذلك اليوم؛ قاله القاضي الحسين. وجمعه: أعياد. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في العاشر من ذي الحجة: أنه يوم الحج الأكبر. والأصل في مشروعية الصلاة له- قبل الإجماع-: [من الكتاب] قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] فإنه قيل: إن المراد بالصلاة في هذه الآية: صلاة عيد النحر، وبالنحر: الأضحية. ومن السنة: ما تواتر أنه- عليه السلام- كان يصليها والصحابة من بعد، وقد روى حماد عن حميد عن أنس بن مالك، أنه- عليه السلام- لما هاجر إلى المدينة رأى أهل المدينة يخرجون إلى الصحراء في السَّنَة يومين ويلعبون، فقال: "ما هذان اليومان؟ " فقالوا: يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله قد أبدلكم [بهما] خيراً منهما: يوم الفطر، ويوم الأضحى"، أخرجه النسائي مختصراً. وروي أن أول عيد صلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الفطر في السنة الثانية من

الهجرة، وفيها فرضت زكاة الفطر؛ قاله الماوردي. قال: وهي سنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم واظب عليها، و [لأنه] قال للأعرابي: "خمس صلوات كتبهنَّ الله على العبد في اليوم واللَّيلة" فقال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوَّع"؛ فدل فعله مع قوله على أنها سنة غير واجبة. ولأنها صلاة ذات ركوع وسجود لا يشرع فيها أذان ولا إقامة؛ فلم تكن واجبة كصلاة الضحى. قال: مؤكدة؛ لأنه واظب عليها، واختصت بوقت راتب، وشرع لها الجماعة كالفرائض؛ وذلك يدل على تأكدها. قال: وقيل: هي فرض على الكفاية؛ لأنها صلاة يتوالى فيها التكبير في القيام؛ فكانت فرض كفاية؛ كصلاة الجنازة؛ وهذا ما حكاه العراقيون عن الإصطخري. وقال الإمام: إنه قال به معه طائفة؛ أخذاً من قول الشافعي في "المختصر": "من وجب عليه حضور الجمعة، وجب عليه حضور العيدين"، ولا سبيل إلى حمله على وجوب [ذلك فرض عين؛ لأنه خلاف الإجماع؛ فتعين حمله على وجوب] فرض الكفاية؛ لأنه أقرب إلى فرض العين من السنة المجردة. وعلى هذا قال الشيخ: فإن اتفق أهل بلد على تركها- أي: من غير عذر [قاتلهم الإمام]؛ كما يقاتلون على ترك صلاة الجنازة. والمذهب الأول؛ لما تقدم، وعليه نص الشافعي حيث قال في كتاب الصلاة: "والتطوع وجهان: أحدهما: صلاة مؤكدة مرتبة لا أرخص في تركها: كالعيدين، وصلاة الاستسقاء، والكسوف". وقوله: "نم وجب عليه حضور الجمعة، وجب عليه حضور العيدين"، قد أنكره الشيخ أبو حامد، وقال: [لا] أعرف هذا الكلام للشافعي بحال، ولعله قد نقله على المعنى. وإن صح- كما هو في القديم في باب الصيد والذبائح، كما قال الماوردي-

فمعناه: من وجب عليه حضور الجمعة فرض عين، وجب عليه حضور العيد ندباً، وقد يطلق الوجوب على المندوب المتأكد؛ قال- عليه السلام-: "غسل يوم الجمعة واجبٌ"، ومعناه: وجوب اختيار. وعلى هذا: إذا اتفق أهل بلد على تركها من غير عذر، هل يقاتلهم الإمام؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لا يقاتلون بترك الوتر، وركعتي الفجر. والثاني: نعم، وينسب إلى أبي إسحاق، وهو المختار في "المرشد"؛ لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وما كان كذلك لا يجوز تركه؛ فمن تركه وجب قتاله كما لو ترك بعض الواجبات؛ كذا قاله القاضي أبو الطيب. وقال ابن الصباغ بعد حكايته: إن هذا عندي في التحقيق قول الإصطخري، ولاشك فيه. نعم: غيره وجه ذلك بأن الاتفاق على ترك هذا الشعار يتضمن استخفافاً واستهانة بالدين، فقوتلوا؛ لما دل عليه الترك، لا على نفس الترك، وخالف ذلك ما ليس من الشعائر من التطوعات؛ فإنها تفعل فرادى؛ فلا يظهر في تركها استهانة بالدين. ولا خلاف في [أن] الترك لو كان لعذر: كالمطر والوحل، أو الخوف، ونحو ذلك مما يجوز ترك الجمعة لأجله- فلا يقاتلون. واعلم أن قول الشيخ: "فإن اتفق أهل بلد على تركها، [قاتلهم الإمام] "، لو جعل تفريعاً على مذهب الإصطخري والمذهب معاً، لم يبعد، والله أعلم. والمخاطب بها- سنة، أو فرض كفاية- من يلزمه حضور الجمعة بلا خلاف. ومن لا يلزمه حضور الجمعة من النساء والعبيد والمسافرين والمعذورين، أطلق الماوردي فيه حكاية قولين: أحدهما- نص عليه في القديم-: أنهم غير مأمورين بها. والجديد- وهو الصحيح-: أنهم مأمورون بها؛ لعموم أمره- عليه السلام- ولذلك ارتاد لها مكاناً واسعاً؛ لأنه يحضرها من لا يحضر الجمعة.

وفي "تعليق" البندنيجي: أن هؤلاء إن حضروا مع من يلزمه حضور الجمعة، صلوا معهم على سبيل التبع؛ كما لو حضروا الجمعة مع أهل الجمعة؛ فإنهم يصلونها معهم، وتجزئهم. فأما إذا صلاها الإمام بأهلها، فهل يصليها من لم يكن من أهل الجمعة أو لا؟ قال في "الأم" و"الإملاء": " [لا] يقيمها المنفرد في بيته والمسافر والمرأة". وقال في "الصيد والذبائح": "وتجب إقامة العيد بحيث يجب إقامة الجمعة، وتسقط بحيث تسقط". ويقر منه قوله في القديم: "ويصلي العيد حيث يصلي الجمعة". واختلف أصحابنا في ذلك على طريقين: فقال أبو إسحاق: يقيم العيدين من يصلي الصبح؛ فلا يخالف الصبح إلا في التكبيرات. قال: وقوله في القديم: "يصلي العيد حيث يصلي الجمعة" أراد: أنها تقام في موضع واحد كالجمعة، ولا تقام في مساجد المحالِّ؛ كما تصلى سائر الصلوات. قال البندنيجي: وهذا تأويل من لم يعرف قوله في "الصيد والذبائح"، والذي عليه عامة الأصحاب، أنها على قولين: أحدهما: يصليها كل أحد. والثاني: لا يقيمها إلا من وجبت عليه الجمعة، ويصليها هؤلاء تبعاً لهم. قال: ووقتها ما بين أن ترتفع الشمس- أي: قيد رمح- إلى الزوال. هذا الفصل مسوق لبيان ألو وقت صلاة العيدين وآخره، والأصحاب متفقون على أنه بالزوال ينقضي؛ لأن مبنى المواقيت على أنه إذا دخل وقت صلاة خرج وقت التي قبلها؛ لقوله- عليه السلام-: "ليس التَّفريط في النَّوم؛ إنَّما التَّفريط في اليقظة: أن تؤخّر الصَّلاة إلى أن يدخل وقت صلاةٍ أخرى". وبالزوال يدخل وقت صلاة الظهر؛ فزال به وقت ما قبلها.

واستأنس بعضهم في ذلك بما روى أبو داود: أن ركباً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس؛ فأمرهم "أن يفطروا، وإذا أصبحوا يغدوا إلى مصلاهم". وأخرجه البهقي، وقال: إن إسناده صحيح. [وزاد] في "المهذب": أن شهادتهم كانت بعد الظهر. وأما أوّله، فقد قال الشيخ: "بعد ارتفاع الشمس"، أي: قيد رمح، كما ذكرنا، ويشهد له من نص الشافعي قوله في "المختصر": "وأحب أن يكون خروج الإمام في الوقت الذي يوافي فيه الصلاة، وذلك حين تبرز فيه الشمس". فقوله: "وذلك حين تبرز فيه الشمس" بيان لوقت الخروج، لا لوقت الصلاة؛ لأن الكلام مسوق لبيان وقت الخروج، ويدل عليه قوله عقيبه: "ويؤخر الخروج في الفطر عن ذلك قليلاً". وإذا كان كذلك كان عين ما ذكره الشيخ؛ لأنه إذا خرج حين تبرز فيه الشمس، كان وصوله إلى المصلى وقد ارتفعت قيد رمح، ويدل على ذلك من جهة السنة: ما روي أنه- عليه السلام- كان يغدو إلى الأضحى والفطر حين تطلع الشمس، فيتم طلوعها، ومعلوم أنه كان يصلي في المصلى، وفي مسافة قطع ما بين خروجه من منزله والمصلى ترتفع الشمس كما ذكرناه. ويؤيده أنه- عليه السلام- كان يصلي العيد والشمس على أطراف الجبال كالعمائم على رءوس الرجال.

وروي أنه صلاها والشمس قيد رمح، وروي: قيد رمحين. ولم ينقل أنه صلاها قبل ذلك، ولا أمر بها، ولو كان وقتاً لها لبيَّنه بقوله أو فعله، خصوصاً في عيد النحر؛ فإن تعجيل الصلاة في أول الوقت مستحب كما ستعرفه. وهذا الذي ذكره الشيخ قد قال الرافعي: إنه مقتضى كلام جماعة منهم: الصيدلاني، وصاحب "التهذيب". قلت: وبه صرح القاضي الحسين حيث قال: "سنة القوم: الابتكار، وسنة الإمام: أن يكون خروجه حيث يمكنه أن يبتدئ الصلاة، وذلك بعد ما ارتفعت الشمس قيد رمح، وصفا ضوءها". وكذا البندنيجي حيث قال: "وأول وقتها حين تبرز الشمس وترتفع قليلاً، وهو إذا أشرقت؛ فإنه يقال: شرقت؛ إذا طلعت، وأشرقت؛ إذا أضاءت". ولم يحك القاضي أبو الطيب غيره في كتاب الأضحية. ويقويه اتفاق الأصحاب كافة على أن وقت الأضحية لا يدخل حتى ترتفع الشمس بحيث يجوز التطوع، ويمضي قدر صلاة العيد والخطبتين، مع اتفاقهم على استحباب إيقاع صلاة عيد النحر في أول وقتها. لكن الذي قاله في "المهذب" هنا، وكذا القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والإمام، والمتولي: أن وقتها يدخل إذا طلعت الشمس. قال في "الروضة": وهو [الصحيح أو الأصح]. وقد يستدل له بما تقدم: أن مبنى الأوقات على أن وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت صلاة أخرى، والصلاة منسوبة إلى اليوم، واليوم يدخل بطلوع الفجر، وليس فيه وقت فيه صلاة تشارك ما نحن فيه مع استحباب الاجتماع فيها إلا ما بين طلوع الشمس والزوال؛

فتعين لها، ويشهد له من قول الشافعي: قوله: "وذلك حين تبرز فيه الشمس"، إذا جعل بياناً لوقت الصلاة؛ لأن الصلاة أقرب مذكور، لكن الأظهر إعادته على وقت الخروج؛ لما تقدم. ثم لو سلم أنه يعود على الصلاة، لكان لمن انتصر للشيخ أن يقول: أراد الشافعي ببروز الشمس ارتفاعها، ويشهد له أن صاحب "البحر" حكى عنه في باب الأضحية: أنه قال في: "المبسوط" في أول وقت الأضحية: " [و] ذلك إذا برزت الشمس، فيصلي ركعتين، ثم يخطب". وقد نقلنا اتفاقهم على أنه لابد من ارتفاعها قبل الصلاة والخطبتين في دخول وقت الأضحية؛ فتعين ما ذكرناه؛ ولأجله قال في "البحر" ثمَّ: إن الشافعي أراد بقوله: "برزت": طلعت وارتفعت قليلاً. ثم اعلم: أن القائلين بدخول الوقت بطلوع الشمس قالوا: الأفضل أن يؤخرها إلى أن ترتفع قيد رمح. وعبارة القاضي أبي الطيب في باب صلاة الكسوف: "إن أول وقتها إذا طلعت الشمس، وإن فعلها في ذلك الوقت مكروه؛ فيستحب تأخيرها عنه". وعبارة ابن الصباغ فيه تقرب من ذلك، وطرده في صلاة الاستسقاء؛ لاتساع وقتها، بخلاف صلاة الكسوف. واقتضى كلام ابن الصباغ [ثمَّ] كراهة صلاة النافلة في الأوقات المكروهة؛ لأنه قال: إن وقتها [واسع؛ فجرت مجرى النوافل التي لا سبب لها؛ وحينئذ فالقول بأن وقتها] يدخل بطلوع الشمس إنما يتم؛ إذا قلنا: عن الصلاة في الأوقات المكروهة لا تحرم؛ كما قاله البندنيجي، وتصح كما هو وجه للأصحاب. أما إذا قلنا: بأنها لا تصح أو حرام- كما ادعى في "الروضة": أنه الأصح، وبه قطع الماوردي في "الإقناع"، وصاحب "الذخائر"، وآخرون- فلا؛ إذ

يستحيل أن نقول بدخول الوقت وعدم الصحة أو التحريم؛ فيؤخذ مما قاله ابن الصباغ والقاضي أن كراهية الصلاة في الأوقات المكروهة كراهة تنزيه، وأنها تصح فيها. وقد جعل الماوردي أول وقتها إذا طلعت الشمس، وتكامل طلوعها، وقال: إنه لو صلاها مع طلوع الشمس، لم تجزئه؛ لأنه وقت نهي عن الصلاة فيه، وهذا يعجب منه من يعتقد أن وقت الكراهة لا يزول بتكامل الطلوع. وأما من يقول: إنه يزول بتكامل [طلوع] القرص- كما حكاه الغزالي- فلا يعجب من ذلك. ولعل الماوردي من القائلين بذلك، والله أعلم. قال: ويسن تقديم صلاة الأضحى، وتأخير صلاة الفطر، أي: قليلاً؛ لأنه- عليه السلام- كتب إلى عمرو بن حزم: "أن عجِّل الأضحى، وأخِّر الفطر". ولأن في تقديم صلاة الأضحى اتساع وقت الأضحية وتعجيلها؛ فينتفع بها المساكين، وفي تأخير صلاة الفطر اتساع وقت الفضيلة في تفرقة زكاة الفطر، والتأخير كثيراً غير مأمور به؛ لأنه يخالف السنة. روى أبو داود عن يزيد بن خُمير، قال: خرج عبد الله بن بسر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس في يوم فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنا كنا قد

فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح. والأضحى: جمع أضحاة، يقال: أضحاة وأضحى؛ كقولك: أرطاة وأرطى، وهو شجر، والأضحى: يذكر ويؤنث باعتبار اليوم؛ قاله الفراء. [قال النواوي]: وسمي بذلك؛ لوقوع الأضحية [فيه]. وقال البندنيجي: إن "الأضحى" لغة في "الأضحية"، وقد حكاها النواوي في "الأضحية" أيضاً، فقولنا: يوم الأضحى، يعني: يوم الأضاحي والضحايا. قال: فإن فاتته قضاها في أصح القولين؛ لما تقدم من خبر الرَّكب الذين شهدوا بالرؤية بعد الظهر. [و] لأنها صلاة أصل راتبة مؤقتة؛ فلا تسقط بفوات وقتها؛ كالفرائض، وهذا ما نص عليه في "كتاب الصيام". ومقابله: أنها لا تقضى؛ لأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة؛ فلا تقضى بعد فواتها كالجمعة والكسوف؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"؛ كما قال البندنيجي واختاره المزني، وقال: إنه أشبه بقول الشافعي. قلت: لأنه ذكره وعلله بأنه عمل في وقت، فإذا جاوزه لم يعمل في غيره؛ كعرفة. والتعليل مما يستدل به على الترجيح؛ كما أن التفريع على أحد القولين ترجيح له؛ كذا قاله الماوردي في أول كتاب العتق عن بعض الأصحاب، والحديث فيه اضطراب. قال الماوردي: ولولا اضطرابه لأعيدت الصلاة من الغد قولاً واحداً. وللقائلين بالأول أن يقولوا: الحديث قد قال البيهقي: إن إسناده صحيح. وقال الخطابي: إنه صحيح، والجمعة والكسوف خرجا بما ذكرناه من

القيود؛ لأن الجمعة بدل عن الظهر لا أصل له، وهي مشروطة بشرط، فإذا فقد امتنعت، والكسوف غير راتبة. ثم القولان مفرعان على الجديد في أنا لا نعتر فيها شرائط الجمعة؛ كما ستعرفه. أما إذا قلنا بالقديم، فلا تقضي قولاً واحداً؛ كذا قاله مجلي، وهو في "الإبانة"، وأورده الإمام فقهاً لنفسه، وعليه جرى الرافعي. وقد قال بعضهم: إن القولين مبنيان على القولين السابقين في أن النوافل هل تقضى أم لا؟ قال القاضي الحسين: والصحيح: أنهما قولان مستقلان بأنفسهما. وبعض الشارحين قال: إنهما جاريان هنا، وإن قلنا: إن النوافل لا تقضى؛ لأن هذه من الشعائر؛ فيقبح ألا تقام على النَّعت المعهود في كل عام، لاسيما وسببها الهلال، والغلط فيه كثير الوقوع؛ فينهض عذراً في القضاء. وقال الماوردي في "كتاب الصيام": إن القولين في قضاء النوافل مأخوذان من ها هنا. واعلم أن كلام الشيخ يقتضي أن الفوات [يحصل] بذهاب الوقت الذي حدُّه خال عن الصلاة، سواء كان ذلك مع العلم بأنه الوقت، أو مع الجهل به؛ كما إذا غم الهلال ليلة الثلاثين [من رمضان، ثم قامت البينة بعد زواله بالرؤية في ليلة الثلاثين، أو قامت بذلك في ليلة الثلاثين]، ولم تعدّل إلا بعد فوات الوقت. ولاشك في جريانهما عند ترك الصلاة مع العلم بالوقت، سواء كان الترك لعذر أو غير عذر؛ صرح به [في] "الوسيط" وغيره، وأما مع الجهل بالوقت

- كما صورنا- فهو كذلك إن حصل أداء الشهادة بالرؤية في يوم الثلاثين بعد الزوال [سواء أكان من شخص عدل في الظاهر، أو في الباطن وعدل بعد الزوال] أيضاً، إما في النهار أو بعد الغروب، كما حكاه البندنيجي وغيره من العراقيين، وكذا الحكم عندهم فيما لو وقعت الشهادة يوم الثلاثين قبل الزوال، وعدلت البينة بعد الزوال، [كما حكاه ابن الصباغ. وألحق الماوردي بذلك ما] إذا وقعت الشهادة بعد الزوال والبينة ظاهرة العدالة، أنا نحكم بالفطر، ولا نحكم بفوات الصلاة، بل تصلى أداء؛ لأن الغلط يكثر في ذلك، وهذا شعار عظيم، ويبعد تفويته بذلك؛ فهو كخطأ الحجيج في الوقت. وعلى هذا تصلَّى في الغد ما بين طلوع الشمس والزوال. وقال في "الذخائر": إنا إذا قلنا به: فإن أمكن جمع الناس في بقية النهار، جمعهم، وصلى بهم بنية الأداء، وإلا جمعهم من الغد، وصلى بهم بنية الأداء. وهذا لم أره في غيره. وقالوا فيما إذا شهدت البينة بعد الزوال، وعدِّلت بعد الغروب: فهل يكون الحكم كما تقدم، أو يكون كما إذا شهدت بعد الغروب؟ فيه خلاف مبني على أن العبرة بحال الأداء، أو بحال ثبوت العدالة؟ وفيه قولان، قال الرافعي: ويقال: وجهان، والمذهب منهما- كما قال في "الذخائر"- الثاني، وهو الذي صححه الرافعي، ولم يحك الماوردي في كتاب الصيام غيره. والذي ذكره العراقيون: كأبي الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ، وكذا المتولي- الأول، وكذلك كان مذهبهم ما سلف، واستدلوا على ذلك بأن شاهدين لو شهدا على رجل، وماتا، ثم عدلا بعد الموت، فإنه يحكم بتلك الشهادة، ولو كان الاعتبار بوقت التعديل لامتنع الحكم. وكذا بنوا على الخلاف المذكور ما إذا شهدت البينة قبل الزوال، وعدلت

بعده، ولا يخفى تفريعه مما سلف. وقد اتفق الفريقان على أن الشهادة لو وقعت بعد الغروب يوم الثلاثين، بالرؤية ليلة الثلاثين: أن الصلاة تفعل في الغد أداء. ومن طريق الأولى: إذا وقعت في الحادي والثلاثين قبل الصلاة، ووجهه قوله- عليه السلام-: "وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحُّون، وعرفتكم يوم تعرِّفون"، أخرجه أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة. وعبارة المراوزة: "أنا لا نصغي إلى الشهادة في هذه الحالة؛ إذ لا فائدة فيها إلا ترك صلاة العيد؛ فإن شوالاً قد دخل يقيناً، وصوم ثلاثين من رمضان قد تم. قال الرافعي: وفي قولهم: "لا فائدة إلا ترك صلاة العيد" إشكال؛ فإن لاستهلال الهلال فوائد أخر: كوقوع الطلاق والعتق المعلقين على استهلال شوال، وانقضاء العدة في انقضاء التاسع والعشرين، ونحو ذلك؛ فوجب أن تقبل الشهادة لمثل هذه الفوائد. قال: ولعل مرادهم من عدم الإصغاء فيما يرجع إلى صلاة العيد، وجعلها فائتة، لا عدم القبول على الإطلاق، وإن أطلقوا ذلك في عبارتهم. قلت: الوجه حمله على العموم؛ فإنّ التشاغل بذلك- ولا فائدة محققة في الحال- عبث، والحاكم يشتغل بالمهمات.

نعم، إن كان ذلك موجوداً، فالوجه ما قاله، والله أعلم. وقد ألحق المراوزة بذلك ما لو وقع أداء الشهادة يوم الثلاثين، ولم تعدَّل البينة إلا بعد طلوع الشمس [في الحادي والثلاثين؛ كما حكاه القاضي الحسين والفوراني والإمام، ولم ينظروا في هذه الحالة إلى حالة الأداء؛ لأن بعد طلوع الشمس] قد دخل وقت صلاة العيد بالقطع، فلا يعارضه ما لا يفيد إلا الظن. والبندنيجي قال: الاعتبار بحالة الأداء في هذه الصورة- أيضاً- فيكون الحكم ما تقدم. ولو قامت البينة بالرؤية قبل الزوال [يوم الثلاثين، وهي ظاهرة العدالة أو عدلت قبل الزوال]- أيضاً- أقيمت الصلاة قبل الزوال إن اتسع الوقت، وإن لم يتسع فالحكم كما لو شهدت بعد الزوال وقبل الغروب، والله أعلم. التفريع: إذا قلنا بالقضاء، قال العراقيون: فلا يتأقت، بل أي وقت فعله حصل، فالأولى أن يفعل في ثاني العيد قبل الزوال، إن لم يمكن اجتماع الناس بقية النهار؛ لاتساع الخطبة. وإن أمكن اجتماعهم في بقية اليوم بالبوق والطبل ونشر العلم، ونحو ذلك؛ لضيق الخطبة، فالأولى فعلها في بقية اليوم؛ لأنه يوم العيد، ولأنه إلى وقت الأداء أقرب. وحكى المراوزة معه وجهاً آخر: أن الأفضل فعلها في ثاني العيد، وهو ظاهر النص؛ فإنه قال: "إن الصلاة تعاد من الغد". ووجهه: أنه- عليه السلام- هكذا [فعل]، وهو أشبه بالأداء، وأهون للاجتماع، والذي صححه الرافعي الأول. وفي "الحاوي": أن الأصحاب اختلفوا في علة قوله: "إنها تفعل في الغد" على وجهين: أحدهما- وهو قول أبي إسحاق-: أنها [يعذر اجتماع] الناس [لها]؛

لتفرقهم، وعدم علمهم. فعلى هذا: إن كان أمكن اجتماع الناس بعد الزوال من يومهم، صلِّيت في اليوم؛ لأنه أقرب إلى وقتها الفائت، وقد حكاه القاضي الحسين في "كتاب الصيام" عن النص. والثاني- وهو ظاهر مذهب الشافعي [أن العلة في تأخيرها أن يؤتى بها في وقتها المسنونة فيه، وذلك بعد طلوع الشمس وقبل الزوال. قال: وعلى هذا لا يجوز قضاؤها في اليوم بحال. وعبارته في كتاب الصيام: "والثاني- وهو مذهب الشافعي-] يؤخرها إلى الغد؛ ليصليها في مثل وقتها. وعبارة القاضي الحسين توافق ذلك؛ فإنه قال: إذا قلنا: تقضى من الغد، فهل يجوز أن تقضى في بقية اليوم أو لا؟ فيه وجهان. وكلام الفوراني يشعر بهما على هذا النحو إشعاراً ظاهراً. ولعل القائل بمنع القضاء في اليوم هو القائل بأن صلاة العيد لا تجعل فائتة بأداء الشهادة بعد الزوال وإن أثرت في الفطر كما تقدم. وعبر بالقضاء عن أصل الفعل، لا عن فعله خارج الوقت، والله أعلم. وقال المراوزة: في تأقيت القضاء عند الاشتباه وتبين الحال ثلاثة أقوال أو أوجه: أحدها: ما تقدم. والثاني: تختص بالغد من العيد؛ إتباعاً لظاهر الخبر. وأيضاً: فإن ما قرب من العيد عيد، وهي من شعاره، وثاني العيد يجوز أن يفرض يوم العيد؛ فوقوع هذا الشعار فيه متجه، فأما إذا فرض بعده فلا؛ لأنه يخالف الشعار المعهود. ولا فرق في ذلك بين عيد الفطر والنحر؛ كما قال الرافعي. قال: إلا أن يقال: إن الشهادة بعد دخول ذي الحجة غير مسموعة؛ على قياس

ما ذكروه في الحادي والثلاثين. وقد ادعى الإمام ظهور هذا الوجه فيما إذا كانت الصلاة تقام في جماعة ومشهد من الناس؛ لأنها لو أقيمت [في غيره] لخالفت الشعار المعهود، ويشيع منه سمعة غير مألوفة في البلاد، لا يدركها إلا خواص الناس، وتعطيل شعار سنة أهون من هذا. وإن أراد الناس أن يقضوا صلاة العيد فرادى من غير إظهار شعار، فالظاهر أنه لا يمنع منه بعد الحادي والثلاثين. والثالث: أنها تقضى إلى شهر. قال الغزالي: كما يتأقت قضاء نافلة اليوم باليوم في قولٍ. والإمام استأنس بتأقيت النوافل للوجه قبله، وقال في هذا: إن كان المراد: أنها لا تقضى في جماعة، فلا معنى لذكر الشهر. وإن كانت تقام في الجماعة، فهذا خيال فاسد، وإن تم فلعله يجري في شوال نقص أو كمل أو بقية [شهر] ذي الحجة وإن كانت عشرين يوماً. وعلى الجملة لا أعده من المذهب. وقال الرافعي: إن [هذا] الوجه لم ينقله سوى الإمام. قلت: وقال في "الإبانة" في حال ترك الصلاة لشغل: وحكاه القاضي الحسين في الإمام إذا ترك الصلاة؛ لاشتغالهم بالجهاد أياماً، [وقال: قيل:] إنه الذي نص عليه الشافعي. أما إذا اختص الفوات بالإرادة، قال الرافعي: فمقتضى كلام الأصحاب: أنها تقضى أبداً. قال: والسنة أن يمسك في عيد الأضحى إلى أن يصلي، ويأكل في عيد الفطر قبل الصلاة؛ لما روى الترمذي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى

حتى يصلي". وقال الدارقطني: "حتى يرجع، فيأكل من أضحيته". [والمعنى في الإمساك يوم الأضحى إلى ما بعد الصلاة؛ ليأكل من أضحيته]، أو يشارك الفقراء فيه؛ لأنه وقت أكلهم، وفي تعجيل الأكل يوم الفطر [قبل الصلاة: مخالفة العادة السالفة. ولأن الفطر في ابتداء الإسلام كان محرماً قبل الصلاة]؛ فقدم ليعلم نسخه. قال الأصحاب: ويستحب أن يكون ما يأكله يوم الفطر قبل الصلاة تمرات وتراً؛ لرواية البخاري عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات". وفي رواية علقها وأسندها الإسماعيلي والدارقطني: "يأكلهن وتراً".

قال الشافعي: وإن لم يطعم في بيته، ففي الطريق أو المصلى إن أمكنه ذلك؛ قاله في "البيان". قال: وتقام الصلاة في الجامع؛ أي: عند الاتساع؛ لأن خير البقاع وأطهرها من الأنجاس المساجد؛ ومن ثم كان الأئمة يصلون العيد في المسجد الحرام؛ لأن فيه اتساع الخطة والشرف. ولأن في إقامتها في الجامع تسهيلاً على الناس، وهذا يؤخذ من قوله في "المختصر": "وأحب للإمام أن يصلي بهم حيث هو أرفق بهم، وقد بينا أن الصلاة في الجامع مع الاتساع أرفق". قال: فإن ضاق عليهم، صلوا في الصحراء؛ روى أبو سعيد الخدري: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الفطر والأضحى في الصحراء؛ طلباً للسعة". قال [في] "الحاوي": وقد صار مصلى المدينة] اليوم داخل البلد، لأن العمارة زادت، واتصلت حتى عبرت الجبان؛ فصار مصلاهم اليوم عند رحبة دار عبد الرحمن بن عوف، فلو خالف الإمام في هذه الحالة، وأقامها في المسجد- كان مكروهاً؛ لوقوع الناس في الزحمة، وعسر الأمر عليهم. قال: ويستخلف الإمام، أي: في هذه الحالة من يصلي في الجامع بضعفة الناس؛ لأنه روي عن علي- كرم الله وجهه- أنه استخلف أبا مسعود الأنصاري؛ ليصلي بضعفة الناس [في المسجد، ولا مخالف له؛ ولأن في ذلك حيازة فضيلة الصلاة لهم.

وضعفه الناس:] الشيوخ، والزمنى، والمرضى، وهو بفتح الضاد والعين، ويقال: ضعفاء، وضعاف. وقد أفهم كلام الشيخ: أن فعلها في الجامع عند اتساعه أفضل من الصحراء؛ لما ذكرناه، دون حالة الضيق. وحكى المراوزة معه وجهاً آخر عن رواية صاحب "التقريب"، ولم يورد المتولي [غيره]: أن فعلها في الصحراء أفضل مطلقاً؛ لأن ذلك أرفق بالناس؛ [فإنه] يحضرها الداني والقاصي، والفرسان والرجالة، والصبيان، والنساء الحيض، ولا يتأتى لهن دخول المسجد. نعم، يستثنى من البلاد مكة-[شرفها الله تعالى]- لانضمام [فضيلة] مشاهدة الكعبة إلى فضيلة البقعة، وغير ذلك؛ فلا تفوت؛ وهذا قد حكاه القاضي الحسين عن نصِّه في "الكبير"؛ فإنه قال فيه: "ولا يقام العيد في البلدان في المساجد، بل يخرجون إلى الجبَّان إلا بمكة؛ فإنهم يصلون في المسجد". وعن الصيدلاني إلحاق بيت المقدس فيما نحن فيه بمكة، وهو المذكور في "الخلاصة". نعم، لو كان [هناك عذر من مطر، أو ثلج، ونحو ذلك- كان] إقامتها في المسجد أولى بكل حال؛ لما روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: "أصابنا مطر في يوم عيدٍ؛ فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد". قال أبو إسحاق المروزي: وعند الضيق يصلي الإمام في المسجد الأعظم بمن يطيق الحضور فيه، واستخلف من يصلي بالناس في موضع آخر بحيث يكون أرفق بهم. قال الرافعي: وفي كلام الأئمة ما يفهم بناء هذا الخلاف على أن إقامة

الصلاة بمكة كان لخصوص فضيلة المسجد الحرام، أو لسعة الخطة. فإن قلنا بالثاني، فالمسجد أولى في سائر البلاد أيضاً. وإن قلنا بالأول، فلا. والذي أورده العراقيون، والماوردي، والبغوي، وهو الأظهر في "الرافعي": ما ذكره الشيخ، وعليه ظاهر النص؛ فإنه قال في [كتاب] الصيد والذبائح: "وتجب إقامة العيد [بحيث تجب إقامة الجمعة] ". وقال في القديم: "ويصلي العيد حيث يصلي الجمعة"، والجمعة لا تقام في الصحراء، بل في البلد؛ فكذا العيد. وقد أخذ الشيخ أبو محمد بظاهر هذا النص، وقال: لا تصح إقامتها إلا حيث تصح الجمعة كما سنذكره. والحيّض إن حضرن، يقفن على باب المسجد. قال: ويحضرها الرجال؛ للإجماع، والنساء، والصبيان؛ لما روى مسلم عن أم عطية قالت: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجن في العيدين: العواتق، والحيَّض، وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين"؛ فثبت في النساء بالنص، وقيس عليهن الصغار. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في النساء بين الشابة والعجوز، وبه صرح البندنيجي في باب صلاة الجمعة، وقال هنا: إنه المذهب، وهو ما حكاه في "الحاوي" عن بعض أصحابنا البغداديين؛ لأنه- عليه السلام- كان يخرج بناته ونساءه إلى العيدين. ولفظ الشافعي- رحمه الله- في "الأم" يشهد له؛ لأنه قال: "وأحب شهود العجائز وغير ذوات الهيئة للصلاة والأعياد، وأنا لشهودهن الأعياد أشد استحباباً مني لشهودهن غيرها من الصلوات المكتوبات"، لكنه يقتضي أن ذات الهيئة

منهن لا يستحب لها الحضور، وقد أخذ به المتولي، فقال: الأولى لذوات الهيئات والجمال الصلاة في بيوتهن، ولو خرجن جاز؛ للخبر السابق. والذي حكاه المزني عنه: أنه قال: "وأحب حضور العجائز غير ذوات الهيئة"، وهو الذي حكاه في "المهذب"، وهو يقتضي اختصاص الاستحباب بالعجائز؛ إذا لم يكن لهن هيئة، أما الشابات فلا يستحب لهن الحضور. وصرح الماوردي والرافعي: بأنه يكره لهن الحضور؛ لأنه يخشى افتتانهن بالرجال و [افتتان] الرجال بهن. وقال: إن خبر أم عطية يجوز أن يكون متقدماً. ويقرب منه قول الصيدلاني. والقاضي الحسين يرى: أن الرخصة في خروجهن وردت في ذلك الوقت، فأما اليوم فيكره لهن الخروج إلى مجتمع الناس؛ لأن الناس قد تغيروا؛ قالت عائشة: "لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم لمنعهن الخروج". قال: ويظهرون الزينة، أي: بلبس أفخر الثياب المباحة، وإزالة الأوساخ، والتطيب؛ لأنه- عليه السلام- كان يلبس في العيد بردة حبرة، ويعتم.

وروى جابر أنه- عليه السلام- كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة. رواه ابن عبد البر. [وروي] عن الحسن أنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلبس يوم العيد أحسن ما نجد، ونتطيب بأجود ما نجد، وأن نضحي بأسمن ما نجد، وأن نظهر التكبير وعلينا السكينة والوقار. قال الشافعي في "الأم": "وأحب أن تلبس العمامة في الحر والبرد، واستحباب ذلك للإمام أكثر؛ لأن الإمام منظور إليه ومقتدى به". وما ذكرناه مختص بما عدا النساء؛ أما النساء فيخرجن في بذلة الثياب، ولا يتطيبن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات" يعني:

غير عطرات، رواه مسلم. فلو لبسن الشهرة من الثياب كره لهن ذلك، وكذا لو تطيبن؛ كما قاله أبو الطيب. وقال في "التتمة": إن التزين سنة للرجال والنساء، والعبيد والأحرار، والكبار والصغار؛ لأنه يوم فرح وسرور، وكل ذلك في النساء سواء. ولعل مراده بذلك: إذا كن في بيوتهن؛ فأما إذا خرجن للمصلى فلا؛ لأنه قال بعد ذلك: إن المستحب لهن أن يخرجن في ثياب مهنة، ويتنظفن بالماء، ولا يستعملن الطيب. قال: ويغتسل لها؛ لقول ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل يوم الفطر، ويوم الأضحى"، ذكره أبو أحمد من حديث حجاج بن تميم عن ميمون ابن مهران، عن ابن عباس، رضي الله عنه. [و] قد روي عن علي، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع أنهم كانوا يغتسلون في العيد. وعن عروة بن الزبير أنه قال: "السنة أن يغتسل يوم العيدين". ولأنه موضع شرع فيه الاجتماع؛ فيسن فيه الاغتسال كالجمعة. وكما يستحب الغسل يستحب الأخذ من الشعر والظفر إن احتيج إليه؛ لأنه من تمام الزينة.

قال: بعد الفجر؛ لأنه غسل استحب لأجل صلاة العيد؛ فدخل وقته بدخول وقت العيد لا قبله كغسل الجمعة. قال: فإن اغتسل لها قبل الفجر أجزأه في أحد القولين؛ لأن الصلاة تقام في أول النهار، ويقصدها الناس من البعد، فلو لم يرخص لهم في التقدم، لأدى إلى ترك هذه السنة؛ وبهذا خالف غسل الجمعة حيث لا يجوز قبل الفجر [على المذهب، وقد ترجع حقيقة هذا القول [إلى] أنه مخير في الاغتسال قبل الفجر] وبعده، وكذلك نقله البويطي؛ كما حكاه القاضي أبو الطيب. والبندنيجي والماوردي، وغيره حكوه وجهاً عن ابن أبي هريرة. ثم ظاهر كلام الشيخ: أنه بعد الفجر أولى على هذا القول، ولاشك فيه؛ لأنه عند الرواح كما ستعرفه. والقول الآخر: أنه لا يجزئه؛ لما ذكرناه، وهو ما حكاه البندنيجي عن نصه في "الأم"، ونقله في "المختصر"، وحكاه الماوردي وجهاً عن أبي إسحاق. والصحيح عند الرافعي، والنواوي الإجزاء. قال القاضي أبو الطيب: وإذا قلنا به فلا يغتسل إلا بعد نصف الليل؛ كما في أذان الصبح، وهو ما أورده القاضي الحسين، وقال: إنه لا خلاف فيه. وقال ابن الصباغ: يحتمل أن يجوز في جميع الليل كالنية في الصوم، ويخالف الأذان للصبح؛ فإنه إذا فعل قبل نصف الليل اشتبه بأذان العشاء؛ لأنه يبقى [الاختيار فيه] ما بقي وقت اختيار الصلاة، وهو يبقى إلى نصف الليل. قلت: ولا يقال: إن قوله: "الصلاة خير من النوم" مميز بينهما؛ لأن الشخص قد لا يسمع ذلك. وقد عكس الإمام ما ذكرناه، فقال: من جوز الغسل في الليل، فالمحفوظ عنه

أن جميع الليل وقت له، وهو ما اختاره في "المرشد"، ولم يحك في "الوسيط" غيره. ثم قال الإمام: وكان لا يبعد في القياس أن يقرب تقريب الأذان لصلاة الصبح. ثم الاغتسال يوم العيد وإظهار الزينة، لا يختص بمن يحضر الصلاة، بل يعم جميع الناس؛ فإنه يوم سرور وزينة، بخلاف الغسل للجمعة؛ فإنه مخصوص بمن يصلي؛ لقطع الروائح. قال: ويبكر الناس بعد الصبح؛ ليحصل بقرب الإمام، وليكن منتظراً للصلاة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أحدكم في صلاةٍ ما دام ينتظر الصَّلاة". وقال- عليه السلام-: "ألا أدلُّكم على ما يرفع الله به الدَّرجات، ويمحو [به] الخطايا؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط" أخرجه مسلم. قال: ويتأخر الإمام إلى الوقت الذي يصلي بهم [فيه]؛ لما روى أبو سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى

المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة" رواه مسلم. قال الأصحاب: ويكره له التنفل قبلها أو بعدها لما روى البخاري ومسلم، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي العيد، ولم يتنفل [لا] قبلها ولا بعدها. ولا يكره ذلك للمأموم إلا في الوقت المكروه. قال: ولا يركب، أي: قاصدها في المضي إليها؛ لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى العيد ماشياً، ويرجع ماشيّاً. وروي أنه- عليه السلام- لم يركب في عيد ولا جنازة قط. ثم كلام الشيخ يفهم أنه مخير في الركوب والمشي في الرجوع، وبه صرح القاضيان: أبو الطيب، والحسين؛ لأن القربة قد انقضت، وشاهد ذلك: تشييع الجنازة؛ فإنه يمشي في المضي، ويركب في العود؛ كما دل عليه ما سنذكره

من الخبر ثم. وهذا إذا لم يكن الطريق ضيقاً، فإن كان فترك الركوب أولى؛ [كي لا] يزدحم الناس؛ قاله البندنيجي. وعلى هذه الحالة يحمل ما صدر منه صلى الله عليه وسلم ومحل ذلك في الذهاب والعود إذا أطاق المشي، فإن عجز عنه؛ لضعف [أو] كبر أو مرض، أو كان الموضع بعيداً- فله أن يركب كما قلنا في تشييع الجنازة. قال: ويمضون إليها في طريق، ويرجعون في أخرى؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما روى جابر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق". أخرجه البخاري. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: [كان] النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد من طريق رجع في غيره". وروى نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى العيد من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرَّس، وقد بينهما في باب صفة الحج، وتكلم

الأصحاب في المعنى الذي لأجله فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: فقيل يحتمل: أنّه فعله؛ ليساوي في ممرِّه بين القبيلتين: الأوس والخزرج؛ لأنهم كانوا يتفاخرون بذلك في محالهم، فيقولون: مر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه. ويقال: إنه ما مر بطريق إلا ويفوح منها رائحة المسك. وقيل: يحتمل أنه كان يتصدق؛ فأحب أن يعم مساكين الطريقين. وقيل: إنه كان يقصد بالسؤال [في طريقه]، ولا يحضره ما يغنيهم؛ فكان يخالف بين الطريقين توقياً للمسألة. وقيل: إنه كان يسأل في طريقه عن معالم الدين، وأحكام الشرع، فأحب أن يعود في الآخر؛ ليعلِّم أهل الطريقين. وقيل: يحتمل أنه كان يفعل ذلك؛ للسعة، وقلة الزحام. وهذا [التأويل] منقول عن ابن عمر. وقيل: يحتمل أنه كان يفعله تفاؤلاً بتغير الحال؛ كما في تقليب الرداء في الاستسقاء. وقيل: يحتمل أنه كان يسلك الأبعد في ذهابه، والأقرب في رجوعه. وقيل: يحتمل أنه كان يفعل ذلك؛ لينتشر المسلمون في الطريق؛ فيزداد غيظ اليهود. وقيل: يحتمل أنه فعله؛ تجنباً لكيد المنافقين، وإبطالاً [له]؛ لأنهم ربما ترصدوا له في الطريق الذي ذهب فيه. وقيل: يحتمل أنه فعله؛ لتشهد له البقاع، فقد روي: "من مشى في خير أو بر شهدت له البقاع يوم القيامة". قال الماوردي: وفي شهادة البقاع تأويلان:

أحدهما: أن الله- تعالى- ينطقها بذلك. والثاني: أن الشاهد أهلها؛ كقوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان: 29]. قال أبو إسحاق: وإذا احتمل: أنه- عليه السلام- فعل ذلك لمعنى؛ فإن عرفنا أن ذلك المعنى يختص به، لم يشاركه فيه [غيره، وإن لم نعرف ذلك فعلناه. ومن طريق الأولى إذا عرفنا: أنه فعله لمعنى نشاركه فيه]. وقال أبو علي بن أبي هريرة: نفعله؛ إتباعاً له، سواء عرفنا أنه لمعنى يختص به أو لا. قال الماوردي: وهما متوافقان على الإتباع فيما نحن فيه؛ لأنه لم يعرف أنه فعله لمعنى يختص به. ونقل بعض الناس عن رواية الماوردي في هذا الموضع: أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى، فزال ذلك المعنى- ففيه وجهان: أحدهما- قاله أبو إسحاق-: لا يفعل إلا بدليل. والثاني- قاله ابن أبي هريرة-: يفعل. وكلام الرافعي يفهم أن الخلاف جار في وقتنا هذا في المضي إلى العيد، وادعى أن الذي مال إليه الأكثرون: مذهب ابن أبي هريرة. قال: والسنة أن تفعل في جماعة- أي: واحدة- لنقل الخلف عن السلف. والمفهوم من لفظ "السنة"- إذا أطلقه الفقهاء-: الندب، غير الطريقة؛ وحينئذ يكون كلام الشيخ مصرحاً بانعقادها فرادى، وهو المذهب الجديد الذي نص عليه في "الأم" و"الإملاء"، ولفظه في "الأم": و"لا بأس أن يصلّوها في مساجد الجماعات في المصر، فإذا فعلوا فلا أحب أن يخطب أحد في المصر إذا كان

به إمام؛ خوف الفتنة". ومنهم من قطع بهذا القول، والذي عليه الجمهور إجراء قولين في المسألة: أحدهما: هذا. والثاني- وهو مأخوذ من نصه في الصيد والذبائح والقديم-: أنه لا يقيمها إلا من تقام به الجمعة، واستؤنس له بأنه- عليه السلام- لم يصل العيد بمنى، ولو ساغ لأقامها. والقائلون بالأول قالوا: إنما ترك الصلاة بمنى؛ لاشتغاله بالمناسك. وقد قال الشافعي: " [و] أما أهل منى فلا يصلون صلاة الأضحى، وسواء كانوا من أهل مكة أو غيرهم؛ فإن لهم بغيرها شغلاً". التفريع: إن قلنا بما ذكره الشيخ، فإذا انفرد الشخص بصلاة العيد في محلة جاز. ولو فرضت جماعة متفرقة، صحت الصلاة، ولكن الإمام يمنع من هذا من غير حاجة؛ حتى تجتمع الجماعات على صعيد واحد، قاله الإمام. وإن قلنا بمقابله، قال الأصحاب: فلا يصليها المنفرد في بيته، ولا عبد ولا امرأة ولا مسافر إلّا تبعاً لأهل الجمعة، وكذا أهل السواد إذا كانوا دون الأربعين [وهم على مسافة لا يبلغهم النداء. نعم، إن كانوا أربعين،] أقاموها، ولا يشترط أن يكون الأربعون بصفة من تنعقد بهم الجمعة، بل إن كان بعضهم من أهلها، وباقيهم من غيرها، أجزأ؛ كذا حكاه البندنيجي عن الشيخ أبي حامد.

وعبارة ابن الصباغ في حكاية ذلك عنه مخالفة لبعضه؛ ولذلك استشكلها. وقال الإمام- في حكاية هذا القول-: إنه يشترط أن تكون صفاتهم صفات الأربعين الذين تنعقد بهم الجمعة، وإنه يشترط دار الإقامة كما في الجمعة، وكذا كل ما يشترط في الجمعة، إلا تقديم الخطبتين على الصلاة، وإقامتها في البلد؛ فإن صلاة الجمعة يتقدمها الخطبتان، ولا تقام في الجبان، وصلاة العيد تتقدم الخطبتين، وتقام بارزة. وعمل الأئمة الماضين أصدق شاهد في ذلك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيم صلاة العيد بالمدينة في الجبان. وهذا قد وافق عليه أبو حامد، فقال: ولا خلاف على المذهب أنه لي سمن شرطها الوطن؛ فإن السنة إذا ضاق بهم المسجد أن تقام في المصلى خارج البلد [بحيث] لا يجوز إقامة الجمعة فيه. وقد حكى الإمام عن شيخه أنه قال: [إنا] إذا فرعنا على هذا القول لم تجز صلاة العيد إلا حيث تجوز صلاة الجمعة، وهو ما اقتضاه كلام القاضي الحسين؛ لأنه قال: أحد القولين: أن العيد كالجمعة، في أنه لا يجوز إلا في مصر أو قرية جامعة، ولا يجوز إلّا في جماعة، ولا يؤدى في بلد إلا في جماعة واحدة، ولابد فيه من العدد. قال الإمام: والذي ذكره شيخي وإن كان قياساً، فهو في حكم المعاندة لما عليه الناس، والقول في نفسه ضعيف؛ إذ يبعد كل البعد إذا مضت الصلاة، وفرض اختلال بالخطبة أن ينعطف البطلان على الصلاة. قال: وينادي لها: الصلاة جامعة؛ لما روى الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر أن ينادى للعيد والاستسقاء: "الصلاة جامعة"، وبالقياس على الكسوف.

والوجه: النصب فيهما: الأول على الإغراء، والثاني على الحال. والتقدير: ائتوا الصلاة جامعة، أي: جامعة الناس والقربات؛ فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. وقال القاضي الحسين: يقول: "الصلاة الصلاة" [ولا يقول]: "جامعة"، بل هذا لفظ الشافعي، يعني: هذه الصلاة جامعة: اجتمعتم. والجمهور على الأول، وقالوا: إن الشافعي قال: "لو قال: هلموا إلى الصلاة؛ فلا بأس"؛ ولأجله قال أبو الطيب: [إنه مخير بين أن يقول: "الصلاة جامعة"، أو: "هلموا إلى الصلاة". ولو قال: حي على الصلاة، فلا بأس، إلا أنه يستحب أن يتوقى كلمات الأذان. وقال في "الشامل": لو قال: هلموا إلى الصلاة، أو]: حي على الصلاة- فلا بأس. وزاد في "العدة" فقال: إن قوله: حي على الصلاة، مستحبٌّ. وضده قول أبي الفتح سليم: إنه مكروه. وقال الماوردي: إن الشافعي قال: "لو قال: هلموا إلى الصلاة، أو: حي على الصلاة، أو: قد قامت الصلاة- كرهنا ذلك، وأجزأه". ولا خلاف في أن الأذان والإقامة غير مشروعين فيه؛ لما روى مسلم عن جابر قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة دون أذان ولا إقامة. قال: ويصلي ركعتين؛ للإجماع، إلا أنه يكبر في الأولى بعد دعاء الاستفتاح، وقبل التعوذ- سبع تكبيرات، وفي الثانية قبل القراءة: خمس تكبيرات؛ لقول الشافعي- رحمه الله-: سمعت سفيان بن عبد الله [يقول: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: سمعت عبد الله] بن عباس يقول: أشهد على

رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كبر في صلاة العيدين في الأولى سبعاً سوى تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً سوى [تكبيرة] القيام. ولرواية الترمذي عن عمرو بن عوف: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة، وفي الأخيرة خمساً قبل القراءة". وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "التكبير في الفطر سبعٌ في الأولى، وخمسٌ في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما".

وقد صحَّح البخاري هذين الحديثين، وخرج الثاني بهذا الإسناد الدارقطني، وقال: "سبعاً في الأولى، وخمساً في الآخرة سوى تكبيرة الصلاة". وفي حديث أبي داود عن عائشة: "سوى تكبيرتي الركوع". قال ابن عبد البر: وقد روي عنه- عليه السلام- من طرق: أنه كبر في العيد سبعاً في الأولى، وخمساً في الثانية، ولم يرو عنه من حديث قوي أو ضعيف خلاف ذلك. واحترز الشيخ بقوله: "بعد دعاء الاستفتاح" عن مذهب المزني وأبي ثور؛ فإن عندهما: أن تكبيرة الإحرام من السبع، والخبر حجة عليهما، مع أن تكبيرة الإحرام وكذا الهوى لا تدخل في العدد؛ لأنهما لا تختصان بالعيد. وبقوله: "وقبل التعوذ" عن مذهب أبي يوسف؛ فإن عنده: أن دعاء الاستفتاح يليه التعوذ، كما في غيرها من الصلوات. وقد أشار الصيدلاني إلى تردد فيه، بقوله: الأشبه بالمذهب: أن التعوذ بعد التكبيرات وقبل القراءة، وهو المشهور؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، وقبل التكبير ليس بقارئ، ويفارق سائر الصلوات؛ لأن القراءة تلي التعوذ. [و] بالأمرين معاً يقع الاحتراز عن مذهب محمد بن الحسن؛ فإن عنده أن دعاء الاستفتاح والتعوذ معاً يفعلان بعد التكبيرات، وهو قول حكاه في "البيان" و"الزوائد". والصحيح الأول؛ لأنه إذا تأخر عن أولها لم يكن مستفتحاً.

و [احترز] بقوله: "في الثانية قبل القراءة" عن مذهب أبي حنيفة؛ فإن عنده أنه يكبر بعد القراءة، والحديث حجة عليه. وسكوت الشيخ عن التعوذ في الركعة الثانية تفريع على أن التعوذ يختص بالركعة الأولى؛ كما تقدم في موضعه. قال: يرفع فيها اليدين؛ قياساً على التكبيرات في صلاة الجنازة. والرفع يكون إلى حذو منكبيه؛ كما في تكبيرة الإحرام. قال الشافعي: ويقف بين كل تكبيرتين بقدر آية لا طويلة ولا قصيرة، يهلل الله، ويكبره، ويحمده، ويمجده. وشرح الأصحاب ذلك، فقالوا: يقول بين كل تكبيرتين من السبع والخمس: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وقال بعضهم: يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت [وهو حي لا يموت]، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير". قال ابن الصباغ- تبعاً للقاضي أبي الطيب-: ولو قال ما اعتاده الناس، [وهو]: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً"- كان حسناً؛ لأن الوليد بن عقبة سأل ابن مسعود: ما أفعل في يوم عيد؟ فقال له: "تكبر، وتحمد، وتثني على الله، وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين"، ولا يقول ابن مسعود ذلك إلا توقيفاً. ولأن ذلك لم ينكره منكر مع وجوده في كل عصر. فلو ترك ذلك، ووالى بين التكبيرات، كان مكروهاً؛ قاله القاضي أبو الطيب، وعليه نص في "الأم"، وقال: "إنه لا إعادة عليه ولا سجود". ويستحب أن يضع يمناه على يسراه بين كل تكبيرتين؛ قاله الماوردي.

وقال الرافعي: إن في "العدة" ما يشعر بخلاف فيه. [فروع]: [أحدها:] لو اقتدى في العيد بمن يخالفه في التكبير، بأن كان هو يعتقد أنها في الأولى ست، وإمامه يعتقد أنها سبع، أو بالعكس: فهل يتابع إمامه أو يمشي على اعتقاد نفسه؟ حكى الإمام في كتاب الجنائز عن رواية الشيخ فيه قولين، الذي ذكره منهما ها هنا، وكذا الفوراني والرافعي: إتباع الإمام. وقال القاضي الحسين: إن الإمام لو ترك التكبيرات بجملتها، هل يأتي بها المأموم؟ وجهان وهما قريبان من القولين اللذين رواهما الشيخ أبو علي. ثم قال الإمام في كتاب الجنائز، في مسألة القولين: والذي عندي فيه: أن المقتدي لو تابع، أو ترك المتابعة في التكبيرات، أو لم يكبر، وكان الإمام يكبر- فلا ينتهي الأمر في ذلك إلى الحكم ببطلان الصلاة؛ فإن هذه التكبيرات ليست من الأركان حتى يقال: سبق الإمام بها، أو سبق المأموم بها، وفيه احتمال ظاهر، والعلم عند الله سبحانه. قلت: ويقوي الاحتمال: أن الإمام لو أتى بسجدتي السهو، ولم يتبعه المأموم- بطلت صلاته، وإن لم يكونا من الأركان. [وإن نظر] إلى الجنس فتكبيرة الإحرام من الأركان. [الفرع] الثاني: إذا أدرك المأموم الإمام بعد فراغ التكبير، لا يقضي على الجديد؛ [لأنه سنة]، بخلاف تكبيرات الجنازة. وعلى القديم: يأتي بها؛ لأن محل التكبير القيام، وقد أدركه، وكذا لو أدرك

بعض التكبيرات، فإنه يكبر ما أدرك معه، وهل يكبر ما فاته؟ على القولين: ولو أدركه في الركوع لا يكبر بلا خلاف، بل يركع معه. ولو أدركه بعد فراغ القراءة، عند إرادة الركوع، قال في "الإبانة": فهل يأتي به؟ فيه قولان: فإن قلنا: يأتي به، فهل يعيد الفاتحة؟ فيه وجهان. ولو أدركه في الركعة الثانية، كبر خمساً معه؛ للمتابعة، ثم إذا قام لقضاء الركعة كبر خمساً أيضاً؛ لأن ما أدركه معه هو أول صلاته، والإمام تحمَّل عنه التكبيرتين الزائدتين على الخمس؛ كذا قاله الجمهور. وقال المتولي: إن ذلك تفريع على الجديد. [و] إذا قلنا بالقديم كبر مع الإمام خمس تكبيرات، ثم أتى بتكبيرتين تتمة السبع. [الفرع] الثالث: إذا ترك الإمام أو المنفرد التكبيرات ناسياً، ثم تذكر: فإن كان قبل الشروع في القراءة أتى بها، وإن كان بعده، قال في القديم: يأتي بها، ويقطع القراءة. وإن كان بعد الفراغ من القراءة، أتى بها، ولم يعد القراءة، والأولى أن يعيدها؛ نص عليه. وفي "الرافعي" وجه: أنه يعيدها. والجديد الذي نص عليه في "الأم": أنه لا يأتي بها؛ كما لو ترك دعاء الاستفتاح، ثم تذكره بعد الشروع في القراءة؛ فإنه لا يعود إليه بلا خلاف. وحكى الإمام مع هذه الطريقة طريقة أخرى عن رواية الشيخ أبي علي طاردة للقول القديم في تدارك دعاء الاستفتاح أيضاً. [والقاضي] الحسين حكاه وجهاً عن ابن سريج. والطريق الأوّل أصح؛ لأنه إذا تأخر عن أول الصلاة، لم يبق استفتاحاً؛ فإن موضع الاستفتاح على أثر التحريم. [الفرع] الرابع: إذا ترك التكبيرات في الركعة الأولى، لا يستحب له أن

يأتي بها مع تكبير الثانية بأن يكبر اثنتي عشرة تكبيرة، فإن فعل، قال في "الأم": كرهته، ولا إعادة عليه، ولا سجود؛ وكذا لو ترك التكبيرات عمداً أو سهواً لا سجود عليه؛ لأن شعارها لا يختص بالصلاة؛ فإنها مشروعة في الخطبتين. نعم، إذا فاتته، وقلنا: لا يقضيها، فأتى بها بعد القراءة، فهل يؤمر بالسجود؟ فيه وجهان مبنيان على ما إذا نقل ذكراً هو سنة إلى بعض الأركان، فإنه ينظر فيه: فإن كان من الأبعاض: كالقنوت، ففي اقتضاء الإتيان به في غير موضعه السجود- وجهان؛ بناءً على ما إذا نقل ركناً ذكريّاً، وها هنا أولى بألا يسجد؛ لأنه ليس ركناً؛ فحكمه أخف. و [إن] أتى بذكر ليس بركن، ولا بعض، فوجهان مرتبان على قنوت، وأولى بعدم اقتضاء السجود. وعلى هذا يخرج الإتيان بالتكبيرات بعد القراءة، وكذا دعاء الاستفتاح إذا منعناه، وكذا قراءة السورة في التشهد. واعلم أن الإتيان بالتكبيرات في هذه الصلاة محله إذا وقعت أداء، فلو فعلت قضاء، قال العجلي: فلا يكبر؛ لأن التكبير من سنة الوقت، وقد فات. ويجيء فيه الاحتمال الذي سنذكره عن القاضي الحسين، فيما إذا فاتته صلاة [في أيام] التشريق، فقضاها في غيرها، هل يكبر خلفها أم لا؟ قال: ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة "ق"، وفي الثانية "اقتربت الساعة .. "؛ لما روى مسلم عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- سأل أبا واقد اللَّيثي: ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ "ق والقرآن المجيد ... "، و"اقتربت الساعة وانشق القمر .. ".

والمعنى في ذلك: أن يوم العيد شبيه بيوم القيامة؛ لما فيه من حشر الناس كيوم الحشر، والسورتان فيهما ذكر القيامة. وقاف، قال النواوي: جبل محيط بالدنيا من زبرجد، وهو من وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة، وما بينهما ظلمة؛ كذا نقله الواحدي عن أكثر المفسرين. وقال مجاهد: هو فاتحة السور، وهو مذهب أهل اللغة. قال: يجهر فيهما؛ لخبر أبي واقد؛ إذ لو لم يكن- عليه السلام- قد جهر بهما لما عرف أنه قرأهما. قال أبو الطيب: وهذا مما لا خلاف فيه، وقد روي أنه- عليه السلام- وأبا بكر وعمر [جهروا] بالقراءة في [العيد، وعلى ذلك عمل المسلمين في سائر الأمصار، وما ورد من أنه- عليه السلام- كان يقرأ في] العيدين بـ "سبح اسم ربك الأعلى .. "، و"هل أتاك حديث الغاشية ... "- كما رواه مسلم عن النعمان بن بشير، والنسائي عن سمرة بن جندب- نحمله على الجواز؛ لأن ما ذكرناه [أكمل؛ لما ذكرناه] من المعنى.

قال: ويخطب بهم خطبتين، أي: بعد الصلاة؛ لما روى مسلم عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة. قال الإمام: فلو قدمت الخطبة على الصلاة، ففي الاعتداد بها عندي احتمال مع الكراهة، ولا يعتد بها قبل طلوع الشمس بلا خلاف. واعلم أن جميع الخطب المشروعة في الإسلام عشر: ثمان منها بعد الصلاة: خطبة عيد الفطر، وخطبة عيد الأضحى، وخطبة كسوف الشمس، وخطبة خسوف القمر، وخطبة الاستسقاء، وثلاث خطب في الحج من أربعة. واثنتان تفعل [كلٌّ منهما] قبل الصلاة، وهما: خطبة الجمعة، وخطبة يوم عرفة. قال: كخطبتي الجمعة، أي: في الأركان والسنن؛ لأن جابراً روى أن- عليه السلام- خطب على المنبر. وروى ابن ماجة عنه أنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى إلى المصلى، فخطب قائماً، ثم قعد بعده، ثم قام.

قال: إلا أنه يستفتح الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع تكبيرات؛ لما روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: انه قال: "هو السنة". قال الماوردي: وقوله: "هو السنة" يحتمل أمرين: أحدهما: سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. والثاني: سنة الصحابة، رضي الله عنهم. وأيما كان، فالاقتداء به حسن. قال الإمام: وسنة العدد الذي ذكرناه؛ كسنة الخطبتين بركعتي صلاة العيد؛ فإن الركعة الأولى تشتمل على تسع تكبيرات: بتكبيرة الإحرام والهوي، والثانية تشتمل على سبع تكبيرات على الترتيب الذي ذكرناه. واعلم أن الشيخ لو قال: "ثم يخطب بهم"- كما ذكره المزني- لكان أحسن؛ ليؤذن بأن الخطبة بعد الصلاة، كما هو السنة. وقوله: "كخطبتي الجمعة" يفهم: أنه عند طلوعه يجلس، وهو ما نص عليه في "الأم". وقال أبو إسحاق: لا يجلس؛ لأن جلوسه في الجمعة؛ ليفرغ المؤذن. والصحيح الأول؛ ليستريح؛ فلا يبهر في الخطبة. وقوله: "إلا أنه يستفتح الأولى .. " إلى آخره يفهم أمرين: أحدهما: أن التكبير من الخطبة، وقد قال الشيخ أبو حامد: إنه ليس من الخطبة، والخطبة ما يأتي بعده؛ لقول الشافعي: "يكبر، ويخطب". وقال في "الحلية" بعد حكايته: إن فيه نظراً، ويشبه أن يكون من الخطبة. قال في "الروضة": والذي نص عليه الشافعي وكثيرون من الأصحاب ما قاله الشيخ أبو حامد. ومن قال منهم: تفتتح الخطبة بالتكبير، لا يأباه؛ لأن افتتاح الشيء قد يكون ببعض مقدماته التي ليست من نفسه. الثاني: أنه لا يأتي بين التكبيرات بذكر، وهو ما حكاه أبو حامد في "التعليق"،

وقال: إنه لا يستحب ذلك؛ لأن ابن عتبة قال: "السنة في التكبير يوم الأضحى والفطر: أن يبتدئ الإمام قبل الخطبة وهو قائم على المنبر بتسع تكبيرات تَتْرَى، ولا يفصل بينها بكلام، [ثم يخطب، ثم يجلس، ثم يقوم إلى الخطبة الثانية، فيفتتحها بسبع تكبيرات تَتْرَى لا يفصل بينها بكلام]. وقال الشافعي في "الأم": "ويكون نسقاً، فإن فصل بين كل تكبيرتين بحمد الله، والثناء عليه- كان حسناً؛ لأنه نقل عن عبد الله بن مسعود أنه يحمد الله، ويصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم". وقال الصيدلاني: يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. قال: ويعلمهم في الفطر زكاة الفطر، وفي الأضحى الأضحية، أي: يذكر من أحكامهما ما تعم الحاجة إليه؛ لأنه لائق بالحال. وقد روى البراء بن عازب قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة، ثم قال: "من صلَّى صلاتنا ونسك نسكنا، فقد أصاب السُّنَّة، ومن نسك قبل ذلك فتلك شاة لحمٍ"، رواه أبو داود. قال: ويجوز أن يخطب قاعداً؛ أي: مع القدرة على القيام؛ لأنه روي عن علي- كرم الله وجهه- أنه خطب يوم العيد على راحلته. وروي عن عثمان [والمغيرة بن شعبة] مثل ذلك. ولأن الخطبة سنة؛ فجازت قاعداً مع القدرة؛ كصلاة العيد. قال في "البحر": وقد روى الجويني وجوب القيام فيها، وهو غلط. قلت: لعل هذا بناءً على اشتراط شرائط الجمعة فيها. ثم إذا خطب قاعداً، سكت بين الخطبتين سكتة خفيفة تقوم مقام الجلسة لو خطب قائماً؛ قاله أبو الطيب. قال الشافعي في "الأم": "وإذا خطب، ثم رأى نسوة أو جماعة من الرجال لم

يسمعوا الخطبة، لم أر بأساً أن يأتيهم، فيستأنف لهم الخطبة؛ لأنه- عليه السلام- فعل ذلك". قال: والسنة أن يبتدئ في عيد الفطر بالتكبير؛ أي: رافعاً [به] صوته بعد الغروب من ليلة الفطر خلف الصلوات، وفي غيرها من الأحوال؛ لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]. قال الشافعي: "سمعت من أرضى من العلماء بالقرآن يقول: أراد كمال عدة صوم شهر رمضان، والتكبير عند إكماله". وإذا كان كذلك فإكمال العدة يقع بغروب الشمس، والواو موضوعة للجمع المطلق، وهو ضربان: [ضرب] جمع [مقاربة، وجمع معاقبة، وقد قام الإجماع على عدم إرادة] [جمع] المقاربة؛ فتعين جمع المعاقبة، وذلك بعد الغروب. وبعضهم قال: حمل الواو على الجمع المطلق هنا خلاف الإجماع؛ فتعين حملها على الترتيب. وقضيته: أن يقع التكبير بعد الغروب؛ فثبت بالكتاب أن ابتداء وقته بعد الغروب، وبالسنة أنه يدوم على الخروج إلى الصلاة؛ روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغدو إلى المصلى في الفطر والأضحى رافعاً صوته بالتكبير، وإذا كان كذلك اندرج فيه ما بعد فراغ الصلوات الواقعة في هذا الوقت. وقد يفهم من قول الشيخ: "والسنة أن يبتدئ بالتكبير بعد الغروب من ليلة الفطر خلف الصلوات": أنه ورد في ذلك [بخصوصه] شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة- رضي الله عنهم- وهذا لم ينقله أحد من الأصحاب، بل قالوا: إنه تكرر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم عيد الفطر؛ ولم ينقل أنه كبر عقيب الصلوات، ولم يستحب بعضهم لأجل ذلك التكبير عقيب الصلوات الواقعة فيه؛ كما قاله

البندنيجي [وغيره]. وقد حكاه القاضي الحسين عن الجديد، ولم يورد في "الحاوي" و"المرشد" غيره. وقال في "الشامل": إنه ظاهر المذهب؛ أخذاً من قول أبي الطيب: إن الشافعي لم يذكره. ولأنه من شعار العيد إلى العيد؛ فلا تعلق له بالصلاة، والذي يدل عليه: أن ذلك ينقضي بالفراغ من صلاة العيد، ويفارق حكمه في عيد النحر؛ لأنه لا ينقضي بالفراغ من صلاة العيد. لكن الذي قال البندنيجي: إنه المنصوص، وحكاه القاضي الحسين والمتولي عن نصِّه في القديم- استحباب ذلك؛ لأنه عيد سنَّ فيه التكبير المطلق؛ فسن فيه المقيد، وهو ما يأتي به خلف الصلوات؛ كالأضحى. فعلى هذا يكبر عقيب ثلاث صلوات: المغرب والعشاء والصبح. قال: وخاصة عند ازدحام الناس؛ ليوافقوه إذا سمعوه فيحصل له [أجر] مذكر. قال: إلى أن يحرم الإمام بصلاة العيد؛ لأنّ الكلام قبل إحرامه مباح؛ فاستحب التكبير، وبإحرامه يكره الكلام؛ فامتنع التكبير؛ وهذا ما نقله البويطي، ولم يحك عن الشافعي غيره، وغلط الفوراني من قال بخلافه، ووراءه قولان: أحدهما: أنه يكبر إلى أن يخرج الإمام إلى المصلى؛ قاله في "الأم" ونقله المزني. والثاني: إلى أن يفرغ الإمام من الصلاة؛ حكاه القاضي أبو الطيب والإمام عن رواية شيخه عن القديم، وعليه جرى المتولي، فقال: ولم يعتبر الشافعي فراغ الإمام من الخطبة وإن كان فيها تكبير؛ لأن تكبيرات الخطبة مختصة بالخطيب غير مسنونة في حق سائر الناس. وفي "تعليق" البندنيجي: أنه قال في القديم: يكبر حتى يفرغ الإمام من الصلاة والخطبتين معاً. وهو ما قاله الشيخ أبو حامد وابن الصباغ، وعليه ينطبق قول

الماوردي: إنه يكبر إلى أن ينصرف الإمام. وفي "الذخائر": أن الشيخ أبا محمد نقل نصّاً: أنه يدوم إلى أن يبقى من الخطبة شيء. وقد أخذ بعض الأصحاب بظاهر النصوص، فأثبت في المسألة ثلاثة أقوال، وقال: إذا قلنا بالأول والثاني، تصور التكبير إلى آخر وقته في حق من حضر مع الإمام ومن لم يحضر معه. وإذا قلنا بالثالث، لم يتصور ذلك إلا في حق من غاب عنه؛ فإنه يكبر حتى يعلم فراغ الإمام من الخطبتين على طريقة أبي حامد، وعلى طريقة غيره إلى فراغه من الصلاة، وبه قال ابن الصباغ. وقال ابن سريج وأبو إسحاق: المسألة على قول واحد وهو ما نقله البويطي. وقالا: نصه في "الأم" أراد به: ما نقله البويطي؛ لأنه يفتتح الصلاة عند خروجه؛ فالعبارة مختلفة والمعنى واحد، وما قاله في القديم أراد به: جنس التكبير؛ فإنه يبقى إلى أن يفرغ الإمام من الخطبتين؛ فإن الخطبتين [فيهما التكبير]؛ وهذه الطريقة قال الإمام: إن المزني اختارها، وهي الطريقة المرضية [التي] لم يذكر الأئمة غيرها. قال: وفي عيد النحر يبتدئ [؛ أي]: بالتكبير المقيد يوم النحر بعد صلاة الظهر؛ لأن الناس في التكبير في هذا العيد تبع للحجيج، وهم يكبرون بعده؛ قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 200]، وانقضاء المناسك على الوجه المطلوب يكون ضحوة يوم النحر، وأول صلاة تلقاهم بعد ذلك صلاة الظهر؛ فكان أول الوقت. قال: خلف الفرائض، أي: على الأعيان؛ لنقل الخلف عن السلف. قال القاضي الحسين: ولأي معنى كان ذلك؟ فيه ثلاثة معانٍ: أحدها: لأنَّه تأدية صلاة فرض في [وقت] أيام التشريق.

والثاني: لأنه تأدية وظيفة مشروعة في زمان أيام التشريق. والثالث: لأنه [تأدية] صلاة مفعولة في أيام التشريق. وفائدة ذلك تظهر من بعد. قال: وخلف النوافل في أصح القولين؛ لأنها صلاة راتبة في الوقت أو صلاة مفعولة في أيام التشريق؛ فشرع التكبير عقيبها كالفرائض، ومنهم من قطع بهذا القول كما حكاه في "المهذب" وغيره، وهو مخرج على المعنى الثاني والثالث. ومقابله: أنه لا يكبر خلفها؛ لأن التكبير شعار الفرائض؛ فلا يكون شعار النوافل؛ كالأذان والإقامة؛ وهذا يخرجه المعنى الأول. وعن بعض الأصحاب القطع به؛ حكاه الماوردي وأبو الطيب مع الطريقين الأوّلين. ومنهم من قال: يكبر خلف النوافل الراتبة، سواء كانت تابعة للفرائض أو غير تابعة كالوتر والأضحى، ولا يكبر لغيرها؛ نظراً للمعنى الثاني دون الأول. والثالث حكاه القاضي الحسين وغيره. ومنهم من قال: ما يسن له الاجتماع يكبر عقيبه، وما لا فلا؛ حكاه الماوردي، وبه يحصل في المسألة خمس طرق. قال: إلى أن يصلي الصبح من آخر أيام التشريق، في أصح الأقوال؛ لما ذكرنا أن الناس تبع للحجيج، وآخر صلاة يصليها الحاج بمنى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق. وقد تلخص من هذا القول الذي صححه الشيخ: أن ابتداء التكبير خلف الصلوات من بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهكذا حكاه القاضي أبو الطيب عن رواية المزني والزعفراني والبويطي عن الشافعي، وهو منصوص في "الأم" على هذا النحو، وقال في "الشامل": إنه مذهب مالك. وهو يقتضي أنه لا يكبر عقيب صلاة الصبح آخر أيام التشريق؛ لأن الوقت قد انقضى بالصلاة.

وعبارة البندنيجي في حكاية ذلك عن "الأم" والقديم والبويطي تقتضي أنه يكبر عقيبها؛ لأنه قال: إنهم حكوا أنه يكبر عقيب صلاة الظهر يوم النحر إلى بعد الصبح من آخر أيام التشريق. وعليه ينطبق قول الأصحاب: إنه يكبر على هذا القول عقيب خمس عشرة صلاة. قال: وفيه قول ثان: أنه يكبر من المغرب ليلة العيد- قياساً على عيد الفطر- إلى [أن يصلي] الصبح من آخر أيام التشريق؛ لما ذكرناه. ووجهه القاضي أبو الطيب بأن العاكف بمنى يقطع التكبير إذا فرغ من الرمي، وذلك ضحى آخر أيام التشريق؛ فيجب أن يكون غيرهم كذلك. وهذا فيه نظر تعرفه في كتاب الحج. وهذا القول قال [القاضي] أبو الطيب: إنه نصَّ عليه في موضع آخر، وصرح فيه بأنه يكبر إلى بعد صلاة الفجر من آخر أيام التشريق. وقال البندنيجي: إنه أخذه من قوله في "الأم": "ولو كبر عقيب المغرب من ليلة العيد، لم أكره ذلك، وسمعت من يستحبه"؛ ولأجل هذا النص قال القاضي الحسين والإمام: إن الشافعي لم يتعرض في هذا النص للآخر؛ ولأجل ذلك قال القاضي الحسين في موضع من تعليقه: إن مذهب الشافعي متفق على أن القطع إنما يكون بعد الصبح في آخر أيام التشريق. واختلف قوله في الابتداء: المنصوص: "أنه يبتدئ خلف الظهر [يوم النحر] ". وقال في موضع آخر: "يبتدئ خلف الصبح من يوم عرفة". وقال في آخر: "يبتدئ من ليلة النحر خلف المغرب". وقد حكى الغزالي والمتولي ما ذكره الإمام عن نصه في "الأم"، وقال الغزالي: إن آخره بعد صلاة الصبح من آخر أيام التشريق. وعلى هذا يكبر عقيب ثماني عشرة صلاة. والمتولي قال: يكون آخره ذلك أو بعد العصر من آخر أيام التشريق، وهذا

يقتضي أن يكون آخره العصر على قول؛ فيكبر عقيب عشرين صلاة. قال: وفيه قول ثالث: أنه يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى أن يصلي العصر من آخر أيام التشريق. وعبارة القاضي أبي الطيب: "إلى بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق"، وهذا مراد الشيخ أيضاً. ووجهه: ما روى جابر أنه- عليه السلام- صلى الصبح يوم عرفة، وأقبل علينا، فقال: "الله أكبر الله أكبر"، وحدَّ التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق. أخرجه الدارقطني من طرق، وفي بعضها: "الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد". وقد روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس، رضي الله عنهم. [و] قال القاضي الحسين والإمام والغزالي: إنه اختيار المزني، وهو معزي في "التتمة" إلى القديم، ولاشك في أن ابن سريج وابن المنذر اختاراه، وكذا النواوي، وعليه العمل في سائر الأمصار والبلدان؛ لأن به يكون جامعاً بين الذكر في الأيام المعلومات والمعدودات، وقد أمر الله بالذكر [فيها] فقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، وقال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، وعلى هذا يكبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة. وقد رأيت فيما وقفت عليه من "الإبانة": أن الذي اختاره المزني وابن سريج: أنه يكبر من المغرب ليلة العيد إلى أن يصلي الظهر من اليوم الثالث من أيام التشريق، ولم أره في غيره، فلعله سهو من الناسخ، أو غلط في النسخة. وفي "الشامل" و"تعليق" أبي الطيب: أن المزني: أن المزني اختار أنه يكبر بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى بعد الظهر آخر أيام التشريق، والله أعلم.

وقد امتنع بعض الأصحاب- وهو أبو إسحاق، وابن أبي هريرة- من إجراء خلاف في المسألة، وقال: هي [على] قولٍ واحدٍ وهو الأول، وهو مذهب الشافعي، والقولان الآخران حكاهما عن غيره. ثم محل الطريقين في غير الحاج، أما الحاج فقد قال المحاملي: إنه لا يتأتى في حقه إلا القول [الأول] وهو ما حكاه مجلي عن الشيخ أبي حامد، وقال: إن غيره لم يفصل هذا التفصيل، وأبو حامد تمسك بقوله في "الأم": "إنهم يكبرون على أن يرموا الجمرة، ثم أول صلاة تلقاهم يوم النحر صلاة الظهر، ولا يصلون بعد الصبح بمنى صلاة". وقد حكى الإمام هذا المذهب عن العراقيين، وقال: إن ما ذكروه في الابتداء في مكانه، وأما ما ذكروه في الانتهاء ففيه تردد واحتمال. أما فرائض الكفاية، هل يكبر خلفها كالعيد؛ إذا قلنا: إنها فرض كفاية، وكذا الكسوف، والاستسقاء، وصلاة الجنازة أو لا؟ المنقول في صلاة العيد: أنها كالسنن الراتبة. وصلاة الجنازة، قال في "التتمة": لا يكبر خلفها؛ لأن مبناها على التخفيف. والمنقول في "الحلية" عن القاضي الحسين: وحكى الماوردي في التكبير خلفها وجهين؛ تفريعاً على قولنا: إن ما تشرع له الجماعة من النوافل يكبر خلفه. وقال الشاشي: عندي ينبغي أن يبنى على النفل، فإن قلنا: يكبر خلفه، فهذه أولى، وإن قلنا: لا يكبر خلفه، بني على الفوائت المقضية في أيام التشريق؛ لأنه لا وقت لها. قال مجلي: والأشبه أن يقال: يكبر عقيبها وجهاً واحداً؛ لأنها فريضة مؤداة، وقعت في وقت التكبير، بخلاف النوافل والصلاة المقضية. وصلاة الكسوف والاستسقاء لم أقف فيها على نقل، ويشبه أن يكون فيها الخلاف في صلاة النفل التي ليست براتبة. فأما إذا قلنا: إنها سنة، فقد تقدم حكاية الخلاف فيها.

والصلاة المنذورة، قال الإمام: إنها فيما نحن فيه كالنوافل بلا خلاف. وقد أفهم كلام الشيخ: أنه لا يكبر في ليلة عيد النحر التكبير المرسل، وهو ما يشرع من غير صلاة مع رفع الصوت. وقد قال البندنيجي: إنه مستحب بلا خلاف. وقال الماوردي: إنه إجماع. نعم، حكى الغزالي خلافاً في أنه هل يستحب في الأيام التي يشرع فيها التكبير المقيَّد خلف الصلوات أم لا؟ وهو منسوب في "النهاية" إلى رواية صاحب "التقريب". فإن قلنا: لا يستحب، كان آخر وقت التكبير المرسل آخر وقته في عيد الفطر؛ صرح به في "الإبانة". وأول وقته على كل حال بعد الغروب ليلة النحر، وعليه نص في "المختصر" إلا في حق الحاج. واختلف قوله في أي الليلتين آكد في التكبير: هل ليلة الفطر، أو ليلة الأضحى؟ فقال في القديم: ليلة الأضحى؛ لإجماع السلف عليه فيها. وقال في الجديد: ليلة الفطر؛ لورود النص فيها. والتكبير المشروع- كما قال الشافعي-: "الله أكبر، الله أكبر، [الله أكبر] " ثلاثاً نسقاً؛ لما روي عن سعيد بن أبي هند قال: صليت وراء جابر بن عبد الله، فلما سلَّم قال: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر". وحكى المتولي عن القديم: أنه يكبر مرتين. [قالي في "الإبانة": وهل يهلل؟ فيه قولان: القديم: لا، والجديد: نعم؛ لأنه قال [في] المختصر": "وما زاد من ذكر الله [فهو حسن] "، لكنه لم يبين الذكر المراد، وبينه في "الكبير"، فقال: "يقول بعد التكبيرات الثلاث

المتواليات: الله أكبر تكبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلا، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله [وحده]، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله والله أكبر"، لأنه- عليه السلام- قال ذلك على الصفا في حجة الوداع. قال القاضي أبو الطيب: ولو كبر كما يكبر العامة في هذا الوقت، وقال كما يقولون من التهليل والتحميد لم يكن به بأس. وشرح ذلك ما قاله ابن الصباغ: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، [الله أكبر] ولله الحمد". وعن القديم: أنه يقول: "الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أبلانا وأولانا". قال الإمام: ولست أرى ما نقل عن الشافعي مستنداً إلى [خبر أو أثر]، ولكنه لعله ثبتت عنده هذه الألفاظ في الدعوات المأثورة، فرآها لائقة بالتكبيرات. ثم ما ذكرناه من انقطاع التكبير بمضي ما ذكرناه أردنا به التكبير الذي يأتي به المرء شعاراً مع رفع الصوت، فأما لو استغرق المرء عمره بالتكبير في نفسه، فهو ذكر من أذكار الله- تعالى- لا يتحقق المنع منه؛ قاله الإمام. فروع: [الفرع الأول]: من فاته شيء من الصلوات التي شرع التكبير خلفها، فقضاها في غيرها، لا يكبر بعدها عند الجمهور من الفريقين؛ لأن التكبير من سنة الوقت، فإذا فات الوقت فات التكبير. وقد حكى القاضي الحسين ذلك عن النص، ثم قال: ويحتمل أن يقال: يسن لها على الطريقة التي قلنا: الاعتبار بحالة الوجوب، كما لو فاتته صلاة في السفر، فقضاها في الحضر، هل له القصر أم لا؟ فعلى قولين:

أحدهما: له القصر؛ اعتباراً بحالة الوجوب؛ كذا هذا مثله. والمنقول: الأول. نعم، لو فاتته في أيام التشريق، فقضاها فيها: هل يكبر؟ فيه وجهان في "المهذب"، والمختار في "المرشد" منهما: المنع أيضاً. وقال الغزالي: إنه يكبر. ولم يحك فيه خلافاً، لكن التكبير مقضي أو مؤدى؟ قال: فيه قولان. وهذه طريقة ابن سريج، حكاها عنه القاضي الحسين. وقال في "الإبانة": إن القولين- كما ذكر- مبنيان على النفل: إن قلنا: يكبر خلف النافلة، ففي الفائتة أولى، ويكون أداء. وإن قلنا: لا يكبر خلف النفل، فيكون قضاء. وحكى الإمام أن من أئمتنا من قطع بأن الفوائت تستعقب التكبير، وإن كانت فائتة في غير أيام التشريق؛ لمرتبة الفرائض وعلوِّ منصبها، ثم قال: [و] الوجه التسوية؛ فلا أثر لقوة الفريضة، وإنما المرعي ما ذكرناه من قبل. قال الغزالي- تبعاً للفوراني والإمام-: وعلى القولين ينبني ما إذا فاتته صلاة في غير أيام التشريق، فقضاها [فيها: فإن قلنا: إنه في المسألة] قبلها أداءٌ، كبر هنا. وإن قلنا: [إنه مقضيٌّ] ثم، فلا يكبر هنا. [الثاني]: إذا نسي التكبير خلف الصلاة في الوقت، ثم تذكر، قال القاضي الحسين: نظر: إن لم يطل الفصل، كبر؛ كما لو تذكر سجدتي السهو عن قريب. وإن طال الفصل، فحكمه حكم سجدتي السهو، وفيه وجهان. وعلى هذا جرى الفوراني والإمام والبغوي. [و] قال القاضي في موضع آخر قبل ذلك: إن الخلاف عند القفال مبني

على أن من فاتته صلاة في أيام التشريق، فقضاها في الأيام، فإنه يكبر، وهل يكون ذلك قضاء أو أداء؟ فيه وجهان: فإن قلنا: قضاء، فلا يأتي به؛ لأن التكبير لا يفرد بالقضاء. وإن قلنا: أداء، فيأتي به. قال: والمنصوص هذا الوجه؛ فإن الشافعي قال: "لو سلم، وانفصل إلى مكان آخر، كبر فيه، ولا يعود إلى مصلاه"، وهو ما أورده ابن الصباغ والمتولي، وقالا: يكبر حيث ذكره، ويخالف سجود السهو؛ لأن سجود السهو لإتمام الصلاة؛ فلا يجوز بعد طول الفصل، والتكبير لأجل الوقت، والوقت باقٍ. [الثالث]: إذا كبر الإمام خلف صلاة، والمأموم لا يعتقد استحبابه، فهل يتبعه أو لا؟ ذكر ابن سريج فيه تردداً، وهو وجهان حكاهما الإمام: أحدهما: نعم؛ كالقنوت؛ لأنه من توابع الصلاة. والثاني- وهو أصح في "النهاية"-: لا؛ لأنه خارج عن الصلاة، فليجر المأموم فيه على اعتقاده. قال: وإذا رأى شيئاً من بهيمة الأنعام في الأيام المعلومات- وهي العشر الأول من ذي الحجة- كبر. قال بعضهم: لورود السنة بذلك. وقال آخرون؛ لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28]، وقد قال المفسرون: الأيام المعلومات عشر ذي الحجة. والبهيمة سميت بذلك؛ لأنها لا تتكلم، مأخوذ من: استبهم، إذا استغلق. قال الأزهري: البهيمة- في اللغة-: معناها: المبهمة عن العقل والتمييز. والأنعام: الإبل، والبقر، والغنم. وإذا [قيل]: النعم، فهو الإبل خاصة. والنعم يذكر ويؤنث؛ قاله المبرد. [قلت: والاستدلال] بالآية يتوقف على معرفة ما قيل فيها.

وقد اختلف أصحابنا في معنى قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} الآية [الحج: 28]. فقال المزني: الذكر في يوم النحر منها على الذبح، وإن كان مضافاً إليها كلها، وقد يضاف الشيء إلى جملة وإن كان يقع في بعضها؛ كقوله تعالى: {اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً* وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} [نوح: 15، 16]. وعلى هذا: لا يحسن الاستدلال بالآية على المدعى، بل حجته ورود السنة بذلك. وقال الصيمري: الذكر يقع في كلها: يوم النحر على الذبح، وما قبله على سوق الهدي. وعلى هذا: يحسن الاستدلال بها. وقال غيرهما من أصحابنا: المضاف إليها شهود المنافع والذكر معاً، فقال عز من قائل: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [الحج: 28] فشهود المنافع: التجارات قبل النحر، والذكر يوم النحر. وقال الشيخ أبو حامد: معناه: الذكر على الذبح في كلها؛ كذا حكى ذلك البندنيجي في كتاب الحج. ثم الأيام في ألسنة الفقهاء أصناف: المعلومات: وقد سبق ذكرها. والمعدودات: هي أيام التشريق، ويقال لها: أيام منى، [وأيام الذبح]، وأيام الذكر. ويوم التروية- وهو الثامن من ذي الحجة- ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الحج الأكبر، كما جاء في الخبر. وقد نجز شرح مسائل الباب، فنختمه بفرع يتعلق به، وهو: يستحب إحياء ليلتي العيد؛ لقوله- عليه السلام-: "من أحيا ليلتي العيد لم يمت قلبه يوم تموت القلوب".

وقد اختلف في قوله "لم يمت قلبه": فمنهم من قال: أراد به: لم يفزع قلبه من أهوال القيامة يوم تفزع القلوب؛ قال- عليه السلام-: "يحشر الله النَّاس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً"، فقالت واحدة من نسائه: واسوءتاه، أينظر الرجال إلى عورات النساء؟! فقال- عليه السلام-: "إنَّ لهم في ذلك اليوم لشغلا، لا يعرف الرَّجل أنَّه رجلٌ، ولا تعرف المرأة أنَّها امرأةٌ". ومنهم من قال: أراد: لم يشغف قلبه بحب الدنيا؛ لأ، من شغف قلبه بحب الدنيا مات قلبه، قال- عليه السلام-: "لا تدخلوا على هؤلاء الموتى" قيل: يا رسول الله، ومن الموتى؟ قال: "هم الأغنياء". ومنهم من قال: أراد به: أن الله يحفظه من الشرك؛ فلا يختم عاقبته على الشرك؛ قال الله- تعالى-: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] معناه: من كان كافراً، فهديناه. وقد قيل- كما حكاه الصيدلاني-: لم يرد شيء من الفضائل مثل هذا؛ لأن موت

القلوب؛ إما الكفر في الدين وإما الفزع في القيامة، وما أضيف إلى القلب فهو أعظم؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]. قال في "الروضة": وتحصل فضيلة الإحياء بمعظم الليل. وقيل: تحصل بساعة. وقد نقل عن الشافعي في "الأم" عن جماعة من خيار أهل المدينة ما يؤيده. وقال القاضي الحسين: إنه روي عن ابن عباس أنه قال: إحياء ليلة العيد هو أن يصلي في ليلة العيد صلاة العشاء جماعة، ويعزم أن يصلي الصبح في جماعة، وينام، فإذا فعل هكذا، فقد أحيا ليلة العيد؛ قال- عليه السلام-: "إنَّ أحدكم في الصَّلاة ما دام ينتظر الصَّلاة". قلت: وقد جاء في "صحيح" مسلم: "من صلَّى العشاء في جماعةٍ فكأنَّما قام نصف اللَّيل، ومن صلَّى الصُّبح في جماعةٍ فكأنَّما صلَّى الليل كلَّه". وأراد من صلى الصبح [في جماعة] وقد صلى العشاء في جماعة؛ يدل عليه رواية أبي داود عن عثمان بن عفان، وهو راوي حديث مسلم- أيضاً- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلَّى العشاء في جماعةٍ كان كقيام نصف ليلةٍ، ومن صلَّى العشاء والفجر في جماعةٍ كان كقيام ليلةٍ". قال الشافعي: وبلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال: ليلة الجمعة، والعيدين؛ وليلة رجب، ونصف شعبان، وأستحب كل ما حكيت في هذه الليالي. كذا حكاه عنه في "الروضة". وكما ورد الحث على الطاعات في ليلة العيد ورد الحث على منع المعاصي فيها، روي أنه- عليه السلام- قال: "من عصى الله ليلة عيد، كان كمن عصاه في ليلة الوعيد، ومن عصى الله وهو يضحك أدخله النَّار وهو يبكي".

[فرع] آخر: إذا أدرك المسبوق الإمام في خطبة العيد نظر: فإن كان في المصلى، فالمستحب في حقه أن يسمع الخطبة، فإذا فرغت، صلى العيد في المصلى أو في بيته، اللهم إلا أن يضيق الوقت؛ فالمستحب أن يصليه والإمام يخطب. وإن كان في المسجد، فالمستحب ألا يجلس حتى يصلي ركعتين، لكن هل يفعل العيد أم تحية المسجد؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو اختيار أبي إسحاق-: يصلي العيد، وينوب عن تحية المسجد. والثاني- وهو اختيار ابن أبي هريرة-: يصلي التحية. والأول أصح. ***

باب صلاة الكسوف

باب صلاة الكسوف الكسوف، والخسوف: هل هما مترادفان أو لا؟ فيه اختلاف بين أهل اللغة: وبالأول قال الأزهري، فقال: كسفت الشمس والقمر؛ إذا ذهب ضوءهما، وانكسفا، وخسف [الشمس و] القمر، وخسفا [و] انخسفا. وهذا القول هو الذي نطق به الخبر كما ستعرفه، ولم يحك البندنيجي غيره، وقال: [إن] لأهل اللغة في معنى ذلك قولين: قال الفراء وغيره: كسفت، معناه: نقص ضوءها. وقال آخرون: الكسوف: التغطية، فقولهم: كسفت الشمس، أي: حال دون ضوئها حائل. والقول الثاني: أنهما متغايران: فالكسوف للشمس، والخسوف للقمر. قال الجوهري: وهو الصحيح. فعلى الأوّل: يكون الشيخ قد بوب على الكسوفين. وعلى الثاني يكون التبويب على كسوف الشمس، وإن كان قد أودع في الباب الكسوف والخسوف، [وخص الشمس بالذكر؛ لأنها أبهر النيرين. وقد قيل: الكسوف في أول ذهاب الضوء، والخسوف في] آخره إذا اشتد ذهاب الضوء.

وأصل الكسوف التغير، يقال: كسف حال فلان؛ إذا تغير. والأصل في مشروعيتها- قبل الإجماع- من الكتاب: قوله تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [فصلت: 37] أي: عند كسوفهما؛ لأنه أرجح من احتمال أن المراد النهي عن عبادتهما؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والأزلام والشمس؛ فلا معنى للنهي عن عبادة الشمس [والقمر دون غيرهما من المعبودات. ومن السنة: ما روى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: انكسفت الشمس] على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس: إنما انكسفت لموت إبراهيم؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس .. وساق الخبر إلى أن قال: فقال: "يأيها النَّاس، إنَّما الشَّمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنَّهما لا ينكسفان لموت أحدٍ من النَّاس؛ فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فصلُّوا حتَّى تنجلي". وروى- أيضاً- عن عائشة، قالت: "خسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم [فقام]، وكبر، وصفَّ الناس وراءه ... " وساقت الحديث كما سنذكر تتمته في موضعها إلى أن [قالت: ثم] قال: "إنَّ الشَّمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصَّلاة"، وقال- أيضاً-: "فصلُّوا حتَّى يفرّج الله عنكم".

قال بعضهم: وإنما قال- عليه السلام-: "لا يكسفان لموت أحدٍ"؛ قطعاً لأوهام الناس؛ فإن الشمس- على رأي المنجمين- لا تكسف إلا في الثامن والعشرين إن كان الشهر ناقصاً، أو في التاسع والعشرين إن كان الشهر تامّاً، فلما انكسفت في يوم مات إبراهيم- وهو العاشر من ربيع الأول؛ كما رواه الزبير بن بكار في كتاب "الأنساب"، وروى البيهقي مثله عن الواقدي، وقيل: بل كان في العاشر من شهر رمضان، وقيل: بل في الثالث عشر من ربيع الأول، وقيل: بل في الرابع عشر منه في سنة عشر من الهجرة- قال الناس: إنما انكسفت لموته؛ فرفع إشكالهم بذلك. وقد جاء في الحديث ما يقرب من ذلك، وهو ما روى النسائي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ ناساً يزعمون أنَّ الشَّمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيمٍ من العظماء، إنَّ الشَّمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، ولكنَّهما آيتان من آيات الله، والله تعالى إذا تجلَّى لشيءٍ من خلقه خشع له؛ فإذا رأيتم ذلك فصلُّوا كأحدث صلاةٍ صلَّيتموها من المكتوبة". قال عبد الحق: لكن قد اختلف في إسناده.

قال: وهي سنة؛ لما تقدم من قوله- عليه السلام- للأعرابي: "خمس صلواتٍ كتبهنَّ الله على العبد في اليوم واللَّيلة" قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوَّع". ولأنها صلاة ذات ركوع وسجود، لم يسن لها الأذان بوجه؛ فلم تكن واجبة بأصل الشرع كسائر النوافل. قال: مؤكدة، أي: بمشروعية الجماعة فيها؛ كما شرعت في الفرائض؛ وذلك يدل على تأكدها. وفي "الحاوي" عند الكلام في صلاة التطوع حكاية وجه: أنها فرض على الكفاية، وهو يوجد في كلام غيره. وقال الجيلي: إن الخفاف ذكره في "الخصال". ثم المخاطب بها: كل من وجبت عليه الصلوات الخمس من الرجال والنساء والأحرار والعبيد، وكل أحدٍ، مسافراً كان أو حاضراً، منفرداً كان أو في جماعة، وسواء صلاها الإمام أو تركها، فإن خرج صلوا معه، وإن لم يخرج طلبوا من يصليها، فإن لم يجدوا، أو وجدوا وخافوا إنكار الإمام- صلوا فرادى؛ قاله البندنيجي. قال: ووقتها- أي: ووقت الصلاة-: من حين الكسوف إلى حين التجلي؛ لقوله- عليه السلام- في حديث جابر: "فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فصلُّوا حتَّى تنجلي"، فجعل الانكساف سببها، والانجلاء غايتها، وذلك يفيد التأقيت. والمراد بالانجلاء: انجلاء جميع ما كسف، فلو انجلى بعض ما انكسف، فالوقت باقٍ إلى أن ينجلي الجميع؛ لأن ذلك البعض لو انكسف لا غير شرعت له الصلاة. ولا فرق في ذلك بين أن يحصل ذلك في الأوقات المكروهة أو لا؛ لأن لها سبباً، والمعروف من مذهبنا: أن ما له سبب من النوافل التي وقتها مضيق لا يكره

في الأوقات المكروهة، وخالف صلاة العيد والاستسقاء [على رأي تقدم] لأن وقتهما متسع. قال: فإن فاتت، أي: بالانجلاء، لم تقض، لأن المعنى الذي شرعت الصلاة لأجله قد زال؛ فزالت بزوال سببها، مع أن القضاء إنما يجب بأمرٍ جديد، ولم يوجد، بل مفهوم الموجود دال على المنع. ولأن المقضي من النوافل المؤقتة ما يتقرب به ابتداء؛ كما قاله صاحب "التقريب" وغيره، وهذه لا يتقرب بها ابتداء. قال: والسنة أن يغتسل لها؛ لأنها صلاة شرع فيها الاجتماع؛ فسن فيها الاغتسال؛ كالجمعة. قال: وأن تقام في جماعة، أي: والسنة أن تقام في جماعة؛ لقول عائشة في الخبر السابق: "فقام فكبَّر وصفَّ النَّاس وراءه"، وما سنذكره في الفصل بعده من روايتها يشهد لذلك أيضاً. وحكى الإمام عن رواية الصيدلاني: أن من أئمتنا من خرج في صلاة الخسوف وجهاً: أن الجماعة شرط فيها كالجمعة، وقد مضى في صلاة العيد قول على هذا الوجه. قال الرافعي: ولم أجده في كتابه هكذا، لكن قال: خرج أصحابنا وجهين في أنها هل تصلى في كل مسجد أو لا تكون إلا في جماعة واحدة؟ كالقولين في العيد. قال: حيث تصلى الجمعة؛ لأنه- عليه السلام- فعلها حيث كان يفعل الجمعة، وهو المسجد. قال أبو موسى الأشعري: "كسفت الشمس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فزعاً يخشى أن تكون الساعة، حتى أتى المسجد، فقام يصلي بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته يفعل في صلاة قط! " أخرجه مسلم.

وخالف صلاة العيد [والاستسقاء]؛ لأن مقصود العيد إظهار الزينة، وفي الاستسقاء رؤية مبادئ الغيث، فيتعجل السرور، وذلك لا يمكن تحصيله في المسجد. ولأن وقتها متسع؛ فلا يخشى فواتها بالخروج إلى الصحراء، بخلاف الكسوف. ويختص باستحباب حضورها- حيث تصلى الجمعة- الرجال، وكذا العجائز وغير ذوات الهيئات. قال الشافعي في "الأم": "ولا أكره لمن لا هيئة لها من النساء، ولا العجوز، ولا الصبية- شهودها مع الإمام، بل أحبها لهن، وأحب إليَّ لذوات الهيئات أن تصليها في بيتها". قال: وينادى لها: الصلاة جامعة؛ لما روى مسلم عن عائشة قالت: "كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث رجلاً، فنادى: الصلاة جامعة؛ فاجتمع الناس .. "، وذكرت من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سنذكره. قال: وهي ركعتان، في كل ركعة قيامان، وقراءتان، وركوعان، وسجودان؛ لما روى الدارقطني عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: " [إن رسول الله صلى الله عليه وسلم] كان يصلي في كسوف الشمس والقمر [أربع ركعات] وأربع سجدات يقرأ في الأولى بالعنكبوت أو الروم، وفي الثانية بياسين"؛ حكاه [عنه]

عبد الحق، ولم يتعرض فيه. ورواية مسلم عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الكسوف بقراءتها، فصلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات. ومراد الشيخ بالقراءتين: قراءة الفاتحة مرتين لا غير. ثم اعلم أن قول الشيخ: "وهي ركعتان .. " إلى آخر الفصل، يحتمل: أن يكون أراد به: بيان أكملها في [الأفعال، وإلا فأقلها ركعتان كركعتي الجمعة. ويحتمل: أن يكون أراد به بيان أقلها في الأفعال] والأقوال. وأكملها: إضافة ما سنذكره من القراءة والذكر إلى ذلك. وكلام الأصحاب مختلف: فمنهم من يميل كلامه إلى الأول. ومنهم من يفهم كلامه الثاني. فممن مال كلامه إلى الأول: القاضي [أبو الطيب]، وابن الصباغ، وكذا الماوردي؛ فإنهم حكوا عن أبي حنيفة أنه قال: هي ركعتان كالجمعة؛ لما روي أنه- عليه السلام- صلاها ركعتين كما يصلون الجمعة. أخرجه النسائي عن رواية أبي بكرة. وروى أنه- عليه السلام- لما انكسفت الشمس، جعل يصلي ركعتين ركعتين، ويسأل عنها حتى انجلت. أخرجه أبو داود عن النعمان بن بشير. وروي أنه- عليه السلام- قال: "إذا رأيتم ذلك فصلُّوا كأحدث صلاةٍ صلَّيتموها من المكتوبة".

وقالوا في الرد عليه: إن ما صرنا إليه أولى؛ لما ذكرناه من الأخبار؛ فإنها أكثر رواة، وفيها زيادة، وعليها عمل الأئمة وأهل الأمصار. على أنا نحمل ما استدل به على الجواز، ونحمل أخبارنا على الاستحباب. فقولهم: "نحمل ما ذكره على الجواز" دليل ظاهر على ما ذكرناه. وممن [أفهم] كلامه الثاني: البندنيجي؛ فإنه قال بعد ذكر ما يقرأ فيها: "ويأتي به مع التسبيح؛ قال في "الأم": وإذا جاوز هذا في بعض، وقصر عنه في بعض، أو جاوزه في كل، أو قصر عنه في كل إذا لم يدع أم القرآن في كل قيام- أجزأه، فإن ترك أم القرآن في ركعة من صلاة الكسوف في القيام الأول أو الثاني- لم يعتد بتلك الركعة، وصلى ركعة أخرى، وسجد سجدتين للسهو؛ كما لو ترك أم القرآن من ركعة من صلاة الفجر ساهياً". ثم أيد ذلك بأن من لم يدرك مع الإمام إلا الركعة الثانية: فإن كان الخسوف باقياً، أتى بركعة على التمام، وإن كان قد تجلى خفف، ولا يكون التخفيف فيها في نقصان عدد الركوع، وإنما التخفيف في القراءة لا غير. وقد صرح الغزالي وإمامه وغيرهما من المراوزة بأن ذلك بيان أقلها، إلا القاضي الحسين؛ فإن عنده وقفة فيه؛ فإن في "تعليقه" [أنه سئل] فيمن ترك قومةً وركوعها عامداً: هل تبطل صلاته؟ وناسياً ثم تذكر: هل يعود إليه؟ ولو لم يعد: هل يلزمه سجود السهو؟ فكان يتفكر فيه. [وقال] في "الذخائر" ومن بعده: إنه أجاب فيما إذا ترك ذلك عامداً ببطلان الصلاة. وإن الشاشي قال: وفيه نظر؛ فإن صح هذا عنه، لم يحتج إلى استثناء. ثم قضية كون ذلك بياناً لأقلها لا كلِّها ألا تجوز الزيادة فيها، سواء دام الكسوف أو لا، ولا ينقص عنها سواء وجد الانجلاء وهو في القيام الأول أو لا.

ولا خلاف في المذهب في أنه لا يجوز أن يزاد فيها على ركعتين، ولا أن يجوز الاقتصار فيها على ركعة كيف كان الحال. نعم، هل يجوز أن يزيد في كلٍّ من الركعتين قياماً وركوعاً، أو أكثر من ذلك عند دوام الكسوف أو لا؟ فيه وجهان: أحدهما- يجوز، وهو ما حكاه القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق، والرافعي عن ابن خزيمة، وأبي سليمان الخطابي وأبي بكر الصيمري من أصحابنا؛ لأنه روي أنه- عليه السلام- صلى بالناس ست ركعات في أربع سجدات، كما أخرجه مسلم عن جابر. وروي أنه- عليه السلام- صلى [حين خسفت الشمس] ثماني ركعات في أربع سجدات، [كما] أخرجه مسلم عن ابن عباس. وروي أنه- عليه السلام- صلى عشر ركعات في أربع سجدات، كما أخرجه النسائي عن عائشة.

وروى أبو داود عن أبي بن كعب نحوه. ولا وجه للجمع بين الأحاديث إلا حمل ما ذكرناه أولاً على حالة الانجلاء، وما ذكرناه ها هنا على حالة دوام الكسوف. والثاني: لا يجوز ذلك؛ لأن الزيادة على أركان الصلاة ممنوعة في الشرع، وفي تجويز الزيادة ما يخالف هذا. قال في "الوسيط": وهذا هو القياس إن لم يصح الخبر، وقد صح الخبر؛ فمقتضى قوله أن يكون الصحيح الأول، وهو قضية قول الشافعي: "إذا صح الحديث فاضربوا [بمذهبي] عرض الحائط". لكن الذي صححه [الفوراني والإمام] والمسعودي: الثاني، وهو مذهب ابن عباس. وأجابوا عن [الأحاديث الواردة] في الزيادة: بأن الخصم- وهو أبو حنيفة وافقنا على [أن] الزيادة على [القيامين] في كل ركعة منسوخة؛ إذ هو يقول: إن هذه الصلاة كسائر الصلوات؛ لما تقدم، وبقي الباقي على ظاهره. وقد قال القاضي الحسين: إن الوجهين في المسألة أخذا من قولين حكاهما [عني الشافعي فيما إذا فرغ من الصلاة على النعت الذي ذكرناه أولاً، ولم ينجل الخسوف: هل يستأنف صلاة أخرى أم لا؟ والذي أورده العراقيون

منهما؛ وحكوه عن نصه في "الأم": المنع؛ إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وغير القاضي من المراوزة حكى الخلاف في هذه المسألة وجهين، وأنهما مخرجان من المسألة قبلها: فإن قلنا: يجوز زيادة القيام والركوع، جاز أن ينشئ صلاة أخرى، وإلا فلا. ولو انجلى الكسوف بجملته، وهو في القيام الأوّل من الركعة الأولى أو الثانية: فهل له أن يقتصر على قيام واحد وركوع واحد في كل ركعة كغيرها من الصلوات؟ فيه وجهان مخرجان- كما قال القاضي الحسين- من القولين اللذين حكاهما في المسألة قبلها. وغيره قال: إنهما مخرجان من مسألة الزيادة في القيام والركوع، فإن قلنا [ثم: تجوز] الزيادة، جاز هنا النقص، وإلا فلا. وقضية البناء: أن يكون الصحيح المنع، وهو ما حكيناه عن البندنيجي من قبل، لكن في "الحلية": أن الصحيح في هذه الصورة الجواز، وإليه يرشد قول الماوردي: إنا نحمل ما ورد من أنه- عليه السلام- كان يصليها ركعتين [ركعتين] على حالة الانجلاء. فرع: إذا أدرك المسبوق الإمام في الركوع الثاني من الركعة الأولى، لا يكون مدركاً لتلك الركعة؛ لأنه لم يدرك معظمها؛ فإن الركوع الثاني تبع للأول؛ كما قاله القفال، وهذا ما نص عليه في "البويطي"، ولم يحك العراقيون غيره. ووجهه ابن الصباغ بأن الإمام إنما ينوب عنه في القراءة خاصة، ولا ينوب عنه في فعل الركوع. ولأن الركوعين بمنزلة السجدتين في هذه الركعة، أي: فلا يقبلان الانفصال. وحكى الفوراني عن صاحب "التقريب" أنه قال: هذا غلط؛ بل يكون مدركاً لتلك الركعة؛ ولأجل هذا حكى ابن يونس في المسألة قولين، [لكن] الذي حكاه القاضي الحسين والإمام عن صاحب "التقريب": أنه يكون مدركاً لذلك

الركوع والقومة التي قبله؛ فيقوم عند التدارك، ويصلي ركعة بقومةٍ وركوع. وقال الرافعي: إن صاحب "التقريب" حكى ذلك قولاً في المسألة. قال الإمام: وإذا جعله مدركاً لذلك، فلا شك أنه يجعله بما ذكرناه مدركاً للسجدتين بعد الركوع ويحسبهما له؛ فإنه أتى بهما مع الإمام بعد ركوع محسوب، وإذا أثر إدراك الركوع في الحكم بإدراك ما قبله من القيام فما بعده أولى. فعلى هذا: لا يأتي بالسجدتين مرة أخرى، لكن يأتي بقيام وركوع فحسب، وهذا مخالف لنظم كل صلاة. وفيه شيء آخر: وهو أنه جعله مدركاً- بإدراك الركوع الثاني- القومة قبله، ثم إنه يأمره بالاعتدال وهو بعض من القومة التي جعله مدركاً لها، ثم أمره بالعود إليها، ولو قال: يركع في استدراك، ثم يجلس عن ركوع من غير اعتدال- لكان هذا مخالفاً لقاعدة المذهب، وليست على تحقيق وفقه في أنه هل يؤمر بالاعتدال عن الركوع أم يجوز الجلوس عن هيئة الركوع من غير اعتدال؟ والظاهر أنه يأمره بالاعتدال ثم بالجلوس عنه. قال: ويستحب أن يقرأ في القيام الأول بعد الفاتحة- أي: وسوابقها من دعاء الاستفتاح والتعوذ- سورة طويلة كالبقرة. الكاف في [قول الشيخ]: "كالبقرة"، يجوز أن تكون زائدة؛ كما قيل في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، [و] التقدير: ويستحب أن يقرأ في القيام الأول سورة البقرة. ويحتمل أن تبقى على بابها ويكون مراده بالسورة: القطعة من القرآن؛ كما قيل في قوله تعالى: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ} [التوبة: 86]؛ فيكون تقدير كلامه: ويستحب أن يقرأ في القيام الأول قطعة من القرآن: كالبقرة إن كان يحسنها، أو بقدرها إن كان لا يحسنها. وعلى هذا التقدير- إن كان هو المراد- يكون موافقاً للنص؛ فإن الشافعي قال: "يقرأ في الأولى البقرة إن كان يحسنها، أو مقدارها من القرآن إن كان

لا يحسنها، ولا خلاف فيه". ووجهه: ما روى أبي بن كعب، قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم، فقرأ سورة من الطُّول، وركع"، والطُّول: سبع سور، أولها: البقرة، [وتعيَّن لرواية مسلم عن ابن عباس أنه- عليه السلام- قام في الأولى قياماً طويلاً قدر سورة البقرة]. وروي عن عائشة أنها قالت: "حزرت قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول بقدر سورة البقرة، والثاني بقدر سورة آل عمران، والثالث بقدر سورة النساء، والرابع بقدر المائدة". قال: ثم يركع، ويدعو بقدر مائة آية- أي: من البقرة- ثم يرفع ويقرأ بعد الفاتحة- أي: والتعوذ قبلها، على أحد الوجهين في "الحاوي"- بقدر آل عمران، أي: إن كان لا يحسنها، أو بها إن كان يحسنها كما حكاه البويطي عن النص. ثم يركع ويدعو بقدر تسعين آية- أي: من البقرة- ثم يسجد كما يسجد في غيرها، ثم يقوم إلى الثانية، فيقرأ بعد الفاتحة- أي: والتعوذ، على أحد الوجهين- نحواً [من] مائة وخمسين آية- أي: من البقرة- ثم يركع ويدعو بقدر سبعين آية، أي من سورة البقرة، [ثم يرفع فيقرأ بعد الفاتحة- أي

والتعوذ، على أحد الوجهين- نحواً من مائة آية من سورة البقرة]، ثم يركع ويدعو بقدر خمسين آية- أي من البقرة ثم يسجد كما يسجد في غيرها. [و] الأصل في استحباب ذلك: ما رواه مسلم في تتمة حديث عائشة السابق: فقام وكبر وصف الناس وراءه، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة، ثم كبر وركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد". ثم قام فقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى، ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً هو أدنى من الركوع الأول، ثم رفع رأسه، فقال: "سمع الله لمن حمده، ربَّنا ولك الحمد"، ثم سجد، ثم فعل في الركعة الأخيرة مثل ذلك، حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف. فاستنبط الأصحاب منه ما ذكرناه. وقال في "الحاوي": إن ابن عباس روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إطالة الركوع الثاني؛ فإنه روى أنه أطاله بقدر ثمانين آية، وإن صح ذلك فهو الغاية القصوى، وإن لم يصح فيمكن أن يستنبط من حديث عائشة الدلالة على المدعي في أمر القراءة؛ لأنها أثبتت أن القراءة في كل قيام دون القراءة فيما قبله. والسنة: أن يأتي في القراءة في الصلاة بسورة كاملة لا ببعض سورة، وأن تكون السورة التي تقرأ في الركعة الثانية تلي السورة التي تقرأ في الركعة قبلها- أو بعدها-[وقد بينا] أنه يقرأ في القومة الأولى البقرة؛ فيلزمه على مساق ما قررناه أن يكون المقروء في القومة الثانية "آل عمران" أو قدرها؛ لأنها تليها وتقاربها في عدد الآي؛ فإن عدد آيها مائتا آية، وإن كانت آي البقرة أطول، ويكون المقروء في القومة الثالثة وهي الأولى في الركعة الثانية: "النساء" أو قدرها؛ لأن عدد آيها مائة وخمس وسبعون آية، وهي تقارب مائة وخمسين آية من البقرة، ويكون المقروء في القومة الرابعة: "المائدة"؛ لأن عدد آيها مائة وثلاث

وعشرون آية، وهي تداني مائة آية من البقرة؛ لطول آيها. واعلم أن ما ذكره الشيخ هو ما نص عليه في "المختصر" إلا قوله: إنه يقرأ في القيام الثاني بقدر "آل عمران"؛ فإن المزني لم ينقل ذلك، بل قال: إنه يقرأ فيها بقدر مائتي آية من البقرة. والتقدير بقدر آل عمران هو ما أورده البويطي كما [نبهت عليه، وقال:] إنه يقرأ في القيام الأول من الركعة الثانية: "النساء"، وفي القيام الثاني مها: "المائدة"، كما تقدم. وما ذكره في الأربع قومات هو ما أورده الإمام لا غير عن الشافعي، واقتصر الفوراني على إيراده، وكذا الغزالي، [وقال أبو الطيب: إنه منصوص في "الإملاء"]، وإن الأظهر من المذهب: الأوّل. وهذا منه مؤذنٌ بإثبات ذلك خلافاً في المسألة، وقد قال البندنيجي: إن هذا ليس اختلاف قول؛ فإن الكل قريب من قريب. وكذا قاله غيره. وقول الشيخ: "ثم يركع ويدعو بقدر كذا"، أراد بالدعاء ها هنا: التسبيح، لا حقيقةً؛ فإن [التسبيح] نص عليه في "المختصر" وغيره، ولم يحك الأصحاب غيره. والشيخ اقتفى في ذلك أثر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال: "أفضل الدُّعاء: سبحان الله، والحمد لله". وعلى مثل ذلك جرى الشيخ في كتاب الحج حيث قال: "ويكثر من الدعاء، ويكون أكثر قوله: لا إله إلا الله". وقد وقع الاختلاف بين الأصحاب في أربعة أمور: أحدها: أن الركوع من الركعة الأولى يكون بقدر نصف القيام قبله، قال الفوراني: وذلك يقتضي أن يكون بقدر مائة وأربعين آية من البقرة، [أو مائة

وخمسين من غيرها. والمنصوص في "المختصر": أنه بقدر مائة آية من البقرة؛] كما ذكره الشيخ، وهو المشهور. الثاني- قال المزني في "المختصر": إن الركوع الثاني من الركعة الأولى بقدر ما يلي ركوعه الأول ثم يرفع. قال البندنيجي: وذلك من ثمانين إلى تسعين آية. وعن أبي القاسم الأنماطي: أن المزني قال: هكذا كان في كتابٍ، وهو غلط؛ وإنما هو بقدر ثلثي ركوعه. وقد أشار إلى هذه الحكاية عن المزني القاضي أبو الطيب، واستأنس في ذلك بقوله في "الأم": يسبح بقدر ثلثي ركوعه الأول. قلت: ويقويه: أن القراءة في القيام الثاني بـ "آل عمران" أو قدرها؛ كما نص عليه في "الإملاء"، وحكاه البويطي، وذلك [مائتا آية]؛ فهو ثلثا ما يقرأ في القيام الأول منها؛ لأنه يقرأ فيه البقرة، وهي مائتان وثمانون آية، أو قدرها وهو ثلاثمائة آية من غيرها؛ كما قاله القاضي الحسين والبغوي، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون إطالة الركوع الثاني من الركعة الأولى بقدر ثلثي الإطالة في الركوع الأول منها؛ لأن الخبر قد اقتضى أن القراءة الثانية دون ما قبلها، والركوع الثاني دون ما قبله، وقد جعل التفاوت بين القراءتين بالثلث؛ فكذلك يكون بين الركوعين بالثلث. لكن البندنيجي قال: إن المذهب الأول بلا خلاف بين أصحابنا. وزاد القاضي الحسين عليه، فقال: قال أصحابنا: الصحيح: ما نقله المزني في "المختصر"، وما نقله الربيع تصحيف وقع من الكاتب أو منه؛ كما قال الإمام، وادّعى اتفاق الأئمة عليه؛ لأن ركوعه الأول بقدر مائة آية، وثلثاه ستة وستون آية وثلثا آية، فلو صرنا إلى ما قاله لأدّى إلى أن يكون ركوعه الثاني من الركعة الأولى أقصر من ركوعه الأول في الركعة الثانية، وهو خلاف السنة؛ لأن المتأخر يكون أقصر من المتقدم.

وفي "الإبانة": أن ركوعه الثاني من الركعة الأولى يكون بقدر نصف ركوعه الأول، وذلك يقتضي أن يكون بقدر سبعين آية من البقرة؛ لأن مذهبه- كما قدمته- أن ركوعه الأول [يكون] بقدر مائة وأربعين آية منها. وجزم الماوردي والغزالي في "الوسيط" القول بأنه يكون قدر ثمانين آية، وهو ما حكاه الإمام عن صاحب "التقريب"، وابن يونس عن الشيخ أبي حامد والجويني. الثالث- قال صاحب "الإفصاح": إن الركوع الأول من الركعة الثانية يكون بقدر خمس وسبعين آية. فإن أراد من البقرة، كان مخالفاً لما ذكره الشيخ والجمهور، وإن أراد من غير البقرة كان موافقاً لهم؛ لأن البقرة مائتان وثمانون آية تعدل ثلاثمائة آية من غيرها كما تقدم؛ فالسبعون آية منها تساوي خمساً وسبعين من غيرها، والله أعلم. الرابع- السجود: قال البويطي: إنه يطيل السجدتين بقدر الركوع. وأراد أن السجدتين بقدر الركوع. وأراد أن السجدتين من كل ركعة يكون قدرهما قدر الركوعين منها؛ كذا أفهمه كلام البندنيجي وغيره. ويحكى عن الشيخ أبي محمد القطع به، وهو اختيار الروياني في "الحلية". ويقال: إن أبا عيسى الترمذي نقله في "جامعه" عن الشافعي، لكن في "المهذب": أنه قول ابن سريج، وأنه ليس بشيء؛ لأنه لم ينقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والباب باب توقيف، وبالقياس على التشهد والجلوس بين السجدتين. وقد ختار بعض المتأخرين ما قاله البويطي، وهو الذي صححه في "الروضة"؛ لأنه ثبت في إطالته أحاديث كثيرة في "الصحيحين" عن جماعة من الصحابة: فروى ابن عمرو: أنه سجد، فلم يكد يرفع. أخرجه أبو داود. وروت عائشة: أنه سجد سجوداً طويلاً، وقالت في سجوده الثاني: "ثم سجد سجوداً طويلاً دون السجود الأول". [أخرجه البخاري. وروى جابر: "وسجوده نحو من ركوعه" أخرجه مسلم.

وعلى هذا قال في "الروضة": فالمختار أن يكون السجود الأول كالركوع الأول]، والسجود الثاني كالركوع الثاني. وقد أفهم كلام الأصحاب: أنه لا يطيل الجلسة بين السجدتين، ونقل الغزالي الاتفاق على ذلك، وقد صح في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك". وقضية قول الشافعي: "ما صح الحديث فهو قولي"، أن يكون هذا مذهبه. وحكى في "الذخائر" عن بعض الأصحاب احتمالاً في إطالة الجلوس بين السجدتين؛ لأن حديث ابن عباس تضمن تطويله، وكذا إطالة الرفع من الركوع؛ لأن حديث جابر تضمن تطويله أيضاً. قال الأصحاب: ويستحب أن يقول عند رفعه من كل ركوع في هذه الصلاة:

"سمع الله لمن حمده، ربَّنا ولك الحمد"؛ لحديث عائشة السابق. وعن بعض المصنفين: أنه لا يقول في الركوعين الزائدين: "سمع الله لمن حمده"، وخطئ فيه. قال: [وإن كان] في كسوف الشمس أسرَّ؛ لما روى النسائي عن سمرة بن جندب في حديث طويل ذكر فيه كسوف الشمس إلى أن قال: "وافينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الصلاة، فاستقدم يصلي، فقام كأطول قيام بنا في صلاة قط ما نسمع له صوتاً". وأخرجه الترمذي، وقال: إنه حسن صحيح. وقول ابن عباس: "قام قدر سورة البقرة"، يشهد لذلك؛ فإنه- عليه السلام- لو جهر بالقراءة لم يقدرها ابن عباس. ولا يقال: إنه كان بعيداً لم يسمع؛ فلذلك قدرها؛ لأنه روي عنه أنه قال: "قمت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما سمعت له حسّاً". ولأنها صلاة نهار، لها مثل من صلاة الليل؛ فلم يشرع فيها الجهر؛ كالظهر والعصر. فإن قيل: قد روى مسلم عن عائشة أنه- عليه السلام- جهر في صلاة الكسوف بقراءته، وهي مثبتة، والمثبت مقدم على النافي. ولا جائزٌ [أن]

نحمل ذلك على [صلاة] خسوف القمر [؛ لأن أصحابنا قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة خسوف القمر]، كما حكاه القاضي الحسين. قيل: جوابه من أوجه: أحدها: أن الرواية اختلفت عنها: فروى عنها هشام بن عروة عن أبيه عنها أنها قالت: "حزرت قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول بقدر سورة البقرة، والثاني بقدر "آل عمران"، والثالث بقدر سورة "النساء"، والرابع بقدر سورة "المائدة". فقولها: "حزرت"، يدل على أنه لم يجهر، فإما أن يتساقطا للتعارض، أو يثبت منهما ما يوافق أحاديثنا ترجيحاً. الثاني: أنا نحمل الجهر على صلاة خسوف القمر؛ فإنها روت أنه- عليه السلام- كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات وأربع سجدات، كما تقدمت حكايته عن رواية الدارقطني، وهو يدل على أنه صلى لخسوف القمر، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث. الثالث: أنا نحمله على أنه جهر بالآية والآيتين. الرابع: أنا نحمله على أنه أسمع نفسه؛ فإن ذلك يسمى جهراً؛ قال ابن مسعود: "ما أسر من أسمع نفسه". وهذا والذي قبله قالهما الماوردي. وهذا هو المذهب المشهور. وقال الإمام: كان لا يبعد من طريق النظر قياسها على صلاة الجمعة في الجهر بالقراءة، وكذلك صلاة العيد. وفي "الرافعي": أن أبا سليمان الخطابي ذكر أن الذي يحكى عن مذهب الشافعي- رضي الله عنه- الجهر فيها، واحتج له بخبر عائشة، والله أعلم. قال: وإن كان في خسوف القمر جهر؛ لأنها صلاة ليل. وهذا إجماع؛ كما قال الماوردي. قال: ثم يخطب خطبتين، أي: في [كسوف الشمس والقمر]، يخوفهم فيهما بالله، عز وجل.

الأصل في مشروعية الخطبة في ذلك: ما رواه مسلم عن عائشة في تتمة الحديث السابق: "وانجلت الشمس قبل أن ينصرف، ثم قام فخطب الناس، فأثنى على الله بما هو أهله .. إلى أن قال: "فإذا رأيتموها فكبِّروا، وادعوا الله، وتصدَّقوا يا أمَّة محمَّدٍ، إن من أحدٍ أغير من الله أن يزني عبده وأمته، يا أمَّة محمَّدٍ، والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً، ألا هل بلَّغت؟! ". وقد روى الخطبة فيها جمع من الصحابة، والكل في الصحيح، والقياس يوافقها؛ فإنها صلاة نفل يسن لها اجتماع الكافة؛ فسن لها الخطبة؛ كالعيد. وإذا ثبت أن الخطبة بعدها مشروعة كانت خطبتين كما في العيد، ولو اقتصر فيها على خطبة واحدة أجزأه؛ حكاه البندنيجي عن نصه في البويطي، وقال: إنه إذا أراد أن يأتي بهما فإنه يخطب- كما فصلنا في العيدين- على المنبر، وجميع ما ذكرناه، وجلسة الاستراحة، والجلوس بين الخطبتين، ويأتي بهما كسائر الخطب: يحمد الله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويحض الناس على الخير، ويأمرهم بالتوبة والتقرب إلى الله تعالى. وقوله: "يبدأ بهما كما يبدأ بسائر الخطب"، صريح في أنه لا يكبر في أولها كما يكبر في خطبة العيد، وهو ما قال الرافعي: إن كلام الأصحاب يدل عليه؛ حيث لم يتعرضوا للتصريح به، ولو كان مشروعاً لذكروه خصوصاً في الكتب المطولات. قال الشافعي: "ويخطب بهم حيث لا يجمِّع بهم". وقصد بهذا: أن الخطبة للكسوف تصح في الموضع الذي لا تنعقد فيه الجمعة، مثل: القرية الصغيرة، والبادية، والبيوت، لكن بشرط أن يكون ثمَّ جماعة، فإن صلى وحده لم يخطب؛ لأنها تراد لسماع المأمومين. وإذا انفردت النسوة بإقامتها، لا يشرع لهن الخطبة بعد الصلاة؛ لأن الخطبة

ليست من سنة النساء. قال الشافعي: فلو قامت واحدة منهن، ووعظت وخوفت، كان حسناً. قال: فإن لم يصل حتى تجلت- أي الآية المنكسفة، شمساً كانت أو قمراً- لم يصل، أي لأجل الشكر، كما يفعل في الاستسقاء إذا سقوا قبل الصلاة؛ لأن الصلاة في حال الجدب كانت لدفع النقمة بالنعمة، فملا زالت بالسقي خلفها علةٌ أخرى، وهي طلب الزيادة والشكر؛ فشرعت الصلاة، ولا كذلك هنا؛ فإن الصلاة عند كسوف الشمس كانت لدفع النقمة، ولا شيء بعد التجلي يطلب بالصلاة؛ فإن النعمة المجردة لا يصلي لها، بل يسجد، وقوله صلى الله عليه وسلم: "فصلُّوا حتَّى تنجلي" يفهم المنع منها بعد الانجلاء مطلقاً. وإذا عرفت ما قلناه عرفت أن الشيخ بين بما ذكره أولاً [وهو قوله:] فإن فاتت لم تقض، وبما ذكره آخراً وهو قوله: فإن لم يصل حتى تجلت لم يصل- أن صلاة الكسوف لا تصلَّى بعد الانجلاء قضاء ولا أداء لأجل الشكر، وبه يندفع ما توهم أنه تكرار من الشيخ. ولا خلاف عندنا في أنها إذا تجلت وهو في خلال الصلاة لم تبطل، بل يتمّها؛ لأنها صلاة مؤقتة فلا تبطل بخروج وقتها، وإن لم يشرع فيها القضاء كالجمعة؛ فإن الوقت إذا خرج وهو فيها لا تبطل، بل تنقلب ظهراً، ولو قيل ببطلانها- كما حكاه أبو علي في "شرح التلخيص" عن بعض الأصحاب- لكان الفرق: أن وقت الجمعة محصور يمكن البحث عنه، بخلاف الكسوف. قال: وإن لم يصل لكسوف الشمس حتى غابت- أي: غربت، وهو المتبادر إلى الفهم- كاسفة، لم يصل؛ أي: وإن لم يوجد الانجلاء الذي هو نهاية وقتها؛ لأن المقصود بالصلاة دفع النقمة برد ضوئها إليها؛ لينتفع به، وقد زال بغيابها. أما لو غابت عن أعين الناس بتجليل سحاب في النهار، فيصلي؛ لبقاء

[وقت] سلطانها. قال البندنيجي: وكذا لو زال السحاب عن البعض وهو صافٍ، وكان الباقي من دونه حائل- صلوا أيضاً؛ لأنه لا يعلم ما وراء السحاب، والأصل: الكسوف. نعم، لو حدث السحاب، فظن أن الشمس كسفت لا يصلي؛ لأن الأصل عدمه. قال: وإن لم يصل لخسوف القمر حتى غاب خاسفاً قبل طلوع الشمس، صلَّى؛ لأن وقت سلطانه باقٍ؛ فإن الناس ينتفعون بضوئه في ذلك الوقت لو بقي، وهذا هو الجديد. وقال في القديم: [إنه] إذا غاب خاسفاً بعد طلوع الفجر لا يصلي؛ لأن ذلك من النهار، والفجر حاجب الشمس؛ فكما لا يصلي بعد طلوع الشمس لا يصلي بعد طلوع الفجر، والصحيح هو الجديد. وقد أفهم قول الشيخ: غاب خاسفاً قبل طلوع الشمس، أمرين: أحدهما: أنه لو خسف بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، صلى من طريق الأولى، والقولان فيه كما صرح به البندنيجي وغيره، وعن ابن كج: أن الخلاف مخصوص بما إذا غاب القمر خاسفاً بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، [أما إذا لم يغب فلا خلاف في أن الصلاة جائزة. الثاني: أنه لا يصلي بعد طلوع الشمس إذا غاب] خاسفاً، وهو كذلك وبه يعرف أن للغيبوبة خاسفاً ثلاث أحوال: الأولى: أن يغيب قبل طلوع الفجر فيصلي في القديم والجديد، وفيه نظر. الثانية: أن يغيب خاسفاً [بعد] طلوع الشمس فلا يصلي، قولاً واحداً. والثالثة: أن يغيب خاسفاً بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، وفيه القولان. قلت: وعلى القولين ينبغي [أن يقال]: إذا غاب خاسفاً قبل طلوع الفجر ولم يصل حتى طلع الفجر، هل يصلي؟ إن قلنا بالجديد فنعم، وإن قلنا بالقديم فلا، ولم أقف فيه على نقل. واعلم أن قول الشيخ في أوّل [الباب:] ووقتها من حين الكسوف إلى حين

التجلِّي، يقتضي جواز الصلاة لخسوف القمر بعد طلوع الشمس إذا لم ينجل. وقلنا: إنه أراد بالباب التبويب على الكسوف والخسوف؛ اعتباراً باللغة الأولى كما هو الظاهر، ولا يقال: إن ما ذكره هنا يقتضي المنع؛ إذ لا يلزم من كونه لا يصلي عند غيبوبته خاسفاً بعد طلوع الشمس ألا يصلي مع بقائه. نعم، علة المنع من الصلاة عند غيبوبته بعد طلوع الشمس تقتضي المنع مع البقاء، ففيه تنبيه من هذا الوجه، والله أعلم. وقد أورد بعضهم سؤالاً فقال: القمر لا يخسف إلا في ليلة الثالث عشر أو الرابع عشر، وإذا كان كذلك فهو يبقى إلى بعد طلوع الفجر، فكيف يفرض غيابه قبل طلوع الفجر؟ وجوابه أنه يؤخذ مما سنذكره من بعد، إن شاء الله تعالى. قالك وإذا اجتمع صلاتان مختلفتان بدأ بأخوفهما فوتاً، ثم يصلي الأخرى، ثم يخطب كالمكتوبة [والكسوف في أول الوقت، [أي: في أول وقت المكتوبة]، يبدأ بالكسوف ثم يصلي المكتوبة]؛ لأن بذلك يحصل له حيازة الصلاتين، ولو عكس لاحتمل الانجلاء قبل فراغ المكتوبة؛ فيفوته صلاة الكسوف، ولا تعويل على قول المنجم: إن الكسوف يدوم كذا؛ فإن تحكُّم المنجم- كما قال في "الوسيط" في كتاب الصيام- قبيح شرعاً. قال: ثم يخطب؛ لأن القصد بالخطبة الوعظ، [وهي لا تفوت] بالانجلاء، بل خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما وقعت بعد الانجلاء، وقوله: "فصلوا حتى تنجلي" مؤكد لذلك، وهذا فيما إذا كانت المكتوبة غير صلاة الجمعة، فإن كانت صلاة الجمعة صلى الكسوف وخفَّف، فيقرأ في كل قومة بعد الفاتحة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ونحوها، كما قاله في "المختصر"، ووافق عليه الأصحاب، ثم يخطب وينوي بخطبته الجمعة، ويتعرض فيها للكسوف، ولا يجوز أن ينوي بها الجمعة والكسوف؛ لأنها في الجمعة شرطٌ، وفي الكسوف سنة، والشيء الواحد لا يسقط فرضاً ويحصل سنة. ثم قضية كلام الشيخ أنه إذا اجتمع الكسوف والعيد، ولم يخف فوت العيد

- أنه يبدأ بالكسوف ثم يصلي العيد، ثم يخطب من طريق الأولى، وهو ما نص عليه في "الكبير"، ورواه المزني، قال الشيخ مجلي: وهو الذي أورده العراقيون لا غير. ويخطب الخطبتين لهما؛ لأنهما سنتان فلا تضر المشاركة، نص عليه في "المختصر"، وقد روى البويطي عن الشافعي أنه يبدأ بصلاة العيد، قاله القاضي الحسين، وبه يحصل في المسألة قولان أصحهما في "التهذيب" و"الرافعي": الأول، وهو ما كان يقطع به الشيخ أبو محمد. وقد قيل بجريان ما حكاه البويطي في [اجتماع] الكسوف والجمعة، وربما نسب إلى رواية البويطي فيها، أيضاً. أما إذا اجتمع الكسوف والمكتوبة في آخر وقت المكتوبة فيبدأ بالمكتوبة بلا خلاف؛ لأن فعلها فرض عين في ذلك الوقت، وفعل الكسوف سنة أو فرض كفاية؛ فكان فرض العين أولى، ولأن المكتوبة إذا تركها فاتت عن يقين، ولو ترك الكسوف لم يفت عن [يقين]؛ فكان تقديم ما لو ترك لفات يقيناً أولى مما لم يتحقق فوته، وعلى هذا: إذا كانت المكتوبة الجمعة خطب لها وتعرض للكسوف، ثم يصلي الجمعة والكسوف إن لم ينجل، ولا يخطب له، قاله في "الذخائر"، ولم يحك غيره، وفي "الرافعي": أنه يخطب للجمعة ويقيمها، ثم يصلي الكسوف ويخطب لها. ولو اجتمع الكسوف مع صلاة الجنازة بدأ بالجنازة إن كانت حاضرة؛ لأن فيها حق الله- تعالى- وحق الآدمي، وهي فرض كفاية بلا خلاف، وصلاة الكسوف سنة على المشهور، بل قد اتفق الأصحاب على أنه إذا اجتمع صلاة الجمع مع [حضور] الجنازة، وفي وقت الجمعة اتساع- أن المقدم صلاة الجنازة، وكذا قطع به الشيخ أبو محمد فيما إذا اجتمعتا في آخر وقت الجمعة أيضاً، وإن كانت تفوت يقيناً لو صلى الكسوف. قال: لأن للجمعة بدلاً تنتقل إليه وهو الظهر، وصلاة الجنازة لا خلف لها، ويخاف تغير الميت. قال الإمام: وفي تصوُّر هذا تكلف؛ فإن مقدار صلاة الجنازة لا يكاد يحسُّ له

أثر في التفويت. ولو لم تحضر الجنازة وحضر الكسوف، أمر الإمام من يقوم بأمرها، ثم صلى الكسوف، والله أعلم. قال: فإن استويتا في الفوات، أي: استويا في خوف الفوات- بدأ بآكدهما: كالوتر والكسوف، يبدأ بالكسوف؛ لأنها آكد لشبهها بالفرائض؛ بمشروعية الجماعة فيها والخطبة، وقد قال بعض أصحابنا: إنها فرض كفاية؛ لأنها من الشعائر الظاهرة في الإسلام، وما ذكره الشيخ قد قاله القاضي الحسين والماوردي، وحكاه البندنيجي عن النص فإنه قال: قال الشافعي: وإذا اجتمع أمران يخاف فوت أحدهما ولا يخاف فوت الآخر، بدأ بالذي يخاف فوته، فإن خسف القمر في وقت قيام الليل أو في وقت الوتر بدأ بالخسوف قبل ذلك ولو فاتا؛ لأنه أوكد منهما. ولفظ "المختصر": فإن خسف به في وقت قنوت بدأ بالخسوف قبل الوتر، وقبل ركعتي الفجر وإن فاتتا. وقد أجرى بعضهم كلام الشيخ على ظاهره، وقال: ما ذكره من المثال متجه

إذا قلنا: لا يصلي لخسوف القمر بعد طلوع الفجر كما هو القديم، أما إذا قلنا: يصلي- كما هو الجديد الذي لم يحك الشيخ غيره- فلا يتجه؛ لأنه يبدأ بالوتر فإنه أسرع فوتاً، قال: وإنما يتجه على هذا أن نقول: كركعتي الفجر والكسوف، فيبدأ بالكسوف. قلت: وهذا السؤال جاء من اعتقاد السائل أن وقت الوتر يخرج بطلوع الفجر، أما إذا قلنا: إنه يدوم إلى طلوع الشمس كما صار إليه بعضهم فلا يأتي. ويؤخذ مما ذكره الشيخ ها هنا: إن كان مراده إجراء اللفظ على ظاهره أنه اختاره، وعلى تقدير صحة اعتقاد السائل في أن وقت الوتر يخرج بطلوع الفجر فتمثيله بركعتي الفجر والكسوف إنما يتجه إذا قلنا: إن وقت ركعتي الفجر يخرج بخروج وقت الصبح، أما إذا قلنا: إنه يدوم إلى الزوال- كما قاله بعض الأصحاب، وقال في "المهذب" إنه ظاهر النص- فلا. وقد اقتضى كلام الشيخ: أنه إذا اجتمع مع الكسوف صلاة العيد في آخر وقت العيد أنه يبدأ بالعيد؛ لأنها آكد من صلاة الكسوف لتعلقها بالوقت، وبه صرح الأصحاب، وقال: إنه يخفف في صلاة العيد ويخطب بعد صلاة الكسوف خطبتين للعيد والكسوف. فإن قيل: اجتماع الكسوف والعيد غير متصوَّر؛ لأن العيد يكون أوّل الشهر أو العاشر منه، والكسوف لا يكون إلا في الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين. قيل في جوابه: قد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم- عليه السلام- في العاشر من الشهر أو في الثالث عشر منه أو [في] الرابع عشر على اختلاف فيه كما تقدم، وذلك يبطل المدَّعى. قال القاضي الحسين: وعلى تقدير صحة ما قالوه فيتصور ذلك بأن يشهد اثنان ليلة الثلاثين من شعبان أن غداً من رمضان؛ فيصوم الناس بشهادتهما تسعة وعشرين يوماً، ثم يشهدان- أو غيرهما- ليلة الثلاثين من رمضان أنهما رأيا الهلال ولم يبن للقاضي كذب إحدى البينتين- فإنه يلزمه القضاء بشهادتهما، ويجعل يوم الثامن والعشرين من رمضان عيداً على ظن أنه يوم الثلاثين، وتكون

الشمس قد كسفت فيه. وهذا الجواب فيه نظر؛ لأن القائل بأنها لا تنكسف إلا في الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين يقطع بكذب البينة التي شهدت أن غداً من شوال؛ فلم يجتمع عنده عيد وكسوف. وقال غيره: على تقدير التسليم لعل الشافعي أراد بما ذكره التحذُّق في المأخذ ليتضح المعنى ويتسع الفهم، وبذلك جرت عادة الأئمة في تفريع المسائل حتى قال أبو حنيفة: لو ضرب رأسي شخصٌ بأبي فتتبين، لا يجب عليه القصاص. أو نقول: إن العادة، وإن كانت كما قال السائل، لكن الشافعي بين أن هذا هو الحكم عند خرق العادة وقرب القيامة. ولو زاحم الكسوف خروج الناس إلى منى بحيث لو قدِّم الكسوف لفاتهم صلاة الظهر بمنى- صلى الكسوف، ثم الظهر بمكة. وكذا لو كان الكسوف في يوم عرفة عند الزوال، قدم صلاة الكسوف، ثم صلى الظهر والعصر، ولو كان بعد العصر وهو في [الموقف] صلى الكسوف [ثم خطب على بعيره. ولو خاف فوت الظهر والعصر بدأ بهما ثم صلى الكسوف] وخفَّفها وكذا الخطبة، ولم يدع ذلك لأجل الوقوف. وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بفروع: صلاة الكسوف تصلَّى حال الخوف وشدة الخوف كما تصلى المكتوبة، صرح به البندنيجي وغيره. لا يصلى [لغير هاتين الآيتين]. قال الشافعي: ولا أجوز الصلاة في جماعة في آية غير الكسوف. وأراد بذلك: أنه لا يشرع الصلاة جماعة للزلازل والرياح وانقضاض

الكواكب، وكذا عند الرعد والبرق؛ لأنه لم يرد، بل المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء عند الرعد- كما يأتي في الاستسقاء- وكذا عند مجيء الصواعق، وكان يقول عند هبوب الريح الشديد: "اللَّهمَّ اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً، اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك من شرِّ ما أرسلت فيها". وقد حكى عن الشافعي أنه قال في كتاب "اختلاف الحديث": روي عن علي أنه صلى جماعة في زلزلة، فإن صح قتل به. قال الماوردي: واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: أراد: إن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت [به] وإلى الآن لم يصح. وفيه نظر؛ لأن أبا داود روى بإسناده عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم آيةً فاسجدوا".

ومنهم من قال: أراد: إن صح عن علي قلت به. وهؤلاء اختلفوا على مذهبين: أحدهما: إن صح قلنا به في الزلزلة وحدها. والثاني: إن صح قلنا به في سائر الآيات. والمذهب الأول. ثم ذلك في [الصلاة جماعةً]، وأما الصلاة فرادى فظاهر نصه في "المختصر" أنهم يصلون منفردين، وعليه نحمل نصه في "الأم": إن الفزع إذا وقع من ظهور آية كان المفزع إلى الصلاة، وعلى ذلك جرى في "التهذيب" فقال: يستحب أن يصلوا منفردين ويدعون، وهو المذكور في الرافعي. وقال في "الذخائر": إن مراد الشافعي بقوله: وآمر بالصلاة منفردين، أنه إذا صلى كذلك كان له ثواب صلاة كسائر الأوقات، وأما كونها سنة كذلك فلا. وهذا قريب مما في "الحاوي" و"الشامل"، والظاهر الأول، والله تعالى أعلم بالصواب.

باب صلاة الاستسقاء

باب صلاة الاستسقاء الاستسقاء طلب السقيا، والأصل فيه قوله تعالى: {وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [البقرة: 60]، [وفي آية أخرى: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً}] [الأعراف: 16] والانبجاس قيل: إنه أضيق من الانفجار، و [هذا وإن] كان شرع من قبلنا فقد جاء في شرعنا ما يقرره، وهو ما روى مسلم عن عبد الله بن زيد قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يستسقي، فجعل إلى الناس ظهره يدعو الله، واستقبل القبلة، وحوَّل رداءه، وصلى ركعتين"، زاد البخاري: "وجهر فيهما بالقراءة"، وزاد عن المسعودي: "جعل اليمين على الشمال" وغير ذلك من الأحاديث التي سنذكرها، وقد روي "أن سليمان-[صلى الله] على نبينا وعليه وسلم- خرج يستسقي مع قومه، فرأى نملة ملقاة على قفاها تقول: اللهم، لا تهلكنا

بذنوب بني آدم واسقنا؛ فسقوا؛ فانصرف وقال: انصرفوا فقد كفيتم بغيركم"، وهذا دليل على مشروعية الاستسقاء، وهو مجمع عليه. وأما الصلاة له فدليل ذلك ما تقدم في الخبر مع ما سيأتي من الأخبار أيضاً، وبذلك يظهر أنها سنة لا بدعة، خلافاً لأبي حنيفة، وقد أجمع الصحابة عليها؛ فإن عمر استسقى بالعباس عام الرَّمادة- كما سنذكره- ولم ينكره أحد، وهي مؤكدة؛ فلا يستحب للإمام تركها، فإن تركها قال الشافعي في "الأم": فقد أساء ولا إثم بترك السنة، ولا قضاء عليه ولا كفارة، وأقامها الرعية لأنفسهم، ولا فرق في ذلك بين أهل القرى والبوادي والأمصار، ولا بين المقيمين والمسافرين؛ [لاستواء الكل في الحاجة، وقد حكى الماوردي [وجهاً] عند الكلام في أفضل الصلوات أنها فرض كفاية]. وقال الجيلي هنا: إن القفال ذكره في "الخصال"، والمشهور أنها غير واجبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "خمس صلواتٍ كتبهنَّ الله على العبد في اليوم واللَّيلة. قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوَّع" أي: بالنذر. وقد عمل الأصحاب بموجب ذلك فقالوا: لو نذر الاستسقاء [والصلاة]- والوقت وقت جدب- لزمه، ولو نذر الاستسقاء لزمه أيضاً، نص عليه في "الكبير" كما قاله الإمام وغيره. وهل يلزمه معه الصلاة حتى لا يخرج عن

موجب نذره إلا بها؟ قال القاضي الحسين: يحتمل وجهين، والمنقول منهما في "الأم"- كما سنذكره، وهو "الكبير"-: لزوم الصلاة والخطبة أيضاً. ولو نذر أن يستسقي بالناس قال الفوراني والقاضي الحسين والمتولي: إن كان مطاعاً [فيهم] لزمه نذره، وإلا فلا ينعقد نذره. وقال البندنيجي: إنه إن كان إماماً لزمه أن يأمرهم بالاستسقاء ويسعى فيه، ولا يلزمهم [ذلك]. وإن كان غير إمام لزمه أني ستسقي بنفسه، وليس عليه أن يخرج الناس، ويستحب أن يخرج من يطيعه من أهله وولده وغيرهم. قال الشافعي: وأحبُّ أن يكون في المسجد، فلو استسقى في بيته أجزأه. قال: إذا أجدبت الأرض، أي: قحطت؛ لأن الجدب: القحط، وهو بفتح الجيم وإسكان الدال المهملة، والقحط: قلة ثمار الأرض. قال: وانقطع الغيث- أي: المطر- أو انقطع ماء العين، أي: وما في معناه مثل: النيل في بلادنا، ونحو ذلك في وقت الحاجة إليه. وقد قال بعضهم: لو قال الشيخ: إذا أجدبت [الأرض] بانقطاع الغيث أو ماء العين، أو قلَّا بحيث لم يحصل المقصود- كان أحسن، وهو الموافق لنصه في "الأم"؛ فإنه قال: فإذا كان جدبٌ أو قلة ماءٍ في نهر أو عين أو بئر في حاضر أو بادٍ من المسلمين، لم أحب للإمام أن يتخلف عن عمل الاستسقاء. قلت: ولعل كلام الشيخ أحسن؛ لأن القحط يحصل عند قلة الغيث أو قلة ماء العين ونحوه. وعند انقطاع ذلك كله تعدم الثمار؛ فكان ما ذكره شاملاً للحالين بعبارة أخصر من عبارة المعترض، والله أعلم. قال: وعظ الإمام الناس، أي: خوفهم وحذَّرهم من عذاب الله، والوعظ: التخويف والتذكير بالعواقب، يقال: وعظه يعظه، وعظاً وعظةً وموعظةً، فاتَّعظ: أقبل على الوعظ. قال: وأمرهم بالخروج من المظالم، والتوبة من المعاصي، أي: وهي

المحرمات بحق الله- تعالى- أو حق الآدمي، وسنقف في كتاب الحدود على حقيقة التوبة. قال: ومصالحة الأعداء، أي: إذا كانت العداوة [في غير] الله- تعالى-[لأن ارتكاب المظالم والإقدام على المعاصي، ومنها العداوة في غير الله تعالى] من المحرمات، والإصرار عليها موجب للضيق في الرزق؛ قال- عليه السلام- "إنَّ الرَّجل ليحرم الرِّزق بالذَّنب يصيبه" وقال مجاهد: في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ} [البقرة: 159] أي: دوابّ الأرض تقول: منعنا المطر بخطاياهم. وقول النملة شاهدٌ له أيضاً، والإقلاع عن ذلك موجب للسلعة في الرزق. قال الله- تعالى- حكاية عن موسى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً ..} الآية [هود: 52]، وقال: {لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} الآية [الأعراف: 96]، وقد روي أن موسى- على نبينا وعليه السلام- خرج ليستسقي لقومه، فما سقي؛ فقال: من أذنب ذنباً فلينصرف. فانصرفوا كلهم إلّا رجلاً فالتفت فرآه أعور، فقال: ما سمعت قولي؟ فقال: قد سمعت ولا ذنب لي إلّا واحداً: نظرت إلى امرأة؛ فقلعت عيني هذه؛ فاستسقى به فسقي.

قال: والصدقة؛ لأن الصدقة أمام الحاجات أنجح لقضائها، كما تقدم في باب صدقة التطوع. قال: وصيام ثلاثة أيام، أي متتابعات تقرباً لله تعالى؛ فإنه قال: "كلُّ عمل ابن آدم له إلَّا الصَّوم فإنَّه لي، وأنا أجزي به". قال: ثم يخرج بهم إلى المصلّى- أي مصلى العيد- لما روى أبو داود عن عائشة قالت: "شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر؛ فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس .. ". قال الأصحاب: والمعنى في الخروج إلى المصلى: أن المسجد قد يضيق عليهم، ونحن مأمورون بتنحية الصبيان، وما نحن فيه مؤثرٌ فيه إحضارهم. ولأنهم إذا استسقوا في الصحراء فبدا السحاب شاهدوه وإن كان خفيّاً؛ فحمدوا الله على سرعة الإجابة والمسجد ربما حال عن مشاهدة ذلك. قال [في] "البويطي": ويخرجون مشاة والإمام يخرج كذلك متكئاً على قوسٍ أو عصا. وعن الروياني: أن بعض الأصحاب خرَّج قولاً أنها لا تقام إلا حيث تقام الجمعة، قال: وليس بشيء. قال: في اليوم الرابع، أي: وهم صيامٌ؛ لأن دعاء الصائم أقرب إلى الإجابة، قال صلى الله عليه وسلم: "صمت الصَّائم تسبيحٌ، ونومه عبادةٌ، ودعاؤه مستجابٌ، وعمله مضاعفٌ". وخالف هذا يوم عرفة حيث استحب إفطاره للواقف بها، وإن كان الدعاء فيه

مقصوداً؛ لأنه يجتمع على الإنسان فيه مشقة السفر والصوم فيضعف عنه؛ فاستحب له الفطر؛ لتزول إحدى المشقتين عنه فيقوى عمله، وليس كذلك هنا. وأيضاً فالخروج في الاستسقاء أول النهار قبل تأثير الصوم فيه، بخلاف يوم عرفة. ولو خرجوا مفطرين جاز، لكن الأولى: الصوم. قال: بعد غسل وتنظيف، أي: بالماء والسواك، وقطع الروائح الكريهة؛ لأنه محلٌّ شرع فيه الاجتماع؛ فسُنَّ فيه ذلك كالجمعة. قال: في ثياب البذلة؛ ليكون على هيئة السؤال، ويشهد لذلك الخبر الذي سنذكره. والبذلة- بكسر الباء-: ما يبتذل من الثياب ويمتهن بلبسه حال الشغل والخدمة، وجاء فلان في مباذله، أي: في ثياب بذلته، وعلى هذا قال النواوي: فقول المصنف: ثياب البذلة، هو من باب إضافة الموصوف إلى صفته؛ كقوله تعالى: {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44] {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} [يوسف: 109]، ومذهب الكوفيين: إجراؤه على ظاهره، ومذهب البصريين: تقدير محذوفٍ، أي: جانب المكان الغربي، ودار الحياة الآخرة. وكذا ينبغي أن يكون مشيهم وجلوسهم وكلامهم كلام متواضع واستكانة، نص عليه في "الأم"، ووجهه: ما روى أبو داود عن عبد الله بن كنانة قال: أرسلني الوليد بن عتبة- وكان أمير المدينة- إلى ابن عباس أسأله عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، فقال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متبذِّلاً متواضعاً

متضرعاً، حتى أتى المصلَّى". وقد أفهم قول الشيخ: "في ثياب البذلة" أنه لا يتطيب؛ لأنه لا يليق بالبذلة التطيب؛ بل هو لائق بثياب التزين؛ لأنه من تتمة إظهار السرور فهو ضد ما نحن فيه، وبذلك صرح الأصحاب. وقال بعضهم: إنه لو خرج حاسر الرأس حافي الرِّجل فلا بأس به؛ لأن ذلك يليق بالحال، وهو ما أورده المتولي، واستبعده الشاشي. قال: ويخرج معه الشيوخ والعجائز والصبيان. أراد بهذا بيان أن خروج هؤلاء أشد استحباباً من خروج غيرهم، كما صرح به البندنيجي وغيره؛ لأن دعاءهم مرجوُّ الإجابة؛ فإن الشيوخ أرق قلوباً، وكذا العجائز والأطفال ليسوا من أهل الذنوب. وبعضهم استدل لذلك بقوله- عليه السلام-: "لولا صبيانٌ رضَّعٌ، وبهائم رتَّعٌ،

وشيوخٌ ركَّعٌ- لصبَّ عليكم العذاب صبّاً". قال القاضي الحسين: وقد اختلف في المراد بالركَّع في الخبر: فقيل: الراكعين في العبادة، ويشهد لذلك أنه جاء في رواية: "وعبَّادٌ ركَّعٌ". وقيل: الذين انحنت ظهورهم من الشيخوخة، ويشهد له ما روي أنه- عليه السلام- قال: "إذا بلغ الرَّجل ثمانين سنةً غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر". و"الشيوخ" جمع "شيخ"، وهو من جاوز الأربعين. و"العجائز" جمع "عجوز"، ولا يقال: عجوزة. وقد أفهم ما ذكرناه من استحباب إخراج الشيوخ ونحوهم استحباب إخراج ذوي الصلاح والخير؛ لأن المعنى الذي لأجله استحببنا إخراج الشيوخ- وهو رجاء إجابة الدعاء- موجود فيهم، وكذا يستحب أن يستسقى بالخيار من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأهل الصلاح؛ لما روي أن عمر استسقى بالعباس فأخذ بضبعيه وأشخصه قائماً وأومأ نحو السماء وقال: "اللهم إنا كنّا إذا قحطنا توسَّلنا إليك بنبيِّنا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا". رواه البخاري. والضَّبع: دون الكتف مما يلي المرفق.

وقد روي أن العباس دعا، ولما فرغ من دعائه نشأت السحاب، وهطلت السماء، وطفق الناس بالعباس يمسحون رداءه ويقولون له: هنيئاً لك، ساقي الحرمين. واستسقى معاوية بيزيد بن الأسود، وقال: إنا نستسقي بخيارنا وأفضلنا، يا يزيد، ارفع يديك فرفع ورفع الناس فسقوا. وإخراج النساء ذوات الهيئات والشباب مكروه؛ مخافة الفتتان بهن. قال: وإن أخرجوا البهائم لم يكره؛ لأنها مما عمَّه الجدب وضمن الله له الرزق، إلا أنه لا يستحب؛ لأنه- عليه السلام- لم يخرجها. وهذا ما أورده البندنيجي والمتولي، وحكاه القاضي أبو الطيب عن الأصحاب وعن نصه في "الأم" حيث قال: ولا آمر بإخراج البهائم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرجها، فإن أخرجت فلا بأس. وقال ابن الصباغ عقيب حكاية هذا النص: فكأنه ما استحب ذلك ولا كرهه. وقال بعضهم: إنه يكره؛ لأنه مخالف للسنة، وفيه تعذيبهم واشتغال الناس بأصواتهم. وادّعى الماوردي أن هذا [ما] عليه سائر الأصحاب، إلا ابن أبي هريرة فإنه قال: إنه مستحب؛ لما ذكرناه من علة نفي الكراهة، وأنه استأنس بما ذكرناه من قصة النملة. ونسب القاضي أبو الطيب وابن الصباغ القول بالاستحباب إلى أبي إسحاق، وحكاه القاضي الحسين عن القفال أيضاً؛ تمسكاً بالخبر السالف ولم يحك غيره، وهو الذي صححه الرافعي، وأشار الإمام إلى أن الخلاف في المسألة قولان؛ فإنه قال: وفي إخراج البهائم قصداً ترددٌ في النص. قال: وإن خرج أهل الذمة- أي من الرجال والنساء- لم يمنعوا؛ لأنهم يشاركون المسلمين في طلب الرزق ورجاء الفضل، وما عند الله واسع، وقد يجيبهم الله- تعالى- استدراجاً، قال الله- تعالى- {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي

مَتِينٌ} [القلم: 45]، {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم: 44]، قال المفسرون: معناه: كلما زادوا في المعصية زدناهم في النعمة. قال: ولكن لا يختلطون بالمسلمين- أي في مصلاهم- بل يكونون في بيعهم وكنائسهم؛ لأنهم أعداء الله، واللعنة تنزل عليهم، وقد قال- تعالى-: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، فإن خالطوهم كان مكروهاً. وقد أفهم كلام الشيخ: أن الإمام لا يأمرهم بالخروج، وبه صرح الأصحاب، بل قال الشافعي: وأكره إخراجهم، ولا أكره من إخراج صبيانهم ما أكره من إخراج رجالهم؛ لأن غير البالغ غير معاند. قال القاضي الحسين: ولأن العلماء اختلفوا في أمرهم إذا ماتوا قبل البلوغ بخلاف البالغين. وينبغي [للإمام أن] يحرص على أن يكون خروجهم إذا أرادوه في غير اليوم الذي يخرج فيه المسلمون، فإن خرجوا فيه فمن أصحابنا من منعهم، ومنهم من تركهم. قال في "الحاوي": وهو أصح- إن شاء الله- ولم يورد ابن الصباغ غيره. قال: ويصلي بهم ركعتين كصلاة العيد؛ لما روى أبو داود في تتمة حديث عبد الله بن كنانة السابق: "ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد"، و [هذا التشبيه يقتضي] أموراً: أحدها: أن وقتها وقت العيد لا قبله ولا بعده، وهو المعزي في "الروضة" إلى الشيخ أبي حامد والمحاملي، والمذكور في "التهذيب"، وحكاه الإمام عن الشيخ أبي علي، ثم قال: وهذا وإن كان وفاء بالتشبيه على الكمال، ولكني لم أره لغيره من الأئمة. وعن الروياني وآخرين: أن وقتها يبقى بعد الزوال ما لم

[يصلَّ العصر]، وهو الذي أورده البندنيجي، وهو الظاهر من كلامه في "الأم"؛ فإنه قال: لو صلوها بغير طهارة أعادوها في يومها بعد الظهر وقبل العصر، وقد أورد الرافعي على ذلك سؤالاً فقال: قد قدمنا وجهين في أن صلاة الاستسقاء: هل تكره في الأوقات المكروهة أم لا؟ ومعلوم أن الأوقات المكروهة غير داخلة في وقت صلاة العيد، ولأنه مع انضمام ما بين الزوال والعصر إليه فيلزم ألا يكون وقت الاستسقاء منحصراً في ذلك، وليس لحامل أن يحمل الوجهين في أوقات الكراهة على قضائها؛ فإن صلاة الاستسقاء لا تقضى كما صرح به في "التتمة"؛ لأنها لا تختص بوقت دون وقت، بل أيَّ وقت صلَّوها من ليل أو نهار جاز. قلت: وفيما قاله نظر من وجوه: أحدها: أنه قد قيل: إن أوّل وقت صلاة العيد يدخل بطلوع الشمس قبل زوال وقت الكراهة، وهو الأصح في "الروضة"، وعلى هذا فقوله: "ومعلوم أنّ أوقات الكراهة غير داخلة في وقت صلاة العيد" ليس معلوماً؛ بل المعلوم دخول وقت الكراهة فيه، ثم لو قلنا بأنّ وقت صلاة العيد لا يدخل إلَّا بعد زوال وقت الكراهة- كما هو مذكور في موضعه، وأفهمه قول البندنيجي هنا: إنّ وقتها وقت صلاة العيدين سواء لا يفترقان، وهو إذا طلعت الشمس وبرزت قليلاً دخل وقتها في هذا اليوم- فالاعتراض باقٍ؛ لأن وقت الاستواء من الأوقات المكروهة، وهو داخل في وقت العيد؛ إذ هو يخرج بالزوال. ولا يقال: إن مقصوده جميع أوقات الكراهة؛ لأن ذلك غير مراد في كلام الأصحاب، وقد تعرض لبعض ما ذكرته الشيخ محيي الدين النواوي في "الروضة". الثاني: على تقدير صحة ما ذكره من أن أوقات الكراهة لا تداخل [في] وقتها، فقوله: "وليس لحامل أن يحمل الوجهين في أوقات الكراهة على القضاء؛ فإن صلاة الاستسقاء لا تقضى" ممنوع؛ فإن ابن الصباغ حكى عن نصه في "الأم" فيما إذا نذر الإمام أن يستسقي لزمه ذلك، وعليه أن يخرج بالناس ويستسقي ويصلي ويخطب بهم، فإن سقوا قبل أن يخرج خرج واستسقى، وكان

ذلك قضاء؛ كما إذا نذر أن يصوم يوماً ففاته قضاه. الثالث: أن كلامه عند تقرير السؤال يفهم أنه ليس في المسألة إلا مذهبان: أحدهما: أن وقتها وقت العيد فقط. والثاني: أنه يمتد ما لم يصلّ العصر. وما حكاه عن المتولي في معرض الاستشهاد على رد ما قد يقال: إنه جواب، وهو [أن] حمل كلام الأصحاب في الأوقات المكروهة على القضاء مذهب مخالف للمذهبين، وبه يندفع أصل السؤال؛ لأنه- حينئذٍ- يصح أن يقال تفريعاً عليه: ولا تقام في الأوقات المكروهة. وما نقله المتولي يرشد إليه كلام الشافعي؛ فإن ابن الصباغ قال: ووقتها وقت صلاة العيد، إلا أن الشافعي قال: فإن لم يصلها قبل الزوال صلاها بعده؛ لأنه لا وقت لها يفوت. فقول الشافعي: "لا وقت لها يفوت" عين ما قاله المتولي، وهو الذي حاول الرافعي بما ذكره إثباته، ويؤيد ذلك قول ابن الصباغ: إن ما قاله الشافعي صحيح؛ لأن صلاة الاستسقاء لا تختص بيوم دون يوم فلم تختص بوقت دون وقت، ولأجل ذلك قطع به الأكثرون، وصححه في "المحرر". والمحققون ومنهم صاحب "الحاوي"، كذا قاله في "الروضة". قلت: لكن كلام صاحب "الحاوي" يمكن أن يؤخذ منه الجمع بين النقلين الأول والأخير؛ لأنه قال: وقتها في الاختيار كوقت صلاة العيد؛ لاجتماعهما في الصفة؛ فإن صلاها في غير وقت صلاة العيد: إما قبل طلوع الشمس، أو بعد زوالها أجزأه، بخلاف العيد؛ لاستواء الوقتين في المعنى المقصود بالصلاة، والله أعلم. الأمر الثاني: أنه لا يؤذن لها ولا يقام، بل ينادى لها: الصلاة جامعة، وبه صرح الأصحاب مستدلين على خصوص ذلك برواية أبي هريرة: أنه- عليه السلام- صلى الاستسقاء ركعتين بغير أذان ولا إقامة، ولأن [الأذان و]

الإقامة من شعائر الفرائض، وهذه نافلة، وإنما استحببنا أن ينادى لها: الصلاة جامعة؛ لأن كل صلاة سنَّ لها الجماعة ولم يسن لها الأذان والإقامة، كان قول: "الصلاة جامعة" سنة فيها. الأمر الثالث: أنه يكبر في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً على وجه الاستحباب؛ وهو كذلك لرواية الدارقطني في تتمة حديث عبد الله بن كنانة: "صلى ركعتين كما يصلي في العيد: كبر في الأولى سبع تكبيرات وقرأ بـ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، وقرأ في الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وكبر خمس تكبيرات" وقد روي أن أبا بكر وعمر كانا يصليان صلاة الاستسقاء يكبران فيها سبعاً وخمساً، ولم ينكر ذلك أحد. الأمر الرابع: أنه يجهر فيها بالقراءة؛ وهو كذلك لرواية البخاري المتقدمة في أوّل الباب. الأمر الخامس: أنه يقرأ فيها بعد الفاتحة ودعاء الاستفتاح والتعوذ ما يقرأ في العيد، فيقرأ في الأولى سورة "ق"، وفي الثانية "اقتربت الساعة"، وهو المذهب في "المهذب"؛ لأن عليه نص الشافعي هنا، كما حكاه ابن الصباغ [والقاضي الحسين]. فإن قلت: الحديث السابق دال على استحباب قراءة "سبح" في الأولى و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} في الثانية، فلم عدلتم عنه إلى ما اقتضاه الحديث الدال على التشبيه بالعيد، مع أنه يجوز أن يخص بما ذكرناه. قلنا: قد قيل إن في رجاله محمد بن عبد العزيز وهو ضعيف الحديث؛ فلذلك لم يخص به ما ثبت صحته، وقد قال الشيخ: ويستحب أن يقرأ فيها سورة نوح؛ لأنها لائقة بالحال، وكذا حكاه القاضي أبو الطيب عن بعض الأصحاب، وقضية هذا مع قوله: "ويصلي ركعتين كصلاة العيد" أن تكون سورة نوح زائدة

على ما يقرؤه في العيد وأنها تكون في الأولى أو الثانية، وعبارة القاضي الحسين تقرب من ذلك؛ لأنه قال بعد حكاية ما نقلناه من النص: قال أصحابنا: المستحب أن يقرأ في إحدى الركعتين السورة التي فيها ذكر نوح، وكذا حكاه الإمام عن رواية الصيدلاني عن الأصحاب، والمراد- والله أعلم-: أن يجعلها بدلاً عن إحدى السورتين، وكذا قال في "الوسيط": ومن أصحابنا من قال هي كصلاة العيد إلا أنه يبدل السورة في إحدى الركعتين فيقرأ {إِنَّا أَرْسَلْنَا}؛ لاشتمالها على قوله: {يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح: 11] ولم يحك غير ذلك. قال الرافعي: ولتكن تلك الركعة هي الثانية، ويقرأ في الأولى سورة {ق}؛ رعاية لنظم السور. وقد حكاه على هذا النحو وجهاً بعيداً بعد حكاية المذهب: ابن الصباغ والبغوي والشيخ في "المهذب"، وينسب للشيخ أبي حامد، وفي "تعليق" البندنيجي: أنه يفعل في هذه الصلاة ما يفعل في صلاة العيد، وما يقرأ فيها من القرآن وصفة القراءة، وإنما تفترقان [في أن] الشافعي قال: ولو قرأ في الثانية بسورة نوح فلا بأس؛ لما فيها من ذكر إدرار الأمطار، وما فيها من الحث على الاستغفار، وإلا فهما سواء. وقد حكى عن المحاملي مثل ذلك، ولم يحك الماوردي عن الأصحاب غيره؛ فإنه قال: قال أصحابنا: لو قرأ في الثانية سورة نوح كان حسناً. وهذا يدل على أنه لا خلاف في المسألة، وفي "التتمة" أنه يقرأ في الأولى إما {ق} أو {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ} [القمر: 1]، وفي الثانية سورة نوح. قال: ويخطب خطبتين، أي: على منبر أو شيء عال؛ لأنه صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب لها على المنبر، ويجوز أن [يخطب لها] قاعداً كما في العيد،

إلا أن ينذر الصلاة والخطبة؛ فإنه يخطبهما قائماً، نص عليه في "الأم". قال في "الحاوي": ولو فعلهما راكباً وقد نذرهما جاز، وقال مجلي: يحتمل تخريجه على أن مطلق النذر يحمل على جائز الشرع أو واجبه. ثم إنما تلزم الخطبة قائماً إذا كان الناذر إماماً أو معه من يلزمهم الخروج معه، فإن كان وحده فليس عليه أن يخطب قائماً، قاله البندنيجي والماوردي. ولو اقتصر على خطبة واحدة جاز، لأنهما سنة، قاله البندنيجي، والمستحب أن يجلس أول ما يطلع المنبر، ثم يقوم ويخطب. وقال أبو إسحاق: لا يجلس بل يخطب أول ما يطلع بعد السلام. وهو مثل قوله في خطبة العيد. واعلم أن كلام الشيخ يفهم أن الإتيان بالخطبتين جائز بعد الصلاة وقبلها، بمعنى أنه يعتد بهما كيفما وقعتا؛ لأنه أتى في العطف بلفظ [الواو المقتضية للجمع المطلق، ولو أراد أنه لا يعتد بهما إلا بعد الصلاة لأتى بلفظ] "ثم" أو الفاء كما فعل في باب صلاة الكسوف؛ لأن ذلك وضعهما. وما أفهمه كلامه هو ما صرح به المتولي واختاره الشيخ [محيي الدين النواوي] في "الروضة"، وأشار إليه ابن الصباغ بقوله: إن ما ورد من أنه- عليه السلام- وأبا بكر وعمر- رضي الله عنهما- خطبوا بعد الصلاة، كما رواه الشافعي عن جعفر بن محمد عن أبيه- محمول على الأفضل، وما ورد من: أنه- عليه السلام- خطب قبل الصلاة، كما رواه البخاري ومسلم عن عائشة حيث قالت: "فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه .. " إلى أن

قالت: "ثم نزل، فصلى بالناس ركعتين"- محمول على الجواز. قال: وإنما قلنا: إن هذا محمول على الجواز وإن خلافه هو الأفضل؛ لأنه أكثر رواةً، والقياس يعضده؛ فإنها [صلاة] مسنونة شرعت لها الخطبة فكانت بعدها كخطبة العيد والكسوف، وكلام الأصحاب يشير إلى تعين ما بعد الصلاة للاعتداد بالخطبتين، وبه قيد بعض الشارحين كلام الشيخ، والله أعلم. قال: يستغفر الله في افتتاح الأولى تسعاً، وفي الثانية سبعاً، أي: مكان التكبيرات؛ لأن ذلك أليق بالحال، وهذا ما أورده الماوردي والفوراني والإمام، وتبعهم الغزالي، وعن "البيان" أن المحاملي قال: إنه يكبر فيهما كما في العيد، وهو قضية التشبيه وكلام القاضي أبي الطيب وابن الصباغ في موضع كالمصرح به؛ لأنهما قالا: الفروع المذكورة في صلاة العيد مثلها في الاستسقاء، وفي آخر أنه يكبر في الخطبتين معاً، وكذلك قال البندنيجي حيث قال في صفة الخطبتين: أما الأولى فصفتها أن يكبر ثم يحمد الله .. وساق ما سنذكره، ثم قال: ثم يجلس [ثم يقوم] إلى الثانية فيبتدئها كما ابتدأ الأولى بالتكبير والتحميد والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء. قال: ويكثر فيها من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك أرجى لتحصيل ما يقصده، ومن الاستغفار، ويقرأ فيها {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً ..} [الآيات] [نوح: 10 - 12]؛ لما روى أن عمر- رضي الله عنه- استسقى على المنبر فلم يزد على الاستغفار، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما نراك استسقيت، فقال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ...} الآيات [نوح: 10 - 12]. و"المجاديح" جمع "مجدح": بكسر الجيم وفتح الدال، وقيل: بضم الميم، وهو كل نجم كانت العرب تزعم أنها تمطر به، فأخبر عمر أن المجاديح التي يستمطر بها الطر: الاستغفار، لا النجوم.

قال القاضي الحسين: وقد روي أن عليّاً وابن عباس كانا جالسين، فجاء سائر وسأل عليّاً عن جدوبة الزمان وانقطاع المطر، فقال له عليٌّ- كرم الله وجهه-: استغفر الله. فجاء آخر وشكا قلة المال؛ فأمره بالاستغفار، فجاء آخر وقال: ادع الله لي حتى يرزق لي ولداً؛ فأمره بالاستغفار؛ فضحك ابن عباس، فقال: أجبت في مسائل بجواب واحد، فقال عليٌّ: لعلك أنسيت القرآن، قال الله- تعالى-: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [الآيات] [نوح: 10 - 12]. قال: ويرفع يديه ويدعو؛ لما روى مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في استسقاء حتى يرى بياض إبطيه، وروي عنه أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء، وروى أبو داود عن مالك بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سألتم الله عزَّ وجلَّ- فاسألوه ببطون أكفِّكم، ولا تسألوه بظهورها". قال عبد الحق: لكن إسناد مسلم أصح وأجل. ولاشك في قوله.

قال: بدعاء رسول صلى الله عليه وسلم فيقول: "اللَّهمَّ سقيا رحمةٍ" أي: اسقنا سقيا رحمةٍ، وهو بضم السين، اسم من قولك: سقاه الله، وأسقاه، "ولا سقيا عذابٍ ولا محقٍ". المحق- بفتح الميم وإسكان الحاء-: قلة الخير، وقيل: الإتلاف وذهاب البركة. "ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ، اللَّهمَّ على الظِّراب" أي: على الروابي الصغار، وهي بكسر الظاء المعجمة، وخصت بالذكر؛ لأنها أرفق للزراعة من رءوس الجبال. "ومنابت الشَّجر، اللَّهمَّ حوالينا ولا علينا، اللَّهمَّ اسقنا غيثاً" أي مطراً؛ لأن الغيث المطر كما تقدم. "مغيثاً"، أي: للخلق بإنقاذهم مما استغاثوا منه. "مريئاً"، أي: حميد العاقبة، لا وباء فيه. وقيل: ما تطيب به النفس وهو بالهمز ممدود. "هنيئاً"، أي: طيباً لا ينغصه [شيء]، وهو بالهمزة ممدود، ومعناه: منمياً للحيوان من غير ضرر. "مريعاً"، أي: يأتي بالرَّيع وهو الزيادة والنماء، وهو بضم الميم، وإن فتحها كان: الذي لا يترك الأماكن ريعه، أي: خصبه، وقد قيل: إنه كذلك مع ضم الميم أيضاً، وهو في الحالتين بالياء آخر الحروف، ويروى بضم الميم وبالباء الموحدة أيضاً، مأخوذ من قولهم: أربع البعير، يربع: إذا أكل الربيع و"مرتعاً"،

أي: ينبت ما ترتع فيه الماشية، وهو بالتاء ثالثة الحروف، مأخوذ من قولهم: رتعت الماشية، ترتع رتوعاً: إذا أكلت ما شاءت، ويرتع إبله فرتعت، وأرتع الغيث: إذا أنبت فأرتع فيه الماشية. "غدقاً"، أي: كثير الكثير، وقيل: كبيره، وهو بفتح الغين والدال. "مجللاً"، أي: ساتراً للأفق بعمومه، مأخوذ من جلال الفرس، وقال الأزهري: هو الذي يعم البلاد والعباد نفعه ويتغشاهم، وقيل: الذي يجلل الأرض بالنبات، وهو بكسر اللام. "سحّاً"، السح: المطر الشديد الواقع على الأرض، يقال: سح الماء، يسحُّ: إذا سال من فوق إلى أسفل، وساح الماء، يسيح: إذا خرج على وجه الأرض؛ فيكون معنى ما ذكره الشيخ اللهم اسقنا مطراً ساحّاً، وهو بفتح السين. "عامّاً طبقاً": أي مستوعباً للأرض مطبقاً عليها. "دائماً، اللَّهمَّ اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين"، أي: الآيسين؛ لأن القنوط: الإياس. "اللَّهمَّ إنَّ بالعباد والبلاد [والبهائم] والخلق من اللأواء" أي: من شدة الجوع، وهو ممدود بالمد. "والجهد": [الجهد:] المشقة وسوء الحال، وقيل: البلاء والنصب، وهو بفتح الجيم، وقيل يجوز ضمها.

"والضنك": الضيق. "ما لا نشكو إلا إليك": "ونشكو": بالنون. "اللهم أنبت لنا الزرع وأدرَّ لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء وأنبت لنا من بركات الأرض". قال الأزهري: بركات السماء: كثرة مطرها مع الرَّيع والنماء، وبركات الأرض: ما يخرج منها من زرع ومرعى. "اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً؛ فأرسل السماء علينا مدراراً" أي السحاب، علينا مدراراً، أي: كثير المطر. وما ذكره الشيخ من استحباب الإتيان بهذا الدعاء على النحو المذكور، هو ظاهر كلام الشافعي؛ فإن البندنيجي قال: قال الشافعي: ولا وقت في الدعاء، غير أني أحب أن يدعو بما روى المطلب بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند المطر: "اللَّهم سقيا رحمةٍ لا سقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ، اللَّهمَّ على الظِّراب ومنابت الشَّجر، اللَّهمَّ حوالينا ولا علينا". وبما روى سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استسقى قال: "اللَّهمَّ على الظِّراب ومنابت الشَّجر، اللَّهمَّ حوالينا ولا علينا". وبما روى سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استسقى قال: "اللَّهمَّ اسقنا غيثاً مغيثاً .. " إلى آخره. وهو مذكور في "المختصر" هكذا، وقد حكاه الماوردي أيضاً، ولم يتعرض هو والبندنيجي إلى تقييده بحالة دون حالة، ويغلب على الظن أنهما لو لم يقولا

بإجرائه على ظاهره لقيداه، وأقوى من ذلك قول القاضي الحسين: وأما الدعاء في الاستسقاء فهو مذكور في "المختصر"؛ فلا حاجة إلى ذكره هنا، لكن ابن الصباغ قال: إن الدعاء المذكور متبوع. قوله: "اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً .. " إلى آخره، يدعو به في الخطبة الأولى، وقوله: "اللهم سقيا رحمةٍ" إلى قوله: "حوالينا ولا علينا"- يدعو به عند كثرة المطر واتصاله ومخافة هدم البنيان. وهذا ما أورده المتولي والشارحون [لهذا الكتاب]، واستدل بعضهم عليه بأن الواقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على هذا النحو؛ فإن مسلماً: روى عن أنس أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل؛ فادع الله يغثنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: "اللَّهمَّ أغثنا، اللَّهمَّ أغثنا، اللَّهمَّ أغثنا" قال أنس: ولا والله، ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعةٍ وما بيننا وبين سلعٍ من بيت ولا دار، قال: وطلعت من ورائه سحابة مثل التُّرس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً. قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة

المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائماً، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللَّهمَّ حوالينا ولا علينا، اللَّهمَّ على الآكام والظِّراب وبطون الأودية ومنابت الشَّجر" [قال:] فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس. لكن ما اقتضاه ظاهر كلام الشافعي الذي أورده الشيخ هنا وإن لم يذكره في "المهذب"، بل اقتصر على ذكر عجزه، وهو قوله: "اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً .. " إلى آخره، تبعاً للقاضي أبي الطيب- لا يعكر عليه الخبر، بل هو شاهد له؛ لأنه إذا جاز أن يدعى بذلك بعد نزول المطر فالدعاء به قبل نزوله؛ ليكون على وجه لا يحصل به ضررٌ أصلاً- أولى، والله أعلم. وقد استحب الأصحاب له أن يدعو مع ذلك بدعاء الأنبياء- صلى الله على نبينا وعليهم- لأنه أسرع للإجابة، وهكذا فعل عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- فإنه كتب إلى ميمون بن مهران قال: قد كتبت إلى البلدان أن يخرجوا إلى الاستسقاء إلى موضع كذا وكذا، وأمرتهم بالصدقة والصلاة، وأمرتهم أن يقولوا كما قال أبوهم آدم- عليه السلام-: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] ويقولوا كما قال نوح- عليه السلام-: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، ويقولوا كما قال يونس- عليه السلام-: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] ويقولوا كما قال موسى- عليه السلام-: {إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16]. وأن يقول لكل من حضر ذلك أن يخطر بباله ما جرى له في عمره من قربة فعلها خالصاً لله- عز وجل- ويسأل الله السقيا عندها؛ لما جاء في ذلك

من الحديث المعروف في الذين استدَّ عليهم الغار، فذكروا مثل ذلك؛ فنجاهم الله- تعالى- قاله القاضي الحسين مبسوطاً والإمام مختصراً، ونسبه إلى رواية الصيدلاني عن نص الشافعي في "الكبير"، ويستحب أن يقول سرّاً: اللهم أمرتنا بدعائك، وقد وعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا فأجبنا كما وعدتنا، اللهم فامنن علينا بمغفرة ما قارفنا، وإجابتك في سقيانا، وسعة رزقنا" نص عليه. ثم يدعو بعد ذلك بما شاء من أمر الدين والدنيا. قال: ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة الثانية، أي: ليدعو سرّاً وجهراً. قال الإمام: هكذا رواه عبد الله بن زيد الأنصاري صاحب الأذان وقد تقدم الحديث عن رواية مسلم في أول الباب. قال: ويحول رداءه من يمينه إلى شماله، ومن شماله إلى يمينه، ويجعل أعلاه أسفله، أي: إذا كان مربعاً؛ [لأنه إذا] كان مدوراً لا يمكن ثبوته على عاتقه لتدويره، والأصل في ذلك مع ما ذكرناه في أول الباب عن عبد الله بن

زيد: ما رواه أبو داود عنه أيضاً قال: "استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خميصةٌ سوداء، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه". فثبت عنه التحويل، ونبه على جعل الأعلى أسفل؛ لأنه تركه لعذر، ولأن في التحويل تفاؤلاً بالانتقال من حال إلى حال؛ لعل الله- تعالى- أن ينقلهم من حال القحط والجدب إلى حال السَّعة والخصب، وقد كان- عليه السلام- يحب الفأل. وقيل: المعنى في التحويل أن يوافق الظاهر الباطن في تغير الحال، قاله المتولي. قال: ويتركه- أي الرداء- محولاً إلى أن ينزعه مع ثيابه؛ لأنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم غيَّر رداءه بعد التحويل. قال: ويفعل الناس مثل ذلك؛ لمشاركتهم له في المعنى الذي لأجله شرع التحويل. وفي "المهذب" أن عبد الله بن زيد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حول رداءه حول الناس معه. وقد حكى المراوزة والعراقيون عن القديم أنه لا ينكس المربع أيضاً، والجديد- وهو الأصح-: الأول. وقال الإمام: إنا إذا قلنا به لزم من التنكيس والتحويل أن ينقلب الظاهر إلى الباطن والباطن إلى الظاهر؛ فيكون التغيير من ثلاثة أوجه، وإذا قلنا بالقديم كان من وجهين: أحدهما: انقلاب الظاهر إلى الباطن والباطن إلى الظاهر. والثاني: جعل ما كان على اليمين على اليسار، وما كان على اليسار على اليمين. قال الرافعي: وهذا لم يذكره الجمهور، وليس في لفظ الشافعي تعرض له،

والوجه حذفه؛ [و] لأن الأمور الثلاثة لا يمكن اجتماعها إلا بوضع ما كان منسدلاً على الرأس أو لفِّه عليه، ومعلوم أنَّ هذه الهيئة غير مأمور بها، وليست هي من الارتداء في شيء، وفيما عدا ذلك لا يجتمع من الأمور إلا اثنان: إما قلب اليمين إلى اليسار مع قلب الظاهر إلى الباطن، أو قلب اليمين إلى اليسار مع قلب الأعلى إلى الأسفل، فإن شككت فيه فجرِّبْهُ يزل الشك. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمرين: أحدهما: أنه مخير في تقديم الاستقبال على التحويل ونكسه؛ إذ الواو لا تقتضي ترتيباً، وإن قلت: إنها تقتضيه كان مقتضى ذلك: أنه يبدأ بالاستقبال ثم بالتحويل، وهو المذكور في "الوسيط"، لكن المذكور في "الحاوي" أن المستحب أنه إذا أراد الاستقبال حول الرداء ونكسه. الثاني: أنه بعد أن يستقبل القبلة لا يستدبرها ويستقبل الناس؛ إذ لو كان يفعل ذلك لنبّه عليه. والمنقول في "الحاوي" وغيره أن استقبال القبلة يكون في الدعاء، فإذا فرغ منه استقبل الناس، وأتى بباقي الخطبة ثم قال: استغفروا الله لي ولكم. قال: فإن لم يسقوا أعادوا ثانياً وثالثاً؛ طلباً لتحصيل المقصود، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يحبُّ الملحِّين في الدُّعاء"، وقال- عليه السلام-: "يستجاب لأحدكم

ما لم يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي" رواه البخاري. قال الشافعي: والدفعة الثانية والثالثة أقل استحباباً من الدفعة الأولى؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى واستسقى غير مرة. وعن ابن كج حكاية وجه عن بعض الأصحاب أنها لا تفعل إلا مرة واحدة؛ لما ذكرناه. والمذهب: الأول، والمراد بالعود: العود إلى الصلاة والخطبتين على النحو السابق. لكن هل يكون العود الثاني بعد صيام ثلاثة أيام في اليوم الرابع، أو يكون في غد اليوم الذي وقعت فيه الصلاة الأولى والخطبتان؟ فيه اختلاف نصٍّ حكاه أبو الطيب: الذي نقله المزني عنه: الثاني، وهو المحكي عن "الأم" و"البويطي" أيضاً. والذي قاله في القديم الأول. واختلف الأصحاب بعد ذلك: فقال أبو الحسين بن القطان: المسألة على قولين، وليس في الاستسقاء مسألة [فيها] قولان إلّا هذه.

وقال عامة أصحابنا: بل على قول واحد. وهو ما نقله المزني. والمذكور في القديم: الاستحباب، ويدل عليه قوله في "الأم": إن لم يسقوا عادوا للصلاة والاستسقاء، وأحبُّ أن يصوموا قبل ذلك، فإن لم يصوموا ووالوا بين الصلواتي وماً بعد يوم أجزأ. وعن الشيخ أبي حامد أنه نزل النصين على حالين فقال: الموضع الذي قال: يصومون ثلاثاً، إذا كانت الموالاة [تقطعهم، فيصومون ثلاثاً ويخرجون في الرابع. والموضع الذي قال: لا يصومون فيه، إذا كانت الموالاة] لا تقطعهم عن أشغالهم فيخرجون في اليوم الثاني صياماً. واقتصر الماوردي والقاضي الحسين على إيراد الجديد. وقال في "التتمة": أيّ الأمرين فعل جاز، وهذا يدل على استوائهما في نظره، والحكم في المرة الثالثة كالحكم في المرة [الأولى و] الثانية، والله أعلم. قال: وإن تأهبوا للصلاة، فسقوا قبل الصلاة- صلوا؛ وشكروا لله- تعالى- وسألوه الزيادة؛ لقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] وهذا ما نص عليه الشافعي في "الأم" كما حكاه المحاملي والماوردي وغيرهما، وقال: لو كان المطر وقت خروجهم صلَّوا في المسجد أو أخَّروه إلى انقطاعه. وحكى الغزالي تبعاً لإمامه: أنهم إن سقوا قبل الاستسقاء خرجوا للشكر والموعظة، وفي أداء الصلاة للشكر وجهان: أحدهما: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلى هذه الصلاة إلّا عند الحاجة. والثاني: نعم، كما ذكره الشيخ والأكثرون، ومنهم الشيخ أبو حامد، ووجهه، [ما] تقدم. والوجهان- كما قال- يجريان في أدائها للاستزادة من النعمة، وعني بذلك أنها هل تفعل لأجل استزادة النعمة في حال الخصب أم لا؟ وقد صرح بهما الإمام كذلك عن رواية الصيدلاني، والذي يقتضيه قول الشيخ: "إذا أجدبت الأرض ... " إلى آخره: أنه لا يصلي ولا يستسقي لاستزادة النعمة؛ لأنه جعل

الجدب ونحوه شرطاً في فعل ذلك، والشيء ينتفي بانتفاء شرطه. وعلى الوجهين ينبغي أن يتخرّج ما إذا نذر الاستسقاء في سنة الخصب: هل ينعقد نذره أم لا؟ فإن قلنا: إن ذلك لا يستحب- لم ينعقد نذره، وإن قلنا: إنه يستحب- انعقد ولزمه. ولو نذر الاستسقاء: فإن قلنا: إنّ نذر الاستسقاء يلزم الإتيان بالصلاة والخطبة- فالحكم كما تقدم، وإلا انعقد على الأصح. وقد أطلق القاضي الحسين القول بأنه هل يلزمه ذلك أم لا؟ يحتمل وجهين، وصرح بهما الإمام والمتولي. قال: ويستحب الاستسقاء خلف الصلوات بالدعاء، أي: خاصة؛ لأنه في تلك الحالة أرجى للإجابة، وكذا يستحب في خطبة الجمعة كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما ذكرناه من المعنى. وهذا هو النوع الثاني من أنواع الاستسقاء، وقد بقي منها نوع ثالث لم يذكره الشيخ، وهو الاستسقاء بالدعاء بغير صلاة ولا خلف صلاة ولا في خطبة الجمعة ونحو ذلك، سواء في ذلك حالة الاجتماع وحالة الانفراد، وهو أدنى أنواعه، وأكمله ما ذكره الشيخ أولاً، وأوسطه الوسط، وقد ادعى الرافعي أن كل ذلك وردت به الأخبار، واستدل القاضي أبو الطيب للأخير- مع أنه مجمع عليه- بأن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فعل ذلك حين استسقى بالعباس، رضي الله عنه. قال: ويستحب لأهل الخصب أن يدعوا لأهل الجدب؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وقد أثنى الله- تعالى- على قوم دعوا لإخوانهم فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10]، والقاعدة المستقرة في الشريعة: أن الله- تعالى- إذا مدح شيئاً فقد طلب منا فعله، وإذا ذم شيئاً فقد طلب منا تركه، وأقل درجات الطلب: الندب، ولأن المسلم إذا دعا لأخيه بظهر الغيب قال له الملك: ولك مثله. والخصب- بكسر الخاء-: ضد الجدب، والجدب- بفتح الجيم وإسكان

الدال المهمة، كما تقدم-: القحط. قال الأزهري: الأرض الجدبة: التي لم تمطر، والخصبة: الممطرة التي أمرعت. وقد تقدم ما ينازع فيه. وقد أفهم كلام الشيخ أنه لا يستسقى لهم على النعت المذكور في أوّل الباب، وقال الإمام: إن الشافعي قال: إذا بلغنا أن طائفة من المسلمين في جدب، فحسن أن نخرج ونستسقي لهم، وإن لم نبل بما بلوا؛ فإن المسلمين كنفس واحدة. [نعم]، لو نذر الاستسقاء لهم، وهو في محل الخصب: فهل يلزمه الوفاء به؟ فيه وجهان. قال: ويستحب أن يقف في أول المطر ليصيبه؛ لما روى البخاري عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل على منبره حتى رأينا المطر يتحادر على لحيته، وروى مسلم عنه قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، قال: فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله، لم صنعت هذا؟ قال: "لأنَّه حديث [عهدٍ] بربِّه عزَّ وجلَّ"، وكان ابن عباس إذا مطرت السماء قال لغلامه: أخرج فراشي ورحلي يصيبه المطر، قال الله- تعالى-: {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48]. ويستحب أن يقول حين نزوله: "اللَّهمَّ صيِّباً نافعاً"، كما رواه البخاري، وفي

رواية ابن ماجه: "سيباً نافعاً" مرتين أو ثلاثاً، قاله في "الروضة"، ويستحب الجمع بينهما، ويستحب أن يدعو حال وقوع المطر؛ فإنه حالُ توقع الإجابة؛ قال- عليه السلام-: "توقَّعوا الإجابة عند التقاء الجيوش، وإقامة الصَّلاة، ونزول الغيث". قال: وأن يغتسل في الوادي إذا سال؛ لما روي أنه جرى الوادي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرجوا بنا إلى هذا الماء الَّذي سمَّاه الله طهوراً فنتطهَّر به" رواه الشافعي بإسناده.

والوادي: اسم للحفرة، وقيل: للماء، والأوّل هو المشهور، وحينئذ يكون قولهم: "سال الوادي" أي: سال ماؤه. وإذا زادت الأمطار وخشي منها انهدام البيوت ونحو ذلك، فيتسحب أن يدعو بما قدمه الشيخ من الدعاء كما نبهنا عليه، صرَّح به الأصحاب، ولا يشرع لذلك صلاة، نص عليه الشافعي، وتبعه الأصحاب، كما قال في "الروضة". قال: ويسبّح للرعد والبرق، أي: يسبح الله- تعالى- عند رؤيتهما، فيقول: سبحان من يسبِّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، وروى أبو داود عن عبيد الله بن أبي جعفر أن قوماً سمعوا الرعد، فكبروا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم الرَّعد فسبِّحوا ولا تكبِّروا" وهو مرسل. وروي عن ابن عباس أنه قال: كنا مع عمر في سفر، فأصابنا رعد وبرق، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته- ثلاثاً- عوفي من ذلك الرعد، فقلنا؛ فعوفينا. وقال البندنيجي: يستحب إذا رأي ذلك أن يقول: سبحان من يسبّح له. وفي "الحاوي": أنّ السلف كانوا يكرهون الإشارة إلى الرعد والبرق، ويقولون عند رؤيته: لا إله إلا الله وحده، سبُّوح قدُّوس، فيختار الاقتداء بهم في ذلك. وفي "تعليق" البندنيجي أن الشافعي قال: لم أزل أسمع عدداً من العرب يكره

الإشارة إليه وإلى البرق، وشاهده: ما رواه أبو داود مرسلاً عن أبي حسين أنه- عليه السلام- نهى أن يشار إلى المطر. وإذا رأى البرق ينبغي أني فزع منه، وكذلك الرعد؛ فإنه- عليه السلام- كان إذا رعدت السماء أو برقت، عرف ذلك في وجهه، فإذا أمطرت سرِّي عنه. وهذا الفزع وما يتعلق به كان اللائق ذكره في باب صلاة الكسوف، والشيخ اتبع في ذكره هنا الأصحاب. والرعد ملك والبرق أجنحته، حكاه الشافعي عن مجاهد، وعن عكرمة مثله. قال الشافعي: وما أشبه قول مجاهد بالآية! [و] في "تعليق" البندنيجي أنه- عليه السلام- قال: "بعث الله السَّحاب فنطقت أحسن المنطق، وضحكت أحسن الضَّحك، فالرَّعد نطقها، والبرق ضحكها". وقيل: إن الرعد ملك موكل بالسحاب، صوته تسبيحه، يزجي السحاب، ويؤلف بعضه إلى بعض، ويسوقه بتسبيحه إلى الأرض التي أمر الله- تعالى- أن تمطر فيها، قاله مقاتل. وقيل: هو ملك يصوت للسحاب كالحادي للإبل. وقيل في البرق: إنه سوط من نور يُزْجَي به السحاب، والله أعلم.

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء الخامس كتاب الجنائز- كتاب الزكاة

كتاب الجنائز

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الجنائز "الجنائز"-[بفتح الجيم]-: جمع "الجنازة"، [بكسر الجيم وفتحها، وقيل:] بكسر الجيم: ما يحمل عليها الميت، وبفتح الجيم: نفس الميت، وقيل عكسه، حكاه صاحب "المطالع". قال القاضي الحسين: وقيل: هي بالفتح والكسر اسم شيء واحد وهو السرير. والصحيح الأول؛ لأنه يقال: جنز الرجل، إذا مات. وقال البندنيجي: إن الأزهري قال: الجنازة بكسر الجيم، ولا تسمى جنازة حتى يشد الميت مكفناً عليها، ويقال: جنز الميت، يجنز: إذا هيئ أمره وجهز وشد على السرير، وأصل التجنيز: تهيئة الشيء وجمع بعضه إلى بعض. باب ما يفعل بالميت هذا الباب يشتمل على ما يفعل بالميت، وعلى ما يفعل قبل الموت، وإنما اقتصر الشيخ في الترجمة على ذكر الأول؛ لأن المزني لم يذكر غيره وهو المتبع في التصنيف، والذي يفعل قبل الموت حكاه البويطي عن الشافعي كما قال أبو الطيب وغيره، فأراد [ألا يخلي] كتابه عنه، وهو مقدم في الوجود؛ فلذلك جعله كالمقدمة للباب. قال: يستحب لكل أحد أن يكثر [من] ذكر الموت؛ لقوله- عليه السلام-: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات- أي: الموت- فإنه لا يذكر في كثير إلا قلله، ولا يذكر

في قليل إلا كثره". أخرجه النسائي، وأراد: أن المكثر من الدنيا إذا ذكر الموت قل عنده ما بسط له من الدنيا؛ لأنه يفارقه، وإذا ذكره المضيق عليه هان عليه عيشه وكثر عنده ما أوتيه؛ لأن فيه بلاغاً له، ولأن كثرة ذكر الموت أزجر له عن المعاصي وأحض له على فعل الخيرات، ولهذا روي عن عمر بن الخطاب أنه نقش على خاتمه: كفى بالموت [واعظاً] يا عمر. قال القاضي الحسين: واستحباب الإكثار من ذكر الموت للمريض أشد استحباباً،

وبالجملة فالاستعداد للموت بالخروج من المظالم المتعلقة بالأموال والأعراض، وتحصيل الأجور بالأقوال والأفعال- مطلوب؛ لقوله- عليه السلام- وقد اطلع على قوم يحفرون قبراً: "إخواني لمثل هذا فليعمل العاملون". وينبغي أن يكون الشخص في حال صحته بين الخوف والرجاء؛ فلا يغلب خوفه فيؤدي به إلى اليأس، ولا يغلب رجاؤه فيصير كالآمن، ولكن يكونان على السواء. قال المتولي: وقيل: يجب أن يكون الأغلب عليه الخوف، وهو الأصح في تعليق القاضي الحسين. والموت: مفارقة الروح الجسد. قال: وأن يعود المريض؛ لما روى مسلم عن البراء بن عازب قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع، ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة"، وقال- عليه السلام-: "عائد المريض في مخرف من مخارف الجنة إلى أن يعود" وروى أبو داود عن زيد بن أرقم قال: "عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رمد أصابني".

قال القاضي أبو الطيب: وهذا يدل على أن العيادة من الرمد تستحب، خلاف ما يقوله العامة. قال في "الحاوي": ويستحب أن يعم بعيادته جميع المرضى، ولا يخص بها قريباً من بعيد، ولا صديقاً من عدو، ويحوز ثوابهم جميعاً، وعلى هذا يكون الألف واللام في "المريض" للاستغراق لا للعهد. لكن ابن الصباغ شرط في عيادة [المريض] أن يكون مسلماً، وفيه نظر؛ لأنه- عليه السلام- عاد غلاماً يهودياً. وقال الشاشي: الصواب عندي أن يقال: عيادة الكفار في الجملة جائزة، والقربة فيها موقوفة على نوع حرمة تقترن بها قرابة أو جوار، ولم يورد الرافعي غير ذلك فإنه قال: وإن كان ذمياً جازت عيادته، ولا يستحب إلا لقرابة أو جوار أو نحوهما. ويستحب أن تكون العيادة غِبّاً ولا يواصلها في جميع الأيام؛ لقوله- عليه السلام- "أَغِبُّوا عيادة المريض وأَرْبِعُوا".

قال: فإن رجاه دعا له، أي: بالعافية؛ لما روى أبو داود أنه- عليه السلام- قال: "من عاد مريضاً لم يحضره أجله، فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم أن يشفيك الله إلا عافاه الله من ذلك المرض"، وروي أنه- عليه السلام- كان إذا دخل على مريض قال: "أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت، اشف شفاءً لا يغادر سقماً". قال: وانصرف، أي: لا يطيل المكث عنده؛ كي لا يضجره. قال: وإن خاف أن يموت أي: بأن رأى فيه علامات الموت رغبه في التوبة

والوصية، أي: حثه عليها؛ لأنه وقت ذلك. ويحثه على الخروج من المظالم؛ لأنها شرط التوبة، ويكون ذلك بالرفق والكلام الطيب. ثم يعجل الانصراف أيضاً، ويكره أن يكره المريض على تناول الدواء، قاله في "الروضة". قال: وإن رآه منزولاً به، أي: نزل به الموت وحضرت مقدماته- وجهه إلى القبلة؛ لأنها خير الجهات. ثم في كيفية توجيهه وجهان، حكاهما الماوردي والقاضي الحسين وغيرهما: أحدهما: أنه يلقى على ظهره وتكون رجلاه إلى القبلة كما يوضع في المغتسل، وهو ما قال الإمام: إن شيخه كان يقطع به، ولم يورد في "الوجيز" غيره، وإيراد "الوسيط" يقتضي ترجيحه، وكذلك قال الجيلي: إنه الأصح. والثاني: أنه يضجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه: لأن [إضجاع] النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كذلك، ولأنه كذلك يضجع في قبره؛ فكذلك عند موته، ولأنه أبلغ في الاستقبال، وقد قال- عليه السلام- "إذا نام أحدكم فليتوسد يمينه"، وهذا ما حكاه الإمام عن العراقيين وقال: لست أثق به؛ فإن عمل الناس على خلافه، وإن كان منقاساً في رعاية استقبال القبلة، ولم يورد البندنيجي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمصنف غيره، وقال الرافعي: إنه الراجح عند الأكثرين، وحكوه عن النص.

نعم، إن كان في موضع ضيق لا يمكن وضعه فيه على جنبه، أو به علة تمنع من ذلك- فحينئذ يجعل على قفاه وقدماه إلى القبلة. قال البندنيجي: ويوضع تحت رأسه شيء مرتفع؛ ليتوجه وجهه إلى القبلة. قال: ولقنه قول "لا إله إلا الله"؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -::"لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله"، وروى أبو داود عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله- دخل الجنة". قال القاضي الحسين: فلو قال ذلك، ثم غشي عليه سنة عقيب قوله ذلك، ثم مات دخل الجنة. وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنه يلقن أيضاً: محمد رسول الله، وهو ما حكاه القاضي أبو الطيب والماوردي وسليم الرازي ونصر المقدسي والجرجاني والشاشي في "المعتمد". وقال في "الروضة": والأصح: الأول، وهو الذي قاله الجمهور. ويستحب أن يكون ذلك برفق من غير عنف ولا إضجار. قال في "التتمة"- تبعاً للقاضي الحسين وغيره-: ولا يستحب أن يقول له: قل: لا إله إلا الله، ويلح عليه؛ كي لا يضيق صدره فيثقل عليه، ولكن يقول ذلك بحضوره. قال الرافعي وغيره: فإذا قال ذلك مرة لا يكرره عليه ما لم يتكلم. وقال البندنيجي: إنه يستحب أن يقول ذلك ثلاث [مرات] فإذا قالها لم يكلم

بعدها؛ لتكون آخر كلامه، فإن تكلم بعدها بشيء أعيد التلقين؛ ليكون آخر كلامه التوحيد. وقد أفهم كلام الشيخ أن العائد يوجهه إلى القبلة، ويلقنه قريباً كان أو غير قريب، والمذكور في "الحاوي": إذ قارب أن يقضي حضره أقوى أهله نفساً وأثبتهم عقلاً، ولقنه الشهادتين من غير عنف ولا إضجار، ثم يوجهه إلى القبلة. وقال في "التتمة" وغيره: يستحب أن يكون الملقن له غير وارث؛ حتى لا يسبق إلى فهمه أنه يستعجل موته فيغتاظ من ذلك فيجحد، فإن لم يكن عنده إلا الورثة فالأولى أن يلقنه أبرهم به وأحبهم إليه. قال الجيلي: ويستحب أن يصب في حلقه ماء قليلاً، وأن يقرأ عنده سورة الرعد، كما قاله البندنيجي وصاحب "البيان"؛ لأنه قيل: إنه أسرع لخروج روحه، وابن الصباغ وغيره حكوا ذلك عن بعض التابعين. وهذا مما يستحب لعائد المريض أن يفعله، فأما ما يستحب للمريض أن يفعله فقد قلنا: إنه يستحب له الإكثار من ذكر الموت، ويستحب له الصبر على ما نزل به، والتداوي من المرض كما قاله القاضي أبو الطيب وغيره، وأن يحسن ظنه بالله، ويكون رجاؤه أغلب من خوفه لظهور العجز، ويكره له الأنين وأن يتمنى الموت ويدعو به لضر نزل به. قال: فإذا مات استحب لأرفقهم به أن يغمض عينيه؛ لما روى مسلم عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال: "إن الروح إذا قبض تبعه البصر"، ولأن ذلك أحسن في كرامته؛ فإنه لو ترك مفتوحاً لقبح منظره. قال: ويشد لحييه؛ كي لا يقبح منظره بفتح فيه، ويدخل فيه الهوام، ويكون الشد بعصابة عريضة أو عمامة تربط فوق رأسه. قال: ويلين مفاصله؛ كي لا تيبس فيقبح ولا تبقى لينة على غاسله، فيرد ذراعه

إلى عضده ثم يمدها، ويرد أصابع يده إلى كفه ثم يمدها، ويرد فخذيه إلى بطنه وساقيه إلى فخذيه ثم يمدهما. قال: ويخلع ثيابه أي [التي مات فيها] لأنه ربما حمي بها فتغير، وقد روي عن الشافعي أنه قال: سمعت أهل الخبرة يقولون: إن الثياب تحمي عليه فيسرع إليه الفساد، وأيضاً فقد تخرج منه نجاسة تلاقيها. قال: ويسجيه- أي: يغطيه- بثوب، أي: ساتر لجميع بدنه؛ لما روى مسلم عن عائشة قالت: "سجِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثوب حبرةٍ". قال البندنيجي وغيره: ويوضع تحت رأسه ورجليه وجوانبه منه شيء؛ كي لا ينكشف عنه إن هبت ريح، ويستحب بعد ذلك أن يوضع على سرير [أو شيء] مرتفع من لوح أو غيره. قال البندنيجي: بحيث لا يكون بين جلده وبينه شيء؛ لئلا يسرع إليه الفساد من عفونة الأرض، فإن كانت صلبة جاز، وإليه أشار الماوردي بقوله: "يوضع على نشز من الأرض أو شيء مرتفع"، ولأنه يبعده من الهوام. قال: ويجعل على بطنه حديداً أي: من سيف أو غيره، كما قاله أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما أو طيناً رطباً؛ لئلا يربو فينتفخ بطنه فيقبح منظره. وقد أمر بوضع الحديدة أنس حين مات مولاه، وروى أبو بكر بن المنذر أن ذلك من السنة، والطين الرطب في معناه، ولا يتعين شيء من ذلك، بل يجوز بكل ما يحصل المقصود، وقد حكى في "الذخائر" عن بعض أصحابنا أنه قدر زنة الموضوع بعشرين درهماً. ولا يجعل على بطنه مصحفاً؛ إكراماً له. نعم، يستحب أن يقرأ عنده سورة يس؛ لقوله- عليه السلام-: "اقرءوا يس على موتاكم" أخرجه أبو داود.

قال القاضي الحسين: وقيل: تقرأ عند القبر، والأول أصح. قال: ويسارع إلى قضاء دينه، أي: إن كان في التركة جنسه، والتوصل إلى [إبراء ذمته]، أي: بأن يحيل بها الولي على نفسه إن لم يكن في التركة جنسه، وسأله أن يبرئه منه كما قال البندنيجي، وعبارة القاضي أبي الطيب: أنه يتوصل إلى أن يحيل غرماء الميت، على من للميت عليه دين، ووجهه قوله- عليه السلام-: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه" أخرجه الترمذي، ومعنى معلقة، أي: مرتهنة، فيحرم روح الجنة والأمن في البرزخ حتى يترك الفضل من الدين. وكان- عليه السلام- يمتنع في ابتداء الإسلام من الصلاة على من عليه دين لم يترك وفاء به، حتى أفاء الله على رسوله فكان يقضيه. [قال الإمام].

قال: وتفرقة وصيته؛ لكي تتعجل له منفعتها. قال: ويبادر إلى تجهيزه، أي: إذا استبان موته بالعلامات؛ لقوله- عليه السلام-: "ثلاث لا تؤخر: الصلاة، والجنازة، والأيم إذا وجدت كفئاً" أخرج الترمذي معناه، وقال: إنه غريب. والعلامات: أن تسترخي قدماه فلا تنتصبان، وأن يتعوج أنفه، وينفرج عظما زنده، وينخسف صدغاه، وتمتد جلدة الولد، وهي جلدة الخصية، كما قال القاضي الحسين؛ لأن الخسية تتعلق بالموت وتتدلى جلدتها، فإذا وجد ذلك مع تقدم المرض استبان الموت. قال: إلا أن يكون قد مات فجأة، أي بغتة من غير علة؛ فيترك ليتيقن موته، ومدة الترك يومان أو ثلاثة، كما أشار إليه الشافعي، وكذا يترك حتى يتحقق موته إذا كان قد أصابه فزع وخوف من عدو أو حريق أو ضرب شديد أو عذب؛ خوفاً من أن يكون [قد] غشي عليه ولم يمت، والله أعلم.

باب غسل الميت

باب غسل الميت وغسل الميت فرض على الكفاية، أي: على من علم بحاله من المسلمين؛ للإجماع، وقد روي أنه- عليه السلام- قال: "فرض على أمتي غسل موتاها، والصلاة عليها ودفنها" وقال- عليه السلام-[كما] رواه الشافعي مسنداً في المحرم الذي وقص به بعيره فاندقت عنقه-: "اغسلوه بماء وسدر" فخاطب الجميع به، وإذا فعله البعض لم يبق ما فعله الباقون؛ وهذا شأن فروض الكفايات، وإذا تركه من علم به أثموا جميعاً؛ لمخالفة الأمر، لكن هل يكون مأثم أقاربه الذين هم أولى بغسله من غيرهم أغلظ أم لا؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي في كتاب السير حيث قال: فرض غسله يكون أولياؤه فيه أسوة غيرهم أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أن جميع المسلمين فيه أسوة؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] فعلى هذا لا يجوز لمن علم بحاله من الأقارب أو الأجانب أن يمسكوا عنه حتى يقوم به أحدهم فيسقط فرضه عن جميعهم. والثاني: أنهم أحق به من غيرهم، وإن لم يتعين فرضه عليهم فمأثم تركه منهم أغلظ؛ لقوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] فعلى هذا يجوز للأجانب أن يفوضوا أمره إلى الأقارب، فإن أمسك عن فرضه الأقارب شاركهم في فرضه الأجانب. ولو اجتمع أصناف من الأقارب فامتنعوا من الغسل، قال الإمام: فالوجه أن يقال: يختص بالحرج من يرى تقديمه عند فرض الزحمة، ثم لا يسقط الحرج عن غيره، بل لو عطله الأدنون والأقربون تعين على الأجانب القيام بذلك؛ فإنه فرض كفاية في حق الناس عامة، ولو لم يعلم بحال الميت إلا واحد- تعين فرضه عليه. ثم إن لم يكن ثم غيره تعين عليه القيام به، وإن كان ثم غيره فيكون فيما تعين عليه من فرضه بين خيارين: إما أن ينفرد بمواراته، أو يخبر به من يقوم بمواراته فيسقط فرض التعيين

ويبقى فرض الكفاية على المخبر حتى يواريه أحدهما. قال الماوردي في كتاب السير: فتصير هذه المواراة من فروض الكفاية في العموم، ومن فروض الأعيان في الخصوص، قال: وحكم التكفين والصلاة والدفن كما ذكرنا. قال: والأولى أن يتولاه- أي: إذا كان [الميت] رجلاً- أبوه، ثم جده- أي: أبو أبيه- ثم ابنه، ثم عصباته، ثم الرجال الأقارب؛ لأنهم أشفق عليه وأستر لما يطلعون عليه من عورة. وقدم الأب- وإن علا على الابن- لكمال شفقته ورحمته، ولذلك قدم الابن وإن سفل على باقي العصبات، وقدمت العصبات على غيرهم من الأقارب، وهل يقدم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب، والعم الشقيق على العم لأب؟ فيه طريقان: أحدهما: القطع بالتقديم، وهو ما يقتضيه إيراد الشيخ. والثاني: حكاية قولين فيه كما في ولاية النكاح، ويجريان في ابني عم أحدهما أخ لأم. قال: ثم الرجال الأجانب؛ لأنهم أحق بتولي ذلك من النساء، وهذا إذا لم يكن له معتق فإن كان فهو مقدم عليهم؛ لأن الولاء لحمة كلحمة النسب. قال: ثم الزوجة. هذا ينظم حكمين: أحدهما: أن للزوجة تغسيل زوجها وإن انقطعت الزوجية بالموت، وهو مما لا خلاف فيه؛ لأن أبا بكر- رضي الله عنه- أوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس ففعلت، ولا مخالف من الصحابة فكان إجماعاً. والثاني: أنها مقدمة على النساء الأقارب وهو ما سيق الفصل لأجله، ووجهه:

أنها أوسع فيما تنظر إليه منهن. قال: ثم النساء الأقارب، أي: المحارم [له]؛ لإباحة نظرهن له مع الحاجة إليهن، أما غير المحارم فهن كالنساء الأجانب، وسيأتي حكمهن. ثم هذا الفصل سيق لبيان جواز غسل نساء الأقارب له بعد من ذكر، لا لأنهن مقدمات على غيرهن؛ إذ لا أحد بعدهن يكون له التغسيل، وقد حكي الإمام عن رواية شيخه والأئمة عن أبي إسحاق المروزي أنه كان يقول: ليس للزوجة رتبة التقدم على أحد، وإنما لها جواز الغسل فحسب، فأما أن تقدم فلا، وقال: إنه ليس بشيء. فإذا قلنا به كانت النساء الأقارب مقدمات عليها، ويجوز أن يكون الشيخ أراد بما ذكره الاحتراز عن ذلك، وعكس هذا الوجه وجه مشهور في المذهب: أن الزوجة مقدمة على الأب وغيره؛ لقول عائشة: لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نساؤه. قال القاضي الحسين: وإنما قالت ذلك؛ لأنها تمنت أن أباها يتولى غسله، فلما تولى ذلك علي والعباس والفضل وأسامة- رضي الله عنهم- قالت هذه المقالة. قلت: ويجوز أن تكون قالت ذلك حين علمت أن للزوجة أن تغسل زوجها؛ لقيام الإجماع عليه. وقد يستدل لهذا الوجه أيضاً بوصية أبي بكر؛ فإن العاصب لو استحق التقديم لم يحرمه بالوصية كما لا يتقدم من أوصى إليه شخص على ولده على أبيه عند وجوده، وقد ادعى البندنيجي أن هذا الوجه هو المذهب. وفي "الروضة" حكاية وجه آخر: أن المقدم الرجال الأقارب ثم الزوجة ثم الرجال الأجانب ثم النساء المحارم، وصحح ما ذكره الشيخ، وهو ظاهر النص في "المختصر"؛ فإنه قال: أولاهم بغسله أولاهم بالصلاة عليه، ولم يحك الماوردي غيره. ثم حيث تغسله فإلى متى؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها القاضي الحسين وغيره:

أصحها: أبداً. والثاني: إلى أن تنقضي عدتها، وإنما يتصور بوضع الحمل. والثالث: إلى أن تتزوج. والأول أخرجه القاضي من وجه أبداه في أن للأمة أن تغسل سيدها، وإن كانت قد انتقلت لغيره كما سنذكره. ثم هذا إذا مات وهي في العصمة المحققة، فلو مات وهي في عدة من طلاق رجعي، فالمحي عن نصه في "الجامع الكبير" أنها لا تغسله؛ لأن نظرها إليه في حال الحياة كنظر الأجنبية فكانت كهي بعد الموت، وفي "شرح" ابن التلمساني وجه لم أره في غيره: أن لها أن تغسله؛ لجريان التوارث بينهما وهل تلحق أم الولد بالزوجة في جواز [غسلها السيد] فيه وجهان: أصحهما- عند القاضي أبي الطيب-: الإلحاق. والذي أورده الأكثرون- كما قال الرافعي-: مقابله، وهو المختار في "المرشد" و"الروضة"، والفرق: أن الزوجة في عدته، وهي من بقايا أحكام النكاح، ولا عدة لأم الولد. وألحق القاضي الحسين بأم الولد المدبرة إذا عتقت، وقال في الأمة: إنها لا تغسل سيدها؛ لأنها صارت بموته ملكاً لغيره، قال: ويحتمل أن يجوز؛ ولأجل ذلك حكى الإمام فيها وجهين، وقال: لعل الأصح المنع؛ لأن الملك عنها انتقل على التحقيق إلى الورثة، ولم يكن [الملك] فيها مقصوراً في الحياة.

والمكاتبة لا تغسل سيدها؛ لأنها كانت محرمة عليه في الحياة كالأجنبية، ولا يجيء فيها الوجه المذكور في الرجعية؛ إذ لا توارث بينهما. قال: وإن كانت امرأة غسلها النساء الأقارب، أي: محارم كن لها كبناتها وأمهاتها وخالاتها، وكل امرأة لو كانت رجلاً لم يحل له نكاحها بسبب القرابة، أو غير محرم كبنات عماتها وبنات خالاتها، وكل امرأة لو كانت رجلاً يحل له نكاحها؛ لأنهن أشفق من غيرهن. قال: ثم النساء الأجانب؛ لأنهن أوسع في النظر إليها من الرجال. قال: ثم الزوج: هذا الكلام يقتضي أمرين: أحدهما: جواز تغسيل الزوج زوجته، وهو مما لا خلاف فيه عندنا إذا لم يكن قد تزوج بأختها أو أربع سواها؛ لأن علياً- كرم الله وجهه- غسل فاطمة مع أسماء بنت عميس، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فكان إجماعاً، وما ورد من أن ابن مسعود أنكر عليه ذلك- لا يعرف، ولا نقله أحد من نقلة الحديث، ولأنهما زوجان يمسك كل واحد منهما بذمام صاحبه إلى أن فرق الموت بينهما؛ فجاز للباقي منهما أن يغسل صاحبه، كالزوج إذا مات وبقيت الزوجة فإن لها أن تغسله بالإجماع. أما إذا تزوج بأختها أو أربع سواها فهل يجوز له تغسيلها؟ فيه وجهان، أصحهما: أن له ذلك أيضاً. الأمر الثاني: أنه يتقدم على رجال الأقارب، ووجهه: أنه يطلع على ما لا يطلع عليه غيره منهم؛ فكان أولى. قال: ثم الرجال الأقارب. هذا الفصل سيق لبيان أن للرجال الأقارب تغسيلها بعد من ذكر، لا لأنهم يقدمون على غيرهم؛ إذ لا أحد يقدمون عليه، ووجه جواز تغسيلهم لها: أنهم أشفق عليها ويطلعون على ما لا يجوز للغير الاطلاع عليه، وهذه الطريقة لم يورد الماوردي في موضع من "الحاوي" غيرها، وهي التي حكاها الإمام عن شيخه وغيره من أصحاب القفال، ولا جرم، قال في "الوسيط": إنها طريقة المراوزة؛ لأن المراوزة هم أصحاب القفال المروزي، وحكى وراءها وجهين عن العراقيين، وهما مذكوران في "المهذب" وغيره من كتبهم: أحدهما: أن الزوج يقدم على نساء الأقارب؛ لقوله- عليه السلام- لعائشة،

[وقد رآها] شاكية من رأسها: "لا عليك، إن مت قبلي غسلتك وصليت عليك ودفنتك واستغفرت لك"، وادعى البندنيجي أن هذا هو المذهب، وقال القاضي الحسين: إن الذي نص عليه الشافعي أن نساء القرابة أولى منه. والثاني: أن النساء مقدمات على الترتيب السابق، ثم الرجال الأقارب، ثم الزوج؛ لأن النكاح ينتهي بالموت، والقرابة تدوم، وهكذا قد حكاه الماوردي في موضع آخر من "الحاوي"، وبه يحصل في المسألة ثلاثة أوجه، ليس في واحد منها تقديم الرجال من الأقارب على النساء؛ ولذلك قال ابن الصباغ: لا يختلف المذهب أن النساء مقدمات على الأقرباء من الرجال، وقال الرافعي: إن سياق كلام الغزالي في "الوجيز" يقتضي تجويز الغسل للرجال المحارم مع وجود النساء، ولم أر لعامة الأصحاب تصريحاً بذلك. فإن قلت: هل يمكن تنزيل ما قاله الشيخ هنا على أحد الوجهين المحكيين في "المهذب" وغيره؟ قلت: نعم، فإن الإمام قال: إن محل الكلام السابق في بيان الطرق في ترتيب من يغسل إذا كان يفرض [أن] ازدحامهم وتنافسهم في الغسل، وإذا كان كذلك، وفرضنا اجتماع النساء الأقارب والنساء الأجانب والزوج والرجال الأقارب، فالرجال الأقارب يسقطون بالنساء، كما قاله البندنيجي. قال: ويبقى النساء والزوج، وفيهم الوجهان: أحدهما: أنه يقدم عليهن. والثاني: يقدمن عليه. قلت: وعلى هذا صح ما ذكره الشيخ بهذا التقرير، وإليه يرشد كلام ابن الصباغ أيضاً، والله أعلم. قال: وذوو المحارم- أي: من الرجال في تغسيل الرجال، ومن النساء في تغسيل النساء- أحق من غيرهم، أي: من الذين لهم قرابة ولا محرمية بينهم؛

فابن العم الذي هو أخ لأم يقدم على ابن العم الذي ليس بأخ كما تقدم، والخالة تقدم على بنت العم، وبه صرح البندنيجي وغيره؛ لأنهم أكثر اطلاعاً وأوسع نظراً من القريب الذي ليس بمحرم، وزاد القاضي الحسين فقال: إن الخال أولى من ابن العم في غسل الرجل. ولم يحك غيره، ولا يفهم أن مراد الشيخ بقوله: "وذوو المحارم أحق من غيرهم"- أن ذوي المحارم من الرجال أحق من غيرهم في تغسيل الميت إذا كان امرأة؛ لأن القريب الذي ليس بمحرم كالأجنبي سواء في المنع من التغسيل، صرح به البندنيجي وغيره، وإذا كان كذلك تعين ما قلناه. فإن قلت: في كلام أبي الطيب ما ينازع في ذلك؛ لأنه قال: إذا قلنا بتقديم نساء الأقارب على الزوج قدمنا المحارم ثم غير المحارم ثم الأجنبيات ثم أولى الأقارب بالصلاة، فإن لم يكن فالزوج، وابن العم مقدم في الصلاة على الخال. فكلامه يقتضي أنه يقدم هنا أيضاً، وهو خلاف ما ذكرتم. قلت: كلام أبي الطيب محمول على من يقدم في الصلاة من المحارم كالأب ونحوه؛ ألا ترى إلى قوله: لو ماتت امرأة بين رجال لا محرم لها منهم هل تيمم أو تغسل؟ فيه ما سنذكره فيما إذا ماتت امرأة وليس هناك إلا رجل أجنبي. فعامل غير المحرم معاملة الأجنبي، والله أعلم. وللسيد تغسيل مكاتبته وأم ولده ومدبرته وأمته بلا خلاف إذا لم يكن محرمات عليه حين الموت [بسبب نكاح] أو غيره. ثم اعلم أن قول الشيخ: "وإن كانت امرأة .. " إلى آخره، يحتمل أن يكون مراده بذلك بيان من هو الأولى بغسلها والمقدم فيه على غيره، كما بينه فيما إذا كان الميت رجلاً، وهو ما حكاه الإمام عن الأصحاب حيث قال: لو سلم من قدمناه في الغسل ذلك إلى غيره [و] لم يؤخره فله أن يتعاطى الغسل كالزوج إذا سلم الغسل لرجال القرابة، ونحن نرى تقديم الزوج. ويحتمل أن يكون مراد الشيخ أن ذلك على وجه التعين، وهو ما أبداه الإمام احتمالاً لنفسه حيث قال: يجوز أن يقال: من يقدم عند الزحمة فحق عليه أن يتعاطى الغسل؛ فإنه بحق واختصاص قدم. وحكى عن شيخه أنه كان يقول: ما

ذكره الأصحاب يجري في الرجال بعضهم مع بعض، فأما النساء فيجب تقديمهن على جنس الرجال إذا وجدن، وإنما يغسل الرجل المرأة إذا فقدنا النساء. قال: وإن مات رجل وليس هناك إلا امرأة أجنبية، أو ماتت امرأة وليس هناك إلا رجل أجنبي- يُمِّما؛ لما في الغسل من النظر إلى المحرم، هكذا ذكره الأصحاب، وأعرضوا عن رواية أبي داود عن مكحول قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس معهم امرأة غيرها، أو الرجل مع النساء ليس معهن رجل غيره- فإنهما ييممان ويدفنان، وهما بمنزلة من لم يجد الماء"؛ لأنه مرسل، لكن بعضهم نظم من المشبه به فيه قياساً، فقال: يمم عند فقد الغاسل كما عند فقد الماء، وهذا ما ادعى البندنيجي أنه عليه أكثر الأصحاب، وكذا الماوردي، وفي المسألة وجه آخر أنه يغسل مع حائل من ثوب ويلف الغاسل على يده خرقة، فإن لم يكن يمم الميت. والأولى إذا غسل أن يكون في موضع مظلم، وهذا الوجه رجحه الإمام وحكاه [عن] القفال، ولم يورد القاضي الحسين فيما إذا كان الميت امرأة غيره، وقال الماوردي: إنه أصح عندي. وأيده بأن الشافعي نص على أنه إذا مات رجل وليس هناك إلا نساء أجانب أنهن يغسلنه ولا يجوز أن ييمم. وفي "البيان" أن الأوزاعي قال في مسألتي الكتاب: لا ييمم ولا يغسل، بل يدفن، وأن الشيخ أبا نصر في "المعتمد" اختاره؛ ولذلك حكاه ابن يونس وجهاً ثالثاً في المسألة. وهذا حكم الرجال والنساء، وسكت الشيخ عن حكم الأطفال والخنثى المشكل، وقد قال غيره: إن الأطفال من الذكور والإناث يغسلهم النساء أو الرجال، والذي يقتضيه المذهب- كما قال بعضهم-: أن ذلك فيما دون سن التمييز، وقيد في "التتمة" ذلك بالصغيرة التي لا تشتهي والصغير الذي لا يبلغ حد من يجامع؛ ولذلك

قال الرافعي: إن الحكم المذكور في الصغير الذي لم يبلغ حداً يشتهي مثله، وكلام أبي زيد يقتضي أن المناط ما دون البلوغ كما سنذكره. وأما الخنثى فإن كان صغيراً غسله الرجال أو النساء، وإن كان كبيراً فهل يغسل أو ييمم؟ فيه وجهان، المنسوب منهما في "الحاوي" إلى أبي عبد الله الزبيري من أصحابنا: الثني، وقال: إنه غلط، وقد قال الرافعي: إن الخلاف فيه كالخلاف فيما إذا مات رجل وليس هناك إلا امرأة أجنبية، أو ماتت امرأة وليس هناك إلا رجل أجنبي، وهذا يقتضي أن يكون الراجح عند الأكثرين ما قاله الزبيري. ثم إذا قلنا بأنه يغسل، فمن يغسله؟ فيه أوجه: أحدها: أنه في حق الرجال كالمرأة، وفي حق النساء كالرجل؛ أخذاً بالأسوأ في كل واحد من الطرفين. والثاني- حكاه القاضي الحسين وغيره عن بعض الأصحاب-: أنه يشتري من تركته جارية لتغسله، فإن لم يكن له تركة فيشتري من بيت المال، قال الأئمة: وهذا ضعيف؛ لأن إثبات الملك ابتداء للشخص بعد موته مستبعد، وبتقدير ثبوته، فقد ذكرنا أن الصحيح أن الأمة لا تغسل سيدها. والثالث- وبه قال الشيخ أبو زيد، وهو الأظهر-: أنه يجوز للرجال والنساء غسله جميعاً؛ لأنه قد ثبت أنه قبل البلوغ لو احتيج إلى غسله حياً أو ميتاً، فأي هذين غسله جاز؛ فيستصحب ذلك الأصل، وإنما يؤخذ في أمر الخنثى المشكل باليقين كما لو مس أحد فرجيه فلا وضوء عليه، كذا حكاه القاضي الحسين عن أبي زيد، وهو المحكي في "الإبانة" عن القفال، ولم يورد سواه. وفي "الحاوي" أنه يستحب أن يغسل في قميص، ويكون موضع غسله مظلماً، ويتولى غسله أوثق من [يقدر] عليه من الرجال والنساء. وفي "التهذيب": قيل: يغسله من يغسل المرأة في قميص، والله أعلم. قال: وإن مات كافر فأقاربه الكفار أحق من أقاربه المسلمين؛ لقوله- تبارك وتعالى-: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] وكذا زوجته أحق به منهم؛ لما ذكرناه، فلو لم يكن له أقارب كفار ولا زوجة، أو كانوا وامتنعوا منه

فلأقاربه المسلمين تغسيله؛ لما روي عن علي أنه قال: لما [مات] أبو طالب، قلت: يا رسول الله، قد مات عمك الشيخ الضال، فقال عليه السلام: "غسِّله وكفِّنه ولا تصلِّ عليه"، ورواية أبي داود وغيره أنه- عليه السلام- قال: "اذهب فَوَارٍ أباك". وهذا بخلاف المسلم إذا مات ولا أقارب له من المسلمين ولا زوجة؛ فإن الأجنبي من المسلمين يقدم على القريب المشرك، قال الرافعي: ويقدر كالمعدوم. وبهذا يتقيد ما أطلقه الشيخ من قبل، وكذا يتقيد بألا يكون القريب قاتلاً؛ فإن القاتل بغير حق لا يغسله، وكذا بحق على قولنا: إنه لا يرثه". وقد أفهم كلام الشيخ وغيره أن غسل الكافر من فروض الكفايات حيث قالوا: "وغسل الميت فرض على الكفاية"، ثم قالوا اتباعاً للنص: وإن مات كافر فأقاربه الكفار أحق من أقاربه المسلمين- فإن هذا يفهم دخوله فيما ذكره أولاً، وقد قال الرافعي وغيره: إن غسل الكافر لا يجب علينا بحال حربياً كان أو ذمياً، وغسلنا له إنما هو من الصحبة بالمعروف، نعم: هل تكفينه ودفنه من فروض الكفايات علينا أم لا؟ ينظر: إن كان حربياً فلا؛ لأنه- عليه السلام- ترك قتلى بدر ثلاثة أيام، ثم أمر بعد ذلك بإلقائهم في القليب، وإلقاء التراب عليهم، ويجوز دفنهم للخبر، والمعنى

فيه دفع تأذي الناس بريحه وإن كان ذمياً فوجهان: أحدهما- وهو قول الشيخ أبي محمد والقاضي الحسين-: أن ذلك يجب وفاء بالذمة، كما يجب أن يطعم ويكسي في حياته، وهذا ما اقتضى إيراده في "الوسيط" ترجيحه، وقال الرافعي: إنه الأظهر. والثاني: لا؛ إذ لم يبق له ذمة بعد الموت، وهذا ما ادعى الإمام أن [في] كلام الصيدلاني ما يدل عليه، وقال القاضي الحسين: إنه الذي قاله عامة أصحابنا. وفي "التهذيب": أن الحربي لا يجب تكفينه، وهل تجب مواراته؟ فيه وجهان. وفي "الجيلي": أن الذمي يجب دفنه على أقاربه المسلمين، وهل يجب على الأجانب من المسلمين عند فقد الأقارب؟ فيه وجهان، والحربي هل يجب دفنه؟ [فيه] قولان، أصحهما: الوجوب. قال: ويستر الميت في الغسل عن العيون؛ خشية أن يكون به عيب كان يكتمه فيظهر، أو قد اجتمع في موضع من يديه دم، أو التوى عنقه لعارض فيراه من لا يعرف ذلك فيظن أن ذلك عقوبة وسوء عاقبة، والستر يحصل بأن يجعل في بيت ويرخى على بابه شيء. قال [القاضي] أبو الطيب: والأولى أن يكون مستوراً من جهة السماء بسقف أو غيره، وهو وجه حكاه الماوردي مع وجه آخر أن غسله تحت السماء أحب؛ لتنزل عليه الرحمة، والمراد: الستر عن أعين الأجانب، أما أولياؤه فقد قال البندنيجي و [القاضي] أبو الطيب وغيرهما: إنهم يدخلون كيف شاءوا؛ لأنه يوثق بهم. قال: ولا ينظر الغاسل، أي: [إلى ما] ليس بعورة منه إلا [إلى ما] لابد له

منه؛ مراعاة لما ذكرنا. والذي يعاون الغاسل في معنى الغاسل إذا لم يستغن عنه، فإن استغنى عنه فيستحب ألا يستعين. ويحصل عدم نظرهما بغض البصر ما أمكن، وأما العورة فالنظر إليها حرام بكل حال؛ لقوله- عليه السلام- لعلي- كرم الله وجهه-: "ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" أخرجه أبو داود، ولو نظر لما له منه بد مما ليس بعورة كره كنظر غير الغاسل من الأجانب إليه. ويستحب للغاسل ولمن عاونه إذا رأى من الميت خيراً كالنور والأحوال الحسنة أن يذيعه ويتحدث به، وإن رأى عيباً أو أحوالاً قبيحة أن يسترها؛ لقوله- عليه السلام-: "من ستر على عورة أخيه المؤمن ستر الله عورته عليه، ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف رحله".

قال: والأولى أن يغسل في قميص؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما مات اختلف الناس في غسله فقال قوم: نغسله في ثيابه، وقال آخرون: لا نغسله فيها بل مجرداً كما نغسل موتانا، فغشيهم النعاس وسمعوا هاتفاً يقول: لا تجردوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية: اغسلوه في قميصه الذي مات فيه، فغسل في القميص. فإن قيل: قد دل ما ذكرتم على أنهم كانوا يغسلون موتاهم مجردين؛ فيدل على أن ذلك هو السنة، وغسله- عليه السلام- في قميصه يكون من خصائصه. قلنا: لأجل ذلك ذهب بعض أصحابنا- كما حكاه ابن كج-[إلى] أن الأولى أن يجرد، لكن الجمهور على خلافه، وما قيل من أنهم كانوا يجردون موتاهم فهو سنة، فقد حكى القاضي الحسين أن بعضهم كان يغسل في قميص؛ ولذلك اختلفوا، وإذا كان كذلك فكل سنة، وما صرنا إليه أولى؛ لما ذكرناه، وعلى تقدير أن يكون الأمر كما قيل فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يختار أن يفعل به إلا ما هو الأولى، ودعوى أن ذلك من خصائصه يقدح فيها ما روي أن سعد بن أبي وقاص لما حضرته الوفاة قال لأهله: اصنعوا بي كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر ذلك منكر؛ فدل ذلك على أن هذا ليس مما اختص به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وينبغي أن يكون القميص خلقاً أو رقيقاً ينزل الماء عنه إلى البدن، ثم إن كان واسع الكمين أدخل يده منهما وصب الماء فوقه، وإن كان ضيق الكمين شق الدخاريص بقدر ما يدخل فيه يده، والقميص الضيق في نفسه كالمفقود، فيطرح على الميت ما يستر عورته، وهو ما بين السرة والركبة كما قاله الجمهور هاهنا مقتصرين عليه، وعلى هذين الحالين- أعني حالة اتساع القميص وضيقه أو فقده- حمل اختلاف نصه؛ فإن المزني نقل أنه يطرح عليه ما يواري ما بين سرته وركبته، ثم قال: وقال في موضع آخر: يغسل في قميص. وليس له في ذلك قولان كما يفهمه ظاهر لفظ المزني، كذا قاله البندنيجي وغيره. وقد أفهم كلام الشيخ هنا مع كلامه السابق أن هذا القميص يلبسه حالة الغسل، وهو الذي صرح به المسعودي وغيره، كما شقال الرافعي، والغزالي [قال] تبعاً لإمامه: إنه يغسل في قميصه الذي مات فيه، ولا ينزع عنه حين موته؛ بل يترك ليغسل فيه؛ لأنه فعل به- عليه السلام- كذلك، وإن كان ولابد من ذلك فلعله فيما إذا كان خلقاً كما ذكرناه. قال: وغير المسخن من الماء أولى؛ لأن المسخن يرخيه والبارد يقويه، إلا أن يحتاج إلى المسخن، أي: لوسخ لا يخرجه غيره، أو لشدة برد يمنع الغاسل من تعاطي الغسل؛ فحينئذ يكون المسخن أولى للحاجة. ولو كان ما عليه من الوسخ لا يخرج إلا بعد تليينه بالدهن- لينه به، قاله البندنيجي وغيره. وفي "الجيلي" أنه قيل: إن المسخن أولى بكل حال، وهو في غيره منسوب لأبي حنيفة، رحمه الله. وينبغي أن يوضع ماء الغسل في إناء كبير بعيد عن المغتسل؛ بحيث لا يصل إليه من رشاش الماء المستعمل شيء فيفسده: إما لنجاسته إذا قلنا: إن الميت ينجس، أو لاستعماله [إذا قلنا]: إنه لا ينجس، ثم يغرف منه بإناء صغير ويوضع في إناء آخر صغير يستعمله الغاسل، كذا نص عليه. قال: وينوي غسله؛ لأنه غسل لا لإزالة العين، فشرعت النية فيه كالغسل من الجنابة.

قال: وينجيه؛ لأن ذلك مشروع للحي فكذلك [في] الميت. قال: ولا يجوز أن يمس عورته [إلا بخرقة]، أي: في حالة تنجيته؛ لأنه لا يجوز له النظر إليها كما تقدم، فالمس أولى. ويمس عورته: هو بفتح الميم على اللغة المشهورة، ويقال ضمها أيضاً، حكاه أبو عبيدة وغيره. والتنجية- كما قال البندنيجي وغيره-: أن يجلسه برفق؛ كي لا تنخلع مفاصله أو يخرج منه شيء فيفسد ما يقع عليه. ويجلسه مائلاً إلى ظهره، ولا يكون معتدلاً. قال القاضي الحسين وغيره: ويجعل يده اليمنى على كتفه، ويجعل إبهامه في نقرة قفاه، ويلف على يده اليسرى خرقة ويمرها على بطنه متحاملاً بقوة؛ ليخرج الفضلات منه، والماء يصب ليخفي رائحة ما يخرج [منه] وعنده تكون المجمرة متقدة فائحة بالطيب، ويستدام إلى أن يفرغ من غسله ثم يرد إلى هيئة الاستلقاء، ثم يدخل يده وعليها الخرقة أو نحوها بين فخذيه، فيغسل الموضع غسلاً نظيفاً، ويلقي هذه الخرقة لتغسل، ويغسل يده بأشنان أو غيره إن كان أصابها شيء، كذا قاله الجمهور. وقال الغزالي تبعاً لإمامه: إنه يغسل كل سوءة بخرقة. ولا شك أن ذلك أولى؛ لأنه أزيد نظافة. ثم يأخذ خرقة أخرى ويشدها على يده ويدخل أصابعه بين شفتيه فيمسح الأسنان مسحاً بليغاً كالسواك للحي، ولا يفغر فاه، ثم يدخل إصبعه وعليه الخرقة في منخريه فينظف ما هناك تنظيفاً بليغاً. وإن كان على بدنه نجاسة أزالها، وإذا فعل ذلك فقد غسل ما به من الأذى. قال: ويستحب ألا يمس سائر بدنه إلا بخرقة، أي: غير الخرقة التيغسل بها فرجيه، وهي الخرقة الأخرى التي تقدم ذكرها: لأن ذلك أبلغ في كرامته وأسرع لانقضاء تغسيله؛ فإنا لو انتظرنا غسل تلك الخرقة لطال، وقد فعل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -

نحو من ذلك كما قيل، ولو جعل لكل عضو خرقة لكان أولى، قاله أبو الطيب وابن الصباغ، والذي نص عليه الشافعي في القديم و"الأم": أنه يعد خرقتين نظيفتين قبل غسله [يغسل بهما]، والله أعلم. قال: ويوضئه وضوءه للصلاة؛ لأن ذلك مشروع في غسل الحي، فكذا في غسل الميت [ويدخل في ذلك المضمضة والاستنشاق؛ لأنهما من الوضوء، وقد صرح بذلك البندنيجي والقاضي الحسين وغيرهما من الأصحاب، مستدلين] بما رواه مسلم عن أم عطية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمرها [أن تغسل] ابنته قال: "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها"، وموضع المضمضة والاستنشاق من مواضع الوضوء. قال الإمام: وظاهر ما قاله الأصحاب أنه يوصل الماء إلى داخل فيه وأنفه، ولا يكتفي بإيصال الماء إلى مقادم الثغر والمنخرين، وكان شيخي يقول: يكتفي بإيصال الماء إلى ثغره ومنخريه، وهذا معنى المضمضة، وكذلك القول في المنخرين. والذي أرى القطع به أن أسنانه إن كانت متراصة فلا ينبغي أن يتكلف الغاسل فكها وفتحها لمكان المضمضة، وإن كان فمه مفتوحاً؛ ففي إيصال الماء إلى داخل فمه وأنفه تردد بين الأئمة، والسبب فيه: أنه قد يبتدر الماء إلى جوفه؛ فيكون ذلك سبباً في تسارع الفساد والبلى إليه، ونحن مأمورون برعاية صونه جهدنا، وإن كان مصيره إلى البلى، وهذا من الإمام إشارة إلى تحرير محل الخلاف بين شيخه وما اقتضاه كلام غيره من الأصحاب، ولا جرم اقتصر الغزالي على إيراده، وقد اقتضى كلام القاضي أبي الطيب وابن الصباغ وغيرهما من الأصحاب- كما قال الرافعي- أن المراد بالمضمضة والاستنشاق: ما ذكرناه من إدخال الإصبع في الفم والمنخرين، وأن كلام الأكثرين

يقتضي أن يكونا وراء ذلك وهو الظاهر؛ فيميل رأسه في المضمضة والاستنشاق حتى لا يصل الماء إلى باطنه، والتكرار في الوضوء ثلاثاً مستحب في هذا الوضوء أيضاً، صرح به القاضي الحسين وغيره. قال: ثم يغسل رأسه بماء وسدر؛ لما روى مسلم عن أم عطية قالت: دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسل ابنته فقال: "اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك-[وفي رواية: سبعاً]- إن رأيتن ذلك بماءٍ وسدرٍ واجعلن في الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافورٍ". وابنته هذه هي زينب زوج أبي العاص بن الربيع، وهي أكبر بناته - صلى الله عليه وسلم - ولو غسل بالخطمي مكان السدر حصل المقصود. قال في "الحاوي": لكن الغسل بالسدر أحب؛ لأنه أمسك للبدن وأقوى للجسد، ولو كانت له لحية كثة غسلها أيضاً بالسدر كالحي، وينبغي أن يبدأ بغسل الرأس قبل اللحية؛ كي لا يصل ماء الرأس إليها لو عكس. قال: ويسرح شعره، أي: شعر اللحية وشعر الرأس إن كان لبداً؛ لأن ذلك من وظائف الحي، وقد قال- عليه السلام-: "افعلوا بميتكم ما تفعلون بعروسكم". وينبغي أن يكون المشط واسع الأسنان؛ احترازاً عن نتف الشعر، فلو انتتف منه شيء

قال العجلي: جمعه ووضعه معه في أكفانه، وعبارة الرافعي: "يرده إليه"، وقال القاضي الحسين: لا يرده إليه. قال: ويغسل شقه الأيمن ثم الأيسر، ثم يفيض الماء على جميع بدنه، هذه الكيفية مختصرة مما ذكره الشافعي في "المختصر"؛ لأن البندنيجي نقل عنه أنه قال فيه: يغسل صفحة عنقه اليمنى وشق صدره وجنبه وفخذه وساقه وقدمه، ويحركه حتى يتغلغل الماء بين فخذيه ثم يعود إلى شقه الأيسر فيصنع كذلك، وقد غسل ظاهر بدنه مرة، وذلك يفعل وهو مستلقٍ على قفاه، ثم يعود إلى جانبه الأيمن فيحرفه على شقه الأيسر فيغسل يامنة قفاه، وشق ظهره، وعجيزته، وفخذه، وساقه وقدمه، ويغسل ما تحته ليكون أنظف له، ثم يعود إلى شقه الأيسر فيصنع كذلك، فيفرغ من غسلة واحدة في أربع مرات. وقال في القديم و"الأم" من الجنائز: يغسل شق مقدمه الأيمن، ثم يحرفه فيغسل شق مؤخره الأيمن، ثم يعود إلى جانبه الأيسر فيصنع مثل ذكل. قال: وليس هذا اختلاف قول. وإنما هو تغيير ترتيب، والأول أولى. وقال القاضي الحسين وطائفة من طريقه، وإليه يميل كلام الشيخ هنا: إنه يغسل صفحة عنقه اليمنى وصدره وجنبه وفخذه وساقه ويغسل ما حوله من المكان، حتى إذا قلبه يكون مكانه نظيفاً، ويكون الميت في تلك الحالة على جنبه الأيسر، ثم يقلبه إلى جنبه الأيمن فيغسل عنق الشق الأيسر وشق صدره وجنبه وفخذه، ثم يغسل ما تحت قدميه، فقد حصل شقه الأيمن والأيسر مغسولين في هاتين [الدفعتين]. بقي ظهره وبطنه، فيحرفه على جنبه، ويسند ظهره إلى ركبتيه، ويغسل بطنه وصدره وفخذه وعانته، ثم يحرفه على الجنب الآخر، ويسند بطنه إلى ركبتيه بحيث يرى الظهر متمكناً، ويغسل ظهره ومسربته [وفخذه] إلى القدمين، وهذا كله لمعنى: وهو ألا يكبه على الوجه؛ لأنه- عليه السلام- قال: "هذه ضجعة يبغضها

الله تعالى". قال في "المهذب": [والمستحب أن تكون الغسلة الأولى] بماء وسدر؛ لما روى مسلم عن ابن عباس أن رجلاً وقصته راحلته وهو محرم فمات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغسلوه بماء وسدر"، ولأن السدر ينظف الجسم. قال: ويفعل ذلك ثلاثاً؛ لخبر أم عطية. قال الماوردي: والثلاث ادنى الكمال، وأوسطه: خمساً، وأكثره: سبعاً، والزيادة عليها سرف. ومقتضى ما حكيناه عن الشيخ يقتضي أن غسلة السدر تحسب من الثلاث، وقد حكى هو وغيره في حسابها من الثلاث وجهين يأتي تعليلهما وقال في "فوائد المهذب": إن الخلاف غير متصور؛ لأنه إذا وضع السدر عليه ثم غسل بالماء أجزأ وجهاً واحداً؛ لأن الغسل حصل بالماء، لا بالسدر، وإن طرح السدر في الماء ثم غسل به لم يجزئه؛ لأنه تغير به، ولا يكون ماء مطلقاً، وإن كان يسيراً لا يغير الماء لم يحصل الغسل بالسدر، وقد حكى الرافعي الوجهين في الحالة التي ادعى الجزم فيها بعدم الإجزاء: أحدهما- وهو ما نسبه في "النهاية" إلى أبي إسحاق المروزي-: الاحتساب؛ لأن المقصود من غسل الميت التنظيف، والاستعانة بما يزيد في التنظيف مما لا يقدح. وأظهرهما: لا؛ لأن التغير به فاحش سالب للطهورية؛ فأشبه ما لو استعمله الحي في غسله ووضوئه، فعلى هذا تلك الغسلة غير محسوبة من الثلاث، وعلى هذا: هل تحسب الغسلة المزال بها السدر بعد ذلك من الثلاث؟ فيه وجهان. وفي هذه الصورة حكى الشيخ في "المهذب" الوجهين؛ لأنه نسب الاحتساب إلى أبي إسحاق موجهاً له بأنه غسل بماء لم يخالطه شيء، وقال في توجيه الثاني: إنه ربما غلب عليه السدر، وكلام القاضي أبي الطيب يرشد إليه؛ لأنه حكي عن الشافعي أنه قال: وكلما صب عليه الماء القراح بعد السدر حسبه غسلاً واحداً، وهذا وجه

ذكرناه، وفيه وجه آخر أنه لا يحتسب به. ويكون كلام الشافعي متأولاً أنه أراد صب الماء القراح بعد تنظيفه من السدر. وقد اختار الروياني من الوجهين في هذه الحالة وجه الاحتساب، وصححه، [و] الأكثرون على ترجيح مقابله، وبه جزم القاضي الحسين وتبعه البغوي؛ لأن الماء إذا أصاب المحل اختلط بما عليه من السدر وتغير به؛ فعلى هذا المحسوب ما يصب عليه من الماء القراح بعد زوال السدر. قال: يتعاهد في كل مرة إمرار اليد على البطن؛ لاحتمال أن تكون فضلة فتخرج، وهذا ظاهر نصه فإنه قال: ويتعاهد مسح بطنه في كل غسلة، وبه قال بعض الأصحاب، كما قال الماوردي، ولم يحك القاضي الحسين غيره، لكنه قال: إنه يبالغ في المرة الأولى وبعدها يرفق ولا يبالغ. والذي أورده القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: أنه لا يفعل ذلك في الثالثة؛ كي لا يخرج منه شيء فيحتاج إلى إعادة الغسل، وعبارة البندنيجي: أنه لا يتعاهد باليد في الغسلة الأخيرة، وهو ما صححه الماوردي، وقال: إن الشافعي أراد بالتعهد تفقد الموضع الممسوح، ولم يرد بتعاهده: مسحه بيده. قال: فإن احتاج إلى الزيادة على ذلك- أي: في تنظيف بدنه من الوسخ- غسل؛ لخبر أم صفية ـــ، ولينقي بدنه؛ إذ هو المطلوب بالغسل. قال: ويكون ـــ؛ لرواية مسلم عن أم عطية قالت: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغسلنها وتراً". قال: ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً؛ للخبر السابق، والمعنى فيه أنه يقوي الجسد ويمنع الهوام. وقال البندنيجي وغيره: إنه يجعل في كل مرة، فإن لم

يمكن ففي الأخيرة، وعليه نص الشافعي، وينبغي أن يكون يسيراً لا يغلب عليه فيمتنع استعماله، قاله الماوردي، وعبارة البندنيجي: أنه يجزئه، وإن كانت له رائحة؛ لأنها رائحة مجاورة لا مخالطة ولفظ أبي الطيب: ويستحب أن يكون في الماء قليل كافور تعبق به ريحه من غير اختلاط. وهذا إذا لم يكن محرماً، فإن كان لم يعمل فيه، قاله في "البيان" وهو يؤخذ من كلام الشيخ من بعد. قال: ويقلم أظفاره، ويحف شاربه، ويحلق عانته؛ أي: إذا لم يكن محرماً؛ لقوله- عليه السلام-: "افعلوا بميتكم ما تفعلون بعروسكم"، وفي بعض الروايات: "أحيائكم"، ولأنه تنظيف فشرع فعله كإزالة [النجاسة و] الوسخ. ويقوم مقام حلق العانة: إزالتها بالنورة، ويغسل مكانها، وقال الماوردي: إنه الأولى؛ لأنه أرفق به، وقيل: يتعين ذلك، قال في "الروضة": والمذهب: الأول. وكل هذا يفعل قبل الغسل، صرح به المحاملي وابن الصباغ وغيرهما، وما يؤخذ من ذلك يجعل معه في كفنه، قاله في "العدة"، وما ذكره الشيخ طريقة حكاها القاضي الحسين حيث قال: من الأصحاب من جعل ما يؤخذ فطرة يفعل قولاً واحداً، والمشهور أن في المسألة قولين: أحدهما: ما ذكره الشيخ، وهو الجديد، كما ذكره الماوردي وأبو الطيب وغيرهما، فإن تركه كان مكروهاً. والقول الثاني: أنه لا يستحب ذلك، فإن فعله كان مكروهاً؛ لأن حكم الموت شامل لأجزائه فلا يفصل منه شيء، وهذا ما حكاه الماوردي وأبو الطيب وغيرهما عن القديم، واختاره في "المرشد" والنواوي، وعن الشيخ أبي حامد أنه لا خلاف في أن ذلك لا يستحب، ولكن هل يكره؟ فيه قولان: أحدهما: يكره؛ لأنه متصل بالميت فلم يقطع كموضع الختان، وعلى هذا يأخذ الغاسل أخلةً من شجرة لينة لا تجرح يتبع بها ما تحت أظفاره. قال الشافعي في "الأم": ولو لف على رأس العود قطناً أحببت ذلك. والثاني: لا يكره؛ للخبر، ولا يحتاج على هذا إلى إخراج ما تحت الأظفار بالعود؛

لأنه بالماء بعده يذهب، قاله أبو الطيب. وقد اقتضت علة القول الأول أنه لا يختن بحال، وهو ما حكاه القاضي الحسين وأبو الطيب والماوردي؛ لأنه إبانة عضو فلا يجوز كسائر الأعضاء. وفي "البيان" في ختانه وجهان: أحدهما: يختن صغيراً كان أو كبيراً. والثاني: يختن الكبير دون الصغير. وهل يلتحق حلق شعر الرأس لمن يعتاده بتقليم الظفر وحلق العانة حتى يجيء فيه الخلاف السابق أو لا؟ فيه طرق: إحداها: نعم، فإن قلنا: يكره ثم، فكذا هنا. و [الثانية]: [أنا] إن قلنا: يكره ثم، فكذا هنا، وإلا فقولان حكاهما المتولي. والثالثة- حكاها القاضي أبو الطيب وغيره عن أبي إسحاق-: أنه إن كان ذا جمة في حياته ترك، وإلا حلق، وهذه الطريقة لم يورد الماوردي غيرها. وقال أبو الطيب وغيره: إنها غير صحيحة، بل لا يحلق رأسه بكل حال؛ لظاهر قوله في "الأم": "ولا يحلق رأس الميت"، وهذه تكون طريقة رابعة. وهذا حكم غسل الرجل، والمرأة كهو، ويزاد في حقها غمر ضفائرها وتخليل الماء في أصول شعرها، كما وصف في غسلها من الجنابة، والسنة في شعرها أن يضفر ثلاثة قرون: في ناصيتها، وقرني رأسها، ويلقين خلفها؛ لأن البخاري روى عن أم عطية أنهن جعلن رأس بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة قرون نقضنه، ثم غسلنه، ثم جعلنه ثلاثة قرون وألقينها خلفها. قال: والواجب من ذلك النية؛ لأنه غسل واجب لإزالة عين؛ فكانت النية شرطاً فيه كالغسل من الجنابة، وهذا أخذ من نص الشافعي أن الغريق إذا أخرج يستأنف غسله، فلم يكتف بما عليه من الماء حال الغرق؛ فدل على أنه اعتبر النية

فيه، وعلى هذا يكون الغاسل نائباً عن الميت فيها، أشار إليه الإمام. وقد قيل: إنها لا تجب؛ لأن الشافعي صحح في "الأم" غسل الذمية زوجها كما تقدم، وليست من أهل النية، والعلة فيه أن القصد من هذا الغسل التنظيف دون رفع الحدث؛ فهو بمنزلة إزالة النجاسة، وهذا ما صححه الروياني وغيره كما قال الرافعي، وكذا النواوي صححه، وادعى البندنيجي أنه ظاهر المذهب. وأجاب العراقيون عن كون الشافعي لم يحتسب بما أصاب الغريق من الغسل بأنه لابد من إيقاع الغسل فيه بفعل آدمي، ولم يوجد؛ وهذا منهم يدل على الاتفاق في إعادة غسل الغريق، وإن قلنا: [إن النية] لا تشترط. والمراوزة قالوا: إن قلنا: لا تجب النية، فلا يغسل الغريق، وقد قال القاضي الحسين في "تعليقه": إن الخلاف في النية، مبني على أن الميت ينجس بالموت أم لا؟ قال: والغسل، أي: مرة واحدة؛ لأنه الفرض في الغسل من الجنابة في حق الحي، فكذا في الميت. ثم إن قلنا: إن غسلة الماء والسدر تحسب من الثلاث، كفت، وهو ما حكاه البندنيجي عن أبي إسحاق، وإن قلنا: لا تحسب من الثلاث، قال البندنيجي: فالمذهب أنها الغسلة الثانية، وهو الذي حكاه الماوردي حيث قال: وإذا غسله بالسدر صب عليه حينئذ الماء القراح، وكان الاحتساب بالماء القراح دون ماء السدر. قال: ثم ينشف في ثوب؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نشف في ثوب؛ ولأن ذلك أمسك لبدنه وأولى لكفنه. وقد ذكر في "المهذب" أنه إذا فرغ من غسله أعاد تليين مفاصله، وهو ما حكاه المزني في "المختصر"، وقال الماوردي: إنه لم يؤخذ عن الشافعي في شيء ما كتبه إلا فيما حكاه المزني في "مختصره" دون "جامعه"، وترك ذلك أولى من فعله لتماسك أعضائه، وإنما قال الشافعي ذلك عند موته لا وقت غسله، وكذا قاله القاضي أبو الطيب وغيره، وعبارة القاضي الحسين: أن ما نقله المزني من كيسه، وليس بصحيح. ووفي "تعليق" البندنيجي أن الشافعي نص في "الأم" على ما حكاه المزني

فقال: إذا فرغ من غسله أعاد تليين مفاصله على ما وصفنا عقيب موته، وأنه قال في "الجنائز الصغير": وألصق يديه بجنبيه، وصف بين قدميه، وألصق إحدى ركبتيه بالأخرى، وضم إحدى فخذيه بالأخرى، ثم ينشف بعد ذلك بثوب، لتزول الرطوبة [عنه]. قال: فإن خرج منه- أي: من قبله أو دبره- بعد الغسل شيء أعيد غسله؛ لأن الخارج ناقض لحكم الطهارة، وليس للميت طهارة غير الغسل، وهذا ظاهر النص فإنه قال: فإن خرج من قبله أو دبره شيء أنقاه بالخرقة، وأعاد غسله. قال الماوردي وأبو الطيب: وبه قال ابن أبي هريرة. وقيل: يوضأ كالحي، قال البندنيجي: وهذا قول ابن أبي هريرة، وقال أبو الطيب: إنه قول أبي إسحاق. وقيل: يكفيه غسل المحل كمن أصابته نجاسة من غيره، وهذا ما صار إليه الأكثرون، كما قال البندنيجي، وأبو إسحاق، كما قال الماوردي، وحمل قوله: وأعاد غسله، على غسل المحل، أو ذكره استحباباً، وهذا القول صححه النواوي وغيره، أما إذا خرجت النجاسة من غير السبيلين فعلى الصحيح يغسلها فقط، وعلى الوجه الصائر لإيجاب الوضوء، قال الإمام: فلا شك [في] أنه عول فيه على نجاسة تبدو من أحد السبيلين. وعلى الوجه الأول قال الإمام: ففي إيجاب إعادة الغسل احتمال عندي من جهة أن هذا القائل يرى السبب الظاهر في الغسل التنظيف، وهذا يستوي فيه كل نجاسة ومحل. قلت: وما ذكره من العلة يقتضي عدم إيجابه أيضاً؛ لأن ذلك لا ينقض الطهارة. ولو لمس رجل امرأة ميتة بعد غسلها، فإن قلنا: يجب إعادة الغسل أو الوضوء بخروج الخارج- فكذلك هاهنا، كذا أطلقه صاحب "التهذيب". وذكر غيره أن هذا الجواب مبني على أن الملموس ينتقض طهره، [وبه] صرح القاضي الحسين في تعليقه، ولو قلنا: لا يجب إلا غسل المحل، فلا يجب هاهنا شيء. ولو كان اللمس حال أن غسلها، قال القاضي الحسين في "تعليقه": صح غسله، ولا يبنى على القولين في انتقاض طهر الملموس؛ لأن الشرع أذن له، وأما وضوء الغاسل

فينتقض، حكاه عنه صاحب "الروضة". ولو أولج في فرج ميتة بعد الغسل فعلى الوجه الأول والثاني: يعاد غسلها، وعلى الثالث لا يلزم شيء، قاله في "التتمة". وقد اقتضى إطلاق كلام الشيخ أنه لا فرق في جريان الأوجه في مسألة الكتاب بين أن يخرج الخارج بعد ما أدرج في الأكفان أو قبله، وقال الرافعي: إنه لم يتعرض لذلك الجمهور، وأشار صاحب "العدة" إلى تخصيص الخلاف في وجوب الغسل والوضوء بما قبل الإدراج. قال في "الروضة": قلت: قد توافق صاحب "العدة" والقاضي أبو الطيب والمحاملي والسرخسي، فجزموا بالاكتفاء بغسل النجاسة بعد الإدراج. قال: ومن تعذر غسله- أي: بسبب حريق يخشى معه لو غسل من تناثره، أو بسبب عدم الماء- يمم؛ لأنه تطهير لا يتعلق بإزالة عين فناب عنه التيمم عند التعذر كالوضوء والغسل، والله أعلم. وقد بقي من أحكام الباب شيء، وهو أن المستحب أن يوضع الميت حال غسله على لوح كالمنحدر قليلاً، فيكون رأسه أعلى من رجليه؛ لينحدر الماء عنه ولا يقف تحته فيسرع بلاه، ويكون الميت ملقىً على ظهره، وتكون رجلاه إلى القبلة. ويجوز للجنب والحائض غسل الميت على كراهة، ولو ماتا غسلا غسلاً واحداً، قاله في "الروضة" والله تعالى أعلم.

باب الكفن

باب الكفن وتكفين الميت- أي: فعل التكفين- فرض على الكفاية؛ لقوله- عليه السلام- في حق المحرم: "كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما" فخاطب به الجمع. واةلمقصود يحصل بفعل البعض، وهذا شأن فروض الكفايات؛ وأيضاً فهو إجماع. وهل يكون أقاربه أخص بذلك، أم هم وغيرهم سواء؟ فيه ما تقدم في الغسل، وهذا في حق المسلم، أما الذمي والحربي فقد تقدم الكلام فيهما. قال: ويجب ذلك، أي: الكفن، وأجرة التكفين في ماله مقدمة على الدين والوصية؛ لحديث المحرم، فإنه- عليه السلام- لم يسأل: هل يخرج ثوباه من الثلث أم لا؟ وهل هو موسر أو معسر؟ ولأن ذلك شبيه بكسوته في حياته وهي مقدمة على ديونه، وهذا إذا لم يكن ماله مرتهناً بدينه ولا جانياً. قال في "الروضة": ولا مبيعاً ثبت لبائعه الرجوع فيه، فإن كان فقد ذكرنا حكمه في أول كتاب الفرائض.

فرع: لو أعد الشخص لنفسه كفناً فهل يجب تكفينه فيه؟ لم أظفر فيه بنقل، ولكن كلام القاضي أبي الطيب الذي سنذكره عند الكلام في الشهيد يقتضي أنه لا يتعين، بل للوارث إبداله، خصوصاً وقد قال الصيمري: إنه لا يستحب أن يعد لنفسه كفناً؛ كي لا يحاسب عليه. قال في "الروضة": وهذا الذي قاله صحيح إلا إذا كان من جهة يقطع بحلها، أو من أثر بعض أهل الخير من العلماء والعباد ونحو ذلك؛ فإن ادخاره حسن، وقد صح عن بعض الصحابة فعله. قلت: وفي تصحيح ما ذكره الصيمري نظر إذا كان الواجب تكفينه من ماله؛ فإنه يحاسب عليه بكل حال، وقد رأيت بعد ذلك في كتاب "الأسرار" للقاضي الحسين في كتاب السرقة فيما إذا قال: كفنوني في هذا الثوب- أنه يلزم تكفينه فيه على أحد الوجهين وأنهما مبنيان على ما لو قال: اقض ديني من هذا المال، فيه وجهان يبنيان على ما لو أوصى بقضاء دينه هل يتعين ويحاص أهل الوصايا؟ قال: فإن كانت امرأة لها زوج فعلى زوجها؛ لأنه يلزمه كسوتها في حياتها؛ فلزمه كفنها ومؤنة تكفينها كأمته وأم ولده ومكاتبته، وهذا ما صار إليه أبو إسحاق، واقتضى إيراد أبي الطيب ترجيحه، وصرح بتصحيحه الرافعي والمصنف وغيرهما، ولا فرق على هذا بين أن يكون لها مال أم لا، نعم، لو لم يكن للزوج مال ولها مال وجب فيه، قاله الرافعي. وقيل: في مالها؛ لأن الزوجية قد زالت [بالموت] فكانت [كالأجنبية، ولأن

الكسوة في حال الحياة في مقابلة التمكين من الاستمتاع، وقد زال بالموت؛ فوجب] في مالها كالخلية عن الزوج. وهذا ما ادعى الماوردي أنه ظاهر المذهب، وبه قال ابن أبي هريرة، واختاره في "المرشد". قال: فإن لم يكن له أي: للميت- مال فعلى من تلزمه نفقته، أي: في حياته؛ لأن ذلك خاتمة مؤنته. قال في "التتمة": وكذا لو مات فقير كسوب أو غير كسوب، وقلنا: لا نفقة له؛ لكونه صحيحاً- يجب على من تلزمه نفقته لو كان زمناً تكفينه؛ لأن الميت عاجز، وكذا يجب على المكاتب تكفين المكاتب، وإن كان لا يلزمه نفقته؛ لأن الكتابة بطلت بالموت. واعلم أنه يوجد في كثير من نسخ "التنبيه": "فإن لم يكن لها مال". والذي ضبط عن نسخة المصنف ما ذكرناه. قال: فإن لم يكن ففي بيت المال؛ لأنه مرصد للمصالح، وهذا منها؛ فإن لم يكن فيه شيء فعلى جميع المسلمين، وقد أفهم كلام الغزالي اختصاص الخلاف المذكور في كفن الزوجة بما إذا لم تخلف مالاً، أما إذا خلفت فلا، والذي أورده الإمام والقاضي الحسين والفوراني والماوردي والبندنيجي: إجراء الوجهين في حال يسارها وإعسارها كما ذكرناه، وقال القاضي: إنه يمكن بناء الوجهين على أن كسوة الزوجة على الزوج للتمليك أو للاستمتاع؟ فإن قلنا: للاستمتاع، فهو كالقرابة؛ فيجب هاهنا، وإن قلنا: للتمليك، لا يجب عليه هنا. فرع: هل يجب على الزوج تكفين خادم زوجته أم لا؟ فيه وجهان. قال: ويستحب أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب، أي: لا يزيد عليها ولا ينقص؛ لما روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: "كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب [بيضٍ] سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة". قال ابن الصباغ: وسحول- بفتح السين-: مدينة، بناحية اليمن يعمل فيها ثياب

يقال لها: السحولية، والسحول- بضم السين-: الثياب البيض من القطن، وهو الكرسف. قال القاضي الحسين: والخبر بالضم على الصحيح. قلت: [و] في مسلم ما يرد عليه؛ لأنه روى عن عائشة- رضري الله عنها- أنها قالت: "أدرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حلة يمانية كانت لعبد الله بن أبي بكر ثم نزعت عنه، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية، ليس فيها عمامة ولا قميص". فإن قيل: قد قال- عليه السلام- في المحرم: "كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما"، وذلك يدل على أن الاقتصار على ثوبين سنة. قيل: يحتمل أن يكون لا يملك غيرهما، ونحن نستحب الثلاث لمن قدر عليها، وبذلك يحصل الجمع بين قوله وفعل الصحابة به - صلى الله عليه وسلم - ولو زاد على الثلاث وجعله خمسة أثواب، قال الشافعي: جاز ذلك ولم يكره. ووجهه بما روي: أن عبدا لله بن عمر كان يكفن من مات من أهله في خمسة أثواب، وحينئذ فيجعل الرابع والخامس قيمصاً وعمامة، وإليه أشار في "الأم" بقوله: فإن عمم وقمص جعلت العمامة والقميص بعد الثياب، والزيادة على الخمس تكره؛ لما روى أبو داود عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تغالوا بالكفن؛ فإنه يسلب سلباً سريعاً"، فإذا كانت

المغالاة مكروهة فزيادة العدد [أولى] أن تكون مكروهاً، ولأن في ذلك سرفاً. قال: إزار، وهو ما تؤزر به العورة، ولفافتين، أي: يلف كل منهما على جميع بدنه؛ لأن الخبر دل على ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، وهذه الهيئة أولى به، وفي "الوسيط" و"التتمة": أنه إذا كفن في ثلاثة أثواب كانت كلها سوابغ، وهو وجه حكاه الإمام مع وجه آخر أن الثوب الواحد يأتزر به، والثاني يلف عليه من الصدر أو فويقه إلى نصف الساق، والثالث يلف على جميع جثته. وفي "التهذيب" عوضه: أن الأول يستر به ما بين سرته وركبته، والثاني [يلف] من عنقه إلى كعبه، والثالث يستر [به] جميع بدنه، وإذا جمعت ذلك كان فيها أربعة أوجه، وميل النص إلى ما قاله الغزالي؛ لأنه قال: وأحب عدد الكفن إلي ثلاثة أثواب رياط ليس فيها قميص ولا عمامة، والرياط، جمع: ريطةٍ وهي الملاءة تصنع قطعة واحدة عريضة كهيئة الإزار الذي ليس بملفق من ثوبين. ولو جعل من الثلاث قميصاً أو عمامة، قال في "المهذب" و"الإبانة": لم يكره؛ لأنه- عليه السلام- كفن عبد الله بن أبي ابن سلول في قميصه وقال: "لا يعذب ما بقي عليه منه سلك" أي: خيط. وقد حكى بعض أصحاب أبي حنيفة عنه: أنه استحب ذلك، وقال القاضي أبو الطيب: إن ذلك ليس ثابتاً عنه، ومذهبه كمذهبنا. قال: بيض؛ لحديث عائشة، ولقوله- عليه السلام-: "البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنه من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم" أخرجه الترمذي من رواية ابن عباس، وقال: إنه حسن صحيح. فلو كانت كلها حبرةً، لم يكره، قال أبو الطيب: لأنه – عليه السلام- كان يلبس

الحبرة يوم الجمعة والعيد. والذكر الصغير كالرجل، قاله في "الروضة"، فلو أبدل الشيخ لفظ "الرجل" بـ"الذكر" لكان أولى. قال: والمرأة في خمسة أثواب- إزار وخمار ودرع ولفافتين-[بيض]؛ لما روى أبو داود، [ورواه أحمد أيضاً] عن ليلى الثقفية قالت: "كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحقاء ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد في الثوب الأخير"، والدرع: هو القميص كما قال البندنيجي والمتولي وغيرهما وهو مذكر، والإزار يذكر ويؤنث، والحقاء: الإزار، وأصله: معقد الإزار، وما ذكره الشيخ حكاه في "المذهب" وغيره قولاً عن الشافعي، وصححه الماوردي، وإليه ميل الأكثرين، وادعى القاضي الحسين أنه القديم، وأن المزني اختاره، وقال: إن الشافعي قال به مرة ثم خطَّ عليه، فإذا قلنا به تؤزر، ثم تدرع، ثم تخمر، ثم تلف في لفافتين، كذا حكاه القاضي الحسين عن القديم، وقال البندنيجي: إنه قال في "الأم" والقديم: تلبس الدرع، [وتؤزَّر]، ثم تقنع، ثم تدرج في لفافتين، والمعزي إلى نصه في الجديد- كما قال الإمام-: أنه لا يستحب لها الدرع كما في الرجل، ولأنها إنما تحتاج إلى الدرع للتصرف، وقد زال بالموت، فإذا قلنا بهذا فقد قال العراقيون والمتولي: [إنه] يجعل- عوضه- لفافة أخرى.

قال البندنيجي: كما قلنا في الرجل، وقال الإمام: ذلك ينبني على خلاف الأصحاب في مسألة مقصودة في نفسها، وهي أن الشافعي قال: ويشد على صدرها ثوب يضم أكفانها، واختلف فيها الأصحاب: فمنهم من قال: أراد بذلك ثوباً سادساً، ومنهم من قال: أراد به ثوباً من الخمسة، فعلى الأول يكون الأمر كما ذكره العراقيون، وعلى الثاني يكون الخمس: إزاراً وخماراً ولفافتين وشداداً. ولو قلنا بأنها تدرع، وأن الشداد من الخمس- كانت إزاراً وخماراً ودرعاً ولفافة واحدة وشداداً. وإذا جمعت ذلك واختصرت جاءك في المسألة أربعة أقوال وأوجه: أحدها: ما ذكره الشيخ. والثاني: أن الخمس: إزار وخمار ودرع ولفافة وشداد. والثالث: أنها: إزار وخمار وثلاث لفائف. والرابع: أنها: إزار وخمار ولفافتان وشدادز وقد فرع الأصحاب على الخلاف الذي ذكرناه في الشداد: هل هو وراء الخمس [أو] منها؟ فقالوا: إن قلنا: إنه وراء الخمس، ربط فوق اللفائف، وحل عنها في القبر وأخرج، ويترك عليها الخمس، وهذا منسوب إلى أبي إسحاق، والأصح في "المهذب" و"تعليق" أبي الطيب و"الرافعي"، وحكى الماوردي على هذا وجهاً آخر: أنه لا يحل، بل يترك عليها. وإن قلنا: إنه من الخمس، يترك عليها في القبر؛ لأنه من جملة الأكفان، وهو المنسوب لابن سريج متمسكاً فيه بأن الشافعي أمر بشدها به، ولم يقل: إنه يؤخذ عنها إذا دفنت؛ فدل على أنه يبقى معها. وفي كيفية شده وجهان، حكاهما الإمام عن رواية بعض المصنفين: أحدهما- وهو اختيار ابن سريج كما قال-: أنه يكون فوق اللفائف حتى يجمعها. والثاني- وهو مذهب أبي إسحاق-: أنه يشد وسطها دون الريطة الثالثة. والذي رأيته في "الإبانة" وهو الأولى- نسبة الأول إلى أبي إسحاق، والثاني إلى ابن سريج، وظاهر النص مع القائل بأنه يشد فوق الأكفان؛ لأنه قال: يضم أكفانها، والرابع لا يضم الأكفان وإنما يضم ثلاثة منها، وقد اتفق الأصحاب على أنه لا يزاد

على ما ذكرناه بحال؛ فإنه سرف ومغالاة، وقد نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن فعل ذلك كان مكروهاً. وقد أفهم كلام الشيخ أن استحباب الخمس في حق المرأة كالثلاث في حق الرجل، وقال الإمام عن الشيخ أبي علي: إن الخمسة- وإن أحببناها- فليست في حقها بمثابة الثلاثة في حق الرجل حتى نقول: يجبر الوارث عليها كما يجبر على الثلاث، وهذا متفق عليه. ولو كفنت في ثلاثة أثواب، قال الغزالي: كانت ثلاث لفائف، وإنما التردد في القميص إن كفنت في خمس، وعبارة الإمام أنه ينبغي أن تكون رياطاً سابغة، وإنما ذكر الشافعي القولين في استحباب القميص إذا كانت تكفن في خمسة أثواب، قال: والسبب فيه: أن الإزار والخمار إذا كانت تكفن في خمس أولى من القميص، [فإذا كانت تكفن في ثلاثة فإزار وخمار ولفافة، وإذا لم يكن فوق الثياب لفافة سابغة فيكون ذلك خارجاً عن الوجه المختار، وتقدير هذا: أنه إذا كان الإزار والخمار أولى من القميص إذا كفنت في خمس؛ فأولى] إذا كفنت في ثلاث، وإذا كان كذلك فلا يمكن ترك الإزار والخمار ويجعل بدله القميص؛ فتعين الإتيان بهما، والثالث إن جعل قميصاً خرج عن الوجه المختار؛ فتعين أن يكون لفافة. لكن هذا من الإمام يناقض ما قاله أولاً: إنها تكون رياطاً سابغة، وقد قال الرافعي: إنه لا فرق في التكفين في الثلاثة بين الرجل والمرأة، وقضيته: أن تأتي الأوجه السابقة في الرجل. تنبيه: [كلام الشيخ في] هذا الفصل والذي قبله يفهم أمرين: أحدهما: أنه لا فرق في الثياب الثلاث والخمس بين الجديد والملبوس؛ إذ لو اختلف الحال في ذلك لنبه عليه كما [فعل في] المحرم، وقد قال في "الحاوي": إنه يختار أن تكون جدداً، وإليه يرشد كلام صاحب "التقريب"، والذي سنذكره، وقد قال ابن الصباغ: إنه جاء في رواية أنه- عليه السلام- كفن في ثلاثة أثواب بيض جدد، وقال في "التهذيب" و"التتمة"، تبعاً للقاضي الحسين: إن التكفين في الجديد جائز واللبيس أولى؛ لأن مآلها إلى البلى.

الثاني: أنه لا فرق في الثياب بين أن تكون من قطن أو كتان أو غيرهما مما يجوز لبسه للرجال أو النساء، لكن الذي دل عليه الخبر أن يكون من قطن وهو الأولى، قاله البغوي، ويجوز التكفين فيما يباح للميت لبسه، لكن المرأة يكره تكفينها في الحرير على المذهب، وفيه وجه حكاه صاحب "الروضة": أنه يحرم، وقال: إنه شاذ؛ وكذا يكره تكفينها في المزعفر والمعصفر على المذهب، قال في "الروضة": وفيه وجه أنه لا يكره. قلت: وعليه ينطبق قول البندنيجي: إن ما جاز للرجل أن يلبسه في حياته جاز أن يكفن به بعد وفاته، وكذلك المرأة، وقال الغزالي: وليكن جنسها القطن أو الكتان. قال الرافعي: ولك أن تقول: إما أن يريد بذلك استحباب هذين النوعين على الخصوص أو يشير بهما إلى جملة الأنواع المباحة، ويكون التقدير: القطن والكتان وما في معناهما، أما الأول فقضيته: تقديم النوعين على سائر الأنواع المباحة كالصوف وغيره، وهذا شيء لم نره في كلام الأصحاب، وإن أراد الثاني فظاهر اللفظ معمول به في حق النساء دون الرجال: أما أنه معمول به في حق النساء؛ فلأن تكفينهن [بغير هذه الأنواع- وهو الحرير- جائز، وإن كره؛ لما فيه من السرف؛ فينتظم أن نقول: تكفينهن] بهذه الأنواع مستحب، وأما أنه غير معمول به في حق الرجال؛ فلأن استحباب بشيء من هذه الأنواع إنما يكون إذا جاز تكفينهم بغير هذه الأنواع وإنه ممتنع. قال البندنيجي: ويستحب أن تستجاد الثياب التي يكفن فيها؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه" [أخرجه مسلم] فإن كان موسراً

فتكون [الثياب] جياداً، وإن كان معملاً فتكون وسطاً، وإن كان فقيراً فتكون دون ذلك. فإن قيل: قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المغالاة في الكفن. قلنا: قد قال القاضي الحسين: إنه يجمع بين الحديثين بأن يحسن منظرها ولا تكون ثمينة. قال: ويجعل ما عند رأسه أكثر مما عند رجليه، أي: عند وضعه في الكفن كما سنذكره في آخر الباب؛ لأن الحي هكذا يفعل، ولأن الرأس تشتمل على أعضاء شريفة. قال: والواجب [من ذلك] – أي: في حق الرجل والمرأة- ثوب واحد، أي: يستر العورة؛ لما روى البخاري ومسلم: أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد، فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، قال الراوي: فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "دعوها مما يلي رأسه، واجعلواه على رجليه الإذخر"، وجه الدلالة منه: أنه- عليه السلام- لم يأمر بأن يكفن في غيرها مع أنها لا تستر جميع البدن، ولو كان واجباً لأمر به، ولأنه يجب من ستره بعد الموت ما كان يجب من ستره قبله وذلك قدر العورة. والنمرة- بفتح النون وكسر الميم وبعدها راء مفتوحة وتاء تأنيث-: كل شملة

مخطوطة من مآزر الأعراب، وجمعها: نمار، كأنها أخذت من لون النمر؛ لما فيها من السواد والبياض، وقيل: هي من صوف وفيها أمثال الأهلة، وما ذكرناه في تفسير كلام الشيخ هو ما أورده القاضي أبو الطيب هنا والمتولي، وكذا ابن الصباغ، وحكاه عن نصه في "الأم"، وكذا البندنيجي حكاه عن "الأم". وقال الماوردي: إن الشافعي قال: فإن غطي من الميت قدر عورته فقد سقط الفرض، ولكن أخل بحق الميت. وعلى هذا يختلف الثوب بالنسبة إلى الرجل والمرأة؛ لاختلاف عوراتهما، وهل يختلف بالحرة والأمة؟ سكت عنه الأصحاب، والظاهر أنه لا فرق؛ لأن الرق يزول بالموت، كما قاله في "الوسيط" في كفارة اليمين، وأشار إليه في "المهذب" بقوله في الرد على من قال بأن تكفين المرأة في مالها: إن هذا يبطل بالأمة؛ فإنها تصير بالموت أجنبية من مولاها. والخنثى فيما ذكرناه كالمرأة. وفي "المهذب" حكاية وجه آخر: أن الواجب ثوب ساتر لجميع البدن، أي: إذا لم يكن محرماً؛ لأن ما دونه لا يسمى كفناً، وهو ما حمل عليه بعض الشارحين كلام الشيخ هنا، ولم يورد القاضي الحسين والإمام ومن تبعهما [هنا] غيره، وقال الإمام: إنه لم يصر أحد إلى جواز الاقتصار على ستر العورة. وحمل الحديث على أنه لم يوجد إذ ذاك ثوب ساتر، ومن العجب أنه حكاه في كتاب التفليس عن أبي إسحاق وضعفه، وقال في "المهذب" و"الروضة": إنه الأصح". وحكى البندنيجي وجهاً ثالثاً في المسألة: أن الواجب ثلاثة أثواب؛ أخذا من قول الشافعي في أثناء الباب: فإن تشاحوا- يعني: الورثة والغرماء- فثلاثة أثواب. وهذا الوجه إن أخذه مطلقه اقتضى جريانه فيما إذا كان المكفن له الكافة؛ لعدم ماله وقريب له يلزمه نفقته، وفقد مال في بيت المال. وفيما إذا كان تكفينه من بيت المال أو من مال قريبة أو من مال نفسه، سواء كان عليه دين أو لم يكن، توافق الورثة والغرماء على ذلك أو اختلفوا، وقد حكاه القاضي الحسين هكذا في جميع

الصور ما خلا الصورة الأولى؛ فإنه جزم فيها بأن الواجب ثوب واحد، وتبعه البغوي في الجزم بهز والأظهر فيما إذا كان التكفين من ماله، وقد تنازع الورثة والغرماء [عند] ضيق مال الميت عن وفاء الدين والثلاث، وقال الغرماء: يكفن في ثوب [واحد]، وقال الورثة: بل في الثلاث- أن المجاب: الغرماء. وقد قيل: إن الأصح إجابة الورثة، وهو ما ذكره في كتاب التفليس. والأصح عند الجمهور فيما إذا وقع التنازع كذلك بين الورثة وفي المال متسع الثلاث- أن المجاب: الداعي إلى الثلاث، وهو ظاهر النص، وبعضهم قطع به، منهم: الفوراني، وصاحب "المرشد" اختار أنه يكفن في [ثوب] واحد أيضاً كالحج من ميقات بلده بأقل ما يؤخذ. والأظهر فيما إذا كان التكفين من بيت المال أن الواجب ثوب واحد، وهو ما حكى الإمام قطع الأئمة به، وإن أخذ مع ما منه أخذ من قول الشافعي، اقتضى أن يكون محله إذا دعا إلى ذلك الورثة دون الغرماء، ودون ما إذا اتفق الورثة والغرماء على تكفينه في ثوب واحد ساتر لجميع البدن؛ فإنه يكفي ولا يجب الثلاث، وهذا ينطبق على ما أورده الماوردي؛ لأنه حكى الوجهين فيما إذا تنازع الورثة والغرماء في الثلاث كما تقدم، ونسب القول بإجابة الورثة إلى أبي إسحاق، وقال: إن الغرماء لو قالوا: نكفنه فيما يستر عورته، وقال الورثة، بل في ثوب [واحد] ساتر لجميع بدنه- أن المجاب: الورثة بلا خلاف. ولا يسلم من نزاع سنذكر مأخذه، وقضية كلام الماوردي- أيضاً- وما ذكرناه: أن الورثة لو اتفقوا-[حيث لا دين] على تكفينه في ثوب ساتر لجميع البدن، أنه لا يجب تكفينه في الثلاث بلا خلاف، وهو ما أورده في "التهذيب"، لكن القاضي الحسين والمتولي حكيا الوجه فيه، وقالا: إنه الصحيح من المذهب.

التفريع: إن قلنا بأن الواجب ما يستر العورة: فإن كان له ما يستر عورته فقط ستر به وأجزأه، قاله البندنيجي، وحكاه الرافعي عن نصه في "الأم". [وإن كان له] ما يستر أكثر من العورة ولا يستر جميع البدن، ستر به رأسه وعورته، وجعل على رجليه إذخراً أو تراباً ونحوهما للخبر، قاله البندنيجي أيضاً. وإن كان له ثوب ساتر لجميع بدنه، ستر به، قاله البندنيجي أيضاً. وعن "البيان" حكاية وجه: أن بعض الورثة إذا قال: يكفن في ثوب يستر عورته فقط، يجاب إليه على هذا الوجه. قلت: ومن طريق الأولى جريان مثله فيما إذا تنازع الغرماء والورثة على هذا النحو من طريق الأولى. وإن قلنا: الواجب ثوب ساتر لجميع البدن، فإن وجد له كفن فيه، وإن وجد أقل منه كمل ستر جميع بدنه من حيث يكون جميعه لو لم يكن للميت مال، وإن قلنا: الواجب ثلاثة أثواب، فإن كانت في ماله كفن فيها، وإن لم يكن [له] إلا ثوب واحد، فإن كان كفنه لو لم يكن شيء من بيت المال فهل يكتفي بالثوب الذي خلفه أو يكمل الثلاث من بيت المال؟ فيه وجهان حكاهما الإمام عن رواية صاحب "التقريب". وإن كان كفنه لو لم يخلف شيئاً على قريبه فقد جزم القاضي الحسين بأنه يكفن في الثوب الذي خلفه ولا يكمل القريب الثلاث، وإن كان لو كفنه لكفنه بثلاث. قلت: وكان الفرق بين القريب وبيت المال: أن التكفين من بيت المال أوسع؛ ولهذا لو نبش الميت وأخذ كفنه؛ لا يجب على القريب تكفينه ثانياً، ولو كان قد كفن من بيت المال كفن ثانياً وثالثاً كما قاله المتولي؛ لأن العلة في الكرة الأولى: الحاجة، والحاجة موجودة.

وقد استخرج صاحب "التقريب" من كلام الأصحاب- كما حكاه الإمام عنه- أن الثوب الواحد السابغ يظهر فيه رعاية حق الله- تعالى- فلا يجوز الاقتصار على ما يستر العورة إلا إذا لم يجد سابغاً فيضطر إلى الاكتفاء به. وأما الثلاث في حق الغرماء والورثة، [و] في حق بيت المال فهي متعلقة برعاية حق المتولي في نفسه. ثم حقق هذا بأن قال: لو أوصى الميت بألا يكفن إلا في ثوب واحد، كفى الثوب السابغ؛ فإنه بوصيته رضي بإسقاط حقه، ولو قال: رضيت بأن يقتصروا على ما يستر عورتي، فلا أثر لوصيته في ذلك، ويجب تكفينه في ثوب سابغ لجميع بدنه. قال الإمام: وهذا الذي ذكره في غاية الحسن، وقال: إنه احتج عليه بما روي [أن] أبا بكر الصديق- رضي الله عنه- قال: "إذا مت فكفنوني في ثوبي الخلق؛ فإن الحي أولى بالجديد من الميت"، فنفذت وصيته. قلت: وهذا من صاحب "التقريب" يدل على أن التكفين في الجديد حق للميت؛ لأنه جعل تكفين أبي بكر في ثوبه الخلق بحكم وصيته، وقد أشرت إلى هذا من قبل، ثم في جزم صاحب "التقريب" بعدم نفوذ وصيته في الاقتصار على ستر العورة، فيه نظر؛ فإنا قد حكينا عن الشافعي أنه قال: إذا غطي من الميت قدر عورته فقد سقط الفرض، ولكن أخل بحق الميت. وهو يدل على أن ما زاد على ستر العورة حق الميت؛ فينبغي أن تنفذ وصيته فيه كما تنفذ في الثوبين، والله أعلم. فرع: الملك في الكفن لمن يكون إذا كفن من ماله؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها

المتولي هنا، وهي مستوفاة في كتاب السرقة: أحدها: أنه للميت. والثاني: أنه للورثة. وقد حكاهما المتولي هنا. والثالث: أنه لله تعالى. قال: والمستحب أن يذرَّ الحنوط والكافور في الأكفان؛ لئلا يسرع بلاها، وليقيها من بللٍ يمسها. قال الماوردي: وهذا لم يذكره غير الشافعي من الفقهاء، وكيفية ذلك أن يبسط أولاً أحسن الثياب وأوسعها؛ لأنه الذي يعلو على كل الكفن إذا أدرج، والحي يظهر الأحسن من ثيابه، فإذا بسطه ذرَّ عليه ذلك، ثم يفرش الثاني فوقه وهو الذي يليه في الحسن والسعة، ويذرّ عليه ذلك، ثم يفرش الثالث فوقهما، وكلام المزني يقتضي أنه لا يذرُّ عليه شيء، والأصحاب متفقون على أنه يذر عليه ذلك؛ لأنه الذي يلي الميت ويخفي ما عساه يظهر منه من رائحة، واستحب الإمام ومن تبعه الإكثار منه؛ لما ذكرناه. قال الأصحاب: ويستحب أن يكون ذلك بعد أن تبخر الأكفان ثلاثاً حتى تعبق بالند وكذا بالعود غير المطرَّى، وأما المطرَّى فقد قال الشافعي في القديم: لا يجمر الكفن به؛ لأنه يخلط فيه المسك والعنبر، وقال في البويطي: ولو تطوع أهله فجعلوا فيه المسك والعنبر فلا بأس. قال البندنيجي: ولا يختلف قوله أنه لا بأس بالمسك والعنبر، وإنما منع من العود المطرى في القديم؛ حذاراً أن يطرى بالجمر. وهذا من البندنيجي لا يدل على أن الأولى التجمير بغيرهما، وبه صرح أبو الطيب فقال: يستحب أن يكون العود الذي تجمر به الأكفان غير مطرَّى بالمسك والعنبر. وقال الإمام، تبعاً للقاضي الحسين: إن الشافعي رأى تجمير الأكفان بالعود،

واختاره على المسك؛ لما صح عنده من كراهية ابن عمر استعماله في الكفن؛ فآثر الخروج عن الخلاف. [والحنوط- بفتح الحاء، ويقال له أيضاً: الحناط- بكسرها- وهو أنواع من الطيب تخلط للميت [خاصة]، قال الأزهري: ويدخل فيه الكافور والصندل وذريرة القصب]. قال: ويجعل الحنوط والكافور في قطن، أي: ويستحب أن يجعل الحنوط والكافور في قطن، أي: منزوع الحب كما قال الشافعي، ويترك على منافذ الوجه، [أي]: وهي الفم والمنخران والعينان وعلى الأذنين؛ ليخفي رائحة ما عساه يخرج منها. وكذا يستحبأن يوضع على جرح نافذ إن كان فيه. قال: وعلى مواضع السجود، أي: وهي الجبهة والكفان والركبتان والقدمان؛ لشسرفها، ولأنه روي عن ابن مسعود أنه قال: يتبع الطيب مساجده. وقد قيل: إنه يجع الحنوط والكافور على مواضع السجود بغير قطن، وهو ما حكاه القاضي الحسين والجيلي موجهاً له بأن القطن لا يثبت عليها، والذي أورده أبو الطيب ما ذكره الشيخ. ثم اعلم أن جعل ذلك على ما ذكر إنما يفعل بعد وضع الميت في الأكفان بعد بسطها كما ذكرناه، فيحمل الميت من مغتسله مستوراً بثوب ويوضع على الكفن مستلقياً على ظهره ويجعل ما يفضل من الكفن عن طول الميت من جهة رأسه أكثر مما عند رجليه كما ذكره الشيخ آنفاً. وبعد أن يأخذ شيئاً من القطن فيجعل عليه الحنوط والكافور ويدخله بين أليتيه إدخالاً بليغاً؛ ليرد شيئاً [إن جاء] منه كما قال الشافعي، ويفعل ذلك بعد وضعه على الأكفان. وقد ظن المزني أن الشافعي أراد أن يجاوز بذلك حد الظاهر فيدخل القطن في دبر الميت، فقال: لا أحب ما قال الشافعي من المبالغة في الحشوة؛ لأنه قبيح، بل يجعل القطن كالموزة ويدخله بين أليتيه حتى ينتهي إلى حلقة الدبر.

قال البندنيجي: ونحن نقول للمزني: صدقت، وهذا مراد الشافعي فلا يظن به غيره. قال القاضي أبو الطيب، وتبعه ابن الصباغ: وقد بينه الشافعي في "الأم" فقال: حتى يبلغ حلقة الدبر. و [قد] [رأيت فيما] وقفت عليه من "تعليق" القاضي الحسين أن القفال قال: رأيت للشافعي في "الكبير" ما ظن المزني. ولأجله- والله أعلم- قال بعض الأصحاب، كما حكاه الرافعي: إنه لا بأس بما ظنه المزني، والمتولي قال: إنه لا بأس به إذا كان به علة يخاف أن يخرج بسببها من المخرج شيء عند تحريكه، ثم يأخذ قطنة أخرى ويضعها فوق ذلك، ثم يأخذ خرقة ويشق طرفيها ويدخلها بين الرجلين، ويشد أطراف الخرقة بعضها إلى بعض فوق الوركين، ثم يبسط على ذلك عريضاً من القطن وتشد أليتاه، ويستوثق؛ كي لا يخرج منه شيء، ثم يفعل ما ذكره الشيخ. قال: وإن طيب جميع بدنه بالكافور فهو حسن؛ لأنه يقويه ويصلبه ويذهب الرائحة الكريهة إن كانت، وقد حنط عمر- رضي الله عنه- بالكافور، وكذا يستحب أن يحنط رأسه ولحيته بالكافور، ولو حنظهما بالمسك جاز؛ لقوله- عليه السلام-: "أطيب طيبكم المسك" أخرجه مسلم، وقد قال بعض الأصحاب: إن استعمال الحنوط واجب؛ لأن الشافعي قال في "الأم" والقديم معاً: وكفن الميت وحنوطه ومؤنته حتى يدفن من رأس ماله، ليس لوارثه ولا لغرمائه منع ذلك. والقائل بعدم الوجوب تمسك بقوله بعد ذلك بسطرين: "ولو لم يكن حنوط ولا

كافور في شيء من ذلك رجوت أن يجزئ"، وقد قال البندنيجي: إن الأصحاب لأجل النصين جعلوا في وجوب ذلك وجهين. قال: والظاهر أنها على قولين، وعلى ذلك جرى في "المهذب"، وأشار القاضي أبو الطيب إلى أن الخلاف مبني على الخلاف في إيجاب الثياب الثلاثة ولا جرم جزم الشيخ بالاستحباب لما جزم بأن الواجب ثوب واحد، وقد حكى الإمام عن العراقيين في المسألة طريقين: إحداهما: حكاية وجهين في المسالة كالثوب الثاني والثالث. والثانية: القطع بعدم الوجوب. قال: وهو الذي يجب القطع به، وقال الغزالي: إنه الصحيح. ثم هذا إذا لم يكن محرماً ولا المرأة معتدة. قال: فإن كان- أي: الميت- محرماً لم يقرب الطيب، ولا يلبس المخيط- أي: إذا كان رجلاً- ولا يخمر رأسه؛ لما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: وقصت برجل محرم ناقته فقتلته، فأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اغسلوه وكفنوه ولا تغطوا رأسه ولا تقربوه طيباً؛ فإنَّه يبعث مهلاً"، فنص على حكمين من أحكام الإحرام، ونبه على أن العلة الإحرام؛ فوجب اطراد جميع أحكامه، ولأنه محرم لا يخرج من إحرامه بفعله؛ فوجب ألا يبطل بموته كالحي، وحكمه في تقليم أظفاره وقص شاربه وإزالة شعر عانته وغير ذلك- إذا

استحببناه- حكم المحرم، إلا أنه إذا فعل به ذلك لا يلزمه في تركه شيء بلا خلاف، وهل يجب على الفاعل الفدية؟ فيه وجهان حكاهما العمراني في "الزوائد". قال الرافعي: ولا بأس بالتجمير عند غسله، كما لا بأس بجلوس المحرم عند العطار. أما إذا كانت الميت امرأة فلا تقرب الطيب ولا يخمر وجهها، ويجوز أن تلبس المخيط، ويغطى رأسها. والمعتدة إذا ماتت هل تقرب الطيب أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو قول أبي إسحاق-: لا؛ استصحاباً للتحريم كالمحرمة. والثاني- وهو قول عامة الأصحاب كما قال المتولي، والأظهر في "الرافعي"، والمختار في "المرشد"-: أنه يجوز؛ لأن التحريم في الحياة كان للتجرد عن الأزواج أو للتفجع، وقد زال بالموت. والوجهان جاريان- كما قال المتولي- في جواوز تكفينها في ثياب الزينة، وقد اختلف قول الشافعي في كيفية لف الأكفان على الميت: فقال في "الأم"- وهو الذي نقله المزني- إنه تثنى عليه صنفة الثوب الذي يليه على شقه الأيمن، ثم الصنفة الأخرى على شقه الأيسر حتى يواري صنفة الثوب التي ثنيت أولاً كما يشتمل الحي بالساج وهو الطيلسان. وقال في القديم، وغسل الميت من "الأم": تؤخذ صنفة الثوب اليمنى فترد على شق الرجل الأيسر، ثم تؤخذ صنفة [الثوب] اليسرى فترد على شق الرجل الأيمن. قال البندنيجي: وحاصل ذلك أنه نص في الجديد على البدأة من الجانب الأيسر، وفي القديم على أن البدأة من الجانب الأيمن، واختلف الأصحاب في ذلك على ثلاث طرق: إحداها: أن في المسألة قولين. والثانية- حكاها القاضي أبو الطيب وابن الصباغ-: القطع بأنه يبتدئ بما يلي شقه

الأيمن من الصنفة، فيثنيه على شقه الأيسر [ثم يثني ما يلي شقه الأيسر] على الأيمن كما بين الشافعي، وهذه صححها في "المهذب" وضعفها ابن الصباغ. والثالثة- حكاها البندنيجي عوض هذه: القطع بما قاله في الجديد، وقال: إن قوله في القديم يبدأ من الجانب الأيمن، يعني: يرفع أولاً من الجانب الأيمن، ويبدأ بالإدراج من الجانب الأيسر، لتكون صنفة الثوب التي من اليسار تحت التي من اليمين، ثم يصنع بكل لفافة هكذا، فإذا أدرجه في واحدة- كما وصفنا- عطف الفاضل من الثوب الذي عند رأسه على وجهه، والفاصل من عند رجليه على رجليه، فإن خشي أن تنحل عليه عقدها، وإذا وضع في اللحد حلت كلها، قال في "المهذب" وغيره: لأنه يكره أن يكون عليه فيه شيء معقود، والله أعلم. وصنفة الثوب- بصاد مفتوحة ونون مفتوحة وبعدها تاء-: طرَّته.

باب الصلاة على الميت

باب الصلاة على الميت أراد بالميت: الميت المسلم، أما الكافر فلا تحل الصلاة عليه؛ لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113]، وقال تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} الآية [التوبة: 84]. قال: وهي فرض على الكفاية، أي: حيث تشرع؛ لقوله- عليه السلام-: "فرض على أمتي غسل موتاها والصلاة عليها ودفنها"، وقال- عليه السلام-: "صلوا على من قال لا إله إلا الله" فأمر بذلك وظاهره الوجوب، وليس فرض عين بالاتفاق؛ فتعين أن يكون فرض كفاية وهو إجماع. ويستحب الإكثار في عدد المصلين؛ لقوله- عليه السلام-: "ما من رجل يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه" أخرجه مسلم. وبماذا تحصل الكفاية حتى يسقط بفعلها الفرض عن الباقين؟ فيه قولان في "المهذب" و"الشامل" وغيرهما، ووجهان في "الوسيط" مع آخرين: أحدهما: ثلاثة؛ لقوله- عليه السلام- "صلُّوا" وهذا خطاب للجمع، وأقله ثلاثة، وقد ادعى البندنيجي أنه ظاهر المذهب؛ لأنه قال: ولو أحدث الإمام، وانصرف

-أتمها المأمومون فرادى، فإن كانوا كلهم غير متوضئين أعادوا الصلاة، فإن كان منهم ثلاثة متوضئين أجزأت الصلاة، وصححه أبو الفرج الزاز، ولم يحك الماوردي غيره. والثاني من القولين: أنها تحصل بواحد؛ لأنها صلاة لا يشترط فيها الجماعة فلا يشترط فيها الجمع كغيرها من الصلوات. قال ابن الصباغ: وعليه نص في "الجامع الكبير" فإنه قال: إذا صلى عليها واحد- أجزأ، واختاره في "المرشد"، وقال جماعة: إنه الظاهر. والثالث: أنها تحصل باثنين؛ بناءً على أن أقل الجمع اثنان، كذا قاله البغوي تبعاً للقاضي الحسين، ولم يحكه الفوراني وحكى ما سواه. وقال الرافعي: إنه لم يبلغ الإمام نقلاً، لكنه قال: هو محتمل جداً؛ لأن الجماعة تحصل بذلك، وهو كقولنا في مسألة الانفضاض على رأي: يكتفي ببقاء واحد مع الإمام. والرابع: أنها لا تسقط بأقل من أربعة، وهو ما صدر به في "الوسيط" كلامه، وألحقه الشيخ أبو علي بالحمل، وهو لا يجوز أن ينقص عن أربعة كما قال الإمام، وهو هفوة منه؛ فإن الحمل بين العمودين قد يحصل بثلاثة، وميل الشافعي إلى أن الحمل بين العمودين أفضل. ولو زاد المصلون على ذلك فصلاة الجميع تقع فرضاً كما صار إليه الأئمة؛ لأن بعضهم ليس بأولى من البعض، وإذا عسر التمييز فالوجه القضاء بالفريضة في حق الكافة. قال الإمام: ويحتمل أن يقال: هو بمثابة ما لو أوصل المتوضئ الماء إلى جميع رأسه دفعة واحدة، وقد تردد الأئمة في أن الكل يوصف بالفريضة أم الفرض مقدار الاسم على الإبهام من الرأس؟ فليخرج الأمر في الجمع على ذلك. وقد يتخيل فرق بأن مرتبة الفريضة تزيد على مرتبة السنة وكل [من دخل] في الجمع الكبير لا ينبغي أن يحرم رتبة الفريضة، وقد قام بما ندب إليه، ولا يتحقق مثل

ذلك في مسح الرأس، وأيضاً فالتطوع بالزيادة على مقدار الفرض في مسح الرأس مشروع، والتطوع بصلاة الجنازة ممنوع. وقد أقام مجلي ما أبداه الإمام احتمالاً وجهاً في المسألة فقال: هل تكون [صلاة] الزائد على ما يسقط الفرض فرضاً أو نفلاً؟ فيه وجهان؛ بناء على أن الخلاف في مسح الرأس، وأولى بأن يكون الكل فرضاً؛ فإنه لا يشعر التطوع بمثلها [بخلاف الزائد على الواجب في المسح؛ لأن مسح بعضه يجزئ والمراد بأنه لا يشرع بتطوع بمثلها] أن من صلى مرة لا يشرع له أن يصلي مرة ثانية كما بينه في "الوسيط"، وإلا فالطائفة المفتتحة لصلاة ثانية بعد فراغ الأولى مشروعة كما تعرفه، وتكون في حقهم كما لو كانوا في الجماعة الأولى، على أن في المشروعية لمن صلى وجهاً سنذكره. ثم هذا في الرجال، أما النساء فلا يسقط بصلاتهن فرض الكفاية عن الموجودين من الرجال على الأصح، وبه قطع البغوي والفوراني وكثيرون. قال في "الروضة": والظاهر أن الخنثى في هذا الفصل كالمرأة، وهل تسقط بصلاة الصبيان المميزين عند وجود الرجال؟ فيه وجهان، أصحهما: السقوط. ولو انفرد النساء أو الصبيان سقط الفرض اتفاقاً. قال: والسنة أن تفعل في جماعة، أي: إذا أقامها الذكور؛ لأنه- عليه السلام- هكذا كان يصلي، وعليه استمر الناس، وقال- عليه السلام-: "ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف إلا وجبت له الجنة" أخرجه أبو داود، وقال الترمذي: إنه حسن.

قال أبو داود: وكان مالك إذا استقل أهل الجنازة جزأهم ثلاثة صفوف؛ للحديث. فإن صلوا فرادى جاز وسقط الفرض؛ لأن الصحابة صلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أفراداً، أخرجه مسلم. [و] قيل: وإنما فعلوا ذلك؛ تعظيماً لشأنه، وحكى أبو الطيب أن الشافعي- رحمه الله- قال: إنما فعلوا ذلك؛ للتنافس في الصلاة عليه حتى تعقد الخلافة لأحد. أما إذا أقامها النساء فقط فالجمهور على أن السنة أن يصلين فرادى، فإن صلين جماعة جاز، ووقفت الإمامة وسطهن. وفي "العدة" أنه يستحب لهن الجماعة في جنازة المرأة. ويجوز فعلها في جميع الأوقات، ولا تكره في الليل؛ لما روى أبو داود عن جابر ابن عبد الله قال: رأى ناس ناراً في المقبرة، فأتوها، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبر، وإذا هو يقول: "ناولوني صاحبكم"، وإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر.

قال الشيخ زكي الدين عبد العظيم: وهذه النار ليست على ما كان عليه الجاهلية يفعلون في جنائزهم وإنما قصد بهذه لتضيء لهم حتى يتمكنوا من مباشرة ما يحتاجون إليه من أمر الدفن. وقد دفنت مسكينة ليلاً، فقال عليه السلام: "هلاَّ آذنتموني" فقالوا: خشينا أن نوقظك. ولم ينكر ذلك، وكذا يجوز فعلها في جميع الأماكن الظاهرة حتى المسجد؛ لرواية مسلم عن عائشة أنها قالت: لما توفي سعد بن أبي وقاص أرسل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه، ففعلوا، فوقف به على حجرهن يصلين عليه، فبلغهن أن الناس عابوا ذلك، وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: "ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به! عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد؟! وما صلى رسول - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد"، وروى أبو داود عنها قالت: "والله، لقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على

ابني بيضاء في المسجد: "سهيل وأخيه"، وأخرجه مسلم، وقد روي أن عمر صلى على صهيب في المسجد، وكان بحضرة المهاجرين والأنصار. فإن قيل: يجوز أن يكون من صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارج المسجد وكان- عليه السلام- في المسجد؛ فلا حجة فيه. قيل: ذلك ممتنع؛ لوجهين: أحدهما: أنه لو كان كذلك لما حسن قول عائشة. والثاني: أن الباب لم يكن عند القبلة، والقبلة لابد لها من حائط؛ فدل على أن ذلك لا يتصور، وأن الجنازة أدخلت المسجد. نعم، إن ظهرت أمارات التلويث من انتفاخ وشبهه، لم يدخل المسجد. فرع: هل يستحب الإنذار بالميت وإشاعة موته في الناس بالنداء والإعلام؛ ليجتمعوا للصلاة عليه أم يكره؟ الذي حكاه البندنيجي والشيخ وغيرهما: الكراهة، [و] قال في "الروضة": إنه لا بأس به، وحكى الماوردي فيه ثلاثة أوجه عن الأصحاب، ثالثها: يستحب ذلك للغريب، ولا يستحب لغيره، وبه قال ابن عمر، رضي الله عنه. وهل يستحب عند حضور الجنازة أن ينادى لها: الصلاة جامعة؟ حكى الرافعي عند الكلام في الأذان فيه وجهين، وقال في "الروضة": ثم الأصح أنه لا يستحب وبه قطع كثيرون، وهو المنصوص في "الأم".

قلت: وكلام الشيخ يرشد إليه حيث قال: "إذا اجتمع جنائز قدم إلى الإمام أفضلهم، وينوي ويكبر"، فلو كان مستحباً لذكره كما فعل في الكسوف والاستسقاء. قال: وأولى الناس بذلك- أي: غير الأئمة، كما سيأتي-: أبوه، ثم جده، أي: أبو أبيه؛ لأن المقصود قرب الدعاء من الإجابة، وذلك منوط بمن زاد حنوه وعظمت شفقته، والأب وأبوه وإن علا أوفر شفقةً وأكثر حنوًّا فقدِّما على غيرهما، والأب أكثر في ذلك من ابنه؛ فلذلك قدم عليه. قال: ثم ابنه؛ لأنه بعد الآباء في الشفقة فكان بعدهما في التقديم، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الميت رجلاً أو امرأة، صرح به القاضي أبو الطيب وغيره، وإن كنا لا نثبت لابن المرأة ولاية عليها في النكاح. وقال الإمام: كان شيخي يرتب الأولياء في الإمامة ترتيبهم في ولاية النكاح، وفي ألفاظ الشافعي ذكر الولاة، والأولياء بعد الوفاة هم الأولياء في الحياة، والابن لاحظ له في الولاية أصلاً، وهذا الأصل لو ثبت اقتضى تقديم الإخوة وأولياء النكاح على الابن، وهو محل التردد، والظاهر عندي تقديم الابن. قال: ثم ابن ابنه، أي: وإن سفل؛ لمشاركته الابن في البعضية والتعصيب المقتضي للشفقة والحنوِّ. قال: على ترتيب العصبات، أشار بذلك إلى أن هذا التقديم مناطه العصوبة فمن قدم بها في الميراث فهو المقدم بعد الأب وأبيه هاهنا، كما صرح به الأصحاب حتى قالوا- كما حكاه القاضي أبو الطيب-: إن المعتق حيث يكون الإرث له يكون له ولاية التقدم في الصلاة عليه، وقال الإمام: لعله الظاهر. وعند فقد العصبات المقدم من يدلي بقرابة الأم على الأجانب، وهذا مما لا خلاف فيه. نعم، عبارات بعض الأصحاب تقتضي خلافاً فيمن هو المقدم منهم على غيره منهم، فالذي قاله البغوي: أن المقدم منهم [أبو] الأم ثم الأخ للأم ثم الخال ثم العم للأم. فقدم أبا الأم على الأخ من الأم مع أنه وارث، وعبارة الغزالي تقتضي أن الأخ من الأم مقدم على أبي الأم؛ لأنه قال: ثم إن لم يكن وارث قدم ذوو الأرحام.

فإن أردت الجمع بين الكلامين، فالوجه- كما قال الرافعي-: أن يحمل قول الغزالي: "وإن لم يكن وارث"، أي: من العصبات، وعبارة القاضي الحسين: أن المقدم الأخ من الأم، ثم الخال ثم العم للأم، وسكت عن أبي الأم. وقد أفهم قول الشيخ: "على ترتيب العصباـ" أن من يدلي من العصبات بالأبوين مقدم على من يدلي بالأب فقط: لأن هكذا ترتيبهم في الميراث، وهو ما نص عليه الشافعي في عامة كتبه، وحكى القاضي أبو حامد في "جامعه" والشيخ أبو علي في "الإفصاح" أن للشافعي قولاً آخر: أنهما سواء. واختلف الأصحاب لأجل ذلك في المسألة على طريقين: إحداهما: إثبات قولين فيها كما في ولاية النكاح؛ لأن الأم لا مدخل لها فيهما. والثانية: القطع بتقديم الشقيق؛ فإن الأم لها مدخل في الصلاة على الميت في الجملة وإن لم يكن كمدخل الرجل؛ لأنها تصلي مأمومة ومنفردة. قلت: وإمامةً عند فقد الرجل كما تقدم وإن كان خلاف الأولى، فقدم بها؛ كالميراث لما كان لها مدخل فيه قدم بها وإن لم يكن لها تعصيب، ويخالف ولاية النكاح وتحمل العقل؛ لأنه لا مدخل لها فيه بحال، وجعل الماوردي الفرق أن لها مدخلاً في الولاية على الميت في غسله؛ فقوي الأخ بها، ولا مدخل لها في النكاح؛ فلم يزدد الأخ بها قوة هناك، وهذا الطريق أصح باتفاق الأصحاب، والطريقان جاريتان- كما قال أبو الطيب- في ابني عم أحدهما أخ لأم. قال: فإن استوى اثنان في الدرجة، أي: وكل [واحد] منهما يحسن الصلاة- قدم أسنهما، أي: إذا حمدت طريقته كما نص عليه؛ لأن دعاءه أرجى للإجابة؛ قال- عليه السلام-: "إن الله تعالى يستحيي أن يردَّ دعوة ذي الشَّيبة في الإسلام". قال في "الشامل": ومن أصحابنا من قال: إنه يقدَّم أفقههما ثم أقرؤهما كما في

الصلاة، وهو ما حكاه في "الوسيط" عن المراوزة وأن العراقيين قالوه تخريجاً. قال في "الشامل": وظاهر المذهب: الأول، والفرق: أن سائر الصلوات تتعلق بحق الله- تعالى- خاصة فقدم من هو أعلم بشرائطها، والمقصود هنا الدعاء للميت، والأسن أقرب إلى الإجابة فكان أولى. وفي "النهاية" أنه اشتهر خلاف أئمتنا فيما إذا اجتمع أخوان أحدهما أفقه والآخر أسن فمن الأولى بالإمامة والأسن يحسن ما يقع به الاستقلال. ثم من قدم الأسن لم يعتبر السنية وبلوغ سن المشايخ، وذكر العراقيون أن نص الشافعي يدل على تقديم الأسن على الأفقه في صلاة الجنازة، ونصه في سائر الصلوات يدل على تقديم الأفقه، فمن أصحابنا من جعل في المسألة قولين في جميع الصلوات نقلاً وتخريجاً. وهذا الذي ذكروه في جميع الصلوات لم يذكره المراوزة؛ بل قطعوا بتقديم الأفقه في غير صلاة الجنازة، وذكروا في صلاة الجنازة الخلاف، أما إن كان أحدهما لا يحسن الصلاة فالذي يحسنها أولى، ولو كانا يحسنانها لكن طريقة أحدهما غير محمودة فالأفقه والأفضل مقدم عليه. قال: فإن استويا في ذلك- أي: وتشاحَّا – أقرع بينهما؛ لعدم المرجح. وهذا كله مع الحرية، أما العبد المناسب، فلا ولاية له في الصلاة على الميت؛ لأن الرق يمنع من ثبوت الولايات، قاله الماوردي وغيره، وقضية سلب الولاية عنه أن يقدم الحر الأجنبي عليه كما يقدم الحر البعيد على الرقيق الذي هو أقرب منه في نص الشافعي الذي لم يحك العراقيون غيره، لكن في "النهاية" و"الإبانة" الجزم بأن القريب الرقيق مقدم على الحر الأجنبي، وحكاية وجهين في أن الأخ [من الأب] إذا كان عبداً ومعه عم حر أيهما أولى، والقاضي الحسين حكاهما فيما إذا اجتمع جد مملوك وأخ لأم حر أيهما أولى، ويجريان أيضاً في أخوين أحدهما حر غير فقيه، والآخر عبد

فقيه، كما حكاه الشيخ أبو محمد، وقال في "الوسيط": لعل التسوية أولى؛ لتعادل الخصال، والأصح في "الروضة" تقديم الحر، ولو كان الميت في فلاةٍ ومعه رجل حر وآخر مملوك وصبي مميزة ونسوة، فالحر أولى من الكل، والعبد بعده، ثم الصبي المميز. قال: وإن اجتمع المناسب والوالي- أي: سواء كان الإمام الأعظم أو إمام المسجد- قدم المناسب في أصح القولين؛ لعموم قوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] ولأنها ولاية يعتبر فيها ترتيب العصبات؛ فوجب أن يكون القريب أولى بها من الوالي كالنكاح، وهذا هو الجديد، وبه جزم الفوراني، ومقابله: أن الإمام الأعظم مقدم، ثم إمام المسجد؛ لقوله- عليه السلام-: "لا يؤمَّنَّ رجلُ رجلا في سلطانه إلا بإذنه"، وفي بعض الألفاظ: "لا يؤمُّ أميرُ في إمارته"، وهو عام في صلاة الجنازة وفي غيرها، وروي أن الحسين ابن علي قدم سعيد بن العاص، وكان أمير المدينة حتى صلى على أخيه الحسن بن علي، وقال: "لولا السنة لما قدمتك"، وهذا يدل على أن السنة تقديم الوالي، وبالقياس على

الصلوات المكتوبة، وهذا هو القديم. والقائلون بالجديد قالوا: الخبر محمول على الصلوات المفروضة، وتقديم الحسين وقوله: "لولا السنة لما قدمتك" يحتمل أن يكون أراد به إطفاء الفتنة [التي تثور إن] منعه، ومن السنة إطفاء الفتنة، ويحتمل أن يكون قد تأخر في المجيء فجاء، وقد فرغ الحسين من الصلاة، فقال: تقدم؛ فلولا أن السنة لمن لم يصل أن يصلي لمنعتك من الصلاة عليه لتأخرك؛ وإذا احتمل ما ذكرناه لم يكن فيه حجة. وتخالف صلاة الجنازة سائر الصلوات؛ لأن الغرض بها الدعاء للميت والحنو عليه [فيه]، والولي أولى بذلك. فرع: لو أوصى الميت بأن يصلي عليه من ليس بمقدم في الصلاة عليه مع وجود المقدم، فهل تنفذ وصيته؟ حكى صاحب "الفروع" فيها وجهين. وقال الإمام: إن شيخه خرجها على وجهين كالوجهين فيما إذا أوصى في أمر أطفاله إلى أجنبي وأبوه الذي يلي أمرهم شرعاً حيُّ، ولا بعد في انقداح خاطرين فأكثر في مسالة واحدة، وإن كان أحدهما أعظم قدراً [من الآخر] وأسبق، ومختار الإمام محمد بن يحيى نفوذها، والذي أورده الجمهور أنها لا تنفذ؛ لما فيها من إبطال حق الغير من التقدم. قال: وإن اجتمع جنائز قدم إلى الإمام أفضلهم. هذا الفضل ينظم ثلاث صور: إحدها: إذا اجتمع جنائز رجل وصبي وخنثى وامرأة، وقد حضرت في وقت واحد- قدم الرجل، [فيوضعون أمام الإمام صفاً بعد صف هكذا: والذي يلي الإمام: الرجل] ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة؛ فتكون مما يلي القبلة، والأصل في ذلك: ما روى أبو داود عن عمار مولى الحارث أنه شهد جنازة أم كلثوم وابنها، فجعل الغلام مما يلي الإمام، فأ، كرت ذلك، وفي القوم ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة وابو هريرة، فقالوا: هذه السنة. وأخرجه النسائي، وأم كلثوم هذه بنت علي بن أبي طالب زوج عمر بن

الخطاب، وابنها المذكور هو زيد الأكبر بن عمر بن الخطاب، وكان مات هو وأمه في وقت واحد، لم يدر أيهما مات أولاً؛ فلم يورث أحدهما من الآخر، وكان ذلك والإمام يوئمذ سعيد بن العاص وهو الأمير، ففعل في الصلاة ما ذكرناه، وقد روى نافع أن ابن عمر صلى على تسع جنائز، فجعل الرجال مما يليه، والنساء صفوفاً وراء الرجال، ولم ينكر عليه أحد، ولأن هكذا يفعل في موقفهم في الصلاة في حال الحياة؛ فكذا بعد الموت، وهذا [والذي يليه] ما نص عليه الشافعي كما قال أبو الطيب، ولم يحك الأصحاب- والصورة هذه- خلافه، وقالوا: إنما قدم الخنثى على المرأة؛ لاحتمال أن يكون رجلاً وقد ظن المزني أان الشافعي لم يذكر الخنثى، فقال: والخنثى في معناه. فإن قيل: ما يلي القبلة أشرف- فلم لم يجعل الرجل يليها كما يوضع في اللحد عند اجتماعه والمرأة في قبر واحد للضرورة؟ قيل: الممكن فيه بعد الاتباع: أن القرب من الإمام مطلوب، وهو عند الصلاة على الجنازة موجود؛ فقرب إليه، وفي القبر: الإمام مفقود؛ فقرب إلى القبلة لحيازة الشرف الذي لم يعارضه غيره. أما إذا كان حضورهم على التدريج، فإن كان على النحو الذي سبق بأن حضر الرجل، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة، فالحكم كما تقدم، وإن حضرت المرأة أولاً ثم الرجل، ثم الصبي، ثم الخنثى، فالحكم كذلك، وإن حضر الصبي أولاً ثم الرجل بعده فقد حكى صاحب "التقريب" وجهاً أن الحكم كذلك، والذي أورده العراقيون والقاضي الحسين، وذهب إليه معظم الأئمة- كما قال الإمام-: أن المقدم الصبي، وحينئذ فإن رضي ولي الرجل بتأخيره عن الصبي فذاك، وإن اختار تأخيره ليصلي عليه منفرداً جاز. [الصورة] الثانية: إذا حضر جنائز من نوع واحد: رجال، أو صبيان، أو

نساء- فقد قال الشافعي: قدمت أفضلهم، حكاه ابن الصباغ، وسكت عن تفصيل فيه، قال الماوردي والقاضي الحسين في "تعليقه": إن ذلك فيما إذا كان حضورهم في وقت واحد، ويلي الفاضل في القرب من يليه في الفضل حتى يكون آخرهم أقلهم فضلاً، فإن كان على الترتيب فالمقدم السابق. وفي كيفية وضع الموتى بين يدي الإمام في هذه الحالة وجهان أو قولان، حكاهما المراوزة: أصحهما عند الغزالي والقاضي الحسين: أنه على الهيئة السالفة [في الصورة السابقة]، وقال الإمام: إنه الذي قطع به معظم الأئمة. والثاني: أنها توضع صفاً واحداً رأس أحدهم إلى رجلي الآخر [هكذا:]، ويكون ذلك على يمين الإمام، ويقف الإمام عند الجنازة الأخيرة منهم، ويكون قربهم من الإمام على قدر فضلهم. ولا يجري هذا الوجه في الصورة السابقة؛ فإن الرجل والمرأة لا يقفان صفاً واحداً في الجماعات؛ فكذلك لا يوضعان صفاً واحداً. ويتعين هذا الوجه فيما إذا كان الجميع خناثي، لاحتمال أن يكون المؤخر رجلاً، قاله القاضي الحسين. ثم هذه الصورة والتي قبلها فيما إذا أرادوا العجلة والاكتفاء بصلاة واحدة، تعم الجميع، وقد يتعين ذلك لضيق الوقت وغيره، وإلا فالأفضل أن تفرد كل جنازة بصلاة، صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، ووجه جواز الاقتصار على صلاة واحدة بأن معظم الغرض من هذه الصلاة الدعاء للميت، والجمع بين عدد الموتى في الدعاء ممكن، وفي هذه الحالة إن تراضى أولياء الموتى بتقديم واحد للصلاة على الجميع فذلك، وإن تنازعوا فالمقدم من حضر ميته أولاً، رجلاً كان الميت أو صبياً [أو امرأة] لأن هذا الحق للولي، فصغر الميت وأنوثته لا يقدح في حقه. فإن استووا في الحضور فالمحكم: القرعة، وقد قال الشافعي في القديم و"الأم" معاً: [و] إن شاء ولاة ما سواها- أي: ما سوى الجنازة التي قدم وليها- أن يجتزءوا بتلك الصلاة فعلوا، وإن شاء كل واحد أن يعيد

الصلاة على ميته فعل. قال البندنيجي: وهذا هو الدليل على تكرار صلاة الجنازة. يعني: من كلام الشافعي. [الصورة] الثالثة: إذا أراد أولياء كل ميت إفراده بالصلاة عليه، والإمام في جميع الصلوات واحد- فيقدم إلى الإمام أفضلهم. قال الماوردي: إلا أن يخاف من غيره الفساد فيبدأ بالصلاة عليه، وهذا إذا حضروا معاً ولم يتشاحوا، فإن تشاحوا في التقدم قال الماوردي: أقرع بينهم، وبدأ بمن خرجت له القرعة، وإن كان غير أفضلهم. قلت: ويشكل الفرق بين هذه الصورة وبينما إذا أرادوا الاقتصار على صلاة واحدة، وقد حضروا معاً- فإنه يقدم إلى الإمام بالفضل، والفضل المعتبر هاهنا: الورع والخصال التي ترغب في الصلاة عليه، ويغلب على الظن كونها تقرب من رحمة الله- تعالى- ولا تقدم بالحرية، بخلاف استحقاق الإمامة؛ فإنه يقدم فيها الحر على العبد كما تقدم. قال في "النهاية": لأن الإمامة تصرف، والحر مقدم في التصرفات على العبد، وإذا مات الحر والعبد استويا في انقطاع تصرفهما؛ فكان أقرب معتبر ما ذكرناه. قلت: ولو وجه بأن الموت يزيل الرق كما تقدم. وحينئذ فلا مرجح- لم يبعد. قال: ويقف الإمام عند رأس الرجل، وعند عجيزة المرأة؛ لما روي أن أنساً- رضي الله عنه- صلى على رجل، فقام عند رأسه، فكبر أربع تكبيرات لم يطل

ولم يسرع، ثم أتي بامرأة فقام عند عجيزتها، وصلى عليها نحو صلاته على الرجل، فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على الجنازة كصلاتك: يكبر عليها أربعاً، ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم، أخرجه أبو داود، وروى البخاري عن سمرة بن جندب قال: صليت وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها. وهذه طريقة الشيخ أبي حامد التي لم يحك البندنيجي والقاضي الحسين غيرها، وهي في "الحاوي" منسوبة إلى البغداديين من أصحابنا، وحكي أن البصريين من أصحابنا

قالوا: يقف عند صدر الرجل، وعند عجيزة المرأة، ولم يورد الفوراني والغزالي والبغوي غيرها، وكذا أبو الطيب ونسبها إلى قول أبي علي في "الإفصاح"، والإمام نسبها إلى قول الصيدلاني، واستدل كذلك بأن أنساً كان يفعل ذلك، وأنه روجع في فعله، فقال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقف عند صدر الرجلوعجيزة المرأة". وقد ادعى في "التتمة" أن المذهب ما ذكره الشيخ، وهذا يؤذن بأن للشافعي نصاً فيها، وقد قال الماوردي والصيدلاني- كما حكاه الإمام: إنه لا نص للشافعي فيها، وبالجملة فهذا الخلاف في الأولى، وإلا فلو وقف وهي أمامه كيف شاء أجزأ. نعم، لو تقدم الإمام على الجنازة الحاضرة وجعلها خلف ظهره، فالذي حكاه القاضي أبو الطيب عند الكلام في الصلاة على الغائب: أنه لا يجوز، [و] حكى الإمام عن الأصحاب تخريجه على القولين في تقدم المأموم على الإمام؛ تنزيلاً للجنازة منزلة الإمام، وقال: لا يبعد أن يقال: يجوز التقدم على الجنازة، بل أولى؛ لأنها ليست إماماً متبوعاً حتى يتعين تقدمه، وإنما الجنازة والمصلون على الميت على صورة مجرم يحضر باب الملك ومعه شفعاء، ولولا الاتباع والجريان على سنن الأولين، وإلا ما كان يتجه قول تقديم الجنازة وجوباً. قال الرافعي: وهذا الذي ذكره إشارة إلى ترتيب الخلاف، وإلا فقد اتفقوا على أن الأصح: المنع، وما أيد به في "الوسيط" الجواز من جواز الصلاة على الغائب، وإن كان قد يكون وراءه، فقد تعرض لدفعه في "الوجيز" [اتباعاً للفوراني]؛ بأن سبب ذلك: الحاجة. قال: وينوي؛ لقوله- عليه السلام- "وإنما لامرئ ما نوى"، ووقت هذه النية ما سبق في سائر الصلوات، وكذا في اشتراط [الإضافة إلى الله – تعالى-] والتعرض للفرضية الخلاف في سائر الصلوات.

قال الرافعي: وهل يحتاج إلى التعرض لكونها فرض كفاية أم يكفي فيه مطلق الفرض؟ حكى الروياني [فيه] وجهين، أصحهما: الثاني. ثم إن كان الميت واحداً نوى الصلاة عليه، وإن حضر موتى نوى الصلاة عليهم، ولا حاجة إلى تعيين الميت ومعرفته، بل لو نوى الصلاة على من يصلي عليه الإمام جاز، قاله الرافعي تبعاً للبغوي: ولو حضر بعد أن يحرم الإمام بالصلاة على الجنائز الحضور، فأتي بجنازة أخرى- وهو في ابتداء الصلاة- لم تكن صلاته شاملة [له]؛ لأن الصلاة لم تنعقد عليه، وإنما انعقدت على الحضور، قاله القاضي الحسين وغيره. ولو عين الميت وأخطأ لم تصح صلاته، قاله الرافعي وغيره. قال في "الروضة": وهذا إذا لم يشر إلى معين، فإن أشار صح على الأصح. ويجب على المقتدي نية الاقتداء كما في سائر الصلوات، قال القاضي الحسين: ولا يضر أن يكون من صلى عليه الإمام غير من صلى عليه المأموم، مثل أن نوى الإمام الصلاة على حاضر والمأموم نوى الصلاة على غائب؛ لأن عندنا اختلاف نية الإمام والمأموم لا يمنع صحة الصلاة. قال: ويكبر أربع تكبيرات، أي: لا يزيد عليها ولا ينقص؛ لأن ذلك آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن ابن عباس وابن أبي أوفى قالا: "إن آخر ما كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجنائز أربع على جنازة سهيل بن بيضاء". وكذلك فعل أبو بكر حين صلى عليه - صلى الله عليه وسلم -، وعمر حين صلى على أبي بكر، وصهيب حين صلى على عمر، رضي الله عنهم،

وذكر إبراهيم النخعي أن الإجماع انعقد عليه في زمن عمر بعد أن كان ابن عباس وغيره يقولون: إنه يكبر ثلاثاً، وابن اليمان وغيره [يقول]: يكبر خمساً، وابن مسعود يقول: يكبر ما شاء ويتمسك كل منهم بخبر مروي. فلو كبر شخص على ميت خمساً، فهل تبطل صلاته أم لا؟ أطلق الفوراني والإمام والبغوي حكاية وجهين فيه: أحدهما: نعم؛ كما لو زاد ركعة؛ فإن كل تكبيرة بمنزلة ركعة. والثاني: لا، وهو الأصح في "التهذيب"، و"الرافعي" وقال: إنه الذي عليه الأكثرون، ووجهه الفوراني بأنه زاد ذكراً في الصلاة، وزيادة الذكر لا تبطل، والرافعي وجهه بأن الزيادة قد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فعلها]، إلا أن الأربع استقر الأمر عليها. وهذا الوجه في قد يظن أنه قول ابن سريج؛ فإن الماوردي وغيره حكوا عنه أنه قال: إن الاختلاف المذكور من الاختلاف المباح، وإن بعضه ليس أولى من بعض. وليس كذلك؛ لأن الخمس أو الأربع عند ابن سريج سواء، وعند هذا القائل الأربع أولى؛ فهو غيره. والذي حكاه القاضي الحسين وتبعه المتولي: أنه ينظر: فإن كان جاهلاً لم تبطل

صلاته، وليس عليه سجدتا السهو؛ لأن السجود ما شرع في أصل هذه الصلاة فكذلك في جبرها، وإن كان عالماً بطلت صلاته، وإذا جمعت بين مطلق النقلين جاءك في المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: الفرق بين [العالم والجاهل]، والرافعي خص الوجهين بحالة العلم، وقطع بالصحة في حالة الجهل، وفيه نظر؛ لأنا قد قررنا أن عدد التكبيرات كعدد ركعات الصلاة، ومن جهل كم عدد ركعات الصلاة وتحرم بها لم تصح صلاته؛ فكذا ينبغي أن يكون هاهنا، وقد طرد الجيلي الوجهين فيما إذا كبر

سبعاً أو تسعاً، وقال: إن الأصح الصحة أيضاً، وعلى المشهور- وهو خلاف ما قاله ابن سريج- لو اقتدى شافعي بمن يكبر خمساً فهل يتابعه أو لا؟ حكى الإمام عن رواية الشيخ أبي علي فيه طريقين: إحداهما: أن في المتابعة قولين كالقولين فيمن اقتدى في صلاة العيد بشخص يرى أن التكبيرات في الركعة الأولى سبع، وهو يرى أنها خمس أو بالعكس، هل يتابعه في معتقده أو يفعل معتقد نفسه؟ والثانية: القطع بأنه لا يتابعه، وهي التي أوردها الماوردي، قال الإمام: وهذا يلتفت على أن التكبيرة الخامسة هل تبطل الصلاة أم لا؟ فإن رأيناها مبطلة لم يتابع المقتدي الإمام فيها، وعلى هذا قال الماوردي والشيخ أبو علي: إذا أتى الإمام بالأربع فهل يسلم المأموم أو ينتظر سلامه حتى يسلم معه؟ فيه وجهان، أظهرهما في "الرافعي": الثاني، وهو الذي أورده ابن الصباغ، وفرق بينه وبين ما إذا اقتدى بإمام [قام] إلى خامسة حيث يسلم ولا ينتظره: بأن المأموم يلزمه اتباع الإمام في الأفعال، فلو لم يسلم عقيب قيامه لتابعه، ولو تابعه لبطلت صلاته، ولا يلزمه متابعته في الأذكار، فكذلك قلنا: ينتظره؛ لفقد ذلك المحذور، وقال الإمام: إن ذلك يلتفت على ما ذكرناه [من] أن الخامسة هل تبطل الصلاة؟ وإن صلاة الإمام إذا كانت على صفة يعتقد المقتدي بطلانها في عقده لو صدرت منه، فكيف يكون سبيل الاقتداء والحالة هذه؟ تخرج على خلاف تقدم في مسائل الأواني، وفي اقتداء الشافعي بالحنفي مع انطواء صلاة الحنفي على ما رآه الشافعي مبطلاً للصلاة، فإن منعنا ذلك فليبادر المقتدي إذا كبر الإمام أربعاً ويسلم قبل أن يكبر الإمام التكبيرة الخامسة. قلت: وتلخيص ذلك: أنا إذا قلنا: إن الخامسة لا تبطل، انتظره، وإن قلنا: إنها تبطل وإن اقتداء الشافعي بالحنفي يصح، فكذلك، وإلا فارقه قبل أن يكبر الخامسة.

وهذا نظير ما تقدم في صلاة الخوف عند تفرقة الإمام المصلين أربع فرق، وقلنا: إن صلاة الإمام باطلة، وتصح صلاة الطائفة الأولى والثانية دون الثالثة والرابعة؛ بناءً على أن بطلان صلاة الإمام تكون عند المخالفة، والغزالي جعل صحة الاقتداء على قولنا ببطلان الصلاة بالخامسة كالاقتداء بالحنفي، وقضيته: عدم الصحة في الابتداء. قلت: ويتأيد بأن من نوى فعل منافٍ في أثناء الصلاة هل تبطل في الحال أو عند فعله؟ فمن قال: تبطل في الابتداء، يوافق الغزالي في دعواه، والله أعلم. قال: يرفع [فيها اليدين]، أي: إلى حذو المنكبين كما في تكبيرة الإحرام في غيرها من الصلوات. ووجهه: ما روي عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه مع كل تكبيرة. وروى الشافعي بإسناده عن ابن عمر [و] عن أنس: أنهما كانا يفعلان ذلك. ولأنها تكبيرات واقعة في حال الاستقرار فيسن فيها الرفع كالأولى. وقد وافق الخصم- وهو أبو حنيفة ومالك- على الرفع فيها. ويستحب أن يجمع يديه بينها ويضعهما تحت صدره كما في سائر الصلوات. قال: ويقرأ في الأولى [فاتحة الكتاب]؛ لما روى البخاري عن طلحة بن عبيد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ فاتحة الكتاب، فقال: "لتعلموا أنها سنة"، وأراد أنها سنة في الأولى، يدل عليه رواية النسائي عن أبي أمامة: أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة

الأولى بأم القرآن مخافتةً". والمراد بهذه السنة: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي طريقته، يدل عليه رواية الشافعي بسنده عن جابر بن عبد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر على الميت أربعاً، وقرأ بعد التكبيرة الأولى بأم القرآن. وهل يستحب الجهر فيها إذا فعلت ليلاً كما يستحب الإسرار فيها إذا فعلت نهاراً؟ فيه وجهان في الطريقين: أحدهما: نعم؛ لأنه صح عن ابن عباس أنه قرأ السورة بعد الفاتحة وجهر. أخرجه النسائي، وقد ادعى القاضي الحسين أنه الأظهر، وقال الشيخ أبو حامد: إنه الذي يجيء على المذهب، ونسبه في "المهذب" وغيره إلى قول أبي القاسم الداركي، [والإمام إلى الصيدلاني والروياني عن أبي حامد]. والثاني: لا؛ لأنه روي عن ابن عباس أنه قال: إني لم أجهر بها؛ لأن الجهر سنة، ولكني أحببت أن يعلموا أن لها قراءة. أخرجه أبو بكر النيسابوري في "الزيادات". ولأنها صلاة لا يشرع فيها السورة؛ فلا يسن فيها الجهر كالركعتين الأخريين من العشاء. قال القاضي أبو الطيب: والأول غلط؛ لأن هذه الصلاة ليس لها اختصاص بالنهار دون الليل، وإنما وقعتها حين تحضر ويوجد سببها، وليس لها وقت راتب؛ فهي مخالفة لسائر الصلوات في الشريعة. وقد أفهم عطف الشيخ القراءة على التكبيرات أن دعاء الاستفتاح والتعوذ غير مشروعين في هذه الصلاة، وهو ما حكاه البندنيجي، وقال الإمام: إنه ظاهر

المذهب؛ لأنها صلاة مبناها على الإيجاز، وهو الذي يليق بها؛ لمكان الميت وما ندبنا فيه إلى أسباب البدار والإسراع، وحكى الغزالي وغيره معه وجهين آخرين: أحدهما: أنهما مشروعان فيها كغيرها من الصلوات، وكما يشرع فيها التأمين. قال أبو الطيب: وهذا هو الصحيح عندي. بعد أن حكى عن الأصحاب الأول. قلت: وما اختاره القاضي هو ما نص عليه في "الأم"، كما حكاه القاضي في صفة الصلاة في الاستفتاح، وإذا ثبت ذلك في الاستفتاح فالتعوذ من طريق الأولى؛ لأنه أقوى منه. ولهذا كان الوجه الثاني وهو الذي صححه في "الوسيط" وغيره، ولم يحك في "الإبانة" سواه-: مشروعية التعوذ دون دعاء الاستفتاح، والمذكور في "الحاوي": الجزم بمشروعية التعوذ، وحكاية وجهين في الاستفتاح، وهي طريقة محكية في "التهذيب"، وقال في "التتمة": هل يشرع دعاء الاستفتاح؟ فيه وجهان: فإن قلنا: يشرع، فالتعوذ أولى، وإلا فوجهان؛ بناء على أن التعوذ هل يسن في الركعة الثانية أم لا؟ ولا يخرج مجموع ما ذكرناه عن ثلاثة أوجه كما ذكرها الغزالي. ولا يشرع فيها قراءة السورة على النص، ولم يحك ابن الصباغ والبندنيجي والقاضي الحسين غيره، وادعى الإمام أن العلماء لم يختلفوا في ذلك، وفي "المهذب" وغيره حكاية وجه آخر أنه يقرأ بعد الفاتحة بسورة قصيرة. قال القاضي أبو الطيب: وهو اختيار ابن المنذر؛ لأنه صح عن ابن عباس أنه قرأ فاتحة الكتاب وسورة وجهر فيهما بالقراءة، ثم قال: "إنما فعلت ذلك؛ لتعلموا أنها سنة". قال: وفي الثانية يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لما روي عن أبي أمامة أنه قال: السنة

في الصلاة على [الجنائز: أن يكبر]، ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يخلص الدعاء للميت، ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى، ثم يسلم. ذكره محمد بن نصر المروزي في كتاب "رفع الأيدي"، وخرجه عبد الرزاق أيضاً، وأبو أمامة أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذكر المزني أنه بعد الثانية يحمد الله- تعالى- ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات. فذكر مع الصلاة الحمد [لله] والدعاء، ولم يختلف الأصحاب- كما قال الماوردي- في أن الدعاء للمؤمنين والمؤمنات فيها مستحب، والحمد اختلفوا في استحبابه: فمنهم من قال: لا، والمزني غلط؛ ولذلك لم يذكر ذلك في "جامعه"، وهذا ما أورده البندنيجي، وقال الرافعي: إنه قضية كلام الأكثرين. ومنهم من قال: هو مستحب، والمزني لم ينقل ذلك في كتاب، وإنما رواه سماعاً من لفظه، وهذا ما أورده المتولي والبغوي، وكذا القاضي الحسين، وقال: إن المزني صادق في روايته. وفي "النهاية": أن أئمتنا اتفقوا على ما ذكره من حمد الله- تعالى- قبل الصلاة، وهو غير سديد، ولم ير للشافعي منصوصاً في [شيء من] كتبه. وأما الدعاء فقد تردد فيه أئمتنا، فمن رآه مستنده أن الصلاة وراء التشهد الأخير تستعقب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، فهذه الصلاة كتلك الصلاة، لكن إذا لم يصح في ذلك ثبت من جهة السنة، فإثبات هذا في صلاة مبناها على نهاية التخفيف بعيد، ثم إن كانت الصلاة تستعقب في التشهد دعاءً فهي مسبوقة أيضاً بأذكار وتحميدات؛ فينبغي أن يصوب المزني في ذكر التحميد قبل الصلاة. قال: وفي الثالثة يدعو للميت؛ لخبر أبي أمامة، وهذا هو المقصود الأعظم منها، والحمد والصلاة مقدمات ذلك، على القاعدة المطردة في أدب الدعاء. قال: فيقول: اللهم هذا عبدك وابن عبديك، خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبها وأحبائه فيها إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا

أنت [وحدك لا شريك لك]، وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم [إنه] نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيراً إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كانت مسيئاً فتجاوز عنه ولقه برحمتك [و] رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وافسح له في قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك [برحمتك] يا أرحم الراحمين. وهذا ما ذكره المزني عن الشافعي، وفي بعض النسخ من المختصر: "عبدك وابن عبدك"، وما ذكره أقرب إلى نصه في "الأم"، فإنه قال فيه: "عبدك وابن عبدك وابن أمتك"، وفي بعض نسخ "المختصر": "وجاف الأرض عن جنبه"، وليس ما ذكره الشافعي من هذا الدعاء منقولاً هكذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة، ولكنه أخذ معاني ما رواه عوف بن مالك وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعاني ما روي عن عمر وابن عمر وعلي وابن عباس وعبادة بن الصامت وأبي هريرة في الدعاء على الجنازة، فلخصها بعبارة تجمع كلها، والذي روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أنه قال: وقد صلى على جنازة: "اللهم اغفر له وارحمه، واعف عنه وعافه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بماءٍ وثلجٍ وبردٍ، ونقه من الخطايا كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس، أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وقه من فتنة القبر وعذاب النار". وقال عوف بن مالك: فتمنيت أن [لو كنت] أنا الميت؛ لدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك الميت" أخرجه مسلم.

وقال وقد صلى على امرأة: "اللهمَّ أنت ربُّها، وأنت خلقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر لها". أخرجه أبو داود والنسائي. وقال، وقد صلى على رجل من المسلمين: "اللَّهمَّ إنَّ فلان بن فلانٍ في ذمَّتك وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر وعذاب النَّار، وأنت أهل الوفاء والحمد، اللَّهمَّ فاغفر له وارحمه؛ فإنَّك أنت الغفور الرَّحيم". أخرجه أبو داود وابن ماجه. وروى أبو داود عن أبي هريرة قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة فقال: "اللَّهمَّ اغفر لحيِّنا وميِّتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا،

اللَّهمَّ من أحييته منَّا فأحيه على الإيمان، ومن توفَّيته منَّا فتوفَّه على الإسلام، اللهمَّ لا تحرمنا أجره، ولا تضلَّنا بعده". وقد ذكر أبو العباس بن القاص أنه يدعو به، قال القاضي أبو الطيب وغيره: وهو الذي عليه أكثر أهل خراسان. قال في "المرشد": وهو السنة. ثم ما ذكره الشيخ مخصوص بالرجل، فإن كان الميت امرأة قال: اللهم إن هذه أمتك وبنت عبديك. ويأتي بجميع الدعاء بلفظ التأنيث، وإن كان طفلاً قال الماوردي: دعا لأبويه فقال: اللهم اجعله لهما فرطاً وسلفاً وذخراً وعظة واعتباراً، وثقل به موازينهما، وأفرغ الصبر على قلوبهما ولا تفتنهما بعده. وقال في "الشامل" حكاية عن النص في موضع آخر: إن الاستغفار له: اللهم اجعله فرطاً وذخراً وأجراً، وفي "التتمة" أنه يدعو بما ذكرناه عن رواية أبي هريرة والذي قال أبو العباس بن القاص: إنه يدعو به مطلقاً، ويقول في موضع الاستغفار: اللهم اجعله فرطاً وذخراً وشفيعاً لأبويه.

وجمع الرافعي بين ما قاله المتولي والماوردي ورواية أبي داود: والطفل يصلي عليه، ويدعو لوالديه بالرحمة والمغفرة. وقد اقتضى كلام الغزالي في "الوسيط" أن محل التردد في الدعاء للمؤمنين والمؤمنات إذا كبر الثالثة ودعا للميت؛ حيث قال: وفي استحباب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات عند الدعاء للميت تردد؛ لأنه مبني على التخفيف، والأصح الاستحباب، وهو ما جزم به في "الوجيز"، وليس له ذكر في كلام الأصحاب هكذا، بل ذكروا أنه يخلص في الثالثة الدعاء للميت، وأقرب ما يمكن حمله [عليه] عند إرادة الجمع بين كلامه وكلام غيره أن يقال: مراده: حكاية ما ذكره الجمهور من الدعاء وما ذكره ابن القاص؛ إذ به يحصل تردد في الدعاء للمؤمنين والمؤمنات؛ فإن دعاء ابن القاص شامل للدعاء للميت وللمؤمنين والمؤمنات. ومن قال: يخلص الدعاء للميت، ينافي استحباب ذلك، كذا أشار إليه الرافعي مع احتمال جواب آخر لم أر له وجهاً فلم أر ذكره. تنبيه: قوله: "خرج من روح الدنيا "هو بفتح الراء، وهو نسيم الريح، والسعة: الاتساع، وقوله: "كان يشهد" أي: إنما دعوناك له؛ لأنه كان يشهد، وقوله: "وافسح له" هو بفتح السين، أي: وسع، وقوله: "وجاف الأرض عن جنبه أو جثته": ارفعها عنه أو عنها. وقوله: "لا تحرمنا أجره" هو بفتح التاء وضمها، يقال: حرمه وأحرمه، والأول أفصح. قال: ويقول في الرابعة: "اللَّهمَّ لا تحرمنا أجره، ولا تفتنَّا بعدهن واغفر لنا وله برحمتك يا أرحم الراحمين" رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر ما دعا به، وهذا ما نقله البويطي عن الشافعي فيما حكاه البندنيجي والقاضي الحسين،

وقال الماوردي والصيدلاني: إن البويطي حكى عن الشافعي أنه يقول في الرابعة: "اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا"، والبغوي حكاه عن البويطي نفسه، وحينئذ فلا يكون للشافعي في المسألة إلا نص واحد، وهو المذكور في القديم و"المختصر": أنه يكبر الرابعة ويسلم، وعليه ينطبق قول الغزالي من غير تأويل، ولم يتعرض الشافعي لذكر بين التكبيرة الرابعة والسلام، والذين نسبوا ذلك إلى النص- وهم القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والبندنيجي- قالوا: وليست المسألة على قولين ولا على اختلاف حالين، ولكنه ذكره في موضع وأغفل ذكره في موضع آخر؛ فهو مخير فيه. وقضية ذلك: أن الأمرين عنده على السواء، وقد حكاه الرافعي وجهاً عن "الكافي"، وأن هكذا كان يفعله محمد بن يحيى فيما حكاه والدي- رحمه الله- بعد أن قال- أعني: الرافعي-: إن الظاهر استحباب ما ذكره البويطي، وحكى ابن أبي هريرة أن المتقدمين كانوا يقولون في الرابعة: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار"، وليس ذلك المحكي عن الشافعي، فإن فعل كان حسناً. قال: ثم يسلم تسليمتين، أي: إحداهما عن يمينه والأخرى عن شماله كما في غيرها من الصلوات؛ لأنه روي عن [ابن] أبي أوفى أنه كبر أربعاً، ثم سلم عن يمينه وشماله، وعزاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأنها صلاة ذات تحريم وتحليل؛ فشرع فيها تسليمتان، وخالف سجود التلاوة إن سمي صلاة؛ لأنها لا تحريم لها ولا تحليل، وهذا ما نص عليه في "الكبير" و"الأم" كما حكاه البندنيجي وغيره، ونص في "الإملاء" كما قال الفوراني، وهو جديد- على تسليمة واحدة: يبدأ بيمينه ويختمها بيساره، ونقل المزني أنه يسلم عن يمينه وعن يساره، فيحتمل أن

يكون ما قاله في "الكبير"، ويحتمل أن يكون ما قاله في "الإملاء"، فمن الأصحاب من جعل المسألة على قولين في الجديد، ومنهم من قال [على] قول واحد: يسلم تسليمة واحدة؛ لأن مبناها على التخفيف، وهذه التي صححها القاضي الحسين. قال المتولي: وعليها يقول عن يمينه: "السلام"، وعن شماله: "عليكم"، وهذا يقتضي أنه لا يقول: "ورحمة الله وبركاته" على هذا القول، وحكى الإمام عن رواية الشيخ أبي علي تردداً فيه. وقال القاضي الحسين: الظاهر أنه يأتي به، وحكى الإمام وجهاً آخر أنه يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه من غير التفات، وأن الصيدلاني قال: الكلام في تعدد التسليم واتحاده في هذه الصورة كالكلام في سائر الصلوات في تخريج القولين، أو تنزيل الأمر على اختلاف الأحوال. وهذه الطريقة تقتضي- حيث أثبت فيها الخلاف- أن القديم: الاقتصار على تسليمة واحدة، والجديد: أنه يأتي بتسليمتين؛ ولهذا قال الماوردي لما حكى أنه يسلم تسليمتين، وقياس قوله [في] القديم: إن كان الجمع يسيراً- أن يسلم واحدة عن يمينه وتلقاء وجهه، وحينئذ تكون هذه الطريقة مخالفةً للأولى؛ لأن الخلاف ثمَّ قولان عند من أثبتهما في الجديد، وما ذكره الصيدلاني هو الذي يقتضيه كلام أبي الطيب وابن الصباغ حيث أحالا الكلام على كتاب الصلاة، وبذلك صرح البندنيجي هاهنا، وقال: إن المذهب ما ذكره الشيخ. قال: والواجب من ذلك: النية؛ للخبر المشهور. والتكبيرات، أي: الأربع؛ لما استقر عليه الإجماع مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وقراءة الفاتحة؛ لقوله- عليه السلام- "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" وقوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، والمحل الذي يجب قراءتها

فيه: التكبيرة الأولى، كما صرح به البندنيجي والقاضي الحسين، والمتولي، والإمام، والغزالي، وعليه يدل الخبر. وقال الرافعي: إن الروياني وغيره حكوا عن نصه أنه لو أخر قراءتها إلى تكبيرة الثانية جاز. والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله- عليه السلام-: "لا صلاة لمن لم يصل علي فيها"، ولأن الصلاة على الميت دعاء يرجى إجابته، وقد روي- أنه عليه السلام- قال: "كل دعاء فهو محجوب عن الله حتى يصلَّى على محمدٍ وعلى آل محمَّدٍ". قال الصيدلاني: وأقلها: "اللَّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ" وهو الذي أورده القاضي الحسين، ولم يتعرضا للآل. قال الإمام: وقد مضى في سائر الصلوات اختلاف فيها، والظاهر [هنا] أنها ليست ركناً؛ لاختصاص هذه الصلاة بالاختصار. والمحل الذي تجب فيه: الثانية، كما قاله البندنيجي وعبارته: وإذا فرغ من الفاتحة كبَّر الثانية، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ركن فيها. وقد وافقه القاضي الحسين والمتولي على ذلك، وقياس ما حكيناه عن النص إذا أخر

القراءة إلى الثانية: أن تتعين الصلاة [في] الثالثة إن كان الترتيب بين القراءة والصلاة والدعاء شرطاً، كما هو ظاهر الخبر. وأدنى الدعاء للميت؛ لقوله- عليه السلام-: "إذا صلَّيتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" أخرجه أبو داود وابن ماجه، لكن في إسناده محمد بن إسحاق، ولأن القصد هو الدعاء للميت، فلو لم يفعل؛ وجب أن [تبطل لترك] المقصود، ولا يتعين لذلك دعاء كما نص عليه. نعم، هل يتعين أن يربط الدعاء بالميت الحاضر أو يكفي إرساله، مثل أن يدعو للمؤمنين والمؤمنات؟ قال الإمام: ظاهر كلام الشافعي التعيين، وكان شيخي يقول: يكفي الإرسال. قلت: ومذهب صاحب "التلخيص" [و] ابن القاص يجوز أن يقال: إنه يوافقه، ويجوز أن يقال: لا؛ لأنه يتعرض فيه للحاضر بقوله: "وشاهدنا". والمحل الذي يجب فيه: الثالثة، كما قال القاضي الحسين وغيره، وعبارة الإمام:

والدعاء عقيب التكبيرة الثالثة لابد منه. وقياس ما حكاه الرافعي أن النص لا يخفى مما تقدم. والتسليمة الأولى؛ لأن بها يتحلل، قال الإمام: وقد ذكر الشيخ أبو علي أن أقله أن يقول: "السلام عليكم"، وردد جوابه فيما لو قال: "عليك"، هل يكفي أم لا؟ قال الرافعي: والظاهر المنع. أما ما يجب غير ما ذكره الشيخ مما هو شرط وغيره، فأشياء: منها: القيام فيها عند القدرة؛ فلا تجوز على الراحلة على الأصح كما تقدم في بابالتيمم، وبه جزم البندنيجي وأبو الطيب هاهنا. ومنها: الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر ومن الخبث في البدن والثوب والمحل، ولا يكفي التيمم عند فقد العذر مع وجود الماء وإن خشي فواتها، خلافاً لأبي حنيفة. ومنها: ستر العورة، وكذا استقبال القبلة في السفر والحضر. ومنها: وقوع ذلك بعد الغسل كما ذكره القاضي الحسين وغيره، حتى لو مات في بئر أو معدن انهدم عليه، وتعذر إخراجه وغسله- لم يصلَّ عليه، ذكره في "التتمة"، ويجوز قبل التكفين لكن مع الكراهة، وهذا هو المشهور، وقد حكى الجيلي قولاً قديماً أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تجب فيها كما تقدم مثله في الصلاة. وقال صاحب "التقريب": إن البويطي نقل كلاماً للشافعي، وقال في أثنائه: وقد قيل: إن الصلاة دعاء للميت. قال صاحب "التقريب": يحتمل أن يكون هذا حكايةً لمذهب الغير، وإن حملناه على مذهب الشافعي فمقتضى هذا النص سقوط فريضة القراءة والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وجواز استغراق الصلاة بالدعاء للميت. قال الإمام: ولم يتعرض لإسقاط التكبيرات بين العقد والحل؛ اقتصاراً على الدعاء واللفظ الصالح.

قلت: قد قال الجيلي: إن في "اللباب" و"شرح" المزني أن التكبيرة الأولى واجبة، والزيادة على الواحدة سنة، وهذا يعضد ما قاله الإمام، والكل غير معدود من المذهب، والوجه القطع بحمل ما قاله الشافعي على حكاية مذهب الغير. قال: ومن سبقه الإمام ببعض التكبيرات دخل [معه] في الصلاة، أي: سواء وافى دخوله في الصلاة تكبيرة الإمام أو لا، وأتى بما أدرك؛ لقوله- عليه السلام- "فما أدركتم فصلُّوا"، ولا يمكنه أن يصلي ما أدركه معه إلا بتقديم التكبيرة، ولأنه أدرك جزءاً مع الإمام بتقدم التكبير؛ فجاز أن يأتي بها كما يأتي بالتكبير قياساً على سائر الصلوات، ثم ما أدركه يكون أول صلاته فيمشي على ما تقتضيه صلاة نفسه، فإن أدركه بين التكبيرة الأولى والثانية أو بين الثانية والثالثة أو بين الثالثة والرابعة- قرأ الفاتحة إن تمكن من قراءتها قبل شروع الإمام في تكبيرة أخرى، ولو شرع الإمام في تكبيرة أخرى قبل استكمال المأموم الفاتحة فهل يقطعها ويتبعه أو يكملها؟ فيه وجهان؛ كما لو قرأ المأموم بعض الفاتحة ثم ركع الإمام، قال ابن الصباغ: والأصح الأول، وبه جزم القاضي الحسين والماوردي فيما إذا كان قد أدركه بين الأولى والثانية. قال الرافعي: وصاحب الكتاب- يعني الغزالي- أجاب بالوجه الثاني حيث قال ثمَّ: إن لم يتمكن من التكبيرة الثانية [مع الإمام- لعدم إتمام الفاتحة- صبر إلى التكبيرة حتى يتمها، ويؤخر تكبيرته الثانية] إلى أن يكبر الإمام الثالثة. وقال الإمام: إن في تشبيه ما نحن فيه بما تقدم فيه نظر عندي؛ فإن المسبوق في سائر الصلوات لو أدرك الإمام راكعاً صار مدركاً للركعة بإدراك ركوعها، ومن أدرك الإمام في صلاة الجنازة مع التكبيرة الثانية لم نجعله مدركاً للصلاة من أولها، وليست مبادرة الركوع بمثابة مبادرة التكبيرة الثانية فليفهم الناظر ذلك، ولكن إن كان يعذر في ترك بعض القراءة حتى لا يسبقه الإمام فقد يتجه ذلك على بعد. وهذا ميل إلى ما جزم به الغزالي، ولا شك في جريان الوجه الثالث المذكور في الصلاة هاهنا، [وبه] صرح الفوراني.

ثم إذا قلنا بالأول فهل يقرأ بعد التكبيرة الثانية؛ لأن القيام محل القراءة بخلاف الركوع، أم يقال: لما أدرك قراءة الإمام صار محل قراءته منحصراً فيما قبل الثانية؟ فيه احتمالان في "الشامل"، والثاني منهما لم يحك الماوردي غيره حيث قال: يكبر الثانية معه وقد تحمل الإمام عنه ما بقي من القراءة. وقال الرافعي: لعل هذا أظهر. ولو شرع الإمام في التكبيرة الثانية بعد ما استكمل المأموم التكبيرة الأولى، ولم يتمكن من قراءة شيء من الفاتحة- كبر مع الإمام الثانية، وسقطت عنه القراءة، كما إذا ركع الإمام عقيب تكبير المأموم في سائر الصلوات، قاله البغوي والمتوليو الرافعي. قال: وإذا سلم الإمام كبر ما بقي؛ لقوله- عليه السلام-: "وما فاتكم فأتمُّوا" وخالفت هذه التكبيرات تكبيرات العيد حيث لا يأتي المأموم بما فاته منها؛ لأن هذه تجري مجرى الأفعال في الصلاة، ولا يجوز الإخلال بها. وتكبيرات العيد مسنونات، فإذا فات محلُّها سقطت. قال: متوالياً، ثم يسلم؛ خشية أن ترفع الجنازة قبل فراغه فلا يصادف الدعاء محله، وهذا التعليل موافق لما تقدم من أن ربط الدعاء بالميت الحاضر لابد منه، وهذا القول نص عليه في "مختصر" البويطي حيث قال: إذا سلم الإمام يأتي المأموم بالتكبيرات نسقاً، وقال في "المختصر": وإن أدركه وقد فرغ من تكبيرتين فإنه يكبر ويقرأ والإمام يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كبر الإمام الثالثة ودعا للميت كبر المأموم وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم كبر الإمام الرابعة وسلم، وكبر المأموم ودعا للميت، ثم يكبر ويسلم. فحصل في المسألة قولان، أصحهما في "التهذيب" وغيره، وهو المذهب في "التتمة": الثاني وإن رفعت الجنازة؛ للحاجة، كما جوزنا الصلاة على الغائب لمكان الحاجة، لكن المستحب عندنا- كما قال القاضي الحسين والبغوي- ألا يرفع الميت حتى يفرغ من الصلاة، وفي "الجيلي" أن في "البحر": أن الجنازة إذا رفعت بطلت صلاته على أحد الوجهين؛ بناء على جواز الصلاة على الجنازة للمعتكف في حال مروره في الطريق، والقاضي الحسين والبغوي والرافعي جزموا بعدم البطلان وإن تحولت الجنازة عن قبالة القبلة، والقولان- كما قال

في "الروضة"- في الوجوب وعدمه، صرح به صاحب "البيان"، وهو ظاهر. فرع: لو تخلف المقتدي، فلم يكبر مع الإمام الثانية أو الثالثة حتى كبر الإمام التكبيرة المستقبلة من غير عذر- بطلت صلاته؛ لأن القدوة في هذه الصلاة لا تظهر إلا في التكبيرات، وهذا التخلف متفاحش شبيه بالتخلف بركعة في سائر الصلوات، كذا حكاه الإمام عن شيخه، وقال: إن الأمر على ما ذكره، وهو مقطوع به عندي. قال: ومن فاتته جميع الصلاة صلى على القبر؛ لما روى أبو داود عن أبي هريرة أن امرأة سوداء أو رجلاً كان يقمُّ المسجد، فقده النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عنه، فقيل: مات، فقال: "ألا آذنتموني به؟ قال: دلوني على قبره. فدلوه فصلى عليه"، وأخرجه البخاري ومسلم، وروى مسلم عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر بعد ما دفن، فكبر عليه أربعاً، ولأن الولي يجوز له أن يصلي عليه في القبر إذا لم يكن قد صلى عليه بوفاق الخصم، فنقول له: كل من جاز له أن يصلي الصلاة الأولى جاز أن يصلي الصلاة الثانية، أصل ذلك: الولي. قال: أبداً؛ لأن القصد من الصلاة الدعاء، وهو مطلوب في كل وقت، وهذا أضعف الوجوه في "الإبانة" وغيرها، وقال الماوردي: إنه ليس بصحيح. وإذا قلنا به فهل تجوز الصلاة على قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لا؟ فيه وجهان مشهوران، المذكور منهما في "تعليق" القاضي أبي الطيب: الجواز، وفي تعليق البندنيجي: المنع، وهو الأصح في "الحاوي" وغيره برواية مسلم عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، والمعنى فيه خوف الافتتان. ثم حيث نقول بالجواز فهل تجوز جماعة وفرادى؟ سكت الجمهور عن

ذلك، وقال الإمام: إن الشيخ أبا علي قال: إنا إذا جوزنا الصلاة عليه فلا يجوز أن يصلي عليه جماعة، بل يصلي عليه أفراداً، ونسب الرافعي ذلك إلى أبي الوليد النيسابوري. قال الإمام: وهذا القائل يحمل المنع من اتخاذ القبر مسجداً على إقامة الجماعة، وينزل القبر في ذلك منزلة [المساجد المهيأة] للجماعات. وقيل: يصلي عليه من كان من أهل الصلاة عليه عند الموت، أي: ولا يصلي عليه غيره؛ اعتباراً بأهلية الخطاب بالصلاة عند السبب، وهذا ما ذهب إليه الشيخ أبو زيد، وقال الفوراني والرافعي والبندنيجي: إنه الأصح، لكن ما المراد بالأهلية: هل أهلية الوجوب أو أهلية الصحة؟ فيه خلاف بين الأئمة حكاه الإمام وغيره: فالذي ذهب إليه القاضي أبو الطيب والحسين والمصنف: الأول؛ حيث قالوا تفريعاً عليه: إن من كان غير بالغ حين الموت أو ولد بعد موته لا يجوز أن يصلي عليه، ووجهه القاضي حسين بأنه يكون متبرعاً، ولا يتطوع بصلاة الجنازة، بخلاف من كان من أهل الفرض عند الموت؛ لأن الخطاب بها متوجه على الجميع، فإذا أوقعت وقعت فرضاً، وهذا التوجيه يقتضي ألا تصح صلاة الصبي المميز على الجنازة بعد أن صلى عليها من سقط الفرض به، بل مع من يسقط الفرض به، ولا قائل به، وقد اختار هذا الوجه الصيدلاني أيضاً. والذي حكاه البندنيجي والفوراني: الثاني، لأن عبارة البندنيجي في حكاية هذا الوجه: أنه يصلي عليه من كانت تصح صلاته عليه عند الموت وهو البالغ أو المراهق. وعبارة الفوراني كعبارة الشيخ، وعقبها بقوله: حتى لو كان صبياً عند موته كان له الصلاة عليه. وقضية الوجهين: أن من كان مفقوداً أو غير مميز أو مجنوناً عند الموت لا يصلي عليه، وبه صرح الأصحاب، وكذا قضيتهما ألا تصلي عليه الحائض عند موته إذا طهرت بعد دفنه؛ لأن الحيض ينافي صحة الصلاة ووجوبها. قال الإمام: ولكن هي على الجملة ممن يخاطب، فالذي أراه: أنها تصلي إذا

طهرت من ذلك. وكذا قضيتهما: أن تصح ممن كان كافراً عند الومت ثم أسلم بعد دفنه، إذا قلنا: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، أما إذا قلنا: لا، فعلى الوجه الأول: لا يصلي، وعلى الثاني: يصلي؛ لأنه كان متمكناً من الصلاة بأن يسلم ويصلي كالمحدث، وقد أعرض الإمام عما ذكرناه وقال: الذي أراه أنه يصلي؛ لما ذكرناه من الإمكان. وقيل: إلى شهر، أي: ولا يجوز بعده؛ لأنه- عليه السلام- قدم المدينة وقد مات البراء بن معرور وأوصى له، فقبل وصيته، وصلى على قبره بعد شهر. [قال ابن الصباغ وغيره: ولم ينقل أكثر من ذلك. وقد روي عن عبد الله بن عمر أنه قدم المدينة وقد مات أخوه عاصم بن عمر فقال: دلوني على قبر أخي. وصلى على قبره بعد شهر] وصلت عائشة على قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر بعد شهر، ولا يعرف لهما مخالف. وعن القفال أنه قال: لعل صاحب هذا الوجه أخذه من صلاته- عليه السلام- على النجاشي؛ فإنه كان بين موضع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين موضع وفاة النجاشي مسيرة شهر. قلت: وما قيل من أنه لم ينقل أكثر من ذلك، فيه نظر فإن مسلماً والبخاري رويا عن عقبة بن عامر قال: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودِّع للأحياء والأموات"، فإن حمل على الصلاة الشرعية أشكل ما

قيل: إنه لم ينقل أكثر من ذلك، وإن حمل على الصلاة اللغوية وهو الدعاء لم يشكل، لكن الأول هو الظاهر؛ لأن أبا داود روى عن عقبة بن عامر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يوماً، فصلى على أهل أحد صلاته على الميت"، وقول القفال قد قال القاضي الحسين والإمام: إنه لا يصح؛ لأنه- عليه السلام- صلى على النجاشي في اليوم الذي مات فيه النجاشي، وكان جبريل أخبره به. وقيل: ما لم يبل جسده؛ لأنه إذا لم يبل بقي ما يصلى عليه، وإذا بلى لم يبق ما يصلى عليه، وعلى هذا يختلف ذلك باختلاف البلاد والأجسام. ولو شككنا في بلاه رجعنا إلى أهل الخبرة بتلك الأرض، فإن لم يعلموا أو لم يوجدوا- قال الإمام: يحتمل أن يقال: إن الصلاة مقيدة بالبقاء، ولم يتحقق؛ فلا يصلى، ويحتمل أن يقال: إن الأصل البقاء؛ فيصلى، وهذا الثاني أوفق لرواية الصيدلاني والقاضي الحسين وآخرين كما قال الرافعي؛ فإنهم قالوا في حكاية هذا الوجه: إنه يصلى عليه ما لم يعلم بلاه، وقد ادعى الماوردي أن هذا الوجه أصح مذاهب أصحابنا، وقال الإمام: إنه الذي عليه التعويل، والأوجه الأربعة محكية في تعليق أبي الطيب وغيره من كتب العراقيين. وعلى [هذه] الثلاثة الأخيرة منها، قالوا: لا يصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووجهه إذا قلنا بأولها وثانيها ظاهر، وإذا قلنا بثالثها فوجهه-كما قال أبو الطيب والبندنيجي-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يترك في قبره؛ فإنه قال "أنا لا أترك في القبر"، وعبارة ابن الصباغ تقرب من ذلك، وقد قيل: إن في هذا المأخذ نظراً؛ فإنه قد ورد أنه- عليه السلام- قال: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" فالاعتماد في

المنع على النهي أو لا. وحكي سليم وجهاً خامساً في المسألة أنه يصلي عليه من كان موجوداً عند الموت، وعليه ينطبق قول الماوردي: وقيل: بل يصلي عليه من عاصره. وحكى المراوزة وجهاً يكون سادساً عن رواية الشيخ أبي علي في "الشرح" [أنها تجوز] إلى ثلاثة أيام؛ لأنها مدة قريبة. قال الإمام: وهو غريب غير معتد به. تنبيه: قول الشيخ: "ومن فاته جميع الصلاة صلى على القبر"، يفهم أن الميت لا يؤخر بعد تمام صلاة من يسقط الفرض بهم ليصلي عليه من لم يصل، ولياً كان له أو غير ولي، ولا شك في أن الأولى ذلك، لكن هل يجوز أن يؤخر لأجل ذلك؟ فإن كان الذي يريد الصلاة غير ولي له لم يجز، وكذا إن كان ولياً وخشي على الميت الفساد، وإن لم يخش عليه جاز، وتكون الصلاة إذا فعلت فرضاً على الصحيح كما تقدم، ولا يجوز لمن صلى عليه مرة أن يعيد الصلاة عليه مرة أخرى على أحد الوجهين في "الشامل" وتعليق أبي الطيب، وهو المذكور في "الحاوي" لا غير، وجزم البندنيجي بمقابله؛ لقول الشافعي الذي حكيناه من قبل: وإذا اجتمعت جنائز فصلى عليها ولي واحد، وشاء أحد من الأولياء أن يعيد الصلاة على ميته- فعل. وقد حكى الرافعي تبعاً للبغوي الوجهين في استحباب ذلك، وأن الأظهر عدم الاستحباب، ولكن فيما إذا كانت الصلاة الأولى منفردة والثانية في جماعة، وجزم القول فيما إذا كانت الثانية منفردة أيضاً أنه لا يستحب، وأطلق القاضي الحسين القول بعدم الاستحباب، وهو ما ادعى الإمام اتفاق الأئمة عليه، وعلى هذا لو فعلها لم تكن باطلة، وأبدى الإمام في البطلان احتمالاً لنفسه، وفي الجيلي حكاية وجهين في البطلان والذي أورده القاضي الحسين: الأول، وقال: إن الثانية تكون

فرضاً لا نفلاً، وإذا قلنا: تستحب، قال الجيلي: فهل ينوي بها الفرض؟ فيه وجهان مذكوران في شرح المزني. قال: وإن كان الميت غائباً عن البلد صلى عليه بالنية، أي: فينوي الصلاة على فلان إن عرفه، أو على من صلى عليه الإمام كما تقدم. قال: كما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي. هذا من الشيخ مغن عن التوجيه، والخبر المذكور رواه أبو هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى [إلى الناس] النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلَّى، فصفَّ بهم وكبر أربع تكبيرات"، أخرجه البخاري ومسلم. قال أهل السير: وكان نعيُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له في رجب سنة تسع من الهجرة. والنجاشي- بفتح النون والجيم والشين المعجمة وتشديد الياء-: اسم لكل من ملك الحبشة، كما أن اسم كل من ملك مصر: فرعون، واسم ملك الليمن: تبع، واسم ملك الروم: قيصر، واسم ملك الفرس: كسرى. واسم الذي صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أصحمة، وقيل: صحمة، ومعناه بالعربية: عطية، ذكره ابن قتيبة. فإن قيل: إنما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي؛ لأن الأرض زويت له فكان يرى النجاشي. قيل: ذلك ممتنع؛ لوجهين:

أحدهما: أنه لو كان ذلك لنقل، ولكان أولى بالنقل من الصلاة؛ لأن ذلك معجزة على نبوته. والثاني: أن رؤيته للأرض إما أن تكون لكون الله خلق له إدراكاً يدركها به، أو لتداخل أجزاء الأرض بعضها في بعض، وتكون أرض الحبشة قد جعلت بباب المدينة، والثاني ممتنع؛ إذ لو كان كذلك لكان جميع الصحابة قد رأوها، ولم ينقل، والأول لا يجيء على مذهب الخصم؛ لأن عنده أن البعد من الميت يمنع من صحة الصلاة عليه وإن كان يراه، وأيضاً فكان مقتضاه أن تصح صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده دون سائر الصحابة، ولا وجه لقولهم: إن الحبشة لم يكن بها من يصلي على النجاشي؛ فلذلك صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومثل ذلك يجوز عندنا؛ لأن عندهم [أن من مات بالبادية]، أو بغيرها من المواضع التي يعلم أنه ليس بها من يصلي عليه لا يصلى عليه، وكما تجوز الصلاة على الغائب [الواحد] تجوز على جمع منهم في وقت واحد وإن لم يعرف عددهم ولا أشخاصهم ولا أسماؤهم، مثل أن ينوي الصلاة على الأموات الذين ماتوا في يومه وغسلوا في البلد الفلاني، قاله في "البحر". قال في "الروضة": وقوله صحيح، لكن لا يختص ببلد، والله أعلم. ولا فرق عندنا في جواز الصلاة على الغائب بين أن يكون في جهة القبلة من المصلي أو لا والمصلي يستقبل القبلة، ولا بين أن يكون في موضع قد صلي عليه فيه أو لا، وعن "بحر المذهب" فيما سمعته: أن الصلاة على الغائب لا تفعل إلا حيث لم يكن صلى عليه أحد، وكذا كانت قصة النجاشي، وكذا لا

فرق بين أن تكون المسافة بين المصلي وبينه- وهو خارج عن البلد- بعيدة أو قريبة. واحترز الشيخ بقوله: "غائباً عن البلد"، عما إذا كان في البلد غائباً عن المصلى؛ فإنه لا يجوز أن يصلي عليه بالنية كما جزم به أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما؛ لأنه [لا ضرورة] في ذلك، بخلاف ما إذا كان غائباً عنها، وشبهوا ذلك بالقبلة: لا يجوز لمن هو بمكة أن يصلي إليها بالاجتهاد بل بالمعاينة، بخلاف الغائب عنها، والفرق ما ذكرناه. وحكى المراوزة في جواز الصلاة عليه في هذه الحالة وجهين، قال القاضي الحسين: وهما كالقولين في جواز تقدم المأموم على الإمام، وشبههما الإمام بالخلاف في نفوذ القضاء على من في البلد مع إمكان إحضاره. قال: والأمر عندي في تجويز الصلاة أقرب؛ لأن الغرض من الصلاة الابتهال إلى الله- تعالى- في التجاوز عن الموتى، وهذا لا يختلف بالغيبة والشهود، وأما القضاء فإنه يتعلق بأمور معتبرة في الإقرار والإنكار؛ فاشتراط الحضور الممكن أولى وأقرب. قال: وإن وجد بعض الميت غسل وكفن وصلي عليه؛ لما روي أن طائراً ألقى يداً بمكة من وقعة الجمل، فعرفت بالخاتم، فكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيدٍ، فصلى عليه الناس وفيهم الصحابة، وروي أن أبا عبيدة بن الجراح صلى على رءوس القتلى بالشام، وعن عمر أنه صلى على عظام بالشام، وليس لهم مخالف؛ فكان إجماعاً، لكن هل ينوي [بالصلاة:] الصلاة على جملة الميت، أو على ما وجد منه؟ فيه وجهان في "الحاوي"، والذي أورده الغزالي وغيره: الأول، والذي يفهمه كلام القاضي أبي الطيب: الثاني، بل هو

كالمصرح به؛ لأنه أجاب عن قول الخصم: لو وجبت الصلاة على الجزء الموجود لأدى إلى وجوب تكرار الصلاة- بأن ذلك غير صحيح؛ لأن التكرار هو الصلاة على جزء واحد مرتين، ونحن لا نوجب الصلاة على الميت إلا مرة واحدة، والجزء الثاني غير الجزء الأول، فهو بمثابة أن يجد جزءاً من الميت فنأمره بتكفينه ودفنه، ثم يجد جزءاً آخر فنأمره بذلك أيضاً. فإن قالوا: ليس الصلاة كالتكفين؛ لأن الجزء الأول لم يستوعب جميع الكفن بل جزءاً منه، وأنتم تأمرون بإكمال الصلاة على الجزء الأول. فالجواب: أن تبعيض الكفن يصح ولا يستحيل؛ فلذلك بعضناه على الأجزاء. وأما الصلاة فلا يصح تبعيضها؛ فلذلك أمرناه بإكمالها على الجزء. ثم محل الوجهين إذا لم يعلم أنه صلي على جملة الميت، فإن علم أنه صلي على جملته قال الماوردي: فيخص الصلاة بالعضو وجهاً واحداً. وفيه نظر؛ من حيث إنه يجوز أن يصلي على كل الميت مرة أخرى، نعم، إن كان هذا في حق من [قد] صلى على الجملة فهو صحيح؛ لأن من صلى عليها لا يصلي عليها مرة أخرى على الأصح، ولعل هذا المراد، مع أنه لا يخلو من نظر. وهذا كله إذا تحقق أن ذلك البعض من مسلم، وكذا الحكم فيما لو وجد في دار الإسلام وقد جهل حاله، قاله ابن الصباغ وغيره، وظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق في البعض المذكور بين أن يكون أكثر الجثة أو أقلها، وهو كذلك؛ لما ذكرناه، وكذا قضيته أنه لا فرق بين أن يكون شعراً أو ظفراً أو غيرهما. وقد حكى ابن الصباغ وغيره في الشعر والظفر وجهين، ادعى البندنيجي أن المذهب منهما: المنع، بعد أن قال: إنه لا نص فيها لصاحبنا، وقال الرافعي: الأقرب إلى إطلاق الأكثرين أنهما كغيرهما كما أفهمه كلام الشيخ. نعم، قال في "العدة": إن لم يوجد إلا شعرة واحدة فلا يصلى عليها في ظاهر المذهب؛ إذ لا حرمة لها. وإذ قلنا بالغسل والصلاة فلا بد من مواراته بخرقة. ولو كان البعض الموجود قد انفصل من حي وهو باقٍ، نظر: فإن كان من أجزاء الجثة، مثل: أن سقطت يده أو رجله ونحو ذلك، فهل يكون كالبعض من الميت؟ أطلق الماوردي فيه حكاية وجهين، بناهما بعضهم على أن الصلاة في

المسألة قبلها تكون على جملة الميت أو على ذلك البعض؟ وقضية هذا البناء: أن يجري الخلاف في اليد المقطوعة في السرقة ونحوها أو قصاصاً، وقد قال المتولي وغيره: إنه لا خلاف في أنها لا تغسل ولا يصلى عليها، ولكن تلف في خرقة وتدفن. ولو كان ذلك البعض شعراً أو ظفراً لم يغسل ولم يصلَّى عليه، ولكن يستحب دفنه، قاله المتولي وغيره ممن حكوا الخلاف في الشعر والظفر المنفصل من الميت. ثم إذا قلنا بأن المنفصل من الحي لا يصلى عليه، ولو كان من ميت لصلي عليه، فوقع الشك في ذلك البعض: هل انفصل عن حي أو ميت؟ فمقتضى كلام الشيخ: أنه لا يصلى عليه؛ لأنه أناط الصلاة بانفصاله من ميت، ولم يتحقق، وهو ما ذكره الغزالي والمتولي وغيرهما متى احتمل أن يكون صاحبه حياً. وقال مجلي: فيه احتمالان؛ لتعارض الأصل والغالب، وفي الإطلاق نظر. وقد أفهم كلام الشيخ أن تكفين البعض الموجود من الميت لابد منه، وهو ما حكيناه عن القاضي، لكن في "الحاوي" أن ذلك فيما إذا كان المنفصل من العورة، أما إذا كان من غيرها فلا. قال: ومن مات من المسلمين؛ أي: كبيراً أو صغيراً، ذكراً أو أنثى، حراً أو عبداً، في حرب الكفار بسبب من أسباب قتالهم، أي: مثل أن يقتله مشرك، [أو يحمل عليه فيتردَّى في] بئر، أو يقع من جبل، أو يسقط عن فرسه، أو يرفسه فرس غيره، أو يقع فيه سيفه، أو يرجع عليه سهمه، أو يصيبه سهم غيره، مسلماً كان ذلك الغير أو كافراً [ونحو ذلك]، قبل انقضاء الحرب- لم يغسل ولم يصلَّ عليه؛ لقوله – تعالى-: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءُ} [آل عمران: 169]، والحي لا يغسل ولا يصلى عليه. وقد روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في قبر واحد، [ثم يقول]: "أيُّهم [أكثر] أخذاً

للقرآن؟ "، فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: " [أنا شهيد] على هؤلاء يوم القيامة". وأمر بهم فدفنوا في ثيابهم، ولم يغسلوا ولم يصلَّ عليهم"، وهذا نص في المدَّعى، وذلك على وجه الوجوب، فلو أراد الوارث أن يغسله ويصلي عليه حرم عليه ذلك، واختار المزني أنه لا يغسل ويصلى عليه كمذهب أبي حنيفة، ونقل البغوي والإمام وجهاً أن الصلاة عليه تجوز ولا تجب. قال الإمام: وهذا القائل يعتقد جواز ترك الصلاة رخصة؛ لمكان الاشتغال بالحرب وتوابعه إذا انجلى، فلو فرض متكلف وصلى؛ جاز، وهذا القائل لا يجوز الغسل، وإن كانت الصلاة على غير الشهيد لا تجوز بغير غسل أو بدله؛ لأن الشهيد كالمغسول بصوب رحمة الله، تعالى. قال الإمام: وقد [يتطرق للناظر] في ذلك شيء، وهو أن الشهيد إذا كان عليه دم الشهادة فلا يجوز إزالته ويتعين إبقاؤه؛ لقوله- عليه السلام-: "زملوهم في كلومهم ودمائهم؛ فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب

دماً: اللون لون الدم، والريح ريح المسك"، وإن لم يكن عليه دم أصلاً فلا شك أنه لا يجب غسله، ولكن في جوازه تردد في هذه الصورة من طريق الاحتمال، والذي ذهب إليه المحققون: الأول؛ إذ لو جاز ذلك لوجب فعله. ولا فرق فيه بين أن يكون الميت جنباً أو لا عند أكثر الأصحاب، وهو مقتضى إطلاق كلام الشيخ وظاهر الخبر. وقال ابن سريج وابن أبي هريرة: يغسل؛ لأجل الجنابة؛ لأن حنظلة بن الراهب قتل يوم أحد، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الملائكة تغسله؛ فبعث إلى أهله، فسأل عن شأنه فقالوا: لا علم لنا به غير أنه كان واقع أهله، ثم خرج إلى الحرب جنباً. فلما غسلته الملائكة علم أنه بأمر الله؛ فدل على أنه مأمور به، ولأنه لزم غسل جميع بدنه في حال حياته؛ فوجب ألا يسقط بالقتل في الشهادة؛ كما إذا كان على جميع بدنه نجاسة ثم قتل شهيداً.

وظاهر المذهب- كما قال أبو الطيب- الأول، وادعى الإمام أن مقابله بعيد غير معتد به؛ لأنها طهارة عن حدث فسقطت بالموت كالطهارة الصغرى، ولأن الميت إنما يغسل ليصلى عليه، فإن كان هذا القتيل الجنب لا يصلى عليه فلا معنى لغسله، وحديث حنظلة دليل لنا؛ لأن [ما يتعبد] به الآدمي لا يسقط بفعل غيره، دليله: الغريق؛ فإنه يعاد غسله. وأما إزالة النجاسة من بدنه، قال الماوردي: فإن كانت من جهة الشهادة لم يجب إزالتها، وإن كانت من غيرها كالبول والخمر وجبت إزالتها، والفرق بينها وبين الجنابة: أنه لماوجب إزالة قليل النجاسة وجب إزالة كثيرها، ولما لم يجب إزالة الحدث الأصغر لم يجب إزالة الأكبر، وهذا منه تصريح بإيجاب إزالة النجاسة وإن زال بسببها أثر الشهادة، وهو وجه حكاه القاضي أبو الطيب وغيره مع آخر: أنه لا يجوز؛ لما في ذلك من إزالة أثر الشهادة. وحكى الإمام وغيره معهما وجهاً ثالثاً: أنه إن كان في غسلها إزالة دم الشهادة لم يغسلها، وإلا وجب، قال: وهذا أعدل الوجوه، والمسألة محتملة. والمرأة إذا قتلت في الشهادة حائضاً هل تغسل؟ قال في "الروضة": إن قلنا: الجنب لا يغسل، فهي أولى، وإلا فوجهان حكاهما صاحب "البحر"؛ بناءً على أن غسل الحائض يتعلق برؤية الدم أم بانقطاعه أم بهما؟ إن قلنا: برؤية الدم، فكالجنب، والذي أورده القاضي أبو الطيب: أنها لا تغسل، ورد على من قال: إنه متعلق بانقطاعه بأن الانقطاع: ألا يخرج منها شيء وهذا لا يجوز أن يكون سبباً لوجوب الغسل، وإنما هو سبب لصحة الطهارة دون وجوبها. قال: بل تنزع [عنه] ثياب الحرب، أي: كالزردية ونحوها. قال الشافعي: وكذا ما [ليس بعامة] ثياب الناس كالجلود والفراء والجباب المحشوة والخف.

ويدفن فيما بقي من ثيابه؛ لرواية أبي داود عن ابن عباس قال: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بثيابهم ودمائهم"، وأخرجه ابن ماجه، وروى أيضاً عن جابر- وهو ابن عبد الله- قال: "رمي رجل بسهم في صدره- أو في حلقه- فمات، فأدرج في ثيابه كما هو، قال: ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وهذا إذا رضي به الوارث، وهو الأولى كما قاله البندنيجي وغيره، ومحل الاكتفاء به: إذا كان قدر الواجب من الكفن، فإن كان أقل منه كمل على حسب ما تقدم، صرح به الإمام وغيره. ولو أراد الوارث إبقاء ذلك لنفسه وتكفينه في غيره- جاز سواء كان عليه أثر الشهادة أو لا؛ لأن صفية أرسلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بثوبين ليكفن فيهما حمزة، فكفنه في أحدهما، وكفن في الثوب الآخر رجلاً آخر من حلفائه. قال القاضي أبو الطيب: ولأنا لو قلنا: يجب أن يكفن فيما عليه لعيَّنَّا الثوب الذي يكفن فيه، وتعيين الكفن لا يجوز، وأثر الشهادة فإنما يجب إبقاؤه في البدن لا في الثوب. أما إذا مات في الحرب لا بسبب من أسباب قتالهم بل حتف أنفه؛ فهو كما لو مات في غير الحرب عند العراقيين والبغوي، وحكى الغزالي في إلحاقه بالشهيد قولين، [والإمام رواهما عن شيخه وجهين]- أصحهما: ما ذكره

العراقيون، وإذا قلنا به فلو وقع الشك في أنه مات بسبب القتال أو حتف أنفه بأن وجد بين الصفين قتلى ولا أثر عليه- كان ملحقاً بمن قتل بسبب القتال اتفاقاً؛ لأنه الظاهر، ولو مات بسبب من أسباب قتالهم لكن بعد انقضاء الحرب فالذي أطلقه العراقيون- كأبي الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ-: أنه يغسل ويصلى عليه، سواء أكل بعد انفصاله عن الحرب أو لم يأكل، أوصى أو لم يوص، قطع بموته أو لم يقطع به. وقال الماوردي: إن الحكم كذلك فيما إذا مات بعد طول الزمان من انقضاء الحرب، أما إذا مات بعد تقضي الحرب بزمان قريب- لم يغسل ولم يصل عليه. وقال المراوزة: إن كان حين انقضاء الحرب قد انتهى إلى حركة المذبوح لم يغسل ولم يصل عليه، وإن كان [حين انقضاء الحرب مرجو الحياة غسل وصلي عليه، ولو كان مستقر الحياة] حين انقضاء الحرب لكن قطع بأنه يموت بذلك السبب ففي تغسيله والصلاة عليه قولان، وهل هما جاريان مع قصر الزمان وطوله أو هما فيما إذا قرب، فإن طال- بأن بقي أياماً- وجبا قولاً واحداً، وفيه وجهان في "النهاية". قال: وإن مات في حرب أهل البغي من أهل العدل- غسل وصلي عليه في أصح القولين، أي: في "المختصر" في كتاب قتال أهل البغي؛ لأن أسماء بنت أبي أبكر غسلت ابنها عبد الله بن الزبير، ولم ينكر عليها أحد. ولأنه مقتول في حرب المسلمين فغسل وصلي عليه كالقتيل من أهل البغي. ومقابله: أنه كالمقتول في حرب الكفار، ولأن علياً لم يغسل أحداً ممن قتل معه، ولا صلى عليه، وأوصى عمار بألا يغسل، وهذا ما صححه صاحب "العدة" وغيره، لكن الجمهور على ترجيح الأول. وهذه المسألة التي احترز [الشيخ] عنها في الفصل قبله بقوله: "في حرب

الكفار"، وقد حكى ابن الصباغ أن الأصحاب بنوا على القولين فيها وجهين فيمن قتله قطاع الطريق من أهل القافلة، والإمام حكى وجهين في أنه هل يلحق بمن قتله البغاة؛ فيكون فيه القولان، أو يجب غسله والصلاة عليه قولاً واحداً؟ والفرق: أن قتال أهل البغي بتأويل في الدين، بخلاف القطَّاع. وحكى الغزالي القولين فيمن قتله حربي في دار الإسلام غيلةً، والإمام حكاهما وجهين عن رواية الشيخ أبي علي، وحكى مثلهما الماوردي فيمن أسره الكفار وقتلوه بأيديهم صبراً. وقد أفهم كلام الشيخ أن من عدا من ذكره من قتيل الكفار وأهل البغي- يغسل ويصلى عليه قولاً واحداً؛ لأنه ذكر أن غسل الميت والصلاة عليه فرض [على الكفاية] كما دل عليه الخبر، واستثنى من حيث المعنى من ذلك من قتله الكفار وأهل البغي على قول؛ لما قام عليه من الدليل؛ فبقي من عداهم على الأصل، ويندرج فيهم فريقان: أحدهما: من لم يحكم الشرع له بالشهادة، منهم ولد الزنى، وكذا قاتل نفسه، والمقتول قصاصاً، ومن قتله أهل العدل؛ لأنهم لم يخرجوا عن الإسلام بما فعلوه، ومن هذا الفريق من قتل ظلماً من مسلم أو ذمي؛ لأن عمر قتل وغنسل وصلي عليه من غير نكير، وكذا المرجوم في الزنى؛ لأنه- عليه السلام- لما رجم المرأة صلى عليها فقال له عمر: تصلي عليها وقد زنت؟ فقال- عليه السلام-: "لقد تابت توبةً لو قسِّمت على سبعين من أفجر من بالمدينة لوسعتهم" أخرجه النسائي ومسلم. لكن مفهوم الخبر أن من [لم يتب] لا يصلى عليه، وقد ذكرناه في باب حد الزنى،

ولم أر من أصحابنا من قال به، والمقتول بترك الصلاة تكلم الشيخ فيه في كتاب الصلاة. والمقتول من قطاع الطريق إذا وجب صلبه فقد قال بعض الأصحاب: إنه لا يغسل ولا يصلى عليه؛ استهانة به وتحقيراً لشأنه، وبعضهم بناه على كيفية قتله كما ستعرفه في باب حد قاطع الطريق. وظاهر المذهب- كما قال القاضي الحسين- أنه يغسل ويصلى عليه، لكن إذا قلنا: يصلب أبداً- فعل به ذلك قبل الصلب، وإن قلنا: يصلب ثلاثاً ثم ينزل- فعل به ذلك بعد إنزاله بعد الثلاث، والكلام في ذلك مستقصًى في باب حد قاطع الطريق، فليطلب منه. الثاني من الفريقين: من شهد له الشرع بالشهادة وهم كما قال- عليه السلام- خمس: "المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله" هذا حديث متفق عليه، وفي رواية النسائي: "الشهداء سبع" سوى القتيل في سبيل الله، وعد الأربعة السالفة، وصاحب ذات الجنب، وصاحب الحرق، والمرأة تموت بجمع، أي: تموت وولدها لم ينفصل عنها، وقيل: تموت باجتماع الأوجاع، حكاه القاضي الحسين. وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ومن

مات فجأةً فهو شهيدُ، والغريب شهيدُ، ومن عشق فعفَّ فكتم فمات فهو شهيدُ". ولا خلاف في أنهم لا يلحقون بمن قتل من المسلمين في معركة الكفار، ولا بمن قتله البغاة في ترك الغسل والصلاة؛ لما ذكرناه. ووصفهم بالشهادة محمول على أن ثوابهم ثواب الشهداء، وإلا فقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة نفساء، وقام وسطها. متفق عليه. والفرق من حيث المعنى: أن المقتول في سبيل الله في غسله مشقة؛ لما به من الجراح والدماء، ولعله لا يجدي في قطع الدماء والفضلات، أو لأن تلك الآثار مستطابة شرعاً، قال- عليه السلام-: "والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله- والله أعلم بمن يكلم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك" رواه البخاري. والصلاة تتبع الغسل غالباً، وهذا المعنى لا يوجد في غيرهم. قال العلماء: وسمي الشهيد شهيداً؛ لأن الله ورسوله وملائكته يشهدون له بالجنة؛ فيكون شهيداً بمعنى مشهود له، مبالغة في اسم المفعول، وقيل: لأن أرواحهم تشهد دار السلام؛ فتكون مبالغة في اسم الفاعل. قال: ويغسل السقط الذي نفخ فيه الروح ولم يستهل، ويكفن؛ لحرمة الآدمي، ولا يصلى عليه؛ لمفهوم قوله- عليه السلام-: "إذا استهلَّ السقط صلي عليه" رواه ابن عباس، ورواية جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "السقط إذا استهلَّ صلِّي

عليه، ولأنه لم يثبت له حكم الأحياء في الإرث؛ فكذا في الصلاة، وخالفت الصلاة الغسل؛ لأن الغسل آكد؛ ولهذا يغسل الكافر ولا يصلى عليه، وهذا ما نص عليه في "الأم"، ووراءه طريقان: إحداهما: أنه لا يصلى عليه قولاً واحداً، وهل يغسل؟ فيه قولان. أحدهما- نص عليه في البويطي-: أنه لا يغسل. والثاني- نقله المزني-: أنه يغسل. وهذان الطريقان حكاهما الفوراني لا غير. والطريقة الثانية: أن في غسله والصلاة عليه قولين:\

أحدهما- وهو ما حكاه البندنيجي عن نصه في "البويطي"-: أنه لا يغسل ولا يصلى عليه، أما كونه لا يصلى عليه؛ فلما تقدم، وأما كونه لا يغسل؛ فلأن كل من لا يصلى عليه من المسلمين لا يغسل كالشهداء. والثاني- وهو ما حكاه الأصحاب عن القديم-: أنه يغسل ويصلى عليه؛ لعموم قوله- عليه السلام-: "والسقط يصلَّى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة" أخرجه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح. وقال البندنيجي: قد قرأت القديم كله، فما رأيت هذا القول فيه، ولكن فيه وفي "الأم" معاً: أنه يغسل ويكفن، ولم يذكر الصلاة. ويؤيد قوله أن الماوردي قال: إن ابن أبي هريرة حكى هذا القول تخريجاً عن الشافعي من القديم. وعند الاختصار حاصل المسألة ثلاثة أقوال، أصحها: ثالثها، وهو ما ذكره الشيخ: يغسل ولا يصلى عليه، والفرق ما تقدم. وقد حكى الأقوال هكذا صاحب "التقريب" والشيخ أبو علي، لكن الشيخ أبا علي حكاها في الحالة التي يبدو عليه التخليق، ولا يظهر بعد الانفصال شيء من علامات الحياة، وصاحب "التقريب" حكاها فيما إذا بلغ مبلغاً يقدر نفخ الروح فيه ولم يظهر علم بعد الانفصال، وهو راجع إلى ما قاله العراقيون من المدة كما ستعرفه. قال الإمام: ويجوز أن يقال: الاختلاف بين الشيخ وصاحب "التقريب" في

محض العبارة، فإنه إذا بدا التخليق قد دخل أوان توقُّع جريان الروح، وإن لم يبد بعد تخليقُ لم يدخل أوان توقُّع ذلك، وقد يظن ظانُّ أن أوائل التخليق قد تجري وبينه وبين جريان الروح زمان بعيد، فإن ظننا ذلك [افترق الطريقان] في التفصيل، وفيما ذكره صاحب "التقريب" فقه يليق بالباب. وبالجملة فالكل متفقون على أنه لابد من تكفينه، لكن إن قلنا: يصلى عليه، كان كفنه كغيره من الأموات، وإلا كان لفافة يسيرة، فدفنه واجب بكل حال. والسقط- بكسر السين وضمها وفتحها، ثلاث لغات مشهورات، والكسر أكثر-: من ولد قبل تمام مدته، قاله أبو حاتم. ويقال منه: أسقطت، وسقط جنينها، ولا يقال: وقع، وقيل: السقط: ما ولد ميتاً، والذي نفخ فيه الروح: من سقط بعد أربعة أشهر؛ لقوله- عليه السلام-: "إنَّ أحدكم ليمكث في بطن أمِّه أربعين يوماً نطفةً، وأربعين يوماً علقةً، وأربعين يوماً مضغةً، ثمَّ يؤمر الملك فيكتب رزقه وأجله وأثره، وشقيُّ أو سعيدُ، ثمَّ ينفخ فيه الرُّوح". وكأن الأصحاب أخذوا تعقُّب نفخ الروح الأربعين الثالثة من سياق الحديث؛ فإنه يقتضي أن العلقة تتعقب النطفة بعد الأربعين، والمضغة تتعقب العلقة بعد الأربعين، وإلا فلفظة "ثم" لا تقتضي التعقيب، ثم قضية استدلالهم بهذا الخبر أن يعتبروا الأشهر بالعدد لا بالأهلة، وإن الشرع إنما اعتبر الأيام، وما ذكره صاحب "التقريب" أحسن مما ذكره الشيخ وغيره؛ لأن بعد انقضاء الأشهر الأربعة يدخل وقت نفخ الروح، وقد يتخلف عنه لأمر أراده الله تعالى، والله أعلم. والاستهلال: رفع الصوت. ثم اعلم أن كلام الشيخ يقتضي أن من شرب اللبن أو نظر أو تحرَّك عضو من أعضائه حركة كثيرة تدل على الحياة، وغير ذلك مما يدل عليها ولم يستهل- أن هذا حكمه، وليس كذلك؛ بل حكمه حكم من استهل صارخاً

فيغسل ويصلى عليه بلا خلاف؛ لقول المغيرة بن شعبة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الطفل يصلَّى عليه"، ومن صلِّى عليه غسِّل، وقد ادعى ابن المنذر إجماع أهل العلم على ذلك، وفيه نظر؛ لأنه نقل عن سعيد بن جبير أنه قال: لا يصلى على الصبي [الذي لم يبلغ. وحكى القاضي أبو الطيب عن بعض الناس أنه قال: إن كان الصبي] قد صلى، صلِّي عليه بعد موته، وإلا فلا يصلى عليه، واستدل على ذلك بأنه- عليه السلام- لم يصل على ولده إبراهيم حين مات، وكان له ثمانية عشر شهراً كما أخرجه أبو داود عن عائشة، وبأن الصلاة لطلب المغفرة، والصغير لا ذنب عليه. وإذا كان الخلاف فيمن هذا حاله ففيما نحن فيه أولى، وقد أجاب الأصحاب عن الخبر بأن الرواية الصحيحة رواية ابن أبي أوفى أنه- عليه السلام- صلى على ابنه إبراهيم، ثم إن صحت الأخرى فطريق الجمع: حمل الأمر على أنه- عليه السلام- لم يصلِّ عليه؛ لاشتغاله بصلاة الكسوف، وإنما أمر بالصلاة عليه. وكونه لا ذنب عليه لا يمنع الصلاة؛ بدليل أن الصحابة صلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتجب على المجنون وإن كان لا ذنب عليه. نعم، لو اختلج السقط أو تحرك يسيراً فقد قال الإمام: لا نص فيه. ولكن من الأصحاب من ألحقه بالمستهلّ، وعلى ذلك جرى المتولي والعراقيون كما حكاه ابن الصباغ، ومنهم من ألحقه بمن نفخ فيه الروح ولم يستهل حتى تجري فيه الأقوال الثلاثة، وقال الفوراني: إنه يغسل قولاً واحداً، وفي الصلاة عليه قولان، والله أعلم، وهذه هي الطريقة التي ذكرها القفال في الكرة الثانية كما قال القاضي الحسين، والله أعلم. قال: وإن لم ينفخ فيه الروح أي: بأن وضع لأقل من أربعة أشهر، كما صرح به العراقيون والقاضي الحسين- كفن ودفن؛ وفاءً بحرمة الآدمي، وعبارة الشافعي

في كفنه والخرقة التي تواريه: لفافة تكفنه. وما ذكره الشيخ هو الذي أورده القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ والماوردي، وهو يفهم أمرين: أحدهما: أنه لا يغسل ولا يصلى عليه، وبه صرح ابن الصباغ وغيره ممن ذكرنا. وعن "البيان" حكاية قولين في غسله، وهما في "التتمة"؛ لأنه قال: كل سقط قلنا: لا يصلى عليه، ففي غسله قولان، وفي "الرافعي" حكاية الطريقين: أصحهما: لا؛ كما لا يصلى [عليه] فإن كل واحد منهما حكم من عرض له الموت، وعروض الموت يستدعي سبق الحياة. والثاني: فيه قولان، والفرق بين الغسل والصلاة قد سبق، وفي "تعليق" القاضي الحسين قبيل كتاب الزكاة طريقة ثالثة: أنه يغسل ولا يصلى عليه قولاً واحداً. الأمر الثاني: أن التكفين والدفن واجب، وهو ظاهر إذا قلنا بوجوب غسله؛ لأن الغسل دون التكفين والدفن؛ ولهذا وجبا في المسألة قبلها بلا خلاف، وإن اختلف في الغسل والصلاة. وقضية كلام الإمام: أن التكفين والدفن لا يجب في هذه الحالة وإنما هو مستحب؛ بناء على أن أوائل التخليق أوان نفخ الروح؛ فإنه قال: قد ذكرنا في الكتب أن المرأة إذا ألقت لحم ولد ولم يبد فيه التخطيط فهل يتعلق به أمية الولد [ولزوم الغرة وانقضاء العدة؟ فيه طرق ونصوص: فإن قلنا: يثبت بهذا حكم أمية الولد]، فكيف يكون حكمه فيما نحن فيه؟ فأما صاحب "التقريب" فيقطع بأن هذه الأحكام- أي: وهي الغسل والتكفين والصلاة والدفن؛ إذ لا تتوقع الحياة قطعاً- هي المعتبرة عنده. وأما الشيخ أبو علي فيلزمه أن يخرج ذلك على الطرق في إثبات أحكام الأولاد له. قال: وهذا إلزام، والذي قاله رعاية التخليق كما مضى، فأما من [لا يبدو] فيه التخليق وهو المضغة- كما قال آنفاً- فلا يثبت لها حكم استيلاد ووجوب عدة ولا غسل ولا تكفين ولا صلاة، ولا يجب الدفن، والأولى: أن يوارى.

ثم قال الإمام: ويبعد عندي في كل طريق أن تثبت أمية الولد، ولا يوجب دفنه وكفنه في خرقة. وبعضهم فرق بين ما نحن فيه وأمية الولد: بأن أمية الولد تثبت بالإحبال، وقد تحقق، وما نحن فيه [أحكام] تابعة للموت ولم تثبت له حياة. أما إذا كان أوائل التخليق يتخلف عنه نفخ الروح بزمان بعيد- كما يقتضيه ظاهر الخبر لولا السياق- فيحتاج أن نفصل، ونقول: من لم ينفخ فيه الروح إن لم تبد فيه أوائل التخليق فالحكم كما سبق، وإن بدت كان في غسله والصلاة عليه الأقوال الثلاثة التي حكاها الشيخ أبو علي، ويكون التكفين والدفن واجباً قولاً واحداً، فتأمل ذلك، والله أعلم. قال: وإن اختلط من يلصى عليه بمن لا يصلى عليه، أي: كما إذا اختلط موتى المسلمين غير الشهداء بموتى الكفار [أو بالشهداء] الذين لا يصلى عليهم كما قال البندنيجي- صلى على كل واحد منهم، أي: منفرداً، وينوي أنه الذي يصلى عليه، أي: ينوي أنه يصلي عليه إن كان مسلماً؛ لأن الصلاة على المسلمين واجبة، وعلى الكفار حرام، وتحصيل الواجب يمكن تخصيصه بالنية فتعين، وعبارة الشيخ هي المعزية في "الذخائر" للشيخ أبي حامد، ولم يورد الماوردي غيرها، وبها صدر القاضي الحسين كلامه، وقال: إنه يقول: اللهم اغفر له إن كان مسلماً. ثم قال: وإن صلى عليهم، أي جميعاً، ونوى به المسلمين منهم- جاز؛ لأن النية تميزهم. وهذا الذي قاله أخيراً هو الذي أورده البندنيجي، وابن الصباغ، والشيخ في "المهذب" وغيرهم، وعبارة القاضي أبي الطيب تحتمل الأمرين. ولا فرق في ذلك بين أن يكون من لا تجوز الصلاة عليه أقل ممن تجوز الصلاة عليه أو أكثر، خلافاً لأبي حنيفة في الأكثر. وقال الشافعي رداً عليه: إذا جاز أن نستثني واحداً مشركاً من مائة مسلم جاز أن نستثني أكثر المائة؛ لأن المقصود في الحالين الصلاة على المسلم دون المشرك.

وهذا حكم الصلاة، وأما الكفن والغسل فقد قال الإمام: الذي أراه أنه يغسل جميعهم حتى يتأدى الغسل في المسلم منهم، وكذلك يكفنون من عند آخرهم. فرع: لو وجد ميت أو بعضه، ولم يعلم أنه مسلم أو كافر؛ فالحكم فيه كالحكم في اللقيط: إن وجد في دار الإسلام عومل معاملة المسلمين، وإن وجد في دار الشرك ولا مسلم فيها فكالكفار، وإن كان فيها مسلم فعلى الخلاف في الحكم بالإسلام، والله أعلم.

باب حمل الجنازة والدفن

باب حمل الجنازة والدفن قد قدمت في أول الكتاب تفسير "الجنازة" و"الجنازة" بما أغنى عن الإعادة. والدفن معروف. قال: والأفضل أن يجمع في حمل الجنازة بين التربيع والحمل بين العمودين؛ لأن فيه جمعاً بين الكيفيات الواردة في السنة؛ فإن ابن عباس قال: إذا اتبع أحدكم جنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربعة، ثم ليتطوع أو ليذر؛ فإنه من السنة. وروي أنه- عليه السلام- حمل جنازة سعد بن معاذ بن العمودين، وكذا فعله سعد بن أبي وقاص وعثمان بن عفان وأبو هريرة وابن الزبير في أموات حملوها. والتربيع: أن يحمل النعش أربعة: اثنان في المقدمة، واثنان في المؤخرة خارجين عن العمودين، ويستحب عند الإتيان [به] أن يأخذ أحدهم بالشق الأيسر من صدر النعش، وهو الذي يلي يمين الميت ويمين الحامل، ثم يأخذ الثاني بالطرف المقابل له من هذا الجانب، ثم يفعل ذلك بالشق الآخر: يبدأ بالمقدمة [منه] ويختم بالمؤخرة. والحمل بين العمودين: أن يدخل رجل بين طرفي مقدمة النعش ويضع الخشبة المعترضة على كاهله- وهو مقدم الظهر- ويترك العمودين على عاتقيه الأيمن والأيسر على المشهور.

وقال في "التتمة": إنه يأخذهما بيديه. وأيما كان فقد قال الأصحاب: إنه لا يمكن مثل ذلك في [طرفي] مؤخرة النعش؛ لأن الحامل حينئذ يكون وجهه للميت فلا ينظر الطريق، ولو وضعه على رأسه لما كان حاملاً بين العمودين ولأدى [إلى ارتفاع] مؤخرة النعش وتنكيس الميت على رأسه؛ فلابد أن يكون في مؤخرة النعش اثنان يحملانه كما يحملانه في حالة التربيع، ولا يكون بينهما أحد، وحينئذ يكون حملته على هذه الهيئة ثلاثة نفر. ثم ما المراد بالجمع بينهما الذي هو الأفضل بزعم الشيخ وغيره؟ اختلف فيه كلام النقلة: فالذي قاله الماوردي: أن يحمله خمسة: أربعة في جوانب النعش، وواحد بين العمودين، لكنه لا يضع شيئاً من العمودين على عاتقه. والذي قاله البندنيجي: أن يحمله تارة على التربيع، وتارة بين العمودين كيف شاء، وهو ما حكاه الروياني عن بعض الأصحاب، وقال الجيلي: إنه المذكور في "الكافي". قال: فإن أراد أحدهما فالحمل بين العمودين أفضل؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة [له]، وهو متصل السند بعيد عن التأويل، وهذه طريقة [الشيخ] أبي حامد، وعليها جرى الماوردي والبندنيجي. وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والشيخ في "المهذب" والغزالي: إن الحمل بين العمودين أفضل مطلقاً؛ لما ذكرناه، فإن عجز [الذي في مقدم النعش حمل] معه اثنان فيكونون خمسة كما ذكرنا. ومن الأصحاب من قال: التربيع أفضل مطلقاً؛ لأنه أصون للميت، وهو ما عزاه الإمام لبعض التصانيف، وقال: إنه لا أصل له، ولم [أر له ذكراً] في "الإبانة". وقد حكى الإمام بعد ذلك في باب تكبيرة صلاة الجنازة عن الشيخ أبي علي: أنه يوضع على جنازة أو سرير، ويحمله أربعة، ولا يجوز أن ينقص حملته

عن أربعة؛ فإنه لو جوز النقصان في ذلك لكان هذا أبهأ بالميت، ولساغ أن يحمل الميت رجل واحد، وهذا ترك لحرمته وغض من قدره، فإذا كان لابد من أربعة تعين التربيع للاستحباب، لكن قول أبي عليِّ ضعفه الإمام، وفي بعض الشروح أن صاحب "التلخيص" قال: إن الحمل بين العمودين والحمل بين التربيع سواء، وفي "النهاية" حكايته احتمالاً عن صاحب "التقريب". وقد سلك بعض من أراد الجمع بين كلام الشيخ هنا، وفي "المهذب" مسلكاً في الجمع، فقال: ما ذكره في "المهذب" محمول على ما إذا لم يحتج إلى أكثر من ثلاثة؛ لقوة المتوسط أمام النعش، وما قاله هنا على ما إذا احتاج إلى خمسة؛ لضعف المتوسط أمام النعش. ثم استحباب الحمل في النعش بين العمودين وغيره إنما هو عند الأمن من تغير الميت، فإن خشي تغيره إن انتظر ما يحمله عليه فلا بأس بحمله على الأيدي والرقاب، ولا يجوز حمله على حالة تؤدي إلى الإزراء به [والاستهانة به]، ولا على هيئة قبيحة مزرية، وينبغي أن يكون بحيث لا يخاف على الميت الميل والسقوط. وما ذكرناه عن الشيخ أبي علي من منع الاقتصار على واحد مفروض في الكبير، أما الصبي لو حمله واحد جاز، ولا إزراء فيه، وفي حمل رجلين أيدين بجنازة كبير- احتمال ظاهر، ولو احتيج إلى الزيادة على ما ذكرناه جاز فعله. ويوضع عمود في وسط الجنازة، ويحمله اثنان، وهكذا. [و] تجعل الأعمدة متعارضة تحت الجنازة، وكذا حمل عبيد الله بن عمر؛ لأنه كان مبدناً ثقيلاً. ويختار للنساء إصلاح النعش كالقبة على السرير؛ لما فيه من الصيانة، وكذا [فعلته أسماء] بنت عميس لزينب بنت جحش زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها رأت النعش كذلك في الحبشة، فلما رآه عمر قال: نعم خباء الظعينة، وقيل: إن

فاطمة فعل لها ذلك، وأيَّما كان فهو دليل الاستحباب. واعلم أن الشافعي قال: وليس في حمل الجنازة دناءةُ ولا إسقاط مروءة، بل ذلك مكرمة وثواب وبر وفعل أهل الخير، وقد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم الصحابة ثم التابعون. ومن أراد التبرك بحمل الجنازة من جوانبها الأربع بدأ بالعمود الأيسر من مقدمها يحمله على عاتقه الأيمن، ثم يسلمه إلى غيره فيحمله على عاتقه، ويأخذ العمود الأيسر من مؤخرها فيحمله على عاتقه الأيمن أيضاً، ثم يتقدم فيعرض بين يديها؛ كي لا يكون ماشياً خلفها، فليأخذ العمود الأيمن من مقدمها ويحمله على عاتقه الأيسر، ثم يأخذ العمود الأيمن من مؤخرها ويحمله على عاتقه الأيسر أيضاً، كذا حكاه البندنيجي عن نصه في "الأم" والقديم معاً. قال الرافعي: ولا شك أن هذا إنما يتأتى والجنازة محمولة على هيئة التربيع، فلو أراد أن يدور على جميع الجوانب مع الحمل بين العمودين حمل المقدمة على كاهله ساعة، ثم يتأخر فيحمل مؤخرة الياسرة على منكبه الأيمن، ثم يدور من قدام الجنازة إلى الجانب الآخر فيحمل مؤخرة اليامنة على منكبه الأيسر، قاله في "التتمة". قال: ويستحب أن يسرع بالجنازة؛ لرواية أبي داود عن أبي هريرة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسرعوا بالجنازة؛ فإن تك صالحةً فخير تقدِّمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم" وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. والإسراع المطلوب يحصل بالزيادة على سجية المشي؛ بحيث لا يشق على

[ضعيف يتبعها] لرواية أبي داود عن ابن مسعود قال: سألنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن المشي مع الجنازة، فقال: "ما دون الخبب". نعم، لو كان الميت يخاف تغيره أسرعوا ما قدروا عليه، ولو خيف انفجاره ترفق به، نص عليه ولا يزلزل الميت في حال الحمل. قال: وأن يكون الناس أمامها: أي: ويستحب أن يكون الناس أمامها، أي: مشاة؛ لما روى ابن عمر قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة" [رواه

أبو داود، والترمذي] وقال: أهل الحديث كانهم يرون الحديث المرسل في ذلك أصح. وقال البيهقي: ومن وصله واستقر على وصله ولم يختلف عليه فيه- وهو سفيفان ابن عيينة-: حجة ثقة. وكأن المرسل المشار إليه هو الذي ذكره الماوردي لا غير عن سالم عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يمشون أمام الجنازة. ولفظة "كان" عبارة عن دوام الفعل والمقام عليه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل الجائز مرة ولا يداوم [إلا] على الأفضل، ولأنهم شفعاء وحق الشفيع التقدم. قال الماوردي: ولأن حاملها أفضل من الماشي معها: لأن له أجرين، وللماشي مع الجنازة أجر، [وأفضل حملتها المتقدم؛ فكذلك] أفضل المشاة. قال الإمام: واستحباب التقدم للراكب كهو للماشي، إلا أن المشي أفضل؛ فإنه ما ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عيد ولا جنازة. وقال الماوردي: لو ركب المشيِّع للجنازة فيها كره له ذلك؛ لمخالفة السنة، وقد روى الترمذي عن ثوبان قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فرأى ناساً ركاباً فقال: "ألا تستحيون أنَّ الملائكة على أقدامهم وأنتم على ظهور الَّدوابَّ".

نعم، لو عجز المشيع عن المشي أو كان الموضع بعيداً لم يكره الركوب، قاله الماوردي أيضاً، وفي هذه الحالة يكون الراكب أمامها، وقد حكى أبو سليمان الخطابي اختلاف العلماء في استحباب تقدم الماشي عليها وتأخره، ثم قال: [و] أما الراكب فلا أعلمهم اختلفوا في أن يكون خلف الجنازة. ولا يكره الركوب في العود بحال، لما روى مسلم عن جابر بن سمرة قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابن الدحداح ونحن شهود، ثم أتي بفرس، فعقل حتى ركبه، فجعل يتوقص به ونحن نسعى حوله. وروى أبو داود عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بدابة وهو مع الجنازة فأبى أن يركبها، فلما انصرف أتي بدابة فركب، فقيل له، فقال: "إنَّ الملائكة كانت تمشي؛ فلم أكن لأركب وهم يمشون، فلم ذهبوا ركبت". قال: بقربها؛ لأنه إذا بعد انقطع فلا يكون مشيِّعاً، ولأنه إذا قرب نظر إليها

ملتفتاً فاعتبر. وحدُّ القرب: أن يكون بحيث إذا التفت وقع البصر عليها، فإن بعد عن ذلك لم يجز إجزاء التشييع، وإذا سبق الجنازة إلى المقبرة لم يكره، وهو بالخيار إن شاء قام حتى توضع، وإن شاء جلس. وفي "التتمة" أن المستحب لمن مر عليه الجنازة أن يقوم لها، وإذا كان معها فلا يقعد حتى توضع الجنازة؛ لما سنذكره من الخبر، إلا أنه لا يكره ترك القيام، ولا الجلوس قبل وضعها، وفي "الجيلي" أن بعض أصحابنا قال: يكره الجلوس، وقد يستدل له بأنه- عليه السلام- قال: "إذا اتبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع" أخرجه البخاري ومسلم. وقال أبو داود: روى هذا الحديث الثوري عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال فيه: "حتى توضع بالأرض" ورواه أبو معاوية عن سهيل قال: "حتى توضع في اللحد"، وسفيان أحفظ من أبي معاوية، والمشهور الذي جزم بنقله الجمهور: الأول، والقيام منسوخ؛ فإن أبا داود روى عن علي: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في الجنازة، ثم قعد بعد". وأخرجه مسلم بنحوه.

وعن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمر حبر من اليهود فقال: هكذا نفعل؛ فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "اجلسوا، خالفوهم" أخرجه أبو داود، وكذا الترمذي، وقال: إنه غريب. وهذا التشييع مختص بالرجال، أما النساء فلا يستحب لهن؛ لأن البخاري ومسلماً رويا عن أم عطية- رضي الله عنها- قالت: "نهينا عن تتبع الجنازة، ولم يعزم علينا". قال في "الروضة": وقد قيل: إنه حرام عليهن، والصحيح أنه مكروه إذا لم يتضمن حراماً.

ولا يكره للمسلم اتباع جنازة قريبة الكافر؛ لقوله- عليه السلام- لعليِّ وقد مات أبوه: "اذهب فواره". قال: ثم يدفن، وهو- أي: الدفن- فرض على الكفاية بالإجماع، والأصل فيه قبل ذلك من الكتاب العزيز قوله- تعالى-: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] والقصة معروفة، وقوله – تعالى-:

{أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات] وهو من "كفت": إذا جمع، أي: جامعة للأحياء بالمساكن، والأموات بالقبور. وحكمته: أنه لو ترك لانهتكت حرمته بظهور تغير جثته وانتشار رائحته، وتأذي الناس بها، وتعرض لأن تأكله السباع، وإذا كان ذلك هو الذي شرع الدفن لأجله فهم منه أن الواجب منه ما يمنع ذلك، كما صرح به الأصحاب، وأما أكمله فقد ذكره الشيخ من بعد. وهل أقارب الميت وغيرهم في الفرضية سواء أم لا؟ فيه ما تقدم في باب الغسل. ثم هذا الذي ذكره الشيخ إذا كان الدفن ممكناً، فإن لم يكن [ممكناً] مثل أن مات في سفينة في البحر، ولم يقدر على دفنه، إما لخوف في البر أو لبعده- فقد قال الشافعي في "الأم": جعل بين لوحين، وربطا عليه؛ ليلفظه البحر إلى الساحل، فربما وقع إلى قوم فيدفنونه خير له من أن تأكله الحيتان، فإن رموه إلى البحر لم يأثموا، إن شاء الله. وقال المزني: إنما قال ذلك إذا كان حول البحر مسلمون، فإن كان أهل الجزائر كفاراً: ثقِّل وألقي في البحر حتى يتحصل في قراره؛ كي لا يقع لهم فيدفنوه إلى غير القبلة. وما قاله المزني هو المذكور في "المهذب" والرافعي، وقال ابن الصباغ: إن المزني نقله كذلك في "الجامع الكبير". وقال الشيخ أبو حامد: هذا لا معنى له؛ لأن البحر لا يخلو أن يتصل جانبه ببلاد المسلمين، وإن لم يتصل جميعه، فربما وقع للمسلمين فدفنوه، وهو إذا ثقل يكون إلى غير القبلة اتصالاً [إذ] لا يستقر في البحر إلى جهة، وهذا ما اختاره في "المرشد"، وجرى عليه الماوردي والبندنيجي، [وأبو الطيب وقال: الذي ذكره المزني في "جامعه" ما ذكره الشافعي في "الأم"، لا غيره، والله أعلم]. وقد أفهم قول الشيخ: "ثم يدفن" بعد قوله: "ويستحب أن يسرع بالجنازة، وأن

يكون الناس أمامها بقربها"-: أن ذلك مختص بما بعد الصلاة، والذي يظهر أنه لا فرق فيه بين ما قبل الصلاة وبعدها، وهو الذي يفهم من كلام الأصحاب، وبه صرح أبو الطيب، [و] كأن مراد الشيخ- والله أعلم- بيان أن المشي أمام الجنازة لا يقطع الصلاة وإن كانت الشفاعة بها تحصل، بل تستدام إلى الدفن، ليكون [حائزاً لأجر ذلك]؛ قال- عليه السلام-: "من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، فكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ منها- رجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل أحد"، وفي رواية: "أصغرهما مثل أحد"- ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط" رواه البخاري ومسلم. وفيه دلاله على أنه متى نُصِب عليه اللبن ولم يهل التراب بعد أو لم يستكمل: أن القيراطين لا يحصلان، وقد حكى الإمام تردد بعض الأصحاب في حيازتهما في هذه الحالة، ثم قال: والوجه أن يقال: إذا ووري حصلت الحيازة. وقد حكى الماوردي ما أبداه الإمام وجهاً للأصحاب ثم قال: إنها لا تحصل إلا إذا فرغ من قبره، وبالجملة فالناس في الانصراف عن الجنازة أربعة أصناف: من ينصرف عقيب الصلاة [فله من الأجر قيراط، وقد كان ابن عمر ينصرف عقيب الصلاة]، فلما بلغه تمام الخبر قال: "قد فرطنا في قراريط كثيرة". ومن ينصرف بعد أن توضع في القبر وقبل إهالة التراب، فقد حصل له قيراط، وهل يحصل له الثاني؟ فيه ما تقدم. ومن ينصرف بعد الفراغ من الدفن ولا يدعو، ولا خلاف في حيازته القيراطين.

ومن ينصرف بعد أن يقف ويدعو للميت بالتثبيت، ويستغفر له بعد فراغ الدفن، وهو أكمل الأحوال؛ لما ستعرفه. واعلم أن الشيخ استغنى بقوله: "ثم يدفن، وهو فرض على الكفاية" [عن أن يقول في الحمل إذا احتيج إليه: إنه فرض على الكفاية]؛ لأن الدفن لا يتصور- حينئذ- إلا به، أما إذا لم يحتج إليه: بأن أريد دفنه في الموضع الذي كفن فيه وصلي عليه، فقد سقط الحمل بالكلية. قال: والأولى أن يتولى ذلك- أي: الدفن- من يتولى غسله؛ أي: من الرجال، رجلاً كان الميت أو امرأة؛ لأنه يكون أرفق به، وقد يطلع غاسله على شيء يكره فلا ينبغي أن يراه غيره. أما النساء فلا يباشرن الدفن عند وجود الرجال وإن كان الميت امرأة: لأنه يحتاج إلى قوة وبطش يضعف عنه النساء، وهو لا يمكن إلا بتكشف من المباشر، وهن مأمورات بالستر، وهذا ما أورده الجمهور، وعليه نص الشافعي في "المختصر" حيث قال: لا يدخل الميت في قبره إلا الرجال ما كانوا موجودين، ويدخله منهم أفقههم وأقربهم رحماً، ويدخل المرأة زوجها وأقربهم بها رحماً، وعن صاحب "العدة" تقديم نساء القرابة على الرجال الأجانب في دفنها. وقال البندنيجي: إن الشافعي قال في "الأم": أستحب أن يكون الذي يحملها من المغتسل إلى الجنازة، ومن الجنازة إلى من في القبر: النساء. فأما إدخالها القبر: فإن كان لها زوج كان أولى من كل أحد، فإن لم يكن لها زوج تولاه من عصباتها المحارم على الترتيب في الغسل، فإن لم يكن لها محارم تولاه من له ذات رحم محرم كالخال وأبي الأم والعم للأم، فإن لم يكن قال في "المهذب" و"الوسيط" وغيرهما: تولاه عبيدها، وهم أولى من بني العم؛ لأنهم كالمحارم في جواز النظر ونحوه على الصحيح، قال الرافعي: فإن ألحقناهم بالأجانب فلا يتوجه تقديمهم. وأبدى الإمام- مع القول بجواز النظر ونحوه- الاحتمال من جهة أخرى، وهي أن ملكها ينقطع بالموت، وشبهه بالتردد السابق في غسل الأمة

مولاها، وذلك ظاهر، فإن لم يكن لها عبيد فالخصيان أولى؛ لضعف شهوتهم. قال الإمام: وفيهم احتمال بين سنذكره في أحكام النظر، فإن لم يكونوا؛ فذوو الأرحام الذين لا محرمية لهم، فإن لم يكونوا فأهل الصلاح من الأجانب. وقال صاحب "الفروع": إذا [فقدنا ذوي] الأرحام الذين لا محرمية لهم يرسل حسل، فإن تعذر جاز للأجانب وضعها، قال الإمام: ولا أرى تقديم ذوي الأرحام محتوماً بخلاف تقديم المحارم؛ لأن ذوي الأرحام الذين لا محرمية لهم كالأجانب في وجوب الستر عنهم في الحياة، وإذا صارت في القبر- قال البندنيجي: فإن كانت أكفانها مشدودة تولى حلها النساء، وعزى صاحب "البيان" ذلك إلى الصيدلاني، وكذا ما حكيناه عن رواية البندنيجي [عن "الأم" في حملها من المغتسل إلى الجنازة، وقال: إنه لم يره لغيره. واعلم أن الشيخ في "المهذب"، والبندنيجي] وغيرهما قالوا في ترتيب مباشري الدفن ضابطاً غير ما [ذكره الشيخ]، وهو أن الأولى أن يتولاه الرجال، وأولاهم بذلك أولاهم بالصلاة عليه: فإن كانت امرأة فزوجها أحق بدفنها؛ لأنه أحق بغسلها، فإن لم يكن لها زوج؛ فالعصبات والمماليك والخصيان وغيرهم على ما ذكرناه من قبل. وهذه العبارة تقتضي أنا إذا قلنا: الوالي مقدم في الصلاة- يكون مقدماً في الدفن، ولا خلاف أنه لا يقدم فيه، وتقتضي أن الأسن يقدم في الدفن على الصحيح؛ لأن الصحيح والمنصوص أنه مقدم على الأفقه في الصلاة، ونص الشافعي يقتضي تقديم الأفقه في الدفن، وبه صرح الأصحاب، وعبارة الشيخ هنا لا يرد عليها ذلك؛ لأن الوالي لا يقدم في الغسل، وكذا الأسن لا يقدم فيه، بل المقدم فيه الأفقه، بل يرد عليها أنها تقتضي تقديم النساء في الدفن حيث يقدمن في الغسل، وهن لا يقدمن فيه، وحينئذ لم تسلم عبارة منهما عن شيء وهو إطلاق العام وإرادة الخاص، وهو جائز في الكتاب العزيز، ولكن تترجح

عبارته هنا؛ لأن القصد ستر الميت في الغسل والدفن؛ فحسن تشبيه أحدهما بالآخر، والله أعلم. ثم المراد بالأفقه الذي قدمه الشافعي هنا: الأعلم بإدخاله القبر كما قال الماوردي، قال: وليس يريد: أعلمهم بأحكام الشرع، وتقديمه الزوج على المحارم بناء على أنه يقدم في الغسل عليهم ومن قدمهم عليه من أصحابنا في الغسل قدمهم عليه في الدفن أيضاً. قال: وأن يكون عددهم وتراً، [أي: والأولى أن يكون عددهم وتراً] لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدخله قبره ثلاثة: العباس، وعلي واختلف في الثالث فقيل: إنه الفضل، وقيل: إنه أسامة، قال القاضي أبو الطيب: وهو الصحيح. [وكلام الشيخ يفهم استحباب الثلاثة؛ لأنه أقل العدد الوتر؛ فإن الواحد أول العدد وليس بعدد عند الحساب، والسنة تشهد لاستحباب ذلك، وبه صرح البندنيجي وغيره]، ثم الاقتصار على الثلاثة يكون إذا حصل بهم الكفاية، فإن احتيج إلى زيادة جعلوا وتراً؛ [لقوله عليه السلام: "إن الله وتر يحب الوتر"]، وقد قيل: إنه –عليه السلام- أدخله قبره خمسة: من ذكرنا، وعبد الرحمن بن عوف، وشقران مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قاله في "الحاوي"، ويكفي في الصبي

واحد؛ لأنه- عليه السلام- أدخل ولده إبراهيم في القبر وحده. قال: وأن يكون بالنهار، أي: والأولى أن يكون بالنهار؛ لأنه أيسر لاجتماع الناس وللخروج من الخلاف؛ فإن الحسن قال: إن الدفن ليلاً مكروه. ولا كراهية فيه عندنا؛ لأنه- عليه السلام- وأبا بكر، وعمر، وعثمان، وفاطمة، وعائشة دفنوا ليلاً، وقال- عليه السلام- في المسكينة، وقد دفنت ليلاً: "هلاَّ آذنتموني"، نعم يكره أن يتوخَّى دفنه في الأوقات المكروهة؛ لقول عقبة بن عامر: "ثلاث ساعات، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين تقوم قائمة الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب"، أو كما قال، أخرجه أبو داود ومسلم، فإن

الأصحاب حملوا الحديث على ذلك، وتضيف: تميل وتجنح للغروب، يقال: ضاف، يضيف: بمعنى: "مال"، ومنه اشتق: الضيف. فرع: أهل الذمة لا يمكنون من إخراج جنائزهم نهاراً، ويجب على الإمام أن يمنعهم من ذلك، حكاه الجيلي عن "الأحكام السلطانية". قال: ويعمق القبر قدر قامة وبسطة" أي: والأولى أن يعمق القبر قدر قامة وبسطة، أي: لرجل معتدل، وبعضهم يقول: لرجل ربع، ووجهه: أن عمر- رضي الله عنه- أوصى بذلك، ولم ينكره أحد؛ فإن فيه مبالغة في تحصيل المقصود من الدفن. والتعميق: بالعين المهملة، والقامة: معروفة، والبسطة: أن يرفع الرجل يديه وهو قائم. وقدر المتولي وغيره مجموع ذلك بأربعة أذرع إلى أربعة ونصف. وجزم البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما بأنها أربعة أذرع ونصف، وعن المحاملي أنها ثلاثة أذرع ونصف، وفيما علق عن الشيخ أبي محمد أن السنة من التعميق بقدر قامة وهو ثلاثة أذرع، وهذا وإن خالف المحاملي في اعتبار البسطة فهو مقتض موافقته على أن القامة والبسطة ثلاثة أذرع ونصف؛ إذ البسطة بعد

القامة بالتفسير الذي ذكرناه لا تزيد على نصف ذراع، وهذا الوجه لم يورد الغزالي غيره؛ لأنه قال في "الوسيط": إن أكمله قامة رجل ربع. ولفظ الإمام: وقد قيل: الأولى أن يكون عمق القبر بمقدار بسطة، وهي قامة رجل ربع وسط. ولم يحك غير ذلك، وإذا جمع ما قيل في ذلك كان ثلاثة أوجه أو أربعة، والصحيح- وقال في "الروضة": إنه الصواب-: الأول. وإذا عرفت أن المستحب من التعميق قدر ما ذكرناه عرفت أن الزيادة عليه والنقص عنه بعد الواجب غير مأثور. قال: ويدفن في اللحد، أي: والأولى أن يدفن في اللحد؛ لقوله- عليه السلام- "اللحد لنا والشَّقُّ لغيرنا" أخرجه أبو داود، والترمذي وقال: إنه غريب. وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في مرضه الذي هلك فيه: "الحدوا لي لحداً، وانصبوا عليَّ اللَّبِن نصباً كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أخرجه مسلم. قيل: والسبب في لحد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عادة أهل مكة كانت الضريح، وكان يتولى ذلك لهم أبو عبيدة بن الجراح، وكان عادة أهل المدينة: اللحد، وكان يتولى ذلك لهم أبو طلحة الأصناري، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال قوم: اجعلوا له ضريحاً، وقال آخرون: لحداً، فأنفذ العباس رسولاً إلى أبي عبيدة ورسولاً إلى أبي طلحة، وقال: اللهم خر لنبيك. فسبق الرسول إلى أبي طلحة، [فجاء به]، فألحده - صلى الله عليه وسلم -

واللحد: بضم اللام وفتحها، يقال لحدت، وألحدت: لغة قليلة، وهو حفرة تحفر في أرض القبر بعد أن يبلغ الحد الذي يريده في جانبه القبلي تحت جدار القبر، ويكون أسفل من أرض القبر قليلاً، ويستحب أن يوسع من قبل رأسه ورجليه؛ لأنه – عليه السلام- أمر الحافر بذلك في قتلى أحد، وأصل اللحد من الميل، فكأن ما يميل عن الاستواء لحد، ومنه: الإلحاد في الحرم، وفي دين الله تعالى. قال: إلا أن تكون الأرض رخوة، أي: لا تحتمل اللحد بل تنهار إن حفره- ورخوة: بكسر الراء وفتحها- فتشق ويدفن في شقها، أي: لتعذر اللحد، وشقها: بفتح الشين، وصورته: أن يحفر قعر القبر كالنهر. وقال البندنيجي وغيره: صورة ذلك: أن يبنى من جانبي أرض القبر بلبن أو حجر أو خشب، ويترك وسط القبر كالحوض على صورة التابوت، [ويرفع ما يبنيه] حتى إذا سقف فوق الميت لا يباشر السقف الميت، فإذا جعل الميت فيه سقف عليه، وحكى الرافعي الصورتين. قال الشافعي: ورأيتهم عندنا يضعون على السقف الإذخر، ثم يضعون التراب عليه. ويكره الدفن في التابوت كما قال أبو الطيب، ولفظ الشافعي في "الأم": ولست أحب أن يجعل الميت في الصندوق. وعنى التابوت. وقال: بلغني أنه قيل لسعد بن أبي وقاص: نتخذ لك شيئاً كالصندوق؟ فقال: بل اصنعوا بي كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصبوا عليّ اللبن، وأهيلوا عليّ التراب. وعبارة البندنيجي:

والمستحب: ترك التابوت؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة ما دفنوا في التوابيت. وقال الرافعي تبعاً لـ"التهذيب" والقاضي الحسين: إنه يكره ذلك إلا أن تكون الأرض رخوة أو ندية، ولو أوصى بذلك فلا تنفذ وصيته إلا في هذا الموضع، ويكون من رأس المال، وهو ما حكاه الرافعي. قال: ويسل الميت من قبل رأسه إلى القبر؛ لرواية الشافعي عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلَّ من قبل رأسه. وروى أبو داود عن أبي إسحاق قال: أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد، فصلى عليه، ثم أدخله القبر من قبل رجلي القبر، وقال: وإن هذا من السنة. وكيفية ذلك: أن يوضع رأس الميت وهو في التابوت عند الموضع الذي يكون فيه رجلاه في القبر، ثم يسلُّ من قبل رأسه سلاًّ، وينزل إلى القبر على رأسه، ويستحب أن يدنى في اللحد من مقدمه؛ كي لا ينكب على وجهه. قال: ويسجَّى بثوب عند إدخاله القبر؛ لأنه- عليه السلام- كذا فعل بسعد ابن معاذ حين دفن، أخرجه عبد الرزاق.

والمعنى فيه ستره عن أعين الحاضرين عند حل أكفانه، ويكون الذي يدخله القبر تحت الثوب كما قال المتولي. وستر المرأة أشد استحباباً؛ ولذلك ذكر الشافعي سترها في "المختصر" ولم يتعرض لستر الرجل، لكن الأصحاب صرحوا به عن أبي الفضل بن عبدان من أصحابنا، فإنه اختار استحباب ذلك في المرأة دون الرجل كمذهب أبي حنيفة، ولعله أخذه مما ذكرناه. قال: ويقول الذي يدخله [القبر]: باسم الله، وعلى ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لرواية أبي داود عن ابن عمر: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أدخل الميت القبر- أو قال: إذا وضع الميت في لحده- قال مرة: "باسم الله، وعلى ملَّة رسول الله"، وقال

مرة: "باسم الله، وبالله، وعلى ملَّة رسول الله"، والملة: الدين والشريعة. قال البندنيجي: قال الشافعي: ويدعو بما يليق بالحال، ولا وقت لها، غير أنا نحب أن يقول: أسلمه إليك الأشحَّاء من ولده وقرابته وإخوانه، وفارق من كان يحب قربه، وخرج من سعة الدنيا والحياة إلى ظلمة القبر وضيقه، ونزل بك وأنت خير منزول به، إن عاقبته فبذنب، وإن عفوت [عنه] فأهل العفو أنت، أنت غني عذاب القبر، واجمع له برحمتك الأمن من عذابك، واكفه كل هول دون الجنة، اللهم اخلفه في تركته في الغابرين، وارفعه في عليين، وعد عليه بفضل رحمتك يا أرحم الراحمين. وقال في "المختصر": إنه يقول: باسم الله، وعلى ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم أسلمه إليك الأشحاء .. وساق ما تقدم. وقال الماوردي: إنه إنما اختار هذا الدعاء؛ لأنه مروي عن السلف ولائق بالحال.

قال: ويوضع على جنبه الأيمن، أي: مستقبل القبلة؛ لما ستعرفه من كلامه، ووجهه ما قاله الرافعي: إنه كذلك فعل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك كان يفعله، وليكن ذلك بحيث لاينكب ولا يستلقي، وذلك بأن يدنى من جدار اللحد فيسند إليه وجهه ورجلاه، ويجعل في باقي بدنه التجافي؛ فتكون هيئته قريبة [من هيئة] الراكعين ويسند ظهره إلى لبنةٍ أو لبنتين في موضعين أو أكثر ونحو ذلك. ولو وضع على جنبه الأيسر مستقبل القبلة فقضية كلام الإمام أنه لا يجوز؛ لأنه قال: ثم يكون الميت في قبره على جنبه الأيمن في قبالة القبلة، وذلك حتمُ، وقال في "التتمة": إنه يكره. وهذا حكم الميت المسلم المنفصل عن أمه، أما الجنين المسلم في بطن الذمية إذا مات بموتها فسنذكره. قال: ويوضع تحت رأسه لبنة؛ لرفع رأسه كما يفعل الحي إذا نام، ويقوم التراب المستعلي مقامها. قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما من العراقيين: ويكره أن يجعل تحت رأسه مخدة أو تحته مضرَّبة؛ لأنه لم ينقل ذلك عن أحد من السلف، وقد نسب ابن الصباغ ذلك إلى النص، وعبارة الإمام في "النهاية": لا ينبغي أن يوضع على مخدة، أو مضربة، وعبارة القاضي الحسين: إنه لا تستحب المضربة والوسادة. وقال في "التهذيب": لا بأس به؛ إذ روى ابن عباس: "أنه جعل في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -

قطيفة حمراء"، أخرجه مسلم. قال: ويفضي بخده إلى الأرض؛ لأنه روي أنه- عليه السلام- قال: "إذا أنزلتموني في اللحد فأفضوا بخدي إلى الأرض" قاله ابن الحداد، وفي "الشامل": أن عمر- رضي الله عنه- هو القائل بذلك. قال الإمام: ولو أفضى بوجهه إلى اللبنة التي تحت رأسه كان حسناً؛ لأنه يكون على صورة مستكين لربه. قال: وينصب عليه- أي: على اللحد أو الشق- اللبن نصباً؛ لقول سعد بن أبي وقاص في الخبر الذي ذكرناه عن رواية مسلم: "وانصبوا عليَّ اللَّبن نصباً كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". قال الشافعي في "الأم": ويتبع فرج اللبن بكسار اللبن والطين، أي: ليمنع انهيار التراب. قال: ويحثي عليه التراب باليد ثلاث حثيات؛ لرواية جعفر بن محمد بن علي عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهال على قبر ميت بكفَّيه ثلاثاً. قال الماوردي وأبو الطيب والبندنيجي: والإهالة: أن يطرح من على شفير القبر التراب بيديه جميعاً، والحكمة فيه: ألا يفسد ما نصب من اللبن لو أهيل عليه

التراب ابتداءً بالمساحي. ويستحب لكل من حضر الدفن أن يحثو عليه بيديه التراب؛ لأنه روي: أن [المؤمن] إذا مات وغفر له غفر لمن غسله وكفنه وصلى عليه ودفنه، وحثوا عليه التراب من الدفن. ويقرأ في المرة الأولى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ}، وفي الثانية: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}، وفي الثالثة: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]. قال: ثم يهال عليه التراب بالمساحي؛ لخبر سعد، ولأنه أسرع في تكميله. قال الشافعي: ولا أحب أن يزيد في القبر أكثر من ترابه كي لا يرتفع جداً. وقال في "الأم": فإن زادوا على ذلك فلا بأس. وأراد به لا كراهية فيه، ومع ذلك قال الشيخ وغيره: ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر؛ لما روى أبو داود عن القاسم- وهو

ابن محمد بن أبي بكر الصديق- قال: دخلت على عائشة- رضي الله عنها- فقلت: يا أمَّه، اكشفي لي عن قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. قال أبو علي: يقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدم، وأبو بكر عند رأسه، وعمر عند رجليه، رأسه عند رجلي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو داود في "المراسيل": عن صالح بن أبي صالح: رأيت قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شبراً أو نحواً من شبر، يعني في الارتفاع، والمعنى في الرفع: أن يعلم أنه قبر فيتجنب من الحدث عليه وغيره، وليترحم على الميت من رآه، وهذا إذا كان الدفن في دار الإسلام، فلو دفن في دار الحرب أخفي بحيث لا يظهر لأحد؛ مخافة أن يتعرض له الكفار بعد خروجهم من دار الحرب، وقد تضمن الخبر أن [رأس أبي بكر بين كتفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأس عمر عند رجليه]. وقال البندنيجي: إنه روى أن رأس أبي بكر بين كتفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورأس عمر بين كتفي أبي بكر؛ ليكون كل واحد دون رتبة صاحبه. فإن قيل: قد روى أبو داود عن أبي هياج الأسدي، قال: بعثني عليُّ فقال: "أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا أدع قبراً مشرفاً إلا سوَّيته، ولا تمثالاً إلا طمسته" وأخرجه مسلم، وهذا صريح في عدم الرفع. قال أصحابنا: لم يرد به التسوية مع الأرض، وإنما أراد أن يسطحه؛ جمعاً بين الحديث وفعل الصحابة.

قال: وتسطيحه أفضل، [أي: من تسنيمه] لأنه – عليه السلام- سطح قبر ابنه إبراهيم وقبور المهاجرين والأنصار بالمدينة، وقد فعل الصحابة ذلك في قبره- عليه السلام- وقبر أبي بكر وقبر عمر. قال الشافعي: [ولأن الحصا] لا يثب إلا على قبر مسطح. وهذا منه يدل على أن وضع الحصا على القبر سنة مستقرة. فإن قيل: قد روي أن رجلاً رأى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر مسنمة، وتسطيح القبر يشبه البناء للأحياء، ويكره أن يجعل القبر كالبناء بدليل أنه يكره تجصيصه وتزويقه. قيل: راوي هذا الخبر مجهول، ولا حجة عندنا في المراسيل مع أنه يحتمل أنه أراد بما ذكره من التسنيم تشخيص القبر عن الأرض، ["فإن أراد ما ذكره السائل" ففعله - صلى الله عليه وسلم - أولى من فعل غيره، ولا نسلم أن ذلك يشبه بناء الأحياء؛ لأن بناءهم لا يشخص عن الأرض مقدار شبر ويقتصر عليه، بل ذلك يختص بالقبر. نعم، قال أبو علي الطبري في "الإفصاح"، وكذا أبو علي بن أبي هريرة: تسنيمه أفضل الآن؛ لأنه صار شعار الروافض. وقال: إنه لا يجهر بالتسليم؛ لأنه صار شعاراً لهم. وقال القاضي الحسين: إن أصحابنا اليوم أجمعوا على التسنيم لأجل ذلك. وقال القاضي أبو الطيب [والإمام] وابن الصباغ وغيرهم: إنه غير صحيح؛ لأن السنة لا تترك لأجل فاعلها من أهل البدع. وقد اختار الغزالي

التسنيم؛ لأجل ما ذكره أبو علي من التعليل، ودفع ما رد به عليه بأنه- عليه السلام- كان يقوم للجنازة، فقيل له: إن اليهود تفعله؛ فتركه. ثم قال: حتى ظن ظانون أن القنوت إذا صار شعاراً لهم جاز تركه، وهذا بعيد، وإنما نخالفهم في هيئات مثل التختم في اليمين وأمثاله، وما حكاه في أمر القنوت حكاه الإمام عن رواية بعضهم عن الشافعي. ثم قال: وهذا النقل مزيف، والشافعي- رحمه الله- أعلى من أن يدعو إلى ترك بعض من أبعاض الصلاة بسبب إقامته المبتدعة، والقول بذلك يرمي إلى التزام أمور لا سبيل إلى التزامها، ولا جرم قال الغزالي: إنه بعيد. وقوله: "وإنما يخالفهم في هيئات مثل التختم في اليمين وأمثاله"، أشار به إلى أن التختم في اليمين قد صار [شعاراً لهم]؛ فترك لأجل ذلك، ويتختم في اليسار، وإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتختم في اليمين، إذ هو هيئة، وحمله على ذلك أن الإمام قال بعد حكايته عن بعض الأصحاب: إن الأمر فيه قريب، ولكن أخبرني من أثق به من أئمة الحديث أن الذي ظهر وصح من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التختم في اليسار. انتهى. فعلى هذا يكون التختم فيه سنة بأصل الشرع، لكن قد ذكرت في باب ما يكره لبسه الأحاديث الواردة في ذلك، وأن الصحيح أن التختم في اليمين أفضل، ثم قول الغزالي: "وإنما نخالفهم في هيئات" قد يفهم [منه] اختيار ما صار إليه ابن أبي هريرة من ترك الجهر بالسلام إذ صار شعاراً لهم؛ لأنه هيئة، وليس

كذلك؛ لأن هذه سنة من سنن الصلاة فهي بالقنوت أشبه، وليس كذلك التختم. وقد قال الإمام: إن هذا بعيد جداً، ولا ينبغي أن يرتكب الإنسان ترك ما صح وثبت لهذا المعنى، ثم إن صح هذا في هيئة قبر فطرده في سنة من سنن الصلاة بعيد لا أصل له، وليس ترك القيام للجنازة من هذا النحو؛ فإنه لم يكن أمراً مقصوداً ولا سنة في عبادة. قال: ويرشُّ عليه الماء؛ لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رش على قبر ولده إبراهيم الماء، ووضع عليه حصاً من حصا العرص، قيل: هو أول قبر رش عليه [الماء]. وروى أبو بكر البزار عن عاصم بن عبد الله، عن عبد الله بن عامر ابن ربيعة عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام على قبر عثمان بن مظعون بعدما دفنه، وأمر فرش عليه الماء. والمعنى فيه: أن يلصق به ما يوضع عليه من حصاً؛ فإن

وضعه مستحب كما ستعرفه، وليمنعه من أن ينهال ترابه [به] فيزول أثره، ولأن فيه تفاؤلاً بتبريد المضجع. ويكره أن يرش عليه ماء الورد؛ لأن فيه إضاعة المال، قاله في "التهذيب"، وكذا المتولي، وألحق به طلاءه بالخلوق. وقد أفهم كلام الشيخ أن رش الماء آخر ما ندب إليه في الدفن؛ إذ لم يذكر بعده شيئاً آخر، وعليه ينطبق قوله في "المختصر": فإذا فرغ من القبر فقد أكمل معناه، لكن في "الحاوي" وتعليق البندنيجي أنه قال في "الأم" والقديم معاً: وإن قرأ بعد دفنه عند القبر شيئاً من القرآن فحسن. واستحب صاحب "التتمة" والقاضي الحسين والشيخ نصر المقدسي في كتاب "التهذيب" وغيرهم- كما قال في "الروضة" – تلقين الميت بعد الدفن؛ لأنه – عليه السلام- لقن ولده إبراهيم، والتلقين أن يقول: يا عبد الله يا ابن أمة الله، أو: يا فلان بن حواء- قال القاضي الحسين: وهو ما كان يقوله بـ"مرو" إذا لقن شيخاً صالحاً: "اذكر ما خرجت عليه، أو اثبت على ما كنت عليه من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخواناً"؛ لأن ذلك ورد به الخبر. قال في الروضة: والحديث الوارد

في التلقين ضعيف، لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم من المحدثين وغيرهم. وقد اعتضد بهذا الحديث شواهد من الأحاديث الصحيحة كحديث: "اسألوا الله له التثبيت" أي: الذي رواه أبو داود عن عثمان- وهو ابن عفان- قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل". ووصية عمرو بن العاص: "أقيموا عند قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها؛ حتى استأنس بكم وأعلم ماذا أراجع رسل ربي، رواه مسلم في "صحيحه"، ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا التلقين من العصر الأول، وفي كل زمن من يقتدي به. قال أصحابنا: ويقعد الملقن عند رأس القبر، وهذا في حق المكلف، وأما الطفل ونحوه فلا يلقن. قال: ولا يجصص ولا يبنى عليه، أي: قبة وبيت وحظيرة ونحو ذلك كما قاله البندنيجي؛ لما روى جابر: أنه- عليه السلام- نهى أن يقعد على القبر، وأن يقصص وأن يبنى عليه رواه مسلم.

والتقصيص: التجصيص، قاله أبو عبيد، كما حكاه الماوردي. ولأن ذلك من شأن الأحياء، والمستحب أن يخالف بين الأحياء والأموات. والمظلة ونحوها ملحقة بالبناء عليه في الكراهة، قاله في "التهذيب" وغيره، وألحق الغزالي وإمامة التطيين بالتجصيص. قال الرافعي: وليس له ذكر في الكتب، لكنه لا يبعد الفرق بينهما؛ فإن التجصيص زينة دون التطيين، أو الزينة في التجصيص أكثر، وذلك لا يناسب حال الميت، وقد روى الترمذي في "جامعه" عن الشافعي أنه قال: لا بأس بالتطيين. ولا يختلف الحال في كراهية التجصيص ونحوه من التزويق وغيره بين أن يكون القبر في المقابر المسبَّلة أو لا، وأما البناء عليه فالمنع مخصوص فيما إذا كان في مقبرة مسبلة. قال البندنيجي: قال أصحابنا: وهو مكروه. وكلام غيره يقتضي أنه لا يجوز؛ لأنهم عللوا المنع بأن فيه تضييقاً على الناس، وقالوا: لو بُني عليه هدم. قال الماوردي: قال الشافعي: رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما بني بها، ولم أر الفقهاء يعيبون عليه ذلك، أما إذا كان في ملكه فله ذلك؛ لفقد المعنى المذكور.

قال في "الحاوي": لكنه غير مختار، وقال في "المهذب" وغيره: ويكره أن يبني عليه مسجداً تعظيماً له، والمراد أن يسوي القبر مسجداً فيصلي فوقه كما صرح به البندنيجي، وقال: إنه يكره أيضاً أن يبني عنده مسجداً فيصلي فيه إلى القبر؛ لقوله- عليه السلام-: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها"، رواه مسلم. ويكره وضع اللوح المنقوش عند رأس القبر، قال القاضي أبو الطيب وغيره: لأن أحداً من السلف لم يفعل ذلك، نعم يستحب أن يضع عند رأسه صخرة أو علامة ليعرف بها، وكذا عند رجليه؛ لأنه روي: أنه- عليه السلام- لما دفن عثمان بن مظعون أمر رجلاً أن يأتيه بصخرة فلم يطق الرجل حملها، فحسر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ساعديه، ورفع الصخرة فوضعها عند رأس القبرن وقال: "أتعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي" أخرج معناه أبو داود، ولأجله استحب

الأصحاب أن يجمع الأقارب في موضع واحد في المقبرة. قال: ولا يدفن اثنان في قبر [واحد] إلا لضرورة؛ لأنه- عليه السلام- كان يفعل ذلك فكان يدفن كل ميت في قبر، ولما كان يوم أحد أمر أن يجمع الاثنان والثلاثة في قبر؛ لكثرة القتلى. وروى أبو داود عن هشام بن عامر [أنه] قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، فقلنا: الحفر علينا لكل إنسان شديد، فقال: "احفروا وأعمقوا وأحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد" قالوا: من نقدم؟ فقال- عليه السلام-: "أكثرهم قرآناً في اللحد".

والضرورة تؤخذ بكثرة القتلى أو الموتى بسبب قحط أو موتان وفي الناس ضعف؛ لقلة الغذاء في القحط، أو مشتغلون في الحرب كما كان في يوم أحد، وضيق المكان يلحق بذلك و"الموتان"، بضم الميم وإسكان الواو: الوباء. قال: ويقدم الأسن الأقرأ إلى القبلة؛ للخبر، وهذا إذا لم يكن أحدهما ابناً للآخر، فإن كان؛ قدم الأب بكل حال، وكذا تقدم الأم على البنت، والابن يقدم عليهما مطلقاً؛ لمكان الذكورة. قال الشافعي: ولا أحب أن تدفن مع الرجل امرأة، فإن كانت ضرورة جعل الرجل أمامها وهي وراءه، وبينهما حاجز من التراب. وهذا ما حكاه الغزالي. وقال البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما من العراقيين: يجعل التراب بين كل ميتين على الإطلاق. قال في "الروضة": وهو الصحيح، وقد نص عليه في "الأم". ولو اجتمع رجل وصبي وخنثى وامرأة، قدم في اللحد إلى جهة القبلة من يقدم إلى الإمام في الصلاة، والفرق ما تقدم. قال: والدفن في المقبرة أفضل؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدفن أصحابه في المقابر مع الجماعة، ولأنه أقرب إلى رحمة الله- تعالى- لكثرة الداعين له إذا درس قبره، فإنه روي أنه –عليه السلام- قال: "اللَّهمَّ اغفر لأهل القبور الدارسة"، ولأنه يحترم

فيها فيكون أبعد من أن ينبش أو يبال عليه، بخلاف ما إذا أفرد عن المقابر. فإن قيل: فقد دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجرة عائشة، والصحابة لا تفعل به إلا الأفضل. قيل: فعله أولى بالاتباع من فعل غيره، والأنبياء فقد قيل: إن موضع وفاتهم موضع دفنهم؛ فلهذا دفن فيها. وكذا الأفضل أن يدفن بين أقوام صالحين؛ لأن أبا سعيد ذكر في كتابه "المؤتلف والمختلف" عن [ابن الحنفية] عن عليِّ – كرم الله وجهه- قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ندفن موتانا [وسط قوم صالحين]؛ فإن الموتى يتأذون بالجار السوء كما يتأذى به الأحياء، وهذا إذا كانوا في مقبرة البلد الذي مات فيه، فلو كانوا في غيرها لا ينقل إليهم؛ لأن فيه تأخير الدفن. وفي "الحاوي" أن الشافعي قال- يعني في "الأم"-: ولا أحب إذا مات الميت في بلد أن ينقل إلى غيره، وخاصة إن كان قد مات بمكة أو المدينة أو بيت المقدس. [ثم قال الماوردي: نعم، لو كان بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس] فيختار أن ينقل إليها؛ لقوله- عليه السلام-: "من دفن بالمدينة كنت له شاهداً وله شافعاً، ومن مات بمكة فكأنما مات في سماء الدنيا"، والجمهور على منع النقل كما تقدم، لكن قال صاحب "التهذيب" و"الشامل" والبندنيجي: إنه يكره نقله، وقال القاضي الحسين وأبو الفرج الدارمي وصاحب "التتمة": يحرم نقله،

ولو وصى به لم تنفذ وصيته. قال في "الروضة": وهذا أصح؛ فإن في نقله تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته من وجوه. ولو تشاحح جماعة في الحفر في موضع في المقبرة المسبلة، قدم السابق، وعند الاستواء يقرع، وليس لأحد الدفن في قبر دفن فيه ميت عند عدم الضرورة، ما لم يعلم أنه بلي، وذلك يختلف باختلاف البلاد، ويرجع فيه إلى أهل الخبرة، فإن ظن بلاه فحفر فوجد فيه أو بعضه أو عظامه منه وجب على الحافر إعادته كما كان. نعم، لو فرغ القبر ثم وجد فيه شيئاً من العظام لم يضر، بل يجعل في جانب اللحد، ويدفن الثاني فيه، ولا يجوز أن يسوي على [القبر المتقادم في المقبرة المسبلة إذا اندرس أثره التراب ليتصور بصورة الجديد؛ فإن ذلك يمنع الغير من الدفن فيه. وقد أفهم كلام الشيخ أن الدفن في غير المقبرة جائز، ولا شك فيه، وذلك بأن يستعير أرضاً لدفنه، أو يرضى ورثة الميت بدفنه فيما ورثوه منه، وإذا فعلوا ذلك فليس لأحدهم إخراجه منها، وكذا لو طلبوا الجميع ذلك، كما ليس للمعير ذلك، ولهم بيعا، وليس للمشتري نقله، لكن له الخيار إن كان جاهلاً. نعم، لو اتفق نقله أو بلي؛ فذلك الموضع للبائع أو للمشتري؟ فيه وجهان، قال القاضي الحسين: كالوجهين فيما إذا باع بستاناً، واستثنى شجرة منه، ثم قلعها- فالمغرس هل يبقى على ملكه أو يكون للمشتري؟ ولو قال بعض الورثة: ندفنه في المقبرة؛ و [قال] باقيهم: بل في ملكه- أجيب من دعي إلى المقبرة؛ لأن في دفنه في ملكه إبطالاً لحق من كره ذلك من ورثته، فلو بادر الطالب لذلك ودفنه في ملكه، كان للكاره نبشه وإخراجه، والأولى ألا يفعل؛ لما فيه من هتك الميت، وهذا بخلاف ما لو قال بعضهم:

أنا أكفنه من مالي، وقال الآخر: بل من مال الميت- كفن من مال الميت. قال القاضي أبو الطيب: لأن في تكفينه من مال غيره منَّةً على الباقين؛ فلا يلزمون قبول ما فيه منَّةُ بخلاف المقبرة فإنه لا منة فيها. وألحق الأصحاب طلب أحد الورثة دفنه في ملك نفسه مع منازعة باقي الورثة في ذلك بما إذا طلب بعضهم دفنه فيما ورثوه منه. قال ابن الصباغ: فلو [بادر ودفنه] في ذلك لم يذكره الأصحاب، وعندي أنه لا ينقل وهو المذكور في "التتمة"؛ لأن فيه هتكاً، وليس في إبقائه إبطال حق الغير. قلت: ولا منة؛ إذ الواجب- كما أفهمه كلام الأصحاب السابق- دفنه في المقابر المسبلة. قال: فإن دفن من غير غسل أو إلى غير القبلة، نبش وغسل ووجه إلى القبلة؛ تداركاً لما فات، وهذا على وجه الوجوب، وعن القاضي أبي الطيب أنه قال في "المجرد": التوجيه إلى القبلة سنة، وإذا ترك فيستحب أن ينبش ويوجَّه [إلى القبلة]، وعليه يدل قول الشافعي: "لا بأس أن ينبش ويوجه إلى القبلة ما لم يتغير ويزنخ"، وعن صاحب "التقريب" حكاية قول: أنه لا ينبش لأجل الغسل بل يكره؛ لما فيه من هتك الميت. وهذه العلة تقتضي اطراده في النبش لأجل التوجيه إلى القبلة من طريق الأولى؛ لأنه لم يختلف في أن الغسل واجب، وإن اختلف في التوجيه كما تقدم. والصحيح- وهو المذكور في "تعليق" القاضي أبي الطيب وغيره، لا غير: ما ذكره الشيخ، لكن ظاهر كلامه أن ذلك يفعل ما أمكن الغسل والتوجيه، وقيد ذلك في "المهذب" بحالة عدم خشية الفساد على الميت، فإن خشي عليه الفساد فلا ينبش؛ لتعذر ذلك، كما يسقط وضوء الحي واستقبال القبلة في الصلاة عند التعذر، وهذا هو المذكور في "التهذيب" وغيره.

والمراد بالفساد: التغير كما قال البغوي والبندنيجي وغيرهما. وقال الماوردي: إنه التغير وحصول الرائحة، وهو الذي تضمنه النص السابق. وقال أبو الطيب: إنه التقطع، وهو أبلغ من ذلك، ويقرب مما حكاه الماوردي عن بعض الأصحاب أنه ينبش لأجل ما ذكرناه، وإن تغير، لكنه قال: إنه ليس بشيء. وفي "العدة" حكاية وجه: أنه يخرج لأجل الغسل ما دام يبقى جزء منه من عظم وغيره. قال الرافعي: والأظهر الأول. فرع: لو وقع الماء في القبر، وقد دفن من غير غسل فهل ينبش لأجل الغسل؟ حكى القاضي الحسين فيه وجهين، وكأنهما الوجهان المذكوران في الغريق. وقد أفهم اقتصار الشيخ على ذكر النبش عند الدفن من غير غسل أو إلى غير القبلة مع أنهما واجبان من أربعة- أنه لا ينبش لغيرهما إذا لم يفعل؛ كما إذا دفن قبل الصلاة أو من غير كفن، وهو كذلك في الصلاة عند الجمهور؛ لإمكانها على القبر كما تقدم، مع أنه لا يجوز دفنه قبل الصلاة كما قال الإمام، ويأثم فاعله؛ لأن في ترك الصلاة عليه قبل الدفن مخالفة الشعار العظيم الظاهر في فروض الكفايات، وفيه إهانة للميت؛ فحرم. قال الرافعي: وقد حكى أبو عبد الله الحناطي عن أبي إسحاق المروزي: أن فرض الصلاة لا يسقط بالصلاة على القبر، فيفوت من لم يدرك الصلاة. فأما نبشه لأجل الكفن؛ ففيه وجهان مشهوران: أحدهما: نعم، كما ينبش لأجل الغسل. والثاني: لا، وهو الأظهر عند الرافعي تبعاً للغزالي؛ لأن المواراة قد حصلت، وفي نبشه كشف عورته. فإن قلت: هل يجري الوجهان في تكفين الرجل بالحرير؛ لأن تكفينه فيه حرام فهو كالمعدوم؟

قلت: لا؛ لأنه لو كان كالمعدوم لما صحت صلاة من ستر به عورته، وهي صحيحة، بل الخلاف فيه مخرج على الخلاف الآتي في الثوب المغصوب. وقال في "الروضة": ينبغي أن يقطع بأنه لا ينبش. وعن "الفتاوى" القطع بمقابله ما لم يؤد إلى هتك حرمته وتفتت أجزائه. قال: وإن وقع في القبر شيء له قيمة، نبش وأخذ، أي: إذا طالب به صاحبه؛ لما روي أن المغيرة بن شعبة طرح خاتمه في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: خاتمي، ففتح موضعاً فيه فأخذه، فكان يقول: أنا أقربكم عهداً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولأنه يمكن رد المال على صاحبه من غير ضرر؛ فلم يجز منعه منه، وهذا ما نص عليه في القديم والجديد معاً. وقد أفهم كلام الشيخ أموراً: أحدها: أنه ينبش إذا دفن في أرض مغصوبة؛ لإمكان ردها، وبه صرح الأصحاب، ونص عليه، لكن الأولى لصاحبها ألا يطلب ذلك، وبعضهم يقول: يكره له ذلك، ولا فرق فيه بين أن يتغير أو لا؛ لأن حرمة الحي أولى. قال الإمام: ويجوز أن يظن ظان تركه؛ فإنه سبيلي عن قرب، وتنزل حرمة الميت بمنزلة حرمة الحي فيما هذا سبيله. الثاني: أنه لو دفن في كفن مغصوب أو مسروق أنه ينبش ويؤخذ؛ لأنه مال الغير، وقد حصل في القبر على وجه العدوان؛ فكان أولى بالنبش، وقد قال الأصحاب: هل ينبش؟ فيه ثلاثة أوجه: أظهرها- كما قال الرافعي، وهو المذكور في "التهذيب" و"الوجيز"-: نعم، كما ينبش لرد الأرض، ويشق جوفه لإخراج ما ابتلعه، وإن كان فيه هتك حرمته. والثاني: [لا]، وهو المذكور في "الشامل"؛ لأن في انتزاعه عنه هتكه، بخلاف النقل والشق، ولأنه قد أشرف على الهلاك بالتكفين، بخلاف الأرض؛ فأعطي حكم الهالك، وهذا إذا أمكن أخذ القيمة، فلو عسر أخذها في الحال، قال الإمام: ففي النبش احتمال ظاهر.

والثالث- وهو ما حكاه الإمام عن رواية العراقيين-: إن تغير الميت، وكان في النبش ورد الكفن هتكه- لم ينبش، وإلا نبش. الأمر الثالث: إذا ابتلع مال الغير ودفن، وقلنا: يشق جوفه لو لم يدفن- كما جزم به الشيخ-: ينبش ويشق جوفه ويخرج، وبه صرح الرافعي تبعاً للإمام، ورطده في كل حالة قلنا: يشق فيها جوف الميت لإخراج ما فيه، فدفن قبل ذلك. الرابع: أنه لا ينبش لما عدا ذلك، وهو كذلك في الغالب، وإلا فقد قال الماوردي في "الأحكام السلطانية": إن الأرض المدفون فيها إذا لحقها سيل أو نداوة، فقد جوز الزبيري نقله منها، وأباه غيره. قال في "الروضة": وقول الزبيري أصح، وقال الغزالي في كتاب الشهادات: إن الميت إذا تحمل عنه في حياته شهادة، وليس معروفاً بالنسب- نبش إذا عظمت الواقعة واشتدت الحاجة، ولم يطل العهد بحيث تتغير الصورة، ولا ينبش عند فقد ذلك. قال: وإن بلع الميت مالاً لغيره؛ أي: وطالب به صاحبه- شق جوفه وأخرج؛ صيانة لحق الغير عن الضياع، ويخالف ما لو لم يمت؛ فإنه لا يشق جوفه؛ لأن ذلك يذهب روحه بغير بدل، وللمال المبلوع بدل يرجع إليه في الحال، وفي "التتمة" وجه جزم به القاضي الحسين، أنه لا يشق جوفه بعد الموت أيضاً؛ لقوله – عليه السلام-: "كسر عظم الميت ككسره حياً" أخرجه أبو داود وابن ماجه. وقال الرافعي: إن هذا الوجه للقاضي أبي الطيب، وإنه يجب الغرم من تركته على الورثة، وإن في "العدة": أن الورثة إذا ضمنوا مثله أو قيمته فلا يخرج، ولا يرد على أصح الوجهين. أما إذا ابتلع الميت مال نفسه- وقلنا: يشق جوفه لأجل مال الغير- فهل يشق جوفه ويخرج؟ فيه وجهان مشهوران:

أصحهما عند أبي العباس الجرجاني والعبدري: نعم؛ لأنه صار للورثة، فهو كمال الأجنبي. والثاني- وهو الأصح عند الشيخ أبي حامد والماوردي والقاضي أبي الطيب في "المجرد"، وبه أجاب في "المقنع" كما قال في "الروضة": لا؛ لأنه استهلكها في حياته فلم يتعلق بها حق الورثة. وبلع الميت: هو بكسر اللام، وابتلع: بمعناه. قال: وإن ماتت امرأة وفي جوفها ولد يرجى حياته، أي: بأن تموت وله ستة أشهر فأكثر- شق جوفها وأخرج؛ لأن فيه استبقاء لحي محترم بإتلاف جزء من ميت؛ فجاز، بل وجب؛ كما إذا اضطر لأكل ميتة الآدمي. قال: وإن لم ترج حياته، أي: بأن تموت، وله دون ستة أشهر، قال الجيلي: وكذا لو ماتت وله ثمانية أشهر- ترك عليه شيء حتى يموت؛ لأنه لا يمكن دفنها وهو حي بلا خلاف كما قاله القاضي الحسين وغيره؛ ولا يمكن تأخير دفنها إلى أن يموت؛ لكون الدفن واجباً على الفور، وفي التأخير تعريض للتغير، وحرمة الميت كحرمة الحي؛ فيتعين ما ذكره الشيخ؛ فإن حياة هذا غير متحققة، ولو تحققت لكانت في هذه الحالة قبل انفصاله كلا حياة؛ إذ لا يترتب عليها شيء من أحكام الشرع، وهي تزول عن قرب قطعاً؛ فإن بقاءها بحسب ما فيه من الرطوبة قلة وكثرة، وتخالف حياة من قطع بموته عن قرب؛ فإنه لا يجوز قتله؛ لأن أحكام الشرع مستصحبة عليه. واعلم أن هذه المسألة لا نص فيها للشافعي- رضي الله عنه- والكلام فيها للأصحاب، وقد حكوا عن ابن سريج إطلاق القول بأنها إذا ماتت وفي جوفها ولد [حي: يشق] وفها ويخرج لما ذكرناه من العلة، ولم يحك القاضي أبو الطيب بعد حكاية ذلك عنه غيره، ولا جرم اقتصر في "المهذب" على ذكره من غير إعزاء، وحكى القاضي الحسين والفوراني في شق جوفها وجهين مطلقين: أحدهما: ما سبق؛ للعلة المذكورة.

والثاني: لا يشق؛ لقوله- عليه السلام- "كسر عظم الميت ككسره حياً". وقضية هذا الإطلاق: أن يكون في شق جوفها وجهان؛ سواء أكان الولد مرجوَّ الحياة أو لا، ويؤيد ذلك قول القاضي بعد حكاية الوجهين: والأولى أنها [إن] ماتت من الطلق- والولد- يتحرك في بطنها- أن يشق. وإذا قلنا: لا يشق- وهو ما جزم به القاضي الحسين في أول الباب عدد الكفن- قال المتولي: يقال للقابلة؛ حتى تمسح على بطنها، فربما خرج، فإن لم يخرج تركت حتى يموت. وغيره قال: تترك حتى يموت، ثم يدفن، وهو ما ذكره القاضي عند حكاية الوجهين، وقال- حين جزم بعدم الشق، خلافاً لأبي حنيفة-: إنه يجعل على بطنها شيءٌ ثقيل؛ حتى يسكن [ما فيه]. وفي "الحاوي" ما يقتضي حكاية الوجهين في الشق وعدمه في الذي لا ترجى حياته؛ فإنه قال: قال أبو العباس بن سريج: يشق جوفها ويخرج ولدها؛ لما ذكرناه من العلة، وبه قال أبو حنيفة وأكثر الفقهاء، وقال غيره من أصحابنا: إن كان الولد لمدة يجوز أن يعيش فيها لستة أشهر فصاعداً- شق جوفها وأخرج، وإن كان لمدة لا يجوز أن يعيش فيها ترك، وعبارة المحاملي المحكية عن "التجريد" تقتضي أن محل الوجهين كذلك، لكن الثاني منهما هو الذي ذكره الشيخ؛ فإنه قال- كما حكاه من رد على من اعترض على الشيخ في ذلك بعد حكاية مذهب ابن سريج: ومن أصحابنا من قال: إن كان هذا الولد إذا خرج يرجى أن يعيش شق جوفها، وإن كان لا يرجى أن يعيش لم يشق؛ لأنه لا فائدة في ذلك إلا هتك حرمتها، ولكن لا تدفن والولد حي، بل تترك إلى أن تضعه، أو يترك في جوفها [إلى أن يسكن] اضطرابه وحركته، ثم تدفن، ولأجل ذلك قال في "الروضة": إذا ماتت المرأة وفي جوفها جنين حي، قال أصحابنا: إن كان يرجى حياته شق جوفها، وأخرج، ثم دفنت، وإلا فثلاثة أوجه: الصحيح: لا يشق جوفها، بل تترك حتى يموت الجنين، ثم تدفن. والثاني: يشق. والثالث: يوضع عليه شيء ليموت، ثم تدفن. قال: وهذا غلط، وإن كان قد

حكاه جماعة، وإنما ذكرته؛ لأبين بطلانه، ومن لم يقف على نقل الأصحاب كما ذكره الشيخ واعتقد بطلانه- تأول المتأدب منهم كلامه فقال: معنى قوله: ترك عليه شيء من الزمان حتى يموت، وقد جاء مثله في قوله- تعالى-: {وتركنا عليه في الآخرين} [الصافات: 78]، وبعضهم قال: لعل الشيخ قصد بذلك عدم تغير الميت بسبب حركة الولد، وأطال بعضهم في الرد على من اعتقد تصحيح كلام الشيخ، وقال: لعل الموجود في النسخ زلة من ناسخ؛ فإن هذا لم يقل به أحد من المسلمين، بل هو شبيه بفعل اليهود؛ فإنهم إذا أيسوا من المريض بادروا إلى قتله، وما تقدم يغني عن جوابه عن ذلك، والله أعلم. قال: ويستحب للرجال زيارة القبور، لما روى أبو داود عن أبي هريرة قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "استأذنت ربي أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت" وأخرجه مسلم. وروى أبو داود عن [ابن] بريدة- وهو عبد الله - عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإن في زيارت تذكرةً". وأخرجه مسلم بنحوه.

وذكر أبو عمر بن [عبد البر] في "الاستذكار" من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من أحدٍ يمرُّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه إلا عرفه، وردَّ عليه السَّلام". قال عبد الحق في "الأحكام": وإسناده صحيح. أما النساء فمفهوم كلام الشيخ أنه لا يستحب لهن، وهل هو جائز أو محرم أو مكروه؟ لم يتعرض له في هذا الكتاب، ويجيء فيه من مجموع ما حكاه الأصحاب أربعة أوجه: أحدها: أنه يجوز، وهو ما قاله الغزالي في "الإحياء"، ويوافقه إطلاق القاضي أبي الطيب والماوردي القول باستحباب زيارة القبور، وكأن هؤلاء رأوا دخولهن في رخصته، عليه السلام. قال العجلي تبعاً لصاحب "البحر": وهو أصح عندي إذا أمن الافتتان وتعدي ما فيه رضا الله تعالى. والثاني: أنه لا يجوز، وهو ما ذكره في "المهذب"؛ لرواية أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لعن الله زوارات القبور" رواه الترمذي.

وعن ابن عباس: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرج". والثالث: أنه مكروه وهو ما ذكره البندنيجي وابن الصباغ. قال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد بالكراهة كراهة التحريم، ويحتمل أن تكون على بابها؛ لأن التحريم نسخ، ولكنه من النساء يؤدي إلى الهتك، أو لأنهن أكثر جزعاً وأقل صبراً من الرجال، وهذا ما حكاه الرافعي عن الأكثرين. والرابع- قاله الشاشي-: إن كانت زيارتهن لتجديد الحزن والبكاء والتعديد والنوح على جاري عادتهن، فيحرم، وعليه تحمل الأحاديث المذكورة، وإن كانت زيارتهن للاعتبار من غير شيء من ذلك؛ كره، إلا للعجوز التي لا تشتهي؛ فإنه لا يكره لها كما لا يكره لها حضور الجماعة في المساجد. وقد رأيت- فيما وقفت عليه من "تعليق" القاضي أبي الطيب- تقييد استحباب زيارة القبور بقبور من كان يستحب زيارته في حياته؛ فإنه قال: قال في "الأم": ولا بأس بزيارة القبور. وهذا كما قال: يستحب زيارة [قبر من كان] يستحب زيارته في حياته. ثم قال: وإذا قصد بزيارة القبر الترحم على الميت وتذكر الموت والآخرة- كان مستحباً، وكان له ثوابه. وهذا لم أره لغيره، نعم، قالوا- كما صرح به الفوراني والغزالي وغيرهما-: ينبغي أن يكون دنوُّ الزائر من

القبر المزور بقدر ما يدنو من صاحبه لو كان حياً، وزاره. قال: ويقول إذا زار: سلامُ عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا- إن شاء الله- عن قريب بكم لاحقون؛ لما روى أبو داود عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المقبرة فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا- إن شاء الله-[عن قليل] بكم لاحقون"، وروى النسائي عن [بريدة بن حصيب]: أنه- عليه السلام- كان إذا أتى على المقابر قال: "السلام عليكم أهلا لدار من المسلمين والمؤمنين، وإنا- إن شاء الله [عن قريب] بكم لاحقون، أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع، أسأل الله العافية لنا ولكم". وقوله: "إن شاء الله" ليس للشك؛ بل معناه: على الإيمان، وقيل: إن "إن" هاهنا بمعنى: "إذ"؛ كقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} [الإسراء]، وقيل: إنه ترجع المشيئة إلى اللحوق في تلك البقعة، والذي صححه النواوي أنه إنما أتى بها؛ للتبرك، وامتثالاً لقوله – عز وجل-: {َلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24].

قال: اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم؛ [لرواية عائشة أنه- عليه السلام- قال: "اللَّهمَّ لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنَّا بعدهم". قال: واغفر لنا ولهم؛ لقوله- عليه السلام- "إن جبريل أتاني فقال: إن الله يأمرك أن تأتي أهل البقيع وتستغفر لهم". وفي "تعليق" البندنيجي أن أبا هريرة روى أنه- عليه السلام- قال جميع ما ذكره الشيخ حين خرج إلى المقبرة. وفي "تعليق" القاضي الحسين أن الزائر في المقبرة يقول: عليكم السلام، يأهل الديار من المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، رحم الله المتقدمين منكم والمتأخرين، أنتم لنا سلف، وإنا بكم إن شاء الله لاحقون، اللهم ربَّ الأجساد البالية والعظام النخرة، التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة، أدخل عليها روحاً منك وسلاماً مني، اللهم برِّد عليهم مضاجعهم، واغفر لهم. ولو قرأ القرآن عند القبر كان حسناً كما تقدم، وقد استحبه بعضهم ليقع الدعاء بعده؛ لأنه حينئذ يكون أقرب إلى الإجابة، وقد قيل: إن القاضي أبا الطيب سئل عن ختم القرآن في المقابر، فقال: الثواب للقارئ، ويكون الميت كالحاضر ترجى له الرحمة. قال: ولا يجلس على قبر؛ لقوله- عليه السلام- "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده – خير له من أن يجلس على قبرٍ"

رواه البخاري ومسلم. وأصرح من ذلك رواية مسلم: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلُّوا إليها"، وهل المنع منع تحريم أو كراهة؟ فيه اختلاف بين النَّقلة: فالذي قاله في "المهذب": أنه لا يجوز، وعبارة الغزالي والمتولي والبندنيجي: أنه يكره ذلك، وكذا الاتكاء عليه. قال: ولا يدوسه؛ لما في ذلك من إهانة الميت، وهو أبلغ من الجلوس عليه، وقال في "المرشد": هو كالجلوس. قال: إلا لحاجة، أي: مثل ألا يصل إلى قبر ميته إلا بوطئه؛ لأنه حينئذ يكون معذوراً، وفي هذه الحالة ينبغي أن يقلع ما في رجليه، كما أشار إليه الماوردي بقوله: وإن كان لابد له من المشي عليه، خلع نعليه من رجليه ومشى؛ لما روى بشار قال: حانت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرة، فإذا رجل يمشي في القبور بنعلين فقال: "يا صاحب السِّبتيَّتين ويحك، ألق سبتيَّتك" رواه أبو داود،

والمعنى فيه ظاهر. قال: ويكره المبيت في المقبرة؛ لما فيه من الوحشة على البائت، نص في "الأم". وكذا يكره إيقاد النار عند القبر، قاله الماوردي وغيره، والله أعلم.

باب التعزية والبكاء على الميت

باب التعزية والبكاء على الميت التعزية: مصدر: عزَّى، يعزِّي، تعزية، وهي التصبير على المصيبة بذكر ما وعد الله من الثواب على الصبر فيها، والتحذير من إفراط الجزع المذهب للأجر، والمكسب للوزر، والأمر بالرجوع إلى الله تعالى في الأمر كله. قال علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه-: إذا صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإذا جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور. وعزيته: أمرته بالصبر، والعزاء، بالمد: اسم أقيم مقام "التعزية". قال الأزهري: وأصلها: التصبير لمن أصيب بمن يعز عليه. قال القاضي الحسين: و"التأسية" بمعنى "التعزية"، و"التسلية" مثله. وغيره قال: التعزية: التسلية. قال: وتستحب التعزية، أي: لأقرباء الميت؛ لما روى أبو داود عن أنس- وهو ابن مالك- قال: أتى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة تبكي على صبي لها. فقال لها: "اتقي الله واصبري" فقالت: وما تبالي أنت بمصيبتي؟ فقيل لها: هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتته، فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك، فقال: "إنما الصبر عند الصدمة [الأولى] " أو: "عند أوَّل صدمةٍ" وأخرجه البخاري ومسلم، ولفظ البخاري: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى". فقوله- عليه السلام-: "اتقي الله واصبري" أراد به ألا تجتمع عليها مصيبتان: مصيبة الهلاك، ومصيبة فقد الأجر الذي يبطله الجزع؛ فأمرها بالصبر الذي لابد للجازع من الرجوع إليه بعد فقد أجره.

وقوله: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" يعني: الصبر الذي يشق ويعظم تحمله ومجاهدة النفس عليه، ويؤجر عليه الأجر الجزيل عند وقوع المصيبة وهجومها، وأما بعد الصدمة الأولى وبرد المصيبة، فكل أحد يصبر حينئذ ويقل جزعه. وروى البخاري عن أسامة بن زيد قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبياً لها- أو ابناً لها- في الموت؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى؛ فلتصبر ولتحتسب"، فعاد الرسول فقال: إنها قد أقسمت لتأتينها، فقام- عليه السلام- وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل، وانطلقت معهم، فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها [في] شنة؛ ففاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء"، والقعقة: ها هنا صوت نفسه وحشرجة صدره، ومنه قعقعة الجلود والسلاح، وهي أصواتها، ألا ترى إلى قوله "كأنها [في] شنة" فشبه صوت نفسه وقلقلة صدره بصوت ما ألقي في القربة اليابسة وحرك فيها، وقيل: معناها: أنه كل ما صار إلى حال لم يلبث أن يصير إلى أخرى تقرب من الموت، ولا يثبت على حال واحدة، يقال: تقعقع الشيء، إذا اضطرب وتحرك. وقال- عليه السلام-: "من عزَّى مصاباً فله مثل أجره".

قال: قبل الدفن؛ لأن ذلك وقت شدة الحزن، وهي الصدمة الأولى التي يحتاج الصبر عندها، وهذا مما لا خلاف فيه. قال: وبعده [إلى ثلاثة] أيام، أي: من حين الموت كما صرح به الماوردي؛ لأن الحزن يبقى فيها فيحتاج إلى التصبير، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلاث نهاية التحزن فقال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" رواه البخاري. وأشار القاضي أبو الطيب وابن الصباغ إلى أنها عقيب الدفن أولى من قبله؛ لأنه وقت كثرة الجزع؛ فإنه وقت مفارقة شخصه، والانقلاب عنه، وصرح به

الماوردي: فقال بعد ذكره استحباب التعزية ثلاثة أيام: إن من تبع الجنازة وأراد الانصراف قبل الدفن عزى وانصرف، ومن صبر حتى يدفن عزى بعد الفراغ من دفنه، إلا أن يرى من أهله جزعاً شديداً وقلة صبر؛ فيقدم تعزيتهم ليثبتوا، وما ذكره- غير الاستثناء- هو المنصوص؛ فإن الإمام قال: إن الشافعي ذكر أن من شهد الجنازة ينبغي أن يؤخر التعزية إلى ما بعد الدفن؛ لأنهم لا يتفرغون إلى الإصغاء إليها وهم مدفوعون إلى تجهيز الميت. وقد صرح الشيخ بانتهاء الاستحباب بانتهاء الثلاث؛ لأن الجزع يقل بعدها، وفي التعزية تذكار به، ولكن هل فعلها وتركها سيان، أو الترك أولى؟ لم يتعرض له الشيخ، وفيه وجهان: أحدهما- قاله صاحب "التلخيص" وبعض الأصحاب، كما قال الإمام-: أنه لا بأس بها وإن طال الزمان؛ إذ لم يثبت فيها توقيف، وهذا ما اختاره في "المرشد" حيث قال: لو عزَّى بعد الثلاث جاز. وأظهرهما- وهو الذي أورده في "الوسيط"-: أنها غير مأثورة؛ لما ذكرناه، وهو ما ذكره القاضي الحسين وقال: إنه قيل: التعزية بعد الثلاث عادة النوكى.

يعني الحمقى. ووراء ما ذكرناه أمران: أحدهما: أن ابن الصباغ والقاضي أبا الطيب قالا: وقت التعزية من حين يموت إلى أن يدفن، وعقيب الدفن. وهذا يقتضي أنها لا تمتد إلى الثلاث. والثاني- قاله البندنيجي-: أن وقتها من حين الموت إلى بعد الدفن، فإن دفن وقعت التعزية ثم انقطعت؛ فتكره التعزية بعد هذا. ويستحب تعميم الأقارب بالتعزية: الصغير منهم والكبير، والذكر والأنثى، إلا أن تكون شابة فلا، إلا أن يكون المعزي ذا رحم محرم لها، نص عليه، ويتأكد في حق الأكبر منهم فضلاً وديناً، وأقلهم صبراً، أما الكبير الفضل فلما يرجى من إجابة رده ودعائه، وأما القليل الصبر فليسلو فيكثر ثوابه. ويستحب للمعزى أن يصبر ولا يجزع، قال- عليه السلام-: "من جلَّت مصيبته- وفي رواية: من عظمت مصيبته- فليذكر مصابه بي؛ فإنها أعظم المصائب". قال القاضي الحسين: والواجب على المؤمن أن يكون جزعه وقلقه وحزنه على فراق النبي - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا أكثر من وفاة أبويه، كما يجب عليه أن يكون عنده أحب من نفسه وأهله وماله. قال: ويكره الجلوس لها، أي: للتعزية؛ لأن ذلك محدث، والمحدث بدعة؛ فكره، والإعانة عليه بالحضور مكروه أيضاً، بل ينبعث كل واحد منهم في شغله، فيعزى في طريقه، وفي سوقه، وفي مصلاَّه. قال القاضي الحسين: وقد قيل: أول من جلس للتعزية بمرو عبد الله بن المبارك لما ماتت أخته كيكونة، فدخل عليه مجوسي من جيرانه وقال: حق على العاقل أن يفعل في أول يومه ما يفعل الجاهل بعد الثلاث؛ فأمر عبد الله بن المبارك أن يطوى الفراش، وترك التعزية. قال: ويقول في تعزية المسلم بالمسلم- أي بالميت المسلم-: أعظم الله

أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك؛ لأن ذلك لائق بالحال، وهذا ما ذكره البندنيجي والماوردي، وابن الصباغ حكاه عن بعض الأصحاب، وكذا القاضي أبو الطيب وقالا: إن الشافعي قال: وأحب أن يقول مثل ما عزي به أهل بيته - صلى الله عليه وسلم -. ثم يترحم على الميت ويدعو له ولمن خلف، والذي عزِّي به أهل بيته- عليه السلام- هو ما روي عن عائشة أنها قالت: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعنا هاتفاً في البيت، نسمع صوته ولا نرى شخصه، يقول: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاءً من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا؛ فإن المصاب من حرم الثواب. قال ابن الصباغ وأبو الطيب: ويقال: إن قائله الخضر، عليه السلام. وعبارة ابن يونس مصرحة بأن قائل ذلك الشافعي، وأنه يستحب أن يقول بعد ذلك ما ذكره الشيخ، وهو قضية كلامه في "المهذب" وغيره. قال: إن ما ذكره الشيخ يشمل هذا وما أضافه الشافعي إليه من حيث المعنى، مع الإيجاز في اللفظ؛ فكان أولى. قال ابن يونس ومن تبعه: وقد زاد بعضهم: وخلفه عليك، أي: كان الله خليفة عليك. ولم أره في تعزية المسلم بالمسلم، بل في غيره كما سنذكره. وقد حكى القاضي الحسين تعزية أهل البيت على نسقٍ آخر فقال: لما توفِّي

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس أصحابه في المسجد للتعزية، فدخل عليهم شيخ وقال: سلام عليكم يا أهل البيت [ورحمة الله]، فردوا عليه السلام، فتلا قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} الآية [آل عمران: 185] ثم قال: إن في الله عزاء من كل مصيبة .. وذكر ما تقدم إلى أن قال: فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، وعليه فتوكلوا؛ فإن المصاب من حرم الثواب. وخرج، فقال عليُّ- كرم الله وجهه-: اطلبوه، فطلبوه فلم يجدوه، فقال علي: جاءكم أخوكم الخضر يعزيكم بنبيكم، - صلى الله عليه وسلم -. قال: وفي تعزية المسلم بالكافر: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك؛ لما تقدم. زاد الماوردي: وأخلف عليك. ولا يقول: وغفر لميتك؛ لأن الاستغفار للكافر حرام. ولفظ الشافعي في هذا في "الجامع الكبير": ولا بأس أن يعزي المسلم إذا مات أبوه النصراني فيقول: أعظم الله أجرك، وأخلف عليك، أي: كان الله خليفة عليك؛ لأن الأب لا يخلف بدله. وجمع الماوردي والبندنيجي بين اللفظين فقالا: يقول له: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وأخلف عليك. وفي إثبات اللفظ في قول الشافعي: أخلف عليك نظر؛ فإن النووي قال: قال أهل اللغة: يقال لمن ذهب له مال أو ولد أو قريب أو شيء يتوقع حصول مثله: أخلف الله عليك، أي: رد عليك مثله، فإن ذهب ما لا يتوقع مثله: بأن ذهب والد أو عم أو خال أو أخ لمن لا جد له ولا والد- قيل: خلف الله عليك- بغير ألف- أي: كان الله خليفة عنه عليك. وقال الغزالي: يقول له: جبر الله مصيبتك، وألهمك الصبر. والكل جائز؛ إذ لا توقيف. قال: وفي تعزية الكافر بالمسلم: أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك؛ لما تقدم. ولا يقول: أعظم الله أجرك؛ إذ لا أجر له، وفي "الحاوي" يقول له: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك، وغفر لميتك. قال: وفي تعزية الكافر- أي: الذمي أو المعاهد دون الحربي كما قال في الجيلي- بالكافر: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك؛ لأن ذلك ينفع المسلمين في الدارين: أما في الدنيا فبتكثير الجزية، وأما في الآخرة فبالفداء من النار، وقد قال البندنيجي وغيره: إنه ينوي بقوله: "ولا نقص عددك": تكثير

الجزية، ولا يذكر الميت بخير؛ لأنه ليس من أهله، ولا بشر؛ لأنه يؤذي الحي. وقوله: "ولا نقص عددك" هو بفتح الدال وضمها، والله أعلم. قال: ويجوز البكاء على الميت؛ لأنه- عليه السلام- زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، كما تقدم في رواية مسلم وغيره. وروى النسائي عن أبي هريرة قال: مات ميت من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمع النساء يبكين عليه؛ فقام عمر ينهاهن ويطردهن؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعهنَّ يا عمر؛ فإن العين دامعة، والفؤاد مصاب، والعهد قريبُ". والبكاء: يمدُّ ويقصر، ويقال: بكيت الرجل، وبكَّيته، وبكيت عليه. قال: من غير ندب، أي: وهو أن تعد شمائل الميت وأياديه، تقول: واكريماه، واشجاعاه، واكهفاه، واجبلاه، واسيداه؛ لأن ذلك محرم. ولا نياحة، أي: وهي رفع الصوت بذلك عليه؛ لأن ذلك محرم، قالت أم عطية: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن النياحة". أخرجه البخاري ومسلم. وأخرج مسلم في حديث أبي مالك الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربالُ من قطرانٍ ودرعُ من جربٍ".

وروى أبو داود عن امرأة أبي موسى- وهي أم عبد الله- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منَّا من سلق، ومن حلق، ومن خرق" وأخرجه النسائي، وروي هذا الحديث عنها عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه النسائي أيضاً. وسلق- بفتح السين المهملة، وبعدها لام مفتوحة وقاف-: رفع الصوت. وقال ابن جريج: هو أن تخرش المرأة وجهها، وعن ابن المبارك نحوه. وحلق: هو حلق الشعر، وخرق: هو تخريق الثياب وشقها عند المصيبة. والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة، ولأن ذلك يشبه التظلم من الظالم والاستغاثة منه، وهو عدل من الله وحق؛ فلذلك حرم. وقد أطلق القاضي أبو الطيب القول بأن ذلك مكروه، وتبعه ابن الصباغ، وقال البندنيجي بعد ذكره الكراهة: إن الكراهة كراهة تحريم، وكذلك جزم الماوردي والقاضي الحسين والإمام بالتحريم، وألحق به تخميش الوجه: وهو أخذ لحمه بالأظفار، ومنه قيل نهشته الكلاب. فإن قيل: الشيخ جزم بجواز البكاء بعد الموت، وقد ورد النهي عنه، وهو ما روي: أنه- عليه السلام- زار عبد الله بن ثابت الأنصاري وكان يغشى عليه، فبكى أهله؛ فقام جابر بن عتيك ليسكتهم، فقال- عليه السلام-: "دعهنَّ يبكين،

فإذا وجب فلا تكبينَّ باكيةُ"، وأراد بالوجوب: الموت، وأقل درجات النهي: أن يحمل على الكراهة. قلنا: لأجل ذلك قال ابن الصباغ: إنه يكره. والجائز من غير كراهة: البكاء عليه قبل الموت، ويشهد له حديث أسامة بن زيد المتقدم، وحديث عبد الله بن عمر الذي أخرجه مسلم قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غشية، فقال: "أقد قضى؟ "، قالوا: لا، يا رسول الله؛ فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بكوا، فقال: "ألا تسمعونَّ، إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا- وأشار إلى لسانه- أو يرحم. وعبارة البندنيجي تقرب من ذلك؛ فإنه قال: إذا ثبت أن البكاء مباح بلا ندب، فوقته ما لم يمت الميت، فإذا مات انقطع البكاء فلا يبكي عليه أحد. وعن الشيخ أبي حامد أن المستحب ألا يبكي أحد بعد الموت، وعبارة الإمام: الأولى عدمه، فإن غلب فلا كراهة. وأخذ القاضي الحسين من الخبر المذكور- مع ما ذكرناه أولاً- أن البكاء جائز قبل الموت وبعده، لكنه قبل الموت مستحب. أراه للقلق على فراقه، وأنا لا نسر بأموالك وميراثك؛ ليطيب قلبه بذلك. وعلى كل حال، فلا يعذب الميت ببكاء من بكى عليه؛ لقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، ولقوله: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15]،

وقوله- عليه السلام- لرجل في ابنه: إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه"، قال ذلك في "المختصر" عن الشافعي. وما رواه مسلم عن عمر بن الخطاب أنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الميت ليعذب ببكاء الحي"، وعن ابن عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه- فقد قيل: إنه محمول على من أوصى بالبكاء عليه والندب والنياحة كما كانت الجاهلية تفعله، وإليه ذهب البخاري. قال الرافعي: ولك أن تقول: ذنب الميت الحمل على الحرام والأمر به؛ فوجب ألا يختلف عذابه بالامتثال أو بعدمه، فإن كان لامتثالهم فالإشكال بحاله. قلت: وقد يجاب بأن الذنب على السبب يعظم عند وجود المسبب، ولا كذلك إذا لم يوجد، وشاهده قوله- عليه السلام- "من استنَّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". وقيل: إنه محمول على من يبكي عليه ويعدد أفعاله التي يستوجب العذاب بها، مثل: نهب الأموال، وقتل النفوس، وقطع الطريق، ونحو ذلك، ويدل عليه رواية مسلم عن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه [به] يوم القيامة"، وقد جاء في لفظ من حديث عمر السابق: "إنَّ الميِّت ليعذَّب ببعض بكاء أهله عليه" أخرجه مسلم،

وفيه دليل على أن كل بكاء لا يعذب به. وقيل: معنى العذاب: أنه يوبخ إذا ندبوه بذكر الخصال الجميلة والأفعال الحميدة، فيقال له: أكنت كما يقال؟ وهو ضرب من التعذيب، ويؤيده رواية البخاري عن النعمان بن بشير قال: "أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته عمرة تبكي، [وتقول]: واجبلاه، وكذا، وكذا، تعدِّد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئاً إلا قيل لي: أنت كذلك؟ وقيل: إنه يحتمل أن يكون المراد: أنه يعذب حين البكاء عليه؛ لأنهم يبكون بعد الدفن، وهو يعذب في القبر بجرمه وذنبه إذ ذاك، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. وقيل: يحتمل أن الله قضى وقدر أن يخفف عنه العذاب لو لم يبك أهله عليه، ويزيده عذاباً بذنبه أن لو بكى أهله عليه. وهذا والذي قبله حكاهما القاضي الحسين عن ابن سريج، وأيدا الثاني بأن مثل ذلك جائز؛ فإنه روى: "أنه- عليه السلام- أسر واحداً من عقيل، فحبسه مدة، ثم أمر بإطلاقه، فقيل له: أسرت ثقيف واحداً من المسلمين؛ فأمر- عليه السلام- باستدامة الحبس على العقيلي، فقال: بم أخذت؟ فقال- عليه السلام-: بحلفائك من ثقيف" يعني: استدامة الحبس عليك بجرمك وذنبك؛ لما فعل حلفاؤك من ثقيف، يعني: من أسر

المسلم. كذلك فيما نحن فيه. وقيل: إن العذاب المشار إليه حزنه بسماع بكائهم عليه؛ فإنه يرقُّ عليهم، ويسوءه إتيانهم بما يكره ربُّه، وقد روي أن ابن عباس وابن عمر اجتمعا على باب حجرة مات فيها بعض آل عمر، والنساء يبكين، فقال ابن عباس لابن عمر: هلا نهيتهن عن ذلك وقد سمعت أباك عمر يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الميِّت ليعذَّب ببكاء أهله عليه"؟ فقالت عائشة: يرحم الله عمر! ولكن قال: "إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه"، ثم قالت: حسبكم القرآن: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فقال ابن عباس تصديقاً لها: "الله أضحك وأبكى"، يعني: لا ذنب للميت في أن يبكي عليه أهله. قال القاضي الحسين وغيره: ومعلوم أن في هذه الرواية ما في رواية عمر؛ لأنه كما لا يعذب المؤمن ببكاء غيره فلا يزاد في عذاب الكافر بذنب غيره؛ فلابد من تأويل، ويعود ما ذكرناه من قبل، والذي أشار إليه الشافعي: الأول؛ لأنه قال: وما زيد من عذاب الكافر فبسيئاته، لا بذنب غيره. وقال الإمام وغيره: إن الرواية الصحيحة عن عائشة أنها قالت: رحم الله عمر! ما كذب، ولكن أخطأ ونسي؛ إنما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهودية ماتت ابنتها وهي تبكي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنهم يبكون، وإنَّها تعذَّب"، وهذه الرواية لا تحوج إلى تأويل أصلاً؛ إذ ليس فيها إبداء تعذيب بسبب بكائهم، وقد نسب في "الوسيط" ما ذكرناه عن عائشة أولاً إلى قول ابن عمر، وإليها ما ذكرناه ثانياً.

والمشهور نسبة القولين إليها، والله أعلم. قال: ويستحب لأقرباء الميت، [أي: الأبعدين]، وجيرانه أن يصنعوا طعاماً لأهل الميت- أي: الأقربين- لما روى أبو داود عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا لأهل جعفر طعاماً؛ [فقد جاءهم] ما يشغلهم"، وأخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وكان هذا القول منه حين جاءه نعيُّ جعفر ابن أبي طالب، ولأن ذلك من البر والمعروف. قال الشافعي: وأحب أن يكون ذلك يشبعهم يومهم وليلتهم، ويستحب أن يلحَّ عليهم حتى يأكلوا. قاله الرافعي. وفي "الروضة": أنه لو كان الميت في بلدٍ وأهله في غيره، استحب لجيران

أهله اتخاذ الطعام لهم. فلو قيل: يستحب لجيران أهل الميت، لكان أحسن؛ لتدخل فيه هذه الصورة. ولو اجتمع نسوة ينحن لم يجز أن يتخذ لهن طعامُ؛ فإنه إعانة على المعصية، وإصلاح أهل [البيت الطعام] وجمع الناس لم ينقل فيه شيء، وهو بدعة غير مستحب. قاله ابن الصباغ، والله أعلم.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة أصل "الزكاة" في اللغة: النمو والبركة والمدح، يقال: زكا الزرع يزكو زكاءً بالمد إذا نمى [وكثر ريعه]، وزكت النفقة: إذا بورك فيها، وفلان زاك: إذا كان كثير الخير والمعروف، قال الله تعالى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 74]، أي: نامية كثيرة الخير. وقيل: إن أصلها مع ذلك الطهارة، وإن كل ذلك قد استعمل في الكتاب الكريم والسنة النبوية. وقد أنكر داود بن علي أن لها موضوعاً في اللغة، وقال: ما عرف اسمها إلا بالشرع. وهي في الشرع: عبارة عن قدر من المال يخرجه المسلم في وقت مخصوص لأهل السهمان، مع النية، والصدقة تشرك الزكاة في هذا المعنى، وهما يقعان على زكاة الأموال، وزكاة الأبدان وهي صدقة الفطر، والكتاب يشملهما. وقد قيل: إنما سمي ذلك زكاة؛ لأن المال ينمو ببركة إخراجه ودعاء المصروف إليه؛ قال الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39]، وقيل: لأن مؤديها يتزكى إلى الله تعالى، أي: يتقرب إليه بصالح العمل. وقيل: لأنها تزكي صاحبها، أي: تشهد بصحة إيمانه، وتطهره. والأصل في وجوبها على الجملة قبل استقرار الإجماع عليها في زمن أبي بكر- رضي الله عنه- من الكتاب قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] وقوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إلى قوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] وقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] قال الشافعي - رحمه الله-: الكنز المراد في الآية: هو المال الذي لا تؤدى زكاته سواء كان مدفوناً أو ظاهراً، وسمي الظاهر:

كنزا؛ لأنه منع من إخراج الزكاة، كما منع دفنه من التلف والنقصان، وقد جاء ما يعضد ذلك؛ روى أبو داود عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، إني ألبس أوضاحا من ذهب، أفكنز هي؟ قال: ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز". وروى الشافعي بسنده عن ابن عمر أنه [كان] يقول: ما أدي زكاته، فليس بكنز، ولو كان تحت سبع أرضين. وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5]، واختلف [أصحابنا] في أنها مجملة أو عامة، على وجهين: أحدهما: أنها عامة، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فتكون حجة في كل مختلف فيه، إلا ما أخرجه الدليل. والثاني- وهو قول أبي إسحاق، كما قال ابن الصباغ، وطائفة كما قال الماوردي، وادعى البندنيجي والروياني في "البحر" أنه المذهب-: أنها مجملة كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]؛ لأنه يفتقر إلى قرينة تعين المراد به، بخلاف آية السرقة، فعلى هذا تدل على وجوب الصلاة والزكاة في الجملة، وهو المقصود هنا. ومن السنة قوله عليه السلام: "بني الإسلام على خمس .. " الحديث، وغيره مما سنذكره إن شاء الله تعالى. قال: لا تجب الزكاة أي في المال، إلا على حر مسلم تام الملك على ما

يجب فيه الزكاة: أما وجوبها على الحر المتصف بما ذكره إذا كان بالغاً عاقلاً؛ فلما ذكرناه من الأدلة، وهو إجماع. وأما إذا كان صبياً؛ فلرواية الشافعي بسنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ابتغوا في مال اليتامى لا تأكلها الزكاة"، وروى الدارقطني بسنده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ولي يتيما له مال، فليتجر فيه، ولا يتركه [حتى] تأكله الصدقة"، وأراد صدقة الفطر والمال.

وأما إذا كان مجنونا فبالقياس على الصبي، وأيضاً فعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم" يشملها، ولأن الزكاة حق مالي يجب بغير عقد على سبيل الطهرة يستوي فيه الرجال والنساء؛ فوجب أن يستوي فيه المكلف وغير المكلف: كزكاة المعشرات وزكاة الفطر، وقد وافقنا أبو حنيفة- وهو الخصم- على وجوب ذلك عليهما. واحترزنا بقولنا: "بغير عقد" عن البيع، وبقولنا: "يستوي فيه الرجال والنساء" عن تحمل العقل. وقد امتنع بعض أصحابنا كما قال المتولي وغيره من إطلاق القول بوجوب الزكاة عليهما، وقال: إنها تجب في مالهما، والولي مخاطب بالإخراج، وبعضهم لم يمتنع من ذلك، بل قال: إنها تجب عليهما [في مالهما] والولي مخاطب بأدائه، كنفقة الأقارب، وأروش الجنايات، وهذا هو الذي صححه القاضي الحسين. فإن قيل: لا نسلم أن ملك الصبي والمجنون تام؛ لأنهما غير قادرين على التصرف فيه، وذلك موهن للملك، كما سيأتي. قيل: تمام الملك عبارة عن تهيئة المال لكمال التصرف، ومالهما مهيأ له، ووليهما نائب عنهما فيه فيما يقبل النيابة. نعم ملك الجنين المال الموصى به

وغيره غير تام؛ لأن القضاة لا ينصبون القوام كي يتصرفوا في مال الأجنة، بل هو موقوف على ما يتبين من بعد، ولهذا جزم القاضي الحسين بعدم الوجوب، وهو الذي حكاه الإمام عن الأئمة موجهاً له بأن حياة الحمل غير موثوق بها، وكذلك وجوده بعد أن حكى تردداً عن شيخه في وجوب الزكاة [فيه] [وقيده] في باب من تلزمه زكاة الفطر، بما إذا خرج حياً، والماوردي حكى الوجهين فيما ملكه بالوصية قبل باب ما يسقط الزكاة عن الماشية، و [قال]: يشبه أن يكونا مخرجين من اختلاف قوليه في الوصية، هل تملك بموت الموصي أو بالموت والقبول؟ وهذا منه يدل على اعتقاده أنه لو ملك ذلك بالإرث، وجبت لا محالة. قلت: والذي يقتضيه كلام الشيخ أنه لا زكاة عليه؛ لأنه نفى أن يكون له ملك أصلا؛ حيث قال في باب الوقف: وإن وقف على من لا يملك الغلة كالعبد والحمل، والله أعلم. وأما انتفاء الوجوب عمن عدا ذلك فسنذكر دليله إن شاء الله تعالى. قال: فأما المكاتب، فلا زكاة عليه؛ لما روى جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق" أخرجه الدارقطني، إلا أن إسناده ضعيف كما قاله عبد الحق، وقد روي مثله عن عمر موقوفاً، ولا مخالف له، ولأن

الزكاة تجب على سبيل المواساة، وماله غير صالح لها. ودليله: أنه لا يجب عليه بسببه نفقة قريبه، ولا يعتق عليه إذا ملكه، وكما لا يجب عليه الزكاة في الحال لا تجب عليه بعد العتق، إلا أن يمضي عليه حول من حين العتق، والحالة الأولى هي التي احترز الشيخ عنها بقوله: حر، ويجوز أن يكون قد احترز به أيضاً عن العبد القن، إذا ملكه سيده مالا، وقلنا بملكه؛ فإنه لا يجب عليه زكاته كما قال في باب العبد المأذون له لقدرة السيد على انتزاعه منه؛ فإن ذلك يدل على ضعف ملكه، ولأجل هذه القدرة قال بعض الأصحاب- كما حكاه الماوردي-: إن زكاته تجب على السيد على هذا القول أيضاً. ونسبه الإمام إلى "شرح التلخيص"، وهو غلط؛ لأن القدرة على اختلاب الملك ليست بملك بل هي موهنة لملك المالك ومضعفة له؛ ولهذا لم توجب الزكاة على الأب فيما وهبه لولده وإن كان قادراً على انتزاع الملك. فإن قيل: لم جعلتم قدرة السيد على الانتزاع علة في عدم وجوب الزكاة على العبد، ولم تجعلوا قدرة الأب على انتزاع ملك الولد علة في عدم الوجوب الزكاة عليه؟ قيل: لأن قدرة السيد أقوى من قدرة الأب؛ فإن السيد يملك انتزاع ما ملكه لعبده وبذله وما ملكه له غيره كما سيأتي، ولا كذلك الأب؛ فإنه إنما يثبت [له] الرجوع في عين الموهوب في حال مخصوص. وقد اقتضى كلام الشيخ أن من نصفه حر إذا ملك به نصابا لا زكاة عليه؛ لأنه ليس بحر، وهو الظاهر من المذهب في "البحر" ولم يورد المتولي وابن الصباغ غيره، وقال الإمام: إن به قطع العراقيون؛ لنقصان المالك في نفسه، فيجوز أن

يكون الشيخ قد احترز عنه أيضاً. وفي "المهذب" وغيره حكاية وجه آخر جزم به في "الوجيز" والشيخ أبو علي فيما حكاه القاضي الحسين في كتاب السرقة: أنها تجب عليه؛ لأنه يملك بنصفه الحر ملكا تاما فوجبت عليه الزكاة كالحر، قال الروياني: وهو اختيار والدي والصحيح عندي الآن؛ لأن الشافعي نص على أنه تلزمه زكاة الفطر في نصفه الحر؛ ولأجل ذلك صححه الرافعي- أيضاً- واختاره في "المرشد"، وفرق ابن الصباغ بين زكاة الفطر والمال بأن زكاة الفطر تتبعض؛ فلذلك وجب عليه نصف صاع، ونصفه على السيد، بخلاف زكاة المال؛ فإنها لا تتبعض ولا تجب إلا على تام الملك. قال: وأما الكافر فإن كان أصلياً فلا زكاة عليه لقول أبي بكر في كتاب الصدقة الذي سنذكره: "هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين"؛ فإن مفهومه أنها غير واجبة على الكفار، ولأنه لا يطالب بها في حال كفره، ولا بعد إسلامه؛ فأشبهت الصلاة في حق الحائض. قال في "المهذب": ولأنه حق لم يلتزمه [فلم يلزمه] كغرامات المتلفات وهذه العلة تقتضي قصر الحكم على الحربي، إذ هو الذي لا يلزمه غرامات المتلفات بخلاف الذمي مع أن الحكم في المسألة شامل لهما. ثم كلام الشيخ غني عن التأويل على قولنا: إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، كما هو قول أبي حامد أما إذا قلنا: إنهم مخاطبون بها كما هو مذهب الشافعي والجمهور فنقول: مراده أنها لا تجب عليه كما تجب على المسلم حتى تؤخذ من ماله قهراً إذا امتنع من أدائها، وإن كان أثر الوجوب يظهر في تضعيف العقاب في الدار الآخرة، وقد أشار إلى ذلك القاضي الحسين- رحمه الله- وهذا ما احترز عنه الشيخ خاصة بقوله: مسلم؛ فإن المرتد سنذكر الخلاف فيه.

قال: وإن كان مرتدا ففيه ثلاثة أقوال هذه المسألة مصورة بما إذا حال الحول عليه بعد ملك النصاب وهو مرتد ففيه الأقوال. قال: أحدها: تجب، والثاني: لا تجب، والثالث: إن رجع إلى الإسلام وجبت وإن لم يرجع لم تجب. اعلم أن الشيخ في "المهذب" بنى هذه الأقوال على أن ملكه هل يزول بالردة أم لا؟ فإن قلنا: إن ملكه باق وجبت، وإن قلنا: زال ملكه، لم تجب، وهو ما اختاره في"المرشد" وإن قلنا: إنه موقوف، فكذلك الزكاة، وهو في ذلك متبع لأبي إسحاق المروزي، وقد تبعه بعض الشارحين لهذا الكتاب [في ذلك] فقال: إن الأقوال في الزكاة مبنية على الأقوال في الملك: وعندي في ذلك نظر؛ لأن الذي اقتضاه إيراد الشيخ في باب الردة ترجيح أن ملك المرتد ليس فيه إلا قولان كما صار إليه ابن سريج، وطائفة: البقاء، وهو الذي نص عليه في زكاة المواشي، والأصح في "الحاوي" وغيره [ثم: الوقف، وهو ما نص عليه في باب الردة، وصححه في "التهذيب" وغيره] ثم، وقضية البناء على ذلك: أن يكون في الزكاة قولان لا غير: الوجوب والوقف، صرح به الماوردي [وابن الصباغ وغيرهما، وأن الصحيح منهما عند الماوردي] الوجوب، وفي "التهذيب": الوقف، وهو الذي صرح به في "المختصر"، وقد جزم الشيخ بإجراء الأقوال في الزكاة، وهو يقتضي منع البناء إن أجري كلامه في باب الردة على ظاهره، وأن الصحيح إجراء الأقوال في الملك كما هي طريقة أبي إسحاق، ولم يورد في "المهذب" غيرها، وحينئذ يلزمه المخالفة لما ذكره هنا وثم، وطريق الجواب لمن التزم تصحيح كلام الشيخ أن يقول: القول بعدم الوجوب هنا ليس مبنياً على زوال الملك، بل وجهه أن ملكه في هذه الحالة متعرض للزوال فلم تجب فيه الزكاة، كمال المكاتب بل أولى؛ لأن المكاتب يملك التصرف في ماله، وهذا لا يملكه؛ لأن من قال: ليس في زوال ملكه إلا قولان، وافق على أن في تصرفه ثلاثة أقوال:

فإن قيل: عدم نفوذ تصرفه عند من رآه، كان لكونه محجورا عليه بنفس الردة حجر سفه، أو فلس أو مرض على اختلاف فيه، ولا يمكن من علل عدم الوجوب بكونه غير قادر على التصرف أن يلحقه بالمريض ولا بالسفيه؛ لأن الزكاة تجب عليهما وكذا لا يمكنه أن يلحقه بالمفلس المحجور عليه لأن الصحيح وجوب الزكاة عليه كما ستعرفه، فبطلت هذه العلة. قلت: هذا لازم لو كان المنع مبنياً على منع التصرف، وليس كذلك، بل منع التصرف جاء مرجحا لما نحن فيه على الأصل المقيس عليه عدم الوجوب، وقد حكى القاضي أبو الطيب في باب الردة طريقة قاطعة ببقاء الملك ورد الخلاف إلى التصرف؛ عملا بنص الشافعي؛ فإنه قال هاهنا: إن الشافعي لم ينص على ملكه، وإنما نص على حكم تصرفه، وقضية بناء الزكاة على الملك: القطع بوجوبها على طريقة إن لم يلاحظ منع التصرف كما تقدم، وقد حكي عن الحناطي أنه قال: يحكي عن ابن سريج أنه تجب الزكاة على الأقاويل كلها كالنفقات والغرامات، والله أعلم. فإن قيل: قد جزمتم القول بأنا إذا قلنا: إن ملكه موقوف كان أمر الزكاة موقوفاً: فإن عاد إلى الإسلام وجبت، وإلا فلا، وأي فرق بينه وبين الموصى له بنصاب زكاتي إذا حال عليه بعد موت الموصي، وقبل القبول حول ثم قبل، وقلنا: إن ملكه موقوف؛ فإنه لا تجب عليه الزكاة كما قاله القاضي الحسين والمتولي وهو أصح الوجهين في "التهذيب" وإن كنا نقول: لو تم الحول قبل القبول والرد، وقلنا: إنه ملك بالموت بالوجوب عليه وإن كان الملك يرتد برده. قيل: الفرق أن في مسألة الوصية أصل الملك كان للميت، فلما لم يتحقق ثبوت الملك لم نوجب الزكاة قبله، [وهنا] أصل الملك ثابت فبقينا الحكم عند زوال العارض على ما كان، كذا قاله المتولي ويعكر [عليه] اتفاق الجمهور على أن المبيع في زمن الخيار إذا تم عليه الحول أو زهت الثمرة فيه، وقلنا بقول الوقف، وأجيز العقد أن الزكاة تجب على المشتري كما سنذكره إن

شاء الله تعالى. التفريع: إن قلنا بالوجوب فلو أخرجها في حال ردته قال في "التهذيب": جاز؛ كما لو أطعم عن الكفارة، بخلاف الصوم؛ فإنه لا يصح منه؛ لأنه عمل البدن فلا يصح إلا ممن يتدين به، وفي "النهاية" عن صاحب "التقريب": أنه لا يبعد أن يقال: لا يخرجها ما دام مرتدا، وكذلك الزكاة الواجبة قبل الردة؛ [لأن الزكاة قربة مفتقرة إلى النية، فعلى هذا إن عاد إلى الإسلام أخرج الزكاة الواجبة قبل الردة] وبعدها، وإن هلك على الردة حصل اليأس عن الأداء، وبقيت العقوبة في الآخرة. قال الإمام: وهذا خلاف ما قطع به الأصحاب، لكن يحتمل أن يقال: إذا أخرج في الردة، ثم أسلم: هل يعيد الزكاة؟ فيه وجهان كالوجهين في الممتنع إذا ظفر الإمام بماله وأخذ الزكاة منه هل يجزئه أم لا؟ وإن قلنا بعدم الوجوب فإذا عاد للإسلام استأنف الحول، وقيل: إن قلنا: إن الوارث يبني على حول الموروث [بنى هو] أيضاً. أما إذا وجبت الزكاة على الشخص ثم ارتد قبل أدائها فتؤخذ من ماله على المشهور، عاد إلى الإسلام أو قتل، لكن قد حكي عن الإصطخري أنه قال: إذا قتل لا تقضى الديون الماضية من ماله إن قلنا بزوال ملكه، وهذا الوجه يظهر [أن يجري] هاهنا إن لم يكن للزكاة تعلق بعين ما له الموجود، ووجه صاحب "التقريب" الماضي جار كما تقدم. قال: وما لم يتم ملكه عليه كالدين الذي على المكاتب، أي: من نجوم الكتابة أو غيرها للسيد إذا قلنا: إنه يسقط بعجزه، على أحد الوجهين. قال: لا تجب فيه الزكاة؛ لأن مال المكاتب لا تجب فيه الزكاة مع قدرته على التصرف فيه، فلألا تجب فيما عليه للسيد مع عدم قدرته على التصرف فيه من طريق الأولى. ثم اعلم أن ما مثل به الشيخ ما لم يتم ملكه عليه، وهو الدين الذي على المكاتب بالتفسير الذي قررناه، قد اشتمل على ثلاثة أمور: كونه دينا، وقدرة الغير

على إسقاط الملك فيه قهرا من غير سبب، وعدم قدرة المالك على التصرف التام فيه بسبب ذلك. ولا شك في عدم تمام الملك عند اجتماع الأمور، وعدم الزكاة لكن هل الاجتماع [هو المؤثر حتى لو فقد لفقدان البعض وجد تمام الملك أو لا، وعلى الثاني ما هو المؤثر] من ذلك: هل الدينية أو قدرة الغير على الإسقاط، أو منع التصرف؟ هذا ما ظهر فيه اختلاف الأصحاب؛ لاختلافهم في وجوب الزكاة عند فقد الاجتماع ووجود بعض الأمور الثلاثة دون بعض، وذلك يظهر لك بسرد ما اتفق عليه الأصحاب، وما اقتضى كلامهم الاتفاق عليه، وما اختلفوا فيه واقتضى كلامهم الاختلاف فيه، مما ذكره الشيخ كما ننبه عليه في موضعه مع ما يتعلق به من اختلاف الأحوال والفروع، وما لم يذكره؛ استغناء بالتنبيه عليه، فأقول- وإن طال الكلام لغرض بيان أصول الأحكام في معرض التقرير وإزالة الإبهام-: من المتفق عليه: مسألة التمسك: وهي مما لا خلاف فيها بين الأصحاب، ويظهر أن يكون في معناها الثمن في الذمة في مدة خيار المجلس الباقي للمتعاقدين أو للمشتري وحده؛ بسبب إمضاء البائع العقد دون المشتري حولا كاملاً إذا قلنا: إن الملك فيه للبائع؛ لأنه قد اجتمع فيه الدينية وقدرة الغير- وهو المشتري- على إسقاط الملك فيه وعدم قدرة المالك على التصرف التام فيه بسبب ذلك. فإن قلت: لم لا يكون الحكم في ذلك كالحكم في المبيع في زمن الخيار إذا قلنا: الملك فيه للمشتري؛ فإن الأصحاب قالوا: إذا باع مالا زكاتيا قبل تمام الحول، ثم تمَّ الحول في مدة الخيار أو اصطحب مدة فتم الحول في دوام خيار المجلس، أو زهت الثمار المبيعة- فوجوب الزكاة ينبني على أقوال الملك: فإن قلنا: إنه للبائع فعليه الزكاة، وبهذا القول أجاب الشافعي [في هذه المسألة التي نحن فيها] ثم هل يبطل البيع في قدر الزكاة أو في كل المبيع التفاتا على تفريق الصفقة؟ فيه كلام يأتي في باب زكاة الثمار [في هذه المسالة التي نحن فيها].

وإن قلنا: إنه للمشتري فلا زكاة على البائع، لانقطاع حوله بزوال ملكه، والمشتري يبتدئ الحول من بعد الشراء وإذا تم الحول من حينئذ وجبت الزكاة عليه. [نعم، قال ابن الصباغ: لو فسخ البائع أو المشتري عاد إلى ملك البائع ووجبت عليه] عندي الزكاة، لأن هذا الفسخ استند إلى العقد بالشرط المذكور فيه، وجزم في "الحاوي" أنه يستأنف الحول من يوم الفسخ. وإن قلنا: إن الملك موقوف، فإن تم العقد تبينا أن الملك كان للمشتري، وإن فسخ تبينا أنه كان للبائع. قال الرافعي: وحكم الحالين ما ذكرنا، هذا ما ذكره جمهور أئمتنا ولم يتعرضوا لخلاف بعد البناء على الأصل المذكور. قال الإمام: إلا صاحب "التقريب" فإنه قال: وجوب الزكاة على المشتري يخرج على القولين في المغصوب، بل أولى بعدم استقرار الملك مع ضعف [الملك] والتصرف، قال: وإنما خرجه على القولين إذا كان الخيار للبائع أو لهما، فأما إذا [كان] الخيار للمشتري وحده، والتفريع على أن الملك له، فملكه ملك الزكاة بلا خلاف، لأن الملك ثابت والتصرف نافذ وتمكنه من رد الملك لا يوجب توهنا وقد أبدى الرافعي احتمالاً في جريان مثل قول صاحب "التقريب" في جانب البائع إذا فرعنا على أن الملك له وكان الخيار للمشتري وحده. قلت: يحتمل ألا يكون الحكم كذلك؛ لأن الكلام في مسألة البيع يفرض في أربع صور: إحداها: إذا كان في الذمة ولم يقبض، وهو نظير مسألتنا، فيظهر أن نقول: لا تجب الزكاة [فيه] على المشتري، وإن قلنا: إن الملك له والخيار لهما أو للبائع وحده؛ لما ذكرناه بل هنا أولى؛ لأن الثمن مقدور على التصرف فيه على الجملة قبل القبض على الصحيح؛ بخلاف المبيع.

الثانية: إذا كان في الذمة ثم قبض في زمن الخيار فحكمه قبل القبض ما تقدم وبعده سنذكره. الثالثة: أن يكون معينا لم يقبض، فهذا يبني على أن المبيع قبل القبض، وبعد لزوم العقد هل تجب الزكاة فيه أم لا؟ وفيه خلاف سنذكره. الرابعة: إذا كان معيناً قد قبض، وهي مسألة الخلاف التي أوردت، ألا ترى أن الإمام قال: إذا كان الخيار للمشتري وحده فملكه ملك الزكاة بلا خلاف؛ لأن الملك ثابت والتصرف نافذ، ولولاه مقبوضاً لم يكن التصرف [نافذا؛ لأن التصرف] في المبيع قبل القبض [لا] ينفذ، وإذا كان كذلك فقد خالف محل الخلاف في هذه المسألة ما ذكرناه من وجهين: أحدهما- وبه يظهر بيان قاعدة عظيمة، وهي أن المال في مسألة المبيع عين؛ وفي مسألتنا دين، وقد قال الأصحاب: الدين المستقر إذا كان ذهبا أو فضة أو عرضا للتجارة هل تجب فيه الزكاة أم لا؟ حكى الزعفراني [فيه] وحده قولا في القديم عن الشافعي: أنها لا تجب كيف كان، قال الإمام: وهو بعيد في حكم المرجوع عنه، والجديد الصحيح: الوجوب فيه في الجملة، لكنه ينظر: فإن كان الدين حالا على مليء [مقر] ظاهراً أو باطناً باذلا له وجبت فيه الزكاة، وطولب بإخراجها بعد حولان الحول، كما قال الإمام وغيره، وحكى ابن التلمساني في شرحه لهذا الكتاب أن الغزالي حكى وجهاً آخر: أنه لا تجب، وأنه صححه.

وإن كان على مليء جاحد في الظاهر والباطن وله بينة به أو علمه الحاكم، وقلنا: يقضي بعلمه- قال ابن الصباغ: فالذي يقتضيه المذهب الوجوب؛ لأنه متمكن من أخذه في الظاهر، وعبارة الإمام: أن الدين إذا كان مجحودا وعليه بينة فلا حكم للجحد، وفي "التتمة" فيما لو قصر في إقامة البينة حتى حال الحول: فهل يجب الإخراج قبل الأخذ؟ فيه وجهان كما في الدين المؤجل وإن لم يكن عليه بينة ولا علمه الحاكم ففي وجوبها قولان جاريان فيما لو كان مقرا وهو معسر، وادعى الإمام أنهما القولان في المال المغصوب، وفي ذلك نظر سنذكره، والمختار في "المرشد": الوجوب. ولا يجب الإخراج قبل القبض بلا خلاف. وإن كان مقرا في الباطن مماطلا، ولو طلبه بالحاكم خشي أن يجحده فهل تجب؟ سيأتي الكلام [فيه] في الكتاب. ولو كان الدين مؤجلا على مليء مقر؛ فثلاثة طرق: أحدها: لا تجب قولا واحدا، وإذا قبضه [في الظاهر] استأنف الحول؛ لأنه لا يستحقه، ويحكى هذا عن أبي إسحاق. والثاني: تجب قولا واحدا كالمال الغائب الذي يسهل إحضاره، وعلى هذا: هل يجب إخراج الزكاة قبل قبضه؟ فيه وجهان قال الإمام: الأصح عندي المنع؛ فإنه لو أخرج خمسة نقدا وماله مؤجل كان ذلك إجحافاً به، وما يساوي خمسة نقدا يساوي ستة نسيئة ويستحيل أن يقنع بأربعة مثلا، والواجب في توقيف الشرع خمسة. والثالث- وبه قال أبو إسحاق، وهو الأصح- أنه كالدين على المعسر؛ فيكون علىى القولين ولا يجب الإخراج إلا بعد القبض. قلت: ينبغي أن يقال: أو حلوله. وقيل: يجب الإخراج في الحال كما يجب الإخراج عن الغائب الذي يسهل

إحضاره وسيأتي الكلام فيه. أما إذا كان المال غير ما ذكرناه فلا زكاة فيه قولا واحداً؛ إذ لا يتصور وجود شرط الزكاة فيه؛ فإن السوم شرط في زكاة النعم والزهو في الملك والاشتداد شرط في زكاة الثمار والزروع، وذلك لا يوجد في الدين. قال الرافعي: ولك أن تقول: لم [لا] يجوز أن تكون الماشية الثابتة في الذمة موصوفة بكونها سائمة؛ ألا ترى أنا نقول إذا أسلم في اللحم بعوض لكونه لحم راعية أو معلوفة: فإذا جاز أن يثبت في الذمة لحم راعية جاز أن يثبت في الذمة راعية. نعم، العلة الصحيحة في امتناع وجوب الزكاة فيها: أن الزكاة إنما تجب في النامي، والماشية في الذمة [لا تنمو، بخلاف الدراهم إذا ثبتت في الذمة] فإن سبب الزكاة فيها رواجها وكونها معدة للتصرف، فإذا عرفت ذلك فإن قلنا إن الدين لا زكاة فيه فالفرق ظاهر، وإن قلنا: تجب في المؤجل، فالفرق يقع بالوجه الثاني، وهو أن الغير في مسألتنا قادر على إسقاط الملك فيه بالكلية كما في مسألة المكاتب، وفي مسألة البيع ليس الغير قادراً على الإسقاط فيه بالكلية، بل هو ناقل للملك من شخص إلى شخص، والقدرة على إسقاط الملك أقوى من القدرة على نقله. فإن قلت: لا نسلم أن لذلك تأثيراً في الحكم؛ بدليل أن الأصحاب لم يفرقوا بين ما إذا كان المبيع ماشية تجزئ في الأضحية أو غيرها مع قدرة البائع على إسقاط الملك فيها بجعلها أضحية. قلت: ذلك لو فعله البائع لتضمن انتقال الملك فيه إليه، ثم جعله أضحية بعد ذلك، على أني أقول: لا أسلم أن الملك في الأضحية سقط بل انتقل إلى الفقراء وكذلك جعله الإمام شبيهاً بالوقف، وإن كان الأصحاب شبهوه بالعتق كما سنذكره، والله أعلم. ويجوز أن نقول بوجوب الزكاة في الثمن إذا كان في الذمة وقلنا: الملك فيه

للمشتري، وإن الدين المؤجل تجب فيه الزكاة، والفرق بينه وبين الدين على المكاتب وإن استويا في كون من عليه الدين قادراً على إسقاطه، وهو ممنوع من التصرف فيه لأجل ذلك: لأن الملك فيه مصيره إلى اللزوم والعقد معقود له؛ فكان الجواز في أوله محتملاً، بخلاف الدين على المكاتب، والله أعلم. وعلى هذا يكون المتفق عليه ما مثل به الشيخ لا غير، ومن المختلف فيه غير ما يأتي عليه كلام الشيخ وما يتعلق به- مسائل: الأولى: المال الموصى به إذا لم يقبله الموصى له، ولم يرده حتى مضى عليه حول، أو كان ثمرة فلم يقبله ولم يرده حتى زهت، ثم قبله، وقلنا: إن الملك فيه للوارث، كما هو أحد الوجهين لا للميت فإن الموصى له متمكن من انتزاعه قهرا، والوارث غير قادر على التصرف فيه بسبب ذلك، لكنه ليس بدين، وهل تجب على الوارث زكاته؟ فيه وجهان، أصحهما في "النهاية" وغيرها: لا، قال الإمام: ولا يسوغ غيره، لأن هذا الملك تقدير، اضطررنا إليه لما لم نجد مالكاً متعيناً في هذا الزمان. نعم لو رد الموصى له الوصية وقد تحقق ملكه ففيه الخلاف المتكرر أمثاله في الأملاك الضعيفة التي لا يثبت التصرف فيها، أما إذا قلنا: الملك قبل القبول والرد للميت، فلا زكاة فيه جزما؛ لأن الميت ليس من أهل الوجوب، وقد تقدم بيان الحكم فيما إذا قلنا: الملك فيه للموصى له أو موقوف. الثانية: المال الملتقط إذا عرفه الملتقط بنية التملك وتم الحول، وقلنا: لا يملك إلا باختيار التملك أو التصرف، فإنه ملك لا يملك مالكه التصرف التام فيه، والغير يقدر على إزالته فإذا مضى عليه حول آخر وهو كذلك فهل تجب زكاته على المالك؟ فيه طريقان: إحداهما- وتحكى عن رواية الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني-: القطع بالمنع. والثانية: حكاية القولين في المال المغصوب فيه، وهي التي صححها ابن الصباغ وغيره. أما إذا قلنا: إنه ملك بانقضاء سنة التعريف، فلا يجب على المالك زكاة اللقطة

في السنة الثانية، لكنَّ قيمتها تثبت [له] دينا في [ذمة الملتقط]، فإذا قلنا بوجوب الزكاة في الديون ففي وجوبها في القيمة [قولان] لأنها ضالة عن مالكها، وهل تجب زكاة العين الملتقطة [على الملتقط] وقد ملكها؟! الجمهور على الوجوب، وحكى الرافعي عن رواية الشيخ أبي محمد وجهين؛ بناء على أن المالك لو علم بالحال- والعين باقية- فهل يتمكن من الاسترداد أم لا؟ وفيه خلاف مذكور في موضعه، ويجريان أيضاً كما قال فيما إذا قلنا: إنه لا يملك إلا باختيار التملك، فاختاره؛ بناء على الأصل المذكور، فإن قلنا: إن المالك لا يتمكن من الاسترداد، فهو ملك يتسلط الغير على إزالته. قلت: لكن المالك قادر على التصرف فيه فلم يوجد من الأمور الثلاثة المذكورة في الدين على المكاتب سوى القدرة على إزالة الملك فإن كان ذلك مستقلاً بمنع الزكاة وجب ألا تجب الزكاة في المال الموهوب للولد ثم هذا الخلاف كما قال الرافعي إذا قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة أو قلنا: إنه يمنع، لكنه ملك قدر القيمة من غير اللقطة، وقال: إن الأظهر والأشهر في المسألة -[أي] الأخيرة-: الوجوب. المسألة الثالثة: مال الغنيمة إذا أحرزه الغانمون، ولم يقسم لعذر أو غير عذر حتى مضى حول- فهل تجب زكاته؟ نظر: [إن لم] يختاروا التملك حين الحيازة حتى مضى الحول فلا زكاة؛ لأنها غير مملوكة للغانمين على الصحيح، بل ملكوا أن يتملكوا وهذا ما اختاره ابن سريج وابن خيران، ولم يورد ابن الصباغ والبندنيجي والماوردي هاهنا غيره. وفي "تعليق" القاضي الحسين وغيره حكاية قول آخر: أنهم ملكوه ملكا في [غاية] الضعف والوهي؛ فإنه يسقط بمجرد الإعراض، وللإمام أن يقسمه بينهم قسمة تحكم فيخص بعضهم ببعض الأنواع [وبعض الأعيان] إن اتحد النوع.

وإن اختاروا التملك نظر: فإن كانت الغنيمة أصنافا فلا زكاة؛ سواء كانت مما تجب الزكاة في جميعها أو في بعضها؛ لأن كل واحد منهم [لا يدري ماذا] يصيبه وكم نصيبه. وإن لم تكن إلا صنفا واحداً زكاتياً وبلغ نصيب كل واحد من الغانمين نصابا- وجبت الزكاة ويعرف ذلك بأحد أمرين أن يعزل الإمام لكل طائفة حصتهم ولا يقسموها أو يكون جميع الغانمين محصورين بحيث يعلمون ذلك لا أنهم محصورون في نفس الأمر؛ لأن ذلك لابد منه. وكذا تجب الزكاة إذا لم يبلغ نصيب كل منهم نصاباً وكانت ماشية أو غيرها، وقلنا: إن الخلطة تؤثر في الوجوب كما في الجديد، اللهم إلا ألا يتم النصاب إلا بالخمس، فإنه لا زكاة عليهم إذ الخلطة مع أهل الخمس لا تثبت؛ لأنه لا زكاة في الخمس بحال؛ لعدم تعين مالكه، هذا ما ذكره الجمهور من العراقيين والمراوزة، قال الرافعي: وهو ظاهر المذهب. ويقوم مقام اختيارهم التملك إفراز الإمام نصيب كل طائفة وقبضهم له كما قاله الماوردي والبندنيجي، وقال ابن الصباغ: إنه يقوم مقام اختيار التملك نفس إفراز النصيب إذا كانوا حضورا، وقال فيما إذا كانوا غيبا: لا يجب عليهم الزكاة؛ لأنه لا يعلم اختيارهم التملك. وهذا ما عزاه البندنيجي إلى نصه في "الأم". وفي "التهذيب" حكاية وجه فيما إذا لم يكونوا محصورين، والنوع واحد زكاتي: أن الزكاة تجب، وهو مشار إليه في تعليق القاضي [الحسين]؛ بناء على أنهم ملكوا المال حقيقة. ثم لا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون الخمس قد أفرز لأهله أو لا كما قاله في "العدة"، وإن كان الأكثرون لم يتعرضوا لذلك [كما] قال الرافعي، وقال البغوي تبعا للقاضي الحسين: إن محل الوجوب إذا قلنا به إذا كان الخمس قد أفرز، أما إذا لم يكن قد أفرز فلا وجوب. ولم يحك سواه، وفي "الحاوي" حكاية ما قاله في "العدة" والبغوي وجهين: نسب قول صاحب "العدة" منهما إلى البغداديين، وقال: إنه أصح عنده في الحكم، لأن مشاركة أهل الخمس لهم لا

تمنع وجوب [زكاة عليهم، كما أن مشاركة المكاتب والذمي لا تمنع وجوب] الزكاة على الحر المسلم، ونسب قول البغوي إلى البصريين من أصحابنا، وقال: إنه بنص الشافعي أشبه؛ لأنه قال في تعليل إسقاط الزكاة عن مال الغنيمة: لأنه لا ملك فيه لأحد؛ فإن للإمام أن يمنعهم قسمته إلى أن يمكنه، ولأن فيه خمسا. قلت: وكأن القائلين بهذا لاحظوا التفرقة بين ما بعد إفراز الخمس وما يخرج من رأس الغنيمة وقبل ذلك، بالنسبة إلى جواز الإعراض عن الغنيمة قبل الإفراز والمنع من الرد بعده لكنَّ هذا قول مخرج ذكره ابن سريج، والمنصوص أنه لا فرق في نفوذ الرد بين الحالين، وهو الأصح في "التهذيب"، فلا جرم سوى الطبري وغيره بينهما هاهنا، ولم يجعلوا للقدرة على الرد من جهة المالك أثرا في منع الزكاة [كما لم يجعل الأصحاب كافة لقدرة المشتري على رد المبيع إذا كان الخيار له وحده، وقلنا: إن الملك له- أثرا في منع الزكاة] ولم يجعل [الجمهور] لقدرة الملتقط على رد العين الملتقطة وقد ملكها على مالكها- أثراً في منع وجوب الزكاة عليه كما تقدم. وقد سلك الإمام طريقاً آخر فقال: وجوب الزكاة ينبني على أن الغنيمة هل تملك قبل القسمة أم لا؟ إن قلنا: لا فلا زكاة فيها بحال، وإن قلنا: نعم، ففي الوجوب ثلاثة أوجه: أصحها- وهو المذهب [وبه قطع أئمة المذهب]-: لا؛ لضعف الملك، ولأن الملك في المغنم غير مقصود وإنما يتحقق القصد عند القسمة، والغرض من الجهاد إعلاء كلمة الله تعالى والذب عن دين الله تعالى. والثاني: نعم؛ اكتفاء بأصل الملك. والثالث: إن كان فيما غنموه ما ليس بزكاتي، ونحن نقدر أن تقع بزكاتي خمساً فلا زكاة أصلا؛ فإن للإمام أن يوقع القسمة على الأخماس على شرط التعديل فيوقع الزكاتي على الخمس، وإذا كان ذلك ممكناً مقدراً فلا زكاة لضعف الملك وانضمام هذا التقدير إليه. وقد حكى الرافعي هذا الوجه عن روايته

بغير هذه العبارة وأورد عليها سؤالا، والمذكور في "النهاية" ما أبديته وسؤاله لا يرد عليه. المسألة الرابعة: الدين الزكاتي لمن تجب عليه الزكاة هل يمنع وجوب الزكاة على المديون في مثله إذا كان مقراً به أو منكراً ولصاحبه بينة به؟ ينظر: إن كان للمديون مال غير زكاتي يمكن وفاء الدين منه فالذي أورده الجمهور أن ذلك لا يمنع الوجوب، وحكى الإمام عن شيخه ترددا فيه بناء على ما سنذكره من المعنيين في علة منع الدين الوجوب. وإن كان لا مال له غير المال الزكاتي فهل يمنع الدين الزكاة في قدره إن بقي النصاب بعد تقدير وفائه، أو أصل الوجوب إن كان الدين يستغرق النصاب أو ينقصه؟ فيه ثلاثة أقوال: المشهور في الجديد، وهو الصحيح الذي تقع به الفتوى: الوجوب؛ لإطلاق النصوص الواردة في الزكاة، ولأن الزكاة إن تعلقت بالذمة فالذمة لا تضيق عن ثبوت الحقوق وإن تعلقت بالعين فالدين المتعلق بالذمة لا يمنع الحق المتعلق بالعين؛ ألا ترى أن العبد المديون لو جنى تعلق أرش الجناية برقبته؟ وهذا إذا لم يتصل به حجر حاكم، فإن اتصل به فسنذكره من بعد. والقول الثاني نص عليه في القديم كما قال الفوراني: أن الدين لا يمنع تعلق الزكاة بالأموال الظاهرة ويمنع تعلقها بالأموال الباطنة، ويحكى عن رواية البيهقي أيضاً. وقال القاضي الحسين: إن الذي نص عليه الشافعي في "الكبير": أن الساعي لو جاء يطالبه بزكاة أمواله الظاهرة لا يقول: هل عليك دين؟ ولو طالبه بأمواله الباطنة يقول: هل عليك دين أم لا؟ وهذا يدل من كلام الشافعي أنه يفرق بين الظاهر والباطن. ثم قال الفوراني والقاضي: إن من أصحابنا من جعل ذلك قولا في المسألة. قلت: ومقتضى قول الفوراني أن يكون قديما ومقتضى قول القاضي أن يكون

جديداً؛ لأن "الكبير" هو "الأم" وهي من الجديد، اللهم إلا أن يكون ما حكاه فيها عن القديم والجمهور لم يثبتوا ذلك قولا للشافعي، فلا جرم قال الإمام: والصحيح عندنا أن المراد بهذا أن من ادعى أن عليه دينا إنما ذكره ليسقط الزكاة قال الإمام: لا نصدقه في زكاة الأموال الظاهرة، وأما الأموال الباطنة فالإمام لا يتولى أخذها. وهذا فيه نظر. فأما إذا قلنا: الدين يمنع تعلق الزكاة بالعين، واعترف صاحب المال بدين- فالظاهر عندي: تصديقه كما يصدق في ادعاء انقطاع الحول وغيره؛ فإن المالك مؤتمن فيما يدعيه من الممكنات، وهذا في الدين أظهر؛ فإن إقراره بالدين ثابت وهو يطالب بموجبه. والقول الثالث وهو الثاني عند الجمهور والذي نص عليه في القديم وفي اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى من الجديد، كما قال الماوردي [والرافعي]-: أنه يمنع الوجوب، ولماذا منعه؟ فيه معنيان ذكرهما المراوزة، واختلفوا في أن العلة منهما ماذا؟ أحدهما: أن ملكه واه؛ لأن صاحب الدين يمكنه انتزاعه من يده متى شاء إذا امتنع هو من الأداء وإذا لم يمتنع وأدى فلا يبقى له ملك، وهذا ما اقتضى إيراده في "الوجيز" ترجيحه، وإليه يرشد ما سنذكره من كلام الأئمة. والثاني: أن الإيجاب عليه يؤدي إلى إيجاب زكاتين في مال واحد، قال القاضي الحسين: لأنها تجب بلا خلاف على صاحب الحق، فلو ألزمنا المديون الزكاة أيضاً لصار المال الواحد سبباً لزكاتين على شخصين، وهو ممتنع. قلت: والنص الذي حكاه الفوراني عن القديم والقاضي عن "الكبير" يرشد إلى هذه العلة؛ لأن البينة تلزم في الأموال الباطنة دون الظاهرة؛ فلا جرم قال: [إن] الذي يمنع الوجوب في الباطنة [دون الظاهرة وبهذا علل هذا القول من أثبته من أصحابنا كما قال القاضي الحسين] وأبطل الرافعي هذا التوجيه

بوجهين من المعنى: أحدهما: لا نسلم لزوم البينة لكن البينة في المال الواحد؛ لأن المستحق للمديون غير هذا المال، ولرب الدين مطلق المال لا هذا المال، فليس وجوب الزكاة عليه باعتبار هذا المال حتى يلزم البينة. والثاني: هب أنه يلزم البينة لكن البينة كما تندفع بألا تجب الزكاة على المديون تندفع بألا تجب على رب الدين، فلم يعين الأول؟ فإن رجح جانب المديون لضعف ملكه عاد الكلام إلى العلة الأولى وإن رجح بأن ماله مستغرق بحاجة مهمة وهي قضاء الدين فهذا كاف في التوجيه؛ فلا حاجة إلى واسطة البينة. أما إذا كان من عليه الدين منكرا ولا بينة لربه، وحلف عليه فهل يمنع الوجوب؟ فيه وجهان: أحدهما: أن الحكم كما تقدم. والثاني: أنه لا يمنع قولا واحداً، لسقوط المطالبة عنه بحلفه فكأنه لا دين عليه قاله الماوردي. وقد فرع الأصحاب على المعنيين مسائل فقالوا: إن قلنا بالأول لم تجب الزكاة فيما إذا كان الدين لذمي أو مكاتب [أو] إذا كان الدين مما لا تجب فيه الزكاة لنقصه عن النصاب أو غير ذلك، أو كان مما تجب فيه الزكاة لكنه من غير جنس المال كما إذا كان المال ماشية والدين دراهم، أو كان المال دنانير والدين دراهم، وادعى الإمام أن الأصح في هذه الصورة الوجوب. وإن قلنا بالثاني وجبت. وقد اقتضى المعنيان الوجوب فيما إذا كان الدين مؤجلا وقلنا: لا زكاة في المؤجل، فإن قلنا: تجب الزكاة فيه، فيمتنع الوجوب؛ نظراً للعلة الأولى، وتجب نظراً للعلة الثانية، قاله القاضي الحسين، وأطلق المتولي والبغوي وغيرهما

القول بأنه لا فرق في الدين- إذا قلنا: إنه يمنع- بين المؤجل والحال، والماوردي قال في أول الفصل: إنه إذا كان [الدين] مؤجلا لا يمنع الوجوب وجها واحداً، وفي آخره: إنه على القولين. وقضية المعنى الثاني: ألا يمنع دين الله الوجوب دون المعنى الأول. وقد أطلقوا القول بأنه لا فرق في الدين المانع بين أن يكون لآدمي أو لله تعالى كالزكوات والكفارات وجزاء الصيد، وكذا المال المنذور كما قال القاضي الحسين، نعم لو كان عليه الحج فهل يمنع؟ فيه وجهان حكاهما الإمام، والفرق: أن دين الحج [لا] يضيق ودين الزكاة لا يقبل التأخير، والمال ليس مقصود الحج، وقال: إن دين المنذور ودين الحج يعتدلان؛ لأن عندي أداء أحدهما يجب من غير اختيار، ولكن ليس المال مقصوداً، [و] المنذور مقصود في المالية، ولكنه يدخله الناذر على نفسه تطوعاً، وحكى الرافعي والماوردي عن ابن سريج [أنا] إن أوجبنا الزكاة عند دين الآدمي فهاهنا أولى وإلا فوجهان، أصحهما عند الإمام: أنه لا يمنع، وفرق بأن هذا الدين لا مطالب به في الحال فكان أضعف حالا، وأن النذر يشبه التبرع، إذ الناذر بالخيار في نذره؛ فالوجوب بالنذر أضعف. [ثم] هذا كله إذا كان الدين بعدم النصاب أو بنقصه كما ذكرنا فلو كان عليه دين وله نصابان من جنسين، ولو وزع عليهما لنقص كل منهما، ولو جعل

القضاء من أحدهما لبقي النصاب الآخر- نظر: فإن لم يكن الدين من جنسهما وزعا عليهما، ولا زكاة، وهذا ما حكاه القاضي الحسين وتبعه البغوي. وقال ابن الصباغ: الذي يقتضيه المذهب أنه يراعى في ذلك حق الفقراء كما صرفنا [عين] مال الزكاة إلى ديونه، وهذا يحكى عن أبي قاسم الكرخي، ويقال: إنه يحكى عن ابن سريج ما يوافقه، وقد أقام المتولي هذا وجهاً آخر في المسألة فحكى فيها وجهين، وصحح الثاني وجزم القول بأنه لو كان يملك أجناساً وبعضها لا يبلغ نصاباً وبعضها يبلغ نصاباً: أنا نجعل الدين من الناقص؛ مراعاة لحق الفقراء، وهذا يقوي ما صححه. ولو كان الدين من جنس أحد المالين اللذين كل منهما نصاب فهل يقضي عليهما أو يختص بالجنس؟ فيه وجهان بناهما المتولي على أن من امتنع من قضاء دين وظفر صاحب الدين بأمواله، وفي الأموال جنس الحق وغير الجنس فله أن يأخذ الجنس، وهل له أن يأخذ من غير الجنس فيه وجهان، فإن قلنا: لا يأخذ إلا الجنس فيجعل الدين هنا في مقابلة الجنس، وهو الذي صححه؛ لأنه أقرب إليه، وإلا ينقص على الجميع، وهذا ما صححه القاضي الحسين، والرافعي بناهما على أن الدين من غير الجنس يمنع الوجوب أم لا؟ فإن قلنا: يمنعه، فالحكم كما إذا كان من غير جنس أحدهما، وإن قلنا: [لا يؤثر] في غير الجنس، اختص بالجنس. وحكى ابن يونس وجهاً ثالثاً: أنه يراعى فيه حظ الفقراء. فرع. لو ضمن عن آخر مالا بإذنه فهذا الدين هل يمنع؟ قال في "البحر": قال والدي: لا نص فيه، ويحتمل وجهين: أحدهما: لا يمنع؛ لثبوت حق الرجوع له بعد الأداء؛ فصار كأنه لا دين عليه حيث يصل إليه عوضه عقب أدائه. والثاني: يمنع؛ لأن الدين عليه في الحال، ولا شيء له على المضمون عنه قبل

الأداء؛ فصار [كما لو لم يرجع بشيء]. قلت: لو بنى الوجهين على الوجهين في أن الضامن في صورة يثبت له فيها الرجوع على المضمون عنه هل يثبت له على المضمون عنه حق حتى يطالبه به ويقيم له به ضامناً؟ وإذا وفاه ما ضمنه صح أم لا؟ لكان أوجه. المسألة الخامسة: الماشية الموقوفة على معين إذا قلنا: إن الملك فيها للموقوف عليه هل تجب فيها الزكاة لاستقرار الملك، أو لا تجب لعدم قدرته على التصرف؟ فيه وجهان في "المهذب" و"التتمة" وأصحهما في "البحر": الثاني، قال: وعلى كلا الوجهين لا تخرج الزكاة من عينها؛ لأنها وقف فلا تعطى المساكين. ولو كان الموقف نخلا أو كرما على معين وجبت عليه الزكاة في الثمرة قولا واحداً، بخلاف ما لو وقفت على غير معين. قال: وفي الآخرة قبل استيفاء المنفعة قولان. صورة المسألة: أن يكري داراً بملك منفعتها سنتين مثلاً، بثمانين ديناراً معينة أو في الذمة، ويقبضها، ثم تقوم في يده حولاً كاملاً، فالأجرة تقسط على السنتين إذا كانت أجرتهما على السواء، فإذا كان الأمر كذلك فقد استقر ملكه على الأربعين ديناراً هي أجرة السنة الأولى؛ فيجب عليه زكاتها بلا خلاف، وهل يجب عليه زكاة [ما في] الأجرة المقابلة للسنة الثانية أم لا؟ فيه قولان: قال الشيخ: أصحهما: أنه يجب فيها الزكاة؛ لأن ملكه قد ثبت على ذلك، وملك التصرف فيه بسائر أنواع التصرف، حتى لو كان بدل مال الزكاة جارية حل

له وطؤها فوجبت عليه زكاته، ولا يقدح فيه تعرض ملكه للسقوط بانهدام الدار، أصله مهر المرأة قبل الدخول، ووجه مقابله: أن الأجرة في مقابلة المنفعة، وإذا كان كذلك فلا استقرار لها قبل استيفاء المنفعة لجواز أن تسترد لانهدام الدار، وهو مقتضى عقد المعاوضة، وأما الصداق فقد حكي عن ابن سريج أنه خرج قولاً من هنا إليه أنه لا زكاة فيه قبل الدخول، فعلى هذا لا فرق على المشهور. فالفرق: أن الصداق ليس في مقابلة الوطء فلم يكن استيفاؤه شرطاً في استقراره؛ ولهذا لو ماتت قبل الدخول لم يسترد الزوج منه شيئاً ورجوع الشطر إليه بالطلاق ونحوه ليس من مقتضى العقد؛ بل هو ابتداء تملك أثبته الشرع له ويدل على ذلك: أنه يقطع الملك لا يرفعه ولا يقال: إن الصداق متعرض أيضاً للسقوط بما هو من مقتضى العقد وهو فسخه بعيبها لأنا نقول: المؤثر في استقرار العوض والمعوض احتمال سقوطه بتلفه أو تلف مقابله لا غير بدليل أن احتمال رد المبيع والثمن بالعيب لا يمنع استقرار الملك فيهما، وهذا منه. وقد اختلف الناقلون في محل القولين: فالذي حكاه ابن الصباغ عن القاضي أبي الطيب، وقال الرافعي: إنه الذي يشعر به كلام طائفة- أنهما في نفس الوجوب، فعلى القول الثاني: لا يجب [عليه] زكاة أجرة السنة الثانية عند مضي السنة الأولى وإن كانت في ملكه حولا، وكذا بعد مضي السنة الثانية، لا يجب زكاتها للسنة الأولى، وإن بان استقرار ملكه عليهما حولين [كاملين] كما لا يجب في مال المكاتب وإن بان استقرار ملكه عليه بعد عتقه أحوالاً. قلت: وهو الظاهر من كلام الشيخ أيضاً، وقد ظن الرافعي أن كلام الإمام الذي سنذكره مشير إليه أيضاً؛ لأنه قال في نصرة القول بعدم الوجوب: إن القول بثبوت الملك التام في الأجرة، ممنوع على رأي بعض الأصحاب؛ فإن صاحب "النهاية" حكى طريقة أن الملك يحصل شيئاً فشيئاً، فمن قال بذلك لا يسلم بثبوت الملك في الأجرة فضلاً عن ثبوت الملك التام. وليس الأمر كما ظنه؛ لأن

الإمام حكى أن القولين في الزكاة مبنيان على أن الملك في الأجرة يحصل بنفس العقد، أو يحصل بالتدرج ويكون الأمر فيه موقوفاً على سلامة العاقبة فإن مضت المدة سالمة عما يوجب الانفساخ تبينا أن الأجرة ملكت بنفس العقد، وإن طرأ انفساخ تبينا أنه لم يجز ملك إلا فيما مضت مدته. وهذا يقتضي أن المدة إذا مضت تبينا أنه ملك بنفس العقد بلا خلاف، وقد أوضح ذلك في "الحاوي" فقال: لم يختلف قول الشافعي في أن الأجرة إذا كانت معجلة بالشرط أو بإطلاق العقد، فقد ملك جميعها بعقد الإجارة، واستحق قبضها بتسليم الدار المؤجرة، وإنما اختلف قوله هل ملكها بالعقد ملكاً مستقراً مبرماً أو ملكها ملكاً موقوفاً مراعى؟ فالذي نص عليه في "البويطي" وغيره: أنه ملكها ملكاً مستقراً مبرماً كأثمان المبيعات وصدقات الزوجات، [و] الذي نص عليه في "الأم" وفي غيره، وهو الأظهر: أنه ملكها بالعقد ملكاً موقوفاً مراعى، فكلما مضى زمان من المدة بأن استقرار ملكه على ما قابله من الأجرة، نعم: لو تمسك الرافعي فيما ذكره بما نقله في "التتمة" لكان أولى؛ فإنه حكى في ملك الأجرة بنفس العقد طريقتين: إحداهما: أن فيه قولين، وإلى ذلك يرشد كلام المزني. والثانية: القطع بالملك ورد الخلاف إلى الاستقرار. وقد يستأنس لطريقة أبي الطيب من كلام الإمام بقوله من بعد حكاية الخلاف الذي سنذكره في المبيع الذي لم يقبض هل تجب فيه الزكاة أم لا: [إنا إذا] قلنا: إن الملك ثابت في جميع الأجرة ملكاً مستقراً كما هو الأصح فالثمن المقبوض أولى بالزكاة من المبيع؛ فإن التصرف نافذ فيه، وإنما فيه توقع الانفساخ، وإن قلنا: إن الملك في الأجرة موقوف فالمبيع أولى بالزكاة؛ فإن الملك فيه محقق، وهو عماد الزكاة، والتصرف المجرد مع التوقف في الملك لا يؤكد الزكاة ووجوبها. انتهى. وإنما قلت: إنه يستأنس بذلك؛ لأن الخلاف في المبيع الذي لم يقبض فيه

نفس الوجوب، كما ستعرفه، وقد جعله مرتباً على قول على الأجرة، وعلى آخر جعل الأجرة مرتبة عليه؛ فدل على استوائهما في [عود أصل] الخلاف إلى الوجوب وعدمه، والذي قاله الشيخ أبو حامد وشيعته: أن القولين في أنه هل يجب عليه إخراج زكاة أجرة السنتين عند مضي السنة الأولى، أو الواجب عليه عند مضي السنة الأولى إخراج [زكاة] حصتها من الأجرة، وهي نصف وثمن دينار، فإذا مضت السنة الأخرى أخرج زكاة [أجرة] السنة الثانية لسنتين، وأما الوجوب فثابت قطعا. وهذه الطريقة لم يورد القاضي أبو الطيب في "تعليقه" والماوردي والقاضي الحسين والبغوي والمصنف في "المهذب" غيرها، ونسبوا القول الأول إلى نصه في "مختصر" البويطي، وقال أبو الطيب: إنه الأشبه بالصحيح، وهو اختيار المزني وأبي ثور، كما قال القاضي الحسين وابن سريج، وإليه ميل ابن الصباغ، وهو الصحيح في "المهذب"، والثاني إلى نصه في ["الأم"]، وهو الذي نقله المزني، وقال الماوردي: إنه الأظهر، والبغوي: إنه الأصح، والرافعي: إن إليه ميل الجمهور، وابن يونس: إنه الذي صححه أبو حامد، وحكي عن ابن سريج القطع به؛ فإن البندنيجي قال: أكثر أصحابنا يذهبون إلى أن ما حكى عن البويطي قول ثانٍ للشافعي رواه البويطي عنه وليس الأمر كذلك؛ فإن أبا العباس ذكر في "الانتصار" أن هذا مذهب أبي يعقوب البويطي من عنده لا يرويه أحد عن الشافعي، وقال القاضي الحسين في "الفتاوى"، و"التعليق": الإجارة إن كانت واردة على أجرة في الذمة، فالظاهر الأول؛ لأن ملكه مستقر على ما أخذ، حتى لو انهدمت الدار لا يلزمه رد المقبوض، بل له رد مثله. وقد اختار ابن الصباغ طريقة الشيخ أبي حامد، وقال في الرد على أبي الطيب: لو جاز ألا تجب الزكاة في قسط السنة الثانية عن السنة الأولى، لعدم استقرار الملك لكان إذا استقر الملك يستأنف حوله ولا يزكي لما مضى؛ كمال الكتابة، فلما نص على هذا القول أنه يزكي لما مضى، دل على أن عدم الاستقرار لا يمنع الوجوب وإنما يمنع الإخراج. قلت: وإذا جمعت بين الطريقتين كان لك أن تقول: هل تجب زكاة حصة

السنة الثانية للحول الأول أو لا تجب؟ فيه قولان، أصحهما كما قال الشيخ: الوجوب، وعلى هذا هل يجب الإخراج عن السنة الثانية حال الوجوب أو لا يجب إلا بعد مضي السنة [الثانية] فيه قولان، أصحهما الثاني. قال الأصحاب: وهما جاريان، فيما إذا باع عينا بمائة دينار، وقبض الثمن ولم يسلم العين حتى مضى عليه حول، هل يجب الإخراج، أو لا؛ لأنه متى هلك

المبيع بطل العقد، وسقط الثمن، وكانا يجريان فيما إذا قبض مائة دينار عن سلم في ذمته إلى سنتين فحال الحول على الدنانير في يده، وقلنا: إنه إذا انقطع المسلم فيه انفسخ العقد، هل يجب الإخراج [حال الوجوب أم لا؟ أما إذا قلنا لا ينفسخ بل يثبت له الخيار، فيجب الإخراج] قولاً واحداً، قاله القاضي أبو الطيب وغيره، والبندنيجي قال: إن قلنا ينفسخ عند الانقطاع، لم يجب الإخراج، وإن قلنا: لا ينفسخ وجب. قلت: وينبغي أن يلاحظ مع ذلك هل للمسلم إليه مال يمكن تأدية المسلم فيه من غير رأس المال أو لا؟ فإن لم يكن له مال لوحظ فيه أن الدين هل يمنع وجوب الزكاة أم لا؟ كما سيأتي. التفريع: إن قلنا بطريقة أبي الطيب وجب عليه عند مضي الحول الأول إخراج دينار لا غير، فإذا مضى الحول الثاني نظر: فإن كان قد أخرج ما وجب عليه في السنة الأولى من غير المال وجب عليه إخراج زكاة تسعة وأربعين ديناراً لا غير وإن أخرجها من غير المال وجب عليه زكاة الخمسين [لا غير]، وإن لم يخرجها أصلاً [انبنى] على أن الزكاة تجب في العين أو في الذمة؟ فإن قلنا بالأول، فالحكم كما لو أخرجها من المال، وإن قلنا: تجب في الذمة، فإن كان له مال غير ذلك يمكنه إخراج الزكاة منه، فالحكم كذلك، وإن لم يكن له مال سواه انبنى على أن الدين هل يمنع وجوب الزكاة في قدره إذا كان ذلك القدر لا ينقص النصاب، أو يمنع أصل الوجوب إذا كان ينقصه؟ وفيه قولان تقدما: فإن قلنا بالصحيح، وهو أنه لا يمنع الوجوب كان الحكم كذلك أيضاً، وإن قلنا: إنه يمنع كان الحكم كما لو أخرجها من المال. وإن قلنا بطريقة الشيخ أبي حامد: فإن قلنا: يجب التعجيل، أخرج عند تمام الحول الأول زكاة جملة الثمانين دينارين، ثم إذا حال الحول الثاني نظر: فإن كان قد أخرج الزكاة من غير المال أخرج أيضاً دينارين، وإن كان قد أخرجها من عين المال أخرج زكاة ثمانية وسبعين دينار، وإن لم يخرج ذلك أصلاً انبنى على أن

الزكاة تجب في العين أو في الذمة؟ فإن قلنا: تجب في العين، فالحكم كما لو أخرجها من عين المال، وإن قلنا: تجب في الذمة، فالترتيب كما سبق على الطريق الأولى. وإن قلنا: لا يجب التعجيل وجب عند حولان الحول الأول إخراج زكاة قسط السنة الأولى وهو دينار، فإذا مضى الحول الثاني كان الحكم في قسط السنة الأولى على التفصيل السابق، وأما قسط السنة الثانية فقد بان استقرار ملكه عليه سنتين، فتجب عليه زكاتها سنتين، لكنا إذا قلنا: إن الزكاة تجب في العين، وجب عليه إخراج زكاة تسعة وسبعين ديناراً [وثمن] مع ما يخرجه من زكاة حصة السنة الأولى، وإن قلنا: تجب في الذمة، وله مال يخرج منه الزكاة غير ذلك أو لا مال له سواه، وقلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة أخرج زكاة ثمانين ديناراً مع ما يخرجه من زكاة حصة السنة الأولى وإن قلنا: إن الدين يمنع الوجوب، كان الحكم كما إذا قلنا: إنها تجب في العين، والله أعلم. وقد أطلق الغزالي وغيره القول بأنا إذا فرعنا على هذا القول أنه يلزمه بعد انقضاء السنة الثانية زكاة الثمانين لسنتين ويحط ما أدى وما ذكرناه هو الصحيح، وغيره مؤول محمول عليه، أما إذا كانت الأجرة معينة غير مقبوضة انبنى مع ما ذكرناه على أن المبيع قبل القبض هل تجب فيه الزكاة أم لا؟ وفيه كلام سيأتي. فإن قلنا: لا تجب فهاهنا كذلك، وإن قلنا: تجب [فالحكم] كما إذا كانت مقبوضة.

فإن قلت: الغزالي قد قال: إن الصداق قبل القبض وبعده عند الشافعي تجب فيه الزكاة، وعنده أن الأجرة كالصداق، كما قاله [مجلي]. قلت: عدم التفرقة في الصداق بين ما قبل القبض وبعده مبني- كما قال في "الإبانة"- على أنه في يد الزوج مضمون عليه ضمان يد لا عقد أما إذا قلنا: إنه مضمون ضمان عقد، فقد قال في "الإبانة": إنه كالمبيع سواء، ولا خلاف في أن الأجرة في يد المستأجر مضمونة ضمان عقد، فكيف يمكن أن تكون عند الشافعي كالصداق سواء؟ فظهر أن ما قلناه هو الظاهر، وقد زاد في "التتمة" على ما ذكرناه، فقال: إذا قلنا: إن الصداق مضمون ضمان يد، فإن لم يكن قد طالبت به وجبت الزكاة، وإن طالبت به فامتنع من التسليم فهو كالمغصوب وقال: وحكم مال الخلع والصلح عن دم العمد كالصداق سواء. قلت: وينبغي أن يلحق بهما الجعل في الجعالة، والله أعلم. ولو كانت الأجرة مؤجلة بآخر المدة، قال ابن الصباغ: حكمها حكم المعجلة. وهذا فيه نظر؛ بل ينبغي أن يتخرج على الخلاف في أن الدين المؤجل هل تجب فيه الزكاة أم لا كما تقدم، فإن أوجبناها فيه فهي كالمعجلة، ولو كانت الأجرة حالة غير مقبوضة، فهي دين، فإن لم نوجب فيه الزكاة فلا كلام [فيه]؛ وإن أوجبناها فيه، فهي كالمقبوضة وهذا ما ظهر لي تفقها وهو موافق لقول مجلي، والله أعلم. قال: وفي المال المغصوب، والضال، والدين على مماطل قولان. اعلم أن الأصحاب حكوا في وجوب الزكاة في المال المغصوب والضال قولين، كما حكاهما الشيخ: أحدهما: الوجوب لمفهوم قوله عليه السلام: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" ولأن الأدلة الواردة في إيجاب الزكاة في المال الزكاتي لم

تفصل؛ فكانت على عمومها، إلا في الحالة التي خصها الدليل، ولأن ملك

المالك مستقر على ذلك؛ فوجب عليه زكاته كالذي في يده، وهذا ما نص عليه في "المختصر" في باب الغنم السائمة، وهو الصحيح باتفاق الأصحاب، وقال العراقيون وغيرهم كما قال الرافعي: إنه الجديد، وعلى هذا لا يجب عليه الإخراج قبل عود المال إليه بلا خلاف؛ لما فيه من الإضرار به. والقول الثاني: أن الزكاة لا تجب- وإن عاد إليه [كما] قال الماوردي- لأمرين: أحدهما- يرجع إلى ما قاله الإمام-: أن مبنى الشرع مشعر بأن الزكاة إرفاق في مقابلة ارتفاق المالك؛ ولذلك تعلقت الزكاة بالثاني جنساً وقدراً واعتبرت مدة يغلب النماء في مثلها، والحيلولة تمنع الارتفاق، وهذا يشبه أن يكون قول ابن سريج وأبي إسحاق؛ لما ستعرفه. والثاني: أن وهاء الملك ونقصان التصرف [به] يمنعان وجوب الزكاة دليله المكاتب لا زكاة عليه فيما يملكه؛ لوهاء ملكه، ونقصان تصرفه فيه ورب المغصوب والضال واهي الملك ناقص التصرف؛ فوجب ألا تلزمه الزكاة، وهذا القول نسبه القاضي أبو الطيب والماوردي وغيرهما من العراقيين وغيرهم- كما قال الرافعي- إلى القديم، وبه قال أبو حنيفة، وقال الإمام تبعاً للقاضي الحسين وغيره: إنه مأخوذ من قوله في موضع آخر في الدراهم المغصوبة والمجحودة: [و] لا يجوز فيه إلا واحد من قولين: إما ألا تجب الزكاة؛ لأنه يحول دونه، أو تجب لإحوالها؛ لأن ملكه لم يزل، فعلى هذا إذا غصب المال بعد مضي ستة أشهر [وأقام في يد الغاصب ستة أشهر] مثلاً، ثم عاد إلى الملك، استأنف له الحول من حينئذ.

قال في "البحر": ومن أصحابنا من قال: إنه ينبني على المدة التي كانت في يده، فإذا مضت ستة أشهر زكاه، قال: وهذا أقرب عندي؛ لأن ملكه في الحقيقة لم يزل، وهذه الطريقة هي المشهورة، ووراءها فيهما طريقتان أخريان: إحداهما: القطع بالوجوب، والقائل بها قال: إنما قصد الشافعي بقوله: لا يجوز إلا واحد من قولين، الرد على مالك حيث قال: تجب في العام الأول دون ما بعده من الأحوال؛ فكأنه يقول: القياس ما قلت أو ما قاله أبو حنيفة، فأما ما قاله مالك فلا وجه له. قال أصحابنا: وما قاله مالك مستقيم على أصله؛ لأن عنده أن التمكن شرط في الوجوب، وإن لم يوجد عقد الحول الثاني، فإذا وجد الإمكان بعد أحوال وجد شرط وجوب زكاة السنة الأولى، ولم يوجد شرط عقد الأحوال بعدها، كذا قاله صاحب "البحر" وغيره. قال الرافعي: وما ذكره مالك يقتضي أن يكون للشافعي قول مثله؛ لأن له قولاً كمذهبه في أن الإمكان من شرائط الوجوب. قلت: وما ذكره أبو علي إن كان نقلاً فلا اعتراض عليه، بل نستفيد منه أن للشافعي قولاً أن الحول الثاني إنما يعقد عند التمكن من الأداء عن الأول كما سيأتي حكايته وجهاً عن بعض الأصحاب وإن كان تفقهاً كما أبداه الرافعي فلا وجه له؛ لأنا حيث قلنا: إن التمكن شرط الوجوب، فابتداء الحول الثاني من حين انقضاء الأول، لا من وقت التمكن كما ستعرفه، وبهذا خالف مذهبنا مذهب مالك- رحمه الله- والله أعلم. والطريق الثانية: عن ابن خيران نفي الخلاف في ذلك، وتنزيل ما حكى عن

الشافعي على حالين: فحيث قال: لإحوالها، أراد إذا عادت إليه بنمائها، وحيث قال: لا تجب، أراد إذا عادت إليه من غير نماء. فإن قلت: هذه الطريقة أخذا بظاهر نصه في الموضعين؛ فإن الموضع الذي نص على الوجوب فيه ما إذا كان المغصوب والضال غنما ونحوها؛ فإنها إذا عادت عادت بنمائها في الأغلب كما سنذكره، والموضع الذي قال: لا يتجه فيه إلا واحد من قولين، هو ما إذا كان المغصوب والمجحود دراهم، وهي إذا عادت [عادت] بغير نماء. قلت: هذا التردد الذي استنبط منه عدم الوجوب قاله الشافعي في القديم، كما قال في "البحر"، والقديم: عود الدراهم إليه بنمائها كما سيأتي في الغصب، فهي كالغنم سواء، وقد اقتضت طريقة ابن خيران القطع بعدم الوجوب في الدراهم والدنانير على الجديد، والصحيح باتفاق القلة الطريق الأول، وهو إجراء القولين في الماشية وغيرها فلا فرق بين أن تعود الماشية بنمائها أو لا، وعن ابن سريج وأبي إسحاق أنها إن لم تعد بنمائها فالأمر كذلك، وإن عادت بنمائها

وجبت الزكاة قولاً واحداً؛ لأن المؤثر على قول السقوط إنما هو فوات النماء عليه. قال الإمام: وعلى هذا لو عادت مع بعض النماء دون البعض كان كما لو عادت به دون شيء منه، والمراد أن يعود النماء نفسه أو ثبوت بدله في ذمة الغاصب والجاحد، وبعدمه: عدم حدوثه أو حدوثه وتلفه غير مضمون، وذلك في الضال ظاهر، وفي المغصوب مصور- كما قال القاضي الحسين وغيره- بما إذا كان الغاصب حربياً أو عبد المالك. قال الإمام: ولو فات في يد الغاصب ما كان يفوت في يد المالك فلو بقي في يده فلا مبالاة به. أما الدين على المماطل، فقد سوى الشيخ بينه وبين المغصوب والضال في القولين، وذلك يقتضي أن يكون الجديد منهما الوجوب، والقديم المنع، لكن القديم منع وجوب الزكاة في الديون مطلقاً كما تقدم، وقال الرافعي وغيره: إنا إذا قلنا بقوله الجديد، وهو وجوب الزكاة في الديون على الجملة، فهو كالمغصوب؛ ففي وجوب الزكاة فيه القولان، ولا يجب الإخراج قبل حصوله قطعا، وقطع في "العدة" بوجوب الزكاة فيه، وكذا فيما إذ كان دينه على مليء غائب، وما حكاه عن "العدة" في الدين على المماطل هو الذي أورده القاضي أبو الطيب والماوردي والبندنيجي وابن الصباغ وصاحب البحر لا غير، ثم [ما ذكره] من تخريج القولين في المغصوب، [الجديد منهما الوجوب] في الدين على المماطل. وقد فرع على الجديد في وجوب الزكاة في الدين في الجملة نظراً لأنه قد قدم أن القولين في المغصوب الجديد منهما الوجوب، والقديم: المنع؛ فلا يستقيم مع التفريع على الجديد في وجوب الزكاة في الدين على الجملة إلا الوجوب في الدين على المماطل؛ لأنه في المغصوب الجديد. نعم، لو كان القولان في المغصوب مذكورين في الجديد لم يرد ما ذكرناه. فإن قلت: التردد الذي أخذ منه القول بعدم الوجوب في المغصوب مذكور في "المختصر" وذلك يدل على أن الخلاف في الجديد.

قلت: لا يمتنع أن يكون مذكوراً في "المختصر" وهو القديم؛ لأن المزني يكون أخذه من القديم، وكثيراً ما يتفق ذلك، وهذا لأن الماوردي وغيره جزموا القول بأن عدم الوجوب في المغصوب هو القديم، وإن حكوا عن "المختصر" حكاية التردد المذكور. تنبيه: الضال المذكور هاهنا: ما ضل عن مالكه حيوانا كان أو غير حيوان، حتى لو دفن شيئاً، فنسي موضعه كان حكمه ما تقدم، سواء كان ذلك في داره أو خارجها. قال في "الحاوي" في باب الدين مع الصدقة: ومن أصحابنا من أوجب زكاته قولاً واحداً؛ لأنه منسوب إلى التفريط في غفلته وقلة تحرزه، ووجدت ابن أبي هريرة مائلاً إليه. ثم اختلف من قال بهذا الوجه: هل يلزمه إخراج زكاته قبل وجدانه؟ على وجهين: أحدهما: نعم. والصحيح: أنه في حكم المغصوب والتائه؛ فلا يلزمه إخراج زكاته قبل ظهوره، وبعد ظهوره على قولين. ولو وقع منه شيء في "البحر" وتعذر الوصول إليه فهو كالمال الضال. ثم الكلام في الضال إذا وقع في يد الملتقط في سنة التعريف لقصد التملك كما إذا لم يقع في يده وبعد سنة التعريف فيه ما قدمت حكايته من قبل. والمماطلة: المدافعة عن أداء الحق، يقال: مطله يمطله- بضم الطاء- مطلا وماطله، يماطله مماطلة فهو مماطل. قال الجوهري: وهو مأخوذ من مطلت الحديدة إذا ضربتها، ومددتها لتطول، وكل ممدود ممطول والله أعلم. فروع- ألحقها بعض الأصحاب بما نحن فيه: منها: المال الغائب عن الشخص، إذا لم يكن مقدوراً عليه، لانقطاع الطريق، أو انقطاع خبره فيه القولان، قال الرافعي: وذكر في "التهذيب" وجهاً آخر: أنه

تجب الزكاة فيه، لا محالة. نعم، لا تخرج في الحال ولا تتوقف حتى يصل إليه، ولو كان مقدوراً عليه معلوم السلامة وجب إخراج زكاته في الحال، ولا يتوقف حتى يصل إليه. وفي "الشامل" في هذه الحالة الجزم بأنه لا يلزمه أن يخرجها إلا بعد وصوله إليه، وحكى في "البحر" في المسألة وجهين عن رواية بعض الأصحاب بـ"خراسان"، وأطلق القاضي الحسين حكاية طريقين في المال الغائب: إحداهما: أن الزكاة تجب [وفى] الإخراج قبل وصول المال إلى يده وجهان. والثانية: أنه لا يلزمه الإخراج وجهاً واحداً، وهل تلزمه أم لا؟ فعلى قولين، قال: والصحيح: الطريق الأولى. قال الرافعي: وحيث قلنا: تخرج، فينبغي أن تخرج في بلد المال؛ فإن أخرج في غير ذلك البلد، ففيه خلاف نقل الصدقة، وهذا إذا كان المال مستقراً في بلد فإن كان سائراً فقد قال في "العدة" لا يخرج زكاته حتى يصل إليه فإذا وصل زكاه لما مضى بلا خلاف. ومنها: المبيع قبل القبض إذا مضى عليه حول ألحقه بعضهم بالمغصوب والضال، وعن القفال: القطع بالمنع؛ لضعف ملك المشتري فيه؛ ولذلك لا ينفذ تصرفه فيه، وإن أذن البائع، ولهذا أيضاً يقال: إنه يتلف على ملك البائع لو تلف في يده، وعن صاحب "التقريب" القطع بالوجوب؛ فإن المشتري قادر على الوصول إليه بأداء الثمن، وتسليم المبيع، وهذا هو المنصوص في "المختصر" وبه قطع الجمهور، وادعى الرافعي أنه الصحيح، والمذكور في تعليق أبي الطيب من الخلاف الطريقة الأولى والثانية. قال القاضي الحسين: والخلاف في هذه الصورة جار في المسلم فيه في ذمة المسلم المقر مع سائر الديون؛ كالمبيع قبل القبض مع سائر الأعيان. وفي "التتمة" حكاية وجه آخر في المبيع قبل القبض: أن البائع كان محقاً في الجنس، بأن يكون المشتري لم يوف الثمن، وجبت الزكاة قولاً واحداً، وإن

كان مبطلاً في الجنس فهو كالمغصوب. ومنها: مال المفلس إذا حجر عليه، وقلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة، فإن فرق بين غرمائه، أو لم يفرق لكنه عين لكل واحد عيناً من ماله، ولم يقبضوا بعد- فلا زكاة عليه، قال في "التتمة": لأن ملكه ضعف بتسليط الحاكم غريمه على أخذه بحقه، وقال ابن الصباغ، تبعاً للقاضي أبي الطيب: لأنه زال ملكه عن ماله، وإن كانوا [ما] قبضوه؛ فصار كالمشتري يملك العين بالشراء قبل قبضها، وهذا محمول على ما إذا قال لكل واحد منهم: قد جعلت لك بدينك العبد الفلاني، أو الثوب الفلاني الذي قد عرفته، فقبل كل واحد منهم ذلك كما قال الماوردي وإلا فمجرد التعيين لا يفيد الملك. وإن لم يفرق ماله ولا عينه، فهل تجب الزكاة فيه؟ فيه طرق: إحداها: أن فيه قولي المغصوب والضال، وهي التي حكاها الماوردي لا غير. والثانية- قالها أبو إسحاق-: إن كان ماشية، وجبت الزكاة، وإلا فهو كالمغصوب؛ لأن الحجر يمنع نماء غير الماشية، ولا يؤثر فيها، كذا حكاه القاضي أبو الطيب والبندنيجي عنه. وحكى ابن الصباغ عنه أنه قال: إن كان ماشية لم يمنع من الوجوب وإلا وجبت، وإذا صح ذلك كان طريقة ثالثة. والرابعة- قالها في "الإفصاح"-: القطع بالوجوب ماشية كانت أو غير ماشية؛ لأن الحجر عليه لا يمنع من وجوب الزكاة، كالحجر على السفيه. قلت: وهو الذي لا يتجه غيره؛ لأن التفريع على الجديد والجديد كما تقدم وجوب الزكاة في المال المغصوب والضال ماشية كان أو غير ماشية. والذي اختاره القاضي أبو الطيب: الطريقة الأولى، وادعى البندنيجي أنها المذهب؛ لأن الماشية وإن كانت نامية إلا أنه يحول بينه وبينها، وأما السفيه فنائبه يتصرف عنه في ماله، ولا كذلك المفلس، وقال الفوراني: الصحيح أن فيه [قولاً واحدا]: أنه لا تجب عليه الزكاة في ذلك المال، وهذه طريقة خامسة. ومنها: المال المرهون هل تجب الزكاة فيه؟ فيه طريقان حكاهما القاضي

الحسين في موضع من "تعليقه"، والمتولي عن الأصحاب: إحداهما: تخريجه على القولين في المغصوب والضال، وهي التي ذكرها في موضع آخر قبل ذلك احتمالاً لنفسه، ولم يورد في "الوجيز" غير هذه الطريقة، وإليها أشار الإمام في باب البيع في المال الذي فيه الزكاة. والثانية: القطع بالوجوب، وهي التي صححها القاضي، وحكاها عند الكلام في رهن الماشية هو وغيره عن النص، ولم يورد العراقيون غيرها؛ لأنه هو الذي سد على نفسه باب التصرف بتعلق حق الغير الناشئ من تصرفه به، بخلاف المغصوب؛ فإن امتناع تصرفه بغير اختياره. وقد قال الرافعي عند الكلام في زكاة الفطر: إن هذا الخلاف لم نلقه إلا في حكاية الإمام، والمصنف في "الوسيط" والذي أطلقه الجمهور الوجوب. نعم يجيء الخلاف في الوجوب من طريق آخر، وهو أن الرهن لا بد وأن يكون بدين، فيأتي الخلاف في أن الدين هل يمنع وجوب الزكاة، أم لا؟ والذي قاله الجمهور [جواب على] القول المشهور، وهو أنه لا يمنع. قلت: وفيما قاله نظر من وجهين:

أحدهما: أن قوله: لا بد [من] أن يكون بدين أي: على الراهن إن أراد في الغالب فصحيح، وإلا فقد ينفك الرهن عن دين على الراهن، كما إذا رهن ماله بدين غيره، فإنه يجوز في هذه الحالة أن ينتفي الخلاف إن بنى على الأصل الذي ذكره. الثاني: أن من حكى الخلاف في أن المرهون لا تجب فيه الزكاة، أو تجب، اقتضى كلامه أنه لا فرق فيه بين حالة وحالة، ومثل ذلك لا يمكن تخريجه على أن الدين هل يمنع الوجوب، أم لا؟ لأن الخلاف في الدين مخصوص بما إذا لم يكن للمدين مال غيره على المشهور، وكان وفاء الدين يذهب النصاب أو ينقصه. [نعم لو كان الراهن لا يملك غير المرهون، وكان الدين يذهب النصاب أو ينقصه]- خرج على ذلك كما حكاه الماوردي، وكذا الفوراني؛ حيث جزم بالوجوب فيما إذا كان الراهن موسراً، وقال فيما لو كان معسراً لا يمكنه فك الرهن: إنه كالمديون في حكم الزكاة عليه. ثم إذا قلنا بالمشهور، وهو أن الرهن والدين لا يمنعان الوجوب، قال العراقيون: فإن كان للراهن مال سواه فعليه إخراج الزكاة منه؛ ليسلم الرهن؛ لأنها من مئونة الرهن، وللإمام احتمال إذا قلنا: إن الزكاة تجب في العين أنه لا يجب عليه أن يخرجها من غيره؛ كما لا يجب عليه فداء العبد المرهون إذا جنى، وهذا

ما حكاه الفوراني تفريعاً على هذا القول، وكذا أبو علي الطبري وآخرون. وإن كان لا يجد ما يؤدي، قال الشافعي: أخذ الساعي من الرهن إن كان الواجب من جنس المال كالشاة من الأربعين، وإن كان من غيره؛ مثل أن يكون المال خمساً من الإبل، باع جزءاً من بعير بقدر شاة، وإن تعذر ذلك بيع بعير واشترى منه شاة، وكان الباقي رهناً، قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: إنما قال الشافعي هذا القول على الجديد أن الزكاة تجب في المال، فأما على القول القديم، وهو أن الزكاة تتعلق بالذمة، فقد اختلف أصحابنا فيه: فقال أبو علي في "الإفصاح": استوى حق الزكاة وحق الرهن؛ لأن كل واحد منهما يتعلق بالعين والذمة، وإذا استويا فللشافعي في حق الله تعالى وحق الآدميين إذا استويا ثلاثة أقوال تأتي في الكتاب. [وقال آخرون -وعليه الأكثر - كما قال ابن الصباغ: إن الرهن مقدم على حق الزكاة؛ لأمرين: أحدهما: أن الرهن أسبق. والثاني: أنه تعلق بالمال بعقد صاحب المال ورضاه؛ فكان آكد مما تعلق به بغير تعليقه، فإن كان على الراهن دين لغريم آخر كان حق المرتهن مقدماً، ثم الزكاة ثم الغريم الآخر. وهذا الطريق لم يورد البندنيجي سواه، وقال القاضي أبو الطيب: إنه غير صحيح، لأن تقديم وجوب حق المرتهن لو كان له تأثير لمنع وجوب الزكاة في المال؛ كما أن المال المرهون لا يتعلق به حق رهن آخر؛ لأن حق المرتهن الأول به يمنع من ذلك؛ فلما لم يمنع تقدم حق المرتهن تعلق حق الزكاة بالمال لم يكن لتقدمه تأثير، وأما العلة الثانية، فيدخل عليه حق الجناية؛ فإنه وجب عن غير عقد، وتقدم على حق الراهن الواجب بالعقد، وهذا الذي ذكرناه هو المشهور، وهو المحكي عن أبي إسحاق. وعن ابن أبي هريرة، وأبي حامد القاضي: أنه إذا لم يكن مال آخر تؤخذ الزكاة من عين المرهون بلا خلاف إن كان الواجب من جنس المال، وإنما يكون

الخلاف فيما إذا كان من غير جنسه، والفرق أنه إذا كان الواجب من غير جنس الأصل لم [تكن متعلقة] بعينه. قلت: وكأنهما أشارا إلى التفريع على الجديد فقط؛ لأنه لا خلاف فيه إذا كان الواجب من جنس الأصل: أن الزكاة تجب في العين، والخلاف فيه فيما إذا كان من غير جنس الأصل هل تتعلق بالذمة أو بالعين، كما ستعرفه؟ وغيرهما فرع المسألة على القديم والجديد، والله أعلم. وهذه الطريقة لم يورد الماوردي غيرها في باب الدين مع الصدقة، وحكاها الإمام في باب البيع في المال الذي فيه الزكاة عن بعض الأصحاب، وأن الشيخ أبا علي قال: الصحيح منها تقديم الزكاة؛ فإن لها على [كل] حال تعلقاً بالعين، وتعلقها بالعين أقوى من تعلق الدين بالرهن؛ لأنها تسقط بتلف المال قبل الإمكان، ولو تلف الرهن لم يسقط الدين، وقال الإمام: الوجه عندي التسوية، ولا وجه لتقديم الزكاة؛ فإنه لا اختصاص لها بالعين. قال الرافعي: وهذه الطريقة قالها العراقيون باعتقادهم، أما إذا قلنا: إن الزكاة في الذمة يكون المال مرتهناً، كما سنذكره، وأما من يخص تعلقها بالذمة كما سيأتي فينبغي أن يقطع بامتناع أخذها من المرهون؛ كسائر الديون المرسلة. قلت: وهذا لا يسلم عن احتمال يظهر لك مما بعد. وسلك الماوردي طريقاً آخر، فقال: إن كان الدين حالا ورب المال موسراً طولب بها، وإن كان معسراً فإن قلنا: الزكاة تجب في العين قدمت، وإن قلنا: تتعلق بالذمة، بدئ بحق المرتهن وكانت الزكاة ديناً في ذمته وإن كان مؤجلاً: فإن كان حلول الزكاة أسبق بدئ بها، إلا أن يتطوع الراهن بدفع الزكاة من غيرها، وإن أبي أخذت من الرهن، وإن كان حلول الدين أسبق من حلول الزكاة قدم الدين، فإن بيع الرهن قبل الحول فلا زكاة، وإن بقي على حاله حتى حال الحول ففيه الزكاة، ويطالب بها، وإن كان حلول الدين حلول الزكاة معاً فالحكم كما لو كان حالا ابتداء. قال: وقد خرج قول ثالث: أنهما سواء إذا قلنا:

الزكاة تتعلق بالذمة، ويقسط ذلك عليهما. وأما القاضي الحسين فإنه حكى في باب رهن الماشية ما حكيناه من طريقة البندنيجي، وقال في موضع آخر بعد ذلك: إن الزكاة مقدمة من غير فصل بين أن يكون الواجب من جنس المال كالشاة من الأربعين، أو من غيره كالشاة عن الخمس من الإبل، وهو الذي ذكره المتولي، قال القاضي: لأنا إن قلنا: [إن] الزكاة في العين كاستحقاق جزء فحق الشريك مقدم على حق المرتهن وإن قلنا: كأرش الجناية؛ فأرش الجناية مقدم على حق المرتهن وإن قلنا: كتعلق حق الرهن؛ فتعلق الزكاة بالعين أخص، بدليل أنه تسقط الزكاة بتلف العين؛ فأشبه أرش الجناية، وتعلق حق المرتهن لا يسقط بتلف العين. وهذا ما أبداه الإمام احتمالاً، بعد أن حكى عن شيخه القطع بتقديم حق المرتهن إذا قلنا: إن تعلق الزكاة بالعين كتعلق الرهن، [وأبدى احتمالاً]- وإن ناقضه كلامه المتقدم- بأنا إنما قدمنا أرش الجناية؛ لأن تعلقه بالرقبة لا يستدعي اختيار الراهن؛ فإذا كان تعلق الأرش يزحم حق المالك في ملكه فكذلك يزحم حق المرتهن في وثيقته، والرهن إنما يمنع الراهن من اختيار تصرف ينافي ما التزمه للمرتهن من حق الاختصاص؛ فأما ما يثبت من غير اختيار فينبغي أن يزاحم [حق] المرتهن، وكيف يستقيم الحكم بوجوب الزكاة والمالك لا مال له غير المرهون، ثم يد الساعي مقبوضة عن تتبع المال الذي وجبت الزكاة بسببه؟ هذا ما لا يكون، وقد حكينا وفاق الأئمة على أن للساعي إذا لم يجد بائع مال الزكاة- وقد صححناه؛ بناء على تعلقه بالذمة- أن يأخذ الزكاة من المال، ويبطل البيع في ذلك المقدار، وبه تبين أن غرض الأئمة من قولهم: إن التعلق كتعلق الرهن، أو كتعلق أرش الجناية- إنما هو في البيع. فأما إن قلنا: إنه كالرهن، امتنع قولاً واحداً، وإن قلنا: كأرش الجناية، كان فيه قولان. نعم، إذا أخرجت الزكاة من المال، ثم أيسر الراهن فهل يلزمه أن يرهن مقدار الزكاة جبراً للنقص الذي وقع في المرهون بأخذ الزكاة منه؟ قال الصيدلاني- وهو في "تعليق" القاضي الحسين منسوب إلى القفال-: إن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة؛ فيجب ذلك عليه، وإن قلنا: تتعلق بالعين،

فوجهان، أصحهما عند القفال: المنع، وقال الإمام: إنهما ينبنيان على الوجهين فيما إذا ظهر ربح في مال القراض وقلنا بأن العامل لا يملك شيئاً من الربح إلا بالقسمة، ورب المال قد أدى الزكاة من مال القراض؛ فيجعل كأن رب المال استرد طائفة من المال، أو يجري به مجرى سائر المؤن؛ فإن قلنا: إن ذلك كالمؤن، فلا يمتنع ألا يوجب على الراهن جبر النقصان إذا أيسر، وإن قلنا: هو كاسترداد طائفة فيتجه إيجاب الجبران، والقاضي الحسين شبه الوجهين في أنه يجب الجبران؛ بناء على أن الزكاة تجب في الذمة، أو لا تجب بناء على أنها تجب في العين- بالخلاف في مسألة القراض، فإن قلنا: إن الزكاة في الذمة فيجعل كما لو استرد طائفة من المال؛ كما لو كان عليه دين فقضاه من مال القراض، وإن قلنا: الزكاة في العين، يُجرَ بها مجرى المؤن، وتكن من الربح. وإن ابن الحداد زاد على هذا مسألة وهي إذا مات وخلف نخيلا، وعليه دين؛ أي: مستغرق للتركة، فأثمرت النخيل فجاء الساعي، وأخذ عشرها فهل للغرماء أن يرجعوا بقيمة المأخوذ على الورثة؟ فيه وجهان: إن قلنا: الزكاة في

الذمة [لهم ذلك وإن قلنا: في العين فلا. والإمام حكى عنه أنه قال في هذه المسألة: إنا إن قلنا: إن الدين] يمنع انتقال التركة، فلا عشر فيها، وإن قلنا بالمذهب، وهو أنه لا يمنع، وقلنا: لا يمنع الدين الزكاة- فالتركة كالرهون، وفيه الخلاف المقدم؛ فإن لم يجد الوارث ما يخرج منه العشر، أخرج العشر لا محالة من ثمار التركة، ثم إذا وجد الوارث بعد هذا ما يفي بمقدار الزكاة فهل يلزمه أن يغرم للغرماء قدره؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ فإن العشر إنما وجب على الوارث، وهو المخاطب بها، والتركة مستحقة للغرماء. والثاني: لا كالمؤن؛ فإنه لا خلاف في أن نفقة التركة من وسطها إلى أن يتفق صرفها إلى الغرماء؛ فلتكن الزكاة كذلك. قال: ومن قال بالوجه الذي صححه الشيخ انفصل عن النفقة بأن الزكاة عبادة مقصودة وجبت فيه، وخوطب الوارث بها، والنفقة ليس لها تعلق بالذمة على التحقيق؛ فأخذت من التركة، ولو وجد الوارث ما يؤدي منه العشر فإن قلنا في الحال الأول: يجب التدارك، وجب الإخراج منه، وإلا فلا كالنفقة. قال: ولا تجب الزكاة إلا في المواشي، والنبات، والناض، وعروض التجارة، وما يؤخذ من المعدن والركاز. أما الوجوب في هذه الأشياء فسيأتي دليله- إن شاء الله تعالى- في أبوابها. وأما انتفاء الوجوب عما عداها؛ فلأنه الأصل، ولا نص فيها، ولأنه ليس بنام ولا معد للنماء؛ فلا يلحق بالمنصوص عليه؛ لأنه ليس في معناه. قال: وهل تجب في أعيانها، أو في الذمة؟ فيه قولان: أحدهما: تجب في الذمة؛ لقوله عليه السلام لمعاذ: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" وكلمة "على" للإلزام، والوجوب في الذمة؛ ولأنها زكاة فكان محلها الذمة؛ كزكاة الفطر؛ ولأنها لو وجبت في العين كما سنذكره لامتنع على رب المال تعيينها من المال وإخراجها من غيره بغير رضا من هي له [كأحد الشريكين] ولكان إذا نتجت كل شاة من الأربعين

شاة بعد الحول أن يكون للفقراء شاة وسخلة؛ كما في الأضحية، وهذا هو المحكي عن القديم. وظاهر كلام الشيخ أن لا تعلق لها بالعين عليه أصلاً، وهو ما حكاه الماوردي والقاضي الحسين وجهاً عن الأصحاب؛ قياساً على الحج وصدقة الفطر والكفارة، لكن الذي أورده ابن الصباغ والمصنف [في "المهذب" وغيرهما] من العراقيين والبغوي في باب صدقة الغنم السائمة في حكاية هذا القول: أن الزكاة في الذمة والمال مرتهن بها، قال الماوردي: وهو أصح وعليه فرع الشافعي، وحكى عن ابن سريج نفي الأول؛ حيث قال: لا خلاف في تعلقها بالعين، وإنما التردد في كيفية التعلق. وقال الإمام: إن من قال به فقد غلط، وكان ما قاله غير معدود من المذهب، فإنا حكينا فيما إذا باع المالك جميع مال الزكاة، وكان أربعين من الغنم أن بيعه صحيح عند من قال: إنها تتعلق بالذمة ثم إن أدى الزكاة من غيره نفذ البيع، وتم، وإن لم يؤدها فالساعي يأخذ شاة من الأربعين، من يد المشتري، وهذا متفق عليه، ومن كان عليه دين مطلق، فباع ماله لم يكن لمستحق الدين تعلق بما باعه وإن تعذر عليه استيفاء دينه ممن عليه؛ فإذا ثبت للساعي أن يأخذ شاة من يد المشتري كان له ذلك قطعا بالتعلق بالعين؛ فالوجه عندي أن يقول: الزكاة وجبت في الذمة، وتعلقها بالمال كتعلق أرش الجناية برقبة [العبد] الجاني؛ إذا قلنا: إن بيع [العبد] الجاني صحيح؛ فإنا نقول على هذا: إذا باع السيد العبد الجاني صار بيعه ملتزماً للفداء؛ فإن فداه فيا حبذا، وإن لم يفده [فالمجني عليه] ينقض البيع؛ فامتداد يد الساعي خارج على ما ذكرناه ولكن بين تعلق الزكاة وبين تعلق الأرش برقبة العبد فرق على هذا؛ لأن السيد ليس مطالباً بالفداء، أي: قبل البيع، ومالك المال [مأمور بتأديتها] شرعاً، فلما نفذنا البيع، وتوجه الأمر المطلق أطلق مطلقون القول بأن الزكاة تتعلق بالذمة على هذا الرأي، ثم إذا التزم هؤلاء امتداد يد الساعي لم يجيبوا عنه. قلت: وإذا أقمت ما أبداه الإمام وجهاً في المسألة جاءك في كيفية حكاية

هذا القول ثلاثة أوجه: أحدها- وهو أبعدها-: أنه لا تعلق لها بالعين مع الذمة أصلاً. والثاني: لها تعلق بها كتعلق أرش الجناية. الثالث- وهو المشهور-: لها تعلق [بها] كتعلق الرهن، وعلى هذا فما هو كالمرهون منه؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين و"التتمة": الذي اقتضاه إيراد ابن الصباغ وغيره السابق: أنه جميع المال، وهو الذي أورده البندنيجي، والروياني في "البحر" صريحاً. والذي جزم به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ في باب المبادلة بالماشية: أنه قدر الزكاة. قال: والثاني: [تجب] في العين؛ فيملك الفقراء من النصاب قدر الفرض، لقوله تعالى: {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] وقوله عليه السلام: "في عشرين مثقالاً نصف مثقال، وفي سائمة الغنم إذا بلغت أربعين شاة" ولأن الزكاة تختلف باختلاف [صفة] المال، فلما كان الفرض مأخوذاً على صفة المال دل على تعلقه بالعين؛ كمال الشركاء؛ ولأن الزكاة حق يسقط بتلف المال قبل التمكن من الأداء؛ فكانت متعلقة بعينه؛ كحق المضارب في القراض، وبهذا فارقت صدقة الفطر؛ لأنها لا تسقط بتلف المال، وهذا هو الجديد، والمشار إليه في القديم؛ كما قال الماوردي، وهو الصحيح عنده، وفي "المهذب". ولا فرق فيه بين أن يكون المال إبلا أو غيرها، ولا في الإبل بين أن يكون واجبها الغنم أو الإبل على الصحيح. ونقل في "الأم" قولاً منصوصاً فيما إذا كان إبلاً وواجبها الغنم: أنها تتعلق

بالذمة، والعين مرتهنة بها تفريعاً على الجديد؛ لأن الواجب ليس من جنس المال حتى نقضي بوجوبه في النصاب، كذا حكاه البندنيجي، وكذا في "البحر" في موضعين من باب صدقة الغنم السائمة، وقال في الثاني منهما: إن القفال حكى مع ذلك قولاً آخر: أن تعلقها بالعين كتعلق أرش الجناية برقبة العبد؛ كما قاله أبو حنيفة، وهذا ما صححه في "الوجيز" وقال في "التتمة": إنه اختيار القفال، موجهاً له بأنه لو أخر الإخراج مدة حتى نتجت الأعيان كلها لم يكن النتاج للفقراء؛ كما أن الجارية الجانية إذا ولدت لا يتعدى إليه حق الجناية، وإذا قلنا به فهل المتعلق به كل المال، أو قدر الزكاة؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين والمتولي وغيرهما. فإن قيل: إذا قلنا: إن التعلق كتعلق أرش الجناية على هذا، فهو ما قاله الإمام؛ تفريعاً على القول الأول، أو غيره؟ قلت: غيره؛ لأن هؤلاء قالوا: إن هذا القول قال به أبو حنيفة، ومذهب أبي حنيفة- كما حكاه القاضي أبو الطيب وغيره-: أن الزكاة لا تتعلق بالذمة أصلاً، بل هي متعلقة بالمال، مع كونه باقياً على ملك المالك؛ كأرش الجناية، وقول الإمام: إنها مع كونها في الذمة تتعلق بالمال كتعلق أرش الجناية فهو غيره قطعاً، والذي أورده العراقيون ما ذكره الشيخ. وعلى هذا: لو كان المال ماشية كأربعين من الغنم مثلاً، أو أكثر منها، فهل حق أهل السهمان شائع في كل واحد من العدد بقسطه، أو في واحد من العدد، أو أكثر لا بعينه؟ فيه وجهان في "الزوائد" عن صاحب "الفروع" ذكرهما في ضمن مسألة ما إذا أفرز قدر الزكاة، وباع الباقي. فإن قلت: لعل القائل بالأول هو الصائر إلى جواز تضحية شخصين بشاتين يملك كل واحد منهما نصفها على الإشاعة؛ فإن اسم "الشاة" نأخذه باعتبار

مجموع الجزأين، وإن كانا من شاتين، وهو مطرد في عتق نصفي عبدين في الكفارة، ومن قال بالوجه الثاني لعله هو القائل بعدم الإجزاء في مسألة الأضحية، والعتق في الكفارة؛ لأن المفهوم من لفظ "الشاة" و"الرقبة" الاتحاد، دون جمعه؛ فلا جرم أوجب الشاة مبهمة. قلت: لا؛ إذ لو كان هذا المأخذ للزم أن يجزئه في الزكاة نصف شاتين، وهو لا يجزئ من غير ضرورة ولا حاجة، كما ستعرفه في باب قسم الصدقات عند الكلام في نقل الزكاة. ثم على كلا الوجهين فللمالك تعيين واحدة للفرض رفقاً به، وكذا جعل له إخراجها من غير المال وفاقاً، كما قال الإمام، وهو الأصح في "الجيلي" لأجل ذلك، وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب وغيره في باب المبادلة بالماشية أن أبا إسحاق كان يقول: إذا أدى الزكاة من غير ذلك المال الذي وجبت فيه تبينا أنها لم تكن متعلقة بعينه، ولم يستحق الفقراء جزءاً منه لأجلها. قلت: وعلى هذا يكون قولنا: تجب في العين، موقوفاً مراعى: فإن أخرجها منه تبينا وجوبها فيه، وإلا فلا، وقد حكاه الماوردي هكذا قولاً آخر في المسألة، والإمام حكاه عن رواية صاحب "التقريب" وقال: إنه انفرد بنقله. وإذا ضممت هذا إلى ما تقدم كان في كيفية تعلقها بالعين ثلاثة أقوال، وإذا جمعت بين قولنا: إنها تتعلق بالذمة، وما قيل فيه، وقولنا: إنها تتعلق بالعين، وما قيل فيه- جاء في المسألة ستة أقوال أو أوجه، والمشهور من الأقوال على قولنا: إنها تتعلق بالعين ما ذكره الشيخ؛ ولأجله قال: فإن لم يخرج منه، أي: ولا من غيره، [شيء]- لم تجب في السنة الثانية زكاة؛ لأن الفقراء ملكوا قدر الزكاة؛ فبقي على ملكه دون النصاب، قال القاضي أبو الطيب: ونصيب الفقراء لا تأثير لاختلاطه بالمال، وإن كانت الخلطة مؤثرة في الوجوب؛ لأن مالكه لم يتعين

فيستقر ملكه؛ فهو بمنزلة الخلطة بمال المكاتب، فإنها لا توجب في المال زكاة الخلطة؛ إذ المكاتب غير مستقر الملك. قلت: وهذا يفهم أن مالكه لو كان متعيناً لأثرت الخلطة في الوجوب، وتعينه يكون بانحصار أهل السهمان في البلد. وقولنا: إن نقل الصدقة لا يجوز، فإنه سيأتي أنهم يملكون الزكاة ملكاً مستقراً حتى تنتقل بموتهم إلى ورثتهم، وإن كانوا أغنياء، ويشرع لهم الحلف عند نكول رب المال عند الأكثرين، والذي يظهر: عدم الوجوب في هذه الحالة أيضاً؛ لأنه لو قيل بالوجوب للزم أن يكون من تجب عليه في صورة هو الذي وجبت له؛ لأن الفقراء إذا ملكوا قدر الزكاة، وهو شاة من أربعين مثلاً، ولم يخرجوا به عن صفة الاستحقاق- لكان يجب عليهم حصة الشاة التي ملكوها عن السنة الأولى من الشاة التي تجب في السنة الثانية، والإنسان لا يجب له شيء على نفسه، وإذا امتنع الوجوب لذلك يسقط، ولا ينتقل إلى الغير؛ كما إذا كان المشتري شريكاً في الشقص المشفوع فإن الشفعة بينه وبين الشريك الآخر على ظاهر المذهب، لا بمعنى أنه أخذ من نفسه، بل بمعنى أنه وقع عن نفسه. وإذا ثبت ذلك في حق الفقراء امتنع الوجوب على رب المال أيضاً؛ لأن الشاة لا تتبعض في الوجوب، ويشهد لذلك أيضاً أن من عليه قصاص لمورثه وغيره إذا مات مورثه لا يثبت له قصاص على نفسه؛ لاستحالة أن يثبت للإنسان شيء على نفسه، ولما كان ذلك ممتنعاً سقط في حقه ولما سقط في حقه سقط في حق

غير مورثه أيضاً؛ لأنه لا يتبعض وأيضاً فإنه سيأتي ذكر خلاف في اشتراط نية الخلطة، فإن اشترطناها فلا يخفى الحكم، وإلا فقد تقدم أن ملك الفقراء معرض للسقوط؛ فإن لرب المال إبداله، ونتاجه لرب المال، ومثل هذا لا يصلح للمواساة. أما إذا خرجت من غير المال وجبت في السنة الثانية بلا خلاف، ولو لم تخرج منه، ولا من غيره، وكان المال بعد قدر الزكاة لا ينقص عن النصاب: مثل أن يكون خمساً وعشرين من الإبل، أو مائة وإحدى وعشرين من الغنم أو أربعين من البقر فإن الواجب في السنة الثانية في المسألة الأولى أربع شياه، وفي الثانية: شاة، وفي الثالثة تبيع، وعلى هذا فقس. وكل هذا تفريع على أن تعلق الزكاة بالعين تعلق شركة أما إذا قلنا: تعلق جناية بالتفسير الذي ذكرناه فيظهر أن يكون الحكم في ذلك كما لو نذر التصدق بشاة من أربعين معينة، ولم يعينها ولم يخرجها حتى حال الحول، وقلنا: إنها تتعين في تلك الغنم، فإن للأصحاب في وجوب الزكاة فيها طريقين حكاهما الإمام والقاضي الحسين وغيرهما: إحداهما: تخريجه على القولين في أن الدين هل يمنع الوجوب أم لا؟ وعلى هذا ينطبق قول الإمام في مسألتنا؛ تفريعاً على أن الزكاة تتعلق بالعين تعلق جناية: إن الحكم كما إذا قلنا: إنها تجب في الذمة فقط فينبني على أن الدين هل يمنع الوجوب أم لا؟ كما سنذكره. والثانية: القطع بعدم الوجوب؛ لأن المال صار مستحقاً قبل دخول وقت الوجوب. قال الإمام: والظاهر أن لا زكاة؛ لأن ما جعل صدقة لا تبقى حقيقة ملك له، وعلى هذا الطريق ينطبق ما حكاه الرافعي عن الصيدلاني: أنا إذا قلنا: الزكاة متعلقة بالعين، فتجب في العام الأول شاة، وبعد ذلك لا يجب شيء؛ لأن النصاب ناقص سواء جعلنا تعلقه بالعين للاستيفاء كالجناية، أو على معنى الشركة، لكن لك أن تقول: الخلاف في مسألة النذر جاء لتعين المال للتصرف؛

فلذلك شابه الزائل عن ملكه، ولا كذلك في مسألتنا إذا قلنا: التعلق تعلق جناية؛ لأنه لا يتعين مال الزكاة للتصرف؛ فامتنع الخلاف وقد قال الرافعي: إنه يجوز أن يفرض خلاف في وجوب الزكاة من جهة تسلط الغير عليه، وإن قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة. وقد أفهم كلام الشيخ: أن الزكاة على القول الأول تجب في السنة الثانية إذا لم يخرجها من المال، وهو قدر النصاب؛ إذ المسألة مصورة بذلك، وبه صرح في "المهذب" هكذا، ولا شك في ذلك إذا كان قد أخرجها من غير المال، أو لم يخرجها وكان له مال غير زكاتي يمكن إخراجها منه، على أنه يجيء في هذه الحالة احتمال من الذي حكيناه عن الإمام في أن الدين في مثل هذه الصورة هل يمنع الوجوب أم لا؟ أما إذا لم يكن له مال آخر فالذي يظهر أن يقال: لا تجب الزكاة جزما؛ لأنا قد قلنا: إن كونها تتعلق بالذمة هو القديم، والقديم: أن الدين يمنع وجوب الزكاة، سواء فيه دين الله تعالى ودين العباد، اللهم إلا أن نقول: العلة في كون الدين مانعاً من الوجوب تثنية الزكاة؛ فإن الزكاة هاهنا تجب؛ إذ لا تثنية، والأصحاب قالوا في هذه الصورة: إن قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة، لم تجب، وإن قلنا: لا يمنع الدين الوجوب- كما هو الجديد- وجبت. وفي ذلك نظر؛ لأنه كيف يكون التفريع على الجديد، ونحن قائلون بالقديم؟ نعم، ذلك متجه فيما إذا كان المال إبلا واجبها الغنم؛ فإن قلنا: إن في الجديد قولا يوافق القديم: أن الزكاة تجب في الذمة، فحينئذ يكون الجديد قد فرع على القديم، ولا منع من ذلك. ثم على تقدير ما قالوا من التفريع: ينبغي إذا قلنا: الدين لا يمنع الوجوب، إن تبينا الأمر بعد ذلك على أن للزكاة تعلقاً بالعين على هذا القول أو لا، فإن قلنا: لا تعلق لها بالعين أصلاً، فالحكم كما ذكروه، وهو الوجوب، وإن قلنا: لها تعلق بالعين تعلق رهن- كما قاله كل العراقيين والبغوي وبعض المراوزة- فينبني على أن الرهن هل يمنع الوجوب، أم لا؟ فإن قلنا: لا يمنع كما هو المشهور وجبت، وإلا فلا. وقد أشار إلى هذا الرافعي بعد حكايته عن الإمام أن الحكم فيما إذا قلنا: إنها

تتعلق بالعين تعلق الرهن، كالحكم على قولنا: إنه لا تعلق لها بالعين أصلاً، وقد يجاب عن عدم التخريج على أن الرهن مانع؛ فيقال: من لم يوجب الزكاة في المرهون ألحقه بالمغصوب والضال؛ لعدم قدرة المالك على التصرف فيه، والقائلون بأن الزكاة تثبت في الذمة والمال مرتهن بها، منهم من جزم بصحة تصرفه فيه، وهو البغوي، ومنهم من جعل جواز التصرف قولاً في المسألة كما ستعرفه، وعلى هذا فقد انتفت علة إلحاق المرهون بالمغصوب والضال، فلا جرم جزموا هاهنا بالوجوب، وإن قلنا: إن المال مرتهن بالزكاة.

باب صدقة المواشي

باب صدقة المواشي قد تقدم أن اسم "الصدقة" مرادف لـ"الزكاة"، وإتيان الشيخ به في صدر هذا الباب دون باقي أبواب الزكاة؛ اتباعاً لكتاب أبي بكر- رضي الله عنه- الذي سنذكره. قال: ولا تجب الزكاة في شيء من المواشي إلا في الإبل والبقر والغنم. هذا الفصل سيق لبيان حكمين: أحدهما: وجوب الزكاة في الإبل والبقر [والغنم]، ويجمعها اسم "الأنعام"؛ لأنها المختصة بهذا الاسم لغة؛ قال الله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَاكُلُونَ} [النحل: 5] ثم قال {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] ففصل ذلك عن الأنعام. والدليل على وجوب الزكاة فيما ذكرناه قبل الإجماع من الكتاب قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] والإبل والبقر والغنم من الأموال النفيسة، ومن السنة: ما روي عن رسول الله ? قال: "في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها"، والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة، وسنذكر منها في الباب ما تيسر إن شاء الله تعالى. ثم المعنى الذي لأجله وجبت فيها الزكاة أنها تكثر منافعها، ويطلب نماؤها، فاحتملت المواساة بالزكاة، وبهذا يظهر لك اختصاص الوجوب بالإنسي من ذلك؛ لأنه الذي يقصد منه ما ذكرناه، وأما الوحشي من ذلك وغيره فلا يقصد ذلك منه، وقد ادعى الماوردي الإجماع على عدم الوجوب فيه؛ لاستواء الأغنياء والفقراء في تملكه والقدرة عليه، وأما المتولد بين البقر الوحشي والإنسي، أو بين المعز والظباء فلا تجب فيه الزكاة عندنا وإن كانت الأم مما يجب فيها الزكاة

لأنها لم تتمحض نعما، ولأنها [لا] تجب في البغال إجماعاً وإن كانت أمها من الخيل، وهي مما تجب فيها الزكاة عند الخصم، قال الشافعي: وكما لا يسهم للبغل وإن أسهم لأمه من الخيل. وبالقياس على ما لو كان الأب إنسياً والأم وحشية؛ فإنه لا زكاة إجماعاً، ويخالف هذا ما لو تولدت من السائمة والعجول المعلوفة، حيث أوجبنا الزكاة فيها؛ لأنها داخلة تحت الاسم وعلف الأب لا يسري إلى الولد، وأيضاً فإن المعلوفة من جنس تجب فيه الزكاة، وبقر الوحش والظباء لا زكاة في شيء من جنسها. التفريع: انتفاء الوجوب عما عدا ذلك من المواشي التي لا تسمى نعما، وهي الخيل والبغال والحمير، وهو مجمع عليه في ذكور الخيل المنفردة والبغال والحمير، وأما في إناث الخيل المنفردة أو الذكور مع الإناث فقد خالفنا في عدم الوجوب فيها أبو حنيفة، ودليلنا عليه من السنة: ما روى البخاري ومسلم أنه- عليه السلام- قال: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة"، وقال - عليه السلام- كما أخرجه البخاري: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق"،

وقد روي أن أهل الشام كتبوا إلى عمر فقالوا: كثر عندنا الخيل والرقيق فتركه لنا، فقال: لا آخذ شيئاً لم يأخذه صاحباي، وسأستشير فاستشارهم فقالوا: حسن، وفيهم علي ساكت فقالوا: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: لا بأس إن لم يكن جزية راتبة من بعد، فأخذ عمر من كل عبد عشرة دراهم، ورزقه جريبين، ومن كل فرس عشرة دراهم، وجعل له عشرة أجربة شعيرا، قال أبو إسحاق: فأعطاهم أكثر مما أخذ منهم. والدلالة من هذا الأثر من وجوه: أحدها: أنهم سألوه، ولو كانت واجبة لبدأهم. والثاني: أنه قال: لم يأخذها صاحباي. ولو كانت واجبة لأخذاها. والثالث: أنه استشار، ولو كان نص لما استشار. الرابع: أن عليا قال: إن أمنت ألا تكون جزية راتبة فافعل، ولو وجبت لكانت راتبة. والخامس: أن عمر أعطاهم في مقابلتها رزقا، ولو كانت واجبة لم يعطهم شيئاً. ومن جهة المعنى: أن كل جنس من الحيوان لا تجب الزكاة في ذكوره إذا انفردت لا تجب في ذكوره وإناثه كالحمير والبغال، وعكسه المواشي، ولأن ذلك يقتنى للزينة والاستعمال لا للنماء؛ فلم يحتمل الزكاة كالعقار والأثاث. واحتاج الشيخ إلى بيان ما تجب فيه الزكاة من المواشي وما لا تجب فيه؛ لأنه

أجمل ذلك بقوله في الباب قبله: ولا تجب الزكاة إلا في المواشي. ولا يخرج مما ذكره هاهنا زكاة التجارة في الخيل والبغال والحمير وغير ذلك؛ لأنها تجب في قيمتها لا فيها، وكلامه هاهنا فيما تجب فيه. تنبيه: الإبل بكسر الباء وتسكن للتخفيف، ولا واحد لها من لفظها، وهي مؤنثة وتصغيرها أبيلة كغنيمة والجمع: آبال: والنسبة إبلى بفتح الباء. البقر: اسم جنس، الواحد: بقرة، للذكر والأنثى ويقال في الواحد أيضاً: باقورة، والبيقورة والبقير، والبقرات كلها بمعنى البقر. وهي مشتقة من: بقرت الشيء إذا شققته؛ لأنها تبقر الأرض بالحراثة، ومنه قيل لمحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: الباقر؛ لأنه بقر العلم فدخل فيه مدخلاً بليغاً. الغنم، أيضاً: اسم جنس مؤنثة، لا واحد لها من لفظها، يطلق على الذكور والإناث. قال: فإذا ملك منها، أي الحر المسلم التام الملك على ما تجب فيه الزكاة نصاباً من السائمة حولاً كاملاً، أي: متوالياً- وجبت فيه الزكاة في أصح القولين؛ لمفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" ولأنه لو أتلف المال في تلك الحال وجب عليه ضمان الزكاة، ولو لم تجب لما ضمنها كما قبل الحول، وهو ما نص عليه في "الإملاء" كما قال أبو الطيب وغيره وقال الماوردي في موضع: إنه نص عليه في الأم وفي آخر: إنه الجديد. قال: ولا تجب في الآخر حتى يتمكن من الأداء؛ لأنه لو تلف النصاب قبل التمكن من الأداء، لم يضمن الزكاة، ولو كانت واجبة لضمنها، وتحريره قياساً: أن كل حالة تسقط الزكاة فيها بتلف المال وجب ألا تكون الزكاة فيها واجبة، أصله: ما قبل الحول ولأن الإمكان شرط الوجوب في الصلاة والحج؛ فكذا في الزكاة، وهذا ما نص عليه في "الأم" كما قال القاضي أبو الطيب، وقال الإمام والقاضي الحسين والمصنف: إنه القديم؛ ولذلك قال ابن الصباغ ومن بعده: إنه نص عليه في "الأم" والقديم.

وطريق الجمع بين النقول: أنه نص في "الأم" على القولين، وفي القديم على الثاني فقط، وكذا حكاه البندنيجي قبيل باب صدقة البقر، وفي موضع من "الحاوي": أنه الذي نص عليه في "الإملاء"، وادعى في "البحر" أنه ظاهر المذهب، وكأن مستنده في ذلك - والله أعلم-: قول القاضي الحسين قبل باب صدقة البقر: إن به أجاب في "المختصر" في مواضع، والمنتصرون للأول قالوا: إنما لم يضمنها إذا تلفت قبل التمكن؛ لأنها في يده أمانة، ولم يفرط؛ فكان كالمودع تتلف الوديعة في يده من غير تفريط، ولا فرق بين الزكاة والصلاة والحج، لأن الإمكان فيهما إنما هو شرط في القضاء، والقضاء هناك يجري مجرى الضمان، وإلا فوجوبهما يتعلق بدخول الوقت، ووجوب الحج يتعلق بوجود الزاد والراحلة، وسيأتي حقيقة القولين وفائدتهما من بعد، إن شاء الله تعالى. وقد أفهم كلام الشيخ أنه متى وجد ما ذكره وجبت الزكاة، وإن كانت الماشية من العوامل، وهو وجه في المذهب لم يورد الشيخ أبو محمد في "مختصر المختصر" غيره، وصححه البغوي؛ لحصول الرفق بالإسامة، وزيادة فائدة الاستعمال. قال الرافعي: وفي لفظ "المختصر" ما يمكن الاحتجاج به له، لكن الصحيح في "التتمة" وغيرها، وهو الذي أورده معظم العراقيين: نفي الوجوب؛ للخبر. أما من ملك دون أقل النصب، وهو في الإبل خمس وفي البقر ثلاثون، وفي الغنم أربعون كما سيأتي في الكتاب، وثم نذكر الدليل على اعتباره- إن شاء الله تعالى- ولا خلطة فلا يجب عليه الزكاة بالاتفاق؛ لما ستعرفه. ولو ملكه فأكثر منه، لكنه لم يتصف بالسوم، فلا يجب اتفاقاً، والدليل على ذلك في الإبل: قوله عليه السلام: "في كل أربعين من الإبل السائمة بنت لبون" وفي الغنم ما روي

أنه عليه السلام قال: "في سائمة الغنم زكاة" وفي كتاب أبي بكر الذي سنذكره: "في أربعين من الغنم السائمة الزكاة"، ووجه الدلالة من ذلك: أن الماشية لما كانت متنوعة إلى سائمة وغير سائمة، وخص الوجوب بحالة السوم دل على انتفائه فيما عداها، وهذا هو المعبر عنه بمفهوم الصفة، وهو حجة عند الشافعي والإمام مالك- رضي الله عنه- وهو الخصم في اشتراط السوم؛ فإنه قائل بالوجوب في السائمة والمعلوفة؛ فلا جرم قامت الحجة عليه بما ذكرناه، ولأن ذلك جنس تجب الزكاة في عينه بحول ونصاب، فوجب أن يتنوع نوعين: نوع تجب فيه الزكاة، ونوع لا تجب فيه الزكاة، كالذهب والفضة. وإذا ثبت ذلك في الإبل والغنم قسنا البقر عليهما، وقد روي أنه عليه السلام قال: "ليس في العوامل صدقة" ورواية أبي داود: "ليس في البقر العوامل صدقة" وذلك يدل على نفي الزكاة في المعلوفة منها؛ لأن الغالب في العوامل العلف؛ فلذلك أسقط الزكاة فيها، وإلا فالعمل رفق آخر غير النماء فمقتضاه تأكد الوجوب، لا منعه، ويؤيد ذلك أنه روي عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليس في الإبل والبقر العوامل صدقة إلا أن تكون سائمة". والمراد بالسائمة: الراعية في الكلأ المباح؛ فلو رعت في الكلأ المملوك؛ فهل هي معلوفة أو راعية؟ فيه وجهان معزيان إلى "البيان". وسميت السائمة بهذا

الاسم؛ لأنها تسم الأرض برعيها، والسمة: العلامة؛ ولهذا قيل لأول المطر: وسمى؛ لأنه يعلم الأرض بآثاره. والسوم المؤثر في الوجوب بالاتفاق هو الحاصل بقصد المالك أو من يقوم مقامه من وكيل أو حاكم، وذلك مصور بما إذا غصبت وهي معلوفة، ثم ردها الغاصب إلى الحاكم في غيبة المالك، فأسامها، فإن الزكاة تجب كما صرح به في "البحر". ولو أسامها الغاصب، وكانت معلوفة، وقلنا: الغصب لا يمنع الوجوب لو كانت سائمة- فهل يؤثر في الإيجاب؟ فيه وجهان: وجه التأثير: إلحاق ذلك بما لو غصب حبا فبذره، [وانعقد حبا] فإن زكاته تجب على المالك. والأصح: مقابله، وادعى في "الحاوي" أنه مذهب الشافعي، مستدلاً بأنها لو خرجت من يده، ورعت من غير قصده لم يكن ذلك سوما موجباً للزكاة؛ فكذلك إسامة الغاصب، وما ذكره دليلاً هو رأي الشيخ أبي حامد، وهو غير سالم من النزاع؛ فإن المحكي في "البحر" أن القاضي أبا الطيب قال: لو جاز أن يقيم سنة هكذا لم يبعد أن يجب على قول القائل الأول؛ ولأجل ذلك قال القاضي الحسين ومن بعده: قصد السوم من المالك هل هو شرط أم لا؟ فيه وجهان أصحهما: نعم. ثم إذا قلنا بتأثير إسامة الغاصب في الوجوب، فأدى المالك الزكاة ففي الرجوع بها على الغاصب وجهان حكاهما الإمام ومن تبعه، وقطع بعضهم بالرجوع، وقال: هل يطالب الغاصب بالإخراج؟ فيه وجهان، وعليه ينطبق قوله في "البحر": إن بعض أصحابنا قال: لا خلاف على المذهب أن قرار الضمان على الغاصب؛ لأنه أوقعه فيها. نعم، هل للمالك أن يطالب الغاصب بإخراجها؟ فيه وجهان؛ بناء على أن الحلال إذا حلق شعر محرم وهو نائم؛ فقرار ضمان الجزاء على الحلال، وهل يؤمر الحلال بالإخراج؟ فيه خلاف، وقال في "التهذيب": إذا قلنا: الغصب لا يمنع وجوب الزكاة، فعلى من تجب؟ فيه وجهان، أحدهما: على الغاصب والثاني: على المالك، وعلى هذا هل يرجع بها على الغاصب؟ فيه وجهان. وإذا قلنا: يرجع عليه بعد الغرم، فهل له ذلك قبل الغرم؟

حكى الإمام فيه وجهين، والوجهان المذكوران في تأثير سوم الغاصب في الوجوب، جاريان فيما إذا أسامها المشتري شراء فاسداً، كما ذكره الرافعي وغيره، ويجريان في تأثير علف الغاصب في المنع، إذا غصبها سائمة، أصحهما في "البحر": التأثير وادعى الماوردي أنه مذهب الشافعي؛ لأنها غير سائمة، ومقابله يقاس على ما لو صاغ الفضة المغصوبة حلياً مباحاً، فإن ذلك لا يسقط زكاتها عن المالك، وإن قلنا: إن المالك لو صاغها لسقطت. ومن قال بالأول فرق بأن علف الغاصب كعلف المالك؛ لأنه طائع فيه و [إنما هو عاص] بغصبه و [صياغة الغاصب تخالف] صياغة المالك؛ لأنه عاص في الصياغة، والصياغة المحرمة لا تسقط الزكاة. وقد حكى ابن الصباغ أن من قال بعدم تأثير علف الغاصب قال إن علفه محرم، فهو كمسألة الصياغة، وعلى هذا بطل الفرق، لكن ابن الصباغ أبطل التعليل بالتحريم؛ فإن صاحب الماشية لو علفها ما غصبه سقطت الزكاة فإن كان العلف محرماً وخالف الحلي فإن صاحبه لو صاغه صياغة محرمة لوجبت. وعن الشيخ أبي محمد أنه فصل، فقال: إن علفها بعلف من عنده، فالأظهر أن حكم السوم لا ينقطع؛ لأنه لا تلحق مؤنة بالمالك [ثم]. وقد ألحق البغوي علف المشتري لها شراء فاسداً بعلف الغاصب حتى يكون في انقطاع الحول الوجهان. وعن ابن كج أنه قال: عندي تسقط الزكاة، وينقطع الحول؛ لأنه مأذون من جهة المالك في التصرف؛ فأشبه علفه علف الوكيل، بخلاف الغاصب. قلت: والأظهر عندي في ذلك بناؤه على أصل ذكره الأصحاب في الأبواب متفرقاً، وهو أن العقد الصحيح إذا تضمن الإذن في شيء فإذا وجد التصرف بمقتضاه في فاسده، هل ينفذ أم لا؟ وفيه خلاف من ذلك إذا قلنا: [إن بيع] المكاتب أو نجوم الكتابة لا تصح فقبضها المشتري: هل يعتق المكاتب، أم لا؟ وفيه خلاف مذكور في موضعه.

فإن قلنا: لا يعتق المكاتب؛ لأنا لم نجعل للإذن أثراً فكذا هنا، فيكون في انقطاع السوم الوجهان في الغاصب. وإن قلنا بعتقه، فيجوز أن نقول: [ينقطع السوم، ويجوز أن نقول]: لا، والفرق: أن بيع المكاتب لو كان صحيحاً لم يقتض إلا التسلط على القبض فلا جرم جعلناه إذناً فيه، ولا كذلك ما نحن فيه؛ فإنه ليس يلزم هذا العقد العلف، والله أعلم. ثم إذا قلنا: لا بد من قصد العلف في إبطال حكم السوم، فقد اختلف المراوزة في معنى القصد: فالذي ذهب إليه الأكثرون - كما قال الإمام- أن الماشية إذا اعتلفت وفاقاً فهي سائمة، وإن علفها مالكها قصداً أثر ذلك، وذكر الشيخ أبو علي في "شرح التلخيص" وجهاً: أن ذلك لا يحصل إلا إذا قصد بالعلف رد السائمة إلى العلف من السوم، فإن علفها قصداً مثل أن يقع ثلج، فيعلفها قصداً منتظراً زواله، ولم يقصد قطع السوم- لم يؤثر ذلك. وهذا ينطبق عليه ما سنذكره عن البندنيجي. ثم العلف المؤثر في قطع السوم اتفاقاً: ما إذا وجد في كل الحول أو معظمه، ولا يؤثر اتفاقاً فيما إذا وقع بما لا يتمول، وما بينهما هل يؤثر؟ فيه أوجه: أحدها: نعم، مهما كان، ولو دفعة واحدة، لكن مع نية القطع، وهو ما ادعى البندنيجي في تعليقه أنه المذهب، وحكى في "البحر" عنه أنه حكاه عن نصه في "الأم" وأنه قال في موضع آخر: لا زكاة حتى يسيمها دهرها؛ ولأجل ذلك جزم به الفوراني، وصححه البغوي. وقال الشيخ أبو حامد: إنه أقيس والجزم به هو الذي يقتضيه مفهوم قول الشيخ: إذا ملك نصاباً من السائمة حولاً كاملاً. والثاني: أن المؤثر منه الأكثر كما تقدم؛ لأن رفق السائمة لا يزول إلا به، وهذا يحكى عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة، تخريجاً من أحد القولين في المسقي بماء السماء والدولاب: أنه يعتبر فيه الأغلب، ونقله الماوردي عن أبي حنيفة لا غير، وقال: إنه غلط من وجهين:

أحدهما: أن في السوم إيجاباً، وفي العلف إسقاطاً، وهما إذا اجتمعا في الزكاة غلب حكم الإسقاط. والثاني: أن سوم جميع الماشية في بعض الحول [كسوم بعض الماشية في جميع الحول؛ فلما ثبت أن سوم بعضها في بعض الحول] مسقط للزكاة من غير أن يعتبر فيها الأغلب فوجب أن يكون سوم جميعها في بعض الحول مسقط للزكاة من غير أن يعتبر فيها الأغلب، والفرق بينه وبين الزرع على أحد القولين: أن الزرع لم يتردد بين إسقاط وإيجاب، فلذلك اعتبر حكم الأغلب فيه، والماشية مترددة بين إسقاط وإيجاب، فلذلك غلب حكم الإسقاط فيه. قال الإمام: وعلى هذا الوجه لو فرض التساوي في السوم والعلف ففيه تردد، والأظهر السقوط. والثالث: إن علفت قدراً كانت الماشية تعيش لولاه، لم يؤثر، وذلك كما قال أبو إسحاق: اليوم واليومان، وإن علفت قدراً كانت تموت لو لم ترع فيه ولم تعلف، وهو الثلاث فما فوقها أثر؛ لظهور المؤنة، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق ولم يورد غيره، وحكاه الإمام عن شيخه والصيدلاني، وادعى في "البحر" بعد حكايته عن أبي إسحاق أيضاً أنه المذهب، وقد صححه في "الروضة" تبعاً لـ"البحر" واقتصر الماوردي والمصنف في "المهذب" عليه. قال القاضي الحسين: وإذا قلنا به، فلو كان يسرحها كل يوم وإذا ردها بالليل إلى مراحها، ألقى إليها شيئاً من العلف لم يقطع ذلك السوم، ونسب الإمام هذا القول إلى الصيدلاني، موجهاً له بأنها لو أجيعت ليلاً، واقتصر على إسامتها نهاراً لم تهلك، ثم قال: وقد يختلف هذا باختلاف العشب قلة وكثرة، ومسيس الحاجة إلى العلف ليلاً؛ فليتبع فيه المعنى، وقال: إنه لا يبعد أن يلحق الضرر البين بالهلاك على هذه الطريقة. وهذه الأوجه الثلاثة مذكورة في تعليق البندنيجي "والشامل" وغيرهما. والرابع - ويحكى عن الشيخ أبي محمد، وقال الغزالي: إنه أفقهها، ولم يحك في "الخلاصة" غيره-: أن المؤثر منه ما يعد مؤنة بالإضافة إلى رفق السائمة.

قال الرافعي: وإلى هذا ميل ابن كج، وفيما علق عن الشيخ أبي محمد أن أبا إسحاق رجع إليه بعد أن كان يعتبر الأغلب، وقد فسر الرفق بدَرِّها ونسلها وأصوافها وأوبارها. قيل: ويحتمل أن يقال: رفق إسامتها. قال الإمام: ولم يصر إلى تلفيق السوم والعلف أحد، حتى إذا جرى في أثناء العلف إسامة سنة لو لفق وجمع وجبت الزكاة. قال الرافعي: والأوجه المذكورة هل هي مختصة بما إذا لم يقصد بالعلف قطع السوم، وإن قصده ينقطع لا محالة، أو هي شاملة للحالين؟ في كلام الناقلين لبس في ذلك، ولعل الأقرب الأول، كذا أورده صاحب "العدة" وغيره. قلت: ويؤيد ذلك أن القاضي الحسين والفوراني جزما القول بأن العلف دفعه بقصد قطع السوم يؤثر، وقالا: لو أنفق لا عن قصد كما إذا ركب بعض بدنه لحاجة، فطرح لها شيئاً من التبن والعلف: هل يقطع السوم أم لا؟ فيه وجهان، ولا أثر للنية المجردة دون الفعل في طرق الإسامة والعلف بلا خلاف، قاله في "التهذيب" ولو وجد ملك النصاب المتصف بالسوم، لكنه لم يمض عليه حول فلا زكاة فيه اتفاقاً، لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" أخرجه أبو داود ولأنه حق مالي يعتبر فيه الحول؛ فوجب أن يتعلق وجوبه بآخره كالجزية، بل أولى؛ لأنها تجب صغاراً، والزكاة تجب قربة لله وطاعة والمعنى في اعتباره: أن يمضي على المال زمان يتهيأ النماء فيه غالباً، فيواسي منه بالزكاة. وقد فهمت مما ذكره وشرحه الشيخ أن من شرط وجوب الزكاة فيما ذكره:

النصاب المتصف بالسوم بلا خلاف، وكذا الحول، وهل من شرطه التمكن من الأداء، أم لا؟ فيه القولان، وهما جاريان في زكاة الثمار وغيرها، ويعبر عنهما بأن التمكن شرط في الضمان، أو شرط في الوجوب؟ وفائدتهما تظهر فيما إذا نقص النصاب بعد الحول، وقبل التمكن مثل أن كان المال خمساً من الإبل، أو ثلاثين من البقر، أو أربعين من الغنم، فتلفت واحدة، فعلى الأول يسقط عنه خمس شاة، أو ثلث عشر تبيع، أو ربع عشر شاة، وعلى الثاني: لا شيء عليه، والقولان متوافقان على [أنه مهما] حصل التلف بآفة سماوية قبل التمكن [فلا ضمان] وعلى [أنه إذا تلف] المال قبله، وجب كما تقدمت الإشارة إليه وفي "الجيلي" حكاية وجه في المسألة الأخيرة: أن ذلك يمنع الوجوب إذا قلنا: إن التمكن شرط فيه. ثم المعنى بأن التمكن شرط في الوجوب: أنا عند وجوده نتبين أن الزكاة وجبت عند تمام الحول؛ لأنها وجبت حال التمكن، كذا قاله المتولي. قيل: وحينئذ فتسميته شرط الوجوب توسع.

قلت: ومما قاله المتولي يظهر لك أن ابتداء الحول الثاني يكون من حين انقضاء الأول، وهو الذي أورده ابن الصباغ والإمام وغيرهما، وادعى في "البحر" أنه لا خلاف في ذلك، وفي "تعليق" القاضي الحسين أن بعض أصحابنا قال على القول بأن التمكن شرط الوجوب: إن ابتداء الحول الثاني من حين [انقضاء] التمكن، كما قال الإمام مالك رحمه الله. قلت: ويمكن أخذه مما حكيناه عن رواية أبي علي الزجاجي قولاً: أن الزكاة في المال المغصوب والضال للحول الأول دون ما عداه إن كان القول منصوصاً؛ كما أشرت إليه من قبل، وإن لم يكن منصوصاً - بل مخرجاً- فيكون قائله هو الصائر إلى ابتداء الحول الثاني من حين التمكن، وعلى هذا فيظهر أن نقول: الوجوب إنما هو عند التمكن لا أنه عند التمكن يظهر أنه كان واجباً عند تمام الحول، والتمكن المشار إليه في الأموال الباطنة: أن يكون المال حاضراً عنده، وقد وجد أهل السهمان، أو الإمام أو نائبه، فلو كان المال غائباً في موضع آخر قال الرافعي: فلا تمكن، سواء جوزنا نقل الصدقة، أو منعناه. وفي شرح ابن التلمساني أنا إذا تحققنا بقاء المال في حال الغيبة، وقلنا: يجوز نقل الصدقة- فقد تحقق الإمكان. قلت: ولا يعكر على ما قاله الرافعي ما حكيناه عنه وعن غيره في المال الغائب آنفاً؛ لأنه يحتمل أن يكون مرادهم ثم الإخراج في بلد المال، لا في غيره، وإن جوزنا النقل وهذا لا يفهم إلا بمطالعة ما تقدم. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يطلب الإمام أو نائبه أو أهل السهمان منه ذلك، أو لا كما قاله أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، لكن الماوردي قال: التمكن يكون بمطالبة الإمام العادل، أو حضور أهل السهمان. وهذا يفهم اشتراط مطالبة الإمام دون أهل السهمان وكذا كلامه الذي سنذكره من بعد. والحكم في الأموال الظاهرة، كما تقدم إن قلنا: يجوز لرب المال تفرقة زكاتها بنفسه، وإلا فالتمكن أن يجد الإمام أو نائبه في قبضها. وقال الماوردي: التمكن على هذا: أن يطالبه الإمام العادل بها. وقال القاضي

الحسين قبل باب صدقة البقر: كل موضع قلنا ليس له التفرقة بنفسه فإذا طالبه الإمام، ولم يدفع لزمه الضمان بلا خلاف ولو طالبه الفقراء لا يضمن، وكل موضع قلنا: له التفرقة بنفسه، فإذا طالبه الإمام، وقلنا: الأفضل الدفع إليه، فلم يفعل- لزمه الضمان، وإن طالبه المساكين ففي الضمان وجهان. وإن قلنا: الأفضل أن يفرق بنفسه، وإن طالبه المساكين ففي الضمان وجهان. وإن قلنا: الأفضل أن يفرق بنفسه، فطالبه الفقراء، فأخر- ضمن، وإن طالبه الإمام فلم يعطه ففي الضمان وجهان. وهذا يقتضي أن المطالبة شرط في الضمان في كل الأحوال. فإن قلت: قد ذكر القاضي الحسين وغيره من المراوزة وصاحب "البحر" أنا حيث قلنا: إن الأفضل أن يدفع إلى الإمام، فقدر على الصرف لأهل السهمان، وأخره ليدفع إلى الإمام لحيازة الأفضل، أو للخروج من الخلاف، فهلك المال فهل يضمنه؟ فيه وجهان جاريان فيما إذا كان الأفضل تفرقته بنفسه، وقدر على الإمام أو نائبه فأخر الدفع إليه؛ ليصرف ذلك بنفسه لأهل السهمان، فتلف المال، وفيما لو كان له أقارب أو جيران يجوز صرف الزكاة إليهم، فأخر الصرف لغيرهم؛ حتى يصرفه إليهم ويحوز الفضيلة فتلف المال قبل الصرف، والمذكور منهما في "الإبانة" في الأخيرتين عدم الضمان، وإن حكاهما في الأولى. وقد قال الإمام بعد حكاية الوجهين عن الأئمة: إنهما مبنيان على أن التأخير بهذا السبب هل يجوز أم لا؟ فإن قلنا: يجوز، لم يضمن وإلا ضمن. ثم قال: وفيه فضل نظر عندي؛ فالوجه أن نقول: إن لم نعذره بهذا السبب عصيناه وضمناه، وإن عذرناه فأنفق فتلف المال ففي الضمان وجهان. وهذا ما اقتصر على إيراده الغزالي، وكذا الرافعي، وقال: الأصح جواز التأخير بهذا العذر، وعلى هذا فأصح الوجهين: الضمان، لأن الإمكان حاصل، وإنما أخر لغرض نفسه فتلفت؛ [فيقيد] بشرط سلامة العاقبة عندنا إلى السؤال. فعلى قول من لا يضمنه لم نجعل القدرة على أهل السهمان أو الإمام أو نائبه مع حضور المال تمكنا إذ لو كان تمكنا لضمن قولاً واحداً، كما سيأتي

في قسم الصدقات. قلت: هذا هو الظاهر، لكن الإمام قال: الذي أرى القطع به: أن المعنى بالإمكان المشروط في الوجوب تصور الأداء، فأما ما يتعلق بإحراز الفضائل فلا يسوغ المصير إلى أنه شرط وجوب الزكاة على هذا القول. قال: وقد صرح بذلك الصيدلاني في آخر الباب، وليس هو مما يمارى فيه. وأبدى في جواز انتظار الأقارب ونحوهم تفصيلاً لنفسه نذكره- إن شاء الله تعالى- في قسم الصدقات. قال: وما ينتج من النصاب أي ملكاً لمالكه بسبب ملكه النصاب في أثناء الحول يزكى بحول النصاب وإن لم يمض عليه حول أي: وإن لم يمض على النصاب حول؛ إذ لو كان مراده وإن لم يمض [على ما نتج حول] لكان ركيكاً؛ لأن ذلك معلوم من قوله: وما ينتج في أثناء الحول، والدليل على ذلك ما روي: "أن ساعياً لعمر- رضي الله عنه- وهو سعد بن رستم قال له: إن هؤلاء يزعمون أنا نظلمهم فنعد عليهم السخلة ولا نأخذها منهم، فقال: اعتد عليهم بالسخلة يروح بها الراعي على يده ولا تأخذها. وكان علي- كرم الله وجهه- يعد الصغار مع الكبار، ولا مخالف لهما من الصحابة. وفي "الحاوي": أنه عليه السلام قال لساعيه: "عد عليهم صغيرها وكبيرها"

فكان على عمومه، ولأن الحول وقت في وجوب الزكاة لأجل النماء، والسخال نماء في أنفسها فوجب أن يكون وجودها مع أصلها موجباً للزكاة كالحبوب والثمار. فإذا ثبت هذا فاعلم أن كلام الشيخ قد اشتمل على صورتين: إحداهما- وهي مما لا خلاف فيها عندنا-: إذا بقي النصاب إلى آخر الحول، وقد حصل منه ما يتم به نصاب آخر: كما إذا كان عنده تسع من الإبل، أو تسع وعشرون من البقر، أو مائة وعشرون من الغنم فنتجت واحدة قبل الحول، فيجب في المثال الأول والأخير شاتان، وفي الثاني مسنة. والصورة الثانية: وهي المستفادة من قوله: "وإن لم يمض عليه حول"-: أن تموت الأمهات بجملتها أو يبقى منها دون النصاب وتمامه من السخال موجود؛ فتجب الزكاة فيه أيضاً، عملاً بما ذكرناه. وقال أبو القاسم الأنماطي شيخ ابن سريج وتلميذ المزني: إن الحول قد انقطع بموت كل الأمهات، وكذا بموت البعض. ووافقه في الأولى دون الثانية بعض الأصحاب كما نقله ابن كج عن رواية أبي حامد، وهو المنقول عن أبي حنيفة أيضاً. وتمسك الأنماطي لقوله بأنه ثبت لذلك حكم أمهاته إذا كن نصاباً؛ فإذا فقدن أو نقص النصاب امتنع الضم كما في الابتداء؛ [لما ذكرناه] قال الإمام وغيره: وهو غير معدود من المذهب، وقال في "المهذب": إنه ينكسر عليه بأم الولد؛ فإنه ثبت لولدها حكهما في الاستيلاد مع بقائها حتى يعتق بعتق السيد كما تعتق هي بموته، ولو ماتت قبل السيد لم يبطل ذلك الحكم في حق الولد وإن بطل في حقها. واحتج الماوردي على بطلان الوجه الأخير بالإجماع؛ فإنه روي أن أبا بكر قال في أهل الردة: "والله لو منعوني عقالا مما أدوه إلى رسول الله لقاتلتهم

عليه"، وبإجماعنا مع أبي حنيفة على أن العناق لا يؤدى في الزكاة من مال فيه كبار؛ فثبت أن ذلك يؤدى من الصغار، وكان هذا منه بحضرة المهاجرين والأنصار، وكل رجع إلى قوله فثبت إجماعهم عليه. أما ما نتج من دون النصاب وكمل به النصاب، فابتداء حوله مع أصله من حين نتاجه لا خلاف فيه عندنا؛ لأن الحول إنما ينعقد على نصاب، وما ينتج من النصاب غير مملوك لمالك النصاب، كما إذا أوصى لشخص بالأمهات، ولآخر بحملهن، فلا يزكى لحول النصاب، وكذا لو نتج مملوكاً لمالك النصاب لكن بسبب غير ملك الأمهات، كما لو أوصى الموصى له بالحمل لمالك الأمهات به، ومات قبل النتاج ثم حصل النتاج؛ لأنه ملك بطريق مقصود فيجعل كالمستفاد قاله في "التتمة". وما ينتج من النصاب بعد الحول إن كان بعد التمكن من الأداء فلا يزكى للحول الأول بلا خلاف، وإن كان قبل التمكن فمن الأصحاب من قال: إن الحكم فيه كذلك، وهو الذي أورده كثيرون مستدلين به للقول الصحيح في أن التمكن شرط الضمان [لا شرط] الوجوب؛ إذ لو كان شرطاً للوجوب لكان كما ينتج في أثناء الحول، وهذا ما أورده في "الوسيط" تبعاً للإمام والقاضي الحسين في موضع من كتابه وإن قال في [موضع] آخر منه ما سنذكره. ومنهم من حكى في ذلك قولين، وهؤلاء اختلفوا في أصلهما: فمنهم من قال: إنهما ينبنيان على أن التمكن شرط الضمان أو الوجوب؟ فإن قلنا بالأول فالحكم كما تقدم، وإلا فكما لو نتجت قبل الحول، وينسب هذا إلى القاضي أبي حامد. ومنهم من قال: أصلان بأنفسهما غير مبنيين على ما ذكر. حكى الطريقين هكذا القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمصنف، وقالوا: عدم الضم، وقال في "الإبانة": إن قلنا: إن التمكن شرط الضمان، فهي كما لو نتجت

بعد الحول والتمكن وإلا فوجهان: أحدهما: يضم لأنه لم يحصل وجوب الزكاة في وقت الاستفادة، فأشبه ما قبل الحول. والثاني: لا يضم؛ لأنه استفاده في الحول الثاني؛ بدليل أن الحول الثاني إنما انعقد من وقت تمام الحول الأول. قلت: وهذا منه يدل على أن القائل بالوجه قبله يسلم أن ابتداء الحول الثاني من وقت تمام [الحول] الأول وإلا لما كان ذلك دليلاً عليه، وليس الأمر كذلك؛ فإن القاضي الحسين قال في باب "كيفية فرض الإبل: إن من أصحابنا من قال على قولنا: إن التمكن شرط الوجوب يكون ما حصل من النتاج بعد الحول وقبل التمكن جارٍ فيه الحول الأول، وإن ابتداء الثاني من حين التمكن كما قاله مالك رحمه الله. وما تجدد [في] ملكه من السخال بغير النتاج، بل بالبيع الشراء والإرث والاتهاب ونحو ذلك فلا يزكى بحول النصاب وإن كانت منها بلا خلاف؛ لقوله عليه السلام: "من استفاد مالاً فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول" رواه الترمذي غير أنه قال: ويروى عن ابن عمر موقوفاً، وهو أصح. ولأن الأصل اشتراط الحول للخبر، خالفناه في النتاج والأرباح لمعنى لا يوجد في غيرهما، وهو أنه من نمائه ويشق إفراده بالحول؛ فوجب أن يبقى فيما عداه على الأصل، لكن لك أن تقول: قد تقدم ما يقتضي أن عدم اشتراط الحول في السخال هو الأصل؛ فبطل هذا الاستدلال. ثم على ما ذكرناه ماذا يجب عليه؟ هذا يظهر من قاعدة قررها الأصحاب، وهي أن [المال] المتجدد من جنس ما عنده في أثناء الحول هل يضم إلى المال الأول حتى يجعلا كالمال الواحد، أو لا؟ وللشافعي في ذلك قولان: أحدهما- وهو القديم-: عدم الضم، ولكن ينفرد الأول بحوله والثاني بحوله،

ويجب في كل منهما ما كان يجب فيه لو اجتمعا في الحول. والجديد: الضم، لكن أثره إنما يظهر [في المال المتجدد، وأما في المال القديم فلا، وثمرة ذلك تظهر] لك في التفريع. وعن ابن سريج: أنه لا يضم إليه أصلاً؛ كما لا يتبعه في الحول، بل يفرد بالحول إن كان نصاباً في نفسه ويجب فيه ما كان يجب لو لم يكن له غيره. ونقل صاحب "التتمة" وجهاً آخر: أن المتجدد لا يضم إلى المال القديم في الحال، ولا يعقد له حول من حين ملكه، فإذا تم نصاب الأول ضممنا إليه المتجدد، وانعقد الحول عليهما من ذلك الوقت؛ حتى لا يؤدي إلى تبعيض ملك الواحد، على ما نذكره في التفريع. وقد حكاه الرافعي عن بعض الشروح في بعض الصور، وقال: إنه يطرد في غيرها. فإذا عرفت ذلك نظرت: فإن لم يكن المتجدد نصاباً في نفسه لو انفرد، ولا يكمل به النصاب كما لو كان عنده خمس من الإبل ستة أشهر مثلاً، ثم ملك أربعاً منها أو ثلاثين من البقر، ثم ملك تسعاً [منها أو] أربعين من الغنم، ثم ملك عشرة منها- قال الأصحاب: لم يكن بهذه الزيادة حكم بحال. قلت: وقد يقال: إذا قلنا بالقول القديم الذي تقدمت حكايته، وأن فرض النصاب يتعلق بالجميع- أن يكون لها أثر في الضمان على تقدير تلف البعض، وإن لم يكن لها أثر في [الضمان على تقدير] وجوب شيء. وإن كان المتجدد ليس بنصاب في نفسه لو انفرد، لكنه يكمل به نصاب آخر، كما إذا كان قد ملك غرة المحرم ثلاثين من البقر مثلاً، ثم ملك بعد ستة أشهر عشرة منها فعلى قياس القول القديم: تجب في الثلاثين عند تمام حولها ثلاثة أرباع مسنة [وفي العشرة المتجددة عند تمام حولها وهو بعد مضي سنة: ربع مسنة] والمنقول: أن الواجب فيها إذا تم الحول على الأول تبيع، وإذا تم حول العشرة وجب ربع مسنة.

قال القاضي أبو الطيب: ولا يختلف المذهب في ذلك، وهذا هو مقتضى التفريع على الجديد؛ لأن الثلاثين لم يثبت لها حكم الخلطة مع [العشرة في] حول كامل فانفردت بحكمها، والواجب فيها تبيع، ويجب [في حول العشرة] ربع مسنة؛ لأنه يثبت لها حكم الخلطة في حول كامل؛ فوجب فيها بالقسط، والواجب في الأربعين مسنة، فيخص العشرة ربعها ويجب إخراج ذلك كذلك [وهكذا الحكم في كل مسنة] كما صرح به القاضي الحسين. ثم قال: فإن قيل: كيف توجبون على رأس كل حول ثلاثة أرباع مسنة، وعلى كل حول العشرة ربع مسنة، وذلك إيجاب للشقص، ولا مدخل لإيجاب الشقص [في الزكاة؛ ألا ترى أنه لا يجب في خمس من الإبل خمس بعير؟ قلنا: ليس هذا بإيجاب الشقص، وإنما هو إيجاب الكامل متفرقاً على الشهور في سنة واحدة] وإنما الإضرار برب المال والمساكين في إيجاب الشقص رأس كل سنة، [وإيجاب] خمس البعير عن الخمس منه انتهى. قال ابن الصباغ: وما ذكرناه- يعني في إيحاب ربع المسنة في العشر- إنما يتصور على القول الذي يقول: إن الزكاة تتعلق بالذمة، ولم يخرج منها فأما إذا قلنا: إنها استحقاق جزء من العين، أو قلنا: هي في الذمة فأخرج منها قبل تمام الحول الزيادة- لم يجب في الزيادة شيء؛ لأنه لا يتم بها نصاب. انتهى. وعلى قياس مذهب ابن سريج، وبه صرح: أنه لا يجب في العشرة في السنة الأولى شيء، وإن أخرج الزكاة من غيرها وقلنا: إنها تجب في الذمة؛ لنقصها عن النصاب. نعم، إذا انقضى حول الثلاثين انعقد الآن الحول على الأربعين؛ فيجب فيها عند انقضائه مسنة، وعلى الوجه الآخر الذي حكاه في "التتمة" لا يخفى التفريع. ولو كان المستفاد نصاباً في نفسه لو انفرد، لكنه لا يبلغ مع الأول نصاباً ثانياً، وذلك يفرض في الغنم، مثل أن يكون قد ملك غرة المحرم أربعين منها، ثم بعد ستة أشهر ملك أربعين- فقياس القديم: أنه يجب عليه عند تمام حول الأولى نصف شاة [وعند تمام حول الثانية نصف شاة، وقد حكاه الإمام والقاضي أبو

الطيب، وقياس الجديد: أنه يجب عليه عند تمام حول الأولى شاة] وبه صرح في "المهذب" وغيره، وحكى فيما إذا تم حول الثانية ثلاثة أوجه، حكاها الماوردي وأبو الطيب والبندنيجي أيضاً: أحدها: أنه يجب فيها أيضاً شاة؛ لأنها منفردة بحولها فانفردت بحكمها وهذا قياس ابن سريج. والثاني يجب فيها نصف شاة؛ لوجود الخلطة فيها، وهذا قياس القول الجديد. والثالث- وهو أصحها كما قال تبعاً لصاحب "الإفصاح"-: أنه لا [يجب] شيء فيها، وقال أبو الطيب وابن الصباغ: إنه الأقيس. قلت: وهذا والذي قبله قد يقال بأنه يمكن بناؤهما على أن الوقص هل يتعلق به [الوجوب أم لا؟ فإن قلنا: يتعلق به] وجب نصف شاة، وإلا فلا شيء فيها، وقياس الوجه الآخر غير خاف على من عرفه، وقد صرح به في "التتمة" حيث قال: إذا ملك خمسين من الإبل، فلما مضى من الحول ستة أشهر استفاد عشرة فإذا تم حول الخمسين وجب عليه في ظاهر المذهب حقة، وأما العشرة التي استفادها فإن قلنا الوقص عفو، فلا شيء فيها، وإلا وجب فيها سدس حقة. ولو زاد ملكه على الثمانين، بأن ملك أربعين أول المحرم وأربعين أول صفر، وأربعين أول ربيع الأول- فالمحكي عن القديم وهو قياسه أنه يكون في الجميع شاة في كل أربعين ثلثها، والجديد: أنه يجب في الأولى شاة عند تمام حولها، وفي الأربعين الثانية والثالثة وجهان حكاهما الماوردي عن رواية ابن سريج: أحدهما: تجب في كل أربعين عند تمام حولها شاة، وهو قياس مذهب ابن سريج الذي تقدمت حكايته؛ ولأجل ذلك نسبه القاضي الحسين والمتولي إلى ابن سريج نفسه. والثاني: تجب في الأربعين الثانية نصف شاة، وفي الأربعين الثالثة ثلث شاة، وهو قياس الجديد إن قلنا: إن فرض النصاب يتعلق بالجميع، ولأجله قال القاضي الحسين: إنه مذهب الشافعي.

ثم وجوب النصف في السنة الأولى عن الأربعين الثانية على هذا- كما قال الماوردي- إذا كان قد أخرج الزكاة من غير المال، وقلنا: الزكاة في الذمة، فإن أخرجها من المال أو قيل: إنها في العين، فعليه أربعون جزءاً من تسعة وسبعين جزءاً من شاة، [ووجوب الثلث في الأربعين الثالثة- كما قال الماوردي والقاضي الحسين والمتولي- إذا كان قد أخرج زكاة المالين من غيرهما، وقيل: إن الزكاة في الذمة، فإن كان قد أخرجها من المالين، أو قيل: إنها في العين- فعليه أربعون جزءاً من مائة شاة، وثمانية عشر جزءاً ونصف جزء من شاة]. قال القاضي: إلا شيئاً قليلاً، فينظر كم المؤدى في الزكاة في الدفعتين، فيحط ذلك عن مائة وعشرين، فما يبقى أضيف إليه أربعون جزءاً فيقال: [يجب] أربعون جزءاً من كذا وكذا. وقياس [الوجه] الثالث في المسألة قبلها الذي صححه في "المهذب"، وقلنا: إنه يمكن بناؤه على أن الوقص لا يتعلق به شيء: ألا يجب في الأربعين الثانية والثالثة عند تمام حولهما شيء، وبه صرح الماوردي فيها واختاره في "المرشد" ولا يقال: إنه عن القول القديم الذي تقدمت حكايته؛ لأن على القديم نجعل الواجب شاة، في كل أربعين ثلثها، وعلى هذا الوجه الشاة مقابلة الأربعين الأولى. وفائدة الاختلاف تظهر عند التلف [بعد الحول] وقبل التمكن من الأداء، وفي جواز التصرف في المال. وحكى الماوردي وجهاً رابعاً في المسألة: أنه إن خلط الجميع وسامها في مرعى واحد كانت تبعاً، وإن فرقها فلكل واحد حكم نفسه، وإذا تأملت ما أوضحناه قست عليه ما عداه كما هو في معناه. تنبيه: قوله: "ينتج من النصاب" هو بضم أوله وفتح ثالثه، معناه: يولد، يقال: نتجت الشاة والناقة- بضم النون وكسر التاء- تنتج نتاجاً: ولدت، وقد نتجها

أهلها بفتح النون. قال: وإن باع النصاب في أثناء الحول، أي: ولو بمثله، لا لقصد التجارة، وقلنا: إن الملك للمشتري- انقطع الحول؛ لما روي [عن] ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول عند ربه" كذا حكاه في "الحاوي" ووجه الدلالة منه: أنه علق الزكاة بتمام الحول عند ربه، ولم تتحقق، أما إذا قلنا: إن الملك للبائع في زمن الخيار، وتم العقد- فإن انقطاع الحول يكون بانقطاع الخيار، وإن انفسخ العقد أو فسخ لم ينقطع أصلاً، صرح به الرافعي. ثم حيث قلنا: إنه ينقطع بالبيع، فلا فرق بين أن يكون قد فعله لحاجة أو لأجل الفرار من الزكاة؛ لعموم الخبر. قال الشافعي: لأن الزكاة إنما تجب بالملك والحول لا بالفرار. قال القاضي الحسين: معناه: أن مجرد الفرار لا يوجب الصدقة بالإجماع، وقصد الشافعي بما ذكره الرد على مالك حيث قال: لا ينقطع الحول وتجب الزكاة، كما لو طلق زوجته في المرض. وأصحابنا قالوا: إن سلمنا أن المطلقة في المرض ترث فالفرق: أن حق الورثة يتعلق المال في مرض الموت؛ بدليل منعه من التبرعات فيما زاد على الثلث، وحق الفقراء إنما يتعلق بعد الحول؛ فنظيره تطليقها في الصحة. وقد حكى الرافعي عن المسعودي أنه أشار إلى أنه إذا عاد إلى ملكه يبني ولا يستأنف، ونقل القاضي ابن كج أنه إذا باع وقد قرب الحول؛ فراراً من الزكاة أخذت منه الزكاة، قال: وهذا يوهم الاكتفاء بما مضى من الحول. والمشهور الأول، وما ذكره الرافعي عمن ذكرناه فالذي يظهر لي أنه قال عنهما حكاية لمذهب مالك، لا أنه في مذهبنا؛ لأنه ذكره عقيب ذكره مذهب مالك واستقصاء له عن مأخذه، ويؤيد ذلك أنه عند ذكره ما تقدم لم يذكره. وحكم بيع بعض النصاب في أثناء الحول بما لا يثبت خلطة بينه وبين غيره، حكم بيع الجميع، وكذا أثلاث المجموع، والبعض. نعم، لو كان البيع يثبت بشركة كما إذا كان له أربعون من الغنم ملكها أول

المحرم، ولآخر مثله، وقد ملكها في أول المحرم أيضاً، فباع أحدهما نصف غنمه بنصف غنم الآخر فإنه ينقطع الحول فيما تبايعاه قولاً واحداً، وما لم يتبايعاه، هل ينقطع فيه الحول؟ فيه طريقان في "المهذب" و"تعليق" أبي الطيب وغيرهما: إحداهما: لا ينقطع قولاً واحداً، وبها قال أبو إسحاق وغيره، وهي الصحيحة. والثانية: أن في انقطاعه قولين، فإن قلنا: لا ينقطع، فماذا يجب عليه؟ فيه كلام سنذكره، إن شاء الله تعالى. قال: وإن مات ففيه قولان: أصحهما: أنه ينقطع؛ لأن ملك الميت قد زال وتلقاه الوارث عنه؛ فأشبه ما لو انتقل إليه بالبيع ونحوه، وهذا ما صححه عن الشيخ أيضاً وبه جزم في الوجيز، ويحكى عن أبي إسحاق القطع به، والمنع من إثبات قول آخر في المسألة. قال: والثاني: أن الوارث يبني على حول الموروث، لأن من ورث مالا ورثه بحقوقه التي عليه وله، أصله: الشفعة والرهن والرد بالعيب؛ فإن الشفعة قد تكون حقاً على [المال كما] إذا ورث شقصاً للغير فيه شفعة، وقد يكون حقاً له: كما إذا ورث شقصاً ثبت لمورثه بسببه الشفعة في شقص آخر؛ فإن الحقين لا يسقطان بالموت، والوجهان يفرضان هكذا في الرهن والرد بالعيب، هذا ما حكى عن القديم. والقائلون بالأول- وهو المعزي للجديد- قالوا: لا تعلق للحق بالمال قبل تمام الحول؛ فلم يمت ربه وقد تعلق به حق، بخلاف ما قيس عليه فإن الحق كان قد تعلق فلم يبطل بالموت. التفريع: إن قلنا بالأول فالحكم كما قلنا إذا ملك الشخص مالا مبتدأ بالاتهاب ونحوه، ولا يخفى حكمه. نعم، قال الأصحاب: لو كان معداً للتجارة لم ينعقد عليه الحول عند انتقاله إلى الوارث ما لم يتصرف فيه بنية التجارة. ولو كان سائمة، ولم يعلم الوارث الحال حتى تم حول فهل تجب الزكاة أم يبتدئ

الحول من يوم علم؟ قال الرافعي: فيه خلاف مبني على أن قصد السوم هل يعتبر أم لا؟ قلت: وإذا كان مأخذ [اعتبار] استئناف الحول قصد السوم، فينبغي أن يقال: هل تجب الزكاة أم يبتدئ الحول من حين قصده السوم لأن إذا علم بالحال قد لا يقصد السوم فلم يوجد الشرط، وإن قلنا بالثاني نظر: فإن تعدد الوارث، وبلغ نصيب كل منهم نصاباً وجبت الزكاة في آخر الحول وكذا إن كان دون النصاب وكان ماشية أو غير ماشية، وقلنا بتأثير الخلطة فيه، ولم يقسموا أما إذا قلنا: لا تأثير للخلطة فيه، انقطع الحول، قال العجلي: ويحتمل أن يقال: نجعل الورثة كالشخص الواحد وكأنهم عين المتوفى، ونستديم ذلك في حقهم في هذه الصورة ولا يبعد إثبات الخلطة في هذه الصورة على الخصوص؛ كما لا يبعد استدامة الحول مع انقطاع الملك وتجدده. ولو ارتد في أثناء الحول، ثم عاد إلى الإسلام- فقد تقدم حكمه-. قال الشيخ رحمه الله: وأول نصاب الإبل خمس، بدأ الشيخ من المواشي بالإبل؛ اتباعاً للشافعي، والشافعي بدأ بها؛ اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه بدأ بها في أكثر الكتب التي كتبها للسعاة، ومنها ما سنذكره، والمعنى فيه أنها كانت أعم أموالهم ويصعب ضبطها؛ فبدأ بها لنفع الغاية بها؛ ولهذا المعنى كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - نصب المواشي وواجبها في صحيفة، وتركها في قراب سيفه ولم يكتب ما عداها من فروض الصلاة ومواقيتها، والصوم وأحكامه، والحج ومناسكه، بل اقتصر على القول في ذلك. ونصب الإبل أحد عشر: أربعة منها يجب فيها غير الجنس، ويتغير الفرض فيها بزيادة [السن لا غير] وأربعة [منها يجب] فيها الجنس، ويتغير الفرض فيها بزيادة العدد لا غير، والثلاثة الباقية يجب فيها الجنس ويتغير الفرض فيها بزيادة العدد. والدليل على أن أول نصاب الإبل خمس- مع ما يفهمه ما سنذكره من كتاب

أنس- ما روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة". قال القاضي الحسين: وهو مما لا خلاف فيه بين الأئمة. قال: فتجب فيه شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، الأصل في ذلك عند الشافعي: رواية أنس وابن عمر رضي الله عنهما: فرواية أنس أن أبا بكر الصديق- رضي الله عنه- كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، التي أمر الله بها رسوله، فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سأل فوقها فلا يعط في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم في كل خمس شاة فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها ابنة لبون أنثى، فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. ومن لم يكن عنده إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمساً من الإبل ففيها شاة" أخرجه البخاري مقطعاً في

مواضع من كتابه مع زيادة فيه نذكرها في مواضع الحاجة إليها- إن شاء الله تعالى- وأخرجه أبو داود بكماله وإن اختلفت بعض ألفاظه ووجدت فيه زيادة سنذكرها. ورواية ابن عمر كما قال الشافعي في "الأم": أخبرنا أنس بن عياض عن موسى بن عتبة عن نافع عن عبد الله بن عمر: "إن هذا كتاب الصدقة" فذكر نحوه وزاد فيه: "فقال في آخره: هذه نسخة كتاب عمر بن الخطاب" وحكى المعنى من أوله إلى قوله: "ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة"، وهذا نص في المدعى. قال أصحابنا: وإنما أخذ الشافعي برواية المذكورين دون رواية علي وعمرو بن حزم، وإن كان قد روياها مستوفاة أيضاً؛ لثلاثة أمور: أحدها: أنهما أصح إسناداً. والثاني: أن كليهما ذكر من طريقين ثابتين، بخلاف ما عداهما. والثالث: أنهما معمول بهما بخلاف ما رواه غيرهما؛ فإن فيه ما اتفق على ترك العمل به، وهو أن الواجب في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه. فإن قيل: حديث أبي سعيد الخدري السابق يقتضي نفي الوجوب في الخمس والعشر من الإبل؛ لأنه أضاف "الخمس" إلى "الذود"، والذود- بفتح الذال المعجمة وسكون الواو وبعدها دال مهملة: هو ما بين الثلاثة إلى التسعة، وقيل: ما بين الثلاث والعشر، والخمس منه أقلها على التفسير الأول: خمسة عشر، فدونها دون الخمسة عشر، وإذا كان كذلك فقد عارض حديث أنس وابن عمر. فجوابه: أن منهم من [رواه] "خمس ذود" بالتنوين على البدل لا على الإضافة، وعلى هذا اندفع السؤال. ومن رواه على الإضافة قال: الحديث دال على جواز استعماله في الواحد، أو هو دال على الجمع، والجمع إذا وقع مميزاً لا يقتضي زيادة على العدد المذكور ويشهد لذلك قوله: "وعلى خمسة دراهم" فإن دراهم جمع ولا يقتضي لفظه أكثر من خمسة منها، والله أعلم.

وقد تكلم أصحابنا في تفسير بعض ألفاظ الخبر، فقالوا: قوله: "هذه فريضة الصدقة" أي هذه نسخة فريضة الصدقة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كتبها في نسخة ووضعها في قراب سيفه، فلما توفي وعاد الأمر لأبي بكر أخذها من قراب سيفه، وكان يعمل عليها مدة حياته، ثم مات فعمل بها عمر بعده مدة حياته، كذا نقله الماوردي، ونقل القاضي الحسين أن أبا بكر كان قد استنسخ كتاب أنس من كتاب كتبه له النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه خاتمه وكان في صدره مكتوباً: "هذه الصدقة" فهذه ترجمة الكتاب وعنوانه مثل أن يكتب على ظهر محضر أو سجل: هذا محضر فلان. وقوله: التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قيل: يحتمل أن يكون المراد: التي قدرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يقال في "فرض القاضي النفقة": أي قدرها. وهذا ما جزم به الصيدلاني، ولم يورد الماوردي غيره. وقيل: يحتمل أن يكون المراد: التي أوجبها، وهو قول المسعودي. والاحتمالان أوردهما ابن الصباغ. وقوله: التي أمر الله بها رسوله إشارة إلى قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية [التوبة: 103]. وقوله: "فمن سأل فوقها فلا يعط" قيل: معناه: فلا يعط شيئاً؛ لأنه إذا طلب ما لا يستحق بطلت أمانته قال الماوردي: وعلى هذا لا يجب الدفع إليه. وقيل: فلا يعط الزائد، وهو الأصح في "الشامل"، وفي "تعليق" القاضي الحسين وقال: إن مقابله مذهب المعتزلة في أن الولي ينعزل بالجور، ومذهب أهل الحق: أنه لا ينعزل، قال الماوردي: وهذا إذا طلب الزائد بغير تأويل، فإن كان يتأول مثل أن طلب الكبيرة عن الصغار تعين الثاني. تنبيه: قول الشيخ: "وفي عشر شاتان" إلى قوله: "وفي عشرين أربع شياه" يظهر أنه ليس على معنى أن الشاتين في العشر والشاة في الخمسة عشر والعشرين وجب مجموعها في مقابلة المجموع والجزء في مقابلة الجزء حتى لو تلفت واحدة من العشر بعد الحول وقبل التمكن، وقلنا: إن التمكن شرط الضمان،

يسقط ما في مقابلها من الشاتين أو الشاة، حتى لو كان المال عشراً سسقط عشر الشاتين، ويكون الواجب تسعة أعشارها، بل بمعنى أن في كل خمس [من ذلك] شاة، حتى لو تلفت من العشر كما ذكرت واحدة نقول: سقط عنه خمس شاة، ووجب عليه شاة وأربعة أخماس شاة، ويدل عليه من قول الأصحاب ما قاله الإمام من بعد: أن المشايخ قالوا: إذا ملك نصابين فواجب كل نصاب منحصر فيه، وزعموا أن هذا متفق عليه، ويشهد له من السنة ما تقدم ذكره من رواية أنس عن كتاب أبي بكر، وأصرح منه ما رواه أبو داود في الخبر المذكور وهو قوله: "فيما دون خمس وعشرين من الإبل في كل خمس ذود شاة". ويجيء في المسألة وجه آخر من قول الإصطخري، فيما إذا ملك أربعمائة من الإبل: أنه لا يجزئه إلا ثمان حقاق أو عشر بنات لبون؛ لأنه جعل المجموع شيئاً واحداً، وجعل الواجب في مقابلته؛ إذ لو كان لكل شيء منه حكم عنده لقال بما قال به أئمة المذهب كما سنذكره-: إنه يجزئه أربع حقاق وخمس بنات لبون، وهذا لا يتجه غيره فيما إذا وجب عليه بنتا لبون وحقتان. ثم اعلم أن الأصحاب قالوا: إيجاب الشرع الشاة في الخمس على خلاف قاعدة الزكاة شرعها رفقاً بأرباب الأموال؛ لأنه لو أوجب فيها بعيراً لأضر بهم، ولو أوجب فيها خمساً- كما هو القياس حيث أوجب في خمس وعشرين- لأضر بالفريقين لعسر المشاركة والتشقيص فجمع بإيجاب الشاة فيها بين المصلحتين، ونفي كلا من الضررين. نعم، هل أوجبها أصلاً بنفسها أو بدلاً عن خمس البعير المجزئ في خمس وعشرين؟ فيه وجهان لأصحابنا، وادعى الإمام أن الثاني منهما لا يناسب مذهب الشافعي، وقد غلط من ظن ذلك من قول بعض الأصحاب إنه يشترط ألا تنقص قيمة البعير المخرج مكان الشاة عن قيمة شاة مجزئة، ولهذا الاختلاف أثر يظهر لك من بعد. قال: فإن أخرج منها بعيراً قبل منه؛ لأنه إذا أجزأ عن خمس وعشرين فما

دونها وهو بعضها أولى، وهذه الدلالة تسمى دلالة فحوى الخطاب ومنها قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فكان النهي عن الضرر من طريق الأولى. ثم ظاهر كلام الشيخ أن الضمير في قوله "منها" يعود إلى العشرين، وبه صرح في "المهذب"، وإذا كان كذلك كان مقتضاه قبوله فيما دون ذلك من طريق الأولى؛ عملاً بما ذكرناه، وقد حكى الأصحاب من الطريقين وجهاً آخر: أنه لا يجزئه من العشرين إلا أربعة أبعرة، أو ثلاثة أبعرة وشاة، أو بعيران وشاتان، أو بعير وثلاث شياه، وكذا لا يجزئه في الخمسة عشر إلا ثلاثة أبعرة، أو بعيران وشاة، أو بعير وشاتان [وفي العشر بعيران أو بعير وشاة]. وبعضهم بناه على أصل مقصود في نفسه، وهو أنه إذا أخرجه عن الخمس أجزأه بلا خلاف، لكن ما الواجب فيه: هل كله أو خمسه؟ وفيه قولان أو وجهان مذكوران في الطريقين، قال القاضي الحسين- وتبعه البغوي-: إنهما مبنيان على أن الشاة وجبت أصلاً [أو بدلاً عن خمس؟ يعني: وفيه الخلاف السابق: فإن قلنا: وجبت أصلاً] فالواجب كله، وإلا فخمسه فإن قلنا إن الواجب كله لم يجزئه البعير الواحد عن العشرين ولا عن [العشرة؛ بل لا بد معه مما ذكرناه، وإن قلنا: إن الواجب خمسه، أجزأه عن] العشرين فما دونها. وهذا البناء يقتضي أن يكون الراجح عند أئمة المذهب: عدم الإجزاء؛ لأن الراجح عندهم أن الواجب كله كما ذكره ابن الصباغ والبغوي وصاحب "المرشد" وإن كان الإمام قد قال: إنه غير مرضي عندي، والراجح بالاتفاق: الإجزاء ومن ذكره وأشعر إيراده بأنه لا خلاف فيه، وقال الإمام: الوجه القطع به، ومن حاد عن اعتبار الأولى من طريق الفحوى فقد ضل عن سواء طريقه ضلالاً بعيداً. قال الرافعي: [من وجوه] الإشكال في البناء أن يقال: لم يلزم من كون كله فرضاً إذا أخرجه [عن هذا، إن أخرج] عن خمس ألا يكتفي به عن العشر؛ بل يجوز أن يكون كله فرضاً إذا أخرج عن هذا، وفرضاً إذا أخرج عن ذلك؛ ألا

ترى أنه يقع فرضاً يكتفى به عن الخمس والعشرين، مع الحكم بأن كله فرض إذا أخرج عن الخمس، وكذا البدنة ضحية واحدة إذا ضحى بها وهي بعينها ضحية سبع إذا اشتركوا فيها. ثم الوجهان في أن الواجب من البعير عند إخراجه موضع الشاة كله أو خمسه مشبهان عند العراقيين والماوردي بما لو نذر التضحية بشاة، فضحى ببدنة أو بقرة، أو أخرج المتمتع بدنة أو بقرة، فالبدنة تقع فرضاً، أو الفرض مقدار السبع والباقي تطوع؟ وفيه خلاف وقال الإمام: إن هذا ذلك؛ فإن من أراد الاقتصار على سبع بدنة بدلاً من الشاة في الأضحية ونحوها جاز له ذلك، ولو أراد المزكي إخراج خمس البعير فقط لم يجزئه بلا خلاف، بل الشرط عند من قال إن الواجب خمسه التبرع بالباقي؛ لزوال عيب التشقيص على الفقراء؛ فالوجه: القطع بأن الزيادة على السبع تطوع في الضحايا، وإن ثبت فيه خلاف فهو شبيه بما تقدم ذكره من أن من استوعب الرأس بالمسح فهل يقع بالكل فرضاً أم لا؟ والأصح أن الفرض قدر الاسم، إذ يجوز الاقتصار عليه كما في السبع من البدنة في التضحية. والمراد بالبعير هنا: ما يجزئ في الخمس والعشرين، وإن كان لغة يطلق على الذكر والأنثى؛ لأنه اسم جنس؛ فيكون الشيخ قد أتى بمطلق وأراد به مقيداً، وذلك جائز ويقال في جمعه: أبعرة، وأباعر، وبعران، وقد اقتضى كلام الشيخ أنه إذا أخرجه عن الخمس أجزأه، سواء كانت قيمته أكثر من قيمة الشاة أو مثلها أو دونها، وهو ما ادعى في "التهذيب" أنه المذهب، سواء كان النقص بسبب عيب فيها أو لرداءة جنسها، وهو ما ادعى الإمام قطع الأئمة به إذا كان سبب التفاوت عزة الغنم؛ إذ علمنا أن سبب العدول إلى جنس الغنم الترفه والتخفيف، [فلا التفات إلى] سبق على ندور. وفي "الإبانة" أن القفال روى عن الشافعي أنه لا يجزئه في حال النقص، وأن سائر الأصحاب أنكروه عليه، وقالوا: لا يجوز. ولم يوجد للشافعي هذا؛ لأن ما يجوز أداؤه في الزكاة لا تراعى قيمته بحال، وقال الإمام: إن شيخه رواه ولم يعزه إلى القفال، والمحكي في "تعليق" القاضي الحسين: أن إبله إن كانت مراضا أو

قليلة القيمة لعيب فيها، فأعطى واحدة منها مكان شاة، وقيمتها أقل من قيمة الشاة - فالذي نص عليه أي في "المختصر": أنه يجوز، وهو الذي أورده ابن الصباغ وصاحب "البحر"، وزاد محكياً عن نصه في "الأم": أنها لو كانت متباينة في المرض، فأعطى أردأها وأدونها قبل منه، قال القاضي: والذي نص عليه فيما إذا كانت له خمسة صحاح رديئة الجنس، فأعطى واحدة منها مكان شاة، لا يقبل إلا أن تساوي شاة فمن أصحابنا من فرق بين النصين بأنه: إذا أعطى واحدة من الصحاح فهو يعتقد التطوع، وأقل ما في التطوع ألا ينقص ما أدى عن الأصل وهو الشاة، وفي المراض هو غير متطوع؛ وإنما يعطي البعير مكان أداء شاة للضرورة على اعتقاد أن الواجب عليه ذلك؛ فلا حاجة إلى اعتبار القيمة، وهذا الفرق هو قول القفال كما قاله في "البحر" قال القاضي: والصحيح أن في المسألتين قولين بالنقل والتخريج، والقولان مبنيان على أصل مستنبط من هذا الفرع، وهو أن الواجب في الأصل شاة أو خمس بعير فعلى الأولى يجزئ، وعلى الثاني: لا، وقد قال في "التتمة" إن القول بعدم الإجزاء فيما إذا كانت معينة قد قال به ابن سريج، وإنه قيل: إنه منصوص عليه في "الكبير". وإذا اختصرت ما ذكرناه جاءك في المسألة ثلاثة أقوال، ثالثها: إن كانت إبله صحاحاً فلا يجزئ، وإلا أجزأ. ولو أخرج قيمة الشاة حيث لم يجد جنس الشاة أصلاً، فقد حكى الإمام عند الكلام فيما إذا اجتمع فرضان في نصاب عن صاحب "التقريب" أنه يؤخذ منه ذلك، وأنه حكى الوفاق في ذلك، والسبب فيه: أن الشاة في وضعها خارجة عن جنس المال؛ فاحتمل في ذلك قيمة الشاة عند الضرورة، والله أعلم. قال: ويجزئ في شاتها الجذع من الضأن وهو ماله ستة أشهر، والثني من المعز، وهو الذي له سنة. هذا الفصل نظم أمرين: أحدهما: إجزاء الجذع من الضأن والثني من المعز فيها، ذكراً كان أو أنثى. الثاني: بيان سن ذلك. فالأول: الإجزاء.

والدليل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في كل خمس شاة" وهي تطلق لغة على الواحد من الضأن أو المعز ذكراً كان أو أنثى ومختصة في عرف الشرع من الأضاحي ودماء الجبرانات بالجذع من الضأن والثني من المعز؛ فنزلت عليه كما نزلناها على ما يجزئ في الأضاحي، وإن أبعد بعض أصحابنا فقال: يجزئ فيها كل ما يطلق عليه اسم "شاة" وإن لم يجزئ في الأضاحي. وقيل: لا يجزئ فيها إلا الجذعة أو الثنية، لما روى سويد بن غفلة قال: أتانا مصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "نهينا عن أخذ المراضع وأمرنا أن نأخذ جذعة من الضأن أو الثنية من المعز"، ولأنه عليه السلام أطلق الشاة هنا، وقيدها في الأربعين من الغنم، فحملنا المطلقة على المقيدة، ولو انتفي هذا لأثبتنا هذا الحكم بالقياس عليها. وهذا الخلاف مذكور في كتب الأصحاب وجهين، ونسبوا الأول منهما إلى أبي إسحاق، وادعى البندنيجي أنه المذهب، وقد اختلف في محلهما على طريقين حكاهما المتولي: أشهرهما- وهي المذكورة في "التهذيب" و"تعليق" البندنيجي-: جريانهما فيما إذا كانت الإبل ذكوراً أو إناثاً. والثانية: إن كانت إبله أو بعضها إناثاً لا يجزئ إخراج الذكر. والوجهان مخصوصان بما إذا كانت كلها ذكوراً، أو إنهما مبنيان على أن الشاة

المخرجة أصل بنفسها أم بدل عن الإبل؟ فإن قلنا: بدل جاز إخراج الذكر؛ كما لو أخرج عنها بعيراً ذكراً يجزئه وإن قلنا: أصل لم يجز؛ جرياً على الأصل المعتبر في الزكوات، وهو كون المخرج أنثى. قلت: وهذا البناء يقتضي أنه لا فرق في جريان الوجهين بين أن تكون الإبل كلها ذكورا أو ذكورا وإناثاً، لأن إخراج الذكر منها بدلاً جائز كما ستعرفه، وقد حكى الماوردي الوجهين مطلقين ثم قال: وذهب بعض متأخري أصحابنا البصريين إلى أن الإبل إن كانت إناثاً لم يجزئ فيها إلا الأنثى، وإن كانت ذكوراً أجزأ الذكر والأنثى؛ اعتباراً بوصف المال كما يؤخذ من الكرام كريم، ومن اللئام لئيم. ثم ظاهر كلام الشيخ والخبر إجزاء الجذع من الضأن والثنية من المعز كيف كان الحال ولأنه أطلق ذكر الإجزاء ولم يخصه بحال، والإطلاق يصدق عليهما لغة وشرعاً بدليل الأضحية ودماء الجبرانات، وإذا كان كذلك اقتضى التخيير فيهما، وهو الذي حكاه البندنيجي والماوردي وابن الصباغ والمتولي، وقال ابن الصباغ: وهذا بخلاف الشاة المخرجة عن الأربعين؛ فإنه عليه السلام عينها منهما. ولا فرق عند هؤلاء بين أن يكون النوعان في البلد مستويين. أو أحدهما أغلب، نعم لو كان الغالب في البلد نوعاً من المخرج، كما إذا كان فيها غنم مكية وشامية وبغدادية- تعين الأغلب كما في زكاة الفطر قاله ابن الصباغ والبندنيجي والماوردي، فلو أخرج غير الأغلب لم يجزئه إلا أن يكون مثل الأغلب أو خيراً منه، وعلى ذلك ينطبق قول الشافعي في "الأم": إن كان في بلده جنس من الغنم، فجاء بجنس آخر فإن كان مثله في القيمة أو خيراً منه أجزأه، وإن كان دونه لم يجزئه. وحكى في "التتمة" في هذه الصورة وجهين: [أحدهما: نعم، وكما لا يعتبر غالب غنم البلد ضأناً ومعزاً؛ فكذلك لا يعتبر نوعها مكية وشامية.

والثاني: لا يجزئه، قال: وليس بصحيح]. والذي حكاه في "المهذب": أن الواجب عليه من غنم البلد إن كان ضأناً فمن الضأن، وإن كان معزاً فمن المعز، وإن كان منهما فمن الغالب كما في زكاة الفطر [منه] وإن كانا سواء جاز من أيهما شاء، وهو في ذلك متبع للقاضي أبي الطيب. وإذا جمعت ذلك جاءك في المسألة وجهان أو وجه وقول، والذي نسبه الإمام إلى العراقيين منهما الثاني، وإن صاحب التقريب ذكر نصاً عن الشافعي موافقاً له، ونسب نقله إلى المزني وغلطه في النقل [وأنه نقل] نصوصاً مخالفة لذلك، متضمنها: أنه يخرج شاة من أي نوع كان جذعة من الضأن أو ثنية من المعز، ولا نظر إلى غنم البلد. قال: والذي ذكره صاحب "التقريب" في نهاية الحسن، لأن الشاة وجبت فيه مطلقة في الذمة؛ فاعتبر اسم الشاة، ولا يتخصص لفظ الشارع بالعرف على مذهب المحققين في الأصول، ودليله الشاة في الأضحية، وبذلك يتحقق في المسألة قولان. قال الإمام: وقد ذكر بعض الضعفة وجها: أنه يخرج الشاة من نوع غنمه إن كان يملك غنماً، اعتباراً بإبل العاقلة؛ فإنا في طريقه نقول: يخرج كل غارم من العاقلة من إبله إذا كان يملك إبلاً، وهذا لا يعد من المذهب؛ بل هو هفوة. قلت: وهذا الوجه ظاهر لفظه في "المختصر" يدل عليه؛ فإنه قال فيه: فإن كانت غنمه معزاً فثنية أو ضأناً فجذعة ولا نظر إلى الأغلب في البلد. فرع: قد ذكرنا أن إبله إذا كانت كراماً وجب من الغنم كريم، وإن كانت لئاماً فلئيم، وأنه لا يجزئ فيها إخراج المعيب، على المذهب في حال سلامة الإبل، ولو كانت معيبة أو مراضاً فلا يجزئ فيها المعيب والمريض أيضاً، وماذا يجب عليه؟ [فيه وجهان]: أحدهما: ما يجب لو كانت صحاحاً سليمة، وهو المنصوص في "المختصر"،

وظاهر المذهب في "المهذب" و"البحر" والمختار في "المرشد" وادعى القاضي الحسين: أنه لا خلاف فيه. والثاني- قاله ابن خيران، وهو الذي أورده كثيرون كما قال الرافعي: أنه تجب شاة صحيحة بالقسط؛ فيقوم الأصل صحاحاً، فإذا قيل: قيمته ألف، قومت الشاة التي تجزئ فيه، فإذا قيل: قيمتها عشرون، قومنا المراض فإذا قيل: قيمتها خمسمائة أوجبنا عليه ما تجزئ فيها الأضحية قيمتها عشرة، فإن تعذر تحصيلها بذلك تصدق بالدراهم، قال ابن الصباغ وغيره: وعكس المتولي هذا الترتيب فقال: الواجب عليه شاة بالقسط كما ذكرناه، فإن لم يمكن تحصيلها بما اقتضاه التوزيع فوجهان: أحدهما: يخرج شاة تجزئ في الأضاحي. والثاني: يتصدق بالدراهم. والثاني من الأمرين اللذين قلنا: إن الفصل يتضمنهما بيان سن ما يجزئ. وما ذكره الشيخ في بيان الجذع هو الذي اختاره الروياني في "الحلية" كما قال الرافعي، وقد حكى عن ابن الأعرابي أنه قال: المتولد بين شاتين [يجذع] لستة أشهر إلى تسعة، وبين هرمين يجذع لثمانية أشهر، [وهو ما أورده ابن الصباغ في باب الأضحية، وقيل: هو ما أتى عليه ثمانية أشهر]، وهو اختيار الروياني في "الحلية"، والأصمعي: هو ما له ثمانية أشهر أو تسعة. وسنذكر في باب

الأضحية غير ذلك، ومن أراد استيفاء ما قيل في ذلك، فليطالع هنا وثم. وما ذكره في الثني من المعز هو المنقول في "الحاوي" والمختار في الحلية كما قال الرافعي، والمشهور في الكتب: أنه الذي له سنتان ودخل في الثالثة، وقد جمع الماوردي بين النقلين بما سنذكره في الأضحية. قال: وفي خمس وعشرين بنت مخاض؛ للخبر، وهي التي لها سنة ودخلت في الثانية، سميت بذلك؛ لأن أمها قد آن لها أن تكون ماخضاً، أي حاملاً، وقولنا: آن لها أي: دخل وقت قبول أمها للحمل، لا أنه لا يشترط في صدق الاسم أن تكون أمها حائلاً، وكذا في اللبون لا يشترط أن تكون أمه ذات لبن، و"الماخض": اسم جنس لا واحد له من لفظه، والواحدة: خلفة، والذكر من ولدها يسمى: ابن مخاض، إذا كان له سنة، وقيل: إن الواحد من الإبل إلى تمام السنة تختلف أسماؤه فالذي قاله الماوردي أنه يقال لولد الناقة [إذا وضعته لدون وقته ناقص الخلق: خديج] وإن وضعته لوقته ناقص الخلق: مخدوج، وإن وضعته لوقته كامل الخلق قيل له: هبع وربع، ثم فصيل، ثم سليل، ثم حوار ثم حاسر فإذا تمت سنته قيل فيه ما ذكرناه.

وقال القاضي الحسين: إنه تسمى الأنثى من ولد الناقة حين وضعه: ربعة وهبعة، وفي الذكر: ربعا وهبعا، إذا كان ربيعياً، ثم بعد ذلك يسمى حواراً، وقيل: تمام السنة يسمى فصيلاً. وقال البندنيجي: الفصيل اسمه من حين يفصل عن أمه إلى انتهاء سنة من عمره، ويقال له حوار. قال: فإن لم يكن في إبله أي حالة الإخراج بنت مخاض، أي كيف كانت- قبل منه ابن لبون، أي ذكر، وإن كان قادراً على شراء ابنة مخاض؛ لأنه جاء في رواية أبي داود عن أنس في كتاب أبي بكر: "فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن

لبون ذكر" ولفظ البخاري في سياق تتمة حديث أنس السابق: "ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده وعنده بنت لبون فإنها تقبل منه، ويعطه المتصدق عشرين درهماً أو شاتين، فإن لم يكن عنده ابنة مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شيء". قال: وهو الذي له سنتان، ودخل في الثالثة، سمي بذلك، لأن أمه قد آن لها أن تكون لبونا على غيره. فإن قيل: قد قلتم: إنه إذا قدر في الكفارة على شراء [الرقبة] وعادم الماء إذا قدر على شرائه- لا يجوز أن ينتقل إلى البدل فهلا كان هاهنا مثله. قيل: للنص والمعنى: أما النص فإن الله تعالى يقول: [{فمن لم يجد فصيام}] {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [النساء: 43] فاعتبر عدمهما وهما قادران عليه بالبدل وقال عليه السلام في مسألتنا: "فإن لم يكن في إبله" فاعتبر الوجود في ماله. وأما المعنى فمن وجهين: أحدهما: أن الزكاة مبنية على التخفيف؛ لأنها مواساة من ماله؛ ولهذا جوز له الصعود [إلى] فرض أعلى وأخذ الجبران وعكسه، بخلاف الكفارة والطهارة. والثاني: أن ابن اللبون يساوي بنت المخاض؛ لأنه أفضل منها بالسن فيمتنع من صغار السباع ويرعى بنفسه، وهي أفضل منه بالأنوثة، وكان القياس يقتضي إجزاءه عند وجودها لولا الخبر، فإنه شرط في إجزائه عدمها. وإذا عرفت أنه يجزئ عنها ابن اللبون عرفت أن إجزاء الحق والجذع عنها من طريق الأولى وهو ما جزم به الأصحاب عند فقد ابن اللبون من ماله، وكذا معظمهم مع وجوده، وحكى الماوردي وتبعه الروياني وجهاً ضعيفاً: أنه لا يجزئ لأنه لا مدخل له في الزكاة، وقد اتفق الكل على إجزاء الحقة والجذعة

عنها ولو مع وجودها، أما إذا كانت في إبله ابنة مخاض نظر: فإن كانت بحيث تجزئ عنه ويجب عليه إخراجها، فلا يقبل منه ابن اللبون بلا خلاف، وإن كانت مما لا تجزئ لكونها معيبة فقد أطلق الغزالي وإمامه- وتبعهما الروياني والرافعي- قبوله منه، وفي تعليق القاضي أبي الطيب: أن إبله لو كانت كراماً، وفيها بنت مخاض لئيمة أو نجيبة مهزولة لم يجز إخراجها في زكاته، فهل يجزئه ابن لبون أو يجب عليه شراء بنت مخاض؟ فيه وجهان. وإن كانت لا يجب إخراجها؛ لكونها كريمة فهل يجوز له الانتقال إلى ابن لبون؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنها إذا لم يجب إخراجها صارت كالمعدومة، وهذا ما حكاه الإمام عن العراقيين وقال: إنه متجه وإليه ميل كلام صاحبي "المهذب" و"التهذيب"، وفي "البحر" أن أكثر أهل العراق حكوه عن النص لا أنه في خصوص المسألة، بل لأنه نص على أنه يجوز لمن عليه حقة، وفي جماله حقة ماخض: أن ينزل إلى بنت لبون، أو يصعد إلى الجذعة مع الجبران، فجعل ما لا يلزم إخراجه كالمعدوم؛ فكذا هنا، وهذا الوجه قد صدر به في"الوسيط" كلامه، ثم قال: وقال القفال: يلزمه شراء بنت مخاض؛ لأنها موجودة في ماله، وإنما

تركت نظراً له فلا يؤخذ ابن لبون، وهذا هو الوجه الثاني، وقال الإمام: إن إليه ميل كلام أصحاب القفال، وإنه ظاهر المذهب، وكذلك قاله في "التتمة" وفي "البحر" أنه المذهب، ولم يورد القاضي أبو الطيب غيره، وادعى مجلي أنه قول أكثر الأصحاب. ولو كانت ابنة المخاض حال الوجوب معدومة من ملكه، لكنها تجددت في ملكه قبل الإخراج: فهل يجزئه ابن اللبون أم لا؟ فيه وجهان، أصحهما في "البحر": لا. وقد اقتضى كلام الشيخ أمرين: أحدهما: قبول ابن اللبون منه عند فقد بنت المخاض من ماله، سواء كان ابن اللبون في ملكه أو لا، وهو وجه حكاه القاضي الحسين، وصدر به في "الوسيط" كلامه، وقال في "التتمة": إنه الصحيح من المذهب [فيه]؛ لأنه مهما اشترى ابن اللبون أو اتهبه فقد صار موجوداً في ملكه دون بنت مخاض، ولم يحك القاضي أبو الطيب والبندنيجي والماوردي- وتبعهم في "المهذب"- غيره، وحكاه الإمام عن نقل الأئمة عن النص. وعن صاحب "التقريب": أنه يجب عليه [شراء بنت مخاض؛ لأنها الأصل، وهذا ما قال القاضي الحسين في "تعليقه": إنه نص عليه]. والوجهان فيما إذا لم يرد [العدول] إلى فرض أعلى [من بنت المخاض] ويأخذ الجبران، فإن أراد ذلك فهو له. نعم، لو كان في ملكه ابن لبون فأراد أن يخرج بنت لبون، ويأخذ الجبران فهل يجوز؟ فيه وجهان في "الحاوي" و"البحر". أحدهما: يجبره في تحصيلهما. والثاني: يطالبه ببنت مخاض؛ لأنه الأصل. ثم إن جاء بابن لبون أخذ منه.

الأمر الثاني عدم إجزاء الخنثى مكان بنت المخاض عند فقدها كما اقتضاه نصه في "المختصر" وظاهر الخبر؛ لأنه اشترط في إجزاء المخرج بدلاً عن بنت المخاض أن يكون ذكراً، والخنثى لم تتحقق ذكورته، وهو ما حكاه الأصحاب وجهاً نسبه الإمام إلى بعض الضعفة، وقال: إن القول به هوس؛ بل الصحيح الإجزاء، وهو ما جزم في "الوجيز" و"التتمة"، وصدر به في "الوسيط" كلامه؛ لأنه إن كان ذكراً فقد حصل المقصود، وإن كان أنثى فقد زاد خيراً، والخبر محمول على إرادة التأكيد لدفع احتمال توهم الغلط؛ فإن الأسنان المنصوص عليها إناث، وقد جاء التأكيد في كلامه عليه السلام بنحو ذلك، وهو في قوله: "فما أبقت الفرائض فلأولى عصبة رجل ذكر" وكما يقال: رأيته بعيني، وسمعته بأذني هاتين. وقد قيل: إن ابن اللبون يطلق على الذكر والأنثى، والذي أورده القاضي الحسين في "تعليقه" الأول موجه بأنه اتصف بالنقص؛ لأنه ليس له قوة الذكر ولا نسل الإناث، ولا خلاف أن الخنثى إذا كانت أمه ماخضا لا يجزئ؛ لأن الأنوثة لم تتحقق. قال: وفي ست وثلاثين بنت لبون للخبر، فإن لم تكن في إبله فله شراؤها، فإن لم يفعل كان للساعي الصعود إلى الحقة، والنزول إلى بنت مخاض مع الجبران كما سيأتي، وهل لرب المال إخراج حق عنها؛ جبراً لفائت الأنوثة بزيادة

السن كابن اللبون عن بنت المخاض؟ حكى الإمام عن صاحب "التقريب" أنه تردد جوابه فيه، وقال: إن ما ذكره من طريق الاحتمال متجه، ولكن اللائق بمذهب الشافعي اتباع النص، وتخصيص ما ذكره الشارع من إقامة ابن اللبون مقام بنت المخاض، وقد صرح الماوردي والحناطي في المسألة بوجهين، وأن الصحيح المنع كما قال الإمام: إنه اللائق بالمذهب، وبه جزم القاضي أبو الطيب والحسين والمتولي وغيرهم من العراقيين، وفرقوا بين [ابن] اللبون والحق بوجهين: أحدهما: أن زيادة سن ابن اللبون تمنع من صغار السباع، وترعى الشجر وترد الماء، وذلك لا يوجد في بنت المخاض؛ فكان ذلك مقابلا لأنوثتها، وليس كذلك بنت اللبون مع الحق؛ فإنهما يشتركان في ذلك، وإنما فضلها بمجرد السن، وذلك لا يقابل الأنوثة؛ فلم يستويا. والثاني- قاله في "البحر"-: أن للمصدق في ابنة اللبون خيارين بالنزول وبالصعود، فلا يجوز إثبات خيار ثالث له بإخراج الحق، وفي ابنة المخاض ليس له إلا خيار واحد وهو الصعود؛ لأنه ليس له النزول بإخراج ما دون بنت مخاض فجعل له إخراج ابن لبون مكان بنت مخاض؛ ليحصل له خياران قياساً على ذلك. فإن قيل: لو وجبت عليه جذعة ولم يملكها، وملك تيسا، لا يجوز له إخراجه بلا خلاف، وإن كان لا خيار له على وجه [يأتي ذكره] إلا في النزول فقط، وكان قياس هذا الفرق: أن يجزئه إخراج التيس على هذا الوجه. فجوابه: أنا لا نسلم أنه لا خيار له إلا من جهة النزول؛ بل له الخيار من جهة الصعود بلا خلاف أيضاً، لكن الخلاف في أنه يأخذ مع ذلك الجبران أم لا؟ وما دون بنت المخاض لا يجزئ بحال. وقد عكس في "الوسيط" ذلك فصدر كلامه بجواز إخراج الحق عن بنت اللبون عند فقدها، ولم يورد في"الوجيز" غيره، ثم قال: وقال صاحب التقريب: يحتمل ألا يجوز؛ لأنه بدل غير منصوص عليه، ولو أراد أن يخرج ابن لبون عند

فقدها ويعطي الجبران، فهل تقبل منه؟ فيه وجهان في "الحاوي" وتبعه في "البحر"، ووجه الجواز بأن الشرع أقامه مقام بنت مخاض. قال: وفي ست وأربعين حقة؛ للخبر، ولفظ أبي داود: "حقة طروقة الفحل". قال: وهي التي لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، سميت بذلك؛ لأنها استحقت أن يطرقها الفحل وقد أشار عليه السلام إليه بقوله: "طروقة الفحل"، وقيل: لأنها تستحق أن يحمل على ظهرها وتركب وهو ما ذكره ابن الصباغ، وإليه يرشد قوله عليه السلام في الرواية الأخرى: "طروقة الجمل". فرع: لو أخرج بدل الحقة بنتي لبون، قال في "الروضة": جاز على الصحيح؛ لأنهما تجزئان عما زاد. قال: وفي إحدى وستين جذعة للخبر، وهي التي لها أربع سنين، ودخلت في الخامسة، سميت بذلك؛ لأنها تجذع سنها، أي: تسقطه، وقال البندنيجي: لتكامل أسنانها. ويقرب منه قول الماوردي: إذا بلغت خمساً خرج جميع أسنانها. وكأنهما أخذا بقول أبي حاتم: الجذوعة وقت من الزمن. وعن الأصمعي: أنها إنما سميت جذعة؛ لأن أسنانها لا تسقط فتدل عليها. وهذا السن هو آخر ما أوجبه الشرع من أسنان الإبل في الزكاة، وإن أجزأ منها ما عداه كالثنية، وهي التي طعنت في السادسة، والذكر يسمى ثنيا، والجمع: ثنايا، وسميت بذلك؛ لأنها تثني ثنياتها، وهذا السن هو أول ما يجزئ من الأسنان في الأضحية، وبعده: الرباعية، وهي التي طعنت في السابعة، والذكر: رباع، والجمع: رباعيات، ثم يليها: السدس والسديس للذكر والأنثى، وهو الطاعن في السنة الثامنة سمي بذلك؛ لإلقائه السن السديس الذي بعد الرباعية، ثم يلي ذلك، البازل: وهو الطاعن في التاسعة: ذكراً كان أو أنثى؛ لأنه بزل نابه أي: ظهر، ثم المخلف وهو الطاعن في العاشرة ذكراً أو أنثى، وبعد ذلك يقال: مخلف عام، ومخلف عامين، وبازل عام وبازل عامين وقال البندنيجي وغيره: بعد التسع يقال له: بازل عام، وبازل عامين، وإن البازل والمخلف عبارة عن شيء واحد. قال الماوردي: ونهاية الحسن في الإبل: الجذع، من حيث الدر والنسل والقوة،

وما زاد عليه رجوع كالكبر والهرم. قلت: وإن صح ذلك فقياسه ألا يجزئ ما بعده، والله أعلم. فرع: لو أخرج بدل الجذعة حقتين أو بنتي لبون، قال في "الروضة": جاز على الصحيح؛ لأنهما تجزئان عما زاد، وفي "التتمة" وجه: أنه لا يجوز. وهو [جار في] الفرع قبله. قال: وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان؛ للخبر، وفي مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، لقوله في كتاب أبي بكر "فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة"، وظاهر هذا أن الثلاث البنات وجبت في المائة والعشرين، ولا شيء في مقابلة الزائدة عليها؛ لأنه لو قابلها شيء لكان في مقابلة كل أربعين وثلث واحدة، وقد قال به أبو العباس وأبو سعيد الإصطخري كما قاله في "التتمة" وغيره من الفريقين أطلق حكاية ذلك وجهاً ولم ينسبه لأحد، وإن قائله قال: يجوز أن يكون الشيء مغيراً للفرض ولاحظ له من الفرض؛ كالأخوين من الأبوين يردان الأم من الثلث إلى السدس، ولا يأخذان شيئاً، والصحيح أنه يقابل الزائدة قسط منها؛ لقوله عليه السلام: "إذا زادت الإبل على مائة وعشرين ففيها ثلاث بنات لبون". وقوله: "فيها"، يرجع إلى الكل، وفائدة الخلاف تظهر فيما لو تلفت واحدة بعد الحول وقبل التمكن، وقلنا: إن التمكن شرط في الضمان، فإن قلنا بالأول لم يسقط من الفرض شيء، وإلا سقط ما يقابل التالفة قال في"الوسيط": وعلى الأول يبنى ما لو زاد نصف بعير على مائة وعشرين يجب فيها ثلاث بنات

لبون، وهو بعيد. وما استبعده هو المنقول عن الإصطخري، وأنه تمسك فيه بما ذكرناه من كتاب أبي بكر؛ فإنها إذا زادت نصف بعير أو أقل منه صدق أنها زادت على عشرين ومائة، والصحيح خلافه؛ لأنه جاء في الخبر المروي عن ابن عمر: "فإذا زادت الإبل على المائة والعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون". قال: ثم في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة؛ للخبر، فيجب في مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون، وفي مائة وأربعين بنت لبون وحقتان، وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق، وفي مائة وستين أربع بنات لبون، وفي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون، وفي مائة وثمانين بنتا لبون وحقتان، وفي مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون فإذا بلغت مائتين فما يجب فيها؟ يأتي الكلام فيه. قال: وفي الأوقاص التي بين النصب، أي: كالأربعة بين نصب الإبل التي يجب فيها الغنم، والعشرة بين الخمس وعشرين والست وثلاثين، وغير ذلك، والسبعة بين الثلاثين والأربعين من البقر، والسبعة عشر بين الأربعين والستين منها، وغير ذلك، والثمانين بين الأربعين والمائة وإحدى وعشرين من الغنم، والسبعة والتسعين بين المائة وإحدى وعشرين والمائتين وواحدة وغير ذلك. قال: قولان: أحدهما: أنها عفو لقوله عليه السلام: "في كل خمس شاة" ولو وجبت في الوقص لكانت في تسع، ولأنه عدد ناقص عن نصاب إذا بلغه وجبت فيه الزكاة، فلم تتعلق به كالأربعة الأول، وهذا ما نص عليه في كتبه القديمة والجديدة، كما قاله ابن الصباغ تبعاً لأبي الطيب، وقال البندنيجي: إنه الذي نص عليه في "البويطي" والجديد، وهو الذي صححه النواوي وغيره [تبعاً لـ"الحاوي"]، وقال في "البحر": إنه اختيار ابن سريج، واقتصر القاضي الحسين على نسبته [إلى الجديد] واستدل له بقوله عليه السلام: "في خمس وعشرين بنت مخاض، ولا شيء في زيادتها إلى خمس وثلاثين". والثاني: أن فرض النصاب يتعلق بالجميع؛ لقوله في كتاب أبي بكر: "فإذا

بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض" ولأنه حق يتعلق بنصاب مقدر؛ فوجب أن يتعلق به وبما زاد عليه إذا وجد معه ولم ينفرد بحكم؛ كالقطع في السرقة، وهذا ما نص عليه في "الإملاء"، قال في "الحاوي" و"المهذب" و"البحر": وكذلك في "البويطي"، قال البندنيجي والقاضي الحسين وفي القديم، واختاره ابن سريج كما قاله الرافعي وغيره وصاحب "المرشد" اختاره أيضاً، واقتضى إيراد ابن الصباغ والقاضي أبي الطيب ترجيحه. وإذا عرفت مجموع ما ذكرناه عرفت أن القولين مذكوران في كل من الجديد والقديم، وفائدتهما تظهر مع ملاحظة ما تقدم من أن التمكن شرط الضمان أو الوجوب، في فرعين هما كالأصلين والقاعدتين في الباب: أحدهما: إذا ملك تسعاً من الإبل، فهلك منها أربع بعد الحول وقبل التمكن فإن قلنا: التمكن شرط في الوجوب، وجبت شاة [واحدة] وإن قلنا: شرط في الضمان، فإن قلنا: إن الزائد على النصاب عفو، وجبت شاة أيضاً، وإن قلنا: يتعلق بالجميع، وجب عليه خمسة أسباع شاة؛ لأنها وجبت في مقابلة تسعة فخص كل منها تسعاً، وحكى القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق أنه قال: يجب عليه شاة كاملة على هذا، قال ابن الصباغ: ولم يذكر وجهه، ووجهه عندي أن الزيادة لما لم تكن شرطاً في وجوب الشاة لم يسقط شيء منها بتلفها وإن كانت متعلقة بها، وهذا كما قلنا في ثمانية شهود شهدوا على شخص بالزنى فحكم الحاكم بشهادتهم وقبلهم ثم رجع أربعة منهم عن الشهادة فإنه لا يجب عليهم شيء فلو رجع منهم خمسة وجب عليهم الضمان؛ لنقصان ما بقي عن العدد المشروط كذلك هذا. الثاني: المسألة بحالها لكن التالف خمس بعد الحول وقبل التمكن فإن قلنا: إن الإمكان شرط الوجوب، لم يجب عليه والحالة هذه شيء وإن قلنا: إنه شرط الضمان، فإن قلنا: إن الوقص عفو، وجب عليه أربعة أخماس شاة، وإن قلنا: إن فرض النصاب يتعلق بالجميع، وجب عليه أربعة أتساع شاة، قال ابن الصباغ: ولا يجيء وجه أبي إسحاق هاهنا؛ لنقصان العدد [كما ذكرت في

الشهادة]. قلت: لكن وجه أبي إسحاق وإن كان مأخذه ما ذكره ابن الصباغ من التوجيه فمقتضاه أن يجب عليه في هذه الحالة- والتفريع على ما ذكراه- أربعة أخماس شاة؛ لأن ذلك نظير ما إذا رجع خمسة من شهود الزنى، فإنه يجب عليهم ربع الدية، لأن الباقي من النصاب ثلاثة أرباعه، وهاهنا الباقي منه أربعة أخماسه. وقد سلك الإمام طريقاً آخر في حكاية القولين في الكتاب بعد حكايتهما عن الأصحاب كما ذكرنا، فقال: لو رددت إلى ما يظهر لقلت: إن الزكاة تتعلق بالتسع، فإن النصاب والوقص من جنس واحد، وإنما القولان في أنا هل نجعل الوقص [في حكم الوقاية للنصاب، كما يجعل الربح في القراض] وقاية لرأس المال؟ فكنا نقول في يقول: هو وقاية، وإن كانت الزكاة تتعلق بالجميع؛ فإن الزكاة إذا لم تزد به لم تنقص بتلفه، وفي قول يقول: ليس الوقص وقاية؛ بل تتعلق الزكاة على قضية واحدة بالكل، وإذا تلف البعض سقطت حصته من الزكاة. قال: ومن تمام الشأن في ذلك أن المشايخ قالوا: إذا ملك نصابين فواجب كل نصاب منحصر فيه، وزعموا أن هذا متفق عليه وإنما القولان في النصاب والوقص، وتحقيق القول في ذلك: أن من ملك نصابين فالوجه أن يقال: واجب النصابين متعلق بجميع المال من غير انحصار واختصاص، والدليل عليه: أن بنت المخاض واجب نصيب وهي الأخماس، ثم لا وجه إلا إضافة بنت المخاض إلى جميع الخمس والعشرين من غير حصر وتخصيص، ثم إذا وضح هذا في الأسنان فلا شك في اطراد قياسه حيث تكون الزيادة بالعدد والدليل عليه: أنه إذا زاد بعير بزيادة عشرة عند استقرار الحساب فلا يعتقد عاقل أن البعير وجب في العشر، ولكن الوجه إضافة الكل إلى الكل، ويوضحه الراجح في الخلطة وتفريعاتها؛ فإذا خرج من هذا أن حقيقة المذهب: أن من ملك نصابين فواجبهما متعلق بجميع المال بلا خلاف، وليس أحد النصابين وقاية للثاني، وإذا ملك نصاباً ووقصاً فالوجه انبساط الواجب على الكل، ولكن هل يسقط واجب

النصاب بتلف الوقص، أو الوقص وقاية للنصاب، والتلف محسوب من الوقص كما نقول في الربح في القراض؟ فيه القولان، وعلى ذلك جرى في "الوسيط" والله أعلم. تنبيه: الأوقاص: جمع "وقص" بفتح القاف وإسكانها والمشهور في استعمال الفقهاء إسكانها، وقد عده ابن بري من لحن الفقهاء في الجزء الذي جمعه في اللحن والتصحيف. ونقل ابن الصباغ وشيخه أبو الطيب أن أكثر أهل اللغة قالوا بالإسكان، ورداً على من غلط الفقهاء في ذلك، قال النواوي: وفي نقلهما نظر؛ لأنه مخالف للموجود في كتب اللغة المشهورة المعتمدة، ثم قيل: إن "الوقص" مشتق من قولهم: رجل أوقص، إذا كان قصير العنق لم تبلغ عنقه حد أعناق الناس؛ فسمي وقص الزكاة لنقصانه عن النصاب. قلت: وهذا يقوي صحة إطلاق الوقص على الأربعة من الإبل قبل النصاب ونحوها، ومنه قول الشافعي في "البويطي": و"ليس في الأوقاص من شيء، وهو ما لم يبلغ ما تجب فيه الزكاة"؛ ولأجله قال الشيخ: "وفي الأوقاص التي بين النصب"؛ ليخرج ما قبل النصاب، فإن القولين ليسا فيه، والموجود في أكثر كتب المذهب أن الوقص: ما بين الفرضين. وفي "تعليق" البندنيجي أن أول النصاب يقال له: وقص. وما بين النصابين، قال [في] "البويطي": يقال له: شنق، والفقهاء كلهم يقولون: وقص. وغيره قال: الشنق- بالشين المعجمة والنون المفتوحتين والقاف- كالوقص، سواء عند أهل اللغة. وقال القاضي أبو الطيب: إنه قول أكثر أهل اللغة، وعن الأصمعي أنه قال: الشنق مختص بأوقاص الإبل، والوقص يختص بالبقر والغنم. قال: ومن وجب عليه سن أي مما ذكره ولم يكن عنده أخذ منه سن أعلى منه، ورد عليه شاتان أو عشرون درهماً، أو سن أسفل منه [ودفع معه] شاتين أو عشرين درهماً.

الأصل في ذلك: ما روى البخاري عن أنس في كتاب أبي بكر الذي تقدم بعضه، قال: "ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه [الجذعة] ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت [عنده صدقة الجذعة وليست عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطي شاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت صدقته بنت لبون وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت صدقته] بنت لبون وليست عنده وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت مخاض، ويعطي معها عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده [وعنده] بنت لبون، فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين" فقد اشتمل الحديث على حكم الصعود والنزول وتقدير الجبران، وادعى الإمام الاتفاق على أصل الجبران. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أموراً: أحدها: أنه لو وجب عليه جذعة وليست عنده، أنه تقبل منه الثنية ويعطى الجبران إذا طلبه، أو الحقة ويأخذ معها الجبران، وهو ظاهر النص، والأصح في "تعليق" أبي الطيب و"الروضة"، والراجح عند العراقيين. ومن الأصحاب من قال: إن بذله بغير جبران قبل منه، وإن طلب الجبران فلا يقبل؛ لأنها تساوي الجذعة في القوة والمنفعة؛ فلا معنى لدفع الجبران، وهذا ما ادعى القاضي الحسين أنه الظاهر، ورجحه البغوي والغزالي، وقال في "التتمة": إنه المذهب. وإذا أردنا أن نحترز عن هذه الصورة لأجل هذا الوجه قدرنا في كلام الشيخ عند قوله "ومن وجب عليه سن ولم يكن عنده أخذ منه سن أعلى منه"، أي: فيما يجب في الزكاة، وقد يقال: يتعين هذا حتى يخرج ما دون بنت مخاض؛ فإنا لو جرينا على ظاهر اللفظ لاقتضى إجزاءه مع الجبران، ولا قائل به.

الثاني: أنه لا فرق في الصعود وأخذ الجبران بين أن يكون المأخوذ صحيحاً أو مريضاً، ولا خلاف فيه إذا كان صحيحاً، وأما إذا كان مريضاً فقد أطلق في"المهذب" وغيره القول بأنه لا يجوز، وهو المحكي في "الحاوي" عن نصه في "الأم"؛ لأن قدر التفاوت بين الصحيحين فوق قدر التفاوت بين المريضين، وما دفع بين أعلى التفاوتين كيف يدفع لأدناهما، ولا جابر إلى إيجاب ما دون ذلك؛ [لأن ذلك] يكون نظراً إلى القيمة، ولا مدخل لها في الزكوات عندنا، وقال الإمام: هذا عندي فيما إذا قلنا: الخيرة لرب المال في الصعود والنزول عند التشاحح كما سنذكره، [وهو مراد الأصحاب] أما إذا قلنا: إنه للساعي، وكانت المصلحة للفقراء في أخذ الأعلى ودفع الجبران، فالوجه القطع بجواز ذلك، وهذا ما أورده الرافعي، ولا خلاف في أنه لو أراد النزول وأخذ الجبران- والحالة هذه- جاز إذا رضي رب المال؛ لأن ذلك أحظ للفقراء. الثالث: إذا كان واجبه بنت لبون، وليست عنده، فأخرج جذعة- أنها تقبل منه، ويأخذ الجبران المذكور، وكذا لو كان واجبه حقة، فأخرج بنت مخاض مع الجبران المذكور تقبل منه، وليس كذلك؛ لأن ماله إن كان كله جذاعاً في الصورة الأولى، و [كله بنات مخاض] في الصورة الثانية: [فهل يجوز له إخراج الجذعة في الصورة الأولى وبنت المخاض في الصورة الثانية]؟ بلا خلاف [إلا ما حكاه القاضي أبو الطيب] وابن الصباغ والمتولي عن [ابن] المنذر من أصحابنا: أنه لا يجوز الصعود والنزول إلا إلى سنة واحدة، وهذا لا التفات إليه ولا تعويل عليه، وإذا كان كذلك كان الجبران فيهما أربع شياه أو أربعين درهماً، والشيخ قد قال: إن الجبران يكون شاتين أو عشرين درهماً، وفي هذه الحالة قال الأصحاب: لمعطي الجبران أن يخرج شاتين وعشرين درهماً، كما لو كان عليه كفارتا يمين؛ فإنه يجوز له أن يطعم عشرة ويكسو عشرة، وهذا بخلاف ما لو كان الجبران شاتين أو عشرين درهماً: لا يجوز للمالك إذا كان معطيه أن يخرج شاة وعشرة دراهم؛ كما لا يجوز أن يخرج عن كفارة يمين إطعام خمسة وكسوة

خمسة. نعم، إن كان المخرج لذلك الساعي ورضي رب المال جاز؛ لأنه لو رضي بأخذ الشاة فقد كفى، وأشار في "التتمة" إلى خلاف في هذه الحالة [بقوله]: جاز على الصحيح من المذهب. وإن كان في ماله الحقاق والجذاع، وفرضه بنت لبون، أو في ماله بنت مخاض وبنات اللبون، وفرضه الحقة- فقد حكى العراقيون والمراوزة في جواز إخراج الجذعة في الصورة الأولى إذا أراد أخذ الجبران لسنتين، وبنت المخاض في الصورة الثانية، ودفع جبران سنتين- وجهين: أحدهما: الجواز وهو ما نسبه [الإمام] إلى القفال، وقال: إنه منقاس حسن. وأصحهما في "المهذب" و"الشامل" و"الحاوي": المنع، وإليه صار معظم الأصحاب كما قال الإمام؛ لأنه يكثر الجبران من غير حاجة، وهذا ما حكاه القاضي الحسين، وعلى هذا لو رقي من بنت لبون إلى جذعة مع وجود بنت مخاض فوجهان حكاهما القاضي الحسين وغيره من المراوزة، والفرق: أن الموجود القريب ليس في جهة الترقي، أما إذا أراد الترقي من بنت لبون إلى جذعة، وفي ماله حقة، وطلب جبراناً واحداً- أجيب إليه بلا خلاف، قاله الإمام ومن بعده. الرابع: [أنه] لو كان في ملكه الفرض، لكنه معيب بحيث لا يجزئ في الزكاة، أن له الانتقال والنزول؛ لأن تقدير كلامه: ومن وجب عليه سن ولم يكن عنده سن بحيث يجزئ. وقد حكى القاضي أبو الطيب فيما إذا كان ماله صحيحاً إلا الفرض فهل يجوز له الصعود [أو النزول أو يتعين عليه شراء الفرض] بقيمة فرض صحيح وقيمة فرض مريض على قدر المالين؟ فيه وجهان جاريان فيما لو كان ماله مريضاً إلا الفرض. قلت: وهما كالوجهين اللذين حكيناهما عنه فيما إذا كان في ماله بنت مخاض لا يجوز إخراجها: هل [له] إخراج ابن لبون عنها أم لا يجوز؟

والصحيح [منها] الذي جزم به جماعة كما تقدم، الجواز، ونظيره هنا الجواز أيضاً، كما اقتضاه كلام الشيخ. فرع: لو ملك إحدى وستين بنت مخاض، فأخرج واحدة منها، قال في "الروضة": فالصحيح الذي قاله الجمهور، أنه يجب معها ثلاث جبرانات، وفي "الحاوي" وجه آخر: أنها تكفيه وحدها، حذارا من الإجحاف. وليس بشيء. قال: والاختيار في الصعود والنزول أي: إذا أمكنا إلى المصدق. المصدق بتخفيف الصاد وتشديد الدال، هو الساعي وبتشديدهما هو رب المال، قال النواوي: والذي ضبطناه عن نسخة المصنف الأول. وعلى هذا فوجه كون الخيار له: أنه الناظر للفقراء؛ فجعلت الخيرة له ليأخذ ما هو الأحظ للمساكين، كما إذا كان ماله مائتين من الإبل، وفيها أربع حقاق وخمس بنات لبون، وهذا ما ادعى في "المهذب" أنه المنصوص أي في "الأم" كما قاله في "البحر" وقال البندنيجي: إنه المذهب، والماوردي: إنه ظاهر المذهب مع حكاية وجه آخر: أن الاختيار في ذلك لرب المال؛ لأن الصعود والنزول أثبت رفقاً بالمالك، كي لا يحتاج إلى الشراء، فلا يليق به إلا التخيير، وهذا ما ادعى في "التتمة" أنه المذهب، واختاره النواوي تبعاً للرافعي وصاحب "المرشد"، قال البندنيجي: وهذا هو الأشبه بمذهب ابن سريج، وفي "البحر" أن ابن سريج قال به كما قال في الفرضين، وأن من أصحابنا من قال به هاهنا بخلاف الفرضين، والفرق: أن له تركهما وتحصيل الواجب، بخلاف الفرضين في المائتين، وهذا الوجه هو الذي فرع عليه القاضي أبو الطيب وغيره من بعد كما سنذكره، وصدر به في الوسيط كلامه، ثم أشار إلى الأول بقوله: ومن أصحابنا من نقل نصاً عن "الإملاء" أن المتبع: الأغبط للمساكين كما في اجتماع الحقاق وبنات لبون. وهو بعيد، ووجه الإشارة من ذلك تتوقف معرفتها على معرفة أمرين ذكرهما الإمام: أحدهما: أن محل الخلاف في المسألة إذا عين رب المال شيئاً، وعين الساعي غيره، وكان الحظ للفقراء فيما عينه الساعي، أما إذا كان الحظ فيما عينه رب

المال فلا خلاف في اتباعه؛ لأن الساعي إن وافقه فلا كلام، وإن خالفه فرأيه غير متبع على خلاف النظر، وإن استوى ما يريدانه في المصلحة قال: فالأظهر عندي اتباع رأي رب المال. والثاني: نذكره من بعد، وحينئذ ننبه على ما يحصل به المقصود، إن شاء الله تعالى. قال: وفي الشاتين أو العشرين درهماً إلى الذي يعطي ذلك للخبر، وهذا ما نص عليه في "المختصر" ولفظه لفظه؛ فعلى هذا: لو كان المعطي هو الساعي تعين عليه رعاية الأحظ لأهل السهمان منهما، فإن كان في دفع الدراهم ولم تكن عنده باع من مال الزكاة وأداها، قاله الرافعي وغيره. وإن كان المعطي هو رب المال أخرج ما شاء، قال في "الأم": والاحتياط له أن يعطي الأحظ لأهل السهمان منهما، فإن لم يفعل ذلك بل أخرج ما هو الأحظ لنفسه جاز وإن نازعه الساعي. وحكى الإمام عن نصه في "الإملاء" أن الخيرة إلى الساعي، أي: فيتعين إخراج الأحظ لأهل السهمان وأن من الأصحاب من قال لأجل نصه في "المختصر" ونصه في "الإملاء": في المسألة قولان. والذي ذهب إليه الجمهور وقطع به الصيدلاني: أن المسألة على قول واحد، وهو ما نقله المزني وحمل ما حكى عن "الإملاء" على ما إذا كان الساعي هو المعطي، وهذا هو الأمر الثاني الذي تقدمت الإشارة إليه، وقد قال الإمام عقيبه: إن الاختلاف في الصعود والنزول بين الساعي ورب المال مخرج على هذا الخلاف يقول الغزالي: ومن أصحابنا من نقل نصا عن "الإملاء" أن المتبع الأغبط للمساكين. أشار به إلى ما حكاه الإمام أن يتخرج مثله فيما نحن فيه، لا أنه منصوص عليه فيه، والله أعلم. تنبيه: الشاة المأخوذة في الجبران كالشاة المأخوذة عن خمس من الإبل في اعتبار الذكورة والأنوثة والسن إن كان المخرج هو رب المال، حتى يأتي الخلاف السابق فيها، وإن كان المخرج هو الساعي فالاعتبار بما يرضى به رب المال إن كان دون ذلك، وإن حصل تنازع فالمعتبر فيها ما تقدم، قاله المتولي.

وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنا إن قلنا: [إنه] يؤخذ الذكر في الشاة عن الخمس من الإبل، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان، والفرق: أن الشاة ثم وجبت أصلاً، وهنا بدلاً والمعتبر في الدراهم المخرجة جبراناً أن تكون بقرة قال الإمام: بلا خلاف، وكذلك تكون دراهم الشريعة حيث وردت. قال: وإن اتفق فرضان في نصاب أي: وهما موجودان فيه بحيث يجزئ [كل] منهما لو انفرد، كالمائتين فيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون؛ لأنه قد اجتمع فيها أربع خمسينات وخمس أربعينات، فشملهما قوله في كتاب أبي بكر: "في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة". قال: اختار الساعي أنفعهما للمساكين، إذ لا مزية لأحد الفرضين على الآخر فتعين الأنفع للمساكين؛ لقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267] ومعناه: لا تقصدوا المال الدون، وليس المراد [به] غيره؛ لقوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267]. وقال ابن سريج: يخرج المالك ما شاء منهما، وإن كان الأحظ خلافه، وجاء

[تخريجاً] من نصه في "المختصر" أن الخيرة إليه عند إخراجه الشاتين أو الدراهم جبراناً وأيده بقوله- عليه السلام- لمعاذ: "إياك وكرائم أموالهم" [والأنفع: من الكرائم] وقد ادعى الإمام أن قياس هذا المذهب ظاهر، ويعتضد بظاهر الخبر [لأن الخبر] كما تضمن إخراج [الحقاق لمكان] حساب الخمسين تضمن إخراج بنات اللبون لمكان إجزاء [حساب] الأربعينات، وعلى هذا فالأولى لرب المال إذا كان رشيداً: أن يخرج الأحظ للمساكين، أما إذا كان مولى عليه فلا يجوز لوليه إخراجه؛ بل يجب إخراج ما الأحظ فيه لرب المال، قاله أبو الطيب وغيره، والصحيح الأول؛ لما ذكرناه، وهو المنصوص عليه في "الأم" وكذا في "المختصر" حيث قال: فإذا بلغت مائتين فإن كانت أربع حقاق منها خيراً من خمس بنات لبون أخذها المصدق، وإن كانت خمس بنات لبون خيراً لا يحل له غير ذلك. والمنتصرون لهذا قالوا: حديث معاذ مخصوص بغير الفرضين إذا اجتمعا، فأما إذا اجتمعا فلا، والفرق بين ما نحن فيه والجبران من وجهين: أحدهما: أن العشرين درهماً والشاتين متعلقة بذمة رب المال دون ماله، ومن لزمه في الذمة أحد حقين كان مخيراً في دفع أيهما شاء، والفرض في الحقاق أو بنات اللبون متعلق بالمال لا بالذمة؛ فكان الخيار في المال إلى مستحقه. فإن قلت: هذا فرق على قولنا: إن الزكاة تتعلق بالعين، فما هو على قولنا: إنها تتعلق بالذمة؟ قلت: إذا قلت بهذا لم يحتج إلى فرق؛ لأن قوله في القديم، والقديم أنه تتعين الحقاق، وما وقع التفريع عليه هو الجديد، والجديد أنها تتعلق بالعين. والفرق الثاني: أنه لما جاز لرب المال العدول عن العشرين والشاتين إلى [جواز ابتياع] الفريضة الواجبة عليه كان مخيراً بين الدراهم والشاتين، ولما لم يجز لرب المال العدول عن هذين الفرضين إلى غيرهما لم يكن مخيراً بينهما، وعلى هذا إذا أخذ الساعي الأدنى فقد قال في "المختصر": كان حقاً على رب

المال أن يخرج الفضل فيعطيه أهل السهمان. واختلف الأصحاب [فيه] على طرق: إحداها: أن ذلك فيما إذا كان قد أخذه باجتهاده، ولا تفريط من رب المال؛ بأن يكون قد أحضر الفرضين معاً، ثم ظهر بعد الأخذ أن الأحظ خلافه، فأما إذا أخذه بغير اجتهاد أو وجد تفريط من رب المال؛ بأن أحضر الصنف الأدنى وحده فلا يحتسب وينظر: فإن كان ذلك الصنف قائماً في يد الساعي أخذه رب المال وأخرج [الصنف] الأعلى، [وإن كان قد تلف ردت القيمة إليه، وأخرج الصنف الأعلى]. والثانية- وبها قال أبو إسحاق-: إجراء اللفظ على ظاهره، وأنه يجزئه بكل حال، ويخرج الفضل، قال في "الحاوي": لأن أخذ الأفضل وجب من طريق الاجتهاد؛ فلم يجز أن يبطل حكماً ثبت بالنص. قال الرافعي: وهذا رجوع إلى قول ابن سريج. قلت: ليس كذلك؛ لأن هذا القائل لا يجوز الإقدام على أخذ غير الأغبط، بخلاف ابن سريج؛ فإنه يجوز ذلك إذا دفعه رب المال. وهاتان الطريقان لم يورد البندنيجي غيرهما. والثالثة- حكاها القاضي أبو الطيب وابن الصباغ مع الأوليين-: أنه ينظر: فإن كان المأخوذ باقياً رده، وإن كان قد فرق على أربابه أجزأ، وأخرج رب المال الفضل. وسلك الإمام في حكاية الطرق مسلكاً آخر، فقال: إن أخذ الأدنى بغير اجتهاد فلا يقع الموقع بلا خلاف، وإن أخذه باجتهاد ثم ظهر أن الأحظ خلافه فثلاثة أوجه، اثنان ذكرهما صاحب "التقريب": أحدهما: وقوعه الموقع. والثاني: لا. والثالث: ذكره العراقيون معهما، وهو إن كان المأخوذ باقياً رده، وإن فرقه وقع الموقع.

وإذا جمعت بين ذلك و [بين] ما تقدم واختصرت قلت: في المسألة أربعة أوجه: أحدها: لا يقع الموقع بكل حال. والثاني: وقوعه بكل حال. وهما بعيدان. والثالث: إن كان باجتهاد ولا تقصير من رب المال وقع الموقع، وإن كان بغير اجتهاد أو تقصير من رب المال فلا يقع الموقع. والرابع: إن كان باقياً أخذه ولم يقع الموقع، وإن كان قد فرق وقع الموقع لعسر الاسترجاع. وعن رواية أبي الحسين بن القطان وجه خامس يكاد أن يدخل في الثالث، وهو: إن دفع المالك ذلك مع العلم بأنه الأدون لم يجزئه وإن كان الساعي هو الذي أخذه جاز، قال الرافعي: ويقرب منه عند صاحب "التهذيب" مجرد علم المالك بحاله تقصيراً مانعاً من الإجزاء، وإن لم يوجد إخفاء وتدليس. ثم حيث قلنا بوقوعه الموقع، فهل يجب عليه إخراج قدر التفاوت إذا كان الأحظ بحسب زيادة القيمة أو يستحب فرق فيه وجهان في الطريقين أصحهما: الوجوب، وكيفية معرفته: أن يقوم المخرج ويقوم الفرض الآخر، وما بينهما هو التفاوت والفضل الذي أراده الشافعي، وعلى الوجهين [ينظر] في الفضل: فإن كان مقداره يسيرا بحيث لا يمكن أن يشتري به جزءاً من الفرض فرَّق الدراهم، كذا قاله الأصحاب، وهو محمول على ما إذا كانت بالنقد، فلو كان "النقد ذهبا قوم به وأخرج [التفاوت] ذهبا، ففرقه والحالة هذه، وعن صاحب "التقريب" أنه تردد في انتظار إمكان الشراء، قال الإمام: وهو بعيد غير معتد به. قلت: ولعله على بعده فيما إذا كان الشراء ممكناً [عادة] لكنه تعذر في ذلك الوقت للعسرة. وإن أمكن أن يشتري به جزءاً من الفرض، فهل يتعين أن يفرق الدراهم، أي:

أو الذهب إذا كان هو النقد؟ فيه وجهان في "تعليق" أبي الطيب وغيره، وقال ابن الصباغ وغيره: إن الثاني أصح. وعلى هذا: لو أخرج شقصاً جاز، قال الإمام: وفيه أدنى نظر؛ لما فيه من العسر على أهل السهمان، وإذا قلنا بشراء الشقص، فهل يكون من جنس الأعلى أو الأدنى الذي أخذه؟ فيه وجهان عند المراوزة قال الإمام: والذي مال إليه الكافة: الثاني، وأظهرهما عند الصيدلاني: مقابله قال الإمام: ولا يبعد عندي في مثل هذا المقام أن يخير المالك حتى يقال إن شاء أخرج من نوع المأخوذ، وإن شاء أخرج من النوع الآخر بعد تحقق جبران النقصان، وقد أشار إليه بعض المصنفين، وهو متجه؛ فيحصل إذا ثلاثة أوجه فيما يشتريه ثم هل له أن يفرق الفاضل بنفسه؟ ظاهر النص في "المختصر" الذي حكيناه: أن له ذلك؛ لأنه قال: فيعطيه أهل السهمان. وقد بنى القاضي الحسين ذلك على أن رب المال هل له تفرقة زكاة الأموال الظاهرة أم لا؟ فإن قلنا بالثاني، وقلنا يخرجه جزءاً من حيوان، فكذلك، وإن قلنا: يخرجه نقداً، قال: يحتمل وجهين- صرح بهما غيره-: أحدهما: يفرقه كالأموال الباطنة؛ لأنه من جنسها. والثاني: يجب دفعه إلى الإمام؛ لأنه بدل حيوان. وقال على الأول-: إن قوله: فيعطيه إلى أهل السهمان، إنما ذكره؛ لأنه لو دفعه إلى الساعي ربما سخط ذلك؛ لأنه يحتاج إلى أن يقول: أخطأت في الاجتهاد، ولا يعجبه ذلك، وربما [لا] يأخذه. قال: وقيل: [فيه] قولان: أحدهما: ما ذكرت، ووجهه وتفريعه سلف. والثاني: [أنه يتعين] الحقاق، أي: كيف كانت؛ لأن تغير الفرض بالسن أكثر من تغيره بالعدد؛ فكان الاعتبار بالسن أولى، ولأن الإبل قبل أن تبلغ مائتين كلما زادت عشرة جعلت بنت اللبون حقة من غير تخير فكذلك إذا كان في مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون، وجب إذا بلغت مائتين أن تجعل بنت لبون

حقة؛ فتصير أربع حقاق من غير تخيير، وهذا ما نص عليه في القديم. والقائل بالطريقة الأولى الجازمة بالتخيير [قال: تركه] في القديم القول بالتخيير؛ إنما كان لأن الغالب أن الحقاق خير من بنات لبون، فلهذا لم يذكر أن الساعي مخير بينهما. وقال صاحب "التقريب": إنه محمول على ما إذا لم يكن في ماله إلا الحقاق، أما إذا لم يكن في ماله إلا أحد الفرضين، والآخر معدوم أو كالمعدوم وهو المعيب أو ناقص، [مع سلامة بقية النصاب]- فقد قال الغزالي في الحالة الأولى: إن الفرض هو الموجود قولاً واحداً. وهو في ذلك متبع للإمام؛ فإنه قال: لا خلاف [في] أن الساعي يأخذه ويكتفي به، قال الرافعي: وهكذا زعم ابن كج والعراقيون كأبي الطيب وابن الصباغ والبندنيجي، وقالوا: إن قلنا بالقديم، وكان الموجود الحقاق فلا إشكال وإن كان الموجود غيرها فهو مخير بين أن يشتري الحقاق وبين أن يصعد بسن ويأخذ الجبران، أو ينزل بسن ويعطي الجبران. وهذا منهم تفريع على [أن] الخيار في الصعود والنزول [لرب المال، كما أشرت إليه من قبل، وإلا فقياس ما تقدم من أن المنصوص في أن الخيار في الصعود والنزول] إلى الساعي [أن يكون له ها هنا إن لم يشتر رب المال الحقاق. وإن قلنا بالجديد، وهو أن الخيار للساعي] في تعيين بنات لبون أو الحقاق، وهو الذي عليه نذكر بقية الفروع الآتية من بعد- أخذ الموجود ولا يكلفه غيره. وصرح البندنيجي وغيره بأن الحكم في الحالة الثانية كهو في الأولى، وكذا في الحالة الثالثة؛ فإذا كان في ملكه أربع حقاق وثلاث بنات لبون، أو خمس بنات لبون، أو ثلاث حقاق- تعين الكامل على الجديد، حتى لو أراد العدول إلى الناقص ويكمله من الكامل مع الجبران لم يجد إليه سبيلاً، وعلى ذلك يدل قوله في "المختصر": فإن وجد أحد الصنفين أخذ الذي وجد، ولا يفرق

الفريضة. قيل: ومعناه ما ذكرناه فقد قيل: إن الربيع قال: ولا يفارق الفريضة، ومعناه: لا يترك الفريضة. واختلف الأصحاب في ذلك: فمنهم من قال: الذي نقله الربيع هو الصحيح، فإن تفريق الفريضة جائز، وهو أن يأخذ أربع بنات لبون وحقة موضع [بنت لبون بلا جبران. ومنهم من قال: الذي نقلاه صحيح، والمراد مما نقله المزني أنه لا يقبل ذلك مع الجبران. نعم، لو كانا ناقصين في ملكه: بأن كان في ملكه ثلاث حقاق وأربع بنات لبون، فإن أعطى الحقاق وبنت لبون مع الجبران جاز، وكذلك إن أعطى بنات اللبون وحقة وطلب] جبرانها جاز أيضاً، ولو قال: خذوا مني حقة وثلاث بنات لبون وجبرانها، ففي القبول وجهان، قال البندنيجي: المذهب منهما: المنع، وقد أجراهما الإمام فيما لو كان في ماله حقة وأربع بنات لبون، وأراد إخراج الحقة وثلاث بنات لبون وجبرانها، لكنه قال: المذهب منهما: الجواز، ومقابله زيف لا أصل له. ولو كان سن الفرضين معدوماً في ماله، قال العراقيون وفي "الوجيز": إن له أن يشتري أيهما شاء؛ لأن بالشراء يصير موجوداً في ملكه، وهذا ما رجحه في "النهاية"، وصححه في "الوسيط"، وحكى وجهاً آخر: أنه يجب شراء الأحظ، وقد نظره. ثم هذا إذا لم يرد اتخاذ ما دون الفرض أو أعلى منه أصلاً، ويعطي الجبران أو يأخذه، فإن أراد ذلك: بأن اتخذ بنات لبون أصلاً، ونزل منها إلى بنات مخاض، فأخرج خمس بنات مخاض وخمس جبرانات جاز. وكذا لو اتخذ الحقاق أصلاً، وصعد إلى الجذاع وطلب الجبران جاز ولو اتخذ الحقاق أصلاً ونزل إلى بنات مخاض، أو اتخذ بنات اللبون أصلاً، ورقي إلى الجذاع قال الإمام: فلا يجوز وجهاً واحداً، وإن أجرينا في مثله خلافاً فيما تقدم، والفرق أنه في نزوله وصعوده هاهنا يتخطى واجباً، وهو بنات لبون أو الحقاق، ولا كذلك؛ ثم؛ فإن الحقاق وبنات اللبون ليست واجب ماله، وإن كانت على طريق ترقيه ونزوله.

وحكى الرافعي أن الشيخ أبا محمد حكى في الفرق وجهاً: أنه يجوز النزول والصعود فيهما. كما لو وجب عليه حقة، فلم يجدها، ولا بنت لبون في ماله؛ فنزل إلى بنت مخاض. فرع: لو كانت إبله أربعمائة، فقد اجتمع فيها ثماني حقاق، وعشر بنات لبون؛ فإن أخذ خمس بنات لبون وأربع حقاق، جاز، ونظيره ما تقدم في الجبرانين، وقال الإصطخري: لا يجوز إلا أن يأخذ ثماني حقاق، أو عشر بنات لبون؛ لأن الشافعي قال: "لا تفرق الفريضة" وفي هذا تفريق الفريضة. وقد حكى الإمام الوجهين من غير نسبة شيء منهما لأحد، وقال: إنهما يجريان مهما بلغ المال مبلغاً يشتمل على أربعينات وخمسينات. فإن قيل: قد ذكرتم أن الساعي لا يأخذ إلا الأغبط على المذهب، ويلزم من ذلك أن يكون كل من الصنفين أغبط إذا جوزتم أحدهما له في هذه الحالة، وذلك لا يمكن. قال ابن الصباغ: يجوز أن يكون لهم حظ ومصلحة من اجتماع النوعين؛ قال الرافعي: وهذا يفيد معرفة شيء آخر، وهو أن جهة الغبطة غير منحصرة في زيادة القيمة، لكن إذا كان التفاوت لا من جهة القيمة يتعذر إخراج الفضل وقدر التفاوت.

قال: وأول نصاب البقر ثلاثون؛ فيجب فيه تبيع. تمسك الشافعي في ذلك بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه أمر معاذاً أن يأخذ من كل ثلاثين تبيعاً، ومن أربعين مسنة" وبروايته عن مالك بن أنس، عن حميد بن قيسن عن طاوس: "أن معاذاً أخذ من ثلاثين بقرة تبيعاً، ومن كل أربعين مسنة" فكان عمل معاذ موافقاً لما أمر به. فإن قيل: هذا مرسل؛ لأن طاوسا ولد في زمان عمر، وكان له سنة حين مات معاذ، والشافعي لا يقول بالمراسيل، فكيف يحتج بها؟ قيل: الجواب عن ذلك من أوجه: أحدها: أن هذا وإن كان مرسلاً؛ فطريقه السيرة والقصة، وهذه قضية مشهورة في اليمن خصوصاً، وفي سائر الناس عموماً، وطاوس يمان؛ فكان الأخذ به من طريق اشتهاره، لا من طريق إرساله، ويدل على ذلك أن الشافعي حين قال ما قاله عقبه بقوله في "المختصر": وهذا لا أعلم فيه بين أحد من أهل العلم لقيته خلافاً. والثاني: أن الشافعي يمنع من الأخذ بالمراسيل إذا كان هناك مسند يعارضه، وإن كان مرسل لا يعارضه مسند فالأخذ به واجب. والثالث: أن هذا وإن أرسله الشافعي فقد أسنده غيره؛ فكان الأخذ به من طريق الإسناد، روى أبو داود عن معاذ- وهو ابن جبل- أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة" وأخرجه

الترمذي، وقال: حديث حسن. وروى أبو بكر البزار من حديث ابن عباس قال: لما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى اليمن "أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً، أو تبيعة جذعاً أو جذعة، ومن كل أربعين بقرة مسنة قالوا: فالأوقاص؟ قال: ما أمرت فيها بشيء وسأسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدمت عليه؛ فلما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأله فقال: "ليس فيها شيء". وفي "موطأ مالك": فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يقدم معاذ بن جبل. قيل: وهذا هو الصحيح أن معاذاً قدم بعدما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذكر الدارقطني عن الشعبي عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "في كل أربعين من البقر مسنة، وفي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة" وقد ادعى في "البحر" أن

ذلك مجمع عليه؛ لما ذكره الشافعي، ولا يسلم من النزاع. قال: وهو الذي له سنة، أي: ودخل في الثانية؛ لأنه لا يتحقق استكمال السنة إلا بالدخول في غيره، وهذا ما حكاه الأزهري كما قال في "البحر"، وقال القاضي الحسين ما ذكره الشيخ، ثم نقل عن أهل اللغة أنهم قالوا: إنه ليس بسن، ولكنه سمي تبيعاًلأنه يتبع أمه في المسرح، كما يقال: فصيل إذا فصل عن أمه، وقيل: لأن قرنه يتبع أذنه، وقيل: لأن قرنه يتبع ترقوته؛ فتساويا، والمذكور في "الحاوي": أن التبيع: ما له ستة أشهر فصاعدا؛ لأن قد قوي على اتباع أمه، وإليه أشار في "الإبانة" بعد حكاية الأول بقوله: وقيل: التبيع اسم للعجل الذي يتبع أمه وإن لم يستكمل سنة، وقد حكاه الإمام، وقال: إن حظ الفقيه مما ذكرناه أن يعلم أن التبيع هو الجذع، يعني كما ورد في الخبر، والجذع من البقر كالجذع من الضأن، وقد تقدم تردد في سن الجذعة من الضأن، قال: وظاهر المذهب: أنها التي طعنت في السنة الثانية. ومن أصحابنا من قال: إذا استكملت ستة أشهر فهي الجذعة، وهذا على بعده يجري في التبيع، والمذهب الذي عليه التعويل: أنه الذي استكمل سنة، وتقوم مقام التبيع فيما ذكرناه التبيعة، بل هي أولى؛ لفضلها بالأنوثة، كذا قاله الأصحاب كافة. فإن قيل: خبر معاذ قد دل على أن الواجب في الثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة، فلم اقتصر الأصحاب على أن واجبه التبيع، وأنه إذا أخرج التبيعة كان أولى وأسقط الواجب، ويكون متطوعاً بالزيادة، كما قاله في "المختصر"، ولا يقال: إن ما وجب على التخيير، إذا كان أحد خصاله أكمل كان الأدون منها هو الواجب؛ فإن فعل الأكمل سقط به؛ لأن ذلك موجود في خصال كفارة اليمين، وقد اتفق الكل على أن واجبها أحد الخصال الثلاث.

قلت: المعتمد في زكاة البقر ما أشار إليه الشافعي من الاتفاق على أن الواجب في الثلاثين تبيع، وفي الأربعين مسنة واستأنس بحديث معاذ الذي رواه عن مالك، وليس فيه ذكر التبيعة، وإلا فقد قال عبد الحق في "الأحكام الكبرى": "إنه ليس في زكاة البقر حديث متفق على صحته"؛ فلا جرم اقتصر الأصحاب على ذكر أن الواجب في الثلاثين هو التبيع، والتبيعة تجزئ عنه، والله أعلم. قال: وفي أربعين مسنة، للخبر، وهي التي لها سنتان، أي: ودخلت في الثالثة، كذا قاله القاضي الحسين، وأفهم أنه قول أهل اللغة، وفي "تعليق" البندنيجي أن المسنة لم تنص اللغة ولا الشريعة على قدر سنها، ولكن الظاهر أن المراد بها: الثنية؛ لأنه لما كان في الثلاثين تبيع وهو الجذع، والسن الذي يليها: الثنية- علم أن المراد في النصاب الثاني: السن الذي يلي الجذعة والذي يليها الثنية، والمذكور في "الحاوي" أن الثنية ما لها سنة كاملة ودخلت في الثانية، والخلاف منطبق على أن الثني من الغنم هو هل ما استكمل سنة؟ أو ما استكمل سنتين، وقد تقدم الكلام فيه، ويأتي في الأضحية، والبقر في ذلك كالغنم، كما ذكر الإمام، وإن كان الشيخ قد قال خلافه في الأضحية. وجمع "المسنة"- كما قال البندنيجي-: مسنان ومسنات، وقال: إنه يقال لما تلده البقر حين يولد: عجل، وعجول؛ فإذا استكمل سنة، ودخل في الثانية قيل له: جذع، وللأنثى جذعة؛ قفإذا استكمل سنتين، ودخل في الثالثة فهو ثني وثنية، فإذا استكمل أربعاً ودخل في الخامسة فهو سديس وسديسة، فإذا استكمل خمساً ودخل في السادسة فهو ضالع، ولا اسم له بعد ذلك إلا ضالع

عام، وضالع عامين. ويجزئ عن المسنة إخراج تبيعين عند الجمهور؛ لأنهما يخرجان عن ستين، فما دونها أولى. وحكى الرافعي في إجزائهما وجهين، وهما كالوجهين اللذين حكيناهما عن المتولي وغيره فيما إذا أخرج بنتي لبون أو حقتين عن جذعة، والصحيح منهما أيضاً: الإجزاء. قال: وفي ستين تبيعان، وعلى هذا أبداً: ثم في كل ثلاثين تبيع، ومن كل أربعين مسنة؛ عملاً بظاهر خبر معاذ، وإنما ذكر الشيخ "وفي ستين تبيعان"، وإن كان قوله: وعلى هذا أبداً: في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة" مغيناً عنه، بياناً لأول النصب التي يتكرر فيها ما أخرج من قبل، وبه يظهر أن ما زاد على الأربعين لا يجب فيه شيء ما لم يبلغ ستين، خلافاً لأشهر الروايات عن أبي حنيفة؛ فإنه أوجب في الخمسين مسنة وربعاً، ووافق على أنها إذا بلغت ستين يجب فيها تبيعان، وقد حكى القاضي أبو الطيب أن بعض أصحابنا قال: فرض البقر إنما يستقر في الستين، يعني أنه إنما يجب في كل ثلاثين تبيع، وفي كل

أربعين مسنة بعد الستين، قال: وهذا ليس بصحيح؛ لأن فرض البقر مستقر من أوله في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة، ولو اجتمع فرضان في نصاب كالمائة وعشرين، فيها ثلاث مسنات، وأربعة أتبعه، فالحكم في تعيين المسناـ، أو اختيار الأحظ للمساكين عند وجودهما وفقدهما، كما تقدم في الإبل، وقد نقل البندنيجي أنه نص في القديم على تعين المسنات، ولا يستثنى من ذلك إلا جواز أخذ الجبران ودفعه؛ فإنه لا يجزئ في البقر بلا خلاف، بل يجب عليه عند فقد سن الفرض من ماله تحصيله، أو إخراج أعلى منه، كما قاله الماوردي وغيره، وفرق بينه وبين الإبل، بأن الغنم لما وجبت في ابتداء فرض الإبل جاز أن يدخل جبرانها فيما بين أسنانها، وذكره ابن الصباغ أيضاً، وقال: إنه ليس بصحيح؛ لأنه ينكسر بدخول الدراهم في الجبران، لكن الصحيح في التعليل: أن الزكاة لا يعدل فيها عن المنصوص عليه إلى غيره بالقياس. وهذا يخدشه جواز إخراج المسن عن التبيع، وكذا المسنة عنه، وإخراج ما فوق المسنة عنها، وتبيعين عنها كما قاله ابن الصباغ وغيره. فإن قيل: إن الحكم المستفاد من فحوى الخطاب ثبت بالقياس؛ لأن هذا منه يعم الفرق الصحيح النازع إلى هذا المعنى ما قاله في "البحر": إن الجبران تقويم الشرع؛ فيجب قصره على الموضع الذي ورد فيه الشرع. قلت: أي وجنسه، حتى يدخل فيه ما إذا أعطى الثنية من الإبل، وطلب الجبران؛ فإنه يجاب على المذهب، كما تقدم، وقد فرق في "التتمة" بينهما: بأن الإبل جرى فيها التخفيف بإيجاب غير الجنس، وهو الشاة؛ فجاز أن تختص بالجبران بخلاف غيرها، وقد أورده في "البحر" أيضاً، ولا يرد عليه ما ذكره ابن الصباغ لتغيير العبارة. قال: وأول نصاب الغنم أربعون؛ فيجب فيه شاة، وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان، وفي مائتين وواحدة، أي: إلى ثلاثمائة ثلاث شياه، ثم في كل مائة شاة. الأصل في ذلك: ما روى البخاري في كتاب أبي بكر الذي تقدم ذكر بعضه: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة؛ فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة

ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، فإن كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها". واعلم أنا لو لم نقدر ما ذكرناه في كلام الشيخ لأفهم أنه يجب في ثلاثمائة وواحدة أربع شياه كما حكى عن إبراهيم النخعي والحسن بن صالح؛ تمسكاً بأنه- عليه السلام- حد الغاية بالثلاثمائة في وجوب الشياه الثلاثة فيجب أن يكون ما يتعقبها مغيراً للفرض كما جعل المائتين حد الغاية في وجوب الشاتين وغير الفرض ما يعقبها، وهذا لم يقل به أحد في مذهبنا، والحديث يرد عليه؛ لأنه قال: "فإن زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة"، ومن أوجب أربع شياه في ثلاثمائة وواحدة خالفه، قد قال في "البحر" حكاية عن المزني والربيع: إنه روي في بعض الألفاظ: "إذا نقصت سائمة الرجل عن أربعين شاة فلا شيء فيها، ثم ليس في زيادتها شيء حتى تبلغ مائتين وشاة فإذا بلغتها ففيها ثلاث شياة، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ أربعمائة، فإذا بلغتها ففيها أربع شياه، ثم في كل مائة شاة، وما نقص عن مائة فلا شيء فيها"، وهذا أصرح في الرد على المخالف. وقد أجاب الأصحاب عما ذكره بأن العدد المحدود يجعل لتغيير الفرض تارة وتارة لتغيير النصب والحساب [من غير] أن يتغير الفرض، يدل عليه أن الواحدة الزائدة على عشرين ومائة من الإبل تغير الحساب، ويستقر بها النصاب، وهو إيجاب بنت لبون في كل أربعين، وحقة في كل خمسين، ولا يتغير بها الفرض، كذا في مسألتنا: استقر النصاب بالثلاثمائة ولم يتغير بها الفرض. والقاضي الحسين قال: إنما ذكر عليه السلام وقصين متواليين، لا نصاب بينهما في الحديث الأول تحسينا للعبارة؛ لأن العرب تستحسن أن تمد الكلام إلى غاية، ثم تردفه بما يستدرك بكل الغاية؛ كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] [أي: حتى ينقطع دمهن، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: بعد الانقطاع فأردفه بما يستدرك بكل الغاية. قال: وإن كانت الماشية إناثاً، أو ذكوراً وإناثاً، أي: على السواء، أو كانت

الإناث قدر الفرض فقط، لم يؤخذ في فرضها أي: المتأصل، إلا الأنثى وأما في الإبل وأربعين من البقر؛ فلظاهر ما تقدم من الخبر، وأما في الغنم، فلحديث سويد ابن غفلة، ولأنه حيوان تجب الزكاة في عينه، فكانت الأنوثة متعينة في فرضه؛ كالإبل. وقد وافق الخصم هنا وهو أبو حنيفة، وهذا ما نص عليه في "الأم". وقد أطلق جمهور الأصحاب والنقلة القول بذلك، ولم يتعرضوا لاعتبار القيمة في المخرج في الحالين. وفي "الرافعي" أن الأنثى المأخوذة من الإناث والذكور تكون دون الأنثى المأخوذة من محض الإناث بطريق التقسيط، قال: كما ذكرناه في المراض. وهذا ما يقتضيه كلام الأئمة الذي سأذكره من بعد. قال: إلا في ثلاثين من البقر؛ فإنه يجزئ فيها الذكر؛ للخبر، واحترزنا بقولنا في بيان كلام الشيخ: "المتأصل" عما إذا أخرج عما دون الخمس والعشرين من الإبل الذكور الغنم، فإنها تؤخذ منه ذكوراً على المذهب، وكذا ابن اللبون عند ملكه خمساً وعشرين من الإبل ليس فيها بنت مخاض كما تقدم. وقول الشيخ: "في فرضها" احترز به عما إذا أدى ما فوق الفرض ذكراً؛ فإنه يجزئ في بعض الصور، وهو ما إذا كان في ملكه أربعون من البقر، فأخرج تبيعين، فإنهما يؤخذان منه عن المسنة التي هي فرضه، ويجزئان [عنها على المشهور كما تقدم. قال: وإن كانت كلها ذكوراً أخذ] في فرضها الذكر، أما في ثلاثين من البقر فللخبر، وأما في الغنم؛ فلأن أخذ الأنثى يؤدي إلى الإجحاف برب المال، وليس في أخذ الذكر ما يؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير وهذه الزيادة ذكرت فارقة بين الغنم والإبل حيث قلنا: لا يجب فيها الذكر كما سيأتي. قال: إلا الإبل، فإنه لا يؤخذ فيها أي أصلاً، إلا الإناث؛ للخبر، ولأن أخذ الذكر يؤدي إلى التسوية بين ما يؤخذ من الكثير والقليل في بعض الصور، وهو ما إذا كان ماله ستة وثلاثين، فإن أخذ الذكر منها يؤدي إلى تسويتها بخمس

وعشرين؛ فإنه يؤخذ فيها ابن لبون، وهذا قول أبي الطيب بن سلمة وأبي إسحاق، وقال: إنه مذهب الشافعي، قال في "البحر": وقد نبه عليه في "الأم" وإنما انغلق كلام المزني؛ بشدة اختصاره وعلى هذا قال الأصحاب: يؤخذ أنثى بالقسط ليندفع الضرر عن المالك، وطريق معرفة القسط: أن تقوم الذكور بتقدير الأنوثة، ويقوم فرضها أنثى، ثم تقوم ذكوراً، فما نقصت من قيمة الإناث نقص من قيمة الفرض قدر ذلك، واشتري به أنثى. مثاله: إذا كان في ملكه خمسة وعشرون قيمتها لو كانت إناثاً ألف، وقيمة بنت مخاض منها مائة، وقيمتها وهي ذكور خمسمائة- فقد علمنا أنه قابل فوات الأنوثة النصف، فينقص من قيمة الفرض النصف، وهو خمسون في مسألتنا، ونأمره أن يخرج أنثى قيمتها خمسون، هكذا قاله البندنيجي وغيره، وهو ما قلت من قبل: إنه يدل على ما حكاه الرافعي؛ إذ لو لم يكن كذلك لكان الصواب أن يقوم على تقدير أن يكون منها أربع وعشرون ذكوراً وواحد أنثى [وتقوم به أنثى] ويقوم الفرض منها ثم تقوم ذكوراً كلها فما نقصت نقص من قيمة الفرض واشتري به أنثى فتأمل ذلك، تعرفه والله أعلم. وقد حكى مثل هذا الوجه أو القول في الغنم إذا كانت كلها ذكوراً، وقال القاضي الحسين: إنه قول قديم، والذي أورده القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيره من العراقيين فيها ما تقدم، وهو المنصوص في "الأم" كما قال في "البحر"، والفرق ما تقدم. قال: وقيل: يؤخذ فيها الذكر؛ كما يؤخذ من المراض مريضة، ومن الغنم الذكور ذكر، ولأن تكليف المالك إخراج أنثى من مال لا أنثى فيه إضرار به، والشرع إنما أوجب الزكاة مواساة؛ فلا يناسبها الإضرار. قال: إلا أنه يؤخذ في ست وثلاثين ابن لبون أكثر قيمة من ابن لبون يؤخذ في خمس وعشرين؛ حذارا من التسوية بين القليل والكثير، وهذا ما نص عليه في "الأم"، وأشار إليه في "المختصر"، حيث قال: في الإبل لا نأخذ ذكراً مكان أنثى، إلا أن تكون تامة كلها ذكوراً. وبه قال ابن خيران ولم يحكه أبو الطيب في

"التعليق" إلا عنه، وصححه النواوي. ثم معرفة التفاوت بين المخرج عن خمس وعشرين والمخرج عن ست وثلاثين، يتوقف على معرفة المخرج عن خمس وعشرين عند انفرادها، وقد قال في "البحر": إنا نقدرها كلها إناثاً، فإذا قيل: قيمتها ألف، قيل: فكم قيمة بنت مخاض منهأ؟ فإذا قيل: مائة: فكم قيمتها ذكوراً؟ فإذا قيل: خمسمائة قيل: فكم قيمة ابن مخاض منها؟ فإذا قيل: خمسون- أوجبنا عليه ابن لبون قيمتها خمسون. فإذا فهم ذلك عدنا إلى مسألة الكتاب، وهي إذا كان جملة ماله ستا وثلاثين، فنوجب عليه- على سياق ما تقدم والحالة هذه- ابن لبون قيمته اثنان وسبعون؛ لأن التفاوت بين القيمتين على نسبة التفاوت بين العددين، وذلك أحد عشر جزءاً من خمسة وعشرين جزءاً وهو خمسان وخمس خمس، وخمسا الخمسين عشرون، وخمس خمس الخمسين اثنان، وإذا أضيف ذلك إلى خمسين بلغ ما ذكرناه وعلى هذا: في ست وسبعين ابنا لبون، كل [واحد] منهما أكثر قيمة من ابن لبون يؤخذ في خمس وعشرين، وكذا في كل موضع أخرج فيه ابن اللبون عن أربعين. وفي المسألة وجه ثالث: أنه إن أدى أخذ الذكر إلى التسوية بين نصابين لم يؤخذ، وإلا فيؤخذ وشرحه: أنه لا يؤخذ ابن لبون من ست وثلاثين؛ لأن ابن اللبون مأخوذ من خمس وعشرين عند فقد بنت مخاض؛ فيلزم التسوية بينهما، ويؤخذ من خمس وعشرين ابن مخاض، ومن ست وأربعين حق، ومن إحدى وستين جذعة، ولذا يؤخذ الذكر إذا زادت الإبل واختلف الفرض بزيادة العدد، كذا قاله الرافعي. والأوجه متفقة على أخذ ابن لبون عن خمس وعشرين إذا كان فيها، والأخير مصرح بأن الإبل إذا كانت ذكوراً ليس فيها ابن لبون، وهي خمس وعشرون- أنه يؤخذ منه ابن مخاض، وهو ما ادعى القاضي الحسين أنه الظاهر من المذهب فيما إذا كانت إبله كلها أبناء مخاض، قال: لأن النصاب الأول من الإبل يشبه

جميع النصب من الغنم، على معنى أن الواجب فيه من جنسه باعتبار العدد، لا باعتبار الصفة، والوجه الأول جار فيه، وهو ما أورده ابن الصباغ، ولم يحك خلافه، وفرق بينه وبين ما إذا كان ماله ستاً وثلاثين حيث يجزئه ابن لبون على وجه؛ بأن ابن لبون له مدخل في الزكاة في الجملة بخلاف ابن مخاض. قلت: هذا الفرق يقتضي عدم إجزاء الحق والجذع، ولا جرم اقتصر هو وكثيرون على إيراد الخلاف الذي ذكره الشيخ، وقد أغرب في "البحر" حيث حكى عن بعض الأصحاب أنه حكى عن ابن خيران أنه قال فيما إذا كان ماله خمساً وعشرين: إنه لا يؤخذ ابن لبون ولا ابن مخاض، قال: وهذا غير صحيح عن ابن خيران. وهذا كله إذا كان الذكور في سن الواجب، فلو كانوا في غير سنه، كما إذا ملك ستاً وثلاثين ابن مخاض قال القاضي الحسين: فإن قلنا لا يجزئه واحد منها عن خمس وعشرين فهاهنا أولى، وإلا فوجهان، والفرق حذر التسوية بين القليل والكثير. قال: وكذلك الوجهان جاريان فيما لو ملك ستة وأربعين بني مخاض أو بني لبون، فإن قلنا بالجواز أخذنا منه ابن لبون تزيد قيمته على المأخوذ في ستة وثلاثين. واعلم أن كلام الشيخ يفهم أنه إذا ملك أربعين من البقر كلها ذكور: أنه يجزئ فيها الذكر، وهو المنصوص عليه في "الأم" كما قال في "المهذب" و"البحر"، وقال البندنيجي: إنه ظاهر المذهب، وقول ابن خيران، وصححه النواوي، قال في "البحر"- تبعاً لما أفهم كلامه في "المهذب"-: وعلى هذا يقوم النصاب من الإناث، والفرض الذي فيها، ثم يقوم النصاب من الذكور، ويؤخذ بالقسط حتى لا يؤدي إلى التسوية بين الذكور والإناث. وفي "ابن يونس": أنا لا نحتاج على هذا التقويم؛ إذا المحوج إليه خشية مساواة القليل الكثير، وذلك مفقود فيها. وفي المسألة وجه آخر: أنه يتعين إخراج الإناث؛ كما قيل بمثله في الإبل، وهو ما حكى عن أبي إسحاق وأبي الطيب بن سلمة. قال: وإن كانت الماشية صحاحاً أخذ منها صحيحة، أي: ولا يجزئه معيبة وإن كانت أكثر قيمة من صحيحة، والدليل عليه من الكتاب قوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} ومعناه: لا تقصدوا الرديء منه تنفقون، فعبر عن الرديء

بالخبيث وإن كان ينطلق لإرادة المحرم، والدليل على أن المراد دون الحرام، قوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] والذي يؤخذ مع الإغماض إنما هو [الرديء] دون المحرم؛ لأن المحرم لا يجوز أخذه بحال، والمراد بالنفقة: الصدقة؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا} الآية [التوبة: 34] وأراد بالنفقة فيها الصدقة؛ لقوله عليه السلام: "ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز". ومن السنة ما روى أبو داود عن ابن شهاب في نسخة كتاب أبي بكر قال: "ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس الغنم إلا أن يشاء المصدق"، وقد أخرجه البخاري، وروى أبو داود عن سالم- وهو ابن عبد الله بن عمر- عن أبيه في نسخة كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عيب" وأخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن.

قال: وإن كانت مراضاً أخذ منها مريضة؛ لرواية أبي داود عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً إلى اليمن فقال: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب" إلى أن قال: "فإن هم أطاعوك فإياك وكرائم أموالهم"، أخرجه البخاري ومسلم. وفي أخذ الصحيحة من المراض أخذ الكرائم وقد روى أبو القاسم البغوي في "معجم الصحابة" بسنده عن عبد الله بن معاوية الغاضرين من غاضرة قيس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده، وأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدةً عليه كل عام، ولا يعطي الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة، ولكن

من وسط أموالكم؛ فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره". وأخرجه مسنداً أيضاً أبو القاسم الطبري. ولأنه نصاب وجب فيه الزكاة؛ فوجب أن يكون فرضه بصفته، أصله: النصاب من الحبوب والثمار، والحديث الأول محمول على مال فيه صحيح ومريض؛ لأنه الغالب، والفرق بين هذا وبين ما لو كان المال كله ذكوراً أو صغاراً حيث لا يؤخذ منه الذكر ولا الصغير- على قول أو وجه: أن اسم "بنت لبون" مثلاً يطلق على المريضة، ولا يطلق على الذكر والفصيل، وقد وجب بلفظ "بنت لبون". قال: وإن كانت صحاحاً ومراضاً، أي: والصحاح قدر الفرض أو أكثر منه أخذ منها صحيحة ببعض قيمة فرض صحيح وبعض قيمة فرض مريض على قدر المالين؛ لأن المريض لا يزكي الصحيح، لأن في إخراجه تيمم الخبيث، وفي إخراج الصحيح من غير اعتبار القيمة إضرار بالمالك وأخذ الكرائم، وهو منهي عنه؛ فتعين التقدير بالنسبة رعاية للجانبين، ومثال ذلك: إذا كان له أربعون من الغنم منها عشر مراض وثلاثون صحاح، فيقال: كم [قيمة] فرض صحيح منها؟ فإذا قيل: عشرون، فيقال: وكم قيمة فرض مريض منها؟ فإذا قيل: عشرة، قيل له:

نصف وربع قيمة الصحاح خمسة عشر، وربع قيمة المراض اثنان ونصف، وجملة ذلك سبعة عشر ونصف فأعط فرضاً صحيحاً قيمة ذلك. وهكذا الحكم فيما لو كان واجب ماله من الغنم حيوانين، وفيما لو كان ماله إبلاً وواجبه حيوان واحد أو حيوانان على المشهور. ولو كان ماله ثلاثين من الإبل، ونصفه صحاح والنصف الآخر مراض، وقيمة كل صحيحة أربعة دنانير، وقيمة كل مريضة ديناران- قال في "التهذيب"، تبعاً للقاضي الحسين وغيره: يجب عليه صحيحة قيمتها ثلاثة دنانير؛ نظراً إلى نصف قيمة الصحيح ونصف قيمة المريض. قال الرافعي: ولك أن تقول: هلا كان هذا ملتفتاً إلى أن الزكاة هل تنبسط على الوقص أم لا؟ فإن انبسطت فذاك وإلا قسط المأخوذ على الخمس والعشرين. انتهى. قلت: لو خرج على هذا فما الذي يجعل الوقص منه: هل من الصحاح أو من المراض، أو منهما؟ إن جعلناه من الصحاح أضررنا برب المال، وإن جعلناه من المراض أضررنا بالفقراء فتعين أن يجعل منهما، وحينئذ لا تختلف النسبة، على أن جعله منهما على السوية متعذر، لأن الخمس لا تنقسم.

أما إذا كان الصحاح من ماله دون الفرض كما إذا كان واجبه حيوانين وجميع ماله مراض إلا أحد الحيوانين فالذي أورده البندنيجي والروياني: أنه يخرج واحداً معيباً والآخر سليماً بالنسبة، وإن أخرج السليم جاز، وهو الذي حكاه الإمام عن العراقيين والصيدلاني، وحكى عن شيخه أنه كان يقطع في دروسه أنه لابد [من] أن تكونا جميعاً صحيحتين، ولا يكفيه أن يخرج تلك الصحيحة ومعيبة؛ لأن من أخرج بعيرين من إبله فهما يزكيان ماله، وكل واحد منهما يزكي الثاني، وإن كانتا مخرجتين فيلزم من إخراج صحيح ومريض أن يزكي المريض الصحيح، قال الإمام: وهذا عندي خروج عن ضبط الفقه، وتقدير بعيد لا حاصل له، والزكاة إذا أخرجت فالباقي يزكي بها فأما الزكاة فلا تزكي نفسها؛ ولأجل هذا قال الغزالي: إن هذا سرف؛ لأنه إذا لم يبق في ماله صحيح سقط أثر المخرج. وقد حكى القاضي الحسين والمتولي الخلاف المذكور وجهين في المسألة، وأنهما مأخوذان من اختلاف وقع في نسخ "المختصر"؛ فإن في بعض منها- كما قال هو والقاضي أبو الطيب وغيرهما-: "ولا يأخذ مريضاً وفي الإبل عدده صحيح"، وفي بعض "النسخ]: "ولا يأخذ مريضاً وفي الإبل [عدد صحيح] "، فمن قرأه بإثبات الهاء قال: المراد لا يأخذ مريضاً في الفرض وفي الإبل عدد؛ فإن الواحد أول العدد وليس عدد الفرض صحيحاً، وجوز الأخذ بهذه الصورة؛ لأن عدد الفرض لم يكن صحيحاً في ماله. ومن قرأه بنفي الهاء، قال: مراده: لا يأخذ مريضاً في الفرض وفي الإبل عدد ما صحيح وقد وجد في ماله في هذه الصورة عدد ما صحيح فلا يأخذ المريض. فإن قلت: الواحد أول العدد وليس بعدد؛ فلا تندرج هذه الصورة في كلام الشافعي بتقدير حذف الهاء. قلت: قد استشعر القاضي ذلك حيث منع ألا يكون الواحد عدداً بقوله: "واسم العدد يقع على الواحد. وأنا أقول: هذا التخريج صحيح، وإن قلنا: إن الواحد ليس بعدد؛ لأنا لو فرضنا الكلام فيما إذا كان الواجب عليه ثلاث حيوانات، كما إذا كان ماله مائتين وواحدة من الغنم، والجميع مراض إلا شاتين، فإن قضية من قرأ

اللفظ بغير هاء: ألا يجزئه إخراج المريضة في هذه الحالة؛ لأنه قد وجد في المال عدد صحيح، وإذا صح ذلك فوجهه ما ذكره الشيخ أبو محمد، وإذا كان كذلك وجب طرده في الصورة الأخرى؛ لوجوده فيها. ثم قضية بناء الوجهين على الاختلاف الذي وقع في نسخ "المختصر" بما ذكرناه من التقرير القطع بأن الإبل إذا كان الواجب فيها اثنان من جنسها وكانا صحيحين وباقيها مراضا- ألا يجزئه إلا صحيحان قولاً واحداً، ولكن بالقسط، وكذا في الغنم وغيرها، وهو ما قلنا من قبل: إنه المشهور وقد أغرب القاضي الحسين- وتبعه في "التهذيب" و"التتمة"- حيث قال: إذا كان ماله نصابين وأحد النصابين صحيحاً والآخر مريضاً بأن يكون له ست وسبعون من الإبل أو مائتان من الغنم نصفها صحاح ونصفها مراض، فأخرج صحيحة ومريضة- هل يجزئه أم لا؟ فيه وجهان. قال القاضي: على اختلاف قراءة المختصر من قرأ: وفي الإبل عدد صحيح، قال: ما دام في الإبل صحيح لا يؤخذ مريض، ومن قرأ: عدده صحيح قال: يؤخذ من المريض مريض ومن الصحيح صحيح، يعني جميع الإبل، قال: والصحيح [أن] الهاء راجعة إلى المخرج؛ فلا يأخذ إلا الصحيح في هذه المسألة، وقد قال في "التهذيب": إن الصحيح عنده أنه يأخذ صحيحة ومريضة. قلت: ومن هذا الخلاف يؤخذ خلاف في المال المشتمل على نصابين يتعدد بتعددهما الواجب: كالست والسبعين هل نقول: وجب في مقابلة نصفها بنت لبون الإبل؛ أخذا من [الخلاف المذكور] فيما إذا ملك أربعمائة من الإبل هل يجزئه أربع حقاق وخمس بنات لبون، أو لا يجزئه إلا ثماني حقاق أو عشر بنات لبون؟ ويمكن أن يكون مأخذ الخلاف هاهنا ذلك أيضاً، لكن قضيته لو قيل به أن يكون الصحيح هنا الجواز كما قاله البغوي، والصحيح [خلافه] بل المشهور اختصاص الخلاف بالصورة الأولى.

وقد أغرب الغزالي فيها حيث قال- تفريعاً على ما قاله الصيدلاني-: إنه يكتفي منه بصحيحة تقرب قيمتها من ربع عشر ماله إذا كان المملوك أربعين من الغنم. وغرابة ذلك من وجهين: أحدهما: أن قوله: تقرب قيمتها يشعر بأن الأمر في ذلك على التقريب قال الرافعي: وهذا لم أره في كلام غيره، ولا ينبغي أن يسامح بالنقصان والبخس. قلت: مراد الغزالي- والله أعلم-: أن التفاوت في هذا يسير؛ لأن الزائد بسبب صحة واحدة من أربعين قليل ومع قلته لا يهمل بل يجب اعتباره، فهو ضد ما فهم عنه. الثاني: جعله التفاوت منسوباً إلى ربع عشر القيمة إذا كانت غنمه أربعين، وهو الذي رواه ابن كج عن أبي إسحاق والذي قاله الجمهور في التقسيط هو الأول، قال الرافعي: وهو يتضمن النظر إلى آحاد الماشية إلا إذا استوت قيم الصحاح وقيم المراض وقد تكون مختلفة ولفظ الغزالي يغني عن النظر إلى آحاد الصور. واعلم أن المعيب كالمريض فيما ذكرناه. نعم، لو كان كل المال معيباً، لكن البعض أردأ- فقد قال الشافعي في "المختصر": يأخذ خير المعيب. واختلف الأصحاب في ذلك: فمنهم من أجراه على ظاهره، وأوجب خير المعيب من جميع ماله، قال الماوردي: وهو غلط؛ لأنه لا يطرد على أصل الشافعي، وهذا لم يورده الجمهور، بل أكثرهم قال: لا يختلف أصحابنا أن إبله إذا كانت [كلها] معيبة، فلا يجوز أن يأخذ خيرها في الصدقة، وممن قال ذلك، الإمام لكنه ذكر عن العراقيين بعد ذلك تردداً في صورة تقتضي المنازعة في ذلك. ومنهم من قال: أراد بذلك أخذ خير الفرضين، وهي الحقاق وبنات اللبون، ولم يرد خير جميع المال، قال في "الحاوي": وهو الصحيح وبه قال ابن خيران، ويؤيده قوله في "الأم": يأخذ خير المعيب من السن التي وجبت عليه. ومنهم من قال: مراده أن يكون رب المال أذن للساعي أن يأخذ من إبله ما شاء فيأخذ خيرها.

ومنهم من قال: أراد بخير المعيب: أوساطها، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] يعني: وسطاً، لأنه قال في آية أخرى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] ثم هؤلاء اختلفوا في المراد بالوسط على وجهين حكاهما البندنيجي والماوردي: أحدهما: أوسطها عيبا، مثال ذلك: أن يكون ببعضها عيب، وببعضها عيبان، وببعضها ثلاثة عيوب؛ فيأخذ ما به عيبان، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب تفريعاً على هذا. والثاني: أوسطها في القيمة، مثال ذلك: أن تكون قيمة بعضها معيباً خمسين، وقيمة بعضها معيباً مائة، وقيمة بعضها معيباً مائة وخمسين فيأخذ ما قيمته مائة لأنه أوسطها، وهذا معنى قول الغزالي بعد حكاية النص: وقال الأصحاب: يخرج بالقسط وهو الأصح، وعليه تنطبق رواية الربيع- كما قال القاضي الحسين-: ويأخذ من خير المعيب ما تفاوت بالقيمة قدر صدقته. والصورة التي حكى فيها الإمام التردد عن العراقيين: ما إذا ملك خمساً وعشرين معيبة فيها بنتا مخاض، إحداهما من أجود المال مع العيب والأخرى: دونها فقال: أحد الوجهين: أنه يأخذ التي هي أجود، وأصحهما: أنه يأخذ الأوسط. وذكر أن من قال بالأول شبه المسألة بالأغبط من الحقاق وبنات اللبون إذا اجتمع فرضهما في نصاب كالمائتين. ثم العيب المؤثر فيما نحن فيه: كل ما يرد به في البيع كذا قاله علماؤنا كما قال الإمام في باب فرض الإبل السائمة، وأنهم قالوا: لا تعتبر العيوب المانعة من الإجزاء في الأضاحي، وحكى عن شيخه أن من أئمتنا من اعتبر السلامة من عيوب الأضاحي، والسلامة من العيوب التي تثبت الرد وهذا زلل غير معتد به، والوجه: القطع باعتبار عيوب الرد فحسب، والفارق بين الوجهين يقع في شيء واحد، وهو أن الشرقاء والخرقاء تجزئ على الوجه الأول، كما صرح به الإمام في باب زكاة الغنم عن الصيدلاني؛ موجهاً له بأنها ليست معيبة بعيب مؤثر في القيمة والمالية وهي المرعية في الزكاة، وإن كان استشراف المنظر حساً معتبراً في

الضحايا على رأي، وعلى الوجه الثاني لا تجزئ إذا قلنا بعدم إجزائها في الضحايا، وقال الإمام في باب زكاة الغنم: إنه غير معدود من المذهب، وإنما هو هفوة من السامع والمستمع، وقد أوضح في "الخلاصة" حقيقة الوجه الأول وهو الصحيح في "الرافعي" فقال: المؤثر في المنع ما لا يجزئ في الأضحية إلا سلامة الأذن. قال: وإن كانت صغاراً، أي: بأن كانت دون أول سن تجب فيها، وذلك يتصور في جميع الماشية بأن تنتج في ملكه ماشية ثم تموت أمهاتها ويتم حولها وهي صغار ويفرع على المذهب في [أن] الحول لا ينقطع بموت الأمهات، خلافاً للأنماطي، ويتصور أيضاً في المعسر بأن يملكها ببيع ونحوه، ويتم عليها حول ولم يكمل لها سنتان، وقلنا بالصحيح: إن الثنية منها ما استكملت سنتين. قال: فإن كانت من الغنم، أخذ منها صغيرة؛ لعموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة: 103] فلم يجز لحق هذا الظاهر أن يكلفوا الزكاة من غيره، ولقول أبي بكر في حق مانعي الزكاة: "والله، لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلهم على منعه" كما أخرجه البخاري ومسلم. وجه الدلالة منه: أنه أخبر عنهم أنهم كانوا يؤدون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العناق،

والعناق: الأنثى الصغيرة من أولاد الغنم ما لم تجذع، وهي إنما تؤخذ من مال كله سخال، ولأنا لو كلفناه كبيرة من مال لا كبير فيه لكلفناه كريمة من مال لا كريمة فيه؛ لأن الكبيرة كريمة في هذه الحالة، وذلك لا يجوز؛ للخبر الآخر، ولأنه مال تجب الزكاة في عينه؛ فوجب أن نأخذ زكاته من عينه [كالثمر الردئ] وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن الجديد، وقال تفريعاً عليه: إنا نأخذ صغيراً سخلة من جملة السخال تبلغ قيمتها قيمة ربع عشر ماله إذا كان أربعين؛ وهو جزء من أربعين جزءاً. قال: وإن كانت من الإبل والبقر أخذ منها كبيرة أي: ولا يأخذ صغيرة منها مطلقاً؛ لأن ذلك يؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير، فيأخذ في خمس وعشرين من الإبل فصيلاً يأخذه في إحدى وستين منها، وفيما بينهما، ويأخذ في ثلاثين من البقر عجلاً يأخذه في أربعين منها وذلك إضرار بالفقراء؛ فتعين أخذ كبيرة. قال: أقل قيمة من كبيرة تؤخذ من الكبار؛ رعاية لجانب رب المال، وهذا ما حكى عن ابن سريج وأبي إسحاق [قالا]: والفرق بين ذلك وبين الغنم بوجهين: أحدهما: أن محذور التسوية بين القليل والكثير مفقود فيهما. والثاني: أن أسنان فرائض الإبل والبقر منصوص عليها؛ فلم يجز تركها

لمخالفة النص، وسن فرائض الغنم لم يرد النص به؛ لوروده في الإبل والبقر، فجاز تركه عند فقده. وعن بعض الأصحاب: أنه طرد هذا الوجه في الغنم- أيضاً- فقال: يأخذ منها كبيرة بالقسط وهو ما حكاه البغوي عن القديم تبعاً للقاضي الحسين والفوراني؛ لأنا لو أخذنا الصغيرة من الغنم لأخذناها من الإبل أيضاً كالمريضة، والمعيبة حيث تؤخذ من جميع النعم، ولو أخذناها من الإبل لزمت التسوية، فامتنع الأخذ أصلاً ورأساً، كما أنا نمتنع من أخذ الصغيرة من الإبل والبقر- على هذا الوجه لأجل ذلك- فيما إذا كان المال خمساً وعشرين من الإبل وثلاثين من البقر، وحينئذ لا أثر للفرق الأول، والثاني ضعيف، ولا وجه له في بدله. وعلى هذا نقول: كم قيمة النصاب لو كان كباراً؟ فإذا قيل: ألف مثلاً قيل: فكم قيمة الفرض منه؟ فإذا قيل: عشرة، قيل: فكم قيمة هذه الصغار؟ فإذا قيل: خمسمائة، قيل له: أخرج سن الفرض ويكون قيمته خمسة كذا قاله الماوردي والبندنيجي في الإبل، وطرده منقاس في غيرها، والقاضي أبو الطيب قال في الإبل على هذا: إذا كانت خمساً وعشرين فإنه يخرج ابنة مخاض قيمتها قيمة واحدة من الصغار، وإذا كانت ستاً وثلاثين أخرج بنت لبون قيمتها قيمة فصيل منها، والقياس: طرد ذلك في البقر والغنم إن قلنا بتعين الكبيرة فيها. وقد قال الإمام: إن الساعي يجتهد في الغنم ويحرص؛ حتى لا يجحف برب المال، فيأخذ جذعة من أربعين من سخال الغنم قريبة القيمة من سخلة، ويشترط أن تكون سليمة من العيوب، ولا ينبغي أن يظن الفقيه أنا نلتزم التسوية بين قيمة تلك الجذعة وبين السخلة؛ فإن هذا قد لا يتأتى أصلاً، وقد تكون أكبر سخلة في المال غير مستكملة شهراً، وقد لا تكون شريفة الجنس- أيضاً- فليس من الممكن فرض جذعة سليمة على قيمتها، ولو فرضنا وجدان ذلك؛ لكون السخال نفيسة وكانت الجذعة من نوع قريب القيمة فما عندي أن الأئمة

يسمحون بالعدول عن النوع الشريف، ولا أحد يصير إلى أنا نعدل إلى الدراهم، فإن هذا يؤدي إلى [إيجاب] إخراج قيمة سخلة، ولو أجزأت قيمة سخلة لأجزأت سخلة في نفسها. قلت: وبهذا يندفع السؤال على قول من قال: إنا إذا أوجبنا عليه في الإبل والبقر كبيرة أقل قيمة من كبيرة تؤخذ من الكبار، فلم نجد كبيرة بتلك القيمة- إنا نأخذ منه القيمة للضرورة كما ذكره المسعودي [في "الإيضاح"]. قال: وقيل: تؤخذ الكبيرة، أي: التي وصفناها من النصب التي يتغير الفرض فيها بالسن، أي: كخمس وعشرين من الإبل، وست وثلاثين وست وأربعين وإحدى وستين منها، وثلاثين من البقر وأربعين منها، للمحذور الذي ذكرناه من التسوية، فأما ما يتغير الفرض فيها بالعدد، أي: كست وسبعين من الإبل، وستين من البقر؛ فإنه يؤخذ الصغار؛ لانتفاء المحذور المذكور فجاز كما في الغنم، وهذا ما ضعفه الماوردي، وقال: إنه لا يتحصل منه شيء؛ لوضوح فساده من الاعتبار، وغيره بين فساده؛ بأن التسوية المحذورة فيما يتغير الفرض فيه بالسن موجودة فيما يتغير الفرض فيه بالعدد، وذلك بين ست وسبعين وإحدى وتسعين من الإبل، وبين الستين من البقر والثمانين، وقد سلم الحكم في ذلك كما قاله الماوردي، ولا فرق بينهما إلا في الصورة؛ فإن ما يتغير الفرض فيه بالسن المأخوذ منه واحد، والمأخوذ فيما يتغير فيه الفرض بالعدد اثنان، ولا أثر لذلك. وقد عبر قوم من الأصحاب عن هذا الوجه بعبارة أخرى تدفع الإلزام المذكور، وهي أن الصغيرة تؤخذ حيث لا يؤدي أخذها إلى التسوية، ومنهم الغزالي في "الوسيط" تبعاً للإمام وادعى الإمام في موضع: أنه وجه عدل متجه، وفي آخر: أنه الأصح، وكذا البغوي وقال: إنه الجديد، وإذا قلنا به وجبت صغيرة لائقة بماله، وفي المسألة وجه آخر: أنه تؤخذ الصغيرة من الإبل والبقر بكل حال، كما تؤخذ من الغنم، فيؤخذ في خمسة وعشرين فصيلاً فصيل [وفي ستة وثلاثين فصيلاً فصيل، وفي ستة وأربعين فصيلاً فصيل، وفي واحد وستين فصيلا

فصيل]، وفي ستة وسبعين فصيلان، وفي ثلاثين عجلا عجل، وفي ستين عجلان، وفي سبعين عجلان، ثم هكذا فيما زاد ونقص، قال الماوردي: وهو ظاهر النص، والبندنيجي وأبو الطيب قالا: إنه ظاهر المذهب [والمتولي قال: إنه المذهب] وهو الذي صححه الفوراني، وقال ابن الصباغ: إنه ليس بشيء. وعلى هذا قال الشيخ أبو بكر- وهو ابن الحداد- والصيدلاني: ينبغي أن يحرص الساعي حتى يأخذ من المقدار الكبير من الإبل فصيلا أكثر شيئاً مما يأخذه فيما دونه حتى يحصل عند الإمكان فصل بين المأخوذ من الكثير والمأخوذ من القليل، فإن أراد أن يأخذ فصيلاً من خمس نظر إلى الأسنان عند وجودها، ومعلوم أنه [لو] ملك خمسا وعشرين من جذاع الإبل أو ثناياها، فإنا نكتفي منه ببنت مخاض، وهي أول الأسنان المعتبرة، فلينظر الناظر إلى مثل ذلك في الفصلان. قال الإمام: ويخرج من هذا أنه يأخذ أكثر الفصلان في المقدار الكبير. وقال غيره: إنه يأخذ من ست وثلاثين فصيلاً فوق الفصيل المأخوذ من خمس وعشرين، ومن ست وأربعين فصيلاً فوق المأخوذ من ست وثلاثين، وعلى هذا القياس. وعلى الجملة فإن أمكن التفاوت فهو حتم، والنظر فيه إلى نظر الساعي واجتهاده، وإن تساوت الفصلان على مزية واحدة، فلابد على هذا من التسوية بين القليل والكثير على هذا الوجه الذي عليه نفرع، كذا قاله الإمام. قلت: والقياس يقضتي طرد مثل هذا في البقر، وقد اقتضى ما ذكره الشيخ في الإبل والبقر الجزم بعدم إجزاء الصغيرة عن خمس وعشرين من الإبل وثلاثين من البقر، أما على [الوجه] الأول فظاهر، وأما على [الوجه] الثاني؛ فلأنها من النصب التي يتغير الفرض فيها بالسن، وقد جزم البغوي بإجزاء الصغير عن خمس وعشرين من الإبل، وحكى الخلاف فيما جاوز ذلك. قال الرافعي: وفي كلام الصيدلاني مثل ذلك والقياس طرد ذلك في البقر، وقد حكى في "الوجيز" وجهاً: أن الصغيرة تؤخذ في غير الإبل، وفي الإبل فيما

جاوز إحدى وستين، ولا تؤخذ فيما دونه؛ كي لا يؤدي إلى التسوية، وهذا الوجه يلحق البقر بالغنم مطلقاً دون الإبل. قلت: و [هو الذي] لا يتجه غيره؛ لأن عماده المنع من إخراج الصغيرة، أما التسوية بين القليل والكثير أو خشية الإفضاء إليها فذلك مأمون في البقر؛ لأن الواجب في ثلاثين منها ذكر، وفي أربعين أنثى، وفي ستين ذكران، وفي ثمانين أنثيان، وذلك فارق بين القليل والكثير؛ فإن الأنوثة صفة زائدة قائمة في بعض الصور مقام زيادة السن؛ ألا ترى إلى جعل الشرع ابن اللبون مجزئاً، في خمس وعشرين وبنت اللبون واجب ست وثلاثين؟ نعم، لو كانت الصغار ذكوراً، وقلنا: لو كانت البقر كلها [ذكوراً] في سن الواجب أخرج الذكر، كما هو المنصوص، فهاهنا لو قلنا: يخرج الصغير من البقر، للزمت التسوية، أو خشية الإفضاء إليها؛ فيتجه إلحاق البقر- والحالة هذه- بالإبل، والله أعلم. واحترز الشيخ بقوله: منها عما إذا كانت صغاراً وزكاتها من غيرها، كالعشرين فما دونها من الإبل؛ فإنها وإن كانت صغاراً لا يؤخذ عنها إلا ما يؤخذ عن الكبار نعم، لو أخرج منها فصيلاً، قال القاضي الحسين وغيره: جاز. وقال في "التهذيب": إنه يجوز على القول الجديد. وقد سكت الشيخ عما إذا كانت الماشية صغاراً وكباراً؛ اكتفاء بما تقدم في الصحاح والمراض، إذ حكمهما واحد، وقد استدل لذلك بقول عمر- رضي الله عنه- لساعيه سفيان بن عبد الله الثقفي: "اعتد عليهم بالسخلة يروح بها الراعي على يده ولا تأخذها، ولكن خذ الجذعة والثنية، فإن ذلك عدل بين غذاء المال وخياره"، والغذاء: السخال والبهم، واحدها: غذي، ومعناه: إذا فعلت ذلك لم تظلم. ولو كان ماله نصابين كست وسبعين من الإبل مثلاً، ونصفها كبار ونصفها صغار، فهل يتعين إخراج كبيرتين، أو يجوز أخذ كبيرة وصغيرة منه؟ إذا قلنا: تؤخذ صغيرة من الصغار، حكمه أيضاً ما تقدم في نظير [مسألة الصحاح والمراض، قاله المتولي، وحكى الخلاف المذكور في] المسألة الأخرى، ثم في

نظيرها هاهنا، ولو كانت الماشية أعلى سناً من سن الفرض، لم يطالب رب المال إلا بالفرض المنصوص عليه. قال: وإن كانت المواشي أنواعاً: كالبخاتي، والعراب، والجواميس، والبقر، والضأن، والمعز، ففيه قولان. البخاتي- بتشديد الياء وتخفيفها- والعراب: نوعان للإبل كما أن المَهْرِية، والأَرْحَبية، والمُجَيْدية، والعَقِيلية، والقِرْمِلية أنواع لها. والجواميس والبقر المعروفة بين الناس نوعان- كما أراد الشيخ للبقر- وقد أنكر عليه جعله البقر أحد نوعي البقر، وكان الصواب أن يقول: والجواميس والعراب؛ لأنهما نوعان للبقر، وكذا الدربانية- بدال مهملة مفتوحة، ثم راء ساكنة ثم باء موحدة، ثم ألف ثم نون-: نوع لها، قال الأزهري: أنواع البقر منها الجواميس، وهي أنبل البقر، وأكثرها ألبانا وأعظمها أجساماً. والعراب: وهي جرد ملس حسان [الألوان] كريمة. ومنها الدربانية: وهي التي ينقل عليها الأحمال. وقال ابن فارس: الدربانية ترقُّ أظلافها وجلودها ولها أسنمة. والضأن والمعز: نوعان للغنم، وكذا العربية والملكية والبلدية أنواعها. فإذا وجدت أنواع من جنس في ملك شخص، أو نوعان، ضم بعضها إلى بعض في إكمال النصاب بلا خلاف، والمخرج من ماذا؟ قال الشيخ: ففيه قولان،

أي: منصوصان في "الأم"، كما قال في "البحر": أحدهما: [يؤخذ] من الأكثر؛ لأن للغلبة تأثيراً في الأصول، دليله: المائع إذا اختلط بالماء نظرنا إلى الأغلب، والشخص إذا غلب عليه الخير أو الشر، كان الاعتبار به في قبول شهادته وردها. والثاني: يجب في الجميع بالقسط، لأنه مال تجب الزكاة في عينه؛ فلم يعتبر الغالب في أخذ الزكاة منه؛ كالدراهم والحبوب إذا كان فيهما الجيد ودونه. وهذا ما أشار إليه في "المختصر" حيث قال: [والقياس: أخذ من كل بقدر حصته، وهو الأصح بالاتفاق. وفي المسألة قول ثالث، قاله في موضع آخر من "الأم": أنه يخرج من أوسط الأنواع عند اجتماعها، حيث قال]: إذا اختلفت الغنم وكانت أجناساً بعضها أرفع من بعض، أخذ المصدق من أوسط أجناسها، لا من أعلاها ولا من أسفلها؛ لأن ذلك العدل. التفريع: إن قلنا بالأول، أخذ من النوع الأغلب من ماله، ولا نظر إلى كونه أحظ للمساكين أو خلافه، فإن كان ماله أربعين من الغنم، ثلاثين ضأنا وعشرين معزا أخذنا جذعة من الضأن، [ولو انعكس الحال أخذنا ثنية من المعز. ولو كان ماله ثلاثين من البقر، عشرين عراباً وعشرة جواميس- أخذنا تبيعا من العراب، ولو انعكس] الحال أخذنا تبيعاً من الجواميس، ولو كان ماله خمسة وعشرين من الإبل، خمسة عشر مهرية، وعشرة أرحبية أو مجيدية أو غير ذلك أخذنا بنت مخاض مهرية، ولو انعكس الحال أخذنا بنت مخاض من النوع الآخر. فإن لم يجد [من] الأكثر السن الواجب، قال الشافعي: كلفنا رب المال تحصيلها ولا تنخفض ولا ترتفع. قال في "البحر": وأراد: لا يجوز أن يأخذ من النوع الأدنى مع الجبران، أو من الأعلى مع دفع الجبران إليه، ولكن لو أخذ من السن الأكبر ودفع الجبران، أو الأدنى مع الجبران، يجوز بلا إشكال، وعلى هذا – أيضاً-: لو تساوى النوعان أو الأنواع، مثل: أن كان في ملكه عشرون من الضأن وعشرون من المعز، أو ثلاثون من البقر: عشر عراب، وعشر جواميس،

وعشر دربانيات، قال في "الوسيط" تبعاً لـ"النهاية": إنه كاجتماع الحقاق وبنات اللبون، فالمذهب وهو المنصوص في "الأم" كما قال في "البحر": أن الساعي يختار الأنفع للمساكين، وهو ما أورده البندنيجي، والقاضي الحسين والشيخ في "المهذب"، وقاله أبو إسحاق في "الشرح" كما قال ابن الصباغ. وقيل: الخيرة لرب المال يخرج ما شاء، كما هو مذهب ابن سريج في الحقاق وبنات اللبون، وهو ما ذكره أبو إسحاق في "الشرح" كما قاله في "البحر" وأنه لا وجه له على مذهب الشافعي، وأن بعض أصحابنا قالوا: ويجيء فيه وجه آخر: أنه يؤخذ من كل واحد منهما بقدره؛ كالتمر إذا كان نوعين سواء، يؤخذ من كل نوع بقدره. قلت: ليس المعني بذلك: أنه يأخذ شقصاً من حيوانين، بل المراد: أنه يأخذ منه حيواناً واحداً بالقسط، فيقوم النصاب كما لو كان كله من نوع ويقوم واجبه وكذلك يقوم النوع الآخر وواجبه، فيأخذ منه حيواناً قيمته قدر نصف قيمة كل من النوعين، وهو الذي أورده الماوردي، حيث قال عند استواء النوعين: إن عليه إخراج شاة من أيهما شاء على قدر المالين. وحقيقته ترجع إلى- ما قاله القاضي أبو الطيب في "المجرد"- أنه ينبغي أن يسقط هذا القول إذا تساوت. ولو كانت إبله عشراً مهرية، وعشراً أرحبية وخمساً مجيدية، وجب عليه بنات مخاض مهرية أو أرحبية، والخيرة للساعي على المذهب في أخذ أيهما شاء لا بالتشهي، بل باتباع الأحظ، وحقيقته ترجع إلى تعيين المهرية؛ لأنها الأجود؛ ولهذا قال القاضي الحسين: لو كانت إبله عشراً مهرية، وعشراً أرحبية وعشراً مجيدية، أخذ بنت مخاض عن المهرية على هذا القول بلا خلاف، كما قال الإمام وغيره. وإن قلنا بالقول الثاني لم يأخذ أشقاصاً من حيوانات وإن اقتضاه ظاهر النص، وقال به القاضي الحسين تخريجاً بل يأخذ منه في النصاب الواحد حيواناً كاملاً بالقسط، فنقول في المثال الأول: كم قيمة النصاب لو كان كله ضأنا؟ فإذا قيل: مائة وستون قلنا: وكم قيمة الفرض منه؟ فإذا قيل: أربعة، قلنا: وكم قيمة النصاب لو كان كله معزاً؟ فإذا قيل: ثمانون، قلنا: وكم قيمة الفرض منه؟ فإذا قيل: درهمان، أخذنا منه شاة قيمتها ثلاثة ونصف؛ لأن الثلاثة نصف

وربع قيمة الفرض من الضأن، والنصف قيمة الربع من المعز، وقد قيل: إنه لا حاجة في تقويم النصاب، بل تقوم الجذعة من الضأن في مثالنا، ونأخذ ثلاثة أرباع قيمتها، وتقوم الثنية من المعز ونأخذ قيمتها، ويجمع ذلك، فما بلغ أخرج شاة قيمتها ذلك وهذا ما ذكره أبو الطيب وهكذا نفعل في البقر والإبل إذا كانت نوعين، وإن كانت أنواعاً فبالنسبة: فإذا كان ماله إبلاً عشراً مهرية، وعشراً أرحبية، وخمساً مجيدية، قيل: كم قيمة بنت مخاض مهرية؟ فإذا قيل: عشرة، قيل: وبنت مخاض أرحبية كم قيمتها؟ فإذا قيل: خمسة، قيل: وبنت مخاض مجيدية، فإذا قيل: اثنان ونصف، أخذنا من العشرة خمسيها وذلك أربعة، ومن الخمسة خمسيها، وذلك اثنان، ومن الاثنين ونصف خمسه وذلك نصف، ومجموع ذلك ستة ونصف، فيخرج بنت لبون قيمتها ستة ونصف، وعلى هذا فقس. قال الأصحاب: والخيرة في النوع المخرج منه الفرض على هذا القول إلى المالك، وقال ابن الصباغ: الذي يقتضيه المذهب أنها تكون من أعلى الأنواع، واختاره في "المرشد"؛ ولأجل ذلك حكى بعضهم في المسألة وجهين هكذا. وقال في "التتمة": المذهب المشهور أنه يتخير الساعي كما في الحقاق وبنات اللبون. وهذا قد يقال: إنه ما صار إليه ابن الصباغ، وقد يقال: إنه غيره، فتأمله. وهذا الذي ذكرناه فيما إذا كان الفرض حيواناً واحداً، فلو كان أكثر منه، كما لو ملك مائة من الضأن [ومائة] وواحدة من المعز، فقد قال القاضي الحسين: إنه يخرج ثنية وجذعة بلا خلاف، وفي الشاة الثالثة وقع الاشتراك فيخرج على هذا القول شاة ثنية إما ضأنا وإما معزا، تبلغ قيمتها مائة جزء من مائتي جزء وجزء [من الضأن ومائة جزء وجزء من مائتي جزء] من المعز. وقياس ما قاله القاضي الحسين أنه لو كان في ملكه مائتان من الضأن ومائتان من المعز، أنه يخرج شاتين من الضأن وشاتين من المعز، بلا خلاف؛ إذ لا اشتراك وهو ما صرح به في "البحر" وحكاه الرافعي عن رواية ابن كج عن أبي إسحاق، ثم قال الرافعي: والمشهور طرد الخلاف.

قلت: وهو راجع إلى ما قدمت ذكره أن الواجب بسبع، فيجب الجملة في الجملة، والبعض مشاعاً من مجموع الحيوانات في البعض، إذ لا إشاعة، بل يجب في كل مائة- والصورة كما ذكرناه- شاة، والله أعلم. وإن قلنا بالقول الثالث الذي لم يحكه الشيخ لعدم اطراده؛ فإنه إنما يأتي عند وجود ثلاثة أنواع في المال متقاربة، ولا يأتي إذا كان نوعان فقط، واستوت الأعداد- فلا يخفي تفريعه. نعم، لو لم يجد في الأوسط السن التي وجبت، قال الساعي لرب المال: إن تطوعت بالأعلى منه أخذته، وإن لم تتطوع كلفتك أن تأتي بمثل الفرض وسطاً، وقد حكى الرافعي في أصل المسألة وجهاً عن رواية ابن كج: أنه يؤخذ من الأجود؛ أخذاً من نصه في اجتماع الحقاق وبنات اللبون. تنبيه: كلام الشيخ يفهم أنه لا يؤخذ عن الضأن المعز وعن المعز الضأن، وهو ما ادعى ابن التلمساني: أنه الأصح، ووراءه وجهان، حكاهما المتولي عن القاضي الحسين: أحدهما: أنه يجوز كما يجوز أن يأخذ من أحد النوعين عن الآخر، في النصاب الذي بعضه ضأن وبعضه معز، وهذا ما صححه في "التهذيب" وقاسه على ما إذا أخرج مهرية من الإبل عن أرحبية، وعلى هذا يشترط ألا ينقص قيمة البدل عن المبدل. والثاني: يرجع عند الاختصار إلى أنه إن أخرج المعز عن الضأن لم يجزئه وإن أخرج الثنية من الضأن عن المعز والقيمة مستوية أجزأه، وإن أخرج عنها جذعة من الضأن فوجهان. وأطلق في "التهذيب" الحكاية عن القاضي بأنه قال: يحتمل ألا يؤخذ من المعز عن الضأن؛ لأن المعز دون الضأن، ويؤخذ الضأن عن المعز؛ كما تؤخذ المهرية عن المجيدية، ولا تؤخذ المجيدية عن المهرية. واعلم أن المهرية منسوبة إلى قوم من اليمن يقال لهم: بنو مهرة. والأرحبية: من اليمن، وكذا المجيدية منسوبة إلى مجيد، وهو فحل كان لإبلهم.

قال في "البحر": وقد قيل: النجيدية [بدل المجيدية]. والقرملية: إبل الترك. قال: ولا تؤخذ الربى، [أي: بضم الراء وتشديد الباء] وهي التي يتبعها ولدها، كما قاله في "المهذب" و"الوسيط"، والقاضي الحسين، وقال أبو الطيب: هي القريبة العهد بالولادة، وهو قول أهل اللغة، قال الأزهري: يقال: هي في ربابها- بكسر الراء- ما بين خمس عشرة ليلة، وقال الجوهري: قال الأموي: هي رُبَّى ما بينها وبين شهرين، وقد حكى البندنيجي الوجهين، وقال القلعي: وأهل اللغة لا يشترطون كون الولد معها، وقد قال أبو زيد: الربى من المعز والضأن، وربما جاء في الإبل. وإنما لم تؤخذ لأنها من كرائم الأموال؛ فإنها كثيرة اللبن، وقد قال- عليه السلام- لمعاذ: "فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجه البخاري ومسلم. قال: والماخض. الماخض عند أهل اللغة: الحامل التي دنت ولادتها. قال الأزهري: هي التي أخذها المخاض لتضع، والمخاض: وجع الولادة، والمراد في اصطلاح الفقهاء بالماخض: الحامل قربت ولادتها أو بعدت كما ستعرفه. ووجه المنع من أخذها: أنه جاء في حديث عبد الله بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تؤخذ الشافع ولا حزرة الرجل" والشافع: الحامل،

قاله القاضي الحسين. وقال أبو الطيب: هي الحامل ولها ولد، فتكون قد شفعت ولدها بحمل آخر، وقيل: إنها السمينة العظيمة، سميت بذلك؛ لأن لحمها شفعه شحم السمن ولحمه، وعلى هذا فتكون الدلالة على منع الأخذ فيها بخصوصها: أن ذلك يؤدي إلى الإجحاف برب المال؛ لأنها مشتملة على حيوان آخر لم يجب؛ ولذلك أوجبها الشرع تغليظاً في قتل العمد. قال الأصحاب: والتي طرقها الفحل في هذا المعنى كالمتحققة الحمل؛ لأن الغالب في البهائم العلوق بمرة واحدة بخلاف الآدميات. قال: وفحل الغنم. وهو المعد للضراب؛ لرواية البخاري وغيره عن ابن شهاب في نسخة كتاب أبي بكر: "ولا تأخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار، ولا تيس الغنم إلا أن يشاء المصدق". قال: والأكولة. الأكولة- بفتح الهمزة وضم الكاف- هي المسمنة المعدة للذبح، كما قال الشافعي وأبو عبيد، وقال غيره: أكولة غنم الرجل: الخَصِيُّ. ووجه المنع: قوله عليه السلام: "لا تأخذ الشافع: وهي السمينة- كما تقدم- ولرواية أبي داود عن مسلم بن ثفنة البكري عن شيخ يقال له: سعر، قال: لبثت في شعب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غنم لي، فجاءني رجلان على بعير، فقالا لي: إنا رسولا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليك؛ لتؤدي صدقة غنمك، فقلت: ما علي فيها؟ فقالا: شاة، فعمدت إلى شاة قد عرفت مكانها ممتلئة لحماً وشحماً، فأخرجتها إليهما، فقالا: هذه شاة الشافع، وقد نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نأخذ شافعاً. قلت:

فأي شيء تأخذان؟ قالا: عناق جذعة أو ثنية، قال: فعمدت إلى عناق معتاط – والمعتاط: التي لم تلد ولداً وقد حان ولادتها- فأخرجتها إليهما، فقالا: ناولناها، فجعلاها معهما على بعيرهما، ثم انطلقا. وفي رواية: الشافع: التي في بطنها الولد. انتهى. وقيل: المعتاط من الغنم: [هي] التي امتنعت من الحمل؛ بسمنها وكثرة لحمها، وهي بضم الميم وسكون العين المهملة قبل الألف تاء ثالثة الحروف، وبعد الألف طاء مهملة. قال: وحزرات المال، أي: خياره، سمي بذلك؛ لأن الرجل يحزره من ماله بقلبه، ويقصده لفضيلته. ووجه المنع خبر معاذ، وخبر عبد الله بن زيد، وقد جاء مرسلاً عن عروة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمن بعثه على الصدقة: "إياك وحزرات أنفسهم" أخرجه أبو داود. والحزرات: بحاء مهملة ثم زاي ثم راء، واحدتها: حزرة، بإسكان الزاي كتمرة وتمرات. وقد استدل الأصحاب على ما ذكرناه بقول عمر لساعيه المقدم ذكره: "ولا

تأخذ الأكولة ولا الربى ولا الماخض، ولا فحل الغنم" وفي رواية أخرى: "ولا ذات الدر" ولم ينكر عليه أحد ذلك. قال: إلا أن يختار رب المال. ووجهه في أخذ فحل الغنم رواية البخاري السالفة، وفي أخذ الخيار ما روى أبو داود عن [أبي] بن كعب قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدقاً، فمررت برجل فلما جمع لي ماله، لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض، فقلت له: أدِّ ابنة مخاض؛ فإنها صدقتك، فقال: [ذاك] ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة قنية عظيمة سمينة، قال: فخذها، فقلت له: ما أنا بآخذ ما لم أؤمر به، وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك قريب، فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل، فإن قبله منك قبلته، وإن رده عليك رددته، قال: فإني فاعل فخرج معي وجاء بالناقة التي عرض علي حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا نبي الله، أتان رسولك ليأخذ [مني] صدقة مالي، وايم الله، ما قام في مالي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا رسوله قط قبله، فجمعت له مالي، فزعم أن ما على فيه إلا ابنة مخاض، وذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر، وقد عرضت عليه ناقة عظيمة قنية ليأخذها، فأبى وردها علي، وها هي ذه قد جئتك بها يا رسول الله خذها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير أجرك الله فيه، وقبلناه منك"، فهاهي ذه يا رسول الله، قد جئتك بها فخذها، قال: فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبضها، ودعا له في ماله بالبركة. انتهى.

فقبول ذلك منه دليل على الجواز، وكذا قوله: "أجرك الله" ومنه نأخذ الجواز في باقي الصور. وأجرك الله: بمد الهمزة وقصرها لغتان، وقد أنكر الأصمعي المد. فإن قيل: الحمل نقص، فكيف يقبل في الزكاة إذا رضي المالك؟ قلنا: قال القاضي الحسين: الحمل في البهائم ليس بنقص بخلاف بنات آدم؛ فإنه نقص فيها. وكذلك قاله الإمام والمتولي وفيه نظر، كما ستعرفه، أن الأصح: أنه عيب في البهائم وبنات آدم. وقد طلب المتولي والفوراني الفرق بين إجزائها هنا وعدم إجزائها في الأضحية كما قال: ثم فرق بأن القصد من الأضحية اللحم، والغالب أن بالحمل ينقص اللحم، وفي الزكاة المقصود: منفعة أهل السهمان؛ ولهذا أوجب الشرع في الزكاة الإناث، والنفع في الحبلى أكثر. وما ذكره الشيخ في جميع الصور هو المشهور إلا في فحل الغنم؛ فإن فيه إذا أخرجه ما تقدم في أخذ الذكر. وفي "النهاية" أن العراقيين حكوا وجهاً بعيداً عن بعض الأصحاب: أن الربى لا تقبل من جهة أنها لقرب عهدها بالولادة تكون مهزولة، والهزال عيب، قال: وهو ساقط؛ لأن الهزال الذي يعد عيباً هو الظاهر البين. وفي "الإبانة" أن صاحب "التقريب" قال: إذا أعطانا كريمة لا تجزئ؛ لظاهر خبر معاذ. وفي "النهاية" أن صاحب "التقريب" حكاه عن غيره، وقال: إنه مزيف لا أصل له. ولا شك في جريانه في فحل الغنم، ولا الأكولة، وكذا في الحامل إذا قلنا:

الشافع: الحامل؛ لورود النهي عن أخذها، وإليه أشار الإمام. بقوله: إنه لو بذل ماخضاً، قبلت منه على طريق الأئمة، واعتدت فريضة كالكريمة في نوعها. ثم محل النوع عند عدم رضا المالك بأخذ الكريمة إذا لم يكن كل ماله كذلك، فإن كان بأن كانت ماشية سمينة طالبناه بسمينة، قال الإمام: ويجعل ذلك كشرف النوع. وهذا بخلاف ما لو كانت كلها ماخضة لا يطالب بماخضة كما قاله صاحب "التقريب" وقال الإمام: لا وجه عندي لمخالفته لمكان حملها الزائد على الواجب؛ فإن الشرع أوجب في الأربعين شاة واحدة. قال: وإن كان بين نفسين من أهل الزكاة نصاب مشترك من الماشية، أو نصاب غير مشترك إلا أنهما اشتركا في المراح والمسرح والمشرب والفحل والراعي والمحلب حولاً كاملاً- زَكَّياً زكاة الرجل الواحد. هذا الفصل سيق لبيان زكاة الخلطة، وهي عند الفقهاء نوعان: خلطة اشتراط وخلطة جوار، ويعبر عن الأولى: بخلطة الأعيان وعن الثانية بخلطة الأوصاف، وقد منع بعضهم تسميتها "خلطة" لغة؛ لأن الخلطة في اللغة: ما لم يتمز، وقال: هي تسمية شرعية يدل عليها قوله- عليه السلام-: "والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والمرعى"، وروي "والراعي" أخرجه الدارقطني. وقال آخرون: بل تسمى "خلطة" لغة وشرعاً، وقد جاء ذلك في الكتاب العزيز في قصة داود {إِنَّ هَذَا أَخِي} إلى قوله: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى

بَعْضٍ} [ص: 23، 24] فسماهم خلطاء وإن كانت النعجة متميزة عن النعاج. وقد ذكر الشيخ النوعين معبراً عن الثلاني بما لا نزاع فيه، وهو قوله: أو نصاب [غير] مشترك إلا أنهما .. إلى آخره، والدليل على الوجوب في الحالين عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في خمس من الإبل شاة، وفي ثلاثين من البقر تبيع، وفي أربعين شاة شاة" ولم يفرق بين أن يكون ذلك لمالك أو لملاك والدليل على وجوبها في النوع الثاني بخصوصه: ما رواه البخاري وغيره عن أنس في كتاب أبي بكر- رضي الله عنه-: "ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" قال الأصحاب: والدلالة بهذا من وجهين: أحدهما: قوله: "ولا يجمع بين مفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" فإنه خاطب بذلك السعاة وأرباب الأموال، فلا يجمع الساعي بين عشرين من الغنم لشخص وعشرين لآخر، حتى يأخذ منها شاة، ولا يفرق بين ثمانين من الغنم بين شخصين لكل واحد منهما أربعون؛ ليأخذ من كل منهما شاة، ولا يجمع أرباب الأموال بين المفرق مثل: أن يكون لزيد أربعون من الغنم، ولعمرو مثل ذلك، [فيجمعا بينهما] ليأخذ الساعي منهما شاة ولا يفرق بين مجتمع مثل: أن يكون بين شخصين أربعون من الغنم؛ فيفرقاها، كي لا يأخذ منهما شاة. والثاني: قوله: "وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" والراجع إنما يكون غالباً في خلطة الأوصاف كما سنبينه. وإذا ثبت وجوب الزكاة في هذهذه الخلطة، كان وجوبها في الأولى أولى، ولأجل ذلك قال الشافعي: والذي لا أشك فيه أن الشريكين ما لم يقتسما الماشية فهما خليطان. وأراد بذلك أن خلطة الأوصاف لما ورد الشرع بوجوب الزكاة فيها فما لم يشك في كونه خلطة ملحق بها. وقد حكى الحناطي وجهاً غريباً: أن خلطة الجوار لا أثر لها، وإنما يؤثر خلطة الشيوع، والحديث يرد عليه.

ثم المراد بالمراح: الموضع الذي تبيت فيه الماشية وهو بضم الميم وبالمسرح: الموضع الذي ترعى فيه، كذا حكى عن الشيخ أبي حامد، وهو الذي قاله أبو الطيب، والبندنيجي، والقاضي الحسين، والماوردي، وكلام الغزالي يقتضي أنه غيره؛ فإنه قال: يشترط اتحاد المسرح والمراح والمرعى [والمشرع]. قال الرافعي: وكلام كثير من الأئمة يوافقه، قال: وليس ذلك في الحقيقة اختلافاً، ولكن الماشية إذا سرحت عن أماكنها تجيء قطعة قطعة، وتقف في موضع، فإذا اجتمعت امتدت إلى المرعى، فكأن بعضهم أطلق اسم "المسرح" على ذلك الموضع وعلى المرتع نفسه؛ لأن الإبل مسرحة إليها، ومنهم من خص اسم "المسرح" بذلك الموضع. والمراد بالمشرب: الموضع الذي يشرب منه الماء، عيناً كان أو نهراً أو بئراً. وبالفحل: الذي يضربها واحداً كان أو أكثر، سواء كان مشتركاً بينهما أو لأحدهما أو مستعاراً، وهذا ما أورده العراقيون والماوردي، وقال القاضي [الحسين]: قال الشافعي: "ويكون فحولها مختلطة"، فاختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: أراد به أن يكون الفحل مشتركاً، بينهما [وهو المحكي عن رواية الشيخ أبي محمد أيضاً. قال القاضي]: والأكثرون [قالوا]: أراد به ألا يميز كل واحد منهما ماشيته عند الإنزاء، ويكون الفحل بينهما مرسلا ينزو. كلام الغزالي يحتمل إجراؤه على هذا الخلاف؛ فإنه قال الاشتراك: في الراعي والمحلب والفحل فيه وجهان. وفي بعض الشروح أن بعض الخراسانيين قال: إن اشتراط الاشتراك في الفحل مخصوص بما إذا اتحد النوع، فإن اختلف كالضأن والمعز فلا يضر اختلاف الفحل؛ للضرورة. قلت: وحقيقة ذلك ترجع إلى أنا على الأول لا نثبت حكم الخلطة عند اختلاف نوع المال، إذ لا اشتراك في الفحل مع اختلافه، ولكن نثبتها عند اتحاد النوع، إذ في تلك الحالة يتصور الاشتراك، وعلى الثاني نجوزها في الحالين، لكن لابد مع اتحاد النوع من الاشتراك فيه؛ للخبر.

وهذا لم أره لغيره، نعم، حكى الرافعي في اشتراط الاشتراك في الفحل وجهين، أحدهما: أنه لا يشترط ولا يقدح في الخلطة اختصاص كل واحد بإنزاء فحل على ماشيته، قال: وهو أصح عند المسعودي لكن يشترط أن يكون الإنزاء على موضع واحد كما سنذكره في الحلاب. والمراد بالاشتراك في الراعي: أن يكون راعي المالين متحداً، واحداً كان أو أكثر بحيث لا يتميز [مال] كل منهما براع، وفيه الوجه الذي حكيناه عن الغزالي. والمراد بالمحلب- بفتح الميم-: الموضع الذي يحلب فيه؛ لأن الشافعي نص عليه في "الإملاء"، فقال: وأن يحلب في مكان واحد، فإن تفرقا في مكان الحلاب قبل الحول زكيا زكاة الاثنين. ولأجل ذلك قال الرافعي: إن اتحاد موضع الحلاب لابد منه. وأفهم كلام النووي خلافاً فيه؛ لأنه قال: والأصح اشتراط اتحاد موضع الحلب فينبغي أن يقرأ كلام المصنف بفتح الميم؛ لأنه بالفتح: موضع الحلب، وبكسرها: الإناء الذي يحلب فيه، ولفظ الشافعي الذي حكاه في "المختصر": "ولا يكونان خليطين حتى يريحا ويسرحا، ويحلبا ويسقيا معاً"، واختلف الأصحاب فيه، فقال أبو إسحاق: ما نقله المزني غلط، ولم يذكره الشافعي في "الأم" ولا في شيء من كتبه. وغيره صحح النقل، وقال: قد حكاه الزعفراني وحرملة أيضاً، لكن ما المراد منه؟ اختلفوا فيه:

فمنهم من قال: مراده أن يكون [موضع حلابهما واحداً كما نص عليه في "الإملاء". ومنهم من قال: مراده أن يكون] الإناء الذي يحلب فيه واحداً، وأن يخلط اللبن بعد الحلب؛ لأن ذلك أرفق، وأقل مؤنة، قال القاضي أبو الطيب: وهو الذي عليه عامة الأصحاب، وهو ظاهر النص، ولا يقال: إن خلط اللبن يؤدي إلى الربا؛ لاحتمال أن يكون لبن أحدهما أكثر من لبن الآخر؛ لأنا نقول: ما كان موضوعاً على الرفق والمساهلة سقط [اعتبار الربا فيه] كما قلنا في مسافرين خلطوا أزوادهم؛ فإنه يجوز أن يتفاوت أكلهم، ولم يمنع ذلك من الخلط؛ فكذا هنا. ومنهم من قال: المراد: أن يكون الحالب واحداً والإناء واحداً مع خلط اللبن. ومنهم من قال: المراد: أن يكون الإناء واحداً والحالب واحداً، فأما خلط اللبن فلا يشترط؛ لأن اللبن نماء فلا يعتبر فيه الخلط كالصوف، بل لا يجوز خلط اللبن؛ لأنه يفضي إلى الربا، وما ذكر من دفع ذلك قياساً على أزواد المسافرين، فالفارق قائم، وهو أن المقصود هاهنا التمليك وهو مما يشاحح فيه، وفي أزواد المسافرين الإباحة ولا مشاححة وهذا ما ادعى البندنيجي أنه المذهب. ثم دليل اعتبار هذه الأشياء ما تقدم من الخبر؛ لأنه نص فيه على البعض، ونبه به على الباقي بجامع طلب خفة المؤنة، وقد اشترط بعض الأصحاب نية الخلطة في الوجوب وفي منعه، حتى إذا جمع الرعاة الماشية واتصفت بصفات الخلطة لا تجب الزكاة، كما قيل بمثل ذلك في قصد السوم والعلف، والمذهب في "تعليق" البندنيجي: عدم الاشتراط، وهو المختار في "المرشد"؛ لأن المصلحة حاصلة وإن لم يقصد. وقد أفهم كلام الشيخ أنه لا فرق فيما ذكره بين أن يكون النصاب مشتركاً بينهما على التساوي أو على التفاضل، وكذا في خلطة الجوار، وهو الذي صرح به الأصحاب. واحترز بقوله: "من أهل الزكاة"، عما إذا كان بين نفسين أحدهما من أهل الزكاة والآخر ليس من أهلها، كالمكاتب والذمي؛ فإن الزكاة لا تجب لعدم تأثير

الخلطة، ولو كان بينهما ما يخص من هو من أهل الزكاة منه قدر النصاب، كما إذا ملك ثمانين من الغنم نصفين؛ فإنه تجب عليه شاة قاله القاضي الحسين؛ لعدم تأثير الخلطة أيضاً. وبقوله: "نصاب" عما إذا كان بينهما دون النصاب مختلطاً [وفي ملكهم غير مختلط ما يكمل به النصاب، كما إذا وقعت الخلطة] في ثمانٍ وثلاثين من الغنم بينهما نصفين، ويملك كل منهما شاة مفردة؛ فإنه لا زكاة للخبر. وبقوله: "حولاً كاملاً" عما إذا كان ملك أحدهما بعض النصاب والآخر باقيه بعد ذلك، ومضى حول من حين ملك الأول؛ فإنه لا تجب الزكاة ما لم يتم حول من حين ملك الأول؛ فإنه لا تجب الزكاة ما لم يتم حول من حين ملك الثاني، ولا يزكيان زكاة المنفرد كما ستعرفه، ويتصور ذلك فيما إذا كان المال بين ذميين نصفين، فأسلم أحدهما غرة المحرم، وباع الآخر نصفه غرة صفر فمن تجب عليه الزكاة والمال مختلط لم يفصل، ويسلمه كذلك حين البيع؟ نعم، لو ملك أحدهما نصاباً في أول المحرم، والآخر نصاباً في أول المحرم، وخلطا حين ملكا- ثبت حكم الخلطة كما تقدم، وإن لم تقع الخلطة إلا في أول صفر فهل تجب عند تمام الحول الأول عليهما زكاة الخلطة أو زكاة الانفراد؟ وفيه قولان؟ القديم: الأول؛ لقوله- عليه السلام-: "ولا يفرق بين مجتمع"، ولأن الزكاة تعتبر بآخر الحول؛ بدليل ما لو نتجت سخلة في آخر الحول أو ماتت واحدة منه وهذا القول مطرد فيما إذا لم يخلطا إلا في ذي الحجة؛ فعلى هذا يجب عليهما شاة. والجديد- وهو الذي نص عليه في عامة كتبه، كما قال البندنيجي-: الثاني؛ فتجب على كل منهما شاة؛ لأنه انفرد في أول الحول فكان النظر إلى المتقدم أولى؛ ولأن زكاة الانفراد مجمع عليها بخلاف زكاة الخلطة، وأيضاً: فإنه لو لم تقع الخلطة إلا قبل انقضاء السنة بيوم أو يومين [لم تؤثر؛ فكذا هنا، وبهذا فارق نتاج السخلة وهلاك الشاة قبل انقضاء الحول بيوم أو يومين] وأيضاً: فإن النظر

إلى آخر الحول إنما هو في المستفاد من النصاب؛ بدليل أنه لو ملك سخلة بالبيع ونحوه قبل الحول لم يضم، وهو نظير ما نحن فيه. وهذا كله في السنة الأولى، أما في السنة الثانية فلا خلاف في أن الواجب فيها زكاة الخلطة إذا بقي النصاب، ولو كان أحدهما ملك أربعين في أول المحرم، والآخر ملك أربعين في أول صفر، ووقع الخلط- فقد حكى عن ابن سريج [تخريج] قول: أن الواجب زكاة الانفراد أبداً في الحول الأول، قال الرافعي: ولم يصح ذلك عن ابن سريج. وقد ذكر أبو إسحاق في "الشرح" عن ابن سريج خلافه، وأضاف التخريج إلى غيره من الأصحاب، وما بعده؛ نظراً إلى أن الاعتبار: الاتفاق في الحول كما في غيره والمنصوص في القديم والجديد خلافه. نعم، ينظر: فإن خلطا- والصورة كما ذكرنا- أول صفر ففي القديم يزكيان جميعاً زكاة الخلطة، قال في "الوسيط" وغيره: فيجب على كل منهما نصف شاة عند تمام سنة، وهكذا أبداً ما دام النصاب. قلت: وهذا ظاهر إذا قلنا: إن الزكاة لا تتعلق بالوقص، أما إذا قلنا: تتعلق [به] فينبغي أن يكون الحكم كما سنذكره. وفي الجديد: أن على الأول شاة عند تمام السنة الأولى، وفيما على الثاني عند تمام السنة الأولى [له] وجهان في "تعليق" البندنيجي وغيره: أحدهما: عليه شاة أيضاً؛ لأن خليطه لم ينتفع بخلطته؛ فكذلك هو نظراً إلى التسوية، قال الغزالي: وهو بعيد. والثاني: عليه زكاة الخلطة نصف شاة. قلت: وهذا ظاهر إذا قلنا: إنه لا تعلق للزكاة بالوقص، فإن قلنا: إنها تتعلق به فينظر: إن أخرج الأول الزكاة من عين المال وجب على الثاني أربعون جزءاً من تسعة وسبعين جزءاً ونصف من شاة، وهو أكثر من نصف شاة؛ لأن المال عند وجوب الزكاة عليه تسع وسبعون شاة ونصف شاة، [وإن كان مختلطاً]، والنصف الآخر لأهل السهمان ولا زكاة عليهم كما تقدم.

وإن أخرج الأول الزكاة من غير المال فإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين تعلق شركة، فكذلك، إلا على قول حكاه ابن خيران وأبو إسحاق: أنه إذا أخرج الزكاة من غير المال تبينا أنها لم تتعلق بالعين؛ فيكون الحكم كما إذا قلنا: إنها تتعلق بالذمة، وإذا قلنا به وجب على الثاني نصف شاة، وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين تعلق جناية، فالحكم كذلك. وكل هذا أخذته من كلام الأصحاب الذي ستعرفه، وهذا حكم السنة الأولى، أما في السنة المستقبلة فالواجب على كل منهما عند تمام سنته زكاة الخلطة، وإن وقع خلطهما في أول ربيع الأول فعلى القديم: الواجب عليهما جميعاً زكاة الخطة، وعلى الجديد: زكاة الانفراد، وهذا في السنة الأولى وفيما بعدها تجب زكاة الخلطة، قال البندنيجي: فيجب على الأول نصف شاة، وأما الثاني: فينظر: فإن كان الأول قد أخرج زكاة نصيبه من غير هذا المال وجب عليه أربعون جزءاً من تسعة وسبعين جزءاً ونصف من شاة كما تقدم، وإن أخرجها من غيره، وقلنا: قد ملك الفقراء من النصاب قدر الفرض، فالحكم كذلك. وإن قلنا تتعلق بالذمة، وجبت عليه نصف شاة. قلت: ويجيء فيه من البحث والتفريع ما تقدم. ولو كان أحدهما قد ملك أربعين أول المحرم، والثاني ملك عشرين أول صفر، وخلطها حين ملكها- فعلى القول المخرج المنسوب إلى ابن سريج: يجب على الأول شاة عند تمام حوله، ولا يجب على الثاني شيء في هذه السنة ولا بعدها وإن دام الاختلاط، وعلى القديم قال في "الوسيط" وغيره: يجب على الأول عند تمام سنته ثلثا شاة، وعلى الثاني عند تمام سنته ثلث شاة. قلت: وفيه ما تقدم. وعلى الجديد: يجب على الأول عند تمام السنة الأولى شاة، وعلى الثاني ثلث شاة. قلت: وفيه ما تقدم. ولا يجيء فيه الوجه السالف الناظر إلى أن شريكه لم ينتفع بالخلطة؛ لأنه لو

جاء هنا لأدى إلى عدم الوجوب عليه، وأما في السنة الثانية فيكون الحكم في حقهما كما في التفريع على القديم. وهذا حكم خلطة المجاورة إذا طرأت على الانفراد، فلو طرأ عليه خلطة الشيوع، مثل أن يكون في ملكه أربعون من الغنم ستة أشهر، فيبيع نصيبه مشاعاً في أثناء الحول، ويسلم ذلك في وقته- فإنه ينقطع الحول فيما باعه، ولا ينقطع فيما لم يبعه، فإذا تم حوله وجب عليه نصف شاة، ووجهه الأصحاب: بأن ملكه ما انفك عن نصاب في طول الحول؛ فإنه كان في بعض الحول خليط نفسه وفي باقيه خليط غيره [فوجب أن تجب عليه الزكاة؛ لأنه لو كان خليط نفسه أو خليط غيره] جميع السنة وجبت فكذا إذا اجتمعا. قلت: ويجيء في إيجاب الزكاة على المشتري عند تمام حوله ما تقدم من النظر إلى إخراج الأول الزكاة من عين المال أو غيره، وقد قال ابن خيران وأبو العباس: إن في المسألة قولين: أحدهما: ما ذكرناه. والثاني: أن حول ما لم يبعه قد انقطع أيضاً؛ بناء على القولين في أن خلطة الجوار إذا طرأت في أثناء الحول هل يجب على الأول زكاة الانفراد أو زكاة الخلطة؟ وأيد الانقطاع بأن الشافعي قال: لو كان لرجل ستون شاة ستة أشهر، ثم باع ثلثها مشاعاً، ثم حال حول البائع وجب عليه شاة على الجديد. فلولا أن الخلطة لا حكم لها بعد البيع لكان الواجب عليه ثلثا شاة، قال القاضي أبو الطيب [وغيره]: وهذا غلط مذهباً وحجاجاً: أما المذهب فإنهما يسقطان الزكاة عن البائع على الجديد، والشافعي إنما أوجبها على الجديد نص عليه في "المختصر" وفي "الأم". وأما الحجاج فما ذكرناه. وأما ما ذكرناه من نصه في الستين إذا باع ثلثها فالجواب: أن الخلاف في حكم الحلو هل ينقطع ويستأنف أو لا، الشافعي لم يتعرض له، وإنما ذكر قدر المأخوذ، وهل يكون بحكم الخلطة أم لا؟ وقد تقدم الكلام فيه. فإذا قلنا بطريقة ابن خيران، استأنف الحول من حين ملك المشتري، واستقر

ملكه، ووجب عليهما في آخر الحول شاة على أحد القولين، وعلى القول الآخر يكون الحكم كما في التفريع على الطريقة الأولى، وهي أنا ننظر عند تمام حول المشتري: فإن كان البائع قد أخرج نصف الشاة التي وجبت عليه من عين هذا المال حين وجب، مثل أن سلم ذلك إلى الساعي مشاعاً فلا زكاة على المشتري لنقص النصاب في حقه. وإن كان قد أخرج ذلك من غيره: فإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالذمة أو بالعين [تعلق جناية، وجب على المشتري أيضاً نصف شاة وإن قلنا: تتعلق بالعين تعلق] شركة، فلا تجب؛ لأن النصاب قد نقص [فلا يجب] قبل تمام حوله باستحقاق الفقراء ذلك. وعن ابن خيران حكاية قول آخر حكاه عن أبي إسحاق في "الشرح"، أيضاً كما قال البندنيجي: أنه يجب على الثاني نصف شاة، لأن البائع لما أخرج الزكاة من عين المال تبينا أن أهل السهمان لم يملكوا من هذا المال شيئاً، وأنه لم يزل عن ملك البائع، ولو كان البائع قد باع النصف معيناً والصورة هذه، مثل: أن سلم عشرين من الغنم وباعها، قال القاضي أبو الطيب: فإن عزلها وباعها انقطع الحول، وإن لم يعزلها بل باعها وسلم الكل وتركها مختلطة، فوجهان: أحدهما- قاله ابن سلمة-: أن الحول لا ينقطع. والثاني: أنه ينقطع. قال: وقائله يذهب إلى أن الخلطة لا تثبت إلا بالنية، وهي هاهنا معدومة. وقد عكس البندنيجي ذلك فقال: إن علمها بعلامات وباعها ولم يعزلها فالحكم كما لو باع نصفها مشاعاً حرفاً بحرف، وإن أفرد ذلك ثم باعه ثم خلطها المشتري، ففيها الوجهان. وقال الماوردي: إن باعها مفردة وسلمها مفردة، وأخرجها المشتري من المراح، ثم عاد وخلطها- انقطع الحول، وإن باعها وهي مختلطة وسلمها كذلك لم يبطل، وإن تسلمها مفردة لكنه لم يخرجها من المراح ثم خلطها، فوجهان: أحدهما- قاله أبو إسحاق-: انقطاع الحول. والثاني- قاله ابن أبي هريرة-: أنه لا ينقطع، لأن المراح يجمعهما.

ولو وجد البيع في الصورتين ولم يتصل به التسليم، قال القاضي الحسين والماوردي: فإن قلنا بوجوب الزكاة في المبيع قبل القبض عند الانفراد [على المشتري] فالحكم كما تقدم، وإلا فلا يجب، قال القاضي: وهل تجب على البائع في نصيبه؟ يحتمل وجهين: أحدهما: لا؛ لأن ماله يختلط بمن لا زكاة في ماله؛ فأشبه ما لو كان خليطه مكاتباً. الثاني: تجب، ويخالف ما لو كان خليطه مكاتباً؛ لأن المكاتب لم يكن من أهل وجوب الزكاة، وخليطه هاهنا من أهل الوجوب عليه. وبقوله: "زكيا زكاة المنفرد"، الاحتراز عن وجه رواه الإمام في صدقة الفطر عن حكاية الشيخ أبي علي، فيما إذا كان بينهما أربعون من الغنم لأحدهما عشرون من الضأن، وللثاني عشرون من المعز، فأراد كل واحد منهما أن يخرج نصف شاة من نوع ما يملك- أنه يجوز؛ لإمكان تميز الملكين، والمذهب: أنه لا يجوز إلا ما يجزئ أحدهما لو انفرد بالنصاب المذكور، وما حكاه أبو علي في نهاية الضعف، قال الإمام: وهو مفسد لقاعدة الخلطة. واعلم أن الحكم فيما إذا كان بين أنفس من أهل الزكاة نصاب مشترك من الماشية أو نصاب غير مشترك، كالحكم فيما إذا كان بين نفسين بلا خلاف. قال: فإن أخذ الساعي الفرض من نصيب أحدهما رجع على خليطه بالحصة، أي: بقيمة الحصة؛ للخبر فإنه اقتضى التراجع، وهو رجوع كل منهما على صاحبه بشيء؛ فرجوع أحدهما من طريق الأولى، ومثال رجوع أحدهما على صاحبه فقط: أن يكون بينهما خمس من الإبل، أو خمس وعشرون منها أو ثلاثون من البقر أو أربعون منها، أو أربعون من الغنم، ونحو ذلك، والخلطة خلطة جوار، ويكون الرجوع بالنسبة: فإذا كان بينهما أربعون من الغنم نصفين رجع الدافع [بنصف قيمة] الشاة. وإن كان لأحدهما ثلاثون ولآخر عشر، وأخذ الشاة من صاحب العشر- رجع على رفيقه بنصف قيمتها، وربع قيمتها، ولو كانت من غنم الآخر رجع على خليطه بربع قيمتها.

قال الأصحاب: ولو كان بينهما ستون من الغنم، لأحدهما أربعون ولآخر عشرون، فالشاة بينهما أثلاثاً، فإن أخذت من الأربعين رجع صاحبها على الآخر بثلث قيمة الشاة، وإن أخذت من العشرين رجع على خليطه بثلثي قيمتها. قلت: ولا يقال: إن هذا مخرج على أن فرض النصاب يتعلق بالجميع، بل هو على القولين؛ لأن جعل الوقص من مال أحدهما فقط لا وجه له؛ فتعين إشاعته وتوزيعه عليهما بالنسبة، وذلك يقتضي ما ذكرناه، والله أعلم. ومثال رجوع كل منهما على صاحبه الذي اقتضاه الخبر: أن يكون بينهما مائة وثمانون من الإبل لأحدهما مائة وللآخر ثمانون، وليس في الثمانين بنت لبون، وفيها حقاق، وفي المائة بنات لبون، وليس فيها حقة، فإن الساعي يأخذ من المائة بنتي لبون وتسع قيمة بنتي لبون، ومن الثمانين حقتين، ويرجع صاحب المائة على خليطه [بثلث قيمة بنتي لبون وتسع قيمة بنتي لبون، ويرجع صاحب الثمانين على خليطه] بنصف قيمة حقتين ونصف تسع قيمة حقتين فإن تساوى ما على كل منهما لصاحبه جاءت أقوال التقاص. [وهذا] الحكم فيما لو كان لأحدهما ثلاثون من البقر وللآخر أربعون منها، وليس في الثلاثين تبيع وفيها مسنة، وليس في الأربعين مسنة، وفيها تبيه، فإن الساعي يأخذ تبيعاً من الأربعين، و [مسنة] من الثلاثين، ويرجع صاحب الثلاثين [على صاحب الأربعين بأربعة أسباع التبيع]، وتجيء أقوال التقاس عند التساوي. وهذا مما لا شك فيه ولا خلاف بين الأصحاب، وكذا لم يختلفوا فيما إذا كان مال أحدهما صغاراً ومال الآخر كباراًـ، في أخذه الفريضة من صاحب الكبار، وفيما إذا كان مال أحدهما صحاحاً ومال الآخر مراضاً: في أخذه الزكاة من صاحب الصحاح كما قاله البندنيجي وغيره. [نعم] اختلفوا فيما إذا أمكن الساعي أن يأخذ من مال كل منهما [قدر ما] يجب عليه، قال الرافعي: في حالة الانفراد، كما إذا كان بينهما مائتان من الغنم لكل منهما مائة، أو مائة وثمانون من الإبل لأحدهما مائة وللآخر ثمانون وفي الثمانين بنتا لبون

[وحقاق] وفي المائة حقتان [وبنات لبون]، فهل للساعي أن يأخذ الفرض من أحد المالين؟ أو ليس له أن يأخذ من كل مائة [إلا شاة] ومن المائة من الإبل إلا حقتين، ومن الثمانين إلا بنتي لبون؟ فيه وجهان: المنسوب في "الحاوي" و"تعليق" البندنيجي وأبي الطيب والفوراني في "الإبانة" إلى أبي إسحاق: الثاني، ولا حاجة بهما إلى التراجع. قال الماوردي: وعلى هذا لو أخذ الفرضين من مال أحدهما لم يكن له الرجوع على خليطه؛ لأنه مظلوم بها. والمعزي إلى ابن أبي هريرة: الأول؛ لعموم قوله: "ويتراجعان بينهما بالسوية"، وهذا ما ادعى القاضي أبو الطيب أنه ظاهر المذهب، وأنه [إذا] أخذ الشاتين من أحدى المائتين رجع صاحبها على خليطه بقيمة شاة. قلت: وإذا تأملت الوجهين عرفت اتفاقهما على أن المأخوذ ليس شائعاً [في الجميع]. أما على قول أبي إسحاق فظاهر؛ لأنه يقول: "فرض كل منهما شاة"، إذ لو قال [بالشيوع لزمه] التراجع، وقد جزم الفوراني بأنه إذا أخذ من كل منهما شاة ومالهما مائتان على السواء: بعدم التراجع؛ فإنه أخذ من كل منهما ما وجب عليه. وأما على قول ابن أبي هريرة؛ فإنه لو كان شائعاً لرجع المأخوذ من ماله الشاتان بقيمة نصف الشاتين لا بقيمة شاة، وإذا كان كذلك اتجه طرد ذلك في حالة عدم الإمكان كما تقدم. لكن الجمهور على أن للساعي أخذ الفرضين من أي المالين شاء عند الإمكان وأنه يقع شائعاً؛ فيرجع المأخوذ مجموع ذلك من ماله على خليطه بالنسبة. ومثال ذلك: إذا أخذ الحقتين وبنتي اللبون من المائة رجع على صاحبه بأربعة أتساع قيمة الحقتين وبنتي اللبون، ولو أخذ ذلك من الثمانين رجع صاحبها على صاحبه بخمسة أتساع قيمة الحقتين وبنتي اللبون، وعلى هذا القياس في غيرها من الصور.

وخطأ الإمام الفوراني فيما جزم به، وكذا في حكايته عن أبي إسحاق ما تقدمت حكايته عنه، وقال: إنه لم يره إلا في كتابه، وقال: إنه خبط يطرح من المذهب وقد عرفت أن غيره حكاه عن أبي إسحاق مع أنه ضعيف. قال الأصحاب: ولا يتصور التراجع أو الرجوع في خلطة الأعيان إلا فيما إذا كان الفرض من غير الجنس، كما إذا كان بينهما عشرون من الإبل فما دونها، ولأحدهما غنم دون الآخر، فإن الساعي يأخذ الفرض منها، ويرجع صاحبها على شريكه بالحصة. قلت: ويتصور فيما إذا كان من الجنس، مثل أن يكون بينهما أربعون من الغنم، لأحدهما في عشرين منها نصفها، وفي العشرين الأخرى نصفها وربعها فيأخذ الساعي شاة منها، فإنه إن أخذها من العشرين التي يملك فيها أحدهما نصفها وربعها، وكانت قيمة الشاة مثلاً أربعة دراهم، رجع صاحب النصف [والربع منها على صاحب الربع] بنصف درهم، وإن أخذها من العشرين التي بينهما نصفين، وقيمتها أربعة دراهم أيضاً رجع صاحب الربع من العشرين الأخرى على صاحب النصف والربع منها بنصف درهم. والمرجع في القيمة عند الاختلاف إلى البينة، فإن فقدت فالقول قول المرجوع عليه مع اليمين. ولو كان الساعي قد أخذ فوق الفرض [من] مال أحدهما نظر: فإن [كان الفاضل متميزاً كما إذا أخذ شاتين والواجب شاة، فلا يرجع المأخوذ منه إلا بالحصة من الواجب فقط، وإن كان لا يتميز نظر: فإن] لم يكن للساعي شبهة في ذلك، كما إذا أخذ الكرام لم يرجع إلا بالحصة من غير كريمة، قال القاضي الحسين: وهذا دليل على أنالفرض يسقط وإن ظلم الساعي وأخذ أكثر، وأن الإمام لا ينعزل بالجور. وإن كان للساعي شبهة في أخذ الفاضل وتأويل مثل: أن أخذ صحيحة عن مراض، وكبيرة عن صغار، على مذهب مالك- رجع على خليطه بحصته من الفاضل. وقياس هذا: أنه لو أخذ القيمة من أحدهما عن الزكاة؛ اعتماداً على

مذهب أبي حنيفة- أن يرجع على خليطه بحصته منهما، وهو أحد الوجهين في المسألة، ويقال: إنه نص عليه في "الأم"، وعن أبي إسحاق: أنه لا يرجع بشيء؛ لأن القيمة لا تجزئ في الزكاة عند الشافعي بحال بخلاف الكبيرة والصحيحة؛ فإنه لو تطوع بها قبلت، وقد قيل بطرد هذا الخلاف فيما لو أخذ عن السخال كبيرة. قال: وإن كان بينهما نصاب من غير الماشية، أي: كالثمار والزروع والدراهم والدنانير وعروض التجارة، ففيه قولان: أصحهما: أنه كالماشية، أي فيزكيان زكاة الخلطة عند الاشتراك في الملك، أو الانفراد فيه والاشتراك في الارتفاق، كما سنذكره؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة"، ولأن المؤن تخف بالخلطة؛ فعلى هذا يشترط في الثمار والزروع: اتحاد الناطور والأكار والعمال والحصاد والملقح والمنقح والنهر، وفي غيرهما: اتحاد الحانوت والحارس والميزان والوزان، والناقد والمنادي والمتقاضي، كما قال البندنيجي. ومن الأصحاب من قال بعدم جريان هذا القول في خلطة الأوصاف، ويحكى عن اختيار أبي إسحاق، وهو الأصح في "الحاوي" قال: لأنها مأخوذة من الاختلاط، وهذه مجاورة، وما ذكره الشيخ هو الراجح عند الأكثرين، ومنهم البغوي، وهو الذي فرع عليه الشافعي في باب زكاة الثمار من "المختصر"، ولذلك قال في "التتمة": إنه المذهب؛ لأن ما صح فيه خلطة الأعيان صح فيه خلطة الأوصاف كالماشية. قال في "الحاوي" في باب زكاة الثمار: والوجهان مأخوذان من اختلاف أصحابنا في الخلطة في الماشية بالأوصاف، هل سميت خلطة لغة أم شرعاً؟ فمن قال: لغة: منع من الخلطة، ومن قال: شرعاً، جوز الخلطة هاهنا. قال: والثاني [أنهما] يزكيان زكاة المنفرد، أي: يزكي كل منهما زكاة المنفرد؛ لقوله- عليه السلام-: "والخليطان ما اجتمعا في الرعي [والحوض

و] الفحل"؛ فدل ذلك على أن ما لا يوجد ذلك فيه لا تؤثر فيه الخلطة، ولأن خلطة المواشي تحصيلها يقع تارة بإزاء ضرر لأرباب الأموال والفقراء، وليس فيما سواها [إلا] الإضرار بأرباب الأموال؛ فإنه لا وقص فيها، فامتنع إلحاقها بالمواشي، وهذا هو القديم. والقائلون بالجديد قالوا: الحديث مبين لما تقدم من قوله: "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية"؛ فإن ذلك لا يكون إلا في الماشية؛ فكذلك بين الخليطين، لا لأنه أراد جنس الخلطة في كل الأموال. وأما قولهم: إن الخلطة في المواشي لها تأثير في تغليظ الزكاة تارة وتخفيفها أخرى، فهو غير مقصود منها؛ ألا ترى أن الماشية إذا كانت أزيد من أربعمائة لم تفد الخلطة فيها أبداً إلا إضراراً برب المال؟ وسلك الغزالي تبعاً لإمامه طريقاً آخر، فحكى في الثمار والزورع ثلاثة أقوال، ثالثها: [تثبت فيها] خلطة العين دون خلطة الجوار؛ إذ لا تتحد المرافق بالتجاور، وغاية الممكن فيه: اتحاد الناطور والنهر، وأما الدراهم والدنانير فالمذهب: أن خلطة الجوار لا تؤثر فيها؛ إذ لا وقع لاتحاد الحانوت والحارس، وفي خلطة الشيوع قولان. وما قال هنا: إنه المذهب، جزم به في "الوجيز" تبعاً للقفال؛ فإنه جزم فيها بعدم تأثير خلطة الجوار، وقال: في خلطة الاشتراك قولان. وهي الطريقة التي أوردها الشيخ أبو محمد والصيدلاني، ووافقهما القاضي الحسين على إجراء القولين في خلطة الشيوع، وقال في خلطة الجوار: إنها مبنية على النخل والزرع، فإن قلنا هنا: لا تثبت، فهاهنا أولى، وإلا فقولان، ووجه الفرق: أن تمام الارتفاق إنما يحصل في الذهب والفضة بالخلطة بالشركة، بأن يتصرفا فيه فينتفعا به، ولا يرتفقان في خلطة المجاورة في الحقيقة، والله أعلم.

باب زكاة النبات

باب زكاة النبات النبات يطلق على ما له ساق وهو الأشجار، وعلى ما لا ساق له وهو الزرع والحشيش [ونحوه]. والأصل في وجوب الزكاة في النوعين على الجملة- قبل الإجماع- من الكتاب قوله تعالى: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ} فأوجب بأمره الإنفاق مما أخرجه من الأرض لنا، والنوعان خارجان من الأرض، ثم قال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} أي: الرديء، لما تقدم {مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267] وأراد الزكاة، يدل عليه قوله- عز وجل-: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] وقد تقدم أن المراد بها في هذه الآية: الزكاة؛ للخبر فكذا فيما نحن فيه. ولأنه ليس مما يخرج من الأرض حق واجب سوى الزكاة، ولأنه حرم إخراج الخبيث، وهو الرديء كما تقدم، ولو كان المراد غيره لما حرمه، إذ يجوز إخراج خبيثه وطيبه. ومن السنة: ما روى أبو داود عن سالم بن عبد الله عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سقت [السماء] والأنهار والعيون أو كان بعلاً العشر، وفيما سقي بالسواني أو النَّضْحِ نصف العشر". وأخرجه البخاري وغيره.

وعن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فيما سقت الأنهار والعيون العشر، وما سقي بالسواقي ففيه نصف العشر" أخرجه مسلم. وقد ورد في الكتاب والسنة ما يدل على الوجوب في الزرع خاصة، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَمَا} إلى قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، وحقه- كما قال ابن عباس-: العشر ونصف العشر وروي عنه أنه قال: هو الزكاة المفروضة. وإنما قلنا باختصاص دلالتها بالزرع؛ لقول الشافعي: "وقوله: {يَوْمَ حَصَادِهِ} دلالة على أنه إنما جعل الزكاة على الزرع"، أي: في هذه الآية. قال الأصحاب: لأن الحصاد غير مستعمل في الأشجار، وإنما هو حقيقة في الزرع، [وإن استعمل مجازا في غيره؛ فإنه يقال: حصد الزرع] وجد النخل، وقطف العنب، وجني الفاكهة، ولا يقال: إن المراد بالحصاد في الآية الاستئصال كما في قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} [يونس: 24] فيكون تقديرها يوم استئصاله، هذا لا يختص بالزرع؛ لما ذكرنا أنه حقيقة في الزرع، ولو سلمنا أنه

حقيقة في الاستئصال فلا يمكن الاستدلال بظاهر الآية على الثمار؛ لأن الأشجار لا تستأصل، بل تترك أصولها وتجني ثمارها، وإذا لم يمكن استعمال ظاهر الآية سقط الاحتجاج به، وقال-[عليه السلام]- لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن "خذ الحب من الحب" أخرجه أبو داود والنسائي. وورد في السنة ما يدل على وجوبها في الثمار خاصة: روى أبو داود عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ صدقة النخل تمراً". وأخرجه الترمذي وقال: إنه حسن غريب. وغيره ذكر أنه منقطع؛ لأن عتاباً توفي في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر [الصديق] رضي الله عنه وولد سعيد بن المسيب في خلافة عمر سنة خمس عشرة على المشهور، وقال الترمذي: إن هذا الخبر قد رواه ابن جريج عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة. قال: وسألت محمداً- يعني البخاري- عن هذا فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ، وحديث سعيد بن المسيب عن عتاب ابن أسيد [أصح]. [و] قال الأصحاب: وإنما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - النخل أصلاً ورد الكرم إليه؛ لأنه افتتح خيبر في سنة ست وكان بها نخل، وكان يوجه عبد الله بن رواحة

يخرصها عليهم، فكان خرص النخل ووجوب الزكاة فيه معهوداً عندهم، ثم افتتح الطائف في سنة ثمان وكان بها كرم؛ فأمرهم بخرصها كما يخرص النخل. قال- رحمه الله-: ولا تجب الزكاة في شيء من الزروع إلا فيما يقتات، أي: يكون له بقل يستمسك. قال: مما ينبته الآدميون، أي يزرع جنسه الآدميون [وإن نبت بنفسه] كما إذا تناثر حب لمن تجب عليه الزكاة أو حمله [الهواء أو الماء] فنبت، صرح بذلك القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما. واحترزنا بقولنا: لمن تجب عليه الزكاة عما لو حمل السيل الحب من بلاد الحرب ونبت في الصحاري، لا عشر فيه، وكذا النخيل إذا كانت مباحة في الصحاري، لا عشر في ثمارها. قال: كالحنطة، والشعير، والدخن، والذرة، والأرز، وما أشبه ذلك والقطنية: وهي العدس والحمص والماش والباقلي واللوبيا والهرطمان. هذا الفصل اقتضى أمرين: أحدهما: وجوب الزكاة فيما ذكره، ودليله قد تقدم؛ لأنه داخل في جملة العموم. والثاني: انتفاء الوجوب عما عدا ذلك وهو قسمان كما ذكر. أحدهما: ما لا يقتات أصلاً أو في حال الاختيار؛ لأنه حين قال إلا فيما يقتات مثله، والممثل به هو المقتات في حال الاختيار فدل على أنه مراده؛ لأن المثال يبين ما أهمل من المراد. فمن الأول: الأبازير؛ كالكمون والكراويا وغير ذلك، وكذا بذر الكتان وسائر البقول والخضروات كالقثاء والبطيخ، والبقول. ومن الثاني: الترمس؛ لأنه لا يقتات في حال الاختيار، على أنه قد حكى عن الشافعي أنه قال: لا أعلم أنه يؤكل إلا دواء وتفكهاً. وقال القاضي الحسين: إنه يهيج الباءة ويؤكل للجماع. والقسم الثاني: ما يقتات لكنه لا يزرع جنسه الآدميون وهو ما نبت في الصحاري.

وقال [الشافعي] في "المختصر": ولا يبين لي أن يؤخذ من الفث وإن كان قوتاً ولا من حب الحنظل ولا من شجرة برية أي كالعفص والبلوط ونحو ذلك، كما لا يؤخذ من بقر الوحش ولا من الظباء صدقة ولا من الثفاء ولا من حب البقول. والفث- كما قال المزني وابن أبي هريرة-: حب الغاسول وهو حب الأشنان، فإذا أدرك وتناهى حصل فيه مرارة وحموضة. وقال غيرهما: هو حب ينبت بالبادية يشبه الشعير له رأسان يقتاته الناس في الجدب. وقال القاضي أبو الطيب: سألت قوماً من أهل المدينة عن الفث فقال: هو حب الثمام يملح ويؤكل.

وقال أبو حامد: قال قوم: إن الفث: حب أسود يدفن حتى يلين ثم يخرج ويطحن ويخبز يأكله أعراب طيء عند المجاعة. وهو أشبه بقول الشافعي؛ لأنه قال [فيه]: "وإن كان قوتاً"، وحب الأشنان لا يكون قوتاً بحال. وقال في "الصحاح": هو حب يخبز ويؤكل في الجدب، وخبزه غليظ شبيه بخبز الملة. والثفاء: حَبُّ الرَّشاد. وقيل: إنه حب باليمن لا يحتاج آكله إلى شرب الماء عليه. والدليل على نفي الوجوب في القسمين ما روي عن علي وطلحة أنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس في الخضراوات صدقةُ".

وروى أبان عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس فيما أنبتته الأرض من

الخضراوات زكاةٌ". وروى موسى بن طلحة عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فيما سقت السماء والبعل والسيل والعين العشر، وما سقبي بنضح أو غرب ففيه نصف العشر يكون ذلك في التَّمر والحنطة والشَّعير والحبوب، فأمَّا الرُّمَّان والقثَّاء والبطِّيخ والقضب فعفوُ عفا عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي لفظ: "عفا الله عنها". ولأن الزكاة إذا وجبت في جنس تعلقت بأعلى نوعيه [وسقطت عن أدناهما، كالحيوان لم تجب الزكاة إلا في أعلى نوعيه] وهو النعم السائمة وكالمعادن لم تجب الزكاة إلا في أعلى نوعيها وهي [الذهب والفضة]، وكالعروض لم تجب الزكاة إلا في أعلى نوعيها وهي عروض التجارة، فاقتضى أن تكون زكاة الزرع متعلقة بأعلى نوعيه دون الآخر وهو ما ذكرناه. وتحريره قياساً: أنه جنس مال تجب فيه الزكاة فوجب أن تختص الزكاة بأعلى النوعين من جنسه كالحيوان وفارقت هذه الأشياء الأقوات الغالبة؛ لعظم منافع تلك.

وقد جمع الشيخ بقوله: "يقتات مما ينبه الآدميون"، الشروط الأربعة التي اعتبرها الشافعي فإنه قال: في "المختصر": "وما جمع أن يزرعه الآدميون، وييبس، ويدخر ويقتات خبزاً أو سويقاً أو طحيناً- ففيه الصدقة". وأدرج في "الوسيط" ذلك في قوله: "بكل مقتات في حال الاختيار [وأنبتته أرض مملوكة أو مستأجرة خراجية أو غير خراجية فيجب فيه العشر على الحر المسلم إذا كان مالكه متعيناً"؛ لأن "المقتات في حال الاختيار"] جامع للصفات الأربع فلذلك استغنى عن التصريح بها لكن قوله: "أنبتته الأرض مملوكة أو مستأجرة" وإن ساقه لبيان أن الأجرة والعشر يجتمعان عندنا، وكذا العشر، والخراج؛ لأن الخراج أجرة خلافاً لأبي حنيفة، فهو يوهم أن ما أنبتته الأرض المغصوبة لا زكاة فيه، وليس كذلك بل زكاته واجبة على صاحب البذر بلا خلاف. تنبيه: الحنطة: معروفة، ويقال لها: البر والقمح والسمراء، وهي تطلق على البيضاء والحمراء والواسطية والبغدادية والموصلية والشامية وهي أجودها [كما قال البندنيجي]. وقال القاضي الحسين: إن الشامية هي العلس وهو بفتح العين المهملة واللام وبالسين المهملة. قال الأزهري: يكون [منه] في الكمام الواحد حبتان وثلاث. قال الجوهري: وهو طعام أهل صنعاء. والشعير: معروف وهو بفتح الشين على المشهور، ويقال: بكسرها ويطلق- كما قال البندنيجي، وتبعه في "البحر"- على الأبيض والأسود [والأحمر والحلو والحامض]، وقد قال بعض أصحاب الشافعي: إن السلت ضرب منه وهو ما كان يقطع به الشيخ أبو محمد وأبو علي في "الإفصاح"، وبه أجاب الماوردي في "الأحكام". قال البندنيجي: وليس كما قالوا فإن الشافعي نص في "الأم" [و"البويطي"] على أنه جنس بانفراده لا يضم إلى شعير ولا إلى حنطة. قال: وهو كالحنطة

وطعمه طعم الشعير. وهكذا قال غيره من العراقيين. وقال في "الروضة": إنه الصحيح بل هو الصواب وبه قطع جماهير الأصحاب كما قال، وذكره أهل اللغة وأراد بكونه كالحنطة: في اللون والنعومة. وقال القاضي الحسين: إن لونه لون الحنطة وطعمه طعم الشعير وإنه الشعير العادي. وحكى الإمام عن الصيدلاني أنه قال: هو على صورة الشعير، ولكنه لا قشر له وطبعه طبع الحنطة إلى الحرارة، ولا يضم إلى الشعير ولا إلى الحنطة، بل هو مستقل بنفسه. وما ذكره من صفته هو الذي أورده الفوراني، وكذا غيره. وقد حكى الإمام عن صاحب "التقريب" رواية وجه ثالث فيه: أنه يضم إلى الحنطة؛ لأنه يسد مسدها. والأرز: معروف وفيه ست لغات مشهورات. أرز: بفتح الهمزة وضم الراء، وأرز: بضمها، والزاي مشددة فيهما. وأرز [وأُرْز]: بضمهما وبضم الهمزة وإسكان الراء، والزاي مخففة فيهما، كرسل ورسل. ورز، ورنزُ. والقطنية: بكسر القاف وتشديد الياء؛ سميت به لأنها تقطن في البيوت أي: تمكث يقال: قطن إذا قام. والحمص: بكسر الحاء، وكسر البصريون ميمه وفتحها الكوفيون. الماش- بتخفيف الشين- حب معروف، قيل: إنه ضرب من الجلبان. الباقلي: فيه لغتان التشديد مع القصر ويكتب بالياء والتخفيف مع المد ويكتب بالألف. ويقال: له: الفول. واللوبيا: مذكر، يمد ويقصر. قال الرافعي: وقيل: إنها تسمى الدخن أيضاً. الهرطمان- بضم الهاء والطاء- هو الجلبان: بضم الجيم، ويقال له: الخلَّر، بضم الخاء المعجمة، وفتح اللام المشددة وبعدها الراء. واعلم أن في كلام الشيخ أمرين لابد من التنبيه عليهما:

أحدهما: أنه حصر القطنية فيما ذكر، وهو في ذلك متبع للقاضي أبي الطيب، فإنه هكذا قال. وقال النووي: إن الدخن والذرة معدودان من القطنية، وينكر على المصنف حين أفردهما عنها. وقال في "الحاوي": القطنية: الحبوب المقتاتة ما سوى البر والشعير. وكذا قال القاضي الحسين والإمام. الثاني: أن الماوردي قد حصر ما تجب فيه الزكاة فيما ذكره؛ لأنه ذكر ما ذكره الشيخ وضم إليه ثلاثة أمور: العلس، والسلت، والجاورس وقال: هذا ما تجب فيه الزكاة دون ما عداه، ثم قال: والعلس نوع من البر، والسلت نوع من الشعر. ومن أصحابنا من قال: هو صنف على حياله، والجاورس: نوع من الدخن. وهذا يقتضي انحصار الوجوب- كما ذكرنا- فيما ذكره الشيخ وإذا كان هذا صحيحاً لم يبق لقول الشيخ: "وما أشبه ذلك" معنى. نعم يجوز أن يكون الشيخ قد اختار المنصوص في السلت وهو أنه جنس مستقل بنفسه؛ فيكون قوله: "وما أشبهه" عائداً إليه؛ لأنه يشبه الشعير أو القمح مع كونه مقتاتاً. قال- رحمه الله-: ولا في شيء من الثمار إلا في الرطب والعنب: أما وجوبها في الرطب والعنب فقد تقدم وجهه. وأما [نفي الوجوب عما] عداهما فلأنه- عليه السلام- لما قال: "فيما سقت السماء العشر .. " الخبر اقتضى أن تجب في كل ما سقته، فلما قال:

"يكون ذلك في التمر والحنطة والشعير .. " إلى آخره بين أن المراد مما أطلق أولاً ما بينه آخراً فكان عدم الوجوب فيما عدا المبين باقياً على الأصل، ولولا قوله- عليه السلام- في العنب: "يخرص كما يخرص الكرم"، لكنا لا نقول بالوجوب في العنب، ولأن ما عداهما لا تكمل منفعته فشابه الخضراوات، وهذا هو الجديد. قال الشيخ: وقال في القديم: تجب في الزيتون لأنه روي عن عمر: أنه كتب إلى عامله بالشام أن يأخذ زكاة الزيتون. وروي عن ابن عباس أنه قال: في الزيتون العشر. ولا مخالف لهما وعلى هذا قال الشافعي: وأحب أن يخرج العشر من الزيت. فمن الأصحاب من قال: يجب بهذا كما يجب أن يجفف التمر ثم يؤدي العشر منه؛ لأنه منتهى حاله، وعلى هذا إذا أخرج الزيت، قال الإمام: فالكسب الذي يتخلف عن عصر الزيتون ليس فيه عندي نقل، ولعل الظاهر أنه يسلم نصيب الفقراء إليهم، وليس كالقصل والتبن الذي يتخلف عن الحبوب فإن الزكاة تجب في الزيتون نفسه ثم على المالك مؤنة فصل الزيت كما عليه مؤنة تجفيف الرطب والعنب ولا يجب العشر إلا في الحب. قال: وفي المسألة احتمال. ومنهم من قال: هو على الاستحباب، فإن أخرج الزيتون أجزأه، وهذا إذا كان الزيتون يتأتى عنه الزيت. قلت: وهذا الوجه الثاني مصرح به بأنه يجوز إخراج الزيتون والزيت، وهو ما أورده القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وكذا المتولي، وفرق بينه وبين ما إذا أراد أن يخرج زكاة التمر دبساً أو خلاً فإنه لا يجوز؛ لأن التمر قوت والدبس والخل ليسا بقوت ولكنهما أدمان، وأما الزيتون فإنه ليس بقوت ولكنه إدام والزيت أصلح للأدم من الزيتون فلا يفوت الغرض. وهذا الوجه لم يورده الماوردي، بل حكى الأول وحكى معه وجهاً آخر: أنه

يتعين إخراج الزيتون ولا يجزئه غيره، وقال: إنهما مأخوذان من قولين للشافعي في أن الموسق ماذا؟ أحدهما: الزيت فيعتبر أن يكون فيه خمسة أوسق زيتاً؛ لأن الزيت حالة ادخاره كالتمر؛ فعلى هذا يؤخذ عشره زيتا لا غير. قال في "البحر": وهو خلاف النص. والثاني: الزيتون، وهو ما أورده الجمهور، وادعى الإمام الاتفاق عليه، فعلى هذا يؤخذ عشره زيتوناً لا غير. وبذلك يجتمع في المسألة ثلاثة أوجه. ولا يلتحق بالزيتون السمسم وبذر الكتان بالاتفاق، وقال الإمام: لو كان القياس محتملاً في ذلك لجاز إلحاقهما به. قلت: نعم قد حكى عن ابن كج: أن القديم مطرد في وجوب الزكاة في حب الفجل. قال الرافعي: ولم أره لغيره. قال: والورس؛ لأن أبا بكر كتب إلى [أهل] خفاش بخط معتقب "بسم الله الرحمن الرحيم": من عبد الله أبي بكر إلى أهل خفاش أما بعد: فإن عليكم أن تخرجوا العشر من الورس والذرة، فإن فعلتم ذلك فلا سبيل لأحد عليكم. وما ذكره الشيخ من الجزم بأنه قال في القديم تجب الزكاة في الورس- هو ما أورده البندنيجي، وغيرهما وقال: إن الشافعي علق القول في القديم على هذا الأثر؛ فقال: إن صح قلت به، وقد صح، فله في القديم فيه قولان وقد حكاهما الإمام وغيره.

وفي الزعفران على القول بوجوب الزكاة في الورس قولان؛ لأنه قال في القديم إن كان العشر في الورس ثابتاً احتمل أن يقال: في الزعفران العشر؛ لأنهما طيبان [كثيراً الثمر]. ويحتمل أن يقال: لا شيء في الزعفران؛ لأن الورس شجر له ساق وهو ثمره، والزعفران نبت فجعل الورس أدخل في الزكاة من الزعفران. وحكي ابن الصباغ طريقة أخرى قاطعة بالوجوب. قال: والقرطم لأنه روي عن أبي بكر أنه كان يأخذ العشر من القرطم. ومذهب الشافعي في القديم الاحتجاج بفعل الصحابي وقوله. وهذا القول أخذ من قوله في القديم: ولو قال قائل فيه العشر كان مذهباً. وقد أفهم كلام بعضهم إجراء هذا القول في العصفر أيضاً. والإمام حكى عن العراقيين تردداً فيه، وهو محكي في "البحر" عن "الحاوي". فإن قلت: قد حكى عن القديم إيجاب الزكاة في العسل حيث قال فيه: يحتمل أن يقال بألا تجب، ويحتمل أن يقال: أنه يجب فلم لا ذكر الشيخ هذا القول؟ قلت: لأنه تكلم في زكاة النبات وليس العسل منه على أن الشيخ أبا حامد وغيره قطعوا بنفي الزكاة فيه قديماً وجديداً فلعل الشيخ ممن وافقهم فيه وهو الأظهر، وبهذا الجواب يقع الجواب عن كون الشيخ لم يذكر القول القديم في أن الترمس تجب فيه الزكاة كما حكاه الإمام عن رواية العراقيين، وإليه أشار أبو حامد. وقال في "البحر": إنه أخذه من قوله فيه: "ولا أضم حنطة إلى شعير ولا شعيراً إلى سلت ولا سلتاً إلى ترمس"؛ فإن هذا يدل على أن فيه الزكاة ولكن أكثر العراقيين [لم يذكروه والشيخ بهم أسوة]. وقد أطنب البندنيجي في وصفه فقال: هو حب عريض أصغر من الباقلي في تقدير نواة التمر الهندي، [إلا أن] نواة التمر الهندي مربعة، وهذا مدور حسن التدوير كالدينار الصغير قال مجلي: وهو في مصر أشهر من أن يوصف.

وقد جعله الفوراني من بذر البراري؛ كالثفاء. ولا فرق في العسل إذا أوجبنا الزكاة فيه بين أن يكون حصل من نحل مملوك له أو مباح. والصحيح في جميع ما ذكرناه هو الجديد؛ لأنه- عليه السلام- حين بعث معاذاً إلى اليمن قال: "لا تأخذ العشر إلا من أربعةٍ: الحنطة، والشعير، والنخل، والعنب". وعبارة الرافعي: أنه روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصَّدقة في أربعةٍ: التَّمر، والزَّبيب، والحنطة، والشَّعير، وليس فيما سواها صدقةُ". وهذا الخبر ينفي الزكاة في غير الأربعة ولكن ثبت أخذ الصدقة من الذرة وغيرها بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخالفناه في الأقوات، وتمسكنا به فيما عداه. تنبيه: القرطم: بكسر القاف والطاء، وضمهما، لغتان مشهورتان وهو حب العصفر. والورس- بفتح الواو وإسكان الراء-: نبت أصفر يكون باليمن تصبغ به الثياب والحبر وغيرهما، قال في التتمة: وهي شجرة يخرج منها شيء يشبه الزعفران. قال: ولا تجب- أي: زكاة النبات- إلا على من انعقد في ملكه نصاب من الحبوب، أي: اشتد وحان حصاده كما حكاه البندنيجي عن الشافعي وأطلقه غيره أو بدا الصلاح، أي: ظهر وهو بإسكان الألف غير مهموز، في ملكه

نصاب من الثمار. هذا الفصل سيق لبيان أمرين: أحدهما: بيان وقت الوجوب. والآخر: اعتبار النصاب. ووجه الأول- وهو بيان وقت الوجوب- قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] لأن تقديرها: وآتوا حقه الواجب وقت حصاده إذ لا يمكن أن يكون ذلك "اليوم" ظرفاً للإيتاء لأمرين: أحدهما: أنه يجوز تأخيره عنه بل قد لا يتأتى الدفع فيه، وأنه متوقف على اليبس والدياس والتصفية بعده كما ستعرفه. والثاني: أنه لو أخره عنه لم يوصف بالقضاء، ولو كان وقتاً للإخراج لكان إذا أخر عنه وفعل كان قضاء؛ كما نقول في زكاة الفطر إذا أخرت عن يوم الفطر، وإذا كان كذلك تعين أن يكون ظرفاً لأصل الوجوب، وحينئذ يكون الأمر بالإيتاء غير مؤقت بل متى تمكن منه فعله. وإذا تقرر ذلك في الزرع بمقتضى الآية نظراً إلى اختصاص لفظ "الحصاد" به- كما تقدم في قول الشافعي- كان فيها تنبيه على أن وقت وجوبها في الثمار وقت بدو صلاحها؛ لأن حالة بدو الصلاح فيها كحالة استحقاق الصحاد في الزرع؛ فإن فيهما تؤمن الجائحة عليهما ولذلك جوز الشرع بيعهما في الحالين، ومنع منه قبلهما من غير شرط القطع، ومن هنا قال البندنيجي: إن وقت الوجوب فيهما وقت جواز البيع مطلقاً. يعني: من غير شرط القطع، وقد استدل الماوردي للمدعي فيهما بوجهين: أحدهما: أن المقصود بالزكاة المواساة بالمال المنتفع به، وما لم يشتد الزرع ويبد صلاح الثمرة لا ينتفع بهما غالباً فلم تجب الزكاة فيهما. والثاني: أن الزكاة استحداث حق شائع في المال، لأنه لا يصح بيعه إلا باشتراط القطع، واشتراط القطع لا يصح في المشاع فلأجل ذلك لم تجب فيه الزكاة وهذا هو الجديد والصحيح. وعن صاحب "التقريب": حكاية قول غريب أن وقت الوجوب هو الاشتداد

والجفاف، ولا يتقدم الوجوب على الأمر بالأداء إذ يستحيل وجوب التمر مع عدمه. قال في الوسيط: وهذا يلتفت على أن الإمكان شرط الوجوب وهو بعيد إذ تسليط الملاك على استهلاك الرطب إجحاف بالمساكين فالأولى الإيجاب. وفي "تعليق" البندنيجي: أنه قال في القديم: وقت الوجوب في الزرع قبل وقت الحصاد. وهو ما يفهم من كلام الشيخ. وقال في "الشامل": إن الشافعي أومأ في القديم إلى أن وقت الوجوب عند فعل الحصاد. قلت: حذاراً من إقامة اليوم في الآية مقام الوقت كما ذكرته، وحمل اللفظ على حقيقته وهو المفهوم من قولهم: إن ما اتفق حصاده في فصل واحد يضم؛ لأنه وقت الوجوب فكان النظر إليه أولى. وقد اقتضى كلام الشيخ أنه لابد في الوجوب من انعقاد نصاب في الثمار، من بدو الصلاح في نصاب منها حتى لو وجد الانعقاد أو بدا الصلاح في بعض النصاب وباقيه لم يتصف بذلك- لا تجب، والأصحاب قالوا: لا يشترط انعقاد تمام الحب وتمام الصلاح في الثمار بل يكفي في ذلك طيب أول الثمرة صرح به في "البحر" وغيره. ووجه الثاني- هو اعتبار النصاب- قوله- عليه السلام-: "ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسقٍ" أخرجه مسلم، وهو دال على اعتبار النصاب في الحب والتمر. وأما الزبيب: فاعتبار النصاب فيه يؤخذ من قوله: "يخرص العنب كما يخرص النخل .. " الخبر. وأيضاً: فقد روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

"ليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقةُ". قال في "مختصر السنن": قد أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وهذا الخبر يشملهما. قال: ونصابه أن يبلغ الجنس الواحد، أي: وإن اختلفت أنواعه كما تقدم، بعد التصفية في الحبوب، والجفاف في الثمار- خمسة أوسق: للخبر، والجفاف: بفتح الجيم يقال: جف الشيء يجف: بكسر الجيم؛ قال الجوهري: ويجف- أيضاً- بالفتح جفافاً، وجفوفاً. والوسق: بفتح الواو، وكسرها، والمشهور الأول، وجمعه: أَوْسُقُ، ووُسُوقُ. قال: وهو، أي النصاب، ألف وستمائة رطل بالبغدادي- لما روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري أنه- عليه السلام- قال: "الوسق ستُّون مختوماً"، وفي غيره: "ستون صاعاً". وإذا كان الوسق ستين صاعاً كانت زنة خمسة منه ما ذكره الشيخ؛ لأن مجموع الخسمة ثلاثمائة صاع والصاع أربعة أمداد؛ فيكون النصاب ألفاً ومائتي مد. والمد: رطل وثلث بالبغدادي، وذلك ألف وستمائة رطل بالبغدادي. والرطل البغدادي، قيل: إنه مائة وثلاثون درهماً. وقيل: مائة وثمانية وعشرون درهماً.

وقيل: إنه مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم، قال النووي: وهو الصحيح. ويقال بكسر الراء وفتحها. قال الأصحاب: والمعتبر في الموزون الأوسط من كل نوع فإنه يشتمل على الرزين والخفيف. وفي "البحر": أن أبا حامد قال: وما حققه أصحابنا من اعتبار الوزن معناه إذا وافق الوزن الكيل وكان كل صاع خمسة أرطال وثلثاً فأما ما يختلف كيله ووزنه مثل: أن يكون التمر كبيراً ثقيلاً يكون ألف وستمائة رطل منه دون ثلاثمائة صاع فلا زكاة فيه: ولو كان خفيفاً يكون ثلاثمائة صاع منه كيلا دون ألف وستمائة رطل تلزمه الزكاة؛ لأن الأصل فيه الكيل؛ قال- عليه السلام: "المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة". قال: وهذا يدل على أنه على التقريب في الوزن، وعلى التحديد في الكيل، ومن أصحابنا من قال: هو تقريب أي: في الكيل أيضاً، فإن نقص منه شيء يسير لم تسقط الزكاة وهو اختيار القفال ومشايخ خراسان. قلت: وهذا من الروياني يقتضي أن الخلاف في تقريب الكيل وتحديده. وأما الوزن فإنه تحديد بلا خلاف، وليس الأمر كذلك بل المارودي وغيره حكوا الخلاف في تحديد الوزن وتقريبه فقالوا: إن قلنا: إنه تحديد ضر فيه نقص الرطل والرطلين، وهو الذي صححه هو وغيره، وإن قلنا: إنه تقريب لم يضر والإمام حكاه عن العراقيين، وقال: إنهم قالوا: إذا قلنا: إنه تقريب فلا يضر نقص خمسة أرطال. قال مجلي: ولا وجه لهذا التحديد: والأمر كما قال؛ بل الأظهر ما قاله الإمام – تفريعاً عليه-: إن كل نقص إذا نقص على خمسة أوسق لا يكون خارجاً عن

الاعتدال فهو غير ضار، فإن أشكل الضبط فالأظهر أنه لا يؤثر، ويحتمل استصحاب براءة الذمة؛ فإن الأصل عدم الوجوب حتى يتحقق الشاغل، والله أعلم. قال: إلا الأرز، والعلس: وهو صنف من الحنطة يدخر في قشره؛ فنصابه عشرة أوسق مع قشره؛ لأن خالصه يكون خمسة أوسق وهي المعتبرة حتى ولو كان خالص دون العشرة من ذلك خمسة أوسق كان ذلك هو النصاب. وما ذكره الشيخ في العلس هو المنصوص؛ فإن الشافعي قال: أخبرني من أثق به أن القشرة التي عليه مثل [نصفه فلا تجب فيه] الزكاة حتى يبلغ عشرة أوسق مع قشره. كذا قاله الماوردي. وإن من أصحابنا: من منع السلم فيه وبيع بعضه ببعض. وقد حكى عن الشيخ أبي حامد أنه قال: قيل: يجيء من الأرز الثلثان فتبين أن يكون في القشر من الحب ما يبلغ خمسة أوسق. والمراد بالقشر في الأرز: القشر الأعلى، أما الأسفل وهو الأحمر، فقد قال في "الحاوي" هنا وفي باب الربا: إن الذي ذهب إليه أكثر الأصحاب أن النصاب معه خمسة أوسق، وأبعد بعض أصحابنا- وهو كما قال هنا أبو علي بن أبي هريرة- فجعله عشرة أوسق؛ كالعلس. وفي "البحر" حكاية وجه آخر: أنه يعتبر أن تكون خمسة أوسق بعد إخراج القشرة الحمراء؛ وقال: إنه الأصح عندي. وقد حكى الرافعي وجهاً: أن نصاب الباقلي لا يدخل في تقديره القشرة السفلى، وأنه الذي جعله في "العدة" المذهب؛ لأنها غليظة من مقصوده. قال في "البحر": وهو الصحيح عندي. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أن النصاب في الثمار ما يبلغ خمسة أوسق بعد الجفاف سواء كان مما يجف عادة أو لا، وهو ما ذكره العراقيون لكنهم اختلفوا في كيفية تقديره على وجهين: أحدهما: أنه يعتبر نصابه بنفسه فيقال: لو جفف على تنور هل كان يبلغ

خمسة أوسق أم لا؟ فإن قيل: يبلغ وجبت- وكيفية إخراجها تأتي- وإلا فلا تجب. والثاني: أنه يعتبر بغيره كما يعتبر الحر عبداً في الحكومة فيقال في الرطب مثلاً لو كان يجيء منه تمر: هل كان يبلغ خمسة أوسق؟ فإن قيل: نعم وجبت وإلا فلا. وقد حكى الماوردي وجهاً صححه في "الوسيط": أنه يوسق رطباً، فإذا بلغ خمسة أوسق منه وجبت؛ لأنه منتهى إدراكه. قال الرافعي: وهو جار في مثله من العنب الذي لا يجيء منه زبيب. تنبيه آخر: قوله: ولا يجب إلا على من انعقد في ملكه .. إلى آخره، ذكره تفريعاً على الجديد. وإن قلنا بالقديم في وجوب الزكاة في الزيتون فلابد فيه من خمسة أوسق، لكن ما الوسق؟ هل الزيت، أو الزيتون؟ فيه قولان تقدما، والمشهور أنه الزيتون. وإذا رأينا إيجاب الزكاة في الورس وجبت في قليله وكثيره، وكذا في الزعفران؛ لأنه قل أن يجتمع منهما نصاب. وهذا ما أورده الجمهور وادعى الإمام أنه الظاهر. وحكى هو وغيره وجهاً: أنه يعتبر فيهما النصاب؛ طرداً للقياس. والقرطم يوسق على القديم، وكذا العسل والترمس. وعن ابن القطان: أنه خرج باعتبار النصاب في جميع ما يخص القديم بإيجاب الزكاة فيه قولان والمذكور منهما في "المجرد" في القرطم: المنع. قال: وتضم ثمرة العام الواحد أي: من التمر أو الزبيب اختلفت أنواعهما أو اتفقت بعضها إلى بعض في إكمال النصاب، أي: وإن كان بين بدو صلاح بعضها والبعض الآخر الشهر والشهران لاختلاف البلاد في الحر والبرد. ووجهه: أن الله- تعالى- أجرى عادته أن إدراك الثمار لا يكون في حالة واحدة، بل ثمرة النخلة الواحدة لا تدرك في وقت واحد، فلو اعتبرنا التساوي في الإدراك لما وجبت الزكاة غالباً.

قال ابن الصباغ: وقد أجمع المسلمون على ضم ما يدرك إلى ما تأخر فثبت أن الاعتبار بثمرة العام الواحد، وقد قال الأصحاب: إن ما بين إطلاع النخل إلى بدو صلاحها ومنتهى إدراكها مدة أربعة أشهر فذاك هو المعتبر، ولا فرق بين أن يكون النخل في بلد واحد أو بلاد شتى، وكذا لا فرق عند العراقيين في الضم بين أن يكون إطلاع البعض بعد جداد البعض الآخر، أو قبله إذا جمعتهما ثمرة العام؛ صرح به البندنيجي وغيره، وهو الذي رجحه في "الروضة"، وقال: إنه الأصح في "المحرر". وقال المراوزة: إن تقدم إطلاع البعض ولحقه البعض الآخر قبل بدو الصلاح فلا خلاف في الضم، وإن تأخر إطلاع البعض حتى جد البعض فلا ضم بلا خلاف، وإن أطلع البعض بعد ما بدا صلاح البعض ولم ينته إلى حالة الجداد ففي الضم وجهان: الذي صححه البغوي والفوراني، ويحكى عن أبي إسحاق: عدم الضم أيضاً؛ لأنها أثمرت بعد الوجوب في الأولى فكانت كثمرة عام آخر. والذي قطع به الصيدلاني: مقابله وهو الذي يقتضيه نصه في "الأم" حيث قال- كما حكاه أبو الطيب وغيره-: لو كان نخل في بعضها رطب وفي بعضها بسر، وفي بعضها طلع فجد الرطب، ثم بلغ البسر فجده، ثم بلغ الطلع فجده، ولم يبلغ كل واحد نصاباً ضم بعضه إلى بعض، ولو آن وقت جداد الأولى ولم تجد فهل يكون الحكم كما لو جدت حتى لا يضم ما أطلع بعد ذلك إليها بلا خلاف أو يكون كحالة بدو الصلاح فقط حتى يكون كضم ما يحدث بعد ذلك؟ فيه وجهان. ولا خلاف في أن بعض النخل إذا جد ثم أطلع قبل جداد باقيه مدة ثانية لا يضم ثمرته إلى ما بقي كما لا تضم الثمرة الثانية إلى الثمرة الأولى؛ لأن الثانية بمنزلة ثمرة عام آخر، ولا خلاف في أن ثمرة عام [لا تضم إلى ثمرة] عام [آخر]. نعم قال المراوزة- بناء على أصلهم في أن ما أطلع من النخل بعد جداد ما

هو في ملكه منه لا يضم بعضه إلى بعض-: لو كانت التي أطلعت في السنة مرتين تهاميات، وفي ملكه نجديات لا تطلع في السنة إلا مرة فكان إطلاع النجديات بعد جداد التهاميات المرة الأولى وإطلاع التهاميات المرة الثانية [قبل بدو صلاح النجديات ضممنا ثمرة التهاميات في المرة الثانية] إلى ثمرة النجديات. وإذا تأملت ذلك علمت أن الفريقين متفقان على ضم إحدى ثمرتي التهاميات إلى ثمرة النجديات، لكن العراقيين يضمون الأولى فقط، والمراوزة يضمون الثانية فقط. قال الرافعي: وهذا قد لا يسلمه سائر الأصحاب، لأنهم حكموا بضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض، وبأن ثمرة عام لا تضم إلى ثمرة عام آخر، ومعلوم أن إدراك ثمار التهامية [في كل عام أسرع من إدراك ثمار النجدية فيكون إطلاع التهامية] باقياً للعام القابل وما على النجدية من العام الأول. ثم ما ذكرناه من الضم مفروض بلا خلاف فيما إذا كان الكل حالة كمال، أما لو كان في بستانه [رطب لا يتتمر ورطب يتثمر] فهل يضم أحدهما إلى الآخر؟ قال القاضي الحسين: ذلك ينبني على إذا ما باع الرطب الذي لا يتتمر بمثله هل يجوز؟ فيه وجهان. ولو باع ما يتتمر بما لا يتتمر ترتب على ذلك، فإذا قلنا: هناك لا يجوز، فهاهنا أولى وإلا فوجهان: فإن قلنا: إن بيع أحدهما بالآخر لا يجوز فيكمل أحدهما بالآخر؛ لأنهما من جنس واحد. وإن قلنا يجوز البيع فلا يضم لأنا جعلناهما جنسين مختلفين. قال: وفي الزروع، أي: التي اتحد جنسها واختلفت أوقات زراعتها وحصادها بالفصول مثل الربيع، والصيف، والخريف والشتاء؛ قال الماوردي: وإنما يكون ذلك في الذرة فقط؛ لأنها التي تزرع في السنة مراراً، وأما غيرها فلم تجر العادة فيه بذلك.

قال: أربعة أقوال: أحدها: يضم زرع العام الواحد بعضه إلى بعض، [كما يضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض]. قال ابن الصباغ: وهذا أشبه الأقوال. وفي "تعليق" البندنيجي: أنه المذهب. وقال في "البحر": إنه من تخريج أبي إسحاق، وعلى هذا: فلا نظر على الاتفاق في وقت الزرع ولا في وقت الحصاد بل متى جمعهما العام ضم البعض إلى البعض لكن ما المراد بالعام؟ قيل: [إن] المراد به عام الزرع وهو من وقت إمكان زرعه إلى آخر حصاده، وذلك من ستة أشهر إلى ثمانية أشهر لا السنة العربية؛ لأن الزرع لا يبقى اثني عشر شهراً فعام الزرع هذا، هكذا حكاه في "البحر" من رواية أبي حامد عن أبي إسحاق. وقيل: أطول سنة الزرع: ثمانية أشهر، وأقصرها: خمسة أشهر. وقال البندنيجي: أكثرها ستة أشهر، وعبارة الماوردي: إنها ستة أشهر أو نحوها. قال في "البحر": وقال بعض أصحابنا: أراد اثني عشر شهراً. قال: والثاني: ما اتفق زراعته في فصل واحد؛ لأن الزراعة هي الداخلة تحت القدرة وهي الأصل فكان النظر إليها، فعلى هذا: ما اتفقت زراعته في فصل ضم وإن وقع حصاده في فصلين. وقال البندنيجي عن أبي إسحاق: ولا يكاد يتفق وقت زراعته ويختلف وقت حصاده في البلد الواحد وإنما يكون مثل هذا في بلدين. قال: والثالث: ما اتفق حصاده في فصل واحد لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فكان الاعتبار به أولى؛ ولأن ما لا يعتبر فيه الحول فالمعتبر فيه حال الوجوب؛ كزكاة الفطر، وهذا ما صححه في "البحر" والنووي، وعِلَّتُهُ تنتقض- على رأي العراقيين- بالثمار؛ فإنها غير منوطة بالحول ولا ينظر فيها إلى وقت الوجوب بل ينظر إلى كونها ثمرة العام.

قال: والرابع: ما اتفق زراعته وحصاده في فصل واحد؛ لأنه مال تتعلق الزكاة بعينه فاعتبر فيه الطرفان؛ كالماشية والأثمان. قال أبو حامد: وهذا أضعف الأقوال. قلت: وسبب ضعفه: منع الضم عند الاتفاق في العام [أو الزرع أو الحصاد]، وإلا فإذا اتفقت الزراعة والحصاد في فصل واحد فالأقوال [الأول] موافقة على الضم، وهو ما حكاه البندنيجي، وكذا ابن الصباغ وقال: إن هذه الأقوال لا تجتمع في ضم زرع وإنما يكون في ذلك قولان؛ لأنهما إما أن يكونا متفقين في الابتداء فيكون فيهما قولان، أو متفقين في الحصاد ففيهما قولان، وكذا إن كانا مختلفين فيهما فعلى قولين. والأقوال متفقة على أنه لا يضم زرع سنة إلى زرع سنة أخرى، وذلك مما لا خلاف فيه إلا ما سنذكره. وسلك المراوزة في حكاية الخلاف في المسألة طريقاً آخر فقالوا: إذا اتفق وقت الزراعة ووقت الإدراك والجنس واحد فلا شك في الضم اتصلت المزارع، أو تباعدت، وكذا إذا اختلفت الزراعات في الأوقات ولكن سبب التفاوت الضرورة في تواريخ الزراعة كالذي يبتدئ الزراعة من مبتدأ شهر ثم لا يزال يواصل إلى شهرين على حسب الإمكان، فهذا يعد زرعاً واحداً بلا خلاف، فإن الزرع الواحد هكذا يفرض. ولو اختلفت تواريخ الزرع وتواريخ الإدراك ففي الضم أقوال: أحدها: أن المزروع بعد حصد الأول لا يضم إليه وإن اتفق الزرعان والحصادان في سنة واحدة؛ تنزيلاً للزرعين منزلة حملين لشجرة واحدة يقع طلع أحدهما بعد جداد الأخرى. والثاني: يضم إن وقع الزرعان والحصادان في سنة؛ لأنهما حينئذ يعدان زرع سنة واحدة [واجتماعهما في سنة واحدة] بأن يكون بين الزرع الأول وحصاد الثاني أقل من اثني عشر شهراً عربياً، كذا قاله الإمام والبغوي، وإن كان بينهما سنة فصاعداً فلا يضم.

والثالث: أن الاعتبار بوقوع الزرعين في سنة، وإن كان بين الزراعة الأولى والثانية أقل من سنة فالزرع مضموم إلى الزرع، وإن وقع أحد الحصادين وراء السنة من تاريخ الزراعة. والرابع: أن الاعتبار بالحصد، فإن وقع الحصادان في سنة وكان الزمان المتخلل بينهما أقل من سنة عربية- فأحدهما مضموم إلى الآخر، وإن كان بين الحصادين سنة فلا ضم. قالوا: وهذه الأقوال هي المروية في "المختصر". واختلفوا في الأظهر منها، قال الرافعي: وكلام الأكثرين مائل إلى ترجيح القول الرابع. قالوا: وقد نص في "الكبير" على خامس، وهو: إن وقع البذران في سنة ووقع الحصادان في سنة- فأحدهما مضموم إلى الثاني؛ قال القاضي الحسين والرافعي: وكذا إن وقع زرع الثاني وحصد الأول في سنة قالوا: وهو بعيد جداً إذ يلزم منه ألا يفرض زرعان على الاعتياد في سنة، وألا يضم أحدهما

للثاني؛ فإن زرع سنة إذا حصد فتمضي ستة أشهر ويبتدئ الزرع الآخر لا محالة فلا يقع بين الحصاد والزراعة إذا لم تتعطل السنة سنة كاملة. وعن المسعودي: أنه نقل في "الإيضاح": القول الخامس على وجه أخص مما ذكرناه فقال: الاعتبار بجمع السنة أحد الطرفين إما الزرعين وإما الحصادين ولم يلحق بهما زرع الثاني وحصد الأول. وإذا جمعت هذا إلى ما تقدم كان عند المراوزة في ذلك ستة أقوال، وإن ضممت ذلك إلى ما حكاه العراقيون اجتمع عشرة أقوال. قال الإمام: والصورة التي تجتمع فيها الأقوال: أن يزرع ويحصد، ثم يزرع زرعاً آخر، أما إذا كان زرع الثاني بعد اشتداد الأول فالخلاف فيه مترتب على الخلاف فيما إذا كان زرع الثاني بعد حصد الأول، وهاهنا أولى بالضم؛ لاجتماعهما في النبات في الأرض والحصول فيها، ولو كان الزرعان معاً، أو على التواصل المعتاد كما ذكرنا. ثم أدرك أحدهما والثاني بعد بقل لم يشتد حبه أصلاً- ففيه طريقان: أصحهما في "النهاية" وغيرها، وبه قال ابن سريج القطع بالضم؛ لأن ذلك يعد زرعاً واحداً. والثاني: أنه على الأقوال؛ لاختلافهما في وقت الوجوب، بخلاف ما لو تأخر بدو الصلاح في بعض الثمار؛ فإنه يضم إلى ما بدا فيه الصلاح؛ لأن الثمرة الحاصلة هي متعلق الزكاة. وبهذا قال أبو إسحاق، وابن أبي هريرة كما قال القاضي الحسين بعينها، والمنتظر فيها صفة الثمر، وهاهنا متعلق الوجوب: الحب ولم يخلق بعد والموجود حشيش. فرع: قال الشافعي: الذرة تزرع مرة فتخرج فتحصد ثم تستخلف في بعض المواضع فتحصد أخرى؛ فهو زرع واحد، وإن تأخرت حصدته الأخرى. وقال الأصحاب: قد أجرى الله- تعالى- عادته بأن الذرة إذا حصدت طلعت، فإن كانت [حين] حصدت استخلف القضب وحمل ثانياً ففي الضم وجهان:

أحدهما- وهو قول أبي إسحاق-: لا، كما لو حملت النخلة مرة، فجدها ثم حملت مرة أخرى، وحمل كلام الشافعي على أن يكون بعض الذرة حين طلع ظاهراً للشمس فأدرك فجده وبعضه كان قد طلع ولكنه مزحوماً لم يبرز ذلك للشمس فلما حصد الظاهر ظهرت الصغار فأدركت، فإن في هذه الصورة الأقوال في الضم كما تقدم، والشافعي فرع على قول الضم فيها فعلى هذا يكون للطالع ثانياً حكم نفسه، فإن بلغ نصاباً زكاه وإلا فلا شيء فيه. والثاني: إلحاق هذا الحادث [بزرع حادث] فيضم على القول الأول والثاني ولا يضم على القول الثالث والرابع. وعلى هذا فالفرق بينه وبين ثمرة النخلة التي أطلعتها ثانياً: أن النخل يراد للتابيد فجعل لكل حمل [حكم] نفسه والزرع لا يراد للتأبيد، فالحملان لعام واحد. وحكى الماوردي بدل الوجه الثاني: أنه يضم قال: لأنهما زرع واحد عن بذر واحد، وفرق بينه وبين النخلة بما ذكرناه، وقال في المسألة التي حمل صاحب الوجه الأول النص عليها: إنه ينظر: إن كان ما بينهما قريباً وفصل حصادهما واحد- ضم أحدهما إلى الآخر، وإن بعد ما بينهما واختلفت فصول حصادهما فيكون على قولين: قال: ولو كان سبب طلع الثاني كون الأول [حين] حصد تناثرت منه حبات فطلعت فلا يضم؛ لأن بذره حصل بعد حصد الأول فلم يجتمعا في بذر ولا حصاد، فإن بلغ نصاباً وجبت فيه الزكاة وإلا فلا شيء فيه. ولا خلاف عندنا في أنه لا يضم جنس إلى جنس آخر في إكمال النصاب وإن جمع ذلك اسم عام كالقطنية. نعم النوع يضم إلى النوع كما تقدم. قال: وما سقى بغير مؤنة، أي: من شجر وزرع، كماء السماء أي: وهو المطر الذي يستغنى به كما في بلاد الشام ونحوها، وفي معناه: الثلج إذا وقع بأرض الجبل؛ فإنه إذا أزيح عنها حرثت وزرعت ولا تحتاج إلى ماء، والسيح

أي: وهو الماء الجاري على وجه الأرض بسبب سد النهر العظيم حتى يصعد الماء على الأرض فيسقيها، أو بفتح النهر العظيم عليها فيمر عليها لاستفالها، أو بشق ساقية وهي المجراة ويسقو الماء إليها فإن ذلك كله سيح، كما قال البندنيجي وغيره. وما يشرب بالعروق، أي: مثل أن يغرس النخل في مواضع قريبة من الماء، فإذا تعرقت استغنت بعروقها الراسخة في الماء عن السقي. وهذا عين ما فسر به الزهري وغيره البعل الذي سنذكره في الحديث، وقد قال بعضهم: مراد الشيخ: ما يصل إلى عروقه نداوة الأرض فيستغنى بها عن الماء. والأول أشبه بكلام الشيخ. قال: يجب فيه العشر، وما سقي بمؤنة كالنواضح والدوالي يجب فيه [نصف] العشر). والأصل في ذلك ما تقدم من قوله- عليه السلام- "فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا- العشر، وفيام سقى بالسَّواني أو النَّضح نصف العشر". [وفي رواية: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا- العشر] وفيما سقي بالنَّضح نصف العشر" أخرجه البخاري. وفي رواية أبي داود: "وما سقي بالغرب ففيه نصف العشر". وهذا ما لم تختلف فيه العلماء، والفرق بين ما سقي بماء السماء والنضح خفة المؤنة وكثرتها، ولذلك نظير في الزكوات؛ ألا ترى أنه يجب في الركاز الخمس؛ لخفة مؤنته ولا تجب الزكاة في المعلوفة؛ لثقل مؤنتها؟ فإذا أثر ثقل المؤنة في

دفع الزكاة فبأن تؤثر في نقصانها أولى. والبعل في الحديث الأول: بتسكين العين غير المعجمة، وقد تقدم شرحه. وقيل: هو والعذق واحد، وهو ما سقته السماء، والمشهور اختصاص هذا بالعذق، وأما البعل فهو ما تقدم. والسواني: جمع سانية، وهي الناقة التي يسقى عليها. والنضح: يسمى بالعراق: الشادوف؛ قال البندنيجي: وهو ما يغترف به من النهر إلى الساقية؛ كالحقبة والقرعة. والعثرى في الحديث الثاني- بفتح العين والثاء والياء-: الأشجار التي تشرب مما يجتمع من المطر في حفرة سمي بذلك؛ لأن المار يتعثر بها. وقيل: هي التي تشرب من أنهار تجري إلى جانبها. وقيل: هو البعل. والغرب: الدلو الكبير الذي لا تستطيع الاستقاء به إلا البهيمة. و"السيح" في كلام الشيخ: بفتح السين المهملة وإسكان الياء آخر الحروف، والحاء المهملتين يقال: ساح يسيح. والنواضح: جمع "ناضح"، وهي الإبل والبقر، وسائر الحيوانات التي يستقى بها الماء للمزارع والنخل وغيره من الأشجار واحدها: ناضح، وناضحة. والدوالي: جمع "دالية"، قال بعضهم: وهي البكرة يستقى بها الماء بالدلاء. وقال البندنيجي، وغيره: هي جذع طويل يجعل تحته على النصف منه بناء ويعلق برأسه باطية من حصب مقتر تغترف الماء تسع حدود قلة من الماء، فإذا امتلأت ماء صعد الرجل على الرأس الآخر من الجذع فينزل رأسه ويصعد

الرأس الذي علق به الإناء فيقلب إلى الأرض. والعشر: بضم الشين وإسكانها، وكذلك "التسع" وما قبله إلى الثلث ويقال: في "العشر": عشير- بفتح العين وكسر الشين- ومعشار. قال الشافعي: والعشر: أن يكتال لرب المال تسعة والعشر العاشر لمصدق ونصف العشر: أن يكال تسعة عشر لرب المال والعشرون للمصدق. قال الأصحاب: وإنما بدأ بالمالك؛ لأن حقه أكثر؛ ولأن حق الفقراء إنما يظهر معرفته بحق رب المال. قال الشافعي في "الأم": ولا يزلزل المكيال، ولا يزعزع، ولا يمسح ويترك فيه من الحب ما حمل. قال الأصحاب: لأن ذلك أقرب إلى الإنصاف. واعلم أن ما يحتاج إليه من المؤن في سوق الماء إلى الأشجار بحفر الأنهار والقنوات لا يؤثر في نقصان العشر، وإن كبرت المؤنة فيه، وحكمه حكم ما سقي بماء السماء؛ لأن هذه المؤنات إنما لزمته لإحياء الأرض، وهي غير متكررة، وقد ادعى الإمام في ذلك الاتفاق. وقال ابن يونس: [إنه قيل]: وما سقي من القنوات يجب فيه نصف العشر، وهو الذي أفتى به أبو سهل الصعلوكي. وقد حكاه في "البحر" عن بعض الأصحاب فيما إذا احتاج في ذلك إلى مؤنة عظيمة، أو احتاج إلى دانق من الجص والآجر. قال: ورأيته عن الشيخ الجليل أبي عبد الله الحناطي. وقال صاحب "التهذيب": إن كانت القناة أو العين كثيرة المؤنة بأن كانت لا تزال تنهار وينصرف ماؤها فتحتاج إلى استحداث حفر- فهي كالبئر التي تنزح فيها السواقي، وإن لم يكن لها مؤنة أكثر من مؤنة الحفر الأول وكسحها في بعض الأوقات فسبيله سبيل النهر في وجوب العشر، والواجب فيما لو اشترى الماء لسقيه نصف العشر؛ كما أشار إليه ابن كج ونقله عنه صريحاً صاحب "الرقم".

والمسقي بالماء المغصوب مثله؛ لأن عليه الضمان. نعم، المسقي بالماء الموهوب هل يلتحق به؟ فيه وجهان عن أبي الحسين ورجح ابن كج إلحاقه بالماء المغصوب؛ لما في قبول الهبة من المنة؛ كما لو علف ماشيته بعلف موهوب. قال في "الروضة": وقلت: والوجهان إذا قلنا لا تقتضي الهبة ثواباً؛ صرح به الدارمي. وقال: إن قلنا: تقتضيه فنصف العشر قطعاً. والمسقي بالناعورة- وهي التي يديرها الماء بنفسه- كالمسقي بالنضح؛ فيجب فيه [نصف] العشر. قال: وإن سقي نصفه بهذا ونصفه بذاك، وجب فيه ثلاثة أرباع العشر. اعلم أن ظاهر هذا الكلام يقتضي أن نصف النابت إذا سقي بماء السماء، وسقي النصف الآخر بالنضح- يجب في المجموع ثلاثة أرباع العشر وهذا لم أره لأحد من الأصحاب بل قالوا- والصورة هذه-: أحد النصفين مضموم إلى الآخر في إكمال النصاب والواجب في النصف المسقي بماء السماء العشر وفي الآخر نصف العشر. ولا يقال: إنا إذا جمعنا ذلك كان المجموع ثلاثة أرباع العشر؛ لأن حاصل أحد النصفين من الثمرة قد يكون أكثر من الآخر، وإذا كان كذلك لم يكن المجموع ثلاثة أرباع العشر، وقد يختلف نوعهما. ومراد الشيخ- والله أعلم- بما ذكره ما قاله الأصحاب، وهو إذا ما سقي جميع النابت بالماءين على السواء؛ ويدل عليه قوله من بعد: "وإن سقي بأحدهما أكثر" وحينئذ فتعين أن يكون التقدير: وإن سقي النابت نصف السقي بهذا ونصفه بذاك، وجب فيه ثلاثة أرباع العشر. ووجهه: أن عند سقي الجميع بماء السماء يوجب العشر وعند سقيه بالنضح يوجب نصف العشر، وقد تساويا؛ فوجب ثلاثة أرباع العشر نظراً للتقسيط، وعلى هذا يكال من الأربعين لرب المال سبعة وثلاثون وللمصدق ثلاثة. وقال المراوزة: إن قلنا عند التفاضل في السقي بالتوزيع فالحكم كذلك، وإن

قلنا بأنه يعتبر حكم الأكثر ففي هذه الحالة وجهان: أحدهما: ما ذكره الشيخ، وهو الذي جزم به في "الوجيز" وقال الرافعي: إنه الأصح. والثاني: أنه يجب العشر ترجيحاً لجانب الفقراء، وهو ما جزم به الفوراني والمسعودي. [قال]: وإن سقي بأحدهما أكثر ففيه قولان: أحدهما: يعتبر فيه حكم الأكثر؛ لأن للكثرة تأثيراً في الترجيح كما تقدم في المواشي، وهذا ما اختاره في "المرشد". والثاني: يجب في الجميع بالقسط لأنه القياس، ولأن ما تجب الزكاة فيه بالقسط عند التماثل تجب فيه بالقسط عند التفاضل؛ كزكاة الفطر في العبد المشترك، وهذا ما صححه النووي وغيره؛ وقال الشافعي: إنه أقيس من الأول. وقد اقتضى كلام الشيخ أن النظر في التساوي والتفاضل إلى السقي لا إلى نفعه لكن هل النظر إلى تعدد السقيات، أو إلى الزمن الذي وقع فيه السقي؟ لم يتعرض له. وقد حكى القاضي الحسين فيه وجهين: أحدهما: أن النظر إلى تعدد السقيات وكثرتها، ولا نظر إلى طول الزمان وقصره. فإذا سقي بماء السماء أربع مرات ومرتين بالنضح؛ فعليه خمسة أسداس العشر، فنضرب ستة في عشرة فيكون ستين، وهذا ما حكاه في "المهذب" والقاضي أبو الطيب، والماوردي. والثاني: أن النظر إلى الزمان بأن سقي ستة أشهر بماء السماء وشهرين بماء النضح فعليه سبعة أثمان العشر فنضرب ثمانية في عشرة فهي ثمانون. وحكى الإمام بدل الوجه الثاني: أن الاعتبار بما به ينمو الزرع والثمر وبقاؤه، فإن جرت ثلاث سقيات في شهرين، وسقية واحدة في أربعة أشهر؛ فالذي وقع في الأربعة أشهر أغلب.

قال: وعبر بعض أئمتنا بعبارة أخرى وهي قريبة مما ذكرناه آخراً فقال: النظر إلى النفع؛ فإن كان نفع سقية واحدة أكثر وكانت أنجع من سقيات من جهة أخرى فالعبرة بالنفع. قال: وهذا ينفصل عن الذي قبله بشيء وهو أن الفاعل قبل هذا القول يعتبر المدة كما ذكرنا في الشهرين والأشهر، وهذا القائل الأخير لا ينظر إلى المدة، وإنما ينظر إلى النفع الذي يحكم به أهل الخبرة والبصيرة. قال الرافعي: واعتبار المدة هو الذي ذكره الأكثرون على الوجه الثاني. قلت: وإذا جمعت بين ما حكاه القاضي والإمام جاءك في المسألة أربعة أوجه، والأوفق لظاهر النص اعتبار ما يعيش الزرع به وينمو كما قال الرافعي. ولا شك أن النظر إلى السقيات المفيدة دون ما لا يفيد أو يضر على الأوجه كلها، وهذا كله إذا كان النابت مما يسقى عادة بماء السماء أو النضح، فلو كانت العادة سقيه بأحدهما كما إذا كان الزرع أو النخل منشأ على السيح أو النهر أو ماء السماء فمست الحاجة إلى النضح على ندرة الانقطاع، أو كان منشا على النضح فجاء السيل وسقاه فهل يكون الحكم كما تقدم؟ أو ينظر إلى ما جرت العادة به؟ وهو ما وقع ابتداء الأمر عليه؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين وغيره، وقال الإمام: إن الصحيح هو الأول، والثاني ضعيف لا أصل له، نعم لو كان التعويل على السيح، فجرى السقي بالنضح وقل قدره فقد يشبه ذلك بالعلف إذا جرى في بعض السنة حتى يقال: لا يسقط حكم السوم ولكن بين الأصلين فرق، وهو: أنه إذا جرى العلف في نصف السنة، والسوم في نصف السنة؛ فالمذهب المتبع. سقوط السوم بالكلية، وفي النضح والسيل لا نقول هكذا، والسبب فيه: أن في السيح والنضح الزكاة، وإنما الكلام في المقدار فاتجه التوزيع أو التغليب، والعلف موجبه إسقاط الزكاة على أنه كان من الممكن أن يسقط [نصف الزكاة] ويجب نصفها نظراً إلى السوم والعلف ولكن لم يصر إلى هذا أحد. قال: وإن جهل المقدار، أي: فلم يعلم مقدار ما شربه من كل منهما هل هو النصف أو أحدهما أكثر؟ جعل [بينهما] نصفين؛ إذ لا مرجح فوجب

التساوي؛ كدار في يد رجلين تنازعاها. وهذا ما حكاه البندنيجي عن ابن سريج، وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب وابن الصباغ من غير عَزْو، والإمام عزاه إلى ابن سريج كغيره، وقال: لا وجه غيره، وإن على هذا يكون الحكم كما لو تحققنا سقيه بهما نصفين، وقد تقدم. وفي الحاوي: أن ابن سريج قال: يجب عليه ثلاثة أرباع الشعر وأن غيره قال: يأخذ زيادة على نصف العشر بشيء وإن قل وهو قدر اليقين ويتوقف عن الثاني حتى يستبين، اعتباراً ببراءة الذمة وإسقاطاً لحكم الشك. أما إذا علمنا أن أحدهما أكثر وجهلنا عينه؛ قال في "الحاوي": فإن قلنا بمراعاة الأغلب ففيه نصف العشر، وإن قلنا باعتبار القسط كنا على يقين من قدر الواجب غير أنا نعلم أنه ينقص عن العشر ويزيد على نصف العشر فنأخذ قدر اليقين ونتوقف عن الثاني حتى يستبين. فرع: إذا اختلف الساعي ورب المال فقال الساعي: سقيته بالسيح فالواجب العشر، وقال رب الملا: سقيته بالنضح فالواجب نصف العشر- فالقول: قول رب المال مع يمينه وهي استحباب؛ لأن دعواه لا تخالف الظاهر، فإن امتنع من اليمين لم يجب عليه إلا ما قاله. قال: ويجب فيما زاد [على النصاب] بحسابه؛ لقوله- عليه السلام-: "فيما سقت السماء العشر .. " الخبر فاقتضى عمومه وجوب العشر فيما قل وكثر، فلما استثنى منه ما دون خمسة أوسق بقي ما زاد عليها على عموم الخبر. ولأن ذلك يتجزأ من غير ضرر؛ فأشبه الأثمان. قال الماوردي، والقاضي الحسين: هذا إجماع لا خلاف فيه. ولو كانت الثمار أنواعاً نظرت: فإن كانت قليلة وفي كل نوع متسع أخذ من كل نوع بقسطه على صفته في جودته ورداءته وقيل: يجب في النوع الغالب عنده كما قيل بمثله في الماشية، والأول هو المشهور، والفرق: أن التشقيص في الحيوان محذور بخلاف الثمار؛ ألا ترى أن في المواشي إذا قلنا بالتقسيط فإنا نعتبر فيها الأنواع ونأخذ ما يقتضيه

التوزيع ولا يؤخذ البعض من هذا والبعض من ذاك، وهاهنا بخلافه. وإن كانت كثيرة وقل مقدار كل نوع منها فثلاثة أوجه عن صاحب "الإفصاح": أصحها- وهو الذي جزم به البغوي وغيره-: [أن الواجب من الوسط لا من الجيد ولا من الرديء؛ رعاية للجانبين]. والثاني: أن الواجب من كل نوع بالقسط كما إذا قلت الأنواع. والثالث: أنه يجب من الغالب، وعن ابن كج حكاية طريقة قاطعة به. قال الرافعي: لو تحمل العشر وأخرج من كل نوع بالقسط- جاز ووجب على الساعي قبوله. قال: ويجب إخراج الواجب من التمر يابساً؛ لقول عتاب بن أسيد: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص العنب كما يخرص النَّخل، وتؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ صدقة النخل تمراً" أخرجه الترمذي. فلو أخرج من الرطب قدراً يكون إذا جف قدر الواجب لم يجزئه؛ لأنه بدل، والبدل لا يجوز في الزكاة من غير ضرورة، وعلى هذا إن كان باقياً رده الساعي إليه وإن كان تالفاً رد قيمته على المذهب في"المهذب" وغيره، وقيل: يرد المثل، وهذا الخلاف مبني على أن الرطب والعنب مثليان أم لا؟ وسيأتي الكلام فيه في الغصب، ولو لم يرده الساعي عند بقائه حتى جف، فإن بلغ قدر الزكاة أجزأه، وإن نقص طلب الفضل، وإن زاد رد الفاضل؛ كذا قاله الماوردي وحكي عن العراقيين. قال الرافعي: والأولى وجه ذكره ابن كج وهو: أنه لا يجزئ بحال لفساد القبض من أصله. وسأذكر في باب زكاة المعدن ما يقتضي تخريج وجه آخر في المسألة فليطلب منه.

قال: ومن الحب مصف؛ لأن الواجب عشره، أو نصف عشره، ولا يمكن إخراجه قبلها للجهل بالمقدار فتعين إخراجه بعدها؛ إذ بها يمكن التسليم الواجب، ولا تحسب أجرة التصفية على أهل السهمان من العشر أو نصفه؛ لأن ذلك ينقصه والشرع قد أوجب إيتاءه بقوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وقال ابن عباس: حقه العشر، ونصف العشر. ولا يستثنى مما ذكره الشيخ- كما قال الماوردي- إلا العلس؛ فإن الشافعي قال: أخيِّرُ ربَّهُ بين أن يعطى من كل عشرة أوسق منه وسقا؛ لأنه بهذه القشرة أبقى، وبين أن يخرجه من هذه القشرة وآخذ من كل خمسة أوسق العشر؟ قلت: وينبغي أن يستثنى الأرز- أيضاً- حيث اعتبرنا في نصابه ما اعتبرناه في العلس. قال: فإن احتيج إلى قطعه أي: إلى قطع الثمر؛ للخوف من العطش، أي: على الأشجار بأن قال أهل الخبرة: إنه متى تركت الثمرة على النخل أو الكرم أضرت به؛ لأنها تمص قلب النخلة وتشرب ماء جمارها أي: وكذا تمص ماء العنب، ولا يجيء من ذلك إلا قطع الجميع. قال: أوكان رطباً لا يجيء منه تمر أي أصلاً أو يجيء لكنه قليل النفع؛ لرقة لحمه، أو عنباً لا يجيء منه زبيب، أي: أصلاً أو محتفلاً به- أخذ الزكاة من رطبه. هذا الفصل ينظم مسألتين لاستوائهما في الأحكام- كما قال البندنيجي وغيره- حرفاً بحرف: فالمسألة الأولى: ما احتاج إلى قطعه للخوف من العطش- كما فسرناه- يجب فيه الزكاة إذا بدا فيه صلاحه ويخرجه من رطبه. ووجه الوجوب: ما تقدم. ووجه جواز إخراج الزكاة من رطبه: أنها وجبت [مواساة] ولا يليق تكليف المواسي بما يهلك ماله. ولأن ذلك وإن أضر بأهل السهمان في هذه السنة فهو أحظ لهم فيما بعد؛

لأن الأشجار إذا بقيت تكرر حقهم في كل سنة. ولو احتاج إلى قطع البعض خاصة كما إذا قال أهل الخبرة: إنه يكفي قطع البعض في إزالة الضرر- كان الحكم في ذلك البعض كالحكم في الكل، ولا يجوز قطع الجميع في هذه الحالة من غير أن يخرص عليه ويضمن نصيب الفقراء فيما لا يحتاج إلى قطعه. فإن قيل: قد قال الشافعي: وإن أصاب حائطه عطش فعلم أن ترك الثمرة أضر بالنخل كان له قطعها، ويؤخذ ثمن عشرها أو عشرها مقطوعة. وهذا يقتضي تخيير الساعي في المخرج والشيخ قد جزم بأخذ الزكاة من رطبه. قلنا: أما التخيير فقد قال به بعض المراوزة إجراء للفظ على ظاهره، وقال: يتعين على الساعي فعل ما يراه أنفع للمساكين سواء قلنا: إن القسمة بيع أو إفراز نصيب، فإن رأى المصلحة في أخذ العشر- إذا كان هو الواجب- أخذه، وإن رأى المصلحة في بيع ذلك منه فعل. والصحيح في "التهذيب" وغيره وبه جزم العراقيون: أنه لا يتخير في ذلك، وهؤلاء اختلفوا في كلام الشافعي: فمنهم من قال: مراده بأخذ العشر إن كانت الثمرة باقية وثمن العشر إن كانت تالفة، والشافعي يعبر بالثمن عن القيمة، وهذا ما ذكره ابن الصباغ وهو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما الماوردي، والثاني منهما: هو ما حكيناه عن بعض المراوزة. ومنهم من قال: هذا من الشافعي تعليق للقول على أن القسمة إفراز حق أو بيع كما سنذكره. والمسألة الثانية: الرطب الذي لا يجيء منه تمر والعنب الذي لا يجيء منه زبيب- تجب فيه الزكاة وإن كان كالخضراوات في كونه لا يدخر؛ لعموم قوله- عليه السلام-: "وفيما سقت السماء العشر .. " الخبر. والفرق بينه وبين الخضراوات: أنه من جنس ما يدخر فألحق بها، وقد تقدم الكلام في كيفية توسيقه.

ثم في كيفية أخذ الزكاة من الرطب في المسألتين اختلاف نص؛ فإنه قال في موضع: "يجوز أخذ ذلك كيلا ووزناً"، وقال في آخر: "لا يجوز". وقال الأصحاب: واختلاف جوابه مفرع على أن القسمة بيع أو إفراز نصيب؟ وفيها قولان: القديم- كما قال القاضي الحسين هنا-: إفراز، وهو المختار في "المرشد"، فإن قلنا به جاز أخذها بعد القطع كيلا ووزناً كما نص عليه، ويجوز أن يخرصها بالخرص على رؤوس الشجر فيجعل الواجب في نخلة أو نخلات أو كرمة أو أكثر [منها] وللساعي أن يفعل فيها ما يراه [من] مصلحة من بيعها وقسمة ثمنها، أو قسمتها. وإن قلنا: إن القسمة بيع لم يجز أخذ الزكاة بالكيل والوزن إذا كانت الثمرة مقطوعة؛ لأن ذلك بيع رطب برطب وهو لا يجوز حذارا من الربا، وهو الذي فرع عليه الشافعي حيث قال: لا يجوز، [كما] تقدم ذكره. وإذا لم يجز إخراجها بالكيل والوزن- تفريعاً على هذا- لم يجز إخراجها بالخرص على رؤوس الشجر من طريق الأولى، فعلى هذا: يسلم رب المال الثمرة كلها إلى الساعي ليحصل قبض الزكاة مشاعاً سواء كانت على وجه الأرض أو على رؤوس الشجر ليستقر ملك أهل السهمان عليها إذ لرب المال دفعها من أي موضع أراد، وإن قلنا: إن الزكاة تجب في العين وبعد التسليم لا يبقى له ذلك. ثم الساعي يفعل ما يراه أحظ لأهل السهمان من بيعها وقسمة الثمن على الأصناف. وقال القاضي الحسين: يجوز أن يكون في جواز أخذ الزكاة بالكيل والوزن من الذي لا يجيء منه تمر وزبيب وجهان على قولنا: إن القسمة بيع، بناء على وجهين مذكورين في جواز بيع الرطب الذي لا يتتمر بمثله. إن قلنا: يجوز أخذ الزكاة بالكيل وإلا فلا يجوز، وقد صرح بهما الإمام.

قلت: ولا يمكن جريانهما في الثمرة المقطوعة خوفاً من العطش؛ لأن ذلك لا يجوز بيع بعضه ببعض بلا خلاف؛ لأنه له حالة كمال، ومن هنا يظهر لك أن قول من قال: الحكم في المسألتين اللتين اشتمل عليهما الفصل واحد- كما تقدم- غير مجرى على إطلاقه. وقد حكى عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة أنهما قالا: لا يجوز دفعهما بالكيل والوزن في المسألتين، وإن قلنا: إن القسمة بيع؛ لأن المغلب على هذا الاستيفاء لا المعاوضة؛ ولهذا يجوز أن يعطي الساعي من الثمرة أكثر مما يجب عليه. ووجهه صاحب "التقريب": بأن الربا يتعلق بالبياعات المحققة، وهذا وإغن كان بيعاً فهو تصرف من الإمام لأقوام غير معينين فلا تعتبر فيه مضايق الربا. والذي صححه القاضي أبو الطيب وغيره: المنع، قال: وما قاله أبو إسحاق يبطل بما إذا أراد إخراجها على رؤوس النخل خرصاً، فإنه لا يجوز عنده حذارا مما ذكرناه، ولا يقال: إنه إنما منع [ذلك] لأنه لا يتحقق استيفاء الحق بالخرص، وما هنا قد يتحقق بالكيل والوزن؛ لأنه ممن أجاز ذلك على قولنا: إن القسمة إفراز نصيب، وأيضاً: فهو مانع من ذلك وإن تحقق أخذ الحق؛ كما إذا أسلم رب المال ما على رؤوس الشجر ما يعلم أنه أكثر من الحق. ثم هذا كله تفريع على الجديد في أن الفقراء قد ملكوا قدراً من المال قدر الفرض، أما إذا قلنا بخلافه فلا مانع من أخذه كيلا ووزناً وعلى رؤوس النخل أشار إلى ذلك تعليل الأصحاب، وعليه نبه الإمام. واعلم أن العراقيين قالوا: لا يجوز لرب المال في حال الخوف على الأشجار من العطش أن ينفرد بالقطع دون حضور الساعي؛ لأنه نائب عن شركائه، فإن قطع بغير حضرته عزر إن كان عالماً بالتحريم، وعن الصيدلاني وصاحب "التهذيب" وطائفة: أنه يستحب لرب المال استئذان الساعي إن أراد القطع، قال الرافعي: وقضيته جواز الاستقلال به. ويجوز أن يكون هذا الخلاف مبنياً على

الخلاف في وجه تعلق الزكاة، وعلى كل حال فلا يضمن ما نقص من قيمة التمر والزبيب، ويأخذ منه عشر المقطوع، ولا يخرص عليه، وهذا بخلاف ما إذا قطعها من غير عطش ولا تخريص فإن الواجب عليه التمر، والفرق: أنه في حالة عدم الخوف يجب عليه التبقية إلى إدراكها [بخلاف ما هنا]. ولو أتلفت هذه الثمرة، قال القاضي الحسين: فالواجب عليه هاهنا عشر القيمة، لا يختلف القول فيه هاهنا والله أعلم. قال: وإن أراد صاحب المال أن يتصرف في الثمرة، أي: التي تبقى إلى أوان الجداد، قبل الجفاف وبعد بدو الصلاح- خرص عليه أي: جميعها، وضمن نصيب الفقراء ثم يتصرف؛ لما روى الشافعي بسنده عن عتاب بن أسيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في زكاة الكرم: "يخرص كما يخرص النخل، ثم تؤدي زكاته زبيباً كما تؤدى زكاة النخل تمراً". قال الرافعي: وقد روى في آخره: "ثم يخلى بينه وبينه". قال الأصحاب: والحكمة فيه طلب الرفق بأرباب الأموال بالتصرف في ثمارهم والرفق بالفقراء في حفظ حقوقهم وخالف الزروع الثمار في هذا المعنى، لأنه لا يمكن الوقوف عليها لاستتارها، ولأن الحبوب لا ينتفع بها أصحابها إلا إذا يبست وصفيت وذلك الوقت الذي تؤدى زكاتها فيه فلا كبير فائدة في خرصها، وأما الثمار فقد ينتفع بها ربها وهي بسر ورطب وعنب قبل أن تصير تمراً وزبيباً، فجاز تقدم خرصها لينتفع بها في الحالة الأولى إن شاء. وقد حكى الغزالي عن القديم: أنه يترك لرب النخيل نخلة أو نخلات يأكل

ثمارها هو وأهله ويعزى ذلك إلى رواية صاحب التقريب، وأن ذلك يختلف باختلاف حال الرجل في قلة عياله وكثرتهم ويكون ذلك في مقابلة قيامه بتربية الثمار إلى الجداد وتعبه في التجفيف. وفي "البحر" حكاية ذلك وجهاً عن بعض الأصحاب؛ لأنه حكى عن الشافعي أنه ذكر خبر سهل بن أبي حثمة الذي أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا فقال: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثُّلث، فإن لم تدعو الثُّلث فدعوا الرُّبع". وقال في "الأم" في آخر بيع العرايا: تأويله أنه يدع لرب الحائط وأهله من الثمر [قدر ما يأكلون]، ولا يخرصه ليؤدي زكاته. وقال في بعض كتبه: تأويله: يدع ثلث الزكاة أو ربعها عند رب المال ليتولى تفريقها بنفسه على فقراء أقربائه وجيرانه. قال: وهل يفعل ذلك في وقتنا؟ فيه وجهان. قلت: فثبت من ذلك أن كونه يدع له ولأهله [قدر ما يأكلون]، وجه للأصحاب،

وهو يقتضي ترك الجميع له إذا احتاج هو وأهله إلى أكله وقد رأيته هكذا في "حواشي السنن" للشيخ زكي الدين رحمه الله. وقد نسب القاضي أبو الطيب وابن الصباغ التأويل الثاني في الخبر إلى بعض الأصحاب، وقالا: إن بعض الأصحاب قال: تأويله: ألا يرضى ربُّ المال بالخرص وألا يسلم الثمرة للساعي بالخرص على أن يضمن له حقه منها تمراً أو زبيبا و [إن] أراد التصرف فإن الساعي يترك له ثلث الثمرة أو ربعها يتصرف فيه على اختياره، فإذا صار ما عدا ذلك تمراً أو زبيباً خرصه وأضاف إليه ثلثه أو ربعه الذي تركه لرب الثمرة حتى تصرف فيه ثم يقبض زكاة الجميع. قال ابن الصباغ: والأول منهما أولى. وقال الماوردي: إن الثاني منهما قاله في القديم. وإذا جمعت بين ذلك كانت التأويلات الثلاثة محكية عن الشافعي، ويجيء وجه في اعتماد مثلها في زماننا، أما إذا لم يرد صاحب المال التصرف في الثمرة فمفهوم كلام الشيخ أنها لا تخرص عليه. وقد قال الأصحاب: إن الثمار إذا بدا صلاحها أو بدا في بعضها بعث الإمام الساعي ليخرص الثمار على أربابها، فإن اختاروا التصرف ضمنها لهم وأطلق تصرفهم فيها وإن لم يريدوا ذلك وأراد أن يأخذها بخرصها ويرد على ربها الفاضل على قدر الزكاة تمراً أو زبيباً عند جفافها ورضي بذلك ربها- فعل وإن لم يرض بواحد منهما تركها في يده أمانة على وقت وجوب إخراجها، ولا يملك التصرف فيها؛ قاله أبو الطيب وغيره، فإن تصرف فيها فسيأتي حكمه فإن أتلفها ضمنها بمكيلتها تمراً جافاً. وحكى الماوردي وجهاً آخر: أنه يطالب بأكثر الأمرين من قيمتها [رطباً] أو مكيلتها تمراً جافاً؛ لأن لهم أوفر الحظين من الرطب أو التمر كمن أتلف أضحية معينة نذرها.

والتخريص عند عدم إرادة التصرف مستحب لا واجب. وعن الصيمري: أنه حكى وجهاً أنه واجب. والخرص: حزر ما على النخل والكرم من الرطب والعنب تمراً وزبيباً وهو مصدر: خرص يخرص، بضم الراء وكسرها. والضمان، [قال البندنيجي]: اختلف أصحابنا في معناه: فقال أبو العباس- يعني ابن سريج؛ كما صرح به في "البحر"-: إن قلنا: إن الزكاة تجب في الذمة كان معناه: فك الثمرة من الرهن ليستفيد رب المال بالتصرف وإن قلنا: إنها تجب في العين فيملك الفقراء قدر القرض منها كان معنى الضمان أن يقال: أقرضناك هذا الرطب بما يجيء منه تمراً، وجاز هذا القرض لموضع الحاجة. وقال الشيخ- يعني أبا حامد كما قال في "البحر"-: أجود من هذا عندي أن يقال له: خذ هذا بكذا وكذا تمراً فإن لرب المال أن يعطي العشر من عينها أو مثله من غيرها تمراً، فإذا قال: خذه بما يجيء تمراً فقد أعطاه معنى الزكاة وموجبها. قلت: وهذا يقتضي أنه لابد بعد الخرص من لفظ يصدر من الساعي يحصل به الضمان، وقول ابن سريج يقتضي أنه لابد من رضا رب المال بذلك؛ لأن القرض لابد فيه من رضا المقترض، وقد صرح بذلك البغوي حيث قال: والخرص [تضمين في أصح] القولين فبعد الخرص يقول الخارص لرب المال: ضمنتك نصيب الفقراء من الرطب ليعطي مكيلته خرصاً ويقبله رب المال. وهو قضية ما حكيناه من قبل عن أبي الطيب وغيره. وقال الشيخ أبو حامد وغيره من أهل الفريقين: ولا يستقر الضمان عليه إلا بعد التصرف أو الإتلاف حتى لو تلفت أو نقصت في يده من غير تفريط لا يضمن ذلك، ويدل عليه قوله في "المختصر" بعد الكلام في الخرص: ثم يخلي بين أهله وبينه فإذا صار تمراً أو زبيباً أخذ العشر على خرصه، فإن ذكر أهله أنه أصابته جائحة أذهبته أو شيئاً منه صدقوا فإن اتهموا حلفوا.

وقال الإمام: لو قيل: تسليطه على التصرف في حق المساكين يلزمه الضمان وإن تلف وكأنه قبض حقهم والتزم في ذمته التمر [التزام] قرار- فهو احتمال معنوي، ولكن الذي قطع به الأصحاب: سقوط الضمان بالجائحة، وحينئذ يكون المستفاد بالخرص تسليط الساعي على التضمين، وبالتضمين تسليط رب المال على التصرف فيجميع الثمرة بالأكل وغيره إذ لا يجوز قبله بلا خلاف عند العراقيين ولو فعله مع العلم بالتحريم [غرمه] الساعي كما صرح به ابن الصباغ وغيره، ويستفيد بالتصرف استقرار الضمان، كذا أشار إليه أبو حامد، والماوردي وقال: إن المال لو كان لمحجور عليه لصباً أو جنون أو سفه فالعبرة بضمان وليه دونه. وحكى المراوزة، في أن نفس الخرص هل يكون عبرة مجردة أو تضميناً، قولين: أحدهما: أنه عبرة، أي: يفيد الاطلاع على المقدار ظناً وحسباناً، ولا يعتبر حكماً، بل الحكم بعده كالحكم قبله؛ لأنه ظن وتخمين. ولا فرق على هذا بين أن يصرح الخارص بعده بالتضمين صريحاً والضمان من صاحب الثمار قولاً، أولاً. وعن بعض الأصحاب: أنه إذا جرى ذكر الضمان صريحاً بأن قال الخارص: ألزمتك حصة المساكين تمراً جافاً كان الخرص يتضمن التضمين ويكون الحكم كما سنذكره تفريعاً على قول التضمين، وإن فقد التصريح بالتضمين فهو عبرة لا غير. والقول الثاني: أن الخرص تضمين؛ لأنه معيار شرعي فأشبه ما لو كال عليه بالمكيال [وكلام هذا القائل مصرح بعدم اعتبار قبول رب المال في التضمين. ومن العجب أن الإمام حكى القول كما ذكرناه ثم قال: والذي أراه أنه يكفي تضمين الخارص ولا يشترط قبول المخروص عليه فجعل ذلك احتمالاً له على هذا الوجه]؛ لأنه معيار شرعي فأشبه ما لو كال عليه بالمكيال، والدليل على أنه معيار شرعي جواز بيع التمر بالرطب على رؤوس النخل خرصاً فيما دون

خمسة أوسق. وهذا ما صححه في "التهذيب". وفرعوا على القولين فقالوا: إن قلنا بالأول وجب عليه إذا أتلفها بعد الخرص قيمة العشر من الرطب، كما لو أتلفها أجنبي تفريعاً على الصحيح في أن الرطب لا مثل له. وعن صاحب "التقريب" حكاية وجه آخر: أنه يضمن أكثر الأمرين من مكيلته تمراً جافاً أو قيمة العشر، كما أتلفه، وهو ما [حكيناه من رواية] الماوردي من قبل. قال الإمام: وهو غريب لا أصل له، ولو أتلفها قبل الخرص لم يضمن إلا قيمة العشر من الرطب وحرام عليه قبل الخرص وبعده التصرف في الثمرة والأكل منها إلا في قدر ما يفضل وهو تسعة أعشارها كذا قال البغوي والإمام عن الأصحاب وأبدى فيه شيئاً سنذكره. وقال القاضي الحسين- بعد حكاية ذلك-: وعندي: أنه لا يجوز له التصرف في تسعة أعشارها؛ لأن الملك المشترك لا يجوز لأحد الشريكين التصرف فيه دون إذن صاحبه، وإن قلنا بالثاني ثبت حق المساكين في ذمته بعد الخرص، وله أن يتصرف في جميع الثمرة بما يشاء ثم يغرم عشرها تمراً للمساكين وكذا إذا أتلفها. نعم، لو أتلفها قبل الخرص [هل] يضمن العشر تمراً أو يضمن عشر قيمة الرطب؟ فيه طريقان: إحداهما- حكاها في "التتمة"-: القطع الثاني. والثانية: فيها وجهان حكاهما القاضي الحسين وغيره عن القفال: أحدهما: يضمن التمر؛ لأنه منع الخرص فصار كما لو خرص عليه ثم أتلفه. والثاني: يضمن عشر قيمة الرطب؛ لأنه إنما ثبت التمر في ذمته بالخرص ولم يخرص عليه بعد.

وعلى الوجهين لا يجوز التصرف قبل الخرص في الجميع، فإن تصرف فهل ينفذ؟ فيه كلام يأتي، وقد عبر في "الوسيط" عن الوجهين بأن وقت الخرص هل يقوم مقام الخرص في التضمين أم لا؟ وفيه وجهان. ووقت الخرص- كما قال البغوي وغيره، وعليه نص في "المختصر": بدو الصلاح ولو في ثمرة؛ قالت عائشة- وهي تذكر شأن خيبر-: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه شيءٌ". قال البغوي: ولا يجوز قبل ذلك، قال: وهل يجوز خرص الكل إذا كان الصلاة قد بدا في نوع دون آخر؟ فيه وجهان. وعن ابن كج حكاية وجه آخر عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة: أنه يضمن في هذه الحالة أكثر الأمرين من عشر التمر أو عشر الرطب. وقد حكاه الماوردي- أيضاً- وقال: الصحيح أنه يلزمه التمر. قال الرافعي: ولك أن تقول: ينبغي أن يكون الواجب ضمان التمر مطلقاً وإن فرعنا على قول العبرة؛ لأن الواجب عليه ببدو الصلاة التمر وإذا وجب لهم التمر، فكيف يصرف إليهم الرطب أو قيمته؟ غايته: أن الواجب متعلق به لكن إتلاف متعلق الحق لا يقتضي انقطاع الحق وانتقاله إلى غرامة المتعلق الأخرى؛ ألا ترى أنه لو ملك خمساً من الإبل؟ فأتلفها بعد الحول يلزمه للمساكين الشاة دون قيمة الإبل، نعم لو قيل: يضمن الرطب ليكون مرهوناً بالتمر الواجب إلى أن

يخرجه كان ذلك مناسباً؛ لقولنا: إن الزكاة تتعلق بالعين تعلق رهن. قلت: وما قاله من الجزم بإيجاب التمر على كل حال هو ما أورده في "المختصر" حيث قال: "وإن أكل رطبا ضمن عشره تمراً"، ولم يورد القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ غيره؛ لأن رب المال وجب عليه تجفيف هذا الرطب وتمريته، فلهذا ألزمناه عشره تمراً، بخلاف الأجنبي فإنه [لم] يلتزم ذلك وضمان المتلف قد يختلف باختلاف المتلفين؛ ألا ترى أن من وجبت عليه شاة من أربعين، وأتلف الأربعين يلزمه شاة ولو أتلفها أجنبي وجب للفقراء القيمة، ولو أتلف المحرم صيداً مملوكاً ضمنه بالجزاء والقيمة، وغيره يضمنه بالقيمة فقط، ولو عين أضحية وأتلفها ضمنها بأكثر الأمرين، ولو أتلفها غيره ضمن القيمة فقط، ولو وطئ امرأة بشبهة فعلية مهر المثل، فإن كان من العشيرة خفف عنه، وإن كان من غير العشيرة غلظ عليه؟ قاله البندنيجي وغيرهظ وأما ما ذكره الرافعي من التوجيه لما ذكره فهو ظاهر على قولنا: إن الزكاة تجب في الذمة دون ما إذا قلنا لا تتعلق بالذمة وتجب في العين؛ فإن فيه نظراً. ثم هذا كله في الرطب الذي يتتمر كما صدرت الكلام به، أما ما لا يتتمر، أو وجب قطعه خوفاً من العطش فقد تقدم أن الواجب على رب المال إذا أتلفه بدل الرطب بلا خلاف، وتقدم الفرق بينهما. فروع: إذا سلمنا الثمرة إلى المالك أمانة أو مضمونة كما قال الماوردي وغيره وادعى هلاكها أو هلاك بعضها فقد حكينا النص فيه. وقال الأصحاب: إنه ينظر، فإن أسنده إلى سبب كذبه الحس فيه، كما لو قال: هلكت بحريق وقع في الجرين ونحن نعلم أنه لم يقع في البحرين حريق أصلاً فلا يبالي بكلامه وأخذت منه الزكاة كما تقدم، وإن لم يكن كذلك نظر: إن أسنده إلى سبب ظاهر كالنهب والبرد والجراد ونزول العسكر نظر: فإن عرف وقوع هذا السبب وعموم أثره صدق ولا حاجة إلى اليمين، فإن اتهم في هلاك ثماره بذلك

السبب حلف وإن لم يعرف وقوعه فوجهان: أظهرهما- الذي ذكره المعظم-: أنه يطالب بالبينة عليه. والثاني: عن الشيخ أبي محمد: أن القول قوله [مع] اليمين؛ كالمودع إذا ادعى الرد. قال الرافعي: [و] رأيت في كلام الشيخ أبي محمد أن هذا إذا لم يكن ثقة، فإن كان ثقة فيعفى عن اليمين أيضاً. وفي "الحاوي": أن القول قوله، فإن اتهم أحلفه، وفي اليمين وجهان: أحدهما: أنها مستحبة، فإن امتنع منها لم تجب. والثاني: أنها واجبة، فإن امتنع منها أخذت منه بالسبب الأول لا لامتناعه عن اليمين. وإن اقتصر عند دعوى الهلاك على مجرد دعواه ولم يذكر السبب، فالمفهوم من كلام الأصحاب قبول قوله مع اليمين وإذا زعم أن الخارص أجحف عليه لم يلتفت إلى قوله إلا ببينة، كما لو ادعى الميل على الحاكم والكذب على الشاهد لا يقبل إلا ببينة، وإن ادعى أنه غلط عليه؛ فإن لم يبين المقدار لم يسمع،

قاله الماوردي والبغوي. وإن بين: فإن كان قدراً يحتمل مثله الغلط كخمسة أوسق في مائة فهل يقبل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لاحتمال أن النقصان وقع في الكيل، ولعله يفي إذا كيل ثانياً وصار كما لو اشترى حنطة مكايلة وباعها مكايلة فانتقص بقدر ما يقع بين الكيلين لا يرجع على الأول. وأصحهما: نعم؛ لأن الكيل يقين، والخرص تخمين، فالإحالة عليه أولى، وهذا ما أورده الماوردي. وإن كان ما ادعاه فاحشاً لا يجوز لأهل النظر الغلط بمثله فلا يقبل قوله في حط ذلك القدر، وهل يحط القدر المحتمل؟ فيه وجهان: أصحهما- وبه قال القفال-: نعم استنباطاً مما إذا ادعت ذات الأقراء انقضاء عدتها قبل زمان الإمكان وكذبناها فأصرت على دعواها حتى جاء زمان الإمكان فإنا نحكم بانقضاء عدتها أول زمان الإمكان. وهذا ما حكاه الرافعي، وهو في "تعليق" القاضي الحسين وأبدى في مسألة

العدة احتمال وجه آخر: أنا لا نحكم بانقضاء عدتها، وذكر تشبيهاً آخر لمسالة الزكاة، وهو ما إذا ادعى الوكيل البيع بما لا يتغابن الناس بمثله لا يقبل، وهل يحط عنه قدر ما يتغابن بمثله؟ وجهان. وقال الماوردي فيما إذا ادعى نقصاناً متفاحشاً: إنه ينظر: فإن قال: غلط علي بهذا لا يقبل؛ لأنه نسبه إلى الخيانة والكذب ورام نقض حكم بات بدعوى مجردة، وإن قال: لم آخذ إلا هذا فقوله مقبول؛ لأنه ليس فيه تكذيب الخارص، لأنه يحتمل أن يكون قد تلف بعد الخرص فيكون الخارص مصيباً والنقصان موجوداً. وهذا موافق لما في "تعليق" أبي الطيب حيث قال: إن ادعى أن الثمرة نقصت عما خرصت نقصاناً بيناً، وقال: لا أعلم أخطأ الخارص أم سرقت الثمرة – فإنه يصدق إذا حلف، وإن نكل كان كما إذا ادعى أن الخارص أخطأ وكان النقصان متقارباً، وفيه وجهان: أحدهما: تؤخذ منه الزكاة بناء على أن اليمين واجبة. والثاني: لا تؤخذ بناء على أنها مستحبة. قال- رحمه الله- فإن كان، أي: النخل أجناساً خرص نخلة نخلة. أراد الشيخ بالأجناس: الأنواع كالمَعْقِلِّي والبَرْنِيِّ، والسكر، والهِلْياث، فيكون إذا جف قليلاًن وبعضها يكون قليل الماء كثير اللحم كالمعقلي والبرني، فيكون كثير التمر عند الجفاف، وإذا كان كذلك لم يكن خرصها دفعة واحدة محصلاً للمقصود وهو معرفة المقدار. ثم كيفية ذلك- كما قال الشافعي في"المختصر"-: أن يأتي الخارص النخل فيطيف بها حتى يرى كل ما فيها، أي من الأعذاق، وما عليها من الرطب، ثم يقول: خرصها رطباً كذا، وتنقص إذا صارت تمراً كذا، يقيسها على كيلها

تمراً، ويصنع ذلك بجميع الحائط، قال: وهكذا العنب. قال الماوردي: واختلف أصحابنا في قوله: "فيطيف بها" هل هو على وجه الاشتراط أو الاحتياط؟ على ثلاثة مذاهب، أصحها: ثالثها، وهو إن كانت الثمرة بارزة عن السعف ظاهرة من الجريد- على ما جرت عادة العراق في تدليه- لم يكن شرطاً، وإن كانت الثمرة مستترة بالسعف مغطاة بالجريد – على ما جرت به عادة أهل الحجاز- كانت الإحاطة بالنخلة شرطاً في صحة الخرص؛ لأن ثمرها خفي. قال: وإن كان جنساً واحداً أي: نوعاً واحداً، جاز أن يخرص الجميع دفعة لأن النوع الواحد لا يختلف غالباً عند الجفاف، وإن اختلف يسيراً فلم يمنع ذلك من تخريص جميعه كأعذاق النخلة الواحدة، فإذا أراد ذلك يعرف ما في كل نخلة من الرطب على النحو المتقدم ويجمع الجميع ثم يعرف ما يجيء منه تمراً. قال: وأن يخرص واحدة واحدة؛ لأنه أبلغ في تحصيل المقصود فعلى هذا يفعل ما تقدم. وقد أطلق أبو إسحاق المروزي قوله بأنه يجوز أن يخرص جميع ما في الحائط من الرطب، ثم يسقط منه قدر ما ينقص إذا يبس؛ لأنه أسهل. قال البندنيجي: وهذا الإطلاق فاسد، بل الصواب: التفصيل كما تقدم. وقد سكت الشيخ عن الكلام في عدد ذلك الخارص هاهنا، وتكلم فيه في باب القسمة. وقال الأصحاب هاهنا: فيه طريقان: أحدهما: قال ابن سريج وأبو إسحاق: يكفي فيه واحد [قولاً] واحداً كالحاكم. وقال المزني وأبو سعيد الإصطخري في آخرين من أصحابنا: فيه قولان: أحدهما: هذا، [وهو الذي] صححه الرافعي والمصنف في "المهذب". والثاني: لابد من اثنين؛ كالمقومين. كما حكى الطريقين ومن قال بهما: البندنيجي [والقاضي] أبو الطيب

وحكاهما الماوردي- أيضاً- لكنه قال: إن أبا سعيد الإصطخري وافق ابن سريج في الاكتفاء بواحد، وإن أبا إسحاق المروزي وأبا علي بن أبي هريرة وافقا المزني في إجراء القولين في المسألة وأن بها قال جمهور أصحابنا ولا فرق في ذلك بين أن يكون رب المال صغيراً أو كبيراً، وغلط بعض أصحابنا فقال: إن كان صغيراً فلابد من اثنين، وإن كان كبيراً كفى الواحد؛ لأنه رأى الشافعي في "الأم" فرق بينهما. وحكى ابن كج وغيره هذا قولاً للشافعي، وأنه ألحق المجنون والغائب بالصبي. قال الماوردي: وهو غلط؛ لأن الخرص إما أن يكون كالحكم أو كالتقويم، وذلك لا يختلف بالنسبة إلى [الكبير والصغير] والشافعي إنما فرق في "الأم" في جواز تضمين الكبير ثماره بالخرص دون الصغير فوهم عليه. قال البندنيجي: والطريقان- كما ذكرنا- جاريان في القائف، وكذا في القاسم إذا لم يكن ثم رد، فإن كان فلابد من اثنين قولاً واحداً. قال الأصحاب: ويعتبر في الخارص أن يكون بالغاً عاقلاً عدلاً عالماً بالخرص، وهل يشترط أن يكون ذكراً حراً؟ فيه تفصيل واختلاف حكاه الماوردي، واقتصر بعضهم على إيراد بعضه وجملته. أما إن قلنا: يكفي واحد فلابد من الذكورة والحرية فيه كالحاكم، وإن قلنا: لابد من اثنين، فلا يكفي امراتان ولا عبدان. وهل يجوز أن يكون أحدهما امرأة أو عبداً؛ ليكون الرجل الحر مختصاً بالولاية، والمرأة أو العبد مشاركاً له في التقدير والحزر؟ فيه وجهان: أصحهما في "المحرر" و"الروضة": المنع. ووجه الجواز: إقامة الخرص مقام الكيل والوزن. فرع: لو اختلف الخارصان توقفا حتى يتبين المقدار منهما أو من غيرهما حكاه في "الروضة" عن الدارمي وقال إنه ظاهر. قال: وإن باع أي: جميع الثمرة، قبل أن يضمن نصيب الفقراء، بطل البيع في

أحد القولين ولم يبطل في الآخر. واعلم أن الأصحاب من العراقيين- كأبي الطيب والبندنيجي وابن الصباغ، وغيرهم- قالوا في هذه المسألة والصورة كما ذكرنا إن البيع هل يبطل في نصيب الفقراء أو يصح؟ قولان سواء قلنا إن الزكاة تجب في الذمة [و] العين مرتهنة بها أو تجب في العين بمعنى أن الفقراء ملكوا من المال قدر الفرض، ووجهوا البطلان بأنا إن قلنا: إن الزكاة وجبت في الذمة فقدر الفرض من المال مرتهن بها وبيع المرهون لا يجوز، وإن قلنا: إنها وجبت في العين بالمعنى الذي ذكرناه الذي لا يعرفون غيره، فبيع مال الغير لا يجوز. ووجهوا الصحة: بأنا إن قلنا: إنها تجب في الذمة وقدر الفرض من المال مرتهن بها فذاك تعلق طرأ بغير رضاه فلم يمنع من بيعه؛ كتعلق الجناية برقبة عبده، وإن قلنا: إنها تجب في العين كما ذكرنا فملك الفقراء كلا ملك، فإن ثمرة الملك ثابتة لرب المال وملكهم غير مستقر بدليل أن لرب المال إسقاطه بإخراج الزكاة من غيره [بغير رضاهم فكذلك بالبيع؛ لأن به يصير ملتزماً للإخراج من غيره]. قال ابن الصباغ: والأول أقيس؛ لما ذكرنا، قال: وقول من صار إلى الأول أن بيع العبد الجاني صحيح، ممنوع، وقول من صار إلى الثاني أن ملكهم غير مستقر، مسلم، لكن ليس لرب المال إسقاطه من العين قبل الدفع وإنما يسقط بدفع الزكاة، وإذا قلنا بهذا فهل يبطل البيع فيما عدا نصيب الفقراء أو [يصح؟ فيه قولاً تفريق الصفقة. وإن قلنا بمقابله صح فيما عدا نصيب الفقراء] من طريق الأولى. قلت: وحاصل ذلك يرجع إلى ثلاثة أقوال في المسألة: أحدها: بطلان البيع في الجميع. والثاني: صحته في الجميع. والثالث: وهو الذي صححه النووي-: بطلان البيع في نصيب الفقراء، وصحته فيما عداه. وأنت إن أجريت كلام الشيخ على ما يقتضيه ظاهره في أن القولين في صحة البيع في الجميع أو بطلانه في الجميع كان صحيحاً. وإن أردت حمله على ما

رتبه الأصحاب، وهو الذي حكاه في "المهذب"، وأضمرت بعد قوله: "بطل البيع": أي في نصيب الفقراء في أحد القولين، ولم يبطل في الآخر- كان صحيحاً. وقد سلك الماوردي طريقاً آخر في حكاية القولين في صحة البيع في نصيب الفقراء، ومنعه فقال: إنهما مبنيان على أن الزكاة وجبت في الذمة ولا تعلق لها بالعين أصلاً، أو وجبت في العين وجوب استحقاق آخر؟ فإن قلنا بالأول، صح البيع، وإن قلنا بالثاني فلا. وساق بقية التفاريع التي ذكرناها وما سنذكره إن شاء الله تعالى. ووافقه المراوزة في بنائهما على ما ذكر، وقالوا: إن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين؛ كتعلق الرهن فلا يصح البيع أيضاً فيما تعلقت به، وهل هو [كل المال] أو قدر الزكاة؟ فيه الخلاف السابق [فإن قلنا: في قدر الفرض فقط جاء في بطلان البيع فيما عداه قولاً تفريق الصفقة]. وقد حكى الرافعي عن بعضهم: أنه حكى في صحة البيع على هذا القول- أي: فيما جعلناه مرهوناً- قولين كما حكاه العراقيون وقالوا تفريعاً على قول حكوه: إن تعلق الزكاة بالعين كتعلق أرش الجناية. أما إن قلنا: إن بيع العبد الجاني جائز فهو كالتفريع على قول الذمة، وإن قلنا: لا يجوز فهو كتفريع قول الرهن، أي: فلا يصح فيما تعلق به، وهل هو [كل المال] أو قدر الفرض؟ فيه الخلاف السابق، فإن قلنا: هو قدر الفرض كان في البطلان فيما عدا قولا تفريق الصفقة. وقال صاحب "التقريب": إن قلنا بقول الوقف الذي حكاه أبو إسحاق وهو أنه تبين إن لم يخرج الزكاة من غيره تعلقها بعينه، وإن خرجت من غيره تبينا أنها لم تجب في عينه، فإن لم يؤد الزكاة من مال آخر بل أخذها الساعي من المشتري تبينا أن البيع غير منعقد في المأخوذ، وفي الباقي قولاً تفريق الصفقة، وإن أدى الزكاة بعد البيع من مال آخر فإن منعنا وقف العقود بطل البيع أيضاً في

قدر الزكاة، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة وإن جوزنا وقف العقود صح في الجميع، وعند الاختصار لا تزيد الأقوال على ثلاثة كما ذكرنا من قبل فإذن الطريقان متفقان [في] الخلاف ومختلفان في المأخذ. التفريع: إن قلنا بالبطلان في الجميع فلا يخفى الحكم وإن قلنا به في نصيب الفقراء فقط ثبت للمشتري [الخيار، وهل] يثبت للبائع، وهل يجيز المشتري العقد بكل الثمن، أو بالقسط في مسألتين؟ فيه كلام يأتي في البيع. قال البندنيجي: وإذا أجاز المشتري العقد فرب المال يقاسمه على ذلك، ويصرف نصيب الفقراء إليهم، وإن قلنا بالصحة في الجميع، فإن أخرج البائع الزكاة من ماله لزمه البيع للجميع واستقر ملك المشتري عليه، وإن تعذر ذلك عليه بألا يكون له مال غيره كما قال ابن الصباغ أو لم يؤد رب المال الزكاة من موضع آخر كما قاله غيره- وبين العبارتين فرق- أخذ الساعي قدر الزكاة من المبيع وبطل العقد فيه إذ ذاك وهو ما استدل به الإمام على إبطال القول بأن الزكاة تثبت في الذمة ولا تعلق لها بالعين أصلاً كما تقدم، وهل يبطل البيع في الثاني؟ فيه الطريقان الآتيان في تفريق الصفقة في الدوام وفروعهما. وقد حكى المراوزة: في أن المشتري إذا عرف الحال بعد العقد هل يثبت له الخيار في فسخ العقد قبل أخذ الساعي؟ فيه وجهان. وجه المنع: أن المالك ربما يؤدي الزكاة من موضع آخر. ووجه الثبوت- وهو الذي حكاه الإمام عن الأكثرين-: أن ملكه مزلزل في الحال. وعلى هذا: إذا أدى المالك الزكاة من موضع آخر سقط الخيار على الأصح، وبه جزم في "التهذيب"؛ كما لو باع بعد الأداء. ومقابله منسوب في "النهاية" لرواية بعض المصنفين، وهو في "الإبانة"، ووجهه: أن الخيار مستيقن وربما يخرج المؤدي مستحقاً فيكر الساعي عليه.

وهذا بخلاف ما إذا أدى ثم باع، فأصل الخيار لم يثبت، بل الأصل لزوم البيع وانتفاء الخيار، ولو أثبتنا بتوقع الاستحقاق-: هو الخيار- لأثبتناه بالشك. وجميع ما ذكره جار فيما إذا باع جميع الماشية بعد الوجوب وقبل إخراج الزكاة وكذلك الناض والحبوب والمعدن والركاز صرح به الجمهور. وحكى الإمام عن الصيدلاني أنه قال: ما ذكرناه من إبطال البيع في نصيب الفقراء وتخريجه فيما عداه على تفريق الصفقة مخصوص بما إذا كان الواجب جزءاً من المال كالمعشرات أو ربع العشر، فأما إذا كان الواجب حيواناً فهو غير منسوب إلى المال بطريق الجزئية وليس متعيناً حتى يكون بمثابة ما لو باع عبداً مملوكاً وعبداً مغصوباً فالوجه عند الأصحاب القطع ببطلان البيع في الجميع على هذا القول. قلت: وما قاله من أن الواجب من الحيوان ليس بطريق الجزئية- وجه للأصحاب حكاه من قبل مع وجه آخر: أن الواجب في كل شاة من أربعين شاة مثلاً ربع عشرها وللمالك تعيين الأجزاء عند الإخراج في واحدة، وقد حكى الوجهين المتولي- أيضاً-[ثم على] تقدير التسليم كان الوجه أن يقال: إن كان النصاب مختلفاً كما إذا كان صغاراً وكباراً؛ فالحكم كما قال، وإن كان غير مختلف للتساوي في الأسنان وتقارب الصفات؛ كما إذا كان جميعه كباراً أو صغاراً- فيكون في صحة البيع فيما عدا قدر الزكاة وجهان أخذاً من القولين في جعل إبل الدية صداقاً كما سنذكر عن الماوردي ما يقرب من ذلك.

وقال الإمام: الأشهر جعل المسألة التي خالف فيها الصيدلاني على قولين لكن بالترتيب والبطلان في الجميع، وفي هذه الصورة أولى منه بما إذا كان الواجب جزءاً؛ لانضمام شيوع الشاة مع الجهالة بالثمن عند تقدير التوزيع، أما إذا باع ما يفضل عن نصيب الفقراء فقط نظر: فإن باعه مشاعاً بأن قال: بعتك تسعة أعشار هذه الثمرة فلا خلاف في الصحة إلا إذا قلت: إن جميع المال مرهون بقدر الفرض، أو قلنا: إن تعلق الزكاة بالمال كتعلق الجناية [و] إن ذلك يعم جميعه وإن بيع العبد الجاني لا يصح، فإن قياس ذلك المنع في الجميع على طريقة المراوزة، والمشهور: الصحة، وهكذا الحكم فيما وجبت الزكاة في عينه من غير الثمار. ومن صور ذلك: ما إذا قال بعتك هذا المال إلا قدر الزكاة وكان المبيع مما تماثل أجزاؤه: كالحيوان، والدراهم والدنانير، بخلاف ما لو كان البيع مما تفاضل أعيانه ولا تتفاضل أجزاؤه كالماشية؛ فإنه لو قال: بعتك هذه الماشية إلا شاة ولم يشر إليها، فإنه ينظر: فإن كانت الغنم مختلفة الأسنان فكانت صغاراً أو كباراً فالبيع باطل؛ فإن تساوت في الأسنان وتقاربت في الصفات فكان جميعها صغاراً أو كباراً ففي البيع وجهان، أظهرهما في "الحاوي": البطلان أيضاً قال: وهما مخرجان من اختلاف قول الشافعي في جعل إبل الدية صداقاً، وإن وقع البيع على معين مثل: إن أفرز [قدر] نصيب الفقراء وباع الباقي فهل يصح؟ حكى أبو الطيب وغيره من العراقيين فيه طريقين فيما إذا كان المال ماشية أو ناضاً، وأجراهما [البندنيجي] والماوردي فيما نحن فيه، [و] في الحبوب: أحدهما: أن الحكم كما لو باع الجميع؛ لأن قدر الزكاة ليس بمعين وبالعزل لا يتعين وإنما يتعين بدفعه لأهله، وهو كما لو لم يعزلها منه. والثاني: أنه يصح البيع قولاً واحداً؛ لأن قدر الزكاة إذا عزل كان البيع

واقفاً على حقه فصح. قال ابن الصباغ: والأول أقيس؛ لأنه يلزم هذا القائل أن يقول إذا عزل قدر الزكاة من مال آخر: إنه يصح بيع الكل؛ لأن الزكاة لا تتعين عليه فيه. وقد جعل الرافعي الوجهين فيما إذا كان المال ماشية مفرعين على قولنا: إن الزكاة تتعلق بالعين تعلق شركة، وإنهما مبنيان على كيفية ثبوت الشركة، [و] فيه وجهان تقدما. وهذا البناء يخدشه جريانهما في الناضِّ مع أن الشركة فيه بالحرية. وقد ادعى الغزالي تبعاً لإمامه أنه لا خلاف في نفوذ التصرف فيما زاد على قدر الزكاة قبل الجفاف؛ فإن المنع من التصرف في الثمار بالكلية خروج عن الإجماع، وهو خلاف ما درج عليه السلف، وفيه منع الناس من الرطب والعنب فإن تأدية الزكاة لا تقع إلا من التمر والزبيب، وفيه طرف من المعنى: وهو أن مالك الثمار يلتزم بمؤنة تربية الثمار إلى جفافها و [هو] في ذلك [يربي من] حق المساكين فقوبلت هذه المؤنة بإطلاق تصرفه في التسعة الأعشار، وأما بعد الجفاف فهو بمنزلة المواشي. قلت: والجزم بنفوذ التصرف قبل الجفاف يخالفه ما حكيناه عن القاضي الحسين من امتناع التصرف وجعل علة الجواز أفضى بالمنع إلى امتناع الناس من الرطب والعنب؛ فيه نظر من حيث إن الخرص تضمين على الصحيح، أما مع التصريح به أو بدونه [وحينئذ] فالمالك متمكن من التصرف في جميع الثمرة فلا ينسد عليه باب التصرف في الرطب والعنب. نعم ذاك صحيح إذا قلنا: إن الخرص عبرة مجردة؛ فإن رب المال لا يكون له طريق إلى التصرف. وقد جعل الإمام الأول من الوجهين في حالة الجفاف وعدم التمكن من الأداء في جواز التصرف؛ لأنه غير منسوب إلى تقصير في التأخير، فلو سددنا عليه التصرف فيما يزيد على مقدار الزكاة لكان ذلك حجراً مضراً بخلاف ما بعد الوجوب والتمكن، ثم جواز رهن جميع مال الزكاة كبيعه إن قلنا: قولاً تفريق

الصفقة يجريان في رهن ما يجوز وما لا يجوز، وإن قلنا: لا يجريان بل يصح فيما يصح قولاً واحداً- فحيث قلنا في مسألة البيع بالبطلان في نصيب الفقراء وفيما عداه قولان، قلنا ها هنا فيما عداه: يصح قولاً واحداً. قال: وإن باع الثمرة قبل بدو الصلاح، أو باع الماشية قبل الحول فراراً من الزكاة كره ذلك؛ لأن الفرار من القربة مكروه، والشيخ في إطلاق لفظ "الكراهة" في هذه الحالة اتبع الشافعي وجمهور أصحابه، وزاد الماوردي في باب المبادلة بالماشية أنه مسيء بذلك. وقد تفهم هذه اللفظة أنها كراهة تحريم كما اختاره في "المرشد" ولم يحك في "الوسيط" و"الوجيز" غيره اتباعاً للفوراني بأنه جزم بتأثيمه. والذي حكاه الإمام عن الصيدلاني: أنه أطلق لفظ الكراهة، ثم قال: وفي بعض التصانيف: أنه يأثم بذلك، وفي التأثيم احتمال من جهة أنه تصرف يسوغ، ثم إن أثبتناه فموجب الإثم قصده لا محالة. والذي قاله في "البحر" في باب المبادلة: أنه لا يكون عاصياً بذلك، وهو الموافق لما صرح به البندنيجي في باب كيف تؤخذ الزكاة، والماوردي في أثناء كلامه في موضع آخر- أن الكراهة كراهة تنزيه. وقال البندنيجي: إن الإمام الشافعي قال في "الأم": ولو قطع الطلع فراراً من الصدقة كرهناه ولم يجزم بذلك. قال: ولم يبطل البيع؛ لأنه باعه ولا حق لأحد فيه؛ لأن الحق إنما يجب في الثمرة ببدو الصلاح، وفي الماشية بحولان الحول؛ كما تقدم، ولم يوجد ذلك، وقد تقدم أنه لا تجب الزكاة عليه أيضاً في [باب] صدقة المواشي، والفرق بينه وبين المريض إذا طلق في أحد القولين، أما إذا باع ذلك لحاجة لحقته لا لأجل الفرار من الزكاة فلا كراهة، نص عليه. وقال في "الأم": ولذلك أكره له قطع النخل إلا ما أكل أو أطعم أو تخفيفاً من النخل. ولم يخالفه أحد من أصحابه وهو أن مراده بالنخل: الإناث، أما الذكور فلا كراهة في قطع ثمرها مطلقاً؛ لأنه لا زكاة فيها.

باب زكاة الناض

باب زكاة الناض قال أهل اللغة: الناض- بتشديد الضاد-: ما كان [نقداً] من الدراهم والدنانير خاصة، كذا حكاه النووي، ثم قال: وكان ينبغي للمصنف أن يقول: باب زكاة الذهب والفضة كما قال في "المهذب" وكذا الأصحاب؛ ليدخل غير الدراهم والدنانير من صنوف الذهب والفضة. قلت: والذي يظهر أنه لا اعتراض على الشيخ؛ لأن المنقول عن الأزهري أنه قال: الناض ضد العرض. وقد حكى النووي عن أهل اللغة أن العرض جميع صنوف الأموال غير الذهب والفضة، وذاك يدل على أن الناض هو الذهب والفضة مطبوعاً كان أو غير مطبوع، والشيخ في "المهذب" اتبع المزني في التبويب، وهنا لم يتبعه لما ستعرفه في الباب بعده. والنض- بفتح النون-: بمعنى "الناض"، [كذا] حكاه الجوهري وغيره. قال الشيخ- رضي الله عنه-: من ملك نصاباً من الذهب والفضة حولاً كاملاً وهو من أهل الزكاة وجبت عليه الزكاة؛ لعموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، وقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24]،

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] الآية، وقد تقدم الدليل على أن المراد بالكنز في الآية: ما لم تؤد زكاته. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي [منها حقها] إلا [إذا] كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنَّم فيكوى بها جبهته وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له [في يوم] كان مقداره [خمسين] ألف سنة حتَّى يُقضَى بين العباد، فيرى سبيله أمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النَّار". أخرجه مسلم. وحقها: زكاتها، يدل عليه قوله- عليه السلام: "ليس في المال حقُّ سوى الزكاة". وروى البخاري عن أنس في كتاب أبي بكر قال: "وفي الرقة ربع العشر". قال الماوردي: وفي"الرقة" تأويلان: أحدهما: أنها اسم جامع للذهب والفضة. قال ثعلب: وهو أصح التأويلين. والثاني- قاله ابن قتيبة-: أنها اسم للفضة. قلت: وتتمة الحديث تشهد له؛ فإنه قال: "فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس

فيها شيء إلا أن يشاء ربها". ويقال: ورق، ورقة؛ كما يقال: وزن، وزنة، ووعد، وعدة. وسيأتي من الأخبار ما يدل على الوجوب فيهما وهو إجماع الأمة. واحترز الشيخ بذكر الحول الكامل عما إذا ملك ذلك طرفي الحول وحصل نقص في وسطه فقط، أو نقص في آخر الحول فقط؛ فإنه لا زكاة فيه عندنا خلافاً لمالك في الأولى وأبي حنيفة في الثانية، وحجتنا: الخبر المشهور. وبقوله: "وهو من أهل الزكاة"، عمن ليس منها؛ كالمكاتب ونحوه فإنه لا زكاة عليه؛ لما تقدم في أول الباب. وذكر الشيخ هذا هنا، وكذا في زكاة المعدن، وإن لم يذكره في [باب] صدقة المواشي، وزكاة النبات وزكاة العروض والركاز تأكيداً، وسنذكر له فائدة في بعض المواضع، إن شاء الله تعالى. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أموراً: أحدها: أنه لا فرق في وجوب الزكاة على من ذكره إذا ملك نصاباً بين أن يكون ممن لا تصرف له الزكاة أو تصرف له بأن يكون دخله لا يفي بخرجه، وبه صرح الرافعي عند الكلام في كفارة اليمين. الثاني: ضم المال الغائب [عنه] إلى [ما] عنده في إكمال النصاب وكذا الدين إذا قلنا: إنه مملوك على الصحيح، وقد تقدم الكلام في وجوب الزكاة في المال الغائب والدين إذا كان كل منهما نصاباً فحيث قلنا: لا تجب الزكاة فيهما فلا يكمل بهما نصاب الحاضر، وحيث قلنا: تجب فيهما كمل بهما نصاب الحاضر ثم ينظر: فإن كان الغائب والدين يجب إخراج زكاتهما في الحال، ففي مسألتنا يجب إخراج زكاة الحاضر عنده في الحال، وإن قلنا ثم، لا يجب الإخراج في الحال، قال الأصحاب: فهل يجب إخراج الزكاة الحاضر عنده؟ ذلك ينبني على أن التمكن شرط في الوجوب أو لا؛ فإن قلنا: إنه شرط في الوجوب

لم يجب تعجيل الإخراج، فإن الغائب قد يتلف [قبل الوصول إليه ولا يصل] إليه الدين فيمتنع الوجوب وإن قلنا: إنه شرط في الضمان وجب الإخراج. الثالث: ضم بعض أنواع الذهب إلى بعض، وأنواع الفضة إلى بعض في إكمال النصاب؛ لأن اسم "الذهب" يقع على أنواعه النيسابوري والقاساني والهروي، وغير ذلك، وكذا اسم "الفضة" يقعل على أنواعها البيضاء اللينة والسوداء الصلبة وغير ذلك ويتناولهما تناولاً واحداً، وبذلك صرح الأصحاب قياساً على الثمار، وقالوا: يؤخذ من كل نوع بقسطه إذا أمكن من غير مشقة؛ لقلة الأنواع، فلو أخرج عن الجميع من نوع واحد، نظر: فإن كان من النوع الجيد أجزأه وكان أولى، وإن كان من النوع الرديء، أجزأه من ذلك ما قابل الرديء، وكان فيما قابل الرديء أوجه: أحدها: أنه يجزئه مع الكراهة حكاه الإمام عن الصيدلاني وخطأه فيه، واقتصر القاضي الحسين على إيراده. والثاني تجزئه، ولكنه يخرج قيمة ما بينهما ذهبا إن كان المخرج فضة، وفضة إن كان المخرج ذهباً، كما لو أخرج أدنى الصنفين من الحقاق وبنات اللبون. والثالث: أنه يجزئه إن كان تالفاً ويخرج قيمة ما بينهما وإن كان باقياً [لا يجزئه ويسترده، حكاه في "البحر" عن ابن سريج. والرابع- عنه أيضاً-: أنه لا يجزئه ويسترده إن كان باقياً] وقيمته إن كان تالفاً. والخامس- حكاه في "الحاوي" مع الثاني-: أنه لا يجزئه ويكون متطوعاً [به]، وعليه إخراج زكاة الجيد مستأنفاً كما لو أعتق عن الكفارة معيباً. قال في "البحر": والذي يقتضيه مذهب الشافعي أنه ينظر في حاله: فإن كان قد صرح بأنه عن فرضه فله أن يسترجع وإلا فلا؛ لأنه متهم؛ فإنه يجوز أن يكون قد دفع ذلك تطوعاً، وصار كمن عجل زكاته ثم تغير الحال: إن شرط الرجوع رجع، وإن لم يشترط فلا. وإخراج الصحيح عن المكسر جائز، ولا يجوز عكسه، بل يجمع المستحقين

ويصرف لهم الدينار الصحيح أو يسلمه إلى واحد بإذن الباقين. وعن بعض الأصحاب: أنه يجوز أن يصرف إلى كل واحد منهم ما يخصه مكسراً. وعن بعضهم: أنه يجوز ذلك، ولكن مع الصرف بين المكسر والصحيح. [وعن بعضهم: أنه إن لم يكن في المعاملة فرق بين الصحيح والمكسر] جاز أداء المكسر عن الصحيح، أما لو كثرت الأنواع وعسر الإخراج من كل نوع بقسطه، فقد قال جمهور أصحابنا: أخذت الزكاة من أوسطها كما في الثمار، وهذا معزي في "تعليق" القاضي أبي الطيب إلى أبي إسحاق. وقال في "البحر": الصحيح أنه يخرج من كل نوع بقدره أبداً؛ لأن أنواع ذلك لا تكثر ولا تشق [وذلك] بخلاف الماشية؛ لأن هناك يؤدي إلى الإشاعة والإضرار برب المال والمساكين. الأمر الرابع: أنه لا فرق بين أن يكون النصاب مما ذكره خالصاً منفرداً، أو مختلطاً بغيره، وهو ما صرح به الأصحاب، فقالوا: في حال المخالطة إن كان ما خالطهما غشاً والخالص من الذهب أو الفضة نصاباً فأكثر وجبت الزكاة، وكذا لو كان بعض ماله خالصاً وبعضه مغشوشاً وفي المغشوش من الخالص ما يكمل به النصاب وجبت. ثم في الحالة الأولى إذا علم قدر الغش وكان في الجميع متساوياً فأخرج قدر الفرض منه أجزأه. مثال ذلك: إذا كان له أربعمائة درهم قدر الفضة نصفها فالواجب عليه خمسة دراهم خالصة، فإذا أخرج عشرة من المغشوشة أجزأه؛ لأن فيها خمسة خالصة، وإن لم يعلم قدر الغش، فإن استظهر وأخرج زيادة على الواجب أجزأه، ولا يكلف التمييز بين الخالص والغش بالنار وإن لم يستظهر قلنا له: عليك التصفية ليعلم المقدار فيخرج عنه، وهذا إذا كان يخرج بنفسه فإن دفع إلى الساعي وقال له: قد أحاط علمي بالمقدار، وهذا كل الواجب أو أكثره- كان القول قوله مع اليمين استظهاراً؛ لأنه لا يخالف الظاهر. ولو قال للساعي: لا أعرف المبلغ [قطعاً

و] لكني اجتهدت في ذلك، فأدى إليه اجتهادي لم يكن للساعي أن يرجع إليه؛ لأنه لا يلزمه العمل باجتهاد غيره. نعم، قال الماوردي: لو انضاف إلى قوله قول من تسكن النفس إلى قوله من ثقات أهل الخبرة عمل عليهز وفي الحالة الثانية إذا كان معه مائة خالصة ومائتان مغشوشة، والغش قدر النصف- يخرج من الخالص قدر الواجب وهو خمسة مغشوشة أجزأته عن نصف ما عليه وبقي عليه النصف. ولو كان جميع ماله مائتي درهم خالصة لا غش فيها فأخرج خمسة مغشوشة- لا يجزئه عما عليه بجملته بلا خلاف. قال أبو العباس في التفريع على "الجامع الصغير": وعليه أن يخرج خمسة دراهم لا غش فيها، وهل له أن يرجع فيما أخرج؟ على قولين. قال البندنيجي: يعني على وجهين أصحهما في "الرافعي": الرجوع. وقال في "البحر" [عنه]: إنه قال في هذه المسألة مثل ما قال فيما إذا أخرج الرديء عن الجيد، وقد ذكرنا ما يقتضيه مذهب الشافعي. قلت: وفي هذا نظر بل الذي يتجه القطع به أنه يجزئه ما في ذلك من الخالص عما عليه، ويبقى الباقي في ذمته يخرجه من النوع الذي وجب عليه لا من جنس آخر، وكلام صاحب "البحر" يقتضي أنه يخرج عن الذهب فضة وبالعكس فتأمل ذلك. وإن كان المخالط للذهب الفضة وعلم قدر كل منهما، فالحكم كما لو كانا منفردين، ولا يكمل نصاب أحدهما بالآخر. وإن جهل، قال البندنيجي وغيره: فالحكم فيها كالحكم في المغشوش سواء، فإذا أراد زكاة الفضة جعل الذهب فيها كالغش [وإذا أراد إخراج زكاة الذهب جعل الفضة فيها كالغش] حتى يجب عليه التمييز بالنار عند عدم الاستظهار ليعرف المقدار، ويفرق بين أن يخرج بنفسه، وبين أن يدفع للساعي. وقال الإمام بعد حكاية التفرقة عن العراقيين: إن الذي قطع به أئمتنا: أنه لا يجوز اعتماد الظن في ذلك. وذكر عنهم أنهم ذكروا هندسة في الاطلاع على

مقدار الذهب والفضة وغير التمييز بالنار، وأهون منها: أن يسبك مقداراً نزراً من المختلط ويقاس به الباقي، فإن عسر ذلك فالوجه التمييز بالنار والهندسة التي أشار إليها قالها الشيخ أبو زيد حيث قال: ولنا في معرفة ذلك طريقان: إحداهما: أن يطرح المختلط وهو ألف مثلاً في ماء وينظر كم يرتفع الماء ويعلمه في الإناء ثم يرفعه ويطرح من خالص الذهب في ذلك الماء قليلاً قليلاً حتى يرتفع الماء إلى تلك العلامة ثم يرفعه ويزنه، فإذا كان ألفاً ومائتين وضعنا في الماء من الفضة الخالصة قليلاً قليلاً حتى يرتفع الماء إلى تلك العلامة ثم يرفعها ويزنها، فإذا كان ثمانمائة علمنا أن نصف المختلط ذهب ونصفه فضة، وعلى هذه النسبة. والثانية-[وهي التي ذكرها الفوراني]-: أن يلقي المختلط في الإناء حتى يعلوه الماء ويعلمه، ثم يستخرجه ويطرح في الماء قدر زنة المختلط من خالص الذهب حتى يعلوه الماء ويعلمه، وهذه العلامة تكون أسفل من علامة المختلط، ثم يستخرج ذلك. ويطرح في الماء قدر زنة المختلط من خالص الفضة حتى يعلوه الماء ويعلمه، وهذه العلامة تكون أعلى من علامة المختلط [وحينئذ تكون علامة المختلط] بين علامتي الخالص فينظر ما بينهما، فإن كان بين علامة الذهب وعلامة المختلط قدر شعيرة وكذلك بين علامة الفضة والمختلط- علمنا أن نصف المختلط ذهب ونصفه فضة، وإن كان بين علامة المختلط والذهب قدر شعيرتين وبين علامة المختلط والفضة قدر شعيرة علمنا أن ثلثيه فضة وثلثه ذهب؛ ولو كان بالعكس علمنا أن ثلثيه ذهب وثلثه فضة، وهكذا ينظر في النسبة التي بينهما وترتب الحكم عليها. ولو كان المختلط- كما ذكرنا- ألفاً وقد عرف أن مبلغ أحد الخليطين ستمائة، والآخر أربعمائة، ولكن لا يعلم ما هو الأقل والأكثر فأخرج زكاة ستمائة ذهب وستمائة فضة- أجزأه؛ لأن ذلك هو الأحوط ولا يجزئه أن يخرج زكاة أربعمائة فضة وستمائة ذهباً، لاحتمال العكس، والاعتياض عن الزكاة لا يجوز عندنا.

وقال الإمام: ويحتمل أن يجوز الأخذ بما شاء من أحد التقديرين، وإخراج الواجب على ذلك التقدير؛ لأن اشتغال ذمته بذلك غير معلوم. وقد أقام في "الوسيط" هذا الاحتمال وجهاً في المسألة بعد أن قال: المذهب أنه إذا أعسر التمييز أخرج زكاة ستمائة من الذهب وستمائة من الفضة؛ ليخرج عما عليه بيقين. وقال العراقيون: إن غلب على ظنه أن الأكثر الذهب أو الفضة عمل به إذا فرق بنفسه، وإن كان يدفع إلى الساعي فالساعي لا يعمل بظنه، وفيه ما تقدم. قال: ونصاب الذهب عشرون مثقالاً، وزكاته نصف مثقال، وفيما زاد بحسابه، ونصاب الورق مائتا درهم وزكاته خمسة دراهم، وفيما زاد بحسابه. لما روى أبو داود عن عاصم بن ضمرة والحارث [الأعور] عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث طويل: "فإذا كان لك مائتا درهمٍ وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيءُ- يعني: في الذَّهب- حتَّى يكون لك عشرون ديناراً، فإذا كانت لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول، ففيها نصف دينارٍ، فما زاد [فبحساب ذلك] " قال: فلا أدري أعلى يقول: "فبحساب ذلك- أو يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ - وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول". قال عبد الحق في "الأحكام": وما ذكر من الاعتراض على من أسند هذا الخبر وهو جرير؛ لأنه جمع فيه بين الحارث الأعور وعاصم، والحارث الأعور كذاب ولم يذكر الحول، وعاصم ثقة لكنه لم يسنده بل أوقفه [على] علي- كرم الله وجهه- وكذلك كل ثقة أوقفه عليه، فلا حجة فيه؛ فهو مندفع بأن جريراً أسنده عنهما وهو ثقة. وقد أسنده [أيضاً] أبو عوانة [عن عاصم بن ضمرة عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في زكاة الورق، وأبو عوانة] ثقة.

وأما قوله: "فبحساب ذلك"، فقد أسنده زيد بن حبان، عن أبي [إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواية البخاري عن] أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[في زكاة الورق] قال: "ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة". والأوقية: أربعون درهماً يدل عليه قول عائشة- رضي الله عنها-: "كان صداق أزواج [رسول الله]- صلى الله عليه وسلم - اثني عشر أوقية ونشأ، أتدرون ما النش؟ النَّشُّ: نصف أوقيَّةٍ عشرون درهماً". وجمع الأوقية: أواقٍ بالتخفيف، وأواقي بالتشديد. ولا فرق في عدم الوجوب عند النقص عن النصاب بين الكثير والقليل، حتى الحبة الواحدة ودونها، وإن راج الناقص [رواج الكامل للمسامحة، أو لجودة الجوهر لما ذكرناه؛ ولأن الرائج الناقص] لو قام مقام الكامل لوجب مثله في جميع النصب، وفيما يخرجه من حق المساكين حتى يقال: لو أخرج نصف مثقال، أو خمسة دراهم إلا حبة أو أقل منها يجزئه ذلك، ولقيل في الربا: إذا باع درهماً بدرهم إلا حبة يجوز، وقد أجمعنا مع الخصم- وهو مالك- على فساد

ذلك- وهو قادح فيما نازع فيه. نعم، لو كان يبلغ نصاباً في بعض الموازين وفي بعض ينقص عنه ففي الوجوب وجهان في "العدة": أصحهما: عدم الوجوب، وهو الذي أورده المحاملي، وقطع به الإمام أيضاً بعد أن حكى عن الصيدلاني الوجوب. تنبيه: المثقال: وزنه ثنتان وسبعون حبة من حب الشعير الممتلئ غير الخارج عن مقادير حب الشعير غالباً. الورق: بفتح الواو وكسر الراء، ويجوز إسكان الراء مع فتح الواو وكسرها. قال [الأكثرون من] أهل اللغة: هو مختص بالدراهم المضروبة، وقال جماعة: يطلق على كل الفضة وإن لم تكن مضروبة. وهو الذي أورده البندنيجي، وهذا مراد المصنف. قال النووي: ولو قال: ونصاب الفضة لكان أحسن، والدرهم المعتبر هاهنا وزنه ستة دوانيق يعدل العشرة منه سبعة مثاقيل، وقد كان في الجاهلية دراهم مختلفة بغلية، وطبرية وغيرهما، وغالب ما كانوا يتعاملون به من أنواع الدراهم في عصره- عليه السلام- والصدر الأول بعده. نوعان: أحدهما: الطبرية: زنة كل درهم منها ثمانية دوانيق. والآخر البغلية: وهي منسوبة إلى ملك يقال له: رأس البغل، زنة كل درهم أربعة دوانق. قال في "البحر" تبعاً للبندنيجي: حكاية عن رواية أبي عبيد القاسم بن سلام-: وكانت الزكاة تجب في صدر الإسلام في مائتين منهما، فلما كان في زمني بني

أمية، أرادوا ضرب الدراهم فنظروا في المتعقب، فإن هم ضربوا من البغلية أضر [ذلك] بالمساكين، وإن هم ضربوا من الطبرية أضر ذلك بأرباب الأموال، فجمعوا بين الدرهمين وقسموهما درهمين. قيل: والفاعل لذلك زياد بن أمية. وقيل: الحجاج في أيام عبد الملك. ونقل الماوردي: [أنه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه]. وقال ابن سريج: الدراهم: ما اختلفت في قديم الدهر وحديثه، وكذلك المثاقيل بل كان المثقال، ما ذكرناه، والدرهم: ستة دوانيق تعدل كل عشرة منها سبعة مثاقيل. والمشهور الذي حكاه الشيخ أبو حامد وغيره: أن المثقال لم يختلف كما قال: وأن الدرهم كان مختلفاً كما ذكرنا. قال في "البحر" تبعاً للبندنيجي: وهو المذهب، بدليل أن الشافعي قال: "فإذا بلغ الورق خمس أواقٍ وذلك مائتا درهم بدراهم الإسلام .. إلى آخره". فقوله: "بدراهم الإسلام" يدل على أن هناك غيرها. قلت: وهذا لا حجة فيه؛ لأنه قال في تتمة كلامه: "وكل عشرة دراهم من دراهم الإسلام وزن سبعة مثاقيل ذهب بمثقال الإسلام"، ومعلوم أن المثقال لم يختلف وكما لم يختلف المثقال لم يختلف الدانق؛ لأنه كان من الدرهم الصغير ربعه ومن الكبير ثمنه. قال في "البحر": وإنما جعل كل عشرة دراهم بوزن سبعة مثاقيل من الذهب؛ لأن الذهب أوزن من الورق فكأنهم جربوا حبة من الورق، ومثلها من الذهب، فوزنوهما فكان وزن الذهب زائداً على وزن الفضة مثل ثلاثة أسباعها فلذلك جعلوا كل عشرة دراهم بوزن سبعة مثاقيل. والاعتبار فيما ذكرناه بوزن مكة؛ لقوله عليه السلام: "الميزان ميزان أهل مكة".

قال: وإن ملك حليا، أي: من ذهب أو فضة أو منهما، معداً لاستعمال مباح لم تجب الزكاة فيه في أحد القولين، وتجب في الآخر، وهذان القولان أومأ إليهما الشافعي في "الأم" كما قال البندنيجي وغيره. وقال الفوراني: إنه نص على الأول منهما في الجديد، وعلى الثاني في القديم. وقال القاضي أبو الطيب وغيره: إنه نص في القديم و"مختصر" البويطي على الأول منهما، وعلق في الجديد القول في الثاني. قال القاضي أبو الطيب: واتفق الأصحاب على إجزائهما في المسألة، وأن الصحيح الأول، ووجهه: ماروى جابر وابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ليس في الحلي زكاة". وكذا قاله الماوردي. [و] روى الشافعي عن عائشة: "أنها كانت تحلِّي بنات أخيها أيتاماً في حجرها فلا تخرج منها الزكاة". وروي عن ابن عمر أنه "كان يحلي بناته وجواريه الذهب ثم لا يخرج زكاته". ولأنه معد لاستعمال مباح؛ فلم تجب فيه الزكاة كالمواشي العوامل. ووجه الثاني: ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: "أنَّ امرأةً أتت

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنةُ لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرُّك أن يسورك الله بهما يوم القيامة بسوارين من نارٍ؟ وما روي عن عائشة قالت: "دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى في يدي فتخاتٍ من ورقٍ، فقال: ما هذا يا عائشة فقلت: صنعتنَّ أتزيَّن لك [بهن] يا رسول الله، قال: أتؤدِّين زكاتهنَّ؟ قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: هو حسبك من النَّار" أخرجهما أبو داود. والمسكة- بالتحريك-: السوار من الذبل. والفتخة- بالتحريك- جمعها: فتخات، بفتحتين: حلقة من فضة لا فص فيها، فإذا كان فيها فص فهو الخاتم. وقال عبد الرزاق: هي الخواتم العظام. وقيل: هي خواتم عراض الفصوص ليست بمستقيمة.

وقيل غير ذلك. ولأن الحلي من جنس الأثمان؛ فكانت الزكاة واجبة فيه قياساً على الدراهم والدنانير. قال الإمام: ولا يخفى على ناظر في وجه الرأي أن هذا القول هو الأصح في القياس، والقائلون بالأول قالوا: هذه الأخبار متكلم في رواتها؛ حتى قال الترمذي: إنه لا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء. ولو صحت فهي منسوخة؛ لأن لبس الحلي من الذهب كان محرماً على النساء لأخبار دلت عليه ثم نسخ وأبيح لهن فسقطت فيه الزكاة .. وكذا قاله أبو الطيب. والحلي من الفضة فقد ذكرنا أن عائشة كانت لا تخرج زكاته وهي راوية المنع وهي لا تخالف الرسول إلا فيما علمته منسوخاً، كذا قاله البيهقي. قال ابو الطيب: وجواب آخر: وهو أن الزكاة المذكورة في الأخبار محمولة على إعارة الحلي، لأنه روي عن [ابن] عمر وجابر وغيرهما أنهم قالوا: زكاة الحلي إعارته. وذكر الماوردي هذا عن [رسول الله]- صلى الله عليه وسلم - وتوعده عليها بالعقاب- وإن كانت غير واجبة- حث عليها كما في قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]. والجواب عما ذكر من القياس: أن كونهما من جنس الأثمان لا يدل [على] أن الزكاة تجب فيهما؛ ألا ترى أن الماشية المعلوفة من جنس السائمة وحكمهما مختلف، وقد جعل الغزالي مأخذ الخلاف في الوجوب وعدمه مأخوذاً من أن مناط الوجوب في الذهب والفضة معناهما، وهو الاستغناء [عنهما] في عينهما؛ [إذ لا يرتبط بذاتهما غرض فبقاؤهما شبه يدل على الغنى، أو عينهما] كما في الربا؟ وفيه قولان:

فعلى الأول: لا تجب في الحلي المباح، قال في "الوسيط": وهو الجديد. وعلى الثاني: تجب: وإذا قلنا به: فكان زنة الحلي مائتي درهم، وقيمته ثلاثمائة درهم- فقد قال الأصحاب كأبي الطيب وابن الصباغ وغيرهما: يتخير المالك بين أن يعطي ربع عشره مشاعاً يقبضه الساعي ويبيعه منه أو من غيره إن رأى ذلك، وبين أن يخرج خمسة دراهم فضة مضروبة، أو مضاعفة قيمتها مثل قيمة ربع عشره. وفي "الحاوي": نسبة هذا القول إلى ابن سريج، والبندنيجي نسب إليه الجواز فيما إذا [أراد] إخراج خمسة دراهم تساوي سبعة ونصفاً من نقد البلد؛ لأنه موضع ضرورة، وقال: إن الشيخ أبا حامد قال: لا يجوز ذلك عندي؛ لأنه إخراج قيمة في الزكاة، ولا يجوز إخراج خمسة دراهم من نقد البلد، ولا أن يخرج منه سبعة دراهم ونصفا؛ لأنه ربا ولا يجوز أن يكسر منه خمسة دراهم فيعطيها؛ لأن في ذلك إضراراً به وبالفقراء. وقد حكى القاضي أبو الطيب وغيره عن ابن سريج: [أنه قال]: يجوز له أن يعطي قيمة ربع عشره من الذهب؛ للضرورة. قال القاضي أبو الطيب: وهذا فيه نظر؛ لأن الشافعي لم يجوز إخراج قيمة العشر في الرطب الذي لا يجفف فمسألتنا مثله. وقال الشيخ أبو حامد: لا يجوز عندي ما قاله ابن سريج؛ لأنه أخذ القيمة في الزكاة ويمكن أن يسلم إليه ربع عشره ثم يعطيه قيمته فيجوز وجهاً واحداً، وقد اختاره في الحاوي. [وحكى الرافعي] وجها: أنه يجوز أن يعطي خمسة دراهم إما منه أو من غيره، ولا اعتبار بصنعته ولا معول على قيمته؛ لأن الزكاة إذا وجبت في الحلي، إنما تجب في عينه لا في قيمته؛ ألا ترى أنه لو كان وزن الحلي دون النصاب وقيمته نصاباً لا تجب فيه الزكاة، [ولأن زيادة القيمة في مقابلة الصنعة وليست الصنعة عيناً تجب فيها الزكاة] فلم يجز اعتبارها ولا يمكن إلحاق ذلك

بالضرب في الدراهم والدنانير حيث قلنا: إذا كان معه مائتا درهم مضروبة لم يجز أن يعطي خمسة دراهم غير مضروبة؛ لأن ضرب الدراهم والدنانير وطبعها أقيم مقام صفات الجنس من الجودة والرداءة؛ لجواز ثبوته في الذمة كثبوت ضمان الجنس، ولا كذلك الحلي، ويشهد لذلك: أن من أتلف على غيره دراهم [مضروبة] لزمه مثلها ولو أتلف حلياً مصوغاً لم يلزمه مثله مصوغاً. قلت: وامتناع أخذ سبعة ونصف من غير الحلي مفرع على الجديد في أن الفقراء ملكوا من المال قدر الفرض، وعلى القول بثبوته في الذمة؛ لأن محذور الربا قائم فإنها إذا ثبتت في الذمة ثبتت بتلك الصفة. ثم على قياس مذهب ابن سريج في جواز أخذ القيمة عن الفرض للضرورة يظهر جواز أخذ سبعة دراهم ونصف إذا كان نقد البلد دراهم كما نقول فيما إذا أتلف حلياً من ذهب ونقد البلد ذهب فإنه يجوز أخذ قيمته ذهباً، وإن زادت على وزنه على الأصح كما ستعرفه في باب الغصب، وبه صرح القاضي الحسين هنا، وقال: إن من قال بمقابله أخذه من قول الشافعي في الصداق: إذا أصدقها إناءين فانكسر أحدهما، يقوم [بالذهب إن كان فضة، وبالفضة إن كان ذهباً]. وما ذكرناه في كيفية أخذ زكاة الحلي جار في كيفية أخذ زكاة الآنية من الذهب أو الفضة إذا قلنا بجواز اتخاذهما، أما إذا قلنا بمنعه كانت كالسبائك والنقار، صرح به البندنيجي وغيره. قال: وإن كان معداً لاستعمال محرم، أو مكروه، أو للقنية، أي محرمة كانت أو مكروهة، أو مباحة- وجبت فيه الزكاة ووجهه في الأولى: الإجماع كما قال الرافعي، وفي الثانية: أنه عدل به عن أصله بفعل غير مباح فسقط حكم فعله وبقي على حكم الأصل وهو وجوب الزكاة. وفي الثالثة: أنه مستغنى عنه ومرصد للنماء فهو كغير المصوغ، وهذا هو المشهور. وللإمام احتمال في منع الوجوب في المعد للاستعمال [المحرم نذكره في آخر الباب وجوابه.

ولصاحب "التهذيب" احتمال في إلحاق المعدة للاستعمال] المكروه بالمباح حتى يجري فيه القولان، وفي المعد للقنية المباحة وجه نذكره في التفريع، إن شاء الله تعالى. أما إذا ملك حلياً من جوهر نفيس أو لؤلؤاً أو عنبراً ونحو ذلك فلا زكاة فيه، والتحلي به جائز للرجال والنساء. [نعم، يمنع الرجال من لبس ما له تشبه بالنساء] منع كراهة، كما سنحكيه عن النص. واعلم أنه قد بقي من أحكام المسألة: المتخذ عارياً عن قصد الاستعمال والقنية مع كون استعماله مباحاً ولا شك في وجوب الزكاة فيه إن قلنا: بوجوبها في المعد للاستعمال المباح، وإن قلنا: لا تجب فيه، فهل تجب هاهنا؟ فيه وجهان حكاهما المراوزة: أحدهما: الوجوب؛ لأن اسم "الزكاة" منوط باسم "الذهب" و"الفضة"، و [لا ينصرف] إلا بقصد الاستعمال ولم يوجد. قال الإمام: وهذا هو الجاري على القاعدة. والثاني: المنع؛ لأن الزكاة إنما تجب في المال النامي، والنقد وإن لم يكن نامياً بنفسه لكنه ألحق بالناميات، لكونه مهيأ للإخراج، وبالصياغة بطل التهيؤ. قال في "العدة": وهذا ظاهر المذهب. قلت: وعلته تقتضي عدم الوجوب في المتخذ للقنية المباحة، وفي النقار والسبائك، ولا قائل به في النقار والسبائك. نعم قد قيل به في المتخذ للقنية المباحة. وقال الإمام: إنه غير معتد به فلا جرم كان الجمهور على الوجوب فيه قولاً واحداً، والمتخذ لقصد الاستعمال المباح إذا انكسر. وقد قال الأصحاب فيه: إن لم يمنع الكسر من استعماله من غير حاجة إلى إصلاح فهو كالصحيح، وإن كان بحيث لا يمكن استعماله إلا بإعادة سبكه ففيه طريقان حكاهما البندنيجي وتبعه في"البحر":

إحداهما- عن أبي إسحاق-: القطع بالوجوب، وهي التي أوردها القاضي أبو الطيب والماوردي وابن الصباغ [والرافعي]. والثانية: إلحاق ذلك بالحالة التي سنذكرها وهي ما إذا كان لا يحتاج في استعماله إلى سبكه، بل إلى لحام ونحو ذلك، والحكم فيها: أن المالك إن لم يقصد به شيئاً بعد الكسر كان في وجوب زكاته- على قولنا: لا زكاة فيه- في حال صحته قولان: قال البندنيجي: أحدهما- وهو ما يقتضيه نصه في "الأم"-: عدم الوجوب والثاني- وهو الذي يقتضيه تعليله في القديم-: الوجوب؛ ولأجل ذلك قال في "البيان": إن الأول هو الجديد، والثاني هو القديم. وقال في "الحاوي": إن الذي نص عليه الشافعي منهما الأول، والثاني قاله الأصحاب وبه جزم الفوراني وبعضهم أثبت الخلاف في المسألة وجهين. وإن قصد المالك بعد كسره إعادته إلى ما كان عليه، ففيه طريقان: إحداهما- وهي التي أوردها البندنيجي، وابن الصباغ، وأبو الطيب-: أنه كالصحيح؛ ففي زكاته القولان. والثانية: إلحاق ذلك بالحالة قبلها. وعند الاختصار يجيء في مجموع المسألة أربعة أوجه: أحدها: الوجوب مطلقاً. والثاني: المنع مطلقاً. والثالث: الوجوب فيما إذا لم يمكن الانتفاع به إلا بعد تجديد سبكه وعدمه، فيما إذا أمكن بدون ذلك. والرابع: الوجوب عند عدم قصد الإعادة، والمنع عند وجود القصد. وعلى هذا: لو لم يشعر به المالك إلا بعد سنة فقصد الإصلاح فوجهان: الأصح في "الوسيط": عدم الوجوب. ولا خلاف فيما إذا قصد جعله تبراً أو دراهم في الوجوب؛ لأن بهذا القصد تبين أنه كان مرصداً له.

وقصد الاستعمال المباح والمحرم والمكروه والقنية وغيره إذا طرأ في أثناء الحول كالمقارن بالنسبة إلى وجوب الزكاة وعدمها من حين طروء القصد، لا بعده صرح به الأصحاب. قال الإمام: وقد جرى في أثناء كلام صاحب "التقريب" ما يدل على أن الحلي المباح على قول إسقاط الزكاة فيه لا يعود إلى الحول ما لم يقصد صاحبه رده إلى التبرية حتى لو قصد إمساكه حلياً من غير كسر فلا زكاة. وقد آن ذكر ما هو مباح الاستعمال من الحلي، والمحرم منه، والمكروه؛ إذ به يحصل ثمرة ما تقدم، فنقول: الحلي- بفتح الحاء وإسكان اللام-: مفرد، وجمعه: حُلُّي بضم الحاء وكسرها، قرئ بهما في السبع، والأكثرون على الضم، واللام مكسورة الياء مشددة فيهما. وهو ثلاثة أنواع: منه ما يحل للرجال ويحرم على النساء، ومنه ما يحل للنساء ويحرم على الرجال، ومنه ما يستويان فيه من الإباحة والتحريم: فالنوع الأول- ما يحل للرجال خاصة: وهو المنطقة المفضضة، والسيف الذي قبضته ونصله وحلقته فضة، وكذا كل سلاح مباح حلي بالفضة، مثل: السهم، والرمح، والطير، وما أشبه ذلك، والدرع، والجوشن، والخوذة، والخف. وهل يلتحق بذلك تحلية لجم الخيل، والسرج والمقود، ونحو ذلك مما يحلى به الفرس من الفضة؟ فيه وجهان: المنسوب منهما لابن سلمة: الحل. وفي "المهذب": نسبة مقابله إلى النص. وغيره قال: إنه الذي يقتضيه نص الشافعي، وإليه ذهب ابن سريج، وأبو إسحاق، وعامة أصحابنا؛ لأن ذلك حلية للفرس لا لراكبه، بخلاف ما ذكرناه فإنه حلية للراكب، وإنما قالوا: إن ذلك هو الذي يقتضيه النص؛ لأنه نص في "المختصر" على أنه: "إذا كان له فضة ملطوخة على لجام فعليه إخراج الصدقة عنها"، وهكذا ذكر في "البويطي"، ومذهبه فيه أن

الحلي المباح لا زكاة فيه؛ فدل على أن ذلك محرم. قال الرافعي: "ورأيت كثيراً من الأئمة قطعوا في تصانيفهم بتحريم القلادة للدابة. وهذا يكون وجهاً ثالثاً في المسألة، وقد أجري الخلاف في الركاب وفي برة الناقة من الفضة. قال في "الذخائر": ولا يجوز تحلية لجام البغلة والحمار وجهاً واحداً، وكذا السرج؛ فإنهما لا يعدان للحرب. وقد ألحق بعض المراوزة سكين المهنة بسكين الحرب، وأجراه في "التهذيب" في سكين الداوة والمقارض، وهو الذي أجاب به الشيخ أبو محمد في "مختصر المختصر". قال الإمام: وعلى هذا الخلاف يثور عندي اختلاف في النساء، فإن رأينا في حق الرجال أن يلحق سكين المهنة بآلات الحرب- منعناها النسوة، وإن قطعناها عن آلات الحرب-[أي] فحرمناها على الرجال- ففيه احتمال في حق النساء، والذي أورده العراقيون والمحققون: المنع في حق الرجال. وهذا كله في المحلى بالفضة كما ذكرنا، أما لو حلي بالذهب فهو حرام عند الفريقين، لما روي أنه عليه السلام "خرج يوماً وعلى إحدى يديه قطعة ذهب، وعلى الأخرى قطعة حرير، وقال: هما حرام على ذكور أمتي، حل لإناثهم. نعم، ترددوا في مسألتين: إحداهما: اتخاذ سنة أو سنتين من الذهب لخاتم من الفضة، هل يجوز؟

الذي أورده الأكثرون: لا. وقال الإمام من عند نفسه: لا يبعد تشبيه القليل منه بالضبة الصغيرة في الأواني، وتطريف الثوب بالحرير. قال الرافعي: وللأكثرين أن يقولوا: الخاتم ألزم للشخص، واستعماله أدوم؛ فجاز الفرق بين أسنانه وبين الضبة. وأما التطريف بالحرير فأمر الحرير أهون؛ لأن الخيلاء فيه أدنى. الثانية: تمويه حلي الفضة السائغ استعماله بذهب لا يتحصل منه شيء عند العرض على النار، والمذكور في "الوسيط": الجواز، ومقابله هو الذي أجاب به العراقيون هنا. وما عدا ما ذكرناه ونحوه من حلي الذهب حرام إلا المنسوج بالذهب إذا فاجأته الحرب ولم يجد غيره للضرورة كما سنذكره، ومن الفضة يجوز منه الخاتم كما سنذكره؛ لأنه عليه السلام "كان له خاتمُ من فضَّةٍ منقوشُ عليه: محمَّدُ رسول الله"، وما عداه لا يجوز عند الجمهور. وفي "التتمة": أنه إذا جاز للرجل التختم بالفضة فلا فرق بين الأصابع وسائر الأعضاء، كحلي الذهب في حق النساء، فيجوز للرجل لبس الدملج في العضد، والطوق في العنق، والسوار في اليد وغيرها. وبهذا أجاب الغزالي في "الفتاوى"، وقال: لم يثبت في الفضة إلا تحريم الأواني، وتحريم الحلي على وجه يتضمن التشبه بالنساء، [وقد استدل الأصحاب على تحريم تحلية آلات الحرب بالذهب والفضة على النساء، بأن في استعمالهن لها تشبيهاً بالرجال.

واعترض عليهم صاحب "المعتمد"، وقال: آلات الحرب من غير أن تكون محلاة إما أن يجوز للنساء استعمالها ولبسها أو لا يجوز، الثاني: باطل؛ لأن كونه من ملابس الرجال لا يقتضي التحريم، إنما يقتضي الكراهة؛ ألا تراه قال في "الأم": "ولا أكره للرجال لبس اللؤلؤ إلا للأدب، وأنه من زينة النساء، لا للتحريم"، فلم يحرم زي النساء على الرجال، وإنما كرهه، وكذلك حكم العكس، وأيضاً: فإن الحرب جائز للنساء في الجملة، وفي تجويز الحرب تجويز استعمال آلات الحرب، وإذا ثبت جواز استعمالها وهي غير محلاة فمحلاة أولى؛ لأن التحلي لهن أجوز منه للرجال، وبتقدير ألا يجوز لهن استعمالها وهي غير محلاة فلا يكون التحريم بأسباب التحلية؛ فلا يحسن تعليقه بها. قلت: لكن لقائل أن يقول: النسوة إنما أبيح لهن التحلية لما فيها من التزين الحامل لأزواجهن على الاستمتاع بهن وهو في حالة الحرب لا يليق بهن لكونه داعياً إلى ذلك في حق الأجانب؛ فلا يسلم رجحانه على الرجال بل هن دونهم فيه، وقد ادعى في "الروضة": أن تشبه الرجال بالنساء وعكسه حرام؛ للحديث الصحيح: "لععن الله المتشبهين بالنساء من الرجال، والمتشبهات بالرجال من النساء" [وأما ما نصه في "الأم" فليس مخالفاً لهذا؛ لأن مراده أنه من جنس زي النساء]. والنوع الثاني- ما يحل للنساء خاصة: وهو: التاج الذي جرت عادة النسوة به، والطوق، [والدملج والأسورة المعتادة] من الذهب والفضة، والحلق في الأصابع من الذهب، وفي الأذنين

منهما، والخلخال المعتاد، وغير ذلك من الذهب والفضة مما جرت عادتهن بلبسه، وفي السوار الثقيل والخلخال الثقيل الخارج عن العادة في الوزن وجهان في "التهذيب". وجه المنع- وهو الذي ذكره معظم العراقيين والمتولي-: أن المباح لهن ما تتزين به ولا زينة في ذلك. قال الرافعي والإمام: وهو جار في إسراف الرجال في تحلية آلات الحرب. ومقابله: مقيس على جواز اتخاذ أساور كثيرة وخلاخل ليلبس واحداً؛ بعد واحد فإن ذلك جائز. وعن ابن عبدان: أنه ليس لهن اتخاذ زر القميص، والفرجيَّة من الفضة والذهب. قال الرافعي: [ولعل] هذا جواب على الوجه الذي يقول: لا يجوز لهن لبس المنسوج بهما، وهل يجوز لهن لبس النعال من الذهب والفضة؟ فيه وجهان: المذكور منهما في "الحاوي": المنع. ومقابله: منسوب للقاضي الحسين. قال في "الحاوي": وما أبحناه لهن هل يتجه للأطفال الذكور؟ فيه وجهان. وقد حكاهما غيره. قال الرافعي: ويجيء فيهم الوجه الثالث الذي ذكرناه في إلباسهم الحرير. والخنثى المشكل في تحريم ما أبحناه للمرأة، كالرجل لجواز أن يكون رجلاً. وقال المتولي: يجوز له لبس حلي الرجال والنساء معاً؛ لأنه كان [له] لبسهما في الصغر فيستصحب إلى الزواج. قلت: وهذا منه بناء على جواز لبس حلي النساء للذكر الصغير، وكلامه

يقتضي أيضاً: أن ما حرمنا لبسه على النساء من آلة الرجال [نبيحه] للأطفال من الإناث، وإلا لما كان يجوز للخنثى جواز حلي الرجل؛ حذراً من أن يكون أنثى. والنوع الثالث: ما يشترك فيه الرجال والنساء: فيباح لهم: خواتم الفضة، واتخاذ الأنف من الفضة والذهب إذا جدع، وكذا الأنملة منهما، دون اتخاذ الكف والأصبع من الذهب أو الفضة؛ لأنه لا يعمل ولا ينتفع به، والأنملة ينتفع بها. وفي "الروضة" وجه عن رواية القاضي الحسين وغيره: أنه يجوز أن تتخذ اليد والأصبع من الذهب والفضة. ويجوز لهما ربط السن بالذهب والفضة عند تقلقلها؛ اقتداء بعثمان رضي الله عنه. وفي جواز تحلية المصحف بالفضة قولان أومأ إليهما في "حرملة" كما قال البندنيجي. وقال غيره: إن في "سير" الواقدي: ما يدل على الحظر، وفي القديم والجديد ما يدل على الجواز؛ ولذلك قال الكرخي: في المسألة قولان، وبعضهم أثبت الخلاف في المسألة وجهين، فإن جوزناه- وهو الذي أورده الماوردي وأبو الطيب- ففي جوازه بالذهب وجهان: أصحهما في "الحاوي": الجواز أيضاً وبه أجاب الشيخ أبو محمد في "مختصر المختصر" والفوراني، وهو المذكور في "فتاوي" الغزالي حيث قال: من كتب القرآن بالذهب فقد أحسن ولا زكاة عليه. وعلى هذا فلا بأس بتحلية المصحف بالذهب وتزيين الكعبة بالذهب والحرير ما لم ينسب إلى الإسراف. والذي أورده القاضي أبو الطيب: منع الرجال من تحلية المصحف بالذهب. وعند الاختصار يجيء في المسألة ثلاثة أوجه: ثالثها يجوز بالفضة، ولا يجوز بالذهب.

وقال البندنيجي: إن الثالث: لا يجري في المرأة. وهو ما قاله الغزالي: حيث حكى في جوازه بالفضة وجهين، وفي جوازه بالذهب ثلاثة أوجه، ثالثها: يجوز للنساء دون الرجال. قال الرافعي: وكلام الصيدلاني والأكثرين إلى هذا أميل. وذكر صاحب "التقريب": أن بعض أصحابنا جوز تحلية نفس المصحف دون غلافته المنفصلة عنه، ثم زيفه، وقال: إنه لا فرق، ولذلك قال الرافعي: الأظهر التسوية. قال الإمام: [فإذن] عندي في غلاف المصحف إذا لم يكن متصلاً به- تردد أخذاً من اختلاف الأصحاب في أن المحدث هل يمس غلافة المصحف أم لا؟ وهل يجوز للرجال والنساء تمويه الكعبة وسائر المساجد [بالذهب والفضة؟ فيه وجهان في "الحاوي" يجري مثلهما في تحلية الكعبة وسائر المساجد] بقناديل الذهب والفضة، كما حكاه الرافعي: فالمنع في الأولى هو الذي أورده البغوي، وقال القاضي أبو الطيب: إن الشافعي نص عليه ولم يحك غيره. وقال الإمام: إن العراقيين حكوه عن أبي إسحاق ولم يذكروا غيره، ولم أعثر على خلاف هذا أنقله وليس يخفى وجه الاحتمال. والمنع في الثانية هو الذي حكاه الغزالي تبعاً لإمامه عن رواية العراقيين عن أبي إسحاق. وقال الغزالي: لا يبعد مخالفته؛ حملاً على الإكرام كما في المصحف، أو لأن الأصل في الفضة الإباحة إلا في الأواني، وفي الذهب الإباحة إلا على ذكور الأمة، وليس هذا من تحلي الذكور. قلت: وقضية التوجيه الأول: جواز تمويه محراب المسجد بالذهب والفضة، وقد حكينا عن نص الشافعي وغيره منعه، وقال الإمام: إنه لم يعثر على خلافه.

وقضية التوجيه الثاني: جواز تمويه سقف البيوت [وجدرانها] بالذهب والفضة، ولم يختلف الأصحاب في منعه، وإذ قد بطل ذلك لزم إبطال ما ذكره إن قلنا: إن من شرط العلة الاطراد. والمشهور: أنه يحرم على الرجال والنساء تحلية غير المصحف من الكتب بالذهب والفضة، كما لا يجوز تحلية الدواة، والمحبرة، والمقلمة، والمرآة، والسرير للدواة. وحكى في "النهاية" عن شيخ الإمام أنه قال: من فصل بين الرجال والنساء في تحليةل المصحف يتطرق إليه أن يجوز لهن تحلية كتب يتعاطينها، لاعتقادهن [ذلك] حلية في حقهن، وهذا بعيد لم يقل به أحد وبه يتبين أن الأولى رفع الفرق بين الرجال والنساء في تحلية المصاحف، وقد حكى البغوي وجهاً في جواز تحلية الدواة والمقلمة والمرآة بالفضة، وبه أجاب في "مختصر المختصر". ولا شك في تحريم التاج الذي لا يلبسه إلا عظماء الفرس على الرجال والنساء. وهذا ما حصرنا فيما يحل لمن ذكرنا ويحرم عليه. والمكروه لكل من الفريقين: ما يجوز استعماله من غير الذهب والفضة إذا ضبب بالفضة القليلة لغير الحاجة، أو الكثيرة للحاجة، دون ما إذا ضبب بالفضة

من غير حاجة أو ضبب بفضة كثيرة؛ فإنه محرم على الأصح كما هو مذكور في باب الآنية. والمضبب بالذهب من الأواني [إن] أبحناه كان كالمضبب بالفضة، وإن منعناه كان من المعد لاستعمال محرم، وكذا المضبب من غير الأواني بالنسبة إلى الرجال، وبالنسبة إلى النساء يكون فيما يحرم عليهن استعماله إذا كان خالصاً كالمضبب بالفضة من الأواني كذا يظهر لي، ولم أعثر فيه على نقل. والقنية المحرمة: قنية المضبب، والمحلى من آلات الملاهي. والقنية المكروهة قنية ما يحرم من استعماله من الحلي على الرجال والنساء، إذا اتخذ لأجل القنية، إن لم نقل بتحريم الاتخاذ. والقنية المباحة: اقتناء ما يباح استعماله من الحلي. وقد جعل بعضهم ما يكره اقتناؤه: آنية الذهب والفضة إذا اتخذت للقنية، وقلنا: لا تحرم قنيتها؛ فإنها مكروهة. ولا شك في أن اقتناءها مكروه، والحكم فيها كما ذكرنا، لكنه لا يمكن أن يصور بذلك كلام الشيخ؛ لأن الكلام في الحلين وآنية الذهب والفضة ليست من الحلي، فإن كانت منه استقام ما ذكرناه والله أعلم. وإذ قد عرفت ما يحرم استعماله، ويباح، ويكره، عرفت أن الرجل إذا ملك الحلي المباح للرجال خاصة، وأعده ليستعمله أو يعيره للرجال، والحلي المباح للنساء خاصة وأعده لتلبسه زوجته وجواريه أو يعيره للنسوة، أو ملكت المرأة الحلي المباح للنساء خاصة [و] أعدته لتستعمله أو تعيره أو الحلي المباح للرجال خاصة وأعدته لتلبسه بنتها وخدمها وزوجها أو لتعيره للرجال- لم تجب الزكاة فيه على أصح القولين؛ لأن ذلك معد لاستعمال مباح، وهل يلحق اتخاذ ذلك لقصد إجارته لمن يباح له استعماله، بقصد إعارته؟ فيه طريقان. أصحهما: نعم فيكون الحكم كما تقدم. والثاني لا فتحب الزكاة فيه قولاً واحداً؛ لأن هذا معد للنماء. ولو ملك الرجل حلى النساء، [وملكت] المرأة حلي الرجال لتلبسه أو

لتعيره من يحرم عليه استعماله- فذلك معد لاستعمال محرم؛ فتجب فيه الزكاة قولاً واحداً، ووراء ذلك احتمال للإمام في منع الوجوب على قولنا: إن الحلي المباح لا زكاة فيه من حيث إنَّ معتمد من ينفي الزكاة عن الحلي: أنه مصروف عن جهة النماء، فإنه عرض من العروض، والنقد وإن لم يكن نامياً في نفسه فإنما ألحق بالناميات من جهة تهيئته للصرف، فإذا اتخذ منه حلي زال هذا المعنى؛ فسياق هذا يقتضي أن يقال: كل حلي لا يكسر على صاحبه لا زكاة فيه، وإن كان قد قصد استعماله على وجه محرم فإن التحريم يرجع إلى فعله في الحلي، [لا] إلى نفس الحلي. والحلي فيما ذكرنا [محترم في الصنعة] غير مكسر على المالك، وعلى كاسره الضمان وإن فسدت القصود. نعم، إن قلنا بكسر أواني الذهب والفضة على ملاكها فتجب الزكاة فيها؛ لأن تلك الصنعة مستحقة الإزالة شرعاً؛ فالأواني في حكم الشرع متبرة، وكذلك لو اتخذ من التبر صور وآلات ملاهٍ. قلت: ولا يجيء مثل هذا في الحلي إلا أن يكون محرم الاستعمال على الرجال والنساء؛ فإن في جواز اتخاذه قولين كما في الآنية صرح به الرافعي؛ حيث حكى: في وجوب ضمان صنعته على كاسره وجهين أما المحرم على أحدهما فلا يكسر بحال الإمكان الانتفاع به فلو كسر ضمنه كاسره وجهاً واحداً. فإذن: يتلخص من هذا الاحتمال ألا تجب في الحلي المباح لأحد الفريقين، وتجب في المتخذ صوراً وآلات ملاهٍ وهل تجب في الأواني؟ فيه خلاف مبني على جواز الاتخاذ، فإن قلنا: يحرم، وجبت، وإلا فلا [تجب]. ثم قال الإمام: و [في] هذا الذي ذكرته إشكال أبديته، وليس [من] قاعدة المذهب، وجوابه: أن الزكاة تجب في النقد لعينه، لا لكونه مهيأ للنماء، بدليل وجوبها في النقار والسبائك، وعينه لا تنقلب باتخاذ الحلي، وهو في معنى النقار والسبائك، لكنه يتميز عنها بقصد الاستعمال، وحينئذ فلا يلحق بالعروض- وهو

عينهما- إلا بقصد ينضم إليه، وهذا يناظر- على العكس- الثياب وغيرها من العروض؛ فإنها لما لم يكن مال الزكاة في عينها، لا تصير مال الزكاة إلا بقصد ينضم إلى الشراء وهو قصد التجارة، وإذا لم تسقط الزكاة بمحض الصنعة، واحتيج إلى قصد الاستعمال- فمتى قصد محرماً لغا ولم يؤثر في الإسقاط. هذا ملخص كلامه. والخنثى إذا حرمنا عليه لبس حلي الرجال، واتخذه ليلبسه- كان عليه زكاته على الأظهر، وبه أجاب أبو العباس الروياني في "المسائل الجرجانيات". قال الرافعي: وقيل: هو على القولين في الحلي المباح. أما إذا أبحناه له جاء القولان بلا خلاف. فرع: قد تقدم أن تمويه سقف البيت وجداره بالذهب والفضة حرام، فإذا فعله هل تحرم استدامته؟ قال البندنيجي وصاحب "البحر": إن كان قد استهلك بحيث لا يمكن أن يجتمع منه شيء لم تحرم، وإن أمكن أن يجتمع منه شيء حرمت ووجبت فيه الزكاة، وكيفية إخراجها: أنه ينظر: فإن كان مقطوعاً بمقداره أخرج واجبه من غيره، وإن لم يقطع وأمكنه أن يستظهر فيعطي الواجب أو أكثر، [فعل]، وإن قال: لا أحيط به علماً ولا أستظهر، قلنا: فاقلع واسبكه. وهكذا الحكم في إخراج الزكاة من الملطوخ على اللجام إذا قلنا: فيه الزكاة، والله أعلم.

باب زكاة العروض

باب زكاة العروض ترجم الشيخ هذا الباب في "المهذب": بباب زكاة التجارة؛ اتباعاً للمزني والجمهور؛ تنبيهاً على أن سبب الوجوب: التجارة، وترجمه هنا بباب زكاة العروض؛ لأنه ترجم الباب قبله بباب زكاة الناض، وقد تقدم: "أن "الناض" ضد "العروض"، فأراد أن يبين حكم الضدين، وأيضاً ففي التبويبين هاهنا تعريف أن الذهب والفضة هما الناض، وما عداهما من جميع صنوف الأموال هو العرض، كما ذكرناه عن أهل اللغة. وهو واحد العروض، وهو بفتح العين، وإسكان الراء، وإن فتحت الراء مع العين فهو جميع متاع الدنيا من الذهب والفضة وغيرهما، وله معان آخر. ومراد الشيخ بالعروض التي بوب عليها عروض التجارة؛ لأن ما ذكره من الأبواب بعد كتاب الزكاة مبين لما أجمله من قوله: "ولا تجب الزكاة إلا في المواشي، والنبات، والناض، وعروض التجارة، وما يؤخذ من المعدن والركاز". وأيضاً فقوله الآتي من بعد يدل عليه أيضاً. والأصل في وجوب الزكاة في عروض التجارة الذي سكت الشيخ عنه هاهنا اكتفاء بقوله: ولا تجب الزكاة إلا في المواشي .. إلى قوله: وعروض التجارة؛ فإنه دال على الوجوب فيها- من الكتاب قوله تعالى: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] فأراد بالكسب: التجارة، قاله مجاهد. ومن السنة: ما رواه أبو داود، عن سمرة بن جندب قال: "أمَّا بعد: فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعدُّه للبيع" والمعدُّ

للبيع هو عرض التجارة. [وما رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بعث عمر على الصَّدقة فشكا من ثلاثة أنفسٍ .. " ذكرها في الحديث، منهم خالد؛ فقال عليه السلام: "أمَّا خالد؛ فإنكم تظلمون خالداً فقد احتبس أدرعه [وأعتاده] في سبيل الله"، والزكاة لا تجب في عين الدرع؛ فدل على أنها كانت للتجارة]. وما روى الدارقطني من حديث ابن جريج، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البزِّ صدقته"، والبز: بالزاي المعجمة، ومعلوم أن البز لا تجب فيه زكاة العين؛ فثبت أن الواجب فيه زكاة التجارة. ومن القياس: أنه مال مرصد للنماء أو يبتغي فيه النماء؛ فوجبت فيه الزكاة كالمواشي، وقد تمسك الشافعي في ذلك بأثر عن عمر سنذكره. وهذا هو الجديد، وقد حكى الإمام عن رواية الصيدلاني: أن الشافعي تردد في القديم في زكاة التجارة، ثم قال: وهذا [إذا] لم يحكه عن القديم غيره؛ فلا التفات إليه. قلت: قد حكاه عنه القاضي الحسين، والفوراني، وغيرهما، وإن اختلفت

عباراتهم في حكايته. وأثبت بعض الأصحاب ذلك، وجعل في المسألة قولين، وبعضهم قطع بالوجوب، وقال: لم تصح هذه [النسبة] إلى الشافعي، وممن قال ذلك القاضي أبو الطيب، والبندنيجي. ثم عرض التجارة عند العراقيين وبعض المراوزة: ما ملك بعقد معاوضة محضة، كالبيع، والصلح عن المال بمال، والهبة المقتضية للثواب، والأخذ بالشفعة، والإجارة، أو غير محضة: كالنكاح، والخلع، والصلح عن دم العمد مقروناً بنية التجارة. وبعض المراوزة اشترط أن تكون المعاوضة محضة، [وإليه يرشد كلام الشيخ الآتي من بعد]. وحكى القاضي الحسين- تفريعاً عليه- وجهاً في اشتراط كون العوض عينا أو ديناً حالاً أو مؤجلاً، وأخرج بذلك المملوك بعقد الإجارة عن أن يكون مال تجارة، وهو ما ادعى في "التهذيب"- في كتاب الأيمان، في فصل الحلف على ألا مال له- أنه الأصح. وفي "التتمة": أن مأخذ ذلك العبد المأذون له في التجارة لا يؤاجر عبيد التجارة، وكذا عامل القراض، وهذا الوجه لم يحك القاضي الماوردي غيره؛ حيث ألحق المملوك بالصداق وألإجارة بالمملوك بالوصية ونحوها ولم يحك غيره، وقال في "البحر": إنه أقيس، وإن ظاهر المذهب الأول. قلت: وفي جعله الأول ظاهر المذهب نظر فإن البندنيجي قال: الذي نص عليه الشافعي الشراء، والصلح في معناه، وإذا كان كذلك فظاهر المذهب مع من اشترط أن تكون المعاوضة محضة، فإن مقصود الخلع والصلح عن القصاص ونحوهما يحصل بدون المال، بخلاف الشراء، وبهذا لا يكون في معنى المنصوص عليه. وقد تلخص لك مما ذكرناه أن الكل متفقون على أمرين:

أحدهما: أن المملوك بغير عقد معاوضة لا يكون من عروض التجارة. والثاني: أن المملوك بعقد معاوضة محضة أو غير محضة إذا لم تقترن به نية التجارة لا يكون من عروض التجارة. ووجه الأول: أن المتهب هبة لا تقتضي ثواباً وقابل الوصية والوارث والمحتطب والمحتش إذا اقترن بقوله أو فعله نية التجارة لا يسمى تاجراً، ولو كان [ما] ملكه عرض تجارة بذلك لسُمِّي تاجراً، وكذا من رد عليه عرض قنية باعه بعيب فيه، ونوى عند الرد عليه أن يمسكه للتجارة لا يسمى تاجراً؛ فلا يكون العرض حينئذ للتجارة، وكذلك لو كان الرد صدر منه لعيب اطلع عليه في الثمن ونوى عند الرد التجارة لا يكون العرض بذلك للتجارة. نعم لو كان العرض الذي باعه عرض تجارة، [ولم] يقصد بثمنه القنية، فرد عليه بعيب، أو رد هو مقابله، فرجع إليه- كان عرض تجارة اعتباراً بما كان عليه، ولو كان قد قصد ثمنه للقنية لم يعد العرض بعد الرد إلى التجارة. وحكم رجوع البائع في عين ملكه بسبب فلس المشتري، وبالإقالة، حكم رده بالعيب قاله الماوردي وهو في الإقالة بناء على أنها فسخ كما هو الصحيح. ووجه الثاني: أن المملوك بعقد المعاوضة تارة يقصد به القنية، وأخرى يقصد به التجارة فتعين الإتيان بالنية حالة العقد للتمييز فلو تخلفت عن القصد ووجدت بعد لم تؤثر، وكذا في المملوك بغير عقد إذا طرأت نية التجارة عليه لم تؤثر، خلافاً للكرابيسي من أصحابنا فإنه قال: إنها كافية في جعله عرض التجارة؛ لقول سمرة بن جندب: "كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعدُّه للبيع"، وهذا معد للبيع، وبالقياس على ما إذا نوى بعرض التجارة القنية، فإنه يصير للقنية بلا خلاف. قال الأصحاب: وهذا ليس بشيء؛ لأن ما لا يثبت حكم الحول بدخوله في ملكه لا يثبت بمجرد النية؛ كما لو نوى بالمعلوفة السوم، والخبر نخصه بحالة

مقارنة النية عقد المعاوضة بالقياس، والفرق بينه وبين التجارة ونية القنية، من وجهين: أحدهما: أنه ليس القنية إلا الحبس والإمساك للانتفاع فإذا أمسك ونوى الاقتناء فقد قرن النية بصورة الاقتناء لا أنه جردها. والثاني: أن الأصل في العروض الاقتناء فصح بمجرد النية، كما أن المسافر إذا نوى الإقامة بموضع من المواضع، فإنه يصير مقيماً بمجرد النية؛ [لأن الأصل فيه الإقامة، فهو يريد الرجوع إلى الأصل، والتجارة رجوع عن الأصل فلم تصح بمجرد النية، كما لا يصح الرجوع عن الإقامة بمجرد] نية السفر. فرع: إذا نوى القنية ببعض عرض التجارة إن عينه كان للقنية دون باقي العرض، وإن أبهمه فهل يؤثر ذلك ويكون بعضه للقنية وبعضه للتجارة، أو لا تؤثر نيته للجهل ويكون جميعه للتجارة؟ فيه وجهان في "الحاوي". ولو نوى قنية الثياب الديباج ليلبسها والسيوف ليقطع بها الطريق، فهل ينقطع الحول؟ فيه وجهان في "التتمة"، أصلهما – كما قال-: أن من عزم على معصية أو أصر عليها هل يأثم أم لا؟ ومحل ذلك [في] كتاب الشهادات. وحيث حكمنا بانقطاع الحول يعود المال للقنية؛ فيستحب إخراج زكاته. قال الشافعي فيما إذا نوى بعرض التجارة القنية: لم تكن عليه زكاة، وأحب لو فعل. قال في "البحر": وإنما استحبه، لأن نيته أبطلت الحول بعد انعقاده. قال- رحمه الله-: إذا اشترى عرضاً للتجارة بنصاب من الأثمان، بنى حوله على حول الثمن؛ لأن الذهب والفضة إنما خصا من بين سائر الجواهر بإيجاب الزكاة فيهما، لإرصادهما للنماء، [وطريق النماء] بالتقليب في التجارة؛ [فلم يجز أن يكون الموضوع لإيجاب الزكاة سبباً لإسقاطها، ولأن زكاة

التجارة] في القيمة، والقيمة هي الثمن نفسه. قال الفوراني- وتبعه المتولي والبغوي-: وهكذا الحكم في عكس المسألة: وهي إذا كانت له سلعة للتجارة، فباعها بنصاب من الورق أو الذهب، ونوى القنية- بنى حول هذا النصاب على حول سلعة التجارة في وجوب الزكاة للمعنى الذي بيناه. قلت: ومن هذا يؤخذ أن ذلك فيما إذا كان المبيع من جنس رأس المال، أو نقد البلد إن كان رأس المال عرضاً، أما إذا كان من غيره فلا بناء لما ستعرفه. وقد ألحق المتولي والبغوي بما نحن فيه ما إذا كان المشتري به ديناً يبلغ نصاباً وقلنا: إن الدين تجب فيه الزكاة فحول التجارة يبنى على حول الدين ولا ينقطع. نعم لو اشترى العرض بنصاب من الأثمان في ذمته ونوى أن ينقد ذلك مما في يده من الأثمان، أو أطلق ولم ينو- فقد قال القاضي الحسين في "تعليقه ولم يحك سواه: إنه ينعقد عليه الحول من وقت الشراء؛ فإذا نفد ما في يده انقطع حوله، ولا يبني حول التجارة على حوله، ووجهه غيره بأن [ما] معه لم يتعين في الصرف فيه. وهذه الصورة ينبغي أن تستثنى من كلام الشيخ، وكذا التي قبلها، أما إذا قلنا: لا زكاة في الدين، فقد تعرض الشيخ في هذا الفصل لبيان ما يصير به العرض للتجارة كما تقدم: فقوله: "إذا اشترى" بنية على اشتراط عقد المعاوضة في ذلك؛ فيخرج به الاتهاب بلا ثواب، والاحتطاب، ونحوهما، وقد يقال: إن من هذا التمثيل يؤخذ اشتراط كون المعاوضة محضة- كما تقدم- حتى لا يلتحق بالشراء النكاح، والخلع، والصلح عن دم العمد، لكن لم أر ذلك لأحد من العراقيين. [نعم كلام الرافعي يفهم أن به قال بعضهم؛ حيث قال: ولم يذكر أكثر العراقيين] سوى أنه مال تجارة، لأنه مال ملكه بمعاوضة. وكذا يؤخذ من قوله: "عرضاً" أنه لو استأجر دوراً وحوانيت للتجارة، لا يكون الحكم كما لو اشترى ثوباً ونحوه؛ لأن المنفعة ليست بعرض وهو وجه

حكاه المراوزة مع وجه آخر؛ أن الحكم كما في العرض وقد قربهما المتولي من أن الدين هل تجب فيه الزكاة أم لا؟ وقوله: "للتجارة"، تنبيه على اشتراط النية المقترنة بعقد المعاوضة؛ إذ هي الصارفة له عن القنية التي هي الأصل. وقوله: "بنصاب من الأثمان"؛ ذكره لأجل المسألة الآتية، لا للتنبيه على أن ذلك شرط في كون العرض للتجارة، على أن قوله: "من الأثمان" لو أجري على ظاهره والعمل بمفهومه لاقتضى عدم ثبوت [ما ذكره من الحكم] فيما إذا كان الثمن نصاباً من الذهب أو الفضة الذي تجب فيه الزكاة، وليس كذلك بل حكمه حكم ما لو اشتراه بنصاب من الأثمان. وكذلك فرض الفوراني الكلام فيما إذا [اشترى سلعة للتجارة بنصاب] من الذهب أو الورق. واحترزت بقولي: تجب فيه الزكاة- عما إذا اشتراه بنصاب من الحلي المعد لاستعمال مباح، فإنه لا زكاة فيه على الصحيح، فإذا اشترى به كان ابتداء حوله من حين الشراء، كالمسألة الآتية، لكن كلام الشيخ محمول على إرادة جنس الأثمان، وإن حمل على الأثمان نفسها فلا مفهوم له يراد؛ لأن الغالب أن الشراء إنما يكون بالأثمان، والشيء إذا خرج مخرج الغالب لا مفهوم له، والله أعلم. قال: وإن اشتراه بعرض للقنية، أو بما دون النصاب من الأثمان، أي: وهو لا يملك ما يتم به النصاب من الجنس الذي اشترى به- انعقد الحول عليه من يوم الشراء؛ لأن الحول لابد منه في زكاة التجارة بالاتفاق؛ لعموم قوله- عليه السلام-: "لا زكاة في مالٍ حتَّى يحول عليه الحول". والأصل- وهو ما اشتراه به- لم ينعقد عليه حول؛ لكونه غير مال زكاتيّ، أو ناقصاً عن النصاب؛ فوجب اعتبار الفرع- وهو مال التجارة- بنفسه، وبالشراء حصل الاتجار؛ فكان وقته وقت مبتدأ الوجوب وهو الانعقاد، ولا فرق في ذلك بين أن تكون قيمة ما اشتراه حالة الشراء نصاباً أو أقل منه. نعم، إن

كانت نصاباً في آخر الحول وجبت الزكاة، وإلا فلا كما سيأتي. ووجهه: ما روى الشافعي بسنده عن أبي عمرو بن حماس أن أباه حماساً قال: مررت على عمر بن الخطاب وعلى عنقي أدم أحملها فقال: ألا تؤدي زكاتك يا حماس؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما لي [غير] هذا، وآهبة في القرظ، فقال: ذلك مال فضع، فوضعتها بين يديه، فحسبها فوجده قد وجبت فيها الزكاة؛ فأخذ منها الزكاة". ووجه الدلالة منه: أنه حسب ذلك في آخر الحول وأخذ الزكاة، وظاهره: أنه لم يراع كونه نصاباً إلا في الحال ولم يبحث عما مضى ولم ينكر عليه أحد. وقال الرافعي: إن الاحتجاج به ليس هو كما ينبغي. ووجهه من جهة المعنى: أنه يعسر ملاحظة النصاب فيه في جميع الحول فاعتبر في آخر الحول؛ لأنه وقت الوجوب وبهذا فارق ما نحن فيه ما تجب الزكاة في عينه؛ لأن ملاحظة النصاب فيه في كل وقت من الحول لا تشق. فإن قلت: ملاحظة أول الحول لا مشقة فيها كآخر الحول فوجب أن يعتبر كون المال نصاباً فيهما دون وسط الحول الذي يشق اعتباره فيه، كمذهب أبي حنيفة. قلت: قد قال به بعض المراوزة وحكاه الماوردي والقاضي الحسين وابن عبدان عن ابن سريج؛ أخذاً من قوله في "المختصر": "ولو كان في يده عرض للتجارة تجب في قيمته الزكاة [ثم اشترى عرضاً للتجارة وأقام في يده ستة أشهر]- فقد حال الحول [على] المالين معاً وقام أحدهما مقام صاحبه فيه؛ فيقوم العرض الذي في يده ويخرج زكاته". فقوله: "تجب قيمة الزكاة"، [عنى به] أن تكون قيمته نصاباً فشرط بلوغه

نصاباً في انعقاد الحول. والقائلون بالأول قالوا: لا نسلم أن المشقة غير موجودة في ملاحظة النصاب في ابتداء الحول؛ لأنه إذ لم يكن نصاباً في أول الحول احتاج إلى تعريف قيمته في كل وقت؛ كي لا تبلغ قيمته نصاباً، وذلك عين المشقة. قلت: وهذا الجواب إنما يتم إذا سلم القائل بهذا الوجه أنه إذا كان عند الشراء دون النصاب، ثم بلغ بعد ذلك نصاباً أنه ينعقد عليه الحول إذ ذاك كما هو أحد الوجهين وفي "تعليق" القاضي الحسين. أما إذا منع ذلك، وقال: لا ينعقد الحول فيما إذا كانت قيمته حال الشراء دون النصاب إلا عند التصرف ثانياً بنية التجارة؛ لأن الشراء الأول كان في حكم القنية كما هو الوجه الآخر الذي قال القاضي: إنه الأظهر- فلا يتم الجواب. وهكذا إن قلنا- بما حكاه الإمام عن الربيع-: إنه لا ينعقد الحول إلا بعد بلوغ المال نصاباً بالنضوض واقتران التصرف فيه بنية التجارة. نعم، يقال للمخالف: مال يعتبر نصابه بقيمته وجد نصاباً في آخر الحول فوجبت فيه الزكاة كما لو وجد النصاب في الطرفين. قال: وقيل: لا يجزئ في الحول حتى تكون قيمته- أي: قيمة العرض المشترى- نصاباً من [أول الحول] إلى آخره؛ كما في المواشي والناض، وهذا قد حكاه البندنيجي قولاً عن رواية ابن سريج، وعبارة القاضي أبي الطيب عنه في حكايته أنه قال: مذهب الشافعي: أن العرض لا يجزئ قيمته في الحول حتى يكون نصاباً حين الشراء، ويستديم ذلك إلى آخر الحول. ومعنى كلام الشافعي الذي نقله المزني: هو أن يشتري العرض بأقل من نصاب وقيمته تبلغ نصاباً. قلت: وهذا منه يقتضي الجزم بانعقاد الحول فيما إذا كانت قيمته نصاباً حين الشراء، وإن كان الثمن دون النصاب وبه صرح البندنيجي وغيره. وعبارة الشيخ وغيره في حكاية ذلك تقتضي أمرين آخرين. أحدهما: إذا كانت قيمته حال الشراء دون النصاب، وقد اشتراه بنصاب وزنه

حالة الشراء [به] أنه لا يجزئ في الحول وكذا فيما إذا اشتراه بنصاب جرى في حوله أنه ينقطع الحول، ولم أقف في ذلك على شيء للأصحاب. الثاني: أن شرط انعقاد الحول على هذا القول استمرار القيمة نصاباً، وهذا ليس شرطاً في الانعقاد؛ [بل هو شرط في استمرار الانعقاد؛ [بل هو شرط في استمرار الانعقاد]، فإن كان المراد بالجريان في الحول هذا فلا إشكال. وقد قال القاضي الحسين، وتبعه المتولي: إن ما قاله ابن سريج أخذه من قوله في القديم: "ويخرج زكاة التجارة من عينه"، فأجراه مجرى المواشي، فكذا في استكمال النصاب، وقد يحصل في المسألة ثلاثة أقوال كما قال الفوراني، والإمام، وثلاثة أوجه كما قال البغوي وغيره، وقولان ووجه كما اقتضاه كلام البندنيجي [وغيره]. وقال الرافعي حكاية عن أبي علي: إنه ليس في المسألة منصوصاً عليه إلا الأول وماا عداه خرجهما شيوخ الأصحاب ولا منافاة في ذلك؛ لأن الوجوه المخرجة يعبر عنها بالوجوه تارة، وبالأقوال أخرى، والصحيح باتفاق الأصحاب: الأول، وهو اختيار أبي إسحاق كما قال القاضي الحسين والمتولي، وادعى القاضي أبو الطيب والبندنيجي والبغوي أنه المذهب؛ لقوله في "المختصر": "لو كان يملك أقل مما [تجب] فيه الزكاة زكى ثمن العرض من يوم ملك العرض؛ لأن الزكاة تحولت فيه بعينه". قال القاضي أبو الطيب: وهو الذي نص عليه في "الأم" مصرحاً بأن قيمة العرض لا تعتبر في أول الحول ولا في أثنائه. وبهذا يبطل ما تأول به ابن سريج من لفظ "المختصر"، والفرق بينه وبين المواشي والناض ما تقدم، وعلى هذا: لو باع العرض في أثناء الحول بالنقد الذي يقوم به العرض عند تمام الحول لو بقي فلم يبلغ ثمنه نصاباً فهل ينقطع الحول حتى إذا اشترى بذلك عرضاً استأنف له حولاً من وقت الشراء، أو لا ينقطع؟ فيه وجهان في "الوجيز" حكاهما الإمام والقاضي الحسين؛ تفريعاً على اعتبار النصاب في أول الحول وآخره دون وسطه، وكان قد اشتراه بنصاب وهو مائتا درهم مثلاً وبمجموع النقلين يكون الوجهان

مفرعين على ما عدا الأول وبه صرح الفوراني والرافعي وقال: إن الذي رأى الأكثرين مائلين إليه: الانقطاع، وهو في "البحر" في الصورة التي ذكرها الإمام منسوب إلى القفال، وغلط من قال بخلافه، ولم يحك الماوردي غيره، وجعله في "الوسيط" قولاً رابعاً في المسألة وأعرض عن التفريع [معبراً عن ذلك بأن النقصان بانخفاض الأسعار في أثناء الحول لا يعتبر ولكن] إن صار محسوساً بالرد إلى الناض فيعتبر؛ لأن هذا منضبط. قلت: هذا ملخص لما ذكره الإمام أصلاً وفرعاً وما ذكره في "الوجيز" أحسن منه وأبلغ؛ لأن من قال بانقطاع الحول عند تحقق النقص عن النصاب بالتنضيض في أثناء الحول- تفريعاً على قولنا: إن النظر في النصاب إلى آخر الحول- قال به مع المسامحة في عدم اعتبار النصاب في أول الحول وآخره، فهو قائل به عند المسامحة في عدم اعتبار النصاب في وسطه دون أوله من طريق الأولى ولا يلزم من قال بانقطاع الحول عند تحقق النقص عن النصاب بالتنضيض في أثناء الحول – تفريعاً على اعتبار النصاب أول الحول [وآخره]- أن يقول بمثله تفريعاً على اعتبار النصاب في آخر الحول. [ولأن الحول في هذه الحالة انعقد على عينه في الابتداء والآن صار من جنس [ما انعقد الحول على عينه؛ فالزكاة حين تجب في هذا إنما تجب في عينه، وكل موضع تجب فيه زكاة العين فيعتبر فيه] نصاب كامل في جميع الحول، وهاهنا النصاب قد انتقص كذا قاله القاضي الحسين في "تعليقه" فقط لما ذكره من المعنى، فإذن ما ذكره الإمام ولخصه في "الوسيط"، خاص بالتفريع على اعتبار النصاب في الطرفين فقط وما ذكره في الوجيز جار على ذلك وعلى ما إذا اعتبرنا النصاب آخر الحول فقط، وهو الذي صرح به الأصحاب كما تقدم؛ فكان أولى. وقد جعل القاضي الحسين الوجهين تفريعاً على اعتبار النصاب في طرفي الحول فقط مبنيين على ما إذا اشترى عرضاً بمائتي درهم ونض ثمنه، وزاد على قدر رأس المال، فإن قلنا: إنه يزكي الجميع لحول الأصل لم ينقطع هاهنا وإلا انقطع [وقال: إنهما جاريان، فيما إذا كان له عرض للقنية فباعه بدراهم بنية

التجارة بأقل من نصاب هل ينعقد] الحول عليها أم لا؟ وهذا كله إذا كان التنضيض في أثناء الحول بما يقوم به العرض عند تمام الحول فلو كان بغيره بأن كان المقوم به دراهم فنضه بذهب أو بالعكس، فهو كما لو باعه بعرض فلا ينقطع الحول، وإن كانت قيمته دون النصاب على الصحيح، صرح بذلك الفوراني وأبداه الإمام احتمالاً، وحكي وجهاً آخر فيما إذا باعه بعرض ينقص قيمته عن النصاب المقوم به: أنه ينقطع الحول؛ كما ينقطع لو باعه بما دون النصاب من النقد الذي يقوم به ويبتدأ الحول في السلعة المستفادة، وقد قال: إنه ساقط؛ لأن المناقلة لا أثر لها في أموال التجارة. قال: وإن اشترى بنصاب من السائمة- أي: مثل: أن اشتراه بخمس من الإبل، أو ثلاثين من البقر، أو أربعين من الغنم السائمة- فقد قيل: يبني على حول الماشية؛ لأنه فرع لأصل انعقد عليه الحول فجرى في حوله؛ كما لو اشتراه بنصاب من الأثمان، وهذا ما ادعى الإصطخري أنه مذهب الشافعي؛ لقوله في "المختصر": "ولو اشترى عرضاً للتجارة بدنانير أو دراهم أو بشيء تجب فيه الصدقة والماشية، وكان إفادة ما اشترى به ذلك العرض من يومه- لم يقوم العرض حتى يحول عليه الحول من يوم أفاد ثمن العرض ثم يزكيه بعد الحول"، وما ذكره الإصطخري هو الذي فهم المزني من كلام الشافعي أنه ذكره كما ذكرنا، واعترض عليه. وقيل: ينعقد عليه الحول من يوم الشراء- أي: إن كانت قيمته نصاباً بلا خلاف، أو دون النصاب [على الأصح]؛ كما قاله البندنيجي؛ لأن نصاب الماشية مخالف لنصاب التجارة؛ لأن نصاب الماشية وواجبه مختلف؛ فلم يجز أن يبنى حول أحدهما على الآخر مع اختلاف نصابهما وواجبهما؛ كما لو باع الإبل بالبقر، وهذا ما صار إليه ابن سريج وجمهور الأصحاب. [وقال القاضي أبو الطيب: إنهم قالوا: إنه مذهب الشافعي، واختلفوا فيما نقله المزني: فمنهم من غلطه وإليه مال الإمام، ومنهم من لم يخطئه، وهؤلاء

اختلفوا في المراد بما نقله على أوجه: أحدها: أنه مفروض فيمن ملك ماشية فاشترى بها عرضاً في اليوم الذي ملكها فيه، وهو ظاهر النص. الثاني: أنه محمول على ماشية اشتراها للتجارة وأسامها فوجبت فيها زكاة التجارة، وسقطت عنها زكاة العين- في أحد القولين- ثم ابتاع بها عرضاً للتجارة؛ فإن حول العرض من حين ملك الماشية. والثالث: أنه جمع بين الدراهم والدنانير والماشية، ثم عطف بالجواب على الدراهم والدنانير دون الماشية، وقد يقع ذلك في كلامه]، واحتجوا له بأنه قال: من يوم أفاد الثمن، ولفظ "الثمن" يقع على النقدين دون الماشية. قال الرافعي: وهذا منتظم على قولنا: إنه لا ثمن إلا النقدين. قال: ويقوم مال التجارة- أي: الذي هو عرض؛ كما دل عليه كلامه من أول الباب إلى هنا، برأس المال إن كان رأس المال نقداً أي: نصاباً كان أو دونه، وهو نقد البلد أو غيره؛ لأن رأس المال نقد يقوم به كما أن نقد البلد يقوم به فكان الرجوع إلى رأس المال أولى؛ لأنه أقرب إليه. قال الأصحاب: وصار هذا كالمستحاضة ينظر إلى عادتها، فإن لم يكن له عادة ردت إلى الأغلب. قال: وبنقد البلد إن كان رأس المال عرضاً، أي: تجب فيه الزكاة، أو لا تجب لأنه لا يمكن تقويمه بما اشتراه [به فيقوم] بنقد البلد؛ لتعينه. وهذا القول هو الأصح عند القاضي أبي الطيب والماوردي والغزالي وغيرهم، وإذا قلنا به: فلو لم يعلم ما اشتري به قوم بنقد البلد، حكاه في "البحر". والمملوك بالنكاح والخلع على قصد التجارة، إذا قلنا: إنه مال تجارة- كالمملوك بالعرض؛ فيقوم بنقد البلد، قاله الرافعي. وقيل: إن كان رأس المال دون النصاب- أي: وليس في ملك المشتري حالة الشراء مما اشترى به ما يتم النصاب- قوم بنقد البلد؛ لأنه لا يبني حوله على حول ما اشترى [به] فكان كالمنفرد بنفسه فألحق بالعرض، وهذا اختيار

أبي إسحاق. أما إذا كان في ملكه حالة الشراء ما يتم به النصاب؛ كما إذا كان في ملكه مائتا درهم فاشترى العرض بمائة منها، فقد قال القاضي- حكاية عن القفال-: أنه قال في مرة: إن ذلك ينبني على الصورة قبلها، فإن قلنا ثم: يقوم برأس المال فهاهنا أولى، وإلا فوجهان، والفرق: أن ما اشتري به العرض في المسألة الأولى ما انعقد عليه الحول فهو في حكم العرض، فقلنا: يقوم بنقد البلد بخلاف هذا، وقال في المرة الثانية: إنه يقوم بجنس ما اشترى به قولاً واحداً؛ لأنه اشتراه ببعض ما انعقد النصاب على عينه، وهذا ما اقتصر الرافعي على إيراده، وقال: لا خلاف فيه. ثم ملخص ما ذكرناه: أن الشراء إن وقع [بنصاب من الأثمان، فالتقويم بجنسه لا خلاف فيه، وكذا إن وقع] بدون النصاب وفي ملك المشتري ما يتم به النصاب على الأصح، وإن وقع بعرض فالتقويم بنقد البلد بلا خلاف، وحكى القاضي الحسين وجهاً فيما إذا كان رأس المال عرضاً باعه بدراهم بنية التجارة، ثم اشترى بها عروضاً للتجارة- أنه يقوم بالدراهم؛ لأن الحول انعقد حين البيع بالدراهم، فيقوم بها، وإن وقع بما دون النصاب من الأثمان وليس في ملك المشتري ما يتم به النصاب، فهل يقوم بجنس رأس المال أو بنقد البلد؟ فيه وجهان بناهما القاضي الحسين وغيره على أن علة التقويم برأس المال إذا كان نصاباً بخلاف ما إذا كان دونه، وفيه معنيان ذكرهما الماوردي أيضاً: أحدهما: كون حول التجارة مبنياً على حوله، فعلى هذا يقوم بنقد البلد؛ لأن ما دون النصاب لم ينعقد عليه حول حتى يبني عليه. والثاني: لأنه قيمة، ونقد البلد قيمة، وهو [إلى] ما اشترى به أقرب؛ فكان الاعتبار به أولى، فعلى هذا: يقوم برأس المال- إذا كان دون النصاب أيضاً. وبنى المتولي على المعنيين ما إذا اشترى للتجارة [شيئاً] بنصاب في ذمته، ونقد الثمن مما في يده قال: فعلى الأول: يقوم بنقد البلد؛ لأن حول التجارة لا يبنى على حول ما أداه كما تقدم، وعلى الثاني: يقوم بجنس ما اشترى به، وقضية

العلتين: أنه إذا اشتراه بدين في ذمة البائع، وقلنا بظاهر المذهب: إن الدين تجب فيه الزكاة أن يقوم بجنسه. وقد حكى في "التتمة" معه وجهاً آخر: أنه يقوم بنقد البلد؛ لأن الدين ملك ناقص على معنى أنه لا يجوز التصرف فيه إلا مع من هو عليه، فكان بمنزلة العرض الذي لم يعد [للتصرف، والمشترى] بالعرض يقوم بنقد البلد؛ وهكذا المشترى بالدين. وقد حكى الماوردي وغيره عن ابن الحداد أنه قال: إنما يقوم بنقد البلد على كل حال في جميع الصور؛ كما تقوم به المتلفات. وقال الإمام: إن صاحب "التقريب" نقله قولاً قديماً، وقال: إنه غريب جداً، وليس له اتجاه في المعنى. وغيره قال: إنه ليس بشيء أو خطأ. وقد بقي من أقسام المسألة: ما إذا اشتراه بذهب، أو فضة: نقرة أو سبائك، فإن ذلك ليس من الأثمان؛ لأن اسم "الأثمان" [-لغة- مختص] بالدراهم والدنانير المطبوعة وليس هو من العروض؛ كما نقلناه في باب زكاة الناض، وحينئذ فقد حكى المتولي فيما يقوم به وجهين- بناء على ما تقدم-: فإن قلنا: إنما يقوم برأس المال إذا كان نصاباً؛ لأن حول العرض مبني على حوله، وهاهنا يقوم بجنس الثمن؛ لأن ما وقع به الشراء لا يقوم به؛ وإن قلنا: إنما قوم به لكونه أقرب إليه من نقد البلد، مع استوائهما في النقدية- فهاهنا يقوم بنقد البلد؛ لأن النقار والسبائك ليست بنقد. ثم اعلم أنا حيث قلنا: يقوم بما اشتراه به، فلا فرق بين أن يكون قد اشتراه بأحد النقدين أو بهما، لكنه إذا اشتراه بهما قوم بهما على نسبة التقسيط يوم الشراء؛ فإنه الوقت الذي يتوزع الثمن فيه على المثمن، ولا يجوز تقويمه- والحالة هذه- بأحدهما، سواء كان لا يبلغ بكل منهما نصاباً أو يبلغ به، أو يبلغ بأحدهما دون الآخر. نعم، حكى الماوردي وجهاً فيما إذا كان قد اشتراه

بما دون النصاب في كل منهما: أنه يقوم بالدراهم، لأنها أصل وطريقها النص، والدنانير تبع وطريقها الاجتهاد. وحيث قلنا: يقوم بنقد البلد: فلو كان فيها نقدان رائجان، قوم بأكثرهما رواجاً، فإن تساويا في الرواج، نظر: فإن كان يبلغ بأحدهما نصاباً دون الآخر، قوم بما يبلغ به نصاباً، كذا قاله الجمهور، وقال في "التتمة": إنه ظاهر المذهب. وإن [من أصحابنا] من قال: يقوم بالنقد الذي لا يبلغ به نصاباً؛ لأن الزكاة إذا دار بين السقوط والوجوب فالسقوط مغلب، وأصله: ما إذا علف السائمة في بعض الحول أقل من المدة التي أسامها فيها؛ فإنه لا زكاة. وفي "الحاوي" وجه ثالث: أن القيمة إن بلغت نصاباً إذا قوم بالفضة قوم بها، وإن لم تبلغ بها نصاباً، وتبلغ إذا قومت بالذهب فلا تقوم بالذهب، ولا تجب الزكاة إلا أن يفعل ذلك تطوعاً. ونقل الإمام عن رواية صاحب "التقريب" وجهاً يقاربه: أن الاعتبار في التقويم بالدراهم إذا كان رأس المال دون النصاب من النقد؛ لأن الدنانير بالإضافة إلى الدراهم تكاد أن تكون عرضاً من جهة أن صرف كسور الدنانير إلى المستحقرات عسر، قال: وعلى هذا لو بلغ- إذا قوم بالدنانير- نصاباً، ولم يبلغه إذا قوم بالدراهم فلا زكاة، والمشهور الأول. نعم، إن بلغ بكل من النقدين- لو قوم به-[نصاباً فبماذا يقوم؟ فيه] أربعة أوجه: أحدها: بالأنفع للمساكين، [وهو معتضد بأن الأظهر في اجتماع الحقاق وبنات اللبون رعاية الأغبط للمساكين]، وهو الذي يقتضي إيراد الإمام ترجيحه. والثاني: تتعي الدراهم لأنها أنفع إذ تصلح لشراء المحقرات، ولأن وجوب الزكاة في الدراهم وجب بالتواتر- بخلاف الذهب- وهذا قول ابن أبي هريرة. والثالث: يقوم بأغلب نقد أقرب البلاد إليه. والرابع- وهو قول أبي إسحاق، وهو الذي صححه الشيخ أبو حامد، وتبعه في "الشامل" و"البحر"، وقال البندنيجي: إنه المذهب-: أن المالك يخير فيقومه بما

شاء منهما، وهو معتضد بأنه الأظهر في الجبران أن الخيار في تعيين الشاتين والدراهم إلى المعطي. فرع: إذا اشترى جارية للتجارة، فولدت، فهل يدخل الولد في حول التجارة فيقوم، أم لا؟ فيه وجهان في "الوسيط"، المذكور منهما في "التتمة": الدخول – وهو الصحيح- ومقابله منسوب إلى ابن سريج. قال الرافعي: والوجهان فيما إذا لم تنقص الأم بالولادة، فإن نقصت نظر: فإن كان قدر قيمة الولد جبر به، وأخرج زكاة الجميع، وإن كان النقص ينجبر ببعض قيمة الولد جبر به، وحكم الثاني كما تقدم؛ كذا حكى عن ابن سريج وغيره. وقال الإمام: وفيه احتمال ظاهر، وقضية قولنا: إنه ليس مال تجارة، ألا يجبر به نقصان الجارية؛ كالمستفاد بسبب آخر. وثمار أشجار التجارة بمثابة أولاد حيوان التجارة؛ ففي كونها مال تجارة الوجهان، والمنصوص منهما- كما قال في "البحر"-: أنها مال تجارة. وهو الذي يقتضيه كلام الشيخ وغيره كما سنذكره، والله أعلم. قال: فإن بلغت قيمته في آخر الحول نصاباً زكاه. هذا من الشيخ تفريع على أن النصاب إنما يعتبر في آخر الحول، وقد تقدم دليله، لكن بماذا يزكيه؟ هل من العرض، أو مما قوم به؟ اختلف فيه النص: فالذي قاله في "الأم" ونقله المزني: أنه يزكيه مما قوم به؛ فيخرج ربع عشره. وقال: في القديم قولان: هذا أحدهما. والثاني: يخرج عرضاً [منها] بقدر ربع عشره. وقال في القديم، قال- بعده بأسطر-: يخرج الزكاة دراهم أو دنانير أو عرضاً منها. واختلف الأصحاب لأجل ذلك في المسألة على ثلاث طرق: إحداها: أن له في المسألة قولين: أحدهما: تعين عليه إخراج ربع عشر ما قوم به، وهو الجديد وأحد قولي القديم.

والثاني: تعين عليه إخراج عرض يقدر بربع عشر القيمة، وهو القول الثاني في القديم، ووجه ظاهر خبر سمرة بن جندب؛ فإن الذي يعد للبيع هو العرض، واستدل له المتولي بقول أبي بكر: "ولو منعوني عقالاً مما أدوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه"، ولا يتصور وجوب العقال في الزكاة إلا إذا كان يتجر في العقال فيجب عليه من جنس مال التجارة. قلت: وفي قوله: ولا يتصور وجوب العقال إلا في التجارة- فيه نظر؛ لأن القاضي الحسين قال في أول الكتاب: إن العقال قد يستحق في الزكاة إذا وجب عليه بعير في زكاة الإبل وكان ذلك البعير مغتلماً شارداً، فعليه تسليمه إلى الساعين؛ ليسقط عنه الفرض، ولا يمكنه تسليمه إلا بشد قوائمه بالعقال، فعليه تسليمه مع العقال، ثم يسترد العقال، وهذه الطريقة تعزى إلى ابن أبي هريرة، قال في البحر: ولا تصح عنه. والثانية: أن في المسألة قولين: أحدهما: أنه تعين إخراج ربع العشر مما قوم به؛ كما نص عليه في الجديد. والثاني: هو بالخيار بين ذلك وبين إخراج عرض بقدر ربع عشر القيمة. وهذا ما اختاره ابن أبي هريرة وصاحب "الإفصاح"، وقالا: قول الشافعي: يخرج عرضاً، معناه: إن اختار ذلك. قلت: وكلام الشافعي الذي ذكره بعد ذكر القولين يدل عليه، وهذه طريقة أبي إسحاق، وعليه ينطبق [ما قاله] بعض الأصحاب: إن هذه الزكاة تجب في العين أو في القيمة؟ فيه وجهان: فإن قلنا بالثاني فأخرج من العين، أجزأه. وإن قلنا بالأول فأخرج من القيمة، هل يجزئ؟ فيه قولان. وإذا جمعت بينها وبين الطريقة السابقة جاءك في المسألة ثلاثة أقوال، وهي الطريقة الثالثة، وتعزى إلى ابن سريج. وقال الإمام: إن صاحب "التقريب" جمعها من القديم والجديد، ولم يورد الماوردي غيرها:

أحدها: أنه يتعين إخراج ربع عشر ما قوم به، وهو الأصح في "الحاوي"، و"البحر"، وبه الفتوى؛ كما قال الإمام؛ لأن الحول ينعقد على القيمة لا على العين، بدليل: أنه لو بادل عرض التجارة بعرض للتجارة لا ينقطع الحول، وإذا ثبت ذلك وجب إخراجها مما انعقد عليه الحول. والثاني: يتعين إخراج العرض؛ لما تقدم، وعلى هذا لو عدل عما عنده، وأراد أن يخرج عرضاً من جنسه- قال البندنيجي: فالمذهب: أنه لا يجوز، ومن أصحابنا من قال: يجوز؛ كما في المواشي والأثمان. وغيره قال: إنه المذهب؛ لأن الشافعي قال في القديم: "ينظر كم قدر زكاته؟ فيشترى به عرضاً ويخرج" وهذا نص صريح، قال في "البحر": وهو الصحيح. والثالث: أنه يتخير بين إخراج أيهما شاء؛ عملاً بموجب الدليلين. وقد فرع ابن سريج على طريقته ما يوضح به ما ذكره، فقال: إذا اشترى مائتي قفيز من طعام بمائتي درهم للتجارة، فحال الحول وقيمته مائتان- وجبت الزكاة، ومن أين يخرجها؟ إن قلنا: يخرج من القيمة، أخرج خمسة دراهم، وإن قلنا: من العرض أخرج خمسة أقفزة، وإن قلنا: بالخيار أخرج خمسة دراهم، أو خمسة أقفزة، فإن عدل عن هذا الطعام إلى أربعة أقفزة من طعام تساوي خمسة دراهم، فإن قلنا بالأول لم يجزئه، وإن قلنا بالثالث سئل، فإن أراد إخراج ذلك عن خمسة دراهم لم يجزئه، وإن أراد إخراجه عن خمسة أقفزة أجزأه عن أربعة، وطولب بخامس كما ذكرنا. قلت: وهذا يقوي قول من قال: إنا إذا قلنا: يخرج من العرض، أنه يخرج من غيره. ولو حال الحول وقيمة الطعام مائتان، ولكن تغير الحال بعد الحول، فإن نقصت قيمته لنقصان السوق فبلغت مائة، فإن كان بعد إمكان الأداء، فإن قلنا بالأول فعليه خمسة دراهم، وإن قلنا بالثاني أخرج خمسة أقفزة وإن كانت تساوي درهمين ونصفا؛ لأن نقصان القيمة لنقصان السوق لا يضمن بالتفريط

كالغصب، وإن قلنا بالثالث: فإن اختار إخراج العرض أخرج خمسة أقفزة، وإن اختار إخراج القيمة أخرج خمسة دراهم. ولو كان النقص قبل إمكان الأداء، وقلنا: إمكان الأداء شرط في الوجوب- فلا يجب عليه شيء، وإن قلنا: شرط الضمان، فعلى الأول يخرج درهمين ونصفا، وعلى الثاني خمسة أقفزة، وعلى الثالث: إن اختار [إخراج] القيمة أخرج درهمين ونصفا، وإن اختار العرض أخرج خمسة أقفزة. ولو كانت القيمة قد زادت قدر الأصل؛ لزيادة السوق، وقال البندنيجي: فالحكم كما لو لم تزد ولم تنقص، ولا فرق بين أن تكون الزيادة قبل إمكان الأداء أو بعده، وغيره قال: إن كان ذلك قبل إمكان الأداء، وقلنا: إنه شرط الوجوب- فعلى الأول: يخرج عشرة دراهم، وعلى الثاني: خمسة أقفزة، وعلى الثالث: يتخير بينهما. وإن قلنا: إنه شرط الضمان: فعلى الأول: [يخرج خمسة دراهم، وعلى الثاني: خمسة أقفزة منها، أو من غيرها يكون قيمتها عشرة، وعن ابن أبي هريرة: أن له أن] يخرج خمسة أقفزة قيمتها خمسة؛ لأن هذه الزيادة حدثت بعد وجوب الزكاة، وهي محتبسة في الحول الثاني. قال في "البحر": وهو غلط. وعلى الثالث: يتخير بين الأمرين. وقد بنى بعضهم على الخلاف المذكور جواز بيع العروض قبل إخراج الزكاة، فقال: إن قلنا: يخرج من العروض، كانت على الخلاف في غير ذلك من المواشي، وإن قلنا: يؤدي من القيمة، فالحكم كما لو وجبت شاة في خمس من الإبل فباعها؛ لأن القيمة ليست من جنس الأصل؛ كذا حكاه الإمام، وقال: إن هذا غفلة عظيمة؛ لأن بيع مال التجارة تجارة، فكيف يخطر لذي فهم منع ما هو من قبيل التجارة في مال التجارة؟ ونحن وإن قلنا: إنه يتعين إخراج العرض فسد باب البيع لا وجه له، وحينئذ فلا وجه لما تقدم وهو غلط غير معدود من المذهب. نعم قد حكى صاحب "التقريب" تردد

الأصحاب في جواز البيع قبل تأدية الزكاة. قلت: وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما، حيث حكوا في المسألة طريقين: إحداهما: أن في البيع قولين كما في المواشي. والثانية: القطع بالجواز وبها قال الجمهور كما قال الرافعي، ولم يذكر في "الوسيط" غيرها، [وهي التي رجحها الإمام]؛ لأنه لا يزيل المالية التي هي [متعلق الزكاة]. وهذا إذا باعه بالقيمة، فلو باعه بمحاباة فالمحاباة به كالموهوب، وهو إن وهب جميع المال أو أعتقه كان كالمتصرف في المواشي فيخرج على الخلاف. قال الرافعي: فإن لم تصح الهبة فينبغي أن تبطل في قدر المحاباة، ويخرج في الباقي على تفريق الصفقة. وقال الماوردي والإمام: إذا كان العرض يساوي ثلاثمائة فباعه بمائتين، فالناقص عن القيمة بمثابة طائفة من ماله يتلفها بعد وجوب الزكاة، وهذا يقتضي الجزم بنفوذ التصرف. وحكينا في عكس المسألة: أن العرض لو كانت قيمته آخر الحول مائتين فباعه بثلاثمائة، فالمائة الزائدة هل تزكى للحول الأول كما لو حصلت بسبب ارتفاع السوق آخر السنة؛ إذ لولا السلعة لما حصلت، أو تحسب للحول الثاني وتضم إليه؛ فإن القيمة لم تزد وإنما احتال المالك في تحصيلها، فهو كما لو كسبها بصنعة وعمل؟ فيه وجهان. قال: إن نقصت عن النصاب- أي: وليس له مال من جنس ما يقوم به يكمل به النصاب- لم تلزمه الزكاة إلى أن يحول عليه حول آخر- أي: وتكون قيمته في آخره نصاباً- ووجهه: أنا أسقطنا اعتبار النصاب في جميع السنة؛ حتى لا يؤدي إلى المشقة، و [لو] لم يستأنف الحول أدى إلى المشقة؛ لأن في كل ساعة يحتاج أن يقوم لينظر هل تم نصاباً حتى نأخذ الزكاة أم لا؟

قال الماوردي: وهذا قول أبي إسحاق وجمهور أصحابنا. وقيل: إن زادت قيمته بعد ذلك بيوم أو شهر صار ذلك حوله، وتلزمه الزكاة، ويجعل [ابتداء] الحول الثاني من ذلك الوقت؛ لأن مال التجارة قد أقام في يده حولاً، وتم النصاب، فيجعل كأن ملكه في ابتداء المدة ما كان؛ وإنما ملكه بعد تمام المدة بيوم أو شهر، وهذا قول ابن أبي هريرة، وقال في "الوسيط": إنه الأصح. وهو مطرد فيما إذا زادت القيمة بعد ستة أشهر فأكثر؛ كما صرح به الأصحاب. أما إذا كان له ما يكمل به النصاب مثل: أن تكون [له] مائة درهم فاشترى منها بخمسين عرضاً للتجارة وبقيت الخمسون في ملكه، وبلغت قيمة العرض في آخر الحول مائة وخمسين- فإن ذلك يضم إلى ما عنده، وتجب عليه الزكاة في الكل بلا خلاف، وهكذا لو كان قد اشترى عرضاً بمائة درهم، ثم عرضا آخر بمائة درهم ملكها بالإرث بعد شهر ثم بعد شهر آخر اشترى عرضاً آخر بمائة أخرى، فإذا حال الحول على الأول ولم تبلغ قيمته نصاباً، ثم حال الحول على الثاني ولم تبلغ [قيمته] نصاباً، ثم حال الحول على الثالث ولم تبلغ قيمته نصاباً- ضممنا الكل: فإن بلغت القيمة نصاباً وجبت الزكاة، ومن طريق الأولى: إذا بلغت قيمة أحدها نصاباً، وإن لم تبلغ [قيمة] الجميع نصاباً، فلا زكاة حتى يحول حول آخر، ويجيء فيه الوجه الآخر؛ كذا حكاه البندنيجي. وقال القاضي الحسين فيما لو كان قد اشترى العرض بمائتين، ثم في أثناء الحول ورث مائة درهم، فاشترى بها عرضاً آخر للتجارة- ففي آخر الحول هل يضم ما اشتراه بالموروث إلى ما عنده في تكميل النصاب أم لا؟ ينظر: إن كان نقد البلد دراهم فيضم وإن كان دنانير: فإن قلنا: إن ما اشتراه بما دون النصاب من النقد يقوم بجنس ما اشترى به- يضم أيضاً، وإن قلنا: لا يقوم [به؛ بل يقوم] بنقد البلد فلا يضم.

قلت: ومثل هذا لا يجيء فيما ذكرناه؛ لأن المشترى به أولاً دون النصاب، وكذا الثاني، والثالث، فنحن إن قلن: يقوم بجنس ما اشترى به فهو جنس واحد، وإن قلنا: يقوم بنقد البلد فهو جنس واحد؛ فلذلك لم يقع اختلاف في الضم. نعم، لو كان المشترى في بلاد مختلفة النقود وبقي فيها إلى أن حال الحول، جاء التقسيم المذكور، فتأمل ذلك، والله أعلم. ولو كان قد باع العرض في أثناء الحول بنقد لا تقوم به السلعة آخر، فإنه يقوم في آخر الحول: فإن بلغت قيمته نصاباً زكاه باعتبار القيمة، وهل يخرجها من المقوم به أو العين؟ فيه ما تقدم، وإن لم تبلغ قيمته نصاباً نظر [فيه]: فإن لم يكن في نفسه نصاباً فحكمه حكم العرض، وإن كان في نفسه نصاباً مثل: أن يكون قد باع العرض بعشرين ديناراً، وكان ما يقوم به من النقد هو الدراهم، ولم تبلغ قيمة الذهب في آخر الحول مائتي درهم- فإن قلنا فيما إذا كان مال التجارة في آخر الحول عرضاً: إنه ينتظر في إيجاب الزكاة فيه بلوغه نصاباً، فهكذا الحكم هنا فينتظره أيضاً، ولا نوجب فيه الزكاة وإن أقام سنين، وإن قلنا: لا تلزمه الزكاة حتى يحول حول آخر؟ فهاهنا هل يستأنف حول التجارة، أو حول العين؟ فيه وجهان: فإن قلنا بالثاني فمن أي وقت يستأنفه؟ فيه وجهان: أحدهما: من حين وقت التقويم. والثاني: من حين ملك ذاك؛ لأن النصاب حصل في ملكه من ذلك الوقت؛ كذا قاله الإمام والمتولي. وحكى الماوردي قولاً عن رواية الربيع: أن بمجرد بيع العرض في أثناء الحول بنصاب من النقد الذي لا يقوم به، يستأنف الحول ولا يبنى؛ لأن الزكاة قد انتقلت من قيمة العرض إلى عين لا تعتبر في العرض، فلم يجز أن يبني حول أحدهما على الآخر، وقال: إنه الأقيس، وإنه ظاهر المذهب وبه قال جمهور أصحابنا: البناء وهو الأحوط، والله أعلم. قلت: وما نقله الربيع مستمد من أنه إذا اشترى للتجارة ما تجب الزكاة في عينه أن الواجب زكاة العين دون زكاة التجارة، سواء اتفق وقت وجوبها أو

اختلف؛ كما هو قول في المسألة يأتي في آخر الباب وهو الصحيح كما ستعرفه، وإذا كان هذا مأخذه ظهر أنه الأقيس كما قال. [قال]: وإن اشترى عرضاً بمائتي درهم ونض ثمنه وزاد على قدر رأس المال، زكى الأصل لحوله اعلم أن نون "نض ثمنه" مفتوحة، و"ثمنه" فاعل "نض" فيكون مرفوعاً، [ومعناه: صار] ناضاً، وقد سبق أن الناض: هو الدراهم والدنانير خاصة، والمراد هاهنا: إذا نضه بجنس رأس المال وهو الدراهم، وما إذا كان المنضوض في أثناء الحول مثل: أن يكون قد اشتراه في أول المحرم بمائتين مثلاً، ثم بعد مضي أربعة أشهر صارت قيمته ثلاثمائة مثلاً، ثم باعه بذلك بعد شهرين مثلاً فزكى الأصل وهو مائتا درهم لحوله وهو آخر السنة؛ لما تقدم: أن مناط وجوب زكاة التجارة القيمة، وقد مضى عليها حول فوجبت فيها الزكاة؛ لمفهوم قوله- عليه السلام-: "لا زكاة في مالٍ حتَّى يحول عليه الحول". قال: وزكي الزيادة لحولها، أي ويزكي الزيادة وهي المائة في مثالنا لحولها؛ للخبر، ولما روي ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "ليس في مال المستفيد زكاة حتى يحول عليه الحول". ولأنها فائدة غير متولدة مما عنده فأفردت بالحول، كما لو استفيدت بالإرث والهبة. واحترزنا بقولنا: غير متولدة مما عنده عن السخال، فإنها تزكي لحول الأمهات كما تقدم؛ لأنها متولدة منها والربح حصل من كسب المتصرف وتقليبه، وهذا ما نص عليه في "المختصر" وبه قطع ابن سريج. قال: وعلى هذا قال: وفي حول الزيادة- أي: وفي أول [حول] الزيادة- وجهان:

أحدهما: من حين الظهور؛ لأن بالظهور غلب على الظن الحصول، وقد تحقق بالنضوض فأشبه ما لو كان له مال غائب فإن سلامته تظن ولا تتحقق، فإذا رجع إليه تحقق فلزمه زكاته، وهذا هو الأظهر في "المهذب" والأصح في "تعليق" أبي الطيب، وبه كان الشيخ أبو حامد يقول، وحكى البندنيجي عن ابن سريج القطع به. والثاني: من حين نض؛ لأنه حين التحقق وقبل ذلك هي مظنونة، وهذا ما نص عليه كما قال البندنيجي. وقال الشيخ أبو حامد: إنه الصحيح. وتبعه النووي، وعن بعضهم القطع به. قلت: وعلته تقتضي أن الحول إذا حال على العرض وقيمته ثلاثمائة أنه لا تزكى الزيادة؛ لأنها لم تحقق، ولم أر قائلاً به. وقيل: في المسألة قولان: أحدهما: يزكى الأصل لحوله، والزيادة لحولها كما تقدم، وهذا ما اختاره ابن الحداد، وهو الصحيح. والثاني: يزكي الجميع لحول الأصل؛ لأنه نماء الأصل فزكي لحوله كالسخال، وهذا القول مخرج من قول الشافعي في القراض: "إذا دفع الرجل ألف درهم قراضاً، فاشترى بها سلعة وباعها بألفين، فقولان: أحدهما: أن زكاة الألفين كلها على رب المال، والثاني: أن زكاة رأس المال وحصته من الربح على رب المال، وزكاة حصة العامل عليه". قال الأصحاب: وظاهر المذهب هذا: أنه أوجب زكاة جميع الربح، أو نصفه عند تمام الحول، ولم يورده بحول، فخرجوا منه القول الذي ذكرناه، وقد اختاره المزني، وقال في "الحاوي": إنه أصح عندي؛ لأن الأصحاب اتفقوا على أن الحول لو حال على العرض الذي اشتراه برأس المال، وكانت قيمته آخر الحول ثلاثمائة- أنه يزكي الجميع لحول الأصل، ولا فرق بينهما، ومن تكلف الفرق بينهما كان فرقه واهياً وتكلفه عناء. والقائلون بالقول الأول فرقوا بين ما نحن فيه وبين ما إذا حال الحول على

العرض بأن مراعاة القيمة في كل وقت وساعة مع انخفاض الأسعار وارتفاعها [يشق؛ فخفف عنه التقويم في كل وقت وغلظ عليه بأن جعل الاعتبار بآخر الحول، ولا كذلك] إذا نض فإنه لا مشقة في معرفته. وقد قال الإمام: إن من يعتبر النصاب في جميع الحول كما في زكاة الأعيان، قد لا يسلم وجوب الزكاة في الربح في آخر الحول، وقضية قياسه: أن يقول: ظهور الربح في أثناء الحول بمثابة نضوضه. [والمنقول: الأول، وعنه احترز الشيخ بقوله: "ونض ثمنه". وهذه الطريقة- أعني طريقة القولين- قال بها] – كما قال البندنيجي- أبو إسحاق والمزني وغيرهما من أصحابنا، وعبارة الرافعي: "أن عليها الأكثرين"، والماوردي نسبها إلى أبي إسحاق والأنماطي. والقائلون بالأولى حملوا نصه في القراض على ما إذا كانت الزيادة قد ظهرت وقت الشراء، وما نص عليه هنا محمول على ما إذا ظهرت الزيادة وقت البيع أو قبله، فاختلف قوله لاختلاف الحالين في ظهور الزيادة. ومنهم من قال: قصده بما ذكر في القراض بيان من تجب عليه الزكاة قبل المقاسمة، أهو رب المال أو هو العامل فأما أن يكون حول الربح هو حول الأصل أم لا، فهذا مما لم يقصد ولم يوجه الكلام نحوه؛ فلا احتجاج فيه على أنه ليس في اللفظ تصوير الرد إلى النضوض؛ فيجوز حمله على ارتفاع القيمة من غير نضوض. ثم الطريقان جاريان- كما ذكرنا- فيما إذا حال الحول والمال ناض، فلو كان بعد نضوضه قد اشترى به عرضاً آخر، وبقي إلى أن حال عليه الحول- فطريقان:

أحدهما: القطع بأنه يزكي الجميع لحول الأصل فما بلغت قيمة العرض زكاه. وأصحهما: أن الحكم كما لو أمسك الناض إلى تمام الحول؛ لأن الربح بالنضوض بمثابة فائدة استفادها فلا يختلف حكمها بين أن يشتري بها سلعة أو لا – يشتري. وهذه الطريقة ذكرها القاضي الحسين، وعليها فرع، فقال: إذا اشترى بالأصل والزيادة عرضاً، وقلنا: يزكي الجميع لحول الأصل فلا إشكال، وإن قلنا: [إنه] يزكي الأصل لحوله والزيادة لحولها، قومنا عند تمام حول الأصل ثلثي العرض وزكاه، فإذا تم حول الزيادة قومنا ثلث العرض وزكاه. قال: وهكذا لو كان قد اشترى بالمائتين عرضاً، وباعه [بعد مضي أربعة أشهر بثلاثمائة، ثم اشترى بها عرضاً، وباعه بعد مضي أربعة أشهر بأربعمائة، ثم اشترى بها عرضاً]- فيقوم عند مضي أربعة أشهر نصف العرض ويخرج زكاته، وبعد مضي أربعة أشهر أخرى يقوم ربعه ويخرج زكاته فإن بقيت العروض في يده، والمال لم يزد على هذا ولم ينقص، يفعل هكذا أبداً. والله أعلم. قلت: وفيه نظر يظهر لمن طالع ما فرعه ابن الحداد فيما إذا كان المشترى به دنانير، أما إذا كان نضه بدنانير؛ فهو كما لو بادل عرضاً بعرض؛ لأن التقويم لا يقع فيه إلا برأس المال. وحكى الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب: أنه على الخلاف السابق. ولو كان النضوض مع انتهاء الحول [بجنس رأس المال]؛ قال البندنيجي: زكى الجميع لحول الأصل قولاً واحداً، سواء ظهر الربح قبل انتهاء الحول بيوم [أو بعد أول الحول بيوم]. ولو كان النضوض بجنس رأس المال بعد حولان الحول، ولم تزد قيمة العرض بعد الحول شيئاً- فقد حكى الرافعي فيه وجهين: أحدهما: أن الحكم كما لو كان النضوض في أثناء الحول.

وأظهرهما: أنه يستأنف للربح حولاً. أما إذا زادت قيمته بعد الحول ففي البحر: أنه إذا كانت قيمته عند آخر الحول ثلاثمائة فصارت أكثر من ذلك، نظر: فإن كانت الزيادة حدثت بعد إخراج الزكاة فلا تضم وتكون للسنة الثانية، وإن كانت حدثت بعد الإمكان وقبل الإخراج ففيه وجهان ذكرهما ابن أبي هريرة وجماعته: أحدهما- وهو الأصح-: أنها تكون للسنة الثانية كما في السخال. والثاني: تضم؛ لأنها زيادة غير متميزة فتبعت الأصل، كما لو كانت الماشية هزالاً بعد الحول والتمكن ثم سمنت قبل الإخراج- لزمه أن يخرج منها سمينة بخلاف السخال، وإن كانت حدثت قبل إمكان الأداء: فإن قلنا: التمكن شرط الضمان دون الوجوب [فهو كما لو حدثت بعد التمكن؛ ففيها الوجهان، وإن قلنا: إنه شرط الوجوب] ضمت إلى الحول الأول- في قول أكثر أصحابنا- وقد نص عليه في الجديد. وقيل: المذهب [أنه] لا يضم إليها؛ لأنها جارية في الحول الثاني، وهو غلط. ولو كان شراء العرض للتجارة بمائة درهم مثلاً وباعه بعد ستة أشهر مثلاً بمائتي درهم، وبقيت عنده إلى آخر الحول من يوم الشراء- فإن قلنا: إن النصاب لا يعتبر إلا في آخر الحول، وقلنا في مسألة الكتاب: إنه يزكي الجميع لحول الأصل فعليه هنا زكاة المائتين، وإن قلنا [ثَمَّ]: يزكي الزيادة لحولها، لم يزك

هنا مائة الربح إلا بعد ستة أشهر أخرى، وإن قلنا: إن النصاب يشترط في جميع الحول أو في طرفيه، فابتداء الحول في مسألتنا من يوم باع ونض [الثمن] فإذا تم زكى المائتين بلا خلاف. فرع: إذا كان مال التجارة حيواناً أو شجراً، فنتج وأثمر شيئاً لا تجب فيه الزكاة فإذا قلنا: إن حكم الزكاة يتعدى إلى ذلك، ففي الحول وجهان في "الرافعي": أحدهما: أنه على القولين في ربح الناض؛ لأنها زيادة متميزة من مال التجارة، وهذا ما أبداه في "الوسيط" احتمالاً، وإذا قلنا به فابتداء الحول انفصال الولد وظهور الثمار. والثاني- وهو الصحيح، ويحكى عن القاضي الحسين-: أن حوله حول الأصل كالزيادات المتصلة، وكالنتاج في الزكوات العينية. قال: وإن باع عرض التجارة في أثناء الحول بعرض التجارة لم ينقطع الحول؛ لأن زكاة التجارة متعلقها القيمة، وقيمة الأول والثاني واحدة، وإنما انتقلت من سلعة إلى سلعة، فلم ينقطع الحول بذلك؛ كما [لو] نقلت الدراهم من بيت إلى بيت؛ ولأن الحول لو انقطع- والحال هذه- لأدى ألا تجب زكاة في العرض؛ لأن الأرباح لا يمكن تحصيلها إلا بالتقليب والتصرف. ولو باع عرض التجارة بمنفعة دار [أو حانوت]، ونحو ذلك لقصد الاستغلال والاتجار- فهل ينقطع الحول؟ فيه وجهان؛ بناء على أن المملوك بعقد الإجارة إذا قصد به التجارة هل يكون مال تجارة أم لا؟ ومأخذ الخلاف: أنا هل نلاحظ قصد الاتجار أو ما يصدق على متعاطيه [بداية] تاجر؟ ولأجل ذلك قال القاضي الحسين فيما إذا اشترى السمسم أو الحنطة بنية التجارة، وطحن السمسم وعصره، وطحن الحنطة وخبزها ثم باع الخبز والدهن- هل ينقطع حول الزكاة أم لا؟ يحتمل وجهين:

أحدهما: ينقطع؛ لأن ذلك ليس من التجارة، وإنما هو للقنية؛ لأن التجار لا يطلبون الربح بمثل هذا، وإنما يطلبون بالتصرف، ألا ترى أنه لو قارض رجلاً على مال على أن يشتري به الحنطة ويطحنها ويخبزها كان القراض فاسداً؛ لما ذكرناه. والثاني: لا ينقطع وهو الأظهر؛ لأنهم قد يفعلون [مثل] ذلك لزيادة الربح. قلت: وهذا يقوى بما سنذكره من أنا إذا غلبنا زكاة التجارة عند اجتماعها مع زكاة العين أنا نقوم القمح المزروع للتجارة مع الأرض، مع أنه لو قارضه على ذلك لم يصح. ولا خلاف [في] أنه إذا باع [عرض] التجارة بصابون ليغسل به الثياب للتجارة- أن الحول [فيه] ينقطع بخلاف ما لو باعه بصبغ يصبغ به ثياب التجارة، فإنه لا ينقطع؛ لأن عين الصبغ تبقى بخلاف عين الصابون، وفي معناه الأشنان. وقد أفهم قول الشيخ: "بعرَضْ التجارة، أنه إذا باعه بعرض لا يقصد التجارة أن الحول ينقطع، وهذه الحالة تصدق في صورتين: إحداهما: أن يبيعه بعرض للقنية. والثانية: أن يبيعه بعرض ولم يقصد القنية ولا التجارة. ولا شك في الأولى في انقطاع الحول، وأما في الثانية: فالأصح أنه لا ينقطع؛ فإنه لا يكلف في كل عقد أن يقصد به التجارة؛ بل القصد معتبر في أول الأمر، صرح به الرافعي والإمام وغيرهما. وحكى في "البحر" وجهاً: أنه يكون للقنية إذا كان العرض عند مالكه للقنية؛ استدامة لحكم العرض في نفسه قبل شرائه، قال: وهو غلط. فإن قلنا بهذا، كان تقييد الشيخ؛ للاحتراز عن الصورتين، وإن قلنا بمقابله كان الاحتراز عن الصورة الأولى [فقط]. قال: وإن باع الأثمان بعضها ببعض للتجارة- أي: صيرفيا كان أو غير صيرفي- فقد قيل: ينقطع الحول؛ لأنه مال تجب الزكاة [في عينه، فإذا بادل به استأنف] الحول كما لو فعله لغير التجارة، ومنهم من علله- كما قال القاضي

الحسين- بأنه لا ربح في ذلك إلا قليلاً، والزكاة حيث وجبت إنما وجبت [في] مال كثر نماؤه، [ويتغابن الناس بالتبايع] فيه، وهذا ما ادعى البندنيجي أنه المذهب، وأن به قال ابن سريج، وأبو إسحاق، وقال الماوردي والروياني: إنه أقيس، وحكي عن ابن سريج أنه قال: بشر الصيارفة بأنه لا زكاة عليهم. وقيل: لا ينقطع؛ كما لو بادل عرضاً للتجارة بعرض للتجارة. وهذا ما نسبه البندنيجي إلى الإصطخري، والماوردي إلى أبي العباس، والقاضي الحسين إلى القديم، وصححه النووي، وقال الماوردي: إنه أحوط، والخلاف المذكور [في] كلامه في "الأم" دال عليه. قال البندنيجي: ولا وجه معه لمن قال: إن أصله إذا ملك أربعين شاة سائمة للتجارة، [فهل تجب زكاة التجارة أو زكاة العين؟ وفيه قولان: فإن قلنا: زكاة التجارة] بنى، وإن قلنا: زكاة العين، استأنف. وعنى بذلك الشيخ أبا حامد، فإن ابن الصباغ حكى البناء عنه. نعم، هذان القولان أصل لوجهين ذكرا فيما إذا كان عنده أربعون شاة [سائمة للتجارة] ستة أشهر، فاشترى بها أربعين شاة سائمة للتجارة، فهل يبني أو يستأنف؟ على وجهين؛ بناء على الأصل المذكور، والله أعلم. قال: وإن اشترى للتجارة ما تجب الزكاة في عينه، وسبق وقت وجوب زكاة العين، بأن اشترى نخيلاً فأثمرت وبدا فيها الصلاح قبل الحول- وجبت زكاة العين، وإن سبق وقت وجوب زكاة التجارة بأن يكون [عنده] مال للتجارة، فاشترى به نصابا من السائمة- أي: كخمس من الإبل،

أو ثلاثين من البقر، أو أربعين من الغنم- وجبت زكاة التجارة؛ لأن السابق منهما قد وجد سبب زكاته سالماً عن المعارض فوجبت زكاته كما لو كان كل منهما منفرداً. وفي معنى الصورة الأولى: ما إذا اشترى أرضاً للتجارة فزرعها ببذر التجارة، أو اشتراها مزروعة للتجارة، وانعقد الحب قبل الحول- فإنه تجب عليه زكاة الزروع، وكذا لو اشترى ثمرة قبل بدو الصلاح بنية التجارة والأشجار في ملكه، وصححنا ذلك من غير شرط القطع، أو اشتراها بشرط القطع ولم يتفق القطع حتى بدا الصلاح، وقلنا: لا يبطل البيع كما ذكرنا في البيع – فإن الزكاة تجب لما ذكرناه. قال: وإن اتفق وقت وجوبها- أي: [مثل: أن] اشترى بما لا تجب الزكاة فيه نصاباً من السائمة للتجارة، وأقام في يده بهذه الصفة سنة، أو اشترى نخيلاً للتجارة فاتفق وقت زهوها وقت [تمام حول] التجارة، وكل منهما يبلغ نصاباً- ففيه قولان- أي: في القديم كما قال البندنيجي وابن الصباغ، والقفال في شرح "التلخيص"، وفي القديم والجديد كما قال القاضي أبو الطيب وغيره: فأحد القولين: أن الواجب زكاة التجارة؛ لمعنيين: أحدهما: أنها أعم من زكاة العين وأحصر؛ لاستيعابها الأصل والفرع كما ستعرفه، واختصاص زكاة العين بالفرع من دون الأصل. والثاني: [أنها] أقوى من زكاة العين وأوكد؛ لوجوبها في جميع السلع والعروض، واختصاص زكاة العين ببعض دون بعض. وهذا القول منقول في القديم بالاتفاق. والقول الثاني: أن الواجب زكاة العين؛ لمعنيين: أحدهما: أنها أقوى من زكاة التجارة وأوكد؛ لأنها وجبت بالنص مع انعقاد الإجماع عليها وكفر جاحدها، وزكاة [التجارة] وجبت بالاجتهاد مع حصول

الاختلاف فيها؛ ولذلك لم يكفر جاحدها فكان المجمع عليه أولى من المختلف فيه. والثاني: أن زكاة العين في الرقبة، وزكاة التجارة في القيمة، فإذا اجتمعا كان ما يتعلق بالرقبة أولى بالتقدمة، كالعبد المرهون إذا جنى. وهذا ما نص عليه في "الأم"، وحكاه في "المختصر"، وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي، وكذا أبي حفص بن الوكيل وابن أبي هريرة، كما قال الماوردي. وحاصله: تخصيص محل القولين بحالة الاتفاق في وقت الوجوب، فإن اختلف فالمعتبر المتقدم. [وقد حكى الإمام طريقة أخرى: أن محل القولين- كما قال أبو إسحاق- عند الاتفاق في وقت الوجوب، [فإن اختلف] فالمعتبر المتأخر] وهذه الطريقة ذكرها الفوراني أيضاً. قال: وقيل: القولان في الأحوال كلها؛ لأن الشافعي أطلق ولم يفصل، وهذه الطريقة اختارها القاضي أبو حامد، وقال في "جامعه": إن تفصيل أبي إسحاق لا يعرف للشافعي، ولا يقتضيه ظاهر كلامه؛ لأن الشافعي فرض الكلام في الثمرة، ويبعد أن يوافق آخر جزء من حول التجارة أول بدو الصلاح. وقال القاضي أبو الطيب: الذي قاله أبو إسحاق أصح؛ لأن الشافعي نص على أنه إذا باع عروض التجارة قبل الحول بدنانير، وكان قد اشترى العرض بدراهم، وحال الحول والدنانير في يده- فإن الدنانير تقوم ويخرج الزكاة من قيمة الدنانير، والعلة في ذلك ليست [إلا أن] حول زكاة التجارة سبق تمامه على تمام حول زكاة العين. قلت: وتتمته: أن الكتاب الذي نص فيه على هذا هو الذي نص فيه على وجوب زكاة العين، وهو "المختصر". وفي "البحر" طريقة أخرى: أنا نعتبر ما هو الأحظ للمساكين وأوفر لهم، فيحمل رب المال عليه.

وبهذه الطريقة يحصل في المسألة أربع طرق، والذي صححه الإمام والبغوي منها: طرد القولين في الأحوال المذكورة كالقاضي أبي حامد، وعلى هذه الطريقة: إن اختلف وقت وجوبهما نظرت: فإن كان السابق وقت وجوب زكاة العين كما صورنا، فإن قلنا بتقديم زكاة العين، أوجبنا زكاة العين. قال الإمام: [وحينئذ] فإذا كانت الثمار [مشتراة] للتجارة، فلا يسقط اعتبارها بالكلية في المستقبل؛ فإن التجارة قائمة متجددة في الأحوال المستقبلة، فالوجه أن يبتدئ حول التجارة من [حين وقت] الجفاف لا من وقت بدو الصلاح؛ إذ يجب على المالك تربية العشر إلى الجفاف، ويستحيل أن يكون في تربية العشر ويكون ذلك الزمان محسوباً من حول آخر. وإن قلنا بتقديم زكاة التجارة [ولم نأخذ زكاة العين وانتظرنا زكاة التجارة]- فإذا تم حولها وهي نصاب أخذت منه. ولو كان السابق وقت وجوب [زكاة] التجارة كما صورنا، فإن قلنا بتقديم زكاة [التجارة وبلغ المال نصاباً أخذت، وإن قلنا بتقديم زكاة] العين فهل يبنى حولها على حول العرض؟ فيه وجهان- حكاهما الماوردي، والقاضي الحسين-: أحدهما- وهو قياس قول الإصطخري-: أنه يبنى حولها على حول العرض؛ [لأنه لما جاز أن يبنى حول العرض على حول السائمة، جاز أن يبنى حول السائمة على حول العرض]. والثاني: يبتدئ لها الحول من [حين] شراء السائمة؛ [لاختلافهما في النصب] وقدر الزكاة، وهذا ما أورده البغوي وغيره، وعلى هذا ينتظر وقت وجوبهما: فإذا كانت نصاباً آخر الحول أخذت، وكانت الأشهر الماضية قبل شراء السائمة ساقطة. وحكي الإمام- مع هذا- وجهاً آخر: أنا نأخذ زكاة التجارة عند تمام حولها، ويعقد حول زكاة العين من منقرض سنة التجارة، أما إذا اتفق وقت وجوب

الزكاتين وبلغ المال نصاباً بالنسبة إلى إحدى الزكاتين دون الأخرى، مثل: أن اشترى أربعين شاة سائمة للتجارة وتم الحول عليها، وقيمتها تنقص عن نصاب التجارة، أو اشترى ثماراً للتجارة فبدا الصلاح فيها وهي خمسة أوسق وقيمتها دون نصاب التجارة- وهذان المثالان في طرق واحد- أو اشترى أربعين من الغنم السائمة للتجارة فنقصت واحدة آخر الحول، وقيمتها تبلغ نصاب التجارة، أو كانت الثمرة المشتراة دون خمسة أوسق عند بدو الصلاح وقيمتها تبلغ نصاب التجارة. فالذي ذكره العراقيون والقفال والجمهور، كما قال الرافعي: أن عليه الزكاة التي كمل نصابها دون الأخرى قولاً واحداً. وقال الإمام تبعاً للفوراني، والقاضي الحسين: إنا إن غلبنا زكاة التجارة فكان المال آخر الحول دون نصابها، [فهل تجب زكاة العين إذا كان نصابها] تاماً آخر حولها أو لا يجب عليه شيء؟ فيه وجهان جاريان: فيما إذا غلبنا زكاة العين فكان المال آخر حولها دون النصاب وبلغت قيمته نصاب التجارة، فهل تجب زكاة التجارة، أو لا يجب شيء؟ ووجه عدم الوجوب: أنا أسقطنا حكمها على هذا القول الذي عليه نفرع؛ فلا يرجع إليها. ووجه الوجوب: أن سببي الزكاتين قد اجتمعا وعسر الجمع بينهما لازدحامهما وتقديم إحداهما ليس بإسقاط للأخرى؛ ولكنه تقديم لأجل المزاحمة، فإذا انتفت بفقد [أحد السببين] عمل السبب الآخر، وصار هذا كمن قتل شخصين فإنه يقاد بالأول منهما، فلو عفا وليه أقيد بالثاني. قلت: وللخلاف في الصورة الأولى التفات على أصل تقدم لا غنى عن ملاحظته، وهو ما إذا اشترى في أثناء الحول بعرض التجارة نصاباً من النقد الذي لا يقوم به مال التجارة آخر حولها، وتم حول التجارة، وقيمة ما اشتراه من النقد ينقص عن النصاب المقوم به فإنا هل نوجب زكاة النقد المشترى أم لا؟ فيه

خلاف يبنى على أن مال التجارة إذا كان آخر الحول عرضاً قيمته دون النصاب، ثم زادت قيمته بعد ذلك بيوم أو شهر، هل لا تلزمه الزكاة إلى أن يحول عليه حول آخر [وهو نصاب] أو يجعل آخر حوله عند انتهائه إلى النصاب؟ فإن قلنا: لا يستأنف لم نوجب زكاة النقد المشترى، وإن قلنا: يستأنف [فكذلك هاهنا يستأنف]، لكن حول زكاة التجارة، أو حول زكاة النقد المشترى؟ فيه وجهان: فإن قلنا بالثاني فمن أي وقت يستأنف؟ فيه وجهان: أحدهما: من [حين] التقويم ونقص نصاب التجارة. والثاني: من حين ملك ذلك. وقد أشار القاضي الحسين إلى مثل ذلك فيما نحن [فيه]. وقد وافق البغوي من ذكرنا في حكاية الخلاف في الصورة الأولى، وقال: إن الأصح الانتقال إلى زكاة العين، وإن- على هذا- يخرج في الحال زكاة الثمار؛ لأنه لا يعتبر فيها حول، وأما الماشية فهل تخرج زكاتها في الحال، أو يستأنف لها الحول من وقت التقويم؟ فيه وجهان. واقتضى كلامه في الصورة الثانية موافقة العراقيين حيث قال بعد سرد المسألة وغيرها: هذا كله في اجتماع النصابين، أما إذا اشترى نخيلاً أو أرضاً مزروعة للتجارة، فخرجت أقل من خمسة أوسق، أو اشترى من السائمة أقل من نصاب بنية التجارة- تجب عليه زكاة التجارة إذا تم الحول وقيمتها نصاب قولاً واحداً؛ لأن زكاة العين لا تجب هاهنا كما لو اتهب نصاباً من السائمة بنية التجارة تجب عليه زكاة العين إذا تم حوله؛ لأن حول التجارة لم ينعقد بالاتهاب. نعم، لو اشترى من السائمة أقل من النصاب بنية التجارة فبلغت بالنتاج في أثناء الحول نصاباً، وكانت قيمته أقل من نصاب آخر الحول- فمن أصحابنا من قال: لا زكاة عليه؛ لأن الحول انعقد على زكاة التجارة فلا يتبدل، ومنهم من قال: ينتقل إلى زكاة العين، وعلى هذا فابتداء حولها من حين يتم النصاب بالنتاج أو من [وقت] نقصان قيمتها عن نصاب التجارة؟ فيه وجهان [وسبق مثلهما. وقد حكى الرافعي عن رواية القفال: أنا إذا غلبنا زكاة العين في نصاب

السائمة، وانتقصت في خلال السنة عن النصاب، ونقلناه إلى زكاة التجارة، فهل ينبني حول التجارة على حول زكاة العين، أم يستأنف لها حولاً؟ فيه وجهان] كالوجهين فيما لو ملك نصاباً من السائمة لا للتجارة، [فاشترى به سلعة للتجارة]. ثم اعلم: أنا حيث غلبنا زكاة التجارة قومنا ثمرة النخل، والجذع وأرض الجذع، والزرع وأرض الزرع، والماشية مع درها ونسلها وصوفها وما اتخذ من لبنها، وأخذنا زكاة الجميع عند بلوغه نصاباً، صرح به القاضي أبو الطيب [وابن الصباغ والبغوي] وغيرهم. وفيه وجه تقدم أن الثمار الحادثة ليست مال تجارة. ويجيء وجه أنه لا تجب زكاة التجارة في البذر المشترى بنية التجارة إذا زرعه بقصد التجارة؛ أخذاً مما حكيناه عن القاضي الحسين فيما إذا اشترى السمسم وعصره أو الحنطة وطحنها: أن الحول لا ينقطع؛ لأن ذلك لا يعد تجارة، وكذلك الزراعة لا تعد تجارة. وحيث غلبنا زكاة العين أخرج العشر من الثمار والزروع، وأخرج السن الواجبة من السائمة والسخال تضم إلى الأمهات، ولا يبقى بعد أخذ زكاة السائمة لإيجاب زكاة التجارة موضع، وبعد أخذ زكاة الزروع والثمار، هل تجب زكاة التجارة في أصول النخل، والأرض المزروعة، والتبن، والصوف، والدر؟ فيه قولان: أحدهما- وهو القديم-: نعم، فيقوم ذلك، ويخرج زكاة التجارة عنه. قال البندنيجي: وهو المذهب. وقال في "البحر" إنه ظاهر المذهب. وغيرهما نسبه إلى ابن سريج وأبي إسحاق، وجعل الإيجاب هو الأظهر. والثاني: لا. وحكي القاضي الحسين عن بعض الأصحاب وجهاً ثالثاً، وادعى أنه نص

الشافعي: أنا لا نقوم النخيل والتبن، [ونقوم الأرض] المزروعة، والفرق: أن الثمار تتولد من غير النخيل، وقد أدى الزكاة منها فلا نقوم النخيل، وكذا التبن يتبع الحنطة؛ لأنها خرجت منه، بخلاف الزرع؛ فإن الحنطة ما تولدت من عين الأرض، وإنما هو مودع فيها فبقي عليه حق قيمة الأرض. وسلك الإمام في حكاية الخلاف طريقاً آخر، فقال: "هل تجب زكاة التجارة في الأشجار أم لا؟ فيه وجهان: فإن أوجبناها فيها ففي الأراضي الوجوب أولى، وإن قلنا: لا تجب في الأشجار ففي المغارس وجهان. والفرق: بعد الأراضي عن التبعية؛ فإن الثمار جزء من الأشجار، وليست جزءاً من الأراضي، ثم ينبغي أن يقال: كل ما يدخل في معاملة المساقاة فتجب زكاة التجارة فيه قطعاً. وهذا إذا بلغت قيمتها نصاباً، فإن لم تبلغ [قيمتها] نصاباً وأوجبنا زكاة التجارة فيها، فهل تضم قيمة الثمرة إلى قيمة الجذوع وقيمة البذر في استكمال النصاب؟ فيه وجهان في "التهذيب" وغيره. وادعى القاضي الحسين أن الظاهر عدم الضم، وعلى مقابله قال: يخرج بقدره من الأرض والجذوع زكاة التجارة؛ لأنه اشتراه للتجارة، قال: والوجهان يقربان من قولنا: إنا إذا غلبنا إحدى الزكاتين فانتقص نصابه هل يعدل إلى الآخر؟ وفيه جوابان. ولا خلاف في أنه لا تجب الزكاتان في المال الواحد؛ لأن سببهما واحد وهو المال، وهذا بخلاف زكاة الفطر، فإنها تجب بسبب عبيد التجارة مع زكاة التجارة [فيهم، خلافاً لأبي حنيفة؛ فإنه أسقط زكاة الفطر وأوجب زكاة التجارة] حذراً من الجمع بين زكاتين. والفرق على مذهبنا: أنهما حقان اختلف موجبهما فجاز أن يجمع موجبهما؛

كالقيمة مع جزاء الصيد، وإنما قلنا: إن موجبهما مختلف؛ لأن زكاة الفطر تؤدي عن البدن دون المال؛ ولهذا تجب على الأحرار، وزكاة التجارة تؤدى عن المال، كما أن زكاة العين تؤدي عن المال. وقد أبطل الماوردي مذهبه بأن إحداهما لو أسقطت الأخرى لكان سقوط [زكاة] التجارة أولى؛ لأن زكاة الفطر مجمع على وجوبها، وزكاة التجارة مختلف في وجوبها؛ فصار هذا كما قال في الخراج المضروب على الأرض والعشر الواجب للزرع، ولما بطل هذا بطل ذاك. وكذا [لا خلاف] فيما لو زرع الأرض المشتراة للتجارة ببذر للقنية: أنه يجب عليه زكاة التجارة في الأرض والعشر في الزرع، قاله القاضي الحسين وغيره.

باب زكاة المعدن والركاز

باب زكاة المعدن والركاز المعدن- بفتح الميم، وكسر الدال- اسم للمكان الذي خلق الله تعالى فيه الجواهر: من الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، وغير ذلك. وقال في "التتمة": إنه اسم للعروق المخلوقة في الأرض: كالذهب، والفضة، والحديد، وغير ذلك. والأول هو المشهور. قال الأزهري: وسمي بذلك، لعدون ما أنبته الله تعالى فيه- أي: إقامته- يقال: عدن بالمكان، يعدن- بكسر الدال- عدونا: إذا أقام به، والعدن:" الإقامة. وقال الجوهري: سمي معدناً؛ لإقامة الناس فيه، ولا ينفك عن المعنيين قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] فإنها جنات إقامة. وقال في "التتمة" بناء على ما ذكرناه: إنما سمي بذلك، لطول مقامه في الأرض. وقد قيل في البلد المشهور: [إنه] إنما سمي عدن؛ لأنه كان حبساً لتبع يقيم فيه أصحاب الجرائم. والركاز- بكسر الراء- لغة: ما دفنه مسلم أو كافر في الأرض، سمي بذلك؛ لأنه ركز في الأرض: أي أقر؛ كما يقال: ركزت الرمح في الأرض، إذا غرزته فيها. وقال في "التتمة" وغيره: سمي بذلك؛ لاختفائه تحت الأرض؛ لأن الرمح يختفي أحد طرفيه في الأرض، قال الله - تعالى-: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} [مريم: 98] أي: صوتاً خفيّاً.

ومن هنا أطلق اسم "الركاز" على المعدن؛ لاختفائه تحت الأرض. والأصل في وجوب الزكاة في المعادن- قبل الإجماع- من الكتاب، قوله تعالى: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ} [البقرة: 267]، والمعدن مما أخرج لنا من الأرض؛ فكان الإنفاق منه واجباً. ومن السنة: ما روى أبو داود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع بلال بن الحارث المزني المعادن القَبَلِية جَلْسِيَّها وغَوْرِيَّها، وحيث يصلح للزرع من قُدْسٍ، ولم يُقْطِعْه حقَّ مسلمٍ". وكتب إلى كعب ليأخذ منه الزكاة. والمعادن القبلية: بتحريك القاف، والباء ثانية الحروف، نسبة إلى موضع في ناحية الحمى على ساحل البحر بين المدينة وبينه [مسيرة] خمسة أيام. قال القاضي الحسين: وقد روي: القبلية، [و] من روى هذا يعني ناحية القبلة. قال ربيعة بن عبد الرحمن: إلى زماننا هذا يؤخذ منه الزكاة.

ومعنى قوله: "جلسيها"، أي: نجديها؛ لأن "نجداً" يسمى جلساً. وقوله: "غوريها": نسبة إلى غور منها. وقوله: "من قدس": هو الموضع المرتفع من الأرض يصلح للزراعة. وسيأتي الكلام في الخبر في باب إحياء الموات. قال: إذا استخرج من معدن في أرض مباحة، أو مملوكة له- نصاباً من الذهب أو الفضة، وهو من أهل الزكاة، دفعة أو في أوقات متتابعة، أي: عادة وإن تفرقت حساً، كما إذا عمل النهار إلا [في] وقت الاستراحة، وترك العمل [في الليل]، (لم ينقطع فيها عن العمل بترك [أو إهمال]- أي: لم يعرض عن ذلك، ولم يشتغل عنه بشغل آخر لا يتعلق به- وجبت عليه الزكاة؛ لما ذكرناه. تنبيه: أخرج الشيخ بقوله: "مباحة"، المملوكة للغير؛ فإن المستخرج منها يكون لذلك الغير إن كان ملكه محترماً وزكاته على مالكه إذا أخذ إن كان من أهل الزكاة لا على المخرج، فإن لم يكن ملكه محترماً؛ كالحربي فقد قال في "الحاوي" في كتاب السير: إن المأخوذ يكون غنيمة إذا كانت المعادن في دار الحرب. وقوله: "أو مملوكة له": أراد به الاحتراز عن مذهب أبي حنيفة، فإن عنده: أن المعدن المملوك يزكيه زكاة سائر أمواله. وأخرج بقوله: "نصاباً" ما إذا استخرج دون النصاب؛ فإنه لا زكاة فيه عند العراقيين، وادعوا أنه لا يختلف [مذهب الشافعي في ذلك] لقوله- عليه السلام-: "وليس عليك شيء- يعني: في الذَّهب- حتى يكون لك عشرون ديناراً، وليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة" كما تقدم، ولأن المأخوذ من المعدن زكاة، بدليل حديث بلال بن الحارث، وما وجب زكاته اعتبر في المأخوذ منه [أن يكون] نصاباً كسائر الزكوات. وقال المراوزة: إن النصاب إنما يعتبر جزماً إذا أوجبنا في المعدن ربع العشر،

أما إذا قلنا: إن الواجب فيه الخمس ففي اعتبار النصاب قولان: أحدهما: عدم اعتباره كما في الغنيمة. والثاني: يعتبر؛ لاختصاصه بالذهب والفضة، بخلاف الغنيمة، وهذا ما صححه في "التتمة". وقال في "الحاوي": إن القائل بعدم اعتباره أخذه من قول الشافعي في بعض المواضع: "لو كنت الواجد له لزكيته بالغاً ما بلغ". قال: ولا وجه لذلك؛ فإن الشافعي ذكر هذا على سبيل الاحتياط لنفسه؛ ليكون خارجاً من الخلاف كما قال في السفر: "أما أنا فلا أقصر في أقل من ثلاث". قال القاضي الحسين والفوراني وغيرهما: إذا اعتبرنا النصاب فليس من شرطه أن يكون مستخرجاً من المعدن، بل إذا كان له بعض المال فاستخرج مقداراً بحيث لو ضم له ذلك كان نصاباً، فإنه يخرج من الذي استخرج بحصته، وعلى هذا قال ابن الحداد: لو ملك تسعة عشر ديناراً، فاستخرج من المعدن ديناراً، فإنه يضم حتى يستكمل النصاب، ويخرج منه واجبه إذا قلنا بعدم اعتبار الحول، ومن طريق الأولى إذا استخرج من المعدن التسعة عشر ديناراً، وترك العمل بغير عذر، ثم عاد واستخرج منه ديناراً: أنه يخرج [منه] واجب الدينار. وقال في "البحر": إن بعض الأصحاب خرج قولاً: أنه لا شيء في الدينار؛ لأن حكمهما مختلف، فلا يضم. وقد حكاه الإمام عن رواية الشيخ أبي علي في "الشرح" [وجهاً]، موجهاً له بأنه [كما] لا يضم الدينار إلى التسعة عشر ليخرج زكاتها؛ فكذا لا تضم إليه لتخرج زكاته، وهو بعيد. وفي "التتمة": أنه قول الشيخ أبي حامد، وأنه طرده فيما إذا كان يملك من غير المعدن نصاباً جارياً في الحول؛ استدلالاً بقول الشافعي في "الأم": ولو استفاد ركازاً لا زكاة فيه، واستفاد في الغد مثله، ولو جمعا وجبت فيهما- لم يكن في واحد منهما خمس.

والصحيح الأول، وصورة مسألة الشافعي: إذا كان الأول قد تلف، وعلى كلا الوجهين: يعقد للمال حول من حين كمل النصاب إلا أن ينفصل النصاب بما يخرجه، ولو كان ما وجده في المعدن دون النصاب، وكان يملك مالاً للتجارة يكمل به النصاب-[و] مثاله: أن يكون قد استخرج من المعدن مائة درهم، وفي ملكه عرض للتجارة قيمته مائة- فله ثلاث أحوال: الحالة الأولى: أن يكون قد استخرج المائة من المعدن مع آخر جزء من الحول حيث يتم حول المائة مع هذا النيل من غير فرض تقدم ولا تأخر، فحق المعدن واجب في المائة على الأصح، وتجب زكاة التجارة في العرض تفريعاً على الأصح في أن النظر في زكاة التجارة لآخر الحول. قال الإمام: وهذا حسن فقهه، لكن نيل المعادن غير مستفاد من جهة التجارة، وقد ذكرنا في زكاة التجارة عن ابن سريج: أن الجارية المشتراة للتجارة إذا ولدت لم يضم الولد إليها، فالنيل أولى بألا يضم، وقد ذكرنا في شراء الأشجار للتجارة: أن الثمار في حساب التجارة مضمونة، وهذا أيضاً يخالف ما ذكره ابن سريج في الولد، ولسنا نحكم بقول ابن سريج على هذه الأصول، بل يستدل بها على تزييف ما حكيناه عن ابن سريج. قلت: ولا دليل فيها على فساد مذهب ابن سريج؛ لأن دعوى ابن سريج: أن ولد الجارية لا يقوم معها لتجب فيه زكاة التجارة؛ لأنه عرض تجدد في ملكه بغير معاوضة ولا بنية تجارة، والعرض إنما تجب فيه الزكاة إذا كان للتجارة، ونتاج الجارية ليس من صنوف التجارة؛ فلا جرم قال بعدم الضم، ومسألة الثمرة، قد تقدم [أن] الخلاف فيها كالولد، والكلام هاهنا مفروض فيما إذا وجد من المعدن الجنس الذي يقوم به عرض التجارة دون ما عداه، ونحن إذا وجدنا في ملك صاحب [مال] التجارة من جنس المال الذي يقوم به عرض التجارة كملناه به، وإن لم يكن للتجارة، دليله: ما تقدم من أنه إذا كان معه مائة درهم، فاشترى بخمسين منها عرضاً للتجارة، وتم الحول وقيمته مائة وخمسون،

والخمسون باقية في ملكه- فإنا نوجب عليه زكاة التجارة؛ نظراً إلى تكملة نصابها بما بقي على ملكه من المائة وإن لم تكن للتجارة، فتأمل ذلك. وقد ذكر الإمام عن الشيخ أبي علي أنه حكى ما ذكرناه فيما إذا كان في ملكه مائة عتيدة لا للتجارة، واستخرج من المعدن مائة مع تمام حول المائة العتيدة- ضم ثم قال: وما ذكره من إيجاب زكاة المستخرج من المعدن على وجهه، وأما إيجاب زكاة المائة العتيدة فسهو عظيم؛ فإن المائة لم ينعقد عليها حول حتى يفرض لها آخر، ولا شك أن المائة لا زكاة فيها في الصورة التي ذكرناها. قلت: وما حكاه الشيخ أبو علي قد ذكره القاضي أبو الطيب والماوردي في أوائل باب صدقة الغنم عن بعض الأصحاب، وحكاه الرافعي عن رواية صاحب "الإفصاح"، ووجه بأن الدراهم التي وجدها ركازاً وجبت عليه زكاتها في الحال، فهي بمثابة المائة التي مكثت في يده حولاً، وإذا كانت بمثابتها وجبت فيهما الزكاة؛ لأنهما نصاب، وما ذكره الإمام قد حكوه أيضاً عن بعض الأصحاب، فانتظم في المسألة وجهان. الحالة الثانية: أن يجد المائة في أثناء حول التجارة وقيمة العرض مائة، فقياس قول ابن الحداد- كما قال الإمام-: إيجاب حق المعدن في المائة التي وجدها، فإنا نكمل النصاب بالمائة في مالية التجارة، ونوجب حق المعدن دون زكاة التجارة. [وقال الرافعي: إن بذلك أجاب ابن الحداد، واختاره أبو الطيب، وهو ظاهر نصه في "الأم"]. وفي المسألة وجه آخر حكاه الشيخ وذكره العراقيون: أنه لا يجب في النيل حقه أيضاً، وقد تقدم نظيره. الحالة الثالثة: أن يجد المائة بعد تمام حول التجارة، وقيمة عرض التجارة حين حال الحول وبعده مائة، فهذا يبنى على أن عرض التجارة لو كانت قيمته آخر الحول دون النصاب، ثم بلغت قيمته بعد ذلك نصاباً- هل نجعل حالة بلوغه النصاب انتهاء حوله حتى نوجب فيه زكاة الركاز، أو نستأنف له الحول من

حين انقضى الحول الأول؛ تفريعاً على الصحيح في اعتبار نصاب التجارة آخر الحول فقط؟ وفيه خلاف تقدم في الكتاب. فإن قلنا بالأول كان الحكم في مسألتنا كالحكم في [الحالة الأولى من أحوالها. وإن قلنا بالثاني كان الحكم في مسألتنا كالحكم] في الحالة الثانية. ثم ما ذكرناه تفريع على عدم اعتبار الحول في المستخرج من المعدن، ولا فرق فيه بين أن نقول: الواجب في زكاة المعدن ربع العشر أو الخمس، وإن كان موجب زكاة التجارة والمعدن مختلف صرح به الإمام وغيره. وأخرج الشيخ بقوله: "من الذهب أو الفضة"، غيرهما من الجواهر المنطبعة: كالحديد والنحاس وغيرهما، وغير المنطبعة: [كالفيروزج والياقوت ونحوهما؛ فإنه لا زكاة في ذلك عندنا خلافاً لأبي حنيفة في المنطبعة]، ولأحمد في المنطبعة وغيرها للآية. ودليلنا على أبي حنيفة: أنها جنس مقوم مستفاد من المعدن، فوجب ألا يتعلق به حق المعدن؛ قياساً على الفيروزج والبرام. وعلى أحمد قوله- عليه السلام-: "لا زكاة في حجر" وبالقياس على الطين الأحمر. وقد حكى في "الوسيط" وجهاً رواه الرافعي عن حكاية الشيخ أبي علي في "شرح التلخيص": أنها تجب في كل معدن. وبقوله: "وهو من أهل الزكاة" المكاتب، وكذا العبد إذا أذن له السيد في استخراج ذلك على أن ما يخرجه يكون ملكاً له. وفرعنا على أن العبد يملك بتمليك السيد،

فإن النيل يكون للعبد كما حكاه ابن الصباغ وأبو الطيب، ولا زكاة عليه. نعم إن قلنا: لا يملك بتمليك السيد كان النيل للسيد، وزكاته عليه، وقد ادعى الإمام في أثناء قسم الصدقات: أنا إذا حكمنا بأن العبد يملك بتمليك السيد، فلو قال له: ملكتك ما تحتطبه وتصطاده، أو ما تتهبه، فإذا وجد سبب من هذه الأسباب لم يحصل الملك للعبد؛ فإن التمليك لا يحصل إلا من جهة السيد في ملك حاصل، وتمليك الأسباب لا يملك العبد ما [يحصل] بها. والكافر ممنوع من معادن دار الإسلام، فإن أخذ منها شيئاً لم يملكه على وجه حكاه الماوردي، وطرده في أخذه الركاز. وقال الإمام: إنه يملك المستخرج من المعدن. وأبدى في ملكه الركاز احتمالاً بعد حكايته عن الأصحاب: أنه يملكه، ووجه احتماله: بأن الركاز [صار] كالحاصل في قبضة الإسلام، وهو في حكم مال تحصل للمسلمين ضال عنهم. والصحيح الذي نص عليه في "الأم": أنه يملكه ولا يجب عليه عندنا شيء، بناء على الأصح في أن مصرف ذلك مصرف الزكاة خلافاً لأبي حنيفة، فإنه أوجب عليه فيه الخمس بناء على أصله في أن الواجب في المعدن غير زكاة، ولأجل مخالفته أكد الشيخ ما ذكره في أوائل كتاب الزكاة بقوله هنا: "وهو من أهل الزكاة"؛ حتى يخرج الذمي وغيره. قال الأصحاب: والفرق بين ما قلناه هنا من أن الكافر يملك نيل المعدن، وبين

ما قلناه في الإحياء: أنه لا يملك [بالإحياء في دار الإسلام- أن ضرر الإحياء مؤبد فلم يملك به وضرر عمله في المعدن غير مؤبد فملك به]؛ كما يملك الصيد والماء [العد]. وبقوله: "دفعة، أو في أوقات متتابعة" ما إذا حصل في أوقات متفرقة عادة بترك أو إهمال، كما ذكرناه، فإنه لا يضم بعضه [إلى بعض]؛ فإنه لا مرجع في ذلك إلا العرف، والعرف يعد كلا منهما مالاً منفرداً، وهذا بخلاف الثمرة [فإن] العام يجمعها. قال الأصحاب: وإنما ضم بعضه إلى بعض عند التواصل في العمل عادة أنه لابد من وقوع مهلة بين النيل، فلو قلنا: لا يضم أدى ذلك إلى سقوط الزكاة عنها، ألا ترى أن ظهور الصلاح في بعض الثمار بمنزلة ظهوره في الكل؟ لأنا لو اعتبرناه ثمرة ثمرة سقطت الزكاة [فكذا المعادن]. فإن قلت: قد تقدم أن المذهب الصحيح الذي قال به ابن الحداد ضم الدينار الذي وجده من المعدن بعد انقطاع العمل إلى ما وجده من قبل في تكملة النصاب، فكيف أطلقتم هاهنا القول بعدم ضم البعض إلى البعض، واتبعتم في ذلك البندنيجي، وابن الصباغ وغيرهما؟ قلت: المراد بالضم في حال توالي العمل عادة أنا نضيف الأول إلى الثاني، والثاني إلى الأول في إكمال النصاب، ونوجب زكاة المجموع سواء كان ما وجده أولاً قائماً حين وجدان الثاني، أو أتلفه المالك، كما صرح به الماوردي والبغوي وغيرهما، وهو المنفي عند تفريق العمل بترك وإهمال، والضم الذي ذكرناه عن ابن الحداد منوط بما إذا كان ما وجده أولاً قائماً فثبت الفرق بينهما. وقد أفهم كلام الشيخ: أن الانقطاع عن العمل بدون ترك أو إهمال غير مانع من الضم، وهو الذي ذكره العراقيون ومثلوا ذلك بما إذا انقطع [لأجل]

انكسار آلة العمل أو تعذر أداة، أو لهرب عبد، أو لخوف على نفسه أو جرح، وما أشبه ذلك، ولا فرق عندهم بين أن يطول زمان الانقطاع أو يقصر. وقال الإمام ومن تبعه: إن كان انقطاعه لأجل إصلاح آلة فهو كالاستمرار على العمل. قال الرافعي: وفي معنى ذلك هرب العبيد والأجراء ونحو ذلك من الأعذار. وإن كان لأجل سفر أو مرض فوجهان: أصحهما في "الرافعي": الضم وهو ما نص عليه في المرض، ولم يذكر الأكثرون غيره، قال الرافعي: وينبغي أن يكون السفر مرتباً على المرض. ثم هذا إذا قرب الزمان، فلو بعد فقد حكى عن الصيدلاني وغيره وجه: أنه لا ضم كما لو كان بغير عذر، حكاه في "البحر" أيضاً. ولو كان العمل متواصلاً عادة، وانقطع النيل، ثم عاد فهل يضم الأول إلى الثاني كما تقدم، أو يفرد كل منهما بنفسه؟ فيه قولان حكاهما القاضي أبو الطيب وغيره: الجديد منهما: الضم، والقديم: لا. وقال القاضي الحسين وغيره من المراوزة، والماوردي: محلهما إذا كان زمن الانقطاع كثيراً، فول كان يسيراً لم ينقطع بلا خلاف، قال في "البحر" وفي حد الكثرة وجهان: أحدهما: ثلاثة أيام. والثاني: يوم واحد. ورأيت الوجهين في "التتمة" محكيين عن القاضي الحسين. فرع: لو كان في المعدن شريكان فالزكاة على قولين: إن قلنا: تصح الخلطة في غير الماشية زكيا زكاة الخليطين، وإلا زكى كل منهما زكاة المنفرد، قاله في "الأم". قال: في الحال في أصح القولين؛ لأن الحول إنما جعل للتمكن من تمييز المال وتنميته، والمستخرج من المعدن نماء في نفسه، فلا معنى لاعتبار الحول فيه كما في النتاج، ويخالف النصاب حيث قطع هؤلاء باعتباره؛ لأنه معتبر لبلوغ

المال حداً يحتمل المواساة، وذلك لا يختلف بين مال ومال؛ ولأنه حق مستفاد من الخارج من الأرض فلم يشترط فيه الحول ووجبت فيه الزكاة عند تكامله [نصاباً]؛ كالحبوب. وهذا ما نص عليه في القديم والجديد. وقال في "الحاوي": إن جمهور أصحابنا قطعوا به، ونفوا خلافه وهي طريقة حكاها ابن عبدان. قال: ولا تجب في الآخر حتى يحول عليه الحول؛ لعموم قوله- عليه السلام-: "لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول"؛ ولأنها زكاة واجبة في مال تتكرر فيه الزكاة فوجب أن يعتبر فيها الحول؛ كزكاة السائمة والنقدين [والعروض]. واحترزنا بقولنا: "تتكرر فيه الزكاة" عن المعشرات؛ فإنه لا تتكرر فيها الزكاة، وهذا القول قال المزني: إنه أخبره به من يثق به، وإنه مومئ إليه في "مختصر" البويطي- أي: مع القول الآخر- كما صرح به غيره. قال القاضي الحسين: والذي أخبر عنه المزني قيل: إنه أخته؛ لأنها كانت تحضر مجلس الشافعي. وقد حكى الرافعي ذلك عن بعض الشارحين، وأنه لم يجب تسميتها. ولا فرق في جريان القولين عند العراقيين بين أن نقول: الواجب في المعادن ربع العشر أو الخمس. وقال المراوزة: إن قلنا: إن الواجب فيها الخمس، فلا يشترط الحول قولاً واحداً، وإنما القولان إذا أوجبنا فيها ربع العشر. قال الغزالي: وإذا اعتبرنا النصاب والحول لا يبقى لإضافة الزكاة إلى المعادن وجه.

قال: وفي [قدر] زكاته ثلاثة أقوال: أحدها: ربع العشر لعمومات الأخبار الواردة في الذهب والفضة، وهذا ما نص عليه في القديم، والإملاء، والأم؛ كما قال الماوردي وهو الصحيح. والثاني: الخمس؛ لما روى أبو سعيد المقبري عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "في الركاز الخمس، فقيل: يا رسول الله، وما الركاز؟ فقال: "الذهب والفضة، اللذان جعلهما الله تعالى في الأرض يوم خلقها". ولفظ عبد الحق في "الأحكام" في حكاية ذلك: فقال: "هو الذهب الذي خلق الله في الأرض يوم خلق السموات والأرض". وبالقياس على الركاز بجامع أن كلا منهما مركوز في الأرض. وهذا القول قيل: إنه مخرج وليس للشافعي ما يدل عليه وقيل: إن الشافعي أومأ إليه في "الأم". والخمس المأخوذ زكاة بلا خلاف عند العراقيين. قال القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ: ولا يختلف مذهب الشافعي فيه. واستدل له الماوردي بما روى عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن الحارث بن بلال المزني، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انه أخذ منه زكاة المعادن [القبلية". وبقوله عليه السلام: "ليس في المال حق سوى الزكاة"؛ فدل على أن ما

يؤخذ من المعدن زكاة] وإذا ثبت أنه زكاة صرف مصارفها ولا يجوز صرفه لمن أخذ منه وإن كان بصفة الاستحقاق، كما لا يصرف إليه زكاة نفسه. وقال المراوزة: هل يصرف على هذا مصرف خمس الغنيمة والفيء؟ فيه وجهان حكاهما في "البحر" عن رواية القاضي أبي علي الزجاجي قولين. وقال الرافعي: إن صاحب "التلخيص" ذكر الطريق الأول في باب زكاة المعدن في "التلخيص"، والطريق الثاني: [في باب] بعده. ثم إذا قلنا: إن مصرفه مصرف خمس الفيء لا تشترط فيه النية، ويؤخذ من الذمي على قول أو وجه. قلت: وكذا ينبغي أن يؤخذ من المكاتب؛ لأن غنيمته تخمس؛ ولأجل ذلك قال به أبو حنيفة. والثالث: إن أصابه بتعب أو مؤنة مثل: أن احتاج إلى الطحن والتخليص بالنار والحفر- وجب فيه ربع العشر، وإن أصابه بلا تعب ولا مؤنة- أي بأن وجده ندرة أو مرة واحدة في بطحاء كشفتها الريح أو إثر سيل- وجب فيه الخمس؛ لأنه حق تعلق بالمستفاد من الأرض فاختلف بخفة المؤنة وبقلتها كزكاة الزرع، وهذا ما أومأ إليه في "الأم"، وقال الفوراني: إنه أقيس. وما ذكرناه من التفسير لأحوال الاستخراج على هذا القول هو الذي أورده الجمهور، ولم ينظروا إلى قلة الموجود وكثرته. وحكى الإمام مع ذلك طريقاً آخر: وهو أن الاحتفار من المعدن إذا كان يكثر عد ذلك من العمل المعتبر، كالطحن، والعلاج؛ فالنظر إلى نسبة النيل إلى العمل، أي عمل كان، ولأهل البصائر في ذلك جهات في الكلام، [فربما يعدون العمل كثيراً والنيل بالإضافة إليه قليلاً]، وربما يعدون النيل كثيراً والعمل بالإضافة إليه قليلاً، وربما يعدون ذلك مقتصداً فما يعد نيله بالإضافة إلى عمله

قليلاً أو مقتصداً فواجبه ربع العشر وما عد كثيراً بالإضافة إلى عمله فواجبه الخمس. وإيضاح ذلك بأن نقول: إذا كان استفادته ديناراً في اليوم مقتصداً فلو استفاد ديناراً إلى قريب من آخر النهار ثم استفاد بعمل قليل ديناراً في بقية النهار- فالواجب عليه في الدينار الأول: ربع العشر، [و] في الثاني: الخمس، ولا نقول: يجب فيهما الخمس؛ لأن وجدان الدينار إذا كان مقتصداً في اليوم فعمل العامل طول يوم فلم يجد شيئاً، ثم إنه وجد في آخر النهار دينارين فلا ينبغي أن نوجب في جميعها الخمس، ولكن نحط من جملته القدر المقتصد وهو دينار، فنوجب [فيه] ربع العشر ونوجب في الدينار الزائد الخمس، وفيه احتمال على بعد في إيجاب الخمس فيهما؛ لأن ذلك [الزمان] قد حبط لعدم الوجدان فيه ولا وجه إلا ما قدمته. وهذه الطريقة هي التي أوردها في "الوسيط" حيث قال: إن كان النيل بالإضافة إلى العمل قليلاً في العادة فعليه ربع العشر، وإن عد زائداً على المعتاد فالمقدار اللائق بالمعتاد فيه ربع العشر، والزائد عليه يختص بالخمس. قال: ولا يخرج الحق إلا بعد الطحن والتلخيص؛ لأن به يتحقق الواجب؛ فصار كما نقول في العشر: لا يخرج إلا بعد [التصفية والتجفيف]، ومؤنة ذلك على رب المال دون الفقراء، كما تقدم مثله في المعشرات، ولو أخرج شيئاً قبل الطحن والتلخيص ودفعه إلى الساعي ضمنه الساعي، ووجب عليه رده إن كان باقياً، فإن رده واختلفا في عينه أو قدره فالقول قول [الساعي]، ولو تكلف الساعي طحنه وتخليصه كان متبرعاً بذلك، ولا يرجع بشيء من المؤن على رب المال. قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما: ثم ينظر: فإن كان الذي حصل منه بقدر ما عليه فلا كلام، وإن كان أقل طالبه بالتمام، وإن [كان أكثر] رد الفضل عليه.

قال الماوردي: ونظير ذلك ما إذا أخذ المصدق عشر الثمرة رطباً وهو مما يتتمر، فعليه رده، فلو جففه احتسب بما حصل منه زكاته، وطالبه بالنقص، ورد ما زاد. وقال البندنيجي: هذه المسألة- أعني مسألة المعدن- لا نص فيها، والذي يجيء على قولنا أن رب المال إذا قال للساعي بعد التصفية: أمسكه زكاة، أنها تقر في يده وتقع موقعها بهذا الإقرار الآن، [لا] بالتسليم الأول، وهذا يقتضي أنه لا يجزئه بدون الإقرار. وقد حكيت عن رواية ابن كج في مسألة الثمرة وجهاً: أنه لا يجزئ بحال لفساد القبض من أصله، ولا شك في جريانه هاهنا. ولو تلف المأخوذ قبل الطحن والتخليص في يد الساعي، قال الأصحاب: قوم بالذهب إن كان فضة، وبالفضة إن كان ذهباً؛ حذراً من الربا، وضمن ذلك الساعي، فإن اختلفا في قدر قيمته فالقول قول الساعي مع يمينه؛ لأنه غارم. قال: وإن وجد أي من هو من أهل الزكاة كما تقدم- ركازا [من دفين] الجاهلية في موات [من الأرض] وهو نصاب من الأثمان- وجب فيه الخمس والله أعلم؛ لما روى أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "العجماء جرحها جبارُ، والبئر جبارٌ، والمعدن جبارُ، وفي الركاز الخمس" أخرجه مسلم،

والفرق بينه وبين المعدن، حيث قلنا: إن الصحيح أن واجبه ربع العشر أن الركاز لا يلزم آخذه في تحصيله مؤنة، وإن لزمته فهي يسيرة، والمؤن في المعدن إلى أن يتحصل الذهب والفضة كثيرة فكان واجبه لأجل ذلك أقل كما في زكاة المعشرات. فإن قيل: قد تقدم أنه- عليه السلام- فسر الركاز بما يقتضي أنه أراد به- حيث أوجب فيه الخمس- المعدن، وهو لغة أهل العراق كما قال مجلي، وإذا كان كذلك لم يكن فيما ذكرتموه من الخبر دلالة على المدعي، وهو وجوب الخمس في الركاز. قلنا: قد ذكرنا أن "الركاز" لغة وشرعاً غير "المعدن"- وإن صح إطلاقه على المعدن بجامع أن كلا منهما مركوز تحت الأرض- والاستعمال في الحقيقة أولى. على أن في هذا الخبر ما ينفي أن المراد بالركاز المذكور فيه: المعدن؛ لأنه قال فيه: "والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس"؛ فدل على تغاير مراده بهما. على أن ما تقدم من التفسير قد قال عبد الحق: إن أبا حاتم القزويني قال: راويه متروك الحديث. وإن ما روي من طريق آخر عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصح أيضاً، قاله الدارقطني. تنبيه: كلام الشيخ – رحمه الله- يفهم أموراً: أحدها: أن ما كان مدفوناً [من] دفين الجاهلية وكشفه السيل؛ [لأنه كان

في مجرى السيل]، أو كان على شفير واد فانهار- أن حكمه حكم الركاز فيما ذكره، وبه صرح الماوردي، وقال فيما إذا وقع الشك في أنه هل أظهره السيل ونحوه؟ أو كان ظاهراً هل يكون ركازاً كما لو تحقق أنه أظهره السيل، أو يكون لقطة كما لو تحقق أنه كان على وجه الأرض؟ فيه وجهان كالوجهين فيما إذا وقع شك في المدفون، هل هو من دفين الإسلام أو الجاهلية؟ الثاني: أنه لا فرق فيما ذكره بين أن يكون الموات موات دار الإسلام أو دار الحرب أو دار العهد، وهو المذهب، ولم يورد الأكثرون غيره. وقيل: إن الموجود في موات دار الحرب يكون غنيمة، كذا حكاه ابن يونس ولم أره هكذا في غيره. [نعم، غيره] قال: موات دار الحرب الذي لا يذبون عنه كموات دار الإسلام، وما يذبون عنه كعامر ديارهم؛ فالموجود فيه يكون غنيمة وهذا يحكى عن الشيخ أبي علي، ولم يورد القاضي الحسين في "تعليقه" غيره، والأكثرون قالوا: حكمه حكم ما لا يذبون عنه. قلت: [ثم] لو صح ما قاله الشيخ أبو علي لاختص ذلك بما إذا أخذت بلادهم بالقهر والغلبة كما قيده القاضي الحسين، دون ما إذا أخذت بدون ذلك؛ فإن قياسه يقتضي أن يكون فيئاً كما سنذكره. وقال في: "الحاوي" في السير: إنه إذا وجد الركاز في موات دار الحرب، أو طريق سابل: إن كان عليه طابع قريب العهد يجوز أن يكون أربابه أحياء فهو غنيمة، وإن كان عليه طابع يدل على أن أربابه غير أحياء فهو لواجده وعليه خمسه، وإن أشكل أمره واحتمل الأمرين ففيه وجهان: أحدهما: يكون غنيمة؛ اعتباراً بالمال. والثاني: يكون ركازاً؛ اعتباراً بموضعه. الأمر الثالث: أن واجد الركاز يملكه ويجب عليه فيه الخمس كما يجب عليه العشر في ثماره، وربع العشر في تجارته، وبذلك صرح الأصحاب هنا وفي المعدن- أيضاً- إذا قلنا: إن واجبه الخمس، ويخالف إيجاب الخمس في الغنيمة؛ فإن الغانمين لا يملكون منها إلا أربعة أخماسها وخمسها لأهله

ابتداء، ولذلك لا يجوز أن يعطي الخمس من غيرها بدون رضا مستحقيه بخلاف الزكاة، فإنها تعطي من غير الركاز والمعدن. قال: في الحال؛ لما سبق من التعليل في المعدن، قال الماوردي: وهو إجماع أهل الفتوى، ويخالف المعدن حيث اعتبر فيه الحول على قول بعيد؛ لأن الركاز لا يفتقر إخراجه إلى مدة طويلة ولا كذلك المعدن؛ فإن المال المستخرج منه يحتاج [في تحصيله] وتميزه إلى مدة طويلة؛ فلذلك ضربنا له مدة الحول كما ضربناه لأموال التجارة؛ حتى يتمكن التاجر من تقليب المال والتصرف فيه في مدة الحول. قلت: وهذا الفرق يقتضي التفرقة بين ما يجده بدرة أو في بطحاء كشفها الريح أو السيل وبين ما يحتاج فيه إلى الطحن والتخليص. وجوابه: أن النظر إلى الأغلب، ولا يقال: إن الفرق ينتقض بالحبوب والثمار؛ فإن مالكها يحتاج قبل دفعها إلى الفقراء إلى التجفيف والدراس والتصفية، ومع ذلك فإن مالكها لم يضرب له مدة الحول وأوجبنا الزكاة بانعقاد الحب وبدو الصلاح في الثمار- لأن الحبوب والثمار لا تتكرر فيها الزكاة؛ فلا ضرر على مالكها بعد ضرب الحول؛ ليقع ذلك فيه، ولا كذلك المستخرج من المعدن فإنا لو أوجبنا زكاته في الحال لانعقد عليه حول آخر من حين ملكه؛ لأنه مما يتكرر وجوب الزكاة فيه، ولكان ما يقع من الطحن والتلخيص في الحول المضروب عليه، وفيذلك إضرار به. وهذا الفرق قلته مستمداً مما حكيته عن الإمام: فيما إذا اشترى نخلاً للتجارة

وقدمنا زكاة العين- أننا نستأنف للتجارة حولاً، لكن بعد الجفاف لما ذكرناه من المعنى. فإن قلت: الصحيح أن الحول لا يعتبر في المعدن أيضاً كما تقدم، وإن كان ما ذكرته من المعنى موجوداً فيه، وذلك يقدح فيما قاله الإمام في مسألة الثمار. فجوابه: أن كون الموجود في المعدن نماء [كله] يجبر ما يحصل من [الضرر المذكور]، ولا كذلك في مسألة الثمار، والله أعلم. ثم دفين الجاهلية- كما قال الأصحاب-: يعرف [بأن يوجد عليه اسم] ملك من ملوك [أهل] الشرك أو صليب ونحو ذلك، وفيما قالوه نظر؛ لأن المسلم قد يدفنه وقد ملكه بهذه الصفة. قال: وإن كان دون النصاب- أي: وليس في ملكه من جنسه ما يكمل به النصاب، سواء كان في ملكه من غير جنسه شيء أو لم يكن، أو قدر النصاب من غير الأثمان- ففيه قولان: وجه الوجوب- وهو القديم-: ظاهر الخبر؛ فإنه يقتضي إيجاب الخمس في القليل والكثير من الذهب والفضة وغيرهما، وبالقياس على الغنائم ومال الفيء. ووجه المنع- وهو الجديد الذي نص عليه في "الأم"، و"الإملاء" كما قال الماوردي-: "أنه حق يتعلق بالمستفاد من الأرض؛ فاختص بما يجب فيه الزكاة كحق المعدن. ومنهم من قطع بهذا القول، وقال: الخبر محمول على ما إذا كان نقداً نصاباً؛

كما قال: "وفي الرقة ربع العشر" وأراد: إذا بلغت نصاباً، والفرق بين ما نحن فيه والغنيمة والفيء: أن ذلك يؤخذ من الكفار على وجه الإذلال لهم والصغار ولا كذلك الزكاة؛ فإنها تؤخذ من المسلمين تطهيراً، وعلى هذا يستحب له أن يخمس ما وجده للخروج من الخلاف نص عليه، ولا يضم ما وجده من الركاز دون النصاب في موضع إلى ما وجد في آخر وإن قرب ما بينهما من المسافة، بل يستأنف لهما الحول من يوم تم النصاب، ويخرج في آخره ربع العشر نص عليه في "الأم". وعلى كلا القولين فما مصرف هذا الخمس؟ فيه قولان، أو قول ووجه وهو المشهور، والقول الصحيح: أن مصرفه مصرف الزكاة؛ لأنه حق واجب في المستفاد من الأرض فأشبه الواجب في الزرع والثمار. وقال المزني وأبو حفص بن الوكيل البابشامي، وأبو جعفر الترمذي: إن مصرفه مصرف الفيء- أي: خمس الفيء- لأن أصل ذلك من جهة مشترك، بخلاف المعدن. والحجة عليهم ما تقدم. وقال القاضي الحسين: إن قلنا باختصاص ذلك بالذهب والفضة، إذا كان نصاباً فمصرفه مصرف الصدقات، وإن قلنا بوجوبه في كل قليل وكثير من ذهب وفضة وغيرهما، ففيه الوجهان. أما إذا كان عنده أو له دين تجب فيه الزكاة لو كان نصاباً ما يكمل به المستخرج ركازاً نصاباً أو يزيد عليه- فقد أحال الرافعي الكلام فيه على ما تقدم في نظيره من المعدن. وقال غيره- ما يقرب منه-: إنه ينظر: فإن كان ما عنده من غير الركاز نصاباً فلله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يوافق وجوده تمام الحول فيضم إليه الركاز ويخرج منه الخمس، ومما عنده واجبه. وإن وجده بعد حولان الحول ولم ينقص ما عنده بما وجب فيه عن النصاب

فكذلك يضم الركاز إليه ويخرج منه الخمس، ثم إن كان أخرج واجب ما عنده، وإلا أخرجه. قال ابن الصباغ: وهذه المسألة التي حكينا نصه فيها لم يختلف أصحابنا فيها. وإن وجد قبل حولان الحول فلا خمس في الركاز، ويجب فيما عنده عند تمام حوله واجبه، وإذا تم الحول على الركاز من حين وجده أخرج ربع عشره، وهذا ما أورده في "المهذب" والقاضي أبو الطيب في "التعليق". وقال في "الشامل": إن القاضي ذكر في "شرح الفروع": أنه إذا استفاد من المعدن أو الركاز تسعة عشر ديناراً ومعه دينار، أو ما يتم به النصاب- أخرج حق المعدن؛ لأن شرط الزكاة قد وجد فيه. واحتج بما ذكرناه عن الشافعي فيما إذا وجده بعد تمام الحول؛ فإنه يزكيه، وإن كان الحول الثاني لم يتم على ماله فلا حكم للحول الذي ينقضي قبل وجود الركاز، وكان بمنزلة من كان معه عشرون ديناراً أحد عشر شهراً ثم بادل تسعة عشر [منها] بمثلها- انقطع الحول فيها ولم ينقطع في الدينار. ثم قال ابن الصباغ: وهذا الذي قاله القاضي هو ظاهر كلامه في "الأم"؛ فإنه قال: وإن كان ماله ديناً أو عيناً عرف الوقت الذي وجد فيه الركاز، ثم سأل فإن كان ماله الغائب كان في يد من وكله فهو ككينونة المال في يده وأخرج زكاة الركاز، فلم يعتبر وجوده في آخر جزء من آخر الحول أو بعده، ولو كان ما عنده أو ما له من الدين [الذي] يجب في مثله الزكاة دون النصاب، فإن حال عليه الحول من يوم ملكه، ووافق إخراج الزكاة آخر الحول- ففي ضم أحدهما إلى الآخر حتى نوجب الخمس في الركاز، وفيما عنده ربع العشر، وجهان: أحدهما- وهو المشهور من مذهب الشافعي كما قال أبو الطيب-: الضم، وحكاه عن نصه في "الأم"؛ فإنه قال فيه: لا فرق بين أن يكون نصاباً، أو يتم بالركاز نصاباً، وتبعه في حكايته كذلك الشيخ في "المهذب"؛ ولأجله قال البندنيجي: إنه المذهب. وابن الصباغ حكى إيجاب الخمس في الركاز عن نصه في "الأم"، ورجحه،

وإيجاب ربع العشر فيما عداه عن رواية أبي علي في "الإفصاح"، وقال: إنه ليس بصحيح. والوجه الثاني: أنه يستأنف لهما حولاً من حين تم النصاب بالركاز، فإذا تم الحول أخرج ربع العشر منهما، كذا حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ. وحكى البندنيجي بدله: أنه يخرج الخمس من الركاز، ولا يخرج عما عنده شيئاً، وبه يحصل في المسألة ثلاثة أوجه: قال البندنيجي: والحكم فيما إذا وجد بعد حولان الحول كالحكم فيما إذا وجده مع آخر الحول. ولو وجد قبل تمام الحول، قال أبو الطيب: فلا يضم بلا خلاف، بل يستأنف الحول عليهما من حين تم النصاب. وقال البندنيجي: لا نص لصاحبنا فيها. وقال الشيخ- يعني أبا حامد-: ولكن يجيء على مذهبنا أنه لا يجب عليه شيء في الحال. وقال ابن الصباغ: يجب في الركاز الخمس، وهو ظاهر كلام الشافعي كما ذكرنا، خلافاً لما ذكره أبو حامد، وحينئذ يستأنف الحول لهما. وقد فرض الماوردي الكلام في المسألة فيما إذا وجد دون النصاب وعنده مال للتجارة قيمته دون النصاب والمجموع يبلغ نصاباً، وذكر الماوردي بعض ما ذكرناه. قال وإن كان من دفين الإسلام فهو لقطة، أي: يفعل فيه ما يفعل بها كما سيأتي في بابه؛ لأن الظاهر أنه لمسلم أو ذمي فلا يحل تملك مالهما بغير بدل قهراً، وهذا ما أورده العراقيون. وحكى الإمام عن رواية الشيخ أبي علي في "شرح التلخيص" وجهاً: أنه محفوظ لمالكه أبداً، وإن أخذه سلطان فهو مال لا يدري مالكه فإن رأى حفظه حفظه، وإن رأى استقرائه لمصلحة فعل، وهو اختيار القفال؛ لأن اللقطة هي التي تنسل من مالكها فتقع في مضيعة فأثبت الشارع لآخذها سلطان التملك بعد

السنة؛ ليكون ذلك ذريعة [لاستحثاث الأمناء على الأخذ، فأما ما وضعه مالكه كنزاً] فاتفق العثور عليه بسبب احتفار الأرض فليس يثبت فيه حكم التملك. قال الشيخ: وكذلك لو طيرت الريح ثوباً في دار إنسان فليس ذلك لقطة تملك بعد التعريف. وذكر غيره: أن حكم اللقطة يثبت في هذه المواضع كلها، قال الإمام: وهذا قياس متجه، ولكن فيما ذكره الشيخ أبو علي فقه. ودفن الإسلام يعرف: بأن يكون مكتوباً عليه آية من القرآن، أو اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو اسم أحد من الخلفاء أو ملوك الإسلام، وعن هذا احترز الشيخ بقوله: "من دفين الجاهلية". وقد سكت [الشيخ] هنا عما إذا وجد ما يحتمل أن يكون من دفين الجاهلية، أو من دفين الإسلام كالأواني والسبائك والنقار ونحو ذلك، وقال في "المهذب": المنصوص: أنه لقطة؛ لأنه يحتمل الأمرين فغلب حكم الإسلام، ومن أصحابنا من قال: هو ركاز؛ اعتباراً بموضعه. وما ادعى أنه المنصوص اتبع فيه الشيخ أبا حامد والبغداديين، ولأجله قال البندنيج: إنه المذهب. وما حكاه عن بعض الأصحاب، قد حكاه البصريون عن النص أيضاً، وكذا القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، وقال في "البحر": إنه نصه في "الأم" حيث قال: أستحب له أن يعرف ويخمس؛ حتى إن كان لقطة كان قد وفى حق تعريفها، وإن كان ركازاً كان قد أخرج الخمس منها ولا أوجب عليه التعريف؛ لأن الظاهر منه إذا كان في الموات الذي يملك بالإحياء أنه [من] دفين الجاهلية.

وقال الإمام: إنا إذا قلنا لا يكون ركازاً، فهل يكون لقطة، أو يحفظه لمالكه؟ حكى الشيخ أبو علي [فيه وجهين؛ لضعف أثر الإسلام. قال الرافعي: والذي رأيته للشيخ أبي علي] في "شرح التلخيص" مساعدة الجمهور في هذه الصورة؛ فإنه قال: يعرِّف سنة، فإن لم يظهر مالكها فعل بها ما يفعل بسائر اللقطات. قال: وإن كان في أرض مملوكة- أي: وعرف مالكها- فهو لصاحب الأرض، أي: محكوم به لصاحب الأرض إن لم ينفه عن نفسه كالأثاث في داره؛ لأن يده على ما فيها، وعن هذه الصورة احترز الشيخ بقوله: "في موات [من] الأرض". أما إذا لم يعرف مالكها: فإن كانت جاهلية كديار الأكاسرة والملوك القديمة التي يعلم أنها [كانت] عامرة فبادت وباد أهلها، فحكمها حكم الموات، وألحق بذلك أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما قبور الجاهلية؛ لخبر ورد فيها، وهذا كما قال الإمام فيما إذا لم يتفق فيه اختصاص لغانم ولا لمن يستحق الفيء. وإن كانت إسلامية فالموجود فيها لبيت المال دون الواجد، قال الماوردي: ولا يكون لقطة. وهو اختيار القفال كما قال في "البحر"؛ لأن اللقطة: ما وجدت في غير ملك وضاع من صاحبه. وقال في "البحر": إن من أصحابنا من قال: إنه لقطة. وقال أبو ثور: هو ركاز. وهو غلط وهكذا حكم الموجود في ديار أهل العهد الداثرة قاله الماوردي. وفي "ابن يونس": أنا إن قلنا [في الأرض التي يعرف مالكها: تملك بالإحياء، فهي كالموات، وإن قلنا]: لا تملك، فهو لقطة على أصح الوجهين، ومال ضائع على الآخر. ولو نفى صاحب الأرض الملك عن نفسه في الركاز عرض على من انتقلت

عنه الأرض إن كان حياً أو على ورثته إن كان ميتاً، فإن ادعوه سلم إليهم بلا يمين؛ إذ لا منازع، وإن نفوه انتقلنا إلى من انتقل الملك عنه، وهكذا إلى أن يدعيه من كانت في ملكه فيسلم إليه، أو يجهل من كانت الأرض له فيكون حكمه [حكم] ما تقدم. ولو ادعاه بعض ورثة من كانت الأرض له حين العرض عليهم، ونفاه باقي الورثة- سلمت حصة المدعي منه إليه وباقيه يفعل فيه ما كان يفعل في الجميع عند نفي الكل له. ولو كان الركاز في دار مستأجرة أو مستعارة فادعاه المستأجر أو المستعير ولم ينازعه مالكها- سلم له ولا يمين، وإن نازعه مالكها فالقول قول المستأجر والمستعير لكن مع اليمين؛ لأنه صاحب اليد، وقال المزني: القول قول المالك. وليس بشيء. وهكذا الحكم فيما لو تنازع بائع الأرض ومشتريها وهي في يده باقية، فالقول قول المشتري مع اليمين، وقد أطلق الجمهور الحكم كما ذكرناه، وقيده الشيخ أبو علي بما إذا كان الموضع بحيث يتصور ممن في يده العين وضعه في المدة التي تثبت يده فيها، ولو على بعد، فإن كان وضعه وصفته تنافي دعواه على قطع فلا نصدقه، بل نصدق من كان قبله على شرط الإمكان الذي ذكرناه. قال الإمام: ولا شك فيما ذكره، ولو وقع التنازع بين المستأجر والمؤجر بعد عود الأرض [إلى الآخر، فإن ادعى الآخر أنه دفنه بعد العود] وكان ذلك ممكناً- فالقول قوله مع اليمين، وإن ادعى أنه كان دفنه قبل الإيجار وتسليمها إلى المستأجر فمن القول قوله منهما؟ وجهان، قال الإمام: الظاهر منهما أن القول قول المستأجر؛ لأن المؤجر اعترف له بسبق اليد عليه.

وقد أفهم كلام الشيخ أموراً: أحدها: أن الأرض إذا ملكت بالاغتنام يكون الركاز فيها غنيمة لهم، وكذا إذا ملكها أهل الفيء يكون لأهل الفيء، وبه صرح الأصحاب [وقالوا]: لو بنى مشرك حصناً أو قرية، ودفن فيها كنزاً، فبلغته الدعوة، فعاند ولم يسلم حتى مات وخربت القرية، ثم وجد مسلم ذلك الكنز- لا يكون ركازاً؛ بل يكون فيئاً، وإنما يكون ركازاً إذا لم يعرف حاله هل بلغته الدعوة فحل ماله، أو لم تبلغه الدعوة فلم يحل ماله؟ قاله في "البحر". الثاني: أنه [لو] ملك الأرض بالإحياء كان الركاز له سواء أخرجه هو أو غيره وهو المذكور في "تعليق" القاضي الحسين، وحكاه الرافعي عن رواية القفال في "شرح التلخيص"، وهو المذكور في "الحاوي" – أيضاً- وطرده فيما إذا أقطع الإمام أرضاً [فوجد فيها ركازاً، فهو لمقطع الأرض] وإن وجده غيره. وحكى مجلي: "في أن المحيي هل يملك الركاز بالإحياء تبعاً للأرضن خلافاً مرتباً على ما إذا أغلق الباب على ظبية دخلت موضعه من غير قصد تملكها: هل يملكها أم لا؟ والأظهر: أنه لا يملكها، وهذا الذي ذكره هو من تخريج الإمام، وبنى عليه أيضاً ما إذا باع المحيي الأرض والركاز فيها هل يختص به المشتري؟ قال: إن قلنا: إن المحيي ملكه، لم يملكه المشتري وكان للمحيي، وهو الذي أورده القاضي الحسين، وإن قلنا: لا يملكه المحيي، فهو أحق به ما دامت الأرض في يده لا محالة، فإذا باعها هل ينتقل هذا الحق إلى المشتري؟ فيه خلاف. والثالث: أن ما يوجد في الأرض المملوكة لشخص وهي مستطرقة لسائر الناس من غير منع من مالكها، يكون لمالكها دون أحد، وقد ذكر صاحب "التقريب" فيه خلافاً، قال [الإمام]: وفي موضع الخلاف تأمل، وظاهر كلامه أنه أورده في حكمين:

أحدهما: أنه إذا وجد من ليس بمالك للساحة، ولم يكن مالك الأرض محيياً على الابتداء؛ فكان لا يتبين لنا من الذي أحيا الأرض ابتداء- فهل له أخذه؟ فعلى وجهين، قال الإمام: والظاهر عندي أنه لا يضر أخذ الركاز من الأرض المملوكة ملكاً له، وإنما الخلاف في حكم التنازع، فإذا قال الواجد: كنت وضعته، فالقول قول من؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين، وهذا إذا وقع التنازع بعد إخراج الكنز، فلو وقع قبل إخراجه فالقول قول مالك الأرض مع اليمين بلا خلاف. الرابع: أن الموجود في أرض الحربي بدار الحرب قبل تملكها يكون للحربي، ويكون أخذ المسلم له كأخذ مال الحربي، وقد قال في "الحاوي": إنه غنيمة يؤخذ خمسها، ولا يكون ركازاً. وأفهم كلامه أن هكذا الحكم فيما لو كان الآخذ يخفيه؛ لأنه قال عقيبه: وقال أبو حنيفة: "يكون غنيمة" كقولنا: لكن لا يؤخذ خمسها؛ بناء على أصله في أن ما غنم على وجه الخفية من غير إمام لا يخمس. والمذكور في "تعليق البندنيجي" [وغيره] أنه يكون فيئاً، وللكلام في ذلك التفات على أن ما يؤخذ خفية هل يملكه أحد بجملته، أو يخمس؟ وفيه كلام يأتي في باب قسم الفيء. ثم ما ذكرناه مصور بما إذا دخل دار الحرب بغير أمان، فإن دخلها بأمان وجب عليه رده للحربي، حكاه الشيخ أبو علي والقاضي الحسين؛ لأنهم في أمان منه، وليس هو في أمان منهم، وطرد ذلك فيما إذا وجده في الموات الذي يذبون عنه فقال: يجب رده إليهم. وقد بقي من مسائل الباب ما سكت الشيخ عنه، وهو ما إذا وجد الركاز في الأماكن المشتركة بين المسلمين وغيرهم، وهي الشوارع ونحوها وكذا المساجد، وقد ألحق الماوردي الشوارع بالموات، وعليه جرى الغزالي، وتبعه ابن يونس.

وقال العراقيون والقفال، كما قال الرافعي: إن الموجود فيها لقطة، وهو المذكور في "تعليق" القاضي الحسين و"التهذيب" وطرد ذلك في المدفون في المساجد والأماكن المشتركة، والإمام حكى الوجهين. ولو وجد ذلك في أرض موقوفة قال في "التهذيب": فهو لمن في يده الأرض وهذا معتضد بالقياس، والله أعلم.

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء السادس تتمة كتاب الزكاة- كتاب الصيام

باب زكاة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيم باب زكاة الفطر اعلم أنه يقال: زكاة الفِطْر، وزكاة الفِطْرة- بكسر الفاء -: فالأول: يجعل وجوبها بدخول الفطر. والثاني: أوجبها على الفطرة، والفطرة: الخِلْقة، قال الله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] [أي: خِلْقَته التي جَبَل الناس عليها، والفُطرة - بضم الفاء-: اسم للمُخْرَج في زكاة الفطر، وهو مولَّد. وقد تقدم أن الزكاة في اللغة: الزيادة والبركة، [والنمو] والمدح، وسميت زكاة المال زكاةً؛ لأنه ينمو إذا زكِّيَ، وسميت صدقة الفطر زكاة]؛ لأنها تزكي النفس وتطهرها، وتنمي عملها، ويقال للعمل الصالح زكاة؛ لأنه ينمي عامله، ويرفع من شأنه، وقد قيل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4]: إنها العمل الصالح.

قال الماوردي: واختلف أصحابنا هل وجبت ابتداء بما وجبت به زكاة الأموال أو وجبت بغيره؟ على مذهبين: أحدهما- وهو قول البغداديين-:أنها وجبت بالظواهر التي وجبت بها زكاة الأموال من الكتاب والسنة؛ لعمومها في الزكاتين. والثاني-: وهو قول البصريين-: أنها وجبت [بغير ما وجبت] به زكاة الأموال؛ فإن وجوبها أسبق؛ لما روي عن قيس بن سعد بن عبادة [أنه] قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر قبل نزول آية الزكاة، فلما نزلت [آية الزكاة] لم يأمرنا ولم ينهنا". ومن قال بهذا اختلفوا هل وجبت بالسنة [أو بالكتاب. والسنة مبينة [للكتاب] على مذهبين: أحدهما: أنها وجبت بالسنة] بحديث قيس بن سعد، فعلى هذا يكون وجوبها من طريق السنة، والدلالة [على] وجوبها من طريق السنة ما رواه الشافعي بسنده عن ابن عمر أن: رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر-وفي بعضها: صدقة الفطر- في رمضان على الناس صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، على كل حر وعبد، ذكر

وأنثى من المسلمين". وروى جعفر بن محمد عن أبيه مثله، وزاد فيه: "عمن تمونون"،قال عبد الحق: والأخبار الصحاح [المشهورة] ليس فيها: "عمن تمونون"، وقوله: " [فرض] زكاة الفطر على الناس" معناه أوجب عليهم، ولا يجوز أن يكون معناه: قدر عليهم؛ لأنه ذكر التقدير من بعد، وقوله: "على كل حر وعبد" معناه: عن كل حر أو عبد؛ لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض [لغة]، قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين] فأراد- والله أعلم-[إذا اكتالوا] من الناس، وقال الشاعر: إذا رضيت عليَّ بنو قُشَيْرٍ لعَمْرُ الله أعجبني رضاها ومعناه: [إذا رضيت عني.

وتعين] ما ذكرناه هنا؛ لوجهين: أحدهما: أن العبد لا يخاطب بإخراجها؛ لأنه لا يملك شيئاً، وقد روى [مسلم] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه قال]: "ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر". والثاني: أن حمل قوله: "على كل حر" على الإيجاب يؤدي إلى التكرار لأن قوله في الابتداء: "على الناس" أفاد الإيجاب؛ فيجب أن يحمل على فائدة مجددة، وقد روى أبو داود عن ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرةً لصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات" وأخرجه ابن ماجه. والمذهب الثاني: أنها وجبت بكتاب الله تعالى، وإنما البيان مأخوذ من السنة كما أخذ بيان الأموال المزكيات، ومن روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضها؛ فمعناه: قدرها؛ كما قال في زكاة الإبل: "هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم" بمعنى: قدرها؛ لأن فرض زكاتها بالآية. ومن قال بهذا اختلفوا بأية آية وجبت؟ على مذهبين: أحدهما: بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى] فإن سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز [قالا:] هي زكاة الفطر. [وقال عطاء: زكاة الفطر] وزكاة المال. والثاني: بقوله تعالى: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5]. قال: وتجب زكاة الفطر على كل حر مسلم [فضل] – أي حالة وجوبها – عن

قوته وقوت من تلزمه نفقته أي ليلة الفطر ويومه كما نص عليه الشافعي- رحمه الله- وأصحابه، ما يؤدي في الفطرة، أي إما عنه كما إذا كان الفاضل عما ذكره أحد الأصناف التي يجزئ إخراجها، أو ما يمكن تحصيل الواجب بهن ووجهه ما ذكرناه. وحكى ابن الصباغ تبعاً للقاضي أبو الطيب أن أبا الحسن [بن] اللبان الفرضي من أصحابنا قال: إنها غير واجبة. قال في "الروضة": وهو غلط صريح. واحترز الشيخ بالحر عن العبد؛ لأنه لا يملك شيئاً وإن ملك على القديم إذا ملكه السيد فهو ملك ضعيف لا يصلح للمواساة؛ لأنه لا يجب عله نفقة قريبه وهي آكد من زكاة الفطر، وإذا لم تجب نفقة القريب عليه فزكاة الفطر أولى ولا يقدح في ذلك ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "من حر أو عبد"؛ لأنا قد بينا أن معناه: عن حر أو عبد، [ويؤكده قوله- عليه السلام-: "ليس على المسلم في عبده ولا قريبه صدقة إلا صدقة الفطر" فأثبت على السيد زكاة الفطر]. [ولأجل ما ذكرناه من المعنى] لم تجب على المكاتب على المذهب المنصوص الذي حكاه الإمام والبندنيجي؛ قياساً على زكاة المال وعنه احترز الشيخ أيضاً. وعن ابن سريج تخريج قول أنها تجب عليه كنفقته، وكذلك أطلق الصيدلاني في المسألة قولين، قوال القاضي الحسين والبغوي: إن فيها وجهين. وقد قيل: إن فطرته تجب على سيده؛ لأنه باق على ملكه فأشبه العبد الآبق والمغصوب، قوال البندنيجي وغيره: إن أبا ثور حكاه عن القديم والقاضي الحسين نقله عن القديم، ولم ينسبه لرواية أبي ثور، وقال: [إنه بناه] في القديم على قوله القديم في جواز بيعه. وأنكر الشيخ أبو علي أن يكون هذا قولاً للشافعي- رحمه الله- وقال: إنه مذهب أبي ثور نفسه. وأم الولد والمدبر والمعلق عتقه بصفة، كالقن. فإن قلت: لفظ الحر كما أخرج من ذكرته يخرج من بعضه حر وباقيه رقيق عن أن

تجب عليه زكاة الفطر؛ فقد قال الأصحاب: إن لم يكن بينه وبين [مالك بعضه] الرقيق مهايأة وجب عليه من الفطرة بقدر من فيه من الحرية إذا ملك ذلك، فاضلاً عما يخص ما فيه من الحرية من قوته ليلة العيد ويومه؛ فإذا كان نصفه حراًّ وملك نصف صاع فاضلاً عن [نصف] قوته وجب عليه إخراجه؛ لأن جميعه لو كان حراً لوجب عليه صاع، ولو كان رقيقاً لوجب على مالكه؛ فوجب أن يوزع عليهما عند اجتماع الرق والحرية. وإن كان بينهما مهايأة فهل تدخل زكاة الفطر فيها كما تدخل النفقة الراتبة، أو لا تدخل كما لا يدخل أرش الجناية التي يجنيها [فيها]؟ فيه وجهان في "الحاوي" وغيره، وقال: إن الأظهر- وهو الذي أورده جمهور أصحابنا-: عدم الوجوب. ولم يحك القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ هنا غيره، لأن طريق المهايأة طريق المعارضة، ولا معاوضة في الفطرة، وعلى هذا يكون الحكم كما لو لم يكن بينهما مهايأة، سواء وجد وقت الوجوب في نوبة السيد أو العبد. وقال الإمام: إن الخلاف في المسألة ينبني على أن المؤن النادرة هل تدخل في المهايأة أو لا تدخل؟ وفيها وجهان، فإن قلنا: تدخل، دخلت زكاة الفطر، وإن قلنا: لا تدخل، فهل زكاة الفطر من المؤن النادرة أو المؤن الدائرة؟ فيه وجهان: فإن قلنا بالأول- وهو الذي عليه الجمهور- فالحكم كما تقدم، وإن قلنا بالثاني وجبت على من حصل وقت الوجوب في نوبته، وهو ما ادعى الرافعي أنه الأظهر، اللهم إلا أن نقول: وقت الوجوب مجموع الوقتين، ووجد الغروب في نوبة أحدهما، وطلوع الفجر في نوبة الآخر؛ فإنها تجب عليهما لأنه لم ينفرد واحد منهما في نوبته بموجب الفطرة. والخلاف الذكور مطرد فيما إذا كان عبدان اثنان وجرت بينهما مهايأة. واحترز [الشيخ] بالمسلم عن الكافر الأصلي؛ فإنها لا تجب عليه للخبر، ولأنها طهرة للصائم، وليس للكافر أهلية التطهير ولا أهلية إقامة العبادات. وأما المرتد ففيه الأقوال المذكورة في أول الكتاب، صرح به في "المهذب".

وهذا في فطرة نفسه، أما فطرة رقيقه المسلم وقريبه، فسيأتي الكلام فيه. وقد اقتضى كلام الشيخ أنه لا يشترط في الوجوب ملك النصاب كما هو ظاهر الخبر؛ فإنه لم يفرق بين الغني والفقير، [بل] في بعض الأخبار: "عن كل حر وعبد، ذكر وأنثى، صغير أو كبير، غني أو فقير، أما الغني فيزكيه الله، وأما الفقير فيرد الله عليه أكثر مما أعطى"، ولأنه حق مالي لا يزيد بزيادة المال؛ فوجب ألا يعتبر فيه وجود النصاب قياساً على الكفارات. فإن قيل: ظاهر الخبر أيضاً يدل [على الوجوب] على من لا يملك إلا قوته وقوت من تلزمه نفقته، وقد قلتم: إنها لا تجب عليه فما وجه مخالفته؟ [قيل]: لأن ذلك آكد من نفقة الفطر، بدليل ما تقدم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم"؛ فلم يجز أن يؤمر بإغناء غيره ويحوج نفسه إلى أن يغنيه غيره، ومن تلزمه نفقته كنفسه. ومن ها هنا يؤخذ أن الدين إذا استغرق ماله منع وجوب زكاة الفطر؛ لأن نفقته دين

يسقط في حق القريب بمرور الزمان، ومع ذلك منعها؛ فالدين الذي لا يسقط بحال بذلك أولى، وهذه الطريقة في "المهذب" لم يحك الغزالي غيرها تبعاً لإمامه؛ فإنه قال: ديون الآدميين تمنع [وجوب] زكاة الفطر وفاقاً، ولو ظن ظان أنها لا تمنعها على قول كما لا تمنع وجوب الزكاة كان مبعداً، ووراءها طرق: إحداها: أن القولين في زكاة المال فيها. والثانية: أنها تجب قولاً واحداً؛ لأن زكاة الفطر [تجب في الذمة لا تعلق لها بالمال؛ فلا يؤثر فيها الدين. وهذان الوجهان حكاهما المتولي، وإلى الثانية منهما ميل كلام العراقيين في كتاب زكاة الفطر] تبعاً لظاهر النص فيه؛ حيث قال: ولو مات حين أهل شوال وله رقيق فزكاة الفطر عنه وعنهم في ماله مبدأٌ على الدين وغيره من ميراث ووصايا. والثالثة- قالها القاضي الحسين في باب الدين مع الصدقة- إنا إن قلنا: [إنه يمنع] زكاة المال، فزكاة الفطر أولى، وألا فوجهان، والفرق: أن محل زكاة الفطر: الذمة، والدين محله الذمة، فلما اجتمعا في محل واحد دفع أحدهما الآخر بخلاف زكاة المال؛ فإنها تتعلق بالعين والاحتياج إلى الكسوة في ليلة العيد ويومه كالاحتياج إلى النفقة فيهام؛ فيعتبر أن يكون ما يؤديه في الفطرة فاضلاً عنها؛ لأن ذلك لا يباع في الدين ففي الفطرة أولى، وهذا ما صرح به في التتمة، وهو مما لا خلاف فيه كما قال الرافعي، وإن كان الشافعي-رحمه الله-وجمهور أصحابه لم يتعرضوا له، بل اقتصروا على ما ذكره الشيخ. وقال الإمام: الذي أراه أن المعتبر أن يكون المؤدي في الفطرة فاضلاً عنه هو المعتبر في الكفارة، والعبد لخدمته لا يلزمه إعتاقه عن كفارته المرتبة، قال: وقد رأيت من الأصحاب في أنه غير معتد به في الفطرة أيضاً، وحينئذ فالمسكين المحتاج إليه أولى من العبد. نعم، قد ذكرنا أن الصحيح: أن عبد الخدمة في حق من أخرج

صاعاً عن نفسه لا يملك غيره يجب إخراج الفطرة عنه، فهو إذا غير محسوب في فطرة المولى، وهو معتد به في الفطرة المضافة إلى العبد نفسه على المذهب الظاهر. وفي "التهذيب" سوى بين المسألتين فقال: إن كان له عبد يحتاج إلى خدمته هل يباع بعضه في صدقة الفطر عن العبد وعن نفسه؟ فيه وجهان، أصحهما: لا، وهو كالمعدوم كما في الكفارة، ويشهد له نص الشافعي – رحمه الله – على أنه لو كان لابنه الصغير عبد هو محتاج إلى خدمته يجب على الأب نفقة ذلك العبد وفطرته، ولولا أن العبد غير محسوب [لسقط بسببه] نفقة الابن وفطرته عن الأب. والثاني: يباع كما يباع في الدين، بخلاف الكفارة؛ فإن لها بدلاً تنتقل إليه فخفف الأمر فيها، وهذا ما رجحه الشيخ أبو علي، رحمه الله. قلت: ويمكن أن ينبني الخلاف على أن الدين هل يقدم [على زكاة الفطر أو لا؟ فإن قلنا: إن زكاة الفطر مقدمة على] الدين، فيباعان في الفطرة؛ لأنهما يباعان في الدين وهي مقدمة [عليه] فيتبعهما فيها من طريق الأولى، وإن قلنا: إن الدين مقدم على زكاة الفطر، فيجوز أن يقال: لا يباعان فيها، ويجوز أن يجيء الوجهان. ثم ما أيد به البغوي عدم [البيع] من النص [ينازع] فيه قول الإمام في باب نفقة الأقارب: ولا خلاف أن عبد الرجل مبيع في نفقته، وإن كان ذلك يلجئه إلى التبذل والتبسط [نفسه] في الحاجات الدنيئة كاستقاء الماء وما أشبهه. على أن له أن يقول: هذا خاص بالكبير، والصغير بخلافه، والله أعلم. وما يؤدي في الفطرة هو الصاع كما سيأتي. قال: فإن فضل بعض ما يؤدي فقد قيل: يلزمه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهذا حد استطاعته، وقيل لا يلزمه كما لو وجبت عليه كفارة مرتبة وهو يملك نصف رقبة أو غير مرتبة وهو يملك [كسوة خمسة أو إطعامهم]؛ فإنه لا يجب عليه إخراج ذلك. والوجهان مرويان عن أبي إسحاق – رحمه الله – وقال في "البحر": إن أصحهما

الثاني، وفي "الحاوي": أن مذهب الشافعي – رحمه الله –وما ذكره منصوصاً في بعض كتبه: الأول، وهو الأصح في "تعليق" القاضي الحسين وغيره، وبعضهم قال: إن مقابله غلط، وفرق بين الفطرة والكفارة بوجهين: أحدهما: أن الكفارة لا تتبعض في الجملة، والفطرة تتبعض؛ بدليل أن من بعضه حر يلزمه منها بقدر ما فيه من الحرية. والثاني: أن الكفارة [لها] بدل؛ فصار كما لو وجد ما يستر به بعض العورة؛ فإنه يلزمه الستر به. وقد تكلم الإمام هاهنا فيما يجب عند نقصه عن المقدور، وما لا يجب، فقال: كل أصل ذي بدل فالقدرة على بعض الأصل لا حكم لها، والمستثني من ذلك وجود المقدار من الماء الذي لا يكفي لتمام الطهارة فإن فيه قولين، وسبب الخلاف ورود الماء مطلقاً في الشرع من غير تقدير وتوقيف ثم التيمم مشروط في لفظ الشارع بعدم جنس الماء، وهذا لا يتحقق في الكفارات المرتبة، فأما الفطرة فلا بدل لها؛ فالوجه إيجاب الميسور فيها، وكذلك إذا انتقضت الطهارة بانتقاض بعض المحل، فالوجه القطع بالإتيان بالمقدور عليه، وقد ذكر بعض الأصحاب فيه اختلافاً بعيداً أو هو قريب من التردد فيما نحن فيه، ومن انتهى في الكفارة المرتبة إلى إطعام ستين مسكيناً فلم يجد إلا طعام واحد تعين عليه؛ فإن طعام كل مسكين في حكم كفارة. نعم، لو وجد بعض مد فقد يتطرق إليه احتمال. قال: ومن وجبت عليه فطرته وجبت عليه فطرة كل من تلزمه نفقته، أي بسبب زوجية أو قرابة أو ملك، إذا كانوا مسلمين، ووجد ما يؤدي عنهم؛ لقوله في الخبر السابق: "من تمونون"، وهذا قد رواه الشافعي مرسلاً، وغيره أسنده، وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: ["أدوا زكاة الفطر عمن تمونون" قاله الماوردي. وقال الإمام]: إن الأثبات نقلوه، وهذا الخبر وإن لم يقع فيه تعرض للإسلام

فقد وقع في غيره، وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه - قال: "كنا نخرج إذا كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن [كل] صغير وكبير، حر أو مملوك: صاعاً من طعام، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب"، وزاد أبو داود: "أو صاعاً من حنطة" [قال]: وليس بمحفوظ عندنا. وهذا مستند الوجوب؛ إذ لو رددنا إلى القياس الذي عقلناه لما أثبتنا على الإنسان صدقة فطر غيره؛ فإن القربات بعيدة من التحمل، وإن نحن قلنا: [إن] الفطرة غير متحملة، بل وجوبها [بسبب الغير بمثابة وجوب زكاة المال بسبب المال] – فهذا بعيد [أيضاً من جهة] أن قريب الإنسان ليس محل ارتفاق كماله، فيبعد إيجاب إخراج الفطرة عنه قياساً على زكوات الأموال. ولكن أجمع المسلمون على أن الفطرة تجب على الغير بسبب الغير في الجملة؛ لما ذكرناه، لكن هل نقول: الوجوب لاقاه ابتداء أولاً في المنفق عليه، ثم تحمله؟ فيه وجهانا في "المهذب" وغيره، والفوراني وكذا القاضي الحسين روياهما قولين للشافعي، قوال الإمام: إن منهم من خصها بالزوجة الموسرة. وإنهما فيها يستنبطان من معاني كلام الشافعي رحمه الله-[لأنها لو كانت خالية عن الزوج لوجبت عليها]؛ فأمكن أن يقال: يحملها عنها الزوج، أما إذا كانت معسرة أو كان المنفق عليه قريباً أو رفيقاً فلا نقول: [إنه] يجب عليه شيء ثم يتحمل عنه، بل الوجوب يلاقي المنفق ابتداءً؛ لأنه لو فقد المنفق لم يجب عليه فطرة نفسه، فكيف يقال: إن الوجوب يلاقيه؟! وهذه الطريقة هي التي رجحها الإمام واقتضاها كلام الشيخ في أول الباب.

لكن القائلون بطرد وجه التحمل في هؤلاء تمسكوا بظاهر الخبر؛ فإنه مقتض لإيجاب الفطرة على العبد وغيره من طريق الأولى، قال الإمام: ولولاه لما عددت إجراء الخلاف في المذهب، وغاية الممكن في توجيهه أن يجعل السيد مادة العبد ومتعلقه؛ فكذا القريب الملتزم بنفقة قريبه مادة قريبة. قال الرافعي: ثم [حيث] فرض الخلاف وقلنا بالتحمل فهو كالضمان أو كالحوالة؟ حكى أبو العباس الروياني في "المسائل الجرجانيات" فيه قولين: قلت: والذي حكاه البندنيجي: أنا إذا قلنا بالتحمل كان المنفق كالضامن، وإن قلنا: إن الوجوب لاقاه ابتداء، جعلناه كالمحال عليه. وقد صرح به هكذا في "البحر" أيضاً. وبنى الأصحاب على هذا الخلاف – مع ما سنذكره- أن الزوجة الموسرة لو أخرجت فطرة نفسها بدون إذن الزوج، وكذا القريب لو اقترض وأخرج فطرة نفسه بغير إذن قريبه: هل يجزئه؟ إن قلنا: إنها وجبت على المنفق ابتداءً، فلا، وألا أجزأه. [وقال الماوردي: القريب إذا اقترض وأدى زكاة فطرة [نفسه] أجزأه] بالإذن وبدونه، والزوجة إذا أخرجت عن نفسها فإن كان بالإذن أجزأ، وإن كان بغير الإذن فوجهان كما سبق، والفرق: أن نفقة القريب وفطرته وجبت مواساة بدليل سقوطها بغناهم، ولا يرجعون بما أنفقوه على أنفسهم، والزوجة نفقتها وزكاة فطرها أوكد لأنها تجب معاوضة، بدليل وجوب ذلك مع غناها ورجوعها بما تنفقه على نفسها. قال: وليس للزوجة مطالبة زوجها بإخراج الفطرة عنها؛ لأنا وإن أجريناها مجرى الحوالة فليس للمحيل المطالبة، وإن أجريناها مجرى الضمان فليس للمضمون عنه مطالبة الضامن. وقال في "البحر": في مطالبتها بالإخراج وجهان؛ بناء على أن الوجوب على الزوج ابتداءً، أو عليها ثم يتحمل. وهما [كما] لو حلق حلال شعر محرم مكرها هل له أن يطالب الحالق بإخراج الجزاء؟ وفيه قولان. قال: وهكذا الحكم في الأب الزمن. ثم قال: والمذهب ما حكيناه [عن "الحاوي"]. واحترز الشيخ بقوله: "ومن وجبت عليه [فطرته وجبت عليه] فطرة كل من

تلزمه نفقته" عن مسائل: إحداها: الكافر إذا ملك عبداً مسلماً، أو كان له قريب [مسلم] تجب عليه نفقته، فإن فطرته لا تجب عليه على طريقة حكاها في "التتمة" مع أخرى، وهي التي حكاها في "المهذب" وغيره عن العراقيين: أن ذلك يبني على أن الفطرة تجب على المنفق ابتداءً أو تحملاً؛ فعلى الأول – وهو الذي قلنا: إن كلام الشيخ يقتضيه – لا تجب في هذه الصورة، وكذا فيما إذا أسلمت ذمية تحت ذمين ثم جاء وقت الوجوب والزوج كافر، ثم أسلم في العدة، وقلنا بوجوب نفقتها عليه. وعلى الثاني: تجب، قال الإمام: وكان يحتمل أن يقال: لا تجب على الثاني أيضاً، ويمتنع التحمل بما يمتنع به الإلزام، قال: وهو منتجه، ثم إن قلنا بالوجوب فالنية لا تصح منه، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى تكليف من منه التحمل ألبتة، وكيف يقدر ذلك وقد يكون صغيراً؟! فلا خروج لها إلا على استقلال الزكاة بمعنى المواساة؛ كما تخرج الزكاة من مال المرتد. وعبارته في "التتمة": أن الإمام يأخذها من ماله كما يأخذها من المسلم الممتنع. وبقوله: "إذا كانوا مسلمين"، عن الكفار؛ فإنه [لا] يجب عليه فطرتهم، وإن قلنا: إنها تجب على المنفق ابتداءً؛ لأنها طهرة للمخرج عنه، كما جاء في خبر ابن عباس، والكافر ليس من أهل الطهرة، وقد ادعى الإمام اتفاق علمائنا على ذلك، وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجه لبعض أصحابنا: أن المسلم يخرج الفطرة بسبب عبده الكافر كما قاله أبو حنيفة، رحمه الله. قلت: وكأنه نظر إلى قولنا: إنها تجب ابتداءً على السيد، وإن صح هذا وجب طرده في [الزوجة و] القريب، وبه صرح في "التتمة" هكذا، والله أعلم. المسألة الثانية: المكاتب إذا ملك عبداً أو تزوج امرأة فإن نفقتها تجب عليه، ولا تجب عليه فطرتها [إذا لم نوجب عليه فطرة نفسه، أما إذا أوجبناها عليه وجبت عليه فطرتهما]. قاله ابن سريج وادعى الإمام اتفاق الأصحاب على ذلكن وقال القاضي الحسين هنا وفي باب [من] تجب عليه الزكاة: إنا إذا أوجبنا عليه فطرة نفسه ففي

فطرة عبده وجهان. الثالثة: العبد إذا ملكه السيد مالاً، وقلنا: إنه يملكه، فإنه تجب عليه نفقة زوجته، ولا يجب عليه فطرتها، لأنه لا تجب عليه فطرة نفسه. نعم، لو أذن له السيد في إخراج فطرتها منه فقد حكى الإمام عن شيخه في ذلك وجهين، قال: وعندي أن ذلك يترتب على ما تقدم في زوجة المكاتب، وما نحن فهي أولى بألا تجب؛ فإن العبد لا استقلال له أصلاً، والوجه: القطع بعدم الوجوب. فإن قيل: العبد إذا تزوج بإذن مولاه تعلقت نفقتها بكسبه فهلا كانت فطرتها كذلك، وهي تنحو نحو النفقة؟ قيل: النفقة تلزم ذمة العبد، ولما كان النكاح بإذن المولى اقتضى الإذن في الإلزام إذناً في التأدية، ولا محل لذلك أقرب من كسب العبد، أما الفطرة فإنها [عمن تلزمه نفقته]، والعبد ليس من أهل التزام النفقة، والسيد لم [تلزمه نفقة زوجة العبد] حتى تتبع الفطرة النفقة، كذا قاله الإمام. وقد اقتضى كلام الشيخ- رحمه الله – أموراً: أحدها: وجوب فطرة عبد ولده الصغير الذي لا يستغني عن خدمته؛ لأن نفقته واجبة عليه، وقد حكيناه عن النص، وقال في "البحر": إنه نص عليه في القديم، وإن الداركي من أصحابنا حكى وجهاً: [أنه لا يباع، وتكون زكاة الفطر في ذمته، ووجهاً] آخر: أنه يباع منه بقدر الزكاة، وهو ما أبداه الإمام احتمالاً لنفسه من عدم إيجاب فطرة زوجة الأب. وهذا الذي حكيته عن "البحر" رأيته في نسخة منه، وقد حكى فيها بعد ذلك ما يوهم توقفاً فيما تقدم، فمن عثر على خلافه من نسخة صحيحة فليلحقه بحاشية كتابنا هذا. الثاني: وجوب فطرة زوجة الأب الذي يجب [نفقته إذا أوجبنا على ابنه إعفافه؛ لأن نفقتها تجب] على الابن، وهو أحد الوجهين في المسألة، والذي صححه الغزالي وطائفة.

ومقابله: عدم الوجوب، وهو الأصح في "التهذيب" و"العدة" وغيرهما؛ لأن الأصل في القيام بأمرها هو الأب والابن متحمل عنه، والفطرة غير لازمة على الأب [بسبب] الإعسار؛ فلا يتحملها الابن، بخلاف النفقة فإنها لازمة مع الإعسار فيتحملها، ولأن فقدها النفقة يمكنها من الفسخ، وإذا فسخت احتاج الابن إلى تزويجه، وفقد الفطرة بخلافه. قال الرافعي: ويجري الوجهان في فطرة مستولدته. الثالث: وجوب فطرة خادم زوجته إن كانت ممن تخدم، كما صرح به في كتاب النفقات، وهو المحكي عن نصه في "المختصر"، ولم يورد الماوردي غيره، وقال الإمام بعد حكايته عن بعض الأئمة: والأصح عندنا أنها لا تجب، فإن نفقة الخادمة غير مستقلة إذ يمكنه تحصيل الغرض بمتبرعة أو مستأجرة، وتصوير محل الوجوب مذكرو في كتبا النفقات. أما وجوب فطرة الزوجة فلا خفاء فيه؛ فلذلك لم أنبه عليه, نعم، حكى القاضي الحسين فيما إذا تزوج [الحر الموسر بمكاتبة] هل تجب فطرتها عليه؟ خلافاً ينبني على أن فطرة الكاتب هل تجب على [نفسه، أو لا؟ فإن قلنا: لا تجب عليه] فطرة نفسه، فها هنا لا تجب على الزوج فطرتها، وإن قلنا: تجب، فهاهنا يجب على الزوج فطرتها. قلت: والجزم فيه بعدم الوجوب على الزوج إذا قلنا: لا يجب على المكاتب فطرة نفسه – فيه نظر؛ بل يظهر أن [يبني على] أن الفطرة تجب على الزوج تحملاً أو ابتداء؟ [فإن قلنا تحملاً، فالأمر كم قال، وإن قلنا: ابتداءً]، فلا، وكلامه في موضع آخر يرشد إلى ذلك، لأنه قال: إذا قلنا بالجديد وهو أن المكاتب لا تجب فطرة نفسه-[فلا تجب فطرة] المكاتبة على زوجها؛ لأنها ليست من أهل الفطرة، وإذا لم تجب عليها فكيف يتحمل عنها؟! والله أعلم. الرابع: وجوب فطرة العبد الآبق على رأي؛ لأن الإمام حكى هاهنا خلافاً في أن

العبد الآبق هل يستحق النفقة أم لا؟ وأبداه قبيل باب صدقة الخلطاء احتمالاً وقد حكى في "المهذب" في وجوب فطرته طريقين: أحداهما: القطع بالوجوب؛ لأن فطرته تجب بحق الملك، والملك لا يزول بالإباق. والثانية: في فطرته قولان كالزكاة في المال المغصوب. وكذا حكى الطريقين فيه المراوزة والقاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ في أواخر باب صدقة الغنم، [ونسبت طريقة القطع بالوجوب إلى الشيخ أبي حامد. قال ابن الصباغ: وهو ظاهر كلام الشافعي- رحمه الله -] وطريقة القولين تنسب إلى باقي الأصحاب والبندنيجي فرض الطريقين هكذا ها هنا فيما إذا كان الآباق لا يعرف موته ولا حياته وكذا غيره من العراقيين [فرضهما] فيمن لم يعرف موته ولا حياته، وقالوا: إن الأولى طريقة أبي إسحاق، والثانية طريقة المزني وغيره من الأصحاب، وإن الاختلاف أخذ من قوله في "المختصر" هنا: ويخرج عن عبيده الحضور والغيب وإن لم يرج رجعتهم إذا علم حياتهم. وقال في موضع آخر من "المختصر": يزكي عنهم وإن لم يعلم حياتهم. فأبو إسحاق يقول: قد نص أنه يزكي عنهم إذا علم حياتهم، ولم يسقط الزكاة عنهم إذا [لم يعلم] حياتهم، ولا يجب أن نجعل لكلامه دليل خطاب فكانت المسألة على قول واحد وهو الوجوب. وغيره جمع بين صريح أحد لفظيه ومفهوم [الآخر، وأثبت فيهما قولين منصوصين. والمراوزة قالوا: إن الاختلاف أخذ من نصه على] وجوب فطرته وعلى عدم إجزاء عتقه عن الكفارة فمن اثبت القولين نقل وخرج ومن قطع بالوجوب قرر النصين وفرق بأن الفطرة تجب بالملك والأصل بقاؤه والأصل شغل الذمة بالكفارة فلا تسقط بالشك. والصحيح – وإن ثبت الخلاف كما قال القاضي أبو حامد والماوردي وغيرهما -: الوجوب وإذا قلنا به فهل يجب الإخراج في الحال؟ قال البندنيجي وغيره: فيه قولان نص عليهما في "الأم"،والمذكور منهما في "تعليق" القاضي

الحسين: الوجوب ومقابله ليس بشيء باتفاق الأصحاب وفرقوا بين زكاة المال الغائب حيث لا يجب إخراجها قبل حضوره وبين زكاة فطرة العبد الغائب: بأن إمكان الأداء شرط في الضمان في زكاة المال، والمال الغائب يتعذر فهي الأداء وليس كذلك زكاة الفطر فإنها تجب [على ما تؤدَّى] منه. والطريقان جاريان – كما حكاهما القاضي أبو الطيب والإمام متصلاً بباب صدقة الخلطاء – في فطرة العبد المغصوب، وقال الإمام هنا: إن الذي ذهب إليه المحققون أن صدقة الفطر على المملوكين لا يُنْحَى بها نحو زكاة الأموال حتى [يرعى في إيجابها تمكن] السيد [من] مملوكه؛ فإن المالية غير مرعية في هذه القاعدة؛ ولهذا وجبت الفطرة بسبب الابن والزوجة. وذهب بعض أصحابنا إلى تنزيل فطرة العبد منزلة زكاة الأموال. [ثم قال]: فإن قلنا بوجوبها ففي وجوب إخراجها على التعجيل وجهان والذي أورده العراقيون والماوردي وجوب زكاة فطرته، [وكذا المرهون]،وبه قطع المراوزة [فيه]. وقال الإمام عند الكلام في إيجاب زكاة الفطر [على الورثة في] العبد الموروث: وعندي أن انسداد التصرف بالرهن لا ينقص عن انسداده بغصب العبد فيجيء فيه الطريقان، وعادة أئمة المذهب إذا ذكروا شيئاً ضعيفاً ألا يعودوا إليه، والمنقول في "الإبانة" وغيرها: الأول. وقال الماوردي: ولا يجوز للسيد إخراجها منه بل يخرجها من ماله وهذا بخلاف المال المرهون حيث أخرجت زكاته منه على أحد القولين لأن فطرة العبد في ذمة سيده وزكاة المال على أحد القولين في عينه. وحكى في "البحر" وجهاً آخر: أنه يباع منه بقدرها كأرش الجناية، وقد حكى [عن] ابن عبدان طرد الطريقين فيما إذا حيل بين الزوج وزوجته عند الاستهلال. الخامس: وجوب فطرة مطلقته الحامل طلاقاً بائناً؛ فإن نفقتها واجبة، وهي طريقة

حكاها الإمام وصححها، وحكى طريقة أخرى عن رواية الشيخ أبي علي-: وهي التي أوردها الماوردي والجمهور-أن ذلك يبني على أن النفقة لها أو للحمل؟ فن قلنا: لها- وهو الأصح – وجبت، وإلا فلا؟ إذ الحمل لا تجب الفطرة عنه. واعلم أنا إذا أوجبنا الفطرة في الصور السابقة كانت القاعدة التي ذكرها الشيخ مطردة وهل هي منعكسة حتى نقول: ومن لاتجب نفقته لاتجب فطرته؟ [فيه خلاف]؛ لأن الشيخ أبا بكر بن الحداد قال: إذا كن له ولد صغير يملك قوت يوم العيد وليلته فلا تجب على الأب نفقته في ذلك اليوم وتجب [عليه] فطرته، ولو فرضت [هذه الصورة] في الابن البالغ قال: لاتجب فطرته؛ لأنه لم يفضل من قوته شيء، ولا تجب الفطرة على الأب-أيضاً – لسقوط النفقة عنه في يوم وجوب الفطرة، والفرق: أن نفقة الصغير آكد؛ لأن الأم تتسلط على استقراضها على الأب في غيبته وعند امتناعه وهذا يفضي إلى تقرير النفقة في الذمة من جهة الاستقراض، ومثل ذلك لا يثبت للابن البالغ المعسر فإذا كانت نفقة الصغير آكد عدت الفطرة جزءاً من النفقة. وهذا ما أورده القاضي الحسين في "تعليقه" لا غير، وكذلك المتولي، وإذا قلنا به لا تكون القاعدة منعكسة. والذي حكاه الإمام عن شيخه: أن فطرة الولد الصغير لا تجب [كالولد الكبير] وهو القياس، والأول بعيد عنه، وأنه تردد في جواز الاستقراض وقال: القياس المرتضى امتناع ذلك من الأم، إلا أن يسلطها السلطان. فعلى هذا تكون القاعدة منعكسة أيضاً.

وقد أفهم قول الشيخ: "ووجد ما يؤدي عنهم"، أن من ملك عبداً لا مال له بعد قوت يوم العيد وليلته، [وصاعاً يخرجه عن نفسه غيره] – أنه لا تجب فطرته، وقد حكى الإمام فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هذا؛ لأنه لو وجب عليه بيع جزء منه لأجل فطرته لأدى إلى اتحاد المخرج والمخرج عنه. والثاني أنها تجب، وهو الذي ذهب إليه الأكثرون كما قال الإمام في موضع من هذا الباب وقال [في آخر منه: إنه المذهب] الظاهر. ولم يحك القاضي أبو الطيب في "شرح الفروع" غيره؛ فإن المعتمد في المال المعتبر في إيجاب الفطرة: أن يفضل عن القوت يوم العيد مقدار الفطرة والعبد في نفسه فاضل عن القوت. والثالث: [إذا كان العبد مستغرقاً بالخدمة] [فلا فطرة لتعذر تقدير بيعه، وإن لم يكن الرجل محتاجاً إلى الخدمة] فالعبد كسائر الأموال وهذا ما ادعى الرافعي أنه الأظهر. وأنت إذا أفردت كل حالة من حالتي العبد كان لك فيها وجهان وقد حكاهما البغوي فيما إذا كان العبد مستغرقاً لخدمته وصحح المنع كما تقدم وحكاهما في "الوسيط" فيما إذا كان مستغنياً عن خدمته وأبدى الإمام على قول من لمي وجب الفطرة فقهاً فقال: قد يقال لهذا القائل: مقدار الصدقة من الرقبة إن كان ينقص عن المالية فالزائد عليه يجب أن يخرج قسطه من الفطرة عنه؛ تخريجاً على إيجاب الفطرة عن العبد المشترك، وهذا ما لابد منه ولكن الذي أطلقه الأصحاب نفي الزكاة في وجه، ولست أرى ذلك وجهاً؛ ولأجل ذلك حكى في "الوسيط" في الصورة التي حكى فيها الخلاف، وهي ما إذا كان مستغنياً عن خدمة العبد وجهاً ثالثاً، قال: وهو الأعدل وإن لم يكن محكياً على هذا الوجه- أنه إن استغرق الصاع قيمته فلا يخرج وإن كان عشرة مثلاً يشتري بتسعة أعشار صاع فليخرجه عن الباقي بعد بيع العشر؛ لأن من لا يملك إلا تسعة أشعار عبد يلزمه تسعة أعشار صاع فلا يؤدي إلى الاتحاد المحذور، وقد قال في "التتمة": إن قلنا: إن العبد المحتاج إليه للخدمة يباع في فطرة السيد، فهل يباع بعضه في فطرة نفسه؟ فيه وجهان. وهذا الترتيب قد أبداه

الرافعي احتمالاً لنفسه. وقد جزم الغزالي وغيره بأن السيد يخرج الصاع عن نفسه، وهو بناء على الصحيح في أنه [إذا] لم يجد إلا صاعاً وقد اجتمع معه من يجب عليه فطرته: أنه يخرجه عن نفسه أما إذا قلنا في هذا الصورة: إنه يتخير أو يجب توزيعه- كما سيأتي-فمثل ذلك يأتي في مسألة العبد لا محالة إذا قلنا: لا يجب بيع جزء منه لأجل فطرته، والله أعلم. قال: وإن وجد ما يؤدي عن البعض بدأ بمن يبدأ بنفقته لأن الفطرة تابعة لها بمقتضى الخبر، وهذا ما عليه أكثر أصحابنا كما قاله البندنيجي وصححه النووي. فعلى هذا: يبدأ بفطرة نفسه؛ لقوله-عليه الصلاة والسلام-: "ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول"، ولأنه لو كان هو ومن تلزمه نفقته مضطرين ومعه طعام قليل كان هو أولى بالطعام، وكذلك إذا جامع امرأته ومعه ماء قليل يكفي لغسل واحد كان هو أولى به فكذا في مسألتنا، فإن فضل عنه شيء صرف عن زوجته؛ لأن استحقاقها آكد من استحقاق القرابات؛ إذ كانت تستحق النفقة بعقد معاوضة بإزاء التمكين من الاستمتاع والاحتباس في منزله، ولأن نفقتها تثبت في حال اليسار والإعسار وتثبت ديناً في ذمته وليس كذلك نفقة الأقارب. فإن فضل شيء صرفه عن ولده الصغير؛ لأن نفقته ثبتت [بنص القرآن] والسنة وزكاة فطرته إجماع بخلاف فطرة الأب. فإن فضل شيء صرفه عن أبيه، ثم عن أمه، ثم عن ولده الكبير. وهذا ما ذكره في "المهذب" تفريعاً على هذا الوجه؛ اتباعاً للقاضي أبي الطيب والماوردي، قال [الرافعي]: وهو الأظهر.

وقد حكى القاضي الحسين وجهاً آخر على هذا: أنه يقدم بعد فطرة نفسه وزوجته فطرة الأب، ثم الأم، ثم الولد الصغير، ثم الكبير. وحكى البندنيجي والفوراني [وجهاً]: أنه يقدم فطرة نفسه، ثم [فطرة] زوجته، ثم ولده الصغير، ثم ولده الكبير، [ثم الأب فالأم. ولو] اجتمع الأب والأم فثلاثة أوجه مبنية على أيهما مقدم في النفقة، وفيها ثلاثة أوجه: أحدها: [تقدم نفقة الأب] فعلى هذا تقدم فطرته. والثاني: تقدم نفقة الأم فعلى هذا تقدم فطرتها. والثالث: تقسم بينهما وعلى هذا قال أبو حامد: يقسم الفاضل بينهما إن شاء وإن شاء أخرجه عمن شاء منهما. قال في "البحر": ينبغي أن يقال: يخرج عمن شاء منهما ولا يقسم؛ لأنا هذا تفريع على قول الترتيب وأداء التمام، [لا] على قول القسمة وترك الترتيب. والصحيح: أن الأب أولى. وهذا إذا اجتمع متفاوتون في الدرجة، فلو فضل صاع بعد فطرته واستوى الباقون في الإنفاق، فهل يقسم بينهم أو يتخير؟ فيه وجهان في "الوسيط" وغيره قال الرافعي: ولم يتعرضوا للإقراع هاهنا، وله مجال في نظائره. قال: وقيل يقدم فطرة الزوجة على فطرة نفسه؛ لأنها [تتبع النفقة] ونفقتها تجب بحكم المعاوضة فتثبت في الذمة بخلاف نفقة غيرها فكانت آكد، قال في "الوجيز": ولأن فطرتها دين، والدين يمنع وجوب هذه الزكاة.

قال الرافعي: وصاحب الوجه الأول قد يمنع في هذه الصورة كونها تصير ديناً في الذمة، [وإن أراد أنها تكون ديناً في الذمة] في الجملة فنفقة القريب كذلك، وهذا الوجه حكاه أبو إسحاق المروزي، وقال الإمام: إنه من غلطات المذهب. فإذا قلنا به قدم فطرة نفسه ثم من ذكرناه. قال البندنيجي والمتولي: والمذهب تقديم فطرته على فطرتها. والوجهان متوافقان على تقديم فطرتها على الأقارب، وقد حكى وجه يعزى إلى ابن أبي هريرة: أنه يقدم فطرة نفسه ثم أقاربه ثم الزوجة؛ لأن علقة القرابة لا تنقطع، بخلاف الزوجية، وقال الإمام: هذا لا أرى له وجهاً، ولم يذكره إلا بعض المصنفين. قال: وقيل: يبدأ بفطرة نفسه ثم هو بالخيار في حق غيره؛ لقوله-عليه الصلاة والسلام -: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"، قال الإمام وهذا لا وجه له عندي. وقيل: هو بالخيار في حق نفسه وحق غيره، لأن كل واحد لو انفرد لوجبت فطرته، وقال الإمام: لعل قائله تلقى مذهبه من مذهب الإيثار في النفقة لما رأى الفطرة متلقاة من النفقة، وهو ساقط من جهة أن الفطرة قربة ولا إيثار في القرب، ولست أعرف خلافاً في [أن] من وجد من الماء ما يكفيه لطهارته لم يكن له أن يؤثر به رفيقه ليتطهر به وما يتخيله من أمر النفقة لا أصل [له]؛ فإنا لم نتبع الفطرة النفقة على معنى معقول حتى [يلزم تنزيل] الفرع على الأصل إن كان ينتظم ذلك، وإنما اتبعنا فيه الخبر. وادعى الشيخ أبو حامد- رحمه الله – أن هذا الوجه ظاهر المذهب؛ لأنه قال في "المختصر": ومن دخل عليه شوال وعنده قوت وقوت من يقوت يومه وما يؤدي به زكاة الفطر عنه وعنهم أداه فإن لم يكن عنده بعد قوت اليوم إلا ما يؤدي عن بعضهم [أدى عن بعضهم]. فأطلق الأداء عن البعض إطلاقاً؛ فدل على تخيره. وال الرافعي: إنه الذي رجحه القاضي الروياني، فإذا قلنا به لمن أراد أن يوزع الصاع هل له أن يفعل ذلك؟ نقل الإمام [فيه] وجهين، ووجه الجواز: صيانة البعض عن

الحرمان ووجه المنع- وهو الأصح عنده -: نقصان المخرج عن قدر الواجب في حق الكل مع أنه لا ضرورة إليه، والوجهان كما قال في "الوسيط" على [قولنا]: إن من لم يجد إلا بعض الصاع يخرجه، فإن لم يلزمه إخراجه لم يجز التوزيع وجهاً واحداً. قال الرافعي: وقد أورد المسعودي وجه التوزيع إيراداً يشعر بأنه يتعين عليه ذلك محافظة على الجوانب. قلت: وهو مصرح به كذلك في الإبانة والبحر وابن يونس والقاضي الحسين ذكره هكذا فيما فضل عن فطرة نفسه فقال: إذا كان معه صاعان فأخرج أحدهما عن نفسه – فالصاع الآخر يجب توزيعه على من تلزمه نفقته. وهكذا أورده المتولي والإمام عن الصيدلاني وقال: إنه [ركيك مع تفاوت الرتب] ولا ينقدح إلا حيث ينقدح الإيثار. وقد حكى الماوردي في المسألة وجهاً آخر: أنه يخرج الفاضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته إذا كان صاعاً عن واحد لا بعينه ليحتسب [الله به] عمن شاء؛ لأنه [لو] كان واجد الفطرة جميعهم لم يلزمه أن يعينها عن كل واحد منهم؛ فكذا إذا كان واجد الفطرة واحداً منهم لا يلزمه أن يعينها عن واحد منهم. قلت: وهذا الوجه يظهر بناؤه على أن [فطرة] من تلزمه نفقته تجب ليه ابتداء لاتحملا وبه صرح الإمام حيث قال في آخر الفصل: [إنا] إذا قلنا: الوجوب [يلاقي] المخرج ابتداء لا تحملا فلا معنى للتقديم والتأخير. نعم إن عين من قلنا إنه مؤخر فسد بتعيينه ما أخرجه وكان [هذا] كما لو نوى إخراج الزكاة عن بضاعته التي بالري فإذا هي تالفة- وسنذكره - أما إذا قلنا: إن المخرج يتحملها عن المنفق عليه فلابد من تعيين من يخرج عنه بالقصد، وإن كان لا يجب عليه مراجعته فهي استنابة شرعية قهرية. قلت: وقد اقتضى كلام الإمام أن الخلاف فيمن يستحق التقديم في الفطرة جار على قولنا: [إن المخرج يلقاه الوجوب ابتداء أو تحملاً، ولا شك في ظهوره

إذا قلنا]: إنه يتحمل، أما إذا قلنا: إن الوجوب يلقاه ابتداء، فلا يظهر جريانه؛ إذ لا أثر له؛ فإن من [لم يخرج] عنه إذا كان موسراً – وهو إنما يتصور في الزوجة – لا يجب [عن نفسه على هذا القول كما سيأتي ومن أخرج عنه غير مثاب، والله أعلم. تنبيه: قول الشيخ: "فإن وجد بعض ما يؤدي عن البعض"، ظاهره أنه وجد ما يؤدي عن بعض من تلزمه نفقته مع وجدانه ما يؤديه عن فطرة نفسه، وإذا كان كذلك لم يستقم قوله من بعد: "وقيل: يقدم فطرة الزوجة على فطرة نفسه"؛ فإن هذا القول يقتضي أن الموجود صاع واحد لا غير، وأيضاً فإنه جعل الشرط في وجوب فطرة من تلزمه نفقته أن تكون فطرة نفسه قد وجبت عليه وإذا وجب عليه إخراج الصاع الذي قدر عليه عن زوجته لم تكن فطرة زوجته قد وجبت عليه وجواب هذا أنه أراد: من صلح لأن تجب عليه فطرة نفسه في الجملة وجب عليه فطرة كل من تلزمه نفقته ... إلى آخره، والله أعلم. قال: وإن زوج أمته بعبد أو حر معسر أي: وسلمها إليه ليلاً أو نهاراً، أو تزوجت موسرة بحر معسر- ففيه قولان. القولان في هذه المسألة بالنقل والتخريج؛ لأن الشافعي – رحمه الله – نص كما حكاه البندنيجي وغيره فيما إذا زوج أمته من عبد أو مكاتب أو حر معسر على وجوب فطرتها على سيدها، وقال في الحرة إذا تزوجت بحر معسر: "لا يبين لي أن تجب عليها؛ لأنها مفروضة على غيرها"، فاختلف الأصحاب لأجل ذلك في المسألة، فالأكثرون منهم – كما قال الماوردي والإمام – قالوا: لا فرق بين الحرة والأمة؛ لأن الحرة من نفسها بمنزلة الأمة من مولاها؛ لأن نفقة الحرة قبل التزويج على نفسها في مالها، ونفقة الأمة قبل التزويج على مولاها في ماله، فإذا قال الشافعي – رحمه الله – في المولى: "يجب عليه زكاتها"، وجب أن يكون على الحرة في مالها، وإذا قال في الحرة: "لا تجب عليها"، وجب ألا يكون على المولى، فحينئذ يكون في المسألة قولان كما حكاهما الشيخ رحمه الله. قال: أحدهما: يجب على السيد فطرة الأمة، وعلى الحرة فطرة نفسها؛ لأن الزوج المعسر الذي لا يقدر على إخراج الزكاة بمنزلة المعدوم، ولو لم يكن لها زوج وجبت على المولى والحرة؛ فكذلك هاهنا.

والثاني: لا تجب؛ لأنها زكاة واجبة على الزوج، فوجب أن تسقط بعجزه عنها كزكاة نفسه. قال القاضي أبو الطيب: وفي "المهذب" و"البحر": وقد قال بعض أصحابنا: إن القولين ينبنيان على أن زكاة الفطر تجب على الزوج بطريق التحمل أو ابتداءً؟ فإن قلنا: تحملاً، فإذا لم يكن من أهل التحمل بقي وجوبها على السيد والحرة، وإن قلنا: تجب ابتداءً، سقطت، ولا تجب على المولى والحرة. وهذا لذي قاله هو الذي قاله البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين والفوراني والغزالي لا غير، وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أن الخلاف في أن الفطرة تجب على الزوج تحملاً أو ابتداء [فيه] وجهان، فكيف يمكن بناء القولين على وجهين؟ وهذا يمكن جوابه من وجهين: أحدهما: أنا قد ذكرنا أن بعضهم أثبت الخلاف قولين، وعلى هذا لا إشكال. والثاني: أنا وإن سلمنا أنه وجهان، فالوجهان مخرجان من أصول الشافعي – رحمه الله – وحينئذ فلا يمتنع بناء قوليه على أصليه، والله أعلم. النظر الثاني: أنا قد حكينا عن رواية الرافعي عن أبي عباس الروياني: أنا إن قلنا: إنها وجبت بطريق التحمل، فهل المؤدي كالضامن أو كالمحال عليه؟ فيه قولان، فإن قلنا: إنه كالضامن – وهو ما حكيته عن البندنيجي [و] صاحب "البحر" لا غير- اتجه ما قالوه من البناء على بعد، وإن قلنا: إنه كالمحال عليه، فلا وجه لمطالبة المحتمل عنه عند إعسار المحتمل؛ كما لا مطالبة [للمحتال] على المحيل عند إعسار المحال عليه. قال: وقيل: تجب على السيد ولا تجب على الحرة؛ وهو ظاهر المنصوص، أي: في المسألتين؛ لأن المولى لا يلزمه تسليم الأمة إلى زوجها نهاراً، وإنما يلزمه ذلك ليلاً، فإذا أسلمها نهاراً كان متبرعاً به، فلم تسقط بذلك زكاة واجبة عليه، وليس كذلك الحرة؛ فإنه يجب عليها بالعقد تسليم نفسها إلى زوجها ليلاً ونهاراً، فانتقلت فطرتها عنها بغير اختيارها فلم تعد إليها، ولأن الأمة اجتمع فيها في التحمل سببان: الملك والزوجية، والملك أقوى بدليل تقديمه في الاستخدام على النكاح؛ فإن السيد يسافر بها دون إذن الزوج، ولا يسافر بها الزوج إلا بإذن السيد؛ فتعلق الوجوب بالسبب الأقوى، ولا كذلك الحرة؛ فإنه لم يوجد في حقها إلا

سبب واحد، فأنيط الحكم به. وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي وغيره كما قال البندنيجي، وهي المصححة في "الروضة". والصحيح عند الشيخ أبي علي وغيره: الطريقة الأولى، وما ذكره أبو إسحاق منتقض بما إذا كان [الزوج] موسراً؛ فإن فطرتها واجبة على الزوج وجهاً واحداً، أبي أو رضي، وما ذكره موجود فيه. وأشار الإمام- رحمه الله – إلى ضعف الفرق بقوله: وذهب بعض أصحابنا إلى محاولة الفرق، ولا يكاد ينقدح. ثم الفرق الأول إنما هو على قولنا: إن الأمة إذا سلمت ليلاً فقط، لا تجب نفقتها كما هو الصحيح، أما إذا قلنا: تجب فلا يتأتى؛ لأنه تبرع فعلى هذا تكون كالحرة سواء في الفطرة، وإن قلنا: [إن] الواجب بتسليمها ليلاً نصف النفقة، فينبغي على سياق هذا: أن يسقط النصف ويجب النصف، وإن وجد التسليم ليلاً ونهاراً؛ كما لو كان نصف العبد لقادر على فطرته، [ونصفه لعاجز عنها، وقلنا: لايباع العبد في فطرته، أو نصفه حر وهو عاجز عن الفطرة]، ونصفه لقادر عليها، فقد صرح الإمام بذلك فيما إذا سلمها ليلاً دون النهار وأبداه في "البحر" احتمالاً. ولا فرق في جريان الطريقتين في الحرة – كما قال البندنيجي وتبعه في "البحر" – بين أن يكون الإعسار مقارناً لعقد النكاح أو طارئاً عليه. ثم حيث قلنا: لا يجب علها فطرة نفسها، فالأولى أن تخرجها، نص عليه في "المختصر". ولو نشزت، فسقطت فطرتها عن الزوج لسقوط نفقتها، فقد قال الإمام – رحمه الله -: الوجه عندي القطع بإيجاب الفطرة عليها وإن قلنا: إن الوجوب لا يلاقيها؛ لأنها بالنشوز أخرجت نفسها عن إمكان التحمل، وبه صرح ابن الصباغ في آخر باب صدقة الغنم. قلت: ويؤيده أن الماوردي – رحمه الله – لم يحك خلافاً في أنها تجب على السيد إذا لم يسلم الأمة إلى الزوج، وهو ما نص عليه في "المختصر"، أما لو تزوجت

الحرة الموسرة بعبد أو مكاتب، وقلنا: لا تجب على المكاتب فطرة نفسه، فلا شك أن فطرتها لا تجب على الزوج، وهل تجب عليها؟ فيها طريقان عند المراوزة: أحداهما: فيها قولان؛ كما لو تزوجت بحر معسر، وهي التي أوردها البندنيجي لا غير. والثانية: القطع بالوجوب؛ [لأن العبد أو المكاتب] ليس بأهل لأن تجب عليه فطرة نفسه؛ فلا يصلح للتحمل، [بخلاف الحر فإنه من أهل التحمل] في الجملة. قلت: والطريقان يمكن أخذهما من أن القولين فيما إذا تزوجت بحر أصلان بأنفسهما وعليهما ما سلف أو هما مبنيان على أن الفطرة تجب على الزوج تحملاً أو ابتداء؟ فإن قلنا: هما أصلان –لما ذكرناه من العلة – جرياً ها هنا؛ لأن علتهما موجودة، وإن قلنا: هما مبنيان على ما تقدم، قطعنا هنا بالوجوب عليها لما ذكرناه، وحينئذ يكون الطريقان في طريقة العراقيين أيضاً، وقضية ذلك: أن تطرد الطريقة القاطعة بالوجوب عليها فيما إذا زوج أمته بعبد، وإن قلنا: إنه [لو] زوجها بحر معسر كان في فطرتها القولان لما ذكرناه من المعنى، وبه صرح الفوراني والقاضي الحسين وغيرهما. قال: وتجب صدقة الفطر إذا أدرك آخر جزء من شهر رمضان، وغربت الشمس في أصح القولين؛ لقول ابن عمر – رضي الله عنه -: إن رسول الله صلى الله ليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان، [وقول ابن عباس – رضي الله عنهما -: إنه عليه السلام فرض زكاة الفطر من رمضان] [طهرة] للصائم. فأضاف الزكاة إلى الفطر المطلق من صوم رمضان. وأول فطر يحصل إنما هو بغروب الشمس في آخر أيامه؛ فدل على أن ذلك سببها الموجب لها، وهذا هو الجديد، ووافق الشيخ على تصحيحه من عداه، وهو في هذه العبارة متبع للشافعي – رحمه الله –فإنه قال في "المختصر": وإنما يجب عليه أن يزكي عمن كان عنده منهم في شيء من نهار آخر يوم من شهر رمضان وغابت الشمس ليلة شوال، فيزكي عنه. فإن قلت: إدراك آخر جزء من شهر رمضان لا يدرك إلا بغروب الشمس ليلة

العيد، فلأي معنى قال: وغربت الشمس؟ قلت: ليبين لك أن مجموع الزمنين – أعني: آخر جزء من شهر رمضان، وأول جزء من ليلة العيد هو سبب الوجوب، وهو مراد الشافعي – رحمه الله – بما حكيناه عنه؛ ولذلك قال القاضي أبو الطيب: كأن الشافعي اعتبر آخر جزء من آخر يوم من رمضان إلى أول جزء من ليلة شوال، قال الماوردي – رحمه الله -: لأن زكاة الفطر إما أن تجب بخروج رمضان أو بدخول شوال، وغروب الشمس يجمع الأمرين؛ فكان تعلق الزكاة به أولى. قال: وتجب بطلوع الفجر في الثاني؛ لقوله – عليه السلام -:"أغنوهم عن الطَّلب في هذا اليوم"، وأراد به يوم الفطر؛ فدل على أن الوجوب يتعلق باليوم دون الليلة؛ ولأنها عبادة تتعلق بالفطر من رمضان؛ فوجب أن تتعلق بيوم الفطر كصلاة العيد، وهذا ما نص عليه في القديم. والقائلون بالأول قالوا: الخبر حجة لنا؛ لأن الإغناء عن الطلب في هذا اليوم يقتضي أن يكون الإعطاء سابقاً؛ حتى يكون غنيّاً من أول النهار إلى آخره، والقياس لا حجة فيه؛ لأنا لا نسلم أن صلاة العيد تتعلق بالفطر من صوم رمضان على أنا نقلبه عليهم فنقول: وجب ألا تتعلق بطلوع الفجر من يوم الفطر كصلاة العيد. وقد حكى المراوزة قولاً ثالثاً: أنها تجب [بإدراك مجموع] الوقتي، ونسبه القاضي الحسين والإمام إلى حكاية صاحب "التلخيص"، وقال الإمام: إنه لا يكاد يتجه. ووجَّهه القاضي بأن حقيقة الفطر إنما تدخل بطلوع الفجر؛ إذ الليل غير قابل للصوم؛ فاشترطنا كلا الطرفين: أحدهما: لدخول وقت الفطر، والثاني: لتحقق الفطر. وقال في "البحر": إن هذا القول مخرج ذكره صاحب "التلخيص"، ولا يعرف

للشافعي - رحمه الله – وعن الصيدلاني: أن الأصحاب استنكروه. التفريع: إن قلنا بالأول، فلو اشترى مملوكاً، أو تزوج امرأة أو وُلد له قريب، أو أسلم بعد الغروب – لم يجب شيء. ولو وجد ذلك قبل الغروب، واستمر الوجود إلى أن غربت الشمس – وجبت الفطرة، ولا يضر الموت بعد ذلك، إلا إذا حصل [قبل] التمكن من إخراج الفطرة؛ فإن في سقوطها وجهين في "تعليق" القاضي أبي الطيب عن ابن سريج: أحدهما: نعم؛ كزكاة المال. والثاني: لا؛ لأنها تجب [في الذمة]، ولا تعلق لها بالعين أصلاً، وتخالف زكاة المال؛ فإنها تتعلق بالعين تعلق شركة أو رهن عند العراقيين. وقد حكى الإمام والمتولي والبغوي الوجهين من غير عزو إلى ابن سريج، وكذا الشيخ في "المهذب"،والذي أورده البندنيجي وصاحب "البحر" منهما: الثاني، والوجهان يجريان فيما لو تلف ماله بعد الوجوب وقبل التمكن، كما حكاه القاضي أبو الطيب في أواخر باب صدقة الغنم والمشهور منهما: الثاني. فإن قلنا بالثاني أجرينا ما ذكرناه من التفصيل قبل الغروب وبعده، قبل طلوع الفجر وبعده. [وإن قلنا بالثالث فلو وجد ذلك قبل الغروب، وزال قبل طلوع الفجر، أو حدث بعد الغروب]، واستمر إلى طلوع الفجر – لم تجب. نعم، لو ملك عبداً قبل الغروب، وغربت الشمس وهو في ملكه، ثم مات السيد وله وارث معين، وبقي العبد حتى طلع الفجر – فالمذهب على الثالث: أنه لا تجب فطرته، وحكى الشيخ أبو علي [أن] من أصحابنا من أوجبها؛ بناء على القديم في أن الوارث يبني

على حول الموروث. ولو ملك عبداً قبل الغروب، وباعه [بعده]، ثم اشتراه قبل طلوع [الفجر]، وطلع الفجر وهو في ملكه – ففي وجوب فطرته عليه على هذا القول وجهان، بناء على أن الزائل العائد كالذي لم يزل أو كالذي لم يعد، وعلى القولين الأولين يجب بلا خلاف. وعلى الأقوال كلها: لو ملك عبداً، أو ولد له ولد، أو تزوج امرأة بعد الغروب، ثم زال الملك والزوجية، ومات الولد قبل طلوع الفجر- لا زكاة بسبب ذلك، والله أعلم. قال: والأفضل أن تخرج قبل صلاة العيد؛ لما روى البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة" وهذا ما نص عليه في القديم كما قال أبو الطيب وابن الصباغ، لكن ما المراد بالقبلية المذكورة؟ في "التهذيب" أنها تحصل بالتفرقة في ليلة العيد ويوم العيد قبل الصلاة، و [قال القاضي أبو الطيب والماوردي والبندنيجي: إن الأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة]، وهو الذي يقتضيه ظاهر الخبر، وهو الأولى للخروج من الخلاف في جواز التعجيل. [قال: ويجوز إخراجها في جميع شهر رمضان؛ لأن إخراجها قبل ذلك بيوم أو يومين جائز بإجماع الخصم، وهو مالك – رحمه الله – وليه يدل ما رواه أبو داود: أن ابن عمر

كان يؤديها قبل الصلاة بيوم أو يومين، وإذا جاز التعجيل] بيوم أو يومين قلنا بجوازه في شهر رمضان قياساً، والجامع: إخراجها في جزء من رمضان، وقد وجهه الأصحاب بأنها تجب بأمرين يختصان بها، وهام: إدراك رمضان والفطر، وما وجب بأمرين يختصان به جهاز تقديمه على أحدهما كزكاة المال والكفارة؛ فإنه يجوز تعجيل الزكاة بعد ملك النصاب وقبل الحول للخبر كما سنذكره، ويجوز إخراج الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث بوفاق الخصم. وقولنا: يختصان به، احتراز من الإسلام والحرية؛ فإنهما لا يختصان بها، وإدراك رمضان [ووقت الفطر يختصان بها]. قلت: وهذا القياس منتظم على قولنا: إن وقت الوجوب الغروب أو مجموع الوقتين، أما إذا قلنا: وقته طلوع الفجر، فلا؛ لأن من ولد له ولدن أو ملك عبداً بعد الغروب، وبقي إلى طلوع الفجر – تجب فطرته وإن لم يدرك رمضان؛ فدل على أن إدراكه على هذا القول ليس بسبب، وإذا كان كذلك فلا سبب لها إلا واحد، وقضية ذلك [أنه لا يجوز] التعجيل؛ لأن ما له سبب واحد لا يجوز تعجيله عليه، وهذا لم أره لأحد من الأصحاب، غير أن البندنيجي والماوردي حكياً أن أبا عبيد بن حروبويه من أصحابنا قال: لا يجوز تعجيل زكاة المال أصلاً، وذلك في زكاة الفطر أولى؛ لأنها فرعه.

[فإن قلت: من قال بأنها تجب] بطلوع الفجر يجوز أن يجعل وجود الشخص في نفسه سبباً ثانياً؛ لأن زكاة المال عن المال، وهي أحد سببيه؛ فكذا هاهنا، [وحينئذ فيكون] التعجيل بتقدم أحد السببين؛ فجاز كما في زكاة المال. قلت: لو كان هذا المأخذ لجاز إخراجها في جميع السنة كما قاله أبو حنيفة – رحمه الله – وبعض أصحابنا، كما حكاه القاضي الحسين والرافعي في باب تعجيل الصدقة؛ لاعتقادهما أن وجوده في نفسه سبب، والذي جزم به العراقيون والجمهور ممن حكى أن الوجوب متعلق بطلوع الفجر: أنه لا يجوز إخراجها قبل رمضان؛ فانتفى هذا الاحتمال. ولا ينجي من هذا ما قاله القاضي أبو الطيب وغيره في الرد على أبي حنيفة – رحمه الله-: من أن وجوده وإن عد سبباً [في وجوبها] فالصوم والفطر سببان أيضاً، والشيء إذا تعلق بثلاثة أسباب لا يجوز تقديمه على اثنين منها، دليله: كفارة الظهار؛ فإن النكاح سببها، ولا يجوز تقديمها على الظهار والعود؛ فكذا هاهنا. انتهى. ولأن التفريع على أن إدراك رمضان ليس بسبب، وإنما السبب وجوده في نفسه وطلوع الفجر، وحينئذ فيكون التقديم على رمضان تقديماً على أحد السببين لا غير؛ فانتفى الجواب. وكل ذلك دليل على ضعف القول بأنها تجب بطلوع الفجر، فافهمه، والله أعلم. وقد وافق الشيخ – رحمه الله – الجهور في جواز التعجيل في رمضان، إلا المتولي وصاحب "البحر" تبعاً للفوراني في "الإبانة"؛ فإنه قال: جواز التعجيل يختص بطلوع فجر أول يوم من رمضان إلى غروبها من آخر يوم منه. [وإن] قلنا: الوجوب يتعلق بالغروب وإلى طلوع الفجر يوم العيد على القول الآخر، وما قبل طلوع الفجر أول يوم من رمضان إلى غروب الشمس [من] آخر يوم من شعبان – لا يجوز؛

لأن وجوب الصدقة بالفطر عن رمضان؛ فاعتبر الشروع في صوم رمضان كما اعتبر في سائر الزكوات الشروع في سببها وهو الحول. فرع: إذا أدى زكاة الفطر عن عبده قبل غروب الشم، ثم باعه – يلزم المشتري أداء زكاة الفطر عنه. ولو مات المخرج، فانتقل العبد إلى وارثه المعين، هل عليه إخراج الفطرة عنه؟ فيه قولان مخرجان، [قال] في "البحر": وقد نص في زكاة المال إذا جلها، ثم مات: يجزئ عن ورثته، وسنذكره. قال: ولا يجوز تأخيرها عن يوم الفطر؛ لقوله – عليه السلام -: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم"، فإن أخرجها فيه بعد الصلاة أجزأه مع الكراهة، كما قال القاضي أبو الطيب؛ لما ذكرناه من خبر ابن عباس، وقال البندنيجي: إنه يكون تاركاً للأفضل، وهو ما يقتضيه كلام الشيخ. قال: فإن أخرها أثم؛ لمخالفة الأمر، ولزمه القضاء؛ لأنه حق مال وجب عليه وتمكن من أدائه؛ فلا يسقط عنه بفوات وقته كالزكاة، كذا قاله ابن يونس. والشيخ في "المهذب" لم يقل: كالزكاة، وكأنه – والله أعلم- إنما سكت عنه؛ لظهور الفرق؛ فإن زكاة الفطر وجبت لمصلحة في الوقت؛ بدليل اعتباره في حق سائر الناس، والوقت في زكاة المال لا مصلحة فيه؛ بدليل اختلافه باختلاف ابتداء ملك النصاب، وإنما يتعين له الوقت الأول لمصلحة أربابه؛ ولهذا لا يوصف من أداها بعده بالقضاء، ولا كذلك زكاة الفطر. فرع: إذا قلنا: إن من مات بعد الوجوب وقبل إمكان الأداء يسقط عنه

الوجوب، فلو مات بعد التمكن وقبل انقضاء يوم العيد فالذي أطلقه الأصحاب: الاستقرار. قلت: وهل يأثم؟ يظهر تخريجه على ما لو مات في أثناء وقت الصلاة وقد تمكن من فعلها؛ لأن الشرع جعل وقتها موسعا ًكوقت الصلاة ولا كذلك زكاة المال كما سيأتي، والله أعلم. قال: والواجب منه صاع، أي من المخرج، برا كان أو تمراً أو غيرهما؛ لخبر أبي سعيد الخدري السابق، وقد روى الدارقطني: أن أبا سعيد ذكروا عنده صدقة رمضان فقال: "لا أخرج إلا ما كنت أخرجه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من تمر، أو صاعاً من حنطة، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقطٍ، فقال رجل: أو مدّاً من قمح؟ فقال: لا، تلك قيمة معاوية، لا أقبلها ولا أعمل بها"، وهذا نص في إخراج صاع من الحنطة، وأيضاً فقد وافق الخصم – وهو أبو حنيفة – على أن المخرج إذا كان تمراً كان الواجب صاعاً منه،

فنقول له: قوت مخرج عن صدقة الفطر؛ فكان مقدراً بالصاع كالتمر. قال: بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما روى النسائي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المكيال على مكيال أهل المدينة، والوزن على وزن أهل مكة"، وصاع المدينة هو صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وهو خمسة أرطال وثلث بالبغدادي، كذا ذكره الترمذي والشافعي، واستدل له الماوردي وأبو الطيب وغيرهما بقوله – عليه السلام – لكعب بن عجرة وقد آذاه هوامٌّ رأسه "احلق، ثم اذبح شاة نسكاً، أو صم [ثلاثة أيام، [أو أطعم] ثلاثة آصع] " كما أخرجه البخاري ومسلم، وروي أنه قال له: "أو أطعم ستة مساكين فرقاً من زبيب" كما أخرجه أبو داود، ووجه الدلالة من ذلك: أن القصة واحدة، وقد نقل عنه – عليه السلام – أنه أمره بثلاثة آصع، وقد نقل [عنه] أنه أمره بفرق، والفرق –بتحريك الراء -: ستة عشر رطلاً، [كما قاله القتبي في كتاب الأشربة؛ فدل ذلك على أن ثلاثة آصع ستة عشر رطلاً]: إما لكون النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة آصع فرق، أو يكون السامع عبر عن الفرق [بالآصع وعن الآصع بالفرق]، وهو يدل على استوائهما. وأوضح من هذا الدليل [قول مالك]: أخرج لي نافع صاعاً وقال: هذا صاع أعطانيه [ابن عمر وقال: هذا صاع] رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيَّرته به، فكان بالعراقي خمسة أرطال وثلثاً. وروي أن الرشيد – رحمه الله – حج ومعه أبو يوسف، فلمّا دخل المدينة جمع

بينه وبين مالك – رحمه الله – فسأل أبو يوسف مالكاً عن الصاع، فقال: خمسة أرطال وثلث، فأنكر أبو يوسف ذلك؛ لأن أبا حنيفة يعتقد أنه ثمانية أرطال؛ فاستدعى مالك – رحمه الله – أهل المدينة، وسأل كل واحد منهم أن يحضر صاعه معه، فاجتمعوا ومع كل واحد منهم صاعه يقول: هذا ورثته عن أبي، وحدثني [أبي] أنه ورثه عن جدي، وأنه كان يخرج به زكاة الفطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسل، فوزنه الرشيد فإذا هو خمسة أرطال وثلث؛ فرجع أبو يوسف إلى هذا؛ لظهوره في الصحابة، واشتهاره في المدينة، وتواتر نقل الخلف عن السلف، وليس هذا لأنه عمل بقول أهل المدينة؛ [بل] لأنه خبر منهم، فرجع إليهم فهي كما رجع إليهم في [الأخبار في القبر] والمسجد وسائر ما نقلوه من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما تمسك به أبو حنيفة – رحمه الله – من أنه ثمانية أرطال هو رواية أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد" والمُدُّ: رطلان، [وهو] ضعيف. ولو صح [هذا] لم يكن فيه حجة؛ لأنه وارد في صاع الماء، وخلافنا في صاع الزكاة، وقد كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم آصعٌ مختلفة، وقال: أصغر الصيعان صاعنا. وقال القاضي أبو الطيب- رحمه الله -: ولنا طريق آخر في [أن] الواجب ما ذكرناه، وهو أنه أقل ما قيل فيه، وهو مجمع على وجوبه، وما زاد [عليه] مختلف فيه: بعضهم يثبته، وبعضهم ينفيه؛ فتعارض القول فيه فلم يجب، ووجب ما أجمع عليه، [أو نقول]: الأقل ثابت بالإجماع، وما زاد متنازع فيه، والأصل براءة الذمة منه فلا يزاد بغير دليل. [و] إذا تقرر ذلك فجملة وزنه – كما قال الرافعي -: ستمائة درهم وثلاثة

وتسعون درهماً وثلث درهم. قلت: و [هذا] بناء على أن الرطل البغدادي مائة وثلاثون درهماً، وقد تقدم أن الصحيح خلافه، والأصل فيه – كما قال ابن الصباغ -: الكيل، وإنما قدره العلماء بالوزن استهاراً. [قلت]: وعليه يدل قول الشافعي – رحمه الله –في [أوائل] كتاب الزكاة من القديم: والصاع خمسة أرطال وثلث، زيادة شيء أو نقصانه. قال البندنيجي وغيره: عنى به أنه يختلف باختلاف الكيل بحسب خفته وثقله، فلو كان الاعتبار بالميزان لما وجبت الزيادة، ولما جاز الننقصان، فلو أخرج خمسة أرطال وثلثاً، وهو لا يعلم أنه صاع – لم [يجزئه. انتهى]. وقال في "البحر": إن جماعة من أصحابنا غلطوا حيث قالوا: يعتبر الوزن. وما غلَّطهم فيه هو الذي أورده الإمام في باب زكاة الثمار حيث قال: ثم الذي لا نستريب فيه أن الصاع والمد لا يعني بهما ما يحوي المد وغيره، وإنما هو مقدار موزون مضاف إلى الصاع والمد؛ فإن الصيعان يبعد ضبط أجوافها على وتيرة حتى لا تتفاوت؛ فقد تكون متسعة الأسافل متضايقة الأعالي على تخريط؛ فيعسر تساوي صاعين. ثم تفاوت الأوزان في الأنواع ليس من النادر الذي تسامح فيه، وكنت بمكة أرى ملء صاع من الحنطة المجلوبة من سراة تزن خمسة أمناء، ومثل ذلك بعينه من الحنطة المضرية أربعة أو أقل، فإذا اتفق الأئمة على مقدار موزون دل على أنهم عنوا بالصاع هذا المقدار، فالصاع في الفطرة: خمسة أرطال وثلث، ولا ينبغي للفقيه في هذا المقام أن يلاحظ التساوي [المرعي] في الربويات. قال الرافعي في كتاب الظهار: اعلم أن في قدر الفطرة ونحوها نوع إشكال؛ لأن الصيدلاني وغيره من الأئمة ذكروا أن الاعتبار في ذلك بالكيل دون الوزن، وأرادوا به أن المقدار [الذي] يحويه الصاع يختلف وزنه باختلاف جنس المكيل ثقلاً وخفة، والواجب الذي يحويه المكيال بالغاً ما بلغ، وذكر بعضهم [أن] الذي نقل في وزن الصاع كأنه اعتبر فيه البر والتمر، وقضية هذا الكلام: أن يجزئ من الشعير مادون ذلك المقدار في الوزن إذا ملأ الصاع، لكن اشتهر عن القاسم بن سلام [ثم] عن ابن

سريج: أن درهم الشريعة خمسون حبة وخمساً حبة، ويسمى ذلك: درهم الكيل؛ لأن الرطل الشرعي منه يُرَكَّب، ويركب من الرطل المد، ومن المد الصاع. وذكر الفقيه عبد الحق بن أبي بكر بن عطية أن الحبة التي يتركب منها الدرهم هي حبة الشعير المتوسطة التي [لم] تقشر، وقطع من طرفيها ما امتد. وقضية هذا: أن يحوي الصاع هذا المقدار من الشعير، وحينئذ فإن اعتبر ما يملأ الصاع من البر بهذا الوزن لم ينتظم القول: إن الواجب ما يحويه الصاع، وإن اعتبر بالكيل كان ما يحويه من البر أكثر مما يحويه من الشعير، وقد ذكرت في كتاب الظهار شيئاً من ذلك، فليطلب منه. قال: ويجب ذلك من الأقوات التي تجب فيها الزكاة، وهي التمر والزبيب والبر والشعير وما أشبهها. أما في التمر؛ فلخبر أبي سعيد وغيره، وأما في الباقي فبالقياس بجامع الاقتيات، وعن صاحب "الإفصاح" حكاية قول عن القديم: أنه لا يجزئ إخراج العدس والحمص [في الفطرة] لأنهما أدمان، قال الرافعي في كتاب الظهار: وقد نقل السرخسي – رحمه الله – وجهاً في الأرز: أنه لا يجزئ في الكفارة، وعن ابن كج: أنه [لا] يجزئ إلا إذا نحيت عنه القشرة العليا، قال: ولم يَجْرِ في الفطرة [ذكر] هذا الخلاف، ويشبه أن يجيء في كل باب ما نقل في الآخر، والمذهب: الأول. وقد أفهم كلام الشافعي – رحمه الله – إجراء الخلاف في الباقلاء، حيث قال: لا أحسبه يقتات، فإن كان قوتاً أجزأه إذا أدى منه صاعاً. قال في "البحر" وغيره: وأجمع أصحابنا على أنه قوت تجب فيه الزكاة وتخرج منه زكاة الفطر. قال: وأما الأقط فقد قيل يجوز؛ لما ذكرناه من حديث أبي سعيد الخدري؛

فإنه ثابت في "الصحيحين" فوجب العمل به لقول الشافعي – رحمه الله -: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وقد روى كثير بن عبد الله بن عمرو عن أبيه عن جده قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، [أو صاعاً من زبيب]، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من طعام"، وهذا نص في المسألة، وهذه طريقة أبي إسحاق، وعليها نص في القديم و"الأم"، قال ابن الصباغ: [و] قال بعض أصحابنا: إنه علق [القول] فيه في "الأم"، وهو المذكور في "تعليق" البندنيجي. وقيل: فيه قولان: وجه الجواز: أنه مقتات مدخر يستند إلى أثر؛ فجاز إخراجه كالتمر، أو مقتات يتولد مما تجب فيه الزكاة ويجزئ فيه الصاع؛ فجاز إخراجه في زكاة الفطر كالحب. ووجه المنع: أنه [مقتات] لاتجب الزكاة فيه؛ فلا يجوز إخراجه في زكاة الفطر كالفَثِّ وحب الحنظل والبَلُّوط. وهذه الطريقة حكاها القاضي أبو حامد في "جامعه، وقال هو والمتولي وغيرهما: إن أصح القولين الجواز، وبه أجاب منصور التميمي في "المستعمل"، وهذه الطريقة أظهر عند الرافعي، ولم يورد الإمام ومن تبعه غيرها، وقال الإمام: إن مثار التردد أن الخبر ليس على الحد المرضي في الصحة عند الشافعي – رحمه الله – وليس هو على حد التزييف عنده؛ فلذلك تردد قوله. وقال الماوردي: إن صح الخبر أن أبا سعيد كان يخرج الأقط بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعلمه أجزأ قولاً واحداً، وإن لم يثبت أن أبا سعيد كان يخرج الأقط بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعلمه، ولا صح الخبر الآخر في إسناده – ففيه القولان، والقديم منهما: الجواز، والجديد: المنع؛ لما ذكرناه. ثم إذا قلنا بالجواز – إما جزماً أو على قولٍ – فهل يقوم اللبن مقامه؟ فيه وجهان في "الحاوي" و"تعليق" القاضي الحسين "والإبانة" "والتتمة":

أحدهما: نعم، وهو الذي أورده الإمام والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ؛ فإنه أولى [معتبراً فيما يعتمد] الاقتيات، والجبن ملحق به أيضاً، لكن هل يجوز اللبن مع وجود الأقط؟ أو يجوز عند عدمه فقط؟ فيه وجهان: الذي قاله أبو الطيب: الأول، والذي أفهمه كلام الشيخ أبي حامد: الثاني، وقال البندنيجي: إنه نص عليه في القديم. والوجه الثاني: أنه لا يجوز اللبن مطلقاً، وهو ما ادعى الماوردي أنه الأصح، [و] الفرق بينه وبين الأقط: وثبت الأثر في الأقط وعدمه في اللبن، ولأن الأقط له حالة ادخار فجاز كالتمر، واللبن بخلافه فلم يجز كالرطب. قلت: والفرق الأول يقتضي إلحاق الجبن باللبن في المنع، وهو ما حكاه في "البحر" عن بعض المراوزة، والفرق الثاني يقتضي إلحاقه بالأقط في الجواز؛ لأنه يدخر، قال في "البحر": وهو الأصح. ولا خلاف أنه لا يجزئ السمن؛ لأنه ليس قوتاً، وكذا المصل والكشك، وهل يجزئ اللحم على قولنا بإجزاء اللبن؟ حكى الإمام عن رواية العراقيين فيه قولين، قال: وهو بعيد؛ فإن إلحاق الأقط بما قدمَّناه يقرب من إلحاق الشيء بالشيء إذا كان في معناه أو يتصل بالشبه الظاهر، واللحم بعيد عنه، ولكنهم اعتقدوا الأقط أصلاً للنص فيه، وترقوا منه إلى اللبن؛ لأنه قوت، [ثم] قالوا: إنما يقوت من حيث إنه عصارة اللحم، فارتقوا منه إلى اللحم، والذي جزم به القاضيان أبو الطيب والحسين والماوردي: [المنع، وعنه احترزنا في دليل قول إجزاء الأقط بقولنا: وهو مما يجزئ فيه الكيل. وكل هذا في أهل البادية إذا كان ذلك قوتهم لا غير، لو كان لهم قوت غيره لم يجزئهم بلا خلاف، وكذا لو كان قوت أهل الحاضرة لا غير؛ لأن ذلك نادر. قاله الماوردي]، وقد حكى الرافعي في كتاب الظهار فيما إذ قلنا: يجزئ في كفارته الأقط، هل يختص بأهل البادية، أو يعم الحاضر والبادي؟ فيه وجهان عن رواية ابن كج، ولا بعد في مجيئهما هاهنا، وقد أورد الماوردي على ما حكاه سؤالاً

فقال: فإن قيل: قد قال أبو سعيد: "كنا نخرج الأقط"، وهو من أهل الحضر. قلنا: قد كان أبو سعيد يسكن البادية كثيراً؛ ألا ترى إلى قوله – عليه السلام – له: "إذا كانت في باديتك فارفع صوتك بالأذان"، على أن [قوله]: "كنا نخرج"، كناية عنه وعن غيره ممن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان كثير منهم أهل بادية. فإن قلنا بعدم الإجزاء وإن كان قوتهم، قال أبو الطيب والماوردي: أخرجوا من قوت أقرب البلاد إليهم، فإن استوى بلدان في القرب وكان قوتهما مختلفاً قال أبو الطيب: تخيروا، والأفضل أن يخرج أغلاهما. و [قال] في "التتمة": إن هكذا الحكم فيما إذا قلنا: الواجب في الفطرة على التعيين، لا على التخيير، فإن قلنا: إنه على التخيير – كما سيأتي – تخيروا من أي الأجناس شاءوا. والأقط: بفتح الهمزة وكسر القاف، ويجوز إسكان القاف مع فتح الهمزة وكسرها، وهو لبن يابس غير منزوع الزبد. قال: وتجب الفطرة مما يقتات به من هذه الأجناس؛ لأنها تابعة للمؤنة وواجبة في الفاضل عنها؛ فوجب أن تكون منها، وكما تعتبر في الزكاة ماشيته، وهذا ظاهر [نصه في "المختصر" و"الأم"] كما قال أبو الطيب والماوردي، وبه قال الإصطخري وأبو عبيد بن حربويه من أصحابنا، وقال ابن عبدان: إنه الصحيح عندي. فعلى هذا لو كان يقتات من نوعين، [و] أحدهما الأغلب أخرج منه، فإن استويا أدى من أيهما شاء، والأفضل أن يؤدي من خيرهما، قاله القاضي الحسين، وفي "البحر". وقيل: من غالب قوت البلد، أي: من وقت وجوب الفطرة، لا في جميع السنة،

كما قاله في "الوسيط" قال الرافعي: ولم أظفر بهذا التقييد في كلام غيره، ووجه هذا الوجه: قوله- عليه السلام -: "أغنوهم عن الطَّلب في هذا اليوم"، والإغناء إنما يحصل لهم بغالب قوتهم؛ لأنه إذا دفع إليهم ذرة أو شعيراً، وهم يأكلون الحنطة لم يحصل لهم بذلك غناء، واحتاجوا إلى صرفه فيما يقتاتون به حتى يستغنوا، وبالقياس على الكفارة. وهذا قول ابن سريج وأبي إسحاق كما قال الماوردي والبندنجي، وقال القاضي أبو الطيب: إنه قول أكثر الأصحاب، وقالوا: قول الشافعي – رضي الله عنه -: " [من] غالب قوته"، إنما أراد به: [من] غالب قوت البلد؛ لأن غالب قوت [أهل] البلد غالب قوته، وهذا ما صححه في "الرافعي" و"البحر" وغيره. فعلى هذا: إن كان [في الحجاز] أخرج التمر، وإن كان ببلاد العراق وخراسان ومصر فالحنطة، وإن كان بطبرستان أو جيلان فالأرز، ولو كان ببلد فيها أقوات مختلفة لا يفضل بعضها بعضاً أخرج من أيها شاء، والأفضل أن يخرج [من] أغلاها ثمناً، قاله البندنيجي. قلت: ويتجه أن يقال: الأفضل أن يخرج الأعلى وإن كان قليل الثمن – كما سنذكره – وعليه ينطبق قوله في "المهذب": والأفضل أن يخرج من أفضلها.

قال: فن عدل عن القوت الواجب، أي: على قولنا إن الاعتبار بقوته أو بغالب قوت البلد، وفيها قوت غالب، إلى قوت أعلى منه - أجزأه؛ لأنه زاد خيراً فأِبه ما لو وجبت عليه بنت مخاض، فأخرج بنت لبون، وهذا ما أورده الجمهور، وحكاه الماوردي عن النص مع وجه آخر: أنه لا يجزئه؛ لأنه غير ما وجب عليه؛ فأشبه ما لو أخرج عن زكاة الشعير قمحاً، وعن زكاة الدراهم ذهباً. والفرق على الأول ما قاله القاضي الحسين – رحمه الله – في "تعليقه": إن زكاة الفطر تتعلق بالقوت، والأعلى مما يقتات، وأما زكاة المال فإنها تتعلق بجنس ذلك النصاب الذي وجبت فيه الزكاة؛ فوجب أن يكون المخرج من جنسه. وأورد الرافعي لنفسه قريباً منه فقال: الزكوات المالية متعلقة بالمال؛ [فأمر أن] يواسي الفقير مما واساه الله تعالى، والفطرة زكاة البدن؛ [فوقع] النظر فيها إلى ما هو غذاء البدن وبه قوامه، والأقوات متشاركة في هذا الغرض، وتعيُّن شيء منها رفقٌ، فإذا عدل [إلى الأعلى] كان في غرض هذه الزكاة؛ كما لو أخرج كرائم ماشيته. قال: وإن عدل إلى ما دونه ففيه قولان: أحدهما: لا يجزئه؛ لما فيه من الإضرار بالمستحقين، وهذا ما أورده الماوردي لا غير، سواء قلنا: إن الواجب من قوته أو غالب قوت البلد، وادعى بعض الشارحين أنه لم ير في الكتب المشهورة تفريعاً على اعتبار قوته غيره، وفيه ما ستعرفه. فعلى هذا: هل يسترد ما دفعه إن كان باقياً، وصرح بأنه غير زكاته أو صدقة المدفوع إليه؟ يظهر أن يكون الحكم فيه كما لو أخرج الرديء من النقد عن الجيد منهن وقد ذكرته في باب زكاة الناض، والجامع: أن المقصود القوت، وهو اسم جامع؛ ولذلك جاز إخراج الأعلى [منهما] عن الأدنى، كما أن الذهب والفضة اسم جامع

لأنواعهما، ويجوز إخراج الأعلى منهما من الأدنى. والثاني: يجزئه؛ لأن ظاهر الخبر يقتضي التخيير، فإذا أخرج بمقتضاه وجب أن يعتد به. قلت: ويشهد لذلك ما تقدم فيما إذا أخرج الرديء من الذهب أو الفضة عن الجيد: أنه يجزئه على رأي، والجامع ما تقدم. وقد روى القولين هكذا ابن الصباغ وغيره، والقاضي أبو الطيب قال: إن أبا إسحاق المروزي رواهما في الشرح هكذا، وإنه صحح الثاني. وقال في "البحر": إن القاضي هو الذي صححه. فلعله رآه في غير "تعليقه". قال القاضي: ومن قال بالأول أجاب عن الخبر بأنه ليس بتخيير؛ وإنما معناه: صاعاً من تمر إن كان ذلك غالب القوت، يدل عليه: أن أبا سعيد – رحمه الله – ذكر التمر والزبيب، ولم يكن الزبيب قوتاً لأهل المدينة، وإنما كان قوت أهل الطائف، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [المائدة: 33] فإنها على الترتيب، وإن كان ظاهرها التخيير. وقد حكى البندنيجي القولين هكذا فيما إذا قلنا: إن الواجب من غالب قوت البلد، فأخرج من الأدنى منه، وقال: إنا إذا قلنا بعدم الإجزاء رجع حاصله إلى [أنه مخير بني قوت البلد وأعلى منه، وإذا قلنا] بالإجزاء رجع [حاصله] أن الأقوات التي يجب فيها [العشر] – وهو مخير فيها – يخرج منها ما شاء ويجزئه. قلت: ويجوز أن نقول بالإجزاء وإن لم يكن مخيراً في الأصل كما تقدم نظيره، ويشهد له – أيضاً – أن من وجبت عليه الجمعة لو أوقع الظهر قبل فوات الجمعة وفاتته الجمعة، يجزئه ما أوقعه من الظهر عن فرضه على قولٍ، وإن لم يكن مخيراً بين الظهر والجمعة. نعم، في أصل المسألة قول حكاه الماوردي عن نص الشافعي – رحمه الله – في بعض كتبه: أن الواجب صاع من الأقوات التي تجب فيها الزكاة على التخيير، واستدل له بالخبر، وبان الزكاة مواساة، والتخيير فيها أيسر، والتسوية بين جميعها أرفق، وقد أثبته في

"المهذب" وغيره وجهاً، وقال الإمام: إنه غير سديد، والخبر محمول على التنويع كما تقدم، والذي نص عليه في المختصر وأكثر كتبه – كما قال الماوردي – عدم التخيير، والواجب من غالب القوت، لكن قوته أو قوت بلده؟ [فيه ما] سبق] ". وقد أفهم كلام الشيخ أن الواجب عله على القول الأول جنس ما يقتاته، سواء كان يليق بحاله أو كان أعلى منه أو دونه، وقد حكى ابن يونس – رحمه الله – فيما إذا كان يليق به البر وهو يأكل الشعير بخلاص [، فأخرج الشعير]: هل يجزئه أم لا؟ قولين أو وجهين، مأخذهما: أن النظر إلى ما يليق به أو إلى [ما يأكله]، وأن الصحيح: النظر إلى ما يليق بحاله. وهذا لم أره فيما وقفت عليه، بل الذي رأيته فيها عدم الإجزاء مع قطع النظر عما ذكرناه من الخلاف السابق، وحكوا الخلاف فيما إذا كان يليق بحاله الشعير فاقتات البر ترقّعاً: هل يجزئه إخراج الشعير، أو يتعين البر؛ بناء على المأخذ المذكور؟ وصححوا الأول. وقال الرافعي: يشبه أن يرجع الخلاف إلى اختلاف عبارتين للأصحاب في حكاية وجه ابن حربويه؛ فإن بعضهم حكى عنه أن المعتبر فيه قوت الشخص نفسه، وهو ما ذكره في ["الحاوي" و] "التهذيب"، وبعضهم حكى عنه أن المعتبر القوت اللائق بأمثاله، وهو ما حكاه الصيدلاني كما قال، وقال في "البحر": إن القائل بهذا هو القفال. وإليه يرشد قوله في "التهذيب": ولم يورد الإمام غيره. ثم قال الرافعي: وإن جرينا على الرواية الأولى لم يجزئه إخراج الشعير، وإن جرينا على الرواية الثانية أجزأه. قلت: وهذا الذي قاله يرجع حاصله إلى نفي الخلاف في المسألة، وإنما يتم لو لم يقل بأن الاعتبار بقوت الشخص نفسه إلا ابن حربويه، وقد ذكرناه عن غيره. ثم أعلى الأجناس المخرجة في الفطرة عند الماوردي وصاحب "البحر": البر والتمر، وهو نصه في "البويطي" كما قال في "البحر"، لكن أيهما أعلى من الآخر؟ فيه وجهان، أمثلهما بكلام الشافعي – رحمه الله – أنه البر؛ لأنه قال في "الأم":

"وإذا كان الرجل يقتات حبوباً مختلفة: شعيراً وحنطة وتمرا ًوزبيباً فالاختيار له أن يخرج زكاة الفطر من الحنطة، ومن أيها أخرج أجزأه، إن شاء الله تعالى"، وهذا يدل على أن الحنطة أعلى الأقوات عنده، وقد حكاه ابن المنذر عن الشافعي – رحمه الله – ولأجل ذلك صححه بعضهم، ووجهه بأنه أزيد في غرض الاقتيات، ولأنه قد اختلف في إجزاء مدين منه، ولم يختلف في أن الواجب من التمر صاع. قال الماوردي: ولو قيل: إن أولاهما يختلف باختلاف البلاد، لكان مذهباً له في الاعتبار وجه. والأمر [كما قال] كما ستعرفه. وكما ادعى في "الوسيط" أن البر أشرف من التمر في غرض الاقتيات، [ولا نظر إلى القيمة والتمر أشرف من الزبيب في غرض الاقتيات]، وفي الزبيب مع الشعير تردد، وهذا التردد حكاه الإمام عن شيخه، وأنه كان يتردد في التمر والزبيب وأيهما يقدم على الآخر، وأنه كان يقدم التمر على الشعير. قلت: وتقديمه التمر على الشعير مع تردده في الزبيب والشعير لا يستقيم معه التردد في التمر والزبيب، بل يتعين بمقتضى ذلك تقديم التمر على الزبيب كما أورده الغزالي، وقال الإمام: إنه الأولى. وقد حكى القاضي أبو الطيب وغيره وجهاً: أن النظر في الأعلى إلى القيمة؛ فما كان أكثر قيمة فهو المعتبر، واستدل له بقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [آل عمران: 92] وبقوله – عليه السلام – وقد سئل عن أفضل الرقاب: "أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها"، وهذا الوجه قد حكيت جزم البندنيجي به من قبل. قال الرافعي: وعلى هذا تختلف الأحوال باختلاف [البلاد ولأوقات] إلا أن يعتبر زيادة القيمة في الأكثر. قلت: وإلى اعتبار زيادة القيمة في الأكثر نظر البغوي حيث قال: لو أخرج التمر

عن القمح أو الشعير، لا يجزئه على الأصح وإنه يجوز إخراجهما عن التمر على الأصح؛ فإن الوجه [إجزاء التمر عن] القمح، وعدم إجزاء القمح عن التمر، وهو [الوجه] الصائر إلى أن النظر إلى القيمة لا إلى الأغلب في الاقتيات؛ فإن الغالب أن قيمة التمر أكثر، ولو كان ناظراً إلى القيمة في كل زمان لم يطلق القول بأنه يجزئ على وجه مطلقاً؛ بل كان يقيده بما إذا لم تنقص قيمته عن القمح، لكن القاضي الحسين قطع بعدم الإجزاء فيما إذا كانت قيمة التمر أقل، والله أعلم. قال: ولا يجزئ صاع، أي: عن شخص واحد، من جنسين؛ كما لا يجزئ في كفارة اليمين أن يطعم خمسة ويكسو خمسة بلا خلاف عندنا، وحكى الإمام عن بعض الأصحاب وجهاً- قال: إنه غير معدود من المذهب- أنه لو أخرج نصف صاع من شعير حيث يجزئه؛ لكونه غالب قوت البلد، فنصف صاع من بر يجزئه؛ لأنه لو أخرج بقية الصاع شعيراً قبلناه فإذا أخرجه من الأعلى كان أولى بالقبول. وقد نسبه الرافعي إلى رواية بعض المتأخرين، قال الإمام: وهو لا يجزئ بالاتفاق فيما لو استوى الجنسان، وقد أطلق ابن يونس حكاية وجه في الإجزاء من غير تفصيل. قال: وإن كان [عبد بين] نفسين مختلفي القوت، أي: وفرعنا على أن الاعتبار بقوت الشخص نفسه، كما هو ظاهر المذهب كما قال البندنيجي- فقد قيل: يخرج كل واحد منهما نصف صاع من قوته؛ لأنه لم ينتقص ما عليه. وهذا ما اختاره ابن الحداد، وصححه الرافعي والمتولي، [والنووي] وشبهه بما إذا قتل ثلاثة من المحرمين ظبية، فأخرج أحدهم ثلث شاة، وأطعم الثاني بقيمة ثلث شاة، وصام الثالث عدل ذلك – فإنه يجزئ اتفاقاً، ولو كان القاتل لها واحداً لم يجزئه ذلك على أحد الوجهين. وقيل: يخرجان من أدنى القوتين، حذارا من ضرر التبعيض اللاحق بالمستحقين والإجحاف بالمخرج؛ فإن من قوته الأعلى يقدر على إخراج الأدنى، ومن قوته الأدنى لا يقدر على إخراج الأعلى؛ فلو كلفناه أن يخرج من الأعلى لأجحفنا به.

وهذان الوجهان [هكذا] منسوبان إلى ابن سريج وأبي إسحاق كما قال [الجمهور، وقال] البندنيجي: وهما فرعا ذلك على ظاهر المذهب [في أن] الاعتبار بقوت، لا على مذهبهما في أن الاعتبار بغالب قوت البلد، وينبنيان كما قال الشيخ أبو علي على أن فطرة العبد تجب على السيد ابتداء أو تحملاً فالأول علىقولنا: إنها تجب على السيد ابتداء، والثاني على أنها تجب عليه تحملاً؛ لأن الصاع واجب عن واحد، والشيء لا يتحمل ضماناً إلا كما وجب، لكن ما المنسوب إلى ابن سريج منهما، وإلى أبي إسحاق؟ الجمهور على نسبة الأول إلى أبي إسحاق، والثاني إلى ابن سريج، وعكس الفوراني والبغوي ذلك: فنسبا الأول إلى ابن سرجي، والثاني إلى أبي إسحاق، ونسب الإمام إلى ابن سريج عدم إجزائه من جنسين، لكنه قال: إنا إذا قلنا به لم نقل لمن قوته البر أن يخرج الشعير موافقة لمن قوته الشعير؛ بل على من قوته الشعير أن يخرج نصف صاع من بر، لا وجه غيره وإن كان يجر إجحافاً، وبهذا يتجه ما اختاره ابن الحداد. وقيل: يخرجان من قوت البلد الذي فيه العبد [بناء] على أنها وجبت على العبد ويتحملها السيد عنه، وأن الاعتبار بغالب قوت البلد كما هو مذهب ابن سريج وأبي إسحاق. وإن قلنا بظاهر المذهب، وهو [أن] الاعتبار بقوت الشخص نفسه – أخرجا من قوت العبد. وقال البندنيجي: إنا إذا قلنا باعتبار قوت الشخص نفسه فمذهب أبي إسحاق أنه يجزئ أيضاً صاع من جنسين، وقال ابن سريج: لا يجزئ. وقال الرافعي: يشبه أن يخرج على الوجهين فيما إذا اعتبرنا قوتهما وكانا مختلفي القوت، والأب إذا كان في نفقة ولدين فالقول في إخراج الفطرة عنه كالقول في السيدين، وكذا العبد [الذي] بعضه حر وبعضه رقيق، وقوت العبد والمولى مختلف قاله الرافعي وغيره. والوجه الآخر في الكتاب: يجزئ فيما لو كان [العبد] كله لشخص وهو في

بلدة وسيده في أخرى، وقوت البلدين مختلف – فيجب على السيد أن يخرج من قوت البلد الذي فيه العبد؛ بناء على أنه متحمل، ذكره في "التهذيب". وعليه يخرج – أيضاً – ما حكاه القاضي الحسين وصاحب "البحر" فيما إذا كان له نصف عبدين وقوتهما الشعير، فأراد أن يخرج عن أحدهما نصف صاع شعير وعن الآخر نصف صاع بر – أنه يجوز. ويجيء على قولنا: إن الواجب يتلقاه السيد ابتداء، أنه لا يجوز؛ لأنه وجب عليه صاع فلا يجزئ من جنسين، كما لو أخرجه عن نفسه، وقد حكاه القاضي أبو الطيب أيضاً. ولو كان له من تلزمه نفقتهم فأراد أن يخرج عن كل واحد صاعاً من جنس – فقد أطلق القاضي الحسين وصاحب "البحر" القول بالإجزاء، وقال البندنيجي: إنا إذا قلنا بالتخيير جاز، وإن قلنا: بتعيين غالب قوت البلد أو قوته، فأخرج منه أو من الأعلى أجزأه، وإن أخرج من الأدنى لم يجزئه. قال: وإن كانوا في بادية لا قوت لهم فيها أخرجوا من قوت أقرب البلاد إليهم، [كما لو لم يكن نقد غالب يقوم به؛ فإنه يعدل إلى غالب نقد أقرب البلاد إليهم]. فلو استوى بلدان في القرب، واختلف الغالب من أقواتهما [تخير]، والأفضل أن يخرج [من] الأعلى كما تقدم. والبادية: من البدو، بمعنى: مأخوذ من البدو، وهو الظهور. قال: ولا يؤخذ في الفطرة دقيق ولا سويق؛ لأنه بدل، ولا مدخل للأبدال في الزكوات، ولأنه أنقص من الحق؛ ففي أخذه إضرار بمستحقه، والسويق نوع متخذ من القمح على ما سنذكره في كتاب الأيمان لا ما يفهم عرفاً. وهذا ما حكاه القاضي الحسين لا غير. وذهب أبو القاسم بن بشار الأنماطي من أصحابنا إلى أن الدقيق أصل وكذا السويق لأنه جاء في خبر أبي سعيد الخدري- كما رواه سفيان بن عيينة: "أو صاعاً من دقيق"، وقد حكاه الإمام قولاً عن رواية العراقيين؛ أخذاً من الأقط المضاف إلى

اللبن، وقال: إنه مزيف لا أصل له. وغيره قال: إنه ليس بشيء؛ لان هذه الزيادة لم تثبت، وقد قال أبو داود: "إن سفيان بن عيينة وهم فيها ثم رجع عنها"، وإذا رجع الراوي عما رواه سقط الاحتجاج به، ولأنه أزيل عن كونه حبّاً فنقصت منفعته؛ فوجب ألا يكون أصلاً في زكاة الفطر كالخبز. وقد قال ابن عبدان: [إن] قول الأنماطي يقتضي قياسه إجزاء الخبر أيضاً: وقال: إن قوله هو الصحيح؛ لان المقصود إشباع المساكين في هذا اليوم، والله أعلم. قال: ولا حب معيب؛ لقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267]، ولأنها تجب من القوت الغالب، والغالب السلامة، قال القاضي الحسين في "تعليقه": وهذا فيما إذا كان له غيره، أما إذا لم يكن له سوى المسوس والمعيب وهو يقتات منه، جاز له أن يخرج منه. قلت: وعلى هذا ينبغي أن يخرج من المسوس قدراً يتحقق أنه يملأ الصاع من اللب بقشره لو أخرجه، كما ستعرفه [في الأقط. والعيب تارة يكون بسبب تسوسه، وتارة بسبب دود فيه]، أو نتنته، أو تغير لونه كما قال الماوردي، وكل ما ينقص قيمته كما قال غيره. ويجزئ فيه العتيق الصحيح الحب كما نص عليه، لكن المستحب إخراج الجديد [الحديث]. وحيث جوزنا إخراج الأقط، قال الإمام: فلا يجزئ المملح كثيراً؛ لأنه عيب فيه، ولو كان ملحه على الوجه المعتاد فلا يجزئ- أيضاً- لأن الملح [غير مجزئ] وهو ينقص من مكيلة الأقط، فإن أخرج منه مقداراً زائداً أو كانت الزيادة تقابل وزن الملح جاز، والمرجع في ذلك إلى أهله، والله أعلم.

باب قسم الصدقات

باب قسم الصدقات القَسْم - بفتح القاف-: مصدر بمعنى: القسمة، وبكسر القاف: النصيب: والصدقات: جمع "صدقة"، وهي تطلق على الواجب وعلى التطوع، والمراد بها [في الباب]: زكوات الأموال، كما ستعرفه. وجمع "الصدقة" لاختلاف أنواعها: فإنها تارة تكون من الماشية، [وتارة من الحَبِّ، وتارة من التمر]، وتارة من جوهر النقد، واسم "الصدقة" يقع عليها، وكذا اسم "الزكاة"، وإن غلب على أفواه العوام - كما قال الشافعي رحمه الله في القديم - أن الواجب من الماشية: صدقة، ومن الحب والتمر: عشر، ومن الذهب والورق: زكاة، قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وهي عامة في جميع المأخوذ من الأموال كما تقدم، وقال - عليه السلام -:"ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة"، "وفي الكرم يخرص كما تخرص النخل، أو تؤدَّى زكاته زبيباً كما تؤدَّى زكاة النخل تمراً". قال: ومن وجبت عليه الزكاة وقدر على إخراجها لم يجز له تأخيرها؛ لأنه حق وجب عليه، وقدر على أدائه مع قيام القرينة الدالة على طلبه، [وهي] تنجز حاجات الأصناف؛ فتعين عليه أداؤه على الفور؛ كما لو كان عليه دين حالٌّ وعنده عين، طلب ذلك ربه أو وكيله، ولا عذر في تأخيره. أو نقول: الزكاة فرض يتكرر وجوبه في كل عام مرة؛ فوجب أن يكون عند التمكن من أدائه على الفور كالصيام. وهذا في زكاة الأموال، أما زكاة الفطر فقد تقدم أن وجوبها موسع بليلة الفطر ويومه على الصحيح، وبيومه فقط على مقابله. ثم قول الشيخ: "وقدر على إخراجها" إنما يحتاج إليه إذا قلنا إن التمكن شرط [في] الضمان كما هو الصحيح، وعليه فرع الشيخ - رحمه الله - أما إذا قلنا: إنه

شرط في الوجوب، فلا يحتاج إلى ذكره. وقد تقدم في باب صدقة المواشي تسير القدرة فليطلب منه. ومؤنة إيصال الزكاة إلى الساعي أو أهل الأصناف على المؤدي، حتى لو كان المخرج بعيراً جموحاً كان عليه العقال، وعلى هذه الحالة حمل أصحابنا قول أبي بكر – رضي الله عنه – في حق مانعي الزكاة: "لو منعوني عقالاً مما أعطوا رسول الله صل الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه"، كذا حكاه القاضي الحسين في باب عفو المجني عليه، لكنه قال في أول كتاب الزكاة: إن البعير إذا كان شارداً لا يمكن تسليمه إلا بالعقال؛ فعليه تسليمه بالعقال ثم يسترد العقال. وقد حكيته من قبل. والمذكور في "التتمة" قبل الفصل الرابع فيما يحصل به التمكين: الأول، وقد قيل: إنه – عليه السلام – أراد بالعقال: صدقة عام؛ فإن العقال – بفتح العين -: صدقة العام. قال: فإن آخَّرها أثم؛ لترك ما تعيَّن عليه فعله على الفور مع القدرة. قال: وضمن – أي الزكاة إن أتلف المال أو بعضه، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأصحاب كما تقدمن لأنه بالامتناع خرج عن أن تكون الزكاة أمانة في يده فضمنها كالغاصب إذا تلفت العين في يده، كذا قاله أبو الطيب. لكن الغاصب إذا تلفت العين

في يده وكانت من ذوات القيم ضمنها بالقيمة، وهنا يضمنها بالمثل الصوري، وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين تلعق شركة؛ لأنه لو فعل ذلك مع بقاء المال لأجزأه فتعيَن عند عدمه، وقد قدمت حكاية ذلك عن الأصحاب في أواخر باب زكاة النبات. نعم، لو تلف النصاب بعد التمكن وعسر الوصول إلى الشاة، ومسَّت حاجة المساكين – قال الإمام قبل باب ما يسقط الزكاة عن الماشية: فالظاهر عندي أنه يخرج القيمة للضرورة. ولعل هذا يناظر ما لو أتلف الرجل مثليًّا وألزم المثل، ثم أعوزه، وتوجهت المطالبة – فالرجوع إلى القيمة، فلو وجد المثل بعد أخذ القيمة فهل يجب المثل وتسترد القيمة؟ [فيه خلاف، وقد يتجه مثله في الزكاة، والأشبه فيها أخذ القيمة] وانقطاع الطلابة بالكلية، وهذا فيما إذا كانت الشاة من جنس الأصل، فلو كانت عن الإبل فقد تقدم حكمها. قال: وإن منعها جاحداً لوجوبها – أي: وهو قديم العهد بالإسلام، ناشئٌ بين المسلمين – كفر، وأخذت منه، [وقتل بكفره]: أما الحكم بكفره وقتله به فوجهه: أن الزكاة مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بها؛ فمن جحدها فقد كذبه فيما جاء به، ومن كذبه كفر، ويجب قتاله وقتله. قال القاضي أبو الطيب: فإن قيل: هذا مخالف لمذهب الشافعي – رحمه الله – لأن عنده أن مانعي الزكاة على عهد أبي بكر – رضي الله عنه – لم يكونوا كفاراً؛ لأنهم قالوا: ما كفرنا بعد إيماننا، لكنا شححنا على أموالنا، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ زكاتنا، وأما أبو بكر فلا حق له فيها؛ فهلا أوجب الشافعي – رحمه الله – قتال جاحديها، ولم يحكم بكفرهم كهؤلاء. قلنا: إنما لم يحكم بكفرهم؛ لأن الإجماع لم يكن استقر على وجوب الزكاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يظنون أن وجوبها متعلق بدفعها إليه – صلوات الله عليه – خاصة، فلما استقر إجماع الصحابة ومن بعدهم على وجوبها كفر جاحدوها؛ ألا ترى أن عمرو بن معد يكرب وقدامة بن مظعون كانا يعتقدان إباحة الخمر [بعد تحريمها، ويتأولان قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا

اتَّقَوْا} الآية [المائدة: 93] ويقولون: نحن قد اتقينا وعملنا الصالحات، ولا يقال: إنهما كفرا بذلك؛ لأن الإجماع على تحريم الخمر] لم يكن قد استقر، [والآن قد] استقر، ونقل عنهما أنهما رجعا عن ذلك لما قيل لهما: إن الآية نزلت فيما طعموا قبل الإسلام وقبل نزول التحريم لا في المستقبل؛ فمن أباحها الآن فقد كفر. قلت: وما ذكره القاضي يفهم إفهاماً ظاهراً أن مانعيها في زمن أبي بكر – رضي الله عنه – خالفوا في بقاء الوجوب، [وفي ذلك تعريض] بمخالفة غيرهم من الصحابة فيه أيضاً، وعبارة الماوردي دالة عليه؛ [فإنه قال بعد حكاية مناظرة عمر أبا بكر –رضي الله عنهما – في مقاتلة مانعي الزكاة ورده عليه]: فأجمعت الصحابة معه على وجوبها بعد مخالفتهم له، وأطاعوه على قتال مانعيها بعد إنكارهم عليه؛ فثبت وجوبها بالكتاب والسنة والإجماع. أما إذا كان قريب عهد بالإسلام، أو نشأ في بادية [بعيدة] عن بلاد الإسلام – فيعذر إلى أن يعرف وجوب ذلك. وأما أخذها منه؛ فلأنها حق مالي تعلق بذمته أو بماله فلم يسقط بكفره كديون الآدميين. قال: فإن منعها بخلاً بها، أي: وهو في قبضة الإمام – أخذت منه، أي: سواء كان ماله ظاهرا ً أو باطناً، لما تقدم. وقال القاضي الحسين في قسم الصدقات، وتبعه المتولي: لأي معنى أخذت منه؟ فيه معنيان: أحدهما: أن زكاة الأموال الباطنة والظاهرة كانت تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى خلفائه إلا أن عثمان – رضي الله عنه – فوض [صرف زكاة] المال الباطن إلى ربه باجتهاده، فإذا ظهر منه التقصير كان للإمام المطالبة، وعلى هذا لو وجب على شخص نذر أو كفارة لا يطالبه الإمام بإخراجها. والثاني: أن الزكاة من حقوق الله – تعالى – والإمام نائب عنه، فإذا علم من قوم التقصير فيه استوفاه؛ كما إذا علم من قوم ترك الصلاة أمرهم بها، وعلى هذا يطالب بالنذور والكفارات، وسيأتي في ذلك كلام من بعد. وهل ينوي الإمام عنه

في هذه الحالة؟ سنذكره. قال: وعزر [على ذلك]، أي: إن علم التحريم؛ لأنه أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة. وحكى القاضي أبو الطيب في أول كتاب الزكاة عن القديم: أنه يؤخذ مع الزكاة شطر ماله عقوبة له؛ لقوله-عليه السلام-: "في كلِّ أربعين من الإبل السَّائمة بنت لبون، من أعطاها مؤتجراً بها فله أجرها، ومن منعها بخلاً بها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمةً من عزمات ربنا، ليس لآل محمَّدٍ منها شيء". وحينئذ يكون في المسألة قولان، القديم: هذا، والجديد: الأول، وهو وجوب التعزير دون شطر المال، وبعضهم [قطع] به، وحجته قوله – عليه السلام -: "ليس في المال حقٌّ سوى الزَّكاة"؛ ولأنه لو دفعها ثم أخذها ومنعها لم يجب عليه شطر ماله، مع أن ملك أهل السُّهمان لها بعد القبض مستقر؛ فعدم وجوبه بالمنع قبل الاستقرار أولى، والحديث قد ضعَّفه الشافعي – رحمه الله – قال الأصحاب: وإن صح فجوابه: أنه كان في صدر الإسلام حين كانت العقوبات في

الأموال: فكان الزاني يؤخذ جميع ماله، والسارق يغرم مثلي ما سرق، وعليه جَلَداتٌ نكالاً، ومانع الزكاة يؤخذ شطر ماله، ثم نسخ ذلك، قال في "الروضة": وهذا ضعيف؛ لأن النسخ يحتاج إلى دليل، [وهو غير ظاهر هنا]. أما إذا كان خارجاً عن طاعة الإمام، وهو في منعةٍ لا يقدر عليه – كان للإمام قتاله، وعلى الرعية معاونته حتى يؤديها، قاله في "البحر" [هنا، وقد تعرض له الشيخ] في باب قتال أهل البغي. قال: فإن غلَّها أخذت منه وعزر، أي: إن علم تحريم ذلك، وكان الإمام عادلاً كما نص عليه، ووجهه: ما تقدم. ويجيء فيه القول القديم السابق، وهو مذهب أحمد، واستدل له برواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من غلَّ صدقته فإنَّا آخذوها وشطر ماله، عزمةً من عزمات ربِّنا، ليس لآل محمد فيها نصيب"، وحجتنا عليه: ما تقدم. وقد أفهم كلام القاضي أبي الطيب وغيره أن القول القديم لا يجزئ فيه؛ لأنهم قالوا: والخبر [قد] قال الشافعي – رحمه الله -:إن صح [إسناده] قلت به. قال الماوردي: واختلف أصحابنا فيه: فقال بعضهم: [عني: إن صح إسناده وثبت نقله [قلت به وعملت]؛ لأن رواية بهز بن حكيم ضعيفة. وقال أبو العباس: بل معناه: إن صح ثبوت حكمه، وأنه [غير منسوخ]، ولم يكن أصلٌ يدفعه ولا إجماع يخالفه –قلت به. وأصول الشرع تدفعه، وإجماع الصحابة على ترك العمل به يخالفه بالتحريم؛ فلم يكن [فيه مع صحة إسناده حجة].

أما إذا كان [غير عالم] بالتحريم؛ لقرب عهده بالإسلام ونحوه، أو كان الإمام جائراً – قال البندنيجي: [يعني] كالخارجي والمتغلب – فلا يعزر؛ لأنه ربما غلها ليفرقها بنفسه خوفاً من ألا يضعها الإمام موضعها؛ فهو عذر في حقه، كذا قاله الماوردي وابن الصباغ وغيرهما، قوال الفوراني: إن ادعى شبهة لنفسه مثل أن قال: أخفيتها عنك؛ لأنك جائر، فأحببت أن أتولى الدف بنفسي – لم يعزَّر وإن لم يدع شبهة عزر. وغلها: إخفاؤها [بإخفاء ماله] أو بعضه؛ حتى لا يراه الساعي، وقال القاضي الحسين: الغلول: أن يخفي بعض ماله لينقص [ما ظهر] من زكاته، قال الأزهري: وأصله من غلول الغنيمة وهي الخيانة فيها، قال: والإغلال: الخيانة في شيء يؤتمن عليه، وقال أبو عبيد: الغلول من المغنم خاصة، ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد، [ومما يبين ذلك أنه يقال من الخيانة]: أغلَّ يغلُّ، ومن الحقد: غلَّ يغلُّ – بكسر العين- ومن الغلول: غلَّ يَغُلُّ، بالضم. قال: وإن قال: بعته، ثم اشتريته، ولم يحل عليه الحول [بعد] وما أشبه ذلك مما يخالف الظاهر، [أي]: كما إذا قال: أديت زكاتها لساع آخر قريباً، أو: ليست لي وإنما هي وديعة [ثم اشتريتها،] وليس عندي حساب حولان [حولها] أو تفصيل أمرها، أو: هي وديعة لذميّ، أو كانت عندي ودية ثم اشتريتها، ولم يمض الحول من حين الشراء – حلف عليه، أي: إيجاباً؛ لأن دعواه تخالف الظاهر فحلف، وإن كان أميناً كالمودع إذا ادعى تلف الوديعة، وقيل: يحلف استحباباً؛ لأنها لو وجبت إذا كانت دعواه تخالف الظاهر لوجبت إذا وافقت الظاهر كالمودع، وهي لا تجب؛ لما سنذكره، فكذا هنا، وهذا ما صححه النواوي – رحمه الله –واقتضى إيراد القاضي أبي الطيب ترجيحه، واختيار الإمام كما ستعرفه. والوجهان متوافقان على تحليفه، ومحلهما: إذا اتهمه فيما قاله، أما إذا لم يتهمه فلا يحلفه، قاله

الماوردي، وسنذكر عن الإمام ما يوافقه. وقد حكى القاضي الحسين – وتبعه الإمام – وجهاً: أنه لا يحلف أصلاً، وستعرفه من كلامهما الآتي من بعد وادعى الإمام أن هذه [الصورة تفرع] لا محالة على أنه يتعين دفع الأموال الظاهرة إلى السلطان. قال: وإن قال: لم يحل عليه الحول بعد، وما أشبه ذلك مما لا يخالف [الظاهر]، أي: مثل أن قال: هذه السَّخال نتجت بعد الحول، ولا ظاهر يكذبه، أو قال: ما كانت الأمهات نصاباً، وإنما كمل النصاب بالسخال؛ فالحول من حين كمل النصاب ولم يمض بعد، أو قال: هذه السخال من غير الأمهات؛ فلا تعد معها – كما قاله البندنيجي وغيره – حلف استحبابا؛ لأن دعواه لا تخالف الظاهر، والزكاة مبنية على الرِّفق والمواساة؛ فلو أوجبنا اليمين خرجت عن حد الرفق والمواساة. وهذا الذي ذكره الشيخ في المسألتين، هو الذي أورده العراقيون، وحكى الماوردي وجهين في قوله: بعته ثم اشتريته، ولم يحل عليه الحول – هل هو [من المخالف] للظاهر حتى يكون في وجوب اليمين الخلاف السابق، أو من الموافق للظاهر حتى تكون مستحبة قولاً واحداً؟ والصحيح الأول. وقد جمع القاضي الحسين والفوراني بين صور الدعوى المخالفة للظاهر والموافقة له، وقالا: على الساعي أن يصدقه؛ لأنه أمين، فإن اتهمه أحلفه، وهذا نصه في "المختصر" فيما إذا ادعى الدفع لساع آخر. قالا: وهذا الاستحلاف على معنى الاستحباب [أو على معنى الإيجاب]؟ فيه وجهان، المنسوب منهما في "تعليق" القاضي الحسين إلى ابن سريج: الثاني، وسلك الإمام طريقاً آخر ملخصه في جميع الصور: أن الساعي إذا لم يتهم رب المال فيما ادعاه، ودعواه لا تخالف الظاهر فلا يحلف، [وإن اتهمه] ودعواه تخالف الظاهر حلف. وإن خالفت دعواه الظاهر، لكنه عدل غير متهم، وإن كان الظاهر لا يكذبه واتهمه الساعي: فهل

يحلف؟ فيه وجهان. ثم إذا قلنا: يحلف، فهل هو مستحب أو مستحق؟ فيه اختلاف للأئمة: فإن قلنا: إنها مستحبة، قال الإمام: فالذي أراه أنه يعرف ذلك، ولا يحرم عليه القول بالحلف؛ فإن أمر الإمام إرهاق، فإن امتنع أن يحلف لم يؤخذ منه شيء. وإن قلنا: إنها واجبة، فالذي حكاه العراقيون هاهنا: أنها تؤخذ منه؛ حيث قالوا: [إن الحلف واجب. وهو ما إذا كانت دعواه تخالف الظاهر وإنهم قالوا]: وليس ذلك قضاء بالنكول عن اليمين لكن بالوجوب الذي اقتضاه الظاهر الذي [لم يسقطه بيمينه]؛ كما أن الزوجة إذا لم تلاعن يجب عليها حدُّ القذف الذي وجب بلعان الزوج، ولم يسقط بيمينها. وقال ابن القاص: إن أخذ الزكاة منه في هذه الحالة حكم بالنكول. قال القاضي أبو الطيب هنا: وهو وهم منه، وليس على مذهب الشافعي حكم بالنكول بحال. وقال القاضي أبو الطيب في موضع آخر ما يقتضي مساعدة ابن القاص، وقد حكيته في باب اليمين في الدعاوى فليطلب منه. وقال أبو العباس بن سريج: لا يجوز أن يأخذ الزكاة منه [بنكوله، لكن يحبس حتى يحلف أو يؤدي؛ لأن في أخذ الزكاة منه] حكماً عليه بالنكول، ولا يجوز ذلك على مذهب الشافعي. قال الماوردي: وهذا الذي قاله غلط على الشافعي وعلى نفسه: فأما غلطه على الشافعي فمن وجهين: أحدهما: أنه خالف نص مذهبه. والثاني: أنه جهل تعليل قوله؛ لأن العلة في أخذ الزكاة منه: الظاهر المتقدم، لا النكول الطارئ. وأما غلطه على نفسه فهو أنه أوجب حبس رب المال بنكوله، والنكول لا يوجب الحبس كما لا يوجب الحكم بالحق؛ فكان مثل ما ارتكبه مساوياً لمثل ما أنكره. وقال المراوزة: حيث قلنا: اليمين مستحقة كما تقدم، فامتنع منها: فهل نقضي

عليه بالنكول؟ ينظر: فإن كان في موضع أهل السُّهمان فيه محصورون، وقلنا: لا يجوز نقل الصدقة عنهم – فلا نقضي عليه به، بل المستحقون يحلفون إن أرادوا فإن لم يحلفوا ترك قال القاضي الحسين: وإنما قلنا ذلك؛ لأن الشافعي – رحمه الله – قال: ولو وجبت عليه الزكاة وهناك ساكنون محصورون، فلم يدفع الزكاة إليهم حتى ماتوا - قال: تعطى الزكاة [إلى] ورثتهم، وكذا لو صاروا أغنياء تعطى إليهم. فجعلهم بمنزلة أرباب الديون، وهذا ما حكاه الإمام عن كثير من أئمتنا، وأنه الذي ذكره الصيدلاني، ثم: قال إن من أئمتنا من قال: لا تردُّ اليمين عليهم وإن تعينوا بسبب الانحصار ومنع النقل، وإنه الذي ذكره العراقيون، وهو في بعض تصانيف المراوزة؛ لأنهم وإن تعيَّنوا فسببه انحصارهم، وإلا فالزكاة تتعلق في قاعدة الشرع [الصفات لا بالأعيان]. ثم من يرى الرد عليهم فإنما ذاك فيه إذا ادعوا، قال: والقول في أن دعواهم هل تسمع وهل لها وقع، يخرج عندي على أن اليمين هل ترد عليهم لو نكل رب المال أم لا؟ وسنذكر- إن شاء الله تعالى – في الباب ما أبداه من البحث في تتمة ذلك في موضعه. وإن كان أهل السُّهمان غير محصورين أو محصورين لكنا لم نمنع النقل، أو منعناه، وقلنا: لا يحلفون عند نكول رب المال – فهل نقضي عليه بالنكول؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا؛ عملاً بقاعدة الشافعي – رحمه الله – المستقرة، وعلى هذا قال الإمام: فهل نخلي سبيله أو يحبس حتى يحلف أو يعترف؟ اختلف فيه أصحابنا وظاهر المذهب: الأول، وقائل الثاني يعلله بأنا إذا كنا نخليه فلا فائدة للحكم بوجوب اليمين عليه والقضاء بأن استحلافه مستحق؛ فتعين حبسه حتى يحلف أو يعترف، قال الإمام: والحبس ليحلف، خروجٌ عن قاعدة الشافعي – رحمه الله – وانسلال عن الضبط بالكلية، ولكن يجب القطع بإنه إذا كنا لا نقضي عليه بالنكول ولا يحبس؛ فلا يجب استحلافه، ولا يتفرع هذا قطعاً على رأي من يوجب الاستحلاف، ويجب رد الكلام إلى أنا إذا لم نقض بنكوله فلا يجب استحلافه، ومن تخيل خلاف ذلك فقد عاند، ويخرج من مضمون ذلك أن من الوجه نفي إيجاب الاستحلاف.

قلت: وقد يظن ظان أن القول بحبسه قد ذكره الشيخ حيث قال في باب اليمين في الدعاوي: فإن نكل عن اليمين فإن كان الحق لغير معين [كالمسلمين والفقراء حبس] المدعى عليه حتى يحلف أو يدفع الحق. وليس الأمر كذلك؛ لأن الشيخ ذكر هذا حيث تكون اليمين واجبة وهاهنا إنما تكون [اليمين] واجبة عند العراقيين فيما إذا كانت دعواه تخالف الظاهر واتهم، وهو إذا امتنع عنها في هذه الحالة أخذت منه الزكاة؛ لما ذكرناه؛ فلا حبس. والوجه الثاني: أنه يقضي عليه بالنكول للضرورة، وإنما لا يقضي به في حق الآدميين؛ لإمكان حلفهم. وعلى هذا إذا: قضى به، قال مجلي: فهل يأخذها من ماله أو يحبسه حتى يؤديها؟ فيه وجهان. وقال القاضي الحسين هل تؤخذ من ماله أو يحبس [إلى أن] يقر أو يؤدي؟ فيه وجهان لابن سريج، وكذا حكاهما في "الإبانة". والوجه الثالث- وهو الذي صححه الفوراني، وقال الإمام: إنه أعدل الوجوه – أن رب المال إن تصور بصورة مدعى عليه فلا يقضي عليه به طرداً للقياس، وإن تصور في صورة مدعٍ قضي عليه به؛ فإنه لو حلف لكان على صورة مدعٍ مثبت، فإذا احتمل ذلك في تحليفه فليجر في نكوله على قياس نكول المدعي، ولو نكل المدعي عن اليمين المردودة عليه [لقضي عليه بنكوله]. قال الإمام: ومع هذا فيه شيء؛ فإن المودع إذا [ما] دعى رد الوديعة فاليمين فيها معروضة عليه، وهو على صورة المدعين، ولو نكل لم يقض عليه بنكوله، ولكن سبب منع القضاء عليه إمكان الرد على الخصم الذي هو مالك الوديعة، والرد غير ممكن في الزكاة وانضم إليه تصور من عليه الزكاة بصورة المدَّعين فقيل إنه [يقضي عليه مثل تصوُّره بصورة] المدعي عليه بما إذا قال: لم يحل [عليه] الحول، أو: ليس المال لي وإنما هو وديعة عندي، وتصوره بصورة المدعى بما إذا قال: قد

أديت الزكاة إلى ساع آخر، أو: بعت المال ثم اشريته. وجعل الفوراني قوله: لم يحل عليه الحول، من القسم الثاني. والذي ذكره القاضي [الحسين] في حكاية الوجه [الثالث]، وعزاه إلى ابن سريج: أنه إن تصور بصورة المدعي عليه ونكل عن اليمين فلا يقضي عليه بالزكاة، وإن تصور بصورة المدعين، فإذا نكل قضي عليه لا بنكوله، لكن بالسبب السابق الذي أوجب الزكاة، ولم يأت بحجة يسقطها عنه، ومثل الصورتين بما ذكره الإمام، وحقيقة هذا الوجه ترجع إلى ما قاله العراقيون لولا أنه قاض بأنه إذا قال: ليس المال لي، بعدم الأخذ منه، فتأمله. والله أعلم. قال: وإن بذل الزكاة قبلت منه؛ لتبرأ ذمته، وتصل إلى مستحقيها. قال: والمستحب أن يدعي له؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] أي: ادع لهم كما قاله الأكثرون، وبه أخذ الشافعي، وإن [كان] ابن عباس قال: "إن المراد بالصلاة الاستغفار"،ولأن في العداء له ترغيباً في الخير وتطييباً لقلبه. فإن قيل: ظاهر الأمر الوجوب، فلم عدلتم عنه، وهذا ظاهر قوله في "المختصر": "فحق على الوالي إذا أخذ صدقة امرئ أن يدعو له]، يقتضي الوجوب، فلم عدلتم عنه؟ قلنا: قد قال بظاهر هذا النص بعضهم؛ فأوجب على الإمام إذا أخذها الدعاء [له]، حكاه الحناطي، [وكذا الماوردي] وقال: إنه إذا أخذها الفقراء لم يجب عند هذا القائل. وقيل عكسه: إن الدعاء يلزم الفقير دون الإمام؛ لأنا دفعها إلى الإمام متعين، [وإلى الفقير غير متعين]، وقيل: إن سأل رب المال الدعاء وجب؛ لما روى عبدالله بن أبي أوفى عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقات قومي، فقلت: يا رسول الله، صل علي، فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى"، وليقع

الفرق بين الجزية المأخوذة صغاراً وبين الزكاة المأخوذة تطهيراً، وهذا ما ادعى في "البحر" أن الماوردي صححه. والذي رأيته في "الحاوي" في كتاب الزكاة: تصحيح مقابله، وهو عدم الوجوب، وهو الذي صححه غيره، ولم يورد الشيخ في "المهذب" وأبو الطيب والقاضي الحسين غيره؛ لأنه – عليه السالم – لم يأمر معاذاً حين بعثه وأمره أن يأخذ الزكاة [به و] لأنه لم ينقل أنه – عليه السلام – دعا لغير أبي أوفى مع أن الصدقات كانت تحمل إليه، وذلك دليل على عدم الوجوب، كذا قاله القاضي الحسين، ورواية البخاري ومسلم وغيرهما ترد عليه؛ فإنهم رووا عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أبي من أصحاب الشجرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: "اللهم صل على آل فلان"، قال: فأتاه أب بصدقته، فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى"، وأصحاب الشجرة هم الذين بايعوه بالحديبية تحت الشجرة سنة ست من الهجرة، وآل أبي أوفى قيل: المراد به أبو أوفى، و"الآل" تقع على ذات الشيء، وكذلك قوله – عليه السلام -:"من مزامير آل داود"، وقيل: أراد به داود. وقد ادعى الماوردي في كتاب الزكاة أنه لم يختلف أصحابنا في أنه إذا لم يسأل رب المال الدعاء، فليس على الوالي أن يدعو له؛ لأن رب المال بدفع الزكاة مؤد لعبادة واجبة، وذلك لا يوجب على غيره الدعاء كسائر العبادات، وقال في قسم الصدقات ما حكيناه أولاً من قبل، [وقيل:] وعليه جرى في "البحر".

الأمر، وهو اللائق بالحال. والمحكي في "المختصر" في كتاب الزكاة، وهوا لذي أورده ابن الصباغ والغزالي وغيرهما في ترتيب هذا الدعاء - أنه يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهورا، وبارك لك فيما أبقيت. قال النواوي: وهذا أحسن وأشبه مما قاله المصنف. وفي "آجرك الله" لغتان مشهورتان: أجره الله - بالقصر - يأجره - بضم الجيم، وكسرها - أجراً. وآجره - بالمد - إيجاراً، كأكرمه إكراماً. والأجر: الثواب. وقد ادعى في "المذهب" [أن المستحب] أن يقول: اللهم صل على آل فلان؛ للخبر. وقال القاضي الحسين في "تعليقه": إنه لا يجوز لأحد أن يصلي على أحد غير الأنبياء ابتداء، مثل أن يقول: أبو بكر أو عمر [أو عثمان] أو علي، [صلى الله عليه]، وإنما يجوز على سبيل التبعية كما يقال: اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وأزواجه. وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مخصوص به؛ لأن الصلاة منصبه فكان له أن يخص بها من شاء؛ كما أن صاحب الدار والمجلس يرفع من أراد إلى مجلسه وصدره، وليس لغيره في داره ومجلسه أن يرفع أحداً دون إذنه. وهذا ما حكاه الإمام عن الأئمة، لكنه أبدل لفظة "لا يجوز ذلك" بأنه: "لا ينبغي ذلك"، وأن الذي كان عليه الناس في الأعصار السالفة قبل ظهور الأهواء ترك ذلك؛ فلم يكن أحد من الأولين يقول: أبو بكر، رضي الله تعالى عنه. وهو كما أن قول القائل: الله - عز وجل - فإنه لا يسوغ استعماله في حق غير الله، وإن كان "الجليل" من "الجلال" و"العزيز" من "العزة". وقال: [إن] الشيخ أبا محمد كان يقول: السلام بمنزلة الصلاة فيما ذكرناه. [قال الرافعي] لأن الله - تعالى - جمع بينهما فقال: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] فلا يقول: أبو بكر وعلي عليهما السلام، وكذا غيرهما لا يفرد به في حال الغيبة.

قال الرافعي: ولا بأس به في معرض المخاطبة، فيقال للأحياء وللأموات من المؤمنين: سلام عليكم. قال في "الروضة": وقول الرافعي: "لا بأس [به] "، ليس بجيد؛ فنه مسنون للأحياء والأموات بلا شك، وهذه الصيغة لا تستعمل في المسنون؛ فكأنه أراد: لا منع منه في المخاطبة بخلاف الغيبة، وأما استحبابه في المخاطبة فمعروف. ثم قال الإمام: [وظاهر] ما ذكره الصيدلاني: أن الصلاة على غير الرسل في حكم ترك الأولى والأدب، وهذا لا يبلغ مبلغ ما يوصف بالكراهة. وفي هذا أدنى نظر؛ فإن المكروه يتميز عندنا عن ترك الأولى؛ فإنما يفرض فيه نهي مقصود كالنهي عن الاستنجاء باليمين، وقد ثبت نهي مقصود في التشبه بأهل البدع وإظهار شعارهم؛ وذكر الصلاة والسلام مما اشتهر بالفئة الملقبة بالرفض، وينضم إليه تقوي السلف عن إطلاق ذلك مقصوداً في غير الأنبياء، عليهم السلام. وحاصل ما ذكره الإمام: أن فعل ذلك ترك للأولى أو مكروه؟ فيه خلاف، الراجح عنده: الثاني، وهو الذي حكاه الرافعي عن القاضي الحسين، وعن صاحب "العدة" التصريح بنفي الكراهة؛ فإنه قال: إنما "الصلاة" بمعنى "الدعاء"؛ فتجوز على كل أحد أما بمعنى التعظيم والتكريم فيختص بها الأنبياء، عليهم السلام. وأنت إذا أجريت ما حكيته من لفظ القاضي الحسين على ظاهره جاءك في المسألة أوجه: أحدها: أن ذلك لا يجوز. والثاني: أنه مكروه. والثالث: أن فاله تارك للأولى غير مرتكب لمكروه. والرابع: أنه مباح إذا كان بمعنى الدعاء، ممتنع إذا كان بمعنى التعظيم. والخامس: [أنه] مستحب في حق مؤدِّي الزكاة كما قال في "المهذب"، ولم أقف عليه لغيره، بل المذكور فيها ما حكيناه عن النص، وأنه بأي دعاء دعا إذا كان

يليق بأخذ الصدقة – كان حسناً، وحكوه عن نصه في "الأم". وإذ قد عرفت ما ذكره الشيخ من أول الباب [إلى هنا] عرفت أن الناس في أمر الزكاة على ثلاثة أقسام- كما صرح بها غيره في [أول] كتاب الزكاة، وهو في "المهذب": قسم جحدها، وقسم اعترف بها ومنعها، وقسم بذلها؛ فاستحب الدعاء له، وأهل هذا القسم هم الذين مدحهم الله تعالى في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4] وفي قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، وقد حمل بعض الشارحين قول الشيخ: "فإن بذل الزكاة قبلت منه"، على ما إذا بذلها بعد دعواه ما يسقطها، ووجهه بأنه أقر بحق عليه، وغفل عن أن مراده الاقتداء بالأصحاب في استيعاب الأقسام. والله أعلم. قال: وإن مات بعد وجوب الزكاة قضى ذلك، [أي أُدِّي]، من تركته؛ لأنه حق تدخله النيابةوتصح الوصية به، لزم وجوبه في حال الحياة؛ فلم يسقط بالموت كديون الآدميين، ويخالف الصلاة والصوم حيث لا تقضي عنه على المذهب؛ لأن ذلك لا تدخله النيابة وإن وصى به من هو عليه، لكنه هل يثاب على ذلك؟ قال القاضي أبو الطيب: إن كان قد امتنع من أدائها لما وجبت عليه، ولم يكن له في ذلك عذر حتى مات فلا ثواب له، ويكون [ذلك] بمثابة أن يطالبه الإمام بها، فيمتنع من أدائها؛ فيحبسه حتى يؤديها؛ فإنه لا يكون له ثواب في ذلك. وإن كان له عذر في التأخير أثيب، ولو أدى ذلك عنه الوارث من ماله جاز، وإن أخرجه عنه أجنبي، قال البندنيجي قبيل كتاب الصيام: فظاهر المذهب أنه يجوز، كما قال في الحج إذا حج عنه بعد وفاته أجنبي: جاز ذلك. ولو كان موته قبل إمكان الأداء، وقلنا: إنه شرط في الوجوب – فقد مات قبل وجوبها عليه، فما الذي يصنع الوارث: هل يبني أو يستأنف؟ فيه ما تقدم، قاله البندنيجي، والله أعلم. قال: [وإن كان هناك دين لآدمي، أي وقد سبق وجوب الزكاة الدين، وقلنا]:

إن الدين لا يمنع الزكاة، وضاقت التركة عنهما- ففيه ثلاثة أقاول: أحدها: يقدم الدين؛ لأنه حق آدمي، وهو مبني على المضايقة والمشاححة؛ فقدِّم على حق الله المبني على المساهلة والمسامحة؛ كما يقدم القصاص على القتل في الردة، والقطع في السرقة. والثاني: يقدم الزكاة؛ لقوله - عليه السلام - في الخبر الذي سنذكره [في الحج]: "فدين الله أحق بالقضاء"، ولأن مصرفها الآدميون؛ فكأنها حقوق لهم، وهي معتضدة بحق الله - سبحانه وتعالى - فرجحت على محض حق الآدمي، وتخالف القصاص والقتل في الردة والقطع في السرقة؛ فإنها عقوبة محضة لا تعلق لها بالآدمي، وهي مما يسقط بالشبهات، بخلاف حق الآدمي، وهذا أظهر في "الرافعي" وأصح عند النواوي. والثالث: يقسم بينهما، أي: على النسبة؛ كما يفعل في الدينين إذا ضاقت التركة عنهما لتساويهما في الوجوب، وهذا أقيس في "تعليق" القاضي الحسين. ثم محل الأقوال بالاتفاق عند عدم المال [الذي] وجبت فيه الزكاة، والدين مرسل في الذمة [لا يتعلق] بشيء من التركة في الحياة، وبذلك صور البندنيجي في باب زكاة الفطر محلها حيث قال: اختلف قول الشافعي في حق الله تعالى وحق الآدمي إذا اجتمعا وتعلقا بمحل واحد، مثل أن تعلقا معا بالذمة، أو تعلقا بالعين [ففيها] ثلاثة أقوال. أما إذا كان موجوداً وهو نفس التركة؛ ففيه طريقان: أحداهما: القطع بتقديم الزكاة، وهي التي ذكرها في "التهذيب" في كتاب الجنائز، [وهو] الذي تقتضيه طريقة العراقيين أيضاً؛ لأن الزكاة تعلقت بالعين في حال الحياة عندهم قولاً واحداً إما تعلق شركة أو تعلق رهن، وكل منهما يقدم على الدين الذي لا تعلق له بالعين في حال الحياة أصلاً. نعم لو كان ما وجبت فيه الزكاة مرتهناً بدين

وهو كل التركة، جاءت الأقوال على خلاف سبق ذكره في أول كتاب الزكاة. وهذه الطريقة حكاها الإمام في باب الدين مع الصدقة، وأن شيخه قال بها، وه التي صححها في باب زكاة الفطر، ولم يورد القاضي الحسين فيه غيرها، [ووجهها الإمام] بأن الزكاة متعلقة بعين المال في الحياة في الجملة، وأراد بذلك أنها جارية وإن [قلنا: إن] الزكاة تجب في الذمة ولا تعلق لها بالعين أصلاً؛ لأنا على هذا القول نجوز لرب المال بيعه قبل أداء الزكاة، ويمضيه إذا أدى الزكاة من غيره، وإن لم يؤدها سلطنا الساعي على أخذها من المال وإن كان في يد المشتري. والثانية: إجراء الأقوال في هذه الحالة أيضاً واختلفت [أيضاً] عبارة الإمام في حكايتها: فأطلق في باب الدين مع الصدقة القول بها مصدراً بها كلامه، ثم ذكر الطريقة الأخرى وقال إن من قال بالإجزاء بنى ما قاله على أن الغالب في الزكاة التعلق بالذمة، وقال في باب زكاة الفطر: إن بعض أئمتنا قال: إذا قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، جرت الأقوال الثلاثة في التقديم والتأخير، وهذا ضعيف مزيف. وهذه الطريقة هي المذكورة في "الإبانة" لا غير؛ بناء على هذا القول، والمراد إذا قلنا: إنه لا تعلق لها بالعين أصلاً، كما هو محكي في طريقتهم، وعلى ذلك جرى الماوردي فقال: إن قلنا: [إن] الزكاة تجب في العين أو في الذمة، فتتعلق بالعين تعلق رهن قدمت قولاً واحداً، وإن قلنا: تجب في الذمة، ولا تعلق لها بالعين - جرت الأقوال، والله أعلم. وهذا كله في زكاة الأموال أما زكاة الفطر إذا اجتمعت مع الدين، وضاقت التركة عنهما - فقد جزم الفوراني والبغوي بإجراء الأقوال، ومنهم من قال: إن كانت التركة عبداً والفطرة عنه، قدمت الفطرة قولاً واحداً؛ لأنها متعلقة بالعبد واجبة بسببه فصارت كأرش الجناية. وهذه الطريقة هي التي نص عليها في "المختصر" حيث قال: ولو مات بعد أن أهل شوال وله رقيق فزكاة الفطر عنه وعنهم في ماله مبدأة على الديون.

وقال البندنيجي: إنها ليس بشيء، والشافعي ذكر أحد الأقوال. وفي "الرافعي" أن الروياني حكى طريقة قاطعة بتقديم زكاة [فطر] نفسه لقلتها في الغالب، والذي رأيته في "البحر" و"الحاوي" أن أبا الطيب بن سلمة قال: إن زكاة الفطر تقدم على الدين قولاً واحداً لقلتها في الغالب، وتعلقها بالرقبة. زاد الماوردي: فاستحقت كأرش الجناية. وهذا هو عين الطريق السابق، وكذلك الماوردي لم يحك مع الطريقة الطاردة للأقوال فيها غيره، لكن الروياني حكى الطريقة الأولى، ثم حكى عن أبي الطيب بن سلمة ما ذكرناه؛ فظن أنه غيرها. وتجري الأقوال الثلاثة فيما إذا مات وعليه كفارات وديون آدميين بلا خلاف، وإن كان العبد والمسكن يباعان [في ديون الآدمي وفاقاً، ولا يبعان] في الكفارات، وهو يدل على قوة الديون عليها، وهل تجري فيما إذا اجتمعت ديون وكفارات على محجور عليه؟ حكى الإمام في باب زكاة الفطر تردداً فيه، موجهاً لعدم الجريان وتقدم الديون بأن الكفارات على التراخي، وأداء الدين على التضييق؛ فقدم.

وموجِّها للجريان: بأن المدعي حق من عليه الكفارة؛ فإنه قد يحاول تبرئة ذمته منها والتخلص من عذر الفوات. قال: وهذا التردد عندي قريب من اختلاف القول [في أن] الديون المؤجلة هل تحل بالحجر حلولها بالموت أم لا؟ قال: .... تجب الزكاة لما بالحول، والنصاب جاز تقديمها على الحول؛ لرواية مسلم أن النبي صلى الله عليها وسلم استسلف من رجل بكراً، فجاءته إبل [من إبل] الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضيه إياه، فقال: ما أجد فيها إلا رباعياً خياراً فقال: "اقضه منها؛ فإن خير الناس أحسنهم قضاء". وجه الدلالة منه، كما قال الشافعي – رحمه الله -: أن العلم محيط بأنه لا يقضي من إبل الصدقة – والصدقة لا تحل له – إلا وقد تسلف لأهلها ما يقضيه من مالهم. انتهى. وإذا جاز أن يستقرض لهم [على إبل الصدقة ممن ليس عليه صدقة، فبأن يستقرض لهم] من الصدقة أولى، وقد ادعى بعض أصحابنا أن معنى استسلف: استعجل؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم استعجل الزكاة من واحد، فلما حال الحول كان قد هلك مال ذلك الرجل المعجل، فقضاه النبي صلى الله ليه وسلم من إبل الصدقة. قال القاضي الحسين: وهذا غير صحيح؛ بل الصحيح الأول، وكونه – عليه السلام – رد من مال

المستقرض لهم أكثر مما أخذ يحتمل وجوهاً: أحدها: أنه رآه من أهل الصدقة. والثاني: أنه رأى المصلحة في ذلك ترغيباً للناس في الاستقراض، وللإمام فعل مثل ذلك. والثالث: أن المدفوع أكبر سناً وأقل في الجودة، فجعل زائد السن في مقابلة الفائت من الجودة. ثم الاستدلال بما ذكرناه من جهة القياس لا من جهة النص، وقد عضده الشافعي- رحمه الله – بالقياس على المتعة، فإنا أجمعنا على أنها تجب بالطلاق، وأنه لو أعطاها قبل الطلاق ثم طلق وقعت الموقع؛ فكذا الزكاة، وبأنها حق مالي يتعلق وجوبه بسببين يختصان بهن وهما: النصاب، والحول؛ فجاز تقيمه على أحدهما كالتكفير قبل الحنث وبعد العقد؛ فإن المخالف – وهو مالك – وافق فيها، وقال المزني: الأولى أن يجعل في هذا الموضع – أي من الدليل – ما هو أولى به من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلف صدقة العباس قبل حولها. [وازد] ما رواه أبو داود وأخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب على الصدقة، فمنع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله، وأما خالد بن الوليد فإنكم تظلمون خالداً؛ فقد احتبس أدراعه [وأَعْتُدَهُ] في سبيل الله عز وجل، وأما العباس عم رسول الله صلى الله ليه وسلم فهي عليَّ ومثلها"، و [في] رواية الدارقطني: "هي علي ومثلها معها له". ووجه الدلالة منه: أنه – عليه السلام – كان قد استسلف منه صدقة عامين قبل أن يأتيه عمر لأخذ الصدقة، فلما جاءه عمر منعه، ولم يعلمه أنه أداها، فلما شكاه قال – عليه السلام -: "هي علي ومثلها [معها] "، يعني صدقة هذا العام وعام آخر، ولا

يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضمنها عنه؛ لرواية الدارقطني، ولأنه لا يصح ضمان ما لم يجب وهي زكاة السنة الثانية، ولا ضمان الزكاة بغير إذن من هي عليهن والعباس لم يكن حاضراً القصة حتى يأذن. وإنما لم يحتج بما رواه أبو داود وأخرجه الترمذي والنسائي عن حُجَيَّة – وهو ابن عدي – عن علي: "أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص في ذلك"، وقال مرة: "فأذن له"؛ لأن حجية شيخ لا

يحتج بحديثه، [كما قال أبو حاتم] الرازي وغيره. وقد ذهب أبو عبيد بن حربويه من أصحابنا إلى أنه لا يجوز التعجيل قبل الوجوب بحال، حكاه البندنيجي والماوردي وغيرهما، وليس بشيء؛ لما ذكرناه. وقد أفهم كلام الشيخ أمرين: أحدهما: عدم جواز تقديمها على ملك النصاب، كما إذا ملك دون الأربعين من الغنم، فعجل شاةً رجاء أن تنتج أخرى ويكمل الحول عليهما فيجزئه المخرج، وبه صرح الأصحاب؛ لأنه يؤدي إلى التقديم على السببين، وهو لايجوز؛ كما لا يجوز تقديم الكفارة على اليمين والحنث، [وهكذا] لو ملك أربعين معلوفة، فعجل على تقدير أن يسيمها ثم ينقضي حولها: لا يجوز؛ لأن المعلوفة ليست مالاً زكاتياً فهي كالمال الناقص عن النصاب، وهكذا الحكم في الزكوات العينية كلها. وأما زكاة التجارة فيجوز التعجيل فيها على النصاب، مثل: أن يشتري عرضاً قيمته مائة، ويخرج زكاة مائتي درهم معجلة، وتبلغ القيمة في آخر الحول مائتين فإنه يجزئه على ظاهر المذهب في أن النصاب إنما يعتبر في آخر الحول، أما إذا قلنا بمذهب ابن سريج في اعتباره في جميع الحول فلا يجوز التعجيل كسائر الزكوات، صرح به في "البحر" [وغيره]. الثاني: أنه لا يجوز تقديمها [بحولين]، وهو كذلك على المشهور فيما إذا لم يملك سوى نصاب؛ لأنه يؤدي إلى تعجيل زكاة العام الثاني والمال دون النصاب، وفيه وجه: أنه يجوز كما لو عجل زكاة عام عن نصاب، والذي أورده ابن الصباغ الأول. نعم، لو كان يملك أكثر من النصاب بحيث لا ينقصه المخرج عن النصاب، مثل: أن ملك من الغنم اثنتين وأربعين، فأراد إخراج شاتين عن سنتين- فهل يجوز؟ فيه وجهان جاريان في جواز تعجيل أكثر من ذلك بالشرط المذكور: أحدهما- وهو اختيار أبي إسحاق -: الجواز؛ لحديث العباس. والثاني: المنع؛ لأن ذلك يؤدي إلى التقديم على السببين معاً، وهذا ما ادعى

الرافعي أن الأكثرين على ترجيحه، ومنهم معظم العراقيين والبغوي، والقائلون به اختلفوا في المراد بالحديث: فقيل: معناه: أن العباس كان له مالان أحدهما متقدم على الآخر بأيام يسيرة، فسلف صدقتهما في وقت واحد. وقيل: معناه. أنه سلف صدقة عامين [من عامين]. لكن الصحيح في "الوسيط" و"الشامل": الأول، قال أبو الطيب: وهو قياس مذهبنا. وقال البندنيجي: إنه المذهب، والتأويلان السنة تطبلهما: [أما الأول]؛ فلأنه جاء في لفظ آخر: سلفني عمي عن زكاة ماله لعامين لعامه والعام المقبل. وأما الثاني؛ فلأنه جاء في لفظ آخر سلفني عن زكاة ماله في عام. وعلى هذا هل يجوز أن ينوي تقديم زكاة السنة الثانية على الأولى؟ فيه وجهان كالوجهين في تقديم الصلاة الثانية على الأولى في الجمع، والوجهان جاريان عند القاضي الحسين والعراقيين فيما لو ملك نصاباً؛ فعجل صدقة نصابين حيث يرجو بلوغ النصاب الثاني بالنتاج في آخر الحول، مثل أن كان معه مائة وعشرون من الغنم، فعجل شاتين زكاة مائة وإحدى وعشرين، لكن الذي صححه العراقيون منهما والبغوي وصاحب "البحر": المنع، وصحح في "الوجيز" و"التتمة" مقابله، وإله يرشد كلام الفوراني والإمام حيث قالا: إنا إن قلنا بجواز تعجيل زكاة سنتين فهاهنا أولى، وألا فوجهان، والفرق: أن هاهنا انعقد الحول على نصابين لأنها إذا [حدثت] انبنى حولها على حول الأمهات، وثَمَّ لم ينعقد الحولان جميعاً، أما إذا كان لا يرجو حصول النصاب الثاني بأن يكون سخالاً، أو كان في ملكه ما تجب الزكاة في عينه كمائتين، فأخرج زكاة أربعمائة على توقع اكتساب مائتين، واكتسبها – فقد حكى البندنيجي فيه الوجهين المذكورين في الماشية، وقال غيره: لا يجزئه ما أخرجه عن المائتين الحادثتين بلا خلاف. نعم، لو كان ذلك في مال التجارة مثل: أن اشترى بمائتي درهم عرضاً قيمته مائتا

درهم، فأخرج زكاة أربعمائة، وبلغتها قيمة العرض: فهل يجزئ؟ فيه طريقان، المشهور: الإجزاء، وعن ابن عبدان حكاية الوجهين فيه. واحترز بقوله: بالحول والنصاب، عن زكاة المعدن والركاز؛ فإن ابن عبدان قال: لا يجوز تقديمها على الحول، وهو ما حكاه في "المهذب". وعما تجب الزكاة فيه ببدو الصلاح والانعقاد - وهي المعشرات - فإنه لا يجوز تعجيل الزكاة عنها قبل بروز الطلع - ونبات الزرع بلا خلاف، وكذا بعد بروز الطلع ونبات الزرع إلى أن يدرك عند أبي إسحاق، كما قال الروياني وغيره، وبه قال الشيخ أبو حامد، كما قال الفوراني والمسعودي، وقال البندنيجي: إنه المذهب، وقال الرافعي: إنه الأظهر [عند أكثر العراقيين، وتبعهم البغوي. فإذا أدرك فقد وجبت؛ فلا تعجيل، وخالف سائر] الزكوات حيث يجوز تعجيلها قبل الوجوب؛ لأنه لم يظهر ما يمكن معرفة مقداره تحقيقاً، ولا خرصاً تخميناً ولا كذلك غيره من أموال الزكاة، ولأن سائر الأموال وجوبها تعلق بسببين فجاز تقديمها على أحدهما، وهاهنا تعلق بسبب واحد وهو الإدراك؛ فلم يجز تقديمها عليه كما لا يجوز تقديم غيرها على السببين. قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز التقديم على السبب الواحد إلا في مسألة واحدة، وهي: إذا اضطر المحرم إلى صيد فقدم الجزاء؛ فإن الشافعي - رحمه الله - جوّزه، قيل: فكأنه جعل الإحرام أحد سببيه فلذلك جوزه. وفيه نظر؛ لأنه لو كان كذلك لجوزه قبل الحرج إذا لم يضطر إليه، وهو لا يجوز، قال في "الحاوي" في كتاب الأيمان: وقد وهم أبو حامد الإسفراييني فخرجه على وجهين، وهما شبيهان بوجهين حكاهما الحناطي في جواز تقديم كفارة الوقاع في رمضان عليه، والأصح: المنع، وهو الذي أورده الجمهور. وقد حكى الإمام وجهاً آخر: أنه لا يجوز الإخراج بعد الإدراك وقبل الجفاف في الثمار والتصفية في الحبوب؛ لأن وجوب الإخراج بعد ذلك يكون كالتعجيل قبله،

وإن كان بعد الوجوب الذي منع المالك من التصرف في المال كالتعجيل قبله. وعلى هذا يجري إطلاق القول بأنه لا يجوز إخراج زكاة المعشرات قبل وجوب إخراجها، سواء في ذلك الثمار والحبوب. والصحيح في "النهاية" وهو الذي أورده الجمهور: جوازه بعد الإدراك كما قاله أبو حامد وغيره؛ لأنه إذا جاز قبل الوجوب فيما يجب بالحول والنصاب فبعد الوجوب أولى. وذهب في "الوسيط" إلى أن الصحيح في الثمار عدم الإجزاء قبل الجفاف؛ لأن الواجب هوا لزبيب والتمر، والرطب لا يصلح للإخراج، وقال: إن الصحيح في الزروع الجواز بعد الإدراك وقبل الدياس والتصفية؛ لأن الذي وجب موجود. وقد وجه مقابله بأن النصاب لا يمكن الاطلاع عليه ما لم تحصل التصفية، بخلاف سائر الأموال؛ فإنه يمكن إدراكه، وقال الإمام: إنه ضعيف جداً، فإن لم يكن بد من هذا الوجه فالعلة فيه إذا كنا لا نقطع بأس في السنبل نصاباً من الحب، فأما إذا تحقق فلا وجه لمنع التعجيل. وقد قيل: إنه يجوز الإخراج بعد بروز الطلع وإن لم يتشقق، ونبات الزرع وإن لم ينعقد، وهو ما ينسب إلى ابن أبي هريرة، ونسبه الحناطي إلى ابن سريج، قوال ابن كج: إن أبا إسحاق أجاب به في دفعة أخرى، وهو الذي صدر به الفوراني كلامه. ثم حكى ما نقلناه عنه عن الشيخ أبي حامد واقتصر عليهما، وقال ابن الصباغ: إنه الأصح؛ لأن تعلق الوجوب بالإدراك لا يمنع تقدم الزكاة عليه؛ ألا ترى أن زكاة الفطر يجوز تقديمها على هلال شوال، وإن كان وجوبها يتعلق به؟! لأن من ويلد قبل ذلك بلحظة تجب عليه، كما أن من ملك الزرع قبل إدراكه وجب عليه العشر. وقال الرافعي في دفع العلة الأولى من علتي عدم الإجزاء إن الكلام فيما إذا عرف حصول قدر النصاب، وإن لم تعرف جملة الحاصل بعد ذلك إن خرج [زائداً على ما ظنه فيزكي الزيادة، وإن خرج] ناقصاً عن بعض المخرج فهو تطوع فلم يمنع الإجزاء. وفي دفع العلة الثانية: إنا لا نسلم أن لهذه الزكاة سبباً واحداً، بل لها سببان أيضاً: ظهور الثمرة، وإدراكها؛ فالإدراك بمثابة حولان الحول. وهذا فيه نظر ظاهر.

ومنهم من قال: يجوز التعجيل في هذه الحالة في الثمرة دون الزرع؛ لأن النخل تقبل معاملة على الثمار قبل بدوها وهي المساقاة، والزرع لا يحتمل ذلك. قال الإمام: وهذا غير سديد؛ إذ لا خلاف أنه لا يجوز التعجيل قبل نبات الزرع، فإن لم يكن من الفرق بد فالأولى ما أشرت إليه وهو أن عين العشر مفقود والزرع يقل، وعين الثمار موجودة وإن كانت غير مؤبرة، فإذا بدا الحب ولم يشتد فلا يتضح إذ ذاك فرق. قال: وإن تسلف الإمام، أي: أو الساعي، الزكاة من غير مسألة: أي: وقد رأى المصلحة في ذلك؛ [لأجل حاجة] بعض الأصناف وهم أهل رشد، [فهلكت في يده، أي: في أثناء الحول ضمنها، أي: سواء إن تلفت بتفريط أو بغير تفريط؛ لأن أهل الرشد] لا يولي عليهم، فإذا قبض حقهم قبل محله بغير إذن من يعتد بقبضه بعد محله ضمنه؛ كالوكيل إذا قبض مال موكله قبل محله، كذا قاله في "المهذب"، وقاسه ابن الصباغ وغيره على ما إذا قبض الأب دين ابنه الكبير بغير إذنه، [ثم قال]: فإن قيل في الأصل: لا يجوز له القبض، وهاهنا يجوز للإمام القبض لحاجتهم – قلنا: جواز القبض لا يمنع حصول الضمان؛ كما [لا] يجوز أن يدفع الوديعة إلى من ادعى وكالة صاحبها وصدقه ويكون ضامناً، قال: وهذا فيه ضعف. وعبَّر في "البحر" عما قاله ابن الصباغ بأن القبض يكون مشروطاً بسلامة العاقبة. وحكى المراوزة وجهاً آخر: أن الحاجة تنزل منزل السؤال؛ لأن الزكاة مصروفة إلى جهة الحاجة لا إلى قوم معينين، والإمام [ناظر لها]، فإذا رأى المصلحة في الأخذ كان له ذلك. والصحيح الأول، وهو ما نص عليه في "المختصر"، وأشار إلى العلة بقوله: لأن فيهم أهل رشد لا يولَّي عليهم. ولم يحك العراقيون والماوردي غيره، لكن لم يضمنها، قال الماوردي: إن كان رب المال بصفة من تجب عليه الزكاة آخر الحول

ضمنها لأهل السهمان، وألا ضمنها له. وهذا يدل على أن رب المال إذا كان بصفة الوجوب آخر الحلو وقعت الموقع، وهو ما حكاه الفوراني حيث قال: إذا عجل الزكاة فتلفت في يده قبل الحول، ووجدت شرائط الزكاة في الدافع – فإنه يجزئ عنه، ويجعل كأنه أخرجها عند الحول. وقال القاضي الحسين في "تعليقه": [إن بهذا] أجاب القفال في المرة الثانية؛ لأن الشافعي – رحمه الله – قال: إذا مات المدفوع إليه قبل الحول يؤخذ المدفوع من ماله لأهل السهمان، ولولا أن الزكاة ساقطة عنه، وألا لما قبل أخذه لأهل السهمان، بل يأمره بتسليمه [إلى رب] المال؛ حتى تؤدي ثانياً كما لو عجل بنفسه. والذي قاله في المرة الأولى: أن الضمان واجب على الإمام من خالص ماله لرب المال، وعليه أن يعطي الزكاة، أما إذا كان المستسلف لهم أطفالاً، نظر: فإن كان الولي عليهم من يقدم نظره عليهم على نظر الإمام فهم كأهل الرشد، وإن كان هو وليهم فالحكم كما لو كانوا أهل رشد وتسلف بمسألتهم، صرح به الغزالي وغيره، قال الرافعي: وهو مفرع على جواز صرف الزكاة إلى الصغير، وفيه وجهان، سواء كان له من تلزمه نفقته أو لا؛ لأنه إن كان في نفقة غيره فالخلاف فيه مشهور يأتي في قسم الصدقات، وإن لم يكن فقد حكى ابن كج – وهو في "الحاوي" و"البحر" عن أبي إسحاق – أنه لا يجوز صرف الزكاة إليه؛ لاستغنائه عن الزكاة بالسهم المصروف إلى اليتامى من الغنيمة، وعن ابن أبي هريرة: أنه يجوز صرف الزكاة إلى قيِّمه، قال ابن كج: وهو المذهب. أما إذا قلنا: لا يجوز أن تصرف إليه، فلا تجيء هذه المسألة في سهم الفقراء والمساكين، ويجوز أن تجيء في سهم الغارمين ونحوه، لأن الخلاف في المكتفي بنفقة أبيه لا يتجه في سهم الغارمين؛ إذ ليس على القريب قضاء دين القريب. قل: ودعوى الرافعي أن الحكم [المذكور] مفرع على جواز صرف الزكاة إلى الصغير؛ لأن لنا وجهاً: أنه لا يجوز الصرف إليه مطلقاً بمقتضى [التقرير المذكور- فيها] نظر؛ لأن الصغير قد لا يكون في نفقة غيره، وهو من لا يصرف إليه من

نصيب اليتامى في الغنيمة شيء؛ بأن يكون له أب فقير؛ لأن فقر الأب مانع من وجوب نفقة ولده عليه، ووجوده مانع من صرف شيء إليه من نصيب اليتامى إذ اليتيم من لا أب له، والله أعلم. قال: وإن تسلف بمسألة الفقراء فهو من ضمانهم؛ لأنه وكيلهم وقبض بإذنهم، وهكذا الحكم فيما إذا تسلف بغير مسألة، أو بسؤال أرباب الأموال وسلمه إليهم، فتلف في أيديهم. ومعنى كونه من ضمانهم: أن رب المال لو خرج عن أن يكون من أهل الوجوب قبل تمام الحول، وخرجوا عن أن يكونوا من أهل الاستحقاق حالة الوجوب، أو وجد أحد الأمرين – كان عليهم الضمان، ولا يكون الإمام طريقاً فيما إذا تسلف بمسألة أرباب الأموال، وهل يكون طرياً إذا تسلف بمسألة الفقراء؟ قال الرافعي: فيه وهان، [أظهرهما – كما اقتضاه كلامه، والذي أورده] الماوردي وغيره فيما إذا خرج المالك عن أهلية الوجوب -: أن له مطالبة الإمام، وهو يرجع على القابض. وجزم القول بأنه إذا خرج القابض وحده عن [أهلية] الاستحقاق: أن الإمام يطالبه بها، ويصرفها في غيره ممن يستحقها، وكذا قاله البندنيجي وليس لرب المال استرجاعها؛ لأن إخراجها واجب عليه. وفي "التهذيب" حكاية وجه آخر: أنها لا تجزئ عن رب المال، قال: وعلى رب [المال] إخراجها؛ لأن ما دفع لم يقع عن الصدقة؛ فأشبه ما لو عجل الزكاة إلى الفقراء وخرجوا عن الاستحقاق. وعلى الأول قال الماوردي: فالواجب المثل الصُّوريُّ أو الحقيقي دون القيمة؛ لأنه يسترجعها في حق أهل السُّهمان؛ [فوجب أن يسترجع ما] يصرف مصرف الزكاة وهو العين دون القيمة، بخلاف ما إذا خرج رب المال عن صفة الوجوب؛ [فإنه يرجع في النقد بمثله، وفي الحيوان بالقيمة: [بقيمته] على وجه، وعلى آخر بالمثل

الصوري كما في القرض، وسنذكر من بعد ما ينازع فيه. ولو بقي رب المال على صفة الوجوب] وهم على صفة الاستحقاق إلى أن تم الحول، وقع المخرج عن زكاته، وقال الرافعي: فيه وجهان. أظهرهما: هذا. وهو المذكور في "الشامل" وتعليق" البندنيجي و"البحر" [و"الحاوي"] في أثناء [الكلام عن] تسلف الإمام الزكاة لرجلين، ووجهه: أن الإمام نائب الفقراء؛ فصار كما لو أخذوه وتلف في أيديهم. والثاني: لا؛ لأنه لم يصل إلى المستحين؛ فعلى هذا يؤخذ من الفقراء، وفي كون الإمام طريقاً وجهان. وهذا الوجه وفرعه يظهر مجيئهما من طريق الأولى فيما إذا خرج الفقراء عن صفة الاستحقاق وبقي رب المال بصفة الوجوب عليه وللإمام إذا اجتمعت عنده الزكاة: أن يصرف ذلك القدر إلى قوم آخرين عن جهة الذي تسلف منه، قاله الرافعي. واعلم أن الشيخ محيي الدين النووي – رحمه الله – قال: إن المراد بالفقراء هنا جميع أصناف الزكاة، وعادة الأصحاب إطلاق هذه اللفظة في مثل هذا السياق لإرادة الأصناف، وهو من باب التعبير بالبعض عن الكل، وخصوا به الفقراء؛ لأنهم أهم الأصناف. قلت: ويجوز أن يحمل كلام الشيخ وغيره من المصنفين في هذا المقام على حقيقته، وهو إرادة نفس الفقراء، لا غيرهم؛ لما ستعرفه أن للإمام أن يصرف زكاة الشخص الواحد لواحد من الأصناف الثمانية، ويؤيد ذلك أن الشافعي – رحمه الله – قال في "المختصر": لو استسلف الوالي لرجلين بعيراً، فأتلفاه وماتا قبل الحول فله أن يأخذ من أموالهما لأهل السهمان، ولو ماتا بعد الحول كانا قد استوفيا الصدقة. وقال الأصحاب: إن الحك كذلك فيما لو استسلف لأكثر منهما أو لأقل. وإذا كان كذلك فلا حاجة بنا إلى صرف اللفظ عن حقيقته، والله أعلم.

قال: وإن تسلف بمسألة أرباب الأموال فهو من ضمانهم، كمن بعث ما عليه على في شخص إلى مستحقه، فتلف في الطريق. نعم، إن فرط الإمام فيه رجع به عليه، وله في هذه الحالة عند بقاء المال في يد الإمام أن يسترجعه؛ لأنه كوكيله، أما إذا فرقه لأهل السهمان وهو باق في أيديهم وهم بصفة الاستحقاق، [وهو بصفة من تجب عليه – لم يكن له استرجاعه. نعم، لوخرج عن أن يكون من أهل الوجوب عليه والمدفوع إليهم عن أن يكونوا بصفة الاستحقاق] أو لم يخرجوا – فله الاسترجاع. ولو لم يخرج رب المال عن صفة من تجب عليه لكن خرج المدفوع إليهم عن صفة الاستحقاق – فله أن يسترجعها، وعليه صرفها في أهلها ومستحقيها فإن كانت باقية بحالها استرجعها بعينها، وهل يتعين عليه دفعها في الزكاة؟ فيه وحهان في "الحاوي". قال: وإن تسلف بمسألة الجميع فقد قيل: هو من ضمان الفقراء؛ لأن الحظ في تعجيلها لهم وفي القبض لمنفعتهم فكان الضمان عليهم كالمستعير، وهذا أصح في "الشامل" وغيرهن قال الرافعي: وإليه يميل كلام الأكثرين. وقيل: من ضمان أرباب الأموال؛ لانهم يملكون الدفع والمنع فقويت جنبتهم، وهذا أصح في "التتمة" و"العدة". وما ذكره الشيخ من إطلاق الخلاف، هو ما أورده الأصحاب، وهو ظاهر فيما إذا وقعت المسألتان معاً، واعتمد الإمام في الأخذ مجموعهما، وعليه ينطبق كلام الشيخ، أما إذا وقعت أحداهما بد الأخرى فقد يقال: ينبغي أن ينبني ذلك على خلاف حكاه افمام في باب الرهن والحميل فيما إذا كان عليه دين لشخصين وقد وكلا وكيلاً في قبضه منه، فقال من عليه الدين للوكيل: خذ هذا أو ادفعه إلى فلان – أحد الموكلين – فهل يكون هذا القول من الدافع عز لا للوكيل بالقبض عن حكم ذلك الموكل، وإن لم يصرح الوكيل بالقبول لما قال له ذلك، ويصير وكيلاً

للمؤدي، أو لا يكون عزلاً عن التوكيل بالقبض وإن أقبل الوكيل بالدفع على اللفظ الذي حكيناه؛ لأن يد الوكيل ليست منتهى القبض، ومعنى قبضه: أن يوصله إلى موكله، فإذا قال من عليه الدين ادفع هذا إلى موكلك، لم يكن ما قاله مضاداً للقبض؟ فإن قلنا: إنه يكون عزلاً – وهو الأفقه عند الإمام- فيكون الضمان فيما نحن فيه على السائل الأخير؛ لأنه إن كان رب المال فقد نظر من عليه الدين، وإن كان الفقراء فنحن إنما جعلنا إذن الدافع عزلاً للمضادة، وهي ثابتة هنا أيضاً؛ فتكون مسألتهم [عزلاً للإمام] عن وكالة رب المال. وإن قلنا: لا يكون عزلاً فإن اعتمد الإمام في الأخذ على إحدى المسألتين؛ لكونه رأى الحظ فيها أظهر – كان الاعتبار بها، وكذا فيما لو وقعت المسألتان معاً. وإن اعتمد على المسألتين جاء الوجهان المذكوران في الكتاب، والله أعلم. وكثير ما يقال: إذا تسلف بمسألة الجميع لم لا يكون الضمان عليهما إحالة على المسألتين، كما أبداه بعض المتأخرين احتمالاً؟ وجوابه: أنا عند انفراده المسألة جعلناها من ضمان السائل؛ [لأن الإمام وكيله فتجعل يده [يده فكأنه تلف في يده، ويستحيل] عند اجتماع المسألتين أن تكون يده نائبة عن كل منهما في حال التلف على كل العين؛ فكذلك امتنعت إضافة الضمان إليهما والله أعلم. أما إذا تلف بعد تمام الحول والدافع ممن تجب عليه تلك الزكاة فقد سقطت الزكاة في الصور كلها، ويجيء في المسألة وجه [آخر] مماسنذكره في آخر الباب، وهل يضمنه الإمام؟ ينظر: إن فرط في الدفع إليهم ضمنه لهم من مال نفسه، وإلا فلا ضمان على أحد وليس من التفريط أن ينتظر انضمام غيره إليه؛ لقلته ولانشغاله بتعرف أحوالهم وقدر حاجتهم. نعم، منه [ما] إذا عرف ذلك مع كثرة المال ولم يفرقه، سواء طالبوه بذلك أو لا، وليس كالوكيل إذا لم يطالبه موكله بما في يده؛ فإنه لا يضمنه؛ لأن الموكل متعين، والمساكين غير متعينين؛ فله أن يحرم البعض دون

البعض فلا معنى لطلبهم، فإذا لم يفعل علمنا أنه مفرط. ولو تسلف الإمام لأهل السهمان مالاً على ذممهم قرضاً ممن تجب عليه الزكاة، أو [ممن] لا زكاة عليه – فالأحوال أربعة أيضاً: إن كانوا أهل رشد، ولا مسألة ولا حاجة ضمنهن سواء دفعه إليهم وتلف في أيديهم، أو تلف في يده بتفريط [أو غير] تفريط. نعم، هل يرجع الإمام بالغرم على الأخذ منه؟ ينظر: إن دفعه إليهم متبرعاً فلا، وإن أقرضهم إياه فنعم؛ لأنه أقرضهم مال نفسه. وإن كان بهم حاجة فوجهان: أحدهما: أن الحكم كما لو تسلف بإذنهم، وخصه القاضي الحسين [وكذا] الفوراني بما إذا كانوا بحيث [لو] لم يستقرض لهم لهلكوا. وأصحهما: لا؛ فعلى هذا يكون الضمان عليه، فإن أقبضه لهم وتلف في يدهم كان عليهم وعليه، وهو طريق فيه. فإذا أخذ الزكوات، والمدفوع إليه بصفة الاستحقاق فله أن يقضيه منها، وله أن يحتسب ذلك من صدقة الدافع إن كان عليه صدقة. وإن لم يكن المدفوع إليه بصفة الاستحقاق بموت أو ردة أو يسار قضي ذلك من ماله ويرجع على المدفوع إليه إذا أمكن، ولا يجوز أن يقضي ذلك من أموال الزكاة. نعم، لو مات فقيراً ففي "تعليق" القاضي الحسين أن أصحابنا قالوا: لو حال الحول على واحد من المسلمين، ولم يحل [على سائر] المسلمين، فمات المقترض له بعد حول الحول على هذا الرجل، وقبل حول الحول على سائر المسلمين – يجوز للإمام أن يقضي دين ذلك الفقير من مال من حال عليه الحول في حياته. ثم قال: وهذا ... إنما يتصور إذا كانوا محصورين معدودين وقد حكى الإمام مثل هذا القول عن الشيخ أبي بكر – رضي الله عنه – يعني ابن الحداد – فيما إذا حلت صدقة زيد، والمستقرض من المساكين الذين يحل لهم أخذ الصدقة لدينه، ثم

استغنى بجهة أخرى، أو ارتد، فحلت صدقة عمرو – [أنه تصرف إلى دينه صدقة زيد، ولا تصرف إليه صدقة عمرو]. قال: وهذا ليس بشيء؛ فإنه مديون عليه دين لا يتعلق بزكاة زيد ولا عمرو؛ فينبغي أن يكون النظر إلى صفة حاله حالة الأخذ، سواء كان من صدقة زيد أو عمرو وإنما يتجه ما قاله إذا منعنا نقل الصدقة وانحصر المستحقون، ثم فرض التغاير بعد الاستحقاق. ولو كان الإمام قد تسلف بمسألتهم فهو وكيلهم في الإقراض والضمان؛ فالضمان عليهم [على أظهر الوجهين]، سواء تلف في يده أو في يدهم، لكن هل يكون طريقا ًللضمان؟ ينظر: إن علم المأخوذ منه ذلك فلا على أظهر لوجهين، وبه جزم وبه جزم القاضي الحسين، وهو المحكي في "الإبانة" عن القفال؛ بل يرجع عليهم فقط. ومقابله: أنه يكون طريقاً كالوكيل بالشراء؛ فإنه طريق في المطالبة بالثمن على ظاهر المذهب، كما ستعرفه في باب الوكالة. وإن ظن المأخوذ منه أنه يستقرض ذلك لنفسه، أو للمساكين ابتداء من غير مسألتهم، ولا حاجة بهم، فتلف في يده – كان الضمان عليه، صرح به الفوراني، ولا مطالبة [له] على المساكين. وإن تسلف بمسألة أرباب الأموال فلا ضمان على أحد، وإن تسلف بمسألة الجميع ففيه الوجهان. قال: وإن عجل شاة، أي: جارية في الحول، عن مائة وعشرين، ثم نتجت شاة، أي: منها، سَخْلَةً قبل الحول – ضم المخرج إلى ماله، ولزمه شاة أخرى؛ لأن المخرج كالباقي على ملكه؛ ولهذا لا ينقطع الحول بإخراجه من نصاب فقط، كما إذا ملك أربعين من الغنم، فأخرج منها شاة؛ فإن الحول لا ينقطع، ولولا أنها كالباقية على ملكه لانقطع، وإذا كان كالباقي على ملكه وجبت شاة أخرى كما لو لم يخرجها.

فإن قيل: لا نسلم أنه إذا اخرج شاة من أربعين لا ينقطع الحول، وهو مذهب أبي حنيفة. قلنا: ذاك مذهبنا، وحجته: أنه – عليه السلام – حين رخص للعباس لم يستفصل عن ماله: هل هو نصاب أو أكثر منه، ولأنا إنما جوزنا التعجيل إرفاقاً بأهل السهمان؛ فلا يجوز أن يصير سبباً لإسقاط حقوقهم. فإن قلت: إذا قدرت أن المخرج كالباقي على ملك المخرج فهل ملكه أهل السهمان؟ فإن قلت: ما ملكوهن فكيف ينفذ تصرفهم فيه؟ وإن قلت: ملكوه، فكيف تجعله باقياً على ملك المخرج؟ قلنا: إذا تم الحول على السلامة حكمنا بملك أهل السهمان من حين القبض، وجعله على ملكا لمخرج تقديراً؛ حتى يكون مجزئاً عن زكاته [و] يكمل به النصاب رفقاً بأهل السهمان، [والثاني: الحكم بكون الملك للمخرج حقيقة مع انتقاله لأهل السهمان]، وهذا ملخص ما حكي عن صاحب "التقريب"، وبه يندفع السؤال، على أن لقائل أن يقول ببقاء ملك رب المال حقيقة، وإن نفذنا تصرف أهل السهمان فيه، كما ذهب إلى مثله الشيخ أبو محمد [في] أن القيمة المأخوذة لأجل الحيلولة لا يملكها المغصوب منه وإن نفذنا تصرفه فيها، أما إذا تغير الحال فكلام الشيخ في "المهذب" وغيره الذي سنذكره عند هلاك الفقير قبلا لحول: أن الحكم فيه كذلك، وكلام الغزالي وطائفة يقتضي خلافه، وسنذكره إن شاء الله. والحكم فيما إذا عجل شاتين من مائتين، ثم نتجت شاة سخلة قبل الحول- كما تقدم؛ فيلزمه شاة أخرى. أما لو كانت المعجلة غير جارية في الحول؛ لكونه ابتاعها فأخرجها، أو كنات معلوفة- فلا يلزمه شيء آخر، صرح به الرافعي والقاضي الحسين.

تنبيه: قوله: "ثم نتجت شاة سخلة"، [هو بضم النون وكسر التاء، و"شاة" مرفوع، و"سخلة" منصوب، ومعناه: ولدت شاة [سخلة]، والسخلة: بفتح السين المهملة، وإسكان الخاء المعجمة، وجمعها: سخالٌ – بكسر السين – وسخل، وهو من ولد الضأن والمعز: يطلق على الذكر والأنثى من حين يولد إلى أن يستكمل أربعة

أشهر، فإذا بلغتها وفصلت عن أمها فأولاد المعز جفار الواحدة: جفرة، والذكر: جفر، فإذا رعى وقوي فهو عتود، وجمعه: عدان، وهو في ذلك جدي، والأنثى: عناق – بفتح العين – ما لم يأت الحولن وجمعها عنوق، فإذا أتى عليه حول فالذكر: تيس، والأنثى: عنز. قال – رحمه الله -: وإن نقص النصاب قبل الحول، [أي] مثل أن كان أربعين من الغنم، وقد عجل منها شاة، وتلفت أخرى أو باعها، وكان لدين أنها زكاة معجلة – جاز له أن يسترجع؛ لأنه دفع ذلك على أنه عجل ما يجب عليه؛ فظهر أنه غير واجب فكان له استرداده؛ كما لو عجل أجرة دار فانهدمت قبل انقضاء المدة، وللمراوزة وجه آخر حكاه الشيخ أبو محمد: أنه لا يكفي التصريح بأنها معجلة في الاسترجاع بل لابد من التصريح بالرجوع عند طرآن ما يمنع الوجوب أو الإجزاء، كما إذا قال: هذه الدراهم عن زكاة مالي الغائب، وكان تالفاً؛ [فإنه] لا يسترجع إلا إذا شرطه بتقدير تلف الغائب. والذي أورده المعظم وهو الأصح: ما ذكره الشيخ، لما ذكرناه. قال الصيدلاني: وفي قوله: إنها معجلة، تعرض لشرط الرجوع إن عرض مانع؛ فهو كمسألة الغائب. وهذا غير واضح كما ينبغي. وقرب الإمام الوجهين في المسألة من القولين فيما إذا نوى الظهر قبل الزوال هل تنعقد صلاته نفلاً أم لا؟ ثم حيث قلنا: له الاسترجاع، نظر: فإن كان ما دفعه باقياً بحاله أخذه، وفيه احتمال يأتي [مأخذه]، والذي أورده الجمهور: الأول، قال الإمام: ولا حاجة عندي إلى نقض الملك والرجوع فيه، بل ينتقض الملك أو يبين [أن] الملك في أصله لم يحصل أو حصل ثم انتقض، وليس كالرجوع في الهبة؛ فإن الراجع بالخيار إن شاء

أدام الملك المتهب، وإن شاء رجع وليس لملك القابض وجه إلا وقوع المقبوض عن جهة الزكاة، فإذا امتنع وقوعها زال الملك، ولو قدرنا وقوعها نقلاً إذا لم تقع فرضاً فموجب هذا: امتناع الرجوع والاسترداد، وتفريعنا على ثبوت الرجوع، وكذا يرجع فيما دفعه إن كان زائداً زيادة متصلة، وإن كانت الزيادة منفصلة وقد حصلت قبل السبب الموجب للرجوع رجع فيه دون الزيادة، على الأصح، ولم يورد العراقيون والماوردي غيره، وهو المحكي في "تعليق" القاضي الحسين عن النص. وحكى المراوزة وجهاً آخر: أنه يسترد الزيادة مع الأصل، وهو ما اقتضى إيراد "الوجيز" ترجيحه، وقال في "الوسيط": إن مأخذ الخلاف تردد الأداء بين وجود التمليك [وعدمه، أو هو] تمليك لا محالة، لكنه متردد بين الزكاة والقرض وهنا احتمالان ظاهران: فإن قلنا: إنه متردد بين التمليك وعدمه، فقد بان أنه لا تمليك؛ فيرد بزوائده. وإن رددناه بني القرض والزكاة التفت على أن القرض يملك بالقبض أو بالتصرف؟ وشرح هذا الكلام: أن الأداء هل هو يملك ملكاً موقوفاً [مراعّى]، فإن تم الحول مع سلامة الحال تبينا أن ملك [المعطي لم يزل، أو نقول: الأداء يملك] حين القبض، وإن تغير الحال فظهر أن الزكاة لم تقع موقعها تبينا أن ملك المعطي لم يزل، أو نقول: الأداء يملك لا محالة في الحال، لكن على أي وجهي ملك؟ الأمر فيه مرقوف مراعى: فإن تم الحول على السلامة تبينا أنه [ملك حين القبض، وإن تغير الحال فظهر أن الزكاة لم تقع موقعها تبينا أن] ملكه زكاة، وإن تغير الحال تبينا أنه ملكه فرداً، وهذان الاحتمالان حوم عليهما صاحب "التقريب"، ولم يصرح بهما الأصحاب. فإن قلنا بالاحتمال الأول أخذت الزيادة مع الأصل؛ لأنا تبينا حصولها على ملك رب المال، ولو كان الآخذ قد باع ما أخذه فقياسه أن يبين أن التصرف مردود

منتقض، وبه صرح في "الوسيط". وإن قلنا بالثاني – وهو الذي صرح به القاضي الحسين والفوراني فقد بان أن الأداء مملك على جهة القرض، والقرض متى يحصل الملك فيه: [هل] بالقبض أو بالتصرف المزيل للملك؟ قال الإمام: فيه قولان: أصحهما: بالقبض؛ فعلى هذا يأخذ الأصل دون الزيادة إن رضي الآخذ بذلك، وإن لم يرض وبذل [بدل] العين [كان له كما في مثله في القرض، كذا قاله الإمام ومن تبعه، وهو جار فيما إذا لم تزد العين] ولم تنقص، وفيما إذا زادت زيادة متصلة من طريق الأولى. وقد حكى بضهم في القرض أن المقرض يأخذه إذا كان باقياً وإن قلنا: إن المستقرض قد ملكه بالقبض كما ستعرفه في موضعه – وصححه الجمهور، ولعل جوابهم ها هنا مفرع عليه، والله أعلم. والثاني: بالتصرف المزيل للملك؛ فعلى هذا يأخذ الأصل والزيادة إذ لا ملك، ولك أن تقول: سيأتي في باب القرض أن التصرف المملك للقرض ما هو فيه ثلاثة أوجه: أحدها [هذا]، والثاني: كل تصرف يتعلق بالرقبة، والثالث: كل تصرف [يستدعي الملك]، فعلى هذا والذي قبله ينبغي أن يلاحظ: هل صدر ذلك التصرف من القابض أو لا؟ فإن لم يحصل [ترد الزيادة]، وإلا فلا، وعلى ذلك خلص الغزالي بقوله: التفت، إلى أن القرض يملك بالقبض أم بالتصرف؛ وإن كان ناقصاً [نقصان] وصف كما قال الإمام أخذه، وهل يأخذ معه أرش النقص ممن لو تلف في يده ضمنه؟ فيه وجهان في الطريقين، أقيسهما في "الوسيط": أخذه، واختيار القفال: لا، وهو ما يقتضي كلام أبي الطيب ترجيحه، وصرح غيره بتصحيحه، وحكى عن ظاهر نصه في "الأم"، وبه جزم الماوردي؛ لأنه نقص حدث في ملكه فلا يضمنه، وإن كان يضمن كل العين لو تلفت، كالبائع إذا استرد المبيع، وقد نقص

عند الإفلاس: ليس له الأرش، وكالمشتري إذا رد المبيع بعيب والثمن باق، لكنه حدث فيه عيب: ليس له إلا المعيب كما قال القفال، قال الإمام: وهذا مشكل؛ فإلزامه الرضا بالشيء، المعيب بعيد، وإنما الذي قاله الأصحاب: أنه لو وجد بالمبيع عيباً وتمكن من الرد، فرضي لا أرش له، وقد ذكرت شيئاً يتعلق بذلك في باب التحالف فليطلب منه. وبنى الفوراني والقاضي الحسين الوجهين على الخلاف السابق في أن القرض متى يملك؟ فإن قلنا: بالقبض، فلا يغرم، وقد قال الإمام في باب اختلاف المتبايعين: إن الشافعي – رحمه الله – قال: يخرج الإمام [من المال العام] أرش النقص ويضمه إلى الشاة، ولا يكلف المسكين غرم العيب. وإن بعض الأصحاب ذهب إلى القول بظاهره، وإنه خيال لا أصل له، والوجه: حمل النص على الاستحباب عند اتساع المال. ثم هذا يجزئ في القيمة لو تلفت الشاة، أما إذا نقص المخرج جزءاً متميزاً كإحدى الشاتين، أخذ بدله بلا خلاف؛ وما هو؟ سيأتي الكلام فيه. ولو كان المخرج تالفاً بجملته استرجع بدله إما من الإمام أو من الفقراء، على ما تقدم، وللإمام أن يدفعه من أموال الزكاة إن بقي الآخذ بصفة [استحقاق الزكاة] عند آخر الحول، لكن ما هو البدل؟ ينظر: إن كان المخرج مثلياً فالمثل، وإن كان متقوماً كالشاة والبعير ونحوهما فهل هو المثل الصوري أو القيمة؟ فيه وجهان في "الحاوي" كما في القرض. قلت: وهذا منه نظر إلى أن الأداء يملك على جهة القرض كما تقدم، وعليه أشار إليهما الإمام في موضع من كتابه، ومقتضى الاحتمال الآخر – وهو أن الملك موقوف على ما يظهر آخراً – [أن يضمنه] بالقيمة جزماً، وهو ما أورده البندنيجي وغيره من غير بناء.

ثم إذا أوجبنا القيمة فبأي وقت يعتبر؟ فيه أوجه: أحدها: قيمته وقت القبض، وهو ما حكاه القاضي أبو علي البندنيجي عن المذهب، وصححه الماوردي، وذلك مفرع على قولنا: إنه تملك ذلك قرضاً بالقبض. [والثاني:] قيمته يوم التلف كالعارية، وحكى البندنيجي عوضه قيمته يوم الاسترجاع، فإن صح [ذلك] كان ثالثاً. والرابع – حكاه القاضي الحسين -: أقصى القيم من يوم القبض إلى يوم التلف كالغاصب، وهذا ما حكاه مع الوجه الثاني؛ بناء على أنه لا يملك إلا بالإتلاف. وأبدى الإمام ضمان أقصى القيم وجهاً محتملاً لنفسه؛ بناء على أن ملك القابض موقوف، فإن تم الحول على السلامة تبينا أنه ملك حين قبض، وألا تبينا أنه لم يملكه، قال: فقد ذكرنا مثله في المستعير والمستام، لكنه بعيد في هذا المقام مع ثبوت ظاهر الملك [للقابض]. فروع: إذا أتلف المالك النصاب أو بعضه بعد التعجيل، فهل يكون الحكم ما لو تلف بنفسه حتى يسترجع؟ فيه وجهان [في الطريقين]، أصحهما: نعم، والثاني: لا؛ لأنه يريد نقض الأداء بقصد. قيل: وقضية هذا التعليل: ألا يجري هذا الوهج فيما

إذا أتلفه إنفاقاً أو لحاجة؟ إذا عجل شاة من أربعين، ثم ماتت واحدة ونتجت واحدة: فإن كانت النتاج بد الموت فالحكم كما لو لم تنتج، وإن كان [النتاج] قبل الموت [أو] معه وقعت الزكاة موقعها، حكاه البندنيجي عن ابن سريج، وحكى القاضي أبو الطب عن الماسرجسي فيما إذا مات جميع الباقي بعد المعجلة، وقد أنتجت قدرها من السخال – وجهين: أحدهما: أن المخرج وقع موقعه. والثاني: لا. ويظهر أن يكون مأخذه مذهب الأنماطي، وإذا كان كذلك جرى في الصورة الأولى قطعاً إذا مات المعجل قبل الوجوب فهل يقع المعجل زكاة أم لا؟ إن قلنا: إن الوارث يبني على حول الموروث، فنعم، ويجزئ عن الوارث، فإن تعدد [الوارث] ثبت حكم الخلة بينهم إن كان المال ماشية أو غير ماشية، وقلنا بثبوت الخلطة فيه، وإن قلنا: لا تثبت، ونقص نصيب كل واحد عن النصاب – انقطع الحول،

ولا تجب الزكاة على المشهور، وعن صاحب "التقريب" وجه آخر: أنهم يجعلون كالشخص الواحد وكأنهم عين المتوفى؛ فيستدام حكمه في حقهم. وإن قلنا: لا يبني الوارث على حول الموروث، فإذا حال الحول من حين ورث فهل يجزئ عن الوارث؟ حكى البندنيجي فيه وجهين: أحدهما: نعم؛ عملاً بظاهر نصه في "الأم"؛ فإنه نص على الإجزاء. والثاني: لا، وقال قائله: نصه في "الأم" جوابٌ على أن الوارث يبني. وعن الشيخ أبي حامد أنه قال: ما أشبه هذا بما قلناه في تقديم الصدقة عامين فأكثر، فمن قال بالمنصوص فيها –وهو قول أبي إسحاق – أنه يجوز عامين، قال هنا: [فالمنصوص] أنها تقع موقعها، ومن قال: لا يجوز تقديم صدقة عامين، قال هنا: لا تقع موقعها. وقد نسب الإمام الوجهين إلى تخريج صاحب "التقريب" من الأصل المذكور، وقال: إنه محتمل، ويجوز أن يقال: لا يقع المخرج عن الوارث، [وهو الظاهر]؛ فإن مالك جديد لا ينبني حوله على الحول الماضي، وليس كسنتين في حق مالك واحد. قال: وإن هلك الفقير، أو استغنى [من غير الزكاة] قبل الحول – لم يجزئه عن الفرض؛ لأنه تبين أنه لم يصرفه إلى المستحقين، وظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق [في ذلك] بين أن يفتقر بعد ذلك، ويدوم فقره إلى آخر الحول، أو يدوم غناه إلى آخر الحول، وهو وجه للأصحاب مقيس على ما إذا كان غنياً عند الدفع إليه [فقيراً آخر الحول؛ فإنه لا يجزئ بلا خلاف، لكن الأصح فيما إذا تخلل غناه، وكان عند آخر الحول] فقيراً: أنه يجزئه عن الفرض. وقد نظر القاضي الحسين الخلاف في المسألة بالخلاف في صورتين: أحداهما: إذا تخلل بين الرهن والإقباض جنون، هل يكون مبطلاً للعقد أم لا؟ وفيه وجهان.

الثانية: إذا فاتته صلاة في السفر، فهل يجوز إذا قضاها في سفر آخر تخلل بينه وبين الأول حضر أن يقصر؟ وفيه وجهان: ولو كان غناه بالزكاة التي أخذها أجزأته عن الفرض وفاقاً؛ لأنه المقصود بالدفع إليه، وكذا لو هلك أو استغنى بعد الحول أجزأته وفاقاً، اللهم إلا أن يعجل بنت مخاض عن خمس وعشيرن من الإبل، فبلغت بالتوالد ستا ًوثلاثين قبل الحول؛ فلا يجزئه بنت المخاض المعجلة، وإن صارت بنت لبون في يد القابض، بل يستردها ويخرجها ثانياً، أو بنت لبون أخرى. وقال في "التهذيب" [من عند نفسه]: لو كان المخرج هالكاً، والنتاج لم يزد على أحد عشر كان مع المخرج ستاً وثلاثين – وجب ألا تجب بنت لبون؛ لأنا إنما نجعل المخرج كالقائم إذا كنا نحتسبه من الزكاة، وهاهنا لا يحتسب من الزكاة؛ فيصير كهلاك بعض المال قبل الحول. ولو وقع الشك [في موت] الفقير قبل الحول أو بعده؛ ففي الإجزاء وجهان في "الحاوي". قال: .............. ؛ لما تقدم، وفيه الوجه السابق في اشتراط التصريح بالرجوع أو الاسترجاع. ثم ظاهر كلام الشيخ: أن المعجل هو المسترجع، وكذا كلام القاضي أبي الطيب؛ فإنه قال كما قال الشيخ، وكلام القاضي الحسين الذي حكيناه من قبل مصرح به إذا كان الدفع من رب المال إلى الفقير، وهي صورة الكتاب، كما ستعرفه من بعد. ويوافق ذلك ما حكيناه فيما إذا تسلف الإمام الزكاة بمسألة أرباب الأموال وسلمها للفقراء، ثم خرجوا عن صفة الاستحقاق، وأن لرب المال استرجاعها، وإذا كان كذلك في صورة عجلها وكيله – وهو الإمام – فكذلك إذا عجلها هو من طريق الأولى، ويعود الكلام السابق في الفصل قبله، [في أنه] يسترجعها إن كانت باقية بحالها أو زائدة أو ناقصة، أو بدلها إن كانت تالفة، وما هو البدل - على نحو ما

سبق، ويظهر أن يجيء الخلاف السابق في أنه هل يتعين عليه صرفها بعينها إذا استرجعها سالمة من العيب أم لا؟ وطرآن الردة قبل الحول كطرآن اليسار والموت قبله. أما إذا لم يبين أنها زكاة معجلة: فإن علم القابض أنها معجلة فالحكم كما لو بين، وإن لم يعلمه فلا استرجاع في هذه الأحوال، ولا في حالة نقص النصاب قبل الحول إذا كان رب المال هو الدافع بنفسه، كذا قاله العراقيون، وحكى عن نصه في "المختصر"، وأنه نص فيه [فيما] إذا كان الإمام هو الدافع: أنه يسترجع وإن لم يبين أنها زكاة معجلة، وبه قال العراقيون، واختلف المراوزة في النصين على طرق: إحداها: تقرير النصين كما صار إليه العراقيون، وهي أصحها، والفرق بين رب المال والإمام من وجهين: أحدهما: أن الإمام جعل حال الفقراء إلى اجتهاده؛ فربما احتاجوا فأعطاهم الزكاة الواجبة والزكاة المعجلة، فإذا استرجعها منهم لم يكن متهماً فيها، وليس كذلك رب المال، والظاهر: أن ما أعطاهم واجب أو تطوع؛ فتلحقه التهمة في استرجاعه. والثاني: أن الإمام إذا استرجع الزكاة فلا يسترجعها لنفسه [وإنما لغيره، وليس كذلك رب المال؛ فإنه يسترجع الزكاة لنفسه] فكان متهماً فيه. وفرق الرافعي بأن المالك يعطي من ماله الفرض والتطوع، فإذا لم يقع عن الفرض وقع عن التطوع، والإمام يقسم مال الغير فلا يعطي إلا الفرض؛ فكان مطلق دفعه كالمقيد بالفرض. والثانية: تخريج قول من كل صورة إلى الأخرى، وجعلهما على قولين. والثالثة: إلحاق الإمام برب المال في عدم الاسترجاع عند عدم الاشتراط؛ لأن الإمام يتصدق بمال نفسه كما يفرق مال الغير، وبتقدير ألا يقسم إلا الفرض، لكنه قد يكون معجلاً، وقد يكون في وقته، وهؤلاء حملوا نصه فيه على ما إذا وقع بغرض التعجيل.

قال الرافعي: وهذا الطريق هو الذي أورده الجامعون لطريقة القفال واختياراته، وصححها في "الإبانة"، وذكر في "الشامل" أن الشيخ أبا حامد حكاها أيضاً، والأظهر: أنه لا يثبت الرجوع سواء أثبتنا الخلاف أو لا، وهو فيما إذا دفع بنفسه أولى وأظهر. والطرق المذكورة باتفاق ناقليها جارية فيما إذا دفع وهو ساكت، أما إذا قال حالة الدفع: هذه زكاتي أو صدقتي، كان بمثابة ما لو ذكر التعجيل، ومنهم من قال: الحكم كما لو دفع وسكت، وعليها جرى القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين. وقد سلك القاضي الحسين في حكاية الطرق مسلكاً آخر فقال: إذا دفع الزكاة ولم يقل: هذه عن زكاتي المعجلة، فلا خلاف أنه لا يرجع، فأما إذا قال: هذه عن زكاتي المعجلة، فقد نص الشافعي -رحمه الله - في رب المال في "المختصر": أنه لا يرجع. وقال في الإمام في ["المختصر": إن له أن يسترجع]. واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق:

منهم من جعل المسألة على قولين. ومنهم من قال: المسألة على اختلاف الحالين: حيث قال له الرجوع، إذا شرط الرجوع، وحيث قال: ليس له الرجوع، إذا لم [يشرط الرجوع]. ومنهم من أجراهما على ظاهرهما، وفرق بما ذكرناه. ثم حيث قلنا بأن له الاسترجاع وإن لم يبين أنها [زكاة] معجلة، ولا علمه القابض – فمهام قال الدافع: قصدت التعجيل، ونازعه القابض، فالقول قول الدافع مع اليمين، فإنه أعرف بنيته، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهته. وإن قلنا: لابد من التصريح [بأنها معجلة ويكفي، أو لا بد مع ذلك من التصريح] باشتراط الرجوع عند تغير الحال، واختلف الدافع والقابض في ذكر ذلك – فمن القول قوله؟ فيه وجهان في "الحاوي" وغيره: أحدهما: أن القول قول المؤدي؛ كما لو دفع ثوباً إلى غيره فقال: هو عارية، وقال الآخر: [هو] هبة – فإن القول قول الدافع، وهذا ما حكاه القاضي الحسين. والثاني – وهو الأظهر، ولم يورد البندنيجي وصاحب "العدة" غيره -: أن القول قول القابض؛ لأن الأصل عدم الاشتراط وذكر التعجيل، والغالب أن الأداء في الوقت، ولأنهما اتفقا على انتقال الملك والأصل استمراره. والخلاف جار فيما لو تنازع الإمام والقابض، وقلنا: إن الإمام كالمالك، كما أشار إليه في "التهذيب". ثم على القول بأن القول قول القابض، فهل للدافع تحليفه فيما إذا كان الدافع قد قال حال الدفع: هذه زكاتي؟ فيه وجهان جاريان فيما لو وقع النزاع بين الدافع وورثة القابض كما قال الماوردي، وقال أبو الطيب: إنهما مبنيان على ما إذا أقر عند الحاكم بأني اشتريت من هذا شيئاً وأقبضته به رهناً ثم رجع فقال: أحلفه إنه قبض الرهن- فهل له تحليفه؟ فيه وجهان. تنبيه: قول الشيخ –رحمه الله – "لم يجزئه عن الفرض"، مقتض لإيجاب إخراج

الفرض ثانياً، سواء استرجع أو لم يسترجع، وعبارته في "المهذب" أصرح في هذا المعنى؛ فإنه قال: إذا مات الفقير أو ارتد قبل الحول لم يجزئه المدفوع عن الزكاة، وعليه أن يخرج الزكاة ثانياً، وهل يسترجع؟ وساق الكلام، ولا شك في أن الحكم كذلك إذا بقي المال بعدما عجل منه نصاباً، أما إذا لم يبق فينظر: فإن كان في صورة [لا] يثبت له فيها الاسترجاع [فقد قال الأصحاب: إنه لا يجب عليه شيء، وإن كان في صورة يثبت له فيها الاسترجاع] واسترجع – نظر: فإن كان المسترجع عين المدفوع وهو ذهب أو فضة، وإذا ضمه إلى ما عنده بلغ النصاب – وجبت فيه الزكاة؛ لأنه قبل أن يموت الفقير كان كالباقي على حكم ملكه، ولما مات صار كالدين في ذمته، والذهب والفضة إذا صارا ديناً لم ينقطع الحول فيه؛ فضمه إلى ما عنده وزكاه [كذا] قاله في "المهذب". وإن كان الذي عجله شاة؛ ففيه وجهان: أحدهما: يضمه إلى ما عنده كما لو كان ذهباً أو فضة، وهذا ما ادعى البندنيجي [أنه المذهب]، موجهاً له بأن الشاة وإن ملكها الفقير فهي في حكم ملك رب المال. والثاني: لا؛ لأنه لما مات صار كالدين، والحيوان إذا صار ديناً لم تجب فيه الزكاة، بخلاف الذهب والفضة. ويأتي فيما إذا كان ذهباً أو فضة وجه: أنه لا يضم؛ بناء على أن الدين لا زكاة فيه؛ ولأجل ذلك حكى الإمام عن العراقيين في مجموع المسألتين ثلاثة أوجه أشار إليهما البندنيجي، ثالثها: الفرق بين الماشية وغيرها؛ لما ذكرناه؛ قال: وهذا خبط لا صدور له عن معرفة القواعد، [ولعلم صوَّروه] فيما إذا كان القابض أتلف

الشاة، فإن كان كذلك فلا معنى لترديد القول في ذلك فن المواشي إذا كانت ديوناً لا تجب الزكاة فيها قطعاً. وبنى صاحب "التقريب" ذلك في الماشية على الاحتمالين السابقين، فقال: إن قلنا بالثاني وهو أن الفقير قد ملك حين القبض لا محالة، والزوائد له – فلا تجب هاهنا زكاة ما مضى، بل يستأنف الحول من حين العود؛ فإنا تقدر زوال الملك عنها ثم العود عند الاسترداد. وإن قلنا [بالاحتمال] الأول- وهو أن الملك موقوف على ما تبين – فقد بان أن الملك لم يزل؛ فإذا رجعت الشاة بعينها وجبت الزكاة، قال الإمام: وهذا هو الوجه مع الالتفات في تلك الشاة التي يتسلط القابض على التصرف فيها، [على] المال المغصوب والمحجور، وهو الذي أورده العراقيون. قلت: وينبغي أن يلتفت على القولين في المغصوب – أيضاً – إذا لم يثبت له الاسترجاع، حيث دفع ولم يبين أنها زكاة مجلة ولا صدقة القابض في نية التعجيل، وكان الحيوان المعجل باقياً؛ لأنه بزعمه ملكه [ومن] هو في يده غاصب غير آثم. فإن قلنا: إن الزكاة لا تجب في المغصوب فالأمر كما قاله الأصحاب، [وإن قلنا: تجب فيه لكن لا يجب الإخراج إلا بعد العود، فيخرج هاهنا الزكاة عما في يده بالحصة، إذا قلنا: إنه لو استرجع أخرج زكاة الجميع، كما قاله الأصحاب] فيما إذا غصب بعض النصاب، وتم الحول قبل الاسترجاع، والله أعلم. وإن كان المسترجع بدل المدفوع؛ لكونه تالفاً: فإن كان دراهم أو دنانير عن دراهم أو دنانير، قال الماوردي: فالحكم كما لو استرجع عين المدفوع وهو دراهم أو دنانير. وإن كان دراهم أو دنانير قيمة عن شاة مثلاً إذا قلنا: إن الواجب عند تلفها رد القيمة، استأنف الحول، وهو ما حكاه البندنيجي، [و] عن القاضي ابن كج، عن أبي إسحاق: إقامة القيمة مقام العين هاهنا؛ مراعاة لجانب المساكين.

وإن كان البدل شاة عن شاة؛ تفريعاً على قولنا: إن الواجب المثل الصوري - قال الماوردي: فيستأنف الحول أيضاً. وجريان وجه أبي إسحاق فيه من طريق الأولى. وهذا إذا كان رب المال هو الدافع للفقراء بنفسه، فلو وقع التعجيل للإمام بمسألة الفقراء فقد تقدم أن المسترجع عند تغير حال القابض وبقاء رب المال [بصفة الوجوب: هو الإمام دون رب المال]، وأنه يصرف المسترجع لمستحقه، ولا يأخذ عند تلف المدفوع في يد القابض إلا مثله، سواء كان من ذوات الأمثال أو من ذوات القيم. وفي "الرافعي" أنه إذا استرجع عين المعجل هل يصرفه إلى المستحقين دون إذن جديد من رب المال؟ فيه وجهان في "التتمة"، أظهرهما - وهو المذكور في "التهذيب" - له ذلك. وإذا أخذ القيمة عند تلفه فهل يجوز صرفها إلى المستحقين؟ فيه وجهان؛ لأن دفع القيمة لا يجزئ، فإن جوزناه - وهو الأظهر- فهل يحتاج إلى إذن جديد؟ فيه وجهان، وهذا تصريح بضمان المأخوذ بالقيمة إذا كان من ذوات القيم في هذه الحالة أيضاً. والله أعلم بالصواب. قال الشيخ - رحمه الله - ومن وجبت عليه الزكاة في الأموال الباطنة، وهي [من] الناض وعروض التجارة والركاز - جاز له أن يفرق ذلك بنفسه؛ لقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] فجعل كلا الأمرين مخيراً فيه؛ ولأنه مال مخرج على وجه الطهرة؛ فجاز أن ينفرد أربابه بإخراجه كالكفارات، وقد ادعى المحاملي الإجماع في ذلك، وعبارة الماوردي أن ذلك قول الجمهور. قال: وبوكيله؛ لأنه حق مالي؛ فجاز أن يوكل في أدائه كديون الآدميين، وقد رأيت في "تعليق" القاضي أبي الطيب في [باب] دخول مكة عند الكلام في إحرام الولي عن الصبي: أن زكاة الفطر لا تدخلها النيابة في إخراجها مع القدرة على تعاطي الإخراج بنفسه.

ولا فرق في الوكيل بين أن يكون مسلماً بالغاً، أو كافراً صبياً، كما صرح به القاضي الحين في باب النية في الزكاة، وقال أيضاً: إنه يجوز أن يوكل فيها من لا يعرف أن ما يصرفه [زكاة. وفي "البحر"] عن رواية والده وجه: أنه لا يجوز أن يوكل الصبي؛ لأنه غير مكلف فكان كالمجنون. قال: ويجوز أن يدفع إلى الإمام؛ لأنه نائب عن المستحقين فجاز الدفع إليه كولي اليتيم. نعم، هل للإمام المطالبة بها بأن يقول له: إما أن تدفع بنفسك أو تدفع إليّ حتى أوصل؟ قال الرافعي: فيه وجهان في بعض الشروح، ويجريان في المطالبة بالنذور والكفارات. وفيه نظر؛ لأن أداء الزكاة على الفور، والنذور والكفارات لا يجب الوفاء بها على الفور، [كما حكاه ابن التلمساني هنا؛ فكيف يسوي بينهما؟! نعم، إن فرض الكلام في الكفارات التي تجب على الفور] على أحد الوجهين، وهي التي سببها محظور – كما قال في "الوسيط" في كتاب الحج والنذور الذي صرح فيها بالفورية – اتجه الإلحاق، ثم هذا الكلام من الرافعي يقتضي فرض الخلاف في الزكاة في حالة امتناع رب المال من الدفع، والمتولي ذكر الوجهين في حق من علم الإمام أنه يخرج الزكاة. فأحدهما: أنه ليس له مطالبته؛ كما إذا علم أنه يصلي لا يتعرض له. والثاني: يطالبه إذا أدى اجتهاده إلى ذلك لا بطريق الولاية، ولكن نيابة عن الفقراء، وحثاً على الخروج عن حقوقهم، وله في حالة الامتناع المطالبة قولاً واحداً، وقد تقدم في أول الباب.

قال: وفي الأفضل ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يفرق بنفسه؛ لأنه على ثقة من أدائه، وليس على ثقة من أداء غيره، وهذا ظاهر نصه في "المختصر" حيث قال: وأحب أن يتولى الرجل قسمتها بنفسه؛ ليكون على يقين من أدائها. ولم يحك الماوردي في قسم الصدقات غيره. والثاني: أن يدفع إلى الإمام، أي وإن كان جائراً؛ لما روى أبو داود عن جرير بن عبد الله قال: جاء ناس – يعني من الأعراب – إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن ناساً من المصدِّقين يأتوننا فيظلموننا، [فقال: "أرضوا مصدِّقيكم"، قالوا: يا رسول الله، وإن ظلمونا؟! قال: "أرضوا مصدِّقيكم"]، وزاد عثمان – وهو ابن أبي شيبة -: "وإن ظلمتم"، وأخرجه مسلم [ولم يذكر فيه]: "وإن ظلمتم". و [أثر] ابن عمر وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة موافق له، [وهذا قول أبي علي] بن أبي هريرة، وتمسك فيه من جهة المعنى: بأن الإمام أعرف بمصارفها منه، ودفعها إليه تنزيه ظاهراً وباطناً، ودفعها إلى من ظاهره الفقر يحتمل أن يكون من الباطن غنيًّا؛ فلا تقع موقعها، ولأن آحاد الناس إذا تولوا تفرقة زكواتهم لم تبسط الزكوات على المستحقين، وإذا جمع الإمام الزكوات تَأَتِّي منه

بسطها، والزكاة وظيفة كلية أعدت للحاجات العامة حتى كأنها في السنة تحل محل النفقات الدَّارَّة يوماً يوماً من آحاد الناس على الذين يعولونهم؛ فكان الدفع إلى الإمام أفضل [لهذا المعنى]. والقائلون بهذا حملوا قول الشافعي – رحمه الله – على أنه أراد: أولى من الوكيل، وهو مما لا خلاف فيه. والساعي في هذا المقام كالإمام، ولو اجتمع الإمام والساعي كان الدفع إلى الإمام أولى، قاله الماوردي. والثالث: إن كان الإمام عادلاً فالأفضل أن يدفع إليه؛ لتحصيل المصلحة المذكورة، مع أنه على ثقة من أدائه، وإن كان جائراً فالأفضل أن يفرق بنفسه؛ لأنه ليس على يقين من أدائه؛ فلا تحصل المصلحة المذكورة، وهذا ما صححه النواوي، وادعى البندنيجي أنه المذهب، ولم يحك في "التتمة" [في الجائر] غيره. وهذا الكلام من الشيخ وغيره من العراقيين دالٌّ على أن الإمام لا ينعزل بالجور، وهو ما ادعى القاضي الحسين في قسم الصدقات أنه المذهب الصحيح، وهو مخالف لما ذكره الشيخ وغيره في باب [أدب] السلطان؛ حيث قال: وإن زال شيء من ذلك بعد التولية بطلت ولايته. وهو الذي ذكره البندنيجي قبل باب صدقة الخلطاء، وعليه جرى الماوردي فقال: إذا كان الإمام جائراً لا يجوز الدفع إليه، فإن دفع لم يبرأ. كذا قاله في قسم الصدقات، وحكاه الحناطي [وجها]. قال: وفي الأموال الظاهرة وهي المواشي، والزروع، والثمار، والمعادن –قولان: أصحهما: أن له أن يفرق بنفسه؛ [لأنها زكاة واجبة على من يجوز له التصرف في ماله؛ فجاز له أن يفرقها بنفسه] كزكاة الأموال الباطنة، وإنما عدلت إلى القياس ولم أستدل بالآية؛ لأنها تقتضي [أن] الإخفاء خير، وذلك إنما يكون [أفضل] في الأموال الباطنة، أما في الأموال الظاهرة فقد قال الأصحاب – كما قال

الماوردي -: إن إظهارها أفضل، والأفضل إذا كان المخرج هو الإمام الإظهار في الظاهرة والباطنة، وهذا ما مال إليه كلام الشافعي في الجديد. ومقابله – قاله في القديم-: أنه يجب الدفع إلى الإمام أو نائبه فيها؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 13]، فإن ظاهره الوجوب، وإذا دلت على [أن] الإمام يجب عليه الأخذ دلت على أن على أرباب الأموال الدفع، وقال – عليه السلام – لمعاذ: "أعلمهم أنَّ عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم"، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر عمر كانوا يبعثون السُّعاة ليأخذوا أموال الزكاة، ولأنه مالٌ للإمام ولاية المطالبة به؛ فوجب صرفه إليه كالخراج والجزية. وقد وجه الإمام هذا القول بالمعنى الذي ذكرناه آخراً في توجيه الوجه بأن الدفع إلى الإمام أفضل، وفرق بنيه وبين المال الباطن – وإن كانت العلة تقتضي التسوية – بأن للناس أغراضاً في إخفاء الأموال لا تنكر فلا يفوت عليهم هذا الغرض، وما يظهر من الأموال لا يمكن إخفاؤه. وأجاب القائلون الأول عن الآية بأن معناها: خذ إذا دفعوا، أو هو على الاستحباب. وعن خبر معاذ: بأن ذلك كان في ابتداء الإسلام؛ حيث لم يكونوا يعرفون مصارف الصدقات، ولما عرفوا وجوه مصارفها جاز لهم أن يتوَّلوها بأنفسهم، أو يحمل على الاستحباب. وبعث النبي صلى الله ليه وسلم ومن بعده السعاة ليعرفوا أرباب الأموال ما يجب عليهم، ويقبلوه منهم إذا دفعوه إليهم؛ إذ هو الأفضل كما ستعرفه. وأما قولهم: إن للإمام ولاية المطالبة به، فلا نسلمه؛ لأن بعض أصحابنا قال: ليس له المطالبة بالزكوات، قال القاضي أبو الطيب: أنا أقول: إن له المطالبة بها وهو المذهب الصحيح، لكن الفرق بين الزكاة، والخراج والجزية: أن لاجتهاد الإمام مدخلاً فيهما؛ فلذلك تعين لقبضهما، ولا كذلك الزكاة؛ فإنه لا مدخل له في مصارفها، وعلى هذا فإذا طلبها الإمام وجب الدفع إليه؛ لأنه إنما يطالب بما يؤدي

إليه اجتهاده، وليس لأحد اجتهاد مع اجتهاد الإمام، قاله القاضي أبو الطيب. وقال الإمام: إن من لطيف [الكلام في] المذهب: أن الشافعي – رحمه الله- منع [من] نقل الصدقة في قول إليه ميله في الجديد، وأجاز نقلها في قول [فكان منع النقل مفضياً إلى قريب من قصد التعميم؛ فإن أهل كل بلدة إذا فرق الأغنياء] منهم صدقاتهم على المحاويج، قرب الغرض في الانبساط [على أهل الحاجات]،ويكون ذلك خلفاً عما [يفوت] من النظر العام الصادر عن الإمام، غير أن أحداً من الأصحاب لم يربط أحد الحكمين بالثاني، ولم يقل: إذا لمي جب الدفع إلى الإمام منعنا النقل، بل أجروا القولين، وإن حكمنا بأنه لا يجب دفع الصدقات إلى الأئمة. وقال في باب زكاة الغنم: إنما إذا قلنا بمنع نقل الصدقة، ورأينا رد اليمين على أهل السُّهمان عند نكول رب المال عن الحلف وقد توجه عليه فقد نزلناهم منزلة مستحقين متعيّنين، وقياس هذا: أن يقطع طلبة السلطان عنه، ويكون الأمر موقوفاً على دعواهم ورفعهم ربَّ المال إلى السلطان: [فإن سكتوا وهم] أهل رشد لا يولي عليهم، فلا يبقى للسلطان في هذا تصرف وسلطنة على سبيل الابتداء؛ فإن سلطانه يثبت حين يكون رأيه متعيناً في الصرف إلى من رأى. [ثم] قال: وينقدح فيه شيء، وهو أن المستحقين وإن كانوا محصورين فلرب المال ألا يسوي بين الفقراء وهم مثلاً ثلاثة، بل يفضل بعضهم على بعض؛ فيجوز أن يقال على قولنا بوجوب تسليم الزكاة إلى السلطان: يتعلق برأي الوالي أن يزيد وينقص وإن كان لا يحرم، وقد سمعت شيخي يقول: إذا منعنا النقل، وانحصر الفقراء، وزادوا [على]

ثلاثة – فيجوز صرف الحصة إليهم، ويجب التسوية بينهم، وإنما يجوز الاقتصار على الثلاثة، [وتجوز المفاضلة عند خروجهم عن الضبط الممكن؛ فإن سبب الاقتصار على الثلاثة،] أنهم أقل الجمع، ولا عدد أولى من عدد بعد ذلك، وسبب المفاضلة: أن كل من أعطي أقل، فلو حرم لأمكن حرمانه بإقامة [غيره مقامه]، فأما إذا انحصروا وامتنع النقل وتيسر الاستغراق، فالوجه وجوب الصرف إليهم [مع] رعاية التسوية. قال: والذي قاله حسن منقاس. ولا فرق في جريان القولين عند الجمهور بين أن يكون الإمام عادلاً أو جائراً كما قالوا في الأموال الباطنة، ونقل عن اختيار القفال، وحكى الفوراني والقاضي الحسين في كتاب الزكاة وجهاً أنه لايجوز الدفع إلى الإمام الجائر، ويكون حكمه حكم المال الباطن، وقد تقدم مثله في الأموال [الباطنة]. وقال الماوردي في كتاب الزكاة: إن كان الإمام عادلاً في الزكاة [وغيرها]، أو فيها فقط [جائراً في غيرها – جاء القولان، وإن كان جائراً في الزكاة وغيرها أو فيها فقط]، فلا يجوز دفعها إليه [قولاً واحداً، وله أن يفرقها بنفسه؛ للضرورة، فلو دفعها إليه] أو أخذها منه جبراً لم يجزئه، قال في قسم الصدقات: إلا أن يعلم وصولها لأهل السُّهمان. التفريع: إن قلنا بالجديد ففي الأفضل الأوجه، قاله البندنيجي وغيره. وكلام القاضي الحسين قبل باب صدقة البقر يقتضي الجزم بأن الدفع إلى الإمام العادل أفضل. وقال في "الوسيط": إنه لا شك فيه، وقد صرح به القاضي أبو الطيب في قسم الصدقات، وقال القاضي الحسين فيه: إن كان عادلاً ففي الأفضل وجهان، وإن كان

جائراً ففي جواز الدفع على هذا القول – وإن قلنا: إنه لا ينعزل - وجهان. وأشعر كلام الإمام قبيل باب صدقة البقر بأن الخلاف [فيما] إذا لم يوصلها إلى المستحقين، بل أهلكها وادعى أن الظاهر أنه يجب على المالك في هذه الحالة تثنية الزكاة، وإن قلنا: لا ينعزل الإمام بالفسق لتقصيره. وقال الماوردي: إن كان [الإمام] عادلاً في الزكاة وغيرها فالأفضل الدفع إليه وجهاً واحداً، وإن كان جائراً في غير الزكاة عادلاً فيها ففي الأفضل وجهان ينبنيان على [اختلاف الوجهين] في تأويل قوله – عليه السلام -:"ومن سئل فوقها فلا يعطه"،وقد تقدم ذكره في صدقة المواشي. وإن قلنا بالثاني: فإن كان الإمام أو نائبه في القبض [حاضراً يتيسَّر] الدفع إليه فعل، وألا فعليه [أن يؤخر] ما دام يرجو مجيء الساعي، فإن دفع قبل ذلك لم يجزئه، وإن أيس من مجيئه وجب عليه أن يفرقها [بنفسه]، نص عليه. قال في "البحر": وهو المذهب؛ لأنه حق أهل السُّهمان والإمام نائبهم، فإذا ترك النائب قبض الحق لا يجوز له ترك أدائه، ومن أصحابنا من قال: يتوقف حتى يطالبه الإمام؛ لأنه مال حق القبض فيه إلى الإمام، فإذا لم يطالب به لم يفرقه هو كالخراج. وعلى القولين ينبغي للإمام أن يبعث السُّعاة لأجل الصدقات؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده؛ لأن كثيراً من الناس لا يعرفون الواجب، [والواجب فيه]، ومن يصرف إليه. وهل ذلك على وجه الوجوب أو الاستحباب؟ اختلف النقل عن الأئمة: فالذي قاله أبو الطيب: أنه على وجه الاستحباب، وعليه يدل قوله في "المختصر": وأحب أن يبعث الوالي المصدق فيوافي أهل الصدقة مع حلول الحول، فيأخذ صدقاتهم. والذي قاله القاضي الحسين، [والشيخ في "المهذب"]: أنه على وجه

الوجوب؛ فلا يجوز له تأخير ذلك، وتكلم في النص السابق فقال: قال أصحابنا: إنما قال الشافعي – رحمه الله -: "واجب على الوالي أن يبعث المصدق"؛ [إذ جمع] الصدقة وتفريقها على مستحقيها فقط واجب على الأئمة، [ويمكن حمل] قوله: "وأحب"، على البعث في الوقت لا إلى [أصل] البعث. وأشار الإمام إلى أن ذلك تفريعٌ على القول بوجوب الدفع إلى الإمام حيث قال: إذا كان السلطان يرى جباية الصدقات، فينبغي أن يبعث السُّعاة، وينبغي أن يعين [الإمام أو الساعي] [وقتاً لأخذ الصدقة، وهل هو على الوجوب أو على الاستحباب؟ فيه خلاف، والأشهر] وهو الذي صرح به الغزالي في كتاب الزكاة. أنه مستحب، واستحب الشافعي – رحمه الله – أن يكون ذلك بشهر المحرّم، صيفاً كان أو شتاء؛ فإنه أول السنة الشرعية، فليستفتح بالصدقة. وليخرج قبل أول المحرم ليوافيهم أول المحرم، وإذا جاءهم: فمن تمَّ حوله أخذ منه، ومن لم يتم حوله سأله التعجيل، فإن أبي لم يجبره، ووكل من يقبضها منه، أو يتركها في ذمته إلى أن يعود العام القابل. ويبعث الساعي لأخذ زكاة الزرع والثمرة وقت إدراكه، وذلك لا يختلف في الناحية الواحدة كثير اختلاف. وما ذكره الشيخ من تفسير الأموال الظاهرة والباطنة هو الذي أورده الجمهور ومنهم الرافعي، وحكى الإمام في قسم الصدقات وجهاً في الركاز أنه كالمعدن، وحكى تردداً في أن زكاة الفطر كالأموال الباطنة أو الظاهرة، وقد حكاه في "البيان". ونقل الماوردي الثاني عن الأصحاب، واختار الأول. قال في "الروضة": وهو ظاهر نص الشافعي – رحمه الله – والمذهب، ولم يحك القاضي الحسين وأبو الطب والمتولي وكذا الماوردي في آخر قسم الصدقات غيره. قال: ويكره أن ينقل الزكاة عن بلد المال، أي: كراهية تحريم؛ لقوله – عليه السلام – لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "فإن هم أجابوك فأعلمهم أنَّ عليهم صدقةً تؤخذ من

أغنيائهم فترد على فقرائهم"، فقابل الفقراء بالأغنياء؛ فثبت أن صدقة اليمن يختص صرفه بأهل اليمن، ولا يجوز نقلها إلى غيرهم. وقد روى أبو داود أن زياداً أو بعض الأمراء بعث عمران بن الحصين على الصدقة فلما رجع قال لعمران: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني؟! أخذتها من حيث كنّا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعتها حيث كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه ابن ماجه. قال: فإن نقلها ففيه قولان: أحدهما: [أنه] يجزئه؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} الآية [التوبة: 60] ولم يفصّل، ولأنها صدقة وضعت في أهلها؛ فوجب أن تجزئ كما لو وضعت في أهلها من أهل البلد. والثاني: لا يجزئه؛ لأنه حق وجب لأصناف بلد فلم يجز نقله إلى غيرهم، وإذا نقل لا يجزئ كالوصية لأصناف بلد، وقد روي عن معاذ أنه قال: "أيما رجل انتقل عن [مخلاف عشيرته] [إلى غير مخلاف عشيرته، فعشره وصدقته في مخلاف عشيرته] "، فجعل النُّقلة عن المكان بعد وجوب الزكاة [فيه] تمنع من نقلها عنه، وذلك صادر عنه بالأمر الذي تقدم به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فصار كالمنقول عنه نصّاً، والعمل بالنص مقدم على العمل بالظاهر، وهذا القول أصح في "تعليق" [القاضي] الحسين والماوردي وعند النووي وغيره. وهذه الطريقة ذكرها الشيخ

أبو حامد وقال: هي المذهب، وقال القاضي الحسين: إن عليها عامة الأصحاب. ولم يورد في "الحاوي" [غيرها]. ومنهم من قال: القولان في جواز النقل، فإن قلنا: لا يجوز؛ فنقل – أجزأه قولاً واحداً، حكاه أبو حامد أيضاً والقاضي الحسين. ومنهم من قال: في جواز نقل الصدقة وإجزائها قولان أحدهما: [لا] يجوز، ولا يجزئ إذا نقلها. والثاني: يجوز، ويجزئ لهم. قال ابن الصباغ: وهذه لم يذكرها الشيخ أبو حامد، وقد تحصلنا على ثلاث طرق ذكرها العراقيون. وحكى في "البحر" عن بعض المراوزة أنه قال: يجوز نقل الصدقة قولاً واحداً، وقول الشافعي – رحمه الله – في قسم الصدقات: "ولا تخرج عن بلده وفيها أهله" إنما قاله استحباباً، وهذه طريقة رابعة. وحكى الإمام طريقة أخرى مخالفة لجميع ما ذكرناه وإن وافقته من بعض الوجوه، فقال: هل يجوز النقل أم لا؟ [فيه قولان، فإن قلنا: لا يجوز، فنقل: فهل يجزئ؟]؟ فيه قولان نقلهما صاحب "التقريب"، والعراقيون: أحدهما: أن الصدقة لا تقع موقعها، وهوا لذي قطع به [شيخي] ومعظم الأئمة، وهو القياس اللائق بهذا القول. والثاني: الوقوع؛ لمصادفتها [الأصناف الموصوفة في كتاب الله تعالى. ثم قال صاحب "التقريب": الصائر إلى هذا يعصي الناقل، ويبرئ ذمته] عن الصدقة. وهذه طريقة خامسة. وقد أبدى الإمام من عند نفسه احتمالاً، فقال عقيب ذكره القول بالإجزاء مع الإثم: ولا يمتنع عندنا إن صح هذا القول أن يجرع الأمر إلى كراهية النقل؛ فإن التعصية تناقض الحكم بالتبرئة. قلت: وهو يقرب من الطريقة التي حكاها في "البحر" عن بعض المراوزة، بل هي إن أطلقنا "المكروه" على "ترك الأَوْلَى"، والله أعلم.

وإذا نظرت إلى جميع الطرق واختصرت، قلت: في المسألة ثلاثة أقوال كما ذكرها في "الوجيز"، ثالثها: لا يجوز النقل، ولكن تبرأ ذمته، ثم ما محل الطرق؟ اختلفت فيه عبارات النَّقلة: فعن صاحب الشافعي أنه قال: فيه الخلاف فيما إذا كان أهل السُّهمان غير محصورين، فأما إن كانوا محصورين من أول السنة إلى آخرها ملكوها ووجب صرفها إليهم، ولو مات واحد منهم انتقل حقه إلى وارثه وإن لم يكن الوارث مستحقاً للزكاة، ولو دخل البلد من أهل السهمان أحد قبل القسمة لم يستحق شيئاً. وإلى ما قاله يرشد كلام ابن الصباغ، [والقاضي أبي الطيب والماوردي] والقاضي الحسين؛ [حيث] قالوا في آخر [باب] قسم الصدقات: نص الشافعي – رحمه الله – في كتاب الزكاة على أنه: إذا مات واحد من المساكين بعد وجوب الزكاة صرف نصيبه إلى ورثته؛ لأنه ثبت له ذلك الحق بعينه فانتقل بموته إلى ورثته. وكذلك نص عليه في قسم الفيء كما حكاه القاضي الحسين، وقال في "البحر": إن نصه في "الأم" إذا دفع الزكاة إلى قوم [ثم] بان أنهم غير مستحقين نزعها منهم، وفرقها على مستحقيها، وإن كانوا قد ماتوا أعطي ورثتهم، وإن كانوا أحياء أعطاهم فقراء كانوا أو أغنياء؛ [لأنهم] استحقوها حين الوجوب. وقال: إنه قال في آخر قسم الصدقات من "المختصر": "وإنما يستحق أهل السهمان سوى العاملين حقهم يوم يكون القسم". ثم قالوا: وليست المسألة على قولين؛ بل على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: الاستحقاق حين الوجوب، إذا كان المستحق معيناً، مثل أن يكون رب المال في قرية فتجب الزكاة عليه، وأهل السهمان بها من كل صنف ثلاثة، [وقال الماوردي وأبو الطيب]: فما دون، فإذا وجبت كانت لهم، وقد ملكوها عليه في ذمته كالدين، فإن مات واحد منهم كان نصيبه لوارثه، وإن غاب لم يسقط حقه، وإن دخل غريب فلا حق له فيها.

والموضع الذي قال: يستحق أهل السهمان حقهم يوم يكون القسم، أراد: إذا لم تكن الأصناف معينة، وهو أن يكون في البلد من كل صنف أكثر من ثلاثة، قال أبو الطيب: [والزكاة] لا تتسع للكل؛ فلرب المال أن يخص بها [ثلاثة] من كل صنف، فهاهنا حين وجوب الزكاة ما استحقوها، وإنما يستحقونها بالقسمة، وإن مات واحد من أهل السهمان لم يكن لورثته شيء، وإن غاب فلا حق له، وإن دخل غريب قبل القسمة كان كأحدهم. وكلام الإمام يقتضي إجراء الخلاف في النقل سواء كانوا محصورين أو غير محصورين؛ [حيث] قال في كتاب الزكاة عند الكلام في نكول رب المال عن اليمين عند اتهام الساعي له: ومن تمام البيان في ذلك: أنا إذا منعنا نقل الزكاة، وكان مستحقوها محصورين في البقعة – فقد قال كثير من أئمتنا: ترد اليمين على المستحقين، ووجهه بين على قول منع النقل ووجوب صرف الزكاة إليهم. ولا يجوز حرمانهم؛ فتعينوا للاستحقاق، وتنزَّلوا منزلة من يستحق دينا. وكذا قوله بعده: وقد سمعت شيخي يقول: إذا منعنا النقل، وانحصر الفقراء، وزادوا على ثلاثة [فيجب صرف الحصة] إليهم، تجب التسوية. وكلام الرافعي في آخر قسم الفيء يدل على ذلك؛ فإنه قال: إذا مات الفقير بعد تمام الحول ووجوب الزكاة لا شيء لورثته؛ لأن ذلك الفقير [غير] معين للزكاة، حتى لو لم يكن في القرية إلا ثلاثة من الفقراء، ومنعنا نقل الصدقة – فعن نصه في "الأم": أن الحق ينتقل إلى الورثة. ويوافق ذلك قول القاضي الحسين في الموضع الذي حكينا فيه كلام الإمام الشافعي – رحمه الله – قال: لو وبت عليه الزكاة، وهناك ساكنون [محصورون]، فلم يدفع الزكاة إليهم حتى ماتوا – قال: يعطي الزكاة إلى ورثتهم، وكذا لو صاروا أغنياء يعطي إليهم، هذا إذا قلنا: إن نقل الصدقة من بلد إلى

بلد لا يجوز. وقول الفوراني في قسم الصدقات: ولو كانوا مساكين قرية محصورين، ووجبت زكاة مال، فمات واحد من المساكين قبل وصول الصدقة إليه – [فإن قلنا: لا تنتقل الصدقة، دفع نصيبه إلى وارثه وإن كان لا تحل له الصدقة، وإن قلنا بجواز نقل الصدقة] لم يدفع إلى وارثه نصيبه. قلت: وفي هذا تصريح وتلويح بأن من أجرى الخلاف في النقل [مطلقاً قائلٌ بأن ما ذكره الأصحاب من حمل النصين على حالين، مفرَّعٌ على القول بمنع النقل] كما هوا لصحيح؛ فلا اختلاف، وقد فرع الإمام على قولنا بمنع النقل، وقد انحصر المستحقون، وقلنا: يقضي على جميع الحاضرين أن الزكاة ماشية، فاعتاضوا عنها دراهم، فقال: الذي يقتضيه القياس على هذه الأصول جواز ذلك، ولكن يظهر على قاعدة المذهب رعاية التعبّد؛ ولأجله منعنا أصل الإبدال، وإن سلمنا أن سد الحاجة غرض ظاهر في الزكاة، [ولو أبرأ هؤلاء من عليه الزكاة] فاستحقاقهم واختصاصهم يقتضي تنفيذ إبرائه، ولكن أصل التعبد ينافي ذلك؛ فإن الزكاة عبادة واجبة لله – تعالى – فيبعد سقوطها من غير أداء، قال: ولا نقل عن الأئمة في أعيان هذه المسائل. وأبداه احتمالاً في جواز الصرف إلى من دخل البلد بعد الوجوب، مع ملاحظة ما تقدم ووجهه بأن أصل الزكاة منوط بالأوصاف لا بالأعيان، فإن فرض تعيين فالحكم بموجبه؛ لأجل الضرورة لا لأصل ممهد في الشرع. قلت: ومادته في هذا الاحتمال مأخوذة [مما حكاه] عن الفوراني: في أنهم لا يحلفون عند نكول رب المال، وإن انحصروا تعين الصرف لهم، كما تقدم، والله أعلم. [واعلم] أن ما ذكرناه في نقل [كل] الصدقة إلى أهل السُّهمان الذين [لم

يكونوا] ببلد المال، فلو كان النقل في البعض مثل أن يكون له أربعون من الغنم عشرون ببلدة، وعشرون ببلدة أخرى، ووجبت الزكاة – فقد قال الماوردي: إن عليه إخراج نصف شاة في كل بلد، فإن قدر على إخراج [شاة] باقيها للفقراء والمساكين من أهل الصدقات، أجزأه، فإن لم يقدر على ذلك، فأخرج نصف شاة باقيها له أو لرجل آخر من غير أهل الصدقات، أو فعل ذلك مع القدرة على ما سواه – فالصحيح أنه يجزئه، ولا اعتبار بوصف ما لم يجب عليه إخراجه، ومن أصحابنا من قال: لا يجزئه حتى يكون باقي الشاة ملكاً لأهل الصدقات فيكمل لهم نفعها؛ لأن في تبعيض [الشاة] إيقاع ضرر بهم وإدخال نقص في حقهم، قال: وهذا تعسف يؤدي إلى تكليف ما يتعذر، واعتبار وصف ما لا يلزم. فإن عدل عن جميع ذلك، وأخرج شاة كاملة في أحد البلدين عن جميع المالين – فقد قال الشافعي: كرهت ذلك، وأجزأه. وتردد الأصحاب فيه: فذهب أبو حفص بن الوكيل، وكثير من الأصحاب – كما قال الماوردي – إلى أن هذا منه تفريعٌ على جواز نقل الصدقة: فإن منعنا النقل لزمه إخراج نصف شاة في كل من البلدين؛ فإن تبعيض الشاة إنما يمنع منه عند عدم الضرورة والحاجة [إليه]، وهنا بنا ضرورة إليه؛ فإن موجب القول بمنع النقل: أن أهل كل ناحية بها المال استحقوا زكاته وتعينوا لاستحقاقها؛ فلا يجوز إبطال استحقاقهم بسبب التبعيض. قال الإمام: ولم يختلف أصحابنا في [أن] إخراج نصفي شاتين من غير ضرورة ولا حاجة لا يجزئ، وإن اختلفوا في إعتاق نصفي عبدين عن الكفارة. وعلى هذا: لو عسر وجدان نصف شاة، فقد قال صاحب "التقريب": يخرج نصف قيمة شاة حيث عسرن ونحن قد نجوز إخراج القيمة عند التعذر والعسر. قال الإمام: وقد يخطر لذي نظر: أن الشاة التي تساوي عشرين قد لا يشتري نصفها بعشرة، وإنما

يشتري بتمامه، ولكنا عند الرجوع إلى القيمة بمكان قيام ضرورة نعتبر قيمة [النصف] بقيمة التمام، ولا ننظر إلى ما أشرنا إليه. ثم إذا قدر بعد ذلك على نصف شاة فهل يخرجه ويسترد؟ يظهر أن يجيء فيها [ما ذكرته] في أوائل الباب. وذهب عامة أصحابنا- كما قال القاضي أبو الطيب – إلى إجراء النص على ظاهره والإجزاء، وإن قلنا بمنع النقل وعدم الإجزاء في غير هذه الصورة؛ فإنَّ ذكره البلدين وانقسام المال عليهما دالٌّ على أنه مفرع على منع النقل، وألا فلا فائدة على قولنا: يجوز النقل؛ لتخصيص هذه الصورة بالذكر، وهذه الطريقة صححها الإمام والقاضي الحسين، وذا قلنا بها فما العلة في التجويز؟ فيه وجهان: أحدهما: التبعيض الذي هو مجتنبٌ في المواشي؛ ولذلك كانت الأوقاص فيها عفواً، [وهذه] لم يورد القاضي أبو الطيب غيرها، وكذا ابن الصباغ – رحمه الله – وقال: إن القائل بالأول قال: لو أجازه الشافعي – رحمه لله – لموضع الحاجة لم نكرهه. والثاني: كون المالك واحداً والمال منقسم، فله بكل بلدة علقة في الجنس الواحد الزكاتي، مع أنهما كالبلدة الواحدة في ضم أحد المالين إلى الآخر. وعلى الوجهين يتخرج – كما قال المراوزة -: [ما] إذا كان له أربعمائة من الغنم [في كل بلد مائتان، فعلى الأول لا يجوز أن يخرج الكل] في بلدة واحدة، بل الواجب أن يخرج في كل بلدة شاتين، وعلى الثاني يجوز أن يخرج الأربعة في أي البلدين شاء. قال الإمام: وتجويز النقل لأجل العلة الثانية لا أصل له عندي، وإنما يظهر التعليل في

الصورة المتقدمة لضرورة التبعيض لا غير، فإن لم يكن [بد] من تخريج المسألة الأخيرة على الخلاف فلعل الأقرب في التعليل: أن الزكاة وإن لم تتبعض في الصورة التي ذكرناها، فالغنم نامية وهي سريعة المصير إلى مبالغ يقتضي الحساب تشقيص واجبها على التفريق، وذلك يعسر ضبطه؛ فيجوز النقل لحسم هذا الإمكان. قال: ولو كان له عروض تجارة ببلدة ومال تجارة [في] أخرى، ورأس المال دراهم – فيجب القطع بأنه يخرج زكاة كل مال حيث هون ولا يجوز النقل على منع النقل؛ فإن التبعيض لا وقع له في الدراهم بوجه؛ ولذلك لم يثبت عند الشافعي – رحمه الله – [للدراهم] وقص بعد الوجوب، وهو ظاهر لا ريب فيه، و [به] يظهر بطلان التعليل بأن له بكل بلدة علقة في الجنس الواحد الزكاتي. ولو كان النقل إلى طائفة من أصناف الزكاة الذين فارقوا بلد المال، قال الإمام قبل باب كيف تفريق قسم الصدقات بورقة: وينبني ويتجه أن الذي ذهب إليه الأصحاب جواز ذلك: تعويلاً على الآخذين. وهذا إذا انتقل جملة المستحقين، فأما إذا كان في المقيمين في وطن المال مقنع، والمنتقل طائفة منهم – قال: فالقياس جواز النقل إلى الذين خرجوا، وحبس بعض أصحابنا في هذه الصورة على الخصوص؛ فلم يجوز النقل، وهو فاسد لا أصل له. نعم، اضطرب الأصحاب فيما لو خرج طائفة مسافرين، وغابوا في جميع السنة، ولم يشهدوا بلد المال –فهل يجوز إخراج حصصهم إليهم؟ منهم من جوز ذلك؛ لأنهم وإن غابوا فنهم من أهل البقعة، ومنهم من منع وشرط أن يحضروا وطن المال في سنة الزكاة. ولو شهدوا في بعض السنة وغابوا قبل انقضائها فهذا مرتب على الصورة قبلها، وأولى بجواز الإخراج إليهم.

ولم يختلف علماؤنا أنهم لو غابوا معظم السنة، وشهدوا منقرض الحول ووقت وجوب الصدقة - جاز الصرف إليهم، ولا حكم للغيبة السابقة وإن منعنا النقل. ولو خرجوا على قصد الانتقال قبل وجوب الصدقة وانقضاء السنة، لم يجز النقل إليهم إذا فرّعنا على منع النقل. وقال ابن الصباغ في باب كيف تفريق قسم الصدقات: إذا كان في البلد صدقات، وفي سواه من هو من أهلها على مسافة لا تقصر فيها الصلاة- كان كالحاضر في البلد. وهذا قول أبي الطيب في "تعليقه". نعم، إذا كان في بلد بينها وبين الأول مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فلا تنقل الصدقة من أحداهما [إلى الأخرى؛ فإن أحداهما] لا تضاف إلى الأخرى فلا تنسب إليها، وهذا في "تعليق" أبي الطيب منسوب إلى أبي إسحاق المروزي، والله أعلم. [قال الشيخ – رحمه الله]-: فإن نقل، أي: على قولنا بمنع النقل، إلى ما لا تقصر فيه الصلاة – فقد قيل: يجوز؛ لأنه في حكم الحضر بالنسبة إلى القصر ونحوه؛ ولهذا قال الشافعي – رحمه الله -: حاضرو المسجد الحرام: من كان داره أقرب إلى مكة من مسافة القصر، وإذا كان كذلك صار كما فرق وهو في محلة من البلد على [أهل] محلة أخرى. والثاني: لا يجوز؛ لأنه نقل إلى بلد آخر فأشبه ما لو نقل إلى مسافة القصر، [ولأن المعنى الذي لأجله منع من النقل إلى مسافة القصر] – وهو تضرر أهل السُّهمان من أهل البلد وانكسارهم – موجودٌ فيما إذا كان النقل إلى دونها؛ فكان كهي، ويخالف الرخص؛ فإنها تتعلق بالسفر للمشقة، وهذا ما صححه العراقيون، وقال الإمام تبعاً للقاضي: إنه المذهب، والأول بعيد لا اتجاه له، وهو يؤدي إلى دفع القول بمنع النقل الذي عليه نفرِّع؛ لأنا إذا جوزنا النقل إلى قرية على فراسخ فتلك القرية محل تفريق الصدقة، إذن فيجب تجويز النقل منها أيضاً إلى قرية على [مثل] تلك المسافة؛ فإن القرية الأولى التحقت بالبلدة وكونها

محل تفرقة الصدقة، وهكذا. وما قاله فيه نظر ظاهر. ثم على الثاني: يكون الواجب الصرف لأهل السهمان الذين أحاط بهم بنيان بلد المال، لا من خرج عنه، كذا قاله الماوردي. ثم إن كان البلد واسعاً كالبصرة وبغداد، كان جيران المال من أهل البلد أخص به من غيرهم، وهل يكون ذلك [من طريق الأولى أو] من طريق الاستحقاق؟ قال في "الحاوي": فيه وجهان، ووجه الثاني قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] والجار ذو القربى: الجار القريب، والجار الجنب: البعيد في نسبه، فاعتبر في القريب والبعيد الجوار. وقال في باب كيف تفريق الصدقات: إن الأول هو الظاهر من قول البغداديين، وهو الأصح، وإن الثاني قول البصريين، وإذا قلنا به كان جيرانه: [من] أضيف إلى مكانه من البلد، وقيل: إنهم إلى أربعين داراً من داره. وهو المذكور في غيره، فلو صرف إلى من بعد أثم، وإن كان في البلد ناقلاً للزكاة. ولو كان البلد صغيراً فجميع أهله جيرانه. وهذا إذا كان رب المال هو المفرّق، فإن كان الإمام أو نائبه فكل أهل البلد الكبير والصغير في ذلك سواء؛ لما في اعتبار ذلك في حق الإمام من المشقة مع كثرة الأموال في يده. وهذا حكم أهل البلاد والقرى، وأما أهل الخيام: فإن كانوا في موضع من البادية مستقرين، وكانوا لا يبرحون منه إلا براح الحضري من الحضر ثم يعود إلى مقره فإن منعنا النقل فلهؤلاء الصرف إلى من هو منهم إلى مسافة تقصر عن مسافة القصر؛ فإنه ليس في البادية من اسم بلدة وخطة قرية؛ فكان أقرب معتبر ما ذكرناه. قال الإمام: وذكر العراقيون هذا، وذكروا وجهاً آخر: وهو أن الحلّة إذا حلت قطراً لم يجز أن ينقلوا الصدقة من تضاعيفهم فيتميز [مخيمهم] عن مخيم الحلة الأخرى كتميز القرية يخطئها عن الخطة الأخرى. قال: وهذا لا بأس به، والأشهر الأول. وإن كانوا لا يقطنون بموضع بل ينتجعون الماء والكلأ، فإن كانوا متفرقين كان

موضع الصدقة من عند المال إلى قبل المكان الذي تقصر إليه الصلاة، ولا يجوز الصرف لمن في مسافة القصر، وإن كانوا في حلل مجتمعة. فمنهم من قال: الحكم كما [لو] كانوا متفرقين، والثاني: أن كل حلة كبلدة. وهذا إذا كان أهل السهمان ينتجعون معهم. وللإمام احتمال في المسألة وقال: [إن] [في] كلام العراقيين إشارة إليه من قبل أن منع النقل في حكم التعبد الذي لا يستقيم فيه معنى على السير، وإنما وردت الأخبار والآثار في المقيمين، وهؤلاء مسافرون. [قال: وإن حال الحول والمال ببادية، أي: وليس فيها فقراء، والتفريع على منع النقل أيضاً – فرَّقها على فقراء أقرب البلاد إليه؛ لأنه غاية الممكن. والتعبير هاهنا بالفقراء عن أهل السّهمان بلا خلاف؛ إذ لا يمكن حمله على حقيقته، وإن أمكن حمله فيما تقدم عليها، أما إذا كان بها فقراء – ولو مجتازين مع المال – تعين الصرف لهم]. قال: وإن وجبت عليه زكاة الفطر، أي: عن نفسه في بلد، وماله في غيره – ففيه قولان: أحدهما: أنها تجب لفقراء بلد المال كزكاة المال. والثاني: تجب لفقراء موضعه، وهو الأصح؛ لأن زكاة الفطر تتعلق بعينه فأشبه المال في زكاة المال. أما إذا وجبت عليه زكاة الفطر عن غيره، قال في "الروضة": [فالظاهر أن الاعتبار] ببلد المؤدي عنه. وقال [في] "البيان": الذي يقتضيه المذهب: أن ينبني ذلك على الوجهين في أنها تجب على المؤدّى ابتداءً أم على المؤدي عنه؛ فتصرف ببلد من تجب عليه ابتداء، والله أعلم. تنبيهات: أحدها: حيث يجوز النقل أو يجب فالمؤنة على رب المال، قال الرافعي: ويمكن

أن يخرج فيه الخلاف المذكور في أجرة الكيال. وللإمام في ذلك كلام سنذكره في آخر الباب، إن شاء الله تعالى. الثاني: هل الخلاف في جواز النقل ومنعه مخصوص بما إذا كان رب المال هو المفرق، أو يجري وإن كان المفرق الإمام؟ حكى الإمام فيه احتمالين لنفسه، وقال الرافعي: ربما اقتضى كلام الأصحاب الطرد، وهو الذي فهمته من كلام الماوردي السابق وكلام غيره. قال: وربما دلَّ على أنه يجوز له النقل والتفرقة كيف شاء، وهذا أشبه. الثالث: الخلاف في جواز نقل الزكاة هل يجري في نقل الوصية إذا أطلقت للفقراء أو للأصناف وفي الكفارات؟ فيه طريقان: أحدهما: لا؛ لأن ذلك غير راتب فيطمع الفقراء فيه. والثاني: نعم. وهي التي أوردها الفوراني، والنذور ملحقة بالكفارات، وربما بنيت على أن النذر يسلك به مسلك جائز الشرع أو واجبه؟ والظاهر فيما عدا الزكاة جواز النقل؛ [لما ذكرناه]. وزكاة الفطر ملحقة بها إذا قلنا: يجوز صرفها إلى ثلاثة من الفقراء، قاله الإمام، والله أعلم. قال: ولا تصح الزكاة، أي: عن المكلف، حتى ينوي – للخبر المشهور – أنها زكاة ماله، أو زكاة واجبة؛ لأنها عبادة ودعامة من دعائم الإسلام تتنوع [فرضاً ونفلاً]؛ فكان التعيين فيها شرطاً كالصلاة والصوم. قال: وقيل: إن دفع إلى الإمام- أي المال، [وقال فرِّقه على الفقراء، كما قال أبو الطيب] – أجزأه من غير نية، [أي]: تصدر منه [أو من] الإمام، كما قال الماوردي القاضي الحسين، لأن الإمام لا يأخذ إلا الواجب فاكتفى بهذه القرينة عنها، وهذا ما صححه الماوردي وابن الصباغ، وقال البندنيجي: إنه المذهب، ولم يذكر كثير من العراقيين – كما قال الرافعي – سواه، وهو المنصوص؛ لأنه قال في

"المختصر": ولو أخذ الوالي من رجل زكاته بلا نية أجزأت عنه. قال الشيخ- رحمه الله -: وليس بشيء؛ لأن الإمام نائب عن الفقراء؛ فكما لا يصح الدفع إليهم بغير نية رب المال فكذلك لنائبهم، وهو كما يأخذ الواجب يأخذ التطوع؛ لأنه أعرف بمواضع الحظ في الصرف. والشيخ في ترجيح الأول، وكذا البغوي – رحمه الله – هاهنا: "يجزئه وإن لم ينو"، أراد به: إذا امتنع رب المال من أداء الزكاة، فأخذها الإمام قهراً من ماله؛ فإنه لا يحتاج فيه إلى نية، فهذا معناه. وقال ابن الصباغ: ليس كذلك؛ لأنه قال في "الأم": إذا دفعها إلى الإمام يجزئه وإن لم ينو، طائعاً كان أو كارهاً؛ لأن أخذ الإمام كالقسم بين الشركاء فلا يحتاج [إلى نية]. [قلت: وقول القاضي: فإنه لا يحتاج فيه إلى نية]، يعني من رب المال، وإلا فقد قال قبل ذلك: إن الإمام ينوي عنه؛ للضرورة. وقال البندنيجي: إنه لا يحتاج إلى نية، وتناول الإمام منه ذلك قهراً قائم مقام نية رب المال؛ لأنه إنما يقهره على ذلك بعد وجوبها؛ فلا يقع التناول إلا عن واجب. والمراوزة قالوا: هل يجب على الإمام أن ينوي عنه؟ يبني على أن المأخوذ [منه] هل يجزئه أم لا؟ ولا خلاف أنه جزئه ظاهراً، بمعنى أنه لا يطالب بها ثانياً، وهل يجزئه باطناً حتى تسقط عنه في نفس الأمر؟ فيه وجهان حكاهما البندنيجي أيضاً، فإن قلنا: [لا] تسقط، لا ينوي عنه، وإن قلنا: تسقط، فهل ينوي عنه؟ فيه وجهان، ظاهر المذهب منهما: الوجوب؛ لأن الإمام فيما يليه من أمر الزكاة كولي الطفل، والممتنع مقهور كالطفل. قال الرافعي: وهذا لفظ القفال في "شرح التلخيص". وعكس في "البحر" ذلك فقال: إذا أخذت الزكاة كرهاً لا تجزئ في الباطن، وهل تجزئ في الظاهر؟ فيه وجهان، قاله بعض الخراسانيين، وهو كذلك في "الإبانة"، لكن

فيما إذا لم ينو الإمام، وقال فيما إذا نوى الإمام ما ذكرناه أولاً عن المراوزة: وأطلق الماوردي القول بأن الإمام إذا نوى ولم ينو رب المال أنه يجزئه، ووجهه بأن الإمام لا يأخذ من [رب] المال إلا ما وجب. وحكى الرافعي والبندنيجي الوجهين فيه أيضاً، وقال: إن المذهب الإجزاء. تنبيه: قول الشيخ – رحمه الله -: "حتى ينوي أنها زكاة ماله أو زكاة واجبة"، ظاهر في التصوير بالصورتين المذكورتين، ويجوز أن يكون مسبوقاً بذكر خلاف في المسألة صرح به القاضي الحسين، وهو أنه هل يكفي أن ينوي أنها زكاة ماله؛ [لأن الزكاة لا تكون إلا فريضة]، أو لا بدَّ من اقتران الفرض به؛ لقوله – عليه السلام -: "زكاة الحلي إعارتها"، وقد يفعل الشيخ مثل ذلك في حكاية الخلاف، كما ستعرفه في قوله في كتاب اللعان:"ففي المسجد عند المنبر أو على المنبر"، وهكذا عادة غيره؟ فالذي حكاه الأكثرون – كما قال الرافعي -: أن نية الزكاة كافية، والقاضي الحسين أبداه على صورة الاحتمال. والذي حكاه الفوراني: مقابله. وقال الإمام: إن الوجهين هاهنا كالوجهين فيما إذا نوى صلاة الظهر ولم يتعرض للفرضية، ثم قال: وهذا فيه نظر؛ فإن الظهر قد يصح نافلةً من الصبي، وممن صلى الظهر منفرداً ثم في جماعة، فإن حمل ذكر الفرضية على هذا كان متجهاً، فأما الزكاة فلا تنقسم. وكل [هذا] تفريع على أن النية في أداء الزكاة لابد منها، وهي طريقة حكاها الشيخ أبو علي، ووراءها طريقة أخرى حاكية لوجهين أو قولين في المسألة: أحدهما: هذا؛ أخذاً من قوله في "المختصر": إذا ولي الرجل زكاة ماله لم يجزئه إلا بنية أنه فرض، والنية هي القصد؛ فإن قضية ذلك اعتبار قصد القلب. والثاني: أنه يكفيه أن يقول بلسانه وإن لم ينو بقلبه؛ أخذاً من قوله في موضع آخر: فإن قال بلسانه: هذا عطاء فرض، أجزأه، وقال في "الأم": سواء نوى في نفسه أو تكلم

فإن ما أعطى فرض. فأقام الكلام مقام النية، وقال فيه: "وإنما منعني أن أجعل النية في الزكاة كنية الصلاة؛ لافتراق الصلاة والزكاة في بعض حاليهما: فتجوز لزكاة قبل وقتها، ويجوز أن يأخذها الوالي من غير طيب نفسه، وهذا لا يجوز في الصلاة". ولأجل ذلك قال القاضي الحسين: إنه ذهب إلى هذا جماعة، واختاره [الشيخ- يعني] القفال – واحتج له أيضاً بوجهين: أحدهما: أن إخراج الزكاة في حال الردة جائز، ومعلوم أن المرتد ليس من أهل النية التي يه قربة؛ فدل على أن لفظه كاف. والثاني: أنه تجزئ في الزكاة النيابة وإن لم يكن النائب من أهلها، فإذا جاز أن ينوب فيها شخص عن شخص جاز أن ينوب اللسان عن القلب، ولا يلزم الحج إذا قلنا: إنه إذا تلفظ بلسانه فيه ولم ينو بقلبه، إنه لا يجزئه؛ فإن النائب فيه لابد وأن يكون من أهل الحج، أما إذا قلنا بأنه يكفي في الحج أيضاً النطق باللسان فقط – كما حكاه القاضي –استوت المسألتان. والصحيح- وإن ثبت الخلاف – الأول، وقد قيل: إنه [من] تخريج ابن القاص، واختاره صاحب "التقريب" وقال: قول الشافعي – رحمه الله -: "فإن قال بلسانه: هذا عطاء فرض، أجزأه"، أراد [أنه] يقول ذلك مع النية بالقلب. وأما الوجه الأول – وهو جواز إخراج الزكاة في حال الردة – فقد [حكينا عن] صاحب "التقريب" احتمالاً في أنه لا يخرجها ما دام مرتداً؛ لأجل النية، وإن سلمنا أنه يخرجها – كما هو الصحيح، وقطع [به] الأصحاب – فلا نسلم أن القصد غير معتبر في حق المرتد. نعم، [لا يتصور منه قصد [هو] قربة، وكما لا يتصور منه ذلك] لا يتصور منه أيضاً لفظ هو قربة، وقد قال القفال: إنه لا يسقط الفرض حتى يقول المرتد: هذا عطاء فرض، فإذا جاز اعتبار اللفظ وإن لم يكن قربة [يجوز اعتبار القصد وإن لم يكن قربة]، على أنا نقول: [إن] الزكاة وإن كانت عبادة مفتقرة

[إلى النية]، لكن للآدمي بها تعلُّقٌ؛ فأشبه الذمية تحت الزوج المسلم تغتسل من الحيض؛ فيحل للزوج وطؤها، وإن كان الغسل بدون النية لا يصح، والوجه الثاني: باطل بالوضوء؛ فإنه يجوز [فيه إنابة] الأهل وغير الأهل، ومع ذلك يقوم القول فيه مقام نية القلب، ويقوم مقام نيته: هذه زكاة مالي الواجبة، بنية: هذه صدقة مالي الواجبة، أو: الصدقة المفروضة. ولا يكفي التعرض لفرض المال بان ينوي أنه فرض، أجمع عليه أصحابنا كما قال في "البحر"، وإن كان ظاهر ما نص عليه الشافعي –رحمه الله – أنه يجوز، وقالوا: معنى النص إذا قال: صدقة مالي فريضة، وإلا فنية الفرض خاصة لا تتمحض للزكاة؛ فإن ذلك قد يكون كفارة ونذراً. وكذا لا يكفي التعرض للصدقة في أصح الوجهين، وبه جزم المعظم؛ لأنها قد تكون نافلة، وإلى هذا يرشد قول الشيخ: "حتى ينوي أنها زكاة ماله أو زكاة واجبة". ولا يشترط بالاتفاق تعيين المال المزكى عنه؛ فإن غرض تنقيص المال ودفع حاجة المساكين، لا يختلف، بل يزكي عن مواشيه ونقوده حتى يخرج تمام الواجب، فلو ملك أربعمائة درهم مثلاً: مائتان حاضرتان ومائتان غائبتان، فأخرج خمسة من غير تعيين – جاز، وكذلك أربعين من الغنم وخمساً من الإبل، فأخرج شاتين أو شاة – جاز. وإذا بان له تلف أحد المالين قبل الإخراج أو تلف بعد الإخراج، فله أن يحسب المخرج عن زكاة الآخر. نعم [لو عين المخرج عن احد المالين، فبان بقاؤه أجزأه، وإن ظهر تلفه لم يكن له أن يصرف المخرج إلى الآخر؛ كما] لو أعتق عبداً عما عليه من الكفارات يجزئه عن واحدة مبهمة. ولو عين عن كفارة، فبان عليه غيرها عتق، ولم يجزئه عما عليه. اللهم إلا أن ينوي أن هذا عن زكاة ماله الغائب إن كان باقياً، وإن كان تالفاً فعن الحاضر؛ فإنه إن بان باقياً وقع عنه لأن نيته اعتضدت بأصل وهو البقاء، وبهذا خالف ما لو نوى: إن كان مورثه قد مات وورث ماله فهذا زكاته، فبان ميتاً – لا يجزئه؛ لأن الأصل بقاء حياة المورث وعدم الإرث، وشبه ذلك

بما لو نوى ليلة الثلاثين من رمضان: أنه صائم غداً [من رمضان] إن كان منه، فبان منه – يجزئه؛ [لأن الأصل بقاؤه]، بخلاف ما لو نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد من رمضان إن كان منه، [فبان منه] – لا يجزئه؛ لأن الأصل بقاء شعبان. ولو بان أن المال الغائب هالك وقع المخرج عنه عند المعظم؛ كما لو نوى أن ذلك عن ماله الغائب [إن كان باقياً، وإن كان تالفاً كان صدقة؛ فإنه إذا بان تالفاً كان صدقة. وعن صاحب "التقريب" احتمال في عدم وقوع المخرج عن الحاضر عند تلف الغائب]؛ لأن النية بالإضافة إليه مترددة غير معتضدة بأصل، بل الأصل يعكر عليها؛ فإنه إنما جعلها عن الحاضر بشرط تلف الغائب، [والأصل في الغائب: البقاء، والفرق بين ذلك وبين ما إذا نوى التطوع عند تلف الغائب]: أن النفل يتساهل فيه. وقد ألحق [بعض] الأصحاب بهذه الصورة: ما إذا نوى أن هذا عن زكاة الغائب إن كان باقياً، فقال: نه إذا بان تالفاً كان له صرف المخرج إلى الحاضر، والأصح في "العدة" وبه جزم البندنيجي وغيره-: [لا]، وليس له أن يرجع فيه إلا إذا صرح فقال: هذا عن زكاة مالي الغائب، فإن كان تالفاً استرددته. وقال الإمام في باب تعجيل الصدقة: إن سبيل ذلك عند تلف المال كسبيل تعجيل الزكاة إذا انخرم شرط من شرائط الإجزاء، والتفصيل المذكور ثمَّ إذا لم تقع الزكاة مجزئة [يجيء في الاسترداد؛ إذ هو بعينه هنا] من غير فصل. ولا خلاف أنه لو نوى: أن هذا عن الغائب إن كان باقياً [أو صدقة، فبان باقياً – لا يجزئه؛ للتردد في أصل النية. نعمن لو نوى أنه عن الغائب إن كان باقياً] أو عن الحاضر، فإنه يجزئه زكاة، سواء كان الغائب سالماً أو تالفاً، حكاه الماوردي والبندنيجي، وأبداه القاضي أبو الطيب احتمالاً لنفسه موجهاً له بأنه لو أطلق اقتضى الإطلاق أن يكون عن أحد المالين، وتعيين المال في الزكاة لا يجب؛ فتقع

هذه الزكاة عن أحدهما، وله أن يعينه من بعد. وقال القاضي الحسين: إنه لو كان له مال بسرخس ومال ببلخ، فأخرج خمسة دراهم، وقال: هذا عن مالي ببلخ أو بسرخس –لا يقع عن واحد منهما؛ لأنه لم يجزم النية. وهذا عين المسألة التي ذكرناها، ومن العجب أن القاضي الحسين حكى – وتبعه الإمام – فيما إذا قال: هذه عن زكاة أحد ماليّ، ولم يعين عن أيهما كان – أنه يجوز، وله التعيين، ولو تلف أحدهما انصرف إلى الباقي. وهذا يقرب من المسألة قبلها. ثم ما ذكرناه من الإجزاء عن المال الغائب عند بقائه صوَّره الماوردي بما إذا كان ماله [الغائب] غير مستقر ببلد وإنما هو سائر في بر أو بحر لا يعرف مكانه، ولا يعلم سلامته، فتبرع وأخرج الزكاة عنه. وقال البندنيجي: إن الشافعي – رحمه الله – فرَّع المسألة على القول بجواز نقل الصدقة، وعلى القولين معاً إذا كانت المسافة قريبة أو بعيدة، ولم يكن أهل السُّهمان في بلد المال [وكان المالك في أقرب البلدان إلى بلد المال] وفيه أهل السهمان. والقاضي أبو الطيب ومن تبعه قالوا: إن ذلك تفريع على جواز النقل، وعلى منعه يحمل ما إذا كان غائباً عن يد صاحبه وهو معه في البلد، أو غائباً في بلد ليس فيه من أهل السهمان أحد. قال: ويجوز أن ينوي قبل حال الدفع، [أي: وبعد] العزل؛ لأنها عبادة يجوز تقديمها على وجوبها من غير عذر؛ فجاز تقديم نيتها عليها، ولأن الفعل غير [مقصود] فيها؛ ولذلك جازت الوكالة فيه. وهذا ما صححه الماوردي وابن الصباغ وصاحب "البحر"، و [ادعى] البندنيجي أنه المذهب، ولم يورد القاضي الحسين في كتاب الصيام غيره، وقال القاضي أبو الطيب، وغيره: إنه خرج من نص الشافعي – رحمه الله – في الكفارات حيث قال: "لا تجزئ حتى ينوي مع التعجيل أو قبله"،

والزكاة كالكفارة بلا فرق. وقيل: لا يجوز؛ لأنها عبادة يدخل فيها بفعله، فاشترط أن تكون النية مقرونة بها كالصلاة. واحترزنا بقولنا: بفعله، عن الصوم، وهذا ما ادعى القاضي الطبري- كما قال في "البحر" – أنه أشبه بمذهب الشافعي – رحمه الله – في "الأم"، وهو جار في الكفارة أيضاً، صرح به البندنيجي وغيره، [ومقابله] حمل النص على ما إذا استصحب النية إلى حال التكفير. أما إذا نوى قبل العزل فقد قال الماوردي في كتاب الأيمان: إنه لا يجزئ وجهاً واحداً؛ لأنها تجردت عن الفعل فكانت قصداً، ولم تكن نية. لكن يخدش هذا ما حكاه الرافعي عن "فتاوي" القفال: أنه لو كانت له حنطة عند غيره وديعة، فقال للمودع: كل منها كذا لنفسك، ونوى أن يكون ذلك عن زكاته – ففيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه؛ لأن المالك لم يكله عليه، وكيله لنفسه لا يعتبر. ومقابله: أنه يجزئه، وإن لم تكن نية المالك قد اقترنت بالعزل. وقد ظهر لك مما ذكرناه أن العبادات أربعة أقسام: قسم لا يجوز تقديم النية عليها، ويشترط أن تكون مقارنة لأولها، وهي الصلاة والطهارة والحج. وقسم يجوز تقديمها عليها، وهل تجب؟ فيه خلاف، وهو صوم الفرض.

وقسم يجوز تأخيرها عن أولها وهو صوم التطوع. وقسم مختلف في جواز التقدم فيه، وهو الزكاة والكفارات، والتضحية ملحقة [بهما، صرح] به الإمام في كتاب الأضحية. قال: وإن دفع إلى وكيله، ونوى وكيله، أي عند الدفع لأهل السُّهمان، ولم ينو رب المال، أي عند الدفع إلى الوكيل – لم يجزئه؛ لأن المتعبد بالزكاة رب المال ولم ينو، ومن طريق الأولى ألا يجزئه إذا لم ينو الوكيل أيضاً، قال ابن الصباغ: وذلك يتصور [بألا ينوي بها الزكاة] ويقصد الصدقة، وهذا بخلاف ما إذا دفع إلى الإمام ولم ينو رب المال ونوى الإمام أو لم ينو على أحد الوجهين كما تقدم. نعم، قال الإمام – وتبعه الغزالي -: لو دفع إلى الوكيل وفوض إليه النية جاز. قال: وإن نوى رب المال، أي: عند الدفع إلى الوكيل لا غير، ولم ينو الوكيل، أي عند الدفع لأهل السهمان أو نائبهم – فقد قيل: يجوز؛ لأن العبادة في إخراج المال وهو للموكل فاكتفى بنيته، وقيل: لا يجوز كما في الحج، وهذا بخلاف ما لو دفع إلى الإمام ونوى ولم ينو الإمام؛ فإنه يجزئه قولاً واحداً؛ لأن الإمام نائب أهل السهمان فأشبه ما لو اقترنت نيته بالدفع لهم. والقائل بالأول فرق بأن العبادة في الحج تؤدي بأفعال النائب؛ فلذلك اشترط الإتيان بنيته، والنائب هنا يؤدي العبادة بمال المستنيب؛ فلذلك كانت نيته هي المعتبرة، والوجهان عند صاحب "التقريب" وغيره مخرجان على الخلاف السابق في تقديم نية رب المال على الصرف: فإن قلنا: يجوز، أجزأت هاهنا، وإلا فلا. قال الإمام: وهذا هو القياس، ومن الأصحاب من قطع هاهنا بالإجزاء، وجعل اقتران النية بالتسليم [إلى الوكيل بمثابة اقترانها بالتسليم] لأهل السهمان، والفرق بينهما قد تقدم. وقد أشار في "الوسيط" إلى هذه الطريقة بقوله: لو قدم النية على التسليم إلى المساكين أو نائبهم فثلاثة أوجه، ثالثها: أنه إن قدم على التنقيص ولكن اقترن بفعله

عند التسليم إلى الوكيل جاز. وأراد بالتنقيص: الصرف إلى أهل السهمان؛ [فإن به] يحصل أداء المال [في يد الوكيل قبل الصرف على ملك رب المال]، حتى لو تلف [كان كما لو تلف] في يده قبل الدفع إلهي. وقد سكت الشيخ عن الحالة التي لا خلاف فيها في الإجزاء، وهي ما إذا نوى الموكل [عند الدفع إلى الوكيل، والوكيل حال الدفع إلى أهل السهمان]، وكذا فيما إذا نوى [الموكل] حال دفع الوكيل [المال] لأهل السهمان، صرح به الإمام. أما الصبي والمجنون فينوي عنهما الولي وجوباً؛ لأن المؤدَّى عنه ليس أهلاً للنية، كما [أنه] ليس أهلاً للقسم والتفريق، فينوب عنه في النية كما في القسمة، فلو دفع من غير نية لم تقع الموقع، وعليه الضمان، قاله ابن كج، ومساق التعليل يقتضي منع إلحاق السفيه بهما؛ لأنه من أهل النية، وفي الاعتداد بنيته نظر، والله أعلم. قال: وإن حصل عند الإمام ماشية، أي زكاة أو غيرها – فالمستحب: أن يسم الإبل والبقر في أصول أفخاذها، والغنم في آذانها؛ لما روى الشافعي – رضي الله عنه – بإسناده "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسم الإبل في أفخاذها"، وروى "أن أنساً دخل

على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسم الغنم في آذانها"؛ فثبت ذلك في الإبل والغنم بالنص، وألحقنا البقر بالإبل؛ لأنها أقرب إليها في القوة والجلادة وخفة الشعر في الأفخاذ، قال الإمام: وكذا الخيل يسمها في الأفخاذ. قال الأصحاب: فالمعنى من الوسم: أن الإمام تكون عنده إبل الجزية وإبل الصدقة والفيء، ولكل صنف جهة ينصرف إليها؛ فلابد من علامة يقع التمييز بها، ولأنه قد يند منها بعير أو تضيع منها بقرة أو شاة، فإذا كانت موسومة حفظها كل من وجدها، ولا يحبسها لقطةً، ولأنه يكره للرجل أن يشتري صدقته، فإذا لم يكن عليها وسم ربما اشتراها و [لا] يعلم أنها صدقته، فإذا كانت موسومة احترز وتجنبها؛ كي لا يقع في المكروه. والمعنى في كونه في الإبل والبقر في الأفخاذ، والغنم في الآذان: أن ذلك موضع يقل فيه الشعر وهو صلب؛ فيخف فيه الألم. ولا يستحب في الوجه، بل يكره؛ لنهي ورد فيه، وهو ما رواه مسلم: "لعن الله فاعله" قال الإمام: والخبر عندنا يقتضي التحريم. وهو الموافق لما في "التهذيب" حيث قال: إنه [لا يجوز]. [قال] في "الروضة": وهو الأقوى. ويستحب [أن تكون سمة الغنم ألطف] من سمة الإبل [والبقر، نص عليه، قال الفوراني: وتكون سمة البقر ألطف من سمة الإبل]؛ لأنها أضعف. قال: فإن كانت من الزكاة كتب: [لله، زكاة أو صدقة]، وإن كانت من الجزية كتب: جزية أو صغاراً؛ لأن بذلك يحصل التمييز المقصود. [وعن بعض شارحي "المختصر": أن الوسم تعذيب للحيوان، والغرض منه

التمييز]، وأنه يحصل بحرف واحد؛ فوجب أن يقنع به. وقد يوجد في بعض نسخ "التنبيه": "وإن كانت من الزكاة كتب: لله، أو: صدقة، [أو زكاة] "، وهو ما نص عليه في "المختصر". وقال في "الحاوي": إن كتابة "لله" أحبها الشافعي – رحمه الله تعالى- تبرُّكاً بذكر الله تعالى واقتداء بالسلف، قال أبو الطيب: ولأنها أسهل وأقل حروفاً، قال الرافعي: وقد استبعد ذلك في "شرح الوجيز"؛ لأن الدواب تتمعك في النجاسات وتضرب أفخاذها بأذنابها وهي نجسة، فلينزَّه اسم الله – تعالى- عنه. وقد رأيت هذا الاستبعاد لبعض المتقدمين ممن شرح "المختصر" وهو القائل بالاكتفاء بحرف واحد. قال: ويجوز أن يجاب عن الأول بأن إثبات اسم الله – تعالى – هاهنا لغرض التمييز والإعلام، لا على قصد الذكر والتبرك، ويختلف التعظيم والاحترام بحسب اختلاف المقصود؛ ألا ترى أن الجنب يحرم عليه قراءة القرآن، ولو أتى ببعض ألفاظه على غير قصد القراءة لا يحرم؟! وعن الثاني: بأن الغرض ظهور الوسم وسهولة الوقوف عليه، وذلك لا يحصل بالحرف الواحد. وحيث جاز الوسم لما ذكرناه – وإن كان فيه تعذيب الحيوان بالنار – فهل يجوز خصيه لأجل طلب سمنه ودفع علته؟ ينظر: إن كان غير مأكول فلا، وإن كان مأكولاً، قال القاضي الحسين: فيحتمل وجهين: أحدهما: يجوز كالوسم؛ فإن فيه تطييب اللحم وقد روي أنه – عليه السلام – ضحَّى بكبشين موجوءين. والثاني: لا يجوز؛ لأن فيه تعذيب الحيوان لغير مأكلةٍ. قال: وعلى هذا تجفيف الملح في الشمس حتى يموت الدود الذي فيه، يخرج على الوجهين. وقال في "التهذيب" – وهو الذي أورده الرافعي -: يجوز خصي ما يؤكل لحمه في

حال الصغر، ولا يجوز في الكبر. وبه يحصل في المسألة ثلاثة أوجه. قال: [ويجب صرف] زكاة المال إلى ثمانية أصناف، أي: إن وجدت؛ للكتاب والسنة والقياس: أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ...} الآية [التوبة: 60]، والدلالة فيها من ثلاثة أوجه قالها أبو الطيب: أحدها: [أنه] أضاف "الصدقات" إليهم بلام التمليك، وعطف بعضهم على بعض بالواو الموضوعة للتشريك، وكل ما يصح أن يملك إذا أضيف إلى من يصح أن يملك، معيَّناً كان أو موصوفاً – اقتضت الإضافة ثبوت الملك له، أصله في المعين ما إذا قال: هذه الدار لزيد وعمرو وبكر، وفي الموصوف ما إذا قال: أوصيت بها للفقراء والمساكين [والغارمين ونحوهم. الثاني: أنه ذكر الفقراء والمساكين،] فجمع بينهما في الذكر، وهو لو اقتصر على ذكر الفقراء لجاز الصرف [إلى الفقراء] والمساكين، وجاز الاقتصار على [الصرف] لأحدهما، [وكذا لو] اقتصر على ذكر المساكين لجاز الصرف لهم وللفقراء، وجاز الصرف لأحدهما، وإنما جمع بين الصنفين في الذكر؛ ليبين أنه لا يجوز الاقتصار على أحدهما؛ فدل على أن صرف الصدقة إلى جميع هذه الأصناف واجب؛ إذ لا قائل بالفرق. الثالث: أنه قال: {فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ} والفرض في اللغة: التقدير، وفي الشرع: الإلزام، واللفظ إذا كان له موجبان: لغوي وشرعي، كان حمله على الشرعي أولى. فإن قيل: [يجوز أن يكون أراد إضافة كل] الصدقات إلى كل الأصناف، لا أنه جعل كل صدقة لكل الأصناف؛ فيدفع صدقة زيد للفقراء، وصدقة عمرو للمساكين، وصدقة بكر للغارمين وهكذا.

قلنا: إن أراد هذا القائل بذلك إذا كان الإمام هو المفرق لها، قلنا له: الحكم عندنا كذلك؛ فإنه لا يجب عليه أن يدفع كل زكاة إلى الأصناف، بل له أن يدفع زكاة الشخص الواحد لصنف [واحد، بل لشخص واحد] إذا عمم جميع الأصناف بالصرف، لكن ليس للآية – كما ستعرفه – بل لأنه نائب أهل السهمان في القبض، فإذا حصلت الزكوات في يده صارت كزكاة الشخص الواحد فيتصرف فيها كما ذكرناه. فإن قلت: هذه العلة تقتضي أن يساوي الساعي الإمام في ذلك، وقد قال في "الحاوي": إن الساعي إذا كان هو الصارف ليس له أن يخص بكل صدقة صنفاً كالإمام؛ لأن نظره خاص لا يستقر إلا على ما جباه، وربما صرف فلمي قبض باقي الأصناف، بخلاف الإمام. نعم، له أن يصرف صدقة كل شخص في جميع الأصناف، وله أن يجمع جميع الصدقات ويفرقها في الأصناف. قلت: [و] قد سوى في "البحر" في موضع منه [بينه وبين الإمام، وعلى تقدير التسليم – وهو ما ذكره في موضع آخر منه] – فقد حصل الفرق بينهما بما ذكرناه، وقد يستدل لذلك بقوله – عليه السلام – لسلمة بن صخر الأنصاري- رضي الله عنه – وقد ظاهر من امرأته وعجز عن الكفارة: "انطلق إلى صدقة بنى زريق فلتدفع إليك، فأطعم منها وسقاً ستين مسكيناً، وكل أنت وعيالك بقيَّتها". وإن أراد بذلك: إذا كان أرباب الأموال [هم] المفرقين فهو خلاف الإجماع؛ لأن أحداً لم يصر إلى إيجاب ذلك. وقد يجوز أن يتفق جميع أهل الصدقات على صرفها كلها في أحد الأصناف، فلا يؤخذ ما ذكر على أن حقيقة هذه الإضافة تقتضي أن تكون كل صدقة لكل من سمي؛ ألا ترى أن رجلاً لو قال: هذه [الدور الثلاثة] لزيد وعمرو وبكر، كانت كل دار بينهم أثلاثاً؟!

وأما السنة فما روى أبو داود عن زياد بن الحارث الصُّدائي قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له النبي: "إن الله لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصَّدقات حتى حكم فيها هو، فجزَّاها ثمانية أجزاء [فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقّك"، فأخبر أنها مقسومة ثمانية أجزاء] وهذا نص لا يحتمل خلافه. وأما القياس: فلأنه مال أضيف شرعاً إلى أصناف [فلم يجز أن يختص به بعض تلك الأصناف كالخمس، أو لأنه مال أضيف إعطاؤه إلى أصناف موصوفين]؛ فلم يجز تخصيص بعضهم به مع وجود بعض كالوصية، وهذا ما عليه جمهور أصحابنا. وقد حكي عن المزني وأبي حفص ابن الوكيل البابشامي أنه يصرف خمسها إلى من يصرف إليه خمس الفيء والغنيمة، وليس بشيء؛ لما ذكرناه. قال أصحابنا: والأصناف الثمانية يستحقون الصدقات للحاجة؛ إلا أن أسباب حاجاتهم مختلفة: فالغزاة وبعض الغارمين والعاملين عليها نعطيهم لحاجاتنا إليهم، وغيرهم نعطيهم لحاجاتهم إلينا، وهم الفقراء والمساكين والمؤلفة قلوبهم، قال القاضي الحسين، على أحد القولين: والرقاب وأحد صنفي الغارمين الذين أدينوا في [مصالح أنفسهم]، وبنو السبيل. فمن دفعت إليه [لحاجته لم يستحقها إلا من الفقر، ومن دفعت إليه] لحاجتنا جاز أن تدفع إليه مع الغني والفقر. وسيأتي على ذلك كلام الشيخ، رحمه الله. ثم ينقسم جميعهم ثلاثة أقسام: [فمنهم] من يأخذها ويستحقها بسبب متقدم وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها؛ لان السبب الذي استحقوا به: الفقر والمسكنة والعمل، وذلك

متقدم على الأخذ، فإذا أخذوا شيئاً استقر ملكهم عليه. ومنهم من يستحقها بسبب متأخر، وهم بنو السبيل والغزاة، فيأخذ ابن السبيل [ليبدأ بالسفر]، ويأخذ الغازي [ليبدأ جهاده، فإذا اخذوا لم يستقر ملكهم إلا بسفر ابن السبيل وجهاد الغازي]، فإن لم يوجد ذلك استرجع منهما؛ لفقد السبب الذي تعين به الأخذ والاستحقاق، وسيكون لنا عودة إلى شيء من ذلك. ومنهم من يأخذ بسبب متقدم واستحقاق مستحدث، وهم المؤلفة قلوبهم والمكاتبون والغارمون، وهؤلاء يستقر ملكهم بتغير نيات المؤلفة، وعتق المكاتبين بأداء ما أخذوه، وقضاء ديون الغارمين بالمقبوض، وهكذا الحكم فيما إذا حصل بالمقبوض توفية بعض النجم والدين، ثم حصل العتق بعده، ولا يستقر بدون ذلك، لكنه لا يسترجع منهم ما دام تغيّر النية ورقُّ المكاتب ودين الغارم. [نعم، لو حصل العتق بغير المال المدفوع، وكذا سقوط دين الغارم] فهل يسترجع منه ما أخذه؟ فيه وجهان في آخر "النهاية"، وادعى في "التتمة" أن الظاهر عدم الاسترجاع [والمذكور في "الحاوي" و"المهذب" وتعليق القاضي الحسين وغيرهم: الاسترجاع] وحكى الإمام [هنا] عن صاحب "التقريب" رواية الطريقين [في المكاتب، وكذا القاضي الحسين حكاهما]: أحداهما: إن كان ما أخذه باقياً استرده قولاً واحداً، وإن كان تالفاً ففي [تغريمه البدل] وجهان. والثانية: إن كان تالفاً فلا يغرم بدله قولاً واحداً، وإن كان باقياً ففي استرداده [وجهان] والجزم بعدم التغريم عند تلفه قبل العتق، هو المذكور في "الوسيط" و"التهذيب"، ونسب الرافعي القول بأنه يغرم في هذه الحالة إلى رواية أبي الفرج

السرخسي، والله أعلم. قال: أحدها: العامل، أي: إذا استعمله الإمام ليأخذ من الصدقات؛ لقوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] ولقوله - عليه السلام -: "لا تحلُّ الصَّدقة لغنيّ إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهداها المسكين للغنيّ" أخرجه ابن ماجه مسنداً. أما إذا استأجره بأجرة من بيت المال، أو جعل له جعلاً من بيت المال - فلا حق له في الصدقات، قال البندنيجي والمتولي، وقال الإمام: إن الظاهر جواز ذلك، ولا يعدم الطالب من فحوى كلام الأصحاب ما يدل على أن حرمان العاملين من الصدقات بالكلية [لا يجوز]. وإنما قدم الشيخ العامل على غيره؛ لأنه المقدم في القسمة على الأصح، وعليه نص الشافعي - رحمه الله - في "المختصر"؛ لأن ما يأخذه عوضٌ؛ فكان أقوى

ممن يأخذ مواساة، وقاله في "المهذب"، ولأن ما يفضل عن أجرة عمله من الثمن يردُّ إلى بقية الأصناف، وكذا ما ينقص عنه يؤخذ من سهامهم على قول، وفي تقديم الصرف إليه معرفة ما يتبقى لهم؛ فتسهل قسمته، ويؤمن معه الاسترجاع والزيادة. والآية وإن بدأ فيها بالفقراء؛ لأنهم أشد الأصناف [حاجة] فلا ترتيب فيها؛ لأن الواو لا تقتضيه، بخلاف كلام الشيخ؛ [فإن مقتضٍ للترتيب؛ فإن الأول يتعقَّبه ثان وثالث، وقد أفهم كلام الشيخ] [أن هذا السهم] إنما يستحق بالعمل؛ لأنه جعل للعامل، وإنما يصدق هذا الاسم عند وجود العمل، والمراد به: قبض الصدقات من أرباب الأموال وما يتوصل به [إليه]، كما دل عليه كلام الأصحاب؛ حيث قالوا: إن رب المال إذا فرق الزكاة بنفسه سقط نصيب العامل، وقسم الزكاة على سبعة أصناف، وليس له أن يقول: اصرفوا إليَّ ما يصرف للعامل؛ لأنه يفعل ما وجب عليه. نعم، قال الإمام: لو كان يحتاج إلى مؤنة في النقل عند مسيس الحاجة إليه فتكليفه المؤنة إثبات غرم عليه زائدٍ على وظيفة الزكاة، وليس في حكم معتدّ حتى يغلظ عليه بإلزامه المؤنة؛ فلا ينقدح إلا أمران: أحدهما: أن يتوقف إلى أن يطرقه المستحقُّ، أو يحسب من الزكاة ما يجوز للساعي أن يحتسبه منها. قال: وهذا يعارضه أن الساعي قابض للمساكين وغيرهم من المستحقين، [والإمام] ناظر لهم نظر الولي للمولَّى عليه، أو نظر القاضي في أموال الغيّب، أو نظر الوكيل للموكل، ولو تلف ما أخذه الساعي كان محسوباً على أهل السّهمان، والزكاة مادامت في يد ملتزمها فهي في ضمانه، هذا وجه التردد، وحيث قالوا: لو دفع رب المال الزكاة إلى الإمام الأعظم أو نائبه على القطر نيابة شاملة لقبض الزكوات وغيرها، [ففرَّقها] – سقط نصيب العامل أيضاً؛ لأن الإمام ونائبه في

القطر يأخذ كفايته من بيت المال على الإمامة والنيابة؛ فلا يجوز أن يأخذ عوضاً عن بعض ما تشتمل عليه الإمامة والنيابة. قال في "البحر": قال القاضي أبو الطيب: سمعت الماسجرجسي يقول: وكذا القضاة إذا أخذوا أجورهم لم يكن لهم أن يدخلوا أيديهم مع كل متولٍّ [في كل وقف]. والذي يتوصل به إلى القبض. العريف: وهوا لذي يعرف العامل أهل الصدقات. والحاشر: وهو الذي يحشرهم إليه، أي: يستدعيهم. والجابي: الذي يجبي الصدقات. والكاتب: الذي يكتبها – يعطون من سهم العامل. لكن قد قال الأصحاب: إنه يعطي من هذا السهم لمن يعرّفه حاجات الأصناف إذا دخل البلد إن كان غريباً، وقضية ذلك: ألا يسقط عند الدفع إلى الإمام والناظر في الإقليم إلا إذا كان عارفاً بحاجات الأصناف. و [أجرة] النقال والجمال إلى أهل الصدقات من الصدقات بلا خلاف، وأجرتهما عند الأخذ من أرباب الأموال من أين تكون؟ فيه وجهان جاريان في أجرة راعيها وحافظها بعد الأخذ: أحدهما: من الصدقات. والثاني: من سهم العامل. حكاهما الماوردي. وفي أجرة الكيَّال والوزّان والعدَّاد عند الأخذ من رب المال وجهان: أحدهما: أنها على رب المال؛ كما يجب ذلك على البائع [في البيع]؛ إذ هو من تمام التسليم، وهذا قول ابن أبي هريرة، والأصح في "الشامل" وغيره، ولم يحك القاضي أبو الطيب غيره. والثاني: أنها على أهل السهمان؛ فتكون من الوسط كأجرة النقال، وهذا قول أبي إسحاق، حكاه البندنيجي، قال في "البحر": وهو الأصح عندي.

وقال الماوردي: عوضه أنها تكون من سهم العامل، وعزاه إلى أبي إسحاق أيضاً. قال: ومن شرطه أن يكون حرّا فقيهاً أميناً، أما وجه اعتبار الحرية والأمانة؛ فلأن ذلك ولاية على مال الغير، والعبد والفاسق ليسا من أهلها، ووجه اعتبار الفقه فيه: أنها ولاية من جهة الشرع [فيما] يفتقر [فيه] إلى الفقه؛ فاعتبر أن يكون المولى عارفاً [به] كالقضاء، والمراد: أن يكون فقيهاً في الزكاة، فيعرف ما تجب فيه من الأموال وقدر نصبها وقدر الواجب، وأوصاف مستحقيها، ومبل استحقاقهم منها، لا أن يكون فقيهاً في غير ذلك. وفي اعتبار الفقه تنبيه على اشتراط الإسلام فيه؛ [لأن] الفقه في الصدقات متوقف عليه؛ إذ أدلته: الكتاب والسنة، وبه صرح الأصحاب موجهين له بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] يعني من دون المسلمين، وروي أن أبا موسى الأشعري رفع إلى عمر حساباً؛ فاستحسنه فقال: من كتب هذا؟ فقال كاتبي، قال: وأين هو؟ قال: هو على باب المسجد، قال: أجنبٌ هو؟ قال: لا، ولكن هو نصراني فقال: لا تأمنوهم وقد خوّنهم الله – تعالى- ولا تقرّبوهم وقد أبعدهم الله! قال: ولا يكون من حرمت عليه الصدقة من ذوي القربى، أي: إذا عمل ليأخذ من الزكاة؛ لقوله – عليه السلام – للفضل بن العباس، وقد طلب منه أن يجعله عاملاً على الصدقة: "أليس في خمس الخمس ما يكفيكم ويغنيكم عن أوساخ النَّاس؟! ". وهذا ما [نص عليه كما] حكاه البندنيجي، و [قال] أبو الطيب غيره: إنه ظاهر المذهب. [وقال القاضي الحسين والشيخ في "المهذب": إنه المهذب].

وقيل: يجوز أن يكون منهم؛ لأن ما يأخذه أجرة فلا تمنع منه القرابة كأجرة النقال والحافظ؛ فإنه يجوز صرفها لهم وفاقاً، كما يجوز صرفها لسيد العبد إذا عمل والكافر وإن لم يكونا من أهل الزكاة، كذا حكاه العراقيون، وقال في "البحر": إنه اختيار القفال، وهوا لذي صححه الإمام في ضمن فرع من الباب، وكذا أبو الحسن العبادي، كما قال الرافعي. وقد يرج حاصل الخلاف إلى [أن] ما يأخذه العامل أجرة أو زكاة؟ وفيه خلاف حكاه الفوراني وغيره، فإن قلنا: أجرة، جاز، وألا فلا. فإن قيل: هذا فاسد؛ لأن الصحيح أنه أجرة كما قال ابن يونس، والمذهب: أنه لا [يجوز أن] يكون من ذوي القربى كما قال هو وغيره؛ فبطل ما ذكرتم. قلت: الصحيح أن ما يأخذه العامل زكاة وإن كان مقدراً بأجرة عمله، وتصرف إليه وإن كان غنيًّا، وهو الذي جزم به الماوردي، وحكاه عن الشافعي – رحمه الله – متمسكاً فيه بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية [التوبة: 60] فشرك في تمليكها بين الفقراء والمساكين والعاملين؛ فلم يجز أن يزال عن الصدقة حكمها باختلاف المتملكين. وقد جعل الإمام شاهد الوجه الأول في أن المأخوذ أجرة: جواز صرف أجرة العامل من سهم المصالح، وشاهد كونه زكاة: منع ذوي القربى منه. ولا خلاف في أنه يجوز أن يكون عاملاً إذا تبرع بالعمل، ويقال: إن الرشيد ولّي الشافعي – رحمه الله – صدقات اليمن. قال ابن الصباغ: وكذا [إذا] عمل على أن يعطي من بيت المال. قال الرافعي: ويجري الوجهان فيما إذا جعل بعض المرتزقة عاملاً. ثم إذا قلنا بالمذهب فعليه فرعان يمكن أخذهما من كلام الشيخ الآتي من بعد:

أحدهما: إذا عدم خمس الخمس، أو وجد، لكن منعوا حقهم منه فهل يجوز أن يكون [منهم]؟ فيه وجهان. الثاني: موالي ذوي القربى هل يجوز أن يكونوا عمالاً؟ فيه وجهان، المذهب في "تعليق" القاضي الحسين: الجواز؛ لأن منع ذوي القربى منه لشرفهم وفضلهم، وهو مفقود في مواليهم. ووجه مقابله: ما روى أبو داود عن أبي رافع – وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على الصدقة من بني مخزوم، فقال لأبي رافع: اصحبني فإنك تصيب منها، قال: حتى آتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله، فأتاه فسأله، فقال: "مولى القوم من أنفسهم، وإنّا لا تحلُّ لنا الصّدقة"، قال الترمذي: وهو حديث حسن صحيح. والرجل الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرقم بن [أبي] الأرقم، وهوا لذي استخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره بمكة في أسفل الصفا حتى كملوا أربعين رجلاً آخرهم عمر بن الخطاب – رضي الله عنهم – وهي التي تعرف بالخيزران. وقد اشترط الأصحاب في العامل أن يكون مكلفاً، وسكوت الشيخ – رحمه الله – عن ذلك؛ للعلم بوضوحه؛ فإن الصبي والمجنون مولّى عليهما، فكيف يليان على غيرهما؟! وأفهم كلامه أنه لا يشترط فيه الذكورة حيث لم يتعرض لها، وهو ما صرح به الماوردي حيث قال: فإذا تكاملت الخصال المذكورة جاز أن يكون عاملاً عليها، سواء كان رجلاً أو امرأة، وإن كرهنا تقليد النساء لذلك؛ لما عليهن من لزوم الحرم؛ لأن المرأة لما جاز [أن تلي أموال الأيتام جاز] أن تلي أموال

الصدقات، وسنذكر عن الروياني وغيره خلافه. وكل هذه الشروط إذا كان التفويض عاماً، فإن عين له الإمام شيئاً يأخذه فلا يعتبر أن يكون فقيهاً. قال الماوردي: وكذا لا يعتبر الإسلام والحرية. قال في "الروضة": [و] في عدم اشتراط الإسلام نظر. قال: ويجعل له الثمن؛ لأن الزكاة إذا قسمت على ثمانية هذا أحدها خصه الثمن، واستغنى الشيخ – رحمه الله – بما ذكره هنا عن أن يذكر فيما بعد عند ذكر كل صنف أنه يجعل له الثمن. ثم ما ذكره في العامل مخصوص بما إذا كان أهل باقي السهام موجودين، فلو فقد بعضهم وقلنا: يقسم سهمه على باقي [أهل] الأصناف [أدخل العامل] في القسمة، وجعل له ما يقتضيه التوزيع من السبع أو السدس أو الخمس، صرح به ابن الصباغ والبندنيجي، وأفهمه كلام الشيخ وغيره. قال: فإن كان الثمن، أي: عند وجود [جميع] الأصناف، أكثر من أجرة عمله – [ردَّ الفاضل؛ لأنه يأخذه في مقابلة عمله فلا يعطي زائداً على ما يقابله وهو أجرة المثل. ثم أجرة العمل] تارة تكون مقدرة في إجارة أو جعالة يقررها الإمام له من مال الزكاة، وتارة يقول له: اعمل بأجرة تأخذها من الزكاة، والكل جائز. قال: على بقية الأصناف؛ كما لو توفر نصيب العامل بجملته. ولو جعل له أكثر من أجرة المثل فتفسد التسمية من أصلها، أو يكون قدر أجرة المثل من الزكاة، وما زاد في خالص مال الإمام؟ فيه وجهان. قال: وإن كان أقل، أي: الثمن أو ما خصَّ العامل من التوزيع تمّم من خمس الخمس في أحد القولين؛ كي لا ينقص كل صنف عما أعطاه الله، ويأخذ العاملون أكثر مما أعطاهم الله من الزكاة. قال: ومن الزكاة [في الثاني، أي]: من حق الأصناف الباقية؛ لأنه يعمل لهم

فأشبه الأجير الذي ينقل المال، ولأنه لما رد عليهم الفاضل رجع عليهم بالناقص، وهذا ما صححه الفوراني والنواوي، واختاره القفال، وهذه طريقة المزني التي حكاها الماوردي لا غير، صححها في "المهذب". وأبدل القاضي أبو الطيب القولين بوجهين، والخلاف مأخوذ من قول الشافعي [في موضع من كتابه] [في "المختصر"]: "كمل من سهم المصالح سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كمَّله من مال أهل السهمان لم أر ذلك ضيّقاً": فمن الأصحاب من أجرى اللفظ على ظاهره، وقال الإمام: مخير: إن شاء أخرجه من سهم المصالح، وإن شاء أخرجه من بقية السهام، والخيرة تتبع الاجتهاد لا على وجه التشهّي، وهذا معزيٌّ في "الشامل" إلى أبي إسحاق، واختاره ابن أبي هريرة كما قال في "البحر"، وقال القاضي أبو الطيب: إنه ظاهر مذهب الشافعي. ومنهم من قال: جواب الشافع محمول على حالين، هؤلاء اختلفوا في الحالين ما هما؟ فمنهم من قال: الموضع الذي قال: يتمم من خمس الخمس، إذا قسم نصيب أهل السّهمان أولا؛ فإنه يعسر الاسترداد منهم، والموضع الذي قال: يتمم من مال أهل السهمان، [إذا كانت البداية بقسمة نصيب العاملين. ومنهم من قال: الموضع الذي قال: يكمل [من مال] أهل السهمان] إذا فضل من استحقاقهم [فضلٌ] فيكمل من الفضل، والموضع الذي قال: من سهم المصالح، إذا لم يفضل من استحقاق أهل السهمان فضل. وهذا مجموع ما ذكره العراقيون. ومنهم من قال: إن كان في بيت المال من سهم المصالح شيء صرف إليه، وإلا فيعطيهم من سهم الصدقات، وهذا ما أورده القاضي الحسين. وقد أغرب صاحب "التقريب" فذكر قولاً آخر في [أصل] المسألة، وهو أنه إذا لم يف سهم العامل بأجرة مثله فليس له إلا ذلك السهم، ولا يكمل من موضع آخر.

قال الإمام: ولو صح هذا للزم على طرده أن يقول: [سهم العامل لو زاد] على أجرة المثل [فله أخذه بالغاً ما بلغ؛ ليعادل اقتصاره على ما يجد وإن نقص عن أجرة المثل]. وهذا بعيد لا يسمح به صاحب "التقريب"، ولم يصر إليه أحد من الأصحاب. قال: والثاني: الفقراء؛ للآية. [قال:] وهم الذين لا يقدرون على ما يقع موقعاً من كفايتهم، هكذا قاله الأصمعي، [واختاره الشافعي] في الجديد، وسنذكر لفظه. ونقل المزني عن الشافعي أنه قال في القديم: الفقير: الزّمن الضعيف الذي لا يسأل الناس. فمن الأصحاب من جعل في اشتراط الزّمانة [وعدم التكسب في إطلاق اسم الفقير قولين، ومنهم من قال: هل يشترط التعفف عن السؤال؟ قولان، فإن قلنا: يشترط، فهل تشترط الزمانة؟] [فيه قولان حكاهما في "البحر"، قال الإمام: وإذا قلنا باشتراط الزّمانة] ففي اشتراط العمى وجهان. والمعتبرون قطعوا بالجديد، وأوّلوا ما نقل عن القديم، وعلى هذا جرى المصنف حيث قال: "فإن رآه قوياً وادعى أنه لا كسب له أعطاه من غير يمين وقيل: يعطي بيمين]، فجزم بإعطائه مع الصحة. و"الفقير" مشتق من انكسار "الفقار" – وهو الظهر- الذي لا تبقى معه قدرة، وقيل: من "الفاقرة"، وهي الداهية العظمى، أو الهلاك المستأصل، أو الشر المجلّي. ثم عدم القرة على ما يقع موقعاً من الكفاية يصدق على من لا يملك شيئاً أصلاً وعلى من يملك قدراً يسيراً لا يقع منه موقعاً، قال البندنيجي: مثل أن يكون كفايته عشرة ودخله الدرهم والدرهمان. قال الرافعي: والثلاثة. وعلى ذلك ينطبق قول الشافعي في الجديد. الفقير: هو الذي لا شيء له، [أو له شيء] لا يقع منه موقعاً. وقال الإمام: إنه الذي لا يملك سبداً ولا لبداً، ولا تالداً ولا طارفاً. ولأجله. قال في

"الوجيز": إنه [الذي] لا يملك شيئاً أصلاً. قال الرافعي: وهو غير معمول بظاهره؛ بل المعنيّ به ما ذكرناه. قلت: ولا جرم أنه قال: لو كان الشخص مالكاً لدار يسكنها وثوباً يلبسه متجملاً به لم يقدح ذلك [في استحقاقه من سهم] الفقراء. وعزاه إلى رواية صاحب "التهذيب" وغيره، وقال: إنهم لم يتعرضوا لعبده الذي يحتاج إلى خدمته، وهو في سائر الصور ملحق بالمسكن. وقال في "الروضة": إن ابن كج تعرض له في كتابه "التجريد" وصرح بأنه كالمسكن، وهو متعين، لكن الإمام قال: إنَّ [ملك] المسكن والخادم لا يمنع من استحقاقه من سهم المسكنة، كما سنصفه. وأما الفقير فلا يحتمل حاله شيئاً من ذلك لا ملك المسكن ولا ملك العبد، وهذا مقوٍّ لإجراء اللفظ على ظاهره على بعد. وكما يصدق عدم القدرة على من ذكرناه يصدق – أيضاً – على من ماله غائب عنه في مسافة القصر، وليس معه ما يقوم بكفايته؛ ولذلك قال البغوي: إنه يجوز له أن يأخذ من الزكاة من سهم الفقراء إلى أن يصل إلى ماله أو يصل ماله إليه. وهو في "تعليق" القاضي الحسين مخرجٌ من نص الشافعي – رحمه الله – على أن من له مال ببلد يدفع إليه من سهم أبناء السبيل [إلى أن يصل إليه، وفي "البحر" أن أبا اسحاق المروزي قال: هذا يعطي من سهم [ابن السبيل]، ولا يعطي من سهم] الفقراء، [وهو ما] يفهم من كلام البندنيجي الذي سنذكره في [صنف] ابن السبيل. وكذا يصدق على من لا شيء له إلا دين مؤجل على إنسان؛

ولأجله صرح الأصحاب بجواز أخذ ما يكفيه من سهم الفقراء إلى حلول الأجل. قال الرافعي: وقد يتردد الناظر في [اشتراط اعتبار] حلوله بقدر مسافة القصر. قلت: [و] لكن ما حكيناه عن نصه في الجديد يخرج من ماله غائبٌ عن اسم الفقر، وكذا من لا شيء له إلا دين مؤجل إذا قلنا: إن الدين مملوك، وإذا كان كذلك فلا ينبغي ان يصرف إليهما من سهم الفقراء، ولم أره لأحد من الأصحاب إلا ما حكيته عن "البحر"، وكذا مقتضى النص [أن] القادر على تحصيلك كفايته، [وكفاية من تلزمه كفايته] بالاكتساب اللائق بحاله، مع وجود من يستكسبه – داخل في اسم الفقر؛ فيجوز الصرف له من سهم الفقراء، ولا قائل به؛ بل جعلوه كالقادر على ذلك بمال معه أو بريع عقار موقوف عليه، وكذلك جعل كالغني من سقوط نفقته عن والديه ومولوديه، ووجوبها عليه لوالديه ومولوديه، وقد قال – عليه السلام -: "ولاحظَّ فيها لغنيّ ولا لذي مرّةٍ سويّ" وهي [القوة]،ويروي:"ولا لذي قوَّة مكتسب"، فسوّى بين الغني والمكتسب، وحينئذ فعبارة الشيخ –رحمه الله – أجمع للمقصود من غيرها. نعم، لو كان قادراً على الاكتساب لكنه لو اكتسب لذهبت مروءته كأولاد الدهاقنة

والرؤساء وذوي المروءات، أو كان مشتغلاً بالعلوم الشرعية فلو اكتسب لتعطل عليه الاشتغال – فلا يقدح ذلك في استحقاقه، صرح به في الحالة الأولى القاضي الحسين في "تعليقه" والغزالي في "فتاويه"، وفي الحالة الثانية: الجمهور، موجّهين له بأن تحصيلها من فروض الكفايات، وفي "الروضة" أن الدارمي ذكر فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كان نجيباً يرجى تفقُّهه، ونفع الناس به استحق، وإلا فلا. وبالاتفاق لا يعطي للمعطل المعتكف في المدرسة، ولا يتأتى منه التحصيل؛ إذا كان قادراً على كسب كفايته، وكذا من أقبل على نوافل العبادات، وكان الكسب يمنعه عنها أو عن استغراق الوقت بها؛ لأن الكسب وقطع الطمع عما في أيدي الناس أولى من الإقبال على النوافل مع الطمع. ولو لم يجد من يقدر على الاكتساب اللائق بحاله من يستكسبه حلت له الزكاة. ثم ظاهر النص [يقتضي] أن المستغني بنفقة غيره بسبب قرابة أو زوجية، داخلٌ في اسم الفقر؛ [لأنه] لا يملك ما يأخذه إلا شيئاً فشيئاً، وقضيته أن يصرف إليه من سهم الفقراء [وقد ادعى الإمام أنه لا يصرف إليه من سهم الفقراء]. وهل يصرف إليه من سهم المساكين [أم لا]؟ فيه خلاف [سنذكره عن غيره في استحقاقه من سهم الفقراء، وقد صرح الرافعي بأنه هل يصرف [إليه] من سهم الفقراء أم لا؟ فيه خلاف] مرتب على ما إذا أوصى أو وقف على أقارب فلانٍ الفقراء، وفيهم من هو في نفقة غيره: هل يصرف إليه من الوقف أو الوصية [أم لا]؟ وفيه أربعة أوجه عن حكاية الشيخ أبي علي في "الشرح": أحدها- وبه قال ابن الحداد -: نعم. [والثاني]: ويحكي عن [أبي زيد والخضري]-: لا.

والثالث: - عن الأودني-: [أن من] في نفقة قريبه يستحق، دون الزوجة. والرابع: عكسه. فإن قلنا: لا استحقاق له في الوقف والوصية، فمن الزكاة أولى، وهذا أصح [على] ما ذكره الشيخ أبو علي وغيره. وإن قلنا: له حق هناك، فهاهنا وجهان: أصحهما: أن الجواب كذلك. والثاني: المنع، وبه قال ابن الحداد. والفرق: أن الاستحقاق في الوقف باسم الفقر، ولا يزول اسم الفقر بقيام غيره بأمره، والاستحقاق في الزكاة بالحاجة، ولا حاجة مع توجه النفقة على الغير؛ فأشبه المكتسب الذي يكتسب كل يوم قدر كفايته؛ فإنه لا تصرف له الزكاة وإن كان معدوداً في الفقراء. قال الرافعي: ومن قال بالأول منع هذا وقال: الاستحقاقان منوطان بالفقر؛ فوجبت التسوية. والذي أورده القاضي أبو الطيب في أثناء مسألة من الباب منع الصرف للمستغني بنفقة القريب كالمستغني بريع وقفٍ وُقِفَ عليه، وذلك في الزوجة من طريق الأولى؛ لما سنذكره، وهذا ما ينطبق عليه قول الشيخ؛ لأن هذا يقدر على كفايته أو على ما يقع موقعاً منها، وحكى في "التتمة" في القريب الوجه الآخر: أنه يصرف إليه، وفرق بين استغنائه بما يجب له على قريبه، وبما يستحقه من ريع الوقف؛ فإن استغناءه بقريبه يزول بأخذه الزكاة، ولا كذلك استغناؤه بريع الوقف؛ فإنه لا يزول بأخذها. قلت: اللهم إلا أن يكون موقوفاً عليه بشرط أن يكون فقيراً فحينئذ لا فرق بينهما، [و] لما ذكره من الفرق كان المشهور من المذهب- كما قال-: أن الزوجة لا

يصرف لها من سهم الفقراء شيء؛ لأن استغناءها بالنفقة لا يزول بأخذها الزكاة. نعم، قال القفال: إن كانت لا تستغني بما تأخذه من النفقة؛ بأن كان لها من تلزمها نفقته، أي من رقيق، أو كانت مريضة، وقلنا: لا تستحق المداواة على الزوج، أو كانت كثيرة الأكل لا تكتفي بالقدر المستحق لها-[فلها] أخذها. قلت: و] ينبغي أن يكون أخذها [حينئذ] من سهم [المساكين كما] قال الإمام. وعلى الأول لو نشزت لم يجز الصرف إليها، وإن كانت [لا] نفقة لها على الزوج؛ لأنها قادرة على إيجابها عليه بالعود إلى الطاعة، قاله القاضي الحسين وغيره، ونسبه الإمام إلى قول العراقيين، وقال الرافعي: إن به أجاب الشيخ أبو محمد. وقال في "التهذيب": إنه يجوز أن تعطي؛ لأنه لا نفقة لها. قال: فيدفع إليهم ما تزول به حاجتهم؛ لأنه المقصود بدفع الزكاة إليهم، والدفع يكون من الثُّمن كما تقدم، فإن كفى بعضه فذاك، وألا استوعب. قال: من أداةٍ يكتسب بها، أي من هو ذو صنعة منهم، وكذا يعطي ما يكفيه إلى أن تحصل له الأداة. قاله الإمام. والأداة – بفتح الهمزة -: الآلة. قال: أو مالٍ يتجر به، أي: من هو متعود بالجارة – و"يتجر": يقال بإسكان التاء وتشديدها – ولا مردَّ لما يدفع إليه من المال بسبب التجارة [إلا العادة، فإذا كان] البقلي يكتفي بخمسة دراهم، والباقلاني [يكتفي] بعشرة دراهم، والفاكهاني بعشرين، والخباز بخمسين، والبقال بمائة، والعطار بألف، والبزاز بألفي درهم، [والصيرفي بخمسة آلاف درهم]، والجوهري بعشرة

آلاف درهم- أعطي ذلك أو ما يتممه، كذا قاله الماوردي، ومفهومه: إذا كان واحداً ممن ذكرناهم يكتفي بأقل من ذلك أو لا يكتفي إلا بأكثر منه، كان قدر كفايته هو المعتبر، وعليه ينطبق قول غيره: إن المرجع في ذلك إلى عادته، حتى لو كان لا يحسن التجارة إلا بألف، أعطي ذلك. وجعل في "البحر" كفاية من ذكرناهم مقدرة بالمبالغ المذكورة من غير نظر إلى العادة، وذلك يقتضي ألا يزاد عليها ولا ينقص وإن كان العرف على خلافها. ولا جرم قال بعضهم: إن ذلك ليس بشيء، بل المحكم فيها العرف. ومن ليس من [أهل] الصناعة والتجارة، بل من المشتغلين بالعلم، ومن يستغلُّ الضّياع والعقار – يعطي ما يشتري به من العقار والضياع ما يكفيه غلته لنفسه وعائلته على الدوام. [و] قال أبو العباس بن القاص في "المفتاح" – كما قال في "البحر"-: يعطي الفقير والمسكين ما يتمم له قوت [سنة له] ولعياله، ولا يزاد على ذلك؛ لأن الزكاة تتكرر بتكرر الأعوام، ولأنه – عليه السلام –كان يدخر لأهله قوت عام، وبهذا قال الغزالي والبغوي، وجزم به الرافعي في "المحرر" كذا قال في "الروضة". وقد رجع حاصل الخلاف إلى [أن]: المعتبر كفايته عاماً، أو كفايته مدة حياته؟ لأنا إذا دفعنا له الآلة ورأس مال التجارة وثمن الضيعة كفيناه مؤنة عمره؛ لأن ما يحصل من ذلك وإن كان شيئاً فشيئاً يكفيه عند حاجته إليه؛ ولذلك قلنا: من يقدر على اكتساب ما يكفيه لنفسه ولعياله يوماً فيوماً، لا يصرف إليه من سهم الفقر والمسكنة شيء، والمنصوص: اعتبار كفاية العمر [الغالب] كما قال في "البحر" و"الروضة"، وكلام الجمهور عليه. [و] في "التتمة" إشارة إلى رفع الخلاف وتنزيل الكلامين على حالين: إن

أمكنه إعطاء ما تحصل منه كفايته أعطاه، وألا أعطاه كفاية سنة. ورد عليه الرافعي بما لا يكاد يتجه. وقد أبدى الإمام تردداً فيما إذا أراد أن يصرف الشخص الواحد [للفقير ما] يخرجه عن حد المسكنة دفعة واحدة: هل يجوز أم لا؟ فقال: [يحتمل أن يقال]: له ذلك، ويجوز أن يقال: لا يدفع إلى الفقير من سهم الفقراء إلا أقل القليل، والمرعيّ أن يخرج عن حد الفقر، فإذا صار إلى حد المسكنة، صرف إليه تتمة [الكفاية من سهم المسكنة، قال: وهذا الالتفات على أكل الميتة؛ فإنا قد نقول: يرعى غاية الضرورة في] الإقدام على الأكل ثم تردد الرأس] في أنه هل يزيد على سد الرمق، والأشبه عندي بالقواعد: جواز الصرف له كفايته. نعم، لو صرف له ما أخرجه عن حد الفقر، ثم رام غيره أن يصرف له تتمة كفايته – [فلا يعطيه إلا من سهم المسكنة، ولو رام هو بعينه أن يصرف إليه تتمة كفايته] [من سهم الفقراء – والتفريع على أن له أن يعطيه] [كفايته] دفعة واحدة منه – فهل يجوز؟ قال: هذا فيه تردد فإنه؛ يجوز أن يمتنع في دفعتين لتعدد الفعل وتميز الآخر عن الأول، ويجوز أن ينظر إلى اتحاد الدافع. قال: ولا شك أن ذلك في زكاة السنة الواحدة، فإذا تعددت السنة وفي يد الفقير بعينه مما كان أخذ ما يخرجه عن حد الفقر، فلا يعطي ذلك الشخص بعينه إلا من سهم المسكنة. والله أعلم. قال: فإن عرف رجل بالغنى، ثم ادعى الفقر لم يدفع إليه إلا ببينة؛ لأن الأصل بقاء غناه، وما ادعاه يمكن إقامة البينة عليه فكلف إقامتها، ثم البينة إن شهدت بتلف ماله الذي عرف غناه به كفى فيها –كما قال الماوردي – شاهدان، أو شاهد [واحد] وامرأتان، ولا يشترط أن يكونا من أهل الخبرة الباطنة، وإن شهدت البينة بفقره فلابد أن تكون من أهل الخبرة الباطنة بحاله، وفي عددها وجهان في "الحاوي":

أحدهما: اثنان ذكران. والثاني: ثلاثة، وهو المذكور في "الإبانة" و"التتمة" كما ستعرفه في باب التفليس، وثمّ حكينا عن الإمام تزييفه، ووجهاً آخر عن رواية الشيخ أبي علي فليطلب منه. أما إذا لم تعرف حاله، وادعى الفقر – قبل قولهن قال البندنيجي: بغير يمين؛ لأن دعواه موافقة للأصل، وقال في "التتمة": إن في قبول قوله من غير يمين، الوجهين الآتيين فيما إذا رآه قوياً وادعى أنه لا كسب له. والفقر: بفتح الفاء، وضمها. قال: والثالث: المساكين؛ [للآية]، وهم الذين يقدرون على ما يقع موقعاً من كفايتهم ولا يكفيهم، أي: مثل أن يحتاج الواحد منهم إلى عشرة وهو يقدر على سبعة أو ثمانية، [إما بتجارة] أو بصناعة أو من أجرة ضيعة، ونحو ذلك، هكذا فسره الأصمعي واختاره الشافعي – رحمه الله – ولا فرق عنده بين أن يكون ما يملكه من المال نصاباً من الأثمان أو أكثر منه، حال عليه الحول أو لا، فتؤخذ منه الزكاة ويصرف له من الزكاة، ولا فرق بين أن يكون ممن يسأل أو لا، وقد نقل المزني أنه قال في القديم: "المسكين: هو الذي يسأل"، فأفهم [أن] في المسألة قولين. قلت: ويدل على ما قاله في القديم، قوله – عليه السلام- في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة – رضي الله عنه -:"ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتَّمرتان والأكلة والأكلتان؛ ولكنّ المسكين الذي لا يسأل النَّاس شيئاً، ولا يفطنون [به] [فيعطونه] "؛ لأنه لو لم يكن المسكين عندهم هو

السائل لم ينفه – عليه السلام – [ونفي رسول الله صلى الله عليه وسلم] اسم المسكنة عنه؛ لأنه بمسألته تأتيه الكفاية، وقد تأتيه زيادة عليها؛ فسقط اسم المسكنة. والأكلة في الحديث: بالضم، وهي اللقمة، وهي بالفتح: المرة الواحدة مع الاستيفاء. والذي عليه أكثر الأصحاب: أن المسألة ليست على قولين، بل على قول واحد وهو الأول، وقول الشافعي – رحمه الله -:"إن المسكين هو السائل"، أراد به أن الغالب ممن يسأل أنه يجد شيئاً. وإذ [قد] عرفت حد [الفقير والمسكين] عرفت أن الفقير عند الشافعي – رحمه الله –أشد حالاً من المسكين، وعكسه أبو إسحاق المروزي فقال: المسكين أشد حالاً من الفقير، وبه قال الفراء والقتبي؛ لقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] أي: ألصق جلده بالتراب للعجز وغير ذلك، وحجة الشافعي – رحمه الله – قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] فأثبت لهم ملكاً، وبدأ الله تعالى – في الآية بالفقراء، وعادة العرب البدأة بالأهم فالأهم؛ ولأن "الفقر" مشتق مما ذكرناه، و"المسكنة" مشتقة من التمسكن" وهو الخضوع، أو من "السكون"؛ لأن له شيئاً يسكن إليه، [وأيَّاً ما] كان فهو أخف حالاً من الأول. قال الأصحاب: والخلاف المذكور لا تظهر له فائدة في الزكاة؛ فإنه لابد من إعطاء الصنفين، وإنما يظهر فيما إذا أوصى للفقراء [بمائة وللمساكين بخمسين، أو بالعكس، أو أوصى للفقراء] دون المساكين، أو بالعكس، أو نذر التصدق على الفقراء دون المساكين، أو بالعكس، [أو وقف على نحو ذلك]، وألا فهو لو أوصى أو وقف أو نذر التصدق على الفقراء أو المساكين [جاز أن يصرف إلى الصنفين، وجاز أن يصرف للفقراء فقط وإن ذكر المساكين،] وللمساكين فقط وإن ذكر الفقراء، كما

قدمنا حكايته عن رواية القاضي أبي الطيب. وفي "تعليق" البندنيجي هنا: أنه إذا أوصى للفقراء أو المساكين جاز أن يصرف إليهما، والذي وقع النص عليه لا يخرج عن العطية، وقد يؤخذ ذلك من قول الشافعي – رحمه الله – الذي حكاه القاضي الحسين: هما اسمان يفترقان إذا اجتمعا، [ويجتمعان إذا افترقا]؛كما في اسم البائع والمشتري، وكما في اسم الفيء والغنيمة. وقال القاضي الحسين بعد حكايته جواز الصرف للصنفين عند الإضافة إلى أحدهما: وفي قلبي من هذا غصة، ولم أره للشافعي – رحمه الله – وعندي أنه إذا أوصى للفقراء لا يصرف إلى المساكين، ولو أوصى للمساكين جاز أن يعطي لهما جميعاً. وهذا قد حكاه غيره عن أبي إسحاق كما ستعرفه [في موضعه]. قال: فيدفع إليهم ما يتم به الكفاية، أي: من الثُّمن، فإن لم يحصل إلا بجميعه دفع إليهم. فعلى هذا قال البندنيجي وغيره: يعطي من يحتاج في كل [يوم] إلى عشرة [ومتحصَّله ثمانية ما يتمم له العشرة]، فإن كان صانعاً [أعطي ما يتم له ذلك إلى نهاية عمره، وإن كان تاجراً] أعطي من المال ما يحصل له من ربحه تمام العشرة وإن كان يملك ألف دينار، وإن كان ممن يستغلّ العقار أعطي ما يشتري به عقاراً يتمم بريعه العشرة. وإن كان الواحد منهم لا يستقل بنفسه ما لم يخدم، وكان له خادم-فقد قال الشيخ أبو محمد: إنه غير محسوب عليه إذا لم يكن نفيساً، وكذلك لا يحسب [عليه] مسكنه الذي يأويه ويأوي عائلته كما قلنا: إنه لا يباع ذلك في الكفارة المرتبة، وقال الإمام: إن ذلك ظاهر في المسكن، وكذا

الخادم الذي يحتاجه لضعف بدنه أو ضعف بصره، أما إذا كان يحتاجه لكونه مخدوماً [لمروءته] ومرتبته في النسا، بحيث لو تكلف خدمة نفسه لانخرمت مروءته- ففيه بعض النظر، ولا يمتنع [أن يفرق] الفارق بين ما نحن فيه والكفارة؛ لأن الكفارات يتطرق إليها توسعات من أدناها! أنها لا تثبت على الفور، وليس في الانتقال من أصل إلى بدل إسقاط الكفارة رأساً، والزكاة مثبتة؛ لشدة [الحاجة] في الفقير والمسكين. ولو كان له كتب فقه [هو محتاج] إليها فقد قال في "الإحياء": إنها لا تخرجه عن المسكنة ولا تلزمه زكاة الفطر، وحكم كتابه حكم أثاث البيت؛ لأنه محتاج إليه، لكن ينبغي أن يحتاط في الحاجة إلى الكتاب؛ فالكتاب يحتاج إليه لثلاثة أغراض: التعليم، والتفرج بالمطالعة، والاستفادة: فالتفرج لا يعد حاجة: كاقتناء كتب الشعر والتواريخ ونحوها مما لا ينفع في الآخرة ولا في الدنيا، فهذا يباع في الكفارة وزكاة الفطر ويمنع اسم المسكنة. وأما حاجة التعليم: فإن كان للتكسُّب كالمؤدّب والمدرّس بأجرة فهذه آلته؛ فلا تباع في الفطرة كآلة الخياط، وإن كان يدرس للقيام بفرض الكفاية لم تبع ولا تسلبه اسم المسكنة؛ لأنها حاجة مهمة. وأما حاجة الاستفادة والتعلم من الكتاب كادّخاره كتاب طب ليعالج به نفسه أو كتاب وعظ ليطالعه ويتعظ به، فإن كان في البلد طبيب وواعظ فهو مستغنٍ عن الكتاب، وإلا فهو محتاج، ثم ربما لا يحتاج إلى مطالعته إلا بعد مدة؛ فينبغي أن

يضبط فيقال: ما لا يحتاج إليه في السنة فهو مستغن عنه، [وحاجته] بأثاث البيت وثياب البدن مقدرة بالسنة، ولا تباع ثياب الشتاء في الصيف، ولا ثياب الصيف في الشتاء، والكتب بالثياب أشبه، وقد يكون له من كتاب نسختان فيكتفي بالأصح منهما. نعم، لو كان له من علم واحد كتابان: أحدهما مبسوط، والآخر وجيز: فإن كان مقصوده الاستفادة فليكتف بالبسيط، وإن كان قصده التدريس احتاج إليهما. قال في "الروضة": وما قاله حسن إلا في كتاب الوعظ أنه يكتفي بالواعظ، فليس بمختار؛ لأنه ليس كل أحد ينتفع بالواعظ كانتفاعه في خلوته [و] على حسب إرادته. وقد شرع الإمام بعد ذلك في بيان ما تندفع به حاجة المسكين، فقال كلاماً يختص بعضه بالفقير فاعرفه لتلحقه بموضعه، وصورته: المسكين: يأخذ بعضه إلى الاكتفاء والانتهاء إلى مبلغ يفي [فيه] دخله بخرجه، ثم لا ينظر في هذا إلى ما يكفيه مدة [عمره] أو سنةً؛ فإن الذي يملك عشرين ديناراً لو كان يتَّجر ودخله من الربح لا يفي [خرجه، فهو من المساكين في الحال، وإن كان ما في يده يكفيه لسنة فالمرعيّ أن يتموَّل مقداراً ينتظم له منه دخلٌ يفي] بخرجه على ممر الزمان، وإن كان لا يحسن تصرفاً فالأقرب في ذلك: أن يملَّك ما يكفيه في العمر الغالب. كذا أشار إليه شيخي، وفيه يما ينبو عنه القلب؛ فإنه إذا كان [له] خمس عشرة سنة وقد يحتاج في السنة إلى عشرة، فما ذكرناه يؤدي إلى أن يجمع له مالاً جمًّا لا يليق بقواعد الكفايات في مطرد العادات؛ فالقريب من الفقه أن نقول: إن كان يحسن التجارة ملَّكناه مقداراً يرد عليه التصرف فيه ما يكفيه، ثم لا يحطه من الكفاية شيئاً، ولكن يكتفي بما يراه أدنى درجات الكفاية.

وإن كان ممن لا يتصرف ولا يتجر فقد يتمكن من نصب عامل يحسن التجارة؛ فيرجع الترتيب إلى ما تقدم، وإن عسر هذا وأمكن تصوير العسر فيه فالظاهر عندي: ألا يزاد على نفقة سنة؛ فإن للسنة اختصاصاً بالزكاة فإنها تبج في السنة مرة، وهي في كفاية المحتاجين تنزل منزلة النفقة الحاجية في كفاية من [ينفق] الإنسان عليه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدَّخر لأهله قوت سنة. وسنذكر في الأطعمة أو حيث يتفق: أن المجاعة إذا عظمت فلا يدخر الإنسان لنفسه وعياله إلا قوت سنة؛ فيجب التعويل على هذا، وما ذكره من اعتبار السنة قد قدمنا حكايته عن غيره، وما ادعاه من أنها في كفاية المتحاجين تنزل منزلة النفقة الحاجية أخذه من كلام القاضي الحسين؛ فإنه قال ذلك، وقال في أوائل كتاب الزكاة: إنه قيل: لو أخرج الأغنياء جميع ما يجب عليهم من حقوق الله تعالى، ولا يزيد الفقراء في السؤال على قدر الحاجة- ما بقي في الدنيا خلَّة إلا وقد انسدّت. قال: فإن رآه قويّاً، وادعى أنه لا كسب له، أي: واتهمه - أعطاه من غير يمين، أي بعد وعظه وتخويفه، لما روي: أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها، فرفع فيهما النظر وخفضه، فرآهما جلدين، فقال: "إن شئتما أعطيتكما، ولاحظ فيها لغنيّ ولا لذي قوّةٍ مكتسب"، أخرجه أبو داود، ورواه الطحاوي في "بيان المشكل". ووجه الدلالة منه: أنه لم يعلق إعطاءه بحلفهما، وهذا أصح في "التهذيب". وقيل: يعطي بيمين؛ لأن الظاهر أنه مكتسب وأنه لا يستحق، وهذا ما أورده العراقيون، وقال الرافعي: إن من الأصحاب من يقول: تحليفه عند التهمة واجب أو مستحب؟ فيه وجهان، قال: ويشبه أن يكون المراد منهما شيئاً واحداً، لكن الغزالي في "الوسيط" جمع بينهما، فقال – تبعاً للإمام – في تحليفه وجهين: إن حلفناه فهو

واجب أو مستحب؟ [فيه] وجهان، ثم إن أوجبنا اليمين فنكل لم يعط، وإن قلنا: إنها مستحبة، فيجوز أن يعطين وإن رآه ضعيفاً لكبر سنه أو نحافة بدنه أعطاه من غير يمين، قولاً واحداً. قال: وإن ادعى عيالاً، أي: ولا يفي ماله بكفايته وكفايتهم – لم يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل عدم العيال، ويمكنه إقامة البينة على ذلكن وهذا ما أورده البغوي، وقال الرافعي: إنه الأظهر، وحكى القاضي أبو الطب وغيره وجهاً آخر: أنه يقبل قوله من غير بينة؛ كما يقبل قوله في أنه فقير، قال الماوردي: وعلى هذا فلابد من يمينه وجهاً واحداً؛ لأنه يستزيدها على حق نفسه، والله أعلم. قال: والرابع: المؤلفة، أي: إن احتيج إليهم كما [قال] في "المختصر"؛ لقوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] [والمؤلف: تؤلِّف واستميل] بالعطاء؛ نظراً لإصلاح المسلمين، ولهذا سموا: مؤلفة. قال: وهم ضربان، أي المؤلفة من حيث هي مؤلفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المؤلفة التي هي أحد الأصناف الثمانية ضربان؛ لأن أحد الضربين – كما قال – مؤلفَّة الكفار، وليسوا ممن يأخذون الزكاة كما ستعرفه. والضَّرب: الصنف من الشيء. قال: مؤلفة الكفار، ومؤلفة المسلمين، فأما مؤلفة الكفار فضربان: من يرجى إسلامهن أي لحسن نيته في الإسلام، ومن يخاف شره، أي في الإقامة أو السفر، ولا يقدر الإمام على دفعه. قال: فيعطون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان بن أمية وعامر بن الطُّفيل، وهما من الضرب الأول، والمعنى فيه تقوية نيتهما في الإسلام حتى يسلما، وأعطى عامر ابن الطفيل وقد كان ذا غلظة على المسلمين، ولذلك [قتل] أهل بئر معونة، وكان – عليه السلام – يتألفه، فأتى المدينة وقال: يا رسول الله، شاركني في أمرك وكن أنت على المدر وأنا على الوبر فقال: "لم يجعل الله ذلك لي"، قال: والله، لأملأنّها عليك خيلاً

ورجالاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يأبي الله [ذلك، وأبناء قيلة" يعني الأنصار، فخرج من عنده بأخبث نية؛ فأخذته [غدَّةٌ مات بها]. وهذان من] الضرب الثاني، والمعنى في إعطائهم: الانكفاف عن الشر. وإذا ثبت أنه – عليه السلام – دفع إليهم لهذا المعنى وهو موجود اتبعناه؛ لأن لنا فيه أسوةً حسنة. قال: من خمس الخمس؛ لأنه لا سبيل إلى إعطائهما من الزكاة لكفرهم – كما ستعرفه – ولا من أربعة أخماس الفيء والغنيمة؛ لأنه للمقاتلة، وليسا منهم، فتعيّن الصرف من خمس الخمس؛ لأنه مرصدٌ للمصالح، وهذا منها. وللشافعي – رحمه الله – قول آخر، حكاه في "المهذب" وغيره، وصححه الرافعي: أنهم لا يعطون منه أيضاً؛ لأن الله قد أعز الإسلام وأهله بما أعطاهم من قوة وزادهم من قدرة، [عن أن يتألفوا] بأموالهم شركاء، وقد روي عن عمر – رضي الله عنه – [أنه] قال حين سأله رجل من المشركين شيئاً من المال، فلم يعطه. "إنا لا نعطي على الإسلام شيئاً، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، وفيه إشارة أن

النبي صلى الله عليه وسلم إنما دفع؛ لأن الإسلام كان ضعيفاً والشرك قويًّا. قال الأصحاب: ولأنه يحتمل أن يكون إنما أعطى من خمس الخمس؛ لأنه كان [له أن] يصرفه [حيث] شاء. قال الرافعي: وقد أشار بعضهم إلى رفع الخلاف، فقال: لا يعطون إلا أن ينزل [بالمسلمين] نازلة وتمس الحاجة إليهم. قال: ومؤلفة المسلمين ضربان، أي: وكل ضرب منهما يشتمل على ضربين: فالأول - كما قال – [ضرب] لهم شرفٌ يرجى بعطيتهم إسلام نظرائهم، أي: أمثالهم؛ لأن النظير: المثل، وكذا النظر، بكسر النون وإسكان الظاء. وقوم يرجى [حسن] إسلامهم، أي: ولهم أيضاً شرف، وإن لم يعطوا ربما أفضى بهم ضعف نياتهم إلى الردة. قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم، أي: يعطي ضربي هذا الضرب؛ لأنه أعطى الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم، وهما من الضرب الأول منه، وأعطى صفوان بن أمية والأقرع بن حابس وعينة بن حصن، كلاّ منهم مائة من الإبل، وهم من الضرب الثاني منه.

قال: وأما بعده ففيه، [أي: في هذا الضرب]، ثلاثة أقوال: أحدها: لا يعطون؛ لما ذكرناه في مؤلفة الكفار، وقد روي أن [عمر و] عثمان وعليا – رضي الله عنهم – لم يعطوه شيئاً. وهذا ما ادعى الرافعي أن الشيخ أبا حامد في شرذمة صححوه. والثاني: يعطون من سهم المؤلفة؛ للآية؛ واقتداء بأبي بكر – رضي الله عنه – فإنه دفع لعدي بن حاتم الطائي حين أتاه بثلاثمائة بعير من صدقات قومه، ثلاثين بعيراً ليتألف بها قومه، قال الأئمة: والظاهر: أنه أعطاه [من الزكاة، وهذا ما صححه النواوي. والثالث: يعطون] من خمس الخمس؛ لأنه مرصدٌ للمصالح، وهذه مصلحة. قال الماوردي: وعلى القولين يعطون [مع الغني والفقر]. وحكى الإمام عن صاحب "التقريب" أنه أجرى في إعطاء من يرجى حسن إسلامهم – إذا قلنا به – الأقوال الآتية في الضرب الآخر، ويجري القولان المذكوران في الكتاب في أنهم يعطون من سهم المؤلفة، أو من خمس الخمس – كما قال الفوراني – فيمن هو شريف في قومه غير صادق النية في القتال والجهاد. قال: وفيه قول ثالث: أنه يجوز أن يعطي من الصدقات من سهم سبيل الله لا من سهم المؤلفة.

قال: وضربٌ في طرف بلاد الإسلام، أي وهم ضربان – كما تقدم -: قوم إن أعطوا دفعوا – أي بالقتال – الكفار أو البغاة أو المرتدين الذين بجوارهم، عن المسلمين، أي: الذين بجوارهم وضعفوا عن دفعهم. وإن لم يعطوا لم يدفعوا: إما لفقرهم، وإما لضعف نيتهم في الإسلام – كما قاله الماوردي – [واحتاج الإمام إلى مونة ثقيلة لتجهيز جيش لهم حتى يندفعوا عنهم. وقوم إن أعطوا جَبَوْا الصدقات ممن يليهم، أي: بالقتال كما قال الماوردي] أو بغير قتال، بل لشدتهم وخوفهم منهم كما قاله غيره، وإن لم يعطوا لم يجبوها، واحتاج الإمام إلى مؤنة ثقيلة لتجهيز من يجيبها منهم، وهذا الضرب يعطي بلا خلاف، لكن من أي شيء؟ قال الشيخ: ففيهم أربعة أقوال: أحدها: يعطون من سهم المؤلفة؛ لأنهم يتألَّفون على ذلك؛ فدخلوا في الآية. والثاني: من خمس الخمس؛ لأنه مرصدٌ للمصالح، وهذا منها. والثالث: من سهم سبيل الله؛ لأنهم غزاة ٌ أو يجرون مجرى الغزاة. والرابع: من سهم المؤلفة وسهم سبيل الله؛ لأنهم جمعوا معنى الفريقين، وهذا هو المنصوص، كما قال في "المهذب" والقاضي الحسين. وقال الماوردي: إنه معلولٌ؛ لما فيه من الجمع في دفع الصدقة بين سهمين بسببين. واختلف أصحابنا لأجل ذلك في هذا القول على ثلاثة أوجه، حكاها البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما: أحدها: أنه جواب على القول الذي جوز الشافعي – رحمه الله – فيه إعطاء الشخص الواحد من الزكاة الواحد بسببين من سهمين إذا كانا فيه موجودين، فأما على القول الذي يمنع فيه من ذلك فلا يعطون إلا من أحد السهمين. قلت: وهذا منهم يقتضي أن للشافعي – رحمه الله – قولين منصوصين في جواز الصرف للشخص الواحد بالسببين إذا اجتمعا فيه.

والقاضي أبو الطيب حكى عن النص المنع، وجعل الجواز قولاً مخرجاً من نصه هنا، وكذلك الإمام ادعى أن ظاهر المذهب المنع، وأن الجواز وجه حكاه صاحب "التقريب"، وعلى هذه الطريقة إذا قلنا: إنه لا يجوز أن يصرف للشخص الواحد بسببين، لا يكون في مسألة الكتاب إلا الأقوال الثلاثة الأول. والوجه الثاني: أن هذا القول جارٍ سواء قلنا بجواز الصرف بسببين إلى شخص واحد أو لا؛ لأن السببين هاهنا لحاجتنا فكانا كالسبب الواحد، والقولان في جواز الصرف للشخص الواحد بالسببين، إذا كانا لحاجته، ولو كان أحدهما لحاجته والآخر لحاجتنا: كالمسكين غرم لإصلاح ذات البين، أعطى له بهما [كما] حكاه الإمام عن رواية صاحب "التقريب"، وعلى هذه الطريقة فهل يتعين ذلك أم الأمر [مفوَّضٌ] إلى [رأي] صاحب الأمر؟ فيه خلاف، ولعل الأصح الثاني، قاله الإمام. والوجه الثالث: أنه منزل على حالين: فمن قاتل منهم المشركين أعطي من سهم الغزاة. ومن قاتل منهم مانعي الزكاة أعطي من سهم المؤلفة. قال الماوردي: والأصح عندي في هذا القول الرابع – غير هذه الأوجه الثلاثة -: أنه يجمع لهذه الأصناف كلها بين سهم المؤلفة وبين سهم سبيل الله في الجملة، إلا أن الشخص الواحد لا يجوز أن يعطي من السهمين، لكن يعطي بعضهم من سهم المؤلفة ولا يعطي من سهم سبيل الله [ويعطي بعضهم من سهم سبيل الله ولا يعطي من سهم المؤلفة]؛ فيكون الجمع بين السهمين للجنس العام، والمنع من الجمع بينهما للشخص الواحد، وهذا أصح ما يحمل عليه هذا القول. قلت: وكلام أبي الطيب منطبق عليه؛ حيث قال: وقال بعض أصحابنا: إنما أراد الشافعي – رحمه الله –أن بعضهم يعطي من سهم سبيل الله وبعضهم [يعطي] من

سهم المؤلفة، ولم يرد أنه يجمع بينهما لشخص واحد، وعلى هذا فالخيرة [إلى الإمام]. وقد حكى الرافعي أن من الأصحاب من قال: يتخير الإمام إن شاء أعطاهم من هذا السهم، وإن شاء أعطاهم من الآخر، وربما قيل: [و] إن شاء جمع لهم بني السهمين. وهو ما أورده في "الوجيز"، وقد حكيناه من قبل، وحكى وجه آخر في أصل المسألة: أن المتألف لقتال امنعي الزكاة وجمعها يعطي من سهم العاملين، والذي جزم به الفوراني وصححه النواوي: إعطاؤهم من سهم المؤلفة. وقال الرافعي: إن قياس من صار إلى ترجيح منع الصرف إلى الضَّرب قبله – وهو الشيخ أبو حامد وشرذمة كما قدمناه -: [أن يرجح] [عدم إعطاء] هذا الضرب من الزكاة؛ لأن الأول أحق باسم المؤلفة وسهمهم من هذا الضرب؛ لأن فيه معنى الغزاة والعاملين. وكذلك اختلفت الأقوال في أنهم من أين يعطون؟ وحينئذ يسقط سهم المؤلفة بالكلية، وقد أطلق القول به من متأخري الأصحاب: القاضي الروياني وجماعة، [إلا أن] الموافق لظاهر الآية ثم ليساق كلام الشافعي والأصحاب إثبات [سهم المؤلفة، وأنه [يستحقه] الصنفان الأولان اللذان جمعهما أحد ضربي مؤلفة المسلمين، وأنه يجوز] صرفه إلى الآخرين أيضاً، وبه أجاب الماوردي في "الأحكام السلطانية". وسلك بعضهم طريقاً آخر، فقال: مما ينتبه له [أنه لا يعتقد] أن للشافعي قولاً بحرمان جميع ضربي مؤلفة المسلمين من الزكاة، وإن ذكر في كل منهما قولين؛ لأن في ذلك إبطالاً لنص الآية، ولكن متى ذهب إلى منع ضربٍ صار إلى إعطاء الضرب الآخر. فرع: من ادعى أنه من المؤلفة فلا [يجوز أن] يعطي إلا بإقامة البينة على أنه

منهم، وأن في تأليفه مصلحة للمسلمين، كذا قاله [القاضي] أبو الطيب وغيره، وقال القاضي الحسين: إنه لايحتاج إلى بينة ولا يمين إذا ادَّعى ضعف الإسلام في قلبه، ويعطي؛ لأنه لا يقول ذلك إلا وهو ضعيف الإسلام. وقد حكى أبو الفرج هذا عن صاحب "التلخيص"، وذكر أن من الأصحاب من أطلق الجواب بأنه يطالبه بالبينة، كما ذكرناه. قال: والخامس: الرقاب؛ لقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60]. قال: وهم المكاتبون؛ لأن قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} يقتضي أن تصرف الصدقة إلى الرقاب، [كما أن قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]، يقتضي الصرف إلى المجاهدين ويملكونها، وإنما يصح الصرف إلى الرقاب] أنفسها إذا حملت على المكاتبين أو غيرهم من الأرقاء الذين لا يملكون. فإن قيل: "الرقاب" جمع "رقبة"، و"الرقبة" حيث أطلقت في كتاب الله أريد بها غير المكاتب من الرقيق؛ فكان الظاهر من الآية أن يشتري بالثمن من يبتدأ عتقه. فجوابه: أن اسم "الرقاب" يقع على العبيد والمكاتبين، وحملنا مطلق "الرقبة" في الكفارة على غير المكاتب؛ لأنه قد اقترن بها ما يدل على ذلك وهو قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، وهنا دلت القرينة على أن المراد ما ذكرناه؛ لأن كل من أخرج صدقة لم يجز أن تعود إليه منفعتها، يدل عليه أنه لا يجوز أن يصرف صدقته لقريبه الفقير الذي تجب عليه نفقته، وإذا كان كذلك فلو قلنا هنا: إنه يشتري بالثمن رقاباً ويبتدئ عتقهم، لكانت منفعته عائدة إليه؛ لأنه يثبت له عليه الولاء ولا يرد على ذلك جواز صرفها [لمعسر] له عليه دين، وإن كان يقضيه دينه [منه] ومنفعته تعود إليه؛ لأن دينه لم يتجدد، فإذا قبض منه رجع إليه المال من وجه آخر، وليس كذلك هاهنا؛ لأن الولاء إنما يثبت بالعتق؛ فالمنفعة تعود إليه بذلك المعنى، والله أعلم. قال: فيدفع إليهم ما يؤدون في الكتابة عن لم يكن معهم ما يؤدون؛ لأن حاجتهم

المقتضية للدفع إليهم [إذ ذاك] تتحقق، وقد [أفهم كلام الشيخ أنه لا] يشترط أن يكون غير قادر على اكتساب ما يؤديه فيها بصناعته وهو وجه حكاه الرافعي، وادعى أنه الأشبه، وهو جار في الغارم في حق نفسه إذا قدر على اكتساب ما عليه. قال: والفرق بينه وبين الفقير والمسكين، حيث لا يعطي إذا كان قادراً على تحصيل كفايته بالاكتساب: أن حاجتهما تتحقق يوماً بيوم، والكسوب يحصِّل في كل يوم ما يكفيه وإنما يقدر على اكتساب ما يقض به الدين بالتدريج. ومقابله هو الذي أورده الماوردي فقال: لو كان قادراً على ذلك باكتسابه لم يعط كما لو كان قادراً بمال معه. وحيث يحوز الدفع إليه فلا يتوقف على إذن السيد، ويتوقف الدفع إلى السيد على إذن المكاتب، فلو دفع إله قبل إذن المكاتب لم يعتد به عند الجمهور، وقال [في] "الحاوي": إن كان النجم قد حل جاز الدفع إلى السيد بأمر المكاتب وبغير إذنه. قلت: وهو ظاهر النص؛ حيث قال: وإن دفع إلى سيده كان أحب إليَّ. وقد استحب بعضهم الدفع إلى السيد لأجل هذا النص، [ولم يورد نصر المقدسي غيره]، لكن بإذن المكاتب. وقال البندنيجي: إن في النص تفصيلاً: فإن كان الذي يعطيه كل ما [كان] عليه، فالمستحب أن يدفعه إلى سيده بإذن المكاتب؛ لأنه أعجل لعتقه، وإن كان دون ما عليه دفعه إلى المكاتب [ليتجر] فيه، ولو أراد المكاتب أن ينفقه منع منه، قاله أبو الطيب وابن الصباغ. وفي "النهاية": أن الخيرة إلى المكاتب في توفية النجم: إن شاء وفاه مما اكتسبه، واستنفق ما قبض من الصدقة، وإن شاء سلم ما قبضه من الصدقة.

ثم ظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق في الدفع إليه ليؤدي ما عليه وبين أن يكون [ما] عليه النجم الأخير أو الأول، وهو المذكور في "الحاوي"، و"تعليق" البندنيجي. وكذا لا فرق بين أن يكون النجم قد حل أو لا، وهو الظاهر من الوجهين في غيره؛ لأنه إذا قبض قبل محل النجم أمكنه إجبار السيد على قبضه، وأمكنه الاتجار فيه، كما قاله البندنيجي، وهو ظاهر فيما إذا دفع إليه دون ما عليه، و [عليه] ينطبق قول الرافعي: للمكاتب أن يتجر فيما يأخذه طلباً للزيادة وإيفاء لتمام النجوم، كذا حكاه صاحب "الإفصاح" وآخرون. قال: والغارم كالمكاتب، وقيل: لا يدفع إليه من النجم شيء قبل حلوله؛ لأنه غير محتاج إليه. قال: ولا يزادون على ما يؤدون؛ لعدم الحاجة [إليه]، فإن كان يحتاج إلى ألف ومعه ثمانمائة، لم يعط أكثر من مائتين، ولو لم يكن معه من الألف شيء لم يعط غير الألف نعم، لو دفعنا إليه ذلك، فأعتقه السيد، أو أبرأه عن النجوم قبل قبضه ما دفع للمكاتب، [أو أدى] أجنبي عن المكاتب النجوم متبرعاً – فهل يسترد من المكاتب ما قبضه إن كان باقياً، وبدله إن كان تالفاً؟ فيه خلاف تقدم، ولو تلف في يده مع استمراره على الكتابة وقع الموقع، قاله في "الروضة". ولو عاد إلى الرق بتعجيز السيد له فلا خلاف في أنه يسترد [منه] ما قبضه إن كان باقياً في يده، وكذا بدله إن كان تالفاً، على أصح الوجهين في "الرافعي"، وادعى الإمام أنه متفق عليه، وقال الماوردي: إن كان تلفه قبل إمكان دفعه إلى سيده فلا ضمان عليه ولا على سيده؛ لأنه كالمؤتمن على أدائه، وإن كان قد أتلفه ضمنه وإن

كان قد تلف بنفسه بعد إمكان دفعه إلى السيد: فإن كان بعد أن حل النجم ضمنه أيضاً ضمان المغصوب؛ لعدوانه بتأخير الأداء، وإن كان النجم لم يحل بعد فهل يضمنه؟ فيه وجهان من اختلاف الوجهين في جواز الدفع إليه قبل الحلول: فإن [قلنا يجوز، ضمنه؛ لأن جعل كالحال في جواز الدفع إليه، فإن] قلنا: لا يجوز، لم يضمنه. وهذا كله إذا كان التلف قبل التعجيز فلو كان بعده وبعد إمكان الرد [على من دفعه إليه من رب المال أو الساعي ضمنه أيضاً، وإن كان قبل إمكان الرد] لم يضمنه المكاتب؛ لأنه ما قبضه لنفسه ما كان متعدياً في حبسه، وهل يكون مضموناً على سيده؟ فيه وجهان: حيث ضمناه قال الرافعي: فالضمان يتعلق بذمته لا برقبته، [لأن المال حصل عنده برضا صاحبه، وهذا ما صححه في "الروضة"، وقال الإمام: إنه يتعلق برقبته]، وليس كما لو اشترى العبد شيئاً فتلف في يده؛ فإن بائعه رضي بذمته فكان مؤاخذاً بحكم رضاه، والذي سلم إلى المكاتب لم يكن عوضاً، وإنما كان الأمر فيه موقوفاً على ما يتبين، وقد بان أنه لم يقع. وقال في "الحاوي": إن تلف ضمنه ضمان المغصوب، ويقدم على ديون المعاملات، فإن ضاق ما في يده عن غرمه ضمنه في رقبته، وإن تلف بآفة سماوية؛ حيث يضمنه [ضمان] المغصوب. لكنه إذا كان أتلفه بعد التعجيز [كان الضمان في رقبته دون ما بيده؛ لتقدم استحقاق ما بيده في معاملاته، ولو حصل التعجيز] بعد ما قبض السيد من

المكاتب ما دفع إليه من الزكاة، فهل يسترد منه إن كان باقياً، أو بدله إن كان تالفاً؟ فيه طرق: [إحداها – وهي المذكورة] في كتب العراقيين -: حكاية وجهين فيه. والثانية – حكاها الصيدلاني -: القطع بعدم الاسترداد، [قال الإمام: وهذه الطريقة في حالة التلف أولى. والثالثة- قالها الشيخ أبو محمد -: القطع بالاسترداد]، قال الإمام: وذلك منقاس حسن؛ لأنه إذا انقلب رقيقاً فقد خرج ما سلمناه إليه عن كونه إعانة للمكاتب في تحصيل العتاق؛ فبان أنه لم يدفع نجماً ولا جزءاً من نجم. والرابعة – قالها الماوردي لا غير -: أنه ينظر: فإن كان قد قبض ذلك في النجم الأخير استرجع منه ما قبضه؛ لأن المقصود من العتق لم يقع، وإن كان [قد] قبضه فيما قبل النجم الأخير من النجوم المتقدمة، ففي [جواز استرجاعه] وجهان: أحدهما: نعم؛ كالمقبوض في النجم الأخير. والثاني: [لا]؛ لأن لكل نجم حكماً. وهذا إذا كان باقياً في يده، فإن كان تالفاً فحيث قلنا: يسترجع لو كان باقياً، ضمنه بالبدل، سواء تلف باستهلاكه أو بغيره؛ لأنه أخذه على وجه البدل عن العتق، فإذا فات العتق ضمنه بالرد إن بقي، وبالغرم إن تلف كالمبيع. والحكم فيما لو وجد التعجيز وقد باع السيد ما قبضه الحكم فيما لو وجد بعد التلف، قاله الرافعي. قال: ولا يقبل قوله: إنه مكاتب، إلا ببينة، أي: يشهد بها، وبالباقي عليه من النجوم – كما قال الماوردي – لإمكان ذلك مع أن الأصل عدم الكتابة، ولو ثبت عند الإمام بالتسامع أنه عبده وقد كاتبه، وقال القاضي الحسين في "تعليقه": فلا بأس

أن يعطي من غير بينة. قال: فإن صدقه المولى [من غير بينة]، أي على ذلك – فقد قيل: يدفع إليه؛ لأنه قد صار بالتصادق مكاتباً في الظاهر؛ فإن إقراره بأنه عبد مكاتب مقبول على نفسه. وقيل: لا يدفع إليه؛ لأنهما قد يتواطآن على ذلك اجتلاباً للنفع. قال ابن الصباغ وغيره: والأول أصح؛ لأن الدفع يقع مراعىً في حق السيد: فإن عتق العبد، وإلا طولب بالرد. قلت: إن كان الخلاف [السابق] في الاسترجاع من السيد بعد التعجيز مصوراً بما إذا ثبت الكتابة بالبينة دونما إذا ثبتت بالإقرار، فإنه يسترجع منه قولاً واحداً – استقام هذا الرد، وألا فلا، على أنه لو بني الخلاف في [هذه المسألة على الخلاف في] الاسترجاع، لم يبعد، فإن قلنا: يثبت الاسترجاع عند العجز قيل هاهنا، وإلا فلا؛ لأن التهمة حينئذ تتحقق. وجميع ما ذكرناه في الكتابة الصحيحة، أما المكاتب كتابة فاسدة فلا يعطي من الصدقات بحال. قال: والسادس: الغارمون؛ لقوله تعالى: {الْغَارِمِينَ} [التوبة: 60]، ولقوله – عليه السلام -: "لا تحلُّ الصَّدقة لغنيٍّ إلا لخمسة ... "، وعدَّ منها الغارم، وقد تقدم. قال: وهم ضربان: ضرب غرم لإصلاح ذات البين، والبين هاهنا، قال أهل اللغة: هو الوصل، قالوا: وتقديره: إصلاح حال الوصل، ومراد الفقهاء بـ"ذات البين": أن تكون فتنة بين طائفتين من المسلمين بسبب قتيل أو بهيمة مقتولة وجد ذلك بين قبيلتين، فادَّعى ولي القتيل أو صاحب البهيمة أنهم قتلوا ذلك؛ فأنكروا. وإصلاح ذلك يكون بتحمل دية القتيل لوليه وقيمة البهيمة لمالكها، فإذا

فعل شخص ذلك، واستدان لأجله أو تحمل ولم يستدن، ولم يؤد ذلك من ماله بعد – فهو من الضرب الذي بدأ الشيخ به. قال: فيدفع إليه مع الغنى، أي: بالعقار والناض وغيرهما في ظاهر المذهب – ما يقضي به الدين، أي: الذي تحمله أو الذي استدانه وأداه فيما تحمله، كما صرح به غيره، ووجهه الآية والخبر السابق، وإنما لم يشترط في المتحمل الفقر؛ لأن المقصود تسكين النائرة بالتحمل، وهي لا تسكن بتحمل الفقير. [و] "الغني" بالمال: مقصور، ويكتب بالياء، يقال: غني يغني، فهو غني، واستغنى: بمعناه. والغناء: ممدود، من الصوت. ومقابل ظاهر المذهب: يجوز أن يكون ما حكاه الإمام قولاً وغيره وجهاً في مسألة تحمل الدم: أن غناه إن كان بعقار وأثاث وما لا يعسر عليه وفاء الدين منه، فالحكم كما تقدم، وإن كان بأحد النقدين فلا يدفع إليه ما يقضي به الدين؛ لأن صرف النقد في هذه الأشياء مما لا ينفك عن المتصدين للرياسة، بخلاف الوفاء من العقار والمنقولات التي تعد للتحمل؛ فإن بيعه يعد قريباً من الخروج عن منصب المروءة، وهذا وإن كان لا يرتضيه النظر في الأقيسة فهو لائق بالمعاني الكلية وهي المطلوبة. وإذا جرى هذا القول أو الوجه في تحمل بدل الدم ففي [تحمل] بدل المال مع أنه دون الدم أولى، وعن أملي أبي الفرج السرخسي: أن هذا الوجه جار فيمن غناه بالعروض وقد تحمل بدل الدم، وهو غريب. ويجوز أن يكون مقابل ظاهر المذهب: ما حكاه في "المهذب" والماوردي وأبو الطيب وغيرهم وجها: أن متحمل بدل الدم يقضي عنه ما تحمله مع غناه

بالنقدين، ومتحمل بدل المال يقضي عنه أيضاً [إلا] إذا كان غناه بأحد النقدين، ويجوز أن [يكون] مقابله: ما حكاه البندنيجي [وجها]: أن متحمل [بدل] الدم يقضي عنه دينه كيف كان [غناه، ومتحمل بدل المال لا يقضي عنه دينه التحمل مع غناه، كيف كان]. وقد حكى الرافعي الوجهين في متحمل بدل المال هكذا، وصحح القضاء عنه؛ لما فيه [من] المصلحة الكلية، وقال: إن المتولي بناهما على أن من قصد مال إنسان هل يباح له الدفع بالقتل؟ إن قلنا: نعم، جعلنا المال كالدم. وإذا تأملت ما حكيناه وراء ظاهر المذهب في [متحمل بدل] المال خشية الفتنة، جاءك منه طريقة صرح بحكايتها الإمام، هي: أن غناه إن كان بالنقد منع الأداء من الصدقة، وإن كان بغير النقد فقولان. وفي معنى تحمل دية القتيل تحمل دية ما دون النفس من الأطراف، صرح به الماوردي. أما إذا كان المتحمل قد أدى ما تحمله من ماله الذي لم يقترضه لأجل الوفاء، لم يعط من الصدقات شيئاً؛ لأنه الآن غير غارم، قال البندنيجي: وكذا لو مات المتحمل قبل الأداء، يقضي ذلك من تركته، ولا يوفى من الصدقة؛ [لأن الذي حلت له الصدقة هو] دون وارثه. فإن قلت: هل يلتفت ذلك على ما سبق من أن موته هل كان بعد وجوب الزكاة أم لا؟ وهل أهل السَّهمان في البلد محصورون، وقد منعنا النقل، أم لا كما قلنا في الفقير؟

قلت: لا؛ لأن الميت لو كان قد قبض لم يتم ملكه على ما قبضه، ويسترجع منه في حال – كما تقدم- بخلاف الفقير فإن ملكه بعد القبض مستقر؛ فجاز أن يثبت قبل القبض، والله أعلم. قال: وضرب غرم لنفسه، أي: لمصلحة نفسه في [غير معصية]، مثل: أن استقرض مالاً ليحج به أو ليتصدق أو لينفقه على نفسه وعياله من غير إسراف- فيدفع إليه مع الحاجة ما يقضي به الدين؛ للآية، وما المراد بالحاجة هنا؟ قال الرافعي: الذي تقتضيه عبارة أكثرهم: كونه فقيراً لا يملك شيئاً، وربما صرحوا به. قلت: والتصريح به منسوب في "النهاية" إلى المراوزة وأنهم قطعوا به؛ حيث قال: إنهم قالوا: يشترط في وفاء ما يستلزمه الإنسان بسبب خاصة نفسه الفقر عن كل ما يتصور صرفه إلى الدين. قال الرافعي: وفي بعض شروح "المفتاح" أنه لا يعتبر المسكن والملبس والفراش والآنية، وكذلك الخادم والمركب إذا اقتضاهما حاله، بل يقضي دينه وإن ملك ذلك. ويقرب منه قول بعض المتأخرين: إنا لا نعتبر الفقر والمسكنة هاهنا، بل لو ملك قدر كفايته ولو قضى دينه لنقص ماله عما يكفيه، فيقضي من دينه قدر ما ينقص عن الكفاية، والمقصود: أنه يترك معه ما يكفيه ولا يدخل في الإعسار. وقد أبدى الإمام على ما حكاه عن المراوزة مباحثة في المسألة، فقال: في صرف دين من لا مال له نظر للقيه؛ فإن الغارم إذا كان لا يملك شيئاً، فلا يكون مطالباً من جهة غريمه، والصدقة إنما تصرف [لشدة حاجة أو كفاية أدنى، ومستحق الدين يستغني بتحصيل دين له على معسر] جبراً لخلته، فما معنى اشتراط الإعسار في قضاء الدين؟ وهذا مقام يعسر إدراكه على غير الفقيه، فنقول: لا يمتنع أن

يكون للإنسان مال يتضرر بصرفه إلى دين، ومعنى تصور تضرره بصرفه إلى الدين: أن ينتهي بصرفه إلى الدين إلى حد الضرر [الذي] يستدرك بالصدقة، فإذا فهم هذا، انقدح وراءه وجوه: أحدها: أن من كان ينتهي بأداء دينه مما معه إلى حد المسكنة، فهو الذي يؤدَّى دينه من الصدقة. والثاني: أنه يجوز أن يقال: لا يجبر على أداء دينه وهو ذو كفاف، ولا يجوز أن يؤدي من الصدقة إلا دين مسكين. والثالث: أنه يجوز أن يقال: إذا كان لا يملك شيئاً أصلاً يؤدي دينه أيضاً؛ فإنه لا يتهيأ بعيشه وهو يكتسب في اليوم الكفاف، وقد ينازع في قدر الكفاف، ويجر إلى المحاكمة، وأيضاً فإن دينه إذا أدِّى من الصدقة استرسل الناس في إقراض الفقراء وألا انسد عليهم باب الاستقراض ولحقهم الضرار. وقد أفهم كلام الشيخ أنه لا يصرف إليه ما غرمه لمصلحة نفسه مع الغنى، وهو أحد القولين في المسألة: المعزيُّ إلى نصه في "الأم" وأكثر كتبه، كما قال الماوردي، والصحيح عنده الجمهور وبه قطع المراوزة: كما تقدمن ووجهه: انه يأخذ لحاجته فلم يعط مع الغنى لغير الغارم. ومقابله – محكي في القديم والصدقات من "الأم" -: أنه يعطي؛ لأنه غارم [في غير معصية فأشبه الغارم] لإصلاح ذات البين، وقد أثبته الإمام [وجها] عن رواية صاحب "التقريب" والعراقيين. وقال الماوردي: إن محل القولين إذا كان غناه بغير النقدين، فلو كان [غناه]

بأحدهما فلا يعطى قولاً واحداً. ثم حيث يجوز الدفع إليه يجوز الدفع إلى الغريم بإذنه، ولا يجوز بغير إذنه، وقد وافق على ذلك الماوردي، وفرق بينه وبين المكاتب حيث قال: يجوز الدفع إلى سيده بغير إذنه؛ لأن المكاتب محجور عليه في حق سيده، بخلاف الغارم. نعم، لو كان الغارم محجوراً عليه بالفلس فدفع إلى غرمائه بالحصص – قال: جاز من غير إذنه؛ لأنه يصير بالحجر في معنى المكاتب. قال في "البحر": وهذا غريب، والأصح عندي المنع بدون الإذن، وهل المستحب: الدفع إلى الغريم بإذن المدين أو إلى المدين؟ الحكم فيه كما تقدم عن البندنيجي في المكاتب، صرح به في "البحر" [والبندنيجي أيضاً]. وقد أفهم كلام الشيخ – رحمه الله – أنه لا يزاد على ما يقضي به الدين، وهو مما لا خلاف فيه، فإذا [صرف إليه] وجب عليه أن يصرفه في دينه، ولا يجوز أن يصرفه في غيره. قال الماوردي: إلا أن يعدم قوت يومه؛ [فيجوز أن يأخذ منه قوت يومه] وحده؛ لأنه غير مستحق في دينه. وفي "الرافعي": أنه يجب أن يكون الغارم كالمكاتب، وقد قدمنا أنه يجوز له أن يتجر وأن يستنفق ما أخذه، ويؤدي النجوم كسبه، وعلى الأول يجوز له أن يصرفه إلى من شاء من غرمائه إلا أن يكون غارماً في حمالة قد أعطي فيها من مال الصدقات مع غناه؛ فإن عليه أن يصرف ما أخذه في دين الحمالة دون ما عليه من دين آخر وهذا بخلاف ما لو أخذ من الصدقات شيئاً ليصرفه فيما عليه من دين المعاملة مع فقره؛ فإن له أن يصرفه إلى ما يحمله من بدل الدم ونحوه؛ لأن الشرط في دين المعاملة أغلظ؛ لأنه لا يستحق إلا مع الفقر، ودين الحمالة أخف؛ لأنه مستحق مع الغنى والفقر؛ فجاز أن يصرف [ما غلظ [شرط استحقاقه فيما خف شرطه، ولم يجز

أن يصرف] ما خف شرط استحقاقه فيما غلظ] شرطه، فإن لم يصرف ما قبضه لوفاء الدين حتى سقط عنه بإبراء أو وفاء أجنبي متبرع، ففي استرجاعه منه ما تقدم في الاسترجاع من المكاتب وقد عتق قبل أداء ما قبضه من الزكاة فإذا قلنا: يسترجع، فلو لم يسترجع حتى حدث عليه دين يقضي من الزكاة، ففي استرجاعه وجهان في "البحر" وغيره، والخلاف في أنه هل يدفع إليه وفاء ما عليه من دين مؤجل كالخلاف في الدفع إلى المكاتب النجم الذي لم يحل، صرح به الماوردي. وحكى الإمام في آخر "النهاية" وجهاً آخر: أنه يجوز الدفع إلى [الغارم دون المكاتب]؛ فإن المكاتب مهما شاء عجز نفسه، وقال: إنه بالعكس [أولى]؛ فإن ما ذكره يتحقق في النجم الحال أيضاً؛ فالوجه أن يقول: المؤجل في حق المكاتب كالحال. وقال الرافعي: إنه يجوز أنا يرتب ما نحن فيه على المكاتب، وهاهنا أولى بالدفع؛ لأن ما على الغارم مستقرُّ. في المسألة وجه آخر حكاه الإمام هاهنا عن العراقيين: أن الأجل إن كان ينقضي في وسط السنة المستقبلة فيقضي، وإن كان يحل بعد سنة فصاعداً فيوقف قضاء هذا الدين إلى السنة القابلة. قال في "الروضة": والأصح أنه [لا] يعطي، وبه قطع في "البيان". قال: ولا [يقبل قوله: إنه] غارم، أي: لمصلحة نفسه إلا بالبينة؛ لما سبق. أما الغارم لإصلاح ذات البين فلا يحتاج إلى إقامة البينة؛ لأن اشتهار ذلك يغني عنها، والبينة – كما تقدم -: ما يثبت الحق بها. وقد قال بعض الأصحاب: إنه لو أخبر عن الحال واحد يقع الاعتماد على قوله لكفى، وقال الإمام: رأيت للأصحاب رمزاً إلى التردد في أنه إذا حصل الوثوق بقول من يدعي الغرم، وغلب على الظن صدقه- هل يجوز الاعتماد عليه.

وكل هذا يؤذن بأنه لا يراعي في ذلك شرائط الشهادة، وكذلك حكى بعض المتأخرين أنه لا يعتبر في البينة في هذه الصورة سماع القاضي وتقدم الدعوة والإنكار والاستشهاد، بل المراد إخبار عدلين على صفة الشهود. قال: فإن صدقه غريمه، فعلى الوجهين، أي: في المكاتب، وقد سبق تعليلهما، وهذا ما ذكره العراقيون وصاحب "التقريب" والشيخ أبو علي، واختار النواوي وغيره منهما جواز الدفع كما في المكاتب، وقال الإمام: إن التصادق بين العبد والمكاتب في الكتابة أقوى عندنا وأولى بأن يرجع إليه؛ فإن إقرار كل منهما يصير ثابتاً لازماً في حقه، قال: ومن عول على الإقرار في الدين تردد جوابه فيه إذا أقر بالدين لغائب ولم يوجد منه قبول الإقرار. نعمن إذا قبلنا: القول في ذلك من غير بينة ففي تحليفه ما سبق فيمن ادعى الفقر. قال: وإن غرم في معصية وتاب دفع إليه، أي: مع الحاجة؛ لأن المعصية زالت [فدفع إليه]؛ كمن أنفق ماله في المعاصي حتى صار فقيراً، ومن هرب من بلد ظلماً ثم أراد الرجوع؛ فإن الأول يعطي من سهم الفقراء، والثاني من سهم أبناء السبيل وإن كان السبب معصيته؛ فكذا هنا، وهذا قول أبي إسحاق وهو الصحيح في تعليق القاضي أبي الطيب، وعند البغوي والروياني وأبي خلف السلمي، وهو الجواب في "الإفصاح". قال الرافعي: ولم يتعرضوا هاهنا للاستبراء ومضي مدة يظهر فيها صلاح الحال، إلا أن الروياني لما ذكر أن هذا أصح الوجهين قال: هذا إذا غلب على الظن صدقه في توبته. وقيل: لايدفع؛ خشية أن يستكثر من المعاصي، ولأن توبته لا يطلع على حقيقتها، ولا يمتنع فرض إظهارها مع إضمار نقيضها حتى يسلم إليه من سهم الغارمين، وهذا قول ابن أبي هريرة، والأصح عند ابن الصباغ والبغوي وبه جزم في "المحرر".

قال القاضي الحسين: والوجهان مبنيان على أن من انكسرت رجله في معصية فصلى قاعداً، فإذا برأ: هل تلزمه الإعادة أم لا؟ فيه خلاف: فإن قلنا: لا يقضي، دفع إليه وإلا فلا يعطي. ومحل الخلاف إذا استدان استدانة صحيحة بنية الصرف إلى المعصية وصرف ما أخذه فيها، لا الاستدانة الفاسدة التي تملك الغرض، ولو كان قد استدان لغرض صحيح، ثم بدا له أن يصرف ما استدان إلى جهة الفساد - قال الإمام: فإن تحقق ذلك منه، فحق هذا الدين أن يقضي من سهم الغارمين، ولكنا إذا رأيناه قد استدان وصرف ذلك إلى المعصية لا نصدقه في انه ما كان نوى الفساد. ولو انعكس الحال، فاستدان بنية الفساد، ثم عصمه الله فصرفه إلى جهة مباحة - فهذا الدين مقضي وإن النية إنما تؤثر إذا حققت بالعمل. وقد ألحق الشيخ أبو بكر الصيدلاني والقاضي الحسين الاستدانة للصرف في جهة إسراف- وهي الخارجة عن العادة المعتادة مما لا يكسب حمداً في العاجل، ولا أجراً في الآجل - بالاستدانة لأجل المعصية؛ لأن قضاء ديون المسرفين يجر حيلا واستجراء لأهل السفه، وفيه حرمان المقتصدين. وللإمام احتمال في ذلك، وقال: إن الأول هو الفقه. ولو غرم [لا] لإصلاح ذات البين ولا لمصلحة نفسه، فذاك على قسمين: أحدهما: أن يكون لمصلحة عامة، كاستدانته لبناء مسجد أو جامع أو حصن أو قنطرة أو فكاك أسير، وما جرى مجرى ذلك - قال الماوردي: فهذا يجوز أن يعطي مع الفقر والغنى بالعقار، ولايجوز أن يعطى مع الغنى بالناض؛ لأنه أي النفع متردد بين مصلحة نفسه ومصلحة ذات البين؛ فاقتضى أن يكون فيه متوسطاً بين الحكمين. وهذا ما ادعى الروياني في "الحلية" أنه الاختيار. وعن أبي الفرج السرخسي: أنه ألحق ذلك وكذا قراء الضيف بما استدانه للنفقة

وسائر مصالح نفسه. والثاني: أن يكون لمصلحة خاصة، كمن ضمن عن شخص ديناً في معاملة، ولا هيج ولا فتنة: فإن كان المضمون عنه موسراً، وكان الرجوع عليه ممكناً – فلا يقضي مثل هذا الدين، وقيل: يقضي مع إعسار الضامن، حكاه القاضي الحسين. والمذهب: الأول. وإن كان الرجوع عليه غير ممكن لضمانه بغير إذنه أو بإذنه، لكنه معسر: فإن كان المتحمل معسراً فله أن يأخذ مقدار الدين، وإن كان موسراً بالنقد وغيره فمنهم من قال: هو كمتحمل الدية في فتنة الدم، ومنهم من قال: هو كمتحمل المال خشية من الفتنة، ومنهم من قال: هو كالاستقراض لحاجة نفسه، قال الإمام: ولو قيل: إنه دون استقراض الإنسان لحاجة نفسه، لكان له وجه؛ فإن الضمان ندامة وغرامة. وفي بعض التصانيف ما يدل على أن هذا الدين لا يقضي من الصدقة قط، وهو بعيد، وإنما ذكرته ليتنبه الفقيه للمعنى الذي أشرت إليه، وإلا فضمان الإنسان [عن أخيه] لا ينحط عن رتبة استقراضه في أمر غير محظور، ولا ينتهي إلى السفر، ولا يبلغ مبلغ الحاجة المرهقة. ولو ضمن دية مقتول عن قاتل معين فالقياس أن يرتب على ضمان مال [المعاملة وهاهنا] أولى بأن يقضي مع الغنى، وقد قال في "الروضة": إنه لا يعطي مع الغنى، كذا حكاه في "البيان" عن الصيمري. قال: والسابع: في سبيل الله؛ لقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]. قال: وهم الغزاة؛ لأن سبيل الله متى أطلق كان محمولاً على الغزاة، قال الله تعالى: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [التوبة: 20]، وقال عزَّ من قال: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [الصف: 4]، وقال – عليه السلام -: "لا تحلُّ الصدقة لغنيِّ إلاَّ لخمسةٍ: لغازٍ في سبيل الله ... ". فإن قيل: قد روى أن رجلاً جعل ناقته في سبيل الله، فأرادت امرأته أن تحج، فقال

لها النبي صلى الله عليه وسلم: "اركبيها؛ فإنَّ الحجَّ من سبيل الله"، وإذا كان كذلك، فلم لا يصرف إلى الحج؟ قلنا: حجتنا: ما تقدم، والحديث محمول على أنه جعل الناقة في سبيل الله [الذي هو الحج، ويحتمل أن يكون جعلها في جميع ما هو في سبيل الله]؛ فلهذا قال لها – عليه السلام -: "اركبيها؛ فإن الحج من سبيل الله". قال: الذين لا حق لهم في الديوان؛ أي: ديوان أهل الفيء، وهم المسمون بالمرابطين، وهم الذين سماهم الشافعي – رحمه الله – الأعراب؛ لأن الأمر جرى في عصره – عليه السلام – كذلك؛ فكان بياناً للمراد بالآية. ووجهه من جهة المعنى: أن من لهم حق في ديوان الفيء يعطون الكفاية من الفيء على قيامهم بالقتال؛ فلا يجوز أن يعطوا من الصدقات؛ كما قلنا في الإمام إذا تولى قبض الصدقات بنفسه: لا يأخذ من سهم العاملين في الزكاة؛ لأنه أعطي من سهم المصالح كفايته على القيام بمصالح العباد، وذلك منها. نعم، لو عدم الفيء من بيت المال فهل يعطون؟ فيه وجهان في "النهاية"، وقولان في "الرافعي" [و"الإبانة"، فإن قلنا: لا يعطون – وهو الأصح – قال الرافعي]: وجب على أغنياء المسلمين إعانتهم. وعن الصيدلاني وجه ثالث: أنه يجوز أن يصرف إليهم من [سهم] سبيل الله إذا احتاجوا إلى قتال مانعي الزكاة، فيعطون مما يأخذون من الممتنعين. قال الإمام: وهذا كلام عري عن التحصيل؛ فإن تلك الزكاة المأخوذة منهم، والزكوات المأخوذة من غيرهم- بمثابة واحدة لا تختلف مصارفها وهم مرتصدون

لارتسام رسم الإمام في كل قتال يندبهم إليه، فأي أثر لتخصيص مقاتلة مانعي الزكاة؟! وقال الإمام إذا لم يكن في يده من مال الفيء شيء، والمرتزقة مستظهرون بأموالهم، ولم يكونوا على الصفات [التي] يشترطها في [استحقاق] سهم سبيل الله من الصدقات –فلا يجوز صرف ذلك السهم إليهم، وإن كانوا غير مستظهرين، ولو لم يكفهم لضاعوا، ورأى الإمام والحالة هذه أن يصرف سهم سبيل الله من الصدقات إليهم، ورأى انتهاضهم – وهم المعدون المستعدون – أقرب من انتهاض المطوعة، فلا معترض على الإمام في ذلك. قال: فيدفع [إليهم] ما يستعينون به في غزوهم مع الغنى؛ للخبر وعموم الآية، ولأنهم يأخذون لحاجتنا إليهم؛ فلم يعتبر في الدفع إليهم فقرهم؛ كالعامل. والذي يستعان به في الغزو: السلاح، وكذا الفرس إن كان الشخص ممن يقاتل فارساً، وألا فلا يعطاه. نعم، يعطى حمولة [تحمله] إن كان على مسافة القصر، دون ما إذا كان دونها؛ فإنه لا يعطاها. قال أبو إسحاق المروزي: إلا أن يكون ضعيف البدن، أو شيخاً كبيراً، والنفقة في الطريق في حالة الذهاب والإياب؛ فإن استشهاده ليس بضربة لازب. لكن هل المعطى جميع ذلك، أو الزائد على نفقة المقام؟ فيه وجهان ينبنيان – كما قال القاضي الحسين والفوراني- على أن عامل القراض إذا قلنا: يعطى النفقة، فهل يعطى جميع نفقة السفر أو الزائد على نفقة الحضر؟ والرافعي قرب الخلاف هنا من الخلاف [ثم] من غير بناء، وصحح الأول. وهل يعطى نفقة المقام على القتال والمحاصرة؟ أطلق الإمام وغيره القول بإعطائه ذلك، وقال القاضي الحسين: إن ذلك على قولنا: إنه يعطى جميع النفقة، أما إذا قلنا: لا يعطى إلا ما زاد [على نفقة المقام] فلا يتصور للمقام هناك نفقة.

قلت: وفي هذا نظر؛ لأن النفقة تختلف قيمتها باختلاف [الأماكن وبالقرب والبعد، كما تختلف باختلاف] الزمان حراً وبرداً؛ فما ذكره متجه إذا تساوت قيمة ذلك موضع مقامه على القتال [وموضع مقامه في غيره، أما إذا كانت قيمة ذلك موضع مقامه على القتال] أكثر- وهو الغالب – فينبغي أن يعطى القدر الزائد على هذا القول أيضاً. ثم على الوجهين: القياس يقتضي أن [لا] يعطي نفقة [أهله حيث يعطى] نفقة نفسه، [وقد سكت] عنه المعظم، وعن بعض شروح "المفتاح": أنه يأخذ نفقته ونفقة عياله ذهاباً ومقاماً ورجوعاً. قال الرافعي: وذلك غير بعيد؛ لأننا ننظر في استطاعة الحاج إلى قدرته على ذلكن ولا اتجاه له على قولنا: لا يعطى إلا ما زاد على نفقة المقام. وحكم الكسوة فيما ذكرناه حكم النفقة. ثم المراد بما يعطاه من السلاح وغيره: قيمة ذلك لا عينه، كما قاله البندنيجي وغيره من العراقيين؛ حيث قالوا: لا يعطيهم الإمام بهيمة من خيل ولا بغل ولا حمار ولا سلاح؛ لأن ذلك لا يؤدَّى من الزكاة، ولا يجوز أن يشتري لهم ذلك من مال الصدقات، وإنما يعطي لهم مالا يشتري به الغازي ذلك لنفسه، وهذا [ما] حكاه الرافعي وجهاً عن رواية الحناطي، وقال القاضي أبو الطيب: عندي: [أنه] إذا استأذنه الإمام في شراء الفرس والسلاح، [و] اشتراه له من غير أن يدفع إليه حقه –جاز؛ لأن الإمام وكيل لمستحقي الصدقات، فإذا قبض فكأنهم قد قبضوا؛ فإذا أذنوا له في شراء ذلك مما قبض جاز. وأطلق المراوزة القول بأن للإمام أن يشتري ذلك ويدفعه إليه عارية، أو يملكه إياه إذا رأى ذلك، وله أن يستأجر ذلك ويدفعه إليه [أو يستعيره]، وله أن يشتري ذلك

من سهم الغزاة وينفقه لهذه المصلحة، صرَّح به الفوراني وغيره. فروع: إذا جاء شخص، وادعى أنه يريد الغزو – دفع إليه. وهل يحلف؟ فيه وجهان في "البحر": أحدهما: نعم، وبه قال أبو إسحاق [المروزي]. والثاني: لا؛ لأنه [إن] لم يغز استرجع منه، وأيضاً: فالإمام هو الذي يعينه ويعطيه بعد التعيين عند الخروج، فإن غزا فقد استحق ما قبضه، وإن لم يغز، أطلق ابن الصباغ والبندنيجي وغيرهما القول بأنه يسترد منه [ما أخذ، وقال الماوردي: [إنه] إن لم يتصل بدار الحرب استرجع منه] وإن رجع بعد ما وصل إليها: فإن قاتل غيره [ولم يقاتل هو فكذلك الحكم، وإن لم يقاتل غيره]؛ لبعد العدو منهم؛ فرجعوا، استحق. [و] قال الرافعي فيما إذا مات في الطريق، أو امتنع من الغزو: استرد منه [ما بقي. وهذا يدل على أنه لا يسترد منه] جميع ما أخذ، وهو مخالف لما تقدم، وظاهرٌ في حالة موته. وهذا كله فيما إذا خرج لأجل الغزو، فلو لم يخرج بعد ما أخذ، وكذلك ابن السبيل لو لم يخرج بعد ما اخذ – استرد منه؛ لأن جهة الاستحقاق لم تحصل، وإلى متى يحتمل تأخير الخروج؟ قال الرافعي: أهمل المعظم التعرض له. وفي "أمالي" السرخسي: أنه يجوز تأخير الخروج يومين وثلاثة، فإن انقضت الثلاثة ولم يخرج، حينئذ يسترد، قال: ويشبه أن يكون هذا على التقريب وأن يعتبر ترصده للخروج، وكون التأخير لانتظار الرفقة أو إعداد الأهبة ونحوهما.

ولو غزا ثم [فضل مما] أخذه فضلة أطلق ابن الصباغ والبندنيجي وغيرهما القول بأنه لا يؤخذ منه؛ فإنا إذا دفعنا إليه الكفاية فالفاضل من تضييقه على نفسه. [وقال الرافعي: الحكم كذلك فيما إذا كان الفاضل يسيراً أو كثيراً وقد قتر على نفسه]، أما إذا لم يقتر على نفسه [فيسترد منه]؛ لأنه تبين أن المعطى فوق الحاجة، وأنه أخطأ في الاجتهاد. قال: والثامن: ابن السبيل، وهو المسافر، أي المار بنا في سفره من غير نية الإقامة عندنا؛ سمي بذلك لملازمته السبيل – وهو الطريق – كملازمة الطفل أمه، قال البندنيجي: وهو اسم جنس. قال: أو المريد للسفر، أي من وطنه أومن بلد هو مقيم فيه – ملحق بابن السبيل، وهو الأولى؛ لشمول المعنى الذي لأجله صرف لابن السبيل؛ فإن ابن السبيل يعطي لما ينشئه من السفر [لا] لما مضى منه؛ فاستوى فيه المجتاز والمنشئ؛ لأن لكل واحد منهما مبتدأ، ولأن المسافر لو دخل بلداً ونوى إقامته خمسة عشر يوماً، صار في حكم المقيمين من أهله، ولو أراد الخروج منه لجاز الصرف له بوفاق الخصم؛ فكذلك كل مقيم منشئ. فإن قيل: كيف يسمى من لم يسافر مسافراً؟ قيل: كما يسمى من لم يحج حاجًّا، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة:282]، وهما لم يشهدا بعد. قال: في غير معصية، هذا التقييد ليس راجعاً إلى بيان ابن السبيل المطلق، وإنما المراد بيان لابن السبيل المراد بالآية؛ لأن القصد بما يدفع إليه من الزكاة: إعانته على سفره وبلوغه مقصده، وإذا كان سفره معصية لا يليق بحاله الدفع إليه؛ كي لا يعان على المعاصي؛ فتعين أن يكون المراد به ما عداه، وهو ينقسم إلى: سفر واجب: كالسفر للحج، والعمرة وإذا قلنا بوجوبها، والجهاد – كما قال

البندنيجي- والهجرة. وإلى سفر هو طاعة كالتطوع بالحج والعمرة، وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والوالدين، وطلب العلم، ونحو ذلك. وإلى سفر هو مباح: كالسفر للتجارة، والنزهة والتفرج، كما قال البندنيجي وصاحب "البحر". وقضية ما ذكرناه: الإعطاء للجميع، وذهب بعض الأصحاب إلى اختصاص الاسم فيما نحن فيه بمن سافر سفراً واجباً أو طاعة، دون من سافر [سفراً] مباحاً؛ لأن عنه غنية. والأصح الأول. وذكر الرافعي الخلاف في السفر المباح ما سوى سفر النزهة، وقال: إذا قلنا: إنه كسفر الطاعة، ففي سفر النزهة خلاف؛ لأنه ضرب من الفضول، قال: والظاهر أنه ملحق بغيره من المباح، وحينئذ يكون في السفر المباح ثلاثة أوجه: ثالثها: إن كان سفر نزهة لم يلحق بسفر الطاعة، وإلا ألحق به. وسلك الماوردي في السفر المباح طريقاً آخر، فقال: إن كان لغير حاجة – كالسفر للنزهة والتفرج – فلا يجوز أن يعطى وإن أبيحت له الرخص؛ لأن مال الصدقات مصروف إلى ذوي الحاجات. نعم، لو سافر للنزهة بماله، ثم انقطعت به النفقة لعوده- جاز أن يعطى لحاجته وضرورته. وإن كان سفره لحاجة ماسة: كالسفر في طلب غريم هرب، أو عبد أبق، أو جمل شرد فهذا يعطى؛ لشدة حاجته. وإن كان سفره لحاجة لكنها غير ماسة، كالسفر في تجارة – ففي جواز إعطائه وجهان حكاهما الإمام أيضاً عن رواية صاحب "التقريب" والشيخ أبي علي. ثم قال: ولا شك أن هذا مفروض فيما إذا كان ماله غائباً وهو يبغيه ليتجر، وقد حكى عن أبي إسحاق أنه قال: يجوز أن يعطى للعاصي بسفره ما يسد الرمق في الحال، ولا يعطى ما يسافر به، إلا أن يبقى منقطعاً به؛ فيعطى إذا أراد الرجوع إلى وطنه وإن كان أصل سفره معصية. قلت: ويجيء وجه آخر: أنه لا يعطى حتى يتوب، كما قاله الشيخ أبو محمد في

المضطر: لا تباح له الميتة، ويقال له: تب وكل. نعم، إذا تاب التحق في بقية سفره بالمسافر سفراً مباحاً، والمنقول في "الحاوي": أنه يصرف إليه. قال: فيدفع إليه ما يكفيه، أي: من نفقة وكسوة، على حسب ما يقتضيه الحال من شتاء وصيف، في [خروجه و] رجوعه، أي: إذا كان على قصد العود، وليس في المقصد ولا دونه مال يغنيه عن الزكاة؛ لقوله تعالى: {وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 177]. وقيل: لا يعطى للرجوع [شيء في ابتداء سفره؛ لأنه سفر آخر، وإنما يعطى عند ابتداء الرجوع. وقيل: إن عزم على أن يصل الرجوع بالذهاب أعطي للرجوع]، وإن عزم على أن يقيم هناك مدة لم يعط، ولو عزم على الإقامة مطلقاً لم يعط للرجوع بالاتفاق، وقد سكت الشيخ – رحمه الله – عن كفايته في مدة مقامه وغيره. قال: إن لم تزد مدة مقامه على مدة مقام المسافرين، وهي ما دون أربعة أيام- دفعت له، وألا فلا، وعن صاحب "التقريب": أنه [إن] أقام لحاجة يتوقع زوالها أعطي، وإن زادت إقامته على إقامة المسافرين. قلت: وكأنه ذكر هذا تفريعاً على أن من أقام في بلد لقضاء حاجة، ولم ينو الإقامة-أنه يقصر [أبداً]، وإذا كان هذا المأخذ وجب أنا يعطى [كفايته – والصورة هذه – إلى ثمانية عشر يوماً، كما قلنا في القصر على قولٍ آخر. ويعطى] مع الكسوة والنفقة المركوب إن كانت المسافة مسافة القصر؛ لأن ذلك من جملة الكفاية، إلا فلا يعطى إلا أن يكون [غير] قادر على المشي لكبر أو ضعف، هكذا أطلقوه، وسكتوا عن التعرض لاعتبار مسافة القصر ذهاباً أو ذهاباً وإياباً؛ اكتفاء بما ذكروه في غير هذا الموضع، ومحله باب صلاة المسافر،

وسنذكره [ثم] إن شاء الله. وقد ذكر أبو الفرج السرخسي في "أماليه" في كيفية تهيئة المركوب: أنه إن ضاق المال فيعطى كراء المركوب، وإن اتسع فيشترى له المركوب. فإن قلت: هل يجري ما قاله العراقيون في الغازي من منع شراء المركوب له دون إذنه هاهنا إذا كان [في] المال متسع؟ قلت: ينبغي أن ينبني ذلك على أنه إذا اشتُرِي له المركوب – كما قاله السرخسي –عند اتساع المال، وزال السفر: هل يسترد منه؟ وفيه وجهان: فإن قلنا: لا يسترد، [لم يبعد أن يلحق ابن السبيل بالغازي في ذلك. وإن قلنا: يسترد] – كما أجاب به عامة الأصحاب – امتنع إلحاق ابن السبيل بالغازي، وجاز الشراء دون إذنه؛ لأنه مستعار معه، بخلاف الغازي؛ فإنه مالك فيبعد [تمليكه] غير المال الزكاتي عن الزكاة بدون إذنه، والله أعلم. وقد اقتضى كلام الشيخ – رحمه الله – أن المعطى لابن السبيل الكفاية بجملتها، وهو أصح الوجهين في "الرافعي"،ومقابله: أن المعطى [ما] زاد بسبب السفر – كما تقدم مثله في الغازي –وهو بعيد لا وجه له. ثم ما ذكره الشيخ من إعطاء المسافر والمريد للسفر هو الطريقة المشهورة [،وهي] التي لم يورد العراقيون غيرها، وذهب بعض المراوزة إلى أن المريد للسفر يعطى، وأما المسافر المتجاز ففي جواز الصرف إليه قولان؛ بناء على القولين في جواز نقل الصدقة: فإن جوزناه جاز الصرف إليه، وألا فلا، وهو ما ذكر الإمام أنه ظاهر النص، وأشار بذلك إلى ما حكاه القفال عن الشافعي – رحمه الله – أنه قال: "ابن السبيل: من شخص [من] بلده، فأما من مر به فلا"، ولأجل هذا جزم

المسعودي بالمنع، والقائلون بالجواز قالوا: معنى قول الشافعي أن حقيقة اسم ابن السبيل ما ذكر، فأما في الحكم فهو والمجتاز سواء. قال: ولا يدفع إليه حتى تثبت حاجته. هذا الكلام [لم] أره هكذا - فيما وقفت عليه - لأحد من الأصحاب، بل المنقول في "تعليق" البندنيجي و"الحاوي" وغيرهما: أن المسافر-[و] هو المجتاز - إن ذكر أنه لا مال له في هذا البلد، ولم يعلم له أصل مال فيه - فالقول قوله، وهل يحلف؟ فيه وجهان في "البحر" تقدم ذكرهما، ولا [يضره كونه] له مال في بلده أو في أثناء طريقه في منع صرف ما يكفيه إلى وصوله [إلى] ماله. وإن عرف له مال فيه، أو قال: إنه كنا له فيه مال، وتلف - لا يقبل قوله في ذلك، ولا يصرف إليه شيء إلا بالبينة كما تقدم نظيره، فلعل هذا مراد الشيخ، أو إذا قلنا: إنه يحلف في الحال الأولى وجوباً. وأما المريد للسفر فقد قالوا: هو والفقير سواء؛ لأنه لا يعطى إلا مع الفقر مطلقاً في الموضع الذي أراد السفر منه، وفي بلده، كما أفهمه كلام البندنيجي لمن وقف عليه، وعلى هذا قال الماوردي: إن أراد من اتصف بما ذكرناه أن يأخذ من سهم الفقراء أو المساكين أو أبناء السبيل، دفع إليه. وقد تحرر مما ذكره الشيخ أن من يأخذ من الزكاة مع الفقر [دون الغنى] خمسة: الفقير، والمسكين، والمكاتب، والغارم لمصلحة نفسه، وابن السبيل المنشئ للسفر من عندنا - كما قاله البندنيجي - والذي يأخذ مع الغنى والفقر خمسة: العامل، والمؤلفة، والغارم لإصلاح ذات البين، والغازي، وابن السبيل المجتاز بنا. فإن قلت: الأصناف ثمانية، وقد خرجوا في هذا التفصيل [عشرة].

قيل: لأن الغارم على ضربين، وابن السبيل على ضربين؛ فلهذا زاد التفصيل صنفين، والله أعلم. قال: فإن فضل منه شيء، أي: لتقتيره على نفسه، أو لغير ذلك – استرجع منه؛ لأنه إنما أخذ لحاجته وقد زالت بتمام السفر، بخلاف الغازي؛ فإنه يأخذ لحاجتنا إليه؛ ولذلك دفعنا إليه مع الغنى، وقد حصلها. ومنهم من ألحق ابن السبيل بالغازي في عدم الاسترجاع، وهو ما أبداه الحناطي احتمالاً، ونسبه الشيخ أبو الفرج إلى النص، وعكس هذا: لو أُعْطِي ما يكفيه إلى غاية قدرها [ثمانية فراسخ]، فسافر شطر المسافة، ثم ترك السفر وقد أنفق جميع ما قبضه في تلك المسافة – نظر: فإن كان قد فعل ذلك [لغلاء سعر أو] زيادة مؤنة، لا يسترجع منه شيء، وإن كان لسرف في شهوة، أو استكثار، استرجع منه نفقة الباقي من سفره. قال: وإن فقد صنف من هذه الأصناف، أي: من الوجود – وفَّر نصيبه على الباقين؛ لأنه لا يجوز أن يرد إلى رب المال يتصرف فيه؛ لأن الصدقة وجبت عليه طهرة له؛ فلا يجوز تركها عليه؛ لأن ما يصرف إلى الشخص لا يكون مطهراً له؛ ولهذا لو لم توجد جميع الأصناف لا تسقط عنه الزكاة. قال في "التتمة": وخالف ما نحن فيه ما لو أوصى لرجلين، فرد أحدهما –يكون المردود للورثة [دون الثاني؛ لأن المال للورثة] لولا الوصية، والوصية تبرع رخص فيه، فإذا لم يتم أخذ الورثة المال، ولا يجوز أن يرد إلى سائر الناس؛ لأنه لم يوجد فيهم معنى الاستحقاق؛ فتعين الصرف لباقي الأصناف؛ لأنهم [مشاركون للذين] عدموا في الصدقات فكانوا أولى. فإن قيل: أليس قلتم: إنه إذا خلف الميت ذا فرض لا يستغرق لا عصبة له يرد الباقي إلى بيت المال؛ ولا يرد على ذوي الفروض؛ فهلا قلتم هنا كذلك؟!

قلنا: بيت المال عصبة الميت؛ لأنه لجميع المسلمين، وهم عصباته؛ فحلوا محل عصبته، وهاهنا ليس فيهم معنى الاستحقاق؛ فافترقا. ولا فرق في الصنف المفقود بين أن يكون العامل أو المؤلفة أو المكاتبين أو غيرهم، حتى إذا كان غير [العامل فض] المأخوذ على سبعة، وقوبل السبع بأجرة العامل كما تقدم. وإن كان المفقود العامل؛ لتفرقة رب المال الزكاة بنفسه – قسم المأخوذ على سبعة على المشهور، ووراءه، وجان: أحدهما – حكاه الحناطي عن النص -: أنه يسقط في هذه الصورة سهم المؤلفة أيضاً، وتكون القسمة على ستة أسهم، وهو هكذا في "فتاوى" القفال، ولعله أشار بذلك إلى نصه في "الأم"؛ فإن الماوردي حكى في صدقة الفطر أن الشافعي قال في "الأم": إذا تولى رب المال إخراج صدقة الفطر [فرقها في] ستة أصناف، وسقط عنه سهم العاملين والمؤلفة وادعى الإمام في أول باب كيف تفريق قسم الصدقات: أنه [الرأي] الظاهر. والثاني – حكاه الحناطي أيضاً عن أبي سعيد الإصطخري -: أنه يجوز الصرف في هذه الحالة إلى ثلاثة من الفقراء، والمشهور نسبة هذا القول إليه في زكاة الفطر. ولو فقد الصنف في بلد المال، ووجد في غيره: فإن كان المفقود العامل؛ فالحكم كما تقدم، وإن كان غيره: فإن كان نصيب الموجودين [قدر كفايتهم، نقل نصيب المفقودين في البلد إلى الذي وجدوا منه في غيره، قاله البندنيجي، وإن كان نصيب الموجودين] دون كفايتهم؛ ففيه ثلاث طرق: [إحداها] – حكاها الماوردي -: أنه ينظر: فإن كان المفقود الغزاة نقل سهمهم إلى الغزاة الذين يوجدون في الثغور وغيرها؛ [لأنهم يكثرون في الثغور] ويقلون في غيرها، فلم يكتفوا بسهمهم من صدقات بلادهم. وإن كان المفقود غيرهم فهل يصرف إلى الموجودين من باقي الأصناف، أو ينقل إلى ذلك الصنف حيث كان؟ فيه وجهان.

والثانية: إجراء الوجهين في جميع الأصناف؛ بناء على القولين في جواز النقل: فإن قلنا: يجوز، جاز هاهنا، وألا فلايجوز. وهذه طريقة أبي علي بن أبي هريرة، وقد صحح الأول منهما الغزالي والرافعي والقاضي أبو الطيب في أثناء كلامهن وصحح الثاني القاضي الحسين غيره. والثالثة – حجاها ابن الصباغ والقاضي الحسين وغيرهما-: أنه يجوز النقل في هذه الحالة قولاً واحداً، وهذا القائل يعتبر المستحقين؛ لأن استحقاقهم ثبت بنص الكتاب، ومنع النقل ثبت بالاجتهاد؛ فإذا تعارضا كان تغليب ما ثبت بالنص أولى من تغليب ما ثبت بالاجتهاد، والقائل قبله اعتبر المكان، وتعلق بأن الاعتبار بالمكان الذي هو فيه؛ ألا ترى أن المسافر إذا عدم الماء في موضعه تيمم وإن كان موجوداً في غيره؟! وقد فرَّع الرافعي على الوجهين في هذه الصورة فقال: إن قلنا: ينقل، فينقل إلى أقرب البلاد إليه، فإن نقله إلى غيره أو لم ينقله وردَّه على الباقين، ضمن. قلت: وفي ضمانه إذا نقل إلى غير الأقرب نظر؛ لأنا إذا قلنا: إن النقل مفرع على القول بجواز النقل – كما هي طريقة ابن أبي هريرة – فكيف يمكن تضمينه مع أنه

فعل ما هو جائز له؟! وإذا قلنا: إنه ينقل، فكذا [هذا] هنا، وإن منعنا النقل فينبغي أن يكون في ضمانه الخلاف السابق فيما إذا قلنا: لا يجوز النقل، فنقل. قال: وإن قلنا: لا ينقل، فلو نقل، ضمن. وابن الصباغ قال في هذه الصورة- تبعاً للقاضي أبي الطيب – في ضمانه القولين فيما إذا قلنا: لا يجوز نقل الزكاة فنقلها، وذلك يؤيد ما ذكرناه، وقد أشار الإمام إلى عدم الضمان إذا قلنا: إن النقل هاهنا مفرع على القول بجواز النقل مطلقاً، وقال: إذا قلنا: إنه جائز هاهنا فقط، فيتعين النقل إلى أقرب موضع وجد فيه الصنف إذا كان على دون مسافة القصر، [وكذلك إن كان على مسافة القصر عند الجمهور، حتى لا يجوز أن ينقل إلى أبعد منهم. وذهب بعض الأصحاب [إلى] أنه إذا احتاج إلى النقل إلى مسافة القصر] [زال الحرج]، وينقل [إلى] حيث شاء، والأصح الأول. قال: والمستحب أن يصرف صدقته إلى أقاربه الذين لا تلزمه نفقتهم؛ لما روى الترمذي عن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " [الصَّدقة] على المسكين صدقةٌ، وعلى ذي الرَّحم ثنتان: صدقةٌ، وصلةٌ"،وروي أنه – عليه السلام – قال: "أفضل

الصَّدقة أن تتصدَّق على ذي الرَّحم الكاشح"، [والكاشح:] الذي يعاديك ويغتابك ويقع فيك إذا غبت، كذا حكاه القاضي الحسين في صدقة الفطر. قال الشافعي: "ولأنه أعلم بحال قريبه منه بحال غير قريبه؛ فكان صرف الصدقة إليه أفضل"؛ ولهذه العلة استحببنا عند فقد الأقارب صرفها إلى جيرانه، وقد تقدم حكاية وجه في تعين الصرف لهم عند اتساع البلد، ومنع النقل إن كان رب المال هو المفرق. [و] قال القاضي الحسين في صدقة الفطر: ويستحب أن يقدم ذا الرحم المحرم ثم ذا الرحم غير المحرم، [ثم المحرم] بالرضاع، ثم بالمصاهرة، ثم الجيرة بعد ذلك. أما أقاربه الذين تلزمه نفقتهم فلا يجوز أن يعطيه من سهم الفقراء والمساكين، وكذا من سهم المؤلفة؛ لأن نفقتهم إنما تلزمه عند فقرهم، وحينئذ فدفعه يسقط النفقة عن نفسه كما يسقطها الصرف إليه من سهم الفقراء. ولا يجوز أن يعطيهم من سهم أبناء السبيل ما يحتاج إليه سفراً وحضراً؛ فإن هذا القدر هو المستحق عليه بسبب القرابة، ويجوز أن يعطيهم منه الزائد على نفقة الحضر؛ لأن ذلك لا يلزمه بالقرابة، وكذا يجوز أن يعطيهم من سهم الغارمين والمكاتبين والغزاة، قال الرافعي: والعاملين إذا كانوا بهذه الصفات. وقال البندنيجي بعد حكايته عن الأصحاب أنه يجوز أن يعطيهم من سهم العاملين: إن هذا غير صحيح؛ لأنه لا يتصور أن يدفع رب المال نصيب العاملين من زكاته؛ ولأجل ذلك قال ابن الصباغ: يجوز أن يعطي من سهم العاملين وإنما يكون بدفع الإمام دون دفعه. وهذا كله إذا كان القريب حيًّا، فلو مات بعد وجوب الزكاة عليه فهل للإمام

صرفها إلى أقاربه الذين [كانت] تلزمه نفقتهم بسبب فقرهم، أو لا يجوز؟ الذي ذكره القاضي الحسين: المنع، وقال في "البحر" قبل [كتاب] زكاة الفطر: ويحتمل أن يقال: يجوز؛ لأن شبهة استحقاق النفقة غير موجودة. ومن تلزمه نفقته بسبب الزوجية صرفه إليه كصرف الأجنبي له، صرح به الإمام، وقد تقدم حكاية وجهين في جواز صرف الأجنبي شيئاً لزوجة غيره من سهم المسكنة، ومقتضى قول الإمام جريانهما هاهنا، ونص الشافعي [على المنع، وبه جزم الماوردي] وغيره. نعم، يجوز أن يصرف إليها من سهم المكاتبين والغارمين بلا خلاف، ولا يجوز من سهم الغزاة؛ لأنها لا تصلح لها، وهل يجوز من سهم المؤلفة؟ قال في "التتمة": يجوز. وهو ما أبداه الإمام احتمالاً حيث قال: لو قيل: تُعطى، لكان مذهباً؛ لأن ما يقصد من حسن إسلام الرجل وترغيب قومه في الإسلام موجود في المرأة. وقال الشيخ أبو حامد في "التعليق": لا يجوز؛ لأنها لا تكون من المؤلفة. قال الرافعي: والأول هو المنقول. وطرد الشيخ أبو حامد [المنع في] [صرف] سهم العامل إليها، وكذا الماوردي، وإن كان كلامه السابق بخلافه. والصرف من سهم سبيل الله إليها يتوقف على معرفة كيفية سفرها: فإن كان وحدها بإذنه في حاجتها، فإن أوجبنا نفقتها على الزوج، أعطيت مؤنة السفر الزائدة على نفقة الحضر، وإن لم نوجب نفقتها على الزوج، قال الرافعي وغيره: أعطيت جميع كفايتها. قلت: وهو تفريع على الصحيح في أن ابن السبيل يعطى جميع كفايته، كما تقدم. وللإمام احتمال في جواز الصرف إليها إذا كانت قادرة على الرجوع في زمان مكثها مع قدرتها على العود، قال: والأظهر ما ذكره الأصحاب؛ فإنه إذا جاز لها

المكث، فإذا مكثت فليس العود إلى الزوج ممكناً في ذلك اليوم، وكذلك كل يوم يأتي. قال: ويتطرق إلى أصل المسافرة احتمال آخر؛ فإنها وإن خرجت بالإذن فهي المتسببة إلى إسقاط النفقة. وإن [كان] السفر بغير إذنه فلا تعطى من سهم أبناء السبيل؛ لأنها عاصية بسفرها، وتعطى من سهم الفقراء والمساكين، بخلاف الناشزة [وإن [كانت] عاصية بالنشوز مسقطة لنفقتها في الموضعين؛ لأن الناشز] تقدر على العود إلى الطاعة، والمسافرة لا تقدر على ذلك. نعم، لو تركت سفرها وعزمت على أن تعود إليه أعطيت من سهم أبناء السبيل. ويؤخذ من كلام الإمام احتمال في جواز الصرف إليها من جهة انتسابها إلى النشوز في أول الأمر، وهو يداني ما مر: أنا من لزمه الدين بسبب الاستنفاق في معصية، هل يقضي دينه من سهم الغارمين [أم لا؟ ولو كان سفرها وحدها لحاجته بإذنه، قال الماوردي: فهو كما لو سافرت معه] بإذنه، والحكم في هذه الحالة: أنها لا تعطى من سهم أبناء السبيل؛ لأنها مكفية المؤنة بالزوج، كذا قاله الرافعي وغيره. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أن الحكم كذلك إذا كان سفرها معه بإذنه لحاجته، فلو كان في حاجتها جاز أن يعطيها القدر الذي يزيد على نفقتها في الحضر، وكذا مركوبها. وإن كان سفرها معه بغير إذنه فالنفقة عليه؛ لأنها معه، قاله ابن الصباغ والرافعي، [وقال] القاضي الحسين: أنها لا تعطى مؤنة السفر؛ لأنها عاصية بالخروج. ويجوز للزوجة أن تصرف صدقتها إلى زوجها، بل يستحب كما حكاه الماوردي في باب صدقة الفطر؛ لقوله – عليه السلام – لامرأة ابن مسعود حين سألته [عن

دفع] زكاتها إلى زوجها: "لك أجران: أجر الصَّدقة، وأجر الصَّلة". ولأنه في معنى أهلها وأقاربها الذين لاتلزمها نفقتهم. فإن قيل: هي إذا صرفت زكاتها إليه عاد إليها النفع؛ لأنها تطالبه بنفقة الموسرين، وينبغي أن تمنع لذلك. قلنا: قد أشار إلى المنع القاضي الحسين، حيث قال في "التعليق": يجوز أن تدفع إليه من صدقتها باسم الفقر، على الصحيح من المذهب، والمشهور الأول، كما يجوز أن يصرف زكاته لفقير أو مسكين له عليه دين، وإن كان إذا قبضها طالبه بدينه لميسرته بما قبض، كذا قاله البندنيجي وغيره. والكل متفقون على أنه لا يجوز أن يصرف [من] سهم الرقاب إلى مكاتبه؛ لأنه قِنًّ ما بقي عليه درهم. قال: وأن يعم كل صنف إن أمكن، أي: ويستحب أن يعم كل صنف إن أمكن التعميم في الدفع بحيث يحصل مجموع الكفاية له؛ كي لا ينكسر قلب من لم يعطه. وقال الإمام فيما إذا كان التعميم يقربهم من الكفاف: فقد نقول: إذا صرف زكاته إلى ثلاثة من كل صنف تبرأ ذمته، ويعصي إذا لم يكن في القطر من يرعى المحاويج غيره. والمشهور: ما ذكره الشيخ، رحمه الله. أما إذا كان تعميم الجميع ممكناً بحيث تندفع حاجة كل منهم بما يعطيه له، بأن كانت صدقته كبيرة، والمستحقون فيهم قلة – وجب التعميم، ولا يجوز أن يخل بواحد منهم، صرح به الماوردي والبندنيجي والمتولي، وهو قضية ما حكيناه [من

إطلاق العراقيين عند الكلام في نقل الصدقة، وفي "التهذيب": أن ذلك يجب إن لم تجوز نقل الصدقة، وإن جوزناه لم يجب، لكن يستحب، وهو قضية ما حكيناه] ثم عن المراوزة، وقد حكاه الإمام في كتاب الزكاة قبل باب صدقة الخلطاء حيث قال: سمعت شيخي يقول: إذا منعنا النقل، وانحصر الفقراء، وزادوا على ثلاثة – فيجب صرف الحصة إليهم، وتجب التسوية بينهم، وإنما يجوز الاقتصار على الثلاثة وتجوز المفاضلة عند خروجهم عن الضبط الممكن؛ فإن سبب الاقتصار على الثلاثة أنهم أقل [الجمع]، ولا عدد أولى من عدد بعد ذلك، وسبب المفاضلة: أن كل من أعطي أقل فلو حرم لأمكن حرمانه بإقامة غيره مقامه فأما إذا انحصروا وامتنع النقل وثبت الاستغراق- فالوجه وجوب الصرف إليهم مع رعاية التسوية. قال: والذي قاله حسن منقاس إذا قلنا برد اليمين عليهم، وقد ادعى في "الوسيط" في هذه الصورة أن الأولى: التعميم، ثم قال: ويحتمل أن يقال: يجب الاستيعاب عند الإمكان، والله أعلم. قال: وأقل ما يجزئ-أي: في الحالة التي يستحب فيها التعميم – أن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف منهم، أي: عند وجودهم، لأن الله تعالى ذكر كل صنف بلفظ الجمع، وأقل الجمع ثلاثة. قال إلا العامل؛ فإنه يجوز أن يكون واحداً؛ أي: إذا حصلت [له] الكفاية؛ لفهم المقصود به. فإن قيل: ابن السبيل لم يذكر في الآية بلفظ الجمع؛ فكان ينبغي أن [يجوز الاقتصار] على الصرف لواحد منهم. قلنا: قد قال [به] بعض الأصحاب، والصحيح الأول؛ لان المراد به الجنس كما تقدم؛ لأن الإضافة تجري مجرى لام التعريف، والألف واللام يستغرقان الجنس، كذلك الإضافة. وعن بعض شارحي "المختصر": أنه لو طرد الخلاف في الغزاة لم يبعد، أما إذا لم

يوجد من الصنف إلا واحد: فإن كان ثلث حصة الصنف يدفع حاجته فلا يزاد على ذلك، وباقي الحصة هل يرد على بقية أهل الأصناف، أو ينقل إلى ذلك الصنف في بلد آخر؟ فيه قولان في "تعليق" أبي الطيب كالقولين فيما إذا فقد الصنف في بلد [ذلك] المال ووجد في غيره، وهما في "الشامل" وجهان، وادعى الماوردي أن المذهب منهما الأول. وإن كانت حاجة الموجود من الصنف لا تندفع إلا بجميع حصة الصنف، فقد قال المتولي: إن قلنا: لا يجوز نقل الصدقة، صرفنا جملة النصيب إلى الموجود، وإن قلنا: يجوز نقلها، فلا يجوز الإخلال بالعدد. وسكت عما يصرف للموجود وما ينقل. وقال الإمام: إن العراقيين بنوا ذلك على ما إذا عدم الصنف كله في بلد ووجد في غيره، فإن قلنا ثم: لا ينقل ويفض على الموجودين، فهاهنا يفض في مسألتنا ولا ينقل أولى. وإن قلنا ثم: يجب النقل، ففي هذه الصورة قولان. والذي قاله [القاضي] أبو الطيب وغيره: أن ذلك ينبني على القولين فيما إذا فقد الصنف في بلد المال ووجد في غيره، فإن قلنا: يصرف لباقي الأصناف، صرف جميع السهم هنا للموجود، وهو ما نص عليه في "المختصر" في ابن السبيل، وإن قلنا: ينقل ذلك الصنف حيث كان، فلا يجوز أن يدفع [الكل، ويجوز أن يدفع] إله الأكثر من السهم، وينقل إلى البلد الآخر ما يجوز أن يدفعه إلى الواحد [عند وجود ثلاثة منهم فأكثر؛ لأنه لا يجوز له التفضيل في الإعطاء في الصنف الواحد]. وقال الماوردي والبندنيجي على هذا: إنه لا يجوز أن يعطى الموجود إلا ثلث السهم [من غير زيادة]؛ لأن الله تعالى جعله لجمع أقله ثلاثة، وينقل باقي السهم – وهو ثلثاه – إلى ذلك الصنف بأقرب البلاد. والخلاف هكذا هو الذي حكاه القاضي الحسين في موضع من الكتاب حيث قال: إذا لم يوجد من صنف إلا واحد دفع إليه النصيب كله إذا كان قدر حاجته، ومن

أصحابنا من قال: يدفع إليه ثلث نصيب الصنف؛ للآية، والله أعلم. قال: والأفضل أن يفرق عليهم على قدر حاجتهم، أي إن تفاوتت، وأن يسوي بينهم، أي: ويستحب أن يسوي بينهم إن استوت حاجتهم؛ لأن الزكاة شرعت لدفع الحاجة. ولو لم يفعل ذلك، وسوى بينهم مع تفاوت الحاجة، أو فاضل مع تساوي الحاجة - جاز؛ لما تقدمت حكايته [عن رواية] الإمام عن والده، ويأتي فيه وجه الشيخ أبي محمد السابق، وبه صرح في "الوسيط"، والمشهور: الأول، وقد قال الأصحاب تفريعاً عليه: إنه يخالف هذا ما لو أراد أن يفاضل بين الأصناف في القسمة؛ فإنه لا يجوز، [ولو] مع تفاوت الحاجة وشدتها؛ لأن الأصناف محصورة فيمكن التسوية بينها، والعدد من كل صنف غير محصور؛ فسقط اعتبار السوية. قال في "التهذيب": وليس كما لو أوصى لفقراء بلد بعينه وهم محصورون؛ حيث يجب تعميمهم و [لا] تجب التسوية؛ لأن الحق في الوصية لهم على التعيين، [حتى لو لم يكن هناك [فقير] بطلت الوصية، وهاهنا لم يثبت الحق لهم على التعيين]؛ وإنما تعينوا لفقد غيرهم؛ ولهذا لو لم يكن في البلد مستحقون لا تسقط الزكاة؛ بل تنقل إلى بلد آخر، فمن حيث إنهم محصورون يجب التعميم، ومن حيث إنهم لم يثبت [لهم] على التعيين لاتجب التسوية. وقد يقال: إن معنى قول الشيخ - رحمه الله -: "والأفضل أن يفرق عليهم على قدر حاجتهم"، أي: إن أمكن، مثل: أن تكون حاجة ثلاثة من الصنف ستمائة درهم، يحتاج أحدهم إلى مائة، والآخر إلى مائتين، والثالث إلى ثلاثمائة، وحصة الصنف من زكاته ستمائة، فيستحب أن يصرفها لهم، ولو صرفها لهم ولغيرهم جاز؛ لما تقدم، لكنه خلاف الأفضل. وقوله: "وأن يسوي بينهم"، أي: إن لم يمكنه دفع حاجة [ثلاثة من] الصنف؛

لأنه ربما وجب عليه النصف، مثل: أن تكون حصة الصنف ثلاثمائة – والصورة كما ذكرنا – فيستحب أن يدفع إلى الأول خمسين، وإلى الثاني مائة، إلى الثالث مثلهما؛ لأنه بذلك تحصل التسوية؛ ولهذا قال الأصحاب: إنه يجب على الإمام إذا قسم، ولم يمكنه تعميم الصنف [من جميع] الزكوات – أن يقسم على هذا النحو؛ إذ تعميم الصنف واجب عليه؛ ولو لم يفعل رب المال ذلك، بل سوى في الدفع إليهم من غير نظر إلى قدر الحاجة – جاز، لكنه خلاف الأفضل والله أعلم. قال: فإن دفع جميع السهم إلى اثنين، أي: وحصة الصنف من الزكاة لا تفي بحاجات أهل الصنف ولو قسم عليهم – غرم للثالث الثلث في أحد القولين؛ لأنا جعلنا إليه الاجتهاد في [ذلك] القدر بشرط ألا يخل بالعدد، فإذا ظهر منه الإخلال بالعدد بان أنه ليس من أهل الاجتهاد؛ فألزمناه القسمة، قال: على ما اقتضاه ظاهر الآية؛ فإنه يقتضي التسوية، وهذا ما نص عليه في قسم الصدقات. قال: وأقل جزء في القول الآخر؛ لأنه لو اقتصر عليه ابتداء أجزأه، وهذا ما ادعى ابن الصباغ [وغيره] أنه القياس؛ وصححه الإمام في كتاب الأضحية والنووي. وقد قرب المتولي هذا الخلاف من الخلاف فيما إذا باع الوكيل [بدون] ما يتغابن بمثله وهلك المال: فهل يضمن ما نقص عن القدر الذي يتغابن به، أو يضمن جميع النقص؟ وفيه قولان، وقال المحاملي: إن الخلاف في مسألتنا وفي مسألة الأضحية مخرج من مسألة الوكيل، وقد ذكرت ذلك عنه في الأضحية. ولو صرف جميع السهم إلى واحد فعلى الأول يضمن الثلثين، وعلى الثاني: أقل ما يجوز صرفه لاثنين. أما إذا صرف جميع السهم إلى اثنين، وحصة الصنف بقدر حاجات أهل الصنف؛ لكونهم ثلاثة – فالمغروم للثالث قدر حاجته، صرح به الماوردي. وهذا كله فيما إذا فرق رب المال زكاته بنفسه، أما إذا فرقها الإمام فعليه استيعاب

آحاد كل صنف، ولا يجوز له الاقتصار على بعضه؛ فإن الاستيعاب لا يتعذر عليه، بخلاف رب المال، هكذا قاله ابن الصباغ والمتولي والبدنيجي والماوردي، وقال القاضي الحسين: إن عليه أن يول الصدقة إلى [كل] من يقدر عليه. قال الرافعي: وليس المراد أنه يستوعب في زكاة كل شخص الآحاد؛ ولكن يستوعبهم بالزكوات الحاصلة في يده. وإلى ذلك يرشد ما ذكره الماوردي من الفرق بين رب المال والإمام فيما نحن فيه، وهو أن الإمام يقسم جميع الصدقات؛ [فلزمه أن يعم بها جميع أهل السهمان، ورب المال يقسم بعض الصدقات] فجاز أن يقتصر على بعض أهل السهمان، قال الأصحاب: وللإمام وضع صدقة رجل واحد كلها في فقير واحد وفي صنف واحد، لكن لا يجوز أن يحرم من جملة الصدقات صنفاً أو يفضله على صنف آخر، صرح به الفوراني والبندنيجي. وله – كما قال المتولي، وتبعه الرافعي – أن يخص الصنف بنوع من المال، [وآخرني بنوع] آخر، لكن بالقيمة؛ لأن في تكليفه قسمة كل نوع مشقة، يوجب عليه التسوية في العطاء لأهل الصنف الواحد؛ فلا يفضل بعضهم على بعض، حكاه المتولي أيضاً. ومعنى التسوية: أن يعطي كل واحد من الصنف قدر حاجته إن اتسع سهمهم لذلك، صرح به ابن الصباغ وغيره، [وإن لم يتسع وزعه على قدر الحاجة كما توزع التركة على الديوان عند ضيق التركة عن الوفاء، صرح به البندنيجي وغيره]. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن قول الشيخ – رحمه الله -:"وأقل ما يجزئ أن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف إلا العامل؛ فإنه يجوز أن يكون واحداً" – غير منتظم؛ لأنه إن أراد بذلك إذا كان المفرق هو رب المال-كما ذكرناه، وصرح به غيره من الأصحاب-[لم يحتج] إلى استثناء العامل؛ لأن العامل يسقط إذا كان المفرق رب المال، وإن أراد به إذا كان [المفرق هو الإمام]: فإن كان في صورة دفع

أرباب [الأموال] الزكوات فيها إلى الإمام بأنفسهم، فقد ذكرنا عن الأصحاب أن نصيب العامل يسقط أيضاً؛ فهو كما لو فرقها رب المال- وفيه ما تقدم – وإن كان في صورة لا يسقط فيها سهم العامل، وهي إذا حصل السعاة الزكوات من أرباب الأموال، وأحضروها إلى الإمام؛ لكونه لم يفوض إليهم إلا القبض دون الصرف – وهو جائز – فالإمام يجب عليه [تعميم] آحاد الصنف إذا فرق كما تقدم، وحينئذ لا يكون قوله: "وأقل ما يجزئ أن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف" موافقاً لما قاله الأصحاب، وقد يجاب عن ذلك بوجهين ضعيفين: أحدهما: أن مراده الحالة الأخيرة، وقولكم: إن الإمام إذا فرق يجب عليه الاستيعاب، ممنوع؛ لان الغزالي – رحمه الله – في "الوجيز" أطلق القول بأنه لا يجب استيعاب آحاد الأصناف، بل يجوز الاقتصار على ثلاثة؛ فإنه أقل الجمع، ولم يفصل بين أن يكون المفرق رب المال أو الإمام، وبه صرح الفوراني حيث قال: الإمام في قسمة جميع الصدقات كرب المال في [قسمة] صدقة نفسه خصوصاً، والمستحب: أن يوصل سهم كل صنف إلى جميع أهل ذلك الصنف وإن كانوا ألفاً، وإن أوصل من كل صنف إلى ثلاثة فصاعداً أجزأ ذلك، وعلى هذا: إذا فرق الإمام إلى اثنين يكون كرب المال. الثاني: سلمنا أن الإمام إذا فرق وجب عليه الاستيعاب، لكن نفرض الكلام فيما إذا كان المفرق هوا لساعي حيث جعل له الإمام الصرف ونقول له الاقتصار على ثلاثة من كل صنف؛ لأن المعنى الذي لأجله فرقنا بين الإمام ورب المال في ذلك- وهو ما ذكرناه عن الماوردي – مفقود فيه؛ لأنه لا يقبض كل الصدقات، بل صدقات أقوام مخصوصين؛ ولهذا [المعنى] حكينا عن الماوردي عند قول الشيخ: "ويجب صرف [زكاة] المال إلى ثمانية أصناف"، أن الساعي إذا كان هو الصارف ليس له أن يخص بكل صدقة صنفاً كالإمام؛ لأن نظره خاص لا يستقر إلا على ما جباه،

[وربما صرف] فلم يقض باقي الأصناف، بخلاف الإمام. فإن قلت: ضعف الأول ظاهر؛ لأن الشيخ – رحمه الله – عراقي، ومذهب العراقيين ما ذكرناه، فما وجه ضعف الثاني؟ قلت: لأن [الظاهر من كلام] الماوردي وغيره في الفرق بين رب المال والإمام: أن للإمام قبض كل الصدقات؛ فوجب عليه الاستيعاب بخلاف رب المال. وإنما أرادوا بقبض [كل الصدقات: [كل] صدقات] بلد المال، لا [كل] صدقات البلاد؛ لأن كون له قبض صدقات [جميع البلاد] لا يظهر له أثر في وجوب استيعاب أهل أصناف بلد المال بالصرف إليهم، على القول بمنع النقل كما هو الصحيح، نعم، أثر قبضه لكل صدقات بلد المال يظهر [في وجوب استيعاب أهل الأصناف فيها؛ لأنهم المستحقون للجميع، وإن كان كذلك فالساعي مشارك للإمام في تسلطه على قبض كل صدقات بلد المال]؛ فوجب مشاركته له في وجوب استيعاب الصرف لجميع أهل السهمان في البلد؛ ولذلك أطلق البندنيجي القول بأن الكلام في الساعي نفسه، والإمام واحد، وهو ما حكيناه عن موضع من "البحر" فيما تقدم. وهذا قلته؛ بناء على أن الإمام في منع النقل كرب المال، كما هو مقتضى كلام الماوردي وغيره كما سبق، أما إذا قلنا: إن له النقل وإن منعنا رب المال منه – كما اقتضاه كلام بعضهم – فيظهر أن يكون لتسلط الإمام على قبض صدقات غير بلد المال أثر في استيعاب أهل السهمان في كل بلد، وحينئذ لا يلتحق به الساعي؛ فيصح الجواب، والله أعلم. واعلم أنه إذا كان المفرق ماشية: فإن كان في المال متسع بحيث يخص كل شخص من صنف حيوان كامل، سلم إليه وإن كان لا يقدر أن يعطي [كل]

واحد رأساً، جمع جماعة من المستحقين، وملكهم رأساً من ذلك، وبين حصة كل واحد منهم. ولا يبيع رب المال النعم ويفرق ثمنها، وكذا الإمام، إلا أن يتعذر عليه الصرف كذلك؛ لتعذر اجتماع المستحقين، أو بسبب آخر: كتعذر السوق – كما قاله الماوردي وغيره – فحينئذ يبيع ويفرق الثمن [على الفقراء، وعن "التهذيب": أن الإمام إن رأى فعل ذلك فعله، ون رأى أن يبيع باع، وفرق الثمن] عليهم. قال: وإن فضل عن بعض الأصناف شيء، وكنا نصيب الباقين وفق كفايتهم، أي: قدرها من غير زيادة – وهو بفتح الواو – نقل ما فضل إلى ذلك الصنف بأقرب البلاد إليه؛ لأن المنع من النقل إنما كان [لدفع حاجة] أهل البلد، فإذا عدمت الحاجة زال المانع فحل النقل، بل وجب كما لو لم يوجد شيء من الأصناف في بلد المال؛ فإنه يجب نقله إلى أقرب البلاد إليه، ويجيء فيه الوجه السابق المفرق بين أن يحتاج إلى مسافة القصر أو لا، ووجه آخر: أن الفاضل يقسم على جميع أهل السهمان في البلد المنقول إليه، ويجعل [كالصدقة] المبتدأة لهم، حكاه الماوردي وقال: إنه مفرع على أن المغلب حكم الأصناف، أما إذا قلنا: المغلب حكم البلد، فالأمر كما ذكر الشيخ، ثم ما ذكرناه من التعليل يقتضي جواز النقل مطلقاً، وكذا قولهم: إن أطماع أهل السهمان في البلد تتعلق بالمال فيه، لا يقتضي إيجاب النقل لأقرب البلاد؛ لأن أهل السهمان فيه لا تتعلق أطماعهم بمال في غيره، خصوصاً إذا كان حول بلد المال الذي فقد فيه الصنف أو كل الأصناف بلاد متساوية. ثم على ما قاله الأصحاب من وجوب النقل إلى [ذلك الصنف] بأقرب البلاد، لو نقل إلى أبعد منه مع تمكنه من النقل إليه، خرج على القولين في النقل. قال: وإن فضل عن بعضهم ونقص عن كفاية البعض، أي: بقدر ما فضل، مثل: أن فضل عن بعضهم مائة، وعجز عن كفاية بعض مائة – نقل الفاضل، أي: جعل الفاضل إلى الذين نقص سهمهم عن الكفاية [في أحد القولين، وينقل إلى الصنف

الذي فضل عنهم بأقرب البلاد إليه في القول الآخر. هذا الخلاف حكاه القاضي أبو الطيب قولين كالشيخ، والماوردي والبندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين حكوه وجهين، وهما مبنيان على أن المغلب حكم البلد، أو حكم الأصناف – كما تقدم -: فإن غلبنا حكم البلد، جعل للبعض الذين نقص سهمهم عن الكفاية]، قال الرافعي: ويُرَدُّ عليهم بالسوية، فإن اكتفى بعضهم ببعض المردود، قسم الباقي بين الآخرين بالسوية، [وهذا ما صححه الفوراني]. وإن غلبنا حكم الأصناف، نقل إلى [ذلك] الصنف الذي فضل عنهم بأقرب البلاد إليه، ويجيء [تفريعاً عليه] الوجه الآخر: أنه يقسم الفاضل على جميع أهل السهمان بالبلد المنقول إليه كالصدقة المبتدأة، كما تقدم نظيره في المسألة قبلها. واعلم أن ظاهر قول الشيخ في هذه المسألة والتي قبلها: "نقل إلى أقرب البلاد إليه"، يفهم أن مؤنة النقل عليه، وقد قال الإمام: إنه إذا كان يحتاج في النقل إلى مؤنة فهذا مما تردد فيه الأئمة: ففي كلام بعضهم ما يدل على أنه يجب تكليف النقل وإن عظمت المؤنة؛ فإن تأدية الزكاة محتومة. قال: وهذا بعيد، والأصح: أن ذلك لا يجب، فيوقف إلى أن يجد المستحقين. قال: وأما زكاة الفطر فالمذهب أنها – كزكاة المال – تصرف إلى الأصناف، أي: الثمانية إن قسمها الإمام ووجدت، أو السبعة إن قسمها رب المال؛ لأن الأدلة الواردة في زكاة المال شاملة لها، وهذا ما نص عليه في "المختصر" في كتاب زكاة الفطر. وقيل: يجزئ أن تصرف إلى ثلاثة من الفقراء، أي: [أو] المساكين؛ لقول ابن عباس:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة

للمساكين"، [فخص [المساكين] بالذكر؛ فدل على أنه إذا صرف إليهم سقط الفرض، وقد تقرر أن المساكين متى خصوا بالذكر جاز الصرف إليهم وللفقراء ولأحد الصنفين، وكذلك إذا خص الفقراء بالذكر جاز الصرف لهم وللمساكين ولأحد الصنفين]. ولأن زكاة الفطر قليلة في الغالب؛ فإذا وزعت على الأصناف لم تقع من كل واحد موقعاً من كفايته. وهذا ما نقله العراقيون والمراوزة فيما وقفت عليه عن الإصطخري، وعن أبي عبد الله الحناطي أنه قول غيره، والذي قاله الإصطخري: جواز صرف زكاة المال كما تقدم، وقال في "البحر": إنه كان يفتي به كثير من أصحابنا، والجمهور غلطوه وقالوا: المشقة لا ترخص في ذلك؛ ألا ترى أن [من] وجب عليه جزء من بعير يلزمه التصدق به على الأصناف، وإن كان [فيه] مشقة؟ وأيضاً فمحل خلافه –كما قال الماوردي وغيره – إذا كان المفرق رب المال دون الإمام، وإذا كان كذلك فهو يمكنه الدفع إلى الإمام؛ حتى يجمعها مع صدقة غيره، ويصرفها إلى الأصناف، وإلى ذلك أشار أبو إسحاق في ["الشرح"] حيث قال: لو عمل فيها ما عمله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجمع في موضع واحد، ثم تفرق لم يضق. وقد أفهم كلام الشيخ أن القائل بخلاف ظاهر المذهب لا يجوز الصرف إلى غير الفقراء والمساكين فقط، وفي "التتمة": أنه لو صرف إلى العاملين أو إلى أبناء السبيل؛ لا يجوز إن قلنا: إن سقوط الفرض بالصرف إلى المساكين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خصهم بالذكر. قلت: وكلامه يفهم أنا إذا جعلنا علة الإجزاء في الصرف للمساكين فقط: المشقة، جواز الصرف للعاملين أو أبناء السبيل فقط، وفيه نظر؛ لأن سهم العاملين يسقط إذا فرق رب المال وهو محل الخلاف، ولا يقال: إنه يجوز أن يصرف من

زكاته لمن جبي مال غيره، وابن الصباغ قال في حكاية هذا الوجه: إنه يجوز الصرف إلى ثلاثة أنفس. وقريب منه قول الفوراني: إنه يجوز الصرف إلى صنف واحد. وذلك يحتمل أن يكون المراد صنفاً معيناً، وهو ما تقدم، ويحتمل أن يكون المراد أي صنف كان غير العامل، وبالثاني صرح الماوردي – حكاية عن الإصطخري – حيث قال: إنه يجوز الدفع إلى ثلاثة من أي صنف شاء، ولا يجوز أن يصرفها إلى أقل من ذلك. وصاحب "البحر" حكى هذه الطريقة وطريقة المتولي، وقد رأيت في شرح "التنبيه" لابن يونس: أن الخراسانيين نقلوا عن الإصطخري أنه جوز الصرف إلى واحد، وهو المحكي في "البحر" عن أبي حنيفة، ثم قال: وأنا أفتي به. قال: ولا تدفع الزكاة إلى كافر؛ لقوله – عليه السلام –لمعاذ: "فأعلمهم أنَّ عليهم صدقةً تؤخذ من أغنياهم، [فتردُّ على] فقرائهم"، فجعل من تدفع إليه الصدقة فقيراً، ومن تؤخذ منه الصدقة غنياً؛ فلما لم يجز أخذ الصدقة إلا من [غني] مسلم وجب ألا تدفع الصدقة إلا إلى فقير مسلم. ولا فرق في ذلك بين زكاة المال والفطر عندنا؛ لعموم الخبر، وأيضاً: فقد وافق الخصم – وهو أبو حنيفة – على زكاة المال، فنقول له: حق وجب إخراجه للطهرة؛ فلم يجز دفعه إلى أهل الذمة؛ كزكاة المال. ولا يستثنى من ذلك إلا ما تقدم عند الكلام في العامل. قال: ولا إلى بني هاشم؛ لقوله – عليه السلام -:"إنَّ هذه الصَّدقة أوساخ النَّاس، إنها لا تحلُّ لمحمدٍ ولا لآل محمدٍ"، وروى أبو هريرة أن الحسن بن علي أخذ تمرة من [تمر] الصدقة، فجعلها في فيه، فنزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيه [بلعابه] وقال: "كخ كخ" وقال: "إنا – آل محمد – لا تحل لنا الصدقات".

قال: وبني المطلب؛ لأنه – عليه السلام – قال: "نحن وبني المطَّلب شيء واحدٌ. وشبَّك بين أصًابعه، ولا يستثني من ذلك إلا ما ذكرناه عند الكلام في العامل وفاقاً وخلافاً. وقيل: إن منعوا حقهم من خمس الخمس دفع إليهم؛ لأنه – عليه السلام – علل حرمانهم الزكاة بأن في خمس الخمس ما يكفيهم، فإذا منعوه زال المانع، وهذا قول الإصطخري – كما قال البندنيجي – وهو جارٍ فيما ذا عدم خمس الخمس من طريق الأولى، وبه صرح الأصحاب. [قال: وليس] بشيء؛ لأن العلة كونها أوساخ الناس، فلا يليق بشرفهم تناولها، وذلك لا يزول بمنع الخمس عنهم أو فقده. وهل يجوز أن تدفع إليهم صدقة التطوع والمنذورة؟ فيه شيء سنذكره في الباب بعده، إن شاء الله تعالى. قال: ويجوز الدفع إلى موالي بني هاشم، وبني المطلب، وقيل: لا يجوز؛ لما قدمته من التوجيه عند الكلام في العامل. ولا يجوز الدفع للرقيق على أنه يملكه نفسه بحالٍ كما تقدم. وإذا عرفت من يجو الصرف لهم ومن لا يجوز، تفرع عليه ما إذا صرف إلى من ظنه من أهل الصدقة، فظهر خلافه: هل يجزئه أم لا؟ وقد قال الأصحاب: إن ذلك يختلف بحسب اختلاف المدفوع إليه: فإن كان ممن يحتاج إلى إقامة البينة على حاجته كالمكاتب والغارم: فإن كان الدفع إليه بمجرد قوله، وغلب على الظن صدقه – ضمن الدافع، سواء فيه الإمام

ورب المال ثم إن أمكنه الاسترجاع من المدفوع إليه استرجع العين أو البدل عند تلفها لنفسه لا لأهل السهمان، وإن كان ببينة ظهرت مزورة أو مخطئة كانت البينة [ضامنة. ثم] إن كان الدافع هو الإمام ضمنت لأهل السهمان، وإن كانت لرب المال ضنت له، وكانت الزكاة عليه، كذا قاله الماوردي وغيره، وفي "النهاية": أن [في] سقوط الفرض عنه قولين، كما إذا دفع إلى فقير فظهر غنيا. قلت: ولو كان الدفع إليهما بالإقرار وتصديق السيد والغريم، فينبغي أن يكون في تضمين المصدق قولاً الغرور؛ إذ تصديقه هوا لمقتضي للدفع. وإن كان المدفوع إليه ممن [يستحق] بسبب متأخر: كالغازي، وابن السبيل، ولم يغز الغازي ولم يسافر ابن السبيل- فلا ضمان على الدافع إماماً كان أو غيره، لكن عليه مطالبته. ثم إن كان عام الزكاة باقياً، خيره في المطالبة بين رد ما أخذه وبين أن ستأنف غزوا أو سفراً، وإن كان عام الزكاة قد انقضى، طالبه بالرد من غير تخيير؛ لأن زكاة كل عام مستحقة لأهلها في ذلك العام لا في غيره، كذا قاله الماوردي، ثم قال: فإن لم يسترجع منه حتى سافر وغزا في العام الثاني نظر: فإن كان قد أخذ في العام الثاني من زكاة ثانية استرجع منه ما أخذ في [العام الأول، وإن كان لم يأخذ في العام الثاني من زكاة ثانية، لم يسترجع منه ما أخذه في العام الأول]. ولو مات المدفوع إليه قبل [إمكان الاسترجاع كان تالفاً على أهل السهمان، وإن كان المدفوع إليه] متصفاً بصفة الفقر أو المسكنة، فظهر غنياً، أو رقيقاً، أو كافراً، أو من ذوي القربى – فإن [كان] الدفع إليه بغير اجتهاد، ضمن الدافع إماماً كان أو غيره، وإن كان باجتهاد، ففي حالة ظهور غناه لا يضمن الإمام، وله الاسترجاع، سواء شرط عند الدفع أنها زكاة أو لم يشترط. ويجيء فيه ما تقدم عند دفعه الزكاة المعجلة، ثم استغنى المدفوع إليه: فإن كان الدافع رب المال، ففي ضمانه قولان:

أحدهما: [أنه] لا يضمن كالإمام. والثاني: أنه يضمن، وهو الذي صححه الرافعي. والفرق من ثلاثة أوجه قالها الماوردي: أحدها: أن للإمام عليها ولاية ليست لرب المال؛ فلم يضمنها إلا بالعدوان. والثاني: أن الإمام برئ من ضمانها قبل الدفع؛ فلم يضمنها إلا بتفريط ظاهر، ورب المال مرتهن الذمة بضمانها قبل الدفع فلم يبرأ منها إلا باستحقاق ظاهر. والثالث: أن الإمام لا يقدر على دفعها إلى مستحقيها] بيقين بخلاف الإمام؛ فضمن إذا دفعها باجتهاد وظهر خلافه. ثم إذا قلنا بهذا فإن كان قد شرط عند الدفع أنها زكاة، كان له استرجاعها، وإن لم يشترط وصدقه القابض على أنها زكاة، [استرجع أيضاً، وإلا فلا. وهل له إحلافه على عدم العلم بأن ما أخذه زكاة]؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وفي حالة ظهور عبداً، أو كافراً، أو من ذوي القربى: هل يضمن الدافع؟ فيه طريقان: أحداهما – وهي طريقة كثير من المتقدمين، وهي التي نص عليها في "الأم"، كما قال ابن الصباغ وغيره-: أن الحكم كما لو ظهر غنياً. والثانية: إن كان الدافع رب المال ضن قولا واحداً، وإن كان الإمام ففي ضمانه قولان، أصحهما في "الرافعي": لا. وهذه طريقة ابن أبي هريرة وطائفة من المتأخرين، ولم يورد الماوردي في كتاب الأيمان غيرها. وعن الحناطي حكاية طريقة أخرى قاطعة بضمان الإمام أيضاً. والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها: أن يقين الفقر لا يعلم قطعاً؛ فجاز أن يعمل فهي على الظاهر، والحرية والإسلام وعدم القرابة تعلم يقيناً؛ فلم يجز أن يعمل فيه على الظاهر؛ ألا ترى أنه ذا صلى خلف شخص ثم ظهر كافراً يعيد، بخلاف ما لو صلى خلف محدث؛ لما ذكرناه؟! ولأن الكافر العبد وذا القرابة لا يُعطَى بحال من

الزكاة، والغني يعطى في حالة منها: وهي حالة الغزو ونحوها. وقد نجز شرح مسائل الباب لنختمه بشيء يتعلق به: الإمام إذا تمكن من قسم الصدقات، وجب عليه المبادرة؛ فإن لم يفعل عند عدم العذر ضمن، والعذر قد سبق بيانه عند الكلام في التعجيل، ووجه الأصحاب ذلك بأن المستحق غير متعين حتى يتمكن من المطالبة بحقه؛ ولأجل هذه [العلة] قالوا: [إن] الحكم كذلك فيما لو أوصى بتفريق ثلثه على الفقراء ومات الموصي، وتمكن من التفرقة فلم يفعل حتى تلف، وهذا بخلاف ما لو سلم [مالا إلى وكيله] ليفرقه أو يسلمه لشخص، فلم يسلمه حتى تلف – لا يضمنه كما قال الرافعي، وهو أحد الوجهين في "البحر" قبل باب صدقة البقر، واختيار كثير من الأصحاب، والفرق: أنه لا يلزمه امتثال أمره، بخلاف أمر الشرع. قال الروياني: والصحيح عندي: الضمان؛ لأنه التزمه باختياره؛ فلزمه الوفاء به. ثم حيث قلنا بضمان الإمام، [أو لم] نضمنه وقد قبض الحق بعد وجوبه؛ فذمة رب المال بريئة منه؛ لأن الشرع نصبه نائباً عن المستحقين، فإذا قبضها فقد وقعت الموقع. قال الإمام قبيل باب زكاة البقر: وهذا يتضح إذا قلنا: لابد من دفع الزكاة في الأموال الظاهرة إلى الساعي، فأما إذا قلنا: لرب المال أن يفرقها بنفسه، فلو دفعها إلى الساعي مختاراً من غير قهر، فتلفت في يد الساعي –ففيه اختلاف بين أئمتنا: منهم من قال: إن الأمر كما تقدم. ومنهم من قال: يد الساعي كيد الوكيل للمالك، ولو تلفت في يد وكيله لكانت ذمته مشغولة؛ فكذا هنا. وهذا الخلاف قد حكاه القاضي الحسين أيضاً في الموضع المذكور.

ثم إذا أراد الإمام القسمة فبمن يبدأ؟ قال الأصحاب: يبدأ بالساعي؛ لما تقدم. وفي "الحاوي": أن بعض الأصناف إن تعجل حضوره وتأخر الباقون بدأ به، وإن حضروا جميعاً، فقد قيل: يبدأ بأشدهم حاجة وأمسهم ضرورة. وقيل: يبدأ بمن إذا فض عليهم سهمهم بقيت منه بقية لتفض على الباقين قبل القسمة، ولا يحتاج فضها إلى استئناف قسمتها. وقيل: يبدأ بمن بدأ الله – تعالى – به في آية الصدقات على ترتيبهم [فيها]. إذا تمكن رب المال من أداء نصيب الفقراء دون سائر الأصناف، [فلم يؤد حتى تلف المال – فعليه ضمان حصة الفقراء، قال في "البحر": ويحتمل تخصيص الفقراء بها دون سائر الأصناف]؛ لأن وجودهم الذي قرر الوجوب فيها إذا دفع الزكاة إلى مسكين وهو غير عارف بالمدفوع، بأن كان مشدوداً في خرقة، أو كان عدلاً يعرف جنسه وقدره، وتلف في يد المسكين – ففي سقوط الزكاة احتمالان في "البحر"؛ لأن معرفة القابض لا تشترط؛ فكذلك معرفة الدافع إذا تصدق بجميع ما وجبت فيه الزكاة [ولم ينو الزكاة]، فظاهر المذهب: أنها لا تسقط، وقال ابن سريج: الأمر كذلك إذا كان له مال سواه، وإن لم يكن [له] غيره فوجهان: [أحدهما] ما تقدم. والثاني: يقع قدر الواجب عن الفرض والباقي تطوع. قال الروياني: ويشبه أن يكونا لوجهان بناء على القولين في بيع مال الزكاة بعد الوجوب: فإن قلنا: ينفذ في الكل، فقدر الصدقة في ذمته، وإن قلنا: يصح فيما عدا قدر الواجب، كانت الزكاة منها واقعة موقعها، وقد تقدم أنه يجوز صرف زكاته إلى من له عليه دين خلا مكاتبه، فلو كان حال الدفع قال: على أن تردها عليَّ من

ديني؛ فإنه لا يجزئه عن زكاته، ولو قضاها إياه من دينه لم يصح القضاء، ذكره القفال في "فتاويه"، والبغوي في باب الشرط في المهر، والقاضي الحسين في قسم الصدقات، ومن طريق الأولى ألا يجزئه عن الزكاة إذا أبرأ المدين مما له عليه من الدين بنسبة الزكاة. وبه صرح الإمام حي قال في باب الدين مع الصدقة: إنه لاشك في أنه لا يقع عن الزكاة؛ فإن تأدية الزكاة من ضرورتها: أن تتضمن تمليكاً محققاً، وكذا قاله القاضي الحسين قبيل باب قسم الصدقة، وزاد فيه، والإبراء محض إسقاط. ولو قال المديون: ادفع إلي ديناراً من الزكاة حتى أقضي به دينك، ففعل – جاز عن الزكاة، وهو بالخيار في أداء الدين منه. ولو دفع الزكاة إلى شخص وواعده أن يردها إليه بالبيع أو الهبة، أو ليصرفها المزكي في كسوة المسكين ومصالحه – ففي كونه قبضاً صحيحاً احتمالان ذكرهما في "البحر"، والله أعلم.

باب صدقة التطوع

باب صدقة التطوع وتستحب الصدقة في جميع الأوقات؛ لقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245]، وقوله - عليه السلام -: "ما تصدَّق أحدٌ بصدقةٍ من طيِّبٍ - ولا يقبل الله إلاَّ الطَّيِّب -إلا أخذها الرَّحمن بيمينه وإن كانت تمرةً، فتربو في كفِّ الرَّحمن حتَّى تكون عند الله أعظم من الجبل، كما يُربي أحدكم فَلُوَّه أو فَصِيله"، أخرجه مسلم. قال: ويستحب الإكثار منها في شهر رمضان؛ لما روى الشافعي بسنده عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجود ما يكون في شهر رمضان، كان كالريح المرسلة؟ ما سئل شيئاً إلا أعطاه"، ولفظ الإمام في رواية ذلك: "كان أجود الناس، فإذا جاء شهر رمضان، كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، كان كالريح المرسلة؟ ما سئل شيئاً إلا أعطاه"، ولفظ الإمام في رواية ذلك: "كان أجود الناس، فإذا جاء شهر رمضان، كان أجود بالخير من الريح المرسلة"، وفي ذلك معنيان: أحدهما: أنه أسرع إلى الخير من الريح تهب. والثاني: أنه أعم بالخير من غيره؛ فخيره يعم البر والفاجر وكل أحد، كالريح تهب على كل صعود وهبوط، وخبيث وطيب، ورطب ويابس.

والمعنى فيه: أن الناس في رمضان يكونون أشغل بالطاعات منهم في غير رمضان؛ فلا يتفرغون لمكاسبهم ومعايشهم على حسب ما يتفرغون في غيره من الأيام، وهذه العلة ترشد إلى أنه يستحب الإكثار منها في الأماكن الشريفة المقصودة بالعبادة كمكة والمدينة، وفي الغزو والحج؛ للاشتغال بالعبادة، وبذلك صرح في "الروضة"، وقال: إنه يستحب الإكثار أيضاً في الأوقات الفاضلة: كعشر ذي الحجة، وأيام العيد. قال الماوردي: ويستحب أن يوسع في رمضان على عياله، ويحسن لذي رحمه وقرابته، لا سيما في العشر الأواخر [منه]. قال: وأمام الحاجات، أي: قدامها بين يديها؛ لأنه أرجى لقضائها – وهو بفتح الهمزة – قال في "الروضة": وكذا يستحب الإكثار منها عند الكسوف والسفر والمرض. قال: ولا يحل ذلك لمن هو محتاج إلى ما يتصدق به في كفايته، وكفاية من تلزمه كفايته؛ لقوله – عليه السلام -: "كفى بالمرء إثماً أن يضيِّع من يعول". قال: أوفي قضاء دينه؛ لأنه حق واجب عليه؛ فلا يجوز تركه بصدقة التطوع، قال في "الروضة": [وهذه عبارة أبي الطيب] وابن الصباغ والشيخ في "المهذب" و"التهذيب" والدارمي والروياني في "الحلية" وآخرين. وعبارة الرافعي: أنه لا يستحب له التصدق، وربما قيل: يكره. قال في "الروضة": وهذه العبارة موافقة لعبارة الماوردي والغزالي والمتولي وآخرين، وهذا أصح في نفقة نفسه، والأول أصح في نفقة عياله، وأما الدين فالمختار: أنه إن غلب على ظنه حصول وفائه من جهة أخرى فلا بأس بالتصدق، وإلا فلا يحل. انتهى.

قلت: والأولى عندي في ذلك الجمع بين النقلين بالتنزيل على حالين: فما قاله الشيخ وغيره محمول على كفايته وكفاية من تلزمه كفايته في الحالة الراهنة، وقضاء الدين الذي تعين وفاؤه على الفور إما بطلب رب الدين أو بدونه، كما نبهنا على ذلك في أول باب التفليس. وما قاله الماوردي وغيره محمول على كفاية الأبد – وكلام بعضهم يرشد إليه – والدين الذي لم يجب أداؤه على الفور. ثم إذا قلنا بالتحريم فهل يملكه المتصدق عليه؟ ينبغي أن يكون فيه خلاف كالخلاف فيما إذا وهب الشخص ما معه من الماء بعد دخول الوقت، ومثل هذا جارٍ في تصدقه بجميع ماله تطوعاً بعد وجوب الزكاة وتمكنه من أدائها والله أعلم. قال: وتكره، أي: الصدقة بالفاضل عن الكفاية في الحال لمن لا يصبر على الإضافة؛ لما روى أبو داود عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه قبل ركنه الأيمن، فقال مثل ذلك؛ فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر؛ فأعرض عنه، ثم أتاه من خلفه، فأخذها رسول الله فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقةٌ، ثمَّ يقعد يستكُّف النَّاس، خير الصَّدقة ما كان عن ظهر غنى"، [وفي رواية]: "خذ [عنَّا] مالك لا حاجة لنا به"، فلما فهم – عليه السلام – منه أنه لا يصبر على الإضافة لم يقبلها

منه، والإضافة: الحاجة والضيق. قال الماوردي: وفي قوله – عليه السلام -:"عن ظهر غنّى" تأويلان: أحدهما: بعد استغناء نفسه عن تتبع ما يخرجه عن يده. والثاني: بعد استغنائه عن [أداء] الواجبات. قال القاضي الحسين: معناه: وراء الغنى، يعنيك ما فضل عن حاجته، وقيل: إن المصدق لا ينتظر من المصدق عليه المكافأة. أما من يصبر على الإضافة فيستحب له ذلك؛ لما روى أبو داود عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: "جُهْدُ المُقِلِّ وابْدَا بِمَنْ تَعُولُ"، وعن مر بن الخطاب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك ما لا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ["ما أبقيت لأهلك؟ "]، [قلت: مثله]، قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟ "، قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبداً. وأخرجه الترمذي وقال: صحيح. وجه الدلالة من ذلك: أنه لما علم أن أبا بكر – رضي الله عنه - ممن يصبر على الإضافة ولا يتضجر، قبل ذلك منه. قال القاضي الحسين: وهذا الفعل كان منهما حين نزل قوله تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [المزمل: 20]. وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه دخل على بلال، فوجد عنده كسرة خبز على رأس كوز، فقال: "ما هذا يا بلال؟ " فقال: هذا فضل عن فطري البارحة، فأعددته لأفطر به الليلة،

فقال – عليه السلام -: "أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً". وهذه التفرقة بني الصابر وغيره هي التي أوردها البندنيجي والإمام الغزالي وغيرهم، متمسكين بحمل الأحاديث المختلفة – ما ذكرناه وما لم نذكره – عليها بقوله – عليه السلام -:"إنَّ لله عباداً لا يصلحهم إلا الغني؛ فلو أفقرهم لأطغاهم، وإنَّ لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر فلو أغناهم لأطغاهم". وقد حكى المتولي ذلك وجهاً في المسألة وصححه، وحكى وراءه وجهين: أحدهما: الكراهة مطلقاً؛ لظاهر الخبر الأول. والثاني: أنه يستحب مطلقاً؛ لقصة أبي بكر وبلال، رضي الله عنهما. وهما مذكوران في "تعليق" القاضي الحسين.

وهذا حكم المتصدق، وبقي الكلام في المتصدق عليه والمتصدق به، وكيفية التصدق: فأما المتصدق عليه؛ فقد كانت صدقة التطوع حراماً علىرسول الله صلى الله عليه وسلم كالزكاة؛ صيانة له ولمنصبه عن أوساخ الأموال التي تعطى على سبيل التَّرَحُّم، وتنبئ عن ذل الآخذ، وأبدل الفيء المأخوذ على سبيل القهر والغلبة، المنبئ عن عز الآخذ وذل المأخوذ منه، كذا حاكه الإمام في قسم الصدقات والغزالي في مقدمة كتاب النكاح، وقال الإمام فيها: إن القاضي [أبا بكر] ذكر عن بعض الأصحاب أن صدقة التطوع ما كانت محرمة عليه؛ ولكنه كان يأنف من أخذها تعففاً، وقد حكى الغزالي الخلاف في قسم الصدقات، وغيره حكى فيه قولين. وقال الماوردي في كتاب الوقف: إنهما منصوصان في "الأم"، وأصحهما – وهو اختيار البصريين -: التحريم. وأما بنو هاشم وبنو المطلب فهل تحرم عليهم إذا قلنا بتحريمها عليهم، عليه السلام؟ فيه خلاف حكاه الإمام في قسم الصدقات [والمتولي قولين،] والغزالي في مقدمة النكاح وجهين، واقتضى إيراد الغزالي ترجيح التحريم؛ كما تحرم عليهم الزكاة، مع أنه جزم في قسم الصدقات بمقابله، وكذا الماوردي في كتاب الوقف، وهو المشهور؛ لأنه روى جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقيل له: أتشرب من مال الصدقة؟ فقال: إنما حرم الله علينا الصدقة المفروضة. والقائل بالتحريم [ثم] تمسك بعموم قوله – عليه السلام -:"لا تحلُّ لنا الصَّدقة"، وهي تشمل الواجبة والمتطوع بها. والصدقة المنذورة هل تلحق بالصدقة الواجبة أو بصدقة التطوع؟ فيه اختلاف

للأصحاب حكاه الإمام في قسم الصدقات، ويمكن بناؤه على أن النذر يسلك به مسلك واجب الشرع أو جائزه. ويحرم على الغني أخذ صدقة التطوع مظهراً للفاقة كما قاله في "البيان"، وعليه يحمل قوله – عليه السلام – في الذي مات من أهل الصفة، فوجدوا له دينارين، فقال: "ديناران من نار"،ومن طريق الأولى إذا سألها، وبه صرح الماوردي وغيره فقالوا: إذا كان غنياً فسؤاله حرام، وما يأخذه حرام عليه، وهذا إذا كان غناه بالمال، فلو كان [غناه] بسبب قدرته على الاكتساب فقد قال الغزالي في كتاب النفقات: إن في حل المسألة له خلافاً للأصحاب، وظاهر الأخبار يدل على تحريمه؛ فقد وردت فيه تشديدات، وهذا ما أورده الماوردي. قال الغزالي: وإذا سأل فلا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسئول ولا يذل نفسه وتجوز الصدقة عليه وإن كان [غنياً] بالمال إذا لم يظهر الفاقة، لكن الأولى له ألا يقبلن ويكره له التعرض لها، وكذا تجوز على الكافر والفاسق من طريق الأولى، لكن المستحب والأفضل التصدق على أهل الخير والمحتاجين وتستحب الصدقة على ذوي القرابة الفقراء، والمحرم آكد من غيره كما تقدم، ويقدم الأقرب فالأقرب، ثم الزوج والزوجة، ثم المحرم بالرضاع، ثم بالمصاهرة، ثم المولى من أعلى وأسفل، ثم الجار. وقد استحب أبو علي – كما قال في "الروضة" -: التصدق على أشد قرابته عداوة له؛ ليتألف قلبه، ولما فيه من سقوط الرياء وكسر النفس، وقد ورد فيه خبر ذكرته في باب قسم الصدقات. وهل الأولى للمحتاج أن يأخذ من الزكاة، أو [من] صدقة التطوع؟

قال في "الإحياء": اختلف فيه السلف، وكان الجنيد والخوَّاص وجماعة يقولون: الأخذ من الصدقة أفضل كي لا يضيق على الأصناف، وكي لا يخل بشرط من شروطها، وقال آخرون: الزكاة أفضل؛ لأنها إعانة على واجب، ولو ترك أهل الزكاة أخذها أثموا، ولأن الزكاة لا منَّة فيها. قال الغزالي: والصواب أنه يختلف بالأشخاص، فإن عرض له شبهة في استحقاقه لم يأخذ الزكاة، وإن قطع باستحقاقها، نظر: فإن كان المتصدق إن لم يأخذها هذا لا يتصدق فليأخذ [حد] الصدقة؛ فإن إخراج الزكاة لابد منه. وإن كان لابد من إخراج تلك الصدقة، ولم تضيق الزكاة، تخير، وأخذ الزكاة أشد في كسر النفس. وأما المتصدق به فينبغي أن يكون من أطيب ما عنده؛ للخبر السابق، و [مما يحبه]؛ لقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، فلو تصدق بالرديء، وما فيه شبهة، كره. ولا ينبغي أن يمتنع من الصدقة بالقليل احتقاراً له؛ قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} [الزلزلة: 7]، وفي الحديث الصحيح: "اتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ"، قال في "الروضة": وقد جاءت أحاديث كثيرة بالحث على الصدقة الماء. وأما كيفية التصدق، فقد قال في "الإحياء": إن الناس اختلفوا في إخفاء الصدقة وإظهارها أيهما أفضل، وفي كل واحد فضيلة ومفسدة، ثم قال: وعلى الجملة الأخذ في الملأ وترك الأخذ في الخلاء أحسن. وقال القاضي الحسين في باب الاختيار في صدقة التطوع: إن الأفضل في التطوع: الإخفاء، وفي الصدقة المفروضة: الإظهار أولى من الإخفاء؛ كي يرغب الناس في أداء صدقاتهم إذا نظروا إليه، ولقوله – عليه السلام -:"لن يتقرَّب إليَّ المتقرِّبون بمثل

أداء فرائضهم". ولا يزول ملك الشخص عما أرسله إلى فقير على يد ولده أو غلامه قبل إعطائه، [وإذا قبضه الفقير، قال في "الروضة": ملكه]. وقد ذكرت خلافاً في احتياج صدقة التطوع إلى إيجاب وقبول في باب الهبة؛ فليطلب منه. وإذا لم يدفعه غلامه أو ولده إلى الفقير فيستحب له ألا يعود فيه، بل يتصدق به، ومن تصدق بشيء كره له أن يتملكه من [جهته بمعاوضة] أو هبة، والكراهة فيما إذا تولى مباشرة ذلك بنفسه أو بوكيله – وهو عالم بأنه وكيل عن المتصدق – أشد مما إذا كان جاهلاً به كما قال الإمام في كتاب الزكاة. ولا بأس بتملك ذلك بالإرث من غيره. وينبغي أن يدفع الصدقة بطيب [نفس وبشاشة وجه]، قال النووي – رحمه الله – في"الروضة": ويحرم المن بها، وإذا من بطل ثوابها؛ لقوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة: 264]، والله أعلم.

كتاب الصيام

كتاب الصيام ["الصيام"] و"الصوم" في اللغة: الإمساك عن كل شيء، يقال: صام فلان، أي: أمسك عن الكلام، قال الله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} [مريم: 26] أي: صمتاً وسكوتاً؛ [ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} [مريم: 26]؟! وتقول العرب لوقت الهاجرة: قد صام النهار؛ لإمساك الشمس فيه عن السير، وتقول: خيلٌ صِيامٌ؛ بمعنى: واقفة قد أمسكت عن السير، قال النابغة: خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غير صائمةٍ تحتَ العَجاجِ وأخرى تَعْلُكُ اللُّجُما وفي الشرع: إمساك جميع النهار القابل للصوم، عن إدخال عين من الظاهر إلى الباطن في منفذ مفتوح، وعن الجماع واستنزال الماء والاستقاء، مع النية، من عاقل مسلم ظاهر عن الحيض والنفاس. وسيأتي على ذلك كلام الشيخ. قال: يجب صوم رمضان على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم.

الأصل في ذلك قبل الإجماع عليه، من الكتاب قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية [البقرة: 183]، والمراد: فرض عليكم، كما في قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] أي: فرض الله، والمراد بالأيام المعدودات: أيام شهر رمضان، وذكرها بجمع القلة، ليهونها على النفوس، ولأنها قليلة بالنسبة إلى أيام السنة، ويدل على ذلك قول ابن عباس: [إن] أول ما فرض صوم شهر رمضان فذكره بلفظ الأيام مجملاً، ثم بينه بقوله: شهر رمضان. فإن قيل: الآية تأبى ذلك؛ لأنه قال: لم يكن واجباً على من قبلنا. قلنا: قد حكى القاضي الحسين أن ما من أمة من الأمم السالفة إلاَّ وقد فرض عليهم شهر رمضان، إلا أنهم قد ضلوا عنه، ولئن سلمنا أنه لم يكن واجباً على من قبلنا فالتشبيه في أصل الصوم تشبيه لنا في الابتلاء به إلا أنه كهو من كل وجه. ويجوز أن يكون التشبيه عائداً إلى صفة الصوم؛ [لأن في بعض الشرائع السالفة إذا قام المكلف بالصوم] حرم عليه الإفطار إلى الليلة المستقبلة، وقد نقل أنه كان في صدر الإسلام الأكل والشرب والنكاح مباحاً للصائم ما بين صلاة المغرب و [صلاة] العشاء حسب، فإذا صلى العشاء أو نام قبل ذلك حرم عليه الأكل والشرب والجماع إلى الليلة المستقبلة، ثم نسخ، وسبب نسخه: أن رجلاً اختان نفسه

وجامع أهله بعد أن نام، وروي نحو من ذلك عن عمر بن الخطاب، وروى البخاري وغيره أن صرمة بن قيس كان يعمل في أرض له وهو صائم، فجاء إلى أهله وقت الغروب والتمس عشاء، فذهبت امرأته تصنعه له فرجعت إليه، وقد غلبه النوم، فأنبهته وقالت: خَيْبَةً لك، فلم يذق في ليلته شيئاً. ولما كان من الغد مضى إلى عمله فغشي عليه، فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} الآية [البقرة: 187]. وقد قيل [إن:] المراد بالأيام: الأيام البيض؛ لأنه قال: أيَّاماً، و"الأيام" إنما تطلق على ما دون العشرة، وعلى هذا لا تكون الآية دالة على وجوب صوم رمضان، بل

تكون دالة على وجوب صوم الأيام البيض كما قال به بعضهم، وأن ذلك نسخ بقوله: شهر رمضان. ويعضده قول عائشة: يعتبر فرض الصوم على ثلاثة أنحاء: فرض [يوم] عاشوراء، ثم نسخ بقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] وهي أيام البيض، ثم نسخ بشهر رمضان. كذا قاله القاضي الحسين، وحكى الإمام نحواً من ذلك عن معاذ. وقد قيل: إن صوم رمضان ناسخ لوجوب يوم عاشوراء، حكاه الماوردي، ولم يورد البغوي غيره. والذي اختاره الشافعي – كما قال القاضي الحسين -: الأول، وعبارة الماوردي: إن ذلك أشبه بمذهبه. ومن السنة: ما روى مسلم في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأناس من عبد القيس:"آمركم بأربعٍ: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأقيموا الصَّلاة،

وآتوا الزَّكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم". وروى مسلم عن [ابن] عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمسٍ: على أن توحِّدوا الله، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وصيام رمضان، والحجِّ"، فقال رجل: الحج، وصيام رمضان قال: "لا، صيام رمضان والحج"، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان فرض صوم شهر رمضان في شعبان سنة اثنتين من الهجرة، وهي السنة التي فرضت فيها زكاة الفطر، وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم [بذلك] قبل الفطر بيومين، وفيها خرج إلى المصلَّى، فصلَّى بالناس العيد، وهو أول عيد صلى فيه، [وفيها أقرَّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر؛ لأنها كانت ركعتين فجعلت أربعاً]، وفيها حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة كما تقدم. وقد اقتضى كلام الشيخ أن الحائض والنفساء يجب عليهما صوم رمضان، وإن كان لا يصح منهما ويحرم عليهما فعله، وهو رأي بعض الأصوليين، ولم يحك البندنيجي غيره، واقتضى إيراد القاضي الحسين ترجيحه، وهو موافق لقول الشافعي

الذي سنذكره، لكن المشهور أنها لا تخاطب بالوجوب ما لم تطهر؛ فتخاطب بالقضاء، وكذلك قال في "التهذيب": صوم رمضان فريضة على كل مسلم عاقل بالغ، إذا كان مقيماً قادراً، فالكافر لا يصح صومه، فإذا أسلم لا قضاء عليه، بخلاف المرتد، ولا يجب على الحائض والنفساء، فإذا طهرتا يجب عليهما القضاء. ولمن تصدى لتصحيح كلام الشيخ إذا أراد حمله على [ذلك] كما حمل عليه النص، أن يقول: الشيخ تجوَّز في هذا اللفظ، وأحلَّ السبب محل المسبَّب؛ فإن رمضان بلا خلاف هو السبب في وجوب الصوم في غيرهن وذلك جائز. تنبيه: قول الشيخ: يجب صوم رمضان، من غير إضافة الصوم إلى الشهر – اتبع فيه ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه"، ولا معارضة بين ذلك وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا رمضان، و [لكن] قولوا: شهر رمضان" كما رواه أبو هريرة. وقد جاء أنه اسم من

أسماء الله؛ لأنا نحمل النهي على ما إذا لم تكن قرينة تدل على أن المراد الشهر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من صام رمضان" قرينة دالة على أن المراد الشهر؛ فنزل ذلك منزلة النطق به، كذا قال القاضي الحسين والماوردي والبندنيجي، وقالوا: يكره ذلك مع [عدم] القرينة [ولا يكره مع القرينة]. ولماذا سمي بـ"رمضان؟ " اختلف فيه: قال القاضي الحسين: روي عن أنس أنه قال: سمي رمضان؛ لأنه وافق ابتداء الصوم زماناً حاراً، وكنا يرمض فيه العشب –يعني يحترق – لالتهاب الرمضاء في ذلك [الوقت؛ فسمي رمضان لشدة الحر، ثم ثبت اسمه فيما بعد ذلك]. وحكى البندنيجي ذلك عن ابن عمر. وقيل: سمي رمضان؛ لأنه يرمض الذنوب، أي: يحرقها، وهذا ما عزاه الماوردي والبندنيجي إلى أنس، وقال [القاضي] أبو الطيب: إنه قول النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فأما الكافر: فإن كان أصليَّا لم يجب عليه؛ لأنه لا يصح منه فعله في

حال كفره، ولا يجب عليه قضاؤه بعد إسلامه؛ فكان بمنزلة الحائض في تركها الصلاة، وهذا ما أورده الماوردي [أيضاً]، وحكاه القاضي أبو الطيب وغيره وجهاً لأصحابنا، وقال: الأصح: أنه واجب عليه ومخاطب به؛ لقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} الآية [المدثر: 42]. قلت: وهو ظاهر النص في "المختصر"؛ فإنه قال: وصوم شهر رمضان واجب على كل بالغً من رجل وامرأة وعبد. والكلام فيه محال على كتاب الصلاة. قال: وإن كان مرتداً وجب عليه: لأنه حق التزمه بالإسلام فلا يسقط بالردة كحقوق الآدميين. قال: وأما الصبي فلا صوم عليه؛ للخبر المشهور، ولأنها عبادة على البدن من شرطها النية؛ فلم تجب على الصبي كالصلاة، وقولنا: من شرطها النية، أخرجنا به العدَّة، فإنها عبادة تجب على الصغيرة لكن النية ليست شرطاً فيها، بدليل ما لو طلقت المرأة ولم تعلم حتى انقضت عدتها حلَّت، على أنها ليست على البدن. قال: غير أنه يؤمر به لسبع، أي: إذا كان يطيقه، ويضرب على تركه لعشر؛ قياساً على الصلاة، والحكمة في ذلك تمرنه على العبادة. قال: وما زال عقله بجنون، أو مرض، لم يجب عليه الصوم؛ للخبر المشهور، ولما ذكرناه من القياس، ولا يتلحق به المغمي عليه في ذلك، بل هو ملحق بالنائم بلا خلاف، ولأنه مكلف. قال البندنيجي: نعم، في "تعليق" القاضي الحسين عن القديم إلحاقه بالإغماء؛ فإنه قال: إن الشافعي قال في القديم: لو أصابه لمم أذهب عقله، أو أغمي عليه جميع الشهر –لزمه قضاء الشهر، ولا يلزمه قضاء الصلاة. واللمم: هو الجنون، فجعل الجنون كالإغماء. قال: وإليه ذهب ابن سريج والإصطخري. واقتصر الماوردي وأبو الطيب على [نسبته] إلى ابن سريج لا غير، وخطَّأه [فيه، وقال] أبو الطيب: إنه ليس مذهب الشافعي، والفرق بينه وبين الإغماء: أن الإغماء مرض يحدث مثله للأنبياء، والجنون نقص يزول معه التكليف، ولا يجوز حدوث مثله على الأنبياء.

وعن المحاملي أن المزني نقل في "المنثور" عن الشافعي أنه قال: إذا أفاق في أثناء الشهر لزمه قضاء ما مضى كمذهب أبي حنيفة، وألا فلا، وهو ما ادعى الإمام أن العراقيين نسبوه إلى ابن سريج، ولعله لا يصح عنه. قلت: وكذلك منع البندنيجي نسبة القول الأول إليه أيضاً، وقال: إنه حكى أن المزني حكى في "المنثور": أن الشافعي قال: يقضي ما مضى. وقال أبو العباس: الذي حكاه المزني لا يعرف للشافعي. فرع: لو شرب دواء حتى زال به عقله، وفاته بذلك رمضان، ثم أفاق بعد الشهر أو في أثنائه-هل يلزمه القضاء أم لا؟ قال: فإن بلغ الصبي، أي: مفطراً؛ لأن الكلام فيما إذا بلغ صائماً سيأتي، ولأنه قرنه بالمجنون يفيق، وسوَّى بينهما [في الحكم]، ولا صوم مع الجنون، أو أفاق المجنون في أثناء النهار - لم يلزمهما صوم ذلك اليوم على ظاهر المذهب؛ لأنهما لم يدركا من الوقت بعد وجود أهلية التكليف ما يمكن فيه الصوم؛ لفقد شرطه وهو النية من الليل؛ فأشبه ما لو طرأ الحيض والجنون على من دخل [عليه] وقت الصلاة ولم يمض قدر ما يؤدي فيه الفرض؛ فإنها لا تجب، وعلى هذا لا يجب قضاؤه، كما لو بلغ الصبي وأفاق المجنون بعد الغروب، وهذا ما حكاه ابن الصباغ عن نصه في "البويطي" فيهما وصححه. وخلاف ظاهر المذهب: أنه يلزمهما كما تلزمهما الصلاة بإدراك جزء من آخر وقتها وإن كان لا يسعها، وكونه لا يصح صومهما فيما أدركاه من الوقت لا يقدح في الوجوب، دليله: وجوب الصوم على الحائض؛ فعلى هذا يلزمهما قضاء يوم كامل. والقائلون بالأول فرّقوا بينه وبين إدراك آخر وقت الصلاة بأنه لم يمكنه أن يتم الصلاة خارج الوقت؛ فكان إدراك بعضها موجباً لكلها، ولا كذلك في الصوم؛ لأنه

لا يمكن إتمامه؛ فهو نظير ما ذكرناه من طروء الحيض في أول وقت الصلاة. وقد افهم كلام بعضهم أن الواجب صوم ما أدرك من النهار فقط على هذا الوجه، وأداؤه لا يمكن، وقضاؤه لا يمكن إلا بصوم كامل؛ فوجب كما نقول فيمن وجب عليه وهو محرم كفارة هي نصف مدٍّ، وأراد الصوم، فظاهر كلام الشيخ الأول، وكلام غيره إلى الثاني أميل. وقد أثبت القاضي الحسين الخلاف في المسألة وجهين، وقال: إنهما ينبنيان على أنه إذا قال: لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم في خلال النهار – هل يقضي يوماً مكانه أم لا؟ [وفيه] قولان، كذلك هاهنا، وقال في موضع آخر: إن [على] الخلاف يخرج ما إذا نذر صوم نصف يوم، هل ينعقد نذره أم لا؟ إن قلنا: لا يلزمه القضاء [هنا]، لم ينعقد، وإلا انعقد. ويجيء في المسألتين وجهان آخران؛ لأن الغزالي حكى تبعاً للفوراني والقاضي الحسين: في أنه هل يجب عليهما وعلى الكافر إذا أسلم في أثناء النهار إمساك بقية النهار؟ أربعة أوجه، فقال الإمام: إنها متفرقة في الطرق: أحدها – وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب والماوردي لا غير، وحكاه البندنيجي عن نصه في "البويطي"-: أنه لا يلزمهم؛ كما إذا قدم المسافر مفطراً في أثناء النهار، وقد عزاه القاضي أبو الطيب في "الكافي" إلى نصه في "حرملة"، وصححه في الجميع ابن الصباغ والإمام. والثاني: يلزمهم؛ لأنهم صاروا مخاطبين في بعض النهار، فيجعل كأنهم خوطبوا به في ابتدائه، إلا أنهم لم ينووا فلم يصح صومهم؛ فلا أقل من أن يتشبهوا بالصَّائمين، وقد حكاه البندنيجي عن بعض الأصحاب، و [قد] نسبه ابن الصباغ في الصبي والكافر إلى [رواية أبي حامد في "التعليق"، موجهاً له بأنه لا يجب عليهما القضاء. والثالث: أنه يلزم الكافر] [دونهما؛ لأنه غير معذور في كفره، وهما

معذوران]. [والرابع: أنه يلزم الكافر] والصبيَّ دون المجنون؛ لأن الصبي مأمور بالصوم وهو ابن سبع، ومضروب عليه وهو ابن عشر، والكافر يقدر على صحة الصوم بالإسلام، بخلاف المجنون. وهذا الوجه يؤخذ من كلام البندنيجي- أيضاً – لأنه حكى الوجهين الأولين في المجنون تفريعاً على أن الجنون ينافي الصوم، ثم قال: أما إذا قلنا: إنه لا ينافيه، فهو ملحق بالمريض، والمريض إذا برأ في أثناء النهار الذي أفطر فيه يلزمه إمساك بقيته قولاً واحداً كما قال، وإن كان فيه شيء سأذكره. ثم قال الغزالي: إن الأصحاب قالوا: إن قضاء هذا اليوم في حقهما يبني على الإمساك فمن ألزم الإمساك ألزم القضاء، ومن لا فلا. وقال الصيدلاني: من أوجب الإمساك اكتفى [به]،ومن لا يوجبه أوجب القضاء. وهذا ما أورده في "التتمة" حيث قال: الصبي إذا بلغ في أثناء النهار مفطراً هل يلزمه التشبه بالصائمين؟ فيه وجهان ينبنيان على أنه هل يجب عليه القضاء أم لا؟ فإن قلنا: لا يجب، وجب التشبُّه: لأنه أدرك زمان العبادة [وليس يلزمه ترك العبادة]، فإذا لم يأمره بالإمساك لا يظهر لإدراك وقت العبادة أثر. وهذا موافق لما قدمت ذكره من تعليل الشيخ أبي حامد، وقد عكس في "التهذيب" ذلك فقال: إن قلنا: يجب القضاء، وجب التشبُّه، وإلاّ فلا. فإذا عرفت ذلك وتأملته ظهر لك الوجهان؛ لأن من جعل وجوب القضاء مفرعاً على وجوب الإمساك يلزمه أن يقول: يجب القضاء على الصبي دون المجنون على وجه، كما وجب عليه الإمساك دون المجنون، وكذلك قال الفوراني: إن الأوجه الأربعة في وجوب الإمساك جارية في القضاء. وقد أشار إليه صاحب "التهذيب" حيث حكى الوجهين في المجنون كما هما في الصبي، [ثم قال: ومنهم من قال: لا يجب عليه قولاً

واحداً، وذلك ستمد من قول القاضي الحسين: إن الوجهين في وجوب القضاء على المجنون مرتبان على الوجهين في الصبي]، وأولى بالمنع، والفرق: أن الصبي يمكنه أن ينوي من الليل فلم يكن معذوراً فيه، بخلاف المجنون، وعلى قول الصيدلاني يلزمه أن يجب القضاء على المجنون دون الصبي إذا قلنا: إن الإمساك لا يجب على المجنون ويجب على الصبين وهذا لم أره فيما وقفت عليه. واعلم أن الشيخ قد سكت عن بيان حكم الكافر في قضاء اليوم الذي يسلم فهي من رمضان، وسكوته [عنه] يجوز أن يكون لاعتقاده إمكان أخذه من الحكم الذي ذكره في المجنون إذا أفاق في أثناء النهار؛ لأنهما متساويان عنده في عدم الوجوب في أوله وعدم القدرة على النية من الليل مع تلك الحالة؛ فيجيء فيه الخلاف الذي ذكره، وقد حكاه الماوردي وغيره من العراقيين وقال: إن مذهب الشافعي الذي نص عليه في "حرملة" و"البويطي": أنه لا يلزمه. وحكى أبو الطيب ذلك عن "الأم" والقديم، وقضية ما حكيناه عن الصيدلانيِّ وغيره من بناء القضاء على الإمساك: أن يكون فيه مع الصبي والمجنون أربعة أوجه. ثالثها – وهو ما اقتضاه كلام الصيدلاني-: أنه لا يجب عليه، ويجب على الصبي والمجنون، وهذا في نهاية البعد، وبه يظهر تضعيف قول الصيدلاني وإن كان [الإمام] قد قال: إنه [ليس] خالياً عن الفقه. ورابعها: أنه يجب عليه دون الصبي والمجنون، وهو ما اقتضاه كلام غير الصيدلاني كما تقدم، وقد حكاه البغوي والمتولي حيث حكيا القولين فيه كالصبي، ثم قالا: ومنه من قال: إنه يجب عليه قولاً واحداً. قال في "التهذيب": وهو الأصح؛ لأن الكافر مخاطب بالصوم في أول النهار، بخلاف الصبي. وهذا أخذ من قول القاضي الحسين: إن الكافر مرتب على الصبي: إن قلنا: يلزم الصبي القضاء، فالكافر أولى، وألا فوجهان، والفرق ما ذكرناه. وقد اعترض الرافعي على قول من جعل وجوب القضاء مرتباً على وجوب [الإمساك فيما ذكرناه، وعلى من جعل وجوب الإمساك مرتباً على وجوب]

القضاء، وهو صاحب "التهذيب" وغيره كما قال، وعلى الصيدلاني، فقال: إن الأول والثاني يشكل بالحائض والنُّفساء إذا طهرتا في خلال النهار؛ فإن القضاء واجب عليهما لامحالة، والإمساك غير واجب عليهما: إما بلا خلاف على ما رواه الإمام، وإما على الأظهر؛ لأن صاحب "المعتمد" حكى طرد الخلاف فيهما، وإذا كان كذلك لم يستقم القول بأن القضاء فرع الإمساك، ولا بأن الإمساك فرع القضاء، وقول الصيدلاني يشكل بصوم يوم الشك والمتعدِّي بالإفطار؛ فن القضاء لازم مع التشبيه، وماذكره لا يخفى جوابه على متأمل. قال: وأما من لا يقدر على الصوم، أي: أصلاً أو لو صام لأجهده وأضرَّ به ضرراً غير محتمل؛ لكبر أو مرض لا يجري برؤه – فلا يجب عليه الصوم إلا أنّه تلزمه الفدية عن كل يوم مد من طعام في أصح القولين؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، وجه الدلالة منها: [أنها] مقتضية تخيير القادر على الصوم بين الصوم والفدية كما كان مخيراً في صدر الإسلام، والمخير بين شيئين إذا عجز عن أحدهما تعين عليه الآخر: كالمكفِّر يعجز عن العتق والكسوة يتعين عليه الإطعام، وأيضاً فقد قيل: إن كلمة "لا" مضمرة فيها، والتقدير: وعلى الذين [لا] يطيقونه فدية، وعلى هذا وجه الدلالة ظاهر. فإن قيل: هذا التقدير خلاف الأصل، والقراءة المشهورة منسوخة؛ فلا دليل لكم فيها. قلنا: لانسلم أن النسخ يشمل العاجز؛ لأن الآية الناسخة قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وأجمعنا على أن الشيخ الهمَّ ومن في معناه لا يدخل في الآية الناسخة؛ فدل على أنه باق على [حكم] تلك الآية، وقد روي عن عمر وعلي وعبد الله بن عمر وابن عباس وأبي هريرة أنهم قالوا: الشيخ الهمُّ عليه الفدية إذا أفطر، ولي سلهم في الصحابة مخالف.

وهذا القول نصَّ عليه في "المختصر" وعامة كتبه كما قال القاضي أبو الطيب، وهو مصرح بأن رمضان لو كان ناقصاً لم يلزمه سوى تسع وعشرين يوماً كما هو مصرح به في "التهذيب" وغيره. قال: ولا يلزمه ذلك في الآخر؛ لأنه أفطر لأجل نفسه بعذر فوجب ألا تلزمه الفدية، كالمسافر والمريض إذا ماتا قبل انقضاء السفر والمرض، وهذا ما حكاه في "الشامل" و"التَّتمة عن نصه في "شرح" حرملة و"مختصر" البويطي والفوراني والبغوي [عن القديم]، وقال الإمام: إنه منقاس، ومع ذلك فلا تعويل عليه في المذهب. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمرين: أحدهما: أن الصوم لا يجب على من لا يقدر عليه؛ لما ذكرناه، وإنما الواجب عليه على القول الصحيح: الفدية لا غير، وهو ما اقتضاه كلام القاضي الحسين والبغوي والذي سنذكره من بعد، وقول البندنيجي: أما الشيخ الهمُّ ففرضه الإطعام، فقد حكاه المتولي وهاً في المذهب، وقال تفريعاً عليه: إنه لو نذر الصوم لم يلزمه، وهو الذي صححه في "الروضة"؛ لأنه [غير] قادر عليه، ولا الفدية؛ لأنه لم يلزم إلا الصوم، بخلاف ما إذا قلنا بمقابله كما سنذكره؛ فإنه تلزمه الفدية. وقال القاضي الحسين في "التعليق" وآخرون – كما قال الرافعي:- يحتمل أن تبنى صحة نذره على أن النذر يسلك به مسلك إيجاب الله تعالى أو إيجاب الآدمي؟

وفيه قولان، والصحيح: أن الصوم واجب على الشيخ الهمِّ ومن في معناه، وهو مخير بين أن يأتي به وبين أن يطعم على القول بوجوب الفدية؛ للآية، ووجه الدلالة منها من وجهين. أحدهما: أن ابن عباس وعائشة كانا يقرآن – كما حكاه المتولي عن رواية البخاري في "صحيحه" عنهما: "وعلى الذين يُطَوَّقونه فدية ... " ومعناه: وعلى الذين يكلفون بالصوم ولا يطيقونه، قال الماوردي وأبو الطيب وغيرهما: لأن قراءة الصحابي تجري مجرى خبر الواحد في وجوب العمل به، لأنه لا يقول ذلك إلا سماعاً وتوقيفاً. ونسب القاضي الحسين هذه القراءة إلى غير ابن عباس، وأنه كان يقول: إن الصوم لما فرض انحتم فعله على القادر عليه ولم يخير فيه، وإن الآية محكمة لم تنسخ. والثاني: على القراءة المشهورة [أن] المخاطب برمضان كان مخيراً فيه بين فعله وبين الفدية، للآية، ثم نسخ ذلك بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن سلمة بن الأكوع. قال القاضي أبو الطيب: فمقتضى ذلك إيجابه في حق كل أحد، إلا أنَّا أجمعنا على أنه لم ينحتم في حق الشيخ الهم ومن في معناه؛ فكأن حكمه باق على الأصل، واختصاص الشيخ بالقادر على الصوم، وقد روى أبو داود عن ابن عباس أنه قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة [الكبيرة] وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم

مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا. قال أبو داود: [يعني]: على أولادهما. قلت: ولمن أجرى كلام الشيخ على ظاهره أن يقول: قراءة ابن عباس مردودة بقوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]؛ فإن العاجز عن الصوم مأمور بتركه لا بفعله، ولا نسلم أن العاجز عن الصوم دخل فيما اقتضته الآية على القراءة المشهورة، بل إنما تناولت فقط لقوله: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، والفطر في حق الشيخ [الهمّ] ومن في معناه خير من الصوم، وهذا اعتراض المزني، وجوابه: أنه لا يمتنع أن يعود قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا} لبعض ما دخل في اللفظ الأول، وسنذكر لذلك نظائر في كتاب الله تعالى. [وعلى هذا] لمن تصدى لتصحيح كلام الشيخ أن يقول: مراده: أنه لا يجب عليه الصوم حتماً كما يجب على غيره مقيماً كان أو مسافراً، طاهراً أو حائضاً، إلا أنه تلزمه الفدية إن لم يطعم عن كل يوم مدًّا من طعام في أصح القولين، ويؤيد ذلك أن البندنيجي قال: فرض الشيخ الهِمِّ: الإطعام، فلو حمل على نفسه وصام فلا إطعام، والله أعلم. الأمر الثاني: أن المد يجب سواء كان قاراً عليه أو عاجزاً عنه، وقد قيد الماوردي وجوبه بما إذا كان قادراً عليه، ولفظ القاضي الحسين أصرح منه؛ فإنه قال: لو كان الهمُّ فقيراً لا مال له فلا فدية عليه في الحال ولا إذا أيسر، ويحتمل أن يقال: يجب؛ بناء على أن الاعتبار في الكفارات بحال الوجوب أم بحال الأداء؟ وفيه خلاف. وقد [حكى في "التهذيب"] في وجوب الإخراج عليه عند القدرة قولين

كالقولين في الكفارة فيما إذا كان معسراً حالة إفطاره بالجماع، وقال: إن الشيخ الهمَّ لو كان عبداً واتصل رقه بالموت لا شيء عليه، [و] إن عتق قبل الموت وأيسر، فإن قلنا في الحرّ إذا أيسر: لا يلزمه، فالعبد أولى، وألا فوجهان، والفرق: أن العبد لم يكن وقت الفطر من أهل الفدية بخلاف الحر. وما ذكره البغوي إذا تأملته كان أجود مما ذكره القاضي، وقد اقتضى كلام الماوردي في موضع آخر مخالفته لما قيد به الوجوب؛ فإنه قال: لو مات قبل الإمكان سقط المُدُّ. وهذا يدل على وجوبه حالة العجز عنه، وعبارة البندنيجي: أنه إذا مات قبل الصيام والإطعام نظرت: فإن مات وهو قادر على الإطعام أطعم عنه، ون مات وهو لا يقدر على الإطعام فلا شيء عليه. فروع: أحدها: لو أراد الهرم ومن في معناه تقديم المد على شهر رمضان – كما قال الرافعي في كتاب الزكاة – فهل يجوز تقديمه على أيام الشهر؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ كزكاة الفطر، والثاني: لا ككفارة الجماع. قال القاضي الحسين: والأول أصح؛ لأنه معذور فيه، وقد قيل بطرده في كفارة الجماع، حكاه الرافعي في كتاب الزكاة عن الحناطي. والذي أورده في "الروضة" [في مسألتنا]: الثاني، وفرع عليه أنه لو أخرجه بعد طلوع الفجر عن يوم من رمضان أجزأه عن ذلك اليوم، وإن أداه قبل الفجر ففيه احتمالان حكاهما في "البحر" عن والده، وقطع الدارمي بالجواز، وهو الصواب. الفرع الثاني: إذا لم يَفْدِ حتى صار قادراً على الصوم، قال القاضي الحسين – وتبعه البغوي -: لا يلزمه الصوم، بخلاف المعضوب الموسر، فإنه إذا لزمه الحج،

وحج الغير عنه بإذنه، ثم قدر على مباشرته بنفسه – يلزمه الحج، والفرق: أن المعضوب كان مخاطباً بالحج ما بنفسه أو بأمر الغير، فلهذا قلنا: يلزمه، بخلاف الشيخ الهِّم؛ فنه من كان مخاطباً [بأصلٍ]، وإنما هو مخاطب ببدله فقط. انتهى. وهذا ما أشرت إليه من قبلن وهذا الفرق فيه نظر تنبه له صاحب "التهذيب": وهو أن الشيخ الهمَّ ومن في معناه إنما يكون فرضه الفدية لا الصوم، لاقتضاء حاله الإياس من فعله بنفسه قضاء [أو أداءً] يدل عليه أن من به مرض غير ميئوس [منه] ليس واجبه الفدية، بل الصوم، لاحتمال قدرته عليه قضاء؛ ولذلك لو مات قبل التمكن منه لا تجب الفدية باتفاق الأصحاب. وقال الإمام: إنه لا يعرف فيه خلافاً. وقاسه في "التهذيب" وغيره على ما [إذا أتلف ماله بعد الحول وقبل التمكن، وألحقوا به المسافر إذا] دام سفره إلى الموت. وإذا كان كذلك فقد انكشف الحال على أن الشيخ الهمِّ ومن في معناه واجبه الصوم، فهو كالحج سواء، فيجب عليه أن يصوم بلا خلاف كما لو برأ المعضوب قبل أن يحخج عنه، وإن قدر على الصوم بعد إخراج المد فكذلك على الصحيح. الثالث –وهو في الحقيقة ارجع إلى تحقيق صورة المسألة. قال القاضي أبو الطيب عند الكلام في الحامل والمرضع: لو كان الشيخ الهم يعجز عن الصوم للكبر في زمان دون زمان فإنه يجب عليه الصوم، ولا يجوز له الفطر ويفتدي. تنبيه: "برء" فيه ثلاث لغات: إحداها: برئ من المرض يَبْرَأ بُرْءاً، بضم الباء، والثانية: بَرَأَ يَبْرَأ بَرْءًا، بفتحها. والثالثة. بَرُؤَ بُرْءًا. قال: ومن ترك الصوم جاحداً لوجوبه – أي وهو قديم عهد بالإسلام – كفر؛ لأنه كذَّب الله تعالى ورسوله في خبره.

قال: وقتل بكفره، لقوله – عليه السلام -: "لا يحلُّ دم امرئٍ مسلمٍ إلاَّ بإحدى ثلاثٍ: كفرٍ بعد إيمانٍ ... "، وهذا الحكم ثابت بترك صوم أول يوم. نعم، الحكم في استدامته مذكور في باب الردة، وأما حديث العهد بالإسلام فيعرَّف أنه واجب عليه، فإن رجع عنه، وألا كان حكمه ما تقدم. قال: ومن تركه غير جاحد حبس ومنع الطعام والشراب، أي: في النهار، لتحصيل صورة الصوم بذلك، ولأنه إذا فهم أنه يعامل بذلك ينوي من الليل. قال: ولا يجب صوم رمضان إلا برؤية الهلال، فإن غم عليهم وجب [عليهم] استكمال شعبان [ثلاثين يوماً]، ثم يصومون؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، والمراد بالشهادة هاهنا: العلم، [والعلم] [به] تارة يكون بالرؤية وتارة باستكمال العدد؛ لأن الله تعالى لم يجر العادة بأن الشهر يكون أكثر من ثلاثين يوماً، قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّا أمة أميَّةٌ لا تكتب ولا تحسب، الشَّهر هكذا وهكذا. وعقد الإبهام في الثَّالثة، والشَّهر هكذا وهكذا وهكذا. يعني تمام الثلاثين" كذا رواه البخاري ومسلم عن رواية ابن عمر. ولما روى مسلم عن أبي هريرة قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهلال، فقال: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن أغمي عليكم فعدُّوا ثلاثين"، ورواية أبي داود عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشَّهر تسعٌ وعشرون؛ فلا تصوموا حتَّى تروه، ولا تفطروا حتَّى تروه، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له"، وروى البخاري في "صحيحه" عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"صوموا لرؤتيه، وأفطروا لرؤيته، فإن غمَّ عليكم فأكملوا عدَّة شعبان ثلاثين"، وروى أبو داود عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤيته رمضان، فإن غمَّ عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام". قال الدارقطني: وهذا إسناد صحيح. وقال غيره: إن رجال إسناده كلهم محتج [بهم] في "الصحيحين" على الاتفاق والانفراد. وقد اقتضى كلام الشيخ أمرين: أحدهما – بمنطوقه -: أنه [إذا] اقتضى حساب المنجمين دخول رمضان قبل استكمال العدة، وقد غم الهلال: أنه لا يجب الصوم على من عرف ذلك ولا على غيره من طريق الأولى، بل لا يجوز لهم الإقدام عليه؛ أخذاً من قوله: "فإن غم عليهم وجب [عليهم] استكمال شعبان ثلاثين يوماً، ثم يصومون"، والطرق مختلفة في ذلك، والمشهور منها: أنه لا يجب على من لا يعرف الحساب العمل بقول من عرفه وإن وثق بقوله، بل لا يجوز له، وهل يجب على من عرفه؟ فيه وجهان، وعلى ذلك

جرى في "الوسيط" وغيره، وأصح الوجهين عند القاضي الروياني: عدم الوجوب، [والثاني- قاله] ابن الصبَّاغ -: أنه لا يجب على من عرفه وعلى من لم يعرفه، ولا يجوز لمن يعرف ذلك الصيام اعتماداً على قوله. وله يجوز لمن عرفه؟ فيه وجهان، وقد حكاهما القاضي الحسين والبغوي: ووجه الجواز – وهو اختيار ابن سريج والقفال -: قوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]، وقوله عليه السلام: "فاقدروا له" أي: اسحبوا منازل سيره. ووجه المنع – وبه قطع الطبري -:ما ذكرناه، ولأنه لو جاز فعله لوجب لأن الوقت متعين والفعل واجب على الفور، ولا مانع منه، والمراد بالآية: الاهتداء بالنجم في دلائل القبلة ومسالك السابلة في البحر والبر؛ بدليل قوله: [{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ} [المرسلات:23] قال الفرَّاء وغيره من أهل العلم: معناه: فقدَّرنا. على أنه قد روي: "فاقدروا له ثلاثين"، وإن لم يثبت ذلك فقد بينه قوله – عليه السلام – في رواية مسلم: "فعدوا ثلاثين"، و [في] رواية البخاري: "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين". قال الرافعي: ورأيت في بعض المسوَّدات تعدية الخلاف في جواز العمل به إلى غير المنجَّم، وفائدة الجواز: أنه لو ثبت أن ذلك اليوم من رمضان بشهادة عدلين، وقد صامه من عرف أنه من رمضان بالحساب، أو من وثق بقول – فمن لم يعرف ذلك بنية من الليل أنه عن رمضان [أنه] يجزئه عن رمضان، ولا قضاء عليه، صرَّح به الماوردي والقاضي أبو الطيب غيرهما. وعن الشيخ أبي حامد أنه ذكر في "التعليق" وجهاً: أن ذلك بمنزلة الشهادة على

الرؤية؛ فيتعدى الوجوب ممن عرفه بالحساب إلى من لم يعرفه، ويوافقه قوله في "البيان" في مواقيت الصلاة: إن صاحب "الفروع" قال في وقت الصلاة: إذا كان يعلم دخول الوقت بالحساب فهل يقبل قوله فيه وفي شهر رمضان؟ وجهان. والمذهب: أنه يعمل عليه بنفسه، فأما غيره فلا يعمل عليه. وحكى الماوردي وجهاً ثالثاً في الإجزاء إذا نوى معتمداً على ذلك، فارقاً بين أن يكون قد علم ذلك من منازل القمر وتقدير سيره فيجزئه، وبين أن يكون قد علمه بالنجوم فلا يجزئه. الأمر الثاني: أنه إذا رُئي في بلد عم حكمه سائر البلاد، وهو المعزيُّ إلى اختيار القاضي أبي الطيب، وقد حكى الماوردي فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هذا؛ إذ ليس رؤية جميع من في البلد الواحد شرطاً في وجوب الصيام عليهم، بدليل إجماعهم على وجوب الصيام على الأعمى والمحبوس وإن لم يره، وإذا كان كذلك في البلد الواحد فكذلك في كل البلاد؛ لأن فرض الله على جميعهم واحد. والثاني: لا يلزمهم صيامه حتى يروه، لأن الطوالع والغوارب قد تختلف باختلاف البلدان، وكل قوم إنما خوطبوا بمطلعهم ومغربهم، دليله مواقيت الصلاة. والثالث: أنه يلزم أهل البلدان من ذلك الإقليم، دون أهل البلدان في إقليم آخر لما روي أن ثوبان قدم المدينة من الشام، فأخبر برؤية الهلال قبل المدينة بليلة، فقال ابن عباس: لا يلزمنا، لهم شامهم ولنا حجازنا. فأجرى على الحجاز حكماً وإن اختلفت بلاده، وفرَّق بينه وبين الشام، وهذا ما نسب إلى الشيخ أبي حامد، وهو الذي أورده البندنيجي، حيث قال: إن لم يكن بين البلدين – التي رئي فيها، والتي لم ير فيها- مسافة تختلف المطالع لأجلها: كالموصل وبغداد والبصرة، كان حكم الجميع واحداً، ويجب على أهل البلدة التي لم ير فيها [قضاء يوم، وإن كان بينهما] مسافة تختلف المطالع فيها: كبغداد وخراسان والحجاز وبغداد والشام، كان لكل بلد رؤية

نفسه؛ فلا يلزم أهل البلد التي لم ير فيها قضاء يوم، وقد حكى القاضي أبو الطيب في "تعليقه" هذا الوجه الأول، ولم يرجح واحداً منهما، وجزم القاضي الحسين في "تعليقه" والبغوي والمتولي بأن ما تقارب من البلاد حكمهم واحد، وفي المتباعد وجهان: أصحهما عند القاضي: التعميم. وإن اقتضى نظم كلامه ترجيح مقابله، وهو الذي صححه في "التهذيب" و"الروضة"؛ لأن كريباً أخبر عن ابن عباس وهو بالمدينة، أنه رأى الهلال بالشام ليلة الجمعة، فقال ابن عباس: لكنَّا رأيناه ليلة السبت؛ فلا نزال تصوم حتى نرى الهلال أو نكمل العدد ثلاثين، فقال له كريب: أما يكفيك رؤية معاوية والناس؟ فقال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه مسلم بمعناه. قال القاضي الحسين: واختلف في قوله: "هكذا أمرنا": فمنهم من قال: أراد به قوله: " [صوموا] لرؤيته ... " الخبر، ومنهم من قال: هو كان يحفظ حديثاً أخص منه في هذه الحادثة. وعلى هذا لو شك في التقارب، قال في "الروضة": لم يجب الصوم على الذين لم يروا؛ لأن الأصل عدم الوجوب. وعلى خلافه، وهو إذا جعلنا للبعد أثراً فما ضابطه؟ فيه وجهان في "التتمة": أحدهما – وهو ما أورده الغزالي والبغوي تبعاً للفوراني والأصحاب، كما قال الإمام-: مسافة القصر. والثاني: اختلاف المطالع، وقد أبداه الإمام احتمالاً لنفسه، ثم قال: ولكن لا قائل به؛ فإن درك هذا يتعلق بالأرصاد والتموردات الخفية، وقد تختلف المناظر في

المسافة القاصرة عن مسافة القصر للارتفاع والانخفاض، والشرع لم يبن على إلزام مثل هذا، وإلى هذا أشار الغزالي في تعليل قوله: "إنه لا ضابط إلا مسافة القصر" أن تحكم المنجم قبيح شرعاً، وحكى القاضي الحسين مع هذا الوجه وجهاً آخر: أنه انقطاع القوافل، فإن لم تكن منقطعة بينهما فهما متقاربان. فرع: حيث قلنا: لكل بلد حكم نفسها، لو سافر شخص من بلدة رئي فيه الهلال إلى بلدة لم ير فيها، وتم له ثلاثون يوماً، ولم ير الهلال في البلدة التي سافر إليها – فهل يفطر أم لا؟ فيه وجهان، قال في "التتمة": يقربان من الوجهين فيما إذا صاموا بشهادة واحدٍ ثلاثين يوماً ولم يروا الهلال. والذي أورده القاضي الحسين: وجوب الإفطار، والمنسوب إلى القفَّال مقابله، [وهو] الذي أورده في "الإبانة" والغزالي، وحكى الإمام عن الأصحاب القطع به؛ لأنه روى عن ابن عباس أم كريب بالصوم معهم بعد إكماله ثلاثين يوماً بحكم رؤيته. نعم، حكى عن شيخه فيما إذا أصبح معتداً مفطراً لرؤية هلال شوال، فجرت به السفينة إلى قطر لم ير الهلال فيه – أنه يلزمه الإمساك تشبهاً. قال: وعندي فيه نظر؛ فإنه ليس فيه أثر، واليوم الواحد يبعد أن يتبعض حكمه وقد عاين الهلال في ليلته في البقعة الأولى. وعكس هذا الفرع: لو سافر شخص من البلد الذي لم ير فيها الهلال إلى بلدة رئي فيها، وأقام فيها إلى أن أفطر أهلها- فهل يفطر معهم؟ نظر: إن أفطروا بالرؤية وافقهم، وإن أفطروا بإكمال العدد فهل يفطر معهم؟ فيه وجهان في "التتمة". قال الإمام: ولا فرق في ذلك بين أن يكون من ذكرناه قد نوى الإقامة أو لا. تنبيه: الهلال إنما يكون هلالاً الليلة الأولى والثانية والثالثة، ثم هو قمر، قاله الجوهري وغيره. وحكى في "المهذب" خلافاً فيما يخرج به عن هذه التسمية وتسميته قمراً، فقيل: إذا استدار، وقيل: إذا بهر ضوءه.

وقوله: "غم عليكم"، قال العلماء: هو من قولهم: غممت الشيء، إذا غطيته، وغمَّ علينا الهلال غمًّا، وغمِّي، وأغمي، فهو مغمى. قال: وإن رأوا الهلال بالنهار، أي قبل الزوال أو بعده، فهو لليلة المستقبلة؛ لقوله – عليه السلام -: "صوموا لرؤيته" أي: بعد رؤيته، كقوله: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] يعني: بعد طلوع الشمس، ولأن الخصم – وهو أبو يوسف وأبو ثور وغيرهما – قد وافقنا على أنه لو رئي بعد الزوال لكان لليلة المستقبلة؛ لأنه أقرب إليها، بخلاف ما قبل الزوال؛ فنه أقرب إلى الماضية، فنقول له: الاعتبار بالقرب والبعد إلى وقت ظهوره وهو أول الليل، وإذا رئي قبل الزوال فهو أقرب إلى الليلة المستقبلة من الماضية؛ فكان كما لو رئي بعد الزوال، وقد روي عن عمر وعلي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وأنس ابن مالك أنهم قالوا: إذا رئي الهلال يوم الشك فهو لليلة المستقبلة. ولا مخالف لهم. وقد أفهم كلام الشيخ أن ما ذكره مقصور على هلال رمضان، ولا فرق [فيه] بينه وبين هلال شوال وغيرهما عندنا، لما روت عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح يوم الثلاثين صائماً، فرأى هلال شوال بالنهار، فلم يفطر حتى أمسى"، وروى عن أب وائل أنه قال: أتانا كتاب عمر ونحن بخافقين: "إن الأهلة بعضها أعظم من بعض، فإذا رأيتم الهلال بالنهار فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس"، كذا ذكر في "التتمة" الحديث والأثر، وغيره يروي: بخانقين.

قال: ويقبل هلال رمضان [من] عدل واحد في أصح القولين؛ لما روى أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال – قال الحسن، وهو الحلواني، في حديثه: يعني رمضان – فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال: نعم، قال: "أتشهد أنَّ محمَّداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: "يا بلال، أذِّن في النَّاس أن يصوموا غداً"، وعن عكرمة أنهم شكُّوا في هلال رمضان مرة، فأرادوا ألا يقوموا ولا يصوموا، فجاء أعرابي من الحيرة، فشهد أنه رأى الهلال، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله؟ قال: نعم، وشهد أنه رأى الهلال، فأمر بلالاً، فنادى في الناس أن يقوموا وأن يصوموا". وأخرجه الترمذي النسائي وابن ماجه مسنداً ومرسلاً. وعن ابن عمر قال: تراءى الناس

الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته. فصام، وأمر الناس بصيامه. قال الدارقطني: وهذا تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة. وفي "الحاوي": أن ابن عمر قال: رأيته وحدي. وروى أن مر خرج يتراءى الهلال، فاستقبلته راكباً، فقال عمر: من أين أقبلت؟ فقال: من الشام، فقال: أهللت؟ قال: نعم، فقال: يكفي المؤمنين أحدهم. وأمر الناس بالصوم، وهذا ما أشار إليه الشافعي بقوله: ولو شهد على رؤيته عدلٌ واحد رأيت أن أقبله؛ للأثر فيه وللاحتياط ولأن الصوم عبادة بدنية، فإذا أخبر الواحد بدخول وقتها وجب أن يقبل قوله كالصلاة. وهذا ما نص عليه في عامة كتبه كما قال أبو الطيب، وقال الماوردي والقاضي الحسني: إنه نص عليه في القديم و"الإملاء". قال: ولا يقبل في الآخر إلا عدلان؛ لما روى عبد الرحمن بن زيد قال: أدركنا جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [فكلهم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم] يقول: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمَّ عليكم فأكملوا، وإن شهد ذوا عدلٍ فصوموا وأفطروا وانسكوا". ولأنها شهادة على معين فاعتبر فيها العدد كسائر الشهادات،

وبالقياس على هلال شوال. وأما حديث الأعرابي [وابن عمر] فيحتمل أن يكون [شهد] عند رسول الله صلى الله عليه وسلم [قبلهما] غيرهما، فأمر الناس بالصوم لذلك، وهذا قاله في القديم كما قال أبو الطيب ونقله البويطي، وقال الفوراني: إنه أقيس. والجمهور على تصحيح الأول، ومنه من قطع به، وتعزى هذه الطريقة إلى أبي إسحاق، والقائل بها قال: حديث عبد الرحمن نحن قائلون به؛ فإنه إذا شهد ذوا عدل وجب الصوم، وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصوم والفطر والنسك؛ فلذلك ذكر ذوي عدل، لأن الفطر والنسك لا يقبل فيهما أقل من شاهدين، والقياس على سائر الشهادات غير منتظم، لأن حكم الشهادات مختلف: فالزنى لا يقبل فيه إلا أربعة، والحدود والقصاص تثبت برجلين، والأموال تثبت بشاهد وامرأتين وشاهد ويمين، وإذا حلف لم يجز اعتبار بعضها ببعض كما في أعداد ركعات الصلاة، والفرق بين هلال رمضان وشوال: أنه لا تهمة تلحق الشاهد في رمضان، لأن ما يدعيه من لزوم الصوم يلزمه كغيره، والعدد في الشهادة لإزالة التهمة، ولا كذلك في شوال؛ فإن التهمة لاتلحقه، ولأن في ذلك احتياطاً للعبادة كما أشار إليه الشافعي ويوافقه قول علي - كرم الله وجهه - وقد شهد عنده واحد برؤية هلال رمضان: "لأن أصوم يومً من شعبان أحبُّ إليَّ من [أن أفطر] يوماً من رمضان"، وصام وأمر الناس بالصيام، مع أنه كنا يحتاط في الشهادة ويبالغ فيها حتى نقل عنه تحليف الشهود، وربما قيل: إن هذا هو الأثر الذي راعاه [الشافعي].

وأما قولهم: إنه يحتمل أن يكون قد شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأعرابي وابن عمر غيرهما – فالجواب: أنه لو كان لنقل، ولأن الحكم إذا نقل معه السبب كان بمنزلة العلة للحكم ثم ثبت أن العلة لا يجوز الزيادة فيها، فكذلك السبب، ويدل عليه: ما روى طاوس عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل شهادة الواحد في هلال رمضان، ولا يقبل الواحد في هلال شوال). التفريع: إن قلنا بالصحيح فهل يسلك بقول الواحد مسلك الشهادة أو مسلك الرواية؟ فيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب في شهادة النساء قولين وأصحهما في (الرافعي) الأول، [ويدل عليه قصة الأعرابي، واختار أبو إسحاق المروزي الثاني]، يدل عليه قول ابن عمر. فإن قلنا بالأول، اشترطنا مع العدالة الحرية والذكورة ولفظ الشهادة، وهو ما ادعى القاضي الحسين –على هذا- أنه ظاهر المذهب. ويشترط الإقامة في مجلس الحكم كما قال الإمام، وهل يجوز فيه الشهادة على الشهادة؟ فيه وجهان حكاهما المراوزة كالوجهين في جوازها في حدود الله تعالى، والأصح –كما قاله الشيخ أبو علي-: [القطع] بالجواز؛ فإن سبب الاختلاف [في الحدود] شبهة وكون المشهود به عقوبة متعرضة للسقوط بالشبهات، والأمر هنا على نقيض ذلك، وعلى هذا: هل يشترط العدد في شاهد الفرع؟ فيه وجهان، المذكور منهما في (التهذيب): اشتراط العدد، وإن قلنا بمقابله قبلناه من الأمة

[مع] ظهور الثقة، وهو المحكي في "الحاوي" عن أبي إسحاق، حيث قال: أقبل فيه قول من أقبل روايته. قال الإمام: ولم نشترط لفظ الشهادة، وقلنا: إذا أخبر واحد الناس بالرؤية لزم اتباع قوله وإن لم يذكر ذلك بين يدي القاضي. ووافقه في الأخيرة ابن الصباغ. والمحكي عن ابن عبدان والغزالي في "الإحياء"، والمذكور في "تعليق"البندنيجي و"التهذيب": أنهم قالوا بذلك، ولم يفرعوا على شيء. قال الإمام: وفي قبول [قول] الصبي المميز الموثوق به فيه، وجهان مبنيان على قبول رواية الصبيان، المنسوب منهما للشيخ أبي حامد في "تعليق" البندنيجي: القبول، وظاهر المذهب في "تعليق" القاضي الحسين: المنع، وفي "الإبانة" و"التهذيب": [أنه] لا يقبل فيه قول الصبي قولاً واحداً، وإن كانت تقبل روايته على وجه صححه الفوراني. وفي اشتراط العدد في الخبر عن المخبر بالرواية – إذا جوزناه على الوجه الذي عليه نفرع – الخلاف، والمذهب: أنه لا يشترط؛ حرصاً على حكم الرواية، ومن اشترطه – وهو الأصح في "التهذيب" –زعم أن قول الفرع شهادة، وإن لم يجعل قول الأصل شهادة. واستدل له بأنه لابد من لفظ الشهادة من الفرع، [وأنه] لا قائل بأنه يكفي أن يقول الواحد: حدثني فلان عن فلان قال: رأيت الهلال، بل هو مردود إجماعاً، كما قال أبو علي والماوردي. وقال الإمام: إن هذا بعيد لا اتجاه له، ودعوى الإجماع لا تسلم عن النزاع. [ولا خلاف في أنه لا يقع الطلاق والعتق المعلق بدخول رمضان، ولا يحل الدين المؤجل به، قاله القاضي الحسين والبغوي. قال الرافعي: ولو قال قائل: هلاَّ يثبت ذلك ضمناً كما سبق نظيره لأحوج إلى

الفرق – قلت: إن ما سبق لازم للمشهود به، والطلاق والعتاق والدين ليس يلزم استهلال الشهر، وقد أشار إلى مثله ابن الصباغ في كتاب الطلاق. نعمن لو قضى القاضي بشهادة الواحد في هلال رمضان ثم قال لامرأته: إن كان هذا من رمضان فأنت طالق – قال القاضي الحسين: قال ابن سريج: يقع الطلاق. وغيره من أصحابنا. قال: لا فرق بين أن يكون قبل القضاء أو بعده؛ فإنه لا يقع الطلاق،] وإن قلنا بالقول المعزيِّ إلى القديم سلكنا به مسلك الشهادات المختصة بحقوق الله تعالى حتى تسمع فيه شهادة الحسبة. قال الرافعي أيضاً: ويشترط فيهما العدالة الباطنة. وهو ما أبداه الإمام تفقهاً، وإلا فقد قال في "الإبانة": إنا لا نشترط العدالة الباطنة في الشهادة على رؤية الهلال، ونشترط الظاهرة بأن يكون مستور الحال. وأبلغ منه قول القاضي الحسين: إنا على القولين نكتفي بظاهر العدالة. [وعلى ذلك جرى البغوي والمتولي. وقال الإمام: إن ما قاله الفوراني بعيد لا اتجاه [له]؛ بل الوجه اشتراط العدالة الباطنة]، والمعنى بها: البحث الذي يعتاده القضاة بالمباحثة والرجوع إلى المزكين. نعم، قد نقول: للقاضي أن يأمر الناس بالصيام بظاهر العدالة؛ فإن الأمر يفوت، ثم يبحث بعد ذلك، ويتعين البحث إذا استكملنا العدد ولم ير هلال شوال. قلت: وإذا عرفت أنه لا يشترط العدالة الباطنة في الشاهدين عند من ذكرنا، مع أنه يسلك بقولهما مسلك الشهادة – فعدم اشتراطها في الشاهد الواحد من طريق الأولى، وقد حكى الإمام فيها وجهين مبنيين على اختلاف في قبول رواية المستور، والأصح – كما قال في "الحاوي" عند الكلام في أصحاب المسائل-: عدم قبولها [كالشهادة]. قال: والفرق على مقابلة بينهما من وجهين: [أحدهما:] أن أخبار الديانات يستوي فيها المخبر وغير المخبر، وكانت التهمة [منتفية والاعتبار أخف، والشهادة تختلف فيها الشهادة والمشهود عليه، وكانت

التهمة] متوجهة والاعتبار أغلظ. قلت: وهذا الفرق منتفٍ في الشهادة بالهلال؛ فلا جرم قال من قال [بعدم] اشتراط العدالة الباطنة فيها. والثاني: أن الرواية تقبل من النساء والعبيد دون الشهادة؛ فكانت أغلظ؛ فاحتيط فيها. وقد فرع المتولي على القولين: ما إذا شهد واحد بإسلام ذمِّي: هل يصلَّى عليه أم لا؟ قال: فيه وجهان، كما في إيجاب الصوم. وفرع عليهما في "البحر" ما لو نذر صوم شعبان فشهد واحد برؤيته – فهل يجب عليه الصوم إذا قلنا: يجب به صوم رمضان؟ قال: فيه وجهان. قال: ولا يقبل في سائر الشهور إلا عدلان؛ لما ذكرناه من خبر طاوس. وعن أبي ثور: أنه يقبل في هلال شوال عدل واحد، وأن صاحب "التقريب" قال: لو قلت به لم يكن بعيداً. قال الإمام: وهو متجه في القياس، لما ذكرناه من أن الإخبار عن الهلال يعرض لوقت العبادة؛ فهلال رمضان به يستبان دخول وقت العبادة، وهلال شوال به يستبان خروج وقت العبادة. قلت: ويعضد هذا الاحتمال قول القاضي الحسين في "تعليقه" في ضمن فرع من هذا الباب: إن الأحكام المتعلقة برؤية الهلال غير الصوم ضربان: أحدهما: يتضمن عبادة لا حق فيها للآدمي: كالوقوف بعرفة، والطواف ونحو؛ فهذا هل يقبل فيه شاهد واحد عدل أم لا؟ فيه وجهان، وعلى المشهور فالفرق بين رمضان وغيره ما ذكرناه من أنه لا تهمة في رمضان، بخلاف شوال، والفرق بين رمضان وذي الحجة – ما قاله المتولي -: أن الهلال في ذي الحجة ليس له تأثير في إيجاب العبادة، ولكن تأثيره في تقديم وقتها وتأخيره، وهنا وجوب الصوم بالنهار؛ لأجل رؤية الهلال، ولولاه لما وجب؛ [فهو كالزوال] ونحوه. قال: فإن قامت البينة بالرؤية في يوم الشك، وجب عليهم قضاؤه؛ لأنه بان أنه من

رمضان، وهل يجب على الفور بعد انقضاء رمضان ويوم العيد؟ قال في "التتمة": ذلك مبني على أنه هل يجب عليه إمساك بقية النهار أم لا؟ فإن قلنا: لا يجب، فقد ألحقناه بالمعذورين؛ فلا يلزمه القضاء على الفور، وألا وجب. وهذا البناء فيه نظر. قال: وفي إمساك بقية النهار، أي: إذا كان قد أكل – كما صوره الإمام والقاضي أبو الطيب – قولان: وجه المنع – وهو الذي حكاه القاضي أبو الطيب والغزالي عن نصه في "البويطي"-: أنهم أبيح لهم الفطر في أوله؛ فكذا في آخره؛ كما لو طهرت الحائض أو قدم المسافر مفطراً في أثناء يوم من رمضان. ولأن الإمساك عقوبة؛ فليختص بالإثم، وألا فلا إثم عليهم، وعلى هذا يستحب لهم الإمساك. ووجه الوجوب – وهو الذي نقله عامة أصحابنا وصححوه، وإن كان الإمساك في حكم العقوبة-: أنه [إنما] أبيح لهم الفطر بشرط: وهو كونه ليس من رمضان، وقد بان خلافه؛ فظهر أنه غير مباح، ولا كذلك الحائض والمسافر؛ فإنه أبيح لهما الفطر مع العلم بكونه من رمضان، والإباحة باطنة كما هي في الظاهر، ولا نظر إلى عدم الإثم؛ لأن الكفارة تجب على المخطئ في القتل وهي عقوبة مع أنه [لا إثم. أما] إذا لم يكن قد طعم ولا نوى، قال القاضي أبو الطيب: فإنه يجب عليه أن يصوم؛ لكونه من رمضان، ويقضيه؛ لأنه لم ينو من الليل، وهذه الحالة هي التي نص عليها في "المختصر" فإنه قال: "وإن أصبح لا يرى أن يومه من رمضان، ولم يطعم، ثم استبان ذلك – فعليه صيامه وإعادته"، وقد جزم [بذلك] الماوردي والفوراني، وكذا القاضي الحسين، وإن أكل، لكن قال القاضي: إذا لم يكن قد أكل فينوي الصوم؛ خروجاً عن الخلاف، ويقضي يوماً مكانه، وإن أكل يمسك بقية نهاره. وتبعه البغوي في الجزم بوجوب الإمساك في الحال، وقاسه على ما لو نوى الصوم، ثم أفسده، وقال: إن الحكم كذلك فيما لو نسي النية من الليل، وقد ذكره

البندنيجي أيضاً فيها. وحكى المتولي القولين فيما إذا قامت البينة قبل الأكل، وحكى وجهين فيما إذا كان قد أكل مرتين على القولين. فإن قلنا فيما إذا كان [لم] يأكل: إنه لا يحرم الأكل، فهنا أولى، وألا فوجهان، والصحيح أنه لا يباح له الأكل في بقية النهار؛ لما ذكرناه، وقد قال الإمام في كتاب الظهار عند الكلام فيما يقطع التتابع: إن الخلاف في مسألة الكتاب يجري فيما لو نسي النية من الليل، وإن الرأي الأصح [أنه] يلزمه، وإن كان الإمساك في حكم التغليظ، وحكاهما في "الإبانة" فيما إذا أصبح غير صائم، وهذا يحتمل أن يكون أراد به ما إذا لم ينو عمداً أو سهواً. فرع: ما وجب من الإمساك هل هو صوم شرعي أم لا؟! حكى الماوردي فيه وجهين، ولو كان قد أكل: أحدهما –وهو قول أبي إسحاق-: أنه يسمى: صوماً شرعياً؛ لوجوب الإمساك فيه. والثاني- وهو قول أكثر الأصحاب-: أنه إمساك واجب، فأما أن يكون صوماً شرعياً فلا؛ لأنه لا يقع الاعتداد به عن رمضان ولا عن غيره. والإمام حكى الوجهين عن العراقيين فيما إذا أفسد الصوم، والبندنيجي حكاهما فيما إذا طلع عليه الفجر وهو غير ناوٍ، وأفهم كلامه تقييدهما بما إذا لم يأكل، وهي الصورة التي حكى ابن الصباغ فيها عن أبي إسحاق أنه يكون صوماً شرعياً. قال الإمام: ولست أرى في هذا الاختلاف فائدة؛ لأنه لو جامع فيه لم يلزمه بسببه شيء غير المأثم. نعم لو أصبح غير ناوٍ، ونوى التطوع بالصوم قبل الزوال، فالذي ذهب إليه الجماهير: أن الصوم لا يصح، وذهب أبو إسحاق إلى صحة الصوم. ووجه الرد عليه: أن الإمساك واجب، ولو صح تطوعه بالصوم، والصوم إمساك منوى، لوقع الإمساك عن جهة الوجوب متطوعاً به عن جهة التطوع، وهذا متناقض وأيضاً: فإن المسافر عندنا يتطوع بالصوم في سفره، وإن كان يسوغ له الإفطار، وسببه: أن

الذي حط عنه وجوب الصوم الترخص بالفطر، فإن لم يفطر فقد ترك الترخص، وليس بين إقامة الصوم وبين الترخص بالفطر مرتبة، والشرع [لم] يجعل شهر رمضان في حق المسافر كسائر الشهور حتى يصح فيه أي صوم شاء. قال: وأبو إسحاق لما جوز للمقيم الذي أصبح غير ناوٍ أن يتطوع بالصوم؛ فإنه على قياسه يجوز للمسافر أن يتطوع، وهذا حيد عن مذهب الشافعي وقياسه. قلت: ولأجل ما ذكره الإمام من إلزام أبي إسحاق من صحة تطوع المسافر بالصوم، جعل الغزالي فيما إذا نوى المسافر التطوع به أو أصبح المقيم ليلة الشك غير ناوٍ، ونوى التطوع – أنه يصح على وجه، لكن ما ذكره الإمام في الرد على أبي إسحاق بأن المسافر عندنا لا يتطوع بالصوم في سفره ... إلى آخره، إنما يلزم أبا إسحاق أن لو كان قياس مذهبه يقتضي أنه إذا نوى التطوع من الليل وهو مسافر أنه يصح تطوعه، وليس قياس مذهبه يقتضي ذلك، بل الذي يقتضيه قياسه: أنه لو لم ينو الصوم من الليل، ونوى التطوع قبل الفطر نهاراً قبل الزوال أنه يصح، بل أولى؛ لأن المسافر لا يجب عليه الإمساك، بخلاف من أصبح يوم الشك غير ناوٍ، ولا يرد عليه ما قاله الإمام؛ لأنه قد ترخص عنده بأمرين: أحدهما: أنه ترك نية الفرض من الليل التي لولا السفر، لوجبت. والثاني: أنه إنما يكون في صوم التطوع صائماً من قوت نيته كما سنذكره عنه. وله أن يقول فيما إذا نوى التطوع من الليل: إنه لا يصح؛ لما ذكره الإمام، ويجوز أن يقول بالصحة، ويمنع كون الشيء إذا وقع واجباً يمتنع أن يقع تطوعاً، ويستشهد بمن دخل المسجد، ونوى بفرضه الفرض وتحية المسجد فإنهما يحصلان له، وإن كانت أفعاله الواقعة عن الفرض لا يجوز إبطالها بالخروج قبل استكمالها [وأفعاله الواقعة عن تحية المسجد يجوز إبطالها بالخروج قبل استكمالها]، ولا نظر إلى تقدم الوجوب في مسألة الصوم واقترانه بالتطوع في مسألة الصلاة، والله أعلم. وقد عدل المتولي عن كون الإمساك صوماً شرعياً أو غير شرعي، إلى أن من

أمرناهم بالإمساك هل يثابون عليه أم لا؟! وحكى فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا؛ لأن الفعل غير معتد به. والثاني: إن لم يكن متعدياً بالفطر فيثاب، وألا فلا؛ عقوبة له على تعديه. والثالث - وهو الذي صححه -: أنه يثاب عليه أبداً؛ لأنه لو تركه استحق العقاب فإذا لم يتركه، وجب أن يستحق الثواب. وهذا ما أبداه ابن الصباغ احتمالاً لنفسه بعد حكاية الوجهين السابقين وتصحيح الثاني منهما، وقال: ينبغي أن يحمل قول أبي إسحاق: إن من وجب عليه الإمساك وليس متعدياً بالإفطار، فأمسك، يكون صوماً شرعيًّا - على أنه إمساك شرعي يثاب عليه خاصة. قال: فإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً، ولم يروا الهلال، أفطروا؛ لأنهم قد استكملوا العدة؛ فأشبه ما لو صاموا بشهادة اثنين. وقيل: لا يفطرون، لأنه يؤدي إلى الفطر بقول واحد؛ وهولا يجوز أن يفطر بقوله لو ابتدأ الشهادة، فكذلك إذا اقتضته الشهادة السابقة، وهذا ما اقتضى إيراد الغزالي ترجيحه، وقد حكى عن ابن الحداد أنه قال بمثله فيما إذا صاموا بشهادة اثنين وثلاثين يوماً ولم يروا الهلال مع الصحو؛ لأن العيان يقين وشهادة شاهدين مستترة، واليقين لا يزال بالمستتر، وقد نسب هذا إلى ابن سريج أيضاً. والأصح في مسألة الكتاب عند الأكثرين - كما قال الرافعي -: الأول، وحكوه عن نصه في الأم. والفرق بينه وبين ما إذا ابتدأ الشهادة برؤية هلال شوال: أن الشيء قد يثبت ضمناً، ولا يثبت صريحاً؛ كشهادة النساء، لا تقبل في المواريث والأنساب، والولايات ابتداءً، وتثبت بشهادتين ضمناً إذا شهدن بالولادة. وقال الإمام: إن في هذا نظر؛ فإن الولادة إذا ثبتت يلحق النسب الفراش، وهو قائم لا نزاع فيه، ولم يتحقق مثل ذلك فيما نحن فيه. قال الرافعي: وللمحتج أن يقول: لا معنى للثبوت الضمني إلا هذا، وأما ما ذكره

ابن الحداد، فقد قال القفال وغيره: إنه غلط فيه، وإنما أجاب على أصل أبي حنيفة؛ فإنه التقط هذه المسألة من كتبه، ووجه غلطه: أن الشافعي نص في "الأم"، و"أمالي" حرملة على الفطر؛ لأن الشاهدين لو شهدا على رؤية هلال شوال والسماء مصحية، يجب على الحاكم أن يقبل شهادتهما ويحكم بها، وإذا جاز قبول شهادتهما ابتداءً؛ فتبعا من طريق الأولى؛ ولأجل ذلك قال الإمام: إنه غير معدود من المذهب. ثم ما محل الوجهين في مسألة الكتاب؟ فيه طريقان في "التهذيب" و"التتمة": أحداهما: إذا كانت [السماء] مصحية، أما إذا كانت مغيمة، فيفطرون قولاً واحداً، وهي التي أوردها في "العدة". وفي مثل هذه الحالة وافق ابن الحداد على الفطر في مسألة الشاهدين. والثانية- وهي الموافقة لإيراد الغزالي والأكثرين؛ كما قال الرافعي -: أنهما يجريان في الحالين. ورأيت في "شرح الفروع" للقاضي أبي الطيب حكاية الخلاف في حالة الغيم خاصة، والسكوت عن حالة الصحو، وهذا يجوز أن يكون طريقة ثالثة، وفي هذه الحالة حكى في "التتمة" نص الشافعي في "الأم" على الفطر. قال: وإن اشتبهت الشهور على أسير، تحرى وصام، أي: ما غلب على ظنه أنه رمضان؛ كما يتحرى في القبلة عند الاشتباه، ويصلي إلى الجهة التي يغلب على ظنه أنها القبلة، والتحري في حقه يكون بالنظر في التواريخ المتقدمة، والحر، والبرد والخريف والربيع. قال: فإن وافق الشهر، أو ما بعده – أي: إذا فك أسره، وظهر له أنه وافق الشهر أو ما بعده- أجزأه. ووجهه إذا وافقه: أنه أدى العبادة بالاجتهاد عن أمارة، وقد صادفت الوقت فأجزأته، كالصلاة إذا خفي عليه وقتها فأداها بالاجتهاد، ثم ظهر أنه أوقعها في وقتها. وأما إذا وافق ما بعده، فالقياس على ما لو أخطأ الناس في العدد، فوقفوا في العاشر؛ فإنه يجزئهم.

قال في "التتمة": ولأن غاية الأمر أنه وقع القضاء بنية الأداء، والإجماع على أنه لو شرع في الصلاة في آخر الوقت، ثم خرج الوقت: أنه تصح صلاته، وإن كان ما يقع من صلاته خارج الوقت ليس بأداء، وقد أوقع الفعل بنية الأداء، وهذا ما نص عليه الشافعي، وهو موافق لنصه فيمن خفي عليه وقت الصلاة، فتحرى وصلى معتقداً أنه أداء، ثم بان أنه صلى بعد خروج الوقت- أن صلاته صحيحة. قال القاضي أبو الطيب: وهذا دلالة على أن تعيين الأداء والقضاء غير واجب في [الصوم والصلاة]، خلافاً لقول الشيخ أبي حامد: إن التعيين واجب، وهذا منه دليل على أن صومه [وقع قضاء. وقد اختلف المراوزة في أن صومه إذا وافق ما بعده وقع أداء أو قضاء على طريقين] حكاهما المتولي وغيره وأثبتهما القفال قولين، وتبعه الفوراني، والبغوي رواهما وجهين، وأظهر القاضي الحسين أثرهما فيما لو اجتهد المسافر في وقت الصلاة، وصلى بنية القصر ثم بان أنه صلى بعد الوقت: إن قلنا: يكون صومه أداء صحت صلاته. وإن قلنا يكون صومه قضاء، يلزمه قضاء الصلاة. وقد اقتضى ظاهر كلام الشيخ: أنه لا فرق في الإجزاء بين أن يوافق ذلك شوال، وذا الحجة، أو غيرهما، سواء كان ما وافقه تاماً أو ناقصاً، ورمضان تام أو ناقص، وقد اتفق الأصحاب على أنه إذا وافق شوال لا يصح منه صوم يوم العيد، ويصح ما عداه،

والواجب عليه عدد أيام رمضان، فإن كان ما صح له من شوال قدر ما عليه من رمضان، بأن كان شوال تاماً، ورمضان ناقصاً – فقد خرج عما عليه. وفي "تعليق" القاضي الحسين و"التتمة" وجه آخر: أنه يجب عليه قضاء يوم آخر، والخلاف مبني على أن [من] صامه يكون قضاء – وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب والماوردي – أو أداء فإن قلنا: قضاء، كفاه، وإن قلنا: أداء، قضى يوماً؛ كما لو أفطر يوماً من رمضان. ولقائل أن يقول: أيام رمضان كلها قابلة للصوم، فقد خوطب بجميعها، ولا كذلك شوال، ولو كان شوال ناقصاً، ورمضان كاملاً، أو كانا كاملين – وجب عليه الإتيان بيومين، ولو كانا ناقصين قضى يوماً، صرح به ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب. وحكينا عن الشيخ أبي حامد: أنه يلزمه قضاء يومين، وأنه بنى ذلك على أنه يلزمه أن يقضي [شهراً بالهلال] أو ثلاثين يوماً، ولا يعتبر عدد أيام رمضان وهو ما حكاه البندنيجي. قال القاضي: وهو غلط، وليس بمذهب للشافعي وإنه نص على أنه يجب عليه أني قضي مثل عدد رمضان سواء قضى ما بين الهلالين أو عدداً، لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. ونسب القاضي الحسين هذا إلى الخضري. ولو وافق صومه ذا الحجة، بطل منه أربعة أيام: يوم النحر، وثلاثة [أيام] بعده، ولزمه صيام عدد أيام رمضان؛ كذا قاله البندنيجي وأبو الطيب وغيرهما. ويجيء على قول من جوز صوم أيام التشريق للمتمتع ومن في معناه: ألا يبطل سوى يوم واحد، وحينئذ يجيء ما تقدم في شوال، وقد حكى الرافعي أن ابن عبدان

ذكره استدراكاً على الأصحاب. وأما إذا وافق سوى الشهرين، صح له جميعه، ثم إن كانت أيامه وأيام رمضان سواء فلا كلام، وإن كانت أيامه تسعاً وعشرين، فعن الشيخ أبي حامد: أنه يجزئه، ولا يلزمه سواه إذا [كان] وقع صومه ما بين الهلالين، وادعى البندنيجي أنه ظاهر المذهب، وقد صرح بمثله القاضي الحسين والبغوي والمتولي؛ تفريعاً على أن ما يأتي به يكون أداء، وقال القاضي أبو الطيب: إنه غلط؛ لما ذكرناه. قال: وإن وافق ما قبله – أي: ولم يظهر ذلك إلا بعد فوات رمضان بجملته – لم يجزئه في أصح القولين. قال أبو الطيب: لأنه عبادة يزيل عقدها الجماع؛ فإذا فعلها قبل وقتها بالاجتهاد، وجب ألا تجزئ؛ كالصلاة. قلت: ولك أن تقول: الصلاة أزال عقدها الملامسة قبل الجماع؛ فلا جامع. نعم لو قال: لأنه عبادة تفتقر إلى النية قصداً، ولا يجب المضي في فاسدها، فإذا فعلت قبل وقتها بالاجتهاد لم تجزئه، كالصلاة – لانتظم القياس. وقولنا: "تفتقر إلى النية [قصداً] ... " إلى آخره – احتراز عن الوقوف في الحج إذا وقع في الثامن. لكن هذا القياس يفهم أن الأسير لو اجتهد في أوقات الصلاة، وصلى قبل الوقت: أنه يعيد قولاً واحداً، وليس كذلك، بل الأمر فيه كما في الصوم وفاقاً وخلافاً؛ صرح [به] الإمام [حكاية] عن شيخه هنا، وفي كتاب الصلاة، [قال: إن في صورة القولين نقول: الصلاة] أولى بذلك من الصوم؛ فإن الأمر فيها أخف، ولذلك سقط قضاؤها عن الحّيَّض وإن لم يسقط عنهن قضاء الصوم. قال: وجماهير الأصحاب على تجويز الاجتهاد في أوقات الصلاة مع إمكان درك اليقين بالصبر، والمتفق على قضاء الصلاة فيه – كما قال الإمام – إذا اجتهد القادر في الوقت مع

قدرته على الصبر حتى يتحقق دخول الوقت، أو اعتمد على قول المؤذن في دخول الوقت، فصلى، ثم ظهر أنه صلى قبل الوقت؛ كما قال ابن الصباغ، وقاس عليه مسألة الكتاب. ومقابله: أنه يجزئه؛ لأنها عبادة يتعلق جبرانها بالمال، فإذا فعلها بالاجتهاد قبل وقتها، وجب أن تجزئه؛ كالحج إذا وقف [فيه] في الثامن. وقاسه الفوراني والبغوي والمتولي على ما إذا وقفوا في العاشر، أنه فعل العبادة في وقت لا يصح فعلها فيه مع العلم بالحال. وهذان القولان حكاهما القاضي أبو الطيب عن نصه في "الأم" والقديم، وقال الماوردي: إن الذي صرح به في كتبه الأول والثاني أخذ من قوله في موضع من الأم: "ولو قال قائل: إذا تأخر؛ فبان له صيام ما قبله يجزئه، كان مذهباً". وقال القاضي الحسين: إن الثاني قول الشافعي في القديم قال في التتمة: ويمكن بناؤهما على أنه إذا وافق ما بعده يكون أداء أو قضاء؟ فإن قلنا: أداء صح، وألا فلا؛ لأن القضاء لا يسبق الأداء، وما أبداه [الإمام] احتمالاً قد صرح به القاضي الحسين عن القفال، وتبعه الفوراني والبغوي. وعن بعضه القطع بالمنع، وينسب إلى أبي إسحاق، وأنه قال: ما قاله في "الأم" حكاية عن مذهب الغير، لا أن ذلك مذهب له. قال القاضي الحسين: وهو الأصح، والفرق بينه وبين الحج: أن الحج لا يزيل عقدة الجماع، والصوم يزيل عقدة الجماع؛ فهو كالصلاة. ولأن الحج يشق قضاؤه، ولا يؤمن مثل ما وقع في القضاء، والصوم بخلافه. والذي عليه شيوخ أصحابنا-: كالربيع، والمزني، وابن سريج، وغيرهم؛ كما قال البندنيجي – الطريق الأولى، ولم يحك الإمام غيرها، ثم قال: فإن قيل: هل يناظر ما ذكرتموه من صور الخلاف والوفاق القول في خطأ الحجيج؛ فإنهم لو أخطئوا، فوقفوا يوم العاشر، أجزأهم الوقوف ولو وقفوا في الثامن؛ ففي إجزائه وجهان، وهذا

يناظر تقديم [صوم]؛ الأسير على [شهر] رمضان – قلنا: [هذا] تشبيه من جهة الصورة؛ فإن الذي أوجب الفرق بين الثامن والعاشر عموماً تصور الغلط في العاشر، وندور ذلك في الثامن، وأما غلط الأسير؛ فإنه على وتيرة واحدة في التقدم والتأخر؛ فلا ينبغي أن يعتقد اتحاد مأخذ المسألتين. نعم، حكى الإمام الطريقتين فيما لو انجلى الإشكال وقد بقي بعض رمضان؛ فنه يجب صوم البقية، كما يجب صوم الجملة لو انجلى الحال قبل مضيه، وفي إجزاء ما مضى طريقان؛ فإن منهم من خرجه على القولين، ومنهم من قطع بأنه يجب استدراك البقية. فرع: إذا وافق صومه [ما] بعد رمضان أو قبله، وقلنا: يجزئه، فلو كان قد أفسد يوماً منه بجماع، فلا كفارة؛ لأنها تجب لحرمة رمضان، هي غير موجودة. نعم لو وافق رمضان، وجبت كما لو صام بشهادة واحد، وجامع. وقد بقي من تقاسيم المسألة ثلاث صور: إحداها: أن يزول الأسر، ولا يظهر له أي شهر صامه؟ وقد قال في "الحاوي": أنه لا يلزمه شيء؛ لأن الظاهر من الاجتهاد صحته. الثانية: أن يزول الأسر، ويظهر أن كان يصوم الليل، ويفطر النهار. وقال البندنيجي: قال أصحابنا: عليه القضاء. وظاهره: أنه بلا خلاف على المذهب؛ لأنه زمان لا ينعقد صيامه؛ فهو كزمان الحيض والنفاس والعيدين. الثالثة: إذا اجتهد، فغلب على ظنه أن رمضان قد فات، فصامه قضاء، ثم زال الأسر، وظهر له أن ما صامه رمضان –فهذا يظهر أن يكون كما لو صام على ظن أنه رمضان، فوافق ما بعده؛ لأنه ثم نوى الأداء وكان قضاء، وهنا عكسه، ولم أعثر في هذا على نقل.

نعم، إن أُجري كلام الشيخ على ظاهره، أمكن أخذ هذا الحكم منه. ثم ما ذكرناه مصور بما إذا اجتهد، فغلب على ظنه شيء بأمارة، وعمل عليه كما تقدم، أما إذا اجتهد ولم يترجح عنده شيء بأمارة دلت عليه، فقد قال الشيخ أبو حامد: يصوم شهراً بالتخمين، ويعيد كمن اشتبه عليه القبلة، ولم يعرف الدلائل، أو كان أعمى، ولم يجد من يقلده، فيصلي على حسب حاله ويعيد. ولا يقال: إنا إذا أجرينا قول المصنف: "تحرَّى وصام" على ظاهره أمكن أخذ هذا الحكم منه لأن قول الشيخ: "فإن وافق الشهر أو ما بعده أجزأه" يناقضه. والصحيح: أنه لا يؤمر بالصوم والحالة هذه، والفرق بينه وبين من اشتبهت عليه القبلة: أنه ثمَّ تحقق وجوب الصلاة في وقتها؛ فلذلك [أمر بها]؛ حتى لا يخلو الوقت عنها، وهنا لم يتحقق وجوب الصوم، ولا غلب على ظنه؛ فلم يجب، كما لو شك في دخول وقت الصلاة. وما ذكره الشيخ أبو حامد هو الذي أورده البندنيجي، لكنه صور المسألة بما إذا لم يكن معه دليل يستدل به، ووقع في قلبه: أن هذا الشهر رمضان. واعلم أن ما ذكره الشيخ في فرض المسألة في الأسير تبعاً للشافعي – لا يختص به، بل هو جارٍ فيه ومن [هو] في معناه: كمن حبس في مطمورة، أو كان في طرف بلاد الإسلام، أو في موضع لا يعدون الشهور، وإنما ذكره الشافعي ومن تبعه في الأسير؛ لأن أكثر ما يقع ذلك للأسارى. قال: وإن رأى هلال شوال، أي ليلة الثلاثين من رمضان وحده أفطر؛ لعلمه بسبب تحريم صومه. قال: سرًّا حتى لا يعرض نفسه للعقوبة؛ فإنه إذا شوهد مفطراً؛ ولم تثبت رؤيةالهلال، عزر، فلو أفطر جهراً، ثم شهد مع عدل آخر عند الحاكم، قال في "التتمة": لم

تقبل شهادته؛ لأنه يدفع التعزير عن نفسه بالشهادة. نعم، لو شهد قبل الأكل مع غيره، فردت شهادتهما، ثم أكلا لم يعزرا، بخلاف ما لو أكلا قبل الشهادة. قال: القاضي الحسين: ولو قبلت شهادتهما، عمل بها بلا خلاف؛ لورود الخبر بذلك ولا يعارضه ما ثبت في البخاري ومسلم وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "شهرا عيد لا ينقصان: رمضان، وذو الحجة"؛ لأنه ليس المراد أنه لا يتصور نقصهما؛ لوجود نقصهما مشاهدة، وقد قال ابن مسعود: "صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعاً وعشرين أكثر مما صمنا معه ثلاثين" كذا أخرجه أبو داود والترمذي، وإذا كان كذلك، فقد اختلف في المراد بعدم النقص. فقيل: لا ينقصان في سنة واحدة، بل إن نقص أحدهما تم الآخر وهو قول أحمد ابن حنبل. وقيل: نه أخرجه مخرج الغالب؛ فإنهما لا يجتمعان في النقص. وقيل: إن الإشارة بذلك كانت إلى سنة معلومة؛ ذكره أبو بكر بن فورك. وقيل: نه إنما أراد بذلك تفضيل العمل في عشر ذي الحجة، وأنه لا ينقص في الأجر والثواب عن شهر رمضان. وقيل: إن الناس كانوا يكثرون الاختلاف في هذين الشهرين؛ لأجل عيدهم

وحجهم، فأعلمهم أن الشهرين وإن نقصت أعدادهما، فحكمهما على التمام والكمال في حكم العبادة؛ كي لا يقع في القلوب شك إذا صاموا تسعة وعشرين، أو وقع في وقوفهم غلط في الحجيج؛ فبين أن الثواب تام وإن نقص العدد، وهذا معنى ما حكاه البندنيجي عن أبي إسحاق. فإن قيل: قد أخرج أبو القاسم الطبري من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: "كل [شهر] حرام لا ينقص ثلاثين يوماً وثلاثين ليلة" [و] رجال إسناده ثقات. قيل: لا يمكن حمل هذا إلا على الثواب، أي يثاب العامل فيها ثواب ثلاثين يوماً وثلاثين ليلة في الصلاة والصيام ونحوها. قال: ولا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام الواجب – أي: كالصوم في الكفارات، وعن قضاء رمضان والنذر – إلا بنية؛ لقوله تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل]، فأخبر أن المجازاة لا تقع بمجرد الفعل حتى يبغي به الفاعل وجه الله تعالى بإخلاص النية. وللخبر المشهور. ولأن الإمساك يقع تارة عبادة، وتارة عادة؛ فلابد من النية ليميز بينهما. قال: من الليل، لما روى أبو داود عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: [أن رسول الله] قال: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له" وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه.

قال في "الحاوي": وقد روى ذلك – أيضاً – عائشة وأم سلمة وابن عمر، وفي رواية بعضهم: "لمن لم يُبَيِّت الصيام ["من الليل"، وفي رواية لبعضهم: "لمن لم ينو الصيام] قبل الفجر". ولا يقال: إنه محمول على نفي الكمال؛ لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة، وقد ادعى الماوردي الإجماع على ذلك في صيام النذر المطلق والكفارة وقضاء رمضان، وإذا كان ذلك مجمعاً عليه، قسنا صيام رمضان عليه، بجامع الاشتراك في الوجوب. قال كل يوم؛ للخبر، فن قيل: إذا نوى في أول الشهر من الليل، فقد أجمع الصيام قبل الفجر، ونوى الصيام من الليل؛ فوجب أن يجزئه؛ كما قال مالك.

قلنا: إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم تبييت الصيام في كل ليلة، ولو كان قصده ما قالوه، لم يجز لأحد أن يفرد لكل يوم نية من الليل، وللزمه أن ينوي في أول ليلة صوم جميع الشهر، ولما أجمعنا على أن إفراد كل يوم بنيته جائز؛ دل على أن ما ذكرناه هوا لمقصود بالخبر، وحينئذ فمقتضاه: أنه لو نوى صوم أيام الشهر في أول ليلة منه، لا يصح له [إلا صومي اليوم الأول، وقد حكى الإمام عن شيخه تردداً فيه، وقال: إنه فيه إشكال واحتمال. قال الرافعي: وقد رأيت ابن عبدان أجاب بصحته، وهو الأظهر. ولأن صوم كل يوم عبادة منفردة؛ لأنه [لا] يفسد بفساد ما قبله، ولا بفساد ما بعده؛ فأشبه صلوات اليوم؛ وبهذا يظهر الفرق [بين] صوم أيام رمضان وركعات الصلاة وأركان الحج، على أن في اشتراط النية في كل ركن من أركان الحج عند الإتيان به خلافاً ستعرفه في موضعه. وقيل: تصح نيته مع الفجر؛ لأن النية اقترنت بأول العبادة؛ فوجب أن تصح كسائر العبادات، والحديث فقد قال أبو داود: إنه وقفه على حفصة معمر والزبيدي وابن عيينة وغيرهم، وقال الترمذي: [لا نعرفه] مرفوعاً إلاَّ من هذا الوجه. وإن كان كذلك؛ فلا حجة فيه حتى يقال: إن هذا قياس في مقابلة النص؛ وهذا وجه حكاه القاضيان: أبو الطيب، والحسين، وبه أجاب ابن عبدان. وقيل في النذر المطلق: إنه يجوز نيته من النهار؛ بناء على أن النذر يسلك به مسلك جائز الشرع؛ حكاه القاضي الحسين والمتولي وغيرهما. والمنصوص عليه – وهو الصحيح باتفاق الأصحاب – الأول، ولم يذكر

الماوردي والبندنيجي غيره؛ فإن الحديث قد رواه الليث وإسحاق بن حازم أيضاً عن عبد الله بن أبي بكر مثله، يعني: مرفوعاً، وقال الدارقطني: رفعه عبد الله بن أبي بكر عن الزهوي، وهو من الثقات. وقال الخطابي: عبد الله بن أبي بكر بن عمرو قد أسنده، وزيادات [الثقات] مقبولة. والفرق بينه وبين سائر العبادات: أن إقران النية بأولها لا يخلي جزءاً منها عن النية، بخلاف الصوم لو جوز إقران النية [به] لخلا أول العبادة عنها، وعلى هذا هل يتعين لها النصف الأخير من الليل أم لا؟ فيه وجهان: الصحيح: لا، بل أي وقت نوى فيه أجزأه؛ للخبر. قال الإمام: ومقابله لا أعده من المذهب. وقال الترمذي: إنه غلط؛ لما في مراعاة ذلك من المشقة التي لأجلها جوزت من الليل. وعلى كل حال، فهل من شرطها ألا يطرأ بعدها في الليل مناف للصوم: كالأكل، والشرب، والجماع، أو لا يشترط؟ المنقول عن أبي إسحاق: الاشتراط؛ حتى لو فعل شيئاً من ذلك بعدها، لزمه تجديدها، وزاد فقال: لو نام، ثم استيقظ قبل الفجر، لزمه تجديدها. قال الماوردي وأبو الطيب: وهو غلط: مذهباً وحجاجاً: أما المذهب؛ فلأن الشافعي قال: "لو طلع الفجر عليه، وهو مجامع أخرج مكانه، وصح صومه"، فلو لزمه تجديد النية، لبطل صومه؛ لأن نيته بعد الإخراج تصادف أول [النهار]. وأما الحجاج؛ فلقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187]، فإن قال أبو إسحاق:

لا يجوز له الأكل والشرب إلى طلوع الفجر، خالف نص القرآن، وإن قال: يجوز له ذلك، فإنه يوجب عليه النية بعد طلوع الفجر؛ وهذا باطل على المذهب. ولأنه مفطر في الليل وإن لم يأكل؛ فتركه الأكل والجماع مع كونه مفطراً غير مفيد. وقد حكى أبو الطيب وغيره عن أبي سعيد الإصطخري أنه قال: يستتاب أبو إسحاق؛ فإن تاب وإلا قتل. وحكى أن أبا إسحاق رجع عن قوله في هذه المسألة، أي: عام حجه؛ كما قاله [الفوراني والإمام] وأنه أشهد على نفسه. وقال البندنيجي وابن الصباغ: إن هذا القول يحكي عن أبي إسحاق حكاية، وليس بموجود في كتبه. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الصبي لو نوى صوم رمضان بالنهار لا يصح وإن كان نفلاً في حقه، وكلام الشافعي في "المختصر" يخرّجه؛ فإنه قال: "ولا يجزئ أحداً [صيام] فرض شهر رمضان ولانذر ولا كفارة إلا من ينوي من الليل قبل الفجر". قال: ويصح النفل بنية قبل الزوال، أي: إذا لم يكن قد فعل ما ينافيه، [ولا يصح بنية بعده].

ووجه صحته بنية قبل الزوال: ما روى مسلم عن عائشة قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: "هل عندكم شيء؟ " فقلنا: لا، قال: "فإني إذاً صائم". ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله، أهدي لنا حيس، فقال: "أرينيه؛ فلقد أصبحت صائماً"، ثم أكل. وروى – أيضاً – عن الربيع بنت معوذ أن عفراء قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: "من كان أصبح صائماًن فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطراً، فليتم بقية يومه". ومعلوم أن يوم عاشوراء كان نافلة؛ فإنه لم يأمر من أفطر بالقضاء مع شدة حاجتهم إلى بيان الحكم فيه أن لو كان واجباً، وقد أمرهم بصومه نهاراً. وقد [جاء في] حديث عائشة أنه قال: "هل عندكم من غداءٍ؟ "؛ والغداء – كما قال أبو الطيب -: اسم لما يؤكل قبل الزوال، والمأكول بعد الزوال يسمى: عشاء. ووجه عدم صحته بنية بعد الزوال: التمسك بحديث حفصة، وما قبل الزوال خرج بما ذكرناه. ولأنه لو جاز بنية بعد الزوال لخلا معظم العبادة عن النية، بخلاف ما قبله. وقد حكى الإمام عن شيخه تردداً مع التفريع على هذا القول فيما إذا وقعت نيته.

بعد منتصف الزمان من طلوع الفجر إلى الغروب، وهو يقع ضحوة، والمنع موافق لمن اعتبر أكثر العبادة. قال الإمام: ولعل من اعتبر الزوال على هذا اعتبره؛ لأنه بني، وضبط وسط الوقت مع الاحتساب من طلوع الفجر عسير، ولا خلاف أن [النهي عن] السواك منوط بما بعد الزوال؛ فإن المرعي فيه ظهور الخلوف، وهو في الغالب مختص بما بعد الزوال. وعن المزني: أنه لا يصح النفل إلا بنية من الليل؛ لخبر حفصة، وبه قال بعض الأصحاب، وهو البلخي. قال الإمام: وهو القياس، وفعله – عليه السلام – وأمره يرد عليهما. وقيل: يصح بنية بعد الزوال أيضاً؛ [أي]: إذا لم يتصل آخر نيته بغروب الشمس؛ لأنه لما كان الليل محلاً للنية في صوم الفرض [واستوى حكم جميعه فيها، وكان النهار محلاً للنية في صوم التطوع] – وجب أن يستوي حكم جميعه فيها، وقول الربيع لا حجة فيه؛ لجواز أن الأمر لم يبلغهم إلا بعد الزوال؛ وهذا ما نقله حرملة؛ كما قال القاضيان أبو الطيب والحسين، وحكاه البندنيجي عن نصه في "اختلاف على وعبد الله"، وقال: "إنه إذا اتصلت نيته بغروب الشمس، لم يصح قولاً واحداً"، والأول هو ظاهر ما نقله المزني والربيع، وقال القاضيان أبو الطيب، والحسين: إنه الذي نص عليه في القديم والجديد. والفرق بين جميع الليل وجميع النهار: أن اعتبار النية في الليل إنما كان للمشقة، فلو اختصت بوقت منه، تحصلت، وليس كذلك النية قبل الزوال؛ فإنه لا مشقة فيها. وحكى القاضي الحسين عن القفال: أنه كان يبني هذا الخلاف على أصل [آخر] مقصود في نفسه، وهو أنه إذا نوى قبل الزوال من أي وقت يصير صائماً؟ وفيه وجهان: أحدهما – وهو قول أبي إسحاق-: أنه يكون صائماً من وقته، وقبل ذلك يكون

ممسكاً إمساك عادة، لا يثاب عليه، وهو الأصح في "الإبانة"،وقال الإمام: إنه الذي ذهب إليه القائسون. قال الرافعي: ويقال: إنه اختيار القفال؛ لأن النية في العبادات شرط، والعبادة لا تسبق الشرط. والمذهب أنه يكون صائماً من أول النهار، وبه قال أكثر الأصحاب؛ كما قال الماوردي وأبو الطيب. فإن قلنا: يصير صائماً من أول النهار، لم تجزئه النية بعد الزوال؛ لأنه لم يبق معظم النهار. وإن قلنا: يصير صائماً من قوت النية، صحت نيته بعد الزوال. وهذا فيه نظر من وجهين: [أحدهما]: أن الخلاف المذكور في وقت النية- كما ذكرنا – قولان، فكيف يمكن بناؤهما على وجهين أو على قول ووجه؟! والثاني: أن الرافعي وغيره حكوا الخلاف في انه هل يكون صائماً من وقت نيته أو من أول النهار فيما إذا كان نوى قبل الزوال أو بعده وصححناه، ولو كان

مبنياً على ما ذكره، لم يكن يما إذا نوى بعد الزوال خلاف في أنه يكون صائماً من وقته. وقد غلط الماوردي أبا إسحاق فيما قاله، وصحح خلافه؛ موجهاً له بأنه: لو أكل في أول النهار، ثم نوى أن يصوم بقية نهاره، لم يصح؛ لامتناع تبعيض الصوم، وتفريق حكم اليوم؛ فإذا كان ذلك ممتنعاً، وقد حكم له بصوم بعض اليوم، وجب أن يحكم له بجميعه، ولا بعد في ذلك؛ فإن المصلي إذا أدرك الإمام في الركوع، حسب له جميع الركعة وثواب جميعها وإن كان مدركاً لبعضها. وقد حكى القاضي الحسين عن الشيخ أبي زيد من أصحابنا والفوراني عن ابن سريج والرافعي عن ابن جرير الطبري: أنهم قالوا: لو أكل، ثم نوى صوم التطوع، صح صومه. قال القاضي: وهو خلاف النص الذي لم يورد البغوي غيره. وقال الفوراني في توجيه ما صححه: لا يمتنع أن تكون عبادة في وقت، ويشترط تقديم شرط على ذلك الوقت؛ كما أن من أدرك الجمعة، فجمعته من وقت ما يشرعه في الصلاة، ويشترط تقديم الخطبة. وقد قال بعضهم: إن ما حكى عن أبي زيد لا يحل نقله، أي: للعمل به. ثم الخلاف المشهور فيما إذا طهرت الحائض أو أسلم الكافر في أثناء يوم، ثم نوى التطوع، فإن قلنا: إنه يكون صائماً من أول النهار، لم يصح، وألا فوجهان، حكاهما المتولي، وكذا الإمام عن شيخه مع قطعه بأنه إذا كان قد أكل لا يصح صومه، وقال: [إنه لعمري] يقرب بعض القرب، فأما تصوير الصوم بعد الأكل في النهار فهو في حكم الهزو عندنا. قال: ولا يصح صوم رمضان ولا غيره من [الصيام] الواجب - أي: وإن تعين وقته: كقضاء ما عليه من رمضان إذا لم يبق من شعبان إلا قدره، ونذر صوم يوم

بعينه- إلا بتعيين النية، أي: بأن ينوي في كل ليلة: أنه صائم غداً من رمضان، أو عن قضائه، أو عن نذره، أو عن كفارته؛ على حسب ما هو عليه؛ لقوله – عليه السلام -: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام قبل الفجر" وقوله: "إنما الأعمال بالنيات". ووجه الدلالة من ذلك: أنه إذا لم يعين رمضان، ولا قضاءه، ولا النذر، ولا الكفارة – لم يجمع صوم ذلك من الليل ولا نواه، وقد وافق [الخصم] – وهو أبو حنيفة- فيما سيقت المسألة لأجله، وهو صوم رمضان في الحضر على أنه لا يصح صوم قضائه والنذر المطلق والكفارة إلا بالتعيين. فنقول له: صوم رمضان عبادة يفتقر قضاؤها إلى تعين النية؛ فوجب أن يفتقر أداؤها إلى التعيين، وأصل ذلك الصلاة. فإن قيل: رمضان يقبل الفطر والصوم؛ فلذلك افتقر إلى أصل النية، ولا يقبل صوماً غيره فلهذا لم يشترط التعيين فيها [بخلاف] زمن قضائه والنذور والكفارات؛ فإنه يقبل ذلك ويقبل غيره؛ فافتقر إلى التعيين في نيته؛ كما في أوقات الصلاة. قلنا: قد قال به الحليمي من أصحابنا لهذا الفرق؛ كما ذكره المتولي، لكنه لا أثر له عند الخصم؛ لأنه [لا] يجوز الصوم فيما إذا نذر صوم يوم بعينه من غير تعيين وإن كان ذلك الزمن [لا] يقبل صوماً غيره، وكذلك لو نوى المسافر الصوم وأطلق انصرف إلى رمضان عنده وإن قبل عنده صوماً غيره من النذر والقضاء والكفارة، فإذا تقرر أنه لابد من ذلك، فهل يشترط معه التعرض للفرضية والأداء وكونه من رمضان هذه السنة؟ فيه وجهان: المنسوب منهما [إلى أبي] إسحاق في الأولى – وهو الذي صححه أب والطيب والبغوي – الاشتراط. وإلى مقابله فيها ذهب ابن أبي هريرة، وهو المذهب في "تعليق" البندنيجي،

وسكت العراقيون عن الكلام فيما عداها، والخلاف فيه مذكور في الطريق المراوزة. قال الإمام: وقول بعض المتأخرين: إنه يجب أن ينوي أداء رمضان هذه السنة غير محتفل به عندي، وإنما [هو] تحريف في الفهم. ولا خلاف في انه لا يشترط النطق بشيء من ذلك، وإن حكى وجه في اشتراط النطق بالمنوي في الصلاة. وإذا عرفت ذلك، عرفت أن النية الكاملة في رمضان: أن ينوي صوم الغد من أيام شهر رمضان هذه السنة أداء لله تعالى. فرع: لو نوى قضاء فريضة أول يوم من رمضان والفائت يوم آخر، أو نوى أن يقضي يوماً من رمضان [عينه كذا والفائت من رمضان] آخر – قال في التتمة: لا يجزئه، وهو ما حكاه البندنيجي عن الشيخ أبي حامد، وحكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه وجهاً مع وجه آخر: أنه يجزئه، وهما في المهذب احتمالان. ووجه المنع: القياس على ما لو كانت عليه كفارة القتل، فأعتق عن كفارة الظهار، لا يجزئه. قال في "التتمة": وهذا بخلاف ما لو قال في الأداء: نويت صوم غد من رمضان سنة كذا، وكانت السنة [غير] التي عينها، أو قال: يوم الاثنين، واليوم يوم الثلاثاء – فإن الصوم صحيح؛ لأن الوقت متعين، فالخطأ في السنة لا يضر، وهو ما أبداه ابن الصباغ احتمالان لنسه – كما قال بعضهم – أخذاً من قول القاضي أبي الطيب في "المجرد": إنه إذا نوى أن يصوم غداً من رمضان هذه السنة، وظنها سنة تسعين أو اثنتين وتسعين، وكانت [سنة] إحدى وتسعين، أو نوى أن يصوم غداً وهو يظنه

يوم الإثنين، وكان يوم الثلاثاء – إنه يصح. وإن كان المحكي عن القاضي أبي الطيب فيما إذا نوى صوم الغد من رمضان سنة اثنتين وتسعين، وكانت سنة إحدى وتسعين – أنه لا يصح. قال بعضهم: ولعل القاضي فرع في أمر السنة على أن تعيين السنة في النية شرط، كما تقدم. قال: ويصح النفل بنية مطلقة [كما تصح صلاة النفل بنية مطلقة]. واعلم أن كل ما يجب التعرض له في النية، فلابد من العلم به وإحضاره بالبال؛ ليتعلق القصد به، فإن أحضره بقلبه، ولم يعلم معناه، لم يجزئه؛ لاستحالة صحة القصد مع الجهل به، والمقصود معنى الألفاظ دون صورها. ولا يشترط في تعيين النية في رمضان أن تستند إلى تحقيق أن ذلك من رمضان. نعم، لابد أن تستند إلى علم أو ظن شهد له الشرع بالاعتبار، وهو الناشئ عن استصحاب الحال في آخر يوم من رمضان إذا وقع الشك فيه أو إخبار عدل بالرؤية في ليلة الثلاثين من شعبان، وكذا إخبار المرأة والعبد إذا [وثق بهما] [كما] صرح به القاضي أبو الطيب وغيره، وحكاه البندنيجي عن الشيخ أبي حامد، ولم يحك سواه. ولو كان قد غلب على ظنه دخول الشهر بحساب النجوم أو منازل القمر، أو أخبره [بذلك] من يثق به منهم – فقد تقدم الكلام فيه. والظن الناشئ عن الاجتهاد في حق الأسير ومن في معناه كاف فيما نحن فيه، كما تقدم. ولو وجد التعيين مع انتفاء العلم والظن الناشئ عما ذكرناه، كما إذا نوى ليلة الشك أنه صائم غداً من رمضان – فقد حكى الإمام عن رواية صاحب "التقريب" وجهين في المسألة، والشهور: عدم الصحة؛ لأن الجزم غير ممكن، فإن صور

مصور جزماً فذاك إجراء حديث تعيين، وليست النية حديثاً، وإنما هي قصد واقع، ولا يتصور مجرده مع التردد في المقصود. ومن طريق الأولى إذا نوى صومه من رمضان – إن كان من رمضان – وتطوعاً إن كان من شعبان، بان أنه من رمضان؛ لأجل التعليق. وحكى الفوراني عن المزني: أنه يجزئه، وليس بشيء. وقد حكى الإمام مثله عن طوائف من الأصحاب فيما إذا ردد النية هكذا؛ وكان قد ثبت عنده أصل يثبت غلبة الظن: كشهادة عدل، أو وصية ذوي رشد، وقال: إنه لعمري موافق لمذهب المزني، فظاهر المذهب: أنه لا يصح صومه عن رمضان، ولو بان منه. نعم، [لو بان أنه] من شعبان، وقع نفلاً. قال في التتمة: لأن نية النفل اعتضدت بأصل، وهو بقاء شعبان؛ فصار كما لو كان له مال غائب، فقال: هذا زكاة مالي الغائب إن كان سالماً، وإن لم يكن سالماً فنافلة، فبان سالماً – يجزئه. وعلى هذه المسألة قاس البندنيجي ما إذا نوى [ليلة] آخر يوم من رمضان: أنه صائم غداً من رمضان إن كان منه، وإلا أفطر؛ فبان من رمضان: أنه يصح له. قلت: ويتجه فيما إذا نوى ليلة الشك الصوم عن رمضان، فبان أنه من شعبان: أنه هل ينعقد نفلاً أم لا – [الخلاف فيما إذا نوى صوم الفرض بالنهار؛ فإنه لا يصح رضاً، وهل يصح نفلاً أم لا؟] كما هو فيما إذا تحرم بالظهر قبل الزوال. فروع: أحدها: إذا نوى صوم الغد من رمضان – إن شاء الله –فهل تصح نيته؟ قال في "الحاوي": الصحيح: أنه لا صوم له.

وفيه وجه آخر: أن صومه جائز؛ لعلتين مدخولتين: أحداهما: أن قوله: "إن شاء الله" قول باللسان، والنية اعتقاد بالقلب، والأقوال لا تؤثر في الاعتقاد. والثاني: [أن الله شاء] صومه. والمذكور في "تعليق" القاضي الحسين و"التهذيب": أنه إن قصد بذلك الشك في فعله، لم تصح، [وإن قصد] الإعانة من الله – تعالى- صحت، وإن أطلق لم تصح، وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة أوجه، وقد حكاها في "البيان"، ونسب الثالث إلى ابن الصباغ. الثاني: إذا نوت الحائض قبل أن تطهر صوم الغد، فانقطع دمها قبل الفجر، [فهل] تجزئها تلك النية؟ نظر: إن لم تكن لها عادة بانقطاع دمها في ذلك الوقت، لم تكفها، وإن كانت عادتها ذلك، فوجهان [في] تعليق القاضي الحسين وغيره، وهذا فيما إذا نوت قبل انتهاء أكثر الحيض، فإن نوت وكان انتهاء مدة الحيض قبل الفجر، أجزأها ذلك. الثالث: لو قال: أتسحر؛ لأقوى على الصوم، قال أبو المكارم في "العدة": لم يكف. قال الرافعي: ونقل بعضهم عن نوادر الأحكام لأبي العباس الروياني: أنه لو

تسحر للصوم، أو شرب لدفع العطش نهاراً، أو امتنع من الأكل والشرب والنكاح؛ مخافة الفجر – كان ذلك نية للصوم. قال: وهذا هو الحق إن خطر بباله الصوم بالصفات التي شرط التعرض لها؛ لأنه إذا تسحر ليصوم كذا، فقد قصده. قال: ومن مرض، فخاف الضرر –أي: إن صام- جاز له أن يفطر، وعليه القضاء – أي: إذا برئ، وتمكن منه – لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] تقديرها: فأفطر فعدة من أيام أخر، ومثل هذا الإضمار ملحق [بلحن] القول، وهو ما يفهم من سياق القول، وإن لم يصرح به؛ قال الله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]، وأعاد الله – تعالى- هذه الآية وإن كان قد ذكرها من قبل بلفظ الفاء؛ ليعلم أن هذا الحكم ثابت بعد النسخ، فإن هذه الآية نسخت ما قبلها كما تقدم. ولا فرق في جواز الفطر لأجل المرض بين أن يكون قد طرأ قبل الفجر أو بعده، بخلاف ما سنذكره في السفر. نعم، إن كانت عادة المرض أن يأتيه في وقت دون وقت، فإن كان وقت الشروع فيه، فله ترك النية، وإلا فعليه أن ينوي من الليل، ثم إن عاد واحتاج إلى الإفطار، أفطر، ولا يجب عليه مع القضاء فدية إن كان فطره بغير الجماع، سواء قصد بفطره الترخص وقد نوى من الليل الصوم، أو لم يقصده. وفي تعليق القاضي الحسين وغيره: أنه إن نوى بفطره الترخص فلا فدية عليه، وإن لم ينو الترخص [فيه وجهان] ينبنيان على أن الصحيح إذا أفطر متعمداً، هل تلزمه الفدية؟ وفيه وجهان: إن قلنا هناك: لا تلزمه، فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا تلزمهن فهاهنا وجهان. والفرق: أنه هاهنا معذور، بخلاف ثم. وأما إذا كان فطره بالجماع، وقد نوى الصوم من الليل، فيظهر أن يكون الحكم فيه

كالمسافر، وسنذكره، كما أن المسافر إذا نوى الصوم، وأكل حيث يجوز له لو قصد الترخص أو لم يقصده – ينبغي أن يكون حكمه في الفدية كما حكيناه عن القاضي في حق المريض أيضاً؛ لاستوائهما في العذر. والمراد بخوف الضرر هاهنا –كما قال في "المهذب" -: خوف الزيادة فيه عند الصوم، ورجاء زواله عند فقده. وغيره اكتفى برجاء خفة المرض عند الفطر أو وقوفه. وعبارته في "التهذيب": أنه إذا كان يجهده الصوم، ويلحقه بسببه ضرر يشق عليه احتماله – جاز له الفطر. ويجهده: يقال بفتح الياء والهاء، وبضم الياء وكسر الهاء، والأول أفصح. وفي "النهاية" في باب التيمم أو جماع التيمم: أن الأصحاب قالوا: المرض الذي يجوز فيه الفطر هو الضرر الظاهر، وعندي أنه كل مرض يقع منه التضرر مع الصوم، وهو المعني بالضرر الظاهر الذي ذكره الأصحاب، فإنه جاز الإفطار لأجل السفر؛ حتى لا يتعذر على طوائف يكثرون التقلب في أسفارهم. وعن "البسيط": أن بعض الأصحاب قال: إنه يكفي فيه ما يسمى: مرضاً، واستوهنه، واختار: أنه إذا كان الضرر ظاهراً، أو كان يزداد بالصوم ولو أفطر لوقف أو خف، ومن عطش فخاف الهلاك إن لم يشرب – قال في "التتمة": يباح له الفطر كالمريض. وهذا ما يشعر كلام البندنيجي أن الشافعي قاله؛ لأنه قال: [إن] الشافعي [قال] في "حرملة" و"البويطي": "لا فدية على الشيخ الهم أصلاً، كمن أجهده العطش فأفطر؛ فإنه لا كفارة عليه". أما إذا أفطر واتصل مرضه بالموت، لم يجب عليه

شيء، صرح به الأصحاب. قال: ومن سافر قبل الفجر سفراً يقصر فيه الصلاة، جاز له أن يفطر، أي: إما بترك النية من الليل، أو بتعاطيه ما سنذكره من المفطرات في النهار بعد نيته من الليل، واستمر السر؛ للآية، ولقوله – عليه السلام -: "إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة"، وأراد: إذا اختار الفطر والقصر، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفطر في السفر، وصام فيه، وكذلك الصحابة. وروى البخاري ومسلم عن أنس قال: "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فصام بعضنا، وأفطر بعضنا، ولم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم". وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري نحوه. قال في "المهذب": ويحتمل عندي أنه لو أراد أن يفطر في اليوم الذي شرع في صومه، وهو بعد في السفر – لم يكن له ذلك؛ لأنه دخل [في] فرض المقيم؛ فلا يجوز له أن

يترخص برخصة المسافر؛ كما لو دخل في الصلاة بنية الإتمام، ثم أراد أن يقصر. وقد أبدى الإمام هذا الاحتمال – أيضاً – لنفسه، وحكاه القاضي الحسين في [باب] صوم التطوع وجهاً للأصحاب. وقال الإمام: إنه لا ينفعه إلحاق السفر بالمرض؛ فإن المريض إذا أصبح صائماً، ثم عنَّ له الفطر، جاز؛ لأنا لو جرينا على هذا التشبيه، للزم أن يقال: من أصبح صائماً مقيماً، ثم سافر، يجوز له أن يفطر؛ كما لو كان صحيحاً في أول النهار ثم مرض، وهذا لا يجوز. قلت: الدافع له رواية جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان حتى بلغ كراع الغميم فصام وصام الناس معه، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فشرب والناس ينظرون. كذا أورده في التتمة، وقال: إن مسلماً رواه في صحيحه. والفرق بين ما نحن فيه على المذهب وبين الإتمام إذا قدم من السفر: ما قاله الماوردي: إن الفطر يضمن بالقضاء وعذر الإفطار قائم بدوام السفر، وليس كذلك القصر؛ لأنه لا يضمن بالقضاء، وقد ضمنه بالإتمام عن نفسه؛ ولهذا المعنى فصل بينهما. والقاضي الحسين فرق بأنه مخاطب مأمور بأصل الصلاة في سفره، إلا أنه رخص له في القصر، فإذا شرع فيه فقد أعرض عن الرخصة؛ فلزمه الإتمام، ولا كذلك الصوم، فإنه يباح له أن يخلي الوقت عن الصوم أصلاً؛ فجاز أن يخرج عنه بعد الشروع فيه؛ وعلى هذا هل [يكره له] الفطر؟ روى عن القاضي الحسين حكاية وجهين فيه.

فرع: حكاه الإمام في صالة المسافر عن العراقيين -: إذا أفطر المقيم في يوم من رمضان بعذر، ثم سافر، وشرع في القضاء، ثم عَّن له في أثنائه أن يفطر مترخصاً – فله ذلك؛ كما يفطر في أداء رمضان مسافراً. ولو كان أفطر مقيماً عاصياً من غير عذر، ثم سافر وشرع في القضاء، ثم أراد أن يترخص بالإفطار – فهل له ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: [لا]؛ لأنه كان عاصياً بالإفطار أولاً، وكان يجب عليه القضاء على الفور، فإذا شرع فيه لم يجز له قطعه. والثاني: له ذلك؛ فإن المعصية قد انقضت، وهو الآن غير عاص بسفره، وهو مرخص للفطر. قال: والأفضل أن يصوم – أي: إذا قدر عليه من غير هجد – لعموم قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، ولرواية أبي داود عن سنان بن سلمة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كانت له حمولة، ويأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه". ولأن الأداء أفضل من القضاء. ولأن الأصل وجوب الصوم، والفطر رخصة؛ فكان الإتيان بالأصل أفضل، دليله غسل الرجلين مع القدرة [على مسح] الخفين؛ فإنه أفضل.

والفرق بين ما نحن فيه والقصر حيث قلنا: إنه أفضل على أصح القولين: أن ذمته تبرأ بالقصر من غير ضرر يلحقه في نفس ولا مال، والفطر يوجب القضاء؛ فتبقى الذمة مشغولة. والمسح ينقص مالية الخف، وذلك ضرر. أما إذا كان يجهده الصوم ويدخل [عليه] به الضرر، قال القاضي الحسين: فالفطر له أفضل بلا إشكال، كما في حق المريض، ويدل عليه رواية مسلم عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى رجلاً قد اجتمع الناس عليه، وقد ظلل عليه، فقال: "ما له؟ "قالوا: رجل صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس [من] البر أن تصوموا في السفر إذا كنتم لا تطيقونه كهذا". وألحق الأصحاب بذلك من يطيق الصوم، لكن سفره للغزو أو سفر حج، وكان يخاف أن لو صام لضعفت قوته، قاله المتولي. وفي مسلم ما يدل على ذلك في حالة الغزو. قال: فإن أفطر، لزمه القضاء – أي: إذا تمكن منه بعد الإقامة – للآية، أما إذا اتصل سفره بالموت، فلا شيء عليه، وإنما خصصنا الفطر بالسفر الذي تقصر فيه الصلاة؛ لأنه إسقاط فرض يتعلق [بمسافة؛ فوجب أن يتقدر بأربعة برد أصله: قصر الصلاة. وقد روى البخاري] بإسناده عن ابن عباس وابن عمر: أنهما كانا يفطران ويقصران في أربعة برد، ولم ينكر عليهما [أحد]. واعلم أنه لا فرق في كون الصوم أفضل من الفطر بين أن يبلغ سفره ثلاثة أيام فأكثر أو لا يبلغ [ذلك]؛ لما ذكرناه، نعم، هو فيما بلغ الثلاث أفضل؛ لوجه آخر،

وهو الخروج من خلاف أبي حنيفة؛ فإنه لا يجز الفطر فيه كالقصر، وبهذا ينتفي وهم من قد يتوهم أن كلام الشيخ يعود إلى هذه الصورة؛ لأنه أناط الجواز والأفضلية في الصوم بالسفر الذي تقصر فيه الصلاة، وهو أربعة برد كما تقدم. وقد احترز الشيخ بقوله: "قبل الفجر" عما إذا سافر بعد الفجر، وقد نوى الصوم [في الليل فنه يلزمه إتمام الصوم] كما لو تحرم بالصلاة في الحضر، ثم سافر. وعن المزني: أنه بالخيار: إن شاء أتم، وإن شاء أفطر؛ لفطره – عليه السلام – حيث بلغ كراع الغميم وقد خرج إلى مكة، كما تقدم. وفي "التتمة" نسبة هذا القول إلى أبي إسحاق المروزي، وهو اختيار ابن المنذر؛ كما قاله ابن التلمساني، وزعم الموفق بن طاهر: أنه قاله ابن خيران؛ ولأجل ذلك حكى الحناطي طريقاً: أن المسألة على وجهين، والمذهب الأول. قال البندنيجي: وقد حكى عن المزني: أنه رجع عن هذا وخط عليه في "المنثور"، وقال: "يلزمه الإتمام"؛ لأنه كان يظن أن صومه – عليه السلام – وفطره كان في يوم واحد، وليس كذلك؛ فإن بين المدينة وكراع الغميم مراحل، هي ثمانية أيام، كما قال الإمام. وفي "الرافعي": [أنه إنما رجع عن الاستدلال بالحديث، لا عن مذهبه. ويقر منه قول الإمام]: إنه يأتي في بعض النسخ استدلاله بالحديث مخطوطاً عليه. قال: وإذا خافت الحامل والمرضع على أنفسهما، أي: ضرراً بينًّا من الصوم، مثل: الضرر الذي ينشأ للمريض من الصوم – كما قال البندنيجي – أفطرتا، وعليهما القضاء بالقياس على المريض، ولا يجب عليهما الفدية، وهو مما لا يختلف المذهب فيه، كما قال أبو الطيب. ولا فرق بين أن يتضرر الولد معهما أو لا، كما قاله القاضي الحسين. قال: وإن خافتا على ولديهما – أي: مثل أن خافت الحامل أن يسقط الحمل، أو المرضع أن يقل اللبن، فيهلك الولد أيضاً أفطرتا، لقوله – عليه السلام -: "إن الله

وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، ون الحبلى والمرضع الصوم" أخرجه النسائي. قال: وعليهما القضاء؛ لأنه إذا وجب عند الفطر للخوف على النفس، فعند عدمه أولى، وهذا مما لا خلاف فيه. قال: وفي الفدية ثلاثة أقوال: أحدها: [أنه يجب] عليهما عن كل يوم مد من طعام؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] فأوجب الفدية على [كل] من أطاق الصيام، فأفطر. وقد روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: "الحامل والمرضع إذا أفطرتا، يجب عليهما الفدية، عن كل يوم مد لمسكين" ولا مخالف لهما. ولأنه فطر بسبب نفس عاجزة عن الصوم في أصل الخلقة، فأوجب الفدية؛ كالشيخ الهم. ولأنها مقيمة صحيحة باشرت الفطر لعذر معتاد، فوجبت عليها الفدية كالشيخ الهم، وهذا ما نص عليه في عامة كتبه من "المختصر" و"الأم" والقديم؛ قاله أبو الطيب. والثاني: أنها مستحبة، أما كونها لا تجب؛ فلقوله – عليه السلام -:"إن الله وضع عن المسافر الصوم ... " الخبر، فسوى بين المسافر وبينهما في وضع الصوم، والمسافر لا تجب عليه الفدية مع القضاء، فكذا هما. ولأنهما أفطرتا بعذر، فوجب القضاء؛ فلم تجب به الفدية، أصله: فطر المريض والمسافر، والمراد قياس الحامل على المريض؛ لأن الضرر الذي يصيب الولد يتعدى

إليها وقياس المرضع على المسافر؛ لأنهما يفطران كي لا يمنعهما الصوم عما هما بصدده، وهو السفر والإرضاع. قال الرافعي: وقد يشبهان معاً بالمريض والمسافر؛ من حيث إن الإفطار سائغ لهما، والقضاء يكفي تداركاً. وقولنا: يوجب القضاء، احتراز من فطر الشيخ والشيخة الهمَّين؛ فإنه لا يجب القضاء ويجب عليهما الفدية. وأما استحبابها فللخروج من الخلاف، وهذا ما حكاه أبو علي الطبري في الإفصاح، كما قال أبو الطيب وغيره. وفي تعليق القاضي الحسين: أن بعضهم حكاه عن رواية حرملة، وكذلك قاله الرافعي، واختاره المزني وابن المنذر، كما قال ابن الصباغ والروياني في "الحلية". والثالث: أنها تجب على المرضع دون الحامل؛ لأن المرضع أفطرت لمعنى منفصل عنها؛ [ففارقت المريض والمسافر، والحامل أفطرت لمعنى متصل بها]؛ لأن الولد إذا تضرر لحقها ضرره، فأشبهت المريض، وهذا ما نص عليه في "مختصر" البويطي، قال القاضي الحسين: وهو اختيار المزني. وعن الشيخ أبي حامد حكاية طريقة قاطعة بوجوبها على المرضع، وتذكر حكاية قولين في وجوبها على الحامل، وهي التي أوردها البندنيجي لا غير، وادعى

القاضي الحسين أنها المذهب؛ ولأجل ذلك قال الإمام: الأصح القطع بإيجاب الدية عليها مع القضاء. والأصح - وإن ثبت الخلاف - القول الأول؛ لما ذكرناه. فإن قيل: الآية التي استدللتم بها منسوخة؛ لأن الإنسان كان مخيراً في صدر الإسلام بين الصوم والفطر وإخراج الفدية، ثم نسخ ذلك بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، فإن قلتم: إن النسخ عام في كل واحد، فلا يصح لكم الاحتجاج بها، وإن قلتم [هو عام] إلا في حق المرضع والحامل، بطل قولكم بقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] لأن الفطر خير [للحامل والمرضع] بالإجماع. وأيضاً: فينبغي أن توجبوا عليهما الفدية دون القضاء؛ لأن هذا هو الحكم في صدر الإسلام، وقد قلتم به في حق الشيخ الهم لما ادعيتم أنها غير منسوخة في حقه. وكذلك ابن عباس لما قال: إن الآية كانت رخصة للشيخ الهم والعجوز، وهما يطيقان الصيام: أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا قال أبو داود: يعني: على أولادهما، قال: تجب الفدية دون القضاء. وهو المحكي عن ابن عمر [أيضاً، ومن] هنا ظهر أنه [لا] حجة في قولهما أيضاً؛ لأنكم توجبون القضاء مع الفدية. فالجواب: أنا لا نسلم أن الآية منسوخة كما قال بعضهم، وإن سلمناه كما هو الصحيح، قلنا: هي منسوخة، إلا في حق الشيخ الهم، والحامل والمرضع للإجماع على جواز الفطر لهما مع القدرة وقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] لا يبطل ذلك؛ لأنه خاص بالشيخ الهم، [دون] [المرضع

والحامل] وإن كان صدر الآية عاما في حق الكل، وقد جاء مثل ذلك في مواضع من الكتاب العزيز، قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فهو عام في حق الرجعية وغيرها، ثم قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] وهو في الرجعية خاصة. وقال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] عام في [الكبيرة والصغيرة]، ثم قال: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وهو في الصغيرة خاصة. وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94] وهذا عام في المسلمين والمشركين، ثم قال: {لقد تقطع بينكم} الآية [الأنعام: 94]، وهي خاصة بالمشركين. ولا نسلم أن القضاء لم يكن واجباً في صدر الإسلام، بل كان يجب [مع] الفدية؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 148]؛ فإن تقدير الآية: وعلى الذين يطيقونه عدة من أيام أخر وفدية، والعرب تعطف الشيء على الشيء، وتحذف الواو، فتقول: أكلت خبزاً سمناً، وتريد: خبزاً وسمناً. وكون ابن عباس وابن عمر قالا: لا يجب القضاء، لا يمنع ذلك من الاحتجاج بقولهما على الخصم، في إيجاب الفدية؛ لأنهما حكمان. والفرق بينهما وبين المريض والمسافر والشيخ الهم ومن في معناه حيث لا يجب عليهم إلا أمر واحد، وهو القضاء أو الفدية: أن فطر كل منهم لم ترتفق به إلا نفس واحدة، وفطر الحامل والمرضع ارتفق به نفسان، فلذلك وجب به أمران: القضاء، والفدية. وعلى هذا فروع: أحدها: لو كانت الحامل والمرضع في سفر أو مرض، فأفطرتا، هل يجب عليهما الفدية؟ نظر:

إن أفطرتا بسبب السفر أو المرض فلا، وإن أفطرتا لأجل الولد فنعم. وإن لم يكن لهما نية، ففي الفدية وجهان؛ بناء على الخلاف المحكي في طريق المراوزة في المسافر بصلاة على قصد الرخصة، هل يجب عليه الكفارة أم لا؟ كما سنذكره: إن ألزمناه ثم فهاهنا كذلك، وألا فلا. وقد وافق القاضي الحسين على هذا البناء في حق المرضع المريضة، وقال في المسافرة: إن ألزمنا المجامع في السفر الكفارة، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان. والفرق: أن المرضع يجوز أن يلزمها الفدية، وإن كان يباح لها الإفطار وهي إذا كانت في الحضر، كذلك هاهنا. وقيل: لا تجب الفدية هاهنا بحال، لوجود السفر والمرض، ولايختلف الحال بالقصد وعدمه. الثاني: لو أشرف شخص على الغرق واضطر من ينقذه إلى الإفطار، فأفطر - وجب عليه مع القضاء الفدية، وكذا إذا دفع عن الشخص من يقتله، واضطر الدافع إلى الفطر، فأفطر. قال القاضي الحسين: وكذلك كل فطر مأذون فيه لأجل غيره، يجب فيه الفدية مع القضاء. وحكى الفوراني والبغوي وجهاً في مسألة الغريق: أنها لا تجب مع جزمهما بالوجوب على المرضع. وفرق البغوي بينهما بأن فطر المرضعة لأجل نفس عاجزة عن الصوم؛ فأشبه صوم

الشيخ الهم، وفطر المنقذ للغريق صادر من غير عاجز عن الصوم؛ وبهذا يظهر لك إجراء الوجه في باقي الصور. وقد جعل الشيخ أبو محمد الوجهين في إيجاب الفدية في مسألة الغريق مبنيين على الخلاف في إيجابها على المرضع إن أوجبناها عليها وجبت هنا وألا فلا. الثالث: إذا كان للمرضع ولدان، وأفطرت بسببهما فهل تتعدد الفدية؟ فيه وجهان في "التتمة" وغيرها، أصحهما في "الرافعي"، وهو المذكور في "التهذيب" -: عدم التعدد. الرابع: لو أرادت الحامل والمرضع بعد الشروع في الصوم أن تخرجا الفدية قبل الإفطار هل يجوز؟ فيه وجهان، [أظهرهما -كما قال الرافعي في كتاب الأيمان-: الجواز]، وهوا لذي أورده في "الروضة" هناهنا؛ وعلى هذا ففي جواز تعجيل الفدية لسائر الأيام وجهان؛ بناء على الخلاف في تعجيل زكاة عامين، والله أعلم. تنبيه: فرض الشيخ الكلام في المرضع لولدها، قد يفهم اختصاص الحكم بذلك، لكن في "التتمة": أن المرضع لولد غيرها بالأجرة وغير أجرة إذا خافت عليه، يجوز لها الفطر، وتقضي، وتفتدي؛ كالسفر لما جوز الفطر، استوى فيه سفره لحاجة نفسه وحاجة غيره. وفي "فتاوى" الغزالي: أنها إذا أجرت نفسها للإرضاع في رمضان، وكان الصوم ينقص لبنها، فلا يجوز لها الفطر بعذر الإجارة وإن جاز للأم؛ لأنها في حكم المتعينة طبعاً لإرضاع الولد، ولا خيار للمستأجر؛ لأن تأثير الصوم في نقص اللبن ظاهر، إلا إن تعذر فيمن يخفى عليه ذلك، فلا يبعد الخيار، كالأمة إذا عتقت تحت عبد فسكتت؛ جهلاً بالخيار.

قال في "الروضة": والصحيح قول صاحب "التتمة"، وبه قطع القاضي الحسين في "فتاويه"، فقال: يحل لها الإفطار، بل يجب إن أضر الصوم بالرضيع، وفدية الفطر على من تجب؟ قال: يحتمل وجهين؛ بناء على ما لو استأجر المتمتع، فعلى من يجب دمه؟ فيه وجهان. ولو كان هناك مرضع، فأرادت أن ترضع صبياً؛ تقرباً لله تعالى، جاز الفطر لها. قال: وإذا حاضت الصائمة أو نفست، بطل صومها؛ لأن الحيض مناف للصوم إذا قارن ابتداءه بإجماع الصحابة، فإذا طرأ عليه أبطله؛ كالردة، والنفاس دم حيض مجتمع. قال: وعليها القضاء؛ لأنها مخاطبة بالقضاء إذا لم تشرع في الصوم إجماعاً؛ للخبر مع عدم قدرتها عليه بجملته، فلأن يجب، وقد فسد بعد صحته من طريق الأولى. وقد قدم الشيخ الكلام في تحريم الصوم على الحائض والنفساء في باب الحيض. [قال الماوردي: ولم يخالف أحد في ذلك إلا طائفة من الحرورية؛ بزعم أن الفطر لها رخصة، فإذا صامت أجزأها. ولو خرج الولد، لوم تر نفاساً، فهل يبطل صومها؟] قال الماوردي في باب النفاس: فيه وجهان مبنيان على وجوب الغسل: إن أوجباه بطل، وألا فلا. وفيه نظر؛ لأن من أوجب الغسل وجه بأن الولد مني منعقد، وقد خرج منها؛ فأوجب الغسل، وخروج المني في الصوم من غير سبب يقتضي خروجه في حال الصوم من قبلة أو مباشرة لا يبطله؛ ألا ترى: أنه لو نظر، فأنزل، لم يبطل صومه، ولو جامع معتقداً بقاء الليل فنزع مع الفجر، وأنزل بعده، لا يفطر وإن كان خروج المني على هيئته؟! فما شأنك بخروج الولد. قال: وإن جن، بطل صومه؛ لأن الجنون معنى ينافي الصوم في الابتداء فنافاه في الدوام؛ كالحيض. قال: ولا قضاء عليه؛ لأنه في أول النهار مشتغل بالعبادة، وفي باقيه قد سقط عنه التكليف؛ لنقصه؛ فلم يجب عليه القضاء كالصغير، وهذا هوا لجديد كما قال ابن الصباغ، وحكاه القاضي أبو الطيب عن القاضي أبي حامد في "الجامع".

وقال في القديم كما قال أبو حامد وكذا [في] "البويطي" كما قال البندنيجي: إذا جن في أثناء النهار، كان كما لو أغمي عليه؛ فيتخرج على الأقوال. وهذا ما اقتضى كلام البندنيجي ترجيحه؛ حيث قال: والمذهب أنه لا فرق بين الإغماء والجنون إلا في فصل، وهو أن الجنون إذا استدام الشهر كله يسقط القضاء، ولو كان مكانه إغماء لا يسقط القضاء. والمذهب في "التهذيب" ماذكره الشيخ، ولم يورد الماوردي غيره، وهو مفرع إلى المذهب في أنه إذا لم يفق إلا بعد مضي رمضان أو بعضه، لا يجب قضاؤه كما تقدم. فرع: لو طرأ الجنون بعد ردة أو سكر، هل يسقط القضاء؟ فيه وجهان عن رواية الحناطي قال الرافعي: ولعل الأظهر الفرق بين اتصاله بالردة واتصاله بالسكر؛ كما في الصلاة. [فرع] آخر: الموت هل يلحق بالجنون في إبطال الصوم؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي أبي الطيب في كتاب الجنائز، وأن القائل بعدم الإبطال تمسك بما روي أنه – عليه السلام – قال لعثمان: "أنت تفطر عندنا الليلة". قال: وإن أغمى عليه جميع النهار –أي: وكان قد نوى الصوم من الليل – لم يصح صومه؛ لأن الصوم نية وترك، ولو انفرد الترك عن النية، لم يصح؛ فكذلك إذا انفردت النية عن الترك. قال: وعليه القضاء؛ لأن الإغماء مرض؛ ولذلك يجوز طروءه على الأنبياء، وإذا كان كذلك اندرج تحت قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]. وقيل: لا قضاء عليه؛ كالمجنون؛ حكاه البغوي عن ابن سريج؛ وهذا يظهر أن يكون قاله تخريجاً على المذهب في أن المجنون لا قضاء عليه، وإلا فمذهب ابن

سريج: أن المجنون يجب عليه القضاء –كما تقدم – فكيف بالمغمي عليه؟! وقيل: يصح صومه؛ كما لو نام جميع النهار وقد نوى من الليل؛ وهذا قول المزني، وقد جعله المراوزة قولاً مخرجاً في المسألة. وقال القاضي الحسين تفريعاً عليه: إن الشخص لو جن بعد النية من الليل جميع النهار، صح صومه، وإن من أصحابنا من قال: هو في المجنون بعيد، ولا يبعد في الإغماء، لأن الجنون يزيل الخطاب كله. والمذهب: ما ذكره الشيخ، وقد قال أبو العباس والإصطخري وأبو الطيب بن سلمة بمثله في النائم جميع النهار، وهو مأخوذ من قوله في "المختصر": فإن أفاق في بعض النهار، فهو صائم – يعني: المغمي عليه – ثم قال: وكذلك إن أصبح راقداً ثم استيقظ: فأشعر كلامه باشتراط الاستيقاظ في بعض النهار. لكن المذهب أنه لا يبطل، والفرق بينه وبين الإغماء: أن النوم جبلة وعادة، والنائم ثابت العقل؛ فنه إذا نبه انتبه، وله حكم المستيقظ؛ فإنه لا تسقط ولايته على ماله؛ بخلاف المغمى عليه. ولأن النوم لا يزيل الخطاب بشيء من العبادات، بخلاف الإغماء؛ فإنه يزيل الخطاب بالصلاة؛ فأشبه الحيض. وإذا عرفت أن من أغمي عليه جميع النهار وقد نوى من الليل، [يجب عليه القضاء] – عرفت أن وجوبه عليه إذا لم ينو أولي؛ وهو مصرح به كذلك. وقد قيل: إنه لا يلزمه أيضاً كالمجنون. قال: وإن أغمي عليه في بعض النهار – أي: وكان قد نوى من الليل – ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: يبطل صومه؛ [لأنه لو دام جميع النهار، أبطل صومه]، فإذا طرأ في بعضه، أبطله؛ كالجنون. [ولأنه معنى إذا طرأ أسقط فرض الصلاة، فأبطل الصوم كالحيض]؛ وهذا ما نص عليه في "اختلاف العراقيين"، و"اختلاف الحديث"، ولفظه في "اختلاف

العراقيين": "وإن أغمي عليها وهي صائمة، أو حاضت، بطل صومها"، ولفظه في "اختلاف الحديث": "لو أصاب الرجل امرأته في شهر رمضان، ثم أغمي عليه، أو حاضت [المرأة] – فقد قيل: لا كفارة عليه، وقيل: عليه الكفارة"، وقد اختاره في "المرشد". والثاني: لا يبطل. قال بعضهم: لأنه وجد منه النية وإمساك، مع العقل في بعض النهار؛ فأشبه ما لو كان في أول النهار. قلت: وهذا يقتضي تعليل الشيخ بنفسه؛ لأن من جملة ما اشتمل عليه هذا القول إذا كان قد أغمي عليه وقد أصبح مفيقاً؛ ولأجل ذلك قال في "المهذب": إن هذا القول لا أعرف له وجهاً. ووجه القاضي الحسين بأن الصوم لابد فيه من وجود القصد، فإذا لم يفق في شيء من النهار لا يكون قاصداً إليه، وإذا أفاق جزءاً من النهار، فقد قصد، ثم استدامة القصد ليست بشرط؛ كما لو نام في النهار، أو عزبت نيته، لا يضره ذلك. وادعى في الخلاصة أن هذا القول أعدل الأقوال، وهو الذي صححه الرافعي، ونص عليه الشافعي في كتاب الصيام من "المختصر"؛ حيث قال: إذا نوى من الليل، وأصبح مغمى عليه، واتصل أكثر من يوم – فاليوم الذي بعد الأول لا يصح؛ لأنه ما نواه من ليلته، وأما الأول: فإن لم يفق [في بعضه] لم يصح صومه، وإن أفاق في بعضه، صح صومه، ولا فرق عليه بين أن يكون زمن الإفاقة كثيراً أو يسيراً. والثالث: إن كان مفيقاً في أول النهار لم يبطل، أي: وإن كان مغمى عليه بطل لأنه وقت الشروع في العبادة؛ فكان ما بعده تابعاً له، وهذا ما نص عليه في كتاب الظهار من "البويطي"، ولفظه: إن كان مفيقاً عند طلوع الفجر صح صومه.

وصححه القاضي أبو الطيب والغزال في "الوجيز". قال الرافعي: والجمهور على تصحيح الذي قبله. وقيل: إن كان مفيقاً في طرفيه، لم يبطل. هذا قول ابن سريج خرجه من اعتبار النية في طرفي الصلاة على القول الصحيح؛ وبه يحصل في المسألة أربعة أقاول: ثلاثة منصوصة، وواحد مخرج؛ وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي؛ كما قال في "الحاوي"، وقال: إنها إحدى المسائل التي غلط فيها على الشافعي؛ لأنه جعل ما قاله ابن سريج قولاً رابعاً، وليس للشافعي ما يدل عليه، ووراءها طرق: إحداها – وهي التي نسبها القاضي الحسين إلى أبي إسحاق المروزي، وذكرها الماوردي، ولم يعزها إلى أحد -: أن المسألة على قولين لا غير: ما نص عليه في أراد بالإغماء الجنون. والثانية: القطع بأن المسألة على قول واحد، وهو الثالث: حكاها ابن الصباغ وغيره، واختارها أبو العباس بن سريج؛ كما قال الماوردي وأبو الطيب، وأنه أول نصه فيما عداه، فقال: أما قوله في كتاب الصيام: ["إذا أفاق في بعض النهار"، فإنه أطلقه، ثم قيده هنا؛ فيحمل المطلق على المقيد. وأما قوله في "اختلاف العراقيين"، ففيه تأويلان: أحدهما: أنه ذكر الحيض والإغماء، وأجاب عن الحيض. والثاني: أنه أراد بالإغماء هنا الجنون. والثالثة- حكاها الغزالي-: القطع بالقول الثاني وأن نص الإبطال محمول على الإغماء المستغرق. وقوله في كتاب الظهار: "إذا كان في أول النهار مفيقاً لم يبطل" جرى اتفاقاً من غير قصد، والمقصود التنصيص على لحظة ما، وهي المنسوبة في "تعليق" القاضي الحسين إلى القفال.

أما إذا لم يكن قد نوى من الليل، لزمه القضاء بلاخلاف. فرع: لو كان قد نوى من الليل، ثم شرب دواء؛ فزال عقله بالنهار – قال في "التهذيب": يترتب على الإغماء: فإن قلنا هناك: لا يصح، فهاهنا أولى، وألا فوجهان، والأصح: أن عليه القضاء. ولو شرب المسكر ليلاً، وبقي سكره في جميع النهار، فعليه القضاء، وإن بقي في بعضه، ثم صحا؛ فهو كالإغماء في بعض النهار؛ قاله في "التتمة". قال: وإن طهرت الحائض، أو أسلم الكافر، أو أفاق المجنون، أو قدم المسافر، وهو مفطر – استحب لهم مساك بقية النهار تشبها بالصائمين، وللخروج من خلاف أبي حنيفة؛ فإنه أوجب على المذكورين سوى المجنون الإمساك؛ كما حكاه القاضي أبو الطيب عنه، ولا يجب ذلك: أما في المسافر؛ فلقوله – عليه السلام -: "إذا قدم المسافر من سفره مفطراً، أكمل فطره" رواه الدارقطني. وأما في المجنون والحائض؛ فلأنهما أفطرا بعذر أبلغ من السفر؛ لأنهما لا يصح منهما الصوم؛ فكانا بعد الوجوب أولى. وأما في الكافر؛ فلأن الشرع ألحقه بالمذورين عند إسلامه؛ بدليل عدم إيجاب القضاء عليه؛ وهذا ما أورده الماوردي، وكذا القاضي أبو الطيب، وحكاه عن نصه [في"المختصر" في الحائض والمسافر، وفي "حرملة" في الكافر، وحكاه البندنيجي عن نصه] في "البويطي" في الكافر يسلم والمجنون يفيق والصبي يبلغ، مع حكاية وجه في وجوب الإمساك عليه، وقد تقدمت حكايته.

وسكت الشيخ عن الصبي؛ لاستغنائه بذكر المجنون؛ لأنه سوى بينهما في عدم إيجاب يوم الإفاقة [و] البلوغ على ظاهر المذهب، وقد حكى ابن يونس وجوب الإمساك على الحائض تطهر والمسافر يقدموه ومفطر، وادعى القاضي الحسين: أن أصحابنا لم يختلفوا في ذلك، وتبعه الإمام؛ لتحقق المبيح لهم، ولعله أراد المراوزة، وألا فقد حكى صاحب "المعتمد" في وجوب الإمساك على الحائض والنفساء وجهين، وجريانهما في المسافر من طريق الأولى. وسكوته عن المريض تعافى، يجوز أن يكون لاعتقاده أنه ملحق بالمسافر يقيم في أنه يستحب له الإمساك، كما ألحقه البغداديون به، ولم يحك البندنيجي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ غيره، ويؤيده ما سنذكره عن نصه في "البويطي" فيما إذا بدأ وهو صائم. ويجوز أن يكون لاعتقاده أنه يجب عليه الإمساك؛ كما صار إليه البصريون من أصحابنا، وحكاه القاضي الحسين أيضاً، وفرق بأن الفطر بالمرض ضرورة، فإذا ارتفع زالت الضرورة؛ فزالت به إباحة الأكل، والفطر بالسفر ليس بضرورة؛ فلا يتغير بالإقامة. قال الماوردي: والقول الأول أقيس؛ وهذا أشبه.

والحامل والمرضع إذا زال خوفهما، قال البندنيجي: [ليس] لأصحابنا فيهما نص، والذي يجيء أنهما كالمريضين. والحكم فيما إذا قدم المسافر من سفره نهاراً، ولم يكن قد أكل، ولا شرب، ولا نوى الصوم من الليل – كالحكم فيما لو قدم وكان قد أكل. وحكى القاضي الحسين والإمام وغيرهما من المراوزة وجهين في إباحة الأكل في هذه الصورة. ووجه المنع: أنه لم يتحقق [فطره] بالأكل. والصحيح: الجواز، وهما – كما قال الرافعي – مفرعان على المذهب الصحيح في أنه إذا قدم صائماً يلزمهم إتمام الصوم، والله أعلم. قال: وإن بلغ الصبي أو قدم المسافر وهما صائمان، فقد قيل: يلزمهما إتمام الصوم؛ لان سبب الرخصة زال قبل الترخص؛ فلم يجز الترخص بعده؛ كما لو قدم المسافر في أثناء الصلاة، وبل أولى؛ لأنه قد نوى القصر وه والمرخص فيه وهنا نوى الصوم [وهو] ضد الرخصة، وبالقياس على ما لو زال المرض وهو صائم، فإنه يلزمه [الإتمام] قولاً واحداً؛ كما قاله ابن الصباغ وغيره، وهذا ما جزم به ابن الصباغ والإمام تبعاً لأبي الطيب في حق الصبي في موضع، وحكاه عن أبي إسحاق في حق المسافر في آخر. فعلى هذا إذا أتم المسافر صومهن لا قضاء عليه، وإن أتمه الصبي فهل يجب عليه قضاؤه؟ قال ابن الصباغ والبندنيجي وغيرهما: إذا لم نوجب عليه القضاء وقد بلغ مفطراً، فهاهنا أولى، وإذا أوجبناه ثم، ففي وجوبه هاهنا وجهان: قال أبو إسحاق: لا قضاء. وقال غيره: [عليه] القضاء؛ لأنه لم ينو الفرض.

ومثل هذا الخلاف قد تقدم فيما إذا بلغ الصبي في أثناء الصلاة. والمذهب في حق المسافر – كما قال القاضي الحسين -: لزوم الإتمام لأن الشافعي قال: "إن قدم نهاراً مفطراً، أكل"، دل على أنه لو قدم صائماً لا يأكل، ولم يحك في "الوسيط" تبعاً للإمام غيره. وقد قيل: إنه لا يلزمهما إتمام الصوم وهو المنسوب في "الحاوي" في حق الصبي إلى ابن سريج، وأنه يجب عليه القضاء، وفي حق المسافر إلى ابن أبي هريرة؛ كما حكاه ابن الصباغ وغيره. وقال البندنيجي: إنه نص عليه في "البويطي"، وقال الماوردي: إنه نص عليه في "حرملة"؛ لأنه أبيح له الإفطار في أول النهار ظاهراً وباطناً فجاز له استدامة ذلك؛ كما لو أفطر. وهذا التعليل يقتضي عدم إلحاق الصبي به إن كان يقول: [إن الصبي إذا قدم وهو مفطر] يلزمه إمساك بقية النهار، [ويقتضي إلحاقه به إن كان يقول: لا يلزمه إمساك بقية النهار]. وقد ألحق به في "المهذب" المريض يبرأ وهو صائم، يجوز له الفطر، وحكاه البندنيجي عن نصه في "البويطي" أيضاً. قال الشيخ: وعندي: أنه يلزم المسافر دون الصبي؛ لأن المسافر شرع فيه وهو فرض عليه بنية الفرضية، وسبب الرخصة قد زال قبل الترخص فلم يكن له الترخص كما لو قدم المسافر في أثناء الصلاة؛ فإنه لا يقصر، والصبي شرع في

[فعل] بنية النفل؛ فلا يجزئه عن الفرض، وإذا لم يجزئه صار كما لو بلغ مفطراً، لا يلزمه الإمساك. وقد ادعى الماوردي أن مذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه: أنه يتم صومه واجباً، ولا إعادة عليه، ولا يمتنع أن يكون متنفلاً بالصيام في أوله مفترضاً في آخره؛ كالصائم المتطوع إذا نذر إتمام صومه إن قدم زيد، فإذا قدم زيد لزمه إتمامه وإن كان متطوعاً في ابتدائه. قال: ومن نوى الخروج من الصوم، أي: مثل: أن قال: أبطلت الصوم، أو قطعت النية – بطل صومه؛ لأن النية شرط في جميعه، فإذا قطعها في أثنائه، بقي الباقي بغير نية؛ فبطل، وإذا بطل البعض، بطل الكل. قال القاضي الحسين: وللشافعي ماي دل عليه في صوم المظاهر؛ فإنه قال: "إن صام فيها يوماً تطوعاً، أو غير النية إلى التطوع – فعليه أن ستأنف" وهذا ما أورده البندنيجي. وقيل: لا يبطل؛ لأنها عبادة تتعلق الكفارة بجنسها؛ فلم تبطل بنية الخروج؛ كالحج. وهذا ما ادعى الرافعي في كتاب الاعتكاف أنه أظهر، وحكاه ابن الصباغ عن القاضي أبي الطيب والشيخ أبي حامد، واقتصر على حكايته، [وقد رأيت في تعليق القاضي أبي الطيب [قبل باب الاعتكاف حكاية الوجهين، وفرق على الأول – وهو الذي صححه البغوي] وصاحب البحر في باب صوم التطوع وغيرهما – بينه وبين الحج بأن الحج لا يخرج منه بما يفسده، والصوم يخرج منه بما يفسده؛ فكان كالصلاة. وقد جعل الماوردي محل الوجهين ما إذا قصد الأكل والجماع، ولم يفعل، والمذكور منهما في تعليق القاضي الحسين - والصورة هذه – عدم البطلان. قال الماوردي: وإذا قلنا بالبطلان ففي زمان فطره وجهان: أحدهما: في الحال. والثاني: حتى يمضي عليه من الزمان قدر الأكل والجماع. وحكى الشيخ أبو حامد الوجهين فيما إذا شك هل [يخرج] من صومه أم لا؟ كما قال ابن الصباغ.

والمختار في "المرشد": الإبطال، وبه جزم الماوردي والقاضي الحسين؛ فإنه إذا نوى أن يفطر بعد ساعة، [لا يكون مفطراً، وكان على صومه؛ وهذا بخلاف الصلاة على أحد الوجهين إذا نوى أن يكون بعد ساعة] غير مصل. [و] قال في التهذيب: إذا نوى أن يخرج إذا قدم زيد، فهل يخرج إذا قدم؟ فيه وجهان كالصلاة. فرع: لو كان صائماً عن فرض غير رمضان، فنوى أن يقلبه نذراً، وقلنا: إن نية الخروج مبطلة – لم يحصل له النذر، وهل يبقى تطوعاً؟ فيه وجهان، قال في "التهذيب": وهما جاريان فيما لو رفض نية الفرضية فقط، ولو كان ذلك في صوم رمضان، لم ينقلب نفلاً؛ لأنه لا يقبله كما تقدم. قال: وإن أكل أو شرب، أي: ما يعتاد أكله وشربه أولاً، وصل إلى جوفه أو لا؛ كما إذا وصل إلى حلقه، ثم ذرعه القيء؛ كما قاله في "التهذيب"، وحكى عن ابن القاص، وأشار إليه الإمام بقوله: فإذا جاوز الشيء الحلقوم، أفطر. [أو] استعط، أي: وهو [أخذ] الدواء وغيره من أنفه، حتى يصل دماغه، أو احتقن، أي: وهو جعل الدواء ونحوه في الدبر، أو صب الماء في أذنه، فوصل إلى دماغه، أو طعن جوفه، أي: فنفذت الطعنة إليه، أو طعن بأذنه، أو داوى جرحه؛ فوصل الدواء إلى جوفه، أي: فنفذت الطعنة إليه، أو طعن بأذنه، أو داوى جرحه؛ فوصل الدواء إلى جوفه، أو استقاء، أي الطعام او الشراب وإن لم يصل إلى الأمعاء كما صرح به الإمام، وسواء في ذلك رجع من فيه إلى جوفه أو لا؛ بأن تحفظ عن ذلك، أو جامع؛ أي: في قبل أو دبر، ولو من بهيمة أنزل أو لم ينزل، أو باشر فيما دون الفرج، أي: بالمضاجعة والمعانقة، أو المفاخذة، أو التقبيل؛ فأنزل، أو استمنى فأنزل، ذاكراً للصوم، عالماً بالتحريم – بطل صومه: أما في الأكل والشرب والجماع؛ فلأن الله تعالى أباح ذلك إلى الفجر بقوله: {مِنْ

الْفَجْرِ} [البقرة:187] فعنى إباحة ذلك [إلى الفجر]؛ فالحكم بعد الغاية مخالف لما قبلها، وسنذكر من حديث أبي هريرة في الأكل والشرب ناسياً ما يدل على الفطر بهما إذا تعمدهما. وفي قصة الأعرابي ما يدل على فطره بالجماع. وأما في الاستعاط؛ فلما روى أبو داود عن لقيط بن صبرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً"،قال الترمذي: وهو حسن صحيح. وجه الدلالة منه: أنه نهى عن المبالغة فيه، فلولا أن الوصول [إلى أعلى] الدماغ ينافي الصوم، لما نهاه عن ذلك. وأما في الاستقاء فلما روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء وهو صائم، فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقض"، قال الترمذي وهو حسن غريب. واختلف الأصحاب في علة الفطر: فقيل: لكونه خروج خارج غير معتاد.

وقال ابن سريج لأنه يرجع شيء منه إلى الجوف؛ فيكون من قبيل دخول داخل. قال الإمام: فإن قيل: الغالب أنه لا يرجع شيء إذا استقاء المرء والرجوع نادر فكيف يعلل الفطر به؟ قلنا: ليس كذلك؛ فإنه يمتزج بالريق [بما يمتزج ثم لأن الماء يمتزج بالريق] عند المضمضة من غير مبالغة؛ فينبغي أن يكون مفطراً؛ لأن الريق بطبعه لا يمازج الماء؛ لغلظه ولزوجته، والذي يمج الماء من فيه لا يجد للماء أثراً، إلا البرد الذي برده؛ لطبيعة تمازج الريق للمجانسة في الغلظ واللزوجة. وأما في الإنزال عند المباشرة؛ فللإجماع؛ كما قال الماوردي. وغيره استدل لذلك بأن المجامعة تبطل الصوم وإن لم يحصل بها المقصود، وهو الإنزال، فلأن يبطله تحصيل المقصود منه أولى. وغيرهما استدل بما روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب: هششت فقبلت وأنا صائم، [فقلت]: يا رسولا لله، صنعت اليوم أمراً عظيماً، قبلت وأنا صائم، قال: "أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس [قال]: "فمه". فشبه القبلة بالمضمضة، وهو إذا تمضمض، فوصل الماء إلى

جوفه، أفطرن وإن لم يصل لم يفطر. وهذا فيه نظر من وجهين: أحدهما: أن النسائي خرجه، وقال: هذا حديث منكر. والثاني: ما سنعرضه في وصول الماء إلى الجوف عند الاستنشاق. وأما في الباقي فبالقياس على ما نص عليه؛ لاشتراكهما في الوصول إلى الجوف بحيلة. ووراء ما ذكره الشيخ في بعض الصور وجوه: أحدها: فيما إذا احتقن: أنه لا يفطر كما حكاه الرافعي عن القاضي الحسين، وهو غريب. والثاني: فيما إذا صب في أذنه شيئا ًفوصل إلى دماغه، كما سنذكره. والثالث: فيما إذا استقاء وتحفظ، فلم يرجع منه شيء إلى جوفه، لا يفطر، بناء على علة ابن سريج. ولو نزل إلى جوفه بعد التحفظ، قال الإمام: فهو كوصول الماء إلى الجوف عند المبالغة في المضمضة. والرابع: أن إتيان البهيمة إذا لم يتصل به الإنزال، لا يفسد الصوم؛ إذا قلنا: الواجب فيه التعزير فقط؛ حكاه القاضي الحسين. والخامس: إذا أنزل، وقد باشر من غير حائل: أنه كما إذا وصل الماء إلى جوفه عند المبالغة في المضمضة، وسنكمل الكلام فيه.

ثم [في] معنى الأكل سفُّ الأعيان ويلعها، سواء كان مما يعتاد فيها ذلك [أو لا] كالنرد والحصا والزجاج، ونحو ذلك، وكذا الخيط وإن بقي بعضه خارجاً؛ لأنه ممنوع من ذلك إجماعاً، ولولا أنه يفطر لما منع منه؛ قاله الماوردي. وقال ابن الصباغ: إن الفطر بذلك مما أجمع عليه أهل العصر، وإن كان قد سبق خلاف العلماء فيه. ولا يلتحق بذلك التصدي لحصول غربلة الدقيق وغبار الطريق في جوفه، مثل: أن يفتح فاه لأجل ذلك، على أصح الوجهين في "التهذيب"، كما لا يفطر به إذا حصل من غير قصد اتفاقاً. قال الرافعي: وقد شبهوا هذا الخلاف بالخلاف فيما إذا قتل البراغيث عمداً أو تلوث بدمائها: هل يقع عفواً؟ وهو المذكور في "التتمة". وهل يلتحق به ابتلاغ النُّخامة وهو ما يستنزله من رأسه؛ فيحصل [في] فيه؟؟ فيه خلاف، وادعى البندنيجي: أن ظاهر المذهب الفطر، وبه وقال الماوردي بعد حكاية الوجهين في الفطر بالنخامة: والصحيح: أنه إن أخرجها من صدره، ثم ابتلعها، فقد أفطر؛ كالقيء، وإن أخرجها من حلقه أو دماغه، لم يفطر كالريق. وحكى الإمام عن شيخه أنه كان يقول: ما يجري من النخامة من الدماغ إلى الحلقوم، فلا مؤاخذة به، ولا يكلف صرفه عن سير الحلق إلى فضاء الفم، ثم أراد رده، فهذا يفطر. قال: والوجه أن تقول: ما لا يشعر الصائم به، فهو محطوط عنه، وما يجري منه وهو على علم وخبر: فإن لم يقدر على رده، فلا فطر، وإن قدر على صرفه ومجه، فلم يفعل، ففيه خلاف بين الأصحاب:

منهم من لم يؤاخذه به، وحسم الباب ما لم يتكلف صرفه من مجراه إلى الفم. ومنهم من حكم بالفطر إذا تركه في مجراه مع القدرة على مجه؛ وهذا ما أورده القاضيان الحسين وأبو الطيب. قال الرافعي: وهو الذي أجاب به الحناطي وكثير من الأئمة، ولم يذكروا غيره. وفي معنى الشرب بلع ما جمعه من ريقه في كفه أو خرج على ظاهر شفتيه؛ كما حكاه القاضي أبو الطيب والإمام، وكذا ما اتصل بالخيط المحروز بالفم كما يفعله الخياطون ولا أثر للقلة في ذلك. وللشيخ أبي محمد احتمال فيه؛ لأن القدر النادر منه أقل مما يبقى من أجزاء الماء في داخل الفم بعد المضمضة. قال الإمام: وللاحتمال في هذا مجال. قال الرافعي: وخص في "التتمة" الوجهين بما إذا كان جاهلاً بأن ذلك لا يجوز، [و] قال فيما إذا كان عالماً: يبطل صومه بلا خلاف، ولا يلتحق به بلع ما اجتمع في فيه من غير قصد؛ فإنه لا يفطر [به]؛ لتعذر التحرز منه، وكذا لو جمعه في فيه قصداً وابتلعه على أحد الوجهين في "تعليق" البندنيجي وغيره. ومقابله مأخوذ – كما قال الإمام – من قول الشافعي: "وأكره العلك؛ لأنه يجمع الريق في الفم". والأصح في "النهاية": الأول. نعم: لو كان ريقه متغيراً بطاهر كما إذا أدخل

خيطاً مصبوغاً بطاهر، فتغير ريقه به وابتلعه – أفطر به، ومن طريق الأولى إذا تغير بنجس، ولو حكم بنجاسته من غير تغير كما إذا دميت لثته، فبصق حتى صار الريق أبيض ولم يغسل فاه، وابتلع ريقه بعد ذلك- فهل يفطر؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين، اختيار الحناطي والروياني منهما: عدم الفطر؛ لأن ابتلاع الريق مباح، وليس فيه عين أخرى وإن كان نجساً. وقال في "التهذيب": إنه لا يجوز له ابتلاعه، ولو ابتلعه، فالمذهب بطلان صومه. وهو المذكور في "التتمة"، قال الرافعي: وهو الأظهر عند الأكثرين. ولو أخرج الريق على طرف لسانه، ثم ابتلعه، قال الإمام حكاية عن الأئمة: فلا بأس؛ لأن اللسان معتبر بداخل الفم. وفي "التهذيب" حكاية وجه في الفطر به. وفي معنى الاستعاط: [ما] إذا وصل الموضوع في الأنف إلى الجوف؛ كما قال الماوردي. وفي معنى الاحتقان: ما إذا أدخل إصبعه في دبره، أو فعل غيره به ذلك بإذنه. قال القاضي الحسين: وإذا أخرجه بطل وضوءه. قال: وينبغي للصائم أن يحفظ إصبعه حالة يستنجي، وخاصة رأس الأنملة من مسربته؛ فإنه لو دخل هي أدنى شيء من رأس أنملته لبطل صومه، والاحتياط أن يتغوط بالليل قبل الفجر، ويبول بالنهار، وكذا في معناها ما إذا قطر في إحليله شيئاً أو أدخل فيه مبضعاً؛ فوصل إلى مثانته.

وفي "الرافعي": أن أبا حنيفة لم يجعل المثانة مما يفطر الواصل إليها. وفي "المعتمد" حكاية [وجه] يوافقه في المثانة، والذي رأيته في "تعليق" أبي الطيب: أن أبا حنيفة قال: إذا أدخل مروداً [في إحليله، فوصل] إلى المثانة، أفطر دون ما إذا لم يصل إليها. وهو ما حكاه غيره عن [بعض] الأصحاب، وقال الإمام: إنه لا أصل له. وطريق الجمع بين النقلين عن أبي حنيفة: أن يقال: له في المسألة روايتان [كما] حكاهما القاضي الحسين: فالرافعي نقل أحداهما، وكذلك ابن الصباغ والفوراني، وأبو الطيب نقل الأخرى. والمنقول في "تعليق" البندنيجي في حالة عدم الوصول إلى المثانة عن نص الشافعي في البويطي "والأم"-: الإفطار، وقاسه في "التهذيب" على ما إذا وصل الماء إلى حلقه، ولم يصل إلى معدته، وهل يلتحق بها ما إذا كان به ناسور، فرده إلى معدته بإصبعه أو لا؟ فيه وجهان، أصحهما في "التهذيب": لا؛ كما لو ردَّت بنفسها. وفي معنى طعن الجوف المتبادر إليه الذهن عند الإطلاق- وهو جوف البدن – طعن ما عداه من الأجواف التي فيها قوة محيلة؛ كما قلنا: إن وصول الطعام وغيره إليها بفطر، وهكذا هي كالجوف في الفطر عند وصول ما تداوى به إليها. قال الإمام: ومنه ما إذا وصل الدواء من شجة أمّةٍ إلى وراء القحف؛ فإنه يفطر به، ولا يتوقف الفطر على الوصول إلى ما وراء خريطة الدماغ، ولا يلتحق بذلك ما إذا طعن الساق والفخذ، وانتهى طرف السكين إلى مكان المخ؛ فإنه لا يفطر بذلك؛ إذ العضو لا يعد مجوفاً. وفي معنى الاستقاء إذا قلنا: [إنه] يفطر به وإن لم يرجع منه شيء إلى جوفه عند التحفظ – كما هو الصحيح –ما لو اقتلع نخامة من صدره، ولفظها على أحد الوجهين في "النهاية"، وهو الذي يقتضيه كلام [القاضي] أبي الطيب، ولم يورد

القاضي الحسين سواه. نعم، قال: لو كان في حلقه حين أخرجه لم يفطر. واحترز الشيخ بقوله: "فوصل إلى دماغه" عما إذا صب في أذنه، فلم ينته إلى الدماغ؛ فإنه لا يفطر بذلك؛ كما قطع به الشيخ أبو علي وطوائف من علماء المذهب؛ كما قال الإمام؛ فإن المفطر الوصول إلى باطنٍ فيه قوةٌ تحيل الواصل إليه غذاء أو دواء، وداخل الأذن ليس فيه ذلك. وعن الشيخ أبي محمد: القطع بأنه يفطر. وفي "التهذيب": أنه قيل: إذا صب في أذنه شيئا، لا يفسد صومه، وإن ظهر أثره في الدماغ؛ لأنه لا منفذ من الدماغ إلى الأذن، وإنما يصل إليه من المسام كما لو اكتحل لا يبطل صومه وإن وجد طعمه، وهذا ما أورده في "الإبانة" نقلاً وتوجيهاً. قال الإمام: والتردد في داخل الإحليل فوق المثانة قريب من هذا التردد. ولا خلاف عندنا في أن ما وصل إلى الجوف والدماغ والمثانة من المسام لا يفطر [به]، ومنه الكحل الحاد يجد الإنسان طعمه في الفم، ولا يفطر به، وكذا شم الروائح الزكيَّة، وألحق به إدراك الذوق مع مجٍّ جرم المذوق؛ قاله الإمام والمتولي وغيرهما. واحترز الشيخ بقوله: "فوصل الدواء إلى جوفه" عما إذا جاوز الدواء سطح البشرة، ولم ينته إلى فضاء البطن؛ فإن الوجه القطع – كما قال الإمام – بأنه لا يفطر؛ فإن الوصول إلى هذا المكان لو كان يفطر لأفطر وصول السكين إليه في ابتداء الأمر بالجروح. وفي بعض التصانيف غلط ظاهر بالحكم بالفطر بمجاوزة الدواء البشرة. قال: وهذا محمول على [تدبيج] العبارة وسوء الإيراد، والمراد الوصول إلى الباطن كما وصفنا. قلت: إن كان لا مأخذ للتغليط إلا ما ذكره الإمام من علة عدم الفطر فهي تندفع

بفرض المسألة في صورة وجد الجرح بغير إذنه. وتقييد الشيخ الفطر بخروج المني بما إذا كان سببه المباشرة فيما دون الفرج أو الاستمناء يفهمك أنه لو خرج بغير هذين السببين، لا يفطر به، سواء كان على وجه الشبق أو عقيب النظر بالشهوة مرة واحدة أو مراراً، وإن كان بتكرار النظر آثماً كما صرح به الأصحاب. وكذا يفهم أنه لو كان ذكره؛ لعارض؛ فأنزل: أنه لا يفطر، وقد حكى صاحب "البيان" عن الصيمري وجهين: قال: ويشبه أن يكون ذلك بناء على القولين في سبق الماء إلى حلقه في المضمضة والاستنشاق. ولفظ المباشرة يخرج ما [إذا] لمس الشعر؛ فأنزل - عن الفطر به أيضاً؛ لأن المباشرة مأخوذة من التقاء البشرة. وفي "التتمة" في هذه الصورة وجهان؛ بناء على انتقاض الوضوء بلمسه، ومن طريق الأولى إخراج ما إذا قبل من وراء حائل؛ فأنزل - عن بطلان الصوم به، وهو موافق لقوله في "التتمة": لو قبل فوق خمار؛ فأنزل، لا يبطل صومه. لكن ظاهر كلام الشافعي - كما قال بعضهم، وادعى أنه المذهب - أنه [يفطر] فيما إذا وقعت القبلة ونحوها من غر حائل أو معه، وإن منهم من قال: إذا كان من غير حائل، واتصل بها الإنزال، فهو كوصول الماء إلى الجوف عند المبالغة في المضمضة، [وإن كان مع الحائل فكالمضمضة] وهو المذكور في "الوسيط"، وهو من تخريج الإمام؛ فإنه حكى عن شيخه رواية وجهين فيما إذا ضم امرأته إلى نفسه وبينهما حائل، ثم قال: وهو عندي كسبق الماء في صورة [المضمضة]. فإن ضاجعها متجرداً، فالتقت السرتان، فهو كصورة المبالغة في المضمضة، والذي عليه الجمهور الأول.

قال: وعليه القضاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "وإن استقاء فليقض"؛ فنص عليه عند الفطر بالاستقاء، فنقيس الباقي عله، ولأنه واجب بالكتاب والسنة مع العذر – وهو السر والمرض والحيض فلأن يجب عند فقده من طريق الأولى. ولأن فيه استدراكاً لمصلحة الأداء بقدر الإمكان. وقيل: إن كان فطره بالجماع، فلا يجب؛ لما سنذكره، وفيه وجه آخر يأتي. قال: وإمساك بقيه النهار تشبهاً بالصائمين بقدر الإمكان، هل يجب مع ذلك شيء آخر؟ ينظر: إن كان فطره بالجماع، فنعم: وهو الكفارة لا غيرن كما سيأتي. ون كان بغيره، فالتعزير، وهل يجب عليه مدُّ من طعام أو لا؟ فيه وجهان في كتب المراوزة: وجه الوجوب: إلحاقه بالحامل، والمرضع إذا أفطرت؛ خوفاً على ولدها، بل أولى، وهو ما صححه النواوي والبغوي. ووجه مقابله- وهو الذي أورده العراقيون لا غير، وقال الإمام: إنه أصح الوجهين، والرافعي: إنه أظهر الوجهين – أن المد لا يكفر عصيانه. وقد جعله المزني أصلاً، وقاس عليه عدم وجوب الفدية عند فطر الحامل والمرضع؛ للخوف على ولدها. وقرب الإمام الوجهين [من الخلاف] فيمن ترك التشهد عمداً، هل يسجد؟ ووجه التقريب: أن الساهي بالترك أثبت له الشرع مستدركاً وجابراً، والمتعمد لا يستحق ذلك؛ فاستمر نقض الصلاة عليه. وحكى القاضي الحسين وجهاً آخر، نسبه الماوردي إلى ابن أبي هريرة: أنه يجب

عليه فدية غير مقدرة: فوق كفارة الحامل والمرضع، ودون كفارة المجامع. قال الماوردي: وهذا لا يدل عليه خبر ولا أثر ولا قياس. وقيل: يجب عليه كفارة المجامع، كما سنذكره. قال: وإن فعل ذلك ناسياً – أي: لرمضان –أو جاهلاً، أو فعل به شيء من ذلك مكرهاً – أي: بأن أوجر الطعام والشراب، أو شدت المرأة ووطئت، أو استدخلت المرأة ذكر رجل وهو نائم، أو عطن بغير إذنه – لم يبطل: أما في النسيان؛ فلما روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه". ورواية أبي داود عنه أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني أكلت وشربت ناسياً، وأنا صائم، فقال: "الله أطعمك وسقاك". قال في "مختصر السنن": وقد أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. فنص على أنه لا يفطر بالأكل والشرب، ونبه به على أنه لا يفطر بما عداه من طريق الأولى. وأما في الجهل والإكراه؛ فلأنهما ملحقان بالنسيان في وضع الإثم؛ قال – عليه السلام-:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"؛ فكذلك في عدم الفطر. ولأن الناسي جاهل بتحريم الصوم، وقد علل النبي صلى الله عليه وسلم عدم فطره بكون الله أطعمه وسقاه؛ فكان فيه دليل على أن الفطر لا يحصل بغير فعل الصائم. ثم صورة الجهل المؤثر في عدم بطلان الصوم: أن يقدم على ذلك؛ لأنه حديث عهد بالإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة؛ كما قال البغوي [وتبعه]

الرافعي. وبعض المتأخرين صوره بما إذا أكل ناسياً أو اغتاب؛ فظن أنه أفطر بذلك؛ فتعاطى المفطرات عامداً؛ بناء على ذلك، ثم بان له أنه لم يفطر، وداعيه إلى ذلك: أن من شرط الصوم النية، وشرط المنوي: أن يعلم حقيقته، وحقيقة الصوم شرعاً – كما تقدم – الإمساك عن المفطرات، فمن لا يعلم المفطرات لا يعلم حقيقته، وإذا لم يعلم حقيقته؛ فلا [تصح نيته]؛ ولذلك لم يتعرض كثير من المصنفين إلى مسألة الجاهل، بل تكلموا في مسألة النسيان وهذه المسألة، ومنهم البندنيجي، وقاس عدم الفطر فيها على من سلم في الظهر من اثنتين [ناسيا]، فتكلم معتقداً أنه خرج من الصلاة، لم تبطل صلاته. قال: وكذلك الحكم فيمن احتجم أو قبَّل؛ فلم ينزل، واعتقد أنه قد أفطر، الباب واحد، وقد طرده فيما إذا أكل ناسياً؛ فظن الفطر به؛ فجامع عامداً: أنه لا يبطل صومه، وحكاه [عن الشيخ] أبي حامد. قال: وكذلك لو احتجم، أو اغتاب، أو اعتقد أنه قد نسي النية، فوطئ، ثم بان أنه ما كان كذلك – فالحكم في الكل واحد، لا كفارة ولا قضاء، وهو الذي حكاه الجرجاني في "المعاياة". [و] لكن الذي جزم به الماوردي والفوراني والبغوي وشيخه فيما إذا أكل

ناسياً، فاعتقد أنه أفطرن فجامع عامداً -: وجوب القضاء دون الكفارة. [وعدم وجوب الكفارة] قد حكاه البندنيجي عن النص، ويعزى إلى "الأم"، وقضية ذلك: أن يطردوا قولهم بالفطر في الأكل وغيره عامداً إن لم نقل بأن جماع الناسي يبطله، كما [لا] يبطله الأكل ناسياً. وقد اقتضى كلام الشيخ: أنه لا فرق فيما فعله ناسياً [بين القليل والكثير. وقد حكى المتولي والبغوي في الفطر بالأكل الكثير ناسياً] وجهين. وقال الإمام هاهنا: إن المذهب لم يختلف في أن من نسي صومه، وأكل، لم يفطر، سواء استقل أو استكثر، وسواء وجد ذلك مرة أو مراراً؛ لأنه روي في مأثور الأخبار أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه أكل ناسياً، فلم يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفطره، فعاد مرة أخرى أو مرتين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يحكم بفطره، وقال: "إنك بعيد العهد بالصوم". والقاضي أبو الطيب حكى هذا أثراً عن أبي هريرة. وتبع الغزالي هاهنا الإمام في الجزم بعدم الفطر، وإن كان قد حكى وجهين في كتاب الصلاة. [وقال الإمام ثم: إن الأكل القليل لا يبطل الصوم، وفي الكثير وجهان مرتبان على الكلام الكثير في الصلاة ناسياً، فإن قلنا: لا تبطل الصلاة]، فالصوم أولى، وألا ففي الصوم وجهان؛ لأن الناسي يعذر؛ لأنه فعل ليس بنادر، فأما الكثير فيبعد وقوع النسيان فيه؛ فإنه ينتبه وينَّبه، وما يقع نادراً لا يعتد به. و [قد] حكى هو والمتولي وغيرهما من المراوزة في جماع الناسي قولاً آخر: أنه يبطل الصوم؛ كما قيل: إنه يفسد الحج. والذي أورده العراقيون: أنه لا يبطله. وقال البندنيجي: ليس للشافعي في المسألة نص، والذي يجيء على قوله: أن الواطئ كالآكل سواء، لا يفطر، ولا كفارة.

ثم إذا قلنا بالفطر، فهل تجب الكفارة؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين وغيره، وأصلهما في "التتمة": الوجوب، وعلى مقابله – وهو الظاهر في "الوسيط" والرافعي – فالفرق بينه وبين الحج المقيس عليه الأصل من وجهين، ذكرهما القاضي الحسين وغيره: أحدهما: أن الحاج معه علامة كونه حاجًّا؛ فيكون في نسيانه مفرطاً، وعلامة الصائم لا تظهر؛ فلا يكون مفرطاً كل التفريط. والثاني- وهو المشهور-: أن الجماع في الحج دائر بين الاستمتاع والاستهلاك، ولا يفرق فيهما بين [العامد والساهي]، [ومحظورات الصوم لا يستوي فيها العامد والساهي]؛ ولهذين الفرقين كان الصحيح عدم الفطر [أيضاً] كما ذكره الشيخ. وكذا مقتضى كلام الشيخ: أنه لا رق فيمن فعل به شيء من ذلك مكرهاً بين أن يكون قد فعل لمصلحته أو لا لمصلحته؛ كما إذا أغمي عليه، وقلنا: لا يبطل صومه، فأوجر في فيه دواء، وهو الأصح في "التهذيب" وغيره. وفي الحالة الثانية وجه أو قول: أنه يفطر [به]، كما سيأتي مثله في لزوم الفدية له إذا طيب لمصلحته وهو محرم. قال: وإن أكره حتى فعل بنفسه، ففيه قولان: أصحهما: [أنه] لا يبطل؛ لما ذكرناه. ومقابله: أنه يبطل؛ لأنه حصل بفعله مع علمه بالحال؛ لدفع الضرر عن نفسه؛ فبطل كما لو فعله لدفع المرض وشدة الجوع والحر فدل على عدم المأثم، ولا يلزم من نفيه عدم إيجاب القضاء، ولولا الخبر الآخر في حق الناسي، لما حكمنا بصحة صومه، وهذا ما صححه في "الوجيز"؛ كما قاله الرافعي.

والذي رأيته في بعض النسخ تصحيح الأول؛ موجهاً له بأنه غير آثم. وقال الرافعي: هذه علة الفطر، ومعنى قوله: "ليس بآثم": أن الإكراه إنما يؤثر في [دفع الإثم] على ما اقتضاه الخبر، [و] حصول الفطر لا يتعلق به إثم؛ وعلى هذا [هل] يجب عليه مع القضاء شيء؟ إن كان فطره بالجماع ففيه ما سنذكره. وقد قال بعض أصحابنا بإجراء القولين في مسألة الكتاب فيما إذا فعل به شيء من ذلك مكرهاً كما قيل بمثل ذلك في الحنث؛ حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه، وكذا الرافعي وقال: إنه غريب. وقال الماوردي: إن أكره على الوطء فشدت يداه، وأدخل ذكره في الفرج بغير اختياره: فإن لم ينزل فهو على صومه، وإن أنزل، ففي صومه وجهان: أحدهما: أنه على صومه، ولا قضاء، ولا كفارة. والثاني: أنه أفطر، ويلزمه القضاء؛ لأن الإنزال لا يحدث إلا عن اختيار، وعلى هذا ففي وجوب الكفارة عليه وجهان. فرع: لو ابتلع خيطاً في الليل، وبقي بعضه خارجاً حتى أصبح، قال الأصحاب: فإن أخرجه، وابتلعه، بطل صومه، وإن أبقاه [صح صومه] ولم تصح صلاته؛ لاتصال

الظاهر بالباطن، وهو نجس؛ فالطريق في صحة عبادتيه: أن يقلع وهو نائم أو بغير اختياره، فإن لم يفعل ذلك، قال في "التهذيب": فالأولى أن يخرجه أو يبلعه؛ ليصلي، ويقضي الصوم. وذكر في التتمة وجهين فيما يراعيه منهما: أحدهما: يخرجه ويصلي؛ لأن حرمة الصلاة أعظم، ولأن بالإخراج لا يفوت إلا عبادة واحدة، وهي الصوم، وفي الإبقاء تفويت ثلاث صلوات. والثاني: يترك على حاله، ويؤمر أن يصلي على حسب حاله، ويعيد؛ لأنه حصل شارعاً في الصوم، ولم يشرع في الصلاة، ومراعاة عبادة شرع فيها أولى من مراعاة عبادة لم يشرع فيها؛ وهذا الخلاف مذكور في تعليق القاضي الحسين في باب الأحداث، واختار القاضي الثاني. قال: وإن تمضمض أو استنشق – أي: وهو عالم بصومه، غير قاصد إيصال الماء إلى جوفه ودماغه- فوصل الماء إلى جوفه – أي: أو دماغه – بطل صومه في أحد القولين؛ لما روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب – [رضي الله عنه]- ... [الحديث] السابق. وجه الدلالة منه: أنه شبه القبلة بالمضمضة، وهو إذا قبل؛ فأنزل، بطل صومه فكذلك إذا تمضمض؛ فوصل إلى جوفه، ويقاس الاستنشاق عليها. والهش: الارتياح إلى الشيء. وهذا ما نص عليه في "المختصر"، واختاره المزني؛ كما قال الماوردي. وقال البندنيجي وأبو الطيب: إنه نص عليه في القديم و"الأم". قال: دون الآخر؛ لأنه وصل بغير اختياره فهو كغبار الطريق؛ وهذا ما حكاه الماوردي وغيره عن نصه في اختلاف أبي حنيفة و"ابن أبي ليلى" و"البويطي" و"الإملاء"؛ كما قال البندنيجي. قال أبو الطيب: وهو اختيار الربيع، والصحيح. ووافقه المتولي على تصحيحه. ومنهم من قطع به، واختلفوا في النص الذي نقله المزني، واختاره: فمنهم من حمله على ما إذا بالغ فيهما، ونفي الخلاف في الحالين، وقد [حكاه

الفوراني. ومنهم من حمله على ما إذا تعمد الازدراد، وقد قال في "الإبانة": إن القولين في الكتاب] حكاهما المزني، ولا فرق في جريانهما عندنا بين أن يكون قد فعل المضمضة والاستنشاق في وضوء واجب أو سنة؛ لأنه غير مضطر إليهما في الحالين. قال: وإن بالغ، بطل؛ لحديث لقيط بن صبرة؛ فإن ذلك لو لم يفطر، لما نهى عنه. ولأنه تولد [من فعل منهي عنه؛ فكان] كالمباشرة؛ بدليل أنه لو جرح إنساناً فمات؛ فإنه كالمباشرة؛ وهذا ما أورده البندنيجي لا غير. وقيل: على قولين؛ كالمسألة قبلها، ووجههما ما تقدم؛ وهذه الطريقة حكاها القاضي أبو الطيب والماوردي عن بعض أصحابنا البغداديين. والطريقة الأولى: أصح باتفاق الأصحاب، والفرق: أنه في الأولى لم يصدر منه فعل منهي عنه، بخلاف الثانية، وقد ألحق الأصحاب بالمضمضة مسألتين: أحداهما: لو دمي فمه فغسله، فوصل الماء في جوفه، فهو كما لو وصل في المضمضة؛ قاله البغوي. وقال القاضي الحسين: لا يفطر. ولو غسل فمه؛ تبرداً، أو تمضمض أربعاً، فوصل إلى جوفه في المرة الرابعة – قال البغوي: فإن بالغ بطل، وإن لم يبالغ ترتب على المضمضة، وهذا أولى بوجوب القضاء؛ لأنه غير مأمور به. وأطلق القاضي الحسين احتمال تخريج وجهين في المسألة من غير تفصيل بين المبالغة وعدمها. وكذلك قال في "التتمة" فيما إذا أدخل الماء [في] فيه: إن من أصحابنا من قال: حكم هذه المسألة حكم من يتمضمض، فسبق إلى جوفه؛ لأنه لم يقصد ارتكاب محظور الصوم. ومنهم من قال هنا: بطل؛ لأنه أقدم على ما لا حاجة به إلى فعله، بخلاف من تمضمض؛ فإنه يكره له تركها.

الثانية: بقية الطعام في خلل الأسنان، هل تبطل الصوم؟ الذي نص عليه الشافعي فيما نقله المزني: إن كان بين أسنانه ما يجري به الريق، فلا قضاء عليه. ونقل الربيع عنه أنه يفطر به، واختلف الأصحاب في ذلك على طرق: إحداها: أن المسألة على قولين، بناء على ما [إذا] سبق الماء في المضمضة؛ فإنه على قولين: والثانية: أنه لا يفطر قولاً واحداً؛ لأن الأكل يباح له فإذا وصل بسببه بعد ما حرم الأكل [شيء إلى جوفه] عذر فيه، ولم يحكم بفطره. قال الفوراني: وقائلها قال في المضمضة: إذا لم بالغ، فسبق الماء إلى جوفه، لم يفطر وإذا بالغ فذاك منهي عنه؛ فيفطر، وحمل نص الربيع في مسألتنا على ما إذا أراد ذلك عامداً. وهذان [الطريقان حكاهما الفوراني والبغوي. والثالثة: حكاها المتولي مع الأولى، وهي تنزيل] النصين على حالين [كما] نص عليهما في "الأم"، وهما: إن كان يتميز ما في فيه عن الريق أبطل، وإن كان لا يتميز عنه، لم يبطل، واختارها في "المرشد"، وهي التي أورد مثلهما الماوردي والبندنيجي والقاضي [أبو الطيب والحسين]. وقال المتولي: وعلى هذا لو وضع قطعة ذهب أو فضة، فنزلت في حلقه – فالحكم على ما ذكرناه. والرابعة – قالها الغزالي تبعاً لإمامه -: إن قصر في تخليل الأسنان، فهو كصورة المبالغة، وإن لم يقصر، فهو كغبار الطريق قال الرافعي: ولك أن تقول: ترك التخليل إما أن يكون مكروهاً، أو لا، فإن لم يكن مكروهاً، فلا يتوجه إلحاقه بصورة المبالغة؛ لأن الوصول هنا [لم] يتولد من أمر مكروه، وإن كان مكروهاً، فالفرق ثابت

أيضاً؛ لأن ما بين الأسنان [أقرب] إلى الظاهر من الماء عند المبالغة، وربما ثبت في خلالها فلا ينفصل، وبتقدير أن ينفصل، فالتمكن من أخذه ومجه مما لايتعذر، والماء سباق إذا وجد منحدراً أسرع في النفوذ، وكان وصوله إلى الجوف أقرب. قال: وإن أكل معتقداً أنه ليل، [أي:] إما لاعتقاده أن الشمس قد غربت، أو أن الفجر لم يطلع، فبان أنه نهار – لزمه القضاء: أما في الأولى؛ فلما روى أبو داود عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: "أفطرنا يوماً في رمضان في غيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طلعت الشمس"، قال أبو أسامة – وهو حماد بن أسامة – قلت لهشام – وهو ابن عروة: أمروا بالقضاء؟ قال: وبدٌّ من ذلك؟! وأخرجه البخاري وروت أم سلمة، قالت: جاء قوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا ظننا أن الليل قد دخل، فأكلنا، ثم علمنا أنه كان نهاراً، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة يوم مكانه. ولأنه مقصر بالفطر حيث لم يتثبت، وقد تعين له يقين الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء؛ فلزمه؛ كما لو صلى بالاجتهاد قبل الزوال، ثم تبين له ذلك، وكما لو أكل يوم الشك؛ معتقداً أنه من شعبان، ثم تبين أنه من رمضان. واحترزنا بقولنا "تعين له يقين الخطأ" عمن اشتبهت عليه القبلة، فصلى مجتهداً إلى أربع جهات فإنه لا يلزمه القضاء؛ لأنه لم يتعين له الخطأ في جهة بعينها. وقولنا: "فيما يؤمن مثله في "القضاء"، احتراز عن الناسي والغالط بالنسبة إلى الوقوف في اليوم العاشر. وأما في الثانية فلأنه تعين له يقين الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء؛ فلزمه كما في المسألة قبلها؛ وهذا ما نص عليه في "المختصر"؛ حيث قال: "وإن كان يرى [أن]

الفجر لم يجب، وقد وجب، أو يرى أن الليل قد وجب، ولم يجب – أعاد"؛ ولأجله قال الإمام في كتاب الأيمان عند الكلام في الناسي والجاهل: إنه ظاهر المذهب. وقد حكى [عن] المزني أنه قال: لا قضاء في الصورتين. وبه قال محمد بن إسحاق بن خزيمة من أصحابنا. والذي حكاه القاضي الحسين عن المزني: أنه لا قضاء في الثانية، [ثم] حكى مثله هو وغيره عن بعض الأصحاب؛ لأنه معذور في استصحاب حكم الليل، وهو في "الحاوي" معزو إلى أبي إسحاق قال الإمام: والوجه القطع به وقائله غلط المزني فيما نقله عن الشافعي، [وقال: مذهب الشافعي]: أنه لا قضاء، وعبارته في الكبير: "وأحب تأخير السحور، فإذا صار إلى وقت يخشى طلوع الفجر، أمسك، وأحب تعجيل الفطر، فإن خاف بقاء النهار أمسك، فإن أفطر، وبان بقاء النهار، فعليه القضاء". والفرق بين أوله وآخره أنه معذور في أوله؛ لما ذكرناه، عكسه آخره. قال القاضي الحسين بعد حكاية ذلك: والمذهب: الأول؛ ولذلك صححه الرافعي وغيره. قال: وإن أكل شاكًّا في طلوع الفجر، أي: ولم يبن له الحال بعد ذلك، لم يلزمه القضاء؛ لأن الأصل بقاء الليل؛ كما لو وقف بعرفة وهوي شك هل طلع الفجر أم لا، صح وقوفه؛ لأن الأصل بقاء الليل، ومن طريق الأولى إذا أكل ظاناًّ أن الفجر لم يطلع؛ لأمارة دلته حين اجتهد على ذلك، وفي هذه الحالة يجوز له الإقدام على الأكل بلا خلاف، وأما في [حالة] الشك فالذي قاله البندنيجي والقاضي الحسني في موضع: إنه يستحب له الإمساك عن الأكل. [وقال البغوي: يكره له الأكل]. وقال غيرهم من المراوزة: نه لا يحل له الإقدام على الأكل هجوماً. قال: وإن أكل شاكًّا في غروب الشمس، أي: ولم يتبين له الحال بعد ذلك – لزمه

القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار، ولا يلزمه مع القضاء الكفارة وإن كان فطره بالجماع، قال القاضي الحسين: لأنها تسقط بالشبهة. أما لو تبين أنه أكل بعد الغروب، فلا قضاء عليه؛ لأنه يفطر بدخول الليل وإن لم يعلم، لكنه حال إقدامه على الأكل كان آثماً. قال القاضي الحسين: لأنه لا يجوز الهجوم على الفطر مع أن الأصل بقاء النهار. ولو أكل ظانًّا أن الشمس قد غربت، قال البندنيجي: ينظر: فإن كان ذلك عن دليل، فالمستحب له ألاَّ يأكل حتى لا يضر بالصوم، فإن أكل وبقي الأمر على ذلك، فلا قضاء عليه، وهو الذي أورده المتولي، وادعى القاضي الحسين: أنه لا خلاف فيه. وإن غلب على ظنه بغير دليل فأكل، وبقي الأمر على الشك، فعليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار، ولا دليل يعارضه. قال الإمام: وحكى شيخي عن [شيخه] أبي إسحاق الإسفراييني النهي عن الاجتهاد والاعتماد عليه في هذا وفي وقت الصلاة؛ إذا أمكن الوصول إلى درك اليقين، أنه إن أفطر في آخر النهار مجتهداً، فعليه القضاء، وإن لم يبن الخطأ. ويرد على أبي إسحاق فعل عمر – رضي الله عنه – والناس؛ فإنهم أفطروا، ثم طلعت الشمس، ولو كان الفطر لا يجوز إلا بيقين لما ما وقع في زمان عمر، رضي الله عنه. قال: وإن طلع [عليه] الفجر، وفي فيه طعام، فلفظه أو كان مجامعاً فنزع – [صح] صومه، أي: وإن أنزل عقيبه: أما في الأولى فلأنه لو وضع الطعام في فيه في أثناء النهار قصداً، ولم يصل منه شيء إلى حلقه – لم يفطر وإن وصل طعمه إليه، فأولى إذا كان الوضع في الليل، نعم، قال الماوردي: لو سبقه الطعام، ودخل إلى جوفه من غير اختياره؛ لازدراده،

وهو ذاكر للصوم – ففي إفطاره وجهان مخرجان من المضمضة والاستنشاق، وأصحهما: أن عليه القضاء. وأما في الثانية: فلقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]؛ فاقتضت الإباحة إلى الفجر فإذا نزع مع طلوع الفجر فقد فعل ما أباحه الله تعالى له؛ وذلك يقتضي ألا يفسد صومه. [وعن المزني: أنه يفسد صومه]، لأنه يلتذ بالإخراج كما يلتذ بالإيلاج. قال الأصحاب: وهو غلط؛ لما ذكرناه. ولأن الإخراج ترك الجماع، وضد الإيلاج؛ فوجب أن يختلف الحكم فيهما؛ ألا ترى أنه لو قال: لادخلت هذه الدار، وهو داخلها، أو: لا لبست ثوباً، وهو لابسه، فبادر إلى الخروج والنزع – لم يحنث؟ وكذا لو تطيب المحرم ناسياً، ثم تذكر، وأزال الطيب بيده – لا يجب عليه الكفارة؛ لأنه غير متطيب؛ وهذا ما نص عليه في "المختصر" حيث قال: "وإن كان مجامعاً، أخرج مكانه، فإن مكث شيئاً، أو تحرك لغير إخراجه، فسد، وقضى". واختلف الأصحاب في مراده بقوله: "أخرج مكانه": فقال القاضي أبو الطيب: ليس المراد إجراءه على ظاهره؛ لأنه إذا جامع وقد طلع الفجر، فصومه باطل، سواء نزع عن الجماع أو استدامه، بل تقدير السألة: أن يكون قد أولج قبل طلوع الفجر، ثم نزع مع طلوعه. وعن أبي إسحاق أنه قال: هو محمول على ما إذا أحس بتباشير الصبح، فنزع بحيث يوافق ابتداء طلوع الفجر آخر النزع، أما إذا طلع الفجر، وهو مجامع، وعلم بالطلوع لما طلع، ونزع لما علم – فسد صومه. قال الرافعي: والحكم بالفساد في هذه الحالة مستبعد، لامبالاة به، بل قضية نقل كلام [الأئمة] نقلاً وتوجيهاً: أن المراد من مسألة النص الذي حكوا فيها خلاف المزني وغيره ما سنذكره.

قلت: لكن كلام البندنيجي والقاضي الحسين يقتضي تصوير محل خلاف المزني بما قاله أبو إسحاق: أما البندنيجي فإنه قال: إذا وقع النزع والطلوع معاً؛ بأن جعل الفجر يطلع، وجعل هذا ينزع – لم يقدح ذلك في صومه. وقال المزني: فسد صومه، وعليه القضاء. وأما القاضي الحسين فإنه قال: إذ طلع الفجر، وهو على الجماع، لم يصح صومه. قال أصحابنا: وتأويل المسألة: أنه أولج قبل الفجر، ثم ابتدأ في النزع مع الطلوع؛ فلم يصادفه حالة الطلوع وهو على الجماع؛ بأن يكون على موضع عالٍ فرأى أمارات الفجر، ونزع، فصادف نزعه حالة الطلوع؛ فإنه صومه لا يفسد، وهو قول الكافة إلا المزني وزفر؛ فإنهما قالا: يفسد صومه، وعليه القضاء. [و] في شرح ابن التلمساني: أن الإمام قال في "النهاية": إن محل عدم الفطر إذا خالط [بالسحر] على ظن المهلة، فأدركه الفجر وهو كذلك، ثم نزع، أما إذا خالط قريباً من الفجر، بحيث يدركه الفجر، وهو كذلك، ثم نزع، أما إذا خالط قريباً من الفجر، بحيث يدركه الفجر، وهو على حاله، فإذا وجد النزع مع الطلوع، أفطر؛ لأن ما حصل من النزع بسبب ما ورط فيه نفسه بتفريطه. فإن قيل: أول الفجر لا ينضبط، فلابد أن يتقدم الطلوع على علمه؛ فيكون قد وجد منه الجماع نهاراً. قلنا: قال الشيخ أبو محمد: في ذلك احتمالان: أحدهما: أن هذا تقدير قدره الفقهاء، ولا يتصور تحقيقه عرفاً. والثاني: أن الحكم تعلق بالمحسوس الذي يتعلق العلم به، وما يتقدم عليه وإن كان معلوماً بالفعل فلا اعتبار [به] كما نعلم أن الزوال يتقدم على ما يبدو للناظر من تحول الظل، ولكن يرتبط التكليف بما يظهر حساً.

وإذا علمت أنه [لا يبطل صومه إذا نزع مع الفجر أو كان آخر نزعه، علمت أن الجنابة] لا تنافي الصوم، بخلاف الحيض، وقد دل على ذلك قول عائشة وأم سلمة زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم: " [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم] يصبح جنباً [في رمضان] من جماع غير احتلام، ثم يصوم" أخرجه أبو داود، [وكذلك البخاري ومسلم وغيرهما مختصراً ومطولاً، وقال أبو داود:] "ما أقل من يقول هذه الكلمة"، يعني: "يصبح جنباً في رمضان" وأن الحديث: "كان يصبح جنباً وهو صائم"، وقد وقعت هذه الكلمة في صحيح مسلم، وما قال يعني به أبا هريرة من أن من أدركه الفجر جنباً، فلا صوم له – أحسن ما قيل في جوابه؛ كما قال الخطابي: أنه ظن أن ما كان من تحريم الجماع والأكل والشرب على الصائم بعد النوم أو صلاة العشاء غير منسوخ، [وقد ثبت نسخه] فارتفع [ما] ظنه. قال: وإن استدام –أي: الأكل والجماع – [بطل؛ لتحقق الأكل والجماع] منه قصداً، ويجب عليه في الثانية مع القضاء الكفارة؛ لأنه آثم بالوطء، ومن هتك حرمة يوم من رمضان بالوطء مبتدئاً، وجبت عليه؛ فكذلك هاهنا، وبالقياس على القضاء؛ لأن كلاًّ منهما متعلق به عند الابتداء، فكذا في الدوام. وقال المزني: لا كفارة؛ لأن الصوم لم ينعقد؛ لمصادفة ما ينافيه – وهو الجماع – فأشبه منترك النية ناسياً، ثم جامع: عليه القضاء، ولا كفارة.

والمذهب: الأول؛ لما ذكرناه. وأما قوله: "إن الصوم لم ينعقد"، فقد يمنع، ويقال: بل هو منعقد؛ كما قال القاضي الحسين وشرذمة كما قال الإمام؛ ويدل عليه: أنه لو نز صح صومه، وليس كمن أحرم بالحج مجامعاً؛ فإنه لا ينعقد حجه على أحد الوجهين؛ لأن ذلك منسوب إلى اختياره، بخلاف من أرهقه الفجر مجامعاً. نعم، يجيء علىقول أبي إسحاق في حمل النص على ما ذكره: ألاَّ تجب الكفارة؛ لأن الصوم لم ينعقد على زعمه؛ كما حكاه الحناطي وجهاً، ولم يورد البندنيجي غيره لكنه جزم [بوجوب الكفارة] وقال: إنها وجبت لمنع الانعقاد، [لا] بالإفساد. [ومن قال: إنه انعقد صومه، ثم فسد] لا يعرف مذهب الشافعي، وهو في ذلك متبع للشيخ أبي حامد فإنه هكذا، قال في التعليق، وإنه أفسد قول من قال: إنه منعقد؛ تمسكاً بأنه إذا نزع، صح صومه، فإن الشرع إنما يحكم فيه بصحة الصوم إذا كان عازماً على الترك، فأما ونيته العود فلا؛ وهذا ما حكاه الإمام عن الأئمة، وقال بعضهم تفريعاً عليه: إنه لو مكث على حاله، ولم ينزع، ومضى زمان يمكنه النزع لم ينعقد وجهاً واحداً. وقد حكى الرافعي وغيره عدم وجوب الكفارة؛ كما قاله المزني قولاً مخرجاً؛ لأن الشافعي نص في "المختصر" في هذه المسألة على وجوب الكفارة، وأشار في كتاب الإيلاء فيما إذا قال لزوجته: "إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاً" فغيب الحشفة – طلقت ثلاثاً إلا أنه لا يجب المهر، وإشارته – كما قال أبو الطيب-: سكوته عن ذكر إيجابه. واختلف الأصحاب على طريقين في المسألتين، جاريتين – كما قال الرافعي- فيما لو جامع ناسياً، وقلنا: لا تجب الكفارة، ثم تذكر الصوم، واستدام: أحداهما: أن فيهما قولين؛ نقلاً وتخريجاً. وأصحهما: تقرير النصين. والفرق أن ابتداء [الفعل] لم تتعلق به الكفارة؛ فتعلقت بانتهائه، حتى لا

يخلو الجماع في نهار رمضان عمداً عن الكفارة والوطء، ثم [غير] خال عن المقابلة بالمهر؛ لأن المهر في النكاح يقابل جميع الوطآت. والبندنيجي والقاضي أبو الطيب جزماً القول في مسألتنا بالنص، وحكوا الخلاف في وجوب المهر. وفرق القاضي على أحد القولين بأن المهر لا يجب إلا في زمان مخصوص، والكفارة تجب في كل وطء؛ فلم يصح اعتبار أحدهما بالآخر. ولو طلع عليه الفجر وهو مجامع، فلم يعلم بطلوعه حتى فرغ من جماعه، ثم علم، وقلنا: يجب عليه القضاء؛ كما هو المذهب فيمن أكل معتقداً بقاء الليل، ثم بان أنه نهار – فلا كفارة هنا؛ لأنه لم يقصد هتك الحرمة، وأيضاً: فهي تسقط بالشبهة. وكذا لو طلع [عليه] الفجر وهو مجامع؛ فظن أن صومه قد بطل ولو نزع، فمكث ساعة ممسكاً عن إخراجه – فعليه القضاء، ولا كفارة؛ لأنه غير قاصد لهتك الحرمة؛ قاله الماوردي والبغوي. واعلم أن الفجر الذي يتعلق به ما ذكرنا هو الفجر المستطير لا المستطيل، روى مسلم عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال، و [لا] بياض الأفق المستطيل هكذا، حتى يستطير هكذا"، وحكاه حماد بيديه، قال: يعني: معترضاً: وقد كان الرجل حين نزل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، إذا أراد الصوم ربط أحدهم خيطين [في رجليه]: [الخيط] الأبيض، والخيط الأسود، [ولا]

يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له أيهما فأنزل الله تعالى بعد ذلك: {مِنْ الْفَجْرِ}؛ فعلموا أنه إنما يعني بذلك: الليل والنهار. أخرجه مسلم. وقد روي عن عدي بن حاتم أنه قال: "لما نزلت هذه الآية أخذت عقالاً أبيض وعقالاً أسود، ووضعتهما تحت وسادتي، فنظرت، فلم أتبين ذلك، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فضحك، [فقال]: "إن وسادك إذاً لعريض طويل؛ إنما هو الليل والنهار"، وقال عثمان -وهو ابن أبي شيبة -:"إنما هو سواد الليل وبياض النهار"، وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. قال: وإن جامع - أي: [من] هو من أهل التكليف بالصوم وقد نواه من الليل -[امرأته]، أي: مختارة في قبلها، في نهار رمضان، من غير عذر - لزمهما القضاء؛ كما تقدم، وهو نصه في "المختصر". وقيل: لا يلزمه؛ لأنه - عليه السلام - لم يأمر الأعرابي في القصة التي سنذكرها به، ولو كان واجباً لذكره كالكفارة، وهذا ما أومأ إليه في "الأم" مع الأول؛ كما قال البندنيجي، وهو الذي حكاه ابن الصباغ عنه. وإذا كفر الواطئ احتمل ألاَّ يكون عليه القضاء؛ [فإن القضاء داخل في الكفارة، واحتمل أن يكون عليه القضاء]. ولا فرق على هذين القولين بين أن يكفر بالصوم أو غيره كما قال البندنيجي، وكذا القاضي [الحسين]، ثم قال: ومن أصحابنا من قال: لم يختلف قوله: أن

القضاء واجب، وهو أصح، وسكوته؛ لعلمه بأنهم يعلمون أن القضاء لازم عليه. والذي سمعته في الدرس: أنه إن كفر بغير الصيام، فعليه القضاء، وإن كفر بالصيام؛ فحينئذ فيه طريقان على ما بينا؛ ولأجل هذا حكى بعضهم قولاً ثالثاً في المسألة [أنه] إن كفر بالصوم اندرج فيه، وإلا فلا. والصحيح: الأول؛ لما رواه أبو داود عن أبي سلمة بن عبد الرحمن [عن أبي هريرة] قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في رمضان ... وساق الحديث، قال: فأتي بعرق تمر - قدر خمسة عشر صاعاً- وقال فيه: "كله أنت وأهل بيتك، وصم يوماً، واستغفر الله"، وهذا في حق الرجل. أما [في حق] المرأة، إن قلنا بوجوب الكفارة عليها؛ فيظهر أن تكون كالرجل، وإن قلنا: لا يلاقيها الوجوب، او يلاقيها ويتحمله الزوج- فقد قال الإمام: لم يختلف الأصحاب في لزوم القضاء لها؛ لأن الكفارة إذا كانت صوماً، لم تتحمل، فما الظن بالقضاء؟! قال: وهذا مما لا شك [فيه]. قال: وفي الكفارة ثلاثة أقوال: أحدها: يجب على كل واحد منها كفارة: أما الرجل؛ فلما روى مسلم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: هلكت يا رسول الله، قال: "وما أهلكك؟ " قال: وقعت على امرأتي في رمضان [وأنا صائم]، قال: "هل تجد ما تعتق رقبة؟ " قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا، قال: اجلس، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، فقال: "تصدق بهذا" قال: على أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال:

"اذهب فأطعمه أهلك". ولأن الصوم عبادة يتعلق المال بجبرانها في حق الشيخ الهم والمرضع والحامل، ومن أخر القضاء إلى رمضان [آخر]؛ فتعلقت الكفارة بفسادها، أصله: الحج. وأما المرأة؛ فبالقياس على الرجل؛ لأن الكفارة عقوبة، وقد تساويا في سبب الحكم بوجوبها؛ فوجب أن يستويا في الحكم؛ كما إذا زنى بها؛ فإن الحد يجب عليهما [جميعا]؛ لتساويهما في سببه، وقد روي أنه – عليه السلام – قال: "من أفطر في رمضان، فعليه ما على المظاهر" والمرأة قد أفطرت في رمضان، فوجب أني جب عليها الكفارة؛ وهذا ما نص عليه في "الإملاء". قال الماوردي: والإيجاب على المرأة ليس بصحيح، ونسبه الغزالي إلى نصه في القديم، قال الرافعي: وليس ذلك؛ لأن "الإملاء" من الكتب القديمة؛ فإن "الإملاء" محسوب من الكتب الجديدة؛ ولكن رأيت لبعض الأئمة رواية عن القديم و"الإملاء" معاً. ويشبه أن يكون له في القديم قولان؛ لما ستعرفه. والثاني: يجب عليه دونها لأن النبي صلى الله عليه ولم [لم] يأمر زوجة الأعرابي بالكفارة مع مشاركتها له في السبب؛ فإنه جاء في بعض طرق قصة الأرابي فيما روته عائشة – رضي الله عنها -: هلكت، وأهلكت"، كما ذكره الشيخ زكي الدين في

"حواشي المختصر"، ولو كانت تجب عليها لبين ذلك كما بينه في حق الرجل؛ ألا ترى أنه في قصة العسيف الذي زنى قال: "واعد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها". فإن قيل: قد سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إيجاب القضاء فيه، وأوجبتموه. قلنا: قد جاء في بعض طرق الحديث التعرض له، وعلى الرواية المشهورة، فإنما لم يتعرض له لأنه منصوص عليه في القرآن؛ فلذلك لم يذكره. ولأنه حق مالي يتعلق بالوطء من بني جنسه؛ فكان على الرجل كالمهر، ويخالف الأصل؛ فإن صوم المرأة ناقص؛ فإنه معترض لأن يبطل بطروء الحيض، وإذا كان كذلك، لم تكن كاملة الحرمة؛ فلم تتعلق بها الكفارة؛ كذا قاله الكرابيسي؛ وهذا القول هو الذي نص عليه في "اختلاف مالك وأبي حنيفة"، وصححه في "الوجيز" و"التهذيب"، وبه قال الحناطي وآخرون، ومنهم القاضي أبو الطيب؛ تفريعاً على ما نص عليه في عامة كتبه؛ كما سنذكره. والثالث: يجب عليه كفارة عنه وعنها؛ لأن الأعرابي لما ذكر القصة ومشاركتها له في السبب، أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة؛ فدل على أنها وجبت بسبب المجموع. وقاس البغوي والمتولي الكفارة على ماء الاغتسال، وكأنهما قدراه متفقاً عليه بأنه عليه، لكن الحناطي حكى طريقاً آخر قاطعاً بأن ثمن ماء الاغتسال عليها لا عليه، وأشار إلى ترجيحه، وسنذكره في كتاب الحج عن غيره. وهذا القول نص عليه في "المختصر" حيث قال: فعليه القضاء، والكفارة واحدة

عنه وعنها. وقال القاضي أبو الطيب: إنه الذي نص عليه في كتبه القديمة والجديدة. وادعى الإمام أنه ظاهر المذهب، واختاره في المرشد. قال الرافعي: لكن الذين قالوا بالذي قبله حملوا قوله في "المختصر" على أنها تجب على الفعلين جميعاً، وردوا ماسبق من العلة؛ فإنه – عليه السلام – أمره بصوم الشهرين، ولو كانت الكفارة عنهما جميعاً، لبعث إليها من يأمرها بالصيام؛ لأن الصوم لايتحمل. وسيظهر لك حقيقة القول الثالث في التفريع، إن شاء الله تعالى. والقوال الثلاثة متفقة على أن الزوج مخاطب بإخراج كفارة واحدة، وأن الخلاف في [أن] المرأة مخاطبة بها أم لا؟ وسلك الجمهور في إيراده طريقاً آخر، فقالوا: نص في "الإملاء" على أن [على] المرأة الكفارة، ونص في عامة كتبه على أنها لا تجب عليها الكفارة، وهي عبارة أبي الطيب والماوردي، لكن لأن الوجوب لا يلاقيها أصلاً، أو لأنه لاقاها، وتحمله الزوج عنها؟ قيه قولان: المذكور في "اختلاف أبي حنيفة ومالك": الأول. وفي كتبه القديمة والجديدة: الثاني. وذلك عند الاختصار يرجع إلى ثلاثة أقوال كما ذكر الشيخ، وقد صحح القاضي أبو الطيب ما نص عليه في "الإملاء"، وهو الذي صدر به الشيخ كلامه، وقال الإمام:

إنه الأقيس عند أئمة المذهب؛ فإنه لا حجة في قصة الأعرابي على عدم إيجاب القضاء عليها؛ فإنه – عليه السلام – يجوز أن يكون قد علم أنها مكرهة، أو [كانت] نائمة؛ فلذلك لم يأمرها بالكفارة، ولفظة "أهلكت" قد قال الخطابي: إنها غير موجودة في شيء من رواية هذا الحديث، وأصحاب سفيان راوي الحديث لم يرووها عنه وإن كان بعض أصحابنا حدثني: أن معلى بن منصور روى هذا الحديث عن سفيان، وذكر هذا الحرف فيه، وهو غير محفوظ، والمعلى ليس بذاك في الحفظ. وقال البيهقي: وقوله: "أهلكت" ليس بمحفوظ. ونقل عن شيخه الحافظ أبي عبد الله تضعيف هذه اللفظة. قلت: ولو صحت كان احتمال كونها مكرهة أظهر؛ لأنه نسب إهلاكها إليه، ولا يكون منسوباً إليه إلا إذا كانت مكرهة؛ فإنها لو كانت مطاوعة لكانت هي المهلكة لنفسها، لا هو، ولايجوز أن يحمل على أنه السبب في إهلاكها نفسها؛ إذ كل منهما متسبب في إهلاك الآخر. نعم، يكون في هذا الخبر دليل على أن المكره على الوطء يفطر كما هو أحد القولين لنا، ولا يجب عليه الكفارة وإن كان فطره بالجماع. والذي اقتضاه إيراده في "الوسيط" ترجيح القول المنسوب لنصه في عامة كتبه؛ موجهاً له بأنها أفطرت قبل الجماع بوصول أول جزء من الحشفة إلى باطنها ولقصة الأعرابي. وأراد بذلك الاستدلال على القولين المذكورين فيمن المراد بهذا القول، هل أنه لا يلاقيها الوجوب أصلاً أو يلاقيها ويتحملها الزوج عنها؟ فقوله: "لأنها أفطرت" ساقه لتوجيه القول بأن الوجوب لا يلاقيها أصلاً، وهذه العلة هي التي حكاها الإمام في كتاب أجل العنين عن أبي طاهر الزيادي، وأن القاضي وافقه في القطع بفطرها قبل غيبوبة الحشفة، وقال: إنه لا ينقدح عندنا غير ذلك؛ لأنه لو فرض إيصال أصبع إلى وراء ملتقى الشفرين على قدر نصف الحشفة، لكان مفطراً. قال: وكان شيخي يقطع بأن [فطر] المرأة يحصل بتغييب الحشفة، ولا يقيم لما

يغيب من الحشفة حكماً، وسفه الزيادي فيما علل به عدم إيجاب الكفارة، وقول الزيادي مشكل؛ إذ لم يختلف أئمة المذهب في أن أقيس القولين: وجوب الكفارة عليها، عبارة الرافعي: أن الأكثرين زيفوه بأن قالوا: يتصور فساد صومها بالجماع، بأن يولج وهي نائمة، أو ناسية، أو مكرهة، ثم تستيقظ أو تتذكر، ثم تطاوع بعد الإيلاج وتستديمه والحكم لا يختلف على القولين. قال بعض الفضلاء: وهذا لا يتوجه به فساد قول الزيادي، وأنا أقول: فساد قول الزيادي ظاهر بما حكاه القاضي الحسين عنه؛ فإنه قال في التعليق: وكان الزيادي يقول: لا يتصور الخلاف في هذه المسألة؛ لما ذكرناه من العلة. [قال القاضي]: إلا أنهم يصورونه فيما لو جومعت مكرهة فطاوعت في أثنائه، أو ناسية فتذكرت في خلاله، فأصرت على ذلك؛ ففطرها حصل بالجماع لا محالة. قلت: لكن كلام الأصحاب يقتضي عدم الاقتصار في إجراء الخلاف على هاتين الحالتين؛ فإنهم جزموا بإجراء الخلاف فيما لو نزلت عليه وهو نائم، فقالوا: إن

قلنا بقوله في "الإملاء"، فيجب عليها وكذا لو قلنا: إنها تجب على الزوج [بطريق التحمل عنها، وإن قلنا: جانبها خلو عنها، فلا شيء عليها ولا على الزوج] وهذا يعضد الشيخ أبا محمد في قوله، وقد قال الإمام في تقريره: وأيضاً: إن الممكن في الفرق بين الإصبع وبعض الحشفة: أن بعض الحشفة وإن كان يغيب ويصل إلى الباطن؛ فحكم الجماع أغلب [فلا اكتراث] بالتغييب الذي يتعلق به وصول واصل من الظاهر إلى الباطن، وكان الحكم للوقاع. وقول الغزالي: "ولقصة الأعرابي" أراد به توجيه القول بأن الوجوب يلاقيها، ثم يتحمله الزوج؛ لأنه لما قال: "هلكت وأهلكت" وجب عليه الكفارة؛ فدل على أنها عنهما. ويجوز أن يكون ذكر ذلك تنزيلاً، وكأنه قال: ولو قلنا: إن المرأة لا تفطر بما دون الحشفة؛ فلا تجب الكفارة لقصة الأعرابي؛ وحينئذ يكون هذا استدلالاً على أنها لا تبج عليها أصلاً، كما ذكرنا: أنه الذي صححه في "الوجيز"، والله أعلم. أما إذا كان الوطء في الموضع المكروه، فالحكم في القضاء كما تقدم، وكذا الكفارة في حق الرجل، [وأما المرأة، فلا يجب عليها وفاقاً؛ كما قال [القاضي] أبو الطيب والبندنيجي، وكذا حكم إتيان الرجل] في الدبر.

وفي كلام الغزالي إشارة إلى عدم وجوب الكفارة بالإتيان في غير المأتي؛ لأنه قال: والظاهر من المذهب تعلقها بوطء البهيمة والإتيان في غير المأتي. وعبارة الفوراني أبلغ في حكايته؛ لأنه قال: لو تلوط [أو] أتى بهيمة، فالصحيح

أن عليه الكفارة. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان كالقولين في وجوب الحد. [وعلى ذلك ينطبق قول الإمام. وذهب بعض أصحابنا إلى اتباع الكفارة الحد فكل وطء يتعلق الحد بجنسه تتعلق الكفارة به، وكل وطء اختلف القول في تعلق الحد به: كإتيان البهيمة، ففي وجوب الكفارة به ذلك الخلاف. وهذا رديء مزيف، والذي أورده العراقيون: الأول. نعم، قالوا فيما لو أتى بهيمة: إن قلنا: إن الواجب عليه القتل أو الحد، فالأمر كذلك، وإن قلنا: إن واجبه التعزير، ففي وجوب الكفارة وجهان. وقد احترز الشيخ بقوله: "إذا جامع" عما إذا باشر فيما دون الفرج بشهوة، أو استمنى؛ فأنزل [ونحو ذلك]؛ فإنه لا يجب عليه الكفارة العظمى عندنا، وهل يجب غيرها؟ فيه ما تقدم. وحكى الرافعي عن الحناطي [أن] ابن [عبد] الحكم حكى عن الشافعي إيجاب الكفارة فيما إذا جامع فيما دون الفرج، وأنزل، وأن أبا خلف الطبري – وهو من تلامذة القفال- اختار وجوب الكفارة لكل ما يأثم بالإفطار به. و [احترز] بقوله: "امرأته"، عما إذا زنى بامرأة في قبل أو دبر في نهار رمضان، أو وطئها بشبهة؛ فإن القول الثالث لا يجري، بل لا يكون في المسألة في حقها إن كانت مطاوعة إلا قولان: الوجوب، أو عدمه، وأما في حقه، فالكفارة عليه لا محالة. وقال الماوردي: إن القاضي أبا حامد كان يزعم أنه يجب على كل واحد منهما كفارة، لا يختلف. يعني: وإن قلنا: لا يجب على الزوجة؛ لأن الخبر لم يأت فيما زنى، ولأن الزاني في معناه. ولو كانت مكرهة، فسنذكر حكمها. وأمته في حكم زوجته المعسرة، لكن يمتنع التحمل؛ لأن واجبها الصوم، وهو لا

يقبل التحمل إلا على وجه سنذكره. ثم كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في الخلاف الذي ذكره- فيما إذا كانت زوجة - بين أن يكون قد وطئها وهي ناشز، أو لا. وفي "البحر" فيما إذا وطئها وهي ناشز: أن والده كان يقول: إن قلنا بقول التحمل لو لم تكن ناشزاً، فهل يتحمل عنها والحالة هذه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا كزكاة الفطر والنفقة. والثاني: نعم، والفرق: أن ذلك يلزمه [في مقابلة التمكين، وبالنشوز زال التمكين، والكفارة تلزمه] بالجماع، لا بالتمكين. قال الروياني: وهذا أشبه بكلام أصحابنا والأول أقيس. قلت: وعندي في تصوير المسألة نظر؛ لأنه إذا وطئها مكرهة أو نائمة، فقد استوفى حقه في تلك الحالة؛ فزال النشوز بالنسبة إليها، وإنما لم تستحق النفقة؛ لأنها في مقابلة التمكين في اليوم، ولم يوجد في جملته، والفطرة تتبعها. واحترز بقوله: "في نهار رمضان" عما إذا جامع وهو صائم عن قضاء أو نذر أو كفارة أو تطوع؛ فإنها لاتجب عندنا الكفارة العظمى؛ لفقد حرمة الوقت التي وجبت لأجله، وهل يجب غيرها؟ المذهب: لا. وحكى البندنيجي عن ابن أبي هريرة أنه قال: يكفر عن كل يوم بالكفارة الصغرى.

واحترز بقوله: "من غير عذر" عما إذا كان له عذر يسوغ له الإقدام على الوطء، وهو على مراتب: الأولى: الجهل؛ كما إذا جامع معتقداً أنه ليل، ثم بان أنه نهار، يلزمه القضاء دون الكفارة؛ وكذا إن أكل ناسياً؛ فظن أنه أفطر؛ فجامع عامداً – لا تجب عليه الكفارة وإن أوجبنا القضاء؛ كما نص عليه في "الأم"، وفيما إذا جامع ظاناً أن الفجر لم يطلع، وكان قد طلع – وجه: أنها تجب؛ بناء على وجوبها بجماع الناسي، كما سنذكره حكاه الإمام عن طوائف من أصحابنا. وقال الرافعي: إن ما أطلقه صاحب "التهذيب" من أنه لا كفارة على من ظن أن الشمس قد غربت؛ فجامع، ثم تبين خلافه – ينبغي أن يكون مفرعاً على تجويز الإفطار والحالة هذه، وإلا فتجب الكفارة؛ وفاء بالضابط المذكور؛ لما يوجب الكفارة. وفيما إذا أكل ناسياً؛ فظن أنه أفطر؛ فجامع عامداً – احتمال للقاضي أبي الطيب في وجوب الكفارة؛ لأن فطره بالنسيان لا يبيح له الأكل عامداً؛ حكاه [عنه] في "المهذب" و"البيان". الثانية: النسيان، فإذا جامع ناسياً، قد قلنا: إنه لا يفطر على المشهور، وفيه قول مخرج: أنه يفطر به؛ فيلزمه القضاء، وإذا قلنا به، فهل يلزمه الكفارة؟ فيه وجهان تقدم ذكرهما أيضاً. والذي يظهر: عدم الوجوب كما رجحه الرافعي وغيره؛ لأنه لم يقصد [هتك] حرمة الصوم، ويشهد لذلك ما حكيناه عن النص في الصورة قبلها. والإكراه إذا قلنا: إنه لا يمنع الفطر، فهو من الأعذار المسقطة للمأثم؛ كالنسيان؛

فينبغي أن يجري فيمن جامع مكرهاً الخلاف المذكور في الناسي إذا قلنا: إنه يفطر، وهو يؤخذ من مجموع ما وقفت عليه في كتب الأصحاب؛ فإن القاضي أبا الطيب قال في تعليقه الذي وقفت عليه: إذا قلنا: إن المكره على الجماع يفطر به، وجبت عليه الكفارة. والذي أورده البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين والرافعي: عدم الوجوب، وهو الذي يتجه القطع به؛ لأنه لم يقصد هتك حرمة الصوم، ويخالف الناسي؛ لأنه ينسب إلى تقصير ما، ولا تقصير من جهة المكره. الثالثة: السفر؛ فإنه لا يجوز الإقدام عليه مع نية الصوم مع الليل، فإذا فعله حيث يجوز له وقد نوى الصوم، فإن قصد به الترخص لم يجب عليه الكفارة بلا خلاف إن كانت زوجته كحاله. وإن لم يقصد الترخص بل قصد هتك حرمة الصوم، وهو ذاكر له – فهل يلزمهم الكفارة؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين [وغيره]: أحدهما: نعم؛ لأن [الرخصة لا تحصل] بدون قصدها؛ ألا ترى أن المسافر لو أخر الظهر إلى العصر بنية الجمع، كان له الجمع [ولو أخرها عامداً، غير قاصد للترخص، ولم ينو الجمع؛ فلا يجوز له الجمع، وإذا فعل يكون عاصيا]؟! والثاني: لا؛ لأن له الفطر، وهو لا يفتقر إلى قصد من المفطر ألا ترى أنه يصير مفطراً [بغروب الشمس] وليس كذلك الصلاة؟! والمريض قد قلنا: إنه ينبغي أن يلحق بالمسافر في ذلك كما ألحقنا المسافر به فيما إذا أفطر بغير الجماع. ولو كان المسار قد قدم من سفره نهاراً مفطراً، فأخبرته زوجته أنها مفطرة؛ لانقطاع حيضها، فجامعها، وكانت صائمة – فإن الكفارة تجب عليها بلا خلاف،

ولا يتحمل عنها؛ لأنها غرته. نعم، لو أخبرته أنها صائمة؛ فإن طاوعته، وقلنا: الواجب كفارة واحدة عنه وعنها، وجبت عليها بلا خلاف عند العراقيين، وهو الذي أورده الفوراني. وحكى القاضي الحسين وجهاً: أنها تجب على الزوج، ثم قال: والأصح: أنها لا تلزمه هنا؛ لأن الزوج [هنا] لا يلزمه شيء متبوعاً حتى يتحمل عنها على طريق التبعية. قلت: وسيأتي مثل هذا الخلاف في طرق العراق فيما إذا مكنت زوجة المجنون – وهي صائمة – زوجها من نفسها؛ فوطئها. ولو أكرهها، فإن قلنا: لا يفسد صومها؛ فلا شيء على واحد منهما. وإن قلنا: يفسد فكذلك عند البندنيجي وغيره. وفيما وقفت عليه من "تعليق" القاضي أبي الطيب: أن الكفارة تجب [عليها ويتحملها عنها، قوال هذا بخلاف ما إذا وقع المجنون على امرأته في نهار رمضان] وهي صائمة، أي: ومكنته – كما قال القاضي الحسين – فإن يجب عليها الكفارة على القول الثالث، وهل يتحملها [عنها]؟ فيه وجهان، نسب القاضي أبو الطيب المنع منهما إلى قول أبي إسحاق، لأنه لا قصد له. ومقابله إلى ابن سريج، وهو الذي أورده ابن الصباغ، وحكاه الغزالي وجهاً، وإن لم يحكه إمامه؛ لأن جماعه بمنزلة الجناية، ولو جنى، للزمه الضمان في ماله، وهو معنى قوله في

"الوسيط": لأن ماله يصلح للتحمل. وقد عكس المصنف والماوردي والقاضي الحسين النسبة التي ذكرناها، فعزوا الأول إلى قول ابن سريج، ومقابله إلى أبي إسحاق. وحكى الفوراني الخلاف عنهما على وجه آخر، فقال: لو أصبح صائماً مقيماً [فجنَّ] فجامع، فقد قال ابن سريج: لا كفارة عليه، وقال أبو إسحاق: عليه الكفارة. وهما مبنيان على أن الرجل إذا أحرم بالحج، ثم جن، فجامع، هل عليه [الكفارة؟] وفيه قولان. ثم على قول ابن سريج: إن قلنا: إن الكفارة تجب على الرجل ابتداء – كما هو القول الثاني في الكتاب – فلا كفارة على امرأة المجنون. وإن قلنا، تجب على المرأة، ثم يتحملها الزوج – كما هوا لقول الثالث في الكتاب – فعلى امرأة المجنون الكفارة؛ لأن الزوج المجنون لا كفارة عليه حتى تدخل كفارتها في كفارته. وقد ألحق الرافعي بالمجنون في هذا الصبي المراهق إذا قلنا: لا كفارة عليه في نفسه؛ كما سنذكره، وكذا ألحق به الناسي والنائم إذا استدخلت ذكره.

وعبارة الغزالي في ضبط ما يوجب الكفارة العظمى: "أنها تجب على كل من أفسد صوم يوم من رمضان بجماع [تام] آثم به لأجل الصوم"، واحترز بقوله: "أفسد" عن جماع الناسي، وقد ذكرناه، وبقوله: "من رمضان" عن التطوع [والقضاء] والنذر، وقد ذكرناه. وبقوله: "بجماع" عمن أفسده بالأكل والاستمناء ونحو ذلك؛ فإنه لا كفارة فيه. وعن المراوزة إذا جومعت – وفي نسخة: إذا جامعت – فإنه لا كفارة عليها، وقد تقدم الكلام في ذلك. وبلفظ "التام" عما إذا أتى بهيمة؛ أو وطئ في الموضع المكروه؛ فإن فيه ما تقدم. ويجوز أن يقال – وهو المتبادر إلى الفهم -: إنه أرادبه الاحتراز عن المرأة إذا جومعت أو جامعت؛ فإنها أطرت قبل تغييب الحشفة على زعمه؛ لأنه بذلك علل عدم إيجاب الكفارة. وبقوله: "آثم به" عمن أصبح مجامعاً أهله ظانًّا أن الفجر لم يطلع، وكان قد طلع؛ فلا كفارة عليه إلا على وجه إيجابها على الناسي. وكلامه يتضمن –أيضاً – الاحتراز عن المكره على الجماع إذا قلنا: [إنه مفطر به؛ فإنه غير آثم، ولا كفارة عليه؛ كما تقدم.

واحترز بقوله: "لأجل الصوم" عن الزاني ناسيًّا: إذا قلنا]: يفطر [به] وعمن أكل ناسياً، وظن أنه قد أفطر؛ فجامع عامداً، يلزمه القضاء، ولا كفارة. وإنما قلنا: إن لفظة "آثم" أخرجت هذه الصورة؛ لأن النسيان لو كان مفطراً، لما أباح الإقدام على الوطء. نعم، لو جهل أيضاً- أنه لا يحرم عليه تعاطي المفطرات في نهار رمضان بعد الفطر فيه، يخرج بلفظة "آثم". فإن قلت: إذا لم يهل تحريم تعاطي المفطرات بعد الفطر في نهار رمضان؛ فهو آثم؛ لأجل الصوم؛ فهو مندرج تحت قوله، ويؤيده ما ذكرناه عن القاضي أبي الطيب من إيجاب الكفارة عليه. قلت: إثمه ليس لأجل الصوم بل لأجل وقت الصوم ولهذا إن من أفطر بالأكل عامداً، ثم جامع لا كفارة عليه وإن كان آثماً لأجل الوقت بوطئه، والله أعلم. وقد اقتضى كلام الشيخ أمرين: أحدهما: أن ما ذكره من الأحكام عند الفطر بالجماع جار في كل يوم؛ حتى لو تكرر ذلك منه في أيام وجب عليه قضاؤها، ويعددها كفارات، وهو ما نص عليه في "مختصر" البويطي، حيث قال: "لو جامع في كل يوم من رمضان، وجب عليه ثلاثون كفارة". قال الأصحاب: وسواء في ذلك [ما إذا لم يكن قد كفر عن اليوم الأول] قبل أن يجامع فيما بعده أو لا؛ لأن كل يوم من رمضان عبادة مستقلة بنفسه؛ فوجب بإفساده بالجماع الكفارة كاليوم الأول وبهذا فارق ما إذا تكرر منه الجماع [في الحج؛ لأن الحج عبادة واحدة. نعم، لو تكرر منه الجماع] في اليوم الواحد في زوجة واحدة، لا يلزمه إلا كفارة واحدة؛ لأن الصوم [قد] زال بالفعل الأول؛ ويدل على هذا من كلام الشيخ جعله وجوب القضاء والكفارة مسبباً عن الوطء، والوطء الثاني في اليوم الواحد، لا يوجب قضاء آخر؛ فكذلك لا يوجب كفارة أخرى، ويخالف ما

إذا جامع في الحج الواحد مرتين فأكثر؛ حيث يلزمه لأجل الثاني كفارة أخرى؛ لأن الحج ثمَّ منعقد بعد الوطء، يجب المضي فيه، والإمساك في رمضان بعد الفطر؛ لحرمة الوقت لا لكونه عبادة. ولو تكرر منه [في] أربع زوجات، قال في "الحاوي": كان عليه أربع كفارات في أحد القولين؛ إذا قيل: إن الكفارة وجبت عليها، أي: وهو يتحملها. الثاني: أنه لا فرق في وجوب الكفارة عليه وقد فسد صوم اليوم بالجماع بين أن يطرأ عليه ما يبيح الفطر فيه كالمرض في أثنائه، أو سقط صومه عنه: كالحيض، والجنون، والموت؛ وهو الراجح عند العراقيين، ولم يورد الفوراني غيره؛ لأن ذلك طرأ بعد فساد الصوم بالجماع؛ فأشبه ما لو أفسد الحج، ثم أحصر بعده؛ فإنه يتحلل، ولا تسقط الكفارة؛ وهذا ما نص عليه في "الإملاء" كما قال القاضي أبو الطيب، وحكى معه قولاً آخر نسبه إلى نصه في "اختلاف العراقيين": أنها تسقط؛ إذ بان بالآخرة أن الصوم لم يكن واجباً. [و] قال البندنيجي: إن القولين منصوصان في "اختلاف العراقيين". وجزم طائفة- ومنهم القاضي الحسين والبغوي - بأن طرآن المرض لا يسقطها كطرآن السفر، وحكاية القولين أي طرآن الجنون والحيض، وصحح المتولي منهما قول السقوط.

ويجيء عند الاختصار في ذلك ثلاث أقوال، وقد حكاها في "الوسيط"، ثالثها: أنها تسقط بطرآن الحيض والجنون؛ فإنهما ينافيان الصحة، قال: وفي معناهما الموت، بخلاف المرض؛ فإنه لا ينافي الصحة. قالك وقد حكى طرد هذه الأقوال في طرآن السفر، وهو بعيد. قلت: وفي قوله: "هذه الأقوال" نظر؛ فإنه لا يتصور أن يأتي في طرآن السفر إلا قولان نعم، تجيء الأقوال إذا جمعت السفر مع الجنون والحيض، وإذا أضفت إلى ذلك المرض كان في ذلك أربعة أقوال. وقد نسب الرافعي طريقة طرد الأقوال في السفر إلى رواية صاحب "التقريب" والحناطي. ولقائل أن يقول: مقتضى كلام الشيخ في طرآن الجنون عدم إيجاب الكفارة؛ لأنه جعلها واجبة في الموضع الذي جزم [فيه] بالقضاء، والمجنون لا قضاء عليه في هذه الصورة؛ فكذلك لا كفارة". فرع: المراهق إذا شرع في صوم رمضان، ثم جامع، فسد صومه، قال في "التتمة": والصحيح من المذهب أنه لا كفارة عليه؛ لأن حرمة الصوم في حقه ناقصة؛ لأنه لا يخاطب بالصوم ولا ببدله وقد خرج فيه وجه آخر – من قولنا: إن عمد الصبي عمد -: أن عليه الكفارة. ونظير هذه المسألة ما إذا أحرم بالحج، ثم جامع. وفي "البحر": أن الصبي إذا جامع، لاتلزمه الكفارة بحال، وهل يبطل صومه؟ قال والدي: فيه وجهان ينبنيان على القولين في أن عمده عمد أو خطأ. وإنما قلت هذا؛ لأن صاحب "الإفصاح" ذكر في جماع الصبي عمداً في الحج:

هل يفسد الحج؟ وجهين. قلت: وكأنه لم يقف على قول الإمام ثم: إن عمده فيما يتعلق بإفساد العبادات غير الحج كعمد البالغ؛ ولهذا يفسد صومه إذا تعمد الأكل [وتفسد الصلاة إذا تعمد الكلام]. فإن قيل: يجوز أن يفرق بين الفطر بالجماع والأكل بأن شهوة الصبي في الأكل كشهوة البالغ بل أبلغ، ولا كذلك الجماع؛ فإنه إنما أفطر البالغ؛ لأنه مظنة الإنزال، وهو مقصود الجماع، وذلك لا يوجد في حق الصغير؛ فشابه المباشرة فيما دون الفرج إذا لم يتصل بها الإنزال. قيل: يلزمه على ذلك ألا يجب عليه غسل، ولا يسلك به مسلك الجماع في شيء من الأمور، وليس كذلك، والله أعلم. قال: والكفارة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً؛ لظاهر قصة الأعرابي؛ ولقوله – عليه السلام -: "من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر"، وهكذا تجب الكفارة على المظاهر بالإجماع. ولأنها كفارة فيها صوم متتابع فكانت على الترتيب؛ ككفارة القتل. قال الماوردي: ولأن الكفارات في الشرع ضربان: ضرب بدأ يه بالأغلظ؛ فكان الترتيب فيها واجباً، مثل: كفارة الظهار، والقتل، بدأ فيهما بالعتق. وضرب بدأ فيها بالأخف، فكان التخيير فيها مستحقاً، مثل: كفارة اليمين بدأ فيها بالإطعام، ثم وجدنا كفارة الجماع بدأ فيها بالأغلظ وهو العتق فوجب أن يكون الترتيب فيها مستحقاً. فإن قيل: روى أبو داود عن أبي هريرة أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره رسول الله صلى الله عله وسلم أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكيناً، قال: لا أجد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلس"، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق تمر – وفي

رواية أنه [يقدر] بقدر خمسة عشر صاعاً – فقال: "خذ هذا، فتصدق به، فقال: يا رسول الله، ما أحد أحوج مني، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، فقال له: ["كله"، في رواية]: "كله أنت [وأهل بيتك]، وصم يوماً، واستغفر الله"؛ وهذا يدل على التخيير كما قال به مالك. قيل: [الواو] كما لا تقتضي الترتيب، لا تمنعه؛ فيكون هذا الحديث بيانه ما ذكرناه من الحديث الآخر، والتقدير: أنه أمره بالصوم إن عجز عن الرقبة، وبالإطعام إن عجز عن الصوم، وقد قدر مثل هذا في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] مع أنا لو لم نقدر ذلك كان ما ذكرناه أولى؛ لأن رواته فوق العشرين، ورواة ذلك اثنان، وما تمسكنا به حكاية لفظ [الرسول صلى الله عليه وسلمن وما تمسكوا به حكاية لفظ] الراوي، وقد قيل: إنه ليس بحجة. والعرق – بفتح الراء -: المكتل. وهل الاعتبار فيما ذكرناه بحالة الوجوب أو حالة الإخراج وإذا صام ثم قدر في أثنائه على العتق – الكلام في ذلك كما يأتي في الظهار، قال البندنيجي: حرفاً بحرف، وكذا في غيره، نعم: حكى القاضي الحسين فيما لو شرع في التفكير بالإطعام، ثم قدر على الصوم، فهل يجب عليه الانتقال إليه؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ كما لو قدر على العتق بعد أن شرع في الصوم؛ فإنه لا يجب عليه الرجوع إليه وإن كنا مستحباً؛ للخروج من خلاف المزني وغيره. والثاني: يجب، والفرق: أن الإطعام غير منتظم انتظام الصوم، ولا مرتبط، والصوم يتعلق أوله بآخره، والشروع فيه كالفراغ منه. قال ابن الصباغ ما معناه: فإن قيل: المتيمم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة، هل له

أن يخرج منها؟ فيه وجهان، فما الفرق؟ قيل: الصوم الواجب قد خير المسافر في الخروج منه، والصلاة الواجبة إذا دخل فيها لم يحل الخروج منها. وفرق القاضي أبو الطيب بفرق آخر: وهو أن الخروج من الصلاة يبطل ما عله منها والخروج من الصوم لا يبطل ما مضى منه. وإذا عرفت أن هذه الكفارة على الترتيب آن أن أذكر لك ثمرة التفريع على الأقوال السالفة: فإن قلنا بالقول الأول، قام كل منهما بما يقتضيه حاله من العتق والصوم والإطعام. وإن قلنا بالثاني على النحو الذي أورده الشيخ، اعتبر حال الزوج بنفسه. وإن قلنا بالقول الثالث، لا يخلو أن يستوي حالهما، أو يختلف: فإن استوى نظر: فإن كانا من أهل الإعتاق أو الإطعام فقط أعتق رقبة أو أطعم ستين مسكيناً، ونوى ذلك عن نفسه وعن زوجته؛ كما قال القاضي أبو الطيب. قال البندنيجي: وتقع كلها عن كل [واحد منهما]. قال ابن يونس: قال بعض المتأخرين: والذي يقتضيه المذهب: أن يكون الولاء بينهما؛ لأن العتق أجزأ عنهما. ون كانا من أهل الصيام، صام كل منهما شهرين متتابعين، وهل ذلك؛ لأن الواجب على كل منهما كفارة، وكفارة المرأة تدخل في كفارة الرجل في الإعتاق والإطعام لاتحاد جنسهما وقبولهما التحمل، ولا تدخل في الصوم، لأنه لا يقبل التحمل أو لأن الواجب على كل منهما نصف كفارة، والزوج يحمل النصف الواجب على المرأة إذا أمكن، وإذا لم يمكن، وجب على كل منهما إتمامها؛ لان الكفارة لا تتبعض، ولا يمكن أن ينبني صيام أحدهما على صيام الآخر؟ فيه خلاف بين الأصحاب: والذي صرح به البندنيجي والمتولي: الأول، وهو ما حكى عن الشيخ أبي حامد.

والذي حكاه ابن الصباغ: الثاني، وهو الذي يدل [عليه] كلام القاضي الحسين الآتي، [وقد] حكى القاضي الحسين أن من أصحابنا من قال يما إذا كان حالهما [الصوم:] إنه يصوم شهرين [متتابعين] ولا شيء عليها لأن أصل الكفارة مما يجزئ فيه التحمل؛ فكذلك في بدله، ومنزلة هذا منزلة قولنا: لا يجوز النيابة في الصلاة، ثم لو استأجر رجلاً، ليحج عنه؛ فإنه يتحمل عنه ركعتي الطواف؛ فكذلك هاهنا. والأصح الأول. وإن اختلف حالهما، قال القاضي أبو الطيب: نظر: فإن كان حال الزوج ارفع من حالها، مثل أن يكون من أهل العتق، وهي من أهل الصيام – فإنه يعتق عن نفسه رقبة، ويجب عليها الصيام، فإن أراد أن يخفف عنها، وكانت حرة؛ فإنه ينوي بعتق الرقابة عنه وعنها، ويسقط عنها الصيام؛ لأنه يجوز الانتقال من الصيام إلى العتق؛ إذ كان العتق أعلى والصيام أدنى؛ وهذا يدل [على] أنه لا يجب عليه أن يعتق عنها. وعبارة [ابن الصباغ] والشيخ: أنه يجزئه رقبة عنهما جميعاً. وفي "التتمة" حكاية وجهين: أحدهما: أن عليها الصوم. والثاني: أن يسقط عنها بعتقه؛ لأن من كانت كفارته الصوم لو كفر بالعتق يجوز. وهذا إذا كانت حرة، فلو كانت أمة، قال القاضي أبو الطيب والماوردي وغيرهما: فليست من أهل العتق؛ فلا يجوز أن ينوي العتق عنها، ويجب عليها الصيام؛ لأنه لا يجد سبيلاً إلى التخفيف عنها. وقال في "المهذب": إن هذا إذا قلنا: إن الأمة لا تملك، أما إذا قلنا: إنها تملك المال، أجزأ عنها العتق؛ كالحرة المعسرة.

وإن كان من أهل الصيام، وهي من أهل الإطعام قال [القاضي] أبو الطيب وغيره: فيجب عليه الصوم، ويجب عليها الإطعام، إلا أنه يتحمل [ذلك] عنها؛ لأن الإطعام مما يتحملن وتدخله النيابة، وليس له أن ينتقل من الإطعام هاهنا إلى الصيام الذي هو أعلى منه؛ لأن الإطعام وجب عليه بسبب غيره، وإنما يجوز ذلك لو كان بسببه، ولو تكلف العتق سقط عنه الصوم والإطعام؛ قاله البندنيجي. وفي تعليق القاضي الحسين: [أن الزوج] يصوم عن نفسه، ولا يتحمل عنها الإطعام؛ لأنه لا يصح أن يتحمل عنها ما وجب عليها من الإطعام بالصيام. وقال الرافعي: إن قضية قول من قال بإجزاء العتق عن الصيام في الصورة السابقة إجزاء الصوم [عن الإطعام] لأن من فرضه الإطعام لو تحمل المشقة وصام، أجزأه والصوم كما [لا يتحمل به] لا يتحمل. ولو كان الزوج من أهل العتق، وهي من أهل] الصوم. [وحكى الفوراني] في إجزاء العتق عنهما وجهين؛ لما بينهما من اختلاف النوع مع اتحاد المالية. فإن قلنا: لا يجزئ، قال الراعي: فهل يجب على الزوج الإطعام عنها، أو لا؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم؛ فإن عجز عنه، ثبت في ذمته إلى أن يقدر لأن الكفارة على هذا القول معدودة [من مؤنات] الزوجية اللازمة على الزوج. والثاني- ذكره في "التهذيب" -: أن عليها ذلك؛ لأن التحمل كالتداخل فلا

يجزئ عند اختلاف الجنس. ولو كان حال المرأة أرفع من حال الزوج؛ بأن كانت من أهل العتق وهو من أهل الصوم، قال أبو الطيب: فإنه يجب عليها عتق رقبة، ويجب عليه الصوم. فظاهر هذا: أنه لا يثبت العتق عنها في ذمته. وقال الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ: إنه يكون في ذمته يعتق عنها متى قدر. وهو الذي حكاه القاضي الحسين عن العراقيين بعد أن حكى وجهين غيره: أصحهما: أن عليها عتق رقبة كاملة؛ لأنه [لا] يجوز التبعيض. والثاني: يجوز لها الصوم؛ لأن الأصل في هذا الباب الرجل، فإذا عدم المال، انتقل جميع الكفارة إلى الصوم، غر أنه لا يتبعض. وعلى رأي العراقيين: لو أعتق رقبة قبل الصوم، وهو ممن يجوز [له] التكفير بالعتق عنها وعنه، سقط عنه الصيام، قاله أبو الطيب وغيره، وكذا القاضي الحسين؛ تفريعاً على أنه لا يتحمل عنها. ولو كانت من أهل الصوم، وهو من أهل الإطعام، [فإنه يجب عليها الصوم، ويجب عليه الإطعام، ولا يجوز أن ينوي الإطعام عنها. وحكى البغوي وجهاً: أنه يسقط ما عليها بتأدية الزوج ما عليه، والله أعلم. تنبيه: [الكفارة]: أصلها من "الكفر" - بفتح الكاف - وهو الستر؛ لأنها تستر الذنب، وتذهبه؛ هذا أصلها، ثم استعملت فيها وجدت فيه صورة مخالفة، أو انتهاك وإن لم يكن فيه إثم كالقتل خطأ وغيره.

وقوله: عتق رقبة قال الأزهري: إنما قيل لمن [أعتق نسمة:] أعتق رقبة، وفك رقبة فخصت الرقبة دون جميع الأعضاء؛ لأن حكم السيد وملكه حبل في رقبة العبد، وكالغل المانع له من الخروج، فإذا أعتق فكأنه أطلق من ذلك. قال: فإن لم يجد، أي: الطعام، ثبت في ذمته في أحد القولين إلى أن يجد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي أن يكفر بما دفعه إليه من التمر مع [إخباره بعجزه]؛ فدل على ثبوتها في الذمة مع العجز. وأيضاً: فبالقياس على جزاء الصيد؛ وهذا ما صححه المصنف تبعاً للماوردي. ويسقط في الثاني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر ذلك للأعرابي مع جهله بالحكم فيها. وبالقياس على زكاة الفطر إذا عدمها وقت الوجوب. وهذان القولان أخذا من قول الشافعي في "الكبير" – وهو "الأم" -: "يحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط عنه الكفارة؛ لإعساره وعجزه عن الصوم"، ثم قال: "ويحتمل أن يكون أخرها، وجعلها في ذمته حتى يكفر إذا أيسر". قال العراقيون: وضابط هذا الباب: أن الحق المالي [الذي] يجب لله تعالى من غير سبب إذا دخل وقت وجوبه، ولم يصادف قدرته عليه، فلا يجب حالاًّ [و] مآلاً، وهذا كزكاة الفطر، وما يجب بسبب البدلية كجزء الصيد، فلا يمنع استقراره في الذمة العجز عنه حالة وجود السبب، وما يجب بسبب جناية عله أو قوله سوى ما ذكرنا –وهي كفارة الجماع والظهار والقتل واليمين – فهل يؤثر فيها الجز المقارن؟ فيه قولان. قال القاضي الحسين: وعندي أنهما ينبنيان على أن الكفارة اعتبارها بحال الوجوب، أم بحالة الأداء؟ وفيها قولان؛ فكذا في أصل الوجوب يخرج على القولين. وعن صاحب "التلخيص" إلحاق كفارة الظهار بجزاء الصيد ولا يستحل المظاهر

الإقدام على الوطء ما لم يكفر. وقال الشيخ أبو علي: إنها على الخلاف، ولا معنى لاستثنائها. وحكى الإمام: أن صاحب "التقريب" أهمل استثناء جزاء الصيد عن محل القولين، ولا ينبغي أن يعتقد في جزاء الصيد خلاف، وترك استثنائه من صاحب "التقريب" غفلة منه. وقد اقتضى كلام الشيخ أن الثابت في ذمته على القول به: الإطعام، والذي أورده القاضي الحسين والرافعي: أن ما قدر عليه من الخصال بعد ذلك، وجب عليه. وكلام القاضي أبي الطيب يقتضي أنه عند العجز يكون مخيراً في الخصال الثلاث؛ لأنه قال في الجمع بين ما حكيناه دالاً على الترتيب و [ما] تمسك به الخصم على التخيير: إنا نحمل حديثهم على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الأعرابي لما كان عادماً الأنواع الثلاثة، وعندنا: أنه إذا أن عادماً لها، خيرناه في تحصيل أيها شاء. وهذا في تأخير الكفارة عن وقت الوجوب، وأما تعجيلها قبله، هل يجوز؟ المشهور: لا؛ لأن سببها الوقاع ليس إلا، وقد حكى مجلي في كتاب الأيمان أن بعض الأصحاب [أجرى خلافا] فيه، [وقد حكاه الرافعي في كتاب الزكاةكما تقدمت حكايته عنه]. قال مجلي: وقائله طرده في الحج ومحظوراته، ثم قال: والظاهر المنع. وسنذكر ذلك مرة أخرى في كتاب الحج، إن شاء الله تعالى. قال: ومن حركت القبلة شهوته، أي: بحيث خاف [إنزال الماء]- كره له أن يقبل؛ خوفاً من أن يعقبه الإنزال؛ فيفطر، وهل هذه الكراهة كراهة تحريم أو تنزيه؟ فيه وجهان في "التتمة"، المذكور منهما في "المهذب" و"التهذيب" و"تعليق" القاضي أبي الطيب: الأول؛ لقول الشافعي في "الأم" - كما قال القاضي -:"ومن حركت القبلة شهوته، فالقبلة حرام عليه، ومن لم تحرك القبلة شهوته كرهتها له؛ فإن فعل لم ينتقص صومه، وتركها أفضل".

وعبارة ابن الصباغ في حكاية نصه في "الأم": "أن من حركت القبلة شهوته كرهتها له فإن فعل لم ينتقص صومه، ومن لم تحرك شهوته فلا بأس له، والقبلة وملك النفس في الحالين عنها أفضل"، وهذه العبارة توافق ما اقتضاه كلام البندنيجي: أنها كراهة تنزيه؛ حيث قال: "والأفضل ترك القبلة، سواء كان ممن تحرك القبلة شهوته أو لا تحركها"، وهو الذي يفهمه كلام الماوردي والفوراني؛ حيث أطلقا الكراهة من غير تعرض للتحريم، وهو مصرح به في الحاوي في كتاب الاعتكاف. ويجوز أن يكون المستند في ذلك مع ما حكيناه عن إمام ما نقله المزني في "المختصر"، وهو: أن من حركت القبلة شهوته، كرهنا له، فإن فعل، لم ينتقص صومهن وتركه أفضل. وقد قال ابن الصباغ معترضاً على المزني: إنه حكى بعض ما قاله في "الأم"، وأسقط بعضه، وهو مغير لمعناه؛ لأن من تحرك القبلة شهوته لا يقال: تركها له أفضل؛ لأن فعلها مكروه. قلت: وهذا الاعتراض متوجه على لفظ الأم؛ لأنه قال: "وملك النفس في الحالين أفضل"، وإحدى الحالين ما إذا كانت القبلة تحرك شهوته، [وقد صرح بالكراهة فيها، وقد علمت مما ذكرناه أن من لم تحرك القبلة شهوته] لا يكره له وإن كان الترك أفضل، ويشهد له رواية أبي داود عن أبي هريرة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن [المباشرة للصائم]، فرخص له، وأتاه آخر فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب. وقال الإمام: إنه روي أن سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة في الصوم، فأباحها له، وسأله آخر فنهاه عنها، فروجع في جوابه، فقال: "إن الأول شيخ والثاني شاب"، ويعضد ذلك رواية مسلم عن عائشة، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل في

[شهر الصوم] ". وقد أطلق القاضي أبو الطيب في ذلك لفظ الكراهة؛ عملاً بما حكاه عن النص في الأم، ولا يرد عليه خبر عائشة؛ لأن البخاري ومسلماً رويا عنه أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، [ويباشر وهو صائم]، ولكنه كان أملك لإربه"، فعللت فعله – عليه السلام – بأنه أملك لإربه، وقد روي "لأربه"، والأرب: الحاجة، وقيل: الشهوة، والإرب: العضو؛ فيكون معنى قولها: إنه كان يقدر على نفسه ألا تغلبه الشهوة، إذ كان معصوماً، وهذا مفقود فيكم. [ولا فرق] يمن لم تحرك القبلة شهوته بين أن يلتذ بها أو لا. ومن الأصحاب من قال: التلذذ [بها] حرام، وإنما نبيح القبلة والمس لمن لا يتلذذ. قال الإمام في كتاب الظهار: وهو خطأ صريح عندي، والتعويل فيها يحرم [ويحل] على الأمن من الإنزال، والخوف [منه]. والأول هو الذي حكاه القاضي الحسين هنا. وقال: جملة الأشياء التي تمنع الجماع على أربعة أضرب: ضرب يحرم الجماع ودواعيه: كالحج، والعمرة. وضرب يحرم الجماع، ولا يحرم دواعيه: كالحيض، لا يمنع من القبلة واللمس ونحوه. وضرب يحرم الجماع وفي دواعيه من القبلة والمباشرة قولان، وهو الاعتكاف.

وضرب يحرم الجماع، ولا يحرم دواعيه إذا لم ينزل، وهو الصوم: لا يكره إذا لم يخف الإنزال، ولا يسد إن لم ينزل. قال: ويكره للصائم العلك، أي: [مضغ] العلك، وهو – كما قال البندنيجي – الموميا الذي كلما مضغه صلب وقوي واجتمع. وعلة الكراهة: أنه يعطش، وعبارة الشافعي: "لأنه يحلب الفم"، ومعناه: يحلب الريق من الفم، ويجففه؛ فيورث العطش. قال القاضي الحسين: [و] لأن مضغ العلك يطيب النكهة ويزيل خلوف فم الصائم وما يزيل خلوف الفم يكره للصائم للخبر. قلت: لكن كراهة [هذا] العلك تشمل جميع النهار؛ وهذه العلة تقتضي الكراهة بعد الزوال؛ كما في السواك. وعلله القاضي أبو الطيب بأنه يجمع الريق ويبتلعه، وفي فطره في هذه الحالة وجهان؛ فكره للخروج من الخلاف، فإن فعله، واجتمع بسببه الريق، فابتلعه، كان في فطره الوجهان، [وألا] فلا يفطر وإن وجد الطعام، [لما تقدم أن وجدان الطعم] في الحلق من غير وصول عين إليه، لا يؤثر في الفطر. وكذلك يكره [له] مضغ الخبز وغيره، اللهم إلا أن يكون له ولد صغير، ليس له من يمضغ له غيره، فلا يكره له للحاجة. قال في "المهذب" و"الشامل": واللبان في معنى العلك؛ فيكره له مضغه؛ قاله البندنيجي، وخص القاضي الحين محل كراهة العلك بما إذا كان قد أصلح، وقال فيما إذا لم يصلح: إنه لا محالة يصل منه شيء إلى جوفه؛ فلا يجوز له مضغه. وفصل في الكندر – هو اللبان الأبيض بين ما إذا أصابه الماء يبس واشتد؛

فإنه كالعلك، وما إذا أصابه [الماء] تفتت [ونزل] إلى الحلق؛ فلا يجوز مضغه، [فإن مضغه] أفطر. قال: ويكره له الاحتجام؛ لرواية أبي داود عن شداد بن اوس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع – وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت من رمضان، فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم"، وقد رواه بضعة عشر صحابياً. وروايته – أيضاً – عن عكرمة عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم. وأخرجه البخاري؛ فدل فعله –عليه السلام –أن المراد بقوله الكراهة. وقد روى أبو داود [عن ثابت] قال: قال أنس: "كنا [لا] ندع الحجامة للصائم إلا كراهة الجهد"، وأخرجه البخاري. وقد قيل: إن فعله ناسخ لقوله؛ فإنه كان في عام الفتح، وفعله في عام حجة الوداع سنة عشر. والمعنى في كراهة ذلك [له]: أنه يضعفه، ومقصود الشرع أن يكون قوياً في عبادته؛ حتى لا يحصل له التضجر والسخط. قال: ويكره له السواك بعد الزوال.

أعاد الشيخ هذه المسألة هنا وإن [كان] ذكرها في باب السواك؛ لأنها مذكورة في "المختصر" هنا، ومحل الكلام فيها باب السواك. قال: ويكره له الوصال، أي: مثل أن يصوم، ويمتنع من الطعام والشراب في الليل كله، ثم يصبح صائماً؛ فيصير واصلاً بين اليومين بالإمساك لا بالصوم؛ لأنه أفطر بدخول الليل وإن لم يأكل، والأصل [في ذلك] ما روى البخاري ومسلم عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، قالوا: فإنك توال [يا] رسول الله، قال: "إني لست كهيئتكم؛ إني أطعم وأسقي" وأخرجا – أيضاً – عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل، فليواصل حتى السحر"، قالوا: فإنك تواصل؟ قال: "إني لست كهيئتكم إن لي مطعماً يطعمني وساقياً يسقيني". وقد جاء أنه – عليه السلام – نهى عن الوصال، فواصلوا، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكره؛ وهذا ليس على ظاهره؛ لأنه قد يظن أن الصحابة خالفت نهيه – عليه السلام – وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد واصل فواصلوا، ثم نهاهم [فتركوا]، ثم واصل فواصلوا؛ ظناً أن ذلك الحكم قد ارتفع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال؛ كذا [رأيته للماوردي]. وهذه الكراهية كراهية تحريم على ظاهر النص؛ كما قال ابن الصباغ، وهو الذي أوردها الإمام لا غير، وكذا البغوي؛ حيث أطلق القول بعصيانه، وهو الأصح عند غيرهم؛ لظاهر النهي، ومن لم يحرمه من أصحابنا تمسك برواية أبي داود عن

عبد الرحمن [بن أبي] ليلى قال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة والمواصلةن ولم يحرمهما؛ إبقاءً على أًحابه، فقيل [له]: [يا] رسول، إنك تواصل إلى السحر؟ فقال: "إني أواصل إلى السحر، وربي يطعمني ويسقيني"، وقد دل هذا وخبر أبي سعيد على إباحة الوصال إلى السحر، وكذلك قال به أصحابنا، واختلفوا في معنى قوله: "أطعم وأسقي" على أوجه: أحدها: أنه كنى به عن القوة التي جعلا الله تعالى له وإن لم يطعم ويسقى؛ حتى يكون كمن [فعل به ذلك]. والثاني: يخلق الله – تعالى- فيه من الشِّبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب. والثالث – حكاه في "الشامل" والقاضي الحسين -: أنه يطعم ويسقى من طعام الجنة وشرابها، وإنما يقع الفطر بطعام الدنيا وشرابها. قال القاضي: وقد روي هذا مفسراً؛ لأنه قال: "أبيت، فيحمل إلى الطعام والشراب [من الجنة"، ولا ينكر أن يؤتي النبي بالطعام والشراب] من حيث لا يراه؛

لقصة زكريا". والرابع: أن محبة الله تعال تشغله عن ذلك. قال: ويكره له ولغيره صمت يوم إلى الليل؛ إذ لم يؤثر [ذلك] عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين – بل قد جاء المنع منه؛ روى البخاري عن ابن عباس قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يصوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مروه فليتكلم، وليستظل، ثم ليتم صومه". نعم، قد ورد في شرع من قبلنا، فإن قلنا: [إنه] شرع لنا، لم [يكره] ولكن لا يستحب؛ قاله ابن يونس، وفيه نظر؛ لأن الماوردي قال: روى عبد الله ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صمت الصائم تسبيح"، وهذا يدل على مشروعية الصمت إن صح، وإن لم يصح فخبر ابن عباس قد دل على النهي عنه، وأقل الدرجات الكراهة، وحيث قلنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا، فذاك إذا لم يرد في شرعنا خلافه. قال: وينبغي للصائم أن ينزه صومه عن الشتم والغيبة، أي: أكثر مما ينبغي لغيره؛ لرواية أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"، وأخرجه البخاري.

ومعنى: "قول الزور والعمل به": هو أن يخالف ظاهره باطنه؛ لأن هذا هو العمل بالزور؛ قاله القاضي الحسين. وقد روي أنه قال: "خمس يفطرن الصائم وينقضن الوضوء: الغيبة، والنميمة، والكذب، والقبلة، واليمين الفاجرة"، وأراد أن ذلك يحبط أجر الصائم، فأما أنه يبطل صومه فلا، وهو قول الكافة إلا الأوزاعي فإنه قال: يفطر. قال: فإن شوتم، فليقل: [إني صائم]؛ لرواية البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان أحدكم صائماً، فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: [إني صائم]، إني صائم". قال في "الشامل" – وتبعه الرافعي -: قال أصحابنا: وليس معناه: أن يقول ذلك بلسانه لخصمه، فإن ذلك يشبه المراءاة في العبادة، ولكن معناه: أن يقول لنفسه: إني صائم؛ فيكف لسانه عنه. ثم قال ابن الصباغ: [ويحتمل إجراء] اللفظ على ظاهره، ويقوله لا لقصد الرياء، بل لإطفاء الشر بينهما؛ وهذا ما حكاه البندنيجي لا غير، وصدر به القاضي.

أبو الطيب كلامه في التعليق لا على وجه الاحتمال، وقال: إن قول من قال: إنه يقول في نفسه، ليس بشيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "فليقل: إني صائم" ولم قل: فليتذكر. وحكى القاضي الحسين احتمال ابن الصباغ قولاً عن صاحب "التقريب"، وخلافه عن صاحب "الإفصاح"، وارتضاه، وهو الذي أورده الإمام من غير إعزاء وقال: لا معنى لذكر الصوم لمن شاتمه. قال: ويستحب أن يتسحر؛ لما روى أبو داود عن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور"، قيل: أخرجه مسلم. [وقال – عليه السلام -: "تسحروا؛ فإن في السحور بركة" أخرجه مسلم. قال: وأن يؤخر السحور؛ لأنه أرفق به وأقوى على العبادة؛ ولذلك استحببنا إفطار يوم عرفة لمن هو بها] و [قد] قال – عليه السلام -:"ثلاث من سنن المرسلين: تجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة". وروى زيد بن ثابت قال: "تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة، قال

أنس: قلت لزيد: كم كان بينهما؟ قال: مقدار خمسين آية". أخرجه مسلم. قال: ما لم يخش طلوع الفجر؛ لأنه إذا خشي ذلك فأكل، ربما أدى إلى إفطاره. وقال القاضي أبو الطيب: إنه يستحب له ما لم يتيقن طلوع الفجر، فإن شك في الطلوع، استحب له الإمساك. قال: وأن يعجل الفطر، أي: يتناول المأكول والمشروب، وإلا فهو [قد] أفطر بغروب الشمس. قال: إذا تحقق غروب الشمس، [لما] روى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون"، وأخرجه البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد عن رسولا لله صلى الله عليه ولم. وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم، فلما غربت الشمس، قال: "يا بلال، انزل فاجدح لنا، قال: [يا] رسول الله، [لو أمسيت]! قال: انزل فاجدح لنا، قال: [يا] رسول اله، إن عليك

نهاراً! قال: انزل فاجدح لنا: فنزل فجدج، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم. وأشار بإصبعه قبل المشرق". ولأن ذلك أرفق بالصائم وأقوى [له] على الصيام. نعم، إذا لم يتحقق غروب الشمس، فهل له أن يفطر [بالاجتهاد]؟ أطلق القاضي أبوالطيب القول بأنه لا يجوز له الفطر؛ لأن الأصل بقاء النهار، وفيه ما تقدم. قال: والمستحب أن يفطر على تمر، فإن لم يجد، فعلى الماء؛ لما روى أبو داود عن سليمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم صائماً، فليفطر على التمر، فإن لم يجد [التمر] فعلى الماء؛ فإن الماء طهور"، قال الترمذي: وهو حسن صحيح. والحكمة في ذلك: ما [روي] في التمر من البركة، والماء أفضل المشروبات. وقد قيل: إن الصوم ينقص ضوء العين، والفطر على التمر يرد ذلك النقص؛ قاله ابن وهب، ويؤيده ان الروياني قال: إنه يفطر على التمر، فإن لم يجد فعلى حلاوة أخرى، فإن لم يجد فعلى الماء. وعن القاضي الحسين أنه قال: والغالب أنه في "الفتاوى": الأولى في زماننا أن يفطر على ما يأخذه بكفه من النهر؛ ليكون أبعد عن الشبهة؛ [فإن الشبهات]

قد كثرت فيما في أيدي الناس، والله أعلم. قال: ويستحب [له] أن يدعو [عند الإفطار]؛ [لما يرجى] من إجابة دعائه. [قال]: بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت" هكذا أخرجه أبو داود عن معاذ بن زهرة أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم [كان] إذا أفطر قال ذلك، وهو مرسل. وروي عنه أنه كان يقول: "يا واسع الفضل اغفر لي". واعلم أن من جملة المستحبات في الصوم: إكثار الصدقات، وتلاوة القرآن، والاعتكاف، ولا سيما في الشعر الأواخر من رمضان؛ لطلب ليلة القدر، وكف النفس عن الشهوات، فإنه سر الصوم، والمقصود الأعظم به، وتقديم غسل الجنابة على الفجر.

وقوله- عليه السلام -:"من أصبح جنباً، فلا صوم له" – كما رواه أبو هريرة – قد رجع عنه أبو هريرة – كما قال أبو الطيب- ومتى رجع الراوي عن خبره، لم يصح التعلق به. وأيضاً: فيجوز أن يكون هذا في ابتداء الإسلام حين كان الجماع يحرم على الصائم إذا صلى العشاء أو نام قبل ذلك، ثم نسخ كما نسخ هذا الحكم ويجوز أن يكون محمولاً على ما إذا أصبح مجامعاً واستدام، وهو ما حكاه الرافعي عن الأئمة، وأن يفطر الصائم معه؛ لقوله – عليه السلام -:"من فطر صائماً كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء". فإن عجز عن عشائهم أعطاهم ما يفطرون به من شربة أو تمرة أو غيرها. قال: ويطلب ليلة القدر، أي: ليقومها بقوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، ومعناه – كما قال الشافعي -: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، ولقوله – عليه السلام -:"من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وكذا يستحب أن يكون اجتهاده في العبادة في يومها كاجتهاده في ليلتها؛ حكاه البندنيجي عن الشافعي في القديم. قال: في جميع شهر رمضان؛ لما روى أبو داود عن عبد الله بن عمرن قال: سئل

رسول الله صلى الله عليه وسلم – وأنا أسمع – عن ليلة القدر، قال: "هي في كل رمضان"؛ ولأجل هذا قال الإمام مالك: إنها في جميع الشهر، ولا يتعين لها وقت. ويخحكي عن أبي حنيفة أيضاً، وقد حكى عنه [أيضاً] أنه قال: إنها في جميع السنة، لأنه قال: [لو قال] لزوجته: أنت طالق [ليلة القدر] لا تطلق ما لم تمض سنة، وحمله أصحابه على ما إذا كان قد مضى بعض شهر رمضان؛ لأنه احتمل أن تكون في مقدار ما مضى من الشهر. وما ذكره الشيخ اتبع فيه المحاملي؛ فإن النووي في "الروضة" قال: إنه قال ذلك. وألا فسيأتي أن مذهب الشافعي أنها في العشر الأخير منه؛ وحينئذ فيكون الشيخ ومن تبعه قال ذلك؛ للاحتياط في تحصيلها؛ فإن الخلاف في كونها في جميعه له وجه، وقد كان – عليه السلام – يلتمسها فيه؛ وبهذا ظهر الفرق بين ذلك وبين جميع السنة، وإن كان قد قال بعضهم: إنها فيها. قال: وفي الشعر الأخير أكثر. قال القاضي الحسين: لأنه ما من ليلة [من لياليه] إلا وقد روي أنها هي. وغيره استدل بما روى [مسلم] عن أبي سعيد الخدري قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على ستها حصير، قال: فأخذ الحصير بيده، فنحاها في ناحية القبة، ثم اطلع رأسه، فكلم [الناس] فدنوا منه، فقال: "إني اعتكفت العشر الأول؛ التمست هذه

الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر؛ فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف ... "، فاعتكف الناس معه، وسنذكر بقية الحيث. وأخرج مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله: "التمسوها في العشر الأواخر" -يعني: ليلة القدر - فإن ضعف أحدكم أو عجز، فلا يغلبن على السبع البواقي". قال: وفي ليالي الوتر، أي: من العشر الأخير أكثر؛ لرواية عن أبي سعيد الخدري في الحديث الطويل: "والتمسوها في كل وتر". ولفظ الشافعي: "وطلبها في الوتر منه - أي: من العشر - أحب إليّ"، ومن هذا الخبر أخذ القاضي الحسين تأكد طلبها في العشر الأخير أيضاً؛ لأن الوتر لا يدري أنه أراد به الماضي أو الوتر المستقبل؛ فيدخل فيه الكل، ويؤيد ذلك رواية مسلم عن أبي سعيد الخدري أنه - عليه السالم - قال: "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة"، وأن أبا سعيد فسر التاسعة بالثانية والعشرين، والسابعة بالرابعة والعشرين، والخامسة بالسادسة والعشرين؛ وهذا ما قاله بناء على تمام الشهر، وتاوَّل غيره التاسعة بليلة الحادي والعشرين، والسابعة بليلة الثالث والعشرين؛ بناء على نقصان الشهر. فقال: وأرجاها ليلة الحادي والعشرين؛ لرواية مسلم عن أبي سعيد الخدري في تتمة الحديث السالف قال: "وإني أريتها ليلة وتر، وأني أسجد صبيحتها في طين

وماء"، فأصبح من ليلة إحدى وعشرين، وقد قام إلى الصبح، فمطرت السماء، وفكف المسجد، فأبصرت الطين والماء، فخرج حين فرغ من الصلاة وجبينه وروثة أنفه فيها الطين والماء، فإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر". قال: والثالث والعشرين؛ لما روى مسلم عن عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أريت ليلة القدر، ثم أنسيتها، وأراني صبحها أسجد في ماء وطين"، قال: فنظرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف [و] إن أثر [الطين والماء] على جبهته وأنفه. قال: وكان عبد الله بن أنيس يقول: ثلاثاً وعشرين. قال الأصحاب: وعلامة ليلة القدر: أنها غير حارة، ولا باردة [و] تصبح الشمس من صبيحتها [لا شعاع لها لأنه - عليه السلام - قال في وصفها: إنها ليلة طلقة، لا حارة، ولا باردة، وتصبح الشمس من صبيحتها] بيضاء كالطست [لا شعاع لها] حتى ترتفع".

وقد حكى الإمام أن [للشافعي] فيها مذهبين: أحدهما: انحصارها في العشر الأواخر، أي: من غير تعيين؛ لما ذكرناه من خبر أبي سعيد الخدري، وقد روى عن أبي ذر الغفاري قال: قلت [يا] رسول الله، رفعت ليلة القدر مع الأنبياء، أو هي باقية إلى يوم القيامة؟ قال: "بل هي باقية [إلى يوم القيامة] " قلت: هل هي في رمضان أو في غيره؟ قال: "في رمضان"، قلت: هل هي في العشر الأول، أو الأوسط، أو الأخير؟ قال: "في الأواخر". والمذهب الآخر تعيين ليلة الحادي والعشرين، والثالث والعشرين. قلت: وهذا كأنه أخذ من قول المزني: إن الشافعي قال لما نقل خبر أبي سعيد الخدري: "يشبه أن تكون ليلة إحدى أو ثلاث وعشرين". وأشار البندنيجي إلى أن هذا مذهبه في القديم؛ لأنه قال: وهي في العشر الأواخر من [شهر] رمضان، وينبغي أن تطلب في جميع العشر، ويستحب ذلك في كل وتر، ونحن في ليلة الحادي والعشرين أشد استحباباً، وقال في القديم: ليلة حادي وعشرين أو ثالث وعشرين. والمذهب ما حكيناه، وهو أن الظاهر من مذهبه: أنها ليلة الحادي والعشرين. قلت: ولولا هذه الزيادة لأمكن أن يكون ما ذكره البندنيجي [من] الخلاف في تأكيد الاستحباب، وبهذا ينتظم فيها عندنا ثلاثة أقوال. وحكى الإمام عن صاحب "التقريب": أنه ذكر في كتابه تردداً في أنه يجوز أن تكون في النصف الأخير من رمضان وهذا متروك عليه، ولا يعرف له متعلقاً.

قلت: يجوز أن يكون متعلقه ما رواه أبو داود عن ابن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اطلبوها [في] ليلة سبع عشرة من رمضان، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين. ثم سكت"، لكن في إسناده حكيم بن سيف، وفيه مقال، وما لا مقال فيه: رواية أبي داود عن معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر، قال: "ليلة سبع وعشرين"؛ ولهذا ذهب إليه أكثر الصحابة كما قال القاضي الحسين، واستدل على ذلك أبو ذر وكان يقسم بالله: أنها هي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها"،وقد راعيت ذلك فرأيته في صبيحة سبع وعشرين. واستدل ابن عباس بأنه اعتبر كلمات السورة، فوجدها ثلاثين كلمة بعدد ليالي الشهر، ثم وجد الإشارة [بقوله]: {سَلامٌ [هِيَ]} على رأسها السابعة والعشرين؛ فعلم أن ليلة القدر في مثلها من الشهر. واستدل ابن مسعود بقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، ثم قال في آية أخرى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]، ويوم الفرقان كان يوم السابع والعشرين؛ فتكون ليلة يوم الفرقان هي ليلة القدر. وبالجملة: فالحكمة في كون الله تعالى لم يبينها لعباده وأخفاها عليهم: ألا

يتكلموا عليها، ويجتهدوا في العبادة في جميع الليالي؛ وهذا كما أخفى اسمه الأعظم من بين أسمائه الحسنى؛ لكي يذكروا الكل، ويكثر ثوابهم، وأخفى غضبه من بين المعاصي كي يجتنبوا جميع المعاصي، وأخفي وليَّه [من] بين الناس؛ كي يحبوا أبداً جميع المؤمنين، وأخفى الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة؛ كي يشتغلوا جميع النهار بذكر الله تعالى، وأخفى الساعة والصلاة الوسطى وعمر ابن آدم [و] هكذا. وقد فرَّع الأصحاب على المذهب المشهور - وهو انحصارها في العشر الأخير - أنه لو قال لزوجته: أنت طالق في ليلة القدر، أو لعبده: أنت حر فيها -[نظر]: فإن كان هذا القول بعد طلوع الفجر [من] ليلة إحدى وعشرين [من رمضان؛ فإنه لا يحكم بطلاقها إلا عند غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين من رمضان] من العام المقبل؛ لجواز أن تكون ليلة القدر هي التي عقد الطلاق والعتق في صبيحتها؛ صرح بذلك القاضي ابو الطيب والروياني في "البحر" وغيرهما، وإن كان في عبارة بعضهم تجوز. وقال ابن الصباغ: يقع الطلاق في السنة الثانية إذا مضى جميع العشر؛ لجواز اختلافها. ولم يحك غيره، وهو ما أبداه الماوردي احتمالاً لا غير، واختاره في "المرشد". قلت: ويظهر بناء هذا الخلاف على أنها هل تنتقل أم لا؟ [و] فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين والإمام وغيرهما: أحدهما: أنها متنقلة، وهو قول المزني وابن خزيمة من أصحابنا؛ لأن الاختلاف قد ظهر في الأخبار، ولا طريق للجمع إلا أن يقال: هي متنقلة. ولأن العلامات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترى على الاختلاف، وعلى هذا لا يتجه غير ما قاله ابن الصباغ.

والثاني: أنها لا تنتقل، وهو قول الجمهور وأكثر العلماء؛ كما قال في "البحر"، وقال في "الروضة": إنه مذهب الشافعي. وعلى هذا [فلا وجه إلا ما قاله القاضي]. ولو قال ذلك قبل غروب الشمس من ليلة إحدى عشرين قال القاضي أبو الطيب: فلا يحكم بطلاقها حتى تغرب الشمس من ليلة الثلاثين؛ لأنه يتيقن ليلة القدر في تلك الحال، وهذه العبارة أحسن من عبارته في "المهذب" وغيره التي تبعها الرافعي: أنها تطلق بانقضاء ليالي العشر؛ لأنها تطلق في أول الليلة الأخيرة [من العشر] نبه عليه في "الروضة". وقد أطلق الإمام القول بأن الشافعي قال: "لو قال لامرأته: أنت طالق ليلة القدر لم تطلق حتى ينقضي العشر فإذا انقضى طلقت"، وهو ما ادعى أن به يبين مذهبه فيها، ولعل هذا محمول على ما إذا قال ذلك قبل العشر. ثم قال الإمام: فإن قيل: الانحصار مقطوع، - أي: حتى أوقعتم الطلاق بمضيه - قلنا: لا، ولكنه مذهب ثابت، والطلاق أنماط بالمذاهب المظنونة، وقد وجد في نسخ: الوسيط": أن الشافعي قال: لو قال في نصف رمضان: إن امرأتي طالق ليلة القدر، لم تطلق ما لم تنقض سنة؛ لأن كونها في جميع الشهر محتمل، والطلاق لا يقع بالشك، وليس على انحصارها في العشر الأواخر [دليل ظاهر. ولأجل هذا قال في "الوجيز" بعد قوله: وهي - أي: ليلة القدر - في أوتار العشر الأخير]. وقيل: إنها في جميع الشهر؛ ولذلك لو قال لزوجته في منتصف شهر رمضان: أنت طالق ليلة القدر [لم تطلق] إلا إذا مضت سنة؛ لأن الطلاق لا يقع بالشك، ويحتمل ان تكون في النصف الأول. واعترض عليه الرافعي فقال: قوله: وقيل يشعر بأن ذلك [وجه للأصحاب] ولا

يكاد يحكي رواية احتمالها [في] جميع الشهر عن الأصحاب في شيء من كتب المذهب، وما أجاب به في مسألة الطلاق يخالف ما نقله الأئمة كما تقدم. قلت: وما حكيناه عن المحاملي وقاله الشيخ يعضد الغزالي وإن لم نسلمه، فالظاهر أن ذلك جاء من طغيان القلم عن وضع "الوسيط" بذكر الشافعي وإقامة الواو مقام، فإنه "فإنه" لو حذف لفظ "الشافعي" من الكلام وجعل لفظة "فنه" مكان الواو من قوله: و"قال"، لصار لفظه: "وقال أبو حنيفة: هي في جميع السنة، وقيل- أي: عنه-: إنها في جميع الشهر؛ فإنه [قال]: لو قال: منتصف رمضان ... إلى آخره - لا ستقام ذلك لأن هذا هو المحكي عن أبي حنيفة في "الإبانة" على هذا النحو، وكلامه في "الوجيز" قاله متبعاً لما وقف [عليه في "الوسيط" عند اختصاره فلذلك توجه] عليه الاعتراض. قال: والمستحب أن يكون دعاؤه فيها: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني؛ لما روى [عن عائشة] أنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر، فما أسأل الله فيها؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني". فائدة: لماذا سميت ليلة القدر. قيل: لأنها ذات القدر العظيم. وقيل: من التضييق، من قوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:] وهي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة. وقيل: ما يقدر فيها من الأرزاق والآجال، وغير ذلك في تلك السنة؛ قاله ابن عباس، ومعناه: إظهار ما قدره الله تعالى في الأزل من ذلك، وعلى هذا قول الشافعي: القدر هو الحكم، كقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ

كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان]. وقيل: لأن [من] لم يكن له قدر، صار برؤيتها ذا قدر. وقيل لأنه أنزل يها كتاب ذو قدر وينزل فيها رحمة ذات قدر وملائكة ذوو قدر. واختلف في سببها: فقيل: إن قوماً شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة أعمالهم لقصر أعمارهم فأعطاهم [الله] ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، حتى إن كان العمر قصيراً يكون فضل عملهم كثيراً. وقيل: إنه قيل: [يا] رسول الله، إن في بني إسرائيل رجلاً لبس لأمته ألف شهر لم ينزعها حتى لقي العدو، فقال الله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، أي: من تلك الألف شهر التي كان لا ينزع يها اللأمة. كذا حكى القاضي الحسين القولين، وهما متظافران على أنها لم تكن في الأمم الماضية وبه جزم المتولي والرافعي. وقال الإمام: إن المختار عندنا أنها مختصة بهذه الأمة. بعد أن حكى اختلاف العلماء في ذلك. وأبعد منه اختلافهم في أنها هل رفعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لا؟ مع تصريحه في حديث أبي ذر بأنها لا ترفع. وقد قيل: إن القول بأنها رفعت غلط وهو منسوب في "تعليق" القاضي الحسين و"التتمة" إلى الروافض. قال: ومن لزمه قضاء شيء من [شهر] رمضان فالمستحب أن يقضيه متتابعاً؛ لأنه إذا تابع كان مبادراً إلى فعل العبادة وبراءة الذمة، والمبادرة إلى ذلك أولى من التأخير. وأيضاً فليخرج عن الخلاف؛ فإن بعض العلماء أوجبه؛ لما روي عن أبي هريرة

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عليه قضاء رمضان فليسرده ولا يقطعه" وروي عن علي وابن عمر وعائشة أنهم قالوا يقضي متتابعاً وليكون القضاء شبيهاً بالأداء. ونحن نقول: إن صح الحديث حملناه على الاستحباب وكذلك قول الصحابة لرواية موسى بن عقبة عن نافع عن [ابن] عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تقطيع قضاء رمضان، قال: "أرأيت لو كان عليك دين، فقضيته درهماً ودرهمين، أما كان يجزئ عنك؟ قال: بلى، قال: فالله أحق أن يعفو ويغفر". وروي أنه سئل عن قضاء رمضان فقال: "إن شاء فرقه وإن شاء تابعه"؛ فإن في ذلك جمعاً بين الأحاديث. قال: ولا يجوز أن يؤخر القضاء إلى رمضان آخر بغير عذر لما روى البخاري ومسلم عن ابي سلمة قال سمعت عائشة تقول كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان بالشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو برسول الله صلى الله عليه وسلم. وجه الدلالة منه: أنه لو كان يجوز التأخير بعد شعبان، لم يكن لذكرها شعبان من

بين سائر الشهور معنى. وفارق قضاء رمضان – حيث تأقت – قضاء سائر العبادات؛ حيث لا تتأقّت؛ لأنه دخل عليه وقت لا يقبل إيقاع غير ما وجب يه بخلاف سائر العبادات. قال: فإن أخر، لزمه مع القضاء [الفدية]: عن كل يوم مدٌّ من طعام؛ لما روى مجاهد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وجب عليه قضاء رمضان فلم يقضه حتى خل رمضان آخر، قضى، وأطعم عن كل يوم مدًّا". ولأنه إجماع الصحابة؛ فإنه روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة ولا، مخالف لهم من الصحابة. ويقال: إن يحيى بن أكثم روى هذا القول عن ستة من الصحابة، ولم يذكر أسماءهم. وقد قال ابن الصباغ: إن طريق خبر أبي هريرة فيه ضعف، فالمعتمد على الأثر. وقد اختار المزني عدم وجوب المد كمذهب أبي حنيفة؛ تمسكاً بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ولم يوجب مع ذلك شيئاً؛ فالزيادة عليه زيادة في الكتاب. والمذهب: الأول والجواب عما ذكروه: أن المد ما وجب بالفطر، وإنما وجب بالتأخير، وعلى هذا فرعان: أحدهما: لو أراد تعجيل فدية التأخير قبل مجيء رمضان السنة القابلة؛ ليؤخر

القضاء مع الإمكان -قال الرافعي: ففي جوازه وجهان كالوجهين في جواز تعجيل الكفارة عن الحنث المحظور. الثاني: لو أخر القضاء رمضانين فأكثر، فهل يتعدد المد بتكرار السنين؟ فيه وجهان: أصحهما في "الحاوي" والمذهب في "تعليق" البندنيجي: أنه لا يجب سوى مد واحد، وقال في "البحر": إنه قول ابن سريج. والصحيح في "النهاية": مقابله قال في "البحر": وبه قال عامة أصحابنا. وعلى هذا: لو كان عليه قضاء أيام، ولم يبق بينه وبين رمضان السنة الثانية ما يتأتى فيه قضاء جميعها، فهل يلزمه في الحال الفدية عما لا يسعه الوقت أم لا يلزمه [إلا] بعد مجيء رمضان؟ فيه وجهان مشبِّهان بما إذا حلف ليشربن ماء هذا الكوز غداً فانصب قبل الغد. وفائدة الخلاف تظهر فيما لو مات الحالة هذه قبل إدراك رمضان الثاني قاله في "التتمة". وهل له ان يصوم بدل المد في هذه الصورة وغيرها يوماً أو لا؟ قال القاضي الحسين فيه جوابان: أحدهما: يجوز فيقضي لكل يوم يومين: يوم قضاء، ويوم بدل عن فدية التأخير؛

لأن صوم يوم خير من مد؛ ألا ترى أن الشيخ الهرم لا يجزئه المد إلا بعد العجز عن الصوم، والله تعالى يقول: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]. والثاني: لا يجوز؛ لأن هذا الإطعام أصل في نسه، فأشبه الإطعام في كفارة اليمين لا يجوز أن يصوم بدله من غير عجز عنه. وقد أفهم كلام الشيخ أمرين: أحدهما: أنه إذا كان تأخير القضاء لعذر لا يكون الحكم كما إذا أخره لغير عذر وهو كذلك؛ إذ قطع الأصحاب بأنه لا فدية عليه بل القضاء، صرح به أبو الطيب وغيره. والعذر المشار إليه: دوام السفر والمرض المجوزين للفطر. قال في "البحر": ولو أخَّره [بعذر إلى] رمضان آخر، ثم قدر على القضاء عقيب انقضاء رمضان، ثم أخَّره، فمات قبل دخول رمضان ثالث لا يلزمه الفدية للتأخير. الثاني: جواز تأخير القضاء ما لم يدركه رمضان آخر بغير عذر سواء كان ترك الصوم في وقته لعذر أو لغير عذر وهو ما صرح به البندنيجي والمحاملي في التجريد كما قال الرافعي والماوردي وصاحب "البحر"، والذي حكاه الفوراني والمتولي فيما إذا كان ترك الأصل لعذر وقالا فيما إذا كان بغير عذر: إن المد واجب إذا أخَّر القضاء إلى رمضان [آخر] والقضاء واجب على الفور. وهو الذي صدَّر به الرافعي كلامه. وقال في "التهذيب" – والحالة هذه -: ليس له التأخير بعذر السفر فلو أخره وفعله قبل أن يأتي رمضان آخر – إما للسفر أو لغيره – قال في "التتمة" فلا شيء عليه.

وقال الغزالي في كتاب الحج: إن الخلاف المذكور في وجوب قضاء الحج الذي أفسده بالجماع جار في قضاء صوم تعدى بتركه. وقال القاضي الحسين فيما إذا كان فطره بغير عذر: إنه ينظر: فإن كان مما يوجب عليه في الحال كفارة مثل الجماع، فأخر القضاء حتى دخل رمضان آخر – هل يلزمه للتأخير فدية أم لا؟ فيه جوابان: والظاهر: أنها لا تلزمه؛ لأنه قد لزمه في هذا اليوم كفارة؛ فلا تجتمع اثنتان. والثاني: تلزمه؛ لأنه قد لزمه في هذا اليوم كفارة؛ فلا تجتمع اثنتان. والثاني: تلزمه؛ لأن الفدية للتأخير، والكفارة للهتك. وإن كان فطره بالأكل ونحوه، فقد ذكرنا في وجوب الفدية عليه وجهين: فإن قلنا: لا تجب، وجب المد بالتأخير، وهو الظاهر. وإن قلنا: بالوجوب ثم، فهل يجب المد للتأخير؟ فيه وجهان: المذكور منهما في "النهاية": الوجوب. وقال الرافعي إنه رأى فيما علق عن إبراهيم المروزي ترتيبه على ما لو أخر القضاء حتى مضى رمضانان فأكثر: إن عدَّدنا الفدية – ثمَّ – فهاهنا أولى، وإلا فوجهان؛ لاختلاف جنس الواجب. وإن كان فطره بعذر: فإن كان يجب معه فدية: كفطر الحامل والمرضع، فهل يجب بالتأخير مدُّ آخر؟ فيه الوجهان. وإن كان لا يجب معه الفدية، وجب المد هنا بالتأخير والله أعلم. قال: ومن مات وعليه صوم [أي: من رمضان] أو كفارة أو نذر كما قال الماوردي، [و] تمكن من فعله، أطعم عنه كل يوم مدٌّ من طعام؛ لما روي عن ابن عمر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفاً عليه فيمن مات وعليه صيام رمضان فلم يصم حتى مات: "أطعم عنه كل يوم مد من طعام لمسكين"، وقد ققال بذلك ابن

عباس [وعائشة] رضي الله عنهما – وعلى هذا فرعان: أحدهما: لا يجوز أن يطعم المد لأكثر من مسكين واحد؛ للخبر. قال القاضي الحسين: والمذهب فيما إذا وجب عليه أكثر من مد بسبب ذلك أنه يجوز دفعه إلى مسكين واحد. الثاني: لو مات بعد ما أدركه رمضان آخر، وقد تمكن من القضاء قبله – فهل يقضي عنه مدان أو مد واحد؟ فيه وجهان. المحكي منهما في "تعليق" القاضي الحسين عن النص: الأول، ولم يذكر في الإبانة [غيره]. وإذا قلنا بالثاني، فالمد في مقابله ماذا؟ الذي حكاه ابن الصباغ: أنه بدل الصوم فإذا أخرجه زال التفريط بالتأخير فلم يجب لأجله شيء. والذي حكاه القاضي أبو الطيب والبندنيجي: [أنه] في مقابلة التأخير، ويسقط حكم القضاء؛ لأن التأخير إذا انجبر فكأن العذر اتصل إلى الموت، وإذا اتصل العذر كان القضاء غير واجب وهذا قد نسبه القاضي الحسين إلى الإصطخري. وحكى الماوردي عن ابن سريج أنه قال: يجب عليه مد واحد لأن الفوات يضمن بالمد الواحد كالشيخ الهمِّ.

قال: وفيه قول آخر: أنه يصام عنه؛ لما روى البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام، صام عنه وليه"، وهذا هو القديم كما قال في "الوسيط" و"التتمة" وغيرهما. وقال البندنيجي: إنه نص عليه في "أماليه"،حيث قال: "إن صح الحديث قلت به. وقد صحَّ الخبر؛ لأجل ذلك ذهب جماعة من محققي أصحابنا إلى [تصحيح] القديم. قال في "الروضة": وهو الصواب بل ينبغي أن يجزم به فإن الأحاديث الصحيحة ثبتت فيه، وليس للجديد حجة من السنة. والحديث الوارد بالإطعام ضعيف؛ فتعين القول القديم. وعلى هذا من هو الولي؟ قال الغزالي يحتمل أن يراد به هنا: الوارث. وهو ماحكاه في "البحر" عن بعض الأصحاب لا غير، وقال إنه لا فرق فيه بين المستغرق وبين وارث شيء ما. ويحتمل أن يراد به [العصبات]. ويحتمل أن يراد به القريب: وارثاً كان، أو غير وارث. قال في "الذخائر": وهو أظهر الاحتمالات. وفي الروضة: أنه المختار. ولا يجب على الوي الصوم اتفاقاً – كما قال الشيخ أبو محمد والبغوي – بل هو مستحب في حقه.

ولو أطعم عنه على هذا جاز؛ قاله النواوي وغيره. ويقوم مقامه في الصيام عنه الأجنبي إذا فعله بإذنه بأجرة وغير أجرة؛ كالحج عنه، قاله في "المهذب" و"الشامل" وغيرهما: وهل يصح منه بغير إذن الولي؟ فيه وجهان في "التتمة": والأظهر منهما في "الرافعي": المنع وهو المذكور في "الشامل" لا غير. ومقابله هو المذكور في "تعليق" القاضي أبي الطيب، وقاسه على الحج عنه. وحكى القاضي الحسين وجهين في جواز استئجار الولي من يصوم عنه؛ بناء على أن الأجنبي إذا أراد الحج من ماله عن المعضوب هل يلزمه أن يأذن له؟ وفيه وجهان: والجديد الذي نص عليه في "الأم" وكذا القديم – كما قال الماوردي – هو الأول؛ لما ذكرناه ولأنه عبادة لا تدخلها النيابة [في حال الحياة] فلا تدخلها بعد الوفاة كالصلاة والحديث محمول على أن الولي يفعل عنه فعلا ًيقوم مقام الصوم، وقد جاء مثل ذلك في قوله – عليه السلام -: "الصعيد الطيب وضوء المسلم" فسمى التراب – وهو بدل-= باسم مبدله وهو الوضوء. وقد روي عن عائشة – وهي راوية الحديث- بالإطعام دون الصوم وذلك يقوى ما ذكرناه.

وقال الإمام: ليست أرى أن الشافعي ترك القول بالخبر في الجديد إلا أنه استبان ضعفه أو ثبت [عنده] نسخه وللقائلين بالقديم أن يقولوا: تظافر الروايات في الصحيح يمنع الضعف؛ فإن مسلماً روى عن بريدة قال: "بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: [إني] تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وجب أجرك وردها عليك الميراث قالت: يا رسول الله إنه كان عليها صوم [شهر] أفأصوم عنها؟ قال صومي عنها، قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها". وقد قال البيهقي: لو وقف الشافعي على جميع طرقه ونظائره لم يخالفه. فرع: هل يقوم المرض الميئوس منه مقام الموت في جواز الصوم عنه إذا قلنا به كما في الحج، أو لا كما في الصلاة؟ فيه خلاف حكاه الرافعي في كتاب الوصية [و] من منعه قال: المال للحج فيه مدخل من وجهين: أحدهما: في أصل إيجابه. والثاني: في جبرانه. فجازت النيابة في الحالين والصوم لا [مدخل للمال] فيه إلا في موضع [واحد] وهو جبران فلم تجز النيابة فيه إلا من وجه واحد. أما من لم يتمكن من الصوم؛ لاستمرار السفر ودوام المرض حتى مات – فلا شيء عليه حتى يفعل عنه، وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم، وقد حكاه القاضي الحسين عن نص الشافعي، وحكي عن أبي يحيى البلخي وغيره وجهاً: أنه يجب عليه الكفارة لأنه شهد الشهر وهو مكلف؛ فهو كالشيخ الهرم، قال: وهو غلط؛ لأن الله تعالى قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فأمر بالقضاء بعد زوال العذر. ولأنه لو كان مأموراً قبله لكان [مأموراً] في وقته واليخ لم يخاطب قط إلا

بالفدية وفي مسألتنا خوطب بالصوم وأبيح له الفطر، وأمر بالقضاء إلا أنه لم يدرك إمكان القضاء. وابن الصباغ والمتولي فرقا بينهما بأن الشيخ الهم يجوز ابتداء الوجوب عليه [والميت لا يجوز ابتداء الوجوب عليه]. ولو كان عليه قضاء يومين فتمكن من قضاء أحد اليومين وبقي الإمكان إلى نصف اليوم الثاني ثم مات بعده – وجب الإطعام عنه لليوم الأول، وفي اليوم الثاني وجهان: أحدهما: يلزمه الإطعام عنه. والثاني: لا. وأصلهما: إذا قدر صوم نصف يوم هل يلزمه صوم يوم أو لا يلزمه [شيء]؟ فيه وجهان. وأصلهما –أيضاً -: أن وجوب بعض اليوم هل يستدعي وجوب الباقي؟ فيه وجهان وهو في الكافر يسلم في أثناء اليوم كذا قاله في "البحر".

وقد أفهم كلام الشيخ وجوب المدِّ أو الصوم عنه عند تمكنه من الصوم قبل الموت سواء مات بعد خروج وقت القضاء بدخول رمضان آخر أو قبله، وهو الصحيح في "تعليق" القاضي الحسين، وبه قال سائر الأصحاب، كما قال. وحكى عن ابن أبي هريرة فيما إذا مات قبل خروج وقت القضاء: [لا يجب عليه شيء لا الإطعام ولا الصوم عنه؛ لأن القضاء] مؤقت محصور وقته فيما بين رمضانين، فإذا مات قبل أن يدخل رمضان آخر فقد مات قبل أن يخرج وقت القضاء؛ فلم يكن مفرطاً كمن مات ولم يقدر على القضاء أصلاً، ونزل هذا منزلة الصلاة إذا مات في أثناء وقتها، فإنه لا يعطي؛ لأنه غير مفرط؛ فإن الوقت محصور. قلت: وهذا ظاهر الدلالة؛ ولذلك لم يبطل قوله بشيء، والله أعلم.

باب صوم التطوع

باب صوم التطوع التطوع بالصوم مندوب إليه وهو من أولى القربات، وفيه أجر عظيم، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] والصوم من أنواع الصبر. وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة باباً يقال له: الريان يدخل منه الصائمون" أخرجه البخاري ومسلم، زاد النسائي فيه: "فإذا دخل آخرهم، أغلق، فلم يدخل منه أحد"، وقال: "من دخل منه شرب ومن شرب منه لم يظمأ أبداً". وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً". وهو منقسم إلى ما شرع في وقت مخصوص وإلى ما لم يعين الشارع له وقتاً، ثم المعيَّن وقته منه ما يتكرر بتكرر السنين خاصة ومنه ما يتكرر بتكرر الشهور خاصة ومنه ما يتكرر بتكرر الأسبوع خاصة وسيأتي على ذلك كلام الشيخ كما نبينه، إن شاء الله تعالى.

قال: والمستحب لمن صام رمضان أن يتبعه بست من شوال؛ لما روى مسلم عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر"، ورواية أبي داود: " [بست من شوال] فكأنما صام الدهر"، ومعناه: أن الحسنة لما كانت بعشر أمثالها، كان مبلغ ما حصل له من الحسنات في صوم الشهر والأيام الستة ثلاثمائة وستين حسنة عدد أيام السنة، فكأنه صام سنة كاملة، وقد جاء هذا مفسراً في حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين، قدر صيام سنة"، وفي لفظ: "جعل الله - عز وجل - الحسنة بعشر ... " فذكره وأخرجه النسائي. قال الشيخ زكي الدين في "حواشي السنن": وإسناده حسن. والأولى أن يصومها متتابعة عقيب الفطر كما قال في "البحر" وغيره، فإن أخَّرها وصامها في شوال متفرقات فقد حاز الفضيلة. فإن قيل: إذا كان معنى الحديث ما ذكرتم، فهو لا يختص برمضان وست من شوال، بل من صام رمضان وستاًّ من ذي القعدة، أورجباً وستاًّ من شعبان هكذا حكم حسناته؛ فيلزم أن يكون قد صام الدهر. قيل: المراد في الخبر: فكأنما صام الدهر فرضاً، وهذا لا يكون في غير ما نص عليه صاحب الشرع.

قلت: ويحتمل أن يكون معنى قوله: "فكأنما صام الدهر"، أي: الذي كان واجباً في ابتداء الإسلام على قولنا: إن الأيام في قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] هي الأيام البيض كما تقدم وهي ثلاثة أيام من كل شهر؛ لأن مجموع ذلك ستة وثلاثون يوماً، ويؤيده ما سنذكره من رواية أبي داود عن ابن ملحان، لكن قد جاء في مسلم في خبر طويل عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كل شهر؛ ورمضان إلى رمضان؛ فهذا صيام الدهر كله" وهذه الزيادة تنفي الاحتمال. وقد حكى عن الشيخ أبي حامد [أنه] قال في "التعليق" بعد ذكر هذه المسألة – أعني: صوم الأيام الستة – ولا أعرف هذا للشافعي – يعني: استحبابها – ولكن كذا قال الأصحاب. تنبيه: اتبع الشيخ في قوله: "بست من شوال" النبي صلى الله عليه وسلم؛ [فإنه] هكذا ورد عنه كما تقدم، وقد أورد عليه سؤال، فقيل: من قاعدة العرب: أنهم يثبتون الهاء في المذكر، و"اليوم" مذكر، فلم حذفت؟ قيل: العرب إنما تلزم الإتيان بالهاء في المذكر الذي هو [دون] أحد عشر إذا صرحت بلفظ المذكر: [كقوله تعالى: {وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} الآية [الحاقة: 6]، فأما إذا لم يأتوا بلفظ المذكر] فيجوز إثبات الهاء وحذفها، فتقول: صنما ستاًّ ولَبثْنَا عشراً وتريد الأيام، [ومنه قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} الآية [البقرة: 234]، أي: عشرة أيام] ومنه قوله تعالى: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} الآية [طه: 103]، نقل ذلك الفرَّاء وابن السكيت، وكذا ابن الأعرابي، كما نقله الماوردي في كتاب العدد وغيرهم. قال النواوي: ولا يتوقف فيه إلا جاهل غبي. قال: ويستحب [أن يصوم] يوم عرفة؛ لما روى مسلم في حديث طويل عن

أبي قتادة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "صيام [يوم] عرفة أحتسب [على] الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله". ورواية الشافعي عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صيام يوم عرفة كفارة سنة والسنة التي تليها، وصيام يوم عاشوراء يكفر سنةً". قال الإمام: وقوله – عليه السلام -:"السنة التي تليها" يحتمل معنيين: أحدهما: السنة التي قبلها؛ فيكون إخباراً أنه كفارة سنتين ماضيتين، ولا يمتنع حمله على السنة المستقبلة، وهو ما ذكره القاضي الحسين، قوال: إنهم اختلفوا في كفارة السنة التي تليها: فقيل: كفارتها الحراسة فيها، والعصمة عماي وجب الإثم، وبمثله قال في "الحاوي" في السنة الأخرى؛ لأنه ذكر الخبر ثم قال: وفيه تأويلان: أحدهما: أن الله يعصمه في هاتين السنتين؛ فلا يعصي فيهما. والثاني: أنه كفارة لما يرتكبه، وهو من الأصول في جواز تقديم الكفارة على الحنث. ثم ما هو المكفر؟ قال مجلي: قال بعض الأصحاب: الصغائر دون الموبقات. وكأنه – والله أعلم – يشير إلى الإمام، فإنه هكذا [قال]، ثم قال مجليك وهذا يحتاج إلى دليل، وفضل الله واسع. قال: إلا أن يكون حاجًّا بعرفة، فيكره له؛ لأن المقصود من الحاج يوم عرفة كثرة الدعاء آخر النهار، والصوم يضعفه؛ فلذلك كره، وقد أفطره – عليه السلام – روى البخاري ومسلم عن أم الفضل بنت الحارث: أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت

إليه بقدح لبن، وهو واقف [على بعير بعرفة]، فشربه. وقد قيل: إن صوم الواقف بعرفة ليس بمكروه بل فاعله تارك للأولى، وهو الذي صححه النواوي. والذي أورده البندنيجي: الأول. وفي "التتمة": أن الواقف بعرفة إن كان في زمان [الصيف والحر]، أو في الشتاء ولكنه ضعيف – فيكره له الصوم، ون كان قويًّا لا يؤثر فيه الصوم، فالأفضل في حقه أن يصوم حتى يجمع بين العبادتين، لأن عائشة كانت تصوم يوم عرفة، وقد روى في "البحر" ذلك عن بعض الأصحاب، وكأنه – والله أعلم – يشير إليه، وما ذكره يقرب من مذهب أبي حنيفة وعطاء؛ [لأن أبا حنيفة قال: أستحب صومه إلا أن يضعفه عن الدعاء ويقطعه عنه. وعطاء قال: أصومهم] في الشتاء، وأفطره في الصيف. قال القاضي أبو الطيب: وهذا قريب من مذهبنا. والمشهور عندنا كما قال غيره: أنه لا فرق في ذلك. ويوم عرفة أفضل الأيام على المشهور، وحكى القاضي الحسين وجهاً آخر أن أفضلها يوم الجمعة. قال: ويستحب [أن يصوم] تاسوعاء وعاشوراء من المحرم: أما صوم عاشوراء؛ فلما ذكرناه من الحديث السابق، وقد روى أبو داود عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم [المدينة، وجد] اليهود يصومون عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هذا

اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون، ونحن نصومه؛ تعظيماً له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن أولى بموسى منكم، وأمر بصيامه" وأخرجه البخاري وكذا مسلم، ولفظه: "نحن أحق بموسى منكم. [فصامه] وأمر بصيامه" وروى مسلم عن ابن عباس أنه قال- وقد سئل عن صيام يوم عاشوراء:- "ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوماً يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهراً إلا هذا الشهر"، يعني: رمضان. وأما تاسوعاء؛ فلما روى أبو داود عن ابن عباس قال: "حين صام النبي – صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول لله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل، صمنا يوم التاسع فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأخرجه مسلم. قال العلماء: وهو يحتمل معنيين: أحدهما: أن ينقل صيام العاشر إلى التاسع. والثاني: أن يصومهما معاً، وقد توفي ولم يبن مراده؛ فكان الاحتياط الجمع بينهما. قلت: وهذا الخبر إذا تأملته، كان فيه ما يقتضي مناقضة الخبر الأول؛ فإنه دال على أنه – عليه السلام – صام العاشر حين قدم المدينة أول الهجرة، وهذا يدل على أنه لم يصمه إلا في سنة إحدى عشرة من الهجرة. قال الأصحاب: ولأي معنى استحب صوم [يوم] التاسع؟ فيه معنيان:

أحدهما: ما دل عليه الخبر، وهو مخالفة أهل الكتاب، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: "صوموا التاسع والعاشر، ولا تتشبهوا باليهود"، ولى هذا لو فاته صوم التاسع، يستحب له [أن] يصوم مع العاشر الحادي عشر. والثاني: أنه للاحتياط [في تحصيل صوم العاشر] لأنه قد يتفق أن يكون في أول الشهر غيم؛ فيعدون ذا الحجة ثلاثين، ويكون ناقصاً؛ فيكون التاسع هو العاشر، وقد روي عن ابن عباس أنه كان يصوم عاشوراء يومين يوالي بينهما؛ مخافة أن يفوته؛ فعلى هذا يستحب [له] أن يصوم يوم الثامن من ذي الحجة؛ احتياطاً لتحصيل يوم عرفة، وقد حكاه في "البحر" عن بعض الأصحاب من غير بناء، [وعلى هذا] أيضاً إذا فاته صوم التاسع لا يصوم الحادي عشر بدله. وقد البندنيجي يستحب له أن يصوم مع [يوم] عاشوراء يوم التاسع، فإن صام بعده يوماً آخر كان أكمل ولم يبنه على شيء مما ذكرناه؛ ولأجله قال في "البحر": قال بعض أصحابنا: الأكمل أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده، وروي أنه – عليه السلام- قال: "لاتتشبهوا باليهود، وصوموا يوماً قبله، ويوماً بعده". وما ذكره الشيخ من أول الباب إلى هاهنا هو القسم الأول الذي أشرنا إليه في أول الباب. تنبيه: تاسوعاء وعاشوراء ممدودان على المشهور، وحكى القلعي قصرهما وهو شاذ أو باطل. قال الجوهري: ويقال: عشوراء بالمد أيضاً.

وتاسوعاء: هو التاسع من المحرم، وعاشوراء: [هو] العاشر منه. وعن بعض العلماء: أنه قال: عاشوراء: هو يوم التاسع. قيل: وهو غلط؛ لقوله – عليه السلام -: "إن عشت إلى قابل، لأصومن التاسع"، ولأنهم قالوا في الخبر السابق: إن هذا اليوم الذي نجى الله فيه موسى وقومه [وغرق فرعون وقومه] والذي غرق فيه فرعون هو اليوم العاشر من المحرم. واختلف فيماذا سمي العاشر من المحرم بـ "عاشوراء"؟ فقيل: لأنه عاشر المحرم. وقيل: لأنه عاشر كرامة أكرم الله تعالى بها هذه الأمة. وقيل: لان الله – تعالى- أكرم فيه عشرة [من] الأنبياء بعشر كرامات؛ حكى ذلك الشيخ زكي الدين في "حواشي مختصر السنن". قال: وأيام البيض من كل شهر؛ لما روى أبو داود عن ابن ملحان القيسي عن أبيه قال: كان رسول الله صل الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، قال: وقال: "هن كهيئة الدهر"، وأخرجه النسائي وابن ماجه.

وقد كان عمر وابن مسعود وأبو ذر يصومونها، والاستدلال [بما ذكرته أولى من الاستدلال] بما روى البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: "أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام"؛ لأنه لا تعرُّض في ذلك إلى كونها البيض، بل يجوز أن تكون غيرها؛ خصوصاً وقد روى مسلم عن معاذة العدوية أنها قالت: سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم فقلت لها: من أي أيام الشهر [كان] يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم. وروى أبو داود عن حفصة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من [كل شهر]: الإثنين، والخميس، والإثنين من الجمعة الأخرى". ولأجل ذلك قال في "البحر": لو صام ثلاثة أيام من كل شهر غير البيض كان مستحباً له؛ بهذا الخبر. واعلم أن [الشيخ محيي الدين النووي] قال: إن الذي ضبطناه عن نسخة المصنف ما ذكرناه وهو: أيام البيض. قال: ويقع في بعض النسخ أو أكثرها: الأيام البيض، وكذلك يقع في كثير من كتب الفقه وغيرها، وهو غلط عند أهل العربية معدو في لحن العوام ومن أجرى كلام الشيخ على هذا قال: ما الموصوف بالبياض؟

قيل: نفس الأيام؛ لأن قنبراً مولى علي – كرم الله وجهه – روى أن عليًّا سئل عن ذلك فقال: إنما سميت: أيام البيض؛ لأن الله تعالى لما أهبط آدم – عليه السلام – من الجنة إلى الأرض فشرقت عليه شمس الدنيا، فاسود جميع بدنه، فلما تاب الله عليه، فشكا إلى جبريل ذلك، فأوحى الله – عز وجل – إليه، وأمره أن يصوم أيام البيض، فلما صام اليوم الثالث عشر ابيض ثلث بدنه، فلما صام الرابع عشر ابيض ثلث بدنه فلما صام الخامس عشر ابيض جميع بدنه. وقيل: ليالي ذلك، وهو الصحيح؛ لأن الأيام كلها بيض والتقدير: أيام الليالي البيض. وسميت بيضاً؛ لأنها مضيئة بالقمر، كما يضيء جميع النهار بالشمس، وهذا قول القتبي. ثم ما هي الأيام المشار إليها؟ الصحيح: أنها الثالث عشر والرابع عشر [والخامس عشر، كما دل على ذلك الخبر والأثر. وقيل: إنها [الثاني عشر] والثلث عشر والرابع عشر؛ قاله في "الحاوي"، ويزعى إلى الصيمري.

وهذا الصوم هو القسم الثاني الذي أشرنا إليه في أول الباب. قال: وصوم [يوم] الإثنين؛ لما روى مسلم عن [أبي] قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الإثنين، فقال: "فيه ولدت، وفيه أنزل عليّ القرآ،". قال: والخميس؛ لما روى النسائي عن كيسان المقبري قال: حدثني أسامة بن زيد، قال: قلت: [يا] رسول الله، إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر، [وتفطر] حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وألا صمتهما؟ قال: وأي يومين؟ قلت يوم الإثنين ويوم الخميس، قال: "ذلك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم". قال الشيخ زكي الدين: وهو حديث حسن. [وعن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم يوم الإثنين والخميس"، قال الترمذي: وهو حسن] غريب. وهذا هو القسم الثالث الذي أشرنا إليه في أول الباب، وقد بقي قسم رابع وهو ما يستحب صيامه من الأشهر من بين الشهور، وهو المحرم، لقوله – عليه السلام-:

"أفضل الصيام بعد الفرض شهر الله المحرم"، ثم بعده: رجب؛ لرواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوم أول يوم من رجب كفارة ثلاث سنين، وصوم الثاني [منه] كفارة سنتين، وصوم الثالث منه كفارة سنة، ثم صوم كل يوم كفارة سنة". ثم بعد رجب: شعبان، قال – عليه السلام -: "من سره أن يذهب كثير من وحر صدره، فليصم شهر الصبر، [وثلاثة أيام من كل شهر"، وأراد بشهر الصبر]: شعبان وقيل إنه رمضان ومعنى"وحر صدره": أي: غش صدر وبلابله وقذره. [وقد] قالت عائشة: "ما استكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام شهر قط، كان يصوم شعبان إلا قليلاً". وأما ما لم يعين له وقت فالأفضل فيه صيام داود وهو صوم يوم وإفطار يوم؛ قال في "البحر"؛ وقيل: إنه أفضل من صوم الدهر، أي إذا أفطر في أيام النهي ولم يترك فيه حقاًّ ولم يخف ضرراً؛ لأن هذه الحالة هي التي لا يكره فيها صوم الهر. ولفظ الشافعي في "مختصر البويطي": "لا بأس بسرد الصيام إذا أفطر الأيام التي

نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها"، وبهذا يقع الرد على صاحب "التهذيب" وغيره من أصحابنا الذين أطلقوا القول بكراهة صوم الدهر؛ لأجل ما روي أنه – عليه السلام – قال لعبد الله بن عمرو: "لا صام من صام الدهر"، ولما روي أنه – عليه السلام – نهي عن صيام الهر. وأجاب القائلون بعدم الكراهة في هذه الحالة التي ذكرناها – ومنهم صاحب "المهذب" [و"البحر"] عن الخبر بأنه محمول على ما إذا صام ما نهي عنه؛ ولذلك قالت عائشة – وقد كانت تصوم الدهر، كما ذكرنا-:"من أفطر يوم النحر ويوم الفطر، فلم يصم الدهر". ولو نذر صوم الدهر، انعقد نذره إلا في زمان العيدين وأيام التشريق ورمضان. ولو أفطر في رمضان؛ لعذر من سفر أو مرض، فعليه القضاء فيقضي ويدع النذر وهل يلزمه الفدية لأجل النذر؟ قال ابن الصباغ والروياني فيه احتمالان لابن سريج، ذكرهما القاضي أبو الطيب وجهين على قولنا: إن زمان رمضان يدخل في نذره كما هو أحد الوجهين أما إذا قلنا: لا يدخل تحت نذره فلا يلزمه الفدية وبه أجاب في "التهذيب". وفي "البحر" عن والده: أنه قال: لو أفطر يوماً في غير رمضان، هل يقضيه؟ قال أصحابنا: لا، فلو قضاه في يوم آخر هل يصح عن القضاء، أو لا يصح لا قضاء ولا أداء؟ فيه وجهان. قلت: يمكن أخذهما من وجهين حكيا عن ابن سريج فيما إذا نذر صوم [يوم] بعينه، ثم أراد أن يأتي فيه بنفل أو فرض آخر عن النذر: هل يصح؟ وفيه وجهان:

أحدهما: لا؛ كما في رمضان. ثم على الثاني يلزمه الإطعام في الحال؛ لأنه أيس من استدراك هذا اليوم بالقضاء. قال في "البحر": قلت: ويحتمل وجهاً آخر. ولو سافر هذا الرجل يحل له الفطر، وهل عليه الإطعام في الحال؟ فيه وجهان، المذكرو منهما في "الرافعي": عدم الوجوب، بخلاف ما لو أفطر بغير عذر؛ فإنه جزم بالوجوب. ولو نذر من قد [نذر صوم] الدهر صوم يوم آخر، لم ينعقد نذره قاله الرافعي. قلت: ويتجه أن يكون كنذر الشيخ الهمَّ الصوم وقد تقدم. ولو لزمه صوم كفارة صام عنها، وفدى عن النذر. ولو نذرت المرأة صوم يوم فللزوج منعها، ولا قضاء ولا فدية. وإن أذن، ولم تصم، لزمها الفدية. وفي "المهذب": أنه لا يجوز للمرأة أن تصوم تطوعاً وزوجها حاضر إلا بإذنه؛ لما روى أبو هريرة: أن رسول الله صلى الله ليه وسلم قال: "لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه". قال: ومن دخل في صوم تطوع أو صلاة تطوع، استحب له إتمامها؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الآية [المائدة:1]، وقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، وإنما لم يجب؛ لما روى مسلم عن عائشة في [حديث طويل] قالت: ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله، أهدي لنا حيس، فقال: أرينيه، فلقد أصبحت صائماً. فأكل منه" ونقيس الصلاة على الصوم، ولأن ذلك عبادة يتحلل منها بالفساد فإذا تبرع بها لم يلزمه إتمامها، أصله: الاعتكاف، نعم، لو نذر إتمام الصوم فهل يلزمه؟ قال في "البحر" فيه وجهان، أصحهما: اللزوم. ولا فرق فيه بين ما قبل الزوال أو بعده.

قال: فإن [خرج منها] لم يلزمه القضاء؛ لما روت أم هانئ قالت: دخل عليَّ صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فأتي بإناء من لبن، فشرب منه، ثم ناولني فشربت، وقلت: [يا] رسول الله، كنت صائمة، لكني كرهت أن أرد سؤرك، فقال: "إن كان قضاء رمضان فاقضي يوماً مكانه، وإن كان تطوعاً فإن شئت فاقضيه، وإن شئت فلا تقضيه". ولأنه دخل في عبادة يتحلل منها بالفساد، فإذا خرج منها قبل استتمامها، لم يلزمه قضاؤها؛ كالاعتكاف. وهل يوصف فعله بالكراهة؟ قال القاضي الحسين: قال الشافعي: "كرهته"، وهو الذي أورده البندنيجي. وقال الإمام: إن شيخه كان يقول: الإفطار بالعذر مشروع ومن جملة المعاذير [في ذلك] أن يعز على من أضافه امتناعه من الطعام. فإن لم يكن عذر، فهل يكره قطع الصوم والصلاة؟ فعلى وجهين. قال: ولا بعد في ذكرهما مع الخلاف في تحريم القطع. يعني: بيننا وبين أبي حنيفة وغيره. أما لو دخل في صوم واجب، أو صلاة واجبة، لم يجز له الخروج منها. قال الشافعي في كتاب فرض الصلاة والصيام من "الأم": ومن دخل في صوم

واجب عليه: شهر رمضان، أو قضاء، أو صوم من نذر أو كفارة من الوجوه، أو صلاة مكتوبة في وقتها أو قضائها، [أو صلاة نذرها]، أو صلاة طواف – لم يكن له أن يخرج من الصلاة والصوم ما كان مطيقاً للصوم والصلاة. وإن خرج من واحد منهما بلا علة كان مفسداً عندنا. وقال ابن الصباغ: إن الأمر كما ذكر؛ لأن العبادة [إن] كانت متعينة: كصوم رمضان، والصلاة الواجبة إذن، فلا يجوز الخروج منها؛ لأنه وجب عليه الدخول في ذلك؛ فلا يجوز الخروج منه. وإن كانت غير متعينة: كقضاء الصلاة، والنذر المطلق، والكفارة؛ فتتعين بالدخول؛ لأنها واجبة في زمان لا بعينه، فإذا تلبس بها كانت تعييناً لذلك الزمان؛ فصار بمنزلة الفرض، بخلاف التطوع؛ فإنه ليس بواجب فالشروع فيه لا يصيره واجباً؛ وهذا ما أورده البندنيجي وصاحب "البحر" أيضاً. وفي ابن يونس حكاية وجه في جواز الخروج من صلاة الوقت إذا لم يضق، وكذا من قضاء الصوم، وهو مختار الإمام حيث قال في كتاب التيمم: إن المسافر الذي يجوز له الفطر لو أصبح صائماً، ثم اراد أن يفطر – فله ذلك؛ فإن الشروع لا يلزمه عندنا شيئاً إلا في الحج. وأنا أقول: من شرع في الصلاة في أول الوقت، فالذي أراه أنه لو أراد أن يقطعها قطعها؛ فإنها لا تجب بأول الوقت وجوباً مضيقاً، فالأمر موسع بعد الشروع كما كان موسعاً قبله؛ اعتباراً بمسألة الفطر، ومن لزمته فائتة غير مضيقة، فشرع فيها – فما قدمته من القياس يقتضي الخروج من الفائتة، والذي أراه: أن من شرع في صلاة جنازة، فله التحلل منها إذا كانت الصلاة لا تتعطل بتحلله، ومصداق هذا من نص الشافعي أنه قال: "من تحرم بصلاة على الانفراد، ثم وجد جماعة – فله أن يخرج عن صلاته؛ ليدرك الجماعة"، ولو كان الخروج ممتنعاً لما جاز بسبب إدراك فضيلة الجماعة. وقال في كتاب اللقيط: من شرع في فرض من فروض الكفايات، وكان متمكناً من

إتمامه، فأراد الإضراب عنه – فقد نقول: ليس له ذلك، ويصير فرض الكفاية بالملابسة متعيناً، وهذا فيه نظر. واقتصر الغزالي في كتاب التيمم على ما أباده الإمام من جواز الخروج من الصلاة قبل تضيق وقتها، وقال هاهنا في صوم القضاء: إن ما يجب قضاؤه على الفور يلزمه إتمامه عند الشروع فيه، و [ما] هو على التراخي فيجوز الإفطار فيه. وهو ما حكاه القاضي الحسين عن القفال، واختاره البغوي. وقال القاضي: عندي أنه يتخرج خروجه مما لم يجب قضاؤه على الفور على الوجهين فيما إذا أصبح المسافر صائماً هل له أن يفطر أم لا؟ [و] فيه وجهان تقدم حكايتهما عنه. وقد تقدم بيان ما يجب قضاؤه على الفور وما لا يجب في الباب قبله. قال: ومن دخل في حج تطوع أو عمرة [تطوع] لزمه إتمامهما؛ لأنه يجب المضي في فاسدهما، فكيف في صحيحهما؟! قال: وإن أفسدهما لزمه القضاء؛ لما سيتضح في كتاب الحج. قال: ولا يجوز صوم يوم الشك، أي: تطوعاً [مطلقاً] أو تحرياً لرمضان كما قال البندنيجي؛ لما روى أبو داود عن صلة – وهو [ابن زفر] – قال: كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه، فأتى بشاة – أي مصلية – فتنحى بعض القوم، فقال

عمار: من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. قال الترمذي: وهو حسن صحيح. ولا يجوز أني ضيف عمار العصيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا توقيفاً. وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صيام ستة أيام: يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق، واليوم الذي يشك [فيه] أنه من رمضان.

قال: إلا أن يوافق عادة له؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه" وأخرجه البخاري و [غيره]. قال: أو يصله بما قبله؛ لأن بالوصل ينتفي قصد التحري لرمضان، وتحصل مخالفة من ليس من أهل الحق. ثم ظاهر كلام الشيخ [يقتضي] انتفاء الكراهة فيما إذا وصله بيوم واحد، والحديث السالف دال على النهي عن ذلك؛ ولذلك قال البندنيجي: إنه لا يتقدم الشهر بصوم يوم ولا يومين، إلا أن يوافق ما كان [أبدا] يصومه، أو كان يسرد الصيام؛ فلا يكره له. وقيل: [إذا انتصف شعبان لا يجوز] أن يصوم؛ لما روى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" قال الترمذي: وهو

[حسن] صحيح. قال: إلا أن يوافق عادة له أو يصله بما قبله لما تقدم وهذا ما صححه النواوي، وجزم به في "المهذب"؛ لما تقدم. والقائل بالأول يحمل الخبر الدال عليه على من كان يضعفه ذلك عن صوم رمضان. والمتولي قال: إن أهل الحديث قالوا: إنه غير ثابت. وسلك في "المرشد" طريقاً آخر فقال: إن وافق عادة له بأن كان يصوم الإثنين – مثلاً – فكان ذلك، لم يكره، وإن لم يوافق عادته: فإن كان قوياً ووصله بما قبل النصف جاز، وإن كان ضعيفاً ووصله بما زاد على يومين جاز؛ عملاً بالحديثين. ولو أفراده بالصوم تطوعاً لم يصح، وبه جزم في "المهذب"، والمختار في "المرشد"، ويقال: إنه قول القاضي أبي الطيب، والذي رأيته في "تعليقه": أنه مكروه؛ فإن صامه فلا ثواب له. وحكى المراوزة وصاحب "البحر" فيه وجهين كالصلاة في الأوقات المكروهة، وصحح الرافعي عدما لصحة؛ كصوم يوم العيد. وقال في "البحر": المذهب أنه ينعقد. ولو صامه عن فرض صح، وهل يكره؟ فيه وجهان: قيل: مختار أبي الطيب: الكراهة، وهو الذي جزم به في "المهذب" وقال في "الحاوي" إنه مذهب الشافعي. والذي رأيته في "تعليق" القاضي أبي الطيب: أنه يسقط عنه الفرض، ولا ثواب له، ويكون بمنزلة الصلاة في الدار المغصوبة.

واستبعد ابن الصباغ ما حكى عن ابن الطيب من الكراهة، وقال: لم أره لغيره من أصحابنا، وما قاله مخالف للقياس؛ لأنه إذا جاز أن يصوم فيه تطوعاً له سبب، كان الفرض أولى كالصلاة في الوقت المنهي عنه، ولأنه لو كان عليه يوم من رمضان فقد تعين عليه صومه فيه؛ لأن وقت القضاء قد ضاق لأجل ذلك. [و] قال في "المرشد": إن صامه عن قضاء رمضان ينبغي ألا يكره؛ لأنه متعين، وقد حكاه في البحر وجهاً وقال: إنه أصح عندي.

ويوم الشك: أن يتحدث برؤية الهلال من لا يثبت بقوله: كالصبيان، والنسوان، والعدل الواحد؛ إذا لم نثبته بهم وبه، وكذا العوام إذا لم تثبت عدالتهم عند الحاكم أو لم يشهدوا به، أما إذا لم يتحدث برؤيته فلا شك. وإن كان غيم في موضع رؤيته، فعن الشيخ أبي محمد فيما إذا كان في محل الرؤية قطع سحاب، ولم يتحدث بالرؤية – فهو يوم شك. وقال في "البسيط": هذا غير واضح في البلاد الواسعة والقرى، وأما في الأسفار في حق الرفاق، فيمكن أن يجعل يوم شك؛ لجواز الرؤية والتحدث بها في البلاد التي يجتمع فيها من يشتغل بهذا الشأن وهو مأخوذ من قول الإمام. وحكى الموافق بن طاهر عن أبي محمد اليامي أنه إذا كانت السماء مُصْحِيَة ولم ير الهلال فهو يوم شك وعن الأستاذ أبي طاهر: أن يوم الشك: ما تردد بين الجانبين من غير ترجيح، فإذا شهدت امرأة أو عبد أو صبي فقد ترجح أحد الجانبين، وخرج اليوم عن كونه يوم شك، والمشهور: ما تقدم. وقد وافق الشيخفي عبارته صاحب "التتمة"، وعبارة ابن الصباغ والبندنيجي وصاحب "البحر" والفوراني والقاضي الحسين: أن صوم يوم الشك مكروه. وفي "الحاوي": أن النهي عن صومه؛ للكراهة [لا] للتحريم. قال: ويكره أن يصوم يوم الجمعة وحده؛ لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو بعده"، وفي رواية أبي داود: "قبله بيوم"، وهذا ما حكاه الشيخ أبو حامد في "التعليق" والمتولي في "التتمة"، واختاره ابن المنذر. وقد روى المزني في "جامعه" أن الشافعي قال: "إنه لا يكره صومه، ولا يتبين لي أن النهي عن صيام يوم الجمعة إلا على الاختيار لمن كان إذا صامه منعه عن الصلاة التي لو كان مفطراً فعلها"؛ ولهذا جزم الماوردي بأن مذهب الشافعي أن معنى النهي

عن الصوم فيه: أنه يضعفه عن حضور يوم الجمعة [والدعاء فيهن فكل من أضعفه الصوم عن حضور الجمعة] كان صومه مكروهاً، وأما من لم يضعفه الصوم عن حضورها فلا بأس أن يصوم. قلت: وهذا يخدشه ما رواه البخاري ومسلم عن جويرية بنت الحارث أن النبي صلى الله علي وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: "صمت أمس؟ " قالت: لا، قال: "تريدين أن تصومي غداً؟ " قالت: لا، قال: فأفطري". قال: ولا يحل الصوم يوم الفطر والأضحى؛ لما روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يومين: [يوم] الفطر، ويوم الأضحى. [وجاء في "الصحيحين" عن عمر أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين]: أما يوم الأضحى فتأكلون من لحم نسككم، وأما يوم الفطر ففطركم من صيامكم. قال: وأيام التشريق؛ لما روى مسلم عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أكل وشرب"، وفي رواية: "وذكر لله تعالى"، وروى أبو داود عن أبي مرة مولى أم هانئ، أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص، فقرب إليهما طعاماً، فقال: كل، قال: إني صائم، فقال عمرو: [كل]؛ فهذه الأيام التي كان

رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإفطارها، وينهانا عن صيامها، قال [مالك]: هي أيام التشريق. وأيام التشريق ثلاثة بعد يوم النحر، وسيأتي ذكر ما سميت بذلك لأجله. قال: فإن صام في هذه الأيام، أي: أمسك فيها عن المفطرات، ونوى من الليل – لم يصح صومه؛ لأن نفس العبادة عين المعصية، قال في "التتمة": وكان عاصياً آثماً. قال: وقال في القديم: يجوز للمتمتع صوم أيام التشريق؛ لما روي عن ابن عمر وعائشة أنهما قالا: "لم يرخص في صوم أيام التشريق إلا للمتمتع الذي لم يجد الهدي"، وإلى هذا ميل الشيخ أبي محمد. وبعضهم حكى عن المزني أن الشافعي رجع عنه؛ ولأجله لم يثبت بعض الأصحاب في المسألة خلافاً. وقال القاضي الحسين: إن بعض أصحابنا قال: في المسألة قول ثالث: أنه يصح فيها جميع الصيام، ويكره؛ لأنها تتلو العيد فأشبهت ما يتلو الفطر، ولأن ما صلح لنوع من الصوم صلح لغيره؛ كسائر الأيام. وغيره قال: إذا جوزنا للمتمتع صومها هل يجوز لغيره وله صيامها عن غير المتمتع؟ فيه وجهان – وقال الإمام: طريقان-: أحداهما: القطع بالمنع. والثانية: أنه كصوم [يوم] الشك. وقال الماوردي: إن غير المتمتع لا يجوز له أن يصومها تطوعاً بغير سبب بلا خلاف.

وفي جوازه بسبب متقدم: كالنذر، والقضاء، والكفارة، وقضاء رمضان – فيه وجهان حكاهما أبو الطيب والبندنيجي أيضاً، ونسب الجواز إلى أبي إسحاق، وسيأتي الكلام في ذلك في كتاب الحج، إن شاء الله تعالى. وقد حكى الإمام أن القاضي الحسين ذكر مسلكاً يفضي إلى تنزيل يوم العيد منزلة يوم الشك، وما نراه قاله عن قصد، وإنما ذكره في تقدير كلام تقديراً لا تحقيقا، وأصل المذهب لا يزال بهذا، والله أعلم.

باب الاعتكاف

باب الاعتكاف الاعتكاف: لزوم المرء الشيء وحبس نفسه عليه، براًّ كان أو إثمان، قال الله تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} الآية [الأعراف: 138]، أي: يقيمون. وقال- عز من قائل -: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52]، وقال امرؤ القيس: تظل الطير عاكفة عليهم وتنتزع الحواجب والعيونا وهذا ما حكاه الشافعي. وقال الخليل: هو المقام على الشيء؛ يقال: عكف، يعكف، [بكسر] الكاف وضمها. قال البندنيجي: وقال بعض أهل اللغة: الاعتكاف: الاحتباس في المسجد والإقامة فيه، يقال: عكفته، فعكف [واعتكف] أي: حبسته فاحتبس. وهذا جده لغة. وأما حدُّه شرعاً: فهو اللّبث والإقامة في المسجد بقصد القربة، من مسلم عاقل طاهر من الجنابة والحيض والنفاس، صاح كاف نفسه عن قضاء شهوة الفرج، مع الذكر. [وكلام] الشيخ يأتي على جميع ذلك.

وقد خرج بقولنا: "اللبث"، العبور في المسجد عن أن يكون اعتكافاً وهو المشهور، ولمي ذكر في "الوجيز" غيره، ومن جوزه من أصحابنا لم يخالف في الحقيقة ما ذكرناه، ولكنه اكتفى بالحضور في المسجد كما اكتفى بالحضور في عرفة في تحصيل الركن، فإن كان قد أوجب باسم الوقوف، فهو مشعر بالمكث إشعار العكوف. و [خرج] بقولنا: "والإقامة" ما إذا جلس وقام عقيب جلوسه؛ فإنه لا يحصل له الاعتكاف، كما حكاه في"البحر" عن ابن سريج، وقال إن أبا حامد استجاده، وعليه ينطبق قول الإمام: إن من لم يكتف بالمرور من أصحابنا يقول: لابد من لبث، ولا يكفي فيه ما يكفي في الطمأنينة في الركوع؛ فإنا قد أوضحنا أنه يكفي في إقامة الفرض فيها انفصال آخر حركه الهوى عن أول حركة الرفع [عن الركوع]، وكان الغرض تحصيل تصور الركوع مع فصله عما قبله وبعده، وأما هذه القربة فشرط تصورها عند هذا القائل: اللبث، فليكن محسوساً. قال: وعند هذا لقائل لو كان الشخص يتردد [في أرجاء المسجد فهو معتكف، وقد يكون زمانٍ] تردد من يصح اعتكافه أقل من زمان [من] يدخل من باب ويخرج من باب. و [خرج] بقولنا: "في المسجد، بقصد القربة من مسلم عاقل [طاهر] صاح" ما ستعرفه. وأردنا بقولنا: "كاف نفسه عن قضاء شهوة الفرج"، [وهي عبارته في "الوسيط" - الكف عن الجماع في الفرج] وعن المباشرة في غير الفرج إلى أن يتصل بها الإنزال؛ فإنه مناف له، ويفسد به على الأصح بالاتفاق، وبعضهم قطع به، لكن هذه العبارة تقتضي التسوية بين ما إذا باشر [فيما دون الفرج] فأنزل، أو استمنى فأنزل؛ لأنه في كل منهما لم يكف نفسه عن شهوة الفرج وهي الإنزال؛ ولذلك سوى الرافعي بينهما، وغيره من الأصحاب بنى الاستمناء على المباشرة، فقال: إن قلنا: المباشرة مع

الإنزال لا تفسد، فالإنزال بالاستمناء أولى، وإلا فوجهان: قال القاضي الحسين: أصحهما: أنه لا يبطل؛ لأنه لم يكمل له الالتذاذ، وهناك [قد] كمل له الالتذاذ، باصطكاك البشرتين، وعلى كل حال فهذه العبارة أحسن من قوله في الوجيز: "الكف عن الجماع". وهل يشترط الكف عن مقدمات الجماع؟ [فيه] قولان. وإنما قلنا ذلك؛ لأن المفهوم من لفظ "المقدمات": المعانقة والقبلة ونحو ذلك، لا الإنزال بما ذكرناه؛ فلا يكون داخلاً في حده، مع أن الخلاف في الجميع. وأيضاً: فقد يفهم من لفظ "المقدمات": أن من شرطه ترك الطيب على أحد القولين أخذاً من قول الأصحاب إنه لا يستفيد بالتحلل الأول في الحج استباحة الوطء، وهل يستفيد [حل] الطيب؟ فيه خلاف، ومأخذ المنع: ان الطب من دواعي الوطء؛ فلم يبح كهو، ولا خلاف في أن الكف عنه ليس من شرط الاعتكاف، بل للمعتكف أن يتطيب كما له أن [يرجل] شعره، ويزوج ويتزوج بخلاف المحرم. وقد اقتضى ما ذكرناه من عبارة "الوسيط": أن الكف عن مقدمات الجماع بدون الإنزال لا يشترط كما هو أحد القولين في "الوجيز" وغيره، وهو الذي رجَّحه المحاملي والشيخ أبو محمد والروياني وغيرهم، وبعضهم قطع به. وخرج بقولنا: "مع الذكر"، [قضاء] شهوة الفرج ناسياً؛ فإنه لا يفسد الاعتكاف على الصحيح، كما لا يفسد الصوم، وقد قال الرافعي: إن الجهل بتحريم ذلك كالنسيان للاعتكاف في الإفساد. فعلى هذا: ينبغي أني ضاف قيد "العلم بالتحريم" إلى الحد، لكني لم أذكره؛ لشيء سأبديه، وهو أنا قد ذكرنا أن النية لابد منها، وشرط المنوي: أن يكون معلوماً للناوي، وحينئذ فلا تصح نية الشيء ما لم يعلم ما هو ذلك الشيء؛ فلا يتصور الجهل بتحريم الجماع في الاعتكاف مع صحته إذن؛ ولأجل ذلك صور العلماء الأكل والجماع

في الصوم جاهلاً: بأن يكون قد أكل ناسياً؛ فاعتقد أنه أفطر به فأكل [أو جامع] عامداً؛ بناء على أنه أفطر، وأن ذلك بعد ذلك ليس بحرام عليه، لكنه قد يفرض مثل هذا هنا أيضاً بأن فعل فعلاً ظن أنه خرج به من الاعتكاف كالحرفة مثلاً، فجامع بناء على ذلك، والله اعلم. وإذ قد عرفت ذلك عرفت أن الاعتكاف الشرعي متصوَّر في قليل الزمان كما وصفنا [وكثيره]. نعم، المستحب ألا ينقص عن يوم، كما نص عليه في الإملاء؛ للخروج من

خلاف أبي حنيفة، وقد حكى القاضي الحسين عن بعض أصحابنا موافقته. وقد حكى الإمام عن رواية الشيخ أبي بكر أن من أصحابنا من لم يصحح الاعتكاف إلا يوماً أو ما يدنو من يوم؛ لأن نصف اليوم فما دونه مما يغلب جريان المكث في مثله لعامة الناس؛ لحاجة تعن لهم في المساجد، ولا يثبت الاعتكاف إلا بمكث يظهر من مثله أن صاحبه معتكف في المسجد. قال في "التتمة": [وهذا] يقرب من قول [من] لم يصحح التنفل بالصوم بنية بعد الزوال. وحكى الفوراني وجهاً: أن من كان يعتاد دخول المسجد لإقامة الجماعة أو غيرها، وكان لا يظهر ما يخالف عادته في الدخول والخروج- فلو نوى كلما دخل الاعتكاف، لم يكن اعتكافاً؛ لأنه غير مخالف لعادته في دخلاته وخرجاته. والصحيح عند من أثبت الخلاف في المسألة ما اقتضاه ما ذكرناه من الحد، وعبارة بعضهم تقتضي القطع به. قال: الاعتكاف سنة، أي: سنة رسول الله صلى الله عليه ولم فإنه كان يعتكف العشر الأواسط من شهر رمضان، فلما كان ليلة الحادي والعشرين وهي الليلة التي كان يخرج في صبيحتها من اعتكافه، قال صلى الله عليه وسلم: "من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر" كذا رواه الشافعي بسنده عن أبي سعيد الخدري، وسنذكر رواية غيره عنه، إن شاء الله تعالى. ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى: ثم اعتكف أزواجه من بعده، كما أخرجه البخاري ومسلم. وروى أبو هريرة أنه – عليه السلام – كان يعتكف كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً. أخرجه البخاري.

وقد كان الاعتكاف في شرع من قبلنا، قال الله تعالى لإبراهيم – عليه السلام -: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]. قال: ولا يجب إلا بالنذر. [أفاد هذا الكلام أمرين: أحدهما: أنه لا يجب بغير النذر]، ودليله قصة الأعرابي المشهورة في قوله: هل عليَّ غيرها؟ وما رواه مسلم في أثناء حديث أبي سعيد الخدري المذكور في كتاب الصيام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف" فعلقه بالمحبة. ولأن العبادات الواجبة قد قرر لها الشرع أسباباً راتبة كالصلاة، أو عارضة كالزكاة، وليس للاعتكاف سبب راتب ولا عارض؛ فعلم أنه غير واجب. والثاني: وجوبه بالنذر؛ لأنه قربة وطاعة لما ذكرناه وقد أجمع المسلمون على ذلك ما قاله أبو الطيب، وإذا كان قربة وطاعة اندرج تحت قوله – عليه السلام -:"من نذر أن يطيع الله فليطعه". فإن قيل: قد قال الشيخ: إنه سنة فأي فائدة لقوله: "لا يجب إلا بالنذر". قلنا: قد ذكرنا أن مراده بالسنة: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تنقسم إلى الواجب والمندوب، فبين بقوله: "ولا يجب إلا بالنذر" أنه من القسم الثاني. ثم على تقدير أنه أراد بالسنة ضد الواجب، ففائدته تعريفك أنه ليس من شرط ما يلزم بالنذر من القرب أن يكون له أصل واجب في الشرع: كالصلاة، ونحوها؛ كما صار إليه بعض أصحابنا، كما ستعرفه في باب النذر، مع أنهم اتفقوا على لزوم الاعتكاف بالنذر؛ لأن من قال [من أصحابنا]: لا يلزم بالنذر إلا ما له أصل واجب في الشرع، قال: الاعتكاف لبث بمكان مخصوص، وكان أصله الوقوف بعرفة. وقد يكون من فوائد قوله: "ولا يجب إلا بالنذر"، الرد على من قال من أصحابنا؛: إنه إذا قال ابتداء: لله عليَّ أن أعتكف كذا، ولم يعلقه على شيء أنه يلزمه بلا خلاف بخلاف غيره من السنن؛ حيث جرى في لزومها في مثل هذه الصورة الخلاف؛ بناء

على أن ذلك يسمى: نذراً أم لا؟ كما ستعرفه، إن شاء الله تعالى. قال: ولا يصح إلا بالنية؛ لخبر المشهور، ولأن اللبث في المسجد تارة يكون عادة وتارة عبادة؛ فافتقر إلى النية؛ لتمييز العادة من العبادة، ويكفيه أن ينوي الاعتكاف مطلقاً إن كان متطوعاً به، ويقيم ما شاء الله تعالى. قال الإمام: وكان شيخي يتردد في مثل هذه الصورة في الصلاة، ويقول: إذا نوى المتطوع الصلاة، ولم يربط قصده بأعداد من الركعات، فالوجه تصحيح ركعة وركعتين وثلاث وأربع إن اقتصر عليها، فأما المزيد فلم يرد فيه ثبت على الاسترسال، ففيه نظر. قال الإمام: ووجدت لغيره القطع بأنه إذا نوى الصلاة مطلقاً، وأراد إقامة مائة ركعة بتسليمة فلا بأس، وهو القياس. ويجوز أن ينوي اعتكاف يوم وشهر وسنة، والعشر الأواخر من رمضان وغيره، لكنه في الحالة الأولى متى خرج من المعتكف ولو لقضاء حاجة الإنسان أو غيرها احتاج إلى تجديد النية عند العود؛ لأن ما مضى عبادة تامة. قال في "التتمة": اللهم إلا أن يعزم عند خروجه لذلك أنه يعود؛ فإن هذه العزيمة قائمة مقام النية. قال الرافعي: ولك أن تقول: اقتران النية بأول العبادة شرط، فكيف يحصل الاكتفاء بالعزيمة السابقة على العود؟! وفي الحالة الثانية: إذا خرج وعاد هل يحتاج إلى تجديد النية؟ قال الغزالي: فيه

ثلاثة أقوال أو أوجه، تؤخذ من كلام الإمام وغيره: أحدها: لا؛ لأن النية شملت جميع المدة [بتعيينها وهذا ما أورده الفوراني. والثاني: إن قرب الزمان فلا، وألا فنعم؛ لتعذر البناء]. قال الرافعي: وعلى هذا فلا فرق بين أن يكون الخروج لقضاء الحاجة [أو غيره. والثالث: إن خرج لقضاء الحاجة]، فلا يحتاج؛ لأنه كالمستثني عند النية. وإن خرج لغيرها فلابد من التجديد؛ لقطعه الاعتكاف، قال الرافعي: وهذا أظهر. وعليه لا فرق بين أن يطول الزمان أو يقصر. [قلت]: وقد تلخًّصَ من ذلك أنه إذا خرج [لقضاء الحاجة] وعاد على قرب لا يحتاج إلى التجديد بلا خلاف، [وهو ما أورده في "التهذيب"، بل كلامه يشعر بذلك وإن طال الزمان؛ لأنه لم يفصل، بل أطلق القول بأن الخروج لقضاء الحاجة لا يحوج إلى التجديد]، وطرده في خروجه لكل ما لابد له منه. وعد من ذلك الأذان. وإن خرج لقضاء الحاجة وطال الزمان، أو لغيرها وطال الزمان، أو قصر – ففيه قولان، وهما فيما إذا طال الزمان والخروج لقضاء الحاجة أو غيره محكيان عن الشيخ أبي محمد؛ فإن الإمام حكى عنه أنه قال: إذا خرج ثم عاد، فإن قرب الزمان، لم يحتج إلى تجديد النية وإن طال، فقولان مأخوذان من تفريق الطهارة. قال الإمام: ولم يفرق بين الخروج لقضاء الحاجة أو غيرها. ومعنى أخذهما من تفريق الطهارة قد بينه القاضي الحسين بقوله: إذا فرق الطهارة، وقلنا: لا يضر، هل يحتاج إلى تجديد النيّة أم لا؟ وهذا مثله. وهما في حالة قصر الزمان [والخروج لغير قضاء الحاجة، كغيره، والمذهب منهما كما قال الإمام]: أنه لابد من التجديد عند العود فإن ما مضى عبادة مستقلة عما يستقبله الآن، ولو رددنا إلى القياس لما اكتفينا بنية واحدة في الأوقات المتواصلة كما في رمضان، فإذا تخلل ما يقطع التواصل، وجب الرجوع إلى الأصل

المنقاس. ومقابله معزي إلى رواية الشيخ أبي علي. ثم هذا – كما ذكرنا – فيما إذا كان الاعتكاف تطوعاً أو منذوراً؛ كما قال الرافعي ولم يشترط التتابع فيه، ثم دخل المعتكف على قصد الوفاء بالنذر أما إذا شرط التتابع أو كانت المدةا لمنذورة متواصلة في نفسها، فسيأتي حكم التجديد فيها، ويحتاج في نية الاعتكاف المنذور تعيين أن ذلك عن نذره. تنبيه: قول الشيخ: "لا يصح إلا بالنية" يعرفك أنه لا يصح إلا من مسلم؛ لأنه عبادة بدنية لا يتعلق بها حق آدمي، والعبادة إذا كانت كذلك لا تصح من كافر أصلي ولا مرتد؛ إذ نيتهما غير معتبرة. واحترزنا بقولنا: "لا يتعلق بها حق آدمي" من غسل الذمية تحت المسلم من الحيض؛ فإنه فيه ما تقدم. وقول الشيخ يعرفك – أيضاً – أنه لا يصح من المجنون وكذا السكران كما دل عليه قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية [النساء:43] أي: مواضع الصلاة. وإنما قلنا: إن كلام الشيخ يدل على ذلك لأن المجنون أو السكران لا قصد له صحيح، فلا تتصور النية منه، نعم إذا سكر بعد أن اعتكف أو ارتد أو قطع النية وهو بعد في المسجد فسنذكره إن شاء الله تعالى. قال: ولا يصح إلا في المسجد. اعلم أن الألف واللام في "المسجد" لتعريف الماهية لا للعهد – لأنه [لا] معهود – ولا للاستغراق؛ لأنه غير ممكن وإذا كان كذلك فكأنه قال: ولا يصح إلا في مسجد، وقصد به بيان أمرين: أحدهما: عدم صحت في غير المساجد، وهي المواضع الموقوفة للصلاة. والثاني: صحته في أي مسجد كان يدل عليه قوله من بعد: "وأن يكون في الجامع" ووجه ذلك: قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} الآية [البقرة: 188] فعمَّ المساجد بالذكر ولا يخلو ذكرها من أحد أمرين؛ إما أن يكون شرطاً في المنع من المباشرة، او شرطاً لصحة الاعتكاف، والأول باطل لأن المعتكف ممنوع منها في المسجد وحال خروجه لقضاء الحاجة ونحوها فتعين أنه شرط لصحة الاعتكاف.

وأيضاً: فإن هذا النهي ليس لمعنى يعود إلى الاعتكاف؛ لأن غير المعتكف لا يجوز له أن يباشر في المسجد؛ فدل على أن المقصود تخصيص الاعتكاف بالمساجد. [و] لأن الذي فعله صلى الله عليه وسلم إنما كان في المسجد، وكذا ما دل عليه قوله تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ} الآية [البقرة: 125]؛ لأن الطواف يقع في المسجد الحرام؛ فهو المعني بالبيت وإذا كان كذلك لم يتعده ويؤيده ما روى أبو داود عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [إذا اعتكف] يدني إلي برأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وحاجة الإنسان – هاهنا – أريد بها الغائط والبول هكذا فسره الزهري، وهو راوي الحديث. ووجه الدلالة منه: أنه لم يخرج إلى بيته لأجل الترجيل كما خرج لحاجة الإنسان. ولأنه لبث بمكان فاختص بموضع مخصوص؛ كالوقوف. ولا فرق في جوازه في المسجد بين أني كون في جوفه أو على سطخه. ولا فرق في امتناعه في غير المسجد بين الرجل والمرأة؛ كما نص عليه في عامة كتبه، حكاه أبو الطيب، وهو الجديد. قال ابن الصباغ: وذكر أبو حامد في "التعليق": أن الشافعي قال في القديم: "وأكره للمرأة أن تعتكف إلا في مسجد بيتها"، أي: الموضع الذي جعلته لصلاتها من بيتها من غير أن يوقف لذلك؛ فإنه لو وقف لكان مسجداً، ووجهه: أنه موضع فضيلة صلاتها المكتوبة فكان موضعاً لاعتكافها؛ كالمسجد في حق الرجل. والذي أورده الماوردي، وصححه البغوي وغيره: الأول: لأنه قربة شرط فيها المسجد في حق الرجل فكان شرطاً في حق المرأة، كالطواف، وأما الصلاة فغير

معتبر بها لأنه ليس من شرطها مكان مخصوص؛ لأنها تصح في الطريق، بخلاف الاعتكاف. وفي "البحر": أن القاضي أبا الطيب قال: لفظ الشافعي في القديم: وأكره للمرأة أن تعتكف في المسجد، وإن كان لا يصح اعتكافها إلا في المسجد، كما كهر لها حضور الجامع لأداء الجمعة، وإن كان لا يجوز لها أن تصلي الجمعة إلا في الجامع. فالمسألة على قول واحد في المرأة، وغلط من قال: فيها قولان. قلت: لكن لفظ القاضي في "تعليقه" ينفي هذا الغرض؛ حيث قال: لا خلاف في أن الرجل لا يصح اعتكافه إلا في المسجد، وأما المرأة، فالذي نص عليه في عامة كتبه: أنها كالرجل، وقال في القديم: يصح اعتكافها في بيتها. وإليه ذهب أبو حنيفة. وقد رأيت فيما وقفت عليه من "تعليق" البندنيجي عكس الشهور، وهو أن الأول هو القديم، وان الثاني هو الجديد، ويقرب منه ما رأيته في "تعليق" القاضي الحسين: أن الذي نص عليه الشافعي في عدة مواضع من كتبه: أنها لها أن تعتكف حيث شاءت من مسجد بيتها وغيره، وقال في القديم: أكره لها أن تعتكف في غير مسجد بيتها. وهذا يقتضي أن المسألة على قول واحد، وهو صحته في مسجد بيتها، لكنه قال: ومن الأصحاب من حكى قولاً آخر عن الشافعي: أنه ليس لها أن تعتكف في مسجد بيتها. وقد حكى القاضي الحسين والفوراني والمتولي وغيرهم – تفريعاً على جوازه للمرأة في مسجد بيتها – وجهين في جوازه للرجل، وهما معزيان في "البحر" إلى القفال والأصح منهما: المنع؛ لأن الرجل [لا] يستحب في حقه التستر، بخلاف المرأة. تنبيه: قول الشيخ: "ولا يصح إلا في المسجد" يعرفك أنه لا يصح من الجنب، والحائض، والنفساء؛ لأن المكث فيه محرم عليهم، وهو نفس العبادة. نعم، قد يقال: إذا صححنا اعتكاف المار، يتجه أن يصح اعتكاف الجنب في حال مروره في المسجد فإنه غير محرم عليه. ويجوز أن يقال بالمنع؛ لأن من شرط صحته من المار: أن يكون بحيث لو قصد المقام فيه، لم يمنع منه، والجنب ليس كذلك، والله أعلم.

قال: والأفضل أن يكون بصوم، أي: إما لأجل الاعتكاف، أو لغيره؛ للخروج من خلاف أبي حنيفة وغيره؛ فإنه جعل الصوم شرطاً في صحته وإن لم يكن الصوم له لخصوصه [تمسكا بفعله – عليه السلام – فإنه لم ينقل أنه اعتكف إلا وهو صائم؛ فدل على انه شرط فيه، وإذا كان كذلك] فلا يصح في يوم العيد وأيام التشريق ولا في الليل منفرداً؛ لعدم قبول ذلك للصوم المطلق، وهو قول قديم حكاه القاضي أبو حامد [في "جامعه"]، لكنّ أبا حنيفة جوزه في الليل تبعاً للنهار، وعندنا لا يجوز في الليل على هذا القول تبعاً كما حكاه الإمام. والجديد: الأول؛ حملاً لفعله صلى الله عليه وسلم على الاستحباب، بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن عمر – رضيا لله عنه – أنه قال: يا رسول الله إني في الجاهلية نذرت أن أعتكف في المسجد الحرام ليلة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك"، ووجه الدلالة منه: أنه أمر بالوفاء بنذر الاعتكاف ليلة والليل غير قابل للصوم فدل على أن الصوم ليس شرطاً لصحته. فإن قيل: قد ثبت في "الصحيح" عن عمر أنه قال: "إني نذرت أن أعتكف يوماً" فلا دليل لكم في الخبر، وعلى الرواية الأولى فهو محمول على ما إذا كان قد نذر الليلة تبعاً للنهار كما نقول: إنه في حال خروجه لقضاء الحاجة معتكف وإن كان لا يصح اعتكافه في غير المسجد؛ ويدل على ذلك – أيضاً – أنه جاء في بعض الطرق: أن عمر قال: "إني نذرت أن اعتكف يوماً وليلة". قلنا: ما ثبت في "الصحيح" – مع ما ذكرناه – خبران يمكن استعمالهما، لا يطرح أحدهما بالآخر، وما جاء في بعض الطرق، فقد قال أئمة الحديث: إن الراوي له تفرَّد به، وهو ضعيف لا يستدل بحديثه.

ولا نسلم أن الليل يتبع النهار كالخروج لقضاء الحاجة؛ لأن زمان الخروج يسير؛ فجاز أن يتبع الكثير، والليل قد يكون مثل النهار أو أكثر بأن يقع ابتداء ذلك بالليل، والكثير لا يتبع القليل، وهذا منا جواب على قولنا: إنه في حال خروجه لقضاء الحاجة معتكف كما هو الصحيح. أما إذا قلنا: إنه [غير] معتكف، فيكفينا المنع، وقد روى الدارقطني بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المعتكف صوم إلا أن يوجبه على نفسه". ولا يعارضه ما روي عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا اعتكاف إلا بصوم"؛ لأن الصحيح أن هذا من قول عائشة، وقد قال بخلافه علي وابن مسعود، على أنه يحمل إن صح على الأكمل، أو على الاعتكاف المنذور فيه الصوم. ولان الليل زمان يصح ابتداء الاعتكاف فيه بوفاق الخصم، فنقول: زمان يصح ابتداء الاعتكاف فيه؛ فيصح الاقتصار عليه؛ كالنهار. ولأن الصوم لو كان شرطاً في صحته، لما صح ابتداؤه إلا به كالطهارة في الصلاة. تنبيه: كلام الشيخ يفهم أنه إذا نذر أن يعتكف بصوم لزم ذلك له؛ حتى لا يخرج عن نذره بدون ذلك؛ عملاً بما سنذكره في باب النذر. وقد قال الأصحاب: إنه إن نذر أن يعتكف يوماً هو فيه صائم، أو أياماً هو فيها صائم، لزمه الاعتكاف في أيام الصوم؛ لأنه لما كان بالصوم أفضل، لزم بالنذر، كما لو ألزم التتابع فيه، ولا يجزئه حينئذ أن

يعتكف إلا وهو صائم، سواء كان صائماً لأجل الاعتكاف أو غيره، وهذا مما لا خلاف فيه [في المذهب]، صرح به الرافعي تبعاً للمتولي والبغوي. وإن قال: لله عليَّ أن أعتكف يوماً صائماً إن شي الله مريضي، فشفاه – لزمه اعتكاف يوم وصيام يوم بلا خلاف، لكن هل يتعين صوم يوم الاعتكاف؛ للخروج عن موجب النذر، حتى لو اعتكف بغير صوم أو صام بدون اعتكاف لا يجزئه، أو لا يتعين؛ فيجزئه أن يعتكف يوما، ويصوم آخر؟ فيه وجهان مأخوذان من قول الشافعي في "المختصر": "فإن نذر اعتكافاً بصوم فأفطر، استأنف": [فمنهم من قال – وهو أبو علي الطبري: أراد استأنف] الصوم، فأمّا الاعتكاف فلا، لأن الصوم ليس شرطاً عند الإطلاق، فكذا عند النذر كما لو قال: لله علي أن أعتكف مصلياً فإنه يلزمه أن يصلي ركعتين كيف كان، وإذا كنا كذلك أجزأه أن يفرد كلا منهما عن الآخر. ومنهم من قال – وهو ابن سريج وأبو إسحاق المروزي، وسائر أصحابنا؛ كما قال القاضي أبو الطيب -: إنه أراد أنه يستأنفهما جميعاً، وهو الذي صححه القاضي

الحسين وغيره وادعى البندنيجي والبغوي انه المذهب؛ لقوله في "المختصر الكبير" – وهو "الأم" – كما قال البندنيجي-: وإذا أفطر المعتكف، استأنف الاعتكاف؛ إذا كان اعتكافه واجباً بصوم، وليس كل ما لا يلزم [بغير النذر لا يلزم بالنذر؛ دليله: التتابع؛ [فإنه لا يلزمه عند إطلاق نذره، ويلزم فيه إذا شرط التتابع] فيه. والفرق بينه وبين الصلاة – إن سلم الحكم فيها، كما ستعرفه -: [أن بين الصوم] والاعتكاف مشابهة؛ لان الصوم كف وإمساك عن المفطرات والجماع، وكذا الاعتكاف كف عن البروز والخروج وعن الجماع؛ فجاز أن يجمع بينهما بالنذر ويكون أحدهما صفة للآخر، ولا مشابهة بين الصلاة والاعتكاف؛ فإن الاعتكاف لبث ومقام، والصلاة أفعال وأذكار، وإذا لم يكن بينهما مشابهة، جاز ألا يلزم الجمع بينهما بالنذر. قال القاضي الحسين: فإن قيل: هذا يشكل بقوله: لله عليَّ أن أصوم معتكفاً؛ فإنه لا يلزمه الجمع بينهما [بالنذر] وأيضاً: فإن بين الصوم والاعتكاف مفارقة؛ [من حيث إن الأكل يضاد الصوم دون الاعتكاف، وبين الصلاة والصوم مشابهة] من حيث إن كلا منهما يقتضي الكف عن الأكل والشرب ومع ذلك، لمي لزمه الجمع بينهما بالنذر]. قلنا: أما النص، فقد اختلف أصحابنا فيه:

فمنهم من قال: فيه وجهان كالمسألة الأولى؛ فلا فرق بينهما؛ وهذه الطريقة التي اختارها الإمام، وجزم بها البغوي، ولا يظهر بينهما فرق. ومنهم من قال: يلزمه الجمع في الأولى دون هذه وهي طريقة الشيخ أبي محمد والتي صححها الغزالي، والفرق: [أنه] في الأولى جعل الصوم وصفاً للاعتكافوهو من مندوباته؛ فجاز أن يصير صفة له؛ كالتتابع في الصوم، وفي هذه الصورة جعل الاعتكاف وصفاً للصوم، وليس من مندوباته؛ فلا يصير وصفاً فيه؛ كما لو نذر أن يعتكف مصلياً، أو يصلي معتكفاً؛ فإنه يلزمه الإتيان بهما كيف شاء: مجتمعين ومفترقين. لكن [من] الذين قالوا بالطريقة الأولى – وهو المتولي- من قال: إن الإعتكاف مشروع في الصوم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف في رمضان، وأما إذا نذر أن يعتكف مصلياً، ففي لزوم الجمع [له] طريقان جاريان – كما قال، وتبعه الرافعي – فيما لو نذر أن يعتكف يوماً محرماً: أحداهما: طرد الوجهين؛ وعلى هذا فلا فرق. والثانية: القطع بعدم اللزوم؛ لما ذكرناه من الفرق، وهي الطريقة الصحيحة بالاتفاق، وعليها قال المتولي: يلزمه من الصلاة ما يلزمه عند إطلاق نذر الصلاة، [أي]: وهو [في] ركعة في قول، وركعتان في آخر، وهو الذي أورده في "التهذيب". وكذا إذا قلنا بلزوم الجمع بين الاعتكاف والصلاة، جاء في قدر الصلاة الخلاف المذكور، وإذا كان قد نذر اعتكاف أيام مصلياً، لزمه ذلك القدر في كل يوم. قال الرافعي: وأنت بسبيل من أن تقول: ظاهر اللفظ يقتضي الاستيعاب؛ فإنه جعل كونه مصلياً صفة لاعتكافه، فإذا تركنا هذا الظاهر؛ فلم يعتبر تكرير القدر الواجب من الصلاة في كل يوم، وهلا اكتفى به في جميع المدة؟!

قال: وأن يكون في الجامع؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حيث اعتكف [اعتكف] في مسجده، وهو المسجد الجامع، وقد علله القاضي الحسين بأمرين: أحدهما –ذكره القاضي أبو الطيب أيضاً والإمام -: أن صلاته في المسجد الجامع أفضل؛ لأن الجماعة فيه أكثر، ومهما كثرت الجماعة فالصلاة أفضل. والثاني: أنه لا يحتاج إلى الخروج منه للجمعة، وإذا كان في غيره يحتاج إلى الخروج منه [لأجل] الجمعة، وقد قال علي – كرم الله وجهه -:"لا اعتكاف إلا في جامع" ومعناه: لا اعتكاف كاملاً إلا في جامع، [ولا اعتكاف إذا كان منذوراً أكثر من أسبوع متتابعاً إلا في جامع] فإنه ينقطع اعتكافه بالخروج إلى الجمعة إذا كان في غيره على الأصح. قلت: وقضية ذلك: أن يقع الكلام في صور: إحداها: إذا كان [في جواره] مسجد ليس فيه جماعة، وتحصل بصلاته فيه – أن يكون اعتكافه فيه أفضل؛ نظراً للمعنى الأول؛ لما تقدم: أن الصلاة في مسجد الجوار – إذا كان بالصفة المذكورة- أفضل. الثانية: إذا كان قصده أن يعتكف دون الأسبوع، استوى الاعتكاف في مسجد الجامع و [في] غيره؛ نظراً للمعنى الثاني، وقد قاله القاضي الحسين حيث قال: إذا اعتكف في غير المسجد الجامع، ولم يزد على ستة أيام حتى أمكنه الفراغ منه للجمعة – فهذا هو المستحب. الثالثة: أن اعتكاف المرأة في الجامع وغيره سواء؛ نظراً للمعنيين؛ فإن صلاتها في بيتها أفضل في حقها، وعليه ينطبق قول المزني في "المختصر": "والعبد والمرأة والمسافر يعتكفون حيث شاءوا؛ لأنه لا جمعة عليهم". قال القاضي الحسين وغيره: وأراد بذلك الفرق بين الحر المقيم لا يعتكف إلا في الجامع إذا زاد اعتكافه – أي: المنذور – على ستة أيام؛ لئلا يحتاج للخروج

للجمعة، والمسافر إذا أراد اعتكاف ثلاثة أيام فما دونها وفيها يوم الجمعة، وكذا العبد والمرأة إذا أراد اعتكاف ذلك فما فوقه- اعتكفوا حيث شاءوا؛ لأنه لا جمعة عليهم؛ وهذا في حق المرأة التي لا يكره لها الاعتكاف، وهي التي لا يكره لها حضور الجماعات؛ إذا قلنا بقوله الجديد: إن اعتكاف المرأة في مسجد بيتها لا يصح، أما إذا قلنا بصحته، فيجوز أن يقال: إنه في مسجد بيتها أفضل؛ لأنه أستر لها، ويجوز أن يقال: إنه في المسجد أفضل؛ للخروج من الخلاف. والتي يكره لها الاعتكاف في المسجد، [وهي التي يكره لها حضور الجماعات – فالاعتكاف في المسجد الجامع في حقها أشد] كراهة. ومن هنا يظهر أن كلام الشيخ مخصوص بالرجال دون النساء. وقد أفهم كلام الشيخ أنه لا فرق في كون الاعتكاف في الجامع أفضل بين المنذور وغيره، وقد يقال: إنه يخالف ما ذكره الأصحاب؛ فإنه حكى عن صاحب "التلخيص" أنه قال: لا يتعين الاعتكاف في مسجد إلا في موضعين: أحدهما: أن ينذر اعتكافاً متتابعاً، ثم يشرع فيه في مسجد؛ فإنه لا يجوز [له] الانتقال إلى غيره؛ لأن [بالخروج] للانتقال ينقطع التتابع. الثاني: أن ينذر اعتكاف سبعة أيام فأكثر متتابعة، فلا يجوز له إلا في مسجد

الجامع؛ فإنه متى شرع في غيره، وجب الخروج إلى الجمعة، فإذا خرج بطل تتابعه، ووجب عليه الاستئناف. وقد وافقه القاضي أبو الطيب في هذه الصورة، وهو موافق لما حكيناه عن كلام [من] [شرح النص] في "المختصر"، وإذا كان كذلك فينبغي تخصيص كلام الشيخ بغير المنذور وبالمنذور إذا كان لا يدخل في نذره يوم الجمعة، أو دخل فيه وهو ممن لايلزمه حضور الجمعة؛ كما ذكره الشافعي، أو كان غير متتابع. قلت: يجوز حمل كلام الشيخ على ظاهره، وأما ما ذكره صاحب "التلخيص" في الصورة الأولى، فإنما يرد إذا كان قد شرع فيه في الجامع، [وحينئذ] فنقول: [قد قال] ابن الصباغ حكاية عن الأصحاب: إن له الخروج لقضاء الحاجة، وإذا خرج لقضاء الحاجة، ثم عاد إلى مسجد آخر في طريقه، جاز، ولم يتعين عليه الأول. وإن جرينا على [ظاهر قول] صاحب "التلخيص" - كما سنذكره [في الفرع بعده وجهاً عن رواية الإمام - فنقول: تعين الجامع في هذه الصورة وقع في دوام الاعتكاف] وكلام الشيخ في ابتدائه. وأيضاً: فإن تعيينه في هذه الصورة ليس من جهة الاعتكاف، بل من خارج وهو الشروع فيه؛ وبهذا يحصل الجواب عن الثاني؛ لأن [تعيين] الجامع كما ذكره صاحب "التلخيص" من أجل الجمعة، وكلام الشيخ مسوق لما هو من خصائص الاعتكاف، ومن هنا يتوجه على صاحب "التلخيص" سؤال، [وهو] يحتاج في تقديره إلى ذكر فرع [قبله] وهو أنه لو نذر الاعتكاف في مسجد هل يتعين؟ قال العراقيون: إن كان ما عيَّنه المسجد الحرام، تعين، وإن كان مسجد المدينة والمسجد الأقصى، ففي تعيينه قولان؛ كما إذا نذر المضي إليهما، وما عدا ذلك لا يتعين؛ كذا حكاه الماوردي وأبو الطيب وابن الصباغ. وحكى [البندنيجي عن] ابن سريج طرد القولين في غيرهما من المساجد.

سوى المسجد الحرام؛ ولأجل ذلك حكاهما القاضي الحسني وجهين ويجريان بالترتيب إن قلنا: لا يتعين المسجد، فغيرهما أولى، وإلا فوجهان. وقد عكس الإمام هذا الترتيبن فقال: إذا نذر الاعتكاف في مسجد هل يتعين؟ فيه وجهان، ظاهر النص تعينه. يعني بذلك: ظاهر نصه في "الأم" و"الجامع الكبير"، حيث قال: "إذا أوجب المرء على نفسه اعتكافاً في مسجد، فانهدم المسجد [فإنه] يرجع إذا بني المسجد، ويبني"، فلولا تعين المسجد لأمره بالخروج إلى مسجد آخر حتى يتم هناك. [ثم] قال الإمام: والسبب في ذلك أن الاعتكاف في الحقيقة انكفاف عن [الانتشار في سائر الأماكن، والتقلب فيها؛ كما أن الصوم انكفاف عن] أشياء مخصوصة؛ فنسبة الاعتكاف إلى المكان كنسبة الصوم إلى الزمان، ولو عين الناذر يوماً لصومه، تعين اليوم على المذهب الأصح؛ فليتعين المسجد بالتعيين أيضاً. قال: ويخالف غيره ذلك ما إذا نذر الصلاة [في غير المساجد الثلاثة، لا تتعين؛ لأن الصلاة] تصح في أي موضع كان، ولا يؤثر فيها المسجد؛ فلا تتعين بالنذر والاعتكاف إنما يصير قربة بالمسجد، فله أثر في الاعتكاف؛ فإذا عيَّن بالنذر تعين. قال في "البحر": وهكذا ذكره ابن أبي أحمد في "المفتاح"؛ ولأجل ذلك قال الرافعي: إن القول بالتعيين هو الأصح. وقال في "البحر": إنه غير صحيح، والمسألة على قول واحد: [أنه] لا يتعين، وكلام الشافعي محمول على الاستحباب أو على ما إذا كان قد عين أحد

المساجد الثلاثة، إلا أنه يبعده قوله: "وإذا أوجب على نفسه اعتكافاً في مسجد، فانهدم"؛ فإن الظاهر أنه أراد العموم. [و] قال القاضي أبو الطيب: إنه محمول على ما إذا قد عين الاعتكاف في مسجد لويس في القرية سواه. ثم قال الإمام: فإن قلنا بالتعيين، فلو كان قد نذر اعتكافاً في أحد المساجد الثلاثة، تعين من طريق الأولى. وإن قلنا: لا يتعين غيرها من المساجد، ففي تعيين [أحد المسجدين قولان] وفي تعيين المسجد الحرام طريقان: أحداهما: القطع بالتعيين. والثانية: طرد القولين؛ كما قلنا في الصلاة. فإن قلنا بالتعيين، فلا يجزئه إذا كان قد عين [المسجد الحرام الاعتكاف في غيره، ويجزئه اعتكافه فيه إذا كان قد عين] غيره له، وكذا يجزئه اعتكافه في مسجد المدينة عن المسجد الأقصى، وفيه شيء سأذكره في باب النذر. وإن قلنا بعدم التعيين فيما عدا المساجد الثلاثة، فاعتكف فيما عينه، ثم خرج لقضاء حاجة، فعاد إلى غيرهن وهو مثله في المسافة أو أقرب منه، ثم أعاد ذلك مثلاً في كل خرجة- قال الإمام: فمنهم من قال بالجواز، وهوا لقياس، ومنهم من منع هذا؛ صائراً إلى أن الخوض في الاعتكاف في مسجد يوجب إتمامه فيه، وإنما الكلام فيما قبل الشروع. وهذا ساقط لا أصل له؛ فينبغي ألا يعتد به. إذا تقرر ذلك، عدنا إلى الكلام مع صاحب "التلخيص" - وهو ابن أبي أحمد -وقلنا له: ينبغي أن تستثني أيضاً ما إّا عين مسجداً للاعتكاف؛ فإنه تعين عندك؛ كما

ذكرته في "المفتاح"، والله أعلم. واعلم أن الأصحاب استحبوا للمعتكف ترك الحرفة: [أما] إذا كان محترفاً؛ فللخروج من خلاف مالك – رحمه الله – فإنه يرى أن المحترف إذا فعل حرفته في معتكفه لا يصح اعتكافه، وهو قول قديم للشافعي في الاعتكاف المنذور. قال الرافعي: ورواه بعضهم في مطلق الاعتكاف وكأنه يشير إلى قول الإمام بعد حكاية [مذهب] مالك: وفي بعض التصانيف [إضافة هذا إلى الشافعي على البت، [وهو غلط] صريح. وما ذكره الإمام عن بعض التصانيف] قد رأيته في الأصل من "الإبانة"، لكن في حاشيتها – مخرَّجاً تخريج ما هو من الأصل – نسبة ذلك إلى مالك، ونسبة الصحة إلينا وكتب عليها "صح"، وهي بخط من كتب عليها حواشي أخر حالة المقابلة، والنسخة التي وقفت عليها مؤرخة بالمحرم سنة خمس وخمسين وأربعمائة. وأما غير المحترف؛ فلأن الاحتراف لا يليق في المساجد؛ روي أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فقال: "لا وجدت، إن المساجد ما بنيت لهذا، إنما بنيت لإقامة ذكر الله وصلاة"، وفي رواية أخرى: "أيها الناشد غيرك الواجد". فإذا ثبت ذلك، فإن خالف واحترف في المسجد، مثل: أن اشترين وباع، وخاط، ونحو ذلك كان مكروهاً؛ نص عليه، وهو الذي حكاه الماوردي. فإن قيل: قد قال في "المختصر": "ولا بأس أن يشتري ويبيع ويخيط ويخالط

العلماء ويحدث ما لم يكن إثماً، ولا يفسده سببا ولا جدال"، وهذا يدل على عدم الكراهة؛ فينبغي أن يكون في الكراهة قولان. قلت: قد حكاهما البندنيجي في حالة كثرة ذلك منه، وجزم بعدمهما في اليسير كشراء القوت والثوب. وغيره لم يذكر ذلك، بل قال: ليست على قولين، بل قوله: "فلا بأس" عني به: أنه لا يسد الاعتكاف به، أولا بأس لمعنى يعود إلى الاعتكاف؛ فإن كراهة ذلك لكونه في المسجد معتكفاً كان أو غير معتكف. قلت: ولهذا المعنى لم يذكر الشيخ هذا الفرع وإن ذكره غيره مع اختلاف العلماء في الجميع. وقد تضمن نص الشافعي: أن السباب والجدال لا يفسد الاعتكاف، وبه صرح الأصحاب مع القطع بالكراهة؛ لأجل خصوص المسجد أيضاً. وقال الصيدلاني: إنه يذهب أجره بذلك. قال الإمام: والخوض في ذلك ليس من شأن الفقهاء، والثواب غيب لا يطلع عليه، وإن ورد خبر في أن الغيبة تحبط الأجر، فهو تهديد مؤوَّل، وقد ورد مثله في الترغيب. قال: وإن نذر الاعتكاف بالليل، أي: مثل أن قال: [لله علي] إن شفى الله مريضي أن أعتكف ليلة أو عشر ليال، مثلاً فشفاه الله - لم يلزمه بالنهار. وإن نذر بالنهار، أي: مثل أن قال: إن قدم غائبي، فلله علي أن أعتكف نهاراً أو عشرة- لم يلزمه بالليل؛ لأن لفظه لم يتناوله، وكذا لو نذر اعتكاف يوم، لم يلزمه [اعتكاف ليله]، واللازم له ما صرح بإلزامه فقطن وسكوت الشيخ عنه؛ للعلم به بما ذكره في أول الباب. قال الأصحاب: ويلزمه في الأولى أني دخل المسجد قبل الغروب، ويبقى فيه إلى طلوع الفجر، وفي الثانية يلزمه أن يدخله قبل طلوع الفجر، ويديمه إلى غروب الشمس؛ كذا حكاه البندنيجي في موضع من "تعليقه"، وهو المنصوص في "المختصر". وقال في موضع آخر منه: إذا جعل على نفسه اعتكاف يوم، دخل في نصف النهار

إل مثله من [الغد]. واختلف الأصحاب لأجل ذلك على وجهين في أنه لو أراد وقد نذر اعتكاف يوم: أن يدخل المعتكف من نصف النهار، ويكمله بالنصف من الغد - هل يجزئه أم لا؟ فالذي صححه القاضي الحسين، وادعى في "البحر" أنه ظاهر المذهب -: الإجزاء. والذي قال به أبو إسحاق المروزي، وصححه الماوردي وغيره -: المنع؛ عملاً بالنص الأول، وقالوا: النص الثاني محله إذا كان في نصف النهار قد قال: لله علي أن أعتكف يوماً من الآن. ويؤيده بأنه جزم فيه بأنه يدخله في نصف النهار، وهو لا يجب كذلك فيما إذا أطلق ذكر اليوم بل هو مخير فيه عند من قال بالإجزاء بين أن يدخل فيه قبل الفجر أو نصف النهار؛ ولهذا عبر البندنيجي في موضع آخر من "تعليقه" عن الوجهين [بأن المتابعة عليه] في اعتكاف اليوم المنذور: هل تجب أو لا تجب، بل هو مخير: إن شاء تابع، وإن شاء فرق؟ فإن اختار المتابعة، أو قلنا بوجوبها، فعليه أن يدخل كل نهاره في المسجد، وذلك بأن يفعل ما ذكرناه. وإن اختار التفريق، فأي وقت دخل من النهار اعتكف إلى مثله. قال: وهل عليه أن يعتكف الليلة التي بينهما؟ على وجهين: المذهب: أن ذلك عليه، وهو الذي أورده الماوردي لا غير. [قلت]: كما لو قال بعد الزوال: لله على أن أعتكف يوماً من وقتي هذا؛ فإنه يلزمه الليلة بلا خلاف بينهم، وإن أبدى الرافعي احتمالاً فيها. نعم، اختلفوا في علة اللزوم ما هي؟ فقيل: لأنها متخللة بين زمانين وجب عليه فيهما الاعتكاف. وقيل: لتخللها بين الزمانين واتصالها بكل واحد منهما. قال القاضي أبو الطيب: [وهذا أصح]؛ لأن الأول يبطل بما إذا نذر اعتكاف رجب ورمضان؛ فإن شعبان متخلل بين الزمانين، ولا يلزمه اعتكافه.

والوجه الثاني: أنه لا يلزمه اعتكاف الليلة، وقد ادعى في "البحر" أنه المذهب؛ فيكفيه النصفان، وأن من قال: تلزمه الليلة، فقد غلط؛ لأن الليل إنما يلزم عند وجوب التتابع؛ لأنه لا ينفك عنهما إذا دخل في نصف النهار، أما إذا جوزنا التفريق فلا حاجة إلى الليل، قال: وهذا اختيار القفال. وقد سلك الإمام والرافعي في ذلك طريقاً آخر فقالا تفريعاص على منع التفريق: إنه إذا ابتدأ الاعتكاف من وقت الزوال إلى غروب الشمس، فلما غربت، خرج، ثم عاد إلى المعتكف مع الفجر، فاعتكف إلى مثل ذلك الزمان الذي أنشأ الاعتكاف فيه في أمسه – فلا يجزئه. وإن لم يخرج من معتكفه ليلاً حتى انتهى إلى مثل زمان إنشاء الاعتكاف فيه، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب: جواز ذلك. وحكى العراقيون عن أبي إسحاق وجهاً اختاره لنسه: أنه لا يجزئه؛ فإنه لم يأت بيوم متواصل الساعات من الطلوع إلى الغروب، واعتكافه تلك الليلة لا مبالاة به، وهو غير محسوب. قال الإمام: وهذا الذي ذكره منقاس متجه، وعرض عليه نص الشافعي في تجويز ذلك مع مصيره إلى [أن] تفريق الساعات غير مجزئ، فقال: نصه محمول على ما إذا قال: لله علي أن أعتكف يوماً [من وقتي هذا. قال البندنيجي: والحكم فيما لو نذر أن يعتكف ليلاً كالحكم فيما لو قال: لله علي أن أعتكف يوماً]. وقد ذكرناه. وقد حكى الإمام وغيره الوجهين المذكورين في إجزاء النصف من يومين – وقد نذر يوماً – في إجزاء الثلث من ثلاثة أيام والصورة هذه، ونسب القاضي الحسين المنع إلى أبي إسحاق أيضاً، والجواز إلى غيره من الأصحاب، وما ذكرناه من قبل [يأبى] ذلك، ولا شك في أن هذه الصورة تترتب على التي قبلها، وأولى بالمنع، ولأجل ذلك قال في "الوسيط": لو نذر اعتكاف يوم، ففي جواز التقاط ساعاته من أيام وجهان: أصحهما: المنع، وعلى مقابله قال الإمام – رحمه الله -: ينبغي أن

يكفيه ساعات أقصر الأيام، لأنه لو اعتكف أقصر الأيام جاز، ثم حكى ذلك عن الأصحاب وقال: إنه يتجه في النظر أن يعتبر جزء كل يوم منسوباً إليه، حتى إن فرق الساعات على أيام هي أقصر الأيام في السنين فالأمر كذلك، وإن اعتكف في أيام متباينة في الطول والقصر، فينبغي أن ينسب اعتكافه في كل يوم بالجزئية إليه، إن كان ثلثاً فقد خرج عن ثلث ما عليه، وعلى هذا القياس ينظر إلى اليوم الذي يوقع فيه الاعتكاف؛ ولهذا لو اعتكف بقدر ساعات أقصر الأيام من يوم طويل، لم يكفه. ثم قال: ويتجه وينقدح جواب غير هذا بأن يقال: إذا كان يواصل فليأت بيوم كامل، أو من نذر اعتكاف يوم فاعتكف أطول الأيام، [فكل ما] جاء به فرض، ولو اعتكف في أقصر النهار، فالذي جاء به فرض. قال الرافعي: وهذا لا ينبغي والذي ذكره أولا مستدرك حسن. ولا خلاف في أنه إذا قال: لله علي أن أعتكف شهراً، في لزوم اعتكاف لياليه وأيامه؛ لأن لفظ "الشهر" يشملهما، اللهم إلا أن يقول: أعتكف شهراً بالنهار؛ فإنه لا يلزمه الليل؛ نص عليه في "الأم" و"المختصر"، وفي معناه ما لو قال: شهراً بالليل. ويجزئه عند إطلاق نذر الشهر اعتكاف ما بين الهلالين إذا شرع فيه في أوله، وإلا فلابد من ثلاثين يوماً وثلاثين ليلة، وهل يجب التتابع في ذلك؟ فيه خلاف، والمذهب - كما قال في "الوسيط" وغيره -: أنه لا يلزمه، بل يتسحب؛ لقوله في "المختصر": "وإن جعل على نفسه اعتكاف شهر احتسبه متتابعاً"، وكذلك جزم باستحبابه أبو الطيب والماوردي؛ كما في الصوم. والفرق بينه وبين ما لو نذر اعتكاف يوم؛ حيث يلزمه التتابع فيه على المذهب: أن اليوم عبارة عن ساعات محصورة بين الطول والغروب على اتصال؛ كما قاله الخليل، والأيام المتفرقة إذا استكملت ثلاثين تسمى: شهراً. وقد قال ابن سريج: إنه يلزمه التتابع عند نذر الشهر – أيضاً- تخريجاً مما

سنذكره، وهو مذهب أبي حنيفة؛ كما لو حلف لا يكلم فلاناً شهراً؛ فإنه يترك كلامه شهراً متتابعاً. والفرق بينه وبين ما لو نذر صوم شهر؛ حيث لا يلزمه التتابع فيه: أن الليالي في الصوم تقطع التتابع بخلاف الاعتكاف. قال الأصحاب: وهذا فاسد؛ لأن الليل لا يقطع التتابع في الصوم؛ بدليل الكفارة. والفرق بين ما نحن فيه ومسألة اليمين من وجهين: أحدهما: أن القصد من الحلف على ترك الكلام؛ الهجران، وذلك لا يتحقق بدون التتابع بخلاف الاعتكاف. والثاني: أن حلفه يقتضي المنع من الكلام عقيب اليمين؛ فتعين التتابع بحكم الوقت، لا بحكم اللفظ، وليس كذلك الاعتكاف. نعم، لو قال: لله علي أن أعتكف شهراً من الآن، أو: هذا الشهر – تعين التتابع فيه ضرورة لا قصداً؛ حتى لو أفسد [يوماً منه] لم يلزمه قضاء ما مضى، ولو ترك اعتكافه بجملته لم يجب التتابع في قضائه، اللهم إلا أن يقول: لله علي أن أعتكف شهر كذا متتابعاً؛ فن في لزوم التتابع في القضاء في هذه الصورة وجهين حكاهما الفوراني وغيره، ووجه المنع: أن التتابع – والحالة هذه – وقع ضرورة أيضاً، وكان التصريح به كالسكوت عنه، لكن الذي ذكره البندنيجي وهو المختار في "المرشد" والأصح في "الرافعي": مقابله. وقد حكى في "البحر" فيما إذا لم يتعرض لذكر التتابع في الشهر المعين، وفاته عن رواية أبي يعقوب الأبي، وروى عن ابن سريج أنه قال: يقضيه متتابعاً، [وأنه قال: يحتمل أن يكون ذلك فيمن نذره متتابعاً] لمكان نذره. والحكم فيما لو نذر اعتكاف العشر الأخير من رمضان، أو من شهر غيره –كالحكم فيما لو نذر اعتكاف شهر معين في دخول الليالي والأيام في نذره، والتتابع وعدمه، وكونه لا يلزمه عند نقص الشهر قضاء يوم آخر بخلاف ما لو نذر اعتكاف عشرة أيام من آخر الشهر؛ فإن في لزوم اعتكاف لياليه من الخلاف ما سنذكره، ولو

نقص الهلال، لزمه قضاء يوم. قال: وإن نذر اعتكاف يومين متتابعين، أي: بأن قال: لله علي إن شفى الله مريضي أن أعتكف يومين متتابعين، فشفاه الله – لزمه اعتكاف يومين متتابعين؛ لأن التتابع قربة مقصودة فيه فلزمته كما لزمه أصله؛ وهذا بخلاف ما لو نذر صلاة يقرأ فيها سورة كذا فإنه يلزمه الإتيان بالصلاة وبالسورة، لكن هل يلزمه الجمع؟ فيه الخلاف الذي سبق فيما لو قال: لله عليّ أن أعتكف صائماً، والفرق: أن تعيين سورة في الصلاة، ليسمن المندوب في الشرع إلا في بعض الصلوات، ولا كذلك التتابع في الاعتكاف والصوم. ولا يخرج عن نذره باعتكاف يومين متفرقين وليلة إن أوجبنا الليلة بينهما؛ لفوات الوصف الأفضل، وهذا بخلاف ما لو نذر اعتكاف يومين متفرقين؛ فإنه يجزئه أن يأتي بهما متتابعين؛ قال القاضي أبو الطيب، ولم يحك في "المهذب" و"الوسيط" سواه لأنه زاد خيراً، وأشار في "الخلاصة" إلى خلاف فيه بقوله: أجزأه على الأصح. وتبعه الرافعي، وقد أشار إليه في "البحر" بقوله: وقد سمعت أن بعض أصحابنا بخراسان قال: لا يجوز متتابعاً، ويلزمه التفريق، ورأيته عن والدي الإمام، رحمه الله. وفرَّع عليه، فقال: إذا نذر عشرة أيام متفرقة، فاعتكف عشرة أيام متتابعة، أجزأه منها خمسة: الأول، والثالث، والخامس، والسابع، [والتاسع] قال: والأول أصح عندي. قال: وفي الليلة [التي] بينهما وجهان: أصحهما: أنه لا يلزمه؛ لأنه زمان لا يتناوله لفظه؛ فلا يلزمه اعتكافه؛ كما لا تلزمه [الليلة] قبلهما والليلة بعدهما؛ وهذا ما ادعى البندنيجي أنه أقيس، وحكى الإمام عن شيخه القطع به، وقال: نه منقاس حسن. ولأجله قال في "الوسيط" في نظير المسألة – كما سنذكره -: إنه الأصح. واختاره في المرشد. ومقابله: أنه يلزمه؛ لأن ذلك من ضرورة التتابع في اليومين مع إمكان الاعتكاف فيها، وبهذا خالف الصوم لأنه في الليل غير ممكن؛ فكان التتابع فيه إيقاع اليوم بعد اليوم؛ وهذا ماحكاه الإمام عن العراقيين، وادعى البندنيجي أنه المذهب.

قلت: تمسكاً بقوله في "المختصر": "إذا نذر اعتكاف يوم، دخل فيه قبل الفجر إلى غروب الشمس، وإن قال: يومين، فإلى غروب الشمس من اليوم الثاني". وقال الرافعي: الوجه التوسط: فإن كان المراد من التتابع توالي اليومين، فالحق ما ذكره صاحب "المهذب"، وإن كان المراد تواصل الاعتكاف، فالحق ما ذكره الأكثرون. قلت: وإذا كان هذا هو الحق، لزم أن يكون الحق ألا يلزمه عند الإطلاق الليلة؛ لأن الأصل براءة الذمة منها. وقد وافق البندنيجي [الشيخ] على جريان الوجهين فيما إذا شرط التتابع، وقال: إنهما جاريان فيما إذا أطلق. وهو قضية ما في "تعليق" القاضي الحسين؛ فإنه قال بعد حكاية النص كما ذكرنا: إن أصحابنا اختلفوا فيه: فقال أبو إسحاق: لا يلزمه الليل بحال إلا أن ينويه، وما ذكره الشافعي على سبيل الاستحباب. وقال غيره: صورته: إذا نوى بقلبه التتابع، فأوجب الليل حتى يتصل النهاران، فأما إذا لم ينو فلا يلزمه. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الحاوي" و"الشامل" و"التتمة" و"البحر": أن الوجهين في لزوم الليلة إذا أطلق؛ وإن ظاهر كلام الشافعي منهما – والحالة هذه – اللزوم؛ لأنه قال – كما حكاه القاضي الحسين عن رواية ابن سريج -: "إذا نذر اعتكاف يومين، فإنه يلزمه يومان فيما بينهما ليلة" وقال في "المختصر" ما حكيناه من قبل، وهو الذي صححه القاضي أبو الطيب والماوردي وصاحب "البحر". وقالوا فيما إذا قال: يومين متتابعين" -: إنه يلزمه اعتكاف الليلة التي بينهما وجهاً واحداً؛ لأنها من ضرورة اليومين المتتابعين. وإذا جمعت بين الطريقين، واختصرت، قلت: في الليلة ثلاثة أوجه – كما حكاها في "المهذب"؛ ثالثها: إن شرط التتابع لزمته وإلا فلا.

وقد حكى في "الوسيط" الأوجه الثلاثة هكذا فيما لو نذر ثلاثة أيام أو ثلاثين يوماً: أحدها: يجب اعتكاف الليل كما في الشهر. والثاني: لا، وهو الأصح؛ اتباعاً للفظ. والثالث: أنه إن نذر التتابع لزمت الليالي، وألا فلا. قال: والأوجه جارية فيما لو نذر ثلاث ليال في دخول اليومين المتخللين في نذره. وتصوير الغزالي الخلاف فيما إذا نذر اعتكاف ثلاثة أيام أو ثلاث ليال، مراعاة لما حكاه الإمام عن المراوزة؛ فإنه قال: وقطع أصحابنا المراوزة بأن اليومين في التفصيل كاليوم الواحد، فإذا أطلقا لم يجب الاعتكاف إلا في اليوم، وهو مذهب القفال المروزي شيخهم؛ فإن صاحب "البحر" حكى عنه أنه قال: إذا قال: لله علي أن أعتكف ثلاثة أيام، دخلت الليالي في نذره، بخلاف ما لو قال: لله علي أن أعتكف يومين؛ لأن العرب يطلقون "الأيام" ويريدون: مع الليالي، وفي اليومين لا يريدون إلا النهار. قال في "البحر": وهذا حسن، لكنه خلاف ظاهر المذهب. قال البندنيجي: ولو كان قد نذر ثلاثين يوماً أو ثلاثين [ليلة، وألزمناه الليل والنهار تبعاً - كان عليه فيما إذا نذر اعتكاف ثلاثين] يوماً ذلك واعتكاف تسعٍ وعشرين ليلة، وفيما إذا نذر اعتكاف ثلاثين ليلة ذلك واعتكاف تسعة وعشرين يوماً، وهذا موافق لما أفهمه كلام الشيخ وغيره فيما إذا نذر اعتكاف يومين: أنه لا يلزمه سوى ليلة واحدة، وهي التي بينهما، لكن قد حكى الحناطي فيما إذا قال: لله [عليّ] أن أعتكف يوماً أنه يلزمه ليلة أيضاً. قال الرافعي: وقياس ذلك: أن يلزمه في نذر اليومين ليلتان. قلت: وكذا في نذر ثلاثين يوماً ثلاثون ليلة، والله أعلم. أما إذا قال: لله علي أن أعتكف يومين، ونوى بقلبه التتابع - فإن أوجبنا الليلة بينهما عند الإطلاق، فمع النية أولى، وإلا فيظهر أن يكون في لزوم التتابع الوجهان اللذان حكاهما في "البحر" فيما إذا قال: لله علي أن أعتكف شهراً، ونوى التتابع -:

أحدهما – وهو الذي صححه -: اللزوم. ومقابله، قال: إنه ظاهر ما نقله المزني، وهو الذي صححه صاحب "التهذيب" وغيره؛ كما قال الرافعي. وقال في "البحر": إن الوجهين جاريان فيما لو قال: لله علي أن أعتكف، ونوى عشرة أيام، هل يلزمه العشر أم لا؟ وجزم الإمام بأنه إذا نوى [التتابع لزمه، وكذا إذا نوى] عند إطلاق لفظ "اليوم" الليلة معه، تلزمه. واعلم أن قول الشيخ: "وإن نذر اعتكاف يومين [متتابعين، لزمه اعتكاف يومين متتابعين] يفهم أنه إذا نذر اعتكاف يومين] ولم يذكر التتابع، ولا نواه – أنه لا يلزمه التتابع فيهما، هو نظير ما حكيناه عن النص فيما إذا نذر اعتكاف شهر وعشرة أيام: أنه لا يلزمه التتابع في ذلك، وقضية ما حكيناه عن ابن سريج من لزوم التتابع في ذلك: أنه يلزمه في اليومين. وقد صرح القاضي الحسين بالخلاف في هذه الصورة أيضاً، ونسب وجوب التتابع إلى ابن سريج، وهو قضية ما حكيناه عن القاضي أبي الطيب وغيره من تصوير محل الوجهين في وجوب اعتكاف الليلة بين اليومين إذا قال: لله علي أن أعتكف يومين. وقد قيل: إن ابن سريج إنما خرج وجوب التتابع في الشهر عند إطلاق [نذر] اعتكاف شهر من نص الشافعي على أنه إذا نذر اعتكاف يومين، فإنه يلزمه يومان فيما بينهما ليلة، فلولا أنه يلزمه التتابع، وإلا لما أوجب الليلة، حتى يتصل اليومان بعضهما ببعض، لكن مقتضى ذلك بهذا التقدير أن يكون الصحيح عند القاضي أبي الطيب وغيره ممن ذكرناه: وجوب التتابع في اليومين عند إطلاق نذرهما؛ لان الصحيح عندهم وجوب الليلة بينهما، وقضية ذلك أن يطرد في إطلاق نذر اعتكاف

عشرة أيام وشهر، وقد حكينا عن القاضي أبي الطيب وغيره القطع بعدم لزوم التتابع في ذلك، وهذا يدل على ضعف هذه الطريقة وتصحيح الطريقة التي اقتصر الشيخ على حكايتها، وهي أن محل الوجهين في لزوم اعتكاف الليلة بين اليومين؛ إذا شرط التتابع فيهما، والله أعلم. فرع: إذا عين زماناً للاعتكاف بنذره، مثل: أن قال: لله علي أن أعتكف يوم كذا، أو: شهر كذا، وكان يأتي في مستقبل الزمان – [تعين] كما جزم به بعضهم، وصححه آخرون. وقال في "الوسيط": إنه المذهب؛ كما في الصوم. أي: فإن المذهب فيه: التعيين وإن كان فيه وجه: أنه لا يتعين [له] الزمان؛ كما لا يتعين لنذر الصلاة والصدقة؛ كذا حكاه الإمام، ثم قال: وهذا الوجه يجري في الاعتكاف، ولا تفريع عليه. وإذا قلنا بالمذهب، فلا يجوز التقدم عليه ولا التأخر عنه من غير عذر، فلو فات، قال في "الوسيط": فالظاهر وجوب القضاء، وقيل لا يجب؛ لأنه [تعذر الملتزم وهو باطل بالصوم. وعني بذلك: أن الصوم إذا فاته وقد نذره، وجب قضاؤه، وإن كان قد] تعذر الملتزم فبطلت هذه العلة. وهذا مخصوص بما إذا كان الفوات بغير عذر وألا فقد حكى في كتاب النذر فيما لو نذر حج سنة، وامتنع لعذر في القضاء – خلاف كما في الصوم، وصرح به القاضي الحسين هنا؛ وحينئذ فيمكن أن نقول: الوجه المحكي في عدم وجوب قضاء الاعتكاف فيما إذا كان الفوات بعذر، ويؤيده أن القاضيين: أبا الطيب، والحسين حكياه في مثل ذلك حيث قالا: لو نذر أن يعتكف يوم يقدم فلان، [فقدم] والناذر مريض أو محبوس أي: ظلماً، ثم عوي وأطلق فالنص: وجوب قضائه.

وحكى القاضي أبو حامد: أن في المسألة وجهاً آخر: أن القاضي يسقط؛ وإذا كان كذلك؛ فلا يبطل بالصوم، والله أعلم. قال: وإن نذر اعتكاف مدة متتابعة، فخرج – أي: من المعتكف – لما لابد [له] منه: كالأكل والشرب، وقضاء [حاجة الإنسان]، والحيض، والمرض، وقضاء العدة، وأداء شهادةٍ تعينت عليه- لم يبطل اعتكافه؛ لأن الخروج لبعض هذه الأشياء مستثني بالشرع، والبعض مستثنى بالعرف؛ فلم يبطل؛ كالمستثنى باللفظ. قال الغزالي: وأعلى ذلك الخروج لقضاء حاجة الإنسان؛ فإنه لتكرره مستثنى بحكم الجبله، وقد استدل له بعضهم بما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [إذا اعتكف] يدني إلى رأسه، فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان". انتهى. قال: وما عداه مقس عليه. وفيه نظر؛ لأن الكلام في الاعتكاف المنذور فيه التتابع، واعتكافه –عليه السلام – لم يكن كذلك، بل لم يكن منذوراً؛ فكيف يحسن التمسك بفعله فيه؟ نعم قد يقال في جوابه: إنه – عليه السلام – كان إذا فعل شيئاً داوم عليه، وقد كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان؛ فصار ذلك كالمنذور في حق غيره؛ ولذلك لما لم يعتكف فيه في سنة، قضاه في شوال. وقد انتظم كلام الشيخ صوراً لا تخلو واحدة منها عن خلاف: إما في الأصل، أو باعتبار الوصف، وليقع الكلام في ذلك بعد بيان ما المراد بالخروج؟ وإلى أين؟ فالمارد بالخروج: أن يخرج بكل البدن عن كل المسجد إلى منزله فيما عدا أداء الشهادة- وما في معناه مما سنذكره – فإنه يكون إلى مجلس القاضي. واحترزنا بالخروج بكل البدن عن إخراج بعضه منه وباقيه فيه؛ فإنه لا يبطل وإن كان لغير ما ذكرناه، ويدل عليه الخبر.

وبقولنا: "عن كل المسجد"، عما إذا صعد المنارة للأذان وغيره، وسيأتي الكلام فيه. فالأولى- الخروج للأكل: والمشهور فيه، وهو الأظهر عند الأكثرين: ما ذكره الشيخ، ولم يحك أبو الطيب غيره، وعزاه البندنيجي وغيره إلى أبي إسحاق المروزي والروياني إلى نصه في "الإملاء" وفي عبارته في "المختصر" ما يدل عليه. ووجهه الأصحاب بأن فعله في المسجد يناقض المروءة، وقد يختار أن يخفي جنس قوته، وقد يكون في المسجد غيره فيشق عليه الأكل دونه، وإن أكل معه لم يكفهما. وعن ابن سريج وأبي الطيب بن سلمة: أن الخروج لأجل الأكل مبطل، وهو الذي صححه القاضي الحسين في موضع من "تعليقه"، ورآه الإمام والبغوي أظهر؛ لأنه يمكنه الأكل في المسجد، وقد قال الشافعي: وينصب المعتكف المائدة، ويأكل، وأما قولهم: إنه يحتشم من الأكل في المسجد، فقد يحتشم من النوم بين يدي الناس كما في الأكل، ولا يجوز الخروج له. وحكى القاضي في موضع آخر في ضمن فرع: أنه إن كان سخياً، و [كان] في طعامه سعة، أكل فيا لمسجد ووضع المائدة يهن وإن كان بخيلاً، أو في طعامه قلة، فله أن يعود إلى داره؛ لأن أكله في المسجد سخف ودناءة. وكما منع ابن سريج وابن سلمة الخروج للأكل منعاه من أن يقيم لأجله وقد خرج لقضاء حاجته. نعم: لو أكل لقمة أو لقمتين، فلا بأس، وعلى هذه الحالة حملا قول الشافعي: "ويخرج المعتكف للغائط والبول إلى منزله وإن بعد فإن أكل فيه فلا بأس". قال القاضي الحسين: وهذا ما قاله أصحابنا، ولم يحك في الإبانة غيره، وهو قضية كلام "الوسيط" وقال الماوردي: إنه غلط. ثم حيث قلنا: لا يخرج للأكل، أو قلنا: يخرج له، فاختار الأكل في المسجد – كان

له وضع المائدة فيه وغسل يديه في الطَّسْت، فإن غسل بغير طست، كره ذلك، وكذلك الوضوء في الطست، ويكره في غير الطست. ثم حيث قلنا: يجوز الخروج للأكل فذاك إذا كان منزله قريباً، فلو بعد أو كان له منزلان قريب وبعيد فسيأتي الكلام فيه عند الخروج لقضاء الحاجة؛ فإن القاضي أبا الطيب سوى بينهما في ذلك. والثانية – الخروج للشرب: وقد ألحقه الشيخ بالخروج للأكل، وهو وجه حكاه الماوردي؛ فعلى هذا يكون الحكم فيه كما تقدم. ومنهم من منع الخروج لأجله مع القدرة عليه في المسجد، بخلاف الأكل لأن في الأكل في المسجد بذلة ليست في شرب الماء، ولان استطعام الطعام مكروه، واستسقاء الماء ليس بمكروه، وقد استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء، ولم يستطعم الطعام؛ وهذا ما ادَّعى الرافعي: أنه أصح، وأن كلام الشيخ ينبغي أن يؤول، وعني بذلك: أنه يؤول على ما لو اشتد به العطش، وعدم الماء في المسجد فإنه يجوز له الخروج لأجله بلا خلاف؛ كما صرح به الماوردي وغيره. والثالثة – الخروج لقضاء [حاجة الإنسان]: وهو الخروج لإزالة الغائط والبول؛ كذا فسره الزهري راوي الحديث. وهو مجمع على جواز الخروج له؛ كما قال في "الحاوي": ولا يشترط في جوازه إرهاق الطبيعة، وشدة الحاجة. والمشهور: أنه لا فرق بين أن يتكرر خروجه لذلك زائداً على العادة أو لا، ولا بين أن يقرب منزله من المسجد أو لا. وقيل: إن تكرر، أو بعد المنزل، ففي قطعه التتابع وجهان حكاهما المراوزة، وقالوا: إن المرجع في القرب والبعد إلى العرف. وادعى البندنيجي والروياني: أن المذهب فيمن بعد منزله وتفاحش بعده: أنه لا

يجوز له الخروج، وأن المزني نقل أنه جائز وإن بعد، ولا يعرف للشافعي. وهما في ذلك تبع للشيخ أبي حامد، ويوافقه قول القاضي الحسين: قال أصحابنا: لم يقل الشافعي: وإن بعد، وإنما يكون له ذلك إذا لم يخرج عن العادة، وما نقله المزني هو ما اورده الماوردي لا غير. ثم لا فرق حيث لا يقطع الخروج لأجل ذلك التتابع بين أن يكون في المسجد سقاية أو لا، ولا بين أن يكون بين منزله والمسجد منزل صديق له يمكنه قضاء الحاجة فيه أو لا، نعم: إذا قلنا: إن الخروج للمنزل البعيد لا يضر فلو كان بينه وبين المسجد منزل آخر له، فهل لا يجوز الخروج للأبعد ويقطع التتابع، أو يجوز ولا يقطعه؟ فيه وجهان: الذي حكاه ابن أبي هريرة: الثاني، قال القاضي الحسين: وهو الذي يدل عليه ظاهر ما نقله المزني. قال الماوردي: والذي ذكره غيره من الأصحاب: [الأول] وهو الأصح في "الشامل" وغيره. قال القاضي الحسين: والخلاف في المسألة يتخرج على ما إذا كان للمسافر طريقان يقصر في أحدهما، ولا يقصر في الآخر، فسلك الأبعد لغير غرض – هل يقصر أم لا؟ وفيه قولان. ثم قال بعد ذلك: ولو كانت داره بعيدة من المسجد، فوجد موضعاً يقضي فيه حاجته أقرب من منزله – فإنه ينظر: فإن كان ذا مروءة، فخرج إلى منزله فهل يبطل اعتكافه؟ فيه وهان، وإن لم يكن ذا مروءة، فوجه واحد: يبطل اعتكافه. والرابعة – الخروج لأجل الحيض: وإنما جاز؛ لأنه مناف له؛ فإن المقام في المسجد نفس العبادة في الاعتكاف، وهو محرم عليها. وقد اقتضى كلام الشيخ: أنه لا فرق فيه بين أن يكون زمن الاعتكاف معيناً بالنذر أو مطلقاً وهو مما يغلب وقوع الحيض فيه؛ كما إذا نذرت اعتكاف شهر مثلاً، أو

يمكن الدخول فيه بحيث يقطع بعدم طرآن الحيض فيه؛ كما إذا نذرت خمسة عشر يوماً فما دونها، والمشهور في الحالة الأولى والثانية ما اقتضاه كلامه، وأما في الحالة الثالثة ففي قطع الخروج لأجله - إذا طرأ وقد شرعت فيه - التتابع، فيه وجهان حكاهما الإمام [وغيره]، وقال المسعودي وغيره: هما قولان. وهما مأخوذان من القولين في أنه هل يبطل التتابع بالحيض في صوم كفارة اليمين إذا شرطنا التتابع فيه؟ والمذكور منهما في "تعليق" البندنيجي في مسألتنا: الإبطال، وهو الأظهر في "الرافعي". وقد عكس الفوراني ذلك، فقال: إن كان ما نذرته يمكن الشروع فيه في زمن يتحقق معه الخلو عن الحيض، فإذا شرعت يه في زمن يطرأ عليها الحيض فيه، أبطله وإن كان ما نذرته زماناً طويلاً لا يخلو عن الحيض غالباً: كالشهر، فهل يقطع الحيض التتابع أم لا.؟ فيه وجهان، فإن قلنا: يقطعن لم يتصور أن تخرج عن النذر إلا إذا أيست. والخروج عند طرآن الجنابة عليه من غير اختياره ملحق بالخروج لأجل الحيض؛ لأجل منافاته للاعتكاف؛ ولذلك لم يذكره الشيخ، ولا يجري فيه الخلاف المذكور في الحيض. نعم، اختلفوا في أنه هل يجوز له الاغتسال من الجنابة في المسجد على وجهين: أحدهما: أنه إذا كان في صدر المسجد وفيه ما تيسر الاغتسال منه، ومدة تخطيه المسجد إلى الخروج تزيد على زمن اغتساله - فيباح له الغسل في المسجد، ويجوز له الخروج على هذا؛ لأجل الغسل، وهو الأولى في حقه. والثاني - وهو الصحيح:- المنع من الاغتسال فيه؛ وقاية للمسجد أن يتخذ موطناً للجنابة، والمباح له العبور خاصة وهو غير معقول المعنى؛ فلذلك لم يجز أن يخرج على ما سواه، وفي الاغتسال تعريضات وتعريجات لأمور لابد منها من أخذ الماء وتهيئة أسباب الغسل. فإن قيل: سيأتي فيما إذا باشر فيما دون الفرج فأنزل حكاية وجهين في بطلان اعتكافه، فمن قال بأن اعتكافه لا يفسد قائل بأن الجنابة غير منافية للاعتكاف؛ لأنه

بالإنزال صار جنباً ومع ذلك لم يفسد اعتكافه، ولو كانت منافية له لأفسدته. قلنا: لأجل ذلك حكى القاضي الحسين وجهين في أن الجنابة: هل تنافي الاعتكاف، أم لا؟ وإنا إذا قلنا بأنها تنافيه، فأقام، بطل على الأصح. وقد حمل الإمام قول من صار إلى أنه لا يفسد بالمباشرة إذا اتصل بها الإنزال على أنه يجوز الاعتكاف في حال المرور، وأنه يجوز للجنب حضور المسجد مجتازاً، وإنا إن جرينا على ذلك، وفرضنا إنزالاً واشتغالاً على أثره بالاغتسال من عين في المسجد - فالجنابة لا تحرم هذا الكون، واللحظة الواحدة قريبة فلا يخرج الكون فيها عن موضوع الاعتكاف، فأما فرض المكث في المسجد مع الجنابة، فالذي أراه: إن تحقق لا نستجيز الحكم بكونه اعتكافاً صحيحاً، على أنا فيما ذكرناه على تكلف؛ فإن عبور الجنب في حكم المسوغات، ولا يجوز أن يقع في رتب القربات. ولا يسوغ الخروج لأجل تجديد الوضوء بحال، فإن فعله أبطل وكذلك لو كان فرضاً على أظهر الوجهين؛ لأنه يمكنه في المسجد من غير كلفة. والخامسة - الخروج لأجل المرض: وهو الذي يخاف معه تلويث المسجد: كالقيام المتداول، وسلسل البول، والإغماء، والجنون، ونحو ذلك، دون المرض اليسير الذي يمكن معه المقام في المسجد من غير مشقة: كالحمى اليسيرة، والصداع اليسير، فإنه لا يباح بذلك الخروج، فإن خرج انقطع تتابعه. والمرض الذي يؤمن فيه التلويث، لكن يشق معه المقام في المسجد، ويحتاج فيه إلى الفرش والطست، فيجوز به الخروج، وهل يقطع التتابع؟ قال ابن الصباغ: ظاهر قول الشافعي أي: في "المختصر":- أنه إذا برأ منه بني

واختاره في "المرشد". ومن أصحابنا من قال: فيه قولان؛ كالخروج لصوم التتابع بعذر المرض هل يقطعه؟ وعن الشيخ أبي زيد: أنه أجراهما في الضرب الأول. قال الماوردي: وفي معنى الخروج بالمرض ما إذا خرج خوفاً من حريق أو لص. وطرآن الاستحاضة، لا يجوز الخروج إذا أمن معها تلويث المسجد، قال الماوردي: لأنها لا تمنع من المقام في المسجد، وقد روى أبو داود عن عائشة قالت: اعتكفت مع النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه، وكانت ترى الصفرة والحمرة، فربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي، وأخرجه البخاري. قلت: وفي هذا دليل على جواز إخراج الدم في طست في المسجد؛ ولأجل ذلك جزم ابن الصباغ القول بأنه يجوز له الفصد والحجامة في المسجد. وإن أبدى احتمالين في جواز البول في يطست في المسجد، وفرق على أحدهما بأن البول مما يستخفى به، ويستقبح في المسجد. لكن البندنيجي سوَّى بين البول والفصد والحجامة، وقال: إنه لا يجوز فعل واحد منها في المسجد. والسادسة – الخروج لأجل قضاء العدة: وما ذكره الشيخ هو الذي نص عليه الشافعي، ولم يورد الماوردي غيره، وقد حكى القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ: انه نص على أن من لم يتعين عليه تحمل شهادة، وتعين عليه أداؤها، فخرج لأجل ذلك: أن تتابعه ينقطع، وان الأصحاب اختلفوا لأجل ذلك في المسألتين على طريقين: أحداهما –قالها ابن سريج – أن فيهما قولين:

أحدهما: أنه ينقطع التتابع فيهما؛ لأن المرأة والشاهد قد كان يمكنهما الاحتراز من الخروج؛ [ألا تتزوج المرأة، ولا يتحمل الشاهد الشهادة؛ فاختيارهما السبب المؤدي إلى الخروج] كاختيارهما الخروج. والثاني: لا ينقطع فيهما؛ لأنهما خرجا لأمر وجب عليهما، ولم يكن لهما منه بد. وهذه الطريقة لم يحك الفوراني غيرها. والثانية – ذكرها أبو إسحاق-: وهي إجراء النصين على ظاهرهما، وفرق بوجهين: أحدهما: أن الشاهد لم يتعين عليه التحمل، ولا اضطر إليه، فلما فعله كان مختاراً للخروج، والمرأة لابد لها من زوج؛ هي مضطرة إليه لأجل النفقة وغيرها. والثاني: أن التحمل إنما يراد للأداء فهو الذي ورط نفسه فيه، وأما النكاح فلا يراد للطلاق الموجب للعدة، وإنما يراد للدوام؛ فلم تكن مختارة للعدة فيه. ومما ذكرناه يفهم أن محل الخلاف إذا كانت قد تزوجت بإذنها، فلو كانت مجبرة فلا يقطع. قال القاضي أبو الطيب وكذا الماوردي: وهذا إذا لم يكن طلاقها موكولاً إليها، فإن كان؛ بأن قال: وكلتك في طلاقك، فطلقت نفسها، وخرجت للعدة- انقطع اعتكافها. وقال الفوراني: إن محل الخلاف فيها إذا لم يكن الزوج قد أذن لها في اعتكاف مدة مقدرة، أما إذا كان قد أذن لها في اعتكاف عشرة أيام – مثلاً – فمات قبل انقضائها، انبنى على قولين في أن لها أن تقيم إلى انقضائها أم لا؟ فإن قلنا: لها أن تقيم: فخرجت، بطل قولاً واحداً وإلا جاء القولان. والسابعة- الخروج لأداء شهادة تعينت ليه: ولا خلاف – [كما] قال القاضي أبو الطيب – في أنه إذا كان قد تعين عليه التحمل والأداء، وخرج للأداء: أنه لا ينقطع تتابعه، وعلى هذه الحالة يمكن ان يحمل كلام الشيخ، أما إذا كان قد تعين عليه الأداء دون التحمل، فقد حكينا أن النص

خلافه، وما قيل فيه من التخريج. وفي "الحاوي" في هذه الصورة القطع بالإبطال، وأنه إذا تعين عليه التحمل والأداء لا ينقطع تتابعه، وأن من أصحابنا من قال: إنه ينقطع؛ لأن القاضي قد يقدر على المجيء إليه، ويسمع كلامه، وهو في "تعليق" القاضي الحسين أيضاً. ولو تعين عليه التحمل دون الأداء، فخرج للأداء، انقطع تتابعه؛ كما لو لم يتعين التحمل ولا الأداء. وقال القاضي الحسين: إن فيه وجهاً: أنه لا يفسد؛ لأن التحمل لم يكن باختياره؛ فأشبه ما لو كان قد تعين عليه التحمل والأداء. قال الأصحاب: وفي معنى الخروج لأداء الشهادة- وقد تعين عليه الأداء دون التحمل – الخروج لإقامة الحد عليه؛ فيجيء فيه الطريقان: أحداهما – طريقة أبي إسحاق -:القطع بأنه ينقطع. والثانية- طريقة ابن سريج -: تَخَرُّجُهُ على وجهين؛ كذا حكاه القاضي أبو الطيب. وخص في "المهذب" محل الوجهين بما إذا ثبت موجب الحد بالبينة، وقال فيما [إذا] ثبت بإقراره: إنه ينقطع وجهاً واحداً؛ لأنه خرج باختياره؛ وعلى ذلك جرى الرافعي. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أنه اختار في المسألة أنه لا ينقطع وجهاً واحداً، وإن كان الفعل الموجب للحد وقع باختياره؛ لأنه لم يختر أن يقام عليه الحد؛ فخروجه بغير اختياره. وهذه الطريقة لم يورد الماوردي غيرها، وحكاها عند الكلام في أن السكر: هل يبطل الاعتكاف أم لا؟ عن النص، وكذا حكاه [ابن] الصباغ والقاضي الحسين؛ ولأجله ادعى البندنيجي أن المذهب عدم الإبطال؛ وبذلك يتحصل في المسألة ثلاث طرق، ومحل الجواز إذا لم يكن موجب الحد قد فعله بعد الاعتكاف كما سنذكره. ولا خلاف في أنه إذا اعتكف في رباط ثم جاء نفير وجب عليه ان يخرج، فإذا ذهب النفير، رجع وأتم، وقد حكاه القاضي الحسين عن نصه في "البويطي".

فائدة: حيث قلنا: لا ينقطع تتابعه بالخروج؛ لما ذكرناه، فهل يحكم في حال خروجه [بكونه] معتكفاً؛ سحباً لما مضى عليه أو لا [كما] قلنا فيما إذا خرج لقضاء الحاجة؟ وجهان، أصحهما: الأول، ولا يجريان في غيره؛ كما قال الرافعي، بل هو في حال خروجه غير معتكف؛ ولهذا يجب قضاء زمان الخروج، [بخلاف زمان الخروج] لقضاء الحاجة؛ فإنه لا يجب قضاؤه على الوجهين؛ لأن ذلك الزمن إذا قلنا: إنه غير معتكف فيه مستثنى شرعاً، وكذا على الوجهين، لا يحتاج عند العود من قضاء الحاجة إلى تجديد النية: أما على القول الصحيح فظاهر، وأما على مقابله؛ فلأن شرط التتابع في الابتداء رابطة تجمع ما سوى ذلك من الأوقات. ومنهم من قال: إن طال الزمان، ففي وجوب التجديد وجهان؛ كما لو أراد البناء على الوضوء بعد التفريق الكثير. قال الرافعي: وفي معنى الخروج لقضاء الحاجة في عدم الاحتياج إلى تجديد النية، الخروج لكل ما لابد منه. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يسرع في حال خروجه لما لابد له منه وحال عوده إلى المسجد، أو يمشي على سجيته المعهودة. نعم، لو تأنى أكثر من عادته، بطل اعتكافه على المذهب؛ كما قال في "البحر". قال: وإن خرج لما له [بد منه]: من زيارة، أي: زيارة قريب أو صديق قادم، وعيادة، أي: عيادة مريض، وصلاة جمعة – بطل اعتكافه؛ لاستغنائه عن ذلك، وقد روى أبوداود عن عائشة [أنها] قالت: "السنة على المعتكف ألاًّ يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد منه". قال أبو داود: وغير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه: "قالت: السنة"، وقد أخرجه النسائي من حديث يونس بن زيد، وليس فيه: "قالت: السنة". قال: إلا أنا يكون قد شرط ذلك في نذره، فلا يضره؛ لقوله – عليه السلام –

"المؤمنون عند شروطهم"، ولأن الاعتكاف يصح مع الخروج شرعاً للغائط والبول؛ فكذلك يصح معه شرطاً. وعن صاحب "التقريب" والحناطي حكاية قول آخر: أنه لا يصح؛ لأنه شرط يخالف مقتضى الاعتكاف المتتابع؛ فيلغو؛ كما لو شرط أن يخرج للجماع؛ فإنه يلغو الشرط بلا خلاف حتى يكون خروجه له كخروجه بغير شرط؛ كما حكاه الماوردي والبندنيجي وغيرهما، والصحيح الأول، وهو الذي اقتصر على إيراده الجمهور، [و] قالوا: ويخالف ما إذا شرط الخروج من الحج؛ حيث لا يعتبر على قول يأتي؛ فإنه يلزم بالشروع؛ فيصير كالواجب بأصل الشرع. وصورة شرط الخروج أن يقول: لله علي أن أعتكف شهراً متتابعاً، بشرط أن أخرج لما يعرض لي من زيارة قادم، وعيادة مريض، وصلاة جمعة، ونحو ذلك، أو يقول: إن عرض لي عارض خرجت له. فإذا عرض له عارض، وهوكل شغل ديني او دنيوي، [لا كالنظارة والتنزه]، فخرج له – لم يضره، ويجب عليه عند انقضائه العود إلى الاعتكاف، وهذا بخلاف ما لو شرط: إن عرض له عارض قطع الاعتكاف؛ فإنه يصح – أيضاً – ولا يجب إذا خرج لأجل العارض العود بعد زواله؛ قاله القاضي أبو الطيب وغيره. والفرق: أن الخروج لا يمنع البناء متى عاد، وقعط الاعتكاف يمنع من البناء، ويوجب الاستئناف، وكأنه إنما نذر مدة مقامه قبل عروض العارض. ثم إذا عاد بعد الخروج الذي شرطه، هل يجب عليه تجدي النية؟ فيه خلاف ذكره أبو علي، والأظهر: المنع، ولا يعتد له بحال خروجه من مدة الاعتكاف الذي نذره إلا أن يكون الزمن معيناً. وقد ألحق الأصحاب الاشتراط في الصلاة والصوم بالاعتكاف؛ قاله أبو الطيب وغيره، وعبارة البندنيجي: أنه إذا شرط شرطاً لا ينافي الاعتكاف: كقوله: إن عنَّ لي سفر أو عرض لي مرض خرجت، كان علي [ما] شرط.

قال أبو إسحاق: وهكذا الاستثناء في الصيام والصدقة [إذا قال]: أصوم شعبان إلا أن أمرض، أو يعنَّ لي سفر، فيكون على ما شرط، وكذلك الصدقة، إذا قال: أتصدق في كل شهر بدرهم إلا أن يولد لي ولد، وهكذا كل عبادة لا تلزم بالدخول فيها. وحكى القاضي الحسين وجهاً آخر: أنه يلزمه في الصوم [و] الصدقة، ولا يجوز له الخروج منه ولا [عدم] الإنفاق، بخلاف الاعتكاف؛ لأنه إذا خرج من الاعتكاف لعارضن لا يبطل ما مضى، بخلاف الصوم والصدقة؛ فإن ذلك يبطلهما. وفي الرافعي: أن بعضهم قال في نذر الصلاة والصوم: إذا شرط [فيه] أن يخرج عند عروض عارض-: إنه لا يصح الشرط، ولا ينعقد النذر، بخلاف الاعتكاف، والفرق ما تقدم. وهو مذكور في "التهذيب" هكذا، وبه يحصل في نذر الصلاة والصدقة إذا شرط الخروج [منه] لعارض ثلاثة أوجه: أصحها: صحة النذر والشرط. والثاني: صحة النذر وإلغاء الشرط. والثالث: إلغاؤهما. وقد اقتضت عبارة القاضي أبي الطيب والبندنيجي السالفة: أنا إذا جوزنا الشرط في الصلاة ونحوها، يكون الحكم كما تقدم في الاعتكاف، [وقد قال الماوردي: إنه إذا شرط القطع فالحكم كما تقدم في الاعتكاف] وإن شرط الخروج فلا يجوز في الصلاة والصوم والحج، و [يجوز في الاعتكاف، والفرق من وجهين: أحدهما: أن الخروج لا ينافي الاعتكاف؛ لأنه قد يخرج لحاجة نفسه، ويعود إلى اعتكافه، وينافي الصلاة والصيام والحج]؛ لأنه لا يجوز الخروج من ذلك والعود إليه لحاجة، ولا لغيرها. والثاني: أن الاعتكاف لا يتقدر بزمان ولا يرتبط بعضه ببعض، بخلاف غيره.

ولا خلاف في أنه إذا شرط الخروج؛ لأجل الجماع من المعتكف إن عنَّ له، لا يصح هذا الشرط؛ كما قاله البندنيجي، ويوافقه قول الماوردي: إنه إذا شرط ذلك، وخرج، وجامع، بطل اعتكافه، ولزمه استئنافه؛ لأن الشرط ينافي الاعتكاف؛ فبطل، وصار كخروجه بغير شرط. نعم: لو شرط: إن عنَّ له الخروج لقتل نفس بغير حق أو للسرقة، فخرج لذلك- قال الماوردي: ففي بطلان اعتكافه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن اشتراط المعصية كلا اشتراط. والثاني: لا يبطل، وله البناء لأن نذره إنما انعقد على ما سوى مدة الشرط؛ فلم يكن قدر المدة مقصوداً. ولو شرط في نذر الاعتكاف والصلاة والصوم [والصدقة] ونحو ذلك: أن يخرج منها [متى] بدا له، ففي صحة ذلك وجهان، أصحهما – وبه قال الشيخ أبو محمد -: أنه لا يصح؛ لأنه علق الأمر بمجرد الخيرة، وذلك يناقض معنى الإلزام، فلو نذر اعتكافاً متتابعاً، وشرط الخروج مهما أراد، قال الإمام: فهذا ضد التتابع] ويبطل الاستثناء، وشبيه ذلك الشرائط الفاسدة المقترنة بالوقف: [فإنا في مسلك: تبطل الشرط، وننفذ الوقف؛ وفي مسلك:] نبطل الوقف من أصله. وما ذكره الشيخ في الجمعة هو الذي نص عليه الشافعي في عامة كتبه، وقد حكى عن نصه في "البويطي": أنه لا يبطل بالخروج إليها؛ لأنها فرض؛ فكان ملحقاً بما ذكرناه. قال مجلي: وعلى هذا يحتمل أن يقال: له [أن يقيم بقدر سماع الخطبة والصلاة، ولا يزيد. ويحتمل أن يقال: له] أن يفعل مع ذلك السنة كما صار إليه أبو حنيفة، فإن زاد على القدر المشروع، بطل تتابعه. والصحيح: الأول؛ لأنه كان يمكنه

الاحتراز عن الخروج بالاعتكاف في الجامع، فإذا لم يفعله بطل بخروجه للجمعة؛ كما لو صام في الكفارة المتتابعة شعبان. ومنهم من نفي الخلاف فيه، وقال: نصه في "البويطي" محمول على ما إذا عين مسجداً يعتكف فيه، لا يبطل إذا خرج إلى غيره؛ حكاه القاضي الحسين. ولا خلاف في أنه إذا أحرم بالحج بعد أن دخل المعتكف، وخرج لأجل إتمامه – في بطلان تتابعه؛ لأنه الذي ورّط نفسه فيه. نعم، هل يجوز له الخروج لأجله؟ ينظر: فإن كان وقته واسعاً بحيث يمكنه أن يتم اعتكافه ثم يخرج إليه، لم يخرج؛ وإن كان وقت الحج مضيقاً بحيث إن أتم اعتكافه فاته، وجب عليه الخروج، وانقطع التتابع. وإنما كان كذلك؛ لأن الحج وجب بالشرع، والاعتكاف وجب بالنذر، وتقديم ما وجب بالشرع أولى؛ فلو لم يخرج حتى أتم مدة الاعتكاف برئ منه، وإن كان آثماً بالمكث. تنبيه: [قول الشيخ]: "وإن خرج لما له منه بد" يفهمك أن المسألة مصورة في عيادة المريض بما إذا لم يكن قريباً للميت، أو قريباً له وله من يقوم به، أما إذا كان من ذوي رحمه، وليس له من يقوم به غيره، فهذا مما لابد منه؛ فيكون من القسم الأول، وقد صرح به الماوردي، وقال: إنه مأمور بالخروج لذلك. وكذلك لو لم يكن له من يدفن قريبه الميت غيره، عليه الخروج، فإذا عاد بني على اعتكافه، وفيهما وجه: أنه يستأنفه. قال:- وإن خرج لما لابد له منه، فسأل عن المريض في طريقه، ولم يعرج – جاز؛ لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم [كان] إذا خرج من الاعتكاف يسأل عن المريض مارًّا، ولا يعرِّج عليه، وهذا متفق عليه إذا لم يقف، فإن وقف، وطال

زمانه، بطل، وإن قصر فوجهان، أو قولان [كما] حكاهما في "التتمة" و"العدة"، والأصح: أنه لا بأس. وادعى الإمام إجماع الأصحاب عليه، ويؤيده أن القاضي الحسين حكى عن النص أن له أن يصلي على الجنازة إذا كانت على الطريق؛ ولأجل ذلك قال الغزالي: إنه لا بأس [بوقفة يسيرة بقدر صلاة الجنازة] [وكذلك لا بأس بالسلام؛ فإنه لا يزيد على قدر صلاة الجنازة]، وقد أجرى في "التتمة" الوجهين فيها أيضاً. وقال في "التهذيب": إن كانت متعينة فلا بأس، وإلا فوجهان، أظهرهما: الجواز. وما قاله في حالة [التعين] ماينبغي أن يخالف فيه؛ لأنه يجوز الخروج

إليها قصداً عند التعين كما حكاه القاضي الحسين. ولو عرج في طريقه لأجل عيادة المريض يسيراً، فوجهان حكاهما البغوي والمتولي أيضاً، وأصحهما القطع؛ لأنه تشاغل يسير لغير قضاء الحاجة. قال: وإن خرج من المعتكف عامداً، أي: مختاراً، طال زمن خروجه أو قصر، أو جامع في الفرج عامداً، أي: مختاراً في المسجد او زمن خروجه لقضاء الحاجة؛ إما لكونه في هودج، أو لقصر زمانه – بطل اعتكافه: أما في الأولى؛ فلفعله المنافي من غير ضرورة، ولأن الكثير مبطل بالاتفاق، وهو ما [إذا] أقام أكثر من نصف النهار، فنقول: عبادة يبطلها الخروج منها، فاستوى فيه قليله وكثيره؛ كالصلاة [والصوم]. وأما في الثانية؛ فلأنه إن كان في المسجد فقد فعل ما يوجب الخروج؛ فكان كما لو خرج، وإن فعله خارج المسجد في حالة خروجه لقضاء الحاجة، فإن قلنا: إنه معتكف – كما هو الصحيح – فلفعله منافيه من غير ضرورة، وإن قلنا: إنه غير معتكف؛ فلأنَّ وقعه عظيم، فالاشتغال به أوقع من الجلوس ساعة من غير حاجة. ومنهم من قال: لا يفسد؛ لأنه ليس معتكفاً في هذه الحالة، وإن كان الزمان محسوباً من مدة الاعتكاف. أما لو خرج من المعتكف ناسياً للاعتكاف؛ فقد حكى القاضي الحسين عن النص: أنه يعود ويبني، وحكى الغزالي وغيره قولاً آخر: أنه يستأنف والصحيح الأول، ولم يورد أكثرهم غيره. قال القاضي الحسين: ومحله إذا لم يذكره عن قريب، ولم يطل الفصل، فإن طال الفصل، استأنف؛ كالصلاة سواء.

وحكى في "التتمة" فيما إذا طال الزمان وجهين؛ كما في الأكل الكثير في الصوم ناسياً. ولو جامع ناسياً، لم يضره؛ للخبر المشهور. وقيل: يبطل اعتكافه؛ كما قيل بمثله في الصوم؛ تخريجاً من الحج، وقد تقدمت حكايته في أول الباب. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية طريقة أخرى قاطعة بأن الاعتكاف يفسد به دون الصوم، والفرق: أن في الصوم وجد له أصل قيس عليه، وهو الأكل؛ فإنه فرق فيه بين العمد والسهو؛ فكذلك الوطء، وأما الاعتكاف، فليس له أصل، وهو عبادة حظر فيها الجماع [وغيره]؛ فلم يكن بد من أن يكون للجماع مزية، ولم يوجد إلا هذا، وهو أن يتعلق به الإفساد. ولو لم يخرج نفسه من المعتكف، لكنه أخرجها من الاعتكاف بأن نوى قطع الاعتكاف وهو بعد في المسجد – فالأظهر: أنه لا يبطل، وعنه احترز الشيخ بقوله: "من المعتكف". وقيل: إنه يبطل، والخلاف فيه مشبه بما إذا نوى الخروج من الصوم. وعن بعض المتأخرين: أنه أفتى ببطلان الاعتكاف، بخلاف الصوم، وفرق بأن مصلحة الاعتكاف تعظيم الرب – سبحانه وتعالى – كالصلاة، وهي تختلف بنقض [النية]، ومصلحة الصوم قهر النفس، وهي لا تفوت بنية الخروج. ولو أكره على الخروج بغير حق، أو على الجماع، وقلنا بتصوره –فلا يضره على المشهور، وهو الذي أورده الجمهور. ويستوي في ذلك ما إذا [خرج بنفسه]، [وما إذا حمل. وقيل: إن أكره حتى خرج بنفسه]، ففي بطلان التتابع قولان؛ كما في الصوم. وقيل: يطرد قول البطلان في الحالة الأخرى، وذلك من تخريج الإمام. قال بعضهم: قال الغزالي: ولا يشبه الصوم – يعني: في كونه لا يبطل –بما إذا

أوجر الطعام في فيه قهراً. وذكر فرقا لا احتفال به. قلت: ويظهر أن يقال في الفرق: إن الصوم عبارة عن الإمساك عن المفطرات مع أشياء أخر، ومن أُوجِرَ الطعام في فيه قهراً]، لا ينسب إليه فعل فهو ممسك فحد الصوم موجود فيه حقيقة. والاعتكاف عبارة عن اللبث في المسجد مع أشياء أخر، وهو في حال إخراجه محمولاً، لم يكن في المسجد، فلم يوجد الاعتكاف الشرعي في حقه حقيقة؛ فلذلك حكمنا بالإبطال، على أنا قد حكينا في الصوم طريقة أخرى طاردة للخلاف في الصوم بلا فرق. وإن كان مكرهاً على الخروج بحق، قال القاضي الحسين: فمنهم من قال: [يبطل اعتكافه، ومنهم من قال:] لا؛ لأنه غير مختار، ومحمول عليه، وقد نص الشافعي على أنه إذا خرج ليقام عليه الحد، فإذا رجع بنى، ومعلوم أنه كان ظالماً في السبب الذي ألزم به الحد ابتداء. قال: وإن باشر فيما دون الفرج بشهوة، أي: كما إذا قبل أو لمس أو فاخذ ونحو ذلك مما ينقض الوضوء وفاقاً، أو على رأي كما قاله الإمام- ففيه [قولان]: وجه البطلان بها: قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187]، ولم يفصل بين أن يكون في الفرج أو في غيره؛ ولأنها مباشرة حرمها الاعتكاف، فوجب أن يفسد بها كالجماع؛ ولأنه عبادة تمتد ليلاً ونهاراً؛ فوجب أن يكون للمباشرة فيها تأثير؛ دليله: الحج، وتأثيرها [فيه في] الفدية، وهاهنا الإفساد. قال القاضي أبو الطيب: وهذا ما نص عليه في "الإملاء"، سواء أنزل أو لم ينزل. وقال القاضي الحسين: إن لفظ الشافعي [فيه]: "ويحتمل أن يكون قوله تعالى محمولاً على جميع أنواع المباشرة"، وإنه قال في كتاب الصيام: "ولا يباشر المعتكف؛ فإن فعل أفسد".

وعن الشيخ أبي محمد والمسعودي حكاية [طريقة] قاطعة بهذا القول. ووجه عدم البطلان [به]: أن كل عبادة حرمت الجماع مع غيره، فلابد أن يكون للجماع مزية تدل عليه: [كالحج] والصوم، فلو قلنا: إن المباشرة في غير الفرج تفسد الاعتكاف، لم يكن له مزية، ولا يلزم عليه الصلاة؛ فإنها تبطل بالملامسة قبل الوطء، [وأما] الآية فالمراد بها الجماع في الفرج خاصة، يدل عليه سياقها، وهو قوله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187]، وأراد: الولد، وابتغاء الولد لا يكون إلا في الفرج، وبالقياس على الحج. قال القاضي أبو الطيب: وهذا ما نص عليه في "الأم"، سواء أنزل أم لم ينزل، وقد اختاره المزني. ولفظ الشافعي [فيه] – كما قال القاضي الحسين -: "لا يفسد الاعتكاف إلا بما يوجب الحد من الوطء"، وعن بعض الأصحاب: الجزم به، وأن الموضع الذي قال: "إن باشر فيه فسد"، عني به: الجماع؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ}. قال الإمام: وقضية هذا النص: ألا يفسد بإتيان البهيمة والإتيان في غير المأتى؛ إذا لم نوجب الحد فيهما، والمذهب الوجوب. وقد أفهم ما حكيناه عن القاضي أبي الطيب: أن القولين جاريان، سواء أنزل أو لم ينزل، وكذا حكاهما الماوردي، وقال: [إن] بعض أصحابنا كان يخرج قولاً

ثالثاً يجمع فيه بين الصوم والاعتكاف، ويقول: إنه يبطل إن أنزل، ولا يبطل إن لم ينزل، وإن الذي ذهب إليه جمهورهم: المنع من هذا التخريج، وجعلوا الفرق بينهما: أن المباشرة في الاعتكاف حرام، وفي الصوم حلال، فلما افترقا في التحريم، جاز أن يفترقا في الإفساد. قال: وفي المسألة لأصحابنا طرق وهذه أصحها. وكأنه – والله أعلم – يشير [إلى ما] حكاه القاضي الحسين وغيره في محل القولين؛ حيث قالوا: اختلف أصحابنا في محلهما: [فقيل: محلهما] إذا لم ينزل، أما إذا أنزل، فيبطل قولاً واحداً. [وقيل: محلهما: إذا أنزل أما إذا لم ينزل فلا يفسد قولاً واحداً]. وبذلك يحصل في المسألة أربع طرق، وقد حكى الغزالي القولين في حالة عدم الإنزال، وقال: أحدهما: أنه يحرم، ويفسد؛ كما في الحج. وهذا فيه نظر؛ لأن ذلك يفسد الحج [بل وجهه: عدم الإفساد، وهو المقيس على الحج]. نعم، لو قال أحدهما: أنه يحرم، ويؤثر فيه كما في الحج – كما ذكرنا – لا يبقى هذا الاعتراض، ولعله مراده. وقد يقال في جوابه: إن في كلامه تقديماً وتأخيراً، وتقديره: يحرم كما في الحج ويفسد. وقال فيما إذا أنزل: الصحيح: أنه يفسد، وقيل بطرد القولين، والفرق على هذه الطريقة بينه وبين الصوم: أن هذه الاستمتاعات محرمة لعينها، وفي الصوم لغيرها، وهو خوف الإنزال؛ ولهذا يرخص فيه لمن لم تحرك القبلة شهوته. وعند الاختصار يجيء في المسألة ثلاثة أقوال أو أوجه؛ ثالثها: إن أنزل فسد، وإلا فلا. قال الرافعي: وهو المفهوم من كلام الأصحاب بعد الفحص: أنه أرجح، وإليه ميل أبي إسحاق المروزي وإن استبعده صاحب "المهذب" ومن تابعه.

أما القول بالإفساد عند الإنزال، فقد أطبق الجمهور على أنه أصح. وأما المنع عند عدم الإنزال، فقد نص على ترجيحه المحاملي والشيخ أبو محمد والقاضي الروياني وغيرهم. ولا خلاف في أن المباشرة إذا كانت بغير شهوة: كاللمس ناسياً أو عن قصد الكرامة، كما إذا قبله لذلك: أنها لاتفسده؛ لما روت عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلى رأسه فأرجله". ولو استمنى بيده، فقد قدمت ما قيل فيه في أول الباب، والله أعلم. قال: وإن خرج إلى المنارة الخارجة من المسجد – أي: ليؤذن فيها – لم يضره؛ لأنها بنيت للمسجد؛ فأشبهت المنارة في المسجد أو في رحبته؛ وهذا [ظاهر] ما نص عليه في "المختصر"؛ فنه قال: "ولا بأس إذا كان مؤذناً أن يصعد المنارة وإن كان خارجاً". وقيل: يضره؛ فينقطع تتابعه؛ لأنه لا يجوز له الخروج إليها لأجل صلاة الجنازة ولا غيرها، ولو خرج ضره؛ فكذلك الأذان. وهذان الوجهان لم يحك الماوردي والبندنيجي غيرهما، والقائل بالثاني قال: مراد الشافعي ما إذا كانت المنارة في رحبة المسجد؛ لأن رحبته بمنزلة داخله. وقيل: إن كان الناس قد ألفوا صوته في الأذان، ووثقوا به في معرفة الوقت، لم يضره؛ لأن الحاجة تدعو إليه لإعلام الناس بالوقت، وإلا فلا؛ وهذا ما حكاه القاضي [أبو الطيب] عن أبي إسحاق المروزي، وأنه حمل عليه نص الشافعي في "المختصر" الذي حكيناه، واختاره في "المرشد"، ولم يحك أبو الطيب سواه والذي قبله. والمنارة في رحبة المسجد، كالمنارة في المسجد؛ فلا يضر الخروج إليها لأذان ولا غيره وجهاً واحداً لأنه يجوز الاعتكاف فيها صرح به الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم، اللهم إلا ان يكون بينها وبين المسجد طريق؛ فإن الكرخي

حكى الخلاف فيها. ورحبة المسجد ما: كان ملصقاً إليه محجراً عليه. وقد ألحق الجمهور بما إذا كانت المنارة في رحبة المسجد ما إذا كانت ملصقة بالمسجد أو رحبته بابها في المسجد أو رحبته؛ حتى لا يضر صعودها، ولا يجري فيها الخلاف السابق لصعود سطح المسجد ودخول بيت منه، ولا أثر لكونها خارجة عن سمت [البناء وتربيعه. وقد جعل الإمام محل النص ما إذا كانت المنارة خارجة عن سمت] المسجد متصلة به، وكان بابها لائطاً في المسجد نفسه، وأن الأئمة قطعوا بأن الخروج إليها للأذان لا يضر، وإن كانت لا تعد من المسجد، ولا يصح الاعتكاف فيها؛ فإن حريم المسجد لا يثبت له حكم المسجد في جواز الاعتكاف فيه، وتحريم المكث على الجنب والمرور على الحائض. قال: ولم أعثر بعد على خلاف للأصحاب فيما نص عليه مع الاحتمال الظاهر في القياس؛ فإن الخارج إلى هذه المنارة خارج إلى بقعة غير صالحة للاعتكاف. نعم، لو كان باب المنارة إلى الشارع أو إلى الحريم، وكان المؤذن يخرج إلى موضع الباب ويرقى – ففي انقطاع تتابعه إذا كان راتباً وجهان: أحدهما: ينقطع، وقياسه بين. والثاني: لا، ولماذا؟ فيه معنيان يظهر أثرهما في غير الراتب: أحدهما: كون المنارة على الحريم، والحريم من حقوق المسجد؛ فعلى هذا غير الراتب كالراتب. والثاني: أن خرجاته للأذان مستثناة في ظاهر حاله [كخروج الرجل لقضاء حاجته؛ فعلى هذا إذا خرج إليها غير الراتب، بطل اعتكافه]. قلت: ويرجع حاصل ما ذكره عند الاختصار – والصورة هذه – إلى ثلاثة أوجه، وكذلك قال الغزالي: إذا كانت خارج المسجد [متصلة به]، وبابها في المسجد،

فإنه لا يضر الخروج [إليها، وإن كانت متصلة بحائط المسجد في حريمه وبابها خارجاً عن المسجد، ففيه ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كان راتباً لم ينقطع التتابع، وألا انقطع. وهو الأصح في "الرافعي". ثم قال الإمام: إنه لو خرج إليها] لغير الأذان، فلا نقل فيها، والظاهر الانقطاع؛ فإن بابها وإن كان لائطاً في المسجد، فليست معدودة منه؛ إذ لا يجوز الاعتكاف [فيها]. قال الرافعي: وكلام الأئمة ينازع فيما وجه به الاحتمال الأول. قلت: وما ذكره الإمام من كونه لا يصح الاعتكاف في المنارة الخارجة عن المسجد اللائط بابها للمسجد، هو ما أورده القاضي الحسين في "تعليقه"؛ فإنه قال: قال الشافعي: "ولو اعتكف في رحبة المسجد [أو بيت من بيوته، أو على المنارة – أجزأه"، ثم قال: قال أصحابنا: وهذا إذا كانت المنارة فيا لمسجد] فأما إن كانت خارج المسجد، لا يجوز الاعتكاف فيها؛ لأن الاعتكاف خص المساجد بجوازه فيها. وحكى عن الأصحاب أنهم حملوا قول الشافعي: "ولا بأس إذا كان مؤذناً أن يصعد المنارة وإن كانت خارجة"، على هذه الصورة، لكن قول الإمام في الصورة التي جعلها محل النص: "إني لم أعثر عبد على خلاف للأصحاب فيها"، عجيب؛ فإن القاضي الحسين حكى في "الموضح" عن بعض الأصحاب أنه قال: ما قاله الشافعي صورته إذا لم يكن غيره من المؤذنين له صوت مثل صوته، فإن كان، فلا يجوز له الخروج. ولا خلاف في أنها لو كانت بنيت لغير المسجد، فخرج إليها للأذان – بطل اعتكافه؛ حكاه الماوردي. واعلم أن الشيخ ذكر في صدر الباب: أنه لا يصح الاعتكاف إلا [بالنية، ولا يصح إلا] في المسجد، وبينا أن قوله: "لا يصح إلا بالنية"، دال على عدم صحته من المرتد والمجنون والسكران؛ وحينئذ فكأنه قال: لا يصح إلا من مسلم عاقل صاح في المسجد. وإذا كان كذلك، فقد يقال: لم اقتصر الشيخ على بيان الحكم في طرآن

بعض ما يضاد الاعتكاف وهو الخروج من المعتكف فيه دون ما عداه؟ وقد تكلم فيه غيره، فقال: إذا قطع النية وهو في المسجد، هل يبطل اعتكافه أم لا؟ فيه ما تقدم. وطرآن الجنون لا يبطله؛ كما نص عليه في "الأم"، ولم يحك الماوردي والفوراني [غيره]، وألحق به الإغماء، وخص الرافعي ذلك بما إذا لم يخرجا من المسجد، فإن أخرجا منه، نظر: فإن لم يكن حفظهما فيه، فالأمر كذلك؛ كما لو حمل العاقل، فأخرج مكرهاً، وإن أمكن لكن شق، ففيه الخلاف المذكرو في المريض إذا أخرج. وفصل البندنيجي في المجنون، فقال: إن كان في سبب جنونه معذوراً، فالأمر كما تقدم، وألا فهو كالسكر، وقد نص الشافعي على أنه لو سكر، بطل اعتكافه، و [إن] من أصحابنا من قال: لا يبطل. وهذا بخلاف ما لو ارتد فإن المنصوص أنه لا يبطل اعتكافه ومن أصحابنا من قال: [إنه] يبطل، وقد اقتضت هذه العبارة حكاية خلاف في أن السكر والردة، هل يبطلان الاعتكاف أم لا؟ لكن المنصوص في أحدهما خلاف المنصوص في الآخر، ويوافقها في حكاية النصين هكذا فيهما عبارة القاضي أبي الطيب وابن الصباغ؛ حيث قالا: نص في "الأم" على أن الردة لا تبطل الاعتكاف، والسكر يبطله. لكن القاضي قال: إن من أصحابنا من قال: لا يبطل الاعتكاف بالسكر؛ [لأن الردة لا تبطله] وهي أغلظ منه، وأراد الشافعي بقوله إذا خرج السكران من معتكفه؛ لأن الأغلب من أحوال السكران أنه لا يثبت في المسجد. ومن أصحابنا من قال- وهم الأكثرون؛ كما قال ابن الصباغ -: من حمل كلام الشافعي على ظاهره، قال: الردة لا تبطل الاعتكاف؛ لأن الكافر من أهل اللبث في المسجد، [وأما السكر، فيبطل الاعتكاف؛ لأن الكسران ليس من أهل اللبث في المسجد؛] للآية، وهذه العبارة تقتضي الجزم بأن الردة لا تبطله، وهل يبطله السكر؟ فيه خلاف. ويوافق العبارتين في حكاية النص في المسألتين عبارته في "الوسيط"؛ فإنه قال:

الردة والسكر إذا قارنا الابتداء منعا الصحة؛ لتعذر النية، وإن طرآ [بعد،] فقد نص على أنه لا يفسد بالردة، ويفسد بالسكر، لكنه قال: إن الأصحاب اختلفوا فيهما على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يفسد بهما، وتأول نصه في السكر على ما إذا خرج لإقامة الحد. والثاني: أنه يفسد بهما، وتأول نصه في الردة أنها لا تحبط ما مضى. والثالث: وهو الأصح-: أنه يفسد بالردة؛ لفوات شرط العبادة، ولا يفسد بالسكر؛ كما لا يفسد بالنوم والإغماء. والذي حكاه القاضي الحسين عن الشافعي يخالف ما ذكرناه؛ فإنه قال: نص في "عيون المسائل" على أنه لو اعتكف فسكر، فإذا أفاق - قال: ابتدأ، ولو ارتد، ثم أسلم - قال: بنى. ثم قال صاحب "التلخيص": لا أعلم الشافعي جعل السكر أغلظ من الردة إلا في مسألتين، إحداهما: هذه. قلت: ووجه المخالفة: أن هذه العبارة مصرحة بأن الكلام [في أنه] إذا عاد إلى الأهلية، هل يبني على ما مضى أو يستأنف، [لا أنا] نقول: إنه في حال قيام المانع معتكف أم لا، وحينئذ فيكون النص في الصورتين مصوراً بما إذا كان اعتكافه متتابعاً؛ فإنه لو لم يكن متتابعاً، لبنى في كلا الحالين بلا خلاف عندنا؛ ولأجل ذلك صور بعضهم المسألتين بما ذكرناه، وقال: طرآن الردة والسكر عليه إذا لم يخرج من المسجد حتى زال ذلك، هل يبطله أم لا؟ وفيه طرق مجموعة من كلام الأصحاب [و] تخرجي قول من كل مسألة إلى الأخرى، وجعلهما على قولين، وقد حكاهما الماوردي: أحدهما: أنه لا يبطل بواحد منهما، إذا أسلم المرتد، وصحا السكران، بنيا؛ لأنهما لم يخرجا من المسجد. [ومنهم من قطع بهذا، وقالوا: نصه في السكران محمول على ما إذا خرج

لإقامة الحد أو كلف الخروج من المسجد] إذ لا يجوز للسكران المقام فيه؛ للآية، فأما إذا كان مقيماً، فلا يبطل؛ لأن الشرب لا يبطل الاعتكاف، والسكر ليس من فعله، ولا اختياره، وإنما هو فعل الله تعالى؛ فأشبه المرض. قال الماوردي: فإن قيل: حمل النص على ما إذا خرج لإقامة الحد لا يصح؛ لأن الشافعي قال: "ولو أخرجه السلطان لإقامة الحد عليه، لم يبطل اعتكافه". قيل: هذا النص محمول على ما إذا أخرج لإقامة حد وجب عليه قبل الاعتكاف، وأما ما وجب عليه في ال الاعتكاف، فيبطل، وكأنه اختار الخروج. والقول الثاني: أنه يبطل بكل واحد منهما؛ لأن المرتد خرج عن أن يكون من أهل العبادة، والسكران خرج عن أن يكون من أهل المقام في المسجد، فإذا عادا إلى الأهلية استأنفا. ومنهم من قطع بهذا، وهؤلاء اختلفوا في نصه في الردة: فمنهم من قال: [إنه رجع عنه؛ لأنه أمر الربيع أن يخط على هذه المسألة، ولا يقرأ عليه، ومذهبه: أن الردة تبطل الاعتكاف؛ حكاه الماوردي. ومنهم من قال]: هو محمول على ما إذا لزمه في اعتكاف غير متتابع. [قال الإمام]: وهذا التأويل فيه بعد؛ فإن الشافعي قال: ويبني إذا عاد إلى الإسلام. وهذا مشعر بفرض الأمر في اعتكاف متتابع يفرض انقطاعه وانتظامه؛ وعلى هذه الطريقة لا فرق بين ان يطول زمن الردة أو يقصر. وفي "تعليق" القاضي الحسين و"النهاية": أن منهم من حمل نصه في الردة على ما إذا أسلم في الحال. والرابعة: إجراء النصين على ظاهرهما، وهي أنه يبطل بالسكر، وهو الذي صححه الماوردي، ولا يبطل بالردة، والفرق من وجهين: أحدهما: - قاله الماوردي [وغيره]-: أن السكران ليس من أهل المقام في المسجد؛ للآية وإذا كان كذلك، كان كما لو خرج من المسجد، [والمرتد لا يمنع من

المسجد]. والثاني: -قاله القاضي الحسين -: أن السكران قد زال الخطاب عنه بزوال عقله، بخلاف المرتد. وهذه الطريقة اختارها في "المرشد": والعبارات الأول تفهم: أن الخلاف في [أنه في] حال قيام المانع، هل يكون معتكفاً أم لا؟ وأسدها إفهاماً عبارة الغزالي، وهي مستمدة من قول الإمام بعد تضعيف [الطريقة] القائلة بظاهر النص في الموضعين -: إن من قال: إن الردة لا تفسد الاعتكاف، فليت شعري ماذا يقول فيه إذا أنشأ الاعتكاف مرتداً؟ فإن قال: يصح اعتكافه، فهو أمر عظيم، فإن سلم الفساد عند اقتران الردة، فالفرق بين المقارن والطارئ عسير، ولم يختلف أصحابنا في أن من ارتد في أثناء الوضوء، وغسل عضواً من أعضائه في زمن ردته، لا يعتد له به. والمحكي عن الشيخ أبي علي وغيره: الأول. وقد تلخص من مجموع ما ذكرناه: أن حمل نصه في "الأم" الذي حكاه القاضي أبو الطيب وغيره على [ما] أفصح به في "عيون المسائل" في المسألتين، و [هو] الذي نقله الرافعي صريحاً؛ حيث قال: المنقول عن نصه في "الأم": أنه إذا ارتد في أثناء اعتكافه، لا يبطل [اعتكافه]، بل يبني إذا عاد إلى الإسلام – خمسة أوجه: أحدها: أنه لا يبطل تتابعه في واحد منهما – إذا لم يخرج، طال الزمان المنافي أو قصر، لكنه لا يحسب له زمن الردة [والسكر، بل إذا زالا بنى. والثاني: يبطل بهما، طال الزمان المنافي أو قصر، فإذا زال استأنف]. وحقيقة هذين الوجهين لو جرينا على ما أفهمه كلامه في "الوسيط"، ترجع إلى أن

السكر والردة هل ينافيان الاعتكاف أم لا؟ وقد صرح بذلك القاضي الحسين في السكر – أيضاً – ولأجله قال في "التهذيب": هل يحسب له زمن السكر أو لا؟ فيه وجهان، والمذهب: المنع. والثالث- وهو ظاهر النص -: أنه يبطل بالسكر دون الردة، طال زمانهما أو قصر. والرابع: إن طال زمان الردة أبطل كالسكر؛ لأن زمنه يطول، وإن قصر بأن رجع في الحال، فلا وقد صرح به القاضي الحسين، وحكى الإمام مثله في السكر أيضاً، وقال: إنه لا وجه له في الردة. والخامس: عكس النص، وهو من تخريج الإمام: أنه يبطل بالردة دون السكر، والله أعلم. قال: ولا يعتكف العبد بغير إذن مولاه، ولا المرأة بغير إذن زوجها؛ لما فيه من تفويت المنافع المستحقة لهما في مدته، فلو فعلا ذلك بدون إذن، كان للسيد والزوج إخراجهما؛ لحفظ حقه. ولو أذن فيه، ثم رجع في إذنه: فإن كان تطوعاً، كان له ذلك، و [كذا] إن كان نذراً مطلقاً أو متتابعاً غير متعلق بزمان بعينه، ما لم يشرع فيه، أما إذا رجع بعد شروعه فيه، نظر [فإن كان] غير متتابع، فهل له ذلك؟ فيه وجهان في تعليق القاضي الحسين ينبنيان على ما إذا شرعت الزوجة في حج واجب. وإن كان متتابعاً، لم يكن له؛ لأنه يبطل ما مضى. قال: ويجوز للمكاتب أن يعتكف بغير إذن مولاه؛ لأنه مستقل بمنافعه؛ فأشبه الحر؛ وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب، وكذا الماوردي، لكنه قال: [إنه] إذا عجز عن قوته، كان له منعه حينئذ. وفي "الإبانة" حكاية وجه آخر: أنه لا يجوز، قال: لان عليه أن يكتسب ويحصل النجوم؛ فليس له أن يقعد في المسجد فيبطل حق السيد.

قال الإمام: وهذا خرق وخروج عن الحد؛ فإنه لا خلاف في أنه لو سكن في بيته، ولم يكتسب اليوم واليومين، فلا معترض عليه قبل النجم. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن الذي نص عليه الشافعي ما ذكره الشيخ، وأن أصحابنا قالوا: صورته: إذا كانت مدة الاعتكاف يسيرة لا تضر بكسبه، أو كان كسبه يمكن في المسجد كالخياطة وغيرها. ومنهم من قال: لا يمنعه بحال؛ لأنه ليس للسيد حمله على الكسب. ومن نصفه حر ونصفه رقيق إن لم يكن بينه وبين سيده مهايأة – كالقن، وإن كان بينهما مهايأة، فهو في نوبته كالحر، وفي نوبة سيده كالعبد. وقيل: إنه [في] نوبته كالمكاتب؛ فيخرج على الخلاف؛ حكاه ابن يونس، وفيه نظر، والله أعلم. وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به: [أحدها]: إذا نذر اعتكاف اليوم الذي يقدم فيه فلان، صح نذره بلا خلاف، وماذا يلزمه؟ فيه كلام نذكره في باب النذر. [الثاني]: إذا نذر اعتكافاً، ومات قبل الوفاء به- قال الإمام: فقد ذكر شيخي قولين أحدهما: أنا نقابل كل يوم بمدٍّ من طعام، نخرجه من تركته كدأبنا في الصوم. والقول الثاني: أنه يعتكف عنه وليه. وذكر أن القولين منصوصان للشافعي. قال الإمام: وهذا عندي مشكل من طريق الاحتمال؛ فإنا اتبعنا الأثر في مقابلة صوم [يوم] بمد، ولي سينقدح قياس الاعتكاف في ذلك على الصوم، ثم اعتكاف لحظة عبادة تامة، ثم ليت شعري ماذا يقول في اليوم الفرد، وفي اليوم مع الليلة، وقد ذكر صريحاً أن اليوم بليلته يقابلان بمد، وإذا كان يقول ذلك، فما القول في اليوم الفرد؟

وقد حكى في "التهذيب" فيما إذا مات وعليه اعتكاف طريقين: أحداهما: حكاية الخلاف السابق. والثانية: القطع بأنه لا يعتكف عنه، ولا يسقط عنه بالفدية؛ كما في الصلاة، وهذا ما اقتضاه كلام الماوردي؛ حيث قال: لو جامع في الفرج عامداً في الاعتكاف، بطل اعتكافه، ووجب عليه القضاء إن كان واجباً، [دون الكفارة]؛ فلو مات سقط عنه. وفرع في "التهذيب" على [هذا] أنه لو نذر أن يعتكف يوماً صائماً، فلم يعتكف، ومات: فإن قلنا: يجوز إفراد الصوم عن الاعتكاف، فلا يعتكف عنه الولي، وهل يصوم؟ فعلى قولين. وإن قلنا: لايجوز إفراد الصوم: فإن قلنا: لا يصوم الولي عنه، فهاهنا لا يصوم ويطعم. وإن قلنا: يصوم عنه وليُّه، فهاهنا يعتكف عنه الولي صائماً تبعاً، وإن كانت النيابة لا يتجزئ في الاعتكاف كما لا تجوز النيابة في الصلاة، وتجوز في ركعتي الطواف تبعاً للحج؛ ذكر ذلك في كتاب الصيام؛ فليطلب منه، والله أعلم.

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء السابع كتاب الحج

كتاب الحج

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الحج "الحج" في اللغة: القصد, ومنه سمي الطريق: محجة؛ لأنه يوصل إلى المقصد. وقيل: هو العود مرة بعد أخرى. وقال الخليل بن أحمد: هو كثرة القصد إلى من يعظم, ومنه قول الشاعر: وأشهد من عوف حلولًا كثيرةً يحجون سب الزبرقان المزعفرا أي: يقصدون, ويتكررون إليه, لسؤدده. والسِّبُّ - بسين مكسورة, وباء ثانية الحروف-: العمامة. وهو في الشرع: الإتيان بعبادة مشتملة على ما سنذكره من الأركان, وسمي به على القول ألأول؛ لأن البيت مقصود بالنسك فيه, وعلى القول الثاني والثالث؛ لأن الحاج يأتي البيت قبل الوقوف بعرفة, ثم يعود إليه لطواف الإفاضة, ثم ينصرف إلى منى, ثم يعود إليه لطواف الصدر؛ فيتكرر العود إليه مرة بعد أخرى مع التعظيم. والأصل فيه -قبل الإجماع- من الكتاب: قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالاً} [الحج: 27] , فخاطب الله تعالى بذلك نبيه إبراهيم -عليه السلام- وروي أنه قال: "أي رب, أين يبلغ ندائي؟ " فقال الله تعالى: "عليك النداء, وعلينا البلاغ", فصعد على المقام -وقيل: على جبل أبي قبيس -وقال: يا عباد

الله, أجيبوا داعي الله؛ إن الله تعالى أمرني ببناء هذا البيت, وأمركم بأن تحجوه, فحجوه, فأجابه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك داعي ربنا, لبيك, فيقال: إنه لا يحج إلا من أجاب دعوة إبراهيم – عليه السلام - وإن من أجابه مرتين, حج مرتين, وهكذا, وإن أول من أجاب دعوته أهل اليمن. وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] , وقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] كما نقرره. ومن السنة [مع] ما سنذكره من بعد – إن شاء الله تعالى- قوله عليه السلام: "بني الإسلام على خمس ... " الخبر مشهور. وقد حج البيت آدم – عليه السلام- لما حج البيت, قال له جبريل: "إن الملائكة كانوا يطوفون قبلك بهذا البيت سبعة آلاف سنة". وقد اختلف أصحابنا- كما حكاه القاضي الحسين والإمام وغيرهما –هل كان وجوبه قبل الهجرة أو بعدها؟ والقائلون بأنه بعدها, منهم من قال: إنه كان في سنة خمس [من الهجرة] وهو ما حكاه القاضي والإمام. والصحيح إنه في سنة ست من الهجرة, وسنذكر ذلك في أول باب قتال المشركين, إن شاء الله تعالى.

قال: الحج فرض؛ لما ذكرناه, وفي العمرة قولان: أصحهما: أنها فرض؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] , وإتمامهما أن يفعلا على التمام؛ كما قال تعالى: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] , أي: فعلهن تامات؛ ويؤيد ذلك أن هذه الآية نزلت سنة ست من الهجرة حين أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة فيها وهو بالحديبية, فأحصر, ولا يجوز أن يؤمر بإتمام العبادة من لم يدخل فيها؛ فعلم أن المراد إنشاؤها [وابتداؤها؛] وهذا ما استدل به على أن الحج فرض في سنة ست من الهجرة. وقد روي عن علي وعمر –رضي الله عنهما- أنهما قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وقد قرأ ابن مسعود وابن عباس: "وأقيموا الحج والعمرة لله", والقراءة الشاذة إذا صحت جرت مجرى خبر الواجد في وجوب العمل به. وعن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحج والعمرة فريضتان, لا تبالي بأيهما بدأت". والقول الثاني –أشار إليه في القديم-: أنها مستحبة, وليست بفرض؛ لما روى

الترمذي عن جابر أنه –عليه السلام- سئل عن العمرة, أهي واجبة؟ فقال: لا, وأن تعتمر فهو أفضل". وروي أنه –عليه السلام- قال: "الحج جهاد, والعمرة تطوع". ولأنها نسك يفعل على وجه التبع, ليس له وقت؛ فوجب ألا يكون واجباً؛ كطواف القدوم. وقد امتنع بعض الأصحاب من نسبة هذا القول إلى الشافعي –رضي الله عنه- وقال: إنما ذكره حكاية عن الغير. والجواب عن حديث جابر: أن في رجاله ابن أرطأة وابن لهيعة, وابن أرطأة لا يحتج بحديثه؛ لأنه يروي عمن سمع وعن من لم يسمع, وابن لهيعة ضعيف

فيما ينفرد به, على أنه لو سلم من الطعن, حمل على سائل سأل عن عمرة ثانية. وأما قوله: "العمرة تطوع", فهو مرسل, وليست العمرة كالطواف؛ لأنه ليس نسكاً بذاته, وإنما هو من جملة نسك؛ كما أن الركوع والسجود ليس بصلاة, وإنما هو من جملتها؛ وعلى هذا فلا تقوم [حجة] مقامها وإن اشتملت على أعمال العمرة وزادت, وإن كنا نقيم الغسل مقام الوضوء. [قال الإمام]: وهذا من أصدق الأدلة على تغاير الحج والعمرة. تنبيه: في العمرة في كلام العرب قولان: أحدهما: أنها الزيارة, يقال: اعتمر مكان كذا, إذا زاره, ومنه سمي البيت المعمور: معموراً؛ لأنه مزار الملائكة, قيل: يزوره كل يوم سبعون ألف ملك, ولا تنتهي النوبة إليهم [إلى يوم القيامة]. والثاني: أنها القصد, وكل قاصد إلى الشيء فهو معتمر. وقال البندنيجي: إنه يقال: الاعتمار هو القصد إلى بلد عامر؛ فهو "افتعال" من "العمارة". وهي في الشرع: عبادة مشتملة على إحرام وطواف وسعي وحِلاق. قال: ولا يجب –أي: الإحرام بالحج والعمرة – على المكلف في العمرة إلا مرة واحدة: أما الحج؛ فلما روى مسلم عن أبي زيد قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال:

"يأيها الناس, إن الله فرض عليكم الحج, فحجوا", فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً, فقال –عليه السلام-: "لو قلت: نعم, لوجبت, ولما استطعتم", ثم قال: "ذروني ما تركتم, فإنما هلك من كان قبلكم؛ لكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم, فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم, وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه". [وروى أبو داود] عن ابن عباس أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: [يا] [رسول الله] , الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ فقال: "بل مرة, ومن زاد فهو تطوع" , وأخرجه النسائي وابن ماجه. وأما العمرة؛ فلما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت, لم أسق الهدي, وجعلتها عمرة", فقال سراقة: ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك بين أصابعه واحدة في أخرى, وقال: "دخلت العمرة في الحج –مرتين- لا, بل للأبد". ووجه الدلالة منه: أن العمرة إذا دخلت في الحج, والحج لا يجب [في العمر] إلا مرة –لزم أن تكون كذلك. ولأن هذا النسك يتعلق به في الأغلب قطع مسافة, والتزام مؤنة, وفي تكرار وجوبه مشقة عظيمة؛ فلم يجب لذلك, بخلاف سائر الفرائض. قال: إلا أن ينذر؛ فيجب أكثر من مرة على حسب نذره؛ [لعموم قوله] –عليه

السلام-: "من نذر أن يطيع الله فليطعه". قال: أو يدخل [مكة] , أي من الحل؛ لحاجة لا تتكرر من تجارة أو زيارة؛ فيلزمه الإحرام بالحج أو العمرة, أي: إذا أمكن [ذلك] بأن دخل في أشهر الحج. قال: في أحد القولين؛ لإطباق الناس على ذلك, والسنن يندر فيها الاتفاق العملى, وقد روي أنه –عليه السلام- قال: "إن أبي إبراهيم حرم مكة؛ فلا يدخلها أحد إلا محرماً". وحكى أبو الطيب: أن ابن عباس قال: "لا يدخل أحد مكة غلا محرما [إلا الحطابين] " وغيره روى عن ابن عباس أنه قال: "لا يدخل أحد مكة إلا محرمًا, وأرخص للحطابين". قال الماوردي: ولأنه لو نذر دخول مكة أو المشي إلى البيت, لزمه الإحرام, لدخولها بأح النسكين, فلو جاز دخولها بغير إحرام, لم يلزم ذلك. وفي إجماعهم على لزومه في النذر دليل على وجوبه في الدخول. قلت: وفيما قاله نظر يظهر لك في باب النذر. قال: ولا يلزمك في الآخر؛ لحديث الأقرع بن حابس وسراقة بن مالك, ولما روي عن [ابن] عمر أنه دخلها بغير إحرام, ولأن ذلك شبيه بتحية المسجد, ولا أصل لها في الوجوب. نعم, يستحب له ألا يدخلها إلا محرمًا؛ وهذا ما نص عليه في "الإملاء", وبه قال الشيخ أبو محمد, ومال إليه الشيخ أبو حامد ومن تابعه, وقال: إنه

الذي نص عليه في عامة كتبه؛ كما حكاه عنه في "الشامل" وصاحب "البحر", وقال: إن كلام القفال يدل عليه –أيضاً- ولأجل ذلك قال الغزالي: إنه الأظهر. ومنهم من قطع به, ويحكي عن صاحب "التقريب", لكن الأول هو المنصوص في "الأم"؛ كما قال الماوردي في "المختصر" في الحج, والقديم؛ كما قال القاضي الحسين, وعامة كتبه؛ كما قال أبو الطيب حكاية عن أبي إسحاق, وهو الصحيح في "الحاوي", و"البحر", و"التهذيب", وبه أجاب صاحب التلخيص. وقال الأصحاب –تفريعاً عليه-: إنه لو دخلها محرماً بفرضٍ سقط عنه [حق الحرم, كما تسقط] تحية المسجد عمن يدخله ويقيم فريضة فيه, وإنه لو دخل بغير إحرام, كان في وجوب القضاء عليه قولان حكاهما الإمام, وغيره رواهما وجهين: أحدهما –وهو المنصوص الذي لم يورد الماوردي وأبو الطيب [والمصنف] والقاضي الحسين والأكثرون غيره-: أنه لا يجب, واختلف الأصحاب في تعليله على وجهين: فمنهم من قال: لعدم إمكانه؛ فإنه لو خرج ليقضي, [فعوده يقتضي] إحراماً جديدًا؛ فلا يمكنه تأدية القضاء لذلك, وعلى هذا لو صار حطّابا أو صيادًا يجب عليه القضاء؛ لإمكانه حينئذ, قاله القاضي لحسين, وقد نسبه في "المهذب" إلى صاحب "التخليص". ومنهم من قال: لأنه تحية المكان, فإذا فاتت لا تقضي؛ كالركعتين؛ وهذا ما اختاره ابن الصباغ, وضعف الأول بأن الدخول إذا كان بإحرام كفى, سواء كان [لأجله أو] لأجل غيره؛ كالصوم في الأعتكاف. ومثل هذا ما قلناه إذا أفسد القضاء: لا يجب قضاء آخر, وإنما يجب قضاء واحد. قال الماوردي: وعلى هذا القول لا يجب عليه كفارة؛ لأنها إنما تجب جبرًا لنقص دخل على نسك, فإذا لم يأت بالنسك, لم يلزمه جبران [ما] عدم أصله.

[والثاني]: أنه يجب القضاء: فإنه ترك إحراماً محتومًا؛ فلزمه التدارك؛ كما لو ترك حجة الإسلام أو عمرته وما وجب من ذلك بالنذر. وما ذكر من عدم إمكان القضاء ممنوع, بل هو ممكن, وفي كيفية إمكانه وجهان: أحدهما: أنه يتصور بعبور المترددين [الذين] لا يلزمهم الإحرام للدخول كالحطابين, وينسب هذا –أيضًا- إلى صاحب "التلخيص", قال الإمام: وهو في نهاية البعد. والثاني: -وهو قول المحققين-: أنه ليس الشرط في الدخول أن يكون بإحرام مقصود [له]؛ بدليل ما ذكرناه من أنه لو أحرم بحج الإسلام أو عمرته, تأدى به حق الدخول, وإذا كان كذلك, فليخرج ويعد بإحرام. والقائلون بالأول [قالوا]: القياس على حجة الإسلام وعمرته [فاسد من وجهين: أحدهما: أن حج الإسلام وعمرته] لا يقضى؛ لأنه في [أي] زمان فعلهما كان مؤديًا, ولم يكن قضاء.

والثاني: أنه وجب القضاء بالفساد والفوات؛ فلأن قضاءه ممكن؛ لأن زمان القضاء لا يتعلق به ما يوجب القضاء, وقضاء الدخول يتعلق به ما يتعلق بابتداء الدخول؛ فلم يصح القضاء. وما ذكر من أن الشرط: الدخول بإحرام كيف فرض, لا إحراماً مقصودًا للدخول – ممنوع, فإن القائل بوجوب القضاء قائل بإنه لو خرج وعاد لعمرة منذورة, لم يقع هذا موقع القضاء, كما قاله الإمام, فإن الدخول من غير إحرام, ألزمه إحراماً؛ كما يلزم الناذر, ويخالف ما إذا دخل بحج الإسلام وعمرته؛ لأنه لا يصح دخوله بغيرهما قبلهما. أما لو كان الداخل إليهما من الحرم, فلا إحرام عليه قولاً واحدًا, وعنه احترز الشافعي –رضي الله عنه- بقوله في "الإملاء": "وأكره لمن دخل مكة من الحل من أهلها أو [من] غير أهلها –أن يدخلها إلا محرمًا", والداخل إليها من الحل غير زائر ولا تاجر على قسمين: أحدهما: أن يدخل لحاجة تتكرر كالحطابين, والصيادين, ونحوهم الذين يخلونها في كل يوم –فلا يجب عليهم الإحرام لأجل الدخول –أيضًا- على النص في سائر كتبه؛ لقول ابن عباس, ولما فيه من الضر اللاحق بهم وبالناس؛ لانقطاعهم عن الدخول بسبب ذلك, أو قلته. وفي "الحاوي" وكتب المراوزة حكاية طريقة أخرى طاردة للقولين فيهم أيضًا, ولم يحك القاضي الحسين غيرها. وقال في "البحر" عن صاحب "التلخيص": إنه قال: إن قلنا في غيرهم: لا يلزمهم الإحرام, [فهؤلاء أولى, وإلا فوجهان.

وحكى الإمام طريقة أخرى: أنهم يلزمهم الإحرام] لأجل الدخول في كل سنة مرة واحدة, ونسبها في "البحر" إلى رواية أبي حامد؛ لأنه حكى عن الشافعي في "تعليقه" –كما قال ابن الصباغ-: أنه قال: "عليه أن يحرم في كل سنة مرة؛ لأنا لو كلفناه في كل كرة يشق عليه", والمنقول عن الشافعي –رضي الله عنه- كما حكاه أبو الطيب وغيره- أنه قال: "واستحب لهم أن يحرموا في كل سنة مرة". والبريد إذا تكرر دخوله هل يلحق بالحطابين أو لا؟ فيه طريقان في "البحر". والقسم الثاني: أن يدخلها مقاتلًا لباغٍ أو قاطع طريق, أو خائفًا من ظالم أو غريم يحسبه, وهو معسر لا يمكنه أن يظهر لأداء النسك- فلا يلزمه الإحرام أيضًا؛ نص عليه الشافعي في "المختصر" و"المناسك الكبير"؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر, ولو كان محرمًا لم يلبسه, وقد كان خائفًا من غدر الكفار, وعدم قبولهم الصلح الواقع بينه وبين أبي سفيان.

تنبيه: هل ينزل دخول الحرم منزلة دخول مكة فيما نحن فيه؟ حكى الرافعي عن بعض الشارحين: أنه قال: نعم, والمراد بدخول مكة –فيما نحن فيه-: دخول الحرم. قال الرافعي: ولا يبعد تخريجه على خلاف سبق في نظائره. قلت: وكأنه –والله أعلم- يشير إلى ما حكيناه في باب المواقيت من أن المكي إذا أحرم بالحج في الحل, ثم عاد إلى الحرم, هل يسقط عنه الدم؛ كما يسقط عنه إذا عاد إلى مكة, وكذا لو أحرم المكي بالحج من الحرم, هل يجب عليه الدم أم لا؟ والذي صرح به القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين [في باب المواقيت: الأول, وقد قال القاضي الحسين [هنا]: إن الشافعي قال في القديم: "ولا يجوز لأحد أن يدخل الحرم من غير خوف إلا محرمًا, إلا الذين يدخلون مختلفين بالحطب ومنافع أهل مكة"؛ وهذا نص في المدعى, وكلام الإمام يوافقه؛ فإنه قال: ولو دخل محرماً بنسك مفروض, سقط عنه حق الحرم. فإن قيل: قول الشيخ: "ولا يجب في العمر إلا مرة [واحدة] ... " إلى آخره –غير وافٍ بالمقصود من الحصر؛ لأن الحر إذا أحرم بحج أو عمرة تطوعًا, ثم أفسده, وجب عليه القضاء, وكذلك العبد –كما سنذكره- فقد تصور وجوبه في العمر بغير ما ذكره. فجوابه: أن هذا القضاء بدل ما أفسده, وما أفسده, لم يكن كله واجبًا, بل بعضه؛ لأن الإحرام من جملة أركانه, وهو تطوع, والمدعى: أن الحج والعمرة لا يجبان في العمر إلا بما ذكر, ولفظ "الحج" و"العمرة" يشمل جميع أركانهما. فإن قلت: الإحرام في القضاء وقع واجبًا؛ فيصدق حينئذ أن جميع الحج

والعمرة وقع واجبًا؛ فيبقى السؤال. قلت: نعم, لكن الإحرام في هذه الحالة وجوبه وجوب الوسائل, وفي الصور التي ذكرها وجوب المقاصد, وهو المراد. قال: ولا يجب ذلك – أي: الإحرام بحج الإسلام وعمرته, أو المنذور, أو لأجل دخول مكة –إلا على مسلم بالغ عاقل [حر] مستطيع. أما وجوبه على من اتصف بهذه الصفات؛ فلقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] , وللخبر المشهور, وهو إجماع. وأما انتفاء وجوبه عن غير المستطيع بالتفسير الذي سنذكره؛ فلمفهوم الآية والخبر المشهور. وانتفاء وجوبه عن الكافر وغير المكلف والرقيق, يأتي دليله, إن شاء الله تعالى. تنبيه: قوله: "ولا يجب ذلك إلا على مسلم" يخرج المرتد, وقد قال من بعد: إنه يجب عليه؛ فكان الأحسن في العبارة أن يقول: يجب الحج على المسلم البالغ العاقل الحر المستطيع, كما فعل [مثل] ذلك في الصلاة. قال: فأما الكافر الأصلي, فلا يجب عليه؛ كما تقدم تقريره من قبل, ولا يصح منه؛ لأنه عبادة بدنية؛ فلا تصح مع الكفر [كالصلاة]. قال: وأما المرتد؛ فإنه يجب عليه؛ لأنه حق التزمه بالإسلام فلا يسقط بالردة؛ كحقوق الآدميين؛ وهذا يظهر أثره فيما إذا أسلم, ولم يستطع الحج والعمرة إلا في حال الردة؛ فإنه يجب عليه القضاء. أما إذا كان مستطيعًا قبلها, فما وجب [إلا] على [مسلم] , وقد حكى في "البحر" عن والده فيما إذا كان قد وجد الزاد والراحلة في حال ردته, ثم أسلم ومات في الحال –هل يقضى عنه أم لا؟ فيه قولان؛ بناء على أن الردة تزيل الملك أم لا؟ فإنا قلنا: تزيله, لا يلزمه الحج؛ لأن ملكه زال عن الزاد والراحلة قبل استقرار الحج عليه, وهما شرطان في الوجوب؛ فصار كزوال الملك بالتلف.

وإن قلنا: لا تزيل الملك؛ فيلزمه؛ ولهذا الأصل اختلف القول في زكاة ماله. ولو لم يسلم, لم يظهر للحكم بوجوبه عليه أثر في الدنيا؛ لأنه لا يقضى من ماله؛ لأنا نقول: لو كان قد حج أو اعتمر قبل الردة, ثم مات على الردة -حبط عمله, فكيف يؤمر به؟! ويخالف الزكاة حيث تقضى؛ لتعلق حق الفقراء بها. ولا خلاف عندنا: أنه إذا حج قبل الردة, ثم ارتد, ومات مسلمًا -[لا يحبط عمله,] حتى لا يجب عليه القضاء؛ لأن الله -تعالى- علق إحباط عمله بموته وهو كافر, ولم يوجد الشرط. قال: ولا يصح منه؛ لأنه عبادة. نعم, لو ارتد في أثنائه, فهل يبطل إحرامه؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي أبي الطيب وغيره: أحدهما: نعم؛ لأن الردة أخرجته عن أن يكون من أهل القرب والطاعات؛ وهذا ما اختاره في "البحر". والثاني -وهو الصحيح-: لا؛ لأنه لا يبطل بالموت؛ فبالردة أولى. قال أبو الطيب: وعلة الوجه الأول تبطل -أيضًا- بالمجنون؛ فإنه ليس من أهل القرب والطاعات, وإحرامه لا يبطل بطرآنه, والله أعلم. قال: وأما المجنون, فلا يجب عليه؛ للخبر المشهور, ولأنه عبادة فلم تجب عليه؛ كالصوم والصلاة, قال: ولا يصح منه.

قال في "التهذيب": لأنه ليس من أهل العبادات. قيل: وهذا ينتقض بالصبي غير المميز؛ فإنه ليس من أهل العبادات, ويحرم عنه وليه. وجوابه من وجهين: أحدهما: أن الصبا في الجملة لا ينافي العبادة, بخلاف الجنون. والثاني: أن الصبي ليس من اهل العبادة كما قلت, والقياس يقتضي ألا يصح حجه؛ لأنه عبادة, لكن الخبر دل على صحة حجه؛ فعمل به, ولم يرد في حق المجنون ما يخالف القياس؛ ولم يعقل معناه, لا يقاس عليه, والله أعلم. وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وابن كج والحناطي, وحكاه في "البحر" عن بعض الأصحاب؛ تمسكًا بأن الأب يجوز له أن يزوج ابنه الصغير من غير حاجة, بخلاف المجنون؛ وعلى هذا ينطبق قول البندنيجي والقاضي الحسين في أول كتاب الحج: ولجواز الحج شرطان: الإسلام والعقل. والذي أورده التولي والبغوي والغزالي: أن حكم المجنون حكم الطفل الذي لا يميز, وهو المرجح في "البحر" أيضًا؛ ولذلك قال الرافعي: إن الصحة المطلقة لها شرط واحد, وهو الإسلام. وقال القاضي الحسين أثناء الكتاب: إن هذا الحكم فيما إذا بلغ مجنونًا, أما إذا بلغ عاقلًا رشيدًا, ثم جن, فعلى وجهين ينبنيان على أن الولاية تعود إلى الأب أو إلى السلطان؟ وفيها وجهان؛ وهذا منه دليل على أنه لا يرى أن غير الأب والجد يحرم عن الصبي -كما ستعرفه- وإلا لم يكن للبناء وجه, والله أعلم. قال: وأما الصبي, فلا يجب عليه؛ لما ذكرناه في الكجنون. ويصح [منه]؛ لما روى أبو داود ومسلم عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروحاء, فلقي ركبًا, فسلم عليهم, فقالوا: من القوم؟ فقالوا: مسلمون, فقالوا: فمن أنتم. فقالوا:

رسول الله صلى الله عليه وسلم, ففزعت امرأة, فأخذت بعضد صبي –زاد مسلم: صغير- أخرجته من محفتها, فقالت: يا رسول الله, [هل] لهذا حج, فقال: "نعم, ولك الأجر"؛ فدل هذا الخبر على صحة الحج من الصبي. والروحاء –بفتح الراء المهملة, وسكون الوأو, وبعدها حاء مهملة, وهي ممدودة-: من عمل الفُرْع, والفراغ –بضم الفاء, وسكون [الراء المهملة] , ويقال: بضمهما-: موضع بأعلى المدينة, فيه مساجد النبي, ومنابر, وقرى كثيرة. والمحفة –بكسر الميم-: مركب من مراكب النساء كالهودج, غلا أنها لا تقبب كما يقبب الهودج. قال: فإن كان مميزًا أحرم بإذن الولي: أما صحة إحرامه بنفسه؛ فلأنه قد ثبت أنه من أهل هذه العبادة؛ فصح إحرامه بها مع التمييز؛ كالصلاة والصوم. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أن أبا الحسين بن القطان قال: لا ينعقد إحرامه بنفسه وإن كان مميزًا؛ لأنه ليس له قصد صحيح. وقد حكى ذلك في "التتمة" طريقة. قال القاضي: وهو غلط؛ بدليل صحة صلأنه وصومه. وأما اعتبار إذن الولي؛ فلأنه يتعلق به إيجاب مال؛ فاعتبر إذنه فيه؛ كما اعتبر إذنه للسفيه في النكاح لأجل ذلك, لكنّ الإذن في النكاح شرط في صحته, وهل هو هنا شرط في صحة الإحرام؟ فيه وجهان: أحدهما: لا, وهو المنسوب في "تعليق" أبي الطيب و"الحاوي" و"الشامل" وغيرها إلى أبي إسحاق؛ كما لا يعتبر إذنه في الصلاة والصوم؛ وعلى هذا يجوز

للولي تحليله إذا أحرم بدون إذنه, ولا يجوز للولي أن يحرم عنه؛ كما قاله الإمام. والثاني: نعم, وهو الذي قال به أكثر الأصحاب, واختاره الشيخ أبو حامد والقفال, وادعى القاضي الحسين: أنه المذهب؛ لما ذكرناه؛ وعلى هذا هل ينعقد إحرام الولي [عنه]؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ فإن الإحرام إذا كان ينعقد بعبارته, فلا ينعقد بعبارة غيره. والثاني: نعم, وهو الذي أورده القاضي الحسين, وادعى الإمام أنه ظاهر المذهب. وإن لم يراجعه فيه؛ فإن الولاية مطردة عليه؛ فيدوم استقلال الولي بالتصرف فيما تفيده الولاية. قال: وإن كان غير مميز, أحرم عنه أحد أبويه: أما الأم؛ فللمفهوم من الخبر؛ فإن قوله –عليه السلام-: "ولك الأجر", يفهم أن الأجر الحاصل لها بسبب فعلها الحج عنه؛ لأن الصغير الذي يحمل بعضده, ويخرج من المحفة –لا تمييز له؛ فلا يمكن أن يحرم بنفسه, ولو كان متعاطي ذلك غيرها, لم يكن لها أجر. وقد قال في "البحر": إن عقبة بن عامر قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: أحج بابني وهو صغير أو مرضع؟ قال: "نعم". وأما الأب؛ فبالقياس عليها, بل أولى. ولأنها عبادة على الأعيان من شرطها المال؛ فجاز أن يعقدها الولي عن المولى عليه؛ كصدقة الفطر. واعلم أن كلام الشيخ يقتضي بمنطوقه: أنه إذا كان مميزًا أحرم بإذن الولي, وهو كما قال في باب الحجز: للأب, ثم الجد, ثم الوصي, ثم الحاكم أو أمينه, وللأم بعد الجد على رأي. وإذا كان غير مميز يحرم عنه أحد الأبوين. ويقتضي بمفهومه: أنه لا يعتبر في الأذن له في الإحرام في حال تمييزه غير الولي, ولا يحرم عنه في حال عدم تمييزه غير الأبوين, وهو قضية القاعدة السالفة في إلحاق

إحرام المميز بقبول السفيه النكاح في الافتقار إلى إذن الولي, وإلحاق الإحرام عن غير المميز بقبول النكاح للصغير؛ حتى لم يجوزوا الإحرام عن المجنون كما [لم] يجوزوا تزويجه من غير حاجة؛ لأن الإذن للسفيه في النكاح يصح ممن تثبت له الولاية على ماله: أبًا كان, أو نائبًا [عنه] , أو حاكمًا, ولا يصح أن يقبل النكاح للصغير إلا الأب, وألحقت الأحسن به [هنا وإن كانت لا تلحق به] في قبول النكاح؛ للخبر, وصلاحيتها لذلك هنا, وعدم صلاحيتها لقبول النكاح. لكن الأصحاب سووا بين الإذن للمييز والمحرم عن غير المميز, وقالوا: يصح ذلك من الأب, ثم من أبيه عند عدمه؛ [كما نص عليه الشافعي, رضي الله عنه]. وقيل: يصح منه مع وجوده؛ كما إذا قيل بأنه إذا أسلم والأب موجود: إنه يتبعه في الإسلام. والمشهور: الأول. واختلفوا لماذا ملك الأب ذلك؟ فقيل: لاستحقاقه الولاية عليه في ماله؛ وعلى هذا لا يثبت ذلك للجد من الأم, ولا للأخ والعم من الأبوين؛ لأنهم لا يستحقون الولاية عليه في ماله؛ وإلى هذا أشار صاحب "الإفصاح"؛ وكذلك لا يثبت للأم؛ إذا قلنا: لا ولاية لها, كما هو المذهب؛ وإن قلنا بثبوت الولاية لها - كما صار إليه الإصطخري- ثبت لها ذلك؛ وهذا ما أورده البندنيجي فيها, واختاره في "المرشد". والحديث يحتمل -كما قال, [تبعًا] لابن الصباغ- أن يكون قد أحرم عنه ولى, وإنما كانت حملته لإتمام حجه. وقيل: لولادته وكونه بعضا منه؛ وعلى هذا يثبت ذلك لسائر الأداء والأمهات من جميع الأجداد والجدات, من قبل الأب, ومن قبل الأم؛ لوجود الولادة فيهم, وقد رزي أن أبا بكر [الصديق]-رضي الله عنه] طاف بعبد الله بن الزبير على يديه ملفوفًا بخرقة, وكان ابن ابنته أسماء؛ ولا يثبت ذلك لسائر العصبات؛ وهذا ما حكاه

أبو إسحاق في "الشرح" والقاضي أبو حامد في "جامعه"؛ كما قاله ابو الطيب, ونسبه الماوردي إلى قول أكثر البصريين من أصحابنا. وقيل: لوجود التعصيب فيه؛ فعلى هذا يصح ذلك من سائر العصبات من الإخوة والأعمام وبنيهم, ولا يصح من الأحسن وآبائها وأمهاتها؛ لعدم التعصيب. قال الماوردي: وإلى هذا مال كثير من أصحابنا البغداديين. وقضية الأوجه الثلاثة: عدم ثبوت ذلك لمن لا ولادة له, ولا تعصيب ولا ولاية من الأقارب: كالأخوة, والأعمام للأم, والأخوال والخالات وإن كان لهم ولاية في الحضانة. وقد ادعى الماوردي أنه لا يختلف أصحابنا في ذلك. [وقضية الوجه الثاني والثالث: عدم ثبوت ذلك للوصي والقيم]. وقضية الوجه [الأول]: ثبوته لهما؛ فيكون فيهما وجهان, وقد صرح بهما في "الإبانة". وقال الإمام: إن الأصح منهما المنع. وادعى الماوردي مع حكايته الأوجه: أنه لا يثبت ذلك للقيم بإجماع علماء أصحابنا؛ لأن ولايته تختص بالمال دون البدن؛ فكان فيما سوى المال كالأجنبي, وأن في ثبوت ذلك للوصي وجهين: أحدهما: لا يثبت, وهو الأصح؛ كالقيم. والثاني: يثبت؛ لنيابته عن الأب؛ فكان كهو. وقد حكى الروياني مثل هذين الوجهين عن رواية والده فيما إذا أذن الأب لشخص في تعاطي ذلك, لكن الصحيح فيها الصحة. وقد تلخص من هذه الطريقة ثبوت ذلك للأب, ثم لأبيه من بعده وإن علا, ولا يثبت للقيم, وفي ثبوته للوصي وجهان جاريان في [ثبوت ذلك] للأخ والعم وبنيهما, وفي ثبوته للأم طريقان حكاهما الإمام أيضًا: إحداهما: القطع بالثبوت.

والثانية: إجراء وجهين فيها؛ بناء على أن الولاية هل تثبت لها على المال ام لا؟ والذي صححه افمام منهما: ثبوت ذلك لها, وأن كان البناء يقتضي ترجيح عكسه, كما ذكرناه. وقد حكى القاضي أبو الطيب عن الشيخ أبي حامد: أنه قال: يجوز للأب, ثم لأبيه [ثم] للوصي –أن يحرم عن غير المميز. وحكى البندنيجي وابن الصباغ إلحاق القيم من جهة الحاكم به, وهل يجوز لأخيه وعمه وبنيهما؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين أيضًا: أحدهما: نعم؛ كما لهم تأديبه وتعليمه والإنفاق عليه. والثاني: لا؛ لأنه لا يجوز لهما التصرف في ماله. قال القاضي: ويخالف الإنفاق على التأديب؛ لأنه نفل؛ فسومح فيه, بخلاف الإنفاق على الحج. قلت: ويمكن بناء الوجهين على أن إحرام المميز بدون إذن الولي, هل يصح؟ فإن قلنا: لا يصح, فقد نظرنا فيه غلى المال؛ فلم يصح من الإخوة والأعمام. وإن قلنا: يصح, فقد أفقدنا النظر إلى المال, واتبعنا المصلحة؛ فيجوز من الإخوة والأعمام. ومن هذا البناء يظهر لك أن الصحيح فيهم المنع؛ كما صرح به في "التتمة", ولم يذكر في "المذهب" غيره. قال الشيخ أبو حامد: وأما الأم: فإن قلنا بثبوت الولاية لها على قول الإصطخري, [أحرمت عنه]؛ وإن قلنا: لا ولاية لها, كانت بمنزلة الإخوة والأعمام. وإذا تأملت ما قاله وجدته مخالفًا لبعض ما تقدم؛ فلذلك ذكرته. وفي "البحر" طريقة ثالثة حكاها عن القفال: انه لا خلاف في ثبوت ذلك للأم؛ للخبر, ولا يجوز للأجنبي وإن كان يلي المال بالوصاية أو الولاية من الحاكم قولاً واحدًا. وفي " تعليق" القاضي الحسين: إن الذي سمعته أنا في الدرس –يعني: من

القفال –إن كان الولي أبًا أو جدًا, والصبي لا يعقل عقل مثله- أحرم عنه, وإن كان مميزًا, فوجهان, وإن كان الولي غيرهما من القيم والوصي: فإن كان الصبي مميزًا, لا يحرم عنه؛ وإن لم يعقل عقل مثله, فوجهان. تنبيه: إطلاق الشيخ القول بأن أحد ابويه يحرم [عنه] , يعرفك أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الولي محرمًا أو حلالًا, حج عن نفسه أو لا؛ كما صرح به البندنيجي والقاضي الحسين وغيرهما؛ لإطلاق الخبر مع احتمال ذلك. وفي "الحاوي" حكاية وجهين في صحة إحرامه عنه إذا كان محرمًا: أحدهما: هذا, ونسبه إلى البغداديين. والثاني: لا يجوز أن يحرم عنه إلا إذا كان حلالًا؛ لأن من كان في نسك, لم يصح أن يفعله عن غيره, ونسبه غلى البصريين, وقال: إن على الوجهين يختلف كيفية إحرامه [عنه]. فعلى مذهب البغداديين: يقول عند الإحرام [-أي] بقلبه-: قد أحرمت بابني, ولا يجوز أن يكون غير مواجه للصبي بالإحرام. [وعلى مذهب البصريين: يقول –أي: بقلبه-: اللهم إني قد أحرمت عن ابني, ويجوز أن يكون غير مواجه للصبي بلإحرام] ولا مشاهد له؛ إذا كان الصبي حاضرًا بالميقات. وحكى القاضي أبو الطيب وجهين في أنه هل يجوز أن يحرم عن الصبي إذا كان أحدهما ببغداد ولآخر بالكوفة, [أو لا] يجوز حتى يكونا في موضع واحد؟ مع جزمه بأنه يجوز من الولي وإن كان محرمًا عن نفسه, وقال: [إنا] إن قلنا بالجواز. كان مكروهًا؛ لاحتمال تلبس لصبي بشيء لا يجوز في حال الإحرام. قال: وفعل عنه وليه ما لا يتأتى منه, أي: كركعتي الطواف, والتلبية, والرمي؛ إذا عجز عنه الصبي, لما روي عن جابر [أنه] قال: "حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

ومعنا النساء والصبيان, فلبينا [عن الصبيان] , ورمينا عنهم". وبالقياس على الإحرام؛ فإنه –أيضًا- مما لا يتأتى من غير المميز. قال الماوردي: ويحضره الولي حالة رمي الجمار. وقال أبو الطيب وغيره: ويستحب أن يضع الجمار في كفه, ثم يأخذها منه, ويرمي بها. وهل يرمي عنه؟ فيه قولان: القديم: لا. والجديد: نعم؛ [كما في الأجير]. أما ما يتأتى منه, فهو على ضربين: ضرب يصح منه من غير معونة: كالوقوف بعرفة, والمبيت بمزدلفة ومنى, فإذا حصل الصبي في ذلك, حصل مقصوده, سواء صار إليه بنفسه أو حمله إليه [وليهي أو غيره, لكن الولي هو المنعاطب بحمله إلى هذه المواضع. وضرب يصح منه بمعونة وليه: كالرمي إذا أمكن وضع الحصاة في كفه ورميها في الجمرة, وكالطواف والسعي, فعلى الولي أن يضع الحصاة في كفه ويرميها في الجمرة, وعليه أن يطوف به, ويسعى, ويرمل –كما تقدم- وان يتوضأ للطواف [به] , [ويوضئه, فإن كانا غير متوضئين, لم يجز الطواف] , وكذا إن كان الصبي متوضئًا, والولي محدثًا؛ [لأن الطواف بمعونة الولي يصح, والطواف لا يصح إلا بطهارة.

وإن كان الولي متوضئًا, والصبي محدثًا،] فوجهان, وجه الصحة: أن الصبي إذا لم يكن مميزًا, ففعل الطهارة لا يصح منه؛ فجاز أن يكون طهارة الولي نائبة عنه كما أنه لما لم يصح منه الإحرام وركعتا الطواف, احرم عنه, وصلى. ولو أركبه الولي دابة, فكانت الدابة تطوف به, لم يجز حتى يكون الولي معها قائدًا أو سائقًا؛ لأن الصبي غير مميز, والدابة لا يصح منها عبادة. وما ذكرناه من طوافه بالصبي محله بالاتفاق إذا لم يكن عليه طواف, فإن كان, فسنذكره في باب صفة الحج. قال: ونفقته في الحج –أي: الزائدة بسبب الحج- وكذا العمرة, وما يلزمه من الكفارة- أي: بسبب ما ارتكبه في الإحرام مما ينافيه- في ماله في أحد القولين؛ لأنه مصروف في مصلحته؛ فكان كأجرة المؤدب والمعلم؛ وهذا ما اختاره في "المرشد". قال: وفي مال الولي في الآخر؛ لأنه الذي أدخله فيه مع استغنائه عنه, والولي ليس له ان يتصرف في مال الصبي إلا بما كان محتجًا إليه, وليس كتعليم القرآن والأدب. قال الماوردي: لأن ذلك لو فأنه في صغره, لم يدركه في كبره. وقال القاضي الحسين وغيره: لأن به حاجة غلى تعليم الصلاة في صغره؛ ليعتادها في كبره, والحج العادة فيه أن من كبر دعته نفسه إليه؛ فلا يحتاج غلى تمرينه على ذلك. ولأن الصبي إذا بلغ, لزمته الصلاة, وفعلها على الفور, فإذا بلغ ولم يتعلمها في حال صغره, كان في اشتغاله بتعليم القرآن تفويت لها, والحج لا يجب عليه فعله عقيب البلوغ؛ لأنه على التراخي, ويمكنه تعلم افعاله بعد البلوغ؛ ولا يفوته؛ وهذا ما اختاره النواوي. واعلم أن القاضي أبا الطيب في "تعليقه" وغيره حكوا الخلاف المذكور في الزائد

على نفقة الحضر وجهين, والخلاف في الكفارة قولين, ونسبوا الأول غلى القديم, [والثاني إلى نصه] في "الإملاء", وقد حكاه الشيخ في الصورتين قولين, وهو في "الشامل" كذلك, ولا غرو فيه؛ لأنه في إحدى المسألتين منصوص عليه, وفي الأخرى بالتخريج. وقد قال القاضي الحسين وصاحب "البحر": إن إلزام الولي الزائد على نفقة الحضر منصوص في "الإملاء" أيضًا. وقال في "الحاوي": إنه الظاهر من مذهب الشافعي –رضي الله عنه- وهو الأصح في "الشامل". وعن أبي الحسين حكاية وجه ثالث في الثانية: أنه إن أحرم عنه الأب أو الجد, فالكفارة في مال الصبي, وإن أحرم عنه غيرهما فهي عليه. أما قدر النفقة في الحضر, ففي مال الصبي وجهًا واحدًا؛ صرح به الماوردي وأبو الطيب وغيرهما. [و] في "الرافعي" في الباب الثاني من قسم الصدقات: أن الصبي إذا سافر به الولي للحج, وأنفق عليه من ماله كم يضمن؟ فيه وجهان: أحدهما: جميع النفقة. والثاني: ما زاد بسبب السفر, وعلى هذا الخلاف ينطبق ظاهر كلام الشيخ. ولو كان الولي هو المتسبب في إيجاب الكفارة –نظر: فإن كان لا لمصلحة الصبي؛ كما إذا فوته الحج بعد إحرامه, كانت في مال الولي قولاً واحدًا؛ صرح به أبو الطيب, ويلتحق بذلك ما إذا طيبه لا لحاجة ومصلحة؛ كما حكاه الإمام عن الأصحاب, وقال: إن فيه ضربًا من الإشكال؛ لأنه لو قيل لنا: ما قولكم في المحل يطيب المحرم؟ للزم أن نقول بوجوب الفدية, وهو غامض من طريق المعنى, ولكن مأخذه حلق المحل شعر المرحم وهو نائم أو مكره.

وقد يتخيل في ذلك أن شعر المحرم محترم, وإتلافه محرم على المحل والمحرم؛ كشجر الحرم, وتقدير هذا في استدامة فعل المحرم بعيد. وإن كان لمصلحة كما إذا طيبه لمدأواة, ففيه طريقان: أحدهما: القطع بأنها على الولي. و [الثاني]: منهم من جعله على التفصيل فيما إذا طيب الصبي نفسه, وسنذكره. والحكم في الزائد على نفقة الحضر والكفارة إذا أحرم الصبي بإذن الولي, وقلنا: لا يصح بدون الإذن –كما لو أحرم الولي عن غير المميز. نعم, إذا قلنا: تجيب الكفارة في مال الصبي, فأراد أن يصوم حيث يجوز الصوم, هل يجوز؟ قال القاضي أبو حامد: نعم؛ لأنه ممن يصح صومه؛ فأشبه البالغ. وقال غيره من العراقيين: لا يجوز؛ لأنه في الفدية واجب, والعبادة لا تجب على الصبي. وقد خرج الرافعي والروياني الخلاف على قولين, سنذكرهما في الصبي إذا أفسد الحج, وقلنا: يجب عليه القضاء: هل يجزئه في حال الصغر أم لا؟ قال في "البحر": وعلى القول بعد الجواز, فالمذهب: أنه لا يجوز للولي أن يكفر عنه بالمال؛ لأنه غير متعين, وإن قلنا: تجب الكفارة في مال الولي, جاز له الصوم؛ [كما يجوز [له]] إذا كانت الكفارة وجبت عليه بسبب نفسه. وإن أحرم بغير إذنه, وصححناه, قال الرافعي: فالزائد على نفقة الحضر [يكون] على الولي إن لم يحلله. وقال في "البحر" إن قلنا: إن النفقة الزائدة على نفقة الحضر تكون على الولي, فإذا لم يرد أن يحلله ينفق عليه قدر نفقة الإقامة, فإن أمكنه أن يحج يحج, وإلا فيتحلل. وإن تعاطى ما يوجب الكفارة, ففي "التتمة": أنه في مال الصبي قولاً واحدًا.

فرع: إذا قلنا: يجوز الإحرام عن المجنون, فأحرم عنه الولي, وأخرجه –فحكمه حكم الصبي فيما ذكرناه. وإذا قلنا بأن الزائد على نفقة الحضر في مال الولي, وأفاق عند الإحرام والوقوف والطواف والسعي, وفعل ذلك بنفسه –كانت في مال المجنون. قال الرافعي: ولم يتعرضوا لحالة الحلق, وقياس كونه نسكًا: اشتراط الإفاقة فيه. وهذا إذا كان الحج قد وجب عليه قبل [جنونه, واستقر في ذمته, فلو كان قد وجب عليه] , وجن قبل استقراره –قال القاضي الحسين في "تعليقه": غرم الولي الزيادة بسبب السفر وإن افاق وأحرم ووقف؛ لأنه [لم يكن مستقرًا] عليه. قلت: ومن طريق الأولى إذا جن قبل الوجوب. قال: وأما العبد فلا يجب عليه؛ لما روي أنه –عليه السلام- قال: "أيما عبد حج, ثم أعتق, فعليه حجة أخرى". ولأن الجمعة لا تجب عليه مع قرب المسافة؛ لما في ذلك من تعطيل منافعه على السيد؛ فَلأَلا يجب عليه الحج والعمرة مع بعد المسافة أولى. قال: ويصح منه؛ للخبر, ولأنه من أهل العبادة.

واعلم أن ظاهر كلام الشيخ مع كلامه السابق الذي تقم تقريره, يقتضي أمرين: أحدهما: أن العبد لا يلزمه الحج والعمرة بالنذر, وقد قال القاضي ابو الطيب وغيره عند الكلام فيما إذا أفسد الحج: إنه يلزمه بالنذر. وحكى الإمام في آخر "النهاية" في انعقاد نذره وجهين: أصحهما: الانعقاد؛ وعلى هذا لو وفى بنذره في حال الرق: فهل يبرأ منه؟ فيه ثلاثة أوجه, ثالثها –وهو ما ذكره صاحب "التلخيص", ولم يذكر غيره-: أنه إن أدى ذلك بإذن مولاه برئ, وإلا فلا. وقال الإمام [ثم]: إنه ساقط لا أصل له. وقد صححه غيره, وقد يتخيل بين ما قاله الشيخ وغيره من انعقاد نذره منافاة, وليس كذلك؛ لأن القائلين بالانعقاد متفقون على عدم لزوم الوفاء به في حال الرق إذا صدر بغير إذن سيده وإن اختلفوا في براءته بإدائه في حال الرق, وإذا كان كذلك فقد جعلوا الحرية شرطًا في اللزوم, والشيء لا يوجد قبل شرطه؛ فصح أنه لا يجب إلا على حر, والله أعلم. الثاني: أنه لا فرق في عدم وجوب ما وقعت الإشارة إلى نفي وجوبه من حج الإسلام, وعمرته, أو بالنذر, أو ما سببه دخول مكة, فقد حكى الإمام [فيما إذا أذن السيد له في الإحرام في وجوبه وجهين, وادعى أنه لا خلاف] فيما أذن له في الدخول المجرد: أنه لا يلزمه الإحرام, وهو المذكور في "تعليق" أبي الطيب. فرع: لو أراد المولى أن يحرم عن العبد, قال الإمام: إن كان بالغًا, فليس له ذلك, وهو يحرم عن نفسه. وسكت عن العبد الصغير, والقياس أن يكون الحكم فيه كما في تزويجه, خصوصًا إذا خصصنا الإحرام عن غير المميز بالأب والجد, كالنكاح.

قال: فإن بلغ الصبي وعتق العبد قبل الوقوف بالحج, أو قبل الطواف في العمرة –أجزأهما عن حجة [الإسلام] وعمرته: أما في الأولى؛ فلقوله –عليه السلام: "من أدرك عرفة, فقد أدرك الحج", ولأنه أدرك معظم العبادة؛ فاعتد له بها؛ كالمسبوق إذا أدرك الركوع؛ فإنه معظم الركعة, وإنما قلنا: إنه أدرك معظم العبادة؛ لقوله –عليه السلام-: "الحج عرفة",

أي: معظم الحج عرفة. وأما في الثانية فلأنه أدرك معظمهما وهو الطواف والسعي والحلاق, ولم يفته إلا ابتداء الإحرام؛ فكان مدركًا لها كالحج. نعم, لو كان في الحج قد سعى مع طواف القدوم: فهل يعتد بذلك السعي, أو يجب عليه إعادته مع طواف الزيارة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لا يلزمه إعادة الإحرام. والثاني –وهو الأصح في "تعليق" البندنيجي و"الحاوي" و"الوسيط"-: نعم؛ لأن الإعادة ممكنة, [بخلاف إعادة الإحرام؛ فإنها غير ممكنة]؛ فلذلك أقمنا دوام الإحرام مقام ابتدائه على صفة الكمال, على أن الإمام هنا والمصنف في باب المواقيت وغيرهما حكوا قولين في أنه هل يجب عليه دم الإساءة إذا لم يعد [بعد] صفة الكمال إلى الميقات أم لا؟ وهما مذكوران في "المختصر". وجه المنع: أنه لم يسئ, وقد فعل ما في وسعه؛ وهذا ما ادعى أبو الطيب: أنه الأظهر, والماوردي: أنه الأصح, وحكى البندنيجي عن أبي الطيب بن سلمة طريقة قاطعة به, وقال: قول الشافعي –رضي الله عنه-: "يجب الدم", أراد: إذا جاوز الميقات مريدًا للنسك, فأحرم دونه. ووجه الوجوب –وهو الذي صدر به المزني كلامه-: أن الإحرام الذي صدر منه من الميقات كان ناقصًا, وحج الإسلام يستدعي إحراماً كاملًا في الصفات. وقال القفال: القولان مبنيان على أن الكمال إذا طرأ بعد الإحرام بحيث يجزئ ذلك النسك عن فرض الإسلام, فهل نقول: إن الإحرام وقع على الوقف, وعند طرآن الكمال –والصورة كما ذكرنا- تبينًا: أنه انعقد فرضًا, أو نقول: انعقد نفلًا أولًا, ثم من وقت الكمال انقلب فرضًا؟ وفيه احتمالان: الذي ذكره أبو الطيب منهما

الأول, والبندنيجي الثاني. قال القفال: فإن قلنا بالأول, لم يجب دم الإساءة, وإلا وجب. وعلى هذا: لو عاد [إلى] الميقات قبل الوقوف ومر عليه, فالمذهب: أنه لا يلزمه دم الإساءة. وحكى القفال وجهًا آخر: أن الدم لا يسقط, وهو بعيد. أما لو بلغ أو عتق بعد فوات وقت الوقوف, أو بعد الطواف [في العمرة] , فلا يجزئه عن حجة الإسلام وعمرته. ولو بلغ أو عتق بعد أن وقف, لكن وقت الوقوف باق, فإن كان قد انصرف, ثم عاد بعد صفة الكمال, أجزأه عن حجة الإسلام, [وإن لم يعد, فالذي ذهب إليه الشافعي ومعظم أصحابه: أنه لا يجزئه عن حجة الإسلام]. وذهب ابن سريج إلى وقوعه عن حجة الإسلام؛ لأنهما أدركا زمان الوقوف في حال الكمال؛ فأجزأهما ذلك؛ كالإحرام. وفرق غيره من الأصحاب بأن الإحرام مستدام؛ فكانت استدامته في حال الوقوف بمنزلة ابتدائه فيه, وليس كذلك فعل الوقوف؛ فإنه غير مستدام. ولو لم ينصرف من الموقف حتى حصلت له صفة الكمال, فإن مكث بعد ذلك فيه زمانًا يعتد بمثله عن الوقوف ابتداء –أجزأه عن حجة الإسلام؛ كما قاله الأصحاب. قلت: ولولا جزم الأصحاب بأنه إذا كان قد انصرف, ثم عاد بعد صفة الكمال, ووقف يجزئه عن حجة الإسلام –لكان لقائل أن يبني ذلك على خلاف سبق في أن المصلي إذا طول الركوع, هل يوصف كله بالوجوب, أو ما لو اقتصر عليه لأجزأه؟ فإن قلنا بالثاني؛ فينبغي ألا يجزئه. ولو لم يمكث بعد حصول صفة الكمال في الموقف؛ بأن كان في طرفه, فلما عتق أو بلغ خرج منه –فيظهر أن يكون الحكم كما لو حصلت له صفة الكمال بعد انصرافه من الموقف, ولم يعد. وأما المجنون إذا أفاق بعد الإحرام [عنه] , وقلنا بصحته؛ فينبغي أن يكون

حكمه حكم الصبي فيما ذكرناه. لكن في "تعليق" القاضي الحسين قبل باب ما للمحرم فعله: أن من يجن يومًا, ويفيق يومًا إذا أحرم بالحج, قال أصحابنا: شرط إجزائه عن الإسلام: أن يكون مفيقًا في أربعة أركان: عند الإحرام, والوقوف, والطواف, والسعي, ولا يمنع الإجزاء كونه مجنونًا في باقيه, وعليه ينطبق ما حكيناه من قبل: أن الولي إذا كان قد أحرم عنه, وقلنا: نفقة الحج على الولي, وكان المحرم عنه مفيقًا عند الإحرام, والوقوف, والطواف, والسعي –كانت نفقة الحج على المجنون, ويجيء هنا سؤال الرافعي الذي ذكره ثم, والله أعلم. قال: والمستطيع, أي: الذي يلزمه الحج والعمرة –اثنان: مستطيع بنفسه, ومستطيع بغيره: فالمستطيع بنفسه: أن يكون صحيحًا, أي: بحيث يمكنه الثبوت على الراحلة بنفسه بدون مشقة غير محتملة عادة؛ لأنه إذا لم يكن كذلك, كان من الثاني. والدليل على اعتبار الصحة قوله –عليه السلام- "من لم يمنعه [من] الحج حاجة, أو مرض حابس, أو سلطان جائر, فمات, فليمت إن شاء يهوديًا أو نصرانيًا أو مجوسيًا". قال: واجدًا للزاد [,أي:] الذي يكفيه على حسب حاله, وأوعيته حتى السفرة؛ كما قاله القاضي [الحسين] , والماء بثمن المثل, أي وهو معه, أو له دين على مليء يقدر على أخذه منه, أو له عرض يستغنى عنه بقدره, في المواضع التي جرت العادة أن يكون فيها, أي: بأن يجد الزاد في كل منزل, أو في بلده أو في أقرب البلاد إلى البر؛ وحينئذ يحمله في المفأوز, وإن لزمه فيه مؤنة كبيرة, ويجد الماء في كل منزل, قال القاضي الحسين: وإن لم يجده كذلك فهو غير واجد, كما قاله

أصحابنا؛ لأنه لا يلزمه أن يحمل مع نفسه, وعندي: أنه إذا كان يجده في كل مرحلتين, يلزمه الحمل لمرحلة على العرف والعادة. وهذا ما أورده البندنيجي؛ بحيث فسر وجدانه بأنه يجده في كل منزل أو منزلين. ولو كان يجده في أقرب البلاد إلى البر فغير واجد, بخلاف الزاد؛ لأن العادة جرت بنقل الماء غلى المنازل بخلاف الزاد. قال: في ذهابه ورجوعه, أي: وإن لم يكن له أهل في الموضع الذي سافر منه. والأصل في اعتبار وجود الماء والزاد قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] , فإن الأمر بالعبادة إذا ورد مطلقًا, كانت القدرة على أدائها شرطًا في وجوبها, فلما ضم الله تعالى إلى هذه العبادة الاستطاعة [بعد] , علمنا أن وجوبها على غير المستطيع لا يجوز؛ دل على أنه ضم ذلك لفائدة, وقد بينها صلى الله عليه وسلم: روى الدارقطني بسنده عن غير واحد من الصحابة: أنه لما نزل قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية, قال رجل: يا رسول الله, ما السبيل؟ فقال: "الزاد والراحلة". وروى الترمذي عن عبد الله بن عمر أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا

رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: "الزاد والراحلة", قال الترمذي: وهو صحيح حسن. ولأن ذلك عبادة تحتاج في أدائها إلى قطع مسافة بعيدة؛ فوجب أن يكون من شرط وجوبها: الزاد والراحلة؛ كالجهاد؛ فإن الكتاب دل على اعتبار ذلك فيه. واحترزنا بقولنا: تحتاج في أدائها إلى قطع مسافة [بعيدة] , عن سفر الهجرة؛

فإنه يجب على أحد الوجهين عندنا -كما حكاه القاضي الحسين- وإن لم يقدر على الزاد والراحلة؛ لأن العبادة فيه نفس الهجرة والسفر. وإذا ثبت ذلك في الزاد, ثبت مثله في الماء من طريق الأولى؛ لأن الحاجة إليه أشق من الحاجة إلى الزاد. وفي اعتبار وجدان ذلك بثمن المثل: أنه لو لزمه بأكثر منه لم يأمن [ألا يباع] منه إلا بجميع ما يملكه, وفي ذلك إضرار بيّن به. ولا فرق في ثمن المثل بين أن يكون غاليًا أو رخيصًا, وثمن مثل الزاد معروف, وفي ثمن مثل الماء أوجه مذكورة في التيمم. وفي اعتبار وجدان ذلك في المواضع التي يكون فيها على النعت الذي ذكرناه: أنه -عليه السلام- أطلق ذكر الزاد, ولا شيء يرجع إليه فيه إلا العرف؛ فرجع إليه, وهو ما ذكرناه. واعتبار وجدان ذلك في الذهاب ظاهر, وأما في ارجوع إذا كان له أهل -وهو من تلزمه نفقته من زوجة وقرابة؛ كما أفهمه كلام الماوردي ومن تبعه, أو أقاربه من المحارم وغيرهم؛ كما حكاه الإمام عن الصيدلاني, وأنه ليس في الطرق ما يخالفه, وعبر عن ذلك الرافعي بأنهم عشيرته التي يتناصر بها -فلأنه عند فقد ذلك لا يصل إليهم, وذلك ضرر ظاهر, والشرع راعى في [مثل] هذه العبادة ترك الضرر؛ فاعتبرنا وجوده. وإذا لم يكن له فيه أهل؛ فلأن [جنس] الانقطاع عن الوطن, والقيام في الغربة -يشق, فلذلك جعل عقوبة في حق الزاني [البكر] وإن لم يكن له أهل ببلده؛ فالتحق بما إذا كان له فيه أهل, وهذا هو المنصوص عليه في "الإملاء", والصحيح في "تعليق" أبي الطيب وغيره, واختاره في "المرشد". وقيل: إذا لم يكن له أهل لا يشترط في الاستطاعة وجود ذلك في الرجوع؛ لأن سائر المواضع في حقه سواء, وقد حكى الحناطي مثله في حق من له أهل وعشيرة فيه, والمشهور الأول؛ وعلى هذا فهل يختص الوجهان عند عدم الأهل بما إذا لم

يكن له في الموضع مسكن؟ فيه احتمالان للإمام, ورأى الأظهر التخصيص, وهو الذي أورده الغزالي. قال الأصحاب: ولا فرق في اعتبار وجود الزاد والماء بين أن يكون الشخص ممن لا يعمل صنعة, ولا جرت عادته بالسؤال, أو ممن جرت عادته بذلك, وأمكنه التكسب في الطريق؛ لظاهر الخبر. ولا فرق فيه [أيضًا]-كما قاله أبو الطيب- بين [المسافة] القريبة والبعيدة. وحكى الإمام عن العراقيين أنهم قالوا: الحكم كذلك في مسافة القصر, أما إذا كان بينه وبين مكة دون مسافة القصر, فإن كان كسبه في يوم لا يكفيه لأيام, فالحكم كذلك, وإن كان يكفيه لأيام, لزمه الخروج, وهو الذي حكاه القاضي الحسين عن المذهب, ولم يورد في "البحر" سواه. وللإمام فيه احتمال؛ من حيث إن القدرة على الكسب في يوم الفطر لا تجعل كحصول صاع في ملكه. [وحكى القاضي الحسين وجهًا آخر: أنه إن كان من مكة] أو من الحرك, لا يشترط حصول الزاد في حقه كالراحلة. فرع: حيث قلنا: لايجب عليه, لفقد الزاد والماء, فهل يستحب [له] أو يكره؟ ينظر: فإن كان يمكنه تحصيل ذلك بالتكسب في الطريق, استحب له الخروج من خلاف مالك -رحمه الله- نص عليه. وإن كان لا يقدر على التكسب, لكن عادته السؤال [واعتمد عليه] , كره [له]؛ نص عليه في "الأم" و"الإملاء"؛ لأن كراهية المسألة أبلغ من كراهية [ترك] الحج. قال: وأن يكون واجدًا لراحلة تصلح لمثله, أي: بثمن الثمل أو أجرة المثل, وهو واجد لذلك في ذهابه ورجوعه, إن كان بينه وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة, أى:

سواء قدر على المشي وهو من عادته أو لا؛ للخبر والقياس السابقين. ويعتبر أن يجد مع ذلك علفها وماءها في كل مرحلة, فإن كانا غير موجودين قال القاضي الحسين: فلا يكلف حملهما. والقياس: أن حكم علف الدواب حكم نفقة نفسه, وقد بيناه. وهذا الذي ذكرناه فيما إذا كان له أهل, فإن لم يكن له أهل, فيشترط ذلك في الذهاب, وفي اشتراطه في الإياب الخلاف السابق, وحيث لا نوجبه, وقدر على المشي؛ فيستحب له أن يأتي إذا قدر على المشي؛ للخروج من خلاف مالك -رحمه الله, وسيأتي في النذر إن شاء الله- خلاف في أن الحج راكبًا أفضل أو ماشيًا؟ ثم أحوال الناس فيما يصلح لهم للركوب مختلفة: فمنهم من يقدر على ركوب المقتب من غير مشقة شديدة تلحقه, ومنهم من لا يقدر [على ذلك] إلا بمشقة [شديدة] , ويقدر على ركوب الزاملة من غير ذلك, ومنهم من لا يقدر على ركوب الزاملة إلا بمشقة [شديدة] , ويقدر على ركوب المحمل من غير مشقة, ومنهم من لا يقدر على ركوب ذلك إلا بمشقة [شديدة] ويقدر على ركوب الكنيسة بدونها؛ فيعتبر في كل شخص وجدان ما يقدر عليه؛ كما صرح به الشيخ؛ لأن اعتبار الراحلة إنما كان لما يلحقه من مشقة المشي, فإذا لحقته المشقة بنوع من الركوب, اعتبر بما لا مشقة فيه. واعتبر الشيخ أبو محمد في ضبط المشقة: أن يكون بين ركوبه ما يليق به وما لا يليق به ضرر يوازن الضرر الذي بين الركوب والمشي. ثم إذا كان الائق به المحمل, فقدر على شقه ووجد شريكًا -لزمه, وإن لم يجد شريكًا وكان يقدر على المحمل كله, لكنه يكتفي بشق- قال الغزالي: لم يلزمه؛ لأن الزائد خسران لا مقابل له, أي: مؤنة محققة يعسر احتمالها. قال الرافعي: وكان لا يبعد تخريجه على الخلاف في لزوم البذرقة, وفي كلام الإمام إشارة إليه.

أما إذا كان بينه وبين مكة دون مسافة القصر: فإن قدر على المشي, سقط في حقه اعتبار وجود الراحلة خاصة؛ لإمكان السير منه من غير مشقة شديدة تلحقه غالبًا, وصار هذا كمن سمع نداء الجمعة, يلزمه المشي إليها, وعلى هذه الحالة حمل أصحابنا قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالاً} [الحج: 27] , وخصوا الحديث بمسافة القصر؛ لأنه السفر الذي اعتبر الشارع مشقته, وأناط به الترخص بقصر الصلاة وإباحة الفطر. وإن كان لا يقدر على المشي؛ لضعفه أو يناله منه ضرر ظاهر -فيعتبر في الوجوب في حقه الراحلة كما ذكرنا مع البعد. قال الرافعي: وقد رأيت لبعض المتأخرين من أئمة طبرستان تخريج وجه في أن القريب كالبعيد مطلقًا. ولا يؤمر بالزحف والحبو بحال, وإن أمكن؛ لأن المشقة فيهما في المسافة القريبة أعظم من المشقة بالمشي في المسافة البعيدة. وفي "الروضة": أن الداركي حكى وجهًا [ضعيفًا] عن حكاية ابن القطان: أنه يلزمه الحبو. قال: وإن يكون ذلك -أي: ثمن الزاد والماء والراحلة, بالصفة التي ذكرناها أو أجرتها- فاضلًا عما يحتاج إليه من مسكن, أي: في الحال وعند عوده, وخادم إن احتاج إليه, أي: لزمانة أو لمنصبه؛ لتنزل ذلك منزلة ثياب بدنه, ولأنهما يبقيان له في الكفارة؛ فكذلك هاهنا [أولى]. ولا فرق في ذلك بين أن يكون في ملكه أو لا ومعه ما يصرفه فيه. وقيل: يباع المسكن والخادم في كلف الحج والعمرة, كما يباعان في الدين, ومن طريق الأولى عدم شرائهما. قال الشيخ أبو حامد: ولأنه لو اعتبر ذلك في حاجته لاعتبرنا كفايته على الدوام؛ وهذا ما صححه في "التتمة", وبه أجاب أبو القاسم الكرضي, وحكاه عن نصه في "الأم", وادعى القاضي الحسين وكذا الشيخ أبو حامد -كما قال في "البحر"- أنه

المذهب, وفرقوا بينه وبين الكفارة بأن العتق في الكفرة له بدل معدول إليه بخلاف الحج, لكن الذي أورده الأكثرون: الأول؛ لما ذكرناه. وقال الإمام: إنه غير مذكور في طريق المراوزة , لكنه الذي يقتضيه قياسهم. وأما اعتبار كفايته على الدوام, فقد حكى ابن الصباغ في اشتراطها وجهين, وأن أقيسهما الاشتراط, وهما كوجهين حكاهما أبو الطيب في أنه لو كانت [له] بضاعة يكتفي بمؤنتها, فهل يجب صرفها في الحج والعمرة, أو لا يجب كما لا تباع الضيعة المتحصل له من ريعها قدر كفايته؟ ورجح القاضي منهما الثاني, وكذلك غيره؛ كام قال في "البحر", واختاره في "المرشد", بل كلام ابن الصباغ يفهم أنهما هما؛ لأنه قال: ومن قال بعدم اشتراط الكفاية على الدوام, فرق بين المسكن والبضاعة: [بأن المسكن يجب للغير [على الغير] , ولا يجب أن يدفع إلى غيره بضاعة] ليتجر فيها, وإن كان كذلك بطل قياس عدم اعتبار المسكن والخادم على عم اعتبار الكفاية على الدوام. لكن الذي حكاه الماوردي عن مذهب الشافعي وسائر أصحابه, وصححه الرافعي وغيره: أنه لا تبقى البضاعة له للاتجار وإن بقى له المسكن والخادم؛ لأن الحاجة إلى ذلك ليست ناجزة, والمسكن والخادم الحاجة إليهما ناجزة. وقد حكى ابن الصباغ هذا الوجه في الضيعة أيضًا. ثم على ما ذكره الشيخ: لو كان له مسكن كبير إذا باع بعضه أمكنه السكون في الباقي, أو عبد نفيس إذا باعه أمكنه شراء عبد دونه, وفضل من ثمنه ما يحج به أو يعتمر -لزمه الحج والعمرة؛ قاله أبو الطيب وغيره.

وكذا إذا كان المسكن ضيقًا, لكنه نفيس, ولو بيع لأمكنه شراء مسكن يليق به, ويفضل من ثمنه ما يحج به ويعتمر -يلزمه الحج والعمرة. قال الرافعي: وقد حكى الأصحاب في بيع العبد والدار النفيسين المألوفين في الكفارة وجهين, ولابد من عودهما. قلت: وفي عودهما مع ما ذكر من الفرق السابق نظر. وفي معنى المسكن والخادم كتب الفقه؛ فلا يجب بيعها في كلف الحج والعمرة على المشهور. قال القاضي أبو الطيب: وإن كثرت؛ لأن ما منها شيء إلا وهو محتاج إليه. نعم, لو كان له من كتاب نسختان لزمه بيع إحداهما, والمجزوم به في تعليق القاضي الحسين بيع كتب الفقه. ولا يلتحق بالمسكن والخادم الحاجة إلى التزويج؛ فيقدم الحج عليه, اللهم إلا أن يخاف العنت؛ فيكون صرف المال إلى النكاح أهم من صرفه إلى الحج؛ هذه عبارة الجمهور؛ كما قال الرافعي, وعللوه بأن حاجة النكاح ناجزة, والحج على التراخي. قال: والأسبق غلى الفهم من التقديم الذي أطلقوه: أنه لا يجب الحج والحالة هذه, ويصرف ما يملكه إلى مؤنات النكاح, وقد صرح الإمام بهذا المفهوم. قلت: الذي حكاه الإمام عن العراقيين: العبارة المذكورة.

ووجه تقديم التزويج: أن الشرع لما جوّز له نكاح الأمة مع ما فيه من استرقاق الولد, [أشعر] بأن مجاوزة العنت مهم. ثم قال: فإذا لا استطاعة ولا وجوب, وهذا الذي ذكروه قاطعين به قياس طريقنا وإن [لم] نجده منصوصًا فيها. ثم قال [الرافعي]: لكن كثيرًا من العراقيين وغيرهم قالوا: يجب الحج على من أراد التزويج, لكن له أن يؤخره؛ لوجوبه على التراخي, ثم إن لم يخف العنت فتقديم الحج أفضل, وإن خافه فتقديم النكاح أولى. قلت: وهذه عبارة صاحب "الشامل" و"التتمة" و"البحر". وقال الشيخ أبو حامد وتبعه البندنيجي: إنه لا نص في ذلك. وهذا مذهب الأوزاعي, وهو الذي يقتضيه قياس مذهبنا. والقاضي أبو الطيب قال: إذا خاف على نفسه العنت تزوج, وكان الحج واجبًا في ذمته. قال: وقضاء دين إن كان عليه؛ لأنه إن كان حالًا, وجب قضاؤه على الفور مع كونه حق آدمي فكان مقدمًا على ما وجوبه على التراخي, وهو حق لله تعالى المبني على المساهلة والمسامحة. وإن كان مؤجلًا؛ فلأن بقاءه في ذمته عليه فيه ضرر عظيم؛ لأن نفسه مرتهنة [به]. وفي "الحاوي" حكاية وجه في المؤجل: إن كان يحل [وهو في عرفة, وجب الحج, وإن كان يحل] قبلها [فلا]. واعلم أن الأصحاب مصرحون بأنه يشترط أن يكون ما يصرفه في الحج والعمرة فاضلًا عما يحتاج إليه من نفقة من تلزمه نفقته وكسوته في مدة ذهابه ورجوعه؛ لتأكد ذلك؛ فإنه يجب في الحال مضيقًا وفي الكسب مع كونه حق آدمي, بخلاف الحج, ولم يصرح به الشيخ. نعم, في كلامه ما يمكن أخذه منه؛ لأنه صرح باشتراط فضلة ذلك

عن قضاء الدين, وستعرف أن نفقة من تلزمه نفقته وكسوته مقدمة على الدين, فهي أهم منه, والمقدم مقدم. قال: وأن يجد طريقًا آمنًا؛ لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] , ولأنه لو حصره عدو بعد إحرامه, لم يلزمه البقاء عليه, فلأن يمنع ذلك ابتداءه من طريق الأولى. والأمن المعتبر في الطريق: أن يكون خاليًا عما يوجب خوفًا في البضع والنفس والمال, ولا يشترط في المعرفة بذلك القطع كما قال الإمام, ولا أن يكون كالأمن الذي يعلم في الحضر, بل الأمن في كل مكان على حسب ما يليق به فإن عدم ذلك بأن يكون فيه من يخاف منه [على النفس [أو البضع] , لم يجب؛ وكذا إن كان فيه من يخاف منه] على المال؛ بأن يكون فيه من يطلب من الحجيج مالًا وإن قل, لم يجب سواء كان الطالب له من المسلمين أو الكفار؛ لقوله –عليه السلام-: "حرمة مال المسلم كحرمة دمه". قال الشافعي: ولا يستحب بذل المال لهم, بل يكره؛ لأنهم يحرصون بذلك على التعرض للناس. [وقال في "الحاوي": إن كانوا كفارًا, لم يستحب؛ وإن كانوا مسلمين, استحب. وعلى كل حال] فلو فعل الإمام أو أحد الرعية ذلك, وأمن الحجيج من غدرهم, وجب, وكذا لو بعثوا بأمان الحجيج, وكان أمانهم موثوقًا به, وإن لم يأمنوهم لم يجب, وهل يستحب الخروج إليهم وقتالهم؛ لأجل أداء النسك إذا

كانوا يطيقونه؟ ينظر: فإن كانوا كفارًا, استحب؛ لينالوا ثواب الحج والجهاد جميعًا. وإن كانوا مسلمين, لم يستحب. ولو كان في الطريق من يخاف منه –على ما ذكرناه- الواحد والنفر القليل, دون الجمع الكثير الذي جرت العادة بخروج مثله من كل بلد –لم يمنع ذلك الوجوب. وقال في "الحاوي": إن كانوا كفارًا, لم يستحب, وإن كانوا مسلمين استحب على كل حال. وإذا خلا طريق [دون طريق] عن الخوف المذكور, وجب الحج سواء كان المشتمل على الخوف في المسافة كالطريق الآمن, أو أقرب منه؛ كما قاله الجمهور. وفي "التتمة" وجه: أنه لا يلزمه إذا كان الآمن هو الأبعد؛ كما لو احتاج إلى بذل مؤنة زائدة في ذلك الطريق. ثم بما ذكرناه من تفسير الأمن يخرج وجوب الحج على من ليس له طريق إلا في البحر وكان مخوفًا أما في نفسه أو لطرآن الأمواج فيه, ويغلب فيه الهلاك, ووجوبه عليه إذا كان الغالب فيه السلامة, لكن الذي نص عليه الشافعي –رضي الله عنه- في "الأم": أنه لم يجب الحج إذا لم يكن له طريق إلا البحر. ونص في موضع آخر –كما قاله أبو الطيب [وغيره-: أنه يجب. وقال في "المختصر"]: ولا يبين لي أن أوجب عليه ركوب البحر. [وقال في "الإملاء": ولا يبين لي أن أوجب] عليه ركوب البحر إلا أن يكون [أكثر] عيشه في البحر. واختلف الأصحاب –لأجل ذلك-[في المسألة] على طرق, ملخصها: [أن في المسألة أربعة أقوال: أحدها: وجوبه مطلقًا, فمنهم من قطع به؛ [للظواهر المطلقة في الحج.

والثاني: لا] يجب مطلقًا, ومنهم من قطع به]؛ كما أشار إليه الحناطي وغيره؛ لما فيه من الخوف والخطر. وإن فرض أن الغالب منه السلامة, فالعوارض التي تطرأ فيه عسرة الدفع, بخلاف البر. والقائلون بهذا حملوا نص الوجوب على ما إذا ركبه لبعض الأغراض؛ فصار أقرب إلى الشط الذي يلي مكة, شرفها الله تعالى. وهذان القولان حكاهما الرافعي عن الشيخ أبي محمد وغيره. والثالث –وبه قال أبو إسحاق, والإصطخري-: إن كان الغالب منه السلامة لزمه, وإن كان الغالب الهلاك؛ أما باعتبار خصوص ذلك البحر, أو لهيجان الأمواج في بعض الأحوال- لم يلزمه. وحملا النصين على هذين الحالين, وهذا هو الصحيح والمنطبق على ما ذكرناه من تفسير الأمن؛ وعلى هذا لو اعتدل الحتمال, فبأي الحالين يلحق؟ تردد [فيه] كلام الأئمة, وهو في تعليق القاضي الحسين محكي قولين. والرابع: إن كان الرجل ممن اعتاد على ركوب البحر كالملاحين وأهل الجزائر, لزمه, وإلا فلا؛ لصعوبته عليه. وقد أورد الغزالي وغيره الخلاف في [هذه] المسألة على غير هذا النحو, معبرين عنه بأن في المسألة أربعة طرق فيما إذا كان الغالب منه السلامة: أحدهما: إجراء قولين في الوجوب؛ لما فيه من الخطر الظاهر مع غلبة السلامة. والثاني: لا يجب على المستشعر؛ لأن الجبان قد ينخلع قلبه, ويجب على غير المستشعر, وينزل النصان على هذين الحالين. والثالث: لا يجب على المستشعر وفي غيره قولان. والرابع: يجب على غير المستشعر, وفي وجوبه على المستشعر قولان. ولو كان الغالب الهلاك, حرم الركوب بخلاف ركوبه للجهاد على أحد

الوجهين في "النهاية"؛ لأن مقصوده على الغدر. ولو اعتدل الاحتمال, ففيه تردد للإمام. وحيث قلنا: لا يجب ركوبه مع غلبة السلامة, فعليه فرعان: أحدهما: هل يستحب؟ فيه وجهان. أظهرهما في "الرافعي": نعم؛ كما يستحب ركوبه للغزو, وهذا ما حكاه في "البحر" عن الشيخ أبي حامد, ولم يحك غيره. الثاني: إذا ركبه وتوسطه: هل له الانصراف [أو عليه] التمادي؟ فيه وجهان –وقيل: يبنيان على أن العدو إذا حصر المحرم من سائر الجوانب: هل [له] التحلل أم لا؟ فإن قلنا: نعم, جاز له الانصراف, وإلا فلا, وهو الأصح في "البحر", وقال في "التتمة": إنه المذهب. ومحل الخلاف [ما] إذا استوى ما بين يديه وما خلفه في ظنه, فإن كان ما بين يديه أكثر, لم يلزمه التمادي بلا خلاف [على القول الذي عليه نفرّع, وإن كان أقل لزمه. قال الرافعي وغيره: وموضعه –أيضًا- ما إذا كان له في المنصرف طريق غير البحر, فإن لم يكن [له] فله الانصراف بلا خلاف] لئلا يحتاج إلى تحمل زيادة الأخطار. قلت: وهذا منه يظهر [أنه] فيمن له أهل أو من لا أهل له على ظاهر المذهب في اعتبار نفقة الرجوع والراحلة فيه, أما إذا لم يعتبر ذلك فيمن لا أهل له أو فيمن له أهل –فيظهر: ألا يكون ذلك شرطًا فيهما. قال: من غير خفارة, أي: من غير أجرة يدفعها لمن يحرسه في الطريق ممن هو [فيها] مترصدًا للحجيج؛ لأن ذلك كالزائد على ثمن المثل. وأيضًا: لإإنه لا يجب الحج والعمرة إذا لم يتهيأ ذلك بدفع شيء للمترصدين

كما تقدم؛ فلذلك لا يجب إذا احتيج إلى أجرة لمن يصونه عنهم؛ وهذا ما أورده العراقيون والقاضي الحسين, وهو المنصوص. وقد حكى الغزالي في أن أجرة البذرقة –وهي الخفارة-: هل تمنع الوجوب؟ وجهين: أحدهما: نعم؛ لما ذكرناه. والثاني: لا؛ لأن الأجرة بذل مال بحق؛ فإن ذلك أهبة من أهب الطريق؛ كالراحلة وغيرهما؛ وهذا أظهر عند الإمام. [والخفار] –بضم الخاء, وكسرها, وفتحها؛ ثلاث لغات حكاها صاحب "المحكم"-: الاسم من قولهم: أخفرت الرجل إذا أخذته, وهي هنا بالضم لا غير. قال: وأن يكون عليه من الوقت ما يتمكن فيه من السير, أي: المعهود في مثله لو أراده تجب بأول الوقت عند وجوب شرائط التكليف [وجوبًا موسعًا, والصوم يجب بطلوع الفجر من رمضان مع وجود شرائط التكليف] به؛ لأن الزمان الذي بين يديه متسع لذلك ظاهرًا؛ فكذلك هاهنا إذا بقي من الزمان بعد استجماع الشرائط السابقة ما يمكنه أن [يسير فيه] إلى مكة أما منفردصا إن احتمل الطريق ذلك كما قاله المتولي, أو مع الجمع إن لم يتمكن من السير إلا معهم, وخرجوا في الوقت المعتاد [بحيث يكونون في يوم عرفة بعرفة إذا ساروا السير المعتاد] يجب عليه الحج, وغلى الحالة الأخيرة أشار الشافعي بقوله في "المختصر": "وإذا استطاع الرجل وأمكنه مع سير الناس من بلده, فقد لزمه". وقد أطلق القاضي الحسين القول باشتراط وجود رفقة يتوجهون إلى مكة؛ ليخرج معهم في الوجوب, وأنه إذا لم يجد لم يجب؛ لأجل ما ذكرناه من النص؛ ولأجله قال البغوي وغيره –كما حكاه الرافعي-: إنه يشترط أن يجد رفقة يخرج معهم في

الوقت الذي جرت عادة أهل بلده بالخروج فيه, فإن خرجوا قبله, لم يلزمه الخروج معهم, وإن أخروا الخروج بحيث لا يبلغون إلا بأن يقطعوا أكثر من مرحلة في مرحلة, لم يلزمه أيضًا. لكن ما ذكرناه هو ما حمل عليه الرافعي هذا الإطلاق؛ لأجل ما نقلناه عن المتولي فيما إذا أمكن السير في حال الانفراد؛ على أنه لو قيل: يحمل هذا الإطلاق على ظاهره, لم يبعد؛ لأن المنفرد في الأسفار مع أمن الطريق تلحقه الوحشة الشديدة, وهو معرض للضياع؛ ولذلك كان "المسافر وماله على قلت إلا ما وقي الله", فجاز أن يسقط مثل ذلك الوجوب كما أسقطه عدم إمكان الوصول إلا بزيادة سير على القدر المعتاد, والله أعلم. قال: وإن كانت امرأة, فأن يكون معها من تأمن معه على نفسها, أي: من محرم, أو زوج, أو نسوة ثقات, كان مع واحدة منهن محرم أو لا؛ كما صرح به العراقيون؛ لأن السفر بدون ذلك حرام؛ قال –عليه السلام-: "لا يحل لامرأة مسلمة تسافر ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها" أخرجه البخاري ومسلم. وروى مسلم أنه –عليه السلام- قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم"؛ وهذا نص في تحريم المسافرة بدون محرم, وألحقنا الزوج والنسوة الثقات به؛ لأن المفسدة المتوقعة بفقده المندفعة بوجوده, تندفع بالزوج والنسوة الثقات. وقد جاء في "البخاري" و"مسلم" عن أبي سعيد الخدري من طريقين أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرًا فوق ثلاثة أيام فصاعدًا إلا ومعها أبوها, أو أخوها, أو زوجها, أو ذو رحم [محرم] منها".

وفي طريقة المراوزة وجه نسب إلى اختيار القفال: أنه لا تكفي النسوة ما لم يكن مع واحدة منهن محرم أو زوج؛ لأنهن قد ينوبهن أمر فيحتجن فيه إلى الاستعانة بذات المحرم والزوج في مخاطبته ويستغنين عن مخاطبة الرجال. وقال الغزالي تبعًا لإمامه: إنه حسن, ويؤيده تحريم الخلوة ما لم يكن فيهن ذات محرم, وقد نص الشافعي –رضي الله عنه- على أنه لا يجوز للرجل أن يؤم بنسوة منفردات ما لم تكن إحداهن محرمًا له. لكن الراجح الأول باتفاق الكل, وقد ادعى القاضي الحسين في كتاب العدد: أنه ظاهر المذهب, ونقلوا عن الشافعي في "الإملاء": أن الثقة إذا حصلت بالمرأة الواحدة كفى, وهو الذي أورده البندنيجي في كتاب العدد. وروى الكرابيسي عن الشافعي –رضي الله عنه- أنه قال: "إذا كان الطريق آمنًا, جاز السفر من غير نسوة", واختاره أبو الطيب, وصاحب "المرشد"؛ تبعًا للمصنف, وصاحب "البحر" والبغوي؛ واستدل له بقوله –عليه السلام- لعدي بن حاتم: "يا عدي, إن طالت بك الحياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف", قال عدي: وقد رأيت ذلك.

ولأن المرأة لو أسلمت في دار الكفر, لزمها الخروج إلى دار الإسلام وإن كانت وحدها؛ لوجوبه؛ فهكذا هنا, والحيث السابق يحمل على ما إذا كانت لا تأمن على نفسها؛ إذ هو الغالب, أو على سفر الطاعة: كزيارة الوالدين, وحج التطوع, والمباح كالتجارة؛ فإن المذهب –كما قال البندنيجي في العدد؛ تبعًا لأبي حامد-: أن من شرطه المحرم, وإن كان بعض الأصحاب ألحقه بالسفر الواجب, وهو الذي اختار القفال, وقال في "البحر": إنه أصح وأقيس عندي, لكنه مكروه. ثم محل الوجوب عليها اتفاقًا: إذا لم يطلب المحرم أجرة, فلو طلبها وقد احتاجت إليه, ففي الوجوب وجهان بناهما الإمام على لزوم أجرة البذرقة, وهنا أولى بالوجوب؛ لأن الداعي إلى التزام هذه المؤنة معنى فيها؛ فأشبه زيادة مؤنة المحمل في حق من يحتاج إليه. واعلم أن [ظاهر] كلام الشيخ هنا يقتضي أمرين: أحدهما: أن وجود من تأمن معه على نفسها شرط الوجوب, وقد حكى الموفق ابن طاهر عن الأصحاب ترددًا في أن النسوة الثقات شرط في الوجوب أو التمكن, وذلك يطرد في المحرم والزوج. الثاني: مساواة المرأة للرجل فيما ذكره إلا في اعتبار المحرم ونحوه, وهو الذي ذكره الغزالي؛ حيث قال: واستطاعة المرأة كاشتطاعة الرجل, [و] لكن إذا وجدت محرمًا. واعترض عليه الرافعي, فقال: وليس الأمر على هذا الإطلاق؛ لأن المحاملي وغيره من العراقيين أطلقوا القول باعتبار المحمل في حق المرأة؛ لأنه أستر لها, وأليق بحالها. قلت: وممن قال بذلك القاضي الحسين, ولا يردّ هذا الاعتراض على الشيخ؛ لأن قوله: "وأن يكون واجدًا لراحلة تصلح لمثله" يخرجه؛ فإن المحمل يصلح لمثلها. نعم, قال الأصحاب: إنا إذا أوجبنا ركوب البحر على الرجل, ففي وجوبه على المرأة وجهان, حكاهما القفال –كما قال في "البحر"- قولين منصوصين:

أحدهما: نعم؛ كالرجل. قال في "البحر": وهو غريب, لم يذكره العراقيون. والثاني: لا؛ لأنه أشد تأثيرًا بالأهوال, ولأنها عورة وربما تتكشف لبعض الرجال؛ لضيق المكان؛ وعلى هذا نقول بعدم الاستحباب أيضًا, وإن استحببناه للرجل, وهو الذي قطع به القاضي الحسين وإن حكى الخلاف في الوجوب عليها. ومنهم من طر الخلاف في الرجل فيها أيضًا. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ في بيان المستطيع بنفسه يقتضي غيجاب الحج والعمرة على السفيه والأعمى عند استجاع ما ذكر, وهو صحيح في السفيه, ولكن لا يسلم إليه المال, بل ينفقه عليه الولي أو من يستنيبه. وأما الأعمى, فاشترط الأصحاب في الوجوب عليه: وجود قائد يقوده, ويرتفق به عند الركوب والنزول. لكن هل يعتبر مع ذلك أن يكون القائد متبرعًا أم لا؟ قال الرافعي –تبعًا للغزالي-: الحكم فيه كما في المحرم في حق المرأة. قال: والمستطيع بغيره أن يجد من لا يقدر على الثبوت على الراحلة –أي: كيف قدرت- إلا بمشقة شديدة؛ لزمانة, أو كبر مالا يدفعه –أي: أجرة أو جعلا أو رزقا- كما قال الرافعي حكاية "العدة" –إلى من يحج عنه, أي: ووجده, كما قال ابن الصباغ, أو له من يطيعه, أي: عند فقده, والمطيع ممن يوثق بقوله, كما قاله أبو الطيب وغيره, فيلزمه فرض الحج, أي: والعمرة. ووجهه في الحالة الأولى: أن الله –تعالى- علق وجوب الحج بالاستطاعة, [والمستطيع] باستئجار غيره مستطيع؛ لأن العرب تقول: فلان مستطيع لأن يبني داره, ويخيط ثوبه؛ إذا قدر على ذلك بالاستجئار وإن كان لا يتولاه بنفسه؛ فوجب عليه.

ولأنه –عليه السلام- حين سئل عما يوجب الحج قال: "الزاد والراحلة"؛ وهذا يجدهما؛ فاقتضى [ذلك] وجوبه عليه. وقد سئل عليّ –كرم الله وجهه- عن شيخ يجد الاستطاعة, فقال: "يجهز من يحج عنه". ولأن ذلك عبادة تجب الكفارة بإفسادها؛ فوجب على الكبير والزمن, كالصوم. ولأن كل حالة يخاطب فيها بأداء الحج المستقر, جاز أن يخاطب فيها بإيجاب الحج؛ كحالة الصحة. ووجهه في الحالة الثانية: ما روى مالك في "موطئه" عن ابن عباس: أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, إن أمي عجوز كبيرة لا تستطيع, إن تركتها على البعير لا تستمسك, وإن ربطتها خفت أن تموت, أفأحج عنها؟ قال: "نعم". وروى البخاري ومسلم أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله, إن فريضة الله على عباده الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة, أفحج عنه؟ قال: "نعم", قالت: أو ينفعه ذلك؟ قال: "أرأيت لو كان عليه دين فقضيته هل ينفعه ذلك؟ قالت: نعم, قال: "فدين الله أحق" وعلى هذا؛ فالدلالة منه –كما قال

أبو الطيب –من وجهين: أحدهما: قولها: "إن فريضة الله على عباده الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا ... " إلخ, ولو كان فرض الحج لا يلزم من كان على هذه الصفة, لأنكر قولها, ولقال لها: ليس فرض الحج متوجهًا عليه. والثاني: قوله: "فدين الله أحق", وهذا يدل على أن الحج صار دينًا عليه. ولأنا إنما ألزمناه ذلك في الحالة الأولى –كما دللنا عليه- لأنه يتوصل به غلى من يطيعه في أن يحج عنه, فإذا كان ذلك حاصلًا له؛ فأولى أن يلزمه فرض الحج, ويشهد له أن الشخص لو كان مقطوع اليدين, سقط عنه فرض الوضوء والتيمم؛ إذا لم يكن له ما يستأجر به من يفعل له ذلك, [و] إذا بذل له شخص الطاعة في أن يوضئه وييممه, لزمه ذلك؛ كما قال أبو الطيب؛ فكذلك هاهنا. وفي "الروضة" للنوأوي حكاية وجه ضعيف: أنه لا يجب عليه الحج ببذل الطاعة. والمشهور: الأول. ونضو الخلق والمريض مرضًا لا يرجى برؤه إذا لم يتمكنا من الركوب على الراحلة كالزمن فيما ذكرناه؛ نص عليه الشافعي, ولا يلتحق به من يرجى برؤه وإن كان لا يستطيع معه الثبوت على الراحلة؛ لأنه لا يجوز أن يستنيب عنه في الحج؛ لاحتمال قدرته عليه بنفسه؛ فهو غير قادر عليه بنفسه وبغيره. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمورًا: أحدها: لزوم الحج إذا وجد مالًا يدفعه إلى من يحج عنه, سواء كان قدر أجرة مثله أو دونها؛ إذا وجد من يرضى بذلك, وقد صرح به الرافعي. الثاني: أنه لا فرق في ذلك المال بين أن يكون فاضلًا عما يحتاج إليه –كما ذكرناه من قبل- أو لا, وقد اشترط الأصحاب فيه أن يكون فاضلًا عن ديونه وما يخلفه له لو حج بنفسه. قال الرافعي –تبعًا للغزالي-: إلا نفقة عياله؛ فإنا شرطنا فيما إذا كان ممن يحج بنفسه: أن يكون المصروف في الزاد والراحلة فاضلًا عن نفقتهم وكسوتهم في

[الإياب والذهاب] , وهاهنا يعتبر أن يكون فاضلًا عن نفقتهم وكسوتهم يوم الاستجئار, ولا يعتبر بعد فراغ الأجير من الحج إلى إيابه, وهل تعتبر مدة الذهاب؟ فيه وجهان, أصحهما في "التهذيب": لا, والفرق: أنه إذا لم يسافر يمكنه تحصيل نفقتهم. قلت: وهذا ما أورده البندنيجي, وقاسه الإمام على زكاة الفطر؛ فإنه لا يعتبر فيها إلا نفقة اليوم, وكذلك في الكفارة المرتبة إذا لم يشترط تخليف رأس المال. انتهى. قلت: وهذا الكلام من أوله إلى هنا إذا تأملته ظهر لك منه: أنه يشترط أن تكون الأجرة فاضلة عن نفقته في مدة ذهاب الأجير ورجوعه, وقد صرح البندنيجي بأن نفقته كنفقة عياله. الثالث: أنه لا فرق في الوجوب عند وجود المطيع بين أن يكون المطيع ممن اجتمعت فيه شرائط وجوب الحج أو لا, وقد جزم القاضي أبو الطيب والبندنيجي بأن محل ذلك إذا كان مستجمعًا لشرائط الوجوب الخمسة؛ لأن المبذول له لو قدر على الفعل بنفسه, لكانت هذه الشرائط معتبرة في حقه؛ فأولى أن تعتبر في حق النائب عنه, وحكى المارودي وجهًا آخر: أنه لا يشترط في الوجوب قدرة المطيع على الزاد والراحلة, بل إذا أطاع, وتكلف المشي والسؤال في الطريق, أو الاكتساب –لزم المبذول له الحج. والوجهان في الوجوب وعدمه عند عدم المطيع الراحلة جاريان فيما إذا لم يقدر من له مال فاضل عما ذكرناه إلا على أجرة ماشٍ, لكن الصحيح هنا الوجوب. ووجه مقابله: أن الماشي على خطر, وفي بذل المال في أجرته تغرير به. الرابع: أنه لا فرق بين أن يكون باذل الطاعة ولدًا وإن سفل, أو والدًا وإن علا, أو أجنبيًا؛ وهو الذي نص عليه في "الإملاء" و"المبسوط" –كما قال الماوردي- وهو الصحيح.

وحكى البندنيجي والقاضي الحسين وغيرهما: أن من الأصحاب من خص الوجوب بما إذا كان المطيع ولدًا وإن سفل؛ لأنه يختص بما لا يختص به غيره من كونه لا يقاد به الأب, ويجب عليه إعتاقه, ويجوز له الرجوع فيما وهبه له. ولا نوجب الحج عند بذل الأجنبي والوالد: أما الأجنبي؛ فللمنة, وأما في الوالد؛ فلأن خدمته تشق على ولده. وحكى القاضي الحسين وجهًا آخر: أن الوالد ملحق بالولد, دون الأجنبي, وهذا ما اختاره الشيخ أبو محمد, وقد حكاه الماوردي بدلًا عن الوجه الذي قبله, وألحق الأحسن بالأب, كما أن البنت ملحقة بالابن. الخامس: أنه لا فرق في الوجوب عليه عن من يطيعه بين أن يصرح له بالطاعة أو لا عند معرفته بذلك, وهو المذكور في "تعليق" البندنيجي وأبي الطيب والشامل, ويحكى عن النص. وقيل: لا يجب إلا عند التصريح بالطاعة. وقال القاضي الحسين: إنه الصحيح؛ لأن الظن يخطئ ويصيب. ولو لم يعلم المعذور بطاعته, قال أبو حامد في "التعليق": هو بمنزلة من له مال لا يعلمه؛ بأن يموت مورثه, والحكم فيه –كما قال البندنيجي-: أنه يلزمه. وقال ابن الصباغ والطبري: عندي أن هذا يجري مجرى من نسي الماء في رحله, وتيمم, وصلى, هل يسقط عنه الفرض؟ فيه قولان. وفي "المعتمد": تشبيه ذلك بالمال الضال والمغصوب في الزكاة. قال الرافعي: ولك أن تفرق بين الحج وغيره, فتقول: وجب ألا يلزمه الحج بحال؛ لأنه معلق بالاستطاعة, ولا استطاعة عند عدم الشعور بالمال والطاعة. السادس: أنه لا فرق فيما ذكره من النيابة بين أن يكون بينه وبين مكة مسافة القصر أم لا. وفي "التتمة": أن محل النيابة إذا كان بينه وبين مكة مسافة القصر, أما لو كانت دونها, فلا تجوز النيابة.

السابع: أنه لو بذل له المال ليستأجر به من يحج عنه, لم يلزمه فرض الحج؛ وهذا ما دل عليه مفهوم كلامه, وهو المشهور فيما إذا كان الباذل [له] أجنبيًا, وادعى القاضي الحسين: أنه لا يختلف المذهب فيه, لكن لماذا؟ فيه معنيان: أحدهما: لأنه يحوج إلى تملكه, ولا يلزم الإنسان تملك مال الغير. والثاني: لما يلحقه من المنة فيه. وعليهما يخرج ما لو كان الباذل له الولد وإن سفل, فإن قلنا بالأول لم يجب هنا أيضًا, وهو الأصح في "الحاوي" وغيره. وإن قلنا بالثاني, وجب لأنه لا تلحقه منة يعظم احتمالها من جهة الولد. وقد أجريا –كما قال ابن الصباغ وغيره- فيما لو بذل الولد لأبيه الصحيح الفقير مالًا ليحج به هل يجب عليه الحج أم لا؟ وقد حكاهما الرافعي في بذل الأجنبي المال –أيضًا- عن رواية الحناطي. و [عن] صاحب "الفروع" جعلهما مرتبين على الوجهين في بذل الولد في حال المرض وحال الصحة, وهاهنا أولى بالمنع, والأب في بذل المال ملحق بالولد؛ قاله الغزالي. وحكى الإمام عن شيخه ترددًا في إلحاقه بالأجنبي أو بالابن, ثم قال الإمام: ولعل الأظهر الثاني. ولو انتفى المعنيان؛ كما إذا كان الولد الباذل للطاعة عاجزًا أيضًا عن الحج, وقدر على أن يستأجر له من يحج عنه, وبذل له ذلك –وجب الحج على المبذول له وجهًا واحدًا؛ قاله البندنيجي, وحكاه في "الزوائد" عن الشيخ أبي حامد والمحاملي وابن الصباغ. فرع: من يجب الحج ببذله الطاعة, هل له أن يرجع بعد البذل فيها؟ قال الجمهور: إنه ينظر: فإن كان بعد الإحرام لم يجز, وإن كان قبله فوجهان: المذهب منهما –في "الشامل", ولم يحك البندنيجي سواه- الجواز. وقال في "الحاوي": إن محلهما إذا كان لم يحرم, وقد أذن له المبذول له الطاعة

في الحج عنه. زنسب الجواز إلى بعض البصريين؛ وعلى هذا نتبين عدم الوجوب على المبذول [له] الطاعة. وقال: إن الصحيح عدم الجواز؛ لأن بذله الطاعة قد ألزم غيره فرضًا لم يكن, [و] في رجوعه إسقاط الفرض قبل إقامته, ولا يجوز إسقاط الفرض بعد وجوبه إلا بأدائه. ثم قال: فإن قيل: لو بذل الماء لغيره في السفر عند عدمه, لم يلزمه إقباضه, وجاز له الرجوع فيه, وإن كان قد ألزم غيره فرضًا ببذله. قيل: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن بذل الماء ليس بموجب لفرض الطهارة, وإنما غير صفة الأداء, وبذل الحج أوجب فرضه. والثاني: أن المبذول له الماء يرجع غلى بدل يقوم مقام استعمال الماء وهو التيمم, وليس للحج بدل يرجع إليه المبذول له, والله أعلم. [قال في البحر: وعلى هذا لو كان الباذل الأب للابن, وأوجبنا به الحج على الابن: فهل يجوز رجوعه؟ فيه وجهان]. قال: والمستحب لمن وجب عليه الحج أو العمرة ألا يؤخر ذلك, أي: عن أول سني الإمكان, فإن أخره وفعل قبل أن يموت, لم يأثم. هذا الكلام ينظم حكمين: أحدهما: أن فرض الحج أو العمرة إذا وجب لا يجب فعله على الفور. ووجهه: أن فريضة الحج نزلت سنة ست من الهجرة –كما تقدم ذكره وأنه الصحيح- أو سنة خمس, وفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة –شرفها الله تعالى-[فى] سنة ثمان, وأمر فيها عتاب بن أسيد, فحج فيها بالناس, ثم بعث أبا بكر سنة تسع, فحج بالناس, وتأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مشغول بحرب ولا خائف من عدو ومعه مياسير الصحابة: كعثمان بن عفان, وعبد الرحمن بن عوف, ثم أنفذ علي بن

أبي طالب بعد نفوذ أبي بكر يأمره بقراءة سورة "براءة", ثم حج في سنة عشر, وحج معه مياسير الصحابة, فلو كان واجبًا على الفور, لعيب على من تأخر مع القدرة, ولما أخره –عليه السلام- وكيف وقد فعل عمرة القضاء في سنة سبع التي أحصر عنها في سنة ست. وإذا ثبت أن الحج غير واجب على الفور, فالعمرة كذلك؛ لقوله –عليه السلام- "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة", ووجه الدليل منه يفهم مما تقدم ذكره. الثاني: أن المستحب المبادرة بفعل ذلك. ووجهه [مع] ما ذكرناه: قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]. ولأن فيه تعجيل براءة الذمة. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق فيما ذكره من الحكمين بين أن يكون قد وجب عليه ذلك لاستطاعته [بنفسه, أو لاستطاعته] بغيره, ويكون المستحب فيما إذا قدر على الفعل بنفسه تعجيل الفعل, وفيما إذا قدر عليه بواسطة غيره تعجيل الاستئجار, أو الإذن للمطيع في [فعل] ذلك عنه؛ [فإنه لا يصح فعله منه [عنهي] ما دام حيًا بدون إذنه, على الأصح في "التتمة", وإن جوزه القاضي

أبو حامد؛ كما حكاه القاضي الحسين, وغلطه فيه. ولا شك في ثبوت الحكمين فيما إذا كان مستطيعًا بنفسه, اللهم إلا أن يظهر له أمارات العجز عن ذلك؛ فإن في تضييق الفعل عليه وجهين, أظهرهما عند الرافعي, وهو الذي ذكره في "الوسيط": [نعم]. وإذا لم يفعل مع الاستطاعة حتى عجز عن الفعل؛ لزمانة ونحوها –قال في "الوسيط": عصى, [أي: إذا فرعنا [على] أنه إذا مات عصى] , وهل تتضيق عليه الاستبانة, كما قال الإمام؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم, وهو ما رآه الأظهر؛ لخروج ذلك بتقصيره عن الرفاهية. والثاني: لا, كما لو بلغ معضوبًا فإن عليه الاستنابة على التراخي. وأما إذا [وجب عليه ذلك باستطاعته] بغيره, فقد أفهم كلام ابن الصباغ: أنه لا يجب عليه تعجيل الاستئجار, كما صرح به الإمام, وصرح بأنه لا يقوم الحاكم مقامه فيه, وأنه يجب عليه عند بذل الطاعة الإذن للمطيع في فعل ذلك عنه, [وبه صرح الماوردي أيضا, وأنه إذا لم يفعل هل ينوب الحاكم عنه فيه]؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن الإذن واجب عليه, فإذا لم يفعله قام الحاكم مقامه فيه, كالزكاة, وهذا قول أبي إسحاق. وأصحهما: لا, لأن هذا لا تعلق لغيره به, وإنما يقع عنه بإذنه, لقيام الإذن مقام قصده, فلا ينوب الحاكم منابه فيه؛ وبالقياس على ما لو كان معه ما يستأجر به, لا يقوم الحاكم مقامه فيه. قال ابن الصباغ: فإن قيل: إنما لم ينب الحاكم منابه في الاستئجار, لأن له غرضًا في تأخيره لينتفع بالمال, والحج على التراخي, ولا غرض له في تأخير الإذن. فالجواب: أنه قد يكون له غرض في تأخير الإذن, ليجد مالًا يستأجر به من يحج عنه؛ فيكثر ثوابه, أو يستنيب من هو أفضل وأتقى من الباذل, فلا فرق بينهما.

قلت: ولأجل عدم الفرق حكى الفوراني والمسعودي وجهين في أنه إذا قدر على الاستئجار, فلم يفعله, هل يستأجر الحاكم عنه أم لا؟ لكنهما صححا الجواز, ووجهاه بأن الحج إنما يكون على التراخي في الصحة, وهذا يخالف ما ذكره الشيخ؛ وعلى هذا فقد يقال في الفرق بين الحالين: إنه في حال الصحة متمكن من الخروج عن الفرض بنفسه فشابه فرض الصلاة, وفي حال العجز لا يتمكن منه إلا بموافقة غيره, فإذا وجدت, تعين على الفور كالزكاة, ولا يرد الصوم؛ لأنه تعين بحكم الوقت, لكن ترد النذور والكفارات في بعض الصور؛ لأنه لا يتمكن من الخروج عنها إلا بالغير ومع هذا هي على التراخي. وقد يقال: إن المريض إلى الموت أقرب منه في الظن إلى الحياة, فلذلك يضيق عليه, بخلاف الصحيح, لكن يرد عليه لو كان كذلك: أن يفصل بين الشيخ والشاب في الفورية, ولم يفصل, والله أعلم. ثم المراد بالفعل في قول الشيخ: "فإن أخر وفعل قبل أن يموت لم يأثم": أن يفعل الحج أو العمرة بنفسه إن استطاع ذلك, وإن لم يستطع بنفسه بل بغيره أن يستأجر من يفعله عنه إن قدر عليه, أو يأذن لمن أطاعه عند عجزه, وقد صرح به الماوردي حيث قال: فإن أذن المبذول له قبل وفأنه, انتقل الفرض عنه إلى الباذل. وكلام الشيخ مفهم أنه إذا لم يفعل حتى مات [مع تمكنه منه]: أنه يأثم؛ ولذلك لم يذكره عند ذكر هذه المسألة, كما صرح به غيره؛ موجهًا ذلك بأن التأخير جوز بشرط سلامة العاقبة, ولم تسلم. ووراءه وجوه: أحدها: أنه لا يأثم؛ كما لو أخر الصلاة عن أول الوقت مع التمكن, ومات في أثنائه, فإنه لا يأثم على الصحيح. والقائل [بالأول] فرق بينه وبين الصلاة: بأن آخر وقت الصلاة معلوم, فلم ينسب إلى التفريط بالتأخير, بخلاف الحج. والثاني –حكاه ابن الصباغ والغزالي بدلًا عن الذي قبله-: أنه لا يعصي إذا أخر

عازمًا على الامتثال, ومات فجأة. والثالث –وحكاه القاضي الحسين وغيره من المراوزة -: إن كان شابًا لم يعص بالتأخير, وإن كان شيخًا هرمًا عصى به. وإذا قلنا بالإثم, فمن أي وقت نؤثمه؟ فيه وجهان في الطريقين: أحدهما –وينسب إلى أبي إسحاق-: في السنة التي فأنه الحج بالتأخير عنها, وهو الذي رجحه الرافعي. والثاني –وبه قال غيره من الأصحاب-: من أول سِنِي الإمكان. وفي "الرافعي" وجه ثالث: أنا نحكم بموته عاصيًا من غير أن نسنده إلى وقت معين. وفي "البيان" مع الوجوه الثلاثة وجه رابع: أنه يأثم من حين تبين في نفسه الكبر والضعف. ومن فوائد الحكم بموته عاصيًا –كما قاله الرافعي وغيره-: أنه لو كان قد شهد عند القاضي, ولم يقض بشهادته حتى مات –فلا يقضي؛ كما لو بان له فسقه, ولو قضى بشهادته بين الأولى من سني الإمكان وآخرها, فعلى الأول لا ينقض ذلك الحكم بحال, وعلى الثاني: في نقضه القولان فيما إذا بان له فسق الشهود بعد الحكم. قال القاضي الحسين: إلا أن القولين في فسق خفي اقترن بأداء الشهادة, وفي مسألتنا هو فسق بالاستبانة؛ فحكمه أضعف. وقد قال بعضهم: إن بناء نقض الحكم على تعصيته من أي وقت, بناء ضعيف؛ لأنه مختلف فيه. فرع: إذا فعل العاجز ما وجب عليه من استئجار, أو إذن للباذل للطاعة, ففعل عنه, ثم قدر على تعاطي ذلك بنفسه –ففي وقوع ذلك موقعه طريقان حكاهما العراقيون: أحدهما: حكاية قولين [فيه]؛ كما إذا كان مرضه مرجو الزوال, ففعل

مثل ذلك, ثم مات من ذلك المرض بعد أن فعل عنه في حياته؛ فإن في وقوعه عن الفرض قولين محكيين في "الأم" جاريين –كما أبدأه ابن الصباغ احتمالًا- فيما إذا حج عن المجنون, ثم مات قبل الإفاقة, وكان قد استقر عليه الوجوب, ينظر في أحدهما إلى الحال, وفي الآخر إلى المآل: فإن نظرنا إلى الحال قلنا بالإجزاء في مسألتنا, وبالمنع في المقيس عليها, وإن نظرنا إلى المآل؛ انعكس الحكم. والقاضي الحسين قال: إن أصل القولين ما إذا باع مال أبيه على ظن أنه حي, فبان ميتًا. وقال الفوراني: أصلهما: القولان فيما إذا رأوا سوادًا, فظنوه عدوًا؛ فصلوا صلاة الخوف, ثم تبين خلافه, هل تجزئهم الصلاة أم لا؟ وقضية كل بناء تقتضي أن يكون الصحيح في إحدى الصورتين خلاف الصحيح في الأخرى, وقد صرج الماوردي وغيره بأن الصحيح فيهما: عدم الإجزاء. والطريق الثاني: القطع بعدم الإجزاء في مسألتنا, كما نص عليه في "الأم", والقائلون بها فرقوا بأن الخطأ مستيقن فيها؛ لجواز ألا يكون المرض بحيث لا يوجب اليأس, ثم يزداد فيوجبه؛ فيجعل الحكم للمآل. وقد اتفق الكل على أنه لو فعل ذلك في الصحة, ثم مات: لا يجزئ. ثم حيث قلنا بعدم الإجزاء, وكان في صورة الاستجئار, فهل يقع ما أتى به الأجير تطوعًا عن مستأجره أو لا؟ في طريقة المراوزة حكاية وجهين فيه: أحدهما –ويحكى عن رواية القفال-: نعم, وهو الذي صححه الغزالي, وإن كان الإمام وغيره استبعدوه؛ إقامة للعجز المقارن للاستئجار في تقديم حج التطوع على فرضه مقام الصبا والرق, فعلى هذا: هل يستحق الأجرة المسماة أو أجرة المثل؟ قال الشيخ أبو محمد: لا يمنع تخريجه على الوجهين الآتيين؛ لأن الحاصل غير ما ابتغاه. والذي رجحه في "الروضة": إيجاب المسمى.

والثاني: لا؛ كما إذا استأجر من لم يحج أصلا ليحج عنه؛ وعلى هذا: فهل يستحق الأجرة؟ فيه قولان: أصحهما: لا؛ لأن المستأجر لا ينتفع به. والثاني: نعم؛ لأن له عملًا في اعتقاده؛ وعلى هذا: فهل يستحق أجرة المثل أو المسمى؟ فيه وجهان مأخذهما: أنا نتبين فساد الاستئجار أم لا؟ أما إذا لم يفعل عنه حتى قدر على ذلك بنفسه, ففعل, فلا يقع عنه قولاً واحدًا, قاله المارودي, ومثله في الصورة الأخرى: لو كان الأجير لم يفعل ما وقع عليه عقد الإجارة حتى مات المستأجر, ففعله عنه [بعد موته] أجزأه [عنه] قولاً واحدًا؛ لوقوعه في زمان يصح فيه النيابة عنه, قاله الماوردي أيضًا. وقياسه: أن يقال بمثل ذلك لو فعله بعد أن صار إلى حالة أيس من البرء فيها. قال: ومن وجب عليه ذلك, وتمكن من فعله, أي: أما بنفسه أو بغيره, فلم يفعله حتى مات –وجب قضاؤه من تركته؛ لما روى البخاري ومسلم: أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله, إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا, لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة, أفأحج عنه؟ قال: "نعم", قالت: أينفعه ذلك؟ قال: "نعم؛ كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه [ذلك] ". وروى الدارقطني بسنده عن ابن عباس أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام, أفأحج عنه؟ [قال: "نعم", قال: أو ينفعه ذلك؟ قال: "أرأيت لو كان على أبيك دين, فقضيته, هل ينفعه ذلك؟ "] قال: نعم, قال: "فدين الله أحق بالقضاء". فشبه الحج بالدين الذي لا يسقط بالموت؛ فوجب أن يتساويا في الحكم, ولو

مات وعليه دين, قضى من تركته؛ فكذا هذا. قال: الزكاة. هذا من الشيخ يحتمل أن يكون أراد به القياس على الزاكة؛ بجامع كون كل واحد منهما حقًا لله تعالى تمكن من فعله, وهو [مما تدخله] النيابة في حال الحياة مع كون النية شرطًا فيه, ولا يصح فعله عنه بدون إذنه. ويحتمل أن يكون المراد [به]: أنه يقضى من التركة, سواء أوصى به أم لم يوص, كما تقضى الزاكة أوصى بها أو لم يوص, وأنه يجيء في تقديمه على غيره من الديون عند الضيق ما تقدم من الخلاف في الزكاة؛ كما صرح به في "المذهب" تبعًا للقاضي أبي الطيب والبندنيجي وغيرهما. وفي "الإبانة": أن من الأصحاب من نسب إلى الشافعي –رضي الله عنه- قولًا: أنه لا يحج عنه إلا إذا أوصى [به] كمذهب أبي حنيفة. وقال القاضي الحسين –تفريعًا عليه-: إنه يعتبر من الثلث. ثم قال: وهكذا إذا مات وعليه زكاة, ومنهم من يجعل في إخراجها بغير وصية قولين, والصحيح في الزكاة والدين: الأول؛ ومنهم من قطع به, وقال: إن الحجة المنذورة تترتب على حجة الإسلام, وأولى بأن تعتبر من الثلث؛ بناء على أن مطلق النذر يحمل على ما يستقرب به الإنسان من ذلك الجنس, وكلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق. ويحتمل أن يكون أراد به المجموع, ولا منع منه, لكن هذا التشبيه يقتضي إجراء خلاف في أنه هل يجوز أن يتبرع أجنبي عن الميت بذلك بدون إذنه وإذن وارثه, أم لا كما هو محكي في الزكاة؟ وقد صرح به ابن التلمساني في "شرحه"؛ تبعًا لصاحب "البحر", والذي أورده القاضي الحسين والمتولي والغزالي: الجواز.

وزاد الفوراني [في "الإبانة] والمسعودي, فقالا: إنه يجوز أن يستأجر من يحج عنه, وهذا بخلاف حال الحياة؛ حيث قلنا: لا يجوز أن يحج عن العاجز بدون إذنه على الأصح؛ لأنه في حال الحياة من أهل الإذن, وبالموت خرج عن أن يكون من أهله. وقال في "التتمة" – تبعًا للقاضي الحسين-: ويخالف هذا أيضًا ما لو كان على الميت عتق, فأعتق الأجنبي عنه؛ فإنه لا يجوز على أحد الطريقين؛ لأن العتق يقتضي الولاء وثبوت الولاء يقتضي ثبوت الملك, [وإثبات الملك] للميت بعد موته متعذر. أما إذا مات بعد الوجوب وقبل التمكن من الأداء, لم يقض من تركته؛ لأنه يتبين عدم استقرار الوجوب عليه؛ كما إذا مات في أثناء وقت الصلاة قبل التمكن من فعلها, أو جن, أو حاضت المرأة. وفي "الحاوي": أن البلخي طرد أصله في الصلاة هنا, فقال: ليس من شرط الاستقرار إمكان الأداء. لكن حكى في "المهذب" هنا: أن أبا إسحاق أظهر له نص الشافعي؛ فرجع عن ذلك؛ فعلى هذا قال بعضهم: الفرق على مذهبه بين الصلاة والحج: أن الصلاة مما تلزم بإدراك بعض الوقت –وهو الآخر- إقامة لذلك مقام إدراك كله؛ فجاز أن يكون أوله كذلك, وليس كذلك الحج. قال القاضي الحسين: فإن قيل: التمكن على القول القديم في الزكاة شرط في الوجوب, فما الفرق بينها وبين الحج وغيره من العبادات؟ قلنا: لأن في الزكاة لا ينفرد هو بالأداء, بخلاف سائر العبادات. قلت: وهذا يبطل بالجمعة. ثم المراد بإمكان الفعل الذي يستقر به الحج على الميت يختلف: فإن كان موته قبل عود الناس من الحج؛ بأن يكون موته حصل بعد مضي إمكان فعل أركانه في وقتها من الإحرام, والوقوف, والطواف, والسعى, وكذا رمي جمرة العقبة والحلاق

إن قلنا: [إنه نسك] , وهو مستجمع للشرائط السابقة, فلو مات قبل ذلك, فلا استقرار, وتبين عدم الوجوب, وكذا لو مات بعد إمكان بعد إمكان ذلك, لكن بعد فقد شيء من الشرائط السابقة –فلا استقرار. ولو كان ممن لا يمكنه السير إلا مع الرفقة, فخرجوا في الوقت المعتاد, وتخلف عنهم مع وجود الشرائط, لكنهم أحصروا-: فإن كان لهم طريق آخر فسلكوها وحجوا في تلك السنة, استقر عليه الفرض, لأنه لو خرج معهم لأمكنه الفعل وإن لم يدركوا الحج في تلك السنة أو لم يكن لهم طريق آخر وتحللوا بسبب الحصر, لم يستقر عليه الفرض؛ لأنه لو كان معهم, لم يمكنه الفعل. ولو كان تخلفه؛ لكون السلطان أو ظالم منعه من الخروج معهم, وأتموا نسكهم –قال القاضي الحسين: ففي استقراره وجهان ينبيان على أن الحصر الخاص هل يفيد التحلل؟ وفيه قولان. وإن كان موته بعد عودهم إلى بلده نظر: فإن كان الشخص مستطيعًا بغيره, فالتمكن في حقه ما تقدم, لكن لا يشترط بقاء المال معه إلى انتهاء ذلك على وجه؛ لما تقدم تقريره. وإن كان مستطيعًا بنفسه, فإن كان ممن لا يعتبر في حقه وجود الزاد والراحلة في مدة الرجوع؛ أما لقرب المسافة أو لبعدها وكان ممن لا أهل له, وفرعنا على أحد الوجهين فالحكم كما لو مات قبل عودهم. وإن كان ممن يعتبر في حقه وجود ذلك في مدة الرجوع, فوجهان حكاهما القاضي الحسين: أحدهما: أن الحكم كذلك؛ قياسًا على حالة الموت, وقد أبداه الإمام احتمالًا. والثاني –وهو الذي حكاه الإمام ومن تبعه عن الصيدلاني, ولم يحك غيره-: أنه يعتبر مع ذلك بقاء الزاد والراحلة في مدة إمكان الإياب؛ لأن ذلك شرط في الوجوب, فإذا نفد قبله بان أنه كان لا يجد نفقة الرجوع, بخلاف ما لو مات, فإن الموت يغنيه عن الرجوع.

فرع: إذا قضى الحج أو العمرة من التركة, فالاستئجار يكون على فعل ذلك من ميقاته؛ كما قاله الشافعي, رضي اله عنه. قال القاضي الحسين: وظاهر هذا: أنه يتعين ميقات بلده؛ فمن أصحابنا من قال بظاهره, ومنهم من قال: يجوز أن يستأجر عنه من ميقات هو مثل [ميقات بلده؛ فلو استأجر من ميقات أقرب [منه] فعليه الدم, ولو استأجر من ميقات أبعد منه] بأجرة ميقات بلده, فوجهان: أظهرهما: لا شيء عليه؛ لأنه زاد خيرًا. والثاني: يلزمه الدم؛ للمخالفة. ولو استأجر من ميقات هو مثل ميقات بلده, فوجهان أيضًا: أحدهما: عليه الدم؛ لأن ميقات بلده متعين. والثاني: لا بلزمه؛ لأنه لا يتعين. وكلام الشافعي –رضي الله عنه- محمول على أنه قصد به التقريب دون التحديد. قال: ولا يحج ولا يعتمر عن غيره وعليه فرضه: أما في الحج؛ فلما روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة, قال: "من شبرمة؟ " قال: أخ لي أو قريب, قال: "حججت عن نفسك؟ " قال: لا, قال" "حج عن نفسك ثم عن شبرمة", أي: أدم الحج

عن نفسك ثم [حج] عن شبرمة. وقد روى مثل ذلك ابن عمر وجابر وعائشة عنه, عليه السلام. وروى أنه –عليه السلام- قال: "لب عن نفسك, ثم لب عن شبرمة". وروي أنه قال: "هذه لك, وحج عن شبرمة", وهذه الرواية تعضد ما أولناه من حديث ابن عباس, لكن البهيقي قال: إن إسناد حديث ابن عباس صحيح, وليس في الباب أصح منه. فأفهم الحديث: أنه لا بد من تقديم فرض نفسه على فرض غيره. ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة؛ فلم يجز أن يؤديها عن غيره مع وجوب فرضها عليه؛ كالجهاد. وأما في العمرة؛ قبالقياس على الحج. وكما لا يجوز أن يحج أو يعتمر عن غيره, وعليه فرضه –لا يجوز أن يفعل ذلك وهو عليه بنذر أو قضاء؛ [لأن ذلك ملتحق] بالفرض. وقد أشار الشيخ بقوله: "وعليه فرضه" إلى ما ذكره في العمرة مفرعًا على الصحيح في أنها فرض, أما إذا قلنا بأنها سنة, فقد حكي في "البحر" عن والده رواية وجهين فيه:

أحدهما: يجوز. والثاني: لا؛ لأن العمرة أحد [نسكي] القران, فلا يجوز فعله عن الغير قبل فعله عن نفسه؛ كالحج. قال: ولا ينتفل بالحج عن نفسه وعليه فرضه, ولا يؤدي نذر الحج وعليه فرض الإسلام, لأن النفل والنذر أضعف من فرض الإسلام, فلا يجوز تقديمهما عليه؛ كحج غيره على حجه, وكذا لا يجوز تقديم حجة القضاء على حجة الإسلام وإن سبقته, ويتصور ذلك في العبد يحج في حال رقه, ويفسده, ونقول بوجوب القضاء عليه, فلم يفعله في حال رقه, أو فعله, وقلنا: لا يجزئه كما سنذكره. والنذر مؤخر عن القضاء كتأخيره عن فرض الحج. قال القاضي الحسين: وحى الغزالي في الترتيب بين القضاء والنذر ترددًا, وهو للإمام. ولو كان القضاء قضاء تطوع أفسده, وقد نذر فأحرم, فهو منصرف –كما قاله القاضي أبو الطيب- إلى الأسبق منهما وجوبًا؛ لأن كل واحد منهما وجب عليه بإيجابه. واعلم أن قول الشيخ: "ولا يؤدي نذر الحج وعليه فرض الإسلام" يجوز أن يريد بفرض الإسلام حج الإسلام, ويجوز أن يريد به فرض الإسلام: من حج أو عمرة, على الجديد, حتى إنه إذا كان قد حج الفرض, ولم يعتمر؛ فلا يحرم بحجة نذرها, وهذه الصورة لم أقف فيها على شيء, لكن الذي يظهر [الجواز؛ إذ لو امتنع ذلك لامتنع أن يحرم بالعمرة تطوعًا من اعتمر عمرة الإسلام ولم يحج حجة الإسلام, وذلك غير ممتنع؛ يدل عليه أنه –عليه السلام- اعتمر تطوعًا, ولم يحج

حجة الإسلام, وإذا [لم يمتنع ذلك] لم يمتنع التطوع بالحج قبل أداء فرض العمرة] والله أعلم. قال: فإن أحرم عن غيره أو تنفل, وعليه فرضه, انصرف إلى الفرض, وكذلك لو أحرم بنذر الحج وعليه فرض الإسلام انصرف إلى فرض الإسلام: أما في الإحرام عن الغير؛ فللخبر. وأما عند إحرامه بالتطوع؛ فلأن الإحرام ركن من أركان الحج؛ فوجب ألا يصح أن يتطوع به وعليه فرضه, بل ينقلب إلى فرضه, كمن طاف ينوي الوداع وعليه طواف الزيارة, فإنه يكون عن طواف الزيارة. ولأنها عبادة يجب في إفسادها الكفارة؛ فوجب ألا تصح ممن يصح منه فرضها, كالصوم في شهر رمضان. ولأنا أجمعنا على أنه لو أحرم مطلقًا يقع عن الفرض, ولو جاز أن يسبق النفل الفرض, لكان مطلقه ينصرف غلى النفل, كما في الصلاة. وأما عند إحرامه بالنذر وعليه فرضه [فلأن الفرض أهم من النذر, فقدم؛ كما إذا حج عن غيره وعليه فرضه]. والحكم هكذا فيما لو أحرم عن الغير وعليه نذر أو قضاء, أو تطوع عن نفسه وعليه نذر أو قضاء, ينصرف إلى ما عليه. ويظهر أن يكون محل ذلك بالتفاق فيما إذا كان النذر مقيدًا بوقت, ففعل فيه التطوع أو فعل عن العير, أما إذا كان النذر مرسلًا في ذمته, فينبغي أن يكون حكمه حكم من تطوع بالطواف أو فعله عن الغير وفي ذمته طواف منذور غير مخصوص بوقت, وفي صحة ذلك وجهان في "الروضة", أصحهما: أن الحكم كما تقدم.

ولو أحرم بالنذر, وعليه قضاء, انصرف على المذهب. قال في "البحر": ولو كان قد نذر الحج في عام معين, فلم يحج فيه, وكان قد حج حجة الإسلام, ثم نذر حجًّا آخر –فهل عليه أن يقدم حجة القضاء [أم] له الإتيان بالمنذور ثانيًا؟ قال: والذي عندي: [أن] له أن يأتي بأيهما شاء. ويحتمل أن يقال: [يقدم] حجة القضاء؛ لأنها أسبق وجوبًا. قلت: وهذا يوافقه ما قدمت حكايته عن أبي الطيب. ومن قلنا: إنه لا يصح حجه عن الغير؛ لكونه لم يأت بالفرض, لو كان قد استؤجر عليه, وفعله –لا يستحق على المستأجر شيئًا؛ لأن فعله أسقط عنه واجبًا, بخلاف ما إذا استأجر [عاجز] شخصًا للحج, فبرأ بعد أن حج عنه [أو من يرجى برؤه, فمات قبل البرء وبعد أن حج عنه؛] حيث قلنا: إن ذلك لا يقع عن المستأجر وإن الأجرة تستحق: أما أجرة المثل, أو المسمى؛ على أحد الطريقين؛ لأن فعله لم يسقط عنه واجبًا؛ كذا حكاه العراقيون. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إذا استأجر من لم يحج عن نفسه [مع علمه بأنه لم يحج عن نفسه] , وقال: اعتقادي بأنه أهل لأن ينوب عن الغير في الحج –هل يستحق الأجرة أو يلزمه ردها عليه؟ فيه وجهان نظيرهما: ما إذا استأجر من يحج عنه, فصرف الأجير الإحرام إلى نفسه في خلال الحج؛ فإنه لا ينقلب إليه, وهل يستحق الأجرة؟ فيه قولان: في أحدهما: ينظر إلى الباطن. وفي الثاني: إلى الظاهر. ومثلهما إذا جحد القصار ثوبًا, ثم قصره, هل يستحق الأجرة أم لا؟ نعم, لو غر الأجير المستأجر فقال له: إنه حج عن نفسه, ولم يكن –فإنه يرد الأجرة وجهًا واحدًا.

فروع: [أحدهما]: إذا أحرم عن الغير, ثم نذر حجًا لله, فإن نذره بعد الوقوف, لم بنصرف الإحرام إليه, وإن نذره قبل الوقوف, فوجهان: أحدهما: ينصرف إحرامه إلى المنذور كالعبد والصبي يحرمان, فيكمل حالهما بالعتق والبلوغ قبل الوقوف, ينصرف إحرامهما إلى الفرض. والثاني: لا, وهو الصحيح في "تعليق" القاضي الحسين وغيره؛ لأن هذا انقلاب من شخص إلى شخص, بخلاف العبد والصبي؛ فإن ذلك انقلاب من حال إلى حال. ونظيره: لو تطوع, ثم نذر حجًا لله تعالى قبل الوقوف, فإن المذهب [أنه] ينصرف [إحرامه إلى] المنذور. والخلاف في هذه الأخيرة, جارٍ –كما قال في "البحر"- فيما إذا استأجر العاجز من يحج عنه تطوعًا, وصححناه, ثم نذر الحج قبل أن يقف الأجير, إذا قلنا: يلزمه الإحرام, لدخول مكة, وإنه إذا تركه لا يجب عليه القضاء إلا إذا صار حطابًا – [هل له أن يحج عن الغير أو يتطوع قبل أن يصير حطابًا؟] حكى في "البحر" عن والده أنه [قال]: يحتمل وجهين, ومال إلى ترجيح الجواز, وأنه إن صح, فليس على أصلنا مسألة يصح التطوع فيها بالحج والنيابة مع وجوب الحج عليه إلا في هذا الموضع. [الثاني]: العاجز عن الفعل بنفسه إذا كان عليه حجة الإسلام, وحجة بالنذر, فاستأجر رجلين ليحجا عنه في سنة واحدة –نص في الأحسن على الجواز, بل قد فعل الأولى. ومن الأصحاب من قال: لا يجوز؛ لأنه لا يحج في سنة واحدة حجتين, فعلى هذا لو وقع إحرامهما معًا, وقع عن أنفسهما. [الثالث]: إذا استأجر للحج والعمرة من حج عن نفسه ولم يعتمر, فإن أحرم بكل منهما منفردًا وقع الحج عن المستأجر والعمرة [عن الأجير.

وإن أحرم بهما معًا, كانا جميعًا عن الأجير؛ لأن العمرة تقع] له؛ فلا يكون الحج عن غيره؛ لأنه إحرام واحد؛ فلا يتبعض؛ وهذا ما حكاه البندنيجي وأبو الطيب [والماوردي وابن الصباغ] ونسبه ابن سريج إلى نصه في الجديد؛ كما قال القاضي الحسين, فإنه قال في "الجامع الكبير": إذا كان [قد] حج عن نفسه, ولم يعتمر, فحج عن غيره واعتمر -أجزأه الحج دون العمرة. وإن المزني قال: هذا غلط؛ لأنه إذا قرن بينهما, صار إحراماً واحدًا. وقال أصحابنا: لم يرد الشافعي -رضي الله عنه- إذا قرن بينهما, وإنما أراد: إذا أتى بالحج, ثم بالعمرة بعده. ثم قال القاضي الحسين: وقد قال في القديم: [إنه] لو مات وعليه حج, فاستؤجر من يحج عنه, فقرن -سقط الحج عن الميت", واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من جعل [في المسألة] قولين: أحدهما: يسقط الحج عن المستأجر في مسألتنا, كما قال في القديم. والثاني: يقع كلا النسكين عن الأجير كما قاله في الجديد. واعلم أن قول الشيخ: "ولا يتنفل بالحج عن نفسه وعليه فرضه", يفهم صحة التنفل به ممن ليس عليه فرضه, وهو صحيح في العبد والصبي, ومن أسقط فرضه عن نفسه بالفعل, وأما من لم يخاطب بفرضه, لعدم الاستطاعة, فلا؛ لأنه إذا فعل ذلك متكلفًا كان حكمه حكم من فعله وعليه فرضه, والعبارة الوافية بالمقصود أن يقال: ولا ينتفل بالحج عن نفسه من يصح منه الفرض قبل أداء فرضه. قال: ولا تجوز النيابة في حج التطوع, أي: حيث تجوز في حج الفرض في أحد القولين؛ لأنه من عبادة البدن, وإنما دخلت النيابة في الواجب منه بالشرع أو بالنذر؛ للضرورة, ولا ضرورة في النفل, فأشبه ما لو استناب في حج النفل وهو صحيح, وهذا ما صححه القاضي أبو الطيب وجماعة, وقال الإمام في كتاب الوصية: إنه الأقيس.

وتجوز في الآخر؛ لأن كل عبادة جازت النيابة [في فرضها جازت] في نفلها, كالصدقة, وهذا ما صححه البغوي, وتبعه الرافعي, ثم النواوي. وقال الإمام في كتاب الوصية: إنه الأصح في الفتوى. قال ابن الصباغ: وما ذكرناه للأول ينكسر بالتيمم؛ فإنه يجوز للفرض عند الحاجة إليه, ويجوز للنفل أيضًا. فإن قلت: القاضي الحسين قد قال هنا: إن الخلاف في جواز هذا كالخلاف في جواز التيمم للنافلة [-أيضًا- فلا كسر]. قلت: الكسر متوجه على من اختار عدم الصحة هاهنا, وجزم بجواز التيمم للنافلة أو صححه. والقولان يجريان في صحة الوصية بحج التطوع, وفي حج الوارث أو الأجنبي عمن مات ولم يجب عليه الحج؛ لفقد الاستطاعة. ومنهم من قطع في الأخيرة بالصحة؛ لأنه يقع عن الواجب فيها؛ ولهذا لو تكلف ذلك في حال الحياة, وقع [ذلك] عن فرضه, بخلاف التطوع. والعمرة فيما ذكرناه كالحج. ثم حيث قلنا بعدم صحة ذلك, فاستاجر إنسانًا لفعله, وفعله, وقع على نفسه, وهل يستحق ألأجرة؟ أطلق في "المهذب" حكاية وجهين فيه. وفي "الشامل" و"تعليق" القاضي أبي الطيب حكايتهما قولين, أصحهما عند أبي الطيب والبغوي: المنع, وعند المحاملي [و] غيره: الاستحقاق؛ لأنه دخل في العقد طامعًا في الأجرة, وتلفت منفعته وإن لم ينتفع بها المستأجر, فصار كما لو استؤجر لحمل طعام مغصوب, فحمله. وإذا قلنا: يستحقها, فهل [أجرة] المسمى أو أجرة المثل؟ يشبه أن يجئ فيه الوجهان السابقان. وقد رأيت في "المهذب" و"الشامل" الثاني لا غير.

وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب ما يقتضي الأول حيث قال: إنه لا يرد الأجرة. وقال في "التتمة" إن محل الخلاف في الاستحقاق إذا جهل الأجير عدم الصحة, فلو علمها, لم يستحق شيئًا وجهًا واحدًا. ثم الأجير في حج التطوع يجوز أن يكون عبدًا أو صيًا؛ لأنه من أهله, بخلاف حج الفرض كما تقدم. وفي جواز ذلك في الحجة المنذورة وجهان يبنيان على أنه يسلك بها مسلك جائز الشرع أو واجبه. قال: ويجوز الإحرام بالعمرة وفعلها في جميع السنة, أي: يجوز الإحرام بالعمرة, والأصل في ذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة من الأنصار -يقال لها: أم سنان-: "ما منعك أن تكوني حججت معنا؟ قالت: ناضحان كانا لأبي فلان- تعني: زوجها -حج هو وابنه على أحدهما, وكان الآخر يسقي عليه غلامنا نخلًا لنا, قال: "فعمرة في رمضان تقضي حجة" [أو حجة] معي". وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما". وروى مسلم [أيضًا] أنه -عليه السلام- أمر عبد الرحمن أن يعتمر بعائشة من التنعيم في ليلة الحصبة, وهي ليلة الرابع عشر من ذي الحجة التي يرجعون فيها من

منى إلى مكة, [وتسمى: ليلة الصدر, و: ليلة البطحاء]. وقد روى أنه -عليه السلام-: اعتمر عمرة القضية في شوال, اعتمر عام الفتح في ذي القعدة. وفي مسلم عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة, إلا التي مع حجته: عمرة من الحديبية [أو زمن الحديبية] في ذي القعدة [وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة] , وعمرة من جعرانة, [حيث] قسم غنائم حنين في ذي القعدة, وعمرة مع حجته". وقد كانت العرب ترى أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض, ويجعلون المحرم صفر, وقولون: "إذا برأ الدبر وعفا الأثر, وانسلخ صفر, حلت العمرة لمن اعتمر", فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابع ذي الحجة مهلين بالحج, فأمرهم أن يجعلوها عمرة؛ فتعاظم ذلك عندهم, فقالوا: يا رسول الله, أي الحل؟ قال: "الحل كله" كذا أورد مسلم بعضه, وغيره أورد الباقي؛ فدل ما ذكرناه على فتح الباب وعدم التأقيت. ولأنها إنما سميت عمرة؛ [لجواز فعلها] في العمر كله. ثم مع جواز الفعل في جميع السنة لا يكره في وقت منها, سواء فيه يوم عرفة,

ويوم النحر, وأيام التشريق, وغيرها. نعم, فعلها في الأيام الخمسة ليس بفاضل كفعلها في غيرها؛ لأن الأفضل فعل الحج فيها, وعليه يحمل قول عائشة -رضي الله عنها, إن [صح-]: "العمرة في السنة كلها إلا يوم عرفة, ويوم النحر, وأيام التشريق". والعاكف بمنى للرمي والمبيت, لا تنعقد عمرته لاشتغاله بذلك؛ نص عليه. ومن تعجل الرمي في اليوم الثاني, يجوز له الاعتمار في الثالث, صرح به المارودي والإمام. ويجوز أن تفعل في السنة الواحدة مرتين وأكثر, خلافًا للمزني فإنه قال: لا تجوز إلا مرة؛ قياسًا على الحج. وهو فاسد؛ لما سنذكر أن عائشة -رضي الله عنها- اعتمرت في سنة مرتين بأمره, عليه السلام. وعن علي -كرم الله وجهه- أنه اعتمر في شهر أربع مرات, وكذا روي عن ابن عمر وأنس, ولم ينكر ذلك أحد. ولأنها عبادة غير مؤقتة؛ فجاز تكرارها في السنة, كالصلاة, وخالفت الحج؛ لأن له وقتًا يفوت بفواته وهو عرفة. قال البندنيجي: ويجوز أن يقيم على إحرامه بالعمرة أبدًا, ويكملها متى شاء. قال في "التهذيب": والمستحب أن يعتمر في أشهر الحج, اقتداء به عليه السلام. قال: ولا يجوز الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج, لقوله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] والحج: هو الفعل؛ فلا يصح وصفه بأنه أشهر؛ [فثبت أنه

لا] بد من إضمار ولا يجوز إضمار فعل الحج؛ لأن فعله ليش بأشهر, وإنما يكون في أيام معدودة, ولا يجوز أن يكون التقدير: أشهر الحج أشهر معلومات -كما قال الزجاج- لخلوه عن الفائدة؛ فتعين أن يكون: وقت الإحرام بالحج أشهر معلومات؛ لظهور الفائدة, قال الماوردي: ولأنه لما جعل الحج أشهرًا, والحج: الإحرام, والوقوف, والطواف, [والسعي, والطواف] والسعي لا يختص بها, بل يصح فيها وفي غيرها, وإن لم يكن الوقوف في جميعها -حصل الاختصاص بالإحرام؛ فكأنه قال: اللإحرام بالحج في أشهر معلومات. قال القاضي الحسين وغيره: ويدل على ذلك من الآية قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ} [البقرة: 197] والفرض: هو العقد والإيجاب, والهاء والنون إنما تستعمل فيما دون العشرة, فأما فيما وراء العشرة فيقال فيها بالهاء والألف, كما قال تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} , ثم قال تعالى: {فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة: 36]؛ فدل على اختصاص الإيجاب بأشهر الحج. قال: وهي شوال, وذو القعدة, وعشر ليال من ذي الحجة؛ كذا ذكره ابن عباس, وجابر, وابن مسعود, وابن الزبير. وقد خالفنا أبو حنيفة, فعد يوم العيد منها؛ لأنه يفعل فيه معظم النسك؛ فكان كيوم عرفة وما قبله. ومالك يعد جميع ذي الحجة منها, وقد نص الشافعي على مثل مذهبه في "الإملاء"؛ كما قاله القاضي أبو الطيب والعمراني وغيرهما؛ لقوله تعالى: {أَشْهُرٌ} [البقرة: 197] , وهي جمع, وأقل الجمع ثلاثة, وأثر هذا الخلاف يظهر من بعد. والمذهب: [الأول]؛ لأن الله -تعالى- حد شهور الحج, وأخبر أنها معلومات, والتحديد لا بد له من فائدة وتلك الفائدة عندنا: أن الإحرام بالحج لا ينعقد في غيرها, والفائدة عند مخالفنا: أنه يكره الإحرام بالحج في غيرها, وهذا المعني موجود في يوم النحر وما بعده؛ لأن الإحرام فيه لا ينعقد عندنا بالحج

ويكره عند مخالفنا؛ [فثبت أنه ليس من أشهر الحج. ولأن الله تعالى قال: {فَلَا رَفَثَ} [البقرة: 197] فنهى عن الرفث -وهو الجماع- في وقت الحج, وقد يحل الجماع في يوم النحر, وهو إذا طاف بعد نصف الليل, ورمى بعد طلوع الفجر, وكذا عنده إذا طاف بعد طلوع الفجر, ورمى بعد طلوع الشمس يستبيح الوطء في بقية يومه] فثبت أن ذلك ليس من جملة أشهر الحج. والجواب عن حجة أبي حنيفة: أن معظم الحج يفعل في أيام التشريق, وهو الطواف, والرمي, والنحر, والمبيت بمنى, وليست من أشهر الحج. وعن حجة مالك: أن العرب قد تذكر الشيئين وبعض الثالث باسم الجمع, قال الله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 227] ولو طلقها وكانت طاهرًا, ثم مضى جزء يسير, وحاضت, لكان ذلك الجزء مضافًا إلى قرأين كافيًا. على أنا [قد] نقول: إن أقل الجمع اثنان, كما قاله [بعض] أصحابنا, فلا نحتاج معه إلى جواب. وقد حكى الإمام ومن تبعه وجهًا: أنه لا يصح الإحرام به في الليلة العاشرة وهي ليلة العيد, كما حكاه القاضي الحسين عن ابن سيرين. قال الرافعي: ويجوز أن يكون قائله هو القائل بأنها ليست وقتًا للوقوف, كما سيأتي, ويجوز أن يكون مستنده قول الشافعي -رضي الله عنه-: "أشهر الحج: شوال, وذو القعدة, وتسع من ذي الحجة, وهو يو معرفة, فمن لم يدركه إلى الفجر من يوم النحر, فقد فأنه الحج"؛ فإن الليلة العاشرة لو كانت منها لقال: وعشر من ذي الحجة. واعتقاده أن قول الشافعي: "وهو يوم عرفة" أي: اليوم التاسع يوم عرفة, وقوله: "فمن لم يدركه", أي: لم يدرك الوقوف في يوم عرفة الذي هو معظم الحج "إلى الفجر من يوم النحر, فقد فاته الحج", كما قدره المسعودي. لكن الجمهور قالوا: المراد: من لم يدرك الإحرام إلى الفجر من يوم النحر, فقد فأنه الحج وأفرد الليلة العاشرة؛ لأن فوات الحج يتعلق بفواتها, ولأن المحرم بالحج فيها لا يحصل له فضيلة الإحرام؛ لأنه لم يجمع فيه بين الليل والنهار.

ولأن ليلة النحر لا يتعقبها شيء من أشهر الحج, بخلاف سائر ليالي الحج. ولأن الليالي تستتبع الأيام, وليلة النحر لا تستتبع يومها؛ فلذلك أفردت بالذكر؛ لما امتازت على غيرها, وهذا أحد الجوابين اللذين أجاب بهما الأصحاب ابن داود حين قال: الشافعي إن كان أراد بقوله: "وتسع من ذي الحجة" الأيام, فقد خالف اللغة؛ لأنه لا يقال: "تسع أيام", وإن كان أراد: الليالي, فقد خالف الشريعة؛ لأن الليالي من ذي الحجة عشرة. والجواب الثاني: أن الشافعي أراد الأيام, وليس في ذلك مخالفة للغة؛ لأن من شأن العرب إذا جمعت الأيام والليالي تجعل الحكم لليالي؛ قال الله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] والعشر تكون ليالي وأيامًا؛ فغلب حكم التأنيث لما اجتمعا, وقال –عليه السلام-: "يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا". وقال لحبان بن منقذ: "إذا اشتريت فقل: لا خلابة, واشترط الخيار ثلاثًا" وأراد: ثلاثة أيام. قال: فإن أحرم بالحج في غير أشهره, انعقد إحرامه بالعمرة؛ لأنه –عليه السلام- سئل عمن يحرم بالحج قبل أشهره, فقال: "يهل بالعمرة", وروي أنه قال: "مهل بالحج قبل أشهر الحج مهل بالعمرة". ولأن الإحرام شديد التشبت واللزوم؛ ولهذا ينعقد مع السبب المفسد؛ بأن يحرم مجامعًا, فإذا لم يقبل الوقت ما احرم به, انصرف إلى ما يقبله. وأيضًا: فإنه [إذا] بطل قصد الحج, بقي مطلق الإحرام, [والعمرة تنعقد بمجرد الإحرام] فانصرف إليها, وهذا ما نص عليه في "المختصر", ولم يورد العراقيون سواه, وقالوا: لو كان عليه عمرة الإسلام, أجزأته, وهو مراد الشيخ بقوله: "بالعمرة"؛

إذ لو لم يكن هذا مراده, لحذف الألف واللام, ولقال: انعقد بعمرة. وقد حكى القاضي الحسين والفوراني عن الشافعي –رضي الله عنه- أنه قال في موضع آخر من القديم: "إنه يتحلل بعمل عمرة", فأقامه بعض الأصحاب قولاً ثانيًا في المسألة, ومنهم من قطع به, وقاسه على ما لو فات حجه؛ [لأن كل] واحد من الزمانين ليس وقتًا للحج, وعلى هذا لا تجزئه عن عمرة الإسلام. وحكى الإمام أن بعض المصنفين –وهو في "الإبانة"-[قال]: إن إحرامه ينعقد فيهما, إن صرفه إلى العمرة كان عمرة صحيحة, وإلا تحلل بعمل عمرة. ونزَّل [النصين] على هذين الحالين. وفي "تعليق" القاضي: أن من أصحابنا من قال بنفي الخلاف في المسألة, وينزل الأول على ما إذا أحرم مطلقًا, والثاني على ما إذا قيد الإحرام بالحج. والأشهر –كما قال الرافعي- طريق القولين, وهما مشبهان- عند من أثبتهما كالقولين- في التحرم بالصلاة قبل وقتها, هل تنعقد نافلة؟ لكن الأظهر هناك: أنه إن كان عالمًا بالحال لم تنعقد نافلة, وهنا: الأظهر انعقاد العمرة بكل حال؛ لقوة الإحرام. وغيره صحح طريقة القطع بأنه بأفعال عمرة, وفرق بين ما نحن فيه, التحرم بالصلاة قبل وقتها-: بأن الفرض في الصلاة صفة لها؛ فإذا سقطت الصفة, بقيت نفس الصلاة صحيحة, والحج ليس هو عمرة موصوفة. قال: ويجوز إفراد الحج عن العمرة, ويجوز القران بينهما, ويجوز التمتع بالعمرة إلى الحج؛ لما روى أبو داود عن عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع, فمنا من أهل بعمرة, [ومنا من أهل بحج] , ومنا من أهل لالحج والعمرة, وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم [بالحج] ", وأخرجه البخاري ومسلم

وغيرهما مختصرًا ومطولًا. وقد أجمع المسلمون على ذلك. [قال العلماء: وسميت: حجة الوداع؛ لأنه –عليه السلام- ودع فيها الناس. وتسمى: حجة البلاغ؛ لأنه بلغ أمته فيها ما تضمنته خطبته. وتسمى: حجة التمام؛ لأنه بين تمامها وأراهم مناسكها. وتسمى: حجة الإسلام؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد فرض الحج غيرها وقيل: لم يحج بعد النبوة غيرها. قال الماوردي في السير: وقد حكى مجاهد أنه حج قبل الهجرة حجتين, ورواه جابر بن عبد الله]. قال: وأفضلها: الإفراد؛ لما روى مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج. وروى مسلم –أيضًا- عن ابن عباس قال: "فركب –يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- راحلته, فلما استوت على البيداء أهل بالحج". وروى مسلم عن ابن عمر قال: "أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا", وفي رواية: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفردًا". وروى البخاري ومسلم عن جابر قال: "أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [بالحج] خالصًا وحده, ليس معه عمرة".

وروى عن ابن عمر أنه قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعبد الرحمن ابن عوف, فأفردوا, لوم يقرنوا, ولم يتمتعوا. وإذا كان هذا فعله -عليه السلام- وصحابته, كان هو الأفضل. ولأن الإفراد أكثر عملًا؛ فإنه يأتي بالنسكين كاملين, [لا تداخل فيهما] , ولا يتعلق به [وجوب دم] جبران, بخلاف التمتع والقران؛ فإنهما يجبران بالدم, والجبران دليل نقصان. قال: ثم التمتع, ثم القران, لأن المتمتع يأتي بعملين بتمامهما, بخلاف القارن, وموجبات الدم في التمتع [أقل] منها في القران, وما قل نقصه كمل حاله. وما ذكره الشيخ من تفضيل الإفراد على التمتع, وتفضيل التمتع على القران -هو الذي نص عليه في "المختصر" وعامة كتبه, وهو الجديد, والمختار في "التهذيب" و"المرشد" وما بعدهما. ونقل العراقيون قولاً ثانيًا في المسألة يعزى إلى نصه في "اختلاف الحديث": أن التمتع أفضل من الإفراد والقران, وهو اختيار المزني -كما قال الفوارني- لما روى مسلم عن عمران بن حصين قال: "تمتع نبي الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه", ولأجل هذه الرواية قال ابن سريج: إنه -عليه السلام- كان متمتعًا في حجة الوداع. وقد جاء في "البخاري" و"مسلم" أنه -عليه السلام- قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت, لم أسق الهدي, وجعلتها عمرة", فتمنى تقديم العمرة, ولولا أنه أفضل لم يتمنه. قال القاضي الحسين: وهذا [الحديث] ليس على ظاهره؛ لأنه يوجب أن سوق

الهدى يمنع العمرة, وقد انعقد الإجماع على خلافه. والقائلون بهذا القول قالوا: من روى أنه أفرد إنما قال ذلك؛ لأنه رآه يهل بالحج, فظن أنه أفرده وأحرم به ابتداء وكان –عليه السلام- قد تقدمت عمرته على الحج, لكن خفي عليهم ذلك. والقائلون [بالقول الأول] قالوا: ما روي من أنه –عليه السلام- تمتع, يحتمل أن يكون المراد أنه تمتع بع التحلل من الحج وقبل الإحرام بالعمرة. ومنهم من حمله على أنه أمر بالتمتع, وذلك جائز في اللغة, ألا ترى أنه روي "أن ماعزًا زنى؛ فرجمه –عليه السلام", وإنما أمر برجمه. وأجابوا عما ذكر من التمني: بأنه أراد به تطييب قلوب من أحرم بالعمرة؛ لأنه –عليه السلام- كان أحرم إحراماً مبهمًا, كما رواه جابر, وكان ينتظر الوحي في اختيار أحد الوجوه الثلاثة, فنزل الوحي بأن [من] ساق الهدي, فليجعله حجًا, ومن لم يسقه فليجعله عمرة, وكان –عليه السلام-[هو] وطلحة قد ساقا الهدي دون غيرهما, فأمروا أن يجعلوا إحرامهما عمرة, ويتمتعوا, وجعل –عليه السلام- إحرامه حجًا, فشق عليهم ذلك؛ لأنهم كانوا يعتقدون من قبل أن العمرة في أشهر الحج من أكبر الكبائر؛ فقال –عليه السلام- ذلك إظهارًا للرغبة في موافقتهم لو لم يسق الهدي؛ فإن الموافقة الجالبة للقلوب أهم بالتحصيل من فضيلة يختص بها؛ ولهذا يؤثر للمتطوع الصائم أن يفطر للموافقة, ويستدرك بالقضاء. وقد توافق القولان على تأخير القران عن الإفراد والتمتع. والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما يقولون: لا خلاف على مذهب الشافعي أن الإفراد والتمتع أفضل من القران, لكن في "الوسيط" حكاية قول: أن القران أفضل من التمتع. قلت: ويشهد له أن الماوردي حكى في السير: أن رواة القران: أربع من الصحابة ورواة التمتع ثلاثة, وكثرة الرواة مما يرجح به, ولهذا رجحنا الإفراد عليهما؛ لأن

رواته من الصحابة خمسة. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أن المزني وأبا بكر بن المنذر قالا –تبعًا لأبي حنيفة وإسحاق-: إن القران أفضل الثلاثة. وقال في "الشامل" إنه اختيار أبي إسحاق المروزي؛ لقوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] , وقد تقدم أن إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وروى مسلم عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بهما جميعًا: "لبيك عمرة وحجًا", وأخرجه البخاري بمعناه. والقائلون بالأول قالوا: ما ذكرناه من رواية الإفراد معارضة لهذه الرواية, وهي أولى؛ لاعتضادها بالمعنى, ولأن جابرًا أقدم صحبة, وأشد عناية بضبط المناسك وأفعاله صلى الله عليه وسلم من لدن خروجه من المدينة إلى أن تحلل. وروي أن رجلًا أتى من العراق وسأل ابن عمر –رضي الله عنهما- عن حجة [النبي صلى الله عليه وسلم] فقال: كان مفردًا, ثم رجع إليه في العام المستقبل, وسأله عن حجه –عليه السلام- ثانيًا, فقال: "ألست أخبرتك في العام الماضي؟! " فقال: إن أنسًا –رضي الله عنه- عندنا يزعم أنه قرن, فقال: وهل كان أنس يلج على النساء وهن متكشفات وكنت أمشي تحت ثفنة ناقته –عليه السلام- ولعابها يسيل علي, وهو يقول: "لبيك بحجة"؟ والقائلون بأن التمتع أفضل قالوا: قوله –عليه السلام-: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ... " إلى آخره, نفى أنه كان قارنًا؛ لأنه لو كان قارنًا لكان محرمًا بالعمرة, وكان لا معنى للتمني. ومن روى أنه قرن أراد على جهة التوالي والتعاقب, لا على جهة الاجتماع والتزاحم.

ووراء ما ذكرناه طريقة أخرى حكاها الإمام عن بعض التصانيف –وهي في "الإبانة"-: أن مذهب الشافعي –رضي الله عنه- أن الإفراد أفضل من التمتع والقرآن, جزمًا, وهل التمتع أفضل من القرآن أو العكس؟ فيه القولان. وقد بقى من تتمة الكلام في المسألة بيان محل كون الإفراد أفضل, فسنذكره. قال: والإفراد: أن يحج, ثم يخرج إلى أدنى الحل –أي: بعد التحلل منه؛ كما قاله بعضهم, مع أن في كلام الشيخ غنية عنه- ويحرم بالعمرة. هذا التفسير وافق الشيخ فيه البندنيجي وغيره, وهو إن يريد به بيان حقيقة الإفراد, فهو يخرج من أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج, ثم حج من الميقات, ومن لم يحرم إلا بالحج من الميقات في سنته –عن أن يكون منفردًا. وقد قال القاضي الحسين والإمام: إنه مفرد في كل واحدة منهما بلا خلاف, وصرح به الغزالي في الأولى. ولو أريد به بيان الإفراد الذي هو أفضل من التمتع والقران, فهو يخرجهما –أيضًا- لكن قد صرح بإخراج الأخير وإخال الأول الرافعي؛ حيث قال: إن محل كون الإفراد أفضل إذا اعتمر في تلك السنة, أما لو أخر, فكل واحد من التمتع والقران أفضل منه؛ لأن تأخير العمرة عن سنة الحج مكروه.

و [قد] صرح بإخراج الأول القاضي أبو الطيب والماوردي حيث قالا: الإفراد الذي يختاره الشافعي إفراد الحج الذي يكون بعده عمرة في عامه, فأما إذا أفرد الحج من غير عمرة, فالتمتع والقران أفضل منه. قال الماوردي: وقد روى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- أنه –عليه السلام- قال: "تابعوا بين الحج والعمرة, فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد". وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية عن المذهب خلاف ما قاله الرافعي؛ فإنه قال: نحن إنما نفضل الإفراد على القران إذا أراد أن يأتي بكل واحد من النسكين على الانفراد, فأما إذا أراد الاقتصار على أحدهما, والإعراض عن الثاني أصلًا, فالقران أفضل منه لا محالة, وأبو حنيفة يوافقنا في أن [الإتيان] بكل واحد من النسكين على الانفراد أفضل من الجمع بينهما؛ فيبقى الخلاف في أنه إذا حج في سنة

واعتمر في أخرى, يكون أفضل عندنا من أن يجمع بينهما, خلافًا له, ثم مال القاضي إلى قول أبي حنيفة؛ لأن للتأخير آفات. قال: والتمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج, ويفرغ منها, ثم يحج في عامه, سمي بذلك؛ لأنه بصدد أن يتمتع بما كان عليه محظورًا بينهما, ولانتفاعه بسقوط العود إلى الميقات [للحج؛ فإن التمتع لغة –كما قال الواحدي-: التلذذ والانتفاع؛ يقال:] تمتع به, أي: أصاب منه, والمتاع: كل شيء ينتفع به, وأصله من قولهم: حبل ماتع, أي: طويل. قال القاضي أبو الطيب وغيره: وليس يريد بكونه يحج في عامه أن يفعل جميع الحج, بل إذا فعل جزءًا من الحج بعد العمرة, كان متمتعًا؛ لأن ما جعل غاية, فوجود أوله كاف؛ كقوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. وقد وافق الشيخ فيما ذكره من التفسير البندنيجي, وابن الصباغ, وغيرهما, وهو يقتضي أمرين: أحدهما: أن اسم "المتمتع" يصدق على من يجب عليه الدم لاجتماع الشرائط التي سنذكرها فيه, وعلى من لم يجب عليه لفقد شرط منها, وسيأتي في كلام الشيخ ما يدل عليه أيضًا, وهو الذي صرح به الماوردي, وحكاه في "الزوائد" عن الشيخ أبي حامد, والآية توافقه, وكذا قول الأصحاب: إن المكي لا يكره له التمتع والقران, خلافًا لأبي حنيفة -رحمه الله- لكن المحكي عن القفال: أنه [لا] يسمى متمتعًا ما لم تجتمع الشرائط المذكورة [فيه] , وحكى فيه نصًا للشافعي, والاشتقاق السابق يعضده. الثاني: أن من أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج, وطاف, وسعى في أشهره –أنه لا يكون متمتعًا, ولا يجب عليه دم, وقد حكى أبو الطيب وغيره في وجوبه قولين: أحدهما: قاله في القديم و"الإملاء"-: أنه يكون متمتعًا, وعليه دم. والثاني: قاله في الجديد [و"الأم"] , وهو المختار في "التهذيب"

و"المرشد", والصحيح في "تعليق" القاضي الحسين وغيره-: أنه لا يكون متمتعًا, ولا دم عليه. وعن ابن سريج أنه قال: إن أحرم قبل أشهر الحج بالعمرة, ثم دخلت أشهر الحج, فمر بالميقات محرمًا – [يلزمه] دم التمتع. وإن لم يمر الميقات, أو كان قد مر به قبل أشهر الحج –لم يكن متمتعًا؛ فلا يلزمه دم. وزاد الرافعي في الحكاية عنه أنه حمل النصين على هاتين الحالتين. ولو كان قد أتى بشيء من الطواف قبل أشهر الحج, ثم كمله فيها –فليس بمتمتع على القولين. وفي "النهاية": أنا إذا قلنا بالقول القديم, جعلناه متمتعًا إذا أتى بالحلاق فقط في أشهر الحج, وقلنا: إنه نسك. ثم قال: وحيث لم نجعله متمتعًا [والصورة هذه] , فهل يجب عليه دم الإساءة؟ كان شيخي يقطع بالوجوب؛ لأنه يجب بسبب الإخلال بالميقات وذهب المحققون إلى المنع؛ فإن المسيء من ينتهي إلى الميقات وهو على قصد النسك, فيجاوزه غير محرم, وهذا لم يتحقق ممن جاوز الميقات محرمًا بالعمرة, وأما الحج فقد أتى به من ميقات انتهى إليه, وهو مكة؛ فإيجاب دم الإساءة بعيد. قال: والقران: أن يجمع بينهما في الإحرام, أي: في أشهر الحج. قال الماوردي: وهذا حقيقته لغة وشرعًا. أو يهل بالعمرة, أي: في أشهر الحج أو قبلها؛ كما قاله ابن الصباغ وغيره, ولم يفسدها, ثم يدخل عليها الحج, أي: في أشهره, قبل الطواف, ثم يقتصر على أفعال الحج, أي: يجزئه. والأصل في ذلك: ما رواه أبو داود عن جابر قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا وأقبلت عائشة مهلة بعمرة, حتى إذا كانت بسرف عركت –أى: حاضت؛ فإن العراك: الحائض – حتى [إذا] قدمنا طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة,

فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي. قال: فقلنا: حل ماذا؟ قال: "الحل كله", فواقعنا النساء, وتطيبنا بالطيب, لبسنا ثيابنا, وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال, ثم أهللنا يوم التروية, ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة, فوجدها تبكي, فقال: "ما شأنك؟ " قالت: شأني أني قد حضت, قد حل الناس, ولم أحلل, ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن, قال: "إن هذا [أمر] كتبه الله على بنات آدم, فاغتسلي, ثم أهلى بالحج" ففعلت, ووقفت المواقف, حتى إذا طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة, ثم قال: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا", وأخرجه مسلم. وفي رواية عند قوله: "وأهلى بالحج": "واصنعي ما يصنع الحاج, غير ألا تطوفي بالبيت, ولا تصلي". قال الغزالي: ولا تحتاج إلى نية القران في هذه الحالة. وعن الشيخ أبي علي حكاية وجه آخر فيما أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج: لا يجوز أن يدخل عليها الحج في أشهره, وعزاه إلى عامة الأصحاب, واختاره, والذي اختاره القفال: الأول. أما إذا دخل [عليها] الحج قبل أشهره, لَغَى ذلك, وإن أدخله في أشهره بعد الطواف في العمرة, لم يصح إحرامه بالحج أيضًا وفاقًا, لكن لماذا؟ فيه أربعة معان, ذكرها القاضي الحسين: أحدها: لأنه أتى بعمل من أعمالها. والثاني: لأنه أتى بفرض من فرائضها. والثالث: لأنه أتى بمعظمها. والرابع: [لأنه أخذ في أسباب التحلل. والثالث والرابع] هما اللذان أوردهما العراقيون, والأخير هو المذكور في

"عيون المسائل" لأبي يكر الفارسي، وشبهه أبو علي بما لو ارتدت الرجعية، فراجعها في الردة؛ فإن الشافعي - رضي الله عنه - نص على أنه لا يجوز؛ لأن الرجعة استباحة فلا تصح، والمرأة جارية إلى تحريم. وكما لا يصح إدخاله عليها بعد الطواف، لا يصح إدخاله عليها بعد استلامه الحجر، وفعل خطوة أو خطوتين، ولو أدخله بعد استلام الحجر، وقبل المشي، ففي جوازه وجهان في "الحاوي": أحدهما: يجوز؛ لأن الاستلام مقدمة الطواف؛ فأشبه ما لو وقف عند الحجر لإرادة الطواف ولم يشرع فيه. والثاني: لا يجوز؛ لأن ذلك أول أبعاضه، وعلى هذا لو استلم غير مريد للطواف، ثم أحرم بالحج أجزأه. ولو شك هل أحرم قبل الطواف أو بعده، قال أصحابنا: أجزأه؛ لأن الأصل جواز إدخال الحج على العمرة إلا بتعيين يمنع منه، فصار كمن أحرم وتزوج ولم يدر هل [كان] تزوج قبل الإحرام أو بعده؛ فإن الشافعي - رضي الله عنه - قال: يجزئه. ولو أدخل [لحج] على العمرة بعد أن أفسدها، فوجهان في "المهذب" وغيره: أحدهما: ينعقد، ويكون فاسداً. والثاني: لا ينعقد، واختار، في "المرشد"؛ لأنه لو انعقد لكان فاسداً ولم يصادف ما أفسده، ولا يجوز أن يكون صحيحاً ومقارنه فاسداً. وقيل: ينعقد الإحرام بالحج صحيحاً، والعمرة على الفساد، حكاه الماوردي وهو بعيد. وإذا قلنا: يكون فاسداً فهل ينعقد على الصحة ويفسد على الاتصال، أو ينعقد على الفساد فيه احتمالان.

قال: وإن أهل بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، ففيه قولان: أحدهما: يصح، ويكون قارناً كعكسه وهذا هو القديم، والأصح في "النهاية"، وعلى هذا ففي وقت جواز ذلك أربعة أوجه حكاها الغزالي، وهي مبنية - كما قال القاضي الحسين - على المعاني الأربعة في الحالة السابقة. فإن جعلنا الامتناع ثم؛ لأنه أتي بعمل من أعمالها، اختص الجواز هنا بما إذا لم يطف طواف القدوم، فإن طافه، لم يجز إدخالها عليه، وهو ما ذهب إليه ابن الحداد، وصاحب "التلخيص"، وحكاه عن نص الشافعي - رضي الله عنه - في القديم، وصححه البغوي، وقبله القاضي [أبو الطيب] في شرح الفروع، وقال: لا أعلم خلافا بين أصحابنا: أن من جاوز الميقات غير محرم، ثم أحرم، ولم يرجع حتى تلبس بشيء من أعمال الحج من طواف القدوم أو عدل إلى الوقوف، ووقف - أنه لا ينفعه، رجوعه، ولا يسقط عنه الدم، ولا يتغير حكم إحرامه؛ فكذلك ها هنا. وإن جعلنا علة المنع ثم: أنه أتى بفرض [من فرائضها اختص الجواز هنا بما إذا لم يأت بفرض]، ولا يضره طواف القدوم [فإن أتى بفرض - ولو السعي - عقيب طواف القدوم] لم يجز إدخالها عليه؛ وهذا ما اختاره الخضري. وإن قلنا ثم: المانع كونه أتى بمعظم العبادة، فوقت الجواز هنا ما لم يقف بعرفة، سواء أتى بالسعي أو لا، فإن وقف لم يجز إدخالها عليه، وهذا ما حكاه الماوردي -[أيضاً]- وجعل حكم من أدخلها وهو واقف حكم من أدخلها بعد الوقوف. وعلى هذا لو كان قد سعى ثم أدخلها قبل الوقوف، ففي شرح الفروع لأبي علي: أن عليه إعادة السعي؛ ليقع عن النسكين جميعاً. وإن جعلنا ثم علة المنع: أنه أخذ في أسباب التحلل، فالوقت هنا ما لم يشرع في رمي جمرة العقبة وإن سعى مع طواف القدوم ووقف، وإذا رمى، لم يجز إدخالها عليه.

وقد حكى القاضي أبو الطيب هذا الوجه - أيضاً - عند الكلام فيما إذا أحرم بنسك، ثم نسيه. قال الرافعي: وعلى هذا: لو كان قد أدخلها قبل التحلل وبعد السعى فقياس ما تقدم عن الشيخ أبي علي وجوب إعادة السعي، وقد حكى الإمام فيه وجهين [وقال إن] المذهب: أنه لا يجب. وكذلك قال في "الوسيط": إنه الصحيح. قال: والثاني: لا بصح، والفرق: أنه بإدخال الحج على العمرة يستفيد فائدة؛ لأن الأعمال تزداد بسببه، بخلاف إدخال العمرة على الحج، فإنه لا يفيد شيئاً؛ لأنه يقتصر بعد إدخالها إليه على ما كان يقتصر عليه قبله من الأعمال؛ وهذا هو الصحيح والجديد. قال: ويجب على المتمتع والقارن دم: أما وجه وجوبه على المتمتع قبل الإجماع، قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [معناه فعليه ما استيسر من الهدي]. قال الأصحاب: والمعنى فيه أنه ربح ميقاتًا، قإنه لو كان قد أحرم بالحج أولاً من ميقات بلده، لكان يحتاج بعد فراغه من الحج إلى أن يخرج إلى أدنى الحل، فيحرم بالعمرة منه، وإذا تمتع، استغنى عن الخروج؛ لأنه يحرم بالحج من جوف مكة؛ فلذلك وجب الدم. ووجه وجوبه على القارن: ما روى البخاري ومسلم: أنه - عليه السلام- ذبح عن نسائه البقر يوم النحر، قالت عائشة: "وكن قارنات"؛ ولأنه إذا وجب على المتمتع لقطعه مسافة عن مسافتين وربحه عن أحد السفرين، فلأن يجب على القارن وقد وجد ذلك في حقه، مع إسقاط أحد العملين، كان أولى. والدم الواجب على المتمتع والقارن: شاة تجزئ في الأضحية، وتجزئه البدنة والبقرة عنها، لكن [تكون كلها واجبة] أو سبعها؟ فيه وجهان في تعليق القاضي

الحسين وغيره، وعلى الوجهين لو شارك فيها ستة جاز. و [حكي] عن القديم: أن على القارن بدنة. والحديث والقياس يبطله. ولا يجب الدم على المفرد إجماعاً. قال: ولا يجب على القارن إلا أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام؛ لأن دم القران فرع دم التمتع، وهو غير واجب على من هو من حاضري المسجد الحرام؛ فكذلك [دم] القران. وروى الحناطي وجهاً: أن عليه دم القران. قال الرافعي: ويشبه أن يكون هذا الاختلاف مبنياً على وجهين نقلهما صاحب "العدة" في أن دم القران دم جبر أم دم نسك؟ والمشهور: الأول؛ فلا جرم أنه لا يجب على الحاضر. نعم، هل على المكي إذا قرن إنشاء الإحرام من أدنى الحل كما لو أفرد العمرة، أو يجوز أن يحرم من جوف مكة؛ إدراجاً للعمرة تحت الحج؟ فيه وجهان، أصحهما: الثاني. قال الرافعي: ويجريان في الآفاقي إذا كان بمكة، وأراد القران. قلت: والظاهر: أنه أراد الآفاقي الذي لم ينو الإقامة بمكة، وإلا لكان من حاضري المسجد الحرام؛ فلا معنى لقوله: إن الوجهين يجريان فيه. فرع: لو عاد القارن الغريب إلى الميقات محرماً، ففي سقوط الدم عنه وجهان مرتبان- كما قال الإمام- على ما لو عاد المتمتع بعد إحرامه وقبل أداء شيء من النسك إليه؛ فإن في سقوط الدم عنه وجهين: فإن قلنا: لا يسقط، وهو المختار في "المرشد"، فكذلك ها هنا، وإلا فوجهان والفرق: أن اسم القارن باق، وهو في حكم متنسك بنسك واحد؛ فلا أثر لعوده في الإسقاط. وقال الحناطي: الأصح: أنه لا يجب عليه – أيضاً- وقد نص عليه في "الإملاء". قال: ولا على المتمتع إلا ألا يعود [: للإحرام بالجح] إلى الميقات؛ لأن

المعنى في إيجاب الدم عليه ما تقدم، وبإحرامه بالحج من الميقات لم يحصل له ذلك، فلم يجب عليه، والمراد بالميقات: الميقات الذي أحرم منه بالعمرة، ويقوم مقام عوده إليه عوده إلى ميقات مثله، أو أبعد منه، ولو عاد إلى ميقات أقرب منه إلى مكة، ففي وجوب الدم عليه وجهان، اختيار القفال والمعتبرين: لا. وفي "الإبانة" و"العدة": أنه إذا سافر بعد عمرته سفراً يقصر فيه الصلاة، ثم حج من سنته - لا دم عليه. ومما ذكرناه يظهر لك: أنه إذا فرغ من العمرة، ثم زار قبره - عليه السلام - وأحرم بالحج من ذي الحليفة، لا يجب عليه الدم اتفاقاً. قال: وألا يكون من حاضري المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ} إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]، أي: ما ذكر من وجوب الهدي والصوم عند عدمه، على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا}، [الإسراء: 7]، أي: فعليها، وقال تعالى: {أولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25]، وأراد به: فعليهم اللعنة وعليهم سوء الدار. وإذا كان ما ذكرناه مفروضاً في حق من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، ففي حاضريه [على الأصل، وهو عدم الوجوب،] والمعني فيه: أن الحاضر بمكة - شرفها الله تعالى - ميقاته للحج نفس مكة؛ فلا يكون رابحاً ميقاتاً، ومن كان بينه وبين الحرم دون مسافة القصر، لم يترفه ترفها له تأثير بإحرامه إلحج من مكة، لأن رجوعه إلى قريته لا مشقة عليه فيه، فلذلك لم يلزمه الدم بخلاف الغريب؛ فإن ترفهه له تأثير؛ لأن في رجوعه إلى الميقات مشقة عليه. قال الإمام: وقد يرد على من يعتمد ملك المعنى سؤال، فيقال له: من كان مسكنه دون ميقات، وكان من حاضري المسجد الحرام - كما سنذكره - فلو قصد مكة ناوياً نسكاً، وجاوز مسكنه وقريته غير محرم، فهو مسيء يلزمه دم الإماءة وفاقاً، ولو لم تكن المسافة محتفلاً بها، لقيل: هو من أهل مكة؛ فلا يلزمه شيء إذا أحرم من

مكة؛ فالوجه: التعويل على الآية. قال: وحاضرو المسجد الحرام: أهل الحرم؛ لأن كل موضع ذكر الله - سبحانه وتعالى- فيه: المسجد الحرام، أراد به: الحرم. قال الماوردي: إلا قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]، فإنه أراد به الكعبة، وكان إلحاق هذا بالأغلب أولى، مع أن هذا مما لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في غيره. قال: ومن كان منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة؛ لأن من قرب من الشيء ودنا منه، كان حاضراً إياه، قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف: 1]، قال أهل التفسير: هي أيلة، ومعلوم أنها ليست في البحر، وإنما هى مقاربة له، ويقال: فلان حفم فلاناً، إذا دنا منه، ومن كان مسكنه دون مسافة القصر، فهو قريب نازل منزلة المقيم في نفس الحرم، [ولأجل هذا] لا يجوز للخارج إليه الترخص بالقصر والفطر ونحوهما. وفي "تعليق" القاضي الحسين "والبحر" وغيرهما حكاية وجه: أن ما دون مسافة القصر يعتبر من نفس مكة، لا من الحرم، وهو ما حكاه الإمام عن الشافعي، رضي الله عنه. وقال ابن التلمساني: إن الغزالي حكى وجهاً: أن حاضري المسجد الحرام أهل الحرم خاصة، قال: يعني: أهل مكة دون من عداهم؛ كمذهب مالك. لكن المحكي عن مالك: أنهم أهل مكة وذو طوى. قال أبو الطيب: وهو يوافق قول ابن عباس وسعيد بن جبير: إنهم أهل الحرم؛ لأنه ليس في الحرم قرية عامرة غير مكة إلا ذا طوى. والمشهور: ما ذكره الشيخ، وعليه يتفرع ما لو كان للشخص داران: إحداهما فيما دون مسافة القصر، والأخرى في مسافة القصر، فإن كان مقامه في إحداهما أكثر، فالاعتبار بها؛ وإن استوى مقامه فيهما، فالاعتبار بالتي ماله فيها أو بالتي أكثر، ماله فيها؛ وإن استوى ماله فيهما، فالاعتبار بالتي عزم على الإقامة فيها بعد الفراغ؛ فإن

عدم ذلك، فالاعتبار بالتي أحرم منها؛ قاله البندنيجي وغيره. وقال الماوردي: قال أصحابنا: يجري عليه حكم الدار التي خرج منها. تنبيه المتبادر إلى الفهم من أهل الحرم ومن كان منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة: أنهم المستوطنون ذلك، دون المقيمين [فيه] والمسافرين الحاصلين فيه، وهو ما ذكره الفوراني، وكذا القاضي الحسين؛ فإنه قال: العبرة فيهم بالاستيطان والسكنى، دون المنشأ. وهذا ما أفهمه كلام القاضي أبي الطيب والماوردي، وعليه يدل ظاهر الآية؛ فإن أهل الشخص إنما [يكونون في] موضع استيطانه. وفرَّع القاضي الحسين على ذلك: أن شخصاً لو كان مستوطناً مكة؛ أو قريباً منها، فسافر، فلما عاد أحرم بالعمرة من الميقات، فاعتمر، ثم حج من باب داره - لم يكن متمتعاً يلزمه الدم. وقال في "الوسيط": حاضرو المسجد الحرام: من [كان] بينه وبين مكة ما دون مسافة القصر، سواء كان مستوطناً أو مسافراً. وهذا يكون فيمن كان بمكة من طريق الأولى، لكنه قال عقيب ذلك: إن الآفاقى إذا جاوز الميقات غير مريد نسكاً، فلما دخل مكة عنَّ له أن يعتمر، ثم يحج - لم يلزمه الدم، وإن عنَّ له ذلك قبل دخول مكة على أقل من مسافة القصر، فأحرم بالعمرة من موضعه، ثم حج في تلك السنة - ففيه وجهان حكاهما الإمام - أيضاً-: أحدهما: لا يلزمه؛ كما لو كان وطنه ذلك الموضع. والثاني: يلزمه [ذلك] وهو الذي مال إليه الإمام، وصححه الرافعي، وقال الغزالي في توجيهه: إن اسم "الحاضر" لا يتناوله إلا إذا كان [فى] نفس مكة أو كان مستوطناً حواليها. وهذا يقتضي عدم اعتبار التوطن فيمن هو بمكة، واعتباره فيمن هو حواليْها، وهو مخالف لصدر كلامه، وإذا صح ما ذكره حصل في المسألة ثلاثة أوجه. وقد علل في "الوجيز" عدم إيجاب الدم عليه فيما إذا عن له الإحرام بالعمرة [بعد دخول] مكة: بأنه صار من الحاضرين؛ إذ ليس يشترط فيه قصد الإقامة.

وقال الرافعي عقيبه: إن هذا لم أجده لغيره بعد البحث، بل كلام عامة الأصحاب ونقلهم عن نصه في "الإملاء" والقديم ظاهر في اعتبار الإقامة، بل في اعتبار الاستيطان، مع أن الصورة أولاً متعلقة بالخلاف في أن من قصد مكة هل يلزمه الإحرام بحج أو عمرة؟ قلت: وما أنكره إن كان هو الحكم، فهو ما أورده الماوردي؛ حيث قال: من مر بميقات بلده يريد حجًّا أو عمرة، فلم يحرم من ميقاته، بل جاوزه، وأحرم من الحل – ينظر في موضع إحرامه: فإن كان بينه وبين الحرم مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فلا دم عليه لتمتعه ولا لقرانه؛ لأنه قد صار كحاضري المسجد الحرام. وكذا القاضي الحسين [حيث قال] عند عدِّ شرائط إيجاب الدم على المتمتع: الشرط الخامس: أن يحرم بالعمرة من الميقات، فإن جاوز الميقات، ثم أحرم بها، لم يلزمه دم المتعة، وعليه دم الإساءة، نص عليه، فمن أصحابنا من قال به، ومنهم من قال: إن بقي بينه وبين مكة مسافة القصر، يلزمه دم المتعة ودم الإساءة، وإن بقي دون مسافة القصر، لم يلزمه دم المتعة، ويلزمه دم الإساءة، وحمل النص عليه. وقد حكى الرافعي هذا – أيضاً – في موضع آخر، والنص المذكور نسبه الشيخ أبو حامد إلى القديم، وكذلك حكاه البندنيجي، ولم يحك سواه. فإن كان ما أنكره كونه جعله من حاضري المسجد الحرام فهو قريب؛ لأن غيره قال: إنه كهم كما ذكرناه، وإن كان كهم صدق عليه أنه منهم؛ تجوزاً، والله أعلم.

وقد اتفق الكل على أن الغريب لو قصد مكة، ودخلها متمتعاً ناوياً الإقامة بها بعد الفراغ من النسكين أو من العمرة، أو نوى الإقامة بها بعدما اعتمر - أنه يجب عليه دم التمتع؛ لأنه لم يكن من الحاضرين؛ إذ الإقامة لا تحصل بمجرد النية؛ كذا قاله الرافعي. [ووجهه أبو الطيب] فيما إذا نوى الإقامة بعد الفراغ من العمرة بأن فرض الحج باق عليه، ولا بد له من الخروج إلى أرض عرفة وغيرها، وفنيته مخالفة لفعله؛ فلذلك لم يسقط عنه الدم. واعلم أن كلام الشيخ مصرح بأن المعتبر في إيجاب الدم [على المتمتع] وجود شرطين: ألا يعود لإحرام الحج إلى الميقات، وألا يكون من حاضري المسجد الحرام، وإنما اقتصر على ذلك؛ لاعتقاده أن التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم يفرغ منها، ثم يحج من عامه، وأنه لا يشترط في إيجاب الدم نية التمتع.

وفي "المهذب" اتبع طريقة القاضي أبي الطيب وغيره؛ [حيث] عدوا شرائط إيجاب الدم على المتمتع المتفق عليها أربعة: أحدها: أن يفعل الحج والعمرة معًا في أشهر الحج؛ [لأنه إذا فعل العمرة في غير أشهر الحج] وفعله في أشهره، فهو بمنزلة المفرد، والمفرد لا دم عليه؛ فثبت أن الدم يلزمه إذا فعل النسكين على خلاف فعل المفرد لهما. والثاني: أن يفعلهما معاً في سنة واحدة؛ لأنه إذا فعل العمرة قبل أشهر احلج وفعله في أشهره لا دم عليه، فأولى إذا فعلهما في عامين ألا يلزمه دم؛ لأنه أبعد في باب التفريق، فلم يوجد معنى التمتع الذي لأجله يجب الدم، وقد روي عن سعيد ابن المسيب: أنه قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج، فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك، لم يهدوا دماً". وعن ابن خيران: أن الشرط: أن يجمع بينهما في شهر واحد. وقال القاضي الحسين: إن الشافعي – رضي الله عنه- أشار إليه في رواية حرملة. الثالث: ألا يكون في رجع إلى الميقات، وأحرم منه بالحج. الرابع: ألا يكون من حاضري المسجد الحرام. والمنعتلف فيه أمور: أحدها: نية التمتع، وفيها وجهان: أحدهما: أنها واجبة؛ لأنه جمع بين عبادتين؛ فكان من شرطه النية؛ كالجمع بين الصلاتين، وهذا ما اختاره في المرشد. والثاني: لا؛ لأن [الجمع بين] الحج والعمرة يصح بالفعل؛ فلم يفتقر إلى النية، ويفارق الجمع بين الصلاتين؛ فإنه لا يصح بالفعل، بل بالنية؛ فلذلك كانت شرطاً فيه؛ وهذا ما اختاره القفال، [وصححه] الغزالي والرافعي، وفرق بأن أشهر الحج كما هي وقت الحج فهي وقت العمرة، بخلاف وقت الصلاة. وقال الإمام: إن اعتبار ما نحن فيه بنية الجمع بين الصلاتين في نهاية الضعف،

لكن لو قيل: إنما يلزم الدم إذا كان على قصد الحج عند الانتهاء إلى الميقات، وأتى بالعمرة؛ فإنه قدم أدنى السكين من أطول الميقاتين، أما إذا لم يكن على قصد الحج، أو كان على قصد الاقتصار على العمرة، ثم اتفق الحج، فلا دم عليه؛ قياساً على من جاوز الميقات لا على قصد النسك- لكان هذا قريباً من مأخذ النسك. فإن قلنا باعتبارها، ففي وقتها وجهان في كتب العراقيين مأخوذان من القولين في وقت اعتبارها فى الصلاة: أحدهما: أنه وقت الإحرام بالعمرة. والثاني: ما لم يفرغ من العمرة. وفي "الرافعي" وجه ثالث: أنه ما لم يشرع في الحج، وقال الإمام: إن اعتبار ما نحن فيه بنية الجمع. الأمر الثاني: وقوع النسكين عن شخص واحد، وفيه قولان: المنسوب في "البحر" إلى القفال، وهو اختيار الخضرى: أنه يشترط كما يشترط وقوعهما فى سنة واحدة. والجمهور على أنه لا يشترط، [وهو ما حكاه أبو حامد عن القديم]، فيجب الدم إذا كان أجيراً [من قبل شخصين، استأجره أحدهما للعمرة، والآخر للحج، أو كان أجيرًا] للعمرة، فاعتمر للمستأجر ثم حج عن نفسه، أو كان أجيراً للحج، فاعتمر لنفسه، ثم حج عن المستأجر؛ وعلى هذا يكون نصف دم التمتع على من يقع له الحج، ونصفه على من تقع عنه العمرة. قال الرافعي: وليس هذا الكلام على هذا الإطلاق، بل هو محمول على تفصيل ذكره صاحب "التهذيب": أما [فى] الأولى، فقال: إن أذنا في التمتع، فالدم عليهما نصفان، وإن لم يأذنا، فعلى الأجير وقياسه: إن أذن أحدهما دون الآخر، فالنصف على الآذن، والنصف على الأجير

وأما في الثانية والثالثة، فقال: إن أذن له المستأجر في التمتع، فالدم عليهما نصفان، وإلا فالكل على الأجير. قال الرافعي: وننبه هاهنا لأمور: أحدها: أن إيجاب الدم على المستأجرين أو أحدهما مفرع على الأصح في أن دم القران والتمتع على المستأجر، وإلا فهو على الأجير بكل حال. الثاني: إذا لم يأذن المستأجران أو أحدهما في الصورة الأولى، والمستأجر في الصورة الثانية والثالثة، وكان ميقات البلد معيناً فى الإجارة، أو نزلنا المطلق عليه - فيلزمه مع دم التمتع دم الإساءة؛ كمن جاوز [الميقات مريداً للنسك]. والثالث: إذا أوجبنا الدم على المتأجرين، فلو كانا معسرين [أو أحدهما] فعلى كل واحد منهما صوم خمسة أيام، لكن صوم التمتع بعضه في الحج وبعضه بعد الرجوع، وهما لم يباشرا الحج، فعلى قياس ما ذكره في "التهذيب"- تفريعاً على قولنا: إن دم القران والتمتع على المستأجر - يكون الصوم على الأجير، وعلى قياس ما ذكره صاحب "التتمة" ثم هو كما لو عجز المتمتع عن الصوم والهدي جميعاً. ويجوز أن يكون الحكم على ما سيأتي في المتمتع إذا لم يصم في الحج كيف يقضي؟ فإذا أوجبنا التفريق، اقتضى تفريق الخمسة بنسبة الثلاثة والسبعة إلى تبعيض القسمين، فيكملان، ويصوم كل واحد منهما ستة أيام، وقس على هذا ما إذا أوجبنا الدم في الصورتين الأخيرتين [على الأجير] والمستأجر. وإن فرعنا على وجه الخضري، فإذا اعتمر عن المستأجر، ثم حج عن نفسه، ففي كونه مسيئًا الخلاف الذي مر فيما إذا اعتمر قبل أشهر الحج، ثم حج من مكة، لكن الأصح هاهنا: أنه مسيء؛ لإمكان الإحرام الحج حين حضر الميقات. قلت: وهذا فيه نظر إذا كانت الإجارة واردة على عينه. قال الإمام: فإن لم يلزم الدم، ففوات هذا الشرط لا يؤثر إلا في فضيلة التمتع على

قولنا: إنه أفضل عن الإفراد، وإن ألزمناه فله أثران: هذا أحدهما. والثاني: أن المتمتع لا يجب عليه العود إلى الميقات، وإذا عاد وأحرم منه، سقط عنه الدم بلا خلاف، والمسيء يلزمه العود، وإذا عاد، ففي سقوط الدم عنه خلاف. وأيضاً: فإن الدمين يتفأوتان في البدل. الأمر الثالث: أن يبقي حياً إلى انقضاء الحج، فلو مات قبل انقضاء الحج مع قدرته على الهدي فقولان حكاهما [الإمام] والماوردي: أحدهما: تخرج الشاة من تركته. والثاني: تتبين أنها لم تجب عليه؛ لأنها كفارة في مقابلة تمتع، وإنما ينتفع المتمتع إذا تم له النسكان على رفاهية وربج [سفر]، فإذا مات لم يتحقق ذلك، وهو بعيد. والأصح: الأ هنأول. قال: والأفضل أن يذبج دم [التمتع والقران] يوم النحر؛ ليخرج من خلاف أبي حنيفة، فإن عنده اختصاص دم التمتع بيوم النحر، [ودم القران] فرعه، وقد استدل لذلك بقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، وقد أجمعنا على أنه إذا نحر الهدي قبل يوم النحر: أنه لم يجز أن يحلق رأسه؛ فدل أن محل الهدي يوم النحر. ودليلنا على جواز الذبح قبله: أنه وافقنا على جواز الصوم بعد الإحرام [بالحج] إذا لم يجد الهدي، وإذا جاز فعل البدل في وقت الوجوب مع ضعفه، فلأن يجوز فعل الأصل في وقت الوجوب إذا قدر عليه مع [قوته أولى] ويشهد لذلك: أن المكلف [إذا وجبت] عليه الصلاة وعدم الماء، صح تيممه، ولو وجد الماء في ذلك الوقت، توضأ به، وصح وضوءه. واحترزنا بقولنا: وقدر عليه، عما إذا وجب عليه الصيام في كفارة الظهار لعدم الرقبة، ولم يستطعه؛ فأطعم؛ فإن الإطعام بدل الصيام، ويجوز فعله بالليل [ولا يجوز

الصوم بالليل]. والجواب عن الآية: أنها واردة في حق المحصر، دون المتمتع ونحن كذلك في المحصر نقول: لا يحلق رأسه قبل التحريم، [و] لو سلمت من هذا، لحملناها على الاستحباب. قال: فإن ذبح المتمتع بعد الفراغ من العمرة - أي: وقبل الإحرام بالحج - والقارن بعد الإحرام بالحج - أي: في صورة إدخال الحج على العمرة - جاز على ظاهر المذهب، أي: المنصوص في "الإملاء"، و"حرملة"، و"المختصر"؛ لأن الحق المالي إذا تعلق بيبين جاز تقديمه على أحدهما، وهو الشطر، أصله: الزكاة، وكفارة اليمين، وهذا كذلك؛ لأنه يجب بأربعة أشياء، وبكمال العمرة وجد منها شيئان: كونه من غير حاضري المسجد الحرام، وفعل العمرة في أشهر الحج؛ فجاز تقديم الدم، وهذا هو الصحيح في الطرق. وقيل: لا يجوز دم التمتع حتى يفرغ من العمرة، ويحرم بالحج؛ لأن ذلك وقت الوجوب، [والذبح قربة متعلقة بالبدن؛ فلا يجوز قبل الوجوب] كالصلاة والصوم، ويخالف الزكاة وكفارة اليمين؛ لأن الاسم متحقق قبل الحول [والحنث] واسم التمتع لا يتحقق إلا بالحج. وهذا ما نقله ابن خيران قولاً ثانياً في المسألة، كما حكاه الماوردي، وقال القاضي الحسين: إنه من تخريج ابن سريج، وأنه قال: معنى كونها متعلقة بالبدن: أنها تؤدى بالذبح، ولا يتأتى ذلك إلا في بدن. قال القاضي: وهو فاسد؛ لأن العتق - أيضاً - في الكفارة لا يتأتى إلا ببدن، ولا يعد من القرب البدنية حتى لا يجوز تقديمه على بعض الأسباب، وكذا في زكاة السوائم. قال القاضي: وتخالف هذه المسألة - على هذا القول- ما إذا أخرج جزاء الصيد بعد جرحه وقبل الزهوق، فإنه يجوز قولاً واحداً؛ لأن الجرح يفضي إلى الهلاك من غير صنع من الجارح، بخلاف فعل العمرة؛ فإنه لا يفضي إلى الإحرام بالحج بنفسه. وقد تحصل مما ذكرناه: أنه لا خلاف عندنا في جواز ذبح دم القران بعد

الإحرام بالحج، وفي جواز دم [التمتع بعد] الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج الخلاف السابق. وإذا كان الأحسن كذلك، كان الأحسن فى الإيراد أن يذكر مسألة القران أولا، ويعقبها بمسألة التمتع؛ ليعود الخلاف إلى أقرب مذكور، لكن الحامل للشيخ على تقديم مسألة التمتع [أنها الأصل]. ولو ذبح دم التمتع بعد الشروع في العمرة، وقبل الفراغ منها - فالذي أورده العراقيون والماوردي: عدم الإجراء، وأن مذهب الشافعي - رضي الله عنه - لا يختلف فيه. قال الماوردي: لبقاء أكثر الأسباب. وقال في "الوسيط": إذا قلنا بظاهر المذهب، ففي الإجراء في هذه الصورة وجهان منشؤهما: أن السبب الأول يتم بإحرام العمرة أو بتمامها؟ وفي "البحر" نسيتهما إلى القفال، وشبههما القاضي الحسين بما إذا قال لزوجته: إن دخلت الدار، فأنت عليَّ كظهر أمي، ثم أخرج الكفارة قبل انعقاد الظهار بدخولها الدار- فإن في الإجراء وجهين. قال: فإن لم يجد، أي: المتمع والقارن؛ كما قال في "المهذب"- الهدي، أي: في موضعه، صام ثلاثة أيام في الحج؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]، وأراد فصيام ثلاثة أيام واجب في وقت أفعال الحج؛ لأن الحج أفعال، فلا يجوز أيضاًع الصيام فيها، ولا يجوز أن يكون التقديرت فصيام ثلاثة أيام في وقت الإحرام بالحج؛ لأنه لو كان كذلك، لاقتضى جواز الصيام قبل الإحرام بالعمرة في أشهر الحج، ولا قائل به، وإذا ثبت أن هذا المراد بالآية، اقتضى ألا يجوز صوم الثلاثة قبل الشروع في الحج؛ لأنه عبادة بدنية، والعبادات البدنية لا تقدم على وقتها، وألا يجوز [تأخير ولا بعضه] عن الحج بغير عذر؛ كما لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، وقد صرح به الشافعي - رضي الله عنه - حيث قال: "وعليه ألا يخرج من الحج حتى يصوم إذا لم يجد هدياً، وأن يكون آخر ما له من الأيام في آخر صيامه يوم عرفة"؛ ولهذا قال الأصحاب: إن وقت الأداء يخرج بمضي يوم عرفة،

على الجديد، وبمضي أيام التشريق، على القديم. وإذا لم يصم حتى خرج الوقت، فعن ابن سريج رواية قول: أنه لا يقضي، ويستقر الهدي في ذمته. قال الإمام: ويسقط صيام الأيام السبعة على هذا؛ فإنه يستحيل تقدير الدم وهو الأصل مع شيء من البدل. وإنه مما يجب التنبه له [أنا لا نوجب على المتمتع أن يصوم في الحج؛ فإنه مسافر، ونحن نسقط أداء صوم رمضان وهو ركن الإسلام بالسفر، فما الظن بصيام الكفارة؟! وحاصل القول فيه يرجع إلى أن الأصل الدم على هذا القول، فإن لم يجده، ورام إسقاطه عن ذمته بالكلية، فليصم ثلاثة أيام في الحج، وإن لم يصم فلا يقضي، ولكن يستقر الدم في ذمته على العسر واليسر؛ هذا حقيقة هذا القول، وهو غير معدود من المذهب، وقد حكى ابن الصباغ والقاضي الحسين؛ أن ابن سريج خرجه من [قولين للشافعي]- رضي الله عنه - نص عليهما؛ كما قال البندنيجي، في "الأم" فيما إذا أحرم المتمتع بالحج، ولم يجد الهدي، ومات قبل التمكن من الصوم: أحدهما: أنه لا شيء عليه. والثاني - وهو الأصح في "النهاية"-: أنه يُهْدَى عنه، ومنه خرج. قال البندنيجي: و [الأول]: هو المذهب. وقال ابن المباع: [وهو] الصحيح. وفي "الحاوي" و"تعليق" أبي الطيب: أن أبا إسحاق هو المنعرج له، وغلط فيه، والذي نص عليه الشافعي - رضي الله عنه - في عامة كتبه: أنه يلزمه القضاء، وإذا قضاها لا يلزمه دم. وحكى القاضي الحسين: أن من أصحابنا من قال: إذا لم يصمها حتى دخل يوم النحر، فعليه أن يؤخر طواف الإفاضة حتى يصومها، ثم يأتي به؛ ليقع صوم الثلاثة في الحج؛ لأنه إذا لم يكن قد طاف فعليه بعض الأعمال بعد. وقال الصيدلاني: إن صوم الثلاثة بعد أيام التشريق لا يكون أداء وإن بقي الطواف؛

لأن تأخيره عن أيام التشريق مما يبعد ويندر؛ فلا يقع مراداً من قوله تعالى: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]، بل هو محمول على الغالب المعتاد. قال الإمام: ويخالف هذا الصوم [أيام] التشريق إذا قلنا: يصح صومها؛ حيث يقع أداء وإن وقع بعد التحلل الثاني؛ فإن المفهوم من القرآن [تقييد] صوم الثلاثة [فى] أيام الحج، وهي مضبوطة، وأيام التشريق ملحقة بأيام الحج على بعد، وقد استحب الأصحاب له إذا لم يجد الهدي أن يحرم الحج قبل اليوم السادس من ذي الحجة؛ ليصوم الثلاثة، ويفطر يوم عرفة؛ [فإن صيامه مكروه. وإن كان واجداً للهدي، فالمستحب له أن يحرم يوم التروية] بعد الزوال متوجهاً إلى منى؛ لقوله - عليه السلام – "إذا توجهتم إلى منى، فأهلوا بالحج". والمراد بوجدان الهدي؛ أن يكون معه، [أو ثمنه وهو قادر] على شرائه؛ فلو كان معه الثمن، ولم يقدر على شرائه، فهو فاقد، وكذا لو كان ماله غائباً ببلده ولو كان معه لقدر على الشراء، فهو فاقد أيضاً. قال القاضي أبو الطيب وغيره: ولا يجوز له تأخير الصوم عند الفقد ليحصل الهدي؛ كما لا يجوز تأخير الصلاة إذا وجبت وقدر على التيمم إلى أن يجد الماء. نعم، لو قدر على الهدي بعد الوجوب وقبل الشروع في الصوم، فهل يتعين الهدي أو يجوز له العدول إلى الصوم فيه قولان؛ بناء على أن الاعتبار في الكفارات بحال الوجوب أو بحال الأداء، وهما جاريان فيما لو كان في وقت الوجوب قادراً على الهدي، ثم عجز عنه في الحج. والقول الثالث في أن الاعتبار في الكفارات يأغلظ الحالين جار هنا، صرح به القاضي أبو الطيب والمصنف وغيرهما. ولو قدر على الهدي بعد الشروع في الصوم، لم يلزمه الانتقال إليه، خلافاً للمزني؛ كما إذا وجد الماء بعد الشروع في الصلاة بالتيمم، وبالقياس على ما لو وجده وقد شرع في السبعة. وبجوز صيام الأيام الثلاثة [متفرقاً ومتتابعاً] وكذا الأيام السبعة؛ كما ذكره

القاضي الحسين، ولم يحك غيره، وكذا الإمام. وفي "الحاوي" حكاية وجهين في وجوب التتابع فيه فيهما؛ كما في وجوب التتابع في الصيام في كفارة اليمين. قال: وسبعة إذا رجع إلى أهله في أصح القولين؛ لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]، أي: إلى أهليكم؛ يدل عليه ما روى مسلم عن ابن عمر أن الناس تمتعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى، فاق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: [من كان] منكم [قد] أهدى، فإنه لا يحل من شيء حرم عليه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم [قد] أهدى، فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج، وليهد، فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله". ولأن حقيقة الرجوع إنما تكون إلى الأهل والوطن؛ فحملت الآية عليه، وإذا كان هذا معنى الآية، اتبعناه، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب والماوردي عن نصه في "الأم" و"المختصر". وفي "تعليق" البندنيجي عوضه: أنه يصومها إذا رجع إلى موضع استيطانه، وعزاه إلى نصه في "حرملة"، ثم قال: وعلى هذا، فالمراد بموضع الاستيطان: الذي عزم على الاستيطان فيه، سواء كان البلد الذي خرج منه أو غيره، حتى لو أقام بمكة، كانت وطنه وصامها بها. قال: وإذا فرغ من الحج في القول الآخر لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]، أي: عن أفعال الحج؛ لأنه المذكور في الآية؛ فوجب أن يكون المراد بالرجوع رجوعاً عن الحج، أي: عن أفعاله.

ولأنه لو كان الرجوع إلى الأهل والوطن شرطاً في جواز هذا الصوم، لوجب إذا نوى المقام بمكة ألا يجزئه [الصيام بها]، وفي إجماعهم على جواز صيامه فيها إذا نوى المقام بها دليل على أن الرجوع [إلى الأهل] ليس بشرط؛ وهذا ما فسر به البغداديون قول الشافعي في "الإملاء": "إنه يصومها إذا رجع من حجه بعد كمال مناسكه". وعلى [حكايته هكذا] جرى القاضي أبو الطيب والحسين والإمام. وصار البصريون إلى أن ما حكيناه عن نصه في "الإملاء" المراد به: الأخذ في الخروج من مكة راجعاً إلى بلده؛ لأن ابتداء الرجوع هو ابتداء السير، وعلى حكاية هذا جرى الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمصنف في "المهذب"، وبه يحصل في المسألة ثلاثة أقوال. وحكى الإمام عن بعض التصانيف قولاً آخر: أن المراد: الرجوع إلى مكة، وأن هذا لا أصل له في مذهب الشافعي، وإنما هو قول بعض السلف. قلت: وكأنه يشير إلى "الإبانة"؛ لأن ذلك عادته في إسناد الفل إليها، لكن المذكور في "الإبانة" في التعبير عن هذا القول: أن له أن يصوم بعد الرجوع إلى مكة حتى يفرغ من الحج؛ لأنه لما قال: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] فالظاهرة من هذا الرجوع هو الرجوع بعد الفرع؛ كما يقال: إذا رجعت من أمر كذا، فافعل كذا؛ فظاهره: إذا فرغ منه. وإذا كان كذلك؛ فهو كقول البغداديين، لا غيره، والله أعلم. التفريع: إن قلنا بالقول الصحيح، قال الماوردي: فينبغي أن يصومها عقيب رجوعه، فإن آخر صيامها كان مسيئاً، وأجزأه، وإن صامها قبل وصوله إلى الوطن، لم يجزئه لما تقدم أن تقديم العبادة البدنية على وقتها لا يصح، وهذا ما قطع به العراقيون. وحكى القاضي الحسين عن صاحب "التقريب" أنه إذا صامها في الطريق،

أجزأته؛ لأن المسافر جوز له تأخير الصوم، ولو صام في السفر جاز؛ كذلك هذا. قال القاضى: وهذا لا يقوى؛ لأن وقت صوم رمضان قد دخل بإهلال الهلال غير أنه رخص للمسافر في الفطر؛ لما يلحقه من المشقة، فإذا صامه فقد صام في الوقت، ولا كذلك هاهنا؛ فإذ الوقت إنما يدخل بوصوله إلى الوطن. وإن قلنا بالقول الذي نص عليه في "الإملاء" - أما على تفسير البغداديين أو البصريين - فلو صام قبل ذلك لم يجزئه، وهل يستحب له تأخير الصوم إلى أن يرجع إلى الوطن؟ فيه قولان حكاهما العراقيون والقاضي الحسين: أحدهما: لا؛ لأن فعل العبادة في أول وقت وجوبها أحوط لبراءة الذمة، وهذا [ما] أورده الماوردي وقال: إنه يكون مسيئاً بالتأخير، [وعلى هذا فيطلب الفرق يين هذه المسألة، وبين [تأخير]] ذبح الدم إلى يوم النحر. وأصحهما: نعم؛ خروجاً عن الخلاف. قال القاضي الحسين: وعلى هذا هل يكون التأخير ليرجع إلى أهله، فيصوم إذ ذاك عذراً؛ حتى إذا مات قبل [ذلك] لا يجب في تركته شيء أو لا؟ فيه وجهان؛ بناء على ما إذا أخر دفع الزكاة إلى المساكين ليدفعها إلى الإمام، فلم يتفق الدفع إلى الإمام حتى تلف المال، هل يضمن؟ فيه وجهان، [وجه المنع:] أنه فعل [ما ندبناه إليه؛ فلا يضمن ما تولد منه. قلت: ويظهر مجيء الوجهين فيما إذا أخر ذبح الدم ليوم النحر]. وعلى القولين: لو أراد أن يوقع بعض الأيام السبعة في أيام التشريق، لم يجز وإن حكمنا بأنها قابلة للصوم: [أما على القول الصحيح فظاهر]، وأما على القول الذي نص عليه في "الإملاء"؛ فلأنه بعد في أفعال الحج وإن حصل التحلل، وهذا ما أورده الرافعي، وحكاه الإمام عن شيخه، وأنه وجهه بأنه لا يصح [من الحاج الإحرام] بالعمرة ما دام عاكفاً على مناسك [منى].

قلت: ومن هذا يؤخذ أن محل ما ذكره إذا كان عاكفاً [بمنى]، الرمي لأجل الرمي، أما إذا تعجل في يومين، فيظهر صحة صومه لليوم الثالث من أيام التشريق عن أحد الأيام السبعة؛ تفريعاً على أن المراد بالرجوع: الفراغ من الحج، وصحة صوم أيام التشريق؛ لانتفاء المعنى المذكور، كما صح أن يعتمر فيه المتعجل، وسنذكر من كلام البندنيجى ما يقتضى أن بعض الأصحاب جوز صومها من السبعة. فروع: أحدها: إذا لم يخرج الدم حش مات، نظر: فإن مات في أثناء الحج، فقد قدمت حكاية قولين في أنه يقضى من تركته إذا كان موسراً أم لا، والأصح: القضاء. وإن مات بعد الفراغ من الحج، وهو موسر - أيضاً- فلا خلاف أنه يخرج من تركته. الثاني: إذا كان واجبه الصوم لإعساره، فلم يصم الأيام الثلاثة حتى رجع إلى وطنه، وقلنا: يقضيها - فهل يستحب له أن يفرق يين صوم الثلاثة [والسبعة]، أو يجب عليه؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يستحب، ويجوز له التتابع؛ لأن التفريق في الأداء كان لأجل الوقت، وقد فات، فأشبه قضاء الصلوات؛ وهذا قاله من اعتقد أن التفريق في الأداء يتعين، وإلا فقد يتصور في الأداء جواز التتابع، وهو إذا فرعنا على أن صوم أيام التشريق يجوز للمتمتع، وأن المراد بالرجوع: الفراغ من الحج، وإذا تصور ذلك في الأداء، فالقضاء أولى، وقد صرح بما أشرت إليه الأصحاب. والثاني: أنه يجب التفريق. قال الإمام: وهو في نهاية الضعف، ولا وجه [له]. وفي ["تعليق" القاضي]، أبي الطيب؛ أنه الأظهر، وقال البندنيجي: إنه المنصوص. ولأجله قال في "المهذب": إنه المذهب.

قالوا: ويخالف ما إذا كان عليه صلاة الظهر [وقضاء] العصر، حيث لا يجب أن يفرق بينهما؛ [لأنه لما سقط الترتيب بينهما،] وجاز له أن يقضي العصر أولاً ثم الظهر بعده؛ كذلك سقط التفريق بينهما في الزمان؛ وفي مسألتنا مراعاة الترتيب شرط في القضاء كما في الأداء؛ فكذلك وجوب التفريق، وعلى هذا قال في "المهذب": فيفرق بينهما بقدر ما وجب التفريق بينهما في الأداء، ويجيء بمقتضى هذا في قدره خمسة أوجه، وقد صرح بها الأصحاب: أحدها: ييوم واحد، عزاه الماوردي إلى الإصطخري. وقال ابن الصباغ والبندنيجي: إنه الذي نص عليه في "الإملاء" وغيره من تخريج الأصحاب، وإن الأصحاب اختلفوا في النص: فمنعهم من قال: إنه بناه على أنه يجوز صيام أيام التشريق عن كل صوم له سبب، والسبعة صوم له سبب؛ فيجوز في الأداء أن يفصل بينهما بيوم النحر؛ فكذلك [في] القضاء يفصل بيوم. قالا: وهذا سهو منه؛ فإن السبعة لا تصام في أيام التشريق، قال البنديحي: قولاً واحداً، وقال ابن الصباغ؛ بالإجماع؛ لأنه إنما يجوز بعد الفراغ من أفعال الحج، على أحد المذهبين، وفي أيام التشريق يفعل بقية أفعال الحج، وإنما نص عليه؛ لأنه أصل في نفسه؛ فكأنه قال: إذا لم يكن من التفريق بد، فأقله يوم؛ وهذا ما أورده الإمام في حكاية هذا الوجه. وقال المسعودي: إنه مبني على جواز صوم [أيام] التشريق، وأن الرجوع المراد به؛ الرجوع إلى مكة؛ لأنه يجعل كأنه صام أيام التشريق، وأفطر يوم الرجوع. وقال القاضي الحسين: إن بعضهم بناه على أن صوم أيام التشريق جائز، وأن المراد بالرجوع الفراغ من الحج، فإن مقتضى ذلك ألا يجب التفريق في القضاء، وقد قام الدليل على ساق التفريق، فتفرق بيوم. والثاني: يفرق بأربعة أيام، بناء على أن صوم أيام التشريق لا يجوز، [وأن]

المراد الرجوع: [الفراغ من الحج. والثالث - حكاه المسعودي- أنه يفرق بخمسة أيام؛ [وهو] بناء على أنه لا يصح صوم أيام التشريق، وأن المراد بالرجوع]؛ الرجوع إلى مكة؛ [فيجعل كما قال: كأنه صام ثلاثة [أيام] آخرها يوم عرفة، ثم أفطر العيد وأيام التشريق، ويوم الرجوع إلى مكة]. والرابع: يفرق بقدر مدة رجوعه إلى بلده؛ وهو بناء على صحة صيام أيام التشريق، والمراد بالرجوع: رجوعه إلى بلده؛ لأنه يمكنه صوم أيام التشريق، ثم يشتغل بالرجوع. والخامس: يفرق بقدر مدة رجوعه إلى بلده وأربعة أيام؛ بناء على أنه لا يصوم أيام التشريق، والمراد بالرجوع: الرجوع إلى الوطن؛ إذ يمكنه في الأداء أن يجعل آخر الثلاثة يوم عرفة، ثم يفطر العيد وأيام التشريق، ويشتغل بالرجوع إلى الأهل؛ وهذا هو الصحيح بمقتضى ما ذكرناه بمن البناء على الأصلين المذكورين، [وقد اختاره في "المرشد"]. قلت: ويجيء وجه سادس: أنه يفرق بثلاثة أيام؛ بناء على أنه يجوز صوم أيام التشريق عن كل صوم له سبب غير التمتع، وأن المراد بالرجوع؛ الفراغ من الحج، وأن صوم اليوم الثالث من أيام التشريق يصح عن السبعة إذا كان قد تعجل في يومين، كما أبديته تخريجاً من كلام الشيخ أيي محمد. وسابع: أنه يفرق يثلاثة أيام وقدر مسافة رجوعه إلى بلده؛ [بناء] على الاحتمال المذكور، وأن المراد بالرجوع: الرجوع إلى أهله ووطنه. وهذا ذكرته بناء على ما ذكره الأصحاب وجهاً رابعاً في المسألة كما ذكرته، وإلا فقد حكي [عن] العمراني أنه قال عقيب ذكر الأصحاب الوجه الرابع: ينبغي أن يقال على هذا: إنه يجب أن يفرق بيتهما بقدر مسافة السفر إلى وطنه إلا يوماً وشيئًا؛ لأنه كان يمكنه

في الأداء أن يصوم الثلاثة في أيام التشريق، ويبتدئ بالسير إلى وطنه بعد الرمي والطواف في اليوم الثاني [من أيام التشريق فتحسب بقية اليوم الثاني] والثالث من أيام التشريق من مدة السفر إلى وطنه، وهو فيها صائم عن الثلاثة. وهذا إن صح اقتضى أن ينقص من الأيام الثلاثة ومدة مسيره قدر ما بقي من اليوم الثاني من أيام التشريق بعد طوافه ورميه فيه، و [قد] حكي عنه ما ذكرته أولاً، والله أعلم. وإذا عرفت ما ذكرناه، عرفت أنه إذا فرق في الصوم بأربعة أيام، وقدر مدة رجوعه إلى بلده، أجزأه وفاقاً. وإن صام العشرة متوالية، أجزأه منها ثلاثة عن الثلاثة، وسقط من الباقي ما وجب التفريق به على حسب الأوجه السابقة [وكان فيه صائما تطوعًا؛ كما أشار إليه الماوردي في ضمن سؤال أورده، وصرح به ابن الصباغ وغيره. وكان يتجه أن يتخرج على الخلاف فيما إذا أحرم بالظهر قبل الزوال، هل ينعقد نفلاً]؟ ثم إن لم يبق من السبعة بعده شيء، استأنف السبعة، وإن بقي منها شيء: إما ستة أيام [إن قلنا: إنه] يكفي التفرقة بيوم، أو ثلاثة [إذا قيل: إنه بفرق بينهما]، بأربعة أيام، أو أقل من ذلك؛ على حسب ما يقتضيه الحال - نظر في حاله: فإن كان بعد فراغ العشرة لم يفطر، احتسب له بما بقي من السبعة بعد التفرقة، ووجب عليه أن يتم صيام ما بقي من السبعة. وإن كان قد أفطر فهل يحتسب له بصيام ما مضى من السبعة بعد التفرقة؟ فيه وجهان ينبنيان على وجوب التتابع فيها، فإن لم نوجبه، احتسب له به، وإلا فلا. وقال الإصطخري: إن نوى التتابع [بعد صيام الثلاثة، أجزأته الثلاثة، وكان الكلام في السبعة على ما مضى، وإن نوى التتابع]- أي: في صيام العشرة - في صيام

الثلاثة، عند دخوله فيها، لم يجزئه الثلاثة ولا السبعة، ولزمه استئناف الجميع، ويكون فساد نيته قادحًا فى صومه. قال الماوردي: وهذا غلط فاحش؛ لأن تفريق الصوم ومتابعته إنما يكون بالفعل لا بالنية، فلو فرق صيامه، ولم ينو كان مفرقاً، ولو تابع ولم ينو كان متابعاً، وإذا لم تكن النية شرطاً في صحة التفريق، لم تكن نية المتابعة قادحة في صحة الصوم مع وجود التفرقة. ولأن طروء الفساد على صوم بعض الأيام لا يقتضي فساد الصوم في غيره من الأيام، كصوم رمضان إذا أفطر بعضه؛ لأن لكل يوم حكم نفسه، وإذا كان كذلك، لم يكن فساد صوم السبعة قادحاً في صحة صوم الثلاثة، وهذا ما ذكره الشافعي - رضي الله عنه – وجمهور أصحايه0 وعن صاحب "التقريب" والفوراني؛ أن بعض أصحابنا قال: إنه لا يصح له صوم شيء من السبعة وإن قلنا: يكفي التفريق بيوم. قال الإمام؛ [و] كأنه يعتقد أن التفريق إذا لم يقع يفطر يعتد بشيء من السبعة. وقال القاضي الحسين: إنه وجهه بأنه صام كل يوم منها على اعتقاد يوم آخر؛ فإنه صام الخامس على أنه ثاني السبعة، وهو أولها، والسادس على أنه ثالث السبعة وهو ثانيها، وهكذا، وإنه نظر ذلك بما إذا ترك الجلوس بين السجدتين، ثم جلس عقيب الثانية [بنية] الاستراحة، هل يجزئه عن الجلسة بين السجدتين؟ وكذا [فيما] إذا ترك لمعة من الوجه في المرة الأولى، وانغسلت في الثانية، هل يجزئه؟ وفيهما وجهان. قلت: وهذا ليس النظير، بل النظير إذا ترك سجدة عن الأولى؛ فإنها تجبر بسجدة من الثانية وإن اعتقد أنها من الثانية. وقد ظهر لك مما ذكرناه: أن ما اشترطنا التفريق به، لا يشترط أن يكون [فيه]

مفطراً، بل يجوز أن يكون فيه صائماً عن غير التمتع: قضاء كان أو تطوعاً، وقد صرح به الإمام وغيره، وادعوا اتفاق الأصحاب عليه. الفرع الثالث: إذا لم يصم حتى مات بعد الوجوب، فإن كان بعد التمكن ولا عذر، فقد حكى الإمام عن رواية صاحب "التقريب" وبعض التصاتيف – نصاً للشافعي - رضي الله عنه - أنه لا يجب شيء إذا مات: لا فدية، ولا صيام الولي، وتوجيه عدم صيام الولي ظاهر، وأما توجيه عدم الفدية؛ فلأنها إنما تثبت في صوم رمضان؛ كما أن الكفارة إنما وجبت بسبب إفساد الصوم فيه؛ فالفدية هي الكفارة الصغرى؛ فلا يعدى بها موضعها؛ اعتباراً بالكفارة العظمى. والمشهور - وبه جزم المعظم-: الوجوب، وعلى هذا، فما هو الواجب؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يصوم عنه الولي. والثاني: يطعم عنه لكل يوم مد من طعام، وهو الذي أورده البندنيجي، ويتصور ذلك بما إذا كان عاجزاً عن الهدي في موضعه واجداً له في بلده، أو وجده بثمن غال، أو لم يجده أصلاً، وعلى هذا فهل يختص به فقراء الحرم أو يجوز صرفه لغيرهم؟ فيه وجهان، وقيل قولان، أشبههما: الثاني. والقول الثالث - حكاه الإمام عن رواية صاحب "التقريب" وغيره-: أنا نرجع إلى الدم فنوجب دم شاة في تركته؛ فإنه أولى وأقرب في [هذا] الصوم من الأمداد؛ فيجب في مقابلة الأيام العشرة دم شاة، وأن العراقيين ذكروا قولاً راجعًا إلى هذا. وحكمه إذا مات وقد بقي عليه بعض الصوم، كما إذا مات ولم يصم إلا على القول الأخير؛ فإن العراقيين قالوا: إنه يجب عليه [تفريغا عليه]- في اليوم ثلث شاة، وفي اليومين ثلثا شاة، [وفي ثلاثة] فصاعداً إلى تمام العشرة شاة؛ تنزيلاً للأيام منزلة الشعرات التي يأخذها المحرم من نفسه، [وعزوا ذلك إلى النص]،

وكذلك عدد الأظفار وأعداد رمى الجمرات. وفي "الشامل" -[بعد حكاية قوله: إنه يجب التصدق عن كل يوم بمد]-: أن أبا إسحاق قال في "الشرح": إن قوله "يتصدق [بمد" أولى من قوله يتصدق] بدرهم، أو ثلث شاة"، فأومأ إلى أن في ذلك ثلاثة أقأويل، وهذه الأقاويل قال أصحابنا: إنما هي في إتلاف الشعر، والظفر، ورمي الجمار، وليست هاهنا، وكذلك قال القاضي الحسين، وزاد إلى الصور الثلاثة صورة رابعة، وهي إذا ترك البيتوتة بمنى ليلة أو ليلتين. وإن كان لم يصم لعدم تمكنه منه، فقد حكينا عن "الأم" قولين: أحدهما: [أنه] يُهْدَى عنه، ويجيء قول ثان: أنه يصوم عنه الولي، وثالث: أنه يخرج عنه دم شاة؛ أخذاً مما تقدم. والثاني - وهو المذهب في "تعليق" البندنيجي، [والصحيح في غيره-: أنه لا يجب شيء؛ كما في صوم رمضان إذا مات قبل التمكن منه، وقد جزم به البندنيجي] في موضع آخر، فقال: إن كان [ترك] الصوم؛ لعدم قدرته عليه، سقط. وعبارة القاضي أبي الطيب: إن كان قد ترك الصوم بعذر سقط. وبين العبارتين فرق؛ لأن الثانية تفهم السقوط إذا كان الترك بسبب مرض يطيق معه الصوم، أو سفر، دون العبارة الأولى؛ وعلى الثانية ينطبق قول الإمام: إذا انتهى المتمتع إلى وطنه، ومات، فلا يلزمه شيء وإن حكمنا بأن الرجوع هو الفراغ من الحج؛ لأن السفر من الأعذار التي يجوز ترك صوم رمضان لأجله، ولو دام السفر إلى الموت، وقد اتفق ترك صوم رمضان فيه، فلا شيء على الذي مات، ودوام السفر بمثابة دوام المرض، فصيام الأيام الثلاثة وإن كان ثابتاً على الغرباء، فلا يزيد تأكده على تأكد صوم رمضان أداء واستدراكًا. فإن قلت: هذا من الإمام مخالف لظاهر قول الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ

فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]، وقول الشافعي في "المختصر": "وعليه ألا يخرج من الحج حتى يصوم إذا لم يجد هدياً". قلت: من حأول الجمع بين ذلك وبين كلام الإمام، حمل نص الكتاب و"المختصر" على الحاج الذي انقطعت عنه رخص السفر؛ عملاً بما ورد من جواز الفطر بسبب السفر، والله سبحانه أعلم بالصواب. * * *

باب المواقيت

باب المواقيت المواقيت: جمع "ميقات"، وهو في لسانهم: الحد، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] يعنى: أنها حدٌّ لإحلال ديونهم وأوقات حجهم وعبادأنهم. والمراد بها في هذا الباب: المواضع التي لا يجوز لمن أراد نسكاً من حج أو عمرة أو هما بالقران - مجاوزته بدون إحرام، وهي خمسة كما سيأتي. قال: ميقات أهل المدينة ذو الحليفة، وميقات أهل اليمن يلملم، وميقات [أهل] نجد قرن، وميقات أهل الشام ومصر الجحفة. والأصل في ذلك ما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرئاً - وفي رواية؛ قرن المنازل - ولأهل اليمن يلملم"، قال: "فهن لأهلهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمن أهله، كذلك حتى أهل مكة يهلون منها". وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن ابن عباس روى أنه - عليه السلام - وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام ومصر الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجدٍ اليمن ونجد: قرن. وهذه الرواية تعضد ما قاله البندتيجي: إن المواقيت الثابتة بنص السنة خمسة: ميقات أهل المدينة ذو الحليفة، وميقات أهل الشام ومصر والمغرب وتلك النواحي الجحفة ... وساق الباقي.

قال: وميقات أهل العراق ذات عرق. هذا مما لا خلاف فيه، وإنما الخلاف يين العلماء في أنه ثبت بنص السنة أو بالاجتهاد. وقد حكى القاضي أبو الطيب عن الشافعي - رضي الله عنه - ذلك قولين، وغيره أثبتهما وجهين: أحدهما- وهو المنصوص في "الأم"-: أنه ثبت بالاجتهاد؛ لأنه لم يفتح في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما فتح في زمان عمر، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرن، وهو جورٌ عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرن، شق علينا؟ قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحد لهم ذات عرق. كذا ذكره البخاري في "صحيحه". والثاني - وهو الذي قاله في موضع آخر؛ كما قال أبو الطيب-: أنه ثبت بنص السنة؛ لما روى مسلم عن أبي الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل، فقال: سمعته - أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم- وذكر الحديث السابق، وفيه: "ومهل أهل العراق من ذات عرق". وعن مسلم أنه روي عن جابر - أيضاً - قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "يهل أهل المشرق من ذات عرق". وروى أبو داود والنسائي عن عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات

عرق"، وهذا ما اقتضى كلام القاضي أبي الطيب ترجيحه، وصرح الماوردي بأنه أصح المذهبين، وبه جزم البندنيجي، وقال: إنه ما كان عند الشافعي ثبوته بالسنة؛ لأن الخبر لم يبلغه، [وقد ثبتت السنة]، فهو مذهبه. وما ذكر من حديث عمر، قال أبو الطيب: يجوز أن يكون عمر- رضي الله عنه- لم يبلغه توقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه. وما ذكر من كفر أهل العراق، فقد كان أهل المغرب – أيضاً- كفاراً، وكان بالشام قيصر، و [كان] بمصر المقوقس، ونص على ميقاتهم مع كفرهم؛ فكذلك أهل العراق، والله أعلم. قال: فإن أهلوا من العقيق، فهو أفضل؛ لأن أبا داود روى بسنده عن ابن عباس قال: "وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق"، وقال الترمذي: إنه حسن. وقال غيره: إن في إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف. وقال البيهقي: إنه تفرد به. وذكر الإمام: أنه مرسل؛ لأن رأويه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس،

وهو لم يلق جده؛ فلهذا لم يجب العمل به، واستحب لاحتمال الصحة مع أن من أحرم من العقيق يكون محرماً من ذات عرق؛ لأنها دونه، ومن أحرم من ذات عرق لا يكون محرمًا من العقيق، والجمع بينهما للاحتياط أولى. وإذا ثبت أن هذه مواقيت لمن ذكر فالاسم يصدق إذا أحرم من أول ذلك أو وسطه أو آخره، فإذا فعل ذلك، خرج عن الواجب، غير أن المستحب أن يحرم من الجانب المقابل للجانب الذي [يلي] مكة. تنبيه: ذو الحليفة: بضم الحاء المهملة، وفتح السلام وبالفاء، على نحو ستة أميال من المدينة، وقيل: سبعة، وقيل: أربعة، كذا قاله النووي. وفي "الشامل" و"تعليق" البندنيجي و"الرافعي": أنها على ميل، وهي من مكة على نحو عشر مراحل. والبندنيجي جزم بأن بينهما عشرة أيام، وهي أبعد المواقيت. يلملم: بفتح الياء والسلامين، وإسكان الميم بينهما، ويقال فيه: ألملم، كما يقال: رجل يلمعي وألمعي، وهو على مرحلتين من مكة. نجد- بفتح النون- إذا أطلق كان المراد به- كما قال الرافعي-: نجد الحجاز، وعليه ينطبق قول ابن عباس- كما تقدم-: "إنه عليه السلام أقت لأهل نجد اليمن ونجد: قرن"، وهو- كما قال النووي وغيره-: ما بين جرش إلى سواد الكوفة، وحده من الغرب بالحجاز، وعن يسار الكعبة اليمن. وقضية ذلك: أن يكون مراد الشيخ: نجد الحجاز دون نجد اليمن، ويعضده قوله: " [وميقات أهل اليمن يلملم] "، ولم يفصل بين نجدها وغورها؛ كما هو ظاهر الخبر، لكن خبر ابن عباس الذي رواه القاضي يقتضي أن ميقات النجدين جميعاً قرن، وهو ما حكاه في "الشامل" عن النص، ولم يحك الغزالي والإمام والقاضي الحسين غيره، وتبعهم الرافعي، وقال: إنا إذا قلنا: إن ميقات اليمن يلملم، أردنا به تهامة [منها]، لا كل اليمن. قلت: ولفظ الشافعي – رضي الله عنه- مصرح به؛ فإنه قال- كما حكاه ابن

الصباغ والروياني-: "وميقات أهل تهامة اليمن يلملم". قال الروياني: والغور يسمى: تهامة. وقد تلخص من ذلك أن الحجاز مشتمل على نجد وغور: فالنجد: بلاد فيها ارتفاع، والغور: بطونها، والنجد أغلب؛ وكذلك اليمن تشتمل على نجد وغور، وميقات النجدين: قرن، ولكل تهامة ميقات يخصها. قرن: بفتح القاف، وإسكان الراء، بلا خلاف، وغلطوا الجوهري في فتحها، وفي زعمه: أن أويساً القرني منسوب إليها، وإنما هو من بني قرن: بطن من مراد، وهو على مرحلتين من مكة. وفي "شرح" ابن التلمساني: أنه تلقاء مكة على يوم وليلة منها، وأصله: الجبل المستطيل الصغير المنقطع عن الجبل الكبير. الشأم: مهموز مقصور، ويجوز تخفيف الهمزة، ويجوز الشام -بفتح الشين والمد- وهي [ضعيفة]، وإن كانت مشهورة، قال صاحب "المطالع": أنكرها أكثرهم. وهو مذكر على المشهور، وقال الجوهري: يذكر ويؤنث. وهو من العريش إلى الفرات طولاً، وقيل: إلى بالِس. والجحفة: بجيم مضمومة، ثم حاء مهملة ساكنة، كانت [قرية] كبيرة، وهي على نحو سبع مراحل من المدينة، وثلاث من مكة، وسميت بذلك؛ لأن السيل أجحفها، وحمل أهلها، ويقال [لها] مهيعة: بفتح الميم وإسكان [الهاء]. العراق: بكسر العين، مذكر على المشهور، وحكي جماعة تأنيثه، وفي سبب تسميته عشرة أقوال، أشهرها: لكثرة أشجاره. ذات عرق: يكسر العين، وإسكان الراء، على مرحلتين من مكة، وعرق: [هو الجبل المشرف على العقيق]. الإهلال: بالإحرام، وأصله رفع الصوت، ومنه: استهلال الولد، فسمي الإحرام: إهلالاً؛ لرفع صوته بالتلبية. العقيق: واد تدفق ماؤه في غوري تهامة؛ ذكره الأزهري في "التهذيب"، وهو

أبعد من ذات عرق بقليل، وهذا [قد] حكاه القاضي الحسين وجهاً بعدما قال: إنه لا يعرف الآن عقيق إلا عقيق هو من المدينة على قدر فرسخين، فأما العقيق الذي أقته رسول الله صلى الله عليه وسلم هو لأهل العراق، فقد خفي الآن. وقال الماوردي: إنه موضع من يسار الذاهب من ناحية العراق إلى مكة مما يلي قرن من وراء المقابر ومسيل الوادي عند النخلات المتفرقة، وقد قال قوم: إن حده ما بين بريد التقاء إلى تَمْرة. قال: وهذه المواقيت لأهلها، ولكل من مر بها من غير أهلها؛ لخبر ابن عباس السابق. قال الفوراني: ولا يستثنى من ذلك إلا مسألة واحدة، وهي الأجير، فإن عليه أن يحرم من ميقات الميت أو المستأجر الذي يحج عنه، فإن مر بغير ذلك الميقات أحرم من موضع بإزائه إذا كان أبعد عن ذلك الميقات من مكة، وإذا مات ميت فإن الحاج يحرم عنه من ميقات ذلك الميت. قال: ومن كان أهله دون الميقات أو في الحرم، فميقاته موضعه؛ للخبر السابق [أيضاً]، والأفضل أن يحرم من الجانب الأبعد من موضعه إلى مكة، سواء كان في بناء أو خيام، والواجب عليه ألا يتعدى بناء موضعه [من جهة مكة] وخيام قومه إلا محرماً؛ كما تقدم مثل ذلك في الميقات، وقد نص عليه في "الأم" حيث قال: "وأقل ما يلزمه ألا يخرج من بيوتها حنى يحرم، وأحب [إلي] أن يحرم من أقصى بيوتها"، وحكي عنه أنه قال [في "الإملاء": "يحرم من ييته ومن مسجد قريته" قال] في "البحر": وهذا لا بأس به. والمكي: المستحب في حقه أن يحرم من باب داره، [أو من] المسجد قريباً من البيت؟ فيه اختلاف نص. قال: ومن سلك طريقاً لا ميقات فيه، أحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه؛ لأن عمر لما اجتهد في ميقات أهل العراق، اعتبر ما ذكرناه، ولم ينكر عليه أحد.

وهذه المسألة مصورة بما إذا كان يحاذي ميقاتين فى طريقه، أحدهما بعد الآخر، [و]، يحاذي الأول وهو أبعد من مكة- وجب عليه أن يحرم، وليس له أن يؤخره عن محاذاة الأول منتظراً محاذاة الثاني؛ كما ليس للذي يأتي مكة [من المدينة]، أن يجاوز ذا الحليفة؛ ليحرم من الجحفة؛ وهذا ما جزم به الإمام والروياني، وعزاه الرافعي إلى اختيار القفال، وحكى وجهاً آخر لم يحك النوراني سواه: أن له أن يؤخره إلى أن يحاذي الأقرب إلى مكة، وهو غريب. نعم:، الخلاف المشهور فيما إذا كان حذو طريقه ميقاتان، أحدهما أقرب من الآخر إلى مكة، وهو بينهما، فإنه يجب عليه أن يحرم، ثم إن كان بينهما على قدر واحد، فهل ينسب إحرامه إلى الأبعد من مكة أو إلى الأقرب؟ فيه وجهان حكاهما الإمام، ويظهر أثرهما فيما إذا جاوز ذلك، وكلفناه العود إليه، وعسر عليه الرجوع إلى موقفه يين الميقاتين، وتعذر معرفة قدره؛ فإلى قدر أي الميقاتين يرجع؟ ولا يظهر فيما إذا عرف مسافة موقفه؛ فإن الواجب عليه أن يرجع إلى مثل تلك المسافة؛ كذا قاله الإمام. ولو كان موقفه من أحدهما أقرب فالاعتبار به جزماً، قريباً كان من مكة أو بعيداً. وقال العراقيون: إذا كان بين ميقاتين على نسبة واحدة، حاذى أي الميقاتين شاء، وأحرم منه، والأفضل أن يحرم من أبعدهما إلى مكة، وهو الذي حكاه الماوردي [عن الجمهور]، وصححه، وحكى وجهاً [آخر أنه] من [الأبعد]. فرع: الغريب إذا أتى من جانب، ولم يمر بميقات ولا حاذاه، فيحرم على مرحلتين من مكة؛ نزولاً على قضاء عمر- رضي الله عنه - في تأقيت ذات عرق والتفاتاً إلى حد المذهب في حاضري المسجد الحرام؛ قاله في "الوسيط": وهو من تخريج الإمام. قال: ومن كان داره فوق الميقات، فالأفضل ألا يحرم إلا من الميقات قي أصح

القولين؛ لما روي عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استمتع بأهلك حتى تأتي الميقات، فتحرم منه". ولأنه - عليه السلام - حج مرة واعتمر ثلاثاً، وأحرم في جميعها من الميقات، ولم يحرم في شيء منها قبل الميقات، ولو كان الإحرام قبل الميقات أفضل لاختاره صلى الله عليه وسلم لنفسه، وفعله ولو مرة؛ لينبه الناس على فضله؛ ولأنه أقل تغريراً بالعبادة؛ وهذا ما رواه البويطي والمزني في "جامعه الكبير"، ونسب إلى الجديد؛ وعلى هذا فلو أحرم من دويرة أهله، فقد ترك الأولى. وقال الإمام: إن بعض الأصحاب أطلق الكراهة في التقديم، ولست أرى ذلك. [وقد] عزا في "الإبانة" الكراهة على هذا إلى الجديد، وكلام "الوسيط" مشير إليه. ولو نذر أن يحرم بالحج من دويرة أهله، فقياس من أطلق الكراهة: ألا ينعقد نذره، وقياس من قال: إنه إذا فعل ذلك فقد ترك الأولى، أن يكون الحكم كما لو نذر الحج ماشياً، وقلنا: إنه راكباً أفضل؛ فإن له أن يحج راكباً- ألا يلزمه هنا الإحرام من دويرة أهله، ويجوز له تأخيره إلى الميقات، وقد صرح في "المهذب" بأنه يلزمه من دويرة أهله إذا نذر ذلك، وأنه إذا جاوزه غير محرم، كان كمن جاوز الميقات وأحرم دونه في وجوب العود والدم. قال: ومن دويرة أهله في القول الآخر؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وقد تقدم تفسيره. وفي "الإبانة": أنه روي عنه - عليه السلام - أنه قال: "من تمام الحج والعمرة أن

تحرم بهما من دويرة أهلك". وقال في "النهاية": إنه ورد في ذلك أخبار صحيحة، منها: ما روي أنه - عليه السلام – قال: "أفضل الأعمال حج الرجل من دويرة أهله يؤمُّ هذا البيت العتيق". وقد روى أبو داود بسنده عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" أو "وجبت له الجنة". [شك] عبد الله.

ولأنه إذا أحرم من دويرة أهله، كان أكثر عملاً؛ وهذا ما نص عليه في "الإملاء"، ونسب إلى القديم، واقتضى كلام ابن الصباغ ترجيحه، وحكى الإمام والقاضي الحسين طريقة قاطعة [به]، وهي التي صححها الفوراني، واختارها القفال، ولم يحك في "الوسيط" و"الوجيز" غيرها، [والقائلون بها حملوا] ما حكي عن الجديد من الكراهة على أنه لا يتشبه بالمحرمين في التجرد عن الثياب من غير أن يحرم كما يعتاده الشيعة فإن ذلك مكروه. وقال الفوراني: وقد دل عليه قول الشافعي - رضي الله عنه -: "ولا يتجرد عن الثياب قبل الإحرام، بل يلبسه، ويفعل ما يفعل سائر الناس". قال الرافعي: ويخرج من فحوى كلام الأئمة طريقة ثالثة، وهي حمل نصه في "البويطي" على ما إذا لم يأمن على نفسه من ارتكاب محظورات الإحرام، وتنزيل نصه في "الإملاء" على ما إذا أمن عليها. ثم نسبة ما عزي إلى "الإملاء" إلى القديم، لم أره إلا للغزالي، و"الإملاء" معدود من الجديد. وقد فهمت مما ذكرناه: أنه لا خلاف أنه إذا قدم الإحرام على الميقات المكاني انعقد. قال الجرجاني: ويخالف ما إذا قدم الإحرام بالحج على الميقات الزماني؛ فإنه لا ينعقد، والفرق: أن ميقات المكان مبني على الاختلاف في حق الناس؛ فأبيح فيه

التقديم، بخلاف ميقات الزمان؛ فإنه لا يختلف في حق أحد؛ فلم يجز فيه التقديم. قال: ومن جاوز الميقات غير مريد للنسك، أي: لا قصداً، ولا [فى] ضمن قصده كمن يريد قضاء شغل فيما دون الحرم. قال: ثم أراد أن يحرم - أهلَّ من موضعه؛ لما روي عن ابن عمر: أنه أهل من الفرع وهو دون الميقات إلى مكة. قال الشافعي: وهذا عندنا: أنه مر بميقاته لا يريد إحراماً، ثم بدا له؛ [فأهل منه، أو جاء إلى الفرع، من مكة أو غيرها، ثم بدا له] فأحرم. قال الأصحاب: ولا يجب عليه العود إلى الميقات؛ لأن العود إليه إنما يجب على من لزمه الإحرام منه لإرادته النسك؛ عملاً بقوله - عليه السلام-: "هن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد [الحج والعمرة"، وقد فقد ذلك في حق هذا؛ فلم يلزمه العود. نعم، لو جاوز موضح إرادة] الإحرام غير محرم، كان وجوب العود إليه ولزومه له على ما سنذكره فيما إذا جاوز الميقات مريداً للنسك. قال: ومن جاوزه مريداً للنسك، أي: قصداً، أو في ضمن قصده؛ لكونه قصد دخول الحرم، وقلنا: لا يجوز دخوله بغير إحرام. قال: وأحرم دونه، فعليه دم؛ لأنه وجب عليه الإحرام من الميقات؛ لحديث ابن عباس: "فإذا تركه وجب الدم"، كما روي عن ابن عباس موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك نسكاً، فعليه دم".

وقال في "المهذب" وغيره؛ ويجب عليه أن يرجع إلى الميقات إلا أن يتحقق له عذر من خوف الطريق أو فوات الحج، ولا فرق في ذلك بين أن يكون قد ترك الإحرام عامداً أو ساهياً. قال الأصحاب من الفريقين: ويخالف ما لو لبس أو تطيب ساهيًا؛ فإنه لا يلزمه الدم؛ لأن الطيب واللباس طريقهما طريق الترك؛ فلذلك اختلف حكم عمدهما وسهوهما والإحرام طريقه طريق إيجاب الفعل، وما طريقه الإيجاب يستوي فيه العمد والسهو؛ يدل على ذلك أن الركوع والسجود في الصلاة لما كان طريقهما الإيجاب، استوى حكم العمد والسهو فيهما، ولما كان الكلام في الصلاة طريقه طريق الترك، اختلف [حكم] عمده وسهوه. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في وجوب الدم على من مر بالميقات [مريداً للنسك، ثم أحرم دونه - بين أن يكون من أهل العبادة حال مروره بالميقات] أو لا؛ كالكافر إذا مر به مريداً للنسك، ثم أسلم، وأحرم دونه، وقد صرح به في "المهذب" وغيره، ومنع المزني إيجاب الدم على الكافر، والمذهب: خلافه. فرع: إذا مر بالميقات، وأحرم منه بأحد النسكين، ثم بعد الميقات أدخل عليه النسك الآخر: أما الحج على العمرة، أو العمرة على الحج، وجوزناه، هل يلزمه الدم؟ فيه وجهان في "التهذيب":

أحدهما: نعم؛ لأنه جاوز الميقات مريداً للنسك، وأحرم بعده. والثاني: لا؛ لأنه جاوزه محرماً؛ فصار كما لو أحرم مبهماً من الميقات، فلما جاوزه صرفه إلى الحج، والله أعلم. قال: فإن عاد إلى الميقات قبل التلبس بالنسك، أي: قبل التلبس بشيء من [أعمال] ما أحرم به غير الإحرام من ركن أو سنة: كطواف القدوم في الحج، وإلا فهو بمجرد الإحرام قد تلبس بالنسك. قال: سقط عنه الدم؛ كما إذا عاد الدا فع عن عرفة قبل الغروب إليها [بعد الغروب]، وهذا عن الشيخ تصريح بأن الدم وجب ثم سقط، وهو وجه حكاه الماوردي، وحكى وجها آخر وصححه: أن الدم إنما يجب بفوات العود، ولا نقول: إنه وجب بالإحرام، وسقط بالعود. والمذكور في "تعليق" البندنيجي: أنه إذا جاوز الميقات مريداً للنسك، وأحرم دونه، فقد أساء، وكان أمره مراعى: فإن عاد إلى الميقات قبل التلبس بشيء من أفعال نسكه تبينا أنه لم يجب عليه دم، وإن لم يعد تبينا أنه كان قد وجب عليه؛ وهذا وجه ثالث، والكل متفقون على أنه بعد العود لا شيء عليه، وهو [ظاهر المذهب] في "الشامل"، وغيره. وحكى القاضي أبو الطيب قولاً ثانياً في المسألة: أنه لا يسقط عنه الدم بالعود إلى الميقات محرماً؛ كما لو رجع بعد ما تلبس بالنسك، ورواه الشيخ أبو حامد وجهاً، وتبعه ابن الصباغ وغيره. قال القاضي أبو الطيب: والصحيح: أنه قول، والصحيح عدم الوجوب؛ لأنه حصل محرماً في ميقاته قبل التلبس بشيء من أفعال عبادته؛ فوجب ألا يلزمه [دم] لأجل عدم إحرامه منه؛ قياساً على ما إذا ابتدأ إحرامه من دويرة أهله؛ وعلى هذا قال في "البحر": وعلى هذا يكون عن أراد النسك مخيراً بين ثلاثة أشياء: بين أن يحرم قبل الميقات، وبين أن يحرم من الميقات، وبين أن يحرم دونه ثم يعود إليه، ولا يكون مسيئًا في واحد منها. وعلى قول من قال: لا يسقط الدم، [لا يخرج عن الإساءة]

بذلك. فجعل كونه مسيئًا وغير مسيء مبنياً على الوجهين. وفي "ابن يونس" - تفريعاً على قول السقوط -: أنه هل يكون مسيئًا أم لا؟ فيه وجهان. ولعله أخذهما من إطلاق صاحب "الفروع" القول بأنه إذا مر بالميقات مريداً للنسك، وجاوزه، ولم يحرم، ثم أحرم دونه، وعاد إليه - فظاهر المذهب: أنه لا يكون مسيئاً، وقيل: هو مسيء بأصل المجاوزة؛ وهذا الإطلاق يمكن حمله على ما قاله في "البحر"؛ فلا تمسك به. [و] الوجهان – أو القولان - في سقوط الدم عند العود إلى الميقات جاريان – كما حكاه البندنيجي وغيره، في باب العمرة إذا جمعت، إلى غيرها - في المتمتع والقارن إذا أحرم الحج من جوف مكة، ثم عاد إلى الميقات محرماً قبل الوقوف، هل يسقط عنه دم التمتع والقران أم لا؟ وقد تقدم فرق بينهما عند بعضهم. ثم ظاهر كلام الشيخ وغيره من العراقيين يقتضي أنه لا فرق في محقوط الدم بعد

العود وقبل التلبس [النسك] وعدمه، بين أن يكون بعد مجاوزته مسافة القصر أو لا، وهو ما ذكره في "التهذيب"، ولا بين وصوله إلى مكة أو لا. والفوراني جعل محل الخلاف في السقوط [إذا عاد بعد أن بلغ مسافة القصر من الميقات، وجزم القول به] إذا عاد قبل انتهائه إلى مسافة القصر. والإمام حكى الخلاف فيما إذا عاد قبل انتهائه إلى مسافة القصر، وقال فيما إذا عاد بعد انتهائه إلى مسافة القصر؛ إن الخلاف مرتب على المسألة قبلها، وهنا أولى بعدم السقوط، وجزم القول بأنه لو عاد بعد ما دخل مكة لا ينفعه العود. أما إذا عاد إلى الميقات بعد التلبس [بشيء] من أفعال النسك- ولو بطواف القدوم في الحج - لم يسقط عنه الدم، كما أفهمه كلام الشيخ؛ قياساً على ما لو دفع قبل الغروب يوم عرفة، ثم عاد بعد فوات الليل، لا يسقط الدم. وفي "التهذيب" [حكاية وجه:]، أنه لا أثر للتلبس بطواف القدوم. ولو مر بالميقات مريداً للنسك، وجاوزه غير محرم، ثم عاد إليه، وأحرم منه - فلا خلاف عند الماوردي والروياني وغيرهما من العراقيين؛ أنه لا يجب الدم. وفي "الوسيط" تبعاً لـ"النهاية": أنه إن عاد قبل انتهائه إلى مسافة القصر، فالأمر كذلك، وإن عاد بعد مجاوزته مسافة القصر من الميقات، ففي السقوط وجهان، وإن عاد بعد وصوله إلى مكة، لم ينفعه العود، وعليه الدم قولاً واحداً. قال الإمام: لأن المحذور أن يدخل مكة غير محرم مع انطواء عقده على قصد النسك وقد حصل ذلك، بخلاف المتمتع إذا عاد إلى ميقاته للإحرام بالحج؛ فإنه لا شيء عليه؛ لأنه ليس مسيئاً؛ إذ قد أحيا الميقات الذي انتهى إليه بإحرام العمرة؛ فباين بذلك رتبة المسيء، وإنما كنَّا نلزمه دم التمتع لربح أحد السفرين، فإذا عاد، فقد سقط المعنى. وهل يلتحق عود المريد للنسك إلى الميقات غير محرم بعد دخوله الحرم دون مكة، [بعوده إليه بعد دخول مكة] حتى لا يسقط عنه الدم قولاً واحداً، أو لا يلتحق

به حتى يأتي فيه الخلاف؟ فيه خلاف حكاه الإمام من بعد. ولو مر بالميقات مريداً للنسك، ولم يحرم حتى دخل مكة، ولم يرجع - قال في "الحاوي": لا يلزمه الدم لأجل مجاوزته الميقات؛ لأن الدم إنما يجبر [به] نقص النسك، ولا يجب بدلاً من ترك النسك. وهذا منه يفهم أن ما قاله مخصوص بما إذا لم يحرم، أما إذا أحرم بعد دخوله مكة فلا. وقد أفصح عنه القاضي الحسين، وتبعه في "التهذيب"؛ فقال: إن أحرم بالحج في سنته، وجب عليه الدم؛ لأنه [بان أن] الحج في هذه السنة كان إحرامه واجباً من الميقات، وإن حج في السنة الثانية، لم يلزمه الدم؛ لأن إحرام هذه السنة لا يصلح لحج سنة قابلة، ولو اعتمر يلزمه الدم، سواء اعتمر في هذه السنة أو في السنة القابلة؛ لأن العمرة لا يتأقت وقت إحرامها. فروع: [أحدها]: الولي إذا نوى أن [يعقد الإحرام] للصبي، فاجتاز به الميقات، ولم يعقده له، ثم عقده بعد ذلك - هل يلزمه فدية في ذلك؟ [فيه] وجهان في "تعليق" القاضي أيي الطيب عند الكلام في كيفية إحرام الولي [عنه]: أحدهما: تلزمه، وتكون [في مال] الولي؛ كما لو أحرم بالصبي، ثم فوته الحج، كانت الفدية في مال الولي. والثاني: لا تجب على الولي، ولا في مال الصبي: أما الصبي؛ فلأنه لم يقصد الحج، وأما الولي؛ فلأنه غير محرم، ولم يرد الإحرام. [الثاني]: الأجير على الحج إذا فعله، ثم اعتمر لنفسه، لزمه الدم، قال القاضي أبو الطيب: لأن حجه لما أوقعه عن الغير، صار كأن الغير فعله، وصار هو بمثابة من دخل مكة مريداً للنسك وهو غير محرم، وأحرم بالعمرة. قال البندنيجي: وهكذا الحكم وإن كان [لم] يعن له أن يعتمر إلا بعد

فراغه من الحج عن الغير. ولو كان أجيراً عن الغير في العمرة، فاعتمر عنه، وأحرم من الميقات، ثم أحرم بالحج عن نفسه من مكة – لزمه الدم؛ للعلة التي ذكرناها. وقد حكى البغوي ذلك، ثم قال: وقال الشيخ - يعني القاضي الحسين-: [القياس] ألا يجب عليه دم الإساءة؛ لأنه لم يجاوز الميقات غير محرم. [الثالث]: المكي ومن هو بمكة من متمتع وغيره إذا خرج إلى الحرم، فأحرم بالحج، ولم يعد إلى مكة - فهل يجب عليه الدم؟ فيه وجهان في "المهذب"، وقولان في "الإبانة" و"النهاية"، والصحيح: الوجوب؛ لأن مكة ميقاته؛ قال- عليه السلام-: "حتى أهل مكة يهلون منها". ولو أحرم به من الحل، ولم يعد إلى الحرم، ولا إلى مكة - لزمه الدم جزماً، ولو عاد إلى مكة فحكمه كما إذا عاد من تعدى الميقات غير محرم إليه محرماً. ولو عاد إلى الحرم دون مكة، فهل يكون كعدم عوده أو كعوده إلى مكة؟ فيه وجهان حكاهما الفورانى وغيره، ومأخذهما القولان السابقان، والله - سبحانه وتعالى - أعلم وأعز وأحكم. * * *

باب الإحرام وما يحرم فيه

باب الإحرام وما يحرم فيه الإحرام - كما قال النواوي-: نية الدخول في حج أو عمرة، سمي: إحراماً؛ لأنه يمنعه من المحظورات. قلت: وهذا التفسير يخرج الإحرام المطلق عن أن يكون إحراماً، وابن الصباغ حصره في المطلق؛ فإنه قال: لو نوى الإحرام، ولم ينو حجًّا ولا عمرة، [انعقد إحراماً مطلقاً، وله صرفه إلى أيهما شاء، وإن لم ينو حجًّا ولا عمرة] ولا [إحراماً]، فليس بشيء. وكأن الذي أحوج النواوي إلى حصره في نية الحج والعمرة قوله في "المختصر": "وإن لم يرد حجًّا ولا عمرة، فليس بشيء"، [وهذا النص [اختلف فيه الأصحاب:] فمنهم من خطأ المزني في قوله: "فليس بشيء"]؛ لأن الإحرام المطلق ينعقد. ومنهم من صوبه، وحمل ذلك على [ما] إذا لم ينو حجًّا ولا عمرة ولا إحراماً مطلقاً. قال القاضي أبو الطيب: وهذا أشبه بالصواب. ومنهم من حمله على حالة أخرى سنذكرها. والأوجه في تفسير الإحرام أن يقال: هو نية حج، أو عمرة، أو هما، أو ما يصلح لهما أو لأحدهما، وهو المطلق، وعليه ينطبق قول البندنيجى فى حده: إنه النية والاعتقاد. فإن قلت: يشكل على هذا قول الشيخ من بعد: "وينوي الإحرام [بقلبه] "، وقوله في "المهذب": "ولا يصح الإحرام إلا بالنية"؛ فإنه يقتضي أن يكون غيرها. قلت: سأذكر ثم- إن شاء الله تعالى - ما يدفع ذلك.

وقول الشيخ: "وما يحرم فيه"، هو بفتح [الياء]، ومجموعه عشرة أشياء اللباس؛ وستر الرأس [أو الوجه]، والتطيب، والادهان - كما سنبينه - وتقليم الأظفار، وحلق الشعر، والنكاح والوطء في الفرج ودونه، والمباشرة فيما دون الفرج بشهوة، والاستمناء والصيد. قال: إذا أراد أن يحرم، اغتسل؛ لما روى الترمذي بسنده عن زيد بن ثابت: "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله، واغتسل"، وسنذكر من رواية مسلم ما يؤيده. وهذا الغسل مستحب؛ [لأنه] لأمر مستقبل؛ فكان كغسل الجمعة والعيد، ولا يلزم عليه غسل الجنابة؛ لأنه لأمر ماض، وقد حث الشافعي - رضي الله عنه - على فعله بقوله: تبعت جماعة من أهل العلم، فلم أرهم تركوا الغسل للإحرام؛ فما تركته عند الإحرام، وقد كان تلحقني المشقة لأجله. والصبي والمرأة الطاهرة والحائض والنفساء في استحباب الغسل كالرجل؛ نص

عليه في "الأم"، واستدل له الأصحاب برواية مسلم عن جابر: أن أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كيف أصنع؟ قال: "اغتسلي، واستثفري بثوب وأحرمي". وحكى القاضي الحسين: أن الشافعي - رضي الله عنه - نص في موضع آخر [على] أن الحائض والنفساء تؤخران الإحرام إلى أن تطهرا، وأن الأصحاب اختلفوا: فمنهم من جعل في المسألة قولين: أحدهما: تغتسلان في الحال وتحرمان مع القوم. والثاني: تؤخران إلى أن تطهرا؛ إذ الاغتال على الحيض والنفاس لا والثاني: تؤخران إلى أن تطهرا؛ إذ الاغتسال على الحيض والنفاس لا معنى له؛ فحل وجوده محل عدمه، وقد حكى هذا القول إبراهيم المروزي أيضاً. قال القاضي: والقولان قريبان من القولين في العادم للماء في أول الوقت إذا كان يرجوه في آخره هل يتيمم؟ ومنهم من قال: المسألة على حالين: فحيث قال: "تغتسلان"، أراد: إذا كان يخاف عليهما في التأخير و [المقام بالميقات]. وحيث قال: "تؤخران"، أراد: إذا كان لا يخاف عليهما. قلت: ويمكن حملهما على ما نص عليه في "الأم"؛ فإنه قال: وإذا كانت الحائض والنفساء من أهل المواقيت، وكان الوقت واسعاً، أحببت لكل واحدة منهما أن تقيم، حتى إذا طهرت، اغتسلت، وأحرمت؛ لتكون على أكمل حالها، وإن ضاق الوقت، اغتسلت حائضاً، وأحرمت". قال الإمام: وفي [صحته من الحائض] والنفساء دليل على أنه لا يحتاج إلى نية؛

لأن المقصود منه التنظف. ويحتمل ألا ينصرف إلى جهة العبادة إلا بالنية؛ كغسل الجمعة، وقوي هذا الاحتمال. قال مجلي: ويحتمل الفرق؛ لأن غسل الإحرام من سننه، والإحرام ركن من أركان الحج، ونية الحج مشتملة على جمح أفعاله فرضها ونفلها؛ فلا يحتاج إلى تجديد تية، بخلاف غسل الجمعة؛ فإنه سنة مستقلة بنفسها، ليست جزءاً من الصلاة. قلت: وفي هذا نظر؛ لأن نظير المسألة ما إذا تمضمض واستنشق من غير نية، ثم نوى عند غسل الوجه، وقد قال الأصحاب: لا يحصل له إذا فعل ذلك فضيلتهما؛ لخلوهما عن النية. فإن قلت: هلا قيل بانعطاف النية عليه؛ كما قيل بانعطافها على أول النهار في صوم التطوع إذا وقعت في أثنائه؟ قلت: من عطفها في الصوم على الماضي من اليوم، لاحظ أن صوم بعض يوم لا يمكن؛ فلا بد من أن يقدره صائماً من أول النهار؛ فاضطر إلى تقدير انعطاف النية على أوله؛ لأن الصوم بغير نية لا يصح، ولا كذلك هنا، وفي مسألة المضمضة فإن الإحرام والوضوء ممكن بدونهما؛ فلا ضرورة في التقدير، مع أنه على خلاف الأصل. قال: فإن لم يجد الماء تيمم؛ لأن الغسل يراد للقربة والنظافة، فإذا تعذر أحد الأمرين الذي هو النظافة، فعل ما يحصل به الأمر الآخر، وهو القربة. قال في "التهذيب": كما في غسل الجمعة والعيد، وهذا نصه في "الأم". والحكم كذلك في جمح الاغتسالات المسنونة في الحج. قال الرافعي: لكنا قد ذكرنا في غسل الجمعة: أن الإمام أبدى احتمالاً في أنه لا يتيمم، وجعله الغزالي وجهاً، واختاره، وهو عائد هنا بلا شك. قلت: قد يفرق بينهما بأن الغسل هنا مخالف لغيره؛ بدليل صحته من

الحائض والنفساء؛ فكذلك بدله. ولو وجد الماء، لكن عجز عن الاغتسال به، قال في الحاوي: اخترنا له أن يتوضأ، فإن تعذر الوضوء اخترنا له التيمم. ولو وجد من الماء ما يكفيه للوضوء، توضأ يه؛ قاله المحاملي، والبغوي، والروياني. وقال في "الروضة": إن أريد أنه يتوضأ، ثم يتيمم، فحسن؛ وإن أريد الاقتصار على الوضوء، فليس بجيد؛ لأن المطلوب هو الغسل، والتيمم يقوم مقامه دون الوضوء والصبي والمرأة فيما ذكرناه كالرجل. فإن قلت: ما المحوج إلى حمل قول الشيخ: "إذا أراد أن يحرم اغتسل، فإن لم يجد الماء تيمم"، على الرجل حتى ألحقت به الصبي والمرأة، [ولم لا] حملته على الشخص حتى يشمل الدم والأنثى؟ قلت: أمران: أحدهما: جعل الشيخ متبعاً للشافعي -رضي الله عنه - فإنه قال في "المختصر": إذا أراد الرجل الإحرام، اغتسل من ميقاته". والثاني: قوله: "وتجرد عن المحيط في إزار ورداء"؛ فإن ذلك لا يشرع في حق المرأة. لكن لك أن تقول قوله: "ويرفع صوته بالتلبية، والمرأة تخفض صوتها"، وقوله: "ويجوز للمرأة لبس القميص والسراويل ... " إلى آخره - يدل على أن ما ذكره في الباب كله مشترك بين الرجل والمرأة [سوى هذا، وإلا لم يكن لتخصيص هذا بالذكر معنى، وسكوته عن التفرقة بين الرجل والمرأة] في التجرد عن المحيط، كان لوضوحه، ويؤيد ذلك أن البندنيجي وغيره من الأصحاب قالوا: المرأة كالرجل إلا في ثلاث صور: رفع الصوت بالتلبية، وحكم اللباس؛ كما سنذكره، وستر اليدين؛ على أحد القولين، والله أعلم.

قال: وتجرد عن المنعيط؛ لرواية زيد بن ثابت السابقة. والمنعيط: بفتح الميم، وكسر الخاء. قال: في إزار ورداء؛ لما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه عليه السلام قال: "ليحرم أحدكم في رداء وإزار ونعلين". قال: أبيضين؛ لقوله - عليه السلام-: "البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنه أطهر وأطيب، وكفنوا فيه موتاكم"، أخرجه الترمذي. فلو أحرم في مصبوغ، قال في "التهذيب": كره؛ لأن عمر رأى [على] طلحة ثويين مصبوغين وهو حرام، فقال: "أيها الرهط، [إنكم] أئمة يقتدى بكم؛ فلا يلبس أحدكم من هذه الثياب المصبوغة في الإحرام شيئاً". وفي "الحاوي" و"البحر": أن ما صبغ قبل نسجه يجوز لبسه؛ لأنه بالرجال أشبه، وما صبغ بعد النسج إذا لبسه الرجل، كان عادلاً عن الاختيار، وأجزأ. قال: جديدين؛ لأن الجديد أبعد من الدنس، وأنقى من المغسول. قال: أو نظيفين، أي: من الوسخ والنجاسة؛ لأن ذلك يحصل المقصود. قال في "الحاوي": فلو لبس ثوباً نجساً، كان [بذلك] مسيئاً، وكان إحرامه منعقداً، وكذا لو أحرم وهو جنب؛ لأن الإحرام لا يفتقر إلى طهارة من حدث ونجس. قال: ويتنظف، أي: بإزالة الأوساخ، وتقليم الأظفار، والأخذ من شعره، وبالسواك؛ كما يفعل عند الرواح إلى الجمعة؛ لما روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بأشْنَانٍ

وخطمي". وروى جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يتأهبوا للإحرام بحلق شعر العانة، ونتف الإبط، وقص الشارب والأظفار وغسل الرأس". وقد استحب الأصحاب له - أيضاً - أن يلبد شعره قبل الإحرام، وهو أن يعقص شعره ويضرب عليه الخطمي أو الصمغ أو غيرهما؛ لدفع القمل وغيره؛ فإنه قد صح في استحباب ذلك أحاديث. قال: ويتطيب؛ لقول عائشة - رضي الله عنها -: "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه حين أحرم، ولحله حين حل قبل أن يطوف بالبيت"، أخرجه مسلم

[والبخاري]. والمرأة في هذا كالرجل إن لم يكن مراد الشيخ: الشخص - كما تقدم – لقول عائشة - رضي الله عنها-: "كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمخ جباهنا بالمسك [و] الطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها، فيراه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينهانا"، رواه أبو داود. وعن الداركي رواية قول: أنه لا يستحب لها التطيب بحال، فإن فعلت كان جائزاً، كما أنها إذا حضرت الجمعة [لا يستحب لها الطيب. وليس بشيء؛ فإن الحديث حجة عليه. وعلى الأول قال الأصحاب: لا فرق فيه يين العجوز والشابة، والمزوجة والخلية، بخلاف الجمعة]؛ فإن حكمها ووضعها أضيق. وقد استحب الشافعي لها - أيضاً - أن تخضب للإحرام وجهها ويديها، سواء كان لها زوج أو لم يكن؛ لما روي عن ابن عمر أنه قال: "من السنة أن تدلك المرأة يديها بالحناء". والمعنى فيه: أنه يصير ساتراً لبشرتها؛ إذ قد تمس حاجتها إلى كفها، [وكذا استحب لها خضاب وجهها به]، ويكره لها التطرف، ولا يكره إلى الكوع.

فإن قيل: ما ذكرتموه من الحديث، الدال على مشروعية التطيب يعارضه ما روي "أن أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه جبة متضمخة بالحلوق، فقادت [يا] رسول الله: أحرمت بالحج، وعليَّ هذه، فما أصنع؟ فلم يرد عليه شيئاً، حتى نزل عليه الوحي، فلما سُرِّيَ عنه قال: وأين السائل آنفاً؟ "فقال الأعرابي: هأنا يا رسول الله، فقال: "انزع الجبة واغتسل"، كما أخرجه مسلم بمعناه، وهذا يدل على منع التطيب. فجوابه من وجهين قالهما أبو الطيب وغيره: أحدهما: أن الجية أصابها الخلوق وفيه زعفران، والزعفران محرم على الرجال في حال الحل والإحرام؛ قال الماوردي: لنهيه - عليه السلام - الرجال عن التزعفر؛ فلذلك أمره بغسله.

والثاني: أن هذا الخبر منسوخ؛ لأنه كان بالجعرانة سنة ثمان، وخبرنا في حجة الوداع سنة عشر. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في التطيب بين ما يبقى جِرْمُهُ بعد الإحرام؛ كالمسك والغالية، وما لا يبقى إلا ريحه: كالبخور بالعود ونحوه، وهو المذهب، وبه جزم الإمام؛ لخبر عائشة السابق، ورواية مسلم عنها [أنها] قالت: "كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم" ووبيص المسك: بريقه. لكن التطيب بما تبقى عينه، هل يكون مستحباً أو مباحًا؟ حكى الماوردي فيه وجهين، وقال: إن الثاني أشبه بمذهب الشافعي، رضي الله عنه. والذي أورده ابن الصباغ وغيره الأول. ومقابل المذهب وجه: أنه لا يجوز التطيب بما يبقى أثره بعد الإحرام؛ لأنه في معنى التطيب بعد الإحرام، وهو جار في المرأة، ومنهم من خصه بها دون الرجل؛ حكاه أبو الطيب وغيره، وقال: إنه باطل؛ لأنه خلاف السنة؛ وعلى هذا لو فعل، لزمه غسله، وعلى المذهب: لا يجب غسله. قال في "التهذيب"- تبعاً لشيخه ويخالف المرأة إذا تطيبت، ثم لزمتها العدة، يجب عليها إزالته على وجه؛ لأن تنبه حق آدمي. ولو عرق فسال الطيب إلى موضع آخر، فلا فدية عليه؛ لأنه في حكم المغلوب عليه.

وفيه وجه؛ أنها تجب؛ [لأنه حصل بسبب فعله. قال ابن الصباغ وغيره؛ وليس بشيء. ولا خلاف عند الجمهور] فى أنه لو مسه بيده عمدًا وهو مما يعلق بها، أو نقله من موضعه إلى موضع آخر، أو أعاده إلى موضعه - في لزوم الفدية. وحكى الحناطي قولين فيما إذا نقله، ثم رده إلى موضعه، أو موضع آخر. أما التطيب في ثوبه، فقد قال في القديم: "وأحب أن يجمر ثيابه ورحله"، فمنهم من أجراه على ظاهره، وقال: له أن يطيب ثياب بدنه للإحرام كما يطيب بدنه، ويكون مستحباً؛ كما حكاه القاضي الحسين، وهو الذي صححه الإمام. ومنهم من قال: إنما أراد ثياب غير البدن، فأما ثياب البدن فلا يطيبها للإحرام؛ لأن العادة فيها النزع، والإعادة؛ فيؤدي إلى ابتداء التطيب عند الإعادة؛ وعلى هذا لو فعل، فهل يكون فعله مكروهًا أو محرماً؟ فيه وجهان: المذكور منهما في طريق العراقيين: الأول. والثاني حكاه الإمام والفرق عليه بين البدن والثوب: أن الطيب [في الثوب يبقى، وفي البدن ينمحق]. وحكى وجهاً آخر: أن الطيب إن لم يكن عيناً، فلا بأس به؛ وإن كان عيناً، لم يجز،

وكان بمثابة ما لو ربط مسكاً على طرف إزاره وكان يستنشقه؛ فإنه ممنوع [منه] وفاقاً. [ثم]، إذا قلنا بجواز لبس الثوب مطيباً، فلبسه، [ثم أحرم، ثم نزعه]، ورام لبسه محرماً - فهل يجوز؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين. وغيره من المراوزة [قال: إنه إذا] لبسه ثانياً وهو محرم، هل تجب عليه الفدية؟ فيه وجهان، قربهما الإمام عن الوجهين في إيجاب الفدية بسيلان الطيب، وقضية هذا "التقريب": أن يكون الصحيح المنع، لكن الصحيح في "التهذيب"- وهو المذكور في "الشامل" و"تعليق" أبي الطيب - الوجوب، ونسبه في "البحر" إلى قول أبي الحسن الماسرجسى. قال: ويصلى ركعتين؛ لرواية جابر وابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى ذا الحليفة، فصلى ركعتين بعد العصر ببطحائها، ثم ركب"؛ كذا أورده الماوردي، والذي رواه أبو داود عن ابن عباس: "أنه - عليه السلام - صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتين"، ولم يعين الوقت.

وروى عن أنس قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بذي الحليفة حتى أصبح، فلما ركب راحلته، واستوت به، أهل"، وأخرجه البخاري ومسلم؛ وهذا يدل على أن إحرامه كان قبل الزوال. ثم استحباب صلاة الركعتين مفروض عند الماوردي وغيره بما إذا لم يكن الإحرام في وقت صلاة مفروضة أو سنة أو راتبة؛ كما قال القاضي الحسين، فإن [كان] في وقت صلاة مفروضة أو سنة راتبة، صلى ذلك؛ ثم أحرم عقيبه، وحاز فضيلة الإحرام بعد الصلاة. ثم استحبابهما - أيضاً - مفروض عن القاضي الحسين فيما إذا لم يكن الإحرام في الأوقات المكروهة؛ فإن كان لم يفعل، بل يحرم من غير صلاة؛ لأن سببهما الإحرام، وهو [يتأخر عنهما] وقد لا يأتي به؛ فتجرد الصلاة في الوقت المنهي عن الصلاة فيه عن السبب. قال: ولهذه العلة لا يجوز صلاة الاستخارة، وصلاة الاستسقاء في هذه الأوقات. والمذكور في "تعليق"، اليندنيجي جواز فعلهما في الأوقات المكروهة؛ لأن لهما سبباً؛ وبذلك يحصل في المسألة وجهان، وقد حكاهما الرافعي، وصحح الأول؛ لما ذكرناه.

لكن ما ذكره الماوردي من أنه - عليه السلام - صلى الركعتين بعد العصر لو صح، دفعه، والله أعلم. قال: فإذا بدأ بالسير، أي: بأن مشى إن كان راجلاً، أو انبعثت به دابته إن كان راكباً - أحرم في أصح القولين؛ لما روى الشافعي سنده عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل مكة: "إذا توجهتم رائحين إلى عرفة، فأهلوا بالحج". وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أنه قال في حديث طويل: "وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث [به] راحلته"، ولرواية أنس السابقة. ولأنه إذا كبر مع السير وافق قوله فعله؛ وهذا ما نص عليه في عامة كتبه الجديدة. وفي الثاني: يحرم عقيب الصلاة - أي: قاعداً - لما روى أبو داود عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا أبا عباس، عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب! فقال: "إني لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول الله حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاًّ، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه، أوجب في مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام؛ فحفظته عنه، ثم ركب،

فلما استقلت به ناقته، أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل حين استقلت به ناقته، وايم الله، لقد أوجب في مصلاه"، وهذا ما نص عليه في "مختصر" الحج والقديم واختاره جماعة من الأصحاب؛ كما قال الرافعي. قال اليندنيجي: وإحرامه عند استواء ناقته يه كإحرامه عقيب الصلاة؛ نص عليه فى لقديم أيضاً. وتمسك القائلون بالأول فى دفع خبر ابن عباس بأن فى رجاله خصيف بن عبد الرحمن الحرانى، وهو ضعف. وهذا الخلاف في الأفضل بالاتفاق. قال: وينوي الإحرام بقلبه؛ لقوله - عليه السلام-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". وقد تقدم أن النية هي القصد، تقول العرب: نواك الله بحفظه، أي: قصدك الله بحفظه. فإذا تجدد عهدك بذلك، عرفت أن مراد الشيخ: أن يكون المأتي به في القلب قصد الإحرام، وهو الاعتقاد؛ كما قدمنا حكايته عن البندنيجي، لا قوله في القلب: أحرمت؛ فإن ذلك ليس بنية، فلا يقع الاكتفاء به؛ للحديث المذكور. وكلام الماوردي يقتضي الاكتفاء بذلك؛ فإنه قال عند الكلام في إحرام الولي عن الصبي على مذهب البصريين: يقول عند الإحرام عن الصبي: اللهم إني قد أحرمت عن ابني، و [على مذهب البغداديين يقول: قد أحرت بابني]، وكذا قول الإمام: [و] لو قال في نفسه: أحرمت كإحرام فلان، فهو سائغ - يقتضي الاكتفاء به [أيضاً]، وما ذكره الشيخ أولى. قال: ويلبي، أي: مقترناً، بالنية؛ لنقل الخلف عن السلف. قال: فإن لم يلبْ، أجزأه، أي: الإحرام بالقلب؛ لما روى جابر قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ننوي إلا الحج، فلما دنونا من مكة، قال: "من لم يكن معه هدي، فليجعلها عمرة"، فأخبر أنهم أحرموا بمجرد النية دون التلبية.

ولأنها عبادة يجب في إفسادها الكفارة، [ولا يجب النطق] في آخرها؛ فلم يجب في أولها؛ كالصوم. وهذا هو المذهب، ولم يورد الماوردي وأبو الطيب والفوراني غيره. وقيل: لا يجزئه -[أى]: الإحرام - حتى يلبي؛ لرواية عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "إذا توجهتم إلى منى فأهلوا". وحقيقة الإهلال: إظهار الحالة بالتلبية. ولأنها عبادة شرع [فيها الذكر في أثنائها]؛ فاقتضى أن يجب في ابتدائها، ولا تنعقد بدونه؛ كالصلاة. وهذا ما نسبه في "المهذب" إلى أبي عبد الله الزبيري من أصحابنا، والقاضي الحسين إلى صاحب "التقريب"؛ وحكاه الإمام قولاً للشافعي - رضي الله عنه - وقال: إنه اختيار أبي علي بن أبي هريرة والطيبري. وعلى هذا: هل يقوم الإشعار والتقليد مقام التلبية؟ الذي حكاه الرافعي عن الشيخ أبي محمد وغيره في رواية القديم: نعم؛ كمذهب أبى حنيفة. و [قال] في النهاية: إن شيخه كان يتردد في إقامة ذلك مقام التلبية. وعن لحناطي: أنه حكى القول القديم في وجوب التلبية دون اشتراطها، وأنه ذكر تفريعاً عليه أنه لو ترك التلبية، لزمه دم. ولو اقتصر على [الإتيان بالتلبية] دون النية، فقد حكى الإمام: أن المزني نقل أنه

يلغو ما صدر منه. ونقل الربيع: أن إحرامه ينعقد مجملاً، [ثم إنه] يصرفه إلى أحد النسكين أو إليهما؛ وأن الأصحاب كثر خبطهم في ذلك. ونحن نذكر المقصود [منه فنقول:] من ذكر التلبية حاكياً أو معلماً، وقصد غيرها، سوى الإحرام - لم يصر محرماً، [وكذلك إذا جرى اللسان بالتلبية]، فلا حكم له؛ فأما إذا [جرى قصده إلى] النطق بالتلبية، ولم يخطر بباله قصد الشروع في الإحرام - فهذا موضع التردد، وللأصحاب طريقان: منهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - وهو الذي نقله المزني -: أنه لا يصير محرماً. والثاني: أنه يصير محرماً. ولا أعرف له وجهاً. وعلى هذا إن كان قد سمى شيئاً صار محرماً به، وإن أطلق التلبية، انعقد الإحرام مطلقاً يصرفه إلى ما شاء من كلا النسكين أو أحدهما؛ قاله الرافعي. وسكت الإمام عن حكاية الطريق الثاني، وقد صرح به الرافعي، وهو القطع بعدم الانعقاد، وحمل منقول الربيع على ما إذا تلفظ بأحد النسكين على التعيين، ولم ينوه، ولكن نوى الإحرام المطلق، فيجعل لفظه تفسيراً أو تعيينًا للإحرام المطلق. والقاضي الحسين حكى الخلاف في المسألة على غير هذا النحو، فقال: الذي حكاه المزني فيما إذا لبَّى بحج أو عمرة، ولم يرد حجًّا ولا عمرة: فليس بشيء. وقال في موضع آخر: يلزمه ما سمى. واختلف الأصحاب في قول المزني؛ "فليس بشىء": فمنهم من قال: إنما أراد به؛ فليس بشيء أصلاً، وصورته: إذا لم ينو أصل الإحرام، وتلفظ بنسك؛ فعلى هذا قوله: "يلزمه ما سمى"، محمول على ما إذا كان قد نوى ما سماه. ومنهم من قال: معنى قوله: "ليس بشيء"، أي: ليس بشيء معين. وصورة المسألة:

ما إذا نوى أصل الإحرام، [وتلفظ بنسك، ولم ينو غير ما تلفظ به، ويحمل قوله: "يلزمه ما سمى"، على أنه إذا نوى أصل الإحرام]، ونوى نسكاً، ولم ينو غير ما سماه، فيلزمه؛ لقوة الإحرام وغلبته؛ فيخرج فيما إذا سمى نسكاً ولم ينو شيئاً أصلا: أنه لا يلزمه شيء، وفيما إذا نوى أصل الإحرام، وسمى نسكاً، ولم ينوه - قولان: أحدهما- وهو الأظهر عند القاضى-: أنه لا يلزمه ما سمى؛ إذ العماد هو النية. والثاني: يلزمه ما سمى بحكم التسمية؛ لما للإحرام من الغلبة والقوة. ومنهم من قال: قوله: "ليس بشيء" إذا نوى أصل الإحرام، ورفض بقلبه ما تلفظ [به لسانه]؛ فيبقى مجرد الإحرام، وقوله: "لزمه ما سمى"، إذا لم يرفض بقلبه ما تلفظ بلسانه. والصحيح: أنه لا أثر لمجرد النطق بدون النية في التعيين ولا في الانعقاد، وعلى هذا: لو لبَّى بحج، ونوى عمرة، أو لبَّى بعمرة، ونوى حجاً - انعقد إحرامه بما نواه؛ نص عليه في "المختصر". قال: والمستحب أن يعين ما أحرم به؛ لرواية جابر: أنه - عليه السلام - أهل بالحج، وقد استدل له الماوردي بقوله -عليه السلام-: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة"؛ فدل على أن إحرامه كان معيناً بالحج، وليعرف ما دخل عليه؛ وهذا ما نص عليه في "الجامع الكبير" و"الأم"، وهو الأصح في "الرافعي" وغيره. وقد نص في "الإملاء" على أن الإطلاق أفضل. قال الماوردي: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وأصحابه مهلين يتتظرون القضاء، فأمر من لا هدي معه [أن يجعل إحرامه] عمرة، ومن معه هدي أن يجعله حجاً. ولأنه أحرى أن يقدر على صرفه إلى ما لا يخاف فوته من حج أو عمرة؛ لأنه إن

كان الوقت واسعاً، أمكنه تقديم العمرة وإدراك الحج، وإن كان ضيقاً، قدم الحج؛ لئلا يفوته، ثم يحرم بالعمرة. [وانتصر ابن الصباغ للقول] الأول، وقال: الخبر الذي استدل به للقول الثاني رأويه طأوس، وهو مرسل؛ فخبر جابر أولى منه، والاحتياط ممكن بأن يحرم بالعمرة؛ فإنه إن شاء كان متمتعاً، وإن شاء قارناً، وإن شاء اقتصر عليها. قلت: وما ذكره من إمكان الاحتياط فيه نظر؛ لأنه إن حصَل فضيلة التعيين على زعمه بإحرامه بالعمرة، فقد فوّت فضيلة الإحرام بالحج في أشهره إن اقتصر على فعل العمرة، وإن لم يقتصر عليها، بل حج من عامه بعد فراغه من العمرة، أو أدخل الحج على العمرة - فقد فوّت فضيلة الإفراد؛ وحينئذٍ يبقى النظر في أي الفضيلتين أولى بالتحصيل؟ والله أعلم. قال: فإن أحرم مطلقاً، أي: في أشهر الحج، مثل: أن نوى الإحرام لا غير، ثم صرفه إلى حج أو عمرة، جاز؛ لما ذكرناه، من رواية طأوس؛ أنه - عليه السلام - وأصحابه أهلوا منتظرين القضاء ... إلى آخره. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن جابراً روى: أنه - عليه السلام - أحرم مطلقاً، ثم جعله حجاً، وخالف الإحرام هاهنا الإحرام في الصلاة؛ لأنه يقع فيه ما أحرم به عن غيره عن فرضه، وما تطوع به أو نذره عن فرضه؛ فجاز لذلك انعقاده مطلقاً. وكما يجوز صرفه إلى الحج أو العمرة، يجوز صرفه إليهما، والصرف يكون بالنية دون القول؛ صرح به في "الروضة"، وفيه ما سبق. ولو شرع في الطواف والسعي قبل التعيين، قال البندنيجي: لم يعتد به؛ لأنه لا في حج ولا في عمرة.

وعن الشيخ أبي حامد: أنا نجعل إحرامه بحج، وينوي الحج، ويقع هذا الطواف عن القدوم. وإنما قال: "يصير حجاً ولا يصير عمرة"؛ لأن الطواف ركن في العمرة، فلا يقع بغير نية، وطواف القدوم لا يحتاج إلى نية تخصه. قال مجلي: وفيه نظر، ولا يمتنع أن يقال: يقع هذا الطواف للقدوم، ثم إن عين حجاً مضى على حاله، وإن عين عمرة، لم يجزئه هذا الطواف، وعليه أن يطوف للعمرة، ولا وجه لصرفه للحج [تعيياً]. ولو كانت المسألة بحالها، إلا أنه لم يعين حتى فأنه الحج - قال القاضي الحسين: احتمل أن يقال: يتعين عمرة؛ لأنه كان بغرض أن يجوز عنهما، فإذا فات أحدهما تعين الآخر؛ كما لو أحرم قبل أشهر الحج. ويحتمل أنه باق على ما كان؛ فعليه التعيين، فإن عين عمرة خرج منها، وإن عين حجاً يكون كمن فأنه الحج. أما إذا أحرم مطلقاً في غير أشهر الحج، فالذي أورده الجمهور – ومنهم الماوردي-: أنه ينعقد بعمرة؛ فلا يجوز صرفه إلى حج في أشهره، وهو الذي حكاه الإمام عن معظم الأئمة، وقال في "الوسيط": إنه المذهب. وعن الشيخ أبي علي رواية وجه آخر: أنه يجوز صرفه في أشهر الحج إلى الحج والقران، ووجهه - على ضعفه-: أن العبد إذا أحرم [بالحج] في رقه، ثم عتق قبل الوقوف، ووقف حرًّا - فقد قال الشافعي: "يقع الحج عن فرض الإسلام"، وقد عزي هذا الوجه إلى اختيار الخضري؛ وعلى هذا ينعقد إحرامه مبهماً، ولو صرفه إلى الحج قبل أشهره، كان كما لو أحرم [بالحج] قبل أشهره، وقد مضى الكلام فيه؛ قاله الإمام والرافعي. وكما يجوز الإحرام المطلق يجوز الإحرام المعلق على إحرام غيره، مثل: أن ينوي إحراماً كإحرام زيد؛ لما روي أن علي بن أبي طالب وأبا موسى الأشعري لبيا

باليمن، وقالا عند تلبيتهما. إهلالا كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليهما؛ وهذا مما لا خلاف [فيها] عندنا، سواء علم ما أحرم به [زيد] أو لم يعلم، ويصير محرما بما زيد محرم به من حج أو عمرة أو قران أو إطلاق، ولا يلزمه عند الإطلاق أن يصرف إحرامه إلى ما صرفه إليه زيد على أحد الوجهين في تعليق القاضي أبي الطيب والمعتمد، وهو الذي أورده الجمهور. ولو كان زيد قد أحرم بعمرة أولاً، ثم أدخل عليها الحج: فإن كان الإحرام المعلق قبل إدخال زيد الحج على العمرة، انعقد بعمرة، وإن كان بعد إحرامه بالحج. فإن قصد الأول انعقد بعمرة أيضاً، وإن قصد ما هو عليه في الحال كان قارناً، وإن لم يقصد شيئاً فوجهان؛ نظراً إلى الابتداء والدوام؛ حكاهما المراوزة. ولو كان زيد لم يحرم بشيء، انعقد إحرامه مطلقاً؛ جزم به القاضي أبو الطيب وغيره، وكان ينبغي أن يتخرج على الخلاف فيما إذا كان زيد قد أحرم إحراماً فاسداً؛ فإن في انعقاده مطلقاً وعدم انعقاده وجهين في "تعليق" أبي الطيب، مشبهين بوجهين حكاهما فيما لو نذر صلاة فاسدة: هل تلزمه صلاة صحيحة أم لا يلزمه شيء؟ وقال في "الروضة": [إن] الصحيح: الثاني.

أو يتخرج على ما إذا بان زيد ميتاً حال الإحرام المعلق؛ فإن في انعقاد إحرامه مطلقاً أو عدمه وجهين، أصحهما فى "البحر" وغيره: الانعقاد. وقد أشار الإمام إلى الفرق بين هذه الصورة والصورة التي ألحقناها بها: بأن هناك لا نتحقق عدم إحرامه، وهنا تحققناه. وقد قال الرافعي فيما إذا لم يكن زيد [محرماً]: [إنه] ينظر؛ فإن كان المعلق جاهلاً بعدم إحرام زيد، انعقد إحرامه مطلقاً، وإن كان عالماً به؛ ففي انعقاد إحرامه وجهان، أظهرهما: الانعقاد ولم يورد الجمهور سواه. نعم: حكى القاضي الحسين فيما لو قال: إن كان فلان محرماً، فأنا محرم بما أحرم به، فبان غير محرم-: تبينًّا أنه لم ينعقد إحرامه. وقد ذكر الأصحاب لهذه المسألة فروعاً: منها: لو قال زيد: أحرمت بالحج مثلاً، ووقع في قلب المعلَّق: أنه أحرم بعمرة - فهل يؤاخذ بما أخبر به زيد أو بما وفع في قلبه؟ فيه وجهان في تعليق أبي الطيب. ولو وقع في قلبه صدق زيد فيما أخبر به [من] أنه محرم بالعمرة، وجرى على قوله، ثم بان أنه كان محرماً إلحج - فقد بان أن إحرامه كان منعقداً بالحج فإن فات الوقت، تحلل من إحرامه؛ للفوات، وأراق دماً، وهو في ماله أو [في] مال زيد للتغرير؟ فيه وجهان في "تعليق" أبي الطيب و"المعتمد". ومنها: لو مات زيد أو غاب أو جن قبل أن يعلم المعلق ما أحرم به، قال القاضي أبو الطيب: فيلزمه أن ينوي القران قولاً واحداً؛ لأنه لا مطلع له على نيته غيره، وهو الذي حكاه الماوردي عن نصه في الجديد والقديم. وفي كتب المراوزة إجراء القولين الآتيين فيما إذا أحرم بنسك ونسيه فيه. والإمام نسبهما إلى رواية العراقيين، والمذكور في كتبهم: الأول.

نعم، قال القاضي أبو الطيب: لو كان قد لقيه، وأعلمه بما أحرم به، ثم مات، ونسيه - فيأتي [فيه] القولان. ومنها: لوكان [قد] علق إحرامه بإحرام زيد وعمرو، فإن كانا محرمين بحج [أو عمرة] أو قراناً - كان المعلق كذلك. ولو كان أحدهما محرماً بحج، والآخر بعمرة، كان هو قارناً؛ قاله في "البحر". وهل يجوز تعليق الإحرام بطلوع الشمس؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"المعتمد": أحدهما؛ نعم؛ كقوله: إحراماً كإحرام زيد، وهذا ما حكاه في "البحر"، وقال تفريعاً عليه: إنه لو قال: أحرمت يوماً أو يومين أو بنصف نسك - انعقد إحرامه مطلقاً؛ كالعتق. والثاني: لا؛ لأنه علق إحرامه على شرط، بخلاف تعليقه على إحرام زيد؛ فإن أصل الإحرام انعقد في الحال، وإنما علق صفته على شرط يوجد في ثاني الحال؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين ومن تبعه، وألحق به ما إذا قال: إن أحرم فلان فأنا محرم، لا يصير محرماً بإحرام فلان. فرع: إذا قال: أنا محرم إن شاء الله، قال القاضي أبو حامد: ينعقد إحرامه في الحال، ولا يؤثر استثناؤه فيه؛ لأن الاستثناء إنما يؤثر في النطق أو ما يقوم مقامه: كالكناية مع النية في الطلاق ونحوه، [ولا يؤثر في النيات المستقلة بنفسها]. قلت: ويظهر أن يجيء فيه ما قيل في نظير المسألة من الصوم. قال: وإن أحرم بحجتين، أو عمرتين، [انعقد إحرامه] بأحدهما؛ [لأنه يمكن المضي فيه، ولا ينعقد بهما]؛ لأنه لا يمكن المضي فيهما، ولا فرق في ذلك بين أن يكون إحرامه بهما عن نفسه أو عن مستأجرين، أو أحدهما عن نفسه والآخر عن مستأجره، لكنه يكون لنفسه في الكل، وقد نص عليه الشافعي - رضي الله عنه - في الأخيرتين في "الأم"؛ كما حكاه في "الوسيط". قال: وإن أحرم بنسك، ثم نسبه، أي: قبل أن يأتي بشيء من أعمال النسك -

ففيه] قولان: أحدهما: أنه يصير قارناً. والثاني: أنه يتحرى ويصرف إحرامه إلى ما يغلب على ظنه منهما؛ لأنه لو شك في القبلة أو اشتبهت عليه الآنية والثياب، لزمه أن يتحرى، ويعمل بما يغلب على ظنه، فكذلك إذا شك في النسك الذي أحرم به، وهذا أخذ من قوله في القديم في باب وجه الإهلال "ومن لبى ينوي شيئاً، فنسي [ما لبى به ونواه]- فأحب [إلي] أن يقرن؛ [لأن القران] يأتي على ما نوى، وإن تحرى رجوت أن يجزئه، إن شاء الله تعالى". فقد أجاز له الاجتهاد والتحري. والجديد الصحيح المشهور: [الأول، وهو المنصوص عليه في أكثر كتبه] ووجهه: أن الإحرام قد انعقد، والتحري [غير ممكن]؛ لأنه شك في فعل نفسه، ولا أمارة عليه، والاجتهاد يكون عند وجود الأمارات. فإن قلت: قد مضى في كتاب الطهارة خلاف في أن من شرط الاجتهاد اعتماد الأمارات، فلمن قال بالقديم أن يمنع. قيل في الدليل: إنه شك في العبادة بعد التلبس بها؛ فلا يجوز له الاجتهاد فيها؛ كالمصلي إذا شك في عدد الركعات وهو فيها، لا يتحرى. ولأن كل عبادة أمكن أداؤها بيقين، لم يجز التحري فيها، وأصله: ما إذا شك: هل صلى أم لا؟ فإنه يبني على اليقين، [كذلك هنا يلزمه القران؛ لأن به يخرج عما عليه] بيقين؛ فإنه إن كان قد نواه لم تضر نيته ثانياً، وإن كان قد نوى عمرة، فإدخال الحج عليها جائز وإن كان قد نوى حجاً فإدخال العمرة عليه لا يقدح فيه، وإن كان في صحتها الخلاف السابق. والجواب عما ذكر من التحري في القبلة والثياب والآنية: [أنه أدى]

العبادة ثم لا تحصل له بيقين إلا بعد فعل محظور، وهو أن يصلي إلى غير القبلة، ويتوضأ بماء غير طاهر، ويصلي في ثوب نسى؛ فلذلك جاز التحري، وفي مسألتنا يحصل الأداء بيقين من غير فعل المحظور كما تقدم. التفريع: إن قلنا بالقديم، فاجتهد، ولم يغلب على ظنه شيء -[عاد الحكم كما سنذكره تفريعاً على الجديد؛ صرح به الماوردي وغيره. وإن غلب على ظنه شيء] مضى عليه من غير نية، وأجزأه عن فرضه حتى لو غلب على ظنه القران، أجزأه عن حجة الإسلام وعمرته؛ صرح به الأصحاب. وبهذا يظهر لك أن قول الشيخ: "ويصرف إحرامه"، فيه مسامحة، ويستحب له على هذا أن يقرن كما نص عليه. وقد حكى الرافعي عن "شرح الفروع" للشيخ أبي علي: أن بعض أصحابنا قال: لا يجزئه ما غلب على ظنه أنه أحرم به من النسكين؛ لأن الأصل وجوبهما بيقين؛ فلا سقط اليقين بالشك، وتكون فائدة الاجتهاد مقصورة على الخلاص من الإحرام. وفي "النهاية" في حكاية هذا الوجه عن "شرح الفروع": أن [بعض أصحابنا] قال: إن فائدة الحكم بالاجتهاد القضاء بالتحلل والخلاص من الإحرام، فأما أن يحكم ببراءة ذمته من التسكين إذا ظن القران فلا، وكذلك لا يلزمه الدم بالظن. قال: وهذا بعيد؛ لأن الظن إن اتبع في وجه، وجب اتباعه في كل حكم. وهذا يدل على أن الخلاف مقصور [على ما] إذا غلب على ظنه القران. وإن قلنا بالجديد، فظاهر كلام الشيخ: أنه يصير قارناً بمجرد النسيان دون نية القران، وهو [ظاهر] كلام المزني في "المختصر"؛ قإنه حكاه كالشيخ، وقد حكاه الحناطى قولاً للشافعى - رض الله عنه - وأغرب فيه. والجمهور على صرف اللفظ عن ظاهره، وأنه لا يصير قارناً إلا بالية، ويدل عليه قوله في "الإملاء" و"الأم" - كما قال البندنيجي-: "عليه أن يأخذ باليقين، وهو أن

يقرن"، ولفظ الشيخ في "المهذب" في حكاية نصه في "الأم": "أنه يلزمه أن يقرن"، وظاهر [هذا] اللفظ يقتضي أنه يجب عليه أن ينوي القران، وهو المفهوم من كلام الأصحاب، وبه صرح الماوردي. وفي "النهاية": أن الشافعي - رضي الله عنه - لم يذكر القران على معنى أنه لا بد منه، ولكنه ذكره؛ ليستفيد الآتي [به] التحلل القطعي، وتبرأ ذمته عن النسكين؛ فإنه لو اقتصر على الإحرام بالحج بعد النسيان، وانتهى عمل الحج، فقد تحلل عما هو عليه قطعاً، وبرئت ذمته عن حجة الإسلام، ولذلك لو لم يجدد إحراماً بالحج، ولكنه أتى بأعمال الحج، فإنه يخرج - أيضاً - عن إحرامه، ويتحلل غير أنه لا تبرأ ذمته في ظاهر الحكم عن واحد من النسكين. وعلى كل حال، فإذا نوى القران وأتمه، سقط عنه حجة الإسلام بلا خلاف، وهل تسقط عنه عمرته؟ فيه قولان، ينبنيان على أن إدخال العمرة على الحج: هل يجوز أم لا؟ فإن قلنا بجوازه، سقطت [عنه أيضاً] عمرة الإسلام؛ وإن قلنا: لا يجوز، فالمذهب في "تعليق" البندنيجي وغيره: أنها لا تسقط؛ لاحتمال أن يكون إحرامه بالحج، وعن أبي إسحاق؛ أنها تسقط؛ لأن منع إدخال العمرة على الحج في حال الاختيار، أما في حال الضرورة فلا، والنسيان ضرورة. قال في "البحر" وغيره: [وهو] ضعيف.

ثم إذا قلنا بسقوط العمرة [عنه]؟، وجب عليه دم القران إن كان ممن يجب عليه، وإن قلنا؛ لا تسقط، فهل يلزمه الدم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، وهو ما ادعى في "البحر" - تبعاً للمهذب-: أنه المذهب، وبه جزم القاضي الحسين؛ لأنه يلزمه إذا صح قرانه، وهنا لم يحكم بصحة قرانه؛ فلم يلزمه دم لأجله. والثاني- وهو الصحيح في "الحاوي"، والظاهر في "الشامل"، والمختار في المرشد-: نعم؛ لأنا [إنما] لم نسقط عنه [العمرة] احتياطاً للعبادة، ومن الاحتياط إيجاب الدم عليه. أما إذا حصل النسيان بعد فعل شيء من النسك، فعلى القديم لا يختلف الحكم، وعلى الجديد ننظر: فإن كان الوقوف لا غير؛ بأن يكون لمّا أحرم توجه إلى عرفة، ولم يدخل مكة كما يفعل أهل خراسان اليوم، ثم طرأ عليه الشك وهو واقف بعرفة- فإنه ينوي القران، ويسقط عنه فرض الحج؛ لأنه إن كان معتمراً فقد أدخل الحج عليها [قبل الطواف، وهو جائز، وإن كان حاجاً أو قارنًا، فقد فعل الحج]؛ وعلى هذه الحالة يحمل قوله في "المهذب"- تبعاً لأبي حامد-: وإن نسي بعد الوقوف وقبل طواف القدوم أجزأه الحج. وأما فرض العمرة فقد أطلق الكرخى والبغوي: أنه لا يسقط. وقال القاضي أبو الطيب: إن قلنا فى الحالة السابقة: لا سقط، فكذلك هنا؛ وإن قلنا؛ [يسقط ثم، فهاهنا] وجهان ينبنيان على الوقت الذي يجوز فيه إدخال العمرة على الحج؛ فإن قلنا: يجوز إلى أن يقف بعرفة فلا يجوز فهاهنا لا يسقط؛ وإن قلنا: يجوز ما لم يشرع في التحلل، سقط عنه فرض العمرة هنا أيضاً؛ [وهذا] قد

أبداه الرافعي احتمالاً. ولو طرأ عليه النسيان بعد انصرافه من الوقوف، فإن كان الوقت باقياً، نوى القران، وعاد إلى الموقف، وكان حكمه كما لو وقع النسيان وهو بعرفة. وإن كان [وقت الوقوف] قد فات، فلا يسقط عنه فرض الحج؛ لأنه يجوز أن يكون ما نسيه عمرة؛ فلا يصح إدخال الحج عليها في زمان لا يصح فيه الإحرام بالحج. وأما فرض العمرة، فإن قلنا: لا يجوز إدخال العمرة على الحج إذا وقف بعرفة - فلا يسقط فرضها؛ وإن قلنا: يجوز ما لم يرم جمرة العقبة - سقط عنه فرضها. وإن كان لما أحرم توجه إلى مكة قبل الوقوف، وطاف طواف القدوم، ثم طرأ عليه الشك - لم يسقط [عنه] فرض الحج؛ لأنه يجوز أن يكون ما نسيه عمرة، والطواف منصرف إلى طوافها، ولا يصح إدخال الحج على العمرة بعد الطواف. وأما فرض العمرة، فإن قلنا: لا يجوز إدخالها على الحج، فلا يسقط [أيضاً] وإن قلنا: يجوز - أما في حال الاختيار أو في هذه الحالة؛ كما قاله أبو إسحاق - سقط؛ كذا قاله القاضي أبو الطيب وغيره، وهو منه بناء على أن طواف القدوم في الحج لا يمنع إدخال العمرة عليه، أما إذا قلنا: [إنه] يمنع - كما اختاره البغوي وغيره - فلا يسقط؛ صرح به القاضي الحسين؛ ولذلك قال ابن الحداد - كما حكاه ابن التلمساني -: إنه لا تجزئه العمرة يكل حال على القولين جميعاً؛ لأن [من] مذهبه - كما تقدم - أن طواف القدوم يمنع إدخال العمرة على الحج. وقال الشيخ أبو علي: إنه الصحيح، وهو الذي ذهب إليه أبو حامد في "التعليق". نعم، قال ابن الحداد: [له] في هذه الحالة أن يصلي ركعتي الطواف، ويسعى، ويحلق، ثم يحرم بالحج، ويهريق دماً لحلاقه قبل أوانه، أو لتمتعه، وقد تم حجه. وقال أبو زيد؛ كما قال القاضى الحسين وصاحب "التقريب"، والأكثرون؛ كما قال الرافعي-: لا يفتى له بما قاله ابن الحداد؛ لجواز أنه محرم إلحج؛ فيصير

بالحلاق جارحاً لإحرامه، ولا يطلق للإنسان جرح الإحرام، لكنه لو أقدم على الحلاق، وأحرم بالحج، فالحكم فيه كما قاله ابن الحداد، وعلى [هذا] ينطبق قول الإمام: إن كافة الأصحاب نقموا على ابن الحداد ما قاله. وقد جعله في "الوسيط" الأظهر، ووجهه بأن هذا الضرر أعظم من أذى الشعر؛ إذ يؤدي إلى فوات الحج لو لم يفعل ذلك. وقال في "المهذب" - تبعاً للبندنيجي -: إذا أراد أن يجزئه الحج، طاف، وسعى لعمرته، وحلق، ثم يحرم بالحج، ويجزئه. قال العمراني: قال الشيخ الإمام: ينبغي [عندي] أن يقال: يكفيه السعي، ولا يحتاج إلى إعادة الطواف؛ لأنه طاف، وليس من شرط السعي أن يكون بعقب الطواف، بل يجوز التفريق بينهما بسنة وأكثر. وهذا [عين قول ابن الحداد]. وقد فرض القاضي أيو الطيب الكلام في المسألة فيما إذا طرأ النسيان بعد طواف القدوم والسعي والحلاق، ولم يكن فعل بعد الإحرام سوى ذلك، وقال: إنه ينوي القران، ويأتي بأفعاله، ويسقط عنه فرض الحج؛ لأنه إن كان الذي نسيه عمرة فقد أتى بأفعالها، واستأنف الحج؛ فيكون متمتعاً، وإن كان حاجاً فقد حلق في الحج؛ وإن كان قارناً فقد أتى بالحج، وحلق في إحرامه، فالحج ساقط؛ وكذا العمرة إن قلنا: يجوز إدخال العمرة على الحج، وإلا فلا، وهل يجب عليه دم أو دمان؟ فيه وجهان: أحدهما: دمان؛ احتياطاً للفرض. والثاني: دم واحد، وهو الصحيح في "البحر"؛ لأن المنسي إن كان عمرة، فهو متمتع؛ فيلزمه دم واحد، وإن كان حجاً؛ فقد حلق؛ فيلزمه دم الحلاق. قلت: ودم القران إن قلنا: يجوز إدخال العمرة على الحج. وإن كان قراناً؛ فيلزمه دم القران، ودم الحلاق، غير أن المتيقن دم واحد؛ فلم

يلزمه غيره، وهذا ما قال البندنيجي: إنه المذهب، وبه جزم الإمام، فعلى هذا إن كان المنعرج: الدم، فينوي به الفداء أو الواجب عليه، ولا يضره الجهل بالتعيين: أنه عن تمتع أو قران أو حلاق؛ كما نقول في الكفارات. وإن كان بالصوم، فصوم التمتع عشرة أيام، وصوم الحلق ثلاثة، فإن صام العشرة مع التفريق، برئ، ولا يضر عدم التعيين في نية الصوم، وإن صام ثلاثة أيام، قال الشيخ أبو علي؛ لا يجزئه، وكذا لو أطعم ثلاثة آصع لستة مساكين؛ لاحتمال اشتغال ذمته بدم التمتع أو بدله، وقد تيقنا وجوب الكفارة، ولم نتحقق البراءة؛ فإن الإطعام لا مدخل له في التمتع. وقال الإمام: يحتمل أن يجزئه الثلاثة والإطعام؛ لأن الأصل براءة الذمة، والسبعة مترددة يين الثبوت والسقوط، فكيف نوجبها وقد تقرر فى المذهب: أن من خرج منه بلل احتمل أن يكون منيًّا ومذيًا: أنه يقتصر على الوضوء للشك؛ أخذاً بالأقل حتى قال قائلون: لو توضأ منكساً في هذه الصورة، أجزأه؟! وقد أقام في "الوسيط" هذا الاحتمال في إجزاء صيام الثلاثة وجهاً، وأثبت في المسألة وجهين؛ وهذا إذا كان الشاك من أهل التمتع والقران، وإلا فلا دم عليه لذلك، ودم الحلاق لا يجب بالشك، والاحتياط أن يريق الدم؛ لاحتمال الوجوب. تنبيه: كلام الشيخ يفهم أن محل القولين في مسألة الكتاب إذا شك؛ هل أحرم بحج أم عمرة؟ فإنه قال: "والثاني: يتحرى، ويصرف إحرامه إلى ما يغلب على ظنه منهما"، وهو ما حكاه الماوردي عن البصريين، وأنهم قالوا: إذا وقع الشك في أنه حج أو عمرة أو قران، تعين [القول] الأول جزماً. وحكي عن البغداديين إجراؤهما في الصورتين، وهو الذي حكاه الجمهور. وعن الشيخ أبي علي: نفي الخلاف في جواز التحري، وحمل النص الجديد على ما إذا شك، فلم يدر أنه أحرم بأحد النسكين، أو قرن؛ وبهذا يحمل في المسألة ثلاث طرق. قال: ولا يستحب أن يذكر ما أحرم به في التلبية، أي: إذا قلنا: إن التعيين أفضل؛

كما قاله ابن الصباغ؛ لما روي عن جابر قال: "لم يسم رسول الله صلى الله عليه وسلم [نسكاً] أحرم به قط، لا حجًّا ولا عمرة". وروي أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: "لبيك بحجة وعمرة"، فضرب بيده على صدره، وقال: "إنه يعلم ما في نفسك". وروي أنه قال: أتلبون له بما في قلوبكم؟! إنما هي نية أحدكم. ولأن إخفاء العبادة أولى؛ وهذا ما نص عليه فى عامة كتبه؛ كما قاله البندنيجى وابن الصباغ، [ثم] قال: ومن أصحابنا من قال: الأفضل أن يذكره. والقاضى أبو الطيب والماوردي والفورانى حكوه قولاً ثانياً فى المسألة، ووجهوه بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو بالعقيق: "أتانى الليلة آت من ريى، فقال: صل في هذا الموضع المبارك، وقل: عمرة في حجة". وروى مسلم عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَّ بهما جميعاً: "لبيك عمرة وحجًّا".

ولأن ذكر النسك فى التلبية يمهد النية؛ فاستحب لذلك، وما ذكر من [أن] إخفاء العبادة أولى، فهذا قد أظهرها بالتلبية؛ فلا معنى للإخفاء بعد ذلك. قال: والتلبية: أن يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك [لا شريك لك لبيك]، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك؛ لما روى البخاري ومسلم وغيرهما عن [عبد الله] بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل فقال: "لبيك اللهم لبيك ... " إلى آخره. قال الأصحاب: ويستحب أن يأتي بالتلبية نسقاً لا يتخللها كلام، وإن سلم عليه رد السلام؛ لأنها سنة والرد فرض. ويستحب أن يقف وقفة لطيفة عند قوله: "والملك"، ثم يقول: "لا شريك لك"، ويستحب ألا يزيد على هذه الكلمات، ولا ينقص منها. قال الشافعي - رضي الله عنه -: "واختار أن يفرد تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يقصر عنها، ولا يجاوزها؛ لما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه سمع بعض بني أخيه، وهو يلبي: يا ذا المعارج، فقال سعد: إنه لذو المعارج، وما هكذا كنا نلبي على عهد

رسول الله صلى الله عليه وسلم. والفرق بينها وبين تكبيرات العيد؛ حيث استحب الزيادة فيها: أن تكبيرات يوم العيد لم يشرع فيها التكرار، فشرعت فيها الزيادة؛ لإكثار الذكر، وأما التلبية فقد شرع فيها التكرار؛ فاستغني به عن ضم الزيادة. ثم لو زاد على ذلك لم يكن مكروهاً على المشهور؛ فإن الشافعي - رضي الله عنه – قال: لا يضيق أن يزيد عليها؛ لما روى البخاري و [مسلم] في تتمة الحديث [الأول]. قالوا: وكان عبد الله يرفع مع هذا: "لبيك لبيك، لبيك وسعديك، والخير [كله] بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل". وروى أبو داود وابن ماجه عن جابر قال: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر التلبية بمثل حديث ابن عمر، قال: والناس يزيدون "ذا المعارج" ونحوه من الكلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع، فلا يقول لهم شيئاً. وقد حكى الشيخ أبو حامد: أن أهل [العراق] ذكروا عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه تكره الزيادة على ذلك، وغلطوا فيه؛ فإن المنقول عنه ما ذكرناه وهو ما أورده الفوراني. وقد استحب الشافعي - رضي الله عنه - في "الأم" أن يلبي ثلاثاً. واختلف أصحابنا في تأويله على ثلاثة أوجه حكاها الماوردي:

أحدها: أنه يكرر قوله: "لبيك" ثلاث مرات. والثاني: أنه يكرر قوله: "لبيك اللهم لبيك" ثلاث مرات. والثالث: أنه يكرر جميع التلبية. تنبيه: لبيك: من التلبية، وهى إجابة المنادي، والقصد [بها] هنا: إجابة إبراهيم - على نبينا وعليه السلام - التي أمر بها كما تقدم في أول الباب. وممَّ هي مشتقة؟ فيه خمسة أقوال: أظهرها- وهو قول الخليل، وثعلب-: أنها مشتقة من: ألبّ [فلان] بالمكان؛ إذا أقام فيه. ومعنى "لبيك": أنا مقيم على طاعتك. وعن الأزهري وغيره [أنه قال]: معنى "لبيك" على هذا القول: أنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة، والله أعلم. قلت: وهذا الاختلاف يمكن أن يكون أصله أن "لبيك" هل [هو [على]] معنى التثنية [وان كان] لا واحد له، كقولهم: حنانيك؛ فإنها تثنية لا واحد لها، [أو هو]، على معنى الإفراد؟ وفيه وجهان عند أهل اللغة نقلهما الماوردي؛ ليكون الأول مبنياً على الثاني، والثاني مبنياً على الأول، وهو المشهور، ولذلك قال بعضهم: إنها لا تستعمل إلا على لفظ التثتية، وإن أصلها: "لبَّين"، فحذفت النون للإضافة. والقول الثاني - وهو قول الفراء -: أنها مشتقة من الإجابة، ومعناها: إجابتي لك. والثالث: أنها مأخوذة من "اللب" و"اللباب" الذي هو خالص الشيء، ومعناها: الإخلاص، أي: أخلصنا لك الطاعة. والرابع: أنها مأخوذة من "لب" العقل من قولهم: "رجل لبيب"، ويكون معناه: إني منصرف إليك، وقلبي مقبل عليك.

والخامس: أنها مأخوذة من المحبة من قولهم: "امرأةٌ لبَّهٌ"، إذا كانت لولدها محَّبة، ويكون معناها: محبتى لك. وكرر قوله: "لبيك"؛ للتوكيد. وقوله: "إن الحمد" روي بكسر الهمزة وفتحها، وهما وجهان مشهوران، وأشهرهما: الكسر؛ قاله الأزهري وغيره، وهو على الاستئناف، والفتح للتعليل. وقال ثعلب: من كسر فقد عمم، ومن فتح فقد خص. وحكم التلبية بغير العربية حكم التسبيحات في الصلاة. قال: ويرفع صوته بالتلبية؛ لرواية الشافعي - رضي الله عنه - أنه عليه السلام قال: "أتاني جبريل، فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصوأنهم بالإهلال"، وقد أخرجه الترمذي، وقال: إنه حسن صحيح. وقد روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا [لا] يبلغون الروحاء حتى تُبَحَّ حلوقم من التلبية.

ولأن معناها معنى الأذان، الذي لا يسمعه شيء إلا شهد له، وقد جاء عنه عليه السلام - أنه [قال]: "ما أهلَّ مهلٌّ قط إلا بشر، [ولا كبر مكبر قط إلا بشر"]، قيل يا رسول الله، بالجنة؟ قال: "نعم". ثم حد الرفع: أن يتتهي إلى حد لو زاد عليه، انقطع صوته؛ لما روي عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا إذا علونا كبرنا، فقال – عليه السلام -: "اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، ولكن تدعون سميعاً بصيراً" أخرجه البخاري.

ومعنى اربعوا: كفوا. قال: والمرأة تخفض صوتها؛ خشية من الافتتان به؛ ولهذا شرع التسبيح في الصلاة للرجال، والتصفيق للنساء. قال القاضي الحسين: ويشرع لها: أن تقيم ولا تؤذن، ولا تجهر بالقراءة؛ وهذا - كما قال أبو الطيب - على وجه الاستحباب، فلو رفعته، كره لها كراهة تنزيه لا تحريم؛ فإن صوتها ليس بعورة. ووافقه على ذلك البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين وغيره. [وفي "الرافعي"] وجه أنه عورة. ولا فرق في استحباب التلبية لها بين أن تكون طاهراً أو [حائضاً أو نفساء، كما أنه لا فرق في الرجل بين أن يكون طاهراً أو] جنباً. قال: ويستحب أن يكثر من التلبية؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ} [البقرة: 196]. قال ابن عمر: فرض الحج: التلبية. وروى الشافعي بإسناده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبي راكباً وماشياً، وقائماً وقاعداً ومضطجعاً. وروي أن سعيد بن جبير كان يوقظ الناس في المسجد الحرام، ويقول لهم: لبوا؛ فإني سمعت ابن عباس يقول: "التلبية زينة الحج". قال: ويستحب ذلك في المساجد، أي: أكثر من غيرها - وإن كان رفع الصوت

منهي عنه فيها؛ كما جاء في الخبر: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، ورفع أصواتكم"- لعموم الأخبار مع أنه ذكر هو شعار العبادة؛ فكان مستحباً في المساجد؛ كالقراءة والأذان. وعن القديم إثارة إلى أنه لا يلي إلا في [ثلاثة مساجد]: المسجد الحرام بمكة، ومسجد الخيف بمنى، ومسجد إبراهيم بعرفات؛ لاختصاص المناسك بهذه المساجد؛ فاختص استحباب التلبية بها. وفي الحاوي ما يقتضي حكاية هذا القول على غير هذا النحو؛ فإنه قال: كره الشافعي - رضي الله عنه - رفع الصوت بالتلبية في القديم فيما عدا المساجد الثلاثة؛ لأنه يؤذي به المصلين والمرابطين، ثم رجع عن هذا في الجديد، واستحب رفع الصوت في كل مسجد؛ لأنه ذكر لله تعالى، [فكانت المساجد] أولى البقاع به؛ لقوله - عليه السلام-: "إنما بنيت المساجد؛ لذكر الله والصلاة". قال الإمام: وإذا قلنا بكراهية رفع الصوت بها فيما عدا المساجد الثلاثة، فهل نعدِّيه [إلى المساجد] الثلاثة؟ فيه وجهان. قال: وإقبال الليل والنهار، وعند اجتماع الرفاق، أي: وكذا عند الصعود والهبوط، وخلف الصلوات من فرض ونفل، لأن السلف كانوا يستحبون التلبية في هذه الأحوال، وفي الأسحار. قال البندنيجي: وإذا لبى دبر الصلاة، لبى ثلاثاً؛ كما يكبر في أيام التشريق ثلاثاً نسقاً. قال: وإذا رأى شيئاً يعجبه، قال: "لبيك إن العيش عيش الآخرة"، أي: وكذا إذا دهمه ما يكرهه. قال الشافعي - رضي الله عنه-: لأنه عليه السلام قالها في أسرَّ حاله، وفي أشد حاله: [فأما أسرُّ حاله]، فحين وقف بعرفة عام الوداع، ورأى جمع المسلمين؛ فسرَّه

ذلك المنظر، واستبشر، وقال: "لبيك إن العيش عيش الآخرة". وروي أنه - عليه السلام - أحرم بذى الحليفة وهو على ناقة عليها قطيفة لا تساوي درهمين، ورأى أصحابه يتتظرون أمره ونهيه؛ فتضاءل حتى توارى براحلته تواضعاً لربه، وقال: "لبيك إن العيش عيش الآخرة". وأما أشد [حاله، فما] روي أنه - عليه السلام - وأصحابه كانوا يحفرون الخندق، وقد نهكت أبدانهم، واصفرت ألوانهم، فقال - عليه السلام -: [اللهم] إن العيش عيش الآخرة، فارحم الأنصار والمهاجرة"؛ فأجابوه: "نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبدا". ومعنى قوله: "إن العيش عيش الآخرة": أن الحياة المطلوبة الهنيئة الدائمة هى حياة الدار الآخرة. قال: وإذا لبّى، صلَّى على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، أي: لا أذكر إلا وتذكر معي. قال: وسأل الله - تعالى - ما أحب، [أى] من أمر الدين والدنيا؛ لما روى خزيمة بن ثابت: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة، سأل

الله - تعالى - رضوانه والجنة، واستعاذ برحمته من النار". [قال في "الأم": وهذا أعظم ما يسأل". ثم يسأل الله تعالى بعد هذا ما أحب]. قال الإمام: ويكون هذا وكذا الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت خفيض؛ بحيث يتميز عن التلبية. قال: ولا يلبي في الطواف؛ لأن له ذكراً يختص به؛ فكان الاشتغال به أولى. قال سفيان: ما رأيت أحداً يلبى وهو يطوف إلا عطاء بن السائب! قال القاضي أبو الطيب: وهذا حكاه سفيان على سيل النكرة؛ لمخالفة عطاء الإجماع، ولذا [كان] لا يليى في السعي؛ لأن له ذاكراً يخصه. وحكى البندنيجي عن القديم قولاً: أنه يلبي في الطواف والسعي، ويخفض صوته قدر ما يسمع نفسه، قال: وهذا في طواف القدوم؛ فإنه لا تلبية بعد جمرة العقبة. وقد عكس القاضي الحسين هذه الحكاية، فقال: الجديد: أنه يلبي فيهما، والقديم [أنه] لا يلبي، والمشهور: الأول. وقال الإمام: إن اختلاف القول في ذلك يقرب من اختلاف القول في أنا هل نستحب للمصلي أن يجيب المؤذن فى الصلاة؟ قال: وإذا أحرم، حرم عليه لبس المنعيط في جمع بدنه، أي: المعمول على

قدره على الهيئة المألوفة فيه؛ لما روى البخاري ومسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف إلا أحد لا يجد النعلين، فليلبس الخفين وليقطعهما من أسفل الكعبن، ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس". وقد جاء في رواية غيره أنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبس المحرم القميص والأقبية"، فنص على منع القميص والقباء، ونبه على الجبة والدراعة، ونص على السراويل، ونبه [به] على التبان. والمنسوج على هيئة المحيط والملزوق والملّبَّد في معنى المنعيط. ولا فرق في ذلك بين المتخذ من خرق أو ورق أو جلد [أو حديد]، كالدرع؛

كما قاله أبو الطيب وغيره. والعفو في معنى الكل؛ إذا كان الملبوس معتاداً: كالقفازين، أما إذا لم يكن معتاداًَ: كما إذا اتخذ للحيته خريطة، وجعلها فيها، فقد قال القفال: إن الفدية تلزمه. وحكى غيره نصاً: ألا فدية عليه؛ كما لو لف عليها خرقة؛ كذا حكاه القاضي الحسين قبيل باب ما يجتنبه المحرم. وفي "الرافعي": أن الذي أجاب به الأكثرون: الأول. ولو اتخذ لساعده أو لعضو آخر شيئاً مخيطاً، فقد تردد فيه جواب الشيخ أبي محمد. قال الإمام: وهو لعمري محتمل؛ فإن التكشف ليس واجباً في غير عضو الإحرام، وإن القاعدة المعتبرة اجتناب زي مخصوص، وذلك يختص بالملابس المعتادة، والخريطة ليست لبساً على الزي المنعصوص. [وقال الرافعي: إن الذي أجاب به الأكثرون: التحريم]. وفي "الحاوي": أنه إذا لبس القباء، ينظر: فإن كان من أقيية أهل خراسان، ضيق الأكمام، قصير الأذيال- وجبت الفدية، أخرج [يده من]، كمه أو لم يخرج؛ لأنه يلبس هكذا. وإن كان من أقيية أهل العراق طويل الذيل، واسع الأكمام - لم تجب الفدية، إلا إذا أخرج يده من كمه؛ لأنه لا يحفظ نفسه؛ فكان كالرداء والإزار. والذي حكاه في "البحر" عن نصه في "الأم"، وهوالذي أورده العراقيون والغزالي وغيرهم-: وجوب الفدية؛ إذا أدخل كفيه فيه، سواء أخرج [يده من كمه] أو لا. وأما [إذا أراد لبس شيء مما ذكرناه على هيئة لم تؤلف؛ كما] إذا أراد أن يأتزر يقميص أو سراويل، فإنه يجوز، وكذا لو أخذ خرقاً، وخاط بعضها إلى بعض، وجعلها

شبه المئزر، أو الرداء - جاز لبسها. ولو ألقى على نفسه قباء أوفرجية، وهو مضطجع، قال الإمام؛ إن أخذ من يديه؛ بحيث إذا قام [عدَّ لابساً له]؛ فعليه الفدية، وإن كان بحيث لو قام أو قعد، لم يستمسك عليه إلا بمزيد أمر، فلا. ويجوز أن يعقد الإزار لأن فيه مصلحته، وهو ثبوته على عورته، وكذا يجوز أن يجعل له حجزة؛ ليدخل فيها تكة؛ ليشدَّه بها؛ لأنه لا يعد لابساً مخيطاً، وإنما هو استيثاق في الستر؛ كذا أورده الجمهور. وفيما وقفت عليه من "تعليق" القاضي أبي الطيب: أنه لا يجوز؛ لأنه [لا] يصير كالسراويل. وعلى المشهور يجوز من طريق الأولى شد التكة فوقه بعد الائتزار. ولا يجوز شق الإزار، وأن يجعل له ذيلين يسدهما على ساقيه؛ كما نقله في البحر وغيره عن نص الشافعي - رضي الله عنه - في "الأم". وقال الإمام: إن ذلك جائز، ولا تجب الفدية به إلا إذا فرطت خياطة أو شرج أو عرى. وفي "البحر" حكاية ذلك عن بعض الأصحاب، وهو اختيار القاضي أبي الطيب في "تعليقه"، وأيده بنص الشافعي - رضي الله عنه - في "الأم" على جواز لف الرداء على عاتقه لفتين وثلاثة. والذي أورده الجمهور: الأول. ولا يجوز له عقد ردائه، ولا خله بخلال أو مسلة، ولا ربط طرفه إلى طرف بخيط ونحوه، وإن جاز غرز طرفيه فى إزاره، وهو ما حكاه فى "الروضة" عن النص، وقال: إنه المذهب. وفي "النهاية": أنه لو ارتدى المحرم رداء، وعقد أحد طرفيه بالآخر، فلا بأس؛ فإن هذا مخالف للستر المعتاد، والعقد الذي جرى استيثاق التوشح، هذا بمثابة

عقد الإزار، وكذا لو عقد طرف ردائه بإزاره. وهل يجوز أن يجعل [لردائه سرجاً] وعرى؟ حكى الإمام فيه عن العراقيين المنع، وعن شيخه تردداً، ثم قال: ولا شك أنه لو فرض [ذلك] على طرف من الرداء، ولم ينتظم انتظاماً قريباً من الخياطة، [فلا بأس والرجوع في ذلك إلى العقد والخياطة:] فما حل محل العقد فلا بأس [به]، وما ضاهى الخياطة ففيه التردد، والظاهر: المنع؛ لأنه نص في "الأم" على أنه لا يجوز أن يزر إزاره ولا يخيطه بشوكة؛ لأنه يصير [به] كالمنعيط. قال: فإن لم يجد إزاراً، جاز أن يلبس السراويل، [أي:] الذي لا يتأتى الائتزار به لو فتق؛ لما روي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "السراويل لمن لا يجد الإزار، والخف لمن لا يجد النعلين"، أخرجه أبو داود [والبخاري] ومسلم بنحوه.

ولا يقال: ما الفرق بينه وبين القميص؛ حيث لا يجوز لبسه إذا لم يجد رداء لإمكان ارتدائه بالقميص؟ لأنا نقول: المسألة مصورة في المحرم الذي لا يمكنه الارتداء بالسراويل لو فتق، أما إذا أمكن، فالذي أورده الجمهور: أنه لا يجوز له لبسه على هيئته. وأطلق البندنيجي القول بأنه لا يلزمه فتق الرأويل، بل يلبسه على هيئته. وفي "تعليق" القاضي الحسين: [أن] الذي حكاه - رضي الله عنه -: أنه إذا لبسه على هيئته، لا فدية عليه؛ لأنه مرخص بالحديث، بخلاف الخفين؛ فإنا اتبعنا في قطعهما النص. [و] الذي وجدت في كتب بعض أصحابنا: أن عليه الفدية؛ كما لو لبس الخف على هيئته عند عدم النعل، بل [فى] السراويل أولى؛ لأنه [لا يضيع و] لا ينقص [كثير من قيمته بالفتق، والخف ينقص] نقصاناً متفاحشاً بالقطع، ولا وجه للمنع في هذه المسألة وإن كان ما حكاه مذهباً؛ لتعذر الفرق بينه وبين الخف. ثم في الحالة التي يجوز فيها لبس السراويل، لا نكلفه أن يقطع من السراويل ما جاوز حد العورة، ويجوز عقده فوق السرة. وللإمام في جواز ذلك إذا حصل الاستيثاق بدونه نظر، وقال: إنه يظهر عندي

تكليف رد عقده إلى حد السرة. قال: ولا فدية عليه؛ لأنه غير محظور في هذه الحالة. نعم، لو وجد بعد لبسه الإزار، فعليه خلعه، فإن لم يفعله، لزمته الفدية، نص عليه في "الأم". تنبيه: المراد بالوجدان: وجود من الإزار أو قيمته مع القدرة على شرائه، وكذا بذله [له] عارية لا هبة من أجنبي. ولو كان البذل هبة من ابنه، ففيه وجهان؛ كما في بذل النفقة في الحج؛ [قاله القاص أبو الطيب. ولو قدر على بيع السراويل، وشراء إزار به، فهل يجب؟] قال القاضي أبو الطيب: إن كان مع فعل ذلك لا تبدو عورته، وجب، وإلا لم يجب. قال: ويحرم عليه لبس الخف؛ للخبر، فإن لبسه، لزمته الفدية؛ لأنه فعل محظوراً في الإحرام؛ فأشبه الحلق. قال: فإن لم يجد نعلين، جاز أن يلبس خفين مقطوعين من أسفل الكمين، للخبر، ولا فديت عليه؛ لأنه غير محظور في هذه الحالة. نعم: لو وجد بعد لسهما كذلك نعلين، لزمه نزعهما، فإن لم يفعل، لزمته الفدية. قال في البحر وغيره: ومن أصحابنا من قال: هو بالخيار بين أن يلبس نعلين، وبين أن يستديم ذلك، ولا شيء عليه؛ لأنهما [صارا] بمنزلة النعلين؛ وهذا وجه من جوز لبسهما ابتداء كذلك مع وجود النعلين؛ لصيرورتهما كالنعلين؛ فإنه [لا] يجوز المسح عليهما. قال الأصحاب: وهو باطل بالخف المنعرق؛ فإنه لا يجوز المسح عليه، ويحرم لبسه على المحرم مع أن الخبر يرد عليه. والمداس ملحق بالخف المقطوع، فيجوز لبسه عند فقد النعلين، ولا يجوز مع وجودهما؛ على ما نص عليه في الأم؛ كما حكاه الماوردي.

ومن الأصحاب من قال بالجواز وإن لم يجوز لبس الخف؛ لأن القدر المنعيط بأعلاه، للاستمساك في القدم، بخلاف الخف؛ فإنه يلبس لقصد [الستر]. واعلم أن ظاهر الحديث يدل على جواز لبس الخف عند عدم النعلين وقطعهما بعد ذلك، والأصحاب مصرحون بعدم جواز ذلك، وأجابوا عن ظاهر الخبر بأن مثل هذا جائز في اللغة؛ قال الله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، والرفع قبل الوفاة قطعاً. قال: ويحرم عليه ستر الرأس بالمخيط وغيره، أي: عن غير عذر؛ لقوله – عليه السلام-: "لا يلبس المحرم العمائم ولا البرانس"، وقوله في المحرم الذي خرَّ من على بعيره: "ولا تخمروا رأسه؛ قإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً"، أخرجه البخاري. وقد ادعى الماوردي الإجماع على تحريم ستر الرأس. وحكم ستر الجزء منها الذي يقصد ستره لشجة أو غيرها، حكم ستر الكل. واحترزنا بقولنا: "يقصد ستره"، عما إذا شد خيطاً على رأسه؛ فإنه يجوز لأن قدر موضع الخيط لا يقصد ستره. وقد اعترض الرافعي على ذلك، وقال: إن ستر المقدار الذي يحويه وشد الخيط قد يقصد - أيضاً - لغرض منع الشعر من الانتشار وغيره، وهو ينقض الضابط

المذكور؛ فالوجه: النظر إلى تسميته حاسر الرأس، ومستور جميع الرأس، أو بعضه. قلت: لعلَّ مراد الأصحاب بما يقصد ستره: لأجل الستر لا لأمر آخر، وحينئذ يندفع الاعتراض. وقال الغزالي: يحتمل أن يقال: كل ستر يلوح للناظر - أي: السليم - على بعد، فهو الممنوع. وهذا الاحتمال للإمام قبله، والله أعلم. [قال: فإن ستر لزمته الفدية؛ لأنه ارتكب محظوراً [فيه]]. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي بمنطوقه أموراً، وبمفهومه آخر، ويحتاج إلى التنبيه على ذلك: فمن الأول قوله: "وغيره" يقتضي [تحريم] ستر الرأس بالزنبيل والعدل المحمول من مكان إلى مكان، وقد جزم في "المهذب" بجوازه، وهو اختيار القاضي أبي الطيب، والصحيح من المذهب. لكن في "الشامل": أن ابن المنذر حكى عن الشافعي - رضي الله عنه - أن عليه الفدية. وقال أصحابنا: هذا لا يعرف فى شيء من كتب الشافعى. لكن أبا حامد حكى فى "التعليق": أنه نص فى بعض كتبه: أن عليه الفدية؛ كما لو طلاها بالطين، وقد عزى البندنيجى هذا القول إلى "الإملاء"، وهو منسوب في "البحر" إلى رواية القفال، وأنه اختيار [أبي سليمان] الخطابي وجماعة، فللشيخ أسوة بهم. وقد تلخص في المسألة قولان، وخصهما [فى] "الحاوي" بما إذا لم يقصد الستر، فإن قصده لزمته الفدية وجهاً واحداً.

ومنه - أيضاً: [ما] إذا انغمس فى ماء حتى ستر رأسه، فقد فعل محرماً، وقد نص الأصحاب على جوازه. ومنه –أيضاً-: أنه لا يجوز [له] أن يغطي رأسه بكفيه أو يد غيره، وقد جزم الأصحاب بجواز ذلك بكف نفسه، ولا فدية عليه، وهو المذهب فى كف الغير أيضاً. وفي "الحاوي" وجه آخر: أنه لا يجوز، ويجب به الفدية. والفرق: فى جواز السجود على كف الغير، دون كف نفسه. [ومنه: تحريم الستر بالطين والحناء، وقد نص الشافعي على أنه إذا خضب رأسه بالحناء، لزمته الفدية، ولم يحك البندنيجي غيره. وكذلك أطلقه فيما إذا خضبها بالنورة. وفيه وجه: أنه لا يلزمه الفدية كالوجه في أنه لا يحمل بالطين ستر العورة. قلت: [وقائله] قد يؤول النص في الحناء، ويقول: إنما لزمته الفدية؛ لأن الحناء طيب؛ كما حكاه الفوراني قولاً عن رواية بعض الأصحاب، والصحيح: الأول. قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: وهو محمول على ما إذا كان الخضاب بحناء يمنع النظر إلى الرأس، أما إذا كان رقيقاً فلا فدية عليه. وحكم المرهم حكم الحناء، يختلف بالثخانة والرقة. وقال ابن الصباغ: عندي أنه يجري مجرى ما لو طلى رأسه بعسل، وقد نص الشافعي في "الأم" على أنه لا فدية عليه، وكذا إذا طلاها بسدر؛ فإنه لا يجري مجرى الحناء؛ لأن الحناء له جرم، فقد يخف ويكون ساتراً، بخلاف المرهم إلا إذا كان معه قرطاس]. ومن الثاني: جواز تغطيتها بثوب تبدو البشرة من ورائه؛ لأنه لو لبس مثل هذا الثوب من يحاول الستر، لم يكن ذلك سترًا. وقال الإمام: إنه في الرأس ستر يوجب الفدية فيما يظن، وإنه لا بعد في إلحاق

ذلك [بوضع الزنبيل]، والأوجه: الأول. ومنه: جواز ستر الوجه؛ كما نص عليه الأصحاب؛ لأنه ليس من الرأس، لكنه يخرج البياض الذي وراء الأذن من وجوب الفدية بستره. وقد حكى في "الروضة" عن الروياني وغيره: أنه تجب الفدية يتغطيته، وقال: إنه ظاهر. ومنه: جواز الاستظلال بالظلالة، والسفيفة، والخيمة، والمحمل، والمجن المرفوع، والعمامة المكورة إذا توسدها؛ كما صرج بذلك الأصحاب؛ لأن ذلك لا يُعد ستراً، وقد دل على جوازه الخبر. لكن صاحب "التتمة" خص ذلك بما إذا لم تمس المظلة والمحمل رأسه، أما إذا مسه، فتلزمه الفدية. قال الرافعي: ولم أر هذا لغيره، وإن لم يكن بد منه فليلحق بالزنييل. قال: ويحرم عليه الطيب، أي: استعمال الطيب في [بدنه وثيابه]. أما في الثياب؛ فللخبر السابق؛ فإنه نص فيه على منع الورس والزعفران، ونبه بهما على منع الكافور والمسك وغيرهما. وأما في البدن؛ فبالقياس على الثياب من طريق الأولى. ولأن الإحرام عبادة تحرم النكاح؛ فجاز أن تحرم الطيب؛ كالعدة. وقد ادعى الماوردي الإجماع على حرمة استعمال الطيب على المحرم. ولا فرق في ذلك بين تبخير الثياب والبدن [به]، أو تلطيخ ذلك به، وكذا صبغ الثوب وغسله، ولا بين الأخشم وغيره؛ كما قاله في "الإبانة"، ولا بين الرجل والمرأة؛ لقول ابن عمر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء في إحرامهن عن القفازين، والنقاب، وما مس الورس من الثياب.

والنعل في هذا المعنى كالثوب؛ حتى إذا وطئ به طيباً قصداً، أو من غير قصد، واستدامه - لزمته الفدية. أما إذا لم يستعمل الطيب، بل طيبه غيره، فقد حكى الغزالي عن الأصحاب: أن على الفاعل الفدية. قلت: ويظهر أن يجيء في كون المطيب طريقاً للضمان، الخلاف الآتي في الحلق،

ويظهر ألا يجيء. والفرق: أن من قال إن المحلوق يكون طريقاً، جعل الشعر في يده كالمستعار، ولا كذلك في التطيب. لكن قد حكى النواوي وغيره: أن الولي إذا طيب الصبي لا لحاجة، فالفدية عليه، وكذا لو طيبه أجنبي، وهل يكون الصبي طريقاً؟ فيه وجهان، أصحهما: لا، وهذا يؤيد الاحتمال [الأول]، ويلغي الفرق. ثم ما ذكرناه في الثوب المطيب إذا ابتدأ لبسه بعد الإحرام سواء طيبه بعده أو قبله، فإن طيبه قبل الإحرام، ولبسه، [ثم نزعه بعد الإحرام]- فهل يحرم عليه لبسه ثانياً؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين، وقد تقدم ذكرهما، والمشهور: المنع. فروع: [أحدها:] إذا طيب أرضاً، أو فرشاً، وجلس عليه، ملاقياً له بثوبه أو بدنه - لزمته الفدية، سواء كان رطباً أم يابساً ينقص بالاستعمال أم لا. وفي "الحاوي": أنه إذا فرش الثوب المطيب، ونام عليه؛ إن أفضى بجلده إليه افتدى، وإن لم يفض بجلده إليه، وكان بينه وبينه ثوب [آخر] فلا فدية عليه؛ لأنه ليس بلابس ولا متطيب، وإنما هو مجاور للطيب. والمشهور: الأول. نعم، لو فرش عليه ثوباً ساتراً، وكان صفيقاً يمنع العين والريح- لم يضر، وإن كان خفيفاً لا يمنعهما، فوجود الثوب كعدمه لأن منع العين دون الريح، كره، ولا فدية عليه؛ قاله البندنيجي وغيره. [الثاني:] إذا مس طيباً، فعبقت به رائحته دون عينه؛ ففي إيجاب الفدية عليه قولان في "المهذب" وغيره، أحدهما: نعم؛ كما لو عبق من غباره شيء يبدنه. [الثالث:] إذا حمل المسك والعيب في خرقة مشدودة، أو كيس [أو فأرة]

أو [قارورة] مصمتة الرأس، أو الورد فى ظرف - لا تجب عليه الفدية؛ نص عليه في "الأم". وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنها تجب؛ لاستمتاعه برائحته إذا شمه في خرقة. وفي غيره [تخصيص هذا الوجه] بما إذا كان يشم ذلك قصداً. ولو حمل المسك فى فأرة غير مشقوقة، ففى الفدية وجهان: أصحهما- وبه قال الشيخ أبو حامد، ولم يورد في "المهذب" غيره-: لا. والأصح عند صاحب "العدة": نعم. وهما - كما قال القاضي الحسين - فيما إذا لم يقصد حملها للنقل من مكان إلى مكان؛ فلو قصده فلا فدية. قال: ويحرم عليه شم الأدهان المطيبة، أي: كدهن الورد، والزنبق، والبان المنشوش - وهو المعلى بالمسك ونحوه - بالقياس على المنصوص عليه. وقد أطلق الإمام الحكاية عن الشافعي - رضي الله عنه -: أن البان ودهنه ليس بطيب. وعن يعفى المصنفين أنه يعتبر عادة كل ناحية في طيبها، وقال: إنه فاسد؛ فإنه يشوش القواعد. وقال الغزالي: إنه غير بعيد. والأكثرون أطلقوا القول بأنه طيب، والتقييد الذي ذكرناه صرح به المصنف والبغوي والماوردي، وقالوا: غير المغلي بمسك ليس يطيب. قال الرافعى: ويشبه أن يكون من أطلق القول بأنه ليس بطيب مراده: غير المنشوش، ومن أطلق القول بأنه طيب، أرادت المنشوش. قلت: لكن كلام القاضي [الحسين ينفي هذا الحمل]؛ فإنه قال: البان يحرم على المحرم استعماله، سواء شمه أو اتخذ منه الدهن واستعمله، أو عصر ماءه واستعمله.

قال: وأكل ما فيه طيب ظاهر؛ لأنه مستعمل للطيب، والظهور يحصل جزماً إذا ظهر في طعمه ولونه وريحه، وكذا لو ظهر في ريحه لا غير بلا خلاف. ولو لم يظهر فيه إلا اللون فقط، مثل: أن صبغ اللسان إذا استعمل، فقد قال في "المختصر الأوسط" من الحج: "إنه لا يجوز"، [وقال في القديم و"الإملاء" و"الأم":

"يجوز"، واختلف الأصحاب في ذلك على طريقين: إحداهما- وبها قال أبو إسحاق-: أنه يجوز] قولاً واحداً، وحمل نصه في "المختصر" على ما إذا كانت له رائحة. والثانية- قالها أبو العباس وأبو الطيب بن سلمة-: إجراء النصين على ظاهرهما، وحكاية قولين في المسألة. والأصح في "المهذب" و"الحاوي" و"الإبانة": الجواز؛ لأن الطيب بالطعم والرائحة. ووجهه الماوردي: أن رائحة الطيب لو زالت من الثوب، وبقي لونه - لم تجب الفدية بلبسه؛ فكذلك المطعوم، وهذا يدل على أنه متفق عليه في الثوب. وقال الغزالي: إنه ينبني على القولين: ما إذا بقي جرم الطيب [على الثوب] دون رائحته إذا لم تفح رائحته إذا أصابه ماء. نعم، لو فاحت فهي غير ذاهبة، بل كامنة. وإن عليهما ينبني – أيضاً- ما إذا مزج ماء الورد بالماء حتى سقطت رائحته. ولو لم يظهر إلا الطعم فقط، فقد حكى البندنيجي في التحريم ثلاث طرق: إحداها: يحرم، وتجب الفدية قولاً واحداً، وهي التي حكاها الماوردي والفوراني وغيرهما. والثانية: لا يحرم قولاً واحداً. والثالثة: إجراء القولين فيها. وقال القاضي الحسين: الخلاف في ظهور الطعم وحده مرتب على الخلاف في ظهور اللون وحده، فإن أوجبنا الفدية بظهور اللون وحده، فبظهور الطعم أولى، وإلا فوجهان، والفرق: أن الطعم يقصد أكثر من اللون، فضاهى الرائحة. ولو ظهر فيه الطعم واللون دون الرائحة، فقد حكى الإمام عن العراقيين القطع

بالتحريم، [ثم] قال: ليس الأمر كذلك عندنا. والطعم مع اللون كاللون المجرد. قال: وشم الرياحين: كالورد، والياسمين، والورس، والزعفران؛ لأنه ترفه لا يليق بالمحرم. وعن الحناطي حكاية وجه في الورد والياسمين: أنه لا يحرم. وحكى القاضي الحسين الوجهين في الياسمين كالريحان، وجزم في الورد بالتحريم. تنبيه: الياسمين: فارسي معرب؛ وسينه مكسورة. قال ابن الجواليقي: ويقال: الياسمون، وإن شئت أعربته بالياء والواو، وإن شئت جعلت الإعراب في النون؛ لغتان. والياسمين: هو الذي يتخذ منه الزنبق. واعلم: أن قول الشيخ: "وشم الرياحين" قد يفهم [عدم] تحريم ثم غيرها من المسك، والعنبر، والصندل، ونحو ذلك، وهو حرام بالاتفاق، وهو يؤخذ من كلام الشيخ من طريق الأولى، ولا يلتحق بذلك ثم ماء الورد، بل الحرام منه رشه على بدنه أو ثيابه؛ وكذا لا يحرم شم العود ولا ربطه على طرفه؛ لأنه لا يعد تطيباً، بخلاف شد المسك ونصه وشمه. نعم، المحرم التبخير به، وكذلك بالند والكافور، وهو صمغ شجر؛ كما قاله البندنيجى وغيره. وما ذكرناه في العود إذا لم يعبق من ريحه شيء، فإن عبق فقد قال الإمام: إنه

على القولين فيما إذا مس طيباً يابساً، فعلق به ريحه، ولم يتعرض غيره لهذا التقييد. قال: ويجوز له شم النيلوفر والبنفسج؛ لأن القصد بهما التداوي، ولأنه لا يتخذ من يابسهما طيب؛ فأشبها الأترج والسفرجل والنارنج؛ فإن الطرق متفقة على أنه يجوز شمها؛ لأن القصد منها الأكل والتداوي، إلا أن الإمام قال: إن في النفس من الأترج والنارنج شيء؛ فإن قصد الأكل والتداوي ليس بأغلب من قصد التطيب. وألحق التفاح بالسفرجل، وستعرف ما حكاه غيره فيه. وزهر النارنج وغيره مما ذكرناه ملحق به كما حكاه الماوردي. ووراء ما ذكره الشيخ في النيلوفر طريقان: إحداهما - ولم يحك القاضي أبو الطيب غيرها-: أنه لا يجوز، وهي التي صححها النواوي وغيره. والثانية - وتعزى إلى الشيخ أبي حامد-: إجراء القولين في المسألة، وهي التي أوردها في "المهذب"، وحكى في البنفسج - تبعاً للقاضي أبي الطيب - ثلاث طرق: إحداها: ما ذكره هنا، وهي التي نص عليها الشافعي - رضي الله عنه - في عامة كتبه؛ كما قال البندنيجى. والثانية: [المنع]، وهي التي رجحها المراوزة والنواوي، وقال البندنيجي: إنه الذي يجيء على مذهبه كالورد سواء. وقوله: "ليس بطيب" عنى به: إذا رُبِّبَ وجعل دواء، فاستهلك فيه. وقال الغزالي: إن الشافعي -رضي الله عنه - إنما تردد جوابه فيه؛ لأنه لا يعرف طيباً فى بلاده. وقال غيره: إنه أراد البنفسج الجاف؛ فإنه بعد الجفاف لا يصلح إلا للتداوي. وقال الفوراني: إن من القائلين بهذه الطريقة من قال: مراد الشافعي – رضي الله عنه - بنصه على عدم الفدية: دهن البنفسج؛ لأنه ليس بطيب، نص عليه في مختصر الحج، وقد حكاها الإمام طريقة لبعض العراقيين.

قال البندنيجي: وهذا القائل مخالف لما عليه أكثر الأصحاب، فإنهم قالوا: إذا قلنا: إن البنفسج طيب، فدهنه كذلك. وهو الذي أورده الماوردي وغيره0 وقال في "الوجيز": الخلاف في دهن الورد والبنفسج مع جزمه بأن البنفسج والورد طيب، وهي طريقة حكاها الإمام عن رواية شيخه، ثم قال: ولست أرى لهذا وجهاً، وحكي عنه أنه قطع بأن دهن الورد كالورد. ثم قال: ولست أرى لهذا وجهاً، فلا فرق بين الدهنين؛ لأن الغالب أنهما لا يستعملان لغرض التطيب. وعكس الطريقة التي رواها الشيخ أبو محمد ما ذكره الماوردي: أن الأترج ليس بطيب، وفي دهنه وجهان، الذي قطع به منهما الرازي: أنه طيب محرَّم، حكاه عنه في الروضة، وفرق بأن أصله مأكول، وقشره يربى به الدهن كالورد. ثم المراد بدهن البنفسج والورد: [الشيرج إذا أقام فيه البنفسج والورد]؛ كما حكاه الإمام عن العراقيين، أما إذا طرحا على السمسم حتى أخذ الرائحة، ثم استخرج منه الدهن، فليس بطيب وفاقاً؛ وهذا ما ذكر الرافعي: أن به أجاب المعظم. وهو معزي في "تعليق" القاضي أبي الطيب إلى الشيخ أبي حامد، وقال: إنه غلط، بل لا فرق بين أن يجعل السمسم على الورد، فإذا اكتسب ريحه عصر دهنه، وبين أن يجعل الورد في الدهن. وكلام البندنيجي يقتضي أن المراد يدهنهما: ما إذا طرحا على السمسم حتى اكتسب ريحهما، ثم عصر؛ فإنه قال: وأصل الأدهان كلها الشيرج، والشيرج من السمسم، يربى السمسم بهذه الأشياء، ويكرر عليه حتى يصير برائحته ثم يعصر منه دهنه، وعلى هذا ينطبق قول الشيخ أبي محمد، ووجهه بأنه أشرف وألطف مما يغلى فيه البنفسج والورد؛ ليشرب السمسم ماءهما وهى الطيبة المقصودة منهما.

تنبيه: النيلوفر: مفتوح النون والسلام، ويقال: نينوفر بنونين مفتوحتين، ذكرهما أبو حفص بن مكي الصقلي، قال: ولا يقال: نينوفر بكسر النون، وجعله من لحن العوام. قال: وفي الريحان الفارسي قولان: وجه الجواز - وهو أحد قوليه في القديم-: ما أورده مسلم في كتاب الحج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عرض عليه ريحان، فلا يرده؛ فإنه خفيف المحمل طيب الريح". وروي أن عثمان سئل عن المحرم يدخل البستان؟ قال: نعم، ويشم الريحان. ووجه التحريم - وهو المنصوص في الجديد وعاعة كتبه؛ كما قال الفوراني، [وأحد قوليه فى] القديم-: أنه يقصد شمه كالورد والزعفران، وقد صحح النواوي وغيره هذا القول، وجزم به في "الوجيز". وقال في "الوسيط": إن الشافعي - رضي الله عنه - إنما تردد نصه فيه؛ لأنه لا يعرف طيباً في بلاده. وفيه نظر؛ لأن البندنيجي حكى عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه اختار هذا القول في القديم، وأنه شنع على من ذهب إلى القول الأول. والريحان الفارسي هو الضيمران المذكور في باب جامع الأيمان. والقولان يجريان في مائه، ويجريان أيضاً- كما قال البندنيجي- في الريحان العربي، ويجريان [أيضاً]- كما قال في المهذب - في النرجس والنبق، وكذا في التفاح والمرزنجوش، كما قال البندنيجي؛ تبعًا للشيخ أبي حامد والقاضي الحسين.

والذي أورده الماوردي في الرجس: التحريم. قال: فإن استعمل شيئاً من ذلك، لزمته الفدية؛ لأنه ارتكب محظوراً ترفه به، ولا فرق فى ذلك بين أن يستعمله وحده، أو فى مأكول، أو سعوط، أو كحل، أو حقنة، نص عليه في "الأم". وقيل: لا تجب الفدية في السعوط والحقنة. واحترز الشيخ بقوله: "فإن استعمل" عما إذا جلس عند الكعبة وهي تجمر، أو في بيت وهو يبخر كما نقله الإمام عن الأئمة، أو في حانوت العطار؛ فإن ذلك لا يوجب الفدية. نعم، هل يكره له ذلك؟ قال الأصحاب: أما الجلوس عند، الكعبة فلا يكره وإن قصد ذلك لأجل الطيب، وأما الجلوس عند العطار وعند المتطيب، فقد قال البندنيجي: إنه ينظر: فإن كان لغير شم الطيب، لم يكره [قولاً واحداً، وإن كان لشم الطيب، كره]، وأطلق الرافعي حكاية قولين فيما إذا جلس عند الكعبة، وعند

حانوت العطار، وقال: إن أصحهما الكراهة. وحكي عن القاضي الحسين: أن الكراهة ثابتة لا محالة، والخلاف في وجوب الفدية. والذي رأيته في "تعليقه" أنه هل يكره أن يستنشق الروائح الطيبة؟ فيه وجهان. [وينبغي أن يخرج في وجوب الفدية إذا قصد الاستنشاق وجهان]، كالصائم [ثم] إذا فتح فاه حتى وصل إلى جوفه غبار الطريق وغربلة الدقيق، فإن في حصول الفطر به وجهين.

قال: ويحرم عليه أن يدهن رأسه – أي: إن لم يكن أقرع - ولحيته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحاج أشعث أغبر"، وذلك زينة، وهذا بخلاف غسلهما بالدر والخطمي

وغيرهما حيث يجوز ذلك؛ لأن ذلك لإزالة الأوساخ، والدهان لتنميته وتزيينه في عادة العرب. قال: فإن فعل [ذلك] لزمته الفدية، لما سبق. والحكم كما ذكرناه فيما إذا كان محلوق الشعر؛ لأن الدهن يحسن الشعر إذا نبت، كذا حكاه العراقيون. ونقل الفوراني عن المزني: أنه يجوز، وهو الصحيح؛ إذ لا شعث عله حتى يزول به. أما إذا كان أصلع، جاز له دهان موضح الصلع من رأسه؛ لأنه ليس فيه تزيين. وهل يجوز خضاب الشعر بالحناء؟ حكى الفوراني تردد قول الشافعي فيه، فقيل؛ [هو] تردد في أنه هل يلحق به بالترجيل بالدهن أم لما فيه من التزيين؟ وقيل: [هو] تردد في أن الحناء طيب أم لا؟ وهو بعيد. وقيل: هو تردد في أن الخريطة المحيطة باللحية، هل يحرم اتخاذها أم لا؟ لأن الخضاب يحتاج إليها. قلت: وهذا يعتضد بما حكاه القاضي الحسين من أن الشافعي - رضي الله عنه - قال في موضع [آخر]: إذا خضب لحيته، ولف عليها خرقة، فلا فدية عليه. فرع: إذا كان للمرأة لحية، فدهنتها بدهن غير طيب، قال القاضي الحسين في التعليق: يلزمها الفدية؛ لأن المرأة وإن لم يكن لها جمال في اللحية؛ فالمجيز, ينقص القبح الذى بها بسبب اللحية؛ فالتحقت بالرجل فى ترجيل لحيته بالتدهين. قال: ويحرم عليه تقليم الأظفار، وحلق الشعر، أي: من نفسه، من غير عذر. ووجهه في حلق [شعر رأسه] قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، والمراد: شعر رءوسكم؛ لأن الرأس لا تحلق، وإنما يحلق الشعر.

وفي شعر باقى الجسد قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يمس المحرم من شعره ولا [من] بشره شيئاً؛ كذا قاله الماوردي، وبالقياس على شعر الرأس، بل أولى؛ لأن شعر الرأس يحصل بحلقه الترفه فحسب، وحلق [شعر] البدن يحصل به الترفه والزينة. وفي تقليم الأظفار قوله - عليه السلام -: "المحرم أشعث أغبر"، وتقليمها يزيل الشعث، ولأنه قطع جزء من البدن يزيل الشعث ويحدث الترفه؛ فحرم كالشعر. قال: فإن فعل ذلك، [أي:] ولو في شعر العانة والإبط - لزمته الفدية: أما في شعر الرأس، فلقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} الآية: [البقرة: 196]، وقد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ روى البخاري ومسلم وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بكعب بن عجرة زمن الحديبية، فقال: "قد آذاك هوام رأسك؟ " قال: نعم، فقال النبي صلى لاله عليه وسلم: "احلق، ثم اذبح نسكاً، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع عن تمر على ستة مساكين". وفي رواية لأبي داود؛ أن كعب بن عجرة قال: أصابني هوام في رأسي، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، حتى تَخَوَّفْتُ على بصري؛ فأنزل الله - عز وجل -[فيَّ]: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَاسِهِ} الآية [البقرة: 196]، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: "احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين فرقاً من زبيب، أو انسك شاة"، فحلقت رأسي، ثم نسكت. وفي رواية لمسلم: أنه قال: نزلت هذه الآية في خاصة، وهي لكم عامة. فإذا وجب ذلك مع العذر بالنص؛ فمع عدمه من طريق الأولى. وأما في باقى شعر الجسد، وتقليم الأظفار؛ فبالقياس على المنصوص عليه للاشتراك في الترفه والتنظيف مع أن ذلك مما ينمي.

واعلم أن النواوي اعترض على الشيخ، فقال: لو قال: ويحرم عليه إزالة الظفر والشعر، لكان أحسن وأعلم؛ فإنه يحرم إزالتهما بالقلم والحلق وغيرهما، يعني من الكسر، والقطع، والتقصير، والنتف والإحراق. والجواب: أن الشيخ جرى على الغالب؛ فإن العادة فيهما ما ذكره. وأيضاً: فإن الإزالة قد تحصل من الحك بالأظفار، وليس الحك حتى ينتف الشعر محرماً، بل مكروهاً؛ كما قاله في "المهذب". نعم، لو حكه فانتف الشعر، لزمته الفدية. ولو شك: هل حصل ذلك بمشط اللحية أو لا؟ ففي وجوبها قولان أو وجهان؛ كما أوردهما الجمهور، وأصحهما: لا. ولا خلاف أنه لو قطع من جسده عضواً، أو كشط منه جلداً عليه شعر- لا يلزمه الفدية؛ لأن الشعر تابع في الإتلاف، وشبه ذلك بما إذا قتلت زوجته، لا يجب له المهر؛ لما ذكرناه من العلة، بخلاف ما لو أفسد نكاحها برضاع. أما تقليم أظفار غيره وحلق سعره، هل يحرم؟ ينظر: فإن كان ذلك الغير حلالاً، لم يحرم؛ قاله في "المختصر"، وجزم به الأصحاب. وإن كان محرماً، أطلق في "الحاوي" القول بالتحريم. ويظهر أن يقال فيه: إن كان يحرم ذلك على المحرك نفسه، [حرم على غيره من المحرمين أيضاً؛ لأنه يحرم على الحلال، وإلا فإن كان بإذنه لم يحرك؛ [لأنه] كالآلة له،] وإن كام بغير إذنه حرم. قال: ويحرم [عليه] أن يتزوج، وأن يزوج، أي: بالوكالة، أو الولاية الخاصة والعامة؛ لقوله- عليه السلام-: "لا ينكح المحرم ولا ينكح"، وفي رواية: "ولا يخطب"، أخرجه أبو داود ومسلم وغيرهما.

وروى الدارقطني عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتزوج المحرم، ولا يزوج". فإن قيل: قد روى البخاري و [مسلم] عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم. وقد أفهم كلام الشافعي –رضي الله عنه- جواز ذلك؛ حيث قال

في "الكبير" –كما قال القاضي [الحسين] في باب حد الصبي يبلغ: "على هذا لو أحرمت، فنكحت، فليس للزوج أن يمنعها"، وهذا يدل على ما ذكرناه. قلنا: أما الحديث، فعنه أجوبة: أحدها: أن الرواية عنه قد اختلفت، فروي مطر الوراق عن عكرمة عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو

حلال؛ فتعارضت الروايتان، وسقطتا. الثاني: أن معني قوله: "وهو محرم" أراد: وهو في الشهر الحرام، أو في الحرم؛ كما يقال: "متهم"، و"منجد" لمن دخل تهامة ونجد. الثالث: أنه كان يرى أن من قلد هديه، وأشعر، [صار] محرماً؛ فيحتمل أن يكون قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قلد هديه بالمدينة، وعقد على ميمونة في تلك الحالة، فسماه: محرماً؛ بتقليد الهدي. الرابع –قاله أبو الطيب بن سلمة-: أن ذلك من خصائصه، عليه السلام. الخامس: أن سعيد بن المسيب قال: إن ابن عباس وهم في ذلك، ويؤيده أن هذه القصة كانت في سنة ست من الهجرة؛ وكان ابن عباس إذ ذاك ابن ست سنين، وقد روي مسلم وغيره عن ميمونة أنها قالت: "تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالٌ بسرف". وقال أبو عمرو النمري: إن الرواية: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال"، متواترة عن ميمونة، وعن أبي رافع مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن سليمان ابن يسار مولاها، وعن غيرهم، وما أعلم [أن] أحداً من الصحابة روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم إلا عبد الله بن عباس، فإن لم تترجح رواية

الجماعة على روايته فقد عارضتها، ويعمل بالحديث الأول. وأما ما قاله الشافعي، فإن ما ذكره تفريعا على مذهب أبس حنيفة؛ لأنه يجوز نكاح المحرم والمحرمة؛ كذا حكاه القاضي الحسين عن الأصحاب. قال: فإن فعل ذلك، فالعقد باطل؛ لأن النهي يقتضي التحريم والفساد، وهو إجماع الصحابة، روى أبو غطفان بن طريف المزني عن أبيه: أنه تزوج وهو محرم؛ ففرق عمر بينهما.

وروي أن عليا قال: "من تزود وهو محرم، نزعناها منه، وفرقنا بينهما"، وروي نحو ذلك عن ابن عباس وابن عمر، ولم ينكر ذلك أحد. ولأنه نكاح لا يستعقبه استباحة وطء ولا قبلة –فكان باطلاً؛ كنكاح المعتدة. قال القاضي أبو الطيب: ولا يلزم عليه إذا كانت المنكوحة صائمة؛ لأن تقبيلها جائز لزوجها إذا كانت القبلة لا تحرك شهوته، ولا يرد عليه إذا نكحها وهي تصلي؛ لأنه يجوز أن يقبلها من وراء حائل. ولأنه عقد يمنع الإحرام من مقصودة؛ فلم يصح كشراء الصيد. وهكذا الحكم [فيما لو قبل للمحرم النكاح حلال] بوكالة تقدمت الإحرام؛ لوجود معنى النهي فيه؛ قاله القاضي [الحسين] وغيره. ولا يجب عليه في كل من الحالين فدية؛ لعدم حصول المقصود، وهو الانعقاد، بخلاف غيره من المحرمات في الإحرام. وقد حكى في "المهذب" وغيره في أن التزويج بالولاية العامة- وهي الإمامة والقضاء- هل يحرم، ولا يصح، كالخاصة أو لا؟ وجهين: المختار منهما في "المرشد": الجواز، وفرق بأن الولاية العامة آكد؛ بديل أنها تسلط على تزويج الكافرة، بخلاف الولاية الخاصة. وحكى القاضي أبو الطيب والحسين والماوردي طريقة قاطعة بمنع الحاكم من التزويج، بخلاف الإمام.

وفرق بعضهم: بأنا لو منعنا الإمام في حال إحرامه، لوجب أن يمتنع خلفاؤه من التزويج؛ فيؤدي ذلك إلى أن يمتنع حكام الأرض من التزويج؛ [فيعلم الضرر بخلاف الحاكم]. ثم قال القاضي الحسين: إلا أن هذا لا يصح؛ لأن الإمام] إذا امتنع، لم يجب أن يمتنع خلفاؤه؛ لأنهم ليسوا منصوبين من جهته، وإنما نصبوا لمصالح المسلمين؛ ألا تري أنه لو مات أو عزل، لم ينعزل الحكام؟! هذا حكم نكاح المحرم وإنكاحه، وأما ارتجاعه، ففيه وجهان: المذكور منهما في "المهذب"، و"تعليق" أبي الطيب، و"الشامل"، و"الحاوي"، و"الإبانة"، والمحكي عن النص: الجواز. والمنصوب منهما إلى أبي إسحاق، وهو ظاهر المذهب في "تعليق" القاضي الحسين: المنع. وهما ينبنيان على أن الرجعة بمنزل الاستدامة أو الابتداء؟ وقضية ذلك: أن يجوز له إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة وأحرام أن يختار أربعاً منهن جزماً؛ لأن ذلك استدامة، وهو ظاهر ما ذكر في الكتب؛ كما حكاه المتولي في نكاح المشركات. وعن القفال: أنه قال بالتحريم، وهو ما ادعى في كتاب الحج: أنه ظاهر المذهب، ومحله إذا لم تسلم النسوة، أما إذا أسلمن -أيضاً- قبل إحرامه، ثم أحرم، فالذي حماه في كتاب النكاح عن الشافعي -رضى الله عنه-: أن له أن يختار أربعا منهن. وفيه وجه آخر على قياس من قال: إن الرجعة في الإحرام لا تصح. فروع: [أخدهم] إذا وكل في قبول النكاح، ثم أحرم، فهل يصح من الوكيل أن يقبل له

النكاح بعد تحلله؟ فيه وجهان ينبنيان- كما قال القاضي الحسين- على ما إذا أحرم الولي، هل تنتقل الولاية [عن وليته] إلى السلطان، أو إلى من دونه من الأولياء؟ وفيه وجهان محكيان –أيضاً- فيما لو وكل المحرم حلالاً في قبول النكاح، وقبله له بعد تحلله، هل يصح؟ قال القاضي الحسين: وأظهرهما، وهو طريق المراوزة - كما قال أيضاً-: لا، إلا بتجديد وكالة بعد التحلل؛ لأنه لم يكن أهلا للوكالة حالة ما وكل؛ فلم يصح توكيله. والثاني- وهو طريقة بعض العراقيين-: أنه يصح، وهي التي حكاها القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والبندنيجي، وفي "الحاوي" و"البحر" نسيته إلى النص في "الأم" ووجه بأن الإذن يصح ممن هو ممنوع من توليته بنفسه لعارض؛ ألا ترى أنه يصح توكيله في بيع شيء يجهله؟! والمحرمة إذا أذنت في النكاح، [هل يجوز] لوليها التزويج بعد تحللها؟ قال القاضي الحسين في "تعليقه": سألته مرارا فقال: ينبغي أن يخرج على الوجهين، ثم قال: والأظهر عندي الجواز؛ لأن المقصود منه رضاها بالعقد عليها والرضا صحيح به، وإن كان لا يعقد في الحال؛ كما لو رضيت أن يزوجها من فلان إذا قدم، بخلاف الرجل يوكل في العقد وهو حرام؛ لأنه يليه من جهته؛ فلم يصح إلا في حال هو من أهل الولاية والمباشرة بنفسه. [الفرع الثاني] إذا أذن المحرم لعبده في التزويج، رجلاً كان المولي أو امرأة- فالمحكي عن أبي الحسين بن القطان: أن الإذن باطل. وقال ابن النرزبان: عندي في هاتين المسألتين نظر؛ كذا حكاه القاضي أبو الطيب. حكى ابن القطان: أن إسماعيل الفقيه قال في كتاب "المستعمل": إذا وكل المحرم رجلاً في أن يزوجه إذا حل من إحرامه –صح، ولو وكل رجلاً رجلاً في أن يزوجه إذا طلق إحدى أربع نسوة عنده أو إذا طلق فلان زوجته أن يزوجه – لم يصح التوكيل.

والفرق: أن مدة الإحرام معلومة، وغايته معروفة؛ فلذلك صح توكيله، ومدة الطلاق غير معلومة؛ فإنه لا غاية لها تعرف؛ فلذلك لم يصح التوكيل. قال ابن القطان: ولا فرق عندي؛ فإما أن يصح التوكيل في الجميع، أو لا يصح. قال: ويكره له الخطبة والشهادة على النكاح: أما الخطبة؛ فلأنها سعى في المحرم، وقد جاء في بعض الروايات- كما تقدم-: "ولا يخطب". وكما يكره أن يخطب امرأة حلالاً وهو محرم، يكره أن يخطب المحرمة حلال؛ قال أبو الطيب وغيره، ولا تحرم؛ بخلاف خطبه المعتدة؛ حيث حرمت؛ لأنها ربما كذبت في انقضاء عدتها؛ فإن لا يطلع على انقضائها إلا منها، بخلاف زوال الإحرام؛ فإنه أمر مشاهد مضبوط؛ فلا تتعجله. وأما في الشهادة؛ فلما روي أنه –عليه السلام- قال: "ولا يخطب ولا يشهد". وقد حكى عن الإصطخري أنه قال بالتحريم وعدم الانعقاد؛ لهذا الخبر. ولأن بها يتم عقد النكاح؛ فكان الشاهد كالقابل أو الموجب. والمذهب المنصوص عليه في "الأم": الصحة. وما ذكره الإصطخري من الاستدلال بالخبر يلزمه عليه أن يقول بتحريم الخطبة، وقد ادعى القاضي الحسين أنه لا خلاف في المذهب فيها، على أن معني الخبر –كما قال القاضي أبو حامد-: أن من عقد من المحرمين النكاح، فلا يجوز له أن يتحمل تلك الشهادة ويؤديها؛ لأن العقد باطل.

وقال غيره من أصحابنا: معناه: أن المحرم لا يجوز له أن يشهد عقد النكاح على المحرمين، ولا أن يحضره؛ لكونه محرماً باطلاً. وإذا احتمل الخبر ما ذكرناه، فلا حجة له فيه. والفرق بين الشاهد وأحد العاقدين: أنه غير متعين، بخلاف الولي والزوج، ولأنه [لا] فعل له في العقد؛ فكان كالخاطب. لكن للإصطخري أن يمنع كون الخطبة [غير] محرمة؛ فإن في "البحر" حكاية وجه عن رواية صاحب "التقريب": أنها حرام، حتى لو خطب المحرم امرأة حلالاً، فرضت به، يجوز لحلال آخر خطبتها؛ لأن الخطبة الأولى لم تقع الموقع؛ للخبر. والله أعلم. قال: ويحرم عليه الجماع في الفرج؛ لقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، والرفث: الجماع –قاله ابن عباس- وقوله- عليه السلام- "إذا رميتم وحلقتم، فقد حل لكم كل شيء إلا النساء". والمراد بالفرج: القبل، والدبر.

قال: والمباشرة فيما دون الفرج بشهوة، والاستمناء؛ لأنه إذا حرمت دواعي الوطء: كالنكاح والطيب، فلأن تحرم هذه الأشياء أولى. وأيضاً: فإن ذلك يحرم على المعتكف فعله، ومعلوم أن الإحرام آكد منه. قال: فإن فعل ذلك، لزمته الكفارة؛ لأنه استمتع بما هو محظور في الإحرام؛ فكان كالحلق. ولا فرق في وجوبها حالة المباشرة فيما دون الفرج بشهوة، بين أن يتصل بها الإنزال أو لا. نعم، يشترط في وجوبها بسبب الاستمناء: الإنزال؛ صرح به الماوردي حيث قال: إذا أولج المحرم ذكره في فرج خنثى مشكل إن أنزل، فعليه أن يفتدي؛ لاستمتاعه بالإنزال؛ كالمحرم إذا استمنى بيده، و [إن] لم ينزل، فلا فدية عليه ولا غسل؛ لأن المحرم إذا باشر رجلاً لم يفتد. وإذا أولج في غير فرج، لم يغتسل. وفي "النهاية" حكاية وجه آخر: أنه لا كفارة في الاستمناء أصلا؛ حكاه عن العراقيين، ونسبه في "البحر" إلى بعض الخراسانيين؛ موجها له بأنه لم يشاركه في هذا الاستمتاع غيره؛ فأشبه الإنزال بالنظر. وقد يؤخذ هذا الوجه من كلام الشيخ حيث تعرض في باب كفارة الإحرام للواجب في المباشرة فيما دون الفرج وغيرها وصفته وسكت عن الاستمناء، والمشهور: الأول، نعم، اشتهر خلاف الأصحاب في أنه إذا باشر فيما دون الفرج بشهوة، ثم جامع، هل يدخل [واجب الاستمتاع في الفدية]، أو يجبان جميعا؟ وسيأتي في الباب الثاني ما الواجب في هذه الأشياء، إن شاء الله تعالى. قال: ويحرم عليه الصيد المأكول، أي: يحرم عليه اصطياد الصيد المأكول من حيوانات البر؛ لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96].

قال: وما تولد من مأكول وغير مأكول؛ تغليبا للتحريم، فلو خالف وفعل [لم] يملكه، ووجب عليه إرساله على المشهور، وسنذكر من بعد ما قيل فيه. وإذا عرفت أن الاصطياد حرام، عرفت أن قتله وجرحه وقطع جزء منه كذلك؛ لأن الشيء إذا حرم، حرم ما يفضي إليه، والاصطياد لا يحصل بدون ذلك غالبا. وأخذ بيضة –أيضاً- حرام؛ وكذا ذبح الحيوان المأكول المتولد بين إنسي ووحشي، كالمتولد بين [ذكر] اليعفور –وهو ذكر الحجل – والدجاجة، أو الظبي والشاة؛ تغليبا للتحريم، وإذا فعله وجب عليه الجزاء. قال: فإن مات في يده، أو أتلفه، أو أتلف جزءا منه، لزمه الجزاء: أما إذا أتلفه عمدا؛ فلقوله –تعالى-: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. وأما إذا قتله خطأ؛ فلقوله –عليه السلام-: "في الضبع كبش إذا أصابها المحرم"، ولم يفصل؛ فكان على عمومه.

ولأنها كفارة تجب بالقتل، فاستوى فيها حكم العمد والخطأ؛ ككفارة قتل الآدمي. ولأن ذلك مستفيض عند الصحابة، ولم ينكره أحد؛ فكان كالإجماع. وتقييد الآية بالعمد؛ لتضمنها الوعيد بالعقاب، لا لنفي الحكم عن المنعطئ وسيأتي الكلام فيه. وأما في الباقي فبالقياس؛ لأنه مال ضمن لحق الغير في حال العمد والخطأ فضمن في بقية الأحوال المذكورة؛ [كمال الآدمي]. وقد حكى الماوردي في كتاب الأطعمة: أن ابن القاص قال: لا يجب الجزاء في المتولد [من مأكول وغير مأكول]، وأنه وهم منه. ولا فرق فيما ذكره الشيخ بين أن يكون الصيد غير مملوك، أو مملوك قد تأنس، أو هو باق على توحشه. نعم، يجب في المملوك مع الجزاء قيمته لمالكه، خلافا للمزني، فإنه قال: لا يلزمه الجزاء في المملوك. وكذا لا فرق بين أن يحصل التلف بمباشرته كالرمي، أو بسبب من جهته كنصب شبكة في ملكه أو ملك غيره، أو إرسال كلب معلم أو حله وقد رأي الصيد، أو انحلال رباطه بنوع تقصير في ربطه، أو تنفير الصيد حتى يطير قبل سكون نفاره وهلك، أو أخذه سبع، أو انصدم بشجر أو جبل. نعم، لو أرسل عليه سهما وهو حلال، ثم أحرم، [ثم أصابه] السهم –فهل يلزمه الجزاء؟ فيه وجهان يأتي مثلهما في الجنايات، والأظهر في "تعليق" القاضي

الحسين: اللزوم، وكذلك في "البحر"، وقال: إنهما يجريان فيما لو أرسل السهم وهو محرم، ثم تحلل قبل الإصابة: هل يلزمه الجزاء أم لا؟ ولو نفر الكلب، فهلك [الصيد] قبل سكون النفار بآفة سماوية، ففي الضمان وجهان. ولو حفر المحرم بئراً في ملكه، لم يضمن ما تردى فيه على المذهب. وفيه وجه نقله صاحب "التتمة": أنه يجب كما [لو حفره [في غير ملكه]، و [هو] في "تعليق" القاضي أبي الطيب عند الكلام فيما] إذا دل المحرم على الصيد معزياً إلى ابن القاض، وقال: إنه يحتمل ألا يضمن، وجعل حكمه فيما إذا حفر بئرا [في ملكه في الحرم كما إذا حفرها في ملكه في الحل، والمشهور فيما إذا حفرها] في ملكه في الحل: عدم الضمان، وبه جزم الجمهور، وحكوا الخلاف فيما إذا حفره في ملكه في الحرم، والأشبه والأصح في "تعليق" القاضي الحسين: الوجوب، ويحكى عن الربيع وصاحب "التخليص"، ولم يحك في "التتمة" و"الإبانة" غيره. والفرق: أن الحرم ليس موضع اصطياد أصلا، والحل في الجملة محل الاصطياد، لكن كلام صاحب "التهذيب" [يشير إلى] ترجيح المنع. ولو أرسل الكلب، أو قصر في رباطه حيث لا صيد، فعرض صيد- ففي الضمان وجهان: أظهرهما: أنه لا ضمان، ورأي الإمام أن الضمان أرجح؛ لحصول التلف بسبب فعله، وجهله لا يقدح فيه، كما في حفر البئر. وما ذكرناه هو المشهور، وقد أشار القاضي الحسين في تعليقه إلى خلاف في نصب الشبكة في الحل بقوله: "والأظهر أنه يلزمه الضمان" بعد قوله: "ولا خلاف أنه لو نصبها في الحرم ضمن".

وحكى الإمام ترددا فيما إذا قصر في ربط الكلب، فانحل، وقتل الصيد، وجزم الماوردي فيها بعدم الضمان، وقال هو والقاضي أبو الطيب، فيما إذا كان الكلب المرسل على الصيد غير معلم: إذا قتله لا ضمان؛ لأنه لا ينسب فعله إلى مرسله. وهو كذلك في "تعليق" القاضي الحسين، وعزاه إلى نصه في الإملاء، كما إذا أرسل الكلب المعلم على آدمي فقتله؛ فإنه لا ضمان عليه؛ لأن الكلب لا يعلم على الآدمي. نعم، لو علم عليه، أو كان ضارياً –ضمنه. تنبيه: قد يؤخذ من قول الشيخ: "فإن مات في يده .... " إلى لآخره – أنه يختار الضمان في مسألتين: إحداهما: إذا خلص المحرم صيداً من جارج أو داوى جرحه فمات في يده؛ كما هو أحد القولين. لكن الصحيح، والذى نص عليه الشافعي –رضي الله عنه-: عدم الضمان، والأول أخذ من احتمال أبداه الشافعي. الثانية: أن المحرم إذا استودع صيدا لحلال، فتلف في يده – [ضمنه]، وهو ما حكاه القاضي الحسين، وقال: إنه لو كان مملوكا وجب معه قيمته لمالكه. وفيه نظر؛ لما ستعرفه من النص فيما إذا وهب من محرم صيدا وتلف في يده، أو أرسله. وقد وافق القاضي في ضمان الوديعة بالجزاء الرافعي هنا، وكذا فيما إذا استعاره، لكن [حكى] في "الروضة": أن صاحب "البيان" حكى في كتاب العارية عن الشيخ أبي حامد: أنه قال: لا جزاء في العارية؛ لأنه لم يمسكه لنفسه، ومن طريق الأول المودع. وقد يقال: إنه ليس في كلام الشيخ تعرض لهاتين المسألتين؛ فإنه قال أولا: "ويحرم عليه الصيد"، ثم قال: "فإن مات في يده"، أي: بعد أن اصطاده؛ كما جاء مثل ذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196]، والتقدير: فحلق، ففدية، وغيرها من الآيات، وإذا كان كذلك ثبت ما قلناه.

فرع: إذا قتل الصبي أو المجنون صيدا وهو محرم، فهل يجب عليه الجزاء؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين وغيره في المغمى عليه أيضاً. ومنهم من أثبت الخلاف قولين؛ كما سنذكره. أما صيد البحر، فحله ثابت بقوله تعالي: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]. وهو –كما قال الأصحاب-: الذي لا يعيش إلا في البحر، وأما ما يعيش في البر والبحر فهو كالبري، والطيور المائية التي تغوص في الماء وتخرج، من صيد البر؛ لأنها لو تركت في الماء لهلكت. ومنها –كما قال البندنيجي وأبو الطيب-: البط والإوز. وقال في "الحاوي": إن البط –وهو الذي لا يطير- من الإوز، إذا قتله المحرم لا جزاء عليه؛ لأنه ليس بصيد، وحكى وجهين في الحمام الأهلي الذي يسمى: الراعي، وهو ما يكون في المنازل، ولا ينهض طائرا: أحدهما: أنه من جملة الحمام؛ لانطلاق الاسم عليه؛ فيجب فيه الجزاء. والثاني –وبه قال ابن أبي هريرة-: أنه لا جزاء فيه؛ لأنه ليس بصيد، إنما هو أنيس؛ فكان كالدجاج، ومراده: الدجاج البلدي، وإلا فدجاج الحبشة من صيد البر، ويجب فيه الجزاء؛ صرح به عن النص القاضي أبو الطيب وغيره؛ لأنه وحشي يمتنع بالطيران وإن [كان ربما ألف] البيوت، وهي [شبه الدُّرَّاج]، ويسمى بالعراق: الدجاج السندية. والجراد من صيد البر، يجب الجزاء بقتله. وحكى الموفق بن طاهر وغيره قولاً غريباً: أنه من صيد البحر؛ لأنه يتولد من روث السمك. قلت: ويعضده ما روي عن أبي هريرة أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلنا ضرب من الجراد، وكان بعضنا يضربه بالسوط، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "هو من صيد

البحر"، لكن المشهور: الأول. واختلف الأصحاب لم عده –عليه السلام- من صيد البحر؟ فقيل: لأنه يؤكل ميتاً؛ كالسمك. وقيل: لأن الغالب: أنه في السواحل. وقال كعب: إنه خرء السمك يلفظه البحر إلى الساحل، فخلقه الله تعالى منه. والحيوان المتولد من غير مأكول لا غير، لا يحرم عليه صيده وإذا مات في يده أو أتلفه لا ضمان عليه. نعم، في هذا الصنف ما يستحب للمحرم وغيره قتله وهي المؤذيات بطبعها، نحو الفواسق الخمس، روي أنه –عليه السلام- قال: "خمس فواسق يقتلن في الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور".

وروي أنه –عليه السلام- قال: "خمس من الفواسق ليس على المحرك في قتلهن جناح .... " فذكرهن، وفي معناها: الحية، والذئب، والأسد، والنمر، والدب، والنسر، والعقاب، والبق، والبرغوث، والزنبور. ولو ظهر القمل على بدن المحرم أو ثيابه، لم يكره له تنحيته، ولو قتله لم يلزمه شيء ولو فلى لحيته ورأسه، وارتكب هذا المكروه، فأخرج منها قملة فقتلها –تصدق ولو بلقمة؛ نص عليه، وهو عند الأكثرين محمول على الاستحباب، ومنهم من قال: إنه يجب ذلك؛ لما فيه من إزالة الأذى عن الرأس. ولا خلاف أنه لو أخرجها من جسده وقتلها، لا يجب عليه سيء، قاله القاضي الحسين، وقال: إن الوجهين السابقين يجريان فيما إذا قتل القمل في رأسه بالزئبق؟ ونحوه. ومنه ما لا يستحب له ولا لغيره قتله، وهي الحيوانات التي فيها منفعة ومضرة: كالفهد، والصقر، والبازي؛ لما يتوقع من المنفعة، ولا يكره لما يخاف من المضرة. ومنه ما يكره له ولغيره قتله، وهو ما لا يظهر فيه منفعة ولا مضرة: كالخنافس، والجعلان، والسرطان، والرخمة، والكلب الذي ليس بعقور.

ومنه ما لا يجوز قتله، وهو النحل، والنمل، والخطاف، والضفدع؛ لورود النهي عن قتلها. وفي وجوب الجزاء بقتل الهدهد والصرد خلاف مبني على الخلاف في جواز أكلهما. والمذكور في تعليق القاضي الحسين: التحريم. قال: -ويحرم عليه لحم ما صيد له؛ لما روى جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " [صيد] البر حلال لكم [وأنتم حرم] ما لم تصيدوه أو يصد لكم".

قال الترمذي: وهذا أحسن حديث. قال: أو أعان على ذبحه أو كان له أثر في ذبحه؛ لما روى أبو داود عن أبي قتادة: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ببعض طريق مكة، تخلف مع أصحاب له محرمين، وهو غير محرم، فرأى حماراً وحشياً؛ فاستوى على فرسه، قال: فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا، فسألهم رمحه فأبوا، فأخذه، ثم شد على الحمار، فقتله، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بعضهم، فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك؟ فقال: "إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالي"، وأخرجه البخاري ومسلم بمعناه، وفي روايتهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "منكم أحد أمره أو أشار إليه؟ " قالوا: لا، قال: "فكلوا ما بقي من لحمه"، ووقع فيهما: أنه صلى الله عليه وسلم أكل منه. فلو خالف المحرم، وأكل مما حرم عليه أكله بسبب مما ذكرناه، فهل يلزمه شيء؟ فيه قولان: أحدهما- وهو القديم، والمختار في "المرشد"-: نعم؛ لأن الأكل فعل محرم في

الصيد؛ فتعلق به الجزاء، كالقتل، ويخالف ما لو ذبحه، وأكله؛ حيث لا يلزمه في الأكل شيء؛ لأن وجوب الجزاء بالذبح أغنى عن جزاء آخر؛ فعلى هذا ماذا يلزمه؟ فيه ثلاثة أوجه ذكرها الماوردي: أحدهما: مثل ما أكله من لحم النعم يتصدق به على مساكين الحرم. والثاني: [يجب] من مثله من النعم بقدر ما أكل من لحمه؛ فإن كان قد أكل عشر لحمه، لزمه عشر مثله. والثالث: قيمة ما أكله دراهم يتصدق بها إن شاء، ويصرفها في طعام يتصدق به إن شاء. والقول الجديد –وهو الصحيح في "الحاوي" و"التهذيب" وغيرهما-: لا لأنه ليس بنام بعد الذبح ولا يئول إلى النماء؛ فلا يتعلق بإتلافه الجزاء؛ كما لو أتلف بيضة مذرة. وقد أغرب في "الوجيز"؛ فحكي القولين فيما إذا دل المحرم حلالاً على صيد –في أنه هل يحرم عليه الأكل منه، أم لا مع الجزم بعصيانه؟ قال الرافعي: ولم نر هذا الخلاف لغيره، بل جزموا بحرمة الأكل على المحرم مما صيد له، أو بإعانته بسلاح وغيره، أو بدلالته أو إشارته؛ فالوجه: أن تغير هذه اللفظة، ويجوز أن يجعل مكانها: [وفي] وجوب الجزاء عليه عند الأكل قولان؛ لأنهما مشهوران في هذه الصورة، لكنه قد ذكر هذه المسألة من بعد، وتبديل اللفظ بها يفضي إلى التكرار. قال: فإن ذبح الصيد، حرم عليه أكله؛ لأنه إذا حرم عليه [أكل ما] أعان على ذبحه، كان تحريم ما ذبحه أولى. قال: وهل يحرم على غيره، أي: من المحلين والمحرمين؛ كما قاله في البحر –فيه قولان. [ووجه الحل] –وهو القديم-: أنه من أهل الذكاة في غير الصيد؛ فوجب أن

يكون من أهلها في الصيد: كالحلال طرداً، والمجوسي عكسا. قال في "البحر": قال أصحابنا: وهذا القول القديم أصح في هذه المسألة. وقال القاضي أبو الطيب: إن أكثر الأصحاب قالوا ذلك؛ وعلى هذا هل يحرم على الذابح على التأبيد أو مدة إحرامه؟ فيه وجهان: أظهرهما- وهو المشهور؛ كما قال الفوراني-: الأول. ومقابلة: منسوب في "تعليق" القاضي الحسين إلى رواية الأستاذ أبي طاهر الزيادي. ووجه التحريم- وهو الجديد والأصح-: أنها ذكاة ممنوع منها؛ لحق الله تعالى؛ [لمعنى في] الذابح؛ فوجب ألا تقع بها الإباحة كذكاة المجوسي. قال القاضي الحسين: ولا تأثير لقولنا: ممنوع منها؛ لأن الخلاف في المحرم المضطر وغير المضطر واحد، والمحرم المضطر غير ممنوع من الذبح، لكن نقول: الحلال إذا جرح صيداً، استفاد به شيئين: الملك، وتحليل الأكل، ثم المحرم لا يستفيد بجرحه الملك؛ فكذلك الحل. وقد عكس النجنيجي ما ذكرناه، فقال: إن القول الجديد: [أنه] لا يحرم على غيره أكله، والقديم: التحريم. والصحيح الأول. والقولان في الكتاب يجريان –كما حكاه في "الشامل" عن بعض الأصحاب، وهو المذكور في "تعليق" البندنيجي –في حل بيض الصيد إذا كسره المحرم، والجراد إذا قتله. وحكى في "المهذب" عن شيخه القاضي أبي الطيب: أنه قال: [فيه] نظر؛ من حيث إن البيض لا روح فيه، والجراد يحل ميتا؛ ولأجل ذلك قال ابن الصباغ: إن القول بإجراء القولين في هاتين الصورتين غير صحيح؛ فإن المجوسي لو قتل جرادة، أو كسر بيضة، كانت على حكم الإباحة، بخلاف الصيد. وفي "الحاوي": أن البيض إذا كسره محرم، لم يحل له ولا لغيره من المحرمين، ويحل للمحلين.

وجهل بعض متأخري أصحابنا؛ فخرج جواز أكل الحلال له على قولين؛ كالصيد، وهو قبيح. قلت: وتحريمه على غير الكاسر من المجرمين فيه نظر؛ لأنه خرج بالكسر عن أن يكون ناميا؛ فيشبه الصيد إذا ذبحه محرم. والقولان في حله للحلال جاريان في حلة للمحرم إذا لم يصد له، ولا أعان عليه، ونحو ذلك. وقد يقال: إن جريان القول بالتحريم على الحلال هاهنا قبيح، فليكن تحريم البيض على غير الكاسر من المحرمين كذلك. ويجري القولان -أيضاً- فيما إذا ذبح الصيد في الحرم، أو كسر البيض، وقيل: [هو ميته قطعاً]؛ لأنه المانع في نفس البيض والذبيح، ولأن المحرم قد يستبيح مثل الصيد وأكل البيض بعد إحلاله، والحرم لا يستباح قتل صيده وكسر بيضة بحال؛ وهذا ما ادعى البندنيجي: أنه المذهب. وقد قيل: إن الشافعي نص في "الإملاء" على هذا الفرق، قال في "البحر": وهو بعيد؛ لأن هذا الصيد في حق المحرم كصيد الحرم في حق الكافة. وإذا قلنا بهذه الطريقة، قال الماوردي: فلو أن محرما قتل صيدا في الحرم، فقد اختلف أصحابنا: هل يغلب حكم الحرم، أو حكم الإحرام؟ على وجهين. قال: لا يملك الصيد بالبيع والهبة؛ لأن سبب يملك به عين الصيد؛ فكان المحرم ممنوعا من التملك به؛ وما ذكره الشيخ هو الذي نص عليه الشافعي، رضي الله عنه. وقال في "المهذب": إن الإقدام على الابتياع، والأنهاب حرام؛ لرواية ابن عباس: أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمار وحش، فرده عليه؛ فلما رأى ما

في وجهه، قال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم"، وقد أخرجه مسلم والبخاري أيضاً. وفي طريقة المراوزة حكاية قول آخر- قال الإمام: إنه منصوص عليه أيضاً-: أنه يملك بذلك، وشبهوا ذلك بشراء الكافر العبد المسلم. وفي "الشامل" حكاية عن الشيخ أبي حامد أنه قال: من أصحابنا من تعلق بقول الشافعي فيما إذا وهب له وقبضة: "إن عليه إرساله"، وقال: قد ملكه بالهبة؛ ولهذا أمره بإرساله. وقد ذكر القاضي الحسين أن من الأصحاب من ذكر خلافا في أن المحرم هل يملك الصيد بالاصطياد أم لا؟ ومنهم من جعله مرتبا على الخلاف فيما إذا أحرم وفي ملكه صيد، هل يزول ملكه عنه أم لا؟ فإن قلنا ثم بالزوال، لم يملكه بالاصطياد، وإلا فوجهان، والفرق: أن هذا ابتداء، وذلك استدامة؛ فأشبه النكاح. وقال: إنا إذا قلنا: لا يملكه، وجب الإرسال، فإن لم يرسله حتى تحلل ملكة، ولا

يجب عليه إرساله. وإن قلنا: يملكه، وجب الإرسال أيضاً، فإن لم يرسله حتى تحلل، هل يجب [عليه] الإرسال؟ فيه وجهان، فإن قلنا بوجوبه كان له أن يأخذه في الحال. ثم على القول الصحيح [في] أنه لا يملك الصيد بالبيع والهبة، فرعان: أحدهما: كما يمنع من شرائه يمنع من بيعه أيضاً. قال الإمام: وليس هذا كتصرف الكافر في العبد المسلم؛ فإنا وإن منعناه من شرائه، لا نمنعه من بيعه من مسلم، والسبب فيه: أن بيعه من مسلم يزيل مادة الاعتراض، وإذا امتنع عن بيع عبده الذي أسلم في يده، فإنا نبيعه عليه من مسلم، فإن فعل ما نفعله نفذ، والمقصود في الصيد الإرسال ورفع اليد عنه، والمحرم ببيعه يورطه في التقييد والضبط؛ فكان البيع في معنى الشراء، وهذا مفرع -كما قال أيضاً- على أن الإحرام لا ينافي الملك، يعنى: فلا يزول بالإحرام. وفي "الحاوي" و"تعليق" اليندنيجي و"البحر" و"الرافعي": أنا إذا قلنا: لا يزول ملك المحرم عن الصيد بالإحرام، كان حكمه حكم سائر أملاكه إلا في شيء واحد، وهو أنه لا يجوز له ذبحه، وما سوى ذلك من بيعه وهبته، فجائز له، وهذا مخالف لما ذكره الإمام. الثاني: إذا قبل البيع والهبة، وقبضه، فعليه رده إلى صاحبه وما حكى عن نص الشافعي -رضي الله عنه- فيما إذا وهب له أن يرسله- فقد قال الشيخ أبو حامد والقاضي الحسين وغيرهما: مراده: الإرسال إلى يد صاحبه؛ لأنه باق على ملكه. ثم قال الشيخ أبو حامد: ويحتمل أن يحمل كلام الشافعي -رضي الله عنه- على ظاهره؛ لأن البيع والهبة لا يزيلان عنه ضمان الكفارة برده إلى صاحبه؛ فإنه لو مات في يده كان عليه الجزاء؛ كما لو كان هو الصائد ووهبه من غيره، وما ذكره من عدم براءته من الضمان برده إلى صاحبه، هو المذكور في "الحاوي"، و"التهذيب"،

و"التتمة"، و"تعليق" القاضي الحسين، وقالوا: إنما يبرأ إذا أرسله، فتوحش. لكن البندنيجي قال: إنه إذا رده إلى صاحبه؛ زال عنه الضمانات معا، يعنى: ضمان قيمته لمالكه، وضمان الجزاء. ثم قال الشيخ أبو حامد –سؤالاً على الاحتمال الذي أبداه-: فإن قيل: ملك صاحبه باق عليه، فكيف يجب إرساله ليتوحش؟ فجوابه: أنه أسقط حقه؛ لأنه كان سببا لثبوت يد المحرم عليه، وإيجاب إرساله عليه يحصل له بدله. ولو لم يرده [لصاحبه] حتى مات في يده، وقد قبضه على حكم البيع والهبة- لزمه الجزاء، وضمنه لمالكه بالقيمة في البيع دون الهبة؛ لأنه لم يدفعه إليه على أن يستحق لأجله عوضا؛ كذا قاله الشافعي نصا في الهبة، وهو مبني على أصح الوجهين في "الروضة" في أن الهبة الفاسدة غير مضمونة. لكن في "الحاوي" أن الوجهين في أن الهبة الفاسدة هل تضمن، مخرجان من اختلاف قوليه في أن الهبة هل تقتضي ثوابا أم لا؟ فإن قلنا: تقتضيه، ضمن، وإلا فلا. وهذا فيه نظر. وقد سوى الرافعي بين الهبة والبيع والوصية، وجعل الكل مضموناً عليه بالجزاء والقيمة.

ولو لم يتلف الصيد في يده، لكنه تحلل وهو في يده –قال الماوردي: فمذهب الشافعي: أنه مضمون عليه بالجزاء والقيمة، يعني: في مسألة البيع، وكذا في الهبة؛ على أحد الوجهين الذي اقتضي بناؤه: أنه أصحهما. وفيه وجه آخر: أنه يسقط عنه ضمان الجزاء. وعلى القول المحكي في أصل المسألة في طريقة المراوزة: أنه يملكه بالبيع ويجب عليه إرساله، فو باعه حرم البيع، ولكنه ينعقد ويجب على المشتري الإرسال، وإذا أرسل فهل يكون من ضمان البائع؟ فيه خلاف مذكور في "الوسيط"؛ كما في العبد المرتد. [قال الإمام: ولعل الأوجه القطع هنا بأنه من ضمان البائع، فإنا قد نقول في المرتد] إذا قتل: إنه قتل، لردته في الحال، والخطرات تتجدد حالا بعد حال، والسبب الذي نيط به وجوب الإرسال، قائم لا تجدد فيه، والله أعلم. فرعان:- على القول بعدم ملكه الصيد [بالبيع] والهبة أيضاً-: أحدهما: إذا باع محل صيدا من محل، ثم أحرم البائع، وأفلس المشترى- هل للبائع أن يختار عين ماله؟ قال ابن الصباغ والماوردي والقاضي الحسين: لا؛ لأنه يريد أن يتملك الصيد باختياره؛ فلا يجوز. نعم، إذا زال الإحرام قال في "الحاوي": كان له أن يرجع فيه. الثاني: إذا اشترى صيدًا من حلال، وهو حلال، ثم أحرم البائع، ووجد المشتري به عيبا، فأراد رده عليه- قال ابن الصباغ: أنبنى ذلك على أنه هل يملكه بالإرث؟ فإن قلنا: يملكه –كما سيأتي- رده عليه؛ لأنه يرده إلى ملكه بغير اختياره.

وإن قلنا: لا يرثه، ففيه وجهان- قلت: قالهما القاضي أبو الطيب [في "تعليقه" احتمالين-: أحدهما: نعم؛ لأن ذلك حق المشتري؛ فلا يسقط بإحرام البائع. والثاني: لا يرده. قال القاضي أبو الطيب:] فيرد عليه الثمن، ويوقف الصيد حتى يتحلل، فيرده عليه. قال ابن الصباغ: وهذا يبعد؛ لأنه إذا ملك المشتري الثمن بالرد زال ملكه عن الصيد، ووجب عوده إلى البائع، وينبغي أن يقال: هو بالخيار بين أن يقف حتى يتحلل، [فيرد عليه]، أو يرجع بأرش العيب؛ لتعذر الرد في الحال. قال: وهل يملك بالإرث؟ [فقد قيل: يملك]؛ لأنه قهري؛ وهذا هو الصحيح في "الوسيط"، و"المرشد"، و"الروضة"، وبه قطع الشيخ أبو محمد والصيدلاني؛ كما يرث الكافر المسلم، وقال الطبري: إن هذه طريقة القفال. وقيل: لا يملك؛ لأن الإرث سبب الملك؛ فلا يملك به المحرم الصيد؛ كالبيع والهبة. ولا يخفي أن هذا الخلاف مفرع على المذهب في أنه لا يملك الصيد بالبيع والهبة، أما إذا قلنا: يملكه بهما، ملكة بالإرث بلا خلاف، وقد صرح به في الروضة، وأنه مفرع –أيضاً- على أنه لا يزول ملكه [عنه] بالإحرام، أما إذا قلنا بزواله، فلا يرثه قولا واحدا؛ لأنه إذا امتنع الاستدامة، فالابتداء أولى؛ قاله القاضي أبو الطيب. وحكى الإمام عن العراقيين: أنهما قالوا: إذا قلنا: الإحرام يقطع دوام الملك، ففي الإرث وجهان: أحدهما: لا يملك به؛ لما ذكرناه. والثاني: يملك به ويزول؛ فإنا نضطر إلى الجريان على قياس التوريث، فلنجر

ذلك الحكم، ثم نحكم بعده بالزوال. التفريع: إن قلنا بالملك، قال في "الوسيط" و"التهذيب": إنه يجب إرساله. ولو باعه، قال في "التهذيب": صح، ولا يسقط عنه [ضمان الجزاء؛ حتى لو مات في يد المشتري، وجب الجزاء على البائع، وإنما يسقط عنه] إذا أرسله المشتري. وقال الإمام تفريعا على قول الملك الذي عليه فرعنا: إنه يزول ملكه عقيب موته؛ بناء على أن الصيد يزول الملك عنه بالإحرام. وإن قلنا بعدم الملك، قال المتولي: إنه ينتقل لباقي الورثة، وإحرامه بالنسبة إلى الصيد مانع من موانع الإرث، وهو ما صدر به صاحب "البحر" كلامه. وعن أبي القاسم الكرخي: أنه يبقي موقوفا، فإذا تحلل ملكه، وهو ما حكاه الشيخ أبو حامد، والمحاملي، والبندنيجي، والقاضي أبو الطيب، والماوردي، والقاضي الحسين، وصاحب "العدة"، والدرامي، وقال: إنه لو مات الوارث قبل تحلله، قام وارثه مقامه. قال: وإن كان ملكه صيد، أي: في يده، أو [في] بيته، [فأحرم] –زال ملكه عنه في أحد القولين، أي: المذكورين في "الإملاء"؛ لأنه لا يراد للبقاء دوامه؛ فيحرم استدامته؛ كلبس المنعيط. [قال:] دون الآخر؛ لأنه ملكه؛ فلا يزول بالإحرام؛ كالبضع. ولأنه لو ملك صيدا في الحل، وأدخله الحرم، لم يزل ملكه؛ كذلك هنا؛ وهذا ما اختاره في المرشد. فعلى هذا: يجوز له بيعه وهبته، ولا يجوز له قتله كما ذكرناه من قبل وفيه ما نقلناه عن الإمام، ولا يجب عليه –على هذا القول- إرساله.

والذي اقتضاه إيراد ابن الصباغ: ترجيح الأول، وقال في البحر: إنه الأظهر، [[وقال] القاضي أبو الطيب في "تعليقه": إنه الأصح]، وعلى هذا لا يجب عليه السعي في إرساله قبل الإحرام؛ كما صرح به الإمام، وهل يؤمر بالإرسال بعده؟ فيه وجهان في "الرافعي" عن رواية [بعض] الأصحاب، والمشهور: الوجوب، فإن لم يرسله حتى مات، نظر: فإن قصر فيه، ضمنه بالجزاء. وقال البندنيجي: إنه يكون بمنزلة ما إذا طير الريح ثوباً إلى داره. وإن لم يقصر في إرساله، قال الإمام: المذهب وجوب الضمان. ومن أصحابنا من قال: لا يضمنه، وهو ما أورده البندنيجي وإليه يرشد كلام ابن الصباغ والقاضي أبي الطيب. ولو لم يرسله حتى تحلل، ففي عود ملكه قولان في "المهذب" وغيره. وقال ابن الصباغ والبندنيجي وغيرهما: إن الذي نص عليه وجوب الإرسال. [وحكي عن أبي إسحاق] أنه قال: يعود الملك، ولا يلزمه الإرسال؛ كما إذا انقلب الخمر خلاً. وحكى الإمام عن العراقيين القطع بوجوب الإرسال، وأنهم ترددوا فيما إذا قتله، هل يجب عليه الجزاء؟ وقال: إن القول بالمنع مزيف مع القطع بوجوب الإرسال. ورتب المراوزة الخلاف في [هذه] المسألة على غير هذا النحو، فقالوا: إذا أحرم وفي ملكه صيد، هل يجب عليه إرساله وإزالة يده أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ كما إذا دخل به الحرم، وكما يجوز له استدامة النكاح دون ابتدائه. وهذا ما ذكر الرافعي: أنه صححه المحاملي والكرخي وغيرهما من العراقيين. وعن القاضي ابن كج طريقة [قاطعة] بهذا القول، معزية إلى أبي إسحاق، وأنه حمل النص بالإرسال على الاستحباب؛ فإنه على هذا يستحب [له] إرساله،

وإذا أرسله، وأخذه غيره، فله إذا خرج من إحرامه أن ينتزعه من يده، ولو أرسله غيره من يده، ضمن المرسل. والقول الثاني: نعم، وهذا الذي صححه الفوراني؛ كما لا يجوز له ابتداء أخذه. والفرق بين ما نحن فيه ودخول الحرم به: أن حكم الإحرام آكد من حكم الحرم؛ بدليل أنه لو كان حلالاً، فاصطاد صيدًا في الحل بنية حرمي، يحل لذلك الحرمي أكله، ولو اصطاد الحلال صيدًا بنية المحرم، لا يحل للمحرم أكله، وعلى هذا فرعان: أحدهما: هل يزول ملكه عنه أو لا؟ فيه قولان: أحدهما: نعم، وهو الأصلح عند العراقيين؛ كما قال الرافعي، [لكن هل يزول بالإحرام]، أو بالإرسال ويكون الإحرام سبب وجوب الإرسال؟ فيه وجهان في "النهاية". وعلى كل الوجهين إذا أخذه غيره بعد الإرسال، ملكه. و [القول] الثاني: لا يزول ملكه؛ حتى لو أرسله غيره، ضمنه، وإذا أخذه غيره بعد امتثاله ما أمر به من إرساله، فله أن يسترده إذا خرج من إحرامه، على المشهور الذي قطع به المعظم. وحكى الإمام – تفريعًا على هذا – عن شيخه تخريج وجهين في أنه هل يزول ملكه عنه بالإرسال؛ بناء على وجهين للأصحاب في أن من فتح قفصًا عن طائر إذا نوى تحريره، أو حل الرباط عنه، وهو حلال، وحرره – هل يزول ملكه عنه؟ الفرع الثاني: إذا لم يرسله حتى تحلل، فالأمر بالإرسال مستمر، وفيه وجه: أنه ينقطع. قال: وإن احتاج إلى اللبس، لحر أو برد، أو إلى الطيب والحلق؛ لمرض،

أو إلى ذبح صيد للمجاعة، أي: شدة الجوع، وهي بفتح الميم – جاز له ذلك؛ لقوله – تعالى -: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. قال: وعليه الكفارة. أما في الحلق لمرض؛ فلقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196]. وقد اختلف المفسرون في المراد بالمرض: فقال ابن عباس: هو البثور. وقال غيره: هو الصداع. وأما في الباقي، فبالقياس عليه، وسنذكر في أول باب كفارة الإحرام شيئًا يتعلق به. وهكذا الحكم في كل محظور بغير عذر إذا أبيح للعذر، وجبت فيه الكفارة، إلا لبس السراويل عند عدم الإزار، والخفين المقطوعين وما في معناهما عند فقد النعلين كما تقدم؛ للنص عليهما، ولأنهما ليسا للترفيه وإزالة الضرر؛ فإن ستر العورة واجب، ولبس الخفين المقطوعين ونحوهما يقي الرجل من النجاسة؛ فخفف فيهما لذلك. قال: فإن صال عليه صيد – أي: قصد الوثوب عليه – جاز له قتله للدفع، لا جزاء عليه؛ لأن الذي يتعلق به المنع ألجأه إليه؛ فأشبه العبد الصائل. وكذا الحكم فيما لو انكسر من ظفره شيء فقطع المنكسر لا غير. والفرق بينه وبين ما إذا آذاه القمل في رأسه، فحلق شعره: أن الذي يجب فيه الجزاء الشعر، والصيال من غيره. فإن قيل: إذا تأذى بكثرة الشعر من الحر، فالصيال حصل من الشعر [فكان قياس ما ذكرتم ألا يجب فيه الجزاء عند الحلق.

قيل: الأذى جاء من الحر لا من الشعر]؛ بدليل عدمه في البرد. نعم، قال الأصحاب: لو صال عليه حلال راكب حمار وحشٍ، ولم يتمكن من دفعه إلا بقتل الحمار – قال الصيدلاني: ففي الجزاء قولان للقفال، والذي أورده الأكثرون منهما: وجوبه، وهو قياس ما تقدم. ولا خلاف فيما إذا ضمناه أن قرار الضمان على الراكب، وهكذا الحكم فيما إذا غصب دابة وصالت [على شخص]، فقتلت – في ضرورة الدفع؛ ففي وجوب الضمان على القاتل قولان، فإن ضمناه، كان قرار الضمان على الراكب، ولمالكها مطالبة الصائل على القولين، ومن هنا قال الإمام: إن بين ما ذكر في المحرم والغاصب فرقًا ظاهرًا؛ فإن الحلال على أحد القولين لا يغرم الصيد، ولكن يرجع المحرم عليه إذا غرم، وفي مسألة الغصب يتوجه الطلب على الغاصب قولاً واحدًا، وإنما الكلام في قرار الضمان كما سبق. قال: فإن افترش الجراد – أي: انبسط كقولهم: أكمة مفترشة، أي: منبسطة. [قال]: في طريقه، فقتله – ففيه قولان، أي: أومأ إليهما في "الأم"، وقد أثبتهما الإمام ومن تبعه وجهين: وجه عدم الوجوب: أنه ملجأ إلى قتله؛ فكان كالصائل؛ وهذا ما جعله الرافعي أظهر، وصححه النواوي، وعن الشيخ أبي محمد طريقة قاطعة به. ووجه الوجوب: أنه قتله لمنفعة نفسه؛ فأشبه ما لو قتله للمجاعة؛ فإنه يجب عليه الجزاء بلا خلف؛ وهذا ما اختاره في "المرشد".

والقولان يجريان – كما قال البندنيجي وغيره – فيما إذا باض الحمام على فراشه، فنقل البيض – لحاجته إلى فارشه – ففسد. وفيما إذا أكره المحرم على قتل صيد وجهان: أحدهما: يجب الجزاء على المكره. [والثاني: على القاتل، ويرجع على المكره]. قال: وإن نبتت في عينه شعرة، فقلعها، لم يلزمه شيء؛ لأنها كالصائلة؛ نص عليه، وألحق الأصحاب [به] ما لو نزل شعر الرأس أو الحاجب عليى عينه، فقطع ما غطاها. وقيد قيل: بجريان القولين في المسألة قبلها فيهما، حكاهما الشيخ أبو علي وغيره. وفي "تعليق" القاضي الحسين الجزم بما إذا نبتت في عينه شعرة، فقلعها: أن عليه الفدية؛ وفيما لو انعطف هدبه إلى عينيه، فآذاه؛ فنتفه أو قطعه – بأن لا فدية وفرق بأن ذلك في موضعه ولم يؤذ، وإن تأذى صاحبه بمكانه. قال: وإن تطيب أو لبس أو ادهن ناسيًا – أي: لإحرامه – لم تلزمه الكفارة، أي: خلافًا للمزني. ووجهه: ما روى البخاري ومسلم عن يعلى بن أمية: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة، قد أهل بالعمرة، وهو معصفر لحيته ورأسه، وعليه جبة، فقال: "انزع عنك الجبة، واغسل عنك الصفرة، وما كنت صانعًا في حجك، فاصنعه في عمرتك". وجه الدليل منه: أنه كان جاهلاً بالتحريم، وقد أمره – عليه السلام – بالنزع

والإزالة، ولم يأمره بالفدية، ولو كانت واجبة لبينها [له]، فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وإذا ثبت هذا الحكم في الجاهل بالحكم، فالناسي مثله؛ لأنه يفعل مع جهل التحريم. وقد [عرفت بما ذكرناه] حكم الناسي لإحرامه والجاهل بالتحريم، وهو ما صرح به القاضي الحسين وغيره. نعم، حكى القاضي أبو الطيب في أن من ادعى الجهل بالعلم بالتحريم في زماننا هل يقبل قوله، أو لا [يقبل] ويلزمه التكفير؟ وجهين. وإذا ذكر الناسي ما نسيه، وعلم الجاهل ما جهله – نزع اللباس، وأزال الطيب. والمستحب أن يزيله عنه [محل]، فإن لم يفعل، وغسله هو، جاز ولا شيء عليه، ولا يلزمه شق القميص والخروج منه، كالفرجية والقباء بل ينزعه من رأسه على الفور، وكذا إزالة الطيب، فإن لم يقدر على ذلك لعجزه، لم تلزمه الفدية. وإن استدام مع القدرة على الإزالة لزمته [الفدية] ويفارق استدامة ما تطيب به قبل الإحرام على المذهب؛ فإن ابتداءه مندوب إليه، والتطيب هنا ليس بمباح، وإنما سقط حكمه لنسيان فاعله؛ كما نقول فيما إذا أفطر يوم الشك، ثم قامت البينة بأنه من رمضان – لم يجز له استدامة الأكل فيه؛ لأن الفطر مع العلم بأنه من رمضان محرّم، بخلاف ما إذا أفطر بالسفر ثم قدم يجوز له الأكل؛ لأن ابتداء الفطر كان مباحًا مع العلم بأنه من رمضان. [فروع: أحدها: لو] مسَّ طيبًا على الكعبة ظنه يابسًا، فكان رطبًا، وعلق بيده – فقولان:

أحدهما، تجب؛ كما لو مسه مع العلم برطوبته، وهذا ما جزم به في "الوجيز" ورجحه الإمام وغيره. والثاني: لا، وهو الذي رجحه طائفة، وذكر صاحب التقريب: أنه القول الجديد. [الفرع الثاني]: إذا علم تحريم الطيب [وجهل كون الشيء] الذي مسه طيبًا – فجواب الأكثرين: أنه لا فدية؛ لأنه إذا جهل كونه طيبًا، فقد جهل تحريم استعماله. وحكى الإمام وجهًا آخر: أنها تجب. [الفرع الثالث]: الصبي إذا تطيب، أو لبس المنعيط، ففي لزوم الكفارة له قولان مأخوذان من حكم عمد الصبي، هل هو كالخطأ أو [كعمد المكلف]؟ والراجح – على ما اقتضاه كلام الإمام الذي سنذكره من بعد -: ترجيح الوجوب. ثم حيث ثبتت، ففي ماله، أو في مال الولي؟ فيه الخلاف الذي سبق في الكتاب. وحكم الناسي للإحرام إذا فاخد أو قبل أو لمس بشهوة، حكم الناسي للإحرام إذا تطيب ولبس، وكذا لو فعل ذلك جاهلاً بالتحريم. قال: وإن قتل الصيد، أو حلق رأسه، أو قلم الظفر ناسيًا – لزمته الكفارة؛ لأن إتلاف مال أو ما [هو] في معناه؛ فاستوى في ضمانه السهو والعمد، كإتلاف مال الآدمي، هذا هو المنصوص. وقيل: في الحلق والتقليم قول آخر: أنه لا تلزمه [الكفارة]؛ لأنه ترفه وزينة فأشبه التطيب. وهذا القول مخرج من أحد القولين المنصوصين في "الأم" في المجنون إذا قتل الصيد؛ كما قاله أبو الطيب.

وحكى ابن الصباغ [وغيره قولاً آخر مخرجًا مما ذكرناه عن "الأم" – أيضاً – فيما إذا قتل الصيد ناسيًا: أنه لا يلزمه الكفارة. وقد قال الإمام قبل جزاء الصيد بورقتين وشيء: إنه وجد ذلك محكيًا عن حرملة عن الشافعي، ولفظه: "إنما يعذر متلف الصيد بما يعذر به المتطيب". وقد وجهه ابن الصباغ] بأن الصيد على الإباحة، وإنما منع من قتله؛ تعبدًا، فلا يجب إلا على مكلف. قال: ومن أصحابنا من فرق بينهما، وقال: إنما سقط الضمان عن المجنون؛ لأنه غير مكلف، [والناسي مكلف]. وفي موضع آخر أيد الفرق بأنه لو حلف: "لا يدخل دارًا، فدخلها مجنونًا – لم يحنث قولاً واحدًا، ولو دخلها ناسيًا، فقولان، والصحيح ما ذكره الشيخ أولاً. والفرق بين ما نحن فيه والطيب واللباس ونحوهما من الاستمتاعات: أن الاستمتاعات تميل الطباع إليها [ولا يتكامل فيها القصد، فذر بالنسيان، والإتلافات على خلاف الطبع] فلا يقدم عليها إلا عن تكامل قصد ووجود رؤية؛ فلذلك كان حكم العمد [والنسيان فيها] سواء.

فإن قيل: هذا الفرق وإن راج في القتل، فلا يروج في الحلق والتقليم؛ لأنهما من جملة الاستمتاعات. قيل: وجوب الفدية فيهما لما فيهما من الإتلاف؛ إذ حقيقة الإتلاف: أن يفعل ما لو أراد أن يرده إلى حاله لم يمكنه ذلك، وهذان بهذه الصفة. وحكم الجهل بتحريم ذلك في الإحرام، حكم النسيان. قال: وإن جامع ناسيا – أي: في القبل أو الدبر – ففيه قولان: أصحهما: أنه لا تلزمه الكفارة، أي: ولا يفسد به نكسه؛ لقوله – عليه السلام -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ولأن الإحرام عبادة يجب بإفسادها الكفارة، فاختلف حكم الوطء فيه بالعمد والسهو؛ كالصوم. وهذا هو الجديد، والصحيح في "الحاوي" وغيره. وقال في القديم: يفيسد حجه، ويلزمه الكفارة؛ لأنه معنى يتعلق به قضاء الحج؛ فاستوى فيه العمد والنسيان؛ كفوات الوقوف. ومثار القولين – كما قال القاضي الحسين -: أن الوطء استمتاع [مشوب بالإتلاف]؛ فالجديد: تغليب الاستمتاع؛ كالطيب؛ والقديم: تغليب الإتلاف، وفرق بينه وبين الصوم: بأن محظورأنه تختص بالاستمتاع. وعلى القولين في الأصل ينبني – كما قال ابن الصباغ – ما إذا أكره على الوطء أي إن تصور كما هو أحد القولين في طريق المراوزة [أيضاً]. ومختار [أبي علي] بن أبي هريرة: القطع بالفساد: ذهابًا إلى أن إكراه الرجل على الوطء ممتنع. والصحيح خلافه. والصبي إذا جامع عامدًا، إن [قلنا]: عمده كعمد البالغ، [فالحكم كما تقدم] وإلا خرج على القولين.

قال: إن حلق رأسه مكرهًا أو نائمًا، وجبت الفدية على الحالق – [أي: وحده – في أحد القولين، وعلى المحلوق له في الآخر – أي: مع الحالق – ويرجع بها على الحالق]، أي: إن غرم ولم يصم. والقولان ينبنيان – كما قال الشيخ أبو حامد؛ تبعًا لأبي إسحاق المروزي – على أن شعر المحرم في يده كالعوديعة او كالعارية؟ وفيه قولان حكاهما البندنيجي وأبو الطيب: وأصحهما: الأول عند ابن الصباغ؛ تبعًا لشيخه القاضي أبي الطيب؛ لأن العارية هي [التي] يمكسها لمنفعة نفسه، وقد يريد المحرم الإزالة دون الإمساك، فإن قلنا به، ضمنه الحالق؛ كما لو أتلف وديعة عند إنسان بغير تفريط من المودع، وهو ما نص عليه في "الإملاء" والقديم؛ كما قال البندنيجي وأبو الطيب، وهو الصحيح في "الرافعي" [و"تعليق" القاضي الحسين]، والمختار في "المرشد"، وبه أجاب في "الوجيز"، وقوي بأنه لو [احترق شعره بالشرار المتطاير]، ولم يقدر على التطفئة – لا فدية عليه؛ ولو كان كالمستعير لوجبت؛ هكذا قاله العراقيون، وستعرف ما فيه. وإن قلنا: [إنه] كالعارية؛ كانت على المحلوق له، ويرجع بها على الحالق؛ كما لو أتلف العارية في يد المستعير؛ فإن للمالك تضمين المستعير، وإذا غرم رجع على المتلف. وقد ذكر المزني أن الشافعي – رضي الله عنه – خط على هذا القول، والأصحاب نقلوه عن البويطي وعن "مختصر الحج الأوسط" وقالوا: إنه فيهما غير مخطوط عليه، وهو يجري – كما قال القاضي الحسين – فيما [لو] احترق شعره بتطاير

الشرار، ولم يقدر على التطفئة؛ إذا قلنا: إن العشر في يده عارية، وهذا [ما] أشرت إليه من قبل. وقال: إن نظير القولين في المسألة الوجهان في وجوب الضمان على المكره على إتلاف المال. التفريع: إذا قلنا بالقول الأول، فلا فرق فيه بين أن يكون الحالق محرمًا أو حلالاً. قال الإمام: وهو مما لم يختلف الأئمة فيه، وأقرب مسلك فيه تشبيه شعر المحرم في حق الحلال بصيد الحرم وشجره، وهو ما ذكره البندنيجي أيضاً. ويجوز للحالق أن يكفر بالصوم والإطعام والذبح، وإذا لم يكفر مع القدرة كان للمحلوق مطالبة الحالق – وإن كان محلا – بإخراج الفدية؛ كحاه البندنيجي وغيره. وقال الإمام: إني وجدت الطرق متفقة على ذلك، وهو مشكل في المعنى، والتعويل على النقل. وما ذكره من الإشكال قد أشار إليه ابن الصباغ أيضاً، ونسب الرافعي هذا إلى قول الأكثرين، وقال: إنه مبني على أن للمودع المنعاصمة. لكن ستقف في كتاب الرهن على [أنه] ليس له ذلك، وحكاية وجه آخر فيه في آخر باب الوديعة. وإن قلنا بالقول الثاني، فأراد الحالق أن يكفر ابتداء، فليس له الصوم؛ لأنه لا يتحمل، وهو مخير بين الذبح والإطعام؛ قاله القاضي أبو الطيب، وقال: إنا لا نطالب المحلوق بالإخراج ابتداء، بل الحالق. وقال الإمام: إن في عدم صومه وقفة عندي؛ فإنه لا يمكننا أن نلزم المحرم أن يصوم، والكفارة على التخيير ويبعد أن يتعين الطعام في حق الحلال. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن الحالق لو أخرج الفدية ابتداء، لا تقع الموقع، وإن كان القرار عليه، بخلاف ضمان الأموال؛ فإن المكره لو غرمه برئ

المكره على أحد الوجهين؛ لأن الفدية [فيها] معنى القربة؛ إذ هي واجبة بسبب العبادة؛ فلا بد فيها من قصد [و] نية من جهة. من لاقاه الوجوب. نعم، لو أخرج ذلك بإذن المحلوق، أجزأه؛ وبهذا يحصل في المسألة وجهان. وقد جزم في الحاوي القول بجواز التكفير منه بالإطعام والذبح، وحكى وجهين في التكفير بالصوم، وأن أصحهما: الجواز؛ لأن الوجوب مستقر عليه، وكان مخيرًا فيه. ولو أراد المحلوق أن يكفر، كفر بالمال، ورجع بأقل الأمرين من الشاة أو ثلاثة آصع؛ لأنه أقل الواجب. وقال في "الحاوي": إن كفر بأقل الأمرين رجع به، وإن كفر بأكثر الأمرين فهل يرجع بأقل الأمرين أم لا يرجع بشيء؟ فيه وجهان، [و] وجه الثاني: أنه غارم عن غيره؛ فلم يكن [له] إسقاط الحق بشيء يقدر على الإسقاط بدونه، وإذا لم يكن له ذلك صار كالمتطوع به. وهل يجوز أن يكفر بالصوم؟ فيه وجهان: الذي قاله أبو علي بن أبي هريرة: لا، وهو الذي أورده الماوردي، ووجهه بأن التحمل لا يدخل في الصوم. والذي قاله أبو إسحاق: نعم؛ فعلى هذا إذا صام هل يرجع بشيء على الحالق؟ فيه وجهان: الذي قاله عامة الأصحاب – كما قاله ابن الصباغ وغيره -: لا، وهو الأظهر. وعلى مقابله: بماذا يرجع؟ فيه وجهان [حكاهما ابن القطان]: أحدهما: بثلاثة أمداد، قال أبو علي الطبري: وهو الأظهر؛ لأن صوم كل يوم مقابل بمد. والثاني: بأقل الأمرين من الشاة أو ثلاثة آصع.

وهل له أن يرجع حيث أثبتنا له الرجوع قبل أن يغرم؟ فيه وجهان، أظهرهما: لا. أما إذا حلق [رأس المحرم] بإذنه، كانت الفدية عليه قولاً واحدًا، ولا شيء على الحالق، سواء كان حلالاً أو محرمًا؛ لأن الحلق منسوب إليه، فإن العادة أن الإنسان لا يحلق [شعره] بنفسه، وإنما يحلقه غيره بإذنه؛ ولهذا لو حلف: لا يحلق رأسه، فأمر غيره، فحلقه – حنث. نعم، يعصي الحالق؛ لإعانته على المعصية. فإن قيل: لو أمر المحرم شخصًا بقتل صيد، فقتله – لا ضمان على الآمر؛ [فهلا كان] هذا مثله؟ قيل: لأن الشعر في يده، بخلاف الصيد. نعم، لو كان الصيد في يده، ضمنه؛ وهذا يعكر عليه ما حكاه الماومردي فيما إذا أمر [حلال] حلالاً بحلق [شعر محرم]، كانت الفدية على الآمر دون الحالق. وقال في "البحر": عندي أن هذا إذا كان المحلوق [نائمًا والحالق لا يعرف الحال. ولو حلق رأسه وهو ساكت فهو كما لو حلق وهو] نائم، أو حلق بأمره؟ فيه طريقان، المختار منهما في "تعليق" القاضي الحسين [و] في "التهذيب" و"الرافعي" و"المرشد" الثاني. وجميع ما ذكرناه يجري فيما [إذا قلم] ظفر المحرم غيره؛ صرح به البندنيجي وغيره. قال: ويجوز للمرأة لبس القميص والسراويل [والخف والخمار]؛ لما روى أبو داود والترمذي عن ابن عمر: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس أو الزعفران من الثياب، وليلبسن بعد ذلك ما

أحببن من ألوان الثباب، معصفرًا أو خزًّا أو حليًّا، أو سراويل أو قميصًا أو ذهبا. قال: وفي لبس القفازين قولان: أصحهما: أنه لا يجوز لها ذلك؛ للخبر، وبالقياس على الرجل؛ فإنه يحرم عليه لبسهما قولاً [واحدًا] [كما تقدم؛ وهذا ما] نص عليه في "الأم" و"الإملاء" والقديم، ووافق الشيخ في تصحيحه أكثر النقلة، ومنهم البغوي، وصاحب "البحر". فعلى هذا: لو لبستهما، أو أحدهما، لزمتها الفدية. ومقابله: أنه يجوز، وهو الأصح في "الوسيط"، والمنصوص في "مختصر الحج الأوسط"، ونقله في "المختصر"، وقال الإمام: لعله الأظهر؛ لقوله – عليه السلام -: "إحرام المرأة في وجهها؛ فلا تغطِّه"، رواه ابن عمر. وقد روي أن سعد بن أبي وقاص كان يلبس جواريه وبنأنه القفازين وهن محرمات. ولأنه يجوز لها ستر اليدين بغير المنعيط بلا خلاف؛ كما قال الإمام، ولم يحك

العراقيون غيره؛ فكذلك بالمخيط؛ كالرجلين. [وأما] الخبر، ففي إسناده محمد بن إسحاق، وهو متكلم فيه. وأيضاً: فقد قال كثير من العلماء: إن ذكر القفازين إنما هو قول ابن عمر، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم. لكن لمن صحح الأول أن يقول: قد جاء في "البخاري" و"مسلم" وغيرهما عن نافع عن ابن عمر في حديث طويل: "ولا تنتقب المرأة [الحرام]، ولا تلبس القفازين". و [أما] خبر ابن عمر فقد قيل: إنه موقوف عليه، وإن صح فإنه محمول على بيان ما يجب على المرأة كشفه في الإحرام؛ ولذلك نقول: لا يجب عليها أن تكشف غير وجهها. و [أثر] ابن أبي وقاص والقياس، غير معمول به مع ما ذكرناه من صحة الحديث، على أن القاضي الحسين حكى فيما إذا قلنا بتحريم [لبس] القفازين وجهين في تحريم ستر اليدين بغير المخيط. قلنا: إن منع الحكم في الأصل المقيس عليه، وقد حكى الشافعي – رضي الله عنه – أنه علق القول في ذلك على صحة الحديث، وقد صح. ثم على القول الثاني إذا لبستهما ففي "الأم": أنه لا فدية عليها، وقال في "الإملاء": عليها الفدية. قال القاضي أبو الطيب: قال أصحابنا: إنما قال ذلك على سبيل الاستحباب والاحتياط [، لا] على سبيل الوجوب. تنبيه: القفاز – بقاف مضمومة، ثم فاء مشددة، ثم ألف، ثم زاي -: شيء يعمل من البرد لليد؛ ليغطي الأصابع والكف والساعد، ويحشي بقطن، ويكون له

أزرار على الساعدين، تلبسه المرأة في يديها؛ قاله الجوهري. وقيل: إنه ضرب من الحلي تتخذه المرأة ليديها. فرع: إذا اختضبت المرأة، ولفَّت على يديها المنعضوبتين خرقة: فإن شدتها عليهما، قال القاضي الحسين والبندنيجي: ففيها قولا لبس القفازين. وإن لم تشدها، فعلى القول الذي لا يجوز لها لبس القفازين فيها وجهان؛ لأنه ستر بغير مخيط؛ كذا قال القاضي – أيضاً – وحكاه أبو الطيب عن ابن المرزبان وأبي حامد. والمذكور في "البحر": أن الشافعي قال في "الأم": وإن اختضبت المحرمة ولفَّت على يديها خرقة، رأيت علها أن تفتدي. وقال في "الإملاء": لا يبين لي أن عليها الفدية. ونقل أبو حامد ذلك إلى "الجامع"، وأثبتهما قولين، وقال الرافعي: إنهما مفرعان على القول بتحريم القفازين، أما إذا قلنا بعدم التحريم لم تجب قولاً واحدًا. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أنه لا فدية عليه قولاً واحدًا؛ لأنا لو أوجبنا الفدية عليها لأوجبناها بالخضاب بما يستر يديها، ولأن الخرق ليست معمولة على قدر العضو؛ فأشبهت كميها تغطي بهما يديها. وقال الرافعي: إنا إذا أوجبنا الفدية عند شد الخرقة، كان في وجوبها بمجرد الحناء ما سبق في الرجل إذا خضب رأسه بالحناء. قال: ولا يجوز لها ستر وجهها، أي: بمخيط ولا غيره وإن جاز للرجل؛ للخبر، فلو خالفت وجبت عليها الفدية؛ لأنها فعلت محظورًا في الإحرام كالحلق. والجزء فيما ذكرناه كالكل، اللهم إلا الجزء الذي لا يمكن ستر الرأس إلا به؛ فإنه معفو عنه للضرورة؛ نص عليه في "الأم". فإن قيل: إذا كان كشف الوجه واجبًا، فهلا قلتم: تكشف جميعه، ولا تستوفيه إلا بكشف جزء من الرأس، فلم قدمتم الكشف على الستر؟ قيل: الرأس إنما وجب ستره من المرأة؛ لأنه عورة، [وذلك موجود في جميعه؛

فوجب ستر الجميع، والوجه إنما نهي فيه عن النقاب]، وذلك القدر ليس بنقاب ولا في معناه، ولأن الغرض بذلك أن يظهر شعار الإحرام، وذلك لا يفوت بفوات جزء منه، بخلاف ستر العورة، ولأن الستر آكد؛ فقدم. فإن قيل: لم جعل إحرام الرجل في رأسه والمرأة في وجهها؟ قيل: لأن المرأة تستر الوجه في الغالب؛ فأمرت بكشفه نقضًا للعادة تعبدًا، والرجل يستر الرأس في العادة؛ فأمر بكشفه نقضًا للعادة تعبدًا. قال: فإن أرادت الستر عن الناس، أي لحر أو برد أو لا لغرضٍ – سدلت، أي: أَزْخَتْ، على وجهها ما يستره، ولا يقع على البشرة؛ لما روى أبو داود عن مجاهد عن عائشة قالت: كان الركبان يمرون بنا، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا جاوزونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه. وما قيل من أن حديث مجاهد عن عائشة مرسل؛ لأنه لم يسمع منها – ففيه نظر؛ لأن البخاري ومسلمًا في "صحيحيهما" أخرجا من حديث مجاهد عن عائشة أحاديث، ومنها ما هو ظاهر في سماعه منها، ثم لو ثبت ذلك أخذنا هذا الحكم بالقياس على ما لو ستر الرجل رأسه من الشمس وغيرها بما لا يقع عليه؛ فإنه جائز – كما تقدم – لرواية مسلم وغيره عن أم الحصين قالت: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة. وصورة الستر على الهيئة التي قالها الشيخ: أن تأخذ ثوبًا فتشده على قصاص الشعر كالكور، وتسدل عليه الثوب، وتمسكه بيدها؛ حتى لا يمس وجهها كذا قاله الماوردي. وقال القاضي الحسين: إن ذلك لا يمكن إلا بأن تضع خشبتين على أذنيها وتشدهما بخيط، وتسدل الثوب عليهما متجافية. ثم إذا فعلت ذلك وباشر الوجه: فإن أزالته في الحال فلا شيء عليها، وإن تركته

مع القدرة وجبت الفدية؛ كما لو ابتدأت الستر. ولو سترت وجهها بكفها جاز؛ كما لو ستر الرجل رأسه بيده. تنبيه: كلام الشيخ يفهم أمرين: أحدهما: أنه لا فرق فيما ذكره بين الحرة والأمة، ولا إشكال في جريانه في الحرة، وأما الأمة فالحكم في وجهها وكفيها كالحكم في وجه الحرة وبدنها، وأما رأسها وساقها فهل يتعلق بهما الإحرام كالوجه؛ لأن ذلك ليس بعورة منها؟ فيه طريقان في "تعليق" القاضي أبي الطيب: إحداهما – وبها قال القاضي أبو حامد -: لا؛ كالحرة. والثانية – قالها غيره-: فيهما وجهان؛ كما أن في كفي المرأة إذا لبست القفازين قولين. وهذا إذا لم نقل: إن عورتها كعورة الرجل، أما إذا قلنا به فقد حكى القاضي – أيضاً – فيها وجهين: أحدهما: أنها كالرجل في الإحرام سواء. والثاني: أنها بمنزلة الحرة. ومن نصفها حر ونصفها رقيق، هل حكمها في الإحرام حكم الأمة أو الحرة؟ فيه وجهان. الأمر الثاني: أن الأنوثة هي المقتضية لجواز لبس المنعيط وستر الرأس وغير ذلك – كما تقدم = وهو ما أورده الرافعي وغيره؛ حيث قالوا: إن الخنثى المشكل لو ستر رأسه، ولبس المنعيط، وكشف الوجه، أو غطى وجهه بغير مخيط وحده، وكشف رأسه – لا يلزمه الكفارة؛ للشك في الموجب. لكن في "تعليق" القاضي أبي الطيب: أنه لا خلاف على المذهب أنا نأمره بالستر ولبس المنعيط؛ كما نأمره أن يستتر في الصلاة كاستتار المرأة، وهل تلزمه الفدية؟ فيه وجهان، وجه الوجوب: الاحتياط؛ كما لزمه الاستتار في الصلاة احتياطًا للعبادة، ولا خلاف أنه لو غطى رأسه وستر وجهه لزمته الفدية.

واعلم أن الشيخ قد بيّن ما تخالف المرأة فيه الرجل بسبب الإحرام، ولم يستوعبه بالذكر؛ فإن الأصحاب قالوا – حكاية عن النص -: إنه يستحب لها أن تختضب للإحرام كما تقدم، بخلاف الرجل، والله أعلم. وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بذكر فروع تتعلق به: هل يكره للمحرم الاكتحال بما لا طيب فيه؟ فيه قولان، وإذا قلنا بالكراهة فهي في حق النساء أشد. يجوز للمحرم أن يدخل الحمام ويغسل شعره بالماء والسِّدر، وأن يفتصد ويحتجم ما لم يقطع من شعره شيئًا. يكره له أن يلبس الثياب المصبغة، ويحرم على الرجل لبس المزعفر كما تقدم. ينبغي للمحرم أن ينزِّه إحرامه عن الخصومة والسبِّ والكلام القبيح؛ لقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمُّه" أخرجه البخاري في صحيحه.

باب كفارة الإحرام

باب كفارة الإحرام إذا تطيب أو لبس - أي: ما يحرم لبسه بسبب الإحرام - أو باشر فيما دون الفرج بشهوة أو دهن رأسه، أو حلق ثلاث شعرات، أي: في دفعة واحدة من شعر مضمون عليه بالجزاء، أو قلم ثلاثة أظفار - أي بالشرط الذي ذكرناه - بعذر كان جميع ذلك أو بغير عذر: لزمه دم، وهو مخيَّر بين أن يذبح شاة - أي: تجزئ في الأضحية - وبين أن يطعم ثلاثة آصعٍ: لكل مسكين نصف صاعٍ، وبين أن يصوم ثلاثة أيام. [ثم] اعلم أن الدليل على وجوب الكفارة في هذا الأشياء قد تقدم في الباب قبله عند ذكر الشيخ لها، والمقصود الآن بيان ما هي الكفارة الواجبة في ذلك؟ وكونها على التخيير: [ووجهه في حلق شعر الرأس بالعذر الآية المفسرة بحديث كعب بن عجرة؛ لأن تقديرها: ولا تحلقوا شعر رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله - لأن الرأس لا تحلق - فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه؛ فحلق، فعليه فدية. والشعر جمع يصدق على ثلاث شعرات، فأوجبنا [بحلقها الفدية]. فإن قيل: هذا جمع قوبل بجمع؛ [فوجب] أن تتوزع الآحاد على الآحاد حتى نقتضي لكل واحد شعرة واحدة. قيل هذا صحيح [فيما يتحد]، فأما فيما يتعدد فيقتضي عددًا لكل واحد من آحاد الجمع. قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى آخرها، فحرّم على الرجل جميع أخوأنه ولا يختص التحريم بواحدة منهن؛ لما بيناه، فكذلك

فيما نحن فيه. ووجهه في حالة عدم العذر؛ أن كل كفارة ثبت فيها التخيير إذا كان سببها مباحًا [ثبت فيها التخيير] إذا كان سببها محظورًا؛ ككفارة اليمين، وقتل الصيد. ولأن الله – تعالى – أوجب الكفارة، [وأثبت الخيار في قتل الصيد متعمدًا، ونبّه بذلك على ثبوته في الحلق متعمدًا]. وأثبت الخيار في الحلق للعذر، ونبه بذلك على ثبوته في قتل الصيد فكان في كل واحدة من الاثنتين تنبيه على الأخرى. ووجهه في الباقي في الحالين القياس على ما ذكرناه؛ لأنه في معناه. وقد حكى الماوردي أن الشافعي – رضي الله عنه – نص في "الأم" على أن الآية دالة على ذلك – أيضاً – في ذم تقليم الأظفار، وترجيل الشعر، والطيب، واللباس، وتغطية رأس الرجل، ووجه [المرأة، ويكون] تقدير الآية: فمن كان منكم مريضًا فتطيب، أو لبس، أو أخذ ظفره، لأجل مرضه، أو كان به أذى من رأسه؛ فحلق – ففدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. وفي "البحر" نسبة هذا القول إلى أبي إسحاق، والصحيح نسبته إلى الشافعي؛ فإن الإمام – أيضاً – عزاه إلى نصّه في "الإملاء"، وقال في توجيهه: إن الآية ليستْ ناصة على الحلق، وإنما هي مشتملة على دفع الأذى، وقد تقع برأس المحرم شجة؛ فيحتاج في دفع أذاها إلى الستر والحلق واستعمال دواء فيه طيب. لكن المشهور أن الحكم فيما ذكرناه غير الحلق ثابت بالقياس كما ذكرناه، وقد حكاه في "الحاوي" وغيره عن نصه في "الإملاء" [و] أن ذلك ليس بداخل في لفظ الآية، وبه يحصل في الآية قولان له. ثم ما ذكره الشيخ هو المنصوص عليه في الكتب الجديدة والقديمة كما قال في

البحر]. والمذكور في طريقة العراق، ووافقهم في كفارة حلق الشعر – [التي تسمى: كفارة الأذى، وسماها الشافعي – رضي الله عنه – في "الإملاء": فدية التعبد؛ لأن الشرع تعبد فيها بقدر الطعام وأعداد المساكين] – المراوزة للآية. قال الرافعي: والقلم ملحق به بلا خلاف، وقالوا في كفارة المباشرة فيما دون الفرج بشهوة: إنها دم شاة، فإن لم يجد، تقوّم الشاة دراهم، والدراهم طعامًا بسعر مكة، فإن لم يكن، صام عن كل مد يومًا. وإن فيه قولاً آخر: أنه يكون على التخيير، كذا أورده القاضي الحسين والإمام والغزالي، وهو يقتضي أن [يكون] الراجح عندهم الترتيب، [وبه صرح في "التهذيب". وقالوا في كفارة الاستمتاع الذي ينفرد به، مثل: الطيب، واللباس، ونحوهما – قولان محكيان في "البحر" أيضاً: أحدهما: أنها على الترتيب] وهو الذي ذكره في "الأوسط"، ونقله المزني. والثاني: قاله في "الإملاء في المناسك"، و"الأوسط": "إنها" على التخيير. وقال القاضي الحسين: إنهما ينبنيان على أن الطيب واللباس هل يتضمنها قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} الآية [البقرة: 184]، أو يتضمن الحلق فقط؟ وفيه قولان – أي: للشافعي – كما تقدم. فإن قلنا: يتضمن الكل فهي على التخيير، وإلا فعلى الترتيب.

وعلى هذا إذا فقد الطعام وعدل إلى الصوم، ففيه وجهان: أحدهما: صوم التعديل. والثاني: صوم التمتع: عشرة أيام. والماوردي جزم القول بأنها كفارة تخيير، لكنها تجري مجرى كفارة الحلق أو جزاء الصيد؟ فيه وجهان تظهر فائدتهما فيما إذا لم يخرج الدم. ثم ما ذكرناه من تقييد كلام الشيخ بقولنا: "من شعر أو ظفر مضمون عليه بالفدية" احترزنا به عما إذا حلق ذلك من شعر حلال، أو صيد أو من شعر [نبت في عينه]، أو قلم ثلاثة أظفار [من] حلال، أو من أظفاره التي انكسرت -[فإنه] لا يجب عليه في ذلك شيء كما تقدم. واعلم: أن الكفارة لا تتعدد بزيادة الشعر المحلوق، والأظفار المقلمة على ثلاثة مع اتحاد الزمان وتقاربه، بل إذا حلق جميع شعر رأسه وجده، أو قلم جميع أظفار يديه ورجليه على الولاء أو في دفعة واحدة، ويتصور ذلك بتعاطى الغير، ذلك بإذنه - كان الواجب كفارة واحدة؛ نص عليه، وقاسه الأصحاب على ما لو غطى رأسه ولبس القميص والخف، في مجلس واحد - فإنه لا يلزمه غير فدية واحدة. وعن أبي القاسم الأنماطي: أنه يلزمه فيما إذا حلق شعر رأسه وبدنه فديتان؛ لأن شعر الرأس يخالف شعر البدن في الحكم؛ لأنه يتعلق النسك يحقه دون شعر البدن، [فكان كالطيب] واللباس ومما ذكره من العلة ينقطع إلحاق القلم به.

وحكى الفوراني وجها آخر فيما إذا أخذ ثلاث شعرات من ثلاثة مواضع من البدن مختلفة مع اتحاد المكان وتواصل الزمان؛ أنه يلزمه في كل شعرة ما يلزمه إذا اقتصر على حلقها كما سنذكره. وهذا الوجه لا مايع من جريان مثله في تقليم الأظفار، لكنه ووجَه الأنماطي بعيدان. تنييهان: أحدهما: كلام الشيخ يفهم أن المباشرة فيما دون الفرج بغير شهوة لا توجب [الكفارة] وظني أني رأيته كذلك في كتب العراقيين، ويؤيده تقييدهم إيجاب الفدية يوجود الشهوة، سواء أنزل أو لم ينزل. لكن الماوردي قال فيما إذا قبَّل زوجته بشهوة، وجبت الفدية، وإن قبلها وهو قاصد غير الشهوة: كما إذا قبّل زوجته عند قدومه، وقصد تحية القادم، ولا شهوة - فلا تجب. وإن لم يكن له قصد أصلاً، لكن ظاهر الحال يدل على أنه لم يكن بشهوة: كما إذا قبلها عند القدوم، وهو غافل عن القصديْنِ، فهل تجب؟ فيه وجهان: ووجه المنع: اعتبار ظاهر الحال، وهذا يدل على أن مجرد المباشرة توجب الفدية، [إلا] أن يقصد لغير شهوة.

وكلام الإمام يقتضي ما هو أبلغ من ذلك فإنه قال: وقد ضبط الأصحاب المباشرة الموجبة للفدية بما يوجب نقض الطهارة، ثم مسائل الملامسة في الطهارة تنقسم إلى خلاف ووفاق، والأمر في الحج ينطبق [على قياسها] وفاقاً [وخلافًا]. الثاني: قوله: "قلم ثلاثة أظفار": قال الجوهري يقال: قَلَم ظفره، بتخفيف السلام، وقضم أظفاره، يتشديدها. وقال ابن فارس: والأكثرون: قََلَم وقلّم بمعنى. [و] الآصع: جمع صاع، وهو صحح فصيح، وقد عدّه ابن مكي في لحن العوام، وقال: الصواب أصوع مثل: دار وأدور. وليس ما قاله بالقوي؛ لأن الأول جاء في الأحاديث، الصحيحة، وهو من باب المقلوب، وكذا يجوز "آدر" في جمع "دار" وشبه ذلك. والصاع يذكر ويؤنث. فائدة: قال القاضي الحسين: إنما أُعْطِيَ كل مسكين في هذه الكفارة مُدّان، وفي سائر الكفارات مُد؛ لأنه في سائر الكفارات جعل صوم كل يوم في مقابلة طعام مسكين فجعل لكل مسكين طعام مسكين واحد "وهنا جعل صوم كل يوم في مقابلة

طعام مسكينين]، فجعل لكل سكين طعام مسكينين، والله أعلم. قال: فإن قلم ظفرًا، أو حلق شعرة - أي - ضمنهما؛ لأن ما كان مضمون الجملة، كان مضمون البعض أصل ذلك الصيد. لكن بماذا يضمن؟ قال الشيخ: ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: يجب ثلث دم؛ إلى التقسيط؛ فإن كل جملة ضمنت بجنس، ضمنت أبعاضها بذلك الجنس، كالصيد، وهذا ما نقله الحميدي في "المناسك". وقال الإمام تبعاً للقاضي الحسين: إنه أقيس الأقوال: وقد قيل: إنه مخرج من نظيره في الحصاة، فإن القول الذي حكاه الحميدي فيها كذا قاله ابن الصباغ. وعلى هذا يجب في الشعرتين والظفرين ثُلُثَا دم. والثاني: درهم؛ نظراً لتقسيط قيمة الشاة في عصره صلى الله عليه وسلم؛ فإن تقسيط الدم يشق. وقال الإمام: إن الشافعي - رضي الله عنه – استأنس فيه بمذهب عطاء، ولست أرى له وجهاً إلا تحسين الاعتقاد في عطاء، وأنه لا يقول مثل ذلك إلا عن تثبت، وهو أجل علماء التابعين - رضي الله عنهم -. وقد قيل: إن هذا القول مخرج من نظيره فى الحصاة، ولم يحكه الماوردي إلا هكذا. وعلى هذا يجب في الشعرتين والظفرين درهمان. والثالث: مُدُّ؛ لأنه إيجاب ثلث دم يشق، وربما تعذر؛ [فتعين] العدول عنه إلى غيره، وهو عدول من حيوان؛ فوجب أن يكون إلى الإطعام كجزاء الصيد الذي نص الله - تعالى - في كتابه العزيز عليه، والشعرة الواحدة في نهاية القلة، وكذا الظفر،

والمد أقل ما يجب من الكفارات، فقوبل ذلك به؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، و"الإملاء"، والبويطي، و"المختصر"، وصححه القاضي أبو الطيب والماوردي وغيرهما، واختاره في "المرشد" تبعاً للمزني. وقال الإمام: إنه مشهور معتضد بآثار السلف، وهو مرجوع إليه في مواضع من الشريعة، فإن اليوم الواحد من صوم رمضان مقابل بمد -كما تقدم- وعلى هذا يجب في الشعرتين والظفرين مدان. وحكى المراوزة قولاً رابعاً، نسبه الإمام إلى رواية صاحب التقريب: إنه يجب دم كامل في الشعرة الواحدة، والظفر الواحد، ولا يزيد بزيادته، واختاره الأستاذ أبو طاهر؛ لأن محظورات الإحرام لا تختلف بالقلة والكثرة. أصله: الطيب واللباس. وقال الإمام: إنه وإن كان يقدح توجيهه؛ فلست أعده من المذهب. والأقوال- كما قال القاضي أبو الطيب - تجري فيما إذا قطع جزءاً من شعرة؛ لأن التقصير بمنزلة الحلق في الإحرام. وفيه وجه آخر حكاه الماوردي: أنه يجب فيها بالقسط. وكذا تجري الأقوال فيما إذا قلم بعض ظفر، مثل أن يكون قد انكسر [بعض] ظفره، وبقي معلقاً، فقطعه من فوق الكسر؛ لأن قطع الجزء الصحيح الذي قطعه من فوق الكسر بمنزلة قطع جميع الظفر. وقال القاضي أبو الطيب في هذه المسألة: يلزمه من الإطعام بقدر الجزء الصحيح الذي قطعه جميع الظفر؛ كما قلنا: يجب في قطع الأنملة ثلث العشرة، ولو قطع بعض الأنملة لزمه بحساب ذلك. ثم ذكر له بعض أصحابه أن ما قاله خلاف نصّ الشافعي - رضي الله عنه - وحمل إليه في كتاب الحج "الأوسط" للشافعي وأوقفه على المسألة مسطورة فيه، فأجابه بجواب لم يتحصل منه شيء.

وفي الرافعي: أنه إذا أخذ من بعض جوانب الظفر، ولم يأت على رأسه كله، فقد قال الأئمة: إن قلنا: يجب في الظفر الواحد درهم أو ثلث دم، فالواجب ما يقتضيه الحساب. وإن قلنا: يجب فيه مُدُّ؛ فلا سبيل إلى تبعضه. واعلم أنه حكي عن العمراني أنه قال: هذه الأقوال المذكورة في الكتاب إنما تتصور إذا اختار الدم، فأما إذا اختار الإطعام أو الصيام، فإنه يطعم عن الشعرة صاعاً، وعن الشعرتين صاعين، ويصوم عن الشعرة يوماً. وقال بعض المشايخ المتأخرين ممن اجتمعت بهم: هذا الذي قاله إن ظهر على قولنا؛ إن الواجب في الشعرة ثلث دم أو درهم، فلا يظهر على قولنا؛ إن الواجب فيها مُدٌّ؛ لأنه يرجع إلى الحاصل حينئذ من هذا القول: أنه يخير بين إخراج المد والصاع، والمد بعض الصاع، ولا يخير الشخص بين الشيء وجزئه. وجوابه أنَّا نمنع كون الشخص لا يخيّر يين الشيء وبعضه؛ ألا ترى أن المسافر يخيّر يين إتمام الصلاة وقصرها؟ ومَنْ لا جمعة عليه مخيّر يين صلاة الجمعة ركعتين، وبين صلاة الظهر أربعا وهو تخيير بين الشيء وبعضه، والله أعلم. قال: وإن لبس وتطيب- أي: متواليًا أومتفرقاً - لزمه لكل واحد كفارة؛ لأنهما جنسان مختلفان؛ فلا يتداخل موجبهما؛ كالسرقة والزنا. وقال ابن أبي هريرة: هما جنس واحد؛ لأنهما ترفه واستمتاع؛ فإن والى بينهما، لزمه فدية واحدة. وهذا لا يصح؛ لأن المقصود منهما أمران؛ فكانا جنسين وإن تقاربت منفعتهما؛ كالحلق والتقليم. نعم: لو لبس ثوباً مخيطاً متطيباً، لزمته كفارة واحدة؛ لأن الطيب هاهنا وقع تبعاً، وهذا ما أورده البندنيجي وغيره.

وحكي الرافعي ذلك وجهاً بعد أن صدر الكلام بلزوم كفارتين، والوجهان في "الإبانة". ولو احتاج إلى استعمال [ثوب] وطيب، مثل: أن أصابته شجة احتاج فيها إلى لصاق فيه طيب وستر، فالذي ذهب إليه الأكثرون تعدد الكفارة؛ للاختلاف. وذهب بعض الأصحاب إلى الاتحاد؛ نظراً للسبب، وقد نسبه القاضي الحسين والفوراتي إلى الاصطخري، وهو جار فيما إذا احتاج إلى حلق الرأس من جوانبه، ووضع خمار عليه، وتطيب، ونحو ذلك. والمشهور والذي حكاه الجمهور أن اللبس وحلق الثعر جنسان؛ فيجب فيهما فديتان، سواء توالى فعلهما أو افترقا. وفي "الإبانة" حكاية وجه مخرج فيما إذا فعل ذلك في مكان واحد؛ أن الفدية واحدة. قال: وإن لبس ثم لبس، أو تطيب ثم تطيب في مجالس قبل أن يكفر عن الأول، كفاه عنهما كفارة واحدة في أحد القولين؛ لأنهما من جنس واحد؛ فداخلا؛ كما لو سرق قبل القطع مراراً؛ وهذا هو القديم. ويلزمه لكل واحد منهما كفارة في الثاني؛ كما لو تغلل التكفير؛ وهذا ما نص عليه في "الأم" و"الإملاء"، وهو الصحيح. والقولان يجريان فيما إذا كان اللبس والتطيب بعذر أو غير عذر. قال الإمام: ورأى بعض الأصحاب ترتيب المعذور على غير المعذور، [وجعل المعذور]، أولى باتحاد الكفارة من غير المعذور وهذا لا أراه كذلك؛ فإن العذر يؤثر في جواز الإقدام لا في الكفارة.

ومحل القولين بالاتفاق إذا كان سبب اللبس والتطييب واحداً؛ كما إذا لبس لحر أو برد، فلو اختلفا: بأن لبس المنعيط؛ لأجل البرد، وغطى رأسه؛ لأجل الحر - قال الماوردي وكذا القاضي أبو الطيب: اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال – أيضاً-: فيه قولان. ومنهم من قال: قولاً واحداً: لا تتداخل الكفارة، ويكون اختلاف الأسباب بمنزلة اختلاف الأجناس، وليس بشيء؛ لأن الشافعي - رضي الله عنه - اعتبر اختلاف الأجناس دون اختلاف الأسباب. وقد أبدل في "المهذب" لفظ المجالس بـ"الأوقات المتفرقة"، والكل متقارب. واحترز يقوله: "في مجالس" عما إذا والى بين اللبيسن أو بين التطيبين؛ فإنه لا يلزمه إلا فدية واحدة، وإن وقع ذلك في لحظات، بحيث يعد في العرف والعادة متواليًا، وسواء اختلف الملبوس، بأن أدرع قميصاً ولبس عمامة ولبس خُفًّا، أو اتحد. ووجهه: أن ذلك يُعد فعلاً واحداً؛ ألا ترى أنه لو حلف: لا يأكل في اليوم إلا أكلة [واحدة] فجلس من أول النهار إلى آخره يوالي الأكل - لم يحنث، وكان ذلك فعلاً واحداً. ولك أن تقول: الموالاة تخرج بقوله: "ثم"، لأن وضعها الترتيب والتراخي؛ فلم يكن به حاجة إلى ذكر المجالس. ولو حلق ثم حلق، أو قلم ثم قلم في مجالس قبل التكفير، قال الشيخ أبو حامد: لا تداخل قولاً واحداً؛ لأن ذلك إتلاف؛ فتعدد موجبه، كما لو قتل صيدًا، ثم آخر، أو قلع شجرة من الحرم، ثم أخرى؛ فإنه يتعدد الموجب عندنا قولاً واحداً. وهذه الطريقة لم يورد الماوردي والبندنيجي غيرها مع القطع بأنه لو والى بين ذلك لم يجب إلا فدية واحدة، وهي التي صححها الرافعي، وقد حكاها القاضي أبو الطيب مع طريقة أخرى، وهي أن الحلق والتقليم بمنزلة الطيب واللباس، وعليها فروع: أحدها: لو حلق ثلاث شعرات في مجالس قبل التكفير، أو قلم ثلاثة أظفار، فإن

قلنا بالتداخل، فعليه دم، وإن قلنا بعدم التداخل، وجب في كل شعرة ما يجب فيها لو انفردت، وهو ما ادّعى البندنيجى: أنه المذهب. وقال في "المهذب": يجب في كل شعرة مُدٌّ، ولعله فرّع على القول المختار ثم، وعكس هذا وهو الفرع. الثاني: لو حلق تسع شعرات، أو قلم تسعة أظفار في ثلاثة أوقات متفرقة، فإن قلنا بالتداخل، لزمه دم واحد، وإلا فثلاثة دماء، واختاره في "المرشد". والفرع الثالث: إذا استأصل قطع شعرة في أيام كثيرة؛ فقطع في كل يوم قطعة، حكى القاضي أبو الطيب في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: وهو الصحيح; أن عليه لكل قطعة فدية. [والثاني: يلزمه بقطع الجزء الأول فدية] ولا شيء فيما بعد ذلك كما إذا أزال امتناع الصيد، ثم قتله. قلت: وفي المسألة المستشهد بها وجه: أنه يلزمه جزاءان، فللقائل الأول أن يمنع فيها. والثالث: عليه بقطع الجزء الأول فدية، وعليه فيما بعد ذلك صدقة؛ كما لو قطع أصابع رجل، فاندملت، ثم قطع كفه. أما إذا لبس ثم لبس، أو تطيب ثم تطيب بعد التكفير عن الأول - لزمه للثاني كفارة أخرى، وإن قلنا بالتداخل قبل التكفير كما إذا تخلل حد بين زنيتين. قال الإمام والفوراني: إلا إذا قصد بالتكفير الماضي والمستقبل جميعاً، فإن ذلك ينبني على أنه: هل يجوز تقديم الكفارة على محظور الإحرام ثم لا؟ وفيه وجهان: أحدهما: لا، كما لا يجوز تقديم كفارة الجماع في رمضان عليه، وعلى هذا الحكم كما سبق. والثاني: وهو ظاهر نصه في "الأم" و"الإملاء"- كما قال في "البحر" - يجوز كما يجوز تقديم كفارة اليمين على الحنث؛ لأنه وجد سبب الوجوب، وهو الإحرام،

ويفارق الجماع في رمضان؛ لأن الموجب من اللبس والحلق ونحوهما يجوز فعله في حالة العذر؛ فلذلك أبيح تقديم كفارته، والجماع لا يباح في صيام رمضان في حالة ما؛ فلا يباح تقديم كفارته. وعلى هذا هل تتداخل الكفارتان؟ قيه وجهان أثبتهما الإمام قولين، وقال: إنه إذا اتحد المكان والزمان في اللباس، ولكنه تخلل في أثناء اللباس المتواصل تكفير، فهل يجب بما يقع بعد إخراج الكفارة كفارة؟ فيه اختلاف الأصحاب من جهة أن تخلل الموجب يؤثر في التعدد؛ اعتباراً بالحدود. ثم اعلم أن الوجهين في تقديم الكفارات في الإحرام مختصين بما يجوز فعله في حالة ما كما أشرنا إليه في الفرق، ومن ذلك يظهر لك جريانهما في جواز تقديم جزاء الصيد كما صرح به الماوردي، أما ما لا يجوز فعله في الإحرام أصلاً: كالوطء، فلا يجوز تقديم كفارته قبل وجوبها وجهاً واحداً. وكذا الدم الذي يجب بترك النسك: كدم الفوات، ومجاوزة الميقات، والدفع من عرفة قبل الغروب، وترك المبيت بـ"مزدلفة"، ورمي الجمار، والمبيت بـ"منى"، والصدور من مكة بلا وداع؛ لأن النسك الذي يتعلق به وجوب الدم مأمور يفعله بعد تقديم الدم كما كان مأموراً بفعله قبل تقديم الدم، فلما لم يجز أن يكون الدم الذي لم يؤمر به بعد وجوبه بدلاً من النسك المأمور به مع إمكان فعله والله أعلم. قال: وإن جامع - أي المكلف في الفرج - أي: من قبل أو دبر - بغير حائل عامدًا عالماً بالتحريم في العمرة، أو في الحج قبل التحلل الأول – أي: قبل الوقوف – أو بعده، فسد نسكه: أما في الحج؛ فلقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، والرفث: الجماع؛ يدل عليه قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية [البقرة: 187]، والنهي كما قال ابن عباس يقتضي الفساد. وقد روي مثل ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وأبي هريرة، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين-. وأيضاً: فقد ادعى الماوردي، والقاضي الحسين فيما إذا وطئ قبل الوقوف-

الإجماع على فساده، فَقِيسَ ما بعد الوقوف عليه؛ لأنه وطئ في إحرام تام، ولأن أصول الشرع متقررة: أن العبادة إذا حرم فيها الوطء وغيره، اختص الوط بتغليظ حكم يباين به ما حرم معه. ألا ترى أن الصوم لما حرم الوطء وغيره، استوى حكم الجميع في إفاد الصوم، واختص الوطء بإيجاب الكفارة. ولما كان الوطء وغيره من محظورات الإحرام؛ سواء في إيجاب الكفارة، وأن البدنة تجب بغير الوطء وهو قتل النعامة- وجب أن يختص الوطء يإفساد الحج؛ فيكون تغليظه في الصوم إيجاب الكفارة، وفي الحج اختصاصه بوجوب القضاء. وأما في العمرة؛ فلأنها عبادة تفتقر إلى الطواف؛ فوجب أن يكون الوطء فيها موجباً للقضاء كالحج. وأيضاً؛ فالعمرة كالحج فيما يحل فيه ويحرم؛ فوجب أن تكون كالحج في الوطء. واحترز الشيخ بقوله: "في الفرج" عما إذا باشر فيما دون الفرج بشهوة، فإن ذلك يوجب ما يوجبه اللبس ونحوه كما تقدم. وكذلك الاستمناء باليد، وإتيان الرجل في دبره مفسد للنسك. وكذا إتيان البهيمة على الصحيح المجزوم به في "المهذب"، و"الحاوي"، و"تعليق البندنيجي"، و"الشامل"، و"تعليق القاضي الحسين". وحكى القاضي أبو الطيب طريقة أخرى مبنية على إيجاب الحدِّ فيه. فإن قلنا: يجب به التعذير، لم يفسده، وقد حكاه ابن كج وجهاً. وإن قلنا: يجب به الحد، أفسده. وقول الشيخ في العمرة لا يحتاج إلى تقييد بأن يقع ذلك قبل التحلل كما فعله بعض الشراح؛ لأن الجماع بعد التحلل منها لا يصدق [عليه] أنه جماع فيها، ومراد الشيخ بما ذكره إذا كانت العمرة مفردة. أما القارن، فإن فسد حجه بالجماع، فسدت عمرته أيضاً، وإن كان في فواتها بفوات الحج وجهان:

أظهرهما: الفوات، [ووجوب القضاء. وإن لم يفسد حجه بالجماع: كما إذا وجد منه بعد الرمي وقبل الطواف]، لم تفسد عمرته وإن لم يأت بشيء من أعمالها، وهذا بناء على الصحيح في أن الحج لا يفسد بالجماع بعد التحلل الأول. أما إذا قلنا بفساده، فسدت أيضاً، وبه قال الأودنى. وعلى الأول قال الأصحاب: لا يوجد معتمر جامع قبل الطواف، ولم تفسد عمرته إلا هذا. أما إذا جامع الصبي، فقد تقدم ذكر الخلاف في أنه: هل يفسد نسكه أو لا؟ بناء على أنه يسلك بعمده ملك عمد البالغ أم لا. ويظهر أن يكون جماع المجنون إذا صح إحرامه كذلك. ولو جامع من يفسد نسكه بالجماع فى الفرج، لكن مع حائل، فهل يفسد، ويجب عليه الغسل؟ فيه ثلاثة أوجه في "الحاوي": ثالثها منسوب إلى بعض المتأخرين من البصريين: إن كانت الخرقة كثيفة، لم يفسد الحج، ولم يجب الغسل؛ لأن كانت رقيقة، فسد به الحج، ووجب به الغسل، لحصول اللذة بهذه، وعدمها بتلك. ولو جامع ناسيًّا أو جاهلاً، فقد تقدم حكمه.

ولو جامع في الحج بعد التحلل الأول، فسيأتي بيانه، ويكفي في ثبوت ما ذكرناه من الحكم تغييب الحشفة أو مقدارها من مقطوعها على الأصح. فرع: هل تلتحق الردة بالجماع في إفساد النسك ثم لا؟ قد ذكرنا فيه خلافاً، والذي ذهب إليه الأكثرون - وهو الأصح - نعم، لكن إذا قلنا به، فهل يخاطب بالمضي في الفاسد إذا عاد إلى الإسلام؟ فيه وجهان: وجه المنع: أن طريق إفسادها القطع والاستئصال وإحبإط الأعمال، وهذا يقتضي ألا يقع الخطاب بعد الردة بفعل. وعلى هذا قال الرافعي: لا كفارة؛ كما في إفساد الصوم بها. وذكر بعض الأصحاب وجهاً آخر: أن الردة لا تفسد الحج، طالت مدتها أو قصرت، ولكن لا يعتد بما يأتي به في زمن الردة. قال: وعليه أن يمضي في فاسده؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، ولم يفصل بين الصحيح والفاسد، وقد روي عن عمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي موسى- رضي الله عنهم - أنهم قالوا في الحج إذا فسد [يمضي في فاسده] ويقضي من قابل، ولا مخالف لهم. ونقيس على الحج العمرة. ولأنهما عبادة لا تنفسخ بالقول؛ فوجب ألا تنفسخ بالوطء. أصله الإيمان.

وقولنا: "لا تنفسخ بالقول" احترزنا به عن الصلاة؛ فإنها تنفسخ بالقول، وهو أن يقول: "أخرجت نفسي منها". ومعنى المضي في الفساد: أنه يأتي ببقية أفعاله، كما كان يفعل ذلك لو لم يفسد، ويجتنب فيه من المحظورات ما كان يجتنبه قبل الإفساد، حتى لو فعل شيئاً منها، لزمته الفدية. ومن المراوزة من قال: لا فدية عليه؛ إذا قلنا الجماع الثاني لا يوجب شيئاً. قال الإمام: وهو بعيد. قال: ويجب عليه القضاء: أما في الحج؛ فلما روي أن رجلاً أفسد حجه، فسأل عمر بن الخطاب عنه- فقال: "تقضي من قابل"، ثم سأل ابن عباس- رضي الله عنهما- فقال: "تقضي من قابل"، ثم سأل ابن عمر- رضي الله عنهما- فقال مثل ما قالاه. ولا يعرف مخالف لهم. وأما في العمرة؛ فلأنها أحد النسكين، فإذا أفسدها وجب قضاؤه؛ كالحج.

قال: من [حيث أحرم]، أي: في الأداء إذا لم يكن إحرامه [به] دون الميقات؛ لأنه تعين عليه بالشروع فيه، وتأخير المكان نقصان في الإحرام؛ فلا يسوغ؛ وهذا بخلاف ما لو أحرم في أول أشهر الحج بالحج أو بالعمرة في شهر عن شهور السنة، لا يلزمه قضاء الإحرام في ذلك الوقت. والفرق: أن الإحرام من الأمكنة المعينة مما يلزم بالنذر؛ فلزم بالشروع، ولا كذلك الأزمنة؛ فإنه لو نذر الإحرام من أول شوال مثلاً، لم يجب عليه مراعاة الزمان في إحرامه. قال الرافعي: وهذا الفرق لا يسلم عن النزاع، وقد قال القاضي الحسين: إن فيه إشكالاً، لأن طول الإحرام عبادة، وما كان عبادة يلزم بالنذر. أصل هذه المسألة: كما لو نذر الصوم في الأيام الطوال، جاز قضاؤه في الأيام القصار، ولو نذر أن يصوم أطول يوم في السنة، ينعقد نذره؛ لأنه متعين. ولولم يحرم في القضاء من الموضع الذي أحرم منه في الأداء ولا من مثله في المسافة، بل جاوزه، لزمه دم كما في مجاوزة الميقات. ولو كان قد أحرم في الأداء دون الميقات، نظر: فإن كان قد عاد إلى وطنه، أحرم

في القضاء من الميقات، وإن لم يعد إليه فكذلك على أحد الوجهين، وهو المختار في "المرشد" وغيره، وبه جزم البغوي وغيره. ومقابله: أنه يحرم به من حيث أحرم في الأداء، وهو ما اقتضاه إطلاق الشيخ، وصححه أبو على؛ كما قال الرافعى. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي وجوب الإحرام في القضاء من نفس المكان الذي أحرم فيه، سواء سلك في القضاء ذلك الطريق أو غيره، وهو وجه حكاه الماوردي موجهاً له بأن من شرط القضاء: أن يكون مماثلاً للأداء، فإذا كان قد أحرم في الأداء من البصرة، فالإحرام من مصر وإن كان مساوياً لمسافة الإحرام من البصرة [فهو غيره؛ فلا يقوم مقامه]. لكن الذي عليه الجمهور، والمشهور: أن ذلك مخصوص بما إذا سلك طريقه الأول في القضاء. أما إذا لم يسلكها، وجب عليه أن يحرم من مثل تلك المسافة إن كان قد أحرم من الميقات أو فوقه. فرعان: أحدهما: المتمتع إذا أحرم بالحج من مكة، ثم أفسده، أحرم بالقضاء من مكة.

وكذا لو كان قد أحرم بالعمرة بعد تحلله من أدنى الحل، ثم أفسدها، أحرم في القضاء منه أيضاً. الثاني: إذا كان قد أحرم بالأداء قارناً، جاز أن يقضي قارناً، ويجب عليه مع القضاء والبدنة دم القران؛ على الأصح، وبه جزم العراقيون. وحكى المراوزة وجهاً آخر: أنه لا يجب دم القران؛ لأنه لم ينتفع به، ويجوز أن يقضى مفرداً. قال [الشيخ] في "المهذب" وشيخه لأنه أفضل من القران، ولا يسقط عنه دم القران في القضاء على الأصح؛ لأنه متبرع بالإفراد. وما حكى عن الإمام الشافعى - رضى الله عنه - أنه قال: إذا قضاه مفرداً، لم يكن له ذلك. قال أصحابنا: معناه: لم يكن له ذلك من غير دم. ثم اعلم أن الحجة المفضية تجزئه عما [كان] أحرم به وأفسده، سواء أكانت عن حجة الإسلام، أو عن نذر، أو تطوع. قال: ويكون القضاء على الفور؛ لما ذكرناه من أثر عمر، وعلي، وابن عمر، - رضي الله عنهم-. ولأنه بدل عما في ذمته لو تطوع به، وقد تعين بالشروع فيه؛ وهذا ظاهر النص في "المختصر"؛ فإنه قال: "وحج من قابل" واختاره في "المرشد". وقيل: لا يجب على الفور؛ لأن الأداء على التراخي؛ فالقضاء أولى؛ فإن وجوب الصوم والصلاة على الفور، وقفبماؤهما على التراخي؛ كذا قاله أبو الطيب. وعلى هذا يحمل قول الصحابة والشافعي- رضي الله عنهم - على الاستحباب. وعن القفال: أنه أجرى مثل هذا الخلاف في كل كفارة وجبت بعدوان؛ لأن الكفارة في وضع الشرع على التراخي كالحج، وأما الكفارة الواجبة من غير عدوان

فهي على التراخي لا محالة. وحكى الإمام الخلاف في المتعدي بترك [الصوم، وقال: إن المتعدي بترك] الصلاة يلزمه قضاؤها على الفور، بلا خلاف على المذهب؛ والسبب فيه: أن المصمم على ترك القضاء مقتول عندنا، ولا يتحقق هذا إلا مع توجه الخطاب بمبادرة القضاء. وأبعد بعض الأصحاب، فقال: إنما يقتل تارك الصلاة إذا لم يعد القضاء، ومثل هذا لا يعد من المذهب. والمصر على ترك الصوم لا يتوجه عله القتل؛ وبهذا حصل الفرق. وعن أبي إسحاق المروزي: أنه قال: قضاء الحج على التراخي إن تركه لعذر، وإن كان لغير عذر فهو على الفور. والكل متفقون على أن الأولى أن يقضيه على الفور. تنبيه: قول الشيخ: "على الفور" أشمل من قول غيره "من قابل"، لأمرين: أحدهما: أن كلامه يشمل الحج والعمرة، والعمرة لا تتأخر إلى قابل؛ لإمكان فعلها على الفور، وفور كل شيء على حسبه: ففور الحج يكون بعد كماله وتحلله من قابل، وفور العمرة بعد كمالها والتحلل لا غير. الثاني: أن قضاء الحج قد يتصور في عام الإفساد؛ بأن يحصر بعد إفساده؛ فتحلل، ثم يزول الحصر والوقت باق فإنه يجزئه الحج فيه لو فعل، وكلام الشيخ يقتضي إيجابه [عليه] في هذا العام، والحالة هذه على قول الوجوب، بخلاف قول غيره "من قابل"، لكن الغير ذكر ذلك؛ لأنه الغالب، واتبع فيه قول الصحابة. قال: ويجب عليه نفقة المرأة في القضاء – أي: الحج- إذا كانت زوجه، وفرعنا

على أن الكفارة تجب عليه دونها؛ كما قال الإمام؛ لأنها غرامة تعلق بالوطء فأشبهت المهر والكفارة، وكما لو كانت الموطوءة أمته؛ فإنه يجب عليه نفقتها في القضاء قولاً واحداً، وهذا ظاهر النص؛ فإنه قال: "يحج بامرأته"؛ ولأجله قال البندنيجي: إنه المذهب، [و] في العدة: إنه ظاهر المذهب، واختاره في "المرشد". وعلى هذا لو زمنت وعجزت عن القضاء بنفسها، قال القاضي الحسين: لزمه أن يستأجر من يحج عنها. وقيل: عليها النفقة [في القضاء] كنفقة الأداء، وكما لو كانت أجنبية وقد وطئها بشبهة أو سفاح. ولأنها مختارة فى تمكينها، والكفارة وإن وجبت عليه دونها - كما سنذكره - فهى خارجة عن القياس، مستندة إلى حديث الأعرابى؛ فلا ينبغى أن تتخذ أصلاً في كل ما لا نص فيه. وقول الشافعي - رضي الله عنه -[به:] ["يحج بامرأته"]، عني به: أن القضاء واجب عليها أيضاً، أو عني به: أنه يأذن لها في الحج، ولا يمنعها؛ كما قال القاضي الحسين. وهذا الوجه أدعى في "البحر": أنه ظاهر المذهب، ثم قال: إنه الأصح. وخرج القاضي أبو الطيب على هذا الخلاف ثمن ماء الاغتسال؛ ولأجله حكى فى "المهذب" فيه وجهان، اختار فى "المرشد" منها: أنه عليها؛ لأنه ليس من خصائص الوطء، وإنما يجب لأجل الصلاة. قلت: وهذا منه بناء على أن رفع الحدث إنما يجب بدخول وقت الصلاة. لكن لنا وجه أنه يجب بنفس الحدث وجوباً موسعاً، فللقائل الآخر أن يتمسك به ويمنعه. أما إذا قلنا: تجب الكفارة عليها، فالنفقة أولى، والعمرة لا تحتاج في تحصيلها إلى نفقة في الغالب.

وقولنا: "في الغالب" يحترز به عما إذا أحرمت بها من مسافة بعيدة، وأحصرت، وتحللت، ثم زال الحصر؛ فإنه في هذه الحالة تحتاج في قضائها إلى النفقة وتكون كالنفقة في الحج. ثم [ما] المراد بالنفقة المنعتلف فيها؟ الذي قاله الإمام: إنه يحصل لها الحج [بمؤنة] من ماله، وعني بذلك: الزاد، والراحلة؛ كما صرح به القاضي الحسين. وقال القاضي أبو الطيب والبندنيجي: إنها الزائدة على نفقة الحضر، وأن ذلك واجب عليها في الأداء قولاً واحداً. قال [القاضي]: ولو كانت نفقة السفر كنفقة الحضر، وجبت عليه في الأداء قولاً واحداً. وقال البندنيجي: إنها عليها قولاً واحداً، ولعل ما ذكره القاضي محمول على ما إذا [كان معها] في الحالين، وما ذكره البندنيجي محمول على ما إذا [سافرت] وحدها بغير إذنه، وإلا فسفرها وحدها بإذنه سفر في حاجتها بإذنه، وفيه قولان في الكتاب؛ ومن هنا يظهر لك [أن] مجيئهما في [القضاء بالترتيب]. وكلام ابن يونس يفهم أن المراد بالنفقة المنعتلف فيها في الكتاب: النفقة التي تجب بسبب الزوجية؛ فإنه جعل القول الأول جار وإن قلنا تسقط نفقتها في الأداء على قول، وأشار بذلك إلى حالة سفرها في حاجتها بإذنه. وإذا كان كذلك اختص التصوير [أيضاً] بما إذا سافرت [دونه، فإنه لو سافر معها، وقد سافرت] في حاجتها، لم يكن في وجوب نفقتها خلاف. تنبيه: كلام الشيخ يفهم أن المرأة يفسد نسكها- أيضاً إذا كانت محرمة؛ لأن القضاء لا يكون مع صحة الأداء، وإذا كان كذلك اختص تصوير المسألة بما إذا كانت

مطاوعة أو ممكنة من الوطء كما قيدها الإمام. أما لو كانت مكرهة أو نائمة فلا؛ لأن نسكها لا يفسد، ولو كانت هى المحرمة دونه، اختص الفساد بإحرامها، وكان الكلام في النفقة على ما مضى؛ كذا قاله الماوردي، ولو كانت [غير] محرمة فلا شيء عليها. قال: وإن قضى الحج وهي معه، فالمستحب أن يفترقا في الموضع الذي جامعها فيه؛ خشية [من] أن يتذكر ما فعله [فيه] فيعود إلى مثله؛ لأن معهد الوصال مشوق. وقيل: بجب ذلك؛ لأجل ما ذكرناه، و [قد] روي عن عمر وعلي وابن عباس - رضي الله عنهم - ذلك، ولا يعرف لهم مخالف، وهذا ما نص عليه في القديم، وشدد فيه - كما قال القاضي أبو حامد - واختاره في "المرشد"، والقاضي أبو الطيب. فعلى هذا لو لم يفعلا ذلك، آثماً لا غير. والمنصوص في الجديد وهو الذي صححه الماوردي والقاضي الحسين الأول؛ كما لا يجب في قضاء رمضان إذا أفسده بالوطء [وفي سائر الطريق]. وحكى الإمام عن بعضهم القطع به. والقائلون بالثاني فرقوا بين ما نحن فيه والصيام؛ بأن زمان الصوم لا يتطاول، ويمكن أن يمسك نفسه عن الجماع إلى الليل، وليس كذلك زمان الإحرام؛ فإنه متطاول، وربما لم يمسك نفسه إلى أن يحل.

ولا خلاف في استحباب التفرق من وقت الإحرام. واعلم أن ما ذكرناه عن وجوب القضاء وما بعده يختص بالمكلف الحر، أما الصبي إذا قلنا بفساد نسكه - كما هو الصحيح عند المحققين - فهل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان: أحدهما لا؛ لأنه عبادة تتعلق بالبدن؛ فلا تجب على الصبي؛ كالصوم والصلاة. والثاني: يجب؛ لأن من أفسد نسكه، كان عليه قضاؤه؛ كالبالغ، واختاره في "التهذيب"، و"المرشد" وغيرهما. وعلى هذا هل يصح منه في الصغر؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأنه نسك واجب؛ فلا يصح من الصبي، كفرض الإسلام. والثاني: نعم؛ لأن من صح أداؤه، صح قضاؤه؛ كالبالغ، واختاره في "المرشد" وغيره. قلت: ويظهر أن يتبنى هذا الخلاف على أن القضاء هل يجب على الفور أم لا؟ فإن قلنا بالأول، صح جزماً، وإلا جاء القولان. والخلاف جار كما حكاه أبو الطيب - فيما لو ارتكب محظوراً غير الجماع، وقلنا: إن الكفارة في ماله، فأراد أن يكفر بالصوم، وقد حكيناه عن قبل. وأما العبد فلا شك في أن جماعة عامداً أو ناسياً في الإفساد وعدمه كالحر، وهل يجب عليه القضاء؟ فيه خلاف: ووجه المنع خرج من أحد القولين في الصبي، قال في "الحاوي": فهو غلط، والمذهب الوجوب؛ كما يلزمه بالنذر والفرق بينه وبين الصم: أنه يلزمه النسك بالدخول فيه. وعلى هذا هل يصح منه في حال رقه؟ فيه قولان جاريان في قضاء نذره فيه، والمذهب المنصوص عليه هنا الصحة،

فإن قلنا به، فهل للسيد متعه [منه] إذا كان قد أذن في الأداء؟ قال في "المهذب": إن ذلك ينبني على أن وجوبه على الفور أو لا؟ فإن قلنا: إنه على التراخي، كان له منعه، لأن حقه على الفور، وإلا فوجهان: أحدهما: [أنه ليس له منعه؛ لأنه موجب ما أذن فيه. والثاني: له منعه؛ لأن المأذون فيه حج صحيح، واختاره في "المرشد". وقال القاضي الحسين: إنه ينظر: فإن كان بائناً عن مكة؛ بحيث يلزمه مؤنة كثيرة - لا يلزمه ذلك. وإن كان قريباً، لا يلزمه مؤنة كثيرة، فهل يلزمه أن يأذن له في القضاء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، وهو الذي نص عليه. ومن الأصحاب من قال: يجريان الوجهين فى المسافة القريبة والبعيدة. ولو عتق بعد التحلل من الفاسد وقبل القضاء، فقد تقدم أنه يبدأ بفرض الإسلام، ثم بالقضاء، وكذا لو أعتق بعد الوقوف في الحج وقبل التحلل. ولو عتق قبل الوقوف، يمضي في فاسده، ثم يقضي، ويجزئه عن القضاء وحجة الإسلام؛ لأنه لو لم يفسده لكان أداؤه يجزئه عن حجة الإسلام، فإذا أفسده وجب أن يجزئه قضاؤه كذلك؛ عملاً بما ذكرناه من قبل. وحكم الصبي إذا بلغ بعد الوقوف أو قبله حكم العبد من غير فرق. فرع: لو أحرم نازعاً عن الجماع، فهل نقول: لا ينعقد إحرامه، أو ينعقد صحيحاً أو فاسداً؟ فيه خلاف. قال: ويحب عليه الجماع - أي: المفسد للنسك حجاً كان أو عمرة - بدنة؛ لأنه روي عن عمر، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة: أنهم قالوا فيمن جامع في إحرامه: فسد، وعليه البدنة، والقضاء من قابل، ولا مخالف لهم من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - فكان إجماعاً.

وعن أبي إسحاق؛ أن بعض أصحابنا ذهب إلى أنه لا يجب في إفساد العمرة إلا شاة؛ لانخفاض رتبتها عن رتبة الحج، ولا تفريع عليه. تنبيه: البدنة: جمعها "بدْن" بإسكان الدال وضمها، سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها، وحيث أطلقت في كتب الفقه والحديث، فالمراد بها كما قال النواوي: البعير ذكراً كان أو أنثى، وشرطها أن تكون في سن الأضحية. والبدنة – لغة-: تطلق على الذكر والأنثى، صرح به صاحب العين. وقال كثير من أهل اللغة أو أكثرهم: إنها تطلق على البعير والبقرة. وقال الأزهري: تكون من الإبل والبقر والغنم. وقال الماوردي في تفسير قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ} [الحج: 36]: قال الجمهور: هي الإبل. وقال جابر وعطاء: الإبل والبقر. وقيل: الإبل والبقر والغنم، وهو شاذ.

وسيكون لنا عودة إلى ذلك في باب النذر - إن شاء الله تعالى. قال: فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فسبعة من الغنم- أي: يجزئ ذلك في الأضحية أيضاً معزاً كان أو ضأنًا؛ لأنهما يجريان في الأضحية مجرى البدنة في الإجزاء، ويطلق على كل منها بدنة لغة كما تقدم، وسيأتي؛ فألحقا إلإبل. قال: فإن لم يجد، قوّم البدنة دراهم؛ لأنه المقرر في المتقومات. وعن ابن سريج: أن المقوم الغنم دون البدنة؛ لأنه [الذي] استقر [عليه] آخرًا وهو - أيضاً- مفرع على القول بأن الكفارة مرتبة كما ذكر الشيخ. قال: والدراهم طعاماً، وتصدق به، أي: حبًّا لأن الشرع عدل في جزاء الصيد من الحيوان إلى الطعام؛ فرجع إليه هنا عند العذر، وإنما قلنا يفرق حبًّا؛ لأنه أكمل. ولا يجزئه تفرقة الدراهم، [قال الماوردي: لأن إخراج الدراهم] في الكفارات إنما يكون [قيمة، وإخراج] القيم فيها لا يجوز. وبأي موضع تعتبر القيمة؟ فيه وجهان في ابن يونس: أحدهما: موضع مباشرة السبب. والثاني- وهو الذي أورده القاضيان: أبو الطيب، والحسين، ونص عليه في "المختصر" - بـ"مكة" [وأعدل] الأسعار في غالب الأحوال. وفي "الحاوي": أنها تقوَّم بـ"مكة"، أو منى، وماذا يدفع لكل مسكين؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه غير مقدر؛ كاللحم؛ فعلى هذا: المستحب ألا يزيد كل مسكين على مدين، ولا ينقص عن مد. ولو كانت الأمداد ثلاثة لا غير، لم يجز دفعها لأقل من ثلاثة. وإن كان الطعام مُدَّيْنِ، دفعهما إلى مسكينين، ويجوز أن يدفعها إلى ثلاثة فأكثر.

ولو كان مدًّا، جاز دفعه إلى مسكين واحد وأكثر؛ حكاه في "البحر" عن "الحاوي". والثاني: أنه يتقدر بمد. تنبيه: قوله: "قَوَّم البدنة دراهم، والدراهم طعاماً": دراهم منصوب، وتقديره: قدرها دراهم، أو قومها بدراهم، فأسقط الباء، ونصب كقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]، أي: من قومه. وقوله: "والدراهم طعاماً"، أي يشتري بها طعاماً، والطعام يأتي بيانه في باب الوصية. قال: فإن لم يجد صام عن كل مد يوماً؛ كما في جزاء الصيد، فلو كان في الأمداد كسر، صام مكانه يوماً كاملاً. وهذا الذي ذكره الشيخ من الترتيب هو ظاهر قول الشافعي – رضي الله عنه- المحكي في "المختصر" وعامة كتبه؛ كما قال أبو الطيب، واستدل له بقول ابن عباس؛ فإنه هكذا قال، وبأن الصحابة نصت على البدنة بالإفساد، وذلك يقتضي تعيينها، والبقرة والغنم دونها، فلا تقوم مقامها مع القدرة. ولأنها كفارة وجبت لإفساد عبادة، فكانت على الترتيب؛ ككفارة الصوم. وغير الشيخ أثبت مع هذا القول قولاً آخر في المسألة، لكنهم اختلفوا في كيفيته. فمنهم من قال: إنه مخيّر بين الجميع. ونسب القاضي أبو الطيب هذا إلى رواية أبي إسحاق، والبندنيجي نسبه إلى أبي إسحاق نفسه؛ فيكون حينئذٍ مخرجاً. ووجهه بأنها وجبت بالاستمتاع؛ فأشبه ما يجب بالحلق والمباشرة فيما دون الفرج [بشهوة]. وفي "تعليق القاضي الحسين": أن ابن سريج هو الجاعل في المسألة القولين،

وأنه وجه الثاني بأنها فدية تجب لحرمة الإحرام؛ فوجب أن يكون وجوبها على التخيير؛ كما إذا قتل نعامة، وأنه بنى القولين على أن الوطء إتلاف، أو استمتاع؟ فإن جعلناه إتلافاً، فالحكم على التخيير؛ كفدية الحلق، والقَلْمِ؛ وقتل الصيد. وإن جعلناه استمتاعاً، فالترتيب؛ كما في فدية الطيب واللباس. وقد حكى الإمام هذا البناء –أيضاً- وهو منهما مفرع على ما اقتضاه نظم كلامهما من قبل: أن كفارة الطيب واللباس مرتبة على الصحيح كما تقدم. ومنهم من قال: إنه مخير بين البدنة والبقرة والشاة قولاً واحداً، [مثل: الضحايا] والهدايا. والقولان في قيمة البدنة: أن الأمر فيها وفي الطعام والصيام على الترتيب، أو على التخيير؟ وعلى هذه الطريقة إذا قلنا بالترتيب، وعجز عن الإبل والبقر والغنم، كان المقوم ليشتري به طعاماً: أحد الثلاثة. ومنهم من قال: إن البدنة والبقرة والغنم تقدم على الإطعام والصيام [في الترتيب، ولم يختلف مذهب الشافعي- رضي الله عنه – و [سائر] أصحابه] في ذلك. نعم: اختلفوا في البدنة والبقرة والغنم، هل هي على الريب أو على التخيير؟ على وجهين: ووجه الأول بأنه لما كانت كفارة الوطء أغلظ كفارات الحج تقديراً، وجب أن تكون أغلظها ترتيباً. ووجه الآخر - وهو الصحيح، والمنصوص في "الأوسط": أن البدنة لا تجب في الحج والعمرة إلا في قتل النعامة والإفساد، فلما وجبت في قتل النعامة على وجه التخيير، اقتضى أن تجب في إفسادهما [أيضاً] على وجه التخيير؛ وهذه طريقة

القاضي أبي الطيب والماوردي. ووراء ذلك وجهان غريبان: أحدهما: حكى [عن] ابن كج وجه: أن خصال هذه الكفارة: البدنة، والبقرة، والغنم؛ فإن عجز عنها، فالهدي في ذمته إلى أن يجد؛ تخريجاً من أحد القولين في دم الإحصار كما سنذكره. والثاني: أنا إذا قلنا بوجوب الترتيب بين الكل، فإذا عجز عن الغنم قوم البدنة دراهم، والدراهم طعاماً، ثم يصوم عن كل مد يوماً، فإن عجز عن الصيام، أطعم كما في كفارة الظهار والقتل. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي ألا يجب لجماعة سوى بدنة واحدة وإن كانت المرأة قد فسد نسكها وهي زوجته، وأنها [تجب] عليه دونها، وقد قال الأصحاب: إن الحكم في هذه الكفارة كالحكم في كفارة الجماع في رمضان. وبعضهم قال: هل تجب كفارة واحدة أو كفارتان؟ فيه قولان: القديم: كفارتان؛ وعلى هذا يجب على كل منهما كفارة؛ قاله البندنيجي، وهو

يفهم أن الوجوب يستقر عليها؛ تفريعاً على هذا القول. والماوردي قال: إنهما يجبان على الزوج. وقد حكى القاضي الحسين ما قاله البندنيجي والماوردي قولين في القديم. والجديد: كفارة واحدة؛ وعلى هذا فالزوج مخاطب بإخراجها، لكن هل وجبت عليه وحده، أو وجبت بجملتها على كل واحد منهما، وهو متحمل كالضامن؟ فيه وجهان حكاهما البندنيجى وغيره، وتظهر فائدتهما فيما لو كانت المرأة أجنبية. فإن قلنا بالأول، لم يجب عليها أيضاً، ولا يجزئ تكفيرها. وإن قلنا بالثاني، وجبت عليها كفارة أخرى؛ لأن مناط التحمل الزوجية، وهي منتفية، ويجزئ تكفيرها؛ لأن كل حق ضمن، فأداه المضمون عنه، سقط كما لو أداه الضامن. وكفارة العبد كفارة العاجز، وهو الصيام. نعم: لو عتق بعد الإفساد، وأيسر، فهل يكفر كفارة الأحرار، أو العبيد؟ فيه خلاف أن النظر في الكفارات إلى حال الوجوب أو الأداء؟ فرع: إذا كان المجامع قد باشر زوجته، ولزمته شاة فهل تسقط بما وجب من البدنة؟ فيه وجهان مبنيان كما قال الماوردي على [أن] الخلاف في المحدث إذا أجنب، هل يسقط حكم حدثه بجنابته أم لا؟ [قال:] وإن تكرر منه الجماع، ولم يكفر عن الأول، كفاه عنهما كفارة واحدة في أحد الأقوال؛ كما لو جامع في الصوم في يوم مراراً، أو زنا، وهذا هو القديم، واختاره المزنى. والجديد: أنه يلزمه كفارة [أخرى]، وهو الأصح في "النهاية" وغيرها؛ لأنه وطء عامد، صادف إحراماً، لم يحل منه؛ فوجبت به كالأول، ويخالف الصوم؛ لأنه بالإفساد خرج منه، والحدود إنما تداخلت؛ لأنها عقوبات لا يتعلق بها حق لآدمي، وليس كذلك الكفارات؛ فإن حق الآدمي متعلق بها.

وعلى هذا ماذا يلزمه؟ فيه قولان صرح بهما الشيخ حيث قال: ويلزمه بدنة في القول الثاني,] لما ذكرته, وشاة في القول الثالث [أي: بالجماع الثاني مع ما وجب الأول؛ لأنها مباشرة لا توجب القضاء, فأوجبت الشاة؛ كالقبلة بشهوة. ولان حرمة الإحرام بعد الوطء الأول أخفض من حرمة القبلة؛ لورود الفساد عليه؛ فوجب إن يكون الوطء الثاني أخفض تكفيرًا من الأول لضعفه عن تأثير الوطء الأول؛ وهذا ما اختاره في "المرشد" والرافعي. وعلي هذا قال الرافعي: يكون الحكم في الشاة حكمها في فدية القبلة, وسائر مقدمات الجماع. قلت: وهذا الخلاف مأخذه ما تقدم: إن المغلب في الجماع حكم الاستمتاع؛] كالطيب, أو المغلب عليه حكم الإتلاف؛ كقتل الصيد ونحوه, وفيه خلاف سبق: فإن قلنا: المغلب حكم الاستمتاع [. ] جاء [قولان: الأول, والأخير. وإن قلنا: المغلب حكم الإتلاف, جاء قولان: الثاني, والثالث. وإذا جمع ذلك جاء في المسالة ثلاثة أقوال, كما ذكر الشيخ, وكذا البندنيجي, والقاضي الحسين بعد إن بسطا القول فيها. أما إذا كان الوطء الثاني بعد إن كفر عن الأول, فلا اثر له ما عدا الأول, وإما على الأول ففيما يلزمه بالثاني قولان: أحدهما: بدنة. والثاني: شاة. وتعليلهما ما سبق. وقد ظهر لك: إن الكفارة تجب علي كل قول, وبذلك صرح القاضي الحسين, لكن الرافعي حكى إن منهم من طرد القول الأول هنا, وإن بعضهم خصص القول القديم والجديد في حالة التكفير وعدمه بما إذا طال الزمان بين الجماعي أو اختلف

المجلس, وقطع بالتداخل فيما إذا لم يكن كذلك. والمراد بتكرر الجماع: إن يحصل له بكل واحد قضاء الوطر مع تعدد الأزمنة, فلو واقع مرارًا في مكان واحد, وهو يقضي من كل وقاع وطره. قال الإمام: فقد سبق منا رمز إلى ذلك في الفصل المشتمل علي تداخل الكفارات, وذكر صاحب التقريب في ذلك جوابين: احدهما: إن المواقعات وإن تواصلت أزمنتها, فهي بمثابة ما لو تفرقت, وهو متجه في المعنى ظاهر. والثاني: إنه يلتحق بإعداد من اللبس مع اتحاد المكان والزمان حتى نقطع باتحاد الموجب. ولو كإن ينزع ويعود, وفعله متواصل, وقضاء الوطر آخرًا فلا خلاف في إن الكل وقاع واحد. فرع: إذا باشر زوجته فيما دون الفرج] بشهوة [فلزمته شاة, ثم جامع] في الفرج [,فهل يسقط بما وجب في البدنة؟ فيه وجهان مبنيان-كما قال الماوردي- علي ما إذا أجنب بعد الحدث, هل يسقط حكم حدثه آم لا؟ قال: فإن جامع بعد التحلل الأول, أي: وقبل التحلل الثاني, لم يفسد حجه؛ لقول ابن عباس: "من وطئ بعد التحلل- وروى بعد الرمي- فقد تم حجه, وعليه بدنه", ولم يعرف له مخالف. ولأنه لم يصادف إحراماً تامَّا. وحكى الإمام: إن من أصحابنا من قال: يفسد لمصادفة الوطء للإحرام. وحكى القاضي الحسين في تعليقه وجهًا يقابله: إنه لا يفسد حجه إذا جامع بعد مضي وقت رمي جمرة العقبة, ولم يرم؛ لان الدم استقر في ذمته, فقام مقام الرمي؛ إذ

بدل الشيء يقوم [مقام أصله]؛ وهذا مفرع على إن التحلل الأول يحصل بواحد من اثنين؛ كما ستعرفه في موضعه- إن شاء الله تعالى. والذي حكاه الجمهور [الأول, وعليه]. قال الشيخ: وعليه بدنة في احد القولين؛ لقول ابن عباس. ولأنه وطء في زمان يحرم عليه؛ فأشبه ما قبل التحلل؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن النص. فعلى هذا يكون الحكم في إخراجها وبدلها كما تقدم. قال الماوردي: وشاة في [القول] الآخر؛ لما سبق. قال القاضي أبو الطيب: ولإن الوطء الناقص في الإحرام التام لا يوجب البدنة, فكذلك الوطء التام في الإحرام الناقص؛ وهذا ما اختاره المزني, واقتضى كلام أبي الطيب ترجيحه, وبه صرح الرافعي. فعلى هذا [هل] تتعين الشاة عند القدرة عليها, أو يكون مخيرًا بينها وبين الطعام والصيام؛ كما في كفارة الحلق؟ فيه وجهان في "الحاوي". وقد رأى الإمام تخريج وجه آخر في أصل المسالة: إنه لا يتعلق بهذا الوطء شيء أصلًا إذا قلنا: لا يفسد حجه, وقال: إنه بعيد؛ لان الوطء يجب ألا يقصر عن مباشرة لا وقاع فيها, وقد أقامه الغزالي وجهًا ثالثًا في المسالة. قال: وإن افسد القضاء, لذمه بدنة؛ لما تقدم, دون القضاء, أي: لا يلزمه للقضاء قضاء آخر, بل عليه قضاء ما أفسده أولًا فرضًا كان أو تطوعًا؛ لإن المقتضى واحد؛ فلا يلزمه أكثر منه. قال: وإن قتل صيدًا له مثل من النعم: [أي: يقاربه في الصورة والشبه- وجب فيه مثله من النعم]؛ لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. ووجه الدلالة منها: إن الله أوجب المثل, وإطلاق المثل يتناول المثل في الصورة

والجنس, حتى يجب في النعامة [نعامة] , وفي الغزال غزال, فلما قيد الله- تعالى- ذلك بالنعم, انصرف المثل عن الجنس إلى المثل من النعم, وبقي المثل في الصورة والشبه على ما افتضاه ظاهر الآية, وقد ورد في السنة ما يعضد ذلك. روى إن جابرًا سئل عن الضبع أصيد هو؟ قال: نعم, قيل: أيؤكل؟ قال: نعم, قيل: فيه كبش إذا أصابه المحرم؟ قال: نعم, قيل وسمعته من رسول الله؟ قال: نعم. والنعم [من] الإبل والبقر والغنم, ولا فرق في ذلك بين إن يكون قيمة المثل كقيمة الصيد, أو فوقها, أو دونها؛ لظاهر الآية. قال: فيجب في النعامة بدنة؛ لقوله تعالي: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] , وقد روى إن عمر, وعثمان, وعلَّيا, وابن عباس, وابن عمر, وزيد بن ثابت, وعبد الرحمن بن عوف, والزبير [وابن الزبير] , ومعاوية حكموا بذلك في قضايا مختلفة في بلدان شتى وأوقات متباينة, ولم ينكر ذلك احد مع إن النعامة تنقص قيمتها عن قيمة البدنة. ثم الآية دالة مع ما سنذكره من حكم الصحابة علي بقية الأمثال. قال: وفي حمار الوحش وبقرة الوحش بقرة. إما إيجابها في حمار الوحش؛ فلحكم عطاء بها فيه؛ كما قال الماوردي, ولم يخالفه احد. وفي "المهذب": إن الحاكم فيه بذلك عمر. والذي اشعر به إيراد القاضي أبي الطيب وابن الصباغ وغيرهما: إن القاضي فيه بذلك عمر, وعثمان, وعلي, وابن عباس, وغيرهم. وإما إيجابها في بقرة الوحش, وهي المسماة بـ"الثيثل" بثاءين معجمتين بثلاث, بينهما ياء آخر الحروف- فبالقياس علي حمار الوحش؛ كذا قاله الجمهور. وفي "الحاوي": إن ابن عباس, وعطاء التابعي قضيا فيها بذلك؛ ولأجل ذلك قال الرافعي: إن الصحابة قضوا في حمار الوحش وبقرة الوحش ببقرة.

وكذا يجب في الأُيَّل؛ لحكم ابن عباس فيه بذلك. وفي الأراوي؛ لحكم عطاء [فيها] [بذلك]. وقال الشافعي- رضي الله عنه-: الأروية: وهي الأنثى من الوعول- دون البقرة المسنة, وفوق الكبش؛ فيجب فيه الغضب, وهو الفحل الذي طلع قرنه. قال: وفي الضبع كبش؛ لخبر جابر السابق, وقضاء عمر, وعلي, وكذا عثمان, وابن عباس, وغيرهم بذلك. والضبع: بفتح الضاد, وضم الباء, ويجوز إسكان الباء الأنثى, ولا يقال: ضبعة. والذكر: ضبعان: بكسر الضاد, و [سكون] الباء. والكبش: الذكر من الظان, وجمعه: أكبش وكباش, والأنثى نعجة. قال: وفي الغزال عنز؛ لان عمر- رضي الله عنه- حكم فيه بذلك, ولم يخالفه [غيره فيه]. وقد قال الأصحاب: إن ما حكم فيه واحد من الصحابة بحكم ولم يخالفه [غيره] فيه, كان كما لو حكم به الجميع كما ستعرفه. وكلام ابن الصباغ والقاضي أبي الطيب [يفهم] إن القاضي فيه بذلك هم

القاضون في البدنة والبقرة. والغزال: قال أهل اللغة: هو ولد الظبية إلى حين يقوى ويطلع قرناه, ثم الأنثى: ظبية, والذكر ظبي. والعنز: الأنثى من المعز؛ كما افهمه كلام النواوي الذي سنذكره. وهذا الذي ذكره الشيخ في الغزال هو الذي حكاه القاضي الحسين عن قضاء الصحابة وهو ما أورده العراقيون والماوردي, وقالوا: يجب في الظبي تيس وهو الذكر من المعز؛ لقضاء علي, وابن عباس [فيه] بذلك, ووافقهم أبو القاسم الكرخي فيما قالوه في الغزال, وقال: إن الواجب في الظبي كبش, لكنه يعتقد إن الظبي ذكر الغزلان, وإن الغزال الأنثى. وما ذكره من الحكم في الظبي والغزال قد نسبه الإمام إلي العراقيين, ثم [قال: وهو وهم] , والذي صح القضاء فيه: إن في الظبي العنز, وهو شديد الشبه به؛ فإنه اجرد الشعر متقلص الذنب, والغزال ولد الظبي؛ فيجب فيه ما يجب في الصغار من كل جنس. وهو موافق فيما قاله في الغزال القاضي الحسين؛ فإنه حكى ذلك في موضع من تعليقه بعد حكايته ما ذكرناه عنه أولًا. قال: وفي الأرنب عناق؛ لحكم عمر وعطاء- رضي الله عنهما- فيه بذلك. وكلام أبي الطيب وابن الصباغ يشعر بان القاضي فيه بذلك القاضون في النعامة بالبدنة. والعناق: الأنثى من ولد المعز إذا قويت قبل استكمالها الحول؛ قال الأزهري, وجمعها: أَعْنُق وعُنُوق, والذكر من ولد المعز يسمى جديًا, وقبل العناق ولد المعز إذا

اشتد عن أمه, وفصل. قال: وفي اليربوع جفرة؛ لحكم عمر [وابن عمر] وابن عباس- رضي الله عنهم- فيه بذلك. واليربوع: بفتح أوله, وسكون ثانيه, وبضم ثالثه, وجمعه: يرابيع. والجفرة- بفتح الجيم-: الأنثى من ولد المعز إذا امتلأ جوفها من الماء والشجر. وقال الأزهريك وهي الأنثى من ولد المعز إذا بلغت أربعة أشهر, وفصلت عن أمها, والجفر: الذكر, سمي بذلك؛ لإنه جفر جنباه, أي: عظماً. قال الرافعي: وما ذكر هو معنى الجفرة في اللغة, وهي بهذا التفسير خير من العناق بالتفسير الذي ذكرناه, لكنه يجب إن يكون المراد من الجفرة هاهنا دون العناق؛ فإن الأرنب, خير من اليربوع. قال: وفي الصغير صغير أي: وإن لم يجزئ في الأضحية- وفي الكبير كبير, وفي الذكر ذكر, وفي الأنثى أنثى, وفي الصحيح صحيح, وفي المكسور مكسور؛ رعاية للمثلية التي افتضاها ظاهر الآية. [ولأن الصيد] قد يختلف في الصغر والكبر من وجهين: احدهما: باختلاف أجناسه. والثاني: باختلاف أسنانه. فلما كان الصغر والكبر باختلاف أجناسه معتبرًا حتى أوجبوا في الضبع كبشًا, وفي الغزال عنزًا, وفي اليربوع جفرة, اعتبارًا بالمثل في الخلقة, وإن [كان] كل ذلك صيدًا- أوجب إن يكون الصغر والكبر باختلاف أسنانه معتبرًا؛ فلا يجب في الصغير ما يجب في الكبير؛ اعتبارًا بالمثل في الخلقة, وإن كان جميع ذلك صيدًا. وتحريره قياسًا ضمان يجب باليد والجناية؛ لحرمة غيره, يختلف باختلاف الأجناس؛ فوجب إن يختلف باختلاف الأسنان؛ كسائر الأموال.

وقولنا: يجب باليد والجناية لحرمة غيره يحترز به عن الديات والكفارات؛ حيث سوى فيها بين الصغير والكبير؛ لأنها لا تجب إلا بالجناية؛ لحرمة الروح. فإن قيل: الآية تقتضي إن يكون المنعرج مما يجزئ في الأضاحي؛ لان الله تعالى يقول: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] , والهدي عندكم مختص بما يجزئ في الأضاحي, وقضية ذلك منع إخراج الصغير والكبير. قيل: للشافعي قولان في الهدي: احدهما: إنه يجوز ما ينطلق عليه الاسم ولو بيضة, وعلي هذا سقط السؤال. والثاني: وهو الجديد: إن الأمر كما ذكرتم, لكن محله إذا أطلق الهدي, والهدي المذكور في الآية مقيد؛ فحمل علي تقييده دون ما يقتضيه إطلاق اللفظ؛ وهذا هو الصحيح. وفي "الحاوي": إن بعض أصحابنا قال: لا يجوز إن يفدي المعيب بمعيب مثله, وعليه إن يفديه بصحيح. قال: وهو خطأ؛ لأن الصحيح ليس للمعيب, نعم: لو اخرج الصحيح عن المعيب, والكبير عن الصغير كإن أفضل. قال: وإن فدى الذكر بالأنثى, فهو أفضل علي المنصوص؛ لأنها أكثر قيمة منه, وأطيب لحمًا؛ وهذا ما اختاره ابن أبي هريرة. ولفظ الشافعي فيه: "ولو فدى الذكر بالأنثى, كان أحب إليّ". وقيل: إن أراد تفرقة اللحم, أي: لاختياره الذبح من الخصال الثلاث دون الإطعام, أو عدل الطعام كما سيأتي, وإلا فمتى اختار الذبح وفعله, وجب تفرقة اللحم بلا خلاف كما سيأتي. قال: لم تجزئ الأنثى عن الذكر؛ لان الذكر أكثر لحمًا من الأنثى؛ فلا يجزئ للنقص. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أمورًا:

أحدها: بمنطوقه: وهو عدم إجزاء الأنثى عن الذكر علي طريقه عند إرادة تفرقة اللحم بالتفسير الذي ذكرناه, وهو كما قال ابن التلمساني- قول الشيخ أبي حامد, وقد حكاه البندنيجي عن بعض الأصحاب. لكن في "الحاوي": إنه لم يختلف الأصحاب في أجزاء الأنثى عن الذكر, ولم يحك في " المهذب " غيره. نعم: اختلفوا فيما لو كان الصيد المقتول أنثى, فأراد فدائه بمثله من النعم ذكرًا هل يجزئه؟ على وجهين حكاهما ابن الصباغ [أيضًا] عن الشيخ أبي حامد. وقال البندنيجي: إن المذهب الأجزاء أيضًا. وقال الفوراني في " الإبانة": إن النص مختلف فيما إذا قابل الذكر بالأنثي في الأجزاء. وأومأ المزني إلي القولين: فمن الأصحاب من قال قولين: احدهما: يجوز؛ كما في الزكاة. والثاني: لا؛ لأنه ليس بمثل. ومنهم من قال: [حالان. ثم هؤلاء اختلفوا في ذلك: فمنهم من قال: إن أراد الذبح لم يجزه, وإن أراد التقويم جاز. ومنهم من قال: إن كانت الأنثى لم تلد جاز, وإلا فلا. ومنهم من قال:] إن كان الذكر صغيرًا جازت الأنثى الصغيرة, وإن كان كبيرًا لم تجز الأنثى الكبيرة. ووافق الإمام الفوراني على [إن] النص مختلف, ثم قال: والذي نراه, ونقطع به أن الأنثى إن كانت قيمتها دون قيمة الذكر من النعم لا تجزئ, وإن آل الأمر إلى الذبح, وكانت الأنثى خسيسة اللحم؛ لأنها ولدت, فلا تجزئ؛ لاجتماع النقص في الخلقة, والنقصان في القيمة, والرداءة في اللحم.

وإن كانت الأنثى طيبة اللحم لو ذبحت, تامة القيمة لو قومت للتعديل, فهل تجزئ عن الذكر؟ فيه طريقان: من أصحابنا من قال: [فيه] قولان. أصحهما الأجزاء. ومنهم من قال: اختلاف النص محمول على ما اشرنا إليه: فحيث منع أراد إذا كانت الأنثى ناقصة أو معيبة اللحم, و [حيث] جوز, أراد إذا كانت أفضل منه. وقال: إن الحكم فيما إذا اخرج الذكر عن الأنثى كما إذا اخرج الأنثى عن الذكر, وإن الشيخ أبا بكر وغيره قالوا: مقابلة الأنثى بالأنثى واجب, والتردد في مقابلة الذكر بالأنثى؛ وهذا ذهاب عن التحصيل. وقد اختصر في "الوسيط" هذا التطويل [الذي ذكره الإمام] , وحكى في المسألتين ثلاثة أوجه: ثالثهما: تجزئ الأنثى عن الذكر دون العكس. وقال: إن هذا الاختلاف إنما يحتمل إذا لم يظهر اثر في اللحم ونقصان في القيمة. وجمع في الذخائر بين ما قاله الإمام وغيره واختصره فحكى في المسألتين سبعة أوجه: احدهما: لا يجوز إخراج أحدهما عن الأخر. والثاني: يجوز. والثالث: إن أراد الذبح, لم تجزئ الأنثى عن الذكر, ويجزئ الذكر عن الأنثى, وإن أراد التقويم أجزأت الأنثى عن الذكر, ولا يجزئ الذكر عن الأنثى. والرابع: أجزاء الأنثى عن الذكر بكل حال, [وعدم أجزاء الذكر عن الأنثى بكل حال] , واختاره في "المرشد".

والخامس: يعتبر القيمة وطيب اللحم: فإن كان أحدهما أكثر قيمة, وأطيب لحمًا, لم يجزىْ [عنه] الأدون, ولا الخبيث [في] اللحم [عنه] , ويجزئ [ويجزئ الأكثر قيمة والأطيب عن الأدون والخبيث] عكسه. والسادس: يجزئ الذكر عن الأنثى [وأما الأنثى عن الذكر؛ فإن كانا صغيرين جاز, وإلا فلا]. والسابع: يجزئ الذكر عن الأنثى, وأما الأنثى عن الذكر: فإن كانا صغيرين جاز, وإن كانا كبيرين, لم يجز. الأمر الثاني الذي افتضاه كلام الشيخ, وهو بمفهومه: أجزاء الأنثى عن الذكر [بلا خلاف] عند إرادة التقويم؛ ليخرج بدله [الطعام, أو يعدله بالصيام, وهو مصرح به في "الحاوي" وغيره من كتب العراقيين؛ لأن الواجب يزيد, وفيه الخلاف السابق. وقد رأيت في ابن يونس حكاية طريقة قاطعة بالأجزاء عند إرادة اللحم وحاكية للقوانين عند إرادة التقويم؛ لأجل] الإطعام أو الصيام, وهي عكس ما في الباب, ولم أرها في غيره, فلعله أراد حكايتها فيما إذا أراد إخراج الذكر عن الأنثى؛ فإن هذه الطريقة بها أشبه؛ فحكاها في مسالة الكتاب.

الأمر الثالث: إن الأنثى أفضل من الذكر عند إرادة التقويم أو التعديل علي رأي, وهذا يفهم من إطلاق قوله: "وإن فدى الذكر بالأنثى فهو أفضل على المنصوص". وقد قال في "الحاوي": إن الأصحاب لم يختلفوا في إن الأنثى أفضل في هذه الحالة, نعم: اختلفوا عند إرادة ذبح الأنثى, هل الأنثى أفضل أو لا علي قولين: احدهما: وبه قال ابن أبي هريرة: إنها أفضل [أيضًا]؛ لما ذكرناه. والثاني: ليست بأفضل من الذكر وإن أجزأت, وبه قال أبو إسحاق. وفي "الشامل" و"تعليق [القاضي] أبي الطيب" بدل الوجه الأخير: [إن القاضي أبا حامد قال في الجامع: قول الشافعي- رضي الله عنه-: "ولو فدى الذكر بالأنثى كان أحب إليّ" محمول علي] إذا أراد الذبح, فالذكر أولى, وهذا غير الوجه الذي اختاره أبو إسحاق. قال: وإن فدى الأعور من اليمين بالأعور من اليسار, جاز, لاستوائها في المقصود من اللحم والقيمة؛ [فأشبه اختلاف اللون, ثم لو فُرِضَ بينهما تفاوت, فهذا يسير؛ وهذا] ما أورده الجمهور. وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر: إنه لا يجزئ, ويكون متطوعًا به؛ لأن اختلاف العيب يجري مجرى اختلاف الجنس. ولو اختلف الجنس, فاخرج الأعور عن الأعرج, لم يجز, فكذا هاهنا. قال: ثم هو بالخيار: إن شاء اخرج المثل, وإن [شاء] اشترى بقيمته- أي

[بقيمة] المثل- طعامًا [وتصدق به, وإن شاء] صام عن كل مد يومًا, [أي: شاء قوم القيمة طعامًا, وصام عن كل مد يومًا]. والأصل في ذلك قوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة: 95]. ووجه الدلالة من ذلك علي التخيير: [إن وضع "أو" في اللغة إنما تدخل في الأوامر للتخيير] وهذا أمر. ولأنها كفارة واجبة بإتلاف ما حرمه الإحرام؛ فوجب إن تكون علي التخيير؛ كفدية الحلق. وقد حكى أبو ثور: إن للشافعي- رضي الله عنه- قولًا في القديم كمذهب ابن عباس والحسن البصري: إن جزء الصيد علي الترتيب, فلا يجوز الإطعام إلا بعد عدم الهدي, ولا الصيام إلا بعد العجز عن الإطعام؛ نقله أبو علي في الإفصاح عنه. وقال في "الحاوي", وغيره: ليس هذا بمشهور عن الشافعي, بل نصه في القديم والجديد والإملاء علي الأول؛ لما ذكرناه في الآية. ووجه الدلالة منها علي إن المعتبر قيمة المثل عند إرادة إخراج الطعام أو عدله صيامًا لا قيمة الصيد وإن كان هو الأصل- من وجهين: احدهما: قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95] برفع الجزاء [وجر المثل] علي قراءة كثير من القراء فأوجب عليه بظاهر هذه القراءة جزاء مثل المقتول, ولم يوجب جزاء المقتول. والثاني: قوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] يعني: كفارة ما تقدم ذكره, وقد تقدم ذكر الصيد والمثل, ولا يجوز إن يرجع إليهما جميعًا, وإنما ترجع

[الكفارة] إلى أحدهما, والمثل اقرب مذكور؛ فتعين. ولان الواجب عليه إخراج المثل؛ فتعينت قيمته. ثم بأي حال تعتبر قيمة المثل والطعام وبأي مكان؟ فنقول: أما المكان فهو مكة إذا كان المقتول مما له مثل علي اصح الطريقين في الرافعي, ولم يحك الماوردي وابن الصباغ والقاضي الحسين غيره, وإن الاعتبار بأعدل الأسعار, وادعى في "البحر": إنه لا خلاف في ذلك. والطريق الثاني: حكاية قولين في المسألة: أحدهما: ما ذكرناه وهو المنصوص. والثاني: موضع الإتلاف. وأما الزمان فهل هو حالة الإفراج أو حالة الإتلاف؟ اختلف النص فيه, والصحيح [في تعليق القاضي] الحسين [وغيره] الأول, ولم يحك في " البحر " تبعًا للحاوي غيره. فرع: إذا عدل القيمة بالطعام, وأراد الصيام: أما في جزاء ما له مثل, أو فيما لا مثل له, ففضل بعض مد, أو لم تكن القيمة [ألَّا] بعض مد- صام يومًا؛ لأن الصوم لا يتبعض. واعلم إن جزاء الصيد وما في معناه من كفارات التعديل قد سماها الشافعي- رضي الله عنه- فدية بدل, فإذا رأيت ذلك في لفظ, فاعلم إن مراده ما ذكرناه. قال: وإن اتلف ظبيًا ماخضًا- أي: حاملاً- ضمنه بقيمة شاة ماخض, أي: ويكون مخيرًا فيها: إن شاء اشتري بها طعامًا, وتصدق به, وإن شاء صام عن كل مد يومًا, ولا يجوز إن يذبح شاة ماخضًا؛ لأن الحمل في الصيد زيادة, وكذلك هو في

الشاة إلا إنه ينقص لحمها, ويضر بها, فقيمتها تزيد به, ولحمها ينقص, فأوجبنا القيمة؛ لتحصل الزيادة من غير نقص؛ وهذا ما قال القاضي أبو الطيب: إنه نص عليه في "المناسك [الكبير,] " ولم يحك غيره, وكذا البندنيجي لم يحك غيره. وقال الفوراني: إنه الذي نص عليه في ["المختصر الأوسط"] , وإن الذي نص عليه في "المناسك الكبير": إن عليه مثله حائلًا. قلت: وقد أوَّل ذلك بعض المراوزة, واثبت لأجله وجهًا في المسألة: إنه مخير بين إن يخرج شاة حائلًا بقيمة شاة ماخض, ويتخير فيها بالخصال الثلاث. وقال الإمام: إنه متخرج مما إذا فدى الذكر بالأنثى, وهو بعيد؛ فإن الحمل إذا تحقق زيادة في الخلقة معتبرة. وقد قال الفوراني بعد حكاية النصين- كما ذكرنا-: قال الأصحاب: وليست المسألة علي قولين, ولكن إن أراد الذبح ذبح الحائل, وإن أراد التقويم فعليه تقويم الماخض؛ لأنها أكثر قيمة؛ وبهذا يحصل في المسالة عندهم ثلاثة أوجه: والثاني: [ما] حكيناه عن بعض المراوزة. والثالث: ما أُوِّلَ النصان عليه. وقد قال المزني في "المختصر": إذا قتل المحرم صيدًا ماخضًا, فعليه مثله من النعم ماخضًا, وقال به [بعض] الأصحاب؛ كما حكاه ابن يونس. لكن الماوردي حكى عن الشافعي- رضي الله عنه- إنه قال: "إني لو قلت: اذبح شاة ماخضًا كانت شرًّا من شراء شاةٍ [حائل] للمساكين, فتكون أزيد ثمنًا, ويتصدق بقيمتها طعامًا؛ فتكون أزيد إمدادًا, وإن أراد الصيام كان أزيد أيامًا". وهذا القول بين ما أورده [مما حكاه] المزني عنه في "المختصر"؛ فلذلك لم

يقل [بظاهره] معظم الأصحاب, وإذ قلنا به, وأجريناه علي ظاهره, اجتمع في المسألة أربعة أوجه. وقد اخذ على الشيخ في قوله: "ظبيًا ماخضًا"؛ فإن الصواب "ظبية "؛ لأن الظبي مذكر, والأنثى: ظبية؛ كما ذكرناه من قبل, ولا خلاف في ذلك. وكذا اخذ عليه في قوله: "ضمنه بقيمة شاة"؛ لأن الواجب عليه عنز [كما ذكر النووي] والشاة [كما ذكرنا] تطلق علي الذكر والأنثى. وجواب هذا: إن الشيخ اتبع فيه الشافعي- رضي الله عنه- والمراد: العنز, نعم: لو قال: "بقيمة عنز" كان أوضح. فرع: إذا ضرب المحرم بطن بقرة وحشية رقوبًا- وهي التي قربت ولادتها, وصارت مرتقبة- فألقت ما في بطنها, فإن عاش مع الأم, فقد أساء, ولا شيء عليه, وإن ماتا جميعًا, فإن خرج الولد حيًا, ثم مات مع الأم, فعليه إن يفدي الأم ببقرة كبيرة, والولد بعجل صغير. وإن خرج ميتًا, فدى الأم ببقرة, والولد بما نقص من قيمة أمه بوضعه, [وهل المعتبر] القيمة حتى يخير فيها بان يشتري بها طعامًا أو يصوم عن كل مد يومًا, [أو المعتبر قدر] وما نقص من المثل؟ فيه الخلاف الذي سنذكره؛ صرح به البندنيجي.

وإن ماتت الأم دون الولد, ضمنها ببقرة. وإن مات الولد دون الأم, فلا شيء في الأم, لكن ينظر في الولد: فإن خرج حيًا, ثم مات, ضمنه بعجل صغير؛ وإن خرج ميتًا, بما نقص من قيمة الأم, وهو إن تقوم حاملًا به, ثم حائلًا بعد الوضع, ثم ينظر إلى ما بين القيمتين: فإن كان العشر فهو الواجب, ويكون الكلام فيه كما إذا جرح صيدًا, فنقص عشر قيمته؛ قال في "الحاوي". وحكى الفورإني: إن أبا ثور قال: يجب فيه عشر قيمة الأم؛ كولد الآدمي. وقال: وإن قتل صيدًا لا مثل له من النعم: كالعصافير, والجراد, والطيور التي يحرم صيدها- وجبت فيه القيمة؛ [لما روى إنه عليه السلام قال: "في بيض النعامة يصيبها المحرم قيمتها"] وقد قضت الصحابة في "الجراد" بالقيمة, وهو مما لا مثل له؛ [لإنه تعذر] إيجاب المثل فيه؛ فضمن بالقيمة كمال الآدمي.

فإن قيل: الله- تعالى- قد أوجب المثل بقوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة:95] , [فلم أوجبتم] القيمة؟ قيل: في جوابه وجهان. احدهما: إن جميع الصيد لا مثل له إلا إن المثل علي ضربين: احدهما: مثل من جهة الصورة. والثاني: مثل من جهة القيمة, وجميعهما مثلان للمتلف؛ كالحكم على من اتلف طعامًا بمثله وعبدًا بقيمته, وكلاهما مثل على حسب الإمكان, وهذا ما أومأ إليه الشافعي في القديم. والثاني: إن هذه الآية إنما دخل فيها الصيد الذي له مثل من النعم, وإما ما لا مثل له لم يدخل [في الجزاء المذكور] فيها, ولكن دخل في قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] وهذا نصه في الأم وغيره. قال: ثم هو بالخيار بين إن يخرج الطعام وبين إن يصوم- أي: هو بالخيار بين إن يخرج بقيمته طعامًا, ويتصدق به, وبين إن يصوم عن كل مد يومًا؛ لما تقدم. ويجيء القول الذي حكاه أبو ثور في الترتيب؛ صرح به الرافعي. ولا يجوز له إن يتصدق بقيمته دراهم؛ لما تقدم. ثم ما المعتبر في قيمة الصيد: هل [يعتبر] بـ"مكة" أو بموضع الإتلاف؟ فيه خلاف مشهور في الطريقين. وهل تعتبر القيمة حال [الإتلاف] أو حال الإخراج؟ اختلف فيه النص, والصحيح- كما قال القاضي الحسين وغيره-: [الأول] , وهو الذي أورده الماوردي. والفرق بينه وبين ما ذكرناه فيما له مثل- كما قال القاضي الحسين-: إن ما لا مثل له الواجب فيه القيمة, وحال وجوب القيمة هو حالة القتل, وما له مثل الواجب

فيه مثله, فبالقتل استقر المثل في ذمته؛ فإذا أراد الانتقال إلى القيمة, اعتبرت القيمة بتلك الحال؛ لإن هذه [الحالة] في التقدير هي حالة وجوب الفدية. وما المعتبر في قيمة الطعام في مسألة الكتاب؟ قال الإمام: إذا قلنا بما رآه العراقيون اصح [وهو اعتبار قيمة] الصيد بموضع [الائتلافي-[وكلامهم متردد-[فيحتمل] [إن يعتبر سعر الطعام في ذلك المكان أيضًا, ويحتمل إن يقال: إذا ضبطت القيمة بمكان الإتلاف] فالمعتبر في صرفها إلى الطعام سعر مكة, وهو الظاهر من كلامهم. قال: إلا في الحمام, وكل ما عبَّ وهدر؛ فإنه يجب فيه شاة؛ لقضاء الصحابة بذلك, وهم- كما قال في "المهذب" تبعًا "للحاوي"- عمر, وعثمان, ونافع بن عبد الحارث, وابن عباس, ولم يخالفهم احد, وما مستندهم فيه؟ فيه وجهان: أصحهما- وبه قال الشيخ أبو حامد, ويحكى عن النص: إنه توقيف بلغهم فيه. والثاني: شبهه بالشاة فيما عبَّ؛ وهذا عند من يرى إن الحمام هو ما عبَّ وهدر؛ كما سنذكره. [ومن رأي] إنه غيره- ومنهم الغزالي- قال: إما فيما عبَّ وهدر؛ فللشبه السابق, وأما في الحمام, فلشبه بالشاة في الخلق الجامع, وهو الاستئناس. وقد اشعر كلام الماوردي حكاية الوجهين علي غير هذا النحو, فإنه قال: "الشاة الواجبة في الحمام هل وجبت توقيفًا أو من جهة المماثلة والشبه؟ اختلف أصحابنا فيه علي وجهين:

أحدهما: وهو منصوص الشافعي- رضي الله عنه-: إنها وجبت إتباعًا للأثر, وتوقيفًا عن الصحابة لا قياسًا. والثاني: إنها وجبت من حيث الشبه والمماثلة؛ لأن فيهما إنسًا وإلفًا, وإنهما يعبان في الماء عبَّا". وقد وجه ابن الحداد إيجاب الشاة في الحمام بانه مضمون بالجزاء؛ فضمن بشاة؛ كحمام الحرم, وأراد بذلك الاستدلال علي المنعالف, وهو مالك- رحمه الله- فإنه يرى إن الواجب في حمامات الحرم شاة, ولا يجب علي المحرم إلا حكومة؛ لقول ابن عباس: في كل شيء ثمنه إلا حمام مكة. [وجوابه: إنه قد ورد عن ابن عباس إنه أوجب في حمام غير مكة] شاة. على إن القياس مقدم علي قوله وحده مع مخالفة غيره. قال: ثم هو بالخيار بين الشاة والطعام والصيام؛ لما تقدم. وحكي القاضي الحسين [إن] من أصحابنا من قال: لو اشترى بالقيمة ما تجوز الأضحية [به] , جاز. تنبيهان: أحدهما: كلام الشيخ مصرح بانه لا فرق في إيجاب القيمة فيما عدا الحمام ونحوه بين ما صغر شكله عن الحمام: كالعصافير- كما ذكرنا- أو كبر شكله عنها: كالكراكي, والقطا, واليعقوب, وهو ذكر الحجل, وغير ذلك؛ وهو الجديد, واحد قولي القديم. والآخر: إن ما كبر شكله عن الحمام تجب فيه الشاة من طريق الأولى. وعن الشيخ أبي محمد: إنه بنى الخلاف علي الخلاف في إن الشاة وجبت في الحمام بالقياس أو توقيفًا: فعلى الأول لا تجب لفقد الشبه, وعلى الثاني تجب. الثاني: قال الأزهري: قال الشافعي- رضي الله عنه-: الحمام كل ما عبَّ

وهدر وإن تفرقت أسماؤه إلى اليمام, والدباسي, والقماري, والفواخت وغيرها. وقد عزا البندنيجي ذلك إلى نصه في "الأم". وعلى هذا يكون الشيخ بقوله: "وكل ما عبَّ وهدر" قد عطف الشيء علي نفسه وكذا الغزالي حيث قال في "الوسيط": وفي معنى الحمام كل ما عبَّ وهدر". والجواب عن الشيخ: إن مثل ذلك جائز عندنا لاختلاف اللفظ؛ قال الشاعر [من الوافر] .. ....... ....... ... وألفى قولها كذبًا ومينا والكذب هو المين؛ علي أن أبا عبيد قال: سمعت الكسائي يقول: الحمام: هو الذي لا يألف البيوت, وهو الوحشي, واليمام: هو الذي يألف البيوت؛ وهو يوافق كلام البندنيجي في أول كلامه: الحمام: ما كان وحشيًا, واليمام: ما كان أهليًا. وعن الأصمعي إنه قال: كل ذات طوق كالفواخت, والقماري وأشباههما؛ فهي حمام وهذا يدفع السؤال من أصله. وفي "المهذب": إنه ينظر في الطائر: فإن كان حمامًا, وهو الذي يعبُّ ويهدر كالذي يقتنيه الناس في البيوت, والدبسي, والقمري, فإنه يجب فيه شاة, وهذا مغاير لجميع ما ذكرناه؛ فتأمله.

العَبَّ بفتح العين المهملة: شرب الماء بلا مص؛ قاله الزبيدي والجوهري، ويقرب منه غيرهما: إنه الذي يجرع الماء عند الشرب جرعاً. قال الأزهري: وذلك مختص بالحمام البري والأهلي، وأما غيره من الطيور فينقر الماء نقرا، ويشرب قطرة قطرة؛ وهذا قاله بناء ما نقله عن الشافعي -رضي الله عنه - وعليه يرد مثل السؤال المتقدم. وقد أورده الرافعي عن طريق آخر، فقال: الأشبه أنه ما عبَّ وهدر، فلو اقتصروا في تفسير الحمام علي العبَّ، كفاهم؛ يدل عليه الشافعي في عيون المسائل: "وما عبَّ في الماء عبَّا فهو حمام، وما شرب قطرة كالدجاج ليس بحمام". والجواب الذي ذكرناه أولاً يدفع ما أبداه الرافعي، وقد جاء مثله في الكتاب العزيز في قوله تعالي {لِبَاسًا يُوَارِي سوأتكم وَرِيشًا} [الأعراف: 26] واللباس: هو الريش؛ علي أن ألقاعي قال: العبَّ: شدة جرع الماء من غير تنفس، يقال: عبَّه يعبُّه عبَّا، وهو يدفع من أصله. وقال صاحب المحكم: يقال في الطائر عبَّ، ولا يقال شرب. الهدير: ترجيع الصوت ومواصلته من غير قطع، وهو التغريد. وذلك في الدبسي والقمري، والفاخت، ونحوها. قال: ويرجع في معناهم مما ذكرناه ونحوه - ووجهه في معرفة المثل قوله تعالي: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وفي معرفة القيمة القياس علي المثل؛ لأنها في معناه.

أما ما حكمت فيه الصحابة بشئ أو بعضهم وسكت الباقون، (ثبت ذلك) فيه، وصار مقدًرا به، لا يعدل عنه أبداً؛ لأن الله تعالي يقول: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وعدالة الصحابة أكد من عدالتنا؛ لأنهم شاهدوا الوحي، وحضروا التنزيل والتأويل، وجعلهم النبي صلي الله عليه وسلم كالنجوم. وأيضاً: فإنهم إذا حكموا بشىيئ أو حكم بعضهم [به] وسكت الباقون عليه، [صار إجماعاً، وما انعقد الإجماع عليه] لا يجوز الاجتهاد فيه. ولأجل هذه العلة قال القاضي الحسين: إن حكم التابعين وغيرهم من أهل الأمصار فيما ذكرناه حكم الصحابة -رضي الله عنهم- أجمعين. والمارودي وأبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ اقتصروا على إلحاق التابعين بالصحابة، وسكتوا عن غيرهم. واعلم أن الآية تقتضي مع ما ذكرناه اشتراط الفقه في العدليين؛ لما سنذكره، وقد حكاه المار ودي عن الشافعي - رضي الله عنه- حيث حكي عنه أنه قال: "ولا يجوز لأحد أن يحكم إلا أن يكون فقيهاً؛ لأنه حكم، فلم يجز إلا بقول من يجوز حكمه". لكن في "المهذب" أن كونهما فقيهين مستحب، وهو المذكور في "تعليق أبي الطيب" و" الشامل" و"البحر"، وقالوا: إن لفظ الشافعي _ رضي الله عنه- "وأحب أن يكونا فقيهين". وإذا جمعت هذا وما حكاه المارودي [حصل لك] في المسألة قولان. وقال الإمام: المعتبر أن يكونا خبيرين من أصحاب الكياسة فيما يتعلق بهذا الغرض. وقد حكي عن الشافعي - رضي الله عنه- أنه قال: إذا كان القاتل فقيهاً عدلاً، جاز أن يكون أحد العادلين؛ لأنه روى بسنده أن رجلاً يقال له: أربد، وطئ ظبياً، فعقر ظهره، فقدم على عمر، قال له عمر: [احكم يا أربد فيه، فقال: أنت خير مني يا أمير المؤمنين وأعلم، فقال له عمر] إنما أمرتك أن تحكم فيه، ولم آمرك أن تزكيني،

فقال أربد: أرى أن فيه جديًا قد جمع الماء والشجر، فقال عمر: فذاك فيه؛ فأمضى عمر الحكم باجتهاده واجتهاد أربد، وكان قاتلاً، وليس يعرف له مخالف في الصحابة؛ وهذا ما جزم به الفوراني ويمكن أن يؤخذ من كلام الشيخ: أنه بني قوله: "ويرجع في معرفة المثل ... " إلي آخره لما يسلم فاعله. وقد حكي الماوردي وغيره عن بعض الأصحاب: أنه لا يجوز أن يكون القاتل هو أخد العدليين؛ كما لا يجوز أن يكون مقومًا فيما أتلفه من حقوق الآدميين. قال الغزالي: وهو الأوفيس. وقال المارودي: إنه خطأ لما ذكرناه من عموم قوله تعالى {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95]. وكذلك حقوق الآدميين؛ لأنها علي المشاحنة بخلاف حقوق الله تعالي. وكذلك يرجع إلي من عليه الحق في الكفارات والزكوات. وهذا الوجه يمكن أخذه من كلام الشيخ بأن يقرأ بفتح الياء آخر الحروف، وكسر الجيم؛ لأن الراجع غير المرجوع إليه، لولا أن الصحيح الأول، وحينئذ يتعين البناء كما ذكرناه. ثم المسألة مصورة- كما القاضي الحسين والإمام ثم من بعدهم- بما إذا كان مخطئاً في القتل إذا كان عامداً، فسق به. والبندنيجي والرافعي صوراها بهذه الصورة، وبما قتله لأجل المجاعة. وما ذكرناه من الخلاف جار كما قالا فيما إذا كان القاتلان هما المقومان. فرع: لو حكم عادلان في حيوان بمثل من النعم، وحكم آخران فيه بمثل آخر- فوجهان: أحدهما: أنه يتخير في الأخذ بأيهما شاء. والثاني: يأخذ بأغلظهما.

وهما كالوجهين فيما إذا اختلفت فثوي مفتيين له (فيما سألهما عنه)؛ قاله في "البحر"، ويخالف المسألة الأولي ما لو حكم عادلان بأنه له مثلاً، وآخران بأنه لا مثل له؛ فإنه يرجع إلي قول الحاكمين بالمثل؛ لأن النفي لا يعارض الإثبات. قال: وإن جرح صيدًا له مثل؛ فنقص عشر قيمته، أي: إن لم يؤثر في إزالة امتناعه، أو لكونه صار ممتنعا بعد الاندمال. قال: لذمه عشر ثمن المثل؛ لأن إيجاب عشر المثل يشق، فدل عنه كما عدل من زكاة الإبل إلي الغنم للعسر. ولأن كل جملة مضمونة بالمثل يكون النقص الداخل عليها بالجنابة مضموناً بالأرقش من القيمة دون المثل؛ أصله الطعام المغصوب إذا بله الماء أو قلاه بالنار، فإن عليه أرش نقصه دون المثل، وهذا ما نص عليه في "المختصر"، وبه قال أبو إسحاق، وابن أبي هريرة، وسائر أصحابنا؛ كمال قال الماوردي والبندنيجي، واختاره في المرشد. وعلي هذا يكون مخيراً بين إخراج الطعام والصوم عن كل مد يوما بلا خلاف، وهل يكون مع ذلك في التصديق بالدرهم وإخراج عشر المثل أم لا؟ الذي قاله الشيخ أبو حامد - وهو المذكور في "الحاوي" والبحر:- الأول؛ فيكون مخيراً بين أربعة أشياء: بين أن يتصدق به، وبين أن يشتري به جزءا من المثل ويتصدق به كما سنذكره، وبين أن يشتري طعاماً ويتصدق به وبين أن يصوم عن كل مد يوماً. وعليه ينطبق ما حكاه الرافعي عن بن أبي هريرة: أن له إخراج القيمة، وإن وجد

شريكاً في الذبح معه. والذي أورده البندنيجي الثاني، وقال: إنه لو أخرج عشر المثل لم يجزئه وما قاله أخيراً هو الذي حكاه الرافعي عن رواية أبي القاسم الكرخي وغيره. وعن البغوي أنه لا يتصدق بالدراهم، ولكنه يصرفها إلي الطعام، ويتصدق به أو يصوم عن كل مد يوماً، وهو الذي أشار إليه في الوجيز بقوله: "فعليه الطعام بعشر ثمن شاة". قال: وقيل عجب عليه عشر المثل؛ لأن ما ضمن بالمثل ضمن بعضه يبعضه؛ كما لو أتلف ما يضمن بالمثل منن أموال الآدميين. وعلي هذا قال المزني: إنه أولي بأصل الشافعي -رضي الله عنه- وساعده عليه الأكثر من الأصحاب؛ كما قال الرافعي؛ ولأجله قال الغزالي: إنه الصحيح. وممن صرح بالتصحيح القاضي الحسين، وتبعه النووي. والقائلون بهذه الطريقة اختلفوا علي ماذا يحمل النص؟ فمنهم من حمله - وهو صاحب التقريب؛ كمال قال في البحر-علي ما إذا عدم

عشر المثل، وهو الذي أورده الشيخ حيث قال: أن لا يجد عشر المثل وهو موجه بالضرورة. والمراد بعدم الوجدان: ألا يجد من يشاركه الذبح. ومنهم من قال: جزاء الصيد علي التخيير، والشافعي -رضي الله عنه- ذكر الأسهل وهو القيمة؛ لأن إخراج جزء من الحيوان فيه مشقة، والمزني بين ماهو الأصل في الواجب؛ فلا اختلاف بينهما؛ وهذه طريقة من نفي الخلاف في المسألة. وممن الأصحاب من أجري النص علي ظاهره، وأثبت تخريج المزني قولاً في المسألة وجعلها علي قولين، وتفريعهما ما تقدم. وبذلك يجتمع في المسألة ثلاثة طرق. وقال الرافعي: إن الأشبه من هذا كله تفريعا علي المنصوص إن أثبتنا الخلاف بغير الدراهم، وحكي قبل ذلك وجهًا في المسألة عن أبي إسحاق أنه يخير بين إخراج العشر وبين إخراج الدراهم. أما إذا لم ينقص من قيمته شئ بعد الاندمال، فقد جزم القاضي أبو الطيب في تعليقه، وتبعه ابن الصباغ أن الحكم كما تقدم، ولا يسقط الجزاء. وحكي غيرهما الوجهين فيما إذا نتف ريش طائر، ثم نبتت، ولم ينقص من قيمته شئ، هل يسقط الجزاء أم لا؟ بناء على القولين فيما إذا قلع السن، ثم نبت ولأفرق يظهر بين المسألتين؛ ولأجل ذلك حكي في "المهذب" الوجهين في الصورتين، واختار في "المرشد" منهما السقوط. وبني ألفوراني وغيره من المراوزة الوجهين عند براء الصيد من الجرح علي الخلاف فيما إذا جرح آدميا، واندمل جرحه، ولم ينقص منه شيئاً هل يجب الحكومة أو لا؟ وحكي في البحر فيها عن القفال: أنه يجب عليه شئ بمقدار ما يجتهد القاضي

لذلك الوجع الذي أصابه. ولو كان الصيد الذي نقص بجرحه عشر قيمته مما لا مثل له، فالواجب عشر القيمة بلا خلاف. ويظهر أن يكون تخييره فيها كتخيره فيما إذا كان الصيد مما له، فيما يمكن أو أن يكون حكمه فيما يصرفه كحكمه فيما إذا أتلف صيداً لا مثل له. فرع: يتعلق بما ذكره تبعا: وهو إذا نتف ريش طائر، فعاد وقد نقصت قيمته، أو قلنا يضمنه مطلقاً، وكان مما يضمن بالشاة، ففيما يضمنه خلاف كالخلاف فيما إذا جرح صيداً له مثل، فنقص من قيمته العشر مثلاً، والله أعلم. قال: وإن جرح صيداً فأزال امتناعه- أي: واندمل الجرح- ضمنه بكمال الجزاء؛ لأنه عطله؛ فصار بمنزلة التالف؛ ولهذا يجب في قطع يدي العبد تمام قيمته، وهذا ظاهر نصه في الجامع الكبير، والأصح في الرافعي، وقال الإمام: أنه الذي ذهب إليه معظم ألائمه، ولم يحك في " الحاوي" غيره. وقيل: يلزمه أرش ما نقص؛ لأنه لا يضمن ما لم يتلف، ويخالف ما إذا تلف؛ فإنه لو جاء محرم آخر فقتله، لذمه الجزاء، وهو مثله جريحاً، ويبعد إن يجب علي الجارح دون ما يجب علي القاتل، وإذا مات فقد أمن هذا المحذور؛ وهذا ما زيفه الإمام، وقال الرافعي: إنه الذي يحكي عن ابن سريج. لكن الذي حكاه عنه غيره: أنه قطع به إذا قتله غيره محرما كان أو حلالاً؛ لأجل ما ذكرناه. وفي " تعليق القاضي الحسين": أنا إذا قلنا بأن الجارح يضمنه بكمال الجزاء لو لم يقتبه غيره، فلو قتله غيره فوجهان: أحدهما: يجب على كل واحد منهما جزاء كامل. والثاني: أن الجزاء على القاتل، وعلى الجارح ما نقص وهو الذي أورده.

البندنيجي وصاحب "البحر"، وقالا: إن الجزاء الكامل إذا كان من النعم أوجبتاه جريحاً، فإن لم نجد جريحا من النعم عدل إلي القيمة، ولا يخفي أن محل تضمين القاتل في هذه المسألة إذا كان محرما. أما إذا كأمم حلالاً فلا ضمان عليه، والحكم كما لولم يقتله أحد، وقد صرح به في "البحر" وغيره. التفريع: إن قلنا بالمنصوص، فلو كان الصيد مما يمتنع بالطيران والجري: كالنعام والدراجة، فأزال أحد الامتناع، فهل يضمن بكمال الجزاء؟ فيه وجهان: حكاهما الأمان عن العراقيين، وقال: إن من لم يكمل، فالغالب علي الظن أنه يعتبر ما نقص، وهو الوجه]. وعكس الوجهين لو أزال الامتناع، فهل يضمنه بجزاء واحد أو جزاءين؟ فيه وجهان: الذي ينطبق عليه كلام الشيخ الأول، وهو الذي أورده البنديجي. ولو أزال امتناع الصيد ثم قتله قبل الاندمال، فهل يجب عليه موجب الأمرين كما لو قتله بعد الاندمال، أو تتداخل الجنابة؟ فيه وجهان حكاهما الإمام: كما لو قطع يدي شخص، ثم حز رقبته، والمذكور في " الوسيط" التداخل. وإن قلنا بالقول المنسوب إلى ابن سيريح، قومناه صحيحًا، ثم مندمل الجرح، فإذا عرف ما بينهما، فهل نقول: هو الواجب، أو نقدره من المثل إن كان الصيد مثليًّا؟ فيه الخلاف السابق.

ولو كان الصيد قد غاب بعد جرحه، وجب عليه أرشه، ولا يضمن جميعه، والاحتياط أن يفديه بجملته. وهكذا الحكم لو وجده ميتاً، ولم يدر من ماذا مات؟ قال الشيخ أبو حامد: وفيه نظر؛ لأنه وجد سبباً يمكن إحالة الموت عليه؛ كما لو جرح رجلاً فمات. وغير الشيخ من المراوزة حكي فيه قولين؛ بناء علي القولين في حل أكله إذا كان الجارح له بالرمي غير محرم. قال: وإن كسر بيض صيد- أي يجب به الجزاء- ولا فرخ فيه، لذمته القيمة؛ لقوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} الآية [المائدة: 94]. قال مجاهد: ما تناله أيدينا: الفراخ والبيض؛ فدل علي أن ذلك من الصيد، وإذا كان صيداً، وجب الجزاء بإتلافه؛ كالفراخ. وقد روي عن كعب بن عجزة أن النبي صل الله عليه وسلم "قضي في بيض النعام أصابه المحرم بقيمته"، وروي "بثمنه" وهي رواية أبي هريرة. ولأنه خارج من الصيد الذي يجب بقتله الجزاء، وقد يكون منه مثله؛ فوجب أن يكون فيه قيمته إذا كان مما قيمته؛ أصله الصيد بعينه؛ فإنه خارج من الصيد الذي يجب بقتله [الجزاء]. وعن المزني أنه لا يجب فيه شئ، وما ذكرناه حجة عليه. وعلي هذا هل تعتبر بـ"مكة" أو بموضع كسره؟ فيه القولان السابقان؛ صرح يهما الماوردي، وقال: أنه يرجع في تقويمه إلي اثنين، ويجب أن يكونا فقهين عدليين، ويكون مخيراً [بين] أن يتصدق بالدراهم، أو بطعام يساوي قدرها، أو يصوم عن كل مد يوماً.

أما إذا كان فيه فرخ: فإن كان ميتاً، فالحكم كما تقد، وإن كان حيًّا، فإن سلم وطار، فلا شئ عليه، وقد أساء وإن مات ضمنه، لكن بماذا؟ ينظر: فإن كان مما لا حياة مستقرة، ولا يجوز أن يعيش مثله، فيجب عليه قيمته. وإن كانت الحياة مستقرة وترجي حياته، فإن كان فرخ نعامة ففيه ولد ناقة، وأنن كان فرخ حمامة ففيه وجهان: أحدهما: فيه شاة؛ كما يجب في أمه. والثاني: ولد شاة رضع أو فطيم يكون قدر بدنه من الشاة بقدر بدن الفرخ من أمه، وهو ما أورده ابن الصباغ. وقال الماوردي: إن الوجهين ينيبان على أن الشاة الواجبة في الحمام وجبت توقيفاً، أو من طريق الشبه والمماثلة؟ وأن كان فرخ ما دون الحمام: كالعصفور، ففيه القيمة. وأن كان فرخ ما فوق الحمام: كالكروكي، فإن قلنا: يجب فيه القيمة، فكذلك في فرخه، وإن قلنا: يجب فيه الشاة، كان في فرخه الوجهان في فرخ الحمام. وقد أدخل الشيخ في كلامه بالصريح البيض المذر، إذا كانت له قيمة وهو بيض النعام لأن قشره ينتفع به وهو الذي صرح به الماوردي والبنديجي وأبو الطيب وغيرهم. لكن قال في "الوسيط": إنه لا شيء عليه؛ لأنه لم يبق حرمة الروح. وقاسه في " النهاية" علي ما لو أتلف ريش طائر منفصلاً عنه. وأخرج الشيخ بمفهوم كلامه ما القيمة له وهو المذكور في كتب الأصحاب. وفي معنى كسر البيض نقله من موضوع ففسد، سواء كان فساده؛ لنفور الطائر عنه، أو لكونه أحضنه دجاجة، أو لم يكن شئ من ذلك اللهم إلا أن يكون قد باض على فراشه، فنقله، ولم يحضنه، فإن الشافعي -رضي الله عنه – نقل عن عطاء؛ أنه لا يلزمه ضمان؛ لأنه مضطر إلي ذلك.

وقال: إنه من المحتمل أن يضمن؛ لأنه أتلفه باختياره؛ فجعل الأصحاب- لأجل ذلك- في ضمانه قولين، وهكا كالقولين فيما إذا افترش الجراد في طريقه فقتله. ولو أحضنه دجاجة، فصار فرخاً، وطار، فلا ضمان عليه وإن كان مسيئاً. فرع: إذا نتف ريش صيدد، قال الشافعي- رضي الله عنه-: يضمن مابين قيمته منتوفا وبين قيمته عافيَّا، أي: نابت الشعر وهو عند الأصحاب محمول على ما إذا كان الصيد مما يضمن بالقيمة، أما إذا كان مضموناً بالمثل، ففيه الخلاف السابق. ولو عاد الريش، فقد تقدم الكلام فيه وعليه إذا نتف ريشه حطي صار غير ممتنع: أن يمسكه، ويطعمه، ويسقيه؛ لينتظر ما يئول إليه حاله. ولو حلب لبن صيد، ضمنه، كالبيض. وفي البحر أن أصحابنا قالوا: لا جزاء عليه. والفرق بينه وبين البيض: أنهه يكون من البيض الصيد واللبن بمنزلة ريقه وبوله وبعره. قال: وأن اشترك جماعة أي: محرمون- في قتل صيد، لهزم جزاء واحد، لقوله تعالي: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، فأوجب في قتل الصيد جزاء، وهو مثل المقتول، ومثل الواحد، سواء كان القاتل واحداً أو جماعة؛ كما أن مثل العشرة عشرة، سواء كان القاتل واجداً أو جماعة. ولأنه إجماع الصحابة، حكاه الماوردي، وكأنه يشير إلي ما حكاه أبو الطيب: أن ابن عمر سأله جماعة قتلوا ضبعًا، فقال "على كلكم جزاء واحد"، ولا يعرف مخالف. وأيضاً فصيد الحرام لو قتله جماعة لم يجب عليهم إلا جزاء واحد، فكذا هنا.

وخالف هذا كفارة القتل حيث تعددت علي الصحيح؛ لأن تلك وجبت لهتك الحرمة لا بدلاً؛ ولهذا لم تختلف باختلاف المقتول صغيراً أو كبيراً، ولم تجب في الأطراف، ولا كذلك جزاء الصيد أما لو كان بعضهم محرماً والبعض حلالاً، وجب علي المحرم ما يقتضيه التوزيع، ولا شئ علي الحلال؛ كما لو اشترك مسلم حر وحربي في قتل عبد مسلم، نص عليه الشافعي في " الأم". قال: وإن أمسكه محرم، فقتله حلال، وجب الجزاء علي المحرم؛ لأنه تلف في يده، وهو مضمون عليه بوضع اليد، فأشبه ما لو غصب عبدا فقتل في يده، وبهذا خالف مال ومسم حرا، فقتله غيره؛ فإنه لا ضمان علي الممسك؛ لأن الحر لا يضمن بوضع اليد. وظاهر كلام الشيخ أنه لا رجوع للمحرم عل الحلال إذا غرم؛ لأنه لو كأن يرجع عليه لقال: "ويرجع به علي القاتل"، كما قال في حلق الشعر، وهو قول الشيخ أبي حامد موجهاً له بأن الحلال يجوز له قتل هذا الصيد؛ فأشبه ما لو مات في يده حتف أنفه. قلت: أو كما لو قتل العبد المغصوب في يد الغاصب حربي؛ ولأجل ذلك قال ابن الصباغ: إنه لأقيس عندي. والذي حكاه القاضي أبو الطيب، ولم يذكر في "المهذب" سواه، وهو المختار في "المرشد" أنه يرجع على الحلال إذا غرم؛ لآن القاتل أدخله في الضمان؛ فرجع عليه؛ كما لو غصب مالا، فأتلفه أخره في يده. وعلي هذا يظهر أن يكون الحكم في ماذا يرجع به إذا كفر بالمال أو بالصوم؟ كما تقدم فيما إذا حلق رأسه مكرها، وقلنا: يرجع علي الحالق. قال: وإن قتله محرم آخر، وجب الجزاء بينهما نصفين؛ لأنه وجد سبب الضمان من كل منهما.

وظاهر هذا أنه لا يطالب كل منها إلا بنصف الجزاء. ومن الأصحاب من قال: الجزاء على القاتل؛ لأنه اجتمع فيه [السبب] والمباشرة، وكل منهما موجب للضمان؛ فغلبت المباشرة؛ لأنه لا يجمع بين السبب والمباشرة إذا كان السبب غير صالح في شيء من الأصول؛ وهذا ما قال الرافعي: إنه الأظهر، وتبعه النواوي، وصححه. وهذا الوجهان ذكرهما الشيخ أبو حامد، وقال في "البحر": إنهما يجريان فيما إذا أمسك محل صيد الحرم فقتله آخر. وقال القاضي أبو الطيب في مسألة الكتاب: الصحيح من المذهب: أنه يجب الجزاء على كل واحد منهما، فإن أخرجه الممسك يرجع على القاتل [وإن أخرجه القاتل، لم يرجع [به] على الممسك] وهو ما صدر به القاضي الحسين كلامه، وصححه في "العدة". وقال ابن الصباغ: إنه الأقيس عندي. وقولهم: إن الجزاء على القاتل؛ لاجتماع السبب والمباشرة ينتقض بما لو غضب شيئاً، فجاء آخر فأتلفه في يده؛ فإنه يجب الضمان على الغاضب. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يحصل ذلك بدلالة المحرم الذي في يده الصيد أو لا. قال: وصيد الحرم حرام على الحلال والمحرم [أي:] اصطياده؛ لما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام، حرمه الله تعالى يوم خلق السموات [والأرض] فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، لا يعض شجره، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاؤه". قال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر؛ فإنه [لنعمهم ولبيوتهم؛ فقال: "إلا

وقد جاء من طريق آخر "إلا الذخر؛ فإنه لقبورنا وبيوتنا". وفي "تعليق القاضي الحسين": أن العباس قال: " إلا الذخر؛ فإنه لقينا [وقبورنا] [وبيوتنا]). والقين: الحداد. وجاء: "فإنه لصياغتنا". ووجه الدلالة من الخبر أنه حرم تنفير صيد مكة، وليس المراد نفس البلد، وإنما أراد الحرم، وإذا كان التنفير محرما كان القتل والاصطياد أولي به. وقد قيل: إن معني قوله - عليه السلام-: " لا ينفر صيدها": لا يتعرض له بالاصطياد، ولا يهاج فينفر. وادعي القاضي أبو الطيب إجماع المسلمين علي تحريم صيده. وقد أختلف العلماء أن مكة -شرفها الله تعالي- صارت حرماً آمناً بدعوة إبراهيم - عليه السلام- أو كانت قبله كذلك. وسبب اختلافأنهم ما ذكرناه من الخبر، وما سنذكره من قوله - عليه السلام-: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة"؛ قال النووي في " المناسك". والصحيح من القولين الثاني؛ لما ذكرناه من الخبر. والجواب عن الخبر الآخر الذي سنذكره: أن إبراهيم -عليه السلام- أظهر تحريمها بعد أن كان مهجوراً لا أنه ابتدأه. وقد تقدم أن المراد بـ"مكة" في الخبر: الحرم، وسيأتي ذكر حدوده - إن شاء الله

تعالى- في باب عقد الذمة؛ لأن الأصحاب تكلموا فيه ثم عمل عليه علامات من جوانبه كلها، ومنصوب عليها أنصاب، ذكر الأزرقي وغيره بأسانيدهم أن إبراهيم الخليل - عليه السلام - عملها، وجبريل - عليه السلام - يريه مواضعها، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحديدها، ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية - رضي الله عنهم - وهي إلي الآن بينة ولله الحمد. وقد أختلف العلماء في سبب تحديده بما سنقف عليه: فقيل: إن جبريل- عليه السلام- أراه إبراهيم الخليل، علي نبينا وعليه السلام. وقيل إن آدم - عليه السلام لما أهبط خاف الشيطان، فأنزل الله تعالي له ملائكة تحرسه، فحيث وقفت من كل جانب كان ذلك حده منه. وقيل: أنزلت خيمة من الجنة، فضربها، ووقفت الملائكة من ورائها تحرسه؛ فالحرم موقف الملائكة. وقيل: إن الحجر الأسود لما أهبط إلي الأرض، أضاء نوره شرقاً وغرباً، ويميناً وشمالاً؛ فكان حد الحرم حيث انتهي نوره. قال: فمن قتله منهما، أو أتلف في يده، أو جزء منه- وجب عليه ما يجب علي المحرم في صيد الإحرام؛ لأنه روي عن عمر، وعثمان، وابن عمر، وابن عباس -رضي الله عنهم- أنهم أوجبوا في حمام مكة شاة، ولم يخالفهم أحد، وإنما أوجبوها علي المحل؛ إذ لو كان علي المحرم، لما اختص بحمام مكة دون غيره. وقد قال - عليه السلام- في الضبع كبش إذا إصابة المحرم، ومن دخل الحرم يسمي محرماً؛ قال الشاعر: قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً ........ ... ............. ... ............ وأرد أنه كان في حرم المدينة، والعرب تقول: "أنجد الرجل"؛ إذا دخل نجدًا،

و"أتهم" و"أحرم"؛ كذا قال ابن الصباغ وغيره. قلت وإذا كان كذلك، كان الاستدلال بقوله تعالي: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية [المائدة:95] أولى, وأيضاً فقد قرئ "وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً" بفتح الحاء والراء ولأنه صيد يحرم قتله؛ لحق الله تعالي؛ فوجب بإتلافه وبإتلاف جزئه الجزاء؛ كصيد غير الحرم بالنسبة إلي المحرم. وهو الذي ذكره الشيخ شامل للواجب وصفته من التخيير والتعديل، لكنه يدخل ما إذا قتله عند صياله عليه، وكذا عند صيال راكبه. وجوابه فهم خروج ذلك مما تقدم. ولا يتكرر الجزاء بقتل المحرم صيداً في الحرم؛ لأن المقتول واحد، وشبه هذا بقتل القارن الصيد؛ فإنه لا يجب عليه إلا جزاء واحد, ثم المراد بصيد الحرم ما كان فيه بحيث لو كان في الحل، حرم علي المحرم اصطياده؛ لأجل الإحرام. وأردنا بذلك إدخال الطيور التي في هواء الحرم؛ فإنه يحرم صيدها كما يحرم علي المحرم صيد الطائر في الهواء. وأخرجنا بقولنا: " لأجل الإحرام" الصيد المملوك للحلال إذا أدخله الحرم؛ فإن صيده في الحل حرام؛ لأجل الملك. وقد قال الأصحاب- كما حكاه الماوردي، وتبعه في "المهذب" وغيره: إنه يجوز لصاحبه قتله في الحرم والتصرف فيه، ولا جزاء عليه؛ لأنه ملكه خارج الحرم؛ فجاز له التصرف [فيه] في الحرم؛ كما لو أدخل شجر الحل إلى ملكه في الحرم، ونبت فيه. وقد حكى البندنيجي وغيره ذلك عن النص، لكن ما ذكرناه يخرج -أيضاً- ما لو

كان في الحرم نهر، وفيه صيد عن أن يحرم صيده، ووجوب الجزاء فيه، وهو موافق لما أطلقه المسعودي. لكن في "البحر" أن الصيمري قال بتحريمه. وقد ظهر لك مما ذكرناه: أنه لو نفر صيداً من الحل، فدخل الحرم، ثبت له حرمة الحرم، وقد صرح به الأصحاب، وقالوا: إنه لو تلف ضمنه المنفر. والفرق بينه وبين ما إذا غرس [شجر] الحل في الحرم، لا يثبت له حرمة شجر الحرم: أن الصيد ليس بأصل ثابت، بل منتقل في العادة؛ فاعتبر فيه حكم المكان، والشجر أصل ثابت، ليس بمنتقل؛ فاعتبر [فيه حكم] أصله. ومنه يظهر أيضا: أنه لو كان في الحل، ورمى إلى صيد في الحرم، فقتله، أو جرحه - ضمنه. وكذلك لو حبس صيداً في الحل، وله فراخ في الحرم؛ فماتت جوعا - ضمنها؛ كما نص عليه في الإملاء؛ لأنها ماتت بسبب فعله. وكذا لو قتل صيداً، في الحل بعضه، وبعضه في الحرم [ضمنه]؛ تغلبيا للتحريم؛ كما يضمن المحرم المتولد من مأكول وغيره؛ وقد صرح به الفوراني والرافعي، وكذا قاله البندنيجي، وأنه لو كانت جميع قوائمه في الحرم ورأسه في الحل، فأصاب الرأس، فالحكم كذلك. وقال القاضي الحسين: إن ضمانه منوط بما إذا كانت إحدى يديه أو رجليه في الحل، والأخرى في الحرم. أما [لو كان] رأسه في الحرم وباقيه في الحل، فرمى من الحل إلى ما هو خارج الحرم - فلا جزاء عليه. وفي "الحاوي" حكاية ثلاثة أوجه فيه: أحدها: لا جزاء فيه: لأن حرمة الحرم لم تكمل. والثاني: إن كان أكثر الصيد في الحرم ففيه الجزاء، وإن كان أكثره في الحل فلا

جزاء عليه؟ اعتباراً بالأغلب. والثالث: وبه أجاب بعض متأخري أصحابنا حين امتحن بالسؤال عن الحكم في هذه المسألة: إن كان الصيد قد خرج من الحل إلى الحرم لم يضمنه، وإن كان قد خرج من الحرم إلى الحل ضمنه؛ استصحاباً لما كان عليه [إلى] أن يتم خروجه عنه. قلت: ويؤيده ما ذكره الأصحاب فيما إذا أدخل رجليه الخف على طهارة، وقبل استقرارهما فيه أحدث - لا يجوز له المسح عليهما ما لم ينزعهما، ويجدد الطهارة، ثم يلبسهما. ولو نزع رجليه من الخف، فقبل استكمال نزعهما، أحدث في المدة - يجوز له المسح عليهما. وما ذكره القاضي الحسين من أنه لوكان في الحرم، وأخرج يده إلى الحل ونصب فيه شبكة، فتعلق بها صيد الحرم أو الحل وهو حلال، لا جزاء عليه [لا يرد عليه] [ولا يرد عليه] ما قاله القاضي الحسين - أيضاً - فيما إذا كان في الحل، فأدخل يده الحرم، ونصب فيه شبكة أو حفر فيه حفرة فوقع فيه صيد الحرم - أنه يضمنه؛ لما ذكرنا من قبل: أنه لوكان بجملته في الحل، ورمى إلى صيد [في] الحرم ضمنه. واعلم أنه كما يحرم عليهما ميد الحرم، يحرم الاصطياد فيه لصيد الحل، مثل أن يرمي من الحرم سهماً إلى صيد في الحل، أو يرسل عليه كلباً؛ لأن كونه في الحرم يوجب تحريم الصيد عليه، كذا قاله الأصحاب. ويرد عليه ما حكيناه من قبل عن رواية القاضي الحسين فيما إذا كان في الحرم، فأدخل يده الحل، ونصب فيه شبكة؛ فوقع بها صيد الحل أو الحرم - لا جزاء عليه. وقد ألحقوا بذلك ما لو حبس صيداً في الحرم، وله فراخ في الحل؛ فماتت جوعاً، وقالوا: إنه يضمنها.

وليس في كلام الشيخ تعرض لهاتين الصورتين إلا أن يستعمل قوله: "وصيد الحرم حرام" في معنيين مختلفين: وهو الاصطياد في الحرم، ونفس صيد الحرم، ولا يمكن ذلك؛ لأن اللفظ الواحد لا يستعمل كذلك. وأيضا: فيعكر عليه قوله من بعد "فمن قتله منهما ... " إلى آخره؛ فإنه يقوي أن مراده المعنى الثاني لا غير. فرع: إذا رمى وهو في الحل صيداً في الحل، فمر السهم في جانب من الحرم، وأصاب الصيد، وهو في الحل - ففي ضمانه وجهان، وقيل: قولان، وقيل: إن الشافعي - رضي الله عنه - علق القول فيه. والمذكور في "تعليق البندنيجي"، والمختار في "المرشد": أنه لا ضمان، وقد حكاه في "البحر" عن الشافعي - رضي الله عنه -. ووجه مقابله بأنه لما صار في الحرم فقد خرج من الحرم إلى صيد في الحل، فأشبه ما لو خرج ابتداء منه. وقال الماوردي: إن القولين يجريان في نظير المسألة من إرسال الكلب، وفيه نظر؛ لما سنذكره من أنه لو أرسله على صيد في الحل، فأصابه أو غيره في الحرم – لا

جزاء عليه، بخلاف السهم، والله أعلم. تنبيه: في قول الشيخ: "فمن قتله منهما ... " إلى آخره - ما يقتضي أمرين: أحدهما: أنه لا فرق في حصول ذلك بالسبب أو المباشرة، عمدا أو خطأ، وهر كذلك عند الأصحاب حتى قالوا: لو نفَّر صيداً من الحرم، فتكسر في نفاره في الحل، ضمنه. قال الإمام: بلا خلاف؛ لأنه من ضمانه إلى أن يستقر ويسكن. وقد قيل: إنه من ضمانه حتى يرجع إلى الحرم؛ قاله الصيدلاني، وهو زلل فإنه ليس عليه السعي في رده إلى الحرم. وقالوا: إنه لو رمى إلى صيد في الحل، فأصاب صيداً في الحرم: إما ذاك الصيد أو غيره - يلزمه الضمان، بخلاف ما لو أرسل كلباً على صيد في الحل، فقتل صيداً في الحرم [ذاك] أو غيره، فإنه لا ضمان عليه؛ لأن للكلب اختياراً، كذا حكاه الفوراني والبندنيجي وغيرهما، وعزاه الماوردي إلى النص. وحكى القاضي [الحسين وجها آخر فيها إذا أرسل كلباً على صيد في الحل، فدخل الحرم، وتبعه الكلب: أنه يلزمه الضمان]؛ كما في نظير المسألة من رمى السهم، وهذا نظير ما حكيناه عن الماوردي في المسألة السابقة. قال القاضي الحسين: ومحل القول بعدم الضمان في مسألة الصيد إذا كان [لكلب الصيد طريق آخر] غير الحرم فلو لم يكن له طريق سواه ضمنه. قال الإمام: وان كان غير آثم. وقال الماوردي: إن محله كما قال [الأصحاب] إذا كان مرسله قد زجره عن اتباع الصيد في الحرم، فلم ينزجر، أما إذا لم يزجره مرسله، ولا منعه من اتباعه- فعليه الجزاء، لأن الكلب المعلم إذا أرسل على صيد تبعه حيث توجه. وقد تقدم ذكر الأسباب المضمنة للصيد في حق المحرم، وهي جارية هنا، فلا حاجة إلى إعادتها.

نعم: من جملة الأسباب ما لم يذكر ثمَّ، وهو إذا نفر صيد الحرم، فخرج إلى الحل، فقتله قاتل، فإن أكثر النقلة أطلقوا القول بأنه يجب على المنفر ضمانه إذا كان القاتل حلالُا، ولعل ذلك محمول على ما إذا قتله قبل سكون نغاره لا بعده: كما تقدم أن الصحيح زوال الضمان عنه به. وقال الماوردي: إنه ينظر: فإن كان القاتل محرماً، كان الضمان عليه لا غير. وإن كان حلالاً، قال أصحابنا: فإن لم يكن حين نفره ألجأه إلى الحل، ومنعه من الحرم - فلا ضمان على المنفر والقاتل، وإلا ضمنه المنفر. الأمر الثاني: أن الكافر إذا قتل صيد الحرم، ضمنه وإن كان لا يضمن صيد غيره إذا أحرم وقتله؛ لأنه حلال: فاندرج تحت قوله، وهو المذكور في "تعليق البندنيجي" و"القاضي أبي الطيب"، وحكاه في "المهذب" عن بعض الأصحاب موجهاً له بأنه ضمان يتعلق بالإتلاف؛ فاستوى فيه المسلم والكافر، كسائر الأموال. ثم قال: ويحتمل عندي أن لا ضمان عليه؛ لأنه غير ملتزم لحرمة الحرم؛ فلا يضمن صيده. وعلى الأول يكون حكمه حكم المسلم في كيفية الضمان إلا في الصيام، قاله البندنيجي. قال: ويحرم على الحلال والمحرم قلع شجر الحرم - أي: في حال رطوبته- سواء كان قد نبت بنفسه، أو استنبت؛ لقوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3] وقوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: 91]، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق "لا يعضد شجره", والعضد القطع. وهكذا حكم ما كان بعض أصله في الحل، وباقيه في الحرم: تغلبياً للتحريم؛ حكاه البندنيجي. وقيل: لا يحرم قلع ما أنبته الآدمي؛ لأنه شبيه بالحيوان الأهلي، والقائل بهذا تمسك فيه بقول الشافعي - رضي الله عنه - في "الإملاء" كما قال القاضي أبو

الطيب والبندنيجي وغيرهما:" ومن قطع من شجر الحرم, فعليه الجزاء؛ لأنه لا مالك له", وهذا الوجه لم يحك الفوراني غيره, وهو الذي أورده القفال؛ كما قال الطبري. ويشبه أن يكون قول صاحب التلخيص فإنه قال: "الاعتبار بالقصد لا بالجنس, فما استنبت لا يضمن, وما نبت بنفسه ضمن من غير نظر إلى الجنس. والقائل بهذا لا يثبت الأول. وقال البندنيجي: إنه يثبته, ويجعل في المسالة قولين, وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة طرق. قال الشيخ: والأول هو المنصوص, ووجهه على الخصوص: أنه شجر نامٍ غير مؤذٍ نبت أصله في الحرم, فأشبه ما أنبته الله تعالى. قال القاضي الحسين: ولأنه ما من شجر إلا ويوجد ذلك مباحًا في الآجام والغياض. وقول الشافعي- رضي الله عنه-" لأنه لا مالك له", لم يذكره ليخرج به ما له مالك التحريم, ولكن ذكره؛ ليخرج به الشجر المملوك في الحرم؛ فإنه يجب فيه مع الجزاء القيمة بلا خلاف؛ كما في الصيد المملوك, وهو لم يذكر القيمة. وصورة ذلك- كما قال في" البحر"- إن نبت الشجر بنفسه في موضع مملوك لإنسان من الحرم. وقد وجه في" المهذب" المنصوص بأن ما حرم لحرمة الحرم يستوي فيه المباح والمملوك؛ كالصيد. وكأنه- والله أعلم- يشير إلى ما ذكره الماوردي في توجيه هذا القول: إن الحرمة للحرم لا للشجر؛ فلا فرق بين ما أنتبه الله تعالى في الحرم وبين ما نقله الآدميون من الحل إلى الحرم, ألا ترى لو أن رجلًا صاد من الحل صيدًا, وأطلقه في الحرم, كان كصيد الحرم؛ لحرمة المكان؛ فكذلك الشجر. فإن قلت: وهذا فيه نظر؛ لأنه [إما أن] يعتقد أن الصيد بإطلاقه خرج عن ملك صائده أو لا.

فإن اعتقد ذلك, كان خلاف المذهب؛ فلا يحسن الاستدلال به [على] المذهب. وإن لم يعتقد ذلك- كما أفهمه [لفظه في المذهب] فليس من صيد الحرم؛ [لأن صائده يجوز له ذبحه في الحرم] والتصرف فيه؛ كما حكيناه من قبل عن النص, وانه لم يحك غيره, وذلك يدل على أن حرمة الحرم لا تثبت عليه, وإذا كان كذلك, فلا جزاء فيه, وقد صرح هو به من بعد, حيث قال: لو أتلفه غير مالكه, [وجب] عليه القيمة لا غير. قلت: الذي ينفي النظر: أن يحمل كلامه على أنه يعتقد زوال الملك عنه بإطلاقه؛ كما صرح به من بعد, وهو منه محمول - أيضًا- على ما إذا قصد بإرساله التقرب إلى الله تعالى؛ فإنه قال "-كما حكيناه عنه في باب الصيد والذبائح- به ولم يحك غيره", وهو وجه حكاه ابن الصباغ في المسألة, والله اعلم. ثم ما المراد بما أنتبه الآدميون الذي وقع فيه الخلاف؟ اختلف فيه الناقلون: فكلام الماوردي الذي حكيناه آنفًا يفهم أنه المنقول من الحل إلى الحرم, وقد صرح بأنه الذي ينبته الآدميون في الموات دون الأملاك, أما الذي أنبتوه في الأملاك في الحرم, فلا يحرم قطعه بلا خلاف, وكأنه يشير بذلك إلى أنه إذا غرسه في الموات يقصد الإعراض عنه؛ فإنه لو قصد إبقاءه لنفسه, لغرسه في ملكه, وهو لا يزول ملكه عنه بذلك؛ فأشبه عند القائل بعدم التحريم ما لو غرس ذلك في ملكه. وقال القاضي الحسين: إن المراد [به] ما أنبت أصله الآدميون, يعني: كالسفرجل, والتفاح ونحوهما, وإن كان قد نبت بنفسه, وعليه ينطبق قول ابن يونس: إن المراد جنس ما ينبته الآدميون عادة.

وقيل: المراد به إذا أخذ غصنًا من شجرة في الحرم, فأنبته في موضع آخر من الحرم, وهو ما حكاه الإمام عن صاحب التلخيص. قال: فإن قلعه- أي: وهو رطب- وتلف, فإن كانت كبيرة ضمنها ببقرة, وإن كانت صغيرة ضمنها بشاة؛ لأنه روي عن ابن عباس وابن الزبير: أنهما قالا: "في الدوحة بقرة, وفي الشجرة الجزلة شاة", ولم يعرف لهما مخالف. والدوحة: الشجرة العظيمة من أي شجر كان. والجزلة: الغليظة؛ قاله الجوهري. وفي "الحاوي" أن سفيان روى عن داود بن سابور عن مجاهد عن النبي- صل الله عليه وسلم- أنه قال: في الدوحة إذا قطعت من أصلها [بقرة]. وكذلك روى عن عطاء, لكن الشافعي- رضي الله عنه- لم يذكره؛ وهذا هو الجديد الذي حكاه الجمهور. [وعلى هذا] يكون مخيرًا في البقرة والشاة كما يكون مخيرًا في البدنة وغيرها من جزاء الصيد؛ قاله الماوردي والقاضي الحسين. وقال الإمام تفريغًا [عليه]: إن البقرة إنما تجب في أكبر أشجار الحرم, ولم يقع التعرض للبدنة, ولكنّا لا نشك أنها في معنى البقرة. وأما إيجاب الشاة, فليس في الشجرة الصغيرة التي فيها الشاة ضبط يهتدي إليه, ولعل أقرب قول فيه أن تكون قريبة من جنس الكبار, والشاة من البقرة سبعها, فليعتبر المعتبر هذا التقريب بين الدوحة والشجرة الصغيرة. وإن كانت صغيرة جدًّا فالقيمة مصروفة إلى الطعام, ثم الصيام يعدل الطعام كما ذكرناه في الصيد.

وقد أقام في "البحر" لهذا وجهًا لبعض الخراسانيين من أصحابنا. وقد حكى عن القديم قول: أنه لا ضمان في شجر الحرم وإن كان منهيًّا عن إتلافه, وهو مذهب أبي ثور, [لان الإحرام] لا يوجب ضمان الشجر؛ فكذلك الحرم. أما إذا كان الشجر قد جف فقلعه, فلا شيء عليه. قال القاضي الحسين: كما إذا قطع الصيد الميت إربًا إربًا. قال الماوردي والبندنيجي: ولا فرق في ذلك بين أن يستهلكه أو لا. ولو قلعه و [هو] رطب, ولم يتلف, بل كان باقيّاً على رطوبته, وجب عليه رده إلى مكانه, فإن استقر ونبت, فلا شيء عليه ما لم يحصل فيه نقص. قال الماوردي: فإن قيل: أليس لو اخذ صيد الحرم, وأطلقه في الحل, لم يجب عليه رده إلى الحرم, فهلا كان الشجر كذلك؟ قيل: لأن الصيد يقدر على الرجوع إلى الحرم بنفسه, فلم يجب عليه رده, وليس كذلك الشجر. ولو غرس ما قلعه في الحرم- أيضًا- ونبت فلا شيء عليه ما لم يحصل فيه نقص, ولا يجب عليه نقله إلى موضعه؛ لأن حرمة سائر الحرم واحدة؛ قاله الماوردي وغيره من العراقيين. قال: وإن قطع غصنًا منها, ضمن ما نقص؛ لأن أغصانها منها كأعضاء الحيوان منه.

وعلى هذا إذا كان النقص عشر القيمة مثلاً, فهل يجب عشر ما يجب في الجملة, أو عشر قيمته؟ الكلام فيه كما في جرح الصيد؛ قاله القاضي الحسين. وقد أفهم قول الشيخ أمرين: أحدهما: أنه لا فرق بين أن يكون الغصن المقطوع في الحرم أو الحل, وهو الذي صرح به الأصحاب, كما صرحوا بأنه لو قطع غصنًا في الحرم من شجرة أصلها [في] الحل, لا جزاء عليه؛ نظرًا للأصل. نعم: لو كان علي الغصن طائر, حرم صيده على من في الحل, وهو حلال في الصورة الأولى دون الثانية؛ لأن له حكم نفسه كما تقدم. الثاني: أن محل الضمان إذا نقص من قيمتها شيء, أما إذا لم تنقص بالقطع بان قطع الأفنان, وهي الأغصان الصغار, فلا يضمن, وهو ما صرح به أبو حامد؛ لأنه لا يضر بها. قال: ويخالف [هذا] ريش الطائر, وشعر الصيد؛ فإنه يضر به أخذه؛ فإنه يطير به, ويقيه البرد والحر. وفي "تعليق البندنيجي": أن الشافعي- رضي الله عنه- قال في القديم: ويقطع السواك من فروع الشجر, ويؤخذ الورق والثمر منها للدواب إذا كان ذلك لا يميتها ولا يضرها؛ لأن هذا يستخلف, فيعود كما كان. قال: فإن عاد الغصن, سقط الضمان في أحد القولين, ولم يسقط في الآخر. هذان القولان ينبنيان على ما إذا قلع سن كبير فعاد, هل يسقط الضمان أم لا؟ كما سيأتي: فمن قائل: يسقط؛ لعوده. ومن قائل: لا يسقط؛ لان العائد غيره, وهو الذي صححه النواوي. وفي "الإبانة", و"تعليق القاضي الحسين": أنه ينظر: فإن لم يكن يخلف في تلك السنة ضمنه, وإلا فلا. ثم قال القاضي: وفيه نظر.

ولو كان قد أخذ الغصن المقطوع, وغرسه في الحرم, فإن مات, فالحكم [كما] تقدم, وإن نبت, فلا ضمان عليه بلا خلاف, ويثبت لهذا الغصن حكم أصله حتى لو قلعه قالع ضمنه. وقال صاحب التلخيص: إذا كان يعتبر القصد فلا تثبت الحرمة لهذه الشجرة. ومن طريق الأولى جريان مثل ذلك فيما لو غرسه في الحل, ونبت ألا تثبت له حرمة الحرم. وقد أطلق الأصحاب القول بأنه لو غرسه في الحل فإن لم ينبت, فالحكم كما لو غرسه في الحرم ولم ينبت. وإن نبت وجب عليه نقله للحرم, فلو قلعه قالع في الحل ضمنه [وقال الإمام: فيه تردد ظاهر عندي] وكان القرار عليه, كما لو غصب شيئًا, فأتلفه غيره في يده؛ قاله البندنيجي. وحكم النواة- كما قال الفوراني- حكم الغصن في كونه إذا استنبت في الحل يكون إذا طلع حكمه حكم الأصل. قال: وإن أخذ أوراقها- أي: ولم تجف في- لم يضمن؛ لأنها تستخلف في الغالب. نعم: هل يجوز ذلك؟ الذي أورده الماوردي الجواز في حال جفافه, والمنع في حالة رطوبته؛ لأن فيه إضرارًا بالشجرة, فلا يجوز؛ كنتف شعر الصيد وقد يشهد لما نصه في "الإملاء" "ولا يخبط ورق الشجر للدواب". لكن الذي أطلقه الجمهور الجواز, [و] قالوا: إن أخذه لا يضر بها. ولفظ البندنيجي: أن له خبط ورق الشجر والأفنان الرطبة الغضة التي تحل محل الورق, وأخذ ذلك؛ لعلف الدواب, وغير ذلك, وقال: إنه نص عليه في القديم. وليس هذا مع ما قاله في "الإملاء" باختلاف قول, وإنما منع منه في "الإملاء"؛

لأن العصا إذا وقع عليها وصل إلى القضبان, فقشرها, وربما كسرها؛ فلهذا منع منه. تنبيه: قد ذكرنا أنه إنما لم يضمن الورق؛ لأنه يستخلف في الغالب, ومنه يظهر لك أنه يجوز إخراج ماء زمزم؛ لأنه يستخلف, وقد صرح به الأصحاب, وقالوا: لا يكره؛ لأن عائشة كانت تفعل ذلك, وهذا بخلاف تراب الحرم وأحجاره؛ فإنه لا يجوز إخراجها لعدم استخلافهما؛ قاله في "المهذب", و"الحاوي" وغيرهما, فلو أخرج شيئًا من ذلك وجب عليه رده. ومن طريق الأولى أنه لا يجوز أخذ شيء من طيبها, ويجب رده على من أخذه, وبه صرح الأصحاب. وقالوا: من أراد التبرك فليأت بطيب من عنده, يمسحها به, ثم يأخذه. لكن المذكور في "الإبانة" و"تعليق القاضي الحسين": إنه يجوز إخراج التراب, لكنه مكروه. وقياس ذلك أن يطرد في الحجر, وقد صرح به الرافعي فيه أيضا, ولم يحك سواه, ويمكن أخذه من قول الشافعي- رضي الله عنه- في القديم: "وأكره أن يخرج [من تراب الحرم وأحجاره] شيء إلى غيره". ثم قال الشافعي- رضي الله عنه- وقد رخص بعض الناس في ذلك, [واحتج] بشراء البرام من "مكة", والبرام من الحل على يومين أو ثلاثة, يعني: ليس في الحرم, فلا حجة في [ذلك]. لكن في "البحر": أن هذا يدل علي أنه يجوز ذلك, ويكره, وأن بعض أصحابنا ذكر ما يدل على أنه يحرم, ولكن لا يضمن, وهو خلاف المذهب. وقد أعرب الرافعي فحكى عن الشيخ أبي الفضل بن عبدان: أنه لا يجوز قطع شئ من ستر الكعبة- شرفها الله تعالى -ونقله وبيعه وشراؤه, وأن من حمل منه شيئًا فعليه رده, وهو قاعد ما لا يستخلف.

وقول أبي عبد الله الحليمي- ويوافقه قول ابن القاص: لا يجوز بيع كسوة الكعبة. وقال ابن الصلاح: الأمر فيها إلى الإمام يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعًا وعطاء, واحتج بما ذكره الأزرقي أن عمر بن الخطاب كان ينزع كسوة البيت كل سنة, فيقسمها على الحاج. قال النواوي: وهذا حسن. وقد روى الأزرقي عن ابن عباس وعائشة أنهما قالا: تباع كسوتها, ويجعل ثمنها في سبيل الله, والمساكين, وابن السبيل. وقالا: وكذا أم سلمة: ولا بأس أن يلبس كسوتها من صارت إليه من حائض وجنب وغيرهما. قال: ويحرم قطع حشيش الحرم؛ لقوله- عليه السلام- في الحديث السابق الذي رواه ابن عباس: "ولا يُخْتَلى خلاه"؛ كذا قاله [بعض] من الأصحاب, ومنهم ابن الصباغ, والقاضي أبو الطيب والماوردي. ولك أن تقول: الخلا بفتح الخاء مقصورًا: النابت ما دام رطبًا, وكذلك العشب, فإذا يبس فهو الحشيش والهشيم, ولا يقال له رطبًا: حشيش. وذكر ابن مكي وغيره من لحن العوام [إطلاق] الحشيش [على الرطب, وإذا كان كذلك, فكيف يحسن الاستدلال من الحديث على تحريم قطع الحشيش]

ولأجل ذلك قال النواوي: إن البغوي وغيره قالوا: اليابس والرطب يحرم قلعه وقطعه. قلت: ويدل عليه قوله - عليه السلام- "يختلى"؛ فإن معناه: ينتزع بالأيدي وغيرها من المناجل. وأما اليابس فيحرم قلعه, ولا يحرم قطعه, فقول المصنف: "يحرم قطع حشيش الحرم" بالطاء مع أن الحشيش هو اليابس يخالف ما ذكره الأصحاب, وكان ينبغي أن يقول: " [يحرم] قلع الحشيش" باللام, أو "قطع الخلا", كما جاء في الحديث. قال: وأقرب ما يعتذر عنه أنه سمي الرطب: حشيشًا باسم ما يئول إليه؛ لكونه أقرب إلى أفهام أهل العرف. قال: إلا الإذخر؛ لحديث ابن عباس, وألحق الأصحاب به ما يتداوى به كالسنا؛ لأن إباحة الإذخر إنما كانت لأجل الانتفاع به, فألحق به ما ينتفع به دواء. وفي" الوسيط" حكاية وجه آخر: أنه لا يلحق بالإذخر غيره وإن مست إليه الحاجة كما في الإذخر, وحكاه الإمام عن رواية صاحب التلخيص.

والإذخر بكسر الهمزة, والخاء المعجمة: نبت المعجمة: نبت طيب الرائحة, تسقف به البيوت فوق الخشب. قال: والعوسج- أي بفتح العين والسين- لأنه يؤذي فأشبه ما يؤذي من الصيود, وهذا ما ذكره الماوردي, والفوراني, وأكثر الأصحاب, وألحقوا به كل شجر مؤذٍ. وقد حكى القاضي الحسين ذلك في موضع من تعليقه, وحكى في موضع آخر منه وجهًا أنه يحرم قطع العوسج وغيره من الشوك؛ لأن أكثر شجر الحرم هكذا, وهو الذي صححه في" التتمة"؛ لإطلاق الخبر. وقال النواوي: إنه المختار. ثم على طريفة الشيخ وغيره - وهي تحريم قطع العوسج- لو قال الشيخ "والشوك" بدل"العوسج" لكان أقرب. واعلم أن كلام الشيخ يفهم أن العوسج من جملة حشيش الحرم, وقد عده الإمام من شجر الحرم؛ كالطرفاء والأراك, وهو الذي يفهمه كلام الفوراني والقاضي الحسين. قال: فإن قطع الحشيش ضمنه بالقيمة؛ لأنه يحرم قطعه فضمن كالشجر, لكن ضمان هذا بالقيمة؛ لأنه القياس, ولم يرد فيه ما يقتضي خلافه. قال: فإن استخلف- أي: كما كان- سقط عنه الضمان- أي: قولًا واحدًا- كما قال البندنيجي؛ كما لو عاد سن الصغير الذي لم يثغر. قال النواوي: لو قال الشيخ "أخلف", لكان أجود. أما إذا استخلف ناقصًا, فعليه ما نقص. قال البندنيجي: وفي "البحر" أنه قيل: يتصدق عنه بشيء.

وما ذكره الشيخ هو المشهور. وفيما وقفت عليه من" تعليق القاضي أبي الطيب": أنه إذا عاد لا يسقط قولًا واحدًا, ويفارق حكمه إذا قطع غصنًا من شجرة, ثم نبت كما كان؛ حيث قلنا: في ذلك قولان؛ لأن الحشيش إذا قطع نبت في العادة, فلو أسقطنا الضمان عن قاطعه بعوده, أدى ذلك إلى إباحة قطعه, والغصن إذا قطع من الشجرة [فعود نباته] غير معتاد؛ فلذلك قلنا إذا نبت في سقوط الضمان عن قاطعه قولان, وصار هذا بمثابة قولنا: من قلع سن صغير لم يثغر: أنه يضمنها, وإن عاد نباتها قولًا واحدًا- يعني: بالحكومة- ومن قلع سن رجل ثم نبت, ففي سقوط ضمانها قولان. تنبيه: ما ذكره الشيخ يقتضي أنه لا فرق في تحريم قطع الحشيش بين أن يكون لعلف الدواب أو غيره؛ كما إذا قطعه للبيع وغيره من الأغراض سوى العلف, وهو وجه حكاه الشيخ أبو علي في شرح التلخيص, ووجهًا آخر- قال الرافعي: إنه أظهر-: أنه لا يحرم أخذه لعلف الدواب. قلت: ويمكن أخذهما من نصين للشافعي- رضي الله عنه-: أحدهما: قاله في القديم: أن له أن يأخذ الورق للدواب والعلف والأفنان الغضة التي تحل محل الورق. والثاني: قاله في" الإملاء" لا يخبط ورق الشجر للدواب؛ لأن عمر رأى رجلًا يخبط شجر الحرم, فنهاه عنه, وإذا كان في أخذ الورق قولان, فكذا في الحشيش. لكن قال: في "البحر" و"تعليق البندنيجي" و"الطبري"- كما تقدم-: أن المسألة ليست على قولين, بل هي على اختلاف حالين: فالقديم محمول على ما إذا كان الخبط لا يفسد الأغصان الكبار. والذي قاله في" الإملاء" محمول على ما إذا كان الخبط يخدش الأغصان والشجر ويُضِرُّ بها, وربما يكسرها. وذكر صاحب الفروع حالين غيرهما, فقال: إن كانت الأوراق ساقطة, والأغصان يابسة, جاز, وإلا لم يجز.

وذكر أنه يجوز أخذ اليسير من حشيش الحرم. قال: ويجوز رعي الحشيش؛ لأنه- عليه السلام- سوَّى بين المدينة ومكة, حيث قال: " إن إبراهيم حرم مكة, وإني حرمت المدينة [كما حرم الله مكة, ودعا لأهلها, وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا] " ... الحديث, أخرجه مسلم. قال في المدينة- كما سنذكره-: "ولا يصلح أن يقطع فيها شجر إلا أن يعلف رجل بعيره", وهذا يدل على إباحة القطع للعلف؛ فيكون العلف من طريق الأولى. وقد قال الماوردي: إنه جاء في رواية أبي هريرة: أن النبي- صل الله عليه وسلم- قال: "ولا يختلى خلاها إلا لعلف الدواب". ولأن الحاجة تدعو إليه؛ فجاز؛ كقطع الإذخر, والنهي لحفظ المراعي على الدواب. قال: ويحرم صيد المدينة كما يحرم صيد الحرم, للخبر الذي ذكرناه عن رواية مسلم, وأخرج- أيضًا- عن جابر أنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-" إن إبراهيم- عليه السلام- حرّم مكة, وإني حرمت المدينة ما بين لابَتَيْها, لا يقطع عضاهها, ولا يصاد صيدها", وروى أبو داود عن علي بن أبي طالب في قصة طويلة أنه- عليه السلام- قال: " المدينة حرام لا يتخلى خلاها, ولا ينفر صيدها, ولا يلتقط لقطتها إلا لمن بينها, ولا يصلح أن

يقطع فيها شجر إلا يعلف رجل بعيره". وقد دل ما ذكرناه على تحريم صيد المدينة, وقطع شجرها, وما في معناه, وهو الذي صرح به الأصحاب, ولم يذكره الشيخ للعلم أن ما حرم صيده, حرم قطع شجره, كالحرم. وقد حكى في" البحر" أن الشافعي- رضي الله عنه- قال: " ولا يحرم قتل الصيد إلا صيد الحرم, وأكره صيد المدينة", وأن بعض الأصحاب قال: ظاهر كلام الشافعي- رضي الله عنه- أنه كرهه كراهة تنزيه؛ لأنه قال:" لا يحرم إلا صيد الحرم"؛ ولأجل ذلك حكى الفوراني قولًا: أن المدينة كسائر البلاد؛ فلا يحرم صيدها, ولا قطع شجرها, والأكثرون على التحريم, وقالوا: المراد كراهية تحريم. [وعلى هذا] قال: إلا أنه لا يضمن إلا إذا تلف في يده أو بفعله [كما] قال الأصحاب؛ لأنه موضع يجوز دخوله من غير إحرام؛ فلم يضمن صيده؛ كصيد وجّْ, وأنه لا ضمان فيه, وصرحوا به في مواضع أخر, وأنه يحرم] قطع شجره أيضًا. واستدلوا على تحريم ذلك بما رواه ابن الزبير: أنه- عليه السلام- لما توجه إلى الطائف, فبلغ وج, قال: "صيد وج وعضاهه حرام محرم". ولا شك في جريان القول المذكور في أن صيد المدينة وقطع شجرها لا يحرم [جارٍ] في صيد وج وشجره, وقد حكاه الشيخ أبو علي, وجعل النهي نهي كراهة, ولم يذكر في" الوجيز" غيره, لكن الجمهور على التحريم كما ذكرناه, وأنه لا ضمان فيه. ومنهم من قال: إنه يجري فيه القول- الذي سنذكره في صيد المدينة وشجرها-.

قال: وفيه قول آخر- أي: قديم: أنه يسلب القاتل؛ لما روى أبو داود عن سليمان ابن أبي عبد الله قال: رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلًا يصيد في [حرم] [المدينة في الحرم] الذي حرم رسول الله- صل الله عليه وسلم-, [فسلبه ثيابه؛ فجاء مواليه إليه, فكلموه فيه, فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حرم] هذا الحرم, وقال: "من أخذ أحدًا يصيد فيه, فليسلبه"؛ فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-, ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه". وهذا القول قول جارٍ فيما إذا قطع شجرها؛ لرواية مسلم في صحيحه من حديث عامر: أن سعد بن أبي وقاص ركب إلى قصره بالعقيق, فوجد عبدًا يقطع شجرًا أو يخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد, فكلموه أن يرد علي غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم, فقال: معاذ الله أن أراد شيئًا نفلنيه رسول الله- صل الله عليه وسلم-. فعلى هذا يسلب الصائد وقاطع الشجر كما يسلب المقتول من الكفار حتى سراويله وفرسه وكل ما هو متصل به؛ كما سيأتي في موضعه؛ صرح به العراقيون, وكذا الماوردي, لكنه قال: إنه يترك عليه ما يستر عورته. وقال في" البحر": إنه قريب عندي. والأولون قالوا: يقال له: أصل ما يستر به. وقال المراوزة: يسلب ثيابه, وفي حليه وجهان: وعلي كل حال فالسلب يكون للسالب على أحد الوجهين في "الحاوي" وغيره, وهو اختيار القاضي أبي الطيب, وبه جزم الفوراني, لحديث سعد. ومقابله: أنه يكون لمساكين المدينة, كما أن جزاء صيد الحرم لمساكينه.

قال في "الوسيط" تبعًا لإمامه وغيره: ولا فرق فيهم بين القانطين بها, والعابرين؛ كما في الحرم, لكن الأولى صرفه للقاطنين. وحكى الشيخ أبو محمد عن الأستاذ أبي إسحاق والقفال: أنه يترك في بيت المال, ويكون سبيله سبيل السهم المرصد للمصالح. ولا فرق على القول بأنه يسلب القاتل بين صيد وصيد, وكذا حكم الشجر. وقال الإمام: إن بعض أصحابنا ذكر أن الواجب في صيد المدينة وشجرها كالواجب في حرم مكة. وعلى هذا لا خفاء في الحكم, وأما على قول السلب, فغالب ظني أن الذي يهم بالصيد لا يسلب حتى يصطاد [, ولست أدري أيسلب إذا أمسك الصيد, أو ذلك إذا أتلفه]؟ كل ذلك محتمل. وقال الرافعي: إن السابق إلى الفهم من الخبر وكلام الأئمة: أنه يسلب إذا صاد, ولا يشترط الإتلاف. والجديد الصحيح ما ذكره الشيخ أولًا, وحديث سعد قد سئل أبو حاتم الرازي عن سليمان راويه؟ فقال: ليس بالمشهور؛ فيعتبر بحديثه, وإن صح فلعله كان في الوقت الذي كانت العقوبات فيه بالأموال, ثم نسخ ذلك. وهذا ما يجاب به- أيضًا- عن الحديث الذي رواه مسلم عن سعد. قال: وما وجب على المحرم أي: بسبب الإحرام- من طعام وجب تفرقته على مساكين الحرم: كالهدي, لكن ما يعطي كل مسكين منهم؟ أطلق بعض الشراح فيه حكاية وجهين: أحدهما: [مد] , وهو اختيار ابن أبي هريرة. والثاني: ما شاء, ومراده فيما عدا كفارة الأذى, أما في كفارة الأذى, فقد نص النبي- صل الله عليه وسلم- في حديث كعب بن عجرة على القدر المدفوع؛ فلا يجوز الزيادة عليه, ولا

النقصان منه؛ صرح به الماوردي. والحكم فيما إذا وجب الطعام على المحل بتوابع الإحرام, وهو ترك الرمي بعد التحللين ونحوه- كالحكم فيما إذا وجب في الإحرام؛ لكونه من توابعه؛ فألحق به؛ صرح به الإمام. قال في" البحر": ويجب أن ينوي عند تفرقة الطعام كما ينوي في الكفارة. قال: وما وجب [أي:] عليه- من هدي, أي بسبب ترك مأمور: كترك الإحرام من الميقات ونحوه, [أو ارتكاب محظور كالحلق وقتل الصيد ونحوه] والاستمتاع وكذا دم التمتع والقران والفوات ونحوه. قال: وجب ذبحه في الحرم؛ لقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] , وقوله تعالى {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] , وقوله عليه السلام: "فجاج مكة كلها طريق ومنحر". وهذا يدل على تخصيصها بذلك. قال الإمام هنا والماوردي وغيره في باب الهدي: ولا يتعين الذبح [في] يوم النحر وأيام التشريق, بل يجوز قبلها وبعدها. نعم: المستحب أن يكون فيها؛ تشبيهًا لذلك بالتطوع؛ ولذا يستحب أن يكون في موضع تحلله: فإن كان معتمرًا فعند المروة, وإن كان حاجَّا فبمنَى, سواء [كان] مفردًا أو متمتعًا أو قارنًا, قاله البندنيجي والماوردي والإمام, والله أعلم.

قال: وتفرقته على فقراء الحرم؛ لأنه المقصود من الهدي, وإلا فنفس الذبح بغير تفرقةٍ تَلْوِيثُ للحرم, وليس ذلك بقربة, بل مكروه. قال ابن الصباغ وغيره: ويجوز أن يدفعه لمساكين الحرم بعد الذبح وتمليكهم إياه علي الإشاعة, وأي الأمرين فعل, خرج عن العهدة, ولا يخرج بمجرد الذبح عنها؛ حتى لو سرق لم يخرج عما في ذمته, ويجب عليه الإعادة. قال الرافعي في باب الهدي: وله أن يشتري اللحم, ويتصدق به. وفيه وجه آخر: أنه يكفيه التصدق بالقيمة. قال الأصحاب: ويستحب أن يفرقه على القاطنين بالحرم؛ لأنهم أوكد [حرمة] من الطارئ إليه, فلو فرقه على القاطن دون الطارئ, أو على الطارئ دون القاطن, جاز؛ لأنهم قد صاروا من أهل الحرم بدخولهم إليه؛ وقد حكى البندنيجي ذلك عن نصه في "الأم". قال الماوردي: وليس لما يعطيه, لكل واحد منهم قدر معلوم, ولا عدد من يعطيه معلوم نعم: لا يجوز أن يعطي أقل من ثلاثة مساكين ما كان يقدر عليهم؛ لأنه أقل الجمع المطلق. قلت: ولقائل أن يقول: لم لا يجب تعميمهم إذا أمكن؛ لأنا على قول منع [نقل] الصدقة, نقول: إن أهل "السهمان" يملكونها حتى لو مات واحد من الفقراء, وله وارث غنى, صرفت إليه, والنقل هنا ممنوع؛ فيجب أن يجري في التفريغ عليه مجرى الزكاة. ولا يجوز له الأكل منه بحال؛ صرح به الماوردي وغيره في باب الهدي, وقد يؤخذ من قول الشيخ: "وتفرقته على فقراء الحرم" وهذا الذي ذكره الشيخ هو المشهور. وقد حكى في" البحر" قولًا عن القديم فيما إذا ارتكب في الحل ما يوجب دمًا: كما لو دفع من عرفة قبل الغروب: أنه لا يختص الهدي بالحرم؛ حتى لو ذبح في

الحل, وفرق اللحم في الحل, جاز؛ لان ذبحها لا يختص بزمان النسك؛ [حتى يجوز قبل يوم عرفة؛ فلا يختص بمكان النسك] بخلاف دم التمتع. ويقرب من هذا ما حكاه الإمام من أن شيخه ذكر وجهًا غريبًا فيمن حلق قبل الانتهاء إلى الحرم: أن له تفرقة اللحم حيث حلق, واستدل له بحديثه- عليه السلام- مع كعب بن عجرة, وكان حلقه في محل بعيد عن مكة, ودلَّ ظاهر كلامه على التسلط على إراقة الدم وتفرقة اللحم, ثم قال: وهذا بعيد؛ فإن ما ذكره- عليه السلام- محمول على إعلامه كعبًا ما يجب عليه بسبب الحلق, فأما التعرض لتنجيز الإراقة وتعجيل تفرقة اللحم, فلم يتعرض له- عليه السلام. قلت: بل ما ذكره- عليه السلام- في قصة كعب كالنص على جواز النحر في موضعه؛ فإنه جاء في رواية عامر عن كعب: أنه- عليه السلام- مرَّ به زمن الحديبية, فذكر القصة قال: " أمعك دم؟ " قال: لا. وفي رواية البخاري ومسلم: " أتجد شاة؟ " قال: لا, قال: " فصم ثلاثة أيام, أو تصدق بثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين [بين] كل مسكينين صاع", أخرجه أبو داود. نعم: يقع الرد على صاحب هذا الوجه من طريق آخر, وهو أن كعبًا كان محصرًا, فإنه- عليه السلام- ومن معه أحصروا عام الحديبية عن البيت؛ كما سنذكره, والجديد: أن المحصر يذبح ما عليه من دم حيث أحصر كما سنذكره, والمدعي هنا جواز الذبح لغير المحصر؛ فلا تنهض قصة كعب دليلاً عليه. وقد حكى ابن الصباغ وغيره عن القديم [قولًا على غير هذا النحو, فقالوا: نصَّ الشافعي- رضي الله عنه- في القديم] على أن المحرم إذا اضطر إلى قتل الصيد,

أو الطيب, أو اللباس في الحل, وفعل ذلك في الحل- كان له الهدي في الحل؛ كالمحصر. ثم قالوا: وهذا غير صحيح, لأنه دم تعلق بالإحرام؛ فأشبه إذا لم يضطر إلى سببه, ويفارق المحصر, فإنه متعذر عليه الوصول إلى الحرم. ولأنه يتحلل في الحل, بخلاف مسألتنا. وقد حكى الإمام أن صاحب التقريب ذكر وجهًا غريبًا على نسق آخر, فقال: كل ما أقدم عليه المحرم من موجبات الدم, وكان مسوغًا له بعذر وغير عذر, فله أن يريق الدم, [ويفرق اللحم] حيث شاء, وكل سبب يحرم الإقدام عليه, فإذا فرض صدوره من المحرم, كان النحر والتفرقة بالحرم, وأنه زيفه. وإذا عرفت ما يجوز له فعله [مما ذكرناه] وما لا يجوز, فلو خالف ذلك , نظر: فإن كان بالذبح في الحل, والتفرقة فيه, لم يجزئه اتفاقًا على المشهور إلا دم الإحصار؛ كما سنذكره. وإن كان الذبح في الحل لا غير, وقد نقله وفرقه على فقراء الحرم- نظر: فإن كان لم يتغير اللحم فوجهان. المذهب المنصوص منهما: عدم الإجزاء؛ لأن إراقة الدم فيه مقصوده كالتفرقة. وقد أشعر إيراد بعضهم بجواز الذبح في غير الحرم إذا كان النقل ممكنًا قبل تغير اللحم, وبه صرح في "الإبانة", ونقله قولًا للشافعي- رضي الله عنه- وعليه يحمل قول بعض الأصحاب الذي وافقه الإمام عليه: إن دماء الجبرانات لا يجب تبليغها الحرم؛ كما سنذكره في باب النذر. وإن كانت المنعالفة بالذبح في الحرم, والتفرقة في الحل, لا يجزئه اتفاقًا وإن فرق ذلك على فقراء الحرم؛ لأن الآية لا يجوز أن تكون مختصة بالإراقة دون التفرقة؛

لأنها لا تفيد إلا [تلويثًا, وليس] تلويث الحرم قربة [بل صيانته عن الأنجاس قربة] ولو كانت المنعالفة بالأكل منه, ضمنه, وبماذا يضمنه؟ فيه الأوجه الثلاثة التي نذكرها في باب الأضحية. أما ما وجب عليه أو على غيره لا سبب الإحرام وتوابعه: كنذر الهدي, فسيأتي الكلام فيه في باب النذر. قال: [فإن كان محصرًا] جاز أن يذبح, ويفرق-[أي: دم الإحصار وغيره] حيث أحصر. أما دم الإحصار, فللاقتداء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه: روى ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج معتمرًا, فحالت كفار [قريش] بينه وبين البيت؛ فنحر هديه, وحلق رأسه بالحديبية. وروى مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله قال: نحرنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية البدنة عن سبعة, والبقرة عن سبعة, وبين الحديبية والحرم ثلاثة أميال.

ولأنه موضع تحلله؛ فكان موضع نحر هديه؛ كالخرم. فإن قيل: قد روى أبو داود: أن ابن عباس قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء, وهذا يدل على عدم إجزائه. قيل: في إسناده محمد بن إسحاق, وهو متكلم فيه. ثم إن صح فهو محمول على الاستحباب؛ كما استحب الإتيان بالعمرة وإن لم يكن قضاء ما أحصر عنه واجبًا [بالتحلل]. وأما غير دم الإحصار من الدماء الواجبة بسبب الإحرام؛ فلقصة كعب بن عجرة السالفة. وأيضًا: فإطلاق خبر ابن عمر يدل عليه؛ وهذا هو الجديد. وحكى البندنيجي: أن اضطر إلى قتل الصيد فقتله, أو [اضطر] إلى الحلق؛ فحلق- فإن عليه الهدي, ونحره في محله. وإن كان الواجب بأمر لم يضطر إليه: كاللباس, [والحلق] والطيب, ونحو ذلك, فمحله الحرم, لا يجزئه غيره. واعلم أن بعض الشارحين لهذا الكتاب فهم من كلام الشيخ جواز الذبح للمحصر حيث أحصر, وإن قدر على الوصول إلى الحرم [؛ فقال بعض شراحه: وقيل: إن أحصر في غير الحرم, وقدر على الوصول إلى الحرم] , لم يجزئه أن يذبح إلَّا في الحرم؛ لأنه يقدر على إبلاغه الحرم؛ وهذا الذي قاله صحيح فيما إذا كان قد أحصر عن البيت, لكن الذي فهمته من كلام الشيخ [هنا] أن مراده بالحصر هنا الإحصار

عن الحرم, لا عن البيت, والله أعلم. ولو وجب عليه صوم, نظر: فإن كان صوم تمتع, فقد تقدم ذكره. وإن كان غيره, صام حيث شاء من الأمكنة؛ إذ لا منفعة لأهل الحرم في صيامه. قال في "الحاوي": لكن صيامه في الحرم أولى؛ لشرف المكان, وقرب الزمان. وهل تجب المتابعة فيه؟ فيه وجهان في "الحاوي". وقد نجز شرح مسائل الباب, ولنختمه بفروع تتعلق به. إذا وجب على المحرم دماء ليس فيها جزاء صيد, ويجزئ في كل منها شاة- جاز أن يخرج عن سبعة منها بدنة أو بقرة؛ لأن كل سبع منها قائم مقام شاة؛ ولذلك جاز لسبعة إخراجها عن سبع دماء واجبة عليهم؛ كما دل عليه خبر جابر في عام الحديبية, وخبر أبي هريرة الذي أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن. وكذا يجوز لمن عليه شاة: أن يخرج سبع بدنة أو بقرة, ويمسك الباقي لنفسه لحمًا, ولو أخرج جميعها عن الشاة أجزأت؛ لكن الواجب كلها أو سبعها؟ فيه خلاف. وأما جزاء الصيد فالمعتبر فيه المماثلة؛ فلا يجزئ فيه إلا [المثل] المسمى. وعلى هذا فلا يجوز لمن [وجب] عليه بدنة أن يخرج عنها بقرة أو سبعا من الغنم. وقال القاضي الحسين: إنها إذا وجبت في غير جزاء الصيد, كان له ذلك ويجزئ. وفي ذلك نظر؛ لما تقدم: أن كفارة الجماع مرتبة على الصحيح, ويجب فيها البدنة.

وجوابه أن يقال: ذكره تفريعًا على القول بأنه مخير في البدنة والبقرة والغنم بلا خلاف, وقد حكى في "البحر" وجهًا عن رواية ابن المرزبان أنه يجزئ إخراج البقرة وسبع من الغنم عن البدنة الواجبة بقتل النعامة. ولو وجب على شخصين دمان بسبب قران وتمتع, فأخرجا شاة واحدة عنهما- لم يكتف بها, وماذا يجب عليهما؟ فيه وجهان في "الحاوي" في باب النذر: أحدهما: يجب على كل منهما شاة؛ لان هذه لم تقع الموقع. والثاني: قال- وهو الصحيح-: أنه يجب على كل [واحد] منهما نصف شاة, والله عز وجل أعلم.

باب صفة الحج

باب صفة الحج هذا الباب مسوق لبيان صفة الحج المشتملة على الفرائض والواجبات والسنن, وأكثر ما فيه تشارك العمرة فيه الحج كما سنبينه, ويقتضيه كلام الشيخ- أيضًا- في هذا الباب, وبعد, حيث لم يبين في باب صفة العمرة [جميع] صفأنها. قال الشيخ- رحمة الله عليه-: إذا أراد المحرم دخول مكة, اغتسل-أي: في طرفها- كما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- في "الأوسط", لما روى البخاري قال: كان ابن عمر إذا دخل [أدنى] الحرم, أمسك عن التلبية, ثم يبيت بذي طوى, ثم يصلي الصبح, ثم يغتسل, ويحدث أن النبي- صل الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك. و"ذي طوى"- بفتح الطاء-: طرف مكة. قيل: سمي بذلك؛ لأن بئرها كانت مطوية بالحجارة, ولم يكن هناك غيرها؛ فنسب الوادي إليها. وقد نقل عن الشافعي- رضي الله عنه- أنه قال: "وأحب للمحرم أن يغتسل من ذي طوى". قال معظم الأصحاب: وذلك إذا كان طريقه عليها, فإن كان على غيرها, اغتسل من حيث ورد من طريقه لدخول مكة؛ لأن الغرض الاغتسال لا البقعة و [قد] كان عمر بن عبد العزيز يغتسل لدخول مكة من بئر ميمون؛ لأن طريقه كان عليها.

وأطلق القاضي أبو الطيب القول بأن اغتساله من ذي طوى وغيرها سواء. هذا هو المشهور. وفي "التتمة" أن المقصود من هذا الاغتسال التنظيف لا للتعبد؛ حتى يصح من غير نية وتؤمر به الحائض. تنبيه: قول الشيخ: "إذا أراد المحرم ... " إلى آخره يقتضي أمرين: أحدهما: أنه لا فرق في هذه السنة بين أن يكون قد أحرم بحج أو عمرة أو بهما؛ إن لم نضمر فيه شيئًا, وهو موافق لما ذكره ابن الصباغ عن ابن عمر: أنه كان إذا خرج حاجًّا أو معتمرًا بات بذي طوى .. وساق الحديث, ولا شك في ذلك إذا كان المحرم آفاقيًّا, وقد أحرم من الميقات, أما إذا كان [قد] خرج من مكة, واحرم بالعمرة, ففي "الحاوي": أنه ينظر: فإن أحرم من موضع بعيد كـ "الجعرانة", والحديبية فيجب أن يغتسل ثانيًا؛ لدخول مكة؛ كما في الداخل إليها من غيرها. وإن احرم من موضع يقرب من "مكة": كالتنعيم, أو من أدني الحل- لم يغتسل ثانيًا؛ لأن الغسل إنما يراد للتنظيف وإزالة الوسخ عند دخوله, وهو [باقٍ في] النظافة بغسله المتقدم مع قرب الزمان ودنو المسافة. قلت: ويظهر أن يقال بمثل ذلك في الحج: إذا أحرم به من التنعيم, أو أدنى الحل؛ بكونه لم يخطر له ذلك إلا فيه. أما إذا أضمرنا بعد قوله: "إذا أراد المحرم" لفظه به ويعيد الضمير على الحج- فلا يقتضي [ذلك] مشاركة المعتمر الحاج في هذه السنة. الثاني: أنه لا فرق في هذه السنة وما بعدها إلا ما نبه عليه- بين الرجل والمرأة, الطاهر والحائض والنفساء, وليس كذلك, بل بعض السنن مختص بالرجال كما سنبينه, والبعض يشترك فيه الرجال والنساء, ومنه سنة الغسل؛ لأنه يستحب لها

الاغتسال للإحرام- كما تقدر- للخبر, ومن [استحب له الغسل للإحرام] , استحب له الغسل لدخول مكة؛ كالرجل. وما استدل به بعضهم على ما ذكرناه من قوله- عليه السلام- لعائشة وقد حاضت وهي تبكي: "إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم, فاغتسلي, وأهلي [بالحج] وحجي, واصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ولا تصلي" ومما يفعله [الحاج] الاغتسال- فلا دلالة فيه على ما ادعيناه؛ لأن هذا القول لها من رسول الله –صل الله عليه وسلم- يوم التروية وهي بـ "مكة" حين ذهاب الناس إلى الحج, كما ورد في تتمة الخبر المذكور. ومما ذكرناه من الدليل يظهر لك أن الداخل لمكة إذا لم يجد الماء تيمم, وإن قدر على الوضوء فقط توضأ؛ كما ذكره في الإحرام, وقد حكيته من قبل, وصرح به الماوردي [هنا]. [تنبيه] آخر: مكة: ذكرها الله-تعالى- في كتابه في قوله تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24]. وقال- تعالى ذكره-: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّة} [آل عمران: 96] , واختلف العلماء في ذلك: فقال قوم: هما لغتان, والمسمى واحد. وقال آخرون: المسمى بهما شيئان, وهؤلاء اختلفوا: فقال إبراهيم ويحيى: مكة: اسم البلد, وبكة [اسم] البيت.

وقال زيد بن أسلم: مكة [اسم] الحرم, وبكة: المسجد كله. قال: ويدخل من ثنية كداء [بيته, كذا] من أعلى مكة, وإذا خرج, خرج من ثنية كداء من أسفل مكة؛ لما روى البخاري ومسلم عن عائشة: أن النبي- صلى الله عليه وسلم-, كان إذا دخل مكة, دخل من أعلاها, وخرج من أسفلها. ورويا- أيضًا- وغيرهما عن ابن عمر أن النبي- صل الله عليه وسلم- كان يخرج- أي: من المدينة- من طريق الشجرة, ويدخل [-أي: إليها-] من طريق المُعَرَّس,: وإذا دخل [مكة] دخل من الثنية [العليا] , ويخرج من الثنية السفلى والشجرة: على ستة أميال من المدينة, وكذا المُعَرَّس: وهو بضم الميم وفتح العين, وتشديد الراء المهملة, وفتحها, وبعدها سين مهملة. والثنية العليا التي [يدخل منها مكة] يقال لها: كَدَاء: بفتح الكاف, والمد. والسفلى التي يخرج منها, يقال: كُدَا بضم الكاف, والقصر, وهما جبلان قريبان من مكة؛ قال الجوهري. وقال النواوي: الثنية: الطريق الضيق بين جبلين. وكَداء المفتوحة ينزل منها على الأبطح ومقابر مكة, والمضمومة السفلى عند قُعَيقعان, وهي طريق العمرة. وقد ذكر القاضي الحسين في التعليق: أن الثنية العليا [التي يدخل منها] بضم الكاف, والسفلى [التي يخرج منها] بفتح الكاف.

وقال الرافعي في الثنية العليا ما ذكرناه من قبل, وقال في الثنية السفلى-إنها- بضم الكاف, وأن الذي يشعر به كلام الأكثرين: أنها بالمد-أيضًا- ويدل عليه: أنهم كتبوه بالألف. وقال النواوي في" الروضة": الصواب الأول, وهو الذي أطبق عليه [المحققون من] أهل الضبط, ولا اعتداد بغيره, وأما كتابته بالألف فليست بلازمة للمد. وهذه السنة يشترك فيها الرجال والنساء. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمورًا: أحدهما: أنه لا فرق فيما ذكره بين أن يكون طريق الداخل والخارج من تلك الجهة أو من غيرها, وهو ما ذكره أبو محمد, وقال: إن كان [على] الطريق [الأول] , وإلا عدل إليه؛ تأسِّيًا به- عليه السلام- فإن الثنية العليا منحرفة قليلًا عن طريق مكة, وهي تقتضي إلى باب بني شيبة ورأس الردم, وطريق المدينة تفضي إلى [باب] إبراهيم. وقد تبعهم [النواوي في "الروضة"] فقال: الصحيح: أنه يستحب الدخول من الثنية العليا [لكل آت من كل جهة. وقال الصيدلاني: الدخول من الثنية العليا] ليس نسكًا, وإنما كانت طريقه- صلى الله عليه وسلم- فدخل منها. قال الإمام: وما ذكره من الحكم هو الذي قاله الأئمة, وهو الأوجه عندي؛ فإن الممر والمسلك قبل الانتهاء إلى المسجد لا يصح تعلق النسك به. وما ذكره شيخي [يعني: والده]- من أن الثنية منحرفة قليلًا عن طريق مكة إلى آخره صحيح, ويمكن أن يحمل دخول رسول الله- صل الله عليه وسلم- منها على غرض

أو سبب يتعلق بالعبادة, لم يعتن الرواة بنقله. [قلت: لعل مراد الصيدلاني بكونه على طريقه: أنه على طريق من يقصد باب بني شيبه, وقد توافقوا على أن الدخول منه مطلوب وأنه- عليه السلام- قصده, وحينئذٍ لا اعتراض عليه, وهو الأقرب]. وفي "الحاوي" و"تعليق القاضي الحسين" و" التهذيب" أمر متوسط بين القولين: وهو أن ذلك سنة لمن جاء من طريق المدينة؛ كما اتفق النبي- صل الله عليه وسلم- أما من جاء من غيرها, فلا يكلف أن يدور حول مكة؛ ليدخل منها؛ لما فيه من المشقة. الثاني: أنه لا فرق بين دخولها ليلًا أو نهارًا, وهو المذكور في "الحاوي", و"الشامل", و"تعليق أبي الطيب"؛ لأنه- عليه السلام- دخلها في عمرة الجعرانة ليلًا, ودخلها في عمرة القضاء, وعام الفتح, وفي حجة سنة عشر- نهارًا. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر انه كان يدخل مكة نهارًا, ويذكر عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه فعله. فإن قيل: إكثاره- عليه السلام- من الدخول في النهار يدل علي رجحانه عنده؛ فينبغي أن يكون مستحبًا. قلنا: قد قال به في" التهذيب", [وأنه إذا دخلها] ليلًا لم يكره, وقد صححه النواوي في "الروضة", وقال: إن غير صاحب "التهذيب" قال به, وهو قول أبي إسحاق [وقد رأيته في "البحر" معزًا إلي أبي إسحاق, والمشهور أنه قول إسحاق] ابن راهويه. والقائلون للأول أجابوا عن كثرة دخوله- عليه السلام-[نهارًا إنما] أجاب به ابن أبي رباح حين سُئل عن ذلك, وهو أنه- عليه السلام- كان إمامًا, فدخل مكة

نهارًا؛ ليرى الناس أفعاله؛ فيقتدوا به, وغيره ليس مثله. الثالث: أنه لا فرق بين أن يدخلها راجلًا أو راكبًا. [وفي "الروضة" حكاية وجهين في أن الأفضل دخولها ماشيًا أو راكبًا]. والصحيح, ولم يذكر في" البحر" سواه, الأول, وقال: إنه يستحب أن يدخلها بخشوع قلب وخضوع جسد. واستحب النواوي: أنه إذا دخلها ماشيًا أن يكون حافيًا, وهو ما ذكره في" البحر" عن بعض الناس مستدلًا بقوله تعالى لموسى - عليه السلام- لقد حج هذا البيت سبعون نبيًّا, كلهم خلعوا نعالهم من ذي طوى؛ تعظيمًا للحرم". قال الأصحاب: ويستحب أن يدخل إلى المسجد من باب بني شيبة؛ لأن عائشة كانت تدخل منه؛ اقتداء برسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وقال في "المرشد": غنه يستحب أن يخرج من باب بني مخزوم, وقد وافق البغوي وشيخه وغيرهما على استحباب الدخول من باب بني شيبة, وهو الباب الأعظم الذي يلي المعلى والردم, ويعرف قديمًا بباب بني عبد شمس؛ لأنه لم يكن على طريقه عليه السلام؛ فإن الداخل من طريق المدينة أول ما يصل إليه من أبواب المسجد باب إبراهيم- عليه السلام- وقد دخل من باب بني شيبة؛ فكان

سُنَّة لجميع الناس. ولأنه لا مشقة كثيرة في دورانه حول المسجد؛ ليدخل منه. قال الإمام: ولعل السبب في استحباب ذلك: أنه في جهة باب الكعبة، والركن الأسود. وقال الماوردي: لأنه يكون محاذياً لوجه الكعبة، وبابها، والمنبر، والمقام، والركن؛ وقد قال الله تعالى: {وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]. ويستحب أن يقول عند دخوله ما رواه أبو حميد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد، فليصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم، وليقل: اللهم إني أسألك من فضلك". وقد قال عمر بن عبد العزيز لما دخل المسجد الحرام: "اللهم إنك قلت في كتابك: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا} [آل عمران: 97] [اللهم] فاجعل أمننا عندك أن تكفينا مؤنة الدنيا، وكل هول دون الجنة". قال: فإذا رأى البيت- أي: من عند رأس الردم- رفع يديه؛ لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ترفع الأيدي في [استقبال] البيت".

وروى ابن عباس أنه – عليه السلام- قال: "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن: عند رؤية البيت، وعلى الصفا والمروة، وفي الصلاة، وفي الموقف، وعند الجمرتين ... ". وهذا من السنن التي يشترك فيها المحرم بالحج والعمرة؛ نص عليه في الجامع الكبير وحكاه القاضي أبو حامد في جامعه. وقال في "الإملاء": ليس في رفع اليدين شيء أكرهه، ولا أستحبه، ولكنه حسن

للخبر. قال: وقال: "اللهم زد هذا البيت، تشريفاً وتكريما وتعظيماً ومهابة، وزدْ من شرَّفه وعظَّمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً، وتكريماً، وتعظيماً، وبرًّا"؛ هكذا نص عليه في "الأم". وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك عند رؤية البيت؛ حكاه أبو الطيب وغيره قال: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام"؛ ولما رُوِي عن سعيد بن المسيب أنه كان يقوله. ويروى عنه أنه قال: "سمعت عمر بن الخطاب يقول ذلك لما رأى البيت ثم يدعو". ولأن هذا الدعاء يليق بهذا المكان؛ فاستحب. وقد روي أنه – عليه السلام- قال: "بفتح أبواب السماء واستجابة دعوة المسلم عند رؤية البيت". وقد زاد في "المهذب" و"التتمة" مع ما ذكرناه: "وكرَّمه" بعد قوله: "وزد من شرَّفه". وروى المزني عوض قوله: "وبِرًّا" و"مهابة" وغلطه الأصحاب فيه؛ لأنه خلاف المنصوص والمروي في الحديث، كما تقدم. ولأن المهابة للبيت لا لمن عظمه. قال في "البحر": وقد قيل: ما ذكره المزني مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم مرسلاً، رواه ابن جريج.

تنبيه: التشريف: الرفع: والإعلاء. [و] التكريم: التفضيل. [و] التعظيم: التبجيل. [و] المهابة: التوقير والإجلال. [و] البر: الاتساع في الإحسان والزيادة منه، وقيل: الطاعة، وقيل: اسم جامع لكل خير. وقوله: "اللهم أنت السلام [ومنك السلام] ... " إلى آخره. وقال الأزهري: "السلام" الأول: اسم الله تعالى، و"السلام" الثاني، معناه: من أكرمته بالسلام، فقد سلم، "فحينا ربنا بالسلام"، أي: سلمنا بتحيتك إيانا من جميع الآفات. قال: ويبدأ يطواف القدوم؛ لما روى مسلم عن ابن عمر قال: "طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة، واستلم الركن لأول شيء، ثم خب ثلاثة أطواف من السبع، ومشى أربعة [أطواف،] ثم ركع حين مضى طوافه، وكان يسعى ببطن الوادي؛ إذا طاف بين الصفا والمروة. وروى البخاري ومسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم "لما فتح "مكة" أتى الحجر، فاستلمه، ثم مشى على يمينه، ورمل ثلاثاً، ومشى أربعاً". وهذا الطواف سنة للحاج رجلاً كان أو امرأة؛ إن كان فعله قبل الوقوف؛ لأن تحية

البيت كتحية المسجد، إلاَّ أن المرأة ذات الجمال والمنظر. قال الشافعي - رضي الله عنه – "الواجب لها أن تؤخره إلى الليل؛ ليستر الليل منها"؛ قاله في "الأم". ولفظه في القديم: "إذا قدمت المرأة مكة، وهي محرمة، فينبغي [لها] أن يكون أول ما تبدأ [به طواف] القدوم إلا أن تكون شريفة؛ فإنها تطوف ليلاً؛ لأن ذلك أستر لها". فإن قيل: [لم] قدَّم الطواف على تحية المسجد، قيل: لأن القصد من إتيان المسجد البيت، وتحيته الطواف، ولأنها تحصل بركعتي الطواف. [وإن كان] فعله بعد الوقوف بعرفة، وقع فرضاً؛ لأنه قد دخل وقت طواف الإفاضة، ولا يقع من الشخص طواف نفل في وقت يصح [منه] فيه طواف الفرض، وهو عليه. ولهذا المعنى لو كان القادم محرماً بعمرة، لم يكن طواف القدوم سنة في حقه؛ لأنه يقع عن فرضه، نعم: تعجيله سنة. ثم ما ذكره الشيخ من البداءة بطواف القدوم، فإنما هو إذا لم يكن [له] عذر، ولم يخف فوت مكتوبة، أو سنة راتبة، ولم يكن عليه قضاء [صلاة] فريضة؛ كما قال الماوردي. فلو كان له عذر، بدأ بزواله، ولو خاف فوت ما ذكرناه فقد قال الشافعى- رضى الله عنه -: "أنه يبدأ به قبل [طواف القدوم ثم يأتي بالطواف؛ لأنه يفوت، و] الطواف لا يفوت". ولو كان عليه قضاء مكتوية نسيها، ثم ذكرها، بدأ بها؛ قاله الماوردي وغيره. وقال: إنه إذا حضر المسجد، ولم تقم الصلاة بعد، ولكن قرب وقت إقامتها.

بحيث لم يبق من الزمن ما يسع الطواف: أنه يشتغل بتحية المسجد. وقال القاضي أبو الطيب: إنا نأمره بأن يطوف إلى حين تقام الصلاة، ثم يقطع طوافه، ويصلي مع الناس، فإذا فعل ذلك عاد، وأتم طوافه؛ لأنه لا يبطل بالتفريق؛ وهذا هو الصحيح، وإلاَّ فسيأتي خلاف في اشتراط الموالاة في الطواف. وهكذا الحكم فيما لو كان في طواف الإفاضة، فأقيمت الصلاة، فإنه يستحب له أن يصلي مع الناس، ثم يعود إلى طوافه، ويبني عليه، نص عليه في "الأم". نعم: قال قيما إذا خشي فوات الوتر، أو ركعتي الفجر، أو حضرت جنازة "فلا أحب له أن يترك طوافه لشيء من ذلك". ووجهه: أن ذلك سنة أو فرض كفاية، [وما هو فيه من فروض الأعيان؛ فلا يترك لأجل سنة أو فرض كفاية]. وبهذا يظهر الفرق [بينه و] بين ما إذا خشي فوات ذلك، وكان في طواف القدوم [؛ لأن طواف القدوم] سنة على المذهب لا واجب. وإنما لم يسقط طواف القدوم بأداء فريضة مؤداة، أو مقضية، أو سنة راتبة، وإن سقط بذلك تحية المسجد؛ لأن صورته لا توجد فى صورة الصلاة؛ بخلاف ركعتي التحية. نعم: لو طاف طواف الفرض بأن كان معتمراً، فطاف عنها، أو طاف طوافاً منذوراً- تأدى بذلك سنة القدوم، قاله القاضي الحسين. قلت: وكذا إذا طاف طواف الزيارة؛ بأن يكون لم يأت مكة إلا بعد الوقوف كأهل العراق، والله أعلم. تنبيه: الطواف من طاف به، أي: ألمَّ، يقال: طاف حول الكعبة، يطوف طَوْفًا وطوفاناً، ويطَّوف، واستطاف؛ كله بمعنىً، وطاف طوفة، وطوفتين، وسبع طوفات. وقد كره الشافعي - رضي الله عنه - أن يقال: "طاف أشواطاً" و"أدواراً"؛ لأن

مجاهداً كرهه؛ نص عليه في "الأم"0 وقال القاضى الحسين: إنما كرهه؛ لأن الشوط فى حقيقة اللغة: الهلاك؛ فكرهه لاسمه؛ كما كره اسم العقيقة؛ لما فيه من لفظ العقوق. قال النواوي في "المناسك": [لكن] في صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عباس تسمية الطواف شوط؛ فالظاهر: أنه لا كراهة فيه. وفي الشرع ثلاثة أطواف؛ أحدها: طواف القدوم، ويقال [له] طواف القادم والورود [و] الوارد، والتحية. الثاني: طواف الإفاضة، ويقال له: طواف الزيارة، وطواف الفرض، [وطواف الركن،] وطواف [الصَّدَر] بفتح الصاد والدال. الثالث: طواف الوداع، ويقال [له]: الصدر. قال: ويضطبع أي: الرجل- لما روى أبو داود وابن ماجه عن عمر بن الخطاب: أنه قال: "فِيمَ الرَّمَلان" والكشف عن المناكب وقد أضاء الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله ومع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأراد عمر: أن السبب الذي [كان] لأجله شرع الاضطباع والرمل: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة في عمرة القضاء، وقد وهنتهم الحمى، قال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا بها شرًّا، فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوه، فأمرهم أن يضطبعوا، وأن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، فلما رأوهم قالوا: هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى وهنتهم، هؤلاء أجلد منا وما نراهم إلا

مثل الغزلان. وإذا كان [هذا] الببب فهو قد زال. و [قد] روي عن يعلى - وهو ابن أمة - قال: "طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعاً ببرد". قال الترمذي: وهو حسن صحيح. ولا يقال: إن هذا كان في ابتداء الأمر قبل الفتح؛ فلا حجة فيه؛ لما سنذكره من أنه اضطبع في عمرة الجعرانة، وهي بعد الفتح، وعام حجة الوداع؛ فدل على بقائه سنة. [قال]: فيضع وسط ردائه- أي: بفتح السين تحت عاتقه الأيمن، ويطرح طرفيه على عاتقه الأيسر، لأنه - عليه السلام - وأصحابه فعلوه كذلك. وروى أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى. والاضطباع: مشتق من الضبع- بإسكان الباء -: وهو العضد. وقيل: النصف الأعلى من العضد. وقيل: منتصف العضد. وقيل: الإبط. وهو افتعال من الضبع، أبدلت التاء: طاء؛ لأن أصله الاضتباع.

قال الأزهري: ويقال الاضطباع: التأبط، والتوشح. ثم ما ذكره الشيخ، ونقلناه من الخبر يفهم أن منكب المضجع الأيمن يكون مكشوفاً دون الأيسر، وهو المستحب. ويدوم استحباب ذلك إلى أن يتم طوافه؛ لخبر يعلى، فإذا أراد أن يصلي ركعتيه، تركه؛ لقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. ولأن [الاضطباع مكروه في الصلاة. وإذا فرغ من الركعتين، أعاد الاضطباع للسعي؛ لرواية] يعلى بن أمية: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً يين الصفا والمروة". ولأنه أحد الطوافين؛ فكان مشروعاً فيه؛ كالطواف بالبيت؛ هكذا أورده العراقيون، وحكوه عن النص صريحاً، وهو الصحيح. وكلام الشيخ يفهم: أنه يدوم مضطبعاً من حين يشرع في الطواف إلى أن يفرغ من السعي، وهو وجه حكاه الغزالي وغيره. وقال القاضي الحسين: إنه يمكن أخذه من قول الشافعي - رضي الله عنه – على قراءة من قرأه ["ويضطبع للطواف حنى يكمل سعيه"، والأول موافق لقراءة من قرأه] "حتى يستكمل سبعة" بضم السين وفتحها. وفي "تعليق القاضي أبي الطيب": أن لفظه في "المختصر": "حتى يتم سبعة"، وفي غيره: "حتى يتم سعيه"، وأن أبا إسحاق المروزي، قال: المسألة على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال الشافعي: "حتى يتم سبعة"، أراد به: الطواف الذي لا يتعقبه سعي. والموضع الذي قال: حتى يكمل سعيه أراد به إذا جمع الطائف بين الطواف. وقال الداركي: هذا التأويل [وهم]؛ لأن عند الشافعي - رضي الله عنه - لا

يستحب الاضطباع [في طواف لا سعي بعده. وقد قال غيره: إن كل طواف بدأ يعقبه السعي إذا صدر من رجل، شرع فيه الاضطباع]، سواء كان متعاطيه غريباً أو مكيًّا، وسواء كان الطواف فرضاً: كالطواف في العمرة، أو في الحج، إذا لم يتقدمه طواف القدوم، أو سُنَّةً: كطواف القدوم كما أفهمه كلام الشيخ. لكن لماذا؟ هل لكونه مبتدأ به، أو لتعقب السعي؟ فيه قولان: الجديد الأول، والقديم الثاني: وهو الذي ذكره الماوردي، [وابن الصباغ]. وفي "المهذب": [وقضية] ذلك: أنه لو تركه في طواف القدوم، وقد تعقب السعي، لم يسن له الاضطباع فيما بعده؛ لفقد الأمرين، وهو الذي ذكره القاضي الحسين، [تبعاً للشيخ أبي حامد]. [لكن] في "المهذب" و"الشامل" حكاية وجهين في إعادته في طواف الزيارة عن رواية القاضي أبي الطيب. والمذهب، والمختار في "المرشد": أنه لا يستحب. ولو أراد أن يطوف للقدوم، ولا يسعى عقيبه، فهل يسن له الاضطباع؟ فيه قولان، حكاهما القاضي الحسين، ووجهان في "تعليق القاضي أبي الطيب"، وهما يجريان -كما قال القاضي الحسين- فيما لو طاف للقدوم، ولم يسع بعده، فهل يشرع في طواف الزيارة أم لا؟ بناء على القولين في المأخذ. والذي حكام الماوردي وغيره الجزم بمشروعيته؛ لأنه طواف يعقبه السعي. [ووجهه بعضهم - وهو ابن الصباغ بأنه يحتاج إلى الاضطباع في السعي] والسعي [تابع] للطواف، ويضطبع فيه دون الطواف. [و] في "المهذب": أنه يكره فيه دون الطواف.

وحكم الصبي فيما ذكرناه حكم البالغ. وحكى القاضي أبو الطيب عن ابن أبي هريرة من أصحابنا: أنه لا يشرع له الاضطباع؛ لأنه لإظهار الجلد، وليس الصبي عن أهل الجلد، وليس بشيء؛ لأن ذلك المعنى زال وبقي سنة. قال: ويبتدئ من الحجر الأسود، فيستلمه بيديه؛ لما ذكرناه عن خبر ابن عمر وجابر. [وعن جابر]- أيضاً – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحجر يمين الله في الأرض يصافح به عباده،] وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحجر يمين الله في أرضه فمن مسحه فقد بايع الله". تنبيه: الحجر الأسود معروف، وقد ثبت عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزل الحجر الأسود من "الجنة"، وهو أشد بياضاً من اللبن، فسودته خطايا بني آدم" أخرجه الدارقطني، وقال هو والترمذي: إنه حديث حسن صحيح. والاستلام: افتعال في التقدير، مأخوذ من السلام –بالكسر- وهي الحجارة السود، واحدها: سَلِمة.

تقول: استلمت الحجر، إذا لمسته، والحجارة البيض: تسمى: البصرة، وبه سمي البلد؛ لما في أرضها من عروق الحجارة البيض؛ وهذا قول القتبي. وقد قيل: إنه مأخوذ من السَّلام -[وهو] بفتح السين- أي: أنه يحيي نفسه عن الحجر إذ الحجر ليس ممن يجيبه؛ كما يقال: اختدم؛ إذا لم يكن [له] خادم، وإنما خدم نفسه. وعن هذا احترز الشيخ بقوله: بيديه. وعن ابن الأعرابي أنه قال: الاستلام: مهموز، ثم ترك همزه، وهو مأخوذ من السلامة، والموافقة؛ كما يقال استلم كذا استلاماً؛ إذا رآه موافقاً له وملائماً. قال: ويقبله؛ لما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قبَّل الحجر، ثم قال: "أما والله، لقد علمت أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك"، رواه البخاري ومسلم وغيرهما. وزاد في "الشامل" أنه قرأ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وقال القاضي الحسين: إن أبي بن كعب قال لعمر حين قال ذلك: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بالحجر الأسود يوم القيامة، وله لسان ذلق، يشهد لمن قبَّله؟ فقال: نعم، قال: فهذه منفعته. وقال الماوردي: إن علي بن أبي طالب قال لعمر: أما إنه ينفع ويضر؛ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى لما أخذ العهد على آدم وذريته، أودعه في رق في هذا

الحجر؛ فهو يشهد لمن وافاه يوم القيامة" فقال عمر: لا أحياني الله لمعضلة لا يكون لها ابن أبي طالب حيًّا. قال الشافعي - رضي الله عنه - ويقبل [الحجر] بلا تصويت، ولا تطنين؛ هكذا السنة فيه- وقال: المستحب: أن يضع جبهته عليه، لأن فيه تقبيلاً، وزيادة سجود لله تعالى. وقد روى عن ابن عباس [أنه] لما قدم مكة مسبداً رأسه، قبل الحجر، وسجد عليه ثلاثاً، وذلك يوم التروية. والسبد: ترك الدهن والغسل. قال الأصحاب: ويستحب أن يستقبله؛ لما روي عن ابن عمر أن النيي صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد، استقبل الحجر، واستلمه؛ وهذا الاستقبال يظهر أن يكون حين دخوله المسجد [بمعنى; أنه يقصده] لا في حال الطواف، وهو معنى قول الغزالي: "فإذا دخل من باب بني شيبة، فليتوجه إلى الركن الأسود"، لكن في كلام أبي الطيب ما يخالف ذلك؛ كما ستعرفه. قال: ويحاذيه. قال الماوردي: لما روي [عن] ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد، استقبل الحجر. وقد اشتمل كلام الشيخ على ما هو سنة في الطواف في حق الرجال، وهو شيئان: الاستلام، والتقبيل. وأما النساء، فلا يستحب لهن ذلك إلا أن يخلو المطاف في ليل أو غيره؛ كما

قاله النواوي [في "الروضة"] وغيره. و [اشتمل] على ما هو ركن فيه، وهو – أيضاً- شيئان: الابتداء من الحجر، ومحاذاته؛ وذلك ما لا خلاف فيه. و [شبه] القاضي أبو الطيب المحاذاة بتكييرة الإحرام، فلو ترك الحجر وراءه، وطاف، لم يعتد له بتلك الطوفة حتى ينتهي إلى الحجر، ويمر على جميعه؛ فينعقد له الطواف حينئذ. نعم: هل الركن محاذاته يبعض البدن، وبجميعه يكون مستحبًّا، أو الركن محاذاته بجميع البدن؟ فيه قولان: القديم: الأول؛ لأن ما تعلق بالبدن، كان حكم البعض فيه حكم الكل؛ كالجلد. والجديد [و] الأصح في "النهاية" وغيرها: الثاني: وهو الذي يقتضيه كلام الشيخ؛ إذا حمل على حقيقته؛ لأن ما وجب فيه محاذاة البيت، وجب فيه المحاذاة بجميع البدن؛ كالاستقبال في الصلاة؛ [وهذا يقتضي: أنه لا خلاف في مثل ذلك في الصلاة]. وقد حكى القاضي الحسين والإمام القولين في المصلي إذا حاذى ببعض بدنه بعض البيت؛ بأن كان قريباً منه. ثم على الأول إذا حاذاه ببعض البدن كفاه؛ وكذا لو حاذى ببعض بدنه [بعض] الحجر؛ كما صرح به القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ. وعلى الثاني تكون الطوفة الأولى غير معتد بها، وأما ما بعدها، ففي الاعتداد به وجهان في تعليق أبي الطيب، وأصحهما الاعتداد، وهو الذي أورده الجمهور؛ لأنه في الثانية يكون محاذياً بجميع بدنه له فصحت، وصح ما بعدها. ولو حاذى بجميع بدنه بعض الحجر، أجزأه؛ قاله القاضي أبو الطيب. واستبعد [البندنيجي و] ابن الصباغ تصويره؛ كما سنذكره.

ثم البدن الذي أطلقناه، قال الإمام؛ إنما هو شق الطائف من جهة يساره، لا يعني غيره [وكلام أبي الطيب وغيره] الذي سنذكره يفهم خلافه. ومعرفة المحاذاة التي أطلقت لمن لم يشاهد البيت تتوقف على معرفة كيفية وضع الحجر في البيت، وهو في الركن الذي يليه الملتزم، ثم الباب داخل في قريبه يسيراً، بعضه مما يلي الملتزم، وبعضه مما يلي الفسحة التي بين الركن الذي هو فيه، والركن الآخر لا من جهة الملتزم والباب؛ وهذان الركنان هما اليمانيان المبنيان على قواعد إبراهيم - عليه السلام. والركنان الآخران هما الشاميان، والحجر أمامهما، والميزاب بينهما، وارتفاع الحجر من الأرض ثلاثة أذرع إلا سبعة أصابع. [فإذا عرف] من لم يشاهد البيت ذلك أو كان قد شاهده، قلنا له: المحاذاة المشروطة في الطواف على الجديد - كما أفهمه كلام الإمام-: أن يجعل جميع شقه الأيسر مقابلاً لجميع الحجر، ثم ينحرف إلى الجهة التي فيها الملتزم، والباب والبيت، على يساره. قال بعض الشارحين لهذا الكتاب: وإنما يتمكن من ذلك إذا بعد عن الحجر قليلاً، أو كان دقيقاً جدًّا؛ فإنه لو قرب منه ولم يكن نحيفاً، كان بعض بدنه خارجاً عن الحجر إلى جهة الملتزم، ويكون في صحة طوفته الخلاف السابق؛ وهذا يفهم منه أنه لو حاذى ببعض شقه الأسر بعض البيت من جهة الركن اليماني الآخر، [وبباقيه الحجر أنه لا يخرج على الخلاف، وحينئذ فإما ألا يجزئه بلا خلاف، [أو يجزئه بلا خلاف]، والذي يفهمه كلام الأئمة الذي سنذكره: الإجزاء] والذي يظهر مما سنذكره من بعد: أنه على الخلاف. وحكى الإمام عن شيخه: أنه كان يقول فيما إذا حاذى من يبتدئ الطواف بشقه وسط الحجر، وخلَّف شيئًا منه فى جهة الركن اليمانى، وترك بعضاً منه مثلاً أمامه - يحتمل أن يصحح افتتاح طوافه؛ فإنه حاذى بتمام شقه الحجر.

ويحتمل أن يقول: ينبغي أن يحاذي في أول الطواف تمام الحجر بتمام الشق، وذلك بأن يبدئ من أول الحجر مما يلي الركن اليماني، ويمر على المسامتة. قال: والأمر كما قال [محتمل]. قلت: وقد يظن أن الاحتمال الأول هو الذي حكينا، عن القاضي أبي الطيب وغيره، وليس كذلك؛ لأن القاضي أبا الطيب صور ذلك بما إذا جعل منكبه الأيمن محاذياً لحرف الحجر، ولا يستقبله؛ فإنه يكون محاذياً لذلك الجزء [بجميع بدنه، وحيتئذ فتكون هي الصورة الأولى؛ وهذا ذكره بناء على ما أبداه في كيفية المحاذاة لجميعه] بجميع البدن، وهو أن يجعل منكبه الأيمن [محاذياً لحرف الحجر الأيمن، ثم يمشي تلقاء شقه الأيمن، وهو] مستقبل الحجر حتى يستوعب محاذاته. ويقرب من هذا قول البندنيجي: "والكمال في المحاذاة أن يستقبله بكل جزء من بدنه، وهو أن يأتي البيت، ويجعل كل الحجر عن يمين نفسه مستقبلاً، فإذا جاوزه صار البييت [عن يساره]. وأما الإجزاء: فأن يحاذي يكل بدنه كل الحجر، أو يكل بدنه بعض الحجر، إن أمكن. وعلى ذلك جرى ابن الصباغ والنواوي في "المناسك". فقالا: كيفية محاذاة جميعه [بجميعه]: أن يستقبل البيت، ويقف على جانب الحجر الذي إلى جهة الركن اليماني؛ بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه، ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر ثم ينوي الطواف لله تعالى، ثم يمشي مستقبل الحجر ماراً إلى [جهة] بمينه، حتى يجاوز الحجر، فإذا جاوزه انفتل وجعل يساره إلى البيت ويمينه خارجه، ولو فعل هذا من الأول وترك استقبال الحجر جاز. وهذا فيه نظر؛ فإنه يقتضي في الحالة الأولى: أن يمضي جزء من البيت في

الطواف، وليس هو على يساره، وستعرف أن كون البيت على يسار الطائف شرط فيه. وعن ذلك احترز الإمام بجعله البدن الذي اشترطت محاذاته الحجر الشق الأيسر. نعم: إن كان الشرط كون البيت على يسار الطائف من حين مجاوزة الحجر لا عند محاذاة الحجر - لم يبق [في] ذلك إشكال، وكلام أبي الطيب والبندنيجي وغيرهما السابق صريح فيه؛ ولأجله قال النواوي في "المناسك": وليس شيء من الطواف يجوز مع استقبال البيت إلا ما ذكرناه أولاً من أنه يمر في ابتداء الطواف على الحجر الأسود [مستقبلاً له، فيقع الاستقبال قبالة الحجر الأسود] لا غير، وذلك مستحب فى الطوفة الأولى لا غير. قال: ولم يذكر جماعة من أصحابنا هذا الاستقبال، [وهو غير الاستقبال] المستحب عند لقاء الحجر قبل ابتداء الطواف، فإن ذلك مستحب، لا خلاف فيه، وسنة مستقلة. وقد أفهم ما ذكرناه من تصوير المحاذاة بكل البدن أولاً: أنه يشترط في الإجزاء أن يجعل أول شقه الأيسر مقابلاً لما يلي الحجر من جهة الركن اليماني، ثم يمر عليه كذلك إلى أن يستكمل الطوفة، بل الشرط أن يكون جميع شقه الأيسر مقابلاً لجميع الحجر. وكلام البندنيجي وغيره يقتضي أن الأول هو المجزئ لا غير، تفريعاً على الصحيح في اشتراط المحاذاة بكل البدن كل الحجر أو بعضه وهو الظاهر عندي؛ لأن كل جزء من أجزاء شقه الأيسر يكون قد حاذى جميع الحجر. [وكذلك قال في "الوسيط": وينبغي لمن يبدئ الطواف أن يحاذي الحجر] بجميع بدنه؛ بحيث يمر جميع بدنه على جميع الحجر الأسود. وأما إذا جعل جميع شقه الأيسر مقابلاً لجميع الحجر - أما مع البعد أو النحافة فهو محل الخلاف؛ لأن كل جزء من أجزاء بدنه [لا يكون] قد حاذى جميع

الحجر، وإنما حاذى جميعه منه الجزء الأخير الذي جعله من جهة الركن اليماني؛ [ولأجل ذلك قلت [آنفاً فيما] إذا حاذى ببعض شقه الأسر بعض البيت من جهة الركن اليماني]، وبباقيه الحجر: أنه يخرج على الخلاف، وعنيت بالخلاف: الخلاف الذي حكاه القاضي أبو الطيب وغيره فيما إذا حاذى ببعض بدنه بعض الحجر، والله أعلم. فائدة: ما ذكرناه في محاذاة الحجر الأسود متعلق بالركن الذي فيه الحجر الأسود، وليس يتعلق بالحجر نفسه؛ فإنه لو نُحِّي والعياذ بالله [عن مكانه] وجبت محاذاة الركن؛ قاله القاضى أبو الطيب. قلت: ويدل [عليه صحة] طواف الراكب. ويظهر أن الذي يجب محاذاته من الركن الموضع الذي فيه الحجر، لا زائداً عليه. قال: فإن لم يمكنه أي: التقبيل استلمه - أي: بيده، أو بمحجن وقبّله. ووجهه: قوله صلى الله عليه وسلم "وما أمرتكم به، فأتوا منه ما استطعتم"، رواه البخاري ومسلم في ضمن حديث أبي هريرة. وروى عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن [أو بمحجنه]. وروى مسلم عن أبي الطفيل قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على راحلته، يستلم الركن بمحجنه، ثم يقبِّله.

والمحجن يكسر الميم: عصا معوجة الرأس، تكون مع الراكب كالصولجان - يتناول بها ما يسقط منه، ويحرك بطرفها بعيره، للمشى. وقد دل ظاهر الخبر على [أن] تقبيل ما يقع به الاستلام [يكون بعد الاستلام، وهو المنصوص الذي لم يذكر العراقيون غيره. وقيل: إنه يكون قبل الاسلام]، وكأنه ينقل إليه القبلة. وقيل: يتخير، وهو ما أبداه الإمام احتمالاً. قال: فإن لم يمكنه - أي: الاستلام أشار إليه يده؛ لأنه قدر الاستطاعة، ولا يثير إلى القبلة بالفم؛ لأنه لم ينقل. وقد استحب جماعة من العلماء الزحام على تقبيل الحجر: لأن ابن عمر – رضي الله عنه - كان يزاحم عليه. وهو عندنا مكروه؛ لما روى سعيد بن المسيب عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنك رجل قوي تؤذي [الضعيف]، فإذا أردت أن تستلم الحجر، فإن كان خالياً فاستلمه، وإلا فاستقبله، وكبّر". والإشارة باليد هي المستحبة في حق النساء مطلقًا؛ روى عطاء أن امرأة طافت مع عائشة - رضي الله عنها - فلما جاءت الركن، قالت المرأة: يا أم المؤمنين، ألا تستلمين؟ فقالت عائشة: [وما للنساء واستلام الركن]، امض عنك". نعم: لو أرادت [تقبيل الحجر] فعلت ذلك في الليل عند خلو المطاف. قال: ثم يجعل البيت على يساره؛ ويطوف - أي: به - مستقبلاً بوجهه جهة الملتزم والباب وهكذا إلى أن يتم الطوفة بانتهائه إلى الموضع الذي بدأ منه

عند الحجر الأسود. ووجهه [أنه] عليه السلام جعل البيت على يساره حين طاف، ومشى على يمينه فحمل ما أجمله الله تعالى بقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] على بيانه صلى الله عليه وسلم؛ عملاً يقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]؛ وهذا من أركان الطواف على المشهور، فلو جعله عن يمينه، وطاف موجها وجهه إلى جهة الركن اليماني، وهكذا إلى أن أتى الموضع الذي بدأ منه - ويسمى: الطواف المنكس لم يعتد به؛ نص عليه الشافعي وأصحابه - رضي الله عنهم - موجهين له بقوله - عليه السلام-: "خذوا عني مناسككم". ولأنه عبادة تفتقر إلى البيت؛ فوجب أن يكون الترتيب شرطاً فى صحتها كالصلاة. وقد وافق على ذلك القاضي الحسين والفورانى، لكنهما جزما القول بأنه لو جعل البيت على يمينه، ورجع القهقرى، ومَرَّ على الباب إلى أن انتهى إلى المكان الذي بدأ منه، كره وأجزأه، وإليه يرشد قول الإمام - حكاية عن شيخه: إنه كان يقول: "لو استقبل القبلة بصدره، وكان يستدبر على الجهة المرسومة عرضاً، فللقفال تردد فيه. وربما كان يقول: "إذا دار على الصوب مقابلة [أو مدابرة] أو على شق؛ حسب طوافه، وكره. قال الإمام: والأصح الأول، ولا وجه لغيره عندي، وتبعه في التصحيح فيما إذا طاف منكساً الرافعي، وقال: إن عدم الصحة هو الموافق لعبارة الأكثرين، وأن القياس جريان هذا الخلاف فيما لو مَرَّ معترضاً مستدبراً.

قلت: وهو مقتضى كلام الإمام؛ ولأجله قال النواوي في "المناسك": إنه لا يصح. وفي "الروضة": أن الصواب في هذه الصورة القطع بأنه لا يصح؛ لأنه معاند؛ لما ورد الشرع به. وحكم جعل البيت على اليمين أو تلقاء وجهه في شيء من الطواف كالحكم في جعله كذلك في كله؛ فلا يعتد به، ولا بما بعده إلى أن يأتي به إلا ما ذكرناه في حالة ابتداء الطرفة الأولى؛ كما قاله النواوي، والله أعلم. قال: فإذا بلغ الركن اليماني، استلمه؛ لما روى ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: "لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين"، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وفي رواية مسلم الركن الأسود، والذي يليه". وروى مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لم أر رسول الله [يستلم غير الركنين اليمانيين". وروى عطاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]. "ما مررت بهذا الركن إلاَّ وجبريل قائم عنده يستغفر لمن استلمه بحق".

قال: وقبل يده كما يفعل في استلام الحجر، وفي كيفية [تقبيل اليد] الخلاف السابق. قال: ولا يقبله؛ لأنه لم ينقل، وخالف الركن الذي فيه الحجر حيث جمع فيه بين الاستلام والتقبيل؛ لأنه اجتمع فيه فضلان: كونه مبنيًّا على قواعد إبراهيم عليه السلام، وكونه فيه الحجر، وهذا [ليس فيه] "إلا" فضيلة واحدة، وهي كونه على قواعد إبراهيم عليه السلام؛ فلذلك شرع فيه الاستلام دون التقييل، ولما فقد الأمران في الركنين الباقيين؛ لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استلمها، ولا قبلهما، كما ذكرناه من خبر ابن عمر. وقد روي عنه أنه لما أخبر يقول عائشة: "إن الحجر بعضه من البيت فقال: "والله أتى لأظن عائشة إن كانت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم [لأظن رسول الله صلى الله عليه وسلم] لم يترك استلامها إلاَّ أنهما ليسا على قواعد [إبراهيم عليه السلام] ولا طاف الناس وراء الحجر إلا لذلك"، أخرجه أبو داود [أيضاً]. وأخرج البخاري ومسلم قول ابن عمر هذا بمعناه عن عائشة - رضي الله عنها- فى أثناء حديث عمارة البيت، وسنذكره إن شاء الله تعالى. تنبيه: الركن اليماني: مخفف الياء على المشهور؛ لأنه منسوب إلى اليمن، والألف بدل من إحدى يائي النسب؛ فلا تشدد كيلا يجمع بين البدل والمبدل. وحكى سيبويه لغة قليلة: يمانى، بالتشديد.

وحكى ذلك عن رواية المبرد وغيره، وتبعهم الجوهري وصاحب المحكم وآخرون؛ وعلى هذا تكون الألف زائدة. قال الشيخ رحمه الله: ويقول عند ابتداء الطواف أي: وهي حالة استلام الحجر: باسم الله، والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم"؛ لأن عبد الله بن الساغب روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك اختاره الشافعي، رضي الله عنه. ومعنى قوله: "إيماناً بك، أي: أفعله للإيمان؛ فهو مفعول للإيمان. وقوله: "ووفاء بعهدك": المراد به هنا: الميثاق الذي أخذه الله تعالى علينا بامتثال أمره، واجتناب نهيه. ثم ما ذكرناه من الدعاء لا يتعين في تأدية هذه السنة؛ فإنه روى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال عند استلام الحجر الأسود: "باسم الله، والله أكبر الحمد لله على ما هدانا، لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، آمنت بالله، وكفرت بالطاغوت، وباللات والعزى، وما ادُّعِي دون الله، إن وليي الله الذي نزل الكتاب [بالحق] وهو يتولى الصالحين". [و] الماوردي [قال هنا]: وما ذكر هنا من ذكر الله وتعظيمه فهو حسن.

وقال: إنه يستحب له إذا استلم الركن اليماني [أن يدعو عنده - أيضاً - لأنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "على الركن اليماني] ملكان [موكلان] يؤمنان على دعاء من يمر به وعلى الأمرد مالا يحصى". قال: ويطوف سبعاً، أي: حول البيت، في المسجد في أرضه، أو فوق سطحه؛ كما قاله الماوردي؛ لأن سطحه [دونه] سطح البيت الآن. وهذا يفهم [أنه] لو كان سطح المسجد أعلى من سطح الكعبة، لم يصح الطواف، وهو المحكي عن بعض الأصحاب، وأنكره عليه الرافعي، وقال: لا فرق بين علوه وانخفاضه. ثم المراد بالمسجد ما كان في زمنه - عليه السلام - وما استجد فيه من بعده [وقد زيد فيه من بعده] صلى الله عليه وسلم زيادات كبيرة. قال الأصحاب: والأفضل ألا يكون بينه وبين البيت حائل، وهو سقاية العباس وما يليها من البناء على زمزم وغيره، وأن يكون [بالقرب من البيت]؛ لأنه المقصود، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أقرب إليه من أصحابه، وهو الذي يفهمه كلام الشيخ السابق والآتي من بعد. وكلام الغزالى فى "الوسيط" يفهم أنه من الواجبات؛ فإنه قال: "وواجبات الطواف ثمانية: الأول: شرائط الصلاة: من طهارة الحدث والخبث وستر العورة، والقرب من البيت [بدلٌ عن] الاستقبال". لكنه قال بعد ذلك: إن القرب من البيت مستحب؛ كما صرح به غيره، لا واجب؛ ولأجله قال بعض الناس: إن في بعض النسخ: "والقرب من البيت بدلاً عن القبلة"، بفتج الباء من "القرب" ونصب بدلاً، وليس بصحيح، بل الصحيح رفع الباء ورفع

البدل، ويكون "القرب" مبتدأ و"بدل" خبره، ولا يجوز أن يكون معطوفاً على ما قبله؛ فإن القرب من البيت مستحب كما ذكرنا. وهذا فيه نظر لا يخفى على متأمل، وأقرب من ذلك أن يقال: مراده بالقرب هاهنا: أن يكون في المسجد لا خارجاً؛ فإنه لوكان خارجاً عنه، لم يصح طوافه، كما صرح به القاضي [الحسين] والماوردي وغيرهما؛ [لأنَّا] لو جوزناه، لزمنا أن نجوزه خارج الحرم، ولا وجه له. ولأنه حينئذ يكون طائفاً المسجد لا بالبيت. وإذا كان كذلك، فالقرب نسبة وإضافة؛ فيحمل ما ذكره هنا على ما ذكرناه، وما ذكره [بعدُ من] استحباب القرب على ما إذا طاف في المسجد. فإن قلت: قد عُدَّ من بعد من جملة واجبات الطواف الثمانية: أن يكون في المسجد، وذلك ينفى ما ذكرت. قلت: لا؛ لأن الأول ذكره استطراداً لتتمة مقصوده، وما ذكره من بعد ذكره مقصوداً، وكثير من المصنفين من يفعل ذلك، ومنهم صاحب التنبيه رحمه الله. [فائدة: قال الشافعي: وأكره أن يقول: طاف أشواطاً وأدواراً؛ لأن مجاهداً كرهه، ويقال: طوافاً، وطوافين؛ كما سماه الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]؛ كذا حكاه ابن الصباغ عن نصه في "الأم". وقال القاضي الحسين: إنما كرهه؛ لأن الشوط في حقيقة اللغة: الهلاك؛ فكرهه لاسمه؛ كما كره اسم العقيقة؛ لما فيه من لفظ العقوق. قال النواوي في "المناسك": لكن ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عباس تسميته بالطوفة: شوطاً؛ فالظاهر أنه لا كراهة فيه]. قال: [و] يرمل - أي بضم الميم - في الثلاثة الأول منها، ويمشي في

الأربعة الأخيرة، أي: وعليه السكينة [والوقار]؛ لما ذكرناه من خبر جابر وابن عمر عند الكلام في الابتداء بطواف القدوم. قال الأصحاب: والسبع في الطواف كالركعات في الصلاة بالنسبة إلى عدم الاعتداد به دون استكمالها وإن أتى بالأكثر منها، لا في كل شيء لما ستعرفه، والحكم في ذلك في الطواف في العمرة كالحكم في طواف الحج، إذا وجد بشرطه؛ لرواية أبي داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت ثلاثاً، ومشوا أربعاً. وأخرجه ابن ماجه بنحوه. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الرمل يكون في جميع الطوفات الثلاث، وهو مقتضى حديث جابر وابن عمر، وبه جزم الماوردي، فقال: من السنة أن يرمل في ثلاثة أطواف، لا يفصل بينهما بوقوف إلاّ أن يقف عند استلام الركن؛ لرواية ابن جريج عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من سبعة أطواف: ثلاثة خبباً ليس بينهن شيء، ثم كذا أبو بكر عام حجه؛ إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمر، ثم عثمان والخلفاء - رضي الله عنهم- كانوا يسعون كذلك. وقد روى مسلم وغيره أن [ابن] عمر رمل من الحجر إلى الحجر، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وأخرجه مسلم ينحوه من حديث جابر فإن قيل: فقد روى أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطبع، فاستلم، فكبر، ثم رمل ثلاثة أطواف، كانوا إذا بلغوا الركن اليماني فتغيَّبُوا عن قريش، مشوا، ثم يطلعون عليهم، وهم يرملون، تقول قريش: "كأنهم الغزلان". قال ابن عباس: "فكانت سنة".

وروى البخاري ومسلم عنه قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد وهنتهم [حمى يثرب]، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتم الحمى، ولقوا منها شرًّا، فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوه، فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، فلما رأوهم رملوا، قالوا: هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى قد وهنتهم؟ هؤلاء أجلد منا". قال ابن عباس: "ولم يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاء عليهم"، وهذا صريح في أن الرمل لا يكون في جميع الطوفة، فلم عدلتم عن هذا؟ قلنا: قد حكى الإمام عن بعض الأصحاب رواية ذلك قولاً، لكن المشهور الأول وهو الأصح في "النهاية" وغيرها وما رواه ابن عباس لا يعارض ما تقدم؛ لأن الرمل في جمح الأشواط كان في حجة الوداع، والمشي بين الركنين كان في عمرة الحديبية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم شرط على المشركين في الصلح الذي وقع يينه وبينهم سنة ست من الهجرة حين صدوه عن البيت - أن يرجع إلى "مكة" في العام القابل لعمرة القضية، ويدعوا له مكة ثلاثة أيام، فرجع إليهم قي العام القابل [العمرة القضية] وفرغوا له مكة ثلاثة أيام، وأقاموا على رءوس الجبال؛ فكان لا يقع بصر المشركين عليهم إذا كانوا بين الركنين، ففعل ذلك؛ رفقاً بهم؛ لما كان بهم من المرض، وأمرهم بالتجلد في الجهات التي تقع [عليهم] فيها أعين المشركين حين جلسوا لهم. [تنبيه] آخر: الرمل - بفتح الراء-: الخبب، وهو سرعة المشي هع تقارب الخُطا، ومنه سُمِّى خفيف الشعر: رملاً. وقال الماوردي والقاضي الحسين: إنه دون شدة العدو، وهو متقارب. قال النواوي في "المناسك": قال أصحابنا: ومن قال: إنه دون الخبب، فقد غلط. قال الشافعي - رضي الله عنه - "ولا أحب أن يثب من الأرض". وهو مشروع سنة في طواف القدوم؛ إذا تعقبه السعي، بلا خلاف؛ كما

أفهمه كلام الشيخ. فلو وجد طواف القدوم مع السعي ولم يرمل فيه، وقصد أن يسعى عقيب طواف غيره، فهل يشرع فيه الرمل أم لا؟ فيه ما ذكرناه في الاضطباع. وقال في "الذخائر": إن الفوراني حكى قولاً: أنه لا يشرع إلا في طواف القدوم، [وقد حكاه الإمام وقال: إنه يخرج [على] استحباب الرمل في طواف العمرة فإن الطواف فيها يقع ركناً، وكان يمكن أن يقال: فيه معنى القدوم]. والمذهب - كما قال مجلي- وهو الذي أورده العراقيون والماوردي: أنه مشروع في كل طواف يتعقبه سعي، ولا فرق في مشروعيته للطائف حيث يشرع - بين أن يكون ماشياً - كما قال الشيخ - أو راكبًا محمولاً، والراكب يحرك دابته موضع الرمل، والمحمول يرمل به حامله؛ نص عليه في موضع. قال القاضي الحسين: وقد نص في موضع آخر [على] أنه لا يرمل به، وقد رواه ابن الصباغ عن رواية الشيخ أبي حامد عن القديم، وحكاه في "التهذيب" - أيضاً - فيما إذا طاف راكباً. ووجهه الفوراني بأن فيه أذى للناس. فرع: لو ترك الرمل في الثلاثة الأوَل حيث يشرع، فلا يستحب له أن يأتي به في الأربعة الأخيرة؛ نص عليه لأن المشي فيها سنة، وذلك يؤدي إلى تركها، ولا يشرع ترك سنة في عبادة؛ لأجل الإتيان بمثلها. فإن قيل: قد تقدم أن القرب من البيت سنة في الطواف، ولو كان ثم زحام لا يمكن معه الرمل، ولم يرج زواله، فإنه يتأخر إلى حاشية الناس إذا أمكنه الرمل فيه؛ ليرمل، وذلك ترك سنة لأجل سنة. قيل: الفرق بين ما نحن فيه وما تقدم: أن ثم السنتين في نفس العبادة، فلم يكن [لإحداهما مزية] ولا كذلك هنا؛ فإن القرب من البيت فضيلة في محل العبادة،

والرمل فضيلة في نفس العبادة، [وما كان في نفس العبادة] كان آكد من الذي في محلها؛ كما أن الصلاة بالجماعة في البيت أفضل منها منفرداً في المسجد؛ لأن فضيلة الجماعة فى نفس الصلاة. نعم: قال الماوردي: لو كان إذا تأخر عن البيت، خالط النساء؛ لفعلهن ما هو الأفضل في حقهن، وهو الطواف آخر الناس قرب من البيت، وترك الرمل، لتعذره؛ فإن مخالطة النساء مكروهة. ويستحب أن يشير بالرمل. قال: وكلما حاذى الحجر الأسود، استلمه، وقبله، وكلما حاذى الركن اليماني، استلمه؛ لما روى أبو داود عن ابن عمر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة". قال: وكان عبد الله بن عمر يفعله، وأخرجه النسائي وقد جاء في مسلم عنه أنه قال: "ما تركت استلام هذين الركنين - منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمها – في شدة ولا رخاء". وإذا ثبت ذلك في الاستلام، قسنا عليه باقي ما ذكرناه من الأحكام في الابتداء. قال: وفي كل وتر أحب، أي: إذا لم يتمكن من استلام الركن في كل طوفة؛ كما قاله: الماوردي، أو إذا لم يفعل ذلك في كل مرة؛ كما قاله ابن الصباغ، وأبو الطيب؛ لقوله - عليه السلام -: "إن الله وتر يحب الوتر".

ولأنه يصير مستلماً فى افتتاحه وخاتمته، ويكون أكثر عدداً. وقد قيل: إن معنى قول الشيخ "وفي كل وتر أحب"، أنه في الأوتار آكد وأكثر استحباباً مع أنه مستحب في الجميع. قال ابن الخل: لأنه عليه السلام كان لا يكاد يدع أن يستلم الركن اليماني في كل وتر من طوافه. وإذا ثبت ذلك في الركن اليمانى، فركن الحجر أولى. قال: ويقول في رمله كلما حاذى الحجر الأسود: "الله أكبر، الله أكبر، اللهم اجعله حجًّا مبرورًا"، أي: لا يخالطه معصية، مأخوذ من البر، وهو الطاعة. وقيل: المبرور: المتقبل من البر، وهو اسم جامع للخير. يقال: بررت فلاناً، أي: وصلته. ويقال بَرَّ اللهُ حجه، وأبرَّه. قال: "وذنباً مغفوراً، أي: اجعل ذنبي ذنباً مغفوراً) وسعياً مشكوراً، أي: اجعله عملاً متقبلاً يزكو لي ثوابه". قال الأزهري: لأن مساعي الرجل أعماله، واحدتها: مسعاة. وقال غيره: عملاً أشكر عليه، والله أعلم. قال: ويقول في الأربعة: "رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم؛ إنك أنت الأعز الأكرم، اللهم ربنا آتنا قي الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار".

قال ابن الخل: لأنه روى ذلك عنه صلى الله عليه وسلم. وقد روي أنه قال: "واعف" بدل قوله: "وتجاوز عما تعلم"، وروي: "وأنت العلي الأعظم" بدل [قوله] "الأعز الأكرم". قال: ليدعو بين ذلك بما أحب - أي: من أمر الدين والدنيا - رجاء الإجابة. وقد روى أبو داود عن عبد الله بن السائب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين الركنين: " [اللهم] ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفى الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار". قال الشافعى: - رضي الله عنه -: "وأستحب له أن يقرأ فى طوافه؛ فإنه بلغنا أن مجاهداً كان يُقرأ عليه القرآن في الطواف". قال الأصحاب: وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الطواف بالبيت صلاة"، وإذا كان صلاة، فأفضل الذكر في الصلاة وأعلاه القرآن. لكن في "الحاوي" أن ذلك مخصوص بمن أراد أن يأتي بدعاء غير الدعاء المسنون فيه؛ فإن قراءة القرآن تكون أفضل منه، أما كونها أفضل من الدعاء المسنون فلا، بل هو أفضل منها؛ كما أن الدعاء [المسنون] في الركوع والسجود

أفضل من القراءة فيهما، وهو الذي قال النواوي [في المناسك]: إنه الأصح. وحكي عن الحليمي من أصحابنا; أنه [لا يستحب القراءة في الطواف. وعن الشيخ أبي محمد الجويني: [أنه] يحرص على أن يختم في أيام الموسم في طوافه ختمة]. قال: ولا ترمل المرأة، ولا تضطبع؛ لأن معناهما - وهو إظهار الجلد والقوة - لا يوجد في حقها مع كون ذلك يقدح في تسترها. قال: وا لأفضل [أن يطوف] راجلاً - أي: إن كان يطيقه - حماية للناس عن الأذى بمركوبه، وتنزيهاً للمسجد عن دخول البهيمة إليه؛ فإنه لايأمن أن تلوثه. ولأنه صلى الله عليه وسلم طاف في عمره كلها ماشياً، وهو يواظب على الأفضل. قال: فإن طاف راكباً جاز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكباً، وكان يشير إلى الحجر بمحجن في يده؛ كما تقدم، وكان ذلك في حجة الوداع في طواف الإفاضة - كما قال الماوردي- لا غير، وهو يدل على الجواز؛ فإن هذه الحجة هي الني استكمل فيها تعليم أفعال الحج من فرض وواجب وسنة. ثم فعله صلى الله عليه وسلم يدل - أيضاً - على أنه لا دم [على ذلك]؛ لأن الدم إنما [يجب] في حال النقص، وهو - عليه السلام - لا يؤثر لنفعه النقص، سيَّما عام حجة الوداع، وهذا ما أورده الجمهور. ولا فرق في جواز الطواف راكباً بين أن يكون لعذر من مرض [أو لا: لأنه]، -عليه السلام - لم يطف راكباً لمرض؛ فإن جابراً قال: ربما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليراه الناس، وليشرف عليهم؛ ليسألوه؛ فإن الناس غشوه" كذا رواه مسلم عنه في تتمة الحديث السابق.

قال الشافعي- رضي الله عنه - "ولا أعلمه في تلك الحجة اشتكى". قال الماوردي: والإجماع على جوازه بغير عذر وإن كان أبو حنيفة ومالك يوجبان الدم إذا فعله بغير عذر. ودليلنا ما ذكرناه. ثم إذا جاز الطواف راكباً، فهل هو مكروه؟ قال الماوردي: إن كان بغير عذر، فنعم، وهو الذي أورده أبو الطيب وغيره؛ لأنه - عليه السلام - إنما فعل ذلك مرة واحدة؛ لأنه [أحب أن] يشرف على الناس؛ ليسألوه، وليس أحد في هذا الموضع مثله. وإن كان لعذر من مرض أو زمانة، فالأولى أن يطوف محمولاً، ولا يطوف راكباً غير المعذور، وركوب الإبل أيسر حالاً من ركوب البغال والحمير. وقال الإمام: إن في القلب من إدخال البهيمة المسجد شيئاً في حال عدم الأمن من التلويث. نعم: لو أمكن التوثق من هذه الجهة فذاك، وإن لم يمكن فإدخال البهائم المسجد مكروه. وقال في "الوسيط": لا بأس بالركوب لمن إذا ركب استُفتي.

وحيث يكره الطواف راكباً، يكره [الطواف] محمولاً، ومحل جوازه إذا لم ينو الحامل الطواف عن نفسه ولم يكن [عليه] طواف هو فرض أو واجب. قال: وإن حمله محرم، ونوبا جميعاً - أي: نوى كل واحد منهما [الطواف عن نفسه - ووجد شرطه في كل واحد منهما] ففيه قولان: أحدهما: أن الطواف للحامل؛ لأنه الفاعل [له] فوقع عنه. ولأن الحامل أصل، والمحمول تبع؛ [وهذا] هو الأظهر في "الشامل"، والأصح في تعليق أبي الطيب، وغيره. والثاني: أنه للمحمول؛ لأن الحامل آلة له، فهو كالراكب؛ وهذا ما اختاره في "المرشد"، وصححه النواوي في "المناسك". قال ابن يونس: وقيل: إنما يقع عن المحمول؛ إذا كان معذوراً. والذي أورده أبو الطيب وغيره إجراء القولين، سواء كان المحمول بالغاً أو صغيراً، صحيحاً أو مريضاً. ومن هنا يظهر لك: أنه [لا] يقع عن الحامل والمحمود جميعاً، وقد صرح به في "المهذب"؛ و"الشامل"، و"الحاوي"، و"النهاية"؛ لأن الفعل الواحد لا يقع عن

اثنين، وهذا بخلاف ما لو طافا على بهيمة؛ فإنه يصح طوافهما. وبخلاف ما لو حمله في الوقوف؛ فإنه يجزئ عنهما؛ لأن الفعل ثم لا يشترط، بل المشروط الحصول فى الموقف، وقد وجد. لكن [قد] قال الماوردي فيما إذا كان المحمول صغيراً غير مميز، ونوى الولي بالطواف نفسه والصبي، فهل يقع عنهما أو عن الحامل فقط؟ فيه وجهان، سنذكرهما، ويظهر جريانها هنا. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أموراً: أحدها: أنهما إذا لم ينويا جميعاً، بل نوى أحدهما؛ أن الطواف يكون له، بلا خلاف. قلت: ويظهر أن يقال فيما إذا كانت النية ممكنة من كل واحد منهما: أن ذلك ينبني على [أن] نية الطواف هل تشترط أو لا؟ كما سيأتي، وقد صرح به في "الإبانة": فإن قلنا باشتراطها، فالأمر كما أفهمه كلام الشيخ، وإلا جاء القولان. وكذا إذا كان المحمول صغيراً غير مميز، ولم ينو حامله. الثاني: أن الحامل لو نوى الطواف عن المحمول، لم يجر القولان؛ ولأجل ذلك قال: النواوي في الصحيح؛ إن الحامل إذا نواه للمحمول، وقع عنه، وهذا صحيح إن كان هذا في طواف القدوم، أو في طواف متطوع به، أما إذا كان في طواف الفرض فلا؛ كما ستعرفه.

الثالث: أن محل الخلاف في طواف القدوم؛ لأنه الذي تكلم فيه، وليس هو مختصاً به، بل هو جار في الطواف الركن أيضاً؛ لأن الماوردي قال: لو طاف محمولاً وكل منهما [محرم] عليه طواف قد نواه عن نفسه ففيه قولان: أحدهما: أنه للحامل. والثاني: أنه للمحمول. وتوجيههما ما تقدم. ويدل على ذلك - أيضاً - أن ابن الصباغ، والقاضي الحسين، وغيرهما قالوا: لو حمل الصبي الذي لا يتأتي عنه الطواف محلٌّ أو محرم [قد طاف] عن نفسه طواف الفرض - أجزأه يعنى: الصبي. قال النواوي في "المناسك" و [هذا] سواء كان الحامل له وليَّه الذي أحرم عنه أو غيره، وإن حمله حامل [محرم] لم يطف عن نفسه، ففيه قولان: أحدهما: يقع عن الصبي؛ لأن الحامل بمنزلة البهيمة إذا طافت براكبها. والثاني: أنه يقع [عن الحامل]؛ لأنه هو الطائف؛ فلا يقع عن غيره وعليه فرضه؛ وهذا [ما] صححه القاضي الحسين.

وقد نسب الماوردي الأول إلى النص في "المختصر الكبير". وقال: إن القاضي أبا حامد حكاه في جامعه، والثاني إلى نصه في "الإملاء"، ووجهه بما ذكرناه، وزاد فيه: "كما لا يصح منه التطوع بالطواف أو الحج، وعليه فرضه"، لكنه خص محل القولين بما إذا كان الحامل الولي [ولم ينو] الطواف عن نفسه دون الصبى. [وقال فيما إذا نواه عن نفسه دون الصبي]، أو لم ينو شيئاً: أنه يكون عن نفسه، وعليه أن يطوف بالصبي. ولو نوى الطواف عن نفسه وعن الصبى، فيجزئه عن نفسه، وهل يجزئه عن الصبي؟ فيه وجهان، تخريجاً من القولين. وكلام الإمام منطبق على ما قاله إلاَّ في كونه إذا نوى [عن] نفسه والصبي: أنه يقع عنهما على وجه؛ فإنه لم يذكره، وقد تبعه في "الوسيط". وجعل الإمام [مأخذ الخلاف] في الأصل: أن تجديد نية الطواف لا تشترط؛ كما سنذكره، لكن صرفه بالنية هل يضر بنيته السابقة أم لا؟ قال: ووجه كونه يضر - ولعله الأصح، وربما كان يقطع يه شيخي: أنَّا إذا لم نشترط تجديد النية؛ اكتفاء بالنية الشاملة، فالنية اللاحقة مراغمة لها. وقد ذكرنا في نظير ذلك في باب النية في الطهارة عند [ذكرنا:] عزوف النية، وقصد التبرد، والتنظف [كلاماً]. قال: فإن قلنا: صرف الطواف بالنية يقطع السابقة، لم يقع عن نفسه، ويقع عن المحمول المنوي له، وإلاَّ وقع عن الحامل، وإن شيخه كان يقول: إذا نوى [عن] الصبي، فلا يقع عن الصبي، وهل يقع عنه؟ فعلى قولين. [قال:] وهذا خبط.

والذي ذكره العراقيون وغيرهم ما تقدم. ولك آن تقول [في] الجواب عن الشيخ: [و] إن كلامه وإن كان في طواف القدوم، لكنه قد أحال الكلام في طواف الفرض عليه؛ لأنه لم يذكر حين ذكره صفته؛ فدلَّ على أن حكمهما واحد، إلا فيما وقع التنبيه عليه من الاضطباع والرمل. الرابع- وهو الذي يفهمه كلام ابن الصباغ أيضاً؛ لأن عبارته في حكاية القولين كعبارة الشيخ-: أن محل الخلاف إذا حمله [محرمٌ، أما إذا حمله محلٌ] ونويا، فلا. والذي يظهر أن يقال: إنه لا فرق؛ لأن الطواف يصح من غير المحرم - كما قاله القاضي الحسين وغيره عند الكلام في طواف الوداع - لأنه عبادة في نفسه، وإذا كان يصح منه، فلا فرق بينه وبين المحرم. نعم: لو كان الخلاف مقصورًا على طواف الفرض، كان التقييد بالإحرام مقيداً؛ لأنه لا يتصور طواف الفرض إلاَّ من محرم. ولقائل: أن يقول: لعل الشيخ إنما أشار بذلك للتنبيه على أن محل الخلاف في طواف الفرض؛ كما ذكرته، عن الماوردي من قبل، ويكون تعليل القولين ما ذكرته ابن الصباغ وغيره. قيل: لو كان كذلك، لم يحتج إلى قوله: "ونويا جميعاً"؛ لأن طواف [الفرض] لا يفتقر إلى النية. ولكان له أن يقول: إن الخلاف الآتي فيه بلا شك؛ فيكون المراد الخروج عن الخلاف. قلت: ويجوز أن يكون قول الشيخ: "ونويا جميعاً" أراد به التشبه على مذهب الخصم [في هذه المسألة] وهو أبو حنيفة فإنه قال: إذا نويا جميعاً، "وقع الطواف" عنهما"، وهو عندنا لا يقع عنهما؛ كما لو فقدت النية منهما، وقد تقدم ذكره، وقد يقع عن واحد منهما، ومن هو؟ فيه القولان. ويجوز أن يكون قوله: "ونويا جميعاً"، أي: نويا الطواف عن المحمول؛ فإن فيه قولين حكاهما الفورانى وغيره.

أحدهما: أنه يقع عن الحامل. والثاني: [أنه] يقع عن المحمول، وهو الأصح. وفيه قول ثالث: أنه يقع عنهما، حكاه النواوي في "المناسك"، وقال: إن الحامل إذا كان محرماً، لم يطف عن نفسه، وقصد بالطواف نفسه فقط، أو قصدهما، أو لم يقصد شيئاً - وقع عن الحامل، ولم يحك غيره. قال: وإن طاف محدثاً أو نجساً أى: عليه نجاسة غير معفو عنها - أو مكشوف العورة، أو طاف على جدار الحجر- أى: حائطه – أو [على] شاذروان الكعبة-: لم يجزئ. هذا الفصل ينظم مسائل: ومنها اشتراط الطهارة عن الحدث والخبث وستر العورة في الطواف، سواء فيه طواف القدوم، أو طواف الزيارة، أو طواف الوداع. وقد حكى الإمام عن أبي يعقوب الأبيوردي من أصحابنا وجهاً: أنه يصح طواف القدوم من غير طهارة، ثم قال يجبر بدم وهو غلط. والصحيح ما ذكره الشيخ، ووجه ذلك: ما روى طاووس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه النطق، فمن نطق فلا يطق إلا

بخير". ووجه الدلالة منه من وجهين: أحدهما: أنه سماه: صلاة، وهو لا يضع الأسماء اللغوية، وإنما يكسبها أحكاماً شرعية، وإذا ثبت أنه في الشرع صلاة، لم يجز بدون طهارة الحدث والخبث [ولا] مع كشف العورة. والثاني: أنه جعله صلاة، واستثنى من أحكامها الكلام، فلو كان الطواف صلاة في معنى دون معنى، لم يكن لاستثناء حكم واحد من جملة أحكامها معنى. وقد ورد دليل آخر على اشتراط ستر العورة قيه، وهو ما رُوي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: كنت مع عليّ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى أهل مكة قال: فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننادي ألا يدخل الجنة إلا مؤمن، وألاَّ يحج بعد هذا العام مشرك، وألاَّ يطوف بالبيت عُريان. والسبب في ذلك: أن الناس في الجاهلية كانوا يطوفون بالبيت عراة، ويرون ذلك أفضل؛ ليكونوا كما خُلِقوا، وكانت المرأة تشد على فرجها سيوراً. وقيل: كانوا يفعلون ذلك، ويقولون: لا نعبد ربنا فى ثياب عصيناه فيها، وقد سمى الله تعالى ذلك: فاحشة، وفي قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا} [الأعراف: 28]، وإذا ثبت أن ذلك شرط كما فى الصلاة، ظهر منه أنه لا بد من طهارة البدن والثوب، وكذا المطاف؛ لأنه كموضع الصلاة. لكن قد عمت البلوى بغلبة النجاسة في موضع الطواف من جهة الطير وغيره؛ فلأجل ذلك اختار جماعة من أصحابنا المتأخرين المحققين - كما قال النواوي - في "المناسك" أنه يعفى عنها، وأنه ينبغي أن يقال: يعفى عمَّا يشق، الاحتراز عنه

من ذلك، كما عفي عن دم القمل والبراغيث والبق وونيم الذباب وهو روثه، وكما عفي عن الأثر الباقي بعد الاستجمار، والقليل من طين الشوارع الذي تيقَّنَّا نجاسته، وعن النجاسة التي لا يدركها الطرف في الماء والثوب على المذهب المختار. [و] قال: وقد سئل الشيخ أبو زيد المروزي إمام أصحابنا الخراسانيين عن مسألة من هذا النحو، فقال بالعفو، وقال: الأمر إذا ضاق اتسع. ولأن محل الطواف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم- ومن بعدهم من سلف الأمة وخلفها، لم يزل على هذا الحال، ولم يمتنع أحد من الطواف لذلك، ولا ألزم النبي صلى الله عليه وسلم ولا من يقتدي به [من بعده] أحدًا بتطهير المطاف عن ذلك، ولا أمروه بإعادة الطواف لذلك. وقد اندرج فيما ذكره الشيخ عدم صحة طواف النائم؛ لأنه محدث على الصحيح. وقد قال الإمام: إن هذا يقرب [من] صرف الطواف إلى طلب غريم، ويجوز أن يقطع بوقوعه موقعه.

قال في "الروضة": قلت: الأصح صحة طوافه، والله أعلم. فإن قلت: إذا كان الطواف بالبيت صلاة؛ فينبغي إذا أحدث في أثنائه أن يبطل، وكذا إذا سبقه الحدث على الجديد؛ كما في الصلاة. قلت: الكلام في هذا يتوقف على معرفة أصل آخر مستقل بنفسه، وهو أن الموالاة في الطواف هل هي شرط فيه أم لا؟ [وفيه قولان] محكيان في طريق العراقيين من غير بناء على شىء. أحدهما - وهو الجدبد، والصحيح لا؛ لأنه عادة لا يبطلها التفريق اليسير؛ فلم يبطلها التفريق الكثير، كالزكاة. وإنما قلنا: لا ييطلها التفريق اليسير؛ لإجماعهم على إباحة جلوسه للاستراحة؛ وهذا القول هو الذي يفهم من كلام الشيخ حيث لم يتعرض لبطلانه عند فقد الموالاة كما تعرض لإبطاله عند فقد الطهارة وغيرها. والثاني -وهو القديم-: أنها شرط؛ لأنها عبادة تتعلق بالبيت، فأبطلها التفريق كالصلاة. وقد بنى المراوزة القولين هنا على القولين في الموالاة في الوضوء. قال الإمام: وربما كان شيخي يجعل الطواف أولى بالموالاة، وليس يبين [لي] فرق به مبالاة. ثم قال الإمام: والمرجع في التفريق الكثير واليسير إلى ما يغلب على الظن [الإضراب [به] عن الطواف وترك] الإضراب [عنه].

وقال غيره من أهل طريقه: إن محل القولين في أن التفريق الكثير مضر [أو لا]؟ إذا كان بغير عذر. أما إذا حصل بعذر فطريقان؛ كما في الوضوء: أحدهما: القطع بأنه لا يضر. والثاني: إجراء القولين [أيضاً]. فإذا عرفت ذلك، رجعنا إلى مسألتنا، فنقول: إن قلنا بالجديد - وهو أنه لا يضر فيه التفريق- كان الحكم فيما إذا أحدث [أو سبقه الحدث واحداً، وهو أنه يوضأ، ويبنى على طوافه من حيث أحدث] إن كان حدثه بعد انتهاء طوفته؛ بأن بلغ الحجر وإن كان قبل تمام طرفته، فوجهان في "الحاوي". أحدهما: يبني من موضع خروجه - أيضاً - وهو الأصح. والثاني: يستأنف الطوفة من ابتدائها ولا يبني على ما مضى منها؛ لأن التفريق بين أعداد الطوفات جائز؛ لأن لكل طوفة حكم نفسها، وليس كذلك الطوفة الواحدة. وإن قلنا بالقديم: فإن أحدث استأنف الطواف كله بعد تجديد الطهارة. وإن سبقه الحدث، فإن قلنا إن التفريق بالعذر لا يضر، كان الحكم كالحكم فيما إذا قلنا بالجديد. وإن قلنا: إنه يضر، فإن قلنا: إن الصلاة لا تبطل بسبق الحدث، فالطواف أولى، وإلاَّ فقولان. والفرق: أن الصلاة في حكم الخصلة الواحدة لا يتخللها الكلام والأفعال الكثيرة، بخلاف الطواف؛ كذا قاله المراوزة، وأبداه الشيخ أبو حامد احتمالاً. ثم ما ذكرناه إذا طال الزمان قبل التطهر، أما إذا قصر؛ بحيث لا يعد تفريقاً في الطهارة، فإن كان في حال سبق الحدث، قال القاضي الحسين: توضأ وأتم طوافه. وإن تعمد الحدث، فوجهان، وقيل: قولان، وهو الذي ذكره العراقيون: أحدهما: يبني - أيضاً - لأن هذا تفريق يسير، والتفريق اليسير - كما ذكرنا -

لا يقطع الموالاة. والثاني: أن الزمان القصير صيَّره الحدث كالزمان الطويل من غير حدث، وهذا يعضده ما حكاه القاضي أبو حامد في جامعه: أن الشافعي - رضي الله عنه – قال: فإن قطعه بغير عذر، وزايل موضعه، وهو فى المسجد - استأنف؛ قياساً على الصلاة. وقال الإمام: هذا الفعل يضاهي تخلل الردة في أثناء الطهارة مع قصر الزمان؛ فإن من أصحابنا من ألحق ذلك بالتفريق الطويل، ومنهم من قطع رباط الطهارة بها، ومنهم هن ألحقها بالتفريق اليسير. وحكم الخارج [من طوافه لحاجة حكم الخارج منه بالحدث؛ قاله الماوردي. وأما الخارج] منه [بالإغماء، فقد نص الشافعي - رضي الله عنه - في "الأم" على أنه إذا عاد، استأنف الوضوء والطواف، قريباً كان أو بعيداً. والفرق بين ذلك وبين ما إذا خرج منه] بالحدث - وإن كان كل منهما مانعاً من الطواف - زوال تكليفه بالإغماء؛ فزال به حكم البناء، وبقي تكليفه هع الحدث فبقي حكم البناء. ومنها: إذا طاف على جدار الحجر أو على شاذروان الكعبة، [لم يجزئه] والكلام على هذا مع من لم يره يتوقف على معرفة كيفية الحجر والشاذروان، فنقول - وإن طال [القول]. الحِجْر بكسر الحاء، وإسكان الجيم - محوط على صورة نصف دائرة فيما بين الركن الشامي والغربي، له بابان متقابلان في آخره، وأرضه مفروشة برخام، وهو مستوٍ بالشاذروان الذي تحت إزار الكعبة. قال الأزرقي: وعرضه من جدار الكعبة الذي تحت الميزاب إلى جدار الحجر سبعة عشرة ذراعاً وثمانية أصابع، وذرع ما بين بابي الحجر عشرون ذراعاً، وعرضه اثنان وعشرون ذراعاً، وذرع جداره من داخله في الماء ذراع وأربعة عشر أصبعاً،

[وذرعه] مما يلي الباب الذي يلي المقام ذراع وعشرة أصابع، وذرع جداره الغربي في الماء ذراع وعشرون أصبعاً، وذرع جدار الحجر من خارج مما يلي الركن الشامي ذراع وستة عشر أصبعاً، وطوله من وسطه في السماء ذراعان، وثلاثة أصابع، وعرض الجدار ذراعان إلا أصبعين ومع [تدوير الحجر من داخله ثمانية وثلاثون ذراعاً، وذرع تدويره من خارج أربعون ذراعاً وستة أصابع وذرع] طوفة واحدة حول الكعبة والحجر مائة ذراع وثلاثة وعشرون ذراعاً واثنا عشر أصبعاً. وقد اتفق أكثر الناس على أن بعض الحجر من البيت وبعضهم يقول: كله من البيت، ومنهم ابن عباس، وعمر، وابن عمر، رضي الله عنهم. ويدل عليه ما رُوي عن عائشة – رضي الله عنها – [أنها] قالت: كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه، فأخذ رسول لاله صلى الله عليه وسلم بيدي، وأدخلني الحجر، وقال: "صلى في الحجر إذا أردتِ دخول البيت؛ فإنما هو قطعة من البيت، لكن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة، فأخرجوه من البيت"، وقوله- عليه السلام- " [فضرت بهم] النفقة" ليس [معناه]: أن مال قريش لم يتسع لبناء البيت، أو بخلوا به، ولكن كان للكعبة أموال طيبة من النذور والهدايا، فقالوا: لا ننفق على البيت من أموالنا التي جرى فيها الربا، ولكن ننفق [من] مال البيت فيه، فقصر ذلك المال. وكان بناؤهم لذلك قبل البعثة بعشر سنين. والقائلون بأن بعضه من البيت اختلفوا: فمنهم من قال: ذلك البعض ستة أذرع، وما زاد ليس من البيت، وهو الذي رأيته

في "النهاية"، وحكاه النواوي في "المناسك" عن كثيرين من أصحابنا. وإن منهم من قال: إنه سبعة أذرع وبهذا المذهب قال الشيخ أبو محمد الجويني، وولده إمام الحرمين، والبغوي قال: وزعم الرافعي أنه الصحيح. ومنهم من قال: إنه قرب من سبعة أذرع، وبه قال في "الحاوي". وقد جاء في الحديث، أنه خمسة أذرع، ولم أر أحداً قال به غير أن كلام الإمام يمكن أخذه منه، فإنه قال: "إنهم أخرجوا من جانب البيت ستة أذرع من عرض البيت". وإذا كان كذلك فالشاذروان يسقط من ذلك، ويبقى الباقي يداني خمسة أذبع. نعم: حكى القاضي أبو الطيب أن الشافعي - رضي الله عنه - قال: أخبرني بعض أهل العلم من قريش أن الذي أخرج من الكعبة [إلى] الحجر خمسة أذرع. وليس البيت الآن هو المبني في ذلك الوقت الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو مثله إلا في طوله؛ فإنه كان ثمانية عشر ذراعاً، فزيد فيه تسعة أذرع؛ فصار سبعة وعشرين ذراعاً. وسبب ذلك أن ابن الزبير لما خرج إلى مكة بعد أن أحرق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام، قال: وأيها الناس أشيروا عليَّ في الكعبة أنقضها ثم أنشئ بناءها أو أصلح [ما] وَهَي منها؟ ". فقال ابن عباس: بأبي [أنت وأمي] [قد] فرق لي رأي فيها: أرى أن تصلح منها [ما وَهَى،] وتدع بيتاً [أسلم إلناس عليه، وأحجاراً]، أعلم الناس عليها، وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم. فقال [ابن] الزبير: "لو كان أحدكم أحرق بيته ما رضي حتى يُجِدَّه؛ فكيف

بيت ريكم؟ إني مستخير ربي ثلاثاً، ثم عازم على أمري". فلما مضى الثلاث أجمع أمره على أن ينقضها، فتحاماه الناس، ثم نقضوه حتى بلغوا به الأرض، وزاد فيه خمسة أذرع من الحجر حتى أبدى أساساً، فنظر الناس إليه فبنى عليه البناء، وألصق أرضه بالأرض، وجعل له بابًا شرقيًّ وباباً غربيًّا، وكان مستنده في ذلك ما رُوي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "لولا حدثان قومك بالشرك، لهدمت البيت، ولبنيته على قواعد إبراهيم، وألصقته بالأرض، وجعلت له بابين باباً شرقيًّا يدخل الناس منه، وبابا غربيًّا يخرج الناس منه". فلما ظهر الحجاج على ابن الزبير وقتله، هدم البيت بالمنجنيق بأمر عبد الملك بن مروان وبناه هذه البنية التي هو عليها الآن. وفي "الحاوي": أنه هدم زيادة ابن الزبير التي استطوف يها القواعد، وهو قول الأزرقي في تاريخ مكة، وأن الحجاج بناها على أساس قريش الذي كانت استقصرت عليه، وكبسها بما هدم منها، وسدّ الباب الذي في ظهرها، وترك سائرها لم يحرك منه شيئاً، وكل شيء فيها بناء ابن الزبير إلا الجدار الذي في الحجر؛ فإنه بناء الحجاج، وسد الباب الذي في ظهرها، وما تحت عتبة الباب الشرقي الذي يدخل منه، ثم همَّ عبد الملك لما صح عنده الخبر بهدمه وإعادته على الهيئة التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقل له: لا تفعل كي لا يصير ذلك [ملعبة للملوك]. وقد حكى القاضي أبو الطيب: أن الشافعي - رضي الله عنه - قال: "وأحب أن تترك الكعبة على حالها؛ لأن هدمها يذهب بحرمتها، ويصير كالتلاعب بها، فلا يريد إنسان ولي تغييرها إلا هدمها؛ فلذلك استحسنا تركها على ما هي عليه". والشاذروان هو القدر الذي ترك من عرض الأساس خارجاً عن عرض الجدار مرتفعاً عن وجه الأرض قدر ثلثي ذراع، والتارك له -كما قال النواوي؛ حكاية عن أصحابنا وغيرهم- قريش حين بنوا البيت، وضاقت بهم النفقة، وهو ظاهر في جوانب

البيت، لكن لا يظهر عند الحجر الأسود. وكلام الإمام يقتضي أنه من الركن اليماني إلى الحجر؛ فإنه قال لما ضاقت بهم النفقة، أخرجوا من جانب الحجر ستة أذرع من [غير] عَرْصة البيت، وضيقوا عرض الجدار من الركن اليماني والحجر الأسود، وأخرجوا من أساس الجدار بعضه، وهو الذي يسمى: الشاذروان. ولعل عدم ظهوره عند الحجر لأنه انمحق، أو [رأوا رفَعْه] لتهوين الإستلام وتيسيره، وقد سمى المزنى الشاذروان تأزير البيت، ومعناه: التأسيس. وقيل تشبيهاً له بالإزار. وعن ابن عباس: أنه سمَّاه: الحطيم؛ لأن البيت - شرفه الله تعالى - رفع، وترك [هو] محطوماً. وقيل: لأن العرب كانت تطرح فيه ما طافت به [من] الثياب، فيبقى حتى يحطم بطول الزمان. فإذا عرف ذلك [قلنا: إنما لم يصح طوافه على جدار الحجر: أما على قول من قال: إن كل الحجر من البيت فلأنه حينئذ] يكون طائفاً [في البيت] لأن الجدار في محاذاة الكعبة، والله –تعالى- يقول {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وهذا طائف بالبيت الجديد. وأما على قول من صار إلى أن بعضه من البيت؛ فلأنه في القدر الذي منه يكون

طائفاً بالكعبة، لا بها؛ فلم يصح؛ لما ذكرناه. نعم: قال الإمام - تبعاً للقاضي الحسين إنه [لو] خلف من الحجر مقدار الأذرع الستة على رأيه، واستظهر، ثم اقتحم في طوافه الجدار وراء ذلك، وتخطى الحجر على هذا السمت اعتد بطوافه وإن كان ما جاء به مكروهاً. وقال الرافعي: إنه الصحيح. قال النواوي في "الروضة"، و"المناسك": والمذهب الصحيح الذي نص عليه الشافعي - رضي الله عنه - وبه قطع جماهير أصحابنا، وهو الصواب -: أنه لا يصح طوافه؛ لأن النبي طاف خارج الحجر، وهكذا الخلفاء الراقدون، وغيرهم من الصحابة، فمن بعدهم. وقد روي في الصحيحين: أن الحجر من البيت. وروي: ستة أذرع من الحجر من البيت. وروي: ستة أذرع، أو نحوها من البيت. وروي: خمسة أذرع. وروي: قريباً من سبع. وإذا اضطربت الروايات تعين الأخذ بأكثرها ليسقط الفرض بيقين؛ قاله ابن الصلاح.

قال النواوي: قلت: ولو سلم أن بعض الحجر ليس من البيت، لا يلزم منه ألا يجب الطواف خارج جميعه؛ لأن المعتمد في باب الحج الاقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيجب الطواف بجميعه، سواء كان من البيت، أو لا. وإنما لم يصح طوافه على شاذروان الكعبة، لأنه طاف في البيت لا به؛ فلم يصح؛ لما ذكرناه. نعم: لو كان جسده خارج البيت، وأدخل يده في هواء الشاذروان فالذي ذهب إليه الأكثرون: أنه لا يعتد بهذا الطواف أيضاً، فإن الشرط أن يكون جميع بدنه منفصلاً عن البيت. قال الإمام: وذكر بعض أصحابنا وجها آخر بعيداً: أنه يعتد به. وقد قال في "الوسيط" إنه الأظهر؛ لأنه يسمى: طائفاً بالبيت. والأصح عند النواوي وغيره الأول. قال [النواوي] في "المناسك": وينبغي أن نبينه هنا؛ لدقيقة وهي أن من قبل الحجر، فرأسه في حال التقبيل في جزء من البيت؛ فيلزمه أن يقر قدميه في موضعهما حتى يفرغ من التقييل، ويعتدل قائماً؛ لأنه لو زالت قدماه عن موضعهما إلى جهة الباب قليلاً - ولو قدر بعض شبر - في حال تقبيله، ثم لما فرغ من التقبيل اعتدل عليهما في الموضح الذي زالتا إليه، ومضبى من هناك في طوافه - لكان قد قطع جزءاً من مطافه ويده في هواء الشاذروان؛ فتبطل طوفته تلك. تنبيه: كلام الإمام يقتضي أمرين: أحدهما: أن الطواف داخل البيت أو على ظهره لا يجزئ؛ لأنه إذا لم يجزئ على الشاذروان؛ لما ذكرناه، فداخل البيت، وعلى ظهره من طريق الأولى، وقد صرح به الأصحاب. الثاني: أنه لو طاف خارج المسجد لا يجزئ أيضاً. لأنه حينئذ [يكون] طائفاً بالمسجد لا بالبيت، وقد صرح به الأصحاب؛ كما حكينا، من قبل.

نعم: لو وسع المسجد، فحيث طاف فيه أجزأه والأكمل ما ذكرناه من قبل. وقد كان المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصغر مما هو عليه الآن فاشترى عمر دوراً، وزادها فيه، واتخذ للمسجد جداراً قصيراً دون القامة، وهو أول من اتخذ جداراً للمسجد الحرام، ثم وسَّعه عثمان كذلك، واتخذ الأروقة، وكان أول من اتخذها للمسجد الحرام. وقيل: أول من اتخذها عبد الله بن الزبير في خلافته، ثم وسعه الوليد بن عبد الملك ثم المنصور، ثم المهدي، وعليه استقر بناؤه إلى وقتنا هذا؛ قاله في "الروضة". قال: وإن طاف من غير نية، أي: تخصه - فقد قيل: يصح؛ لأن نية الحج تأتي عليه؛ كما تأتي على الوقوف؛ وهذا ما صححه النواوي، وجزم به الإمام عند الكلام [في الطواف بالصبي، وكذا ابن الصباغ عند الكلام] فيما إذا [طاف للوداع، ولم يكن قد] طاف طواف الزيارة. وقيل: لا يصح؛ لأنه عبادة تفتقر إلى السير، فافتقرت إلى النية؛ كركعتي المقام؛ وهذا ما اختاره في "المرشد". وحكى في "الوسيط" وجهاً ثالثاً: أنه يجزئ إلا إذا صرفه إلى طلب غريم، أو

قصد آخر؛ وهذا من تخريج الإمام؛ بناء على أن صرف نية الوضوء إلى قصد التبرد هل تؤثر فيه أم لا؟ وقد رأيته في "تعليق القاضي أبي الطيب" مجزوماً به قبيل الكلام في الرمي أيام منى. وهذا الخلاف في طواف الفرض، سواء كان في حج أو عمرة. وأما طواف الوداع، فلا شك في أنه لا بد من النيَّة لفقد ما ذكرناه من علة عدم اشتراطها آنفاً؛ لأنه يقع بعد التحلل التام. ومن طريق الأولى اشتراطها في الطواف المنذور والنفل، وقد صرح به في "الوسيط" حيث قال: "أما الطواف ابتداء فعبادة مفتقرة إلى النية". وطواف القدوم يحتمل إجراء الوجهين فيه؛ كما يشعر به إيراد الشيخ وسياق كلامه؛ لأنه من سننه الداخلة في العبادة. بل قال المزني: إنه نسك فيه؛ حتى يجب بتركه الدم، وهو الذي حكاه القاضي أبو الطيب عن بعض الأصحاب عقيب الكلام في طواف الوداع، وإذا كان من سننه [أو نسكاً] [له]، كانت النية منسحبة عليه؛ كما في سنن الوضوء. لكن في ابن يونس ما يفهم الجزم باشتراط النية فيه. وما حكيته في باب الإحرام عند الكلام فيما إذا أحرم مطلقاً عن الشيخ أبي حامد يفهم جزمه بعدم اشتراط النيَّة فيه. وقد أفهم ما ذكرناه من قياس القول الأول: أنه لا يجري مثل القول الثاني في

الوقوف بـ"عرفة"، [وبـ"مزدلفة"]، وهو المذكور في "تعليق القاضي أبي الطيب"؛ فإنه قال: أفعال الحج كالوقوف بـ"عرفة" وبـ"مزدلفة"، والطواف، والسعي، هل يفتقر كل فعل منها إلى نيّة أم لا؟ اختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة مذاهب: قال أبو إسحاق: ليس شيء منها يفتقر إلى نية سوى الطواف؛ لأنها أبعاض الحج، ونية الحج تشملها؛ [كما أن الركعات أبعاض الصلاة، ونية الإحرام تشملها] وإنما افتقر الطواف إلى النية؛ لأنه صلاة، والصلاة تفتقر إليها. وقال ابن أبي هريرة: ما كان من هذه المواضع يختص بفعل [: كالسعي، والطواف والرمي- افتقر إلى النية، وما لم يكن يختص بفعل]، وإنما هو لبث مجرد: كالوقوف بـ"عرفة"، و"مزدلفة"، فإنه لا يفتقر إلى نية. وحكى ابن المرزبان عن بعض أصحابنا: أن جميع ذلك لا يفتقر إلى النية. لكن في "تعليق القاضي الحسين" في باب فوات الحج بلا إحصار: أن الشافعي- رضي الله عنه- قال: القصد والإقامة يعتبر في الحج في أربعة أشياء: في الإحرام، و [في] الوقوف، والطواف، والسعي. وقد حكى في "التتمة" وجهين في افتقار كل ذلك إلى النية، وسنذكرهما من بعد، واعلم أن قولنا: "إن الطواف الفرض يفتقر إلى النية"، نريد بذلك نية أصل الفعل، لا كونه فرضاً؛ يدل على ذلك: أن الأصحاب قالوا: لو طاف للوداع، ولم يكن قد طاف طواف الزيارة، انصرف إليه. وإن قلنا: إن طواف الوداع واجب؛ كما لو أحرم بحج منذور، وعليه فرض الإسلام – ينصرف إلى حج الإسلام، وفيه شيء سنذكره؛ ولذا قالوا لو طاف المحرم بالحج معتقداً أنه محرم بعمرة، أجزأه عن الحج؛ ذكره في "الروضة" عن الروياني. قال: ثم يصلي ركعتي الطواف؛ لما روى أبو داود عن عبد الله بن أبي أوفي أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر، وطاف بالبيت، وصلى خلف المقام ركعتين، ومعه من يستره من الناس، فقيل لعبد الله: أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة؟ قال: لا. وفي رواية: "ثم أتى الصفا والمروة، فسعى بينهما سبعاً ثم حلق رأسه"، وأخرجه البخاري ومسلم، لكنه مختصر. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت في الحج والعمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف بالبيت، ثم يمشي أربعاً، ثم يصلي سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة، والسجدة يعبَّر بها عن الركعة كثيراً. وقد جاء مفسراً في رواية مسلم عنه – أيضاً- أنه قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين، وبين الصفا والمروة سبعاً جميعاً، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة". قال: والأفضل أن يكون خلف المقام؛ لما رواه جابر في صفة حج رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثم نفر إلى مقام إبراهيم- عليه السلام- فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، فجعل المقام بين البيت وبينه، وكان أبي يقول – ولا أعلمه ذكره إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -: كان يقرأ في الركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، و {قُلْ يَا أَيُّهَا

الْكَافِرُونَ} "، انتهى. والقائل: "كان أبي" هو جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر، كأنه شك في هذا الفصل: هل رفعه جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فإن قيل: الآية والخبر ظاهرهما دال على الوجوب؟ قبل في جوابه: هي صلاة؛ فلا تختص بمكان معين؛ كسائر الصلوات؛ فلذلك حملناهما على الاستحباب. قال القاضي الحسين: ولو لم يفعلها خلف المقام، فالمستحب أن يفعلهما في الحجر؛ [لأن ابن عمر فعلهما في الحجر] تحت الميزاب. قال في "التهذيب": فإن لم يفعل، ففي المسجد؛ فإن لم يفعل، ففي أي موضع شاء. قال: يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ لما ذكرناه من خبر جابر. قال: وهل تجب هذه الصلاة أم لا؟ فيه قولان: أصحهما: أنها لا تجب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم [في قصة الأعرابي]: "خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة" فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع"، وهذه زائدة على الخمس. ولأنها صلاة ذات ركوع وسجود، لم يشرع لها أذان ولا إقامة، ولا تتقيّد بوقت مخصوص؛ فلم تجب بالشرع؛ كسائر النوافل. وأيضاً: فقد ذكر الشافعي – رضي الله عنه- في القديم: أنه لو صلى فريضة بعد الطواف، حسبت له عن ركعتي الطواف؛ لرواية ذلك عن ابن عمر، ولم يذكر له مخالفة، ولو كانت واجبة لما دخلت في ضمن فريضة؛ لأن الواجبين لا يتداخلان؛ كذا قاله القاضي، وفيه شيء ستعرفه. ووجه الوجوب: أنه صلى الله عليه وسلم لما طاف راكباً، نزل فصلى الركعتين خلف المقام، فلو

كانت غير واجبة، لصلى على الراحلة. وأيضاً: فقد أطبق الناس على فعلهما، والسنن يندر فيها الاتفاق العملى. ولأنها تابعة للطواف، فكانت واجبة، كالسعى. والقائلون بالأول قالوا: [الحديث] لا حجة فيه؛ لأن صلاة النافلة على الراحلة لا تجوز في البلد، والطواف في البلد. والسعي لم يجب؛ لكونه تابعًا للطواف، بل هو ركن في نفسه. وأيضاً: فهو إذا أتى به مع طواف لا يأتي به مع آخر، فلم يكن من أتباعه، والصلاة تتبعه حيث فعل؛ فكانت من هيئاته. ومحل القولين بالاتفاق في طواف الفرض؛ ولأجل ذلك قال الإمام; وإذا كان الطواف مفروضاً، فللشافعي - رضي الله عنه - في ركعتيه قولان"، أما الطواف المتنفل به: كطواف القدوم، ونحوه - فقد ألحقه الماوردي بطواف الفرض في العمرة والحج. وقال القاضي الحسين: إنهما سنة فيه قولاً واحداً؛ كما أن التشهد إذا كان واجباً، فالصلاة فيه على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة، وإذا كان سنة، فهي فيه سنة. قال: وغلط ابن الحداد حيث جعل في ركعتي طواف النفل القولين. وقد جعل الإمام ما جزم به القاضي الأصح، واعتذر [عن] ابن الحداد، فقال: ولا أراه يصير إلى إيجابهما على التحقيق، ولكنه رأى ركعتي الطواف جزءاً منه، ولم ير الاعتداد بالطواف المتطوع به دونهما؛ قإنه لا بد أن يشترط في النفل ما يشترط في الفرض: كالطهارة، والركوع. وإذا كان كذلك، فقد تحقق من معاني كلام الأصحاب: أن الركعتين معدودتان من الطواف، أو لهما حكم الانفصال عنه. وعلى هذا الخلاف ينبغي أن يخرج اشتراط الموالاة بينهما وبينه إن اشترطنا الموالاة فيه نفسه، لكن سنذكر عن الأصحاب خلاف ذلك. التفريع: إن قلنا بالقول الصحيح، فيجوز له فعلهما قاعداً مع القدرة على القيام،

وأن يجمع بينهما وبين الطواف بتيمم واحد، ويجوز أن يقيم مقامهما ركعتين فرضاً؛ اعتباراً بتحية المسجد؛ كما قال الصيدلاني، وهو ما حكيناه عن القديم من قبل. وقال الإمام: إنه مما انفرد به الصيدلاني، والأصحاب على مخالفته؛ فإن الطواف يقتضى صلاة مخصوصة، والمسجد حقه ألا يجلس الداخل إليه حتى يصلى. وإن قلنا بمقابله، فهل يجوز فعلهما قاعداً مع القدرة على القيام؟ فيه وجهان في "الحاوي" والبيان: ووجه الجواز: أنهما من توابع الطواف، فلما جاز أن يطوف راكباً ومحمولاً مع القدرة على المشي، جاز أن يصلي قاعداً مع القدرة على القيام. وهل يجوز أن يجمع بينهما وبين الطواف بتيمم واحد؟ فيه وجهان حكاهما الإمام. ولا يقوم مقامهما صلاة ركعتين فريضة. وعلى القولين معاً لا يتعين لفعلهما وقت ولا مكان، حتى لو أقيمتا بعد الرجوع إلى الوطن والتحلل وقعتا الموقع، ولا ينتهيان إلى القضاء والفوات مع بقاء الحياة. قاله العجلي - وكذا النواوي، وهو متبع في ذلك الإمام، وقال: إنهما ليستا شرطاً في الطواف، ولا ركناً فيه وإن لم يصِر إلى ذلك أحد من الأصحاب، وأنه لا يجبر تأخيرهما ولا تركهما بدم ولا غيره. لكن في "تعليق القاضي الحسين": أنا إذا قلنا: إنهما غير واجبتين، كان حكمهما في القضاء حكم النوافل. وإن قلنا بالوجوب، قضاهما. وحكى القاضي أبو الطيب عن رواية أبي الحسن بن المرزبان عن رواية بعض أصحابنا: أنه قال: إذا لم يصلِّ رجعتي الطواف حتى رجع إلى أهله، لم يحصل له التحلل؛ لأن الركعتين بمنزلة جزء من الطواف، وإذا بقي عليه جزء من الطواف؛ فإنه لا يحصل له التحلل. قلت: وهذا يؤيد ما وجه به مذهب ابن الحداد في طواف النفل كما سبق، ولعل هذا فيما إذا تركهما من طواف [يعقبه السعي؛ لأنه حينئذٍ يكون سعيه باطلاً؛ لأن من

شرطه أن يقع بعد] [طواف] كامل، ولم يكمل الطواف بدون ركعتيه عند هذا القائل؛ فلذلك قال: إنه لا يتحلل. أما إذا كان قد تركهما عقب طواف لم يسع بعده، فيظهر أن يحصل له التحلل –أيضاً- إذا صلاهما في منزله؛ إذ لا يتعين لفعلهما مكان كما تقدم. وقد قال القاضي أبو الطيب: إن الصحيح: أن التحلل يحصل له وإن لم يصل الركعتين؛ لأنهما منفردتان عن الطواف؛ فهما بمنزلة السعي وما بعده. وفي هذا نظر لا يخفى على متأمل، والله أعلم. ثم على رأي الإمام: إذا فاتتا بالموت قبل فعلهما؛ قال: فينقدح أن يجبرا بالدم إذا قلنا بالوجوب؛ كسائر الواجبات. وقد حكي عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال: إذا لم يصلهما حتى رجع إلى شعبه - أي: بيته - صلاهما وأراق دماً، وليس إراقة الدم بواجبة -كما تقدم- بلا خلاف، لكنها مستحبة. وقد حكى النواوي عن الشافعي: أنه استحبها، لكن استحباب ذلك، هل هو مفرع على القول بالوجوب، أو على القولين؟ فيه وجهان: المذكور فى "التتمة"، الأول. والأصح في "تعليق القاضي الحسين" الثاني. واعلم أن ركعتي الطواف تقعان للمستأجر لأداء النسك عنه. قال الإمام: وليس في الشرع صلاة تجزئ فيها النيابة غير هذه. وفي "الروضة" أن أصحابنا اختلفوا فيمن تقع عنه؟ فقيل: عن الأجير. والأشهر: أنها عن المستأجر. فرع: إذا أراد أن يطوف طوافين أو أكثر، استحب له أن يصلي عقيب كل طواف ركعتين، فلو طاف طوافين أو أكثر [بغير صلاة]، ثم صلى لكل طواف ركعتين جاز، لكنْ ترك الأفضل.

ويستحب أن يدعو عقيب صلاة الركعتين خلف المقام بما أحب من أمور الآخرة والدنيا، والله أعلم. قال: ثم بعود إلى الركن فيستلمه، ثم يخرج من باب الصفا؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن جابراً روى ذلك عنه حين وصف حجه صلى الله عليه وسلم، كما أخرجه مسلم وغيره. قال الماوردي: ويستحب له بعد استلام الركن، وقبل خروجه أن يقف في الملتزم، ويدعو عنده؛ لأنه - عليه السلام- فعله. وأن يدخل الحجر ويدعو تحت الميزاب؛ لقوله - عليه السلام – "أما من أحد يدعو تحت الميزاب إلا استجيب له". وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا جاوز ميزاب الكعبة: اللهم إني أسالك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب". وقال ابن الصلاح: وظاهر الحديث الصحيح يدل على أن هذا مما لا ينبغي الاشتغال به عقيب الطواف الذي يستعقب السعي، بل يخرج إلى السعي، ويؤخر ذلك إلى ما بعد طواف آخر، ومن أراد ذلك عقب الطواف المستعقب للسعى، فينبغى

أن يأتي به مقدماً على استلام الحجر. وقد قال الغزالي: إنه يأتي الملتزم إذا فرغ من الطواف قبل فعل ركعتي الطواف. قال ابن الصلاح: وهكذا الأمر في دخول البيت. قال: [ويسعى؛] لأنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه سعى بين الصفا والمروة - كما تقدم ذكره - وهو بيان لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} الآية [البقرة: 158]. ومعنى قوله تعالى: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أي: من علامات مناسككم. ومعنى قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، أي: لا حرج عليه في ذلك. وسببه: أن الصفا كان عليه صنم يقال: له إساف، وعلى المروة صنم يقال له: نائلة، وكانت الجاهلية إذا سعت يمسحونهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام، كرهه المسلمون؛ لأجل ذلك؛ فنزلت الآية. وروى مسلم عن عروة قال: قلت لعائشة - رضي الله عنها- ما أرى عليَّ جناحًا [ألاَّ أطوف] بين الصفا والمروة، قالت: "لم"؟ قلت: "لأن الله تعالى قال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} " الآية [البقرة: 158]، فقالت: "لو كان كما تقول، لكان: "فلا جناح عليه ألا يطوف بهما"، إنما أنزل الله تعالى هذا في أناس من الأنصار كانوا إذا أهلوا، [أهلوا] [لمناة]، في الجاهلية؛ فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة". وفي رواية: "ما أتمَّ الله حج امرئ ولا عمرته، لم يطف بين الصفا والمروة".

وهذا من قول عائشة لا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما قاله الماوردي. فائدة: قال القاضي الحسين: الأصل في السعي قيل: قصة إبراهيم - عليه السلام. [روي أنه -عليه السلام أمر] ابنيه إسماعيل [وإسحاق] بالمسابقة، فاستبقا، فبسق إسماعيل إسحاق، فأجله في حجره، وإسحاق بين يديه على الأرض، فدخلت زوجته سارة أم إسحاق، فقالت: ولد أمتي تجلسه في حجرك، وولدي على الأرض؟! فحلف إبراهيم - عليه السلام - أن يهاجر يإسماعيل وأمه هاجر، فهاجر بهما إلى مكة، وحمل معهما جراباً من الزاد، وقربة من الماء، ومكة إذ ذاك ربوة حمراء، ليس بها ديار، ولا نافخ نار، فقالت هاجرت "إلى من تكلنا"؟ فقال: "إلى الله"، فقالت: "إذن لا يضيعنا الله"، فلما فني الزاد والماء، تحيرت هاجر فسمعت صوتاً من "صفاً فَزَقَتْهَا بقدر قامة رجل، ثم خفي ذلك الصوت، فنزلت وهي تمشى، فلما بلغت الموضع الذي يُبْدأ السعى منه، سمعت ذلك الصوت من "مروة"، فأخذت فى السعى الشديد، فلما بلغت المكان الذي يقطع فيه السعي، كانت قد سكنت فرجعت إلى سجية المشي حتى رقت "مروة" بقدر قامة رجل، وخفي الصوت، ثم سمعت [ذلك] الصوت من صفا بعد أن نزلت من "مروة"، وبلغت [الموضع الذي يقطع فيه السعي، فأخذت في السعي الشديد، فلما بلغت] الموضع الذي يبدأ فيه السعي، كانت قد سكنت فرجعت إلى سجية المشي حتى رقت] "صفا" هكذا سبع مرات. وقيل: إنها لما رقت "الصفا" في المرة الأولى في طلب صاحب ذلك الصوت، سمعت ذلك الصوت من "مروة"؛ فنزلت من صفا، وقصدت "مروة"، وهى تمشي،

فلما بلغت الموضع الذي يبدأ فيه السعي، صار ولدها يمري منها، فلم تحب أن تراه في الحال الشديد من العطش، فأخذت في السعي الشديد حتى غاب عن عينها، ثم رجعت إلى سجية المشي حتى رقت "مروة"، ثم سمعت من "صفا" فنزلت من "مروة" وقصدت "صفا"، وهي على سجية المشى، حتى بلغت الموضع الذي يقطع [فيه السعى] فصار ولدها يمري منها، فأخذت في السعي الشديد؛ كراهية أن تراه في الحال الشديد من العطش، حتى بلغت الموضع الذي يبدأ فيه السعي، ثم رجعت إلى سجية المشي حتى رقت "الصفا"، هكذا سبع مرات، فلما كانت في المرة السابعة على "مروة" نظرت فرأت الماء قد نبع من تحت عقب إسماعيل، عليه السلام. قيل: إن جبريل - عليه السلام - ضرب بجناحه على الأرض؛ [فنبع الماء. وقيل: إن إسماعيل - عليه السلام - ضرب برجله الأرض]؛ فنبع الماء، وهو ماء زمزم، فابتدرت إليه، فأحاطت عليه التراب، مخافة أن ينفد. قال - عليه السلام -: "لو لم تحطه، لكان عيناً معيناً". ثم إن القوافل كانت تجىء من جرهم، فرأوا الطيور يقعن ويجتمعن في ذلك الموضع؛ فعلموا أن به ماء؛ فدنوا منها، وكان يطعمونها الزاد، وتسقيهم الماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو لم يطعموها الزاد لكانت تسقيهم". فصار هذا سنة في الحج إلى يوم القيامة، فهذا هو السبب في كيفية السعي. وأما السبب في أصل السعي، فقد تقدم ذكره في الحديث، وقد زال واستقر حكمه، والله أعلم. قال: يبدأ بالصفا، والأولى أن يرقى عليها حتى يرى البيت؛ لما روى مسلم وغيره عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم، لما دنا من الصفا بعد فرإغ طوافه، قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقي عليه حتى رأى البيت.

قال الإمام: ورؤية البيت تحمل إذا رقى عليه بقدر قامة رجل. والصفا: مقصور. ورقي: بكسر القاف: أي صعد، وهي اللغة العالية. وقول الشيخ: "يرقى" [غير]، مهموز، أيضاً. وقد ادعى الإمام الوفاق على [أن] الانتهاء إلى أصل الجبل كاف؛ كما دلَّ عليه كلام الشيخ، وحكاه في "المهذب" عن نصه في "الأم". وعن أبي حفص بن الوكيل من أصحابنا: أن الارتقاء عليها بقدر قامة رجل حتى يصير بحيث يتراءى له البيت - واجب؛ حكاه عنه هكذا القاضى الحسين وغيره. وحكي عنه - وهو المذكور في الكتاب في باب فرض الحج والعمرة: أن الارتقاء عليها واجب، وأنه طرده في الارتقاء على المروة؛ موجهاً له: بأنه لا يتم سعيه إلا باستيفاء ما بينهما بلا خلاف عندنا، ولا يستوفيه إلا بذلك؛ فوجب؛ كغسل جزء من رأس في الوضوء. قال الماوردي: وهو خلاف إجماع الصحابة؛ لأن الشافعي روى بسنده: أن أبا النجيح قال: أخبرني من رأى عثمان بن عفان يقوم في أسفل الصفا، ولا يظهر عليه، فلم ينكر ذلك أحد من الصحابة؛ فدلَّ على أنه إجماع. وأما قوله: "إنه لا يمكن استيفاء ما بينهما إلا بالصعود عليها" فغلط؛ لأنه قد يمكنه بأن يلصق عقبه بالصفا، ثم يسعى فإذا انتهى إلى المروة، ألصق أصابع قدميه بالمروة؛ فيستوفى ما بينهما؛ وهذا منه يدل على أن الواجب من جهة المروة إنما هو إلصاق رءوس الأصابع بها، وقد صرح به القاضي الحسين أيضاً. ويظهر أن يكون هذا فى المرة الأولى والثالثة والخامة والسابعة، أما في الثانية والرابعة والسادسة والسابعة، [فينبغي] أن يكون الواجب إلصاق العقب بها؛ كما في الصنا، وكلٌّ منهما لا يأبى ذلك. وقد يفهم من كلام الشيخ "من لم ير البيت": أنه إذا [رقي على الصفا، رأى البيت

من أعلى جدار المسجد، وليس كذلك، بل هو إذا] رقي عليه [رآه] من باب الصفا. قال: والمرأة لا ترقى؛ طلباً للستر والله أعلم. قال: ويكبر ثلاثاً، ويقول: الحمد لله [على ما] هدانا)، زاد فى "الشامل": "والحمد على ما أولانا" لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير". زاد في "الشامل" بعد قوله "يحيي ويميت": "وهو حي لا يموت، بيده الخير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، لا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". ثم يدعو بما أحب، أي: من أمر الدين والدنيا. [و] الأصل في ذلك ما روى أبو داود في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر الله ووحده، وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، ثم دعا بين ذلك، وقال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة. وقد أخرجه مسلم، وزاد فيه: أنه استقبل القبلة [وأسقط منه "يحيي ويميت"؛ ولأجل ما اشتمل عليه من الزيادة، استحب أصحابنا استقبال القبلة] في الدعاء؛ ذكره القاضي الماوردي وغيره. وعن ابن عمر أنه كان يدعو بعد التكبير والتهليل لنفسه.

تنبيه: قوله: "وهزم الأحزاب وحده"، أي: الطوائف التي تحزبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحصروا المدينة. ومعنى "وحده": أي: هزمهم بغير قتال منكم، بل أرسل عليهم ريحاً وجنوداً؛ قال: الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} إلى قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} الآية [الأحزاب: 9، 59]. قال: ثم ينزل من الصفا، ويمشي حتى يكون بينه [وبين] الميل الأخضر المعلق بفناء المسجد [نحو ستة أذرع؛ فيسعى سعياً شديداً حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد] وحذاء دار العباس، ثم بمشي حتى يصعد المروة، ويفعل مثل ما فعل على الصفا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما نزل إلى المروة مشى حتى إذا انتصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعد مشى حنى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طواف [على] المروة، قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان ليس معه هدي، فليحل، وليجعلها عمرة" رواه مسلم عن جابر. وكذا أخرجه أبو داود عنه، ولفظه: "حتى إذا انتصبت قدماء، رمل في بطن الوادي، حتى إذا صعد مشى ... " وأتم الحديث. وقد روي عن حبيبة بنت أبي تجراة أنها قالت: دخلت دار أبي الحسين مع نسوة من قريش؛ لأنظر كيف يسعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته، وأراه يدور على ساقه من شدة العدو، وهو يقول: "رأيها الناس: إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا". واعلم أن السعي الشديد في بطن الوادي من مستحبات السعي، فلو تركه ومشى

في الجميع، جاز؛ لما روى أبو داود أن ابن عمر مشى بين الصفا والمروة، وقال: "إن مشيت، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وإن سعيت؛ فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى، وأنا شيخ كبير". قال في "الروضة": وإذا عجز عن السعي الشديد؛ لزحمة، تشبَّه بالساعين؛ كما قلنا في الرمل. قال الإمام: ولا يبلغ بالشدة في السعي مبلغاً يبتهر به. قال الأصحاب: ويستحب للساعي أن يقول بين الصفا والمروة: "رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم؛ إنك أنت الأعز الأكرم؛ لأنه - عليه السلام - قال ذلك وزاد في "الحاوي" في الآخر وتعلم ما لا نعلم". وزاد الغزالي [تلو ذلك]: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]. تنبيهان: أحدهما: كلام الشيخ يقتضي أنه يرقى على المروة حتى يرى البيت؛ لأنه هكذا يفعل على الصفا، ولا شك في [أن] الارتقاء عليهما- بقدر قامة رجل – مشروع. وقد قال الإمام: إن الكعبة كانت تبدو في عصره - عليه السلام - من تلك الجهة - أيضاً - فحال بين الكعبة وبين الراقين في المروة القدر المشروع - الأبنيةُ التي أحدثها الناس. الثاني: الميل [المعلق]: السود. وقوله: "المعلق بفناء المسجد"، الفناء: بكسر الفاء ممدود، والمراد: يركن المسجد، وهو المسجد الحرام. وعبارة الشافعى - رضى الله عنه – "المعلق فى ركن المسجد"، ومعناه: المبني فيه.

وقوله: "وحذاء دار العباس"، هكذا هو مذكور فى كتب الأصحاب. قال النواوي: وهو غلط، وصوابه: حذف لفظ "حذاء"؛ فيقال: "المعلقين بفناء المسجد ودار العباس"، وهكذا ذكره الشافعي - رضي الله عنه - في "المختصر"، وابن الصباغ، والبغوي، وآخرون. وقال في "التتمة": وجدار العباس": بالجيم، وبراء بعد الألف، وهو حسن. والجدار: الحائط. والعباس المذكور: هو عم الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد قال الإمام: إن المعبر عنه بدار العباس خَانٌ عرفه العامة بدار العباس- رضي الله عنه. قال: ثم ينزل، ويمشي في موضع ويسعى في موضع سعيه، حتى يأتي الصفا، فيفعل ذلك سبعاً؛ لما تقدم من حديث ابن عمر الذي أخرجه مسلم، وحديث عبد ابن أبي أوفى: أنه صلى الله عليه وسلم أتى الصفا والمروة يسعى بينهما سبعاً. فإن قيل: قد روى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: "لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً"، وهذا يعارض ما ذكرتموه. قلنا: المراد بالطواف الواحد جملة السعى؛ لأنه شيء واحد، والأشواط فيه كالركعات [في الصلوات]؛ وحينئذ فلا تعارض. ومراد جابر أنه - عليه السلام - وأصحابه لم يتك" منهم السعي في النسك، لتكرر الطواف، وقد صرح به الأصحاب، وأرشد إليه قول الشيخ من بعد: "فإن كان قد سمى مع طواف القدوم لم يسع". تنبيه: كلام الشيخ يفهم أمرين: أحدهما: أن مروره من الصفا إلى المروة، ومروره عن المروة إلى الصفا مرة

واحدة، وأنه يفعل ذلك سبع مرات، وهو قول ابن خيران والصيرفى، أخذاً من قول الشافعي رضي الله عنه. "ويبدأ بالصفا، ويختم بالمروة"؛ فإنه يقتضي أن هذا في كل مرة. وقد نقله الماوردي عن الإصطخري والصيرفي وبعض أهل العلم، وهو ابن جريج؛ كما قال، وابن جرير؛ كما قال غيره، وهو الإمام، وأنهم استدلوا بأن الطواف لما كان ابتداؤه من الحجر، وانتهاؤه إليه، وكان ابتداء السعي من الصفا - وجب أن يكون انتهاؤه إليه؛ [قياساً عليه. ولكن المذهب كما حكاه فى "المهذب" وغيره: أن مروره] من الفنا إلى المروة - مرةٌ، ومن المروة إلى الصفا مرة ثانية؛ لقول جابر في الحديث الذي ذكرناه من قبل "حتى إذا كان آخر طواف على المروة، قال: لو استقبلت عن أمري ما استدبرت .. " إلى آخره. قال الماوردي: ولأن هذا هو المستفيض في الشرع، ينقله الخاصة والعامة، خلفاً عن سلف، ليس بينهم فيه تنازع؛ فكان ذلك إجماعاً منهم كإجماعهم على أن الظهر أربع [ركعات]. وأما ما استشهدوا به، فهو حجة عليهم؛ لأن [الواجب] في الطواف استيفاء جمح البيت في كل طوفة، وذلك من الحجر إلى الحجر، فأوجبناه عليه، والواجب في السعي استيفاء جميع المسعى، وذلك يحصل بمروره من الصفا إلى المروة؛ فأوجبناه عليه. قال الإمام: وقد عرض تصنيف لأبي يكر الصيرفي، وفيه ما حكيناه عنه - عن أبي إسحاق المروزي؛ فخط عليه، فرد التصنيف إلى أبي بكر الصيرفي فأعاده، واستقر على مذهبه. وقد جاء في بعض نسخ التنبيه ما يدل على المذهب، وهو قوله: "يبدأ بالصفا، ويختم بالمروة" [ولا يصح أن يختم بالمروة] في صورة يصح فيها السعي إلا كذلك. واحترزنا بقولنا: "يصح فيها السعى" عما لو سعى من الصفا إلى المروة، ثم رجع

إلى الصفا من غير المسعى، وأتى من الصفا في المعى إلى المروة، وفعل ذلك سبعاً - فإنه لا يعتد له بذلك إلا بالمرة الأولى على الصحيح الذي لم يورد في "الحاوي" غيره [وإن كان فيه وجه قد حكاه في "الروضة" عن "البحر" وغيره؛ أنه يصح. وقال الماوردي- بناء]، على ما ذكرناه من المذهب في مسألة الكتاب-: إن المرة الأولى تكون من الصفا إلى المروة، والثانية من المروة إلى الصفا، والثالثة من الصفا إلى المروة، والرابعة من المروة إلى الصفا، والخامسة من الصفا إلى المروة، والسادسة من المروة إلى الصفا، والسابعة من الصفا إلى المروة، وأنه لو نسي السابع أتى به وكمل سعيه، ولو نسي السادس، وأتى السابع، لم يحسب له إلا خمسة. ولو نسي الخامس، وأتى بما بعده، بطل السادس، وجعل السابع خامساص، وأتي بالسادس والسابع؛ لأن الترتيب شرط. وما قاله صحيح، وقد ذكر بعده شيئاً [قد] يظن أنه يخالفه؛ فإنه قال: لو ترك من المسعى ذراعاً، ورجع إلى أهله، لم يحل، ثم ينظر: فإن كان المتروك من السابع، نظر: فإن كان من آخره أتى بذلك الذراع، وإن كان من وسطه أتم سعيه من حيث ترك، وإن كان من أوله من ناحية الصفا عاد وأتى بالسعي [كله وتحلل. ومراده بالسعي] ذلك المرور فقط، لا بمجموع السعي، ولوكان من السادس لم يعتد له، بالسابع، وكان الحكم في السادس كما تقدم. الثاني: أن الموالاة لا تشترط في مرات السعي؛ [لأنه أتى بـ"ثم"، و"ثم"] هذا وضعها، وهو الذي حكاه القاضي الحسين وغيره، وهو الصحيح في "التتمة"؛ لأنه

قال: "إن حكمه حكم الطواف". وقال البندنيجي: إن التفريق اليسير لا يضر، [وكذلك الكثير] بعذر: كالخروج لصلاة مكتوية، وللطهارة، ونحوها. وإن كان كثيرًا بغير عذر، فعلى قولين: المذكور في "الأم": أنه لا يضر، ويبنى. وفي القديم: أنه يستأنف. وقال الماوردي: إن لم يشترط ذلك في الطواف، ففي السعي أولى؛ وإلا فوجهان: أحدهما: وهو قول البصريين -: أنه شرط، فيه كالطواف. والثاني: لا؛ لأن السعي أخف حالاً عن الطواف؛ لجوازه بغير طهارة. وعلى هذا إذا أقيمت الصلاة، وهو في المسعى، أو عرض عارض- قطع السعي، فإذا فرغ بنى. وقد روى أن ابن عمر كان يطوف بين الصفا والمروة، فأعجله البول؛ فتنحى، ودعا بماء، فتوضأ، ثم قام فأتم على ما مضى. وقد اتفق الكل على [أن] عن شرطه أن يقع بعد [طواف ولو نفلاً، إلا] طواف الوداع؛ فإنه لا يتصور وقوعه بعد.

وادعى الماوردي الإجماع عليه. ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا هكذا، ولو لم يكن تقدم الطواف شرطاً، لفعل خلافه ولو مرة واحدة. نعم: هل يجوز أن يتراخى عنه، أو يشترط وقوعه عقيبه؟ فيه وجهان في "الحاوي": الذي قاله البصريون الثاني؛ حنى بَعُدَ ما بينهما، لم يجزئه؛ لأن السعي لما افتقر إلى تقديم الطواف عليه؛ ليمتاز عمَّا يفعله الإنسان لغير الله تعالى، وهو تردده إلى حاجةٍ - افتقر إلى فعله على الفور؛ ليقع الامتياز؛ لأنه لا يحصل إلا بوقوعه على الفور. والذي قاله البغداديون، والقاضي الحسين، وهو المشهور - الأول؛ لأن كلاً منهما ركن، والموالاة بين أركان الحج لا تجب وإن كان الترتيب شرطاً؛ دليله الطواف والوقوف؛ وهذا ما اقتضاه قول الشيخ: "ثم يعود إلى الركن، ثم يخرج من باب الصفا، ويسعى" ووضع [ثم] للتراخي مع الترتيب. وعلى هذا: لا فرق بين طويل المدة وقصيرها، لكن يشترط ألا يتخلل بينهما شيء. وقال الغزالي: إنه [لو] تخلل بينهما الوقوف بـ"عرفة" ففيه تردد؛ لأن الوقوف كالحاجز، والذي ذكره أبو علي المنع؛ لهذه العلة، وهو المحكي في البيان عن القفال، والله أعلم. قال: فإن بدأ بالمروة، لم يعتد بذلك حتى يأتي الصفا فيبدأ به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "أبدأ بما بدأ الله به" كما تقدم، وقال في آخر: "خذوا عني مناسككم"، وفي رواية أنه

قال: "ابدءوا بما بدأ الله به". وظاهر الأمرك الوجوب. تنبيه: اقتصار الشيخ على بيان هذا الحكم في السعي دون باقي أحكامه [يعرفك أن باقي أحكامه] ليس بواجبة، بل مستحب، ومن جملة [ذلك] سعيه راجلاً. وقد صرح الأصحاب به، وقالوا: يجوز السعي راكباً [، وهو راجلاً أفضل؛ لأنه - عليه السلام- طاف وسعى في حجة الوداع راكبا؛] ليراه الناس، ويقتدوا به، أو ليسألوه؛ فإن الناس غشوه، وغيره ليس كذلك. وسكوت الشيخ عن ذكر الطهارة والستارة مع ذكره لهما في الطواف، يعرفك أنهما ليسا بشرط في السعي كما صرح [به] الأصحاب؛ لقوله - عليه السلام - لعائشة "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت"؛ فخص الطواف بالنهي؛ فعلم أن السعي غير داخل في النهي. ولأنه نسك لا يتعلق بالبيت؛ فلم يكن من شرطه ذلك؛ كالوقوف. قال: والمرأة تمشي، ولا تسعى، لقول ابن عباس: "ليس على النساء معي بالبيت، ولا بين الصفا والمروة". ولأن المعنى الذي شرع لأجله السعي في الابتداء إظهار الجَلَد والقوة - كما تقدم - وهو مفقود في حق النساء. ولأن ذلك يفضى إلى تكشفها. وعن [الإمام] الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال: "إذا كانت المرأة مشهورة الجمال، فالمستحب لها أن تطوف وتسعى ليلاً، فإن طافت نهاراً، أسدلت

على وجهها سترا". وقد حكي في "المهذب" ما ذكرناه عن الشافعي. وأفهم كلامه أنها إنما تمشي، ولا تسعى إذا طافت نهاراً؛ ولأجله قال في "الروضة": وقيل: إن سعت في الخلوة ليلاً، سعت كالرجل". قال: فإذا كان اليوم السابع من ذي الحجة، خطب الإمام - أي: الأعظم -[أو نائبه] في إقامة الحج؛ إذ لا ينبغي له إذا لم يحضر الحج بنفسه أن يخلي جمعهم عن مقدَّم [يحل] محل الأمير عليهم؛ لأن الحج يجمع صنوفاً من الخلق؛ فيتوقع من الازدحام أمور لا بد في دفعها من التعلق برأي مطاع؛ ولهذا يستحب أن يحضر الجامع سلطان، وقد بعث رسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً في السنة التاسعة من الهجرة، وبعث عليًّا وراءه حتى يقرأ على الكفار سورة براءة. قال: بعد الظهر بـ"مكة"، وأمر الناس بالغدو إلى "منى" من الغد؛ لما روى [ابن عمر] أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر، ويعلم الناس المناسك. وهذه إحدى الخطب في الحج، وهي أربعة يأتي عليها كلام الشيخ. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعلها، وكلها بعد الصلاة، إلا خطبة يوم عرفة؛ فإنها قبلها؛ قاله ابن الصباغ، والإمام. وفيما وقفت عليه من "تعليق القاضي الحسين": أن كلها قبل الصلاة، وأن [كلها] خطبة واحدة، إلا خطبة عرفة فإنها خطبتان.

قال الماوردي: ويستحب للإمام إن كان محرماً أن يفتتح الخطبة بالتلبية، وإن كان حلالاً افتتحها بالتكبير. ويستحب [له] إن كان مقيماً بـ"مكة" أو من أهلها أن يحرم ويصعد المنبر [محرماً]. وإن كان فقيهاً، قال الشافعي - رضي الله عنه-: "أحب أن يقول لهم: هل من سائل فأجيبه". وهذا إذا لم يكن الثامن يوم جمعة، "فإن كان قال ابن الصباغ": فإنه يأمرهم أن يخرجوا قبل الفجر؛ فإن الفجر إذا طلع، لم يجز الخروج إلى سفر، وترك الجمعة على أصح القولين. وفي القول الآخر: يكون مكروهاً. وقد قال الشافعي - رضي الله عنه – "ولا يصلون الجمعة بـ"منى"، ولا بـ"عرفات" إلا أن تحدث قرية مجتمعة البناء يستوطنها أربعون رجلاً". وإن كان السابع يوم جمعة، خطب للجمعة، وصلاها، ثم رقي المنبر بعد الصلاة، وخطب للحج؛ قاله المتولي [وغيره]. قال: ثم يخرج إلى منى في اليوم الثامن، فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيت بها، ويصلي بها الصبح؛ هكذا رواه مسلم عن جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم. ويستحب للإمام إن لم يكن قد أحرم قبل الخطبة -كما ذكرناه- أن يحرم قبل أن يخرج، ليحرم معه من بقي من الناس غير محرم، ويختار أن يكون إحرامه بعد أن يطوف بالبيت سبعاً؛ توديعاً له، ويصلي ركعتين؛ قاله الماوردي. قال الأصحاب: والناس مخيرون في اليوم الثامن - وهو المسمى بيوم التروية - يين أن يغدوا بكرة، وبين أن يخرجوا بعد الزوال إلا أن يكون يوم جمعة، فيخرجون قبل الفجر؛ لما تقدم.

ويستحب أن تكون صلاتهم في مسجد الخيف عند الأحجار التي بين يدي المنارة؛ فإنه مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً، فمنهم موسى، وكأني أنظر إليه، وعليه عباءتان قطوانيتان، وهو محرم على بعير مخطوم بخطام من ليف، وله ضفيرتان"؛ والمبيت بـ"منى في هذه الليلة؛ للاستراحة، وليس بنسك اتفاقاً؛ فلا يجب بتركه دم، وكذا لو ترك وداع البيت بما ذكرناه من الطواف، لا دم عليه؛ لأنه بخروجه غير مفارق للبيت، وإنما خرج؛ ليعود إليه. وقد اختلف الناس لم سمي اليوم الثامن يوم التروية؟ فقيل: لأن الناس يروون فيه من الماء؛ لأنه لم يكن بـ"منى" ولا عرفات ماء. وقيل: إن آدم - عليه السلام - رأى فيه حواء وقيل: لأن جبريل - عليه السلام -[أرى إبراهيم - عليه السلام- فيه أول المناسك. وقيل: لأن إبراهيم عليه السلام] تروى فيه في ذبح ولده. وقيل: غير ذلك. ومنى: يكسر الميم، مقصور، منون، مصروف، ويجوز ترك صرفها، سميت بذلك؛ لما يمنى فيها من دماء الهدي - أي: يراق - ولذلك سمي ماء الظهر منيًّا؛ لأنه يمنى، أي يراق. قال الله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37]. وقيل: لأن الله تعالى مَنَّ فيها على إبراهيم - عليه السلام - بالفداء. وقيل: لِمَنِّهِ على خلقه [فيها] بالمغفرة. وبينها وبين مكة فرسخان، وكذا بينها وبين عرفات فرسخان؛ لكون طريق منى

إلى عرفات أطول من طريق مكة إلى مِنى، وبينها وبينها وبين مزدلفة فرسخ، كما بين مزدلفة وعرفات فرسخ، لكن الفرسخ الذي بين عرفات ومزدلفة أطول وأمد؛ كذا قاله القاضي الحسين. وقال في "الروضة": المختار أن المسافة بين مكة ومنى فرسخ فقط؛ كذا قاله جمهور العلماء المحققين، منهم الأزرقي وغيره ممن لا يحصى. قال: فإذا طلعت الشمس على ثبير. ثبير هذا بثاء مثلثة مفتوحة، ثم باء ثانية الحروف مكسورة، جبل عظيم بـ"المزدلفة" على يمين الذاهب من منى إلى عرفات. قال: سار إلى الموقف، [واغتسل للوقوف] وأقام بنمرة. أما استحباب الغسل؛ فلأن ابن عمر كان يغتسل إذا راح لـ"عرفة". وحكى ابن الخل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأنه موضع اجتماع يسن فيه الاغتسال؛ كالجمعة. وأما باقي ما ذكره؛ فلأنه صلى الله عليه وسلم لما صلى الصبح بمنى مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، فأم بقبة، فضربت له بـ"نمرة"، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى "عرفة"، فوجد القبة قد ضربت له بـ"نمرة"، فنزل بها كذا رواه مسلم عن جابر وقوله: "فأجاز [رسول الله صلى الله عليه وسلم] "، قيل: هي لغة في تجوز، وجاز، وأجاز بمعنى. وقيل: جاز الموضع: سلكه، وسار فيه، وأجازه: خلفه، وقطعه. ونمرة: بفتح النون وكسر الميم، عند الجبل الذي عليه أنصاب الحرم عن يمينك إذا خرجت من مَأزِمَىْ عرفات تريد الموقف؛ قاله الأزرقي وغيره؛ وكذا قاله النواوي.

وقد يفهم أن "نمرة" من "عرفات"؛ كما يفهمه ظاهر الخبر السابق. وقد جاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عرفة، فنزل بها حتى إذا زالت الشمس، أمرنا بالقصواء، فرحلت له ... وساق الحديث؛ ذكره الماوردي، وهو أبين من الأول؛ ولأجله صرح به في "الشامل"، وتبعه الشيخ زكي الدين: أنها موضع بـ"عرفة". لكن في "الحاوي": أنها قبل عرفة، وهي إلى الصخرة الساقطة بأصل الجبل عن يمين الذاهب إلى عرفة. وكلام القاضي الحسين يوافق ذلك في موضع؛ فإنه قال: "وتضرب خيمة الإمام قريبًا من عرفات بـ"نمرة"، أو بوادي عرنة، ولا يدخل عرفات، بل يقيم بها حنى تزول الشمس". وقال في آخر: "إن نمرة ليست من عرفات"، وهو الذي صرح به البندنيجي أيضاً وحكاه عن نصه في "المختصر" "الأوسط" من الحج. وقال في "الروضة" إنه الصواب. واعلم أن بعض الشارحين قال: لو قال الشيخ "سار إلى عرفات"، لكان أحسن من قوله: "سار إلى الموقف"، وكأنه -والله أعلم- يشير بذلك لأمرين: أحدهما: أنه لفظ الشافعي - رضي الله عنه -. والثاني: أن قوله بعد: "ثم يروح إلى الموقف" يكون منتظماً مع هذا القول. [والجواب عن هذا]: أنا نقول: إن لم تكن نمرة من عرفات، فلا فرق بين أن يقول: "ثم يروح إلى الموقف" أو "إلى عرفات"؛ لأن تقدير الكلام: سار للموقف، ونزل دونه؛ للاستراحة بنمرة، وحينئذ يبقى قوله من بعد: "ثم يروح إلى الموقف" منظماً مع ما تقدم. وإن كانت نمرة من عرفة كما دلَّ عليه الخبر - فلا فرق يين اللفظين أيضاً، والكلام منتظم؛ لأنا نستحب له أن يوقع صلاة الظهر والعصر بمسجد إبراهيم - عليه السلام- كما سنذكره، وليس كله من "عرفة". ولفظ الشيخ في "المهذب" "فإذا طلعت الشمس على "ثبير" سار إلى الموقف"،

وقال ثانياً: "ثم يروح إلى عرفة، ويقف". قال: فإذا زالت الشمس، خطب الإمام، أي: بعد توجهه إلى المصلى، وهو مسجد إبراهيم عليه السلام؛ كما قال الماوردي والقاضي الحسين وغيرهما، وهو خارج عن عرفة - كما سنعرفه - وبينه وبين موقف النبي صلى الله عليه وسلم بالصحراء نحو [ميل، قاله] "في الروضة". قال خطبةً خفيفة، [وجلس جلة خفيفة] أي: بقدر {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ كما قاله البندتيجي وغيره - ثم يقوم، ويأمر بالأذان، ويخطب الخطبة الثانية، ويفئ منها مع فراغ المؤذن، ثم تقام الصلاة، ويصلي الظهر والعمر. قال القاضي الحسين: لأن جابراً روى أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. والذي رواه مسلم عن جابر: أنه - عليه السلام - لما نزل نمرة أقام بها حتى إذا بزغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له، فأتي يطن الوادي، فخطب الناس، تم أذن، ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يفعل بينهما شيئاً. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بطن الوادي، فخطب، ثم وقف قليلاً، ثم خطب، وأمر بلالاً، فأذن وأقام. وروى البخاري بإسناده أن سالم بن عبد الله قال: للحجاج: إن كنت تريد أن تصيب السنة، فأقصر الخطبة، وعجل الوقوف. قال ابن عمر: صدق. وهذه الخطبة الثانية من الخطب الأربع في الحج، ويعلِّمهم فيها مشروعات الوقوف، وواجباته، والمبيت بـ"مزدلفة"، ويأمرهم بأخذ الحصى من "مزدلفة"، لرمي جمرة العقبة، ويعلمهم الوقوف بالمشعر الحرام، وغير ذلك من المناسك التي يستقبلونها.

قال الشافعي - رضي الله عنه – "وأقل ما عليه أن يعلِّمهم ما يلزمهم من هذه الخطبة إلى الخطبة الثالثة". فإن كان فقيهاً، قال: "هل من سائل؟ "، وإن لم يكن فقيهاً لم يتعرض للسؤال. واعلم أن كلام الشيخ يفهم أمرين: أحدهما: أن الإمام يفرغ من الخطبة الثانية مع فرإغ المؤذن من الأذان ثم تقام الصلاة، وهو الذي أورده البندنيجي، والماوردي، وابن الصباغ، والبغوي. والمنقول في "النهاية"، و"التتمة"، والخلاصة: أنه يفرغ منها مع فراغ المؤذن من الإقامة بعد الأذان، ويكون [الإمام] قد أمره بهما. وقال الإمام: إن رسول الله. [هكذا فعل]. الثاني: أنه لا فرق في جمع الإمام بين الظهر والعصر بالناس بين أن يكون آفاقيًّا أو من أهل مكة، أو مقيمًا بها؛ وهو ما صرح به الماوردي حيث قال: إنه سنة هناك للمقيم والمسافر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جمعهما ليتصل له الدعاء بالموقف، فلذلك لم يقع الفرق يين المسافر والمقيم. وحكم من صلى معه من مسافر ومقيم حكمه في ذلك، إلا أن الإمام إذا جمع، وجب عليه أن ينوي الجمع عند افتتاح الأولى بلا خلاف. وأما الذين خلفه من المأمومين، ففيهم وجهان: أصحهما [:أن]، عليهم أن ينووا الجمع؛ كالإمام، ويوصي الناس بعضهم [بعضاً] بها، ويخبر من علم من جهل. والثاني: أنهم إن جمعوا من غير نيَّة، أجزأهم؛ لاختصاص الموضع بجواز الجمع، ولحوق المشقة في إعلام الكل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع هناك من غير أن نادى فيهم بالجمع، ولا أخبرهم به. و [من] لم يصلِّ مع الإمام؛ لكونه تأخر عنه، فإن كان مسافراً جمع منفرداً كان أو في جماعة، ولا بد في هذه الحالة من نية الجمع.

وإن كان من المقيمين بـ"مكة"، فهل يجوز له الجمع؟ على قولين مبنيين على اختلاف قوليه في جواز الجمع في السفر القصير. وقد أطلق ابن الصباغ حكاية القولين في أهل مكة من غير [تفصيل بين] أن يصلوا مع الإمام أو منفردين؛ إحالة على ما تقدم في الجمع بين الصلاتين. والقاضي أبو الطيب حكاهما فيما إذا جمعوا مع الإمام، وكذا غيره. والقاضي الحسين: نسب المنع [إلى] الجديد، والجواز إلى القديم، وقال: وعلى هذا لأي معنى جاز له؟ فيه معنيان: أحدهما: لأجل النسك. والثاني: للسفر. ويظهر أثرهما في أهل "عرفة" هل يَجْمَعُوك؟ فإن قلنا: إنما جاز للمكي؛ لأجل النسك، جاز لهم أيضاً، وإلا فلا؛ لفقد السفر، وهو ما ذكره البندنيجي. والإمام حكى طريقين في جواز الجمع للمكي: أحدهما: القطع بالجواز؛ لأجل النسك. والثاني: تخريجه على القولين في السفر القصير؛ وهذا حكم الجمع، ولم يتعرض الشيخ لحكم القصر هنا؛ اكتفاء بما سبق عنه في باب صلاة المسافر؛ فإن الحكم لا يختلف. ولا يجهر الإمام بالقراءة فيها؛ لأنها صلاة نهارية. فرع: لو وقع يوم عرفة يوم جمعة، فقد ذكرنا عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه لا تصلي الجمعة فيها إلا أن تحدث قرية مجتمعة البناء يستوطنها أربعون رجلاً بصفة الكمال. قال: ثم يرجع إلى الموقف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من صلاة العصر، ركب حتى [أتى] الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبْل المشاة

بين يديه، واستقبل القبلة، كذا رواه مسلم عن رواية جابر. وحَبْلُ المشاة - بفتح الحاء المهملة، وسكون الباء الموحدة، وبعدها لام: صَفُّهُمْ، ومجتمعهم في مشيهم. وقيل: طريقهم الذي يسلكونه في الرمل. [وعن بعض المحققين من قال: هو بالحاء مصحف، وإنما هو "جبل المشاة" بجيم، وهو جبل الدعاء، [سمي بذلك]؛ لأن المشاة كانوا يقفون عليه]. والمراد بالموقف: عرفات؛ روى أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بـ"المزدلفة"، وكانوا يُسَمَّوْنَ: الْحُمْس، وكان سائر العرب يقفون بـ"عرفة". [قالت] فلما جاء الإسلام، أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات يقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، وأخرجه البخاري ومسلم. و [قد] قيل: إن قريشاً كانوا لا يخرجون من الحرم يوم عرفة، ويقفون بـ"نمرة" دون عرفة في الحرم، ويقولون: لسنا كسائر الناس؛ نحن أهل الله؛ فلا نخرج من حرم الله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقف مع [قريش في] الحرم، ويخرج مع الناس إلى عرفة؛ للآية. قال الماوردي: وفي {النَّاسُ} [البقرة: 199] قولان للعلماء: أحدهما: أنه إبراهيم عليه السلام؛ [لأنه] كان يقف بـ:"عرفة".

والثاني: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم [حيث] وقف بها. وغيره حكى [فيه] ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إبراهيم عليه السلام. والثاني; أنه آدم عليه السلام، "ويعضده" قراءة من قرأ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]. والثالث: أنهم سائر العرب. وعرفات - كما قال الشافعي في القديم - ما بين الجبل المشرف على بطن عرنة إلى الجبال المقابلة يميناً وشمالاً. ولفظه في "الأوسط": وعرفة ما جاوز وادي عرفة [إلى الجبال القابلة على عرفة كلها مما يلي حوائط بني عامر وطريق الحصن، فإذا جاوزت ذلك، فليس من عرفة] [وليس الوادي، ولا المسجد من عرفة]. ومراده بالمسجد: مسجد إبراهيم عليه السلام. وقد قال القاضي الحسين وغيره: إن صدره من عرفة، وهناك يقف للصلاة والخطبة، ومؤخره من جملة [عرفة]؛ فمن وقف فى قاصية، المسجد أجزأه عن فرض الوقوف. قال الإمام: ويتميز مكان المسجد من عرفات يصخرات كبار، فرشت في ذلك الموضح. قال بعضهم: ولا منافاة بين هذا وقول الشافعي- رضي الله عنه - لأنه يجوز أن يكون لد فيه بعد الشافعي - رضي الله عنه شيء من عرفة. قال الإمام: ويطيف بعَرَصَات عرفة جبال وجوهها من عرفة. واخلف الناس: لم سميت عرفة؟ فقيل: لتعارف آدم وحواء فيها؛ لأنه تعالى أهبط آدم بأرض الهند، وحواء بأرض

جدة، فتعارفا بالموقف. وقيل: لأن جبريل - عليه السلام - عرَّف فيه إبراهيم - عليه السلام - مناسكه. وقيل: سميت بذلك للجبال التي فيها، ووقوف الناس عليها، والجبال هي الأعراف. ومنه قوله تعالى: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف: 46]. قيل: وهو سور بين الجنة والنار، ومنه قيل: عرف الديك، وكل ناتئ، فهو عرف. وقيل: لأن الناس فيها يعترفون بذنوبهم؛ فحينئذٍ يغفر لهم. وقيل: لأنه أطيب تلك الأماكن من قولهم: عرفت المكان، أي: طييته. قال: والأكل أن يقف عتد الصخرات، أي: ويجعل بطن ناقته - إن كان راكبها - إلى الصخرات؛ اقتداء به عليه السلام. وقال: بقرب الإمام؛ كما يستحب أن يقرب منه في الصلاة والخطبة. وإنما حمل فعله - عليه السلام - على الاستحباب؛ "لأن جابراً روى" أنه - عليه السلام - وقف بـ"عرفة"، فقال: "قد وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف"، أخرجه أبو داود ومسلم والنسائي بنحوه. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدمنا عرفة [فقال النبي صلى الله عليه وسلم سلم هذه عرفة،] وكلها موقف، إلا وادي عرنة).

وهذا الحديث يفهم أن وادي عرنة من عرفات إذا جعلنا الاستغناء متصلاً، لكنه لا يصلح موقفاً، وعلى هذا فيحمل ما ذكره الشافعي من حد عرفة على عرفة التي يصلح الوقوف بها. وقد حُكي [عن] ابن الصباغ أنه قال: الأفضل أن يقف عند الحصيات السود عند جبل الرحمة، وهو الجبل الذي يعرف بجبل الدعاء، وفيه قبة تعرف بقبة آدم، واستحباب الوقوف عنده؛ لكونه موقف الأنبياء؛ كما قال الماوردي. قال فى "التتمة": يستحب أن يقف عند الصخرات على جبل الرحمة. وقال الإمام: إنه [لا نسك في الرقي] فيه وإن كان يعتاده الناس. وبالجملة: فأي موضع خلا بنفسه كان أفضل ليتوفر على الدعاء؛ كذا قاله الشافعي - رضي الله عنه-. قال: وأن يتقبل القبلة؛ للخبر، ولأنه لا بد من استقبال جهة، وجهة القبلة أولى؛ لقوله - عليه السلام – "خير المجالس ما استقبل به القبلة". ويستحب – أيضاً- أن يكون متطهراً؛ قاله في "الروضة" قال: وأن يكون راكباً في

أحد القولين؛ اقتداء به عليه السلام. والمعنى فيه: أنه يقوى على الدعاء الذي هو المقصود في هذا الموقف؛ ولهذا استحب للواقف بـ"عرفة"، الفطر فيه؛ وهذا هو الصحيح، والمنصوص عليه في القديم، كما قال الماوردي، و"االإملاء" كما قال في "المهذب" و"الشامل". قال: وفيه قول آخر: أن الراكب وغيره سواء؛ لتأويهم في حصول المقصود، وهو الحصول بـ"عرفة"، وركوبه صلى الله عليه وسلم كان ليراه الناس، فيتعلموا منه مناسكهم؛ وهذا ما نص عليه في "الأم". قال الأصحاب: [ويستحب] أن يبرز للشمس، ويظهر نفسه لها؛ لأنه – عليه السلام - رأى يوم عرفة رجلاً يطلب الفيافي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أضح لمن أحرمت له، أي: اخرج [إلى] الشمس، لأن الشمس: الضح. قال: ويكثر من الدعاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الدعاء يوم عرفة". ولأنه أعظم الأيام التي يرجى فيها الإجابة؛ روى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة،

وإنه [ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء] ". قال الأصحاب: ويستحب أن يرفع يديه [فيه] بحيث لا تحاذيان رأسه، ولا يفرط في الجهر به؛ فإنه مكروه. قال: ويكون أكثر قوله: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير"؛ لأن عليَّ بن أبي طالب روى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يقول عقيبه: "اللهم اجعل في سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي قلبي نوراً، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح، وشر بوائق الدهور"؛ كذا حكاه في "الحاوي". وفي "تعليق القاضي الحسين": أن عليًّا قال: كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عند عرفة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير". والمشهور أنه - عليه السلام - قال: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: "لا إله إلا الله وحدم لا شريك له". وقد سئل سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة؟ فقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك لهم"، فقيل له: هذا ثناء وليس بدعاء، فقال: أما سمعت قول الشاعر: إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرءُ يَوْماً كَفَاهُ من تعرّضِهِ الثَّناءُ

وفي "الشامل": .. .... .... كفاه ما يعوضه الثناء وفي الخبر الصحيح عن الله أنه قال: "من اشتغل بذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين". قال: ووقت الوقوف من الزوال يوم عرفة إلى [طلوع] الفجر الثاني من يوم النحر. أما وجه كون أوله من الزوال لا قبله -كما قال الإمام أحمد – فلقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم وقف بعد الزوال لا قبله؛ كما ذكرناه من خبر جابر. وسئل [ابن] عمر عن الساعة التي راح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموقف في هذا اليوم؟ فقال: إذا كان [ذلك] رضاً، فلما أراد أن يروح قال: "أزاغت الشمس؟ " [قالوا: لم تزغ الشمس، قال: " أزاغت الشمس؟، قالوا: لم تزغ] فلما قالوا: زاغت [الشمس] ارتحل؛ أخرجه أبو داود وابن ماجه. ومعنى زاغت [الشمس]: مالت بالزوال إلى جهة المغرب، ومنه {زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} [الأحزاب: 10]، أي: مالت عن مقلها. وقد اتفق [الناس] على العمل بما ذكرناه من لدنه صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، ولو كان جائزاً قبل ذلك ومجزئاً لما اتفقوا على تركه.

وأما وجه كون آخره [عند] طلوع الفجر الثاني من يوم النحر؛ فلما روى عبد الرحمن بن يعمر الدِّيلي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً فنادى: "الحج، الحج يوم عرفة، من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع تمَّ حجه، أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه". [قال:] ثم أردف رجلاً خلفه، فجعل ينادي بذلك، أخرجه أبو داود. ورواه يحيي بن سعيد عن سفيان قال: "الحج" مرة. وأخرجه الترمذي [والنسائي وابن ماجه]. وعن عروة الطائى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه، وقضى تفثه"؛ أخرجه أيو داود، وقال الترمذي: إنه حسن صحيح. وهذا القول كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف بجمع كما قال الراوي، ولأنه لم يخالف في ذلك أحد. وإذ [قد] ثبت ذلك، قال الشيخ: فمن حصل بـ"عرفة" في شيء من هذا الوقت [وهو] عاقل – أي: "وهو محرم" فقد تَمَّ حجه؛ لأنه أتى بالعبادة في وقتها،

وهو من أهلها. فإن قيل: إن ابن عمر روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك عرفة ليلاً، فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفة ليلاً، فقد فاته الحج، فليحل بعمرة، وعليه الحج من قابل"؛ وهذا يدل على أنه إذا وقف بعد الزوال، ولم يتصل وقوفه بالليل، [لا يحمل له الحج؛ كما قال به الإمام مالك رحمه الله. فجوابه أن في هذا الخبر دليلاً على إدراكه [بالليل]]، وتنبيهاً على إدراكه بالنهار؛ لأن حكم آخر الوقت أما أن يكون مثل أوله أو أضعف، ولا يجوز أن يكون أقوى منه، فلما جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مدركاً بآخره وهو [أول]، الليل، كان أولى أن يكون مدركاً بأوله، وهو عن الزوال. وتخصيصه - عليه السلام - الليل بالذكر، لأن الفوات يتعلق به؛ إذ الليل يوجد بعد النهار. وقد عكس بعض أصحابنا ما اقتضاه ظاهر هذا الخبر، فقال: الليل ليس بوقت للوقوف، وحكاه الفوراني قولاً للشافعي - رضي الله عنه. وقال الأصحاب: إنه لا يصح عنه. نعم: الخلاف مشهور في [أن] الليلة العاشرة هل يصح الإحرام فيها بالحج أم لا؟ وعن أبي الحسين وجه فيما إذا وقف في أول الزوال، وانصرف لا يجزئه، بل يجب أن يكون الوقوف بعد مضي إمكان صلاة [الظهر] بعد الزوال. قال: ومن فاته ذلك، أو وقف وهو مغمى عليه - فقد فأنه الحج: أما إذا فاته ذلك، فلفوات الوقت، ولا سبيل إلى قضائه؛ لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد ولم يوجد، ويخالف غيره من العبادات التي [تقضى؛ لأن تلك لم تكن] في مستقبل الزمان ما يمكن فعلها فيه أداء بخلاف الحج؛ ولهذا قلنا: من

أراد التطوع بالأضحية، وفاته يوم النحر وأيام التشريق، لا يضحي بعدها وإن قلنا بقضاء النوافل. وأما إذا وقف وهو مغمى عليه؛ فلخروجه عن أهلية العبادة، وهذا ما أورده الغزالي [في "الوسيط"] موجهاً له بما ذكرناه، وصححه في "الروضة". وحكى القاضي أبو الطيب عند الكلام في النيّة في الطواف عن أبي إسحاق دعوى الإجماع عليه، وكذا فيما إذا وقف وهو ناسٍ، وهو يخالف ما لو استغرق وقت الوقوف بالنوم؛ فإنه يتم حجه، قياساً على ما لو نام جميع النهار في رمضان؛ فإنه يصح صومه. وقد قيل: إن النائم لا يكون مدركاً- أيضاً - حكاه ابن القطان، وليس بشيء. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أموراً: أحدها: أنه لا فرق في إدراك عرفة بين الواقف، والقاعد، والماشي؛ وهو مما لا خلاف فيه. نعم: في "الروضة" حكاية وجه في المرور المجرد: أنه لا يكفي، وهو شاذ. الثانى: أنه لا فرق بين أن يكون قد قصد الوقوف، أو قصد غيره، كما إذا أعَارَ فرسه أو بَعِيرَهُ، فتبعه؛ فحصل فيها، أو لم يقصد شيئاً؛ وهو ما ذكره القاضي الحسين. وقال الإمام: قد ذكرنا اختلافاً في الذي يصرف طوافه عن جهة النسك إلى جهة أخرى، والظاهر أنه لا يجزئ هنا، ولعل السبب فيه أن الوقوف في نفسه لا يتخيل [قربة، والطواف] قربة على حياله. ثم قال: ولا يمتنع طرد الخلاف في الوقوف إذا صرف قصدًا [إلى غير] جهة النسك. الثالث: أنه لا فرق بين أن يعرف أنه عرفة أو لا، ولا بين أن يعرف أنه يوم عرفة أو لا، وهو المشهور. وقيل: يشترط أن يعرف أن موقفه عرفة؛ حكاه ابن القطان عن ابن الوكيل، وحكاه

في "التتمة" فيما إذا جهل اليوم أيضاً. وقال: إن أصل هذا الاختلاف: أن كان ركن من أركان الحج؛ هل يحتاج إلى نية مفردة؟ فيه طريقان: أحدهما: لا؛ كالصلاة. والثاني: نعم؛ [لأن] أركانه ينفصل بعضها عن بعض، وكل ركن عبادة مفردة. فإن قلنا: يحتاج إلى النيّة، فلا يصح مع الجهل بالمكان واليوم، وإلاَّ صح. وبهذا الخلاف يقوى تخرج الإمام الخلاف في الصورة السابقة. الرابع: أنه إذا وقف وهو مجنون، فقد فاته الحج من [طريق] الأولى؛ لأنه أسوأ حالاً من المغمى عليه. وقد قيل فيهما: إنه يتم حجُّهما أيضاً؛ حكاه ابن الصباغ عن رواية ابن القطان، وقال: إنه ليس بشيء، وهو الذي حكاه القاضي الحسين فى المغمى عليه؛ ولأجله اقتضى إيراد البغوي ترجيحه فيه، وصححه الرافعي، وقال الإمام: إنه ظاهر كلام الأئمة.

وهو فيه وفي المجنون موافق لما تقدم: أن المجنون يصح حجه [، والأول موافق لما ذكره العراقيون من [أن] المجنون لا يصح حجه،]. ومن العجب أن الغزالى قال بصحة حجّه، وأنه لا يعتد بوقوف المغمى عليه؛ كما ذكرناه، ولعل مراده؛ أنه لا يعتد به عن الفرض لا مطلقاً، كما صرَّح به في "التتمة"؛ حيث قال: "لو حضر الموقف وهو مجنون، لا يحسب له؛ لأن الجنون يضاد الخطاب، ولكن يقع نفلاً مثل حج الصبي". ومن هنا يظهر لك أنه لو وقف سكران، فإن كان من غير معصية، كان حكمه حكم المغمى عليه؛ وإن كان بمعصية، فقياس من جعله كالصاحى فى الطلاق ونحوه - تغليظاً عليه - ألاَّ يعتد له بالوقوف؛ تغليظًا عليه، وحينئذٍ يتوافق فيه الوجهان. ويجوز أن يقال: من جعله ثم كالصاحي؛ لأجل التغليظ، فالتغليظ أن يجعل هنا كالمغمى عليه فيجري الوجهان، وهما مذكوران فى "تعليق القاضي أيى الطيب" والبيان: أحدهما: يعتد [له] به؛ كالصاحي. والثاني: لا؛ تغليظ عليه. قال: ومن أدرك الوقوف بالنهار، وقف حتى تغرب الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً، رواه مسلم عن جابر.

قال: فإن دفع [قبل] الغروب، لزمه دم في أحد القولين؛ لقوله - عليه السلام – "مَنْ تَرَكَ نُسُكًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ"، والوقوف بعرفة إلى الليل نسك. ولأنه - عليه السلام - سَنَّ الدفع عن عرفة بعد الغروب، كما سنَّ الإحرام من الميقات، ثم ثبت أن الدم يجب لمجاوزة الميقات؛ فكذا هنا، وهذا ما نص عليه في القديم [لفظاً] والجديد، وقال النواوي: إنه الأصح. ومقابله: أنه يجب، بل يستحب؛ لأنه - عليه السلام - في خبر عروة الطائي السابق لم يأمر به؛ فدلَّ على أنه غير واجب. وبالقياس على ما لو وقف ليلاً؛ فإنه لا يلزمه الدم بلا خلاف؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، و"الإملاء". وقال القاضي الحسين، وتبعه البغوي: إنه نص عليه في القديم، وقد صححه المحاملي والروياني. وقال الرافعي: إن ثبت ذلك، فالمسألة مما يفتى فيها على القديم، لكن أبا القاسم الكرخي ذكر أن الوجوب هو القديم. وبالجملة فهذا الخلاف مبني على أن الجمع بين الليل والنهار في الوقوف في حق من تمكن منه هل هو من واجبات الإحرام أو من سننه؟ وسيأتي الكلام فيه. فإن قلنا: إنه واجب، لزمه الدم بتركه، وإلاَّ فلا، وهو الذي اختاره في "المرشد"، وهذه الطريقة أصح الطرق، ووراءها طريقان [آخران]: أحدهما: أنه إذا أفاض مع الإمام فهو معذور؛ لأنه تابع، وإن انفرد

بالإفاضة ففيه القولان. والثاني: نفي وجوب [الدم] والجزم الاستحباب مطلقاً. والدم الواجب هنا، وكذا في ترك الميت بمزدلفة، وليالي منى، وطواف الوداع إن أوجبنا ذلك ما هو؟ [وفيه]، كلام سنذكره في باب فرض الحج والعمرة، إن شاء الله تعالى. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الدم يجب هنا - على القول به - عاد إلى عرفة قبل طلوع الفجر أَوْ لا. وقد جزم الماوردي وغيره بأنه إذا عاد قبل الغروب، وأقام إلى الغروب: أنه لا يلزمه الدم بلا خلاف. وإن عاد بعد الغروب، فهل يسقط بهذا العود الدم؟ فيه وجهان: المذكور في "الحاوي"، و"تعليق" أبي الطيب، والقاضي الحسين، و"الشامل": السقوط أيضاً؛ لأنه لو وقف بها ليلاً دون النهار، لم يجب؛ فأولى ألاَّ يجب إذا وقف ليلاً ونهاراً. ووجه المنع: أن المقصود أن يتصل آخر النهار بأول الليل وهو كائن بعرفة. ولا فرق في عدم وجوبه على من وقف ليلاً لا غير بين أن يكون لم يدرك الوقوف نهاراً، أو أدركه ولم يفعله ووقف ليلاً، وإن كان لا يجوز له تأخير الوقوف إلى الليل؛ كما قاله ابن الصباغ عند الكلام في الرمي في أيام التشريق. قال: ثم يدفع بعد الغروب إلى المزدلفة على طريق المأزِمَيْنِ؛ لآن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فلو سلك الطريق الآخر جاز. وقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم سلكه حين غدا من منى إلى عرفات. قال عطاء: وهي طريق موسى، عليه السلام. والمزدلفة سميت بمزدلفة؛ من التزلف والازدلاف، وهو التقريب؛ لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها، أي: تقربوا ومضوا إليها؛ قاله الأزهري، ومنه قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90]، أي: قربت.

وقيل: سميت بذلك؛ لاجتماع الناس بها؛ قال الله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ} [الشعراء: 64]، أي: جمعناهم. قال الماوردي: وكذلك قيل: لمزدلفة: جمع؛ كما جاء في الحديث السابق. وقد قيل في قوله تعالى: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات: 5]: إنه المزدلفة. وقال غيره: إنما سميت بجمع؛ لاجتماع آدم وحواء فيها. وقيل: لأنه يجمع فيها في تلك الليلة بين الصلاتين، وهي - كما قال الشافعي رضي الله عنه - من حيث يفيض من مأزمَيْ عرفة إلى أن أتي قريب مُحَسِّر عن يمينك وشمالك من تلك المواطن الظواهر، كل ذلك من المزدلفة، والمأزمان ووادي محسر ليسا منها، وكذا [نقل] عن عطاء. والمأزمان: بهمزة بعد الميم الأولى، ويجوز ترك همزه كما في راس، والزاي مكسورة. والمأزم: المضيق بين جبلين، هذا أصله في اللغة، ومراد الفقهاء: الطريق الذي بين الجبلين، [وهما جبلان] بين عرفات ومزدلفة. قال: ويمشي وعليه السكينة والوقار، فإذا وجد فرجة أسرع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما دفع شَنَقَ للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مَوْرِكَ رحله، ويقول بيده اليمنى: "أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ"، كلما أتى جبلاً من الجبال، أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة. رواه مسلم عن جابر. وعن أسامة بن زيد أنه سُئل: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفة؟ قال: "كان يسير العَنَقَ فإذا وجد فجوة نصَّ"، أخرجه البخاري ومسلم. ومورك الرحل: هي المرفقة التي تكون [عند قادمة الرحل يضع الراكب رجله

عليها، ليستريح من وضع رجله في الركاب، يكون] شبيه المنعدة الصغيرة. والعنق: مسير الجماعة والرفاق. والنص: قال أبو عبيد: هو التحريك حتى يستخرج من الدابة أقصى سيرها. والفجوة- بفتح الفاء، وسكون الجيم، وبعدها وأو مفتوحة، وتاء تأنيث-: الموضع المتسع من المسير يخرج إليه من مضيق. قال الشيخ زكي الدين: وقد روي: فُرجة، بضم الفاء، وسكون الراء المهملة. قال: ويصلي بها المغرب والعشاء، أي: في وقت العِشَاء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى مزدلفة صلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبِّح بينهما شيئاً؛ كذا رواه مسلم. وهذا الجمع جائز للآفاقي بلا خلاف، ويفعل قبل حط الرحل، وهو مخير بين أن ينيخ راحلته أو يعقلها ويصلي؛ لأن الصحابة فعلوا ذلك. وهل يجوز لأهل مكة والمقيمين بها؟ فيه ما تقدم في الجمع بـ"عرفة". ولا خلاف في أنه لو أقام كل صلاة في وقتها، جاز. ومحل القول باستحباب الجمع- كما قال في "الإملاء" - إذا لم يخف فوت وقت الاختيار للعشاء قبل أن يوافي مزدلفة، وفيه قولان في الكتاب، الجديد: ما لم يذهب ثلث الليل؛ كما قال أبو الطيب، فإن خاف فوت ذلك فيصلى فى الطريق دون مزدلفة.

وقد دلَّ ظاهر الخبر على أنه يأتي بأذان واحدٍ وإقامتين، وبه قال في القديم. وقال في الجديد: إنه يجمع بينهما بإقامتين من غير أذان؛ لرواية ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة لكل واحدة، ولم يناد في الأولى، ولم يسبح على إثر واحدة منهما؛ أخرجه أبو داود. فإن قلت: قد حكى الشيخ في باب الأذان فيما إذا جمع بين صلاتين أو فائتتين ثلاثة أقوال، وقضية ذلك جريان القول الثالث [هنا]. قلت: قد حكاه ابن الصباغ وغيره، وعزاه القاضي أبو الطيب إلى نصّه في "الإملاء"، وهو إن رجا حضور جماعة أذَّن للأولى، وأقام للتي بعدها، وإلا أقام لكل واحدة منهما. وإن أبا إسحاق المروزي قال: إنه يجيء على ما قاله في "الإملاء": أن يؤذن في الصلوات الراتبة؛ إذا رجا اجتماع الناس، ويقتصر على الإقامة إذا لم يرج اجتماعهم. وقال البندنيجي: إن القول الثالث الذي نَصَّ عليه في "الإملاء" يجيء هاهنا؛ لأن الناس قد اجتمعوا. وفي "تعليق القاضي الحسين": أن القولين هنا في الأذان مفرعان على القول بأنه لا يؤذن للفوائت.

فإن قلنا: يؤذن لها، فالمغرب بمزدلفة عند الجميع أولى؛ لأنها في الحقيقة كالمؤداة في وقتها؛ لأن وقت العشاء جعل وقتاً لها. وعلى كل حال إذا صلى العشاء، قال العجلي: أتي بعدها بنافلة المغرب، ثم بنافلة العشاء، والوتر، وهكذا يفعل الجامع في السفر. وفي "الحاوي" و"تعليق" القاضي الحسين: أن الشافعي - رضي الله عنه - قال: ولا يسبِّح بينهما، ولا في إثر واحدة منهما، وهو ما حكيناه في الخبر، وأراد بذلك: أنه لا يتنفل بين صلاتي الجمع؛ لأن التنفل بينهما يقطع الجمع، ولا يتنفل قبل المغرب، ولا بعد العشاء؛ لأنه مأمور بالتأهب لمناسكه. قال القاضي: ولو فعل كان جائزاً، لكنه غير مسنون. قال: ويبيت بها - أي: يمكث بها نائماً أو مستيقظاً - إلى أن يطلع الفجر الثاني؛ لقول [جابر - كما رواه مسلم-:] "ثم اضطجع حتى طبع الفجر حين تبيَّن له الفجر بأذان وإقامة". واعلم أن كلام الشيخ قد اشتمل على ما هو مستحب بلا خلاف، وهو المقام بها بعد نصف الليل إلى صلاة الصبح؛ كما يدل عليه كلامه الآتي من بعد، وهو في حق غير الضَّعَفَة، فأما الضعفة والنساء فالأولى في حقهم الدفع بعد نصف الليل إلى منى؛ روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في النفل – أو قال: في الضعفة - من جَمْع بليل"، أخرجه مسلم. وعلى ما هو نسك بلا خلاف، وهو المبيت إلى بعد نصف الليل، وليس بركن عندنا، خلافاً لأبي محمد وعبد الرحمن ابن بنت الشافعي، وأبي بكر بن خزيمة من أصحابنا، وهل هو واجب؟ فيه قولان ثابتان في الكتاب.

قال: ليأخذ منها حصا الجمار؛ لما روي عن الفضل بن العباس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة، وهو على راحلته؛ "الْتَقِطْ لِي"، فالتقطت له حصيات مثل حصا الخذف، فلما وضعها في يده، قال: "بِمِثْلِ هَذَا فَارْمُوا". ولأنه إذا دخل الحرم، استحب له أن يبدأ بالرمي تحية له، فإذا أخذ الحصا من المزدلفة لم يشتغل بغير الرمي]. وقد أطلق الشافعي - رضي الله عنه - القول في "المختصر" بأنه يأخذ منها حصا الجمار؛ كما فعل الشيخ. وقال الشيخ أبو حامد: إنما أراد بما قال: إنه يأخذ منها الذي يرمي [به] جمرة العقبة، وهو سبع حصيات، وبه قال الأكثرون، وحكوه عن نصه في موضع آخر؛ ولأجله قال القاضي أبو الطيب والشيخ فى "المهذب": إنه يأخذ منها حصا جمرة العقبة. وعن بعضهم أنه قال: يستحب الأخذ من المزدلفة تكون لجميع الجمار؛ فيأخذ [منها] سبعين حصاة، لكن الأخذ لرمي يوم النحر أحب. وفي "النهاية": أن الحجج يعتادون أخذ ما يحتاجون إليه من الحصا من جبال مزدلفة، ولم يرد في التزود منها نص وتوقيف في الشرع. قال: ومن حيث أخذ جاز؛ لحصول المقصود منه. وفي "الشامل": أنه مكروه؛ للمخالفة. والمنقول عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه كره أخذه من ثلاثة مواضع: من المسجد، والحُشِّ، والمرمى:

أما المسجد؛ فإن أحجاره فرشه [، ويكره تعطيل فرش المسجد. وأما الحش؛ فإن أحجاره نجسة]، ويكره الرمي بالنجس. وأما المرمى؛ فلأن ما بقي فيه من الحجارة قيل: إنه مردود؛ فإن من يقبل حجه يرفع حجره، ولولا ذلك لصارت جبالاً من كثرة ما رمي فيها؛ قال - عليه السلام-: "الحَجَرُ قُرْبَانٌ؛ فَمَنْ تُقُبِّلَ حَجُّهُ رُفِعَ حَجَرُهُ، وَمَنْ لَمْ يُتَقَبَّلْ حَجُّهُ بَقِيَ حَجَرُهُ". ولا فرق في كراهية الرمي بالحجر الذي رمى به بين أن يكون هو راميه أو غيره. نعم: هل يجزئه ما رمى هو به؟ فيه كلام سنذكره. قال الأصحاب: ويستحب أن يلتقط الحصا، ولا يكسره، وكذا يستحب أن يغسله؛ لما روى عن عائشة - رضي الله عنها- أنها كانت تغسل جمار رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن دفع قبل نصف الليل، أي: ولم يعد قبل الفجر - لزمه دم في أحد القولين؛ لقوله - عليه السلام-: "مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ". قال في "الحاوي": وهذا ما نص عليه في القديم والجديد، وكذلك اختاره في "المرشد"، وصححه النواوي. وحكى الرافعي طريقة قاطعة [به]. ومقابله: أنه لا دم عليه؛ كما لو ترك المبيت بمنى ليلة عرفة، وهو ما نص عليه في

"الأم" و"الإملاء"؛ كما قال الماوردي. وحكى الرافعي طريقة قاطعة به. وبالجملة: فالخلاف في لزوم الدم مبني على أن المبيت بها في هذه الليلة واجب أو مستحب؟ وفيه قولان يأتيان من بعد: فإن قلنا بالوجوب وجب الدم، وإلا فلا. وقد اختصر الماوردي ما ذكرناه، فقال: الكلام في هذا كالكلام في الدفع من عرفة قبل الغروب. لكنه قال: إنه لو دفع من عرفة ليلاً، وحصل بمزدلفة بعد نصف الليل، كان في الدم القولان؛ لأنه لم يبت بها إلا أقل من نصف [الليل]؛ فصار كالخارج منها قبل نصف الليل، وقد تقدم أنه لولم يقف إلا ليلاً: أنه لا يلزمه الدم جزماً، وهو نظير ما نحن فيه في الحكم، وكان قياسه ألا يجب جزماً، وهو مقتضى قول الأصحاب؛ إن من لم يدرك الوقوف إلا ليلاً، فاشتغل به حتى فاته المبيت بمزدلفة لا دم عليه، بلا خلاف كما سنذكره. وكذا قول النواوي في "الروضة": إن الذي نص عليه الشافعي - رضي الله عنه - فيما إذا حصل بمزدلفة في النصف الأخير: أنه حصل له المبيت. وحكى قولاً ضعيفاً عن نصه في "الإملاء" والقديم: أنه يحصل بساعة بعد نصف الليل وطلوع الشمس. فإن قضية القولين التوافق على عدم الدم. وقد حكى الإمام عن نقل شيخه وصاحب "التقريب" في حد المبيت في هذه الليلة، وفي ليالي "منى" قولين: أظهرهما: أن المعتبر كونه بموضع المبيت في معظم الليل. والثاني: أن الاعتبار بحال طلوع الفجر.

وقال: إن طردهما على [هنا]، النسق في ليلة مزدلفة محال؛ لأنَّا جوزنا الخروج منها بعد انتصاف الليل، ولا ينتهون إليها إلا بعد غيبوبة الشفق عالياً، ومن انتهى إليها والحالة هذه، وخرج بعد انتصاف الليل -[لم يكن بها حال طلوع الفجر، ولا في معظم الليل]؛ فلا يتجه لها الاعتبار حالة الانتصاف. قال الرافعي: ولك أن تقودت هذه الاستحالة [واضحة إن قيل بوجوب المبيت، لكنه مستحب على هذا القول]؛ فعلى هذا لا يستحيل المصير إلى الكون بها في معظم الليل، أو حالة الطلوع، ويجوز خلافه، وهذا في [حق] غير المعذورين. أما المعذورون فسيأتي حكمهم عند الكلام في الدعاء، إن شاء الله تعالى. قال: ثم يصلي الصبح في أول الوقت؛ للخبر؛ وقد روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لوقتها [إلا] بِجَمْعِ؛ فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى الصبح من الغد قبل وقتها". انتهى. وأراد ابن مسعود قبل وقتها المعتاد في كل يوم، لا أنه صلاها قبل الفجر؛ لما تقدم. والمعنى في ذلك: ليتسع الوقت للدعاء؛ ولأجل ذلك قال الجمهور: الأولى أخذ

الجمار قبل الصلاة؛ كما اقتضاه إيراد الشيخ، وإن كان في "التهذيب" قال: إنه يؤخر أخذها عن الصلاة. قال: ثم يقف على قُزَح، وهو المشعر الحرام، ويذكر الله تعالى إلى أن يسفر، والأصل في ذلك قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]، وقال جابر في صفة حجه - عليه السلام - كما رواه مسلم: "ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبّره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جدًّا". قال: ويكون من دعائه: اللهم كما أوقفتنا فيه، وأريتنا إيَّاه فوفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك، وقولك الحق، ويقرأ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] إلى قوله: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]؛ لأنه لائق بالحال، وهو مضمون الآية. ويستحب أن يدعو سرًّا ويرفع يديه؛ لما ذكرناه من الخبر، وهذا الوقوف سنة، وليس بنسك، ولا يجب يتركه دم. قال القاضي الحسين: ويكتفي فيه بالمرور كما في الوقوف بعرفة. [قال في "الأم": "ويستحب الاغتسال لهذا الموقف؛ لأنه موضع اجتماع". وعلى هذا يغتسل بعد صلاة الصبح يوم النحر. وقد أهمل الشيخ هاهنا هذه السنة؛ اتباعاً لسياق الخبر]. تنبيه: قُزح - بقاف مضمومة، ثم زاي مفتوحة، ثم حاء مهملة-: جبل صغير من المزدلفة؛ كما قال ابن الصباغ، ودلَّ عليه ما رواه مسلم: أن ابن عمر كان يقدِّم ضَعَفَةَ أهِلِه؛ فيقومون عند المشعر الحرام بالمزدلفة، وهو آخرها كما قال الماوردي،

والقاضي الحسين، وليس هو من [منى]؛ كما قال النواوي. وعلى ذلك يدل ما رواه أبو داود عن علي قال: فلما أصبح - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - ووقف على قزح، وقال: "هَذَا قُزَحُ، وَهُوَ الْمَوْقِفُ، وَجَمْغٌ كَلُّهَا مَوْقِفٌ، وَنَحَزْتُ هَاهُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ؛ فَانْحَرُوا في رِحَالِكُمْ". قال الترمذي: هو حسن صحيح. وفي ابن يونس: أن قزح جبل بمنى، ولم أره لغيره؛ فلعله من طغيان القلم. وقد صرح ابن الصباغ والشيخ بأن المشعر الحرام قزح، وهو قول حكاه الماوردي مع قول آخر: أنه الجبل الذي [في] ذيله وأطنابه. والمشعر: المعلم، وكل شيء علمته بعلامة فقد أشعرته، والمشاعر: المعالم؛ وعنه قوله تعالى: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2]، أي: معالم الله. قال: ثم يدفع قبل طلوع الشمس؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دفع قبل أن تطلع الشمس؛ كما رواه مسلم عن جابر. وعن عمر بن الخطاب قال: "كان أهل الجاهلية لا يفيضون حتى تزول الشمس على ثَبِير، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فدفع قبل طلوع الشمس"، أخرجه البخاري. وقد قيل: إن قائلهم [كان] يقول: "أشرِقْ ثَبِير كيما نغير"، أي: فلتطلع الشمس عليك يا ثبير، أو أضئ ثبير- يقال: شرقت الشمس، إذا طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت وصفت - كيما ندفع ونسرع بالمشي؛ يقال: أغار الرجل، إذا أسرع في المشي. فلو أخرّ الدفع إلى بعد الطلوع، كره؛ لمخالفة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموافقة أهل

الجاهلية؛ قاله في "المهذب". قال: فإذا وجد فرجة أسرع؛ كما فى السير من عرفات. قال الأصحاب: وكذا يستحب أن يمشي وعليه السكينة والوقار؛ روي عن ابن عباس أنه قال: "أفاض النبي صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة والوقار، فلما بلغ وادي مُحَسِّر، أَوْضَعَ"، والإيضاع- كما قال أبو عبيد-: سير الإبل إذا سارت الخَبَبَ. قال: فإذا بلغ وادي محسِّر أسرع، أي: إن كان ماشياً، أو حرك دابته؛ إن كان راكباً قدر رمية حجر؛ كما قاله في "المهذب" و"الشامل"، ووجهه فيما إذا كان راكباً [الخبر]. وقد روى مسلم أن جابراً قال في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى إذا أتى بطن محسر، حرَّك قليلاً، ثم سلك طريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة". وإذا كان ماشياً؛ فبالقياس على الراكب؛ كما في الرمل. قال الرافعي: ورأيت في بعض الشروح: أن الراكب يحرّك دابته، وأما الماشي فلا يعدو، ولا يرمل. ثم إسراعه - عليه [السلام]- يحتمل أن يكون، لأجل [سعة المكان، ويحتمل أن يكون لأجل] أن العرب كانت تقف فيه، وتذكر مفاخر آبائهم؛ فأمرنا بمخالفتهم، وهذا ما ذكره الغزالي. وقال القاضي الحسين: إنما كان ذلك؛ لأن النصارى كانوا يقفون بها، وعليه يدل فعل الصحابة؛ روي أن أبا بكر حرّك دابته في هذا الموضع حتى إن فخذه لتندلج بالقتب. وعن عمر أنه كان يحرّك في محسِّر، ويقول: تشكو إليك قلقاً وضِينها معترضاً في بطنها جنينها

مخالفاً دين النصارى دينُها وقال القاضي الحسين في حكاية ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: إليك تعدو قلقاً وضينها معترضاً فى بطنها جنينها مخالفاً دين النصارى دينها وقال: إنه يستحب أن يقول ذلك فيه. وعلى هذا لو ترك الإسراع فيه كره، ولا شيء عليه، ولم يذكر في "الشامل" الكراهة. تنبيه: محسر: بميم مضمومة، ثم حاء مفتوحة، ثم سين مكسورة مشددة مهملتين، ثم راء، سمي بذلك؛ لأن فيل أصحاب الفيل حَسَّر فيه – أي: أَعْيَى، وهو واد بين المزدلفة ومنى، وليس من واحد منهما، وذَرْعُهُ - كما قيل - خمسمائة وأربعون ذراعاً. قال: فإذا وصل إلى منى، بدأ يجمرة العقبة؛ لحديث جابر، ووصوله إليها يوافي [بعد] طلوع الشمس إذا فعل ما ذكرناه؛ فحينئذ يكون الأفضل الرمي بعد طلوع الشمس، وبه صرّح الأصحاب، وعليه يدل ما روى مسلم عن جابر قال: "رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضُحى". قال الماوردي: ويستدام وقت الفضيلة إلى الزوال يوم النحر. قال ابن الصلاح: وقد قيل: إنه يليه في الفضيلة ما بعد طلوع الفجر، وقبل طلوع الشمس. وقال: إن هذه الجمرة تسمى: الجمرة الكبرى، والرمي إليها تحية منى؛ فلا يبدأ بغيرها من مناسك هذا الأيام الأربعة كما سنبينها، ويبدأ بها قبل نزوله في المنعيم. واختلف الناس فى تسميتها: جمرة، وكذا ما قبلها من الجمرتين: فقيل: إنما سميت بذلك؛ لاجتماع الناس بها، ومنه ما روي "رأنه صلى الله عليه وسلم نهي عن

التجمير"، يعني: اجتماع الرجال والنساء في الغزوات، ويقال: جَمَّر بنو فلان؛ إذا [اجتمعوا] فصاروا إِلْبًا على غيرهم. وقيل: سميت بذلك؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - لما عرض له إبليس هناك فحصبه جَمَّر بين يديه، أي: أسرع، والإجمارت الإسراع. وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تجمر بالحصى، والعرب تسمى الحصى الصغار: جماراً، وسميت: جمرة العقبة؛ لأنها حائدة عن الطريق، مرتفعة قليلاً فى حضيض الجبل. وقد قال الشافعي - رضي الله عنه- الجمرة: مجتمع الحصى، إلا ما سأل من الحصى، فمن رمى في المجتمع أجزأه، وإن رمى في السائل فلا. قال: يرمي إليها مع حصيات، أي: بيده؛ فإنه لو رمى عن القوس أو دفع ذلك برجله [لم يجزئه]؛ كما قاله في "العدة" وغيرها. قال: واحدة واحدة؛ للخبر. قال: لا يجزئه غير ذلك؛ لأنه فعل غير معقول المعنى؛ فاتبع فيه ما ورد؛ وبهذا خالف ما لو جمع الأسواط [في الحد]، وضرب بها ضربة واحدة؛ فإنه يجزئ؛ لأنه معقول المعنى، وهو إيصال الألم إليه. وفي تعليق أبي الطيب حكاية قولين فيما إذا رمى فوقع الحصى في مسيل الماء: المنصوص في "الأم": أنه لا يجزئ، وهو الموافق لما في الكتاب؛ لأنه – عليه السلام - رمى الحصى في المرمى، فدلَّ على أن الفرض أن يرمي الحصى فيه دون غيره. ووجه مقابله: أن مسيل الماء [متصل] بالمرمى، وليس بينهما حائل، وهو بمنزلة جزء منه. فرع: هل تجب الموالاة في رمي الحصى؛ حتى لو فرق بينهما تفريقاً كبيراً لا يعتد

به؟ فيه قولان فى "التتمة"؛ كالموالاة فى الوضوء. تنبيه: كلام الشيخ يفهم أموراً: أحدها: أنه لو رمى بغير الحصى لا يجزئه، وسيأتي الكلام فيه. الثاني: [أنه] لو رمى في الهواء، فوقع في المرمي، لا يجزئه، وهو يفهم أن القصد إلى المرمى شرط فيه، وقد صرح [بذلك] في "المهذب" وغيره. وقال أبو الطيب وغيره; إنه إذا قصده، فوقعت الحصاة على محمل، أو بدن إنسان، أو بعير، ثم جازته إلى أن حصلت في المرمى، أجزأته؛ ونص عليه. ويخالف ما لو جرى مثل ذلك في المرمى في المسابقة؛ حيث لا يحتسب له على أحد القولين؛ لأن المقصود ثم معرفة حذق الرامي، ولم يوجد، والقصد هنا حصول الحصى في المرمى بفعله، وقد حصل. وقولنا: "بفعله" يحترز به عما إذا وقعت على ثوب رجل، فنفضها، فوقعت في المرمي، [أو وقعت على بعير، فانتفض،] ووقت في المرمى؛ فإنها لا تجزئه - أيضاً- لأنها حصلت فيه بغير فعل منه. لكن هذا القيد لا يخرج ما إذا رمى، فوقعت الحصاة في كمه [أو ثوبه،] فنفضه فوقعت فى المرمى؛ فإنها لا تجزئ؛ كما قال القاضى الحسين. فلا جرم أنه احترز عنه يقوله: "يقوة الرمي". ولو رمى حصاة، فوقعت أعلى من المرمي، ثم تدحرجت إليه، ففي إجرائها وجهان جاريان: فيما لو وقعت على بعير وهو ينتفض، فوقعت في المرمي، وقد أبداهما القاضي الحسين في الأولى احتمالين لنفسه، وقال في "التهذيب" فيها: الأصح الإجراء؛ لأنها حصلت فيه لا بفعل الغير. الثالث: أنه لو وضع الحجر في المرمى لا يجزئه؛ لأنه لا يسمى: رمياً، وقد صرح به أبو الطيب وغيره، وعن صاحب "التقريب" حكاية وجه بعيد: أنه يعتد به، اكتفاء

بالحصول في المرمى. الرابع: أنه لو رمى حصاتين دفعة واحدة، لا يعتد بهما، سواء وقعتا متساويتين، أو متعاقبتين، وهو المذهب. [و] الذي حكام القاضي الحسين عن النص: أنه يعتد له بواحدة منهما، وكذا لو رمى السبع دفعة واحدة، ولم يحك غيره. وغيره من المراوزة حكى وجهاً بعيداً فيما إذا رمى دفعة بحصاتين، وتلاحقتا في الوقوع، ولم يتساويا-: أنه يعتد بهما اثنتين. نعم، حكى القاضي - وتبعه المتولي - فيما لو رماهما في دفعتين، وتساويتا في الوقوع [وجها: أنه لا يجزئه إلا واحدة منهما؛ نظراً إلى الوقوع،] وكذا لو رماهما على التعاقب، فوقعت الثانية قبل الأولى، لم تحتسب له إلا واحدة على وجه، والمذهب خلافه. الخامس: أنه لو وقع الشك في أن الحصاة وقعت في المرمى [أم لا تجزئه؛ لأنه جعل الواجبَ، الرميَ] إلى الجمرة، وقد حصل، وهو قول قديم؛ لأن الظاهر؛ أن الحصاة سقطت فيه. لكن الجديد: المنع؛ لأن الفرض حصول الحصاة برميه في المرمى؛ فلا تسقط بالشك، وقد قطع بعضهم به، وقال: إن الأول ليس بمذهب للإمام الشافعي - رضي الله عنه - وإنما حكاه عن غيره. السادس: أنه لو أخذ حصاة واحدة، ورمى بها [ثم عاد، وأخذها، ورمى بها،] وكذا سبع مرات في يوم واحد - لا يجزئه، وهو وجه حكاه القاضي الحسين وغيره، وأن المزني اختاره، وهو الأظهر في "النهاية". لكن الظاهر من نص "المختصر"، وهو الذي صححه في "التهذيب": أنه يجزئه مع الكراهة؛ كما لورمى هو بها في جمرة أخرى، أو في يوم آخر؛ وهذا يشعر بموافقة المزني على ذلك، وكلام القاضي أبي الطيب وغيره يقتضي مخالفته فيه أيضاً؛ لأنهم

قالوا: الذي نض عليه في "المختصر": أنه يجزئه ما رمى به هو وغيره، وقال المزني: إنه يجزئه ما رمى به غيره، ولا يجزئه ما رمى هو به. وقد قيل: إن هذا غلط. وعلى المذهب يكفيه للجمرات كلها حجر واحد؛ كما تتأدى به الكفارة بمد واحد؛ بأن يدفعه لفقير، ثم يشتريه منه [، ثم يدفعه لآخر، ويشتريه منه]، وهكذا إلى أن يتم المقصود، وليس كالماء إذا استعمل في الطهارة مرة لا يستعمل فيها مرة أخرى؛ لأن ثم انتقل إليه مانع؛ فألحق بالمستهلك، ولا كذلك هنا، بل نظير الحصاة نظير الثوب؛ فيصلي فيه مراداً. قال: ويكبر مع كل حصاة؛ للخبر. قال الشافعي - رضي الله عنه – "فيقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد". قال: ويرفع يديه حتى يرى بياض إبطه؛ لما ذكرناه من الخبر أول الباب، ولأنه أعون على الرمي. قال الأصحاب: ولا يقف عند هذه الجمرة للدعاء؛ لما سنذكره، بل يدعو في منزله. قال: والأولى أن يكون راكباً؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. أشار الشيخ بذلك لما رواه جابر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول لنا: "خذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه". أخرجه مسلم. قال في "المهذب" والمستحب أن يرمي من بطن الوادي؛ لما روت أم سلمة قالت: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي من بطن الوادي، وهو راكب، وهو يكبر مع كل حصاة".

وروى [مسلم] عن عبد الرحمن بن يزيد: أنه كان مع عبد الله بن مسعود، فأتى الجمرة، فاستبطن الوادي، فاستعرضها، فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة قال: فقلت: "يا [أداء عبد الرحمن، إن الناس يرمونها من فوقها" فقال: "هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة". وفي "الحاوي" أن الشافعي - رضي الله عنه – قال: "إنه لا يمكنه غير ذلك، لأنها على أكمة، ولا يتمكن من [الرمي إليه] إلا كذلك". نعم: لو رمى الجمرة من فوقها، ولم يرمها من بطن الوادي، أجزأه؛ لأن عمر لما أتى الجمرة، ورأى زحام الناس صعد الجمرة، فرماها من فوقها. قال ابن الصلاح في "المناسك": وإذا رمى من بطن الوادي جعل مكة والقبلة عن يساره ومنى وعرفة عن يمينه، ويستقبل العقبة. وقطع الشيخ أبو حامد وغيره بأنه يقف مستقبل الجمرة، مستدبر الكعبة، وهو المذكور في "الشامل" وغيره. وحكى في "الروضة" وجهاً آخر: أنه يقف فى بطن الوادي مستقبل الكعبة؛ فتكون الجمرة - على هذا - على جانبه الأيمن. قال ابن الصلاح: وهذا قد رواه الترمذي والنسائي من حديث ابن مسعود. والقول الأول هو المختار عندنا، وكذلك جعله النواوي في "الروضة" الصحيح؛

لأنه جاء في مسلم والبخاري وغيرهما عن ابن معود أنه لما انتهي إلى الجمرة الكبرى، جعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ورمى الجمرة بسبع حميات، وقال: "هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة". قال: ويقطع التلبية مع أول حصاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، أخرجه مسلم عن رواية الفضل بن عباس، وهو أعرف الناس بحال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المكان؛ لأنه كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من مزدلفة إلى منى. والمعنى في ذلك: أنه مدعو إلى فعل جميع المناسك، فما لم يتحلل من إحرامه يستحب له التلبية [؛ لأنها إجابة الداعي، وإذا رمى فقد شرع في التحلل؛ فلم يستحب له التليية]؛ لأنه أخذ في فعل الانصراف، ولا معنى للإجابة في حال الانصراف. وكذلك يستحب للمعتمر أن يقطع التلبية بأخذه في الطواف. ولو شرع الحاج في خلاف الأولى، وهو تقديم الطواف على الرمي، أو الحلق، وقلنا: إنه نسك - كما سنذكره - قطع التلبية بشروعه فيه –أيضاً- لما ذكرناه. ولو خالف السنة بأن قطع التلبية، وكبر قبل رمي جمرة العقبة وغيرها من أسباب التحلل، أو استدام التلبية، ولم يكبر إلى أن فرغ من [رمي] الجمرة - كان فاعلاً لمكروه، ولا فدية عليه. وعن القفال: إن الحجاج إذا رحلوا من مزدلفة مزجوا التلبية بالتكبير في ممرهم، فإذا ابتدءوا في رمي جمرة العقبة محضوا التكبير. قال الإمام: ولم أر ذكر المزج إلى الرمي لغيره. قال: وإن رمى بعد نصف الليل، أجزأه؛ لما روى الشافعي - رضي الله عنه - بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بأم سلمة ليلة النحر، فرمت جمرة العقبة قبل الفجر، ثم مضت، فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول

الله صلى الله عليه وسلم، يعني عندها. وأخرجه أبو داود، وقال البيهقي: إن إسناده صحيح، لا غبار عليه. وروي أنه أمرها أن تعجل الإفاضة، وأن توافي مكة مع صلاة الصبح. قال الشافعي - رضي الله عنه – "وهذا يدل على جواز خروجها بعد نصف الليل، وقبل الفجر، وأن رميها كان قبل الفجر أيضاً؛ لأنها لا تصلي الصبح بـ"مكة" إلا وقد رمت قبل الفجر [بساعة]. ولأنه وقت يجوز الدفع فيه للمعذورين من مزدلفة؛ فجاز الرمي فيه لبعد طلوع الفجر؛ وهذا بيان أول وقت جواز الرمي، وأما آخره فلم يتعرض له الشيخ. وقد قال القاصي الحسيين والماوردي وغيرهما: أنه غروب الشمس من يوم النحر. وفي "النهاية" حكاية وجه: أنه يمتد إلى طلوع [الفجر أول] أيام التشريق [على وجه]؛ اعتباراً بالوقوف بـ"عرفة"؛ فإنه لما تعلق بالنهار والليل، تعلق بالليلة المستقيلة. والأصح في الرافعي [و"الروضة" الأول لكن سيأتي; أن يقول: إن الصحيح فيما إذا أخَّرَ هذا الرمي إلى اليوم الأول أو الثاني أو الثالث من أيام التشريق – وقع أداءً؛ وهذا يدل على أن الوقت لم يخرج بما ذكر. ويجوز أن يقال]: إن المراد هنا: خروج وقت الاختيار، والذي سيأتي المراد به: ييان وقت الجواز؛ وحينئذ يكون للرمي ثلاثة أوقات: وقت فضيلة: وهو بعد طلوع الشمس إلى الزوال. ووقت اختيار: وهو من الزوال إلى الغروب.

ووقت جواز: وهو إلى آخر أيام التشريق في حق من لم يتعجل، والله أعلم. قال: وإذا رمى، ذبح هدياً إن كان معه؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]، يعني: الرمي، {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، يعني: نحر الهدي. ولقول جابر في صفة حجه - عليه السلام-: "ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بدنة، ثم أعطى عليَّا [فنحر] ما عبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، وطبخت؛ فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها". وقد استحب الشافعي - رضي الله عنه - لأجل ذلك أن يأكل من كبد هديه – إذا كان متطوعاً به - قبل أن يمضي إلى طواف الإفاضة، وأما إذا كان [واجباً فقد تقدم الكلام فيه، وأما إذا كان] منذوراً، فسيأتي حكمه، إن شاء الله تعالى. ثم الهدي ما يهدى إلى الحرم من حيوان وغيره، والمراد هنا - كما قال النواوي:

ما يجزئ في الأضحية من الإبل والبقر والغنم. ويقال: هّدْيٌ، وهدِيُّ بإسكان الدال وتخفيف الياء، وبكسرها وتشديد الياء؛ ذكرهما الأزهري وغيره. قال الأزهري: وأصله التشديد، والواحدة: هَدْية وهدِيَّة، ويقال: أهديت الهدي. قال ابن الصلاح: ومن السنة التي غفل الناس عنها في هذا الزمان سياقة الهدي. والأفضل أن يكون هدي الحاج والمعتمر معه من الميقات شعراً مقلداً؛ فإن ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. واعلم أن كلام الشيخ يقتضي أن وقت ذبح [الهدي] يدخل بالفراغ من الرمي، وكذلك الحلق والتقصير، وهو كذلك فيما إذا وقع الرمي في الوقت المسنون. أما إذا وقع في أول وقت الجواز، وهو بعد نصف الليل، فليس كذلك؛ لأن القائل فى الهدي قائلان: أما اختصاصه بيوم النحر، وأقام التشريق، أو لا؛ كما تقدمت الإشارة [إليه] في آخر باب كفارات الإحرام، ويأتي في باب الأضحية، وحينئذ فلا يكون موافقاً للرمي

ولا مرتباً عليه. وأما فى الحلق والتقصير، فلأن أول وقتهما أول وقت الرمي لا بعده، وليس لآخر وقتهما انتهاء، وهو إذا قلنا: إن الحلق نسك؛ كما سيأتي. قال: وحلق أو قصر - أي شعر رأسه - لما رَوى جابر أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يحلقوا أو يقصروا. لكن الأفضل للرجال الحلق؛ لقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]، والعرب تبدأ بالأهم فالأهم، وهو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع. وروى مسلم - أيضاً - عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة، ثم انصرف إلى البدن فنحرها، والحجام جالس، وقال بيده عن رأسه، فحلق شقه الأيمن، فقسمه فيمن يليه، ثم قال: "احلق الشق الآخر"، فقال: "أين أبو طلحة: فأعطاه إيَّاه. وروى مسلم –أيضاً- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين، قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين، قال: "والمقصرين". ولو نذر الحلق في وقته، قال الغزالي: فلا خلاف في وجوبه، وقد نص عليه؛ كما قال الإمام.

وقال الرافعي: إنه غير صافٍ عن الإشكال، و [قد] قال غيره - يعني: غير الغزالي: إنه إنما يلزم بالنذر على قولنا: إنه نسك، ولا يقوم التقصير مقام الحلق إذا نذره، وقلنا بانعقاد نذره. وفي استئصال الشعر بالقص، وإمرار الموسى من غير استئصال تردد للإمام. والظاهر المنع؛ لفوات اسم الحلق. وقد ألحق في القديم تلبيد الشعر بالنذر، فأوجب على الملبد شعره حلقه، وقال: لا يجزئه غيره. والجديد: لا. قال الرافعي - تبعاً للإمام، والمسعودي: والقولان كالقولين في أن التقليد والإشعار، هل يتزل منزلة قوله: "جعلته أضحية". والتلبيد: قد تقدمت صفته في باب الإحرام. ويستحب للمقصر - كما قال القاضى الحسين-: أن يأخذ من شعر لحيته وشاربه. قال: وأقل ما يجزئ [أي] أن يحلق أو يقصر - ثلاث شعرات؛ لأنها أقل الجمع؛ كما تقدم؛ وهذا بناء على أن الدم لا يكمل إلا في ثلاث شعرات. أما إذا قلنا: أنه يكمل في شعرة - كما تقدم - كفى حلقها أو تقصيرها هنا؛ ومن هذا يظهر لك أنه لو حلق على المشهور شعرة، ثم شعرة، أو قصر شعرة ثم بعضها ثم استكملها، هل يكتفي بذلك أم لا؟ [إن] قلنا: إنه يكمل الجزاء بذلك إذا كان محظوراً كفى، وإلا فلا؛ وقد صرح به الرافعي والإمام. ولا فرق فيما إذا قصَّرَ بين أن يكون [المأخوذ] مما يحاذي الرأس أو من المسترسل. وفي وجه: لا يغني الأخذ من المسترسل؛ اعتباراً بالمسح. قال ابن الصباغ: وليس بصحيح؛ لأنه يقع عليه اسم التقصير، فأجزأه، ويخالف

المسح؛ لأنه مأمور يه في الرأس، والرأس ما ترأس وعلا، وها هنا المأمور يه التقصير، وذلك من أطراف الشعر. ولا يقوم حلق شعر آخر، ولا تقصيره مقام حلق شعر الرأس في ذلك وإن استوى الكل في وجوب الفدية؛ إذا أخذ قبل الوقت؛ لأن الأمر ورد في شعر الرأس. تنبيه: كما يحصل الحلق المجزئ بالموسى يحصل بالنورة، والقص، والنتف؛ نص عليه. وكما يحصل التقصير المجزئ بالقص يحصل بالقطع بالسكين، والإحراق، لكن السنة الحلق بالموسى، [و] إليه يرشد قول الشيخ من بعد [حيث] قال: "والأفضل أن يحلق جميع رأسه"؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستحب أن يبدأ بمقدم رأسه، ويحلق الشق الأيمن، ثم الأسر [ثم الباقي] تأسياً به عليه السلام، ولو نذر حلق جميع رأسه، ففي لزومه تردد عن القفال، وله نظائر تأتي في باب النذر. ويستحب أن يكون في حال الحلق والتقصير مستقبل القبلة، وأن يكبر بعد الفراغ من ذلك، وأن يدفن شعره. قال: فإن لم يكن له شعر، استحب له أن يمر الموسى على رأسه؛ تشبهاً بالحالقين، وقد روي عن عمر أنه قال: "الأصلع يمر الموسى على رأسه". قال الشافعي - رضي الله عنه - "ولو أخذ من شاربه، أو من شعر لحيته شيئاً، كان أحب إليَّ كي لا يخلو من أخذ الشعر". قال الأصحاب: وهذا -كما قلنا- فيمن قطعت يده عن فوق المرفق: أنه يغسل موضع القطع بالماء؛ كي لا تخلو الطهارة من غسل اليدين. وقد يفهم من كلام الشافعي - رضي الله عنه - أنه إذا أراد أخذ شيء من لحيته

وشاربه، لا يمر الموسى على رأسه، وليس كذلك، بل الذي حكاه الإمام عن رواية الصيدلاني عنه: أنه يستحب المجموع. ثم قال الإمام: ولست أرى للأخذ من الشارب وجهاً، إلا أن يكون أسنده إلى أثر. قال: ولا نقول على قولنا: إن الحلاق نسك - ينبغي أن يصبر حتى ينبت شعره، ثم يحلقه. وإنما لم يجب إمرار الموسى على رأسه؛ لأنه لو فعله في حال الإحرام، لم تلزمه الفدية. ولأنها عبادة تعلقت بجزء من البدن، فسقطت بفواته، كغسل الأعضاء في الوضوء، [ويخالف المسح في الوضوء] حيث يجب مسح الرأس إذا لم يكن عليها شعر؛ لأن الوجوب في المسح متعلق بالرأس، وفي الحلق متعلق بالشعر، ولم يوجد. تنبيه: الموسى يذكَّر ويؤنَّث. قال ابن قتيية: [قال الكسائي:] هي "فعلى". وقال غيره: هي "مُفعل" من أوسيت رأسه، أي: حلقته. قال الجوهري: والكسائي والفرَّاء يقولان: "فُعلى" مؤنثة، وعبد الله بن سعيد الأموي يقول: "مفعل" مذكر. قال أبو عبيد: لم يسمع تذكيره إلا من الأموي. قال: والمرأة تقصر، ولا تحلق؛ لما روى أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على النساء الحلق، وإنما على النساء التقصير". ولأن حلاق شعر المرأة مُثلة، والمثلة منهي عنها، فلو فعلته فقد فعلت مكروهاً؛ قاله في "الحاوي". قال الشافعي - رضي الله عنه-: وأحب أن تجمع ضفائرها وتأخذ من أطرافه قدر

أنملة؛ [لتعم الشعر كله]، وهكذا نقول في الرجل إذا قصر. قال: وهل الحلاق أو التقصير نسك، أي: في الحج والعمرة؟ فيه قولان: أحدهما: أنه نسك، أي: فيثاب عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رميتم، وحلقتم [حل] لكم كل شيء إلا النساء"، علق الحل بالحلق، كما علقه بالرمي. ولأن الحلق أفضل من التقصير، ويلزم بالنذر - كما تقدم، والتفضيل واللزوم بالنذر إنما يقع في القربات دون المباحات، وهذا هو الصحيح. قال الإمام: وعلى هذا فهو ركن، وليس كالرمي والمبيت؛ فاعلم ذلك؛ فإنه متفق عليه، وآيته أنه مع الحكم بوجوبه لا يقوم الفداء مقامه؛ حنى لو فرض اعتلال في الرأس، تعسر معه التعرض للشعر، ولكنه كائن - فلا بد من التريث إلى إمكان الحلق - أي: أو التقصير - ولا يرد عليه إذا لم يكن له شعر؛ لأن النسك هو حلق ثم يشتمل الإحرام عليه، فإذا لم يكن على الرأس شعر في وقت الحلق، لم يتحقق ما ذكرناه. [وما دكره] من الاتفاق على أنه ركن، فيه نظر؛ لأنا سنذكر عن الداركي عند الكلام في التحلل ما ينازع فيه، وهو مقتضى قول الشيخ: "وأفعال العمرة كلها أركان إلا الحلق"، فلو كان ركناً عنده على هذا القول، لم يستثنه لما عرفت أن هذا القول هو الصحيح عند الجمهور. وأصرح من ذلك عَدَّه الحلقَ من الواجبات على أحد القولين. [قال:] والثانى: أنه استباحة محظور - أي: فلا يثاب عليه - لقوله تعالى: ولا {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، فحظر الحلق، وجعل لحظره غاية، وهي التحلل، فلم يجز أن يكون نسكاً يقع به التحلل. ولأن كل ما لو فعله قبل وقته، لزمته الفدية، [فإذا فعله بعد وقته، لزمته الفدية،] فإذا فعله في وقته، كان استباحة محظور؛ كالطيب، واللباس، وهذا ما قال في

"الحاوي": إنه أقيس. وقال القاضي أبو الطيب عند الكلام في السعي: إنه الصحيح. وفائدة الخلاف يأتي في الكتاب مع ما سنذكره معها، إن شاء الله تعالى. والحلاق - بكسر الحاء – بمعنى: الحلق. قال: ثم يخطب الإمام بعد الظهر بمنى، ويعلم الناس النحر والرمي والإفاضة. أما استحباب الخطبة بمنى في هذا اليوم؛ فلما روى أبو داود عن أبي أمامة - وهو الباهلي قال: "سمعت [خطبة] رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر". وروى- أيضاً- عن الهرماس بن زياد الباهلي قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى بمنى"، وأخرجه النسائي. وعن الحناطي رواية وجه: أن موصع هذه الخطية مكة. وأما كونها بعد الظهر؛ فلأنها خطبة مشروعة في الحج، فكانت بعد الظهر؛ كغيرها من الخطب فيه. وما ذكره الشيخ هو الذي نص عليه في "المختصر"، ولم يحك أبو الطيب وابن الصباغ غيره. لكن قد روى أبو داود عن رافع بن عمرو المزني قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء، وعلي - رضي الله عنه - يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد". وأخرجه النسائي. وأما كونه يعلم الناس فيها النحر والرمي والإفاضة؛ فلما روى أبو داود عن عبد الرحمن ابن معاذ التيمي قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ونحن] بمنى، ففتحنا

أسماعنا؛ حتى كنا سمع ما يقول ونحن في منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار، فوضع أصبعيه السبابتين، ثم قال: بحصى الخذف، وأخرجه النسائي. فإن قيل: المستحب في النحر أن يكون قبل الزوال، فأي فائدة في تعليمهم سنته، وقد فات ذلك؟ قيل: فائدته: أن من وقع له فيه خلل تداركه كله؛ كما قلنا: إن المستحب في عيد الفطر: أن يؤدي زكاة الفطر، ثم يخرج إلى المصلى، ثم الإمام يخطب، ويعلمهم كيفية أدائها؛ كذا هنا؛ وهذه هي الخطبة الثالثة في الحج. قال: ثم يفيض إلى مكة، ويغتسل ويطوف طواف الزيارة. لا شك في أن الإفاضة إلى مكة في يوم النحر، لأجل الطواف مشروعة؛ لما سنذكره، والاغتسال له مسنون؛ لما تقدم وهو ما ادعى في "الوسيط": أنه قوله في القديم، وأنه لم يستحبه في الجديد، لاتساع وقته. وقد اقتضى كلام الشيخ هنا وفي "المهذب": أن الإفاضة؛ لأجل الطواف تكون بعد الخطبة التي ذكر أنها تشرع بعد الظهر، وهو ما دل عليه كلام ابن الصباغ حيث قال: "يستحب أن يخطب الإمام يوم النحر بعد صلاة الظهر بمنى؛ فيعلِّم الناس النحر والرمي والمصير إلى طواف الإفاضة، وذلك وجه محكي في "تعليق القاضي أبي الطيب"؛ لأن عائشة قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض في آخر النهار من يوم النحر". وروى أبو داود عنها في الخبر الذي سنذكره: أنها قالت: "أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى". وروي عنها وعن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخَّر الطواف يوم النحر إلى

الليل". وقال الترمذي: إنه حسن. وهذا القائل كأنَّه - والله أعلم - أخذ ذلك من ترتيب المزني في "المختصر"؛ فإنه قال بعد ذكر النحر: "ويخطب الإمام بعد الظهر يوم النحر، ويطوف بالبيت طواف الفرض". لكن الذي نص عليه [الشافعي - رضي الله عنه -] في "الأم"؛ كما قال أبو الطيب عند الكلام في الجبران: "أنه إذا رمى جمرة العقبة، ونحر، وحلق، مضى إلى مكة، فطاف، ثم عاد إلى منى، فصلى الظهر، وشهد الخطبة، وبه قال بعض الأصحاب. وقال القاضي: إنه الصحيح، ولم يذكر القاضي الحسين والغزالي والرافعي غيره. ووجهه ما روى مسلم عن [ابن] عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى". قال نافع: وكان ابن عمر يفيض يوم النحر، ثم يرجع، فيصلي الظهر بمنى، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وأخرجه البخاري مختصراً. لكن في مسلم -أيضاً-: أن جابراً قال في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أكل من لحم هديه وشرب من مرقه: "ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر"، وهذا بظاهره معارض لخبر ابن عمر. وقد اختار القاضي أبو الطيب وجهاً ثالثاً في المسألة فقال: إن كان الزمان صيفاً

عجل الإفاضة في أول النهار؛ لاتساعه، وإن كان شتاء أخرها؛ بقصر النهار. تنبيه سمي هذا الطواف: طواف الزيارة؛ لإتيانهم البيت بعد مفارقتهم له، ولا يقيمون عنده، بل يرجعون إلى منى. وسمي: طواف الإفاضة؛ لأنه يفعل بعد إفاضتهم من [منى] إلى مكة. ويسمى: طواف الركن، والفرض، لأنه ركن الحج وفرضه. ويسمى: طواف الصدر. وقيل: باختصاص هذا الاسم بطواف القدوم. قال: وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة الحر، لأن ما بعد نصف الليل وقت لرمي جمرة العقبة؛ فكان وقنا لطواف الإفاضة؛ أصله: ما بعد طلوع الفجر. قال القاضي أبو الطيب: وليس للشافعي في ذلك نص، إلا أن أصحابنا ألحقوه بالرمي في ابتداء الوقت. قال: والمستحب أن يكون في يوم النحر؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وهل الأفضل أن يكون قبل الزوال أو بعده؟ فيه الخلاف السابق، والمذكور في "تعليق البندنيجي" و"الحاوي": أنه قبل الزوال. قال: فإن أخره عنه - أي: ولو إلى آخر عمره؛ كما قال البندنيجي وغيره - جاز؛ لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ولم يوقِّت؛ فكان على إطلاقه. وما ذكره الشيخ هو الذي ذكره الجمهور، وحكاه الإمام عن شيخه؛ حيث قال: "لو

أخر طواف الركن إلى انقضاء أيام منى، فلا بأس، وفي قلبي منه شيء، والعلم عند الله سبحانه". وقد حكى ابن التلمساني أنه لا يجوز له أن يخرج من مكة حتى يطوف. وقال الماوردي: إنه يكون مسيئاً بتأخره بغير عذر عن يوم النحر. وفي "التتمة": أنه إذا أخَّره حتى مضت أيام التشريق، وفعله كان قضاة، وإليه يرشد قول ابن الصباغ: "إذا خرج، ولم يكن طاف للوداع، وجب عليه الرجوع للطواف". ولا يحل له النساء حتى يطوف وإن طال زمانه، وخرج وقته. وبالجملة: فالكل متفقون على أنه لا يلزمه دم بالتأخير؛ لأنه أخَّر النسك عن وقت الاختيار إلى وقت الجواز؛ فلم يلزمه الدم؛ كما لو أخَّر الوقوف بعرفة عن النهار إلى الليل. قلت: والذي يظهر لي: أن قول من قال: "إنه يجوز له تأخير الطواف إلى آخر العمر"، ليس على إطلاقه، بل هو محمول على ما إذا كان قد تحلل التحلل الأول، أما إذا لم يكن قد تحلل التحلل الأول، فلا يجوز له تأخيره وتأخير ما يحصل به التحلل الأول إلى آخر العمر، بل لا يجوز تأخيره إلى العام القابل؛ لأنه يصير مُحرِمًا بالحج في غير أشهره، [وسنذكر مادة ذلك في باب الفوات والإحصار عن الماوردي، إن

شاء الله تعالى]. فرع: لو طاف للوداع، ولم يطف طواف الزيارة. قال الأصحاب: وقع عن طواف الزيارة. وعن بعضهم بناء ذلك على أنه لو صرف الطواف بالنية إلى غرض آخر، هل يفسد؟ فيه خلاف سبق: فإن قلنا يفسد، لم يعتد بهذا الطواف عن الإفاضة، ولا عن الوداع؛ إذ لا وداع مع إيجاب الرجوع عليه حتماً. وإن قلنا: لا يفسد، فالأمر كما تقدم. قال: فإذا فرغ من الطواف، فإن كان قد سعى مع طواف القدوم، لم يسع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، لم يسع عقيبه؛ إذ كان قد سعى مع طواف القدوم. وقد تقدم عن رواية مسلم عن جابر بن عبد الله قال: ولم يطف النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً" [فلو سعى] قال الشيخ أبو محمد: فقد فعل مكروهاً. قال الإمام؛ والأمر كما ذكر. قال: وإن لم يكن قد سعى أتى بالسعي؛ لأنه من أركان الحج؛ كما سيأتي بيانه، [وشرطه - كما تقدم: أن يكون عقيب طواف، ولم يبق في الحج طواف آخر يأتي به] قبل تمام التحلل غيره؛ فتعين. فلو لم يفعله، وأتى بالمناسك التي بمنى، قال الإمام؛ اعتد بها. ومن هنا يظهر [لك] ما قاله الأصحاب: إن لآخر وقت السعي زمناً

معيناً؛ لأنه إذا جاز فعله عقيب طواف الزيارة، [وطواف الزيارة] لا آخر لوقته إلى آخر العمر، فكذلك [ما] يجوز فعله بعده، والسنة أن يفعل عقيب طواف القدوم. ومما يشرع في هذا اليوم سنة بعد الطواف: الشرب من نبيذ سقاية العباس؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى السقاية؛ ليشرب منها، فقال له العباس: إنه نبيذ قد خاضت فيه الأيدي، ووقع فيه الذباب ولنا في البيت نبيذ صافٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هات" فشرب صلى الله عليه وسلم منه. قال أبو الطيب: قال الشافعي- رضي الله عنه-[ولم يكن] نبيذ سقاية العباس يسكر في جاهلية ولا إسلام، وإنما كان حلواً، وقد جاوز حَدَّ الحلاوة". وإذ قد عرفت ما ذكره الشيخ من حين قوله: فإذا وصل إلى منى [إلى هنا]، عرفت أن المشروع إيقاعه في يوم النحر –كما ذكر- أربعة أشياء: رمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس، وهو من [مناسك الحج]. ونحر الهدي بعده، وليس من مناسك الحج والعمرة بلا خلاف، وإنما هو قربة على حياله. والحلق أو التقصير بعده، وهل هو من مناسك الحج والعمرة أو لا؟ فيه ما تقدم. وطواف الزيارة بعد ذلك، وهو من مناسك الحج بلا خلاف. وإيقاع ذلك على الترتيب الذي ذكره الشيخ مستحب، لا واجب بلا خلاف بين أصحابنا، إلا في الحلق –كما سنبينه- لقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]، يعني: الرمي، {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، يعني نحر الهدي، {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]. ولأنه – عليه السلام- فعلها كذلك.

فلو قدم الطواف على الرمي جاز، وكذا لو قدم النحر على الرمي، أو قدم الحلق على النحر جاز؛ لرواية مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول [و] أتاه رجل يوم النحر، وهو واقف عند الجمرة، فقال: يا رسول الله، إني حلقت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم ولا حرج"، [فأتاه آخر، فقال: إني ذبحت قبل أن أرمي؟ فقال: "ارم ولا حرج"] [فأتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم ولا حرج"] فما رأيته مثل يومئذ عن شيء إلا قال: "افعل ولا حرج". وأخرج مسلم عن عبد الله المذكور، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، [فطفق الناس يسألونه، فيقول القائل منهم: يا رسول الله، إني لم أكن أشعر أن الرمي قل النحر؛ فنحرت قبل الرمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ارم ولا حرج" قال:] فطفق آخر يقول: لم أشعر أن النحر قبل الحلق؛ فحلقت قبل أن أنحر، فيقول: "انحر ولا حرج"، قال: فما سمعته سُئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء ويجهل إلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افعلوا ولا حرج". ولو قدم الحلق على الرمي والطواف، قال الأصحاب: فإن قلنا: إن الحلق نسك، جاز – أيضاً- ولا شيء عليه، وعليه يدل الحديث السابق. وبه –أيضاً- يستدل على أن الحلق نسك. وإن قلنا: إنه استباحة محظور، فعليه الفدية؛ لوقوع الحلق قبل التحلل؛ وهذا البناء هو الذي ذكره الجمهور. وعلى ما ذكرناه يدل قول الشيخ من بعد: فإن قلنا: إن الحلق نسك حصل له التحلل الأول ... إلى آخره.

وقد حكى ابن كج عن أبي إسحاق وابن القطان: أنهما قالا: يلزمه الفدية، وإن قلنا: إن الحلق نسك. وحكى الماوردي وجهاً وعزاه إلى أكثر البصريين من أصحابنا: أنه لا فدية عليه، وإن قلنا: إنه ليس بنسك؛ للحديث. وحينئذ فلك أن تقول: في لزوم الدم وجهان، سواء قلنا: إن الحلق نسك أم لا. قال: فإن قلنا: إن الحلق نسك، حصل له التحلل الأول باثنين من ثلاثة، وهى: الحلق، والرمى، والطواف؛ لما روى أبو داود عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رمى أحدكم جمرة العقبة، فقد حل له كل شيء إلا النساء". وفي كتب الفقهاء: أنه قال: إذا رميتم، وحلقتم، فقد حل لكم الطيب واللباس، وكل شيء إلا النساء. وقد حكي عن القاضي أبي حامد المرْوَرُّوذي أنه قال في جامعه: على قولنا: إن الحلق نسك، يحصل له التحلل بالرمي وحده؛ لأن الشافعي - رضي الله عنه - نص

في [المنسكين] "الأوسط" و"الصغير": أنه يتحلل بالرمي. قال القاضي أبو الطيب في تعليقه: وله وجه، وهو إذا قلنا: الحلق إطلاق محظور؛ فإنه إذا رمى جمرة العقبة، حصل له التحلل الأول، وقد بقي عليه سُنَّتان: الطواف، والسعي [؛ فكذلك إذا قلنا: الحلق نسك، يجب أن يحصل له [التحلل] بالرمي؛ لأنه يبقى عليه سنتان: الطواف] والحلق. قلت: وهذا من القاضي قد يفهم تخصيص قول القاضي أبي حامد بما إذا كان قد سعى [مع طواف القدوم، أما إذا لم يكن قد معى] فلا؛ لأنه على هذا يكون قد بقى عليه أكثر مما أتى يه، وهو ثلاثة أشياء، وليس كذلك؛ لما ستعرفه. وقد قال الإمام - تبعًا للقاضي الحسين، وتبعهما الغزالي: إن السعي مع الطواف في حق من لم يسع يعدان شيئاً واحداً. ويأتي فى المسألة وجه آخر من قول الإصطخري الذي سنذكره: "إن دخول وقت الرمى كالرمي": أنه يحصل التحلل الأول - على قولنا: إن الحلق نسك - بالحلق أو الطواف. وقد حكى الماوردي عنه أنه قال: إذا مضى بعد نصف الليل من ليلة النحر زمان حلق، ورمي، فقد حد إحلاله الأول، وإن لم يرم لأن لم يحلق. وعن الداركي: أنا إذا جعلنا الحلق نسكًا، حصل له التحللان معًا بالحلق والطواف، [وبالرمي والطواف،] ولا يحصل بالحلق والرمي، [ولا أحدهما. والفرق: أن الطواف ركن، فما انضم إليه يقوى به؛ بخلاف الرمي، والحلق]. وهذا نزاع فيما سبق: أن الحلق ركن على هذا القول. وعن أبي إسحاق المروزي رواية وجه آخر عن بعض الأصحاب: [أنه يحصل] التحلل الأول على القول الذي عليه نفرع بالرمي وحده، وبالطواف وحده.

وما عدا ما قاله الشيخ - بعيد. قال: وإن قلنا: إن الحلق ليس بنسك، حصل له التحلل الأول بواحد من اثنين: الرمي، والطواف، وحصل له التحلل الثاني بالثاني، لما تقدَّم. وحكى القاضي أبو الطيب وغيره عن الإصطخري: أنه قال: دخول وقت الرمي - وإن لم يرمِ- قائم مقام الرمي في وقته. وقال: إن هذا مذهب الشافعى - رضى الله عنه-؛ لأنه قال قى "الإملاء": "إذا دخل عليه وقت الرمي، فلم يرمِ حتى جَنَّه الليل، حصل له التحلل، وثبت الدم في ذمته"؛ ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "رإذا رميتم، وحلقتم، فقد حلَّ لكم كل شيء إلاَّ النساء". ولا يجوز أن يكون [المراد] بذلك فعل الرمي؛ لأنَّا أجمعنا على أنه إذا لم يرم حتى ذهب وقت الرمي، حصل له التحلل؛ فدلَّ على أنه [بحصول الوقت]، لا بالفعل. قال: ولأن الحج والصوم عبادتان متشابهتان من جهة إيجاب الكفارة بإفسادهما، ولو دخل وقت الفطر، ولم يفطر، حكمنا بخروجه من الصوم؛ فكذلك هنا. وقد حكى القاضي الحسين عن الإصطخري: أنه قال: إذا ترك جمرة العقبة حنى فات وقتها، فقد تحلل التحلل الأول. فإن قلت: هل يحمل ما أطلقه أبو الطيب وغيره عنه على هذا؟ قلت: لا؛ لأن في "المهذب" و"الحاوي": أن الإصطخري قال: إذا دخل وقت الرمي، حصل له التحلل الأول وإن لم يرم؛ كما إذا فات وقت الرمي، حصل له التحلل [الأول] وإن لم يرم. والذي قاله أبو إسحاق وعامة الأصحاب - وهو المذهب فى "المهذب": إنه لا يحصل له التحلل حتى يرمي؛ للخبر؛ فإن ظاهره: أن من لم يفعل ذلك لا يحصل له التحلل.

وبالقياس على الطواف. قال أبو الطيب: وأما الجواب عن قول الشافعي - رضي الله عنه – فهو أن التحلل حصل له بثبوت الدم في ذمته، والدم يقوم مقام الفعل. قلت: على أن الإمام قد حكى فيما إذا فات [الرمي] على ما نصف فواته- ولم نثبت قضاءه أو أثبتناه، وانتفي بانقضاء أيام التشريق؛ أن الأصحاب اختلفوا في [أن] التحلل هل [يتوقف على الإتيان ببدل الرمي؟ فمنهم من قال: لا يتوقف. ومنهم من قال:] يتوقف على البدل توقفه على المبدل. ومنهم من فصل بين أن يكون البدل دمًا؛ فيتوقف عليه، وبين أن يكون صومًا؛ فلا يتوقف عليه؛ لطول الزمان؛ وعلى هذا والذي قبله تتتفي دعوى الإجماع. وأمَّا الفرق بينه وبين الصوم فظاهر؛ لأنه هاهنا مأمور بأن يخرج منه بفعل، ولم يوجد؛ بخلاف الصوم؛ فإنه غير مأمور بالخروج منه بالفعل. وعن الشيخ أبي حامد: أنه [قال]: ليس في الحج إلا تحلل واحد، أي: وهو يحصل بالرمي وحده؛ كما يفهمه كلامه. قال: وقولنا: "فيه تحللان" مجاز، فإذا رمى جمرة العقبة، فقد زال إحرامه، ويبقى حكمه؛ فلا يجوز له الوطء حتى يطوف؛ كما قلنا في الحائض إذا انقطع دمها، زال حيضها، وييقى حكمه في المنع من الوطء حتى تغتسل. قال القاضي أبو الطيب: وهذا غلط؛ لأن أركان الحج أربعة: الإحرام، والوقوف، والطواف، والسعي؛ فلا يجوز أن يقال [لمن رمى] جمرة العقبة: قد زال إحرامه، ونصف الأركان بعدُ باقٍ عليه. وقوله: "المنع من الوطء؛ لبقاء حكم الإحرام" خطأ؛ لأنه لو كان كذلك، لوجب مثله بعد الطواف؛ لأن الميت بمنى ورمي الجمار باقيان عليه، وهما من حكم

الإحرام، ولما أجمعنا على جواز الوطء بعد الطواف؛ دلَّ على أن المنع منه قبل الطواف إنما كان لبقاء الإحرام نفسه دون حكمه. واعلم أن القاضي أبا الطيب قال في كتاب النذور: إن قلنا إن الحلاق نسك، كان التحلل التام بأربعة أشياء: الرمي، والطواف، والسعي- إن لم يكن سعي- والحلاق. وإن قلنا: إنه استباحة محظور، فهو يحمل بثلاثة أشياء: الرمي، والطواف، والسعي؛ إن لم يكن [قد] سعى. [وأما التحلل الأول: فإن قلنا: إن الحلق نسك، حصل بفعل شيئين من أربعة، وهي: الرمي، والطواف، والسعي- إن لم يكن قد سعى - والجلاق، فمتى فعل شيئين من هذه الأربعة، حصل [التحلل الأول]]، [والحلاق] إن قلنا: إنه استباحة محظور حصل [التحلل الأول] بفعل شيء واحد من ثلاثة أشياء، وهي: الرمي، والطواف، والسعي، فمتى فعل واحداً من [هذه] الثلاثة؛ فقد حصل له التحلل. وهذا منه فيه نظر؛ لما تقدم: أنه لا يعتد بسعي لم يتقدمه طواف؛ فكيف تقول: إنه متى فعل واحداً من الثلاثة حصل التحلل؟ فإن قلت: قد دلَّ الخبر على جواز السعي قبل الطواف. روى أبو داود عن أسامة بن شريك قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجَّا، فكان الناس يأتونه، فمن قائل: يا رسول الله، سعيت قبل أن أطوف؟ أو قدمت شيئاً وأخَّرت شيئاً؟ فكان يقول: "لا حرج، لا حرج إلا على رجل افترض عرض رجل مسلم، وهو ظالم، فذاك الذي حرِج وهلك"؛ فيجوز أن يكون هذا الحديث مستند القاضي فيما ذكره.

قلت: قد ادعى هو الإجماع على أنه لا يجوز تقديم السعي على الطواف، وأجاب عن الخبر بأنه غير ثابت، ولو ثبت، لحملناه على أن النبي كان قد علم من السائل: أنه سعى بعد طواف الورود، والسعي من شرطه أن يتقدمه طواف، وسواء فيه طواف الإفاضة وغيره، إلا طواف الوداع كما تقدم؛ لأنه لا يتصور - فأجابه [على ما] علم من أمره. نعم: يمكن أن يصحَّ كلامه؛ أخذاً من جوابه عن الخبر بأن يقول: هذا ذكره في حق من طاف للقدوم، وفرّ على أنه لا يشترط أيضاً إيقاع السعي عقيب الطواف، وأنه يجوز التراخي عنه وإن فصل بينهما الوقوف؛ على ما تقدم ذكره؛ وحينئذ يستقيم ما قاله من غير إشكال. قال: وفيما يحل بالتحلل الأول والثاني قولان: أصحهما: أنه يحل بالأول ما سوى الماء - أي: وطء النساء – [للخبر،] وبالثاني: يحل النساء؛ للإجماع، لكن المستحب ألا يطأ حتى يرمي أيام التشريق؛ كذا قاله الجمهور. وفي "الحاوي": أن [مباشرة النساء] فيما دون الفرج كالوطء في الفرج. والقول الثاني: يحل بالأول لبس المخيط، [أي:] وما في معناه، وهو ستر الرأس للرجل، والوجه للمرأة؛ كما قاله أبو الطيب. وغيره قال: والحلق؛ أي: إذا لم يجعل نسكاً - كما قال الرافعي – وتقليم الأظفار. وبالثاني: يحل الباقي، أي: وهو الجماع في الفرج، وما حرِّم لأجله: كعقد النكاح، والوطء فيما دون الفرج، واللمس بشهوة، والاستمناء، والطيب، وقتل الصيد. ووجه عدم استباحة ذلك بالتحلل الأول. أما الوطء في الفرج وعقد النكاح ونحوه؛ فللخبر.

وأما دواعي النكاح، فقد ثبت أن الوطء لا يباع بالأول، فكذلك ما يدعو إليه. وأما الصيد؛ فلقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، وقبل التحلل الثاني هو من جملة المحرمين. ولأن قل الصيد آكد من الجماع؛ بدليل أنه محرم في الحرم [على كل أحد] ولا يحرم الجماع إلا على من كان محرماً، فإذا لم نستبح الجماع بالتحلل الأول، فأولى ألا يستباح به الصيد؛ لتأكده. وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "إذا رميتم الجمرة، فقد حلَّ لكم كل شيء إلا الماء، والطيب"، [والصيد]؛ وهذا القول نص عليه في الجديد، [كما قال أبو الطيب مع القول] [الأول، [فيما عدا الطيب] [فإن المنصوص فيه في الجديد الأول لا غير] ومقابله فيه نص عليه في القديم. وأنكر بعض الأصحاب أن يكون قولاً للشافعي، قال: وإنما حكاه عن غيره، بل يستحب أن يتطيب لحله؛ لقول عائشة: "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه حين أحرم، ولحله حين قبل أن يطوف البيت"؛ كما أخرجه البخاري ومسلم، وأرادت: الحل الثاني؛ لأن التطيب قبل الحل الأول محظور. وقال في "الشامل": إن القول الثاني في الصور كلها هو القديم، والأول هو الجديد. وقد وافق الشيخ على تصحيحه هنا، وفي "المهذب" في الصيد غيره وفيما عداه جماعة، منهم الماوردي، وخالفهم جماعة فيه، ومنهم: البغوي، والمسعودي. قال الرافعي: وهم أكثر عدداً، وقالوا: الصحيح الثاني. قال الرافعي: وقولهم أوفق لظاهر النص في "المختصر".

فائدة: [قال الأصحاب:] إنما كان للحج تحللان، وللعمرة تحلل واحد؛ لأن الحج يطول زمانه، وتكثر أعماله؛ فأبيح بعض محظوراته دفعة واحدة، وباقيها أحرى؛ بخلاف العمرة. وهذا كالحيض والجنابة، لما طال زمان الحيض، جُعِلَ لارتفاع محظوراته تحللان: انقطاع الدم، والاغتسال، والجنابة لما قصر زمانها، جعل لارتفاع محظوراتها تحلل واحد. قال: ثم يعود بعد الطواف، أي: يوم النحر- إلى منى اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كذا فعل. قال: ويرمي] في أيام التشريق في كل يوم الجمرات الثلاث؛ لنقل الخلف عن السلف: كل جمرة سبع حصيات - كما وصفنا - لما روى أبو داود عن عائشة قالت: "أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس: كل جمرة بسبع حصيات، بجد مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية، فيطيل القيام، ويتضرع، ويرمي الثالثة، ولا يقف عندها". وأيام التشريق: هي الأيام المعدودات، وهي الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة، سميت بذلك؛ لإشراق نهارها بنور الشمس، ولياليها بنور القمر. [وقيل: لأن الناس يشرقون فيها اللحم في الشمس] واليوم الأول منها يسمى: يوم القر؛ لأن أهل الموسم يوم التروية ويوم عرفة ويوم الحر [في تعب من الحج، فإذا كان الغد من يوم النحر،] قروا بمنى فلهذا سمي: يوم القر.

ويسمى اليوم الثاني منها: يوم النفر الأول؛ لأن للحاج أن [ينفر] فيه من منى. ويسمى - أيضاً-: يوم الرءوس؛ لأن الحاج يأكل فيه رءوس الهدي والأضاحي. ويسمى اليوم الثالث منها: يوم الخلاء؛ لأن منى تخلو فيه من أهلها. وقد اقتضى كلام الشيخ استحباب الرمي في أيام التشريق كلها وهو راكب؛ لأنه من جملة ما وصف به رمى جمرة العقبة. والمذكور في "الشامل" و"التهذيب"، وغيرهما؛ حكاية عن نصه في "الإملاء": أنه يستحب رمي الجمرات في اليوم الأول منها والثاتي ماشياً، وفي اليوم الثالث راكباً؛ لأنه يسير بعده، بخلاف رمي اليومين [الأولين]؛ فإنه يقيم بمنى بعده؛ كذا وجهه الأصحاب. ومقتضاه: استحباب الرمي في اليوم الثاني لمن يريد النفر الأول راكباً. وفي "التتمة": أن الصحيح ترك الركوب في الأيام الثلاثة، وكأنه - والله أعلم - تمسك بما رواه أبو داود عن ابن عمر أنه كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة [بعد] يوم النحر ماشياً ذاهباً وراجعاً، ويخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. ولكن في إسناد هذا الخبر عبد الله بن عمر بن حفص العمري، وفيه مقال وإن كان مسلم قد خرج له مقروناً بأخيه عبيد الله.

قال: فيرمي الجمرة الأولى – أي: من ناحية المزدلفة، وهي التي تلي مسجد الخيف - ويقف قدر سورة البقرة، ويدعو الله تعالى، ثم يرمي الجمرة الوسطى، ليقف ويدعو كما ذكرنا، ثم يرمي الجمرة الثالثة - وهي جمرة العقبة- ولا يقف عندها؛ للخبر السابق، ولما سنذكره. وهل الموالاة بين الرمي شرط حتى لو طوّل الفصل يبهما بأكثر مما ذكرناه لا يعتد به أو لا؟ فيه قولان في "التتمة": قال الأصحاب; ويستحب في حال رميه الجمرة الأولى: أن يجعلها على يساره؛ ليكون مستقبل القبلة، ويقف بعد أن يتنحى عنها؛ بحيث لا تناله الحصاة. وفي حال رمي الجمرة الوسطى، يجعلها على يمينه، ويستقبل القبلة، ويتنحى عنها قليلاً؛ لما ذكرناه؛ لأنه روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يرمي الجمرة الدنيا سبع حصيات، يكبر على أثر كل حصاة، ثم يتقدم، فيستهل، فيقوم مستقبل القبلة قياماً طويلاً، ويدعو، ويرفع يديه، ثم يرمي الجمرة الوسطى كذلك، فيأخذ ذات الشمال، فيستهل، ويقوم مستقبل القبلة قياماً طويلاً، يدعو، ويرفع يديه، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ويقول: "هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل" أخرجه البخاري. والمعنى فى كونه لا يقف عند جمرة العقبة، ويقف عند غيرها: أنَّ ما يليها ضيق، فإذا وقف فيه تأذى الناس بوقوفه، وما يلي غيرها واسع. وقد رأيت في "تعليق القاضي أبي الطيب والحسين": أنه يجعل جمرة العقبة - أيضاً- على يمينه، ويستقبل القبلة. تنبيه: مسجد الخيف: بفتح الخاء المعجمة، وهو مسجد عظيم بمنى، واسع جداً، فيه عشرون باباً، قد أوضحه الأزرقى، وبسط القول فى فضله، وبيان مساحته، وما يتعلق به، ودرك مقاصده.

قال أهل اللغة: الخيف: ما انحدر عن غلظ الجبل، وارتفع عن مسيل الماء، وبه سمي مسجد الخيف. قال: ومن عجز عن الرمي، استناب من يرمي عنه؛ خشية من فواته؛ لضيق وقته. وقد روي [عن] جابر أنه قال: "كُنَّا إذا حججنا من النبي صلى الله علي هوسلم، نلبي عن النساء، ونرمي عن الصبيان"، وهذا يدل على دخول النيابة فيه، والعجز تارة يكون بالحبس ظلماً؛ كما نقله البندنيجي عن نصه في "الإملاء"، وتارة بالمرض، ولا فرق [فيه] بين أن يكون مرجو الزوال أو لا؛ لما ذكرناه من العلة، وبها خالفت الاستنابة في الحج، حيث لا تجوز إلا في مرض [لا] يرجى برؤه، كذا قاله القاضي أبو الطيب، والحسين، وابن الصباغ، وغيرهم. نعم: يشترط ألا يرجى زواله، ووقت الرمي باق؛ كما صرح به الإمام والغزالي. قال: ويكبر هو؛ لقدرته على ذلك. قال الشافعي: "واستحب أن يأخذ الحصى بيده، ثم يجعله في كف المستناب؛ ليكون له في الرمي صنع". قال القاضي أبو الطيب وغيره: وهذا في حق من قدر على الحضور معه، فأما من لا يقدر على الحضور، فالذي يُكّبر الرامي. ولو زال عجز المستنيب ووقت الرمي باق فهل يحتسب له بما رماه النائب؟

فيه قولان حكاهما في "النهاية"، و"التهذيب"؛ كما لو استناب من حج عنه لمرض ظن أنه ميئوس منه، ثم برئ. واختار في "المرشد" الاحتساب، وهو الذي ذكره البندنيجي، والماوردي، وابن الصباغ والقاضي الحسين. وعلى هذا يستحب له الإعادة؛ للخروج من الخلاف. ولا فرق فى إجزاء رمى النائب عن المستنيب العاجز بين أن يكون النائب قد رمى عن نفسه أو لا؛ كما قاله ابن يونس. لكن الذي حكاه البندنيجي عن نصه في "الإملاء": أنه يشترط أن يكون النائب قد رمى عن نفسه، [فإن لم يكن قد رمى عن نفسه،] ورمى عن غيره، وقع عن نفسه؛ كما في أصل الحج، وهو ما أورده الرافعي. وفي "الحاوي" حكاية وجهين، وعلل الأول بأن حكم الرمي أخف من سائر أركان الحج؛ فجاز أن يفعله عن الغير قبل فعله عن نفسه. وكذا لا فرق بين أن يكون المستنيب مفيقاً عند الرمي، أو مغمى عليه؛ لأن استنابته لا تبطل به؛ كما لا تبطل بموته، ولا يبطل بموت المعضوب إذنه لمن يحج عنه؛ وهذا بخلاف الإذن فى سائر العقود؛ لأنه واجب عليه. وقال الإمام بعد حكاية ذلك عن العراقيين: إنه محتمل جدًّا، ولا يمتنع خلافه؛ ولأجل ذلك قال الرافعي: إن أصح الوجهين: أنه لا يبطل إذنه في الرمي عنه بالإغماء. ولا يجوز الرمي عن العاجز عن الرمي بغير إذنه - وإن كان مغمى عليه - إلا إذا كان صبيًّا؛ فإن وليه يفعل في أمره ما تقدم. قال: ولا يجوز الرمي إلا بالحجر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم حين وضع الجمار في يده: "بأمثال هؤلاء فارموا"؛ فعلم أن ما لم يكن مثلاً لتلك لا يجزئ؛ لأن المتبع فيما لا يعقل معناه ما

ورد، ومثل الحجر حجر، وليس غير الحجر مثلاً له. ولا فرق في الحجر بين أن يكون رخواً، أو صلباً: كالكَذَّان، والبرام، والصوان، وكذا الرمر - كما قال الرافعي -: وحجر النورة قبل أن يطبخ، ويصير نورة. وهل يجوز بالحجر الذي يُتخذ فصوصاً: كالفيروزج، والياقوت، والعقيق، والزمرد؟ فيه وجهان: أصحهما في الرافعي، وهو المذكور في "تعليق القاضي الحسين، والبندنيجي" منهما: الجواز. وقال الإمام: الظاهر أنه لا يجزئ الرمي بها. وللشيخ أبي محمد تردد في حجر الحديد. قال الرافعي: والظاهر إجزاؤه؛ لأنه حجرٌ في الحال إلا أن فيه حديداً كامناً يستخرج بالعلاج. وقد صلح [الشيخ] بعدم إجزاء الرمي بغير الحجر، ويندرج فيه الذهب، والفضة، والنحاس، والرصاص، [والحديد، والقزدير،] وكذا الآجر، والمدر، والنورة، والكحل، والزرنيخ، والملح، وهو الذي [ذكره] غيره. قال: والأولى أن يكون بحصى الخذف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا رميتم الجمرة، فارموا بمثل حصى الخذف"، أخرجه أبو داود. [و] لأنه الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما رواه مسلم عن جابر. فلو رمى بأكبر منه، أو أصغر، كره، وأجزأه؛ لأنه – عليه السلام – قال: "بمثل هؤلاء [فارموا]، وإياكم والغلو؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في

الدين". تنبيه: الخذف – بفتح الخاء وإسكان الذال المعجمتين -: معروف. والحصى المشار إليه قيل: إنه يكون دون الأنملة طولاً وعرضاً بقدر الباقلاء؛ قاله الماوردي والقاضي الحسين، وحكاه ابن الصباغ عن الشافعي، رضي الله عنه. ومنهم من قال: كقدر النواة ويقال: حذف الحصى؛ إذا تركها على رأس [أنملة] سبابته، ووضع إبهامه عليها، وخذف بالعصا إذا رمى بها. قال الرافعي: ويرمي الحصاة على هيئة الخذف؛ فيضعها على بطن [الإبهام]. وقال في "الروضة": وهذا وجه ضعيف والصحيح أنه يرميه على غير هيئة الخذف. قال: ولا يجوز رمي الجمار إلا مرتباً، أي: يبدا بالأولى، ثم بالوسطى، ثم بجمرة العقبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم". ولأن ما لا يعقل معناه المعتمد فيه على ما ورد، ولم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده الرمي إلا هكذا وهو إلى هلم جرّا. ولأنه نسك يتكرر، فوجب أن يكون الترتيب شرطاً فيه؛ كالسعي. فعلى هذا لو ابتدأ بجمرة العقبة، ثم بالوسطى، ثم بالأولى؛ أو بالوسطى، ثم بالأولى، ثم بجمرة العقبة أعاد الثانية والثالثة. [ولو نسي حصاة من جمرة لا يعرف عينها، جعلها من الأولى، وأتى بالثانية والثالثة] ليخرج عن الواجب بيقين؛ نص عليه؛ كما قاله القاضي الحسين. وغيره ذكر الحكم، ولم ينسبه للنص ولا فرق في ذلك بين أن يوقع الرمي أداء أو قضاء في بقية الأيام، كما قال الإمام؛ وهذا مما لا خلاف فيه. قال: ولا يجوز إلا بعد الزوال، أي: لا يجوز الرمي في كل يوم من أيام

التشريق إلا بعد الزوال، لما روي عن جابر بن عبد الله قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك، فبعد زوال الشمس" أخرجه مسلم. وعن وبرة وهو ابن خزيمة بن عبد الرحمن – قال: سألت ابن عمر متى أرمي الجمار؟ قال: "إذا رمى إمامك فارمِ، فأعدت عليه المسألة، قال: "كنا نتحين زوال الشمس، فإذا زالت رمينا"، أخرجه البخاري. فلو رمى قبل الزوال، كان كما لو لم يرم. وقد استحب الشافعي – رضي الله عنه – في "الأم": أن يكون رميه عقيب الزوال قبل الصلاة؛ لأن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "رمى رسول الله صلى الله عيه وسلم حين زالت الشمس". لكن الخبر – أيضاً –يدل على أنه لا يغتسل للرمي بعد الزوال، وقد قال الأصحاب: إنه يستحب له الاغتسال بعد الزوال، كما تقدم في باب الغسل المسنون. أما رمي جمرة العقبة، فقد تقدم: أن الأفضل رميها بعد طلوع الشمس إلى الزوال. قال: وإن ترك الرمي، أي: المختص بأيام التشريق – عامداً أو ساهياً حتى مضت أيام التشريق، لزمه دم؛ لأنه ترك نسكاً؛ قال- عليه السلام –" من ترك سكاً فعليه دم". وقيل يلزمه ثلاث دماء؛ لما ستعرفه. ولو ترك الرمي ناسياً حتى نفر في اليوم الثاني من أيام التشريق قبل الغروب، قال القاضي أبو الطيب: فإذا تذكر، استحب له أن يرجع، فيرمي؛ لأن وقت الرمي باقٍ، ولا

يجب عليه ذلك سواء رجع فرمي أو لم يرجع؛ فإن الدم ثابت في ذمته؛ لأن الخروج من الحج بمنزلة خروج [الوقت]، وقد ثبت أنه يجب عليه الدم إذا أخلَّ بالرمي حتى خرج الوقت؛ فكذلك إذا خرج من الحج. [و] الدليل على أنهما بمثابة واحدة: [أن الحاج] لا يجوز له أن يعتمر في أيام منى؛ لبقاء وقت الرمي، فلو تعجل في اليوم الثاني، فنفر، جاز له أن يعتمر وإن كان وقت الرمي باقياً؛ لأنه بالنفر خرج من الحج، وصار ذلك بمثابة تقضي وقت الرمي. وقال القاضي الحسين: إن عاد بعدما نفر [قبل الغروب]، بعد الغروب – فالحكم كذلك. وإن عاد قبل الغروب، فوجهان: أحدهما: لا يرمي لما ذكرناه؛ وعلى هذا لا يلزمه المبيت بمنى إذا غربت الشمس، وه وبمنى. والثاني: [يرمي] ويجزئه؛ لأن الرمي يحصل في وقته؛ فأشبه ما لو نفر يوم الأضحى، أو يوم القَرّ، ثم عاد، ورمى قبل غروب الشمس؛ وهذا ما صححه الرافعي. وعلى هذا هل يجب عليه العود والرمي قبل الغروب، أو الجبر؟ فيه وجهان: ويرجع حاصل ذلك عند الاختصار إلى ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا ينفعه العود. والثاني: يجب عليه أن يعود ويرمي ما لم تغرب الشمس، فإذا غربت تعين الدم. والثالث: أنه بالخيار إن أراد الرجوع والرمي وفعل أجزأه، وألا فلا يجب عليه الرجوع، ويجب الدم. وقد حكاها الإمام عن رواية صاحب "التقريب" أقوالاً، وأنها تجري فيما إذا نفر في اليوم الثالث قبل الغروب، ثم عاد، ورمي قبل الغروب فيه، وأنه ذكر قولاً رابعاً عن ابن سريج: أن ذلك لا ينفعه بعد نفره في اليوم الثاني، وينفعه بعد نفره في اليوم الثالث.

والفرق: أن الخروج في النفر الثاني لا حكم له؛ فإنه منتهى الوقت نفر أو لم ينفر؛ فكان خروجه وعدم خروجه بمثابة [واحدة] [بخلاف] الخروج في النفر الأول؛ [فإن له] حكماً؛ فإنه لو لم يخرج منه، بقي إلى اليوم الثالث؛ فأثر خروجه في قطع علائق منى وإذا انقطعت العلائق، لم يعد. ولا خلاف في أنه إذا أخَّر الرمي حتى مضت أيام منى: أنه لا يقضي الرمي بعدها؛ كما قال الماوردي، والقاضي الحسين وغيرهما. قال القاضي الحسين: لأن الرمي تابع للوقوف؛ بدليل أن العمرة لما لم يكن لها وقوف، لم يكن لها رمي، ومن فاته الوقوف بعرفة، سقط عنه الرمي، ثم للوقوف وقت يفوت فيه، كذلك ما كان تابعاً له. وقال الإمام: لأن الغالب في الرمي التعبد، فكما لا يعدل عن الجنس المرمي به إلى غيره؛ فكذلك يجب ألا يعدل عن الوقت. نعم: لو ترك رمي اليوم الأول، فهل يأتي به في اليوم الثاني؟ أو [ترك] رمي اليوم الأول والثاني، فهل يأتي به في اليوم الثالث أداء؟ فيه قولان مأخذهما: أن أيام منى هل تجعل كاليوم الواحد بالنسبة إلى الرمي؛ كما جعلت في جواز الأضحية كاليوم الواحد أم لا؟ لأن الرمي فيها مؤقت، ولوجعلت كاليوم الواحد، لجاز رمي جميعها في اليوم الأول، وهو لا يجوز إجماعا، كما قال الماوردي؟ فالقديم، والجديد، وأحد قوليه في "الإملاء": الأول، وهو الصحيح، واختيار الشافعي – رضي الله عنه- كما قال البندنيجي؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخَّصَ لرعاة الإبل وأهل سقاية العباس: أن يدَعوا رمي اليوم الأول، ويقضوه في اليوم الثاني؛

فعلم أن حكم جميعها واحد، وأنها زمان الرمي؛ فعلى هذا يأتي بما فاته في اليوم الأول في الثاني، [وبما فاته في اليوم الأول والثاني في الثالث، ويبدأ برمي اليوم الأول قبل الثاني،] وكذا بالثاني قبل الثالثن فلو عكس ورمى عن اليوم الثاني قبل الأول، فوجهان: أحدهما: لا يجزئه عن واحد منهما: أما عن الأول؛ فلأنه لم ينُوه، وأما عن الثاني، فلترك الترتيب؛ كما لو [بدأ بجمرة] العقبة، أو الوسطى قبل الأولى؛ فإنه لا يجزئه قولاً واحداً كما تقدم. قال البندنيجي: وليس بشيء، والمذهب الثاني، وكذا قال القاضي الحسين أيضاً. وقال غيرهما: إنه الأصح، وهو أنه يقع عن الأول؛ لأنه فرض يجب تقديمه، فإن نوى غيره، وقع عن الأول؛ كما لو نوى بالطواف الوداع وعليه طواف الزيارة. قال ابن الصباغ: ويجوز له أن يرمي جمرات اليوم الأول بعد غروب الشمس منه إلى [أن] تزول الشمس في اليوم الثاني. وقال ابن الصلاح: إن ذلك هو الأصح. والقول الثاني – وهو أحد قوليه في "الإملاء": أنه [لا يأتي به] أداء، بل يكون لكل يوم حكم نفسه، يفوت الرمي فيه بغروب الشمس منه؛ قاله الماوردي، والبندنيجي، وابن الصباغ، وادعى الرافعي، [وإمام الحرمين]: أنه الأصح.

وقيل: إنه لا يفوت إلا بطلوع فجر [اليوم] بعده إلا في اليوم الثالث من أيام التشريق؛ فإنه يفوت بغروب شمسه بلا خلاف، وهذا مذكور في "تعليق القاضي الحسين" احتمالاً، وقال العجلي: إنه الأصح. وعلى هذا القول هل يأتي بما فاته في اليوم الأول في الثاني؟ أو بما فاته [في اليوم الأول] والثاني في الثالث قضاء أو لا؟ فيه قولان" فإن قلنا: لا، لزمه لترك الرمي في اليوم الأول أو الثاني دمٌ [كامل، ولترك الرمي فيهما دمان،]، ولترك الرمي في الأيام الثلاثة ثلاثة دماء؛ وهذا ما أشرت إليه من قبل. قال القاضي الحسين: وليس له أن يقول: كان لي ترك الرمي يوم النفر الثاني؛ فلا يلزمني إلا دمان؛ لأن هذا إنما كان له إذا أتى برمي يومين؛ كما لو ترك الصلاة في السفر، ثم قال: أنا أقضيها قصراً، ليس له ذلك. وكلام الإمام مشير إلى أن محل التزامه ثلاثة دماء إذا لم ينفر في اليوم الثاني قبل الغروب منه، والله أعلم. وقد اختصر في "المهذب"، و"البندنيجي"، و"القاضي أبو الطيب"، و"الحسين" – ما ذكرناه، وقالوا: إذا قلنا: إن رمي كل يوم مؤقت بوقته، وفات ولم يرم – ففيه ثلاثة أقوال مذكورة في الإملاء. وقال ابن الصباغ: إنها احتمالات [ثلاثة مذكورة] فيه، وذلك متقارب: أحدها: أن الرمي يسقط، وينتقل إلى الدم، وهو الذي صححه القاضي الحسين. والثاني: أنه يرمي [ويريق] دماً؛ للتأخير؛ كما لو أخَّر رمضان حتى أدركه رمضان آخر.

وقال الرافعي: إن هذا ينسب إلى تخريج ابن سريج. والثالث: يرمي، ولا شيء عليه؛ كما لو ترك الوقوف بالنهار؛ فإنه يقف بالليل، ولا دم عليه. وسلك بعض المراوزة طريقاً آخر، فقالوا: إذا فاته رمي اليوم [الأول] سهواً أو عمداً، فهل يتداركه، ويأتي به في اليومين بعده؟ أو إذا فاته رمي اليوم الثاني، فهل يأتي به في اليوم الثالث؟ فيه قولان: قال الرافعي: فإن قلنا: لا، فهل يأتي برمي اليوم الأول في ليلة اليوم الثاني، وكذا يرمي اليوم الثاني في ليلة الثالث؟ فيه وجهان، وهما مفرعان على الصحيح في أن وقت الرمي في كل يوم لا يمتد إلى طلوع فجر من اليوم الذي يليه ولم أرهما في "النهاية" كذلك في هذا الموضع، بل هما محكيان في غير هذا المحل؛ كما سنذكره. فإن قلنا: [لا تَدَارُك، تعيّن الدم، وما هو الدم؟ فيه ما سبق. وإن قلنا: بالتدارك، وجب حتماً ولا يجوز الانتقال إلى الدم مع إمكانه. ولكن المأتي به تداركاً يكون قضاء أو أداء تأخر عن وقت الاختيار؟ فيه قولان، ويقال: وجهان: فإن قلنا: قضاء، [جاز] فعل ما فات [في] اليوم الأول في اليوم الثاني، وما فاته في اليوم الثاني في اليوم الثالث قبل الزوال؛ لأن القضاء لا يتأقت. وقيل: إنه لا يجوز. قال الإمام: فإن القضاء قد يتأقَّت بعض التأقيت، وما قبل الزوال لم يشرع فيه رمي: لا قضاءً، ولا أداءً؛ فكانت تلك الساعات بمثابة ساعات الليل في تصوير الصوم. قال: والوجهان يجريان في تدارك الدم ليلاً إذا جرينا على الأصح في أن الوقت

لا ينبسط على الليلة؛ وهذا [هو] المحل الذي أشرتُ إليه من قبل. وهل يجب تقديم القضاء على الأداء بالزمان؟ فيه قولان: أحدهما: يجب؛ كما في الأداء. والثاني: لا؛ كما في قضاء الصلاة؛ كذا قاله في "الوسيط"، وهو صريح في أن الوجهين مفرعان على القول بأن ما يأتي به تداركاً، يكون قضاءً. وكذا حكاهما الإمام، وقال: "إن الأظهر الثاني". وفي الرافعي: أنهما عند الأئمة مبنيّان على أن ما يفعل تداركاً قضاءً أو أداءً. إن قلنا: أداء اعتبرنا الترتيب. وإن قلنا: قضاء، فلا ترتيب؛ كترتيب قضاء الصلوات الفائتة. وكأنه – والله أعلم – أخذ ذلك من قول الإمام وقد ذكر صاحب "التقريب" وغيره: أن القول باستحقاق الترتيب يدنو من قولنا: إن المتدارك قضاء أو أداء؟ فإن قلنا: قضاء، بَعُدَ استحقاق الترتيب؛ كما ذكرنا في الصلاة [المقضية] والمؤداة. ثم إن اعتبرنا الترتيب، فرمى [إلى] الجمرة الأولى أربع عشرة حصاة: ثم كذلك إلى الثانية، ثم كذلك إلى الثالثة لم يحتسب من رمي اليوم حصاة ما بقي عليه من رمي أمس حصاة. ولو رمى إلى الجمرات كلها عن يومه قبل أن يرمي عن أمسه، فهل يصح أم لا؟ فيه وجهان: أصحهما: الصحة، ويقع عن القضاء، وهما كالوجهين فيما إذا فاته رمي اليوم الأول والثاني، وقلنا: إن أيام التشريق كلها محل للرمي، فرمي في اليوم الثالث [عن اليوم الثاني] قبل أن يرمي عن اليوم الأول.

قال الرافعي: وقد زاد الإمام هنا، فقال: لو صرف الرمي عن قصده إلى غير النسك – كما لو رمى إلى شخص أو دابة في الجمرة – ففي انصرافه عن النسك الخلاف المذكور في الطواف. قلت: وهذا بناء على اعتقاده: أن الرمي لا يفتقر إلى النية؛ اكتفاء بالنية الشاملة. أما إذا قلنا باشتراطها – كما سبق- فلا يتأتى الخلاف، بل الجزم بعدم الإجزاء. وهذا كله تفريع على أن المأتيَّ به تداركاً يكون قضاء، فإن قلنا: يكون أداءً فجملة أيام منى في حكم الوقت الواحد، وكل يوم للقدر المأمور به فيه وقت اختيار، كأوقات الاختيار للصلوات؛ كذا قاله الرافعي، وإليه وقت الإشارة من قبل. وقال الإمام عن الأئمة: إنهم قالوا: لا يمتنع على هذا تقديم رمي يوم [إلى يوم]. وقال الرافعي: إنه يجوز أن يقال: إن وقته يتسع من جهة الآخر، دون الأول؛ فلا يجوز التقديم. قال في "الروضة": وهو الصواب، وبه قطع الجمهور تصريحاً ومفهوماً. قلت: ويؤيده دعوى الماوردي الإجماع على أنه لا يجوز رمي جميعها في اليوم الأول؛ فلأنه لو جاز تقديم رمي اليوم الثاني في اليوم الأول، لجاز الثالث [أيضاً، بل أولى؛ لأنه يسقط بالنفر [قبل] الغروب في اليوم الثاني. وقد قال الإمام] بعد ذلك تفريعاً على جواز التقديم: إن مما أجراه صاحب التقريب رمزاً في أثناء كلامه أن قال: إذا جعلنا المستدرك من الرمي مقاماً في وقته أداءً، وقلنا بحسب ذلك، يجوز التقديم ويجزئ [فيلزم من] ذلك جواز التأخير – أيضاً – حتى لا ينسب المؤخر من غير علة إلى مأثم. وهذا بعيد؛ فإن جواز ذلك مما خص به أهل السقاية، ورعاة الإبل، فإن كان يلزم ما قاله قياساً، فالوجه أن يستدل بهذا على فساد المصير إلى أن الرمي المقام بعد انقضاء وقته مؤدى.

قال الرافعي: وعلى قولنا: إن ما [يحصل به الاستدراك] أداء – كما عليه نفرع – يجوز تقديم رمي يوم التدارك على الزوال. وقال الإمام في جوازه قبل الزوال والليل من التفصيل ما ذكرناه فيما إذا قلنا: إن التدارك يكون قضاء؛ فيجري الخلاف على بعد. والوجه، القطع بالمنع؛ فإن تعيين الأوقات بحكم الأداء أليق. أما لو ترك رمي يوم النحر حتى دخلت أيام التشريق، فهل يأتي به في أيام التشريق، [ويكون حكهم حكم رمي اليوم الأول من أيام التشريق] إذا فاته فيما ذكرناه؟ فيه طريقان: منهم من قال: نعم، وهي الطريقة الصحيحة في "الشامل"، وجعلها البندنيجي المذهب، واختارها في "المرشد". وقيل: إن الشافعي – رضي الله عنه – نص على أنه إذا أخر رمي جمرة العقبة حتى غربت الشمس: أنه يرميها في أيام التشريق. فعلى هذا إذا ترك الرمي في الأيام الأربعة حتى مضت أيام التشريق، لزمه دم واحد على الصحيح. وعلى مقابله أربعة دماء إذا لم يكن قد نفر قبل الغروب في اليوم الثاني؛ كما قال الإمام. ومنهم من قال: يسقط رمي يوم النحر بفوات يوم النحر، وطلوع الفجر من اليوم

الأول من أيام التشريق. وهل يسقط بفواته فقط؟ فيه الوجهان السابقان: ووجه هذه الطريقة: أنه لما خالف رمي أيام التشريق في المقدار والمحل والحكم، خالفه في الوقت. قال البندنيجي: وليس بشيء. وعلى هذه الطريقة لو ترك رمي الأيام الأربعة، وجب عليه لفوات رمي يوم النحر [دم] لفوات رمي جمرة يوم النحر فقط، وقلنا: إن يوم النحر مخالف للرمي في أيام التشريق، وقد ادعى القاضي الحسين: أنه لا خلاف في ذلك. وحكى ابن الصباغ: أن أبا إسحاق قال: في "الشرح" إن الشافعي – رضي الله عنه – قال في موضع من "الإملاء": إن ترك رمي يوم، وجب مد، [وإن ترك رمي يومين فمدان؛] وإن ترك [رمي] ثلاثة، فدم. [وعلى هذا يتجه أن يجب في اليوم الواحد – على رأي – درهم أو ثلث دم].

فإن قلنا بهذا، لم يخف عليه ما يجب بترك حصاة واحدة مما سنذكره من بعد. وإن قلنا بالمشهور، انبنى أمر تارك الحصاة الواحدة – أيضاً – على أنه هل يكمل الدم بترك جمرة واحدة من وظيفة يوم أو لا؟ وفيه خلاف حكاه الإمام عن الأصحاب: منهم من قال: إن الجمرات الثلاث كالشعرات [الثلاث]؛ فلا يكمل الدم في بعضها فإن ترك بعضها؛ ففيما يلزمه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في حلق شعرة وشعرتين. وعلى هذا إذا ترك حصاة واحدة من الجمرة، فعن صاحب "التقريب": أن على قولنا في الجمرة الواحدة ثلث دم، يجب في حصاة واحدة جزء من أحد وعشرين جزءاً من دم؛ رعاية للتبعيض. وعلى قولنا: إن فيها مُدَّا أو درهماً، يحتمل أن يجب سبع مد أو سبع درهم. ويحتمل ألا نبعضهما. ومنهم من قال: إن الدم يكمل بترك جمرة واحدة؛ وهذا هو المشهور، وبعضهم لم يحك سواه، لكن هؤلاء اختلفوا: فمنهم من قال: إن الدم وإن كمل في وظيفة جمرة واحدة، فلا يزيد بترك جمرة أخرى إلى تمام وظيفة اليوم، وإن نقص عنها فلا يكمل الدم. وعلى هذا إذا ترك حصاة واحدة، ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: سبع دم. والثاني: مد. والثالث: درهم. ومنهم من قال- وهو المشهور، والصحيح-: إنه كما يكمل بترك جميع حصى الجمرة، يكمل بترك [ثلاث] حصيات منها؛ لأنه يقع عليها اسم الجمع المطلق؛ فصار كما لو ترك الجميع. وعلى هذا يكون في ترك الحصاة الواحدة الأقوال الثلاثة التي ذكرها الشيخ. والله أعلم.

قال: أحدها: يلزمه ثلث دم، وهو الذي حكاه الحميدي. والثاني: مد، وهو الذي نص عليه هنا، والأصح عند النواوي وغيره. والثالث: درهم. وهذه الأقوال الثلاثة كالأقوال فيما إذا قلم ظفراً، أو حلق شعرة، وقد تقدم توجيهها. ولا يخفى عليك بعد ذلك ما الواجب عليه فيما إذا ترك حصاتين؟ وقد حكى الإمام وجهاً غريباً أن الدم يكمل في حصاة واحدة، وهو نظير ما حكيناه من أنه يكمل في شعرة واحدة. ثم اعلم أن ترك الجمرة الواحدة والحصاة الواحدة إنما يتصور ذلك – بلا خلاف – من الجمرة الأخيرة من رمي اليوم الأخير: إما الثالث من أيام التشريق، أو الثاني منها إذا نفر فيه قبل غروب شمسه؛ كما قال الماوردي، وابن الصباغ، والقاضي الحسين، وغيرهم. أما لو كانت من رمي يوم النحر، فالقياس أن نقول: إن قلنا: إنه مستقل بنفسه، فالحكم كذلك، وهو المذكور في "التهذيب". وإن قلنا: إنه كيوم من أيام التشريق، أو كان ذلك من رمي يوم –ولو اليوم الثاني من أيام التشريق؛ إذا لم ينفر قبل غروب شمسه – فينبني على أن الترتيب في التدارك واجب أولاً. فإن لم نوجبه، تصور ذلك أيضاً، ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف، وإن كان ما سنذكره من بعد ينفي ذلك. وإن أوجبنا الترتيب، فلا يتصور؛ لأنها إن كانت من رمي يوم النحر، فرميه في اليوم الأول من أيام التشريق، وما بعده في الجمرة الثالثة على أنه كذلك اليوم قلنا: فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يصح أصلاً، وحينئذ فيكون عليه حصاة من رمي يوم النحر، ووظيفة أيام التشريق كلها، وما يجب عليه من الدم يؤخذ مما قدمته من الأصول. وقد قال في "التتمة" فيما إذا ترك حصاة من يوم النحر: إنه يلزمه دم لأجلها؛ لأنها من أسباب التحلل، فإذا ترك شيئاً منها، لم يتحلل إلا ببدل كامل. والثاني: أنه يصح، ويقع عما عليه، وهوا لصحيح وحينئذ يكون قد تم له بما رماه

من الجمرة الأخيرة [في يوم النفر] ما عليه من رمي يوم النحر، وفاته رمي يوم القر [بجملته؛ رعاية للترتيب في الرمي، والجمرات. ثم] ما رماه في يوم النفر الأول [يقع عما عليه من الرمي في يوم القر وما رماه في يوم النفر الآخر يقع عما عليه من الرمي في يوم النفر الأول]؛ فيبقى عليه وظيفة يوم كامل؛ فيجب عليه دم كامل على المشهور. ولو كانت الحصاة من الجمرة الأخيرة من يوم القر، ولم ينفر النفر الأول، وقد أوجبنا الترتيب فإن لم نصحح ما أتى به بعد المتروك على أنه كغيره، كان عليه حصاة واحدة، ووظيفة يوم النفر الأول، ويوم النفر الثاني. وإن كان قد نفر النفر الأول، أو كانت من يوم النفر الأول، ولم ينفره، قال الرافعي: فإن قلنا إن ما أتى به بعده بنية إيقاعه عن غيره لا يصح – كان عليه حصاة، ووظيفة يوم كامل، وإلا كان عليه وظيفة [يوم] كامل. ولو كانت الحصاة من الجمرة الوسطى والأولى من اليوم الأخير من أيام الرمي، فمعلوم أن مارماه بعدها في غيرها غير معتد به؛ لما تقدم من أن وجوب الترتيب في المكان متفق عليه عندنا؛ فيكون عليه أكثر من حصاة وما يجب عليه لا يخفي مما تقدم. والله أعلم. فرع: لو ترك ثلاث حصيات من جملة الأيام، ولم يدر موضعها، أخذ بالأسوأ وهو أنه ترك واحدة من يوم النحر، وأخرى من الجمرة الأولى من بعده يوم القر، وأخرى من الجمرة الثانية يوم النفر الأول، وحينئذ قال الرافعي – مختصراً في ذلك الكلام المتولي؛ إنَّا إن لم نصحح ما أتى به بعد المتروك بنيّة إيقاعه عن غيرهن فالحاصل له ست حصيات من يوم النحر لا غير، سواء شرطنا الترتيب بين التدارك ورمي الوقت أو لا. قلت: وقياس ما تقدم إذا جعلنا المتروك ما ذكر من الأيام: أن نقول: إذا قلنا إن

رمى يوم النحر كرمي يوم من أيام التشريق، وأن الترتيب غير واجب في التدارك؛ بناء على أن ما يفعل في اليوم عما قبله يكون قضاء، ولا يشترط الترتيب في القضاء ووظيفة الوقت أن يصح له رمي الجمرة الأولى من يوم النفر الأول وست حصيات من الثانية منه؛ لأنه يجوز له حينئذ إذا ترك رمي [اليوم الأول] والثاني من أيام التشريق – أن يرمي في اليوم الثالث جمرات [اليوم الثاني قبل جمرات] اليوم الأول؛ كما تقدم، وهذا مثله، وإذا صح هذا، فقد حصل له ست حصيات من يوم النحر، والجمرة الأولى من [يوم] النفر الأول، وست حصيات من الجمرة الوسطى منه. قال الرافعي: فغن حسبنا ما أتى به بعد المتروك عن المتروك، فالحاصل له [رمي] يوم النحر، وأحد أيَّام التشريق لا غير، سواء شرطنا الترتيب أو لا، قال: وسببه لا يخفى على من أمعن النظر في الأصول السابقة. قلت: قياس ما تقدم من الأصول، أنَّا إن جعلنا يوم النحر [منفصلاً] عن أيَّام التشريق – أن يكون قد حصل له من رميه ست حصيات، وفاته حصاة؛ فيلزمه – على رأي المتولي- دم كامل، ويكون قد فاته رمي يوم القَر بجملته، وحصل له من يوم النفر الأول بالجمرة الأولى؛ إن لم توجب الترتيب في الاستدراك، وست حصيات من الثانية، وبطلت الجمرة الثالثة، وحصل له رمي يوم النفر الثاني بجملته؛ إذا قلنا: إن الترتيب في المستدرك لا يجب أيضاً، وحينئذ فيكون قد حصل له ست حصيات من يوم [النحر والجمرة الأولى من يوم النفر الأول، وست حصيات من الجمرة الوسطى منه، ورمي يوم] النفر الثاني بجملته. وإن قلنا: إن الترتيب في المستدرك واجب، فيوم النحر لا يجبر بما بعده؛ إذ التفريع على استقلاله، وأما الحصاة التي جعلت متروكة من الجمرة الأولى، فتجبر بحصاة من الجمرة الأولى من يوم النفر الأول، وما رماه من الجمرة الوسطى،

وهو ست حصيات يجعل من الوسطى من يوم القر، ويبطل باقي ما رماه في يوم النفر الأول، وما رماه في اليوم الثاني لا يعتد له بالجمرة الأولى منه، ويجعل حصاة من الوسطى عما يليه من الوسطى من يوم القر، وفسد باقيها، والجمرة الأخيرة التي رماها منه تحسب عن الجمرة الأخيرة من يوم القر أيضاً، وحينئذ فيكون قد حصل له ست حصيات من يوم النحر، ويوم القر بجملته. وإن قلنا: إن يوم النحر كيوم من أيام التشريق، وقلنا بالترتيب في التدارك، لم يتجه إلا ما ذكره الرافعي؛ لأنا نجبره بحصاة من الجمرة الأخيرة من يوم القر، نجبر يوم النفر الأول بالثاني. والله أعلم. قال: ويبيت بها في أيام الرمي أي: في ليالي أيام الرمي – تأسياً به صلى الله عليه وسلم؛ فإنه بات بها. قال: فإن ترك المبيت في الليالي الثلاث- أي: ليالي أيام منى الثلاث – لزمه دم في أحد القولين. الخلاف في لزوم الدم في هذه الحالة ينبني على أن المبيت بها في الليالي الثلاث لمن لم ينفر قبل الغروب في اليوم الثاني من أيام التشريق، واجب أم لا؟ وسيأتي الكلام فيه: فإن قلنا: إنه مستحب، وليس بواجب، لم يجب الدم، وهو قوله في "الإملاء"؛ كما قاله أبو الطيب، والبندنيجي. وألا وجب، وهو نصه في "الأم"، والقديم، كما قالاه. [وعلى هذا] قال الشيخ: وفي ليلةٍ الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في الحصاة، وتوجيهها ما تقدم، ومذهب الشافعي منها ومنصوصه – كما قال الماوردي -: وجوب المد، وفي ليلتين – والصورة كما ذكرنا -: مدَّان، أو درهمان، أو ثلثا دم. أما إذا نفر في اليوم الثاني من أيام التشريق قبل الغروب، فالواجب في حقه على قول من أوجب المبيت مبيت ليلتين لا غير فإذا تركهما، فهل يكمل الدم عليه؟ بنى الإمام ذلك على أصل آخر، وهو أنه لو ترك المبيت في ليلة مزدلفة، والليالي

الثلاث إذا وجبت، فهل يجب عليه دم واحد أو دمان: دم لليلة مزدلفة، ودم لليالي منى؟ وفيه قولان في ظاهر المذهب. ووجه الثاني: أن ليلة مزدلفة مباينة لغيرها من ليالي المبيت؛ كما نبهنا عليه؛ فلتفرد بحكمها. قال: فإن قلنا بهذا، ففي ليلتي من وجهان: أحدهما: أنه يكمل فيهما الدم؛ فإن المبيت بمنى جنس كالمبيت بمزدلفة وقد ترك أصل المبيت بمنى؛ فلا يقصر جنس المبيت بمنى عن جنس المبيت بمزدلفة ليلة واحدة، وهذا ظاهر منقاس، وهو الفقه. والثاني: أنه يجب عليه مدان، [أو درهمان]، أو ثلثا دم، كما تقدم؛ نظراً لتقسيط دم المبيت في الليالي الثلاث. قلت: وقياس هذا الوجه: أن نقول: إذا قلنا: إنه يجب في ترك ليلة مزدلفة وليالي منى الثلاث دم واحد؛ بجعل المبيت جنساً واحداً - أن يجب في ترك ليلتين من ليالي منى نصف دم، أو مد ونصف، [أو درهم ونصف]؛ لأنهما نصف الأربعة. وقد حكى الإمام في أصل المسألة قولاً عن رواية صاحب "التقريب" يضاهي قولاً غريباً فيما تقدم، ولكنه ارتضاه هاهنا وإن زيَّفه فيما سبق، وذلك أنه قال: للشافعي - رضي الله عنه - قولٌ: أنه يجب في كل ليلة دم؛ لأن كل ليلة تنسب إلى يومها، وإذا كان الدم يكمل في وظيفة كل يوم، فليكمل في مبيت كل ليلة. قال الإمام: وهذا يتجه هاهنا اتجاهاً بيناً. والله أعلم. وقد تقدم الكلام في أن المعتبر في هذا المبيت على قول الوجوب وغيره، هل هو الكون بها معظم الليل، سواء فيه آخره وأولوه كما هو الأصح في مناسك ابن الصلاح - أو الكون بها عند طلوع الفجر؛ لأن المقصود من المبيت إقامة شعار اليوم من الرمي؛ ولذلك لم يجب على من تعجل في اليوم الثاني الرمي قبل الغروب المبيت ليلة اليوم الثالث من أيام التشريق؛ لسقوط الرمي فيه. وقد قال الشافعي - كما قال ابن الصلاح -: لو شغله طواف الإفاضة حتى يكون

أكثر ليله بمكة، لم يكن عليه فدية؛ لأنه كان في لازم له من عمل الحج، ولو كان عمله تطوعاً، افتدى. قال: ويجوز لأهل سقاية العباس ورعاة الإبل أن يدعوا المبيت ليالي منى. أما أهل السقاية؛ فلما روى البخاري ومسلم عن ابن عمر: "أن العباس بن عبد المطلب، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى؛ من أجل سقايته، فأذن لهم". ولأنهم متشاغلون بإصلاح الشراب، واستقاء الماء؛ ليرتوي الناس منه، ويرتفقوا به، فكانت الحاجة داعية لهم إلى ذلك. وأما رعاة الإبل؛ فلما روى أبو داود عن عاصم بن عدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد من بعد الغد بيومين، ويرمون يوم النفر"، وأخرجه النسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: إنه حسن صحيح. قال: فيرموا يوماً ويدعوا يوماً، ثم يرموا ما فاتهم. هذا الكلام يجوز أن يفسر بتفسيرين، وكل منهما يجوز فعله؛ كما صرح به الأصحاب: أحدهما: أنهم يرمون يوم القر، ويدعون يوم النفر الأول، وعليه يدل قوله: "ثم يرمون ما فاتهم"، أي: في اليوم الثالث مع رمي اليوم الثالث؛ لما ذكرنا: أن الصحيح: أن الرمي في أيام التشريق كلها يقع أداء؛ فيجب الترتيب في رمي الأيام؛ كما يجب

في رمي الجمار. والثاني: أنهم يرمون يوم النحر جمرة العقبة ويدعون يوماً [وهو يوم القر، ثم يرمون ما] فاتهم – أي: في اليوم الثاني – وكذا يرمون عن ذلك اليوم، وسكت عنه الشيخ؛ للعلم به، ثم ينفرون مع الناس؛ وهذا ما نص عليه في "المختصر"، وهو أقرب إلى ما ورد في الخبر الذي ذكرناه عن رواية عاصم. وقد روى عنه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص أن يرموا يوماً، ويدعوا يوماً. قال الترمذي: والأول أصح. وفي "الحاوي": أن عاصم بن عدي روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للرعاة أن يتعاقبوا، فيرموا يوم النحر، ثم يدعوا يوماً وليلة، ثم يرموا من الغد، وقوله: "يتعاقبوا" أن يرموا يوماً، ويدعوا يوماً؛ ولأجل ذلك قال ابن الصلاح: إن عليهم أن يأتوا في اليوم الثاني من أيام التشريق، وبالتفسير الأول لا تكون إلا في جواز تأخير الرمي في اليوم الثاني إن لم نجوّز لغيرهم التأخير فيه؛ كما ذكرنا: أنه الصحيح، بل يكون غيرهم أخف حالاً منهم؛ لان لهم أن يقتصروا على رمي يومين، وهؤلاء يأتون برمي الثلاثة الأيام. وقد حكى عن أبي الحسين وجه: أنه ليس لهم فعل ما ذكرناه عن النص في "المختصر"، ونص الخبر يرد عليه. ووجه الدلالة على ما ذكره الشيخ: أما [في حق] الرعاة فالخبر، ولأن عليهم رعي الإبل، وحفظها؛ لتشاغل الناس

بنسكهم عنها، ولا يمكنهم الجمع بين رعيها وبين الرمي والمبيت بمنى فجوّز لهم ذلك؛ للعذر. وأما في حق أهل السقاية؛ فبالقياس عليهم، ولكن لو أرادوا أن يتركوا الرمي في اليومين الأولين، ويأتوا به في اليوم الثالث، ويتركوا المبيت في الليالي الثلاث – فالمذكور في "تعليق القاضي الحسين": أنه لا يجوز؛ لأن الرخصة ما وردت غلا بترك رمي يوم واحد ومبيت ليلتين. نعم: لو تركوا الرمي في اليوم الأول، فعليهم أن يقضوه في الثاني، ثم يرموا عنه – كما تقدم – فإن لم يأتوا مني في اليوم [الثاني]، وجب عيهم الإتيان في الثالث. قال الماوردي: ورموا فيه عن جميع الأيام. قال: فإن أقام الرعاء أي – بمنى – يوم النحر بعد جمرة العقبة حتى غربت الشمس، لم يجز لهم أن يخرجوا حتى يبيتوا أي: ليلة القر، خاصة لأن الحاجة التي جوزت لهم ترك المبيت إنما هي الرعي، وهي بالنهار خاصة. قال: ويجوز لأهل السقاية أن يدعوا المبيت [منى] وإن أقاموا إلى الغروب؛ لأن المعنى الذي لأجله جوز لهم ترك المبيت – وهو تخمير الشراب – موجود في الليل. وقد أغرب الحناطي، فحكى وجهاً: أنهم كالرعاة؛ فلا ينفرون بعد الغروب. وسقاية العباس: موضع بالحرم جوار زمزم، يستقي منه الماء، ويجعل في حياض، ويخمر، ويسيل للشاربين. وقد قدمنا: أن الشرب من نبيذها مستحب، وأهلها هم الذين يُعِدُّون السويق والماء للحاج بمكة؛ قاله الطبري المؤرخ، وعليه يدل قول البندنيجي: وأما أهل سقاية العباس الذين يعدون السويق والنبيذ للحاج ... إلى آخره. لكن المشهور: أنهم الذين يسقون الماء؛ كما ذكرنا، وعليه يدل ما رواه مسلم عن بكر بن عبد الله المزني قال: كنت جالساً مع ابن عباس – رحمه الله – عند الكعبة،

فأتاه أعرابي، فقال: ما لي أرى بني عمكن يسقون العسل واللبن، وأنتم تسقون النبيذ، أمن حاجة بكم، أم من بخل؟! فقال: ابن عباس الحمد لله ما بنا من حاجة، ولا بخل، قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته، وخلفه أسامة، فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ، فشرب، وأسقى فضلته أسامة، وقال: "أحسنتم، وأجملتم، فاصنعوا"؛ فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كانت في يد قصي بن كلاب، ثم ورثها منه ابنه عبد مناف، ثم منه ابنه هاشم، ثم منه ابنه عبد المطلب، ثم منه ابنه العباس، ثم منه ابنه عبد الله، ثم منه ابنه علي، ثم واحد بعد واحد. ولا يختص ما ذكرناه من الحكم ببني العباس، بل هو جارٍ فيهم، وفي غيرهم إذا تولوا السقاية. قال أبو الطيب: لوجود المعنى المجوز لبني العباس فيهم، نعم لو أحدثت سقاية غير سقاية العباس، وتولي السقي فيها بنو العباس أو غيرهم، لا يشرع لهم الترخص كأهل سقاية العباس؛ كما حكاه في "الحاوي" عن نص الشافعي - رضي الله عنه – وهو الذي حكاه ابن كج وغيره أيضاً. وفي "التهذيب": أنه لو استحدث سقايات للحج فللقائم بشأنها ترك المبيت أيضاً، وهو الذي أورده النواوي في "المناسك". وحكى البندنيجي في تعليقه فيما لو عمل في سقاية العباس غير أهل العباس أو عمل أهل العباس في سقاية غيرها وجهين: أحدهما: ليس لهم ذلك. والثاني: لهم ذلك. وقد حكى الرافعي الوجه المنقول في اختصاص بني العباس بما ذكرناه عن بعض الأصحاب، وقال: إن منهم من يجعل الاختصاص ببني هاشم؛ وهذا قد عزاه الإمام إلى رواية بعض العراقيين.

قال: ومن ترك المبيت؛ لعبد أبق، أو أمر يخاف فوته – كان كالرعاة، وأهل السقاية؛ على المنصوص. أي: من كان عذره مثل العذر الذي جوز للرعاة ما ذكرناه، [جاز لهم ما جاز للرعاة. ومن كان عذره مثل العذر الذي جوز لأهل سقاية [العباس] ما ذكرناه،] جوز لهم – أيضاً – قياساً عليهم؛ لتماثلهم في العذر وأردت بما ذكرت من التقرير زوال إشكال قد يَعْرِضُ للمفتي، من جهة أن أهل السقاية يجوز لهم ترك المبيت وإن أقاموا إلى الغروب على المذهب؛ بخلاف الرعاة، فكيف يجوز أن يكون رب الحاجة غيرهم ملحقاً في الحكم بهم مع تغاير أحكامهم؟ وقد أطلق الرافعي القول بأن لهم أن ينفروا بعد الغروب، وهو محمول على من ذكرناهم. ومراد الشيخ بالمنصوص: ما نص عليه في مختصر الحج، وقد اختاره في "المرشد" وصححه النواوي وغيره. ومقابله – قاله بعض الأصحاب – أن الرعاة، وأهل السقاية مخصوصون بما ذكرناه دون غيرهم من أصحاب الأعذار؛ [لأنهم مخصوصون] بالرخصة، لما يعود بتأخرهم من الرفق والمعونة [و] [به] باينوا غيرهم من [ذوي] الأعذار؛ فلذلك منع قياسهم عليهم؛ وهذا ما ادعى الإمام قطع الأئمة به؛ كما [لا] يثبت في حق المتربص رخصة المسافر. وقد أفهم كلام الشيخ اختصاص الخلاف بما ذكره من المثالين، والأصحاب مطبقون على جريانه في المريض مرضاً يمنعه البيتوتة بمنى، وحكاه

الماوردي في الحائض. قال القاضي الحسين: ونظير هذا الخلاف القولان في أن الحصر الخاص، هل يبيح التحلل كالعام أم لا؟ تنبيه: قوله: "أبق" بفتح الهمزة، والباء، والقاف، فعل ماض، ويجوز كسر الباء في لغة، [ويجوز "آبق" بالمد، وكسر الباء، صفة للعبد. قال أهل اللغة:] يقال: أبق العبد بفتح الباء؛ إذا هرب من سيده، يأبق بضم الباء وكسرها، فهو آبق. وحكى ابن فارس: أبق العبد – بكسر الباء – يأبق بفتحها. فرع: يستحب للمقيم بمنى ألا يترك حضور الجماعة في الفرائض مع الإمام في مسجد الخيف؛ فإن فضله كبير. ويستحب له إكثار الصلاة في مسجد الخيف، وأن يصلي أمام المنارة عند الأحجار التي أمامها؛ فقد روي أنه مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وسع فيه، وصارت المنارة الآن في وسط المسجد. [فرع] آخر: حكم من ذكرناهم من المعذورين في ليلة مزدلفة إذا أوجبناها حكمهم في ليالي الرمي. لكن الأصحاب اتفقوا على أن من لم يدرك عرفة إلا ليلاً، واشتغل بالوقوف حتى فاته المبيت بمزدلفة لا دم عليه. وقال صاحب "التقريب" بناء عليه: إن من أدركها نهاراً، وأفاض من عرفة بعد الغروب، واستمر إلى مكة، وطاف في النصف الأخير، ففاته المبيت فلا دم عليه؛ لأن شغل الطواف كشغل الوقوف. وقد حكى أبو محمد ذلك عن القفال.

قال الإمام: وتبعه الغزالي، وهو محتمل عندنا؛ من جهة أن من لم ينته إلى عرفة إلا ليلاً مضطر إلى ترك المبيت بمزدلفة، بخلاف [المفيض] إلى مكة؛ فإنه لا ضرورة به؛ فليبت، وليصبح مع الناس. قال: ثم يخطب الإمام في اليوم الثاني من أيام التشريق؛ لما روى أبو داود عن رجلين من بني بكر قالا: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته، وهي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خطب بمنى. وروى أيضاً عن سراء بنت نبهان قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس، فقال: "أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله [أعلم،] قال: "أليس أوسط أيام التشريق". قال أبو داود: وكذلك قال عمُّ أبي حرة الرقاشي: إنه خطب أوسط أيام التشريق. وسراء – المذكورة – بفتح السين المهملة بعدها راء مهملة مشددة مفتوحة، وهي ممدودة. وأبو حرة هذا بضم الحاء وتشديد الراء المهملتين، وتاء تأنيث. قال: بعد صلاة الظهر [كما خطب يوم النحر بها بعد صلاة الظهر] وقد تقدم أن الشافعي – رضي الله عنه – استحب في هذا اليوم واليوم الذي قبله أن تقع الصلاة بعد الرمي؛ فعلى هذا تقع الخطبة بعد الرمي، وبعد الصلاة. قال: ويودع الحاج، ويعلمهم جواز النفر –أي: الأول، والثاني – لأنه لائق بالحال، وكذا ينبغي أن يأمرهم أن يختموا حجهم بتقوى الله تعالى وطاعته، وأن يكونوا بعد الحج خيراً منه قبله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه" أخرجه مسلم.

وقال – عليه السلام – "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" أخرجه مسلم. وقد قيل: إنه قيل [له] يا رسول الله، فما بر الحج؟ قال: "طيب الكلام وإطعام الطعام". وروى أنه – عليه السلام – قال: "من علامة الحج المبرور أن يكون المرء بعد حجه خيراً منه قبله". ثم ما ذكرناه من الخطبة بعد الظهر إذا لم يرد الإمام أن ينفر النفر الأول، فإن أراده وعجَّل الخطبة قبل الزوال؛ ليتعجل النفر – جاز؛ قاله الماوردي؛ وهذه الخطبة تسمى: خطبة الوداع؛ لأنها آخر الخطب الأربع، ولأنه ربما نفر بعدها في النفر الأول؛ وكان مودعاً بها، ولو تركها فلا فدية عليه. قال: فمن نفر – أي: ذهب – قبل الغروب- أي: من منى في اليوم الثاني بعذر أو غير عذر، سقط عنه الرمي في اليوم الثالث، ومن لم ينفر حتى غربت الشمس، لم يسقط عنه الرمي؛ لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203]، وقد ذكرنا قبل من الحديث ما يعضد الآية. قال الشافعي – رضي الله عنه -:"والمراد بالتعجيل فيها النفر". وقال مالك: إنه الرمي، واستدل بها على أنه يجوز له أن يرمي في اليوم الثاني جمرات اليوم الثالث. قال الأصحاب: وإذا تعجل في يومين دفع ما بقي معه من الحصى إلى من لم يتعجل، أو طرحه، وما يفعله الناس من رميه لا توقيف فيه ولا أثر.

والأفضل عدم النفر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعله، فإن قيل: إذا كان هو الأفضل، فما معنى قوله تعالى: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203]؟ قيل: فيه تأويلات: أحدها: قاله ابن مسعود: أن من تعجل في يومين، فلا إثم عليه، أي: كفرت سيئاته، وكذلك من تأخر. والثاني: أن معنى الآية: من تأخر، ورمى، فلا إثم عليه؛ فإنه إذا تأخر، ولم يرم، أثم. والثالث: أن التعجيل رخصة وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه"، فأعلمنا الله تعالى: أن من رغب عن هذه الرخصة، وأقام إلى اليوم الثالث، لم يكن عليه إثم. والرابع: أنها وردت على سبب، فإن قوماً قالوا: لا يجوز التعجيل، وقوماً قالوا: لا يجوز التأخير؛ فنزلت الآية على ذلك. قال: فإن نفر قبل الغروب، ثم عاد زائراً، أو ماراً – أي بعد الغروب – لم يلزمه الرمي؛ لأنه حصلت له رخصة بالنفر؛ وكذا لو عاد لأخذ شيء نسيه. ولو رحل من منى، فغربت الشمس عليه، وهو سائر قبل انفصاله منها، لم يلزمه الرمي أيضاً ولا المبيت؛ لأن عليه في الحط بعد الارتحال مشقة. نعم: لو كان مشغولاً بالتأهب، فغربت الشمس؛ فوجهان في "الشامل" وغيره: أحدهما: لا يلزمه المقام، وهو المذكور في "تعليق القاضي أبي الطيب" لا غير، واختاره في "المرشد". وقال الرافعي: إن الأصح مقابله، وقد حكاه فيما لو نفر قبل الغروب، ثم عاد

قبل الغروب أو بعده. وكلام الإمام يقتضي الجزم به فيما إذا غربت عليه بعد أن ارتحل، ولم يفارق مني؛ فإنه قال: "وإن لم يفارق الشاحط منى حتى غابت الشمس يثبت المبيت عليه. والصحيح الأول، وبه جزم أكثرهم. قال [الأصحاب:] ويستحب إذا خرج من منى أن ينزل بالمحصب لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن منى: "نحن نازلون [غداً بخيف] بنى كنانة؛ حيث تقاسموا على الكفر: وذلك أن قريشاً وبني كنانة تحالفتا على بني هاشم وبني عبد المطلب: ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عيه وسلم، يعني: بذلك المحصب. انتهى. وروى أبو داود عن ابن عمر أنه كان يهجع هجعة بالبطحاء، ثم يدخل مكة، ويزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. وأخرجه البخاري بمعناه، وأخرج مسلم نحوه. قال الشيخ أبو حامد والقاضي الحسين: ونزول المحصب دأب [الصالحين]. قلت: ومنهم أبو بكر، وعمر – رضي الله عنهما – فإن مسلم بن الحجاج روى عن

ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر كانوا ينزلون الأبطح. انتهى. والأبطح: هو المحصب، وهو ما بين الجبل الذي عنده مقابر مكة، والجبل الذي يقابله مصعداً في الشق الأيسر، وأنت ذاهب إلى منى مرتفعاً، وليست المقبرة منه، وسمي بـ"المحصب"، لاجتماع الحصى فيه لأنه منهبط، والسيل يحمل الحصى إليه من الجمار. قال الشافعي في القديم: وإذا نزله، صلى به الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، إن اختار ذلك، ثم أفاض في جوف الليل إلى مكة؛ فهكذا فعل ابن عمر، وإن لم ينزله صلاها بـ"مكة". وأشار بفعل ابن عمر إلى ما ذكرناه من قبل. فإن قلت: قد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: "إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب؛ ليكون أسمح لخروجه، وليس بسنة، فمن شاء نزله، ومن شاء لم ينزله". وروى أبو داود عن أبي رافع، وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال]: "لم يأمرني أن أنزله ولكن ضربت قبته فنزله". قال مسدد: وكان على ثَقَل النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عثمان – وهو ابن أبي شيبة -: يعني [في] الأبطح. وأخرجه مسلم. وهذا يمنع أن يكون سنة [في الحج]؛ فوقع التعارض. قلنا: يحمل قول عائشة – رضي الله عنها – وغيرها على أنه ليس بسنة في الحج، ونحن نقول بأنه غير سنة فيه ولا نسكاً؛ حتى لا يجبر تركه بدم.

قال: ويستحب لمن حج – أي: أو اعتمر – أن يدخل البيت؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخله؛ روى أبو داود عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد، وعثمان بن [أبي] طلحة، وبلال، فأغلقها عليه، فمكث فيها، قال عبد الله بن عمر: فسألت بلالاً حين خرج: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "جعل عموداً عن يساره وعمودين عن يمينه، وثلاث أعمدة من ورائه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة – ثم صلى". وفي رواية: "ثم صلى، وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع". وفي رواية: "نسيت أن أسأله كم صلى؟ ". وأخرجه البخاري ومسلم. وجاء في حديث آخر: "من دخل البيت، دخل في حسنه، وخرج من سيئة مغفوراً له". ولكن قد جاء في الخبر ما يدل على كراهة دخوله؛ روى أبو داود عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها وهو مسرور، ثم رجع إليها وهو كئيب، فقال: "إني دخلت الكعبة، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما دخلتها؛ إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي"، وأخرجه الترمذي، وقال: إنه حديث حسن صحيح. قال: حافياً؛ تعظيماً له.

قال القاضي أبو الطيب: و [قد] روي أنه – عليه السلام – لما دخله، لم يرفع رأسه إلى السقف حتى خرج؛ تعظيماً له. قال: و [هو] من سنن دخوله. وقد روي عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: "عجباً للمرء المسلم إذا دخل الكعبة كيف يرع بصره قبل السقف؟! ليدع ذلك؛ إجلالاً لله تعالى، وإعظاماً؛ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها". قال: ويصلي فيه – أي: النفل – اقتداء به صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صلى [فيه كما ذكرناه. وروى أبو داود عن عبد الرحمن بن صفوان قال: قلت لعمر بن الخطاب: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين] دخل الكعبة؟ قال: "صلى ركعتين". والأفضل إذا صلى أن يقصد مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا دخل من الباب مشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريباً من ثلاثة أذرع، فيصلي، لما ذكرناه، ويكون مساؤه في جوانبه من الدعوات المهمة، مع حضور القلب والخشوع، وليكبر، وليعلم أنه في أفضل الأرض. فإن قيل: قد أخرج البخاري عن ابن عباس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل البيت، كبر في نواحيه، وفي زواياهن ثم خرج، ولم يصل فيه"، وهذا معارض لما تقدم. قلنا: لا تعارض؛ لأن "الأول إثبات وهذا نفي، والإثبات مقدم". أما صلاة الفرض، فالقياس أن تكون خارجاً عنه أفضل؛ للخروج من خلاف الأئمة؛ فإن مالكاً – رحمه الله – لا يرى بالصحة؛ وهذا كما قلنا: إن الأفضل إيقاع ما فاته من الصلاة منفرداً؛ للخروج من خلاف أبو حنيفة – رحمه الله – فإنه لا يرى

بصحة ذلك في جماعة. لن في مناسك النواوي: انه إن رجا كثرة جماعة، فالصلاة خارجها أفضل، وإن كان لا يرجوها، فداخل البيت أفضل. ويستحب – أيضاً – ألا يدخله إلا تائباً، [منيباً، قد اقلع عن معاصيه وأخلص طاعته. قال النواوي في "الروضة":] واستحباب الدخول مشروط بما إذا لم يؤذِ غيره، أو يتأذى هو به؛ بزحام أو غيره. واعلم أنه قد يؤخذ من استحباب دخول البيت دخول الحجر؛ لأنه منه كما تقدم؛ ويدل عليه ما ذكرناه من حديث عائشة رضي الله عنها، وقد صرح الصحاب بأنه

يختار له دخوله وتكراره؛ لأن دخوله سهل، وأن يدعو تحت الميزاب؛ لأنه - عيه السلام - قال:"ما من أحد يدعو تحت الميزاب إلا استجيب له". قال: ويشرب من ماء زمزم لما أحب؛ لرواية جابر: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ماء زمزم لما شرب له"، وقد شربه جماعة من العلماء لمطالب لهم جليلة، فنالوها. روى عن الشافعي - رضي الله عنه- أنه قال: " [شربته لثلاث: للرمي؛ فكنت أصيب العشرة من العشرة،] والتسعة من العشرة، وللعلم؛ فها أنا كما تروني، ولدخول الجنة، وأرجو حصول ذلك". ويستحب لمن أراد شربه؛ للمغفرة، أو للشفاء من مرض، ونحوه - أن يستقبل القبلة، [ثم يذكر اسم الله تعالى]، ثم يقول: "اللهم إنه بلغني عن رسولك صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء زمزم لما شرب له" اللهم إني أشربه؛ لتغفر لي، أو لتعافيني أو لتعطيني كذا وكذا" مما يريد من آخرته ودنياه. وزمزم: بئر في المسجد الحرام، بينه وبين الكعبة ثمانية وثلاثون ذراعاً. وسميت: زمزم؛ لكثرة مائها، يقال: ماء زمزم، وزمزوم، وزمام؛ إذا كان كثيراً. وقيل: لضم هاجر: أم إسماعيل عليه السلام - لمائها حين انفرجت؛ كما تقدم

[لكثرته وقيل وزمها إياه]. وقيل: لزمزمة جبريل – عليه السلام – وكلامه. وقيل: إنها غير مشتقة. وقد قيل: إن عليًّا – كرم الله وجهه – قال: "خير بئر في الأرض زمزم، شر بئر في الأرض بهروت". قال: ويتنفس ثلاثاً؛ لأنه سنة الشارب من غيره؛ كما ورد عنه – عليه السلام- فكيف منه؟! قال: ويتضلع منه: لما روى عطاء: أنه – عليه السلام – لما أفاض، نزع هو لنفسه بدلو من بئر زمزم، ولم ينزع معه أحد، فشربن ثم أفرغ باقي الدلو في البئر. وجه الدلالة منه: أنه لما شرب من نزع بني عبد المطلب – كما تقدم ذكره – ومن نزعه – كما دل عليه هذا الخبر – أفاد ذلك القطع بأن أحد الشربين كافٍ في الشربين غالباً. والتضلع – لغة – الامتلاء شبعاً وريًّا. وقد روى عن ابن عباس انه سأل رجلاً شرب من زمزم؛ فقال: هل شربت كما يجب؟ فقال: وما الذي يجب؟ قال: أن تتضلع منها؛ فإن آية ما بيننا وبين المنافقين: أنهم لا يتضلعون من زمزم.

قال: ويكثر [من] الاعتمار؛ لأنه – عليه السلام – بعد الهجرة اعتمر أربع مرات: في ذي القعدة عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية، وعمرة من العام المقبل، وعمرة من جعرانة؛ حيث قسم غنائم حنين، وعمرة مع حجة. وحج مرة واحدة بعدما هاجر، وبمكة أخرى، وروى هذا كله مسلم بمعناه. وقال – عليه السلام – "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". رواه البخاري [ومسلم]. واستحباب الإكثار من الاعتمار في رمضان أشد، قال- عليه السلام – "عمرة في رمضان تقضي حجة" أو "حجة معي". أخرجه مسلم، والله أعلم. قال: والنظر إلى البيت؛ لأنه عبادة، وقد جاءت آثار كثيرة في فضل النظر إليه، وورد تقدير الأجر عليه؛ قال – عليه السلام -: "يُنزل الله – تبارك وتعالى –على هذا البيت في كل يوم عشرين ومائة رحمة؛ ستون منها للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين"؛ كذا ذكره الماوردي عن رواية عطاء عن ابن عباس. قال الأصحاب: وينظر إليه إيماناً واحتساباً. ومن هنا يؤخذ: أن [إكثار] الطواف المجرد مستحب أيضاً؛ لأنه إذا استحب الإكثار من النظر إلى البيت مع أن الأجر المرتب عليه أقل من الأجر المرتب على الطواف – كان الإكثار من الطواف أولى، وقد صرح به الأصحاب. وزاد في "الحاوي" لأجل ذلك فقال: إنه أفضل من الصلاة، واستدل له – أيضاً – برواية [أبي] الزناد، عن الأعرج، عن

أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكرم سكان أهل السماء على الله الذين يطوفون حول عرشه، وأكرم سكان أهل الأرض الذين يطوفون حول بيته". قال في "الروضة": وظاهر عبارة صاحب "المهذب" وآخرين في قولهم: "أفضل عبادات البدن الصلاة": أنها أفضل منه، ولا ينكر هذا. ويقال: الطواف صلاة إلا أن الصلاة عند الإطلاق لا تنصرف إليهن لا سيما في كتب المصنفين الموضوعة للإيضاح، وهو أقوى في الدليل. قال: ويكون آخره عهده بالبيت إذا خرج النظر إليه إلى أن يغيب عنه؛ لأن ذلك أبلغ في تعظيمه، وفي المحافظة على تحصيل الأجر المطلوب بالنظر إليه، وهذا ما حكى عن أبي عبد الله الزبيري وغيره من أصحابنا. وقيل: يلتفت إليه من انصرافه كالمتحزن على مفارقته. قال النواوي في "المناسك": والمذهب الصحيح الذي جزم به جماعات من أئمة أصحابنا – منهم أبو عبد الله الحليمي، والماوردي، وآخرون: أنه يخرج، ويولي ظهره إلى الكعبة، [ولا ميشي] قهقري كما يفعله كثير من الناس. قالوا: بل المشي قهقري مكروه؛ فإنه ليس فيه سنة مروية، ولا أثر محكي، وما لا أصل له؛ فلا يعرج عليه. وقد جاء عن ابن عباس ومجاهد كراهة قيام الرجل على باب المسجد ناظراً إلى الكعبة إذا أراد الانصراف إلى وطنه، بل يكون آخر عهده الطواف. وقد استحب لمن حج أو اعتمر أيضاً: أن يختم القرآن العظيم بمكة قبل رجوعه، وأن ينوي الاعتكاف كلما دخل المسجد الحرام؟! فإن الاعتكاف مستحب لكل من دخل مسجداً من المساجد، فكيف الظن بالمسجد الحرام؛ ولهذا المعنى لم يذكر الشيخ ذلك؛ لأنه إنما ذكر ما هو من خصائص تلك المواضع.

نعم: بقي من المستحبات ثم: زيارة المواضع المشهورة بالفضل في "مكة" والحرم، ولم يذكرها الشيخ. وقد قيل: إن تلك المواضع ثمانية عشر [موضعاً]، منها: البيت الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو اليوم في مسجد في زقاق، يقال له: زقاق المولد. وذكر الأزرقي: أنه لا خلاف فيه. ومنها: بيت خديجة الذي كان يسكنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخديجة، وفيه [ولدت أولادها] من رسول الله صلى الله عليه وسلم [وفيه توفيت، ولم يزل عليه السلام] مقيماً به حتى هاجر، ثم اشتراه معاوية – وهو خليفة- من عقيل بن أبي طالب، فجعله مسجداً. ومنها: مسجد في دار الأرقم، وهي التي يقال لها: دار الخيزران، كان النبي صلى الله عليه وسلم مستتراً فيه في أول الإسلام، وهو عند الصفا، وفيه أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ومنها: الغار الذي بجبل حراء، كان – عليه السلام – يتعبد فيه. والغار الذي بجبل ثور، وهو المذكور في القرآن؛ [قال الله تعالى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40]]. قال: وإذا أراد الخروج إلى بلده من أي موضع كان فيه، سواء فيه مكة ومنى بعد قضاء النسك أي: وجميع أشغاله – طاف للوداع – أي: طوافاً كاملاً – فيصلي ركعتين؛ لما روى أبو داود عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت". قال في مختصر السنن: وقد أخرجه مسلم، والنسائي، وابن ماجه. وروى أبو داود عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "أحرمت من التنعيم بعمرة؛

فقضيت عمرتي، وانتظرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح حتى فرغت، وأمر الناس بالرحيل"، قالت:"وأتى رسول الله صلى الله عيه وسلم البيت، فطاف به، ثم خرج". ولا يرمل في هذا الطواف، ولا يضطبع؛ لما تقدم؛ وقد نص عليه. والوداع: بفتح الواو. وهل هذا الطواف من المناسك؟ اختلف فيه، وأثره يظهر في المكي إذا خرج من مكة قاصداً مسافة القصر: فالذي قاله الغزالي: إنه من المناسك، وليس على الحاج من مكة وداع لخروجه منها. وهو في ذلك متبع للإمام؛ فإنه قال: إنه من مناسك الحج – وإن [وقع] بعدها – وليس على الحاج من مكة وداع؛ لخروجه منها؛ حتى إن الغريب لو نوى الإقامة بمكة بعد قضاء المناسك، ثم عنَّ له السفر، فلا وداع عليه. وليس الخروج في اقتضاء [الوداع كدخول الغرباء مكة في اقتضاء] الإحرام، وإن في بعض الطرق رمزاً إلى أن المكيين إذا عنَّ لهم أن ينفروا – أي: من منى – ويخرجوا مع الغرباء: أنهم يودِّعون، وأنه لا خلاف أنهم إذا عنَّ لهم هذا بعد العود إلى مكة فلا وداع. والذي قاله صاحب "التتمة" و"التهذيب" وغيرهما: إنه ليس من المناسك، بل يؤمر به من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر، سواء كان مكيًّا أو آفاقيًّا. قال الرافعي: وهذا أقرب؛ تعظيماً للحرم، وتشبيهاً لاقتضاء خروجه للوداع باقتضاء دخوله للإحرام. ولأنهم اتفقوا كما سنذكره على أن المكي إذا حج وهو على أن يقيم بوطنه [و] لا يمر بطواف الوداع، [وكذا الآفاقي إذا حج، وأراد الإقامة بمكة، لا وداع] عليه، ولو كان من جملة المناسك، لعم الحجيج.

قال في "الروضة": قلت: ومما يستدل به من السنة لكونه ليس من المناسك- ما ثبت في صحيح مسلم وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً". وجه الدلالة: أن طواف الوداع يكون عند الرجوع، فسماه قبله: قاضياً للمناسك، وحقيقته أن يكون قضاها كلها. وقد اقتضى كلام الشيخ انه لا يستحب الاغتسال لهذا الطواف، إذ لو كان مستحباً عنده لذكره كما في طواف الزيارة، وهو ما ذكره في "الوسيط" [عن الجديد، وأنه استحب الاغتسال في القديم]. قال: ولم يقم بعده، أي: القضاء شغل بقي عليه، أو زيارة صديق، ونحو ذلك؛ لأنه [لو أقام لم يكن مودعاً، ولم يكن آخر عهده الطواف]. قال: فإن أقام [أي: لما ذكرناه] لم يعتد بطوافه عن الوداع؛ لما ذكرناه. نعم: لو تشاغل بأسباب الخروج: كشراء الزاد، وشد الرحل، ونحوهما، فهل يحتاج إلى إعادته؟ [فيه] ثلاثة طرق: [أحدها - وهو] الذي قطع به الجمهور: أنه لا يحتاج، ومنهم صاحب "التهذيب"، والقاضي الحسين. وفي "تعليق البندنيجي": أنه إذا تشاغل بترتيب رحله وقضاء حوائجه، غير شراء الخبز، ونحوه - بطل وداعه. وإذا جمعت بين النقلين، جاءك في شد الرحل وجهان، وقد حكاهما الرافعي عن رواية الإمام، وأنهما جاريان في شراء الزاد. والذي رأيته في "النهاية" في هذا الموضع حكاية تردد في التعريج على أمر قبل طواف القدوم، وقال: إنهم قطعوا بأن التعريج بعد طواف الوداع يفسده.

ولو أقيمت الصلاة عقيب طوافه، فصلاها، لم يعده؛ قاله في "المهذب" وغيره. قال: ومن ترك طواف الوداع، لزمه دم في أحد القولين. الخلاف في لزوم الدم ينبني على أن طواف الوداع واجب أم لا؟ وسيأتي الكلام عليه: فإن أوجبناه – وهو الجديد؛ كما قال القاضي الحسين، وقال البندنيجي وابن الصباغ: إنه الذي نص عليه في "القديم" و"الأم"، والأصح عند البغوي وصاحب العدة والنواوي – وَجَبَ الدم بتركه. وإلا فلا يجب، وهوا لأصح في "تعليق القاضي الحسين"، وقال البندنيجي: إنه الجديد، وعن بعضهم القطع به. ويستقر الدم على الأول بانتهائه إلى مسافة القصر؛ حتى لو عاد، وطافه، لم يسقط. قال في "المهذب": لأن هذا الطواف عن الخروج الثاني، فلا يجزئه عن الأول؛ وهذا منه يدل على اعتقاده أنه ليس بنسك؛ كما تقدم. ومن هنا يظهر لك: أنه لا يجب عليه – والحالة هذه – العود لأجله، وبه صرح غيره. وقد حكى الإمام عن رواية الشيخ أبي علي وغيره قولاً آخر: أنه لو عاد من مسافة القصر، أمكنه أن يتدارك الوداع، وأن هذا القائل لا يوجب العود، ولكنه يجوِّزه. وعلى هذا فهل يكفيه طواف واحد للوداع الأول والثاني، أو لابد من طوافين؟ فيه وجهان: والثاني: رواه صاحب "التقريب"، وضعفه الإمام. والمشهور: عدم إمكان التدارك واستقرار الدم بالانتهاء إلى مسافة القصر. نعم: لو رجع قبل انتهائه إلى مسافة القصر، [أمكنه التدارك، فإذا فعله، سقط عنه الدم؛ لأنه في حكم المقيم؛ وهذا ما نص عليه؛ كما] قال الإمام. ومن هنا يظهر لك أنه يجب عليه العود لأجله قبل انتهائه إلى مسافة القصر؛ كما صرح به الأصحاب.

وحكى الإمام قولاً مخرجاً في المسألة: أنه لا يمكنه التدارك والحالة هذه، وسنذكر ممَّ خرَّج؟ وقد روى عن عمر – رضي الله عنه – أنه رد رجلاً لم يودع من بطن مر. قال: وإن نفرت الحائض بلا وداع، لم يلزمها دم؛ لما روى [مسلم] عن عائشة قالت: حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت، قالت عائشة: فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحابستنا هي؟ " قال: فقلت: يا رسول الله، إنها كانت قد أفاضت، وطافت بالبيت، ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلتنفر". وجه الدلالة منه: أنه أمرها بالنفر، ولم يأمرها بالدم، ولو كان واجباً لبينه، كما فعلفي حديث كعب بن عجرة؛ فإنه لا يجوز له تأخير البيان عن وقت الحاجة. نعم: لو نفرت ثم طهرت قبل مفارقتها بنيان مكة، كان حكمها حكم الطاهر [في الوداع]. وإن كان بعد مفارقة البنيان، فهي كما لو لم تطهر، قاله القاضي أبو الطيب، والماوردي، والقاضي الحسين، والشيخ في"المهذب"، وغيرهم وعزاه الإمام إلى النص، وقال: إن من الأصحاب من خرج من نصه على أن الرجل إذا خرج من غير وداع ولم ينته إلى مسافة القصر: أنه يمكنه التدارك؛ بأن يعود [ويطوف] ويسقط [عنه الدم]: أنه يلزمها العود إذا لم تنته إلى مسافة القصر، فإن لم تعد، لزمها الدم. كما خرج من هنا إلى ثم قولاً: أنه لا يمكنه التدارك بالعود، ويستقر عليه الدم، وجعل في المسألتين قولين: وإن منهم من أقر النصين، وهو الأصح في الرافعي. والفرق: أن المرأة حين المفارقة، لم تكن من أهل الوداع، بخلاف الرجل.

قال: ثم إذا قلنا باعتبار مفارقة الخطة، فيعود الوجهان المذكوران في باب المواقيت في أن مفارقة العمران هي المرعيَّة أو مفارقة الحرم؟ وقد تقدم ذكر الوجهين، وهما جاريان هنا. فرع: إذا رأت المرأة الدم في زمان الإمكان، فتركت طواف الوداع، وانصرفت، ثم اتصل بها الدم، وجاوزت خمسة عشر يوماً – فإنها مستحاضة: فإن [كان] تركها الطواف في الحالة التي حكمنا عليها فيها بأنها حائض، فلا شيء عليها. وإن كانت تركته في الحالة التي حكمنا عليها فيها بأنها طاهرة، تبينا ثبوت الدم في ذمتها، وحكمها لا يخفى مما تقدم؛ قاله أبو الطيب، وعزاه البندنيجي إلى نصه في الأم. قال: وإذا فرغ من [طواف الوداع]، وقف في الملتزم بين الركن [أي: الأسود] الباب، ويدعو؛ لأن الملتزم من المواضع التي يستجاب فيها الدعاء. وهو بفتح الزاي، سمي بذلك؛ لأنهم يلتزمون في الدعاء. ويقال له: المدعي، والمتعوذ بفتح الواو. قال: فيقول: "اللهم البيت بيتك، والعبد عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، حتى سيرتني في بلادك، وبلغتني نعمك؛ حتى أعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عني، فازدد عني رضا، وإلا فَمُنَّ الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، [ويبعدك عنه مزاري]، هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك، ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي خير الدنيا والآخرة؛ إنك على كل شيء قدير"؛ لأنه روي ذلك عن صالحي السلف، وهو دعاء يليق بالحال.

والمنقول عن الشافعي – رضي الله عنه – أنه استحبه في "الإملاء"، وفي مختصر الحج الصغير من أوله إلى قوله: "ما أبقيتني"، وأن القاضي أبا حامد في جامعه زاد باقيه؛ كذا قاله ابن الصباغ. وقوله: "فمن الآن" يجوز فيه ثلاثة [أوجه]: أجودها ضم الميم، وتشديد النون. والثاني: كسر الميم، وتخفيف النون وفتحها. والثالث: كذلك، لكن النون مكسورة. وقوله "الآن": هو الوقت الحاضر، [هذا حقيقته وقد يقع على التقريب من الماضي، والمستقبل؛ تنزيلاً له منزلة الحاضر] ومنه قوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187]، قيل: تقديره: فالآن أبحنا لكم مباشرتهن؛ فعلى هذا هو في الآية [على] حقيقته. وقوله: "قبل أن تنأى عن بيتك داري"، أي: تبعد. والأوان [الحِين، والوقت] وجمعه: آونة، مثل: زمان وأزمنة. قال: ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بذلك رجاء الإجابة. قال النواوي في "المناسك": ويتعلق الداعي بهذا الدعاء بأستار الكعبة في تضرعه. وقد روى أبو داود عن عبد الرحمن بن صفوان أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح قد خرج من الكعبة هو وأصحابه، قد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم، وقد وضعوا خدودهم على البيت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم. وإذا فرغ من الوداع، أتى زمزم، فشرب من مائها متزوداً، ثم يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه، ويقبله، ويمضي.

والحائض إذا أرادت السفر بلا وداع، استحب لها أن تدعو بما ذكره الشيخ من الدعاء على باب المسجد، وتنصرف. وستحب للخارج من "مكة" [أن يقول عند خروجه] ما رواه نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل من الجيوش، أو السرايا، أو الحج، أو العمرة، إذا أوفى على ثنية أو فَدْفَد كبر ثلاثاً، ثم قال: "لا إله إلا الله وحده لا شركي له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، أخرجه مسلم. [وأخرج أيضاً عن الأزدي أن ابن عمر علمهم]. ويستحب أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم قبل عوده إلى بلده، لما روى البزار، والدارقطني بإسنادهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من زار قبري وجبت له شفاعتي".

ويستحب للزائر مع قصده الزيارة: أن يقصد التقرب بالمسافرة لمسجده صلى الله عليه وسلم، والصلاة فيه، وأن يكثر من الصلاة والتسليم عليه الصلاة والسلام في طريقه، فإذا وقع بصره على أشجار المدينة، وما يعرف بها، زاد في الصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه وسلم، وسأل الله تعالى أن ينفعه بزيارته، وأن يتقبلها منه. ويستحب أن يغتسل قبل دخوله، ويلبس أنظف ثيابه، وليكن أول ما يفعله حين يدخل المسجد: أن يقصد "الروضة"، ويصلي ركعتين تحية [المسجد] فيها، بجنب المنبر. قال النواوي في "المناسك": ثم يأتي القبر الكريم، فيستدبر القبلة، ويستقبل جدار القبر، ويبعد من رأس القبر [نحو أربعة أذرع. وفي "إحياء علوم الدين": أنه يستقبل جدار القبر على نحو] أربعة أذرع من السارية التي عند رأس القبر في زاوية جداره، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه، ويقف ناظراً أسفل ما يستقبله من جدار القبر، غاض الطرف في مقام الهيبة والإجلال، فارغ القلب من علائق الدنيا، مستحضراً في قلبه جلالة موقفه، ومنزلة من هو بحضرته، ثم يسلّم، ولايرفع صوته بل يقتصد، فيقول: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خير خلق الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا سيد المرسلين، وخاتم النبيين، السلام عليك يا خير الخلائق أجمعين، السلام عليك يا قائد الغر المحجَّلين، السلام عليك، وعلى أهل بيتك وأزواجك وأصحابك أجمعين، السلام عليك، وعلى [سائل] عباد الله الصالحين، جزاك الله يا رسول الله عنا أفضل ما جزى به نبيًّا ورسولاً عن أمته، وصلى عليك كلما ذكرك ذاكر، وغفل عن ذكرك غافل –أفضل وأجمل ما صلى على أحد من الخلق أجمعين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأشهد أنك

بلغت الرسالة، وأديت الأمانة ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده، اللهم آتِه الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي عدته، وآته نهاية ما ينبغي أن يسأله السائلون، اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك، النبي الأمي، وعلى آله وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد". ومن عجز عن حفظ هذا، أو ضاق وقته عنه، اقتصر على بعضه، وأقله: "السلام عليك يا رسول الله صلىلله عليه وسلم". ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع للسلام على أبي بكر رضي الله عنه؛ لأن رأسه عند منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيقول: "السلام عليك يا أبا بكر". ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع للسلام على عمر – رضي الله عنه – فيقول: "السلام عليك يا عمر"، وهذه صورة القبور الكريمة الجليلة: وقيل صورتها هكذا: والمشهور هو الصفة الأولى: ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله عيه وسلم، ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى. ومن أحسن ما يقول ما حكاه أصحابنا عن العتبيّ قال: "كنت جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي، فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله تعالى يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء: 64]، وقد جئتك مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك إلى ربي، ثم انشأ يقول: يا خبر من دفنت [في الترب أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم انصرف، فغلبتني عيناي، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال: "يا عتبي، الحق الأعرابي، فبشره بأن الله قد غفر له". ثم يتقدم إلى رأس القبر، فيقف بين القبر والأسطوانة التي هناك، ويستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويدعوا لنفسه بما أهمه وأحبه لوالديه، ومن شاء من أقاربه وإخوانه وسائر المسلين. ثم يأتي "الروضة"، فيكثر فيها [من] الدعاء اولصلاة، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي"، ويقف عند المنبر ويدعو. أما إذا لم يرد الحاج والمعتمر الخروج من مكة، وأراد المقام بها والمجاورة، أو كان من أهلها فلا وداع عليه؛ لأن غير مفارق ولا مودع. قال في "الحاوي": ولا يختلف المذهب في ذلك. نعم هل تستحب المجاورة بها أم تكره؟ اختلف فيه العلماء: فذهب أبو حنيفة ومن وافقه إلى الكراهة؛ خوفاً من الملل وقلة الحرمة للأُنْسِ، وخوف ملابسة الذنوب؛ فإن الذنب فيها أقبح منه في غيرها، كما أن الحسنة فيها أعظم منها في غيرها. قلت: ويقرب من هذا قول القاضي أبي الطيب: ويستحب لمن فرغ من حجه أن يعجل الرجوع إلى بلده؛ لما روي أنه – عليه السلام – قال: "من فرغ من حجه، فليعجل الرجوع إلى أهله؛ فإنه أعظم لأجره".

وذهب الإمام أحمد إلى استحبابها؛ لما يحصل فيها من الطاعات التي لا تحصل في غيرها من الطواف، وتضعيف الصلوات، والحسنات. قال النواوي في "المناسك": وهذا هو المختار إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في الأمور المحذورة. وقد جاور بها خلائق لا يحصون من سلف الأمة، وخلفها ممن يقتدي به، وينبغي للمجاور بها أن يذكر نفسه بما جاء عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: "لخطيئة أصيبها بمكة أعز على من سبعين خطيئة بغيرها".

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء الثامن تتمة كتاب الحج- كتاب البيوع

باب صفة العمرة

بسم الله الرحمن الرحيم باب صفة العمرة إذا أراد- أي: من ليس بالحرم، فوق الميقات، أو دونه- العمرة، أحرم من الميقات؛ لقوله عليه السلام- في حديث المواقيت المتقدم: "وهن لأهلهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة .. " إلى آخره. وقد تقدم ذكر سنن الإحرام من الغسل وغيره بما يغني عن الإعادة. قال: فإن كان من أهل مكة، خرج إلى أدنى الحل، [أي:] ولو بخطوة؛ ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم؛ كالخارج. وقد استدل على وجوب ذلك في حقهما بقوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً ..} الآية [البقرة: 125]. أي: مرجعاً، وكل الحرم منسوب إلى البيت؛ فافتقر إلى القصد إليه من الحل. وقد ادعى الصيدلاني: أن الجمع بين الحل والحرم في الحج من أركان الحج، وقاس عليه العمرة؛ كما ذكرناه؛ وهذا بخلاف ما إذا أراد المكي الحج، فإنه يحرم به من جوف مكة؛ حتى لو أحرم به من أدنى الحل، وجب عليه دم الإساءة، ولو أحرم به من خارج مكة في الحرم، ففي وجوب دم الإساءة خلاف مذك ورفي الطريقين. واعلم أن قول الشيخ: "فإن كان من أهل مكة، خرج إلى أدنى الحل" يفهمك: أن [من] كان بالحرم، فحكمه كذلك وإلا لكان الخروج إلى الحرم كافياً، وقد صرح

به الأصحاب حتى النواوي في "المناسك". فرع: لو أراد من هو بمكة القرآن، فمن أي موضع يحرم؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين": أحدهما: من أدنى الحل؛ لأنه يريد النسكين، وهو اختيار القفال. والثاني- وهو الأصح عند القاضي الحسين والبغوي-: من جوف مكة؛ لأن العمرة تتبع الحج في القرآن؛ فتبعته في مكان الإحرام. ولا خلاف عندنا في أنه إذا جاوز الميقات وهو يريد الحج والعمرة، ثم أحرم بالحج، ثم اعتمر من أقرب الحل: أنه يجوز، ولا دم عليه؛ لأجل إحرامه من أدنى الحل؛ كما لو لم يرد العمرة؛ قاله في "البحر". قال: والأفضل أن يحرم من التنعيم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث مع عائشة عبد الرحمن ابن أبي بكر في عام حجة الوداع، وأمرها أن تعتمر من التنعيم؛ كما أخرجه البخاري ومسلم [وغيرهما في حديث طويل. وأخرج مسلم] عن جابر في حديث آخر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فاذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم"، وذلك ليلة الحَصْبَة. وقال النواوي: مذهب الشافعي- رضي الله عنه- أن أفضل جهات الحل لإحرام العمرة: أن يحرم من الجعرانة، ثم بعدها التنعيم، ثم الحديبية، وهو المذكور في "تعليق" [القاضي أبي الطيب، والحسين، والبندنيجي، و"الحاوي"، و"الشامل"، و"الإبانة"، و"النهاية". قال] القاضي الحسين وتبعه البغنوي وغيره: لم يَبْنِ الشافعي- رضي الله عنه- هذا على القرب والبعد؛ لأن الحديبية أبعد الأماكن، وإنما قدم فعله- عليه السلام- ثم أمره، ثم همه. وأشاروا بالفعل إلى ما روي أنه- عليه السلام- أحرم بالعمرة من الجعرانة،

حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة؛ كما خرجه مسلم. و [أشاروا] بالأمر: إلى أمره - صلى الله عليه وسلم - عائشة بأن تحرم من التنعيم؛ كما تقدم. و [أشاروا] بالهم: إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - هم بأن يحرم بالعمرة من الحديبية في سنة ست من الخهجرة، ويدخل مكة، فَصُدَّ، وهذا فيه منازعة من وجهين: أحدهما: أن البندنيجي قال: أبعد الحل إلى الحرم الجعرانة، وهو الذي ذكره في "البحر". وقال الرافعي: إن الجعرانة على ستة فراسخ من مكة، والحديبية كذلك، وهذا يؤذن بالتساوي. الثاني: أن مسلماً روى أنه- عليه السلام- أحرم من الحديبية بعمرة أو زَمَنَها. وقد قال الشافعي- رضي الله عنه- كما سنذكره: "إنه لا خلاف بين أهل التفسير أن قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} الآية [البقرة: 196] نزلت بالحديبية حين أحصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحال المشركون بينه وبين البيت، فنحر، ثم حلق"؛ وهذا صريح في أنه أحرم منها إن لم تكن العمرة التي همَّ بها غير هذه العمرة، وهو الظاهر. وإذا كان كذلك فما قدم الشافعي أمره - صلى الله عليه وسلم - على همه، وإنما قدمه على فعله، وحينئذٍ فيقال:

لم قدم الشافعي- رضي الله عنه- أحد الفعلين على الأمر وأخر الآخر [عنه]. وكأن الغزالي- والله أعلم- استشعر ذلك؛ فخرج عنه بقوله- كما حكاه عنه ابن يونس، وابن التلمساني: إن الأفضل أن يحرم من الجعرانة، ثم من الحديبية، [ثم من التنعيم، وقدم فعله بالجعرانة على فعله بالحديبية؛] لأن إحرامه من الجعرانة كان في سنة سبع، ومن الحيبية في سنة ست، والعمل بالمتأخر أولى. لكن الذي ذكره في "الوسيط"، و"الوجيز" ما حكيته عن الإمام وغيره، وما حكي عنه يمكن أخذه من قول الإمام: ولقائل أن يقول: ما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديبية عن اختيار، وإنما صُدَّ اضطراراً، فتقديم ما أمر به على ما كان خاض فيه، ولم يتم له على اضطرار فيه بعض النظر. قال: ولكن يوجه ما ذكره الشافعي أنه- عليه السلام- أعمر عائشة من التنعيم، وكان متمكناً من إعمارها من الحديبية؛ فاقتضى ذلك تقديم [ما أمر به]. قلت: وهذا بعينه يمكن أن يكون مأخذ الشيخ في ترجيحه التنعيم على الجعرانة؛ لأن إحرام النبي - صلى الله عليه وسلم -[منها] كان في سنة سبع في عمرة القضاء أو القضية؛ كما تقدم- وأمره - صلى الله عليه وسلم - عائشة- رضي الله عنه- بالإحرام من التنعيم، كان في عام حجة الوداع في سنة عشر. ويمكن أخذه من وجهٍ آخر: وهو أن الكلام فيمن كان بمكة، وأراد الإحرام بالعمرة، والذي وجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الصورة الأمر بالإحرام من التنعيم؛ فكان هو المتبع، ولا يعارضه إحرامه- علي السلام- من الجعرانة؛ لأنه حيث أراد الإحرام منها لم يكن بمكة، وخرج منها [إليها فأحرم منها]، وإنما كان ذلك حين قفل من حنين، كما قاله ابن الصباغ. وأفهم كلامه أن الشافعي- رضي الله عنه- قاله. لكن الإمام حكى عن الشافعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بعمرة الجعرانة عام القضاء- أي: وهي سنة سبع كما تقدم- ثم قال الإمام: ولم أرَ لهذا التاريخ ذكراً في كتب الحديث، وفيه إشكال من جهة أن ذا الحليفة كان على ممر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،

وكان في قصده مكة للعمرة، فيبعد منه - صلى الله عليه وسلم - مجاوزة الميقات مع قصده النسك. والأظهر: أنه كان أحرم من ذي الحليفة لتيك العمرة، وعمرة الجعرانة عمرة أخرى برز لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحرم، واختار من الحل تلك البقعة؛ ولأجل هذا قال ابن الصلاح في مناسكه: إن قول الشيخ في التنبيه ليس مرضياً دليلاً ومذهباً. وقال النواوي في "الروضة": إنه غلط. وتأول بعضهم كلام الشيخ، فقال: إذا أراد المكي أن يقتصر في إحرامه بالعمرة على الواجب، وهو الإحرام [من أدنى الحل] فليكن من التنعيم؛ لأنه أقرب الحل إلى البيت؛ كما قاله ابن الصلاح، والإمام، والبغوي. والتنعيم عند طرف الحرم من جهة المدينة على ثلاثة أميال، وقيل: أربعة من مكة، وهو الذي حكاه الرافعي. قيل: سمي بذلك؛ لأن عن يمينه جبلاً يقال له: نعيم، وعن شماله جبل يقال: ناعم، والوادي: نعمان. والله أعلم. قال: فإن أحرم بها- أي: بمكة وما في معناها من الحرم- ولم يخرج إلى أدنى الحل- أي: حتى تحلل- ففيه قولان- أي: منصوصان في "الأم". أحدهما: لا يجزئه؛ لأن الشرط في النسك أن يجمع في إحرامه بين الحل والحرم- كما تقدم- ولم يوجد. وعلى هذا يبقى على إحرامه إلى أن يخرج، ثم يأتي بالطواف، والسعي، والحلق أو التقصير؛ إن قلنا: إنه نسك؛ كما سيأتي وعليه دم الحلق؛ إن كان قد حلق؛ لأنه فعله قبل الطواف. ولو كان قد جامع ظناً منه: أنه تحلل ففي فسادها قولان. والثاني: يجزئه-[أي: ما أتى به من طواف وغيره] وعليه دم؛ كالآفاقي إذا جاوز الميقات مريداً للحج، فأحرم من مكة؛ وهذا ما قاله ابن الصباغ عند التفريع عليه: إنه الصحيح، وتبعه صاحب "البحر"، والرافعي، والنواوي، وصاحب "المرشد". لكن القائلون بالأول، فرقوا بين ما نحن فيه وبين ما إذا أحرم [بالحج] من مكة: بأن الحاج لابد له من قصد الحرم من الحل، وهو عند رجوعه من عرفات

لطواف الإفاضة، وبه حصل الجمع بين الحل والحرم. وقد توافق القولان على انعقاد إحرامه، وهو ما صرح به القاضي أبو الطيب، والماوردي، والبندنيجي، والقاضي الحسين، وادعى الإمام أنه لا خلاف في ذلك. وفي "الإبانة" حكايتهما في أن إحرامه هل يصح أم لا؟ وتبعه المسعودي في ذلك، ولعله مئوّل على ما ذكرناه. وقد أفهم كلام الشيخ: أنه إذا خرج إلى أدنى الحل: أنه يجزئه قولاً واحداً، ومحله إذا كان خروجه إلي قبل الطواف والسعي، كما صرح به الأصحاب، وقالوا: لا يجب عليه دم؛ لأنه زاد خيراً؛ فإنه من طريق التمثيل بمثابة من أحرم قبل الميقات، ثم مرَّ عليه. وحكى الإمام أن من أصحابنا من خرَّج إيجاب الدم على الخلاف المشهور في عود المسيء بالإحرام دون الميقات، ثم عاد إليه. وذلك- أيضاً- إذا خرج بقصد النسك فلو لم يقصد بل خرج لبعض أشغاله، فالذي حكاه القاضي الحسين عن القفال: أن الحكم كذلك؛ لأنه [لا يراعي] القصد، وإنما المرعي حصوله به؛ كما لو حصل بعرفات، ولم يقصده، يحسب له الوقوف، وبهذا أجاب في "التهذيب". ويظهر أن يجيء فيه ما ذكرناه في الوقوف. واعلم أن قول الشيخ: "وإن كان من أهل مكة ... " إلى آخره يفهم مع قوله من قبل: "ومن جاوز الميقات غير مريد للنسك، ثم أراد أن يحرم، أهلَّ من موضعه" اختصاص إيجاب الخروج للإحرام بالعمرة من أدنى الحل بأهل مكة، دون الآفاقي، وليس كذلك، بل من كان بمكة، وأراد أن يعتمر، وجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل، سواء كان أهلها، أو آفاقيّاً، نوى الإقامة بها أو لا؛ فاعلم ذلك. قال: ثم يطوف-[أي: طوافاً]- مثل طواف القدوم السابق، ويسعى، ويحلق، وقد حلَّ، لما روى مسلم أن عبد الله بن عمر قال: "تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[بالعمرة] إلى الحج؛ فكان من الناس من أهدى، فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

مكة، قال للناس: "من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم عليه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى، فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة، وليقصر، وليتحلل، ثم ليهل بالحج، وليهد .. " وساق الحديث. وما ذكره الشيخ من اشتراط الحلق في الحل تفريعاً منه على أنه نسك؛ كما هو الصحيح، ويقوم مقامه التقصير، وعلى ذلك يدل الحديث. أما إذا قلنا: إنه استباحة محظور، فلا يتوقف الإحلال عليه، وعليه يدل ما رواه أبو داود عن عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً"، فقدمت مكة وأنا حائض .. " وساقت الحديث إلى أن قالت: "فطاف الذين أهلّوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلقوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافاً واحدا". قال في مختصر السنن: وقد أخرجه البخاري ومسلم. فإن قلت: قد دلَّ الحديث على أن من ساق الهدي، وكان قد أحرم بالعمرة في أشهر الحج: أنه لا يحل بما ذكرتم، فهل تقولون به؟ قلنا: لا، وإنما قال به أبو حنيفة وأحمد حيث قالا: إذا ساق الهدي، لا يتحلل، بل يحرم بالحج إذا كان قد أراده، ثم يتحلل منهما جميعاً. ودليلنا: أنه متمتع فرغ من [أعمال] عمرته؛ فحل من إحرامه؛ كما لو لم يسق الهدي. وأما الخبر، فجوابه: أنه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، كانوا قد أحرموا إحراماً مطلقاً، فأمر من لم يسق الهدي يجعله عمرة، ومن ساقه بجعله حجًّا، وحينئذ فلا حجة لهم فيه؛ كذا حكاه القاضي أبو الطيب عن الشافعي، وعزاه في "البحر" إلى نصه في "الأم".

فإن قلت: قد نقل البخاري في صحيحه: أنه- عليه السلام- وأصحابه كانوا [قد] أحرموا بالحج، فأمروا أن يفسخوه بعمرة، فقالوا: يا رسول الله، هذه لنا خاصة، أم للناس عامة؟ فقال: "بل لكم خاصة"؛ وهذا معارض لما رواه الشافعي. قيل: وجه الجمع [أنه يحتمل] أن يكون- عليه السلام- أمر بعض أصحابه لا جميعهم بالفسخ، فإن جابراً روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الركب الذين كانوا معه بالفسخ، ولم يأمر الباقين بالفسخ، بل أمر من كان ساق معه الهدي: أن يجعلها حجة، ومن لم يكن ساق الهدي: أن يجعلها عمرة؛ فنقل الشافعي إحدى القضيتين، ونقل البخاري الأخرى. قال أبو الطيب: ووجه آخر: وهو أنه يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه جميعاً أحرموا إحراماً مطلقاً، وأن جبريل- عليه السلام- أمره أن يصرف إحرامه إلى الحج، ويأمر بذلك أصحابه، ففعلوا. ونقل الشافعي هذا القدر من الخبر. ثم أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفسخوا حجهم بعمرة، وقصد بذلك خلاف المشركين [في قولهم:] إن العمرة في أشهر الحج [من] أفجر الفجور، وكان الفسخ آكد في باب البيان. ونقل البخاري هذا القدر من الخبر دون ما قبله.

نعم: يستحب لمن ساق الهدي أن ينحره قبل الحلق، سواء قلنا: إنه نسك أم لا، ويستحب أن يكون عند المروة؛ كما تقدم. وقد تقدم أن المعتمر يقطع التلبية عند الشروع في الطواف، لأن به يأخذ في التحللل؛ وقد روى أنه- عليه السلام- قال: "يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر". وتقدم- أيضاً- أن العمرة ليس لها إلا تحلل واحد، بخلاف الحج، و [تقدم] الفرق بينهما. فرع: القارن بين الحج والعمرة صفة ما يفعله صفة المفرد بالحج؛ فيكفي عنهما طواف واحد وسعي واحد، لرواية مسلم عن عائشة: أنها حاضت بسرف، وتطهرت بعرفة، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك". وعن طاوس أنه كان يحلف بالله ثلاثة: ما أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرن، وطاف طوافين. وبالقياس على الحلق، فإنه يكفي فيه [حلق] واحد بالاتفاق، وبذلك يبطل مذهب المخالف، [والله أعلم سبحانه].

باب فرض الحج والعمرة وسننهما

باب فرض الحج والعمرة وسننهما أركان الحج أربعة: الإحرام، وقد تقدم ما هو؟ والأصل [في] اشتراطه قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [البينة: 5] والحج عبادة محضة، وكذا العمرة. [و] قوله- عليه السلام-: "إنما الأعمال بالنيات ... " قال ابن الخل: ولأنه من لوازم دخول مكة، فكيف في الحج والعمرة؟ ولأن كل عبادة لها إحلال وإحرام، فالإحرام ركن فيها، كالصلاة. ثم هو إجماع. قال: والوقوف- أي: بعرفة لما روي أن قوماً من أهل نجد أمروا رجلاً منهم أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -[كيف الحج؟] فسأله فأمر- عليه السلام- رجلاً [أن ينادي] "الحج عرفة، ألا إن الحج عرفة"، وقد تقدم من حديث عبد الرحمن بن يعمر. قال: والطواف- أي: طواف الزيارة- لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]. قال أبو الطيب: وليس بين المسلمين خلاف في وجوبه، وترك الجزء منه كترك الكل منه عندنا؛ فلا يتم تحلله إلا بالإتيان به وإن كان يسيراً، خلافاً لأبي حنيفة. ولو شك: هل طاف ثلاثاً، أو أربعاً؟ بني على اليقين؛ كما في عدد الركعات. نعم: قال الشافعي- رضي الله عنه-: "فإن أخبره مخبر: أنه طاف سبعة، أو ثمانية- أحببت أن يقبل قوله في ذلك". قال أبو الطيب: والفرق [بين] هذا وبين من شك في صلاته، حيث قلنا: إنه لا يقبل في الصلاة قول غيره- هو أن الزيادة في الصلاة تبطلها، والزيادة في الطواف لا

تبطله، إلا أنه [لا] يجب عليه قبول [قول] غيره في عدد الطواف؛ لأنه يخبره عن فعل نفسه؛ فهو بمثابة من أخبر الحاكم عن شيء حكم به؛ فإنه لا يلزمه قبوله. قال: والسعي؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسعى، والمئزر يدور في وسطه من شدة السعي: "اسعوا عباد الله؛ فإن الله كتب عليكم السعي"، وقد تقدم ذكر هذا الخبر. ووجه الدلالة منه: أن الشرع أوجبه، وإيجابه يقتضي إيجاده إلى أن يدل الدليل على أن غيره يقوم مقامه. [ولأنه نسك يفعل في الحج والعمرة؛ فوجب أن يكون ركناً، حتى لا يقوم الدم مقامه]؛ كالطواف. قال أبو الطيب: ولا يرد على ذلك الحلاق؛ لأنه على أصح القولين نسك، [وقد تقدم [حكاية دعوى الإمام الوفاق] في أنا إذا قلنا: إن الحلق نسك] كما هو الصحيح عند الجمهور- فهو ركن، وكذلك قال النواوي: إنه ركن في أصح القولين. وعلى هذا تكون الأركان خمسة. قال الرافعي: واعلم أن ترتيباً، ما يعتبر في أركان الحج؛ لأن ما عدا الإحرام لابد وأن يكون مؤخراً عنه، والحلق والطواف لا بد أن يكونا مؤخرين عن الوقوف، والسعي لابد وأن يكون مؤخراً عن طواف.

وإذا كان كذلك، جاز أن يعد من الأركان؛ كما عدوا الترتيب من أركان الوضوء والصلاة، ولا يقدح في ذلك عدم اعتبار الترتيب [بين الحلق والطواف؛ كما لا يقدح عدم اعتبار الترتيب] بين القيام والقراءة في الصلاة، والله أعلم. قال: وواجباته. قال في "التهذيب": وهي الأبعاض. الإحرام من الميقات، لما تقدم. قال ابن الخل: ولأنه- عليه السلام- قال: "لا يجاوز أحد الميقات إلا وهو محرم إلا من كان أهله دون الميقات". قال: والرمي، أي: إلى الليل في أحد القولين؛ لأنه- عليه السلام- فعل ذلك؛ كما ذكرناه من قبل، وقال "خذوا عني مناسككم". قال: والوقوف بـ"عرفة" أي: إلى الليل في أحد القولين؛ لأنه- عليه السلام- وقف إلى الليل، وقال: "خذوا عني مناسككم"، وهذا ما نص عليه [في] القديم و"الأم"؛ كما قال أبو الطيب، والبندنيجي. ومقابله: أنه غير واجب؛ لقوله – عليه السلام- في خبر عروة الطائي: "من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه، وقضى تفثه"، ولم يذكر المبيت، ولا أوجب لأجله دماً، ولو كان واجباً لذكره؛ وهذا ما نص عليه في "الإملاء"؛ كما قال ابو الطيب؛ [والبندنيجي]، وهو الذي صححه ابن التلمساني. والله أعلم. قال: والحلق أي: أو التقصير- في أحد القولين؛ لأنه- عليه السلام- علق الحل بالحلق، كما علقه بالرمي، وقد تقدم أن الرمي واجب، فكذلك الحلق، لكن

قضية هذا القياس: أن يجبر الحلق بالدم على هذا القول؛ كالرمي، وهو الذي يدل عليه قول الشيخ من بعد ومن ترك واجباً، لزمه دم. لكن القاضي أبا الطيب قال عند الكلام في السعي: إنه لا يجبر بالدم، وهو ينطبق على ما حكيناه عن الإمام من قبل أنه يكون على هذا القول ركناً، وادعى وفاق الأصحاب عليه، لكنا قلنا: إن في كلام غيره خلافه. وعلى هذا فالفرق بينه وبين الرمي [أن الرمي له] وقت محدود الانتهاء كالابتداء، فإذا فات لم يأت به إلا بأمر جديد، ولم يوجد. والحلق لا آخر لوقته محدوداً، فهو متمكن من إيقاعه في كل وقت؛ فلا جرم وجب عليه الإتيان به، ولم يجبر بالدم؛ كالطواف. والقول الثاني: الذي أشار إليه الشيخ هنا: أن الحلق استباحة محظور، وقد تقدم دليله. قال: وطواف الوداع في أحد القولين [أي:] لمن أراد المسير- كما تقدم لقوله عليه السلام- في حديث ابن عباس السابق: "لا ينفرن أحد حتى يكون [آخر] عهده الطواف بالبيت" أو "آخر عهده بالبيت"، وهذا أمر، [وظاهر الأمر] الوجوب. وأيضاً: فقد روي أنه- عليه السلام- رخص للحائض في تركه، ولو لم يكن واجباً لما رخص فيه؛ وهذا ما نص عليه في القديم و"الأم"؛ كما قال القاضي أبو الطيب، وهو الصحيح عند ابن التلمساني. ومقابله: أنه غير واجب، لأنه لو كان واجباً، لم يجز للحائض تركه كطواف الإفاضة. ولأنه طواف غير حابس، أو غير مشروط في الحج، أو لا يجب على الحائض- فلم يكن واجباً؛ كطواف القدوم؛ وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب عن نصه في "الإملاء"، ورجحه، وقال: إن حديث ابن عباس نحمله على الاستحباب؛ بدليل ما ذكرناه. والقائلون [بالأول] فرقوا بينه وبين طواف القدوم بأن ذلك شرع تحية للبقعة، وليس مقصوداً في نفسه، وكذلك [يدخل في طواف العمرة، وإذا كان تحية، كان كتحية

المسجد، وطواف الوداع مقصود في نفسه، وكذلك لا] يدخل تحت طواف آخر. على أن فيه وجهاً آخر: أنه يجب بتركه الدم، حكاه صاحب التقريب، والله أعلم. قال: والمبيت بمزدلفة، في أحد القولين؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - بات بها، وقال: "خذوا عني مناسككم"، وكان ظاهره الوجوب، وقد ذكرنا عن [ابن] بنت الشافعي وغيره أنه [قال: إنه] ركن في الحج. ومقابل القول المذكور في الكتاب: أنه لا يجب كالمبيت بمنى ليلة عرفة، وهو ما نص عليه في "الإملاء". قال: والمبيت ليالي منى [أي: ليالي الرمي في منى] في أحد القولين؛ لأنه- عليه السلام- رخص للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى؛ لأجل سقايته، ولو لم يكن واجباً، لما كان للرخصة معنى. ولأنه نسك يقع بعد التحلل؛ فكان واجباً كالرمي؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، والقديم؛ كما قال أبو الطيب. ومقابله: أنه [لا يجب]، لقول ابن عباس: "إذا رميت جمرة العقبة، فبت حيث شئت". ولأنه مبيت بمنى، فلم يجب بتركه دم؛ كما في ليلة عرفة؛ وهذا ما نص عليه في "الإملاء"، كما قال أبو الطيب. وقد ظهر لك مما ذكرناه: أن الخلاف في أربع مسائل، وهي الوقوف بعرفة إلى الليل، وطواف الوداع، والمبيت بالمزدلفة وبمنى ليالي الرمي بها، وهو مأخوذ من "الأم"، و"القديم"، و"الإملاء". وأن الذي نص عليه في "الأم" والقديم فيها الوجوب، وهو الذي صححه النواوي في "المناسك" في الكل.

والذي نص عليه في "الإملاء" عدم الوجوب. ولأجل [ذلك] جمع البندنيجي بين الأربع، وحكى فيها القولين؛ كما ذكرنا. لكن الصحيح في شرح ابن التلمساني- تبعاً للمرشد- فيما عدا المبيت بمزدلفة الوجوب وفي ليلة مزدلفة عدمه، فكأنهما- والله أعلم- رأيا أن [دليل] عدم الوجوب فيها هو الحديث الآخر الثابت؛ فجمعوا بين الحديثين بالحمل على الاستحباب، بخلاف باقي المسائل؛ فإن دليل عدم الوجوب فيها القياس، أو خبر لم يثبت؛ فلذلك لم يعارض قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم"؛ فاستعمل في ظاهره، وهو الوجوب. وقد تقدم أن ركعتي الطواف هل تجب أم لا؟ فإن قلت: [لِمَ] لَمْ يذكرها الشيخ كغيرها؟ قلت: لاستغنائه بما سبق. قال: وسننه- وهي التي سماها في "التهذيب": هيئات الغسل، أي: في المواضع التي تقدم ذكرها. قال: وطواف القدوم؛ لأنه تحية البيت؛ [فلم يجب]؛ كتحية المسجد. ولأنه لو وقف بعرفة قبل قدومه مكة، ولم يطف حتى نحر، ثم طاف- لم يلزمه شيء؛ فدلَّ على أنه غير واجب، وهذا ظاهر المذهب، وبه قال أكثر الأصحاب. قال أبو الطيب: وقال بعض أصحابنا: إذا أخل به، لزمه دم؛ قياساً على طواف الوداع، ثم قال: وأجاب هذا القائل عن عدم الوجوب فيما إذا وقف قبل أن يقدم مكة: بأنه ثَمَّ لم يتوجه عليه طواف القدوم؛ لأنه لم يوجد منه [إلا] قدوم مكة، وهنا قد وجد ذلك منه؛ ويؤيد ذلك أن من اجتاز بالميقات وهو لا يريد النسك: فلم يحرم، ثم تجددت له نية، فأحرم مكانه- لا يلزمه دم؛ لأنه لم يتوجه عليه الإحرام من الميقات، ولو كان في الابتداء نوى النسك، واجتاز بالميقات غير محرم، لزمه دم.

لكن قد تقدم الفرق بين طواف الوداع، والقدوم. قال: والرمل والاضطباع في الطواف والسعي- أي: في [حق] الرجال- والتقبيل، والاستلام، لأنها هيئات للعبادة؛ فحمل فعله- عليه السلام- لها على الاستحباب؛ كوضع اليمين على الشمال، والجهر بالقراءة، والتورك في الصلاة. وقول الشيخ: "في الطواف والسعي" احترز به عما أفهمه كلامه السابق: أنه يديم الاضطباع في حال صلاته ركعتي الطواف إلى أن يفرغ من السعي؛ كما ذكرناه من قبل، وحكيناه عن بعض الأصحاب. قال: والارتقاء على الصفا والمروة؛ لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]. وقيل: إنه واجب؛ لأنه لا يمكن استيفاء ما بينهما إلا به فكان كغسل جزء من الراس عند غسل الوجه، وقد تقدم الكلام في ذلك مستوفى. لكن كلام الشيخ الآتي من بعد يقتضي أن الارتقاء على قول من أوجبه يجبر بالدم، وقضية تعليله الذي ذكرناه في الباب قبله يقتضي أنه لا يجبر بالدم؛ حتى يكون إذا لم يرق تاركاً لبعض المسعى؛ فلا يعتد بما يأتي [به] بعده؛ كما تقدم. قال: والمبيت بمنى ليلة عرفة؛ لأنه للاستراحة لا للنسك، وبهذا خالف المبيت بها في ليالي الرمي؛ لأنه لأداء النسك؛ بدليل أنه مشروع لكل أحد. قال: والوقوف على المشعر الحرام- أي: إلى الإسفار- للإجماع على أنه لا يلزمه بتركه الدم؛ كما قال أبو الطيب عند الكلام في الوقوف بعرفة إلى الليل. قال: والخطب أي: الأربع والأذكار، والإسراع في موضع الإسراع، والمشي في موضع المشي؛ لأنها هيئات للعبادة، فحمل فعله- عليه السلام- لها على الاستحباب دون الإيجاب؛ كالجهر، والقراءة في الصلاة. قال: وأفعال العمرة [أي: التي ذكرها في الباب قبله] كلها أركان إلا الحلق: أما الإحرام؛ فلما تقدم في الحج. وأما الطواف والسعي؛ فلأنه العبادة المسنونة. وأما استثناء الحلق؛ فلأنه على أحد القولين استباحة محظور، ولعله رأى أنه

الصحيح؛ كشيخه أبي الطيب. وعلى القول الآخر وهو أنه نسك فقد عده من الواجبات في الحج، لا من الفروض، والعمرة تتبع الحج؛ فعدم فرضيته فيها أولى. وقد يستدل لما ذكره الشيخ بأن الأركان التي ذكرها لا يتصور سقوطها مع صحة العباد’، والحلق قد يسقط، وهو في حالة عدم الشعر؛ فلذلك لم نعده معها، والله أعلم. وقد احترز الشيخ بقوله: [وأفعال [العمرة]] عن الهيئات فيها: كالرمل، والاضطباع، وكون الإحرام من الميقات، ونحو ذلك؛ فإن الحكم فيها كالحكم فيه في الحج سواء. قال: ومن ترك ركناً، لم يحل من إحرامه حتى يأتي به، أي: سواء كان قد تركه مع إمكان فعله أو لا، كالحائض إذا لم تطف طواف الزيارة؛ لما تقدم أن الحج والعمرة يلزمان بالشروع، وكل [عبادة] يتوقف الإتيان بها على تمام أركانها؛ وهذا في غير الوقوف. أما الوقوف إذا تركه حتى خرج وقته؛ فإنه يتحلل بعمل عمرة؛ كما سيأتي في الباب بعده- والله أعلم-. قال: ومن ترك واجباً، لزمه دم؛ لقوله- عليه السلام-: "من ترك نسكاً فعليه دم" وهذا الدم شاة، فإن لم يجد فالذي حكاه العراقيون، وحكاه عنهم الماوردي، وكذا القاضي الحسين في أول الفصل: أنه يعدل إلى صوم التمتع؛ لأن دم التمتع وجب للترفه بترك أحد الميقاتين فكان مثله كل دم وجب في متروك. قال الرافعي: وهذا هو أظهر في المذهب، ولم يورد كثير من سائر الطبقات غيره؛ ولأجله قال النواوي: إنه الأصح. والذي حكاه الإمام عن المراوزة القطع بأنه يعدل إلى الإطعام، فإن لم يجد، عدل اإلى الصيام، أي: صيام التعديل: عن كل مد يوماً. قال: وهو أفقه وأغوص، ثم إنه على حسنه معتضد بنص الشافعي- رضي الله عنه- فإنه ذكر أن دم الجماع تعديلُ كما مضى، [ثم قال]: "وهكذا كل واجب عليه مقيس به"؛ فكان هذا تصريحاً منه بتعميم التعديل في كل ما ليس منصوصاً عليه على التفصيل.

وقد وافق الإمام على ترجيحه ابن كج وغيره؛ كما قال الرافعي. وحكى القاضي الحسين في موضع آخر بعد ذلك عن القفال: أنه إذا لم يجد الشاة، فإلى أي صوم يعدل؟ فيه وجهان: أحدهما: إلى صوم التعديل. والثاني: إلى صوم التمتع. قال [[الرافعي]: وفي تعليق] بعض المراوزة وجه آخر؛ تفريعاً على قول العراقيين، وهو: أن الصوم المعدول إليه صوم فدية للأذى. وقد حكى القاضي ابن كج وجهاً آخر: أن هذا الدم دم تخيير وتعديل كجزاء الصيد. قال: ومن ترك سنة، لم يلزمه شيء كالسنن في غيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب الفوات والإحصار

باب الفوات والإحصار هذا الباب مترجم [بباب] الفوات والإحصار، والمراد بالفوات هاهنا فوات الحج، لأمرين: أحدهما: قوله من بعد: "ومن فاته الوقوف بعرفة". والثاني: أن العمرة إذا كانت مفردة لا يتطرق إليها فوات؛ لأن وقتها غير محصور. نعم: إذا أحرم بها وبالحج قارناً، فقد تفوت تبعاً لفوات الحج، كما سنذكره. والمراد بالإحصار: الإحصار عما بقي على المحرم من أركان ما أحرم به من وقوف، أو طواف، أو سعي، أو جميع ذلك. قال البندنيجي: ويقال في اللغة: أحصره المرض، بلا خلاف بينهم. وأما العدو فمنهم من قال: "حصره العدو" لا غير. وعلى ذلك ينطبق قول الأزهري: قال أهل اللغة [إنه] يقلا لمن منعه خوف أو مضر من التصرف: أحصره؛ فهو محصر، ولمن حبس حصر وهو محصور. وقد حكى الجوهري وابن السكيت ذلك أيضاً، وحكاه الواحدي عن نقل الزجاج عن أهل اللغة. وعن الفراء أنه يقال أحصره العدو، وحصره، لغتان؛ كذا حكاه البندنيجي. وحكاية الأزهري عنه أنه قال: يجوز [أحصره، وحصره]، في النوعين. وعن الواحدي: أنه حكي عن الزجاج: أنه قال في موضع آخر: ويغلب: أحصر، وحصر؛ لغتان. قال الأزهري: والأول كلام العرب، والله أعلم. قال: ومن فاته الوقوف بعرفة أي: بعذر، أو بغير عذر حتى طلع عليه الفجر من يوم النحر، فقد فاته الحج، لما روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك عرفة ليلاً، فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفة ليلاً، فقد فاته الحج، فليهل بالعمرة، وعليه الحج من قابل".

ولأن الوقوف ركن لا يتم الحج إلا به، وهو مقيد بهذا الوقت؛ فيفوت بفواته؛ كالجمعة. قال: وتحلل بأفعال عمرة، وهي الطواف، والسعي، [والحلق]، للخبر؛ فإن معناه: فليأت بعمل عمرة. وقد روي أن هبار بن الأسود أتى عمر بن الخطاب يوم النحر بمنى فقال: يا أمير المؤمنين، إني أخطأت العدد، وظننت اليوم يوم عرفة، فما تأمرني به؟ فقال له عمر: "امض أنت ومن معك إلى مكة، فطف، واسع، وانحر ما استيسر من الهدي، فإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعت، وعليك القضاء من قابل". وقد روي أن أبا أيوب الأنصاري فاته الوقوف بعرفة فقال له عمر: "اصنع ما يصنع المعتمر، فإذا أدركك الحج من قابل، فاهد ما استيسر من الهدي، وعليك الحج من قابل". وروي مثل ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، ولا يعرف لهم

مخالف [من الصحابة] وقد اقتضى ما ذكرناه من الخبر إيجاب التحلل في الحال، وكلام الشيخ يفهمه أيضاً، ولأجل ذلك قال الماوردي: لو أراد استدامة إحرامه إلى العام الثاني، لم يجز؛ لأنه يصير محرماً بالحج في غير أشهره، والبقاء على الإحرام في غير أشهره كابتداء الإحرام بالحج في غير أشهره. وذِكْرُ الشيخ الحَلْقَ في هذا المقام تَفريعُ على الصحيح في أنه نسك. أما إذا قلنا: إنه استباحة محظور، تحلل بالطواف، والسعي، لا غير كما تقدم؛ قاله البندنيجي، والماوردي وغيرهما. قال ابن الصباغ: وعلى هذا يجوز أن يحلق قبل الطواف؛ لأنه تحلل بفوات الرمي، ومعنى هذا ما حكاه في "البحر" عن ابن المرزبان: أن الفائت حجه بمنزلة من تحلل [التحلل] الأول؛ لأنه لما فات الوقوف، سقط عنه الرمي؛ فيصير بمنزلة من رمى، فإن جامع لم يفسد إحرامه، وإن تطيب أو لبس، لم تلزمه الفدية. وكما يسقط الرمي بالفوات، يسقط عنه المبيت. وقال المزني: لا يسقط؛ كما لا يسقط الطواف، والسعي؛ [وقال: إن ذلك قياس مذهب الشافعي- رضي الله عنه- لأنه يأتي بالطواف والسعي] وهو بعدُ في الحج، ولا يقع ذلك عن عمرته؛ فكان كما لو أفسد الحج. قال الرافعي: وقد ذكر أن الإصطخري مال إليه، والأصحاب على مخالفته؛ لأن ذلك من توابع الوقوف؛ بدليل عدم وجوبه في العمرة؛ فوجب أن يفوت بفوات الوقوف. [قال الماوردي: ونظمه قياساً: أنه نسك عرى عن الوقوف] فوجب أن يسقط فيه الرمي، والمبيت، كالعمرة. قال ابن الصباغ: وهذا معنى ضعيف؛ لأنه [لا] دلالة له على سقوط [ذلك لسقوط] الوقوف في العمرة، وأثر عمر أولى، وأشار بذلك إلى أن عمر، ومن ذكر

معه رضي الله عنهم لم يأمروا بالرمي والمبيت، ولو كان واجباً لذكروه. وقد ذكر في المسالة قول آخر: أنه يكفيه في التحلل هنا الطواف وحده؛ لأن السعي ليس من أسباب التحلل؛ ألا ترى أنه لو سعى مع طواف القدوم، أجزأه، ولو كان من أسباب التحلل، لم يجز تقدمه على الوقوف. قال القاضي الحسين: وهذا ظاهر قوله في "حرملة"، و"الإملاء": "إذا فات الحج، أمرناه بأن يطوف بالبيت، وأُحبُّ أن يسعى" قال: والقائل بهذا لا يفصل بين أن يكون قد سعى عقيب طواف القدوم أو لم يسع. وقال الإمام: إن القائل به يوجب مع الطواف الحلق؛ إذا قلنا: إن الحلق نسك، كما ذكره الصيدلاني وغيره؛ لأنه مختص باقتضاء التحلل إذا جعلناه نسكاً، وهو ما حكاه في ["البحر" عن رواية القفال عن القديم. لكن الذي حكاه في] "المختصر" ما ذكره الشيخ، وبه أخذ بعض الأصحاب. وعلى هذا إذا كان قد سعى مع طواف القدوم، لا يحسب له ذلك؛ لأنه بطل بالفوات. ومنهم من أبقى النصين على حالهما، ولم يثبت في المسألة قولين، وقال: ما ذكره في "الإملاء" و"حرملة" محمول على ما إذا كان قد سعى مع القدوم. ونصه في "المختصر" [محمول] على ما إذا لم يكن قد سعى مع القدوم. وهذه الطريقة هي الموافقة لما في "الحاوي". وقد تقدم في كلام المزني: أن ما أتى به من الطواف والسعي لا يعتد به عن عمرة الإسلام، وهو الصحيح، لأنه لا ينقلب عمرة، وإنما هو شبيه بها، وهو نصه هنا، واستدل له بأنه أحرم بأحد النسكين، وصح منه؛ فلم ينقلب إلى النسك الآخر؛ كما لو أحرم بالعمرة؛ [فإنه لا ينقلب إلى الحج. وقولنا: "وصح منه" احترزنا به عمن أحرم بالحج] في غير أشهره؛ فإنه ينعقد عمرة؛ لأن إحرامه بالحج قبل أشهره لا يصح. وقد ذهب بعض أصحابنا كما حكاه القاضي الحسين وغيره إلى أن ذلك ينقلب عمره ويجزئه عن عمرة الإسلام [أخذاً من قول الشافعي- رضي الله عنه- فيما إذا فات القارن الحج: "إن ما أتى به يجزئه عن عمرة الإسلام].

قال الإمام: وهو مفرع على أنه يأتي بالطواف، والسعي. قال القاضي الحسين: والأصح الفرق؛ لأن القارن أحرم بنسكين معاً، فإذا فات أحدهما، بقي الآخر؛ لإدراك وقته، بخلاف المفرد؛ لأنه لم يحرم بالعمرة. قال: وعليه القضاء أي: قضاء الحج خاصة للخبر والأثر السابق. ولا فرق في القضاء بين أن يكون ما فاته هو حج الإسلام، أو حجة تطوع بها. نعم: إن كان الفائت حج الإسلام، وقع القضاء عنه. وكذا لا فرق في لزومه بين أن يكون قد أحصر بعد الفوات عن لقاء البيت أو لا لسبق وجوبه. وهل يجب [عليه] القضاء على الفور؟ فيه وجهان في "المهذب" وغيره؛ كما في الإفساد. قال البندنيجي: والمذهب: أنه على الفور، وهو الصحيح في "الحاوي" وغيره. قال: ودم التمتع أي: دم مثل دم التمتع للأثر السابق. وقد ادعى الإمام اتفاق الطرق على ذلك، ولا شك أن هذا هو المشهور، ولم يورد الأكثرون غيره. لكن حكى قولاً آخر: أنه كدم الجماع في الأحكام، إلا أن ذلك بدنة، وهذا شاة. ووجه الشبه: اشتراك الصورتين في التفريط المحوج إلى القضاء. قال: في الحال [كالبدنة في الوطء؛ ولأنه تحلل من إحرامه قبل استتمامه؛ فوجب عليه الدم في تلك الحال]، أصله: المحصر إذا تحلل، وهذا ما صححه الماوردي واختاره في "المرشد". قال: وقيل: يجب الدم في القضاء؛ لأثر عمر- رضي الله عنه- ولأن الهدي تعلق بالنسك الفائت وبقضائه في المستقبل، والهدي إذا تعلق بنسكين، وجب [في] الثاني منهما، أصله: دم التمتع؛ وهذا ما اختاره أبو إسحاق؛ كما قال في "البحر". وقد أغرب صاحب التقريب، فروى قولاً بعيداً مخرجاً، وقال: ذهب بعض الأصحاب إلى أن من فاته الحج، يلزمه دمان: أحدهما: في مقابلة الفوات. والثاني: لأنه في قضائه يضاهي المتمتع؛ لأنه تحلل عن الأول، ثم شرع في الثاني، وقد تخلل بين التحلل والشروع في القضاء التمكن من الاستمتاع، وتحلله لم

يكن عن الحج وإن كان شروعه في حج. والمشهور: أنه لا يجب غير دم واحد. وقد أفهم كلام الشيخ حكاية الخلاف في أن الدم: هل وجب في الحال، أو وجب عند القضاء؛ وهو الذي حكاه الجمهور. قال الماوردي: وعلى الأول [الأولى أن] يأتي به في عام القضاء، فإن أخرجه في عام الفوات، أجزأه. وعلى الثاني: لو أخرجه في عام الفوات؛ ففي الإجزاء وجهان: أحدهما: يحسب؛ لوجود سببه. والثاني [لا]، لأنه يتبع القضاء، فإذا لم يصح القضاء في عام الفوات، لم تصح الكفارة فيه؛ وهذا ما صححه النواوي. وقد عكس البندنيجي ذلك تبعاً للشيخ أبي حامد فحكى القولين في أنه هل يجوز إخراج الدم في سنة الفوات أو لا؟ أحدهما وهو الذي نص عليه في "الإملاء": هو بالخيار بين أن يخرجه في سنة الفوات، وبين أن يخرجه في سنة القضاء، وقال وعلى هذا يكون الوجوب في سنة الفوات. والثاني: لا يجوز إخراجه إلا في سنة القضاء؛ وعلى هذا ففي [وقت] الوجوب وجهان: أحدهما: وجب في الفوات، وإخراجه في سنة القضاء؛ [كالقضاء: وجب في سنة الفوات، والقضاء من قابل. والثاني: وجب في سنة القضاء] لأنه لو وجب في سنة الفوات، لجاز إخراجه. وقال القاضي الحسين: متى يجوز إخراج الفدية؟ فيه وجهان: أحدهما: في سنة الفوات؛ وعلى هذا لا خلاف [في] أن الوجوب يكون في هذه السنة. والثاني: في سنة القضاء؛ وعلى هذا فمتى يجب؟ فيه وجهان: أحدهما: في سنة الفوات، ويتأخر الإخراج عنه. والثاني: في سنة القضاء؛ وعلى هذا لو أخرج في سنة الفوات، فإن كان قبل التحلل، لا يجوز، وإن كان بعد التحلل وقبل الشروع في إحرام القضاء، فهل

يجوز؟ فيه وجهان؛ كدم التمتع إذا أريق بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج؛ وعلى ذلك جرى الإمام، وقال فيما لو كان عاجزاً عن الدم، فأراد الصوم: فإن قلنا: إن الوجوب في سنة القضاء، فلا يجزئه الصوم في سنة الفوات. [وإن قلنا: الوجوب في سنة الفوات] فهل يجوز؟ فيه وجهان: والأوجه، وهو الذي قطع به الصيدلاني: إيثار الصوم في القضاء. واعلم أن الوزير ابن هبيرة قال في كتابه الذي ذكر فيه ما أجمع عليه الأئمة الأربعة، وما اختلفوا فيه إن محل إيجاب القضاء عليه والهدي إذا لم يشترط التحلل عند الإحرام إذا عرض له الحصر، فإن شرط ذلك استفاد به عند الحصر التحلل، وإسقاط الهدي، والقضاء. فرع: القارن إذا فاته الحج، فهل تفوت العمرة بفواته؟ فيه قولان، حكاهما الفوراني وغيره، وقد سبق ذكرهما:

والأصح: نعم، وبه جزم القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ هنا. فعلى هذا يقضيهما ثم إن قرن في القضاء، أجزأه القضاء عنهما، وكذا إن أفردهما وعليه ثلاث دماء: [دم] لقرانه في الأداء، ودم للفوات، ودم لقرانه في القضاء، سواء قضى قارناً أو مفرداً؛ كما ذكره الماوردي، وقد حكاه في "البحر" عن رواية ابن المرزبان عن نصه في "الإملاء". وعلى مقابل الأصح وهو أن العمرة لا تفوت إذا طاف، وسعى، وحلق تحلل بذلك عن الحج، وحسب عن العمرة ولا يقضيها، وتجزئه عن عمرة الإسلام. فرع: لو عدم الدم، قال في "البحر": فحكمه حكم دم التمتع إذا لم يوجد. قال: وإن أخطأ الناس في العدد، فوقفوا في غير يوم عرفة، أجزأهم ذلك. اعلم أن هذه المسالة تصور بصورتين ذكرهما في "المهذب"، وادعى أن الحكم فيهما كما ذكره هنا: إحداهما: أن يكون قد غم هلال ذي الحجة على الناس، فأكملوا عدد ذي القعدة [ثلاثين، ووقفوا [يوم] التاسع من ذي الحجة على زعمهم، فقامت بينة بعد فوات يوم العاشر والليلة التي تليه بزعمهم على رؤية [الهلال] ليلة الثلاثين من ذي القعدة] فقد تبين لهم أنهم وقفوا في غير يوم عرفة، وهو العاشر، وإنما أجزأهم والحالة هذه ولم يجب القضاء، وهو مما لا خلاف فيه، لقوله- عليه السلام- "حجكم يوم تحجون". وروي أنه قال: "يوم عرفة الذي يعرف فيه الناس". ورواية أبي داود عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر".

ووجه الدلالة منه على هذه الرواية: أنه جعل أضحانا يوم نضحي، وفطرنا يوم نفطر، وفيه تنبيه على أن عرفتنا يوم نعرف. ولأن الآفات المانعة من الرؤية في هذا الشعر من الغيوم وغيرها لا يؤمن مثلها في الضقاء مع ما فيه من المشقة العظيمة الفادحة؛ لأن في ذلك إبطالاً للسفر الطويل والمال [الكثير]. وقال القاضي الحسين: لماذا أسقط القضاء في هذه الصورة؟ فيه معنيان: أحدهما: أنه لا يؤمن مثله في القضاء، فيؤدي إلى ما لا يتناهى. والثاني: للحوق المشقة لكافة الخلق. وأبدى لذلك فوائد: منها: أنهم لو علموا بالخطأ بعد طلوع الفجر يوم النحر هل لهم أن يقفوا بعرفة أم لا؟ قال: يحتمل وجهين: إن قلنا بالمعنى الأول، فهاهنا ليس لهم ذلك؛ حتى لو وقفوا لا يجزئهم، لأن مثل ذلك يقع نادراً ويؤمن وقوع مثله في القضاء؛ وهذا ما ادعى في "التهذيب": أنه المذهب، ووجهه بأنهم وقفوا مع يقين الصواب. قال القاضي: وإن قلنا بالمعنى الآخر؛ جاز؛ وهذا ما مال إليه الرافعي؛ وقال: إن ما ادعاه في "التهذيب" غير مسلم؛ لأن عامة الأصحاب ذكروا أنه لو قامت البينة على رؤية الهلال يوم العاشر بمكة، [و] لا يمكنهم من حضور الموقف بالليل [أنهم] يقفون من الغد، ويحسب لهم؛ كما قال الشافعي: "إذا شهد شاهدان برؤية الهلال ليلة الحادي عشر، أو بعد الزوال يوم العاشر [في زمن لا يمكن اجتماع الناس فإنهم يخرجون من الغد، ويصلون العيد أداءً للصلاة، لا قضاء" فإذا لم يحكم بالفوات لقيام الشهادة ليلة العاشر، لزم مثله في اليوم العاشر]. والصورة الثانية: أن يشهد اثنان برؤية الهلال ليلة الثلاثين من ذي القعدة، فيقف الناس [في تاسع] يوم؛ بناء على ذلك، ثم يتبين أنهما [كانا] كافرين، أو

شاهدي زور فإنه يتبين: أنهم وقفوا في غير يوم عرفة وهو الثامن، وإنما أجزأهم ذلك؛ لما ذكرناه من الخبر. ولأن مثل هذا لا يؤمن في القضاء أيضاً فكان كالمسألة قبلهاز وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب، والماوردي، وابن الصباغ، والقاضي الحسين عند الكلام في صوم الأسير، وادعى البندنيجي ثم: أنه لا خلاف فيه، وأثبته هاهنا في "البحر" وغيرُهُ من المراوزة وجهاً، وقال: إنه أقرب إلى القياس، وإنه مخرج من الأسير إذا صام قبل رمضان بالاجتهاد. وبنى القاضي الحسين الخلاف في هذه الصورة هنا على المعنيين السابقين في الصورة السابقة: والأصح عند الأكثرين كما قال الرافعي: لزوم القضاء؛ ولأجل ذلك جزم به النواوي في "المناسك"، ووجه بأن صدور مثل ذلك في سنة القضاء أيضاً نادر. وعبارة الغزالي فيه: "أن ذلك نادر، لا يتفق إلا بتوارد شهادتين كاذبتين في شهرين" أي: من سنتين، كما ذكرنا. قال: وإن وقع ذلك لنفر، لم يجزئهم وعليهم القضاء، كما وصفت؛ لما ذكرناه من خبر هبار مع عمر رضي الله عنهما. وعلته أنهم مفرطون، ومثله مأمون في القضاء، وهذا ما صححه النواوي في "المناسك". وفي "التتمة": [أنهم لو كانوا] في الموقف عدداً فيهم قلة خلاف ما هو المعهود، ففي وجوب الإعادة وجهان: وجه الوجوب: أنهم يأمنون الغلط في القضاء. وبنى القاضي الحسين الخلاف المذكور على المعنيين في الصورة الأولى، فقال: إن قلنا بالمعنى الأول، لا يجب القضاء، وإن قلنا بالمعنى الثاني وجب، وأن هذا الخلاف يقرب من الحصر الخاص؛ فإن الحصر العام يبيح التحلل، وفي الخاص قولان: وبنى على المعنيين أيضاً ما لو وقفوا ليلة الحادي عشر، وأخطأوا، وقال: الأصح: أنه لا يجزئ.

ولا خلاف أنهم لو غلطوا في المكان، فوقفوا في غير عرفة، لا يجزئهم، لبعد مثل ذلك، والله أعلم. قال: ومن أحصره أي: منعه من المضي لإتمام نسكه عدو، وهو محرم، ولم يكن له طريق غيره ذبح هدياً، أي: وأقله شاة تجزئ في الأضحية؛ كما قال الماوردي وغيره، وتحلل؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. وإنما قلنا: إن معناها كذلك؛ لأن مجرد الإحصار لا يوجب الهدي؛ فتعين الإضمار، وأضمرنا ما قلناه؛ لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. قال الشافعي: ولا خلاف بين أهل التفسير: أنها نزلت بالحديبية، حين أحصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحال المشركون بينه وبين البيت، فنحر، ثم حلق، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حلال، ولم يرجع إلى البيت الحرام هو ولا أصحابه غير عثمان بن عفان. وقد روي أنه عليه السلام قال لأصحابه بالحديبية لما صدوا "قوموا ثم انحروا، ثم احلفوا". وروى مالك عن أبي الزبير عن جابر قال: أحصرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، فنحرنا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. ووجه الدلالة من ذلك أن إحرامه - صلى الله عليه وسلم - كان حين صُدَّ بالحديبية بعمرة. وإذا جاز التحلل منها فمن الحج أولى، وقد وافق الخصم عليه. وإنما قلنا يجوز التحلل من العمرة وإن لم يخش فواتها؛ لإجماعهم على أنه لا يجوز إخراج سبب النزول من اللفظ، وإن قلنا: العبرة بعموم اللفظ؛ لأن فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة. ولأنَّا لو لم نجوز له التحلل، وأوجبنا عليه أن يقيم على إحرامه حتى يأتي بالأعمال أدى ذلك إلى إلحاق المشقة به؛ لأن الحصر قد [لا يزول إلا] بعد سنين كثيرة،

والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال عليه السلام: "بعثت بالحنيفية السهلة السمحة". وقد اقتضى كلام الشيخ- رحمه الله- أموراً: أحدها: أنه لا فرق في الحصر المرتب عليه ما ذكره بين أن يكون عن باقي أفعال الحج من الوقوف، والطواف، والسعي، أو عن بعضها، ولو بعد فوات الوقوف؛ فإنه يجب عليه كما تقدم التحلل بأفعال عمرة، أو عن الطواف والسعي في العمرة، وهو مقتضى الآية أيضاً، وبه قال أصحابنا، واستدلوا على من خالفهم بالآية كما تقدم. وقالا لإمام حكاية عن ابن سريج فيما إذا تحلل بعد فوات الوقوف: إنه يلزمه دم الفوات ودم الإحصار، ثم أشار إلى اتجاه إجراء خلاف سبق مثله فيما إذا قرن، ثم أفسد الحج، هل يندرج دم القران تحت دم الفساد؛ لأنه لم يستفد من تخفيف القران أمراً إذا أفسد عليه. ثم قال: ولست أرى لمخالفة ابن سريج وجهاً. الثاني: أنه لا فرق في العدو وهم مشركون بين أن يكون منعهم بسبب قطع الطريق أو غيره، كما هو مقتضى الآية أيضاً بل مقتضاها أنه لا فرق في المانع بين أن يكون كافراً، أو مسلماً، أو سلطاناً، أو غيره، لإطلاقها، وإن كانت قد وردت على سبب خاص، وهو صد المشركين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البيت؛ كما تقدم لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد قال به الأصحاب، واستدلوا مع ذلك بما روي [أن] ابن عمر خرج إلى مكة للعمرة في زمن الفتنة، فقال: "إن أحصرنا صنعنا كما صنعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". قال الشافعي: معناه: أحللنا كما أحللنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبالقياس: فإن المحصر بقطاع الطريق، أو بطلب الضرائب، أو بغيرهما مصدود عن البيت، فجاز له التحلل، كالمحصر بالمشركين.

وهذا الحكم يؤخذ من كلام الشيخ أيضاً إن لم يجعل لفظ العدو يشمل المعادي من الكافرين والمسلمين؛ لأنه إذا جاز له التحلل عند منع الكفار مع أن قتالهم مع القدرة عليه مندوب [إليه] كما ستعرفه، فجوازه عند منع المسلمين مع أن الأفضل ترك قتالهم مع القدرة عليه أولى. وقد أخرج الشيخ بلفظ العدو المحصر بالمرض، وسيأتي حكمه. الثالث: أنه لا فرق في جواز التحلل عند الحصر بين أن يكون الحصر عاماً؛ لحصر جميع الناس، أو خاصاً؛ كما إذا حبس شخص أو جماعة يسيرة ظلماً في الظاهر والباطن [أو في الباطن] فقط؛ كالحبس بدين معجوز عن أدائه، وهو مقتضى الآية أيضاً، وهو الذي حكاه العراقيون. وقال المراوزة: الحصر الخاص هل يفيد التحلل كالعام أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: نعم، وهو الأوجه عند الإمام، وبه قطع بعضهم أيضاً لما ذكرناه. والثاني: لا؛ كما لو ضل عن الطريق. قال الإمام: فإن قيل: كيف يطرد المراوزة ذكر القولين في جواز التحلل مع إجماع الأصحاب على أن العبد إذا أحرم بغير إذن مولاه [فمنعه المولى] فله التحلل، وهذا حصر خاص؟ قلنا: لأن العبد أدى بإحرامه ما يسلط المولى على حله، وهذا المعنى لا يتحقق في منع يطرأ من ظالم على المحرم؛ فإن ذلك مسبوق بتأكد الإحرام. الرابع: أنه لا فرق في جواز التحلل عند المنع بين أن يكون قادراً على دفعه بقتال، أو دفع مال، أو غير قادر، وهو مقتضى الآية، وبه صرح العراقيون، والماوردي، ووافقهم المراوزة على ذلك، في حالة العجز، وحالة القدرة بدفع المال، وأما في حالة القدرة بالقتال، فإن كان المانع من المسلمين، فالأمر كذلك، وإن كان من الكفارن قال الإمام: فقد قال بعض المصنفين: إذا كان المسلمون على الحد الذي لا يجوز الفرار معه، ولم يزد الكفار على الضعف يجب مصادمة الكفار، ولا يجوز

التحلل، وهذا ما ذكره في "الإبانة". قال الإمام: وهذا كلام مخلط، وقد نص الأئمة في الطرق على جواز التحلل، سواء كان الأعداء مسلمين أو مشركين؛ فإن الحجيج يكونون على أهبة القتال في أغلب الأحوال؛ فلا يجب القتال لذلك، وقد لا يسوغ إذا منعنا الاستقلال كما سيأتي في كتاب الجهاد. فإن كان الحجيج متأهبين للقتال، وقد صدمهم الكفار، فلا فرار إذا تجمعت الشرائط المعتبرة في تحريم الفرار، فإذا تعين الاشتغال بالقتال، فلا معنى للانصراف، ولا سبيل إلى التحلل إذا امتنع الانصراف؛ ولأجل ذلك قال في "الوسيط": إذا لم يزد عدد الكفار على الضعف، تعين القتال إن كان معهم أهبته، ولا يجوز التحلل. قلت: لكن كلام الإمام مخصوص بحالة الالتقاء؛ لأنها الحالة التي لا يجوز فيها الفرار وما قاله الغزالي لا يقتضي التخصيص بذلك، بل هو جامع لما قاله الفوراني، وبعض ما قاله الإمام، وكلام الإمام لا يخالف ما ذكره العراقيون، فإنهم استدلوا لعدم وجوب القتال- كما نص عليه الشافعي- بقوله: كما قال ابن الصباغ والماوردي: إن قتال المشركين لا يجب إلا أن يبدءوا بالقتال، أو يستنفر به أهل الثغور إلى قتالهم؛ ولهذا لم يقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، والله أعلم. ثم قال العراقيون: إذا قدر المحصر على زوال المنع ببذل مال، فإن كان المانع من الكفار، كان بذله مكروهاً؛ لأن فيه وَهَناً للإسلام من غير ضرورة، وإن كان من المسلمين، جاز بذله من غير كراهة. وإن قدر على زوال الحصر بالقتال، فإن كان المانع من المسلمين، فالتحلل أفضل من قتاله؛ لأنه ربما أفضى إلى القتل، والتحلل أخف منه، وقد وافقهم المراوزة على ذلك. وإن كان من الكفار: فإن كان فيهم قوة، وفي المسلمين ضعف، فالترك أولى كي لا يكون وَهَناً للإسلام. وإن كان في المسلمين قوة، وفي الكفار ضعف، فالقتال أولى؛ للجمع بين إتمام النسك، ونصرة الدين؛ وحينئذ إن احتاجوا في القتال إلى لبس الدروع والبيض، لبسوا وافتدوا؛ كما لو لبس لحر أو برد.

الخامس: أن التحلل واجب، وهو ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه "قوموا فانحروا، ثم احلقوا". وقد أفهمه قول أبي الطيب أيضاً حيث قال عقيب ذكره هذا الخبر وهذا إنما يجب للتحلل، فدل على أن التحلل واجب، وكلام الأصحاب دال على أنه غير واجب؛ كما سنذكره، بل صرح القاضي أبو الطيب من بعد، والبندنيجي، وغيرهما بأنه ليس بواجب. السادس: أنه لا فرق في جواز التحلل بين أن يكون الوقت ضيقاً أو واسعاً، وقد أحصر عن الوقف وهو مقتضى الآية، وعليه يدل فعله عليه السلام؛ فإنه حيث أحصر وتحلل، كان محرماً بعمرة، وهي لا تفوت. وما اقتضاه كلام الشيخ هو ما صرح به الأصحاب، وقالوا: إن كان الوقت واسعاً، فالمستحب له البقاء على إحرامه، وإن كان ضيقاً، فالمستحب له أن يتحلل، كي لا يلزم نفسه ما قد يشق عليه فعله، فإنه إذا لم يتحلل حتى فاته الوقت، لزمه القضاء؛ كما قال العراقيون قولاً واحداً وإن كان في طريق المراوزة حكاية قولين فيه. وقال الرافعي: إنها أظهر الطريقين، ويلزمه- مع القضاء، أو دونه [إذا زال] الإحصار قبل التحلل: الطواف، والسعي، ودم الفوات. وإن لم يزل الحصر، وجب عليه دم الفوات، ودم الإحصار. وفي "الحاوي": أن ما ذكرناه من استحباب البقاء على الإحرام والتحلل منه مصور بما إذا كان يتحقق زوال الحصر بعد مدة لا يمكنه بعدها إدراك عرفة، وكان يرجو زواله قبل ذلك، فلو كان يتحقق أنه لا يزوال إلا بعد الفوات، فالأولى له التحلل في الحال بكل حال. وكلام البندنيجي الذي حكاه عن نصه في "الأم" عند الكلام في الحصر الخاص يوافق [ذلك] وإن كان يتحقق [زوال الحصر قبل فوات وقت الوقوف، ويمكنه من الإدراك، لم يجز له التحلل. وقال فيما إذا كان قد أحرم بالعمرة: إن تحقق زوال الحصر بعد يومين أو ثلاثة، لم

يجز له التحلل، وإن كان يتحقق]: أنه يزول بعد مدة طويلة، كالشهر، ونحوه، فهو كما لو تحقق أن الحصر يزول بعد فوات وقت الوقوف وقد أحرم بالحج، وقد تقدم بيانه. السابع: أن ذبح الهدي يكون قبل التحلل عند إرادته، وهو ما اقتضاه قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وبه صرح العراقيون؛ لأن ذبح الهدي قائم مقام ما عجز عنه من أسباب التحلل. وحكى المراوزة في جواز التحلل قبل الهدي مع القدرة عليه قولين: والقائل بالجواز يحتاج إلى أن يضمر بعد قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} وتحللتم {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ}. قال الإمام: وعلى هذا فلا يقع التحلل بفعل من الأفعال. وقد يبتدر فهم بعض الناس إلى أن التحلل يقع بالحلق، وليس الأمر كذلك؛ فإن القول وإن اختلف في أن الحلق هل هو نسك أم لا؟ في أوان التحلل بالنسك الجاري على النظام لم يختلف بأنه ليس بنسك في حق المحصر، وإذا كان كذلك، فلا يحل إلا بالقصد الجازم سببه بما ذكرناه [عن] أئمتنا، وصرح به العراقيون، فإذا تحلل بالنية، أراق الدم.؟ وهذا منه يدل على أن الخلاف في جواز تأخير الإراقة عن التحلل مذكور في طريقة العراق أيضاً. ثم قال: والذي يجب التنبيه له: أن دم الإحصار إذا أجريناه على قياس الدماء يعني: في كونه له بدل فهو دم جبران، وسببه التحلل عن الإحرام قبل أوانه، وإذا كان كذلك بعد ربط التحلل بإراقة الدم، فإن الإراقة موجب التحلل، فليتصور تحلل موجب لها؛ اعتباراً بكل مُوجِب، ومُوجِب [في] الكفارات. ثم لو وفينا هذا الأصل حقه، لجعلنا تقديم الإراقة على التحلل بمثابة تقديم فدية الأذى على الحلق، وفي جواز ذلك وجهان، لكنهم لم يختلفوا في أن تقديم الإراقة جائز. وأجاب عن ذلك بأن التحلل عن الإحرام من غير سبب مشكل، وأسباب التحلل كلها منتفية في حق المحصر، فأثبت الدم في إفادة التحلل حالاً محل أسباب التحلل

في حق المستمر على نظم النسك من غير صد. ولا ينبغي أن يعتقد أن دم الإحصار بدل عما صُدَّ المحرم عنه؛ فإنه مصدود عن الأركان، والأركان لا بدل لها، ولو كان بدلاً عنها، لأجزأه ذلك عن فرضه، وليس كذلك. الثامن: أنه يجوز ذبح هذا الهدي في غير يوم النحر، وفي غير الحرم؛ كما صرح به غيره، وقد تقدم ذكره. التاسع: أن نية التحلل عند الذبح وغيره ليست بشرط؛ إذ لو كانت شرطاً لذكرها؛ فإنه يحتاج بعد الذبح إلى فعل يحصل به التحلل. وقد قال الأصحاب: إنه لابد من نية التحلل عند الذبح؛ لأجل الحصار، وما يفعله من بعد وهو الحلق، وإن كان ذلك لا يعتبر عند التحلل في غير الإحصار، وفرقوا بوجهين: أحدهما: أن غير المحصر قد أتى بكمال أفعال العبادة، فتحلل منها بإكمالها، وليس كذلك المحصر؛ لأنه يريد الخروج من العبادة قبل إتمامها؛ فافتقر إلى قصد ذلك. والثاني: أن الهدي قد يكون لغير التحلل، وكذلك الحلق؛ فلا يختصان بالتحلل إلا بالقصد، بخلاف الرمي، فإنه لا يراد إلا للنسك؛ فلم يفتقر لقصد التحلل. وأما فعل شيء بعد الذبح، فقد قال الأصحاب: إنه ينبني على أن الحلق نسك أم لا؟ فإن أوجبناه، توقف تحلله هنا عليه؛ كما قلنا: إنه يفهمه كلام الشيخ، ويجب أن تكون نية التحلل مقرونة به. وإن قلنا: إنه استباحة محظورة فقد حَلَّ بمجرد ذبحه مع إرادة التحلل. وقد أخرج الشيخ بقوله: "وهو محرم" ما إذا أحصر عن الرمي والمبيت في لياليه بعد التحللين؛ فإنه لا يفيده الإحصار إلاَّ عدم الإثم؛ فإن الأيام إذا مضت، وجب عليه؛ لأجل ترك الرمي ما يجب عليه لو ترك ذلك بدون الإحصار. وأما لترك المبيت فينبغي أن يكون ما يجب عليه مبنياً على أن من له عذر غير السقاية والرعي، هل يلحق بهما؛ إذا قلنا بوجوب المبيت أم لا؟ فإن ألحقناه بهما، لم يجب هنا شيء، وإلا وجب.

نعم: لو أحصر بعد التحلل الأول، أفاده الحصر التحلل الثاني؛ ليستبيح النساء. قال في "البحر": فإن انكشف العدو، وأحرم إحراماً ناقصاً، وأتى بما عليه من الرمي، والطواف قولاً واحداً. أما إذا كان له طريق غيره فمقتضى إطلاق الآية الجواز؛ لأنه قد أحصر. لكن الأصحاب قالوا: إنه ينظر في الطريق الآخر، فإن كان مما لا يجب سلوكه لو لم يكن ثم طريق غيره، [فهو كالمفقود، وإن كان يجب سلوكه لو لم يكن ثم طريق غيره]، وجب [عليه] سلوكه، سواء كان قصيراً أو طويلاً يأمن إذا سلكه فوات الوقوف، وكان قد أحرم بالحج، أو يتحقق معه الفوات، ولا يجوز له التحلل؛ لأنه لم يوجد في حقه اسم المحصر مطلقاً. نعم: إذا حصل الفوات في هذه الحالة، فهل يجب عليه القضاء إذا كان ما أحرم به تطوعاً؟ فيه قولان منصوصان في "الأم" و"المختصر الأوسط من الحج"؛ كما قال البندنيجي: أحدهما: نعم [كما] لو أخطأ الطريق، ففاته ذلك؛ فإنه [لا يجب] القضاء بلا خلاف، وهي قضية أبي أيوب الأنصاري التي قضى فيها عمر بما ذكرناه، وهذا ما نسبه في "البحر" إلى نصه في مختصر الحج وهو الذي أورده الجمهور. والثاني: [لا]؛ لأن سبب الفوات الإحصار، والفوات بالإحصار لا يوجب قضاء وما تطوع به؛ كما سنذكره؛ وهذا ما اختاره في "المرشد"، وصححه الماوردي، وصاحب "البحر". وفي "تعليق القاضي الحسين": أن هذا الطريق إن كان أبعد من الطريق الذي أحصر فيه، ووجد الزاد، فهل يجوز له التحلل فيه وجهان: وجه الجواز: أنا [لو] لم نجوزه له، أدى إلى أن يطوف حول جميع الدنيا، وتلحقه مشقة عظيمة. وقد قيد الإمام محلَّ القولين في القضاء [بما] إذا كان الطريق الآخر أبعد من

الذي صُدَّ فيه، وقال فيما إذا كانا متساويين في كل معنى: فهذا فوات محض، يجب القضاء فيه لا محالة. قلت: وتوجيهه: أنه مع التساوي كما ذكر يكون عدم الإدراك؛ لتقصير في الابتداء، أو الدوام، والفوات بالتقصير لا خلاف في وجوب القضاء به. دليله: ما إذا أحرم من بلده في عشر ذي الحجة، وبينه وبين مكة أكثر من شهر، والمرأة إذا أحرمت، ثم طرأت عليها العدة، منعت من المضي؛ لأجل العدة. قال ابن كج: وليس لها أن تتحلل إلا إذا كانت عن طلاق رجعي، فراجعها، ثم للزوج أن يمنعها، فإذا منعها، تحللت، وإذا لم يراجعها، وانقضت العدة، مضت في الحج، فإن فاتها، كان في وجوب القضاء عليها القولان، حكاهما الفوراني، والنواوي. فرع: إذا شرط في إحرامه التحلل عند الحصر، فهل يؤثر شرطه أم لا؟ منهم من قال: نعم؛ حتى يكون في لزوم الدم له عند التحلل وجهان كما يأتي: ومنهم من قال: لا، قال الإمام: وهو الأصح؛ لأن ما ذكره بالشرط ثابت قبله؛ فلُغي، والله أعلم. قال: فإن لم يكن معه هدي "أي: [ولا"] ثمنه أو كان معه ثمنه، ولم يجده؛ كما قال الماوردي، ففيه قولان، أي: منصوصان في "الأم" كما قال البندنيجي: أحدهما: لا بدل للهدي؛ لأنه لو كان له بدل لذكر؛ كما في هدي التمتع، وجزاء الصيد؛ فعلى هذا يبقى في ذمته إلى أن يجد. والثاني: له بدل؛ لأنه هدي تعلق بالإحرام؛ فكان له بدل؛ كهدي التمتع؛ وهذا ما صححه النواوي، وغيره، واختاره في "المرشد". قال: وهو الصوم؛ لما تقدم؛ وهذا ما أورده البندنيجي، والماوردي عند الكلام في الدماء لا غير. وكلام القاضي الحسين يرشد إلى أنه المذهب، وهو الذي نص عليه في "المختصر" والله أعلم. وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: صوم التمتع؛ لما ذكرناه، وهو قول الصحابة، فيصوم عشرة أيام. والثاني: صوم الحلق؛ لأنه وجب للترفه؛ فيصوم ثلاثة أيام. والثالث: صوم التعديل عن كل مد يوماً لأنه أقرب إلى الهدي؛ وهذا ما نص عليه في مختصر الحج، واختاره المزني؛ كما قال القاضي الحسين. [وقد عد] في "المهذب" وابن الصباغ هذه الأقوال وجوهاً. والذي حكاه الشيخ هنا هو المشهور وحكوا [الذي أورده الجمهور] على قولنا: إن للهدي بدلاً مع ما ذكره الشيخ هنا قولين: أحدهما: أن بدله الإطعام؛ لأن الإطعام قيمة الهدي؛ فكان رعايته أولى من الصوم؛ وهذا ما نص عليه في "الأوسط". وقال القاضي الحسين: إنه أومأ إليه في "المختصر"؛ فإنه قال: تقوم الشاة دراهم، ثم الدراهم طعاماً، ويتصدق، أو يصوم عن كل مد يوماً؛ وهو الذي صححه النواوي؛ وعلى هذا ما ذاك الطعام؟ فيه وجهان: أحدهما: طعام التعديل، وهو الذي قاله في "المختصر"؛ كما قدمناه. والثاني: طعام [فدية الأذى]، وهو ثلاثة آصع لستة مساكين؛ لأنه أشبه به. والقول الثاني: قال في "البحر": وهو من تخريج الأصحاب أن بدله صوم الحلق، أو الإطعام فيه، والخيرة إليه في ذلك؛ لأنه أشبه به؛ وهذا ما اختاره في "المرشد". وحكى في "الإبانة" قولاً آخر، وهو ما قال في "البحر" إنه الأصح من الأقوال: إنه يقوم الهدي دراهم، والدراهم طعاماً، ويؤديه إن أمكنه، فإن لم يمكنه، صام عن [كل] مُدٍّ؛ قياساً على جزاء الصيد في التعديل، دون التخيير، وعلى دم التمتع في الترتيب. وسلك الماوردي طريقاً آخر، فقال: إن كان قد عدم لإعساره، فبدله الصوم، وفيه الأقوال الثلاثة، وإن كان قد عدمه لتعذره مع القدرة على المال، فهل يكون البدل الذي ينتقل [إليه] طعاماً أو صياماً؟ فيه ثلاثة أقوال: [أحدها: صياماً، وفيه الأقوال].

والثاني: طعاماً، وما هو؟ فيه الوجهان [السابقان]. والثالث: أنه يتخير بين الطعام والصيام؛ كفدية الأذى. وعلى هذا إن اختار الصيام، ففيه الأقوال، وإن اختار الإطعام، ففيه الوجهان، والله أعلم. قال: وفي تحلله قبل أن يصوم أي: إذا لم يجد الهدي في أحد القولين أي: وهو أن له بدلاً، وهو الصوم أو قبل أن يهدي في القول الآخر [أي]: وهو قولنا: لا بدل للهدي قولان: وجه المنع: قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ولم يفرق. ولأنه في حالة العجز قادر على الصوم؛ فتوقف تحلله عليه، كما توقف على الهدي عند القدرة. ووجه الجواز: أنه إنما شرع التحلل للمحصر؛ دفعاً للمشقة، فلو وقفنا حله على صومه، أو على ذبحه الهدي، وهو عاجز عنه- لحقته المشقة؛ وهذا ما صححه النواوي؛ تبعاً للرافعي وغيره. قال الأصحاب: وعلى هذا إذا قلنا: لا بدل له، تحلل بالنية، والحلق؛ إن قلنا إنه نسك، وإلا تحلل بالنية وحدها. وقد بنى الإمام القولين في تحلله قبل الهدي إذا قلنا: لا بدل للهدي على القولين في أن الهدي لو كان موجوداً، هل يقع التحلل قبله أو بعده؟ فإن قلنا: قبله تحلل، وبقي الهدي في ذمته. وإن قلنا: بعده، فهاهنا قولان: والقولان في الكتاب يجريان كما قال في "المهذب" وغيره فيما إذا قلنا: بدله غير الصوم إما تعيناً، أو على حكم التخيير، فاختاره، هل يتحلل قبل الإتيان به عند العجز أو لا يتحلل ما لم يأت به؛ كما لو كان قادراً عليه؟ وقال الإمام: إن حكم تحلله قبل إخراجه مع وجوده وعدمه كحكمه [في]

الهدي نفسه؛ فيجيء في جواز التحلل قبل إخراجه مع القدرة القولان. قال: والخلاف في التحلل قبل الصوم إذا جعلناه بدلاً مرتبُ على الخلاف في التحلل قبل إخراج البدل، وأولى بالجواز؛ لأن مدته أطول من مدة إخراج ما عداه. قال: ومن أحصره مرض، لم يتحلل إلا أن يكون قد شرط ذلك في الإحرام؛ لما روى أبو داود [عن ابن عباس] أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إني أريد الحج أشترط؟ قال: نعم قالت: فكيف أقول؟ قال: "قولي: لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني" قال في مختصر السنن: وأخرجه مسلم. و [أخرجه] البخاري ومسلم من حديث عروة عن عائشة. ورأيت في مسلم من حديث ابن عباس أن ضباعة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: "إني امرأة ثقيلة، وإني أريد الحج، فما تأمرني؟ قال: أهلي بالحج، واشترطي أن محلي حيث حبستني" قال فأدركت. وقد زاد النسائي فيه: "فإن لك على ربك ما استثنيت". ووجه الدلالة من ذلك على الجواز عند الاشتراط ظاهر، وعلى عدمه عند عدم الشرط: أن المرض لو كان مجوزاً للتحلل؛ كما صار إليه أبو حنيفة؛ تمسكاً بالآية لما أمرها بالشرط. قال الماوردي: وهو إجماع الصحابة؛ فإن الشافعي روى عن مالك عن أيوب السختياني: أن رجلاً من البصرة خرج؛ ليحج، فوقع من بعيره، فانكسرت فخذه، فبعثوه إلى مكة، وبها عبد الله بن عمر، وابن عباس، والناس، فلم يأذن له أحد في

التحلل، فبقي سبعة أشهر، ثم تحلل بعمرة، ولم يعلم في الصحابة مخالف لهذا القول؛ فثبت أنه إجماع، ويخالف المحصر من وجهين: أحدهما: أن الحصر يمنع الوقوف، بخلاف المرض. والثاني: أنه يتخلص من أذى العود ومقاساته، ويرجع إلى وطنه، والمريض لا يزول بالتحلل مرضه. فإن قيل: يلزم على هذا الفرق: أن العدو إذا أحاط بالمحرم من جميع الجهات، وحصره عنها، أنه لا يجوز له التحلل؛ لأنه لا فائدة [له] فيه. قال الماوردي: قلنا: ليس للشافعي رضي الله عنه في هذه المسألة نص، [واختلف أصحابنا فيها على وجهين]، وحكاهما في "الشامل"، وفي "الوسيط" [حكاهما] قولين: أحدهما: لا يتحلل؛ لما ذكرناه. والثاني: وهو الصحيح: أنه يتحلل؛ لأنه يتخلص عن بعض الأذى، وهو العدو الذي في وجهه؛ لأنه بالإحلال والعود لا يحتاج إلى الغارة. وأما ما تمسك به الخصم من الآية حيث قال: إن لفظة "أحصر" مختصة بالحصر بالمرض؛ كما حكاه الأزهري وغيره، أو هي مستعملة في الحصر بالعدو وبالمرض؛ كما قاله آخرون؛ فتستعمل فيهما. فجوابه: أن استعمالها فيهما إن كان لكونه حقيقة في أحدهما، ومجازاً في الآخر، فعنده أنه لا يجوز أن يستعمل اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، وقد ثبت جواز التحلل بالعدو بما ذكرناه، عملاً بالآية فثبت أنها لا تستعمل في المرض. وإن كان لكونه حقيقة فيهما، فقد دلت الآية على إرادة الحصر بالعدو؛ حيث قال سبحانه: {فَإِذَا أَمِنتُمْ} [البقرة: 196] فتعين والله أعلم. وغير المرض من الأعذار، مثل: إعواز النفقة، والضلال في الطريق، والخطأ في العدد كما قال البندنيجي عند الشرط وعدمه كالمرض. وعند الشيخ أبي محمد اختصاص المرض [بذلك] وأنه لا يطرد فيما إذا شرط التحلل عند الضلال، ونحوه؛ لأن المجوز للتحلل بالشرط في المرض [إنما

هو] الخبر، والأقيسة لا تجول في المضايق، والجمهور على الأول. ثم ما ذكره الشيخ من الجواز عند الشرط هو الذي حكاه الأصحاب عن نصه في القديم، ومنهم البندنيجي هنا، وقالوا: إنه علق القول فيه في الجديد، فقال: إن صح حديث ضباعة قلت به. وعكس القاضي الحسين ذلك في كتاب الاعتكاف، فقال: الذي نص عليه في الجديد: أنه لا يجوز له الخروج لوقوع العارض، وقال في القديم: "إن صح حديث ضباعة قلت به" فمن الأصحاب من أثبت لأجل ذلك قولين في المسألة: أحدهما- وهو القديم-: الجواز. والثاني- وهو الجديد-: المنع. وعلى ذلك جرى الإمام والفوراني؛ فحكيا القولين هكذا من غير نقل التعليق. ووجه المنع بأنه عبادة لا يجوز الخروج منها بغير عذر، فكذا مع العذر والشرط؛ كما في الصلاة، وقد كان ابن عمر ينكر الاشتراط في الحج. قال الإمام: وعلى هذا يحمل الحديث على أمرها بالإهلال، وإعلامها أن محلها حيث تتوفى، فكأنه قال: أَهِلِّي، فإن حبسك أجلك، فإن كل نفس تذوق الموت. ومنهم من قال: قد صح حديث ضباعة؛ فتعين الجواز، وهو الصحيح. ولأن الإحرام يجب به النسك؛ كما يجب بالنذر، ثم ثبت أنه إذا شرط في النذر أن يصوم إن كان حاضراً أو صحيحاً، صح شرط ذلك في الإحرام. وأما إنكار ابن عمر، فلعله لم يبلغه الخبر. قال البيهقي: ولو بلغه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينكره كما لم ينكره أبوه فيما رويناه عنه. وضُباعة: بضم الضاد المعجمة، وباء ثانية الحروف مفتوحة، وبعد الألف عين مهملة، وتاء تأنيث، وهي بنت عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. و"محلي" المذكور في الحديث بكسر الحاء. وقد رأيت فيما وقفت عليه من "تعليق البندنيجي" في كتاب الاعتكاف: أن في القديم إن شرط الخروج من الحج بالمرض لا يصح، وفي الجديد [أنه] يصح.

ولم أر ذلك في غيره. ولا فرق على المشهور إذا قلنا إن للشرط أثراً: بين أن يكون في فرض الإسلام، أو ما نذره، أو تطوع به. وحكى القاضي الحسين في كتاب الاعتكاف أن الداركي خص الجواز بالحج المنذور، والتطوع، فأما مَنْ أحرم بحجة الإسلام، وشرط هذا عند الإحرام، فلا يكون له الخروج؛ لأنا لحج لزمه من غير الشرط، وليس له إسقاطه؛ لأنه يؤدي إلى إسقاط العبادة. فرع: إذا قلنا بما ذكره الشيخ، كان عند وجود الشرط كالمحصر بالعدو. وحكى الإمام وجهاً: أنه لا يجب عليه الهدي، والمشهور وجوبه، اللهم إلا [إذا] شرط أنه إذا وجد المرض ونحوه، تحلل من غير دم، أو شرط أنه إذا وجد المرض ونحوه صار حلالاً، فلا يجب عليه الهدي. قال القاضي أبو الطيب: ومن أصحابنا [من قال: يجب الدم بكل حال، ومنهم] من قال: إنه لا بد من التحلل وإن شرط أنه يصير حلالاً بوجود الشرط. قال القاضي الحسين والفوراني: وهذا بخلاف ما لو شرط التحلل يباح له التحلل، لأن للتحلل مدخلاً في الحج، فأما كونه حلالاً بلا تحلل، فلا مدخل له في الحج أصلاً. قال في "البحر": وعلى هذا هل يلزمه الدم أم لا؟ فيه وجهان: المنصوص: أنه يصير حلالاً عند وجود الشرط، وأنه لا يلزمه الدم، وعليه حمل ما رواه أبو داود عن عكرمة قال: سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من كسر أو عرج، فقد حَلَّ، وعليه الحج من قابل".

قال عكرمة: فسألت ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهم فقالا: صدق. وفي رواية: "من عرج، أو كسر، أو مرض"، وأخرجه النسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن. وإنما حملناه على ذلك؛ لأنه لا يمكن حمله على ظاهره بوفاق الخصم، وهو أبو حنيفة؛ فحملناه [نحن] على ما ذكرناه، وكذا حملنا قوله: "وعليه الحج من قابل" على ما إذا كان ما أحرم به فرض الإسلام، وقد استقر في ذمته. وسلك الرافعي في التفريع على ما ذكرناه طريقاً آخر، فقال: إن شرط: أنه إذا وجد المرض، تحلل بالدم، أو بغير دم، اتبع شرطه، وإن أطلق، فوجهان في وجوبه: أظهرهما، وبه قال أبو إسحاق والداركي: عدم اللزوم. وقد فرع الشافعي في القديم على صحة الشرط أنه لو قال "إذا فاتني الحج، كان إحرامي بعمرة" كان على ما شرط. ولا خلاف أنه إذا شرط: أن يخرج من إحرامه متى شاء لا يصح الشرط، قاله ابن الصباغ، وغيره. قلت: وكان يتجه إذا ألحق بالإحرام بالنذر أن يكون الحكم في هذه الحالة كالحكم في النذر، وقد تقدم ذكره في باب الاعتكاف. قال: وإن أحرم العبد بغير إذن مولاه، جاز له أن يحلله. اعلم أن العبد لا يجوز له أن يحرم بحج أو عمرة بدون إذن سيده؛ لما فيه من تفويت [منفعته] المملوكة لسيده، فإن أذن له في ذلك، جاز ولا يجب عليه.

قال في "الحاوي": وغلط بعض أصحابنا، فقال: للسيد إجباره على ذلك، كما يجبره على غيره من الأعمال. وإذا أذن له في العمرة، لم يكن له أن يحرم بالحج، سواء أحرم بالعمرة أو لا، وكذا لو أذن له أن يحرم بالحج في [ذي] القعدة، لم يكن له أن يحرم به في شوال. نعم: لو أذن له في أن يحرم بالحج، جاز له أن يحرم بالعمرة، وبهما قرآنا: لأن أعمال القران كأعمال المفرد. فإذا عرفت ذلك، وأحرم العبد بدون إذن سيده، فإحرامه صحيح؛ كما يصح بالصلاة، والصوم، وهو الذي أفهمه كلام الشيخ، وللسيد [تحليله؛ صيانة لحقه. وكذا حكمه فيما لو أذن له في الإحرام، ثم رجع عنه، وعلم العبد برجوعه قبل أن يحرم، ولو لم يعلمه حتى أحرم، ففيه وجهان: قال الرافعي: أصحهما جواز] تحليله أيضاً وهما مخرجان من اختلاف قوليه في الوكيل إذا تصرف بعد العزل وقبل العلم، هل ينفذ أم لا؟ قال الإمام: وإطلاق القول بأن له تحليله مجاز بلا خلاف؛ فإن التحلل لا يحصل إلا من جهة العبد، ولو أراد السيد تحصيله دون العبد، لم يجد إليه سبيلاً عندنا، بل الذي للسيد منعه من المضي، واستخدامه في الجهات التي يستخدمه فيها. وقد حكى عن ابن كج رواية وجه: أنه ليس له تحلله إذا أحرم بغير إذنه؛ لتعينه بالشروع تخريجاً من أحد القولين في الزوجة إذا أحرمت بالتطوع. والمنصوص المشهور ما ذكره الشيخ. ثم حيث قلنا: له ذلك، فقد قال الشافعي- رضي الله عنه- أحب له أن يدعه؛ لما في ذلك من إبطال العبادة؛ فإن لم يفعل حبسه، وكان له التحلل؛ لأنه إذا جاز للمحصر بغير حق، فالمحصر بحق أولى، وإذا أراد ذلك، كان حكمه في الهدي حكم المحصر الحر المعسر. قال البندنيجي: ولا يجيء فيه القولان في أن بدل الهدي الإطعام أو يتخير، بل يتعين الصوم بدلاً في حقه، وبهذا يتأيد ما أسلفنا حكايته عن "الحاوي" في الحر المعسر.

وحكى البندنيجي والماوردي وأبو الطيب وغيرهم عن أبي إسحاق: أنه يتحلل قبل القدرة على الدم، وقبل الصوم قولاً واحداً، بخلاف الحر المعسر؛ لأنه إنما أمر بالتحلل؛ لدفع الضرر عن سيده، وفي البقاء على إحرامه أعظم إضرار به. وقد صحح الرافعي هذه الطريقة، وحكى الإمام مثلها عن الصيدلاني فيما إذا قلنا: لا بدل للهدي أو بدله غير الصيام، موجهاً لها بأن وجود الدم أو بدله في حقه يتوقف على العتق، وليس هذا أمراً ينتظر، وبربط الترقب به يؤدي إلى عسر لا يحتمل مثله في الشرع. قال: وهذه الطريقة أصح من طريقة إجراء القولين في الحر المعسر فيه. وقال: إنا إذا قلنا: بدله الصيام، فهو كالحر بلا فرق، وهذا إذا لم يملكه السيد مالاً، أو ملكه، وقلنا: لا يملك. أما إذا قلنا: إنه يملكه، تحلل بالهدي؛ قاله الماوردي، وغيره. وقيد الإمام ذلك بما إذا أذن له السيد في إراقته، وهذا ينبني على أن العبد إذا ملكه سيده مالاً، وقلنا: يملكه، هل يملك التصرف فيه بدون إذن سيده؟ وفيه كلام يأتي في باب العبد المأذون. ولو امتنع العبد من التحلل، وقد جوزناه [له] بمنع السيد، فلم يتحلل، ومضى في حجه كان عاصياً، وصح حجه. وحكم المدبر، والمعلق عتقه بصفة، وأم الولد، ومن بعضه حر، وبعضه عبد فيما ذكرناه حكم القن. وأما المكاتب: فهل للسيد منعه من السفر للحج؟ فيه طريقان: منهم من قال: فيه قولان [كالقولين] في السفر والتجارة. ومنهم من قال: له منعه قولاً واحداً، وهو ما ادعى البندنيجي: أنه المذهب، ولا يخفى الفرق. وعلى هذا إذا أحرم بغير إذن السيد، كان له تحليله، كما ذكرناه. فرع: حيث قلنا: إن واجب العبد الصوم، فلو أعتق، وأيسر، فهل واجبه الدم أو

الصوم؟ فيه قولان؛ بناء على أن الاعتبار في الكفارات بحال الوجوب، أو بحال الأداء؟ فعلى القول بوجوب الدم، لا يجزئه الصوم، وعلى مقابله في إجزاء الدم وجهان، حكاهما الماوردي قولين: وجه المنع- وهو الجديد: أنه كان في حال رِقِّهِ لا يجزئه إلا الصوم؛ فكذا بعد عتقه؛ وبهذا خالف الحر المعسر إذا قلنا إن واجبه الصوم، فأيسر، وأخرج الدم؛ فإنه يجزئه؛ لأنه لو تكلف ذلك، وأخرجه في حال عسرته، أجزأته لتصوره الملك له. نعم: لو مات على الرق قبل الصوم، فأراق السيد عنه الدم، وقع عنه؛ نص عليه. قال الغزالي: لأن الملك امتنع في الحياة؛ لكونه مملوكاً مسخراً، ولا تسخير بعد الموت. وقد استشكل الإمام النص، ثم قال: ولكني لم أر أحداً من الأصحاب يخالف النص. قال: وإن أحرمت المرأة [بحج التطوع] بغير إذن الزوج، جاز له أن يحللها؛ لاستيفاء حقه؛ كما له أن يخرجها من صوم النفل. ومعنى تحليل الزوج لها: ما ذكرناه في [السيد مع] عبده. وإذا عرفت: أنه له تحليلها بعد تلبسها بالعبادة التي تلزم بالشروع، عرفت أن له منعها من السفر لذلك قبل التلبس به من طريق الأولى، وهو مما لا خلاف فيه، وإن كان في مسألة الكتاب خلاف؛ كما سنذكره. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن تكون الزوجة حرة، أو أمة. وقد أفهم كلام الشيخ: أنها إذا أحرمت بإذنه، لم يكن له تحليلها، وهو كذلك إذا كانت حرة، أما إذا كانت أمة، توقف إحرامها على إذن السيد، والزوج معاً. قال: وفي حجة الإسلام قولان: القولان في هذه المسألة ينبنيان على أصل آخر، وهو أن الزوج هل له منعها من فرض الإسلام، أم لا؟ وفيه قولان: أحدهما-قاله في باب خروج النساء إلى المساجد من اختلاف الحديث-: أنه ليس له المنع، وبه قطع بعضهم؛ كما قال الرافعي؛ لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ

الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]. والمراد بالحج هاهنا: القصد؛ فوجب عليها أن تقصد البيت، ولم يكن له منعها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله". ولأنها عبادة واجبة على المرأة؛ فلم يكن له منعها من ذلك؛ كالصلاة في أول الوقت. والثاني: نص عليه في باب حج المرأة من "المناسك الكبير"، قال البندنيجي: و [في] عامة كتبه: أن له منعها، وهو الذي صححه الرافعي؛ لما روى الدراقطني بسنده عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من امرأة لها مال وزوج، ولا يأذن لها في الحج فقال: ليس لها أن تنطلق إلا بإذنه". ولأن حقه على الفور، وما طلبته وجوبه على التراخي، فقدم ما وجب على الفور؛ أصله إذا وجبت عليها العدة؛ فإنه لا يجوز لها الخروج للحج؛ لما ذكرناه، ويفارق الصلاة؛ لأن زمنها يسير، وهو يشاركها في الوجوب غالباً. على أن الإمام حكى عن الأصحاب أنهم حكوا وجهين في أن الزوج، هل له منعها من إقامة الصلاة في أول الوقت كالقولين هنا، وقال: الحج أولى بأن لا يمنع؛ فإن الصلاة مؤقتة، والقلب يرتبط بوقتها على ثقة في العادة، وصدق رجاء، وأما ما يناط بالعمر فهو على إبهام، ولهذا قال الفقهاء: إذا مات في أثناء وقت الصلاة لا يكون عاصياً على ظاهر المذهب، بخلاف نظيره في الحج. فإذا تقرر هذا، عدنا إلى مسألة الكتاب: فإن قلنا: ليس له المنع في الابتداء، لم يكن له المنع [دواماً] وأما من طريق الأولى. وإن قلنا: له المنع ابتداء، فإذا أحرمت بدون إذنه، فهل له تحليلها بالمعنى الذي ذكرناه؟ فيه القولان اللذان ذكرهما الشيخ، وهما منصوصان كذلك: وجه الجواز: أن الحج على التراخي، وحقه على الفور؛ فقدم كما قبل الإحرام؛

وهذا ما صححه القاضي أبو الطيب، والرافعي، والنواوي. وعلى هذا يستحب له ألا يمنعها من إتمام العبادة، فإن منعها، كان لها التحلل، ولو لم يفعل، فكيف السبيل في استمتاع الزوج بها. وكذلك القول في الأمة إذا امتنعت، قال الصيدلاني: يستمع بها، وبه قطع جوابه، والإثم عليها. قال الإمام: وهذا فيه نظر من جهة أن المحرمة محرمة لحق الله تعالى فيحتمل أن يحرم على السيد والزوج الاستمتاع. قلت: وما قاله الصيدلاني يعضده قول الأصحاب: إن نفقتها والحالة هذه قبل الخروج [للحج] واجبة على الزوج على الأصح، ولو كان الاستمتاع حراماً، لم تجب؛ لأن استمرارها [يجعل] كالنشوز والله أعلم. ووجه المنع: أنها عبادة واجبة، شرعت فيها، فلم يكن له منعها من إتمامها وإن كان الوقت واسعاً، كصلاة الفرض في أول الوقت، بل أولى؛ لأن الحج يلزم بالشروع فيه؛ فيضيق. وهذا من هذا القائل بناء على أن من تحرَّم بالصلاة في أول الوقت لا يتعين عليه إتمامها؛ كما قاله في "الوسيط" في باب التيمم؛ تبعاً للإمام. أما إذا قلنا: إنه [لا] يجوز الخروج منها كما تقدم في [باب] صلاة التطوع فلا أولوية. وقد قيل: يطرد هذا القول فيما إذا أحرمت بحج التطوع أيضاً لهذه العلة. قال البندنيجي: وليس بشيء. وإذا جمعت بين هذه المسألة والتي قبلها، جاء فيها ثلاثة أقوال؛ كما حكاها القاضي أبو حامد في جامعه. ثالثها: أن له تحليلها من حج التطوع دون الفرض. ووجه رابع حكاه القاضي الحسين: أن الزوجة إن كانت أمة، كان له تحليلها، كما له تحليل أمته؛ لأنها ليست من أهل الفرض، وإن كانت حرة فلا.

فرع: الابن الرشيد إذا أراد السفر؛ لأداء فرض الإسلام، أو ما نذره ليس لأحد أبويه منعه منه. وإن أراد السفر للتطوع بالحج أو العمرة، كان لكل منهما منعه، فلو أحرم بذلك دون إذنهما، فهل لكل منهما تحليله؟ فيه قولان؛ كما في المرأة. والصحيح في تعليق أبي الطيب: نعم؛ وقال القاضي الحسين: إنه المذهب. وعلى هذا لو أذن [له] أحدهما ومنعه الآخر، فهل له تحليله؟ قال في "الحاوي": إن كان الآذن الأب فلا، وإن كان الآذن الأمل فنعم؛ وهذا مجموع ما قاله العراقيون والماوردي. وقال الغزالي: للأبوين منع الولد من التطوع، وفي الفرض طريقان: قيل: إنه كالزوج. وقيل: لا تنتهب شفقة القرابة إلى المنع من الفرض [ابتداء]. وقضية ما قاله أن يكون على الطريق الأول، هل لهما منعه من الفرض [ابتداء]؟ فيه قولان: أحدهما: نعم. والثاني: لا. وعلى الطريق الثاني، ليس لهما المنع قولاً واحداً. وقد حكى الطريقين هكذا ابن كج. فإن قلنا: لهما المنع [فأحرم] فقضية ما تقدم في الزوجة: أن يأتي في تحلله القولان في تحللها، وقد [قال الرافعي: أنه لا يمنع بحال. ونقل ابن كج فيه وجهاً ضعيفاً، وكذا حكى وجهاً غريباً، أنهما ليس لهما منعه من حج التطوع ابتداء]. قال الرافعي: ولم أجد حكاية الخلاف في حج الفرض في المنع ابتداء، والتحلل دواماً إلا للغزالي وابن كج.

قلت: وقد رأيت نفس ما ذكره في "الإبانة". وأشار القاضي الحسين في تعليقه إلى خلاف فيما إذا أحرم بالفرض دون إذنهما، هل لهما تحليله؟ حيث قال: المذهب: أنه ليس للأبوين أن يحللاه. ولو كان الابن سفيهاً، فإن كان قد أحرم بعد الحجر بحجة الإسلام، أو بحجة نذرها قبل الحجر عليه لم يكن له تحليله على الأصح، وأنفق عليه سواء كان بقدر نفقة الحضر أو أكثر. قال المتولي: ولا يسلم ذلك إليه، بل يسلم إلى أمين. وإن كان تطوعاً، فعلى الولي إذا لم يكن له التحلل أن يدفع إليه قدر نفقة الحضر، فإن لم يكفه، وأمكنه التكسب، والتحمل، والإنفاق لزمه المضي في الحج، وإن لم يتمكن، فهو كالمحصر، وهو ما حكاه في "الحاوي" عن النص. قال المحاملي في كتاب "الحجر": فإذا تحلل صام. وهكذا فيما إذا ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام، يكفر بالصوم. ولفظ البندنيجي في كتاب "الحجر" أنه عند العجز عن اكتساب تمام ما يحتاج إليه يكون لوليه حصره، وتحليله من إحرامه كالعبد. ولو كان قد وقع إحرامه- قبل الحجر عليه- بحج تطوع، كان كما لو أحرم بعد الحجر بحجة الإسلام. قال: ومن تحلل بالإحصار أي: العام، أو الخاص وكان ما أحرم به تطوعاً، أو كان فرضاً، وجب عليه في تلك السنة لا قبلها لم يلزمه القضاء؛ لأنه لو وجب لبينه الله تعالى في الآية، ولبينه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حين أحصروا؛ لأنه أهم من الهدي، ولأنه لا يجوز [تأخير] البيان عن وقت الحاجة. وأيضاً: فقد كان من أحصر معه عليه السلام ألفاً وأربعمائة رجل، قال الشافعي- رضي الله عنه- ولم يعتمر في العام القابل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نفر معروفون بأسمائهم وأنسابهم. قال الماوردي: وأكثر ما قيل: إنهم سبعمائة، ولم ينقل أنه أمر من

تخلف بالقضاء. وأيضاً: فقد روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: لا قضاء على المحصر، ولا يعرف لهما مخالف. ولأنه عبادة يجوز التحلل منها مع صلاح الوقت، فلم يجب قضاؤها للدخول فيها، أصله: إذا دخل في الصوم يعتقد وجوبه ثم تبين أنه غير واجب فإنه إذا أفطر لا يجب عليه القضاء، وقد وافق على ذلك الخصم، وهو أبو حنيفة. أما إذا كان ما أحرم به لازماً: كفرض الإسلام المستقر في الذمة، والمنذور، وغيرهما- أتى به، ولا يكون قضاء؛ لأن ما تحلل عنه لم يسقط ما كان عليه؛ فبقي ما كان على ما كان. قال: وفيه قول آخر: أنه يلزمه القضاء إذا لم يكن الحصر عاماً؛ لأنه تحلل من العبادة قبل وقتها بسبب خاص؛ فأشبه ما لو أضل الطريق حتى فاته الحج. والفرق على الأول [أنه] منسوب إلى التفريط فيما إذا أضل الطريق، وليس منه هنا تفريط. فرع: إذا تحلل بالإحصار، والوقت باقٍ، ثم انكشف العدو، فهل له البناء على ما مضى؟ فيه قولان حكاهما الفوراني، والرافعي، وقال: إن القديم الجواز، والجديد: المنع. ويقربه منه قول ابن الصباغ: إن الشيخ أبا حامد قال في التعليق: إنا إن قلنا بقوله القديم: إنه إذا مات قبل كمال الأفعال، جاز البناء، فهاهنا إن أمكنه أن يستاجر من يكمل عنه ما بقي من حجه أجزأه، ولأجله قال البندنيجي، وصاحب "البحر": إنه إذا أحصر بعد الوقوف، وأمكنه أن

يستأجر من يكمل حجته، فهل يجوز؟ على قولين: وكلام الرافعي عند الكلام في الاستئجار على الحج يقتضي الجزم بالمنع من البناء؛ فإنه قال: الحاج لنفسه إذا مات في أثناء الحج، هل يجوز البناء على حجه؟ فيه قولان: الجديد الصحيح: المنع لأنها عبادة يفسد أولها بفساد آخرها؛ فأشبهت الصوم، والصلاة. ولأنه لو أحصر، فتحلل، فزال الحصر، فأراد البناء عليه لا يجوز، وإذا لم يجز له البناء على فعل نفسه، فأولى ألا يجوز لغيره البناء على فعله. ثم إذا قلنا بجواز البناء، فلم يبن، ولم يعد مع إمكانه ففي القضاء وجهان، حكاهما الإمام. أحدهما: لا قضاء؛ فإن الحج كان تطوعاً، وقد تحلل. والثاني: نعم؛ فإن المتمكن من البناء إذا قصر منتسب إلى ترك الممكن. قال: وقد يتجه أن يقول: هل يجب عليه البناء أم لا؟ أخذاً مما ذكرناه. واعلم أنه يستثنى مما قاله الشيخ صورتان: أحدهما: ما إذا كان قد أحرم بحج أو عمرة تطوعاً، ثم أفسدها بالجماع، ثم أحصر؛ فإنه يجوز [له] أن يتحلل. قال الأصحاب: ويجب عليه بدنة للإفساد بكل حال، ثم إن تحلل لزمه مع ذلك شاة للفوات؛ فيكون عليه ثلاثة دماء، ولا يجب عليه سوى قضاء حجة واحدة. قلت: وكان يتجه أن يقال فيما إذا أفسد الحج قبل الوقوف، وأحصر عن إتمامه، وتحلل أن يكون في وجوب الكفارة خلاف مبني على أصلين: أحدهما: أنه هل يجوز له البناء إذا تحلل، ثم زال الحصر أم لا؟

الثاني: أن [من] جامع في رمضان عامداً، ثم طرأ عليه مرض أباح له الفطر، فأفطر، هل يجب عليه كفارة الجماع [أم لا؟] وفيه قولان على الطريقة الظاهرة: فإن قلنا بالسقوط في الصوم، وعدم جواز البناء على ما مضى بعد التحلل؛ لما ذكرناه لم يجب القضاء [هنا] و [لا] الكفارة؛ لأنا تبينا بالتحلل إحباط ما مضى؛ كما قال الرافعي؛ ولهذا قلنا على هذا القول: لا يستحق الأجير شيئاً من الأجرة على عمله على طريقة وإلا وجبا، والله أعلم. الثانية: إذا كان قد أحصر بين الطواف والسعي خاصة دون الوقوف، فإنه يجب عليه أن يقف، ويجوز له التحلل كما تقدم. وإذا فعل ذلك، هل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان منصوصان، قال في "الحاوي": كالقولين فيما إذا فات الوقوف، وقد أحصر عن طريق، فسلك أبعد منه، ثم قال: فإن قيل: ما الفرق بين أن يكون مصدوداً عن الوقوف بعرفة؛ فإنه لا يلزمه القضاء قولاً واحداً إذا أحل قبل الفوات، وبين ما إذا صد عن الطواف والسعي، فأحل، فإن في لزوم القضاء قولين؟ قيل: لأن فوات الوقوف بعرفة قد يوجب القضاء، وليس للطواف وقت يفوت فيوجب القضاء، فكان الصد عن الوقوف أغلظ حكماً؛ فلذلك افترقا. وحكى الإمام عن صاحب التقريب القولين فيما إذا صد عن البيت بعد الوقوف بعرفة، وتحلل وفيما إذا صد عن الوقوف فقط، وأنه جعل ضابط التحلل المتفق على عدم وجوب القضاء به: ألا يصدر منه قبل الإحصار [إلا] الإحرام المحض، ثم تحلل، وإذا جرى مع الإحرام لنسك، ثم فرض الصد، والتحلل- ففي القضاء قولان.

وفي "الوسيط": أن العراقيين قالوا بسقوط القضاء عن كل ممنوع من لقاء البيت، وإذا لم يمنع منه، ومنع من عرفة، ففي القضاء قولان، وهو الذي حكاه البندنيجي، وصاحب "البحر" ونسبا الخلاف إلى نصه في "الأم". وقال في "البحر": [إن] الأصح عدم الوجوب، والله أعلم.

باب الأضحية

باب الأضحية الأضحية بالتشديد اسم لواحد من النعم يذبح يوم النحر، أو في أيام منى تقرباً لله تعالى. قال الأصمعي: وفيها أربع لغات: أُضْحّية، وإِضْحِيّة، بضم الهمزة وكسرها والجمع: أضاحي، وضَحِيَّة، والجمع: ضحايا، وأَضْحاة: والجمع: أَضْحًى، كأرطاة، وأرطى، وبها سمي يوم الأضحى. وقد اختلف في اشتقاقها من ماذا؟ فقيل: من الضحوة؛ لأنها تفعل ضحوة النهار، فسميت باسم أول زمان جواز فعلها، والضحوة: اسم للزمان الذي يعقب طلوع الشمس وارتفاعها، وما بعد الضحوة سمي: الضحى. وقيل: من الضحى، وهو الموضع الذي يذبح فيه، فسميت باسمه، حكاهما القاضي الحسين. والأصل في مشروعيتها قبل الإجماع من الكتاب آيات: منها قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية [الحج: 36]. و [منها] قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]. و [منها] قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]. على التفسير الأشهر في أن المراد بالصلاة: صلاة العيد، وبالنحر: نحر البدن. ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عظموا ضحاياكم؛ فإنها على الصراط مطاياكم"، أي: تهيأ مراكب للمضحين. وقيل: بل يسهل بها الجواز على الصراط.

وما سنذكره من الأحاديث الصحيحة في أثناء الباب إن شاء الله تعالى. وقد حكي عن سفيان أنه قال: كان في نبيكم ثلاث خصال: كان من ولد من قرب قرباناً، فتقبل منه، وهو هابيل؛ فصار ذلك سنة في الأضحية؛ وكان من ولد من فُدي بذبح عظيم، وهو إسماعيل؛ فصار ذلك سنة في العقيقة، وكان من ولد من فدي بمائة من الإبل، وهو عبد الله بن عبد المطلب، فصار ذلك سنة في الدية. قال: والأضحية سنة؛ لما روى الدارقطني بسنده عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كتب علي النحر، وليس بواجب عليكم". وروى الترمذي أنه- عليه السلام- قال: "أمرت بالنحر، وهو سنة لكم" وهذا نص في الباب. وقد روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما [أنهما] كانا لا يضحيان؛ مخافة أن يرى أنها واجبة. والحديث الوارد في وجوبها قال علماء هذا [الشأن إن] راويه مجهول وإن سلم عن الطعن، فهو محمول على الاستحباب. وإذا عرفت أنها سنة، فهل هي سنة على كل شخص، أو سنة على الكفاية؟ الذي أورده في العدة الثاني، وقال: إذا أتى بها واحد من أهل البيت، تأدى عن الكل حق السنة، ولو تركها أهل بيت، كره لهم ذلك. والمخاطب بها الحر القادر عليها، وكذا من بعضه حر إذا ملك مالاً ببعضه الحر يخاطب بها وأما العاجز فغير مخاطب بها. والعبد من طريق الأولى لعدم ملكه. نعم لو ملكه سيده مالاً، وقلنا: يملكه جاز له أن يضحي بإذن سيده، وبغير إذنه لا يجوز، قاله البندنيجي وغيره. وتضحية المكاتب تبرع، وسيأتي الكلام في تبرعاته.

وللإمام أن يضحي عن المسلمين من بيت المال [كما] قاله الماوردي. ولا يجوز التضحية عن الميت إلا أن يوصي بها؛ قاله الفوراني وغيره. وحكى الرافعي في كتاب الوصية عن بعضهم: أنه يجوز أن يضحي عنه، والمشهور الأول. نعم: تجوز النيابة عنه فيما عينه بنذره قبل موته. قال: إلا أن تنذر فتجب، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يطيع الله فليطعه". ولفظ "تنذر" [قال النواوي]: بكسر الذال، وضمها. قلت: والأولى أن يقرأ. بضم التاء ثالثة الحروف، وفتح الذال. وأراد الشيخ رحمه الله بهذه الزيادة. أن يعرفك أموراً: أحدها: أنها غير واجبة بأصل الشرع، لا على العين، ولا على الكفاية وإن كانت من الشعائر. ولا يقال: إن قوله أولاً: "الأضحية سنة" يغني عن ذلك، لأن السنة قد تطلق، ويراد بها الطريقة ومنه قوله عليه السلام: "من رغب عن سنتي فليس مني" وقول جابر "مضت السنة في كل أربعين جمعة". وقد حكى القاضي الحسين عن الشافعي- رضي الله عنه- أنه قال: "إذا ضحى الرجل في بيته، فقد وقع اسم الأضحية" وأن من الأصحاب من قال: أراد بذلك أن الأضحية وإن كانت سنة فإذا تركها جميع الناس، أثموا وحرجوا كالجماعات، والأذان، فإذا ضحى في بيته عن أهل البيت، أو عن نفسه، فقد وقع ثم اسم ضحية، وخرجوا عن الإثم. والصحيح: أن مراد الشافعي رضي الله عنه بهذا القول: أن التضحية لا تختص بالحرم؛ كالهدي، بل يضحي في أي موضع شاء، وهو الذي أورده العراقيون. الثاني: أنه ليس من شرط ما يلزم بالنذر أن يكون له أصل واجب بالشرع؛ كما رآه

بعض أصحابنا، وستعرفه من بعد. الثالث: أنها لا تصير واجبة الذبح بمجرد الشراء بنية التضحية؛ كما قاله أبو حنيفة؛ لأن ذلك ليس بنذر؛ كما ستعرفه في بابه، وقد نص عليه الشافعي، رضي الله عنه. فإن قلت: قد نص على قولين فيما يحصل به لزوم التضحية: أحدهما قاله في الجديد: لا تصير أضحية إلا بالقول، وهو موافق لهذا النص. والثاني قاله في القديم: أنه لا يحتاج إلى القول، وبه قال ابن سريج، والإصطخري. فعلى هذا ينبغي أن يلزم الذبح عند الشراء بمجرد نية الأضحية. قلت: للأصحاب في إجراء هذا القول في مسألة الأضحية اختلاف. فمنهم من نفاه، وقال: لا يصير ما في ملك الشخص مستقراً أضحية بمجرد النية بل لابد من القول قولاً واحداً، والقولان اللذان نص عليهما الشافعي- رضي الله عنه- في الهدي، ومن خرج من الهدي إلى الأضحية قولاً فقد غلط. والفرق: أن التقليد والإشعار علامة في الهدي مع النية، وليس في الأضحية علامة، والنية بمجردها لا حكم لها، وعلى هذا اندفع السؤال. ومنهم من أثبته في مسألة الأضحية؛ كما حكاه القاضي أبو الطيب وغيره، وسنذكره في باب النذر، لكنهم اختلفوا فيه على ثلاثة أوجه: أحدها: أنها تصير أضحية بالني والذبح. والثاني: بالنية والسوق، وهذان نسبهما البندنيجي إلى ابن سريج، وعليهما يندفع السؤال. والثالث: بالنية المجردة، قال في "البحر" هنا: وهو اختيار الإصطخري. وقال القاضي أبو الطيب وغيره: إنه اختيار ابن سريج. وعلى هذا لا يلزم التضحية في مسألة الشراء بنية التضحية؛ لأن محله- كما قال الرافعي- فيما إذا وقع ذلك في دوام الملك؛ لأن النذر فيما لا يملكه ابن آدم لا يصح؛ قال- عليه السلام-: "لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملكه ابن آدم" وهذا حالة

النية لم يكن مالكاً لها؛ لأن الملك يتعقب الشراء، والنية وجدت حالة الشراء. وأيضاً: فإن الشراء يوجب الملك، وكونها أضحية مزيل للملك، ويستحيل أن يكون [الشيء] الواحد في حالة واحدة موجباً لثبوت الملك وإزالته، فلما أفاد الشراء ثبوت الملك، امتنع أن يزول به الملك؛ كما إذا اشترى عبداً ينوي به العتق، أو داراً ينوي بها الوقف- يصح الشراء دون العتق والوقف. نعم قد حكي في "تتمة التتمة" وجهاً: أن المشتري بنية التضحية يصير أضحية. وقال الرافعي: غالب ظني: أنه صدر عن غفلة منه. وقد سلك الماوردي طريقاً آخر في ترتيب الأصل السابق، فقال: في الأضحية ثلاثة أوجه: أحدها: تصح بالقول وحده. والثاني: بالنية وحدها. والثالث: بالنية واستمرارها إلى الذبح. وفي الهدايا قولان، ووجهان: أحدهما: بالقول، وهو الذي نص عليه في الجديد. والثاني: قاله في القديم: بالتقليد، والإشعار. والثالث: بالذبح مع النية. والرابع: بالنية المجردة. واعلم أن ما ذكره الشيخ من الحصر يرد عليه ما إذا قال: "جعلت هذه الشاة أضحية؛ فإن التضحية بها تكون واجبة بلا خلاف؛ إن علق ذلك بشفاء مريض، أو قدوم غائب، ونحوه. وكذا إن لم يعلقه على شيء؛ على أصح الوجهين في "تعليق القاضي أبي الطيب" في باب الهدي، وهو الذي يقتضي إيراد المراوزة الجزم به، وليس ذلك بنذر، بل ألحقه الأصحاب بالتحرير من العتق، أو الوقف؛ كما ستعرفه، ولذلك قال في الوجيز:

والتضحية سنة غير واجبة إلا إذا نذرها، أو قال: "جعلت هذه الشاة أضحية .. ". ويؤيد ذلك قول الشيخ في باب النذر: ويصح النذر بالقول، وهو أن يقول: "لله على كذا" [أو "على كذا] ". قال: ويدخل وقتها- أي: وقت الأضحية المتطوع بها والمنذورة إذا انبسطت الشمس يوم النحر، أي: لارتفاعها قدر رمح؛ كما قاله القاضي أبو الطيب، والماوردي، والبندنيجي، والقاضي الحسين، والفوراني، والإمام. وقال في "البحر": إن الشافعي- رضي الله عنه- أشار إليه في المبسوط بقوله: فإذا برزت الشمس يوم النحر، ومضى قدر صلاة العيد، أي [التي صلاَّها] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي المأتي بها بالتكبيرات، وقراءة سورة قاف، واقتربت الساعة، والخطبتين، أي: اللتين خطبهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما روى مسلم عن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع، فننحر، فمن فعل ذلك، فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك، فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء". وكان أبو بردة بن نيار قد ذبح، فقال: عندي جذعة أي: من معز خير من مسنة، فقال: "اذبحها، ولن تجزئ عن أحد بعدك". فإن قيل: هذا يدل على اعتبار الصلاة، فلم عدلتم عنه إلى وقتها؟ قيل: لأن فعل الصلاة ليس شرطاً في دخول الوقت بالنسبة إلى أهل السواد بوفاق الخصم؛ فكذلك في أهل الأمصار. ونظمه قياساً: ما كان وقتاً للذبح في حق [أهل] السواد كان وقتاص له في حق أهل الأمصار؛ أصله: ما بعد الصلاة. ولأن آخر الوقت معتبر بالوقت دون الفعل؛ فكذا أوله؛ كأوقات الصلوات. وقد روى الشافعي- رضي الله عنه- بسنده عن البراء بن عازب أنه- عليه السلام- قال في خطبته يوم النحر: "لا يذبحن أحد حتى يصلي"، فعلق النحر

بصلاة المضحي، لا بصلاة الإمام، والمضحي يجوز أن يصلي منفرداً، وليس يعتبر فعله الصلاة اتفاقاً؛ فدل على أنه أراد وقت الصلاة. وقد أغلب الماوردي، فحكى وجهين عن أصحابنا في أن وقتها في عهده- عليه السلام- كان معتبراً بمضي الوقت؛ كما في زمن الخلفاء من بعده وإلى هلم، أو كان معتبراً بفعله- عليه السلام- الصلاة. وما قيدنا به كلام الشيخ هو ظاهر ما نقله المزني؛ فإنه قال: ولا وقت للذبح يوم الأضحى إلا في قدر صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -[ذلك] حين حلت الصلاة، وقدر خطبتين خفيفتين، وإذا كان هذا الوقت فيدخل الذبح؛ وقد اختاره القفال؛ كما قال في "البحر". ومن الأصحاب من لم يعتبر في دخول الوقت مضي قدر صلاته- عليه السلام- وخطبتيه بل اعتبر مضي قدر ركعتين خفيفتين، وخطبتين خفيفتين. ووجهه الإمام بأنا نعلم- أو نظن ظناً غالباً- بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو خفف الصلاة والخطبة، لكان يضحي بعد ذلك، أو يأذن في التضحية، وهؤلاء تمسكوا بعَجُز قول الشافعي- رضي الله عنه- السابق. وعلى هذا ما المراد بالخفة في الركعتين؟ الذي أورده القاضي أبو الطيب: مضى زمان يأتي فيه بركعتين يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب، وسورتين خفيفتين، وخطبتين خفيفتين؛ [وهذا يعضد قول الإمام: إن من صار إلى الاكتفاء بركعتين خفيفتين] فما أراه يكتفي بركعتين مشتملتين على أقل ما يجزئ في الصلاة، وكذلك ما أراه يعتبر خطبتين مع إسقاط شعار العيد والعلم عند الله. وقال الماوردي: المعتبر على هذا الوجه: مضي زمان يأتي فيه بأقل ما يجزئ في صلاة ركعتين، وأقل ما يجزئ من خطبتين، وهو الذي صححه القاضي الحسين، وقال الروياني: إنه أقيس عندي. وحكي الإمام عن المراوزة: أنهم قالوا: الوجهان في اعتبار قدر صلاته، فأما الخطبتان، فالمعتبر فيهما الخفة لا محالة، وكان- عليه السلام- لا يطول، وقد ندب

إلى تخفيفهما في الجمعة، وهما ركن بقوله: "قِصَرُ الخطبة وطول الصلاة مِئنّة من فقه الرجل"، وكيف والناس يوم العيد مستوفزون. وحكى عن بعض المصنفين: أنه اعتبر مضى قدر الركعتين لا غير، وهو المذكور في "الإبانة"، وقال: لا أعتد به. وإذا جمعت بين ما ذكرناه، واختصرت، قلت: في المسألة خمسة أوجه: أحدها: قدر صلاته- عليه السلام- وخطبتيه. والثاني: قدر صلاته، وخطبتين خفيفتين، عملاً بظاهر النص. والثالث: قدر ركعتين يأتي فيهما بأقل ما يجزئ وخطبتين كذلك. والرابع: قدر ركعتين يأتي فيهما بفاتحة الكتاب، وسورتين خفيفتين، وخطبتين [خفيفتين]. والخامس: لا يعتبر زمن الخطبة أصلاً. قال: ويخرج وقتها بخروج أيام التشريق؛ لما روى جبير بن مطعم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيام التشريق كلها منحر". وروي: أيام منى كلها منحر"، وأيام منى هي ثلاث بعد العيد؛ وهذا نص في المدعى، وحجة على من قال: لا يجوز الذبح في اليوم الثالث منها. ومن القياس: أنه يوم من أيام التشريق، أو يوم من أيام منى، أو يوم يستدام فيه تحريم الصوم، أو يوم من أيام الرمي فوجب أن يصح النحر فيه؛ كاليومين قبله. ولا فرق عندنا في المدة المذكورة بين ليلها ونهارها في الإجزاء؛ لأن اسم اليوم يتناول الليل والنهار.

نعم: الأحسن الإتباع، وإيقاع التضحية نهاراً؛ خشية من أن يخطئ المذبح، أو يصيب نفسه، وليتيسر تفرقة نصيب الفقراء إليهم طرياً، فلو خالف كره؛ قاله البندنيجي، وغيره. قال: ومن لم يضح حتى فات الوقت، فإن كان تطوعاً لم يصح؛ لفوات الوقت. قال الإمام: فإن قيل: التضحية عندكم مؤقتة، والسنن المؤقتة إذا انقضت أوقاتها، فلكم في قضائها قولان، فهلا خرجتم قضاء الأضحية على هذا الخلاف؟ قلنا: ما فات من السنن الراتبة لا يمكن تداركه أداء، لم يشرع فيه القضاء؛ لتحقق الفوات فيها، وانقطاع المستدرك، والأضحية إن فات وقتها في سنة، أمكن إيقاعها أداء في أخرى إذ الوقت قابل لأضاحٍ يتقرب بها؛ فلا يكاد ينقدح معنى القضاء. قال: وهكذا نقول فيما [هذا] سبيله؛ حتى إذا كان الرجل يعتاد صوم أيام تطوعاً، فترك الصوم، فليس يتحقق عندي قضاؤه، وكذلك لو أفسده بعد التحرم به، فإن الذي يأتي به يكون ابتداء تطوع، والأيام التي رغب الشارع في التطوع بصيامها إذا لم يصمها [المرء] فلا معنى لتقدير القضاء فيها. وغيره قال في الجواب: إن القضاء [إنما] يجب بأمر جديد، وقد قام الدليل على مشروعية القضاء في الصلاة، وهو قوله- عليه السلام-: " من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها". ولا يلحق بها الأضحية؛ لأن الزمان كله وقت لفعل صلاة النوافل؛ فصح القضاء. قلت: وهذا يبطل بما إذا كانت منذورة. وحكم الهدي المتطوَّع به كما صرح به الإمام هنا، والماوردي في باب الهدي؛ وكذا الرافعي وغيهر حكم الأُضحية؛ حتى لا يجوز ذبحه في غير أيام النحر.

لكن القاضي أبو الطيب قال في كتاب النذور كما ستقف عليه: إن النحر في الحرم قربة، وهو في غير أيام النحر بمنزلة النحر في أيام النحر في غيره من البلاد. وكلام القاضي الحسين يقرب منه. وقد حكى الرافعي في كتاب الحج ما ذكرناه من الاختلاف وجهين، وأن أظهرهما- وهو الذي أورده في الوجيز والعراقيون- الأول، وكذلك قال في "الروضة": إنه الأصح. والذي [أورده] في "التهذيب"، الثاني. قال: وإن كان منذوراً، لزمه أن يضحي؛ لأنها عبادة مالية، تعلقت بوقت فجاز أداؤها بعد فواته؛ كزكاة الفطر؛ وهذا ما حكاه البندنيجي وغيره، وقالوا: إن ذلك يكون قضاء. وزاد أبو إسحاق المروزي فقال: إذا ذبحها في أيام النحر من قابل، كانت قضاء أيضاً لأن الوقت الأول تعين لها؛ كذا حكاه في "البحر" وغيره عنه. ويسلك بالمذبوح مسلك الأضحية في وقتها. وقال ابن أبي هريرة: إنها تكون للمساكين خاصة، لا يجوز أن يأكل منها، ولا يدخرها؛ لأنها قد صارت قضاء عن الأداء؛ فصارت حقاً لغيره. والذي عليه الجمهور، الأول.

ولا فرق في ذلك بين أن يتفق ترك الأضحية مع وجودها، للنسيان، أو غيره، أو مع غيبتها؛ كما إذا ضلت. لكن القاضي أبو الطيب قال فيما إذا ضلت، ثم وجدها بعد أيام التشريق: فإنه ينحرها، وتجزئه، ويقع ذلك موقع التضحية. وقال فيما إذا كان قد أوجبها، ثم نسيها عنده حتى مضت أيام التشريق: فإنها لا تجزئه في الأضحية، ولكن يذبحها، ويفرقها على الفقراء، فيكون له ثواب تفرقة اللحم، دون إراقة الدم. وقال في "البحر" فيما إذا ضلت [ثم وجدها] بعد أيام النحر: إن له ذبحها، وله تأخيرها إلى أيام النحر. ولو كان تأخير الذبح مع القدرة عليه، لزمه النحر، وعليه البدل؛ كما سنذكره عن "الحاوي" من بعد. وما ذكرناه هو المشهور. وقد أغرب الإمام فقال: التضحية الملتزمة في الذمة بقوله: "لله عليَّ أن أضحى بشاة"؛ هل تتأقت التضحية بها في يوم النحر، وأيام التشريق؛ كما تتأقت بذلك إذا قال: "جعلت هذه أضحية"، أو لا تتأقت، ويجوز فعلها في جميع أيام السنة، مهما وجدت كما في [غير] دماء الجبرانات؛ لوقوع ذلك في الذمة؟ فيه وجهان. وعلى الثاني منهما: لو كان قد قال بعد ذلك: "جعلت هذه الشاة عن جهة نذري"؛ فهل يتأقت ذبحها؟ إن قلنا: إن لهذا القول أثراً كما سيأتي ففيه وجهان: أحدهما: لا؛ كالمنذورة المطلقة؛ فإنها مصروفة إلى النذر. والثاني: تتأقت، تغليباً لحكم التعيين. وقد عكس الماوردي ذلك في الهدي، فقال: إن كان الهدي واجباً عن نذر، تعين فيه من غير أن يتعلق بالذمة، فالمذهب: أنه لا يجوز أن ينحره إلا في أيام النحر. وقد أشار في موضع من "المختصر" إلى أنه يجوز قبل أيام النحر أو بعدها. وحكم التضحية كما سنعرفه أيضاً حكم الهدي.

قال: والمستحب لمن دخل عليه عشر ذي الحجة، وأراد أن يضحي ألا يحلق شعره، ولا يقلم ظفره حتى يضحي، لما روى مسلم عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له ذبح يذبحه؛ فإذا أهل هلال ذي الحجة، فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره شيئاً من حتى يضحي". والذبح بكسر الذال: الذبيحة، وبالفتح: المصدر. وحمل الشافعي- رضي الله عنه- ذلك على الاستحباب، لحديث عائشة- رضي الله عنها-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يهدي من المدينة، فأقبل قلائد هديه، ثم لا يجتنب شيئاً مما يجتنب المحرم"، رواه البخاري ومسلم. وعنها: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث مع أبيها، فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحله الله له حتى نحر الهدي"، وكان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ضحاياه؛ لأنه أقام بالمدينة، وأنفذه مع أبي بكر سنة تسع، وحكمها أغلظ؛ لسوقها إلى الحرم، فلما لم يحرم على نفسه شيئاً كان غيره أولى إذا ضحى في غير المحرم. وعن بعض أصحابنا: أنه خرَّج وجهاً في أنه يجب تركها كمذهب أحمد حملاً لظاهر الأمر على الوجوب؛ حكاه الرافعي عن الرقم. وقد أشار إليه القاضي أبو الطيب حيث قال: وأما قولهم: "النهي يدل على التحريم"، فعلى قول أكثر أصحابنا لا يدل على التحريم، ويحمل على الاستحباب؛

وهذا هو المشهور. واختلف أصحابنا في معنى الأمر به: فقيل: تشبيهاً بالمحرمين؛ فإنهم الأصل، وهم أصحاب الهدايا والقرابين. قال الإمام: وهذا غير سديد؛ فإنا لا نأمر العازم على الأضحية أن يجتنب الطيب، ولبس المخيط. وقيل: إن التضحية في مأثور الأخبار سبب في استجلاب الغفران، والعتق من النار؛ قال عليه السلام لمن كان يحرضه على التضحية: "كثر ضحيتك يعتق بكل جزء منها جزء منك من النار". وعلى كل حال، فإن خالف، وحلق شعره، أو قلم ظفره؛ فقد ارتكب مكروهاً. وقيل: إنما يكره ذلك إذا كان قد اشترى ما يضحي به، أو عيَّنه من جملة مواشيه، أما إذا لم يكن ذلك، ونوى أن يضحي، فلا يكره له ذلك؛ قاله الماوردي، والحديث السابق دال عليه. لكن رواية الشافعي- رضي الله عنه- تدل على الأول؛ لأنه روى عن أم سلمة أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره، ولا بشره شيئا". وذكر عن الشافعي- رضي الله عنه- أنه ذكر في قوله: "فلا يمس من شعره ولا بشره شيئاً" تأويلين: أحدهما: أنه أراد بالشعر: شعر الرأس، والبدن، وبالبشرة: تقليم الأظفار. والثاني: أنه أراد بالشعر: شعر الرأس وبالبشرة: شعر البدن. قال الماوردي: وعلى هذا لا يكره له تقليم الأظفار، والصحيح الأول للخبر. قال: ويجزئ في الأضحية الجذع من الضأن؛ لما روى مسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعز عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن".

وروي أنه- عليه السلام- قال: "نعم الضحيَّة الجذعة من الضأن". وتخالف الجذعة من المعز حيث لا تجزئ على المذهب كما سنذكره لأن لحم المعز دون لحم الضأن؛ فجعل زيادة سِنّه جابراً لنقص لحمه. قال: وهو ما له ستة أشهر، أي: ودخل في السابع؛ كما حكاه غيره. وعن أبي محمد القتبي: أنها تجذع إذا استكملت سنة، ودخلت في الثانية، ويحكي عن ابن فارس أيضاً وهو الذي حكاه الإمام هنا، والبندنيجي أيضاً وحكاه حرملة، واختاره النواوي. وقال في الذخائر: إنه الذي عليه أكثر الأصحاب. وقال في "التهذيب": هي التي استكملت سنة، وشرعت في الثانية، أو سقط سنها قبل ذلك، وكأنه أخذ ذلك من كون الإجذاع كما قال أبو الطيب: سقوط أسنان اللبن، ونبات غيرها، كما يثغر الصبي. وعن الجوهري أنه قال: الجذع: اسم له في زمن ليس بسن تنبت، ولا تسقط، وهذا الذي ذكره الجوهري هو ما حُكي عن رواية أبي الحسن العبادي، تشبيهاً لذلك بالبلوغ في الإنسان؛ فإنه تارة يكون بالسن؛ إن لم يوجد احتلام، وتارة يكون بالاحتلام؛ إذا وجد قبل استكمال خمس عشرة سنة في زمن الإمكان، والكلام في هذا مستوفي في كتاب الزكاة. وقد حكى بعضهم: أنه سأل أهل البادية، كيف تعرفون الضأن إذا جذع؟ قال: لا تزال الصوفة قائمة في ظهره ما دام حَملاً، فإذا نامت الصوفة في ظهره، علم أنه قد أجذع. قال: والثنية من المعز والإبل والبقر، لاتفاق العلماء على ذلك.

وقد ادعى الماوردي فيه الإجماع. نعم: ذهب الأوزاعي إلى جوازها بالجذعة من جميع الأنواع، والحديث حجة عليه، وكذا قوله- عليه السلام- لأبي بردة بن نيار حين قال له: "عندي عناقُ جذعُ، وهي خير من شاتي لحم، فهل تجزئ عني؟ قال: نعم، ولن تجزئ عن أحد بعدك"، كما أخرجه البخاري، ومسلم، وغيرهما، لأن العناق الأنثى من المعز ما لم يتم لها سنة. وقد جاء في رواية عندي: داجناً من المعز" فقال: "اذبحها، ولا تصلح لغيرك". قال الماوردي: وفي تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة بأجزائها عنه وجهان: أحدهما لأنه كان قبل استقرار الشرع؛ فاستثناه. والثاني: أنه علم من طاعته وخلوص نيته ما ميزه عمن سواه. واختلفوا هل كان ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اجتهاد أو وحي على وجهين: فإن قيل: قد أخرج البخاري ومسلم عن رواية عقبة بن عامر الجهني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنماً، فقسمها على أصحابه ضحايا، فبقي عتود، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال "ضح به أنت"، وهذا يدل على جواز التضحية بما دون الثني من المعز؛ لأن العتود بفتح العين وضم التاء ثالثة الحروف؛ كما قال الجوهري: من أولاد المعز ما رُعي وقوي، وأتى عليه حول. قلنا: قد قال [به] بعض الأصحاب؛ تخريجاً كما قاله في الرقم للعبادي. لكن الصحيح عدم الإجزاء. وجواب الحديث: أنه وقع في حديث عقبة هذا من رواية يحيى بن بكير عن الليث ابن سعد، وفيه: "ولا رخصة لأحد فيها بعدك".

قال البيهقي: فهذه الزيادة إذا كانت محفوظة، كانت رخصة [له]؛ كما رخص لأبي بردة. وقال غيره: حديث عقبة منسوخ بحديث أبي بردة. قال الشيخ زكي الدين: وفيه نظر؛ فإن في حديث عقبة "ولا رخصة لأحد فيها بعدك". وأيضاً: فإنه لا يُعرف المتقدم منهما من المتأخر. قال: فالثنية من المعز: ما لها سنة تامة، أي: ودخلت في الثانية؛ لأنه لا يعرف تمام الأولى إلا بالدخول في الثانية؛ وهذا ما تقدم ذكره في باب صدقة المواشي، وهو المذكور في "الحاوي". وقد قيل ثم: إنه المحكي في "الإبانة" أيضاً. وسميت به لطلوع سنها. لكن الذي أورده القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ، والإمام: أنها التي استكملت سنتين، ودخلت في الثالثة. قال الإمام: ويسمى الحيوان إذا كان بهذا السن: مسناً ومسنة. وقد نسب الماوردي هذا القول إلى رواية حرملة، وقال: إنه ليس بقول ثان في المسألة، وإنما هو محمول على بيان انتهاء سن الثنية، والأول محمول على بيان ابتداء سنها، والله أعلم. قال: ومن البقر: ما لها سنتان، أي: ودخلت في الثالثة، وهذا ما حكاه ابن الصباغ، والإمام، وغيرهما. وفي "تعليق القاضي أبي الطيب": أنها التي لها ثلاث سنين، وطعنت في الرابعة، ولم يحك غيره. وهو المعزى في "الحاوي" إلى رواية حرملة، ثم قال: وتأويله: أنه بيان لانتهاء من الثنية، والأول بيان لابتداء سنها. قال: ومن الإبل ما لها خمس سنين، أي: ودخلت في السادسة. قال في "الحاوي": وروى حرملة عن الشافعي- رضي الله عنه-: [أنها التي]

استكملت ستاً ودخلت في السابعة، وليس هذا قولاً ثانياً يخالف الأول، كما وهم فيه بعض أصحابنا، ولكن ما رواه الجمهور عنه وهو قول أهل اللغة إخبار عن ابتداء السن، وما رواه حرملة إخبار عن انتهاء سن [الثني]. قال الأصحاب: والحكمة في اعتبار السن المذكور في هذه الأجناس: أن به ينتهي إلى حالة الكمال من الحمل والنزوان، فهو كالبلوغ في الإنسان. وقد نبه الشيخ بإجزاء الأنثى من الأجناس المذكورة إذا اتصفت بالسن المذكور على إجزاء الذكر منها، إذا اتصف به من طريق الأولى؛ لأن الضحية المراد منها اللحم، وقد تقدم في كلامه: أن ما يراد به اللحم: الذكر فيه أولى، حيث قال: "وقيل: إن أراد تفرقة اللحم، لم تجزئ الأنثى عن الذكر". وقد صرح الأصحاب بأنه لا فرق بين الذكر والأنثى في الإجزاء إذا اتصف بالسن المذكور بل قالوا: إنه أفضل. وقال الرافعي: على الصحيح، وينسب إلى نصه في رواية البويطي؛ لأن لحمه أطيب. وحكى الإمام أن الشافعي- رضي الله عنه- نص في كتاب الحج على أن الأنثى أحب من الذكر، وإنما قال هذا في القرابين والهدايا، وأن أصحابنا ترددوا في هذا على وجهين. فقال قائلون: إنما ذكر ذلك في جزاء الصيد عند تقويم الحيوان، ليخرج مقدار قيمته من الطعام؛ فإن الأنثى أكثر قيمة؛ فلا يفدى الأنثى بالذكر؛ إذا أراد التقويم. وقال آخرون وهو المذكور في الوجيز: إنه أراد الأنثى التي [لم] تلد؛ فإنها أطيب لحماً، وأرطب من الذكر وإنما يذهب طيب لحم الأنثى إذا ولدت، وطيب لحم الذكر إذا كثر النزوان، وإنما عم في الناس تفضيل الذكر على الأنثى في الطيب؛ لأنهم يعتادون أكل لحوم الخصيان، ولحومها أطيب. قال الإمام: والوجه عندنا: تقديم الذكر على الأنثى، وحمل النص على التقويم، كما تقدم. ثم لا ينبغي أن يعدل الشيء إلا بما يساويه، فالفحل الذي أكثر النزوان لا يقاس بالأنثى الرخصة التي لم تلد، لكن يعتبر بالتي ولدت؛ فإن النزوان في الذكورة؛

كالولادة في الإناث، وإذا فرضنا ذكراً لم ينز وأنثى لم تلد، فالذكر [أفضل] وأولى. ونبه أيضاً على أن غير الأنواع المذكورة لا تجزئ في الأضحية بالمفهوم، كما صرح به غيره من الأصحاب، حيث قالوا: التضحية تختص بالنعم؛ لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] وهي: الإبل، والبقر، والغنم، كما نقله المفسرون. قال في "الحاوي" و"البحر": سميت بذلك، لنعمة وطئها؛ حتى لا تسمع لأقدامها وقعاً. وقيل: لعموم النعمة بها في كثرة الانتفاع بألبانها ونتاجها. ومن المعنى: أنه حق لله تعالى، متعلق بالحيوان فوجب أن يختص ببهيمة الأنعام؛ كالزكاة. وقد ادعى الرافعي الإجماع على اختصاصها بالأنعام قال: وتجزئ البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة؛ لما روى مسلم عن جابر قال: "نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية البدنة عن سبعة، والبقرةَ عن سبعة" وجاء في غيره: أنه قيل لجابر: كم كنتم؟ قال: أربع عشرة مائة، أي: ألفاً وأربعمائة. وفي ابن يونس: أن أبا إسحاق المروزي قال: تجزئ البدنة عن عشرة؛ لأنه [قد] روى ذلك عن ابن عباس، يريد ما رواه البخاري والترمذي عنه أنه قال: "كنا في سفرة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاشتركنا في البدنة عشرة"، وهذا لم أره في غيره، نعم: حكاه

القاضي الحسين عن إسحاق، وإن روى خبراً: أن أصحاب الحديبية كانوا سبعمائة، فنحروا سبعين بدنة؛ وهذا لا يثبته أهل الحديث. قال: فإن كان بعضهم يريد اللحم، وبعضهم يريد القربة جاز؛ لأن كل سبع منها بمنزلة شاة، وإذا فعلوا ذلك قسمت بينهم إن قلنا: إن القسمة إفراز نصيب، وإن قلنا إنها بيع، فمنهم من منع؛ لأن بيع اللحم الطري باللحم الطري لا يجوز. ولأنه يؤدي إلى بيع لحم الأضحية، وهو غير جائز. والطريق في الانفصال أن يملك الحصة المضحي بها لثلاثة من الفقراء، ثم يبيعونها بدراهم إن شاءوا. قال القاضي أبو الطيب، والماوردي: "أو يصبروا" إلى أن ييبس اللحم؛ فيقتسموه، أعني: الفقراء، ومن لم يرد القربة، أو يطبخوا ذلك، ويأكلوا الجميع. ومن الأصحاب من جوز القسمة، ومن صاحب التلخيص، وإن قلنا: إنها بيع للضرورة. قال الرافعي: وأيضاً: فإنما نجعل القسمة على قول؛ إذا كانت الشركة فيما يقبل البيع، والضحية لا تقبله. والأصح في "المهذب" وغيره الأول، وبه جزم القاضي أبو الطيب والماوردي. وفي الوجيز؛ لانتفاء الضرورة بما ذكرناه. وقد أفهم كلام الشيخ: أنه لا تجزئ الشاة إلا عن واحد، وهو كذلك، وما رواه أبو داود، والترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ضحى بكبش قال: "بسم الله، والله أكبر، [اللهم] هذا عني، وعمن لم يضح من أمتي"، فهو اشتراك في الثواب، وهو جائز. نعم: لو اشترك اثنان في شاتين على الشيوع ففي الإجزاء وجهان، يخرجان كما قال الإمام على الخلاف في إجزاء إعتاق نصفي عبدين عن الكفارة. وأظهرهما في الرافعي: عدم الإجزاء لتمكن كل واحد منهما من الانفراد.

قال: وأفضلها البدنة، ثم البقرة، ثم الجذعة، من الضأن؛ لقوله- عليه السلام-: "من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنة؛ ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشاً"؛ فدل هذا الخبر على تفاوت الدرجات. وأيضاً: فإن لحم البدنة أكثر من لحم البقرة، ولحم البقرة أكثر من لحم الجذعة من الضأن، وما كان أكثر لحماً، كان أفضل، للتوسع على الفقراء، وعموم نفعه، وقد قال – عليه السلام-: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن". واستأنس القاضي الحسين في تفضيل البدنة على البقرة بأن الله تعالى جعل نصاب الإبل في الزكاة خمساً، ونصاب البقر ثلاثين، فبان التفاوت فيما بينهما، والله أعلم. قال: ثم الثنية من المعز، أي: أفضل من سبع بقرة، أو بدنة، لانفراده بإراقة الدم المطلوب في ذلك، وطيب اللحم؛ ولأجله قال الأصحاب: إن التضحية بسبع شياة، أفضل من ذبح بدنة، على أصح الوجهين في "التهذيب" وهو الذي حكاه الفوراني، والإمام عن الأصحاب، ثم قال: ولم أرهم مجمعين عليه، ولا أرى القطع به، وكيف أقطع به والبدنة مخصوصة بالذكر في كتاب الله من الشعائر. والذي اختاره في "المرشد": أن البدنة أفضل، والتضحية بشاة سمينة أفضل من التضحية بشاتين دونها في السمن. قال الشافعي- رضي الله عنه- في المبسوط: "وكل ما غلا من الرقاب، كان أحب إليَّ [مما رخص. وقال في القديم: كما قال القاضي الحسين: "استكثار القيمة مع استقلال العدد أحب إلى من استكثار العدد مع استقلال القيمة، وفي العتق استكثار العدد أحب إليَّ [من استكثار القيمة دونه]؛ لأجل تخليص الرقاب من ذل الرق. قال: وأفضلها البيضاء؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى

الْقُلُوبِ} [الحج: 32] وفسر بعضهم تعظيمها باستحسان الهدى، والضحايا، وإسمانها، والبياض أحسن من غيره. قال الإمام: وفي قوله تعالى: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} معنى لطيف، وهو أن إقامة مراسم الشريعة قد يستحب على المرور والاعتياد والنشوء، واعتماد التعظيم والاستحسان لا يتأتى إلا من تقوى القلوب. وقد روى مسلم والبخاري عن جابر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحَّى بكبشين أقرنين أملحين، يذبح، ويكبر، ويسمي، ويضع رجله على صفحتهما"، والأملح: الأبيض الشديد البياض في قول ابن الأعرابي، وثعلب، ولم يذكر الإمام غيره. وقال الكسائي، وأبو زيد، وأبو عبيد: هو الذي فيه بياض وسواد، وبياضه غالب. وقالت عائشة: "هو الذي ينظر في سواد، ويأكل في سواد، ويمشي في سواد، ويبرك في سواد" تعني: أن مواضع هذه مزيدة سواد، وباقية بياض؛ كذا قاله أهل اللغة. وقال أصحاب الحديث: معنى كونه ينظر في سواد، ويبرك فيه ويطأ فيه: أن ذلك يكون في ظل نفسه؛ لسمنه؛ كذا حكاه البندنيجي عنهم. قال الماوردي: وفي قصد أضحيته بالأملح وجهان: أحدهما: لحسن منظره. والثاني لشحمه، وطيب لحمه؛ لأنه نوع يتميز عن جنسه. قال: ثم الصفراء؛ لأنها أقرب إلى البيضاء. وغير الشيخ قال: ثم العفراء، وهو المذكور في المذهب، لقوله- عليه السلام- "لدم عفراء عند الله أزكى من دم سوداوين": قال: ثم السوداء؛ لما ذكرناه. وقد حكى ابن قتيبة: أن مداومة أكل الجذاع السود يورث موت الفجأة.

والذي أورده القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ: أن أفضلها البيضاء، ثم العفراء [ثم البلقاء، ثم السوداء. وقال الماوردي: أفضلها البيضاء، ثم العفراء]، ثم الحمراء، ثم البلقاء، ثم السوداء، لأن لحوم ما خالف السوداء أطيب وأصح. والعفراء: هي التي يضرب لونها إلى البياض، وليست صافية البياض، ومنه قيل للظباء: العُفْر. قال: ولا يجزئ فيها معيب يُعيّب بنقص اللحم. الأصل في ذلك: ما روى عن البراء بن عازب قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصابعي أقصر من أصابعه، وأناملي أقصر من أنامله، فقال: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيِّن عورها، والمريضة البيِّن مرضها، والعرجاء البيِّن ظلعها، والعجفاء التي لا تنقى"، أخرجه الترمذي، وقال: إنه حسن صحيح. وفي لفظ لأبي داود: "والكسير [الذي] لا ينقى"؛ فنص على عدم إجزاء هذه الأربعة، وفهم معناه، وهو اتصاف الذبيحة بنقص ما هو مستطاب من الحيوان لا لتحصيل طيب أجزاء، أو هزال أو ما يفضى إليه، وذلك عين المدعى، وإنما قلنا ذلك؛ لأن العوراء البين عورها إذا قلعت الحدقة منها فقد، [ذهب منها شحمة العين، وهي

مستطابة لا يحصل بفواتها طيب آخر، وإن بقيت فقد] عدم رعيها من الجانب الخراب، وذلك يؤدي إلى هزالها لو بقيت. والعجفاء التي لا تنقى أو الكسير الذي لا ينقى صريح في عدم إجزاء الهزيلة؛ لأن التي لا تنقى قيل: إنها التي لا شيء فيها من الشحم، والنقي: الشحم. وقيل: التي لا مخ لها؛ لأن النقاء: المخ، ويقال بالحاء. والجامع ما نقله ابن الصباغ، وقيل: إنه مخ العظم، وشحم العين. والكسير في رواية أبي داود، المراد به: الذي لا يقوم، ولا ينهض؛ من الهزال. والعرجاء البين ظلعها. [وهو] عرجها، [لأن ذلك] يفضي بها إلى الهزال؛ لقلة ترددها في المرعى، وسبق غيرها إليه. والمريضة البين مرضها كذلك. والمراد بها في الخبر كما قال أبو حامد؛ حكاية عن الشافعي- رضي الله عنه- الجرباء وما في معناها: كالمجروحة، وذات القروح. وقال: إن قليل الجرب وكثيره سواء؛ لأنه يفسد اللحم الذي هو عليه، وما ليس عليه جرب، فهو لحم مريضة؛ وهذا ما أورده الماوردي، وحكاه القاضي الحسين عن الشافعي رضي الله عنه، وتبعه في "البحر". ويقرب منه ما حكاه الإمام عن شيخه: أن أدنى الجرب يفسد اللحم؛ فهو في معنى المرض الكثير لكنه قال: إنه متروك عليه؛ فإن أدنى الجرب لا يظهر أثره في اللحم: نعم: إذا عم، وظهر ظهوراً فاحشاً، فهو يهزل إهزال المريض، ولا يبعد أن يفسد اللحم؛ فلابد أن يكون بيناً كما ذكرنا في المرض، وعليه ينطبق قول ابن الصباغ: المراد بها في الحديث: الجرباء الذي كثر جربها وأثر في لحمها، واختاره في "المرشد". ولأن المقصود بالأضحية اللحم، فما كان مؤثراً في نقصه، منع من الإجزاء، كالعتق في الكفارة، لما كان المقصود منه تخليص الرقبة، ليتفرغ للعبادات والوظائف المختصة بالأحرار، منع الإجزاء فيها ما ضر بالعمل لأنه لا يتأتى هذا الغرض إلا إذا اشتغل، وقام بكفايته، وإلا فيصير كلاَّ على نفسه وغيره.

وعن أبي الطيب ابن سلمة أن العوراء تجزئ إذا كانت الحدقة باقية؛ فإن ذلك لا يؤثر في الهزال، [ولا في ظاهر الصورة. قال الغزالي: ويرد عليها العمياء إلا أن العمى يؤثر في الهزال] على قرب بخلاف العور، والأول هو المنصوص عليه للشافعي- رضي الله عنه- فإنه قال: "أقل العور البياض الذي يغطي الناظر". نعم: لو غطى بعض الناظر قال في "الحاوي": فإن كان الذاهب الأكثر لم تجزئ أيضاً، وإن كان أقل أجزأت؛ كالحولاء، والعمشاء، وكذا العشواء، وهي التي تبصر بالنهار دون الليل على الصحيح. وفيها وجه آخر لبعض البصريين: أنها لا تجزئ، وأجراه "البحر" في التي ذهب اليسير من بصرها. وفي معنى ما نص عليه الشارع الثولاء: وهي التي تدور في المرعى ولا ترعى، وقد جاء النهي عنها بصريح اللفظ عن علي، كرم الله وجهه. والهيماء: وهي الشديدة العطش، التي لا تروى بقليل الماء وكثيره؛ لأنه داء مؤثر في اللحم. ومن طريق الأولى العمياء، والمقطوعة اليد أو الرجل، أو أخذ الذئب ونحوه قطعة من فخذها. والمعنى في قول البراء بن عازب: "وأصابعي أقصر من أصابعه": أنه - صلى الله عليه وسلم - أشار بأصابعه، وكذلك البراء بن عازب أشار بأصابعه، كما رواه الشافعي، رضي الله عنه. وقد أخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "البين عورها" من على عينها نقطة يسيرة كما تقدم. وكذا بقوله: "البين مرضها" من بها مرض يسير، فإنه لا يؤثر كما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- في الجديد، وإن كان قد أشار في القديم إلى تأثيره في الخطر. قال الماوردي: فصار على قولين. وحكى الرافعي عدم الإجزاء وجهاً عن "الكافي" وغيره. وبقوله: "البين ظلعها": العرج الخفيف الذي يمكن الشاة معه متابعة الغنم. وبقوله: "التي لا تنقي": المهزولة التي ليست بغاية في الهزال، وضبط الأصحاب

ما يمنع منه بانتهاء الحيوان به إلى حد تأباه نفوس المترفهين في رخاء العيش، ورخص الأسعار. قلت: وينبغي أن يكون المرجع في ذلك إلى العرب؛ كما سنذكره فيما يستطاب، ويستحب. وقد قيل: لا يؤثر ذلك أيضاً؛ قاله في "الوسيط". وقال في "الحاوي": إن كان العجف بها قد أذهب نِقْيَها، نظر: فإن كان عجفها؛ لمرض، لم تجزئ، وإن كان خِلْقة، أجزأت؛ لأنه في المرض داء، وفي الخلقة غير داء. ومراد الشيخ بقوله: "ينقص اللحم" أي: إما في الحال: كقطع فلقة من الفخذ، ونحوه؛ أو في المآل إن دام: كالعرج، ونحوه. وكذلك قال الأصحاب: لا يشترط في المريضة البين مرضها- أي: الكثير- إفضاء المرض بها إلى الهزال؛ إذ لو شرط ذلك لما كان لذكره- عليه السلام- العجفاء مع المريضة معنى؛ فالمرض إذن مستقل. قال الإمام والغزالي: وفيه وجه بعيد: أنه إذا لم يظهر العجف فلا أثر له؛ لأنه لا يؤثر في اللحم. وعند كتاب ابن كج حكاية وجه: أن المانع من المرض الجرب، أما سائر الأمراض فلا تمنع الإجزاء، والصحيح الأول. نعم، لو أضجعت الشاة [للذبح] فانكسرت رجلها في اضطرابها قبل الذبح؛ لإحالته ففي إجزائها وجهان مشهوران: أشبههما: المنع أيضاً. أما إذا انكسرت حال الذبح، فقد جزم الشيخ أبو محمد بالإجزاء. ويندرج فيما ذكره الشيخ بالتفسير الذي ذكرناه من انكسرت أسنانها بحيث لا يمكنها أن تعتلف؛ كما حكاه أبو الطيب، والماوردي عن الأصحاب دون من يمكنها العلف مع كسر السن.

وقوله في "الوسيط": "وتناثر الأسنان لا يمنع الإجزاء؛ إذ لا يؤثر في اللحم"، ولم يرد فيه حديث منطبق على الصورة الأخيرة، لكنه قال: وقيل: إن تناثر جميع الأسنان لا يجزئ، وإن تناثر بعضها أجزأ، وهو بعيد ينافي ذلك. والذي حكاه القاضي الحسين عن الشافعي- رضي الله عنه- فيها: أنه لا يَحْفَظُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأسنان شيئاً، ولا يجوز فيها إلا واحد من قولين: أحدهما: لا تجزئ؛ لأنه يضر باللحم؛ لعدم الأسنان وإن قلَّ ذلك. والثاني: الإجزاء؛ لأنه لا منفعة في السن؛ فصار كالقرن. وكذا يندرج فيه الحامل إن قيل: إن الحمل في الحيوان عيب؛ كما هو الصحيح، وستعرفه من بعد، وهو وجه محكي في "شرح الوجيز" للعجلي عن بعض الأصحاب. والمشهور: الإجزاء؛ لأن ما حصل من نقص في اللحم بسبب الحمل ينجبر

بالجنين؛ فهو كالخصي، كما سنذكره. واحترز الشيخ بقوله: ما ينقص اللحم، عن العيب الذي لا ينقصه، وهو على قسمين: أحدهما: ألا يحصل به إلا نقص القيمة، مثل: كونها جموحاً، أو عضوضاً، أو رموحاً، أو تشرب لبنها، ونحو ذلك؛ فهذا لا يمنع الإجزاء وجهاً واحداً. وألحق به أبو الطيب التي انشق طرف أذنها. والثاني: أن ينقص غير القيمة، وهو- أيضاً- على قسمين: أحدهما: أن ينقص ما ليس بمأكول: ككسر القرنين من أصلهما أو أحدهما، والأولى تسمى: القصعاء، والثانية تسمى: الجمَّاء، وذلك لا يمنع الإجزاء- أيضاً- سواء سال الدم أو لم يسل؛ لأن الفائت جزء ليس بمأكول؛ فكان كالصوف. ومن طريق الأولى كون الجلحاء تجزئ: وهي التي لم يخلق لها قرن، والعضباء: وهي التي ذهب بعض قرنها، والعصماء: وهي التي انكسر غلاف قرنها، والقصماء: وهي التي انكسر قرنها الباطن؛ فإن القرن الظاهر غلاف القرن الباطن. نعم، تكره التضحية بذلك. والثاني: أن ينقص ما هو مأكول غير اللحم، وهو- أيضاً- على قسمين: أحدهما: ما يكون تنقيصه سبباً في زيادة اللحم وطيبه: كالخصي؛ فإنه ينقص الأنثيين ويزيد في اللحم وطيبه، وهذا لا يمنع الإجزاء. قال الإمام وفاقاً: وعنه احترزنا بقولنا في تنقيح المعنى المراد بالنص: لا لتحصيل طيب آخر. وليس لقائل أن يقول: إن الخصي ليس بمعيب؛ لما ستعرفه في باب المصراة. وقد أغرب ابن كج، فحكى في الخصي قولين، وأن الجديد: المنع. والثاني: ما لا يحصل بسببه زيادة في اللحم وطيبه، وذلك يُفْرَضُ في صور: منها: قطع الأذنين، وقد حكى ابن يونس إلحاقه بالقسم قبله، وهو الذي يفهمه كلام الشيخ. والذي أورده البندنيجي، وابن الصباغ، والقاضي الحسين: عدم الإجزاء.

قال ابن الصباغ، والبندنيجي: لأنه قد ورد النهي عن المصفرة، وهي هذه، سميت بذلك- كما قال في "البحر"-: لأن الأذن إذا زالت، صفر مكانها، أي: خلا. وقال الماوردي: إن المصفرة هي الهزيلة التي [قد] اصفر لونها من الهزال، وإن المقطوعة الأذن من أصلها تسمى [المصطلمة والمستأصلة]، ولا تجزئ أيضاً؛ لأنه قد ورد النهي عنها. وقد حكى القاضي أبو حامد في "جامعه": [أنها لا تجزئ] أيضاً، ولم يحك سواه، بل قال في الشاة السكاء، وهي التي لم تخلق لها أذن: إنها لا تجزئ. وهو الذي حكاه القاضي الحسين عن الشافعي- رضي الله عنه- ولم يورد الفوراني غيره. قال القاضي أبو حامد: وهذا بخلاف [فَقْد] الآلية منها؛ فإنها إن فقدت من أصل الخلقة أجزأت، وإن قطعت لم تجزئ. وهذا ما حكاه الماوردي. وقال القاضي أبو الطيب: ما وجدت هذه المسألة للشافعي في "المبسوط". ويمكن أن يفرق بأنه- عليه السلام- أجاز أن يضحي بالثنية من المعز ولا ألية لها؛ فتكون الشاة المخلوقة بغير ألية بمنزلة المعز، وليس كذلك الأذن؛ فإن العنز التي لا أذن لها لا يضحى بها، سواء قطعت أذنها أو فقدت خِلْقةً. وقد تلخص من ذلك في إجزاء المقطوعة الأذن وجهان، وإجراؤهما في التي لم يخلق لها أذن من طريق الأولى، وقد حكاهما في "الوسيط:" فيها قولين؛ تبعاً للإمام، وألحق مقطوعة معظم الأذن أو القدر الذي يظهر على بعدٍ بالمستأصلة. وحكى في المقطوع قدر يسير من أذنها، أي: الذي لا يرى من البعد- كما قال الإمام- وجهين، والمذكور منهما في "الحاوي": المنع، وقال القاضي الحسين: إنه لا خلاف فيه. وحكى الغزالي في الخرقاء: وهي المخرومة الأذن- زاد غيره: من السمة، وزاد الماوردي: ثقباً مستديراً. والشرقاء: وهي المشقوقة الأذن- زاد الماوردي: بالطول- والمقابلة: وهي التي قطعت فلقة من أذنها، وتدلت من قبالة الأذن، والمدابرة: ما تدلت من خلف أذنها- طريقين-:

أحدهما: [أن] في الإجزاء وجهين، حكاهما القاضي الحسين والفوراني فيما إذا لم يذهب من الأذن شيء: أحدهما: الجواز؛ للقياس؛ فإن ذلك لا ينقص مأكولاً؛ فأشبه الصوف. والثاني: المنع، وهو اختيار القفال؛ لنهي علي- رضي الله عنه- عن التضحية بذلك، وقال: "أمرنا باشتراف العين والأذن"، أي: بتأملهما وطلب سلامتهما، وروى: "نستشف"، أي: نكشف. وتتمة الخبر: "ولا نضحي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء، ولا شرقاء"، أخرجه أبو داود. وعن القفال: أن وجه المنع في مثقوبة الأذن بالسمة؛ لأن موضع الشق يتصلب، ولا يمكن أكله. والطريق الثاني: القطع بالإجزاء؛ كما أفهمه كلام الشيخ، وهو الذي أورده الماوردي، والبندنيجي، وابن الصباغ، واختاره في "المرشد"، لكن مع الكراهة؛ لقوله- عليه السلام-: "أربع لا تجوز في الأضاحي"؛ فدل على الجواز فيما عداها، وإلا لم يكن للحصر فائدة، وحديث عليِّ محمول على الكراهة؛ جمعاً بينهما. ومنها: المقطوعة الآلية، وقد تقدم ما حكيناه عن القاضي أبي الطيب وغيره: أنها لا تجزئ، بخلاف التي لم تخلق لها ألية، وسوى في "التهذيب" بينهما في عدم الإجزاء، وألحق البعير الذي لم تخلق له ذنب بالشاة التي لم يخلق لها ألية. وفي "الوسيط" حكاية وجهين في المقطوعة الألية، وفي التي لم تخلق لها ألية وجهان مرتبان، وأولى بالجواز. ومنها: المقطوعة الضرع، وقد قيل: إنها كالمقطوعة الآلية؛ فيجيء فيها الطريقان، وهما جاريان فيما إذا خلقت ولا ضرع لها، حكاهما القاضي الحسين. وقيل: تجزئ المقطوعة الضرع؛ لأنه ليس من الأطايب المقصودة، فهو كالإخصاء،

وبه يحصل فيها ثلاث طرق. فرع: الموسومة تجزئ؛ لأن ذلك ليس ينقص اللحم ولا [يؤثر] نقصاناً فاحشاً في الثمن. قال في "البحر": وقال بعض أصحابنا بخراسان: في الموسومة وجهان؛ لأن موضع الوسم صار جِلْداً لا يؤكل. وليس بشيء. قال: والأفضل أن يذبحها بنفسه؛ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه- رضي الله عنهم- فإنهم كانوا يفعلون ذلك، وكان- عليه السلام- يأمر نساءه أن يَليِنَ ذبح هديهن. ولأنها قربة؛ فاستحب لفاعلها أن يتولاها، وهكذا الحكم في الهدي. وقد أفهم كلام الشيخ: أن له أن يستتيب في ذلك كما صرح به غيره. ووجهه: ما روى جابر أنه- عليه السلام- "ساق مائة بدنة، فنحر منها بيده ستاً وستين بدنة، ثم أعطى علياً المدية، فنحر ما غبر"، أي: ما بقي. ولا فرق فيمن يستنيبه بين المسلم والكافر، والبالغ والصبي، والرجل والمرأة في الصحة؛ والمعتبر فيه أن يكون ممن تصح ذكاته. نعم: يكره أن يستنيب الكافر والصبي إذا حلت ذكاته. وفي كراهية استنباة الحائض وجهان في "الحاوي"، والمذكور منهما في "تعليق" القاضي الحسين: الكراهة؛ لقوله- عليه السلام-: "لا يذبح أضاحيكم إلا طاهر". فإن قيل: الأضحية إذا لم تكن متعينة إما منذورة أو متطوعاً بها؛ فلا بد من النية عند الذبح، والكافر ليس من أهل النية، فكيف تصح استنابته؟ قلت: يجوز أن يحمل كلام الأصحاب في إطلاق الجواز على ما إذا كانت الأضحية معينة، وقلنا: لا تشترط النية عند ذبحها؛ كما جزم به ابن يونس؛ تبعاً للغزالي، وجعله الإمام المذهب وإن كان الراجح عند غيره- كالشيخ إبراهيم

المروروذي، والقاضي الروياني، وصاحب "العدة"-: الاشتراط. قال الرافعي: وليكن الوجهان مفرعين على جواز تقديم النية على الذبح، فإن لم نجوزه فلينقطع باعتبارها عند الذبح. انتهى. ويجوز أن يحمل على ما إذا كان الموكل حاضر الذبح، ونوى؛ كما نقول بإجزاء تفرقة الكافر للزكاة والكفارة على هذا النحو، وبالإجزاء فيما إذا وكَّلَ مسلماص وذبح وهو لا يدري أنها أضحية، وعلى هذه الحالة يحمل قوله في "البحر" بعد إيراد السؤال: الجواب أن نية المالك التي يتقرب بها إلى الله كافية؛ إذ لو ذبحه من لا يعلم أنه للقربة، جاز. نعم: لو كان غائباً، فقد قال الأصحاب في حق الوكيل المسلم- كما حكاه ابن التلمساني-: إن الموكل ينوي عند الاستنابة، وينوي الوكيل عند الذبح، وهذا إذا كان شرطاً فقضيته ألا يصح توكيل الكافر في حال الغيبة وإن نوى الموكل عند الدفع إليه. لكن الغزالي قال: وتجب النية عند الذبح، أو عند الدفع إلى الوكيل، وقضية ذلك الإجزاء، وهو ما ذكره في "الزوائد" عن "العدة"، حيث قال: وإن دفع إلى وكيله ينوي حين يدفع أو حين يذبح الوكيل، أو يفوض إلى الوكيل: إن كان مسلماً فينوي حين يذبح، وإن كان كافراً فينوي عند الدفع، أو الذبح، ولا يجزئ التفويض إليه. وقد أبدى مجلي في ذلك احتمالاً، وقال: ينبغي أن يلحق بالزكاة في أنه هل يجوز تقديم النية؟ وهل يكتفي بالنية من المستنيب دون النائب، وهذا ما حكاه الإمام حيث قال: ثم النية في التضحية كالنية في تأدية الزكاة، وقد مضى القول فيها، وفي جواز تقديمها، وفي جواز الاستنابة فيها مفصلاً، ولا فرق بين البابين، والأظهر- كما قال الرافعي-: الجواز. قال: فإن لم يحسن، فالأفضل أن يشهد ذبحها؛ لما روي أنه- عليه السلام- قال لفاطمة: "قومي فاشهدي أضحيتك؛ فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها كل ذنب تحملينه، وقولي: إن صلاتي ونسكي ومحياي [ومماتي] لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين"، قال عمران بن الحصين: هذا لك ولأهل بيتك

خاصة أو للمسلمين عامة؟ قال: "بل للمسلمين عامة"، وسيأتي الكلام فيما ينبغي للذابح أن يقوله عند الذبح في الكتاب، وكذا ما ينبغي أن يفعل بالذبيحة. قال الماوردي: ويختار إن ضحى لنفسه أن يضحي في منزله بمشهد أهله؛ ليفرحوا بالذبح، ويستمتعوا باللحم. والإمام إذا ضحى عن المسلمين، فيختار أن يذبح في المصلى بعد فراغه من صلاته، وينحر بنفسه؛ اقتداء به- عليه السلام- والأئمة الراشدين، ويخلي بين الناس وبينها. وقال- أيضاً-: إنه يختار لمن يريد التضحية بعدد أن يفرقه في أيام النحر. قال: والمستحب أن يأكل الثلث، ويتصدق بالثلث، ويهدى الثلث في أحد القولين. اعلم أن الأكل من الأضحية المتطوع بها، وكذا من الهدى المتطوع به- جائز بلا خلاف، والهدية إلى الأغنياء ملحقة به، ولا تجب بلا خلاف، والتصدق منها ومن الهدي جائز- أيضاً- بلا خلاف؛ لما ستعرفه، ولكن هل يجب الأكل والتصدق من ذلك، أو يستحب؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها الماوردي: أحدهما- وينسب إلى ابن سريج، والإصطخري، وابن الوكيل، وحكاه ابن القاص عن النص؛ كما قاله في "البحر"، وغيره؛ نسبه إلى تخريجه-: أنهما مستحبان، فإن أكل الجميع أو تصدق بالجميع جاز؛ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] فجعل مقصودها بعد الإراقة التقوى. وأيضاً: فقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28] يظهر أن المراد به: كلوا، ومكنوا البائس من الأكل؛ فيحمل على الاستحباب؛ فإن الواجب يجب فيه التمليك لا التمكين كما في الكفارة. والثاني- وهو قول أبي الطيب بن سلمة-: أنهما واجبان؛ فإن أكل جميعها، أو

تصدق بجمبيعها لم يجز حتى يجمع بين الأكل والصدقة؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28] فجمع بينهما، وأمر بهما؛ فدل على وجوبهما. وعلى هذا: فالواجب من الأكل والصدقة: ما يقع عليه الاسم. والثالث- وهو مذهب الشافعي، وما عليه أصحابه-: أن الأكل مستحب؛ لقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] فجعلها لنا، ولم يجعلها علينا؛ فدلَّ على أن أكلنا منها مباح، وليس بواجب؛ لأن الإنسان مخير فيها بين الاستبقاء والإسقاط. ولأنها ذبيحة يتقرب بها إلى الله تعالى؛ فلم يكن الأكل منها واجباً؛ كالعقيقة. ولأن الصدقة واجبة؛ لأنها المقصودة، وجمعه تعالى بين الأكل والصدقة بالأمر لا يدل على استوائهما في الحكم؛ كما في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ} [الأنعام: 141]، وقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ} [النور: 33]. وقال الغزالي: إن التصدق بالكل أحسن على كل قول. وهو متبع فيه الإمام؛ فإنه قال: إن ذلك لا شك فيه غير أن شعار الصالحين الأكل منها. ثم الذي يسقط الواجب: ما يقع عليه الاسم أيضاً. قال في "الحاوي": وهو ما يخرج عن القدر التافه إلى ما جرى العرف أن يتصدق به منها من القليل الذي يؤدي الاجتهاد إليه. ومن هنا يظهر لك: أنه لا يجب صرفها إلى عدد، بل يكفي الصرف إلى مسكين واحد؛ كما صرح به الإمام؛ لأنَّا لا نرى في الشرع لذكر الجمع في هذا الباب أصلاً، ويجب فيه التمليك، ولا يكفي فيه الإطعام؛ كما في الكفارات، ولا يكفي التصدق بالجلد على الظاهر؛ كما قاله صاحب "التقريب". قال الإمام: وهو حسنُ، وفيه احتمال؛ كما ردد جوابه فيه. قلت: التردد فيه يشبه أن يكون مأخذه: أن له الانفراد به على قول وجوب التصدق، أم لا بد من التصدق منه أيضاً؟ وفيه وجهان: فإن قلنا: ليس له الانفراد به، فلا يجزئ، وإن قلنا: له الانفراد به فيجوز أن يقال: إنما كان ذلك لجعله كالجزء؛ فيكفي هنا.

ويجوز أن يقال: إنما كان ذلك؛ لأنه تابع فلا يجزئ هنا. وأما الذي يحصل به تأدية المستحب من الأكل والتصدق فيه ما ذكره الشيخ، وهو قوله: "والمستحب أن يأكل الثلث، ويتصدق بالثلث، ويهدي الثلث في أحد القولين؛ لقولهت تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 28]، فذكر ثلاثة أصناف فاقتضى أن يكون أثلاثاً بينهم، والقانع: الذي يسألك، والمعتر: الذي يتعرض لك بالسؤال؛ قاله الحسن. وقال مجاهد: القانع: الجالس في بيته، والمعتر: الذي يسألك. وهذا القول نص عليه في "البويطي"، وهو المنسوب إلى الجديد، وهو الصحيح؛ وعلى هذا ما المراد بالذي يهدي إليهم الثلث؟ قال في "البحر": إنهم المتجملون، أي: من الفقراء، وعليه يدل تفسير القانع والمعتر. وعلى هذا يكون المستحب أكل الثلث، والتصدق بالثلثين؛ وهو ما حكاه القاضي أبو الطيب عن الجديد، وصححه. وقال القاضي الحسين: إنه قيل: إنهم الأغنياء، وهو الذي يوافق كلام الماوردي وغيره، وكلام الشيخ الآتي من بعد. وقال الإمام: إنه لو وهب من غنى شيئاً من الضحية هبة تمليك حتى يتصرف فيها المتهب بالبيع وما يراه- فالذي يظهر لنا أن ذلك ممتنع؛ فإن الهبة ليست صدقة، والضحية ينبغي أن تكون مردودة بين التطعم والإطعام، وبين الصدقة، وإن الأغنياء ضيفا الله تعالى على لحوم الأضاحي، فالضيف لا يهب، ولكن يطعم. وقال الرافعي: إن الشيخ أبا حامد قال: يأكل ثلثاً، ويتصدق بثلث، ويهدي إلى الأغنياء والمتجملين ثلثاً، وإنه لو تصدق بالثلثين كان أحب. وحكى القاضي الحسين وجهاً آخر: أن القول الجديد: أنه يستحب أن يأكل الثلث، ويدخر الثلث، ويتصدق بالثلث؛ لقوله- عليه السلام-: "كلوا وادخروا وتصدقوا".

وجاء: "واتجروا"، أي: اطلبوا الأجر بالتصدق، وهذا ما أورده في "الوجيز". وقال الرافعي: إنه لا يكاد يوجد في غيره. وأما الحديث فلك أن تمنع أنه تضمن ثلاث جهات، وتجعل الأكل والادخار جهة واحدة، وتقول: إنما تعرض للادخار؛ لأنهم راجعوه فيه، فقال: كلوا في الحال إن شئتم، وادخروا إن شئتم. قلت: وقد عرفت أنه وجد في غيره من الكتب، وما ذكره من الحديث لو حمل على ما ذكره، لاقتضى أن تكون القسمة بين جهتين، وهي تقتضي التنصيف، لا التثليث. وقد استدل الأصحاب بهذا الخبر على التثليث. قال: وفيه قول آخر: إنه يأكل النصف، ويتصدق بالنصف؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] فجعلهما صنفين؛ فاقتضى أن تكون بينهما نصفين. وظاهر كلام الشيخ في حكاية هذا القول، وكذا كلام القاضي أبي الطيب، والحسين، والروياني، وغيرهم: أنه لا يستحب إلا هذا من الأضحية. لكن المحكي في "الحاوي": أنه على هذا القول يستحب له أن يتصدق بالنصف، ويأكل ويهدي النصف، ونسبه إلى القديم. وحيث قلنا: يطعم، فقد قال في "البويطي": لا يطعم منها أحداً على غير دين الإسلام. وما قلنا بأنه يجوز له أكله، لا يجوز له بيعه، ولا أن يعطيه أجرة للجازر؛ لأنه في معنى البيع، وقد ورد النهي عنه. والإتلاف من غير أكل أولى بالمنع من البيع. والجلد في منع البيع ملحق باللحم. وعن صاحب "التقريب" رواية قول تفرد به: أنه يجوز بيعه، وصرف ثمنه إلى من يهمه الأمر:

يجوز صرف اللحم له، وهل يجوز له ادخار ما جاز له أكله من اللحم؟ قال الأصحاب: قد كان – عليه السلام- أمر بالادخار لثلاث، والتصدق بالفاضل، حين دفَّ ناس من أهل البادية حَضْرَةَ الأضحى، أي: وقت الأضحى ومشاهدته، ثم قيل له بعد ذلك: [يا] رسول الله، كان الناس ينتفعون من ضحاياهم ويحملون منها الوَدَكَ، ويتخذون منها الأَسْقِيَة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وما ذاك؟، قالوا: يا رسول الله، نهيت عن إمساك [لحوم الضحايا] بعد ثلاث، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما نهيتكم من أجل الدافَّة التي دفَّت، فكلوا، وتصدقوا، وادخروا". أخرجه أبو داود ومسلم بمعناه؛ فاشتمل هذا الحديث على جواز الادخار لثلاث، وهل الثلاث من أول أيام الذبح، أو من حين الذبح؟ فيه تردد للعلماء، ودل على تحريم الادخار لما بعد الثلاث؛ لأجل الدافة، وهي- بتشديد الفاء، وفتح الدال المهملة-: النازلة؛ يقال: دف القوم موضع كذا، إذا نزلوا فيه، والمراد بها هنا: من ورد عليهم من ضعفاء الأعراب. ودل على إباحة الادخار بعد الدافة. واختلف أصحابنا في معنى هذا النهي والإباحة على وجهين: أحدهما: أنه نهي استحباب؛ كما حكاه القاضي الحسين. والثاني: نهي تحريم، وعلى هذا فوجهان: أحدهما: أنه على العموم في أهل المدينة التي دفَّ أهل البادية إليها، وفي غيرها من البلاد على جميع المسلمين، وكانت الدافة سبباً في التحريم، ولم تكن علة في التحريم، ثم وردت الإباحة بعدها نسخاً للتحريم. وعلى هذا إذا دفَّ قوم إلى بلدٍ مِنْ فاقةٍ، لم يحرم ادخار لحوم الأضاحي. والثاني: أنه نهي [تحريم خاص] بمعنى حادثٍ، اختص بالمدينة ومن فيها دون غيرهم؛ لنزول الدافة عليهم، وكانت الدافة علة للتحريم، ثم ارتفع التحريم بارتفاع موجبه، وكانت إباحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إخباراً عن السبب، ولم تكن نسخاً. وعلى هذا اختلف أصحابنا إذا حدث مثله في زماننا، فدف ناس إلى بلد؛ لفاقة، هل يحرم على أهله ادخار لحوم الأضاحي لأجلهم؛ كما حرم على أهل المدينة في عهده- عليه السلام- أم لا؟ على وجهين.

فرع: إذا فعل المضحى المستحب، فأكل البعض، وتصدق بالبعض، فهل يثاب على الكل، أو على ما تصدق به؟ فيه وجهان كوجهين ذكرا في أن المتطوع بالصوم إذ نوى نهاراً يثاب لجميع اليوم، أو لما اقترنت به النية. قال الرافعي: وينبغي أن يقال: له ثواب التضحية بالكل، والتصدق بالبعض. قال: فإن أكل الكل أو أهداه للأغنياء فقد قيل: لا يضمن. هذا مفرع- كما قال الماوردي وغيره- على قول ابن سريج في أنه لا يجب التصدق بشيء من الأضحية. وقال البندنيجي: إن هذا منصوص عليه في القديم، وإن ابن سريج صار إلى أنه [لا يجب التصدق] بشيء من الأضحية؛ أخذاً من هذا النص. قال: والمذهب: أنه يضمن- أي للفقراء- لما تقدم: أن التصدق عليهم واجب. قال: القدر الذي يجزئه وهو أدنى جزء؛ لأنه لو اقتصر على إخراجه في الابتداء أجزأه؛ فلا يضمن في الانتهاء غيره. وقيل: يضمن القدر المستحب، وهو النصف أو الثلث، ويخالف الابتداء؛ لأن إخراج الجزء موكول إلى اجتهاده، فلما أكل الكل ظهر حيفه؛ فأسقط اجتهاده، ورجع إلى ما اقتضاه إطلاق نص الكتاب. وقد حكى الماوردي، والقاضي الحسين، والفوراني، وصاحب "التقريب" هذا القول، كما حكاه الشيخ، وكذا القاضي أبو الطيب في نظير المسألة من الهدي. وحكى بدله هاهنا: أنه يضمن الثلثين؛ بناء على ما نقله من أن الجديد: أنه يستحب أن يتصدق بالثلثين، وتبعه ابن الصباغ. وحكى البندنيجي ذلك- أيضاً- وقال تفريعاً عليه: إنه مخير بين أن يتصدق بالثلث ويهدي الثلث، وبين أن يتصدق بالثلثين ويترك الهدية، وإن الشافعي قال: هذا أفضل. وهذا الخلاف مأخوذ- كما قال الأصحاب هنا- من اختلاف قولي الشافعي- رضي الله عنه- فيما إذا وقع جميع السهم إلى اثنين، فماذا يغرم للثالث؟ وقال الإمام: إن تخريجه على هذا الأصل زلل؛ لأن مسألة الزكاة لا تناظر ما نحن فيه؛ فإن التصدق فيها بالكل حتم، فإذا حرم واحداً بار فيه، وهنا لا يجب التصدق إلا

على واحد بأقل ما يجب التصدق به. وقال المحاملي في كتاب الرهن: إن الخلافَ في مسألة الزكاة وهذه المسألة مأخوذة من قولين للشافعي منصوصين في "اللقيط" فيما إذا باع العدل الرهن بأكثر مما يتغابن الناس بمثله، مثل إن باع ما يساوى عشرة بخمسة، والذي يغبن بمثله درهم، وتعذر رد المبيع-: فأحد القولين: أنه يضمن جميع قيمته. والثاني: ما انحط عن القدر الذي يتغابن الناس بمثله، وهو تسعة. وعلى كل من الوجهين- أعني: في تضمينه أدنى [جزء أو القدر] المستحب- ما الذي يضمن به؟ فيه الأوجه التي سنذكرها فيما إذا قلنا: لا يأكل من المنذورة، فأكل منها؛ قاله القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وغيرهما في الهدي، والأضحية مثله، كما سنذكره. ووجه القاضي الثالث بأن إراقة الدم [لا] يعتد بها إذا لم يصل اللحم إليهم؛ ألا ترى أنه لو ذبح شاة، وسرقت منه، لزمه أن يذبح أخرى، ولا يجوز له شراء اللحم؟! فكذا هاهنا. وفي "البحر": أنه لا يجوز أن يخرج ما وجب عليه وَرِقاً، وهل يشتري به لحماً، أو يشارك به في ذبيحة؟ فيه وجهان، وهذا مذكور في "الحاوي" أيضاً. ولا يجوز على الوجهين معاً أن يأكل مما يغرمه؛ صرح به الماوردي. ويجوز تأخير تفرقة ذلك، وكذا ذبح الشقص- إن أوجبناه- عن أيام التشريق؛ لأن الشقص ليس بأضحية؛ فلا يعتبر فيه وقت التضحية. وحكى الماوردي في أصل المسألة وجهاً ثالثاً عن أبي إسحاق المروزي وابن أبي هريرة: أنه يضمن جميعها بأكثر الأمرين من قيمتها أو مثلها؛ لأنها خرجت بأكلها عن حكم الضحايا، وعادت لحماً؛ فكان إيجاب الأضحية باقياً؛ فيلزمه أن يضحي. قال: وعلى هذا، لو أخّر ذبح البدل حتى خرجت أيام التشريق مع القدرة، فذبحه بعدها- ففي إجزائه وجهان: أحدهما: لا يجزئ، ويكون لحماً مضموناً بمثل ثانٍ؛ كما لو أخر أصل الأضحية

حتى ذبحها بعد أيام التشريق. والثاني: يجزئ؛ لأن إراقة دم الأضحية في أيام النحر قد حصل بما أكل، وإنما هذا بدل في الإطعام دون الإراقة، فجاز في غير أيام النحر. وهل يجوز أن يأكل من لحم البدل إذا ذبحه في أيام النحر أو غيرها؟ فيه الوجهان في الأكل من الأضحية المنذورة. قال: ومن نذر أضحية معينة، زال ملكه عنها؛ لأنه تقرب بما لو أتلفه ضمنه، فزال ملكه عنه، كالمعتق. واحتزرنا بقولنا: "إنه تقرب بما لو أتلفه ضمنه" عما إذا قال: "لله علي أن أعتق هذا العبد"، فإنه لا يزول ملكه عنه، إذ لو أتلفه لم يضمنه، وإن كان لا يجوز له بيعه؛ لأن العبد هو المستحق لذلك؛ فلا يضمن بغيره. قال: ولم يجز بيعها؛ لما روى أبو داود، قال: أهدى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- بختيَّة، فأعطى بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إني أهديت بختية، فأعطيت بها ثلاثمائة دينار أفأبيعها، وأشترى بثمنها بدنا؟ قال: "لا، انحر إياها". والبخت من الإبل: طوال الأعناق، بلا غلظ، ذوات سنامين، الواحد: بختي، والأنثى: بختية، والجمع: بخاتي، والأضحية كالهدي. وقد روى عن علي- كرم الله وجهه- أنه قال: "من أوجب أضحية، فلا يستبدل بها". وعن شرح الفروع للشيخ أبي علي حكاية وجه آخر: أنه لا يزول الملك عنها، وكذا في الهدي المعين، حتى يذبحه، ويتصدق باللحم؛ كما لو قال: "لله علي أن أعتق هذا العبد"، لا يزول ملكه [عنه] إلا بإعتاقه.

قلت: وهذا القياس منه يقتضي تصوير محل هذا الوجه بما إذا قال: "لله علي أن أضحي بهذه الشاة"، أو "أهديها". وقد حكاه القاضي الحسين أيضاً في هذه الصورة، وحكى وجهاً في مسألة العتق المقاس عليها: "أنه يزول الملك فيها أيضاً". ووجهاً ثالثاً- وهو المشهور-: أن الملك في مسألة الأضحية [والهدي يزول، وفي مسألة العتق لا يزول. وفرق بأن الأضحية] إلزام قربة لله تعالى في عين لمن هو أهل للملك، وهم المساكين، فنقل ملكه؛ كما لو قال: "وقفت هذه الدار على المساكين"، أو "تصدقت بهذه الدراهم عليهم"، بخلاف العبد؛ فإنه التزام قربة لله تعالى في عين لمن ليس من أهل الملك في الحال، بل يصير به مالكاً، فهو كأم الولد. فإن قلت: إذا كان محل الخلاف مصوراً بما ذكرتم، فالخلاف مذكور في "الوسيط" وغيره- كما ستعرفه- في أن من قال: "لله علي أن أضحي بهذه الشاة"، هل تتعين أم لا؟ قلت: الذي يظهر أن هذا الخلاف مفرع على القول بالتعيين، ويدل عليه أن القاضي الحسين ادعى بعد حكاية الخلاف المذكور أن الأضحية لو غصبت، وركبت، كانت أجرتها مصروفة للمساكين، بلا خلاف، وهذا يدل على التعيين، والله أعلم. فإن قيل: من زال ملكه عن الشيء لا يملك بيعه، فما فائدة قول الشيخ: "ولم يجز بيعها"، بعد قوله: "زال ملكه عنها"؟ قلنا: له فوائد: منها: أن الخصم- وهو أبو حنيفة- قال: "لا يزول الملك، ويجوز البيع"، فأراد أن يذكر عن المذهب ما يخالفه.

الثاني: أن الملك قد يزول، ويتسلط من زال عنه على بيعه، كمن نذر أن يهدي إلى الحرم شيئاً معيناً- كما سيأتي- فنفى بذلك توهم إلحاق هذه المسألة بتلك. الثالث: أنه جزم بجواز شرب اللبن الفاضل عن الولد، والركوب، والانتفاع بالصوف المضر بها، مع أن زوال الملك يأبى ذلك، فقد يظن أن البيع كذلك؛ فصرح بنفيه. والمبادلة بها في معنى البيع، بل هي بيع حقيقة. ثم المسألة مصورة على ما تقدم تقريره في أول الباب بما إذا قال: "لله علي أن أضحي بهذه الشاة، إن شفى الله مريضي". والمراوزة حكوا في التعيين في هذه الصورة وجهين: أصحهما ما ذكرناه، وهو ما أورده القاضي الحسين- أيضاً- في موضع، وإن حكى الوجهين في آخر. و [الوجه] الثاني: لا تتعين، [بل يجوز له إبدالها]، وجعلوا محل الجزم بزوال الملك، وعدم صحة البيع إذا قال: "جعلت هذه الشاة أضحية"، وهو ظاهر نصه في "المختصر"؛ فإنه قال: وإذا أوجبها أضحية، وهو أن [يقول] هذه أضحية، وشبه الأصحاب ذلك بتوجيه العتق على العبد تنجيزاً. وقال الإمام: إن تشبيهه بتعين الشيء للحبس بالوقف أقرب؛ فإن الضحية لا تخرج عن المالية بالكلية.

قال الرافعي: وهذا لا يسلمه الأولون، بل صرحوا بزوال الملك عن الهدي المعين، والأضحية المعينة. قلت: وهذا من الرافعي فيه نظر، لأن مراد الإمام: أن الأضحية بهذا التعيين، لم تخرج عن أن تكون مالاً في نفسها، كما لم تخرج العين الموقوفة بالوقف عن المالية؛ حتى إذا أتلفت، ضمنت ضمان الأموال، وتضمن بوضع اليد عليها، ويتصرف فيها الفقراء تصرف الملاك بالبيع، والهدية، وغيرهما، كما أن العين الموقوفة قد يطرأ عليها حالة يجوز مثل ذلك [فيها]، بخلاف العبد المعتق؛ فإنه بعد العتق غير مال، وحينئذ فما ذكره الرافعي [غير] وارد على الإمام. وقد أشار القاضي الحسين في موضع إلى أن قوله: "هذه أضحية"، أو "جعلتها أضحية" لا يكفي على قول، ما لم يقل "لله"- بقوله: لو قال: "هذه أضحية"، أو "جعلتها أضحية"، ولم يقل: "لله"، فظاهر كلام الشافعي: أنه يلزمه؛ ولأجله قال في "التهذيب": إنه المذهب. وأجرى المراوزة الخلاف المذكور في التعيين فيما إذا قال: "لله علي أن أتصدق بهذا الدرهم"، أو "أن أعتق هذا العبد، إن شفي [الله مريضي"]، لكن بالترتيب. والتعين في التضحية أولى من تعين الدرهم؛ لتعلق الأغراض بالضحية دون الدرهم، وفي العتق أولى منه في الأضحية؛ لأن للعبد حظاً وحقاً في العتق، فإذا عينه للاستحقاق، ظهر وجوب الوفاء، والضحية لا حق لها في تعيينها. ولو كان قد قال: "إن شفي الله مريضي، فلله علي أن أضحي بشاة"، ثم قال: "جعلت هذه الشاة عن نذري"، أو "لله علي أن أضحي بها عن نذري". قال العراقيون: يتعين، بمعنى أنه يجب ذبحها، ولو تلفت، لم يسقط ما في ذمته؛ كما سنذكره مثله في الهدي في باب النذر وتفاريعه. وحكى المراوزة في التعين وجهين أيضاً، وأن عدم التعين هنا أولى منه في الصورة السابقة؛ لأن الملتزم في الذمة دين، وتعيين الشاة للدين بمثابة جعل الدين عيناً، والدين لا يتعين إلا بالإيفاء، وليس التعيين إيفاء، وأنَّا إذا قلنا بالتعيّن، فلو تلفت، فهل يجب بدلها، أو لا يجب عليه شيء؟ كما لو قال: "جعلتها أضحية" فيه وجهان،

ولا يجري الوجهان في التعين فيما إذا قال: "إن شفي الله مريضي، فلله علي أن أتصدق بدرهم"، أو كانت عليه زكاة، ثم عين درهماً عن نذره، أو زكاته، وادعى الإمام اتفاق الطرق على ذلك وإن كان فيه احتمال، وكأن سبب ذلك ضعف التعيين في الدرهم؛ لعدم تعلق كبير فائدة به، بخلاف الشاة؛ ولهذا جزموا فيما لو قال: "جعلت هذه الشاة أضحية" بالتعيين، وحكوا فيما لو قال: "جعلت هذه الدراهم صدقة" خلافاً؛ نعم: هما جاريان بالترتيب- أيضاً- فيما لو قال: "إن شفي الله مريضي، فلله علي أن أعتق عبداً"، ثم عين عبداً عن نذره، والتعيين في العبد أولى منه في الشاة؛ لما أشرنا إليه. وقد نسب الرافعي القول بعدم تعين العبد في هذه الصورة في كتاب الإيلاء، ضمن فرع منه إلى المزني، وأنه قاسه على ما إذا كان عليه صوم، فنذر أن يصوم يوم الاثنين مثلاً، وأن الذاهبين إلى التعيين في العتق، اختلفوا في مسألة الصوم: فقال ابن أبي هريرة: يتعين ذلك أيضاً: وسلمه الأكثرون، وقالوا: تعلق العتق بالعبد أشد من تعلق الصوم باليوم؛ ولذلك لو نذر صوم يوم، ففاته، قضى مكانه، ولو نذر عتق عبد بعينه، فمات، لا يعتق غيره. ولأنه تعلق للعبد به حق، وإن القاضي الحسين في تقصيه هذا الفرق، قال: لو نذر أن يصرف زكاته إلى أشخاص معينين من أصناف الزكاة، تعينوا؛ رعاية لحقهم. والأكثرون قالوا: لا يتعينون، وسيأتي في باب النذر في موضعين منه، أو أكثر شيء يتعلق بما نحن فيه؛ فليطلب منه. واعلم أنه لا فرق فيما ذكره الشيخ في زوال الملك وعدم البيع بين أن تكون الأضحية المعينة بالنذر سليمة أو معيبة لا تجزئ في الأضاحي، ويدل عليه قول الشافعي- رضي الله عنه-: "لو أوجبه ناقصاً، ذبحه ولم يجزئه"، وأراد أنه لا يكون أضحية، ولكن عليه ذبحه لأنه أوجبه على نفسه، لكن هل يختص ذبحها بأيام النحر، وتجري مجرى المصرف في الضحايا؟ فيه وجهان: أصحهما عند الإمام ومن تبعه: نعم، وهو الذي ادعي القاضي الحسين أنه المذهب؛ لأنه أوجبها باسم الضحية، ولا محمل لكلامه إلا هذا.

فعلى هذا لو ذبحها [قبل] يوم النحر، تصدق بلحمها، ولا يأكل منها شيئاً، وعليه قيمتها يتصدق بها، ولا يشتري أخرى؛ لأن المعيب لا يثبت في الذمة؛ قاله في "التهذيب". نعم: لو زال العيب قبل الذبح، فهل تكون أضحية؟ حكى الغزالي فيها وجهين. وقال في "البحر": إنه قال في الجديد: لا، وهو الذي أورده البندنيجي، وأبو الطيب، وابن الصباغ؛ لأن السلامة وجدت بعد زوال الملك. وحكى القاضي أبو حامد عن القديم قولين: أحدهما: هذا. والثاني: تجزئ، وتكون أضحية شرعية، وهذا فيما إذا قال: "لله علي أن أضحي بهذه الشاة"، أو: "جعلت هذه الشاة أضحية"، وكانت معيبة، فلو كان قد قال: "لله علي أن أضحي بشاة مثلاً"، ثم عين شاة معيبة، نظر: إن قال: "عينت هذه عما في ذمتي"، لم تلزمه، وإن قال: "لله علي ذبحها عن الواجب في ذمتي"، فوجهان: أظهرهما على ما ذكر الشيخ أبو علي والأئمة: أنه يلزمه ذبحها أيضاً، وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب؛ كما لو التزم ابتداء ذبح معيبة، وكما لو أعتق عبداً معيباً عن كفارته، عتق ولا يجزئه. فعلى هذا هل يختص ذبحها بأيام النحر؟ فيه الوجهان. والثاني: [لا يلزمه] وهو المذكور في "الحاوي"؛ لأنه جعلها عما في ذمته، ولا تقع عنه؛ فيستمر الملك فيها. وقد حكى القاضي الحسين وجهاً مثل هذا الوجه فيما إذا أعتق المعيب عن الكفارة، فقال: لا يعتق، كما لو أعتق عبده عن غيره بغير إذنه، لا يعتق على أحد الوجهين، والصحيح الأول. ولو كان قد أشار إلى ظبية، وقال: "جعلت هذه أضحية"، فهو لاغ. ولو أشار إلى فصيل، أو سخلة، فهل يلحق بتعيين الظبية أو بتعيين المعيب؟ فيه وجهان:

أشبههما الثاني، وبه أجاب أبو علي، لأن ناقص السن من جنس ما يضحي به. فرع: لو كانت المعيبة قد اشتراها، ولم يعلم بعيبها حتى نذرها، ثم اطلع عليه لا يجوز له ردها؛ لخروجها عن ملكه، وله طلب الأرش؛ للإياس من الرد، وإذا أخذه فماذا يصنع به؟ الذي ذكره العراقيون كالبندنيجي، والمصنف، وغيرهما: أنه يكون للفقراء؛ فيتصدق به إن لم يمكن أن يشتري به جزءاً، وإن أمكن ذلك، فعلى ما مضى من الوجوه، وعلى ذلك جرى القاضي الحسين. قال ابن الصباغ: ولم يذكروا لذلك وجهاً إلا أنهم فرقوا بين الأضحية وبين أن يشتري عبداً فيعتقه فيجد به عيباً؛ فإن الأرش يكون للمعتق؛ لأن المقصود من العتق تكميل الأحكام، والعيب لا يؤثر في ذلك، والمقصود من الأضحية اللحم، وإذا كانت معيبة، لم يكن لحمها كاملاً. وهذا غير مستقيم؛ لأن أرش العيب إنما وجب؛ لأن عقد البيع اقتضى [سلامة المبيع] وذلك حق للمشتري، وإنما أوجبها وهي في ملكه؛ فلا يستحق الفقراء ما أوجبه الشراء. ولأن العيب قد لا يؤثر في اللحم؛ فلا يكون ذلك مؤثراً في المقصود بها، كما ذكروه في العبد. وقد حكى الماوردي في الأرش وجهين: أحدهما: ما ذكره العراقيون. والثاني: أنه للمضحي خاصة، ولا يلزمه صرفه إلى مصارف الأضحية، كما ذكره ابن الصباغ، وهو الذي قال الإمام: إنه الذي يقتضيه قياس المراوزة، وهو الأولى، والله أعلم. قال: وله أن يركبها، أي: إذا لم يلحقها في ذلك مشقة فادحة؛ لقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 33]. قال عطاء: الأجل المسمى: يوم النحر، والمنافع [كل] ما انتفع به، والركوب لها

من جملة المنافع. وقد روى أبو داود بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: "اركبها"، فقال: إنها بدنة، قال: اركبها، ويلك في الثانية، أو الثالثة" وأخرجه البخاري ومسلم. وهذا ما ذكره في "المختصر" هاهنا، وعليه جرى القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والرافعي. وحكى بعض الشارحين لهذا الكتاب: أن محل جواز ركوب الأضحية عند العراقيين إذا اضطر إلى الركوب؛ لقوله- عليه السلام- في البدن التي أهداها صاحبها: "اركبها بالمعروف، إذا ألجئت إليها، حتى تجد ظهراً"، [كما] أخرجه مسلم، أما إذا لم يضطر إليه فلا؛ لمفهوم الخبر. وأن الخراسانيين أطلقوا وجهين في جواز الركوب إذا كان لا يضر بها. وما ذكره عن الخراسانيين صحيح؛ لأنهم حكوا الوجهين في ركوب الهدي. وصحح منهم الفوراني الجواز. وحكم الأضحية في هذا، وفي ولدها، و [في] لبنها، وجز صوفها، وإتلافها، وذبحها، ونقصانها بالعيب حكم الهدي؛ كما قاله في "المهذب". وما ذكره عن العراقيين من عدم الجواز إذا لم يكن مضطراً، لم أره في طريقهم مصرحاً به. نعم: قال في "المهذب": "يجوز ركوب الهدي بالمعروف، إذا احتاج إليه"، فأفهم أنه في غير حالة الاحتياج لا يجوز، وهذا إن كان قد تمسك به، فلا يوافق ما نقله؛ لأن الفرق بين الحاجة والضرورة [مفهوم] مشهور.

وإن كان قد تمسك بمفهوم ما نقله الماوردي في باب الهدي عن الشافعي- رضي الله عنه- أنه قال: "ويركب الهدي إذا اضطر إليه ركوباً غير قادح، ويحمل المضطر عليها؛ للخبر" فقد أعرض عن المنطوق. والذي حكاه الماوردي أيضاً بعده في الباب، وهو أنه لو ركبها من غير ضرورة، جاز ما لم يضر بها، سواء كان واجباً أو تطوعاً؛ للخبر الذي رواه أبو الزناد عن الأعرج. وعلى كل حال، فحيث يجوز له الركوب، يجوز له الإعارة؛ لذلك، كما قاله في "البحر"، فإن تلفت منه ضمنها المستعير دون المعير. ولا يجوز له الإجارة، فإن فعل، وسلمها، فتلفت في يد المستأجر، ضمنها المؤجر، كما لو أتلفها، وسيأتي بماذا يضمنها، ولا يضمنها المستأجر، كما قال في "الحاوي"، لكنه يضمن المنافع، وبماذا يضمنها؟ فيه وجهان: أظهرهما: بأجرة المثل. وقال ابن أبي هريرة: بأكثر الأمرين من أجرة المثل والمسمى. ثم ماذا يصنع بالمأخوذ منه؟ فيه وجهان: أحدهما: يسلك به مسلك الأضحية. والثاني: يصرف للفقراء، والمساكين. قال: فإن ولدت- أي: بعد النذر- ذبح ولدها معها، أي: سواء علقت به قبل النذر، أو بعده، كما قاله في "المهذب" وغيره؛ لأنه معنى يزيل الملك، فاستتبع الولد، كالعتق، وجاز ذبحه في الأضحية بطريق التبعية، وتقديراً له كالجزء منها. وقد فصل الإمام في باب الزيادة في الرهن على أصله السابق، فقال: إن محل الجززم بهذا إذا قال: "جعلتها أضحية"؛ [لأنها تتعين بذلك، فيزول الملك عنها.\ وإذا نذر التضحية بها ولم يجعلها أضحية] ففي ولدها طريقان: أحدهما: أنه كولد المدبرة. والآخر: أن حكمه حكم الأم.

[قلت: والطريقان يمكن تخريجهما على أن ذلك يعينها أم لا؟ فإن قلنا: يعينها] تبعها الولد قطعاً، وهي الطريقة الثانية. وإن قلنا: لا تتعين، كان كولد المدبرة، فيجيء فيه الوجهان. وقد حكى الماوردي، وابن الصباغ، وغيرهما فيما إذا التزم هدي شاة في الذمة، ثم عينه في شاة- تعينت، وإذا ولدت، فهل يلزمه سوق الولد أم لا؟ فيه وجهان: وجه المنع: أن التعيين غير مستقر؛ إذ قد تعينت؛ فلا يسقط الوجوب بها؛ فلم يكن النتاج تابعاً لها، ومن هذا يؤخذ أنه إذا عين معيبة للضحية ابتداء، وولدت- لا يذبح ولدها معها. وقياس النص في أن ملكه قد زال عنها يقتضي ذبحه معها. ولو ماتت الأم في مسألة الكتاب قبل الزكاة، وبقي الولد- لزمه ذبحه، إن كان قد قال: "جعلت هذه أضحية". وإن كان قد قال: "لله علي أن أضحي بشاة"، أو "أهدي شاة"، ثم عين شاة، وقلنا بالتعين، فهل يلزمه ذبحه أم لا إذا قلنا: بتبعيته لها مع البقاء؟ فيه وجهان في "الشامل" وغيره، ذكرناهما في باب النذر: والأصح: لزوم ذبحه. فرع: إذا ذبح معها الولد، وقلنا: يجوز الأكل منها، كما سيأتي، وأنه لا يجوز أن يأكل الكل، فهل يجب عليه التصدق منها، أو يكفيه التصدق من أحدهما خاصة؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها المراوزة، والماوردي: ثالثها: إن تصدق من "الأم" جاز، وإن تصدق من الولد لا يجزئه؛ قاله الرافعي. والوجهان الآخران مشتركان في جواز أكل جميع الولد، والذي أورده الغزالي أصح. وذكر الروياني: أن المذهب الأول. قال الرافعي: وإذا ضحى بشاة، فوجد في بطنها جنيناً، فيمكن أن يطرد فيه هذا الخلاف، ويمكن أن تقطع بأنه بعضها. قال: وله أن يشرب من لبنها ما فضل عن ولدها، لقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ....} الآية [الحج: 33].

وقد رأى عليُّ رجلاً يسوق بدنة معها ولدها، فقال: "لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، وإذا كان يوم النحر، فانحرها وولدها"، وليس يعرف له مخالف. نعم: قال الشافعي: "لو تصدق به على المساكين، كان أحبَّ إليَّ". فلو لم يفعل، قال في "الحاوي": فالأفضل أن يسلك فيه مسلك اللحم، فيشرب منه، ويسقي غيره، فإن [لم يفعل و] شرب جميعه جاز، وإن كرهناه. فإن قيل: اللبن من نمائها، كالولد؛ فلم أجزتم [له] شربه دون التصرف في الولد؟ قلنا: قد حكى ابن كج عن تخريج أبي الطيب بن سلمة منعه من ذلك. [لكن] الذي حكاه [العراقيون، و] القاضي الحسين- هنا- عن النص الأول، وفرقوا- كما قال ابن الصباغ، وأبو الطيب في باب الهدي- بثلاثة فروق: أحدها: أن بقاء اللبن معها يضر بها ويؤذيها، وبقاء الولد لا ضرر فيه؛ فلهذا جوز له أخذ اللبن وإتلافه. والثاني: أن اللبن يستخلف مع الأوقات، فما يتلفه يعود غيره؛ فجرت فيه المسامحة. والثالث: أن اللبن لو جمعه لفسد، وبطلت منفعته، فجوز له شربه. وأما المراوزة فاختلفوا فيه: فجزم الفوراني بمنع الشرب من الهدي الواجب، وقال في المتطوع به: إن كان يضر [به]، لم يجز أيضاً، وإلا فطريقان: منهم من قال: يجوز كلحكمه. ومنهم من جعله كالركوب على وجهين. والقاضي الحسين قال في المنذور: إن قلنا: لا يجوز ركوبه، فشرب لبنه أولى، وإلا فوجهان.

والفرق: أن الركوب لو ترك تتعطل المنافع، ولا يصل إليهم شيء بدله، ولو ترك شرب اللبن انتفع الفقراء بتركه. وقال في "التتمة": شرب اللبن ينبني على أكل اللحم، فإن لم نجوزه، لم يشرب اللبن، وينقل لبن الهدي إلى مكة إن تيسر، وأمكن تحقيقه، وإلا تصدق به على الفقراء. وإن جوزنا الأكل، فيشرب اللبن. وقضية بناء شرب اللبن على اللحم أن يقال: إذا جوزنا له شرب اللبن، لا يستوعبه، بل يترك بعضه، كما سيأتي في اللحم، وقد صرح به القاضي الحسين في هذا الكتاب عن بعض الأصحاب، وعليه جرى الإمام، فقال: لبن الشاة المعينة بمثابة لحمها [لو ضحيت]، ولعل الظاهر جواز استيعاب اللبن بالتعاطي إذا جوزنا الأكل من لحمها. أما إذا كان لبنها لا يفضل عن ولدها، فلا يجوز له شرب شيء منه بحال؛ لأثر علي، كرم الله وجهه. ولأنه غذاء الولد، والولد كالأم، فكما لا يجوز أن تمنع الأم علفها، لم يجز أن يمنع الولد غذاءه، بل قال الأصحاب: لو كان لبنها دون غذاء الولد، وجب عليه تكميل غذائه من غيرها، حكاه الماوردي. وحكم جميع اللبن بعد فقد الابن أو غناه عنه حكم الفاضل عنه. قال: وإن كان صوفها يضر بها إلى وقت الذبح، جاز له أن يجزه؛ لانتفاعها به، وينتفع به، قياساً على اللبن. والأفضل- كما قال الأصحاب- أن يتصدق به. وقد أطلق الشافعي- رضي الله عنه- القول بأنه لا يجز صوفها، وهو محمول على ما إذا كان بقاؤه غير مضر بها، أو ينتفع به في دفع حر أو برد. وقال القاضي الحسين: إن حكمه حكم اللبن، وإن الصحيح أنه يتخذه لبداً، ويتصدق به على الفقراء. قال: ولا يأكل من لحمها شيئاً؛ لأنه إراقة دم واجب؛ فلم يجز الأكل منه، كالدم

الواجب في الإحرام بسبب قران، أو تمتع، أو جزاء صيد، أو جبران، وهذا قول أبي إسحاق. [قال القاضي أبو الطيب في تعليقه] في باب دخول مكة: وعليه نص الشافعي، رضي الله عنه [في مختصر الحج]. فعلى هذا: لو أكل منه شيئاً، ضمنه، وفيما يضمن به ثلاثة أوجه، حكاها ابن الصباغ وغيره: أظهرها عند الرافعي، ويحكى عن نصه في القديم: أنه يضمن قيمة ما أكل. والثاني: يشارك به في ذبيحه أخرى. والثالث: يضمنه بمثله من اللحم، واختاره في "المرشد". [قال]: وقيل يجوز؛ لأن النذر يحمل على المعهود في الشرع، والمعهود شرعاً في الأضحية جواز الأكل منها، وهذا قول أبي إسحاق المروزي، كما قال أبو الطيب في باب دخول مكة، وأنه تأول كلام الشافعي. فعلى هذا يكون الحكم في قدر ما يأكله كالأضحية المتطوع بها، قاله البندنيجي، والبغوي، وغيرهما. وهذا الخلاف جار في الهدي المنذور أيضاً، صرح به الماوردي، وأبو الطيب. ومنهم من قال: لا يجوز الأكل من الهدي، ويجوز من الأضحية؛ حملاً لكل [واحد] منهما على المعهود شرعاً، وهذا قول الخضري، كما قال القاضي الحسين، ويوافقه قطع الشيخ أبي حامد والبندنيجي بأنه لا يجوز الأكل من الهدي المنذور. [فإن قيل]: ما محل الخلاف المذكور؟ وما الصحيح منه؟ قلنا: أما محله، فقد اختلف فيه الأئمة: فمنهم من أطلقه، كما فعل الشيخ، وظاهر إطلاقه يقتضي التسوية بين المنذورة على سيل المجازاة، أو على وجه التبرر؛ إذا ألزمناه، وبين الملتتزم المعين والمرسل.

وممن جرى على الإطلاق المذكور الغزالي، والبندنيجي، والماوردي في باب دخول مكة، وكذا هنا، وقال: إنه إذا قال: جعلت هذه الشاة أضحية، أو هدياً؛ فله أن يأكل منها، ولم يحك غيره، وهو الذي حكاه الفوراني في الهدي. وقال الرافعي: إن كثيراً من معتبري الأصحاب فصَّلوا [فقالوا:] محل الخلاف إذا قال: "جعلت هذه الشاة- مثلاً- أضحية"، أو كان نذر تبرر، وهو الذي لم يعلق على شيء وألزمناه به ما نذر، أما إذا كان نذراً معلقاً على أمر يطلبه: كشفاء المريض، ووجد شرطه، فلا يجوز أن يأكل منها، وجهاً واحداً، كما لا يجوز أن يأكل من جزاء الصيد، وهذا ما صرح به القاضي أبو الطيب في باب الهدي في نذر التبرر والمجازاة، واقتضاه كلامه في قوله: "جعلت هذه الشاة أضحية"، كما صرح به في باب دخول مكة، وأنهم قالوا: لو التزم في الذمة التضحية على وجه التبرر، ثم عين [في] واةحدة عما عليه، فهل يجوز الأكل منها إذا ذبحها؟ ينبني ذلك على جواز الأكل من المعينة ابتداء، فإن لم نجوزه [ثَمَّ] فهاهنا أولى، وإن جوزناه فوجهان، أو قولان. والفرق: أن ما في الذمة آكد، ألا ترى أنه إذا عين [عنه] شاة، فهلكت، لم تبرأ ذمته، والمعينة ابتداء إذا هلكت، برئت ذمته. وأيضاً: فإن ما ثبت في الذمة، ثبت لغيره، وما لا يتعلق بالذمة لا يبعد أن يكون هو فيه كغيره. قلت: وقضية هذا البناء أن يكون في الأكل من المعينة ابتداء على وجه التبرر، وجهان، وفي المعينة بعد الالتزام في الذمة طريقان: إحداهما: القطع بالمنع. والثانية: إجراء الوجهين فيه. وقد عكس الفوراني [ذلك]، فقال: إذا قال: "لله علي أن أهدي شاة فذبح شاة"، فهل له أن يأكل منها؟ فيه وجهان. وإن قال: "لله علي أن أهدي هذه الشاة"، فهل له أن يأكل [منها]؟ فيه طريقان: منهم من خرجه على الوجهين في الصورة قبلها. ومنهم من قطع بالأكل، كما لو قال: "جعلتها هدياً".

وأما الصحيح منهما، فقد قال في "المرشد": إنه الأول، وادعى المحاملي في صورة نذر التبرر: أنه المذهب. وقال الماوردي في باب الهدي: إنه أقرب إلى منصوص الشافعي، رضي الله عنه. والذي رجحه القفال، والإمام، وقال في "العدة" فيها- أيضاً-: إنه المذهب الثاني، ونسبه الماوردي في باب الهدي إلى أبي إسحاق، وفي باب دخول مكة إلى كثير من أصحابنا. وقال الرافعي: يشبه أن يتوسط، فيرجح في المعين الجواز، وفي المرسل المنع، سواء عين عنه ثم ذبح المعين، أو ذبح بلا تعيين؛ لأنه عن دين في الذمة كجبرانات الحج. قال: وإلى هذا ذهب الماوردي، وعليه ينطبق كلام الشيخ أبي علي، وما ذكره عن الماوردي قد رأيته في "الحاوي". قال: فإن تلفت- أي: قبل إمكان ذبحها من غير تفريط- لم يضمنها؛ لأنها وديعة عنده. وفي "الحاوي" في كتاب النذر حكاية وجه آخر: أنه يضمنها. والمشهور: عدم الضمان. وهكذا الحكم فيما إذا ضلت من غير تفريط منه قبل أيام النحر من طريق الأولى؛ لإمكان وجودها، ولا يجب عليه في هذه الحالة طلبها إن كان لتحصيلها مؤنة، وإلا وجب. وكذا لا يضمنها إذا تعيبت من غير تفريط، وقد روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قلت: يا رسول الله، إني أوجبت أضحية، فأصابها العوار، فقال: "ضح بها".

نعم: اختلف أصحابنا في أنه إذا ذبحها تكون أضحية، أم لا؟ فقال أبو جعفر الإستراباذي: لا تكون أضحية شرعية، لأنه لو تعذر أن تصل إلى محلها، نحرها في موضعها، ولا تكون أضحية، لذلك العيب. قال البندنيجي: والمذهب الأول، وما ذكره أبو جعفر، فقد غلط فيه؛ فإنه لا فرق بين أن تتعيب أو لا تبلغ محلها، فإنه ينحرها على صفتها، وتكون [أضحية] شرعية. وعلى هذا يختص ذبحها بأيام النحر، فلو خالف، وذبحها قبله، تصدق باللحم، وعليه التصدق بقيمتها أيضاً، ولا يجب أن يشتري بها أضحية أخرى، قاله في "التهذيب". وهكذا [الحكم] فيما إذا لم يذبحها حتى مضت أيام النحر مع إمكان الذبح [فيها]، قاله القاضي الحسين. أما إذا تلفت بتفريط منه، ضمنها، كما لو أتلفها. ولو ضلت بتفريط منه في حفظها قبل أيام النحر، [فعليه طلبها، فإن فاتت ضمنها. ولو علم أنه يجدها بعد أيام النحر]، لزمه بدلها في أيام النحر، ولم يجز أن ينتظرها بعد فوات زمانها، فإذا وجدها بعد فوات الزمان، لزمه أن يضحي بها [أيضاً]، فيصير التفريط ملزماً للأضحيتين؛ كذا قاله الماوردي وغيره. وفي "الوسيط": أنا إذا أوجبنا عليه البدل، وقد ضحاه ففي انفكاك الضالة قولان، حكاهما القاضي الحسين وجهين: أحدهما: تنفك؛ إذ لا وجه للتضعيف، وقد ضحى بالبدل، وهذا ما صححه في "التهذيب".

والثاني: أنه يضحي بها أيضاً؛ لأنها الأصل. وإن لم يكن قد ضحى بالبدل، اقتصر على الأصل إلا أن يكون قد عين البدل بلفظه، فأي الشاتين يذبح؟ فيه أربعة أوجه: أحدها: الأصل، وهو الذي أورده الماوردي. والثاني: البدل. والثالث: كلاهما. والرابع: يتخير أيهما شاء. وهذا الكلام ظاهره أنه مفروض فيما إذا كانت الضالة معينة ابتداء. والإمام أورده فيما إذا كانت الضالة معينة ابتداء. والإمام أورده فيما إذا نذر شيئاً في الذمة، ثم عينه في شاة، وقلنا بالتعيين، فضلت، فهو كما لو تلفت، وفي وجوب البدل وجهان: فإن أوجبنا البدل، وضحاه، [ثم وجد] الأصل، فهل يلزمه ذبحه؟ فيه قولان، حكاهما الفوراني- والصورة هذه- وجهين. ولو لم يضح بالبدل، لكنه عينه، وهو بعد باق، ثم وجد الضالة، ففيه الأوجه الأربعة. ولو وجد الأصل قبل أن يعين البدل، لم يلزمه غيره؛ قاله الفوراني. ولو لم يوجد منه تفريط في ذبحها حتى ضلت، لكنه أخرَّ ذبحها عن يوم النحر، وضلت في أيام التشريق، فهل يكون ذلك تفريطاً منه في حفظها حتى يضمنها، ويلزمه مؤنة طلبها أم لا؟ فيه وجهان في "الحاوي". ولو قصر في الذبح حتى عابت ذبحها، وتصدق بلحمها، وعليه ذبح بدلها. قال: وإن أتلفها ضمنها، كالمودع إذا أتلف الوديعة، ويخالف ما إذا قال: "لله علي أن أعتق هذا العبد، فأتلفه، لا يضمنه؛ لأن الحق في عتق العبد له، فإذا فات لم يبق له مستحق، والأضحية للفقراء، وهم باقون بعد تلفها. وأيضاً: فإن العبد لم يزل الملك فيه بالنذر- كما تقدم- بخلاف الأضحية. قال القاضي الحسين: وقد قال القفال: يحتمل في مسألة العبد أن تكون على وجهين، إذا قتله الناذر أو غيره: أحدهما: عليه، وعلى غيره القيمة. والثاني: لا شيء عليه، وإذا أتلفه غيره فالقيمة للناذر. قلت: ويمكن تخريج ذلك على أنه يزول الملك عنه بالنذر أم لا، كما سبق. قال: بأكثر الأمرين من قيمتها- أي: وقت الإتلاف- أو أضحية مثلها-

أي: وقت الذبح؛ لأن الأكثر إن كان القيمة، فضمانها ظاهر؛ لأنه لا يتقاعد عن الأجنبي، وإن كان المثل؛ فلأنه قد التزم الإراقة والتفرقة، وقد [فوتهما فضمنهما]. وقيل: يلزمه القيمة بكل حال، كالأجنبي، حكاه المراوزة. والصحيح الأول، والفرق ما ذكره. تنبيه: قوله: "بأكثر الأمرين من قيمتها، أو أضحية مثلها" كذا وقع في "التنبيه"، وسائر كتب الفقه مثل هذه الصيغة، والأجود حذف الألف، وتبقية الواو؛ لأنها على تقدير إثبات الألف، يكون معناه: أكثر الأمرين من قيمتها أو أكثر الأمرين من أضحية [مثلها]، ومعلوم أن هذا ليس بمنتظم؛ فوجب حذف الألف. قال: فإن زادت القيمة على مثلها، أي: ولم يمكن أن يشتري بها أضحية كاملة، تصدق بالفاضل- أي: نقداً- لأن الأضحية لها مقصودان، فإذا تعذر أحدهما، سقط اعتبار الآخر، كالمعلق بشرطين، إذا فقد أحدهما، كان بمنزلة فقدهما جميعاً، وهذا قول أبي إسحاق، واختاره في "المرشد". وقبل: يشتري به اللحم، ويتصدق به؛ لأن إراقة الدم واللحم مقصودان، والإراقة تشق؛ فتسقط، وتفرقة اللحم لا تشق؛ فتجب. وقبل: يشارك به في ذبيحة أخرى، أي: وإن كان ذلك الجزء لا يجزئ في الأضحية، كما إذا كانت الذبيحة شاة؛ كما صرح به الإمام، وسيأتي في كلام غيره؛ لأن الإراقة مستحقة، فإذا أمكنت، لم تسقط؛ وهذا ما قال البندنيجي: إنه المذهب. وهذه الأوجه قد حكاها القاضي أبو حامد في جامعه. أما إذا أمكن أن يشتري بالزائد عن القيمة هدياً كاملاً، لزمه ذلك وجهاً واحداً، ولا فرق بين أن يكون من جنس ذلك، أو من غير جنسه، كما صرح به أبو الطيب وغيره. ولو تعذر شراء جزء من ذبيحة، قال في "الشامل": فينبغي أن يكون فيه وجهان: أحدهما: يتصدق به نقداً. والثاني: يشتري به اللحم. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا يناله من الفاضل شيء، وهو المذكور في "البحر" عن العراقيين، وإن صاحب "الإفصاح" وجهه بأنه قد تعدى فيه.

والأصحاب قالوا: هو كما لو عطب عليه بدنة من الهدي ذبحها، ولم يأكل منها شيئاً، وإن كانت لو سلمت حل له أكلها؛ حسماً للتهمة، كذلك هذه الزيادة، وهذا قد حكاه الرافعي وجهاً عن رواية أبي علي الطبري بعد أن قال: إن الشافعي استحب أن يتصدق بالفاضل الذي لا يفي بشاة أخرى، ولا يأكل منه شيئاً، وفي معناه البدل الذي يذبحه. وقال في "الحاوي": إن قلنا: إنه يصرف ذلك في سهم من أضحية، كان في ذلك السهم كأهل الضحايا، وإن قلنا: إنه يشتري به لحماً، أو يصرفه نقداً، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يسلك به مسلك الضحايا- أيضاً- فيكون فيه بمثابتهم. والثاني: يختص به الفقراء. وحكى القاضي الحسين وغيره من المراوزة وجهاً: أنه يجوز له أن يمسك. الفاضل، ويتخذ منه خاتماً أو غيره، كما له أن يمسك جلد الضحية ينتفع به. ولو كان المتلف لها أو للهدي أجنبياً بغير الذبح، لم يلزمه غير القيمة وجهاً واحداً، ثم إن كانت القيمة غير زائدة ولا ناقصة عن المثل، اشتراه، لكنه إن اشتراه بعين المأخوذ، صار أضحية [وهدياً] بنفس الشراء، [وهذا] إن لم ينو [به] الأضحية والهدي، وإن اشتراه في الذمة، نوى بالشراء: أنه أضحية، أو هدي، ولا يحتاج بعد ذلك إلى إيجاب، قاله الماوردي. وإن كانت القيمة أزيد من المثل، فالحكم فيه كما لو أتلفها الناذر؛ فتجيء الأوجه. وإن كانت أنقص من المثل؛ لارتفاع الأسعار، فإن أمكن أن يشتري بها ما يجزئ في الأضحية ولو من غير جنسها، فعل، ولا يجزئه غيره. فإن لم يمكن ذلك، فقد نقل الرافعي في كتاب الوقف: أنه لا يضحي به. وقال القاضي أبو الطيب، وتبعه المصنف، وابن الصباغ: إن فيه الأوجه السابق. وفي كتاب النذب من "الحاوي". حكاية وجهين: أحدهما: أنه يلزم الناذر تمام قيمة مثلها. والثاني: لا يلزمه.

وعلى هذا ففيما [يفعل] بالمأخوذ وجهان: أحدهما: يتصدق به نقداً. والثاني: يشارك به في ذبيحة أخرى. وحكى هنا الوجهين في ضمانة تمام القيمة، وقال: إذا [قلنا:] لا يضمنه، فحال القيمة المأخوذة، لا يخلو من خمسة أحوال: إحداها: أن يمكن أن يشتري بها من جنس تلك الأضحية ما يجوز أن يكون أضحية، وإن كان دون التالفة، مثل أن يكون قد أتلف ثنية من الضأن، ويمكن أن يشتري بالمأخوذ جذعة من الضأن، فعليه ذلك ولا يجوز أن يشتري بها ثنية من المعز. والثانية: أن يكون ثمناً لدون الجذعة من الضأن، [وثمناً لثنية] من المعز، فعليه أن يشتري بها ثنية من المعز والثالثة: أن يمكن أن يشتري بها دون الجذعة مما لا يكون أضحية، أو سهماً شائعا في أضحية، فعليه أن يشتري بها ما كمل [دون الجذعة]، وهو أولى من [سهم من أضحية]. والرابعة: أن يمكن أن يشتري بها سهماً شائعاً في أضحية، أو لحماً، فيشتري سهماً يف أضحية، ويخالف الزيادة؛ حيث يشتري بها في أحد الوجوه لحماً؛ لأن الزيادة بعد إراقة الدم، وهذه لم يحصل فيها إراقة دم. والخامسة: ألا يمكن أن يشتري [بها] سهماً من حيوان، وأمكن أن يشتري بها لحماً، أو يفرقها ورقاً، فيجب أن يشتري اللحم، بخلاف الزيادة على أحد الوجوه؛ لأن اللحم هو مقصود الأضحية، وقد وجد في الزيادة مقصودها فجاز أن تفرق ورقاً، ولم يوجد في النقصان مقصودها فوجب أن يفرق لحماً. أما إذا أتلفها بالذبح بدون إذن الناذر، نظر: فإن كان قبل وقت الذبح، فالحكم كما إذا ذبحها في الوقت، وقلنا: لا تقع

الموقع، كما سنذكره. وإن كان في وقته، فالمشهور الذي أورده العراقيون: أنها تقع الموقع. وادعى القاضي الحسين: أنه لا خلاف في ذلك. وقال الرافعي: إنه حكى عن القديم قولاً: أن لصاحب الأضحية، أن يجعلها عن الذابح، ويغرمه القيمة بتمامها؛ بناءً على وقف العقود، وهذا القول حكاه القاضي الحسين فيما إذا كان قد شراها بنية الأضحية. وقال الإمام: إن وقوعها الموقع ينبني على اشتراط النية عند الذبح في المعينة، فإن اشترطت، لم تقع الموقع، ووجب على الذابح أرش ما بين قيمتها حية ومذبوحة، وفيما يصنع باللحم وجهان: أحدهما: يصرف في مصارف الضحايا وإن لم تقع ضحية. والثاني: أنه يصير ملكاً للناذر. وإن لم تشترط النية؛ اكتفاء بالتعيين السابق، وقعت الموقع، وإن كان لا يجوز له الإقدام على الذبح بدون الإذن، وفي لزوم الأرش له قولان حكاهما القاضي الحسين أيضاً: أصحهما- وهو المنصوص، والذي أورده المعظم-: نعم؛ لأن إراقة الدم مقصودة وقد فوتها. والثاني: لا؛ لوقوعها موقعها، وهو ما ادعى الإمام أنه الأقيس. وقال الماوردي: عندي أنه إن ذبحها وفي الوقت سعة، فعليه الأرش؛ لأنه لم يتعين ذبحه حينئذٍ، فإن ضاق الوقت، ولم يبق إلا ما يسع الذبح، فذبحها، فلا أرش عليه؛ لتعين الوقت. وهذا الذي أبداه الماوردي لنفسه قد سبقه به صاحب "التلخيص"؛ فإن الرافعي حكى عنه في آخر [باب] اللقيط: أن الشخص إذا وجد بعيراً في الصحراء في أيام منى مقلداً، وخشي فوات وقت الذبح، جاز له ذبحه، ولا فرق بين الأضحية والهدي. وإذا أوجبناه، ففيم يصرف؟ فيه وجوزه حكاها الماوردي:

أحدها: أنه للمضحي. وثانيها: أنه للمساكين خاصة؛ لأنه بدل بعض الأضحية، وليس للمضحي من الأضحية إلا الأكل، وهذا ما أورده القاضي الحسين. وأظهرها، وهو ما أورده ابن الصباغ، والمصنف؛ تبعاً للقاضي أبي الطيب: أن حكمه حكم الزائد من القيمة على المثل، [وقد تقدم]. وهذا إذا كان اللحم باقياً بحاله، أما لو كان الذابح قد أكله، أو صرفه مصرف الضحايا، فهو كما لو أتلفها فيضمنها، لكن بماذا يضمنها؟ فيه وجهان: أحدهما: بالقيم، كما في صورة الإتلاف. والثاني- وهو الذي رجحه الماوردي، وبه قال ابن أبي هريرة: أنه يضمنها بأكثر الأمرين من قيمتها وقيمة اللحم. وروى بعضهم بدل الثاني: أنه يغرم أرش الذبح، وقيمة اللحم. وعلى هذا جرى الإمام ومن تبعه، وقال: إن هاذ مما لا خلاف فيه، وإن أجرينا الخلاف في ضمان الأرش إذا لم يفرق اللحم، وإنما القولان فيه إذا اقتصر على الذبح، وترك اللحم [لصاحب الضحية]. قال: وليس يبعد عن القياس طرد القولين في ضمان الأرش في صورة تفرقة اللحم، فإن الضحية بالذبح وقعت موقعها، وتفرقته جناية على ضحية قد بلغت محلها. وعن كتاب ابن كج: أنه تقع التفرقة عن المالك، كالذبح. وما ذكرناه في الأضحية [يجري مثله] في الهدي. والحكم في الأضحية والهدي المنذور في الذمة إذا عين شاة فذبحها أجنبي في يوم النحر، أو في الحرم، في وقوعها [موقعها] عن صاحبها، وفي أخذ اللحم، وتصدقه به، وفي غرامة الذابح أرش ما نقص بالذبح، على ما ذكرناه فيما إذا [كانت] معينة في الابتداء. فإن كان اللحم تالفاً، قال صاحب "التهذيب": يأخذ القيمة، ويملكها، والأصل في ذمته.

قلت: وهذا يظهر أنه مفرع على أنَّ ما عينه عما في الذمة إذا تلف يعود الحق إلى ذمته، كما أورده الجمهور. أما إذا قلنا: إنه إذا تلف، لم يلزمه شيء؛ فينبغي أن يكون حكمه حكم المعينة في هذا- أيضاً- ولا يكون في ذمته شيء. ولو كان الذابح للأضحية المعينة مشتريها من الناذر، نظر: فإن كان عالماً بفساد البيع، فالحكم كما تقدم. وإن كان ظاناً صحته، قال القاضي الحسين: فلا خلاف أنه لا يقع عن المشتري، وهل يقع عن الناذر؟ فيه جوابان؛ بناء على ما [لو] باع المكاتب، وقلنا بعدم الصحة، فأدى النجوم إلى المشتري، فهل يعتق؟ فيه قولان: أحدهما: نعم؛ لأن البائع الذي سلطه عليه، فصار نائباً من جهته كالوكيل. والثاني: لا يعتق؛ لأنه يقبض لنفسه، بخلاف الوكيل. فإن قلنا: يعتق المكاتب، وقعت الأضحية موقعها عن الناذر، [وإلا فلا. والفوراني أطلق القول بوقوع الذبح عن الناذر البائع] وهل يغرم أرش النقص؛ فيه قولان ينبنيان على الأصل المذكور في المكاتب. فإن قلنا: يعتق المكاتب، لم يغرم الذابح الأرش، وإلا غرمه. قلت: ويظهر أن يكون هذا بناء على أنه لو ذبح بغير الإذن، يضمن الأرش. وفي هذه الصورة إذا قلنا: لا تقع الضحية موقعها؛ إما على أحد الوجهين- كما ذكره القاضي- أو لكون الذبح وجد قبل وقته، إذا لم تف القيمة بمثلها، ضمن الناذر تمام قيمة المثل؛ لعدوانه بالبيع والتسليم والله أعلمز قال: فإن لم يذبحها حتى فات الوقت، لزمه أن يذبحها؛ لما ذكرناه في أول الباب. فإن قلت: لم كرر الشيخ هذه المسألة، وفيما ذكره [في] أول الباب غنية؟ قلت: يجوز أن يكون أراد بما ذكره [أولاً: ما إذا التزم التضحية بشاة في الذمة، وما ذكره] هنا إذا كانت معينة، كما هو ظاهر لفظه، فلا تكرار.

ويجوز أن تكون الصورة المذكورة أولاً وآخراً واحدة، [و] لكنه ذكرها أولاً لمعنى، وهو أن هذه العبادة مما يقضي الواجب منها دون التطوع، وذكرها آخراً؛ للاحتراز عن مذهب أبي حنيفة؛ فإنه يرى [أنه] إذا لم يذبح الناذر الضحية المعينة حتى فات الوقت، لا يجوز [له] ذبحها، بل يسلمها للفقراء حية، حتى لو ذبحها، ضمن أرش نقصها، وكثيراً ما يكرر البخاري الأحاديث لمثل ذلك؛ فكان له فيه أسوة. وقد نجز شرح مسائل الباب ولنختمه بذكر فرعين: أحدهما: هل يجوز صرف نصيب الفقراء من الأضحية إلى المكاتب؟ فيه وجهان: الثاني: هل يتعين فقراء بلد الذبح للتفرقة؟ فيه وجهان، والله سبحانه أعلم.

باب العقيقة

باب العقيقة العقيقة: قال الأصمعي: إنها في اللغة اسم للشعر الذي يوكن على رأس المولود. قال أبو عبيد: وكذلك كل مولود من البهائم؛ فإن الشعر الذي يكون عليه حين يولد [يكون] عقيقة، وعِقَّة، والجمع: أَعِقَّة، وعقائق. وأما في الشرع: فهي اسم لما يذبح يوم حلاق [رأس المولود] في السابع، وعبر عنها بالشعر؛ لأن العرب عادتها أن تعبر عن الشيء باسم ما يجاوره؛ كالغائط فإنه اسم للمطمئن من الأرض. والعذرة: اسم لفناء البيوت، وأطلق ذلك على الفضلة المستقذرة؛ لأن العادة إخراجها في الغائط وفناء البيوت؛ فسموه باسمها. وقد قيل: سميت بذلك؛ أخذاً من العق: وهو الشق والقطع؛ لأنه يشق رأس الشاة. ويقال: عق عن ولده يَعُقُّ ويَعِقُّ. قال: والمستحب لمن ولد له ولد أن يحلق رأسه ذكراً كان أو أنثى؛ لما روى الشافعي بسنده عن الحسين بن علي- رضي الله عنهما-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر فاطمة لما ولدت الحسن والحسين: أن تحلق شعورهما، وتتصدق بوزنه فضة، ففعلت ذلك.

وفعلته في سائر أولادها [الإناث]. قال: يوم السابع؛ لما روى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن سمرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم السابع، وتحلق رأسه [ويسمى" وهذه الرواية هي الصحيحة كما قال أبو داود، وقد جاء في رواية أخرى "ويحلق رأسه] ويدمى"، وأن قتادة كان إذا سئل عن الدم: كيف يصنع به؟ قال: إذا ذبحت العقيقة، أخذت منها صوفة، واستقبلت بها أوداجها، ثم توضع على نافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط، ثم يغسل رأسه بعد ويحلق، وهذا

مكروه عند الشافعي- رضي الله عنه- لقوله- عليه السلام-: "أميطوا عنه الأذى"، كما أخرجه البخاري موقوفاً ومسنداً تعليقاً، والترمذي مسنداً، وقال: إنه صحيح، والدم من أكبر الأذى، وحديث سمرة على هذا النحو ضعيف عند أهل الحديث، وإن صح فهو محمول- كما قال الماوردي- على ختانه في السابع إن قوى على ذلك، نعم: قال بعض الأصحاب: لو لطخ رأسه بزعفران ونحوه، فلا بأس، وبعضهم استحبه، وهو المذكور في "المهذب"؛ لما روى أبو داود [في سننه] عن [بريدة] قال: "كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام، ذبح شاة، ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام، كنا نذبح شاة، ونحلق رأسه، ونلطخه بزعفران". واستحبوا- أيضاً-: أن يتصدق بزنة شعره فضة؛ للحديث السابق. وقال في "البحر": لو تصدق بالذهب فهو أحب إليَّ، وقال الغزالي وغيره: إنه يستحب أن يتصدق بزنته ذهباً. واستحبوا- أيضاً- أن يسمى في السابع؛ للخبر السابق، وأن تكون تسميته بأحب الأسماء إلى الله تعالى، وهو: عبد الله، وعبد الرحمن؛ لما روى مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن"، ويكره أن يسمى: مانعاً، ويساراً، ونجاحاً، وفلاحاً؛ لورود النهي عن

ذلك، وكذا يكره تسميته باسم قبيح، فإن سمي به غيره. ويكره الجمع بين التسمية باسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنيته. وحكى في "الروضة" عن الشافعي- رضي الله عنه- أنه لا يجوز التنكي بأبي القاسم، سواء كان اسمه: محمداً، أو غيره؛ للحديث الصحيح في ذلك. ثم ابتداء السبع من يوم الولادة في قول الأكثرين؛ فيكون معدوداً من السبعة، وهو ظاهر النص. وقال أبو عبد الله الزبيري من أصحابنا: إنه من بعد يوم الولادة، وليس يوم الولادة معدوداً منها، وقد حكاه النواوي في "الروضة" عن نصه في "البويطي"، وأنه إذا ولد ليلاً حسب اليوم الذي يلي تلك الليلة قطعاً؛ نص عليه في البويطي أيضاً، والله أعلم. قال: فإن كان غلاماً ذبح عنه شاتين، أي: في السابع- أيضاً- استحباباً، وإن كان جارية ذبح عنها شاة، أي: في السابع – أيضاً- استحباباً، والأصل في اعتبار العدد والإفراد ما روى أبو داود عن أم كرز الكعبية قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عن الغلام شاتان مثلان، وعن الجارية شاة"، وأخرجه ابن ماجه وكذا الترمذي.

.....................................

مختصراً، وقال: إنه صحيح، وهذا الخبر محمول على الندب والاستحباب دون الوجوب؛ لرواية أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة [فقال]: "لا يحب الله العقوق"، كأنه كره الاسم، وقال: "من ولد له ولد، فأحب أن ينسك عنه، فلينسك عن الغلام شاتين مكافئتين]، وعن الجارية شاة"، فعلقها بمحبته. والأصل في اعتبار ذلك في السابع الخبر السابق، وهذا في الأفضل، وأما الجواز فالشاة الواحدة يتأدى بها سنة العقيقة في الجارية والغلام؛ لأنه- عليه السلام- عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً. كذا رواه أبو داود عن ابن عباس، وادعى

الغزالي الاتفاق على الإجزاء. ويجوز الذبح بعد يوم الولادة وقبل السابع، وكذا بعد السابع كما قاله ابن الصباغ وغيره، وقال في "العدة" و"الحاوي": إنه لو أخرها عن السابع كانت قضاء مجزئة عن سببها، ويختار ألا يتجاوز بها مدة [النفاس، فإن تجاوز ذلك، فيختار ألا يتجاوز بها مدة الرضاع، فإن تجاوز ذلك فيختار ألا يتجاوز بها مدة] الحضانة باستكمال سبع سنين، فإن أخرها فيختار ألا يتجاوز بها مدة البلوغ، فإن أخرها حتى بلغ، سقط حكمها في حق غيره، وكان الولد مخيراً في العقيقة عن نفسه، وليس يمتنع أن يعق الكبير عن نفسه، روى الشافعي بسنده أنه- عليه السلام- عق عن نفسه بعدما نزلت عليه سورة البقرة. قال في "البحر": وحكى بعض أصحابنا أن الشافعي قال في "البويطي": "إذا بلغ قبل أن يعق عنه، لم يعق عن نفسه"، وهو غريب.

وقال في "الروضة": إنه رأي النص فيه، ولفظاً: "ولا يعق عن كبير"، وليس مخالفاً لما سبق؛ فإن معناه: لا يعق عنه غيره، وليس فيه نفي عقه عن نفسه. وفي الرافعي: أن أبا عبد الله البوشنجي من أصحابنا قال: إن لم يذبح في السابع يذبح في الرابع عشر، وإلا ففي الحادي والعشرين. وقيل: إذا [فاتت الأيام الإحدى والعشرين] فات وقت الاختيار. ثم الشاة المجزئة في العقيقة هي الشاة المجزئة في الأضحية في السن والسلامة من العيوب التي تنقص اللحم، ولا فرق فيها بين الذكر والأنثى؛ لأنه جاء في رواية لأبي داود عن أم كرز عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يضركم ذكراناً كن أو إناثاً". وفي "العدة" ما يشعر بوجه آخر: أنه يسامح فيها بالعيب. وفي "الحاوي": أن في تأدية سنة العقيقة بما دون الجذع من الضأن والثنية من المعز وجهان: أحدهما: [لا] كما في الأضحية، وتكون ذبيحة لحم؛ لأنهما مستويتان، وقد قيد الشرع سن أحدهما؛ فيقدر به السن فيهما. قال: وعلى هذا لو عين العقيقة في شاة، وأوجبها، وجبت كالأضحية، ولم يكن له أن يبدلها بغيرها. والثاني: نعم، بخلاف الأضحية، لأن الأضحية آكد منها، لتعلقها بسبب راتب وأمرٍ عام؛ فجاز أن تكون في السن أغلظ منها، وعلى هذا لو عين العقيقة في شاة وأوجبها، لم تتعين، وكان على خياره بين ذبحها وذبح غيرها. وهل تقوم البقرة والبدنة في ذلك مقام الشاتين؟ قال بعض الأصحاب كما حكاه في "البحر": [لا]، والأفضل فيها الغنم؛ لظاهر السنة. ويقرب منه وجه حكاه- أيضاً- أن الزيادة على الشاتين في الغلام لا تستحب. والأصح في "البحر" أن الإبل والبقر أفضل من الغنم فيها أيضاً، وهو المذكور في "الحاوي". فرع: يستحب أن يقول عند ذبح العقيقة: "بسم الله، اللهم منك وإليك عقيقة فلان".

قال في "البحر": [وهذا إذا كان قد جعلها عقيقة قبل الذبح، أما إذ لم يجعلها عقيقة] [فقد] قال أصحابنا: لا بد أن ينوي عند الذبح: أنها عقيقة فلان. فرع آخر: قال في "البحر": يستحب أن يكون الذبح صدر النهار عند طلوع الشمس. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمرين: أحدهما: أن حلق رأس المولود يكون قبل الذبح عنه وهو الذي أورده البندنيجي، وحكاه في "البحر" عن النص وإن من الأصحاب من قال: يذبح، ثم يحلق، وهو المذكور في "المهذب" وقوة لفظ الخبر تعطيه، لكنه خلاف النص. الثاني: أن المخاطب بالذبح عن المولود [وغيره الوالد] وهو في الاصطلاح الأب، لكن المراد من تنسب إليه الولادة، وهو من يلزمه نفقته في الجملة؛ كما صرح به غيره. وقولنا: "في الجملة" احترزنا به عن الولد إذا كان غنياً؛ فإن نفقته لا تجب على غيره، ومع هذا لا تسقط سنة العقيقة عمن تجب عليه نفقته لو كان معسراً؛ كما صرح به الماوردي، بل تستحب في حقه. نعم: يعتبر فيمن يجب عليه نفقته على الجملة اليسار وقت استحبابها وهو السابع، فلو كان معسراً في ذلك الوقت، ثم أيسر بعده، فإن كان بعد مدة النفاس سقطت عنه، وإن كان في مدة النفاس، قال الماوردي: احتمل وجهين: أحدهما: يكون مخاطباً بسنة العقيقة؛ لبقاء أحكام الولادة. والثاني: لا؛ كما لو أيسر بعد النفاس. قال: ويستحب أن ينزع اللحم من غير أن يكسر العظم؛ تفاؤلاً بسلامة أعضاء المولود؛ فإنها أول ذبيحة تذبح عنه. وقد قال- عليه السلام-: "إن الله يحب التفاؤل، ويكره التطاير"، فلو كسر

العظم، فهل يكون مرتكباً للمكروه؟ فيه وجهان في "العدة" والمذهب المنع. ولو فصل العظم، لم يكن مرتكباً لمكروه بل فعل مستحباً؛ قاله ابن الصباغ. قال: ويفرق على الفقراء؛ لأن المقصود بالذبح عود البركة إلى المولود، وذلك يحصل بالتفرقة على الفقراء، وفي معناهم المساكين؛ لأنهم فقراء بالنسبة إلى تتمة ما يحتاجونه. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمرين: أحدهما: أن المستحب تفريق جميع اللحم على الفقراء إن كان قوله: "ويفرق على الفقراء" معطوفاً على قوله: "ويستحب أن ينزع اللحم". وقد قال الأصحاب: إن حكم العقيقة في الأكل والتصدق حكم الأضحية؛ صرح به الماوردي في موضع من هذا الكتاب وغيره. وقضية ذلك: أن يجب التصدق بشيء منها على المذهب، ويستحب أكل شيء منها على المذهب، ويأتي الخلاف فيما هو المستحب، هل هو الثلث أو النصف؟ ويؤيده قول الشافعي- رضي الله عنه- كما حكاه في "البحر": "ويأكل منها أهلها، ويتصدقون، ويهدون يعني: للأغنياء". وعلى ما ذكرناه أنه مقتضى كلام الأصحاب ينطبق قول الإمام، ويتعين القطع بإجراء العقيقة مجرى الأضحية في: الأكل من اللحم، والتصدق، وامتناع البيع والاستبدال، واشتراط السلامة المؤثرة في إجزاء الأضحية، ولا فرق إلا أن الأضحية تتأقت بالأيام الأربعة، والعقيقة يدخل وقتها بولادة المولود. وإن كان قوله: "ويفرق على الفقراء" كلاماً مبتدأ، اقتضى ظاهره إيجاب تفرقة الكل، ولم يصر إليه أحد؛ فتعين أن المراد الأول؛ وحينئذ فيكون الجواب: أنا قدمنا عن الغزالي وإمامه: أنه لو تصدق بجميع الأضحية، كان أحب إلا أن شعار الصالحين الأكل من كبد الأضحية وهذا لم يرد مثله هنا؛ فكان على عمومه. الثاني: أنه يفرق اللحم نيئاً، ولا يطبخه، وهو الأولى، لأن آخذه يتمكن من الانتفاع به كيف شاء وأحب، لكن في "المهذب": أنه يستحب أن يطبخ.

وقال: في "التهذيب": إن المستحب ألا يتصدق به لحماً بل يطبخه، لكن بماذا يطبخ؟ حكى فيه وجهين: أحدهما- وعزاه إلى النص-: أنه يطبخ بحموضة قال: وكأن الشافعي- رضي الله عنه- أخذه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نعم الإدام الخل". وهذا الوجه لم يحك القاضي الحسين عن الأصحاب غيره، لكنه قال: إذا أراد أن يطبخه طبخه بحموضة، فأشعر كلامه أنه مخير بين طبخه وتفرقته [على الفقراء لحماً]. والثاني: يطبخ بشيء حلو؛ تفاؤلاً بحلاوة أخلاق المولود، وهو الأظهر، ولم يورد ابن الصباغ وغيره سواه، وعلى هذا، فهل يكره طبخه بالحامض؟ فيه وجهان، وعن القاضي الطبري: أنه قال: العادة طبخه بالماء والملح، وعادة أهل "طبرستان" طبخه بالأرز، وهو حسن. وفي "الحاوي": أن إيجاب التصدق من العقيقة، وجواز تفرقته مطبوخاً مبني على أنه: هل تتأدى سنة العقيقة بذبح ما دون الجذع من الضأن والثني من المعز؟ فإن قلنا بعدم تأدية السنة بذلك، وجب التصدق بشيء منها على الفقراء لحماً نيئاً، ولا يخص بها الأغنياء. وإن قلنا: تتأدى بها السنة لا يلزمه أن يتصدق بشيء منها، ويجوز أن يخص بها الأغنياء، وإن أعطاه مطبوخاً، [جاز]. وسلك الإمام طريقاً آخر، فحكى عن الصيدلاني: أنه أطلق في مجموعه: أن الشاة تذبح وتطبخ ويفرق اللحم طبيخاً مع المرق، ثم قال: وهذا سديد إذا لم نوجب التصدق، وهو مستقيم فيما لا نوجب التصدق به، فأما المقدار الذي يجب التصدق به، فلا وجه إلا ما ذكرته، يعني: أنه لا يجوز إلا لحماً طرياً؛ كما في الأضحية. وفي "الوسيط": أن الصيدلاني قال: يجوز التصدق بالمرق، ثم قال: وهذا إن أراد به أنه يكفي عن التصدق بمقدار من اللحم إذا قلنا: لابد منه- ففيه نظر. وقال الرافعي: إن الذي رآه في مجموع الصيدلاني ما نقله الإمام [عنه].

وعلى كل حال، فإذا طبخ، فلا يتخذ عليه دعوة، بل يطبخ، ويبعث به إلى الفقراء؛ كما حكاه القاضي الحسين عن النص. وفي "البحر": أن بعض أصحابنا بـ"خراسان" قال: إذا طبخ، ودعا عليه القوم، فلا بأس؛ وهذا ما ذكره الفوراني، وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به، منها: لو مات المولود قبل أن يعق عنه، نظر: فإن كان موته بعد سبعة أيام وإمكان الذبح يذبح عنه؛ حكاه في "البحر" عن الأصحاب؛ لأنه استقر سببها بمضي وقتها. وقال الرافعي: وقيل: إنها تسقط بالموت. وإن كان موته قبل السابع، سقط حكمها؛ وهذا بخلاف التسمية؛ فإنه لو مات قبلها، استحبت بعده وإن كان موته قبل السابع، وكذلك يستحب تسمية السقط، لقوله- عليه السلام-: "سموا السقط". ومنها: يستحب أن يحنك المولود بشيء حلو؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - "كان يحنك أولاد الأنصار بالتمر". وقد روى أنس بن مالك أن أم سليم تلقت مولوداً، فبعثت به معي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدفعته إليه، فقال: أمعك شيء من التمر، فدفعت إليه تمرات، فأخذهن، فجعلهن في فيه، ولاكهن، ثم فغر فاه، فجعلهن فيه [ثم حنكه] بها فتلمظ الصبي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حبب للأنصار التمر"، وسماه: عبد الله، فكان أنجب غلام نشأ في الأنصار.

ومنها: يستحب أن يؤذن في أذنه اليمنى، ويقيم في اليسرى؛ لأنه روي ذلك عن بعض الصحابة، وقد روى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في أذن الحسن، قال الترمذي: وهو حسن صحيح. وقال في "البحر": إنه يستحب مع ذلك أن يقرأ في أذنه: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]، [وهو المذكور] في "الإبانة" أيضاً، والله أعلم.

باب الصيد والذبائح

باب الصيد والذبائح والأصل في حل ذلك من الكتاب قبل الإجماع آيات منها قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} إلى قوله تعالى: {مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96]؛ فدل منطوقها على حل صيد البحر، ومفهومها على حل صيد البر في حالة عدم الإحرام؛ كما دل عليه قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} إلى قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] وقد صرح به في أخرى، فقال تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. ومنها قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] والمزكى من الطيبات، ومن السنة ما سنذكره. قال: ولا يحل من الحيوان المأكول شيء من غير ذكاة؛ لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} إلى قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]. قال الماوردي: وفي الذكاة في اللغة ثلاثة أوجه: أحدها: أنها التطييب من قولهم: "رائحة ذكية"، أي: طيبة، فسمي به ذبح الحيوان؛ لما فيه من تطييب أكله. والثاني: أنها القطع، فسمي بها ذبح الحيوان؛ لقطعه. والثالث: أنها القتل، فسمي بها ذبح الحيوان؛ لقتله. وقال في موضع آخر: في الذكاة في اللغة ثلاثة أوجه: أحدها: أنها التطييب، لكنها في الشرع: تطييب الذبيحة بالإباحة. والثاني: أنها القطع، لكنها في الشرع: قطع على صفة [مخصوصة] [فصارت في الشرع قطعاً خاصاً، وفي اللغة قطعاً عاماً]. والثالث- وإليه أشار الشافعي- رضي الله عنه-: أنها القتل؛ لأنها لا تستعمل إلا في النفوس، لكنها في الشرع قتل في محل مخصوص فصارت أخص منها في اللغة. قال الشافعي- رضي الله عنه-: وجماع ما قال الله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}

[المائدة: 3]: قتلتم، ولكن كان مجوزاً أن يكون ببعض القتل دون بعض، فلما قال: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] دل على أن الزكاة المأمور بها الذبح دون غيره، وكان النحر في [معنى الذبح]. وقال النواوي: إن الذكاة والذكية معناهما عند أهل اللغة: التتميم، فإذا قيل: ذكى الشاة، فمعناها: ذبحها الذبح التام المبيح للأكل. وإذا قيل: فلان ذكي، فمعناه: تام الفهم، وذكت النار تذكو؛ إذا استحكم وقودها، وأذكيتها أنا، والتذكية: بلوغ غاية الشباب والقوة؛ كذا نقله الواحدي وابن الأنباري وغيرهما. قال: إلا السمك والجراد؛ لما روى ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحلت لنا ميتتان ودمان: الميتتان: الحوت، والجراد، والدمان: الكبد، والطحال"، ولا فرق في ذلك [في السمك] بين الصغير منه الذي يسرع موته بعد خروجه من الماء، أو يتأخر، لكبره، نعم: لو ذكى الكبير منه، قال الشافعي: لا أكره ذلك. وقال الأصحاب: هل يستحب؟ فيه وجهان، والأصح في "الروضة" الاستحباب. ولو ذكى غير الكبير، كره كما أفهمه النص، وصرح به في "الروضة". وكذا لا فرق فيه بين ما مات في الماء أو خارج عنه بسبب أو غير سببن كما سنذكره في الأطعمة، نعم: هل يحل للشخص ابتلاع سمكة حية أو قليها؟ فيه وجهان: المنسوب لصاحب "التلخيص" الجواز، وهو المذكور في الوجيز والأظهر عند الرافعي؛ لأنه ليس فيه أكثر من قتلها، وهو جائز، وقد قيل: إنه ينفع من بعض العلل. ومقابله: ينسب للشيخ أبي حامد، وهو "المختار" في "المرشد"، والأصح في "تعليق القاضي الحسين" و"النهاية"، لما فيه من التعذيب. والوجهان مفرعان على أن السمك لا يخرج بهذا الفعل عن أن يكون حلالاً؛ كما هو المذهب في "النهاية"، والذي أورده الجمهور. أما إذا قلنا بعدم الحل؛ كما قاله بعض الأصحاب؛ لأن الموت في السمك بمثابة

[الذكاة في المذكاة] من الحيوانات البرية، فلا يحل ابتلاعها جزماً من غير حاجة؛ كذا أشار إليه الإمام. وكذا لا فرق بين أن يصطاده من يحل ذكاته أو لا: [كالمجوسي ونحوه]. فإن قلت: يرد على حصر الشيخ الجنين الذي يوجد في بطن الحيوان المأكول بعد الذبح ميتاً أو فيه حياة غير مستقرة؛ فإنه يحل من غير ذكاة؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] وهي الأجنة التي ذكرناها؛ كما قال ابن عباس؛ لأنها أبهمت عن الأمر والنهي، ولم يبينه الشيخ. قلت: [بل] ما حلَّ إلا بالذكاة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"، كما أخرجه [الإمام] أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري، وهو يوقع الذكاة فيهما كما هو المحفوظ عن أئمة هذا الشأن؛ فتكون ذكاة الأم ذكاة الجنين. ويؤيده أنه جاء في رواية عن مسدد أنه قال: قلنا يا رسول الله، [إنَّا] ننحر الناقة، ونذبح البقرة أو الشاة [فنجد] في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال: "كلوا إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه"؛ وهذا يدحض تأويل من قال: إن الحديث

بنصب "الذكاة" الثانية، وإن تقديره: ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه؛ فيجب ذبحه إن أمكن، وإلا فلا يحل. وقد حكى الإمام في باب الأطعمة أن شيخه كان يقول: لو كان الجنين لا يحل [بذكاة الأم]، لما جازت ذكاة الأم مع ظهور الحمل؛ كما لا تقتل المرأة قصاصاً [و] في بطنها ولد، فألزم ذبح رمكة وفي بطنها بغلة فمنع ذبحها، وهو محتمل، وما ذكره ظاهر. نعم: يرد على الحصر ما لو خرجت رأس الجنين ميتاً، فذبحت الأم قبل انفصاله؛ فإنه يحل كما قاله البغوي؛ فإنا تحققنا: ألا ذكاة فيه. على أن حله قد يمنع؛ كما سنذكره في الباب. واليد الشلاء من الحيوان المأكول إذا ذبح هل تحل؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي في باب القصاص في الأطراف. فإن قلنا بالحل، فذاك، لأنَّا لم نجرها مجرى الميتة؛ فحلت بالذكاة. وإن قلنا بالتحريم نجعلها كالميتة؛ فلا ترد علينا، والله أعلم. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أمرين: أحدهما: أن غير السمك من حيوانات البحر تشترط ذكاته؛ إذا قلنا: يحل أكله،

وهو وجه حكاه المراوزة. والذي حكاه العراقيون- كما ستعرفه في باب الأطعمة- الجزم بالحل بدونها كالسمك. والثاني: أن بعض السمكة إذا انفصل في حال حياتها حلال أيضاً؛ لأن ما أبين من حي، فهو ميت؛ كما نطق به الخبر، وميتة السمك حلال، وهو أحد الوجهين في المسألة، وسيستقصى الكلام فيها في باب الأطعمة قال: ولا تحل ذكاة المجوسي والمرتد ونصارى العرب وعبدة الأوثان. اعلم أن كلام الشيخ يقتضي تحريم ذبائح المذكورين بمنطوقه، وحل ذبائح من عداهم، وهم المسلمون، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى من بني إسرائيل ونصارى العجم- بمفهومه، وسواء فيه ما هو حلال عندنا وعندهم [أو] عندنا وحرام عندهم: كالشحم، والإبل، كما صرح به غيره. والأصل في ذلك قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، وقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]. قال المفسرون: والمراد بالطعام في الآيتين الذبائح، وقد خرج أبو داود عن ابن عباس أنه قال: "فكلوا مما ذكر اسم الله عليه، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه"؛ فنسخ، واستثنى فقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] فقد دلت الآيتان على حل ذبائح المسلمين وأهل الكتاب، وتحريم ذبائح من عداهم. وقد ورد النص بتحريم ذبائح المجوس؛ قال- عليه السلام-: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير آكلي ذبائحهم، وناكحي نسائهم".

و [أما] المرتدون ممن لا كتاب لهم قطعاً، فاستفدنا [تحريم] ذبائحهم من الكتاب، ولأنهم أسوأ حالاً من المجوس؛ فإن المجوسي تعقد له الذمة بخلاف المرتد. ونصارى العرب- وهم "بهراء" "وتنوخ" "وتغلب"، كما سنذكرهم في باب ما يحرم من النكاح، وباب عقد الذمة- قد روى شهر بن حوشب "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذبح نصارى العرب". وروى عن عمر أنه قال: "ما نصارى العرب بأهل كتاب، لا تحل لنا ذبائحهم". وعن علي أنه قال: "لا تحل لنا ذبائح بني تغلب؛ لأنهم لم يأخذوا من دين أهل الكتاب إلا شرب الخمر وأكل الخنازير".

واختلف أصحابنا في علة تحريم ذبائحهم: فقال قومُ: للشك في أنهم دخلوا في دين أهل الكتاب: أم لا؟ وعليه يدل قول علي. وقال قوم: للشك في أنهم دخلوا في الدين بعد نزول الفرقان أم لا؟ وهذان أوردهما القاضي الحسين. وقال ابن الصباغ والبندنيجي: لأنهم دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ وبعد التبديل، ولا نعلم هل دخلوا في غير المبدل؛ فيكون حكم حكمهم، أو فيه فلا، لأنهم دخلوا في دين لا حرمة له؛ فلم يتحقق الشرط في حقهم، والأصل التحريم؛ وبهذا فارقوا نصارى العجم. وعبدة الأوثان أسوأ حالاً من المجوس، فمنع ذبائحهم من طريق الأولى، والزنادقة ملحقون بهم. وقد حكى الفوراني وجهاً في حل ذبائح المجوس ونسائهم؛ بناء على أن لهم كتاباً ونسخ؛ كما سنذكر في باب ما يحرم من النكاح وغيره. فروع: أحدها من أبوه وثني أو مجوسي، وأمه كتابية، لا تحل ذكاته، ولو كان أبوه كتابياً وأمه وثنية أو مجوسية، ففي الحل قولان كما في النكاح. قال الإمام: والقول في تحليل الذبيحة يجاري القول في تحليل المناكحة لا يفترقان إلا في الأمة الكتابية؛ فإن نكاحها حرام، وذبحها حلال؛ لأنه لا أثر للرق في الذبيحة أصلاً؛ فهي كالحرة؛ بخلاف النكاح؛ فإن للرق فيه أثراً؛ فأثر انضمامه إلى الكفر. ثم ما ذكرناه فيما إذا كانت الأم كتابية والأب وثنياً إذا لم يبلغ الولد، أما إذا بلغ ودان بدين أمه، فهل يكون حكمه حكم الأم أو حكم الأب؟ فيه وجهان حكاهما الإمام هنا وقال: الأصح الثاني. [الثاني] من يقول من اليهود: عزير ابن الله، ومن النصارى: المسيح ابن الله، هل تحل ذكاته؟ فيه وجهان: الأكثرون على الحل.

وقال الماوردي: الأظهر عندي مقابله، وبه أقول؛ لأن هؤلاء كالمرتدين فيما بين اليهود والنصارى، وليس هذا من أصل دينهم الحق. [الثالث] إذا أكره مجوسي مسلماً على الذبح حل، وكذا لو أكره المحرم حلالاً على ذبح الصيد؛ قاله في "الروضة" عن إبراهيم المروزي. وقال الرافعي: لو أكره مسلم مسلماً على الذبح، يمكن أن يقال: إن اعتبرنا فعله وعلقنا به القصاص، حلت الذبيحة. وإن جعلناه كالآلة فكذلك هنا أيضاً؛ لأن المكره [كأنه] ذبح [قلت: وعلى هذا يظهر في مسألة إكراه المجوسي ألا يحل، وفيما لو أكره المسلم مجوسياً على الذبح أن يحل]. قال: وتكره ذكاة المجنون والسكران؛ لأنه يخاف من عدولهما عن محل الذبح ومبالغتهما في القطع إلى محل الكراهة، وهي مع الكراهة حلال؛ لأنهما من المسلمين، والقصد في الزكاة غير معتبر، دليله: ما لو قطع حلق شاة، وهو يظن: أنه خشبة؛ فإنه [يحل على] النص، وإن كان كلام البغوي يفهم حكاية وجه فيه، [وسنذكره]، ولفظ الشافعي- رضي الله عنه- في ذلك في كتاب الأضحية: وأكره ذبيحة السكران والمجنون في حال جنونه، ولا يتبين أنه حرام". قال في "الحاوي": ووهم بعض أصحابنا، فخرج وجهاً أنه: لا تصح ذكاتهما: أما في المجنون فمن عمده في القتل، وأما في السكران فمن قوله في القديم: "إن طلاقه لا يقع". وحكى القاضي الحسين الخلاف في المجنون قولين كما حكاهما في "الشامل" وغيره عن رواية القاضي أبي حامد والإمام في كتاب الأضحية عن رواية الصيدلاني بعد أن قال في هذا الباب: الوجه القطع بتحريم ذبيحته؛ لسقوط قصده، وإن في بعض التصانيف: أن المجنون إذا نظم الذبح على وجهه كان ذبحه مبيحاً، وهذا لم أره إلا في هذا الكتاب. ثم قال القاضي: والأصح الحل، فإن قلنا به فذبيحة السكران بالحل أولى؛ لأنه مخاطب. وإن قلنا بمقابله، ففي السكران قولان؛ بناء على طلاقه.

وكلام القاضي أبي حامد مشير إلى هذا الترتيب أيضاً. وعن القفال: أن في ذبيحة المجنون قولين، وذبيحة السكران تحل قولاً واحداً. ثم ما محل الخلاف الذي ذكره البغوي؟ إن محله إذا لم يكن لهما تمييز، فإن كان حلَّ، ولم يحك سواه. وقال الإمام: إن المجنون إذا لم يكن له تمييز، فلا يحل، وإن كان له تمييز بحيث يتصور منه نظم الفعل، ففيه الخلاف السابق، ولعل الأصح المنع أيضاً. ويقرب منه قول الفوراني، لكنه قال: الأصح الحل. وقال في "البحر": وقيل الصحيح في المجنون إن كان له تمييز قليل، ويحسن إيراد الفعل وإصداره- تجوز ذبيحته؛ كالصبي الذي يعقل [عقل] مثله، وإن لم يكن له تمييز أصلاً، ولا يحسن الفعل؛ لمبالغة جنونه- لم يجز كالطفل. [قال:] ويحتمل التفصيل في السكران على هذا الوجه، وهذا منه مشعر بأن الخلاف السابق في المجنون والسكران جارٍ، سواء كان له تمييز أو لا. تنبيه: كلام الشيخ يفهم أن ذكاة المرأة جائزة من غير كراهة، وكذلك ذكاة الصبي والكتابي والأعمى والأخرس؛ لأنه لما ذكر من لا تحل ذكاته [ومن تكره] دل على حل ذكاة من عداهم من غير كراهة، وهذا في المرأة مما لا شك فيه، وقد استدل الأصحاب على حل ذكاتها بما رواه الشافعي- رضي الله عنه- مسنداً، وهو في البخاري: أن جارية لآل كعب كانت ترعى غنماً لهم، فمرضت منها شاة، فكسرت مروة وذبحتها، فسأل مولاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجاز لهم أكلها.

وفي هذا الحديث مع ذلك أربع فوائد: إحداها: أن الحائض يجوز ذكاتها؛ لأنه- عليه السلام- لم يستفصل. الثانية: أن الشاة المريضة إذا خيف عليها يجوز ذبحها. الثالثة: [أنه] إذا ذبح شاة غيره بغير إذنه، حلت. الرابعة: أن الذبح بالمروة جائز، والمروة هي الحجر الأبيض؛ قاله أبو الطيب. وفي "البحر": أن الأصمعي قال: إنه الذي تقدح به النار. و [يستدل] على أنه لا كراهة في ذبحها بما روي أنه- عليه السلام- أمر نساءه أن يلين ذبح هديهن. وفي "الحاوي" حكاية وجه في كراهة ذبحها للأضحية. وأما الصبي فالمشهور حل ذكاته؛ استدلالاً بما روي عن جابر أنه قال: "تؤكل ذبيحة الصبي"، ولأنه محكوم بإسلامه، وإنما فقد قصده، وذلك لا يؤثر في الذكاة؛ فكان كالبالغ. قال الماوردي: ووهم بعض أصحابنا، فخرج في ذكاته وجهاً: أنها لا تؤكل؛ من اختلاف قول الشافعي- رضي الله عنه- في قتله عمداً: هل يجري مجرى الخطأ؟ فإن جعل عمده خطأ، لم تحل ذكاته. وفي "الشامل" و"البحر" حكاية ذلك قولاً عن رواية القاضي أبي حامد، لكن الذي

دلَّ عليه ظاهر النص كما سنذكره، وبه جزم القاضي الحسين في كتاب الأضحية- الأول وإن كان لا قصد له، وفرق بينه وبين المجنون على أحد القولين بأن الصبي من أهل القرية، بخلاف المجنون، وكذلك فرق بينهما في الحج. وجزم في "البحر" عند الكلام في الأحبولة بأن الصبي الطفل الذي لا تتأتى منه إرادة الفعل، ولكن اتفق أنه أمر السكين على الحلق، فحصل به الذبح- لم يحل. والمذكور في الرافعي التسوية بين الصبي الذي لا تمييز له والمجنون والسكران، وإجراء القولين في الجميع، وسلك الإمام طريقاً آخر في هذا الباب، فقال: إن لم يكن له تمييز، فلا حكم لفعله، وذلك ميتة، وإن كان مراهقاً فالأصل تحليل ذبحه. وفي بعض التصانيف ذكر خلاف فيه، ويمكن تقريبه من الخلاف في أن عمده عمد أم لا؟ وإذا قلنا: تحل ذكاته، فقد جزم الماوردي بكراهتها في الضحايا وغيرها؛ لضعفه عن مباشرة الذبح، ولقصوره عن التكليف، وهي في غير المراهق أشد. وأما الكتابي، فقد قال الماوردي: إن ذبيحة الصبي أحب إلينا من ذبيحته، وهذا يدل على أنها مكروهة- أيضاً- لكن قد حكى البندنيجي وابن الصباغ عن الشافعي- رضي الله عنه- أنه قال في "الأم": "وأحب أن يكون المذكي بالغاً مسلماً فقيهاً"، أي: بأحكام الذبح؛ لأنه أعرف بحكم الذبح، فإن لم يكن رجلاً فالنساء، فإن لم يكن فالصبيان، فإن لم يكن فأهل الكتاب، فإن لم يكن فالمغلوب على عقله من المسلمين؛ وهذا يدل على أن المراد بالكراهة ترك الأولى. وأما الأعمى فقد أطلق صاحب "البحر" القول بكراهة ذبحه وإن حلت؛ خوفاً من أن يخطئ محل الذبح، وهو ما ذكره في "التهذيب". وأما الأخرس، فقد أطلق العراقيون حل ذكاته، وقال القاضي الحسين وتبعه البغوي: إن ذلك فيما إذا كانت له إشارة مفهمة، فإن لم يكن فهو كالمجنون. قال النواوي في "الروضة": والأصح الجزم بحل ذبيحته وإن كان لا يفهم، وبه قطع الأكثرون. [قال:] ويجوز الذبح بكل ما له حد يقطع، أي: من حديد ونحاس وصفر

وزجاج وخشب وحجر وذهب [وفضة] وقصب وغير ذلك، إلا السن والظفر [فإن ذبح] بهما لم يحل؛ لما روى أبو داود عن رافع بن خديج قال: "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إنا نلقى العدو غداً، وليس معنا مدى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرن أو أعجل ما أنهر الدم، واذكر اسم الله عليه، وكلوا ما لم يكن سناً أو ظفراً، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة"، وأخرجه البخاري ومسلم في حديث طويل، سنذكر بقيته إن شاء الله تعالى؛ وهذا ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- سواء كان السن والظفر متصلاً أو منفصلاً، وسواء كان ذلك من الإنسان أو من غيره؛ كما قاله البندنيجي، ولا يستثنى من ذلك إلا ما قتله الكلب [ونحوه] بظفره أو نابه؛ فإنه يحل للحاجة العامة. وفي "تعليق القاضي الحسين": أن هذا في سن الآدمي أما سن ما يؤكل لحمه فيحتمل وجهين؟ أحدهما: يجوز، وبه قال أبو إسحاق المروزي؛ لأن له حداً يقطع، والخبر محمول على بني آدم. قلت: ويعضده رواية الشافعي بسنده هذا الخبر؛ فإنه قال فيه: "فإن السن عظم

[من] الإنسان] ". قال القاضي: وغير مأكول اللحم يترتب عليه. وقد اختلف في تفسير قوله- عليه السلام-: "أُرْنُ" [معناه]: قيل: وهو بضم الهمزة، وسكون الراء، على وزن "اُعْط"، بمعنى أدم الحز ولا تفتر؛ من رنوت؛ إذا أدمت النظر، وردَّ بعضهم هذا بأن الأمر من رنا يرنو: ارن. وقيل: هو بكسر الراء على وزن "أَطِعْ"، أي: أهلكها ذبحاً؛ من قولهم: أران القوم: إذا هلكت مواشيهم، ورده بعضهم [- أيضاً-] لأن "أران القوم" لا يتعدى والذي في الحديث يتعدى. وقال بعضهم: معناه: كن ذا شاة هالكة وأهرق نفسها، وكل ما أنهر الدم. وقد اختلف في معنى قوله- عليه السلام-: "أما السن فإنه عظم" فقهاً وفتيا: فنقل عن الشيخ عز الدين: أنه قال: "للشرع علل تعبدية، كما له أحكام تعبدية"، ولعله يشير إلى أن هذا من ذاك. وقال غيره: قد ورد الشرع بمنع الاستنجاء بالعظم؛ لكونه زاد الإخوان من الجن، وما ذاك إلا للنجاسة المانعة من أكله، والدم بهذه المثابة. قلت: ويظهر أن يقال: [إن] ذلك ورد منه؛ لأن الذبح بالعظم لا يجوز عندهم، وأن حكمته: ألا يكون موت الحيوان ببعض منه مبيحاً له، على أن سياق حديث رافع يدل على أن المعهود المألوف عندهم: أنه لا ذكاة إلا بالمدية. وقوله: "ما أنهر الدم" أي: أساله، وأجراه، ومنه سمي نهر الماء: نهراً. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي حل الذكاة بالعظم؛ لأنه غير السن والظفر، وكذلك كلام البندنيجي، لأن لفظه كلفظ الشيخ، وهو ما صرح به في "الحاوي"، حيث قال: إن الشافعي – رضي الله عنه- قال في الذكاة بالعظم: "كرهته، ولا يبين لي أنه يحرم، لأنه لا يقع عليه اسم سن ولا ظفر". فاعتبر الشافعي- رضي الله عنه- في التحريم الاسم، وأجازه بالعظم؛ لخروجه

عن الاسم، وكرهه؛ لأنه في معناه، ولم يقسه عليه؛ لاستثناء أصله. قال: وفيه عندي نظر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل المنع من السن، فقال: "لأنه عظم"، فصار تعليل الاسم بالعظم دليلاً على اشتراكهما في الحكم من جهة النص، وليس بقياس على النص. وبالتحريم أجاب الإمام والبغوي وابن الصباغ، وبه صدر الروياني كلامه، وقال: لو قيل: يجوز الذبح بكل ما له حد يقطع إلا العظم كفى؛ لأن السن والظفر من جملته. وألحق هؤلاء النصل من العظم [به]، فقالوا: لو جعل نصل السهم عظماً، وقتل به الصيد، لم يحل. وقال في "البحر": إن بعض أصحابنا قال: إذا كان العظم من مأكول اللحم يحل به الذكاة؛ حكاه أبو سليمان الخطابي، وهو غريب. قال: ولا يذبح بسكين كال؛ لما روى مسلم [وغيره] عن شداد بن أوس قال: خصلتان سمعتهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته". والقتلة- بكسر القاف-: الحالة من القتل، وبفتحها: المرة منه. "وليحد" بضم الياء آخر الحروف، وكسر الحاء المهملة، قال الجوهري: وتحديد الشفرة وإحدادها واستحدادها بمعنى. وقال غيره: الشفرة: السكين، وقيل: السكين العريضة، وقيل: العظيمة. وإحداد الشفرة تفسير لإحسان الذبح، وقيل: من إحسان الذبح: ألا يذبح وأخرى تنظر، والسكين معروف: سمي بذلك؛ لأنه يسكن حركة المذبوح، وفيه لغتان: التذكير، والتأنيث. وحكى الكسائي: سكينة، ويقال للسكين: مُدْية ومَدْية [ومِدْية]؛ ثلاث لغات مشتقة من المدى، وهي الغاية؛ لأنها مدى الأجل، والكال: الضعيف الحد؛ من كَلَّ الرجل إذا أعيا، يقال: كَلَّ السكين والسيف، يكل كلالاً [وكلالة] وكلولاً.

قال: فإن ذبح به حَلَّ؛ لقوله عليه السلام: "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكلوا" وهذا منوط بأمرين: أحدهما: ألا يكون كلالها غير قاطع بحده إلا بشدة الاعتماد وقوة الذابح، فإن كان كذلك لم يحل؛ صرح به الماوردي وغيره؛ لأنه يصير المنهر للدم هو الذابح دون الآلة. الثاني: ألا ينتهي الحيوان قبل استكمال قطع الحلقوم والمريء إلى حركة المذبوح، أما إذا انتهى إلى ذلك فسيظهر لك ما نخرجه عليه [كما سيأتي] من بعد. قال: وما قدر على ذبحه، أي: وحشياً كان أو إنسياً- لم يحل إلا بقطع الحلقوم والمريء. اشتراط أصل الذكاة في حل المقدور عليه ثابت بالإجماع، وأما كيفيتها، فأقل ما يجزئ فيها عند [الإمام] الشافعي- رضي الله عنه – قطع الحلقوم والمريء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله تعالى عليه فكلوا". فاعتبرها بما أنهر الدم. وقطع الحلقوم والمريء منهر للدم؛ فتعلق به الإجزاء؛ ولأن بهما توجد الحياة، وبفقدهما تفقد الحياة؛ فإن الحلقوم- بضم الحاء والقاف-: مجرى النفس إلى الرئة، وهو في مقدم الرقبة. والمريء- بالهمز-: مجرى الطعام والشراب، يلي الحلقوم. والمقصود بالذكاة: فوات النفس بأخف الألم؛ شداد بن أوس، وهذا ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه-. وعن الإصطخري: أنه يكفي قطع أحدهما؛ لفقد الحياة بقطعه. قال الماوردي: وهذا زلل منه؛ لأن المقصود بالذكاة ما عجل التوحية من غير تعذيب وفي قطع أحدهما إبطاء للتوحية وتعذيب للنفس؛ فلم تصح به الذكاة، نعم: لو قطع بعض الحلقوم والمريء: فإن قطع أقلهما، لم يجزئ، وإن قطع أكثرهما، ففي الحل وجهان: أحدهما- وهو مختار القاضي الروياني في الحلية-: [الحل] والظاهر من المذهب- كما قال في "البحر" وغيره أنها لا تحل أيضاً، وهو الذي أورده البندنيجي، وكذا الإمام.

والمقدور على ذبحه ما كانت الحياة فيه مستقرة حال القدرة على قطع حلقومه ومريئه، سواء فيه من كانت معه آلة [الذبح أو لم يكن معه آلة] القطع؛ إما لعدم استصحابه لذلك ذاكراً كان [أو ناسياً أو لاستصحاب وسقوطه أو سرقته منه، نعم: لو غصب منه، فهل يكون عذراً] في حل الصيد ونحوه إذا مات قبل الذكاة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ كما لو حال بينه وبينه سبع حتى مات؛ فإنه يحل. والأظهر: المنع- أيضاً- وبه جزم الماوردي والغزالي، وفرق الماوردي بأن غصب السكين عائد إليه، ومنع السبع عائد إلى الصيد. وأما غير الصيد من الحيوانات الأهلية، [فقد] قال الإمام: يبعد كل البعد طرد هذا الخلاف فيها إذا أشرفت على الفوات، والفرق لائح؛ فإن الصيد لو هلك قبل الإدراك حل، ومن هنا يؤخذ أن [محل الوجهين في الصيد إذا كان] بحيث لو لم يتمكن من ذكاته ومات حَلَّ، وإذا كان هذا حكم من فقد الآلة، فمن وجدها فهو أولى، سواء كانت كالة أو حادة. وحكى الماوردي عن ابن أبي هريرة: أن السكين لو كانت في قرابها، فأمسك عليها، وتعسر عليه خروجها حتى مات الصيد: أنه يحل، لأن السكين [في الأغلب تصان] في قرابها إلى وقت الحاجة إليها؛ فلم يكن مفرطاً. قال: وهذا عندي يعتبر بحال القراب، فإن كان على المعهود في الإمساك لما اشتمل عليه، كان مأكولاً، وإن خرج عن المعهود في الضيق والشدة كان غير مأكول. ولو كان قد تشاغل بإحداد السكين؛ لكلالها حتى مات الصيد وما في معناه؛ ففي "الحاوي" و"تعليق القاضي الحسين": أنه حرام. وقد اعتبر الإمام مع قطع الحلقوم والمريء أمرين [آخرين]. أحدهما: رعاية الإسراع في قطع المذبح، وحده: إلا يجد ولا يدرك انتهاء الشاة قبل انتهاء قطع الحلقوم والمريء إلى حركة المذبوح، فلو قطع الذي يذبح الشاة بعض الحلقوم وبعض المريء [على أناة] مجاوزة للعادة حتى يتبين مصير الشاة

إلى حركة المذبوح قبل استكمال القطع فيما يجب قطعه [ثم] قطع البقية، فالشاة حرام؛ و [من] هنا يؤخذ أن من شرط الحل: أن يقع تمام الذكاة والحياة مستقرة في المذكى؛ كما صرح به الغزالي، لكن سيأتي في كلام الإمام وغيره عند الكلام في ذبح الشاة من قفاها ما ينازع فيه. الثاني: ألا يقترن بقطع المذبح ما يعين على التذفيف إما محققاً أو مظنوناً، وإن كان لو تقدم مثله لم يضر، مثاله: أن يشرع واحد في قطع الحلقوم والمريء، وآخر شارع معه في إخراج الحشوة أو الحش في الخاصرة، بحيث يخرج قطع الحلقوم والمريء عن أن يكون هو المذفف، ولا شك في التحريم في هذه الصورة، وكذلك فيما لو شرع واحد في الذبح من القفا، وآخر في قطع الحلقوم والمريء، وسيأتي الكلام في بقية هذا الفرع إن شاء الله تعالى. فإن قلت: ينبغي أن يعتبر مع ذلك أمر ثالث وهو أن يكون قطع الحلقوم والمريء بما له حدُّ يقطع؛ ليخرج به ما إذا قطعهما ببندقة رمى بها فإنه لا يحل؛ كما صرح به ابن الصباغ في هذا الباب؛ لقوله تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3]، وهي التي أصليت بالحجارة، وإن كان قوله- عليه السلام-: "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكلوا" يقتضي الحل. قلت: هذا الشرط قد يؤخذ من قوله أولاً: "ويجوز الذبح بكل ماله حد يقطع [به]، فإنه يفهم: أن ما ليس له حد لا يجوز الذبح به، نعم: ينبغي أن يضاف إلى ذلك [أن يقع] القطع فيما يقصد قطعه، ويحترز به عن أمرين. أحدهما: إذا ضرب جداراً بسيف، فأصاب عنق شاة، فإنها لا تحل ألبتة؛ كما قال القاضي الحسين وغيره؛ لأنه وجد في فعله الخطأ، وعدم القصد؛ لأن النية شرط. الثاني: إذا رمى إلى شاته الربيطة سهماً جارحاً، فاصاب الحلقوم والمريء وفاقاً، وقطعهما، فإن الإمام قال: إن في الحل نظراً مع القدرة على الذبح. ويجوز أن يفرق بين أن يقصد الذبح بسهمه، وبين أن يقصد الشاة فيصيب المذبح.

قال النواوي في "الروضة": والأصح الحل. قلت: ويؤيده أن القاضي في "الفتاوي" قال: لو رمى إلى صيد فقبل أن يصل إليهالسهم انكسر عضو منه، وصار مقدوراً على ذبحه- لا يحل إلا أن تصيب الرمية مذبح الصيد فيحل، وسنذكر أيضاً ما يعضده عن [غير] القاضي. و [عكس هذه الصورة] لو [رمى إليه] وهو مقدور عليه، [فأصابه السهم] وهو غير مقدور عليه- حَلَّ؛ قاله الرافعي. وقد احترز الشيخ بقوله: "وما قدر على ذبحه" عما لا يقدر على ذبحه، وهو نوعان: أحدهما: بعض الصيود، وسيأتي الكلام فيه. والثاني: إذا وقعت البهيمة في بئر ونحوها، وتعذر إخراجها حية، ولم يتمكن من قطع حلقومها ومريئها، أو توحشت فإنها تلحق بالصيود المتعذر ذكاتها حتى تحل بعقرها في غير المذبح؛ روى أبو داود عن أبي العشراء عن أبيه أنه قال: يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو طعنت في فخذها، أجزأ عنك". قال أبو داود: وهذا لا يصلح إلا في المتردية والمتوحش، وقد أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه.

وروى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل أنسيّةٍ توحشت، فذكاتها ذكاة الوحشية". وهذا نص في الباب، وقد قال بهذا جمع من الصحابة، ومحله بالاتفاق إذا كانت الجراحة مزففة؛ لأنها حينئذ تلحق بقطع الحلقوم والمريء. أما إذا لم تكن كذلك مع القدرة على التذفيف، فالذي قاله القفال والمحققون: عدم الحل؛ لأنه- عليه السلام- قال: "لو طعنت في خاصرته لحلَّ لك"، والجرح في الخاصرة مذفف. وقد قال بعض الأصحاب: يكفي الجرح المدمي الذي يجوز وقوع القتل به، قال الرافعي: وهو ما أورده المعظم. ولو ندَّ البعير، وشردت الشاة، وتعذر الوصول إليها؛ لإفضائها إلى مهلكة أو مسبعة- فحكمه كما ذكرناه. [و] روى البخاري ومسلم وغيرهما عن رافع بن خديج في بقية الحديث السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصاب نهبي فند منها بعير، ولم يكن معهم حبل، فرماه رجل بسهم فحبسه- أي: أماته- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا، فافعلوا به مثل هذا". وروى: "فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا". والأوابد: هي التي قد تأبدت، أي: توحشت [ونفرت من الإنس، يقال: أبد الرجل أبوداً؛ إذا توحش] وتخلى. نعم: يختلف حكم البعير إذا ندَّ وإذا وقع في بئر؛ فإنه لو أرسل على الناد كلباً فقتله حل، ولو أرسل عليه وهو في البئر كلباً، ففي حله وجهان: أصحهما في "البحر": المنع.

ومقابله: منسوب إلى البصريين، وصححه النواوي في "الروضة"، وكذا الشاشي. أما لو كان لا يفضي شرود الشاة والبعير إلى مهلكة، وربما كان يسكن فيدرك، قال الإمام: فالظاهر عندي أن الذبح فيه لا يحصل بالجرح في غير المذبح؛ فإن هذا التعذر إلى زوال؛ فلا حكم له، وفي كلام أصحابنا ما يدل على خلافه. وقد جعل الغزالي ما أبداه الإمام الظاهر من المذهب. قال الإمام: وعلى هذا لو كان الحيوان لا يفضي بشروده إلى مهلكة، لكنه يفضي به إلى الوقوع بين لصوص أو غصاب، فوجهان. وعلى كل حال: فإذا ألحقنا نداد البعير بوقوعه في البئر، فهل يشترط في حله التذفيف في رميه إذا أمكن، وقلنا باشتراطه في جرحه إذا وقع في البئر؟ الحكم فيه الصيد، وقد حكى الإمام فيه اختلافاً، فقال: من أصحابنا من قال: لا يجب اتباع

الرمي، ومنهم من أوجبه. فرعان: أحدهما: لو تردى بعير فوق بعير، فغرز رمحاً في الأول، فنفذ منه إلى الثاني، قال القاضي الحسين: إن كان عالماً بالثاني، حلَّ، وكذا إن كان جاهلاً به على المذهب؛ كما لو رمى صيداً فأصابه، ونفذ منه فأصاب آخر يحل. الثاني: إذا صال عليه صيد أو بعير، فدفعه عن نفسه، وجرحه فقتله، قال القاضي الحسين [في التعليق:] فالظاهر أنه يحل إذا أصاب المذبح، وإن لم يصب المذبح فوجهان. واعلم أن بعضهم جعل من جملة ما احترز عنه الشيخ بقوله: "وما قدر على ذبحه" الجنين؛ للخبر، وفيه نظر؛ لأن الشرع جعل [من جملة] ذكاته ذكاة أمه، وذكاة أمه لا تخرج عن القسمين؛ فلا معنى لذكره؛ لأن المقصود هاهنا بيان كيفية الذكاة، لا نفس الحل من غير ذكاة؛ فإنه محله ما تقدم. نعم: لو خرج الجنين وفيه حياة يتسع معها الزمان لذبحه، فلم يذبحه-[ولو] لفقد الآلة- ومات، لم يحل، وإن خرج حياً، ولم يتسع الزمان لذكاته، حلَّ، فلعله أراد هذه الحالة. ولو خرج بعضه والحياة مستقرة فيه قال في "التهذيب": فلا يحل بذبح الأم. وقال القفال: يحل. وفي "النهاية" ما يقتضي أن يكون الصحيح الحل، وأن المعزى إلى القفال خلافه؛ فإنه قال في باب العدد: إذا انفصل بعض الجنين وصرخ واستهل، ينزل في جميع أحكامه منزلة الجنين الذي لم ينفصل منه شيء، وعزى إلى القفال أنه ينزل منزلة المنفصل بجملته في جميع القضايا والأحكام، وهذا إن كان منقاساً فهو ضعيف في الحكاية ما أراه ملحقا بالمذهب [والله أعلم]. واحترز الشيخ بقوله: "لم يحل إلا بقطع الحلقوم [والمريء"] عما لو اختطف رأس العصفور قلعاً، فإنه لا يحل؛ لأنه لا يسمى ذكاة، بل هو في معنى الخنق لا في معنى القطع. قال: ويستحب أن توجه الذبيحة إلى القبلة، أي: في الأضحية والهدي وغيرهما؛

لأن خير المجالس ما استقبل به القبلة، ولأنه لابد [لها] من جهة، فكانت جهة القبلة أولى، وذلك في الأضحية ونحوها أشد استحباباً؛ لأنه- عليه السلام- وجه كبشه إلى القبلة. وروي عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ضحوا وطيبوا أنفسكم؛ فإنه ليس من مسلم يوجه أضحيته إلى القبلة إلا كان دها وقرنها وصوفها حسنات [في ميزانه]. فإن قيل: هذه حالة إخراج نجاسة؛ فيكره استقبال القبلة بها؛ كحالة التغوط والبول. قيل: الفرق أن هذه حالة يستحب فيها ذكر الله تعالى؛ فاستحب فيها استقبال القبلة؛ بخلاف تلك مع أن كشف العورة يلازمها. وقد اختلف الأصحاب في كيفية توجيهها إلى القبلة على أوجه: أظهرها في "الإبانة" وغيرها: أنه يوجه المذبح ولا يوجه وجهها؛ لأن استقبال القبلة في حقه مستحب، فلو وجهها لاحتاج أن يستدبر القبلة، ويجعلها على يساره، وهذا ما دَلَّ عليه النص؛ فإن البيهقي نقل عن الشافعي- رضي الله عنه- أنه قال: "أحبُّ في الذبيحة أن توجّه إلى القبلة، وإن استقبل الذابح القبلة فهو أحب إليَّ". والثاني: أنه يوجه [جميع] بدنها. والثالث: أنه يوجه قوائمها. قال: ويسمى الله تعالى [عليها]، الأصل في مشروعية التسمية قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118]، وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4. وقد سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ذبح أضحيته فقال: "بسم الله"، كما أخرجه البخاري ومسلم عن رواية عائشة، رضي الله عنها. والأصل في كونها سنة حتى إذا تركت لم تؤثر في الحل: أن الله تعالى أحَلَّ ذبائح

أهل الكتاب، وهم لا يذكرون اسم الله تعالى عليها غالباً، وأباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ثعلبة الخشني ما أمسك عليه كلبه، وردَّ عليه قوسه ذكياً وغير ذكي، ولم يأمره بالتسمية. وروى مسلم والبخاري عن عائشة- رضي الله عنها- أن ناساً قالوا: يا رسول الله، إن قوماً من الأعراب يأتوننا باللحم، ما ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سموا الله وكلوا" فدل على أنها غير واجبة. وروى البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "المسلم يذبح على اسم الله، سمى أو لم يسم". وروى أبو هريرة أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله، أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله تعالى؟ [فقال: "اسم الله على قلب كل مسلم". ولهذا قال الشافعي- رضي الله عنه-: "وإذا أرسل أحببت أن يسمي الله تعالى] فإن نسي فلا بأس؛ لأن المسلم يذبح على اسم الله"، وأراد بهذا الجواب لمن احتج بقوله تعالى: {وَلا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121].

وبقوله عليه السلام: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل"، فجعل ذلك شرطاً. وقد أجبت عن الآية بجواب آخر وهو ما روي [أن] ابن عباس قال: المقصود بها تحريم أكل الميتة، وذاك أن مجوس الفرس قالوا لقريش: تأكلون مما قتلتم، ولا تأكلون مما قتله الله؛ فأنزل الله تعالى: {وَلا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ويدل عليه سياق الآية؛ فإنه قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، وأجمعنا على أن من أكل من ذبيحة مسلم لم يسم الله عليها، فليس بفاسق، وكذا قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121]، وأراد به: وحي المجوس إلى قريش. وإذا ثبت استحباب التسمية عند الذبح، كان [استحبابها] في [ذبح] الأضحية ونحوها آكد. وكذا يستحب عند إرسال الكلب والسهم إلى الصيد ونحوه. وهل يستحب عند عض الكلب وإصابة السهم؟ فيه وجهان ينسبان إلى الشيخ أبي محمد. قال الرافعي: وهذا في تأدية الاستحباب بكماله، أما أصل الاستحباب عند الإصابة إذا تركت التسمية عند الإرسال، فما [ينبغي أن] يكون فيه خلاف؛ كما أن من ترك التسمية في ابتداء الوضوء والأكل، يستحب له أن يسمي في أثنائهما. والتسمية: باسم الله، فإن زاد شيئاً من ذكر الله تعالى، فالزيادة خير؛ حكاه في "البحر" عن البيهقي عن الشافعي، رضي الله عنه. قال في "الحاوي": ويختار في الأضحية خاصة أن يكبر الله تعالى قبل التسمية وبعدها ثلاثاً؛ لأنها في أيام التكبير، فيقول: "الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد"، خاتماً بالحمد بعد التكبير. قال: ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، قياساً على سائر المواضع، وهذا ما نص عليه في "الأم" حيث قال: "ولا أكره الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن أستحبها"، وإن كانت رواية المزني تفهم أنها لا تستحب ولا تكره؛ لأنه حكي عنه أنه قال: "ولا أكره الصلاة

على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها إيمان بالله تعالى؛ قال- عليه السلام-: "أخبرني جبريل عن الله سبحانه أنه قال: من صلى عليك صليت عليه". وهذه اللفظة إنما تستعمل فيما لا يستحب؛ ولأجل ذلك، قال ابن أبي هريرة: لا تستحب. وليس بصحيح. ولا نزاع في أنه لو قال: "أذبح للنبي - صلى الله عليه وسلم - "، أو: "تقرباً له" لا يحل أكلها؛ كما نص [عليه] الشافعي- رضي الله عنه- في "الأم" حيث قال: "لو قال: أهللت بها لعيسى، حرم أكلها". وفي "المختصر": "على أن أهل الكتاب إذا كانت لهم ذبائح يذبحونها باسم غير الله [عز وجل] كالمسيح لم يحل". وعن أبي الحسين تخريج وجه حكاه الرافعي فيما إذا ذبح المسلم للرسول أو للكعبة: أنه يحل، بخلاف ما لو ذبح اليهودي لموسى والنصراني لعيسى؛ لأن المسلم يذبح لله سبحانه، ولا يعتقد في الرسول ما يعتقده اليهودي والنصراني في موسى وعيسى. نعم: لو ذبح النصراني لله، وذكر اسم المسيح، فهو حلال، وإن كان مكروهاً. قال: وهكذا الحكم فيما لو ذبح للجن؛ روي أنه- عليه السلام- نهى عن ذبائح الجن. قال أبو عبيد: وهو أن يشتري الرجل داراً أو يستخرج عيناً فيذبح؛ خوفاً من أن يصيبه الجن فيها، فإن فعل ذلك؛ تقرباً لله تعالى؛ ليرفع إصابة الجن- حَلَّ، وإن ذبح للجن؛ استدفاعاً بهم، حرم أكلها. قال: وأن يقطع الأوداج كلها؛ لأن ذلك أرجى وأسهل لخروج الروح، فهو من

الإحسان في الذبح، وفيه خروج من خلاف من يذكره. والمراد بالأوداج: الحلقوم والمريء والوريدان، وهما عرقان في جانبي العنق من مقدمه يحيطان بالحلقوم، ويقال: إنهما يحيطان بالمريء؛ لأن اسم الأوداج يقع عليهما؛ صرح به الرافعي وغيره، ويظهر أن يكون ذلك من باب التغليب؛ فإنه ليس للحيوان إلا ودجان. وقد جاء في الحديث: "ما أفرى الأوداج فكل". وروي أنه قال "أفر الأوداج ولا تزد"، والمراد ما ذكرناه؛ ولأجله اشترط مالك – رحمه الله- في الحل قطعهما مع الحلقوم والمريء، [و] دليلنا عليه ما تقدم، والحديث محمول على الندب. أو نقول: خرج مخرج الغالب؛ فإنه لا يتأتى قطع الحلقوم والمريء إلا بقطعهما غالباً، وهما قد يسلان من الآدمي وغيره ويعيش؛ فلا يشترط قطعهما كسائر العروق. فإن قلت: الحلقوم والمريء قطعهما شرط، فكيف نجعله مستحباً؟ قلت: المستحب قطع الوريدين مع قطعهما، فالمجموع هو المستحب، وهذا كقوله في باب سنن الوضوء والطهارة: "ثلاثاً ثلاثاً" مع أن الغسلة الأولى فرض. وإن سلكت ما سلكه النواوي في أن المراد بقوله: "الأوداج": الودجين لا غير؛ إما لأن إطلاق صيغة الجمع على الاثنين حقيقة كما هو عند طائفة، أو مجاز كما هو عند الأكثرين- اندفع السؤال من أصله. قال: وأن ينحر الإبل؛ لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] على التفسير الأشهر، والمعنى فيه: أنه أسرع لخروج الروح منها بسبب طول أعناقها، وقضية ذلك: أن تشاركها الزرافة فيه إذا رأينا إباحة أكلها والنعام والبط. قال: معقولة من قيام؛ لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36].

قال ابن عباس: معقولة إحدى يديها. وروى أبو داود عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر سبع بدنات بيده قياماً. وعن ابن عمر: أن رجلاً أضجع بدنة، فقال: قياماً سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -. ويستحب أن تكون اليد المعقولة هي اليسرى؛ لما روى جابر أنه- عليه السلام- وأصحابه كانوا ينحرون الإبل معقولة اليسرى. والنحر: الطعن بحديدة أو سكينة أو حربة وما له حد، في المنحر، وهو ثغرة النحر، وهي الوهدة التي في أعلى الصدر وأصل العنق. قال البندنيجي: ولا حد له غير أنه إذا نحر المكان أجزأه، وكلامه يفهم أن إيجاب قطع الحلقوم والمريء واستحباب قطع الودجين مخصوص بالذبح؛ لأنه قال بعد ذلك: "وأما الذبح فالكلام فيه [في] فصلين في الكمال، وأقل الإجزاء .. "، وساق ما ذكرناه. وفي "الحاوي" و"النهاية" وغيرهما: أن المقطوع من البعير الحلقوم والمريء أيضاً، وهذا هو الذي يقتضيه كلام الشيخ، والله أعلم. قال: ويذبح البقر والغنم؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]، {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] [وما روى مسلم عن عائشة قالت: "ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه البقر يوم النحر"].

وما روي "أنه- عليه السلام- ضحى بكبشين أقرنين أملحين، يذبح ويكبر ويسمي، ويضع رجله على صفحتهما" [كما] أخرجه البخاري ومسلم. والذبح: الشق والفتح في المذبح، وهو في أسفل مجتمع اللحيين في أعلى العنق. [قال:] مضجعة أما في الغنم فللخبر، وقد جاء في البخاري ومسلم عن عائشة أنه- عليه السلام- أخذ الكبش فأضجعه وذبحه. وأما في البقر؛ فبالقياس على الغنم؛ لمشاركتها لها في سنة الذبح، ولأنه أمكن. ويستحب أن تكون مضجعة على الجنب الأيسر، ويترك رجلها اليسرى، ويشد قوائمها الثلاث، ويكون إضجاعها برفق. ولو عكس المذكي، فذبح الإبل، ونحر البقر والغنم في اللبة [كما ذكرنا] أجزأه: أما في الإبل؛ فلأن ما كان ذكاة في البقر، كان ذكاة في الإبل؛ كالنحر. وأما في البقر والغنم؛ فقد ادعى الشيخ أبو حامد فيه الإجماع، وفيه شيء؛ لأن المالكية يذكرون خلافاً فيه. وقد روى مسلم وغيره عن جابر قال: "نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة"، وذلك حجة [على] من خالف فيها، ويظهر أن يكون هذا الخبر أيضاً حجة من قال من أصحابنا: إنه يتخير في البقر بين النحر والذبح، وهو ما أورده في "الإبانة". وقد صرح الشافعي- رضي الله عنه- بكراهة ذبح الإبل؛ لأن الإمام مالك- رحمه الله- خالف في حلها كما هو المشهور عنه؛ تمسكاً بأن عنق البعير طويل، فإذا ذبح ترددت الروح فيه، وأدى ذلك إلى بقاء حياة فيه وتعذيب. قال أصحابنا: وهذا يبطل بالنعام والبط؛ فإن عنقه طويل وتردد الروح [فيه

لذلك]، ومع ذلك يجزئ ذبحه، وسكت الأصحاب عن كراهة نحر البقر والغنم. وقال الرافعي: إن ذلك غير مكروه، وكذلك ذبح الإبل وإن ترك المستحب، ثم قال: وقيل: إنه يكره. وفي "تعليق البندنيجي": أنه يكره قطع ما بين الثغرة والمذبح. قال: ولا يكسر عنقها ولا يسلخ جلدها حتى تبرد؛ لأن فعل ذلك قبل أن تبرد تعذيب للحيوان. وقد روي عن عمر أنه قال: لا تعجلوا الأنفس أن تزهق، ولا تنخعوا، ولا تفترسوا. والزهق: الإسراع، والمراد به: إسراع خروج الروح، ومنه قوله تعالى: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ} [التوبة: 55]. قال الماوردي: وفي المراد بنهي عمر ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقطع أعضاء الذبيحة قبل خروج نفسها؛ كالذي كانت الجاهلية تفعله. والثاني: تعجيل سلخها قبل خروج نفسها؛ لتعجيل أكلها. والثالث: أن يمسكها بعد الذبح حتى لا تضطرب؛ ليتعجل خروج روحها؛ كاليهود. قال البندنيجي: والنخع: قال الشافعي: هو كسر العنق بعد الذبح، والمشهور أن النخع: المبالغة في الذبح إلى أن يصل القطع إلى النخاع؛ كما قاله أبو عبيدة وأبو عبيد. والنخاع: عرق أبيض، يمتد من الدماغ، ويستبطن القفا و [يمتد] إلى عجب الذنب. وقد حكي عن أبي عبيد: أنه عظم في الصلب يمتد إلى القفا، وعلى كل حال فهو مكروه.

والفرس: قال أبو عبيدة: هو والنخع واحد. وقال أبو عبيد: الفرس: كسر العنق، ومنه سميت الفريسة؛ فإن السبع إذا أخذها كسر عنقها، وهكذا ذكر الشافعي- رضي الله عنه- في تفسير الفرس. وقال ابن أبي هريرة: هو كسر عظم الرأس. وقيل: هو قطع الرأس. وقد أفهم كلام الشيخ: أن عدم كسر العنق، وسلخ الجلد قبل أن يبرد مستحب، وما كان تركه مستحباً، فقد يطلق على فاعله أنه ترك الأولى، وقد يطلق عليه أنه فعل مكروهاً، وهو الذي صرح به الأصحاب هاهنا، وقال الماوردي: إن كراهة قطعها قبل أن تبرد أغلظ من كراهة سلخها. تنبيه: إذا عرفت أن كسر العنق وقطع ما وراء الحلقوم والمريء مكروه، عرفت أن فعل ذلك قبل قطع المريء والحلقوم أشد كراهة، وربما قيل: إنه محرم وإن حل الأكل؛ لوجود شرط الذكاة- كما سنذكره- صرح به الرافعي، وكذا فيما إذا ابتدأ في القطع من صفحة العنق؛ لأنه يعرض الحيوان لأن يكون ميتة، فإن الحل في هذه الحالة منوط- كما قال الفوراني وأبو الطيب وابن الصباغ والمصنف- بأن تكون الحياة فيه مستقرة قبل قطع المريء والحلقوم، وقد تفقد؛ فلا يحل. قال ابن الصباغ: وينبغي أن يعتبر بقاء الحياة المستقرة- أيضاً- بعد قطع الحلقوم؛ لأنه لم يحل بقطع الحلقوم خاصة، وهذا منه يفهم أمرين: أحدهما: أن الذي يقع الابتداء بقطعه في هذه الصورة الحلقوم؛ لأنه لو اتقد أن المبتدأ بقطعه فيها المريء، لم ينتظم ما ذكره من التعليل، ولكان ما أبداه احتمالاً هو ظاهر النص، وليس الأمر كذلك، بل الذي يقع الابتداء بقطعه [في هذه الصورة] المريء. والثاني على تقدير أن الذي يقع الابتداء بقطعه في هذه الصورة الحلقوم: أن المذهب الاكتفاء بكون الحياة مستقرة عند الشروع في قطع الحلقوم، وقياسه: أن

يكتفي بكون الحياة مستقرة فيما إذا ابتدأ القطع من مقدم العنق عند قطع الحلقوم خاصة أيضاً، وعليه ينطبق قول الإمام في [مسألتنا]: إن الحياة لو كانت مستقرة [عند الشروع] في قطع المريء والحلقوم، يحل وإن لم توجد عند تمام قطعهما؛ إذا وجد الإسراع على النسق المعتاد، فإنا لو قلنا بالتحريم، لم يأمن أن يتوجه مثل هذا التقدير من غير قطع يتقدم الأخذ في فري المذبح، لكن الذي حكاه المزني عن الشافعي- رضي الله عنه- في "المختصر": أنها إن تحركت بعد قطع رأسها أكلت وإلا لم تؤكل. وفسر البندنيجي وجمهور الأصحاب ذلك بأن الشافعي قال: إنما تعلم الحياة المستقرة بشدة الحركة، فإن كانت الحركة شديدة بعد قطع الرقبة؛ فالحياة مستقرة، وإن لم يكن هناك حركة؛ فليس هناك حياة وهذا يقتضي اعتبار استقرار الحياة بعد قطع جميع الرأس، وهذا ما أورده الماوردي. وقد أنكر القاضي الحسين صحة ما نقله المزني، وقال: إنما قال الشافعي- رضي الله عنه-: "لو ذبحها من قفاها أو إحدى صفحتي عنقها، ثم لم يعلم متى ماتت؟ لم يأكلها حتى يعلم، فإن علم أنها حييت بعد قطع القفا أو إحدى صفحتي العنق، حتى وصل بالمدية إلى الحلقوم والمريء وقطعهما وهي حية- أكلت، وإن كان مسيئاً بالجرح الأول؛ كما لو جرحها، ثم ذكاها، وكما لو جرحه السبع أو غيره، ثم ذكى، وكان فيه حياة- حلَّ؛ وهذا يقتضي أيضاً اعتبار الحياة بعد قطع الرأس. وكلام الغزالي يقتضي اعتبار استقرار الحياة إلى انتهاء ما يجب قطعه في الذكاة، وهو موافق لما دل عليه ظاهر النص، بل يتعين حمل النص عليه، وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة احتمالات. وقد حكى الإمام: أن صاحب "التقريب" اعترض على المزني وجمهور الأصحاب فيما ذكروه محقاً، فقال: لا تعويل على التحريك بعد قطع المذبح؛ بدليل أن الشاة التي لا آفة بها إذا قطعنا منها الحلقوم والمريء، وأخذت في الاضطراب الشديد لو

أبنا حشوتها، فقد تتحرك بعد ذلك، فإن كان إبانة الحشوة مذففاً كقطع الحلقوم والمريء، فلا وجه للاعتماد على الحركة وفقدها، بل المعتبر في الحل ألا ينتهي الحيوان قبل القطع إلى حركة المذبوح، ويكفي ظهور ذلك على طريق العلم أو الظن بعلامات دلت عليه، سواء كانت تدخل تحت الوصف أو لا، بل تدرك بقرائن الأحوال التي لا يضبطها الوصف: كعلامات الخجل والغضب والوجل، فإن وقع في ذلك شك، ففيه ما سنذكره من بعد، إن شاء الله تعالى. والقائلون بصحة نقل المزني- وهم العراقيون- اختلفوا: لم اعتبر الشافعي- رضي الله عنه- الحركة هاهنا؟ فمنهم من قال: لأنه وجد منه فعلان: أحدهما: تتعلق به الإباحة. والآخر: يتعلق به الحظر؛ فاعتبرت الحركة؛ للفصل بين أثر الفعلين. وقال أبو إسحاق: الظاهر: أن الحيوان إذا قطع رأسه من قفاه، لا يبقى فيه حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم، فإذا لم يتبين ذلك بوجود الحركة، وجب التحريم بحكم الظاهر، وسيأتي الكلام في بقية ما قيل في تفسير الحياة المستقرة وأمور أخر تتعلق بما نحن فيه، فليطلب من بعد، إن شاء الله تعالى. وقد عد من المستحبات في الذبح أن يساق ما يذبح إلى المذبح سوقاً رفيقاً، ويعرض عليها الماء قبل الذبح خوفاً من عطشها المعين على تلفها، وليكون ذلك أسهل عند سلخها وتقطيعها، ولا يعرض عليها العلف؛ لأنها لا تستمرئه إلى حين الذبح فيكثر به الفرث، وإلا يحد [الشفرة] في وجهها، وإلا يذبح بعضها في وجه [بعض؛] لورود الأثر فيه. قال: وإن علم جارحة أي: من كلب أو فهد أو بازي ونحوها؛ بحيث إذا أغراه على الصيد- أي: أرسله إليه- طلبه، وإذا أشلاه استشلى، أي: إذا استدعاه أتى، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه، أي: فلا يأكل منه، وخلَّى بينه وبينه، أي: من غير أن يهر في وجهه، ثم أرسله من هو من أهل الذكاة، فقتل الصيد بظفره أو نابه، أي: وما في

معناه: كالمخلب، والمنقار، أو تركه، ولم تبق فيه حياة مستقرة، أي: بسبب ما ناله من ظفره أو نابه ونحوهما، أو بقيت فيه حياة مستقرة، أي: بعد جرحه بظفره أو نابه إلا أنه لم يبق من الزمان ما يمكن ذبحه فيه، أي: مع مبادرته إليه حتى مات- حل للكتاب والسنة: فأما الكتاب فقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]. قال ابن عباس: الجوارح: الكلاب المعلمة، والبازي، وكل طائر يعلم للصيد، وهي مشتقة من الجرح، وهو الكسب؛ لكسب أهلها بها، يقال: فلان جارحة أهله، أي: كاسبهم؛ ولأجل ذلك سميت أعضاء الآدمي جوارح؛ لأن بها يكتسب الأعمال. وقال تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] أي: كسبتم، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] أي: اكتسبوها. وقيل: من الجراحة؛ لأنها تجرح في الغالب. وقوله – تعالى-: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] قيل: إنه من التكليب، وهو الإغراء- وهذا قول ابن عباس. وقيل: من التضرية بالاصطياد- كما يقال: تكلب واستكلب؛ إذا ضرى، وتعود ذلك، وعليه يدل قول أبي ثعلبة: "يا رسول الله، إن لي كلاباً متكلبة، فأفتني في صيدها، فقال: "إذا [كان لك كلاب] مكلبة، فكل مما أمسكن عليك". وقيل: من التحامل والشدة؛ لأن الكلب: الشدة؛ قال الشاعر [من الطويل]: فما غليان القدر في كلب الشتا كمن لم يكن في الصيف يغلو دماغه وقال ابن عمر ومجاهد وغيرهما: تقدير الآية: كلبتم من الكلاب؛ فلا يجوز الاصطياد إلا بالكلب، وحديث عدي بن حاتم حجة عليهم؛ فإن الترمذي روى عنه

قال: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيد البازي، فقال: "ما أمسك عليك فكل". و- أيضاً-: فاسم الكلب يقع على غيره من السباع؛ روي "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا على عتبة بن أبي لهب، فقال: "اللهم سلط عليه كلباً من كلابك"، فخرج في سفرة إلى الشام، فلما نزلوا بالوادي، سمعوا زئير الأسد؛ ففزع عتبة، وقال لهم: احفظوني، فأناخوا الأجمال، وحملوا الأمتعة، ووضعوها حواليه، وناموا حواليه، وهو نائم وسطهم، فجاء الأسد، وكان يشم واحداً واحداً منهم، ثم جاء إليه، واشتم منه عداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذه، وافترسه، ولم يأكل منه شيئاً، وسمع منه يقول: استجيبت [في] دعوة محمد؛ فهذا دليل على أن اسم الكلب يقع على غير الكلب. وأما السنة: فما روى مسلم عن عدي بن حاتم قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركه [و] قد قتل، ولم يأكل منه، فكل، وسيأتي ذكر بقية الحديث عند الحاجة إليه.

ولا فرق في الكلب بين الأسود البهيم وبين غيره. وفي "البحر": أن أبا بكر الفارسي من أصحابنا قال: لا يحل صيد الكلب الأسود البهيم- كمذهب أحمد وغيره- لأمره عليه السلام بقتله، والأول هو المشهور، والخبر محمول على غير المعلم العقور. ثم الحيثية التي ذكرها الشيخ لا يتقيد حصولها بعدد، بل إذا صار شأن الكلب كذلك حلت فريسته بالشرائط المذكورة، والمرجع في ذلك إلى العرف؛ لأنه لا حد له لغة وشرعاً؛ فكان كالحرز والقبض والإحياء، ووراء ذلك وجهان: أحدهما: أنه يكفي تكرار ذلك منه مرتين؛ لأن العادة تثبت بهما. والثاني- عن شرح الموفق بن طاهر-: أنه يعتبر ثلاث مرات، وهو ما ذكره الماوردي في كتاب الحجر عند الكلام في الرشد. ويقرب منه قول البغوي: إذا أفلته ثلاث مرات حل ما قتل في الرابعة. والحياة مستقرة، قال ابن الصباغ: في تمثيلها: أن يكون الحيوان بحيث لو ترك لبقي يوماً أو بعض يوم، وغير المستقرة لو ترك لمات في الحال. وقال غيره: الحياة المستقرة [ألا] ينتهي إلى حركة المذبوح. وقال في "المرشد": تعرف الحياة المستقرة بسببين:

أحدهما: أن يكون حال وصول السكين إلى الحلقوم [تضطرب عيناه] أو يحرك ذنبه؛ لأن الحياة إذا زالت من أسفله، لم يتحرك ذنبه وشخص بصره. وعن بعض الأصحاب: أن خروج الدم دليل استقرار الحياة، وجزم النواوي بأن انفجار الدم [بعد الذبح] وتدفقه مع وجود الحركة الشديد من أمارات بقاء الحياة المستقرة، وأن الحركة الشديدة وحدها كذلك على الأصح. وإذا عرفت ما قيل في طريق معرفة ذلك، عرفت أن الأحوط للصائد مبادرة ذبح الصيد ما توهم فيه بقاء حياة، فإن ظهرت بعده أمارات [استقرارها كان محصلاً لحله، وإن ظهرت أمارات] فقدها كان محصلاً للسنة، فإن الأصحاب قالوا: يستحب للصائد إذا أدرك الصيد وفيه حياة، وقد أخرج الجارح ونحوه حشوته، ذبحه؛ ليسهل خروج روحه، فلو لم يفعل ذلك ومات، فإن ظهر له أمارات [استقرار الحياة فيه حين أدرك ذكاته لم يحل، وإن ظهرت أمارات] فقدها حل. وعكس هذه الصورة في الحكم ما لو أكل السبع بعض فريسة، أو انهدم سقف على شاة، وبقيت فيها حياة، ثم قطع حلقومها ومريئها، فإن ظهرت أمارات استقرار الحياة، حلت؛ لقوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وعن القاضي ابن كج حكاية قول عن رواية الفارسي: إنها لا تحل. وإن ظهرت أمارات فقده، لم تحل. وعن أبي حفص بن الوكيل: أنه أثبت قولاً [واحداً] في هذه الحالة: أنها تحل، والمذهب التحريم. قال في "التهذيب": وهذا بخلاف [الشاة] إذا مرضت، فصارت إلى أدنى الرمق، [فذبحت، تحل؛ لأنه لم يوجد سبب يحال عليه القتل. قال: ولو أكلت الشاة الشب؛ فصارت به إلى أدنى الرمق]. بحيث لا تكون

الحياة فيها مستقرة، فذبحت، ذكر شيخي يعني: القاضي الحسين- فيها وجهين، ثم قطع في كرة أنها لا تحل؛ لأنا وجدنا سبباً نحيل الموت عليه؛ كما لو صارت إلى هذه الحالة بجرح السبع. ولو لم يظهر للصائدح وقد ترك الذكاة حتى مات الصيد- إحدى الحالتين السابقتين، بل وقع الشك في استقرار حياته وفقدها، وكذا فيما إذا كان قد ذبح الشاة من قفاها وأبان الرأس، وفيما إذا قطع منحر ما افترسه السبع ونحوه، فهل تحل؟ فيه وجهان مأخوذان في مسألة الصيد- كما قال الماوردي- من القولين الآتيين فيما إذا جرح الصيد، وغاب عنه، ثم وجده ميتاً، لكن الأصح هنا الحل. وفي مسألة المذبوحة من القفا ونحوها من تقابل الأصلين. والظاهر من قول أبي إسحاق التحريم؛ لأن الأصل الحظر، وهو ما اختاره الإمام. والظاهر من قول ابن أبي هريرة: الحل؛ لأن الأصل بقاء الحياة حتى يعلم فواتها، والله أعلم. والمبادرة التي تقدم ذكرها قد اختلف الأصحاب في ضبطها: فقال ابن أبي هريرة: إنه يعتبر فيها صفة مشي مثله على مألوف سكينته، ولا يعتبر فيه السعي؛ كما لا يعتبر في إدراك الجمعة، وهو ما أورده في "التهذيب"، [والأظهر في الرافعي]. وقال غيره: إنه السعي المعتاد في طلب الصيد؛ لأنه مخالف لسكينة المشي في عرف أهله، وهذا ما أورده في "الوجيز". وقال الإمام: من اكتفي بالمشي، فالوجه أن يتشوف إلى الإسراع في المشي قليلاً، فإن الماشي على هينته خارج عن عادة الطلب، ومن كلفه العدو لم يكلفه المبالغة حتى يقهر أو يناله ضرر. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أموراً: أحدها: التسوية بين جميع الجوارح من الكلاب والنمور وغيرها، والبازي ونحوه- في جميع ما ذكره من شرائط التعليم، وهو ما ذكره صاحب "البحر" وغيره، ونسبه في الطيور إلى النص في "المبسوط" كما سنذكره.

وفي "تعليق القاضي الحسين" و"النهاية": أن شرط الانكفاف عن الأكل معتبر في الجوارح من الكلاب، وفي اعتباره في جوارح الطيور قولان، وهما منسوبان إلى رواية الصيدلاني وغيره: أحدهما: الاشتراط، وهو الأظهر. والثاني: لا؛ فإن الكلب إنما ينكف عن الأكل عن فريسته بالضرب والدق العنيف، وجوارح الطير لا تحتمل ذلك، ولا يتوصل إلى صرفها عن الأكل من غير زجر، بل قيل سبيل تعليمها بالإطماع في الطعام. وفي الرافعي: أن أبا يعقوب الأبيوردي حكى قولاً مثله في جوارح السباع، وأن في كتاب ابن كج نحواً منه. وقد استبعد الإمام وقوع تعليم الفهد والنمر؛ من حيث إنه لا يؤثر فيه الانطباع، ولا ينزجر إذا زجر، ولا يتوقف استشلاؤه على الإشلاء، ولا يترك الأكل، ولا يتأتى صرفه على ذلك؛ فإنه لو صرف لعاد إلى نفوره، نعم: لو [تصور] ذلك منه [على] ندور كان حكمه حكم الكلب فيما ذكرناه، وحيث لا يتصور، فمقصود صاحبه بإرساله على الصيد أن يمسكه، لعله يدرك ذكاته؛ فيحل له إذ ذاك، كما نقول في الكلب الذي ليس بمعلم. وقد جزم في "الوجيز" بأن فريسة الفهد والنمر حرام؛ لأنه لا يتأدب ويترك الأكل. قال الرافعي: ومضمون هذا أن ما يفعله الفهد والنمر حرام؛ لأنه لا يصير معلماً؛ لأن أحد أركان التعليم ترك الأكل، ولكنه لا يتركه، لكن هذا المفهوم خلاف ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- والأصحاب، وأراد بالنص: ما حكاه في"المختصر"؛ فإنه قال: "يجوز بكل معلم من كلب [و] فهد ونمر وغيرها من الوحوش، وكان [بحيث] إذا أشلى استشلى، وإذا أخذ حبس ولم يأكل، فإذا فعل هذا مرة بعد مرة فهو معلم". الأمر الثاني: أنه لا فرق في اشتراط إتيان الجارح عند إشلائه بين أن يكون في

ابتداء إطلاقه، أو في دوامه بعد اجتذابه في جريه وطيرانه؛ لأن به يظهر أثر التعليم كما هو ظاهر النص. وقد فصل الإمام، فقال: أما اشتراط ذلك في الكلب ونحوه في ابتداء الأمر، فلا شك فيه؛ وأما اعتباره بعد الإطلاق وهو في حموة العدو، فصعب، والمتحصل فيه من كلام الأصحاب وجهان، وأما اشتراطه في الطيور بعد الطيران، فلا مطمع فيه، ويبعد – أيضاً- أن يشترط انكفافها في أول الأمر وقد سنح لها الصيد وهي جائعة. الأمر الثالث: اعتبار الإرسال ممن يريد الصيد، حتى لو استرسل الجارح بنفسه، لم يحل ما قتله، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأصحاب؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]؛ فلم يحلل ما أمسكه على نفسه. وقوله- عليه السلام- لعدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك المعلم، فكل ما أمسك عليك"، فشرط في ذلك الإرسال؛ لأن "إذا" من حروف الشرط؛ فدلَّ على أن الإرسال شرط، وهو مأخوذ من قول الشافعي- رضي الله عنه- في "المبسوط": "وتعليم الطائر كله واحد، البازي والصقر والشاهين والعقاب وغيرها، وهي أجمع أن تدعى فتجيب، وتشلى فتطير، وتأخذ فتحبس، فإذا فعلت ذلك مرة بعد مرة فهي معلمة"، فاستعمل لفظ "الإشلاء" في الإغراء، وهو الإرسال، وقد اعترض عليه بأن الإشلاء في اللغة: الدعاء؛ قال الشاعر: [من الرجز]. أشليت ععنزي ومسحت قعبي وأجيب عنه بأجوبة: أحدها: أن العامة تستعمل الإشلاء موضع الإغراء؛ فأجراه على عادتهم. والثاني: أخذ من قول الأزهري: إن أشلى: إذا دعى؛ فإذا دعاه صاحبه إلى صيده، فقد أشلاه. والثالث: أن قول الشافعي في اللغة حجة؛ لأنه عربي الدار من أهل اللسان، فإذا عبر عن الإغراء بالإشلاء، وجب قبوله، وهذا أحد جوابي الشيخ أبي حامد. وقد نقل الماوردي وأبو الطيب: أنه من الأضداد؛ يشمل الأمرين.

ونقل ابن فارس: أن استعماله في الإغراء لغة أخرى، وإن كانت الأولى أفصح، وأنشد فيه [من الطويل]: أتينا أبا عمرو فأشلى كلابه علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل والرابع- وهو الجواب الثاني لأبي حامد-: أنه عبر عنه بما يئول إليه؛ لأنه إذا دعاه إلى الصيد، وأجاب، حصل الإغراء بعد الإجابة؛ فلذلك عبر عن الإغراء بالإشلاء، والله أعلم. نعم: لو استرسل الجارح بنفسه، فزجره صاحبه، فوقف، ثم أغراه على الصيد، فطلبه وقتله- حل. وإن زجره، فلم ينزجر، فأغراه بالصيد، فزاد في العدو، وقتل الصيد، فهل يحل؟ فيه وجهان لهما التفات- كما قال الإمام- على أن الانزجار في ابتداء العدو هل يعتبر في أصل التعليم؟ والأظهر التحريم. ولو لم يزجره، لكنه أغراه؛ فازداد عدواً وحمواً، فوجهان مرتبان على التي قبلها، وأولى بالحل، والذي أورده العراقيون منهما التحريم، وهو في الأولى من طريق الأولى، ووجهه: أن استرساله بنفسه يقتضي التحريم، وإغراء صاحبه يقتضي الإباحة؛ فغلب جانب التحريم. وإذا جمعت بين هذه المسألة والتي قبلها، جاء فيها ثلاثة أوجه. وعلى الأولين منهما فروع: أحدها: لو أرسل شخص جارحته، فأغراها غيره فازدادت عدواً، وأخذت الصيد، فلمن يكون ذلك؟ ينبني على أنه إذا غصب جارحة، واصطاد بها، فلمن يكون الصيد؟ فيه خلاف، والأصح في "التهذيب": أنه للمالك؛ كما لو اصطاد عبده المغصوب شيئاً؛ فإنه له. والأصح في غيره- ولم يورد العراقيون سواه-: أنه للغاصب؛ كما إذا اصطاد بالشبكة المغصوبة؛ وعلى هذا يقع التفريع مع ملاحظة الخلاف السابق في الأصل: فإن قلنا ثم بالتحريم، كان الصيد في حالة إغراء الغاصب وزيادة عدو الجارحة للمالك.

وإن قلنا بالحل ثم، كان هاهنا للغاصب. قال الإمام: ولا يمتنع على هذا خروج وجه في أنهما يشتركان في الملك، ولا فائدة لمثله فيما إذا أرسل مسلم كلبه فأغراه مجوسي، فازداد عدواً- كما سنذكره- فإنا إذا نظرنا إلى الاشتراك حرمنا وهو أحد الوجهين. قلت: وقد قال بهذا البغوي وشيخه؛ كما ستعرفه، وسيظهر له فائدة في التحريم. الثاني: لو أرسل مسلم كلبه، فأغراه مجوسي، فازداد عدوه، فإن قلنا [هناك] بالحل، قلنا بالتحريم هنا، وإن قلنا بالتحريم ثم، قال الإمام والجمهور: حل هاهنا. وفي "تعليق القاضي الحسين" و"التهذيب" الجزم بالتحريم [على الوجهين؛ لأن إغراءه دائر بين أن نقطع الأول أو نوجب الشركة، وعلى التقديرين يلزم التحريم،] وقد أبدى القاضي أبو الطيب التحريم احتمالاً لنفسه مع جزمه بالتحريم ثم؛ لما في ذلك من الإعانة، فإن قلنا بالتحريم؛ بناء على أنه يحل ثم، فلا يجب على المجوسي قيمته، اللهم إلا أن نقول: إن ما يصطاده بالكلب المغصوب يكون لمالكه؛ فيظهر أن يقال بوجوب الغرم. وإن قلنا: إنما حصل التحريم؛ لأجل المشاركة- كما أشار إليه البغوي وغيره، وهو [ما أشار إليه] الإمام وجهاً- ينبغي أن يجب على المجوسي نصف قيمته؛ نظراً للمشاركة؛ وتفريعاً على الأصح في أن صيد الكلب المغصوب للغاصب. ولو كان الكلب قد استرسل بنفسه، فأغراه مجوسي؛ فازداد عدواً، فقتل الصيد، فلا شك في التحريم [لكن] هل يجب على المجوسي قيمته؟ يشبه أن يقال: إن قلنا: إن الصيد بالكلب المغصوب للمالك، فعليه القيمة جزماً؛ إن قلنا: إن [للإغراء أثراً]، وإلا فلا. ويؤيد ذلك أن الماوردي حكى فيما لو استرسل الجارح بنفسه، فأغراه محرم، وازداد عدوه، وقتل الصيد- الجزم بالتحريم، وفي وجوب الغرم وجهان. الثالث: لو كان المرسل مجوسياً، فأغراه مسلم، وازداد عدوه، فقضية ما تقدم

من طريقة الإمام: أن ينعكس [الحكم في] البناء، فيقال: [إن قلنا ثم بالحل، فهاهنا كذلك، وإن قلنا بالتحريم ثم، حرم هنا أيضاً. وعلى طريقة البغوي وشيخه قد يقال:] إنه ينبغي أن نقطع بالتحريم، وهو ما أورده الروياني، لكنهما خرجا الحل على الوجهين؛ نظراً إلى أن الاعتبار بآخر الأمرين أو بالمشاركة، ونحن إذا نظرنا إلى ذلك في الفرع قبله، لم نتحصل على غير التحريم. الأمر الرابع: أنه لا فرق في الحل بين إرسال البصير والأعمى، والبالغ والصبي، والعاقل والمجنون، والصاحي والسكران؛ لأن الأعمى من أهل الذكاة بلا خلاف، وكذلك الصبي والمجنون والسكران [عند العراقيين]. [وقد حكى] في "العدة" في حل صيده بالكلب وجهين: أحدهما: الحل؛ كما اقتضاه كلام الشيخ. والثاني: التحريم، وينسب إلى أبي إسحاق؛ لأن القصد للصيد لابد منه، ولا يتأتى ارتباط قصده الصيد قبل الإدراك، وبهذا فارق الذكاة؛ وهذا ما أورده ابن الصباغ. وحكى في "البحر" في موضع منه عن صاحب الإفصاح القطع به؛ فتحصلنا به على طريقين. إحداهما: حاكية لوجهين فيه. والثانية: القطع بالمنع. وأما حل صيده بالسهم، ففيه- أيضاً- طريقان حكاهما في "البحر". إحداهما: القطع بالحل، وهي ما نقلها في موضع عن صاحب "الإفصاح". والثانية: حكاية الوجهين فيه عن رواية القاضي الطبري وغيره في موضع آخر. والمذكور في "النهاية" عن بعض التصانيف حكاية وجهين في إرسال الكلب والسهم. لكن ما محل الخلاف المذكور في الكتب التي نقلنا عنها؟ ما ذكرناه إطلاقه.

وقال الرافعي: الأشبه تخصيصه بما إذا دله بصير على أن يجد أنه صيد، فرمى أو أرسل الكلب إليه بدلالته، وبه صور صاحب "التهذيب" وشيخه في موضع من تعليقه في مسألة الرمي، ووجها الحل: بأنه فعل ما فعل بدلالة البصير؛ فأشبه ما لو دله على القبلة؛ وهذا ما أجاب به الموفق بن طاهر في شرح مختصر الجويني، والصورة كما ذكرنا. قال البغوي: والمذهب المنع، وهو ما صححه شيخه وكان قد قطع به في الكرة الأولى، وفرق بأن التوجيه إلى القبلة يسقط بالأعذار، وعند الاشتباه، يجوز له الاجتهاد، وتصح صلاته وإن لم يتيقن القبلة بخلاف الرمي. أما إذا فعل ذلك بدون دلالة بصير. قلت: فالذي يظهر الجزم بالمنع، ويؤيده اتفاق الأصحاب فيما إذا رمى صيداً أو أرسل عليه كلباً، فغاب عنه قبل أن يجرحه السهم أو الكلب، ثم وجده ميتاً- على عدم الحل؛ كما ستعرفه. لكن في "البحر": أن البصير لو كان يحس بالصيد في ظلمة أو من وراء شجرة أو غيره، فرماه: أنه يحل بالإجماع؛ لأنه وقع له نوع علم به؛ فصحت نيته، وعزى ذلك إلى القفال؛ وهذا قد يقدح فيما ذكرناه؛ لأن إحساس الأعمى كإحساس البصير في الليل؛ فينبغي أن يكون محل الخلاف إذا أحس بالصيد: إما بدلالة بصير، أو بدونها وأخبر بإصابة سهمه أو كلبه للصيد وجرحه؛ كما سنذكره. [وقد أفهم كلام القاضي الحسين في موضع آخر: أن من الأصحاب من أجرى الخلاف وإن كان بدون دلالة بصير؛ فإنه قال: ومن الأصحاب من لم يفصل بين أن يرمي الأعمى أو يرسل كلباً في أنه يحل، ومنهم من يفرق بين رميه وإرساله بأن رميه حصل بفعله فيحل، ولا معنى لإرساله الكلب؛ لأنه لا يدري آرسله على صيد أو غيره؟ ومنهم من قال: إن أرسل بحضرة من يدله على الصيد، حل. وقال الإمام في كتاب الأضحية: إن محل الخلاف عندنا فيما إذا استشعر وكراً من الصيد، وأدركه بحس نفسه، وبنى الإرسال عليه]. وأما الصبي والمجنون، فقد أجرى الخلاف في اصطياده بالرمي والجارح.

ومنهم من خصهما بالجارح، وقطع بالحل في رمي السهم؛ تنزيلاً له منزلة الذبح بالسكين. وقد اقتصر ابن الصباغ على حكايتهما في صيد المجنون، ونسب عدم الحل إلى أبي إسحاق. وإذا عرفت حكم المجنون، عرفت حكم السكران؛ لأن الشيخ سوى بينهما في الذكاة، والله أعلم. قال: وإن أرسله مجوسي، أو شارك المسلم في الإرسال، أو شارك الجارح جارحة أرسلها مجوسي في قتل الصيد- لم يحل؛ لأن المرسل كالذابح، والجارح كالسكين، وذكاة المجوسي التي انفرد بها أو شارك فيها- لا تحل؛ نظراً لتغليب التحريم على التحليل؛ كما في المتولد بين مأكول وغيره، وعن هذا احترز الشيخ بقوله: "من هو من أهل الذكاة". ويجيء فيه الوجه المذكور في حل ذبيحته. والحكم فيما لو شاركه من تحل ذكاته بجارحة غير معلمة أو بجارحة لا يعلم حالها [كذلك]؛ لقوله- عليه السلام- لعدي بن حاتم: "فكل ما أمسكن عليك"، قال: وإن قتلن؟ قال: "وإن قتلن؛ ما لم يشركها كلب ليس منها". وفي مسلم عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن وجدت مع كلبك كلباً غيره وقد قتل، فلا تأكل؛ لأنك لا تدري أيهما قتله". ولا فرق في ذلك بين أن تكون الجارحة المشاركة لجارحة المرسل من نوعها أو من غيره، كما إذا أرسل أحدهما كلباً والآخر فهداً أو بازاً؛ وكذا لو أرسل أحدهما جارحته والآخر سهماً، أما لو لم يقتل الصيد عند إرسال كل من المسلم والمجوسي جارحته إلا إحدى الجارحتين، نظر: فإن كان القاتل جارحة المجوسي، حرم، وإن كان جارحة المسلم نظر: فإن كانت الجارحتان قد أمسكتا الصيد أولاً، لم يحل أيضاً؛ لحدوث القتل عن الإمساك المشترك، وإن لم تمسكه جارحة المجوسي حل؛ قاله الماوردي وهذا بخلاف ما لو رده كلب المجوسي على كلب المسلم، فقتله

كلب المسلم، [حَلَّ] كما لو رده المجوسي بسهم أصابه سهم المسلم. ولو كان كلب المسلم قد صير الصيد إلى حركة المذبوح، لم يؤثر فيه جرح كلب المجوسي بعد ذلك؛ نعم: لو كان كلب المسلم قد فارقه، ثم أدركه كلب المجوسي وفيه حياة مستقرة، فعقره ومات من الجراحتين حرم، ووجب على المجوسي قيمته؛ كما لو ذبح شاة غيره. قلت: وينبغي أن يفصل فيقال: إن كان المسلم لم يتهاون في ذكته حتى أدركه كلب المجوسي، فالأمر كذلك، وإن كان قد تهاون فيه، فينبغي أن يكون فيه ما سنذكره فيما إذا رمى سهماً، ثم رمى آخر بعده إليه، ومات منهما. ولو كان كلب المجوسي قد جرحه أولاً في غير المقتل، ثم أصاب كلب المسلم المقتل- حلَّ إن لم يزل امتناعه بجرح كلب المجوسي، فإن زال امتناعه حرم؛ لأنه لا يحل إلا بقطع الحلقوم والمريء؛ قاله في "البحر". وحكم الكلب غير المعلم [و] المجهول حاله [و] المعلم إذا استرسل بنفسه فيما ذكرناه- حكم كلب المجوسي ولو اصطاد المسلم بكلب المجوسي، حل، ولا يحل ما اصطاده المجوسي بكلب مسلم؛ لأن الاعتبار بالصائد. فرع: لو أرسل المجوسي سهمه على الصيد، ثم أسلم، ووقع السهم في الصيد، فقتله- لم يحل، وكذا لو أرسل المسلم سهمه، ثم ارتد، ثم وقع [سهمه،] فقتل- لم يحل؛ نظراً إلى أغلظ الحالين- ولو كان مسلماً في حال الرمي والإصابة، وتخللت الردة بينهما- لم يحل أيضاً؛ قاله القاضي الحسين. قال: وإن قتل الجارح الصيد بثقله، ففيه قولان: وجه التحريم قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، فجعل الجارح نعتاً؛ فصار في الإباحة شرطاً. وقوله- عليه السلام-: "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل" فدل على

أن ما لم ينهر الدم لا يحل؛ وهذا ما اختاره المزني وصاحب "المرشد". ووجه الإباحة: قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، ولم يفرق بين قتله بظفره أو نابه أو ثقله، ولأنه يعسر تعليم [الجارح] ألا يقتل إلا جرحاً؛ وهذا ما رجحه الإمام، والموفق بن طاهر، والروياني، والنواوي، ولم يحك البندنيجي سواه، وطرد ذلك فيما إذا عضه فلم يجرحه، أو ضمه فمات. وقد حكى مجلي عن بعضهم أنه خرج على القولين لو مات فزعاً من الجارح من غير جراحة، وقال: إنه يحتمل أن يكون بمثابة ما لو مات تعباً؛ فإنه لا يحل قولاً واحداً، وكأن الفرق: أن الفزع حصل من الجارح؛ فنسب القتل إليه، وليس كذلك التعب؛ فإنه حصل من جري الصيد؛ فأشبه التردية. قال: وإن رمى سهماً أو غيره، فقتل الصيد بثقله، لم يحل، أي: سواء أدماه أو لم يدمه؛ لقوله تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3]. وروى البخاري ومسلم وغيرهما عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المعراض فقال: إذا أصاب بحده فكل، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل؛ فإنه وقيذ". وقوله: وقيذ: [هو] فعيل بمعنى: مفعول، والموقوذة: المقتولة بعصا أو حجر أو بما لا حد له. وقال الجوهري: شاة موقوذة؛ [إذا] قتلت بالخشب. والمعراض: بكسر الميم وسكون العين المهملة وبعد الألف ضاد معجمة، قال الخطابي: نصل عريض، وفيه رزانة ونصل. وقال الجوهري: سهم بلا ريش ولا نصل، [ويصيب] بعرض عوده دون حده. وقيل: خشبة محددة الطرف. وقيل: في طرفها حديدة ترمي بها.

وقيل: هو عود رقيق الطرفين، غليظ الوسط، إذا [رمى] به ذهب مستومياً. ومن هذا القبيل القتل بالبندق لا يحل [المقتول]؛ قال الماوردي: لأنه يقتل الصيد بقوة راميه، وليس يقتله بحده، ولا فرق في ذلك بين أن يخرج جوفه أو لا. وقد روى عنه- عليه السلام- أنه نهي عن الجلاهق، ولا يحل الرمي به [لأنه يعرض] الحيوان للهلاك؛ صرح به في الذخائر، نعم: لو رمى به، فأدرك الحيوان وفيه حياة مستقرة، فذبحه- حل؛ لقوله تعالى بعد ذكر المحرمات: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]. وقد أفهم كلام الشيخ: أنه إذا رمى سهماً [أو غيره] فقتل الصيد بحده، حل؛ كما تقدم التصريح به في الخبر، وما سنذكره من بعد، ولم يخالف في ذلك أحد من الأصحاب، وفرع الشافعي على ذلك فقال: "لو ضرب الصيد فقطعه قطعتين، أكلتا وإن كانت إحداهما أقل من الأخرى، وإن قطع منه يداً أو رجلاً أو أذناً أو شيئاً، يمكن لو لم يزد على ذلك أن يبقى بعد ساعة أو مدة أكثر منها؛ ثم قتله بعد رميته- أكل ما كان [باقياً فيه] من أعضائه، وله أن يأكل العضو الذي فات منه وفيه الحياة، وقال: [إن] هذا فيما إذا لم يتمكن من ذبح الحيوان، ومات بسبب الرمي الأول؛ فيحل المبان منه والمتصل به. وحكى ابن أبي هريرة وجهاً آخر عن بعض أصحابنا: أن البائن منه لا يؤكل وإن كان الأصل مأكولاً؛ لأنه بان منه مع بقاء الحياة، وتأول كلام الإمام الشافعي: أنه يؤكل- على أن القطع كان موحياً، لا تثبت به حياة. قال الماوردي: ولا وجه لهذا الوجه. أما إذا مات الصيد بغير هذا الرمي: إما بالذبح إن قدر عليه، وإما برميه ثانية إن كان غير مقدور عليه- فلا يؤكل ما بان منه بالقطع الأول جزماً؛ لأنه لما لم يكن ذكاة له لم يكن ذكاة لما بان منه.

قال: وإن أكل الجارحة، أي: المعلمة من كلب أو بازي من الصيد، أي: عقيب قتله، ففيه، أي: في ذلك الصيد قولان: وجه الحل قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] والباقي بعد أكله قد أمسكه علينا؛ فحل لظاهر الآية. وروى أبو داود عن أبي ثعلبة [الخشني] قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صيد الكلب: "إذا أرسلت كلبك، وذكرت اسم الله، فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يداك". قال الشافعي- رضي الله عنه- في "المبسوط": والقياس يدل عليه؛ لأن الكلب إذا عقر الصيد، [وقتله] فقد حصلت الذكاة، فأكله منه بعد حصول ذكاته لا يمنع من أكله؛ كما إذا ذكى المسلم صيداً، ثم أكل منه الكلب. وهذا ما نص عليه في القديم، وأومأ إليه في [الجديد] بالقياس المذكور. ووجه التحريم ما روي عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إنا نصيد بهذه الكلاب؟ فقال: "إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله عليها، فكل مما أمسكن عليك وإن قتل إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" أخرجه البخاري ومسلم. ولأن من جملة شرائط التعليم عدم الأكل، فإذا أكل فإما أن يتبين أنه لم يكن معلماً، أو يبين أنه كان معلماً، ولكنه نسي التعليم، وأيهما كان فإنه يحرم أكله، وهذا ما نص عليه في "المختصر" وبه قال أكثر أهل العلم، وهو الأصح في "التهذيب" و"البحر" و"الرافعي" وغيره. والجواب عن الآية السالفة: أن الحديث دل على أنه إذا أكل، فقد أمسك لنفسه. وعن الحديث: أن في رجاله داود بن عمرو الأودي عامل "واسط"، وقد تكلم فيه. ثم على تقدير كون روايته لا بأس بها-[كما] قال أبو زرعة وابن عدي-

فيحمل قوله: "وإن أكل منه" [على ما إذا أكل منه] بعدما قتله، وانصرف عنه؛ كما قال ابن الصباغ، أو على ما إذا أطعمه مرسله منه؛ كما قاله أبو الطيب. وعلى تقدير إجرائه على ظاهره، فالأخذ بحديث عدي أولى؛ لأنه أحوط، وناقل عن الأصل؛ فإن الأصل في الأشياء الإباحة. وقد قيل: إن كان الجارحة بازاً ونحوه، حل قولاً واحداً؛ قاله المزني كأبي حنيفة، وفرق بأن البازي يعلم الصيد بالأكل منه، فأكله لا يخرجه عن أن يكون معلماً، بخلاف الكلب، لأنه يعلم الصيد بالضرب على ترك الأكل، فإذا أكل منه، علم أنه غير معلم؛ فحرم صيده. قال القاضي أبو الطيب وغيره: وهذا فاسد؛ للخبر، وأما ما ذكره من الفرق، فقد قال الأصحاب: لو كان كذلك لوجب إذا اصطاد ولم يأكل منه ألا يحل أكله؛ كما أن الكلب لما كان معلماً بترك الأكل إذا اصطاد وأكل حرم أكله، وقد أجمعنا على أن البازي يحل صيده إذا لم يأكل منه؛ فدلَّ على أنه لا يعلم بالأكل. قال الشافعي- رضي الله عنه-: ولأنهما في الابتداء استويا، فلا يؤكل صيد البازي حتى يأخذ فيحفظ فكذلك في الدوام. وقيل: إن قلنا: إن الكلب إذا أكل لا تحرم فريسته، [فالبازي أولى] وإلا فوجهان، وهذه طريقة أبي علي في "الإفصاح"، وهي مخالفة للنص في التسوية ورد الفرق. وقيل: إن قلنا: إن البازي لا يضر الأكل في تعليمه، فالأكل بعد التعليم لا يحرم بحال، وإن قلنا: يضر الأكل في البازي في الابتداء، ففيه قولان كما في الكلب؛ وهذه طريقة القفال. ولا خلاف عند الماوردي والقاضي الحسين والعراقيين في أنه إذا شرب من دم الصيد، لا يحرم، ولا يكره، وأشار الإمام إلى وجه في التحريم بقوله: لا يحرم على الأصح. ولو شق جوفه، وأخرج حشوته، وأكلها، [ففيه طريقان]:

منهم من جزم بالحل؛ كالدم. ومنهم من خرجه على القولين. أما إذا انصرف الجارح بعد القتل، ثم عاد وأكل منه، فقد أفهم كلام الإمام: أن الخلاف فيه حيث قال: وكنت أود لو فصل فاصل بين أن ينكف الكلب زماناً ثم يأكل، وبين أن يأكل لما أخذ؛ فإن الزمان إذا تمادى فيندر أن ينكف الكلب عن الأكل، ولكن لم يتعرض لهذا أحد من الأصحاب. وما أورده هو ما أورده الماوردي والجرجاني [والعمراني] في زوائده، وإليه يرشد ما حكيناه عن ابن الصباغ في حمل حديث أبي ثعلبة. ولو أكل من لحم الصيد قبل قتله، قال الرافعي: فهو كما لو أكل عقيب قتله، ففيه القولان. التفريع: إن قلنا بالجديد، فلا تحرم فرائسه الماضية. قال العراقيون والماوردي والقاضي الحسين: لا يختلف قوله في ذلك. قال مجلي حكاية عن الأصحاب: ولا يخرج بأكله مرة عن أن يكون معلماً؛ لجواز أن يكون إنما أكل؛ لفرط الجوع؛ فتحل فريسته من بعد، وعليه يدل ما سنذكره من كلام الإمام، نعم: لو تكرر ذلك منه، خرج عن أن يكون معلماً؛ إذا كان أكله بعد الإرسال؛ بخلاف ما إذا استرسل بنفسه، [واصطاد وأكل وتكرر ذلك منه؛ فإنه لا يخرجه عن التعليم. قال الإمام عند الكلام فيما إذا استرسل الكلب بنفسه:] لأنه إنما يراعى انكفافه إذا كان استرساله على حكم الاصطياد لصاحبه. وفيما وقفت عليه من نسخ الرافعي: أنا إذا حرمنا الفريسة التي أكل منها، فلابد من استئناف التعليم، وسيأتي في كلامه ما يفهمه- أيضاً- وهو الذي يقتضيه كلام أبي الطيب وغيره. وإن قلنا بالقديم: فلو اصطاد [به] ثانياً، فأكل [منه] مرة أخرى، فقد سكت العراقيون عنه، وفيما وقفت عليه من "الحاوي" ما يدل على أنه لا فرق بينهما. وقال القاضي الحسين: إنه يحرم قولاً واحداً، وهل يستبين بهذا أن ما قتله أولاً

وأكل منه قبل هذا يكون حراماً أم لا؟ يحتمل وجهين. وعلى ذلك جرى في "التهذيب"؛ وهذا صريح في أن أكله مرتين يخرجه عن التعليم، وكلام الإمام يقتضي خلاف ذلك؛ فإنه قال: لو أكل من الثانية أيضاً، ثم من الثالثة، واعتاد الأكل- خرج عن كونه معلماً، ثم تحرم الفريسة الأخيرة التي وقع القضاء عند الأكل منها بالخروج عن التعليم، وهل ينعطف التحريم إلى أول فريسة أكل منها [إلى الأخيرة؟] اختلف أصحابنا فيه، وهذا الاختلاف فقه حسن، بخلاف ما إذا انكف الجارح عن الأكل في ابتداء الأمر إلى حيث حكم بكونه معلماً؛ فإنه لا ينعطف الحل إلى أول فريسة حصل الانكفاف عن أكلها بلا خلاف، والفرق تغليب التحريم، وهو فرق في الصورة، جمع في الحقيقة. فرع: لو لم يسترسل عند الإرسال، أو لم ينزجر عند الزجر، قال الرافعي: فينبغي أن يكون في تحريم الصيد وخروجه عن كونه معلماً الخلاف المذكور في الأكل؛ لأن كل واحد من الخصال المذكورة ركن في التعليم. وعن القفال: أنه إذا أراد الصائد أخذ الصيد منه، فامتنع، وصار يقاتل دونه، فهو كما لو أكل [منه]؛ قاله في "البحر". قلت: بل ينبغي أن يكون هذا الحكم فيما إذا أراد أخذ الصيد منه، فهر في وجهه؛ لأن من شرائط التعليم في الابتداء أيضاً ألا يهر في وجه صاحبه. قال: وإن كان الجارحة كلباً، غسل موضع الظفر والناب من الصيد، أي: سبع مرات إحداهن بالتراب؛ لأن نجاسة الكلب أصابته، فهو كالإناء، وهذا ما اختاره في "المرشد". وقيل: يكفيه على هذا الغسل مرة واحدة. وقيل: يعفي عنه؛ لأن الله تعالى أباح أكله بقوله: {فَكُلُوا} [المائدة: 4]، ولم يشترط الغسل، ولأنه يشق الاحتراز منه؛ فصار كدم البراغيث، [والدم] الذي يكون في العروق؛ وهذا أخذ من قول الشافعي- رضي الله عنه-: "الموضع الذي أكل الكلب منه نجس"، ولم يأمر بغسله.

قال في "البحر": وهذا غلط؛ لأنه حكم بنجاسته؛ فدل على وجوب غسله. وقال البغوي تبعاً لشيخه: والأصح الأول؛ لأن الله- تعالى- وإن لم يبين، فهو مؤول إلى بيان السنة. والخلاف المذكور حكاه القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين وجهين، والصيدلاني قولين منصوصين، وهما متوافقان على أن الموضع نجس، وقد صرح به في "المهذب" و"التهذيب". وقال البندنيجي: إنه ينجس قولاً واحداً، وفي "الإبانة": أنه هل ينجس بذلك أم لا؟ فيه قولان؛ والأقيس: أنه ينجس، وقد حكاهما في "البحر" عن المراوزة. وقيل: لا يطهر بالغسل موضع فمه [بل يقطع]؛ لأن لعابه قد دخل في أجزائه [وغسله يزيد في نجاسته؛] فلا يطهر بالماء. قال الإمام: وقائل هذا يطرده في كل لحم، وما في معناه يعض عليه الكلب، بخلاف الموضع الذي يناله لعابه من غير عض. وحكى عن القفال: أن ناب الكلب إذا أصاب عرقاً نضاحاً بالدم، سرى حكم النجاسة إلى جميع الصيد، ولا يحل أكله. قال الإمام: [وهذا لا اعتداد] به، وهو غلط من الحاكي؛ لأن النجاسة وإن اتصلت بالدم، فالعروق وعاء حاجز بينه وبين اللحم، ثم الدم إذا كان يفور، امتنع غوص النجاسة فيه؛ كالماء المتصعد من فوارة، إذا وقعت نجاسة على أعلاه لم ينجس ما تحته، وعلى عكسه الماء المنحدر من الإبريق إذا لاقى نجاسة، لا ينجس ماء الإبريق؛ وبهذا أجاب ابن الصباغ. قال: وإن رمى طيراً، فأصابه السهم، أي: في غير المذبح، فوقع في ماء، أو على جبل فتردى منه- أي: سقط منه- فمات، لم يحل. أما في الأولى؛ فلما روى مسلم والبخاري وغيرهما عن عدي بن حاتم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في تتمة حديث: "وإن رميت بسهمك، فاذكر اسم الله؛ فإن غاب عنك يوماً، فلم تجد

فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل"، والمعنى فيه: أنه يحتمل أن يكون قد مات من الرمية أو من الغرق، والأصل في الميتات التحريم؛ ولأجل هذه العلة، حرم في الصورة الثانية؛ لأنه يحتمل موته من الرمية؛ فيحل، أو من التردية؛ فيحرم، أو منهما، فيحرم أيضاً؛ تغليباً للتحريم. وهذا مما لم يختلف فيه قول الشافعي-[رضي الله عنه وللإمام] احتمال فيما إذا رماه في الجبل فتحدر من حجر إلى حجر في الحال، والمنقول الأول، ويخالف هذا ما إذا وقع على جبل أو شجرة أو حائط ونحو ذلك ولم يترد منه، أو على أرض حيث قلنا بالحل بلا خلاف، وإن احتمل أن يموت من الصدمة، لأن ذلك لابد منه؛ فعفي عنه؛ كما عفي عن الذبح في [غير] المذبح عند التعذر، فإنا لو لم نقل بحله، لأدى إلى ألا يجوز الاصطياد، بخلاف التردية والوقوع في الماء، فإن ذلك [نادر]، فألحق بما لو وقع في نار؛ فإنه يحرم؛ لندور ذلك. ويخالف- أيضاً- ما لو رمى، فحملت الريح السهم؛ لقصور الرمية وأصاب؛ فإنه يحل؛ لأن الظاهر: أن الإصابة كانت بإرساله، والجو لا ينفك من الريح؛ فيعسر الاحتراز منها، وليس لها فعل [حتى يكون منسوباً] إليها، [وللإمام فيها احتمال]، نعم: لو أصاب السهم الأرض أو حجراً، فازدلف، فأصاب صيداً، ففي الحل وجهان مخرجان- كما قال في "المهذب" وغيره- من الخلاف في نظير المسألة من المسابقة. والمختار في "المرشد": الحل أيضاً، وهو ما ادعى الشيخ أبو حامد: أنه المذهب فإن ما يتولد من فعل الرامي منسوب إليه؛ ولم يورد البغوي سواه، وقد ألحق بوقوعه على الجبل والتردية منه ما لو وقع على سكين أو شيء محدود من قصب

أو حجر أو على الأرض، ثم وثب منها وثبة طويلة بحيث مر في الهواء، ثم سقط على الأرض-[فإنه لا] يحل؛ كما قال القاضي [الحسين]؛ بخلاف ما لو وثب وثبة خفيفة فإنه يحل. وألحق البغوي بالوقوع على الأرض ما [إذا وقع في بئر لا ماء فيها، أي: ولم تصدمه جدرانها؛ لأن قعر البئر أرضه. أما] إذا أصابه السهم في المذبح، فذبحه، أو طير رأسه، فيحل، سواء وقع في الماء أو تردى بعد ذلك أو لا، وكذا [لو قطعه] اثنين، أو وقع في مقتل؛ لانتفاء المعنى المذكور، وقد ادعى الماوردي فيه الاتفاق. ولو لم يجرح السهم الطائر، فلا خلاف في تحريمه وإن وقع على الأرض. وقال الإمام: الذي أرى إلحاقه-[أيضاً]- بذلك ما لو جرحه جرحاً خفيفاً؛ فإنه يحرم إحالة للموت على الصدمة. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي تحريم ما وقع في الماء، سواء كان الماء حالة الرمي أرضه أولاً. وفي "المهذب": أنه لو كان حين أصابه السهم في هواء الماء، فوقع فيه، حل؛ إذا كان الرامي في مركب في الماء، وهو ما أبداه الإمام احتمالاً. قال البغوي: [وإن كان] في البر، [لم يحل]. وقال فيما إذا رمى إلى طير الماء، وهو على وجه الماء، حل، وإن كان خارج الماء فطار في الماء فأصابه السهم، لم يحل. وأطلق في "الحاوي" حكاية وجهين في حل طير الماء إذا وقع في الماء. وقال الرافعي: إنهما منقولان عنه فيما إذا كان خارج الماء، ووقع في الماء بعدما أصابه السهم. والذي رأيته فيه ما ذكرته، ويمكن حملهما على الصورة التي قال البغوي فيها بالحل؛ لأن الماوردي وجه الحل بأنه لا يفارق الماء غالباً، فوقوعه في الماء كوقوع

غيره على الأرض؛ وحينئذ فيكون ما اقتضاه كلام الشيخ أحد الوجهين. تنبيه آخر: الطائر مفرد، وجمعه طير؛ كصاحب وصحب، وجمع الطير: طيور، وأطيار؛ كفرخ وأفراخ؛ هذا قول جمهور أهل اللغة. وعن أبي عبيدة وقطرب: أن الطير يقع على المفرد أيضاً. فرعان: [أحدهما]: لو رمى طائراً واقفاً على شجرة ونحوها، فبقي ساعة يتحرك ويضطرب، ثم سقط على الأرض ومات، لم يحل، وإن سقط على الأرض لما أصابه السهم في الحال، حل؛ قاله القاضي الحسين. الثاني: إذا رمى طائراً، فخر إلى الأرض، فاستقبله رجل بسيفه، فقطعه باثنتين، قال في "الحاوي": حرم أكله إلا أن يكون الجرح قد وحاه في الهواء، فلا يحرم؛ لأن قطعه بالسيف قبل التوحية ليس بذكاة؛ فصار متلفاً له؛ فحرم به، وضمنه لمالكه. قلت: ولم يخرج على الخلاف في إيجاب القصاص؛ لأن باب الذكاة مخالف لباب القصاص؛ ألا ترى أنه لو قتله بمثقل، وجب القصاص، ولو قتل الصيد به لم يحل. قال: وإن أصاب صيداً فجرحه، أي: بسهمه، أو جارحته جرحاً لم يقتله، أي: ويجوز أن يقتله، ثم غاب عنه، فوجده ميتاً، وليس فيه إلا أثره، حل في أحد القولين؛ لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]. وما روى أبو داود عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رميت الصيد فأدركته [بعد ثلاث ليال وسهمك فيه، فكل ما لم ينت". وأخرجه مسلم. قال في "البحر": وقوله: "ما لم ينتن" يحتمل]: أن يكون خشية من أن تكون هامة نهشته؛ فتغير اللحم؛ لما دب فيه من سمها؛ فأسرع إليه الفساد.

ويحتمل أن يكون أمره بذلك على وجه الاستحباب، وإلا فأكل ما تغير ريحه حلال، كما سيأتي بيانه. وروى أبو داود- أيضاً- عن عدي بن حاتم: أنه قال: "إذا رميت سهماً، وذكرت اسم الله، فوجدته من الغد، ولم تجده في ماء، ولا فيه أثر غير سهمك فكل"، وقد أخرجه عنه مسلم- أيضاً- بمعناه. وهذا ما صححه البغوي وقال في "الروضة": إن الغزالي في الإحياء صححه- أيضاً- وهو الأصح دليلاً، وهو مأخوذ من قول الشافعي- رضي الله عنه- في "الأم" كما قال أبو الطيب: "القياس ألا يأكله؛ لأنه يمكن أن يكون قتله غير ما أرسل عليه إلا أن يكون قد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيء أو توهمه؛ فلا يثبت مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأي ولا قياس؛ لأن الله تعالى [قطع] العذر بقوله، وقد ورد عنه ما ذكرناه؛ فحل. قال: ولا يحل في الآخر؛ لما روى زياد بن أبي مريم قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني رميت صيداً، ثم تغيب عني، فوجدته ميتاً، فقال- عليه السلام-: "هوام الأرض كثير"، ولم يأمره بأكله. وروي أن رجلاً سأل ابن عباس، فقال: إني أرمي فأصمي وأنمي فقال: "كل ما أصميت، ودع ما أنميت". قال القاضي الحسين: وقد روي هذا مرفوعاً من طريق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي

التي صدر الإمام [بها] كلامه. والإصماء: ما عاين قتله مشتق من الصميان، وهو السرعة. والإنماء: ما غاب عنه مقتله، يقال: نمت الرمية؛ إذا غابت؛ ولأن القياس يقتضيه؛ كما قال الشافعي- رضي الله عنه- لأنه إذا احتمل الحل [والتحريم] غلب التحريم، ولأنه قد ورد ما يقتضي الحل، وما يقتضي الحظر، فغلب حكم الحظر؛ وهذا ما نص عليه في "المختصر"، وهو الأظهر عند الماوردي والنواوي، وهذه الطريقة قال بها ابن سريج- كما قال البندنيجي- ونسبها الماوردي إليه، وإلى أكثر البغداديين، ولم يورد القاضي الحسين والإمام غيرها، ووراءها طريقان: إحداهما: القطع بالقول الثاني، وبها قال أكثر البصريين، وقالوا: ما ورد من الخبر غير صحيح، ولا هو ثابت، وهي التي نسبها القاضي أبو الطيب إلى أكثر الأصحاب. وقد يحملون ما ورد من الحديث على ما إذا كان الجرح موحياً؛ كما سنذكره. والثانية: القطع بالقول الأول؛ حكاها البندنيجي والمصنف، ونسبها القاضي أبو الطيب إلى ابن سريج وأبي الطيب بن سلمة، وكلامه يميل إلى ترجيحها، ولمن انتصر لها أن يقول: حديث زياد ليس مشهوراً، بل قال النواوي: إنه لم يثبت في التحريم شيء، وإن ثبت، فالحجة فيه بالمفهوم؛ فلا يعارض ما دل بمنطوقه، وهو في الصحيح. وأثر ابن عباس محمول على ما إذا غاب عنه، ولم يشاهد [فيه أثر] الإصابة، فإنه لا يحل عندنا كما سنذكره، ومسألتنا مفروضة فيما إذا شاهد العقر والإصابة، ثم غاب عنه، واحتمال كونه مات بسبب آخر، الظاهر خلافه، والأحكام تناط بالظاهر؛ ألا ترى أنه لو جرح شخص إنساناً، ثم مات؛ فإنه يجب عليه ضمانه وإن احتمل أن يكون غيره قد شاركه فيه. قال الإمام: وأيضاً: فإنا نحل الجنين إحالة على انقطاع الروح عنه بذكاة أمه، وإن أمكن تقدير موته بسبب آخر؛ وهذا ما وعدت من قبل: أنه يدل على تحريم الجنين إذا خرج بعضه من أمه ميتاً، ثم ذكيت. وسلك في "المرشد" طريقاً آخر، فقال: إن غلب على ظنه: أنه إنما مات بجرحه

حل، وإن لم يغلب على ظنه [ذلك] لم يحل؛ لجواز أن يكون موته بسبب آخر. أما إذا أصاب ما أرسله الصيد، ولم يشاهد المرسل الجرح، ثم غاب عنه، فوجده ميتاً- لم يحل قولاً واحداً، وإن وجد السهم فيه أو الكلب على رأسه. وعن كتاب ابن كج حكاية وجه: أنه يحل. وإن كان الجرح الذي شاهد قد قتله؛ كما إذا أخرج حشوته، أو أصاب مذبحه، ونحو ذلك، ثم غاب ووجده ميتاً، حل بلا خلاف، لأنه لا أثر لما يطرأ بعد ذلك؛ دليله ما لو رمى مجوسي إلى مثل هذا الصيد فجرحه، لا يحرم. قال: وإن أرسل سهماً أو كلباً على صيد، فقتل غيره حل، أي: سواء كان ذلك الغير في سمت الأول أو لا؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وقوله- عليه السلام- لأبي ثعلبة: "فما أصبت بقوسك فاذكر اسم الله عز وجل [عليه] ثم كل وما أصبت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله عز وجل ثم كل". أخرجه مسلم؛ فكان ذلك على عمومه. ولأنه لو أرسل السهم أو الكلب إلى [جماعة] صيود كبار، فنفرت، فأصاب واحداً من أولادها، حل وهو [لم يقصده] فدل على أنه ليس من شرطه أن يصيب الذي أرسله عليه، وهذا ما ادعى البندنيجي أنه المذهب، وهو ظاهر النص. وعن أبي إسحاق: أن الصيد المصاب إن كان في سمت المقصود حل، وإن كان في غير سمته لم يحل في مسألة الكلب؛ لأنه لما عدل عن السمت، قطع إرسال صاحبه؛ فصار كالمسترسل بنفسه، وإذا مضى في ذلك السمت، فما قطع إرسال صاحبه. ومفهوم كلامه: أنه في السهم يحل، وإن كان [المصاب] في غير سمت المقصود، وقد صرح به العراقيون؛ حتى قال أبو الطيب: إنه مما لا خلاف فيه بين أصحابنا، وكذا القاضي الحسين ادعى أنه لا يختلف فيه المذهب؛ لأن الهلاك حصل بفعله. والأصح في "البحر" وغيره الأول؛ لأنه لا يمكن تعليم الكلب اصطياد الأبعد، وترك الأقرب إليه الأسهل عليه، كما لا يمكن تعليمه أن يعقر في محل الذكاة دون

غيرها؛ فاغتفر ذلك، ولأن هذا يدل على فراهته. وقال في "الحاوي": الصحيح عندي أن يراعي مخرج الكلب عند إرساله، فإن خرج عادلاً عن جهة إرساله إلى غيرها، لم يؤكل صيده، وإن خرج إلى جهة إرساله، ففاته صيدها، فعدل إلى غيره فأخذه أكل؛ لأنه على الصفة الأولى مخالف؛ فصار مسترسلاً لنفسه، وعلى الصفة الثانية موافق؛ فكان مرسلاً، وهو أدل على فراهته؛ وهذا الذي ذكرناه هو المذكور في كتب العراقيين. وأما المراوزة فقد حكى عنهم في "البحر" وجهاً [خرجه] [في مسألة السهم كوجه] أبي إسحاق في مسألة الكلب. وأطلق الفوراني حكاية الخلاف [في مسألة الكلب من غير تقييد بحالة كون المصاب في غير سمت المقصود، وأفهم كلام القاضي الحسين] أن أبا إسحاق لا يخص ما قاله من عدم الحل بكون المصاب في غير سمت المقصود؛ لأنه قال: إذا أرسل على صيد فقتل غيره، فظاهر كلام الشافعي- رضي الله عنه- أنه يحل [أكله]. وقال أبو إسحاق: لا يحل؛ لأن للكلب قصداً واختياراً، فإذا عدل عما قصده الصائد إلى غيره، فقد أخذ باختياره دون إرسال صاحبه، واحتج عليه بما قال أصحابنا: لو أرسل كلباً على صيد في الحل، فدخل الحرم خلفه، وقتله، فلا شيء عليه، وبمثله في السهم عليه الجزاء لأن الذي حصل برميه حصل بفعله. وأما الإمام فقال: إذا قصد ظبية من سرب عينها بسهمه، فأصاب غيرها- فثلاثة أوجه: أصحها: الحل، وبه قطع طوائف. والثاني: التحريم. والثالث: إن كان قد رأى الظبية المصابة حين الرمي أو كانت في السرب حلت، وإن لم يرها أو ثارت بعد مرق السهم فأصابها، لم تحل؛ وهذا ما اختاره في "المرشد".

ولو أرسل عليها كلبه فأصاب غيرها، فالخلاف جار في الحل- أيضاً- لكن بالترتيب، واختلف الأصحاب في الترتيب: فرتب الأكثرون الكلب على السهم، وجعلوا مأخوذ الكلب أولى بالتحريم؛ لأنه حيوان؛ فله اختيار على الجملة، بخلاف السهم. ومنهم من قال: مأخوذ الكلب أولى بالحل؛ لعسر التعليم على هذا النحو، بخلاف السهم؛ ولأجل ذلك قيل: إن السهم لو انفلت، فأصاب بعرضه [فقتل]، لم يحل، ولو مات الصيد بثقل الجارح: ففي الحل قولان. وقال: إن الكلب لو كان حين إرساله مضى في الصوب الذي أراده المغري، ثم بان صيد آخر، فاستدبر الكلب الأول، وأعرض عنه، ومضى في صوب الصيد الثاني، فقتله- فهو حرام لاشك فيه؛ وهذه الطريقة إذا تأملتها كانت عكس طريقة العراقيين. فرع: وإن أرسله على غير صيد، أي: مثل أن أرسله ليلاً، وهو لا يتوهم وجود صيد، أو نهاراً وهو لا يرى صيداً ولا قصده، فقتل صيداً- لم يحل؛ لأنه لم يرسله على صيد معين ولا مرسل، فكان في السهم كما لو سقط منه سيف على حلقوم شاة، فقطع المنحر منها، والجامع: فقدان أصل القصد في المصاب وفي الكلب كالمسترسل بنفسه. [قال:] وقيل: يحل في السهم دون الكلب؛ لأن السهم قتل بفعله، وقصده إلى الذبح غير معتبر. دليله: ما لو قطع عنق شاة على أنه ثوب؛ وهذا الوجه قد حكاه القاضي الحسين، واختاره في "المرشد". وفي "البحر" عن صاحب "الإفصاح" القطع به، وهو منسوب في "تعليق البندنيجي" وغيره إلى أبي إسحاق، وطرده البندنيجي والمصنف فيما إذا وقع منه السيف، فقطع المنحر من الشاة: أنها تحل، والبغوي نسبه في هذه – أيضاً- إلى أبي إسحاق، واختاره في "المرشد".

وفي "تعليق القاضي أبي الطيب" حكايته في السهم والكلب معاً عن رواية القاضي أبي حامد، وهو في "البحر" أيضاً. وظاهر النص في مسألة الكتاب الأول؛ فإن الشافعي- رضي الله عنه- قال: "ولو أرسل سهماً و [هو] لا يرى صيداً، فلا يأكل، ولا تعمل النية إلا في عين ترى"، وبه جزم الإمام، والمشهور في مسألة الكلب الجزم بالتحريم. نعم: لو أرسل سهماً في الليل، وخطر له أنه قد يصيب صيداً، قال الإمام: فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه؛ ثالثها: أنه ينظر: فإن رمى في موضع يغلب على الظن الصيد فيه [حل وإن كان لا يغلب على الظن الصيد فيه] فالقصد لا أصل له، وحكمه حكم البازي. واعلم أنه يمكن تصوير مسألة الكتاب- أيضاً- بما إذا أرسله إلى ما يجوز الرمي إليه من هدف أو ذئب أو خنزير ونحوه، فأصاب صيداً، فإن [في] الحل في هذه الصورة- أيضاً- خلاف- موافق لما ذكره الشيخ؛ صرح به الإمام، والذي جزم به البغوي فيها تبعاً لشيخه التحريم في السهم والكلب. قال: وإن رمى شيئاً يحسبه- أي: بكسر السين وفتحها- حجراً، أي: ونحوه، فكان صيداً- فقتله- حل أكله. قال أبو إسحاق: لأنه قتله بفعله، ولا اعتبار بالقصد؛ دليله: صحة ذكاة الصبي والمجنون مع أنه لا قصد لهما صحيح، وما لو قطع شيئاً ليناً ظنه ثوباً، فإذا هو حلقوم شاة- حلت كما نص عليه. وقال غيره: إنما حل؛ لأنه قصده بفعله وإن ظنه غيره، وانبنى على العلتين الخلاف في المسألة السابقة، وهي إذا رمى إلى غير صيد، فقتل صيداً وما ألحق بها؛ كذا قاله في "الحاوي" وغيره، وما ذكره الشيخ لم يورد العراقيون والإمام غيره. وحكى في "التهذيب"- تبعاً لشيخه- وجهاً في عدم الحل، وهو في "البحر" منسوب إلى رواية القاضي أبي حامد عن بعض الأصحاب، ثم قال: والمذهب الأول، وكذا لو قطع عنق شاة ظنها خشبة لينة، أو وضع سكيناً على موضع يحسبه جداراً، فإذا هو حلق شاة، أو رمي إلى حيوان ظنه خنزيراً أو حيواناً غير مأكول [فأصابه]،

فإذا هو صيد مأكول؛ وهذا منه يشعر بأن الخلاف في المجموع وهو كذلك؛ لأن الماوردي حكى عن ابن أبي هريرة عن بعض الأصحاب فيما إذا قطع شيئاً ظنه ثوباً فإذا هو عنق شاة- عدم الحل وإن كان النص الحل، وهو المشهور، والغزالي جزم به فيها. وحكى الإمام فيما إذا ظنه حيواناً محرم اللحم، ومنه الآدمي والخنزير، فأصابه، فإذا هو صيد-[خلافاً]، والأصح: الحل، وهو [ما أورده] الماوردي فيما إذا ظنه كلباً أو خنزيراً. ووجه مقابله: أنه لم يقصد صيداً حلالاً. وفي بعض فحاوى كلام الشيخ أبي محمد وجهاً ثالثاً، وهو إن كان قد حسب الحيوان المرمي يحل أن يقصد بالرمي، فإذا تبين أنه صيد حل، وإن كان لا يحل قصده بالرمي: كالآدمي المحقون الدم مثلاً، ثم تبين أنه صيد- لم يحل؛ لأنه قصد محرماً، والقصد في نفسه محرم. قال الإمام: ولا يجري هذا الوجه عندي فيما لو ذبح في ظلمة حيواناً [ظنه حيواناً] محرماً، فتبين أنه شاة، بل الوجه القطع بالحل؛ لقوة الفعل؛ فإنه في حكم التعاطي، والرمي لا يحكم عليه بالإصابة. وقد حكى الغزالي في هذه الصورة وجهين مرتبين على وجهين فيما إذا قطعه وهو يظن أنه حلق آدمي، وأولى بالحل، لأن هذا فعل مباح، وإنما المحرم الأكل؛ بخلاف الآدمي. فرع: لو رمى شيئاً ولم يلغب على ظنه ما هو؟ ولكن استوت الجائزات عنده، [فإذا تبين كونه] صيداً، فقد أشار الشيخ أبو محمد إلى وجهين: قال الإمام: ولست أرى لهما في هذه الصورة وجهاً، بل الوجه القطع بالحل؛ كما لو حسبه حجراً شاخصاً. قال: وإن أرسل عليه كلباً- أي: على ما ظنه حجراً- فقد قيل: يحل؛ كما في رمي السهم؛ لأنه وجد منه قصد إرساله؛ وهذا هو الصحيح؛ تبعاً للرافعي والبغوي والفوراني.

وقيل: لا يحل؛ كما لو أرسله على غير شيء، ويخالف السهم؛ لأن للكلب اختياراً؛ وهذا ما اختاره في "المرشد" وكذا القاضي الحسين. وفي "البحر" أن صاحب "الإفصاح" قطع به. أما إذا ظنه خنزيراً أو كلباً ونحو ذلك، فكان صيداً، فقد ألحقه البغوي والمصنف بما لو ظنه حجراً، وجزم الماوردي فيه بالحل؛ لأن الكلب يشلي على كل حيوان، فيستشلي؛ فاستوى في إرساله حل المأكول وغير المأكول وإن اختلفا في إباحة الأكل. والقاضي الحسين جعل الخلاف في هذه الصورة مرتباً على الخلاف فيما إذا ظنه حجراً، ومسألة الخنزير أولى بالحل؛ لأنه قصد الصيد فيها، بخلاف تلك، وهكذا جعله مرتباً على طريقة في مسألة إرسال السهم السابقة، وأولى بالحل؛ لما ذكرناه، وهو مخالف لطريقة الإمام وشيخه ويتركب من هذه المسألة والمسألة السابقة فرع، وهو إذا أرسله على شيء ظنه حجراً، وكان صيداً، فأصاب غيره، فحيث قلنا: إذا أرسله على صيد فأصاب غيره لم يحل، فهاهنا أولى. [وإن قلنا: ثم: يحل، فهاهنا] خلاف، وتجيء التفرقة فيه بين السهم والكلب على رأي؛ وكذا أشار إليه الإمام والقاضي والحسين. وفي "التهذيب": أن المرسل إن كان كلباً، فلا يحل، وفي السهم وجهان، والأصح التحريم. ولو كان ما ظنه حجراً كذلك، فأصاب غيره، فإن اعتبرنا ما ظنه في المسألة الأولى حيث قلنا: لا يحل، فهاهنا يخرج على ما لو قصد صيداً، فأصاب غيره. وحكى في "التهذيب" عن شيخه في هذه الصورة الحل؛ بناء على هذا؛ وقال: إنا إن اعتبرنا الحقيقة، فلا يحل. وقد حكى الطبري في مسألة الكتاب طريقة أخرى، وهي إن كان المرسل كلباً لم يحل، وإن كان سهماً ففي الحل وجهان. [والله أعلم]. قال: وإن نصب سكيناً، فوقع به صيد، فجرحه، فمات- لم يحل؛ لأنه مات بغير فعل من جهة أحد، ولابد من أصل الفعل أو حكم الفعل بلا خلاف؛ دليله: المتردية،

وما إذا احتك صيد أو شاة بسكين ونحوها، فقطعت حلقومه ومريئه؛ فإنه لا يحل بوفاق الخصم؛ لأنه قاتل نفسه. والمراد بحكم الفعل: إرسال الكلب؛ كما حكاه البندنيجي عن أبي إسحاق. قال القاضي الحسين: ولهذه النكتة حرم الصيد إذا كان المرسل مجوسياً. فإن قلت: لا نسلم أن ذلك حصل بغير حكم فعله، بل نصب ذلك كإرسال الكلب. قيل: فعل واضعها، وحكم فعله منقطع عنها؛ ألا ترى أنه لو وقع بها إنسات، فمات، لا قصاص عليه، ولو كان حكم فعله موجوداً، لوجب؛ كما لو أغرى عليه كلباً، ولا يرد علينا وجوب الضمان؛ لأن باب الضمان [أوسع] من باب الذكاة كما تقدم. ثم على تقدير [تسليم] نسبة الفعل إليه، فشرط الفعل المبيح أن يقصد به صيداً معيناً، أو من جملة معين؛ [دليله:] ما لو رمى سهماً إلى العلو، فسقط على صيد اعترضه لا يحل، والمقتول بالسكين المنصوبة، لم يكن معيناً، ولا من جملة معين؛ وهذا قول أبي الطيب بن سلمة. قال الماوردي: وهو مدخول؛ لأنه لو نصبه لصيد معين أو لجملة معينة، لم يحل؛ فكان التعليل الأول أصح؛ كما قال ابن الصباغ. ومن هنا يظهر لك أنه إذا نصب أحبولة، فمات الصيد بها خنقاً، أو [كانت] من شعر، فقطعت الحلقوم والمريء، لا يحل، وقد نص الشافعي- رضي الله عنه- عليه. والحكم فيما لو كانت السكين في يد شخص، وقد احتك بها صيد أو غيره، ولم تتحرك يده- كما لو كانت منصوبة في الأرض، وكذا لو تحركت، وتحامل عليها الحيوان؛ للاشتراك في الفعل المبيح والمحرم. فرع: إذا كان في عنق الكلب قلادة محددة، فضرب الصيد بها، فجرحه، فمات، حل؛ حكاه الرافعي عن "التهذيب" كما لو أرسل سهماً أو كلباً. ثم قال: وقد يفرق بأنه قصد [بالسهم الصيد] ولم يقصده بالقلادة؛ وهذا منه

حمل لكلام البغوي على ظاهره، وليس كذلك، بل هو محمول على ما ذكره شيخه القاضي الحسين في تعليقه، وهو ما إذا كان الكلب معلماً بأن يضرب بتلك الحديدة؛ لأنه يصير كالرمي إلى الصيد. قال: ومن أخذ صيداً أي: يحل له اصطياده، سواء كان غير ممتنع: كصغار الصيود وفراخها، أو ممتنعاً: كالكبار، وله تمييز، أو أزال امتناعه، أي: بسهمه أو كلبه – ملكه؛ لأنه بذلك يكون مستولياً عليه؛ فشابه سائر المباحات التي تملك بالاستيلاء، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ} [المائدة: 94]، أي: يختبركم بتكليف إباحة ما حلله، وحظر ما حرمه {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] وأراد بما تناله الأيدي: الصغار، وبما تناله الرماح: الكبار؛ كما قال ابن عباس. وقال مجاهد: المراد بالأول: البيض، وبالثاني: الصيد. وروي أنه- عليه السلام- وأصحابه مروا بظبي حاقف، أي: مُثْخَنٍ عاجز عن الامتناع- فهمَّ أصحابه بأخذه، فقال: "دَعُوهُ حَتَّى صَاحِبُهُ"، فسماه: صاحباً، ومنعهم من أخذه. أما إذا كان لا يحل له اصطياده؛ لكونه مملوكاً لغيره، أو مباحاً لكن الصائد محرم- فلا يملكه، وفي المحرم كلام تقدم. ولو كان الأخذ ممن لا تمييز له: كالأعمى والمجنون، فإن لم يأمره أحد بذلك ملكه أيضاً، وإن أمره بذلك غيره، فهل يكون له إن كان حراً أو لسيده إن كان عبداً، أو للآمر؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين"، والمذكور منهما في "التهذيب" و"البحر" الأول، وألحقا بالأعمى الصبي، والله أعلم.

المراد بالأخذ: أن يضع يده عليه، سواء قصد ملكه بذلك أو لا، وفي معناه: وقوعه في الشبكة التي نصبها، أو أحبولته مباحة كانت أو مغصوبة، وقع فيها الصيد بنفسه، أو طرده إليها طارد. ومنها مسك جارحته المعلَّمة، التي أرسلها ولم تَقْتُلْ، وكذا المغصوبة على المذهب الذي لا يعرف العراقيون غيره، وغير المعلَّم في ذلك كالمعلم. وفيه احتمال للرافعي؛ لأن للجارح اختياراً. ولو استرسلت الجارحة بنفسها وأخذته، ملكه-[أيضاً] – على أحد الوجهين في "تعليق القاضي الحسين"؛ بناء على أضعف الوجهين فيما إذا تَوَحَّل الصيد في أرض يملكها، ولم يقصد إرسال الماء إليها كذلك، أو فَرَّخ الطائر البري في ملك رجل، أو [باض بملكه] كما يملك الصيد إذا توحل في أرض ساق الماء إليها؛ لأجل أخذ الصيد؛ كما قاله الإمام، وعليه يحمل كلام الماوردي والروياني، وكما إذا فرخ الطير في البرج الذي بناه لأجل ذلك؛ فإنه يملكه بذلك قولاً واحداً وإن كان في ملكه للفرخ الحاصل في الدار التي بناها لأجل ذلك وجهان، لكن المذهب في المبني عليه عدم الملك، وبه جزم الماوردي وغيره في بعض الصور؛ لأن ذلك غير معد للاصطياد. ثم يثبت له حق الاختصاص به، حتى إذا أخذه غيره كان في ملكه له وجهان قريبان من إحياء المتحجر. قال الإمام: وهاهنا أولى بأن يملكه الآخذ، وهو ما اختاره في "المرشد"؛ لأن المتحجر قد حصل له قصد التملك، بخلافه هاهنا، ولا خلاف أن من دخل بستان إنسان، وأخذ منه صيداً ممتنعاً: أنه يملكه. والفرق: أن البستان غير ضابط؛ فهو كالبرية. ومنها أن يدخل داره، فيغلق عليه الباب قاصداً ملكه، وكذا لو لم يقصده، بل وقع وفاقاً على أضعف الوجهين الجاريين فيما لو وقعت منه سكينة، فتعقل بها صيد

فحبسه، ولا يقوم غلق غير المالك الباب قصداً مقام غلق المالك؛ حتى لا يملكه المالك؛ لأنه لم يقصده، ولا الغالق؛ لأنه فعل ذلك في ملك غيره الخارج عن يده. ومنها: أن يحشره في مضيق، لا مخلص له منه، أو يسد منافذ البركة الصغيرة التي دخل [فيها] السمك، دون ما إذا كانت كبيرة لا يمكن أخذه منها إلا بعسر. والمراد بإزالة الامتناع: كسر جناح ما يمتنع بجناحه، وقطعه من طريق الأولى، ورجل ما يمتنع بجريه، وقطعها من طريق الأولى، وكسرهما أو قطعهما إن كان مما يمتنع [بجريه وجناحه] مثل: الدُّرَّاج والفتخ؛ فإنه يقال: إنهما يمتنعان بالعدو والطيران جميعاً، فإذا فعل ذلك ملكه، ومن طريق الأولى إذا قطع حلقومه ومريئه، أو أخرج حشوته بسهمه أو جارحته. قال الماوردي: وكذا إذا أغرى عليه سبعاً، فعقره، وكان له عليه ولاية، دون [ما] إذا لم يكن له على السبع ولاية؛ فإنه لا يملكه؛ لأن اختيار السبع أولى من إغرائه، ولا يقوم مقام ذلك جريه خلف الصيد حتى يقف تعباً وإعياء. قال الماوردي: لأن وقوفه استراحة، وهو بعدها على امتناعه. أما إذا لم يزل فعل الصائد امتناعه، لم يملكه، ولا يثبت له حق اختصاص به؛ حتى إذا أخذه غيره [أ] وأزال امتناعه [ملكه، سواء كان ما أصابه من فعل الأول مما يسلم منه أو لا، وسواء طال معه زمان امتناعه] أو قصر، وسواء قصر طيرانه وجريه عما كان عليه أو لا، وهو باق على الامتناع، ولا يجب على الأول شيء للثاني وإن أثر فعله نقصاناً للصيد، لأنه حين أصابه كان مباحاً، نعم: لو لم ير منه فعلُ آخر حتى ثبت بجراحة الأول، صار حينئذٍ ملكاً للأول، وكذا لو ثبت بعطش أصابه بعد الجراحة؛ لعجزه عن الوصول إلى الماء مع وجوده، دون ما إذا ثبت بالعطش لعدم الماء؛ قاله الماوردي. ولو أزمنه الثاني بواسطة تقدم فعل الأول، ففي "تعليق القاضي الحسين" في باب العمد وغيره هاهنا حكاية وجهين فيه:

أحدهما: أنه بينهما؛ لأن الزمانة حصلت بفعلهما. قال الرافعي: وقد يسمى هذا قولاً مخرجاً، وإليه مال الإمام. والثاني: أنه للثاني إذا ألزمناه تعقيب رميه؛ وهذا ما ادعى الرافعي: أنه الظاهر من المذهب عند الجمهور. قال: وهما شبيهان بما إذا كان له امرأتان صغيرتان، فأرضعت أمه إحداهما بعد الأخرى، هل ينفسخ نكاحهما أو نكاح الثانية؟ فإن حرمناهما اشتركا هاهنا، وإلا اختص به الثاني. وقد أطلق الرافعي تصوير محل الوجهين، وصوره البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما بما إذا كان امتناع الصيد بجناحه ورجله، فقطع أحدهما جناحه، والآخر رجله. وفي "الحاوي" وجه ثالث: أنه يكون لكاسر الجناح، سواء تقدم أو تأخر؛ بناءً على أحد الوجهين فيما: إذا رمياه معاً، فقطع أحدهما جناحه، والآخر رجله: أنه يكون لكاسر الجناح/. ولو وقع شك في أن فعل الأول هل أزال امتناعه أو لا؟ وقد مات بفعل الثاني، فلا يحكم به للأول، وإن ادعى أن رميه أزمنه، وطلب الغرم من الثاني؛ لأن الأصل بقاء الامتناع، ويحلف الثاني، ويسلم له. وأما حله: فينظر في إصابة الثاني، فإن قطعت الحلقوم والمريء، أو أدرك معها قطعهما وفيه حياة مستقرة، وفعل ذلك- حَلَّ، وإن كانت في غير محل الذكاة، ومات بها قبل إدراك ذكاته- ففي إباحته وجهان في "الحاوي". وقد علق الأصحاب بحاله فرعاً له تعلق بكتاب الجنايات لا غناء عن ذكره، وهو إذا أرسل شخص على صيد سهماً أو كلباً، وملكه به، ثم أرسل آخر عليه [ذلك]، فإن لم يمت بفعل الثاني، وجب [للأول] على الثاني أرش ما نقص بفعله، وإن

مات بفعل الثاني خاصة، فإن كان بسبب الرمية، وقد قطعت حلقومه ومريئه، حل، كما قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي والماوردي وغيرهم، وللإمام فيه احتمال تقدم مثله فيما إذا رمى شاة الربيطة فقطع حلقومها ومريئها، ومع الحل يجب على الثاني ما بين قيمته حياً على الحالة التي صادفه سهمه فيها وقيمته مذكى؛ كما لو ذبح شاة الغير، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الصيد مما يبقى أو لا. وقال الإمام: عندي أن الحيوان الثابت إذا كان لما به من الجرح لو لم يذبح لهلك، وفات، فالذبح لا ينقص منه شيئاً، نعم لو فرض إثبات تصوير الحياة معه؛ فإذ ذاك يظهر التفاوت. وإن صادف سهمه غير المنحر أو قتله كلبه، وفيه حياة مستقرة يمكن الصائد معها الذكاة- حرم، وضمن تمام قيمته مجروحاً الجرح الأول. قال القاضي الحسين: وإن كان الأول قد توانى في ذكاته، [ومات] بالفعلي معاً- فالصيد حرام؛ لأنه مات من مبيح ومحرم، أو من محرم كما يظهر لك، وهل يجب على الثاني شيء؟ الذي حكاه الجمهور: أنه ينظر: فإن لم يكن الأول قد توانى في ذكاته بعد ذلك حتى مات، وجب على الثاني تمام قيمته، ولا يقال: إن الهلاك حصل بالفعلين؛ فيجب على الثاني نصف القيمة لا غير؛ لأن فعل الأول هو الكاسب والمبيح؛ لأنه أصابه وهو غير مقدور عليه؛ فلم يوجد منه تفريط، والعقر الثاني: هو المحرم لما أباحه الأول، فهو المفسد، فوجب كل الضمان عليه، وبهذا خالف ما لو جرح إنسان شاته ثم جرحها آخر، وماتت من الجرحين، يجب على الأجنبي نصف الضمان؛ لأن كل جرح محرم. وعن صاحب "التقريب": أنه استدرك، فقال: فعل الأول وإن لم يكن مفسداً، فهو مؤثر في حصول الزهوق لا محالة؛ فينبغي أن يعتبر في الإفساد حتى يقال: إذا كان غير زمن يساوي عشرة، وزمناً [يساوي] تسعة، ومذبوحاً [يساوي] ثمانية-

يلزمه الثمانية، والدرهم الآخر أثر في فواته الفعلان جميعاً. قال الرافعي: وهذا هو الأصح. وإن كان الأول قد توانى في ذكاته، فهل يجب على الثاني شيء أو لا؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين": فإن قلنا بالوجوب- وهو الذي أورده العراقيون- فما الواجب؟ فيه وجهان: أحدهما: جميع القيمة؛ كما تقدم، [وبه قال الإصطخري. والثاني: نصفها] وبه قال سائر أصحابنا على طبقاتهم؛ كما قاله أبو الطيب والبندنيجي، وصححه الرافعي لأن الثانية وإن كانت مفسدة لم تخرج الأولى عن أن تكون جناية أيضاً؛ فأشبه جرح الشاة، وبهذا فارقت المسألة قبلها. وحكى الماوردي فيما إذا مات بالجرحين؛ أربعة أوجه: أحدها- وهو ظاهر المذهب، وقول جمهور أصحابه-: أن الواجب على الثاني القسط كما سنذكره. والثاني: أنه يجب عليه جميع قيمته مجروحاً، وبه قال الإصطخري. والثالث- وهو قول ابن أبي هريرة-: إن مات وقد حصل في يد صاحبه حياً ضمن الثاني القسط، وإن كان قبل ذلك ضمن الجميع. والرابع- وهو أظهرها عندي-: أنه إن مضى من الزمان بين الجراحتين قدر ما يدركه صاحبه، فعلى الثاني القسط، وإن لم يمض بين الجراحتين زمان إدراكه، فالجراحة الثانية هي المختصة بالتحريم؛ فاختص الثاني بجميع القبة. ثم إذا رأينا التوزيع، فما الذي يضمنه الثاني؟ فيه ستة طرق: خمسة منها حكاها العراقيون، وسادسة ذكرها الإمام؛ تبعاً للقاضي الحسين، ولا تخلو واحدة منها عن احتمال، ولنذكرها أولاً فيما لو كان كل واحد من الجرحين مضموناً لنبين ما يجب على كل واحد منهما، فإذا عرفنا ذلك طرحنا عن الأول الضمان في مسألتنا،

وأوجبنا على الثاني ما يجب عليه، ويفرض ذلك في صيد قيمته عشرة فجنى عليه الأول جناية أرشها درهم؛ فعادت قيمته [إلى] تسعة، ثم جنى الثاني عليه جناية أرشها درهم؛ فعادت قيمته إلى ثمانية، ثم سرت الجراحتان إليه فمات- فالطريق الأول: أنه يجب على كل واحد منهما [خمسة، وبه قال المزني وأبو إسحاق. لكن المزني يقول: يجب على كل واحد منهما] أرش جنايته، وهو درهم، ويجب عليه نصف قيمته بعد الجرحين؛ وهو أربعة؛ لأن الموت حصل بالفعلين؛ وعلى هذا لو نقصت جناية الأول ثلاثة، والثانية نقصت درهماً- وجب على الأول ستة وعلى الثاني أربعة، ولو انعكس الفرض انعكس الحكم. وقد حكى القاضي الحسين هذا القول عن أبي الطيب بن سلمة أيضاً. وقال أبو إسحاق: هذا خطأ؛ لأنه أفرد أرش الجناية مع سرايتها إلى النفس، والجناية إذا سرت إلى النفس، وضمن [بذلك النفس، كان الاعتبار بها؛ كما سيأتي فيما إذا قطع يدي حر ورجليه، فسرت إلى نفسه، ومات- لا يجب إلا دية واحدة، بل الصواب أن يقال: يجب على كل واحد منهما نصف قيمته يوم جنى عليه، ويدخل نصف جناية كل واحد منهما في نصف] بدل النفس الذي ضمنه؛ عملاً بالأصول؛ وذلك يقتضي أن يكون على الأول خمسة ونصف، وعلى الثاني خمسة، لكن يضمن الثاني للأول أرش جنايته على ما دخل في ضمانه إن غرمه؛ كما نقول فيما إذا غصب ثوباً قيمته عشرة، فجنى آخر على الثوب جناية قيمتها درهم، وتلف الثوب- يجب على الغاصب عشرة [دراهم] لصاحب الثوب، وعلى الثاني درهم، لكن إذا غرم صاحب الثوب الغاصب لا يرجع على الجاني بشيء، ويرجع الغاصب عليه بدرهم؛ لأنه جنى على ما ضمنه؛ فضمن جنايته؛ على ما دخل في ضمانه. وإن غرم صاحب الثوب الجاني الدرهم، رجع على الغاصب بتسعة لا غير؛ كذلك نفعل هاهنا، ونقول: وجب على الأول خمسة ونصف، وعلى الثاني خمسة، لكن إن غرم الأول خمسة ونصفاً لم يرجع على الثاني إلا بأربعة ونصف، ويرجع

الأول على الثاني بنصف درهم، وإن ضمن الثاني خمسة لم يرجع على الأول إلا بخمسة، ولا يرجع الأول على الثاني بشيء، وقد اختار هذا القفال، كما قال الروياني، وقال الماوردي: إنه الظاهر من مذهب الشافعي على قول أكثر أصحابه، وقيل: إنه قول أبي إسحاق، ولم أره في شرحه. وحكى وجهين في أن النصف الزائد على الخمسة في حق الأول، هل للمالك مطالبته به، أو ليس له ذلك، ويكون بضمان الثاني [له] ساقطاً عنه؛ كما سقط عنه نصف الأرش بضمانه له؟ ورأي الثاني أصح، والذي أورده البندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم الأول؛ وعلى هذا لو كانت جناية الأول قد نقصت القيمة ثلاثة، وجناية الثاني نقصت درهماً، فعلى الأول ستة ونصف: خمسة: نصف قيمته حال حياته، ودرهم ونصف: نصف أرش جنايته. وعلى الثاني أربعة، ثلاثة ونصف: [نصف] قيمته حال جنايته، ونصف: نصف أرش جنايته، وهو داخل في ضمان الأول، فإن غرم [المالك] الأول ستة ونصفاً لم يأخذ من الثاني غير ثلاثة ونصف، ورجع الأول على الثاني بنصف درهم وإن اقتصر على مطالبته بستة رجع على الثاني بأربعة، ولا شيء للأول على الثاني. ولو انعكس الحال، فكان أرش جناية الأول درهم، والثاني ثلاثة- وجب على الأول خمسة ونصف، وعلى الثاني ستة: أربعة ونصف: [نصف] قيمته حال جنايته، ودرهم ونصف: نصف أرش جنايته، وهو داخل في ضمان الأول، إن غرمه المالك خمسة ونصفاً [لم يأخذ من الثاني غير أربعة ونصف،] [ورجع الأول على الثاني] بدرهم ونصف. وإن اقتصر [المالك] على مطالبة الأول [بما يستقر عليه؛ وهو] أربعة لا غير، رجع على الثاني بستة.

وعلى الوجه الآخر الذي صححه الماوردي، لم يكن للمالك غير ذلك؛ وعلى هذا فقس. والطريق الثاني قال بها أبو الطيب بن سلمة: إنه يجب على كل واحدة منهما نصف قيمته وقت الجناية، ويدخل نصف أرش جناية كل منهما فيما ضمنه؛ كما قاله أبو إسحاق؛ فيكون على الأول خمسة ونصف، وعلى الثاني خمسة، [لكن يجمع ذلك] فيكون [الجميع] عشرة ونصفاً، فاقسم العشرة عليها، فيكون على الأول خمسة أجزاء ونصف جزء من عشرة [أجزاء ونصف من عشرة] وطريق تصحيح ذلك أن تضرب خمسة ونصفاً في عشرة [أجزاء ونصف من عشرة] وطريق تصحيح ذلك أن تضرب خمسة ونصفاً في عشرة فيكون خمسة وخمسين، ونقسمها على عشرة فيخصها خمسة وسبع وثلثاً سبع. ويكون [على] الثاني خمسة أجزاء من عشرة أجزاء ونصف من عشرة، وطريق تصحيح ذلك أن تضرب خمسة في عشرة تكون خمسيناً نقسمها على عشرة ونصف فيخصها أربعة وخمسة أسباع وثلث [سبع] ومجموع ذلك عشرة، وعلى هذا فقس. قال: وإنما فعلت هذا كي لا يؤدي إلى التسوية بين الأول والثاني في الغرامة؛ كما فعله أبو إسحاق، وهو محذور؛ لأن الأول جرحه وقيمته عشرة، والثاني جرحه وقيمته تسعة، ومات العبد من سرايتهما؛ فلا يجوز أن يكون ما يجب عليهما سواء، وقد يفضي التفريع إلى أن يجب على الثاني أكثر مما وجب على الأول كما ذكرناه، فالوجه أن يكون الواجب على من جنى عليه وقيمته عشرة أكثر مما يجب على من جنى عليه وقيمته تسعة؛ وهذا أيضاً يضعف به قول المزني. وقد ضعفه الماوردي بشيء آخر، وهو أن قاعدة الشافعي- رضي الله عنه- أن يضمن المجني عليه بقيمته حين وقوع الجناية عليه، لا بعد استقرارها، وهو قد اعتبرها بعد الجرح قال: وقد اختلف الأصحاب لأجل ذلك في أن المزني قاله

تخريجاً على [أصول] مذهب الشافعي وأخطأ فيه، أو قاله مذهباً لنفسه؟ على وجهين. والطريق الثالث قال به أبو علي بن خيران: أنه يدخل أرش جناية كل واحد منهما في بدل النفس؛ اعتباراً بسائد الأصول، ويجب على كل واحد كمال قيمته يوم جنايته عليه؛ حتى كأنه ما جنى عليه غيره، وتضم القيمتان معاً، وتقسم العشرة على الجملة. بيانه: جناية الأول أرشها درهم، وقيمته عشرة، دخل الأرش في البدل، فأوجبنا عليه عشرة، ثم جناية الثاني أرشها درهم، وقيمته تسعة، دخل الدرهم فيها فأوجبنا عليه تسعة؛ فنضم تسعة إلى عشرة، وتقسم العشرة عليها؛ فيكون على الأول عشرة أجزاء من تسعة عشر جزءاً، وعلى الثاني تسعة أجزاء من تسعة عشر جزءاً وعلى هذا فقس. قال: وما قاله المزني وأبو إسحاق وأبو الطيب خطأ، أما ما ذكره المزني؛ فلما سلف، [وأما ما ذكره أبو إسحاق؛ فلما ذكرناه، ولأنه أسقط نصف أرش الجناية، وأوجب النصف؛ نظراً إلى] أن كل واحد منهما ضامن لنصف النفس، [وإذا كان كذلك؛ فيجب أن يكون كل واحد منهما جانياً على النصف]، وإذا كان كذلك، يجب أن يسقط اعتبار جميع أرش الجناية. [وأما قول أبي الطيب، فخطؤه من وجه واحد، وهو أنه أفرد نصف: أرش الجناية] مع ضمان السراية إلى النفس. وهذا الطريق هو الذي صححه [القاضي] أبو الطيب وغيره من العراقيين، وارتضوه؛ ولأجله قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: هذه الطريقة [هي] أصح الطرق، واختارها- أيضاً- وقال: إنه يمكن قسمتها بطريق أسهل من ذلك؛ بأن يقال: الأول أتلف نصف النفس، وقيمتها عشرة؛ فيكون عليه خمسة.

والثاني أتلف نصف النفس، وقيمتها تسعة؛ فيكون عليه أربعة ونصف؛ وذلك أقل من قيمة الصيد؛ فيقسم عشرة على تسعة ونصف؛ فيكون على الأول ما يخص خمسة، وعلى الثاني ما يخص أربعة ونصفاً. والطريق الرابع قاله بعض الأصحاب: أنه يجب على الأول خمسة ونصف، وعلى الثاني أربعة ونصف، واختلف في توجيهه: فقال الإمام: لأن الأول منتسب إلى التفويت إلا فيما تعرض للالتزام به الثاني، والذي التزمه الثاني أربعة ونصف؛ فكان باقي القيمة على الأول وهو خمسة ونصف. وقال العراقيون: إنما كان كذلك؛ لأنه يدخل أرش جناية الثاني في بدل النفس، ولا يدخل أرش جناية الأول في بدلها، وعلى كل واحد منهما نصف قيمته بعد جناية الأول، وفرق بينهما: بأن الأول انفرد بالجناية، والثاني وجدت جنايته مع جناية الأول، وسرتا إلى النفس؛ فكان البدل عليهما. قال البندنيجي: وهذا قول العراقيين، وهو سهل، وبه قال صاحب "التقريب"، واختاره، وقد وافقه في ترجيحه الإمام، وقال الغزالي: إنه الأقرب، وسبيل الاعتراض عليه: أما على طريقة الإمام من نسبة الأول إلى التفويت فبأن يقال: إن هذا فيما إذا انفرد، فأما إذا شاركه غيره، فقد خرج عن أن يكون مفوتاً للكل، والنظر في القدر الذي ينسب إليه من الفائت. وأما على طريقة غيره، فبما اعترض به على طريقة المزني [أبو إسحاق]. والطريق الخامس: قال به ابن أبي هريرة- كما قال الماوردي- وابن سريج- كما قال الموافق ابن طاهر-: أنه يدخل أرش جناية كل واحد منهما في بدل النفس؛ كما قال ابن خيران، لكن يجب على كل واحد منهما نصف قيمته يوم جنى عليه؛ فيكون على الأول خمسة، وعلى الثاني أربعة ونصف. قال الإمام: وما ذكره من إسقاط الأرش، وإسقاط اعتباره فقيه، ولكنه أدى إلى إسقاط نصف درهم من قيمته، وهما الجانيان، ولا سبب سوى جنايتهما؛

وذلك محال؛ ولأجل هذا قال البندنيجي: إنه فاسد. والطريق السادس: أنه يجب على الأول خمسة ونصف، وعلى الثاني خمسة، [يجوز جميع] ذلك المالك؛ عملاً بما قاله أبو إسحاق في صدر كلامه. قال الإمام: وهو ينسب إلى اختيار القفال، واعترض عليه بأن فيه زيادة الواجب على المتلف، وقال: إن القفال اعتذر عن ذلك بأن ترتيب الجنايات قد يجيز مثل هذا؛ فإن من قطع يدي عبد [و] التفريع على أنه يلزمه تمام القيمة؛ فإنا نلزمه القيمة، ثم لو قتله آخر يلزمه قيمة عبد مقطوع اليدين؛ فيحصل للسيد من الجانبين قيمة عبدٍ وزيادة. [قال الإمام:] ولا حجة في ذلك، فإن قاطع اليدين لا شركة له في القتل، والقتل بعد القطع من [أجنبي] يلحق القطع بالاندمال؛ فليس تلك الصورة نظير مسألتنا. وقد أيد الأصحاب تحقيق الطرق المذكورة في هذه الصورة بمثال آخر ذكروه، وهو ما إذا جنى على الصيد المملوك ثلاثة، ونقصت قيمته بسبب كل جناية درهمين، وعادت قيمته بعد الجنايات إلى أربعة: فعلى الطريق الأول: يجب على كل واحد منهم مستقراً ثلاثة وثلث؛ لأن المزني يقلو: يجب على كل واحد أرش جنايته وهو درهمان، وثلث قيمته بعد الجنايات، وهو درهم وثلث، ومجموع ذلك ثلاثة وثلث. وأبو إسحاق يقول: يجب على كل واحد منهم ثلث قيمته يوم جنايته عليه وثلثا أرش جنايته، ويسقط ثلثها؛ فالأول جنى عليه وقيمته عشرة فثلثها ثلاثة وثلث، وثلثا أرش جنايته درهم وثلث، ومجموع ذلك أربعة وثلثان. والثاني جنى عليه وقيمته ثمانية، وثلثها درهمان وثلثان، وثلثا أرش جنايته درهم وثلث، ومجموع ذلك أربعة.

والثالث جنى عليه وقيمته ستة، [وثلثها درهمان] وثلثا أرش جنايته درهم وثلث، وذلك ثلاثة وثلث، إلا أنه دخل فيما ضمنه الأول من جناية الثاني والثالث درهم وثلث، وعلى كل [واحد] منهما ثلثان، ودخل فيما ضمنه الثاني من جناية الثالث ثلثان، فإن أخذ المالك من الأول أربعة وثلثين، غرم له كل من الثاني [والثالث ثلثين، ويبقى للمالك في جهة الثاني درهمان وثلثان، وفي جهة الثالث كذلك، وإن أخذ من الثاني] أربعة، كان له أن يأخذ من الأول ثلاثة وثلثا، ومن الثالث درهمين وثلثين، ويرجع الثاني على الثالث بثلثين، [وكان] له أن يأخذ من الأول أربعة ومن الثالث درهمين ويرجع عليه الأول بثلثين وكذلك الثاني. وإن أخذ من الثالث ثلاثة وثلثاً، كان له أن يأخذ من الأول أربعة ومن الثاني درهمين وثلثين، ويرجع الأول على الثاني بثلثين، [وكان] له أن يأخذ من الأول ثلاثة وثلثاً، ومن الثاني كذلك، ولا تراجع في هذه الصورة. وعلى الطريق الثاني [يجب] على كل واحد منهم ثلث قيمته يوم جنى عليه، وثلثا أرش جنايته؛ فيكون على الأول أربعة وثلثان، وعلى الثاني أربعة، وعلى الثالث ثلاثة وثلث، ومجموع ذلك اثنا عشر يقسم على العشرة؛ فيجب على الأول أربعة وثلثان من اثني عشر من عشرة، وذلك ثلثها ونصف تسعها، وعلى الثاني أربعة من اثني عشر من عشرة وذلك ثلثها، وعلى الثالث ثلاثة وثلث من اثني عشر من عشرة، وذلك ربعها وربع تسعها، ومجموع ذلك عشرة. وعلى الطريق الثالث يجب على كل منهم تمام قيمته يوم جنى عليه، ويضم ذلك، ويقسم على العشرة، ومجموع القيم أربعة وعشرون؛ فيكون على الأول عشرة من أربعة وعشرين من عشرة، وهي ربعها وسدسها، وعلى الثاني ثمانية من أربعة وعشرين من عشرة، وهي ثلثها، وعلى الثالث ستة من أربعة وعشرين من عشرة وهي ربعها. وعلى الطريق الرابع الناظر إلى أنه لا يدخل أرش جناية الأول في بدل النفس،

ويدخل أرش جناية الثاني، نقول هاهنا: لا يدخل أرش جناية الأول [عليه] في بدل النفس، ويدخل أرش جناية الثاني والثالث، وعلى كل واحد منهم ثلث قيمته يوم جناية الأول عليه، ويجب على الأول أربعة وثلثان، وعلى الثاني والثالث خمسة [وثلث بالسوية]. وعلى الطريق الخامس لا يخفى الحكم، وكذلك على الطريق السادس؛ وعلى هذا فقس. [ومثل] ما ذكرناه في مسألة الصيد جارٍ فيما لو وقعت جناية غير مقدرة على رقيق، فسرت إلى النفس؛ ولا يجيء [مثله] فيما إذا وقعت على حُرٍّ، لأن بدل الحر مقدر لا ينقص بما يطرأ عليه من نقص في الأعضاء؛ ودليله ما لو قطع شخص أطراف حُرٍّ، ثم قتله آخر، يجب عليه كمال ديته، نعم: لو كانت مقدرة كالأطراف فقد خرج ابن أبي هريرة فيه وجهين. أحدهما: أنه كالحرٍّ، والثاني: أنه كالبهيمة، قال الماوردي: وكل من الوجهين معلولل. فروع: [أحدها:] إذا رمى شخصان صيداً، فوقع سهامهما فيه في حالة واحدة؛ فأزمناه، فإن مات بالرميتين، فهو لهما، وإن مات بإحدى الرميتين: فإن كانت موحية دون الأخرى، فهل يكون بينهما، أو يختص به الموحي رميه؟ فيه وجهان في "الحاوي". [الثاني:] لو رمياه، فادعى أحدهما اجتماعهما على إصابته؛ فيكون بينهما، وقال الآخر: [بل] أنا انفردت بالإصابة؛ فجميعه لي- فإن كان في يدهما- فهو بينهما مع اليمين؛ [وإن كان في يد أحدهما؛ فالقول قوله مع يمينه] وإن كان خارجاً عنهما، فهل نجعل القول قول مدعى الاجتماع أو لا؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ عملاً بحكم الظاهر. والثاني: أنه يحكم بموجب الدعوى؛ فنجعل لمدعي الانفراد النصف بغير يمين

-والربع باليمين إن حلف وحلف الآخر، وإن نكل فاز الآخر بعد حلفه بالنصف. [الثالث:] إذا رماه شخص، ثم رماه آخر، فوجد ميتاً، ولم يعلم القاتل منهما- قال في "الأم": "يؤكل، وهو بينهما"، واختلف الأصحاب في حله على وجهين: أحدهما: المنع؛ لأنه يحتمل أن يكون الثاني قتله بعد أن أثبته الأول؛ فلا يحل أكله، ويحتلم أن يكون الثاني قتله قبل أن أثبته الأول فيحل، والأصل الحظر. واختلف القائلون بهذا في تأويل النص: فمنهم من قال: محله إذا علمنا إباحته قطعاً؛ إما بالذكاة أو بالعقر، وجهلنا الذابح؛ ولأجل ذلك جعله بينهما؛ لأنه في يدهما. ومنهم من قال: ما ذكره مفروض فيما إذا كان المصاب مما يمتنع برجله وجناحه؛ فكسر أحدهما رجله، والآخر جناحه؛ فإن فيه وجهين: أحدهما: هو لهما. والثاني: أنه للثاني؛ فيكون على الوجهين حلال؛ لأن الرمي الأول لم يزمنه، والثاني: إن حصل به القتل غير قادح في حله، وإنما جعله بينهما على الوجه الثاني؛ لأن الثاني مجهول، ويدهما عليه؛ فكان بينهما. والوجه الثاني: إنه حلال، وهو ظاهر النص، وبه قال أبو إسحاق موجهاً له بأن الأصل بقاؤه على الامتناع حتى نعلم أن الأول أزاله فكان الظاهر أنه مات بالثاني؛ فيحل. ووجه كونه مشتركاً بأنه في يدهما، وهي تدل على الملك؛ فجعل بينهما، ولا تدل على الذكاة؛ فكان مباحاً. قال: ومن ملك صيداً، ثم أرسله- أي: مختاراً فيه- لم يزل ملكه عنه في أصح القولين؛ لأنه لم يوجد منه إلا مجرد رفع اليد، وذلك لا يقتضي زوال الملك؛ كما لو ملك بهيمة، ثم سيبها؛ فعلى هذا لا يجوز لمن عرفه أن يصيده، ومن لم يعرفه، وصاده لا يملكه؛ ولأجله قال القفال: بعض [العوام يحتسبون بإرسال الطيور

المملوكة ويسمونه: إعتاقاً، ولا ينبغي أن يفعل؛ لأنه يخلط] ملكه بالطيور المباحة، فيأخذه رجل يظن أنه ملكه، ولا يملك بذلك. نعم: لو أراد مالك الصيد عند الإرسال إباحته لمن أخذه حصلت الإباحة، ولا ضمان على من أكله، لكن لا ينفذ تصرفه فيه، ولا يحل تناوله لمن عرف أنه مملوك إلا إذا سمع الإباحة بأن يكون المالك قد قال عند الإرسال: "أبحته لغيري". ولو قال عند الإرسال: "أعتقته"، لم يزل ملكه عنه؛ قاله المسعودي، ويجيء فيه الوجه المذكور في صحة عتق البهيمة المملوكة من غير الصيود، وتفريعه كما سيأتي في موضعه. والقول الثاني: أنه يزول كما لو ملك عبداً، ثم أعتقه؛ وهذا ما حكاه في "البحر" عن نصه في "المبسوط". قال الرافعي: لكنه شرط فيه أن يخليه على قصد [إخراجه من ملكه، وإلحاقه بالوحش؛ وعلى هذا من أخذه ملكه. وخص الماوردي] محل الخلاف بما إذا لم يقصد بإرساله التقرب إلى الله- تعالى-، فإن قصده، فهو موجب لزوال ملكه؛ كما في العتق. وعن أبي علي الطبري: أنه إن قصد التقرب إلى الله –تعالى- بإرساله، زال ملكه، وإلا فلا؛ حكاه ابن الصباغ وجهاً ثالثاً في المسألة. وقال في "البحر": إن ما قاله الطبري يحكي عن ابن أبي هريرة، فإن قلنا به، وكان قد أرسله، وقصد التقرب؛ وصار الصيد ممتنعاً، فهل يحل صيده؟ فيه وجهان: أحدهما- ويحكى عن ابن أبي هريرة-: نعم؛ لأنه يعود إذا زال عنه الملك إلى حكم الإباحة. والثاني: لا؛ كما أن العبد إذا عتق لا يعود الملك فيه؛ وهذا ما حكاه الماوردي ععن كثير من البصريين. قلت: وللأول أن يقول: نظير عود الصيد إلى الامتناع عود العبد للكافر بعد العتق إلى دار الحرب؛ فإنه يجوز استرقاقه على رأي، وإن منعناه؛ فذاك لأجل

إبطال الولاء، وهو مفقود هنا، ولا جرم، صحح الأول الشيخ محيي الدين النواوي في "الروضة". وقد أثبت العراقيون وغيرهم القولين [،و] في مسألة الكتاب وجهان: ونسبوا الأول منهما إلى أبي إسحاق، والثاني إلى ابن أبي هريرة؛ [وعلى هذا يكون مراد الشيخ بقوله: "في أصح القولين"، أي: المخرجين للأصحاب]، وكثيراً ما يطلق الأصحاب في المسألة قولين، ويريدون ذلك، وهما جاريان- كما قال في الفروع- فيما إذا كان معه ماء فصبه أو أعرض عن سواقط الثمار كما سنذكره، وكذا فيما لو كان معه كسرة خبز، فأعرض عنها، وأخذها آخذ، لكن بالترتيب، وهاهنا أولى بأن لا يملكها الآخذ؛ لأن سبب الملك في الصيد [اليد] وقد زالت. قال النواوي: والأرجح: أنه يملك ذلك، ويصح تصرفه فيه بالبيع وغيره، وهو ظاهر أحوال السلف، ولم ينقل أنهم منعوا من أخذ شيء من ذلك من التصرف. قال الإمام: وهذا الخلاف في زوال الملك، وما فعله إباحة للطاعم في ظاهر المذهب؛ لأن القرائن الظاهرة كافية في الإباحة. و [قد] أجزنا- أيضاً- فيما لو أعرض عن إهاب ميتة، وألقاه، فأخذه غيره، ودبغه، هل يحصل الملك له أو لا؟ لكن بالترتيب أيضاً، وهنا أولى بأن يملكه الآخذ؛ لأن الإعراض عما لا ملك فيه قوي ظاهر. قال الرافعي: ولك أن تزيد فتقول: إن قلنا: إن من غصب جلد ميتة ودبغه، ملكه، فهاهنا أولى بلا خلاف، وإلا فوجهان. أما إذا أرسله وجوباً؛ كما إذا أحرم، وفي ملكه صيد، زال ملكه عنه قولاً واحداً، ويعود إلى حاله الأول؛ حتى إذا أخذه غيره ملكه، وقد تقدم ذكر ذلك [في موضعه]. ولو استرسل الصيد بنفسه، فلا يزول ملكه عنه وبلا خلاف، وإن عاد إلى حاله الأولى؛ كما لو ملك عبداً بالسبي، وعاد إلى دار الحرب، ويخالف ما لو ملك ماءً فانصب في النهر؛ فإنه يزول ملكه على أحد الوجهين؛ للقدرة على مثله، بخلاف

الصيد؛ قاله في "الحاوي". نعم: لو انفلت الصيد بعد وقوعه في الشبكة، قال القاضي الحسين: فهو باقٍ على ملكه – أيضاً- لا يملكه أحد بعد وهو ما ادعى في "الوسيط" في باب الوليمة: أنه الظاهر، وفيه وجه؛ لأنه لا يعد مستقراً في العرف. وقال الماوردي: إنه ينظر: فإن كان انفلاته؛ لكونه حالة وقوعه فيها قادر على الخلاص، لم يملكه بالوقوع، لكنه أحق به، وإذا أخذه غيره ملكه، وإن كان لتقطع الشبكة، فإن كان الصيد الذي قطعها، كان الأمر كذلك، وإن قطعها غيره من صيود اجتمعت على قطعها، كان باقياً على ملك صاحبها؛ فلا يملكه غيره إذا أخذه. ولو كان قد اقتلع الشبكة، وذهب بها، فإن كان ثقل الشبكة يبطل امتناعه بحيث يتيسر أخذه، فهو لصاحبها، وإلا فهو لمن أخذه؛ قاله الرافعي. ولو انفلت من الكلب، فقد قال القاضي في "المجرد": إن كان ذلك قبل ما أدركه صاحبه لم يملكه، وإن كان بعده فوجهان؛ لأنه لم يقيضه ولا ثم امتناع؛ وهذا ما اختاره في "المرشد"، وهو كالمخالف لما حيكناه عن القاضي الحسين من قبل. وفي الرافعي في آخر الباب فيما إذا استرسل كلب فحبس صيداً، فلما انتهى إليه [صاحبه] أفلت الصيد- حكاية وجهين عن ابن كج في أنه هل يملكه أخذه أو هو ملك للأول. فرع: لو وقع الشك في أن الصيد استرسل بنفسه، أو أرسله صاحبه إرسالاً يزول به الملك عنه، ويحل اصطياده- لا يجوز أخذه على حكم الاصطياد، ويتفق ذلك فيما لو رأى على الصيد أثر ملك؛ بأن كان مُقَرَّطاً أو مخضوباً أو مقصوص الجناح ونحو ذلك؛ لأن هذه الأحوال تدل على أنه ملك، والأصل بقاء الملك فيه لمن ملكه.

قال الأصحاب: ومثل هذا إذا اصطاد سمكة ووجد في بطنها جوهرة مثقوبة، لم يملكها؛ لدلالة أثر الملك عليها، بل تكون لقطة، بخلاف ما لو كانت غير مثقوبة؛ فإنه يملكها. وخص الماوردي محل ملكه لها إذا كانت غير مثقوبة بما إذا اصطاد السمكة من بحر الجوهر، وقال فيما إذا كانت من غيره: إنه لا يملكها، وأجراه فيما إذا وجد في جوفها عنبرة، وقال فيما غذا وجد في جوفها ذهباً: فإن كان مطبوعاً، أو عليه أثر دخوله النار، لم يملكه، وإلا فإن كانت في بحر فيه معادن الذهب ملكه، وإلا فلا، وتكون لقطة. وقد أطلق البغوي القول بأن من اشترى سمكة، فوجد في بطنها درة غير مثقوبة: أنها تكون للمشتري، وإن كانت مثقوبة، فهي للبائع إن ادعاها. قال الرافعي: ويشبه أن يقال: إن الدرة لمن اصطاد السمكة؛ كما أن الكنز [الذي] يكون في الأرض يكون لمحيي الأرض. وقد نجز شرح مسائل الباب، فلنختمه بفروع تتعلق به: أحدها: [إذا أمر عبداً أعجمياً أو مجنوناً بالصيد، فهل الصيد للآمر أو للمأمور؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين"، والمذكور منهما في "التهذيب" و"البحر": أنه إذا كان المأمور عبداً أعجمياً يكون لسيده، وألحق به الصبي]. [الثاني] إذا أرسل كلبه على صيد فقتله، ولم يعلم أنه مملوك، فهل يضمنه؟ فيه وجهان في "الحاوي". أحدهما: نعم؛ كما لو أرسل عليه سهمه؛ فإنه يضمنه وجهاً واحداً. والثاني: لا؛ كما لو وقع في شبكته، وانفلت منها، وتلف، ويخالف مسألة السهم؛ لأن القتل فيها منسوب إلى راميه، وقتل الكلب [منسوب] إلى اختياره. [الثالث]: إذا اختلطت حمامات برج مملوكة بحمامات مباحة، نظر: إن كان المباح محصوراً لم يحل صيد شيء منها، وإن كان غير محصور، حل الصيد؛ كما إذا اختلطت من يحرم عليه نكاحها بنسوة.

قال الغزالي في "الإحياء" في كتاب الحلال والحرام: والعدد المحصور وغير المحصور إنما يضبطان بالتقريب، فكل عدد لو اجتمع في صعيد واحد يعسر على الناظر عددهم بمجرد النظر: كالألف ونحوه، فهو غير محصور، وما سهل: كالعشرة والعشرين، فهو محصور، وبين الطرفين أوساط متشابهة تلحق بأحد الطرفين بالظن، وما وقع فيه الشك [اُستُفتى] فيه القلب. ولو اختلطت حمامات أبراج مملوكة [لا تكاد تنحصر] بحمامات أخرى مباحات، فوجهان: أحدهما: لا يجوز الاصطياد منها؛ فإن ما لا ينحصر بالإضافة إلى مثله كما ينحصر بالإضافة إلى مثله. والثاني: يجوز؛ استصحاباً لما كان. قال الإمام: وهذا إليه صَغْوُ معظم الأصحاب، والأول أقيس. ولو اختلطت حمامات برج مملوكة بحمامة [من] برج آخر مملوكة، وعسر التمييز- ففي "التهذيب": أن لكل مالك أن يأكل بالاجتهاد واحدة واحدة [حتى] تبقى واحدة؛ كما لو اختلطت ثمرة الغير بثمرته. والذي حكاه الروياني: أنه ليس له أن يأكل واحدة منها، حتى يصالح ذلك الغير أو يقاسمه؛ ولهذا قال بعض مشايخنا: ينبغي للتقي أن يجتنب [طير البرج] وبناءها. ونقل الإمام وغيره: أنه ليس لواحد منهما أن يتصرف في شيء منها ببيع أو هبة من ثالث؛ لأنه لا يتحقق الملك فيه، ولو باع أو وهب [أحدهما] من الآخر، ففيه وجهان: وجه الصحة: وهو أولى؛ للحاجة الداعية إليه، وقد ترتفع التعبدات بالضرورات والحاجات؛ ولذلك صححنا القراض والجعالة على ما فيهما من الجهالة. وأنهما لو باعا الحمام المختلط، ولا يدري واحد منهما عين ماله، فإن كانت

الأعداد معلومة: مائتين، ومائة، والقيم متساوية، وزعنا الثمن على أعدادها، وصح بإطباق الأئمة. وإن كانا يجهلان الأعداد [قال الإمام]: فالوجه عندي [عدم] صحة البيع؛ لأنه لا يعرف كل واحد منهما ما يستحقه من الثمن، والطريق أن يقول كل واحد منهما: بعتك الحمام الذي لي في هذا البرج بكذا؛ فيكون الثمن معلوماً، ويحتمل الجهل في المبيع؛ للضرورة. وفي "الوسيط": أنهما لو تصالحا على شيء، صح البيع، واحتمل الجهل بقدر المبيع. ويقرب من هذا ما أطلق من مقاسمتهما. قال الرافعي: واعلم أن الضرورة قد تدعو إلى المسامحة في بعض الشروط المعتبرة في العقود؛ ألا ترى أن الكافر إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة، ومات قبل الاختيار- يضصح اصطلاحهن على القسمة؛ إما بصفة التساوي، أو التفاوت، مع الجهل بالاستحقاق؛ فيجوز أن تصح القسمة هاهنا- أيضاً- بحسب تراضيهما. ويجوز أن يقال: إذا قال كل واحد منهما: بعت ما لي من حمام هذا البرج بكذا، وصححناه مع الجهل بالمبيع، فإذا قالا: بعنا حمام هذا البرج بكذا والأعداد مجهولة- أن يصح أيضاً مع الجهل بما يستحقه كل واحد منهما؛ إذ المقصود انفصال الأمر بحسب ما يتراضيان عليه. والإمام قوى رأيه في عدم الصحة في هذه الصورة بأن رفع الجهل عن الثمن- بأن يبيع كل واحد [منهما] ما يملكه من ذلك- ممكن؛ فلا معنى لاحتمال جهل لا تلجأ إليه الضرورة. ولو انثالت حنطة إنسان على حنطة غيره، أو انصب مائع في مائع، وجُهِلَ المقدار، قال الرافعي: فليكن الحكم كما ذكرنا في اختلاط الحمام. ولو اختلط درهم حرام أو دراهم بدراهم، ولم يتميزا، أو دهن بدهن ونحو

[ذلك]، قال في "الإحياء" وغيره من الأصحاب: طريقة ذلك أن يفصل قدر الحرام، فيصرفه إلى الجهة التي يجب صرفه فيها، ويبقى الباقي له يتصرف فيه بما أراد. الرابع: إذا أخبر فاسق أو كتابي: أنه ذكَّى هذه الشاة، قبلناه؛ لأنه من أهله؛ ذكره في "التتمة". ولو وجدت شاة مذبوحة، ولم يدر: أذبحها مسلم، أو كتابي، أو مجوسي؟ فإن كان في البلد مجوس ومسلمون، لم تحل الذبيحة بالشك في الذكاة المبيحة، والله- عز وجل- أعلم.

باب الأطعمة

باب الأطعمة هذا الباب مسوق لبيان ما يحل تناوله من المطعومات والمشروبات وما لا يحل، وذكر في ربع العبادات؛ لأن طلب الحلال فرض من فروض الأعيان على كل مسلم؛ قال الله - تعالى-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]، قال المفسرون: المراد به هاهنا: المداومة على أكل الحلال، وقال- عليه السلام-: "طلب الحلال فريضة على كل مسلم". والأصل فيما يحل تناوله وما لا يحل [تناوله] من الكتاب آيات، منها قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]، قال الأصحاب- ومنهم الروياني-: اسم الطيب يقع على أربعة أشياء: [الأول:] [على] الحلال؛ كما جاء في الآية الأولى. [و] لا يجوز أن يكون هو المراد [في هذه] [الآية؟ لأنهم سألوه عما يحل لهم؛ فلا يجوز أن يجيبهم بأن يقول لهم: نحل لكم الحلال. [الثاني:] ويقع على الطاهر؛ كما في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6]. ولا يجوز أن يكون هو المراد بهذه الآية]؛ لأن الظاهر أنه ردهم إلى شيء ينفردون بمعرفته، ويختصون به، وهم لا يختصون بمعرفة الطاهر، وإنما يعرفونه بالشرع.

[الثالث:] ويقع على ما لا أذى [فيه]، كقولهم: "هذا يوم طيب"، و"ليلة طيبة"؛ إذا لم يكن في [ذلك] حر يؤذي ولا برد يؤذي. ولا يجوز أن يكون هو المراد في هذه الآية؛ لأن الشيء المأكول لا يوصف بذلك. الرابع: ويقع على ما تستطيبه النفس وتشتهيه. وهو المراد بالآية المذكورة؛ لانحصاره؛ وهذا ما ذكره القاضي أبو الطيب، وصححه القاضي الحسين بعد أن أبدى احتمالاً آخر، وهو أنه يجوز أن يكون المراد: الحلال؛ كما في قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. [ومنها قوله تعالى في صفة نبيه (: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ومنها قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية [الأنعام: 145]، واختلف أصحابنا في تأويلها: فمنهم من قال: أراد بما أوحى إليه: قرآنا؛ فإنه لم يرد فيه غير تحريم هذه الأطعمة، وما عداها من المحرمات، فبالسنة حرم. ومنهم من قال: [أراد]: قل لا أجد محرماً مما كانت العرب تستطيبه إلا هذه الأشياء الأربعة؛ والرابع منها قوله تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]. ومن السنة ما سنذكره في أثناء الباب، إن شاء الله تعالى. قال: ويؤكل من دواب الإنس: الإبل، والبقر، والغنم؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] وقوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَاكُلُونَ} [النحل: 5] [وقد أجمعت الأمة على ذلك]. قال: والخيل؛ لقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية [الأنعام: 145]. وقد روى أبو داود عن محمد بن علي- وهو الباقر- عن جابر بن عبد الله قال: "نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحُمُرِ، وأذن في لحوم الخيل"،

[وأخرجه مسلم والبخاري كما ذكرناه، ولفظ البخاري: "وأرخص في لحوم الخيل". فإن قيل: فقد روى أبو داود- أيضاً- عن خالد بن الوليد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحوم الخيل] والبغال والحمير. قلنا: قال أبو داود: وهو منسوخ. [وقال النسائي: إن صح هذا، فهو منسوخ]، ويدل عليه قوله في الحديث الأول: "وأذن" أو: "أرخص في لحوم الخيل". تنبيه: الإنس: البشر، واحدهم: إِنْسي، بكسر الهمزة وإسكان النون، وأَنَسِيّ بفتحها، حكاه الجوهري وغيره، والجمع: أناسِي. قال: ويقال للمرأة: إنسان، ولا يقال: إنسانة. وفي "المفصل" للزمخشري عند الكلام في أقسام تاء التأنيث: أن من ذلك دخولها للفرق بين المذكر والمؤنث في الاسم: كامرأة، وشيخه، وإنسانة. الخيل: قال الجمهور: هو [اسم] جنس، لا واحد له من لفظه: كالقوم، والنفر، والرهط، [والنساء]، وواحده من غير لفظه: فرس، يطلق على الذكر والأنثى، وقيل: [إن] واحده خائل كطائر وطير.

والخيل معروفة، وجمعها: خيول، وتصغيرها: خييل، وسميت: خيلاً؛ لاختيالها في مشيها بطول أذنابها. والله أعلم. قال: ولا يؤكل الكلب؛ لأنه من الخبائث؛ قال- عليه السلام-: "الْكَلْبُ خَبِيثُ وَخَبِيثُ ثَمَنُهُ"، وإذا ثبت أنه من الخبائث، اندرج تحت قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. قال: والخنزير؛ للآية، والبغل والحمار؛ لحديث جابر. وقد روى أبو داود عن أبي الزبير عن جابر- أيضاً- قال: "ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير؛ فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البغال والحمير، ولم يَنْهَنَا عن الخيل"، وأخرجه مسلم بمعناه. وحكم لبن ما لا يحل أكله مما ذكرناه حكم لحمه؛ لأنه عصارته. وفي "التتمة" وجه في حِلِّ لبن الحمير؛ لأنه كان مباحاً في ابتداء الإسلام مع اللحم، والخبر دال على تحريم اللحم خاصة؛ فيبقى اللبن على الإباحة. قلت: ويمكن أخذه من أصل آخر، وهو أن الحمير حرمت بالنص، أو لأجل أن العرب تستخبثها؟ وفيه وجهان في "الحاوي": فإن قلنا بالأول، أمكن أن يقال بالحل؛ لما ذكر، وإن قلنا بالثاني فلا. قال: والسنور؛ لما روى عن جابر بن عبد الله: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن

الهِرِّ". وفي رواية: "عن أكل الهر، وأكل ثمنها"، وأخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه. فإن قلت: في إسناده عمر بن زيد، وهو لا يحتج بحديثه. قلت: قد روى مسلم من حديث أبي الزبير قال: سألت جابراً عن ثمن الكلب والسنور، فقال: "زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك". [وروي أنه- عليه السلام- قال: "إنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئاً حَرَّمَ ثَمَنَهُ"]. وروي أنه- عليه السلام- قال: "الهِرُّ سَبُعُ"، ولأنه يصطاد بنابه، ويأكل الجيف؛ فحرم كالأسد.

وفي الرافعي: أن أبا عبد الله البُوشَنْجِيّ من أصحابنا اختار لنفسه حل أكلها كمذهب مالك. قال: ويؤكل من دواب الوحش البقر؛ لأنها من الطيبات. قال البندنيجي: ويستوي فيها التيتل والأيل والوعل، وكذا يؤكل جميع كباش الجبل وغنمه. قال: والحمار؛ لأنه من الطيبات أيضاً. وقد روى أبو داود عن قتادة أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان ببعض طريقمكة، تخلف مع أصحاب [له محرمين، وهو غير محرم، فرأى حماراً وحشياً، فاستوى على فرسه، قال: فسأل أصحابه] أن يناولوه سوطه، فأبوا، فسألهم رمحه فأبوا، فأخذه، ثم شدَّ على الحمار، فقتله، فأكل [منه] بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبى بعضهم، فلما أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن ذلك، فقال: "إنَّما هي طُعْمَةُ، أطْعَمَكُمُوهَا اللهُ تَعَالَى"، وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، ووقع في البخاري ومسلم: أنه- عليه السلام- أكل منه. وقوله- عليه السلام-: "أَلاَ لاَ يَحِلُّ ذُو نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَلاَ الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ"- كما خرجه أبو داود عن المقدام بن معديكرب والدارقطني مختصراً [يدل عليه أيضاً]. ولا فرق في ذلك بين ما تأنس منه أو بقي على توحشه؛ كما لا فرق في تحريم الإنسي بين أن يبقى على صفته أو يتوحش؛ كما قاله في "البحر" وغيره. قال: والظبي؛ لأنه من الطيبات؛ فتناوله قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]. قال: والضبع؛ لما روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

عن الضبع، فقال: "هُوَ صَيْدُ، وَيُجْعَلُ فِيهِ كَبْشُ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ". وأخرجه النسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: إنه حسن صحيح. وروى الشافعي بسنده عن عبد الرحمن بن أبي عمار قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع أصيد هو؟ قال: نعم، [فقلت: سمعت ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم]. قال الشافعي- رضي الله عنه-: وما زال الناس يأكلون الضبع، ويبيعونها بين الصفا والمروة- يعني: في الصدر الأول- ولم ينكر ذلك أحد. قال: والثعلب؛ لأنه من الطيبات. والأرنب؛ لما روى أبو داود عن أنس بن مالك قال: كنت غلاماً حَزَوّرًا فصدت أرنباً فشويتها، فبعث معي أبو طلحة بعجزها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته بها. وأخرجه

البخاري ومسلم بنحوه. وفي رواية البخاري: "بوركها وفخذها، فَقَبِلَهُ". والحزور- بالتشديد والتخفيف-: الذي قارب البلوغ. قال: واليربوع؛ لأن العرب تستطيبه، وقد أوجب فيه عمر- رضي الله عنه- على المحرم جفرة، ولو لم يكن يؤكل لما ضمنه المحرم؛ كالفواسق، وهو دويبة مثل الجرذ، لها رأس مدور، وعين ضخمة سوداء مستديرة، بيضاء الطرف، قصيرة اليدين، طويلة الرجلين. قال: والقنفذ؛ لأنه مستطاب، لا يتقوى بنابه، يحل كالأرنب، وقد روى أبو داود عن تميلة عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر، فسئل عن أكل القنفذ، فتلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية [الأنعام: 145]، وهذا ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- في كتاب الطعام. فإن قيل: قد روى أبو داود تتمة الأثر المذكور: أن شيخاً قال عند ابن عمر: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "خَبِيثٌ مِنَ الْخَبَائِثِ"، فقال ابن عمر: إن كان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو كما قال. وهذا يدل على التحريم. قيل: قد قال به بعض المراوزة، كما صار إليه أبو حنيفة وأحمد، لكن الصحيح الأول، والجواب ما قاله البيهقي: إن إسناد ذلك غير قوي، وأيضاً: فإنه رواية شيخ مجهول؛ فلا يعارض عموم الكتاب، ولو صح فهو محمول على أنه خبيث الفعل؛ لأنه يخفي رأسه عند التعرض لذبحه، ويؤذي بشوكه إذا صيد. وعن القفال: أنه إن صح الخبر فهو حرام، وإلا رجعنا إلى العرف، هل يستطيبونه؟ والمنقول عنهم الاستطابة. والقنفذ: بضم القاف والفاء، ويقال بفتح الفاء أيضاً؛ ذكرهما الجوهري، وجمعه: قنافذ، والأنثى: قنفذة، ويقال: قنفط- بالطاء بدل الذال- وهو غريب.

وقد ألحق البغوي بالقنفذ في جريان الخلاف الدُّلْدُلَ، وهو أكبر من القنفذ ذو شوك طويل، يشبه شوكه، والصُّرَدُ، والسلحفاة. قال: والوبر؛ لأن العرب تأكله وتستطيبه؛ وهذا ما نص عليه الشافعي، رضي الله عنه. وفيه وجه آخر: أنه حرام؛ حكاه البغوي وغيره، [وبه قطع الشيخ أبو محمد، وعدَّهُ من الخبائث. قال الإمام: ولا أصل له في ذلك يرجع إليه]. قلت: يمكن أن يكون أصله فيه قول الشافعي- رضي الله عنه- كما حكاه ابن الصباغ وغيره في باب جزاء الصيد: "إن كان الوبر تأكله العرب، ففيه جفرة"، لكن [الشافعي قد] حكى عن عطاء ومجاهد أنهما حكما في الوبر بشاة، ولا يفدي إذا لم يكن متولداً من مأكول وغيره إلا ما يؤكل، كما سنذكره. والوبر- بإسكان الباء-: الذكر، وجمعه: وبار- بكسر الواو- والأنثى: وبرة؛ قاله ابن الأعرابي، وهو دويبة سوداء أكبر من ابن عرس، وأصغر من الهرة الوحشية، وليس لها ذنب، كحلاء العين. وقيل: منه يعمل الخَزّ. قال: وابن عرس؛ لأن العرب تستطيبه. وفيه: أنه يحرم؛ حكاه الماوردي، ونسبه المراوزة إلى العراقيين. والأول ليس منقولاً عن الشافعي؛ فإن في "تعليق البندنيجي": أنه لا يعرف فيه. وفي السنجاب والسنور والدَّال والفَنَك- قول، وقد ذكر أن أبا يوسف قال: كلها سبع كالثعلب، فإن كانت كما قال فهو على المذهب حلال؛ لأنَّا نرد المجهول إلى أقرب الأشياء شبهاً بالمعروف، والوجه الآخر جارٍ فيما ذكره أيضاً، وبعضهم لم يورده في السنجاب والفنك، وألحق به الدَّلَق والقمام والحواصل، وعلى ذلك جرى في "التهذيب". وقال الرافعي: إنه الذي يحكي عن النص.

وابن عرس: بكسر العين، وإسكان الراء، وجمعه: بنات عرس، وكذلك ابن آوى وابن مخاض وابن لبون، جمعه: بنات آوى وبنات مخاض وبنات لبون، وحكى الأخفش: بنات عرس وبنو عرس، وبنات نعش وبنو نعش. قال: والضب؛ لما روى أبو داود عن خالد بن الوليد: أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة، فأُتِيَ بضب محنوذ- أي: مشوي، وقيل: هو المشوي بالرَّضْف، وهي الحجارة المحماة- فأهوى إليه بيده - صلى الله عليه وسلم - فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل منه هو ضب؛ فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده، قال: فقلت: حرام هو؟ قال: "لاَ، وَلَكِنَّهُ لمَ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي؛ فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ"، قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر. وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهم. وهوى وأهوى بيده إلى الشيء: تناوله، ويقال للضب: السحل، والأنثى: ضبة. [وأم حبين]، قال البندنيجي: هي ضرب من الضِّباب، وقد قال الشافعي- رضي الله عنه-: إن كانت العرب تأكلها، ففيها ما قضى به عثمان- رضي الله عنه- فتوقف فيها. وفي "التهذيب" الجزم بحلها، وهو أصح الوجهين في الرافعي؛ لأنها تُفدى. وهي- كما قال القاضي أبو الطيب-: دابة كبيرة الجوف صفراء.

قال: وسنور البر [فقد]، قيل: إنه يؤكل؛ لأنه حيوان يتنوع إلى أهلي ووحشي، حرم الأهلي منه؛ فيحل الوحشي؛ كالحمار، وهذا يحكى عن الخضري، واختاره في "المرشد". وقيل: لا يؤكل؛ لأنه يصطاد بنابه؛ فاندرج تحت نهيه- عليه السلام- عن أكل كل ذي ناب من السباع، وهذا ما صححه البغوي والرافعي، واختاره القفال. وفرق بينه وبين الحمر بأنها تفارق الأهلية في ألوانها وهيئاتها وطباعها، وقد قال بعضهم: إن أصل الخلاف التردد في أنه وحشي الأصل، أو كان إنسياً وتوحش، وتولد عند انجلاء أهل القرى وسِنِي القحط؟ فعلى الأول: يحل، وعلى الثاني: لا. واعلم أن أصل قاعدة المذهب في الحيوان الوحشي- كما قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الصيد والذبائح-: أن ما فداه المحرم في سُنَّةٍ أو أثر يؤكل. قال البندنيجي: ولا يخرج منه إلا السِّمع ونحوه؛ لما سيأتي. قال: ولا يؤكل ما تستخبثه العرب من الحشرات: كالحية، والعقرب، والوزغ، وسام أبرص، والخنفساء، والزنبور، والذباب، والجعلان، وبنت وردان، وحمار قَبَّان وما أشبهها، أي: كالفئران، والنحل، والعناكب، والقراد، والصراصير، [والنمل]، والدود، والقمل، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، ولأن الشرع قد أمر بقتل بعض ذلك؛ روى أبو داود وغيره عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عما يقتل المحرم؟ قال: "الحَيَّةُ، والْعَقْرَبُ، والْفُوَيْسِقَةُ، وَيَرْمِى الْغُرَابَ، وَلاَ يَقْتُلُهُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، والْحِدْأَةُ، والسَّبُعُ الْعَادِي"، ونهى

عن قتل بعضه. وروي أنه- عليه السلام- نهي عن قتل النملة، والنحلة، والخطاف، والصرد، والهدهد، والضفدع، فلو كان البعض الأول مباح الأكل، لما أمر بقتله؛ كما لم يأمر بقتل سائر ما يحل أكله؛ لأجل إبقائه للتسمين وللأكل، وكذلك لو كان البعض الآخر مباح الأكل، لما نهى عن قتله؛ لأن الذكاة قتل مخصوص، وإذا امتنع أكل البعضين، قِيسَ ما في معناهما عليهما. وقد جعل صاحب "التلخيص" وغيره ذلك أصلاً، فقال: ما أمر بقتله فهو حرام، وما نهي عن قتله فهو حرام. قال البغوي: قال الأصحاب: والأول أصح، وأما الثاني: فليس على إطلاقه؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه- أوجب في الهدهد، والصُّرَد الجزاء، وعنده لا يجب الجزاء على المحرم بقتل ما لا يؤكل لحمه، ولأصحابنا فيهما وجهان: أحدهما: لا يحل؛ لورود النهي عن قتلهما، وهو الأظهر في "الرافعي"، وبه جزم في "الوجيز" في الصرد. والثاني: يحل، والنهي عن قتلهما محمول على الكراهة؛ لأن الهدهد امتثل أمر نبي من الأنبياء، والصُّرَد كانت تتشاءم به العرب بصوته وصورته. وأما الخطاف، والنحلة، والنملة، وغيرها مما ذكرناه، فحرام. وعن أبي عاصم العبادي أن محمد بن الحسن قال: يحل الخطاف. وهو محتمل على أصلنا، وإليه مال كثير من أصحابنا، وأجرى أبو عاصم العبادي الخلاف في النملة والنحلة. وما ذكرناه من تحريم الدود مخصوص بما لم ينشأ من الطعام، أما ما نشأ منه:

كدود الخل، والجبن، ونحوه، فهل يحل أكله؟ الذي أورده الماوردي والروياني هنا: المنع، وحكى الرافعي وجهاً آخر: أنه يحل، وحكى الإمام في كتاب الطهارة الحل عند اتصاله بما تولد منه، وحكى وجهين فيما إذا جمعه وأكله منفرداً، هل يحل أم لا؟ والصحيح المنع، وبهذا يحصل في المسألة ثلاثة أوجه. تنبيه: احترز الشيخ بقوله: "العرب"، عما يستخبثه العجم؛ فإنه لا اعتبار بذلك؛ لأن الله- سبحانه وتعالى- لما أناط الحل بالطيبات والتحريم بالخبائث، عُلِمَ بالعقل: أنه لم يرد ما يستطيبه ويستخبثه كل العالم؛ لاستحالة اجتماعهم على ذلك عادة؛ لاختلاف طبائعهم، وتفاوت شهواتهم؛ فتعين أن يكون المراد: ما يستطيبه ويستخبثه بعضهم، وكان العرب بذلك أولى؛ لأن القرآن بلغتهم نزل، وهم المخاطبون به؛ وعلى هذا فطبائع العرب- أيضاً- مختلفة؛ لاختلاف الأزمنة والأمكنة في الشدة والرخاء؛ فلا يمكن إناطة الحكم في الحل والتحريم باستطابة جميعهم [الشيء واستخباثه] بل المرجع في ذلك إلى من كان في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كما قاله القاضي الحسين وجماعة، كما قاله الرافعي، وأبدى لنفسه احتمالاً في عدم اختصاصهم بذلك، وأنه يرجع في كل زمان إلى العرب الموجودين فيه، وقوَّاه بحكايةٍ رواها عن أبي عاصم العبادي عن الأستاذ أبي طاهر الزيادي عن أبي الحسن الماسرجسي. وعلى كل حال فيشترط فيمن يرجع إليهم [في ذلك] أن يكونوا متصفين وراء ما ذكرناه بصفات: إحداها: أن يكونوا قريبين من البلاد والأرياف؛ كما قال القاضي أبو الطيب وغيره، دون المقيمين في المواضع المنقطعة وأهل البادية؛ لأن أولئك يأكلون كل ما وجدوا، حتى روي أن بعضهم سأل أعرابياً فقال: ما تأكلون؟ قالوا: نأكل كل ما دبَّ ودرج إلا أم حبين، فقال الرجل: لِيَهْنِ أمَّ حبينٍ العافيةُ. الثانية: أن يكونوا ذوي طباعٍ سليمة. الثالثة: أن تكون الاستطابة في حال الرفاهية؛ حتى يأكلوا ذلك عادة، دون حالة القحط. الرابعة: أن تكون الاستطابة والاستخباث من الأكثر؛ لأن من الأشياء ما أباحها

بعضهم شاذاً: كالحيات ونحوها، إلا أن أكثرهم استخبثها، ومنها ما يستقذره الواحد منهم، وهو حلال عند عامتهم؛ كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الضب، فإن افترقوا فريقين على السواء، قال الماوردي والقاضي الحسين والعبادي: رجح بقريش، فإن اختلف قريش أو لم يحكموا بشيء، رجع إلى شبيه الحيوان، والشبه تارة يكون في الصورة، وتارة في طبع الحيوان من السلامة والعدوان، وأخرى في طعم اللحم، فإن تساوى الشبهان، أو لم يجد ما يشبهه، فوجهان: أحدهما- عن أبي إسحاق والطبري، وظاهر المذهب كما قال في "العدة"، وإليه ميل الشافعي كما قال الإمام-: أنه حلال؛ لما روى أبو داود عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ويتركون أشياء، فبعث الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو. وتلا قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية [الأنعام: 145]. [والوجه] الثاني- قاله بعض أصحابنا-: أنه حرام؛ لأن الحيوان في الأصل محرم إلا ما دَلَّ عليه الدليل؛ فإذا لم يرد فيه دليل فهو باق على التحريم، وهذا ما رجحه ابن كج. وبنى الماوردي الوجهين على اختلاف أصحابنا في أن أصول الأشياء قبل ورود الشرع هل هي على الإباحة أو على الحظر؟ فعلى الأول يحل ما تكافأ اختلافهم فيه. وعلى الثاني يحرم. وهذا حكم باقي بلاد العرب، أما ما لم يكن فيها بل في بلاد العجم، اعتبر فيه حكمه في أقرب بلاد العرب عند من جمع الأوصاف السالفة، فإن اتفقوا على شيء عمل به، وإن اختلفوا مع التساوي، ولا شبيه له، ففي "تعليق القاضي أبي الطيب" وغيره وجهان؛ كما سبق. وفي "الحاوي": أنه يعتبر فيه حكمه في أقرب الشرائع للإسلام، وهي النصرانية، فإن اختلفوا فيه، فعلى ما ذكرناه من الوجهين. وهذا منه يدل على أن ما هو محرم في

شريعة غيرنا يحرم علينا عند إشكال الحال. وقد قال الغزالي: فيه قولان بناهما الموفق بن طاهر على أن شرع من قبلنا إذا ثبت بالكتاب أو السنة أو بقول عدلين ممن أسلم منهم، وهو يعرف المبدل من غيره- هل يكون شرعاً لنا؟ وفيه اختلاف الأصوليين. وقول الشيخ: "من الحشرات" قد يفهم أن المراد به إخراج ما تستخبثه العرب من غير الحشرات؛ فإنه لا يحرم، وليس كذلك؛ بل الآخر حرام- كما ستعرفه- لعموم الآية، وإنما أتى به؛ لأنه لما ذكر حل اليربوع والقنفذ والوبر وابن عرس والضب وذلك من الحشرات- لأن الحشرات بفتح الحاء والشين: صغار دواب الأرض، وقيل: صغار دوابها وهوامها- فقد يظن ظان أن ما ذكره الشيخ تمثيلُ، وأن جميع الحشرات يحل أكلها؛ كما صار إليه الإمام مالك؛ تمسكاً- مع الآية- بما روى أبو داود عن ملقام بن تَلِبِّ عن أبيه قال: صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم أسمع لحشرة الأرض تحريماً، فصرح [الشيخ] بالتحريم؛ [لنفي هذا التوهم]، أو لاستكمال بيان حكمها، أو لينبه على أن ما ذكر إباحته أولاً من الطيبات حتى يكون دليله على الجميع واحداً، وهو قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157]. [تنبيه] آخر: الحية للذكر والأنثى، والعقرب والعقربة والعقرباء، كله للأنثى، والذكر: عقربان، بضم العين والراء. الوزغ: بفتح الواو والزاي، واحدها: وزغة، وتجمع على: أوزاغ، ووزغان. سام أبرص: بتشديد الميم، قال أهل اللغة: هو كبار الوزغ. الخنفساء: بضم الخاء ممدودة، والفاء مضمومة ومفتوحة، والفتح أفصح وأشهر، قال الجوهري: ويقال: خنفس وخنفسة. الزنبور: بضم الزاي. الذباب: جمعه في القلة: أذِبَّة، والكثرة: ذِبَّان: بكسر الذال؛ كغراب وأغربة

وغربان، سمي ذباباً؛ لحركته واضطرابه؛ قاله الواحدي عن الزجاجي. وقال غيره: لأنه يُذَبُّ، أي: يُدْفَعُ. الجعلان: بكسر الجيم، جمع: جُعَل، بضمها، وفتح العين. وحمار قبان: دويبة معروفة. قال: وكذلك لا يؤكل ما يتقوى بنابه: كالأسد، والفهد، والنمر، والدب، والذئب، والفيل، والقرد، والتمساح، والزرافة، وابن آوى؛ لما روى أبو داود عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع.

وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. قال القاضي الحسين وغيره: وفي نصه- عليه السلام- في الحديث السابق على قتل الكلب دلالة على دخول الأسد والفهد والنمر، ونحوه فيه. ثم ما المعنى الذي لأجله حُرِّم ذو الناب؟ المعزيُّ إلى الشافعي- رضي الله عنه- كونه يعدو بنابه على الحيوان، طالباً غير مطلوب. وإلى أبي إسحاق: كون عيشته بنابه، ومعناه: أنه لا يأكل إلا من فريسته، ولا جرم لم يكن الضبع ونحوه مما تقدم محرماً؛ لانتفاء المعنيين [المذكورين] فيه. ثم ما ذكره الشيخ في الفيل والقرد والتمساح هو المشهور. وعن أبي عاصم العبادي: أن أبا عبد الله البوشنجي من أصحابنا اختار حل الفيل كمذهب مالك- رحمه الله- لأنه لا يعدو من الفيلة إلا الفحل المغتلم كالإبل. وفي "تعليق البندنيجي": أن بعض أهل العلم حكى عن الشافعي أن القرد مأكول، ولا يعرف له، ولا ذُكِرَ في كتبه. وفي التمساح وجه: أنه مباح الأكل، وهو يؤخذ من قول الشيخ الذي سنذكره من بعد. وما ذكره في ابن آوى هو ما رجحه أبو علي الطبري والقاضي الحسين والروياني والبغوي وصاحب "المرشد". وادعى الإمام قطع المراوزة [به]؛ لأنه مستخبث من جنس الكلاب، وله ناب يعدو به على الطيور، ويأكل النجاسات. قال القاضي الحسين: ومن أصحابنا من قال: يؤكل كالثعلب، وهو ظاهر كلام

الشافعي- رضي الله عنه- لأن له ناباً ضعيفاً، وعلى ذلك ينطبق قول الشيخ أبي حامد: إنه الأشبه بالمذهب؛ لأن الذي علل به الشافعي تحريم ذي الناب مفقود فيه، نعم: ما علل به أبو إسحاق موجود فيه؛ فالتحريم جارٍ على أصله، وقد صرح بذلك الماوردي، [وهذان] الوجهان جاريان في الدَّلَق، وقد دَلَّ كلام الشيخ، على أن الزرافة مما يتقوى بنابه، وليس كذلك؛ ولأجله قال الفراء [في] فتاويه بحلها؛ كالثعلب، وقرأ بعضهم ما في الكتاب بالقاف، وقال: إنها حيوان غير الذي يسمى بالزرافة، وهو يتقوى بنابه، والله أعلم. تنبيه: النَّمر: بفتح النون، وكسر الميم، ويجوز إسكان الميم مع فتح النون وكسرها كنظائره، والزرافة: بفتح الزاي وضمها؛ حكاهما الجوهري وغيره، ولم يذكر ابن مكي غير الفتح، وجعل الضم من لحن العوام، [وليس] كما قال. قال: ويؤكل من الطيور: النعامة، والديك، والدجاج، والبط، والإوز، والحمام، والعصفور، وما أشبهها؛ لأنها من الطيبات؛ فاندرجت تحت قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] وقد قضت الصحابة أن في النعامة بدنة على المحرم. وقال أبو موسى الأشعري: "رأيته- عليه السلام- يأكل الدجاج"، رواه البخاري. وروي عنه- عليه السلام- أنه قال: "مَنْ أَشَارَ بِقَتْلِ عُصْفُورٍ فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا

إلاَّ سَأَلَهُ اللهُ عَنْهَا"، قيل: وما حقها؟ قال: "يَذْبَحُهَا، فَيْأَكُلُهَا، وَلاَ يَقْطَعُ رَاسَهَا وَيَطْرَحُهَا". وفي معنى ما ذكره الشيخ: الحُبَارى، وقد وردت السنة بإباحتها كالحمام، والفرق بينه وبين الحمام تقدم في باب كفارة الإحرام. وطير الماء مباح، وفي الأبلق منه وجه أنه لا يحل، وهو الأصح عند البغوي، وبه أجاب أبو عاصم العبادي؛ لأنه يطعم الخبائث. والذي مال إليه الشيخ أبو محمد: الحِلُّ، وهو الأظهر عند الغزالي. وقال الصيمري: الأظهر من طير الماء لا يؤكل كما نقله في "البحر"؛ لخبث لحمه. والجراد يؤكل؛ لما روى أبو داود عن أبي يعفور قال: "سمعت ابن أبي أوفى، وسألته عن الجراد، فقال: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ست- أو سبع- غزوات، فكنا نأكله". وأخرجه البخاري. وهل يجوز أكل العقعق والببغاء والطاوس؟ فيه وجهان، أصحهما التحريم. وفي الهدهد والخطاف ما تقدم. قال القاضي الحسين: والأصل عند الشافعي- رضي الله عنه- أن كل طير يقتات الطاهر، ولا يكون نهاشاً، فهو طاهر حلال، ويوافقه قول الشيخ أبي عاصم العبادي: إن النهاش حرام كالسباع التي تنهش. واللقاط حلال إلا ما استثناه النص، وما تقوت الطاهرات حلال إلا ما استثناه النص، وما تقوت النجس حرام. تنبيه: النعامة: بفتح النون، والنعام اسم جنس؛ كحمامةٍ وحمام، قال الجوهري:

والنعامة تذكر وتؤنث. الديك: ذكر الدجاج، وجمعه: ديوك، ودِيَكة. الدجاج: بفتح الدال وكسرها، والفتح أفصح باتفاقهم، الواحد: دجاجة، تقع على الذكر والأنثى، وجمع المصنف بين الديك والدجاج هو من باب ذكر العام بعد الخاص، وهو جائز؛ كما سبق تقريره وأمثلته [في باب كفارة الإحرام]. البط: اسم جنس، واحدته: بطة، للذكر والأنثى، وهو من الإوز الذي لا ينهض طائراً بجناحه. الإوز: بكسر الهمزة وفتح الواو [وهو] [اسم] جنس، الواحدة: إوزة، وقد جمعوه: إوزين. العصفور: بضم العين، والأنثى: عصفورة، والعصافير أنواع كثيرة تعرف بشكلها وإن اختلفت ألوانها: كالنغر والبلبل. ويقال: إن أهل المدينة يسمون البلبل: النُّغر. وفيه وجه: أنه لا يحل. والحُمَّرة من جملة أنواعها، [وحكى العبادي أن منهم من حرمها؛ لأنها تنهش. والعبدان من جملة أنواعها]. وعن رواية صاحب "التقريب" وجه: أنه حرام، والأظهر حله، وهو الذي أورده صاحب "التهذيب"؛ لأنه لقاط ويتقوت بالطاهر. والزرزور أدخله الغزالي- تبعاً لإمامه- والقاضي الحسين في اسم العصفور، وجزم بحله، وفي "تعليق البندنيجي" الجزم بتحريمه. قال: ولا يؤكل ما يصطاد بالمخلب: كالنسر، والصقر، والشاهين، والبازي، والحدأة؛ لما روى أبو داود عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطيور".

وأخرجه مسلم. وأيضاً: فالحدأة قد أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلها كما تقدم في الحديث، وذلك يدل على تحريمها كما تقدم، وإذا ثبت ذلك فيها، ففي الصقور والبازي ونحوه أولى؛ لأن مخلب الحدأة أضعف من مخالب ذلك؛ فإنها إنما تسلب لحماً أو تظفر بفأرة. وقد ألحق الأصحاب بالحدأة: البُغاثة؛ لأنها ذات مخلب ضعيف، وهي طائر أبيض بطيء الطيران، أصغر من الحدأة، وكذا الصّرد ملحق بها على الأصح؛ لأنه ذو مخلب يصطاد العصافير، والوجه الآخر الذي تقدم ذكره فيه أخذ من نص الشافعي- رضي الله عنه- في القديم- كما قال البندنيجي- على إيجاب الجزاء فيه. والرَّخَمة حرام بخبث غذائها. وقد روي عن ابن عباس- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل الرخمة. تنبيه: المخلب: بكسر الميم، [وهو] للطائر والسباع كالظفر للإنسان. النسر: بفتح النون، جمعه في القلة: أنسر، وفي الكثرة: نسور، وقد عده الشيخ من ذوات المخالب، كما عده الماوردي والبندنيجي وغيرهما منها. لكن ابن الصباغ وشيخه القاضي أبا الطيب والقاضي الحسين عدوه مما لا مخلب له، وعللوا التحريم بأنه من المستخبثات كالرخمة.

الشاهين: قال الجواليقي: هو فارسي معرب، ويقال فيه: سودانق وشودنبق، [وسودنبق]- بالسين المهملة والمعجمة- وسودق وسودانق وسودونوق- بالعجمية- قال أبو علي: أصله: سادانك، أي: نصف درهم. قال: وأحسبه يراد بذلك قيمته، أو أنه كنصف البازي. البازي: فيه ثلاث لغات: الفصيحة المشهورة: البازي مخففة، والثانية: باز؛ حكاها الجوهري وآخرون، والثالثة: بازيّ- بتشديد الياء- حكاها ابن مكي، وهي غريبة أنكرها الأكثرون. قال أبو حاتم السجستاني: البازي والباز مذكر لا اختلاف فيه. ونقل عن أبي زيد أنه يقال للبزاة والشاهين وغيرهما مما يصيد: صقور، واحدها: صقر، والأنثى: صقرة. وقد ينكر على الشيخ- رحمه الله- كونه جعل الصقر قسماً للبازي والشاهين مع أنه يتناولهما وغيرهما. [و] يجاب عنه بأنه ذكر العام ثم الخاص، وهو جائز كما سبق. الحدأة: بكسر الحاء وفتح الدال وبعدها همزة على وزن: عنبة، والجماعة: حِدَأ، كعنب. قال: ولا ما يأكل الجيف: كالغراب الأبقع، والغراب الأسود الكبير، لأنه مستخبث؛ فحرم للآية. وقد روى أبو داود عن سالم عن أبيه قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يقتل المحرم من الدواب، فقال: "خَمْسُ لاَ جُنَاحَ فِي قَتْلِهِنَّ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْعَقْرَبُ، وَالْفَارَةُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ".

وفي "الوسيط": أن العراقيين ترددوا في الغراب الأسود الكبير. وقد حكى الرافعي التردد وجهين، وصحح التحريم، وهو ما ادعى القاضي الحسين نفي خلافه. وجمع الغراب: غِرْبان، وأَغْرِبة، وأَغْرُب، وغَرَابِين، وغُرْب. قال: وأما غراب الزرع، الذي يسمى: الزاغ، ويكون محمر المنقار والرجلين، والغداف، أي: بضم الغين المعجمة، وتخفيف الدال المهملة، وهو الصغير الجثة، الرمادي اللون- فقد قيل: إنهما يؤكلان؛ لأنهما يلتقطان الحب؛ فأشبها الفواخت- ويخالفان الغراب الأبقع والأسود الكبير؛ فإنهما يأكلان الجيف؛ وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب، واختاره في "المرشد"، وصححه النواوي في غراب الزرع. وقيل: لا يؤكلان؛ لإطلاق اسم الغراب عليهما؛ فدخلا في الخبر السابق، وهذا

ما صححه النواوي في الغداف. وحكم بيض ما ذكرناه في الحل والتحريم حكم لحمه. قال: وما تولد من مأكول وغير مأكول لا يحل أكله: كالسمع؛ لأنه متولد بين الذئب والضبع، وغيره، أي: كالحمار المتولد بين حمار الوحش والإنس؛ تغليباً للتحريم؛ كما في البغل، ولا فرق بين أن يكون الأب مما يحل خاصة أو بالعكس، ومن هنا يؤخذ أن ما تولد من كلب أو خنزير وشاة أنه حرام كما صرح به الأصحاب. وما تولد من حيوانين يحل أكلهما، كما إذا تولد بين حمار وحشي وفرس- أو بين أتان وحشية وفرس- حيوان حلال؛ لأن أكلهما حلال. ولو اشتبه [ولد] حيوان، ولم يدر: هو متولد مما يحل أو لا، فالاختيار- كما قال ابن الصباغ- ألا يؤكل، فإن أراد أكله، رجع إلى خلقته، فإن كان يشبه ما يحل أَكْلُهُ، حَلَّ، وإن كان [يشبه ما يحرم، لم يحل]. والسمع بكسر السين. قال: وتكره الشاة الجلالة؛ لما روى أبو داود عن ابن عمر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الجلالة [وألبانها]، وأخرجه الترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: إنه حسن غريب، والبقرة والناقة والدجاجة الجلالة كالشاة؛

لظاهر الخبر؛ ولهذا قيل: لو قال الشيخ: "وتكره الجلالة"، وحذف لفظ "الشاة"، لكان أصوب، وأحسن، وأعم، وأخصر. والجلالة: بفتح الجيم، وتشديد اللام: هي التي أكثر أكلها العذرة اليابسة؛ كذا قاله الشيخ أبو حامد، ولم يورد النواوي سواه، وقال: إن الجل- بفتح الجيم-: البعر.

وقال غيره: هي التي تتعاطى أكل العذرة والأشياء القذرة، ووجه التغاير: أن قضية هذا التفسير ألا يعتبر أن يكون أكل ذلك غالباً، بخلاف الأول. وفي "الحاوي" في باب بيع الكلاب: أن الأثر في ذبح الجلالة جاء بعد رعي الأقذار أربعين يوماً في البعير، والبقرة ثلاثين، والشاة سبعة أيام، والدجاجة ثلاثة أيام. فإن قلت: ظاهر النهي التحريم، فلم حمل على الكراهة دون التحريم؟ قيل: لأن النهي عنها ورد لأجل ما تأكله من الأنجاس، وما تأكله البهيمة من الطاهرات ينجس إذا حصل في كرشها، فليس يكون غذاؤها إلا بالنجاسة؛ فلا يؤثر أكلها [النجاسة إلا تغير رائحة لحمها، وذلك يقتضي] الكراهة دون التحريم؛ ألا ترى أن لحم المذكى إذا جاف كره، ولا يحرم على المذهب؛ فلذلك حمل النهي على الكراهة دون التحريم، والله أعلم. قال: فإن أطعم الجلالة- أي: طاهراً- فطاب لحمها، أي: بزوال الرائحة الكريهة، لم يكره، لزوال العلة. قال الماوردي: ويختار في الجلالة إذا أريد شرب لبنها وأكل لحمها- أن تحبس عن الأقذار بالعلف الطاهر في البعير أربعين يوماً، وفي البقرة ثلاثين يوماً، وفي الشاة سبعة أيام، وفي الدجاجة ثلاثة أيام. قلت: وهذا مناسب لما حيكناه عنه [من] قبل أن كراهة الجلالة منوطة بأكلها العذرة في مثل هذه المدة، لكنه قال: إن هذه التقديرات ليست توقيفاً لا يزاد عليه ولا

ينقص منه؛ لأن المقصود زوال ما أنتن من أبدانها، والأغلب أنها تزول بهذه المقادير، فإن زالت [في أقل] منها زالت الكراهة، وإن لم تزل [فيها] بقيت الكراهة حتى تزول فيما [زاد] عليها، وعلى هذا جرى في "المرشد" وصاحب "الشامل"، وقال: إن هذه التقديرات محكية عن بعض أهل العلم، وهو ابن عمر؛ كما قال في "المهذب". لكن المحكي عنه: أنه سوى بين البقرة والناقة في جعل مدتها أربعين يوماً، وقد وهم بعضهم فظن أن الشيخ في "المهذب" اقتصر على ذكر التقديرات. تنبيه: قول الشيخ: "فإن أطعم الجلالة .. " إلى آخره، يعرفك أمرين: أحدهما: أن علة الكراهة تغير اللحم عند الذبح بسبب العلف، حتى لو لم يتغير لم تكره، ويدل عليه قول الشافعي- رضي الله عنه-: "فما كان أكثر علفه من غير هذا، فليس بجلالة"، أي: لأن ذلك لا يؤثر في لحمها. [وقال في "الحاوي": إن محل الكراهة إذا لم يظهر النتن في لحمها]، أو ظهر ظهوراً يسيراً لا تستوعب رائحته تلك النجاسة، فلو كان كثيراً قد استوعبت رائحته تلك النجاسة، أو قاربها- ففي إباحة أكلها وجهان حكاهما ابن أبي هريرة: الذي أورده القاضي الحسين منهما في "تعليقه": الكراهة، دون التحريم؛ كما هو في كتب العراقيين؛ لما ذكرناه. والثاني- وهو المعزيُّ إلى أبي إسحاق المروزي، وينسب إلى القفال المروزي أيضاً-: أنه حرام. وقال الإمام: إنه المذهب، ولم يورد الغزالي سواه؛ لأنها صارت من الخبائث. قال الصيدلاني: وعلى هذا يكون اللحم نجساً، وهو الذي أورده الغزالي، وأثر ذلك يظهر فيما لو زالت الرائحة [الكريهة] بالتشميس والطبخ ونحوه، لا يحل، نعم: لو زالت بالاغتذاء بالعلف الطيب في الحياة، زال التحريم. قال الإمام: وهذا متفق عليه في التفريع على تحريم الجلالة. والوجهان- كما قال الماوردي- جاريان في الجَدْي إذا رضع من لبن كلبة أو خنزيرة حتى نبت [به] لحمه، وقد نسب القاضي الحسين في هذه الصورة إلى القفال التحريم.

وحكم لبن الجلالة وبيضها حكم لحمها في الكراهة والتحريم، وأما ركوبها فظاهر الخبر النهي عنه؛ روى أبو داود عن نافع عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها، ويشرب من ألبانها. وقال الماوردي: إنه مكروه عُرْياً؛ لنتن عرقها، ولا يكره إذا كان موكوفاً أو مسروجاً، ولا يجيء الخلاف في تحريمه؛ لأنه لا خلاف [في] أنها طاهرة في حال الحياة، وإذا كانت كذلك فعرقها طاهر أيضاً. وأما جلدها إذا ظهر النتن فيه وفي لحمها بعد الذكاة، وقلنا بتحريم اللحم- فهو نجس كاللحم، ولا يطهر إلا بالدباغ؛ قاله الصيدلاني. وإن لم يظهر فيهما نتن، فهو طاهر كاللحم. وإن ظهر في اللحم دون الجلد، وحرمنا اللحم، فقد أبدى الإمام في نجاسته تردداً قال: إنه مأخوذ من كلام الأصحاب، وإن الأظهر النجاسة؛ لأنه جزء من الحيوان مأكول على المشهور؛ فكان حكمه حكم اللحم. الثاني: أنه لا يكره أكل الزرع الذي عملت النجاسة في أصله وإن كثرت؛ لأنه لا يظهر أثر النجاسة ورائحتها فيه، وقد صرح الأصحاب كافة- لأجل ذلك- بعدم التحريم. قال: ويؤكل من صيد البحر السمك؛ لعموم قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] أي: مصيده، ولما روي عنه- عليه السلام- أنه قال: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالسَّمَكُ، وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالْكَبِدُ، وَالطِّحَالُ"، ولا فرق في ذلك بين ما يؤخذ حياً ثم يموت، أو ما يؤخذ منه ميتاً. وقد قيل: إن قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] المراد به: ما مات فيه في قول ابن عباس. فروع: [أحدها] إذا انقطع بعض سمكة، وانفلت باقيها، ففي حل تلك القطعة وجهان في "الحاوي" وغيره، ويظهر أن يكون مأخذهما: أن الجزء المُبَان مما تحل ميتةُ

جميعِهِ: كالسمك والجراد هل يكون طاهراً كما لو مات، أو نجساً؛ لقوله عليه السلام-: "مَا أُبِينَ مِنْ حَيِّ فَهُوَ مَيِّتُ"؟ وفيه وجهان: فإن قلنا بطهارته حَلَّ، وإلا حرم. والمذكور في "تعليق" البندنيجي الحل، وهو الأصح في "الشامل"، و"تعليق القاضي أبي الطيب". والمذهب في "النهاية"- ولا شك كما قال الإمام- أن تَعَمُّد قطع بعض السمكة وهي حية غير سائغ؛ لأنه في معنى التعذيب. قلت: وفيه نظر إذا جوزنا ابتلاعها حية؛ كما تقدم في الصيد والذبائح. [الثاني:] إذا وجد سمكة في جوف سمكة أو سبع، حل أكلها.

قال الماوردي: ما لم تنقضم، فإن انقضمت حتى تقطعت، وتغير لون لحمها- ففي إباحة أكلها وجهان، وجه المنع- وهو الأظهر في الرافعي-: أنها قد صارت في حكم الرجيع والقيء، ولو استحالت حرمت جزماً، قاله القاضي أبو الطيب. [الثالث:] صغار السمك الذي يقليي من غير أن يشق جوفه، في حل أكله وجهان: المذكور منهما في "تعليق" البندنيجي والقاضي أبي الطيب: التحريم، وقال ابن الصباغ: إنه الذي قال به أصحابنا؛ لأن الخرء الذي في جوفه نجس، فتنجس الدهن، وإذا نجس الدهن تنجس الكل. وقال الرافعي: إن على المسامحة جرى الأولون. قلت: ويمكن بناء الوجهين على أن خرء السمك نجس أم لا؟ وفيه وجهان كما في دمه، فإن قلنا بأنه نجس- كما جزم به القاضي أبو الطيب في الخرء، وصححه في الدم- فلا يحل، وإلا حل. وقد قال الروياني: إني به أفتي، وتعقبها ظاهر عندي، وهو اختيار القفال. قال: ولا يؤكل الضفدع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -[نهى عن قتله كما تقدم، وقد روى أبو داود عن عبد الرحمن بن عثمان أن طبيباً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن] ضفدع يجعلها فيدواء؛ فنهاه- عليه السلام- عن قتلها، وأخرجه النسائي. وفي أكله توصل إلى قتله فحرم. ولأنه مستخبث عند العرب. والسرطان والسلحفاة مثله عند الشيخ أبي حامد، وكذا النسناس عند القاضي أبي الطيب. وحكي عن الشافعي- رضي الله عنه – مذهب [ابن] أبي ليلى في إباحة الضفدع والسرطان في مجلس، فذكر صاحب "التقريب" أن من الأصحاب من عَدَّ

ذلك قولاً للشافعي رضي الله عنه. وقد نسبه الشيخ أبو عاصم [العبادي] في الضفدع إلى رواية الربيع، ونسبه البغوي في السرطان في باب الصيد والذبائح إلى الحليمي، وأنه قيد الحل بذكاته، والوجه جار في السلحلفاة، كما تقدمت حكايته عن البغوي. والصحيح تحريم الضفدع والسرطان والسلحفاة، وبه جزم الماوردي والبندنيجي، نعم: هل الضفدع طاهر أو نجس؟ فيه وجهان في "الحاوي"، فإن قلنا بنجاسته، فلو مات في ماء قليل، فهل ينجس من غير تغير؟ فيه وجهان: وجه المنع: لحوق المشقة؛ كدم البراغيث. والضفدع: بكسر الدال وفتحها، والكسر أشهر عند أهل اللغة، وأنكره جماعة، والله أعلم. قال: وما سواهما، أي: مما لا ضرر فيه، ولا يعيش إلا في الماء، وإذا خرج كان عيشه عيش المذبوح- فقد قيل: يؤكل؛ لعموم قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96]، أي: مصيده ومطعومه؛ وقوله- عليه السلام- في "البحر": "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ"، وهذا [ما] ادعى الماوردي أنه ظاهر المذهب؛ لأنه قال في كتاب السلم: "يؤكل فأر الماء". قال الربيع: سئل الشافعي- رضي الله عنه- عن خنزير الماء، فقال: يؤكل، وإليه صار جمهور الأصحاب. وقال البندنيجي: إنه المنصوص في عامة كتبه؛ ولأجل ذلك صححه الرافعي وغيره؛ وعلى هذا لا تشترط الذكاة في حل شيء منه، بل تحل ميتته كما في السمك؛

صرح به البندنيجي وغيره. وقد يستدل له بما روي عن أبي بكر أنه قال: كل دابة تموت في البحر، فقد ذكاها الله [تعالى] لكم. وهو محكي عن غيره من الصحابة، رضي الله عنهم. نعم، قال الشافعي- رضي الله عنه-: "لو كان فيه ما يطول خروج روحه: كإبل الماء، وبقر الماء، فإن ذبحه ذابح؛ ليكون أروح له، لم أكرهه". وقد أشار الرافعي إلى حكاية وجه في اشتراط ذبح ما عدا السمك إذا قلنا بحله، بقوله: "وإذا حكمنا بحل ما سوى السمك، فهل يشترط فيه الذكاة؟ فيه وجهان، ويقال: قولان، أصحهما: الحل. قال: وقيل: لا يؤكل؛ لأنه- عليه السلام- خص السمك بالحل، قال الإمام: وهذا قول غريب ضعيف في حكم المرجوع عنه؛ فلا يرجع إليه. وقال غيره: إنه أخذ من قول الشافعي- رضي الله عنه- في بعض كتبه: "إنه لا يحل من صيد البحر إلا الحوت"، فقال قوم: إن اسم الحوت خاص بالسمك دون غيره؛ فجعلوه قولاً ثانياً في المسألة، والقائلون [بالأول] قالوا: الحوت من الأسماء العامة التي تنطلق على جميع حيوانات البحر إلا الضفدع وما في معناه، وهو الأصح في "التهذيب". [قال:] وقيل: ما أكل شبهه في البر، أي: [كفرس الماء وجمل الماء] أكل [شبهه في البحر] وما لا يؤكل شبهه في البر، [أي]: ككلب الماء، وخنزيره، وفأره، والنسناس- لأنه يشبه الآدمي- لا يؤكل [شبهه في البحر] اعتباراً لما في البحر بما في البر؛ فإن الاسم يتناوله؛ فدخل تحت دليل تحليله أو تحريمه، وهذا ما عليه الفتوى اليوم؛ كما قاله في "العدة". وقد قيل: إن ما من دابة في البر إلا وفي البحر مثلها، فإن لم يصح هذا، ووجد [فيه] حيوان لا نظير له في البر محلل ولا محرم- قال الإمام والرافعي: حَلَّ؛ لما روي أن طائفة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكلوا سمكة يقال لها: العنبر- والخبر

مشهور- واعلموا بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكره عليهم. وهي مما لا نظير لها في البر؛ وعلى هذا يشترط في الحل الذكاة، حتى لو مات حتف أنفه أو في الماء، لا يحل؛ جزم به البندنيجي وغيره. وفي "النهاية" و"تعليق" القاضي الحسين وغيرهما: أنا هل نشترط الذكاة فيه على هذا أم لا؟ فيه قولان، مأخذهما أنه هل يسمى سمكاً أم لا؟ واعلم أن ظاهر القول الأول يقتضي حل التمساح؛ لأنه مما سوى الضفدع والسمك، وهو المفهوم من كلام ابن الصباغ أيضاً؛ فإنه قال: فأما ما يعيش في البحر، ولا يعيش في البر، فالذي نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- أن ذلك حلال، سواء ما كان من جنس السمك [أو غيره]. وقال أصحابنا: على هذا يحل جميعه إلا الضفدع، واستثنى أحمد الضفدع والتمساح، وقد صرح من أصحابنا بحل أكله الصيمري، والمذهب تحريمه؛ للخبث والضرر. قال: وكل طاهر لا ضرر في أكله يحل أكله؛ لأنه من الطيبات. قال: إلا جلد ما يؤكل لحمه إذا مات ودبغ؛ فإنه لا يجوز أكله في أحد القولين؛ لعموم قوله – تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، وقوله – عليه السلام-: "إِنَّمَا حُرِّمَ مِنَ الْمَيْتَة أَكْلُها"، وهذا هو القديم، والصحيح في "الشامل" في باب الآنية، وادعى الإمام ثَمَّ أنه الظاهر. قال: ويجوز في الآخر؛ لتحقيق الضابط المذكور، أما جلد ما لا يؤكل إذا دبغ؛ فإنه لا يحل قولاً واحداً؛ لأن الدباغ لا يزيد على الذكاة، والذكاة لا تفيد حله؛ فكذلك الدباغ، وهذا ما أورده ابن الصباغ في باب الآنية وغيره، وهو يؤخذ من كلام الشيخ، لأنه إذا استثنى جلد ما يؤكل لحمه، فجلد ما لا يؤكل لحمه من طريق الأولى؛ وبهذا يندفع الاعتراض على الشيخ- رحمه الله- في كونه لم يستثنه.

وقيل: هو- أيضاً- على قولين، وبه يحصل في المسألتين ثلاثة أقوال، حكاها الإمام والغزالي أوجهاً، وهي مفرعة على المذهب الصحيح في أن الدباغ يطهر الجلد باطناً وظاهراً. أما إذا قلنا: لا يحصِّل الدباغُ إلا طهارة الظاهر؛ فلا يحل جزماً؛ كذا أشار إليه الإمام [ثَمَّ]. وقد أضاف البغوي إلى ما استثناه الشيخ المنى، وكل حيوان يبتلعه حياً سوى السمك والجراد. وغيره أضاف الآدمي، وكل ما هو مستقذر: كالبصاق، والمخاط، والمني؛ فإنه حرام على المذهب كما قال الإمام، خلافاً [لأبي] زيد، وقال في حد ما يؤكل: هو كل [طاهر لا ضرر في أكله، وليس بجزء من آدمي ولا بمستقذر. والإمام في باب الآنية قال:] لا يمتنع أن يجعل حد ما يؤكل كل طاهر غير مضر، وليس في تعاطيه هتك حرمة، وهذا يخرج بلع الحيوان الحي والآدمي، لكنه قد يدخل المستقذر؛ فلعله مال إلى مذهب أبي زيد في أنه لا يحرم، ويكفي الاستقذار وازعاً [عنه]. وقد استثنى الروياني والماوردي النبات الذي يسكر، وليس فيه شدة مطربة: كالبنج، وقال: إنه يحرم أكله، ويجوز استعماله في الدواء وإن أفضى إلى السكر؛ إذا لم يكن منه بد. فإن قلت: هل يمكن أن يجاب عن الشيخ في اقتصاره على ما ذكر؟ قلت: نعم، ويقال: لا نسلم أن تناول المني والمستقذرات وما يسكر وإن لم يكن فيه شدة مطربة غير مضر. وأما ابتلاع الحيوان الحي غير السمك والجراد، فهو يخرج بقوله: "ولا يحل من الحيوان المأكول [شيء] من غير ذكاة إلا السمك والجراد". وأما جزء الآدمي فهو خارج ببداهة العقول، وإنما يقع الاحتراز عما يتوهم دخوله.

فإن قلت: ما ذكرته في الجواب عن عدم ذكره لابتلاع الحيوان الحي- إن صح- مُغْنٍ عن ذكر جلد ما يؤكل لحمه إذا مات ودبغ، فلم ذكره؟ قلت: لأمرين: أحدهما: ليبين أنه مختلف فيه. والثاني: لأن الدباغ كالذكاة في التطهير على الجديد، فقد يظن أنه كهي في حل الأكل، فأراد أن يبين أنه ليس كذلك في أحد القولين، والله أعلم. قال: وما ضرَّ أكله كالسم وغيره، أي: من الطاهرات، مثل: الزجاج، والحجر، والطين الذي يؤكل تفكهاً وسفهاً- كما قاله في "المرشد"-[قال:] لا يحل أكله؛ لقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] وقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، ومن هذا القبيل تناول الأدوية في غير وقتها؛ لأنها تزيل الصحة. وقد أفهم كلام الشيخ تحريم أكل السم القليل منه والكثير، وهو ظاهر نصه في كتاب الطعام والشراب؛ حيث قال- كما حكاه في "البحر"-: ما عرفه الناس سماً يقتل، أكره قليله وكثيره، خلطه أو لم يخلطه؛ لدواء أو غيره، وقد سمعت بمن مات في قليل [قد] بريء منه غيره، ولا أحبه، ولا أرخص فيه. قلت: ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ حَسَا سمًّا، فَسمُّهُ في يَدِهِ، يَتَحَسَّاهُ في نَارٍ جَهَنَّمَ خَالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أَبَداً"، وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما أتم منه. وهذا النص معمول به بلا شك فيما إذا كان القليل مضراً كالكثير، أما إذا لم يكن مضراً، فقد أطلق البندنيجي وأبو الطيب في هذا الباب حكاية قولين فيه، وإن كان مضطراً إلى القليل في سد الرمق، والجواز أخذ من نصه في كتاب الصلاة عليه، ويقرب منه قول الإمام: ولو تُصُوِّرَ شخص لا

يضره تعاطي السموم، لا يحرم عليه. وقول محكي في "الذخائر": أن الطين لمن اعتاد أكله من غير مضرة لا يحرم. وقال الماوردي: إن السموم على أربعة أضرب: ما قتل قليله وكثيره، فأكله حرام. وما قتل كثيره دون قليله، فأكل كثيره حرام، وقليله إن كان غير منتفع به حرام أيضاً، وإن كان منتفعاً به في التداوي، حَلَّ أكله تداوياً. وما يقتل في الأغلب، وقد يجوز [ألا يقتل، فحكمه كالضرب قبله. وما لا يقتل في الأغلب وقد يجوز أن يقتل] فقد ذكر الشافعي- رضي الله عنه- في موضع إباحة أكله، وذكر في موضع تحريم أكله؛ فوهم بعض أصحابه، وخَرَّج إباحة أكله على قولين، والصحيح: أن إباحة أكله في التداوي، وتحريم أكله إذا كان غير منتفع به في التداوي، والله أعلم. قال: ولا يحل أكل شيء نجس؛ لأنه من الخبائث، وهي حرامُ للآية، ولا فرق في ذلك بين أن يكون نجس العين: كودك الميتة، والخمر، ونحوهما، أو متنجساً يمكن تطهيره على رأي: كالزيت، والشيرج، والماء، أو لا يمكن تطهيره: كاللبن، والسمن، والودك. نعم: يجوز أن يطعم شاته وبعيره ونحوهما الخبز المعجون بالماء النجس؛ نص عليه الشافعي، رضي الله عنه. وقال النواوي في "الروضة": إن في فتاوى صاحب "الشامل": أنه يكره إطعام الحيوان المأكول نجاسة، قال: وهذا لا يخالف ما نص عليه الشافعي في الطعام؛ لأنه ليس بنجس العين. قال: فإن اضطر إلى أكل الميتة، أكل منها؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] ومعناه: فأكل فلا إثم عليه، وقوله تعالى]: {فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]، وقوله تعالى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، لكن هل الأكل واجب أو لا؟ فيه وجهان: أصحهما في "تعليق" القاضي أبي الطيب والحسين وغيرهما: نعم، وهو المنسوب

في "النهاية" للمحققين، ووجهه قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] وقوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وهو إذا لم يأكل مع اضطراره، كان قاتلاً لنفسه، وملقيها إلى التهلكة؛ وعلى هذا يخرج عن الواجب بما يسد رمقه، ويكون أكله إلى أن يشبع [إن جوزناه] مباحاً؛ قاله الماوردي وغيره. والثاني: لا يجب، وهو قول أبي إسحاق. وقال الإمام: إن العراقيين زعموا أن هذا يخرج على أحد القولين في جواز الاستسلام، وهو بعيد جداً، ووجهه على بعده: أن المضطر قد يتردد [في درك حد الضرورة؛ فلا يأمن أنه لم ينته إليها، ولا يزال كذلك حتى يموت أو يقنع في حاله لا] ينفعه الأكل، وإنما حل أكل الميتة؛ لدفع الضرورة؛ [فيكون] تردد صاحب الضرورة في أمره كتردد من صال عليه إنسان في القدر الذي يدفعه به، مع حكم الشارع بوجوب الاقتصار على قدر الحاجة في الدفع. وقد فرق البغوي بين المسألتين بأنه ثَمَّ يؤثر مهجة على مهجة، وترك تناول النجاسة لا يعادل إتلاف مهجته. ثم هل يوصف ما [يأكله] بأنه حلال؟ الظاهر وصفه بذلك، لكن في "فتاوي" القاضي عند الكلام في السرقة: أنه لو حلف: لا يأكل الحرام، فأكل الميتة للضرورة- قال الشيخ العبادي: حنث في يمينه؛ لأنه حرام إلا أنه رخص فيه؛ وهذا يناظر ما ستقف عليه في باب ما يحرم من النكاح: أن وطء الشبهة حرام، وإن كان لا إثم فيه. قال: ما يسد به الرمق في أحد القولين؛ لأنه بعد سد الرمق غير مضطر؛ فلا يباح له الأكل؛ لانتفاء الشرط الذي رتب عليه [عدم الإثم. وقد قال السدي في تفسير قوله: {وَلا عَادٍ} [البقرة: 173]، أي: ولا عاد في

استيفاء الأكل إلى] حد الشبع. ولأن كل حكم تعلق بعلة إذا زالت العلة، زال الحكم بزوالها، وهذا ما نقله المزني في "المختصر"، واختاره. وقال البندنيجي والقاضي الحسين: إنه مختار الشافعي- رضي الله عنه- أيضاً، وقد تابعهما القفال وكثير من الأصحاب؛ كما قال البندنيجي، وقفا أثرهم صاحب "المرشد" والنواوي. قال: وقدر الشبع في الآخر؛ لأنه طعام جاز أن يتناول منه ما يسد رمقه؛ فجاز أن يشبع منه؛ قياساً على المذكاة؛ وهذا ما نص عليه الشافعي في كتاب سماه: ذبائح بني إسرائيل؛ كما قال أبو الطيب وابن الصباغ. وقال البندنيجي: إنه أومأ إليه الشافعي في اختلاف أبي حنيفة وأهل المدينة. قال الماوردي: لأنه قال بعد حكاية القول الأول: وما هو بالبيِّن، من قبل أن الشيء حلال أو حرام؟ فإذا كان حراماً فلا يحل منه شيء، وإذا كان حلالاً فلا يحتمل أن يحرم [عليه] منه شيء بشبع ولا غيره، ولأنه مأذون فيه. قال أبو إسحاق المروزي: وهذا القول أقوى وأجود، وهو الذي صححه صاحب "الإفصاح"؛ كما في "البحر"، وإليه ميل القاضي أبي الطيب؛ لأنه قال بعد ذكر دليله: والجواب عما قلناه للقول الأول من الآيات: أن الضرورة قائمة؛ لأنه يحتاج إلى الشبع منها؛ ليقوى على ما هو بصدده؛ وذلك لا يحصل إلا بالشبع؛ لأن سد الرمق لا يقويه ولا يعينه عليه. والجواب عن الآخر: أن الاضطرار علة في ابتداء الأكل دون استدامته، ولا يمتنع أن يكون الشيء علة في الابتداء دون الاستدامة: كخوف العَنَت وعدم وجود صداق حرة في نكاح الأمة؛ فكذلك لا يمتنع أن يكون الاضطرار علة في الابتداء دون الاستدامة. قال في "التهذيب": ولأن الأصل هناك التحريم حتى تتحقق الضرورة، وهاهنا الأصل الإباحة حتى يشبع.

ثم هذا القائل لا يعني بالشبع الامتلاء حتى لا يبقى للطعام مساغ؛ فإن هذا حرام قطعاً؛ صرح به البندنيجي وأبو الطيب وغيرهما، ولكن يعني به- كما قال الإمام-: أن يأكل حتى تنكسر سورة الجوع؛ بحيث لا ينطلق عليه اسم جائع، فينتهي وينكف؛ وعلى هذا لو وجد لقمة حلالاً بعد سد الرمق، ليس له أن يأكل من الميتة، حتى يأكل تلك اللقمة، فإذا أكلها، فهل له إتمام الشبع؟ قال البغوي: قال شيخي: يحتمل وجهين: أحدهما: لا، حتى يصير إلى أدنى الرمق؛ لأنه عاد إلى أصل التحريم بوجود تلك اللقمة. والثاني: له ذلك؛ لأنا أبحنا له الشبع ولم يصر إليه، وهذا ما صححه النواوي في "الروضة". وقيل: ليست [المسألة] على قولين، بل على حالين: فالموضع الذي قال: لا يأكل شبعه؛ إذا كان في الحضر؛ لأنه ربما وجد طعاماً، فإن لم يجد فهو مقيم عند الميتة. والموضع الذي قال فيه: يأكل شبعه؛ إذا كان مسافراً يحتاج إلى المشي، ولا يعرف أمامه طعاماً، فله أن يأكل شبعه؛ حتى لا يعجز عن المشي؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن [الشيخ] أبي جعفر الإستراباذي، وقال: إن الصحيح طريقة القولين. وحكى الإمام معها قولاً ثالثاً: أنه إن كان في مهمهة بعيدة عن العمران، فليشبع؛ ليقطع المهمهة، وإن كان بقرب البلد اقتصر على سد الرمق، ثم أبدى لنفسه تفصيلاً، لخصه في "الوسيط"، فقال: من علم في البادية أنه لو لم يشبع ويتزود فلا يقوى، ولا يجد غيره، ويهلك؛ فيجب القطع بأنه يشبع ويتزود. وإن كان في بلد، ولو سر الرمق توقع طعاماً مباحاً قبل عود الضرورة- وجب القطع بالاقتصار على سر الرمق، وإن كان لا يتوقع طعاماً، ولكن يمكنه الرجوع إلى الميتة إن لم يجد طعاماً مباحاً، فهاهنا يتجه التردد؛ إذ لو شبع لم يعاود على قرب، وإن اقتصر عاود على القرب.

ثم قال الإمام: ولا يجوز أن يكون الأمر على خلاف ذلك، وما نص الشافعي- رضي الله عنه- على قولين، ولا على أقوال مجموعة، ولكن نظر الناظرون تردداً صادفوه في كلامه، فحسبوه ترديد قول، وإنما هو ترديد حال. قال النواوي في "الروضة": وهذا التفصيل هو الراجح. تنبيه: قول الشيخ: "فإن اضطر إلى أكل الميتة .. " إلى آخره يوقظك لأمور: أحدها: أن الذي يباح له أكل الميتة هو الذي إن ترك الأكل هلك؛ لأنه جعل ما يجوز أكله في أحد القولين ما يسد الرمق- وهو بفتح الراء والميم: بقية الحياة- فدلَّ على أنه انتهى إلى حالة دون ذلك، ومن هذا حاله لو ترك الأكل هلك، وقد صرح الأصحاب [باعتبار ذلك]. وقال الإمام في موضعين من كتابه: إنه لا يشترط حصول العلم بذلك؛ بل غلبة الظن، ويكفي استناده إلى مبادئ الأمور من غير بصيرة. ثم قال: لكن من ضرورة الظن أن يميل فيه العقل إلى أحد المعتقدين، ويترجح تعلقه به على تعلقه بالثاني؛ وهذا يستدعي سبباً لا محالة؛ فإن الظن لا يغلب من غير سبب، فلو اعترض حال، وكان صاحبها، يجوز أداؤها إلى الموت لو لم يأكل الميتة، ويجوز السلامة، ولا يترجح أحد المعتقدين [على الآخر] –فالتردد مع ما جبلت عليه النفوس من حب البقاء يجر خوفاً، وهذا الخوف لا مستند له من ظن، فالذي أرى القطع به: أنه يجوز لمن هذا وضعه أن يأكل الميتة؛ لأنَّا لو منعناه من الأكل حتى يعلم أو يظن، فربما يهلك في تربصه، وطلبه العلم أو الظن، وإن طلب طالب تلقي هذا من قول المشايخ، فهو صريح في كلامهم؛ فإنهم جوزوا أكل الميتة عند الخوف من الموت، وهذا خائف، ثم لا يشترط [-أيضاً-] أن ينتهي إلى حالة يكون فيها مشرفاً على الموت؛ إذ لو أشرف عليها، لم ينعشه الطعام، ولا ينجع فيه ما يتعاطاه؛ فينبغي أن نبيح له الأكل وهو على حاله، لو أكل لاستقل وانتعش، وحينئذ تكون الحالة التي يسوغ فيها الأكل حالة من أشرف على الإشراف على الموت لو لم يأكل، لا من أشرف على الموت.

قال البندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم: [و] في معنى المضطر المقدم ذكره من كان ماشياً أو راكباً على سفر وإن ترك الأكل، انقطع [عن] الرفقة؛ لضعفه عن المشي والركوب؛ فيجوز له الأكل، وقد حكاه القاضي الحسين عن الشافعي، رضي الله عنه. وكذا لو خشي إن ترك الأكل مرض؛ كما قاله البندنيجي وقيده غيره بالمرض المخوف، وقال: في حل الأكل؛ لخوف مرض السل ونحوه من الأمراض التي تطويل، ويعسر علاجها- قولان: أحدهما: لا يحل الأكل؛ لعدم الخوف عاجلاً؛ كما لو توقع من عدم الأكل حصول حمى الربع. وقال الرافعي: إن هذا الخلاف يقرب من القولين اللذين في "التهذيب" وتعليقه الشيخ إبراهيم المروذي فيما إذا عيل صبره، وأجهده الجوع، هل تحل له الميتة أم لا؟ فأحد القولين: أنه لا تحل حتى يصير إلى أدنى الرمق؛ لأن خوف الهلاك لم يتحقق؛ وهذا ما ادعى الإمام نفي خلافه، وقال المزني: لا نعلم سواه. والثاني: تحل؛ لما يناله من الشدة والمشقة، ولينفعه الطعام. والذي رأيته في "تعليق" القاضي الحسين في التعبير عن هذا القول: أن أبا عبد الله السرخسي حكى نصاً عن الشافعي: أنه يحل له أكل الميتة إذا اشتد به الجوع وعِيلَ صبره، وعلم أنه لو دام [به الجوع] مات. وقد سلك الماوردي في التعبير عن [هذه] الحالة التي يسوغ فيها أكل الميتة طريقاً آخر، فقال: من انتهى به الجوع إلى حَدِّ التلف، فلا يقدر على مشي ولا نهوض؛ فيصير غير متماسك الرمق إلا بأكل، كان له بالأكل، وإن تماسك رمقه إذا أقام أو جلس، ولا يتماسك إن مشى وسار، نظر: فإن كان في سفر يخاف فوت رفقائه، حلَّ له أكلها، وإن لم يخف فوت رفقائه، لم يحل؛ وهذا أحد الشروط الأربعة التي اشترطها في حل أكل الميتة. الأمر الثاني: أن يكون غير واحد من المأكول ما يمسك به رمقه؛ لأنه حينئذ

يصدق اسم الاضطرار إلى أكل الميتة، وقد صرح به الماوردي، لكنه جعل ذلك شرطين؛ لتتمة ثلاث شرائط من الشرائط الأربع التي تقدم ذكرها، فقال: الشرط الثاني: ألا يجد من مأكول الخسيس ما يمسك به رمقه من غير ضرر، فإن وجده لم يحل. الشرط الثالث: ألا يجد طعاماً يشتريه بثمن مثله، فإن وجده لم يحل، سواء كان قادراً على الثمن أو عاجزاً عنه، ورضي مالك الطعام بذمته، بخلاف المتيمم؛ لأن التيمم منوط بعدم الوجدان، ومع العجز عن الماء وثمنه قد تحقق، وهاهنا الأكل منوط بالضرورة، وهو [مع] الإنظار بالثمن غير مضطر. نعم: لو بذل له الطعام بأكثر من ثمن المثل، حلت، أي: إذا لم يقدر المضطر على مقاتلته؛ كما سنذكره. والشرط الرابع الذي ذكره: ألا يكون [بصيرورته إلى] الضرورة لأكل الميتة عاصياً؛ [كما لو أقام لقطع] الطريق وإخافة السبيل، أو لبغيه على الإمام العادل؛ لقوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173]؛ ولأن إباحة الميتة رخصة، والعاصي لا يترخص، فإن تاب من المعصية، حل له أكل الميتة، وإن أقام عليها ولم يتب، حرمت عليه. ولا فرق بين المسافر والمقيم، وهذا قد حكاه البندنيجي أيضاً، ونسبه في "البحر" إلى الشافعي، ونقل عنه أنه لو خرج غير عاصٍ، ثم نوى المعصية، ثم أصابته الضرورة ونيته المعصية- قال: خشيت ألا يسعه أكل المحرم، لأني أنظر إلى نيته في حال الضرورة لا في حال تقدمت عنها أو تأخرت عنها. وفي الرافعي وجه أن ذلك ليس بشرط. الأمر الثالث: أن ما ذكره يختص بالميتات النجسة؛ لأن قوله: "ولا يحل أكل شيء نجس، فإن اضطر إلى [أكل] الميتة [أكل] .. " إلى آخره يدل عليه، وأنه لا فرق في ذلك بين ميتة [ما يؤكل لحمه] و [بين] غيره، ولا بين ميتة الحيوان الطاهر أو النجس: كالكلب والخنزير، وقد صرح به القاضي أبو الطيب والبندنيجي

وغيرهما، واكتفي الإمام بذكر الميتة عن ذكر لحم الكلب والخنزير- كما فعل الشيخ- لأن الميتة هي البهيمة التي لا نفس [لها] سائلة التي ماتت من غير اتصال ذكاة شرعية بها. نعم: حكى الماوردي أنه لو وجد ميتة غير مأكول اللحم [وميتة المأكول]، أو ميتة طاهر في حال الحياة وميتة نجس العين، هل يتخير بينهما، أو يأكل ميتة المأكول؟ والظاهر فيه وجهان، والدم من سائر الحيوانات ملحق بما ذكرناه. وأما الميتة الطاهرة، فإن كانت مأكولة، لم يخف أنها ليست داخلة فيما نحن فيه، وإن كانت غير مأكولة، وهي ميتة الآدمي، ففي "التهذيب" وجه أنه لا محل تناولها، وإن وجدت الشرائط المذكورة؛ لحرمته، وهو ما حكاه أبو الحسن العبادي عن المزني. والمذهب فيه- وهو الذي أورده الماوردي، والقاضي الحسين، والمصنف، وغيرهم- الحل، وأجروها مجرى غيرها من الميتات. نعم: قال الماوردي: إنه لا يؤكل منها إلا ما يسد به الرمق قولاً واحداً، وأنه لا يجوز طبخها، ولا شيها؛ إذا أمكن تناولها بدون ذلك، بخلاف غيرها من الميتات؛ لأن طبخ الآدمي محظور وإن لم يؤكل، وأكله محظور وإن لم يطبخ، والضرورة تدعو إلى الأكل؛ فأبحناه، ولا تدعو إلى الطبخ؛ فحظرناه. وقال أيضاً: إنه لو وجد ميتة غيره، لا يحل له أكل ميتته وجهاً واحداً، [بل يأكل] ميتة غيره وإن كانت لحم خنزير؛ لأن تحريم الميتة في حق الآكل، وتحريم ابن آدم في حقه وحق الآكل؛ فكان أغلظ. وقضية إطلاق غيره: أنه لا فرق في ذلك كله أيضاً بين ميتة الآدمي وميتة غيره. نعم حكى القاضي الحسين في حالة وجود ميتة غيره في إباحة تناول ميتة الآدمي وجهين؛ وهذا كله فيما إذا كان الأكل مسلماً، سواء كان المأكول مسلماً أو كافراً. أما لو كان الآكل ذمياً، فهل نبيح له أكل ميتة المسلم إذا أبحناها للمسلم؟ فيه وجهان في"التهذيب". قال النواوي في "الروضة": والقياس التحريم.

الأمر الرابع: أن ما ذكره مخصوص بما إذا اضطر الآكل لغير التداوي، فإنه لو [لم يكن] كذلك لما عناه بسد الرمق، [أو قدر] الشبع. وقد عَدَّ الأصحاب من أحوال الضرورة المجوزة لأكل الميتة التداوي، إذا لم يقم غيرها من الطاهرات مقامها، وكلام الشيخ من بعد يفهم ذلك؛ حيث قال: "ومن اضطر إلى شرب الخمر، جاز له شربها، وقيل: لا يجوز، وقيل: يجوز للتداوي". وفي "الحاوي" أن بعض أصحابنا منع التداوي بالمحرمات؛ لقوله- عليه السلام-: "إن الله ما جعل شفاءكم فيما حرم عليكم"، وهو حديث العرنيين، وتأويل الحديث: ما [حرم عليكم ما فيه شفاؤكم]. وفي "البحر": أن بعض أصحابنا ذهب إلى أنه لا يجوز التداوي بغير أبوال الإبل؛ للنص المخصوص، ولا يقاس عليها غيرها، وبه يحصل في [جواز التداوي بالنجاسات] ثلاثة أوجه، وقد يفهم من كلام الأصحاب حيث جوزوه: أن يظن أنه

إن لم يتداوَ هلك كما تقدم، أو ما [يقوم مقامه] والله أعلم. فروع: أحدها: لا يحل للمضطر قتل آدمي معصوم الدم؛ لأجل روحه: كالمسلم والذمي، والمعاهد، سواء قصد قتله؛ ليأكله أو قصد أخذ ما معه من مأكول، وهو- أيضاً- مضطر إليه إن أُخِذ منه مات، وفيه شيء سيأتي. ويجوز قتل الحربي والمرتد، وكذا من للمضطر عليه قصاص في النفس، وأما الزاني المحصن فقد حكى في "المهذب" و"التهذيب" فيه وجهين أجراهما القاضي الحسين في القاتل في الحرابة، وتارك الصلاة؛ لما فيهم من فضيلة الإسلام. والمختار في "المرشد" الجواز، وإن كنا نمنعه من قتلهم؛ تفويضاً إلى الإمام، وهو الذي أورده الإمام. وهل يجوز قتل الحربية والصغير من أولاد أهل الحرب؛ لأجل ذلك؟ يجيء من اختلاف النقل فيه وجهان: أحدهما- وهو الذي أورده البغوي-: المنع. وقال الإمام: الظاهر عندنا الجواز، فإن حرمة قتلهم في غير حال الضرورة، ليس لحرمة روحهم، أي: وإنما هو لصيانة ناموس الولاية، وحفظ توقع المالية، ويدل على ذلك أن قاتلهم لا تلزمه الكفارة. ولا يجوز له قتل عبد نفسه؛ لأنه تلزمه الكفارة بقتله. قلت: وهذا ظاهر في العبد المسلم. أما إذا كان [كتابياً] بالغاً، فحقن دمه لأجل حق السيد في ماليته حتى لا يضيع؛ فيشبه أن يكون كالحربية وأولاد أهل الحرب. ومن طريق الأولى إذا كان وثنياً؛ فإنه لا يقر على دينه بالحرية لو كان حراً، وينشأ من هذا أنه إذا قتل من عبيده من هذا حاله، لا تجب عليه الكفارة؛ كما في قتل ذراري أهل الحرب ونسائهم [كما سيأتي. وقد يقال: إن هذا يفارق ذراري أهل الحرب ونساءهم] لأن هؤلاء لم يثبت لهم أمان؛ فلذلك كان تحريم قتلهم؛ لتوقع ماليتهم، لا لحرمة نفوسهم، والعبد الكتابي والوثني قد أثبت له الشرع أماناً بالرق؛

فصار كالمعاهد، ويشهد لذلك: أن السيد لو أعتقه، لا يقال: إنه هناك هل يبلغ إلى المأمن على أصح الطريقين كما سيأتي فيمن بلغ من أولاد أهل الذمة، وقلنا: نستأنف له عقد الذمة، فامتنع من بذل الجزية، والله أعلم. ولو أراد المضطر أن يقطع عضواً منه أو قلفة من فخذه؛ ليأكلها- أطلق العراقيون والبغوي في جواز ذلك وجهين: أصحهما في "تعليق" القاضي أبي الطيب وغيره: المنع. ومقابله: منسوب إلى ابن سريج وأبي إسحاق؛ قياساً على جواز القطع؛ لأجل الأكلة. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن الوجهين من تخريج ابن سريج. وقال المراوزة: إن كان يخشى من ذلك القطع خوف الهلاك كما يخشى من ترك الأكل أو أكثر منه، لم يحل، وإن كان لا يظهر منه خوف، ففي الحل وجهان. ولا خلاف أنه لا يجوز أن يفعل ذلك في معصوم الدم، ولا للمعصوم أن يفعل في نفسه؛ لأجل مضطر غيره. الثاني: يجوز التزود من الميتة إن لم يُرجَ الوصول إلى الحلال، وإن رجاه، ففي "التهذيب" وغيره: أنه يحرم. وعن القفال: أن من حمل الميتة من غير ضرورة، لم يمنع؛ ما لم يتلوث بالنجاسة. قيل: وهذا يقتضي جواز التزود عند الضرورة من طريق الأولى. قال في "الروضة": والأصح: جواز التزود إذا رجا. الثالث: إذا كان في يد المضطر ميتة، فلا يكن بسبب يده أولى بها من مضطر آخر؛ فإن اليد لا تثبت على الميتة؛ كذا حكاه الإما في كتاب الإقرار عن القاضي، ثم قال: والوجه خلاف ذلك، فإن الميتة في حق المضطرين مباحة؛ فلتكن كالأشياء المباحة في حق المحتاجين، وإن كان الملك لا يتحقق في الميتة. قال: وإن وجد المضطر ميتة وطعام الغير، أي: والغير غائب، كما صور المسألة في "المهذب"؛ تبعاً للبندنيجي والماوردي، وهو الذي ذكره القاضي الحسين والفوراني أيضاً.

قال: أكل طعام الغير، وضمن بدله؛ لأنه قادر على أكل الطعام الطاهر بعوض مثله؛ فوجب عليه أكله، ولم يجز له العدول إلى أكل الميتة؛ كما لو كان حاضراً وبذل له بعوض مثله؛ فإنه يجب عليه ذلك قولاً واحداً كما سنذكره، ولا فرق على هذا بين أن يكون قادراً على البدل أو عاجزاً عنه؛ لأن الذمم تقوم مقام الأعيان، لكن ما الذي يأكله؟ فيه ثلاث طرق حكاها البغوي وغيره من المراوزة. إحداها- وهي التي أوردها القاضي أبو الطيب والماوردي والبندنيجي وغيرهم من العراقيين-: أنه على القولين فيما يأكله من الميتة. والثانية: القطع بأنه يأكل قدر الشبع؛ لأن جنس الطعام حلال بخلاف الميتة، وهذان الطريقان لم يورد القاضي الحسين سواهما. والثالثة: القطع بأنه لا يزيد على سد الرمق؛ لأن حق الآدمي أضيق من حق الله تعالى؛ فيقتصر فيه على ما يدفع الضرورة؛ وهذا ما أورده الفوراني مع الأول. وقيل: يأكل الميتة؛ لأن إباحة الميتة بالنص، وإباحة هذا [الأخذ] بالاجتهاد، والنص أقوى من الاجتهاد؛ فوجب اتباعه. ولأن ذلك حق الله تعالى، وهذا حق آدمي، وحقوق الله تعالى تدخلها المسامحة دون حقوق الآدميين؛ وهذا ما صححه النواوي؛ تبعاً للرافعي والروياني، ونقله القاضي الحسين عن النص. وحكى عن بعضهم القطع به؛ وعلى هذا يظهر أن يقال: لو كان المالك حاضراً، لم يجب عليه بذل الطعام، وإلا لما كانت الغيبة عذراً في الترك كالديون. وقد حكى البغوي وغيره من المراوزة في المسألة قولاً- أو وجهاً- ثالثاً: أنه يتخير؛ بناء على الأقوال الثلاثة في تعارض حق الله تعالى وحق الآدمي. وقد ألحق القاضي أبو الطيب بصورة الكتاب ما إذا كان مالك الطعام حاضراً غير مضطر إليه، والمضطر قادر على مقاومته وقلعه منه، وأجرى الخلاف فيها. وأطلق الماوردي والقاضي الحسين القول بأن صاحب الطعام إذا كان حاضراً ممتنعاً من البذل أنه يأكل الميتة، وهو ما حكاه في "البحر" عن النص في "ذبائح بني إسرائيل"؛ فإنه قال فيه: "وليس بحلال له أن يكاثر رجلاً على طعامه وشرابه، وهو

يجد ما يغنيه عنه من شراب فيه ميتة، أو ميتة، ولا تناقض بين النقلين، بل ما قاله الماوردي ودَلَّ عليه ظاهر النص محمول على ما إذا كان الأخذ لا يتأتى إلا بالقتال، أو كان المضطر غير قادر على مقاومة صاحب الطعام، وما قاله القاضي أبو الطيب محمول على ما إذا تأتى أخذه بدون قتال؛ لضعفه، وقد صرح البندنيجي بذلك، وبه يحصل لمسألة الكتاب صورتان. ولو كان صاحب الطعام باذلاً له؛ إما تبرعاً أو بثمن مثله، وجب عليه قبوله قولاً واحداً؛ كما قاله البغوي وغيره؛ قياساً على ما لو كان عنده طعام؛ فإنه يلزمه أكله، ويمسك به رمقه، فإن لم يفعل ذلك، كان كمن قتل نفسه. قال أبو الطيب: ويفارق هذا الميتة؛ حيث قلنا على قول أبي إسحاق: إن له أن يمتنع من أكلها؛ لأن له غرضاً في ذلك، وهو التنزه عن النجاسة، ولا غرض له هاهنا. وأشار ابن التلمساني في شرح هذا الكتاب إلى جريان قول أبي إسحاق هنا أيضاً بقوله: "ولا يعصي المضطر بتركه على الأصح". ولا فرق على الأصح بين أن يكون المضطر قادراً على ثمن المثل أو غير قادر عليه، إما مطلقاً أو في موضعه، ورضي الباذل بذمته؛ حتى قال البغوي: لو كان معه إزار واحد لا يأمن من نزعه الهلاك بسبب البرد، وجب عليه صرفه إلى الطعامن ويصلي عرياناً؛ لأن كشف العورة أخف من أكل الميتة، بدليل أنه لا يجوز أن يكابر الغير على أخذ الثوب؛ ليستر العورة، ويجوز أن يكابره على أخذ الطعام؛ وهذا إذا كان الطعام المبذول لا تنشأ منه زيادة مرض بالمضطر؛ ولا يتوهم من الباذل أنه سمة له، فلو وجد أحد الأمرين، لم يجب القبول؛ صرح به الشافعي. ولو لم يجد المضطر إلا طعام الغير، نظر: فإن كان مالكه غائباً، جاز له الأكل منه، وهل يعصي بالترك؟ فيه وجهان في"التهذيب"، وإذا أكل ضمن البدل كما تقدم. [و] في "الحاوي" وجه: أنه لا يضمن البدل؛ لأنه أخذ بالضرورة؛ كاستباحة الشيء الذي لا يضمن من الميتة، وهو فاسد؛ لأن الميتة لا قيمة لها، ولا مالك؛ بخلاف الطعام. وإن كان حاضراً وهو غير مضطر إليه، قال الماوردي: فلا يباح له الأكل دون

مراجعته وإعلامه بحاله، وهذا ما ادعى الغزالي: أنه الأصح. وفيه وجه: أنه لا يستأذنه- قال الإمام-: لأنه إنما يظهر اشتراط ذلك حيث يفيد التحريم لو عدم الإذن، أما إذا كان مأخوذاً على كل حال، فلا معنى لاشتراطه. قلت: وسيأتي لهذا الوجه نظير نذكره في آخر باب الربا. والقائلون بالأول شبهوا ذلك بالظفر بمال المديون، لا يجوز أخذ حقه منه ما لم يعجز عن إذنه، وقد اتفقوا على أنه يجب على مالك الطعام بذله [له] لكن بثمن المثل في الحال إن كان المضطر قادراً عليه ولا يؤدي تشاغله بتسليمه إلى تلفه إن كان معصوم الدم، كالمسلم والذمي والمعاهد؛ أو في الذمة إن كان عاجزاً عنه أو أدى تشاغله بتسليمه إلى تلفه. ويجب على المضطر شراء ذلك منه أو قبوله، وهكذا نقول فيمن رأى شخصاً قد أشرف على الحريق أو الغرق، لكنه متشبث بشيء أو يسبح سباحة ضعيفة وتتسع المدة للموافقة على بذل أجرة- يجب عليه تخليصه بأجرة يشترطها عليه، وتجب على ذلك موافقته، ولا يجب عليه تخليصه مجاناً؛ جمعاً بين الحقين، ودفعاً للضررين، ويجيء فيه الوجه السابق. نعم: لو أدى التشاغل بتعاطي الشراء أو تقدير الأجرة إلى التلف، وجب الإطعام والبذل والتلخيص مجاناً على الأصح، وهو الذي أورده ابن الصباغ تبعاً للقاضي أبي الطيب. وزاد البندنيجي فقال: لو خاف المضطر على نفسه إن تشاغل بالموافقة، فاستلب المال وأكله، فلا قيمة عليه. وقيل: إذا أوجر المضطر العام في هذه الحالة، رجع بثمن مثله. والخلاف جارٍ فيما لو ناوله الطعام، ولم يذكر له شيئاً مع إمكان ذلك، فأكله المضطر. ووجه الرجوع: أنه خلصه من الهلاك بذلك، فرجع عليه بالبدل؛ كما في العفو عن القصاص. وعلى الصحيح ينطبق قول الماوردي: أنه لو أذن له في الأكل، ولم يسم له ثمناً

ولا عوضاً، فلا يرجع عليه بشيء. نعم لو اختلفا: فقال صاحب الطعام: إنما أذنت بعوض، وقال المضطر: بل أذنت مستحباً؛ فلا عِوَضَ لك عليَّ- فالقول للمالك مع يمينه. وحكى الإمام وغيره قولاً آخر: أن القول قول الآكل. وقد أفهم كلام الروياني في "البحر": أن من الأصحاب من لم يجوز طلب الأجرة في مسألة التخليص من الغرق ونحوه؛ فإنه فرق بينه وبين مسألة الطعام: بأنه لو كان لا مال له، يلزمه تخليصه؛ لحرمته، ولا يحتاج إلى إزالة ملكه، ولا يجوز الانتظار على الأجرة، فكذلك إذا كان له مال، وهاهنا بخلافه. ولو امتنع صاحب الطعام- وقد تعين عليه البذل [من البذل: إما مطلقاً، أو إلا بأكثر من ثمن المثل- نظر: فإن كان المضطر قادراً على مكابرته ومقاتلته] على أخذه منه، كان له ذلك، وهل يجب؟ فيه وجهان في "الحاوي". وقال الرافعي: إنهما مبنيان على أنه: هل يجب أكل الميتة أم لا؟ والأولى بأن لا يجب هنا؛ لأن عقل المالك وديته تبعية على الإطعام، وهو واجب عليه؛ فجاز أن يجعل الأمر موكولاً إليه، ويكتفي به. ثم ما القدر الذي يقاتله عليه؟ فيه الخلاف المذكور فيما يحل من طعام الغائب؛ إذا قلنا: إنه يأكله وقد تقدم، ولا خلاف في أنه إذا أذن له في الأكل، أكل إلى حد الشبع. قال في "البحر": ولا يجوز له الزيادة على الشبع. قلت: وهذا ليس؛ لأن أكل الزائد على قدر الشبع حرام، بل لأن الإذن مقيد به عرفاً؛ فحمل عليه، وإلا فالأكل فوق الشبع جائز؛ وإن كان مكروهاً؛ كما صرح به الروياني والقاضي الحسين، واستأنس فيه بما روى عن عمر أنه قال: "اجعلوا بطونكم ثلاثة: ثلث للطعام، وثلث للماء، وثلث للنفس".

ثم إن أتى القتال على المضطر، لزم صاحب الطعام ضمانه بالقصاص أو الدية؛ مكا لو قتله ابتداء؛ لأنه ما حلَّ له أن يقاتله. وإن أتى الدفع على صاحب الطعام، كان هدراً؛ لأنه ظالم. وإن لم يقدر المضطر على مقاومته ومكابرته على الطعام، فإن لم يقدر على شرائه منه ومات، لم يضمنه بقودٍ ولا دية، لكنه آثم. قال الماوردي: ولو قيل: إنه يضمن ديته، كان مذهباً؛ لأن الضرورة قد جعلت له من طعامه حقاً؛ فصار منعه منه كمنعه من طعام نفسه، ولو منع الشخص من طعام نفسه حتى مات جوعاً، ضمن ديته؛ فكذلك هنا. والذي ذكره القاضي أبو الطيب والفوراني وغيرهما- كما ذكرناه في باب: ما يجب به القصاص-: أنه لا ضمان فيما إذا أخذ من رجلٍ طعامه وشرابه [في برية]، لم يضمنه وإن قدر على الشراء؛ لكون المالك سمح بالبيع، لكن بأكثر من ثمن المثل؛ فإنه يعاقده عليه بما يقول من الزيادة، ويحتال حتى يشترط فيه شرطاً فاسداً، فإن لم يتمكن من ذلك وعاقده عارياً عن الشرط الفاسد- ففيما يلزمه وجهان: أحدهما: الثمن المسمى؛ لأنه اشتراه من غير أن يكرهه عليه؛ وهذا ما قال في "البحر": إن القاضي صححه، وقال الإمام: إنه الأقيس. والثاني: لا يلزمه إلا ثمن المثل؛ لأنه في معنى المكره على ذلك العقد؛ لأن الاضطرار حمله عليه؛ وهذا ما اختاره في "المرشد". وقال الروياني: إنه أظهر عندي، وأقرب إلى المصالح. فإن قلت: على هذا ينبغي أن يقال: إذا كان قادراً على قتاله ألا يقاتله، لأنه إذا عاقده بأكثر من ثمن المثل، لا يلزمه إلا ثمن المثل؛ فلا ضرورة إلى القتال. قلت: الأولى عدم جريان هذا الوجه في حال القدرة على أخذه بالقتال، لأنه ينتفي معنى الإكراه؛ فإن المكره حقيقة مَنْ لا يقدر على دفع المكره، فكيف الميتة به؟ [ولأجل هذا قال الرافعي: إنه يلزمه في هذه الصورة المسمى بلا خلاف، لكن ابن الصباغ صرح بجريانه] هنا أيضاً، وقد رجع حاصل الوجهين إلى أن البيع هل يصح أم لا؟ كما صرح به الإمام وغيره.

وقال الماوردي: أصح من هذين الوجهين عندي: أن ينظر: فإن كانت الزيادة في الثمن لا تشق على المضطر؛ ليساره، فهو في بذلها غير مكره [وإن كانت شاقة عليه؛ لإعدامه فهو في بذلها مكره] فلم تلزمه. أما إذا كان صاحب الطعام- أيضاً- مضطراً إليه، لم يبح لغير المالك من المضطرين أكله بدون إذنه، ولا يجب على المالك بذله له قال القاضي الحسين والفوراني والروياني: إلا أن يكون نبياً؛ فحينئذ يجب عليه أن يعطيه له ويؤثره على نفسه، سواء استدعى منه ذلك، أو لم يستدعه؛ لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية [الأحزاب: 6]. نعم: يستحب له إيثار غير النبي به إذا كان معصوماً بالإسلام؛ لقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. قال صاحب "الإبانة" و"البحر": ويجب عليه القبول. قلت: وفيه نظر. ولا يجوز أن يؤثر به المعصوم من الكفار ولا بهيمة نفسه؛ صرح به البغوي. فرع: إذا كان لرجل دابة جائعة، أو كلب غير عقور جائع، ومع صاحبه علف أو لحم- وجب أن يعلف دابته، ويطعم كلبه، فإن لم يفعل، فلصاحب الدابة أن يغصبه؛ قاله في "التهذيب". [فرع] آخر: إذا بلغ الشخص من الجوع مبلغاً مضراً، قال الإمام في كتاب صلاة الجمعة: فلست أرى تدارك هذا من فروض الكفايات، فإن هذا لو قيل به، لأدى إلى تأثيم خلق الله تعالى على عموم الأحوال، فإن الحاجة عامة، والضرر غالب في الأصحاء والمرضى. نعم: يجب على الإمام تعهدهم وسد خلتهم من سهم المصالح. قال: والدليل عليه أن من اضطر وانتهي إلى خوف الهلاك، فله أن يأخذ، ولو جاع لم يكن له ذلك. نعم لو خلا بيت المال عن المال، ففي هذا نظر. قال: وإن وجد صيداً- أي: حياً- وميتة، وهو محرم، أي: أو في الحرم؛ كما

قال البندنيجي ففيه قولان: أحدهما: يأكل الميتة. والثاني: يأكل الصيد. وهذا الخلاف أخذ من قول الشافعي في "المختصر": "لو وجد المضطر ميتة وصيداً، وهو محرم، أكل الميتة، ولو قيل: يأكل الصيد ويفدي، كان مذهباً"، واختلف الأصحاب في ذلك. فالذي ذكره أبو إسحاق والقاضي أبو حامد: أن في المسألة قولين مطلقين؛ أخذاً بظاهر اللفظ: أحدهما: يأكل الميتة؛ لأن إباحتها ثابتة بنص الكتاب، وتناول الصيد مجتهد فيه، وما ثبت بالنص أولى مما ثبت بالاجتهاد. ولأن في الصيد تحريمين: تحريم ذبحه، وتحريم أكله، وفي الميتة تحريم واحد، وما خف تحريمه كان أولى. والثاني: يأكل الصيد؛ لأن تحريمه أخف؛ لأنه مختص ببعض الناس في حالة الاختيار دون بعض، بخلاف الميتة؛ فإنها حرام على الكافة؛ ولأن تحريم الميتة؛ لمعنى فيها، وتحريم الصيد لمعنى في غيره؛ فكان ما فارقه معنى التحريم أخف مما حله معنى التحريم. والذي قاله صاحب "التلخيص"، ولم يورد ابن الصباغ في كتاب الحج غيره-: أن في المسألة قولين مبنيين على القولين في ذبح المحرم الصيد، هل يضره كالميتة؛ فيحرم عليه وعلى غيره أو لا؛ فيحل لغيره؟ فإن قلنا بالأول- وهو الجديد – أكل الميتة؛ لأنه إذا ذبحه صيره مثل الميتة التي معه، ولزمه الجزاء، ولا حاجة به إلى ذلك. وإن قلنا بالثاني، أكل الصيد؛ لأن لحمه طاهر، وتحريمه أخف؛ بدليل ما سبق؛ فكان تناوله أولى. وذهب أبو علي بن أبي هريرة وأبو علي الطبري صاحب الإفصاح إلى أنهما مبنيان أيضاً على القولين في ذكاته، لكن إن قلنا بالأول، أكل الميتة أيضاً. وإن قلنا بالثاني: فهل يأكل الميتة أو الصيد؟ فيه القولان، وتوجيههما ما ذكرناه؛ وهذه الطريقة اقتصر الفوراني على ذكرهما. وحكى الغزالي- تبعاً لإمامه- طريقة أخرى، فقال: إن قلنا بالأول، أكل الميتة أيضاً، وإن قلنا بالثاني، فهو كما لو وجد الميتة وطعام الغير؛ فيخرج على الخلاف،

أي: وهو ثلاثة أقوال؛ كما تقدم حكاية ذلك عنهم؛ ثالثها: التخيير؛ وهذه التي أوردها البغوي [ثم قال الغزالي- تبعاً لإمامه – وفيه نظر؛ فإن الميتة وطعام الغير] تقابل فيهما حق الله تعالى وحق الآدمي، وهاهنا الحق لله تعالى من الجانبين. ومختار المزني في المسألة تناول الصيد، وماذا يأكل منه؟ فيه قولان كما في الميتة، وهما مذكوران فيما إذا لم يجد إلا الصيد. والذي صححه النواوي، واختاره في "المرشد"- تبعاً لصاحب "البحر"- أكل الميتة، وقال: إن القاضي الطبري نقل أن الشافعي [صرح] في "ذبائح بني إسرائيل" بأنه يأكل الميتة، ويترك الصيد؛ فهو مذهبه، ولا حاجة إلى هذا التطويل. وقد خص الماوردي الخلاف بما إذا لم تكن الميتة ميتة آدمي، فلو كانت قال: فلا يأكل إلا الصيد قولاً واحداً؛ وهذا كله إذا وجد الصيد حياً، أما إذا وجد لحم صيد وميتة، قال الغزالي: فلحم الصيد أولى؛ لأن المحذور حق الصيد في القتل، وتحريم اللحم على المحرم أهون من تحريم الميتة العام تحريمها. وقال القاضي أبو الطيب: إنه ينظر: فإن كان قد ذكى الصيد حلال غيره، فلحمهُ كذلك، وحكمه كما لو وجد ميتة وطعام الغير. وإن كان قد ذكاه محرم، فإن قلنا: إن ما ذبحه المحرم من الصيود حرام على غيره، تناول أيهما شاء؛ لأنهما قطعتا ميتة؛ وهذا ما صححه في "العدة". ونقل ابن الصباغ عن القاضي أبي الطيب في كتاب الحج: أنه يأكل الصيد؟ لأنه مختلف في إباحته، وحكي هنا عن الشيخ أبي حامد أن أكل الميتة أولى، وهو ما أورده الماوردي، واختاره في "المرشد". [ثم] قال القاضي وغيره: وإن قلنا: إنه مباح لغيره؛ فإنه يتناول اللحم، ويدع الميتة؛ لأن هذا اللحم طاهر ليس بملك لأحد؛ لأن المحرم إذا اصطاد، وذبح، لم يملكه بذلك؛ وهذا منه يفهم أن محل ذلك إذا وقع الصيد والذبح في حال الإحرام. أما إذا وقع الصيد وهو حلال، والذبح في حال الإحرام، فالأمر كذلك؛ إن قلنا بزوال ملك المحرم أما إذا قلنا ببقائه، فلا. وقد أشار إلى ذلك الماوردي بقوله: لو لم يجد إلا لحم صيد ذكاه محرم آخر،

وقلنا: إنه لا يحرم عليه- فإنه يأكله. وفي ضمان المضطر لقيمة ما أكله وجهان من اختلاف القولين: هل يستقر للمحرم عليه ملك أو لا؟ أحدهما: لا ضمان؛ إذا قيل: إن المحرم لم يملكه. والثاني: يجب؛ إذا قيل: إنه ملكه. ولو كان هو الذي ذبحه، فإن كان قبل إحرامه، فهو كما لو وجد ميتة وطعام نفسه. وإن كان في حال إحرامه، قال البندنيجي: ففيه قولان، بناء على أن ذبحه يحرم على غيره أو يحل له؟ فإن قلنا: يحرم، فالميتة أولى، وإلا فالصيد أولى. قال الإمام: ولا يجوز أن نقدر في تقديم الصيد على الميتة خلافاً؛ تفريعاً على هذا القول؛ لأن المحذور [ثم] الإقدام على محرم آخر وهو ذبح الصيد، وهو مفقود هنا. وقال في "البحر" على طريقة ابن أبي هريرة: إن قلنا: إن ذبحه يصير كالميتة، فالميتة أولى، وإلا فقولان. وقد حكى ابن الصباغ عن القاضي في هذه الصورة: أنا إن قلنا: يحرم الصيد على غير الذابح، تخير في أكل أيهما شاء. وقال في "البحر": إن القفال ذكره قولاً ثالثاً. فرعان: أحدهما: إذا وجد المضطر صيداً، وطعام الغير، قال القاضي الحسين وصاحب "العدة" والبغوي: إن قلنا: لا يصير ميتة، فثلاثة أقوال: أحدها: مال الغير؛ لأن في قتل الصيد هتك حرمة أولاً. والثاني: الصيد أولاً؛ لأنه محض حق الله تعالى. والثالث: هما سواء؛ فيتخير؛ وهذا ما أبداه الإمام احتمالاً بعد حكاية الوجهين الأولين. أما إذا قلنا: يصير ميتة، فقد قال القاضي وصاحب "العدة": يتناول مال الغير. وقال البغوي: هو كما لو وجد ميتة وطعام الغير، وهو الذي ذكره الإمام، وقضية ذلك أن يكون في المسألة على قولنا: إنه يصير كالميتة أو لا يصير؟ ثلاثة أقوال- أو

أوجه كما حكاها الرافعي- فأي فائدة للتقسيم؟ ويظهر أن يقال: إن الأقوال الثلاثة فيما إذا قلنا: إنه ليس بميتة مفرعة على قولنا: إذا وجد ميتة وطعام الغير، [أنه يأكل طعام الغير،] أما إذا قلنا: يأكل الميتة؛ فلا يجيء إلا قول واحد: أنه يأكل الصيد. الفرع الثاني: إذا وجد الصيد والميتة وطعام الغير، فمجموع ما قيل في المسألة سبعة أوجه، أوردها الإمام، واقتصر القاضي الحسين على أربعة منها، وكذلك البغوي؛ تفريعاً على أن ذبح المحرم لا يكون ميتة: أحدها: طعام الغير، وهو الأضعف. والثاني: الميتة. والثالث: الصيد. والرابع: يتخير بين الكل. والخامس: [يتخير] بين الميتة وطعام الغير. والسادس: يتخير بين الصيد وطعام الغير. والسابع: يتخير بين الصيد والميتة. قال البغوي: أما إذا قلنا: إنه كالميتة؛ فيصير كالمعدوم. قال: ومن اضطر إلى شرب الخمر- أي: للتداوي، أو عطش- جاز له شربها؛ لأنه يدفع به الضرر عن نفسه؛ فجاز؛ كما لو غص بلقمة، ولم يجد غيرها؛ فإنه يسيغها؛ وهذا ما نسبه القاضي الحسين هنا إلى الداركي. فإن قلت: قضية ما ذكرته من القياس: أن يجب شربها في الحالتين المذكورتين؛ لأن الأصل المقيس عليه كذلك؛ حتى قال الإمام: إن الوجه المذكور في أنه لا يجب أكل الميتة؛ لا يجري فيه لأنا وجهناه بالتردد في دفع الضرورة، وإساغة اللقمة معلومة. [قلت]: أما وجوب شربها؛ لأجل التداوي؛ فلا سبيل إليه؛ لأنه لا يجب بالطاهرات؛ فضلاً عن المحرمات. وأما شربها للعطش، فقد جزم الأصحاب بوجوبه في كتاب الحدود، وقالوا هاهنا:

إن في وجوب شرب الماء النجس والبول للعطش قولين؛ كما في وجوب أكل الميتة؛ وذلك في الخمر من طريق الأولى. وقيل: لا يجوز: أما التداوي؛ فلقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن التداوي بالخمر فقال- "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم". وقد خرج مسلم عن وائل بن حجر: أن طارق بن سويد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -[عن الخمر فنهاه، ثم سأله فنهاه، فقال له: يا نبي الله إنها دواء، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ولكنها داء". وأما في العطش؛ فلأنها لا تدفعه، بل تزيده عطشاً عظيماً وإن فرض تسكينه في الحال؛ وقد يستدل للصورتين بعموم قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، وبأن استعمال قليلها يدعو إلى استعمال كثيرها، ولا يؤمن أن يتولد منها ما هو أضر؛ وبهذا خالفت البول والماء النجس؛ وهذا ما حكاه البندنيجي وابن الصباغ هنا، وفي كتاب الحدود عن النص، وأنه وجهه بأنها تزيد الجائع جوعاً، والعطشان عطشاً، ولا دواء فيها؛ [فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -] قال: "الخمر داء وليس بدواء"، وقد اختاره ابن أبي هريرة، وهو الأظهر عند الشيخ أبي حامد والمحاملي وابن كج وغيرهم؛ وعلى ذلك جرى النواوي. وعن "تعليق" الشيخ إبراهيم المروروزي حكاية مثله وجهاً في إساغة اللقمة [أيضاً، وإليه أشار في "الكافي" بقوله: "يجوز إساغة اللقمة] بها على الأصح". وقيل: يجوز للتداوي؛ لأن النفع بها متوقع، والحديث محمول على أنه علم أن الشفاء لا يحصل بها؛ كما قاله الغزالي في كتاب الطهارة، أو معناه: ما فيه شفاؤكم فما حرم عليكم؛ كما تقدم. ولا يجوز للعطش؛ لأنها لا ترده بل تزيده.

[والعلة الجامعة:] أنها متعينة في الدواء و [غير] متعينة [في العطش]، وهذا ما نسبه الماوردي هنا إلى بعض البصريين من أصحابنا، وقال في "البحر": إنه اختيار القاضي أبي الطيب، وقال: إنه منصوص الشافعي، وما عداه خلاف مذهبه؛ ولأجل ذلك رجحه في كتاب الحدود. وفي "الشامل" طريقة رابعة في المسألة: أنه يجوز للعطش؛ لأنها تروي في الحال، وذلك موثوق به، ولا يجوز للتداوي؛ لأن دفع العلة غير موثوق به؛ فإن الطبيب وإن تبحر لا يجزم بقضاء على مريض؛ ولذلك قال "أبقراط": "التجربة خطرة والقضاء عسر"، [ومراده- كما قال الإمام-: أن القضاء بماهية المرض، ثم بعلاج نافع عسر] مع استنادهما إلى التجربة. وهذه الطريقة نسبها الماوردي إلى بعض البغداديين من أصحابنا، ولم يورد الغزالي هنا غيرها، وهو متبع للإمام؛ فإنه قال هاهنا: إن من انتهى بالعطش إلى الضرورة، فيتعاطى الخمر؛ فإنها تسكن العطش، ولا يكون استعماله في حكم العلاج، ومن قال: الخمر لا تسكن العطش، فليس على بصيرة، ولا يعد مثل هذا مذهباً، بل هو غلط ووهم، ومعاقر الخمر يجتزئ بها عن الماء. وقال في كتاب "الحدود": يجوز الشرب؛ لدفع العطش في قول الأصحاب أجمعين، وقالوا: لا يجوز التداوي، وبلغنا عن آحاد من المتأخرين ينتسب بجوازه من غير تدوين في تصنيف، وإنما يترامزون به ترامز المتكاتمين، وقد حكاه في "الوسيط" في الباب الثاني في المياه النجسة. وقد نسب في "البحر" القول بأن الخمر تروي ولا تعطش إلى بعض المخالفين، وأنه خطأ الشافعي في قوله: "إنها لا تروي بل تزيده عطشاً"، كما تقدم، وقال: ليس بعيب عليه؛ لأن مثله يجوز أن يخفي عليه؛ فإن تأثير الخمر في نفس الشارب. قال الروياني: وهذا خطأ من المخالف، والشافعي أعرف بهذا منهم؛ فإنه وصف

في كتاب الوصايا من الأمراض وأحكامها ما يدل على معرفته بالطب، واضطلاعه به. وقال القاضي أبو الطيب: أني سألت عن هذا بعض من يعرف ذلك، فقال: الأمر على ما قاله الشافعي. وفي "التهذيب" طريقة خامسة حالية للوجهين في جواز التداوي بها، وجازمة بمنع الشرب للعطش، ولم يورد غيرها، وهي المذكورة في "تعليق" القاضي الحسين في باب الصلاة بالنجاسة. وفي "المرشد" طريقة سادسة: أنه لا يجوز للتداوي، ويجوز للعطش شرب الجديد منها دون العتيق، والاضطرار لشربها؛ لدفع الجوع كهو لدفع العطش. وعن بعضهم: أنه لا يجوز لدفع الجوع، وإن جاز للعطش؛ لأنها تحرق كبد الجائع. واستعمالها في المعجون كاستعمال المعجون الذي فيه لحم الحية والسرطان. ثم اعلم أن محل الخلاف في التداوي مخصوص بالقليل الذي لا يسكر؛ كما ذكره ابن الصباغ والروياني والبغوي في كتاب الحدود. لكن في "تعليق" القاضي الحسين: أنه لو احتاج إلى قطع عضو منه لأكله، فهل يجوز الشرب؛ ليزول عقله أم لا؟ فيه وجهان. [وأيضاً: فإن محل الخلاف] مخصوص بما إذا قال مسلم خبير من أهل الطب: إن فيها دواء، ولا يوجد ما يقوم مقامها، وكذا في استعمال غيرها من النجاسات يشترط هذان الأمران. وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب حد الخمر: أنه يجب أن يشهد طبيبان مسلمان أن علته لا تذهب إلا بهذا، وخبرة المريض بذلك تقوم مقام ذلك. ولو كان في استعمالها تعجيل الشفاء، ففي الجواز وجهان: أولاهما: الجواز، وهو نظير ما نص عليه الشافعي في استعمال غيرها من النجاسات. والقاضي الحسين في باب الصلاة بالنجاسة حكى الوجهين في جواز التداوي بالنجاسة؛ لتعجيل البرء، وقال: إنهما مخرجان من الوجهين من نظير المسألة في التميم.

فرع: إذا وجد المضطر للشرب للعطش خمراً وبولاً، شرب البول؛ كما لو وجد بولاً وماء نجساً، شرب الماء النجس؛ لأنه أخف، وما الذي يشربه هل ما يرويه أو ما يسد رمقه؟ فيه قولان كما في أكل الميتة. قال: ولا يحرم كسب الحجام، أي: سواء اكتسبه حر أو عبد؛ لما روى أبو داود عن ابن عباس قال: "احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعطى الحجام أجرته، ولو علمه خبيثاً لم يعطه، أخرجه البخاري. وروى أبو داود عن أنس بن مالك أنه قال: "حجم أبو طيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه"، أخرجه البخاري ومسلم. قال جابر: وكان خراجه ثلاثة آصعٍ من تمرٍ في كل يوم، فخففوا عنه في كل يوم صاعاً. ووجه الدلالة من ذلك ما قاله ابن عباس: أنه لو كان حراماً لما أعطاه؛ لأن كل موضع حرم الأخذ على الآخذ، حرم الدفع على المعطي؛ كأجرة المغني والنائحة. ويستثنى من ذلك ما إذا دعت إليه ضرورة؛ كما إذا أعطى الشاعر شيئاً؛ ليذر هجوه، والظالم؛ كي لا يمنع حقه، أو لا يأخذ منه أكثر من الذي أعطاه؛ فإن في مثل ذلك يأثم الآخذ دون المعطي، وسنذكر ذلك في كتاب الأقضية. فإن قيل: قد روى مسلم عن رافع بن خديج أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كسب

الحجام خبيث، وثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث". قيل: قد أنكر ابن عباس هذا بقوله السابق. ولأنا نتأوله ونقول: أراد بالخبيث: الدناءة، فإنه كسب دنيء؛ وهذا كقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267] [و] أراد [به] الدون الرديء {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267]. فإن قلت: قول على وابن عباس حكاية حال، لم يعينا فيها من حجمه - صلى الله عليه وسلم - وأنس عينه؛ فيجوز أن يكون واحداً؛ وهو أبو طيبة، وإذا كان كذلك، فهو رقيق، والخصم وهو كما قال الإمام أحمد وغيره من أصحاب الحديث وأهل الظاهر- موافق على حل كسب الحجام للرقيق دون الحر؛ فلا حجة لكم فيما ذكرتم؛ لأن وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال، سقط بها الاستدلال. قلت: يظهر أنه لأجل ذلك قال ابن خزيمة من أصحابنا بمثل مذهب الخصم؛ كما حكاه الموفق بن طاهر. وجوابه على المنصوص الصحيح في المذهب ما قاله الماوردي: أنه لم يزل على هذا في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه إلى وقتنا في سائر الأمصار يكتسبون بهذا، ولا ينكره منكر؛ فدل على انعقاد الإجماع به وارتفاع الخلاف فيه. وقد روي عن ابن عباس أنه سئل عن كسب حجام له ماذا يصنع به؟ فقال: آكله. ولأنه كسب يحل للعبد؛ فحل للحر؛ كسائر المكاسب. قال: والأولى أن يتنزه الحر عن أكله، أي: سواء اكتسبه حر أو عبد؛ كما قاله البنددنيجي وغيره؛ لما روى أبو داود عن ابن محيصة عن أبيه أنه استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أجرة الحجام؛ فنهاه [عنها] فلم [يزل] يسأله ويستأذنه حتى أمره أن

أعلفه ناضحك ورقيقك، وقال الترمذي، إنه حديث حسن؛ فدل هذا على كراهته للحر دون التحريم، فإنه لو كان حراماً لما أمر بإطعامه الناضح والرقيق؛ لأن ما حرم أكله؛ لعدم ملكه، حرم التصرف فيه. وقد اختلف الأصحاب في علة الكراهة على وجهين: فمنهم من قال: لأجل مباشرة النجاسة؛ وروي أنه- عليه السلام- قال: "إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها"، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهم، وقالوا: إن ذلك يتعدى إلى كسب الكناس الذي يستخدم العذرة من الكنف، والقصاب، والزبال الذي يجمع العذرة ويوقدها في الحمام، والفاصد، والطبيب، والخرائجي. وقال في "الوسيط": إنه لم يذهب إلى الكراهة في هذه الأشياء أحد وهذا من العجائب؛ لأن الإمام قد صرح بالكراهة فيها أيضاً. وحكى الماوردي على هذا في كراهة كسب الفاصد وجهين، ونسب عدم الكراهة إلى ابن أبي هريرة؛ لأنه قلما يباشر النجاسة، وقد أقرن بعلم الطب، وهو الذي

صححه النواوي في "الروضة" ولا يجري في كسب الختان؛ لأنه يزيد على الحجام بمباشرة العورة. ومنهم من قال: لدناءة الحجام عند الناس، قاله الماوردي، وهذا هو الظاهر من مذهب الشافعي؛ لأنه جعل من المكاسب دنياً وحسناً، ولم يورد في "المذهب" و"التهذيب" سواه، وعلى هذا تتعدى الكراهة مع من ذكرنا ثم إلى المكاسب الدنيئة: كالسماك، والحلاق، والقيم في الحمام. واختلف على هذا في كسب الحمامي على وجهين: أحدهما: أنه دنيء؛ لأنه يشاهد العورات، ويكسب بجزاء [من غير] مقدر. والثاني: لا يكره؛ لأنه لا يباشر عملاً، ويمكنه غض طرفه عن العورات، وأيضاً: فليس هو مكتسب بمباشرتها. والدباغ يلحق عند الماوردي بالسماك؛ فيكون في كراهية كسبه وجهان. و [يلحق] عند القاضي أبي الطيب وابن الصباغ والشيخ بالحجام. والحائط يلحق عند صاحب "الإفصاح" بالحمامي، وصحح النواوي في "الروضة" عدم كراهية كسبه. والصنائع الدنية محل الكلام فيها كتاب الشهادات، فليطلب منه، ولا يخفى تخريج صورها عن المأخذين في الكراهة هاهنا. وقد قال الغزالي: لعل السبب في كراهة كسب الحجام والفاصد: أن الحجامة والفصد جرح يفسد البنية، وهو حرام في الأصل، وإنما يباح بتوهم المنفعة، وذلك مشكوك فيه، ويطرد هذا في أجرة من يقطع يداً متآكلة؛ لاستبقاء النفس، ولا يطرد في أجرة الجلاد الذي يقطع في السرقة. قلت: [و] قد يقال: إن مساق ما ذكره يفهم كراهة نفس تعاطي الفصد والحجامة، وإن لم تكن بأجرة؛ لما ذكره، لكن القاضي الحسين قد صرح بأن ذلك مباح، وإنما الكراهة في أكل الأجرة. أما العبد فلا يكره له أكله، سواء اكتسبه حر أو عبد؛ إذ لو كره، لكره للسادة إطعامه

لهم، ولأن العبد دنيء فلا يشينه تعاطي ذلك؛ قال- عليه السلام-: "يسعى بذمتهم أدناهم"، أي: عبيدهم؛ وهذا هو المذهب، ولم يذكر القاضي الحسين والبندنيجي سواه. وقيل: يكره للعبد أيضاً، حكاه الماوردي، ونسبه إلى الأكثرين. ومن قال به قال: المراد بـ"أدناهم" في الحديث الأدنى إلى دار الحرب. ويكره-: أيضاً- كسب الصاغة؛ لأنهم قلما يحترزون عن الربا، وقد نسب في "البحر" هذا إلى بعض المراوزة، وهذا حكم خبيث الكسب مع عدم التحريم. وأما خبيثه مع التحريم وطيبه فلنقتصر فيه على ما ذكره الماوردي؛ فإنه أحسن الترتيب فيه، فقال: أصول المكاسب المألوفة ثلاثة: زراعة، وتجارة، وصناعة؛ فينبيغ للمكتسب بها أن يختار لنفسه أطيبها: لقوله- تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] واختلف الناس في أطيبها. فقال قوم: الزراعات، وهي عندي أشبه؛ لأن الإنسان فيها متوكل على الله- تعالى- في عطائه، مستسلم لقضائه. وقال آخرون: التجارة أطيبها، وهو أشبه بمذهب الشافعي- رحمه الله- لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، واقتداء بالصحابة- رضوان الله عليهم- في اكتسابهم [بها]. وقال آخرون: الصناعة، لاكتساب الإنسان فيها بكد يده، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من الذنوب ما لا يكفره صوم ولا صلاة، ولكن يكفره عرق الجبين في طلب الحرفة". قال النواوي: وفي صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده".

لكن الزراعة أفضلها؛ لعموم النفع بها للآدمي وغيره، وعموم الحاجة إليها. قال الماوردي: "فأما الزراعة، فلا مدخل لها في تحريم ولا كراهة"، وهذا أدل شيء على أنها أطيب المكاسب. وأما التجارة: فتنقسم ثلاثة أقسام: حلال وهي البيوع الصحيحة، وحرام وهي البيوع الفاسدة، ومكروه وهو الغش والتدليس. وأما الصناعة فثلاثة أقسام: حلال وهي ما أبيح من الأعمال التي لا دنس فيها: كالكتابة، والنجارة، والبناء. وحرام وهو ما حظر من الأعمال كالتصاوير والملاهي، ومكروه وهو ما ذكرناه من كسب الحجام ونحوه، والله أعلم.

باب النذر

باب النذر النذر: واحد النذور، وهو في اللغة: الوعد بخير أو شر؛ قال عنترة العبسي المشهور: [من الكامل]. الشاتمي عرضي ولم أشتمهما والناذرين إذا لقيتهما دمي وفي الشرع- كما قال الماوردي-: الوعد بالخير دون الشر؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم". وهذا قريب من قول من حده بأنه التزام قربة غير لازمة بأصل الشرع. وقد قيل: إنه التزام قربة مقصودة غير لازمة بأصل الشرع؛ ولهذا الاختلاف أثر يظهر لك من بعد. ويقال: نذرت أنذر وأنذر؛ بكسر الذال وضمها. والأصل فيه قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه". أخرجه البخاري وغيره عن عائشة. لكن هل هو مكروه أو قربة؟ الذي دل عليه ظاهر الخبر الأول؛ فإن البخاري ومسلم وغيرهما أخرجوا عن ابن عمر أنه قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن النذر، ويقول: "لا يرد شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل". وفي "التتمة" في كتاب الوكالة: أن التوكيل بالنذر لا يجوز؛ لأن نفس النذر قربة؛ بدليل أنه لا يصح من الكافر على طريقة. ويمكن أن يتوسط فيقال: الذي دل عليه ظاهر الخبر كراهة نذر المجازاة، وأما نذر التبرر وهو الذي لم يعلق على شيء؛ فيظهر أن يقال: إنه القربة؛ تمسكاً بما علل به

القاضي الحسين صحته، وهو أن له فيه غرضاً صحيحاً، وهو أن يثاب على القربة إذا فعلها، لو لم تكن منذورة، فإذا نذرها صارت متجهة عليه، فإذا فعلها يثاب ثواب المفترض، وثواب الفترض يزيد على ثواب المتنفل بسبعين درجة. وفي "الحاوي": أن الحديث يدل على أن ما ينتدبه الشخص من البر أفضل مما يلزمه بالنذر. قال: ولا يصح النذر إلا من مسلم، لأنه معنى وضع لإيجاب القربة؛ فلم يصح من الكافر؛ كالإحرام بالحج. قال: بالغ عاقل؛ للخبر المشهور، ولأنه إيجاب حق بالقول؛ فلم يصح من الصبي والمجنون؛ كضمان المال. وقيل: يصح من الكافر [أي]: ويلزمه الوفاء به إذا أسلم؛ لما روى مسلم والبخاري عن عمر- وهو ابن الخطاب، رضي الله عنه-[أنه] قال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية: أن أعتكف في المسجد الحرام ليلة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أوف بنذرك". وقد وقع في الصحيح- أيضاً-: "أن أعتكف يوماً". والمذهب الأول، والخبر محمول على الاستحباب؛ لأنه لا يحسن أن يترك بسبب الإسلام ما عزم عليه في الكفر من خصال الخير. قال الشيخ مجلي: ويمكن بناء الخلاف على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ قلت: وفي البناء نظر من وجهين: أحدهما: أنه يتقضي أن يكون الصحيح الصحة؛ لأن الصحيح أنهم مخاطبون بها. والثاني: أن القائل بأنهم مخاطبون بالفروع، قائل بعدم المخاطبة بالأداء بعد الإسلام.

والقائل بصحة النذر هاهنا قائل بلزوم الوفاء بالنذر بعد الإسلام؛ عملاً بظاهر الخبر. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في صحة النذر من المسلم البالغ العاقل بين أن يكون محجوراً عليه؛ لسفه أو فلس أو رق، أو لا ولا شك في ذل كفي السفيه والمفلس؛ إذا كان المنذور غير مال: كالصلاة والصوم، وإن كان مالاً فلا يصح من السفيه، ويصح من المفلس؛ إذا كان في الذمة، ويؤديه بعد البراءة من حقوق الغرماء، وإن كان معيناً قال في "التتمة": فيبنى على أنه لو أعتق أو وهب: هل يصح تصرفه موقوفاً أم لا؟ فإن قلنا: يصح موقوفاً، فكذلك نذره، [وإلا فلا. وقال فيما إذا نذر المفلس عتق المرهون إن قلنا بصحة عتقه صح نذره] وإلا فهو كما لو نذر عتق عبد غير مملوك، وسنذكره. وأما العبد فيظهر أن يقال: صحة نذره في الذمة المال كضمانه، وفي العين التي يملكها على القول القديم لا يصح كالعتق والصدقة، ونذره للحج في انعقاده وجهان سبق ذكرهما؛ أصحهما الانعقاد كالسفيه. وعلى هذا لو أتى به في حال الرق، فثلاثة أوجه؛ ثالثها: إن كان الأداء بإذن السيد أجزأه، وإلا فلا. وغير الحج يشبه أن يكون كالحج في انعقاد النذر به. قال: ولا يصح النذر إلا في قربة، أما صحته في القربة وعدم صحته في المعصية؛ فدليله خبر عائشة السابق. وقد روى مسلم وغيره في حديث طويل أنه- عليه السلام- قال: "لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم". وأما عدم صحته في المباح؛ فدليله ما روى أبو داود عن ابن عباس قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذ هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، قالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، قال: "مروه فليتكلم، وليقعد، وليتم صومه"، وأخرجه البخاري وغيره. وأبو إسرائيل هذا اسمه: قيصر العامري، وليس من الصحابة من يشاركه في اسمه ولا كنيته.

فإن قيل: قد روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، قال: "أوف بنذرك"، والضرب بالدف ليس بقربة، وقد أمرها بالوفاء به. قيل: هو محمول على الإباحة دون الوجوب. وقال في "البحر": إن الخطابي أجاب بأنه لما اتصل بإظهار الفرح بسلامة مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة من بعض غزواته، وكان مساءة للكفار، وإرغاماً للمنافقين صار فعلها كبعض القرب التي هي من نوافل الطاعات؛ ولهذا أبيح ضرب الدف، واستحب في النكاح؛ لما فيه من الإشارة بذكره، والخروج عن معنى السفاح. وما ذكره الشيخ من عدم صحته بالمعصية هو المشهور، وقد رأيت في "تعليق" القاضي الحسين في كتاب الاعتكاف: أنه لو نذر أن يعتكف جنباً، فالأصح أنه ينعقد نذره. وهل يخرج عن نذره قراءة القرآن إذا قرأ وهو جنب؟ الأصح: لا، ومقابله: نعم؛ كما يحنث إذا حلف لا يقرأ القرآن، فقرأه وهو جنب، وسيأتي في نذر صوم يوم العيد ونحوه خلاف. تنبيهان: أحدهما: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن كل قربة غير لازمة بأصل الشرع، تلزم بالنذر؛ كما هو قضية حد النذر الأول، وعليه ينطبق قول القاضي الحسين: "عندي كل ما يتقرب بجنسه إلى الله تعالى فرضاً أو تطوعاً ينعقد نذره عليه؛ إذا لم يكن فيه إبطال رخصة: كنذر السلام على مسلم، أو عيادة مريض، أو شهود جنازة، أو زيارة قادم؛ إذا قصد بها التقرب". ويوافقة قول الماوردي فيما إذا قال: "إن هلك فلان فلله علي أن أهب مالي من زيد": [إنه] ينظر: فإن كان فلان من أعداء الله، وزيد ممن يقصد بهبته الأجر والثواب- انعقد نذره. وإن لم يكن فلان من أعداء الله، وزيد ممن يقصد به التواصل والمحبة- لم ينعقد. وكذا فيما إذا قال: "لله علي أن أتزوج"، فإنه ينظر: فإن قصد به غض الطرف،

وتحصين الفرج- فإنه يكون قربة، قال: ويكون واجباً في أصح الوجهين يعني الآتيين فيما إذا نذر شيئاً، ولم يعلقه على شيء. وإن قصد به الاستمتاع والتلذذ، كان مباحاً، لا يجب على الوجهين. قال: ثم على قياس هذا في نظائره، يعني: كالأكل؛ إذا قصد به التقوية على العبادة، والنوم؛ إذا قصد به طرد الغفوة؛ حتى إذا نسك في جوف الليل، كان صاحي القلب، منتفض النفس؛ فيلزم بالنذر. وقد ادعى الإمام في هاتين الصورتين ونظائرهما: أنه لا خلاف في عدم لزومهما بالنذر. وحكى عن شيخه والمتقدمين: أنهم قالوا: إنما يلزم بالنذر ما له أصل في الوجوب الشرعي: كالصلاة، والصدقة، والحج ويوافقه قول القاضي الحسين. ويحتمل أن يقال: كل ما له مثل في الشرع، فينعقد نذره، وإلا فلا، وأنه مستنبط من قول الشافعي فيما لو نذر المشي إلى المسجد الأقصى قال: لا ينعقد في قول، وفرق بينه وبين المسجد الحرام؛ وعلى هذا لا يلزم بالنذر عيادة المرضى، وزيارة القادمين، وإفشاء السلام على المؤمنين، وتجديد الوضوء؛ كما صرح بحكايته عن الشيخ أبي محمد، ويوافقة قول من حد النذر بأنه التزام قربة مقصودة غير لازمة بأصل الشرع؛ لأن العبادة المقصودة هي التي وضعت للتقرب بها، وعرف من الشارع الاهتمام بتكليف الخلق باتباعها عبادة، والأظهر الأول. قال المتولي تبعاً للقاضي: والخلاف ينبني على أن مطلق النذر يحمل على أقل ما يتقرب به أو على أقل ما يجب في الشرع من جنس الملتزم، وسيأتي هذا الأصل، إن شاء الله تعالى. ومما ذكرناه يظهر لك ما هو متفق عليه وما هو مختلف فيه، ولنذكر من ذلك نبذة: فمن المتفق عليه: نذر الصلاة، والصدقة، والصوم، والحج، وكذا الاعتكاف. قال الأصحاب: لأن له أصلاً ثابتاً في الشرع، وهو الوقوف بـ"عرفة"؛ لأنه لبث بمكان مخصوص. وفيه نظر يظهر لك من كلام القاضي الذي سنذكره فيما إذا نذر شيئاً، ولم يعلقه على شيء.

وقال الإمام: إن فروض الكفايات التي يحتاج في أدائها إلى بذل مال أو معاناة مشقة: كالجهاد، وتجهيز الموتى- من ذلك. ثم قال: ولا أعرف خلافاً في لزوم الجهاد بالنذر كما حكيته عن صاحب التلخيص، وحكى الخلاف في لزوم الصلاة على الجنازة بالنذر، وكذا في الأمر بالمعروف، وما ليس فيه بذل مال وكبير مشقة من فروض الكفايات، والأظهر اللزوم. لكن ما ادعاه في نذر الجهاد غير مسلم؛ فإن العبادي في "الرقم" حكى وجهاً عن القفال: أنه إذا نذر أن يجاهد لا يلزمه شيء. وقد ادعى الغزالي في "الوسيط" في الباب الثاني في كيفية الجهاد من كتاب السير في المسألة الخامسة-: أنه الصحيح. ومن المختلف فيه نذر تطويل القراءة، والركوع، والسجود في الفرائض، أو إقامة بعض الرواتب، أو أن يقرأ في صلاة الصبح سورة كذا، أو أن يصلي الفرائض بالجماعة، أو في المسجد- كما قاله في "الوسيط"- أو ألا يفطر في السفر في رمضان. والمنسوب إلى عامة الأصحاب في الأخيرة، وبه جزم الغزالي-: أنه لا ينعقد نذره، وله أن يفطر إن شاء؛ لأن في إلزام ذلك إبطال رخصة الشرع. والمختار عند البغوي وشيخه الصحة أيضاً، لكنه يشكل بما إذا وجب عليه كفارة يمين، فنذر تعيين إحدى الخصال؛ فإن القاضي جزم في كتاب الأيمان بعدم اللزوم؛ لأن فيه تغيير إيجاب الله تعالى. وقد ألحق بنذر الصوم في السفر إتمام الصلاة في السفر؛ إذا قلنا: الإتمام أفضل، وما لو نذر أن يقوم في السنن ولا يقعد فيها، ويديم غسل الرجلين، ويستوعب الرأس بالمسح في الوضوء، ويغسل الأعضاء ثلاثُا ثلاثاً في الوضوء والغسل، وأن يسجد للتلاوة، أو الشكر عند ما يقتضي السجود. وذكر الإمام على مساق وجه المنع: أنه إذا نذر المريض أن يقوم في الصلاة، ويتكلف المشقة- لم يلزمه الوفاء، وأنه لو نذر صوماً وشرط ألا يفطر بالمرض- لم يلزمه الوفاء.

ومنه إذا نذر أن يتيمم، فالمذهب أنه لا ينعقد نذره؛ لأن التيمم يؤتى به عند الضرورة. فرع: إذا نذر أن يصلي الظهر في جماعة، وصححنا نذره، فصلاها فرادى- قال القاضي أبو الطيب: لا يجب عليه أن يعيدها في جماعة [لأنه لما صلاها سقط عنه الفرض، وإذا سقط عنه الفرض، سقط النذر؛ وهذا بخلاف ما لو نذر أن يصلي ركعتين في جماعة]؛ فإنه يلزمه ذلك، فإن صلاهما وحده؛ فلا يجوز؛ لأن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الواحد بخمس وعشرين درجة، وتحصيل ذلك ممكن. وفي "التتمة" في المسألة الأولى: أنه يقضي الصلاة كما لو صلى الفرض منفرداً، ثم أدرك الجماعة، وأراد إدراك القضيلة؛ فإنه يستحب له قضاء الصلاة وهذا يظهر إذا قلنا إن الثانية هي الفرض. التنبيه الثاني: المفهوم من عدم صحة النذر: إلغاؤه؛ حتى يصير وجوده كعدمه. لكن القاضي الحسين حكى أنه لو قال: "إن دخلت الدار، [فلله علي عتق رقبة" يلزمه كفارة يمين، ولو قال: [نذرت لله] أن أدخل الدار"]، أوك "آكل هذا الطعام" فموجبه كفارة يمين؛ [قال- عليه السلام-: "من نذر فسمى، فعليه ما سمى؛ ومن لم يسم؛ فعليه كفارة يمين". وأشار البغوي إلى خلاف في ذلك بقوله: "لزمته كفارة يمين] على ظاهر المذهب"، وكذلك قال: إن ظاهر المذهب فيما إذا قال: "لله علي أن أصلي الظهر" أو: "أصوم رمضان" أو: "لا أشرب الخمر"، ونحو ذلك- أنه يمين حتى إذا لم يصل ولم يصم وشرب الخمر [تلزمه كفارة يمين، وهو قياس قول القاضي فيما إذا قال: "نذرت لله أن أشرب الخمر"] أن الظاهر أن عليه كفارة يمين. قال: وقيل: لا يلزمه شيء؛ لأنه معصية؛ وهذا هو المشهور؛ كما قال المتولي، والذي عليه عامة الأصحاب من العراقيين وغيرهم؛ كما قال الرافعي، والمختار في "المرشد"، وقد نسب الأول إلى رواية الربيع واختيار البيهقي.

وقد يستدل له بما روى الزهري عن أبي سلمة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين". وقد أخرجه أبو داود وابن ماجه، لكن الترمذي قال: إنه لا يصح؛ لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة. وقال غيره: لم يسمعه الزهري من أبي سلمة، لكن سمعه من ابن أرقم، وهو متروك. وعلى الخلاف يخرج ما إذا نذر ذبح ولده، أو نذرت المرأة صوم أيام حيضها، أو الصلاة فيها، ونذر صوم أيام العيدين والتشريق، ونحو ذلك. نعم: لو نذر الصلاة في الأوقات المكروهة، فقد تقدم أن الكراهة [كراهة تحريم فيأتي فيه الخلاف مع وجه آخر حكاه الأصحاب: أنه ينعقد نذره على القضاء في غيرها] دون الوفاء به؛ وهذا هو المنقول.

وقد رأى الإمام أن يلحق قوله: "نذرت لله أن أدخل الدار"، ونحوه بالكناية في اليمين، فرجع إلى نيته وقصده؛ فإن إلحاق ذلك بالأيمان مطلقاً لا وجه له، والخبر الأول فيه احتمال، وهو متردد بين الغلق والتبرر. قال: ويصح النذر بالقول، مثل أن يقول: "لله علي كذا"، أو: "علي كذا"، أي: وإن لم يضفه إلى الله تعالى. [أما في الأولى فبالاتفاق، وأما في الثانية، فلأن القربة لا تكون إلا لله تعالى]. وحكى القاضي الحسين- ومن بعده- وجهاً آخر: أنه لا يكون نذراً، والأول هو الأصح في "النهاية"، وهما جاريان- كما قال مجلي- فيما إذا أتى بلفظ يقتضي إلزاماً؛ كقوله: "يلزمني"، أو: ["لازم لي"] أو: "ألزمت نفسي" أو: "أوجبت عليها"، ونحو ذلك. قال الرافعي: وهو قريب من الخلاف في أنه: هل يجب في نية الصلاة والصوم الإضافة إلى الله تعالى؟ ومحل الخلاف- كما حكاه الإمام عن القاضي- فيما إذا كان النذر معلقاً على شيء، أما إذا قال: "علي عتق رقبة"، واقتصر على هذا، فلا يلزمه مذهباً واحداً. قال الإمام: ولا وجه للقطع الذي ذكره؛ فإن النذر المطلق إذا جعلناه ملتزماً بمثابة النذر المعلق على الشرط عند وجوده، فإذا جرى الخلاف في النذر المعلق؛ وجب – لا محالة- إجراء مثله في النذر المطلق. قال: وقيل: يصح بالنية وحدها؛ لأن اعتماد القربات على النية؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". وهذا يشبه أن يكون من تخريج ابن سريج، وإن لم أقف عليه منقولاً؛ لأن الشافعي نص في الجديد على أن الصالح للأضحية والهدي لا يصير أضحية وهدياً بمجرد النية، بل لابد من القول وهو أن يقول: "جعلته أضحية"ـ، ونحوه كما تقدم، ووجهه بأن ذلك إزالة ملك على وجه القربة، يصح بالقول؛ فلم يصح بدونه مع القدرة عليه؛ كالوقف والعتق. ونص في القديم- كما حكاه أبو الطيب- على أنه يصير كذلك إذا قلده وأشعره،

ونوى أن يكون أضحية أو هدياً، وإن لم يوجد النطق؛ احتجاجاً بأنه- عليه السلام- "كان إذا بعث الهدي قلده وأشعره"، ولم يثبت أنه كان يقول: "هذه أضحيتي". واختلف الأصحاب - تفريعاً على القديم-: فقال الإصطخري بإجراء اللفظ على ظاهره. وقال غيره: تصير هدياً وأضحية بالنية والذبح. وقال ابن سريج: تصير هدياً وأضحية بالنية والذبح. وقال ابن سريج: تصير هدياً وأضحية بمجرد النية؛ فلأجل هذا [قلنا] يشبه أن يكون القول بصحة النذر بمجرد النية من تخريج ابن سريج؛ لأنه لا فرق؛ ويؤيده أن الأصحاب جعلوا المذهب فيما إذا لم يعلق النذر على شيء الصحة؛ لأن الشافعي نص على أنه إذا قال: "لله علي أن أضحي" أنه يصح؛ فدل على أنه لا فرق؛ ومن هذا يظهر لك أن التخريج من القديم، والصحيح هو الجديد. وأجاب الأصحاب بأن قوله- عليه السلام-: "وإنما لكل امرئ ما نوى" يقتضي أن يكون ما نواه له لا عليه، ولو جعلناه بمجرد النية ملتزماً، لكان عليه لا له؛ فيكون بخلاف الخبر، وسوقه- عليه السلام-[الهدي] يحتمل أنه كان تطوعاً، أو عن قضاء، وبتقدير أن يكون عن نذر، فلعله تلفظ، ولم ينقل، وقد ذكرت طرفاً من ذلك في باب الأضحية؛ فليطلب منه. قال: ومن علق النذر على أمر يطلبه، أي: من الله تعالى: كشفاء المريض، وقدوم الغائب، أي: مثل أن قال: "إن شفى الله مريضي" أو: "قدم غائبي، فلله عليه أن أتصدق بكذا"، أو: "أن أحج"، ونحو ذلك- لزمه الوفاء به عند وجود الشرط؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]، {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77] وهه الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري؛ لأنه كان له مال بالشام خاف هلاكه، فنذر إن وصل إليه أن يتصدق منه، فلما قدم بخل به؛ كذا قاله الكلبي.

وقال مقاتل: إن سبب نزولها فيه: أن مولى لعمر- وقيل: حميماً له- نذر: إن وصل إليه الدية أن يخرج حق الله تعالى منها، فلما وصلت إليه، بخل بحق الله تعالى، فلما بلغ ثعلبة ما نزل فيه، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأله أن يقبل صدقته، فقال: "إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك"، فحثا التراب على رأسه، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقبض منه شيئاً، ثم أتى بعده أبا بكر، فلم يقبلها منه، ثم أتى عمر، فلم يقبلها منه، ثم أتى بعده عثمان- قال الماوردي-: فلم يقبلها منه، ومات فيأيامه. وهذا من أشد وعيد وأعظم زجر في نقض العهود ومنع النذور، ويدل عليه من جهة السنة مع ما ذكرناه في صدر الباب: ما روى أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عباس أن امرأة ركبت البحر، فنذرت إن نجاها الله- تعالى- أن تصوتم شهراً، فنجاها الله، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت ابنتها- أو أختها- إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرها أن تصوم عنها. ومن هذا النوع ما إذا علق النذر على حصول مال له، أو ولد؛ لاشتراكهما في طلب مباح، وطرده القاضي الحسين في كل مباح. قال الإمام في كتاب الأيمان: وكان شيخه يخصص النذر بما يظهر كونه مقصوداً، وحصوله على ندور، وقد وافقه طائفة من الأصحاب. وحاصل الطريقة: أن التبرر لا يتحقق في النعم المعتادة، كما أنا لا نستحب سجود الشكر لها وإن كانت نعماً، وما ذكره القاضي أفقه، وأوقع، والمعتبر في سجود الشكر التعبد، ومن طريق الأولى إذا علقه على حصول طاعة، مثل أن يقول: "إن كفاني الله ظفر أعدائي بي"، أو: "رفع عني ما يقطعني عن الصلاة والصيام"، أو: "إن رزقني الله عز وجل الحج" أو: "فتح على يدي بلاد أعدائه"- فله علي كذا.

ولا فرق في لزوم الوفاء بالنذر في الصور التي ذكرناها بين أن يقول: "فلله علي كذا"، ويعين بعض ماله، أو يقول: "فلله علي أن أتصدق بمالي"، أو يقول: "فمالي صدقة"؛ حتى يلزمه التصدق بجميع ماله؛ الزكاة منه وغيره؛ كما في الوصية. وقياس ما سنذكره عن القاضي أن يكون قوله: "فما لي صدقة" لغو، لكن الذي فهمته من كلامه في التعليق الأول، وهو الذي أورده الجمهور. نعم: حكى الماوردي في أواخر كتاب الأيمان وجهين في التصدق [بجميع ما] يستر به عورته. ولو كان المنذور الحج قال في "البحر": فلا يعتبر في وجوبه عليه الزاد والراحلة، وهل يعتبر وجودهما في وجوب أدائه؟ ظاهر المذهب أنه يعبتر. وقال صاحب "الحاوي": فيه وجهان، حكاهما ابن أبي هريرة. أحدهما: لا يعتبر؛ لأنه كان قادراً على استثنائه في نذره، وهو قول من لا يطرح [الغلبة] في الأيمان. والثاني: يعتبر؛ كما قلنا في المشروع. وهل يجب تعجيله على الفور؟ فيه وجهان. وهل يجوز تعجيل المنذور قبل وجود الشرط؟ قال الرافعي في كتاب الأيمان: إنه يجوز، وإن [في] فتاوي القفال ما ينازع فيه. وفصل المتولي ثم وهنا، فقال: إن كان المنذور مالاً جاز، وإن كان صوماً أو صلاة فوجهان: ووجه الجواز: أن الصوم هاهنا أصل، فهو كالعتق في الكفالرة. ومقابله، لم يحك الفوراني غيره. فرع: لا يجوز تعليق النذر على مشيئة [زيد]، فإن علقه لم ينعقد، وإن شاء زيد؛ لأنه لم يوجد منه التزام جازم كما يليق بالقربات؛ كذا حكاه القاضي الحسين والماوردي. وقال الإمام: هذا عندي خطأ؛ فإن تقديره: فإن شاء زيد، فلله علي [صوم فهو بمثابة ما لو قال: إن قدم فلله علي صوم أو غيره. ولا نزاع بينها في أنه لو قال: لله

علي] أن أصوم – إن شاء الله تعالى- أنه لا يلزمه شيء بالنذر، نعم نقل الإمام في كتاب الاعكاف عن صاحب "التقريب" فيما لو قال الناذر: "لله علي أن أتصدق بعشرة دراهم إلا أن أحتاج قبل التصدق" واحتاج، هل يسقط واجب النذر؟ - أنه قال: المسألة محتملة. وكذلك لو فرض في نذر الصلاة والصوم وغيرهما من القرب الملتزمة بالنذر، وطرد هذا فيما إذا قال: "لله علي شيء من ذلك إلا أن يبدو لي"، وزعم أن المسألة محتملة إذا بدا له. نعم: ذكر شيخي أنه استثنى في هذه القربات ما يتعلق به غرض: كالافتقار في نذر الصدقة، أو ما يناظر هذا في كل قربة- فالاحتمال لائح، وأما إذا قال: "إلا أن يبدو لي"، فالأوجه إبطال هذا الاستثناء، وقد يتجه عندنا إفساد النذر في هذه الصورة. قال: ومن نذر شيئاً، ولم يعلقه على شيء؛ أي: مثل أن قال: "لله علي أن أتصدق بمالي" أو: "أن أحج"، ونحو ذلك- فقد قيل: لا يصح؛ لأن أهل اللغة قالوا- كما حكاه ثعلب-: النذر هو وعد بشرط، ولم يوجد هاهنا شرط؛ فلم يوجد النذر الذي تقدمت النصوص على الوفاء به. ولأن الحقوق على ضربين: حق لله تعالى، وحق للآدمي، ثم [ثبت أن] حق الآدمي إذا كان بعوض؛ لزم الوفاء به: كالبيع وغيره، وما لا يكون بعوض: كالهبة، لا يلزمه الوفاء به؛ [فكذلك حقوق الله تعالى ما لم يكن فيها عوض، لا يلزم أن يفي بها]. وتحريره قياساً: أنه إلزام حق من غير عوض؛ فلم يلزم بالقول؛ كالوصية، والهبة؛ وهذا قول أبي إسحاق، وأبي بكر الصيرفي، ونسبه المتولي إلى جماعة من الأصحاب، وحكاه القاضي الحسين [قولا]؛ أخذاً من قول الشافعي في هذا الموضع: "إن أعمال البر لا تكون إلا ما فرض الله أو تبرراً"، وفسر التبرر بما إذا قال: "إن شفى الله مريضي، فلله علي كذا". قال: والمذهب أنه يصح؛ لعموم الأدلة السابقة، وما ذكر من أنه لا يسمى نذراً؛ إذا لم يعلق بشرط- ممنوع؛ لأن الله تعالى- قال حاكياً عن مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا

فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران: 35] فأطلق نذرها، ولم يذكر تعليقه بشرط وجزاء؛ فدل على صحة التسمية بدون الشرط؛ وهذا ما ادعى البندنيجي: أنه المنصوص عليه في كتبه، ونسبه القاضي أبو الطيب وغيره إلى قول ابن سريج، والإصطخري، وابن أبي هريرة. قال القاضي: وإنما كان كذلك؛ لأن الشافعي قد نص عليه، وقال: "إذا قال: "لله علي أن أضحي"، أو: "لله علي أن أعتكف"، يلزمه ذلك"، كذلك هاهنا. وبالجملة: فالذي ذهب إليه الأكثرون من أصحابنا- كما قال القاضي الحسين-: الصحة. وكذلك قال في "البحر" في آخر كتاب "الأيمان": إن الجمهور قطعوا بها وصحح هذه الطريقة. قال القاضي: ومن قال بالأول، قال: إنما لزم الاعتكاف بالنذر؛ لأنه ليس له أصل في الوجوب ابتداء، وكان نذره له سبيلاً إلى إيجابه، ولا كذلك الصلاة والصوم والحج؛ وهذا منه يدل على أنه لا خلاف في لزوم الاعتكاف، وكذلك في الأضحية؛ [نظراً للعلة المذكورة. وقد وافق البندنيجي على الجزم باللزوم في الأضحية، وحكى الخلاف في الاعتكاف، وكذلك حكاه فيه الماوردي أيضاً هاهنا، والإمام في كتاب الأضحية]. وقد ادعى القاضي الحسين في أواخر كتاب الأيمان: أنه لو كان له مريض، فشفاه الله تعالى، فقال: "لله على عتق رقبة؛ لما أنعم الله علي من شفاء مريضي" يلزمه الوفاء بالمنذور قولاً واحداً؛ كما لو علق العتق بشفائه. وعنه أنه لو قال ابتداءً: "مالي صدقة"، أو: "في سبيل الله" أنه لغو؛ لأنه لم يأت

بصيغة إلزام، وهو ما رآه الغزالي أظهر. وقال في "التتمة": إن [كان] المفهوم من اللفظ في عرفهم معنى النذر أو نواه، فهو كما لو قال: "لله علي أن أتصدق بمالي" أو: "أنفقه في سبيل الله"، وإلا فلا حكم له. وعن الشيخ أبي محمد ذكر طريقين: أحدهما: حمل ما ذكره على النذر المطلق؛ فيكون فيه الخلاف السابق. والثاني: أن ماله يصير بهذه اللفظة صدقة؛ كما لو قال: "جعلت هذه الشاة ضحية"، واستبعده الإمام، وقال فيما إذا قال: "إن دخلت الدار، فمالي صدقة": إنه لغو عند القاضي، وعلى طريقة شيخه يكون تعليق إيقاع في طريقة، ونذر لجاج [وغضب في طريقة]. والذي رأيته في "تعليق" القاضي: أنه يكون نذر لجاج وغضب حتى يلزمه أن يتصدق بجميع ماله حتى [ثياب بدنه] ونفقة يومه على قول. قال: ومن نذر شيئاً على وجه اللجاج والغضب بأن قال: "إن كلمت فلاناً أي: أو: إن لم أكلمه"، أو: "إن دخلت الدار" أو: "إن لم أدخلها"، ونحو ذلك- فعلي كذا، فهو بالخيار عند وجود الشرط بين الوفاء بما نذر وبين كفارة يمين. ووجهه: أنه إن اختار الوفاء، فهو الذي صرح بإلزامه؛ فلم يلزمه غيره؛ كما في النذر المعلق على أمر يطلبه؛ وعملاً بقوله- عليه السلام-: "من نذر وسمى، فعليه ما سمى". وإن اختار كفارة اليمين، فهي التي أوجبها ظاهر أدلة الشرع؛ قال الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وهذا حلف؛ لأنه يقال: حلفت بطلاق امرأتي، وبعتق عبدي لا فعلت كذا، وهو إجماع الصحابة. روي أن رجلاً أتى عمر فقال: إني جعلت مالي في رتاج الكعبة إن كلمت أخي، فقال: إن الكعبة لغنية عن مالك، كلم أخاك، وكفر عن يمينك.

وقد روي نحو هذا اللفظ عن عائشة وحفصة وأم سلمة وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة- رضي الله عنهم- ولم يظهر لهم فيه مخالف. وروى مسلم وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كفارة النذر كفارة يمين". وباتفاق لا يكفر عن نذر التبرر وهو النوع الأول والثاني؛ فتعين أن يكون المراد به نذر الغلق وهو هذا، وسمي به؛ لأنه يغلق به على نفسه طريق الفعل أو الترك؛ كما سمي: نذر لجاج وغضب؛ لأنه إنما يقع غالباً في حالة الغضب. ولأن هذا الفرع أخذ شبهاً من أصلين: من نذر المجازاة؛ لأنه التزام طاعة، ومن اليمين وهو منع نفسه من الفعل أو الترك، والفرع إذا أخذ شبهاً من أصلين لا يمكن الجمع بينهما، يجب أن يكون مخيراً في إلحاقه بأيهما شاء؛ وهذا ما حكاه الماوردي وابن الصباغ عن مذهب الشافعي [رحمه الله تعالى- ولم يورد القاضي أبو الطيب سواه، وبعضهم قطع به. قال الرافعي] ومنهم من يقول: إنه غير منصوص عليه. وقيل: إن نذر حجاً لزمه؛ لأنه لما لزم بالدخول فيه، كان أغلظ من غيره؛ فلزم بالنذر. ومن هذه العلة يظهر لك أن العمرة تلزم به على هذا؛ كما صرح به الأصحاب؛ وهذا أخذه الشيخ أبو حامد من قول الشافعي: "فيه قولان". قال: وليس بشيء؛ لأن العتق أيضاً يلزمه إتمامه بالتقويم؛ فكان أغلظ من غيره، وهو لا يلزم بالنذر، وقول الشافعي: "فيه قولان"، أراد للفقهاء؛ لأن لهم في الصدقة ستة أقاويل حكاها، وليس لهم في الحج إلا قولان: إما التزامه، وإما التخيير بينه وبين التكفير، وإن كان مذهبه فيه التخيير. قال البندنيجي: وهو الذي نص عليه، والذي حكاه المراوزة في المسألة ثلاثة أقوال:

أحدها: قول التخيير، واختاره القاضي الحسين لنفسه، وقال: إن الشيخ- يعني: القفال- استنبطه مما إذا قال: "إن قربتك، فعلي صوم هذا الشهر"، فليس بمول يضيق عليه؛ لأنه لا يخاف من التزام شيء بعد المدة، وإنما هو حالف: إن قربها في خلال الشهر، صام بقية الشهر، أو كفر كفارة اليمين؛ فيصير على التخيير. والثاني: أنه يلزمه الوفاء بما نذر؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر وسمى [فعليه ما سمى". قال في "البحر": وهذا أخذ من قول الشافعي في الاعتكاف: "لو قال: إن فعلت] كذا وكذا، فعلي اعتكاف شهر" [وكان] قد فعل ذلك الشيء_ فعليه اعتكاف شهر. والقائلون بالتخيير، قالوا: ما ذكره في الاعتكاف ليس بقول آخر في المسالة، بل هو أحد الشيئين المخير فيهما. والثالث: أنه يلزمه كفارة يمين؛ لما ذكرناه من الأخبار والآثار، وقد ادعى الإمام والقاضي الحسين: أنه المنصوص، والصحيح، وبالتصحيح قال- أيضاً- البغوي، وإبراهيم المرورذي، والموفق بن طاهر، ومنهم من قطع به، ونفي ما عداه. وحكى الصيدلاني وغيره عن القفال: أنه أنكر هذا القول، ولم يثبت في المسألة إلى قول التخيير وقول وجوب الوفاء بما نذر، لكن نقل بعضهم أنه سمع الحليمي يقول: إن الشافعي نص عليه، فلما قدم على القفال حكى له ذلك، فلم يصدقه، ثم عاد إلى الدرس في اليوم الثاني، فقال للناقل: أسهرتني البارحة، طالعت الكتب، فوجدت النص كما ذكرته عن الحليمي. قال الرافعي: فلعل ما حكاه الصيدلاني وغيره كان قبل هذه الحكاية، وعلى هذا هل يجزئه الوفاء بما نذر عن الكفارة؟ قال الرافعي: فيه وجهان في شرح مختصر الجويني، والظاهر المنع. وقد حكى الوجهين الإمام أيضاً، ثم قال: وقول الإجزاء زلل عظيم؛ فإنه قول التخيير بعينه؛ فلا معنى لاعتقاد مزيد في التفريع على قول التخيير. وكلام الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ يقتضي أنه غيره؛ لأنهم بعد حكاية قول التخيير عن المذهب، قالوا: ومن أصحابنا من قال: الواجب عليه كفارة يمين، وله أن

يسقطها بالوفاء بما نذر، وهو الأفضل. قال ابن يونس: بشرط ألا يكون أقل من الكفارة؛ كما تقول فيمن ملك خمساً من الإبل: يلزمه شاة، وله إسقاطها بإخراج بعير. قال الرافعي: وعلى القول بعدم الإجزاء إن كان الملتزم من جنس ما تتأدى به الكفارة، فالزيادة على قدر الكفاءة تقع تطوعاً، وإن كان المنذور عبداً لا يجزئ في الكفارة لا يجزئه عتقه عن النذر. فروع: أحدها: لو قال: "إن دخلت الدار، فلله علي نذر"، قال في "الحاوي" لزمته كفارة يمين؛ لأنها معلومة، وموجب النذر المطلق مجهول؛ فلم يجز أن يقع التخيير بين معلوم ومجهول، وهذا ما حكاه البغوي وغيره. وقال القاضي الحسين: إنه المنصوص، وإن أصحابنا ذكروا وجهين. وعندي أن ذلك مبني على أن موجب يمين المعلق ماذا؟ فإن قلنا: موجبها الكفارة، فعليه كفارة يمين، وإن قلنا: موجبها الوفاء، فيؤمر بتسمية شيء يتقرب به. قال الرافعي حكاية عنه وعن غيره: وإن قلنا بالتخيير تخير [بين] ما ذكرناه وبين الكفارة. الثاني: إذا قال: "إن فعلت كذا، فعلي كفارة يمين"، قالوا: [تلزمه] كفارة يمين بلا خلاف، وإن قال: "فلله علي يمين"، فالصحيح في "النهاية" أنه لغو؛ فإنه لم يأت بنذر ولا بصيغة يمين، وليست اليمين مما يلزمه في الذمة. ومنهم من قال: عليه ما على الحالف إذا حنث. قال الإمام: والوجه عندنا في هذه الطريقة أن يلحق هذا بالكنايات المحضة، ويرجع إلى نيته وقصده. ولو قال: "نذرت لله أن أفعل كذا"، فإن نوى اليمين فهو يمين، وإن أطلق فوجهان، أوردهما الفوراني والبغوي. الثالث: إذا قال في نذر اللجاج والغضب: "إن كلمت فلاناً، فلله علي حج وعتق وصدقة".

قال الإمام: كان شيخي يتردد في ذلك، فربما كان يقول: إن فرعنا على قول الكفارة عددناها بتعدد الأجناس؛ وهذا أبداه في معرض الاحتمال، ثم استقر جوابه على اتحاد الكفارة، وهو الذي يجب القطع به؛ فإنا إذا لم نوجب الوفاء؛ فلا حاصل إلى النظر [إلى] الملتزم تعدد أو اتحد، بل التعويل على الالتزام فيما يصح التزامه، ثم يحاد عنه إلى الكفارة، وما قدمناه غير معتد به، ولا خلاف أنه لو ذكر حججاً لم تتعدد الكفارة. الرابع: إذا قال: "إن دخلت البصرة"، أو: "إن رأيت زيداً، فمالي صدقة" أو: "علي حج"، ونحو ذلك- قال في "الحاوي": إنه ينظر: فإن أراد به الترجي لدخول البصرة ولقاء زيد، فهو معقود على فعل الله دون فعل نفسه، فهو نذر جزاء وتبرر؛ فيلزم الوفاء بنذره. وإن أراد منع نفسه من دخول البصرة ورؤية زيد، فهي يمين عقدها على نذر؛ فيكون مخيراً فيها بين الوفاء والتكفير، ويجيء فيه الأقوال الباقية. وهكذا الحكم فيما لو قال: "إن صليت فلله علي صوم يوم": إن أراد: إن وفقني الله للصلاة صمت، كان نذر مجازاة؛ فيلزمه الوفاء بما نذر. وإن قصد منع نفسه من الصلاة، كان نذر لجاج وغضب؛ فيجيء فيه الأقوال. ولو قال: "لا صليت الظهر" لم يجيء فيه إلا نذر اللجاج. ولو قال: "إن لم أَزْنِ، فلله علي صوم يوم": فإن قصد: إن عصمني الله من الزنا، فهو نذر مجازاة. وإن قصد حث نفسه على الفعل، فهو نذر لجاج وغضب. ولو قال: "إن زنيت، فلله علي كذا"، لم يتصور فيه إلا نذر اللجاج والغضب، [والله أعلم]. قال: ومن نذر الحج راكباً، فحج ماشياً، لزمه دم. هذا الفصل ينظم حكمين: أحدهما: صحة نذره في لزوم الركوب في الحج المنذور، وللأصحاب فيه خلاف مبني على أن الأفضل الحج راكباً أو ماشياً؟ وفيه قولان مشهوران حكاهما القاضي

أبو الطيب وغيره [في باب المواقيت]: أحدهما: أنه راكب أفضل؛ لأنه- عليه السلام- حج راكباً؛ وهذا ما ادعى النواوي في "الروضة" في كتاب الحج: أنه المذهب، ولم يحك في "المهذب" ثم غيره؛ فعلى هذا يلزمه الدم؛ كما صرح به الشيخ، وهو الحكم الثاني؛ لأنه قد ترفه بتركه مؤنة الركوب. وفيه قول آخر: أنه لا يجزئه الحج ماشياً عن نذره؛ كما سنذكر مثله في المسألة الآتية؛ صرح به المتولي؛ حيث قال: إن الحكم في هذه المسألة تفريعاً على هذا كالحكم في تلك المسألة. والقول الثاني: إن المشي أفضل؛ لقوله- عليه السلام- لعائشة- رضي الله عنها-: "أجرك على قدر نصبك"، ولأن المشي إلى العبادة أفضل من الركوب إليها؛ ولهذا روي أنه- عليه السلام- لم يركب في عيد ولا جنازة قط؛ وهذا هو الصحيح في "التهذيب" وغيره، والمنصوص عليه في "المختصر"، ولم يورد القاضي أبو الطيب وابن الصباغ سواه هنا؛ فعلى هذا هو مخير بين المشي والركوب؛ كما قال المتولي، ولا يلزمه الدم؛ لأنه فعل الأفضل. لكن القاضي أبا الطيب والبندنيجي جزما القول بلزوم الدم عند ترك الركوب. وقال القاضي: إنه لو أكرى ما يركبه، واختار المشي، جاز؛ لأنه قد تكلف المؤنة التي شرطها. وإيراد البغوي يقتضي: أن ما ذكره الشيخ هو المذهب أيضاً؛ لأنه الذي صدر به كلامه، ثم قال: وقال الشيخ: عندي لا دم عليه؛ لأن عدوله عن الطريق الأسبق؛ لزيادة الثواب؛ فلا دم عليه. ووراء ما ذكرناه من القولين في أن الأفضل الركوب أو المشي؛ وجهان. أحدهما: عن الصيدلاني أنهما سواء، وقد حكاه في "البحر" قولاً.

قال الرافعي: وقد يوجه ذلك بتعارض المعنيين. والثاني- عن ابن سريج-: التسوية بين الركوب والمشي ما لم يحرم، فإذا أحرم، فالمشي أفضل. وقال في "الإحياء": ينبغي أن يفصل؛ فيقال: من سهل عليه المشي فالمشي في حقه أفضل؛ لأن الصوم للمسافر والمريض- ما لم يؤد إلى ضعف وسوء حال- أفضل. قال: ومن نذر الحج ماشياً، أي: بأن قال: "إن شفى الله مريضي فلله علي أن أحج ماشياً" أو: "أمشي حاجاً" لزمه الحج؛ لما سبق من الأدلة. قال: ماشياً، أي: تفريعاً على الصحيح في أن المشي إلى العبادة أفضل. قال: من دويرة أهله، أي: يحرم بالحج، ويمشي من دويرة أهله؛ كما قاله المتولي والماوردي والعمراني في "الزوائد"؛ لأن إتمام الحج في الأصل يتعلق بذلك؛ قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قال عمر وعلي- رضي الله عنهما-: إتمامهما: أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وإذا كان كذلك فتأخيره إلى الميقات رخصة، فإذا نذر رجع إلى الأصل؛ وهذا قول أبي إسحاق؛ كما قال المتولي. وقيل: من الميقات؛ لأن المطلق يحمل على ما عهد لزومه شرعاً، وهو الإحرام من الميقات؛ وهذا قول عامة الأصحاب؛ كما قال ابن يونس. والوجهان متوافقان على أنه حيث يلزمه الإحرام يلزمه المشي، وحيث لا يلزمه الإحرام لا يلزمه المشي؛ فلا ينفك أحدهما عن الآخر. وفي كلام المراوزة خلافه؛ فإن القاضي الحسين وغيره قالوا فيما إذا قال: "لله علي أن أحج ماشياً"، أو: "أمشي حاجاً"- في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يلزمه المشي من مخرجه الذي يخرج منه. والثاني: من مكان الإحرام؛ لأنه نذر الحج ماشياً، وإنما يصير شارعاً في الحج بالإحرام؛ وهذا ما صححه الرافعي، وقال: إن به قطع قاطعون، وردوا الخلاف إلى ما

إذا نذر المشي إلى مكة، أو إلى بيت الله تعالى، وسيأتي القول فيه، إن شاء الله تعالى. وعلى هذا جرى صاحب "البحر" والقاضي أبو الطيب. والثالث: إن قال: "أمشي حاجاً" يمشي من مخرجه؛ لأن هذا يقتضي أن يمشي في القصد إلى الحج. وإن قال: "أحج ماشياً" يمشي من مكان الإحرام؛ لأنه [لا] يحج قبل ذلك؛ وهذا ما أورده الفوراني، وقال الإمام: إنه ضعيف صادر عن الجهل بالعربةي، ومقتضى الألفاظ؛ فإنه لا فرق بين أن يقول القائل: "أمشي حاجاً" وبين قوله: "أحج ماشياً"، واللفظان جميعاً يقتضيان اقتران الحج [والمشي]، وما ذكروه من لزوم المشي من مخرجه قبل الإحرام مفرع على أنه لو صرح في نذره بالمشي من مخرجه، يلزمه كما [هو] وجه [حكاه الإمام ومن تبعه، ورآه الرافعي أقرب. أما إذا قلنا بأنه لو صرح به لا يلزمه إلا من وقت الإحرام، كما هو وجه] آخر، فلا يلزمه المشي عند الإطلاق إلا من وقت الإحرام وجهاً واحداً. وقد وجه عدم لزوم المشي من مخرجه عند التصريح بالتزامه بأن المشي قبل الإحرام [لا قربة فيه. وقال الإمام: إن للخلاف التفاتاً على أن الأجير في الحج إذا مات في الطريق] هل يستحق شيئاً من الأجرة أم لا؟ والخلاف المذكور [جارٍ] فيما لو نذر العمرة ماشياً، من أي موضع يلزمه المشي؟ كما قاله الماوردي. قال: ولا يجوز أن يترك المشي إلى أن يرمي في الحج؛ أي: جمرة العقبة؛ إذا جعله آخر التحللين، ويفرغ من العمرة، أي: إن كان المنذور عمرة؛ لأن بذلك يحصل الخروج من الإحرام بهما؛ وهذا ما أورده البندنيجي وابن الصباغ والبغوي، وهو المنصوص، وكذلك ادعى القاضي أبو الطيب: أنه المذهب. وحكى مع القاضي الحسين والإمام وجهاً آخر: أنه يجوز له ترك المشي بالتحلل الأول في الحج؛ لأنه فارق اسم الحج المطلق؛ ولهذا يلبس، ويحلق، ويتطيب.

وقال الروياني: إنه غلط، وجعله الغزالي الأظهر، ولا يظهر لهذا الوجه أثر في العمرة، فإنا إن قلنا: إن الحلق نسك، فلا يخرج من العمرة إلا به؛ فلا يركب حتى يأتي به. وإن قلنا: إنه استباحة محظور، فقد خرج من العمرة بالطواف والسعي؛ فيجوز له أن يركب. قال القاضي الحسين: والخلاف في المسألة أخذ من قول الشافعي: ولا يترك المشي إلى أن يحل له النساء: فمنهم من قال: وطئاً؛ فعلى هذا لا يحل له الركوب إلى أن يتحلل التحلل الثاني. ومنهم من قال: عقداً؛ فعلى هذا يمشي إلى أن يتحلل التحلل الأول؛ فإن العقد يحل له بذلك على أظهر القولين. ولا خلاف في أنه لا يلزمه المشي لرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق. [قال:] فإن حج راكباً من غير عذر، فقد أساء؛ لأنه ترك ما وجب عليه مع القرة، وعليه دم؛ لأنه أتى بأصل الحج؛ وترفه بترك صفة فيه؛ فلزمه الدم؛ كما لو تطيب؛ وهذا هو الجديد؛ كما قال المتولي. وحكى القاضي الحسين والإمام قولاً نسبه المتولي إلى القديم: أنه لا يحسب له هذه الحجة عن نذره؛ لأنه نذر أن يحج ماشياً، وألزم المشي فيه، ولم يأت بما التزم. قال القاضي والمتولي: وعلى هذا القول فرع الشافعي؛ فقال: لو مشى بعض الطريق، وركب في بعض؛ قضى، ومشى فيما ركب، وركب فيما مشى. قال الإمام: ولا يتصور على مذهب الشافعي تطوعاً يسبق الحج الواجب إلا في هذه الصورة على هذا القول. وقد حكى الغزالي –تفريعاً على الجديد وجهاً-: أنه لا يجب الدم. قال: وإن حج راكباً؛ لعذر- أي: بأن عجز عن المشي- جاز، أي: الركوب؛ لما روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يهادي بين اثنين، فسأل عنه، فقالوا: نذر أن يمشي، فقال: إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه،

وأمره أن يركب". ورويا عن عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لتمش ولتركب"؛ أي: لتمش ما قدرت، ولتركب إذا عجزت. قال: وعليه دم في أصح القولين؛ لما روى أبو داود عن كريب عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أختي نذرت -يعني: أن تحج ماشية- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً؛ فلتحج راكبة، وتكفر عن يمينها".

وعن عكرمة عن ابن عباس أن أختب عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الل، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تركب وتهدي هدياً. قال الإمام: وحديثها محمول على العجز، فإن المرأة لا تستقل بالمشي في غالب الأمر. وأخت عقبة: هي [أم] حبان بنت عامر. ولأن ما وجب بتركه [الدم] مع القدرة، وجب بتركه مع العجز؛ كسائر المناسك. والقول الثاني: لا يلزمه شيء؛ كما لو عجز عن القيام في الصلاة التي نذر القيام فيها، فصلى قاعداً؛ فإنه لا يلزمه شيء؛ لأنه ليس من أبعاض الحج شرعاً؛ وهذا قال في "التتمة"، و"البحر": إنه المذهب؛ فإنه قال: وإذا ركب أراق دماً؛ احتياطاً من قبل أنه إذا لم يكن مسيئاً سقط. والقائلون بالأول، فرقوا بين الصلاة والحج بما أشار إليه الشافعي، وهو أن الصلاة لا تصلح بالمال؛ بخلاف الحج. وقد أشار المتولي إلى أن الخلاف في المسألة انبنى على أن من نذر أن يصوم متتابعاً، فأفطر بالمرض، هل ينقطع التتابع أم لا؟ أما إذا قلنا: إن الركوب أفضل من المشي، لم يلزمه المشي عيناً، وإذا ركب فلا دم عليه. وقد جمع في "الحاوي" بين مسألة نذر الحج راكباً، ونذره ماشياً، وقال: فيهما ثلاثة أوجه: أحدها: لا يلزمه الركوب، ولا المشي؛ لأنه لما لم يجب واحد منهما بالشرع، لم يجب بالنذر، فله أن يركب إن شرط المشي، ويمشي إن شرط الركوب؛ لأنه- عليه السلام- خير أخت عقبة بن عامر في الركوب والمشي. قلت: ولهذا الوجه مأخذان: أحدهما: أنه لا يلزم بالنذر إلا ما له أصل في الوجوب؛ كما ذهب إليه الشيخ أبو محمد وغيره.

والثاني: أن المشي مساوٍ للركوب في الأفضلية- كما تقدم- فلا جرم، خير بينهما. الوجه الثاني: أنهما يجبان؛ لأن في المشي زيادة عمل، وفي الركوب زيادة نفقة، وكلاهما قربة. والثالث- قال: وهو الأشبه-: إنه يلزم المشي دون الركوب؛ لأن في المشي مضشقة؛ فلزم لتغليظه، وفي الركوب ترفه؛ فلم يلزم لتخفيفه، وأداء الأخف بالأغلظ مجزئ دون العكس. قال: وعلى الأول يلزمه أن يحرم بالحج من الميقات، وعلى الثاني من حين خروجه [من دويرة أهله. وعلى الثالث: إن كان قد نذر الحج ماشياً فمن حين خروجه]، وإن كان قد نذره راكباً فمن الميقات. وحيث قلنا: يلزم الركوب أو المشي، فترك أحدهما إلى الآخر، فهل يلزمه الجزاء؟ فيه ثلاثة أوجه؛ ثالثها: يلزمه إن ترك المشي إلى الركوب، ولا يلزمه إن ترك الركوب إلى المشي؛ وهذا إذا كان الركوب لغير عذر، فإن كان لعذر ففي وجوبه- والحالة هذه- إذا قلنا بوجوبه في الحالة الأولى. وجهان. أحدها: يلزمه بدنة؛ قاله في "التتمة". والثاني: فدية الحلق، وهو الصحيح في "التتمة". والثالث- حكاه الماوردي مع الذي قبله-: أنه يلزمه فدية التمتع. وقد ادعى القاضي أبو الطيب في أثناء كلامه في المسألة: أنا أجمعنا على [أن] البدنة لا تجب عليه. واعلم أن ما ذكرناه في لزوم الركوب والمشي بالنذر إذا كان الحج منذوراً أيضاً. أما لو نذر الركوب أو المشي في حجة الإسلام، فإن قلنا: لا يلزم عند نذره في

الحج المنذور، فهاهنا أولى؛ وإن قلنا: يلزم [ثمّ] فهاهنا الوجهان المذكوران فيما لو نذر طول القراءة والركوع والسجود في الصلاة المفروضة؛ قاله الغزالي، وهما جاريان فيما لو نذر أن يحرم بالحج من شوال، والأظهر فيها- وهو اختيار صاحب "التهذيب"- اللزوم، وكذا لو نذر أن يحرم من بلد كذا. فروع: أحدها: إذا فاته الحج الذي نذره، ونذر المشي فيه بعد التلبس به، فقولان: أحدهما: يمشي إلى أن يتحلل من الفائت؛ لأنه يأتي بهذه البقية بحكم الإحرام؛ وهذا هو المنصوص في "الأم"، والأصح عند القاضي الطبري والروياني. والثاني: لا يلزمه المشي؛ لأن الفائت ليس هو الحج المنذور؛ بدليل أن الفرض لا يسقط به؛ وهذا أصح عند الشيخ أبي حامد والقفال والصيدلاني والقاضي الحسين وغيرهم. [و] هل يعتد بمشيه في الفاسد؛ حتى يركب في القضاء حيث مشى؟ فيه وجهان في "الحاوي" وأظهرهما: أنه لا يعتد به. والنص الذي حكيناه عن القديم يوافق مقابله. وهل يجب القضاء على الفور؟ فيه وجهان إذا قلنا: إن الوفاء بالحج المنذور لا يجب على الفور؛ وهذا إذا كان الحج المنذور غير مخصوص بزمان معين، فإن كان قد عينه بأن قال: "إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أحج في العام القابل"، فعليه أن يحج فيه، وفي جواز تقديمه عليه وجهان: وجه الجواز: أنه يجوز تقديم حج الفرض قبل وجوبه. والأصح في الرافعي مقابله.

وإذا أحرم به ففاته؛ ففي وجوب قضائه قولان: فإن قلنا: لا يلزمه، لزمه المشي فيه حتى يتحلل. وإن قلنا: يلزمه القضاء؛ ففي مشيه فيه إلى أن يتحلل القولان السابقان فيما لو [لم] يعين وقت الحج، وأحرم به، وفاته. ولو أخره عن الوقت المعين، فإن كان بغير عذر، لزمه قضاؤه؛ وإن كان بعذر، ففي لزوم القضاء القولان في الفوات، والله أعلم. قال: ومن نذر المضي إلى مكة أو إلى الكعبة- أي: وأطلق- لزمه قصدها_ لأن الله تعالى أوجب قصد ذلك والإتيان إليه؛ فلزم بالنذر كسائر القرب. قال: بحج أو عمرة؛ لأن مطلق كلام الناذرين محمول على ما ثبت له أصل في الشريعة؛ كمن نذر أن يصلي، تلزمه الصلاة المعهودة، وإن كانت الصلاة في اللغة الدعاء، والمعهود في الشريعة قصد مكة والكعبة بحج أو عمرة، فحمل نذره عليه؛ وهذا ما نص عليه الشافعي؛ كما قاله القاضي الحسين وغيره، وبه قال بعض المراوزة، كما حكاه القاضي. ونقل عن بعضهم- وبه قال أبو علي بن أبي هريرة؛ كما قاله الماوردي-: أن هذا إذا قلنا: إن دخول مكة يقتضي الإحرام، أما إذا قلنا: لا يقتضيه؛ ففي انعقاد نذره قولان؛ كما إذا نذر المضي إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو المسجد الأقصى؛ وهذا ما أورده القاضي الحسين في كتاب الحج، وقال الصيدلاني وغيره: إن إيجاب الحج أو العمرة عليه مفرع على القول بأن مطلق النذر يحمل على الواجب شرعاً. أما إذا قلنا: لا يحمل على الواجب شرعاً، انبنى على أن دخول مكة يقتضي إحراماً بحج أو عمرة أو لا؟ فإن قلنا: يقتضيه، فالأمر كذلك؛ وإن قلنا: لا يقتضيه، فهو كما لو نذر إتيان مسجد المدينة، أو المسجد الأقصى؛ فيكون في انعقاد نذره قولان. فإن صححناه، قال القاضي الحسين [هنا:] خرج عن موجب نذره بركعتين يصليهما في البيت الحرام، وقال في كتاب الحج: إنه يكون مخيراً: إن شاء طاف بالبيت، وإن شاء صلى ركعتين.

وقال الرافعي: إنه يكون التفريع عليه كالتفريع على القول بانعقاد نذره بإتيان مسجد المدينة والمسجد الأقصى كما سنذكره، إلا أن من قال ثم: إنه يتعين عليه الاعتكاف [فيه]؛ لاختصاص الاعتكاف بالمسجد- قال بدله هاهنا: إنه يتعين عليه الحج أو العمرة؛ فإنهما يختصان بالحرم؛ وقد صرح به الإمام- أيضاً- ثم قال: ولو ذكر ذاكر الطواف المحرم، لم يعد. قلت: وهذا ما حكيته عن القاضي. والمخير ثَمَّ، يخير هاهنا بين النسك والاعتكاف والطواف والصلاة؛ وعلى ما حكاه الماوردي؛ ينضم إلى ذلك الصوم. وقد قال الماوردي: إن ما ذكره أبو علي من التخريج في الأصل الذي انبنى عليه هذا التفريع وإن كان محتملاً؛ فإنما يستعمل مع عدم النص، وقد نص الشافعي على وجوب إحرامه في النذر بحج أو عمرة؛ فلم يجز العدول عنه إلى تخريج ما يخالفه. والفرق بينه وبين سائر البقاع- كما ذكرنا- بخلاف غيره؛ وهذا الخلاف يجري فيما لو قال: لله علي أن أمضي إلى الصفا والمروة أو منى أو مسجد الخيف، أو إلى أي بقعة كانت من الحرم، بخلاف ما لو نذر المضي إلى مر الظهران، أو إلى الميقات، أو إلى عرفات، أو إلى أي موضع كان من الحل؛ فإنه لا يلزمه شيء. وقال الماوردي: لو قيل: ينعقد النذر في نذره المضي إلى عرفات، كان مذهباً، ويكون المنعقد بنذره الحج دون العمرة؛ لاختصاص عرفة بالحج؛ وهذا لأن قصده عرفة يجب بالشرع- فوجب بالنذر. ولا يطرد هذا في الميقات؛ لأنه لا يلزمه قصده شرعاً؛ لانعقاد الإحرام قبله وبعده. وحكى الإمام عن القاضي: أنه تردد جوابه في المسألة: فقال مرة: إنه يلزمه الحج؛ إذا أطلق إتيان عرفة، وهذا موافق لاحتمال الماوردي. وقال مرة: إن خطر له شهود عرفة في يوم عرفة، لزمه؛ كما لو نذر المضي إلى بيت الله الحرام. وإذا كان هذا مع خطور ذلك بباله؛ فمع تصريحه به في نذره بأن يقول: "لله علي

أن آتي عرفة في يوم عرفة" أولى، وهو ما أورده القاضي في تعليقه. وقد نسب الرافعي القول بلزوم الحج عند التصريح في النذر بإتيان عرفة في يوم عرفة إلى ابن أبي هريرة، وأن في "التتمة" تقييده بما إذا قال: "يوم عرفة بعد الزوال"، والصحيح الأول، وهو الذي قطع به أئمتنا في الطرق. أما إذا قصد بنذره المضي إلى الكعبة، أو إلى مكة للحج أو العمرة، لزمه ما قصده بلا خلاف، بل لو قصد بنذره إتيان عرفة للحج لزمه؛ كما قاله الإمام. ولو قال: "لله علي أن أمضي إلى بيت الله الحرام، لا حاجاً، ولا معتمراً"- قال الأصحاب: ففي انعقاد نذره وجهان، أصلهما- كما قال البندنيجي تبعاً للشيخ أبي حامد- أن من نذر المشي إلى مسجد المدينة، أو المسجد الأقصى، هل ينعقد نذره أم لا؟ لأنه يأتيه لا حاجاً ولا معتمراً؛ كذلك هاهنا غير أن هاهنا متى [قلنا:] ينعقد نذره، لزمه أن يمضي بالنسك. قال ابن الصباغ: وليس يستقيم هذا البناء؛ لأن من يقول هاهنا: ينعقد نذره، يقول: يلغو قلوه: "لا حاجاً ولا معتمراً"، فلا يكون نذره خالياً من النسك. قلت: وما ذكره ابن الصباغ من الاعتراض إنما جاء لاعتقاده أن القائل بانعقاد النذر ولزوم الحج أو العمرة إنما صار إليه؛ لاعتقاده أن من نذر المضي إلى بيت الله الحرام، وأطلق- يلزمه الحج أو العمرة من غير بناء على شيء؛ كما هو الصحيح؛ فذلك إلغاء قوله: "لا حاجاً ولا معتمراً" كما وجهه القاضي أبو الطيب. ويجوز أن يكون هذا القائل إنما صار إلى ذلك؛ تفريعاً على أن دخول مكة يجوز بغير إحرام، وأن مطلق النذر يحمل على جائز الشرع، وأن من نذر المضي إلى مسجد المدينة أو المسجد الأقصى، يصح نذره، ويلزمه الاعتكاف فيه؛ لاختصاص الاعتكاف بالمسجد، ولم يتبع ظاهر النص في لزوم الحج والعمرة بمطلق نذر المضي إلى بيت الله الحرام، بل اتبع مذهب ابن أبي هريرة؛ فإن قضيةذلك صحة نذره، والتزامه الحج أو العمرة- كما تقدم- بناء على ألأصل المذكور؛ فلعل الشيخ اطلع على ذلك وحينئذ يندفع الاعتراض. وقد سلك الماوردي وغيره في المسألة طريقاً آخر، فقال في انعقاد نذره وجهين؛

فإن صححناه، فهل يلغى الشرط أو يصح؟ فيه وجهان، فإن قلنا: يصح؛ لاتصاله بالنذر، فثلاثة أوجه: أحدها: يلزمه أن يصلي ركعتين هنالك؛ وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب. والثاني: أنه يلزمه أن يضم إلى قصد البيت عبادة من صلاة أو طواف أو صيام أو اعتكاف؛ ليصير القصد طاعة إذا اقترن بطاعة. والثالث: لا يلزمه ذلك؛ لأن قصد البيت طاعة، ومشاهدته قربة؛ وبذلك يحصل في المسألة خمسة أوجه: النذر باطل، النذر صحيح والشرط باطل، النذر والشرط باطل، النذر والشرط صحيحان وعليه فعل ركعتين، النذر والشرط صحيحان وعليه فعل عبادة، هما صحيحان وليس عليه غير القصد، والله أعلم. فرع: إذا قلنا: يلزمه المضي إلى مكة بحج أو عمرة، فهل يلزمه المشي؟ ينظر: إن كان قد صرح بالمشي، لزمه بناء على الصحيح في أنه إذا كان قد صرح بالمشي، لزمه؛ بناء على الصحيح في أنه إذا نذر الحج ماشياً يلزمه، ويكون ابتداؤه من دويرة أهله، وهل يلزمه الإحرام بالحج أو العمرة من دويرة أهله أو من الميقات؟ فيه وجهان. أحدهما: من دويرة أهله- أيضاً- لأنه لا قربة في المشي دون الإحرام؛ وهذا قول صاحب "الإفصاح"، وبعضهم ينسبه إلى أبي إسحاق. والثاني- وهو المشهور عن أبي إسحاق-: أنه يلزمه المشي من دويرة أهله، ويحرم من الميقات. قال في "البحر": فلا يختلف أصحابنا في وجوب المشي من دويرة أهله، واختلفوا في وقت الإحرام منها، والذي عليه عامة الأًحاب- وهو الصحيح؛ كما قال- الثاني، وما ذكره من الجزم بلزوم المشي من دويرة أهله، هو ما أورده الماوردي؛ لكن في "تعليق" البندنيجي: أنه إذا نذر أن يمشي إلى بيت الله الحرام، كان عليه أن يأتيه ماشياً، ومن أين عليه أن يمشي؟ فيه وجهان [بناء] على الإحرام. ومن أين يلزمه أن يحرم؟ على وجهين: قال أبو إسحاق: من دويرة أهله؛ فعلى هذا يمشي من الميقات.

والثاني- وهو المذهب-: وفي آخر مشيه ثلاثة أوجه حكاها [الماوردي]: أحدها: إذا وصل مكة أو الكعبة؛ بلفظ نذره. والثاني: إذا طاف بالبيت طواف القدوم؛ اعتباراً بأول قربة. والثالث: إذا أحل إحلاله الثاني: اعتباراً بكمال نسكه. ويجيء وجه رابع: إذا أحل التحلل الأول؛ كما ذكرنا مثله فيما إذا نذر الحج ماشياً. وإن لم يصرح بالمشي، بل اقتصر على لفظ المضي والذهاب، فعن "العدة": أنه يتعين عليه المشي أيضاً. والمذكور في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الحاوي" و"البحر": أنه يتخير بين الركوب والمشي؛ لأنه لم يذكر المشي. قال: وإن نذر المشي إلى بيت الله تعالى، ولم يقل: الحرام، أي: ولا نواه- لم يلزمه المشي على ظاهر المذهب، أي: المنصوص في "الأم"؛ كما قاله البندنيجي؛ لأن المساجد كلها بيوت الله- تعالى- وهذا ما صححه الإمام والرافعي وغيرهما. وقيل: يلزمه؛ لأن إطلاق البيت ينصرف إليه دون غيره؛ وهذا ما نقله المزني، واختاره في"المرشد". أما إذا نوى بيت الله الحرام، فهو كما لو صرح به. قال: وإن نذر المشي إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إلى المسجد الأقصى- لزمه ذلك في أحد القولين؛ لأنه مسجد تشد الرحال إليه؛ كما نطق به الخبر الذي سنذكره، فلزم المشي إليه؛ كالمسجد الحرام؛ وهذا ما نص عليه في "البويطي"، وصرح أبو الطيب بأنه القديم، واختاره أبو إسحاق؛ كما قال في "البحر". والقول الآخر: لا يلزمه المشي؛ لما روى جابر أن رجلاً قال يوم الفتح: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شأنك إذاً".

ولأنه مسجد لا يلزم قصده بالنسك، ولا يضمن صيده؛ فأشبه سائر المساجد؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، ونقله المزني؛ ولأجل ذلك قال القاضي أبو الطيب: إنه الجديد، وأجاب به عامة أصحابنا؛ كما قال في "البحر". وقد أجاب من قال بالأول عن الحديث، بأن قوله- عليه السلام- "صل هاهنا"، أراد: في المسجد الحرام، وهو أفضل؛ فلا حجة فيه. قال في "البحر": وهذا التأويل خطأ؛ لأنه روي أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني نذرت أن أصلي ركعتين في مسجد إيلاء- وهو المسجد الأقصى- فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صل في بيتك"، فأعاد السؤال، فقال: "أنت أعلم". التفريع: إن قلنا بالأول، فهل يلزمه إذا بلغ إليه ضم عبادة أم لا؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وشرح الشيخ أبي علي: أحدهما: لا؛ لأنه لم يلزمه بنذره سواه، ويكون النذر مقصوراً على التبرك بقصده، والمشاهدة له. وقد اعترض الإمام على هذا، فقال: الصائر إليه ماذا يقول لو أتى باب المسجد وانصرف؟ إن قال: يكفيه ذلك، فقد أبعد؛ لأنه لا قربة فيه، بل هو قريب من العبث. وإن قال: يدخل المسجد، والدخول من غير اعتكاف وعبادة لا قربة فيه، بل نهي عن طروق المساجد لا لحاجة، والثاني- وهو الصحيح في الرافعي-: أنه يلزمه أن يضم إليه عبادة أخرى؛ وعلى هذا فماذا يلزمه من العبادة؟ فيه أوجه: أحدها: الصلاة؛ لأنه- عليه السلام- ميز المسجدين عن سائر المساجد بالصلاة، فقال: "صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره، وصلاة في مسجد إيلاء تعدل ألف صلاة في غيره، وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره"، وإذا كان التمييز بالصلاة، وجب أن يضم إلى الإتيان الصلاة؛ وعلى هذا يلزمه أن يأتي بركعتين؛ كما قاله القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم، وأبداه الإمام احتمالاً لنفسه، بعد أن قال: "والذي أراه: أنه لا يجب ركعتان قولاً واحداً، بل يكفي ركعة؛ لأن الصلاة غير مقصودة بالنذر في هذا الموضع".

وهل يكفي أن يصلي هناك فريضة، أم لابد من صلاة زائدة؟ فيه وجهان حكاهما ابن كج عن أبي الحسين؛ بناء على الوجهين فيما لو نذر أن يعتكف شهراً بصوم، هل يجزئه أن يعتكف رمضان؟ والثاني: أنها الاعتكاف؛ فيلزمه أن يعتكف فيه ولو ساعة؛ لأن الاعتكاف أخص القرب بالمسجد، والصلاة لا تختص به. والثالث: أنه يتخير بينهما، قال الرافعي: وهو أشبه، والمذكور في "العدة"، وكذا في "التهذيب". وقال في مسجد المدينة: إنه يتخير بين أن يصلي فيه، أو يعتكف، أو يزور قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والاعتكاف بالزيارة هو المنقول عن الشيخ أبي علي. وتوقف فيه الإمام من جهة أن الزيارة لا تتعلق بالمسجد وتعظيمه. قال: وقياسه: أنه لو تصدق في المسجد أو صام يوماً كفاه، ثم قال: ويجوز أن يقال: الزيارة تنفصل عما ذكرناه؛ لوكن المرور في رقعة المسجد؛ فهو مختص من هذا الوجه. والرابع- حكاه في "الحاوي"-: أنه يتخير بين أن يصلي فيه، أو يعتكف، أو يصوم، والاعتكاف بالصوم، [و] يظهر أن يكون مفرعاً على أنه لو نذر الصوم في المسجد الحرام، يلزمه كالصلاة؛ كما نقل عن صاحب التلخيص. وقال الشيخ أبو زيد: إنه محتمل وإن كان بعيداً؛ لأن الحرم يختص بأشياء. والأصح: أنه لا يلزمه؛ لأن المكان لا حظ له فيه؛ ألا ترى أن الصوم الذي يجب بدلاً عن الهدي لا يختص بالحرم، وإن كان مبدله يختص به. وإن قلنا بالقول الثاني، لم يلزمه شيء؛ وعلى القولين يتخرج- أيضاً؛ كما قال القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين والماوردي- ما إذا قال: "لله علي أن آتي بيت المقدس" أو: "مسجد المدينة وأصلي فيه ركعتين"، فإن قلنا بالأول، لزمه أن يمضي

إليه، ويصلي فيه ركعتين. وإن قلنا بالثاني، فإنه لا يلزمه المضي، ويصلي ركعتين في أي المواضع شاء. وقد حكى الإمام عن العراقيين وراء هذه الطريقة طريقة أخرى قاطعة بأنه تلزمه الصلاة فيه، وهي التي حكاها عن المراوزة لا غير؛ قياساً على ما لو نذر صلاة ركعتين في البيت الحرام؛ بجامع ما اشتركوا فيه من زيادة الأجر؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره"؛ وهذه الطريقة هي المختارة في "المرشد". وقال الإمام- تفريعاً عليها-: إنه لو نذر الصلاة في مسجد المدينة، فهل تجزئه في المسجد الأقصى، وبالعكس؟ وجهان: المختار منهما في "المرشد": الإجزاء؛ كما لو صلاها في المسجد الحرام؛ فإنه يخرج عن موجب نذره؛ كما قال القاضي الحسين، وغيره نسب ذلك في كتاب الاعتكاف إلى نصه في البويطي. وقال الإمام: إنه يجزئ على الصحيح، وفيه شيء؛ أخذاً من الإلزام. قلت: ويتجه أن يكون في المسألة وجه ثالث فارق بين أن تكون المسافة بين المسجدين من مكانه متساوية في المشقة والرفق فتجزئه الصلاة في أحدهما عن الآخر، وبين أن تكون متفاوتة؛ فلا يجزئه الأخف عن الأثقل؛ أخذاً من قول الأصحاب فيما إذا نذر الجهاد في جهة، هل تتعين أو له أن يجاهد في جهة أخرى؟ وفيه ثلاثة أوجه، حكاها الإمام: أحدها: أنها تتعين، وهو مذهب صاحب التلخيص، ولم يحك في "البحر" غيره. والثاني: لا تتعين، ويخرج الناذر عن عهدة النذر بجهاد وإن قرب وسهل، وهو قول الشيخ أبي زيد. والثالث- وإليه ميل الشيخ أبي علي-: أن تلك الجهة لا تتعين، ولكن يخرج الناذر عن موجب نذره بالجهاد فيها أو في مثلها في المسافة والسهولة؛ كما قلنا في الميقات. وقد حكى ابن الصباغ وغيره في كتاب الاعتكاف عن النص في "البويطي": أنه إذا صلى في مسجد المدينة ما نذر صلاته في المسجد الأقصى، أجزأه، ولو انعكس الأمر لم يجزئه، ولم يورد الفوراني [والقاضي الحسين] سواه.

ووجه ذلك: بأن مسجد المدينة أفضل من المسجد الأقصى؛ ولأجل ذلك صححه النواوي في "الروضة". ولا خلاف في أنه لو نذر صلاة ركعتين في المسجد الحرام، لا يجزئه فعلهما في غيره من المسجدين، ومن طريق الأولى: ألا يجزئه فعلهما في سائر المساجد. لكني [رأيت فيما] وقفت عليه من "تعليق" القاضي أبي الطيب: أنه لو نذر أن يصلي ركعتين في الكعبة، فإن قلنا: إنه ينعقد نذره، يلزمه المضي، وصلاة ركعتين فيه وإن قلنا: لا ينعقد نذره؛ فإنه يلزمه صلاة ركعتين في أي موضع شاء؛ وهذا لم أره في غيره، نعم: حكى مجلي عن المراوزة قولاً: أنه إذا نذر الاعتكاف في المسجد الحرام، لا يتعين عليه الاعتكاف فيه؛ وهذا يقوى بما ذكره القاضي. وقد قال القاضي: إن على القولين في مسألة الكتاب يخرج ما إذا نذر أن يمشي إلى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني: في لزوم المضي إلى مسجده - صلى الله عليه وسلم - وفعل ما يجب عليه إذا نذر المضي إليه. وقد رأى ابن كج فيما إذا نذر أن يزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه يلزمه الوفاء به وجهاً واحداً، وأنه إذا نذر زيارة قبر غيره؛ ففي لزوم ذلك له عندي وجهان. فرع: إذا قلنا يلزم المضي إلى أحد المسجدين، فهل يجب عليه المشي إذا كانت صيغته: "لله علي أن أمشي"؟ قال في "التهذيب": إن قلنا فيما إذا نذر الحج ماشياً: يلزمه المشي من دويرة أهله، لزمه هاهنا، وإن قلنا: لا يلزمه المشي ثم، أو يلزمه من الميقات، فلا يلزمه هاهنا، وله أن يركب. وقال في "الحاوي": في لزوم المشي له وجهان: أحدهما: لا يجب، ويكون لفظ المشي محمولاً على القصد، فإن مشى أو ركب جاز، والمشي الذي صرح به أفضل. والثاني: أنه يجب، وهو الأظهر عند غيره؛ اعتباراً بصريح لفظه؛ وعلى هذا لو ركب؛ ففي إجزائه وجهان: أحدهما: لا يجزئه؛ إذا قيل: إن نذره مقصور على الوصول إليه؛ لأنه يصير المشي هو العبادة المقصودة، [و] عليه إعادة قصده إليه ماشياً.

والثاني: يجزئه إذا قيل: إنه يلزمه بقصده فعل عبادة فيه؛ لأنه يصير المقصود بالنذر فعل العبادة فيه، ولا يلزمه أن يجبر ترك المشي بفدية، كما قيل في المضي إلى الحرم؛ لاختصاص الفدية بجبران الحج دون غيره من العبادات. قال: وإن نذر المشي إلى ما سواهما من المساجد، لم يلزمه المشي؛ لما روى مسلم والبخاري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد الأقصى"؛ فبين - صلى الله عليه وسلم - أن قصد غير المساجد الثلاثة لا قربة فيه مقصودة، وما لا يكون قربة وعبادة مقصودة، لا يلزم بالنذر، وما ذكره الشيخ مما لم يختلف فيه الأصحاب. قال الماوردي: ويخالف ما إذا نذر المضي إلى المسجد الأقصى ومسجد المدينة على أحد القولين؛ لأنهما كانا مقصودين في الشرع بعبادة واجبة.

أما المسجد الأقصى، فقد كان في صدر الإسلام قبلة يصلى إليها، وأما مسجد المدينة فقد كان مقصوداً بوجوب الهجرة إليه؛ ففارقا ما عداهما من سائر مساجد الأمصار في حكم الشرع؛ ففارقاهما- أيضاً- في حكم النذر، وعلى هذا فرعان: أحدهما: هل يكره شد الرحال لغير المساجد الثلاثة؟ قال الإمام: كان شيخي يفتي بالمنع من شدها إليه، وربما كان يقول: يكره، وربما كان يقول: يحرم بعدما تظاهر النهي. وقال الشيخ أبو علي: لا يحرم، ولا يكره، والمقصود من الحديث بيان أن القربة المقصودة في قصد المساجد الثلاثة، وما عداها ليس في قصد أعيانها قربة؛ وهذا حسن لا يصح عندي غيره. الثاني: إذا نذر الصلاة في مسجد غير الثلاثة، انعقد نذره بالصلاة، ولم يتعين عليه الصلاة في المسجد الذي عينه في نذره، بل له أن يفعلها في بيته، وكذا في سوقه. قال ابن الصباغ: بخلاف ما لو نذر صوم يوم، فإنه يتعين صوم ذلك اليوم؛ لأن النذر مردود إلى أصل الشرع، وقد وجب الصوم في زمان بعينه، لا يجوز له في غيره؛ فكذلك إذا نذره، وليس كذلك الصلاة؛ فإنها لم تختص بمكان بعينه فيما وجب ابتداءً؛ كذلك النذر. فإن قلت: هذا الفرق يبطل بالاعتكاف؛ فإنه لو نذر الاعتكاف في مسجد، تعين؛ كما قاله القاضي الحسين جزماً، والفوراني وغيره وجهاً. قلت: المنقول في "الشامل" وغيره عدم تعين الاعتكاف- أيضاً- كما نقله في كتاب الاعتكاف، وهو قضية ما في "الحاوي"؛ حيث قال: "إذا نذر الاعتكاف في أحد المسجدين، وقلنا: لا يلزمه المضي إليه كغيره من المساجد، كان له أن يعتكف في أي مسجد شاء، وقد قال ذلك ابن الصباغ أيضاً، لكن الرافعي ادعى أن الصحيح في هذه الصورة اللزوم، وإن كان الصحيح عدم لزوم المضي إليهما.

ثم على تقدير تسليم الحكم، فنقول: الشرع لما أوجب الصلاة، ولم يعين لها موضعاً، دل على أنه لم ينظر إليه؛ فلا يعتبر في النذر- أيضاً- والاعتكاف حيث شرعه خصه بمكان وهو المسجد؛ فجاز أن يخصه الناذر أيضاً؛ وهذا قد أشار إليه القاضي الحسين والفوراني، ثم وراء ما ذكرناه وجوه: أحدها: أنه إذا نذر أن يصلي ركعتين في مسجد، تعين عليه الصلاة فيه؛ حكاه في "الذخائر"، ونسبه القاضي أبو الطيب إلى قول أبي العباس بن القاص، [ثم قال: وسمعت أبا عبد الله الحسين يقول: هذا ليس بصحيح عن أبي العباس]. والثاني- حكاه مجلي أيضاً-: أن من أصحابنا من قال: إذا نذر الصلاة في الجامع تعين عليه. والثالث- حكاه في "البحر"-: أنه إذا نذر الصلاة في الجامع، له أن يصلي في مسجد وإن لم يكن جامعاً؛ وهذا يمكن أن يكون أخذ من قول القاضي الحسين؛ فإنه قال فيما إذا نذر الصلاة في الجامع، كان في خروجه عن موجب النذر بالصلاة في السوق إشكال؛ لأن الصلاة في الجامع أفضل من الصلاة في وسط السوق، ولو نذر أن يصلي ركعتين يقرأ في إحداهما سورة البقرة، وفي الأخرى آل عمران- لزمه ذلك؛ لأن طول القيام أفضل؛ فكذا هاهنا الصلاة في المسجد أفضل، والصحيح الأول، وما ادعاه القاضي من لزوم قراءة البقرة وآل عمران، لا يسلم عن النزاع؛ فإن في "النهاية" في كتاب الاعتكاف حكاية الخلاف فيها عن القفال؛ كالخلاف فيما لو نذر أن يعتكف صائماً؛ وعلى هذا لو نذر صلاة ركعتين في مسجد [في] الحرم: كمسجد الخيف، فهل يتعين عليه صلاتهما فيه؟

قال الماوردي: ينظر: فإن كان من أهل مكة، لم يلزمه بهذا النذر أكثر من صلاة ركعتين؛ لأنه في الحرم الذي حرمته مشتركة، وعليه ينطبق قول الشيخ أبي محمد: إنه إذا نذر صلاة في الكعبة، فصلى في أطراف المسجد الحرام؛ خرج عن النذر، وأن الزيادة التي رويت في الحديث السابق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وصلاة في الكعبة [تعدل] مائة ألف صلاة في المسجد الحرام" لم يصححها الأثبات. وإن كان من أهل الحل، لزمه هذا النذر؛ كمن نذر المشي إلى الحرم، وفيما ينعقد [به] نذره وجهان: أحدهما: بما نذر من الصلاة في الحرم؛ إذا قيل: إنه يجوز له دخول الحرم بغير إحرام، وفي تعيين الصلاة في مسجد الخيف وجهان: أحدهما: لا تتعين، ويجوز أن يصليها في أي موضع شاء من الحرم؛ لأن حرمة جميع الحرم واحدة، والثاني: يتعين عليه فعلها في مسجد الخيف ولا تجزئه في غيره؛ اعتباراً بصريح نذره. والوجه الثاني في الأصل: أنه يلزمه بانعقاد نذره أن يحرم بحج أو عمرة؛ إذا قيل: [إنه] لا يجوز دخول الحرم إلا بإحرام؛ وعلى هذا في التزامه ما عقد نذره من الصلاة وجهان: أحدهما: لا يلزمه الصلاة؛ لأن الشرع قد نقل نذره إلى ما هو أعظم منه؛ فلم يجمع عليه بين بدل ومبدل. والثاني: أن فعل الصلاة لا يسقط؛ لأنه ملتزم لها بنذره، وملتزم للإحرام بالدخول؛ فلم يجمع عليه بين بدل ومبدل. قال: ومن نذر النحر بمكة؛ أي: بأن قال: "لله علي أن أنحر هذه الشاة أو البدنة بمكة" مقتصراً على ذلك- لزمه النحر بها؛ لأن النحر في الحرم قربة. قال القاضي الحسين: ولا يختص بيوم النحر، بل له أن ينحر في جميع الأوقات؛

كدماء الجبرانات؛ وعليه ينطبق قول أبي الطيب: إن النحر قربة، وهو في الحرم في غير أيام النحر بمنزلة النحر في أيام النحر في غيره من البلاد. قال: وتفرقة اللحم على أهل الحرم- أي: من المساكين- كما قاله البندنيجي وغيره؛ لأن كل منحور في الحرم وقع نحره واجباً بالشرع، يجب تفرقته على من ذكرنا؛ فحمل مطلق كلام الناذر عليه؛ وهذا ما ادعى البندنيجي، وكذا ابن الصباغ: أنه المذهب. وحكى وجهاً آخر: أنه يلزمه النحر بها، وتفرقة اللحم حيث شاء؛ لأن النحر بها قربة، فإذا نذر لزم، ولم يلزم به ما لم يسمه في نذره؛ وهذا الخلاف لم يورد الأكثرون في المسألة غيره؛ كما أنهم لم يوردوا غيره فيما إذا قال: "لله علي أن أضحي بمكة". وبعضهم اقتصر في مسألة الكتاب على إيراد ما ذكره الشيخ، ومنهم القاضي أبو الطيب في التعليق، لكنه صور المسألة بما إذا نذر ذبح هدي في الحرم، والجمهور صوروها كما ذكر الشيخ، وعليها ينطبق لفظ المزني في "المختصر". وحكى الإمام فيها: أن بعض أصحابنا قال: لا يلزمه بهذا اللفظ شيء؛ فإنه لم يذكر الملتزم بعبارة معتبرة بالقربة، وإنما تثبت القربة بما هو عبارة عنها؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين بدلاً عن الوجه قبلة. ووجهه: بأن النحر مقصود، وتفرقة اللحم مقصودة، فإذا نذر أحدهما، لم يلزمه الآخر؛ وهذا ضعيف؛ لأن الذبح في الحرم إنما كان قربة حتى يكون اللحم مصروفاً إلى أهله، وإلا فلا إرب في اتخاذ الحرم مجازر ومذابح وهذا الوجه لا يجري فيما إذا قال: "لله علي أن أضحي بمكة"؛ لأن لفظ التضحية مصرح بالقربة؛ وكذا فيما إذا أتى بلفظ يدل على القربة؛ كما اقتضاه كلام الإمام. ولا خلاف في أنه إذا نذر النحر بمكة، وتفرقة اللحم على أهلها: أنه يلزمه النحر وتفرقة اللحم على أهل الحرم، فلو دفع إليهم ما نذر ذبحه حياً، لم يجزه. ولو نحر في غير الحرم، وفرق في الحرم، أو نحر في الحرم، وفرق على غير أهل الحرم- لم يجزه أيضاً، وكان مضموناً عليه. قال الماوردي: ولو طبخ اللحم، لم يجز، فإذا دفعه إليهم مطبوخاً، ضمن ما بين

قيمته نيئاً ومطبوخاً؛ إن كان الطبخ قد نقص منه. ولو نذر النحر بالحرم، وتفرقة اللحم على غير أهله. قال الرافعي: وفَّى بما التزمه. وفي "الحاوي" أنه قد صار معيناً لمساكين غير الحرم؛ فلا يجوز أن يفرقه في مساكين الحرم، وفي وجوب نحره في الحرم قولان حكاهما ابن أبي هريرة: أحدهما: يجب نحره فيه؛ لانعقاد نذره مع اختصاص الحرم بقربة النحر. والثاني: لا يجب النحر فيه؛ اعتباراً بمستحقي لحمه، ويستحب له النحر بالحرم؛ إن وصل إليهم اللحم طرياً، ولا يستحب؛ إن لم يصل إليهم طرياً. ولو نذر النحر في غير الحرم، وتفرقة اللحم في مكة- قال في "التتمة": فالذبح خارج الحرم لا قربة فيه؛ فيذبح حيث شاء، ويلزمه تفرقة اللحم في الحرم، وكأنه نذر أن يهدي إلى "مكة" لحماً، وفيه شيء، سأذكره من بعد. فرع: إذا قال: "لله علي أن أذبح بأفضل البلاد"، فهو كما لو نذر النحر بـ"مكة"؛ لأنها أفضل البلاد؛ قاله في"المرشد" و"التهذيب". تنبيه: في قول الشيخ: "ومن نذر النحر بمكة، لزمه النحر بها، وتفرقة اللحم على أهل الحرم" ما يعرفك أن لفظ [مكة] في هذا المقام قائم مقام لفظ الحرم؛ لأن الحرمة شاملة لجملته، وإلا لما جاز صرف اللحم لمن هو خارج مكة من أهل الحرم، ومنه يؤخذ أنه لو نحر خارج مكة في الحرم جاز؛ لقوله- عليه السلام- وهو بمنى: "هذا المنحر". قال: ومن نذر [النحر] والتفرقة في بلد آخر، لزمه، أي: النحر بها، والتفرقة على أهلها؛ كما لو نذر النحر بمكة، وتفرقة اللحم على أهلها. قال في "الحاوي": ويصرف ذلك إلى الفقراء والمساكين، دون [الأغنياء]

لاختصاصهم بالقرب، [وجاز أن يصرف في ستة أصناف من مستحقي الزكاة، وهم: الفقراء، والمساكين، والرقاب]، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل. وقيل: لا يلزمه النحر بها وإن دخل في نذره؛ لأنه ليس للذبح في غير الحرم قربة، بخلاف مكة؛ فإن النحر بها قربة؛ لاختصاصها بنحر الهدايا، نعم: يستحب له النحر بها، ويلزمه تفرقة اللحم على مساكين تلك البلد؛ وهذا ما أورده أبو الطيب، وكذا البغوي وشيخه وجماعة؛ كما قال الرافعي؛ حيث قالوا: لو أراد الذبح بالقرب منها، ونقل اللحم غضاً طرياً، [جاز]. قال الماوردي: وقد توافق الوجهان على تعين مساكين تلك البلد للتفرقة، وهو ما حكاه الرافعي عن الأكثرين، وهما جاريان فيما لو نذر التضحية ببلد معين غير الحرم، وصرح في نذره بتفرقة اللحم على أهلها. وسلك الإمام طريقاً آخر، فقال: في تعينهم قولان مأخوذان من تفرقة الصدقة ونقلها، فإن لم نجوز نقل الصدقة، لم يجز التفرقة في غيره؛ لعرف الشرع ونذره. وإن جوزنا نقل الصدقة ففي جواوز صرف اللحم لغير من في البلد المعينة وجهان: وجه الجواز: أن المنذور يلحق بحقوق الله تعالى، وليس لمن تلزمه حقوق الله تعالى تحكم فيها، ولأنه لا قربة في تخصيص أهل بلد غير الحرم بالصدقة؛ فكان ذكره لغواً، ويخالف الحرم؛ فإن للقرب فيه مزية على غيره، وهو مختص بالهدايا. قال: وتعين الفقراء فيما إذا قال: "لله علي أن أتصدق على زيد هذا" وكان فقيرا، يخرج على تعين أهل البلد، والمعزي إلى فتاوي القفال تعينه؛ حتى لو لم يقبل، لا يلزم الناذر شيء، وهل له مطالبة الناذر بعد وجود ما علق عليه النذر؟ في الرافعي: [أنه] يحتمل أن يقال: نعم [كما] لو نذر إعتاق عبدٍ معين؛ إن شفى الله مريضه، فشفاه الله؛ فإن له المطالبة بالإعتاق؛ كما لو وجبت الزكاة، والمستحقون في البلد محصورون، لهم المطالبة. ثم مهما أبطلنا تقييده، فقد يخطر للفقيه: أن النذر يبطل، ويعارضه أن الشرط يبطل، والقربة تثبت.

ويجوز أن يقال: لا يثبت النذر، لا لفساده بفساد شرط مقترن به، ولكن لأن ما التزمه لم يلزمه، وهو لم يلتزم إلا التصدق على أهل البلد التي عينها، أو على زيد. ثم إذا قلنا: لا يتعين أهل تلك البلد للتفرقة، فلا يتعين [البلد] لإراقة الدم. وإن قلنا: يتعينون، فهل يتعين البلد للإراقة؟ فيه وجهان: أحدهما: يتعين. والثاني: لا، حتى لو أراق الدم بالقرب، ونقل اللحم غضاً طرياً- جاز. قال: وإن نذر النحر وحده، أي: في بلد آخر بأن قال: "لله علي أن أنحر هذه الشاة- أو هذه البدنة- بالبصرة مثلاً"، فقد قيل: يلزمه النحر والتفرقة؛ لأن النحر على وجه القربة لا يكون إلا بالتفرقة، فإذا نذر النحر تضمن التفرقة؛ فصار كما لو نذرها. وقد روي أن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً في موضع سماه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " قال: لا، قال: "هل كان فيه عيد من أعيادهم؟ " فقال: لا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوف بنذرك". وعلى هذا يجيء ما ذكرناه في الصورة السابقة، صرح به الرافعي؛ وهذا الطريق يشهد له ظاهر لفظ المزني، وقد اختاره أبو إسحاق وصاحب "المرشد" وغيره؛ كما سنذكره. وقيل: لا يلزمه أي شيء، بل يلغو نذره؛ لأن النحر وحده في غير الحرم لا قربة فيه، وهو لم يلتزم التفرقة؛ فلم تلزمه؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، وصححه النواوي؛ تبعاً للرافعي والروياني وغيرهم، وهو قول المعتبرين؛ كما قال الإمام، ونسبوا المزني إلى الغلط في النقل. وقال القاضي أبو الطيب: إنه ليس بصحيح؛ لأن ما ليس بواجب إذا لم يمكن الوصول إلى الواجب إلا به صار ذلك الشيء واجباً؛ كما نقول في غسل الوجه، والسعي إلى الجمعة، وغير ذلك. وحكى الماوردي في هذه الصورة ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه يلزمه النحر بالبصرة [وتفرقة اللحم على أهلها]؛ اعتباراً بالنذر والعرف. والثاني: يلزمه تفرقة اللحم بالبصرة، ويجوز له النحر في غيرها؛ اعتباراً بالعرف دون النذر، لأنه لا فضيلة في تعينها بالنذر. والثالث: يلزمه النحر بالبصرة، وله تفرقة اللحم حيث شاء؛ اعتباراً بالنذر دون العرف. وإنما لم يجيء هذا الوجه في المسألة قبل هذه في الكتاب؛ لأن صاحب هذا الوجه متبع لصيغة النذر، وصيغة نذره فيها مصرحة بلزوم النحر والتفرقة بها؛ فيشبه أن يكون هو القائل فيها بلزوم النحر والتفرقة بها، نعم: يظهر مجيئه فيما لو نذر النحر خارج الحرم، وتفرقة اللحم في الحرم؛ نظراً لنذره. فإن قلت: لو صح ذلك، لامتنع أن يجزئه الذبح في الحرم مع أنه أفضل من الذبح في غيره. قلت: لا يمتنع ذلك؛ لأن من نذر صلاة في المسجد الأقصى أو مسجد المدينة، وقلنا بصحة النذر، وتعين ما نذره، إذا صلى في المسجد الحرام، أجزأه؛ لزيادة الفضيلة؛ كما تقدم؛ فكذلك نقول هاهنا. ثم الوجهان المذكوران في الكتاب في الصورة الأخيرة جاريان- كما صرح الرافعي وغيره- فيما إذا قال: "لله علي أن أنحر هذه الشاة، أو هذه البدنة"، ولم يتعرض للتفرقة، ولا لكون النحر في موضع معين بلفظه ولا بنيته، وأصحهما: عدم اللزوم أيضاً، نعم: لو قال: "لله علي أن أذبح هذه الشاة، وأفرق لحمها"، ولم يعين له موضعاً- لزمه الذبح، والتفرقة جزماً، وهل يتعين موضعه للتفرقة، أم يستحب، وله الصرف في أي موضع شاء؟ قال الماوردي: فيه قولان مبنيان على اختلاف قولي الشافعي في زكاة المال، هل يكون صرفها في بلد المال مستحقاً أو مستحباً؟ وفيه قولان: فإن قلنا بالأول، لزمه التفرقة على مساكين بلده، وهل يلزمه الذبح بها؟ فيه وجهان، ولا يخفى أن الوجهين في مسألة الكتاب مفرعان على المذهب فيما لو نذر

النحر بمكة: أنه يلزمه النحر والتفرقة [بها]. أما من قال: لا يلزمه ثم، فهو هاهنا جازم بعدم الوجوب. فرع: لو قال: "لله علي أن أضحي بنيسابور"، ولم يتعرض لتفرقة اللحم بها، وفرعنا على أنه لو قيد النذر بالتفرقة بتلك البلد، لوجب الوفاء بموجب تقييده، فهل يتضمن إضافة التضحية تفرقة اللحم على التخصيص؟ قال بعض أصحابنا: تضمن ذلك تخصيص أهل البلدة بالتفرقة؛ وعلى هذا هل تتعين البقعة للتضحية وإراقة الدم؟ على ما ذكرنا من الوجهين. قال الإمام: فإن قيل: كيف يثبت التضمن، ولم يثبت اللفظ المصرح به؟ يعني: كيف يثبت تعين أهلها بالتضمن، ولم يثبت تعين البلدة للنحر، وقد عينها؟ قلنا: لأن تفرقة اللحم على أهل بقعة مستندة إلى أصل في الشريعة، والتضحية في غير الحرم لا أصل لها، ومن خصص التضحية بها فلا محمل لتخصيصها إلا ابتغاء طراوة اللحم إذا فرق. فإن صور مصور إخراجاً ونقلاً على القرب، أجبنا عنه بقاعدة الحسم في أمثال ذلك. وقال بعضهم: لا يتعين أهل البقعة، والله أعلم. قال: ومن نذر أن يهدي شيئاً معيناً إلى الحرم، أي: مثل أن قال: "لله علي أن أهدي هذا إلى الحرم؛ إن شفى الله مريضي" فشفاه الله، أو قال: "لله علي أن أهدي هذا" وقلنا: يلزمه ذلك على أصح الوجهين. قال: نقله إليه؛ إن كان مما ينقل، أي: كالأثمان، والمتاع، والحيوان؛ لتخصيصه الحرم بذلك، وتعلق القربة به. قال القاضي الحسين: ومؤنة النقل عليه، وكذا علفه إلى أن يصل إن كان حيواناً؛ كما قاله الماوردي أيضاً؛ وهذا بخلاف ما لو قال: "جعلت هذا هدياً إلى الكعبة"، لا يلزمه المؤنة، بل يباع منه شيء بقدر المؤنة؛ قاله الفوراني وغيره، وفي "البحر" نسبة هذا إلى القفال. قال الرافعي: وقد أطلق مطلقون: أن المؤن في ماله، فإن لم يكن له مال بيع منه ما

يكفي المؤنة، ثم إذا حصل المنذور في الحرم، نظر فيه: فإن كان حيواناً يجزئ في الأضحية، وجب على الناذر ذبحه، وتفرقته على فقراء الحرم ومساكينه، لكن هل يجب الذبح في الحرم؟ فيه وجهان: أصحهما: الوجوب. والثاني: لا يجب؛ إذا أمكن نقل اللحم إليه غضاً طرياً، وقد تقدم مثلهما. وإن كان لا يجزئ في الأضحية؛ لكونه من غير النعم، لم يلزمه الذبح، ولكن يتصدق به حياً؛ فإن الذبح ينقصه، وليس فيه قربة فلو ذبحه، قال في "البحر": تصدق باللحم، وغرم ما نقص بالذبح. وفي "التتمة" وجه آخر: أنه يلزمه الذبح. وإن كان من النعم، ولكنه لا يجزئ في الأضحية؛ لعيب فيه، فهل يكون كالسابق حتى لا ينحر بل يتصدق به حياً على الأصح، أو يلزمه النحر؟ فيه تردد للأصحاب: والظاهر في الرافعي منع الذبح. ولو كان المنذور غير حيوان، تصدق به على فقراء الحرم ومساكينه عند إطلاق النذر. وفي الرافعي حكاية وجه عن رواية ابن كج: أنهم لا يتعينون. والمشهور: التعين. ومن طريق الأولى إذا صرح في نذره بالصدقة عليهم أو نواها، لكن هل يجوز صرف ذلك لذوي القربى؟ فيه وجهان في "الحاوي". أحدهما: لا؛ لوجوبه؛ كالزكوات، والكفارات. والثاني: نعم؛ لأنه تطوع بنذره؛ فأشبه تطوع الصدقات. قال الإمام: وفي بعض التصانيف: أنه إذا أطلق نذر هدي الثوب إلى الحرم، وكان صالحاً للستر، حمل مطلق نذره على ستر الكعبة، وهذا كلام سخيف، لا أصل له، ولا اعتداد به. وفي "البحر": أن بعض أصحابنا بـ"خراسان" قال عند الإطلاق- والمنذور هدية ثوب أو طيب-: إنه يتخير الناذر بين أن يصرف ذلك للفقراء، وبين أن يستر به الكعبة،

أو يطيبها به، وهو غلط. ولا خلاف في أنه لو نوى ذلك [بنذره] لزمه، وهو ما نص عليه الشافعي؛ لأن ذلك من جملة القربات، وفي اعتبار الناس ذلك في العصر الخالية وعدم النكير من علماء الشريعة ما يوضح ذلك. قال الإمام: وفي بعض ألفاظ الرسول- عليه السلام- ما يدل عليه؛ فإنه قال: "إن لهذا البيت ستراً". ولو كان قد نوى بما نذر هديه: أن يخص به الكعبة؛ فلا يصرف للمساكين أيضاً، ثم إن كان ثوباً، كساها به، وجعله ستراً عليها، وإن كان طيباً، جعله طيباً لها، وإن كان شمعاً أشعله فيها، وإن كان دهناً، جعله لمصابيحها، وإن كان من صنوف المتاع الذي لا يستعمل في الكعبة، باعه، وصرف ثمنه في مصالحها؛ قاله الماوردي. قال: وإن لم يمكن نقله، أي: كالأرض، والدار، وكذا حجر الرحا ونحوه – كما قاله القاضي الحسين وغيره- باعه، ونقل ثمنه؛ لأن العين لما تعذر نقلها، كان النذر في الحقيقة متعلقاً ببدلها، لا بعينها وقد روي أن ابن عمر- رضي الله عنه- سئل عن امرأة نذرت أن تهدي داراً، فقال: تبيعها وتتصدق بثمنها على مساكين الحرم. فلو أراد الناذر ألا يبيع ذلك، ويدفع قيمته، قال في "الحاوي": ففيه وجهان مخرجان من اختلاف قول الشافعي في العبد الجاني، هل يفتديه السيد بقيمته أو بثمنه؟ على قولين: أحدهما: يفتديه بقيمته؛ فعلى هذا يجوز للناذر أن يصرف قيمته إليهم وإن لم يبعه. والقول الثاني: أن عليه أن يبيع العبد الجاني؛ لجواز ابتياعه بأكثر من قيمته؛ فعلى هذا يلزمه بيعه؛ لجواز أن يرغب فيه من يشتريه بأكثر من قيمته. ولو أراد أن يأخذه بالثمن المبذول جاز. وما ذكره الشيخ من البيع في هذه الحالة هو المذهب في "تعليق" القاضي أبي الطيب. وقال: إنه سمع الماسرجسي يقول: سئل ابن مهران عن هذه المسألة، فقال: يؤجر، وتنقل الأجرة، فأخطأ ثم رجع عن ذلك؛ لأن الأجرة ليست بدلاً عن العين، وإنما هي

بدل المنفعة، ولا شك في أن منفعة ذلك قبل البيع تصرف حيث يصرف ثمن العين، وكذا الثمرة الحادثة بعد لزوم الوفاء بالنذر، والكلام في المصرف كما تقدم. واعلم أن [المفهوم] من كلام الشيخ منع بيع ما يمكن نقله، وهو الذي أورده الإمام؛ حكاية عن الأئمة، وقال: إنه قياس المذهب، لتعلق لفظ الإهداء بعينه، وإمكان التصدق به، ولو فرض عسر التصدق بعينه، وعدم تأتي جمع المساكين وتسليم العين إليهم فهذا بمثابة ما لو فرض ذلك في الزكاة؛ فلا يعدل عن العين. وفي "الحاوي" فيما إذا كان المنذور مما لا يمكن تعميم نفعه إذا فرقه على المساكين، وقد تعينوا للصرف: كاللؤلؤ، والجواهر، والثوب الواحد، وكذا الطيب، والصيدلة- باعه، وفرق ثمنه عليهم، لكن هل يباع في الحرم بعد النقل أو في موضع النذر؟ يظهر أن يقال: إن كانت قيمته في الموضعين سواء، يخير فيه، وإن كانت قيمته في بلد النذر أكبر، باعه فيها، وإن كانت في الحرم أكثر تعين النقل والبيع فيه. وهل له إمساكه لنفسه بالقيمة؟ فيه الوجهان السابقان؛ صرح بهما الماوردي. فرع: لو قال: "لله علي أن أهدي هذا"، ولم يقل: "إلى الحرم"، ولا نية له، فهل ينزل منزلة قوله: "لله علي أن أجعل هذا هدياً"؛ حتى يصح، ويجب نقله إلى الحرم؛ إن كان مما ينقل، أو ثمنه، أو لا يصح؟ قال الماوردي: فيه وجهان؛ لأنه تعارض فيه عرف الشرع: وهو أن يكون هدياً، وعرف اللفظ: وهو أن يكون هدية بين المتواصلين. قال: وإن نذر الهدي، وأطلق، أي: مثل أن قال: "لله علي أن أهدي الهدي"، ولم يسم شيئاً- لزمه الجذع من الضأن أو الثني من المعز أو الإبل أو البقر؛ لأن مطلق كلام الناذر يحمل على معهود الشرع؛ بدليل ما لو نذر الصلاة؛ فإنه يلزمه الصلاة الشرعية دون اللغوية، والهدي المعهود فيه ما ذكرناه؛ فحمل إطلاقه عليه، وقد تقدم بيان سن الجذع من الضأن، والثني مما سواه، ويعتبر مع ذلك سلامته من العيوب المانعة من الإجزاء في الأضحية، ويجب على الناذر والحالة هذه تبليغ الهدي إلى الحرم؛ لأن الهدي المطلق هو الذي محله؛ قال الله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]؛ قاله في "الشامل" وغيره، وللقاضي الحسين احتمال فيه؛ بناء

على أن مطلق النذر ينزل على جائز الشرع. واعلم: أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا يجزئه إخراج سبع ثنية من الإبل والبقر؛ لأنه حصر اللازم في جذعة من الضأن، وثنية من المعز والبقر والإبل. وقد قال ابن الصباغ وغيره: إن الهدي على ضربين: أعلى، وأدنى؛ فالأعلى: البقرة والبدنة، والأدنى: شاة أو سبع بقرة أو بدنة، فمن وجب عليه هدي، فهو مخير بين أن يهدي الأعلى وبين أن يهدي الأدنى، فإن أهدى الأعلى، فهل يكون واجباً كله أو سبعه؟ فيه وجهان. وأبلغ من ذلك ما حكاه القاضي الحسين فيما إذا نذر هدياً، وسمى شاة: أنه يجزئه أن يعطي سبع بدنة أو بقرة، ويأخذ ستة أسباعها لحماً لنفسه. ولو أخرج كل البدنة عن الشاة، فما الواجب [منها؟] فيه الوجهان. قال: وإن نذر أن يهدي، أي: مثل أن قال: "لله علي أن أهدي"، أو: "أن أهدي هدياً" كما ذكره البندنيجي وصاحب "البحر"، ولم يكن له نية- لزمه ما ذكرناه في أحد القولين؛ لأنه عند الإطلاق ينصرف إليه عرفاً؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"؛ كما قال الماوردي، وهو الجديد. والصحيح عند النواوي وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر- تفريعاً على أنه يتعين عليه بدنة أو بقرة أو شاة-: أنه لا يعتبر السن المعتبر في الضحايا، وكذا السلامة من العيوب. قال: وما يقع عليه الاسم في القول الآخر، أي: ولو لم يميزه أو ينصه؛ عملاً بإطلاق لفظه؛ فإن الهدي يقع على ذلك كله؛ قال الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} إلى قوله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [البقرة: 95]، فسمى بدل العصفور الذي قتله وغيره هدياً. ولأنه مشتق من الهدية، وهي تقع على القليل والكثير، وهذا ما نص عليه في "الإملاء" من الحج والأيمان والنذر. وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر تفريعاً على هذا القول-: أنه لا يجزئه إلا ما يجوز أن يكون ثمناً لمبيع حتى لا تجزئه التمرة؛ فإنها لا تكون ثمناً ولا مبيعاً.

قال: وقائله يقول ما ذكره الشافعي من إجزاء التمرة، قاله على سبيل المبالغة. ثم على هذا القول، فالفرق بين هذه المسألة والتي قبلها: أن هناك قد أدخل الألف واللام في لفظه، وهما يدخلان لجنس أو معهود، فلما لم ينصرفا إلى عموم الجنس، انصرفا إلى معهود الشرع، وهو الضحايا، وهاهنا نكرة، والمنكر يقع على القليل والكثير، وهذا الفرق قاله الشيخ أبو حامد ومن تبعه؛ لاعتقادهم أن المسألة الأولى لا خلاف فيها؛ كما حكاه القاضي الحسين ومجلي. وقال في "الحاوي": إن سائر أصحابنا ذهبوا إلى استواء الحكم في الصورتين. أما إذا كانت له نية بأن قال: "لله علي أن أهدي هدياً"، ونوى بهيمة، أو جدياً، أو رضيعاً- فقد قال في [الأم كما حكاه] في "البحر": إنه يجزئ كما لو نذر أن يهدي شاة عرجاء، أو عوراء، وما لا يجزئ في الأضحية. قال الشافعي: لأن [كل] هذا هدي؛ ألا ترى إلى قوله- تعالى-: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} [المائدة: 95]، [وقد يقتل صغيراً، أو أعرج، أو أعور، ويجزئه مثله]. وقد فرع الأصحاب على القولين في مسألة الكتاب فرعين: أحدهما: قال ابن الصباغ: إذا قال: "لله عليه أن أهدي بدنة، أو بقرة، أو شاة"، فإن قلنا: إنه إذا أطلق، لزمه ما يجزئ في الهدي، وجب عليه بدنة، أو بقرة تجزئ. وإن قلنا: يجزئه أي شيء أخرجه، أجزأه أي بدنة كانت، أو أي بقرة كانت. وفي "النهاية" حكاية الخلاف المذكور عن العراقيين فيما إذا قال: "لله علي أن أضحي ببعير أو شاة أو بقرة"، فقال: إن الذي ذهب إليه المحققون أن مطلق ذلك محمول على الذي يجزئ في الأضحية. وذكر العراقيون هذا ووجهاً آخر، وهو أن اللفظ يتنزل على الاسم، ولا يشترط السن، ولا السلامة. نعم: لا يجزئ الحوار ولا الفصيل، ولا يقبل الفحل، والمذكور البقرة، كما لا يقبل السخلة، والمذكور الشاة. قلت: وهذا فيه نظر؛ لأن التضحية تسمية شرعية مخصوصة بنوع خاص؛ فينبغي أن يحمل نذره عليه جزماً؛ إذ لا معهود لها في العرف غير ذلك، ولا في اللغة حتى

يعارض المألو شرعاً، ويقع الترجيح، وليس كقوله: "أهدي"؛ لأن ذلك يصدق لغة على الهدية، نعم: الخلاف المشهور فيما إذا قال: "لله علي أن أضحي بشاة عرجاء أو عجفاء أو بفصيل"، فهل يلزمه ذبحه، أو ذبح غيره، أو لا يلزمه شيء؟ وفيه ثلاثة أوجه أحدها: لا يلزمه شيء. والثاني: يلزمه ما التزمه، ولا يلزمه غيره، وهو الذي يقتضي نظم الغزالي في كتاب الأضحية ترجيحه. والثالث: يلزمه صحيحه، والسن الذي يجزئ. الفرع الثاني: قال الإمام: هل يجب على الناذر تبليغ ما لزمه بهذا النذر الحرم؟ إن قلنا بالقول الأول، فالذي ذهب إليه الأكثرون الوجوب؛ وهذا ما حكاه ابن الصباغ وغيره في باب الهدي من كتاب الحج. وفي كلام بعض الأصحاب ما يشير إلى أنه لا [يجب] تبليغ المنذور الحرم على هذا القول ما لم يصرح به؛ فإن دماء الجبرانات هي الواجبة شرعاً ولا يجب تبليغها الحرم. قال الإمام: وهذا وهم؛ فإنا لا ننظر إلى الواجب شرعاً، وإنما ننظر إلى اللفظ الشائع في الشرع، والهدي ظاهر في ألفاظ الشرع في اقتضاء التبليغ إلى "مكة". وإن قلنا بالقول الثاني، قال ابن الصباغ: فهل يتعين تفريقه على فقراء الحرم ومساكينه، أم له صرفه في أي موضع شاء؟ فيه وجهان: أصحهما في "الحاوي" الأول. وقال الإمام: قطع الأصحاب بأنه لا يجب تبليغه "مكة"، وكان شيخي في دروسه يقطع بأنه يجب تبليغه مكة؛ وهذا تناقض؛ فإنا إذا لم نعتبر جنس النعم في الهدي؛ فلأن لا يتعين التبليغ- وهو تابع – أولى؛ فلا اعتداد بهذا. قال: وإن نذر بدنة في الذمة؛ أي: ولم ينو بذلك أن تكون من الإبل ولا غيره، بل أطلق- لزمه ما نذر، أي: وهو البدنة من الإبل؛ لأنه المفهوم من اللفظ، والحيوان يثبت في الذمة؛ فاندرج تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يطيع الله فليطعه".

قال: فإن أعوزه الإبل، أخرج بقرة؛ وإن أعوزه البقر، أخرج سبعاً من الغنم؛ لأن ذلك يقوم مقام البدنة في الشرع؛ فحمل النذر عليه عند العجز؛ وهذا هو المنصوص، والذي صححه القاضي الحسين وغيره، وقال به عامة الأصحاب؛ كما قال في "البحر"؛ وعلى هذا لو عدم الجميع لم يجز أن يعدل إلى الإطعام وإن كان في الشرع بدل منها؛ لانتفاء اسم البدنة عنه، ونحن نراعي في النذر عرف الشرع مع وجود الاسم إما حقيقة أو مجازاً؛ لتكون معانيها تبعاً لها، وإن كانت في الشرع تبعاً لمعانيها؛ ألا ترى أنه لو نذر عتق عبد فعدمه، لم يعدل عنه إلى الصيام وإن كان بدلاً من العتق في الكفارات. وقيل: هو مخير بين الثلاثة؛ لأن الشرع أقام البقرة والسبع من الغنم مقام البدنة؛ فجاز أن يتخير فيها، ولأن إطلاق الناذر يحمل على معهود الشرع، والبدنة المعهودة في الشرع تكون من الإبل، وتكون من البقر، وتكون سبعاً من الغنم؛ قال الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36]، والمراد به هذا- كما قال القاضي الحسين- فخير فيه. والإمام والقاضي الماوردي استدلا بالآية على أن إطلاق البدنة منطلق على الإبل لا غير. قال القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين: وأصل هذين الوجهين ما إذا فسد حجه؛ فإنه يجب عليه بدنة، وهل تكون مرتبة أو مخيراً فيها؟ على وجهين؛ كذا في مسألتنا. قال الطبري في "العدة": وهذا إذا قلنا: إن مطلق النذر يحمل على المعهود في الشرع، فأما إذا قلنا بالقول الآخر؛ فلا تجزئ فيه البقرة، ولا السبع من الغنم؛ لأن اسم البدنة من جهة اللسان غير واقع على هذين الجنسين. وعلى هذا يبقى في ذمته إلى أن يقدر. وما ذكره في منازعة تظهر لك كما ذكرناه في باب كفارات الإحرام.

فرع: هل يجزئ في البدنة والبقرة والسبع من الغنم ما يقع عليه الاسم، أو يراعى في ذلك شروط الأضاحي في السن والسلامة من العيوب؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وهما محكيان في "النهاية" عن العراقيين، والمنصوص في "المختصر" منهما الثاني، وقال: إنه يجزئ فيها الخصي، قال في "المرشد": لأن لحمه أرطب، وأوفر. ولا فرق في إجزاء الإبل بين الذكر والأنثى. أما إذا قصد بالبدنة البدنة من الإبل، لم يجز الوجه الثاني جزماً؛ كما صرح به من المراوزة الفوراني، ومن العراقيين البندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ؛ تبعاً للشيخ أبي حامد، بل يتعين إخراج البدنة من الإبل عند القدرة. قال في "البحر": وقيل هذا إذا كان مراده: ألا يتقرب إلا بالبدنة دون البقر والغنم، وهو ضعيف. وعلى الأول إذا عجز عن البدنة، هل يجوز له العدول عنها إلى شيء آخر، أم تبقى في ذمته إلى أن يجدها؟ فيه وجان حكاهما البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما: أحدهما: الإبل تبقى في ذمته إلى أن يجدها؛ لأن نذره تعين فيها؛ فأشبه ما لو نذر عتق عبد فتعذر، لا يجوز أن يعدل إلى الصيام وإن كان الشرع قد عدل إليه في الكفارات. والثاني- وهو المنصوص، والصحيح في المذهب، ولم يحك القاضي أبو الطيب سواه-: أنه يجوز؛ لأنه وإن عينها، فإنما تعين هدياً شرعياً، والهدي الشرعي له بدل؛ فعلى هذا ما الذي يعدل إليه؟ أطلق البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما القول بأنه يعدل إلى البقر، وسكتوا عن العدول إلى الشاة، وهو ما في "المختصر". وقال في "البحر": إن أصحابنا قالوا: إنه يتخير بين البقر والغنم، وهو ظاهر كلام الإمام. وفي "الحاوي"، و"تعليق" أبي الطيب، وكتاب ابن كج، و"التتمة": أن يتنقل إلى البقر، فإن عجز عن البقر انتقل إلى الغنم، وعلى كل حال فإذا عدل إلى بقرة في هذه الحالة، فهل يعتبر أن تكون قيمتها قيمة البدنة؟ فيه وجهان في "الحاوي":

أحدهما: لا يعتبر، وكذلك إذا عدل إلى الغنم؛ لأنه يعدل إلى ذلك على وجه البدل؛ فلا فرق بين قليل القيمة وكثيرها. والثاني: يعتبر وهو ظاهر النص في "المختصر"؛ فإنه قال: "وإن كانت ثنية من الإبل، لم يجزه من البقر إلا بقيمتها"، وهو المختار في "المرشد"، وبه جزم القاضي أبو الطيب، فعلى هذا يعدل إلى البقرة بأكثر الأمرين من البقرة أو قيمة البدنة، فإن كانت قيمة البقرة أكثر أخرجهأ، وإن كانت قيمة البدنة أكثر صرفها فيما أمكن من البقر، ولو في عشر بقرات، فإن لم يمكن صرف ذلك إلا في بقرة وفضلت فضلة، فماذا يفعل بالفضلة؟ فيه الخلاف المذكور في نظير المسألة من الأضحية، قاله البندنيجي وغيره، والمعزى إلى تعليق الشيخ أبي حامد: [أنه] يتصدق بالفاضل و [المعزى] إلى "التتمة" المشاركة إذا عدل إلى السبع من الغنم، فقياس قول من يقول بالتخيير بين البقر والغنم: أن يكون الحكم كما تقدم في البقرة، و [هو] في "النهاية" كذلك. وذكر عن صاحب "التقريب" تفريعاً على اعتبار القيمة- الذي اعتقد ضعفه- أنه لو أخرج خمساً من الغنم تعدل قيمتها بدنة، فهل يقبل؟ فعلى وجهين، وكذلك إن تصور هذا في شاة واحدة. قال الإمام: والمصير إلى أن الخمس والشاة الواحدة تجزئ عن بدنة، فيه بعد عظيم عن القاعدة، ولولا عظم قدر الحاكي ما استجزت ذكر هذا. وقد حكى الرافعي الوجهين عن رواية ابن كج؛ فإنه نسب الوجه الآخر إلى الشيخ أبي الحسن السبوري، وهو شيخ من أصحابنا في زمن أبي إسحاق وابن خيران؛ ونسب مقابله إلى أبي الطيب بن سلمة، وهو الأظهر. ومن قال بالترتيب بين البقرة والشاة- ومنهم الماوردي- قال في القيمة المعتبرة في الشاة ثلاثة أوجه: أحدها: أكثر الأمرين من قيمة البدنة وسبع من الغنم. [والثاني: أكثر الأمرين من قيمة البقرة وسبع من الغنم].

والثالث: أكثر الثلاثة من قيمة البدنة، ومن قيمة [البقرة] ومن قيمة [السبع من الغنم؛ لأن البدنة أصل البقرة، والبقرة أصل الغنم؛ فاعتبروا أغلظها]. وحكى الفوراني عن القفال: أنه لا يجوز الإتيان بغير الإبل؛ إذا قال: بدنة، سواء قيده أو لم يقيده، وسواء كانت الإبل موجودة أو معدومة. قال في "البحر": وهو القياس، ولكنه خلاف النص. وقد حكى الإمام في المسألة طريقين من غير تفصيل بين أن يطلق لفظ البدنة أو يقيده بالبدنة من الإبل: أحدهما: أنه يجزئه البقر والغنم عند العجز، وعند القدرة، قولان. والثاني: لا يجزئ عند القدرة، وعند العجز، قولان. ويجيء من مجموع ذلك ثلاثة أقوال؛ كما أشار إليها، لكنه فرض الكلام فيما إذا كان قد قال: "لله علي أن أضحي ببدنة"، ولا يظهر فرق، والله أعلم. قال: ويستحب لمن أهدى شيئاً من البدن أن يشعرها بحديدة فيصفحة سنامها الأيمن، وأن يقلدها خرب القرب ونحوها من الخيوط المفتولة والجلود؛ لما روى أبو داود عن ابن عباس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بذي الحليفة؛ ثم دعا ببدنة، فأشعرها من صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم عنها، [وقلدها بنعلين. وفي رواية: "ثم سلت الدم بيده"، وفي رواية: "سلت الدم عنها] بأصبعه"، وأخرجه مسلم. وروى أبو داود عن المسور بن مخرمة ومروان أنهما قالا: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، فلما كان بذي الحليفة، قلد الهدي، وأشعره، وأحرم"، أخرجه البخاري. وروى أبو داود عن عائشة أنها قالت: "كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". والإشعار: هو أن يجرحها بمبضع حاد أو نحوه حتى يسيل الدم، وأصله: العلامة،

سمي هذا: إشعاراً؛ لأنه علامة الهدي، وكل شيء أعلمته علامة، فقد أشعرته. قال النواوي: وقوله: "صفحة سنامها الأيمن" الصواب: اليمنى. قلت: والشيخ تابع في ذلك لفظ الخبر، وتقديره: في صفحة سنامها من الجانب الأيمن. وخُرَب القرب: هو بضم الخاء المعجمة، وفتح الراء، وهي عراها، أحدها بضم الخاء: كركبة، وركب. وقد أفهم سياق كلام الشيخ: أن الإشعار يكون قبل التقليد؛ كما جاء في الخبر الأول، وهو الذي قاله أكثر الأصحاب؛ عملاً بالخبر. لكن الذي حكاه ابن الصلاح عن الشافعي: أنه قدم التقليد على الإشعار، وهو الذي يقتضيه نظم الخبر الثاني. قال ابن الصلاح: وقد صح ذلك عن ابن عمر- رضي الله عنهما- من فعله. قال: ويقلد البقر والغنم، ولا يشعرها؛ لإمكان ظهور العلامة بالتقليد دون الإشعار. وقد استدل لتقليد الغنم بما رواه أبو داود بإسناده عن عائشة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى غنمه مقلدة"، وأخرجه البخاري ومسلم. قال النواوي في"الصحيح": والصواب أنه يسن في البقرة المهداة الإشعار كالإبل؛ وهذا ما نص عليه في "المختصر"، ولم يورد ابن الصباغ وغيره فيما وقفت عليه غيره؛ ولأجل ذلك يوجد في بعض النسخ: "ويستحب لمن أهدى شيئاً من البدن أو البقر أن يشعرها"، وعليها جرى ابن يونس وابن كج، لكن قد يعكر عليه قوله من بعد: "في صفحة سنامها"، فإن البقر الذي بعدها لا سنام لها. ثم ظاهر كلام الشيخ التسوية بين الإبل والبقر والغنم في التقليد بخرب القرب. والمنقول عن الشافعي أن ذلك سنة في الغنم خاصة، ووجهه الأصحاب بأنه يضعف عن حمل النعال، فأما الإبل والبقر، فالسنة عند الشافعي كما نص عليه في

"المختصر" تقليدها بالنعال؛ كما يشهد به الخبر. واستحب أصحابنا أن يكون لها قيمة، ويتصدق بها إذا ذبح الهدي. قال: فإن عطب منها شيء قبل المحل، أي: قبل وقت الذبح، وهو بكسر الحاء [كما قال النواوي، ويجوز أن يقرأ بالفتح، ويكون المراد به: مكان الذبح، وهو الحرم، وعليه يدل سياق الكلام في التفريع؛ حيث قالوا: لا يأكل منها فقراء الرفقة، كما سيأتي ذلك وغيره، إن شاء الله تعالى. قال:] نحره، وغمس نعله في دمه، أي: النعل الذي في عنقه الذي تقدم ذكره، قال النواوي: وإنما ذكره [وإن] لم يسبق له ذكر؛ لأنه معلوم- وضرب [به] صفحته، وخلى بينه وبين المساكين، أي: بأن يقول: أبحته للفقراء والمساكين؛ لما روى أبو داود عن ناجية الأسلمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث معه بهدي ثم قال: "إن عطب فانحره، ثم ضع نعله فيدمه، ثم خل بينه وبين المساكين"، وقال الترمذي: إنه حسن صحيح. وروى أبو داود عن ابن عباس قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلاناً الأسلمي، وبعث معه بثمان عشرة بدنة، فقال: أرأيت إن أرجف على شيء منها؟ قال: "تنحرها، ثم تضع نعلها في دمها، ثم اضرب بها على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك". وفي رواية: "اجعله على صفحتها" مكان "اضربها"، وأخرجه مسلم، ولفظه: "فأرجفت عليه في الطريق بفتح الهمزة، وعن الخطابي أن هكذا يقوله المحدثون،

والأجود فأجرفت بضم الهمزة؛ يقال: أرجفت البعير؛ إذا قام من الإعياء، وأرجفه السير. قال الشيخ زكي الدين: والذي قاله المحدثون صحيح؛ لأنهما لغتان: أَرْجَف ورجف البعير، وأُرْجف؛ حكاه الزجاج وغيره. وقد حكى الماوردي عن القديم فيما إذا كان قد وجد الإشعار والتقليد: أنه لا تتوقف إباحة الأكل على أن يقول: أبحت لمن يأكل. وهذا إذا كان الهدي متطوعاً به، فلو كان منذوراًن فقد قيل: إنه لابد من الإباحة فيه أيضاً. وحكى الرافعي وجهاً في كتاب الحج: أنه لا يتوقف إباحة الأكل على أن يقول: "أبحت لمن يأكل"، وهو الذي يقتضي كلام الماوردي الذي حكيناه الجزم به، وهو الصحيح في "التهذيب"؛ لأنه بالنذر زال ملكه عنه، وصار للناس، والأول هو الذي أورده ابن الصباغ ثَمَّ؛ لأن له أن يخص به من شاء من الفقراء؛ فصار هذا كما قلنا في الزكاة: ليس للفقراء أن يأخذوها إلا بإذن صاحب المال، نعم: إذا قال ذلك: فمن سمعه، جاز له أن يأخذ، وأما من لم يسمع إذنه، فهل يجوز أن يأكل منه؟ فيه قولان: قال في "الإملاء": يحل له الأكل؛ اعتماداً على العلامة. وقال في "القديم" و"الأم": لا يحل. قال القاضي الحسين: ومن الأول خرج ابن سُريج جواز بيع المعاطاة. ثم المساكين الذين يباح لهم الأكل منهم أهل الركب، والقافلة وغيرهم، غير رفقته المختصين به والسائقين [للهدي معه؛ وأما رفقته المختصون به والسائقون] له، فهل يباح لهم الأكل؟ فيه وجهان في "الشامل"، و"تعليق" القاضي الحسين، وغيرهما: أحدهما: الجواز كغير الرفقاء، وبالقياس على ما لو وصل الهدي إلى المحل معيباً، ونحر فيه؛ بأنه يحل لهم الأكل جزماً، بل يحل للمهدي على الظاهر من المذهب؛ كما قاله الإمام، وكذا القاضي الحسين في كتاب الأضحية، وقاسه على ما لو بلغ المحل سليماً، ولم يحك الفوراني غيره فيما إذا قال: "جعلت هذا هدياً" وإن حكى وجهين فيما إذا قال: "لله علي أن أهدي هذا"، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في باب الأضحية.

والثاني: المنع؛ بالقياس على المهدي، ويشهد له الحديث، والمعنى فيه: أنه يجوز أن تلحقهم التهمة في السعي في سبب عطبها؛ ليأكلوا منها قبل محلها، وهذا هو الصحيح في الرافعي، والمختار في "المرشد"، والمحكي في "النهاية" عن الشافعي لا غير. وهذا إذا كان الهدي واجباً بالنذر، أما إذا كان تطوعاً، فهو له، يفعل [فيه] ما شاء من بيع وأكل وغيرهما؛ صرح به الرافعي وأبو الطيب وغيرهما. وفي "الحاوي" في باب الهدي من كتاب الحج: أنه إذا كان تطوعاً، فعليه أن ينحره في موضعه، ويخلي بينه وبين المساكين، وليس له أن يأكل منه غنياً كان أو فقيراً، ولا أحد من أغنياء رفقته، وكذا فقراؤهم على مذهب الشافعي، وهذا ما أورده الفوراني كما سنذكره. [ثم] قال الماوردي: ومن أصحابنا من قال: يجوز الأكل؛ لفقراء الرفقة. فرع: لو لم ينحر ما عطب حتى مات مع تمكنه من ذبحه، ضمنه، ومن طريق الأولى إذا أتلفه، ويكون الضمان بأكثر الأمرين من قيمته وقت التعدي بعدم الذبح أو الإتلاف، أو هدياً مثله، ويجب تفريق ذلك على مساكين الحرم؛ كما قال ابن الصباغ؛ لأنه لا يتعذر نقله إليهم. وإن لم يتمكن من الذبح حتى تلف بآفة سماوية، فهل يضمنه؟ فيه وجهان في "الحاوي": أحدهما- وهو الأصح فيه، وبه جزم غيره-: لا؛ لأنه بعد النذر كالأمانة في يده، وكما لو نذر عتق عبد، فمات قبل عتقه، لا يضمنه. والثاني: يضمنه؛ لتعلق نذره بذمته بجهة باقية، وخالف نذر العتق للعبد؛ فإن الجهة المستحقة له فائتة. قال في باب الهدي: وعلى هذا لو كان قد نحره، فإن له أكله؛ وهذا الوجه لم يحك الفوراني سواه؛ فإنه قال: لو عطب الهدي في الطريق، فذبحه قبل أن يبلغ به مكة، نظر: فإن كان تطوعاً، لم يحل له ولا لمن معه من أصحابه أكله؛ لأنه متهم بأن يكون قد ندم على سوقه، فأحدث ما أتلفه؛ ليأكل ويأكلون.

وإن كان واجباً، فله ولأصحابه أكله؛ لأن عليه بذله بالحرم، وإن عطب بعد أن بلغ مكة، أجزأه، وليس عليه غيره. والوجه الثاني: أنه يضمن كما قال الماوردي في باب النذر، وفيما يضمن ثلاثة أوجه: أحدها: المثل. والثاني: القيمة: والثالث: أكثر الأمرين من المثل أو القيمة. وما ذكرناه كله فيما إذا كان الهدي معيناً، فلو كان في الذمة بأن قال: "إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أهدي شاة- مثلاً- إلى الحرم، فشفاه الله تعالى، ثم عين شاة عن نذره، فقال: "لله علي أن أهدي هذه الشاة عما في ذمتي"، فهل يتعين عليه ذبحها؟ فيه وجهان: المذكور في "الشامل" وغيره: التعيين، ويملكها الفقراء؛ وهكذا لو عين بدل الشاة بقرة أو بدنة، ملكها الفقراء، إلا أنها تكون مضمونة عليه في الصورتين، فإن هلكت عاد ما كان واجباً عليه إلى ذمته؛ كما قلنا في رجل كان له على رجل دين، فاشترى منه سلعة بالدين، وهلكت قبل القبض؛ إنه ينفسخ البيع، ويعود الدين إلى ذمته؛ ولذلك نقول فيما إذا عابت الشاة؛ بحيث لا تجزئ في الأضحية-: يعود الواجب إلى ذمته، وتعود المعيبة إلى ملكه. وحكى الغزالي وإمامه وجهاً آخر: أنه لا يعود الواجب إلى ذمته بالتلف أو التعييب. وحكى القاضي الحسين وجهاً آخر في كتاب الأضحية: أنه يجب ذبح البدل مع الأصل، [إلا أن يكون قال وقت الإيجاب]: "وهذا عن الواجب علي؛ أن يسلم إلى وقته"، والصحيح الأول. وفي هذه الصورة قال ابن الصباغ: إنه يلزمه إخراج ما نذره إن كان ما عينه مثله، وإن كان المعين أفضل منه، مثل: أن عين عن الشاة بقرة أو بدنة، فهل يجب عليه ما كان في ذمته، أو مثل ما عين؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي قولين: أحدهما- قاله

في الجديد- وهو الصحيح-: الأول؛ لأن حدوث العيب في الأول قد أبطل وجوبه؛ فسقط حكمه. ووجه القديم- وهو إيجاب مثل المعين-: أنه أوجب الفضل بتعيينه. قلت: وهذا ظاهر إذا قلنا: إن كل البقرة تقع واجباً فيما إذا خرج ذلك عن نذره بدون تعيين، أما إذا قلنا: إن الواجب منها السبع، ففيه نظر. وعن الشيخ أبي حامد: أنه إن حصل ذلك بتفريط الناذر، لزمه مثل الذي عين، وإن لم يفرط، ففيه الوجهان، والأصح الأول. وفي "الشامل" وجه فيما إذا عاب المعين: أنه يجب ذبحه مع ما في الذمة، وهو بعيد. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون ما عينه قد وصل إلى الحرم أو لم يصل إليه. وحكى ابن الصباغ عن ابن الحداد: أنه إذا عاب بعد ما وصل إلى الحرم، أجزأه، لبلوغه المحل؛ وكذا قياس أصله فيما لو هلك؛ وهذا ما حكاه الإمام في كتاب الأضحية عن القفال؛ وكذا الرافعي في كتاب النذر عن فتاويه- أعني: القفال- حيث قال: لو نذر أن يهدي شاة، ثم عين واحدة، وذهب بها إلى مكة، فلما قدمها للذبح تعيبت- تجزئ، وبمثله لو نذر أن يضحي بشاة، ثم عين شاة لنذره، فلما قدمها للذبح، صارت معيبة- لا تجزئ. والفرق: أن الهدي ما يهدي إلى الحرم، وبالبلوغ إليه حصل الإهداء، والتضحية لا تحصل إلا بالذبح. قال ابن الصباغ: والأول أصح؛ لأنها عابت قبل الوصول إلى مستحقها؛ فأشبه ما لو عابت قبل ذلك، ووصولها إلى الغرض لا يسقط عنه الفرض. ولو لم يتلف المعين عما في الذمة، لكن ضل- فهو كما لو تلف، [لكن] إذا وجد الضال فما حكمه؟ قد قدمت الكلام فيه في الأضحية. وبعضهم قال: إن كان وجوده بعد الذبح والصرف، ذبح أيضاً. قال القاضي أبو الطيب: وتبين أن الأول لم يكن واجباً.

قال ابن الصباغ: ويحتمل أن يقال: إنه واجب كما إذا لم يجد ما يتطهر به، فصلى، ثم وجد الطهارة. وإن كان بعد الذبح، وقبل صرف اللحم- كان اللحم له، ووجب ذبح الضالة. وفي "تعيق" القاضي الحسين: أنها إذا وجدت بعد الذبح، فهل يتملك الضالة أم لا؟ فيه وجهان، ووجه التملك: أنه أخرج بدلها. فرع: لو نتجت الشاة المعينة سخلة، ثم ماتت أو تعيبت، فما حكم السخلة؟ ذلك ينبني على أنها لو ولدت ولم تتعيب فلمن يكون الولد؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه للناذر؛ لأن ملك الفقراء لم يستقر فيه؛ ألا ترى أنه لو مات أو تعيب عاد ملكه. والثاني- وهو المنصوص-: أن حكمه حكم أمه؛ كولد المبيعة قبل القبض، يكون للمشتري وإن لم يستقر الملك؛ وعلى هذا؛ فإذا تلف الهدي، قال ابن الصباغ: فقياس المذهب أن يكون للفقراء؛ كما في ولد المبيعة إذا تلفت في يد البائع بعد ما ولدت. وفيه وجه آخر: أنه يعود ملكاً للناذر بعوده له. قال: ومن نذر صوم سنة بعينها، أي: مثل أن قال: "لله علي صوم سنة من غد" أو: "صوم سنة سبع وثمانين وستمائة"، وهو في سنة ست وثمانين- لم يقض أيام العيد والتشريق، أي: على الجديد؛ كما قال البندنيجي وغيره ورمضان؛ لأن هذه الأيام لو نذر صومها، لم ينعقد نذره، فإذا أطلق أولى ألا تدخل في نذره. وقد أفهمك قوله: "لم يقض .. " إلى آخره: أنه لا يصوم هذه الأيام عن النذر، وإلا لم يكن لذكر القضاء معنى، وقد صرح به الأصحاب، وقالوا: لو نوى بصوم رمضان النذر، لم ينعقد للنذر ولا لرمضان. قال: وإن كانت امرأة فحاضت، قضت أيام الحيض- أي: الواقعة في غير رمضان وايام العيد والتشريق- في أصح القولين؛ لأن الزمان زمان الصوم، وإنما أفطرت لمعنى فيها؛ فوجب عليها القضاء؛ كصوم رمضان. وقد وافق الشيخ في تصحيحه البندنيجي، وأبا الحسين بن القطان، وأبا علي الطبري، وقال ابن كج: إنه المشهور، وحكى في "البحر" طريقة قاطعة به.

وعلى هذا قال الماوردي: فإن قيل: لو نذرت صوم أيام حيضها، لم يصح، ولم يلزمها القضاء، فهلا كان هذا كذلك؟ قيل: لأن إفرادها بالنذر يجعله معقوداً على معصية، ولا يجعله إذا دخل في العموم معقوداً على معصية. والقول الثاني: لا تقضي؛ لأن أيام الحيض لا تقبل إيقاع الصوم فيها؛ فلم تدخل في نذرها؛ كأيام العيد والتشريق ورمضان؛ وهذا ماصححه النواوي. فعلى هذا: لو أفطرت لمرض- وكذلك الرجل- فهل تقضي؟ أطلق البندنيجي وغيره حكاية وجهين فيه: والأظهر القضاء، وبه قطع القاضي أبو الطيب، وفرق بأن زمان الحيض لا يقبل الصوم، وليس كذلك زمان المرض، وبناهما الشيخ في "المهذب" تبعاً للماوردي- على أن الفطر بالمرض، هل يقطع التتابع إذا وجب الصوم متتابعاً: إما بالنذر، أو في الكفارة؟ وفيه وجهان مذكوران هنا في كتاب الظهار. فإن قلنا: يقطعه، لزم القضاء. وإن قلنا: لا يقطعه؛ كما لا يقطعه الحيض؛ فلا يلزمها قضاء أيام المرض؛ كأيام الحيض؛ وهذا ما اختاره في "المرشد". ولو أفطر لأجل السفر، قال الرافعي تبعاً للإمام: فالظاهر وجوب القضاء؛ لأنه

يتعلق بمحض اختياره، وبه قال أبو الحسين، وهو المذكور في "الوجيز" و"تعليق" القاضي أبي الطيب. ومنهم من طرد الخلاف، وبه قال ابن كج. وفي "الحوي" حكاية الطريقين؛ لأنه قال: والفطر بالسفر هل يلحق بالفطر بالمرض أو بالفطر بغير عذر؟ فيه قولان. واعلم أن الأصحاب قالوا: إن صوم السنة المعينة بالنذر يجب متتابعاً؛ لانحصار ذلك في وقت معين، لا لأجل أن التتابع وصفه، وهذا كما قلنا في صيام رمضان: إنه يجب متتابعاً؛ لتعين وقته، لا لأن التتابع شرط فيه؛ حتى لو أفطر أياماً بغير عذر، عصى، وقضاها متفرقة أو متتابعة، والتتابع أولى. نعم: لو نذر صومها متتابعاً؛ ففي جعل التتابع شرطاً وجهان: الذي أورده العراقيون: أنه شرط؛ إذا أفطر فيها يوماً بغير عذر، لم يعتد له بما مضى. والمنسوب إلى القفال: أن ذكر التتابع مع تعيين السنة لغو، وهو ما أورده القاضي الحسين. وقال في "البحر": إنه غلط. فرع: هل يجوز تقديم الصوم المعين وقته بالنذر، على وقته، وتأخيره عنه من غير عذر؟ والمشهور لا. وحكى الإمام وجهاً عن طوائف من الأئمة- منهم الصيدلاني-: أنه يجوز تقديمه عليه وتأخيره عنه؛ قياساً على ما لو عين له مكاناً. وقال: إنه منقاس، وهو جار فيما لو نذر حجاً في سنة بعينها، أو صلاة في وقت مخصوص. وفي "الحاوي": أنه إذا عين للصلاة وقتاً- كيوم الخميس- فإن قصد به تفضيل ذلك الزمان، يجوز أن يصلي في يوم الأربعاء ويوم الجمعة؛ لأنه لا فضل ليوم الخميس. وإن قصد به أن يجعله وقتاً للنذر لا يجوز قبله. وإن كان لذلك الوقت الذي خصها به فضيلة على غيره: كليلة القدر، فقال: "لله علي أن أصلي ليلة القدر"- فلا تجزئه الصلاة في غيرها، ويلزمه أن يصليها في كل ليلة من ليالي العشر الأخير من رمضان؛ ليصادفها في إحدى لياليه؛ كما إذا نسي

صلاة من الخمس، ولم يعرف عينها، فإن لم يصلها في ليالي العشر كلها، لم يقضها إلا في مثله. وقد فرع إبراهيم المروزي على الصحيح- وهو تعين الوقت- إذا نذر صوم يوم خميس، ولم يعين: أنه يصوم أي خميس شاء، ويخرج عن النذر، وإذا مضى خميس، استقر في ذمته، حتى يفدي عنه إذا مات قبل أن يصوم. ولو نذر صوم يوم من الأسبوع، والتبس عليه، قال الرافعي: ينبغي أن يصوم يوم الجمعة؛ فإنه آخر يوم في الأسبوع، فإن كان هو الذي عينه، فقد أتى بما التزم، وإن كان يوماً قببله كان صومه قضاء. قلت: ويجوز أن يقال: يلزم صوم جميع أيام الأسبوع؛ عملاً بما قاله الماوردي. ثم على الصحيح في التعين يجوز أن يوقع فيه صوماً آخر، وسواء فيه الفرض والتطوع والنذر؛ كما يدل [عليه] ما سنذكره من النص. وفي "التهذيب" وجه آخر: أنه لا ينعقد فيه صوم غيره؛ كما في أيام رمضان. أما إذا نذر صوم سنة، ولم يعينها، بل أطلق؛ فإنه يلزمه صوم اثني عشر شهراً، ولا يجب عليه أن يبتدر إلى الصوم، بل يستحب، وله أن يصومها يوماً يوماً، وشهراً شهراً، فإن صام بالأيام [لزمه ثلاثمائة وستون يوماً، وإن صامها شهراً شهراً] لزمه اثنا عشر شهراً. ثم إن صام ما بين الهلالين، حسب له شهراً، سواء كان كاملاً أو ناقصاً، ولو أفطر في شهر يوماً، قضاه إن كان كاملاً، وقضاه مع يوم آخر إن كان ناقصاً؛ لأن صومه فيه انقلب إلى الأيام، وهكذا نقول فيما إذا صام شوال، يلزمه يوم إن كان تاماً، ويومان إن كان ناقصاً، وفي ذي الحجة يلزمه أربعة أيام إن كان تاماًوخمسة إن كان ناقصاً؛ وهذا إذا قلنا: إنه يلزمه بدل صوم أيام العيد والتشريق ورمضان؛ كما هو المنقول في كتب العراقيين. أما إذا قلنا: إنه لا يلزمه بدل ذلك؛ كما قاله القاضي أبو الطيب من عند نفسه، ولم يورد القاضي الحسين سواه؛ قياساً على المسألة قبلها- فيظهر أن يقال: إذا كان شوال أو ذو الحجة تاماً أو ناقصاً فصامه، حسب له شهراً كاملاً. ووراء ما ذكرناه أوجه:

أحدها: قال في "البحر": إن بعض أصحابنا قال: لو ابتدأ في هذه السنة التي ذكرناها من المحرم إلى المحرم، يقال: صام سنة، فالقياس: ألا يلزمه قضاء هذه الأيام، وإن كان ظاهر المذهب بخلافه؛ وهذا ما حكاه الإمام عن الصيدلاني [و] قال: إنه زلل وغفلة. وفي الرافعي- حكاية عنه- أنه قال: إذا صام من المحرم إلى المحرم، أو من آخر شهر إلى مثله- خرج عن نذره لأنه يقال: إنه صام سنة، ولا يلزمه قضاء رمضان وأيام الفطر. وعن ابن القطان: أنه إنما يخرج عن النذر بصوم ثلاثمائة وستين يوماً؛ لأن السنة تنكسر- لا محالة- بسبب رمضان وأيام الفطر، وإذا انكسرت، وجب أن يعتبر العدد؛ كما في الشهر إذا انكسر. وعلى كل حال فلا يلزم التتابع في صومها إلا أن يشترطه، فإذا اشترطه، فقال: "لله علي صوم سنة متتابعة"، لزمه، ولا يسقط عنه بدل أيام العيد والتشريق ورمضان [وأيام الحيض، بل يأتي به. وقال القاضي أبو الطيب: هذا عندي غلط، ولا يجب قضاء أيام العيد والتشريق ورمضان]؛ لأنه لا يمكنه أن يصوم سنة متتابعة لا يتخللها ذلك؛ فيكون بمنزلة السنة المعينة؛ وهذا حكاه المتولي مع الأول وجهين، وجعل أظهرهما ما ذكره القاضي. لكن المنصوص، والذي عليه أكثر الأصحاب مقابله؛ لأنه التزم صوم سنة، ولم يصم عما التزم سنة، ويخالف ما إذا كانت السنة معينة؛ لأن المعين في العقد لا يبدل بغيره، والمطلق إذا عيب قد يبدل، وشبه ذلك بأن المبيع إذا خرج معيباً لا يبدل، والمسلم فيه إذا سلمه فخرج معيباً، يبدل. ولو شرط التفريق، فيجوز له التفريق. وفي إجزاء صومها متتابعاً وجهان، في "الحاوي" وغيره. وقال الإمام: إنهما ينبنيان على اختلاف القول في أن التفريق في صوم التمتع بين الثلاثة والسبعة هل يجب إذا فاتت الثلاثة؟ ثم قال: والأولى عندنا تقريب الوجهين من الوجهين في أن الأوقات: هل تتعين

للصيام إذا عيّنت؟ فإن قلنا: تتعي، لم يبعد حمل استحقاق التفريق عليه؛ كما لو قال: "لله علي صوم الأثانين"؛ فإنه يصومها على صفة التفريق؛ وهذا تكلف؛ فإن الذي يعين الأوقات مجرد قصده إلى معين، والذي يذكر التفريق، ليس تعين الأزمنة في باله وقصده؛ وللك كان الأصح أن التفريق لا يلزم، والأصح أن الأوقات تتعين إذا عينت. والذي اختاره ابن كج والبغوي وغيرهما وجوب التفريق، وقالوا: لو نذر صوم عشرة أيام متفرقة فصامها متتابعة، حُسِبَ له منها خمسة أيام. ولو شرط صوم هذه السنة، لم يتناول نذره إلا السنة الشرعية، وهي من المحرم إلى المحرم، فإن كان قد مضى منها شيء، لم يلزمه غير صوم الباقي، فإن كان فيه رمضان، لم يلزمه قضاؤه عن النذر، وكذا أيام العيد والتشريق، وكان فيقضاء أيام الحيض والمرض والسفر ما ذكرناه في نذر صوم سنة معينة، والله أعلم. قال: وإن نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، لم يصح نذره في أحد القولين؛ لتعذر الوفاء به؛ لأنه إن قدم ليلاً فهو إنما نذر صوم اليوم، وإن كان قد أراد باليوم الوقت، فالليل لا يقبل الصوم، وإن قدم نهاراً فالنية لم توجد من الليل، ولا تجزئه نية من النهار؛ لخلو بعضه عنها. وأيضاً: فإن نذره تضمن نذر صوم زمان ماضٍ، وهو ما قبل القدوم، ونذر صوم ما مضى من الزمان لا يصح. دليله: ما لو قال: "لله علي صوم أمس اليوم الذي يقدم فيه فلان"؛ فإنه لا يصح قولاً واحداً، وإن كان لابن الصباغ احتمال في إجراء القولين فيه، وإذا كان صومه متعذراً، لم ينعقد النذر [به؛] كما لو نذر الحج في سنة معينة، ولم يبق من الوقت ما يتمكن من السير فيه لأدائه؛ فإنه لا ينعقد على ظاهر المذهب، وإن كان في لزوم كفارة اليمين بهذا النذر خلاف؛ كما تقدم مثله؛ وهذا القول مختار الشيخ أبي حامد. قال: ويصح في الآخر؛ لأنه نذر صوماً يمكنه فعله؛ لأنه إذا أخبر أنه يأتي في يوم، فنوى من ليلته، صح ذلك، وما أمكن صومه، صح نذره؛ كصوم غد [اليوم]

الذي يقدم فيه فلان؛ فإنه يصح قولاً واحداً؛ وهذا ما صححه الماوردي، والقاضيان: أبو الطيب والروياني، والنواوي، وصاحب "المرشد"، وقال البندنيجي: إنه اختيار الشافعي، وكذا المزني، وأنه وجهه بأنه قد يجب الصوم في زمان لا يمكن فعله فيه؛ كالصبي يبلغ في أثناء اليوم؛ فيلزمه قضاؤه، وكذلك المغمى عليه. وعلى هذا قال الشيخ: فإن قدم في أثناء النهار، أي: أخبر بقدومه في أثناء النهار من الليل، نوى صومه، أي: من الليل، ويجزئه؛ لوجود شرط الصوم، وهو النية من الليل، وصحت اعتماداً على الظن؛ كصوم يوم الثلاثين من رمضان وقد وقع الشك في رؤية الهلال. وقد قاس بعضهم هذا على ما لو نوى الصبي الصوم من الليل، ثم بلغ في أثناء النهار؛ فإنه يجزئه صومه على ظاهر المذهب، وكذلك من شرع في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه، فإنه يصح على ظاهر المذهب كما قال الرافعي، وادعى الإمام فيه الوفاق؛ ويلزمه إتمامه. والقائلون بالقول الأول منعوا صحة الصوم فيما إذا نوى من الليل وقد أخبر بالقدوم في الغد؛ لأمرين: أحدهما: أنه لم يقطع بالنية؛ لأن من المحتمل أن يقدم وألا يقدم، ومن شرط النية الجزم، وقد حكي هذا عن القفال، والقاضي الحسين نسبه إلى الشيخ أبي زيد. وقال الماوردي: إنه قياس قول ابن أبي هريرة، ويخالف ما لو نوى الصوم [في] ليلة الثلاثين من رمضان؛ لأن الظن الحاصل ثم من أن الأصل بقاء الشهر، لم يعارضه شيء، وهاهنا الظن الحاصل من الإخبار قد عارضه أن الأصل عدم القدوم. والثاني: أن ما يصومه من اليوم قبل القدوم يكون تطوعاً؛ فلا يجزئه عما وجب جميعه بالنذر؛ لأن قوله: "فعلي صوم ذلك اليوم" يقتضي [إيجاب] صوم جميعه؛ وبهذا خالفما لو نوى الصبي الصوم من الليل، ثم بلغ في أثناء النهار، وما إذا شرع في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه؛ لأنه إنما وجب بالبلوغ والنذر البقية. وقد خص المتولي محل الخلاف في [صحة] صوم يوم القدوم إذا نواه من الليل بما إذا قلنا: إن نذره يقتضي إيجاب صوم جميع النهار.

أما إذا قلنا: لا يقتضي إلا إيجاب الصوم من حين القدوم، لا ما مضى من اليوم قبله، فلا يصح وجهاً واحداً؛ لأن سبب الوجوب لم يوجد في أول النهار، حتى ينوي إيقاع الصةوم فيه عن الواجب، وما ذكره من الترتيب هو ما أورده العراقيون. وأما المراوزة، فقد اختلفوا في أصل القولين في صحة نذر يوم القدوم: فمنهم من قال: أصلهما [أنه] لو نذر صوم بعض [يوم، هل يصح نذره؟ وفيه قولان؛ أصحهما: أنه لا يصح؛ لأن صوم بعض] اليوم ليس بقربة؛ فعلى هذا لا يصح نذره في مسألة الكتاب. والثاني: أنه يصح، ويلزمه صوم يوم؛ لأنه يتضمنه؛ فعلى هذا يصح نذره في مسألة الكتاب. وعن الإمام: أنه لا يصح نذره في مسألة الكتاب على هذا أيضاً؛ لأنه التزم يوماً في بعض يوم، وذلك محال؛ فيلغو. وقد جعل المتولي انعقاد نذر بعض اليوم مبنياً على أن المتنفل إذا نوى الصوم نهاراً يكون صائماً من وقت النية، أو من ابتداء النهار؟ إن قلنا: من وقت النية، انعقد نذره، وإن قلنا: من ابتداء النهار- كما هو الأظهر- فوجهان: أحدهما: لا ينعقد؛ لما ذكرناه أولاً. والثاني: ينعقد؛ لأنه قد ورد الأمر بإمساك بقية النهار؛ كما فيحق من أصبح مفطراً يوم الشك، ثم بان أنه من رمضان. ومنهم من قال: أصلهما: ما إذا قدم زيد في خلال النهار، هل يستند النذر إلى أول النهار أم لا؟ [و] فيه قولان: فإن قلنا بالأول، لم يصح؛ لما ذكرناه. وإن قلنا بالثاني، صح. ومثل القولين في هذه الصورة يجري فيما لو قال لعبده: "أنت حر يوم قدوم فلان"، أو [قال] لزوجته: "أنت طالق يوم قدوم فلان"، فقدم في أثناء النهار، فهل يستند العتق والطلاق إلى أول اليوم أو إلى وقت قدومه. وتظهر فائدتهما فيما لو كان قد باع [العبد] المعلق عتقه في ذلك اليوم قبل القدوم، وانقضى الخيار قبل القدوم، أو أعتقه عن الكفارة فيه قبل القدوم، أو مات

السيد فيه قبل القدوم، أو خالع زوجته فيه وكان الطلاق المعلق ثلاثاً أو قبل الدخول؛ فعلى الأول نتبين وقوع العتق، وبطلان البيع، وعدم الإجزاء عن الكفارة، والانتقال للوارث، وعدم صحة الخلع؛ وبه قال ابن الحداد. وعلى الثاني لا يقع العتق، ويصح البيع، ويجزئ عن الكفارة، ويصح الخلع. وقد بقي من التفريع على القول الثاني في مسألة الكتاب صور: منها- كما قال الشيخ-: وإن كان مفطراً، لزمه القضاء؛ كما لو نذر صوم يوم معين، ففاته؛ فإنه يجب عليه القضاء؛ قياساً على صوم رمضان. قال الرافعي: وكيف ذلك؟ أنقول: يلزمه بالنذر الصوم من أول اليوم؟ أو نقول: يلزمه من وقت القدوم؟ فيه وجهان، ويقال: قولان: أصحهما- وبه قال ابن الحداد – الأول. ووجه الثاني: أنه علق الالتزام بالقدوم، وبكونه في النهار، إلا أن صوم بعض اليوم لا يمكن؛ فيلزمه صوم يوم تام. قال في "التهذيب" وليس هذا كما إذا نذر صوم بعض يوم؛ حيث لا ينعقد نذره على ظاهر المذهب؛ لأنه نذر هاهنا صوم يوم، لكن شرط الوجوب حصل في البعض؛ فهو كما لو شرع في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه، يلزمه على ظاهر المذهب، ويكون واجباً من حين نذر؛ كما في جزاء الصيد يصوم عن كل مُدِّ يوماً وإن فضل نصف مد يصوم يوماً تاماً، والواجب فيه نصف يوم. وعلى هذا الخلاف [خرج] ما لو نذر أن يعتكف اليوم الذي يقدم فيه فلان؛ فإنه لا خلاف في انعقاد نذره، ثم إن قدم ليلاً، لم يلزمه شيء، وإن قدم في أثناء النهار، لزمه اعتكاف باقيه، وهل يلزمه قضاء ما فات منه؟ إن قلنا بالأول لزمه، وإن قلنا بالثاني فلا؛ وهو ما ادعى في "المهذب" أنه المذهب، وقال فيما لو قدم فلان والناذر محبوس أو مريض: إنه يلزمه القضاء على المنصوص؛ خلافاً لأبي حامد وأبي علي الطبري. وقال الصيدلاني: إن قلنا بالأول، وقد قدم في أثناء النهار، اعتكف باقيه، أو يوماً مكانه؛ وهذا ما قاله؛ بناء على أن الزمان المعين للاعتكاف لا يتعين، والظاهر التعين.

وقد حكى الإمام عن رواية شيخه: أن من أصحابنا من لم يوجب الاعتكاف في بقية النهار؛ تخريجاً من أن النهار إذا نذر اعتكافه لا يجوز تبعيضه بتفريق الساعات، وهو قد ذكر اليوم، واعتكاف يوم بعد قدومه غير ممكن إلا على نعت التقطع. ثم اعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون إفطاره لعدم نية صدرت منه من الليل، وهو ممسك، أو لمباشرة ما يفطر به الصائم؛ لأنه مفطر في الصورتين شرعاً، وقد صرح القاضي أبو الطيب بذلك في حالة الإمساك، ومنه يظهر لك: أن مراد الشيخ بالمسألة الأولى ما ذكرناه، وإلا لكانت المسألتان واحدة. فإن قلت: هذا ظاهر فيما إذا كان قد باشر ما يفطر به الصائم على أن فيه شيئاً على بعد. أما إذا كان ممسكاً ولم ينو من الليل، فلم لا يُخَرَّج على الخلاف المشهور في أن النذر المطلق يحمل على أقل واجب في الشرع أو جائزه؟ فإن قلنا: يحمل على واجبه- كما اختاره العراقيون والروياني وغيرهم- فالأمر كذلك، وإن قلنا: على جائزه- كما هو الصحيح عند الإمام والغزالي- فينبني على أنه إذا قدم في أثناء النهار: هل يلزمه الصوم من أول النهار أو من حين القدوم؟ فإن قلنا بالأول، انبنى أيضاً على أن النية تنعطف على ما مضى في صوم التطوع أو لا تنعطف؟ فإن قلنا بالثاني، فالأمر كذلك، وإن قلنا بالانعطاف على ما مضى أو بعدمه؟ وقلنا: إن الوجوب يكون من حين القدوم؛ فينبغي أن ينوي صومه، ويجزئه، ولا يسمح له في تأخير ذلك؛ لتعين الوقت. قلت: قد أطلق الغزالي القول بأن الصوم المنذور هل يصح بنية من النهار؟ إن قلنا: مطلق النذر يحمل على الواجب الشرعي، لم يجزئه، وإلا أجزأه، وصحح الإجزاء. وقال الرافعي: إن هذا إذا نذر مطلق الصوم، أما إذا نذر صوم يوم أو أيام، فإن قلنا: إنه يسلك به مسلك جائز الشرع، انبنى على أصل آخر، وهو أن النية تنعطف على أول النهار كما هو الظاهر أو لا؟ فإن قلنا بالأول، أجزأه، وإلا فلا، وعزا هذا إلى الإمام.

والذي رأيته في أوائل كتاب النذر من "النهاية" حكاية ذلك في الصورتين، وجزم في موضع آخر منه: أنه إذا قال: "لله علي صوم [يوم] " أنه لا يكفيه أن ينوي نهاراً وإن قلنا: المتطوع لو نوى نهاراً، انعطفت النية؛ ولأجل هذا ادعى في "البسيط"- كما قال مجلي- قطع الأصحاب بعدم الإجزاء. وقد حكى ابن يونس أن بعض الأصحاب قال: بإجزاء الصوم في مسألة الكتاب خاصة بنية من النهار، وأن على هذا يمكن حمل كلام الشيخ في المسألة السابقة. فرع: هل يجب على الناذر الإمساك في هذا النهار؛ تشبهاً بالصائمين؟ فيه طريقان: إحداهما- وهي التي أوردها الإمام والقاضي الحسين والماوردي- القطع بالمنع. قال الماوردي: لكن يستحب له الإمساك؛ كما لو قدم المسافر في يوم من رمضان، قد أفطر في أوله، استحببنا له أن يمسك في بقيته وإن لم يجب عليه الإمساك. وحكى الروياني ومجلي عن بعض المراوزة: أنا إن قلنا: يجب القضاء؛ وجب، وإلا فلا. وقال الغزالي: قد أطلق الأصحاب القول في هذا الفرع، وظني: أنه إنما يجب الإمساك إذا كان كان لم يأكل، فأما إذا كان قد أكل، فكيف يلزمه الإمساك وهو من خصائص رمضان؛ وهذا ما اقتضاه كلام أبي الطيب؛ فإنه قال: "إذا قدم نهاراً أو كان مفطراً، ولم يطعم ذلك اليوم- أمسك يومه وقضى". قال: وإن وافق ذلك رمضان، لم يقض؛ لأنه لو نذر صوم يوم من رمضان، لم ينعقد نذره؛ لتعينه للصوم عن رمضان، وعدم قبوله لغيره، وقد بينا أن النذر وقع فيه؛ فلم يصح، وإذا لم يصح، لم يلزمه القضاء؛ وهذا ما حكاه الماوردي، وألحق به ما إذا قدم وكان صائماً عن نذر تعين عليه فيه؛ لتقدم استحقاقه، وحكى وجهين في لزوم القضاء إذا وافق قدومه صيامه عن قضاء رمضان أو عن كفارة: أحدهما- وهو قول أبي إسحاق-: أنه يلزمه القضاء، ويستحب له مع ذلك أن يعيد يوماً آخر؛ لأجل الاعتداد بيوم القدوم عما نواه، واستحباب الإتيان بيوم آخر محكي عن الشافعي في غيره؟ لأنه صام يوماً مستحق الصوم؛ لكونه يوم القدوم، قال في

"التهذيب": وفي هذا دليل على أنه إذا نذر صوم يوم بعينه، ثم صامه عن قضاء، أو [عن] نذر آخر: أنه ينعقد، ويقضي بدل هذا اليوم. والثاني- وهو قول ابن أبي هريرة-: أنه يستحب القضاء، ولا يجب، والله أعلم. قال: وإن وافق يوم عيد- أي: وما في معناه من أيام التشريق- قضاه في أصح القولين؛ لأن نذره قد انعقد على طاعة، وكان يجوز ألا يصادف يوم العيد ونحوه؛ فلزمه قضاؤه، لانعقاد النذر؛ وهذا نظير ما نص عليه الشافعي في كتاب الصيام فيما إذا نذر صوم يوم الاثنين أبداً، فوافق يوم الاثنين يوم عيد: أنه يلزمه قضاؤه. والقول الثاني: لا يلزمه القضاء؛ كما لو وافق ذلك رمضان؛ وهذا ما أورده البندنيجي حكاية عن النص في "الأم" لاغ ير، ولم يورد الرافعي سواه، وصححه ابن الصباغ والنواوي وغيرهما؛ كما سنذكره، وهو نظير ما نص عليه الشافعي- أيضاً- في النذر فيما إذا نذر صوم يوم الاثنين أبداً، وكان يوم الإثنين يوم عيد: أنه لا يلزمه القضاء؛ كما اختاره المزني، وصححه البندنيجي، واختاره في "المرشد". فإن قلت: ما ذكره من علة وجوب القضاء في هذه المسألة موجود فيما إذا وافق ذلك رمضان، وقد جزم الشيخ بعدمه فما الفرق؟ قلت: [قد] يتخيل بينهما فرق، وهو أن احتمال القدوم في يوم من شهر أغلب من احتمال وقوع يوم في يوم أو أربعة أيام؛ فلا يلحق أحدهما بالآخر؛ وهذا لا أثر له. وقد جعل البندنيجي عدم إيجاب القضاء فيما إذا وافق ذلك رمضان مقيساً على ما إذا وافق يوم عيد؛ وهذا يدل على عدم الفرق بينهما؛ فيكون القولان عند من يثبتهما في الجميع؛ ويدل على ذلك: أن الأصحاب قالوا: لو نذر أن يصوم يوم يقدم فلان أبداً، فقدم في يوم الإثنين، كان في صحة نذره يوم القدوم القولان، ويلزمه صوم كل إثنين بعد ذلك، إلا الأثانين الأربعة الواقعة في رمضان، ولو وقع فيه اثنين خامس، ففي وجوب قضائه قولان، كما لو وقع يوم عيد. ولو كان الناذر لصوم يوم القدوم امرأة، فصادف القدوم يوم حيضها أو نفاسها؛ ففي قضائه طريقان، حكاهما الروياني وغيره.

قال الأكثرون- ومنهم أبو الطيب، وابن كج، وابن الصباغ، والإمام، والمتولي-: فيه قولان؛ كما في العيد. قال الرافعي: والمفهوم من كلام هؤلاء ترجيح [المنع. وقال الشيخ أبو حامد: الأصح من] القولين هاهنا لزوم القضاء، وفيما إذا وافق يوم العيد عدمه. وفرق بأن يوم العيد لا يصح صومه في حق كل الناس، وزمان الحيض يختص بها، وتبعه في ذلك البندنيجي والماوردي. وقال ابن الصباغ: هذا الفرق ضعيف، لأن الشرع حرم عليها صوم زمان الحيض كزمان العيد؛ ولهذا لو نذرت صوم الزمانين، لم ينعقد نذرها. وقال بعضهم: يجب القضاء هاهنا قولاً واحداً لأن النذر يسلك به مسلك واجب الشرع، وهو إذا فات بالحيض والنفاس يقضي. قال في "البحر": ومنهم من قال: إن قلنا بقضاء يوم العيد، فقضاء يوم الحيض أولى؛ وإن قلنا: لا يقضي يوم العيد؛ ففي قضاء يوم الحيض قولان؛ وهذه الطريقة يمكن أخذها مما قاله الشيخ في هذه المسألة، ومسألة ما إذا نذرت صوم سنة بعينها، والله أعلم. ومن المسائل المفرعة على القول بصحة نذر يوم القدوم: أنه لو قدم ليلاً، فلا يلزمه شيء، قال الشافعي: "وأحب أن يصوم من الغد؛ من أجل أنه قصد ذلك بنذره". ومنها: إذا قدم وكان صائماً عن تطوع، فالمشهور: أنه لا يجزئه عن نذره، ويقضيه، ويتخير في إتمامه، والفطر فيه، مع قولنا بأنه لا يجب الإمساك فيه إذا قدم وكان مفطراً. وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر: أنه يلزمه إتمام صيامه؛ لأنه قد كان عند الله مستحقاً في نذره. وفي "التهذيب": أنا إن قلنا: إنه وجب عليه صوم جميع النهار، لا يجزئه عن النذر، ويجب عليه القضاء، ويستحب أن يمسك بقية النهار. وإن قلنا: إنما وجب عليه الصوم من حين القدوم، فهل يجب عليه القضاء إذا كان

القدوم قبل الزوال؟ فيه وجهان، أصحهما: نعم. والثاني: لا يجب، وينوي أن يتمه عن النذر. وقال في "التتمة": إنا إذا قلنا: إنما وجب الصوم من حين القدوم، انبنى على أنه هل يجوز أن ينذر بعض يوم؟ إن قلنا: - يجوز؛ فينوي إذا قدم، ويكفيه ذلك، ويستحب أن يعيد يوماً كاملاً؛ للخروج من الخلاف. وإن قلنا: لا يجزئه؛ فلا شيء عليه، ويستحب أن يقضي. واعلم أن ما ذكرناه مفرع على الصحيح من المذهب: أنه إذا نذر صوم يوم بعينه: أنه يتعين صومه؛ حتى لا يجوز تقديم الصوم ولا تأخيره عنه مع القدرة، فإن أخر كان قضاء. أما إذا قلنا: إنه لا يتعين- كما تقدم ذكره- فقد يقال: إنه يصح النذر وجهاً واحداً. وإذا وافق قدومه رمضان، أو يوم عيد، أو وقت حيض: أنه يلزمه صيام يوم [واحد] وجهاً واحداً؛ كما لو قال: "لله علي صوم يوم إذا قدم فلان"، إلا أنه يلزم على ذلك- لو صح- أن يقال إذا نذر صوم يوم من رمضان أو يوم عيد: إنه ينعقد نذره بيوم، ولم أره، وقد يفرق بما ذكرناه عن الماوردي عند الكلام في لزوم قضاء أيام الحيض، وقد نذرت صوم سنة بعينها. فرع: لو نذر صوم الأثانين أبداً، وقلنا بالتعين، ووجب عليه صيام شهرين في الكفارة، فإن سبق النذر وجوب الشهرين، فالأولى أن يصوم الأثانين التي فيها عن كفارته، واذا فعل ذلك، فعليه أن يقضي كل إثنين كان فيها؛ كذا أطلقه الإمام. ويجيء فيه وجه آخر: أنه لا يصومها عن الكفارة، بل عن النذر؛ لأن صاحب "التهذيب" حكى وجهاً تقدم ذكره: أنه إذا عين يوماً بالنذر لا ينعقد فيه صوم آخر؛ كما في أيام رمضان. فإن قلت: هذا يلزم منه ألا يتصور أن يقع منه صوم عن الكفارة؛ لأن من شرطها التتابع، وصوم الأثانين المنذورة يقطع التتابع كرمضان. قلت: بل يتصور؛ لأن عدم التصور جاء من إلحاق الأثانين برمضان، وليس كذلك؛ لأن صوم الشهرين يتصور أن يقع في وقت لا يتخلله رمضان؛ فلذلك قطع التتابع،

والشهران- والصورة هذه- لا يتصور إيقاعهما خاليين- من الأثانين؛ فكان إلحاق الأثانين بأيام الحيض أولى؛ لأن الحيض قد لا يقع فيهما، بخلاف الأثانين. وإن سبق وجوب الشهرين النذر، فإنه يصوم الشهرين عن كفارته، ويؤخر النذر. والمذهب- كما قال في "المهذب" والبندنيجي-: أنه يقضي كل إثنين فيهما. وقال الرافعي: إنه ينسب إلى رواية الربيع، وهو الأصح عند صاحب "التهذيب". قال في "المهذب": ومن أصحابنا من قال: لا يقضي ما كان في الشهرين؛ لأنه نذر صوم يوم قد استحق صيامه، فهو كأثانين رمضان؛ وهذا ما حكي عن رواية الربيع. قال في "البحر": وقد قيل: إنه المذهب، وهو الذي رجحه الإمام ومن تبعه، وكذا القاضيان: ابن كج وأبي الطيب؛ كما قال الرافعي. وقال البندنيجي: إنه سهو؛ فإن أثانين رمضان لا يصح صومها عن نذره؛ لأنه لا يصح في رمضان صوم غيره، وأثانين الشهرين يصح أن يصومها عن نذره؛ ولهذا قضاها. قال البندنيجي: وأصل هذا إذا نذر صوم يوم, وذلك اليوم مستحق صيامه لغيره، فإن كان مستحقاً لرمضان لم ينعقد نذره قولاً واحداً، وإن كان مستحقاً لغير رمضان: كالكفارة، والنذر السابق لهذا النذر، فهل ينعقد نذره [به] أم لا؟ على وجهين: المذهب: أنه ينعقد. وقد فهم من هذا أن محل الخلاف في النذر إذا لم يكن تعلق بوقت معين؛ كما في الكفارة؛ فإن الصوم الواجب فيها ليس له زمن معين، أما إذا تعين صوم يوم بالنذر، فقد قال في "التتمة": إن ذلك ينبني على أنه هل يجوز أن يصوم فيه عن قضاء أو نذر؟ [و] فيه خلاف سبق. فإن قلنا: يجوز، فهو كما لو تعين، وإن قلنا: لا يجوز، فحكمه حكم رمضان. قال الرافعي: وهذا ما رآه صاحب "التهذيب". قال: ومن نذر صلاة، أي: بأن قال: "إن شفى الله مريضي، فلله علي صلاة"، لزمه ركعتان في أصح القولين؛ لأن إيجاب الآدمي على نسفه كما تقدم فرع لإيجاب الله

تعالى، وأقل ما أوجب الله – تعالى- من الصلاة فعل ركعتين، وهي صلاة الصبح، والصلاة في السفر، وإذا كان أقل الصلاة ركعتين كذلك هنا لا يجزئه أقل منهما؛ وهذا ما نقله المزني؛ ولأجله قال البندنيجي: إنه المذهب. قال: وركعة في القول الآخر؛ تنزيلاً على أقل جائز الشرع، وهو الوتر؛ قال- عليه السلام-: "من أحبَّ أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بركعة فليفعل". ولأنا أجمعنا على أنه يثاب على الركعة الواحدة إذا سلم منها؛ لأنه يسمى: مصلياً؛ كما إذا صلى ركعتين؛ فوجب أن يخرج عن نذره بها؛ وهذا ما حكي عن رواية الربيع مع القول الأول. قال الرافعي: ويقال: إنه القديم. وقال الماوردي: إنه منفرد بنقله، وقد صححه الغزالي، وإليه ميل ابن الصباغ؛ فإنه قال: وما ذكره الأولون: يبطل بالصوم؛ فإن أقل ما وجب بالشرع صوم ثلاثة أيام، ولا يجب ذلك بمطلق النذر. والجمهور على ترجيح الأول؛ لأن حمل الشيء على نظيره أولى من حمله على غير نظيره، ونظير [إيجاب] الآدمي إيجاب الله تعالى؛ ولأن الوتر تابع للواجب، وإطلاق الصلاة ينصرف إلى الشرع الذي هو الواجب دون التابع. وأما قول ابن الصباغ: إن ذلك يبطل بالصوم .. إلى آخره فيظهر أن يقال في جوابه: بل أوجب أقل من ثلاثة أيام، وذلك يتصور في جزاء الصيد، اللهم إلا أن يريد أنه أقل صوم وجب بالشرع نصاً؛ فحينئذ يمنع هذا الجواب؛ على أن الماوردي قال لأجل ذلك: لو قيل: يلزمه ثلاثة أيام كان مذهباً، والمذهب أنه لا يلزمه إلا يوم واحد؛ لأنا لا ننظر إلى الواجب شرعاً، وإنما ننظر إلى اللفظ الشائع في الشرع. وقال الرافعي: إنه يجيء فيه وجه آخر: أنه يخرج عن نذره بإمساك بعض يوم؛ على أن النذر يحمل على أقل ما وجب من جنسه، وأن إمساك بعض اليوم صوم. وقد استنبط الأصحاب من القولين في مسألة الكتاب، ومن القولين الماضيين في أنه إذا نذر الهدي، وأطلق، ماذا يلزمه؟ أن مطلق النذر يحمل على أقل واجب في

الشرع، أو على أقل جائز في الشرع؟ [فيه] قولان، والذي رجحه العراقيون والروياني وغيرهم- كما تقدم- الأول. قال الرافعي: ويدل عليه ما تقدم: أن الصحيح أنه لا يجوز أن يجمع بين فريضة ومنذورة، ولا بين منذورتين بتيمم واحد. والذي رجحه الإمام والغزالي: الثاني، ثم استدل له بأنه لو نذر أن يتصدق، خرج عن نذره بما يقع عليه الاسم، وإن كان من غير أموال الزكاة باتفاق الأصحاب. وقد يجاب عن ذلك بما ذكره الرافعي حيث قال: إن الأصحاب قالوا: لو نذر الصدقة، أجزأه ما يقع عليه الاسم ولو حبة؛ لأن ذلك القدر يحل شرعاً عند اختلاط المال، لكن هذا إنما يستمر على قولنا بتأثير الخلطة في النقود. ثم لك أن تقول: إذا حملنا المطلق على الواجب، فإنما نحمله على أقل واجب من ذلك الجنس، والأقل من الصدقة غير مضبوط جنساً وقدراً، بل صدقة الفطر أيضاً واجبة، وليس لها قيمة مضبوطة؛ فامتنع إجراء هذا القول في الصدقة، ويتعين اتباع اللفظ، والله أعلم. التفريع على القولين في مسألة الكتاب: إن قلنا بالأول، فلا يجوز أن يصلي الركعتين قاعداً إلا أن يعجز، ولا على الراحلة، وله أن يصلي أربع ركعات، بل لو نذر أن يصلي ركعتين، جاز له أن يصلي أربعاً، ويجزئه؛ كما قال في "التهذيب"؛ تفريعاً على هذا القول. وفي "التتمة" حكاية وجهين في إجزائها في الصورة الأخيرة من غير بناء. وقال الرافعي: إنه يمكن بناؤها على أن النذر يحمل على أقل واجب الشرع أو جائزه. وإن قلنا: بالقول الثاني، جاز أن يصلي الركعة قاعداً؛ كما صرح به البغوي، ويجوز فعلها على الراحلة، وحكى الرافعي في جواز القعود فيها وجهين. وقد خرج على القولين- أيضاً- ما إذا نذر أن يصلي أربع ركعات، فإن قلنا

بالقول الأول، أمر بتشهدين، فإن ترك التشهد الأول، سجد للسهو، ولا [يجوز أن] يؤديها بتسليمتين. وإن قلنا بلاثاني، يخير بين أدائها بتسليمة واحدة أو بتسليمتين، وأداء ذلك بتسليمتين أفضل؛ وهذا ما صححه النواوي في "الروضة"، وقال: الفرق بينه وبين سائر المسائل المخرجة على هذا الأصل- وقوع الصلاة مثنى وزيادة. وقد فهم من حكاية الشيخ القولين: أنه لا يخرج عن نذره صلاة على القول الثاني بأقل من ركعة؛ لأن سجدة التلاوة والشكر وإن اعتبر فيها شروط الصلاة لا تسمى صلاة؛ وهذا كله عند الإطلاق، فلو قيد، فقال: "لله علي أن أصلي ركعة"، لم يلزمه غيرها، وكذا لو نذر أن يصلي قاعداً، لم يلزمه القيام، وإن قيدنا المنذور بواجب الشرع. وقال الإمام: إنه يجب تنزليهما على [الخلاف] فيما إذا أصبح [الشخص] ممسكاً عن المفطرات غير ناوٍ للصوم، فقال: "لله علي صوم هذا اليوم"، فإنه هل يلزمه الوفاء؟ على وقولين مأخوذين من تنزيل المنذور على واجب الشرع، فإن نزلناه عليه، لم

يصح النذر كذلك، وإن نزلناه على ما يجوز في الشرع وإن لم يكن فرضاً، صح. ووجه الشبه: أن نذر الصوم نهاراً حيث يجوز التطوع بالصوم بالإضافة إلى الصوم الواجب شرعاً، بمثابة الركعة بالإضافة إلى أقل واجب في الصلاة. ولو نذر ركوعاً أو سجوداً أو تشهداً أو دون ركعة، فهل يلغو نذره أو يصح؟ فيه وجهان: اختيار الشيخ أبي محمد منهما في السجود الأول؛ لأن السجدة الواحدة من غير سبب ليست قربة على الرأي الظاهر. وعلى الثاني: قال الإمام: يجب عليه أن يأتي بما يأتي به الناذر للصلاة المطلقة، وفيه الخلاف السابق. وفي "التتمة" فيما إذا نذر دون ركعة: أنه يلزمه ركعة واحدة؛ إن أراد أن يأتي بالمنذور منفرداً؛ أو إن اقتدى بإمام بعد الرفع من الركوع في الأخيرة خرج عن نذره. وقال فيما إذا نذر الركوع: يلزمه، وفيما إذا نذر تشهداً: فإما أن يأتي بركعة ويتشهد بعدها، أو يكبر، ويسجد سجدة على طريقة من يقول: سجود التلاوة يقتضي التشهد. قال: ومن نذر عتق رقبة، أي: بأن قال: "إن قدم غائبي، فلله علي عتق رقبة"، أجزأه ما يقع عليه الاسم، أي: من صغير وكبير، سليم أو معيب، [مسلم] أو كافر؛ لأنه إذا أعتق ذلك، وقع عليه اسم رقبة حقيقة؛ فأجزأته؛ وهذا ظاهر ما نقله المزني في "المختصر"، وعليه جرى بعض الأصحاب، واختاره من المتأخرين المحاملي والمستظهري، وصاحب "المرشد"، والأكثرون؛ كما قال النواوي في "الروضة"، وقال: إنه الراجح في الدليل. وقيل: لا يجزئه إلا ما يجزئ في الكفارة؛ لأن مطلق كلام الآدمي محمول على ما تقرر في الشريعة، والذي قرره الشرع أن تكون الرقبة في الكفارة مؤمنة سليمة من العيوب؛ وهذا ما صححه القاضي أبو الطيب والداركي، وبه قال أبو إسحاق، واختار المزني، وحمل قول الشافعي: "فاي رقبة أعتق، أجزأه" على أنه أراد: أي رقبة أعتق مما تجزئ في الكفارة. وقد جعل البغوي الوجهين في هذه الصورة مبنيين على القولين في المسألة السابقة. فإن قلنا: يلزمه ركعتان، لم يجزئه إلا ما يجزئ في الكفارة، وإلا أجزأه ما وقع عليه الاسم.

وقال ابن الصباغ: إن أصلهما ما إذا نذر هدياً، هل يلزمه من النعم، أو يجزئه أي شيء أهداه؟ وقال الماوردي: إن مسالة الصلاة والهدي أصلهما إن قلنا: يلزمه ركعتان، والجذع من الضأن، والثنية من المعز والإبل والبقر- لم يجزئه هنا إلا ما يجزئ في الكفارة. وإن قلنا: يلزمه ركعة وما يقع عليه اسم هدي، أجزأه [هنا] ما يقع عليه الاسم أيضاً. وكلام القاضي أبي الطيب والداركي يقتضي أنه لا يجزئه هنا إلا ما يجزئ في الكفارة وإن قلنا: إنه يجزئه من الهدي ما يقع عليه الاسم؛ لأنهما قالا: فإن قيل: هلاَّ قلتم: إنه يجزئه أن يعتق ما يقع عليه اسم الرقبة حقيقة؛ كما قلتم في الهدي- قلنا: له في الهدي قولان: أحدهما: لا يجزئه إلا شاة، وعلى هذا سقط السؤال. والقول الثاني: يجزئه ما يقع عليه اسم هدي؛ وعلى هذا فالفرق: أن هاهنا وقع عليه اسم الهدي بالشرع أيضاً؛ وذلك قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} الآية [المائدة: 95]، وإذا قتل عصفوراً وما أشبهه لا يجب عليه شاة، وقد سمى ما يجب عليه به: هدياً؛ فلهذا قلنا: يجزئه ما يقع عليه الاسم، وليس كذلك في مسألتنا؛ فإن الشرع ما ورد بوجوب رقبة إلا مؤمنة سليمة من العيوب. فرع: لو نذر اعتكافاً، قال في "التهذيب": خرج عن نذره بأقل ما يقع عليه الاسم، ولو ساعة، ويستحب أن يتمه يوماً. وقال الإمام: لست أجد لهذا أصلاً في واجبات الشرع؛ فلا وجه إلا القطع باتباع اللفظ، وتنزيله على أقل المراتب. وقد ذكرنا خلافاً في كتاب الاعتكاف في أن الحصول في المسجد مع النية- أي: من غير مكث: كالمرور- هل يكون اعتكافاً؟ فإن اكتفينا به، فهذا فيه تردد عندي؛ فإنا إن اتبعنا اللفظ، فالاعتكاف مشعر بالمكثف؛ فينبغي أن نوجب المكث تعلقاً باللفظ، ويحتمل أن يجعل الاعتكاف في لفظ الناذر لفظاً شرعياً: كالصلاة والصوم، ثم يكتفي فيه بما يصح في الشرع.

قال: وهذا ما جزم بمثله [الإمام] عند الكلام في وجوب تبليغ الهدي إلى الحرم حيث قال: "إنا لا ننظر إلى الواجب شرعاً، وإنما ننظر إلى اللفظ الشائع في الشرع. ثم قوله: "لم أجد لهذا أصلاً في واجبات الشرع" فيه نظر؛ لأن الأصحاب حيث جزموا بصحة نذر الاعتكاف وإن اختلفوا في صحة النذر بما لم يجب بأصل الشرع، جعلوا أصله المكث بعرفة؛ وعلى هذا إذا حملنا النذر على واجب الشر ينبغي أن نكتفي بالعبور في المسجد مع النية؛ لأن ذلك يكفي في الوقوف بـ"عرفة" والله أعلم. وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به. إذا قال الشخص: "لله علي أن أعتق هذا العبد"، وكان ملك غيره، [فملكه يوماً- لا يلزمه عتقه؛ لقوله- عليه السلام-: "لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم". ولو قال: "إن ملكت عبداً، فلله علي أن أعتقه"، فملك عبداً- لزمه عتقه. وإن قال: "عن ملكت هذا العبد، فلله علي أن أعتقه"، فملكه هل يلزمه عتقه؟ فيه وجهان في "تعليق" البندنيجي وغيره في كتاب الأضحية. ومثل ما ذكرناه في محل الجزم وجريان الخلاف، جار فيما لو قال لشاة الغير: "لله علي أن أضحي بها"، أو: "عن ملكت شاة، فلله علي أن أضحي بها"، أو: "إن ملكت هذه الشاة، فلله علي أن أضحي بها"؛ حكاه في "الحاوي"، و"البحر" في موضعه. وذكر القاضي الحسين فيه إذا نذر إعتاق جارية بعينها، فولدت، لزمه إعتاق الولد معها؛ لأنها استحقت العتق استحقاقاً لا يرد عليه النقض والإبطال، ولا يعود إلى ما كان؛ فأشبه أم الولد، وذلك أنه إذا ألزم ذمته إعتاق عبدٍ فللعبد أن يرافعه إلى الحاكم؛ حتى يجبره على الإعتاق، وأنه لو أعتق على مال، المذهب: أنه يعتق، ولا يثبت المال].

كتاب البيوع

بسم لله الرحمن الرحيم رب يسر ولا تعسر كتاب البيوع البيوع: جمع بيع. وهو في اللغة: إعطاء شيء في مقابلة شيء. وهو في الشرع: مقابلة الماء القابل للتصرف بالمال القابل للتصرف مع الإيجاب والقبول على الوجه المأذون فيه. وسمي البيع بيعا؛ لأن البائع يمد باعه إلى المشتري حالة العقد في العادة. وسمي صفقة أيضاً؛ لأن أحد المتبايعين يصفق يده على يد صاحبه حالة العقد. كذا حكاه القاضي الحسين وغيره. ورد ابن الخشاب الأول وقال: إنه غلط؛ لأن البيع من ذوات الياء تقول: باع يبيع بيعاً، [والباع من ذوات الواو تقول: بُعْتُ الشيء أَبُوعُه بَوْعاً. وإنما جمع الشيخ البيع] وإن كان اسم جنس؛ لاختلاف أنواعه؛ لأنه يقع على أضرب: بيع عين، وبيع دين، وبيع منفعة، وإن شئت قلت: بيع صحيح قولاً واحداً، وبيع فاسد قولاً واحداً، وبيع في صحته قولان. وكل واحد من المتعاقدين [فيه] يقال له: بائع وبيع ومشتر؛ قال الله تعالى {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "المُتبَايِعَان بالخِيَار".

وتقول العرب: بعت، بمعنى: بعت ملكي من غيري، وبعت بمعنى اشتريت، وقد جاء "شرى" بمعنى: باع أيضاً في قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]، وقوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ} [البقرة: 102]. والأصل في مشروعية البيع في الجملة قبل الإجماع من الكتاب: قوله تعالى: {لا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وخص الأكل بالذكر؛ لأنه أعم وجوه المصارف كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء: 10]، ولا يختص الوعيد بالأكل. وقرئ برفع {تِجَارَةً} [النساء: 29] على أن "كان" تامة، تقديره "إلا أن تقع تجارة"، وبالنصب على أن "كان" ناقصة، و"إلا" استثناء من غير الجنس على الصحيح؛ لأن التجارة ليست من الباطل في شيء، وذلك جائز عند عامة العلماء إلا عند محمد بن الحسن. وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَاثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة: 25، 26]. وقال أبو إسحاق: هو استثناء من الجنس؛ لأن قوله: {لا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]، يتناول الأكل بالتجارة وغير التجارة؛ لأنه قد يؤكل المال بالباطل بتجارة فاسدة، فقوله: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} [النساء: 29] استثناء من جنسها. وضعف [نسخ ذلك بآية النور وهي قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} إلى قوله {أَشْتَاتاً} [النور: 61]، كذا رواه أبو داود عن ابن عباس].

[و] قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، والألف واللام في {الْبَيْعَ}: إما أن تكون للعموم أو للعهد أو لتعريف الماهية وأياً ما كان فهي دالة على بيع ما، وهو المقصود هنا، والذي رجحه الشافعي، وصححه أصحابه: أن الآية عامة في كل بيع إلا ما خصه على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أو كان في معنى المنهي عنه، وإن كان الشافعي قد قال: إن احتمال تناولها لكل بيع على العموم أشبه، ونقل عنه أيضاً أنه قال: إنها مجملة؛ لأن السنة وردت مفسرة لها. حكى هذا الخلاف القاضي الحسين وغيره. وحكى أيضاً أنا إذا قلنا: إنها عامة، أو قلنا: إنها مجملة، فهل كانت السنة المخصصة أو المبينة متأخرة عن الآية أو متقدمة عليها؟ فيه قولان. وإن فائدة الخلاف في الأصل تظهر في شيء واحد، وهو إذا وقع الاختلاف في مسألة من مسائل البيع أحلال هو أم حرام؟ إن قلنا: إن الآية عامة يجوز الاستدلال بها في المسألة وإلا فلا. وقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. قال ابن عباس: المراد به السلم. ومن السنة ما روي أنه قيل: يا رسول الله: أي الكسب أطيب؟ فقال: "عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور" أي: لا غش فيه ولا خيانة.

وما روى الترمذي عن قيس الجهني أنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتبايع في [السوق] وكنا ندعي السماسرة، فقال [لنا]: "يا معشر التجار إن الشيطان والإثم يحضران البيع فشوبوا بيعكم بالصدقة" وقال: إنه حسن صحيح. وغير ذلك من الأخبار التي تأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى.

باب ما يتم به البيع

باب ما يتم به البيع هذه ترجمة زائدة على ما في الباب؛ لأن أركان البيع على ما حكاه غيره- وإن كان في إطلاق ذلك مناقشة ثلاثة-: العاقد وهو ينظم البائع والمشتري، والمعقود عليه وهو ينظم الثمن والمثمن، وصيغة العقد [وهي تنظم] الإيجاب والقبول. والمذكور منها في هذا الباب: العاقد والصيغة، والثالث وهو المعقود عليه مذكور في الباب الثاني فكان هذا التبويب به أليق. والمناقشة التي أشرنا إليها أبداها الرافعي على قول الغزالي لابد منها؛ لوجود صورة العقد وهي أن المراد إن كان لابد من وجودها ليدخل صورة البيع في الوجود، فالزمان والمكان وكثير من الأمور بهذه المثابة فوجب أن تعد أركاناً. وإن كان المراد أنه لابد من حضورها في الذهن ليتصور البيع، فلا نسلم أن العاقد والمعقود عليه بهذه المثابة، وهذا؛ لأن البيع فعل من الأفعال، والفاعل لا يدخل في حقيقة الفعل. ألا ترى أنا إذا عددنا أركان الصلاة والحج لا نعد المصلي والحاج، وإن كانا في جملتهما، وكذلك مورد الفعل، بل الأشبه أن الصيغة أيضاً ليست جزءاً من حقيقة فعل البيع. وجوابها: أن المراد الأول وإنما لم يعد الزمان والمكان من الأركان؛ لأنه لا يعقل فعل من الأفعال بدونهما عقداً كان أو غير عقد، والعلم بذلك حاصل بالبديهة؛ فلذلك لم يذكرهما بخلاف ما ذكره فإنه لما اختلف فيه احتاج إلى ذكره؟

تنبيه: المراد بالبيع المبوب عليه بيع الأعيان خاصة، يدل عليه قوله في باب السلم: "السلم صنف من البيع" ينعقد بجميع ألفاظ البيع إلى غير ذلك. [وقوله في باب الإجارة: وهي بيع المنافع بيع يصح ممن يصح منه البيع إلى غير ذلك] ولهذا التقرير فائدة تظهر لك من بعد. قال: [و] لا يصح البيع إلا من مطلق التصرف غير محجور عليه. المراد بهذا اللفظ: بيان أهلية العاقد للبيع والمانع القائم به. فقوله: "مطلق التصرف"، بيان الأهلية وهي تحصل بالبلوغ والعقل؛ لأن أهلية المعاملات عند الشافعي- رضي الله عنه- مستفادة من التكليف. فلا يصح بيع الصبي والمجنون سواء وافق الغبطة أو خالفها، أذن فيه الولي أو لم يأذن؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ" رواه الترمذي. ووجه الدلالة منه: أن البيع لو صح؛ لاستلزم المؤاخذة بالتمكين من التسليم والمطالبة بالعهدة، والحديث دال على نفي المؤاخذة. فإن قيل: لم لا يصح البيع ويكون الولي هو المخاطب بذلك كما يخاطب بإيفاء أروش الجنايات وتفرقة الزكوات؟ قلنا: أما المجنون فقد قام الإجماع على عدم صحة تصرفه لفسخه شرعاً وعرفاً.

وأما الصبي فلأنا إنما أقمنا الولي مقامه فيما ذكر للضرورة ولا ضرورة بنا هنا ثم لا فرق في بيع الصبي بين أن يكون للاختبار أو غيره على الأصح؛ لإمكان اختباره بتقرير الثمن والمساومة والمماكسة المطلوبة في البيع. وفي الطريقتين حكاية وجه في صحة بيع الاختبار، واختاره ابن أبي عصرون في "المرشد"، هذا حكم بيعه. وسيأتي في قبول روايته وإسلامه ووصيته وتدبيره خلاف في مواضعه إن شاء الله تعالى. وقوله: "غير محجور عليه" بيان للمانع القائم بذات مطلق التصرف؛ ليخرج به بيع السفيه، وشراؤه بغير إذن وليه، فإنه لا يصح مع وجود الأهلية، لا في حق نفسه ولا في حق غيره، وكذا لو أذن له على الأصح في "التهذيب"، [وشرح ابن التلمساني] هذا ما ظهر لي، ورأيت لبعض من شرح هذا الكتاب أن [مراد] الشيخ بهذا اللفظ: الاحتراز عمن حجر عليه لحق غيره؛ كالراهن في العين المرهونة، والمفلس في الأعيان المحجور عليه فيها بدون الإذن، والعبد غير المأذون، وأضاف إلى ذلك بعضهم بيع الفضولي على القول الجديد. ولم يظهر لي صحة شيء من ذلك، لأن منع الراهن من التصرف في المرهون للحجر عليه في العين لا في ذاته. وقد احترز عنه الشيخ بقوله في الباب الثاني: "ولا يجوز فيما يبطل به حق آدمي"، فلو كان يدخل فيما احترز عنه هاهنا لم يحتج إلى ذكره ثم، ومنع المفلس من التصرف في الأعيان المحجور عليه فيها يضاهي منع الراهن، ثم لو قدرنا صحة ذلك لم يكن كلام الشيخ جامعاً للمقصود؛ لأنه نفى صحة البيع على الإطلاق عند عدم إطلاق التصرف، وعند وجوده ووجود الحجر. والراهن ليس ممنوعاً من البيع على الإطلاق فإنه يجوز له بيع غير الرهن وشراء ما أراد لنفسه ولمن يوكله وكذلك المفلس في غير الأعيان المحجور عليه فيها على الصحيح وهو الذي جزم به العراقيون. وأما العبد فمنعه من التصرف بالبيع لعدم الملك أو ضعفه والاحتراز عنه مذكور

في الباب الثاني بقوله: "ولا يجوز بيع ما لا يملكه إلا بولاية أو نيابة" وشراؤه عند العراقيين [على ما] حكاه القاضي أبو الطيب في "كتاب التفليس" كشراء المفلس. ومقتضاه أن يكون الصحيح جوازه [وحينئذٍ] فلا يحسن الاحتراز عنه، نعم إن قلنا: إنه لا يجوز، كما صححه الرافعي وغيره، فيحسن الاحتراز عنه أيضاً، إن كان الشيخ يوافقه عليه، كما سنذكره عن بعض العراقيين. ولو قيل: هل يصح شراؤه للغير بإذن سيده؟ قلنا: بالإذن ارتفع عنه الحجر في ذلك التصرف. وأما بيع الفضولي فالمنع منه لعدم الملك. فإن قيل: احترز الشيخ- رضي الله عنه- عن مانع الحجر بما ذكرتموه، ولم يحترم عن مانع الإكراه بغير حق بلفظ الاختيار، فهلا ذكره كما فعل في "المهذب". قلنا: الموانع الأصل عدمها، وذلك يغني عن الاحتراز عنها، والمحوج إلى ذكر الاحتراز عن الحجر مخالفة أبي حنيفة في بيع الصبي؛ فإنه إذا جاز بيعه فبيع السفيه أولى فاحتاج إلى التنبيه عليه خشية أن يعتقد معتقد موافقته؛ لأجل أنه صحيح العبارة بخلاف الصغير. فرع: بيع المصادر هل ينعقد؟ فيه خلاف محكي في "الوسيط" في باب الأطعمة. وحكى ابن أبي الدم: أن القاضي أبا منصور ابن أخت الشيخ أبي نصر [سأل أبا نصر] عن هذه المسألة فقال: إن كان له مال غير الذي باعه صح البيع، وإن لم يكن له مال سوى الذي باعه فهل يصح البيع؟ فيه وجهان. فرع: رجل مجهول الحال لا تعرف حريته ولا رقه، هل تصح المعاملة معه أو لا؟ فيه قولان [في "التتمة" في باب العبد المأذون]. والأظهر: الجواز؛ لأن الأصل في الناس الحرية فيتمسك بالأصل. ووجه الثاني: بأن الأصل في حق كل إنسان الحجر وعدم ذلك التصرف، فل

يجوز المعاملة معه حتى يعلم أنه من أهله، وهذه العلة تقتضي طرد هذا الوجه فيمن جهل رشده من طريق الأولى وهو [بعينه] كلام الشيخ حيث قال: "لا يصح إلا من مطلق التصرف غير محجور عليه" فمتى لم يتحقق وجود ذلك لا يصح هذا الإطلاق، ولم أر هذا لأحد. قال: ولا ينعقد [البيع] إلا بإيجاب وقبول [أي على وجه الجزم، سواء كان المعقود عليه من المحقرات أو غيرها كالجواري والدواب والدور؛ لقوله تعالى: {لا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما البيع عن تراض"، والرضا أمر خفي لا يطلع عليه فوجب أن يناط الحكم بسبب ظاهر يدل عليه وهو الصيغة. وروى الخراسانيون، عن ابن سريج تخريج قول للشافعي: أنه يكتفي في المحقرات بالمعاطاة وبه أفتى القاضي الروياني وغيره على ما حكاه الرافعي؛ لأن المقصود الرضا والقرائن تعرف [حصوله]. وفي "البيان" أن ابن سريج حكاه عن الشافعي من غير أن يذكر لفظ التخريج. وفي "النهاية" في باب حبل الحبلة، أن ابن سريج ذكر قولين في المعاطاة مع القرائن في إرادة البيع هل يكون بيعاً؟ ولم يقيده بالمحقرات، وهو يوافق ما في "الوسيط" في كتاب "العارية" حيث قال: "ولهذا ذكر القاضي في المعاطاة في البيع وجهين؛ لأجل القرائن"، ومقتضى هذا الإطلاق [أن الخلاف] غير قاصر على المحقرات. وفي "التتمة": أنه حكي عن ابن سريج: أن كل ما جرت العادة فيه بالمعاطاة ويعدونه بيعاً فهو بيع، وما لم تجر العادة فيه بالمعاطاة كالجواري والدواب والعقار فلا يكون بيعاً. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: المعاطاة في بيع المحقرات، فأما في الأشياء النفيسة فلا بد من الإيجاب والقبول.

ومقتضى هذا أن خلاف ابن سريج ليس قاصراً على المحقرات بل يجري في المحقرات وما فوقها مما جرت العادة فيه بالمعاطاة، ولا يجري فيما لم تجر العادة فيه بالمعاداة إذ لو لم يكن كذلك لقال عقيب ما حكاه عن ابن سريج: "وبه قال مالك وأبو حنيفة والذي يقتضيه كلام المتولي [و] هو الذي رجحه ابن الصباغ". والمقررون لكلام ابن سريج ذكروا لمستند تخريجه صوراً منها.: ما إذا دفع إلى غسال ثوبه وأمره بغسله ولم يذكر له أجرة، والغاسل ممن يعمل بالأجرة، فإنه يستحق الأجر على قول. ومنها: لو عطب الهدي قبل المحل، وغمس النعل الذي قلده بها في الدم وضرب بها على صفحة سنامه فإنه يجوز للمارين الأكل منه على أحد القولين. ومنها: لو قال لزوجته إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق، فوضعته بين يديه، ولم تتلفظ بشيء فإنه يملكه على الصحيح. ومثلوا المحقرات بالباقة من البقل والرطل من الخبز، ومنهم من مثلها بما دون نصاب السرقة. قال الرافعي: والأشبه الرجوع فيه إلى العادة فما يعتاد فيه الاقتصار على المعاطاة بيعاً ففيه التخريج ولهذا قال صاحب "التتمة" عن التخريج ما جرت العادة فيه بالمعاطاة فهو بيع وما لا؛ كالدواب والجواري والعقار فلا. هذا آخر كلامه، وقد قدمت أن المفهوم من كلام صاحب "التتمة" أن بينهما فرقاً، فلا يحسن الاستشهاد به.

فرع: حيث قلنا: إن بيع المعاطاة لا يصح، فما حكم ما جرت العادة فيه بالمعاطاة في الأخذ والعطاء؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه إباحة، وبه أجاب القاضي أبو الطيب وابن الصباغ حين سأله عما إذا أخذ بقطعة [ذهب] شيئاً، وأكله، ثم عاد يطالبه بالقطعة، هل له ذلك؟ [فقال: لا]، فقال ابن الصباغ: لو كان إباحة لكان له ذلك. قال القاضي: إنما أباح كل واحد منهما بسبب إباحة الآخر، قال ابن الصباغ: فهو إذن معاوضة. وأصحبهما: أن حكمه حكم المقبوض في سائر العقود الفاسدة وحكي عن الشيخ أبي حامد [أنه] قال: يسقط ذلك عن ذممهم بالتراضي. وهذا يشكل بسائر العقود الفاسدة. وحيث قلنا: بصحة بيع المعاطاة، فصورتها على ما حكاه مجلي: أن يتفقا على الثمن والمثمن، ثم يعطي المشتري الثمن للبائع ويعطي البائع السلعة للمشتري من غير أن يجري بينهما إيجاب وقبول. فرع آخر: إذا باع الأب أو الجد مال ابنه الصغير من نفسه، هل يفتقر إلى النطق بلفظ العقد أو يكفي فيه ذلك؟ فيه وجهان منقولان في كتاب "الحاوي" في كتاب الرهن فإن اعتبرنا الإتيان باللفظ به فهل يفتقر إلى القبول؟ فيه وجهان، فإن

اعتبرناه- وهو مقتضى إطلاق الشيخ- فلا يكفي التوكيل على الأصح. فإن لم نعتبره وأراد أن يوكل وكيلاً واحداً في الإيجاب والقبول فهل يجوز؟ فيه وجهان مذكوران في "النهاية" في كتاب العارية. أما إذا حصل الإيجاب والقبول على وجه الهزل فهل ينعقد به البيع؟ قال القاضي حسين في باب البراءة [وفي فتاويه] يحتمل وجهين بناء على مسألة السر والعلانية في الصداق. فإن جعلنا المهر مهر السر ففي هذه المسألة لا ينعقد؛ لأنهما ما قصدا بذلك معاوضة حقيقية وإن قلنا: المهر مهر العلانية انعقد، ولا اعتبار بقصدهما، بل العبرة بالملفوظ. وفي بيع التلجئة: وهو أن يخاف واحد من السلطان فيجيء إلى صديق له ويقول: أبيعك ما لي منك على أن ترد علي البيع إذا أمنت من السلطان حتى أقول للسلطان: إني بعته. [وإذا بعتك] لا ينعقد البيع وهم يسمونه بيع أمانة، مثل هذا الخلاف [و] المذكور في "الشامل" الجزم بالصحة. قال: وهو أن يقول- أي البائع- بعتك أو ملكتك أي بكذا؛ لأن اسم البيع يقع على ذلك، قال: وما أشبهه أي مثل أن يقول: شريت منك هذا، وصارفتك في عقد الصرف ووليتك هذا العقد وأشركتك معي فيه نصفين، وغير ذلك مما هو في معناه، وهذا هو الإيجاب وضابطه فيما نحن فيه: كل لفظ يدل على التمليك بعوض بدلالة ظاهره وهذا هو المشهور. وفي لفظ التمليك حكاية وجه مروي في "الحاوي" أنه لا يصح به البيع وأنه الأصح؛ لأن التمليك حكم من أحكام البيع وموجبه فاحتاج إلى تقديم العقد ليكون التمليك يتعقبه؛ ولأنه يحتمل البيع ويحتمل الهبة على العوض فصار من جملة الألفاظ المجملة، وهذا التعليل منه مبني عل اعتقاده: أن البيع لا ينعقد من جهة البائع

إلا بلفظ واحد وهو قوله: بعتك دون قوله: أبحتك هذا العبد بألف أو سلطتك عليه أو قد أوجبته لك أو جعلته لك وما أشبه ذلك. وهذا إن أراده مع وجود النية، وجعل القابل كالشاهد فهو خلاف الظاهر من المذهب على ما حكاه الرافعي وغيره، والأصح على ما حكاه الرافعي وغيره، والأصح على ما حكاه الغزالي في الشرط الخامس من شرائط المبيع. وإن أراد عند فقد النية فهو موافق للمذهب، ويكون توجيه الوجه القائل بالصحة في لفظ التمليك على هذا: إقامة ذكر العوض مقام النية، وله التفات على أن الخلع إذا جعلناه صريحاً في الطلاق فهل مأخذ الصراحة فيه ذكر العوض أو كثرة استعماله لإرادة الفراق؟ وفيه خلاف في موضعه فإن قلنا: مأخذ الصراحة فيه ذكر العوض فيكون لفظ التمليك صريحاً أيضاً لوجوده، وهو قصد كلام الشيخ وابن الصباغ حيث قرناه بلفظ البيع وهو ما صرح به المتولي. ويتجه جريانه في قوله: "خذه بكذا" أو: "جعلناه لك بكذا"، فيكون صورة الكناية التي أجرى فيها الخلاف ما إذا قال: "خذه"، ولم يذكر عوضاً، لكن نواه، وكذلك صورها مجلي فيما إذا قال: ملكتك ونوى العوض، وإن قلنا: مأخذ الصراحة، ثم كثرة الاستعمال فالكثرة لم توجد هاهنا [ولا نية] فلا ينعقد به البيع. قال: ويقول المشتري: قبلت- أي البيع- أو ابتعت وما أشبهه أي مثل قوله: "تملكت"، و"اشتريت"، و"أخذته"، وغير ذلك مما هو في معناه، وهذا هو القبول وضابطه: كل لفظ يدل على التملك.

وفي "النهاية": أن القبول على الحقيقة ما لا يتأتى الابتداء به مثل قوله: "قبلت"، فأما ما يتأتى الابتداء به مثل قوله: "ابتعت"، وما بعده فذاك قائم مقام القبول. ولو قال: "قبلت"، ولم يقل "البيع"، صح على الأصح، وفيه وجه حكاه الرافعي في كتاب النكاح؛ أنه لا يصح كما في النكاح على قول. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يقول البائع: "بعت"، فيقول المشتري: "اشتريت"، أو يقول المشتري: "اشتريت" أو "ابتعت"، ثم يقول البائع: "بعت"، ولا بين أن يتفق اللفظ كما ذكرناه أو يختل، مثل أن يقول: "بعتك"، فيقول: "ملكت"؛ لأن المعنى الواحد. ثم يشترط توافق الإيجاب مع القبول في العدد والنقد والحلول والأجل، وفيما إذا قال: "بعتك بألف"، فقال: اشتريت بألف وخمسمائة"، أو قال: "اشتريت منك بألف"، قال: "بعتك بخمسمائة"- وجه: أنه يصح حكاه في الأول الرافعي وفي الثاني الغزالي في الخلع. ويشترط أيضاً: ألا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول، وألا يتخللهما كلام أجنبي عن العقد، فإن طال أو تخلل لم ينعقد، كذا حكاه الرافعي هنا، وحكى في كتاب النكاح عن أبي سعد الهروي أنه نقل عن العراقيين من أصحابنا الاكتفاء بوقوع القبول في مجلس الإيجاب، وقالوا: حكم نهاية المجلس حكم بدايته. وحكى في باب الاستثناء من كتاب الطلاق: أن الكلام اليسير لا يقطع الاتصال بين الإيجاب والقبول على الأصح. قلت: ويتجه جريان مثل ذلك هاهنا. ويشترط أيضاً: أن يكون الجواب ممن صدر معه الخطاب، فلو مات المشتري بعد

الخطاب ووارثه حاضر، فَقَبِلَ، فالأصح أنه لا ينعقد. تنبيه: قول الشيخ في صدر الفصل: "وهو أن يقول: "بعتك" .. ". إلى آخره فيه دلالة ظاهرة على أن البيع لا ينعقد بالكتابة مع النية، لا في طرف الإيجاب ولا في طرف القبول؛ لأنها ليست بقول، وكذا لا ينعقد فيما إذا قال: بعت من فلان وأرسل إليه رسولاً، فأخبره بذلك وقبل؛ لانعدام الخطاب الذي اعتبره بقوله: "بعتك"، وهو ما جزم به القاضي الحسين في "كتاب الطلاق" وفي كل من الصورتين [خلاف] بين الأصحاب، لكن الخلاف في الكتابة مبني على أن الطلاق هل يقع بها أم لا؟ فإن لم نوقع الطلاق فالبيع أولى، وإن أوقعناه ففي البيع وجهان. وأصحهما في "تعليق" القاضي الحسين في "كتاب الطلاق": عدم الانعقاد. وفي "النهاية" في "كتاب الوكالة" أن الصحيح إقامة الكتابة في حال الغيبة مقام النطق في الحضرة وسيأتي في "كتاب الطلاق": حكاية وجه في أن نفس الكتابة بصريح الطلاق [صريح في الطلاق]، ويتجه جريان مثله هاهنا، إذا قلنا: ينعقد بالكتابة مع النية. إذا عرفت ذلك فهمت من كلام الشيخ أنه لا يرى انعقاد البيع بالكتابة؛ لأن الكتابة كناية، وقد بينا أنها تخرج من كلام الشيخ وأن الظاهر خلافه. قال: فإن قال المشتري: بعني فقال: بعتك انعقد البيع أي: من غير احتياج إلى أن يقول ثانياً: "ابتعت"؛ لأن المقصود وجود لفظ دال على الرضا بموجب العقد وقد حصل، فصح به كالنكاح. وفي "الوسيط" حكاية قول على ما حكاه في النكاح، ووجه على ما حكاه في البيع: أنه لا ينعقد. وقال في "الوجيز": إنه الأصح؛ لأن قوله: "بعني" مما يذكر لاستبانة الرغبة، فينوب عن قوله: "أتبيعني" ويخالف النكاح فإنه لا يجري مصافقة في الغالب، فتكون الرغبة معلومة من قبل فيتعين قوله زوجني استدعاء جزماً، والأول هو الراجح عند الجمهور والمجزوم به في "مجموع المحاملي" و"الشامل". وقال في "الوسيط": إنه أقيس، وعليه ينبني ما لو قال: بعني، فقال: قد فعلت ذلك،

أو نعم فإنه يصح، على ما حكاه الرافعي في كتاب النكاح. ولو قال: اشتر مني، ففي "التهذيب": أنه كما لو قال: بعني. وفي "الحاوي": أنه لا ينعقد به. والفرق: أن المشتري إنما يراد من جهته [القبول مجيباً] كقوله بعد قول البائع: "بعتك"-: "اشتريت"، أو الطلب مبتدئاً، كقوله ابتداء: "اشتريت منك"، ولفظ "بعني" موضوع للطلب، وقد وجد ما هو للطلب من جهته، والمطلوب من جهة البائع البدل مبتدئاً كقوله: بعتك والإيجاب مجيباً، كقوله بعد قول المشتري: اشتريت: بعتك. وقوله: اشتر مني، لم يوضع للبدل ولا للإيجاب فلم يحصل من جهته المطلوب منه. وبنى على ذلك: ما لو باع عبداً [بعبد] وعقد البيع بلفظ الأمر، فإن قال أحدهما:"بعني عبدك بعبدي"، فقال: "بعتك"، صح البيع، وإن قال: "اشتر مني عبدي هذا بعبدك هذا" لم يصح. فروع: لو قال البائع: بعتك بألف: أفقبلت؟ فقال: نعم، [أو قال: بعتك بألف، فقال: نعم] انعقد البيع حكاه الرافعي في كتاب النكاح. وفي "النهاية" في كتاب الإقررا أن قول المشتري: "نعم" لا يكون قبولاً.

ولو قال: بعتك بألف إن شئت، فقال: شئت، لم ينعقد. وفي "التتمة" عند الكلام في نية الوضوء والتبرد، أنه يصح. ولو قال: اشتريت، فوجهان، أظهرهما، وهو اختيار القاضي الحسين وبه أجاب [القاضي] أبو الطيب، وابن الصباغ في كتاب الإقرار: أنه ينعقد. ولو قال الطالب: اشتريت منك هذا بألف إن شئت، فقال: بعته منك إن شئت. قال الإمام في كتاب "الإقرار": الذي يجب القطع به أنه لا ينعقد فإن الموجب علق الإيجاب بالمشيئة بعد سبق التعليق، والتعليق يقتضي وجود شيء بعده، فلو قال القائل مرة أخرى: اشتريت أو قبلت، قال: فالذي يظهر عندي أن البيع لا يصح على قياس القاضي أيضاً، فإنه يبعد حمل المشيئة على استدعاء القبول، وقد سبق فتعين حمله على المشيئة نفسها، وإذا حمل على ذلك كان تعليقاً محققا، والتعليق يبطل البيع.

ولو قال المتوسط لبائع المتاع: بعت بكذا؟ فقال: نعم. أو بعت وقال للمشتري: اشتريت بكذا فقال: نعم أو اشتريت، فهل ينعقد البيع؟ فيه وجهان: المذكور منهما في "التتمة" وفي "النهاية" في كتاب "الإقرار" وفي "الوسيط": في كتاب الطلاق: [عدم] الانعقاد، وادعى القاضي الحسين في كتاب الوكالة: أنه ظاهر المذهب. [و] قال الرافعي: إن أظهرهما على ما دل عليه إيراد صاحب "التهذيب" والروياني: الانعقاد، وهو ما جزم به الماوردي. ولو فسخ البيع ثم قال البائع للمشتري: أقررتك على ما مضى، فقال: قبلت، هل يصح؟ فيه وجهان ذكرهما الغزالي في أواخر القراض. قال: وإذا انعقد [البيع] ثبت لهما الخيار ما لم يتفرقا أو يتخايرا لما روى البخاري عن مالك عن نافع عن ابن عمر- رضي الله عنهم- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه. اختر"، والمراد بالمتبايعين هاهنا: من صدر منهما البيع لا المتساومين؛

لأنه قد جاء في بعض طرق الحديث من اشترى شيئاً فوجب له فهو بالخيار إلى أن يفارقه صاحبه و [المراد] بالتفرق: أن يتفرقا بالأبدان عن مجلسهما الذي تبايعا فيه لا في الأقوال على المذهب؛ لأنه جاء في بعض طرق الحديث أيضاً "ما لم يتفرقا عن مكانهما الذي تبايعا فيه" وروى عن ابن عمر أنه كان إذا باع بيعاً مشى أذرعاً، وهو راوي الحديث، وأعرف بتفسيره وقد قال ابن سلمة: وهو من أهل اللغة: العرب تقول: افترقا بالأقوال وتفرقا بالأجسام. وفي زوائد العمراني حكاية وجه عن الفروع: أن الخيار ينقطع إذا شرعا في أمر آخر، وأعرضا عن أمر العقد، وطال الفصل. والمذهب الأول لما ذكرناه. ثم الرجوع فيما يحصل به التفرق إلى العرف، فإن الشرع علق عليه حكماً، ولم يبينه ولا له لفظ يحصره من حيث اللغة، فيرجع فيه إلى العرف كالحرز في السرقة، ثم ذلك يختلف باختلاف الأماكن فإن كانا في دار صغيرة، أو سفينة صغيرة، فالتفرق أن يخرج أحدهما. ولو كانا قريبين من الباب فخرج أحدهما، ومشى خطوتين مثلاً، حصل التفرق أيضاً على الظاهر عند الإمام. وإن كانت الدار كبيرة فيصعد السطح، أو يدخل من صحنها إلى صفة أخرى، أو يخرج إلى دهليزها. وفي السفينة الكبيرة يصعد أحدهما إلى أعلاها، ويبقى الآخر في أسفلها وإن كانا في صحراء فالمعتبر أن يصير إلى مكان، لو أراد التخاطب لافتقر إلى رفع الصوت رفعاً يزيد على المعتاد. وضبط الشيخ في "المهذب" التفرق من غير [تعرض إلى ما] ذكرناه من الأحوال بأن: يتفرقا إلى موضع لو كلم أحدهما صاحبه على العادة لم يسمع كلامه. وحكى ابن الصباغ هذا الضابط عن الإصطخري.

وفي الجيلي [أنه قيل:] إن ضابطه أن يبعد أحدهما عن الآخر عشرة أذرع. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إذا مشى أحدهما وتبعه الآخر وكان بينهما قدر ما بين الصفين لم يحصل التفرق، وإن كان أكثر من ذلك حصل التفرق، وهذا يشعر بأن انلتفرق يحصل بما إذا مشى أحدهما ولم يتبعه الآخر وكان بينهما أكثر مما بين الصفين ثم هو مفرع أيضاً على أنهما إذا اصطحبا إلى مجلس آخر أن الخيار لا ينقطع، وهو الصحيح أما إذا قلنا إنه ينقطع على ما حكاه العمراني في زوائده، فلا فرق أن يكون بينهما قدر ما بين الصفين أو أكثر. وهل يحصل ببناء جدار؟ أطلق بعضهم فيه وجهين، وأصحهما عدم الحصول، وهو المذكور في "الحاوي". وفصل بعضهم فقال: إن كان بجعل أحدهما بغير إذن الثاني فهو كما لو هرب، وإن كان الجاعل غيرهما فهو كما لو حمل أحدهما، ومساق كلامه يقتضي أنه إذا كان بإذنهما أنه يحصل. ثم ما ذكرنا أن التفريق يحصل به فذاك إذا كان في حال العقل والاختيار، وسواء فيه حالة الذكر والنسيان، وأما إذا فارق أحدهما المجلس في حال جنونه فهل يحصل به التفرق؟ يبني على أن الجنون هل يقطع الخيار أم لا؟ والمذهب: [أنه] لا يقطع، وادعى الإمام فيه الاتفاق، فيقوم وليه [فيه] مقامه، ويفعل ما فيه المصلحة. وفيه وجه مخرج من الموت: أنه ينقطع. فإن فرعنا عليه لم يحتج إلى التفرق، وإن فرعنا على المذهب، قال الإمام: فيه احتمال يلاحظ إخراج أحد المتعاقدين عن مجلس العقد، ويجوز أن يقال: لا يحصل؛ لأن التصرف انقلب إلى الولي، ويعارضه أنه لو كان كذلك لكان الجنون كالموت. ولو أكره أحدهما على الخروج وترك التخاير بأن سد فاه فهل ينقطع خياره؟ فيه وجهان.

أصحهما: لا ينقطع، وهو المذكور في "الشامل" وادعى المحاملي فيه نفي الخلاف. وإن لم يسد فاه بل أكره على الخروج فقط، ففيه طريقان: أحدهما القطع بانقطاع خياره. والثاني: طرد الوجهين. وهذا ما يوجد في طريق العراق، والمذهب منهما على ما حكاه المحاملي، والبندنيجي بقاؤه فإن قلنا: يبطل خيار المكره فيبطل خيار الباقي. وإن قلنا: لا يبطل خيار المكره فله التصرف بالفسخ والإجازة. وإذا وجد التمكين: فهل يكون على الفور؟ فيه خلاف. فإن قلنا: بعدم الفورية وكان مستقراً في المجلس امتد الخيار امتداد المجلس، وإن كان ماشياً انتهى الخيار بمفارقته مكان التمكن وهل يبطل خيار الباقي؟ ننظر: فإن ضبط حتى لا يساوق المخرج، فلا يبطل خياره إذ تحقق الإكراه في حقه كما تحقق في حق المكره، وإن كان يمكنه أن يساوقه فلم يفعل فذاك منه بمثابة إجازته للعقد مع دوام المجلس، وفيه خلاف سيأتي. ثم لا فرق عند الغزالي بين أن يحمل مكرهاً [ويخرج]، وبين أن يكره حتى يخرج بنفسه؛ لأن هذا حكم منوط بصورة المفارقة. وجزم في "التهذيب" بأنهما إذا حملا أو أحدهما والآخر لا يمكنه أن يتبعه لا يبطل خيارهما، وإن أكرها حتى تفرقا بأنفسهما، فهل يبطل خيارهما؟ فيه الخلاف المذكور من قبل ولو هرب أحدهما ولم يتبعه الآخر لزم العقد عند ابن الصباغ. وفي الرافعي: أن هذا فيما إذا أمكنه أن يتابعه أما إذا لم يتمكن من المتابعة ففي "التهذيب": أنه يبطل خيار الهارب دون الآخر. وعلى الأول: هل يعصي الهارب؟ نقل ابن التلمساني أن بعض أصحابنا قال: بعصيانه لإبطاله على صاحبه حقاً لازماً. ولا فرق في دوام الخيار ببقاء المجلس بين أن تزيد مدة المقام على ثلاثة أيام أو لا تزيد.

وفي "الوسيط"، حكاية وجه لطيف: أنه ينقضي بثلاثة أيام. فروع: أحدها: إذا تبايعا في موضع لو انتهى إليه أحدهما بطل الخيار، هل يثبت فيه الخيار؟ قال الإمام: يحتمل أن يقال لا خيار؛ لأن التفرق الطارئ قاطع للخيار، فالمقارن يمنع ثبوته، ويحتمل أن يقال: يثبت ما داما في موضعهما، وهذا ما أورده المتولي ثم قال: إذا فارق أحدهما موضعه بطل خياره، وهل يبطل خيار الآخر أو يدوم إلى أن يفارق مكانه؟ فيه احتمالان. الثاني: إذا مات أحد المتعاقدين قبل التفرق فالنص أنه ينتقل إلى وارثه، والنص فيما إذا مات المكاتب أن العقد يجب، فمن الأصحاب من خرجهما على قولين: وأصحهما: أنه يثبت للوارث والسيد. وبعضهم قطع بهذا القول. وبعضهم أقر النصين، وفرق بأن الوارث خليفة الموروث فيقوم مقامه، والسيد ليس خليفة للمكاتب وإنما يأخذ ما يأخذه بحق الملك. وحكم العبد المأذون إذا باع أو اشترى ثم مات حكم المكاتب. ثم حيث قلنا: إن الخيار لا يثبت للوارث، فلا يثبت للحي أيضاً على ما حكاه الإمام، وفي "التهذيب": أنه لا يسقط حتى يفارق ذلك المجلس. وحيث أثبتناه للوارث، فإن كان حاضراً بالمجلس امتد الخيار حتى يتفرق هو والعاقد الآخر، أو يتخايرا. وكذا إذا كانوا جماعة، ولا ينقطع الخيار بمفارقة بعضهم على الأصح، وهو ما حكاه ابن الصباغ بخلاف ما إذا فسخ أحدهم، فإنه ينفسخ العقد في حق الكل على الأصح؛ كما لو فسخ المورث العقد في بعض المبيع [وأجاز في بعض]. ولو اختار بعضهم فسخ البيع في نصيبه وبعضهم الإجازة في نصيبه، قال مجلي: لم يكن لهم ذلك وجهاً واحداً. وفي "الحاوي": حكاية وجه أنه يجوز لكل واحد منهم أن ينفرد برد حصته دون

شركائه؛ لأنه يرد جميع ما استحقه بالعقد فصاروا في حكم المشترين صفقة واحدة. وإن كان غائباً ثبت له الخيار إذا وصل الخبر إليه على الأصح. وفي "الشامل": أنه حكى عن بعض أصحابنا أنه قال: يثبت له الخيار إذا نظر إلى السلعة ليعرف الحظ في الفسخ أو الإجازة. وفي "التتمة" حكاية وجه آخر: أنه إنما يثبت إذا اجتمع مع العاقد في مجلس واحد ثم هو على الفور أو يتقيد بمفارقة موضعه، أو يحتاج أن يصير إلى موضع يتعذر عليه سماع المخاطبة على الاعتياد فيه خلاف. ولو كان الوارث أكثر من واحد، قال في "التتمة": إن قلنا: في حق الواحد يثبت له الخيار في مجلس مشاهدة المبيع، فإذا اجتمعوا في مجلس ثبت لهم الخيار، وإن قلنا: خياره إذا حضر مع العاقد في مجلس فهاهنا خيارهم إذا اجتمعوا معه في مجلس وأما الحي فيدوم خياره إلى أن ينقطع خيار الوارث، وقيل: لا يتصرف قبل بلوغ الخبر إلى الوارث وقيل: يتأخر خياره إلى أن يجتمع مع الوارث في مجلس، حكاه المتولي مع وجه آخر أنه يدوم ما دام في مجلسه، فإذا قام بطل وفي شرح ابن التلمساني: حكاية وجه آخر: أنه يكون على الفور، فإن فسخ انفسخ وإلا لزم. الثالث: الوكيل في البيع إذا عقد بحضرة الموكل، فالخيار يتعلق بالوكيل، وينتهي بمفارقته، قال الإمام: ويجب القطع بأنه لا ينفذ فسخ الموكل وإجازته، فإنه لا تعلق له بالمجلس وكذا قاله في "الوسيط"، وزاد عليه أن الموكل إذا كان في المجلس وحجر على الوكيل في الخيار. فإن قلنا: عليه الامتثال رجع حقيقة الخيار للموكل، وإن قلنا: لا يمتثل فإنه من لوازم السبب السابق كان بعيداً أيضاً. وفيه تأمل للناظر، وفي هذه العبارة قلق؛ لأنها توهم تردداً في امتثال الوكيل أمر الموكل، وليس كذلك، بل المراد استشكال ما قاله الأصحاب من ثبوت الخيار للوكيل دون الموكل؛ ولأنه لو حجر على وكيله في الفسخ والإجازة، فإما أن يجب على الوكيل الامتثال أو لا، إن أوجبناه رجع الخيار إلى الموكل حتى إذا أمره بالفسخ فسخ، وإذا أمره بالإجازة أجاز، وإن لم نوجبه كان بعيداً عن حقائق الوكالات، فإنها

مبنية على وجوب الامتثال ومتابعة الموكلين فيما يرونه من زيادة أو نقصان، فكيف يخالف أمره هاهنا ولا يتابعه على ما يعتقده مصلحة، والمصير إلى هذا فيه نظر فليتأمل ولأجل ذلك، حكى بعض الأصحاب أن الاعتبار بمجلس الموكل، على ما حكاه الرافعي وسأذكر في أواخر باب اللقطة عن الماوردي ما يقتضي الجزم بثبوت الخيار للموكل. فإن فرعنا على المذهب فمات الوكيل قبل التفرق، هل ينتقل الخيار إلى الموكل؟ المذهب أنه لا ينتقل. وفيه وجه ألا يقوم مقامه؛ لأن المجلس تعلق بالوكيل، وليس الموكل وارثاً له، كذا قاله ابن الصباغ. قال: وهو أن يقولا: اخترنا إمضاء البيع؛ لأن التخاير تفاعل كالتخاصم والتضارب وذلك لابد فيه من اثنين وقد يستعمل حيث لا تعدد، كقولك: طارقت النعل، وهذا متعذر هنا؛ لأن المقصود بالخيار دفع الغبن فلو اكتفي باختيار أحدهما الإمضاء في لزوم العقد لم يعجز الغابن عن المبادرة إلى الإمضاء وذلك يسقط ثمرة الخيار. على أن فيه وجهاً حكاه [المتولي وأشار إليه] الإمام عند الكلام في الإكراه على التفرق أنه يكتفي بقول أحدهما: اخترت [حتى يسقط خيار الآخر؛ لأن المخير ينقطع خياره بقوله: اخترت] إمضاء العقد وخيار المجلس لا يتبعض في الثبوت فلا يتبعض في السقوط. وهذا التعليل يمكن أن يعكس فيقال: لا ينقطع خيار الساكت؛ لأنه لم يجر منه ما يدل على الرضا؛ فوجب أن يبقى خيار المتكلم أيضاً؛ لأن خيار المجلس لا يتبعض في الثبوت فلا يتبعض في السقوط. وقد حكاه الإمام وجهاً أيضاً، فتحصل من مجموع النقلين ثلاثة أوجه: ثالثها: ينقطع خيار المتكلم دون الساكت وهو الأصح.

ويقوم مقام قولهما: اخترنا إمضاء البيع قولهما: اخترنا العقد أو ألزمناه أو تخايرنا وإشارتهما بذلك إذا كانا أخرسين، والإشارة مفهمة. وكذا لو قالا: قطعنا الخيار أو رفعناه، ولو قالا: أبطلنا الخيار أو أفسدناه ففيه وجهان عن روايه الشيخ أبي محمد. ولو قال أحدهما لصاحبه: اختر، فقال: اخترت. قام مقام قولهما: اخترنا إمضاء العقد، أما إذا سكت فلا ينقطع خياره، وينقطع خيار القائل على الأصح في "التهذيب" وغيره، وهو ظاهر المذهب في "الشامل". واعلم أنه يوجد في بعض النسخ أصلاً، وبعضها ملحقاً في تفسير التخاير: وهو أن يقولا: اخترنا إمضاء البيع أو فسخه. وهذه الزيادة غير صحيحة من جهة النقل والفقه؛ أما النقل فلأن الموجود في النسخ العتق وما عليه خط المصنف منها ويوجبه [ابن الخل] ما اقتصرت على ذكره أولاً من غير ذكر الفسخ. وأما الفقه: فقد اتفق الأصحاب على أن الفسخ ينفذ إذا صدر من أحدهما، ولو اعتبر فيه توافقهما لم يعجز الغابن عن عدم الموافقة حتى يلزم العقد وتبطل فائدة الخيار. وما نقل عن الشيخ يقتضي اعتباره؛ لأنه معطوف على قوله: اخترنا إمضاء البيع، والمعطوف شريك المعطوف عليه، فيكون تقديره: أو اخترنا فسخه. وأجاب عن ذلك الحموي؛ لاعتقاده صحة ذلك وتوهمه كمن أثبت هذه الزيادة، أن الشيخ أراد بيان الحالة التي ينقطع فيها الخيار مع بقاء العقد ومع فسخه، فقال: مراد الشيخ بقوله: "أو فسخه" بطريق البدل إما بأن يفسخ البائع أو المشتري بطريق الصلاحية لكل واحد منهما ولم يرد بطريق الاستقلال؛ ولهذا لو زاد مع قوله: "اخترنا فسخه": "بطريق البدل" لكان جائز الاستعمال بطريق المجاز. وما قاله صدر كلام الشيخ يأباه، وهو قوله: "أو يتخايرا"، وقد ذكرنا أن التخاير

تفاعل لابد فيه من اثنين. والأقرب في الجواب- إن صح هذا أن الشيخ لم يرد بقوله: "اخترنا إمضاء البيع أو فسخه أن يقع منهما هذا القول على هذا النسق، لاتفاق الأصحاب على أن ذلك ليس بشرط، بل المراد: أن يقول أحدهما لصاحبه: اختر إمضاء العقد أو فسخه، فيقول الآخر: اخترت إمضاء العقد أو فسخه، كما ذكره في "المهذب"، ويكون الأول بتفويضه للآخر الإمضاء والفسخ، كأنه قائلاً عند نطق الآخر بالإمضاء: أمضيت، وعند نطقه بالفسخ: فسخت؛ لرضاه بما يقوله، فالقول صادر من أحدهما بالصريح ومن الآخر في ضمن تخييره لصاحبه. لكن الصحيح ما ذكرته أولاً فلا حاجة إلى هذا التعسف وما توهمه من توهمه كما ذكرته فغير صحيح؛ لأن قوله: "ما لم يتفرقا" بيان لانتهاء مدة الخيار مع بقاء ما أوجبه، وهو العقد فليكن المراد بالتخاير مثل ذلك، ولهذا حسن الإتيان بـ"أو" وإلا فكل واحد يعلم أن الشيء إذا رفع أصله الذي شرط وجوده بقاؤه لا يبقى، والله أعلم. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي [ثبوت] هذا الخيار في كل بيع صدر من متعاقدين، سواء كان المبيع ممن يعتق على المشتري لقرابته أو لشرائه لنفسه، أو لشهادته بعتقه ولم تسمع شهادته لمانع إذا جعلناه بيعاً، [أولاً] ايعتق عليه، وسواء كان المبيع حاضراً أو لا يبقى، كالجمد في شدة الحر، ويقتضي عدم الثبوت فيما إذا كان العاقد واحداً، وفي كل من ذلك خلاف في الطرق لا غنى عن ذكره. فنقول: إذا اشترى قريبه الذي يعتق عليه صح شراؤه بالاتفاق وهل يثبت فيه الخيار؟ الذي ذهب إليه الأكثرون أنه يثبت للبائع، وفي ثبوته للمشتري خلاف مبني على أقوال الملك. فإذا قلنا: إن الملك للبائع أو موقوف ثبت له أيضاً، وإن قلنا: إنه للمشتري لم يثبت على الصحيح.

وفي "الحاوي": حكاية وجه أنه يثبت أيضاً. وقال صاحب "التهذيب": يحتمل أن يثبت له إذا قلنا: إنه لا يعتق إلا بانقضاء الخيار، وهو ظاهر المذهب. ثم متى يحكم بالعتق؟ الحكم فيه كالحكم فيما إذا أعتق المشتري العبد المشتري في زمن الخيار ووسنذكره؛ كذا قاله [ابن الحداد] وابن الصباغ. والذي حكاه الإمام والفوارني وتابعهما الغزالي: أنه لا يثبت للمشتري على المذهب المشهور، وأن الأودني قال: بثبوته. وزاد الإمام في الحكاية عنه: أن المشتري لو فسخ في المجلس انفسخ، ولو أعتقه أو ألزم العقد كما لو اشترى عبداً لا يعتق عليه وتمسك [في ذلك] بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - "المتبايعان بالخيار"، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - كما خرجه مسلم وغيره: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه". وقال: هذا ظاهر في إثبات إنشاء إعتاق بعد العقد، وأنا إذا قلنا: بأنه لا خيار للمشتري، فلا خيار للبائع أيضاً. وحكى في كتاب الإقرار: أن العراقيين ذكروا وجهاً بعيداً أنه يثبت له دون

المشتري، ومساق ما حكاه عن الأودني: أن العتق لا يحصل إلا بإنشائه إياه. وإن قلنا: إن الملك له. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن الأودني استدل بالحديث على أن الملك في زمان الخيار للبائع إذا كان الخيار للمشتري وحده وأنه إذا أعتقه يصح؛ لأنا لو قلنا: الملك للمشتري لم يصح عتقه؛ لأنه يعتق عليه بنفس الملك ومساق هذا يقتضي أن الخيار إذا انقضى حصل العتق عند الأودني من غير إنشاء إعتاق. والله أعلم. وإذا اشترى العبد نفسه صح الشراء على الأصح، وهل يثبت فيه الخيار؟ قال القاضي الحسين في التعليق: حكمه حكم البيع. وفيه وجه: أنه لا يثبت، كما لو أعتقه على مال، وهذا ما حكاه في "الإبانة"، والإمام في باب الإقرار. وقال في كتاب الكتابة: الوجه تنزيل ذلك منزلة ما لو اشترى الإنسان من يعتق عليه حتى يخرج الكلام في أن خيار المجلس هل يثبت؟ وهل يقع فيه شرط الخيار؟ وحكي أن الشيخ أبا علي حكى عن الأصحاب أنهم خرجوا عتق العبد على ما إذا اشترى الإنسان عبداً ثم أعتقه في زمان الخيار. وإذا شهد بعتق عبد ثم اشتراه صح العقد في الظاهر؟ لكن هل هو بيع أو فداء؟ أو بيع من جانب البائع فداء من جانب المشتري؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها: ثالثها، وأضعفها ثانيها، فإن جعلناه بيعاً من الجانبين ثبت للبائع والمشتري الخيار. وإن جعلناه بيعاً من جانب البائع ثبت له دون المشتري، وإن جعلناه فداء من الجانبين فلا خيار لواحد منهما، كذا حكاه الرافعي، وحكى الإمام عن القاضي الجزم بأن الخيار لا يثبت للمشتري، وإن أثبتناه في شراء القريب؛ لأن العقد على القريب يتضمن ملكاً ثم يترتب على حصول الملك العتق وليس كذلك ما نحن فيه، فإنا لا نقضي بحصول الملك للمشتري أصلاً، وإذا لم يثبت الخيار للمشتري، فهل يثبت للبائع؟ فيه وجهان.

وإذا اشترى ما لم يره وصححناه فهل يثبت فيه الخيار؟ فيه وجهان: فإن قلنا: يثبت، ففي وقته أربعة أوجه: أحدها: وقت الرؤية، وهو أبعدها، والثاني: وقت العقد، وهو أصحها، والثالث: يثبت وقت العقد للبائع وحده، قال الإمام: وهو أمثل من الأول، والرابع: يثبت للبائع وحده [وقت] الرؤية. وإذا اشترى الجمد في شدة الحر، ففي ثبوت الخيار فيه وجهان يقربان من الوجهين في ثبوته في إجارة العين. وإذا اشترى من ولده الصغير لنفسه شيئاً أو بالعكس صح، وهل يثبت فيه الخيار؟ فيه وجهان: المذكور منهما في "الشامل" و"التهذيب": الثبوت، ثم بماذا ينقطع؟ فيه وجهان: أصحهما في "التهذيب" ولم يذكر في "الشامل" سواه: أنه ينقطع بمفارقته مجلس العقد، ونسبه الماوردي إلى أبي إسحاق، والثاني لا ينقطع إلا بالفسخ أو الإجازة، قال الماوردي: وهو الذي عليه جمهور الأصحاب ويجري فيه الوجه الذي حكيناه من قبل أن نهايته ثلاثة أيام. فروع: إذا جاء المتعاقدان معاً، فقال أحدهما: تفرقنا بعد البيع فلزم، وأنكر الثاني وأراد الفسخ، فالقول قوله مع يمينه. ولو اتفقا على التفرق، وقال أحدهما: فسخت قبله، وأنكر الآخر، فالقول قول املنكر مع يمينه، وعن صاحب "التقريب": أن القول قول من يدعى الفسخ. وهما مذكوران في تعليق أبي الطيب في باب التحالف عن رواية أبي علي في الإفصاح، والذي صححه الماوردي منهما في باب الربا الثاني. ولو توافقا على عدم التفرق وتنازعا هكذا، ففي "التهذيب" أن دعوى مدعي الفسخ فسخ بالشرع. قال: وإن تبايعا على ألا خيار لهما يعني خيار المجلس- لم يصح العقد؛

لأنه خيار ثابت، فإذا شرطا نفيه فقد شرطا ما ينافي مقتضى العقد، فأبطله كشرط عدم التسليم وهذا هو الأصح في "التهذيب"، والرافعي، وبه جزم بعضهم. قال: [و] قيل: يصح، ولا خيار لهما، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار" فاستثنى بيع الخيار، وهو استثناء من إثبات فيكون نفياً، ويكون التقدير: إلا بيعاً شرط فيه نفي الخيار؛ ولأن فيه نوع غرر، [لأنه يمنع] مقصود العقد، والشرع أثبته رفقاً بالمتعاقدين، فإذا أسقطاه سقط؛ لأن الحق لهما ولا يعدوهما، وهذا ما نص عليه البويطي في القديم. ومن قال بالأول، أول الحديث بما قال الشافعي: أنه أظهر التأويلين، وهو أنه أراد بيعا قطع فيه الخيار وقد فسره في الحديث الآخر، وهو قوله: "أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر"، وأجاب عن قولهم: إنه غرر، بأنه: مقتضى العقد فيثبت كيف كان. قال: وقيل: يصح؛ لما قلناه، ويثبت لهما الخيار؛ لأنه خيار ثبت بعد تمام البيع، فلا يجوز إسقاطه قبل تمام البيع كخيار الشفيع. واحترزنا بقولنا: بعد تمام البيع، من خيارهما بعد الإيجاب وقبل القبول، والقائل بسقوط الخيار يمكن أن يفرق بينه وبين الشفعة بأن الشرط إنما يؤثر على الأصح إذا اقترن بالعقد، وإذا اقترن بالعقد فقد وجد بعد سبب الوجوب فأقمناه مقام الوجوب، وفي مسألة الشفعة وجد إسقاط الحق قبل ثبوته وسبب ثبوته، فلم يوجد ما يمكن أن يسند المنع إليه. ونظير هذه المسألة: ما إذا وقع البيع بشرط البراءة من العيوب، أو بشرط نفي خيار الرؤية، إذا صححنا بيع ما لم ير، لكن القول بالفساد في نفي خيار الرؤية قطع به الأكثرون. فرع: لو قال لعبده: إن بعتك فأنت حر، فباعه بشرط أن لا خيار بينهما، فهل يعتق؟ بناه الأصحاب على الأقوال المتقدمة.

فإن قلنا: إن البيع باطل، لم يعتق وكذا إن قلنا: إنه يصح ولا خيار، وإن قلنا: بثبوت الخيار عتق؛ لأنه لو نجز عتقه في خيار المجلس نفذ، فكذلك إذا وجدت الصفة فيه. قلت: وفي حصول العتق، إذاقلنا: بأن الملك للمشتري نظر لباحث؛ لأنا حيث حكمنا بنفوذ عتقه المنجز في زمن الخيار، قدرناه بالعتق فاسخاً للعقد قبيله، وأن العتق وقع في ملكه ضرورة توقف صحته على وقوعه في الملك، وفي مسألة التعليق لم يصدر منه بعد العقد ما يقتضي الفسخ ولا ما يتضمنه، والتعليق لا يصلح متضمناً للفسخ؛ لكونه صدر قبل البيع، والفسخ لا يقبل التعليق والله أعلم. [وجوابه ما قاله القاضي حسين في كتاب الزكاة: حيث حكى نفوذ العتق عن نص الشافعي، وكذلك غيره: أنا نسلم أن الفسخ لا يقبل التعليق قصداً، لكن نقول: قد يقبله ضمناً كالإبراء. فأما ما لا يقبل التعليق قصداً ويقبله ضمناً، وذلك فيما إذا علق عتق المكاتب فأما [ما] يضمنه الإبراء عن النجوم عند وجود الصفة حتى يبيعه إكسابه ولو لم يضمنه الإبراء لكان عتقه غير واقع عنها، فلا يستتبع الإكساب. وهذا الجواب فيه نظر أيضاً: لأنه في مسألتنا علق الشيء قبل ملكه له، وقاعدتنا: أن من لا يملك الشيء لا يملك تعليقه. وفي مسألة الإبراء: التعليق وجد بعد الملك له. ومما يشابه مسألة الكتابة: إذا أسلم الزوج على أكثر من أربع، فقال: من دخلت الدار فهي طالق فدخلت واحدة، طلقت، وكان ذلك اختياراً للزوجية فيها. ولو قال: من دخلت الدار فهي مختارة، لم يصح، فظهر أنه يغتفر في التعليق الضمني ولا يغتفر في المقصود والله أعلم]. قال: وإن تبايعا بشرط الخيار إلى ثلاثة أيام فما دونها جاز. الأصل في صحة شرط الخيار للمتعاقدين: الإجماع، وفي جوازه ثلاثة أيام ما روى مسلم وأبو داود عن محمد بن يحيى بن حبان قال: كان جدي قد بلغ مائة وثلاثين سنة، وما زال يخدع،

فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بايعته فقل: لا خلابة وأنت بالخيار ثلاثاً". وزاد البخاري في تاريخه بعد قوله: "فقل: لا خلابة، وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال". وحكى الإمام: أن سبب ضعفه ما أصابه من شجة في رأسه مأمومة. وكان قد ثقل لسانه لأجل الشجة فكان يقول لا خدابة.

وما روي عن عمر- رضي الله عنه- أنه قال: ما أجد لكم أوسع مما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحبان بن منقذ جعل له عهدة ثلاثة أيام، إن رضي أخذ وإن سخط ترك. وغير ذلك من الأحاديث المذكورة في كتب الفقهاء. وإذا ثبت جواز شرط الثلاث، فما دونها أولى؛ لأن فيه تخفيفاً للغرر. وأما الزيادة على الثلاث فلا يجوز اشتراطها؛ لأن ما حد في الشرع بحد فلا بد أن يفيد المنع من الزيادة أو النقصان، ولما لم يفد هذا الحد المنع من النقصان وجب أن يمنع الزيادة. ولأن الخيار غرر جوز شرطه ثلاثة أيام؛ لأنها مدة قريبة والحاجة تدعو إليها في الغالب بخلاف ما فوقها. ولأن الخيار مخالف لوضع البيع في منع نقل الملك أو لزومه فثبوته حائد عن الوضع فتعين التوقيف فيه، وقد ورد الخبر في إثبات الثلاث فلا مزيد عليها، ولو شرط زيادة عليها بطل العقد. ويقوم مقام قولهما: "شرطنا خيار الثلاث" قولهما: "لا خلابة"، إذا كانا عالمين بمعناها، وهو اشتراط الخيار ثلاثة أيام وإن كانا جاهلين لم يثبت الخيار، وإن علم البائع دون المشتري ففيه وجهان، عن ابن القطان. قال مجلي: ويتخرج الوجهان أيضاً إذا كان المشتري عالماً والبائع جاهلاً، وفيما إذا كانا جاهلين [أو أحدهما] وعلى ذلك جرى ابن التلمساني فقال: إن كانا عالمين بمعناها ثبت، وإن كانا جاهلين أو أحدهما فوجهان، وهذا منه فيه نظر: لأنه فسر قوله: "لا خلابة" بمعنى: لا خديعة، وإذا كان هذا معناه لم يلزم من قوله: "لا خلابة" اشتراط الثلاث، وإن كانا عالمين بمعناها؛ إذ لا يلزم من عدم الغبن والخديعة اشتراط الثلاث. واعلم أن لصحة اشتراط ما دون الثلاث شرطين: أحدهما: أن يقيده بمدة معلومة فلو لم يقيد بل قال: يكون لنا الخيار وقتا من

النهار أو [وقتاً] من الليل، أو لا ينتهي إلى ثلاثة أيام لم يصح. والعلم تارة يحصل بأن يقال: إلى طلوع الشمس، أو إلى وقت طلوعها من الغد، وإلى غروب الشمس، أو إلى وقت غروبها من الغد. وخالف الزبيري وقال: التقييد بطلوع الشمس لا يصح. وتارة بأن يقال: إلى يوم أو ساعة فيصح وإن أطلق؛ لأنه يحمل على اليوم الذي هو فيه كما لو حلف [أنه] لا يكلمه شهراً، ثم ينظر: إن كان العقد نصف النهار ثبت له الخيار إلى أن ينتصف النهار من الغد، والليل يدخل في حكم النهار للضرورة، وإن كان العقد بالليل فلابد أن يشترط الخيار في بقية الليل، كذا قاله في "التتمة" وفيه نظر، من حيث إنه جعل اليوم محمولاً على اليوم الذي هو فيه، وفي نظيره من الإجارة لا يصح، ولم يظهر لي فرق بينهما.

الشرط الثاني: أن يكون متوالياً، فلو قال: على أن يكون لنا الخيار اليوم وبعد غد ويكون العقد لازماً في الغد لم يصح وكذا لو شرطا الخيار [في الغد دون اليوم؛ لأن العقد بعد لزومه لا ينقلب جائزاً بالشرط ولهذا لو شرطا الخيار] ثلاثة أيام ثم أسقط الخيار في اليوم الأول سقط الكل. ولصحة شرط خيار الثلاث شرط ثالث غير اتصالها بالعقد أو بلزومه، وهو: أن يكون المبيع مما لا يفسد فيها، فلو كان مما يفسد فيها، فهل يصح العقد ويباع عند الإشراف على الفساد أو يبطل العقد؟ فيه وجهان محكيان في البيان عن الفقيه زيد بن عبد الله. قلت: ويتجه أن يكونا مفرعين على القول بأن خيار المجلس يثبت فيه، وأما إذا قلنا: لا يثبت فيه فخيار الشرط أولى لضعفه، بسبب افتقاره للشرط، وإذا لم يثبت بطل العقد؛ لأنه شرط فاسد انضم إليه. قال: إلا في الصرف وبيع الطعام بالطعام؛ لأن الشرع اعتبر في ذلك التقابض، ليتمكن من التصرف فيه، وينقطع العلق، والخيار يمنع التصرف ويبقي علقه، فهو مناقض لموضوع الشرع، ولأن ذلك لا يقبل الأجل لما فيه من الغرر، والخيار أحق أن يكون غرراً من الأجل؛ لأنه يمنع الملك أو لزومه فهو أولى بألا يحتمل. وفي "النهاية": أن الخيار في الحقيقة تأجيل لنقل الملك أو تأجيل لزومه. والمراد بالصرف: تبايع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة أو أحدهما بالآخر. قال النووي: وسمي بذلك لصرفه عن مقتضى باقي البيوع، وقيل: لصيرفه، وهو صوته في كفه الميزان، وقال الماوردي: لأن الشرع أوجب على كل واحد مصارفة صاحبه، أي: مصافقته. تنبيه: قال ابن يونس: واعلم أن هاهنا موضعين آخرين لابد من استثنائهما: السلم، وكل شراء يستعقب العتاقة، فإنه لا يثبت فيه خيار الشرط، ولا خيار المجلس على المذهب الصحيح ووافقه ابن التلمساني على ذلك، وزاد موضعاً ثالثاً وهو: المعاوضة على ما في الذمة حيث يجوز الاعتياض عنه. وما قالاه غير محتاج إليه؛ لأن السلم بيع دين، وكذا المعاوضة على ما في الذمة؛

وقد بينا في أول الباب أن المراد بالبيع المبوب عليه: بيع الأعيان. وشراء القريب قد بينا أن خيار المجلس ثابت فيه عند الجمهور كما فصلناه. وخيار الشرط عندهم [كذلك] كما أشار إليه الرافعي بقوله: "والقول الجملي في خيار الشرط: أنه مع خيار المجلس متلازمان في الأغلب، فإن أردت التفصيل فراجع ما سبق في خيار المجلس، وما قاله مطرد في كل ما يسمى: بيعاً، وقد صرح القاضي الحسين بثبوته جزماً في كتابه الوصية عند الكلام فيما إذا أوصى له بقريبه، وقلنا: إنه يملك بالموت. [تنبيه] آخر: إطلاق الشيخ القول بجواز اشتراط خيار الثلاث فما دونها من غير أن يعين من يثبت له فيه إشعار بجواز اشتراطه لهما ولأحدهما، كما حكاه غيره، ومنه يستنبط جواز اشتراطه لأحدهما ثلاثة أيام وللآخر دونها؛ لأنه إذا جاز أن ينفرد أحدهما به فانفراداه ببعضه أولى ويجوز اشتراطه لغيرهما سواء كان ذلك الغير العبد المبيع أو غيره كما جزم به الإمام، وادعى اتفاق الأصحاب [عليه]؛ إذ لو لم يكن كذلك لكان مطلقاً للفظ في موضع لابد فيه من التصفيل، ومما يؤيد ذلك: أن خيار المجلس لما كان مختصاً بالمتعاقدين ولا يجوز انفراد أحدهما به ابتداء، قال فيه: وإذا انعقد البيع ثبت لهما الخيار. وفي طريقة العراق- على ما حكاه في "المهذب" و"الشامل"، وطريق المراوزة على ما حكاه البغوي والمتولي- حكاية قول فيما إذا شرط لغير المتعاقدين أنه يبطل العقد. وعلى المذهب: هل يثبت الخيار لمن اشترطه للأجنبي مع الأجنبي؟ فيه قولان: أصحهما: أنه لا يثبت اقتصاراً على الشرط. والثاني: يثبت لمعنيين. أحدهما: أن شرط الخيار للأجنبي يشعر بإثباته لنفسه من طريق الأولى. والثاني: أنه يستحيل ثبوت الخيار لغير المتعاقدين إلا على سبيل النيابة. وعليهما يخرج ما لو شرطا الخيار لأجنبي دونهما، فعلى الأول يختص به.

وعلى الثاني: يبطل، ثم حيث حكمنا بثبوته لهما فلا يتوقف اختيار أحدهما الفسخ والإجازة على أمر الآخر، ولو أجاز أحدهما وفسخ الآخر، كان الفسخ أولى، وحيث حكمنا بثبوته للثالث خاصة، فإذا مات الوكيل في زمن الخيار ثبت للموكل على الأصح في "التهذيب" وهو قريب مما حكيناه في خيار المجلس. فروع: [الأول] إذا اشترى شيئاً على أن يؤامر فلاناً فيأتي بما يأمره [به]، المنقول عن نصه في "الإملاء": أنه يجوز، وليس له الرد حتى يقول استأمرته فأمرني بالفسخ، فمن الأصحاب من قال: لا يفسخ إلا بالإذن وفاءً بالشرط، ومنهم من قال: [يجوز] بغير إذنه، وحمل النص على مراعاة الصدق وذلك فيما إذا قيد المؤامرة بالثلاث فما دونها، وقيل: يحمل على الإطلاق كما في خيار الرؤية. [الثاني] الوكيل بالبيع أو الشراء يجوز أن يشترط الخيار بإذن موكله، ولمن يثبت عند الإطلاق؟ فيه ثلاثة أوجه: ثالثها لهما، ولا يجوز أن يشترطه بغير إذن موكله لغيره ويجوز أن يشترطه لموكله على الأصح. وفي اشتراطه لنفسه وجهان. وفي "النهاية" في كتاب الوكالة حكاية وجه: أنه يجوز أن يشترطه لغير موكله من بائع أو مشتر. ثم حيث أثبتناه له لم يفعل إلا ما فيه الحظ للموكل؛ لأنه مؤتمن، بخلاف الأجنبي المشروط له الخيار فإنه لا يلزمه رعاية الحظ. قال الرافعي: ولناظر أن يجعل شرط الخيار له ائتماناً، وهذا أظهر إذا جعلناه نائباً عن الشارط. الثالث إذا باعه على أنه إن لم ينقد الثمن في ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما، أو باع على أنه إن رد الثمن في ثلاثة أيام فلا بيع بينهما، فهذا شرط فاسد، وعن أبي إسحاق

المروزي: أنه يصح العقد، والمذكور في الصورة الأولى شرط الخيار للمشتري، وفي الثانية شرطه للبائع. وإذا شرط الخيار في أحد العينين على الإبهام لم يصح وإن كانت معينة ففي الصحة قولا تفريق الصفقة في الحكم ولا فرق عند الشيخ أبي حامد فيجريان القولين بين أن يكون قد قدر ثمن كل عين منهما أو أطلق. وقال صاحب التلخيص: إن كان ثمن كل عين مقدراً صح وقلته تخريجاً قال العمراني في الزوائد: فمن أصحابنا من وافقه ومنهم من وافق أبا حامد. وعلى قول الصحة إذا أجاز البيع في الذي شرط الخيار فيه أخذهما بالثمن، وإن لم يجزه جاز البيع في الآخر وأخذه بقسطه من الثمن، كذا قاله أبو الطيب في تعليقه. [الرابع]: إذا مات أحد المتعاقدين في مدة الخيار، انتقلت بقية المدة لوارثه، فإن كان غائباً وتصرمت بقية المدة قبل اطلاعه ففي "الحاوي": أنه يسقط الخيار ويلزم العقد. وفي "الشامل" وغيره: أنه لا يسقط ولكن هل يثبت له على الفور، أو بقدر ما بقي من المدة؟ فيه خلاف. ولو ارتد في مدة الخيار ومات حكى الرافعي في كتاب الشفعة: أن للإمام الرد. قال: ويعتبر ابتداء المدة- أي: في خيار الشرط- من حين العقد؛ لأنه خيار ثبت بالشرط والشرط وجد في العقد؛ ولأن زمان التفرق مجهول، ووجهه الشيخ وغيره من العراقيين: بأن مدة الخيار [مدة] ملحقة بالعقد فكانت من حين العقد كالأجل، وقاسوا على الأجل؛ لأن الشافعي نص فيه على ذلك؛ كما قاله ابن الحداد. واحترزوا بقولهم: "ملحقة بالعقد"، من الاستبراء فإن ابتداء مدته من حين القبض على وجه، ومن حين اللزوم على وجه. ووجه مشابهة الخيار الأجل: أن كلا منهما مانع من المطالبة وهو مماثل له في هذا المعنى، وقد اجتمعا، فكذلك خيار اشلرط [مع] خيار المجلس.

أو لأن الخيار في الحقيقة تأجيل لنقل الملك أو للزومه، والأجل تأجيل للمطالبة، وقد اجتمع أحد التأجيلين مع خيار المجلس فكذلك الآخر، وهذا هو الصحيح في الخيار والأجل. وفي طريق المراوزة حكاية وجه في الأجل، أن ابتداءه من حين انقطاع خيار المجلس. قال الإمام: ومن قال به فقياسه يقتضي أن يقول: إذا اشترط في البيع خيار ثلاثة أيام وأجل الثمن أن يكون ابتداء الأجل من انقضاء خيار الشرط [لأنه عنده في معناه ولا سبيل إلى الجمع بين المتماثلين هكذا حكاه هاهنا، وحكى في آخر باب الشرط [الذي يفسد البيع وجهين في أنه يثبت من وقت انقضاء خيار المجلس، أو من وقت انقضاء خيار الشرط]. ثم قال: والوجه القطع بأن ابتداء الأجل من انقضاء الخيار المشروط على الوجه الذي عليه نفرع، فإن الأجل أحق بمجانسة خيار الشرط منه بمجانسة خيار المجلس، والمجانسة تؤثر في منع الجمع. قال: وقيل من حين التفرق، أي: أو التخاير؛ لأن الجمع بين خيارين متماثلين في وقت واحد لاغ لا معنى له، وكل شرط لم يتضمن فائدة: لغو، هكذا حكاه الإمام. وعبر عنه الغزالي: بأن اجتماع خيارين متماثلين في وقت واحد لا يعقل. والمراد بالمتماثلين: أنهما: [خيار الشرط والمجلس]؛ ولأن الشارط إنما يبغي الإثبات لنفسه في وقت يقتضي العقد لزومه، وهذا ميل النص إليه أكثر، كما قاله الإمام في آخر باب الشرط الذي يفسد البيع، وقاله الماوردي أيضاً ثم إنه ظاهر [مذهب الشافعي]، وكذا أبو الطيب في "شرح الفروع"، وقال: إن لفظه ولو اشترط الخيار في البيع أكثر من ثلاثة بعد التفرق فسد البيع. وللقائل الأول أن يجيب عن الأولى: بأن الخيار واحد، لكن له جهتان: المجلس والشرط، وذلك لا تعدد فيه، كما أنه يثبت بجهة الخلف والعيب معاً. وعن الثانية بأن تنزيل الشرط على ما ذكرتموه يورث الجهالة؛ لأنو قت انقطاع خيار المجلس [مجهول فإن قيل: هذا جهل من أحد طرفي الخيار، وذلك غير ممنوع بدليل خيار المجلس فإن انتهاءه غير معلوم.

قلنا: الفرق من جهتين: أحدهما: أن ما ذكرتموه يؤدي إلى تثكير الجهالة. والثاني: أن خيار المجلس] ثابت بالشرع فهو أقوى، فلا يقاس عليه الأضعف. التفريع: إن قلنا، بالقول الأول، وهو ما ذهب إليه ابن الحداد، فلو اصطحبا حتى مضت مدة خيار الشرط، وبقي خيار المجلس، فإن أسقطا أحد الخيارين لم يسقط الآخر، ولو قالا: ألزمنا العقد وأسقطنا الخيار مطلقاً سقطا، ولو شرطا الاحتساب من وقت التفرق بطل الشرط والعقد، وحكى صاحب "التقريب" وجهاً: أن الشرط لا يبطل، وضعفه الإمام، وقال: لا أصل له. وإن قلنا: بالقول الثاني، وهو طريقة أبي إسحاق المروزي، على ما هو محكي في "شرح الفروع"، فلو قالا: أسقطنا الخيارين، أو قطعناهما انقطع خيار المجلس، وهل ينقطع خيار الشرط؟ فيه وجهان: حكاهما الإمام، وفي "التهذيب" تصوير محلهما بما إذا أوجب أحدهما البيع في المجلس. ووجه عدم السقوط: أنه غير ثابت بعد. ولو شرطا الاحتساب من حين العقد ففيه وجهان، حكاهما ابن الحداد عن أبي إسحاق أصحهما عند العراقيين الصحة، وهما مبنيان عند الشيخ أبي علي، وصاحب "التقريب" على العلتين، فعلى الأولى، لا يصح العقد؛ لأن الجمع غير ممكن، ولا سبيل إلى إسقاط خيار المجلس لقوته، وإذا لم يسقط كان حقيقة الشرط ترجع إلى اشتراط ما يبقى من الثلاث من حين التفرق، وذلك مجهول مبطل، وعلى الثانية يصح مع الشرط؛ لأن التصريح يبين أنه لم يرد بالشرط ما بعد التفرق. وقد حكى ذلك الإمام والغزالي، والبناء ظاهر على عبارة الغزالي. وأما على عبارة الإمام ففيه نظر، من حيث إنه إذا كان الشرط لا يتضمن فائدة، وقد

ألغي فكيف يفسد به العقد، إذ العقد إنما يفسد بالشرط [الفاسد] الذي يتأثر به العقد ويبقى علقه. [على] ما سيأتي. وقد أبدى الإمام ذلك احتمالاً في عدم الإبطال، في آخر باب الشرط الذي يفسد البيع، وقال الماوردي فيه أيضاً: يجب أن يكون الخلاف مخرجاً من اختلاف الوجهين في البيع، إذا شرط فيه نفي خيار المجلس؛ لأنهما إذا شرطا خيار الثلاث من وقت العقد، فقد أسقطا خيار المجلس. فرع: لو شرطا الخيار بعد العقد وقبل التفرق، وقلنا: بثبوته على ما سنذكره- إن شاء الله تعالى- في باب المرابحة فالحكم على الوجه الثاني لا يختلف، وعلى الأول يكون الاحتساب من وقت الشرط لا من وقت العقد. قال: وينتقل المبيع إلى المشتري بنفس العقد في أحد الأقوال. هذا مستنبط من نص الشافعي- رضي الله عنه- فيما إذا باع عبداً بشرط الخيار، ثم أعتقه في زمان الخيار، حيث قال: ينفذ عتقه، ويعود إلى ملكه، فلولا أنه يزول عن ملكه، وإلا لما قال: إنه يعود؛ لأن العود إنما يكون بعد الزوال، كذا قاله القاضي الحسين. وقال الماوردي: إنه نص عليه في زكاة الفطر. ووجهه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من باع عبداً وله مال، فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع"، وجه الدلالة منه: أنه جعل المال للمبتاع بالشرط وحده، ولأن البيع قد تم بالإيجاب والقبول، فثبوت الخيار فيه لا يمنع الملك كخيار العيب؛ لأن البيع موضوع لنقل الملك، فلو استأجر عنه لكان في معنى تعليق العقد على أمر مجهول، وهو زوال الخيار. ووجهه الشيخ في "المهذب" وغيره: بأنه عقد معاوضة، فانتقل الملك فيه بنفس العقد كالنكاح، وفيه نظر؛ لأن الخلاف في نقل الملك جاء لأجل الخيار، والنكاح لا خيار فيه، فنظيره إن تبايعا على أن لا خيار مجلس بينهما، وصححنا العقد، فإن الملك

فيه ينتقل بنفس العقد وجهاً واحداً، وعلى هذا يكون الملك في الثمن للبائع. فائدة: هل نقول [على] هذا القول حصل الملك مع آخر اللفظ أو مترتباً بعده؟ فيه خلاف حكاه الغزالي في ضمن ضابط. ذكره في كتاب الطهارة، عند قوله: أعتق عبدك عني. قال: وبانقضاء الخيار في الثاني: هذا مستنبط من نص الشافعي فيما إذا باع جارية بشرط الخيار، وكانت حاملاً فوضعت [فإنه قال]: يلزم المشتري الاستبراء، ولو كان الملك فيها للمشتري؛ لحصل الاستبراء بالولادة. ووجهه ما روى مسلم [والبخاري] أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا، إلا بيع الخيار". وجه الدلالة منه: أن البيع ليس منفياً بالاتفاق، فيتعين أن يكون المنفي حكماً من أحكامه، وأقربها لنفي الذات نفي الملك، ولأنه إيجاب غير لازم مع سلامة المعقود عليه، فلم ينتقل الملك ما لم يلزم، كعقد الهبة، وعلى هذا يكون الثمن للمشتري. قال: وموقوف في القول الثالث، فإن تم البيع بينهما حكمنا بأنه انقتل بنفس العقد، وإن لم يتم حكمنا بأنه لم ينتقل هذا مستبنط من نص الشافعي، حيث قال: لو اشترى زوجته بشرط الخيار، لا يحل له وطؤها في زمن الخيار، لأنه لا يدري أيطأ زوجته أو مملوكته. ووجهه أن ما يدل على انتقال الملك قد عارضه ما يدل على بقائه، وليس لأحدهما رجحان على الآخر فيقفان، ولأن البيع سبب الزوال، [إلا أن] شرط الخيار يشعر بأنه لم يرض بالزوال جزماً، فوجب أن يتربص وينتظر عاقبة الأمور، كذا قاله الرافعي. ومقتضى هذا التعليل أن يكون محل هذا القول خيار الشرط، دون خيار المجلس،

وليس كذلك بل الأقوال تجري فيه أيضاً، وعلى هذا القول يكون الثمن أيضاً موقوفاً. ثم الأقوال تجري عند العراقيين فيما إذا كان الخيار لهما أو لأحدهما، وكذلك حكى الفوراني في إبانته. ورواه طريقة أخرى للمراوزة، أن محلها: إذا كان الخيار لهما، أما إذا كان لأحدهما فهو المالك للمبيع. ومنهم من نفي الخلاف في المسألة، وقال: إن كان الخيار للبائع وحده فالمبيع على ملكه، وإن كان للمشتري وحده فالمبيع منتقل إليه، وإن كان لهما فالملك في المبيع موقوف، وهذه الطريقة اختارها القاضي الروياني في الحلية. ثم إذا جرت الأقوال، فما الأظهر منها؟ الذي رجحه الشيخ أبو حامد ومن نحا نحوه القول الأول، وبه قال الإمام ورجح آخرون قول الوقف، وبه قال البغوي، واختاره ابن عصرون في "المرشد". وذهب بعض المحققين على ما حكاه الإمام هنا، وفي كتاب الإقرار، واختاره الفوراني أن الخيار إن كان للمشتري وحده فالأصح انتقال الملك إليه، وإن كان للبائع وحده فالأصح بقاء الملك في المبيع [له]، وإن كان الخيار لهما فالأصح قول الوقف. وتظهر فائدة الخلاف في مسائل. منها: إذا اكتسب المبيع شيئاً في زمن الخيار لمن يكون؟ ينظر إن تم البيع وقلنا: إن الملك للمشتري أو موقوف [فهو له]. وإن قلنا: إنه للبائع، فوجهان: الجمهور على أنه له، وعن أبي علي الطبري: أنه للمشتري؛ لأن سبب ملكه موجود أولا، وقد استقر عليه آخراً، فيكتفي به. وإن فسخ، فإن قلنا: الملك للبائع، أو موقوف فهو له، وإن قلنا: إنه للمشتري فوجهان: أصحهما أنه له. وبنى صاحب "التتمة" الوجهين على أن الفسخ رفع العقد من حينه، أو من أصله، وفيه خلاف حكاه، فإن قلنا: بالأول فهو للمشتري، وإن قلنا بالثاني فهو للبائع. قلت: يتجه أن يكون هذا الخلاف مبنياً على الخلاف المتقدم، فإن قلنا ثم: إنه يكون للمشتري فيكون هنا للبائع، وإن قلنا ثم: يكون للبائع، فهاهنا، هل يكون

للمشتري؟ فيه الخلاف، بناء على أن الفسخ يرفع العقد من أصله أو من حينه. وفي معنى الكسب اللبن، والبيض والثمرة المؤبرة، ومهر الجارية إذا وطئت بالشبهة، وكذا الولد إن فرض حصوله، وانفصاله في زمان الخيار لامتداد المجلس، أما إذا كان مختبئاً حالة البيع، وانفصل في زمن الخيار، فإن قلنا: لا يأخذ قسطاً من الثمن فهو كالكسب، وإن قلنا: إنه يأخذ قسطاً منه وهو الصحيح فهو لمن استقر له الملك. وحيث حكمنا بأن الولد للمشتري، هل يكون مضموناً على البائع حتى يسلمه؟ فيه وجهان مخرجان من اختلاف قوليه في نماء الصداق، هل يكون مضموناً على الزوج؟ كذا حكاه الماوردي وأجراه في الكسب والثمرة، وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب بيع الطعام: الجزم بأنه يكون أمانة في يده، وحيث حكمنا بأن الولد للبائع وانفسخ العقد، قيل: يكون مضموناً على المشتري. قلت: ويتجه أن يكون ضمانه مخرجاً على أنه يضمن الأم إذا تلفت في يده، كما في ولد العارية، وسنذكره. ومنها: نفقة المبيع على من تجب؟

قال الجيلي: إن قلنا: بانتقاله إلى المشتري فعليه، وإن قلنا: ببقائه على ملك البائع فعليه، وإن قلنا: بالوقف فعليهما، ويجبر كل منهما صاحبه على النفقة، والحاكم يجبرهما إذا امتنعا أو يفسخان، وهو موافق لما ذكر في زكاة الفطر، وكان يتجه أن يكون الحكم في النفقة كالحكم في الكسب، ويجعل الغنم في مقابلة الغرم. ويعضد بما حكاه الرافعي في نفقة العبد الموصى به بعد موت الموصى، وقبل القبول والرد: من أن حكمها حكم الكسب، وإن كان في "الوسيط": أنها مع الفطرة على الموصى له إذا قبل على كل قول، وعلى الوارث إن رد على كل قول، ولا يعود فيها الوجه المذكور في الزيادات، وإن كان يحتمل أن يقال: الغرم في مقابلة الغنم، لكن إدخال شيء في الملك قهراً أهون من إلزام مؤنته قهراً، وهذا لا يجيء مثله هاهنا؛ لأنه هو المتسبب للإلزام بالعدق. ومنها: إذا اشترى زوجته هل يحل له وطؤها في زمن الخيار؟ إن قلنا: إن الملك للبائع حل له وإن قلنا: [إنه للمشتري] لم يحل له؛ لأنه ملك ضعيف، وكذا إن قلنا: إنه موقوف؛ لأنه لا يدري أيطأ زوجته فيحل، أو مملوكته بملك ضعيف فلا يحل، هكذا قاله الغزالي في حل إشكال النص في باب الإقرار. وحكى الرافعي هنا: أنه ليس له الوطء من غير بناء، ثم قال: وفيه وجه آخر، لم يزد على ذلك، وما ذكره الغزالي أحسن. ومقتضاه: أنا إذا قلنا: بأن الملك للمشتري أن النكاح ينفسخ به مع ضعفه، وقد صرح بذلك فيما إذا أوصى له بزوجته، فقال: إن قلنا: إنه يملك انفسخ النكاح، وإن كان ضعيفاً وموضع الكلام في هذا "باب ما يحرم من النكاح" فليطلب منه. ومنها: لو طلقها في زمن الخيار ثلاثاً، فإن تم البيع، وقلنا: إن الملك له أو موقوف [لم يقع]. وإن قلنا: [إن الملك للبائع ففي وقوع الطلاق وجهان، وإن فسخ وقع إن قلنا: لا ملك له أو موقوف، وإن قلنا:] إنه ملك بنفس العقد ففي وقوع الطلاق وجهان.

[ومنها: لو كان المبيع جارية وحاضت بعد العقد، وقبل انقضاء الخيار، فإن قلنا: إن الملك للبائع لم يعتد بهذه الحيضة عن الاستبراء، وإن قلنا: إنه للمشتري أو موقوف، ففي الاعتداد بها وجهان] ظاهر النص منهما على ما هو محكي في كتاب الاستبراء أنه لا يعتد بها أيضاً؛ لأن الفرج في زمن الخيار محظور عليه، وينبغي أن يقع الاستبراء في زمن الإباحة وحكم الولادة في زمان الخيار لولد الزنا كالحيض، قاله الماوردي. وفي مجموع المحاملي الجزم بالاعتداد بذلك: إذا قلنا: بأن الملك للمشتري أو موقوف، وكان الخيار له وحده، والجزم بعدم الحصول إذا كان للبائع أو لهما. قال: ولا يملك المشتري التصرف في المبيع حتى ينقطع خيار البائع، ويقبض المبيع. اعلم أن الألف واللام في "التصرف" إن استعملهما الشيخ لإرادة العموم حتى يتناول المنع كل تصرف، كان ذلك منه اختياراً لغير الصحيح من المذهب في بعض الصور؛ لأنه عنى ملك التصرف بانقطاع خيار البائع وقبض المبيع، ومن التصرفات ما لم يتوقف على القبض على الصحيح، كما ستعرفه من بعد، ومنها أيضاً ما ينفذ في زمن الخيار وهو العتق- على ما سنبينه- ونفوذه دليل على ملكه له. وقد يجاب عن هذا، بأن نفوذ الشيء لا يدل على ملكه، ألا ترى أن أحد الشريكين إذا وطئ الجارية المشتركة نفذ حكم وطئه في ثبوت الاستيلاد وغيره، وإن كان لا يملك الوطء. وعلى تقدير التسليم فالمراد نفي ملك تصرف ينفذ حكمه في الحال، من غير أن ينتظر أمراً آخر، والعتق ليس كذلك. وإن استعملهما لإرادة حقيقة الجنس، لزم منه ما ذكرناه أيضاً، لأنه نفي المطلق، ونفى المطلق يقتضي نفي الجميع. وإن استعملهما لإرادة المعهود، وهو البيع المتقدم ذكره كان ماشياً على قاعدة

المذهب، غير أن كلامه لا يكون شاملاً لكل تصرف هو ممنوع منه قبل وجود ما ذكره، وذلك أسهل من مخالفة المذهب. فنوجهه ونقول: توقف ملك التصرف المذكور على انقضاء الخيار ظاهر، إن قلنا: لا يملك [إلا به، وإن قلنا: إنه يملك بنفس العقد فهو ملك ضعيف معرض للسقوط، فوجب ألا يملك] التصرف فيه [لضعفه] كملكه [للمكاتب]، وإن قلنا: إن ملكه موقوف]، فلأنه إذا لم يملكه مع القول بأن الملك له في الحال لضعفه، فلأن لا يملكه وهو يجهل حصول الملك له كان أولى. وأما توقفه على قبض المبيع فوجهه ما روى الإمام أحمد عن حكيم بن حزام أنه قال: قلت يا رسول الله: إني ابتاع بيوعاً، فما الذي يحل لي منها؟ وما الذي يحرم؟ فقال: إذا ابتعت بيعاً فلا تبعه حتى تقبضه. [وفي رواية أخرى، أخرجها الترمذي وأبو داود]: "لا تبع ما ليس عندك". وروى أبو داود عن زيد بن ثابت، قال: نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. وروى البيهقي بسنده عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى عتاب بن أسيد، وكان قد

ولاه مكة: "انههم عن بيع ما لم يقبضوا، وربح ما لم يضمنوا". واختلف الأصحاب في تعليل المنع بماذا؟ على وجهين: نذكرهما مع ما يظهر من فائدتهما في الباب الثاني، إن شاء الله تعالى. وفي "المهذب" وغيره وراء ما ذكرناه حكاية وجهين آخرين: أحدهما: أنه إن باع بإذن البائع صح إن قلنا: إن الملك له؛ لأن المنع من التصرف لحق البائع فزال بإذنه، وكذلك حكاه في "الشامل" أيضاً وقال: إن العقد يلزم على الوجهين جميعاً. وقياس ما سنذكره من الخلاف في أن التصرف المردود، هل يبطل الخيار أن يجري هاهنا؟ وهذا الوجه لم يحك الفوراني سواه، لكنه لم يفرعه على قول الملك، بل أطلق القول به، وكذلك حكاه الرافعي مع الأول من غير تفريع على قول الملك وصححه، وبه جزم الماوردي أيضاً. والثاني عن الإصطخري: أن البيع يصح إن قلنا: إن الملك له، وإن لم يأذن له البائع، وللبائع الخيار فإن فسخ بطل تصرف المشتري. ووجهه بأن تصرفه صادف ملكه الذي ثبت فيه للغير حق الانتزاع، فأشبه ما إذا اشترى شقصاً في شفعة فباعه. والذي يقتضيه إيراد الشيخ ترجيح عدم الصحة، وإن أذن فيه البائع، فإنه علق ملك التصرف على القبض، وعلى انقطاع الخيار، وبالإذن له في البيع لا يظهر أنه ينقطع خياره، كما لا يبطل حق الوثيقة في الرهن بإذن المرتهن للراهن في البيع ما لم يوجد البيع. وإذا لم ينقطع الخيار فالملك غير تام؛ فلذلك لم يصح البيع، ويخالف الرهن فإنه يصح بيعه؛ لأن الملك فيه تام، وإنما امتنع التصرف لمحض حق المرتهن وقد أذن، وقد يقال: إن الإذن في البيع يبطل الخيار، لأنه يسقط بمثل ذلك في قول أحدهما

للآخر: اختر، فيقوم الإذن مقام قوله: اختر. والفرق بين المشتري هاهنا وبين مشتري الشقص المشفوع: أن الشفيع لا يرفع ملك المشتري، وإنما يقرره ويقطعه، وذلك يدل على قوته؛ فلذلك صح تصرفه، وإن لم يأذن والبائع هاهنا إذا أخذ المبيع رفع ملك المشتري إما من أصله أو من حينه على اختلاف الطريقتين، وذلك يدل على ضعفه فانقطع الإلحاق. واعلم أن تعميم الشيخ المنع يدل على أنه لا فرق عنده في التصرف قبل انقضاء الخيار، وقبل القبض بين أن يكون مع البائع أو غيره، والمشهور فيما إذا باعه من البائع في زمن الخيار صحة البيع، وهو اختيار ابن سريج؛ لأن صدوره منهما رضا بلزوم الأول كما لو تخايرا. وقال الماوردي في أواخر باب الربا: هذا غير صحيح؛ لأن العقد الأول لم يستقر بالافتراق ولا بالتخاير، وما ذكر من التعليل فغلط، والفرق بينه وبين التخاير: أنهما إذا اختارا الإمضاء فقد رضي كل واحد منهما بإقرار ملك صاحبه على ما انتقل إليه، فاستقر بذلك الملك. وإذا اتفقا على البيع الثاني فكل واحد منهما لم يرض باستقرار ملك [صاحبه على ما انتقل إليه، فلم يستقر بذلك الملك، فكان حكم التخاير والبيع مختلفاً، فلم يجز أن يكون في لزوم العقد متفقاً]. وعن صاحب "التقريب": أنه مبني على أن الخيار هل يمنع انتقال الملك؟ إن قلنا: يمنع لا يصح. وحكى الإمام عن شيخه الخلاف في صحة البيع أيضاً. ووجه المنع بأن المشتري لا يجوز له الانفراد بالبيع، فإذا ابتدأ بالإيجاب بطل، والقبول يترتب عليه. ثم قال: وما ذكره يقتضي تردداً في صحة بيع المرهون من المرتهن من غير تقديم فك الرهن، والذي أقطع به نقلاً جواز البيع. وفي "الوسيط" عند الكلام في التولية: حكاية خلاف فيما إذا باع المبيع من البائع

قبل القبض هل يصح؟ وحكاه البندنيجي في باب [بيع الطعام]، وفي الرافعي: أن الصحيح: عدم الصحة. وفي "تعليق" القاضي الحسين وغيره كلام سنذكره [في الباب الثاني] إن شاء الله تعالى. ولا غنى بنا عن ذكر ما قاله الأصحاب في التصرف من الهبة والعتق، وغيرهما قبل انقضاء الخيار فنقول: الهبة والوقف ملحقان بالبيع فيما ذكرناه، على ما حكاه ابن الصباغ وغيره. وفي "الحاوي": إلحاق الوقف والتدبير بالعتق، وحكاية خلاف في الكتابة هل تلحق بالبيع أو بالعتق؟ وأما العتق إذا صدر منه بغير إذن البائع فقد بناه العراقيون عند الإجازة، والرد على أقوال الملك فقالوا: إن تم العقد نفذ إن قلنا: إن الملك له [أو موقوف، وكذا إن قلنا: لا ملك له، وإن فسخ وقلنا: لا ملك له أو موقوف لم ينفذ، وكذا إن قلنا: إن الملك له] على المذهب. وعن ابن سريج أنه ينفذ إذا كان موسراً دون ما إذا كان معسراً كعتق المرهون. وحكى الرافعي: أن من الأصحاب من أطلق الحكاية عنه بنفوذه من غير تقييد باليسار. فإن قلنا: يعتق، فهل يرجع البائع بالثمن أو بالقيمة؟ فيه وجهان، عن ابن سريج أيضاً، وإن كان العتق قد صدر بإذن البائع نفذ، ولم يحكوا فيه خلافاً، وكان يتجه أن يخرج على اقوال الملك والممكن في توجيهه أن يقال: البائع بالإذن له [فيه] مبطلاً لخيار نفسه، كما هو مبطل له بقوله له اختر على المذهب، وإذا كان كذلك فقد انفرد المشتري بالخيار، فينفذ عتقه كما لو كان الخيار له وحده ابتداء، فإنه ينفذ عتقه على ما سيأتي. ولكن يلزم على هذا إن كان هذا هو المأخذ أن يصح بيعه أيضاً إذا أذن له فيه جزماً، كما حكيناه عن الفوراني، وقد حكينا عنهم إجراء خلاف فيه.

ويمكن أن يفرق بأن العتق للشارع تشوف إلى تحصيله؛ ولذلك لو قال لغيره: أعتق عبدك عني، صح منه هذا الاستدعاء، وإذا أعتقه عنه قدرنا انتقال الملك في المعتق إلى المستدعي قبيل العتق حتى يقع العتق في ملكه، وإذا صح مثل ذلك ولم يجر سبب يقتضي نقل الملك، فمع وجود الملك أو سببه أولى، وليس هذا الحكم ثابتاً لغير العتق. وسلك الغزالي في العبارة عن التصرف طريقاً آخر، فقال: إذا صدر العتق من المشتري لا بإذن البائع، فإن قلنا: لا ملك له لم ينفذ. وإن قلنا: الملك له، فوجهان يقربان من القولين في عتق الراهن. فإن قلنا: ينفذ – وهو ما جزم به المتولي- قال الغزالي: فالظاهر أنه لا يبطل خيار البائع، ولكن في فائدته وجهان: [أحدهما]: ينفسخ العقد ويرجع إلى القيمة؛ إذ العتق لا مرد له. والثاني: أن له رد العتق، وكأنه نفذ بشرط أن لا يرد. وقيل: إن خيار البائع يبطل، والبيع كالعتق، وفي محل الخلاف يترتب عليه، وأولى بألا ينفذ وإن نفذ فلا يتجه إبطال خيار البائع، بل يتعين أن يتسلط على فسخ البيع إن شاء؛ إذ البيع يحتمل الرد. وإن قلنا: لا ينفذ العتق والبيع، أي إما لعدم الملك، أو مع وجوده لرعاية حق الغير على ما صرح به الإمام، [ومجلي]. قال: فهل ينفذ بإجازة البائع، أي: العقد وإلزامه التصرف؟ قال: أما البيع فلا؛ فإنه لا يقبل الوقف، وفي العتق خلاف. فإن قلنا: ينفذ فيستند إلى وقت العتق، أو من وقت الإجازة؟ فيه وجهان: هذا آخر كلامه. وبنى القاضي الحسين في التعليق الخلاف: في أن العتق هل ينفذ عند الإجازة على القولين في عتق الراهن؛ إذا رد وانفك الرهن هل ينفذ؟ ثم قال: والصحيح هاهنا أنه لا ينفذ.

والفرق بينه وبين الرهن، أن عتق الراهن صادف ملكه، وهاهنا العتق صادف ملك الغير وهذا منه يدل على أنا إذا منعنا العتق مع القول بأنه على ملكه، يكون الصحيح عند الإجازة نفوذ العتق، وهو ما جزم به العراقيون على ما حكيناه. ثم جميع ما ذكرناه أولاً وآخراً فيما إذا كان الخيار للبائع وحده أو لهما، أما إذا كان الخيار للمشتري وحده فالذي حكاه الإمام والغزالي، والرافعي: القطع بنفوذ العتق؛ لأنه إذا لم يكن ملكه كان إجازة للعقد، وهو ينفرد بها، والبيع عند الغزالي في هذه الحالة كالعتق- كما حكيناه عنه- وحكاه الإمام أيضاً عن الإمام، وكأنه يشير إلى والده، وبناه الفوراني على أقوال الملك أيضاً، [فقال]: إن قلنا: إن الملك للبائع لم يصح. وإن قلنا: إنه للمشتري ففي صحته وجهان: والأصح الصحة؛ ولذلك حكى الإمام هذا البناء أيضاً، وقال عقيبه: ما ذكره الإمام أفقه، وهو الظاهر أيضاً من حيث أن الفوراني جزم بصحة البيع عند وجود الإذن، وذلك الجزم عند الانفراد بالخيار أولى. فائدة: تقييد الشيخ- رضي الله عنه- عدم ملك المشتري للتصرف في المبيع، يعرفك أن تصرفه في الثمن مغاير له، وكذا تقييده في المسألة الثانية منع تصرف البائع في الثمن المعين يعرفك أن تصرفه في المبيع مغاير له، والحكم في تصرف المشتري في الثمن، حكم تصرف البائع في المبيع، فليقتصر على الكلام في أحدهما، وهو تصرف البائع في المبيع فإنه المشهور على ألسنة الفقهاء. ونقول: تصرف البائع في المبيع في زمن الخيار بالعتق نافذ على الأصح، إذا كان الخيار له أو لهما؛ لأنه فسخ للعقد، وهو يستقل به. وفي "التتمة" حكاية وجه: أنا إذا قلنا: إن الملك للمشتري لا ينفذ، وحكاه مجلي عن القاضي الحسين، وخص محله بما إذا قلنا: إن عتق المشتري ينفذ. وتصرفه بالوطء فسخ على الأصح. وقيل: لا، وقيل: إنما يكون فسخاً إذا نوى به الفسخ، وهو حلال له على كل قول عند الشيخ أبي محمد وعند غيره، إن جعلنا الملك له.

وإن لم نجعله له، فوجهان. وقيل: إن لم يجعل الملك له فهو حرام، وإن جعلناه له فوجهان. وظاهر المذهب الحل إن جعلنا الملك له، والتحريم إن نفيناه عنه. ويخالف وطء المشتري حيث جزم فيه بالتحريم، على كل قول، إذا كان الخيار لهما أو للبائع لأنا إن قلنا: لا ملك له، فلعدم الملك، وإن قلنا: إن الملك له فلضعفه، كملك المكاتب، أما إذا كان له وحده، فهو كوطء البائع، وعلى كل حال لو وطأ لم يجب عليه الحد، ويكون الولد حراً نسيباً، والحكم في قيمته وفي المهر حكم الكسب. وهل يثبت به الاستيلاد؟ إن قلنا: إن الملك للبائع، فلا. وإن قلنا: إنه له فوجهان مرتبان على عتقه، وأولى بالنفوذ، وقيل: عكسه. قال الإمام: ولا يبعد استواؤهما لتقابل الجهتين. فإن لم ينفذ في الحال، وتم البيع، أو فسخ، ثم ملكها يوماً، كان في ثبوت الاستيلاد قولان: محل ذكرهما باب عتق أم الولد. واعلم أن إطلاق الأئمة أن وطء المشتري حلال، إذا كان الخيار له وحده، [فيه] نظر من حيث إنا إذا حكمنا بأن الملك للبائع، [لم يحصل الاستبراء في زمن الخيار، فكيف يحسن إطلاق القول بأنه حلال، وكذلك إذا قلنا: إن الملك] له ولم نجعل الاستبراء يحصل في زمن الخيار. ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن مرادهم حله بالنسبة إلى الملك لا بالنسبة إلى أمر آخر. وتصرفه بالبيع نافذ على أصح الوجهين، إن جعلناه فسخاً، وهو الصحيح، وإن لم نجعله فسخاً لم ينفذ وجهاً واحداً. ويجري [في] مثل هذا الخلاف في الإجارة والتزويج، وكذا في الرهن، والهبة

إن اتصل بهما القبض. وفي "الحاوي": الجزم بصحة الجميع، وجعله فسخاً. وهل يكون العرض على البيع أو على التوكيل فيه فسخاً؛ إن جعلنا البيع فسخاً؟ فيه وجهان، كالوجهين في القبلة والمباشرة بالشهوة، إذا جعلنا الوطء فسخاً. أما إذا كان الخيار للمشتري وحده، لم ينفذ من تصرفات البائع ما عدا العتق على كل قول. وكذا العتق إن قلنا: لا ملك له أو موقوف، وأجيز العقد. وإن قلنا: إن الملك له؛ ففي نفوذه قولان كما في عتق المرهون، والظاهر أنه لا ينفذ. [والفرق]: أن الراهن إذا نفذ عتقه غرم القيمة فتقوم مقامه، وهاهنا لا يغرم القيمة، وإنما يسقط حق المشتري عنه بالكلية، ويرد إليه ما بذله. فرعان: أحدهما: إذا اشترى عبداً بجارية، والخيار لهما، فأعتقهما معاً، عتقت الجارية دون العبد على الأصح، وفيه وجه: أن المعتق العبد دونها، تفريعاً على قولنا: إن عتق المشتري نافذ. وإن كان الخيار للمشتري وحده لم يعتقا أيضاً، وفيمن يعتق منهما؟ وجهان: أحدهما- وهو ما أورده ابن الصباغ-: الجارية. وأصحهما- وبه أجاب ابن الحداد-: العبد. قال الشيخ أبو علي: وهما مبنيان على انتقال الملك. فإن قلنا: بانتقاله عتق العبد، وإلا فالجارية. وحكى وجه: أنه لا يعتق واحد منهما، وحكم المشتري إذا أعتقهما، والحالة هذه حكم البائع. الثاني: التصرف الصادر من المشتري في زمن الخيار، هل يجعل إجازة؟ فيه وجهان:

[أصحهما]- وبه قال الإصطخري-: نعم. والثاني- حكاه الرافعي عن أبي إسحاق-: لا، وحكى عنه المحاملي في المجموع: أن التصرف الذي يمنع الرد [بالعيب] [كالعتق والإحبال يقطع خياره، دون التصرف الذي لا يمنع الرد بالعيب]، ولا تتلف به العين كالوطء والإجارة، وما أشبه ذلك فإنه لا يقطعه، وفي "الحاوي": أن خيار الشرط ينقطع به. وأما خيار المجلس: فإن أجاز البائع العقد على الفور كان ذلك اختياراً منهما، وإن لم يجزه على الفور، فإن كان ذلك التصرف عتقاً، أو وقفاً، أو تدبيراً، كان ذلك إجازة من جانبه، وخيار البائع باق بحاله، وإن كان بيعاً أو إجارة فالذي ذهب إليه البغداديون أن يكون قاطعاً لخياره [أيضاً، والذي اختاره البصريون- وهو الصحيح- ألا يكون قاطعاً لخياره]. قال: ولا ينفذ تصرف البائع في الثمن إذا كان معيناً – حتى ينقطع خيار المشتري ويقبض الثمن؛ كما ذكرنا في تصرف المشتري في المبيع، إذ هو مشتر له، كما أن المشتري مشتر للمبيع. قال: وإن كان في الذمة لم ينفذ تصرفه فيه قبل انقطاع الخيار- لما مر [فيما إذا كان] عينا- وهل يجوز قبل قبضه؟ فيه قولان: أصحهما: أنه يجوز لأنه يؤمن انفساخ العقد فيه بتلفه فأشبه المبيع المقبوض، وهذا هو الجديد. والثاني: لا يجوز، وهو الأصح في "تعليق" القاضي الحسين في كتاب الهبة. وفي الجيلي: أنه الأصح- في المحرر – لمطلق النهي عن بيع ما لم يقبض؛ ولأنه عوض في معاوضة، فلا يجوز بيعه قبل قبضه كالمثمن. قال المتولي: والفرق على الأول أن المثمن [لا يستقر في الذمة إلا بالقبض، ولهذا لو انقطع المسلم فيه، كان له تأثير في العقد بفسخ أو انفساخ، والثمن مما] يستقر في الذمة من غير قبض بدليل أن جنس الثمن إذا انقطع [من] أيدي الناس لا

ينفسخ العقد، وما قاله ممنوع فإن الإمام قال في كتاب التفليس: إنا إن لم نجوز الاعتياض عن الثمن، كان حكمه حكم المسلم فيه. وسنذكر ذلك عن الرافعي في الباب الثاني عند الكلام في الثمن. وفي الجيلي: أن بعضهم بنى الخلاف في المسألة على أن العلة في منع بيع المبيع قبل قبضه، ماذا؟ فإن قلنا: ضعف الملك، لم يجر هاهنا؛ لوجوده فيما في الذمة. وإن قلنا: توالى الضامنين، فيجوز هاهنا، إذ لا توالى. وهذا البناء ضعيف؛ لأن اختيار العراقيين من العلتين العلة الأولى على ما حكاه مجلي. ومقتضى ذلك- لو صح البناء- أن يكون الصحيح عندهم عدم الصحة، وقد قال الشيخ خلافه. واستدل ابن يونس على القول الثاني بأنه لا يؤمن [انفساخ] العقد فيه، بهلاك المبيع فأشبه المبيع قبل القبض، وهذا يوهم أمرين: أحدهما: أن محل الخلاف ما إذا كان المبيع لم يقبض، أما إذا كان قد قبض [فيجوز وجهاً واحداً، وليس كذلك بل المنقول في الزوائد عن العدة: أن بعض الأصحاب خص محل الخلاف بما إذا كان المبيع قد قبض]، أما إذا لم يقبض فلا يجوز [وجهاً] واحداً، ومنهم من لم يفرق بينهما، وهو قضية ما في "التهذيب" فإنه قال: لا فرق في ذلك بين أن يكون بعد قبض المبيع أو قبله، وما أفهمه كلام ابن يونس يوافقه ما حكاه ابن الصباغ والبندنيجي [وغيرهما] في "باب الهبة" أن الشافعي ذكر في كتاب الشروط: أنه يجوز بيع الدين المستقر وهبته من غير من هو عليه، وأنه قال في الرهن: لا يجوز رهنه. وأن من الأصحاب من قال بعدم صحة البيع، والهبة والرهن، والثمن إذا قبض مقابله صار مستقراً فاندرج تحت هذا الإطلاق. الثاني: أن كلا من الثمن المعين والمثمن لا يجوز بيعه بعد قبضه ما لم يقبض

مقابله؛ لأنه لا يؤمن انفساخ العقد فيه إذا لم يقبض مقابله بتلفه، وليس كذلك، بل المنقول عن ابن سريج وفي "الحاوي" وغيره: صحة بيع المقبوض وإن لم يقبض مقابلهن وعليه يدل كلام الشيخ حيث عنى التصرف بوجود القبض في المبيع، والثمن وانقضاء الخيار. تنبيه: المراد بالتصرف هاهنا- أيضاً- البيع؛ لأن ما في الذمة يتصرف فيه بالإبراء وهو قبل القبض جائز، بل لا يتصور إلا كذلك وفي زمن الخيار إما ألا يصح أو يصح، وفيه تفصيل نذكره في باب المرابحة ولا يجوز التصرف فيه بالهبة والرهن على المذهب- كما سنذكره. وكذا لا يجوز أن يقارض عليه سواء كان العامل الذي عليه الدين أو غيره. والحوالة: إن قلنا: إنها استيفاء فتكون نفس القبض، وإن قلنا: إنها معاوضة [فهي كالبيع] وغير ذلك إما في معنى البيع، أو لا يتصور؛ فتعين ما ذكرناه، فإن قيل: هل الخلاف في جواز بيعه من غير المشتري أو من المشتري؟ قلنا: ظاهر كلام الشيخ يدل على أنه لا فرق بينهما، ويعضده حكاية الخلاف في بيع نجوم الكتابة وما قررناه من كلام ابن الصباغ في كتاب الهبة، والمذكور في طريقة المراوزة: الاختلاف في جواز بيعه من المشتري، وعبروا عن ذلك بالاستبدال عنه، وأثبته الإمام أقوالاً، والغزالي وجوهاً ثلاثة: أحدها: المنع، قياساً على الثمن. والثاني: الجواز؛ لما روى أبو داود عن ابن عمر أنه قال: "قلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء". وفي رواية: كنت أبيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إذا بعت صاحبك فلا تفارقه وبينك وبينه لبس".

قال الغزالي: والقائل الأول يحمل الحديث على جريانه في مجلس العقد، فيكون تغييراً للعقد في وقت الجواز. ومن هذا التعليل يؤخذ أن إطلاق الشيخ في "المهذب" وابن الصباغ: هاهنا القولين في جواز بيعه- محمول على ما إذا كان من المشتري؛ لأنهما استدلا لقول الجواز بالحديث وهو لا يدل على جواز بيعه من غير المشتري؛ لما في ذلك من المعنى المذكور. وهذا القول نسبه المتولي إلى الجديد، وبه قطع القاضي أبو حامد وأبو الحسين، والأول إلى القديم. والفرق على الأول بينه وبين المثمن أن المقصود بالثمن المالية منه، والاستبدال يديم المالية وحكمها، والمثمن القصد منه العين؛ كسائر الأعيان. قال الإمام: وهذا الفرق ضعيف في القياس. والثالث: أنه يستبدل أحد النقدين بالآخر، للحديث، ولا يستبدل سائر الأجناس عنمها للقياس. قال الغزالي: [وهذا أعدل]، ومحله إذا لم يكن الثمن مؤجلاً، أو مؤجلاً ولا اشتراك في علة الربا بينه وبين الثاني، أو كان مشتركاً لكنهما جنسان كالذهب والفضة. أما لو اتحد الجنس كالطعام عن الطعام لم يجز. وهذا ما حكاه القاضي الحسين في باب بيع الطعام. وقال البندنيجي قبيل باب المصراة، قال الشيخ- يعني: أبا حامد- وعندي يجوز؛ لأنه إذا قبض منه الطعام بما له في ذمته، برئت ذمة من عليه الطعام منه، وكيف يبقى في ذمته إلى أجل؟ وفي "الحاوي" في الفروع المذكورة في آخر الربا: الجزم بأن ما في الذمة إذا كان مؤجلاً لم يجز أخذ البدل عنه، وإن لم يكن من مال الربا؛ لأن المؤجل لا يملك المطالبة به فلم يجز المعاوضة عنه، ويظهر لي أن يكون ما قاله الشيخ أبو حامد

مستمداً من تغليب شائبة الاستيفاء. واعلم أنه يتفرع على الخلاف ما إذا باع بغير النقدين في الذمة، فجواز الاستبدال عنه ينبني على أن الثمن ماذا؟ وفيه ثلاثة أوجه يحتاج إلى ذكرها: أحدها: أنه ما التصق به باء التثمين، ويحكى عن القفال. والثاني: أنه النقدان لا غير، والمثمن ما يقابلهما، على اختلاف الوجهين، وهذا الوجه ما دل عليه كلام الشيخ، وابن الصباغ في باب السلم حيث قالا: يجوز السلم في الأثمان. والثالث- وهو الأصح- أن الثمن [هو النقد، والمثمن] ما يقابله، فإن لم يكن في العقد نقد أو كان العوضان نقدين، فالثمن ما اتصل به الباء والمثمن ما يقابله. فإن قلنا بالوجه الأول فيجوز الاستبدال عنه كالنقدين، وادعى في "التهذيب" أنه المذهب. وإن قلنا بغيره، فلا يجوز.

ويظهر الاختلاف في أن الثمن ماذا؟ فوائد أخر: منها: إذا كان العوضان [نقدين فعلى الأول لا بيع، فيجري في جواز الاستبدال عن كل منهما الخلاف المذكور. ومنها: إذا كان العوضان] عرضين فلا يجوز على الثاني الاستبدال عن واحد منهما وجهاً واحداً. ومنها: لو قال: بعتك هذه الدراهم بهذا العبد، فعلى الثاني والثالث في صحة العقد خلاف كالسلم في الدراهم. قال: ولا يدخل المبيع في ضمان المشتري إلا بالقبض [أي للمبيع] خلافاً لأبي ثور، أما دخوله بالقبض؛ فلأنه لا غاية بعده تنتظر، وأما عدم دخوله في ضمانه قبله؛ فلأنه عليه السلام نهى عن بيع ما لم يقبض، وربح ما لم يضمن، فأخبر أن بيع

ما لم يقبض غير مضمون فمنع من طلب الربح فيه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيت لو منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ "، فمنع من المطالبة بالثمن لتلف الثمرة قبل القبض، ونبه به على [كل] مبيع تلف قبل القبض. ولأنه لو دخل في ضمانه قبله؟ لكان حال البائع فيه كما بعد القبض، وليس كذلك؛ فإن ما يحدث بالمبيع من عيب قبل القبض يستحق المشتري به الفسخ، هكذا أورده الماوردي، وفي الثاني دلالة على أن ما ذكره متفق عليه، وإلا لم يحسن التمسك به. والمراد بالدخول في الضمان بالقبض: أن المبيع لو تعيب لم يثبت له بسببه فسخ، ولو تلف لا ينفسخ العقد، وإن كان في مدة الخيار، كما ستعرفه من بعد؛ هذا هو المشهور. وفي "الحاوي" [عند الكلام في الجائحة] أن ابن أبي هريرة قال: المقبوض في خيار الثلاث يستحق رده بما يحدث من العيوب في زمن الخيار، وإن كان القبض تاماً، وأبدى من عند نفسه منع ذلك. واعلم أن الشيخ ذكر هذا الفصل؛ لأمرين: أحدهما: الاحتراز عن مذهب من صار إلى دخوله في ضمانه بمجرد العقد، وهو الإمام مالك على ما حكاه المتولي، والبغوي أيضاً، وعن أبي ثور. وخصص ابن الصباغ محل الخلاف، بما إذا لم يكن المبيع مكيلاً، ولا موزوناً، ولا معدوداً، وأن الإمام أحمد وافقه. وحكى المتولي وغيره عنه أنه استدل بقوله عليه السلام: "الخراج بالضمان"،

ومعناه: خراج الشيء وفوائده [لمن الشيء في ضمانه] وفوائد المبيع للمشتري؛ فوجب أن يكون من ضمانه. وأجيب عن ذلك بأنه- عليه السلام- جعل الخراج بالضمان، وما جعل الضمان بالخراج؛ فدل الخبر على أن من كان الشيء من ضمانه كان الخراج له، فأما أنه يدل على أن من استحق الخراج يكون الشيء من ضمانه فلا. قال القاضي أبو الطيب: ولأن الخبر ورد على سبب؛ لأنه روي أن رجلاً اشترى عبداً فاستعمله، ثم وجد به عيباً فرده، فقال الراوي: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا أن الخراج بالضمان، وكان ذلك بعد القبض، فلا يتناول ما قبل القبض. الثاني: بيان أن غير القبض لا يحصل هذا الغرض، وهو الصحيح، وفي "التهذيب": أن المشتري لو أبرأ البائع عن ضمان المبيع برأ على قول، حتى لو تلف لا ينفسخ العقد، ولا يسقط الثمن. قال: ولا يستقر ملكه عليه إلا بالقبض، والاستقرار: عبارة عن الأمن من سقوط [الملك بسبب انفساخ] العقد لا فسخه، فإن كلا من العوضين بعد قبضه الملك فيه مستقر وإن لم يؤمن [زوال الملك] فيه بسبب الفسخ [بالعيب]. وقد رأيت في "تعليق" القاضي أبي الطيب في كتاب الضمان عن أبي إسحاق إشارة إلى هذا، وفي "تعليق" البندنيجي في كتاب الضمان- أيضاً- أن المستقر ما لا

يخشى سقوطه بزوال سببه، كثمن المبيع بعد قبض المبيع على وجه الصحة، والأجرة بعد انقضاء المدة، والمهر بعد الدخول، والعوض في الخلع، وقيم المتلفات، وأروش الجنايات، وهذا وإن كان كلاماً في الدين، فيمكن أن يقاس عليه العين. والمراد بالقبض هاهنا: قبض المقابل؛ لأن الملك قبل قبض المقابل متعرض للسقوط بتلفه وإن أفاد قبض المبيع التصرف، كما ذكرناه. وعلى هذا التقدير يكون الشيخ بين في هذا الباب: متى ينتقل الملك في المبيع إلى المشتري؟ ومع القول بانتقاله متى يملك التصرف فيه؟ ومع ملك التصرف، بماذا يدخل في ضمانه؟ ومع الدخول في الضمان، متى يستقر؟ وهذا ترتيب حسن، ويدل على إرادته ذلك أن البندنيجي صرح به فقال: إذا وقع القبض من الطرفين استقر العقد به. وكل منهما أخذ من كلام الشيخ أبي حامد، وما ذكراه في استقرار الأجرة باستيفاء المنافع أو تفويتها، وما ذكراه في استقرار الصداق بالدخول، وهو قبض المقابل بعد حكاية الشيخ أنها تملك التصرف فيه بالقبض. واعلم أنه يوجد في بعض النسخ: ولا يستقر ملكه عليه إلا بالقبض، وانقضاء الخيار. وهذه الزيادة غير محتاج إليها كما ستعرفه من بعد إن شاء الله تعالى. قال: فإن هلك قبل القبض- أي المبيع- بآفة سماوية انفسخ البيع؛ لأنه فات التسليم المستحق بالعقد؛ فبطل كما في عقد الصرف، ثم من ضرورة الانفساخ انقلاب الملك إلى البائع؛ فإنه لو هلك ملكاً للمشتري، لاستحال أن يسترد الثمن ويقضي بالانفساخ، لكن متى ينقلب إليه؟ فيه وجهان: حكاهما الفوراني: أصحهما- وهو ما رجحه الإمام [واختاره ابن الحداد: أنه ينقلب عينا قبيل تلفه. والثاني: أنه يستند إلى أول العقد]. [قال الإمام:] وحقيقة هذا؛ أنا نتبين بالأخرة أن لا عقد أصلاً؛ فيكون العقد قبل

القبض موقوفاً على ما يتبين. وعلى الوجهين: لو كان المبيع عبداً كانت مؤنة تجهيزه، ودفنه على البائع، وعلى القول الأول تكون الزوائد والفوائد للمشتري، لكن لو تلفت في يد البائع قبل المطالبة بها لم يضمنها؛ لأن يده عليها يد أمانة. قال ابن الصباغ: قبيل باب المصراة: وتكون للبائع على الثاني. وقد قال الغزالي فيما إذا وقع الفسخ قبل القبض كلاماً يأتي مثله هاهنا، وصورته: فإن قيل: فما وجه رجوع الزوائد إلى البائع، وقد حدثت في ملك المشتري كما بعد القبض؟ قلنا: قائله تعلق بما روي أنه عليه السلام سئل عن غلة المبيع تسلم للمشتري بعد الفسخ وبعد القبض؟ فقال: "الخَرَاجُ بِالضَّمَانِ"، أي: هو على خطر الضمان بالقبض، والغنم بالغرم، ومفهومه: أنها لا تسلم قبل القبض له. والقائل الأول- أي: بكونها للمشتري- يتبع القياس ويقول: ذلك علة لمنع الرجوع، ذكره لقطع استبعاد السائل، وقبل القبض لا رجوع لعلة أخرى، وهو أنها حدثت على ملكه، والحكم قد يعلل بعلتين، هذا آخر كلامه. وكثيراً ما يستشكل قوله: " [وقد] يعلل بعلتين"؛ فإن هذا من قبيل الواحد بالنوع؛ فإن الملك في الزوائد الحاصلة قبل القبض، غير الملك في الزوائد الحادثة بعده، ولا خلاف في أن الحكم في مثل ذلك يعلل بعلتين، وإنما الخلاف في الواحد بالشخص، فما وجه الإتيان بـ "قد"؟ وجوابه: أن الملك الحاصل بعد القبض قد وجد له علتان: كونه حدث في ملكه، وكون المبيع من ضمانه فكلامه عائد إليه، وهو واحد بالشخص؛ فاندفع الإشكال. واعلم أن تعذر تسليم المبيع بما سنذكره، وما في معناه يقوم مقام التلف في الانفساخ، وذلك مثل أن يكون المبيع أرضاً فتغرق، أو يقع عليها صخرة لا يمكن

رفعها، أو حيواناً لم يألف الذهاب، والإياب فيطير أو ينفلت، أو جامداً فيقع فيما لا يمكن استخراجه منه. وفي الرافعي حكاية وجه في غرق الأرض، ووقوع الصخرة عليها: أن ذلك لا ينزل منزلة التلف؛ لكن يثبت له الخيار، ورجَّحه. واختلاط المبيع بمثله، هل ينزل منزلة التلف؟ فيه خلاف، وسنذكر مثله. وأما اختلاطه بما ليس بمثل له إذا تعذر تمييزه؛ كالثوب والشاة، فالأصح: الانفساخ أيضاً. وإباق العبد لا يقوم مقام التلف على الأصح، وكذا وقوع الجامد في الماء الذي يرجى حصوله. وانقلاب العصير خمراً، هل يقوم مقامه؟ فيه قولان في "التتمة"، وفي "الوسيط" في كتاب الرهن: أن حكمه حكم الرهن بعد القبض، والذي ذكره في الرهن بعد القبض، أنه إذا عاد خّلَاً عادت وثيقة الرهن، ومساقه يقتضي أن العقد يستمر إذا عاد خَلّاً. وهو ما حكاه القاضي الحسين في كتاب الرهن عن النص، وأنه يثبت له الخيار؛ لتبدل الحلاوة بالحموضة. وفي "النهاية": أنه يفسد العقد، ولم يعد ملك المشتري بعوده خلّاً. والفرق بينه وبين الرهن: أن الرهن عاد لبقاء ملك الراهن، وها هنا يعود إلى ملك البائع؛ لعدم العقد فلا يصح أن يبيعه بملك المشتري، وهذا ما صححه القاضي الحسين قبيل باب بيع المصراة، ثم قال: ولو سلم الخمر إلى المشتري فصارت في يده خلا، فهل يتم البيع؟ فيه وجهان مبنيان على ما لو غصب خمراً فتخللت في يده، فهل يجب ردها؟ تنبيه: تقييد الشيخ انفساخ العقد بتلف المبيع بما قبل القبض، يشعر بأنه إذا تلف بعد القبض لا ينفسخ. وما بعد القبض فيه حالتان: إحداهما: بعد انقضاء الخيار، والحكم ظاهر فيها. والثانية: في زمن الخيار، والحكم فيها عند الشيخ أبي حامد كذلك.

وقد ينفر منه فيحتاج إلى ذكر ما قيل فيه، وبه يظهر صحته، إن شاء الله تعالى. فنقول: حكى ابن الصباغ فيما إذا تلف المبيع بعد القبض في زمن الخيار، عن القاضي أبي الطيب: أن الشافعي نص في بعض كتبه: على أن البيع ينفسخ، ويجب على المشتري القيمة. وقال في كتاب الصرف: يلزمه الثمن- قال القاضي: ويحتمل أن يكون المراد بالثمن القيمة، ويحتمل أن يكون المراد به إذا كان الخيار للمشتري وحده، وقلنا: أن المبيع ينتقل إليه بنفس العقد. وحكى الشيخ أبو حامد: أن الخيار لا يسقط، فإن فسخ العقد وجبت القيمة، وإن انقضى الخيار بني انفساخه على أقوال الملك، فإن قلنا بانتقاله بنفس العقد، أو توقفه استقر عليه الثمن، وإن قلنا بأنه لا ينتقل إلا بانقضاء الخيار، قال أصحابنا: تجب القيمة؛ لأنه تلف في ملك البائع. قال الشيخ- يعني أبا حامد-: وعندي أنه يضمن بالثمن؛ لأنه مسمى يثبت بالعقد فلا ينقطع مع بقاء العقد، واحتج لقوله: بأن القبض إذا وقع استقر البيع، وإذا استقر لم ينفسخ بهلاك المبيع. قال ابن الصباغ: والطريقة الأولى أصح؛ لأنا إذا قلنا: إن المبيع في ملك البائع، فتلف لا يجوز أن ينتقل إلى المشتري بعد تلفه، وما ذكره من أن العقد ثابت فيثبت فيه المسمى غير مسلم؛ لأن العقدي نفسخ إذا تعذر إمضاء أحكامه بتلفه، وأما إذا قلنا: المبيع في ملك المشتري، فلا يمكننا أن نثبت استقرار العقد بتلفه؛ لأن في ذلك إبطالاً لخيار البائع، فمتى شاء المشتري أتلفه وأبطل خياره، ولا يمكن بقاؤه على حكم الخيار؛ لأنه إذا لم يتم العقد فلا يمكن إتمامه فيه بعد تلفه، كما لا يمكن العقد عليه بعد ذلك، وما ذكره من أن العقد يستقر به فغير صحيح؛ لأن القبض لا يستقر به العقد مع بقاء الخيار؛ ولهذا لا يدخل الخيار في الصرف لوجوب التقابض فيه، هذا آخر كلامه. قلت: وقد يقال في الجواب عن ذلك: إن قولك: لا يجوز أن ينتقل إلى المشتري بعد تلفه، مسلم، لكنا نقول: ينتقل قبيل التلف، كما إذا تلف المبيع في يد البائع بل

أولى؛ لأنه يتضمن إجازة العقد. فإن قيل: هذا خلاف الأصل، وصرنا إليه في حق البائع لضرورة دل عليها نهيه عليه السلام عن بيع ما لم يقبضن وربح ما لم يضمن، ولا ضرورة بنا ها هنا. قلنا: قد قيل به في محل لا ضرورة فيه، ولا تشوف للشارع، وهو: ما إذا أدى الضامن ما ضمنه في صورة يكون له الرجوع فيها على المضمون عنه، فإنا نقدر دخول المدفوع في ملك المضمون عنه قبيل الدفع للمضمون له، حتى يتمكن الضامن من مطالبته، ويرجع المضمون عنه إلى عينه عند فسخ العقد الذي وجب بسببه الدين. وقد صرح بذلك الإمام في ضمن ما إذا ضمن الرجل للمرأة صداقاً عن زوجها، وغرم، ثم ارتدت قبل المسيس. وقولك: إن العقد ينفسخ إذا تعذر إمضاء أحكامه بتلفه، مسلم، لكن مضى حكمه قد بينا أنه لم يتعذر. وقولك: إن في ذلك إبطالاً لخيار البائع غير مسلم؛ لأن الكلام فيما إذا أجيز العقد بعد التلف، أو مضت مدته من غير فسخ، وقد قلت مثل ذلك فيما إذا أعتق المشتري العبد المبيع في زمن الخيار، وحكمنا بنفوذ العتق بعد إلزام العقد، إذا قلنا: [إن] الملك للمشتري أو موقوف، ولم يكن عتقه قاطعاً لخيار البائع. وقولك: لا يمكن بقاؤه على حكم الخيار؛ لأنه إذا لم يتم العقد فلا يمكن إتمامه فيه بعد تلفه، كما لا يمكن العقد عليه بعد ذلك. قلنا: لا نسلم؛ فإن إتمامه يقع بطريق الضمن والتبع، وذلك يغتفر فيه [ما لا يغتفر] فيما يقع ابتداء. وقولك: إن القبض لا يستقر به العقد مع بقاء الخيار، فذاك مبني عندك على اعتقادك أن العقد ينفسخ بتلفه، وقد منعناه. وقولك: ولهذا لا يدخل الخيار في الصرف؛ لوجوب التقابض فيه، مسلم، لكن

ذلك لا يدل على أنه لا يستقر بالقبض. والله أعلم. والذي حكاه الماوردي: الجزم بانفساخ العقد في خيار المجلس على الأقوال كلها، فيضمن القيمة سواء كان المبيع مما له مثل، أو مما لا مثل له؛ لأن ما له مثل إنما يضمن بالمثل في الغصب، أما إذا كان مضموناً على وجه المعاوضة، كالمقبوض للسوم، أو بعقد [بيع] فاسد أو مفسوخ، فإنه يضمنه بالقيمة دون المثل. وأما خيار الشرط فإن كان لهما، أو للبائع وحده فالحكم كذلك، وإن كان للمشتري وحده فإن قلنا: لا يملك إلا بانقضاء الخيار، أو هو موقوف، فهو ضامن له بالقيمة دون الثمن أيضاً. فإن قيل: إنه قد ملكه بنفس العقد فعلى وجهين: أحدهما: وهو ظاهر نصه في البيوع أنه ضامن بالقيمة دون الثمن. والوجه الثاني- وقد أشار إليه في "كتاب الصداق"-: أنه ضامن له بالثمن المسمى دون القيمة؛ لأن ثبوت الخيار له وحده يجري مجرى خيار البيع. والذي حكاه الإمام عن صاحب "التقريب" وأصحاب القفال- وقال: إنه المرضي، بناء ذلك على أقوال الملك. فإن قلنا: إن الملك للبائع انفسخ؛ لأنا إذا حكمنا بالانفساخ عند بقاء يده، فمع بقاء ملكه أولى. وعلى هذا يغرم قيمة المبيع للمشتري. قال: ويقطع باعتبارها وقت التلف؛ فإن المبيع قبله ملك للمشتري، وهذا منه تفريع على أن الفسخ بتلف المبيع قبل القبض يستند [إلى قبيل التلف، أما إذا قلنا: إنه يستند إلى] أصل العقد؛ فيتجه أن يكون حكمه حكم المستام أيضاً. وإن قلنا: بعدم الانفساخ، فهل ينقطع الخيار؟ حكى الرافعي فيه وجهين: [أصحهما: أنه لا ينقطع، وفي "النهاية": أنه] إذا كان الثمن [عينا فخيار] البائع لا ينقطع، وهل ينقطع خيار المشتري؟ فيه وجهان، وهما يجريان أيضاً في حق البائع، إذا

كان الثمن في الذمة، فإن قلنا ببقاء الخيار وأجيز العقد ثبت الثمن، وإن فسخ وجبت القيمة، وإن قلنا بانقطاعه استقر العقد به ولزم الثمن. فرع: إذا قبض المشتري المبيع في زمن الخيار، ثم أودعه البائع وتلف في يده قال الصيدلاني: هو كما لو تلف في يد المشتري، وكذلك صرح به المحاملي والبندنيجي، وقال الماوردي: إن المشتري يغرم القيمة، وهو ماش على ما ادعاه في أن العقد ينفسخ بتلف المبيع في يد المشتري. وأبدى الإمام احتمالاً في رجوع البائع بالقيمة، إذا فرعنا [على] أن الملك له من حيث إن العين المملوكة [له] إذا عادت إلى يد صاحبها، وتلفت في يده يظهر أن يقال: لا ضمان على المشتري. قال: وإن أتلفه المشتري استقر عليه الثمن؛ لأنه تصرف فيه تصرفاً يبطل به حق الملك فكان ذلك قبضاً منه، كما لو كان عبداً فأعتقه، ولأن الإتلاف ينزل منزلة القبض فيما إذا أتلف المالك العين المغصوبة في يد الغاصب، حتى يبرأ الغاصب من عهدتها، وكذلك ها هنا. وحكى الشيخ أبو علي الطبري: وجهاً أن إتلافه ليس بقبض، فيتلف من ضمان البائع وينفسخ العقد. وعلى الأول: إنما يجعل الإتلاف قبضاً إذا علم المشتري أنه المبيع، أما إذا لم يعلم، وكان المبيع طعاماً، فقدمه البائع إليه فأ: له؛ ففي جعله قابضاً له حتى يبرأ البائع الخلاف المذكور في مثله من الغصب، فإن لم نجعله قابضاً فهو كما لو أتلفه البائع. ثم حيث قلنا بعدم الانفساخ، فهل يأخذ من المشتري القيمة، وتحبس لوفاء الثمن؟ الذي أجاب به الإمام هنا، أنه لا يلزمه ذلك وجهاً واحداً، وحكى في باب الحميل والرهن: أن صاحب "التقريب" روى وجهاً [واحداً] في أن إتلافه لا يكون قبضاً، وأن القيمة تلزمه وتكون محبوسة بالثمن. فرع: إذا كان المبيع عبداً مرتداً فقتله المشتري؛ ففي فتاوى صاحب "التهذيب"

كما حكاه الرافعي قبل باب الديات: أن المشتري إن كان الإمام، وقصد قتله عن الردة انفسخ البيع، ووقع القتل عن الردة. وإن كان غير إمام استقر العقد، سواء قصد القتل عن الردة أو لا؛ لأنه لا يجوز له ذلك بخلاف الإمام. [فرع] آخر: إذا أتلف المشتري بعض المبيع في يد البائع، جعل كالقابض له، إن كان مما يتقسط الثمن عليه، كأحد العبدين، وإن كان مما لا يتقسط الثمن عليه كأرش البكارة، فيما إذا وطئ المشتري الجارية المبيعة في يد البائع ففي "الحاوي": أن الجارية إذا تلفت انفسخ العقد ووجب على المشتري أرش بكارتها. وفي "شرح الفروع" للقاضي أبي الطيب: أنه يجب منسوباً من الثمن، وطرد ذلك فيما إذا قطع يد العبد ثم مات في يد البائع بآفة سماوية أنه يستقر العقد في نصف المبيع بنصف الثمن. وكذلك فيما إذا قطع يديه، قال: يستقر العقد بجملة الثمن، حتى إذا تلف العبد بعد ذلك، لا يرجع المشتري على البائع بشيء. وفي "الحاوي" حكاية خلاف في صورة قطع اليد في أن البائع يرجع على المشتري عند تلف العبد، بماذا؟ هل بالأرش المقدر كالأجنبي، أو بما نقص من القيمة؛ لأن الجناية كانت في ملكه، بخلاف الأجنبي. وفي "التهذيب" أنه يستقر على المشتري من الثمن بنسبة ما انتقص من القيمة، وهو المذهب في "تعليق" القاضي الحسين والمجزوم [به] في "شرح الفروع" للقفال، وقال الإمام في باب الديات عند الكلام في ضمان جراح العبد: إنه يستحيل أن يجعل المشتري قابضاً لجميع المبيع بقطع يد العبد؛ إذ يستحيل القول به مع بقاء العبد في يد البائع؛ فلا يتأتى في ذلك إلا اعتبار النقصان. قال: وإن أتلفه أجنبي- أي بغير حق- ففيه قولان: أحدهما: ينفسخ البيع؛ لأن المعقود عليه قد فات، فأشبه الفوات بالآفة السماوية، فعلى هذا يسترد المشتري الثمن إن كان قد أنفذه، ويطالب البائع الأجنبي بالبدل، وهذا ظاهر المذهب في "التتمة"، والصحيح في "تعليق" القاضي أبي الطيب. والثاني: لا ينفسخ، بل يثبت للمشتري الخيار بين الفسخ والإمضاء، والرجوع

على الأجنبي بالقيمة- أي كما تقدم- وأما عدم الانفساخ؛ فلأن هذا الإتلاف يستعقب ضماناً على المتلف، والبدل إذا ثبت خلف المتلف في الأعواض المالية. وأما ثبوت الخيار فلفوات غرضه المتعلق بالعين، وهذا القول هو الصحيح في الرافعي، و"تعليق" القاضي الحسين، والمذهب في "النهاية" في آخر باب اختلاف المتبايعين، ولم تعرف المراوزة غيره على ما حكاه الإمام قبل ذلك. وفي "الوسيط": أن العراقيين قطعوا بأنه لا ينفسخ، وقالت المراوزة: فيه قولان. وهذا مما استدرك عليه؛ فإن صوابه العكس على المشهور. وفي "العدة" للطبري عن أبي العباس: أنه لا ينفسخ البيع قولاً واحداً. فرع: إذا أجاز المشتري العقد وأخذ البدل لم يكن للبائع حبسه لوفاء الثمن على أظهر الوجهين، بخلاف المرهون إذا تلف. والفرق: قوة الرهن وضعف حق الحبس، ومقابله مجزوم به في "تعليق" القاضي الحسين؛ فإن للبائع مطالبة الأجنبي بالقيمة كما للمشتري مطالبته، كما للراهن والمرتهن مطالبة متلف الرهن بقيمته، وهو الذي صدر به الإمام كلامه في باب التحالف، وذكر بعده ما قاله القاضي من تمكينه من المطالبة، ثم قال: ومن أصحابنا من يقول: ينقطع حق الحبس، وظاهر ذلك يقتضي ترجيح ثبوت حق الحبس. ثم إذا قلنا به فتلف البدل قبل القبض لم ينفسخ العقد على الأظهر من الوجهين. [فرع] آخر: لو أراد الفسخ بعد الإجازة كان له ذلك على ما حكي عن جواب القفال. وقال القاضي: لم يكن له؛ لأنه رضي بما في ذمة الأجنبي فأشبه الحوالة، أما إذا كان إتلاف الأجنبي بحق؛ كما إذا قتل العبد المبيع قصاصاً فإنه كالآفة السماوية وجهاً واحداً. قال: وإن أتلفه البائع انفسخ العقد؛ لأنه يضمنه بالثمن إذا تلف في يده بحكم عقد البيع، فكذلك إذا أتلفه؛ لأنه لا يجوز أن يكون مضموناً عليه بالقيمة والثمن. قال: وقيل: هو كالأجنبي؛ لأنه تلف بفعل آدمي غير المشتري فأشبه الأجنبي، ولأن إتلاف الراهن العين المرهونة كإتلاف الأجنبي؛ فكذلك ها هنا، لكن الأصح على هذه الطريقة من القولين انفساخ العقد كما حكاه الرافعي، وعلى القول بعدم

الانفساخ يعود الخلاف في حبس القيمة، وعن الشيخ أبي محمد: القطع ها هنا بأنه لا يحبسها لتعديه بإتلاف العين، ويقوم مقام إتلاف البائع عتقه لما بقي في ملكه من العبد الذي باع بعضه، وهو موسر وإتلاف الأعجمي، والصبي الذي لا يميز بإذنه، و [إذا طالبه المشتري بتسليمه فامتنع تعدياً ثم تلف أقامه كيد العدوان مقام الإتلاف، كما حكاه الإمام عن القاضي عند الكلام في مسألة العلج، ثم قال: وهذا فيه احتمال من جهة أن الإتلاف إذا لم نوجبه كاليد القائمة يد عقد؛ ولهذا لا يتصرف المشتري في المبيع والحالة هذه، فتغليب ضمان العقد أولى]. ويقوم مقام إتلاف المشتري إتلاف الأعجمي والصبي الذي لا يميز بأمره، وإتلاف الأجنبي بأمره. وقال القاضي الحسين: إنه يلغو إذنه وإذا أتلفه كان له الخيار، وإذنه للبائع في الأكل والإحراق لا يخرج الفعل عن نسبته إلى البائع حتى يكون في ضمانه. ولو صال العبد المبيع على المشتري فقتله دفعاً فعن الشيخ أبي علي: أنه لا يستقر عليه الثمن وهو موافق لما حكاه الرافعي في مثل هذه الصورة في كتاب الغصب، أن الغاصب لا يبرأ، سواء علم المالك بأن الصائل عليه عبده أم لا، ونحا القاضي إلى أنه يستقر، ويظهر أن يكون محله إذا علم بأنه المبيع، كما حكى الرافعي في الغصب وجهاً مثله. وإتلاف عبد البائع أو المشتري المبيع بغير الإذن كإتلاف الأجنبين فإن أجاز العقد وكان المتلف عبده جعل قابضاً كما لو أتلفه بنفسه. وإتلاف بهيمة المشتري المبيع بالنهار يفسخ البيع، وبالليل لا، وللمشتري الخيار: فإن أجاز فهو قابض، وإلا طالبه البائع بقيمة ما أتلفته بهيمته، وإتلاف بهيمة البائع أطلق القفال في فتاويه أنه كالآفة السماوية، وإن كان قد فصل في بهيمة المشتري كما ذكرناه، ثم ما ذكرناه مفروض فيما إذا لم يكن مالكها معها، أما إذا كان معها فالتلف منسوب إليه ليلاً كان أو نهاراً. وبيع البائع المبيع وتسليمه، وعجزه عنه منزل منزلة جنايته، على ما هو محكي في فتاوى القاضي، والقول: قوله إنه عاجز مع اليمين. وفي "الإشراف": أن البائع إذا طولب بتسليم المبيع وادعى حدوث العجز عنه حبس حتى يقيم البينة. فإن قال البائع: المشتري يعلم عجزي فله تحليفه، لكن على

البت أو على النفي؟ فيه خلاف. فرع: إذا انتفع البائع بالمبيع قبل القبض لم يجب عليه الأجرة على ظاهر المذهب؛ بناءً على أن جنايته كالآفة السماوية، وإن جعلت كإتلاف الأجنبي وجبت، قاله البغوي والغزالي في كتاب الصداق. وحكى في الفتاوى: أن الصحيح أنه يضمن الأجرة إذا أمسك المبيع بعد تسلمي الثمن مدة لمثلها أجرة، ومقتضى ذلك أن يقول به عند الانتفاع من طريق الأولى. قال: والقبض فيما ينقل النقلُ أي: مثل الأخشاب والأمتعة الثقيلة والطعام الكثير والمراكب، والرقيق والبهائم وما أشبه ذلك- النقل. [قال]: وفيما يتناول باليد أي: مثل الذهب والفضة واللآلئ والثوب والطائر، وما أشبه ذلك- التناول. [قال: وفيما سواهما أي: مثل الأراضي والدور والأخشاب القائمة في الأرض التخلية. والدليل على ذلك: أن الشرع أطلق القبض في البيع، وأناط به أحكاماً ولم يبينه، ولا له حد في اللغة يرجع إليه؛ فكان المرجع فيه إلى العرف كالحرز في السرقة والإحياء، والعرف قاض باعتبار ما ذكرناه. وفي "الوسيط" حكاية قول عن حرملة: أن التخلية تكفي في المنقول كالعقار، ووجه: أنها تكفي لنقل الضمان دون ملك التصرف، ونسبه الإمام إلى العراقيين، لكن بشرط أن يوجد من المشتري قبول ذلك، أما إذا لم يكن منه قبول فلا ينتقل إليه الضمان. وفي الجيلي حكاية وجه: أن التناول باليد يكتفي به في الرقيق والبهائم، والمذهب: أن التخلية لا تكفي؛ لنهيه عليه السلام: أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، وما روي عن ابن عمر أنه قال: "كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً؛ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه".

وأن القبض في الرقيق بأن يستدعيه فيأتيه، وفي البهائم أن يسوقها أو يقودها. وفي "الحاوي": أن شراء الموضع الذي فيه المبيع مع التخلية يقوم مقام قبض المبيع، ولو استأجره؛ فوجهان، بخلاف ما لو استعاره. وضعف الشاشي قوله. وقد حكى القاضي الحسين في تعليقه ما حكاه الماوردي: فيما إذا اشترى الموضع وجهاً، وطرده فيما إذا اشترى الزرع بشرط القطع ثم اشترى الأرض. وفي "التتمة" وغيرها: أنه إذا اشترى داراً مع طعام فيها، أن التخلية تكفي فيهما على وجه. وهو ما حكاه الماوردي، وإن لم يكتف بها فيما إذا بيع منفرداً. وعلى وجه: لا تكفي، وهو الأصح في الرافعي. تنبيه: المراد بالنقل: أن يحوله المشتري- بإذن البائع أو بغير إذنه ولم يكن له حق الحبس- إلى مكان لا يختص بالبائع، سواء كان يختص بالمشتري كملكه، أو ما هو مستأجر معه، أو مستعار. أو لا يختص به كالمساجد والشوارع. وفي "الحاوي" أن المعتبر فيه إخراجه من الحرز الذي كان فيه، وإن لم يجعله المخرج في حرز. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه لو وضعه في جواليق لنفسه، وخرج ليحضر الجمال فهو قبض وإن كانت الجواليق في دار البائع، وكذلك لو استعار منه الجواليق. أما إذا كان للبائع حق الحبس ونقله بغير إذنه، فقد حصل نقل الضمان. وهل

يملك التصرف؟ فيه وجهان في "الوسيط" والمذكور في الرافعي و"الحاوي": العدم، وفي "النهاية" حكاية عن الشيخ أبي محمد: أن الاستيلاء- كما ذكرنا- لا يقتضي نقل الضمان، كما لا يقتضي التصرف، وهو بعيد. ولو حصل النقل والتحويل من البائع بأن وضعه في بيت المشتري، أو في حجره، أو بين يديه بإذنه حصل القبض، وإن كان بغير إذنه ورضاه فالمذهب في "النهاية" أنه يحصل أيضاً، إذا مكنه من قبضه والاحتواء عليه. وفي بعض التصانيف وجه آخر: أن هذا لا يكون قبضاً ما لم ينقله المشتري، قال الإمام: وهذا الوجه عندي يخرج على قول من يرى بعدم الإجبار على قبول الدين الحال. والأول يخرج على القول بوجوبه، وهو المذهب. وقال في باب اختلاف المتبايعين: إن سبب الوجوب تخليص البائع من عرضة الضمان، وبه جزم ثَمَّ. وفي الرافعي قياس القول على ما إذا وضع الغاصب المغصوب بين يدي المغصوب منه فإنه يبرأ. وفرق المتولي بينهما: بأن المالك في الغصب يده سابقة، وإنما وجد من الغاصب

نوع تعدٍّ، وقد ترك العدوان، فعاد الشيء إلى يد مالكه، وها هنا المشتري لم يكن له يد سابقة ويد البائع ثابتة بحق فلا تزول إلا بتمام الاستيلاء. ثم على القول بحصول القبض لو خرج المبيع مستحقاً ولم يوجد من المشتري وَضْعُ يدٍ عليه لم يكن للمستحق مطالبته. وعلى القول بعدم حصوله، للحاكم [أن يجبره على أخذه، فإن امتنع أمر الحاكم مَنْ يقبضه عنه، كما لو كان غائباً، كذا حكاه الرافعي]. ومقتضى ما وجه به الإمام عدم حصول القبض ألا يجبره الحاكم، ولا يستنيب من يقبضه عنه. وفي "الوسيط" عند الكلام في وجوب البداية بالتسليم: أن صاحب "التقريب" قال: للبائع أن يقبضه من نفسه؛ لتصير يده يد أمانة، وله أن يدفع ذلك إلى القاضي [حتى يودعه تحت يده. ثم قال: وهو بعيد. وقبض القاضي وإيداعه أقرب. وحكى الإمام عنه: أن للقاضي] أن يبرئه من ضمان المبيع فتصير يده يد أمانة، فإن لم يجد قاضياً؛ فيقبضه البائع من نفسه للضرورة، وعلى ذلك يحمل إطلاق الغزالي الخلاف عنه. والمراد بالتخلية: أن يحضرا عند المبيع ويرفع البائع يده عنه، ويمكن المشتري من التصرف فيه، فيقول له: دونك هذا، ويدفع إليه المفتاح، سواء دخل أو لم يدخل، لكن يشترط ألا يكون ثَمَّ مانع شرعي ولا حسي. وفي "الشامل" في كتاب الرهن: أن الدار إذا كان فيها قماش للراهن، وسلم الراهن للمرتهن المفتاح- حصل القبض. وقال أبو حنيفة: لا يصح ثم قال: وهذا ليس بصحيح؛ لأن كل ما كان قبضاً في البيع كان قبضاً في الرهن، وهذا منه يدل على أن القبض في البيع يحصل بذلك. ولو لم يحضر المبيع فلا يكفي ذلك على وجه، وقيل: يكتفي بحضور المشتري وحده. وقيل: لا يشترط حضور واحد منهما، وهو الأظهر. نعم يشترط مضي زمان يمكن المضي إليه فيه على أصح الوجهين، وهو المحكي في "التتمة".

فرع: إذا باع الأب مال ولده المنقول من نفسه، أو بالعكس، ففي كيفية القبض وجهان حكاهما الماوردي: أحدهما: بالنقل والتحويل، كما ذكرناه. والثاني: بالنية، إذا كان تحت يده من غير نقل وتحويل. فرع [آخر]: إذا باع الجمد في المجمدة، وقد رآها قبل وضعه فيها، فتسليمه يكون على حسب الإمكان كما في بيع الدار المشحونة قماشاً، والسفينة المملوءة طعاماً. وفيه وجه: أنه يلزمه تسليمه على حسب العرف والعادة، يأخذ الجمد منه في كل يوم وقراً، أو وقرين، أو ثلاثة. والصحيح هو الأول. حكاه القاضي الحسين في باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمار. واعلم أن جميع ما ذكرناه فيما إذا لم يكن المبيع [تحت يد المشتري، وكان المبيع جزافاً غير مقدر بكيل ولا وزن ولا ذرع، أما إذا كان المبيع]. في يد المشتري، فإن كانت يده يد أمانة كيد المودع والمرتهن وغيرهما، أو يد ضمان كيد الغاصب والمستعير وغيرهما، فإن كان المبيع حاضراً كان مقبوضاً بنفس العقد، ولا يحتاج فيه إلى إذن من جهة البائع، وإن كان له حق الحبس، قال المتولي: لأنه لما باع منه [مع] كون المال في يده فقد رضي بدوام يده. وفي الغصب وجه: بأن البيع جهة ضمان، والمال في يده مضمون؛ فسقط حكم ضمان القيمة وتقرر ضمان الثمن. وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر: أنه لابد من النقل والتحويل بإذن البائع إذا كان له حق الحبس. وإن كان المبيع غائباً، فهل يشترط مضي زمان يمكن المضي فيه إليه؟ [فيها] وجهان، أصحهما: ما حكاه الرافعي في كتاب الرهن: نعم. وهو ما جزم به المحاملي والبندنيجي. ثم هل يشترط المضي إليه؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: التفرقة بين ما ينتقل كالحيوان فيشترط، أو لا ينتقل كالعرض فلا يشترط. وفي "النهاية": الفرق بين أن يكون مأمون التلف فلا يشترط، أو غير مأمون فيشترط. وعلى القول باشتراط المضي، هل يشترط النقل والتحويل؟ فيه وجهان: أصحهما

- وبه قطع بعضهم- أنه لا يشترط. وهل يحتاج في التصرف إلى إذن البائع على القول بعدم اشتراط النقل؟ ينظر: إن كان له حق الحبس فنعم، وإن لم يكن له حق الحبس فلا، على الأصح. ومقتضى ما ذكرنا فيما إذا كان المبيع في يده أنه لا يحتاج إلى إذنه وإن ثبت له حق الحبس على الأصح. وهو ما يقتضيه كلام الإمام في "كتاب الرهن" فإنه قال: وذكر أبو علي في الشرح وجهاً أن القبض لا يحصل، ولا يبطل حق البائع في حبس المبيع إذا أثبتناه ما لم يأذن أو يتوفر عليه الثمن. وهذا غريب ثم قال: والذي ينقدح لنا في هذا أنه إذا لم يحصل القبض حتى يتوفر الثمن فينبغي أن تكون العين في يد المشتري بمثابة المبيع يقبضه قبل توفية الثمن. وأما إذا كان المبيع مقدارً فلا بد مع ما ذكرناه في الصورة السابقة من الذَّرْع أو الوزن أو الكيل، فلو قبض جزافاً فاشتراه مكايلة دخل المقبوض في ضمانه، وفي صحة بيعه لما تيقن أنه له، وجهان: أحدهما- وبه قال ابن أبي هريرة وساعده الجمهور-: أنه لا يصح. وقال أبو إسحاق: إنه يصح. وقبض ما اشتراه كيلاً بالوزن ووزناً بالكيل كقبضه جزافاً، وكذا قبضه بكيل من غير جنس الكيل الذي اشترطه. ولو اشترى منه قفيزاً من طعام فاكتاله بالمكوك- الذي هو ربع القفيز- فوجهان وكذا لو اكتال الصاع بالمد على وجهين في "الحاوي". وسيأتي في الباب الثاني أن النووي حكى ما يقتضي أن المكوك ثمن القفيز. ولو قال الدافع: خذه فإنه كذا، فأخذه مصدقاً له، فالقبض فاسد أيضاً، حتى يجري اكتيال صحيح. ولو كان للبائع على غيره طعام، فقال للمشتري: اذهب معي لأقبضه وأكتاله لك، ففعل- فهو فاسد أيضاً؛ لنهيه عليه السلام: عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، يعني: صاع البائع، وصاع المشتري. ولو اكتاله البائع لنفسه ثم سلمه إلى المشتري في المكيال؛ ففي صحة القبض وجهان محكيان في "تعليق" البندنيجي وغيره.

أحدهما: لا يصح، حتى يفرغه ويبتدئ كيله. وأظهرهما عند الأكثرين أن استدامة المكيال كابتداء الكيل. ثم إذا فرغ واكتيل ثانياً فزاد زيادة يمكن أن تكون من اختلاف الكيلين فهي للقابض الأول. وإن كانت أكثر من ذلك فهي للمقبض الأول وإن نقص فهو على القابض الأول. ثم ليس على البائع الرضا بكيل المشتري، ولا على المشتري الرضا بكيل البائع. [و] قال الرافعي: فإن لم يتراضيا نصب الحاكم أميناً يتولاه، وعزاه إلى "الحاوي". فظاهر هذا يدل على أنهما لو تراضيا بكيل أحدهما جاز. وحكى من بعد فيما لو أذن لمستحق الحنطة أن يكتال من الصبرة بحقه وجهين: أصحهما [أنه] لا يجوز؛ لأن الكيل أحد ركني القبض، وقد صار نائباً فيه من جهة البائع متأصلاً لنفسه. والثاني: يجوز؛ لأن المقصود منه معرفة المقدار، والمقبض هو البائع. ويشترط في صحة القبض أيضاً، أني كون المقبوض مرئيّاً للقابض، فلو لم يره، حكى الإمام أن بعض أصحابنا خرجه على الخلاف المذكور في التقابض مجازفة، ثم قال: وهذا فيه فضل نظر فإن القبض من غير رؤية، يخرج عندنا على بيع الغائب، فإن قبض غير ما ثبت في الذمة ملكاً كالمبيع يحل محله. فرع: مؤنة الكيل الذي يفتقر إليه القبض على البائع [كمؤنة إحضار المبيع الغائب ومؤنة وزن الثمن على المشتري، قاله الرافعي، ومؤنة نقل الثمن على البائع] أو على المشتري؟ حكى الماوردي فيه وجهين. وقد نجز الكلام في كيفية القبض وحكمه، وبقي أمران ىخران: أحدهما: القابض: وهو كل من يصح منه البيع، وقد أشار إلى ذلك الغزالي بقوله: ولا يعتد بقبض الصبي فإنه سبب ملك أو ضمان. فلو قال: أد إلى الصبي، فأدى لم يبرأ؛ لأن ما في الذمة لا يتعين ملكاً إلا بقبض صحيح، بخلاف ما لو قال: رد الوديعة إليه فإن الوديعة متعينة وذلك مستمد مما قاله

الإمام: من أن الصبي ليس من أهل القبض فيما لا يكون من أهل العقد فيه فإن القبض فيه من الخطر ما يزيد على العقد. والقبض إن كان مملكاً في عقد- كالقبض في الهبة- فهذا الصبي لا يصلح له كما لا تصلح عبارته للفظ الذي يملك به. وقد أطال بعض المتأخرين في بيان مراد الغزالي من قوله: "سبب ملك أو ضمان"، ولم يُظْهر له معنىً معتبراً. ومراده- رضي الله عنه- أن الصبي لا يعتد بقبضه المبيع؛ [لأن القبض] فيه سبب ملك، أي: في العوض الثابت في الذمة إذا عين؛ أو ضمان، أي: في نقل المبيع المعين من ضمان البائع إلى ضمان المشتري، والصبي ليس أهلاً للتملك بهذا الوجه، وإن كان أهلاً لتملك المباحات؛ لأنه ليس فيها نقل ملك عن الغير بل افتتاح ملك، وهو محض مصلحة لا ضرر عليه فيه ولا هو أهل للضمان، [فهذا هو الوجه] وإن كان أهلاً للضمان بالإتلاف للخبر الثابت، ويدل على ذلك تتمة كلامه فإنه قال: لو قال: أد إلى الصبي فأدى لم يبرأ لأن ما في الذمة لا يتعين ملكاً إلا بقبض صحيح بيَّنهما على مأخذ المنع، فيما إذا كان المبيع في الذمة. واحترز- رضي الله عنه- بقوله: "لأن ما في الذمة لا يتعين ملكاً" عما يتعين حقّاً لا ملكاً، وهو ما إذا التقط طعاماً وجوزنا له أكله وعزل القيمة، فإن مالك الطعام أحق بالقيمة، وإن لم يملكها بذلك وعلى ذلك إشكال يأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى. فرع: يجوز لمن له القبض التوكيل فيه، ويشترط في الوكيل ألا تكون يده يد المقبوض منه كعبده غير المأذون، ومستولدته، ومدبره. ويجوز توكيل مكاتبه. وفي توكيل عبده المأذون وجهان: أصحهما: أنه لا يجوز. ووجه الجواز محمول على ما إذا ركبته الديون، أما إذا لم يكن عليه دين، فلا يجوز وجهاً واحداً- كما سنذكر نظيره في كتاب الرهن عن الشيخ أبي علي. [الأمر] الثاني: المحل الذي يستحق الإقباض فيه: إذا كان المبيع منقولاً، فإن كان حاضراً [لدى العقد] استحق تسليمه في موضع العقد. وإن كان غائباً فقد حكى الماوردي: أنه لابد من ذكر البلد الذي هو فيه، ولا يشترط ذكر البقعة من البلد.

بخلاف ما إذا كان المبيع عقاراً، وجوزنا بيع الغائب، فإن في اشتراط ذكر البقعة من البلد وجهين. ثم إذا عين البلد فالواجب أن يسلمه إليه فيه، وليس على البائع أن يسلمه في غيره. فإن شرط المشتري على البائع أن يسلمه إليه في البدل الذي تبايعا فيه وهو في غيره لم يجز، وكان البيع فاسداً وهذا بخلاف المسلم فيه؛ لأنه مضمون في الذمة وليس بمختص بموضع دون غيره، فاستوى فيه جميع المواضع فافتقر إلى ذكر المواضع التي يقع القبض فيها، وليس كذلك [العين الغائبة؛ لأنها] غير مضمونة في الذمة، وهي معينة قد اختصت بموضع هي فيه فلم يجز اشتراط نقلها إلى غيره لأنه يصير بيعاً وشرطاً في معنى بيع ثوب على أن على البائع خياطته. وفي الرافعي في كتاب السلم: أن السلم الحال لا حاجة فيه إلى تعيين مكان التسليم، كالبيع، ويتعين مكان العقد، لكن لو عين موضعاً آخر جاز بخلاف البيع؛ لأن السلم يقبل التأجيل فقبل شرطاً يتضمن تأخير التسليم بالإحضار، والأعيان لا تحتمل التأجيل فلا تحتمل شرطاً يتضمن تأخير التسليم، وأن حكم الثمن في الذمة حكم المسلم فيه، وإن كان معيناً فهو كالمبيع. قال في "التهذيب": ولا نعني بمكان العقد ذلك الموضع بعينه بل تلك المحلة، هذا آخر كلامه. وهو مصرح بعدم اشتراط مكان البيع واستحقاق تسليمه في مكان العقد، وعليه ينطبق كلام المتولي فإنه قال: إذا كان المبيع غائباً عن الموضع فمؤنة إحضاره على البائع وإن كان حاضراً ويحتاج في نقله إلى دار المشتري إلى مؤنة فعلى المشتري، ولا يجب على البائع إلا التخلية. وفي "تعليق" القاضي الحسين قبيل كتاب الرهن: أنه لا خلاف في بيع العين، أنه لا يحتاج فيه إلى تعيين مكان تسليم المبيع، ومكان العقد أيضاً لا يتعين. وإذا أتى البائع بالمبيع- أي موضع كان- يجبر المشتري على القبض، وأي موضع طالب المشتري البائع بتسلمي المبيع، وقد وفى الثمن أو قلنا يجبر البائع أو لا يجبر البائع على تسليم المبيع منه. والله أعلم.

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء التاسع تتمة كتاب البيوع

باب ما يجوز بيعه، وما لا يجوز

بسم الله الرحمن الرحيم باب ما يجوز بيعه، وما لا يجوز أي: مما يعتقد جوازه لكونه كان بيعاً في الجاهلية. اعلم أن المذكور في أكثر الكتب عدُّ شرائط المبيع خمساً: أن يكون طاهراً، منتفعاً به، مملوكاً للعاقد - وزاد بعضهم: أو لمن يقع العقد له؛ ليدخل فيه الولي والنائب، وهو صحيح لكن يدخل معهما الفضولي، فإن العقد إذا صح منه وقع للمالك - مقدوراً على تسليمه، معلوماً. وزاد بعضهم شرطاً سادساً، وهو: ألا يتعلق به حق قربة لازمة؛ ليخرج به أم الولد والمكاتب والموقوف، والعبد الذي نذر السيد عتقه، على الصحيح. وقيل: إنه لا حاجة إلى ذلك؛ فإن شرط القدرة على التسليم يتضمن ذلك. وفي الذخائر: عدَّ شرائطه سبعاً: الأول: أن تكون العين قابلة للبيع ومحلاًّ له، وذلك يتضمن الطهارة والانتفاع. وأن تكون غير محرمة. والثاني: أن تكون مملوكة للعاقد ملكاً مستقراًّ. والثالث: القدرة على التسليم. والرابع: أن تكون معلومة. والخامس: السلامة من الرِّبا فيها. والسادس: الخلاص من مقارنة ما لا يجوز العقد عليه. والسابع: أن يؤمن عليها العاهة. والشيخ- رضي الله عنه- أتى في هذا الباب من الشروط السبعة، ما عدا الخامس

والسابع، وذكر الخامس في الباب الثاني، والسابع في الباب الثالث، لكنه أتى بها من غير ترتيب. قال: لا يصح البيع إلا في عين طاهر، فأما الكلب والخنزير والخمر والسرجين والزيت النجس، فلا يجز بيعها. السرجين والسرقين واحد، وهو الزبل، ويقال: بكسر السين وفتحها. والأصل في عدم جواز بيع الكلب: [ما روى] الشافعي ومسلم والبخاري بإسنادهم عن أبي مسعود الأنصاري أنه صلى الله عليه وسلم: ""نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن" ومهر البغي وحلوان الكاهن حرامان فكذلك ثمن الكلب. وروى فيه ابن عباس- أيضاً -: "فإن جاء يطلب ثمنه فاملأ كفه تراباً"، أخرجه أبو داود. فإن قيل: روى جابر: أنه – عليه السلام – نهى عن ثمن الكلب والسِّنَّور إلا كلب صيد.

وهذا يدل على صحة بيع كلب الصيد؛ فوجب حمل ما ذكرتموه من الحديث على غيره جمعاً بين الحديثين. فجوابه: أن الحديث موقوف على جابر على الصحيح – كما قاله الدارقطني – وهو حجة أيضاً على من صار إلى صحة بيعه؛ فإنه لا يقصره على كلب الصيد. وقد قيل في معناه: ولا كلب صيد؛ لأنه جاء في اللغة مثل ذلك؛ قال الشاعر: [من الوافر] وكل أخ مفارقه أخوه لعمرو [أبيك] إلا الفرقدان معناه: والفرقدان. وفي الخنزير والخمر: ما روى مسلم عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهم – أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح – بمكَّة – يقول: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنه يُطْلَى بها السٌّفن، وَيُدْهَنُ بها الجُلُود، وَيستصبحُ بِهَا الناسُ؟ فقال: "لا، هو حَرامٌ". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "قَاتل الله اليهود؛ إن الله لمَّا حرَّم عليهم شُحُومها [جَمَلُوه ثم] باعوه فأكلوا ثمنه". وروى البخاري أيضاً معناه.

وفي السرجين والزيت النجس، وما في معناهما [من الأعيان النجسة والمتنجسة]: ما روى أبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه"، وذلك محرم؛ فكان ثمنه محرماً. وبالقياس على الجيفة دون جلدها، والعذرة؛ فإن الإجماع منعقد على بطلان بيعهما، وإن كان في الجيفة منفعة إطعامها جوارح الصيد، وفي العذرة منفعة تسميد الأرض. قال الغزالي: ثم الإجماع على ذلك يدل على أنه لا علة لبطلان البيع إلا النجاسة، وقد يمنع بغير ذلك، ويقال: بل العلة عدم المنفعة المقصودة، فإن البيع لا يعتمد مجرد المنفعة؛ بل لابد من منفعة مقصودة، وهذا النوع من الانتفاع ليس بمقصود. وجوابه: أن من ذهب من العلماء إلى صحة بيع الأعيان النجسة يراعي فيها مثل تلك المنفعة؛ فلا جرم حسن الاستدلال به عليه. ولا فرق في الخمر بين أن تكون محترمة أو غير محترمة. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه لو ألقى العصير وعناقيد العنب في الدن بنية الخل وصار خمراً، فلا خلاف في أنها نجسة. وهل يجب الضمان على من أراقها؟ وحل يحل بيعها؟ كان – رحمه الله – يحكي فيه وجهين، أظهرهما: أنه لا يحل البيع، ولا ضمان على المريق كالمصفّى. وفي "النهاية" في كتاب الرهن: أن الشيخ أبا علي حكى تردداً في طهارتها وجواز بيعها. واعلم أن ذكر الشيخ هذه الأمثلة ليس لتعداد الصور من غير مزيد فائدة، بل لمعنىّ حسنٍ، وهو أن الخنزير والخمر متفق على بطلان بيعهما، والكلب والسرجين

مختلف في صحة بيعهما عند بعض العلماء. فذكر الخنزير ليقاس عليه الكلب؛ بجامع ما اشتركا فيه من استوائهما في النجاسة والحيوانية والانتفاع، فإن الكلب كما هو منتفع به كذلك الخنزير منتفع به في صلاح الخيل. وذكر الخمر ليقاس عليه السرجين؛ بجامع ما اشتركا فيه من النجاسة والجماديَّة والانتفاع؛ فإن الخمر ينتفع بها بمصيرها خلاًّ، كما ينتفع بابن اليوم بالكبر، وذكر الزيت النجس ليبين به أن الأعيان المتنجسة بالمخالطة حكمها – فيما ذكرناه – حكم الأعيان النجسة، وذكر الزيت في هذا المقام أحسن من ذكر العسل المتنجس؛ لأنه إذا جزم بعدم الصحة في الزيت مع اختلاف العلماء [في إمكان] تطهيره – على ما سنذكره – كان ذلك فيما لا يمكن تطهيره أولى. ثم حيث شرعنا في ذلك فنقول: ذهب أبو العباس بن سريج، وأبو إسحاق إلى أن الزيت والشيرج والبزار إذا وقعت فيه نجاسة يمنك تطهيره، وأن ذلك جائز وصورة ذلك: أن يوضع في إناء فيه قلتان من الماء، ثم يحرك ويثقب أسفل ذلك الإناء، فإذا خرج الماء سُدَّ. وذهب غيرهما على ما حكاه صاحب "الإفصاح" وغيره إلى عدم إمكان تطهيره. وقال الرافعي: "إنه الأظهر"، وأيده بما سنذكره عنه. وحكى الجيلي وغيره أن الخلاف في ذلك مبني على اشتراط العصر في غسل النجاسة، فمن اشترطه قال بعدم إمكان التطهير. ثم إذا قلنا بعدم إمكان التطهير لم يصح بيعه عند العراقيين، وعند المراوزة فيه وجهان مبنيان على جواز الاستصباح بالدهن المتنجس، وفيه قولان مبنيان على أن الدخان هل هو طاهر أم نجس؟ والذي ذهب إليه الشيخ أبو محمد أنه نجس كالرماد؛ فإنه نجس على المذهب. وحكى القاضي الحسين وجهاً أنه طاهر وإن حكم بنجاسة الرماد. قال الإمام: وهو الذي يظهر؛ فإن الذي ثار محض أجزاء الدهن. ثم الخلاف في الدخان مبني – على ما حكاه الجيلي –على أن النار هل تطهر أم لا؟

والصحيح من المذهب عند القاضي الحسين – على ما حكاه في "التعليق" – إن الاستصباح به جائز، وهو يوافق إيراد الغزالي في "الوجيز"، وبه جزم الشيخ في "المهذب"، وقال: الأولى ألا يفعل. وكذلك ابن الصباغ جزم بجواز الاستصباح به، وكذلك في شحم الميتة. وفي الرافعي: أن الظاهر عند الأصحاب منع الاستصباح بالزيت النجس. وإن قلنا بإمكان التطهير فالذي ذهب إليه المراوزة جواز بيعه، والذي ذهب إليه بعض العراقيين أن في جواز بيعه وجهين: أحدهما: - ويحكي عن ابن أبي هريرة -: أنه يجوز كالثوب النجس. وأصحهما – على ما حكاه الرافعي، وبه قال أبو إسحاق -: أنه لا يجوز. [ووجهه الرافعي:] بأنه – عليه السلام – لما سئل عن الفأرة توجد في السمن، قال: "إن كان جامداً فَأَلْقُوها وما حولها، وإن كان ذائباً فأريقوه"، ولو كان جائزاً لما أمر بإراقته، وهذا أجدر ما يحتج به على امتناع التطهير. والذي حكاه البندنيجي في "تعليقه" أنه ينظر على هذا القول: إن كان معظم الانتفاع بالمتنجس لم يذهب [التنجيس] [كالبذر فيجوز وجهاً واحداً؛ فإن الاستصباح به جائز بكل حال، وإن كان معظم الانتفاع] بالمتنجس قد ذهب كالزيت والشيرج ونحو ذلك، فإن المقصود منه الأكل وقد فقد، ففي جواز بيعه وجهان. فقد ظهر لك مما ذكرناه عدم صحة بيع الزيت النجس على الصحيح من المذهب كما جزم به الشيخ، وهو موافق أيضاً لما حكاه القاضي الحسين في "التعليق": أن الشافعي نص في الأطعمة على أنه لا يجوز بيع الزيت النجس، وأنه

خُرِّج فيه وجه: أنه يجوز. وقد ضعف مجلي بناء المراوزة الخلاف مع القول بعدم إمكان التطهير؛ فإن أكثر ما فيه جواز الانتفاع به في وجه مخصوص، وهذا لا يسلط على بيعه مع الحكم بنجاسته كالكلب والسرجين. ثم حكم الماء النجس حكم الزيت النجس عند العراقيين في آخر الخلاف؛ من حيث إن المقصود الأعظم منه التطهير والشرب، وهو ممتنع، وفي الرافعي: أن بعضهم أشار إلى الجزم بالمنع. وقال: بلوغه إلى حد الكثرة ليس بتطهير، ولكنه يستحيل من صفة النجاسة إلى [صفة] الطهارة؛ كالخمر تتخلل، وهذا على القول بجواز بيعه. فرع: الصبغ النجس، هل يجوز بيعه؟ فيه وجهان يجريان أيضاً في الخل النجس لإمكان الصبغ به. قاله القاضي الحسين. وهذا الخلاف كالخلاف في الزيت النجس على القول بعدم إمكان تطهيره. قال: ويجوز بيع الثوب النجس وكذا ما في معناه من [آجر] أو خشب أو حجر، وغير ذلك مما نجاسته بالمجاورة؛ لأن البيع وارد على العين وهي طاهرة، وما جاورها من النجاسة يزول عن قرب. وهذا يشابه ما قاله البندنيجي في البزر؛ من حيث إن معظم الانتفاع به باق، وهو اللبس، ودفع الحر والبرد. ثم هذا إذا لم تستره النجاسة، أما إذا سترته، ففي "التتمة": أنه لا يصح بيعه، وفي الرافعي: تخريجه على بيع الغائب. فرع: إذا كانت قرية يسكنها المجوس أو عبدة الأوثان لم يجز شراء الذبيحة منها، وإن أمكن أن يكون فيها مسلم أو كتابي، حكاه ابن الصباغ. قال صاحب "الفروع": وكذا لو كان في البلد مسلمون ومجوس لم تحل أيضاً، إلا أن يكون المسلمون أكثر فتحل. قال: ولا يصح إلا فيما فيه منفعة؛ لقوله تعالى: ? وَلا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ

بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] وما لا منفعة فيه غيرُ متقوِّم فبذل العوض في مقابلته سفه؛ فأكله من أكل المال بالباطل. قال: وأما الحشرات والسباع التي لا تصلح للاصطياد – أي: ولا للقتال [عليها] – فلا يجوز بيعها؛ لعدم المنفعة. وهكذا الحكم في الطيور التي لا تصلح للاصطياد، ولا التفات إلى ما يتحصل من جلدها وأجنحتها. وحكى عن القاضي الحسين وجه في جواز بيع السباع لأجل جلودها، وهو جارٍ في الحمار الذي تكسرت قوائمه، وفي الطيور إذا كان في أجنحتها فائدة. ومنهم من لم يُجْرِهِ في الطيور. وفرق بأن الجلود يمكن تطهيرها ولا سبيل إلى تطهير الأجنحة. وأما السباع التي تصلح للاصطياد كالفهد والنمر والهرة، وكذا ما يمكن القتال عليه – كالفيل فيجوز بيعها؛ لوجود المنفعة المقصودة. وفي الفيل والهرة وجه: أنه لا يجوز بيعهما، حكاه في "الحلية".

وكذا يجوز بيع القرد؛ لأنه يُعَلَّم الأشياء فيتعلم، وبيع دود القز جائز أيضاً. وفي بيع العَلَق – وليس فيه إلاَّ مصلحة مص الدم – وجهان: أظهرهما الجواز. وفي بيع السم الطاهر الذي لا يستعمل قليله في الأدوية وجهان في "الحاوي"، وجه الجواز: الاعتماد على قتل الكفار به. ويجوز بيع الزرزور، والطاوس للاستمتاع بصورته، وكذا ما يستمتع بصوته.

واعلم أن الشيخ خص هذا النوع مما لا ينتفع به بالذكر وإن كان تحته أنواع؛ لنفي توهم من يزعم أن في الحشرات منفعةً في الخواص وفي السباع، وهي إقامة الهيبة والسياسة، إذ هذه المنفعة غير معتبرة. وأما ما لا منفعة فيه شرعاً: كآلات الملاهي، والأصنام إذا كانت بعد زوال صورتها لا مالية لها لا يجوز بيعها، وكذا لو كان له بعد الرضاض مالية –على الأظهر عند عامة الأصحاب – وعليه يدل خبر جابر. ومنهم من جوز بيعها، ورأى الإمام الأظهر الجواز، إذا كانت متخذة من جواهر نفيسة، بخلاف ما إذا اتخذت من خشب ونحوه. وكذا ما لا منفعة فيه لقلته كالحبة من الحنطة والزبيبة، وغيرهما، لا يصح بيعه، ولا نظر إلى زمن الغلاء، ولا إلى ما يوضع في الفخِّ؛ لأنها ليست منفعة معتبرة، وفي "التتمة": حكاية وجه في جواز البيع. وعلى المذهب: لا يجوز أخذ الحبة من صُبرة الغير بغير إذنه، فإن أخذت وجب ردها، فإن تلفت لم يضمنها بالمثل، على الأصح، خلافاً للقفال. وفي بيع الماء على شاطئ البئر – إذا قلنا: إنه يملك – أو التراب في الصحراء، أو الأحجار بين الشعاب الكبيرة – وجهان في "التتمة"، وأصحهما: الجواز.

فرع: بيع الجارية المغنية بما تساويه لولا الغناء، صحيح، وبأكثر منه هل يصح؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها – وهو قول الشيخ أبي علي -: إن قصد الغناء بطل، وإلا فلا. وهذا مفرع – كما حكاه الرافعي في كتاب الصداق – على أن مثل هذه إذا غصبت ونسيت الألحان يرد معها أرش النقص بسبب النسيان، وهو وجه حكاه الإمام أيضاً مع وجه آخر: أنه يضمن قيمتها مغنية إذا تلفت، وإن كان قد جزم قبيل الكلام في "الأمة تغرُّ من نفسها"، بأنه إذا أتلفها لم يضمن إلا مثل قيمتها لو لم تحسن الغناء، مع حكاية الخلاف في جواز بيعها. قال: ولا يجوز بيع ما يبطل به حق آدمي: كالوقف، وأم الولد، والمكاتبُ – [أي بضم الباء] – في أصح القولين والمرهون. قد تقدم في صدر الباب أن هذا يندرج تحت القدرة على التسليم؛ لأن العجز عن التسليم نوعان: حسي وشرعي، وهذا من الشرعي. وذكر الشيخ إبطال حق الآدمي ليرشدك إلى علة الحكم، فالوقف لا يصح بيعه؛ لما روى ابن عمر أن عمر أصاب أرضاً بخيبر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" قال: فتصدق بها عمر – رضي الله عنه – صدقة، لا تباع ولا توهب ولا تورث. وأما أم الولد فلا يصح بيعها؛ لما روى عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع أمهات الأولاد. وفي القديم حكاية قولك أنه يجوز بيعها متبعاً فيه ما روي عن علي – كرَّم الله وجهه – وتعتق بموت مستولدها على هذا، وقيل: لا تعتق بموته، كما رواه الخراسانيون، وهو إلى كلام الشيخ أقرب؛ إذ لو لم يكن كذلك لما كان فيه إبطال

لحق آدمي إلا أن يقال: الولاء على الورثة. وزاد الإمام في كتاب الرهن في الحكاية عن القديم: أن المستولدة لا تعتق أصلاً، وإن بقيت في ملك المستولد إلى الموت، وسبيل ذلك سبيل الاستخدام. ولو حكم حاكم بصحة بيعها، فهل ينتقض حكمه على الجديد؟ قال الشيخ أبو علي في "الشرح": يحتمل قولين؛ بناءً على أن [أهل] العصر الثاني إذا أجمعوا على أحد القولين بعد انقراض العصر الأول على الخلاف تصير المسألة مجمعاً عليها. وفيه قولان: أصحهما: أنه لا يصير إجماعاً؛ فعلى هذا لا ينقض. والمكاتب لا يصح بيعه في الجديد؛ لأنه كالخارج عن ملك السيد؛ ولهذا لا يرجع أرش الجناية عليه؛ فأشبه ما لو باعه، ولأن عقد الكتابة وارد على الرقبة بالنجوم، فلو صح بيعها لاجتمع عليها عقدان يقتضيان نقل الملك فيها بعوض، وذلك لا يعقل. والقديم: أنه يصح؛ لما سنذكره من قصة بريرة، ولأن عتقه غير متيقن؛ فملك بيعه كالمدبر والمعلق عتقه على صفة. فعلى هذا، هل تنفسخ الكتابة؟ الذي حكاه الطبري وابن الصباغ وغيرهما: أنها لا تنفسخ، ويكون الولاء للمشتري. وفي "التهذيب" و"تعليق" القاضي الحسين، حكاية وجهين: أحدهما: أنها تنفسخ. والثاني: لا تنفسخ، حتى لو أدى النجوم إلى المشتري يعتق، و [يكون] الولاء للبائع؛ كان لو مات السيد فأدى النجوم إلى الورثة. والمرهون لا يصح بيعه؛ لأن المقصود من الرهن: الاستيثاق إلى حين قضاء الدين، فلو صح بيعه قبل ذلك لبطلت فائدة الرهن. وأبدى الإمام في كتاب "الإقرار" احتمالاً في صحة بيعه موقوفاً، من بيع المفلس

ماله قبل فك الرهن. وتلحق بالمرهون كل عين ثبت لمن هي تحت يده حق حبسها؛ ليستوفي ما وجب له بسبب العمل فيها: كالصباغ إذا صبغ الثوب؛ فإنه لا يصح بيعه قبل توفية الأجرة، وكذا القصار إذا قلنا: إن القصارة بمنزلة العين، وإن قلنا: إنها أثر فلا حق له في حبسها، فيجوز له بيعه قبل قبضه. ويلتحق بذلك أيضاً ما إذا استأجر صباغاً ليصبغ له ثوباً وسلمه إليه فليس له بيعه ما لم يصبغه، وكذا لو استأجر قصاراً على قصره؛ ليس له بيعه ما لم يقصره، وكذا لو استأجر صائغاً على عمل ذهب، ونظائر ذلك، كما صرح به المتولي وغيره؛ لأن له حبسه إلى أن يعمل فيه ما يستحق به العوض، وعليه يخرج ما قيل في بيع الأشجار المساقي عليها: أنه لا يصح؛ لأن المساقاة عقد لازم، وقد استحق العامل أن يعمل فيها ما يستحق به أجراً. وبعض الناس يقول: كان يتجه أن يُخَرَّجَ على بيع الأعيان المستأجرة من حيث إن العامل قد استحق جزءاً من الثمرة الذي مقتضى العقد أن يكون للبائع؛ وغفل عن ملاحظة هذا الأصل. والله أعلم.

فائدة: كثيراً ما يسأل عن بيان ما في بيع المكاتب من إبطال حق الآدمي على القول بأنها لا تنفسخ، وهو الصحيح. ويجاب عنه: بأن فيه إبطال حق الولاء على العصبة، وهذا السؤال غير متوجه على ما صورنا به كلام الشيخ من أن باء "المكاتب" مضمومة، وعلى تقدير أن تكون مكسورة، فالجواب غير صحيح على قول صاحب "التهذيب"، وعلى قول ابن الصباغ فقد يورد عليه جواز بيع المدبر مع أن فيه إبطال مثل هذا الحق. وقد يقال في ذلك: إن الكتابة أثبتت للعبد استقلالاً حتى لا يجب عليه امتثال ما يأمره به السيد؛ فلو صح بيعه لاقتضى إيجاب التسليم، وهو لا يحصل إلا بأن يستدعيه يأتيه، كما قررناه. وذلك يبطل ما حصل له بالكتابة من الاستقلال. فإن قيل: لو كنا هذا هو المانع لوجب ألا يصح بيع الشِّقْصِ المشاع فإنه لا يمكن تسليمه إلا بتسلمي الكل وهو يؤدي إلى إبطال حق الشريك [من الاستقلال بالتصرف وعدمه في نصيبه، ومع ذلك يصح بيعه، ويجبر الشريك] على تسليم حصته، ليستقر العقد وذلك يدل على عدم مراعاة ما ذكر. قلت: يظهر الفرق [في] أن [في] مسألة الدار [لا غاية] تنتظر فلو لم يجز ذلك لأدى إلى منع بيع المشاع على الإطلاق، وذلك ضرر بَيّنٌ. وللمكاتب غاية تنتظر فلا يحصل بتأخير البيع مثل ذلك الضرر مع أنه الذي أدخله على نفسه انقطع الإلحاق. وقد يقال: وجه الإبطال أنه لو صح لم يجز أن يعتق على مشتريه؛ لأن صفة عتقه متقدمة على ملكه، ولا على بائعه لزوال ملكه. ثم على تقدير نفوذه يؤدي إلى تضييع الولاء على مستحقه؛ لأنه لا يكون للبائع؛ لعتقه لا في ملكه، ولا للمشتري فإنه لم يعقد بسببه. قال: وفي العبد الجاني – أي: جناية تتعلق برقبته – قولان:

أحدهما: وهو اختيار المزني أنه يصح؛ لأن الجناية إن كانت توجب القصاص فهو يرجى سلامته ويخاف تلفه، فلم يمنع ذلك من بيعه كالمريض. وإن كانت خطأ فلم تتعلق برضا السيد فلا يكون سبباً للحجر عليه في ملكه، ولأن هذا الحق غير مستقر في رقبة العبد؛ فإن السيد بالخيار بين التسليم والفداء، فلا يمنع البيع، كما لو باع عبده بشرط الخيار، ثم باعه فإنه يصح. والقول الثاني، أنه لا يصح، وقيل: إنه ظاهر المذهب، فإن الشافعي قال: وبهذا أقول. ووجهه: أنه حق لآدمي تعلق برقبة العبد فمنع [من] صحة بيعه كالرهن، بل أولى؛ لأن الجناية تقدم على الرهن، والقصاص لصاحبه العفو على المال فهو كجناية الخطأ، ويخالف المريض في ذلك. وثبوته بغير اختياره إكراه. ولا يشبه البيع بشرط الخيار؛ لأن البائع يملك إسقاط حق المشتري، وهاهنا لا يسقط حقه، وإنما يوفيه حقه بالفداء، فهون كإبقاء الدين الذي به الرهن. قال: وقيل: إن كانت الجناية خطأ لم يجز قولاً واحداً؛ كالمرهون، وإنما القولان في جناية العمد وتوجيههما ما تقدم. وبعضهم بناهما على القولين فيما يوجبه القتل العمد فقال: إن قلنا: القود عيناً؛ صح وإلا فلا. [و] قال الإمام: قد نسب بعض أصحابنا تخريج القولين على قولنا: موجب العمد القود؛ لأن المالية ثابتة ضمناً؛ ولهذا قلنا: مستحق القصاص يرجع إلى المال دون رضا من عليه القصاص، وهذا ما يقتضيه كلام الغزالي في وسيطه؛ فإنه قال: فيه خلاف مرتب على أن موجب العمد ماذا؟ قال: وقيل: إن كانت الجناية عمداً جاز قولاً واحداً - كالمريض المذفف والمرتد، وإنما القولان [فيما] إذا كانت الجناية خطأ. وتوجيههما ما ذكرناه. وهذه الطريقة أصح عند الشيخ أبي حامد وراويته المحاملي والبندنيجي، والأولى عند الغزالي من القولين فيها صحة البيع.

والأظهر والأصح عند غيره عدم الصحة. وفي المرتد حكاية وجه في "الوسيط": أنه لا يصح بيعه، وهو أظهر في بيع المتحتم قتله بالمحاربة وقد حكاه ابن الصباغ والبندنيجي في المحارب تفريعاً على القول بصحة بيع الجاني. وهو ما جزم به المحاملي. وكان القياس يقتضي أن يكون الصحيح صحة بيعه، وإن منع بيع الجاني كما هو في "التهذيب"؛ لأن القتل متحتم فلا يترك لتعلق المال برقبته، ولا يقال: هذا متحقق الهلاك فلا منفعة فيه فيبطل بيعه لذلك لأن فيه منفعة مقصودة وهي العتق، وما قال ابن أبي عصرون من أن جواز عتقه لا يستدل به على جواز بيعه بدليل الآبق والمجهول لا يرد علينا؛ لأن فيه فَقْدَ شرطٍ آخر. ولا خلاف في صحة بيع من تعلق أرش الجناية بذمته أو استحق قطع طرفه في السرقة لانتفاء ما أشار إليه الشيخ من العلة وهي: إبطال حق الآدمي. ووراء ما ذكرناه أمران آخران: أحدهما: حكى المتولي أن بعض الأصحاب خرج قولاً ثالثاً في بيع العبد الجاني أنه يكون موقوفاً على الفداء، فإن فداه نفذ وألا فلا [ومن طريق الأولى يصح بيع العبد الأعجمي الذي لا تمييز له إذا جنى على شيء بإذن سيده، وقلنا: لا تتعلق الجناية به أصلاً، كما سنذكره وجهاً في كتاب الرهن. والثاني، قال في "التهذيب": إن التزم السيد الفداء قبل البيع صح بيعه، وإن باعه قبل التزام الفداء وهو معسر فلا يصح، وبما أجاب به في المعسر قال الماوردي أيضاً: وهو الذي صححه الإمام في كتاب الرهن. وإن كان موسراً فعلى الخلاف السابق. التفريع على القول بصحة البيع إذا قتل في يد البائع قبل التسليم قتل قصاص أو حد انفسخ العقد، وإن قتل في يد المشتري وكان جاهلاً بجنايته أو ردته فوجهان: أحدهما: وبه قال ابن سريج، وابن أبي هريرة: أنه يرجع عليه بأرش ما بين قيمته

ولا جناية وقيمته مع الجناية؛ لأن ذلك حصل بسبب جرى في يد البائع، فكان كرجل اشترى عبداً ظهرت به علة عند البائع ثم مات منها في يد المشتري؛ فإنه يرجع بالأرش. والثاني: وهو المذهب في "الشامل" [وظاهره في] غيره، واختيار ابن الحداد وأبي إسحاق: أنه ينفسخ العقد ويرجع عليه بجميع الثمن؛ لأن تلفه كان لمعنى استحق عند البائع، فأشبه ما لو تلف في يده، ويفارق المريض إن سلم الحكم فيه، فإنه تلف بزيادة مرض حصل في يد المشتري ولم يوجد مثل ذلك هاهنا. أما إذا منع الحكم فيه وقيل بأنه يجب تمام الثمن - أيضاً - كما حكاه القاضي الحسين وجهاً، وطرده فيما إذا كانت به جراحات سارية؛ فقد استوت المسألتان وإن كان عالماً فعلى الأول: لا شيء له، وعلى الثاني: وجهان: أحدهما: يرجع بجمي الثمن. والثاني: لا شيء له، وهو ما اختاره ابن الصباغ. وإذا اختصرت قلت: في ذاك ثلاثة طرق. أحدها: أنه كالعيب في حال الجهل والعلم. والثاني: كالمستحق فيهما. والثالث- قال البندنيجي وهو مذهب الشافعي -: أنه كالمستحق [مع] الجهل بالحال وكالعيب مع العلم به. وإذا آل الأمر إلى المال إما بالعفو أو كانت الجناية خطأ أو عمداً؛ فللسيد فداؤه، وهل يجب عليه ويجعل بإقدامه على البيع ملتزماً له؟ فيه وجهان؛ ظاهر النص منهما وهو الذي رجحه ابن الصباغ وغيره: الوجوب، فيفديه على هذا بأقل الأمرين من قيمته وأرش الجناية؛ قال المحاملي والبندنيجي قولاً واحداً. وعلى الوجه الآخر بكم يفديه؟ فيه وجهان: أحدهما: بما تقدم.

والثاني: بأرش الجناية بالغاً ما بلغ. والفرق: أنه على هذا القول مخير بين الفداء والتسليم، وربما يحصل زبون يشتريه بقدر أرش الجناية وعلى الأول قد تعذر عليه التسليم؛ فلم يمكن البيع فصار كما لو أعتقه أو قتله. وأجرى الماوردي الخلاف على الوجهين معاً، مع جزمه بأنه إذا أعتقه لا يلزمه إلا أقل الأمرين وحكى الرافعي في الفصل الخامس في تزويج العبيد عن الإمام: ان من الأصحاب من أجرى هذا الخلاف فيما إذا قتله، والصحيح الأول. وعلى كل حال متى تعذر الفداء؛ إما بإعسار السيد أو ممطالته [مع عسر] الأخذ منه، أو سفره على القول بوجوبه كان للمجني عليه فسخ البيع لسبق حقه. فرع: إذا اشترى عبداً قد استحق [قطع] طرفه، ولم يعلم به، فقطع في يده، كان له الخيار على المذهب بين الإمساك والرد، وعلى رأي ابن سريج تعيَّن له الأرش. [فرع] آخر: إذا أعتق السيد العبد الجاني، فنفوذ عتقه ينبني على نفوذ بيعه. فإن نفذناه فالعتق أولى وإلا فثلاثة أقوال، كما في عتق المرهون. وقطع في "التهذيب" بالنفوذ إذا كان موسراً وبعدمه إذا كان معسراً. وفرق بينه وبين المرهون: بأنه في حالة اليسار قادر على نقل حق المجني عليه إلى ذمته باختيار الفداء فإذا أعتق انتقل الحق إلى ذمته. وفي الرهن بخلافه. وفي حال الإعسار فإن حق المجني عليه متعلق بالرقبة فلا تعلق له بذمة السيد، وحق المرتهن متعلق بهما جميعاً، فنفوذ الإعتاق هاهنا يبطل [الحق] بالكلية، وفي الرهن غايته قطع أحد المتعلقين. وفصَّل الماوردي فقال: إن كانت الجناية موجبة للقصاص؛ نفذ عتقه؛ موسراً كان أو معسراً. وللمجني عليه أن يقتص منه بعد الحرية، وإن كانت الجناية موجبة للمال فإن كان موسراً نفذ وألا فلا، وحكم استيلاد الجارية حكم عتقها. فائدة: أرش الجناية إذا تعلق برقبة العبد، إن كان بقدر قيمته أو أكثر؛ فلا إشكال [في أنه] يتعلق بجملة رقبته، وإن كان أقل فهل يتعلق بجميع الرقبة أو بقدره منها؟

فيه خلاف أشار إليه الغزالي عند الكلام في أن الزكاة هل تتعلق بالعين أو الذمة؟ وإذا تعلق الأرش بجميع الرقبة فأبرأه المجني عليه من شيء منه، فهل ينفك من العبد بقدره؟ حكى الرافعي في الوصايا عند الكلام في الدور الواقع في الجنايات: إذا جنى عبد على حر، وعفا المجني عليه ومات، فإن أجازه الورثة فذاك وإلا نفذ في الثلث، وانفك ثلث العبد عن تعلق الأرش، وأشار الإمام فيه إلى وجه آخر، كما أن شيئاً من المرهون لا ينفك ما بقي شيء من الدين، والظاهر الأول. انتهى. يتجه جريان مثل ذلك هاهنا. وإذا قلنا: أرش الجناية يتعلق بذمة العبد الجاني مضافاً إلى رقبته، هل يملك المجني عليه فك الرقبة عن التعلق ورد الحق إلى الذمة خاصة كما يملك فك الرهن؟ فيه وهجان: حكاهما الرافعي عن الإمام في "باب العفو عن القصاص". قال: ولا يجوز بيع ما لا يملكه إلا بولاية أو نيابة، عني بالولاية: كبيع الأب وإن علا، والوصي والحاكم يدل عليه قوله من بعد: "فإن بلغ الصبي وادعى أنه باع العقار من غير غبطة ولا ضرورة فإن كان الولي أباً أو جداً فالقول قولهما، وإن كان – يعني: الولي – غيرهما لم يقبل إلا ببينة. و [عنى] بالنيابة: بيع الوكيل. والدليل على اعتبار ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" وهذا على عمومه. وما روى واثلة بن عامر أو عامر بن واثلة أنه – عليه السالم – قال: "لا تبع ما لا تملك" و [لأن] بيع الآبق غير صحيح [مع] كونه مملوكاً؛ لعدم القدرة على التسليم، فبيع ما لا يملك ولا قدرة له على التسليم أولى، وهذا هو الجديد، الذي لا يعرف العراقيون غيره، على ما حكاه الإمام ومن تابعه. وحكوا عن القديم أنه ينعقد ونفوذه موقوف على إجازة المالك، فإن أجاز نفذ؛ إذ ذاك. ويستعقب الملك الإجازة، ولا يحكم بتقدم الملك عليها تبيُّناً.

وإن رد لغا، وكذا إجازة من يقوم مقام المالك من ولي إن كان المال محجوراً عليه دون إجازة المحجور عليه إذا بلغ، أو ملكه البائع ثم أجاز كما حكاه الشيخ أبو محمد. وقد حكى من العراقيين هذا القول أيضاً المحاملي في اللباب [وابن الصباغ في كتاب الأضحية] واستدل له بما روي [أن النبي] صلى الله عليه وسلم دفع إلى عروة البارقي ديناراً ليشتري به شاة فاشترى به شاتين، وباع أحداهما بدينار، وجاء بشاة ودينار، فقال – عليه السلام -:"بارك الله لك في صفقة يمينك". قال الماوردي: فكان لو اشترى تراباً لربح فيه. وجه الدلالة [فيه]: أنه باع الشاة الثاني من غير إذن، وأقره – عليه السلام –

على ذلك، وأجاب من قال بالأول عن هذا الحديث بأنه مرسل، ولو صح فلا دلالة فيه؛ لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه ولم رد الأمر فيه إلى رأيه. ويؤيده أن القائل ببيع الفضولي لا يجوز له التصرف فيما يبيعه، وعروة قد تصرف فيه بالإقباض وقبض الثمن. والقولان جاريان على ما حكاه الإمام في كل عقد يقبل الاستنابة كالإجارة، والهبة، والعتق، والنكاح والطلاق وغيرها. وأما الشراء للغير بغير إذنه فإن كان بعين ماله فعلى القولين لا محالة، وإن كان في الذمة فكذلك عند بعض المحققين. وعلى الجديد إن لم يسم المشتري له وقع عن نفسه، وكذا على القديم إذا رد وإن أضاف الثمن إلى نفسه فهو كما لو اشترى له بعين ماله، ولم يكن قد أذن له، والحكم فيه إلغاء التسمية. وهل يقع عنه أم يبطل من أصله؟ فيه الوجهان. وإن كان قد أذن له فهل تلغو التسمية أيضاً؟ فيه وجهان - فإن ألغيت فالحكم كما تقدم وإلا فقد وقع عن الإذن. والثمن المدفوع يكون قرضاً أو هبة؟ فيه وجهان. فائدة: هذه المسألة على القول القديم ملقبة بوقف العقود، وهذا اللقب ينظم معها مسألتين: إحداهما: تأتي - إن شاء الله تعالى - في باب الغصب، وهي: إذا غصب أموالاً وباعها وتصرف في أثمانها. والثانية: إذا باع مال أبيه على ظن أنه حي فإذا هو ميت، وبان أن المال له، ففي صحة البيع ولزومه قولان: نقلهما العراقيون كما نقلهما المراوزة، [على ما] حكاه الإمام.

وحكى البندنيجي الخلاف في كتاب العدد وجهين، وأن أصلهما القولان، [فيما] إذا كاتب عبده كتابة فاسدة ثم أوصى به وهو يعتقد صحة الكتابة، فإن في صحة الوصية قولين. ووجه الصحة: صدوره من المالك. ووجه البطلان – وهو ما حكاه البندنيجي في كتاب الهبة المنصوص [وكذا في "باب العفو" من كتاب الصداق]-: أن هذا العقد وإن كان منجزاً في الصورة فهو في المعن معلق والتقدير: إن كان مورثي قد مات فقد بعتك. وأيضاً فإنه كالعابث؛ لاعتقاده أن المبيع لغيره. قال الرافعي: ولا يبعد تشبيه هذا الخلاف بالخلاف في أن بيع الهازل هل ينعقد؟ وفيه وجهان. وقال: إن الخلاف يجري فيما إذا باع العبد على ظن أنه آبق أو مكاتب فإذا هو قد رجع أو فسخ الكتابة وفيما إذا زوج أمة ابنه على ظن حياته فإذا هو قد مات وأجراهما ابن الصباغ فيما إذا كان له على رجل مائة درهم، وهو لا يعلم بها وأبرأه من مائة على ما حكاه في كتاب الصداق. ويجري أيضاً فيما لو أعتق عبداً لابنه على هذا الظن، لكن الصحيح فيه النفوذ؛ لأنه يقبل صريح التعليق [فتقدير التعليق] أولى، حكاه الرافعي في أول نكاح المشركات. ويجري أيضاً – على ما حكاه الإمام – في كتاب النكاح [فيما إذا قال: إن كان أبي قد مات فقد بعتك ماله لكنه مرتب وأولى بالبطلان. ولا يجري] فيما إذا باع مال أبيه على ظن أنه مال نفسه ثم بان أن أباه قد مات قبل البيع، بل يصح قولاً واحداً كذا حكاه الإمام عن شيخه في باب مداينة العبيد. ثم قال: وهذا الذي ذكره مع حسنه محتمل. واعلم أن ظاهر ما حكيته عن الإمام أولاً يقتضي أن قول البطلان هو الجديد، وقول الصحة هو القديم ويؤيده أنه قال بعد ذلك: وللشافعي في الجديد مرامز إلى

القولين في هذا النوع لكنه حكى في أول الوكالة: أن القولين نص عليهما الشافعي في الجديد. وقد حكى الرافعي أن الصحيح منهما قول الصحة. وفي "المهذب" في كتاب الرهن: أن المنصوص بطلان العقد والله أعلم. قال: ولا يصح بيع ما لم يتم ملكه عليه -[كالمملوك بالبيع، والنكاح، وغيرهما من المعاوضات، أي: كالاشتراك، والتولية، والصلح، والإجارة، والخلع-[قبل القبض]. وقد تقدم في الباب الأول من الأحاديث ما يدل على منع بيع المبيع قبل قبضه. واختلف الأصحاب في المعنى الذي لجله منع: فمنهم من قال: ضعف الملك؛ فإنه متعرض للسقوط بالتلف، وهذا قول أهل العراق. ومنهم من قال: كي لا يؤدي إلى أن تكون العين الواحدة في آن واحد مملوكة لشخصين على التمام وذلك مُحال. وبيانه: أن المبيع إذا تلف قبل القبض تبينا انتقاله إلى ملك البائع قبيل التلف، فلو جوز بيعه لكان له بائعان فيصير مضموناً للمشتري الأول على البائع بحكم عقده، ومضموناً عليه للمشتري الثاني بحكم عقده، فيلزم ما ذكرناه. وهذا المعنىُّ من قول الفقهاء: توالي الضمانين، واستبعد الرافعي هذا التعليل وجعل الاعتماد على الأخبار، وهو قريب من كلام الإمام؛ فإنه جعل الغالب على هذا التعبد. وأما عوض النكاح وغيره فلأنه مملوك بعقد معاوضة فلم يملك فيه التصرف قبل القبض كالمبيع. وفي الصداق قول قديم رواه المراوزة أنه يجوز بيعه قبل قبضه، ومحل الإمعان فيه كتاب الصداق فليطلب منه.

وهذا القول أجراه الإمام والبغوي في بدل الخلع والصلح عن دم العمد، وجعله الماوردي وجهاً مخرجاً في الصداق وبدل الخلع من القول بأنهما إذا تلفا رجع بقيمتهما، وخصه القاضي الحسين في التعليق في دم العمد إذا قلنا: إن موجبه القود عيناً أو أحد الأمرين وصرح بالمصالحة عن القود. أما إذا صرح بالمصالحة عن الدية فلا يجوز التصرف فيه إن جوزنا مثل هذا الصلح؛ لأنه مملوك بمعاوضة. أو قال: صالحتك عن موجب هذا القتل وصححنا هذا الصلح، وهو الأظهر، فلا يجوز أيضاً التصرف فيه قبل القبض احتياطاً على المذهب. وفي الاشتراك والتولية وجه حكاه الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب – كمذهب مالك -: أنه يجوز. ولا فرق فيما ذكرناه بين ما بيع مكايلة أو موازنة أو غيرهما. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن في حرملة حكاية عن الشافعي في الكبير أن بيع المبيع قبل القبض جائز، إلا ما بيع مكايلة أو موازنة، فإنه لا يجوز بيعه قبل الكيل والوزن عليه. ولا بين أن يكون قد صدر من البائع أو غيره كما تقدم ذكره على الصحيح من الوجهين. ومحلهما إذا كان المثمن من جنس آخر أو أقل أو أكثر من الأول – وإن كان مثل الأول – ففيه خلاف مرتب على الصورة الأولى، وأولى بالجواز. قال القاضي الحسين: ويرجع حاصل [هذا] الخلاف إلى أن الاعتبار باللفظ أو بالمعنى، فإن اعتبرنا اللفظ أجرينا الخلاف السابق، وإن اعتبرنا المعنى، جوزناه هاهنا، لأن هذا العقد معناه الإقالة، وهذا ما حكاه في "التتمة"، وسيأتي مثله عن ابن سريج في كتاب "السلم"، إن شاء الله تعالى, ولا يستثنى من ذلك إلا إذا اشترى من مورثه شيئاً ولم يقبضه، ثم مات المورث، فإنه إن استوعب ميراثه، صح بيعه قبل قبضه؛ لأنه صار في يده شرعاً، سواء كان على المورث دين أو لم يكن. فإن انتقل إليه نصفه مثلاً ملك التصرف في نصف المبيع.

والمقاسمة إذا قلنا: إنها بيع، فإنها تصح أيضاً قبل القبض؛ لأن الرضا فيها غير معتبر؛ لأن الشريك يجبر على ذلك. وإذا لم يعتبر الرضا جاز ألا يعتبر القبض كما في الشفعة – كذا حكاه المتولي وقياسه على الشفعة بناء على الصحيح، وهو ما جزم به في "التهذيب"، وألا فهو قد حكى وجهاً أنه لا يجوز. تنبيه: اقتصار الشيخ على منع عقد المعاوضة في المبيع قبل قبضه من بين سائر التصرفات – يعرفك أن اختياره في غيره إما التوقف وإما الجواز وهو وجه حكاه الأصحاب، وجزم به الماوردي في العتق والوقف والصدقة، والقاضي الحسين في الهبة والرهن والتزويج من الأجنبي. وحكى في الهبة عنه وجهين، وابن خيران في الكتابة على ما [حكاه في] الحلية عند الكلام في تسليم المسلم فيه، وهو مناقض لما نقل عنه في منع العتق. وقد حكاه الماوردي عن غيره في الكتابة، والإمام صححه في الإجارة. ووراء ذلك مقالات للأصحاب منها: أن العتق إذا صدر وللبائع حق الحبس فمنهم من خرجه على عتق الراهن، ومنهم من نفذه، وهو الصحيح. والفرق أن الراهن حجر على نفسه مع قوة حق الوثيقة فيه، وهذا لم يحجر على نفسه، وحق الوثيقة فيه ضعيف؛ ولذلك يسقط بالإعارة، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ومنها: الوقف إن افتقر إلى القبول كان كالبيع، وإن لم يفتقر فهو كالإعتاق، والهبة، والرهن، [و] ادعى الرافعي أنهما ملحقان بالبيع عند عامة الأصحاب سوى الغزالي. وفي "النهاية" الجزم في الهبة بالصحة بعد توفية الثمن. وحكاية الخلاف قبله، وقال: لا خلاف أن للبائع أن يمتنع من التسليم إذا أثبتنا له حق الحبس. وفائدة الصحة: أن حق البائع إذا زال وقبضه المشتري لا يحتاج إلى تجديد عقد.

وقال الماوردي: الخلاف فيها مأخوذ من [الاختلاف في قولي] الشافعي في أنها: هل يلزم فيها المكافأة أم لا؟ فإن قيل: إن المكافأة تلزم لم تصح، وإن قيل: إن المكافأة لا تجب فيها صحت. وقطع في الرهن بالمنع إذا كان محبوساً بالثمن وأجرى الخلاف عند عدم الحبس. وفي الرافعي: أن الأصح في الإجارة عند المعظم المنع، وأن الخلاف فيها مبني على أن عقد الإجارة يرد على العين أو المنفعة؟ فإن قلنا: يرد على العين لم يجز، وإن قلنا: يرد على المنفعة جاز. والتزويج صحيح عند المعظم، وأشار الإمام إلى وجه فارق بين أن يكون للبائع حق الحبس فلا يصح، أو لا فيصح، وهو جار في الإجارة إذا نقصت القيمة. وإذا صحت هذه التصرفات فهل يحصل القبض؟ أما في العتق والوقف والصدقة إذا كان المبيع جزافاً: فنعم، حتى لو لم يرفع البائع يده عن الموقوف والمتصدق به يصير مضموناً عليه بالقيمة؛ صرح به الماوردي، وإن رفع يده عنه برئ. وأما الهبة والرهن: فنفس العقد ليس بقبض، فإن قبضه المشتري من البائع وسلمه إلى المرتهن أو المتَّهب، فقد حصل الغرض، فإن أذن لهما حتى قبضاه؛ ففي "التهذيب": أنه يكفي، ويتم به البيع والهبة والرهن. وقال الماوردي: لا يكفي، ولكن ينظر إن [قصد] قبضه للمشتري، صح له وافتقر إلى استئناف قبض الهبة، فإن أذن له [في] أن يقبضه لنفسه لم يصح، [وإن قصد قبضه لنفسه فلا يصح] قبضه للمشتري ولا لنفسه، ويكون البائع ضامناً للعين بالثمن والمشتري بالقيمة إذا تلفت في يد المتهب، وهل يكون المتهب ضامناً بالقبض؟ فيه وجهان. وما ذكره مباين لما حكاه في باب اختلاف المتبايعين، فإنه قال: لو أجر المشتري المبيع قبل إقباض الثمن كان للبائع أن يمنع المستأجر منها: [لأن تمكين

المستأجر منها] تسليم إلى المشتري. والتزويج ووطء الزوج لا يكون قبضاً عن جهة البيع، ووطء المشتري بعد رفع يد البائع قبض؛ صرح به الماوردي. فرع: هل ينفذ تصرف المشتري في الزوائد الحاصلة من المبيع قبل القبض؟ فيه وجهان، ينبنيان على أن الفسخ لو وقع، رفع العقد من أصله أو من حينه؟ فإن قلنا بالأول لم يصح، وإلا فيصح. قال: فأما ما ملكه بالإرث، أي: وكان المورِّث يملك التصرف فيه أو الوصية أو عاد إليه بفسخ أو عقد جاز له بيعه قبل القبض؛ لأن ملكه عليه مستقر فأشبه المبيع بعد القبض. ولا فرق في العود إليه بفسخ عقد بين أن يكون الثمن في جهته أم لا، كما صرح به المحاملي عن ابن سريج [عند الكلام] فيما إذا كان البيع فاسداً، ووجهه بأن صاحب العين المبيعة لم يدفعها إليه على سبيل الرهن، وإنما دفعها إليه بيعاً، فإذا فسخ البيع ارتفع ما بينهما من التبايع وصار كأنه لم يبعه، فصار كسائر أمواله لا يجوز حبسه. وفي "التتمة": أن الثمن إذا كان في جهته لم يجز له البيع قبل توفيته، وهو قريب مما حكاه الغزالي في كتاب الغصب عن القاضي عن نص الشافعي في غير "المختصر"، فيما إذا اشترى شراءً فاسداً أن له حبس المبيع إلى أن يرد عليه الثمن. تنبيه: قول الشيخ: "أو الوصية" يشمل ما إذا قلنا: إنه يملك الوصية بالقبول أو بالموت، ويتضمن منع التصرف بعد الموت إذا قلنا: إنه لا يملك به. على أن القاضي الحسين في التعليق حكى في هذه الصورة وجهين بناءً على أن القبول يحصل في ضمن البيع أو لا؟ والذي جزم به الماوردي: أنه لا يصح قبل القبول مطلقاً. وقوله: "أو عاد إليه بفسخ عقد" يشمل ما تكون العين فيه مضمونة عند من هي تحت يده كالثمن والمبيع ورأس مال السلم إذا كان باقياً، وغير ذلك مما هو في

معناه، وما إذا لم يكن مضموناً كالعين الموهوبة للولد إذا رجع فيها الأب، والمرهونة بعد فك الرهن، والمستأجرة بعد انتهاء مدة الإجارة إذا منعنا بيع المستأجر. وذلك ينبهك إلى جواز التصرف في كل عين تحت يد الغير أمانة كمال القراض والشركة والمال في يد الوكيل وغير ذلك. أو مضموناً لا يبطل بتلفه سبب الملك كالمغصوب والمستعار والمستام، أما إذا كان رأس مال السلم وغيره تالفاً عند الفسخ فقد صار ديناً في الذمة، وحكم بيع الدين سيأتي في القرض، إن شاء الله تعالى. حكى ابن كج: أن الأب ليس له بيع ما رجع فيه من هبته لولده، وهو غريب، ووراء ما ذكره الشيخ صور: منها: إذا أخرج السلطان رزق رجل، حكى صاحب التلخيص عن نص الشافعي أنه يجوز بيعه قبل القبض فمن الأصحاب من قال: هذا إذا أفرزه السلطان فتكون يد السلطان في الحفظ يد المفرز له. ومنهم من لم يكتف بذلك وحمل النص على ما إذا وكل وكيلاً يقبضه فقبضه الوكيل ثم باعه الموكل وألا فهو بيع شيء غير مملوك، وهذا ما أورده القفال في الشرح. ومنها: بيع أحد الغانمين نصيبه على الإشاعة قبل القبض صحيح، إذا كان معلوماً، كما إذا كانوا خمسة، فالخمس لأهل الخمس، ولهم الخمسة أربعة أخماسها. ومنها: بيع غلة الوقف عليه صحيح قبل قبضه. ومنها: بيع الصيد الذي أزمنه أو وقع في شبكته صحيح. ومنها: إذا كان له في ذمة إنسان دنانير مستقرة يصح بيعها منه قبل قبضها بدراهم، على ما سنذكره [إن شاء الله تعالى] من التفصيل. قال: ولا يجوز [بيع] ما لا يقدر على تسليمه، كالطير الطائر، أي: وإن كان من عادته العود- والعبد الآبق – أي: وإن عرف موضعه – وما أشبههما مثل: الجمل الشارد، والفرس العائر والسمك في الماء، والعبد المنقطع الخبر، وأنواع ذلك.

ووجهه: ما روى أبو هريرة وابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن [بيع] الغرر. وروى مسلم عن أبي هريرة عنه – عليه السلام -: أنه نهى عن بيع الغرر. وحقيقة الغرر: ما تردد بين جوازين متضادين الأغلب منهما أخوفهما، كذا قاله الماوردي، وغيره عبر عنه بأنه الذي ينطوي عنا عاقبته، ومنه أغر الثوب، يقال: رد الثوب إلى غره، أي: إلى طيه، وذلك موجود فيما ذكرناه. وقد رُوي أنه – عليه الصلاة والسلام – نهي عن بيع الآبق. ووراء ذلك أمور أخرى: أحدها: حكى الماوردي والمحاملي وغيرهما عن تخريج ابن سريج في النحل وجهاً: أنه يجوز بيعه خارج الكوارة إذا كانت معلومة. وفرق الماوردي بينها وبين غيرها من الطيور: بأنها إذا حبست عن الطيران تلفت؛ لأنها لا تقوم إلا بالرعي، ولا نفع فيها إلا عند الطيران؛ لرعي ما يستخلف من العسل، وليس كذلك ما سواها؛ لأن حبسه ممكن ومنفعته مع الحبس حاصلة. وحكى الإمام: أن المذهب في غيرها – إذا كانت عادته العود – صحة البيع

كالعبد، والأكثرون على الأول، وهو ما جعله الغزالي الأظهر، وحكى أيضاً فيه وجهاً فيما إذا كان في دار فيحاء يعلم حصوله لكن بعد عسر. وهو جار في "السمك في البركة الكبيرة إذا كان قد شاهده، وهو – في السمك – من تخريج ابن سريج، ولو لم يكن قد شاهده فلا يصح البيع. قال الماوردي: وقد غلط بعض أصحابنا، فخرجه على بيع الغائب، وهو غلط؛ لعدم القدرة على وصفه، ومقتضى هذا: انه إذا علم قدره ووصفه أن التخريج يتجه كما صرح به الرافعي. وأحسن بعض الأصحاب فقال في العبد الآبق: إذا عرف مكانه، وعلم أنه يصل إليه إذا رام الوصول فليس له حكم الآبق. وأبدى الإمام في جواز بيع المنقطع الخبر مع اتصال الرفاق، وعدم إجزائه في العتق عن الكفارة ظاهراً احتمالاً في جاوز بيعه، ثم قال: ومما يجب ذكره أنّا إذا منعنا البيع فلو [تبين] بقاء العبد فالظاهر عندي نفوذ البيع، وإن كان يلتفت على الوقف، ولكن إذا بان الأمر وكان البيع مستنداً إلى الملك والتمكن من التسليم فظن التعذر لا يبقى أثره مع تبين خلافه، وكان في المعاملات [أيضاً] يضاهي صلاة الخوف من سواد يحبسه عدواً ثم تبين خلافه، هكذا حكاه في "باب اللقيط". ومن هذا القبيل بيع المغصوب الذي لا يقدر على انتزاعه لا يصح بيعه من غير الغاصب، ويكفي في ذلك غلبة الظن لا التحقيق ويصح بيعه منه، وكذا من غيره إذا كان [البائع أو المشتري] يقدر على نزعه منه، عند الشيخ في "المهذب"، والماوردي، وابن الصباغ، والمحاملي، وهو الصحيح عند غيرهم، لكن يثبت للمشتري الخيار إن كان هو القادر على تخليصه، وقد جهل الحال عند الشراء،

وكذا إذا علم وعجز؛ لضعف طرأ عليه، أو قوة طرأت للغاصب. [وفي الرافعي حكاية وجه أشار إليه الإمام: أنه لا خيار له، وعلى الأول] لو ادعى البائع أنه قادر على الانتزاع، فالقول قول المشتري مع يمينه، وكذا الحكم في بيع الآبق ممن يقدر على رده، ويجوز تزويج الآبقة والمغصوبة وإعتاقها بخلاف المكاتبة؛ على ما حكاه في البيان. وفي كلام الماوردي عند الكلام في القبض حكاية عن ابن سريج ما يدل على صحة هبة الآبق. فرع: لو باع قطع جمد وزناً، وكان [مما] ينماع بعضه [إلى] أن يوزن، ففي صحة بيعه وجهان منقولان في الرافعي في أواخر كتاب الإجارة عن فتاوى القفال. قال: ولا ما في تسليمه ضرر، أي: على البائع، وقد يجامعه ضرر المبيع، كالصوف على ظهر الغنم؛ لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللبن في الضرع والصوف على ظهر [الغنم]، ولأنه إن لم يشترط الجز فهو يزداد، وما يزاد بها

يكون داخلاً في البيع فيؤدي إلى اختلاط المبيع بغيره وذلك ممتنع، كما سنعرفه من بعد – إن شاء الله تعالى – ولأن الحيوان قد يموت فيتنجس. وإن شرط الجز فلا عرف منضبط حتى يرجع إليه، وظاهر العقد يقتضي أن يقطعه من أصله، وفي ذلك إضرار بالحيوان فيمنع منه. وحكى [عن] بعض أصحابنا: أنه يجوز إذا شرط الجز. ولا خلاف أنه إذا عيّن موضع الجز، صح البيع، إلا ما أبداه الغزالي احتمالاً من أجل أن به تغيير عين المبيع. ثم ما ذكرناه إذا كانت الغنم حية، أما المذكاة: فيجوز بيع الصوف عليها؛ إذ ليس في استيعاب جميعه إيلام، قاله الرافعي. وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمار: أنه إذا سلخ الجلد، فباع ما عليه من شعر دون الجلد لم يصح؛ لأنه لا يمكن استيعاب جميعه بالجز؛ لأنه يتعيب به الجلد ويتضرر به البائع. قال في "التهذيب": ويجوز الوصية بالصوف على ظهر الغنم. قال: وبيع ذراع – أي: معين – من ثوب ينقص قيمته بقطعه، أي: نقصاناً يختل بمثله؛ لأن الشرع منع من إضاعة المال، وجواز البيع يفضي إليه، أو يتقاعد عن إيجاب التسليم. وأيضاً فإنه يفضي إلى تغيير عين المبيع، والبيع لا يوجبه، فيتقاعد البيع أيضاً عن إيجاب التسليم، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد وحكاه صاحب التلخيص نصاً، وجزم به الإمام، وقال: لم يتثبت أحد بالخلاف. وإن رضي البائع بالنقص. وفيه وجه حكاه الشيخ في "المهذب"، وابن الصباغ وغيرهما، وبه قال صاحب "التقريب"، وجزم به الماوردي -: أنه يصح؛ كما لو باع ذراعاً معيناً من أرض أو دار. ومن قال بالأول فرق بأن التمييز في الأرض يحصل بالعلامة بين النصيبين، [من غير ضرر. قال الرافعي: ولمن نصر خلافه أن يقول: الضرر حاصل بتضييق مرافق البقية

بالعلامة وبتنقيص القيمة]، فوجب أن يكون الحكم ما في الثوب. واعترض ابن الصباغ على التعليل بالضرر بأنهما إذا رضيا به، وجب أن يصح البيع كما يصح بيع إحدى زوجي الخف، ومصراعي الباب وإن نقص تفريقهما من قيمتهما. و [اعترض] الماوردي: بأن هذا التعليل يفضي إلى نقص البيع في جميع المُشَاعات بما يستحقه من قسمتها المفضية إلى تنقيص الحصص، فاقتضى أن يكون مطرحاً. قلت: وقد يجاب عما قالاه بأن الملكية فيما ذكراه لا تذهب بحيث لا يمكن تلافيها، بدليل زوال ما ذكر من النقص بشراء البائع ما باعه أو شراء المشتري ما بقي، ومالية النقص في بيع الذراع من الثوب ذهبت بالكلية لا تدارك لها فإضاعة المال محققة. وقد جزم البغوي وغيره بمنع بيع نصف من سيف أو إناء. وقال الرافعي: القياس طر الوجهين فيه أيضاً. أما إذا لم تنقص قيمة الثوب بقطعه [أي: يقطع الذراع المبيع] كالكرباس الصفيق؛ فالذي أورده الجمهور الصحة. وحكى الإمام ومن تابعه وجهاً، واختاره صاحب التلخيص: أنه لا يصح. ولو باعه ذراعاً غير معين فالحكم فيه كما سنذكره، فيما لو باعه ذراعاً من أرض؛ إن جوزنا مثل ذلك، ولم ينظر إلى قطع الثوب، ولا يجيء الوجه الذي انفرد [به] الإمام بنقله ثَمَّ. فروع: إذا باع شيئاً معيناً من جدار أو اسطوانة؛ نظر: إن كان فوقه شيء لم يجز لأنه لا يمكن تسليمه إلا بهدم ما فوقه. وإن لم يكن، نظر: إن كان قطعة واحدة من طين أو خشب وغيرهما، لم يصح،

وإن كان من لبن أو آجر جاز، هكذا أطلقه في التلخيص، وهو محمول عند الأئمة على ما إذا جعل النهاية [شق نصف من الآجر واللبن دون أن يجعل القطع نصف سمكها]. وفي "النهاية": أن الحكم في الخشبة كالحكم في الثوب، فإن كان القطع ينقصها لم يجز، وإلا فوجهان. قال الرافعي: وفي تجويز البيع إذا كان من لبن أو آجر إشكال- وإن [جعل] النهاية ما ذكره – من وجهين: أحدهما: إن كان موضع الشق قطعة واحدة من طين أو غيره، فالفصل الوارد عليه وارد على ما هو قطعة واحدة. والثاني: يثبت أنه ليس كذلك رفع بعض الجدار ينقص قيمة الباقي، وإن لم يكن قطعة واحدة فيفسد البيع؛ ولهذا قالوا: لو باع جذعاً في بناء لم يصح؛ لأن الهدم يورث النقاصن، فأي فرق بين الجذع والآجر، وكذا لو باع فصاً في خاتم. وذكر بعض الشارحين للمفتاح في تفاريع هذه المسألة: أنه لو باع داراً إلا بيتاً في صدرها لا يلي شارعاً ولا ملكاً له، على أنه لا ممر له في المبيع لا يصح. انتهى. وحكى القاضي الحسني مع هذا وجهاً آخر أنه يصح. ومحلهما إذا لم يمكنه إيجاد ممر، أما إذا أمكنه صح. ولو لم ينف الممر، ففي الرافعي أنه يستحق الممر، وفي "تعليق" القاضي الحسين في استحقاقه الممر في المبيع وجهان. قال: ولا يجوز بيع المعدوم أي: كالثمرة التي لم تخلق؛ لنهيه – عليه السلام – عن بيع الغرر، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل بيع ما ليس عندك" كما خرجه الترمذي. وقال: إنه حديث حسن صحيح. قال: ولا بيع العربون. وصورته على ما قال القتبي: أن يشتري سلعة، ويدفع درهماً أو ديناراً على أنه إن تم البيع كان المدفوع من الثمن، وإن لم يتم ورد السلعة؛ كان ذلك للبائع.

ووجه فساده: نهيه- عليه السلام – عن بيع الغرر، وروي أنه – عليه السلام -: "نهى عن بيع المُسْكان" وهو بعي العربون، وجمعه مساكين، كما جمعوا العربان على عرابين؛ ولأن معنى القمار قد تضمنه. ويقال في هذا أيضاً: أَرْبون، وأُرْبان، وُعرْبان، وعَرَبون، وعُرْبون، وبذلك تكمل فيه ست لغات، وهو أعجمي عُرِّب، واللغة العالية عربون بالفتح، وأصله في اللغة التسليف والتقديم. وبعضهم استدل على بطلان هذا البيع بما روي [عن] عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع العربان" وهو منقطع عند أبي داود. وفي سنده ابن لهيعة. وما رُوي أنه – عليه السلام – سئل عن العربان فأحله، وأن زيد بن أسلم راويه سئل عنه [فقال]: هو الرجل يشتري السلعة، فيقول: إن أخذتها، وألا رددتها ورددت معها درهماً – هو مرسل، وفي إسناده الأسلمي. قال: ولا يجوز بيع ما يجهل قدره كبيع الصبرة إلا قفيزاً منها، أي: وهي مجهولة [لهما]؛ لما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة، والمزابنة، [والمعاومة] والمخابرة، وعن الثنيا، ورخص في العرايا.

وقال النسائي: "وعن الثنيا إلا أن تعلم". قال المحاملي: والثنيا: أن يبيع شيئاً ويستثني بعضه؛ ولأن الصبرة ليست معلومة بكيل ولا وزن، وإنما التعويل في إعلامها على العيان، فإذا استثنى منها مقداراً اختل به ضبط العيان، فلا يشار إلى شيء منها [إلا] وللصاع المستثنى منه نصيب، وذلك يكسب المبيع جهالة لا تحتمل. كذا وجه الإمام المنع فيما إذا باع ثمرة البستان إلا مُدَّا منها، وقال: إن المنع متفق عليه في كتبه الجديدة والقديمة، وأن بيع الصبرة إلا قفيزاً منها مثله. أما إذا كانت الصبرة معلومة لهما؛ فالبيع صحيح، والاستثناء ثابت، ولا حاجة إلى ذكر أمداد الصبرة لفظاً. وكذا يجوز بيع الصبرة إلا ربعها أو جزءاً معلوماً منها وإن كانت مجهولة. ومن طريق الأولى إذا باع جميع الصبرة وهي مجهولة. ولكن هل يكره؟ فيه قولان في "الشامل" وغيره. وعكس هذه المسألة، لو قال: بعتك صاعاً من هذه الصبرة وكانت معلومة الصيعان، كعشرة مثلاً؛ صح العقد؛ لأنه قد وجد مورداً يمكن الإشارة إليه، لكن ينزل

العقد على الإشاعة، ويكون المبيع منها العشر، حتى لو تلف منها صاع بطل العقد في عشر المبيع، وفي باقيه تفريق الصفقة. أو [ينزل العقد] على واحد منها على الإبهام، وللبائع التعيين. ولو تلف إلا صاعاً بقى العقد [فيه]، وفيه وجهان، اختيار القفال منهما على ما حكاه الإمام الأول، وهو الذي عليه الجمهور، كما حكاه الرافعي، وبه جزم في الوجيز. ولو كانت مجهولة الصيعان، ففي صحة البيع وجهان، بناهما الإمام على الخلاف فيما إذا كانت معلومة الصيعان. فإن نزل العقد على صاع منها صح هاهنا كذلك، وإن نزل على الإشاعة بطل هاهنا؛ لأنه بيع جزء مجهول. قال الإمام: واستدل القفال عليه بما لا مدفع له فقال: لو قسمت الصبرة أمداداً وميزت، ثم قال مالكها: بعتك مدًّا منها فالبيع باطل، ولا فرق بين أن تتميز كذلك وبين أن تجمع، ولا بين بيع شيء مجهول القدر مضبوطاً بالعيان يستثني منه مقدور وبين بيع مقدر مضاف إلى مجهول القدر مضبوط بالعيان، وهذا معنى قول الغزالي: "فأي فرق بين استثناء المعلوم من المجهول، واستثناء المجهول من المعلوم والإبهام يعمهما؟ "؟! وفي الفرق غموض. وقد ذكر في "تعليق" القاضي الحسين فرق بين ما أورده القفال أولاً وبين هذه المسألةُ وهو أن الصيعان إذا فرقت تتفاوت في الكيل؛ لأنه ربما كان أحدهما أكثر من غيره لو كيل ثانياً، ولم يوجد هذا المعنى في مسألتنا، وهذه المادة مأخوذة مما ذكرناه فيما إذا اشترى طعاماً مكايلة فقبضه، ثم باعه مكايلة، لابد من كيله ثانياً؛ لهذا المعنى. وفي شرح التنبيه لابن التلمساني فرق بين ما أورده القفال ثانياً وبين مسألتنا وهو أن المبيع في مسألة الصاع معلوم القدر، والمبيع فيما استشهد به مجهول القدر، فإنه مع تقدير الإخراج لا تبقى البقية المنسوبة إلى المشاهدة والتخمين إذا كان المبيع هو الجملة إلا صاعاً، فانحسمت طرق التعريف من الإشاعة بالجزئية والمشاهدة، وقد كان القفال إذا سئل عن هذه المسألة يفتي بالوجه الأول ويقول: المستفتي يستفتي

عن مذهب الشافعي لا عما عندي. واعلم أن بناء الإمام قد يظهر أنه مناقض، فإن ظاهر المذهب على ما حكاه عند الكلام في "بيع ذراع من الدار" والأصح على ما حكاه في كتاب القراض وغيره أيضاً صحة البيع، حتى قال في "التهذيب": لو لم يبق إلا صاع سلم إليه، وما حكى عن الجمهور تنزيل العقد في حالة العلم على الإشاعة، ومقتضاه أن يكون الراجح عدم الصحة، لكن سبيل تصحيحه أن يقال: إنهم ينزلون العقد على الإشاعة إذا أمكن. وإذا لم يمكن فهو منزل على صاع منها؛ لاستواء الغرض، وهذا مصرح به في "تعليق" القاضي الحسين، وإليه أشار الرافعي أيضاً. وبنى الغزالي الخلاف في هذه المسألة على مأخذ فساد البيع فيما إذا قال: بعتك عبداً من هذه الأعبد الثلاثة، هل هو الغرر الذي فيه مع سهولة الاجتناب عنه، أو لأن العقد لابد له من مورد يتأثر به كما في النكاح؟ فعلى الأول يصح هاهنا إذ لا غرر؛ لتساوي أجزاء الصبرة بخلاف العبيد، وإن تساوت قيمها؛ لأن أعيانها مقصودة. وعلى الثاني يبطل، وهو الأصح عنده. وقد حكى في "التتمة" عن القديم قولاً مثل مذهب أبي حنيفة أن البيع يصح في مسألة العبيد إذا قال: بعتك أحد عبيدي أو عبيدي الثلاثة على أن تختار من شئت في ثلاثة أيام فما دونها، وعلى هذا لا يمكن البناء، والمذهب بطلان البيع. وفساد القديم يظهر بعدم اطراده في الثياب وغيرها من الدواب والأعيان، فإن أبا حنيفة لم يطرد قوله كما حكاه أصحابنا فيها، ولا فيما زاد على الثلاثة أبعد. ولو لم يملك من الأعبد الثلاثة إلا واحداً فقال: بعتك عبدي منها، وهو غير معروف، ففي "التهذيب" الجزم بالبطلان، وفي "التتمة" تخريجه على بيع الغائب مع مشاهدة جميعهم. فرع: لو قال: بعتك صاعاً من هذه الصبرة ونصف الباقي بعده – لم يصح؛ لأن الباقي يبقى مجهولاً، قاله القاضي الحسين. وأبدى الإمام فيه في كتاب القراض احتمالاً من حيث إن بيع الصاع وحده مع

جهالة الصبرة صحيح، فَذِكْرُ بعضها بعد أخذ الصاع [منها] كذكر نصفها من غير أخذ نصف الصاع. ولو قال: بعتك نصف الصبرة وصاعاً من النصف الآخر، لم يصح. قال القاضي الحسين في كتاب المساقاة: لأنه لم يصر المبيع من الصبرة معلوماً بالجزئية. قال الإمام: وهذا التفريع إنما يحسن إذا لم نجوِّز بيع صاع من صبرة مجهولة الصِّيعان، فإن جوزناه فبيع النصف من الصبرة المجهولة جائز، وبيع صاع من النصف الباقي، كصبرة مجهولة بيع صاع منها. آخر: بيع القز وفيه الدود يجوز جزافاً، وبالوزن لا. تنبيه: الصبرة: واحد الصُّبَر، وهي الكومة المجموعة من الطعام، وسميت صبرة؛ لإفراغ بعضها على بعض. والقفيز: مكيال سعته ثمانية مكاكيك، والمكوك: صاع ونصف، والعرق: ستة عشر رطلاً. والإردب، قال الإمام: مكيال من مكاييل مصر، واللفظ من لغة أهله. وقيل: إنه يسع أربعة وعشرين صاعاً، قاله في باب الشروط التي تفسد البيع. والنووي أطلق حكاية ذلك. والقّنْقَل: نصف أردب، والكُر: سِتُّون قفيزاً. قال: ولا يجوز بيع ما يجهل صفته. هذا الكلام فيه إشارة إلى علة المنع، ووراءها أمور نذكرها. قال: كالحمل في البطن، أي: إذا أفرد بالعقد؛ لنهيه- عليه السلام – عن بيع الغرر وعن بيع المجر، والمجر – بميم مفتوحة وجيم ساكنة وراء مهملة -: هو شراء ما في الأرحام، وعن بيع الملاقيح والمضامين، والملاقيح: ما في البطون من

الأجنة، والواحد منها: ملقوحة، والمضامين: ما في أصلاب الفحول، ولأنه غير مقدور على تسليمه، ويجهل قدره هل هو واحد أو أكثر؟ ولا فرق في ذلك بين أن يبيعه من مالك الأم أو من غيره. أما إذا بيع مع أمه بان قال: بعتك الجارية وحَمْلها بكذا فهل يصح؟ فيه وجهان محكيان في "تعليق" القاضي الحسين، وبناهما المتولي على أن الحمل هل يقابله قسط من الثمن عند الإطلاق أم لا؟ فإن قلنا: لا يقابله، بطل. وإن قلنا: يقابله، فالمذهب أن العقد صحيح، وقوله: "وحملها" تصريح بمقتضى العقد. وهكذا الحكم فيما إذا قال: بعتك الجبة وحشوها. ولا خلاف أنه إذا باع الأم من غير تعرض لذكر الحمل في اندراجه [إذا لم يكن] بقيةً من حمل وضعت بعضه، لكن هل يقابله قسط من الثمن أم لا؟ فيه وجهان ينبنيان على أن الحمل هل يعرف أم لا؟ والصحيح أنه يعرف. وإذا كانت الأم ثمناً أو صداقاً أو أجرة أو بدلاً في خلع أو صلح فحكمه في التبعية كما إذا بيعت، وهذا إذا وقع البيع بالاختيار. أما إذا وقع لا عَنْ رضا المالك البيع المحتوم في حق المرتهن، ففي تبعيته للأم قولان جاريان فيما لو انتقل الملك عن الأم قهراً بفسخ العقد وقد حدث في ملك المنتقل عنه، ويستوي فيه الرد بالعيب، وبسبب الإفلاس، والرجوع في الهبة، وهل تستتبعه الأم في العقود الاختيارية الخالية عن المعاوضة كالرهن والهبة؟ فيه قولان، والجديد في الهبة: أنه لا يتبع. وحكم الثمرة غير المؤبرة حكم الحمل فيما ذكرناه، صرح به الإمام في باب الخراج بالضمان، والماوردي فيا لثمرة أيضاً في باب ثمرة الحائط.

أما إذا كان الولد المجنن بقية حمل وضعت بعضه في يد البائع ثم وضعت باقيه في يد المشتري، قال الإمام في آخر "النهاية": ظاهر نص الشافعي أن الولدين للبائع، وهو خلاف القياس. قال الشيخ أبو علي: كان الخضري يحكي قولين في المسألة: أحدهما: ما نسبناه إلى النص. والثاني - ما رأيناه الصواب، لا يجوز غيره -: أن الثاني للمشتري. ثم إذا حكمنا بأن الحمل للبائع فيجب أن يحكم بفساد البيع في الأم على ظاهر المذهب. قلت: وهذا الخلاف كالخلاف في استتباع ما أُبّرَ ما ولم يطل وسنذكره إن شاء الله تعالى. قال: واللبن في الضرع، لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللبن في الضرع، ولأنه مجهول القدر، فإن الضرع قد يكون ثخيناً فيكون اللبن قليلاً، وقد يكون رقيقاً فيكون اللبن كثيراً؛ ولأنه يتجدد شيئاً فشيئاً إذا أخذ في الحلب، وما يحدث ليس مبيعاً، فلا يتأتى التسليم. ولا فرق في ذلك بين أن يعين قدراً من اللبن أو [لا] على الصحيح من المذهب؛ لأن وجود القدر المذكور في الضرع لا يتحقق. وفي توجيه القاضي الحسين [له] أنه قيل: إن ما في الضرع يكون دماً، ثم ينقلب بالحلاب لبناً بجريانه على عروق الضرع. وفيه وجه: أنه يصح، إذا رأى منه أنموذجاً، وقال للطالب: بعتك من هذا اللبن الذي في الضرع مُدًّا مثلاً. قال الإمام: وهذا يحتاج إلى فضل نظر، فإن باع مقداراً لا يتأتى حلبه إلا ويتزايد اللبن مع حلبه، فلا ينفع أبداً الأنموذج، فإن المانع قائم. وذكر الوجهين مطلقاً يشير إلى أن المحذور حيث لا أنموذج، وعدم الرؤية، أو عدم الإحاطة بالصفات.

ومن سلك هذا المسلك يلزمه التخريج على بيع الغائب، وكان شيخي يتأنق في التصور ويقول: إذا ابتدر حلبه واللبن على كمال درَّته، لم يظهر اختلاط شيء به له قدر وبه مبالاة، وإن فرض شيء على بعد- فمثله محتمل، كما إذا باع جزءاً من قرط. فإذا قل مقدار المبيع وتصور بالصورة التي ذكرناها، وفرض أبداً الأنموذج فينقدح ذكر خلاف هاهنا. ومن حقيقة هذا أن الخلاف إذا رُدَّ إلى تقليل المقدار، فلا حاجة إلى ذكر الأنموذج في التخريج على الخلاف. وحاصل القول: أنه إذا ظهر الزائد والاختلاط، امتنع البيع قولاً واحداً، وإن قل المقدار، فمن أصحابنا من يرى إلحاق هذا ببيع الغائب. ومنهم من حسم الباب وراء إلحاق القليل بالكثير؛ فإنه لا ضابط للقدر الذي يقال فيه: إنه مبيع خالص غير مختلط، وهذا ما حكاه المتولي. ولما تأمل الغزالي كلام الإمام قال: وغلط الفوراني إذ ذكر في الأنموذج وجهين، وصور محل الخلاف فيما إذا قبض على قدر من الضرع و [أحمك] شَدَّهُ. قال والمسك في الفأرة [أي]: قبل الفتق، كما صرح به المحاملي، والإمام؛ لأن بقاءه في غير الفأرة ممكن؛ فلم يصح بيعه مع استتاره بها، والجهل بقدره كالدر في الصدف. وحكى الإمام عن صاحب "التقريب" وغيره عن ابن سريج: أنه قال: يصح بيعه؛ لأن بقاءه فيها من مصلحته؛ لأنها تحفظ رطوبته ورائحته، فكان بمنزلة الجوز واللوز في قشره. وقال الإمام: الوجه عندنا تخريج البيع على بيع الغائب؛ فإن بيع المسك في فأرته مع فأرته لا يزيد على بيع الثوب في الكم، فإن كان ما ذكره الأصحاب جواباً على منع بيع الغائب فصحيح. وإن قطعوا بالفساد، وفرقوا بينه وبين الغائب، فهذا لا سبيل إليه.

والتخريج على بيع الغائب هو المذكور في "تعليق" القاضي الحسين فيما إذا باع المسك دون الفأرة، وصحة البيع مع الفأرة، وهو مفرع على القول بطهارة الفأرة، وهو الصحيح، أما إذا قيل بنجاستها جاء في ذلك الخلاف في تفريق الصفقة، وسنذكره. ولو كان راس الفأرة مفتوحاً، وقد رأى المسك فيها، فقد صرح الماوردي بصحة بيعه جزافاً وبالوزن، وفصل المتولي، فقال: إن لم يتفاوت ثخنها، ورأى جوانبها، صح، وإلا فلا. وقال الإمام: الحكم في ذلك ما إذا باع السمن مع ظرفه، والذي ذكره بعض المحققين فيه مثل ما قاله المتولي في الفأرة، وخرجه أبو حامد على بيع الغائب، وأن الأوجه القطع بالفساد. قال الإمام: وهذا الذي ذكره صحيح لا شك فيه. فرع: بيع اللحم في الجلد قبل السلخ، لا يصح على الأصح. وقيل: يتخرج على بيع الغائب، وهكذا الحكم فيما إذا بيعا معاً. وبيع القطن بعد التشقق في جوزه لا يصح – وإن كان على الأرض – عند أبي حامد. وفي جواز بيع الجوهر لمن لا يعرف الجوهر من الزجاج وجهان. تنبيه: فأرة المسك مهموزة، كفأرة الحيوان، ويجوز ترك الهمز. وقال الجوهري: ليست مهموزة وهي تنفصل عن الظبية خلقة، وحشوها السك، وذلك مخصوص بذلك الجنس، وهي على موضع السرة منها، والرب – تعالى – يربي في كل سنة فأرة، وينميها وتبقى ملتحمة ثم تستشعر بأطرافها قمثفاً فتحتك الظبية بالصَّرار والمواضع الخشنة فتسقط الفأرة. كذا قاله الإمام. قال: وبيع ذراع من الدار أي: غير معين، وهما لا يعلمان ذرعان الدار؛ لأنه لا يمكن حمله على الإشاعة للجهل بالنسبة، ولا على ذراع غير معين لاختلاف أجزائها، وذلك غرر، بخلاف بيع صاع من صبرة مجهولة، حيث صححنا العقد على ظاهر المذهب؛ لأنها متساوية الأجزاء، فأمكن تنزيل العقد على صاع لا بعينه.

أما لو علما ذرعان الدار، فالبيع صحيح، وينزل على الإشاعة. قال الإمام: إلا أن يعني بالذراع معيناً، لا على تأويل الإشاعة، فلا يصح العقد حينئذ. ولو اختلف البائع والمشتري، فقال المشتري: أردت جزءاً شائعاً فيها. وقال البائع: بل أردت ذراعاً معيناً لا على مذهب الإشاعة، بل نحوت بذكر الذراع نحو قول القائل: بعت شاة من القطيع – فهذا فيه احتمال عندنا: يجوز أن يقال: الظاهر حمله على الإشاعة. ويجوز أن يقال: يقبل قول البائع؛ فإن اللفظ الصريح في الإشاعة الجزء المنسوب إلى الكل كالنصف والربع. وحكى [عند الكلام] في بيع صاع من الصبرة وجهاً: أن البيع لا يصح وإن لم يجر اختلاف، وهو بناء على أن مأخذ الصحة فيما إذا باع صاعاً من عشرة آصع أن العقد يرد على صاع لا بعينه، ولا يخفى أنه إذا باع ذراعاً معيناً منها أنه يصح، وكذا ما فوقه ذا عين الابتداء والانتهاء، ولو عين الابتداء في طول العرض دون الانتهاء فأصح الوجهين في "الشامل" وغيره: الصحة، وفي "الحاوي": الأصح البطلان. ولو وقف في وسط الأرض، [وقال]: بعتك عشرة أذرع ابتداؤها من موقفي لم يصح. ولو خط في وسط الأرض دائرة وباعها، صح البيع إذا عين له ممراًّ، فلو أطلق استحقاق ممر، ولم يعينه، بطل، [ولو لم] يشترطا ممراًّ وأطلقا العقد فهل يقتضي الإطلاق ثبوت ممر؟ فيه وجهان: فإن قلنا: يقتضيه – وهو المذهب؛ كما قال القاضي الحسين – صح، وثبت له حق الاختيار من كل جانب كما كان للبائع، وكذا إذا قال: بعتكها بحقوقها. وإن قلنا: لا يقتضيه، ففي صحة البيع وجهان، كما لو صرح بنفي الممر: أصحهما في "النهاية" – وبه جزم القاضي الحسين – البطلان. والغزالي رجح وجه الصحة، والأكثرون على خلافه.

وهذا كله إذا لم تكن متاخمة للشارع، [أما إذا كانت متاخمة للشارع]، أو لملك المشتري، فعند الإطلاق لا يثبت له حق الممر. وفي "تعليق" القاضي الحسين: حكاية وجهين [فيه]، في باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمار وحكاهما أيضاً، فيما إذا باع داراً مطلقاً، وكان ظهرها مما يلي الشارع أو ملك المشتري، هل له الاستطراق في الممر المعروف بالدار أم لا؟ ويجب أن يفتح لها باباً في "كتاب الشفعة". وعند إدخال الحقوق في البيع إذا كانت الأرض متاخمة لملكه يكون الحكم ما لو لم تكن متاخمة لملكه عند الإمام، وأجرى الإمام هذا الفصل كله فيما إذا باع بيتاً من دار ولم يتعرض لإدخال حق الممر في العقد. فرع: إذا عين خطين، وقال: بعتك من هذا الخط إلى هذا الخط، لم يدخل الخطان في البيع، حكاه القاضي الحسين في التعليق. قال: وفي بيع الأعيان التي لم يرها المشتري قولان: أصحهما: أنه لا يجوز؛ لنهيه - عليه السلام- عن بيع الغرر، وعن بيع غائب بناجز، ولم يفصل بين صرف وغيره فهو على عمومه؛ ولأنها عين لم يرها من ابتاعها، غُبن فلم يصح بيعها؛ قياساً على الثوب في الغبن، وهذا أحد قولي الجديد الذي نص عليه في "الأم" و"البويطي" و"الرسالة" والسنن، وهو اختيار المزني والربيع والبويطي. قال: والثاني: أنه يجوز إذا وصفها [أي]: بأن يقول: بعتك العبد التركي الذي في بيتي، أو الفرس العربي الذي في إصطبلي، وما أشبه ذلك إذا لم يكن ثم غيره. ووجهه: عموم قوله تعالى: - وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وما روى الدارقطني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى شيئاً لم يره فهو بالخيار إذا رآه". وفي رواية: "إن شاء أخذه وإن شاء تركه"؛ ولأن عثمان بن عفان وطلحة تناقلا

دارين إحداهما بالبصرة، والأخرى بالكوفة، فقيل لعثمان: إن غبنت؟ فقال: لا أبالي؛ لأني بعت ما لم أره فلي الخيار إذا رأيتها، وقيل لطلحة، فقال: إن لي الخيار؛ لأني اشتريت ما لم أره – فترافعا إلى جبير بن مطعم، فقضى بالخيار لطلحة. وقد رُوي أن عبد الله بن عمر اشترى أرضاً لم يرها. وعبد الرحمن بن عوف اشترى إبلاً لم يرها ولم يخالف هؤلاء الخمسة أحد فكان إجماعاً. وقيل: يشترط مع ما ذكرناه ذكر معظم الصفات، وضبطه البغوي بما يوصف به المدعي عند القاضي، وفي "التتمة": عد هذا وجهاً آخر. وقيل: يشترط استيعاب جميع صفات السلم. وقال الماوردي: إنه ليس بشرط باتفاق الأصحاب. وحُكي عن البصريين أنه إذا استوعب ذلك بطل؛ لأنه يخرج عن بيوع الأعيان، ويصير من بيوع السلم، والسلم في الأعيان لا يجوز.

وحكى الإمام وجهاً: أن ذكر الجنس لا يشترط، فيكفي أن يقول: بعتك ما في كمي. وعن أصحاب القفال أنه يشترط ذكر الجنس دون النوع. والمذهب الأول. ولو كان المبيع عقاراً فلابد من ذكر البلد الذي هو فيه، وفي ذكر البقعة وجهان. تقدم ذكرهما، ويشترط فيه ذكر الحدود ولا يُكتفى باثنين منها. وهل يُكتفى بذكر ثلاثة. نظر: إن لم يحصل بها [التمييز]، لم يكف؛ وألا كفى على الأصح؛ حكاه الماوردي، وفي إيراده ما يشعر بأن هذا لا يختص ببيع الغائب. قال: ويثبت للمشتري الخيار إذا رآها؛ للحديث، ولقضية عثمان، وهل يوصف العقد قبل الرؤية بالتمام؟ فيه وجهان: اختيار أبي إسحاق: أن العقد ليس بتامِّ، حتى لو مات أحدهما، أو جن، أو حجر

عليه بفلس - بطل العقد، ولا يقوم الوارث [فيه] مقام الموروث، ولكل واحد منهما أن يفسخ العقد قبل الرؤية. واختيار ابن أبي هريرة: أنه تام فلا يبطل بالموت والجنون والحجر. ومن ثمرة [هذا] الخلاف أن الخيار الثابت عند الرؤية يكون عند أبي إسحاق خيار مجلس، وهو أصح عند المحاملي وغيره، وعند أبي علي بن أبي هريرة خيار عيب فيكون على الفور، وهو أصح عند الإمام، وهذا تمام القول القديم وأحد قولي الجديد الذي نص عليه في الصرف، والصلح، والمزارعة، والصداق، والأمالي، وبه قال جمهور أصحابنا، على ما حكاه الماوردي، وصححه البغوي. والقائلون بالأول خصصوا الآية إن سلم عمومها بما ذكر من الأدلة. وقالوا: الحديث راويه عمرو بن أمية الكردي وهو يضع الأحاديث كما نقله الحفاظ، وغيره رواه مرسلاً، وعلى تقدير صحته فهو محمول على شراء ما رآه قبل العقد فإنه يثبت له الخيار إذا رآه، وقد تغير. و [أجابوا] عن قضية عثمان وغيرها بأن عمر مخالف فلا إجماع. ومحل القولين بالاتفاق: ما إذا كانت العين غائبة كما صورناه، أما إذا كانت حاضرة، فباعها على شرط خيار الرؤية كثوب في سفط، أو مطوي يبيعه ن غير أن يراه المشتري- فقد حكى المحاملي: أن الحكم كذلك، وإليه أشار البندنيجي. وقال الماوردي: قد اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: أنه كبيع العين الغائبة على قولين. والوجه الثاني: أنه لا يجوز قولاً واحداً، وهو قول أكثر أصحابنا، وإليه أشار أبو إسحاق وابن أبي هريرة؛ لأن الحاضر مقدور على رؤيته، فارتفعت الضرورة، بخلاف الغائب. تنبيه: احترز الشيخ بقوله: "الأعيان" عن السلم. وبقوله: "لم يرها المشتري"، عن بيع الأعيان التي لم يرها البائع، وقد رآها المشتري.

ويتصور ذلك بأن يكون قد اشتراها وكيله، أو ورثها، ثم وصفت له، فوصفها للمشتري؛ فإن فيها لأصحابنا – على ما حكاه ابن الصباغ والبندنيجي – طريقين: أحدهما: الجزم بالبطلان. والثاني: طرد القولين، و [هي التي] صححها ابن الصباغ، وطرد القولين فيها لو لم يرياها جميعاً. وحكى المحاملي الطريقين هكذا فيما إذا لم يرياها جميعاً. أما إذا لم يرها البائع خاصة، فأحد الطريقين القطع بالصحة. والثاني: إجراء القولين، وقال: إنهما مأخوذان من الطريقين فيما إذا لم يرياها جميعاً. فإن قلنا بإجراء القولين فيها، فلم يجعل لعدم رؤية البائع أثراً في [إبطال البيع]، فيصح عند رؤية المشتري وجهاً واحداً. والمراوزة قالوا: فيه قولان مرتبان على عدم رؤية المشتري، وأولى بالبطلان. قال الغزالي: والأصح – أي: وإن ثبت الخلاف -: البطلان في الشراء والبيع جميعاً. و [احترز الشيخ] بقوله: "إذا وصفها" عما إذا لم توصف: أما مع إمكان ذلك، فإنه لا يصح عندهم – كما ذكرناه – أو مع عدمه كما ذكر من الحمل في البطن ونظائره. وكذا بيع الجزر والشلجم والبصل والفجل في الأرض قبل قلعه عند أكثر أصحابنا. وبعضهم خرج ذلك على بيع الغائب.

ومحله: إذا لم يظهر منه شيء أما إذا ظهر بعضه [من الأرض] صح بيعه، كما إذا رأى ظاهر الصبرة، صرح به القاضي الحسين في تعليقه. و [احترز] بقوله: "ويثبت للمشتري الخيار إذا رآها" عما قبل الرؤية، فإنه لا يثبت له مجموع خيار الإجازة والفسخ على الأصح، لمفهوم الحديث. وفيه وجه: أنه يثبت، حكاه الإمام. والذي حكاه ابن الصباغ وغيره: أنه إن أراد الفسخ نفذ، وإن أراد الإجازة فلا. وإطلاق الشيخ هذا اللفظ يعرفك أيضاً أنه لا فرق بين أن يجده دون ماوصف له، [أو موافقاً له، وهو المذهب. وفيه وجه – حكاه المحاملي، والبندنيجي، وابن الصباغ -: أنه لا خيار له إذا وجده كما وصف] على قول اعتبار معظم الصفات أو صفات السلم. وفي ابن يونس: تخصيصه بما إذا اعتبرنا صفات السلم وهو الأشبه؛ لأنه لم يبق بعد ذلك وصف تختلف به الأغراض فيشابه المسلم فيه إذا أحضره على الصفة. أما إذا اكتفينا بمعظم الصفات، [فينبغي أن يثبت له؛ لأنه قد بقي من الصفات ما تتعلق به الأغراض. وأيضاً: فإن القائل بالاكتفاء بمعظم الصفات] فرق بينه وبين السلم بأن الخيار يثبت فيه عند الرؤية، فيندفع ما يحذر منه، بخلاف السلم، كما حكاه المحاملي، ويقتضي هذا تصحيح ما أشرنا إليه. ويعرفك أيضاً أنه لا فرق بين أن يشترط ثبوت الخيار عند الرؤية، [أو لا]، وهو المشهور. [و] في كتاب ابن كج أن أبا الحسين حكى عن بعض أصحابنا أنه لابد من اشتراط خيار الرؤية. وفي "الحاوي": أن بيع الغائب بغير شرط خيار الرؤية باطل، لا يختلف فيه المذهب.

وقد يفهم من ذلك: أنه الوجه الذي حكاه أبو الحسني، والذي فهمته منه إرادة ذكر ما هو شرط في هذا العقد على هذا القول. وسكوت الشيخ عن جانب البائع يعرفك أنه لا خيار له عند الرؤية، وهو الأصح من الوجهين في "الشامل"، والمذهب عند المحاملي، وبه قال ابن أبي هريرة. وفيه وجه: أنه يثبت له أيضاً، [وهو قول أبي إسحاق؛ لأن عنده أن بالرؤية يثبت له [خيار المجلس]، كما ذكرناه من قبل. وخيار المجلس يشترك فيه المتبايعان. وهذا الخلاف فيما إذا كان البائع [قد رأى المبيع]، أما إذا لم يره، وصححنا العقد، فهو كالمشتري، ويكون ظهور زيادة عما وصفه مثل ظهور النقص عند عدم رؤية المشتري، صرح به الماوردي والمحاملي وغيرهما. وروى عن القفال: أنه لا خيار له أصلاً، وهو الأصح عند الإمام؛ لأن جانبه بعيد عن إثبات الخيار، وكذلك إذا ظن أن المبيع معيب فإذا هو سليم، لا خيار له، وإن استضر به. وفي هذه الصورة وجه: أنه يثبت أيضاً، وأبطل الغزالي علة القفال بخيار المجلس والشرط فإن البائع يساوي المشتري فيهما، وهذا من جنسهما. فروع: أحدها: هل يصح شراء الأعمى مع القول بصحة بيع الغائب وشرائه؟ فيه وجهان: أظهرهما- عند الرافعي والقاضي الحسين -: أنه لا يصح. وهو الذي يظهر من كلام الشيخ حيث جعل من تمام القول الذي عليه التفريع ثبوت الخيار عند رؤيته، وقد تعذر فأشبه ما لو شرط نفي خيار الرؤية. والثاني: أنه يجوز، ويقوم وصف غيره له مقام رؤيته، كما تقوم الإشارة من

الأخرس مقام النطق، وهذا أصح عند المحاملي. وقد ينبني الخلاف على [أن] استقصاء الأوصاف على وجه يفيد الإحاطة بجميع المقاصد، هل يقوم مقام الرؤية حتى ينعقد البيع بعده بيع حاضر؟ وفيه خلاف في الجديد في الطريقين، وبعضهم أثبته وجهين، وبعضهم قولين. وأصحهما: المنع من حيث إن الرؤية تحيط بمقاصد لا تحيطها العبارة وقد بناه الأصحاب على أن البصير إذا صححنا منه شراء ما لم يره هل يصح منه التوكيل في الرؤية [والإجازة والفسخ؟ فيه وجهان: أظهرهما: الجواز، كما يصح تفويض الأمر إليه في خيار العيب والخلف، فإن صححنا التوكيل صح البيع على القول الذي عليه التفريع، وألا بطل. هكذا حكاه الرافعي. وفي الحلية للشاشي: أن الشيخ أبا حامد حكى وجهين في صحة التوكيل في خيار الرؤية [وأن أصحهما أنه لا يصح، وعلى مقابله: هل يقوم الوكيل مقام الموكل في الفسخ والإجازة؟ فيه وجهان: أصحهما: أنه يقوم مقامه في ذلك. والثاني: لا يقوم وإنما يحكي ما يراه، ثم قال: وهذا التوكيل في الرؤية] لا معنى له. وفي "النهاية" في كتاب الرهن: أنا إذا شرطنا في صحة قبض ما رهنه منه – وهو في يده – مُضِيَّه إليه، ورؤيته، فوكل وكيلاً حتى يراه ويخبره به، هل يكفي؟ فيه [وجهان]: أصحهما: أن التوكيل في ذلك كاف كأصل القبض، وهذا يعضد هذا الوجه، ولا يقال: إن المقصود ثم أن يعلم بقاؤه أم لا؛ لأن هذا مفرع على القول باشتراط الرؤية مع العلم ببقاء العين. وعلى القول بعدم صحة شراء الأعمى، لو اشترى شيئاً لم يره – وهو بصير – فعمي قبل الرؤية، بطل العقد، وقيل: لا يبطل، حكاه المتولي.

ولا نزاع في أن للأعمى أن يؤجر نفسه ويشتريها، ويقبل الكتابة، [ويكاتب عبده]. وقال في "التتمة": على المذهب، يعني في الكتاب [للعبد]، وسلمه أيضاً صحيح إذا كان يعرف الصفات قبل العمى، ويوكل من يقبض له. وفي صحة قبضه بنفسه وجهان: أصحهما: المنع. وإن كان لا يعرف الصفات، فوجهان: أصحهما – عند العراقيين – [وبه أجاب في "الوجيز" -: الصحة. وعند المزني، وابن سريج، وابن خيران، وابن أبي هريرة: البطلان، واختاره البغوي، والمتولي. وهذا إذا كان رأس المال في الذمة [وعين في المجلس]. أما لو كان عيناً فهو كبيع العين. الثاني: للبائع أن يمتنع من قبض الثمن، ومن تسليم المبيع قبل الرؤية حكاه الرافعي في كتاب الشفعة، وهو يؤخذ مما تقدم. الثالث: لو باع ثوباً قد رأى نصفه دون نصفه الآخر، فالذي ذهب إليه أكثر أصحابنا البصريين وغيرهم أنه لا يصح؛ لاختلاف الحكم، وعدم الضرورة، بخلاف العين الغائبة بجملتها. ومنهم من قال: إنه يجوز كالعين الغائبة، وهو ما حكاه البندنيجي عن المنصوص، وصححه ابن الصباغ. فرع: لو وكل إنسان وكيلاً حتى يشهد شيئا ًويشتريه بعد المعاينة، صح الشراء للموكل؛ فإنه استعان بمعاينة الوكيل وأحلها محل معاينة نفسه، وأجرى التوكيل فيها؛ فصح ذلك كما يصح التوكيل بأصل الشراء؛ هكذا لفظ الإمام متصلاً بـ"باب بيع حبل الحبلة"، فافهم منه ما تفهمه. قال: وإن رآها قبل العقد [وهي مما لا يتغير – أي: غالباً في تلك المدة التي بين الرؤية والعقد] وهو ذاكر لأوصافها –جاز بيعها، أي: على القولين جميعاً؛

لحصول المقصود بالرؤية السابقة. وقال أبو القاسم بن بشار الأنماطي من أصحابنا: لا يصح حتى يشاهدها حال البيع. وحكى الشيخ أبو علي عن الإصطخري: أنه تناظر مع بعض من يذهب عن الأنماطي، وكان يلزمه المسائل وهو يلتزمها؛ حتى قال له: لو عاين ضيعة وارتضاها ثم ولاها ظهره فاشتراها، فهل يصح؟ فتوقف، وأن الإصخري قال: لو ارتكبه لكان خارقاً للإجماع. قال الإمام: وما أرى الأنماطي يسمح بهذا، ويحتمل أن يكتفي بكون المبيع بمرأى منه حالة العقد وإن كان لا يلاحظه، وبالجملة فإن مذهبه فاسد. أما إذا كان غير ذاكر لأوصافها، أو كانت مما يعلم تغيرُّها في مثل تلك المدة المتخللة بين الرؤية والعقد، فلا أثر لهذه الرؤية. وإن كان بين الرؤية والعقد ما يحتمل فيه التلف، ويحتمل البقاء، وكذا ما يحتمل التغير ويحتمل البقاء، فوجهان: المذهب منهما – عند المحاملي، وابن الصباغ، والبندنيجي -: الصحة، وهو الأصح عند الماوردي أيضاً في الثانية، وفي الأولى: الأصح البطلان. واعلم أن الرؤية المصححة للعقد أن يرى من المبيع مقاصده لا كل جزء وذلك يختلف باختلاف المبيع؛ فالدار يشترط أن يرىمنها البيوت، والسقوف، والجدران داخلاً وخارجاً، والمستحم، والبالوعة. والستان يرى منه الأشجار، والجدران، ومسايل الماء. وفي اشتراط رؤية طريق الدار ومجرى الماء الذي تدور به الرحى وجهان: والعبد يرى وجهه وأطرافه، ولا يجوز النظر لعورته. وفي اشتراط رؤية باقي بدنه وجهان: أظهرهما – وهو المذكور في "التهذيب" -: أنه لابد [منه]. وفي الجارية وجوه: أحدها: أنها كالعبد.

والثاني: يشترط رؤية ما يبدو عند المهنة. والثالث: يكفي رؤية الوجه والكفين، وفي رؤية الشعر وجهان: أصحهما في "التهذيب" الاشتراط وبه جزم أبو الطيب في باب الخراج بالضمان. وفي "الحاوي": الأصح عدم الاشتراط. [ولا يشترط رؤية اللسان، والأسنان على الأصح. والدواب يرى منها مقدمها ومؤخرها وقوائمها، وتحت السرج، والإكاف، والجل. وعن بعض الأصحاب أنه لابد أن يجري الفرس بين يديه؛ ليعرف سيره]. والثوب المطويّ لابد من نشره. قال الإمام: ويحتمل عندي جواز بيع الثياب التي لا تنشر بالكلية إلا عند القطع؛ لما في نشرها من التنقيص، ويلتحق بالجوز واللوز؛ فإنه لا يعتبر كسرها لرؤية القلوب مع أنها معظم المقصود، ثم إذا نشرت فما كان منها صفيقاً كالديباج المنقش، فلابد من رؤية كلا وجهيه وفي معناه البسط والزَّلاليْ، وما كان رقيقاً لا يختلف وجهاه كالكرباس يكفي رؤية أحد وجهيه على أصح الوجهين؛ وهو ما جزم به في "الحاوي" في باب الرد بالعيب حيث قال: إن الثوب إذا نشر صح الشراء، إن كان مطويًّا على طاقين؛ ليرى جميع الثوب من جانبيه، وإن كان مطوياًّ على أكثر، لم يحص إلا أن يكون على خيار الرؤية. ولا يجوز بيع الثياب التَّوّرِيَّة في المسوح على القول باشتراط الرؤية.

والمصحف والكتب، لابد من تقليب الأوراق، ورؤية جميعها. والفُقَّاع، ذكر أبو الحسن العبادي: أنه يفتح رأسه وينظر فيه بقدر الإمكان. وفي الإحياء أطلق المسامحة به. والمتماثلات؛ كالحنطة، والشعير يكفي فيها رؤية ظاهر الصبرة على الصحيح، ونقل قول عن رواية الصعلوكي – وبعضهم ينسبه إليه نفسه -: أنه لابد من تقليبها؛ ليعر باطنها. وعلى الأول لو خالف باطنها ظاهرها خرج على قولي بيع الغائب عند الشيخ أبي محمد، وكذا لو بان تحت الصبرة دكة. وأبدى الإمام في الأولى احتمالاً وقال في الثانية لا وجه لما قاله شيخي، والذي حكاه العراقيون في الصورتين ثبوت الخيار. [والجوز] واللوز والتمر في هذا المعنى ملحق بالحنطة، وكذا الدقيق. وألحق الماوردي الدقيق بالقطن إذا رؤي أعلاه في العِدْل وفيه وجهان: أحدهما: أنه يكفي. والثاني: لابد من رؤية جميعه والأشبه عند الصميري أنه كالقَوْصَرة من التمر إذا لتصقت حباته، والأصح فيه الاكتفاء برؤية اعلاه. ولو رأى من المثل أنموذجاً، وقال: بعتك من هذا النوع كذا لم يصح، وإن قال: بعتك من الحنطة التي في البيت وهذا أنموذج منها، فإن لم يدخل الأنموذج في البيع فالأصح أنه لا يكفي، وإن أدخل فالأصح الاكتفاء.

والصحيح أن رؤية الأنموذج لا تقوم مقام الوصف في السلم، واستقصاء الوصف هل يقوم قام الرؤية؟ فيه خلاف تقدم. وإذا اكتفينا به فظهر عند الرؤية نقصانه عما وصف؛ تبين بطلان العقد. قال الإمام: ولا يكفي رؤية ظاهر صبرة البطيخ والرمان ونحوهما، وكذا أعلى ما في الظروف من العنب والخوخ ونحوهما، بخلاف المائعات، ولا يكفي رؤية المبيع من وراء حائل لا مصلحة له فيه؛ كالزجاج، بخلاف ما له فيه مصلحة كالماء على الأرض، [فإنها تكفي] معه، ولا يشترط مع ما ذكرناه من الرؤية الذوق في المذوق، والشم في المشموم، على الأصح، وهو ما ادعى الغزالي فيه الوفاق. وفي "التتمة" والبحر حكاية وجه في اشتراط ذلكن واشتراط اللمس في الملموس من الثياب، ونحوها.

قال: فإن رآها وقد نقصت ثبت له الخيار؛ لحصول العيب. وحكى المراوزة وجها، أنا نتبين بطلان العقد؛ لتبين انتفاء المعرفة، والجمهور على الأول. قال الإمام: وليس المعنى بتغيره بعيب؛ فإن خيار العيب لا يختص بهذه الصورة. ولكن الظاهر عندي أن يقال: كل تغيير لو فرض خلفاً في صفة مشروطة تعلق به الخيار، فإذا اتفق بين الرؤية والعقد أثبت الخيار، ويمكن أن يقال: كل تغير تخرج به الرؤية عن كونها مفيدة لمعرفة وإحاطة فهو مثبت للخيار. قال: واختلفا في النقصان- أي: عن الحالة التي وقعت فيها الرؤية – فالقول قول المشتري، [لأنا نريد انتزاع الثمن من يده، فلا ينزع منه إلا بقوله، وهذا نصه في كتاب الصرف. وحكى الغزالي عن صاحب "التقريب" – [وهو الأصح]-: أن القول قول البائع؛ لأن الأصل عدم التغير واستمرار العقد. قلت: ولو وفصل مفصل فقال: إما أن يكون الاختلاف في نقص من أصل الخلقة، أو في نقص حدث بعد أن كان كاملاً، فإن كان الأول بأن ادعى البائع أنه كذا وجد، ولم يحدث فيه نقص فيظهر أن القول قوله، وإن كان الثاني بأن ادعى البائع أنه كان كاملاً أو أن هذا النقص حدث قبل الرؤية، وأنه رآه ناقصاً كما هو الآن، فالذي يظهر أن القول قول المشتري؛ عملاً بالأصل في الموضعين، كما لو وقع مثل هذا الاختلاف في عيب المغصوب بعد تلفه؛ فإن الحكم كما ذكرناه على الأصح، وسنذكر – إن شاء الله تعالى – الفرق بين هذه المسألة ومسألة العيب الذي يمكن حدوثه في موضعها.

ويجري مثل هذا الخلاف المنقول عن الأصحاب في مسألة الكتاب فيما إذا صححنا بيع الغائب، وادعى البائع أن المشتري رأى المبيع قبل العقد فلا خيار له، وأنكر المشتري، فالأظهر عند أبي الحسن العبادي أن القول قول المشتري أيضاً أما إذا لم يصححه؛ ففي فتاوى الغزالي أن القول قول البائع. قال الرافعي: ولا ينفك هذا عن الخلاف، وقد صرح به ابن أبي الدم الحموي في أدب القضاء. قال: ولا يجوز البيع بثمن مجهول القدر؛ لنهيه – عليه السلام – عن بيع الغرر. قال: كبيع السلعة برقمها أي: بما يكتب عليها؛ لأنه يجهل كم قدره، وجنسه، وصفته. وفي "التتمة" حكاية وجهين آخرين: أحدهما: أنه يجوز. والثاني: الفرق بين أن تزول الجهالة في المجلس؛ فيصح، أو لا؛ فلا يصح.

وهذا حكاه في المرابحة، وعزاه الرافعي لغيره. قال: وكبيع السلعة بألف مثقال ذهب وفضة؛ لأن قدر كل واحد منهما مجهول، وقد أُورِدَ على ذلك أنه لم لا يحمل على التشطير، إذا قلنا: إن البيع يصح بالكناية، كما لو قال: قارضتك على أن الربح بيننا؛ فإنه ينزل على الشطر في وجه؟ ولو قال: أشركتك معي في العقد؛ فإنه يصح أيضاً، على وجه، وينزل على الشطر وكذا لو استأجر أرضاً ليزرعها ويغرسها؛ صح على وجهٍ وينزل على الشطر كما حكاه في الأشراف. وفي الإقرار لو قال: هذا الشيء لزيد وعمرو، وفي الوقف لو قال: وقفت هذا على زيد وعمرو، وكذا في الوصية؛ فإنه ينزل على الشطر، فهلا كان هاهنا مثل ذلك. وقد حكى الرافعي فيما إذا قال: بعتك بألف صحاح ومكسرة – وجهين: أظهرهما: البطلان، ثم قال: ويشبه أن يكون هذا الوجه جارياً فيما ذكرناه. فروع: [أحدها] لو قال: بعتك بما باع به فلان فرسه. قال المراوزة: إن كان ذلك معلوماً لهما صح، وإن لم يعلماه أو أحدهما لم يصح. وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه يصح. وحكى الرافعي في الفصل الثالث من الوصايا في المسائل الحسابية، أنهما إذا كانا يعلمان ثمن الفرس خلافاً في صحة البيع، وأن اختيار العراقيين والبغوي عدم الصحة، واختيار الإمام، والروياني وغيرهما الصحة. ومادة الخلاف عند العراقيين ما إذا قال: أوصيت له بنصيب ابني هل يحمل على النصيب نفسه؛ فتبطل الوصية، أو على مثله؛ فتصح. لو قال: بعتك هذا الثوب بدينار إلا درهماً؛ فإن جهلا أو أحدهما قيمة الدينار في الحال لم يصح، وإن علما قيمته صح، على ما حكاه الجمهور.

وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه لا يصح، وأنه الأصح. ويتجه أن يجيء فيما إذا جهلا ذلك – الوجهان المذكوران من قبل في مسألة الرقم. [الفرع الثاني] لو قال: بعتك بمائة درهم من صرف عشرين بدينار لم يصح، وإن كان [من] صرف البلد عشرين درهماً بدينار، حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، ثم قال: وكذلك ما يفعلونه الآن، لا يسمون الدراهم، وإنما يبيعون بالدنانير، ويكون [كل] قدر معلوم من الدراهم عندهم ديناراً؛ فإن هذا لا يصح؛ لأن الدراهم [لا يعبر بها عن] الدنانير، لا حقيقة ولا مجازاً، مع أن البيع لا يجوز بالكناية حكاه في باب الربا. [الفرع الثالث] لو قال: بعتك هذه العين بالدراهم، فهل يحمل على ثلاثة حتى يصح البيع؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين في كتاب الإقرار. قال: فإن باعه قطيعاً كل شاة بدرهم، أو صبرة كل قفيز منها بدرهم جاز، وإن لم يعلم مبلغ الثمن في حال العقد؛ لأن الجهل ينتفي بالعلم [بالتفصيل، كما ينتفي بالعلم] بالجملة، كما إذا باعه بثمن معين جزافاً. وهكذا الحكم فيما لو قال: بعتك هذه الأرض أو هذا الثوب كل ذراع بدرهم. وحكى الماوردي عن البغداديين من أصحابنا: أن البيع لا يصح في الأرض، إذا كانا لا يعلمان قدر ذرعانها، وأنهم لم يطردوه في الثوب، بل حكموا فيه بالصحة، وطرده أبو إسحاق في جميع الصور على ما حكاه ابن كج، وأبداه في البحر في كتاب الإجارة في مسألة الصبرة احتمالاً عن [ابن] أبي هريرة. وحكى مجلي وجهاً في عدم صحة البيع بصبرة من الدراهم مجهولة القدر في باب السلم. ولو قال: بعتك هذه الرزمة، كل ثوب بدرهم على أن فيها عشرة أثواب، وقد شاهد كل ثوب منها، فإن خرجت تسعة؛ صح العقد، ولزمه تسعة دراهم، ولو خرجت أحد عشر، قال الماوردي: بطل العقد في الجميع قولاً واحداً، بخلاف الأرض والثوب

الواحد إذا باعه مذارعة، فإن في صحة البيع قولين؛ لأن الثياب قد تختلف، وليس يمكن أن يكون الثوب الزائد مشاعاً في جميعها، وما زاد في الثوب الواحد والأرض مقارب لباقيه فأمكن أن يكون مشاعاً في جميعه. ولو قال: بعتك من هذه الصبرة كل صاع بدرهم لم يصح في شيء منها. وقال ابن سريج: إنه يصح في صاع منها، كما صار إليه فيما إذا قال: آجرتك كل شهر بدرهم، وحكاه الإمام عن صاحب "التقريب". وفي "النهاية" في كتاب الإجارة: أن الشيخ أبا محمد كان يقول: إذا قال: بعتك كل صاع من هذه الصبرة بدرهم؛ فالمبيع جميع الصبرة، كما لو قال: بعتك الصبرة كل صاع بدرهم. ولو قال: بعتك هذه الصبرة بعشرة دراهم كل صاع بدرهم، نظر: إن خرجت عشرة آصع صح، وإلا فقولان: أصحهما في "التهذيب": البطلان. وعلى مقابله إن خرجت تسعة فله الخيار، فإن أجاز فبكل الثمن، أو بقسطه؟ فيه وجهان، وإن خرجت أحد عشر، فلمن يكون الزائد؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنه للمشتري، فعلى هذا لا خيار له. وفي البائع وجهان: أصحهما: ثبوت الخيار له. ولو قال: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم على أن أزيدك صاعاً، فإن لم يكن الصاع معلوماً لهما بطل وإن كان معلوماً نظر: إن أراد هبته فسد العقد، وإن أراد إدخاله في العقد وكانت الصبرة معلومة الصيعان صح، فإن كانت عشرة مثلا ًفمعناه: صاعاً وعشراً بدرهم. وحكى الإمام عن رواية صاحب "التقريب" وجها – وأنه مال إليه: أنه لا يصح؛ لأن العبارة لا تبنى على ذلك إلا على بُعْدٍ في المَحْمَل؛ فضاهى اللغز. وإن كانت مجهولة الصيعان لم يصح؛ لأنه لا يدري أشترى صاعاً وعشراً أو صاعاً وتسعاً أو ما يتردد معه فيكون الثمن مجهول الجملة مجهول التفصيل. وإن أطلق العقد؛ فهل يحمل على الهبة أو على إرادة إدخاله في البيع؟ فيه

وجهان في "الحاوي". فإن قيل: إذا تردد اللفظ بين احتمالات، فكيف يصح العقد بمجرد إرادة صورة الصحة؟ قال الغزالي: هذا يلتفت على الأصح في انعقاد البيع بالكنايات. وفي بعض نسخ "الوسيط":تصوير المسألة بما إذا قال: بعتك هذه الصبرة بعشرة على ان أزيدك صاعاً، والصواب تصويرها كما ذكرناه كما هو موجود في شروح "المختصر". ولو قال: بعتك هذا السمن وظرفه كل رطل بدرهم. قال الداركي: يصح العقد واختاره ابن الصباغ، والمذهب أنه لا صح إلا أن يكون ذلك معلوماً لهما. فائدة: التعامل بالدراهم المغشوشة، هل يجوز وإن لم يكن قدر النقرة معلوماً؟ فيه وجهان في "الوسيط" في زكاة النقدين. وفي كتاب الخلع منه تقييد وجه الجواز بما إذا كانت المعاملة على أعيانها، وأن الصحيح أنه يقبل تيسيراً لمُقِرِّيها إذا غَلَبَتْ في المعاملة، وصحح الإمام في كتاب الخلع وجه [منع] التعامل بها. والصحيح في "تعليق" القاضي الحسين في باب بيع الطعام قبل أن يستوفي: أن التعامل بالدراهم المطرفية جائز في العين والذمة، وهي مركبة من أشياء لا يعرف قدر كل واحد منها. وفي "التتمة" حكاية وجه ثالث – نسبه إلى اختيار القاضي الحسين -: أن الغش إن كان مغلوباً صح، وإن كان غالباً [فلا]. قال الرافعي: وربما نقل العراقيون الوجهين على الإطلاق، يريد فيما إذا كان قدر النقرة معلوماً أو مجهولاً. والمذكور في "تعليق" القاضي أبي الطيب في باب الربا: أن الغش إن لم يكن له قيمة بأن يكون مستهلكاً كالزرنيخية والنوراتية؛ فإنه لا يتحصل منه شيء عند

إدخالها النار؛ فيجوز شراء السلع بها لا يختلف أصحابنا في ذلك، وإن كانت له قيمة مثل الرصاص والنحاس، فهل يجوز شراء السلع بها؟ فيه وجهان: أصحهما: الصحة. وعلى هذا لو اشترى بها ذهباً؛ ففي صحة العقد قولاً تفريق الصفقة في الحكم. ومعنى الدراهم الزرنيخية والنوراتية: أن تؤخذ النورة والزرنيخ فتجعل مثل الدراهم وتطلي بالفضة، كذا قاله المحاملي. وقال الماوردي في كتاب الزكاة: لو كان قدرُ الفضة معلوماً قد اشتهر عند الخاص والعام؛ بحيث لا ينقص ولا يختلف؛ فالمعاملة بها جائزة على العين وفي الذمة، وإن كان مجهولاً والغش فيه نظر: فإن كان الغش في باطنها والفضة ظاهرة غير ممتزجة، [فلا تجوز المعاملة بها في الذمة]، ولا في العين، وإن كان غير متميز كما ذكرناه؛ جازت المعاملة بها. وعلى كل [حال] فلو أتلفها متلف لم يلزمه مثلها، ولزمه رد قيمتها بالذهب،

وحكم الذهب المغشوش حكم الورق المغشوش. قال: فإن كان لرجلين عبدان، لكل واحد منهما عبد، فباعاهما بثمن واحد ولم يعلم كل واحد منهما ما له، أي: ما يقابل عبده من الثمن؛ بطل العقد في أحد القولين، وهو الذي نص عليه؛ لأن الصفقة تتعدد بتعدد البائع وقد جهل كل منهما ما يختص به من الثمن؛ فبطل، كما لو قال: بعتك هذا العبد بما يخصه من الألف لو وزع عليه وعلى عبد فلان، وقد ادعى الإمام في باب تفريق الصفقة الإجماع على بطلانه، [وهذا ما صححه ابن الصباغ في كتاب الشركة]. قال: وصح في الآخر: ويقسط الثمن عليهما على قدر قيمتهما؛ لأن جميع الثمن معلوم، ويمكن التوصل منه إلى معرفة ما يقابل كل واحد منهما بواسطة التقويم، وهذا القول مأخوذ من نصه فيما إذا كاتب عبدين على عوض واحد أنه يصح. قال الرافعي في كتاب الصداق: ويمكن أخذ القولين من القولين اللذين نص عليهما فيما لو تزوج امرأتين وخالعهما على عوض واحد. وهذه طريقة ابن سريج، ووراءها طرق: أحدها: القطع بفساد البيع، وإثبات قولين في الكتابة وبهذا قال أبو إسحاق كما حكاه صاحب البحر في كتاب الشركة، وكذا أبوسعيد الإصطخري وقال: [إن ابن سريج] خرق الإجماع، وفرق بأن البيع معاوضة محضة وتأثير فساد العوض والجهل به في البيع أشد من تأثيرهما في العقود الثلاثة؛ لأن البيع يلغو بفساد العوض والجهل به، والنكاح والبينونة لا يتأثران بذلك، والكتابة - وإن فسدت - لا تلغو بل إذا أدى المسمى عتق بموجب التعليق. قال ابن الصباغ: وما ذكره من خرق الإجماع فليس كذلك؛ لأن أبا حنيفة وغيره يُجوِّز ذلك. الثاني: إثبات القولين في البيع، والقطع بصحة الكتابة؛ لما فيها من شائبة العتق؛ ولهذا جوزت على خلاف الدليل؛ ولأن المالك للعوض واحد، والصادر منه لفظ واحد؛ فصار كما لو باع عبدين من واحد. والثالث: القطع بفساد البيع وتصحيح الكتابة جرياً على ظاهر النصين، وتخصيص

القولين بالنكاح والخلع، والفرق بائن. وأقرب الطرق في البيع على ما حكاه الرافعي ما قال به ابن سريج، والأصح من القولين البطلان. وفي الجيلي: أن الأصح مقابله، ويجري الخلاف فيما لو استأجر رجل دارين من رجلين غير مشتركين، بينهما صفقة واحدة بأجرة واحدة، وفيما لو باع رجل عبدين من رجلين لكل منهما عبد بثمن واحد، وفي نظائر ذلك. أما إذا كان العبدان مشتركين بينهما على الإشاعة فباعاهما بثمن واحد – صح العقد وجهاً واحداً، وعنه احترز الشيخ بقوله: "لكل واحد منهما عبد"، ولا يشارك أحدهما صاحبه فيما قبضه لنفسه من الثمن؛ لأنه ليس بوكيل للآخر. قال ابن الصباغ في باب الشركة: ويفارق أحد الشريكين في مال الشركة؛ لأن كل واحد منهما وكيل لصاحبه. وقد يظهر من قول الشيخ: "ولم يعلم كل واحد منهما ما له" الاحتراز عما إذا علم التوزيع قبل العقد أنه يصح لانتفاء المحذور، وعليه يدل كلامه وكلام غيره فيما إذا اشترى الوكيل المأذون له في شراء شاة بدينار؛ فاشترى شاتين تساوي كل واحدة منهما ديناراً، حيث قالوا: إن الشاتين للموكل على رأي [أو للوكيل] شاة بنصف دينار. ولم يخرج احد صحة هذا العقد على الخلاف الذي ذكره الشيخ هاهنا ويجوز أن يكون احترز به عما إذا فصل الثمن قالا: بعناك هذين العبدين بمائة، ستون لهذا وأربعون لهذا، لكن قد يقال: ليس الثمن في هذه الصورة واحداً بل ثمنين. ثم صورة المسألة أن يأذن أحدهما لصاحبه في بيع عبده بما رآه من الثمن أو مع عبده بمائة، أو يوكل وكيلاً لذلك، أو يوجبا العقد بأنفسهما، وصورته أن يقول المشتري: اشتريت منكما هذين العبدين بمائة؛ فيقول كل منهما: بعتك. قلت: وقد يلاحظ فيما عدا هذه الصورة اتحاد الصفقة وتعددها بالنسبة إلى الوكيل – كما سنذكره – فإذا قلنا: إنها متحدة امتنع التصوير بما عدا الأخيرة. قال: ولا يجوز البيع بثمن مجهول الصفة كالبيع بثمن مطلق؛ أي: في الذمة، [في موضع] ليس فيه نقد متعارف أي: بل استوى رواج نقوده؛ لأنه عوض في البيع فلا

يجوز ثبوته في الذمة مع الجهل بصفته، كالمسلم فيه. أما إذا غلب نقد منها أو لم يكن سوى نقد واحد، حمل العقد عليه، وإن كان دراهم مغشوشة إذا جوزنا التعامل بها إلا أن يعين غيره، وهكذا الحكم في صفته من صحة وتكسير. ولو غلب من جنس العروض نوع، فهل ينصرف الذكر إليه عند الإطلاق؟ فيه وجهان: المذكور منهما في "تعليق" القاضي أبي الطيب في باب الربا، والمحكي عن أبي إسحاق، وهو المذهب في "التتمة": أنه ينصرف إليه. والفلوس إذا راجعت رواج النقود؛ فالصحيح على ما حكاه الغزالي: أنها كالعروض، ومقتضى هذا أن يجيء فيها الوجهان عند الإطلاق. وقد جزم الرافعي بتنزيل العقد عليها، ثم إذا نزل العقد عليها لا يحتاج إلى ضبطها بالوزن، بل يجوز بالعدد، وإن كان في الذمة صرح به القاضي حسين في باب بيع الطعام قبل أن يستوفي. وكما يعتبر النقد الغالب في إطلاق المعاملات، كذلك يعتبر في تقويم المتلفات، فلو تساوت في الرواج؛ عين القاضي واحداً للتقويم. قلت: وقد حكى في زكاة العروض أن رأس المال إذا كان عرضاً فاستوت نقود البلد في الرواج، والمال يبلغ بكل منها نصاباً – أن التقويم يكون بنقد أقرب البلاد إليها على وجه؛ والمال يبلغ بكل منها نصاباً – أن التقويم يكون بنقد أقرب البلاد إليها على وجه؛ لأنها لما استوت صارت كالمعدومة، ويتجه جريان هذا الوجه هاهنا. فروع: [إذا اشترى من رجل ثوباً بنصف دينار؛ لزمه شق دينار، ولا يلزمه من دينار

صحيح] وكذا إذا اشترى منه ثوباً آخر بنصف دينار لزمه نصف دينار آخر مكسور ولا يلزمه دينار صحيح، وإن شرط في البيع الثاني: أن يعطيه ديناراً صحيحاً غير الأول والثاني نظر: إن كان البيع الأول [قد لزم لم يصح الثاني وإن كان الأول] لم يلزم بطل العقدان، قاله أبو الطيب في التعليق. ولو ابتاع ثوباً بنصف دينار ثم ابتاع آخر بنصف دينار على أن له عليه ديناراً كان البيع الأول والثاني جائزين؛ لأن المقترن بالثاني لا ينافيه؛ قاله الماوردي. ولو باعه بألف درهم من نقد سوق كذا فإن كان مختلفاً لم يصح، وإن كان غير مختلف فوجهان: أظهرهما: الصحة؛ قاله الماوردي أيضاً في باب الربا. ولو باعه بدينار صحيح فجاءه بصحيحين، وزنهما دينار فعليه القبول، فإن جاء بصحيح وزنه دينار ونصف، قال في "التتمة": عليه قبوله، والزيادة أمانة في يده. قال الرافعي: والحق أنه لا يلزم القبول: لما في الشركة من الضرر، وقد ذكر صاحب البيان نحواً من هذا. ولو باع بنصف دينار صحيح وشرط أن يكون مدوراً؛ جاز، إن كان يعم وجوده. ولو باع بنقد قد انقطع من أيدي الناس؛ فهو باطل، وإن كان لا يوجد في البلد ويوج في غيرها، فإن كان الثمن حالاً أو مؤجلاً إلى مدة لا يمكن نقله فيها؛ فهو باطل أيضاً. وإن كان مؤجلاً إلى مدة يمكن نقله؛ صح، ثم إن حل الأجل وقد أحضره فذاك، وألا [فينبني على أن الاستبدال على الثمن، هل يجوز؟ إن قلنا: [لا؛ فهو كما لو انقطع المسلم فيه. وإن قلنا: نعم]، فيستبدل وإلا انفسخ العقد.

وفيه وجه: أنه ينفسخ. وإن كان يوجد في البلد إلا أنه عزيز. فإن قلنا: يجوز الاستبدال صح، فإن وجد فذاك وإلا تبادلا. وإن قلنا: لا، لم يصح. ولو كان القدر الذي جرى به التعامل موجوداً ثم انقطع، إن جوزنا الاستبدال تبادلاً، وإلا فهو كانقطاع المسلم فيه. قال: فإن باعه بثمن معين – أي: لم يكن في الذمة – لم يره، فعلى قولين أي: قولي بيع الأعيان الغائبة وقد تقدم الكلام عليهما. فرع: إذا أبطل السلطان ذلك النقد الذي وقع العقد عليه إما بالتعيين أو لكونه غالب نقد البلد وقد أطلقا العقد، لم يكن للبائع إلا ذاك النقد. وفيه وجه: أنه مخير إن شاء أجاز العقد بذلك النقد وإن شاء فسخه، كما لو تعيب المبيع قبل القبض. قال: ولا يجوز البيع بثمن إلى أجل مجهول؛ لأن الأجل يقابل بقسط من الثمن؛ لأنه يزيد بزيادة الأجل وينقص بنقصانه، وإذا كان مجهولاً جهل ما يقابله، والمجهول إذا أضيف إلى معلوم أكسبه الجهالة؛ فبطل كذلك. قال: كالبيع إلى العطاء أي: عطاء السلطان حقوق المرتزقة؛ لأنه مختلف ويتقدم تارة، ويتأخر تارة أخرى. ولو قال: إلى وقت العطاء وكان معلوماً؛ جاز؛ لانتفاء العلة. قال: وبيع حبل الحبلة في قول الشافعي، أي: في تأويل الشافعي؛ لقول ابن عمر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة"، كما رواه مالك عن نافع عنه.

قال: وهو أن يبيع بثمن إلى أن تحمل هذه الناقة وتلد ويحمل ولدها، قيل: صوابه: إلى أن تلد [ويلد] ولدهما أن الكل فاسد، لكن هكذا روي، وما قاله الشيخ، هو ما رواه مسلم عن ابن عمر فلا مؤاخذة واختار الشافعي هذا التأويل؛ لأنه تأويل ابن عمر، وهو راوي الحديث، وكان أفهم بمقصوده عليه الصلاة والسلام. تنبيه: "حبل الحبلة" الباء مفتوحة فيهما، وحكى إسكانها في الأولى وغلط راويه، والحبلة هنا جمع حابل؛ كظالم وظلمة. قال الأخفش: امرأة حابل ونساء حبلة، وقيل: إنها فيها للمبالغة. والحبل مختص بالآدميات، ويقال لغيرهن: حمل. قال أبو عبيد: لا يقال لشيء من الحيوان: حبل إلا ما جاء في هذا الحديث. قال: ولا يجوز تعليق البيع على شرط كبيع المنابذة، وهو أن يقول: إذا نبذت إليك الثوب أي: ألقيته إليك، كما قيل في قوله تعالى: - فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} [الأنفال: 58]، وقوله - فَنَبَذُوهُ} [آل عمران: 187]. قال: فقد وجب البيع، وكبيع الملامسة، وهو أن يقول: إذا لمسته فقد وجب البيع. الأصل في ذلك ما روى الشافعي بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن [بيع] الملامسة والمنابذة. وعن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين ولبستين ... ". أما البيعتان: فالملامسة والمنابذة، وأما اللبستان: فاشتمال الصماء، والاحتباء في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء. والمعنى في ذلك ما فيه من الغرر.

وصورة المنابذة على ما حكاه الشافعي في "المختصر" أن يقول: أنبذ ثوبي [إليك] وتنبذ ثوبك إليَّ، على أن كل واحد بالآخر. أو يقول: أنبذ إليك ثوبي بعشرة؛ فيكون النبذ بيعاً، فعلى هذا يكون معنى قول الشيخ: فقد وجب البيع أي انعقد. ووجه بطلانه اختلال الصيغة. قال الأئمة: ويجيء فيه الخلاف المذكور في المعاطاة، فإن المنابذة مع قرينة البيع هي المعاطاة بعينها. وقيل: صورتها: أن يأتي أحدهما بثوب مطوي أو في ظلمة، ويقول: بعتك هذا بكذا، بشرط أني إذا نبذته إليك قام ذلك مقام نظرك، ولا خيار لك إذا رأيته، والعلة في بطلانه: إذا منع بيع الغائب [فبطلانه ظاهر]، وإن جوز فاشتراط قيام النبذ مقام النظر. قال الإمام: ويتطرق إلى هذا احتمال من جهة، أن من اشترى شيئاً على شرط نفي [خيار] الرؤية ففي صحة الشرط خلاف، ولا يمتنع أن يكون هذا على ذلك الاختلاف، وبهذا الاحتمال أجاب أبو سعيد المتولي. ومثل هذين القولين مذكور في الملامسة لكن المنقول فيها على ما حكاه الرافعي عن "المختصر" الاثني، وفيها تكلم الإمام والمتولي بما ذكرناه. ويحتاج كلام الشيخ – إن حمل على التأويل الثاني – إلى إضمار في الابتداء، وتقديره: ولا يجوز تعليق لوزم البيع على شرط، لكن يعكر عليه المثال الثالث، فإنه يصير غير ملائم لهما، فتعين أن الشيخ اختار التأويل الأول. قال: وكبيع حبل الحبلة في قول أبي عبيدة أي: القاسم بن سلام – في تأويله حديث ابن عمر، وهو أن يقول: إذا ولدت هذه الناقة وولد ولدها؛ فقد بعتك الولد، ووجه فساده أنه بيع ما ليس بمملوك ولا معلوم ولا مقصور على تسليمه. تنبيه: اقتصر الشيخ من الأمثلة في تعليق البيع على الشرط بما ذكره، لأن فيه دلالة على ما عداه؛ من جهة أنه إذا امتنع انعقاد البيع [صيغة التعليق مع وجود ما يدل على

الرضا وهو النبذ منها أو اللمس، فمع عدم ما يدل على الرضا عند انعقاد العقد]؛ كالتعليق على قدوم زيد أو طلوع الشمس – أولى. قال: فإن جمع في البيع بين حر وعبد أو بين عبده وعبد غيره أي: ولم يفصل الثمن عليهما؛ ففيه قولان: هذه المسألة هي قاعدة تفريق الصفقة، وعليها تتفرع مسائل كثيرة في الأبواب، وقد ذكرنا في أول كتاب البيع لم يسم العقد صفقة؟ [فأحد القولين أن العقد باطل] العقد فيهما، وله تعليلان نقلهما انب كج عن الشافعي فيما إذا باع عبده وعبد غيره عزاهما إلى الأصحاب. أحدهما: أن الثمن المسمى يتوزع عليهام باعتبار القيمة، ولا يدري حصة كلٍّ منهما عند العقد، فيكون الثمن مجهولاً ويصير كما لو قال: بعتك عبدي هذا بما يخصه من الألف لو وزع عليه وعلى عبد فلان. والثاني: أن اللفظة واحدة لا يتأتى تبعيضها، فإما أن يغلب حكم الحرام الحلال أو بالعكس، والأول أولى؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: "ما اجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام الحلال". ولأن تصحيح العقد في الحرام ممتنع، وإبطاله في الحلال غير ممتنع، فكان كما لو باع درهماً بدرهمين. وعلى العلتين لا يجيء هاذ القول فيما إذا ميز ثمن الحلال منهما. قال الماوردي: لأن تمييز الثمن يجعلهما كالعقدين. وفي "التتمة": أنا إذا عللنا بالجمع بين الحلال والحرام فسد أيضاً. وفي "التهذيب": أن المشتري إن قبل مفصلاً مثل أن قال: قبلت هذا بكذا، وهذا بكذا كما فصل البائع – صح، وإن قال: قبلتهما والتفريع على هذا القول؛ فقد قبل، لا يجوز الجمع في القبول، والمذهب جوازه؛ لأن القبول مرتب على الإيجاب والإيجاب يقع متفرقاً فيقع القبول كذلك. قال: والثاني: يصح في الذي يملك؛ لأنه لو كان الجمع بينهما يوجب حمل

أحدهما على الآخر: لم يكن حمل الصحة على البطلان بأولى من العكس؛ فوجب أن يسقط اعتبار أحدهما بالآخر لتكافؤ الأمرين، ويحمل كل منهما على مقتضاه في الحالين، ولأن كل واحد منهما لو أفرد العقد عليه لخالف حكمه حكم صاحبه؛ فوجب إذا جمع بينهما أن يختلفا أيضاً، كالمشتري صفقة عبد، أو شقصاً فيه الشفعة، وهذا القول هو الصحيح عند القاضي أبو الطيب، قال: وبه أفتى، وصححه غيره أيضاً، واختاره الغزالي في موضعين من "الوسيط" في الإقالة وفي باب المصراة. وأجاب القاضي عن جهالة الثمن، بإنا على قول نخيره بين أن يختار بكل الثمن، أوي فسخ؛ فلا جهالة إذن. أو على القول الآخر نقول: العقد وقع على ثمن معلوم في الابتداء وإنما سقط بعضه لمعنى في العقد فصار كما إذا رجع بأرش العيب فإن الثمن ما بقي وليس بمعلوم في العقد، ومع هذا فالبيع صحيح بما بقي. قلت: ويؤيد ذلك ما سنذكره في المرابحة عند حط الزيادة. وعن الثاني: بأن الذي بطل العقد فيه غير متميز عما صح العقد فيه بأن كُلاًّ منهما لو أفرد لصح العقد به، فليس أحدهما بالبطلان بأولى من الآخر؛ فأبطل العقد فيهما، وهاهنا الحرام ممتاز عن الحلال، فاختص الفساد به. وحكى الإمام طريقة في المسألة الأولى جازمة بعدم الصحة، وهي التي صححها الشيخ أبو محمد في السلسلة. ويجري الخلاف فيما إذا باع خمراً وخَلاًّ وخنزيراً وشاة وميتة ومزكاة، وكذا إذا باع معلوماً ومجهولاً إن قلنا يجيز بكل الثمن، وإن قلنا يجيز بقسطه من الثمن؛ فلا يجوز وجهاً واحداً. وحكى الرافعي على هذا وجهاً: انه يصح ويثبت له الخيار، فإن أجاز لزمه جميع الثمن.

وحكى الإمام الخلاف في مسألة الخمر والخنزير والميتة مرتباً على الخلاف في مسألة الحر وأولى بالبطلان؛ لأن فيه تقدير عين لم يرد العقد عليها. ويظهر لاختلاف علتي الفساد فوائد بعضها مذكور في الباب، وبعضها غير مذكور. فمنه: إذا باع ملكه وملك غيره، وكان مما يتقسط الثمن عليهما بالأجزاء؛ كالعبد الواحد، والصبرة من الطعام، فعلى الأولى: يصح العقد في المملوك، وعلى الثانية، لا. وهذا الطريق هو الصحيح، ويؤيده نص الشافعي في جريان القولين يما إذا باع الثمار قبل إخراج الزكاة، والثمار مما يتقسط الثمن عليها بالأجزاء، ومن الأصحاب من قطع بالقول الأول. ومنه إذا زوج أمته وأمة غيره أو مسلمة ومجوسية، فعلى الأولى يصح فيما يحل، وهو الذي رجحه الإمام، وسنذكره في كتاب النكاح مع ما يتفرع عليه من المسائل فليطلبْ ثَمَّ، وعلى الثانية يبطل. ومحل القولين في الأصل عند الشيخ أبي محمد ما إذا كانا جاهلين بحقيقة الحال. أما إذا علما فإنه يبطل وجهاً واحداً، والجمهور على خلافه. قال: وللمشتري الخيار، أي: إذا كان جاهلاً بالحال لتبعيض الصفقة عليه، قال: إن شاء فسخ العقد، وإن شاء أمضاه فيما يصح بقسطه من الثمن في أحد القولين؛ لأنهما جعلا الثمن في مقابلة الحلال والحرام؛ فلم يجز أن يجعل في مقابلة الحلال وحده؛ لأنه غير ما تضمنه بذل البائع وقبول المشتري، وهذا هوا لصحيح، وعليه يقوَّم الحر عبداً، وهل يثبت للبائع الخيار إذا أجيز العقد؟ فيه وجهان أصحهما: عند المحاملي والإمام وغيرهما: أنه لا يثبت لكن مع علمه بالحال. قال: وبجميع الثمن في القول الآخر؛ لأن العقد إنما يتوجه نحو ما يجوز بيعه، فكان الآخر كالمعدوم، ولأن المبيع قد ذهب بعضه، فأثبت للمشتري [الخيار] بني أخذه بجملة الثمن أو فسخ العقد كما في العيب، فعلى هذا لا خيار للبائع. وقيل في مسألة الحر: الخلاف مرتب على الخلاف في مسألة العبدين، وأولى بأن

يجيز بكل الثمن، حكاه القاضي الحسين. أما إذا كان عالماً بالحال، قال الرافعي: فلا خيار له وفيما يلزمه من الثمن القولان. ومنهم من قطع بأنه يلزمه جميع الثمن؛ لأنه التزمه عالماً بأن بعض المذكور لا يقبل العقد. قلت: والجزم بأنه لا خيار له فيه نظر؛ فإن الإمام حكى فيما إذا اشترى عشرين درهماً بدينار، وأقبض الدينار، وقبض [من] الدراهم تسعة عشر، وتفرقا – انفسخ العقد في الدرهم وما يقابله، وفي الباقي: قولاً تفريق الصفقة. فإن قلنا: لاينفسخ، فهل يثبت للمشتري الخيار؟ فيه ثلاثة أوجه: وجه الثبوت ظاهر، ووجه عدمه: أنه الذي ينتفي في هذا التبعيض؛ إذ المسألة مفروضة إذا تفرقا على خيار. والثالث: إن علما أن العقد ينفسخ في الباقي وتفرقا عن قصد فلا خيار، وإلا ثبت، ويتجه أني جيء مثل ذلك هاهنا. ولو كان المبيع خمراً وخلاًّ، أو خنزيراً وشاة، أو ميتة ومذكاة، وصححنا العقد، فكم يلزم المشتري من الثمن عند لزوم العقد؟ فيه طريقان: أحدهما: القطع بتمام الثمن، وهو ما حكاه الماوردي، ويحكي عن صاحب التلخيص. وأصحهما: طرد القولين، تقوم عند من يرى لها قيمة، وهو الأصح عند الغزالي وقيل: تقدر الخمر خلاًّ، وهو المحكي أيضاً فيما إذا أسلم الزوجان وقد جرى القبض في بعض المهر الفاسد مع الوجه الآتي. وقيل: تقدر عصيراً، وهو المحكي في الصداق في "الوسيط" وغيره. والخنزير يقدر شاة، وقيل: بقرة، وهو ما حكاه في "التهذيب" هاهنا، والذي أورده الإمام في نكاح المشركات، والميتة تقدر مذكاة وتقوَّم. فرع: لو كان يملك من عبد نصفه، فقال لرجل: بعتك نصف هذا العبد، فهل ينزل على نصفه الذي يملكه أو ينزل على النصف منه شائعاً؟ فيه وجهان محكيان في "الوسيط" في العتق في السراية.

فإن حملناه على الإشاعة من جميعه بطل العقد في ربعه، وفي الربع الباقي قولاً تفريق الصفقة. وأجرى الغزالي الخلاف في الأصل فيما لو أقر بنصفه، ثم قال: وقال أبو حنيفة: ينزل البيع على نصفه الخاص، والإقرار يشيع؛ لأن الإنسان قد يخبر عما في يد الغير ولا يبيع مال الغير، وهذا يتجه فليجعل وجهاً في مذهبنا. وهذا الذي ذكره يخرج من كلام الإمام في كتاب الشركة؛ فإنه حكى الخلاف في مسألة البيع ثم قال: ولو أقر بأن لفلان في هذا العبد نصفه، فإن لم ننزل مطلق البيع على نصفه، فالإقرار أولى، وإن نزلناه في البيع على نصفه، ففي الإقرار يخرج على وجهين: أصحهما: أنه يشيع؛ خلاف البيع وفرق بما أشار إليه الغزالي. قال: فإن جمع بينهما فيما لا عوض فيه كالرهن والهبة، أي: مثل أن يرهن عبده وعبد غيره، أو يهب عبده وعبد غيره، فقد قيل: يصح فيما يحل قولاً واحداً؛ نظراً إلى العلة الأولى. قال الإمام: وهذا فيه فضل نظر؛ فإن الدَّين وإن لم يكن عوضاً عن الرهن، فرهن الدين بالشيء المجهول لا يصح على الأصح – كما سيأتي- وما قاله يحتاج إلى تأمل. [قال:] وقيل على قولين؛ نظراً إلى العلة الثانية. قال: وإن جمع بين حلالين، [ثم تلف] أحدهما قبل القبض- أي: والآخر في يد البائع – لم يبطل في الآخر؛ لانتفاء العلتين حالة العقد. وقيل: على قولين، وهو قول أبي إسحاق المروزي؛ لأن الفساد الطارئ قبل

القبض حكمه حكم الفساد المقارن للعقد، كما في العيب والهلاك. والمذهب في "الحاوي" في باب الربا، وفي "التهذيب"، والذي عليه أكثر الأصحاب- الأول؛ قياساً على النكاح، فإنه لو جمع بين أجنبية ومَحْرَمٍ في العقد، كان في صحة نكاح الأجنبية القولان، ولو تزوج أجنبيتين ثم انفسخ نكاح إحداهما بردة أو غيرها لم ينفسخ نكاح الأخرى فعلى هذا يثبت له الخيار. فإن أجاز فكم يلزمه من الثمن؟ قال الشيخ أبو حامد: يأخذه بالحصة قولاً واحداً. وحكى أبو الطيب في تعليقه فيه القولين السابقين، وأنا إن قلنا: يجيز بكل الثمن فلا خيار للبائع، وإلا فوجهان. قال الإمام: ولا اتجاه للقول بأنه يجيز بكل الثمن، ولولا اشتهاره في النقل لما ذكرناه، ثم [قال:] قال الأئمة: القولان هاهنا مرتبان على القولين في المسألة السابقة، فإن قلنا ثم: يجيز بالقسط، فهاهنا أولى، وإلا فقولان. أما إذا كان الآخر في يد المشتري وهو قائم، فقد حكى الإمام القولين مرتبين على الصورة الأولى، وأولى بعدم الانفساخ؛ لتأكد العقد في العبد المقبوض بانتقال الضمان فيه إلى المشتري. ولو تلف في يد المشتري قبل الآخر في يد البائع، فقولان مرتبان على القولين في الصورة قبلها، وأولى بعدم الانفساخ، وهذه الصورة تناظر ما سيأتي، فيما إذا تلفت العين المستأجرة في أثناء المدة، هل ينفسخ في المدة التي استوفى المنفعة فيها؟ فإن قلنا: بتفريق الصفقة، فهل يثبت له الخيار في فسخ العقد في العبد الذي تلف في يده، وكذلك في نظيره من مدة الإجارة؟ فيه قولان في "تعليق" القاضي الحسين. وأصحهما: أنه لا يثبت، بخلاف ما لو كان العبد المقبوض باقياً، إما في يده أو في يد البائع؛ لأن ملك العب بالتلف قد استقر قراره، وكذلك المنفعة المستوفاة، كذا قال. فرع: إذا باع في مرض موته عبداً يساوي ثلاثين بعشرة، ولا مال له غيره، فرد البيع في بعض المبيع، فما حكم الباقي؟ فيه طريقان: أحدهما: القطع بصحة البيع؛ لأنه نفذ في الكل ظاهراً، والرد في البعض تدارك حادث، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب".

ووجهه: بأن المحاباة في المرض وصية، والوصية تقبل من الغرر مالا يقبله غيرها. وأظهرهما عند الأكثرين: أنه على قولي تفريق الصفقة. فإن قلنا بصحة العقد في الباقي، ففي كيفيته قولان أو وجهان: أحدهما: أن البيع يصح في القدر الذي يحتمله الثلث، والقدر الذي يوازي الثمن بجميع الثمن، ويبطل في الباقي فيصح في مثالنا البيع في ثلثي العبد بالعشرة ويبقى مع الوارث ثلث العبد وقيمته عشرة، والثمن وهو عشرة وذلك مثلاً المحاباة وهي عشرة: وإلى ترجيح هذا مال ابن الحداد والأكثرون. وقيل: إنه المنصوص عليه. والثاني: أنه إذا ارتد البيع في بعض المبيع، وجب أن يرتد إلى المشتري ما يقابله من الثمن. فعلى هذا تدور المسألة؛ لأن ما ينفذ فيه البيع يخرج من التركة، وما يقابله من الثمن يدخل فيها، ومعلوم أن ما ينفذ فيه البيع يزيد بزيادة التركة، وينقص بنقصها، فيزيد المبيع بحسب زيادة [التركة، وتزيد التركة بحسب زيادة المقابل الداخل، [ويزيد المقابل الداخل] بحسب زيادة] المبيع وهذا دور، ويتوصل إلى معرفة المقصود منه بطرق نذكر أسهلها وهو أن ينظر إلى ثلث المال وينسبه إلى قدر المحاباة، ويجيز البيع في المبيع بمثل نسبة الثلث من المحاباة. فنقول في هذه المسألة: ثلث المال عشرة، والمحاباة عشرون، والعشرة نصف العشرين، يصح البيع في نصف العبد وقيمته خمسة عشر بنصف الثمن وهو خمسة، كأنه اشترى سدسه بخمسة، وثلثه وصية له ويبقى مع الورثة نصف العبد وقيمته خمسة عشر، والثمن خمسة فالمبلغ عشرون وذلك مثلاً المحاباة، وقد ذهب إلى ترجيح هذا القول أكثر الحُسَّابِ، وابن القاص، وابن اللبان، وتابعهم إمام الحرمين، وادعى أنه اختيار ابن سريج. قال الرافعي: لكن في هذه الدعوى نظر؛ فإن الأستاذ أبا منصور وغيره نسبوا الأول إلى اختيار ابن سريج. ولو باع المريض قفيز حنطة بقفيز حنطة، وكان [قفيز المريض] يساوي عشرين،

وقفيز الصحيح يساوي عشرة ومات المريض ولا مال له غيره، ورد الورثة المحاباة، وقلنا بجواز تفريق الصفقة، فإن قلنا بالقول الأول فالبيع باطل فيهما بلا خلاف؛ لأن مقتضاه صحة البيع في قدر الثلث، وهو ستة وثلثان، وفي قدر الذي يقابله من قفيز الصحيح وهو نصفه؛ فيكون خمسة أسداس قفيز في مقابلة قفيز، وذلك ربا. وإن قلنا بالثاني صح البيع في ثلثي قفيز المريض بثلثي قفيز الصحيح وبطل في الباقي، وبهذا قطع قاطعون كي لا يبطل غرض الميت من الوصية؛ وهو الأصح في "التهذيب". وعلى كل حال، فللمشتري الخيار في فسخ البيع، ولا خيار للورثة في إبطال البيع، وما حكى عن صاحب التلخيص من حكاية قول آخر: [أن] للورثة الخيار في فسخ البيع، وقول: أنه لا خيار للمشتري، فقد نوقش فيه. والله أعلم. قال: فإن جمع بين عقدين مختلفي الحكم كالبيع والإجارة، أي: مثل أن قال: بعتك هذا العبد وأجرتك هذه الدار سنة بكذا، واختلاف الحكم فيها: أن التأقيت في الإجارة شرط وهو مبطل في البيع، ويجوز التصرف فيها مع تعرضها للانفساخ بعد قبض العين، والبيع بخلافها. قال: والبيع والصرف، أي: بأن يقول: بعتك هذا العبد وهذا الدينار بهذه الدراهم. فالصرف: بيع الدينار بما يقابله من الدراهم، والبيع: بيع العبد بما يقابله من الدراهم، واختلاف حكمهما: أن الصرف يبطل بالتفرق قبل التقابض، بخلاف البيع، ولو باع بذهب في هذه الصورة كانت من صور مد عجوة. قال: والبيع والنكاح، [أي: مثل أن يقول: زوجتك ابنتي وبعتك عبدها هذا [بمائة] وله تزويجها وبيع عبدها، أو: زوجتك جاريتي – إن كان ممن يحل له نكاح الأمة – وبعتك عبدي هذا بكذا. وفي الجيل: تصويرها بما إذا قال: تزوجت ابنتك واشتريت منك عبدك بألف درهم.

وكذلك صورها البندنيجي أيضاً، وفيه نظر لأن هذا من باب ما إذا باع عبده وعبد غيره بثمن واحد، واختلاف الحكم فيما ذكرناه أن النكاح لا يفسد بفساد مقابله، بخلاف البيع. قال: والبيع والكتابة، أي: مثل أني قول: كاتبتك وبعتك هذه الدار بألف، تؤديها في نجمين، واختلاف الحكم فيهما: أن المكاتب بسبيل من فسخ الكتابة متى شاء بخلاف البيع. قال: ففيه قولان: أحدهما: يبطل العقد يهما؛ لأن حصة كل واحد من العقدين من الثمن مجهولة حالة العقد، لا تعرف إلا بالتقسيط بعده؛ ولأن اختلاف الأحكام يغلب على الظن وقوع الانفساخ في أحدهما، وذلك يجر جهلاً إلى العوض فأبطل العقد. قال: والثاني: يصح ويقسط الثمن عليهما على قدر قيمتهما، [أي]: إن قُدِّر التلف، وفي النكاح على مهر المثل؛ لأنها ما اشتملت على ما يمتنع إفراده بالعقد، والصفقة متحدة في نفسها فلا حاجة إلى تقدير توزيع في الابتداء حتى يفضي إلى جهالة، فأِبه ما إذا اشترى شقصاً مشفوعاً وسيفاً؛ فإن ما فيهما من اختلاف الحكم لا يمنع صحة العقد، وهذا هو الأصح. وفرق الإمام بينهما بأن مقصود العقد في الشقص والسيف لا يختلف فيما يتعلق بالفسخ والتنفيذ، وصورة القولين تتلقى من اختلاف يتعلق بالفسخ والإجازة بسبب أنه قدر إذا سبق الفسخ إلى شيء اعتاض ما يبقى في مقابلة الباقي. ورجع هذا إشكال إلى وضع العقد، والشفيع إذا أخذ الشقص فهو مقرر للعقد، وإن كان [ينشأ بينه] وبين المشتري توزيع فهذا لا ينعطف إلى العقد فسخاً في البعض. نعم، لو اشترى شقصاً مشفوعاً وسيفاً، ثم المشتري باعهما فهو يلتحق بصورة القولين. وحكى عن القاضي الحسين في التعليق، والصورة هذه إبداء وجهين في ثبوت

الخيار للمشتري إذا لم يعلم الشفيع بالبيع الأول وكان المشتري جاهلاً بالحال. وأظهرهما: أنه لا يثبت. والثاني: أنه يثبت له لتبعيض الصفقة عليه ولانتزاع الشقص منه. ويجري القولان يما لو جمع بين بيع وسلم، ويما لو باع صاع حنطة ودرهماً بصاع شعير ودنانير، ووجه الاختلاف فيهما: أن الطعام يقع مقابلاً بما في الجانب الآخر من شعير وذهب، وبيع الطعام بالنقد لا يشترط فيه التقابض وبالشعير يشترط. واعلم أن قول الفساد فيما إذا جمع بين البيع والنكاح مقصور على البيع والصداق، أما النكاح فصحيح، قال الرافعي: بلا خلاف وكذلك غيره بناء على أن النكاح لا يفسد بفساد الصداق. وحكى الغزالي الخلاف في فساد النكاح في كتاب الصداق، ونسبه الإمام إلى بعض المصنفين ثم قال: والوجه القطع بصحة النكاح. وإنما أخذ هذا من تردد الأصحاب: فيما إذا جمع نكاح مستحلة ومحرمة في عقد، فإنه نقل قول في فساد المستحلة مشهور على ضعفه، وقول الصحة في الكتابة والبيع لا يرجع إلى البيع فإنه باطل قولاً واحداً على ما حكاه الرافعي وغيره، لصدور أحد شقيه قبل تمام عقد الكتابة، وإنما يرجع إلى الكتابة، لكن قد اقترن بها عقد فاسد فتخرج صحتها أيضاً على هذا القول على تفريق الصفقة فإن جوزت صحت وإلا فلا. وحكى البندنيجي في صحة البيع مع الكتابة طريقين صرح بهما الغزالي في كتاب الرهن والجمهور في كتاب الكتابة]. أحدهما: ما ذكرناه. والثاني: طرد القولين في الجميع.

وفي المجموع للمحاملي أن القول بصحة البيع محكيٍّ عن الشافعي. وفي "تعليق" القاضي الحسين تشبيه الطريقين بالطريقين المذكورين فيما إذا قال: اشتريت منك هذا الزرع على أن عليك حصاده بدرهم، فإن منهم من جزم ببطلان الإجارة لما ذكرناه من العلة. ومنهم من طرد القولين في صحتها، وهوا لذي اختاره ابن الصباغ، وحكى الرافعي في مسألة الزرع طريقة قاطعة بفساد العقدين وصححها. وهذه الطريقة قال القاضي الحسين: لا تجيء فيما إذا قال: اشتريت منك هذا الزرع، واستأجرتك على حصاده بدرهم بل في ذلك الطريقان الأولان؛ لأن في الإتيان بلفظ الشرط تغيير لمقتضى العقد، وهو وجوب الحصاد على المشتري. فرع: لو اشترى حطباً على ظهر بهيمة مطلقاً، فيصح العقد، ويسلم إليه في موضعه، أو لا يصح حتى يشترط تسليمه إليه في موضع؛ لأن العادة تقتضي حمله إلى داره؟ حكى المتولي في ذلك وجهين. أما إذا شرط حمله إلى بيته، فإن كان مجهولاً بطل، وإن كان معلوماً خرج على ما ذكرناه في مسألة الزرع، صرح به القاضي الحسين. ولو اشترى رطبة بشرط القطع على أن يرسل فيها دابته بطل العقد، قاله العبادي في فتاويه. فائدة: الصفقة تتعدد بتفصيل الثمن قطعاً، كما [إذا] قال: بعتك هذا بكذا، وأجرتك هذا بكذا، وقبل المشتري كذلك، وليست هذه الصورة مما يجري فيها القولان، وكذلك لو جمع المشتري في القبول، فقال: قبلت فيهما على المذهب؛ لأن القبول يترتب على الإيجاب. وقيل: إذا لم يجز تفريق الصفقة لم يجز الجمع في القبول. وتتعدد أيضاً بتعدد البائع وإن اتحد المشتري، كما إذا باع اثنان عبداً من واحد

صفقة واحدة، ومقتضى هذا أنهما إذا أوجبا العقد له على عبد بألف بأن قالا: بعناك هذا العبد بألف، كما صور القاضي الحسين، فَقبِلَ نصيب أحدهما وهو النصف بخمسمائة – أنه يصح، وهو ما حكاه الإمام في "باب الخراج بالضمان"، وادعى أنه لاخلاف فيه، وقد حكى القاضي الحسين في التعليق فيه وجهين. وهل تتعدد بتعدد المشتري، مثل أن يشتري اثنان عبداً من واحد؟ فيه قولان: أصحهما: نعم، كما في طرف البائع، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب والبندنيجي في باب الخراج بالضمان. والثاني: لا، فعلى الأول: لو باع اثنان من اثنين عبداً؛ فقبل أحدهما نصيب أحد البائعين بنسبته من الثمن ففي صحته وجهان، صرح بهما القاضي الحسين وغيره. وقال الإمام في "باب الخراج بالضمان": وأظهرهما في النقل أن ذلك ممتنع، وأظهرهما في القياس التصحيح. وهل تتعدد بتعدد الوكيل؟ فيه أربعة أوجه: أحدها: النظر إلى العاقد، وبهذا أجاب ابن الحداد، وهو الأصح عند الشيخ أبي علي والأكثرين. والثاني- وبه قال أبو زيد والخضري -: أن الاعتبار بالمعقود عليه، وهذا أصح عند الغزالي. والثالث – ويحكي عن أبي إسحاق -: أن الاعتبار في طرف البيع بالمعقود له، وفي طرف الشراء بالعاقد، والفرق: أن العقد يتم في جانب الشراء بالمباشر دون المعقود له؛ ألا ترى أن المعقود له لو أنكر كون المباشر مأذوناً له وقع العقد عن المباشر، وفي جانب البيع لايتم بالمباشر حتى لو أنكر المعقود له الإذن بطل. قال الإمام: وهذا الفرق فيما إذا كان التوكيل بالشراء في الذمة، أما إذا وكله بشراء عبد بثوب له معين فهو كالوكيل بالبيع. والرابع – ذكره المتولي -: أن الاعتبار في جانب الشراء بالوكيل، وبالبيع بهما جميعاً فأيهما تعدد؛ تعدد العقد. وثمرة هذا الخلاف تظهر في الأبواب – إن شاء الله تعالى -.

قال: وإن جمع بيعتين في بيعة واحدة بأن قال في أحد التأولين – أي: اللذين ذكرهما الشافعي فيما رواه بسنده عن أبي هريرة – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة – بأن قال: بعتك هذا العبد بعشرة على أن تبيعني دارك بمائة. بطل البيع للخبر؛ ولأنه سلف في عقد فلا يصح الشرط، وإذا سقط الشرط وجب أن يضاف إلى السلعة من الثمن ما سقط بإزاء الشرط وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولاً. فعلى هذا لو وقع البيع الثاني بالثمن الذي عيناه نظر: إن علما فساد الأول صح الثاني، وإن جهلا صحته، قد حكى الإمام هاهنا والقاضي الحسين في التعليق أن البيع صحيح. قال القاضي: إلا أن يعلق انعقاد أحدهما بانعقاد الآخر، وجعل الإيجاب في أحدهما إيجاباً في الآخر، كما يفعل في نكاح الشغار فيقول: بعتك هذا العبد على أن تبيعني دارك؛ فإن وجب لك عبدي وجب لي دارك، يمتنع العقدان. وهذه الزيادة حكاها أبو داود عن الشافعي من تتمة هذا التأويل، والذي حكاه الإمام هاهنا قد عزاه إلى شيخه في باب ما يفسد الرهن، وإن كان المشتري يعتقد أن الوفاء به واجب، ثم قال: وقياس ما قاله القاضي أن البيع على اعتقاد الوجوب فاسد مردود، وهذا ما جزم [به] المتولي والبغوي. وقد تعرض الغزالي لهذا الخلاف في الرهن. وقول الفساد يدانيه ما حكاه الإمام متصلاً بباب نفقة الأقارب فيما إذا وهب المشتري الدلال شيئاً على اعتقاد انه يستحقه عليه، فإن له الرجوع كما حكاه الصيدلاني عن القفال إذ الأجرة على الذي أمره.

قال: أو قال في التأويل الآخر: بعتك عشرة نقداً أو بعشرين نسيئة، بطل البيع للخبر، ولأنا الثمن مجهول؛ أنه لا يدري أنه عشرة نقداً أو عشرون نسيئة، ولأنه لم يجزم الإيجاب بل تردد، والتردد في الإيجاب مانع من صحته، وهذه المسألة قريبة الشبه بما إذا قال: بعتك عبداً من هذه الثلاثة أعبد ولك خيار التعيين، وقد ادعى الإمام فساد البيع فيها بالإجماع. وفي "الحاوي" أن الإمام مالكاً قال بصحة البيع، وقد حكينا عن أبي حنيفة مثله في مسألة بيع الصبرة، وأنه قول قديم للشافعي. قال: وإن فرق بين الجارية وولدها – [أي: المملوكة له بالبيع]، قبل سبع سنين، بطل البيع، والأصل فيه ما روى أبو داود عن علي – كرم الله وجهه – أنه فرق بين جارية وولدها، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وردَّ البيع. وروى الترمذي عن [أبي أيوب قال: سمعت] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة"، وقال: إنه حديث حسن غريب. وبالتسليم يحصل التفريق المحرم؛ فيكون ممنوعاً شرعاً، والممنوع شرعاً كالممنوع حِساً، وقوله – عليه السلام -: "لا تولَّه والدة بولدها"، وذلك يحصل

بالبيع؛ فكان منهيًّا عنه. قال الجوهري: الوله: ذهاب العقل والتحير؛ من شدة الوجد. وهذا هو الجديد، [وبه قال البغداديون والإصطخري]، ولا فرق فيه بين أن ترضى الأم بالتفرقة أم لا، كما صرح به الماوردي في السير. وفي الرافعي فيه أيضاً حكاية وجه عن ابن القطان، والقاضي الطبري: أنه يرتفع التحريم بالرضا [به فيصح]. وروى الإمام والقاضي الحسين في كتاب الرهن عن القديم قولاً أن البيع يصح، وأن النهي محمول على التنزيه، ونسب الماوردي هذا في كتاب السير إلى البصريين، وقال: إنهما لا يقران على التفرقة فإن تراضى المتبايعان على ضم أحدهما إلى الآخر تم البيع الأول، وإن تمانعا فسخ البيع الأول. وعن كتاب ابن كج أنه يقال للبائع: إما أن تتطوع بتسليم الآخر، أو يفسخ البيع، فإن تطوع بالتسليم، وامتنع المشتري من القبول فسخ. ومحل القولين على ما حكاه أبو الفرج البزاز فيما إذا كان التفريق بعد سقي الولد اللبأ، فأما قبله فلا يصح جزماً؛ لأنه تَسَبُّب إلى هلاك الولد. وزاد الماوردي على سقي اللبأ أن يجد مرضعة ترضعه تمام الرضاع على ما حكاه في كتاب الرهن في أثناء فصل منه. والوالد في معنى الوالدة [على المذهب في "التتمة"، و"الشامل"، وغيرهما في كتاب "السير"؛ خلافاً لابن سريج.

وقال الغزالي هاهنا: الظاهر أن الوالد في معنى الوالدة]، ولا يتعدى إلى غيرهما من الأقارب، وفي الجدة احتمال. وقال في كتاب السير: الجدة عند عدم الأم في معناها، أي: إذا كان لها حق في الحضانة، كما قاله الماوردي، ولو بيع مع الجدة عند وجود الأم، فهل يسقط التحريم؟ فيه قولان، ولا خلاف أنه يباع مع الأم دون الجدة. والأب هل يلحق بالأم في تحريم التفريق؟ فيه قولان: فإن ألحقناه بها فهل يتعدى إلى سائر المحارم؟ فيه قولان. وقد يستدل لقول المنع في الأب بما روى أبو داود عن أبي موسى أنه – عليه السلام –قال: "ملعون من فرق بني الوالد وولده، وبين الأخ وأخيه". وفي "الحاوي"، فيما إذا كان مجتمعاً مع أجداده وجداته من قبل أبيه ثلاثة أوجه أحدها: يجوز التفريق. والثاني: لا يجوز، وسواء في هذا الأنثى والذكر. إذا قيل بتحريم التفرقة بينه وبين [الأب. والثالث: يجوز التفرقة بينه وبين] الجد، ولا يجوز بينه وبين الجدة. قال: ويما بعد ذلك إلى البلوغ قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لما روى الدارقطني عن عبادة بن الصامت قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين الأم وولدها، فقيل: يا رسول الله، إلى متى؟ قال: "حتى يبلغ الغلام، وتحيض الجارية". وهذا ما جزم به القاضي الحسين في الرهن.

وأظهرهما – وهو الذي نقله المزني، وجزم به الماوردي في كتاب الصداق وابن الصباغ في الرهن، وجعله الإمام في السير المذهب – الجواز؛ لأنه – حينئذ – يستغني عن التعهد والحضانة، فأشبه البالغ، فإنه يجوز أن يفرق بينه وبينها لكن مع كراهة. والحديث في إسناده عبد الله بن عمرو بن حسان، قال عبد الحق: وهو ضعيف الحديث. وحكم الهبة والوصية وكل جهة مملكة حكم البيع فيما ذكرناه، صرح به الإمام في كتاب السير. وفي الرافعي الجزم بالوصية بالجواز، موجهاً ذلك بأن الموت لعله يكون بعد انقضاء زمان التحريم. وفي فتاوى الغزالي [إلحاق] التفرقة بالسفر بالتفرقة بالبيع، وأنه لا يجوز التفرقة بين الزوجة وولدها، بخلاف الحرة المطلقة. وفي "التتمة": أن الوصية بالحمل دون الأم أو بالأم دون الحمل هل تصح أم لا؟ فعلى هذين القولين، [أي] المذكورين في الأصل، وإنما قلنا ذلك؛ لأنه لو أراد أن يفرق بين الأم والولد الطفل بالوصية، لا يجوز في أحد القولين كما لا يجوز في البيع. قلت: وكان يتجه أن يقال: إن قلنا: إن الملك يحصل بالموت فيجوز؛ لأنه قهري كما في الرد بالعيب، وإن قلنا: لا يحصل به، فلا يصح، وذلك مستمد مما سنذكره عن المتولي في الوصية للكافر بالعبد المسلم، ولا يحرم التفريق بالعتق، وفي الرد بالعيب اختلاف للأصحاب. والمذهب الجواز، وفي "تعليق" البندنيجي وأبي الطيب في كتاب السير الجزم بمقابله. وقال: إن ذلك يجعل بمنزلة العيب الحادث عند المشتري. وحُكي عن الشيخ أنه لا اشترى جارية وولدها الصغير ثم تفاسخا البيع في أحدهما جاز، ولو كانت الأم رقيقة والولد حرًّا وبالعكس؛ فلا منع من بيع الرقيق، ذكره المتولي.

وفرق الماوردي بين ما إذا كان الولد رقيقاً أو حُرًّا بفرقين: أحدهما: أنه إذا كان رقيقاً أمكن بيعه معها، ولا كذلك إذا كان حرًّا. والثاني: أنه إذا كان مملوكاً فحضانته للأم فإذا فرق بينهما سقطت الحضانة، وليس كلك إذا كان حرًّا، فليس فيه إبطال لحقها، حكى ذلك في كتاب الرهن. وحكم الولد المجنون حكم الولد الذي له دون سبع سنين، صرح به القاضي الحسين في كتاب السير، وأن امتناع التفريق ينتهي بإفاقته. فرعان: أحدهما: لو باع بعض الولد مع جملة الأم في عقد واحد، لم يصح، أشار إليه ابن الصباغ في كتاب الصداق، وعلله صاحب "الإكمال على ما فيه التنبيه من الإجمال" بأن ذلك يؤدي إلى التفرقة بينها وبين الولد في بعض الزمان. الثاني: التفرقة بين البهيمة وولدها بعد استغنائه عن اللبن جائز، وعن الصيمري حكاية وجه فيه. قال: وإن باع شاة إلا يدها، أو جارية إلا حملها، أو جارية حاملاً بحُرٍّ، بطل البيع؛ لما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا، وقد تقدم ذكر هذا الحديث مع تفسير الثنيا. ومحل الكلام في بيع الشاة دون يدها إذا كانت حية، أما إذا كانت مذكاة فإن كان المقطع معلوماً كالأكارع جاز، صرح به القاضي الحسين في التعليق عند الكلام في بيع الثمار. ولا فرق في الحمل بين أن يكون لمالك الأم، ويستثنيه باللفظ [أو لا]، كما إذا أوصى له به، ويكون استثناءً بالشرع إذا علم المشتري الحال. وحكى الغزالي فيما إذا استثنى الحمل عن البيع – وجهين: أحدهما: الصحة؛ كما لو كان الولد حرًّا فإن بيع الأم صحيح على الظاهر. قال في "التتمة": وهذه الطريقة على قولنا: إن الحمل لا يعلم [أظهر]؛ لأنها معلومة مقدور على تسليمها، والحمل تابع لها، فلا يجوز [أن] يتغير الحكم

فيها بسبب البائع. وحكى القاضي الحسين في التعليق أن مالك الجارية الحامل إذا باعها من مالك الحمل؛ صح على وجه. فرع: لو وكل [مالك الحمل] مالك الأم في بيعه، أو وكَّل مالك الأم مالك الحمل في بيعها، فباعهما دفعة واحدة، لم يصح، قاله المتولي. فائدة: اختلف نقل الإمام والغزالي - رضي الله عنهما - في صحة بيع الأمة الحامل بالحر في مواضع أذكرها لك بالنص. قال الإمام قبيل باب النهي عن بيع وسلف: إن الأصح صحة العقد، وأبعد بعض أصحابنا، فذكر وجهاً في منع بيعها إلى أن تلد، وكذلك إذا كان الحمل بالوصية لزيد وكانت الجارية لعمرو، فإذا باع مالك الجارية الجارية؛ فهو كما لو فرض البيع وهي حامل بولد حر، وهذه مادة ما حكيناه عن الغزالي من قبل، وفيما حكاه في كتاب الرهن فإنه قال: إذا وطئ الراهن الجارية المرهونة، وقلنا: لا ينفذ الاستيلاد، فإن بيعت وفي بطنها الولد الحر صح. وفيه وجه: أنه يبطل، وإن كان ما نقله الإمام في هذا الموضع يخالف ذلك؛ فإنه قال: إذا حل الحق وهي حامل فالذي نقله الأئمة قطع القول بأنه يمتنع بيعها لإمكان اشتمال رحمها على الولد الحر، وقد قدمت في هذا خلافاً في كتاب البيع ونزلته منزلة ما إذا باع جارية حاملاً بولد مملوك، واستثنى حملها، ولكن المذهب المنع، كما ذكره الأصحاب، وإن كان تجويز البيع منقاساً. وقد نحا الغزالي: هذا النحو في كتاب النكاح حيث قال فيما إذا وطئ الأب جارية الابن وأحبلها أما إذا قلنا: لا يحصل الاستيلاد؛ فلا يجوز بيع الجارية وهي حامل بولد حر، وفي كتاب السير حيث قال فيما إذا وطئ جارية من المغنم؛ إذا لم ينفذ الاستيلاد، وعتق الولد، فهذه حامل بحرٍّ، والأصح منع بيعها. والذي حكاه الرافعي عن اختيارهما الأول، فتأمل ذلك. ثم في كلام الإمام في الرهن مناقشة فإنه قال: إنه ألحق بيع الجارية الحامل بالحرّ ببيع الأمة التي استثنى حملها، والأمر كما حكاه في البيع على العكس، والله أعلم.

فرع: لو باع شاة لبوناً واستثنى لبنها؛ ففي صحة البيع وجهان، حكاهما الفريقان، وأصحهما: أنه لا يجوز كما لو استثنى الحمل في بيع الجارية، والبيض في بيع الدجاج، والكُسَبْ في بيع السمسم، والحب في بيع القطن. والفرق على الوجه الثناي أنه يقدر على تسليم المبيع حالة العقد، بخلاف تلك الصور، لكن فيه مانع آخر: وهو اختلاط اللبن بما يتجدد، ولو لم يستثن اللبن دخل في العقد. قال في "التتمة": ومقابله قسط من الثمن. قال القاضي أبو الطيب في تعيقه قولاً واحداً. وفي "الوسيط" في باب بيع المصراة أنه لا يقابله قسط من الثمن على رأي. قال: وإن باع جارية حاملا ًوشرط حملها ففيه قولان، [أي] مبنيان على أن الحمل هل يعرف فيعامل معاملة المعلوم أم لا؟ وفيه خلاف. فإن قلنا بالأول – وهو الأصح -: صح البيع؛ كما لو شرط في العبد أنه كاتب، فإن ظهر أنها غير حامل ثبت له الخيار. وإن قلنا بالثاني: بطل البيع، كما لو شرط معها شيئاً مجهولاً، وهذا ظاهر النص في كتاب الصرف؛ فإنه قال: ولا خير في أن يبيع الرجل الدابة ويشترط عقاقها، وأراد به إذا شرط حملها، والعَقُوق: الحامل، والعَقَاق: الحمل. وقيل: القولان في غير الآدمي من الحيوانات، أما في الآدمي فيصح قولاً واحداً؛ لأن الحمل فيها عيب، فإذا أخلف انتفى عنها العيب؛ فيصير كما لو شرط أنها سارقة فخرجت غير سارقة. وقيل: لا يصح فيما إذا شرط الحمل قولاً واحداً. ولو شرط كون الشاة المبيعة لبوناً؛ صح العقد عند العراقيين وجهاً واحداً. وحكى الإمام في ذلك طريقين: أحدهما: ما صار إليه العراقيون. والثاني: طرد القولين وكذا فيما لو شرط حشو الجبة. ومنهم: من جزم فيها بالصحة، وأجرى القولين فيما عداها.

وهذا فيما إذا لم يصرح ببيع الحمل واللبن والحشو، أما إذا قال: بعتك هذه الجارية وحملها، أو هذه الشاة وما في ضرعها، أو هذه الجبة وما فيها من الحشو؛ ففيه خلاف. وجزم بعضهم بالصحة في الجبة؛ لأن الحشو داخل في مسمى الجبة، فذكره ذكر ما دخل في اللفظ، ولا يضر التنصيص عليه، والحمل غير داخل في مسمى الجارية، فذكره ذكر شيء مجهول مع معلوم. وإذا قلنا بالبطلان في حشو الجبة؛ ففي بيع الظهارة والبطانة قولاً تفريق الصفقة، وفي كلام الإمام تعرض إلى إجراء مثل هذا الخلاف في الجارية والشاة. وبيض الطير كحمل الجارية والدابة في جميع ذلك. فرع: لو شرط أن الشاة تضع [لرأس] الشهر ونحوه، لم يصح البيع قولاً واحداً، وكذا لو شرط أنها تدر في كل يوم كذا رطلاً من اللبن لم يصح البيع. وفي زوائد العمراني حكاية وجه في الثانية في باب المصراة. قال: وإن باع عبداً مسلماً من كافر، بطل البيع في أصح القولين؛ لقوله تعالى: - وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141]، ولأن الرق ذل؛ فلا يصح إثباته للكافر على المسلم، كما لا ينكح الكافر المسلمة، وهذا نصه في "الإملاء". قال: ويصح في الآخر، ويؤمر بإزالة الملك فيه: أما صحة البيع؛ فلأن من صح يبعه للعبد صح شراؤه –أصله المسلم -، ولأن إسلام العبد لا يمنع من بقاء ملكه عليه؛ فلا يمنع من دخوله في ملكه بالشراء – أصله المسلم – ولأنه سبب يملك به العبد الكافر فملك به العبد المسلم؛ كالإرث. وأما كونه يؤمر بإزالة الملك فيه؛ فلأن به يحصل دفع الذل عنه، وهذا نصه في "الأم"، وأكثر الكتب على ما حكاه القاضي الحسين. والقولان يجريان فيما لو وهب له أو أوصى [له به]. وقال في "التتمة": هذا إذا قلنا: إن الملك في الوصية يحصل [بالقبول، أما إذا قلنا:] يحصل بالموت؛ ثبت بلا خلاف كالإرث.

وحكى في الزوائد في كتاب الجزية عن الطبري: أنا إذا لم نصحح البيع؛ ففي صحة الوصية وجهان: أحدهما: أن الحكم كذلك، ولا يؤثر إسلام الموصى له بعد ذلك، وإن كان قبل الموت. والثاني: إن أسلم قبل الموت صح، وإلا فلا. وحكى في "الحاوي" في باب عقد الذمة في صحة الوصية به – ثلاثة أوجه. ثالثها: إن أسلم الموصى له قبل القبول ملك العبد وإلا فلا. وعلى كلا الوجهين لا يجوز بيعه من كافر، صرح به الشاشي في "الحلية"، ويحكي عند الكلام في جواز نكاح الأمة. ويتفرع على القولين مسائل: فعلى الأول لو اشترى من يعتق عليه؛ ففي صحته وجهان: أحدهما: لا يصح، كما لو لم يعتق عليه. والثاني: يصح، وهو الأصح. قال القاضي أبو الطيب: كما لو قال لمسلم: أعتق عبدك عن كفارتي؛ فأعتقه دخل في ملكه، وعتق، وهذا لا أعلم فيه خلافاً بين أصحابنا، فكذلك هاهنا. وحكى الإمام وغيره جريان الخلاف في هذه الصورة، لكن مرتباً على الأول، وأولى بالصحة؛ لأن الملك لا يجري فيه إلا ضمناً مقدراً. وشراء الأب بيع على حقيقة البياعات يبطله التعليق بالإغرار ويفسد بفساد العوض، حتى إذا فسد فلا عتق، وهذا يشعر بأن الملك مقصود فيه والعتق بعده. واستدعاء العتق يقبل التعليق، ولو ذكر عوضاً فاسداً نفذ العتق، ورجع إلى بدل آخر على قياس فساد البدل في الخلع، فاقتضى ذلك ترتيباً. ولو شهد بحرية عبد مسلم ثم اشتراه، فالخلاف مرتب على الصورة الأولى، وأولى بالبطلان؛ لأن العتق وإن حكم به فهو ظاهر غير محقق، بخلاف صورة القريب فإنه واقع تحقيقاً.

ولو اشتراه بشرط العتق، وصححناه، فمن الأصحاب من خرجه على الوجهين في شراء القريب، ومنهم من جزم بالبطلان، وفرق بأن القريب يعتق عقيب الشراء، وهاهنا العتق موقوف على اختياره. واستئجار الكافر المسلم - ينظر فيه، إن ورد العقد على الذمة صح وإن ورد على العين، قال القاضي أبو الطيب: من أصحابنا من قال فيه قولان؛ كالشراء. ومنهم من قال: يصح، وهذا أظهر عند الرافعي؛ لأن الإجارة لا تقيد ملك الرقبة، ولا تسلط عليه تسليطاً تاماًّ بل [و] هو في يد نفسه إن كان حرًّا، أو في يد مولاه إن كان عبداً. وعلى هذا هل يؤمر بإزالة ملكه عن المنافع؟ فيه وجهان. جواب الشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب في أواخر كتاب عقد الذمة منهما: نعم، فلو لم يفعله فقياس ما تقدم أن يؤجر عليه. وفي "الحاوي" في كتاب الإجارة: أن الحاكم يفسخها عله، وفيه كتاب الذمة بعد حكاية القولين في صحة الإجارة، والصحيح عندي أن يعتبر حال الإجارة، فإن كانت معقودة على عمل يعمله الأجير في يد نفسه لا في يد المستأجر ويتصرف فيه على موجب عقده لا على رأي مستأجره؛ كالخياطة، والصباغة؛ صحت الإجارة. وإن كانت معقودة على تصرف الأجير في يد المستأجر [عن أمره] كالخدمة لم يجز [وجزم بأنا] إذا صححنا الإجارة عن الخدمة ونحوها بأنه يؤمر بإزالة الملك، وفيما إذا كانت الإجارة على ما يعمله في يد نفسه بعدم الإجازة. وفي جواز ارتهان الكافر العبد المسلم خلاف. قال الرافعي: ولا خلاف في جواز إعارته وإيداعه، وسيأتي الكلام فيه في

العارية - إن شاء الله تعالى -. وإذا باع الكافر عبداً مسلماً – كان قد أسلم في يده – بثوب، ثم وجد في الثوب عيباً، هل له رده واسترداد العبد؟ حكى الغزالي وإمامه فيه وجهين. وفي "التهذيب" و"التتمة": أن له رد الثوب لا محالة، وفي استرداده العبد وجهان: أظهرهما ما ذكره الغزالي أن له استرداده، وعلى مقابله يصير كالهالك. ولو وجد المشتري بالعبد عيباً والصورة هذه فأراد رده واسترداد الثوب، فعن الشيخ أبي محمد طرد الخلاف؛ لأنه كما لا يجوز للكافر تملك المسلم، لا يجوز للمسلم تمليك الكافر [إياه]. فإذا منع من الرد رجع إلى الأرش. وعن غيره القطع بالجواز. ولو تقابلا، فإن قلنا: الإقالة بيع لم يصح على القول الذي عليه التفريع. وإن قلنا: إنها فسخ فوجهان. ولو اشترى عبداً كافراً ثم أسلم قبل القبض؛ فهل يبطل العقد؟ فيه وجهان إذا كان البائع مسلماً، فلو كان كافراً فقد أبدى الإمام فيه تردداً، وحكاه الغزالي خلافاً مرتباً وأولى بعدم الانفساخ؛ لأنه كيفما انقلب انقلب إلى كافر. ولو توكل الكافر عن المسلم في شرائه، قال القاضي أبو الطيب: لا يصح، كما لا يجوز أن يتوكل عن المسلم في التزويج، ولا يكون المحرم وكيلاً في شراء الصيد وعقد النكاح. وقال ابن الصباغ: هذا عندي ليس بشيء؛ لأن الفاسق لا يجوز أن يكون وليًّا في النكاح، ويجوز أن [يكون وكيلاً في القبول]. قال مجلي: وهذا لا يلزم القاضي؛ لأنه لم يقصد الجمع بين البيع والنكاح حتى يفرق بينهما، وإنما قصد أن من لا يكون أهلاً للعقد لنفسه لا يصح أن يكون وكيلاً فيه لغيره.

نعم، لو كان الإلزام أن الفاسق يجوز أن يكون وكيلاً في ولاية النكاح، ولا تصح ولايته؛ للزم إن سلمه القاضي. والذي حكاه الغزالي أن الوكيل في الشراء صح، وإن أضمر فوجهان مبنيان على تعلق العهدة بالوكيل، وبناهما الرافعي على أن الملك بيع للوكيل ثم ينتقل عنه للموكل، أو يقع للموكل ابتداءً. فإن قلنا بالأول لم يصح، وإن قلنا بالثاني صح. قلت: ولو خرج خلاف في صحة البيع مع القول بأن الملك يحصل للوكيل أو لا، مما إذا اشترى من يعتق عليه – لم يبعد من حيث إن الملك مختلف فيهما غير مستقر، ويجوز أن يفرق بما للشارع في العتق من التشوف. وإطلاق الغزالي وغيره القول بالصحة عند التصريح بالسفارة مصور بما إذا قال: اشتريت لزيد، فقال: بعتك. أو قال: بعتك، فقال: اشتريت لزيد [وصححنا مثل هذا العقد. أما إذا قلنا بعدم الانعقاد فيما إذا قال: بعتك، فقال: اشتريت لزيد] على ما حكاه المتولي والبغوي عند الكلام الذي ينعقد به النكاح وجهاً: فلا يصح أيضاً، وقد أشار إلى ذلك الإمام بقوله: إذا صححنا البيع بصيغة السفارة. ولو توكل المسلم عن الكافر في شراء العبد المسلم، لم يصح التوكيل، فإذا تعاطى العقد نفذ على الوكيل ولا يتعداه إلى الموكل، كذا صرح به الإمام، وهو محمول على ما إذا لم يصرح بالسفارة. والمرتد، هل يجري فيما ذكرناه من الأحكام مجرى المسلم؟ فيه وجهان بناهما القاضي الحسين والإمام على القولين في أنه هل يقتل بالذمي؟ التفريع على القول الثاني، هل يمكن من قبضه؟ فيه وجهان جاريان فيما لو أسلم العبد بعد الشراء وقبل القبض وقلنا بعدم [انفساخ العقد]، أحدهما: يقبضه بنفسه، والثاني: ينصَّب الحاكم من يقبضه وهو الأظهر. قال الإمام على هذا القول: ولا يخفى أنه يتخير في فسخ البيع؛ فإن ما جرى من التعذر طارئاً لا ينقص عن إباق العبد قبل القبض.

وإذا امتنع الكافر من إزالة الملك [عنه] بيع عليه بثمن مثله، فلو لم يجد من يشتريه بثمن مثله صبرنا إلى الوجود، وأحلنا بينه وبين السيد، ثم لا يعطله بل يستكسبه، ونفقته واجبة على سيد الكافر. والحكم في أن الكتابة هل تكتفي بدلاً عن زوال الملك بالبيع والهبة والإعتاق؟ فيه خلاف نذكره – إن شاء الله تعالى- في كتاب العتق مع ما يتعلق به. فرع: هل يمنع الكافر من شراء المصحف وكتب الحديث؟ الذي نص عليه الشافعي في كتاب الجزية كما حكاه الأصحاب [المنع] ثم قال الأئمة هاهنا: إن منعنا الكافر من شراء العبد المسلم فكذلك هاهنا، وإلا فوجهان؛ لأن العبد يدفع الذل عن نفسه. والكتب التي فيها آثار السلف ملحقة بالمصحف عند العراقيين، [وكذا التي فيها حكايات الصالحين كما حكاه الإمام في كتاب الهدنة، وقال: لست أراه كذلك وجهاً]. وامتنع الماوردي في "الحاوي" من إلحاق كتب الحديث والفقه بالمصحف. وقال: إن بيعها منه صحيح [لا محالة]، وجزم في كتاب عقد الذمة بطريقة المنع في المصحف لأجل تحريم مسه. وقال في كتب الحديث: إن كان المذكور فيها سيرته وصفته جاز ابتياعهم لها، وإن كان فيها كلامه من أمره ونهيه وأحكامه ففي البيع وجهان، وظاهر نص الشافعي إلحاق كتب الحديث بالمصحف. ثم إذا صح البيع يما ذكرناه، فهل يؤمر بإزالة الملك [عنها]؟ فيه وجهان، ورهن هذه الأشياء مرتب على جواز بيعها كما تقدم في العبد. فرع آخر: بيع المصحف من المسلم ليس بمكروه وكذلك كتب الحديث. وعن الصيمري: أن بيع المصحف مكروه، قال: وقد قيل: إن الثمن يتوجه إلى

الدفتين لا إلى كلام الله – تعالى – وقد قيل: إنه بدل عن أجرة النسخ. قال: وإن باع العصير ممن يتخذ الخمر أو السلاح ممن يعصي الله –تعالى- به أي مثل قاطع الطريق [والمتغلب] واللص، ولم يتحقق أنهما يفعلان بالمبيع ما هو محرم كما صرح به سائر الأئمة. [قال]: أو باع ماله ممن أكثر ماله حرام [أي]: ولم يتحقق أن الذي وقع عليه العقد من الثمن حلال أو حرام [قال] كره؛ لأنه لا يأمن من الإعانة على المعصية أو أخذ الحرام، وقد قال- عليه السلام -: "الحلال بين الحرام بين و [بين ذلك أمور] متشابهات" وسأضرب لكم في ذلك مثلاً – إن شاء الله تعالى – "وإن حمى الله – تعالى- محارمه، وإن من يرعى حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى" وإنما لا يحرم؛ لأنه قد لا يفعل الحرام، أو يكون [ما أعطاه] من الحلال. قال: ولم يبطل البيع لما ذكرناه من العلة، أما إذا تحقق أنه يتخذ من العصير الخمر أو يعصي الله تعالى بالسلاح فإنه يحرم؛ لقوله تعالى: - وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]. ولكن يصح البيع أيضاً؛ لأن ذلك [المعنى في] غير المعقود عليه؛ فلم يمنع الصحة؛ كالبيع وقت النداء. وفي الرافعي حكاية وجه أنه لا يحرم بيع العصير مع تحقق اتخاذ الخمر [منه، وهو ما حكاه المحاملي في اللباب]. ومن هذا القبيل بيع السلاح من أهل الحرب؛ فإن فيه تقوية أعداء الله. وفي "الحاوي" حكاية وجه أنه لا يصح بيعه منهم، وهو الظاهر في "النهاية" وبه جزم الرافعي.

وعلى القول بالصحة يفسخ عليهم كما في شراء الكافر المسلم، صرح به الماوردي. وبيع الجارية ممن يتخذها للغناء، [والغلام ممن اشتهر باللياطة] كمبيع العصير ممن يتخذ الخمر صرح به ابن عصرون في "المرشد"، وكذا بيع الخشب ممن يستعمله في الملاهي، كما قاله المحاملي [في اللباب]. وأما إذا باع ماله ممن أكثر ماله حرام، وتحقق أن ما وقع عليه العقد من ماله حرام لم ينعقد البيع، ولو تحقق أنه حلال لم يكره. فإن قيل: إذا لم يتحقق أنه حرام ولا حلال وغلب على الظن] أن ما وقع به العقد حرام، فهلا خرجتم ذلك على غلبة الظن في النجاسة والطهارة؟! قال الإمام: قلنا: لأنا صادفنا أصلاً مرجوعاً إليه في الإملاك وهو اليد فاعتمدناه، ولم نجد في النجاسة والطهارة أصلاً يعارض غلبة الظن إلا الطهارة. فروع: بيع الحديد [من أهل] الحرب صحيح، وبيع السلاح من أهل الذمة جائز، وكذا رهنه منهم صرح به الإمام في كتاب الرهن، واستشهد له بأنه - عليه السلام -: مات ودرعه مرهون عند أبي شحمة اليهودي. وحكى في "التتمة" وجهاً في عدم صحة بيعه منهم، ورهن السلاح من أهل الحرب إذا منع بيعه منهم، فيه وجهان محكيان في "النهاية" في الرهن. وبيع الشطرنج مكروه، كما أن لعبه مكروه، حكاه القاضي الحسين قبل باب السلف. قال: وإن شرط في البيع شرطاً يقتضيه العقد كالتسليم، وسقى الثمرة، وتنقيتها إلى - أوان الجداد وأما شبه ذلك أي: مثل خيار المجلس، والرد بالعيب، وضمان الدرك على البائع، وغير ذلك لم يفسد العقد؛ لأنه تأكيد لمقتضاه.

تنبيه: الجداد بكسر الجيم وفتحها بالدال المهملة وبالمعجمة [أيضاً] وكذلك الحصاد [والقطاف] والصرام كله بالوجهين. قال الجوهري: فكان الفعال والفعال مطردين في كل ما كان فيه معنى وقت الفعل. قال: وإن شرط ما فيه مصلحة للعاقد كخيار الثلاث أي فيما يجوز شرطه [فيه] والأجل أي المعلوم فيما في الذمة – والرهن والضمين – [أي إذا عين الراهن والضامن، وكذا من يوضع الرهن تحت يده على أحد الوجهين]. قال: لم يفسد العقد أي؛ ويجب الوفاء بالشرط. أما اعتبار ذلك في خيار الثلاث فلحديث حبان بن منقذ. وأما في الأجل فلقوله تعالى: - إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. ورُوي أنه – عليه السلام – قال: " [و] من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"، والسلم نوع من البيع. وروى مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً نسيئة فأعطاه درعاً رهنا.

ورُوي أنه - عليه السلام - أمر عبد الله بن عمر أن يجهز جيشاً، وأمره أن يبتاع ظهراً إلى خروج المصدق. وأما في الرهن فلقوله تعالى: - فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. وأما في الضمين: فبالقاس على الرهن لما اشتركا فيه من الحاجة إلى التوثيق، ويلتحق بهما اشتراط الإشهاد، قال الله تعالى: - وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]. أما شرط الأجل المجهول [فمبطل للعقد]، كما تقدم. وكذا شرطه في المبيع [المعين] أو الثمن المعين، مثل أن يقول: اشتريت منك بهذا الدينار على أن أسلمه لك في وقت كذا؛ لأن الأجل رفق أثبت لتحصيل الحق في المدة والمعين حاصل. ولو أجل شيئاً بألف سنة. قال الروياني: بطل العقد؛ للعلم بأنه لا يبقى إلى هذه المدة، ويسقط الأجل بالموت، كما لو أجر ثوباً ألف سنة. فعلى هذا يشترط في صحة الأجل مع كونه معلوماً فيما في الذمة احتمال بقائه إلى المدة المضروبة ويقوم مقام تعيين الرهن والضامن، وصف الرهن بصفات المسلم فيه، ومعرفة الضامن بالنسب. ولا يكفي فيه أن يقول: رجل موسر ثقة. قال الرافعي: ولو قال قائل: الاكتفاء بالصفة أولى من الاكتفاء بمشاهدة من لا يعرف حاله؛ لم يكن مبعداً. وفي كتاب القاضي ابن كج: أنه لا حاجة إلى تعيين الضامن، وإذا أطلق أقام من شاء ضميناً، ولا يشترط في الإشهاد التعيين على أصح الوجهين، وهو الذي ادعى الإمام القطع به، ورد الخلاف إلى أنه لو عين الشهود هل يتعينون أم لا؟ والصحيح في الاستقصاء" كما حكاه في كتاب الرهن عدم تعينهم. فإن قلنا بتعينهم فامتنعوا من الشهادة ثبت للشارط الخيار. وإن قلنا: لا يتعينون. قال الإمام في كتاب الرهن: ينبغي أن يشهد من يعرف منهم في الصفات

المقصودة في الشهادة؛ حتى لا يكتفي بإشهاد أقوام يظهر انحطاطهم عنهم، والعلم عند الله تعالى. ولا يبطل العقد بهذا الشرط. واعلم أن كلام الشيخ يقتضي الاسترسال في جواز اشتراط ما فيه مصلحة للعاقد على هذا النحو، وليس يماثل ذلك الاشتراط الإشهاد، وقد ذكرناه، ويؤكده قول الإمام في كتاب الرهن. ومن الأصول المعتمدة في البياعات أن العقد إذا كان له مقتضى عند الإطلاق فلا يجوز تغييره في نقيض إطلاقه بما لا يقع فيه ولا مصلحة تتعلق [به،] [فأما الشرط الذي يتعلق] بمصلحة العقد فلا يجوز الاسترسال في تجويزه بل يتبع فيه توقيف الشارع؛ كالخيار وما في معناه؛ فإن هذه الأشياء في المعاملان؛ كالرخص في العبادات. قال: وإن شرط العتق في العبد لم يفسد [العقد ويلزم] الشرط، ووجهه ما رُوي عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: جاءت بريرة، فقالت: إني كاتبت على تسع أواق، في كل سنة أوقية؛ فأعينيني، قالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدًّا وأعتقك فعلت، ويكون ولاؤك لي. فذهبت بريرة إلى أهلها؛ فأبوا ذلك عليها، فقالت إني قد عرضت عليهم أبوا ألا يكون لهم الولاء، فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسألني، فأخبرته، فقال::خذيها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء؛ فإن الولاء لمن أعتق"، قالت عائشة: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب ثم قال: "أما بعد، فما بال رجال منكم يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله – عز وجل – فأيما شرط كان ليس في كتاب الله فهو باطل، وإنكان مائة شرط فقضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، ما بال رجال منكم يقول أحدهم: أعتق [يا] فلان، والولاء لي، إنما الولاء لمن أعتق" هكذا أخرجه

البخاري، وروى مسلم معناه. وجه الدلالة منه: أن بيع بريرة كان بشرط العتق بدليل اشتراط الولاء، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم البيع مع اشتراطه، وأبطل أن يكون الولاء لغير المعتقة. ولأنه لو قال له: أعتق عبدك عني بألف صح البيع ونفذ العتق، وإن لم يستقر للباذل على العبد ملك؛ فما استقر بالعقد ملكه وشرط عليه عتقه أولى أن يصح. وقيل: إن الشرط باطل، ويبطل به العقد؛ لعموم نهيه – عليه السلام – عن بيع وشرط؛ ولأنه شرط ينافي [مقتضى] العقد فأبطله؛ كما لو باع بشرط ألا يسلم. وقيل: يبطل الشرط دون العقد، رواه أبو ثور عن الشافعي. قال الماوردي: وليس يعرف [له]، ولا يحفظ عنه إلا من جهته، وأصح الأقوال الأول. ومحلها إذا أطلق الشرط، أو قال: بشرط أن تعتقه عن نفسك، أما إذا قال: بشرط أن تعتقه عني فهو لاغ. قال: فإن امتنع عن العتق – أي على قولنا بصحة الشرط – أجبر عليه، [وقيل]: لا يجبر، بل البائع بالخيار بني الفسخ والإمضاء. هذا الخلاف مبني على أن العتق حق لله تعالى، كالملتزم بالنذر، أو حق للبائع لأن اشتراطه يدل على تعلق غرضه به، وينزل لأجله جزءاً من الثمن، فيه وجهان: أظهرهما: الأول. فإن قلنا: [به] أجبر عليه، وهو قول أبي سعيد الإصطخري، والأصح. وفي كيفية إجباره احتمالان للإمام: أحدهما: يكون الحكم فيه كالمولى، وهو المذكور في "التتمة" و"تعليق" القاضي الحسين. والثاني: لا طريق سوى الحبس حتى يعتق. وإن قلنا: إنه حق للبائع فلا يجبر، كما في شرط الرهن والكفيل، وهذا ما اختاره ابن عصرون.

وفي "النهاية" أنا إذا قلنا: إن العتق حق للبائع وامتنع، فهل يجبر عليه؟ ذكر صاحب "التقريب" فيه قولين. وإذا قلنا بالقول الذي حكاه أبو ثور؛ فلا يجبر على عتقه، ولكن هل يثبت للبائع الخيار عند امتناعه من العتق؟ فيه وجهان: أحدهما – وهو قول البغداديين -: لا خيار له؛ لفساد الشرط. والثاني – وهو قول البصريين -: له الخيار؛ لأن فساد الشرط يمتنع من لزومه، ولا يمنع من استحقاق الخيار به، كما لو شرط في البيع رهناً لم يلزم، وأوجب خيار البائع. فروع: هل للبائع المطالبة بالعتق، على قولنا: إنه حق له فنعم، وإن قلنا: إنه حق لله تعالى؛ فكذلك على أصح الوجهين. وهل يسقط بإسقاط البائع؟ إن قلنا: إنه حق لله تعالى، فلا، وإن قلنا: إنه حق له سقط على ظاهر المذهب عند الإمام، وهو ما حكاه القاضي الحسين في التعليق، كما لو شرط الرهن والكفيل ثم عفا عنه. قال الإمام: وفي كلام شيخي رمز إلى خلاف هذا؛ يعني: في الرهن والكيل كحق الأجل. ولو باع العبد بشرط العتق أيضاً، لم يصح في أصح الوجهين؛ لأن العتق مستحق عليه، فليس له نقله إلى غيره، وهل يجزئ إيلاد الجارية عن الإعتاق؟ فيه وجهان: أصحهما: لا، بل عليه أن يعتقها. وفي "حلية الشاشي" و"الشامل"، حكاية وجه أنه لا يجزئ عتقها [عن] الشرط؛ لأنها صارت مستحقة العتق بالإحبال، وعلى هذا تكون بمثابة الغائبة بالموت، فتجري فيها الأوجه، كما سنذكر. ولو جنى هذا العبد قبل اتفاق العتق، فهل يسلم ليباع في الجناية؟ قال المارودي: إن قلنا بإجباره على عتقه؛ وجب فداه كأم الولد. ولو قتل العبد قبل العتق كانت قيمته للمشتري، ولا يكلف صرفها إلى عبد آخر ليعتقه.

ولو مات قبل اتفاق العتق؛ فخمسة أوجه: أظهرها: ليس للبائع إلا الثمن. والثاني: يسخ العقد ويرجع إلى القيمة. والثالث: له الثمن وما بين قيمته مع الشرط وقيمته من غير الشرط، فإذا كان الثمن عشرة وقيمته مع الشرط اثني عشر وبدون الشرط خمسة عشر؛ لزمه ثلاثة عشر. ولم يزد الماوردي على هذه الأوجه. وقال: إنها تجري على قول الإجبار وعدمه. والرابع: له الثمن وما يقابل الشرط من نسبة الثمن؛ فيجب له في مثالنا اثنا عشر وحكى الإمام هذا الوجه -و [لو] ضرب له مثالاً يقتضي مخالفة ما ذكرناه في الحكم، فإنه قال: لو كان مع الشرط يساوي مائة، وبونه يساوي مائة وخمسين، فالتفاوت بالثلث، فيعود عبد ضبط ذلك، ويقول: الثمن تسعون، وقد بان أن نسبة التفاوت [بثلثي] الجملة، فكأنه أخذ ثمن ثلثي العبد، وإذا كان ثمن ثلثي العبد تسعين فثمن الجملة مائة وخمسة وثلاثون، فيغرم خمسة وأربعين، ومقتضى هذا في مثالنا أن يكون ما قبضه أربعة أخماس الثمن، وإذا كان ثمن أربعة أخماسه عشرة؛ يكون ثمن جميعه اثني عشر ونصفاً؛ فيغرم درهمين ونصفاً. والخامس- وهو الذي صححه ابن عصرون -:أنه يثبت له الخيار بين الفسخ والرجوع إلى القيمة وبين الإمضاء. والاقتصار على الثمن، وهذان الوجهان لم يحك القاضي أبو الطيب في تعليقه سواهما، وفحوى كلامه: أنهما جاريان على قول الإجبار وعدمه. فإنه قال: هلا قلتم مع بقاء العبد وقد امتنع المشتري من العتق أنه يرجع بذلك، يعني بما يقابل الشرط؟! فالجواب: أنه هناك يمكن إجباره على العتق فأجبرناه عليه في أحد الوجهين، ويمكن رده فخيرناه في الوجه الآخر. وهاهنا قد [تعذر] الإجبار؛ لأن الميت لا يصح إعتاقه، وتعذر التخيير؛ لأنه لا يمكن رده فجعلنا له الرجوع بالنقص، كما يرجع

بالأرش إذا تعذر الرد بالعيب. وقال الرافعي: هذه الوجوه مفرعة على أن العتق حق للبائع أو هي مطردة سواء قلنا: إنها للبائع أو لله تعالى، فيه رأيان للإمام؛ أظهرهما: الثاني. وقيل: إن قلنا: إن الحق لله - تعالى - لم يلزمه شيء؛ وهو الوجه الأول. وإن قلنا: إنه حق للبائع جرى ما عدا الأول من الأوجه، حكى ذلك ابن التلمساني. فروع: لو اشترى عبداً بشرط أن يدبره أو يعتقه بعد شهر - مثلاً - أو يكاتبه، أو داراً بشرط أن يقفها، ففي هذه الشروط وجهان: أصحهما: أنها ليست كشرط العتق، بل يبطل البيع بها. وعليه يدل قول الشيخ من بعد. واختيار ابن عصرون صحة البيع بشرط العتق بعد شهر. وفرق القاضي الحسين بين البيع بشرط العتق وبين البيع بشرط الكتابة أو الاستيلاد، بأن المشتري لا يقدر عليهما بنفسه ويقدر على العتق منفرداً به، وليس لهما من القوة ما للصريح. وبأن عقد البيع لا يقتضيهما بحال، بخلاف العتق؛ فإن عقد البيع قد يقتضيه، كما إذا اشترى من يعتق عليه. ولو باع عبداً بشرط العتق على أن يكون الولاء للبائع؛ ففيه قولان: أحدهما: أنه يبطل العقد، وهو الذي عليه الجمهور. والثاني: أنه يصح، وهو ما رُوي عن حكاية الإصطخري أو تخريجه لحديث بريرة؛ فإنه - عليه السلام - لا يأذن في باطل، وعلى هذا فهل يثبت الشرط؟ المحكي عن الأصحاب الذي [لا] يكاد يوجد غيره أنه لا يثبت كما حكاه الرافعي. وقال الإمام: إنه فاسد، وحكى وجهاً أنه يثبت الولاء للبائع من غير تقدير الملك،

كما إذا باع عبداً لنفسه بمال، فإذا اشترى نفسه عتق، وسبيل العتق أنه ملك نفسه، فاستحال أن يكون مملوكاً لنفسه ومالكاً، ثم إذا حصل العتق فالولاء للسيد، وهذا ما حكاه الغزالي في الوجيز. ولو جرى البيع بشرط الولاء دون شرط العتق بأن قال: بعتكه بشرط أن يكون الولاء [لي] إن أعتقته يوماً من الدهر فقد ذكر في "التتمة": أن العقد هاهنا باطل بلا خلاف. وقال في كتاب الخلع: المشهور من المذهب فساد العقد، وهذا يشعر بخلاف. ولو باع العبد بشرط أن يبيعه بشرط العتق، فالصحيح على ما حكاه الرافعي في كفارة الظهار – البطلان. وعن أبي الحسين تخريجه على وجهين، ولو اشترى أباه أو ابنه بشرط أن يعتقه، فعن القاضي الحسين أن العقد باطل؛ لتعذر الوفاء بهذا الشرط، فإنه يعتق عليه قبل أن يعتقه، ويظهر على رأي الأودني أن يصح. فائدة: استشكل بعضهم إذنه صلى الله عليه وسلم في اشتراط الولاء، ومنعه منه بعد ذلك. وأجيب بأن قوله – عليه السلام -: "اشترطي لهم" المراد به: عليهم، كما في قوله تعالى: - وَإِنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].

[وقيل] معناه: اشترطي أو لا تشترطي فهو لاغ لا يضر شرطه ولا تركه. وقيل: أذن فيه ثم منعه ليكون أقطع لعادتهم، كما رُوي أنهم كانوا لا يرون جواز الإحرام بالعمرة في أشهر الحج، فأمرهم – عليه السلام – بالإحرام بالحج في أشهر الحج فأحرموا به ثم أمرهم بفسخ الإحرام بالحج بالعمرة، للمبالغة في رجوعهم عما كانوا يعتقدون منعه. وعلى هذا التأويل يكون هذا الشرط خاصاً في بيع بريرة لا غير، واختاره العمراني. وقيل: إن قوله "واشترطي لهم الولاء" غير محفوظ في الحديث، وإنما رويت هذه الزيادة من طريق هشام بن عروة، ولم يتابع عليها، كذا حكاه البغوي، وكذا الماوردي في باب الكتابة ونسبه إلى الشافعي نفسه. وحُكي عن بعض أصحابنا أنه – عليه السلام – أذن في ذلك حين جوازه ثم ورد بعده [نسخ] فأظهر نسخه بفسخه. وحكى عن [ابن أبي هريرة أنه قال: قوله] – عليه السلام – اشترى واشترطي لهم الولاء خارج مخرج الوعيد والتهديد لا مخرج الإذن والجواز، كما في قوله تعالى: - فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. وحكى عن أبي علي الطبري: أنه قال: قوله "اشترطي لهم الولاء" أي: اشترطي لهم العتق، فعبر عن العتق بالولاء لحدوثه عنه واستحقاقه به. وفي الذخائر أن بعض الناس قال: إنما وقع البيع على نجوم كتابتها، والصحيح [أنها ابتاعت] رقبتها، وعلى هذا قد يشكل مذهبنا؛ لأن بريرة كانت مكاتبة. [والجديد] أنه لا يصح بيع المكاتب. وأجيب عن ذلك: بأن بريرة كانت الساعية في ابتياع عائشة- رضي الله عنها – ومثل ذلك مبطل للكتابة – كما ستعرفه في بابها – أو لأن بريرة أظهرت العجز فعجزها أهلها، وفسخوا العقد بإقدامهم على بيعها، والفسخ يحصل بالبيع أو يحتمل ذلك، وهي قضية عين.

قال: وإن شرط ما [سوى ذلك مما] ينافي موجب البيع – أي: مقتضاه – وهي بفتح الجيم. قال: وليس فيه مصلحة؛ كبيع الدابة بشرط أن يركبها، [وكبيع] الدار بشرط أن يسكنها شهراً – أي البائع لم يصح العقد لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" وهذه الشروط ليست في كتاب الله فتكون باطلة. وإذا بطلت صار الثمن مجهولاً؛ لأن الشرط يقتضي زيادة في الثمن مرة ونقصانه [مرة] أخرى، فإذا بطل بطل ما يقابله، وذلك يؤدي إلى الجهالة بالثمن، ولما روى عبد الحق مسنداً من طريقين: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، فظاهره يقتضي فساد المنهي عنه؛ ولأن ذلك يتضمن اشتراط عدم التسليم فبطل – كما لو صرح به. وحكى عن صاحب "التقريب"، وأبي علي، وأبي ثور نصًّا غريباً عن الشافعي أن البيع لا يفسد بالشرائط الفاسدة، بل يلغو الشرط ويصح العقد كما في النكاح. وحكى المراوزة فيما إذا استثنى منفعة الدار مدة معلومة لنفسه – أنه يصح البيع على رأي، كما يصح بيع الدار المستأجرة على رأي؛ ولأنه – عليه السلام -: ابتاع بعيراً من جابر بأربعة دنانير وقال: لك ظهره حتى تأتي المدينة. والمذهب فساد البيع بالشرط الفاسد بخلاف النكاح؛ لأن الشرط فيه يسقط

المسمى، ويوجب مهر المثل، ولا قائل بمثله في البيع؛ فانقطع الإلحاق. والفرق بين ما نحن فيه وبين بيع الدار المستأجرة أن المنافع ملك له، وقد تضمن العقد خروجها عنه إلى المشتري فلا يصح شرطها له؛ لأنه يخالف مقتضى العقد بخلاف المستأجر؛ ولأن في هذا الشرط منعاً من التسليم إلى المشتري ولا يجوز، ويفارق المستأجر فإن المنافع مستحقة بعقد سابق، وصار ذلك مثل الدار المبيعة إذا كانت مشحونة بالأمتعة فإنها تحتاج إلى مدة في تفريغها، ولو استثنى [مثل] تلك المدة بطل العقد، وهذا يحسن أن يفرق به بين ما نحن فيه وبين ما لو باع نخلاً وعليها طلع غير مؤبر، فاستثناه لنفسه؛ إذ ليس فيه تأخير للتسليم. وأجيب عن حديث جابر بجوابين: أحدهما: أنه شرط بعد العقد. قال القاضي أبو الطيب: ويدل عليه أنه جاء في بعض ألفاظه: "فلما نقد الثمن شرطت حملاني إلى المدينة". والثاني: لم يكن ذلك مع جابر بيعاً مقصوداً لرواية سالم بن أبي الجعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه الثمن ورد عليه الجمل، وقال: "أتراني إنما ماكستُكَ لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك، فهما لك". فدل على أنه – عليه السلام – إنما أراد منفعته لا مبايعته. من هذا القبيل ما إذا باع شجرة يابسة بشرط التبقية أو الثمار بعد بدو الصلاح بشرط [القطع وقت] الجداد. وألحق المتولي بهذا القسم ما إذا شرط أن يصلي النوافل أو يصوم شهراً غير رمضان أو يصلي الفرائض في أول الوقت وجزم بالبطلان. وفي حلية الشاشي: أن أصحابنا قالوا: الشرط الفاسد لا يؤثر في العقد، إلا إذا كان فيه غرض فأما [ما] لا غرض فيه؛ كقوله: بعتك على أن تدخل الدار أو تقف في

الشمس أو تصلي النفل، أو تأكل كذا، وأبدى احتمالاً في البطلان مما إذا أوصى بثلث ماله لزيد وللحمار، فإنه على وجه يعطي نصف الثلث؛ لجعلنا الإضافة إلى ما لا غرض فيه؛ كالإضافة إلى ما فيه غرض. وقريب مما حكاه أولاً ما جزم به الإمام والغزالي فيما إذا باعه بشرط ألا يطعمه إلا الهريسة، ولا يلبسه إلا الحرير - أنه يصح. وكذلك فيما إذا شرط الكيل أو الوزن بشيء معين. وإلى هذا يرشد قول الشيخ؛ كبيع الدابة بشرط أن يركبها، وبيع الدار بشرط أن يسكنها شهراً، فصار المثال هو المبين للمراد بالقاعدة. وهذه الشروط ليست موافقة لمثاليه، وقد حكى الغزالي في كتاب السلم في بطلان البيع بفساد شرط الكيل والوزن وجهاً آخر. فرع: إذا حذف الشرط المفسد في زمن الخيار لا يؤثر ذلك في الصحة، ورأي صاحب "التقريب" وجهان: إن حذف الأصل المذكور، يصير العقد صحيحاً، وأجراه بعضهم في خيار الشرط. والأظهر أنه لا يجري، وأجراه بعضهم في سائر المفسدات. قال الإمام: والأصح: لا؛ لأن بين الأجل والمجلس مناسبة لا توجد في غيره، وهي المنع من المطالبة بالثمن، كذا حكاه الرافعي في كتاب السلم، ولو شرط في المجلس شرطاً فاسداً فسد العقد، صرح به القاضي [الحسين]. قال: ولم يملك فيه المبيع أراد الشيخ بهذه الزيادة التنبيه على إبطال مذهب أبي حنيفة يما إذا قبضه؛ فإن عنده أنه يملكه ملكاً ضعيفاً، وللبائع انتزاعه منه متى شاء بجميع زوائده، ولو تلف أو زال ملكه عنه ضمنه بالقيمة مع موافقته على أنه لا يملكه قبل القبض، وعندنا لا فرق في عد الملك بين ما قبل القبض وما بعده. ووجهه ما رُوي أنه عليه السلام قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رد"؛

ولأنه قبض في بيع فاسد فلم يحصل الملك به؛ كالمحرم إذا اشترى صيداً وقبضه، وكذا إذا كان الثمن دماً أو ميتة. قال: فإن قبضه المبتاع وجب رده أي على مالكه، ولا يملك التصرف فيه خلافاً له، أما أنه يجب رده فلقوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى ترد"، وأما أنه لا ينفذ تصرفه [فيه] فلأنه تصرف فيما للبائع فيه سلطان؛ فلم ينفذ كما في [البيع قبل القبض]. وفي قول الشيخ: "وجب رده" ما يعرفك أن مؤنة الرد على المشتري؛ لأن من وجب عليه رد شيء كانت مؤنة الرد عليه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون قد دفع الثمن وأفلس البائع أو لا، وقد ذكرنا من قبل أن له حبسه إلى أن يقبض الثمن على النص، وهو ما حكاه ابن كج عن الإصطخري والمذهب خلافه. قال: فإن هلك عنده ضمنه بقيمهت أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف؛ لأنه ما من حالة تعرض فيها قيمة إلا وهو مخاطب فيها بالرد، فإذا لم يرد فقد فوت الرد فلزمه بدله كالغاصب. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في غُرم القيمة بين أن يكون المبيع من ذوات الأمثال أو القيم، وهو ما حكيناه في الباب قبل هذا الباب عن الماوردي، والذي حكاه غيره أن ذلك فيما إذا كان من ذوات القيم، أما إذا كان من ذوات الأمثال فالواجب المثل.

قال: فإن حدثت فيها زيادة كالسمن وغيره –أي: مثل تعلُّم صنعة – ضمنها؛ لأنها حدثت على ملك البائع وفاتت تحت يده فضمنها كالعين. ومراد الشيخ بهذه المسألة ما إذا كانت العين باقية وردها بعد زوال الزيادة كما صرح به أبو الطيب وابن الصباغ في كتاب الغصب. قال: وقيل لا يضمن القيمة إلا من حين القبض؛ لأنها التي دخل على أن يضمنها، ولا يضمن الزيادة – أي: الحادثة في يده من سمن وغيره لعدم إلزامه ذلك بالعقد فأشبه المستعير، وهذا القول حكاه المراوزة ولم أره في شيء من كتب العراقيين إلا في "الحاوي" في كتاب الغصب، فإنه ذكره في موضعين منه، والمذكور في غير "الحاوي" بدله أنه لا يضمن القيمة إلا من حين التلف، ولا يضمن الزيادة كما حكاه الإمام عن العراقيين وهو الموجود في النسخ العتق، ويوجبه ابن الخل ونسبه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ في كتاب الغصب إلى ابن أبي هريرة. وحكى البندنيجي عِوَضَهُ في كتاب الغصب: أن المشتري لا يضمن الزيادة وإذا تلفت العين بزيادتها كان عليه قيمتها أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف بعد حذف ما زاد في قيمتها لأجل السمن، ولم أره في [غير] تعليقه. وبه يتحصل في المسألة أربعة أقاويل، وكلها – ما عدا الرابع – يجري كما حكاه الإمام في كل ضامن غير متعد ولا متصرف في غصب، فإذا ضمن المستام قيمة ما تلف تحت يده؛ فالقول في القيمة المعتبرة كما ذكرناه. ولا يضمن إلا ما [قصد شراءه] حتى لو قبض العين ليشتري نصفها لم يضمن إلا بدل نصها، كما صرح به المتولي قبل الفصل الخامس في كيفية القبض. قال: والمذهب الأول لأنها عين تضمن أجزاؤها المستحقة بالاستعمال؛ فأشبهت العين المغصوبة وبهذا فارق المستعير؛ فإنه لا يضمن الأجزاء المستحقة بالاستعمال على الصحيح، وما قيل من أنه دخل على أنه لا يضمن الزيادة – يبطل باستحقاق

الأجرة، مع أنه دخل على أنه لا يضمنها. قال: وإن كان لمثله أجرة لزمه أجرة المثل؛ لأن العين مضمونة عليه؛ لثبوت يده عليها، لا بحق منفعتها. قال الرافعي وغيره: ولا فرق في ذلك بين أن ينتفع به أو تفوت المنفعة تحت يده. وقال القاضي الحسين في كتاب الغصب: وكذا الإمام، هذا إذا قلنا: إنه يضمن ضمان المغصوب. أما إذا قلنا: بغيره فلا يضمنها إلا إذا استوفاها، وعلى هذا الخلاف يخرج ضمان الولد المنفصل وطرد الخلاف المذكور في ضمان المستام أجرة المدة التي فاتت المنافع فيها تحت يده. والولد الحادث في يده، وما قالاه موافق لما قاله الغزالي في منافع الصداق إذا فاتت تحت يد الزوج، وقلنا: إنه مضمون ضمان يد [أنه] لا يضمن بدلها إلا أن يستوفيها. فرع: لو أنفق على المبيع مدة لم يرجع على البائع إن كان عالماً بالفساد وإن كان جاهلاً فوجهان. فائدة: إن كان لمثله أجرة وأوجبناها مع أكثر الأمرين من القيمة، فهل يندرج ما يقابل الأجزاء المستحقة بالاستعمال في الأجرة أم لا؟ فيه خلاف يأتي مشروحاً في نظر المسألة من كتاب الغصب إن شاء الله تعالى. قال: وإن كانت - أي: العين المبيعة -جارية فوطئها؛ لزمه المهر لاستمتاعه بملك الغير مع قيام الشبهة، وهذا إذا كانت الأمة جاهلة بفساد البيع، أما لو كانت عالمة فذلك ينبني عليه أنه لو كان عالماً بفساد البيع، هل يجب عليه الحد؟ والمشهور أنه لا يجب فيما إذا كان الفساد بالشرط، كما هو مسألة الكتاب؛ لأن أبا حنيفة يرى أن الملك ينتقل إليه كما قدمنا حكايته، فيكون ذلك شبهة في درء الحد، كما في النكاح بلا ولي، ونكاح المتعة، ويجيء فيه وجه الصيرفي. وقال الإمام: يجوز أن يقال: يجب الحد؛ لأن أبا حنيفة لا يبيح الوطء، وإن كان

يثبت الملك بخلاف الوطء في النكاح بلا ولي، فإن الخالف فيه يبيح الوطء. فإن قلنا بالمشهور وجب المهر أيضاً. وإن قلنا بما أبداه الإمام فقد قال: يكون بمثابة الجارية المغصوبة إذا وطئت من غير استكراه، وسيأتي الكلام فيها. ولو كان سبب ساد البيع لكونه عقداً على ميتة أو دم، فمن علم من الجارية أو المشتري بفساد البيع وجب عليه الحد؛ لأن أبا حنيفة لم يخالف في ذلك، ثم المهر الواجب مهر ثيب إذا كانت ثيباً، وهر بكر إن كانت بكراً. فإن قيل: كيف يجب المهر وقد أذن في الوطء بالبيع؟ قيل: الوطء لا يباح بالإذن – بل بالملك – ولا ملك؛ ولأن الوطء ليس معقوداً عليه؛ بدليل أنه يملك بالابتياع من لا يحل له وطؤها. قال: وأرش البكارة إن كانت بكراً؛ لأنه أتلف ذلك الجزء، [و] وجوب مهر البكر؛ لأنه استمتع ببكر، فالأرش في مقابلة إزالة عين، والمهر في مقابلة استيفاء منفعة، فلما اختلف سببهما لم يمتنع وجوبهما. وفي الرافعي في باب الرد بالعيب، وابن يونس في كتاب الديات حكاية وجه: أنه يجب مهر بكر، ويدخل فيه أرش البكارة. وصححه الرافعي، وإن كان قد جزم هاهنا بما ذكرناه أولاً، كما رجحه ابن عصرون. وقيل: يجب عليه مهر ثيب وأرش البكارة. قال: فإن أولدها فالولد حر للشبهة ولا ولاء عليه، فإنه لم يمسه رق ولم ينله عتق. قال: ويلزمه قيمته؛ لأنه أحال بينه وبين ملكه. قال: يوم الولادة؛ لأنه وقت الحيلولة، ولا يمكن تقويمه قبل ذلك. [و] قال الرافعي: وتستقر عليه القيمة بخلاف ما لو اشترى جارية واستولدها فخرجت مستحقة بغرم قيمة الولد ويرجع على البائع؛ لأنه غرَّه ثم.

وفي "النهاية": أن البائع إن كان عالماً بفساد العقد فهو في صورة الغار، والغار يغرم للمغرور قيمة الولد إذا غرمها، فلا معنى لإثبات قيمة الولد له، فإنه لو غرمه لرجع على من [غره]، والمغروم له في هذا التقدير هو الغار بعينه، وإن كان البائع لا يدري فساد العقد؛ ففي المسألة احتمال ظاهر من حيث إنه لم يعتمد تغرير أجنبي ينتقل ذلك سبباً لانقلاب الضمان عليه، [وقد رمز المحققون إلى هذا التردد]. وفي "تعليق" القاضي الحسين إبداء ما ذكره الإمام أولى – وطرده في المهر أيضاً إذا قلنا: إن المغرور يرجع به على الغار، ثم قال: ويمكن أن يفرق بين ما نحن فيه وبين المغرور بأن هناك الغاصب غره بسلامة الأولاد، فلأجل غروره قلنا: له أن يرجع عليه، وهاهنا البائع ما غره بل هو غر نفسه؛ إذ كان يمكنه الوقوف والاطلاع عليه بخلاف ذلك. قال: وإن وضعته ميتاً- أي: من غير جناية جان – لم تلزمه قيمته؛ لانتفاء الحيلولة بعد الانفصال وانتفاء إمكان التقويم قبله؛ لأنا نشك في حياته فلا توجب قيمته بالشك مع كونه ليس بمفوت روحه، بخلاف الجاني على البطن الذي تصير جنايته سبباً لتفويت الروح، أو منها من الانسلال؛ فإن ظاهر الحال يقتضي أن ذلك حصل بضربه وجنايته، وهذا مما ادعى الإمام فيه نفي الخلاف، وأجراه في الضمان الذي يتعلق بمحال الغرور. وقال فيما لو غصب جارية فعلقت بمولود من سفاح وانفصل الولد ميتاً فالمذهب أنه لا ضمان أيضاً، وفيه شيء بعيد، [وكذلك ولد] الصيد في حق المحرم. وفي المذهب في كتاب الغصب في الصورة الأولى: أن الشافعي قال: عليه ضمان قيمته يوم وضعته ميتاً، وقال أبو إسحاق: لا تجب قيمته. والفرق على الأول بينه وبين ما لو كان جاهلاً بالتحريم فإنه لا يضمن وجهاً واحداً. ما حكاه العمراني عن المحاملي أن الولد في صورة الجهل ينعقد حرًّا، والحر لا تثبت عليه اليد فلا يضمن بها، وإنما يضمن بالحيلولة ولم تحصل، وفي صورة العلم

الولد ينعقد رقيقاً، وقد تثبت يد الغاصب عليه حال كونه حملاً، فإذا تلف لزمه ضمانه. وهذا الفرق بعينه يجيء هاهنا، أما إذا ألقته ميتاً بجناية جان وجبت الغرة على عاقلة الجاني، وعلى المشتري أقل المرين من قيمة الولد يوم الولادة لو كان حيًّا والغرة، ويطالب به المالك من شاء من الجاني والمشتري. وفي مجموع المحاملي: أن المشتري لا شيء عليه؛ لأن المشتري لم يخرج حيًّا، فلم تحصل الحيلولة [والمشهور أنه] يكون للسيد أقل الأمرين – كما ذكرناه – وهذا ما اقتصر الأئمة على ذكره هاهنا، وقالوا في نكاح الغرور: إن الأمة المغرور بنكاحها إذا أتت بولد ميت فهو حر، ولا قيمة على المغرور، فلو ألقته بجناية جان وجب على الجاني غره. وفيما يجب على المغرور وجهان، اختيار القاضي منهما: أنه يغرم عشر قيمة الأم؛ لأنه يغرم للسيد ما فوته عليه، ولولا ما حصل [للمشتري] من تفويت رقه بالحرية؛ لمي كن للسيد إلا عشر قيمة الأم، فرجع به على المغرور. والوجه الثاني: قال الإمام – وهو المشهور وعليه جمهور الأصحاب -: أنه يغرم أقل الأمرين من قيمة الغرة وعشر قيمة الأم، فإن كان عشر قيمة الأم أقل غرمه؛ لأنه واجب الجنين الرقيق. وإن كانت الغرة أقل لم يلزم المغرور إلا قيمة الغرة؛ لأن سبب تغريم المغرور ما وجب له على الجاني من الغرة؛ إذ لو انفصل ميتاً من غير جناية فلا ضمان. قال الإمام: وهذا ليس على وجهه، فإنا إذا اخترنا الوجه الأول فتعويلنا فيه أنه جرى في الجنين حالة، لولا الغرور لكان يسلم للمولى عشر قيمة الأم، فقد صار المغرور سبباً في تفويت ذلك. ثم إذا قلنا: يغرم المغرور للسيد أقل الأمرين؛ فإنه لا يغرم له ما لم يسلم له الغرة، وإن سلكنا المسلك الآخر غرمنا المغرور عشر قيمة الأم في الحال، ولم ننتظر حصول الغرة له، فعلى هذا لو كان للجنين وارث سوى الأب ولا يتصور معه إلا أم الأم، فإذا للجدة السدس والباقي للأب، فإن أوجبنا على المغرور الأقل فنعتبر الأقل من عشر قيمة الأم وخمسة أسداس [من] الغرة،

فإن السدس الذي للجدة، غير محسوب على الأب. وحكى في كتاب الغصب عن القاضي: أن الواطئ لو مات وخلف أبا فضرب ضارب بعد موته الجارية، فأجهضت الجنين ميتاً فالغرة مصروفة إلى الجد، ويجب عليه ضمان الجنين للمالك ما كان يجب على الأب لو كان حيًّا. ثم قال القاضي: لو كان مع الأب جدة وارثة للسدس من الغرة ينظر إلى خمسة أسداس الغرة وإلى عشر قيمة الأم، ويجعل كأن السدس المصروف إلى الجدة غير ثابت. قال الإمام: ولا شك أن إخراج السدس عن الاعتبار يقتضي قياسه إخراج الجد عن الضمان ويفوز بالغرة إرثاً. وإذا رأينا [أنه لا ضمان] فيحتمل أن يحيط الضمان أو يعلقه بتركة الغاصب، والظاهر إتباع الضمان الغرة فطرده في السدس المصروف إلى الجدة أيضاً، هذا آخر كلامه، ولا يخفى عليك مناقضة ما حكاه عن القاضي ثانياً لما حكاه عنه أولاً. وعلى كل حال فيتجه جريان مثل ذلك في مسألتنا. ويعضده أن المحاملي [في المجموع] قال: إن حكم الغاصب إذا وطئ الجارية المغصوبة حكم ما ذكرناه سواء إلا في مسألتين: أحدهما: أن الغاصب إذا وطئ مع العلم بالتحريم فعليه الحد وولده مملوك، وليس كذلك هنا، ويضاف إلى ذلك مسألة أخرى، وهي إذا ملكها بعد ذلك لم تصر أم ولد في الغصب، وهنا قولان. قال: وإن ماتت الأمة من الولادة – أي: في يد البائع بعد تسلمها –لزمه قيمتها؛ لأنه المتسبب إلى الحمل المفضي إلى الطلق، لكن هل يجب ذلك في ماله أو على عاقلته؟ فيه قولان يأتيان في الجنايات، وأي قيمة تعتبر؟ حكى الإمام عن العراقيين فيما يلزم الراهن إذا ماتت الأمة المرهونة بسبب إحباله ثلاثة أوجه: أحدها: أقصى القيم من يوم الإحبال إلى يوم الموت كالغاصب.

والثاني: يوم الإحبال. والثالث - وهو اختيار ابن أبي هريرة -: أنه يجب قيمة يوم الوضع، فإن التلف تحقق يومئذ، وما تقدم غير موثوق به. قلت: ويتجه أن يجيء منها هاهنا الوجه الأول والأخير، وأما الوجه الآخر وهو اعتبار قيمة يوم الإحبال [فيحتمل أن تجيء أيضاً، ويحتمل أن يكون عوضه أنه يجب أقصى القيمة من يوم الإحبال] إلى يوم الرد، والله تعالى أعلم. فإن قيل: لو علقت الحرة من وطء شبهة ثم ماتت من الطلق لم يجب عليه ديتها. فهلا قلتم هنا مثله؟ قال المحاملي: قلنا: لنا في تلك المسألة قولان: أحدهما: أن الدية تجب، فعلى هذا سقط السؤال. والثاني: لا تجب. والفرق أن ضمان الأمة أوسع من ضمان الحرة؛ ألا تراها تضمن باليد والحرة لا تضمن باليد، والذي رجحه الإمام [في كتاب الرهن الأول. ويجري القولان في الحرة فيما إذا وطئت بالزنا مستكرهة، على ما حكاه الإمام] هاهنا، وكذلك ابن الصباغ، والقاضي أبو الطيب، وأضافوا إلى الفرق الأول أنه غير محكوم بأنه منه وغير ملحق به فلا ينسب التلف إليه، ولأجل هذا جزم في "النهاية" في كتاب الرهن بعدم وجوب الضمان، وعزاه إلى الأصحاب وطرده في الأمة وإن قدرت مضبوطة. فروع: نختم بها الباب: فيما إذا اشترى أمة شراء فاسداً فوطئها فحملت منه -: ولو لم تمُت من الولادة ولكن نقصت قيمتها. قال الأصحاب: يجب عليه الأرش. وفي "النهاية" في كتاب الصداق: أنه لو أصدق زوجته جارية حاملاً وولدت في يد الزوجة وانتقصت قيمتها بالولادة- أنه يجب بناء هذا على أن المبيع إذا خرج في يد البائع ثم سرت الجراحة في يد المشتري، وقد ظهر اختلاف الأصحاب في ذلك؛

فمنهم من جعل السراية من ضمان البائع؛ لأن سببها الجراحة فعلى هذا نقصان الولادة من ضمان الزوج، وإن حدث في يدها. ومن أصحابنا من قال: نقصان السراية من ضمان المشتري؛ لأنه حدث في يده فعلى هذا نقصان الولادة من ضمانها. قلت: و [قد] يتجه أن يجري مثل ذلك هاهنا، وفيما إذا ماتت من الطلق، وما يتخيل بينهما من فرق فهو مندفع بما حكاه العمراني عن الطبري فيما إذا وطئ الغاصب الجارية المغصوبة فحملت منه ثم ردها وماتت من الولادة – أن في ضمانه لها وجهين، وغاية الأمر هنا أن تلحق بالغاصب. لو حصلت زوائد من المبيع منفصلة في يده فضمانها مبني على الأقوال في كيفية الضمان، فإن قلنا بالمذهب ضمنها، وألا فلا. لو قال: بعتك بلا ثمن لا ينعقد بيعاً، وهل ينعقد هبة؟ فيه قولان: يرجع حاصلها

إلى أن الاعتبار باللفظ أو بالمعنى، فإن راعينا الأول أبطلنا، والأصح: هبة، ولهذا نظائر تأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: لا ينعقد هبة، ففي ضمان العين وجهان، ولو قال: بعتك ولم يذكر ثمناً لم ينعقد بيعاً ولا هبة، ويضمن العين، وقيل بطرد الوجهين، صرح به الإمام. لو كان لرجل نصف دار فباعها بنصفها الآخر، هل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يصح؛ فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يصح؛ إذ لا فائدة فيه، وهذا ما صححه الإمام في كتاب الصلح، ولم يحك سواه. والثاني: وهو الصحيح في الرافعي: أنه يصح؛ لاجتماع الشرائط المرعية في العقد. وله فوائد؛ منها: لو ملك أحدهما ذلك بالهبة من ابنه انقطع عنه ولاية الرجوع. ومنها: لو ملكه بالشراء ثم اطلع بعد هذا التصرف على عيب لم يملك الرد على بائعه. ومنها: لو ملكته صداقاً وطلقها الزوج قبل الدخول لم يمكن من الرجوع فيه، ولو باع الثلث من الدار بنصفها، حكى الإمام عن صاحب "التقريب" في الموضع الذي ذكرناه – الصحة ثم قال: وهذا عندي كلام ملتبس لا أصل له، والوجه القطع بالفساد.

باب الربا

باب الربا "الربا" مقصور، وهو من: ربا يربو، فيكتب بالألف، وقد كتبت في المصحف بالواو، فأنت مخير إذن في كَتُبِهِ بالألف، والواو، والياء، قال أهل الغلة: "والرَّماء بالميم والمد: الربا، والرُّبية - بالضم والتخفيف -: لغة في "الربا"، وأصل "الربا" في اللغة: الزيادة، قال تعالى: - فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] أي: زادت ونمت. وقال تعالى: - يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] أي: يضاعف ما يريد منها؛ ومنه قولهم: ربا الشيء: إذا زاد، ومنه قولهم: أربى فلان على فلان: إذا زاد عليه، وقولهم للمرتفع من الأرض: ربوة؛ لزيادته على ما جاوره. وهو في الشرع: الزيادة في الذهب، والفضة، وسائر المطعومات. وينقسم إلى ثلاثة أنواع: ربا الفضل: وهو زيادة أحد العوضين على الآخر في القدر إذا كانا من جنس واحد. ربا النسيئة: وهو أن يبيع مالاً بمالٍ نسيئة، سواء كان من جنسه أو من [جنس

غيره] – على ما سنذكره من بعد – وسُمِّي به لاختصاص أحد العوضين بزيادة الحلول. والثالث: ربا اليد، وهو أن يقبض أحد العوضين دون الآخر. وزاد في "التتمة" رابعاً: وهو ربا القرض، وبشرط جرِّ منفعة، قال ابن عمر: "كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعةً، فَهُوَ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الرِّبَا". والأصل في تحريمه – قبل الإجماع – من الكتاب آيات: منها: - وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقوله تعالى: - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا} [البقرة: 278] وهي آخر آية نزلت في القرآن. ومن السنة أخبار منها: ما روى الترمذي عن ابن مسعود أنه قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ". وروى مسلم عن جابر نحوه، وزاد: وقال: "هُمْ سَوَاءٌ". وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عدَّ من الكبائر أكل الربا. وقد قيل: إن الله تعالى ما أحلّ الربا [ولا الزنى] في شريعة قط، وهو معنى قوله

تعالى: - وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء:161] يعني: في الكتب السالفة. وقد اختلف أصحابنا فيما جاء به الكتاب من تحريم الربا: هل هو مجمَل فسّرته السُّنَّة؟ أو يتناول معهود الجاهلية من ربا النسيئة وطلب الفضل بزيادة الأجل؟ على وجهين، والأخير اختيار أبي حامد المروزي. قال: "ولا يحرم الربا إلاَّ في الذهب والفضة والمأكول والمشروب". أمَّا التحريم في هذه الأشياء فالأصل فيه ما روى الشافعي بإسناده عن مسلم بن يسار ورجل آخر عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلاَ الوَرِقَ بالوَرِقِ، وَلاَ البُرَّ بالبُرِّ، وَلاَ الشَّعِيرَ بِالشَّعِير، وَلاَ التَّمْرَ بالتَّمر، وَلاَ المِلْحَ بالمِلْح، إِلاَّ سَواءً بسَوَاءٍ، عَيْناً بِعَين، يَداً بيَدٍ، وَلَكن بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ، وَالوَرِقَ بِالذَّهَبِ، وَالبُرَّ بِالشَّعِيرِ، وَالشَّعِيرَ بِالبُرِّ، وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ، وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ". قال: ونقص أحدهما: "التمر" أو "الملح"، وزاد الآخر: "فَمَنْ زَادَ، أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى" [انتهى]؛ فثبت التحريم في هذه الستة بالنص، وقسنا ما عدا الأربعة من المطعومات والمشروبات عليها؛ لما اشتركوا فيه من الطعم؛ إذ هو العلة فيها على ما سنذكره. وصار القاضي أبو الطيب في تعليقه إلى أن عموم الألف واللام في قوله – عليه السلام -: "لاَ تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ" متعينٍ القياس؛ لأنه عمم الحكم في كل مطعوم لفظاً. واختاره الإمام في الأساليب. وأمَّا عدم تحريم الربا فيما عدا ذلك فهو ثابت فيما إذا اختلف الجنس بإجماع الأئمة – كما حكاه المحاملي – وإذا اتحد الجنس فقد قال أبو حنيفة بتحريم النَّساء من أي جنس كان. ودليلنا عليه: ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أجهز جشاً وليس عندنا ظهر، فابتعت البعير بالبعيرين وبالأبعرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلى خروج المُصَدِّقِ" خرَّج أبو داود معناه. وروى أن عليَّ بن أبي طالب باع جملاً يُدعى "عصيفراً" بعشرين بعيراً إلى أجل. ولم يعرف لهما مخالف؛ فكان إجماعاً. وأما من جهة القياس؛ فلأنهما عوضان، لا يحرم التفاضل في كل واحد منهما؛ فلا يحرم فيهام النَّساء؛ كما لو باع ثوباً من قطن بثوب من إبريسم، أو ثوباً هروياً بثوب مروي إلى أجل. ثم الرجل الآخر الذي روى عنه الشافعي، قال بعض الشارحين: "هو عبد الله بن

عبيد الله بن هرمز". وفي "الحاوي" أنه الأشعث الصنعَانيّ، وقد اختلف في قوله: "فمن زاد أو استزاد" على وجهين: أحدهما: أن هذا شكٌ [آخرُ] من الشافعي. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم تلفظ بهما جميعاً، وأراد بقوله: "زاد": أعطى الزيادة، و [بقوله]: "استزاد": أخذ الزيادة [أو طلبها]. قال: "فأمَّا الذهب والفضة فإنه يحرم فيهما الربا لعلة واحدة وهي أنهما قيم الأشياء" أراد الشيخ بذلك التنبيه على مذهب أبي حنيفة وأحمد؛ فإن عندهما العلة فيهما كونهما موزونين من جنس واحد، فعدياها إلى الرصاص، والنحاس، والحديد، والقطن، والصوف، والكتان، وجميع ما يوزن في العادة. ووجه ما ذكرناه: أن الذهب والفضة يجوز إسلامهما في جميع الموزونات، فلو كانت العلة فيهما وفي سائر الموزونات واحدة لم يجز إسلامهما في ذلك؛ لأن كل شيئين جمعتهما علة واحدة في الربا لا يجوز إسلام أحدهما في الآخر [كإسلام] الذهب [في الفضة] والعكس؛ والبر في الشعير والعكس؛ فدلّ على أن غيرهما لم يشاركهما في العلة. واعلم أن القاضي أبا الطيب [اعترض على من جعل العلة في الذهب والفضة كونهما قيم الأشياء وقيم المتلفات، بأن غير المضروب من الذهب والفضة ليس بقيمة للأشياء، ولا ثمناً لها، والربا يجري فيهما، والعبارة الصحيحة: كونهما جنس الأثمان غالباً، وكأنه أراد بقوله: "غالباً" الاحتراز عن الفلوس إذا راجعت؛ فإنه لا ربا فيها عند العراقيين، وقد أجرى الغزالي فيها وجهاً. قال: "وأمَّا المأكول والمشروب إنه يحرم فيهما الربا لعلة واحدة، وهو أنَّه مطعوم"، والدليل عليه: ما روى معمر بن عبد الله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إلاَّ مثلاً بمثلٍ"، فعلق المنع على الطعام، وهو اسم مشتق، وتعليق الحكم

على الاسم المشتق يدلُّ على التعليل [بما فيه من الاشتقاق] كقوله تعالى: - الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]- وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]- إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فإنه يدل على تعليل الجلد بالزنى، والقطع بالسرقة، والتثبُّت لأجل الفسق، كذلك هاهنا [يدل على التعليل بالطعم]؛ ولأن الحكم يوجد بوجود هذه العلة، ويزول بزوالها؛ ولذلك فإن الحبَّ يجري فيه الربا وهو مأكول، فإذا زرع صار قصيلاً غير مطعوم لم يكن فيه ربا، فإذا أَعْقَدَ الحبُّ فيه صار مطعوماً؛ فجرى فيه الربا، والدوران يفيد العِلِّية. فإن قيل: لا نسلم أنه مشتق، ولا نسلم الاكتفاء في التعليل بمجرد التعليق على المشتق بدون المناسبة، وما ذكرتموه من الدوران فذلك لكونه مكيلاً في حال كونه حبًّا، فإذا صار قصيلاً لم يكن مكيلاً، فإذا انعقد الحبُّ صار مكيلاً فاندفع ما ذكرتموه. قيل: أمَّا الاشتقاق فظاهر؛ فإنه يصح إطلاقه على كل مستطعم، بدليل قوله تعالى: - كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93] يعني: كل مطعوم. وقوله: - فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24] ثم فسره بقوله: - فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً *وَعِنَباً) [عبس: 27، 28] إلى غير ذلك، وقوله: - وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] أي: ذبائحهم، وقال –عليه السلام – في "ماء زمزم": "إِنَّهُ طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ"، وقالت عائشة: "مَكَثْنَا دَهْراً مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ الأسْوَدَانِ التَّمْرُ والماءُ". وأمَّا اشتراط المناسبة في الوصف المشتق المعلق عليه الحكم، فالجمهور على أن المناسب ليست بشرط، ومن زعم أنها شرط – كما صار إليه الإمام – فيجاب بأن وجه المناسبة حاصل؛ لأن الله تعالى قال: - وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] والعبادة متوقفة على البقاء، والبقاء متوقف على ما جعله الله سبباً له، وهو بتناول المأكول والمشروب، وفي تضييق باب الاتجار فيهما إظهار شرفهما

وتيسرهما، وهذا المعنى جارٍ في كل مطعوم، وهو جار في جوهري الأثمان اللذيْن يتوصل بهما إلى ذلك غالباً، وإلى سائر الحاجات، وهذا مناسبَ اقترن الحكم به؛ فيغلب على الظن أنه العلة، ولا يقال: "وجب أن يختص بالأقوات لشدة الحاجة إليها؛ لأنه – عليه السلام – نصَّ على أصناف مختلفة المقاصد، مع الاشتراك في أنها مطعومة؛ فدلّ على التعليل بالقدر المشترك فيها، فنصَّ على البر والشعير، والمقصود منهما القوت، فأُلحق بهما ما في معناهما كالأرز والذرة وغيرهما، ونصّ على التمر، والمقصود منه التأدُّم والتفكه، وقد يؤكل قوتاً؛ فالتحق به ما في معناه وهو الزبيب والبر وغيرهما، ونص على الملح، والمقصود منه الإصلاح؛ فالتحق به كلُّ ما يحتاج إليه من المطعومات للتداوي [والإصلاح]. وأمَّا قولهم: "إن الحبَّ إذا عقد صار مكيلاً فممنوع؛ لأنه ما دام في سنبله فليس بمكيل، وإنما يقف كيله على يبسه وحصاده ودَوْسه، وتلك صفة ليست بموجودة في الحال؛ فتقرر ما ذكرناه، وهو المذهب الجديد. وفي القديم أن العلة مع الطعم التقدير في الجنس بالكيل أو الوزن؛ فلا يجري الربا فيما لا يوزن ولا يكال من المطعومان: كالسفرجل، والرمان، والبيض، والجوز، والأترج، والنارنج، وغير ذلك، ولو جفف منه شيء على ندور وجرى فيه الوزن، فكذلك الحكم عند القفال على ما حكاه الإمام – والد الإمام – قال الإمام: والظاهر (بخلاف هذا)، وقد أفسد القديم بما روى "أنه – عليه السلام – نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ" ولم يفرق بين المطعوم المكيل والموزون والمعدود؛ فهو على عمومه، وعن القديم احترز الشيخ بقوله: "لعلة واحدة"، [وبقوله:] "وهو أنه مطعوم" عما حكى عن الأودني من أصحابنا أن العلةَ الجنسيّةُ لا غير، حتى لا يجوز بيع مال بجنسه متفاضلاً. وقد اختلف الأصحاب على الجديد في مسائل، وهي: الماء، والأدهان المطيبة، وبزر الجزر، والبصل، والفجر، والسلجم، وكذا القرطم، وكذا حب الكتان ودهنه

- إن قلنا بجريانه في حبه – ودهن السمك – وصغار السمك – إن قلنا: يحل تناوله – والزعفران، قال مجل: ولا أعر بجريانه في الزعفران وجهاً إلا كونه يطيب به الطعام، فيلتحق بالملح، وهذا يلزم عليه غيره من الطيب كالمسك والكافور وغيرهما، وقد أجرى الخلاف أيضاً في ماء الورد، والسقمونيا، والصمغ، والزنجبيل، والمصطكي، والطين الذي يؤكل تفكهاً وسفهاً، كالطين الخراساني دون الأرمني، والمختوم؛ فإنه دواء، فيجري فيه الربا وجهاً واحداً. وقيل بجريان الخلاف فيه أيضاً، حكاه ابن التلمساني. ويجري – أيضاً – في كل ما لم يكن أصله مأكولاً من الأدهان، وهو في نفسه مأكول كدهن الخروع وحب القرع، كما حكاه الماوردي، واختيار ابن [أبي] عصرون جريان الربا في الأدهان المطيبة ودهن السمك وبزر الكتان وغيره، وأنه لا يجري في الماء والطين الذي يؤكل سفهاً، والصحيح عند غيره جريان الربا في الماء إذا قلنا بصحة بيعه والزعفران والسقمونيا والمصطحي، والسمك الصغير، وأنه لا يجري في [دهن البزر. وحكى الإمام عن العراقيين القطع به، وكذلك لا يجري في] ودك السمك المعدِّ للاستصباح وطلي السفن، ثم قال: "ويظهر في هذا جعله مال ربا؛ فإنه جزء من السمك"، ورجح في السمك الصغير القول بعدم جريان الربا فيه؛ لأنه لا يعد للأكل. ولا نزاع في أنه يجري فيما عدا هذه الأشياء من الفواكه والحبوب والبقول والتوابل، وفيما يؤكل نادراً كالبلوط، وفيما لا يؤكل إلا مع غيره، قال في "التتمة": "ولا يجري في أطراف قضبان الكرم وإن كان يؤكل"، وكذلك لا يجري فيما هو مأكول للبهائم كالحشيش والتبن وغيرهما، ولو كان مما يأكله الآدميون والبهائم فالمعتبر فيه أغلب الحالين من أكل الآدميين والبهائم. ولو استوت حالتاه فكان اكل البهائم له كأكل الآدميين، قال الماوردي: قد اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما – وهو الصحيح -:جريان الربا فيه. والثاني: لا ربا فيه؛ لأن الصفة لم تخلص.

قال: فمتى باع شيئاً من ذلك بجنسه حرم فيه التفاضل"؛ لقوله - عليه السلام -: "سَوَاءً بِسَوَاءٍ". وأمَّا قوله - عليه السلام -:"إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ" فقد قال الشافعيُّ: "إنه جواب من النبي صلى الله عليه وسلم لسائل سأله عن التفاضل في جنسين مختلفين، فنقل الراوي جوابه - عليه السلام -وأغفل سؤال السائل. قال: "والنَّساء"؛ لقوله - عليه السلام - عَيْناً بِعَيْنٍ، والمعنى: بالعين الحاضرة، ويلزم ذلك الحلول؛ لأن النَّساء هو الأجل، والأجل إنما يثبت إذا كان في الذمة، والعين ليست في الذمة، وكل معين لا أجل فيه فيلزم من اشتراط التعيين والحضور نفي الأجل - وهو الحلول - ومما يدلُّ على ذلك قوله - عليه السلام - في إبدال الدراهم بالدنانير وبالعكس: "لاَبَاسَ إِذَا تَفَرَّقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْء" والأجل يبقى

عُلْقةً بعد التفرق، والنساء – بالمد – التأجيل. قال: "والتفرق قبل التقابض"؛ لقوله – عليه السلام -: "يَداً بِيَدٍ"، ولا فرق بين النقدين بين المصوغ منهما وغير المصوغ، ولا بين التبر وغيره، ويدل عليه قوله – عليه السلام -: "الذَّهبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَْنُهَا، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا". أخرجه أبو داود عن عبادة. وروى الشافعي في القديم عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء [بن يسار] أن معاوية باع سقاية من ذهب أو وَرِقٍ بأكثر من وزنها، فاقل أبو الدرداء: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا، إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ"، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا أَرَى بِهَذَا بَاساً، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ هَذَا؟! أُخْبِرُهُ عَنْ النَّبي صلى الله عليه وسلم وَيُخْبِرُنِي عَنْ رَايِهِّ، قدم على عمر فأخبره بذلك، فَكَتَب عُمَرُ إلَى مُعَاوِيَةَ: "ألا لاَ تَبِعْ ذَلِكَ إِلاَّ وَزْناً بِوَزْنٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ". ولا فرق – فيما ذكرنا – بين أن يكون العقد وارداً على العين أو الذمة، وإن كان ظاهر الخبر قد يمنع إذا ورد العقد على ما في الذمة؛ لأنهما [إذا] عينا في المجلس صار عيناً بعين، كما إذا تقابضا في المجلس كان يداً بيد. وفي "الرافعي" في كتاب "السلَم" حكاية وجه: أنه لا يجوز بيع الطعام بالطعام في الذمة، ويقوم مقامَ قبض العاقد قبضُ وكيله بحضرته في المجلس، وكذا وارثه إن قلنا: إن خيار المجلس لا يبطل بالموت، دون ما إذا فارق الموكل المجلس قبل القبض، أو قلنا: ببطلان خيار المجلس بالموت؛ فإنه يبطل العقد. قاله الإمام في آخر "الوكالة" والماوردي هنا. ولو أحال أحدهما على صاحبه بما وجب له عليه، فإن قبض في المجلس جاز، إن قلنا إن الحوالة استيفاء؛ لأنها ليست باستيفاء حقيقة. قاله الماوردي وغيره.

والتخاير قبل التقابض هل يقوم مقام التفرق؟ فيه وجهان: أصحهما – وهو ما حكاه في "المهذب" -: نعم؛ فيفسد العقد. والثاني – وهو اختيار ابن سريج، وما حكاه الماوردي -: لا؛ فيصح العقد، ولا يلزم، ويكون وجود التخاير كعدمه. وقال الشيخ أبو محمد: هل يبطل الخيار؟ فيه وجهان، فإن بطل بطل العقد، وإلا فلا. فرع: لو ادعى أحدهما التفرق قبل التقابض، وأنكره الآخر، قال الماوردي: القول قول من ينكر القبض، ويكون الصرف باطلاً. وفي "المرشد" – في باب اختلاف المتبايعين -: إن كان ما باعه كل منهما في يد صاحبه، فالقول قول من يدعي حصول القبض، وكذا لو كان المالان في يد أمين، أو في يد موضع التبايع. ويعضد ذلك ما حكاه ابن الصباغ في "السلم" فيما إذا اختلفا في قبض رأس المال قبل التفرق أو بعده، أن القول قول من يدعي الصحة، ولم يحك سواه، وطرده فيما إذا كان في يد المسلم، وادعى المسلم إليه أنه أوعه إياه أو غصبه. قال: وإذا باع من غير جنسه، فإن كان مما يحرم فيهما الربا بعلة واحدة: كالذهب والفضة، والحنطة والشعير، جاز فيهما التفاضل، وحرم فيهما النَّساء والتفرقُ قبل التقابض؛ لقوله – عليه السلام -: "إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَداً بِيَدٍ"، وفي لفظ: "إذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافْ"، [فشرط التقابض]، وهو يستلزم الحلول. وقد روى أبو بكر النيسابوري في "الزيادات" عن عبادة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشَّعِيرُ بِالشََّعِيرٍ كَيْلاً بِكَيْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فقَدْ أَرْبَى".

ولا بأس ببيع الشعير بالبر والشعير، أكثرهما يداً بيدٍ. وفي هذا الحديث دليلٌ على من ادّعى أن الشعير والقمح جنس واحد. قال: "وإن لم يحرم فيهما الربا لعلة واحدة كالذهب والحنطة، والفضة والشعير، جاز فيهما التفاضل والنَّساء والتفرق قبل التقابض". قال في "المهذب": لإجماع الأمة على جواز إسلام الذهب والفضة في غيرهما من المكيلات والموزونات. وقد تقدم في صدر الباب ذكر الدليل على عدم جريان الربا فيما عدا ما ذكر. قال: وكل شيئين جمعهما [اسم خاص]؛ كالتمر المعقلي والبرنيّ، وكذا الحنطة الصعيدية والبحرية، والزبيب الأبيض والأسود، والمشمش، وغير ذلك. [قال:] "فهم جنس واحد" أي: فيحرم فيهما التفاضل والنساء والتفرق قبل التقابض؛ لعموم قوله – عليه السلام – في حديث عبادة: "وَلا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ، وَلا الْبُرَّ بِالْبُرِّ"، وكل منهما طلق عليه اسم التمر والبر، ولما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: "جاء بلال بتمر برني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ " فقال بلال: "تمرٌ كان عندنا رديء، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله عند ذلك: "أَوَّه عَيْنُ الرِّبَا، لاَ تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشَترِيَ التَّمْرَ فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَرَ ثَمَّ اشْتَرِ بهِ"، وقال في آخر: "لاَ تَفْعَلُوا وَلَكِنْ مِثْلاً بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتََرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هذَاَ". وكذلك المُرّان والعَلس.

قال الشيخ: هو صنفٌ من الحنطة، والسلت جنس برأسه ليس بحنطة ولا شعير، والتمر الهندي جنس برأسه. وقال ابن القطان: إنه من جنس التمر، وليس بشيء. واحترز الشيخ بالاسم الخاص عن أن يجمعهما اسم عام كالفاكهة المقولة على التفاح والسفرجل وغيرهما، والحب القول على الحنطة والشعير والسلت. وزاد في "المهذب" إلى ذلك أن يكون من أصل الخلقة؛ ليحترز به من الأَدِقَّة والأدهان، فإن الاسم يتحد بتفريق الأجزاء أو العصير. قيل: ولا حاجة إلى زيادة هذا القيد كما أسقطه في "التتمة"؛ فإن الاسم الخاص فيها لا يكون إلا مع الإضافة كقوله: "دقيق بر، ودهن سمسم" ونحو ذلك. تنبيه: المَعْقِلي – بفتح الميم وإسكان العين المهملة – نوع من التمر معروف بالعراق منسوب إلى معقل بن يسار الصَّحَابي، وإليه يُنسب نهر معقل بالبصرة. والبرني: ضرب من التمر أصفر مدوَّر، واحدته: برنيَّة –قال صاحب "المحكم": "وهو أجود التمر". وقد قال الشيخ في باب "السلم": "إن المعقلي أفضل". قيل: وليس الأمر كذلك. قال: "وما لا يجمعهما اسم خاص – كالحنطة والشعير، واللحم والشحم، والآلبة والكبد – فهما جنسان"، أي: فلا يحرم فيهام التفاضل؛ لقوله – عليه السلام – في حديث عبادة: "فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَجْنَاسُ" – وروى: هذه الأصناف – فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَداً بيَدٍ" فذكر ستة أشياء، وحرم فيها التفاضل إذا باع كل شيء بما يوافقه في الاسم، وأباح فيها التفاضل إذا باعه بما يخالفه في الاسم، وسماه اختلاف الجنسين، وهو موجود فيما ذكرناه؛ فعلى هذا: الشحم جنس، والكبد جنس، وكذا أبعاض الحيوان، وهل هو من سائر الحيوان جنس واحد أو أجناس؟ فيه قولان كما سيأتي في اللحوم. وحكى الشاشي في "الحلية" وجهاً في أن الآلية من اللحم، وهو احتمال أبداه الإمام.

وحكى الماوردي وجهين في أن الألية مع [ما] حمله الظهر صنف من الشحم أم لا؟ أحدهما: أنهما مع الشحم صنف. والثاني: أنهما أصناف مختلفة غير الشحم. وحكى المراوزة في أبعاض الحيوان طريقين: أحدهما: أنا إن قلنا: إن اللحوم أجناس، فهذه أولى؛ لاختلاف أسمائها وصفاتها، وإن قلنا: إنها جنس واحد، فوجهان. والثاني – عن القفال-: أنا إن جعلنا اللحوم جنساً واحداً، فهذه الأشياء مجانسة لها، وإن جعلناها أجناساً فوجهان؛ لاتحاد الحيوان، فصار كشحم الظهر وبطنه، وعلى المذهب: القلبُ ملحق عند العراقيين بالكبد، وعند المراوزة باللحم والجلد، وشحم الظهر مع شحم البطن جنسان، وسنام البعير معهما جنس آخر، والرأس والأكارع من جنس اللحمن وفي الأكارع عند الإمام احتمال، والله أعلم. قال: "وفي اللُّحْمان والألبان قولان، أصحهما: أنهما أجناس؛ فيباع لحم البقر بلحم الغنم متفاضلاً"؛ لأنها فروع لأصول هي أجناس؛ فوجب أن تكون الفروع أجناساً كالأدِقَّةِ والأدهان؛ فإن دقيق الحنطة جنسٌ، ودقيق الشعير جنسٌ، ودقيق الأرز جنسٌ، لأن الحبوب التي هي أصولها أجناس، وكذلك الأدهان أجناس؛ لأن أصولها من السمسم واللوز والجوز أجناس، ولم يعتبر اشتراكها في الاسم بعد ذلك؛ فكذلك اللحمان والألبان. قال: "والثاني: أنهما جنس واحد"؛ لأنها اشتركت في الاسم الخاص في حال حدوث الربا فيها؛ لأن الجميع يُسمى لحماً ولبناً، وإنما يتميز بالإضافة، يقال: لحم بقر، ولحم إبل، ولبن بقر، ولبن إبل؛ كما يقال:"تمر" في الجميع، ثم يتميز بالإضافة فيقال: "تمر معقلي، وتمر برني، وتمرٌ طبرزدي". وقد حُكي طرد هذا القول أيضاً في الأدقة عن رواية حرملة، وخرجه أبو علي بن أبي هريرة في الأدهان أيضاً.

وحكى ابن الصباغ طرده في الحلول. قال الماورديُّ؛: وذهب سائر أصحابنا إلى فساد تخريج ابن أبي هريرة، والفرق بين التمر وبين اللحمان والألبان: أن الطلع شيءٌ واحدٌ، وبعضهم جزم في الألبان بالقول الأول؛ جرياً على ظاهر النص. وفرق بينهما وبين اللحوم بأن الأصول التي حصل اللبن فيها باقية بحالها، وهي مختلفة؛ فَيُدَامُ حكمها على الفروع، بخلاف أصول اللحم. وفي "الحاوي": أن القول الآخر فيه نصَّ عليه في القديم. التفريع: إن قلنا: "إنها جنس [واحد] فلا فرق بين لحوم الحيوانات البرية أَهْلِيِّها ووَحْشِيِّها، وكذا ألبانها، وكذا لحوم البحريات جنسٌ واحد، وفي لحوم البحريات مع البريات وجهان: أحدهما – وبه قال أبو علي الطبري، والشيخ أبو حامد -: أنهما جنسان. والثاني: أنهما جنس واحد؛ لشمول الاسم – وهو اختيار القاضي أبي الطيب وابن الصباغ، وهوا لذي أورده في "التهذيب" -. وإن جعلناها أجناساً فحيوان البر مع حيوان البحر جنسان، ثم الأهليات من حيوان البر جنس، والوحشيات جنس، ثم لكل واحد من القسمين أجناس، فلحوم الإبل وألبانها على اختلاف أنواعها جنس، ولحوم البقر والجواميس وغيرها وألبانها جنس، ولحوم الغنم وألبانها ضَانها ومعزها جنسٌ، والبقر الوحشي جنسٌ، وفي الظبي مع الإبل تردد للشيخ أبي محمد، واستقر جوابه على أنها كالضأن والمعز، وقد صرح المتولي بحكاية [ذلك] وجهين عن الأصحاب، وأن وجه إلحاقهما [بالغنم] أنهما يقربان منها، والتفاوت الذي بين الظبي والمعز ليس بأكثر من التفاوت الذي بين المعز والضأن، والصحيح أنهما لا يلحقان بالغنم – كما في الزكاة – والطيور والعصافير على اختلاف أنواعها جنس، والبُطُوط جنس. وعن الربيع: أن الحمام وكل ما عَبَ وهدر جنس، فيدخل فيه القُمري، والدّبسي، والفاخت، وهو اختيار الإمام والبغوي وجماعة، واستبعده العراقيون، وجعلوا كل

واحد منهما جنساً برأسه. والسُّموك من حيوان البحر جنسٌ، وفي غنم الماء وبقره وغيرهما مع السموك هكذا، وفي بعضها مع بعض قولان؛ أصحهما: أنها أجناس كحيوان البر. وهل الجراد من جنس اللحوم؟ فيه وجهان: فإن قلنا: نعم فهو من البريات أو البحريات؟ [فيه] وجهان. فروع: دهن الورد والبنفسج والبانِ جنس [واحد]؛ لأن أصلها الشيرج، وإنما اكتسبت الروائح المجاورة لهذه الأشياء – قاله الماوردي وغيره-. وزيت الفجل مغاير لزيت الزيتون؛ فهما جنسان. وقال بعض الأصحاب: إنهما كالألبان. ولا يصح؛ لأن اشتراكهما في الاسم ليس اشتراكاً في أول دخولهما في الربا، بخلاف الألبان. وعسل القصب والنحل، وعصير العنب والرطب أجناس، وكذا دبس العنب والرطب جنسان. وفي "الرافعي" ما يقتضي جريان وجه في أن عصير العنب مع عصير الرطب جنس واحد، وفي عصير العنب مع خَلِّهِ وجهان، أظهرهما: أنهما جنسان. والسكر والنبات جنس واحد، وفي السكر والفانيذ وهجان، واستبعد الإمام قول من اقل: إنهما جنس واحد، وأمَّا السكر الأحمر الذي هو عَكَرُ السكر الأبيض – وهو من قصبه – ففيه مع الأبيض تردد؛ من حيث إنه يخالف صفته مخالفة ظاهرة. قال [الإمام]: ولعل الأظهر أنه منجنسه. وبيض الطيور أجناسٌ إن جعلنا اللحوم أجناساً، وإن جعلناها جنساً واحداً فهي أجناسٌ أيضاً في أصح الوجهين. والبقول كالهندبا والنعنع وغيرها أجناس إذا قلنا بجريان الربا فيها، وفي القثاء مع الخيار وجهان، وفي البطيخ المعروف مع الهندي وجهان. تنبيه: اللُّحمان – بضم اللام – جمع: لحم، وتجمع أيضاً على: لُحُوم،

ولِحَام؛ كصَحْب وصِحاب. قال: وإن اصطرف رجلان وتقابضا، ثم وجد أحدهما بما أخذ عيباً، أي: لا يخرجه عن الجنس، كالدراهم الخشنة، والصفرة في الذهب وغير ذلك. قال: فإن وقع العقد على العين وردَّه انفسخ البيع ولم يجز أخذ البدل، أي: إلاَّ بعقد جديد؛ لأن الدراهم والدنانير عندنا تتعين إذا ورد العقد عليهما؛ ولا يجوز للبائع إبدالهما قبل القبض؛ كما في الصاع من الحنطة، والثوب والعبد إذا ورد العقد على عينه، وهذه الأشياء لو تلفت أو رُدَّت بعيب قبل التفرق أو بعده انفسخ العقد، ولم يجز أخذ البدل؛ فكذلك الدنانير والدراهم، وإنما قلنا: إن الدراهم والدنانير يتعينان بالتعيين كقوله - عليه السلام - في حديث عبادة: "عَيْناً بِعَيْنٍ"، وذلك يدل على أنهما يتعينان، ولو كانا لا يتعينان لما كان عيناً بعين، ولأنه عوض يتعين بالقبض؛ فجاز أن يتعين بالعقد أصله إذا عين ما ذكرناه، ومن قال بأنهما لا يتعينان بالتعين ويجوز للبائع إبدالهما، وإذا تلف لا ينفسخ العقد - وهو أبو حنيفة - متمسكاً فيه بأنه لا غرض في أعيانهما، وإنما الغرض في ماليتهما؛ فكان كتعين الميزان - فقد ناقض مذهبه في تعيينهما في الغصب، والوديعة، وهو يبطل بما [علل به]، على أنَّا نقول: قد يكون له فيهما غرض بأن نعلم أنهما من كسب حلال، ولا نعلم ذلك في غيرهما، ونقول: ما قاله يبطل أيضاً؛ بما إذا أورد العقد على صاع من صبرة، وتلف جميعها. إذا فهم ذلك عرف فائدة قول الشيخ: "ولم يجز أخذ البدل"، ولا فرق فيما ذكرناه من تعيين الدراهم بين أن يكون في عقد الصرف أو غيره. قال: "وإن كان على عوض في الذمة"، أي: بشرطه إمَّا بالوصف أو بالإطلاق، ولم يكن ثم نقد غير واحد، أو نقود وأحدها أغلب - "جاز أن يردّ ويطالب بالبدل قبل التفرق؛ لأن العقد وقع على ما في الذمة صحيحاً لا عيب فيه، فإذا قبض معيباً كان له أن يطالبه بما في ذمته مما تناوله العقد؛ كما إذا قبض المسلم فيه ثم وجد به عيباً، ويخالف ما إذا ورد العقد على عينه؛ فإنه لا يملك المطالبة بالبدل؛ لأن العقد غير متناول له؛ فلا يجوز المطالبة بما لم يتناوله العقد. قال: "و [فيما] بعد التفرق قولان:

أحدهما: يرد، [ويطالب بالبدل] "؛ لأنه يجوز الإبدال فيه "قبل التفرق"؛ فوجب أن يجوز بعده إذا لم ينفسخ العقد بالتفرق؛ قياساً على المسلم فيه؛ فإن للمسلم إبداله إذا وجد به عيباً، سواء فارق مجلس القبض أو لم يفارقه، وهذا هو الأصح في الرافعي وغيره، لكن بشرط قبض البدل قبل التفرق من مجلس الرد. "والثاني: أنه بالخيار إن شاء رضي به، وإن شاء ردّه، فإذا ردّ انفسخ البيع"؛ لأنّا لو جوزنا إبداله، لكان قبضه بعد التفرق من مجلس العقد، ولا يجوز قبض العوض في الصرف بعد التفرق [من مجلس العقد] ويخالف المسلم فيه؛ لأن قبضه لا يختص بالمجلس، وفي أي موضع قبض جاز، وبنى الإمام هذا الخلاف في كتاب "الكتابة" على أنْ الدين إذا قبض ناقصاً عن وصفه، وكان المقبوض من جنسه متى يملك؟ هل يملك بالقبض أو بالقبض مع الرضا؟ [و] فيه قولان: فإن قلنا: [إنه] يملك بالقبض صح إبداله، وإن قلنا: لا يملك إلاَّ بالرضا، فلا يجوز إبداله. قلت: ومقتضى هذا البناء: أن يجري الخلاف فيما إذا رضي به بعد التفرق، ولأن الملك حصل بعد التفرق ولم أره، ولا يقال: إنا بالرد نتبين قول عدم الملك، أمَّا إذا جاز فلا يجيء هذا القول، بل يستمر الملك، وقد أشار الإمام إلى ذلك بقوله من قبل: "فإن رضي استمر الملك؛ لأنّا نقول: قد حكى من بعد أن الخيار بسبب هذا النقض هل هو على الفور؟ ينبني على الخلاف، فإن قلنا: لا يملك بالقبض ما لم يرض، فلا شك أن معنى الفور لا يتحقق، بل الملك موقوف على الرضا متى كان، وهذا يدلُّ على أن جريان الخلاف، وإن لم يجر بعد سخ. فرع: لو كان العيب ببعض المعقود عليه وأثبتنا الخيار فيه: فإن رده بجملته فلا كلام، وإن أراد أن يرد المعيب خاصة فهل له ذلك؟ فيه قولاَ تفريقِ الصفقة: فإن جوزنا ذلك فهل بقسطه من مقابله أو بكل المقابل؟ فيه قولان في "تعليق" القاضي أبي الطيب، وهذا إذا أورد الصرف على ذهب وفضة. أمَّا إذا كان ذهباً بذهب، أو فضة بفضة- قال القاضي أبو الطيب: بطل العقد وجهاً واحداً؛ لكونه من قاعدة "مد عجوة"؛ كالدينار الصحيح والدينار القراضة

بدينارين صحيحين أو قراضة. أمَّا إذا كان العيب يخرجه عن الجنس، بأن وجده رصاصاً أو نحاساً، فإن كان في الكل بطل العقد في الكل إذا ورد على العين، كما نصّ عليه الشافعيُّ في كتاب "الصرف". وقال أبو علي في "الإفصاح": من أصحابنا من قال: البيع صحيحٌ ويخيّر فيهن ويجري هذا فيما إذا قال: بعتك هذه، فخرجت حماراً، وهذه نوع من البغال تشبه الحمير يكون بـ "طبرستان". وفيما إذا باع ثوباً على أنّه قز، فخرج كتاناً؛ لأن الكتان الخام يشبه القز، وهذا الجوهر على أنه عقيق، فإذا هو بخلاف ما شرط. ولو قال: بعتك هذا الحيوان، وهو حمار، أو هذا الشخص، وهو عبد، فإذا هو فرسٌ [أو جارية] – فإن كان المشتري عالماً بالحال انعقد البيع، وإن كان جاهلاً فهل ينعقد؟ فيه الخلاف، كذا قاله القاضي الحسين قبيل باب "بيع البراءة"، ويتجه طرد هذا التفصيل فيما ذكرناه. وإن كان العيب في البعض بطل العقد فيه على النص، وفي الباقي قولاَ تفريقِ الصفقة، فإن قلنا: تفرق، أخذ الباقي بحصته من الثمن. قال الماوردي: قولاً واحداً. وفي "تعليق" أبي الطيب تخريجه على التفصيل والخلاف السابق. قال البندنيجي: فإن قلنا: إنه يأخذ السليم بكل الثمن، [لم يكن له رد المعيب وإمساك الصحيح، وإنما يقال له: إمَّا أن ترد الكل أو تمسك الكل، وأمَّا أن تمسك البعض بكل الثمن] فهذا سفه لا يقبل منك. وفي [كلام القاضي والماوردي أيضاً إشارة إلى ذلك]. فائدة: كلام القاضي أبي الطيب [في "تعليقه"] مصرح بأن من حصل له البدل المعيب فيما إذا ورد العقد على ما في الذمة، واطلع على العيب بعد التفرق – يثبت له الخيار بين أخذه ورده واسترجاع ثمنه، وهل له المطالبة بالبدل؟ فيه الخلاف، وإلى ذلك

يرشد قول الشيخ: "جاز أن يرد ويطالبه بالبدل قبل التفرق، وبعد التفرق قولان"؛ وكان ينبغي إذا قلنا بجواز أخذ البدل ألاَّ يثبت له الخيار في رده واسترجاع الثمن؛ لأن المعقود عليه باقٍ في الذمة؛ كما في المسلم فيه إذا ردّ بسبب العيب. وهذا قد صرح به المتولين وابن التلمساني في "شرحه"، لكن يشكل على بناء الإمام؛ فإنا إنما جوزنا الإبدال بناء على أنه ملك بالقبض، ومتى ملك المعيب بالقبض امتنع أن يكون حقه باقياً في الذمة. فرع: إذا ورد الصرف على ما في الذمة، ثم عين في المجلس بالقبض - فهل يكون كالمعين في حال العقد؟ في نظيره في رأس مال السلم خلافٌ، ويتجه جريانه هاهنا، فإن جري فمن ثمرته أنه إذا ردّ العقد هل يجب على القابض ردّ ما أخذ أو يجوز له ردّ بدله؟ فيه خلاف، وأنه إذا باع ما له في ذمة زيد من نقد لزيد بعوض موصوف في الذمة، وعينه في المجلس، فهل يكفي أم لابد من قبضه؟ إن قلنا: إنه كالمعين في العقد، خرج على القولين في اشتراط القبض، وإلا فلابد من القبض، لكن يلزم على هذا التقرير أنه إذا وجد به عيباً وردّه في المجلس لا يجوز له أخذ البدل على وجهٍ؛ كما إذا ورد العقد على عينه، ولم أره. [فرع] آخر: إذا طلع على العيب بعد التلف، وكان العوضان من جنس واحد - لم يكن له الرجوع بالأرش؛ لأنه يؤدي إلى التفاضل، ولكن يفسخ العقد، ويرد مثل التالف إن كان خالصاً، أو قيمته إن كان بَهْرَجاً، ويسترجع الثمن، وهذا ما أجاب به الماوردي والبندنيجي هنا وابن الصباغ والمتولي في مسألة الحلي إذا وجد به عيباً، وقد ذُكِرَ فيه وجه آخر: أنه يجوز أخذ الأرش، وهو الذي صححه في "التهذيب"، وهل يعتبر من جنس المعيب، أو بغير جنسه؟ فيه خلاف مذكور، ومثله يجري هاهنا؛ إذ لا يظهر بينهما فرق، ولو كانا من جنسين كالذهب بالفضة، فهل له أن يرجع بالأرش؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ اعتباراً بعيوب سائر المبيعات التالفة. قال الماوردي: "وهذا أقيس"؛ فعلى هذا يرجع بأرش الدينار من الدراهم، وبأرش الدراهم من المذهّب، ويتجه أن يجيء فيه الوجه الآخر - الذي تقدمت حكايته-.

والوجه الثاني – وهو قول الشيوخ من أصحابنا البصريين، والجمهور من غيرهم -: لا يجوز له الرجوع بالأرش؛ لأن الصرف أضيق حكماً من سائر البيوعات، فلم يتسع لدخول الأرش فيه؛ لأن الأرش يعتبر بالأثمان؛ فلم يجز أن يكون الأرش داخلاً في الأثمان، فعلى هذا ينفسخ العقد، ويرجع عليه بمثل التالف أو قيمته إن كان بهرجاً، وقد ورد العقد على عينه، وإن ورد على الذمة ثم قبض في المجلس: فيرد بدله إن كان له مثل، أو قيمته إن كان بهرجاً، وهل له أن يأخذ بدله؟ فيه القولان السابقان، كذا حكاه الماوردي، وفي بعضه تناقض؛ لما حكيناه عنه في الباب الأول من كتاب البيوع، ولا يخفى أن جميع ما ذكرناه في الصرف يجري مثله فيما إذا باع ما يحرم فيه الربا بعلة الطعم [بما يحرم فيه الربا بعلة الطعم]. قال: "وما حرم فيه التفاضل، فإن كان ما يكال لم يجز بيع بعضه ببعض حتى يتساويا في الكيل"، أي: في علم المتعاقدين حالة العقد، ولا يكفي تساويهما في الوزن، وإن كان أحصر لما روى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال- في حديث عبادة -: "البُرّْ بالْبُرِّ مُدَّيْنِ بِمُدَّيْنِ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مُدَّيْنِ بِمُدَّيْنِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مُدَّيْنِ بِمُدَّيْنِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مُدَّيْنِ بِمُدَّيْنِ، فَمَنْ زَادَ أو ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى". وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ تضبِيعُوا الْبُرَّ بالْبُرِّ إِلاَّ كَيْلاً بِكَيْلٍ يَداً بِيَدٍ"، نصاً على التساوي بالكيل؛ فاقتضى ألا يعتبر التساوي فيه بالوزن؛ لأنه قد يخالف ما أمر به من الكيل. نعم، ولو علم تساوي صنف في الكيل والوزن هل يجوز بيع بعضه ببعض وزناً؟ [فيه وجهان محكيّان في "الحاوي". وحكى عن الفوراني أنه جوز بيع ما يكال وزناً] دون عكسه، والذي كان يكال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبوب والأدهان، والألبان، والتمر والزبيب والملح. وحكى أصحابنا فيه إذا كان قِطَعاً كباراً وجهين: أحدهما: يُدق ويكال. والثاني: يوزن. وهو الأظهر. وفي كلام الإمام ما يدل على أن اللبن الخاثر يجوز كيله ووزنه، وألحق الأصحاب

العصير بما يكال، وكذا السمن والعسل عند أبي إسحاق، على ما حكاه الرافعيُّ عنه في السمن، والقاضي أبو الطيب وغيره في العسل. وفي "الزوائد": أن أبا إسحاق قال في العسل: "إنه يباع كيلاً، بخلاف السمن" والمنصوص أنهما يوزنان، وتوسط صاحب "التهذيب" [في السمن] فقال: "إن كان ذائباً كان مما يكال، وإلاَّ فمما يوزن. وقال الماوردي:"إن كان ذائباً فلا يباع إلا كيلاً، وإن كان جامداً فوجهان: أحدهما: لا يجوز بيع بعضه ببعض؛ لأن أصله الكيل، وهو متعذر. والثاني: يجوز وزناً". قال: "فإن كان في أحدهما قليل تراب جاز"؛ لأنه يتخلل في المكيال، فلا يظهر أثره، وكذلك قليل التبن. أمَّا ما يظهر له أثر في المكيال ككثير التراب والتبن، أو كان المخالط قصيلاً –وهو عقد التبن – أو زُواناً – وهو حب أسود قريب من خلقة الشعير – لم يجز؛ للعلم برجحان المقابل، ولو باع القمح بالقمح، وفي أحدهما قليل شعير لا يقصد مثله، أو شعيراً بشعير، وفيهما أو أحدهما قليل قمح لا يقصد مثله – لم يضر. قال: "وإن كان مما يوزن لم يجز بيع بعضه ببعض حتى يتساويا في الوزن"،أي في علم المتعاقدين حالة العقد؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْناً بِوَزْنٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ وَزْناً بِوَزْنٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَهُوَ رِباً"، ولما ذكرناه من المعنى. واستدل الماوردي وغيره على اعتبار الكيل فيما يكال بالحجاز في عصره صلى الله عليه وسلم، وإن كان يوزن في سائر البلاد، والوزن فيما يوزن بالحجاز في عصره – عليه السلام – وإن كان يكال في سائر البلاد – بما روى طاوس عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ"، وليس هذا القول

إخباراً بانفراد أهل المدينة بالمكيال ومكة بالميزان؛ لأن مكيال غير المدينة، وميزان غير مكة يجوز التبايع به، واعتبار التماثل فيه؛ فعلم أن مراده عادة أهل المدينة فيما يكيلونه، وعادة أهل مكة فيما يزنونه. وفي "النهاية" أنه يجوز أن يكون معنى الحديث: أن ما تعلق [بالوزن] من النُّصُب وأقدار الديات وغيرها فالاعتبار فيها بوزن مكة، وما تعلق بالكيل في زكاة الفطر والكفارات فالمعتبر ما يغلب في المدينة، وليس في الحديث تعرض لأمر الربا، واستدل المحاملي على ذلك بأن الشرع ورد باعتبار المماثلة والمساواة في البيع، ولم يبين الجهة التي يعتبر فيها التساوي، ولابد فيها من تحديد، ولا حدّ لها في اللغة ولا في الشرع؛ فرجع في تحديده إلى العرف والعادة، وأَوْلى العادات بالاعتبار العادةُ التي كانت في زمنه عليه السلام. قال:"فإن كان في أحدهما قليل تراب لم يجز؛ لأن التراب يظهر في الوزن؛ فلا يعسر الاحتراز عنه في الموزونات، وصور الماوردي المسألة: بما إذا باع ما يوزن من الورق والذهب بعضه ببعض، وفيهما أو في أحدهما يسيرٌ من التراب. فرع: إذا اتخذ مكيالاً لم يعهد في عصره صلى الله عليه وسلم، وكان يجري التماثلُ به - قال الإمام: الوجه القطع بجواز رعاية التماثل به؛ كما قطع أصحابنا بجواز بيع الدراهم بالدراهم إذا علمنا بالتساوي في كفتي الميزان، أمَّا إذا لم يجر العرف باستعماله بأن باع مِلْء قصعة بملئها ففيه تردد للقفال، والظاهر الجواز. والوزن بالماء يتأتى بأن توضع دراهم في طرف، وتلقى على الماء، وينظر إلى مقدار غوصه، ثم يفعل مثل ذلك بمقابله، قال الإمام: ولكن الظاهر أنه لا يكتفي به؛ فإنه ليس وزناً شرعيًّا ولا عرفيًّا. [فرع] آخر: لو قال: بعتك هذه الصُّبْرة على أن تكون كل صاع بصاع، وهما لا

يعرفان القدر، وتقابضا في المجلس جزافاً، ثم كالا بعد التفرق: فن خرجتا متفاوتتين فالزيادة لا تدخل في العقد، [وهل يصح العقد] [في القدر] المتساوي؛ فيه وجهان، [ووجه المنع: أن الكيل في بي المكايلة من تمام التسليم ولم يوجدا، ولأنهما ماثلا الصبرة بالصبرة، وهما متفاوتتان، وعلى العلة يخرج ما لو خرجتا متساويتين؛ فيكون فيهما وجهان]. ولو قال: بعتك الصبرة بالصبرة على أن يكون الصاع بالصاع، وكالا في المجلس – فإن خرجتا متساويتين صح، وإلاَّ فوجهان: أحدهما: أن البيع صحيح. ويقال لمن نقصت صبرته: أترضى بقدر صبرتك، وإلاَّ فُسخ العقد، ولا يقال لمن زادت صبرته: سلم الزيادة، وهذا ما اختاره ابن [أبي عصرون]. والثاني – وهو المذهب في "تعليق" البندنيجي -: أن العقد باطل. قال: وإن كان مما لا يكال ولا يوزن، أي: بل العادة فيه أن يعد كالقثاء والبطيخ في بعض البلاد، والسفرجل والأترج، والجوز والبيض وأجناس ذلك – "ففيه قولان"، أي: تفريعاً على القول الجديد، وهو جريان الربا فيها: "أحدهما: لا يجوز بيع بعضه ببعض"؛ لأنه لا سبيل إلى تجويز البيع عدداً؛ فإن فيه تساهلاً – لا يحتمل مثله في باب الربا –والوزن والكيل فيه غير معتاد في عصره – عليه السلام – وبعده، ولا يمكن إلحاقه بالمكيل ولا بالموزون؛ لأن القشر والرطوبة يمنعان العلم بالتساوي – الذي هو شرط العقد – فامتنع بيع بعضه ببعض، وهذا هوا لأصح عند الإمام وظاهر المذهب. قال: "والثاني: يجوز إذا تساويا في الوزن"؛ لأن بقاء البيض والجوز والرمان في قشره من مصلحته، والقثاء والبطيخ والسفرجل هذه حالة كمالها؛ فلم يمنع ذلك صحة البيع، كبيع التمر بالتمر وفيه النواة، واللبن باللبن مع ما فيه من الرطوبة، واعتبر الوزن فيها؛ لأنه أحصر. ويجري هذا الخلاف في الخضراوات مثل الجزر والفجل وغيرهما، والمنع فيها

منصوص عليه في "الأم"، وفي الجوز واللوز – حكاه ابن كجٍّ عن الشافعيّ، وألحق الرافعي البيض بهما، ورجح الجواز، وجعل المعيار في البيض الوزن، وكذلك في الجَوْز دون اللَّوز، وجزم المتولي في البيض والجوز إذا كانا صحيحين بجواز بيع بعضه ببعض، وبالمنع فيما إذا كان مكسوراً، أو البعض صحيحاً. والمذكور في "الحاوي" في مسألة بيع الدجاجة وفي بطنها بيضٌ: أن بيع البيض بالبيض لا يجوز على قوله الجديد، وهو ما حكى الإمام في أواخر الباب بعد حكايته الخلاف الذي ذكرناه أولاً؛ لاتفاق الطرق عليه، وعلى منع بيع الجوز بالجوز. وحكى قول الجواز وجهاً منسوباً إلى رواية صاحب "التقريب". أمَّا ما يكال ويوزن في غير الحجاز، ولا يكال ولا يزن فيه وجهلنا الحال فيه – فيجوز بيع بعضه ببعض وجهاً واحداً، ولكن ما المعتبر فيه؟ [هل] الكيل أو الوزن؟ الذي حكاه العراقيون وجهان: أحدهما: أنه يعتبر بالبلد التي فيها البيع؛ فإنه أقرب إليه. والثاني: أنه يعتبر بأشبه الأشياء به في الحجاز: فإن كان يشبه مكيلاً لم يجز إلاَّ كيلاً، وإن كان يشبه موزوناً لم يجز إلاَّ وزناً، واختاره في "المرشد"، كما اعتبر ذلك في جزاء الصيد والحيوان الذي لا يعرف أن العرب تستطيبه أو تستحبه، فعلى هذا لو كان شبيهاً بهما فأيهما المعتبر؟ فيه وجهان حكاهما البندنيجي. وزاد الشيخ أبو حامد في الأصل وجهاً ثالثاً، وقد حاكه ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب بدل الوجه الأول: أنه يعتبر فيه عرف أهل الوقت في أغلب البلاد، وهو ما حكاه الماوردي، ولم يحكه غيره، ثم قال: وإن لم يكن للناس فيه عرف غالب، وكانت عادتهم تستوي في كيله ووزنه – فقد اختلف أصحابنا فيه على أربعة مذاهب: أحدها: يباع وزناً؛ لأنه أحصر. والثاني: كيلاً؛ لأن الكيل في المأكول نصٍّ. والثالث: يعتبر بأشبه الأشياء به. والرابع: أنه مخير بين الكيل والوزن. وفي "التتمة": أنَّه إن كان أكبر جرماً من التمر، فالاعتبار فيه بالوزن، وإن كان مثله،

أو أصغر منه ففيه الوجهان المذكوران أولاً في "الحاوي". وزاد الإمام عليهما وجه اعتبار العرف الغالب في موضع المعاملة، وعن شيخه وجه التخيير، واستبعده وقال: "لم أره لغيره". وحكى عن شيخه وعن الصَّيْدلاني وجهاً آخر: أنه يتعين أن يتقدر بما يتقدر به أصله، ثم قال: "ولو منع مانع أصل البيع لاستبهام طريق التماثل لكان أقرب مما ذكرنا، ولكن لا قائل به من الأصحاب". واعلم أن بعض الشارحين لهذا الكتاب قال: يمكن حمل كلام المصنف على القولين في أنَّ ما لا يكال ولا يُوزن هل يجري فيه الربا كما ذكرنا من قبل؟ وهذا لايعطيه كلام الشيخ؛ لأمرين: أحدهما: أنه حكى قولاً في منع البيع مطلقاً، وذلك لا يُوجد في هذه الصورة. الثاني: أنه قسم ما حرم فيه الربا إلى ثلاثة أقسام هذا ثالثها؛ فلا يحسن أن يكون الخلاف الذي ذكره في أنه هل يجري فيه الربا أم لا، والله أعلم. قال: "وما حرم فيه التفاضل لا يجوز بيع حَبِّه بدقيقه"؛ لأن دقيق الحنطة مثلاً قمح تفرقت أجزاؤه، فهما جنس واحد كالدراهم المكسَّرة والصِّحاح، ولا يمكن اعتبار التساوي [بالوزن؛ لأن أصله الكيل، ولا يمكن اعتبار التساوي فيه بالكيل؛ لأن النظر إلى التساوي] في حال الكمال، كما أشار إليه – عليه السلام – بقوله: "أَيْنْقُضُ الرُّطَبُ إِذّا جَفَّ؟ " ورتب المنع – عليه كما سنذكره – وحالة الكمال كونه قمحاً؛

لأنه يُدخر كذلك، ويفسده إذا كان دقيقاً، والطحن يحدث بينهما تفاوتاً في الكيل، بحيث يعلم التفاضل بينهما، وذلك ممنوعٌ بالنصِّ؛ فيتعين القول بعدم الصحة، وهذه العلة تعلل جملة المسائل الآتية من هذا النوع وما يقرب منه؛ فيستغني عن إعادتها. وحكى أبو الطيب بن سلمة وابن الوكيل عن رواية الكرابيسي عن الشافعي قولاً: "أنه يجوز بيع الحنطة بدقيقها كيلاً بكيل"، وجعل الإمام منقول الكرابيسي: أن الدقيق مع الحنطة جنسان، حتى يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً. قال الرافعيُّ: "ويشبه أن يكون منفرداً بهذه الرواية". قلت: قد وافقه عليها الماوردي، وحكى أنه مذهب أبي ثور؛ فلا انفراد. وحكى الإمام أيضاً عن رواية ابن مقلاص أن الشافعيَّ جعل السويق مخالفاً لجنس الحنطة؛ لأنه يخالفها في المعنى، والدقيق مجانس للحنطة؛ فإنه حنطة متفرقة الأجزاء، والحنطة دقيق مكسَّر. قال الإمام: وعلى هذا الخبر يخالف الحنطة، ويجب أن يخالف السويق الدقيق، والمذهب المشهور الذي نصَّ عليه في عامة كتبه: الأول. ونفى بعضهم أن يكون ما ُحكي عن الكرابيسي منقولاً عن الشافعيّ؛ فنه لم يقل سوى: "قال أبو عبد الله، وأبو عبد الله يحتمل مالكاً، ويحتمل أحمدَ؛ فإنهما مخالفان في ذلك. وعلى هذا فلا يجوز بيع الحنطة بشيء مما يُتخذ منها كالسويق، والخبز، والنّشا، ولا بما فيه شيءٌ مما يتخذ منها كالمصل؛ ففيه الدقيق والفالوذج وفيه النشا. واعلم أن السويق الذي أطلقه العلماء هاهنا يكون على ضربين- كما حكاه القاضي أبو الطيب -: أحدهما: نقيع، وهو أن يُبل بالماء، ثم يُنشر حتى يجفَّ، ثم يقلى ويجرش. والثاني: مطبوخ، وهو أن يطبخ ثم يجفف، ثم يُقلى ويجرش. وذلك غير ما نفهمه في بلادنا منه، وإذا كان كذلك فالمنع فيه يتأكد بدخول النار فيه.

قال: "ولا بيع دقيقه بدقيقه": أمَّا وزناً فَلِمَا قررناه، وأمَّا كيلاً فللجهل بالتماثل في حال الكمال، ولأن أحدهما قد يكون أنعم فينبسط في المكيال أكثر من الخشن، ويخالف بي الحنطة الصغيرة الحبة بالحنطة الكبيرة الحبة؛ فإنَّ أجزاء الحب ثَمَّ مجتمعة. وحكى البويطي، والمزني في "المنثور"، وحرملة قولاً: "أنَّه يجوز [بيع الدقيق بالدقيق كيلاً، وإن امتنع] بيع الحنطة بالدقيق؛ كما يجوز بيع الدهن بالدهن، وإن امتنع بيعه بالسمسم؛ فعلى هذا: لا يجوز بيع ما يتخذ من القمح بما يُتخذ منه. وحكى الشيخ أبو حامد والعراقيون قولاً عن رواية حرملة: أنَّه يجوز بيع الخبز اليابس المدقوق بمثله؛ لإمكان كيله وادخاره. ورواه الشيخ أبو عاصم العبَّاديُّ وغيره عن رواية ابن مقلاص، واختاره ابن أبي عصرون، ورواه الماورديُّ وجهاً ثم قال: "ولولاه مشهوراً من قول أصحابنا لكان إغفاله أولى؛ لمخالفته النصَّ، [ومنافاته المذهب] ". وبالجملة، فكل قول حكيناه غير ما حكاه الشيخ، قال الإمام: اتفق أئمة المذهب على أنه غير معدو من متن المذهب، وإنما هو من ترددات جرت في القديم، وهي مرجوع عنها. وحكم السمسم وغيره من الحبوب التي يتخذ منها الأدهان مع طحينتها، وطحينتها مع طحينتها حكم الدقيق، [وكذا الحنطة] التي ينحَّى قشرها بالدق والتهريس بعد البل – حكم الدقيق. وأبدى الإمام فيها احتمالاً. فرع: الحنطة المسوسة، أطلق الأئمة القول بجواز بيعها بعضاً ببعض، وقال الإمام: لعل ذلك قبل أن تتآكل، فأمَّا إذا تآكلت وخلت أجوافها ففيها نظرٌ عندنا، والقياس: القطعُ بالمنع كالحنطة المقلية بمثلها، والحنطة المبلولة بمثلها؛ لما في ذلك من التجافي في المكيال، الحكم في الحنطة المبلولة بعد الجفاف المنعُ أيضاً. قال: [ولا] مطبوخِهِ بمطبوخِهِ كاللحم المشوي، والدبس، والقُطارة، عسل القصب، والقند، والسكر، والفانيذ، وكل ما تعقد النار أجزاءه مثل عصير الرمان،

والتفاح، والسفرجل؛ للجهل بالمماثلة، فإن النار قد تؤثر في أحدهما أكثر من الآخر، أمَّا ما دخلته النار للتمييز فلا يمتنع بيع بعضه ببعض كالذهب والفضة، وكذا السمن وعسل النحل إذا ميَّز منه الشمع بالنار، وظنَّ بعض الأصحاب أنَّ النار تعقد أجزاءه فمنع من بيع بعضه ببعض، كما امتنع بيع بعض الزيت ببعض، والذي عليه سائر الأصحاب الأوَّلُ، لكن بشرط ألاَّ ينقص من أجزائه شيءٌ، فإن نقص منع، حتى لو أغلى العسلَ المصفى على النار، امتنع بيع بعضه ببعض، وقد حكى الغزالي وغيره من العراقيين في القند، والسكر، والفانيذ واللِّبَأ وجهاً: أنه يجوز بيع بعض ببعض؛ لأنَّ لتأثير النار فيه غاية يعرفها أهل البصر، وهذا جعله البندنيجي [ظاهر المذهب في السكر]. وقال الماوردي: "السكر والفانيذ إن أُلقي فيهما دقيق أو غيره فلا يجوز بيع بعضه ببعض، وإلاَّ فينظر: إن أدخلت النار فيهما لتصفيتهما وتمييزهما من غيرهما جاز بيع بعضه ببعض، وإن أدخلت لاجتماع أجزائه وانعقادها فلا. وكذلك دبس التمر ورُبُّ الفواكه، وقد أُلحق بهذا النوع مصل أقط. فرع: العسل المصفى بالشمس يجوز بيع بعضه ببعض. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه إن صُفي بها في البلاد المعتدلة الحر لا يجوز بيعه بما صُفي بها في البلاد الشديدة الحر، قال مجلي: "وليس بشيءٍ". قال: "ولا مطبوخِهِ بنِيِئِه". النَّيء مكسور [النون] مخفف الياء بهمزة ممدودة. قال: "ولا أصله بعصيره": كبيع العنب، والرطب، والسفرجل، والتفاح، والرمان بعصيره، وكذا بيع اللبن بالمصل، جعل الرافعيُّ المنع معللاً بدخول النار فيه، واختلاطه بالدقيق، ويجوز بيع العصير بالعصير، خلافاً للقاضي الحسين، ويجوز بيع خل العنب بعضه ببعض، إذا لم يكن فيه ماء، ولا يجوز بيع خل التمر بمثله، وكذا خل الزبيب بمثله؛ لأن الماء إما ربوي أو يجهل قدره فيهما، وهل يجوز بيع خل الزيت بخل التمر؟ فيه وجهان:

إن قلنا: إن الماء ربوي، امتنع، وإلا فلا، وهذا إذا قلنا: إن الخلول أجناسٌ. أمَّا إذا قلنا: جنسٌ واحدٌ – كما خرجه [أبو] علي بن أبي هريرة قولاً – امتنع وجهاً واحداً. ولا يجوز بيع الطحينة بالطحينة، وكذا لا يجوز بيع كسب الشيرج بمثله، وجوَّز أبو علي بن أبي هريرة بيع الكسب بالكسب وزناً، ووجه المنع: أن أصله الكيل، وفيه ماء وملح؛ فهو من قبيل ما يذكر من بعد. قاله الماوردي. قال: "ولا خالصه بمشُوبه" أي: مثل الدراهم الخالصة بالمغشوشة والحنطة السالمة من الفصل والزُّوان بما فيه قصل أو زوان، والسمن بالزبد الذي فيه المخيض، وكلما لا يقصد المخالط فيه دون ما إذا كان المخالط مقصوداً؛ كبيع عسل النحل بشمعه بمثله؛ فإن المنع منه مأخوذٌ من قاعدة "مد عَجْوَة" لا من هذه القاعدة. تنبيه: "المَشُوب" – بفتح الميم، وضم الشين -: المخلوط بغيره. قال: "ولا مشوبه بمشوبه" أي: مثل العلس في قشرته أو قشره بمثله، أو بالحنطة، أو الأرز في شرته بمثله، دون ما إذا كان في قشره الأحمر على رأي أكثر أصحابنا، كما حكاه الماوردي، وكجميع ما ذكرناه من قبل. وفي الجيلي عن "البحر": أن الصحيح جواز بيع الأرز بالأرز في قشرته العليا؛ لأن صلاحه فيها، وكذا الباقلاء في قشرته، ويلتحق بهذا القسم بيع الزبد بالزبد؛ إذ لا يخلو أحدهما عن قليل مخيض، وفيه وجهٌ: "أنَّه يجوز، وبه قال ابن أبي هريرة، وهو أصح عند الماوردي؛ لأنَّ ما فيه من بقايا اللبن يسيرٌ غيرُ مقصود، وهذا يليق بمذهب أبي إسحاق؛ حيث اعتبر فيه الكيل. قال الرافعيُّ: "وعلى الأوَّل لا يجوز بيع الزبد بالسمن"، وهذا يفهم جواز بيعه به على الثاني، وليس كذلك. ومن هذا القسم دهن البنفسج، والورد، ودهن الزيت، وهو دهن الياسمين إذا طُرح ذلك فيه بعد العصر، أمَّا إذا طيب الحب به، ثُمَّ أُزيل عنه وعصر فلا أثر لذلك. وألحق أبو إسحاق بهذا القسم الشيرج بالشيرج؛ لما فيه من الملح والماء، وردّ الأصحاب عليه بأنَّ ذلك يخرج مع الكُسْب، وكذا ألحق به بيع اللحم باللحم وفيهما

العظم، ووافقه على ذلك المعظم. وقال الإصطخري: "إن ذلك لا يضر كالنوى"، وهو ما حكاه الماوردي، والقاضي أبو الطيب في "تعليقه" في مسألة "بيع العسل بالعسل"؛ فعلى هذا يجوز بيع لحم الفخذ بالجنب، ولا نظر إلى تفاوت أقدار العظام؛ كَمَا لاَ نظر لتفاوت النوى. وألحق الماورديُّ باللحم الذي فيه العظم اللحم الذي عليه الجلد الرقيق كجلود الجِداء والدجاج، وحكى فيه الوجهين، وقال: "أمَّا الجلد الغليظ الذي لا يؤكل معه فممتنع بيعه باللحم، وبيع السمك المملوح بمثله ممتنع، وإن كان من سمكة واحدة". فرع: لو نزع النوى من التمر فهل يجوز بيع بعضه ببعض؟ فيه وجهان، أصحهما المنع، وهو ما حكاه الماوردي في مسألة "بيع العسل بالعسل". والمشمش والخوخ، منهم من ألحقهما بالتمرن فخرج بيعهما منزُوعَي النوى على الوجهين، ومنهم من ألحقهما باللحم؛ فجوز عند النزع، وأجرى الخلاف في صحة البيع مع البقاء. قال: "ولا رَطْبه برطبه" أي: إذا كانت له حالة جفاف كالرُّطَب بالرطب، والبُسْر بالبسر، والبلح بالبلح، والعنب بالعنب، والحِصْرَم بالحصرم على الأرض، والخبز بالخبز، وجعل الغزالي المنع في الخبز من قاعدة مد عجوة"؛ لما فيه من الماء والملح، ومقتضى ذلك: أنه لا يجوز بيع بعضه ببعض بعد جفافه ودقه كما حكيناه من قبل، وهو ما نصَّ عليه الشافعيُّ في الصرف، وفي "شرح التلخيص" للقفال: [أن] بيع الرطب بالرطب – وكلاهما على وجه الأرض – يخرج على الخلاف فيما إذا كانا على رءوس النخل. [وقد ألحق بعض الأصحاب بهذا القسم بيع اللحم الرطب باللحم الرطب، وجعل حاله كحاله إذا قُدِّد، ومنع البيع قبلها]، وبعضهم حكى فيه قولين، ومحلهما إذا لم يكن مملوحاً، أمَّا ما ليس له حالة جفاف، فإن كان كاللبن جاز بيع بعضه ببعض في حال رطوبته، ولا فرق فيه بين الحليب والذي تغير طعمه وحمض، إذا لم يكن فيه ماء، ولا بين أن يكون أحدهما حليباً والآخر حامضاً؛ فإنه يجوز، قال القاضي أبو الطيب: "كما يجوز بيع تمر طيب بتمر غير طيب وقد حمض، وحنطة طيبة بحنطة

تغير طعمها وعفنت". ومال المتولي إلى منع بيع الحامض بالحامض؛ لأنه ليس على حالة الادخار، ولا على حالة كمال المنفعة؛ فليكن كبيع الدقيق بالدقيق. وإن كان كالرُّطب الذي لا يُتْمِر، والعنب الذي لا يجيء منه زبيب، فهل يجوز بيع بعضه ببعض؟ ففيه القولان اللذان تقدم ذكرهما في الخضراوات، والمنصوص عليه منها في "الأم" قول المنع، وبه جزم بعضهم، واختيار ابن سريج- كما حكاه الماوردي -: الجواز. وما تجفف على بذور كالخوخ والمشمش ونحوهما، هل يجوز بيع بعضه ببعض؟ حكى المراوزة فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: المنع رطباً ويابساً، وبالمنع أجاب القاضي أبو الطيب في الخوخ في حالة الرطوبة، وهو الأصح في الجميع عند غيره. قال الإمام: "ولم يجوِّز أحد من الأئمة بيعه رطباً ويمنع منه جافاً. نعم، حكى ذلك في الرطب الذي إذا جفف، لم يبق فيه انتفاع [يحتف به]؛ فتجتمع فيه أربعة أوجه: هذا، والأوجه الثلاثة المنقولة في المشمش والخوخ. فرع: الجبن إذا يبس هل يجوز بيع بعضه ببعض؟ فيه قولان: أحدهما - رواه حرملة -: أنه يجوز وزناً، وبه قال أبو إسحاق. والثاني - رواه الربيع، وهو الصحيح -: أنه لا يجوز. واختلف في تعليله، فقال ابن سريج: ["لأن أصله الكيل، وهو فيه متعذر"، وقال غيره: "لأن فيه إنفحة"، فعلى قول ابن سريج] لو دق حتى أمكن كيله يجوز، وعلى قول غيره لا، حكاه في "الحاوي". قال: ولا رطبه بيابسه" كبيع الرطب، أو البسر، [أو البلح] بالتمر والعنب أو الحصرم بالزبيب. وقد استدل لذلك بما روى الدارقطني بسنده عن ابن عمر قال: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن بَيْعِ الرُّطَبِ بِالْيَابِسِ وفي سنده موسى وهو ضعيف [ورجل

صالح]، والذي رواه الشافعي عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرطب بالتمر، فقال: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ؟ " قيل: نعم، قال: فَلاَ إِذَنْ:". وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية خلاف فيما إذا باع الرطب على الأرض بالتمر، وفي "الحاوي" أن بيع الطلع بالتمر هل يجوز؟ فيه ثلاثة أوجه، أصحها: ثالثها: وهو الجواز لطلع الفُحَّال دون طلع الإناث. قال: "إلا في العرايا، وهو بيع الرطب على رءوس النخل بالتمر على وجه الأرض، والعنب في الكرم بالزبيب على وجه الأرض فيما دون خمسة أوسق خَرْصاً".

العرايا: جمع عَرِيَّة، والعَرِيَّة في اللغة: ما تفرد بذاته، وتميز عن غيره، وسمي ساحل البحر: العراء؛ لأنه قد خلا من النبات، وتميز عن غيره من الأرض؛ فكأن [بيع] العرايا في النخل والكرم أن يفرد عما سواه بالبيع أو الهبة أو الأكل حتى يصير مميزاً من الجملة. وهي "فعيلة" بمعنى "فاعلة". وقيل: بمعنى "مفعولة"، والمراد بها عند الشافعي ما ذكره. والأصل في جواز ذلك: ما روي مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها دون خمسة أوسق، أو في خمسة. وذلك يشمل الرطب والعنب. ويدلُّ على جوازه فيهما أيضاً: ما روى عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم رَخَّص في العرايا. والعرايا بيع الرطب بالتمرن والعنب بالزبيب، وهذا قول البصريين من أصحابنا، وذهب ابن أبي هريرة وطائفة من البغداديين إلى أن النص ورد في النخل، والكرم مقيسٌ عليه، وقد يستدل لهم بما روى الترمذي عن زيد بن ثابت أنَّ رجالاً [محتاجين] من الأنصار شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي؛ فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي كان بأيديهم.

[وعلى هذا يعرض إشكال في جوازه؛ لأنّ مسلماً روى عن ابن عمر أنه – عليه السلام – نهى عن المزاينة والمزابنة: بيع ثمر النخل بالتمر كيلاً، وبيع الزبيب بالعنب كيلاً، وعن كل تمر بخرصه، وهذا نص، والقياس في الرخص لا يجوز. وجوابه: أن الصحيح من مذهب الشافعيّ جواز القياس في الرخص إذا عقل المعنى، وهو هنا معقول. فإن قلت: قياس قوله: إن القياس في الرخص لا يجوز مطلقاً، أن يمتنع هاهنا بيع العنب بالعنب بناء على ما نحن فيه. قلت: لعل الشافعي حيث كان يقول بذلك كان يقول: إن قول الصحابي حجةٌ، والصحابي فقد فسر الجواز العرية بالرطب والعنب، فلا جرم لم يختلف قوله في جواز بيع العنب بالعنب، والله أعلم]. قال: "وفي خمسة أوسق – قولان". فأحد القولين: أنه يجوز، وهو المنصوص عليه في "الأم" والأظهر عند الغزالي؛ لما روي الشافعيُّ بسنده عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه "نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ"، والمزابنة: بيع التمر بالتمر، إلاَّ أنه أرخص في العرايا، وهذا الإطلاق يقتضي تعميم الجواز، لكنه خصّ فيما فوق الخمسة أوسق بالاتفاق؛ فبقي على إطلاقه فيما عداه.

وفي الجيلي حكاية وجه فيما زاد على خمسة أوسق: أنه يجوز. والثاني – وهو المنصوص عليه في "الصرف"، والأظهر عند الجمهور -: أنه لا يجوز؛ لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ صَدَقَةَ فِي الْعَرِيَّة". والخمسة نصاب تجب فيها الصدقة؛ فلم يجز أن تكون من جملة العرية. كذا استدل الماوردي؛ ولأن النهي عن المزابنة معلوم محقق، والرخصة في قدر الخمسة أوسق مشكوك فيها من داود بن الحصين الراوي عن أبي هريرة؛ فرجعنا إلى الأصل. وفي "تعليق" القاضي الحسين أنّ الشيخ كان يقول: "القولان في الخمسة أوسق حقيقتها أن تحريم المزابنة كان والنهي عنها ورد أوَّلاً واستقر، ثم وردت رخصة العرية، أو ورداً مقرونين معاً، وكان فيه احتمالان: أحدهما – وهو الأظهر -: أن يكون ورد النهي أوَّلاً واستقر التحريم، ثم وردت رخصة [العرية، وسبب تعليق القول فيه شك الراوي؛ فعلى هذا لا يجوز البيع للشك في الرخصة] وتيقن التحريم. والثاني: أن يكونا وردا معاً؛ فعلى هذا يجوز لوقوع الشك في قدر المحرم. وهذا إذا ورد عليها العقد مع واحد، فإن عقدها مع رجلين، فيجوز فيما دون العشرة، ولا يجوز فيما فوق العشرة، وفي العشرة القولان، ول واشترى الواحد من رجلين أكثر من خمسة أوسق في عقد واحد وأقل من عشرة، فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنّ ذلك في حكم عقدين، فيصير كما لو اشترى من كل منهما في عقد دون خمسة أوسق؛ فإنه لا نزاع في جوازه، وهذا هو الأصح، ولم يحك الماوردي سواه. والثاني – وهو اختيار صاحب "التلخيص" -: المنع؛ نظراً إلى كونه دخل في ملكه في الوقت الواحد أكثر من خمسة أوسق. "تنبيه": إطلاق الشيخ جواز بيع العرايا من غير أن يفرق بين الغني والفقير يعرفك أنه لا فرق بينهما، وهو المذهب؛ لإطلاق الخبر، وفي الغني قول – ذكره في "لإملاء" و"اختلاف الحديث"، واختاره المزني -: أنه لا يجوز [له]؛ لخبر زيد،

ومن قال بالأوّل قال: هذه حكمة شرعية. ثم قد يعم الحكم كما في الرَّمل والاضطباع في الطواف وغيرهما. والمراد بـ"الخمسة أوسق" أن يكون الرطب المبيع إذا جفف بلغ خمسة أوسق، لا أن يكون في حال رطوبته خمسة أوسق. قال الماوردي: ويكفي في التخريص واحد؛ لأنه قائم مقام الكيل، والكيل يكفي فيه واحد؛ فكذلك هذا، بخلافه في الزكاة على أحد الوجهين؛ فإنه لابد من اثنين. ثم إطلاق الأئمة "ما دون خمسة أوسق" يشعر بأنه يكفي ما ينطلق عليه الاسم، ويؤيده قول الماوردي: "إنه يكفي نقصان ربع مد". قلت: وكان لا يبعد أن يتخرج هذا على أن الخمسة أوسق في الزكاة تحديد أم تقريب؟ وفي ذلك خلاف، فإن قلنا: إنها تحديد، كفى في النقص عنها ما ينطلق عليه الاسم، وإن قلنا: إنها تقريب، فقد حكى مجلي عن العراقيين: أنه لا يضر نقصان خمسة أرطال، وعلى هذا فينبغي أن يكون النقص أكثر من خمسة أرطال، خصوصاً إذا عللنا بحديث أبي سعيد الخدري، والله أعلم. ولا يخفى أن اشتراط التقابض شرط في هذا العقد، وهو في الرطب على رءوس النخل التخلية. وقول الشيخ: إلاَّ في العرايا، وهو بيع الرطب على رءوس النخل فيه مناقشة؛ فإنه جزم بتحريم بيع الرطب باليابس إلاَّ في العرايا، وفسرها بما ذكر، وذلك يقتضي عدم جواز بيع ما سوى الرطب، وليس كذلك، بل حكم البسر الذي بدا صلاحه في هذا المعنى حكم الرطب، صرح به الماورديُّ، وكذا يجوز بيع الرطب على الأرض بالتمر؛ بناءً على أن الخرص أصلٌ، كما حكاه الإمام. وهذا قد يجاب عنه: بأن الشيخ يرى عدم الصحة؛ اقتصاراً على مورد النص، كما حكاه الإمام أيضاً، وادعى المحاملي نفي الخلاف فيه. واعلم أنه لابد مع ما ذكرناه [من] ملاحظة ما قيل فيما إذا باع ما تعلق للفقراء به حقٌّ، ومحله [في] كتاب الزكاة.

فروع: بيع الرطب على رءوس النخل أو في الأرض بالرطب على رءوس النخل هل يجوز؟ فيه أربعة أوجه: أحدها – وهو الذي قاله الماورديُّ: "إنه مذهب الشافعي". وبه قال أبو سعيد الإصطخري -: أنه لا يجوز. والثاني –وبه قال أبو علي بن خيران -:أنه يجوز، لكن الرطب الذي على رءوس النخل يخرص، والذي على الأرض يكال. والثاث – وبه قال أبو إسحاق المروزي -: إن اختلف النوعان جاز، وإلاَّ فلا. وحكى الماوردي وأبو حامد عنه: أنه لا يجوز بيع رطب على رءوس النخل برطب على الأرض، وأما بيع رطب على رءوس النخل: برطب على رؤوس النخل، فإن كانا نوعاً واحداً لم يجز، وإن كانا نوعين جاز. والرابع – وبه قال أبو علي بن أبي هريرة -: يجوز بيع الرطب على الأرض بالرطب على رءوس النخل، وكذلك يجوز بيعه بما على رءوس النخل [أيضاً] إن كانا من نوعين، ولا يجوز إذا كانا من نوع واحد. [الفرع] الثاني: إذا جفف الرطب [المبيع،] وظهرت زيادة على قدر الخرص – نظر: إن كان قدر ما يقع بين الكيلين لم يضر، وإن كان أكثر فالعقد باطل. وفيه وجه: أنه يصح من الكثير بقدر القليل، ولمشتري الكثير الخيار. والثالث: إذا باع بأكثر من خمسة أوسق بطل العقد. قال الماوردي: "فإن قيل: هلا أبطلتموه فيما زاد على الخمسة، وجوزتموه في الخمسة" أي: بناءً على تفريق الصقة؟ قيل: لأنه بالزيادة على الخمسة قد صار مزابنة، والمزابنة كلها فاسدة. قال: وفيما سوى الرطب والعنب من الثمار". أي: التي تجفف كالمشمش والخوخ ونحوهما إذا منعنا بيع الرطب منها بالرطب "قولان": أصحهما، وهو الذي ادّعى الماوردي أنه مذهب الشافعي -: أنه لا يجوز؛ لأنها

متفرقة مستورة بالأوراق؛ فلا يتأتي الخرص فيها، وثمرة النخل والكرم متدلية ظاهرة. والقول الثاني - وهو ما أخذ من قول الشافعي في البيوع [الكبير من "الأم"]: ولو قال قائل: بجواز التحري فيها كان مذهباً -: أنه يجوز بالقياس على الكرم والنخل. قال الماورديُّ: وامتنع بعضهم من تخريج القولين؛ لمباينتها النخل والكرم بما ذكرناه، ووجوب الزكاة، وحصول الاقتيتات. قال: "وما حرم فيه الربا لا يباع الجنس الواحد بعضه ببعض، ومع أحد العوضين جنس آخر يخالفه في القيمة كمد عجوة ودرهم [مدَّيْ عجوة]. الأصل في تقرير هذه القاعدة: ما روى مسلم عن فضالة بن عبيد أنه قال: "أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها خرز مغلَّفة بذهب ابتاعها رجل بسبعة دنانير أو بتسعة، فقال - عليه السلام -: "لاَ، حَتَّى يُمَيِّز بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا"، فقال: إنما أردت الحجارة، فقال عليه السلام: "لاَ، حَتَّى يُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا" قال فضالة: فرده حتى ميز بينهما. وعنه قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً، فيها ذهب وخرز ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لاَ تُبَاعُ حَتَّى

تُفْصَل" زاد الدارقطني: قال: إنما أردت الحجارة، قال: "لاَ حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا". وفي رواية لأبي داود::"إِنَّمَا أَرَدْتُ التِّجَارَةَ"، وزاد: قال: ردّه حتى ميز بينهما. وقد ورد حديث فضالة بألفاظ مختلفة، وما ذكرناه أوَّلاً هو عين المسألة. والمعنى فيه: أن قضية العقد إذا اشتمل أحد طرفيه على حالين مختلفين وزع ما في الطرف الآخر عليهما باعتبار القيمة، يشهد لذلك مسألة: الشقص، والسيف، وتلف أحد العبدين قبل القبض، ورده بالعيب، وبيعه مرابحة، وإذا كان كذلك اقتضى التفاضل أو الجهل بالتماثل، وكل منهما مانع من صحة العقد. ومثال ذلك: أن المد الذي مع الدراهم إذا كانت قيمته درهمين مثلاً، فيكون ثلثي ما في هذا الطرف، فيقابله ثلثا المدين من الطرف الآخر؛ فيصير كأنه باع مداً بمد وثلث؛ ولذلك إذا كانت قيمته نصف رهم مثلاً فهو ثلث ما في [هذا] الطرف فيقابله ثلث المدين من الطرف الآخر؛ فيكون كأنه قابل مدًّا بثلثي مُد. وفي هاتين الصورتين حصلت المفاضلة، وإذا كانت قيمته درهماً فلا مفاضلة؛ لأن مقابله من الطرف الآخر مد، لكن التقويم حدس وتخمين قد يكون صواباً وقد يكون خطأً، وذلك هو الجهل بالمماثلة المعتبرة في مال الربا؛ فإنه راعى فيها اليقين، وهذه الحالة كلام الشيخ يفهم الصحة فيها، ولم أعثر فيه على نقل يوافقه، ثم هذه الطريقة مطردة فيما إذا باع مدًّا ودرهماً بدرهمين، لكن التفاضل أو الجهل بالتماثل يجيء من طرف الدراهم فيما إذا باع صاع حنطة وصاع شعير بصاعين من حنطة أو من شعير، وفيما إذا باع مد عجوة وثوباً بمدي عجوة، وغير ذلك، وفيما إذا باع مد عجوة ودرهماً بمد عجوة ودرهم؛ فإن قيمة الدين متى كانت متفاوتة حصل التفاضل، ومتى كانت متساوية حصل الجهل بالتماثل على النحو الذي ذكرناه؛ لأن غاية الأمر أن يكون المدان من نخلة واحدة، والدرهمان من صحكة [واحدة، وذلك قد يختلف أيضاً، وذهب بعض أصحابنا إلى أن المدين إذا كانا من نخلة واحدة، والدرهمين من صكة واحدة] أنه يجوز، وإليه ذهب القاضي أبو الطيب في "تعليقه"، وحكى عن القاضي

الحسين أيضاً، وقال الروياني في "البحر": إنه المذهب، وغلط من قال غيره. وقد أفهم أن عنه احترز الشيخ بقوله: "يخالفه في القيمة"؛ فإن مقتضاه في صورة الكتاب: أن الأمداد إذا كانت من نخلة واحدة أن العقد يصح، وأنت إذا تأملت ما ذكر علمت أنّ هذا ليس مقتضاه. وحكى المتولي في مسألة الكتاب أن العقد يبطل في المد المضموم إلى الدرهم، وفيما يقابله من المدين، وفي الدرهم وفيما يقابله من المدين قولاً تفريقِ الصفقة، وعلى قياس هذا فيما لو باعهما بدرهمين يبطل العقد في الدرهم وما يقابله من الدرهمين، [وفي المد وما يقابله من الدرهمين] القولان. فإن قيل في أصل المسألة - ما أبداه الإمام اعتراضاً -: العقد لا يقتضي في وضعه توزيعاً مفصلاً، بل مقتضاه مقابلة الجملة بالجملة، أو مقابلة الجزء الشائع مما في أحد الشقين بمثله مما في الشق الآخر، بأن يقال: ثلث ومدُّ، وثلث درهم يقابل ثلثي المدين، ولا ضرورة إلى تكلف توزيع يؤدي إلى التفاضل، وإنما يصار إلى التوزيع المفصل في مسألة الشفعة لضرورة الشفعة؛ فالوجه التعليل بعدم تحقق المماثلة فإنا تعبدنا بالمماثلة تحقيقاً. قيل في جوابه: أليس قد ثبت أن التوزيع المفصّل في مسألة الشفعة يثبت للضرورة، ولولا كونه قضية العقد لكان ضم السيف إلى الشقص من الأسباب الدافعة لها؛ فإنها قد تندفع بأسباب وعوارض، وأيضاً فإنه لا ضرورة في مسألة المرابحة، وقد جاز توزيع الثمن عليهما بالقيمة. تنبيه: العجوة نوع من التمر، قال الجَوْهَرِيُّ: "وهو من أجود تمر المدينة، ونخلها يسمى لِينةً". قال الأزهري: "والصيحاني الذي يحمل من المدينة من العجوة". واعلم أن عبارة الغزالي في ضبط هذه القاعدة قد نوقش فيها من حيث إنه قال: "إن الصفقة مهما اشتملت على مال الربا من الجانبين، واختلف الجنس من الجانبين، أو من أحدهما فالعقد باطل"، وليس كذلك؛ فإن الصفقة إذا اشتملت على ذهب

وفضة في جانب، وحنطة وشعير في جانب، أو على حنطة وشعير في جانب، وتمر في جانب، أو تمر وملح – كان ذلك جائزاً. وطريق الجواب عنه: أنه أراد مال ربا الفضل؛ لقرينة السياق. قال: ولا يباع نوعان مختلفا القيمة من جنس واحد بنوع واحد منه متفق القيمة كدينار قاساني ودينار سابوري بقاسانيَّيْنِ أو بسابوريَّبْن، وكدينار صحيح ودينار قراضة بدينارين صحيحين أو بدينارين قراضة؛ لما قررناه من مقتضى التوزيع؛ فإنه يفضي في هذين المثالين إلى تحقُّق المفاضلة. وفي "البيان" و"الإبانة" حكاية وجه عن بعض أصحابنا موافق لمذهب أحمد: أنه يجوز في هذين المثالين، ولا يضر اختلاف النوع والصفة، كما في بيع التبر بالمصوغ، والجيدين بالرديئين، ووافقهما صاحب "التقريب" في بيع الصحاح أو المكسرة بالصحاح أو المكسرة، وجعل صاحب الصحاح مسامحاً بصفة الصحة؛ استدلالاً بأنَّ الناس لم يزالوا يبتاعون الدراهم بالدراهم، والدنانير وبالدنانير، وهي تشتمل على الصحاح والمكسرة، واختلاف الأنواع، ولم يتكلفوا تمييز بعضها عن بعض، وأجرى الفوراني الخلاف فيما إذا باع [ديناراً صحيحاً وديناراً مكسوراً بدينار صحيح وبدينار مكسور، وفيما إذا باع] رديئاًوجيداً برديء وجيد، وفيما إذا باع صيحانيًّا وبرنيًّا بصيحانيين أو برنيين، أبو بصيحاني وبرني، والمذهب الأول. ومن هذا القبيل مسألة المراطلة، وهي إذا باع مائة دينار عتق ومائة دينار مروانية بمائتي دينار وسط؛ فإنه لا يصح العقد، كما نص عليه الشافعي. قال الإمام: "وقياسي يقتضي القطع بصحة العقد، ولم أر أحداً من الأئمة يشير إلى خلاف فيها، وهو رأي رأيته، وهو خارج عن مذهب الشافعيّ وأصحابه وصاحب "التقريب"؛ حيث جعل صفة الصحة مسامحاً بها احترز عن هذه المسألة؛ لأن معنى المسامحة لا يتحقق فيها؛ لمقابلة الجيد والرديء بالوسط، وإذا لم يتحقق اقتضى العقد من الشقين طلب المغابنة، وهو يقتضي التوزيع المفضي إلى التفاضل لا محالة، وإلى هذا المعنى أشار الغزالي بقوله: "وكان إمام الحرمين يخالف المذهب في مسألة المراطلة، ويبطل التعليل بالتوزيع – أي فيها وفي غيرها – ويعلل [بالجهل

بالمماثلة]، وذلك يجري عند اختلاف الجنس، أي التعليل بالجهل بالمماثلة، أمَّا في هذه المسألة فلا؛ لأن المماثلة معلومة. تنبيه: تقييد الشيخ المسألة باختلاف القيمة في النوعين، وكذلك ابن الصباغ – يظهر منه أن النوعين لو اتفقت قيمتهما صح العقد، وقد نظر أنه مستمد مما ذكرناه أولاً عن اختيار أبي الطيب، فإنه جعل وجه الصحة ثمَّ لكونه علم القيمة قبل العقد، وذلك بعينه موجود هنا، وأنه يظهر أن يجيء فيه قول عدم الصحة أيضاً، بل من طريق الأوْلى؛ لأن ثمر النخلة واحدة والصكة واحدة، وهنا النوعان مختلفان، وإن استوت قيمتهما فهي حدس، وفيه ما ذكرته، وتقييده النوع الأخير بكونه متفق القيمة؛ لدفع توهم يعرض من كونه قيد النوعين بالاختلاف، وألا فلا فرق بين أن يكون متفق القيمة أو مختلفها. آخر: القاساني والسابوري – بسين مهملة فيهما – منسوبان إلى بلدين في العجم، و"قاسان" في لسان العجم "كاسان"، وهو قريب من "سَمَرْقَنْد"، والسابور معروف، ويقال له في لسان العجم:"نيسابور". القُراضة: - بضم القاف – قطع الذهب والفضة. وقوله: "قراضة" منصوب. فروع: لو باع صاعاً من رديءٍ وجيد، وكانا مخلوطين بمثله، أو بجيد، أو رديء – جاز؛ لأن التوزيع إنما يكون عند تمييز أحد العوضين عن الآخر، أمَّا إذا لم يتميز فهو كما لو باع صاعاً وسطاً بجيد أو ردئ، قاله الرافعي: ولو ميز الصغار من الكبار [نوع واحد من التمر، فباع صاعاً من الصغار، وصاعاً من الكبار،] بصاع من الكبار وصاع من الصغار – كان كما لو باع مد عجوة ودرهماً بمد عجوة ودرهم، والدرهمان من صحكة واحدة، والمدان من نخلة واحدة. وإذا لم يميز بين الصغار والكبار، ولكن أراد أن يبيع صاعين بصاعين – فلا شك أنه قد اشتمل كل عوض على الصغار والكبار، وقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: إذا كان بين أحد العوضين تفاوت، فلا يصح العقد، وإن لم يكن

متميزاً، وهذا اختيار القاضي الحسين. ومنهم من قال: ينظر في ذلك: فإن كانت الصغار ظاهرة فيما بين الكبار؛ بحيث يبين ذلك للناظر من غير تأمل، فلا يصح العقد، وإن لم يكن ظاهراً صح، وصار كما لو باع أرضاً [فيها] معدن ذهب بذهب إن كان المعدن ظاهراً لم يصح، وإن كان غير ظاهر صح. وتظهر فائدة الاختلاف في الأصل فيما لو باع صاعين بدرهمين، ثم خرج أحد الصاعين مستحقاًّ – أنه لا يستحق درهماً بإزائه، وإنما سترد ما يقابله باعتبار القيمة، كذا حكاه ابن التلمساني في "شرحه". وفي "التهذيب" حكاية وه فيما إذا ظهر في الأرض معدن ذهب، وقد باعها بالذهب: أنه لا يصح؛ كما لو باع بقرة بلبن بقرة، وكانت البقرة لبوناً؛ فإنه لا يصح إذا باع داراً مموهة بالذهب: فإن تحصل منه شيءٌ بالعرض على النار حرم، وإلاّ فيجوز. قال: "ولا يجوز بيع اللبن" – أي: لبن شاة، أو ما يعمل منه – "بشاة في ضرعها لبن" أي: مقصود؛ لأن اللبن في الضرع يأخذ قسطاً من الثمن بدليل أنه – عليه السلام – أوجب في مقابلته في المصراة عند الرد صاعاً من التمر، وإذا أخذ قسطاً من الثمن كان من صور "مد عجوة". وفي "الجيلي" حكاية وجه: أنه يجوز، ويمكن أن يكون مأخذه ما حكاه الغزالي في المصراة: أن اللبن في الضرع لا يقابله قسط من الثمن على رأي. أما إذا كان اللبن لبن بقرة مثلاً، فإن قلنا: إن الألبان جنس واحد، فكذلك الحكم. وإن قلنا: إنه أجناسٌ، وفرعنا على المذهب – فيتخرج على قوليْ تفريقِ الصفقة في الحكم؛ لأن ما يقابل اللبن الذي في الضرع من اللبن الذي في الإناء يشترط فيه التقابض، [وما يقابل الشاة من اللبن الذي في الإناء لا يشترط فيه التقابض]. ولو باع شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن لم يصح، خلافاً لأبي الطيب بن سلمة؛ فإنه جوز ذلك، كما في بيع السمسم [بالسمسم] وسلم الحكم في بيع اللبن بالشاة، وشبهه ببيع الدهن بالسمسم.

وفي "الوسيط" نسبة المنع في بيع الشاة وفي ضرعها لبن بمثلها إلى أبي الطيب بن سلمة، والصحيح عنه ما حكيناه، كما هو في "البسيط" و"الشامل" وغيرهما. ولو باع داراً فيها بئر ماءٍ، وفيه الماء بمثلها، وقلنا: إنه يملك في البئر كما يملك إذا وضع في الإناء – كما ذهب إليه بعض أصحابنا، على ما حكاه الماوردي، وهو المنصوص في القديم، وحرملة، كما حكاه غيره – وأدخلا الماء في العقد، وكان معلوماً لهما، وله قيمة: فإن قلنا: إن الماء غير ربوي، صح العقد. وإن قلنا يجريان الربا فيه، لم يجز، قال الماوردي: "إلاَّ أن يكون مِلْحاً فيجوز؛ لأن الماء المِلْح غير مشروب، ولا ربا فيه". وفي "الشامل": حكاية خلاف أبي الطيب بن سلمة فيه، وهو ما جزم به البغوي، وجعله تبعاً للدار، وهذا يدلُّ على أنه يندرج تحت مطلق البيع، وقد صرح به الغزالي وجهاً كالثمار غير المؤبرة، واختاره ابن أبي عصرون. أمَّا إذا لم يدخلا الماء في العقد فهو باقٍ على ملك البائع إذا كانت له قيمته، قاله الشيخ والمتولي، فعلى هذا لا يصح العقد؛ لاختلاط المبيع بغيره, وإذا قلنا: إنه لا يملك إلاَّ بالأخذ والإجارة، وإنما له حقُّ منع الغير من التصرف فيه، كما ذهب إليه جمهور الأصحاب، وهو ظاهر مذهب الشافعيّ في "الحاوي" – فهذا الحق قد انتقل إلى المشتري، والعقد صحيح. فرع: لو باع دجاجة فيها بيض بيض، فإن قلنا: إن الحمل لا يقابله قسط من الثمن، لم يصح [البيع]؛ لأن بيع البيض بالبيض لا يجوز على الجديد، قاله الماورديُّ، والموجود في "تعليق" أبي الطيب الجزم بعدم الصحة من غير بناء. قال: "ولا يجوز بيع اللحم بحيوان مأكول" أي: سواء كان من جنس اللحم، أو لا من جنسه، خلافاً للمزني.

لنا: ما روى أبو داود عن سعيد بن المسيب "أنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ اللحْمِ بِالْحَيَوَانِ"، وهو عامُّ، يشمل ما هو من جنسه وغير جنسه. فإن قيل: هذا مرسلٌ؛ فلا حجة فيه. قيل: قد أسنده الترمذي عن رواية زيد بن سلمة الساعدي، والبزار عن رواية ابن عمر، لكن لفظه: "صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَان بِاللَّحْمِ"، على أنَّ الشافعيَّ رأي في القديم الاستدلال بمراسيله؛ لأنه قيل: إنه لم يرسل حديثاً قط [إلاَّ] يوجد من طريق غيره مسنداً، أو لأن رجاله الذين أخذ عنهم هم أكابر الصحابة، وليس كغيره الذي يأخذ عمن وجد، أو لأنها سُيِّرت فكانت مأخوذة عن أبي هريرة، وكان يرسلها؛ لما قد عرفه الناس من الأنس بينهما والوُصْلة؛ فإن سعيداً كان صهر أبي هريرة على ابنته؛ فصار إرساله كإسناده عن أبي هريرة. وفي الجديد سوّى بين مراسيله ومراسيل غيره في عدم الاستدلال بها، إلاَّ أن

يوافقها أحد سبعة أشياء: إمَّا قياس، أو قول صحابي، أو فعله، وإمَّا أن يكون قول الأكثرين، وإمَّا أن يُنشر في الناس من غير دفاع له، وإمَّا أن يعمل به أهل العصر، وإمَّا ألاَّ توجد دلالة سِواه، وقد اتصل بهذا الخبر: الأثر، وهو ما روي [عن] ابن عباس أن جزراً نحرت على عهد أبي بكر، فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني جزءاً بهذا العناق، فقال أبو بكر: "لا يصلح هذا"، وكان قول أبي بكر مع انتشاره في الناس، وعدم معارض له. والقياس؛ فإنه نوع فيه ربا بيع بأصله الذي فيه مثله؛ فوجب ألاَّ يجوز؛ كما إذا باع شيرجا بسمسم، والزيت بالزيتون، والشيرج والزيت مثل ما في السمسم والزيتون، أو أقل منه. وحكى القاضي أبو الطيب والبندنيجي: أنَّا إذا قلنا: إن اللُّحْمان أجناسٌ، فباع لحم البقر بشاة – جاز على قولن وجعله الإمام أقيس، والصحيح الأول، ووجهه مجلي: بأنه لا خلاف أن الحيوان أجناسٌ، وإنما الخلاف فيما إذا صارت لحماً، وشملها اسم اللحم، وبه جزم البغوي، والمحاملي، والماوردي وحكى في جواز بيع اللحم بالسمك الحيّ وجهين، ووجه الجواز: أن حيَّ السمك في حكم مَيْتته، بخلاف الحيوان، وقال القاضي أبو الطيب: إن قلنا: إن السمك من جنس سائر اللحوم، لم يجز، وإلاَّ فقولان. قال:"وفي بيعه بحيوان غير مأكول"- أي: كالعَيْر والحمار ونحوهما – قولان: أحدهما – وهو الأصح أيضاً والمنصوص في أكثر الكتب -: أنه لا يجوز؛ لعموم الخبر. قال الماوردي: وبهذا قال من أصحابنا من زعم أن دليل المسألة اتباع السنة. والثاني: أنه يجوز، واختاره ابن أبي عصرون؛ لأنه حيوان ليس فيه لحم مأكول حتى يكون من باب بيع الشيء بأصله. قال الماوردي: وبهذا قال من أصحابنا من زعم أن دليل المسألة اتباع القياس. وعلى المأخذين يخرج ما لو باع الشحم أو الكلية، أوالطَّحال بالحيوان: فمن راعى اتباع السنة جوّز، ومن راعى القياس منع. وعلى الوجهين يجوز بيع الحيوان بالجلد والعظم [؛ لأن الجلد والعظم] مما

لا ربا فيه بخلاف اللحم، وكذا بيع البيض بالدجاج، واللبن بالحيوان. وأجرى الرافعيُّ الخلاف في بيع الجلد بالحيوان إذا لم يكن مدبوغاً. فروع تتعلق بالباب: إذا كان بين شخصين من مال الربا ما يحرم بيع بعضه ببعضه، وأرادا قسمته – فذاك ينبني على أن القسمة إفراز حق أو بيع؟ فعلى الأول يجوز، وعلى الثاني – وهو المشهور – لا يجوز قسمته، ولكن الطريق في انفصال الشركة: أن يجعلا ذلك حصتين متميزتين، ثم يبيع أحدهما حقه من إحدى الحصتين على شريكه بدينار، ويبتاع حقه من الحصة الأخرى بدينار؛ فيصير لكل منهما حصة كاملة، ولكل منهما على الآخر دينار فيتقاصَّان الدينار بالدينار، ويكون هذا بيعاً يجري عليه جميع أحكام البيوع المشاعة. وإن كان مما لا يحرم بيع بعضه ببعض. فإن قلنا: إن القسمة بيع، روعي في ذلك شرائط المبيع، إلا أنه لا يشترط في القبض التحويل. والفرق: أن المبيع مضمون على بائعه باليد؛ فاعتبر في قبضه التحول لترتفع اليد فيسقط الضمان، وليس في القسمة ضمان يسقط بالقبض، وإنما هي موضوعة للإجارة، وبالكيل يحصل ذلك، ويثبت فيه ما يثبت في البيع إلاَّ خيار المجلس؛ فإنه لا يثبت، ومن طريق الأوْلى خيار الشرط؛ لأن ذلك شرع لدفع الغَبِينة ولا غَبِينة. وإن قلنا: إنها إفراز حق، جاز لهما أن يقتسما كلَّ جنس بينهما كيف شاءا، كيلاً ووزناً وجزافاً؛ فإن كان ذلك مما يختلف لم يجز لأحدهما أن ينفرد بأخذ شيء بحصته، وإن كان مما تتماثل أجزاؤه كالحبوب والأدهان جاز أن ينفرد أحدهما بأخذ حصته عن إذن شريكه، وهل يجوز من غير إذنه؟ فيه وجهان، وجه الجواز: أنه لو استأذنه لم يكن له أن يمنعه؛ فجاز إذا استوفى قدر حقه ألا يستأذنه، قاله الماوردي. وفي "الشامل": "أنَّا إذا قلنا: إن القسمة بيع، واقتسم الشريكان بأنفسهما – ثبت فهيا الخياران، وكذا إذا كان فيها ردّ. وحكى الغزالي في ثبوت خيار المجلس عند عدم الرد وجهين، وأن خيار الشرط لا يثبت – على الأصح – ما يشترط فيه التقابض إذا اشترى أحدهما بما وجب له منه

شيئاً آخر في المجلس قبل قبضه لم يصح، وإن قبض من صاحبه دراهم على وجه القرض ووفاها له في الثمن في المجلس، ففيه خلاف ينبني على أن القرض متى يملك؟ فإن قيل: بالتصرف، فلا يصح هاهنا، ولو قبض كل واحد منهما ما وجب له قبضه، ثم أودعه الآخر قبل التفرق، جاز ولم يبطل العقد، صرح بمثله الرافعي في رأس مال السلم. ولو أبرأ أحدهما صاحبه مما له عليه قبل التفرق كانت البراءة باطلة؛ لأنه إبراء مما لم يستقر ملكه عليه، قاله الماوردي. ولو كان العقد ورد على معين فوهبه منه، فإن كان قبل قبضه لم يصح، وإن كان بعده فوجهان.

باب بيع الأصول والثمار

باب بيع الأصول والثمار عني بـ"الأصول": الأرضين والأشجار والثمار. قال الجَوْهَرِيُّ: "واحدة الثِّمَار والثَّمَرِ: ثَمَرة، وجمع الثَّمَرِ: ثمار، كجبل وجبال، وجمع الثمار. قال الفراء: "ثُمُر؛ ككتاب وكُتُب، وجمع الثُّمُر: أثمار؛ كعُنُق وأعناق". قال: "إذا باع أرضاً وفيها بناءٌ أو غراس، دخل البناء والغراس في البيع؛ لأنهما من الثابتات فيها التي تراد للبقاء فتلحقها كما تلحق في الشفعة، ولأن البناء يجري مجرى أجزاء الأرض، وهذا نصه هاهنا، وبه قال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة وجمهور أصحابنا، وصححه أبو الطيب، واختاره ابن أبي عصرون، وقد نصّ في الرهن على أنهما لا يدخلان فيه، فألحق أبو العباس به البيع، وجزم فيهما بعدم الدخول كما لا تدخل الثمرة المؤبرة في البيع، وحمل النص في البيع على ما إذا قال: بعتك الأرض بحقوقها، وهذا ما صححه الإمام والغزالي، وطرده فيما إذا قال: بحقوقها، وهو القياس؛ لأنَّ ذلك إن كان من حقوقها اندرج عند الإطلاق، وإن لم يكن من حقوقها فلا يدخل بذكر الحقوق. وذهب أبو الطب بن سلمة وأبو حفص بن الوكيل إلى تخريج قول من كل من المسألتين إلى الأخرى، وجعلهما على قولين للوفاء بما ذكرنا من الدليلين، وهذا ما صححه الشاشي في "حليته"، ومن جرى على ظاهر النصين فرق بوجهين: أحدهما: أن عقد البيع يزيل الملك؛ فجاز أن يكون ما اتصل بالمبيع تبعاً له، لقوته، وعقد الرهن يضعف عن إزالة الملك؛ فلم يتبعه ما لم يسمَّ لضعفه، وهذا قد ضعفه ابن أبي عصرون بأن موجب الإطلاقات لا يختلف بقوة العقد وضعفه. والثاني: أنه لما كان ما يحدث في المبيع للمشتري جاز أن يكون ما اتصل به من قبل [له]، ولما كان ما يحدث من الرهن لا يدخل في الرهن، اقتضى أن يكون ما

تقدم [الرهن] أولى ألاَّ يدخل فيه، وعلى هذا يندرج في البيع أيضاً ما كان متصلاً بالأرض من أساس، سواء كان من آجر، أو حجارة، أو تراب، وكذا تلال التراب التي تسمى بـ"البصرة" حبالاً، والسواقي التي تشرب الأرض منها، (وأنهارها) وعين الماء التي فيها، وهل يملك الماء الذي فيها؟ فيه من الخلاف والتفصيل ما حكيناه في الباب قبله، كذا حكاه الماوردي. وفي "الرافعي": أنه لا يدخل فيه شرب الأرض من القناة والنهر المملوكين، إلا أن يشترط أو يقول: بحقوقها، وحكى أبو عاصم العبادي وجهاً: أنه لا يكفي ذكر الحقوق، وكذا لا يدخل مسيل الماء في بيع الأرض، وحكم المعدن الجاري حكم الماء. وقيل: إن الموجود للبائع دون ما يحدثن والمعدن الجامد كمعدن الذهب والفضة مملوك لمالك الأرض، فيندرج في البيع؛ لأنه من أجزائها. وهل يملك دولاب الماء؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها الماوردي، الثالث: إن كان صغيراً يمكن نقله صحيحاً على حاله من غير مشقة لم يدخل، وإلاَّ دخل. ولو كان فيها رحا [للماء دخل] في البيع بيت الرحا وبناؤه، وأمَّا أحجاره فيها ثلاثة أوجه حكاها الماوردي، الثالث: يدخل فيه الأسفل دون الأعلى، ولا خلاف في اندراج الأسفل من حجري الرحا إذا كان المبيع باسم الطاحون، وكذا الأعلى على الأظهر. ولفظ "الساحة" و"العَرْصة" و"البقعة" فيما ذكرناه كلفظ "الأرض". ولا خلاف في أنه إذا قال: بعتك هذا الباغ أو البستان أو الحائط، دخل فيه الأرض والأشجار والحيطان، ومجاير الماء، وإن كان فيه بناء فعلى الخلاف.

ولو قال: بعتك هذا الكرم، دخل العريش على الأصح. ولو قال: بعتك هذه القرية، دخل فيه الأبنية والحصن الذي يحوطها، وفيما يحويه من الشجر الخلافُ، واختيار الإمام والغزالي الدخول. ولا تدخل المزارع، وفي "النهاية": أنها تدخل. ولو قال: بحقوقها، قال في "المهذب" و"الشامل": دخلت الأشجار دون المزارع. وحكى ابن كَجٍّ أنها تدخل. ولو قال: بعتك هذه الدار، دخل فيها الأرض، والبناء، والأبواب المركبة، والحلق، والسلاسل المسمَّرة، والقفل، وكذا المفتاح على الأصح، وفي معناه كل منفصل لا يمكن الانتفاع به إلا بمتصل كالزرائب وغطاء التنُّور، وما لا تستغني السفينة عنه مما هو منفصل إذا بيعت، وتدخل الدرج المبنية وإن كانت من ألواح، وكذا حمام الدار إن كان لا يستقل دون الدار، وإن استقل فهو في بيع الدار كالبناء في بيع الأرض وما فيها من شجر هل يدخل؟ فيه الخلاف السابق في دخوله في بيع الأرض. وحكى الإمام وجهاً ثالثاً فارقاً بين أن يكثر بحيث يجوز تسمية الدار بستاناً فلا يدخل، وبين ألا يكون كذلك فيدخل وهذا أعدل عند الغزالي. والساباط المتصل [بالدار] على حائط من حدودها هل يدخل في بيع الدار؟ فيه ثلاثة أوجه. ثالثها من تخريج أبي الفياض: إن كانت رءوس الأجذاع من الطرفين مطروحة على حائط لهذه الدار، دخل في البيع، وإن كان من أحد الطرفين لم يدخل. قال: "فإن كان له حمل" أي: للغراس الداخل في البيع كما سنذكره عن النص، ويكون هذا الحكم فيما إذا وقع عليه العقد منفرداً من طريق الأولى. قال: "فإن كان ثمرة تنشقق كالنخل"، أي: والكرسف الحجازي والبصري الذي

يبقى سنين كثيرة. قال: أو نَوْراً يتفتح"، كالورد والياسمين، "فإن كان قد ظهر ذلك أو بعضه"، أي: ظهر ما في كون الطلع منه، والورد من كمامه، والياسمين من الشجر؛ إذ لا كمام له. قال:"فالجميع للبائع، وإن لم يظهر منه شيء فهو للمشتري". الأصل في كون ثمرة النخل إذا تشققت تكون للبائع، وإن لم تشقق تكون للمشتري ما روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبَّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وذلك يدلُّ بمنطوقه على أن ما أُبِّر يكون للبائع، وبمفهومه على أن ما لم يؤبر يكون للمشتري، وأيضاً فإن النص على التأبير إمَّا أن يراد به التنبيه على غيره أو التمييز من غيره، ولا جائز أن يراد به التنبيه؛ لأن حكم ما لم يؤبر أخفى من حكم ما قد أبر، والتنبيه ما يقصد به بيان الأخفى؛ ليدلّ على حكم الأزهر؛ فتعين أن المراد به التمييز من غيره، وأن الحكم مختصًّ به. وذلك يفيد ما ادعيناه، ولأنه نماء مستجن في أصله؛ فوجب إذا لم يظهر أن يكون في البيع تبعاً لأصله؛ كالحمل في البطن واللبن في الضرع. فإن قيل: التأبير هو التلقيح، والتلقيح أن يشقق طلع الإناث، ويوضع فيه شيء من طلع الفحول؛ ليشتد برائحته ويقوى فلا يلحقه الفساد على ما جرت به العادة، وصحت فيه التجربة، وأنتم لا تعتبرون ذلك، بل اعتبرتم نفس الظهور في وقته سواء كان [ذلك] بنفسه، أو بفعل فاعل. قلنا: قد يحصل ذلك عند الظهر من الرياح؛ فأغنى عن الوضع فيه، وأيضاً فإن التأبير إنما اعتبر؛ لأن الثمرة تظهر به وبالتشقق، وقد حصل هذا المعنى؛ فقام مقام

التأبير، وأمَّا جعل ما لم يتشقق تابعاً لما يشقق، فالأصل فيه أيضاً الحديث؛ فإنه - عليه السلام - لم يفصل بين أن يكون التأبير في جميعه أو في بعضه، ولأن في اعتبار التأبير في كل نخلة مشقة، وفي تبعيض الثمرة بين البائع والمشتري اختلاف وسوء مشاركة، فجعل ما لم يؤبر تابعاً لما أبر في دخوله في البيع؛ لأنه قد استقر في الشرع أن يكون الباطن تبعاً للظاهر دون العكس، كما في أساس الحائط، ورءوس الأجذاع، فإذا ثبت ذلك في النخل قيس ما في معناه، والورد والياسمين وما في معناهما عليه؛ بجامع ما اشتركوا فيه من الكمون والظهور. وذكر ابن الصباغ أن الشيخ أبا حامد ذكر أن الورد يكون للبائع وإن لم يتفتح، وأنَّه ظاهر كلام الشافعيّ، ثم قال: "والأول أقيس". وفي "التهذيب": أن ما لم يظهر من الورد لا يتبع الظاهر، وإن كان على شجرة واحدة؛ لأنه يؤمن فيه المحذور؛ فإنه يجمع أولاً فأولاً. فرع: لو أُبِّر بعض النخل، وأورد العقد على ما لم يؤبر - نُظر: إن كانا من حائطين لم تكن الثمرة للبائع وإن كانا متجاورين؛ لانتفاء المعنى المشترك وهو المخالطة، وإن كانا من حائط واحد؛ فوجهان حكاهما الماورديّ وغيره، أصحهما: أنه لا يتبع. وفي "الرافعي" حكاية وجه: "أنه يتبع في الحائطين أيضاً إذا قلنا: إنه يتبع في الحائط الواحد، وهذا كله إذا اتحد مالك المجموع، أمَّا لو اختلف فالخلاف مرتبٌ على ما إذا اتحد المالك وأولى بالبطلان، حكاه الرافعيُّ في "بدو الصلاح". قال: "وقيل: إن ثمرة الفُحَّال للبائع بكل حالٍ"، أي: سواء تشقق الطلع أوْ لا، قال الماوردي: "وهو الأصح"، والفرق بينه وبين ثمرة الإناث أن طلع الإناث لا يوجد إلاَّ بعد إباره وتناهيه بسراً أو رطباً، وطلع الفحال يوجد قبل إباره، ويكون حال تناهيه طلعاً. قال: "وهو خلاف النصّ" أي: نص الشافعي. ووجه النص ما ذكرناه من مفهوم الحديث وغيره، وما ذكر في الفرق - من أن طلع الفحال حال تناهيه أن يكون طلع طلعاً - ممنوع؛ لأن المقصود من طلع الفُحَّالِ الكُشُّ لتلقيح الإناث، وذلك لم يوجد بعد؛ فهو كطلع الإناث. تنبيه: إطلاق الشيخ القول بأن ما لم يظهر تابعٌ لما ظهر يعرفك أنه لا فرق في ذلك بين أن يكونا من نوع واحد أو نوعين، كما هو الصحيح في "تعليق" أبي الطيب،

والمذهبُ في "الحلية" و"والتهذيب"، وخصّ أبو علي بن خيران ذلك بما إذا اتحد النوع، وقال عند اختلافه: "كل نوع معتبر بنفسه، وأنه لا فرق بين أن يكون الذي ظهر طلع الإناث، أو طلع الفحال على النص". أمَّا إذا قلت: إن ثمرة الفحال للبائع بكل حال، فلا أثر لظهوره قبل الإناث، وتكون ثمرة الإناث للمشتري. قاله القاضي أبو الطيب. وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنها أيضاً تكون للبائع، وطرده فيما إذا ظهر طلع الفحال ولم يتشقق وقلنا: إنه للبائع، أي: ثمرة الإناث تكون للبائع وإن لم تشقق، وجعله الإمام كالوجه المذكور في استتباع النوع النوع، والأصح في "الحاوي": الأول، وأنَّه لا فرق بين أن يكون التابع قد طلع قبل العقد أو بعده، كما ذهب إليه الشيخ أبو حامد، متمسكاً بأنه لمَّا كان ما لم يظهر تباً لما قد ظهر حذراً من سوء المشاركة، وجب أن يكون ما لم يطلع تبعاً لما قد أطلع، وهو الذي صححه الرافعيُّ. وقال أبو علي بن أبي هريرة: "يشترط في التبعية أن يكون التابع قد طلع". قال الماوردي: "وهذا أصح". والفرق: أن ما لم يؤبر يصح عليه العقد، ويلزم فيه الشرط؛ فجاز أن يصير تبعاً لما قد أُبر في العقد، وما لم يطلع لا يصح عليه العقد، ولا يلزم فيه الشرط؛ فلم يجعل تبعاً لما قد استثناه العقد. آخر: لفظة "أبرت" في الحديث، قال الأزهري: يقال بالتخفيف والتشديد. وقال الجوهريُّ: بالتخفيف. النَّور – بفتح النون – قال الأزهري: يطلق على أيّ لون كان. وقيل: النور ما كان أبيض، والزهر ما كان أصفر. الفُحَّال – بضم الفاء وتشديد الحاء – ذكر النخل، جمعه: فحاحيل. قال جمهور أهل اللغة: ولا يُقال: [فَحْل]، وجوَّز جماعة منهم أن يقال في المفرد: "فَحْل" وفي الجمع: "فُحُول"، وكذلك استعمله الشافعيُّ والغزالي، ومما حكاه الجوهريُّ: أنه لا يقال "فُحَّال" في غير الفحل.

فرعان: أحدهما: لو تلف الطلع في يد البائع سقط عن المشتري حصته من الثمن إذا اختار الإمساك على الصحيح من المذهب؛ لأن الطلع موجود حقيقة، ويجوز بيعه على الصحيح، خلافاً لأبي إسحاق. قال المتولي: ومن أصحابنا من بناه على القولين في أن الحمل هل يقابله قسط من الثمن، وليس بصحيح. الثاني: لو شقق طلع النخل نظر: إن كان في إبانه فهو كما لو تشقق بنفسه، وإلا لا أثر له، وحيث حكمنا بكون الطلع للبائع لتأبيره فَجِرْم الكِمَام للمشتري؛ فإنه يترك على النخل، حكاه الإمام عن شيخه. قال: "وإن كان ثمرة بارزة؛ كالتين والعنب، أو في كمام لا يزال [عنه] إلا عند الأكل؛ كالرمان والرانج فهو للبائع" أي: إذا كان موجوداً حال العقد، أمَّا في الأوليين وشبههما فلأنه ظاهر؛ فكان كالطلع المؤبر، وأمَّا في الأخريين وشبههما من الموز؛ فلأن قشر ذلك حافظ لمنفعته، فبقاؤه عليه من مصلحته؛ لأنه إذا تشقق قشره فسد، فكان القشر بمنزلة نفس الثمرة فظهوره بمنزلة ظهور ثمار سائر الأشجار. كذا قاله المحاملي. وفيه ما يفهم أن الكلام في الرمان إذا ظهر من الجلنار فهو الذي يقتضيه القياس، ويعضده ان الماوردي والمتولي ألحقاه بالمشمش والخوخ، ولو ظهر بعض ذلك بعد العقد لم يتبع الظاهر، قاله البغوي، وقال المتولي في التين بلا خلاف، ويدل عليه ما سنذكره من كلام الشيخ. واعلم أن كلام الشيخ مصرح بأن العنب لا نَوْر عليه، وأنه ملتحق بالتين، وهو ظاهر النص الذي سنذكره. وقال الشيخ أبو حامد: "عندي أن له ورداً ثم ينعقد". وفي "الحاوي": أنه نوعان: منه ما يُوَرِّد ثم ينعقد، ومنه ما يبدو حبًّا منعقداً، فالثاني ملتحق بالتين، والأول ملتحق بالمشمش، وعلى ذلك ينبغي أن يحمل ظاهر النص،

وكلام الشيخ أبي حامد، وقد ألحق الشيخ في "المهذب" وغيره الرانج بالجوز وما في معناه، وهو مخالف لما ذكره هنا. قال العمراني وغيره: ووجه الجمع بين قوليه أنه يخرج في قشرين، وقد يتشقق عنه الأعلى؛ فيبقى في قشر واحد، فيكون كالرمان، وإذا لم يتشقق فهو كالجوز. وهذا الجواب فيه نظرٌ؛ لأن الكلام في هذه الأشياء في حال انعقادها على الأشجار، ولا يمكن أن يكون الرانج في حال انعقاده على قشرين حالهما كذلك، بل الأقرب في الجواب ما حكاه النواوي أنه نوعان: نوع ذو قشر، وعليه يحمل كلام الشيخ هنا، ونوع ذو قشرين، وعليه يحمل كلامه في "المهذب". تنبيه: الكمام- بكسر الكاف -: أوعية طلع النخل، والمراد به هنا أوعية ما ذكره. قال الجَوْهَرِيُّ: "وواحد الكمام: كِمّ – بكسر الكاف – وكِمَامة، والجمع كِمَامٌ وأَكِمَّة، وأَكْمَام، وأكاميم". الرانج – بكسر النون -: الجوز الهندي. وقال النواوي: ورأيته في نسخة من "المحكم" مضبوطاً بفتح النون، والمشهور كسرها. قال: "وإن كنا ثمرة في قشرين: كالجوز، واللوز، فهو كالتبن والرمان على المنصوص"، أي: في "الأم"؛ فإنه [قال]: إذا باع أرضاً فيها شجر رمان، وجوز، ولوز، ورانج وغيره مما دونه حائل لا يزال عنه إلاَّ في وقت الحاجة إلى أكله؛ فهو في معنى ما تخرج ثمرته بارزة. صرح بهذه الحكاية المحاملي، وهذا ما وعدنا بحكايته في أول الباب وبعده. ووجهه: أن ذلك يخرج من الشجرة كما يخرج التين، وقشره لا يتشقق عما في جوفه فألحق به. قال: "وقيل: هو كثمرة النخل قبل التأبير" أي: فيكون للمشتري؛ لأنه لا يترك في القشر الأعلى كما لا يترك الثمرة في الطلع. واعلم أن إطلاق الشيخ حكاية هذا القول قد يفهم منه أن الثمرة تكون للمشتري بكل حال، سواء تشقق عنها القشر الأعلى أو لم يتشقق؛ لكونه ألحقه بالثمرة قبل

التأبير، وليس كذلك، بل محله ما إذا لم يتشقق [عنه] القشر الأعلى، أما إذا تشقق عنه القشر الأعلى، فإنه يكون كثمرة النخل بعد التأبير، وهو ما ذهب إليه الشيخ أبو حامد ومن في طبقته، وحملوا النص على ما إذا تشقق عنه القشر الأعلى وبقي الأسفل، ويدل عليه أنه قال: "دونه حائل لا يزال عنه إلاَّ في وقت الحاجة إلى أكله" وهذه صفة القشر الأسفل دون الأعلى. ولم يحك الماوردي في الجوز سوى هذا القول، وألحق اللوز بالمشمش. وقال القاضي أبو الطيب: غلط في ذلك الشيخ أبو حامد لأن تشقُّق قشر هذا عنه ليس من مصلحته إذا كان على رءوس الشجر؛ لأنه كتشقق الرمان الذي ليس فيه صلاحه، وكلام الشيخ يرشد إلى التصوير بما ذكرناه؛ لأنه قال:"وإن كان ثمرة في قشرين"، وهو بعد التشقق لا يكون في قشرين، بل في قشر واحد. قال:"وإن كان ثمرة تخرج في نَوْر، ثم يتناثر عنه النَّور كالمشمش والتفاح – فهو كثمرة النخل: إن ظهر ذلك أو بعضه" أي: من نوره "فهو للبائع، وإن لم يظهر منه شيء فهو للمشتري"، [أي]: وإن انعقد؛ لأن استتارها بالنور كاستتارها بقشر الطلع، وتناثر النور عنه كالتشقق في الطلع، وهذا ما نصّ عليه في البويطي، والصرف، واختاره أبو إسحاق والقاضي الروياني وسائر الأصحاب كما حكاه المحاملي. قال: "وقيل: إنه للبائع في الحالين" أي: حال كون النور عليه، وحال تناثره عنه. وهذا ما حكاه المحاملي في "المجموع" عن تخريج الشيخ أبي حامد، وأنه الذي يجئ على المذهب، متمسكاً فيه بقول الشافعي: حكم كل ثمرة خرجت بارزة ترى في أول ما تخرج كما ترى في آخره، فهو في معنى ثمرة النخل بارزة من الطلع، وتقريره: أن الثمرة ظاهرة بالخروج، واستتارها بالنور كاستتار ثمرة النخل بعد التأبير بما عليها من القشر الأبيض، واستتار حبات العنب بما يتشقق عنها من النور اللطيف، وذلك لا يجعلها تابعة؛ فكذلك هذا، وقد رجح هذا القول أبو القاسم الكرخي والبغوي، وخَطَّأ الشيخَ أبا حامد القاضي أبو الطيب في "تعليقه"، وقال ابن الصباغ:

"هذه الحكاية ليست بمذكورة في التعليق الأخير عنه". وقد ألحق أصحابنا العراقيون الفِرْسِكَ وهو الخوخ والكمثرى، والسفرجل بالمشمش والتفاح، صرح بالأول ابن الصباغ، وبما عداه الماوردي، وبالمجموع المحامليُّ في "المجموع"، وفصل الإمام فقال: الأشجار التي تبدو أزهارها منها ما يحتوي مركب الأزهار، وأصلها على الثمار على هيئات خوخات صغار كالمشمش والخوخ وما في مناه، فإذا بيعت هذه الأشجار وعليها أزهارها فالثمار في مطلق البيع للمشتري؛ فإنها مستترة استتار الطلع، وفيها مزيد معنى، وهي أنها لا تعد بعد ثمرة حتى تشت وتتصلب، وذلك بعد انتشار الأزهار وانكشافها عن الخوخات. ومن الأزهار ما لا يحتوي على الثمار ولكنها تطلع والثمرة دونها كالكمثرى والتفاح، فما كان كذلك فقد اختلف الأصحاب فيه: فالذي مال إليه العراقيون أن الثمار لها حكم الظهور؛ فلا تتبع الأشجار المطلقة في البيع. ومن أصحابنا من قال: هي للمشتري؛ لأنها غير منعقدة بعد، وإنما انعقادها بعد انتشار الأزهار. فهذا هوا لذي ذكره الصيدلاني. وهذا من الإمام يدل على أنَّ الخلاف في هذا النوع قبل انعقاد الثمار، إلاَّ أن يريد تكامل الانعقاد، ويؤيده أن المحكي في الرافعيّ أن المشمش والتفاح والكمثرى إن بيع أصله قبل انعقاد الثمرة فإنها تنعقد على ملك المشتري، وإن كان النور قد خرج، وإن بيع بعد الانعقاد وتناثر النور فهي للبائع، وإن بيع بعد الانعقاد وقبل تناثر النور فوجهان. تنبيه: المشمش: بكسر الميمين، قاله الجَوْهَرِيُّ. وحكى أبو عبيدة الفتح. قال: "وإن كان ورقاً كالتوت"، أي: الذي يقصد لتربية القز، وهو الشامي، "فقد قيل: إنه إن لم يتفتح فهو للمشتري، وإن تفتح فهو للبائع"؛ لأنه مقصود لطعمة دودة القز؛ فهو كالثمرة من غيره. وهذا ما صححه الجيلي، وجزم به الماوردي، وطرده في كل ما المقصود منه الورق.

"وقيل: هو للمشتري بكل حال"؛ لأنه من جملة الأصل كالأغصان، وهذا ما صححه الرافعيّ والبغوي، واختاره ابن أبي عصرون. أمَّا غر الشامي الذي يقصد بمنه الثمرة فهو للمشتري بكل حال، ومحل الخلاف في زمن الربيع، أمَّا في زمن الخريف فهو للمشتري وجهاً واحداً. تنبيه: التوت: بالتاء المثناة في آخره، وبالمثلثة أيضاً، والأشهر الأفصح بالمثناة، وممن ذكر اللغتين ابن الأعرابي. قال الأَصْمَعِيُّ: العرب تقول بالمثناة، والفرس بالمثلثة، وقد شاع الفرصاد في الناس كلهم. فرعان: أحدهما: ورق شجر النبق هل يتبع الأصل؟ فيه طريقان في "التتمة": أظهرهما: أنها كأوراق غيرها. والثاني: أنها كورق التوت؛ لأنها تلتقط لتغسل بها الرءوس، لكن خروجه من الأصل بمنزلة تفتح ورق التوت؛ لأنه يخرج من الأغصان في غير عُقَد يتفتح عنه. وهذا ما صرح به الماورديُّ. الثاني: أغصان الأشجار تدخل في البيع، وكذا عروق الأشجار وإن كانت يابسة. وفي "التهذب": أن الشجر الأخضر إذا كن فيه غصن يابسٌ لم يدخل في البيع؛ لأن العادة فيه القطع، ثم قال: ويحتمل أن يدخل كالصوف على ظهر الغنم. آخر: إذا باع أشجاراً خضراً، وأطلق العقد هل تدخل المغارس في البيع؟ فيه وجهان. وقال الإمام وصاحب "التهذيب": قولان أصحهما: لا، فعلى هذا لو انقلعت الشجرة، أو قطعها المالك لم يكن له غرس بدلها، ولو أراد البائع قلعها فهل له ذلك؟ المنقول هاهنا: أنه ليس له، بل عليه التبقية ما دامت. وحكى الإمام في كتاب "الرهن" وجهاً آخر: أنه لا يمنع من قلعها، ولكن يغرم ما ينقصه القلع؛ كما يغرم المستير في مثل هذه الصورة، وعلى القول بأنه يملك المغرس إذا قلع الشجرة، كان له غرس بدلها، وبيع المغارس، وهل يدخل ما بين المغارس في البيع؟ جزم الماوردي بعدم الدخول، وقال الإمام في كتاب الرهن:

ينظر: فإن كانت بحيث تنفرد بالانتفاع لم تدخل، وإن كانت لا يتأتى انفرادها بالانتفاع إلاَّ على سبيل التبعية للأشجار، ففي دخولها وجهان رواهما شيخي وصاحب "التقريب". ثم ما ذكرناه من الخلاف في استحقاق البقاء أو ملك المغارس يجري في بيع الأبنية من غير تعرض لأساسها. حكاه الإمام في "الرهن"، وكذا فيما لو اشترى أرضاً، وشرط البائع لنفسه شجرة فيها: أن المغرس يبقى له ملكاً أو مستحقاً، حكاه الرافعيُّ. قال: "وإذا باع أرضاً، وفيها زرع لا يحصد في السنة إلاَّ مرة" أي: كالحنطة والشعير، وفي معناهما الجزر والفجل والبصل واللفت والقطن الذي سيتحصد في كل سنة - كما ببغداد وخراسان والبلاد الباردة - قال: "لم يدخل الزرع في البيع"؛ لأنه نماء ظاهر يراد للنقل والتحويل دون البقاء؛ فأشبه الطلع المؤبر والأقمشة في الدار، وألحق الرافعي بهذا النوع السّلْق، وفيه نظرٌ؛ لأنه يستجد؛ فينبغي أن يلتحق بالنوع الثاني، ولا فرق في ذلك بين أن يقول: بعتك الأرض بحقوقها، أو لا، كما حكى عن الشيخ أبي حامد والتميمي في المستعمل، وللبائع تبقية ذلك بغير أجرة إلى أول إمكان حصاده دون نهايته، أو مدة تزيد في ثمنه؛ لاقتضاء العرف ذلك. نعم، عليه قلع ما يضر بالأرض من عروق الذرة، وأصول القطن، وهل يلزمه تسوية الأرض؟ الكلام فيه مثل الكلام فيما إذا كان في الدار المبيعة ما لا يسعه بابها، وقد حكى القاضي أبو الطيب فيه أنه يجب نقض الباب حتى يخرج، ويلزم البائع ما نقض من الباب، ثم قال: ويحتمل أن يقال: يلزمه بناؤه؛ كما يلزمه تسوية الأرض، وليس له

إذا قلع ذلك قبل أوانه أن ينتفع بالأرض إلى أن ينتهي إلى أوان قلعه بلا خلاف، ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون المشتري عالماً بالحال أوْ لا. نعم، يثبت له الخيار إذا لم يعلم، وقيل: يستحق الأجرة إذا كان جاهلاً وأجاز العقد؛ لأن المنفعة متميزة عما قابله الثمن، بخلاف ما إذا كان عالماً؛ فإن مقابل ذلك اندرج في الثمن، وهذا كله تفريع على القول بصحة بيع الأرض المشغولة بالزرع، وهو ما جزم به الماوردي. وأصح الطريقين ما لو باع داراً مشحونة بأمتعة، قال الرافعي: ولا يتخرج على القولين في بيع المستأجر؛ لأن يد المستأجر حائلة، ولا يلحق بما إذا استثنى المنفعة لنفسه؛ لأن هذا استثناء بالعرف فاحتمل، كما لو زوج أمته، ثم باعها؛ فإنه يصح، ولو باعها واستثنى منفعة بضعها ليزوجها لم يصح. وفي "الشامل": أنَّ أبا إسحاق خرجه على القولين في المستأجر، وأبدى الإمام احتمالاً في إجرائهما في الدار المشحونة أيضاً. وقال الجمهور: لو كان في معنى المستأجر لوجب ان يقطع بالفساد؛ لأن مدة بقاء الزرع مجهولة، فعلى هذا هل يحصل النقص بالتخلية بين المشتري وبينها في هذه الحالة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما في الدار المشحونة بالأمتعة. وأظهرهما: الحصول. والفرق: أن التشاغل بالتفريع في الدار ممكن في الحال، على أنَّ فيها أيضاً وجهاً، وادعى الإمام أنه ظاهر المذهب، وأنه لا يكاد يتضح بين المسألتين فرق. فروع: لو باع الأرض وما بها من زرع فهل يصح البيع؟ نظر: إن كان قصيلاً أو شعيراً جاز، وكذا إن كان قمحاً وجوزنا بيعه في سنبله، وإن لم نجوز بطل فيه، وفي الأرض قولاً تفريق الصفقة.

وقيل: يصح فيه تبعاً، وإن منعنا بيع الحنطة في سنبلها. حكاه الماوردي. آخر: لو شرط البائع قطع الزرع من الأرض ففي وجوب الوفاء بهذا الشرط تردد حكاه الإمام عن الأصحاب في أواخر كتاب "الصلح". قال: "وإن كان يجز مرة بعد أخرى كالرَّطْبة" أي: وما في معناهامن الهندباء والكراث والنعنع، "كانت الأصول للمشتري" كما ذكرناه في الأشجار، وهذا تفريع على ما حكاه في دخول الأشجار في بيع الأرض. أمَّا إذا قلنا: "لا يدخل" فكذلك أصول هذه الأشياء، صرح به الإمام عن العراقيين والصيدلاني. وقال: "إنه القياس"، وحكى عن الشيخ أبي محمد القطع بدخول هذه الأشياء؛ لأنها لا تراد للنقل، بخلاف الأشجار. وفي "الوسيط": أنَّ الشيخ أبا محمد قطع بأنه كالزرع، والعقد في هذه الصورة صحيح قولاً واحداً. قال: "والجزة الأولى للبائع"؛ لأنها في معنى ما ظهر من الثمار، لكن يؤمر البائع بأخذ ما ظهر في الحال، كي لا يختلط بما يحدث على ملك المشتري، ولا فرق بين أن يكون ما ظهر قد بلغ أوان الجز أو لا. قال في "التتمة": إلا القصب فإنه لا يكلف قطعه، إلا أن يكون ما ظهر قدراً ينتفع به. وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه يجب تبقيتها إلى الوقت الذي جرت العادة فيه بالجز.

وهذا قول من زعم أن ما اطلع من ثمار النخل بعد العقد للبائع تبعاً لما أبر منها، وقد يؤخذ هذا من قول الشيخ، والجزة الأولى للبائع. ويلتحق بهذا النوع البنفسج والنرجس؛ فتكون أصوله للمشتري وما ظهر منه حالة العقد للبائع، وفيهما وجه حكاه الرافعي: أنهما يلتحقان بالنوع قبله، وألحق الماوردي بصل النرجس والزعفران بشجر الورد، والرافعي أشجار الخلاف التي تقطع من وجه الأرض بهذا النوع. وقال الإمام: لم يختلف علماؤنا في أن شجرة الخلاف إذا بيعت دخلت أغصانها التي تقطع عادة وتستخلف تحت مطلق البيع، وقد يتخيل بينهما فرق في الصورة. وبذْرُ كل شيء مما ذكرناه إذا كان في الأرض حالة العقد حكمه حكم أصله فيما ذكرناه إلا في بيعه؛ فإن الأصح أنه لا يجوز، وإن كان مع الأرض. وحكى المحاملي في كتاب "التفليس" أن ظاهر نصه فيه صحة بيع البذر تبعاً للأرض؛ كبيع الأساس تبعاً للحيطان. وفي "الحاوي": أن من قال: ينتظر بما ظهر تناهي الجزاز في العادة، جعل ما ينبت من البذر أول جزة للبائع. فرع: البطيخ والخيار والقثاء وما يؤخذ ثمره مرة بعد أخرى لكن في عام واحد، اختلف أصحابنا إذا بيعت الأرض، فهو فيها على وجهين: أحدهما- وهو قول البغداديين -: أنه يكون في حكم الشجر؛ فيكون للبائع من ثمره ما ظهر، وللمشتري الأصل الباقي وما يظهر. والثاني – وهو قول البصريين -: أنه يكون في حكم الزرع؛ فيكون للبائع أصله وثمره. والموز لا يبقى الظاهر منه أكثر من سنة؛ فلا يندرج في بي الأرض، والفرع الذي يستخلف يكون للمشتري. تنبيه: الرَّطْبة هي القضب الذي يطعم للدواب، يسمونه بالعراق بهذا الاسم. قال أبو الطيب: ويسمى أيضاً: قتًّا وقُرْطاً. والرطبة: بفتح الراء، وجمعها: رِطَاب.

قال الجوهري. والجِزَّة: بكسر الجيم وتشديد الزاي. قال: "وإذا باع الأصل، وعليه ثمرة للبائع" – أي: حيث قلنا: "لا تدخل في البيع"- لم يكلف نقلها إلى أوان الجداد"، أي جدا مثلها من بسر أو رطب أو ثمرة، ويعتبر في ذلك أول زمان الإمكان، كما قاله الماوردي وأبو الطيب. ووجهه: أن البائع يؤمر بتفريغ المبيع على حسب العرف، والعادة في الثمار تنقيتها إلى أوان الجداد، ويشهد لهذه القاعدة: أنه لو باع داراً مشحونة لا يكلف أن ينقل ما فيها في ساعة، بل شيئاً فشيئاً، على ما جرت به العادة، وكذا لو باع داراً ليلاً، لم يكلف الانتقال منها حتى يصبح، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المشتري علم بأن الثمرة تبقى للبائع أوْ لاَ، نعم إذا لم يعلم بتأبير النخل وظهور الثمرة ثبت له الخيار، ويتصور ذلك بأن يكون قد رأى الأصل قبل ذلك. والجداد بالفتح والكسر: القطع. أمَّا إذا كانت بحيث تندرج في البيع، فاستثناها لنفسه بالشرط – فالذي حكاه الماوردي: أنه لا يستحق الإبقاء، بل يقطع في الحال؛ لأنه إنما يصح استثناؤها له بشرط القطع كما نص عليه الشافعي في كتاب الصرف، وهذا يوجب عليه إلزام موجبه. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب "والشامل": أن هذا ليس يقول به أحد من أصحابنا، وأجاب عن النص بأنه خطأ في النقل، وحكى صاحب "الحلية" الخلاف، وجعل أصله الخلاف فيما إذا باع داراً واستثنى سكناها شهراً، ومقتضاه أن يكون الصحيح قول الماوردي، لكنه رجح مقابله، كما هو في الرافعي وغيره. ثم على قول الاشتراط: لو أطلق العقد، قال الإمام: ظاهر كلام الأئمة أن الاستثناء باطل، والثمرة للمشترين وهذا مشكل؛ فإن صرف الثمرة إليه مع التصريح باستثنائه محال عندي؛ فالوجه أني جعل شرطاً فاسداً، فيفسد العقد في الأشجار أيضاً. قال: "فإن احتاج إلى سقي" – أي: بحيث إن لم يُسق فسدت الثمرة أو امتصت – "لم يكن للمشتري منعه من سقْيه – أي: بالماء المعد لسقي الأشجار المبيعة، وإن تضررت الأشجار به كما أشار إليه الماوردي؛ لأن ذلك من صلاح هذه الثمرة، فلم

يكن للمشتري المنع منه؛ قياساً على التبقية على الأصول، لكن مؤنة السقي على البائع، بخلاف ما إذا باع الثمرة؛ فإن مؤنة السقي على البائع إلى أوان الجداد؛ لأنه ألزم تبقيتها، والسقي من ضرورة بقائها. وقيل: إذا تضررت الأشجار بالسقي لم يجبر المشتري عليه، بل يراعى جانبه، حكاه الإمام ومن تابعه. وحكى عن أبي إسحاق وجهاً آخر: أنه لا يجبر واحد منهما؛ لاستواء الحقين، فإن تراضيا على شيءٍ، وألا فسخَ العقد. والأول قول [أبي] علي بن أبي هريرة، واختاره ابن أبي عصرون. والثاني عند الغزالي أصح. والثالث عند الرافعي أظهر، وقال: إن الثاني لم أر من رجحه إلا الغزالي. أما إذا كان ترك السقي لا يضر بالثمرة، ولكن يمن تزايدها وتنميتها، قال الغزالي: يحتمل أن يلحق بالحالة الأولى، ويحتمل أن يمتنع وجها ًواحداً. ولو تضررت الثمار بالسقي والأشجار بتركه، قال الإمام: فتعود الثلاثة أوجه. قلت: وفي ذلك نظرٌ؛ لأن مقتضى من نظر في المسألة الأولى إلى جانب البائع – وهو ابن أبي هريرة – ألا يجبره هنا، ومن نظر إلى جانب المشتري في الأول، كما حكاه الإمام يجبر البائع، ومذهب أبي إسحاق لا يختلف. وقد حكى المحاملي والماوردي وغيرهما عن ابن أبي هريرة أنه قال في هذه الصورة: إن البائع يجبر. فلا يتحرر في هذه الصورة إلاَّ وجهان، إلا أن يكون ابن أبي هريرة ينظر إلى جانب من يتضرر بالسقي كيف كان ويراعيه، والآخر ينظر إلى جانب الآخر كيف كان ويراعيه؛ فينعكس الحال، وتجيء الأوجه، والله أعلم. ولو كانت الثمرة لا تحتاج إلى السقي، ولو سقيت زادت ونمت، وإن تركت امتصت رطوبة الأشجار، أو نقص حملها في المستقبل نقصاناً كثيراً – فالبائع مجبر على السقي أو القطع، فإن عدم الماء فهل يتغير القطع؟ حكى العراقيون فيه قولين عن "الأم"، وأصحهما عند الكرخي: تعيين القطع.

قال الإمام: "ولم يقع التعرض لاستواء الحقين، ولابد من هذا الوجه" يشير إلى وجه أبي إسحاق. ولو لحق الثمرة آفة قبل وقت القطع، فهل يتعين عليه القطع؟ فيه قولان، رواهما صاحب "التقريب". قال: "وإن كانت الشجرة تحمل حملين" – أي: متلاحقين – "فلم يأخذ البائع ثمرته حتى حدثت ثمرة المشتري، واختلطت ولم تتميز – ففيه قولان: أحدهما: ينفسخ البيع"؛ لأن المقصود من الشجرة المثمرة الثمرة، وقد تعذر تسليمها؛ لأن كل واحد منهما لا يلزمه تسليم ما اختلط به من ماله، ولا إجباره على قبول مال صاحبه؛ فوجب أن يبطل العقد لفوات المقصود، كما لو اشترى جوهرة فوقعت في بحر عظيم قبل القبض، أو انقلب العصير خمراً، وهذا ما اختاره ابن أبي عصرون. فعلى هذا قال المتولي: يسترد المشتري الثمن، وترد الشجرة مع جميع الثمرة، وإلى ذلك أشار المحاملي أيضاً بقوله: تعود الشجرة والثمرة إلى ملك البائع. وفي كلام البغوي ما يخالفه، كما سنذكره. وكأن حاصل ما قالوه يرجع إلى أن هذا العقد ينفسخ من أصله أو من حينه: فكلام المتولي والمحاملي يقتضي أنه من أصله، وكلام البغوي يقتضي أنه من حينه. قال: "والثاني: لا ينفسخ"؛ لأن المبيع وهو الشجرة باقٍ، وكذلك المقصود منها، والتصحيح ممكن بما ذكره، فيقال للبائع: إن سلمت الجميع أُجبر المشتري على قبوله؛ لأنه دفع إليه حقه بزيادة لا تتميز عنه، فأجبر عليها؛ كما لو أسلم في طعام فأتاه بأجود منه. قال: "فإن امتنع" – أي: البائع – من البدل، قيل للمشتري: "إن سلمت الجميع أجبر البائع على قبوله" لما ذكرناه؛ فلا وجه للحكم بالانفساخ في الحال. قال: "فإن تشاحا" – أي: تباخلا ولم يرض أحدهما ببدل ما لَهُ- "فسخ العقد"؛ لتعذر الوصول إلى المقصود حينئذ، وهذا الخلاف حكاه المزني وغيره عن "الأم" أيضاً، وبه قال أكثر أصحابنا، على ما حكاه أبو الطيب في "تعليقه" وغيره.

قال: "وقيل: لا ينفسخ قولاً واحداً"؛ لأن المبيع لم يختلط بغيره فلم ينفسخ العقد؛ كما لو اشترى داراً فيها طعام له وللبائع واختلطا، وهذا ما صححه القاضي أبو الطيب في باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمار. ومن قال بالأول فرق بما أشرنا إليه في علة القول الأول: من أن الثمرة هي المقصودة بالعقد؛ لأنها نماء المبيع وليس الطعام مقصوداً من بيع الدار، لوا هو من نمائها؛ فلذلك لم يؤثر اختلاطه في فساد العقد. ووجَّه البغوي هذا القول: بأنه لا فائدة في الفسخ؛ فإنه لا يفيد قطع النزاع؛ فإنَّ الثمرة الحادثة لا تعود إلى البائع، وهذا ما أشرنا إليه من قبل، وهذا الطريق قال به أبو علي بن خيران والطبري في "الإفصاح" وقالا: محل القولين اللذين نقلا في "الأم" في مسألة بيع الطعام، والمزني نقلها من "الأم"، والغلط وقع في النقل. قال الإمام: "وهذا هو القياس الذي لا يسوغ غيره". وقال الماوردي: الصحيح ما قالاه جواباً وتعليلاً، وإن كان نقل المزني صحيحاً، والإذعان للحق أولى من نصرة ما سواه. فعلى هذا: إن رضي أحدهما بترك حقه لصاحبه أجبر عليه، وإلاَّ كان القول قول من في يده الثمرة في قدر حق صاحبه، كذا قاله المحاملي والماوردي والبغوي وغيرهم. وفي "الشامل" "وتعليق أبي الطيب": أنهما إذا تشاحا فسخ، وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام الشيخ. تنبيه: الشجرة التي تحمل حملين، قال المتولي: إنما يتصور في التين؛ لأنه يخرج مرة بعد مرة. وقوله مستمد مما حكاه عن الشيخ أبي حامد أنه قال: لا أعلم ذلك إلاَّ في التين. وقد قيل: إن النارنج والأترج والباذنجان كذلك، ومحل الخلاف في المسألة: ما إذا لم يعلم وقوع هذا الاختلاط غالباً، بل وقع لتأخر القطاف، أو كان غالباً، وشرط في حال العقد قطع الثمرة عند خوف الاحتلاط، فلم يتفق حتى حدثت الأخرى، أمَّا إذا كان الاختلاط غالباً، ولم يشترط القطع فالعقد باطل.

قال الرافعيُّ: "ويجيء فيه الخلاف فيما إذا كان المبيع ثمرة، وسنذكره. قال: "ولا يجوز بيع الثمار" – أي: منفردة على أصولها النامية "حتى يبدو صلاحها، إلاَّ بشرط القطع" – أي: سواء كانت مما تُجَذُّ أو تُقْطَفُ أو تُجْمَعُ كالبِطِّيخ والخيار ونحوه. والأصل في ذلك: ما روى مسلم عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، نهى البائع (والمبتاع). وروى الشافعيُّ عن مالك عن حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ"، قيل: يا رسول الله، ما تزهى؟ قال: "حَتَّى تَحْمَرَّ وَتَصْفَرَّ"، وروى: "تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ" وغير ذلك من الأحاديث المتوافقة في المعنى، وذلك يدل على منع البيع مطلقاً، سواء اشترط بقاؤها إلى أوان الجذاذ أو قطعها، أو أطلق العقد فاستثنى منه ما قام الإجماع على جوازه وهوا لبيع بشرط القطع، وبقي على عمومه فيما عداه. واختلف أصحابنا في تعليل المنع: فمنهم من علله: بأن العقد عند الإطلاق يقتضي البقاء على الأصل إلى أوان الجذاذ والقطاف؛ لأن تسليم كل شيءٍ على حسب ما جرت العادة به كما قررناه، والعادة جارية في بيع الثمار كذلك، وإذا اقتضى العقد ذلك، أو كان مشروطاً في العقد فلا يوثق بالقدرة على التسليم، التي هي شرط الصحة؛ لأن الثمار قبل بدوٍّ

الصلاح ضعيفة متعرضة للعاهات، وقد أشار – عليه السلام – إلى ذلك بنهيه عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة. ومنهم من علله بأنها قبل بدو الصلاح تكبر أجزاؤها كِبَراً ظاهراً، وتلك الأجزاء من أجزاء الشجرة بامتصاصها رطوبتها؛ فتعذر الإبقاء لذلك كما يتعذر البيع بشرط أن يأكل العبد المبيع من مال البائع. ومقتضى ما ذكر من المعنى الألو: أنه إذا باع الثمرة مطلقاً، وكان في موضع جرت العادة فيه بقطعها قبل بدو صلاحها أن يصح وينزل على المعتاد، وقد قال به القفال؛ تنزيلاً للعادة الخاصة منزلة العادة العامة، وامتنع الأكثرون من ذلك، ولم يروا تواطؤ قوم مخصوصين بمثابة العادات العامة، وأجرى هذا الخلاف فيما لو جرت عادة قوم بانتفاع المرتهن بالمرهون حتى تنزل عادتهم على رأي بمنزلة شرط الانتفاع، ويحكم بفساد الرهن، وأشار إمام الحرمين إلى تخريج الخلاف على مسألة السر اولعلانية، وعلى المعنى الثاني يخرج اشتراط القطع فيما إذا باع النخل وعليها ثمرة غير مؤبرة واستثناها، ولا يرد علينا كون الثمرة للبائع إذا وقع العقد بعد التأبير، وإن كان لا يصح البيع في هذه الحالة إلاَّ بشرط القطع نظراً لهذه العلة؛ لانَّ هذا استثناء بالشرع، فلا يسلك به مسلك الاستثناء باللفظ؛ ألا ترى أنه لو باع الجارية المزوجة صحّ، ولو باع جارية واستثنى منفعة الزوج لم يصح؟! ثم حيث صححنا العقد بشرط القطع، فذاك على ما حكاه المتولي فيما يمكن الانتفاع به كاللوز وما في معناه، أما ما لا يمكن الانتفاع به فلا يجوز، وإن شرط القطع، وهذا مأخوذ من القواعد السابقة. ثم إذا صحّ العقد فيما يشترط فيه القطع بشرطه فللبائع المسامحة بالتبقية إلى بدوّ الصلاح، وله إجباره على قطعه، صرح به الماوردي وغيره، وله إجباره على القطع بعد بدو الصلاح أيضاً ما لم تبلغ الثمرة خمسة أوسق، أمَّا إذا بلغت [ذلك] فقد قال الماوردي في كتاب الزكاة: "إن البائع إن رضي بإبقائها إلى أوان الجذاذ ورضي المشتري بدفع زكاتها، ثَمَّ البيع، وإن امتنع البائع من إبقائها، وتأبىَّ المشتري من دفع الزكاة من ثمرته فالواجب أن يفسخ

البيع، إذا فسخ لم تجب الزكاة على المشتري؛ لأمرين: أحدهما: أنه دخل في ابتياعها على أنه لا زكاة عليه. والثاني: أن فسخ البائع غير منسوب إليه. وفي استحقاق زكاتها على البائع وجهان: أصحهما: أنها واجبة عليه؛ لأنَّ امتناعه من الترك سبب لفسخ البيع فلم يجز أن يكون سبباً لإسقاط الزكاة. ولو رضي المشتري بدفع زكاتها، وامتنع البائع من تركها فسخ البيع، وترد الثمرة على البائع، وتؤخذ منه الزكاة وجهاً واحداً. ولو رضي البائع بتركها، وتمنَّع المشتري من [أداء زكاتها] فقولان: أحدهما –وهو اختيار المزني -: ينفسخ البيع؛ لأنَّ للبائع الرجوع بعد الرضا يكون المشتري بدفع الزكاة مغرراً. والثاني: أن البيع لا ينفسخ، وتؤخذ الزكاة من المشتري. وفي "زوائد" العمراني في كتاب الزكاة: أنه لو لم يتفق القطع حتى بدا صلاحها حكاية قولين: أحدهما –رواه القفال عن الشافعي -: أن البيع يبطل؛ لأن تسليم المبيع قد تعذر بوجوب الزكاة فيه؛ لكما لو اشترى حنطة فانثالت عليها صبرة أخرى، فإن البيع يبطل. والثاني – ولم يذكر الشيخ أبو حامد سواه -: أنه لا يبطل، فعلى هذا إن طالب البائع المشتري بالقطع فقولان: أحدهما: ينسخ البيع؛ لأن البائع يطالبه بما اشترطه، ويتعذر ذلك لحق المساكين فبطل. والثاني: لا ينفسخ، والزكاة على المشتري، ويلزمه أن يقطع ويؤخذ منه عشر ثمرته مقطوعاً. وإن رضي البائع بتركها، وطالب المشتري بقطعها، ففي هذه الحالة أيضاً قولان: أحدهما: ليس له، وهو الصحيح؛ لأن القطع لحق البائع وقد رضي؛ فلا يجوز لأجل المساكين.

والثاني: له؛ لأنه اشتراها بهذا الشرط فلعل له غرضاً. أمَّا إذا أُبيعت الثمار مع أصولها، فإنه يصح البيع من غير شرط؛ لقوله - عليه السلام -: "مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبْرَتْ فَثَمَرتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتِرطَهَا الْمُبْتَاعُ"، ثبت النخل بالنص، وقيس ما في معناه عليه؛ لأنها أصول يتكرر حكمها، فجاز بيعها كالنخل. وبيعُ البطيخ والقثاء والباذنجان مع الأصول لا يكفي عند الغزالي وإمامه، وخرج الرافعي وجهاً في الاكتفاء به عن شرط القطع. ولو باع الثمرة وحدها على أصولها بعد قطع الأصول جاز من غير شرط القطع. فروع: إذا باع بعض الثمرة مشاعاً على رءوس الأشجار قبل بدوّ الصلاح لم يصح؛ بناءً على امتناع القسمة في ذلك، أمَّا إذا جوزنا القسمة جاز، ولو باع نصفها مع نصف النخل جاز. ولو كانت الثمرة والشجرة بين شخصين، فباع أحدهما نصيبه من الثمرة لصاحبه بنصيبه من الشجرة - لم يجز مطلقاً، ويجوز بشرط القطع، ومثل هذا [الخلاف] يجري في الأرض المزروعة. قال الإمام في أواخر كتاب "الصلح": "قال الأصحاب: ولا يتصور شراء نصف زرع بشرط القطع، إلا في صورة واحدة، وهي كما ذكرنا في الثمرة". ثم قال: "وهذا فيه نظرٌ، وقد منع طائفة من المحققين البيع في هذه الصورة أيضاً؛ فإن تفريغ الأرض من الزرع لا يجب بقطعه كذا، وإذا شرطه لا يجب الوفاء به؛ فيبقى بقدر استحقاق القطع، ثم الذين قالوا بالصحة بناءً على تفريغ الأرض، فلست أري ما قولهم في أن شرط التفريغ هل يجب الوفاء به أم لا؟ هذا محتمل من جهة أن هذا ليس في المعقود عليه من الزرع، وإنما هو في بيع حصته من الأرض". قلت: وما ذكره في الزرع بعينه يتجه جريانه في الثمرة. قال: "فإن بدا صلاحها جاز بيعها مطلقاً"، وبشرط القطع، وبشرط التبقية"، أمَّا

إذا باع بشرط القطع فدليل جوازه الإجماع، وأمَّا في الباقي؛ فلأنه – عليه السلام – في حديث ابن عمر جعل غاية النهي بدوّ الصلاح، والحكم بعد الغاية مخالف لما قبلها، فلمَّا امتنع ذلك قبل بدوّ الصلاح [تعين جوازه] بعده. قال الرافعي: "ولا فرق في ذلك بين أن تكون الأصول للبائع، أو للمشتري، أو لغيرهما". قلت: وفيما إذا كانت الأصول للمشتري وباع بشرط القطع، نظرٌ يظهر لك فيما إذا باع ما لم يَبْدُ صلاحه من صاحب الأصل. قال: وبدوّ الصلاح أن يطيب أكله – أي: المعتاد [فيأخذ الناس منه]، فثمرة النخل وإن كان أكلها طلعاً، وبلحاً [واقعاً] فلا عبرة به، [بل لابد من احمرارها واصفرارها، وثمرة الكرم وإن كانت تؤكل حِصْرِماً فلا عبرة به]، بل لابد من تموُّه الأبيض منها بالحلاوة، وشروع ما يسوّد منها أو يحمر في التلون. والخيار والقثاء ونحوه، وكذا الباذنجان، وإن طاب أكله في حال صغره، فلابد من أن ينتهي إلى حالة يأخذ الناس في أكله. ولو قيل في حَدّ بدوّ الصلاح: صيرورته إلى الصفة التي تطلب غالباً لكونها على تلك الصفة؛ حتى يدخل فيه ما قاله البغوي: إنَّه لا يجوز بيع ورق التوت قبل تناهيه إلاَّ بشرط القطع – لكان أشمل. وقد جعل الماوردي بدو الصلاح ثمانية أقسام: أحدها: اللون، وذلك في النخل بالاحمرار والاصفرار، وفي الكرم بالحمرة، أو السواد، أو الصفار والبياض، وفي المشمش بالصفرة، وفي العناب بالحمرة، وفي الإجَّاص بالسواد، وفي التفاح بالبياض، وأمثال ذلك. الثاني: بالطعم، ومنه ما يكون بالحلاوة كقصب السكر، ومنه ما يكون بالحموضة كالرمان. الثالث: بالنضج واللبن كالتين والبطيخ. الرابع: بالقوة والاشتداد كالبر والشعير. الخامس: بالطول والامتلاء كالعلف والبقول والقصب.

السادس: بالعِظَم والكِبَر كالقثاء والخيار والباذنجان. السابع: بانشقاق كِمَامِهِ كالقطن والجوز، فإذا تشقق كمام القطن، وسقطت القشرة العليا عن جوز الأكل فقد بدا صلاحه. الثامن: بانفتاحه، وانتشاره كالورد والنيلوفر وورق التوت بدو صلاحه أن يصير كأرجل البط. ثم قال: هكذا قال عطاء والنخعي. والأصل في اعتبار ما أشرنا إليه: ما روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشْقِحَ، قِيلَ: وَمَا تُشْقِح؟ قَالَ: تَحْمَارُّ، وَتَصْفَارُّ، وَيُؤْكَلُ مِنْهَا". وما روى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسودّ، وعن بيع الحب حتى يشتد، فأشار - عليه السلام - إلى ذلك في هذه الأنواع؛ لعمومها عندهم في ذلك الوقت، وفيه تنبيه على ما عداها. قال: وإذا وجد ذلك في بعض الجنس في البستان -أي: ولو في ثمرة واحدة، كما قاله في "المرشد" - "جاز بيع جميع ما في البستان من ذلك الجنس" دفعاً للضرر؛ فإنا لو اعتبرنا بدو صلاح الجميع أدى إلى تلف السابق، ولو شرط بيعه أولاً فأولاً أدى إلى أن يباع رطبه برطبه؛ فإن الله - تعالى - جعل كمال التفكه به عدم طِيبِه جملة واحة. ثم كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون ما لم يبد صلاحه من نوع ما بدا صلاحه، أو من غير نوعه، اشتمل العقد على الجميع أو على ما بدا صلاحه أو غيره، اتحد مالك البستان أو اختلف، والحكم في ذلك - وفاقاً وخلافاً - كالحكم الذي ذكرناه في التأبير سواءٌ، صرح بذلك الرافعي والماوردي وغيرهما. لكن حكينا ثَمَّ فيما إذا اختلف النوع أن الصحيح في "تعليق" أبي الطيب: أنه كالنوع الواحد، وحكينا عن ابن خيران أنه كاختلاف الجنس، والمحكي في "تعليق"

أبي الطيب هنا أن المذهب الصحيح – وهو الذي ذكره القاضي أبو حامد في "الجامع"، ونصَّ عليه الشافعيّ في البويطي -: أن بدو الصلاح في نوع لا يكون بدو الصلاح في النوع الآخر، وأن أبا علي بن خيران، والطبري قالا: "إنه يكون بدو الصلاح [في سائر الأنواع]؛ كما يضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة"، ثم نقض [ما عللا به] بأن الشافعي نص على أن بدوَّ الصلاح [في الثمرة الصيفيَّة لا يكون بدوًّا] في الثمرة الشتوية، وإن كانت تضم إليها في الزكاة، ولا يمكن حمل ما قاله القاضي أبو الطيب هنا عن المذهب على ما إذا أفردها بالعقد؛ فإن الصحيح في نظيره من التأبير أنه لا يصح أيضاً؛ لأنه حكى [ذلك] في فصل بعده، وحكى فيه وجهين، وأنَّ أصحهما: أنه لا يجوز أيضاً. قال: "ولا يجوز بيع الزرع الأخضر إلا بشرط القطع"؛ لما روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ بَيْع النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ، وَعَنِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ، وَيَامَنَ الْعَاهَةَ، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ". وهذا فيه إشارة إلى العلة المجوِّزة لبيعه بشرط القطع؛ فإن معه [قد أمن من العاهة]. أمَّا إذا زالت الخضرة عنه، وبدا صلاحه كما ذكرناه فيجوز بيعه مطلقاً، ويشترط القطع بشرط التبقية إلى أوان الحصاد؛ لِمَا دلَّ عليه خبر أنس أنه – عليه السلام -: "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ". وحكم أصول البطيخ والباذنجان ونحوهما عند الغزالي حكم الزرع؛ فلا يجوز إلا

بشرط القلع إذا بيعت دون الأرض، والذي ذكره العراقيون وغيرهم: أنه يجوز، ولا حاجة إلى شرط القلع إذا لم يخف اختلاط ثماره، على ما حكاه الرافعي. قال: فإن باع الثمرة قبل بدو الصلاح من صاحب الأصل، أو الزرع الأخضر من صاحب الأرض – جاز من غير شرط القطع؛ كما لو باع الأصل، وعليه الثمرة، أو الأرض بزرعها، وفيه وجهٌ: أنه لا يصح؛ لعموم النهي، وبالقياس على ما لو باع ذلك من غيرهما، وإنما جاز بيعهما جميعاً للتبعية، كما قلنا في عروق الأشجار وأساس الحيطان، ولا تبعية هاهنا، وهذا ما اختاره ابن أبي عصرون، وصححه في النخل القاضي أبو الطيب والمحاملي، والجمهور على ما حكاه الرافعي، وفي الزرع القاضي أبو الطيب في كتاب "الصلح"، وفي شرح ابن التلمساني: [أن] الأكثرين على ترجيح الأول؛ لانتفاء الغَرَرِ وتمام التسليم فيه، وأنهم ضعفوا الثاني بأنه لو شرط القطع لم يجب عليه أن يقطع ثمار نفسه عن أشجاره. فروع: لو باع نصف الثمرة من نصف الشجرة هل يجوز؟ فيه وجهان ينبنيان على اشتراط القطع، ويلاحظ فيه أيضاً امتناع القسمة. آخر: لو باع الزرع قَصْلاً بشرط القطع، ثم باع الأرض منه قبل القطع، فهل يسقط عنه القطع؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين في باب "بيع الطعام". قال: "ولا يجوز بيع الباقلاء الأخضر في قشرته، ولا الجَوْز واللَّوز في قشرته" –أي: رطباً كان أو يابساً – على أصوله أو على الأرض؛ لاستتار المقصود

من ذلك بما ليس من صلاحه، وفي الباقلاء واللوز قولٌ أنه يجوز [بيعهما في قشرهما ما داما رطبين؛ لتعليق الصالح به] من حيث إن القشر الأعلى يصون الأسفل، ويحفظ رطوبة اللب، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب عن ابن القاص والإصطخري، والماورديُّ عن البصريين. وقد ألحق غيرهم الجوز الأخضر بهما، وأجرى هذا القول فيه، وادعى الإمام أنَّه الأظهر في الباقلاء؛ لأنَّ الشافعيَّ أمر بعض أعوانه بأن يشتري الباقلاء الرطب والعون هو الربيع وكان الثمن كِسْرة على ما حكاه القاضي الحسين، وجزم به في اللَّوز، وجعله المذهب في الباقلاء. ويجري الخلاف المذكور في الرانج الذي عليه قشران، ولو بيع اللوز في القشرة العليا قبل انعقاد السفلى جاز؛ لأنه مأكول كله كالتفاح، ولا نزاع في جواز بيع الجميع في القشر الأسفل، وكذا كل ما عليه كمام لا يزال إلاَّ عند أكله كالرمان [والموز ونحوهما؛ لأن قشره من مصلحته، وألحق به العلس في قشرته، ولا نزاع في امتناع بيع الجوز واللوز] والباقلاء فيحال الجفاف في قشرته، وحكى القاضي الحسين في "التعليق" في الجوز واللوز قولاً مخرجاً من الحنطة: أنه يجوز، وفي "التتمة" تخريج ذلك على بيع الغائب. وعلى المذهب، إذا قيل: الجوز واللوز المقصود منهما وهو اللب مستتر بالقشرة السفلى لا يظهر منها، وقد جوزتم البيع، فوجب أن يجوز في القشرين؛ إذ ليس فيه أكثر من المنع من المشاهدة، وما لم تكن رؤيته شرطاً لم يقع الفرق فيه بين أن يكون مستوراً بحائل أو حائلين كالمنكوحة. فجوابه – ما حكاه الماوردي -: أن القشر الأسفل من مصلحته، وفي رؤيته تنبيهٌ على جودته ورداءته، بخلاف الأعلى فإنه بمنزلة نور حائل.

قال: "ويجوز بيع الشعير في سنبله" – أي: مع سنبله – سواءً كان بعد الحصاد أو قبله؛ لأن الحبات ظاهرة في السنبلة، وهكذا الحكم في السلت والذرة، وفي "التهذيب" إلحاق الذرة بالقمح. قال: وفي بيع الحنطة في سنبلها – [أي: مع السنبل] قولان: أصحهما: أنه لا يجوز، وهو الجديد؛ لما روي أنه – عليه السلام – نهى [عن بيع الغرر، وبيع ذلك في سنبله غرر؛ لأنه يرتدد بين الجودة والرداءة، وروى أنه – عليه السلام – نهى] عن بيع الطعام حتى يفرَكَ. يعني: بفتح الراء. ومعنى الفرك: التصفية، ولأن المقصود مستتر بما لا يتعلق به الصلاح؛ فلم يصح بيعه كالذهب في تراب المعدن، أو الحنطة في التبن بعد الدِّياس، وقبل التصفية. والقديم: أنه يجوز؛ لما روي أنه – عليه السلا – نهى عن بيع الحب حتى يشتد، وقد اشتدَّ؛ ولأنّ بقاءه فيه من مصلحته، وإليه يرشد قوله تعالى في قصة يوسف – على نبينا وعليه السلام -: - فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف: 47]، والقائلون بالأول أجابوا عن الحديث بأنه محمولٌ على الحب الذي يخرج بارزاً كالشعير ونحوه، على أنه معارضٌ بنهيه – عليه السلام – عن بيع الغرر. والعدس والسمسم ونحو ذلك: ملحقٌ بالحنطة، وكذا الأرز عند الشيخ أبي حامد، وهو ما جزم به النبدنيجي، واختاره القاضي أبو الطب في باب "السلم" بعد أن حكاه عن النص، والصحيح –وبه قال ابن القاص، وأبو عليّ الطبري، وجزم به في "التهذيب" -: أنه ملحق بالشعير، وكان يتجه أن يلحق العلس بالأرز في جواز البيع،

وقد جزم القاضي أبو الطيب فيه بالمنع في باب "السلم". أمَّا إذا بيع القمح وما في معناه في السنبل دون السنبل فلا يجوز على الصحيح من المذهب في "تعليق" القاضي الحسين، وادّعى المحاملي فيه الإجماع، ثم قول المنع فيما ذكرناه مفرع على منع بيع الغائب أو هو جائز وإن جوزنا بيع الغائب؟ الذي ذكره الإمام: أنا إن جوزنا بيع الغائب جاز هذا، وإن منعناه فهو محل التردد؛ لاضطراب النظر في اشتداد الحاجة إلى احتمال الاستتار، وتنزيله منزلة القشر الصوان، وإلى ذلك أشار المتولي أيضاً. وفي "الإبانة" حكاية طريقة: أنه لا يجوز قولاً واحداً، وإن جوزنا بيع الغائب، وقد قيل بجريان الخلاف في تراب الصاغة، والحنطة في التبن، ثم الخلاف في بيع الحنطة وما في معناها إذا بيعت دون الأرض، أمَّا إذا أُبيعت مع الأرض ففي "الحاوي" هنا في كتاب "التفليس": أنَّ إن جوزنا البيع عندالإفراد فكذلك عند الاجتماع، وإلاَّ ففي الجواز وجهان: فإن منعنا بطل فيها، وفي الأرض قولاَ تفريقِ الصفقة، وقيل: يبطل فيها قولاً واحداً. قال: "وإذا باع الثمرة أو الزرع"- أي: مطلقاً بعد بُدُوِّ الصلاح - لم "يكلف المشتري نقله إلى أوان الجداد والحصاد"؛ لأن العادة [العامة] كذلك، فينزل العقد عليها كما تنزل الدراهم المطلقة في العقد على النقد الغالب، والإجارة المطلقةعلى المنازل المعهودة في الطريق، أمَّا إذا شرط البقاء فقد تظافر على استحقاق التبقية العرف والشرط، وإن شرط القطع فلا يخفى حكمه. تنبيه: [في قول الشيخ: لم يكلف المشتري نقله، ما يعرف أن القبض في بيعهما التخلية دون النقل؛ فإنه جعل النقل على المشتري بعدَ أوان الجداد والحصاد، وذلك

يمنع أن يكون على البائع، وقد صرح به في مسألة الزرع ابن الصباغ، والقاضي الحسين في مسألة بيع الزرع بشرط أن يكون على البائع حصاده، وفي مسألة الثمرة حكاه القاضي الحسين في الموضع المذكور عن نصِّ الشافعيّ حيث قال: لو اشترى ثمرة، وشرط على البائع قطعها – بطل به العقد؛ لأن البائع لا يجب عليه إلاَّ التخلية، وقد حكى الغزالي في الفصل الأول من الباب الأول في استيفاء القصاص تردداً في أنَّ مؤنة جذاد الثمار على البائع أوعلى المشتري، وسيأتي في كلام القاضي الحسين إشارة إليهما]. قال: "وإن احتاج إلى سقي لزم البائع السقي" –أي: ومؤنته عليه؛ لأنه من ضرورات تسليمها الواجب عليه عند الجداد والحصاد، فلو شرط أن تكون على المشتري بطل العقد. قال: "فإن كان عليه ضررٌ في السقي" – [أي: يعود إلى الأشجار -] "وتشاحاًّ فسخ العقد"؛ لتعارض الحق من الجانبين، وهذا يشابه ما حكيناه من قبل عن أبي إسحاق فيما إذا كانت الثمرة للبائع، وإن كان السقي يضر بالثمرة، وينفع الشجرة المبيعة، وقد قيل هاهنا: إنه يجبر الممتنع؛ لأنه دخل في العقد مع علمه أنه لابد من السقي، فيكون راضياً به. وهذا يشابه ما حكيناه ثَمَّ عن ابن أبي هريرة، وهو ماصححه ابن أبي عصرون ثمّ، وتظهر صحته هنا أيضاً، وأن يجيء الوجه الثالث – الذي حكيناه ثمَّ – وغيرُهُ هاهنا أيضاً. قال: وإن اشترى ثمرة، فلم يأخذها حتى حَدَثَتْ ثمرة أخرى – أي: واختلطت ولم تتميز كالتين والموجود على شجرِهِ، والباذنجان، والبطيخ، والخيار، ونحو ذلك. قال: أو جزَّةٌ من الرطبة فلم يأخذها حتى طالت، أو طعاماً – أي: غير معلوم القدر- فلم يأخذه حتى اختلط به غيره – أي: ولم يتميز- سواء كان مثله أو دونه أو أعلى منه كما ذكره الإمام في باب "الوصية" – ففيه قولان: أحدهما: ينفسخ البيع"؛ لأنه قد تعذر تسليم المبيع فانفسخ العقد؛ كما لو كان جوهرة فألقيت في بحر عظيم، وهذا ما اختاره ابن أبي عصرون وصححه أبو الطيب. قال:"والثاني: لا ينفسخ، بل يقال للبائع: إن تركت حقك أقر العقد، وإن لم

تترك فسخ"؛ لإمكان تصحيحه بهذا الطريق وتقريره مع تمام تصويره مذكور فيما تقدم، وهذا ما اختاره المزني. ولا يجيء – هاهنا- تخيير المشتري بين ترك حقه وفسخ العقد؛ لأنه لو ترك حقه فاز البائع بالعِوَض والمعوَّض. وحكى المحاملي عن بعضهم القطع بهذا القول في مسألة الرطبة، وحكى الماوردي فيها طريقة: أنه لا ينفسخ العقد قولاً واحداً، وتكون الزيادة للمشتري، ككبر الثمرة. والذي صححه الماوردي، وعليه أبو إسحاق وجمهور الأصحاب: طرد القولين فيها كما حكاه الشيخ، والفاسخ للعقد عند امتناع البائع من ترك حقه الحاكمُ، صرح به الماوردي والقاضي أبو الطيب، وفي "النهاية" تفريعاً على قول عدم الانفساخ في مسألة الثمرة، ويجري فيما عداها: أن المشتري [يثبت له الخيار في فسخ البيع، لكن البائع إذا ترك حقه للمشتري، قال الأصحاب: على المشتري أن] يقبل ذلك، ويمتنع عليه السخ، وشبهوا ذلك بمسألةالنعل، وهي ليست خالية عن خلاف، والذي نحن فيها أولى به منها. وقال في باب "الخراج بالضمان": "إن الأقيس عندي في مسألة الثمرة أنه لا يجبر على القبول؛ فإن تطرق الإنسان إلى أمر مقصود ليدفع به حقًّا ثابتاً يعتد من الجواز. فعلى قول الأصحاب، إذا ترك هل يكون هبة أو إعراضاً؟ فيه خلاف كما في [مسألة] النعل، صرح به الإمام ثَمَّ.

وإذا لم يترك حقه، ولم يفسخ المشتري، واختلفا في قدر المبيع –فالقول قول صاحب اليد ومن هو في الثمرة؟ قيل: للبائع، وقيل: للمشتري، وقيل: إنها في يدهما جميعاً، وفي صورة الحنطة صاحب اليد البائع. ثم هذا – كما قال الإمام – إذا لم يقع تعرض إلى كيفية العقد؛ حتى لا تجيء قاعدة التحالف، هذا هو المشهور في المذهب، وحكى صاحب "التقريب" في أصل مسألة الثمرة قولاً ثالثاً: أن العقد لا ينفسخ، ولا خيار، ولكنهما مِلْكان اختلطا فصارا كصبرة حنطة انثالت عليها حنطة الغير. أما إذا كان الطعام معلوما لقدر بأن كان كله إردبًّا مثلاً، أو مجهولاً؛ وكان المخالط له إردبًّا مثلاً؛ فإنه يعلم به الباقي – لم ينفسخ العقد، لكن يثبت للمشتري الخيار، فإنأجاز صارا شريكين فيه، صرح به الماوردي. ولو كان الطعام قد قبض، ثم [حصل] الاختلاط بعده لم ينفسخ العقد قولاً واحداً، ولكن يقتسمانه، فإن اختلفا في قدره قال الماوردي: "فالقول قول من انثال الطعام على صبرته في قدر الذي انثال".

فرع: لو كان المبيع شاة أو ثوباً، فاختلط بمثله ولم يتميز، قال في "التتمة": "المذهب انفساخ البيع، بخلاف الحنطة؛ فإن غاية الأمر يها لزوم الإشاعة، وذلك غير مانع. وفيه وجه: [أنه] لا ينفسخ؛ لإمكان تسليمه بتسليم الكل. تنبيه: محل الكلام في الثمار التي تتلاحق إذا بيعت بشرط القطع، وكذلك في الجزة، أو كانت الثمار مما يبدو تلاحقها، سواء علم عدم الاختلاط، أو لم يعلم كيفية الحال، أمَّا إذا بيعت الثمار لا بشرط القطع، وكان الاختلاط معلوم الوجود – فالبيع باطلٌ، وفيه قولٌ أو وجه: أنه موقوف: إن سمح البائع بما حدث تبين انعقاد البيع، وإلاَّ تبين أنه لم ينعقد. تنبيه آخر: قول الشيخ في الثمرة: فلم "يأخذها"، يعرفك أنه لا فرق في ذلك [بين] أن يكون قبل التخلية أو بعدها، وإن كانت قبضاً لبقاء عُلْقة البائع، ومن الأصحاب من جزم بأن التلاحق بعد التخلية لا يفسخ العقد قولاً واحداً، وجعل الإمام والغزالي هذه الطريقة مبنية على أن الثمرة بعد التخلية من ضمان المشتري، والأّوْلى على أنها من ضمان البائع. قال الرافعيّ: ومقتضى هذا البناء أن يكون الصحيح طريقة القطع، وعامة الأصحاب على تصحيح طريقة القولين. قال: "وإن تلفت الثمرة بعد التخلية" – أي: على رءوس الأشجار – "ففيه قولان: أحدهما: أنها تتلف من ضمان البائع" – وهو القديم – لما روى مسلم ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، ولأن الثمرة لا يتم قبضها إلاَّ بجذها من نخلها، بدليل أنها لو عطشت وأضرّ [ذلك] بها كان للمشتري الخيار، ولو تمّ القبض بها لما كان له كما بعد النقل. [قال:] الثاني – وهو الأصح -:أنها تتلف من ضمان المشتري"، وهو الجديد؛ لما روى الشافعي عن مالك عن حميد عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، قِيلَ: وَمَا تُزْهِي؟ قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ"، وقال – عليه السلام -:

"أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، فِيمَ يَاخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟ ". وموضع الدلالة: أن الجائحة لو كانت مضمونة على البائع لما استضرَّ المشتري بالجائحة قبل بدو الصلاح، ولما كان لنهيه عنه حفظاً لمال المشتري وجه؛ لأنه حفوظ إن تلف [في الحالين] بالرجوع على البائع؛ فلما نهى عن البيع في الحال التيي يخاف من الجائحة فيها علم ان الجائحة لا تكون مضمونة على البائع، وأنها مضمونة يما صحّ بيعه على المشتري، ولأن التخلية تسليمعين يستفيد به المشتري التصرف في الثمرة؛ فأِبهت النقل فيما ينقل. واحترزنا بقولنا: تسلم عين، عن تسليم المنافع؛ فإنه وإن جاز التصرف فيها بعد التخلية، لكن إذا تلفت الدار انفسخ العقد، وأمَّا الخبر فمحمول على الاستحباب، ويشعر به ما روت عمرة بنت عبد الرحمن – تارة مرسلاً، وتارة مسنداً – عن: أنَّ رجلاً من الأنصار ابتاع من رجل ثمرة فأصيب فيها، فسأل البائع أن يحطَّ شيئاً، فحلف بالله ألاَّ يفعل، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: وتألَّي فُلانٌ أَلاَّ يَفْعَلَ خَيْراً"، وبعضهم حمله على وضع الجوائح عن البائع دون المشتري. وما رواه مسلم [من] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَراً، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَاخُذَ مِنْهُ شَيْئاً، بِمَ تَاخُذُ مَالَ أَخِيكِ بِغَيْرِ حَقٍّ" فهو

محمول أيضاً على ما لم يبد صلاحه إذا بيع بغير شرط القطع، أو على ما قبل التسليم، كما ذكره الطحاوي. وأمَّا الجواب عن ثبوت الخيار للمشتري فمن وجهين: أحدهما: منع الحكم، قود قال به أبو علي الطبري، وعلى تقدير التسليم بجريانه على القولين معاً – كما صار إليه أبو إسحاق – فذاك لا يدل على تمام القبض، قال ابن أبي هريرة: "ألا ترى أن المقبوض في خيار الثلاث يستحق رده بما حدث من العيوب في زمن الخيار، وإن كان القبض تامَّا؟! فكذا الثمرة". والثاني: أن خيار العطش إنما يستحقه المشتري؛ لوجوب السقي على البائع، ولم يكن له بالتلف رجوع؛ لأن الحفظ لا يجب على البائع. قال القاضي الحسين: "وحقيقة القولين تتلقى من أصلن وهو أن قبض الثمرة إذا بيعت على رءوس النخل هل تحصل بالتخلية أوْ لا؟ وفيه قولان: القديم: أنه لا تحصل، ولابد فيه من النقل؛ لأنه منقول. وقال في الجديد: تحصل بالتخلية. وعلىهذا الخلاف ينطبق ما حكيناه من التردد في أن مؤنة الجداد على من؟ واعلم أن محل القول الجديد بالاتفاق: ما إذا كان التلف بآفة سماوية مثل البرد، والحر، والثلثج، ونظير ذلك، ولم يكن للبائع فيها تسبب [من] ترك السقي، أمَّا إذا كان التلف بسبب العطش: فأصح الطريقين أنه لا يجزئ، ويكون من ضمان البائع. والثاني: أنه يجزئ. وهو قول أبي علي الطبري، وعلى هذا يجب على البائع ضمان القيمة أو المثل. ومحل القول القديم بالاتفاق: ما إذا تلفت قبل أوان الجداد بآفة سماوية، بويعت منفردة، وأما إذاتلفت بعد أوان الجداد، [وإمكان النقل، وطول المدة] بحيث يُعد مقصِّراً ومضيِّعاً، أو كانت قد بيعت مع الشجر- فلا يجزئ وجهاً واحداً، بل يكون من ضمان المشتري، وهل يجزئ بعد أوان الجاد إذا قصرت المدة بحيث لا يعد مضيِّعاً؟ فيه قولان في "الشامل":

أصحهما - وهو ما جزم به الماوردي والطبري في "العدة"، والشيخ في "المهذب" -: أنه لا يجزئ [، وكذا الخلاف - لكنه وجهان - في أنه: هل يجزئ فيما إذا سرقت أو غصبت؟ والذي أورده العراقيون منهام: "أنه يجزئ"]. ومقابله هو الأصح عند الأكثرين، وهذا الخلاف حكى القاضي الحسين في "تعليقه" عن القفال: أنه يحتمل أن ينبني على أن الجوائح إلى متى توضع؟ إن قلنا: إلى أن تجد الثمرة، فهاهنا تكون من ضمان البائع، وإن قلنا: إلى أن تستجد الثمرة، فها هنا تكون من ضمان المشتري. تنبيه: الألف واللام في "الثمرة" يجوز أن يكونا للعموم؛ فيشمل الخلافُ الثمرةَ التي بدا صلاحها، وما لم يبد إذا بيعت بشرط القطع، وهو أظهر الطرق في الرافعي، ولم يحك ابن الصباغ غيره. ويجوز أن يكونا للعهد، وهي الثمرة التي تستحق تبقيتها إلى أوان الجداد فيجري فيها الخلاف، أمَّا الثمرة التي أبيعت بشرط القطع فلا يجري فيها القولان، وما حكمها؟ فيه طريقان في المذهب: أحدهما: القطع بأنها من ضمان المشتري؛ لأنه مفرِّط بترك القطع مع عدم العُلْقة بالبائع؛ فإنه لا يجب عليه السقي والحالة هذه، وهذا ما حكاه الطبري عن القفال، ولم يحك الإمام سواه، وكذلك القاضي أبو الطيب الطبري فيما إذا باع الزرع الأخضر بشرط القطع، على ما حكاه في كتاب "الصلح". والثاني: القطع بأنها من ضمان البائع؛ لأنه إذا شرط القطع كان القبض فيه بالقطع والنقل، ولم يوجد. فرع: لو تعيبت الثمار بعد التخلية، حيث جعلناها من ضمان البائع ثبت للمشتري الخيار في فسخ العقد، وحيث جعلناها من ضمان المشتري فلا خيار له إلاَّ أن يكون سببه ترك السقي. قال الإمام: "لأن الشرع ألزم البائع بالسقي، والتعيب الحادث بترك السقي كالعيب

المتقدم على القبض، ولو أفضى التعيب إلى التلف نظر: إن لم يشعر به المشتري حتى تلف عاد الخلاف في الانفساخ ولزوم الضمان على البائع. فإن قلنا بعدم الانفساخ فلا خيار بعد التلف. قاله الإمام، وإن شعر به ولم يفسخ حتى تلف فيغرم البائع في وجه؛ لعدوانه، ولا يغرم في وجه لتقصيره، والله أعلم. ولنختم الباب بذكر مسائل تتعلق به: إذا باع العبد، وقد ملَّكه مالاً، وقلنا: إنه يملكه – فإن شرط المال لنفسه فلا يتبع، وكذا إن أطلق الحديث، ولو باعه مع المال فقد نصّ في القديم على قولين: أحدهما: أنه لابدَّ من رعاية شرائط العقد فيهما. والثاني: أنَّ المال ينتقل إلى المشتري مع العبد، وأنه لا بأٍ بكونه مجهولاً وغائباً. ولم يحتمل ذلك؟ قال أبو سعد: "لأن المال تابع، وقد يحتمل في التابع ما لا يحتمل في الأصل؛ بدليل الحمل واللبن وحقوق الدار"، وقال ابن سريج وأبو إسحاق: "المال ليس بمبيع [لا] أصلاً ولا تبعاً، ولكن شرطه للمبتاع تبقية له على العبد كما كان؛ فللمشتري انتزاعه منه كما كان للبائع. فعلى هذا: لو كان المار ربوياًّ والثمن من نجسه، فلا بأس، وعلى الأول لا يجوز ذلك، ولايحتمل الربا في التابع، وأصح المعنيين عند الأصحاب: الثاني. قال الإمام: "ومحل هذا الخلاف ما إذا قال: بعتك العبد بماله، أمَّا لو قال: وماله، فهذا يتضمن قطع ملك العبد، ويثبت ملك المشتري. وإن قلنا: إن العبد لا يملك فإدخال المال في البيع يكون كما إذا باع عبداً ومالاً، ولا يخفى حكمهما مما تقدمز فرع: لو اكن العبد مأذوناً، وقد باعه مع ماله، فهل يحتاج إلى إذن جديد من المشتري، أم

يبقى على ما كان عليه؟ فيه وجهان، أظهرهما في "النهاية": الثاني، إلاَّ أن ينهاه. إذا باع العبد هل يستتبع ثيابه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لا يستتبع بيع الدابة السرج. والثاني: نعم، فعلى هذا وجهان: أحدهما: المستتبع ما عليه من الثياب. والثاني: ساتر العورة. والصحيح عند صاحب "التهذيب": وغيره وجه عدم الدخول، وكذا قالوا في عِذَار الدابة، وأمَّا نعلها فيدخل، وكذا بُرّة الناقة إلا ان تكون من ذهب أو فضة، كذا قاله الرافعي، و [في كلام] الإمام في باب "الرد بالعيب" إشارة إلى ترددٍ للأصحاب في أن نعل الدابة هل يدخل؟ ويعضده جريان الخلاف في الرفوف والسلالم المسمَّرة، والله أعلم.

باب بيع المصراة والرد بالعيب

باب بيع المصراة والرد بالعيب المُصَرَّاةُ: قال أهل اللغة: هي الناقة، أو البقرة، أو الشاة أو نحوها تربط أخلاها، ولا تحلب أياماً؛ فيجتمع في ضرعها لبنٌ كثيرٌ يتوهم المشتري أنَّ هذا اللبن عادتها في كل يوم، فيشتريها. وهي من التصرية، والتصرية: الجمع. يقال: صرّ الماء في الحوض، إذا جمعه فيه، وصَرَّاه في ظهره: إذا ترك الجماع؛ فاجتمع الماء فيه. ويقال: صَرَّى يُصَرِّي تصرية، وهي مصراة مثل: غَذَّى المرأة يغذي تغذية فهي مغذاة. وتسمى المصراة محفَّلة أيضاً، وهي لغة أهل العراق، وهي من الحفل وهو الجمع، ومنه قيل للجمع: المحفل. وهذا الفعل حرامٌ؛ لما فيه من التليس، وكذلك البيع؛ لأنه روي عن ابن مسعود أنه قال: "أشهد على الصادق المصدق أبي القاسم صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بَيْعُ الْمُحَفَّلات خِلاَبَةٌ، وَلاَ تَحِلُّ خِلاَبَةُ مُسْلِمٍ" ذكره عبد الحق.

قال: "إذا اشترى ناقة، او بقرة أو شاة مصراة، وتبين التصرية – فهو بالخار بين أن يمسك، وبين أن يرد ويرد معها صاعاً من تمر بدل اللبن" – أي: الذي كان موجوداً وقت العقد، سواء كاناللبن قليلاً أو كثيراً، باقياً بحاله لم يتغير أو غير باقٍ، وسواء كان التمر غالب قوت البلد أو لا، وسواء ساوت قيمة الصاع قيمة الشاة، أو نقصت عنها، أو زادت. والأصل في ذلك: ما روى الشافعي وأبو داود بسندهما عن أبي هريرة – رضي الله عنه –عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لاَ تُصِرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ لِلْبَيْعِ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا: إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّها وَصَاعاً مِنْ سَمْرَاءَ". قال الترمذي: وقوله: "لا سمراء" يعني: لا بُر. وقال غيره: قوله – عليه السلام – في الحديث الأول: "بعد ذلك" أي: بعد هذا النهي. فدلَّ الأول على المدعي في الإبل والغنم؛ لكونها غالب أموالهم. والثاني: على الجميع. وهل ثبوت الخيار للتدليس الصادر منه أو لتضرر المشتري بما وطن نفسه عليه؟ فيه خلاف يظهر أثره فيما لو تحفَّلت بنفسها، أو صَرَّها غيره بغير إذنه، والأصح في

"التهذيب" ثبوته، ووراء ذلك [وجوهٌ أُخر]: أحدها: أن اللبن إذا كان باقياً لم يتغير لايتعين عليه رد التمر، وله ردُّ اللبن، صرح به في "المهذب". وازد الشيخ أبو محمد [عليه] فقال: [يتعين رد اللبن]. وإذا كان تالفاً ردّ مثله، فإن أعوزه المثل ردّ قيمته؛ اعتباراً بسائر المتلفات. قال الإمام: وقد أومأ إلى هذا صاحب "التقريب" ولم يصرح به، وهو عندي غلط صريح. الثاني: أن التمر إنما يتعين إذا كان غالب قوت البلد، أمَّا إذا كان الغالب غيره فهو الواجب، وهو قول الإصطخري وابن سريج، و [ابن] أبي هريرة، على ما حكاه المحامل. الثالث: أنه لا يتعين وإن كان غالب قوت البلد، وهو قول [ابن] أبي هريرة، على ما حكاه الماوردي، بل يجوز إخراج ما يجري في زكاة الفطر. قال الإمام: "لكن لا يتعدى إلى الأقط"، وهذا صححه الرافعيُ، ويشهد له أنه جاء في بعض الروايات – كما ذكرنا – ذكر التمرن وفي بعضها ذكر الطعام، كما خرجه الترمذي وصححه، وفي بعضها عن ابن عمر أنه – عليه السلام – قال: "مَنِ ابْتَاعَ مُحَفَّلةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا مِثْلَ أَوْ مِثْلَيْ لَبَنِهِا قَمْحاً" وذلك يشعر بالتخيير

الرابع – حكاه صاحب "التهذيب" وغيره عن أبي إسحاق -: أن التمر هو الأصل في جميع البلاد، فإن عدل إلى ما هو أعلى منه، بأن أعطى مكانه قمحاً – أي: وكان أكثر قيمة، كما صرح به غيره – يجوز، وإن عدل إلى ما دونه لا يجوز إلا برضا البائع. قال القاضي أبو الطيب- حكاية عنه تتمة لذلك -: وإن كان في بلد يوجد فيه التمر وجب يه قيمة الصاع من التمر بالمدينة، وإن كان في بلد يوجد فيه التمر إلا أنَّ ثمنه كبير – يأتي علىثمن الشاة أو على الأكثر منه –قُوّشم بقيمة المدينة، والمحالي حكى عنه في هذه الصورة أنه يلزمه قيمته بالحجاز، وأبدل لفظ الثمن بالقيمة. والخامس: أن الصاع لا يتعين، ولكن الواجب [يتقدر] بقدر اللبن؛ لما سبق من رواية ابن عمر، وعلى هذا فقد يزاد الواجب على الصاع وقد ينقص، ثم منهم من خصّ هذا الوجه بما إذا زادت قيمة الصاع على نصف قيمة الشاة، وقطع بوجوب الصاع فيما إذا نقصت عن النصف، ومنهم من أطلقه إطلاقاً. ثم على قول اعتبار القيمة، قال الإمام: تعتبر القيمة الوسط للتمر بالحجاز، وقيمة مثل ذلك الحيوان بالحجاز، فإذا كان اللبن عشر الشاةمثلاً، أَوْجَبْنا من الصاع عشر قيمة الشاة.

وهذا كله فيما إذا لم يرض البائع، فأمَّا إذا تراضيا على غير التمر من قوت أو غيره، أو على رد اللبن المحلوب عند بقائه – جاز بلا خلاف، كذا قاله في "التهذيب". وحكى ابن كَجٍّ وجهين في جواز إبدال التمر بالبر عند اتفاقهما عليه. فرعان: على المذهب لو أعوزه التمر أعطى قيمته، وفي محلها وجهان: أحدهما: قيمة أقرب بلاد التمر منه. والثاني: قيمته بالمدينة. لو كان ثمن الشاة صاعاً من تمر ردها وصاعاً من تمر، وقيل: تُقَوْم مصراة، فإذا قيل: عشرة، قوّمت غير مصراة، فإذا قيل: ثمانية، علم أن التفاوت الخُمُس؛ فيجب عليه خُمُس صاع. تنبيه: قول الشيخ: "وتبين التصرية فهو بالخيار" يخرج ما إذا كان عالماً بالتصرية حال العقد، ويشمل ما إذا تبين التصرية بعد ثلاثة أيام أو قبلها. اولحكم فيها عند الأصحاب مبني على أصل لابد من ذكره، وهو ما إذا كان غير عالم بالتصرية حالة العقد، ثم علم بها؛ فإن له الخيار إلى ثلاثة أيام، جزم به الماورديُّ، لكن هل هو شرعيٍّ أو خيار عيب؟ فيه وجهان: أولهما – قول أبي حامد المروروزي -: أنه يمتد إلى ثلاثة أيام، ولو كان خيار عيب لكان على الفور. قال القاضي أبو الطيب – وقد حكى ذلك في "جامعه" وقال -: إن الشافعيَّ نصّ عليه في كتاب "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى". والثاني – قول أبي إسحاق المروزي -: لأنه موضوع لكشف التدليس، والتدليس بالتصرية لا يعلم قبل مضي ثلاثة أيام؛ لأن كثرة اللبن في اليوم الأول يحتمل أن تكون بسبب التصرية، أو من أصل الخلقة، وقلته في اليوم الثاني يحتمل أن تكون من أصل الخلقة أو لاختلاف المرعى، فإذا حلبها في اليوم الثالث، وظهر

نقصانه عن الأول تيقن حينئذ أنها مصراة. فإن قلنا بقول أبي حامد ثبت له الخيار إذا كان عالماً بالتصريةحال العقد، وإن قلنا بقول أبي إسحاق فلا، وهذا ما اختاره ابن أبي عصرون، وجزم به أبو الطيب، وحكى الرافعيُّ وغيره مثله عن ابن أبي هريرة فيما إذا ثبتت التصرية بإقرار البائع أو بشهادة عدلين، وصححه. ويتفرع على قول أبي حامد وأبي إسحاق الفرع الآخر، وهو ما إذا مضت مدة الثلاث قبل العلم بالتصرية، فعلىقول أبي حامد: يسقط الخيار، وعلى قول أبي إسحاق: لا، صرح به الماوردي. والسقوط على قول أبي حامد موافق لما حكاه الماوردي فيما إذا مات أحد المتعاقدين في مدة خيار الشرط، ولم يطلع وارثه إلاَّ بعد انقضاء مدته: أنه يسقط، ويتجه أن يجيء هاهنا تفريعاً على قول أبي حامد ما حكيناه ثَمَّ. وفي "تعليق" البندنيجي: أن أبا إسحاق قال: لو أراد الرد قبل الثلاث لم يكن له؛ لأنه ما علم بالعيب، وإن أراده بعد الثلاث لم يكن له؛ لأنه ترك الرد بعد القدرة على معرفة العيب، وإنما [له] الرد عند انقضاء الثلث. وهل ابتداء الثلاث من حين العقد، أو من حين انقضاء خيار المجلس؟ فيه خلاف كما في خيار الشرط. حكاه الرافعيُّ. آخر: عدول الشيخ عن أن يقول: إذا اشترى حيواناً مأكولاً مصراة، إلى ما ذكره - احترازٌ عن غير النعم من المأكولات؛ فإن فيه خلافاً، اختيار البصريين: أن حكم التصرية لا يثبت فيه، والصحيح - ما حكاه الرافعيُّ، وهو اختيار البغداديين -: الثبوت. قال: وإن اشترىتانا مصراة ردّها"؛ لأن في كثرة لبنها نفعاص وغرضاً، فكان نقصه غبناً كالنقص في لبن النعم. قال: "ولا يرد بدل اللبن" أي: سواء قلنا بنجاسته على المذهب، أو بطهارته [وجواز شربه، كما ذهب إليه أبو سعيد الإصطخري؛ لأنّا إن حكمنا بنجاسته لا قيمة للنجس، وإن حكمنا بطهارته]؛ فلأنه غير مقصود بالأعواض وهو تبع.

وقيل على القول بالطهارة: إنه يجب الصاع – حكاه أبو الطيب والبندنيجي – ليس إلاَّ، والماوردي مع الأول. وقيل: يجب الأرض عندالرد لا الصاع، وفي الرد وجهٌ أيضاً: أنه لا يثبت، ولكن يرجع بالأرش؛ بناء على أنه بخس، حكاه المحاملي، ومجموع ذلك أربعة أوجه. تنبيه: الأتان: الأنثى من جنس الحمر، وجمعها: آتُن – بالمد وضم التاء – كعَنَاق وأَعْنُق، وجمع الكثرة: أُتُن وأُتّن ككُتُب وُكتْب ومأتوناء – بالهمزة في أوْله والمد في آخره – حكاه الجوهريُّ. قال: "وإن اشترى جارية مصراة، فقد قيل: لا يرد" – أي: ويأخذ الأرش؛ لأن اللبن إذا ان كثيراً انتفع به الأول ونما؛ ففي نقصه إضرار بالمشتري، والثمن يختلف باختلافه، لكن لا يمكننا أن نقول: إنه يردها ولا يردْ شيئاً؛ لأنه قد حصل في يده اللبن الذي هو حق البائع فلا يجوز إبطال حقه، ولا يمكننا أن نقول: إنه يردها ويرد معها صاعاً؛ لأن لبن الآدميات ليس له عوض مقصود؛ فلم يبق إلا أن يمسكها، ويأخذ أرش العيب. قال: وقيل: يرد؛ لتدليسه وتضرر المشتري بعقده. قال: "إلاَّ أنه لا يرد بدل اللبن"؛ لأنه غير مقصود في الأعواض، ألاَ ترى أنه لا يباع في الأسواق؟! وقد قيل: "إنه نجس"، وهذا القول بجملته هوالصحيح، ولم يحك المحاملي في "مجموعه" غير هذين القولين، والذي جزم به البندنيجي جواز الرد، وحكى الخلاف في رد البدل، ووراء ذلك وجهان آخران: أحدهما: أن له الرد، وإذا [ردّ] ردَّ بدل اللبن، وهو اختيار ابن [أبي] عصرون، والأصح في "تعليق" أبي الطيب. والثاني: لا يرد ولا يرجع بالأرش، وهو ما ظنّ ابن يونس أنه القول الأول من كلام الشيخ. فروع: إذا اشترى مصراة، ثم زاد اللبن عنده، ولم يظهر نقصه عن حالة الشراء- فالأصح

أنه لا يثبت له الخيار، وهو ما حكاه في "التهذيب"، وحكى المحامليُّ وغيره وجهاً: أنه يثبت. إذا رضي بعيب التصرية، ثم اطلع على عيب آخر فهل له الرد؟ ينظر: إن علم بالتصرية بعد العقد كان له الرد، وردّ بدل لبن التصرية إن كان مقابلاً، صرح به الماوردي. وحكى الإمام أن بعض أصحابنا خرج ذلك على تفريق الصفقة. وإن علم بالتصرية حال العقد، ورضي بها، ففي جواز ردها بالعيب وجهان، خرجهما ابن أبي هريرة من اختلاف قوليه في تفريق الصفقة. قاله الماوردي، ويجتمع من النقلين في المسألتين الخلاف. إذا اشترى غير مصراة، واطلع بها على عيب نظر: إن اشتراها ولا لبن في ضرعها كان له الرد، وإن كان في ضرعها لبن فحلبه. قال الماوردي: له الرد، ويجب عليه [رد] بدل اللبن، ولكن لا يلزمه رد صاع؛ لان الصاع عوض لبن التصرية، فإن اتفقا على قدره، وإلاَّ فالقول قول المشتري. وفي "تعليق" أبي حامد حكاية عن نصه: "أنه لا يرد بدله؛ لأنه قليل غير معتني بجمعه، بخلاف ما في المصراة، وهو ما حكاه القاضي [الحسين عن القديم، وحكى وجهاً: أنه إذا اكن ضرعها ممتلئاً من اللبن يرد، ويرد معها صاعاً من التمر، وهو الأظهر، ثم حكى فيما إذا كانت لبوناً أنه يردها، ويرد بدل اللبن، لكن ما المردود؟ فيه وجهان: أحدهما: الصاع، وهو ما حكاه] في "التهذيب". والثاني: قيمة ذلك اللبن. وفي "تعليق" البندنيجي: أن اللبن إذا كان تالفاً، فليس له الرد إذا قلنا: لا تفرق الصفقة، وله الأرش، وإن كان اللبن قائماً فهل له الرد مع اللبن أم لا؟ على الوجهين فيما إذا رد لبن المصراة ولم يتغير: هل يجبر البائع على القبول؟

فإن قلنا: لا رد له، فهو كالتالف، وكلام أبي الطيب في "التعليق" قريب من ذلك، والذي حكاه في "المرشد": أنه ليس له الرد، سواء كان اللبن باقياً أو تالفاً، ولكن يرجع بالأرش، ورأى الإمام تخريج ذلك على أنَّ اللبن هل يأخذ قسطاً من الثمن أمْ لا؟ قال:"فإن اشترى جارية قد جُعِّد شعرها أو سُود، ثم بان أنها سَبطة أو بيضاء الشعر – ثبت له الخيار"؛ لأنه تدليس يختلف به الثمن؛ لاختلاف الأغراض، فأثبت الخيار له كالتصرية. وأيضاً فإن الجعودة تدل علىقوة الجسد، وفقدها دليل على ضعف الجسم، كذا قاله الماوردي. ومحل ثبوت الخيار في الجعودة ما إذا كان المشتري قد رأى الشعر، أمَّا إذا لم يكن قد رآه حالة العقد، وصححنا العقد فلا خيار، إلاَّ أن يكون قد شرط أنها جعدة الشعر. كذا حكاه الماوردي، ونبه عليه البندنيجي بقوله: "وكان قد شاهدها جعدة"، وطرده فيما إذا اشترى جارية شاهدها بيضاء فبانت سمراء، أو شاهدها محمرة الوجنتين، فبانتا بيضاوين، وكان ذلك بصنعة آدمي، وهذا منه يدل على انه لا فرق في ذلك بين أن يكون بإذن البائع أو بغير إذنه، وفيه احترازٌ عمَّا إذا تجعد الشعر بنفسه؛ فإنه لا يثبت الخيار، وقد صرح به في "الإبانة"، وحكى وجهين فيما إذا رآها سبطة فبانت جعدة. وقول الشيخ: "جعد" وكذا الفوراني يرشد إلى ما يقتضيه إيراد البندنيجي، وهو قضية ما صححه البغوي في مسألة المصراة. وإرسال الزنبور على وجه الجارية، أو على بطنها ليظن أنها سمينة ملحقٌ بتسويد الشعر. ولو لطخ ثوب الغلام بالمداد حتى يظهر أنه كاتب، أو ألبسه ثياباً تختص بصنعة

مخصوصة يظن أن لابسها من أهلها، أو أُعْلفت البهيمة حتى تَرْبَأ بطنها وظُنَّ أنها حامل، أو أرسل الزنبور على ضرعها حتى انتفخ وظنت لبوناً – فأصح الوجهين أنه لا يثبت، وفي "الإبانة" أن اختيار الشيخ أبي حامد: الثبوت في ظن الحمل، ووجه مقابله: بأن امتلاء بطنها ليس إليه، لكن إلى الله تعالى. تنبيه: جُعْد شعرها: بضم الجيم، وتشديد العين. قال أهل اللغة: جعدت الشعر تجعيداً، وهو شعر مجعَّد: إذا كان فيه تقبُّض والتواء، لا المفلفل كشعور الزنج. سَبطة- بفتح السين وإسكان الباء وفتحها وكسره -: أي مسترسلة الشعر من غير تقبُّض. قال:"ومن علم بالسلعة عيباص لم يجز أن يبيعها حتىيبين عيبها"؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: "مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَهُ المَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟! مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا". وروى عقبة بن تمام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعاً يَعْلَمُ بِهِ عَيْباً إِلاَّ بَيّنَهُ لَهُ" رواه ابن ماجه. وي المرشد أن غير المالك إذا علم بالعيب لزمه بيانه. قال: فإن باع ولم يبين فالبيع صحيح؛ لأنه – عليه السلام – صحَّح بيع المصراة مع وجود التدليس. قال: وإذا علم المشتري بالمبيع عيباً كان موجوداً عند العقد، أو حدث قبل

القبض – أي: واستمر إلى حالة الاطلاع عليه – فهو بالخيار بين أن يمسك، وبين أن يرد. أمَّا إذا كان موجوداً عند العقد؛ فلما روى عن عائشة – رضي الله عنها – أن رجلاً اشترى غلاماً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فكان عنده ما شاء الله، ثم ردّه من عيب وجده، ولأحاديث المصراة؛ فإنه – عليه السلام – جعل للمشتري الخيار مع تدليس البائع بما ليس بعيب؛ فكان التدليس بالعيب أولى. وأمَّا إذا كان حدث قبل القبض؛ فلأن المبيع من ضمانه فكذلك جزؤه ووصفه، وادعى القاضي أبو الطيب – في أثناء مسألة حدوث العيب عند المشتري – إجماع المسلمين على ذلك. أمَّا إذا علم بالعيب بعد زواله – إمَّا في يده أو في يد الابئع – فأصح الوجهين: أنه ال يثبت الخيار، وهما مخرجان على ما حكاه الأصحاب في باب بيع المصراة من القولين فيما إذا عَتَقَتِ الأمةُ تحت عبد فلم يعلم حتى عَتَقَ، وحكاهما في "الإشراف" قولين أيضاً، ولا نزاع في أن العيب إذا وجد في يد البائع، وزال في يده قبل العقد – أنه لا حكم له إذا لم يعد في يد المشتري، صرح به صاحب "الإشراف"، أمَّا إذا عاد ففيه كلام سأذكره، عن شاء الله تعالى. فرع: إذا اشترى ولي الطفل له شيئاً، ثم اطلع على عيب به – نظر: إن كان الشراء بعين المال فالعقد باطل، وإن كان بثمن في الذمة نفذ في حق الولي. فأمَّا إذا اشترى شيئاً سليماً، فحدث به عيبٌ قبل القبض: فإن كان النظر في الإمساك أمسكه، وإن كان في الرد ردّه، فإن ترك الرد نظر: إن كانالعقد ورد على ثمن في الذمة انقلب الشراء إلى الولي، وإن كان قد اشترى بعين مال الطفل بطل العقد، كذا حكاه المتولي. وفي "الوسيط" في كتاب التفليس: أنه ليس له الرد إذا كان يساوي أضعاف الثمن، ولا يطالب بالأرش؛ فإن الرد في حقه ممكن، وإنما وقع الامتناع مع الإمكان للمصلحة. وحكى الإمام منع الرد – أيضاً – فيما إذا كان يطلب بأكثر من ثمن المثل عند

الكلام في سلامة الغرة، ولم يفصل واحد منهما بين أن يكون العيب موجوداً عند العقد، أو حدث بعده. قال: "فإن أخر الرد من غير عذر سقط حقه، من الرد؛ لأنه خيار ثابت بالشرع لدفع الضرر على المال؛ فكان على الفور كخيار الشفعة. وقولنا: "ثابت بالشرع" احترازٌ عن خيار الشرط. وقولنا: "لدفع الضرر عن المال" احترازٌ عن خيار الإيلاء، واستيفاء القصاص، والأمة تعتق تحت عبد على رأي، وكذا العنة. والعذر المبيح للتأخير: أن يطلع على العيب وهو آكل أو مُصَلٍّ أو قاضٍ حاجةً، أو اطلع عليه وقد دخل وقت ذلك فاشتغل به، وكذا لو لبس ثوباً أو أغلق باباً، وكذا لو بلغه وهو ممنوع بعينه أو مرض؛ فإن حقه باق إلىن يزول النمع صرح به الماوردي. ولو وقف عليه ليلاً فله التأخير إلى أن يصبح، صرح به الماوردي وغيره. وفي "التتمة": أنه إذالم يتمكن في الوقت من حضور مجلس الحكم، ولا من إحضار الشهود ليفسخ بحضرتهم، ولا من إخبار الابئع بذلك – فعامة أصحابنا قالوا: لابد أن يقول في الوقت: فسخت العقد؛ لأنه قادر عليه، فإن لم يفعل سقط حقه، ونسب ما حكيناه أولاً إلى قول القفال، وقاربه في الإيراد الشاشيُّ في "حليته". وإذا أبق العبد في يد البائع بعد العقد ولم يعد، فأخر المشتري الفسخ – لم يبطل حقه، بل لو صرح بإسقاطه لا يبطل. قال الإمام في كتاب "السلم": وقد أبعد بعض أصحابنا وقال: إنه يبطل إذا أبطله، وجَهْلُ المشتري بثبوت الخيار، أو بكونه على الفور مع اطلاعه على العيب – ليس بعذر، إلاَّ أن يكون حديث عهد بالإسلام أو نشأ في بَرِّيَّة. وفي "الزوائد" في كتاب "النكاح" أن صاحب "الفروع" قال: إذا ادّعى المشتري الجهالة بالرد بالعيب فهل يعذر؟ على قولين؛ كالأمة إذا ادّعت الجهالة باحلكم. واعلم أن يكفية الرد على ما فهمه الرافعي من كلام الأصحاب [أن] البائع إن

كان في البلد ردّ عليه بنفسه أو بوكيله، وكذا لو كان وكيله حاضراً، ولا يضر اشتغاله عن الرد بالسلام على البائع، فلو تركه في البلد، ورفع الأمر إلى القاضي لم يضر، وإن كان غائباً عن البلد رفع الأمر إلى الحاكم. قال القاضي في "فتاويه": "فيدعي شراء ذلك من فلان الغائب بثمن معلوم، وأنه أقبضه الثمن، وقد ظهر لي به عيبٌ، وقد سخت، ويقيم البينة على ذلك في وجه مسخر ينصبه القاضي ويحلفه القاضي مع بينته، ثم يأخذ المبيع منه ويضعه علىيد عدل، ويبقى الثمن في ذمة الغائب، فيقضيه له القاضي من ماله، فإن لم يجد له سوى المبيع باعه فيه، وإذا لميتأتَّ الإتيان إلى الخصم أو القاضي في الحالين، وتمكن من الإشهاد على السخ: هل يلزمه ذلك؟ فيه وجهان، المنقولُ عن المتولي وغيره منهما: اللزوم، ويجري الخلاف فيما إذا أخر بعذر مرض أو غيره. وإن عجز عن الإشهاد فهل عليه التلفظ بالفسخ؟ فيه الخلاف السابق، والصحيح عند الإمام والبغوي أنه لا حاجة إليه. وفي "الوسيط": أن البائع إن كان حاضراً ردّ عليه، وإن كان غائباً تلفظ بالرد، وأشهد شاهدين [عليه]، فإن عجز حضر عند القاضي وأعلمه الرد، ولو رد إلى القاضي، والخصمُ حاضر فهو مقر، وأشار الإمام إلى خلاف في هذه الحالة، وقال: "إن هذا ظاهر المذهب، لكنه ذكر في الشفعة أن الشيع لو ترك المشتري، وابتدر إلى مجلس الحكم، واستعدى عليه – فهو فوق مطالبته المشتري؛ لأنه ربما يوجه آخراً إلى المرافعة، وحكينا معاً وجهين فيما إذا تمكن من الإشهاد وتركه، ورفع إلى القاضي. وهذا يدلُّ على أن المضي إلى القاضي أقوى من لقاء الخصم، وأما الإشهاد فهو أقوى من المضي إلى القاضي على وجه ومساوٍ له في وجه، والمذكور هاهنا: أن لقاء الخصم أقوى من الإشهاد. والإشهاد أقوى من المضي إلى القاضي، فليتأمل. وقد أبدى الرافعيُّ إشكال هذا الترتيب على غير هذا النحو. ويشترط مع المابدرة إلى الرد ألاَّ ينتفع بالمبيع قبلا لتمكن من الرد، فإن فعل بطل

حقه، إلاَّ أن يكون يسيراً جرت العادة [مثله في عرف الملك]؛ كقوله للجارية المبيعة، وقد وقف على عيبها: أغلقي الباب، أو ناوليني الثوب، أو ما جرى مجراه؛ فإنه لا يضر عند الماوردي، والأشبه عند غيره: أنه لا فرق. ولو كان المبيع دابة، فحين علم بعيباه ركبها ليردها، فإن عسر ردها إلا به لم يضر، وإلاَّ فوجهان: قول ابن سريج منهما أن ذلك لا يمنع من الرد كما حكاه عنه الماوردي، وهو المذكور في "المذهب"، وطرده فيما إذا علف الدابة أو سقاها في الطريق. وفي "الحاوي": يبطل بذلك حقه، وفي "الشامل": أنه لو حلب المبيع في طريقه لم يكن رضا؛ لأن اللبن له، فإذا استوفاه في حال الرد جاز كمنافعها، ونقل الروياني جواز الانتفاع في الطريق مطلقاً، وهو قضية كلام ابن الصباغ حتى روى عن أبيه جواز وطء الثيب. وي الرافعيّ: أنه لو اطلع على عيب بالثوب، وهو لابسه في الطريق، فتوجه للرد ولم ينزع - فهو معذور، والله أعلم. قال: "فإن لم يعلم بالعيب حتى حصلت له منها فوائد حدثت في ملكه" أي: كالولد، والثمرة، والكسب - أمسكها وردّ الأصل": أمَّا في الكسب فبالاتفاق على ما حكاه القاضي أبو الطيب وغيره، والأصل [فيه] ما روى الشافعيّ بسنده عن مخلد بن خفاف أنه ابتاع غلاماً، فاستعمله، ثم أصاب به عيباً، فقضى له عمر بن عبد العزيز برده وغَلَّته، فأخبر عروة عن عائشة -رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا "أن الخراج بالضمان"؛ فرد عمر قضاءه، وقضى لمخلد برد الخراج. وأمَّا في الباقي فبالقياس على الكسب، وادّعى القاضي أبو الطيب أن قول عائشة: "قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ" دالُّ عليه؛ إذ لم يفرق بين الكسب والولد والثمرة؛ فهو على عمومه، ولا فرق في ذلك بين [أن يحدث في يد البائع، أو في يد المشتري، وإطلاق العراقيين يدلّ على أنه لا فرق بين] أن يقع الرد قبل القبض أو

بعده، وي طريقة المراوزة حكاية وجه: أن الردَّ إذا وقع قبل القبض كان رفعاً للعقد من أله، وربما طرد فيما بعد القبض أيضاً على ما اقتضاه كلام مجلي؛ فتكون الزوائد للبائع، وقد رأيت في "مجموع المعاملي" في مسألة عيب البطيخ الجزم بأنه إذا ردّ بالعيب انفسخ العقد من أصله، وصار كأنه ممسكٌ للشيء بالسَّوْم. واعلم أن ردّ الأم دون الولد مفروض في غير الآدمي، أو فيه ولم يتفق الاطلاع على العيب إلاَّ بعد انتهاء الولد إلى السن الذي يجوز التفريق فيه، أمَّا إذا لم ينته إليه ففي جواز الرد وجهان: أصحهما في "تعليق" أبي الطيب وغيره [هاهنا]: الجواز أيضاً. والثاني: لا يرد، ويرجع بالأرش، وهذا ما جزم به أبو الطيب وغيره في كتاب "السير" كما حكيناه من قبل. وقول الشيخ: "حدثت في ملكه" احترز بلفظ الحدوث عمَّا إذا اشترى حيواناً حاملاً، ووضع في ملكه، أو نخلاً وعليه طلع غير مؤبر، ثم أُبر في ملكه؛ فإن في ذلك خلافاً مبنيًّا على أنه يقابله قسط من الثمن أم لا؟ فإن قلنا: يقابله، ردَّه مع المبيع، وإلاَّ فهو كما لو حملت به في ملكه، أو أطلع النخل في ملكه. هذا ما حكاه الأصحاب هاهنا. وفي الرافعي في "الصداق": أنه لو أصدق زوجته أمة حاملاً، ووضعت في يد الزوجة، ثم طلقها، وقلنا: الحمل يقابله قسط من الثمن – أنه يسلم للمرأة، ولا حق للزوج [بسببه] على وجه؛ لأن هذه زيادة ظهرت بالانفصال، ولا قيمة له حالة الإحسان. قلت: ومن مقتضى هذا التعليل أن يجيء هذا الوجه هاهنا، واحترز الشيخ بما ذكره أيضاً عما إذا اشترى شاةً، وعليها صوف فجزه؛ فإنه يجب ردّه معها، وإن استخلف قدره قبل الرد، وقد صرح بذلك القاضي الحسين قبيل باب المصراة. ولو اشترىلجارية حائلاً، والشجرةَ ولا حمل لها، ثم حملت في يد المشتري ولم يعبها الحمل، أو في يد البائع، وكذلك النخلة أطلعت في ملك المشتري ولم

تؤبر – فهل يدخل الحمل والثمرة في الرد، أو يبقيان على ملك المشتري؟ فيه وجهان في "النهاية"، ولا يخفى أنه إذا ردّ المبيع بالعيب استرد الثمن إن كان باقياً ووَرَدَ العقد على عينة، وإن ورد على ما في الذمة، وعين في المجلس، غيره – كما حكاه الرافعي في نظيره من الصداق – فهل يتعين؟ [فيه وجهان، والمذهب: التعيين. نعم، لو كان الثمن الذي في الذمة ألفاً، فأخذ عنه ثوباً، ثم ردّ عليه المبيع بالعيب: فهل يتعين] عليه رد الثوب أو ألف؟ المنقول عن القاضي أبي الطيب: أنه يرجع بالثوب؛ أنه إنما ملكه بالثمن، فإذا فسخ البيع سقط الثمن عن ذمة المشتري؛ فينفسخ بيع الثوب به. وقال الأكثرون: يرجع بالألف، ومادة هذا الخلاف تأتي في باب الحوالة، إن شاء الله تعالى. قال: وإن قال البائع: أنا أعطيك الأرش عن العيب – لم يلزمه قبوله؛ لأنه لم يرض إلا بمبيع سليم بجميع الثمن؛ فلا يلزمه المعيب ببعض الثمن. [قال: "وإن طالب المشتري بالأرش لم يلزم البائع"؛ لأنه لم يبذل المبيع إلاَّ بكل الثمن، فلا يجبر على تسليمه ببعض الثمن]. قال: وإن تراضيا على أخذ الأرش" أي: مع كونه لا مانع من الرد "فقد قيل: يجوز"؛ لأنه خيار يسقط إلى مال، وهو إذا حدث عنده عيب، وتعذر ردّه لأجله، وماي سقط إلى مال يجوز التراضي على إسقاطه بمال، أصلُهُ القصاص، وهذا ما اختاره ابن سريج، وحكى البندنيجي في كتاب الشفعة: أنه حكاه أيضاً في القديم. قال: "وقيل: لا يجوز"؛ لأنه خيار جعل لفسخ البيع؛ فلا يجوز التراضي على إسقاطه بمال، أصله خيار المجلس وخيار الشرط، وهذا هو ظاهر المذهب والصحيح، ويخالف القصاص؛ لأن للولي أن يعفو عن القصاص على مال من غير رضا القاتل، ولا يجوز هاهنا أن يعفو من غير رضا البائع، فعلى هذا هل يسقط الخيار؟ ينظر: إن كان المشتري عالماً بفساد هذا التراضي بطل خياره، وإلاَّ فوجهان، أصحهما في "تعليق" أبي الطيب وغيره: أنه لا يسقط.

تبيه: الأرش في اللغة: عبارة عن التأريش، وهو الإغراء على الشيء. وفي الشرع: عبارة عن الشيء المقدّر الذي يحصل به الجبر عن الفائت، وهو جزء من الثمن يعتبر باعتبار القيمة – كما سنذكره – قاله الجيلي. قال: "وإن اشترى عبدين –أي: صفقة واحدة-وهما لمالك واحد، "فوجد بأحدهما عيباً ردّه، وأمسك الآخر في أحد القولين". هذا الخلاف مأخذه جواز تفريق الصفقة في الدوام، فإن قلنا به جاز إفراد أحد العبدين بالرد، رضي البائع أو لم يرضَ، ويجوز أيضاً ردهما، وفي "الوسيط" وجه: أنه لا يجوز ردهما إلاَّ إذا كانا معيبين. وإن قلنا بعدم جواز تفريق الصفقة فلا يجوز إلاَّ أن يرضى البائع، كما صرح به الماوردي وأبو الطيب. وحكى الإمام في باب تفريق الصفقة وجهاً: أنه لا يجوز وإن رضي البائع، قال الغزالي: وهو الأقيس. وله ردهما جميعاً على هذا القول بلا خلاف. ثم مقتضى النباء المذكور أن يكون الصحيح جواز إفراد المعيب بالرد؛ لأن الصحيح جواز تفريق الصفقة، لا سيما في الدوام، [لكن] الأصح من القولين هنا كما حكاه الماوردي، وهو ظاهر المذهب في "تعليق" القاضي أبي الطيب -: المنع. التفريع: على قول الجواز استرداد قسط المردود من الثمن بلا خلاف، ولا يغرم أرش التبعيض أيضاً، صرح به الإمام وغيره من الطريقين. وعلىقول المنع إذا لم يردهام لا أرش له؛ لإمكان ردهما معاً. صرح به القاضي الحسين في باب "تفريق الصفقة"، وأبو الطيب هنا. و [في] "ابن يونس" أن الغزالي قال: يرجع بالأرش. ولم أره في "الوسيط" إلاَّ فيما إذا تلف أحد العبدين – كما سأذكره – وكذلك هو في "تعليق" أبي الطيب. وعلىقول المنع أيضاً: إذا ردَّ المعيب لم ينفذ، وحكى الشيخ أبو علي وجهاً: أن رد المعيب يتضن ردهما معاً.

ولو كان السالم من العيب تالفاً، ففي جواز رد المعيب قولان مرتبان وأولى بجواز الرد، ولم يرتبهما أبو الطيب في "تعليقه"، فإن منعناه تعين له الأرش كما ذكرنا. ولو لم يكن تالفاً ولكن كان قد باعه ففيه القولان أيضاص، فإن منعنا الرد فهل له الأرش؟ فيه وجهان في "الحاوي" ينبنيان على قول أبي إسحاق وابن أبي هريرة - كما ستعرفه- وكذلك حكاهما القاضي في "شرح الفروع". ولو رد قيمة التالف على قول المنع، وأراد ردها مع القائم فوجهان مرتبان، وأولى بالمنع، كذا رتبه المراوزة، وأنكر القاضي أبو الطيب عليهم جواز رد قيمة التالف وقال: ذلك مخالف لنص الشافعي. وطريق الشيخ أبي حامد: أن محل القولين فيما إذا اطلع على عيب بالعبدين، ثم هلك أحدهما بعد القبض- فهل له رد الباقي؟ فإن قلنا بجواز تفريق الصفقة رده بالحصة، وإلاَّ فلا، ورجع بالأرش. أمَّا إذا اطلع على عيب بأحدهما وردهما ممكن، فليس له إلاَّ ردهما، أو إمساكهما، ولا نزاع في أنه لو كان المبيع زوجي خف أو باب فليس له رد أحدهما؛ لما في ذلك من التنقيص، وكذلك لو كان المُشْتَرَى عبداً واحداً، فأراد ردّ بعضه. قال الرافعي في مسألتي الخف والباب: "وقد ارتكب بعضهم طرد القولين فيهما". وفي "النهاية": أن الشيخ قال: "رأيت لبعض أصحابنا في العبد الواحد أنَّ المسألة تخرج على قولين، وقد رأيت هذا لصاحب "التقريب"، وهو خطأ عندي، والذي ذكره الأئمة: أنه أو اشترى عبداً، وباع نصفه، ثم اطلع على عيب قديم [به]؛ فأراد ردّ النصف الباقي مع ضمه أرش عيب التبعيض- فهو يندرج تحت التفاصيل في العيب القديم والحادث. انتهى. والذي جزم به القاضي أبو الطيب في هذه الصورة أيضاً: أنه لا يرد، ولكن هل يرجع بأرش النصف الباقي؟ فيه وجهان حكاهما في "شرح الفروع". أمَّا إذا كان البائع للعبدين مالكين، أو وكيلين عنهما، وجوزناه - جاز له إفراد أحد العبدين قولاً واحداً. صرح به الإمام في العبد الواحد، وهو هنا أولى. وحكى صاحب "البحر" في كتاب الشركة: أن العبد الواحد لو كان لشخصين،

فوكل أحدهما صاحبه في بيعه – نظر: إن صرح عند البيع بأن له شريكاً فيه، فللمشتري ردّ نصيب أحدهما، وإن لم يصرح فهل له الرد؟ فيه وجهان، أحدهما: لا؛ لأن متولي العقد واحد. فرع: إذا قلنا برد العبد الثاني من العبدين وحده بعد تلف أحدهما، واختلفا في قيمة التالف – فالقول قول البائع على الأصح؛ لأنه ملك جميع الثمن. وقيل: القول قول المشتري؛ لأنه غارم. قاله القاضي أبو الطيب. قال: "وإن اشترى اثنان عيناً" – أي: من مالك واحد- "فوجدا بها عيباً، جاز لأحدهما أن يرد نصيبه دون الآخر"؛ لأنه ردَّ بالعيب جميع ما لزمه ثمنه؛ فجاز له الرد كالمشتري الواحد، وهذا ما نصّ عليه في كتبه الجديدة، ومعظم كتبه القديمة – على ما حكاه الإمام – ومنه يؤخذ أن الصفقة تتعدد بتعدد المشتري، كما حكيناه من قبل: أنه الأصح. وحكى الإمام والماوردي عن أبي ثور أنه حكى عن الشافعي أنهما ليس لهما إلاَّ ردهما أو إمساكهما، وليس لأحدهما أن ينفرد برد حصته؛ احتجاجاً بان المبيع خرج عن يد بائعه صفقة واحدة؛ فلم يجز تبعيضها عليه برد بعض الصفقة كالمشتري الواحد ومن هذا أخذ أن الصفقة- وإن تعدد المشتري – متحدة على ما قاله الإمام، لكنه حكى بعد ذلك أن على قول المنع لو كان المبيع من ذوات الأمثال كصاع حنطة مثلاً وقد اقتسماه – فهل لأحدهما رد ما أخذه بما اطلع عليه من العيب؟ اختلف الأصحاب فيه، والخلاف مأخوذٌ من المعنيين في توجيه قول المنع: فإن كان التعويل على اتحاد الصفقة فلا فرق، وإن وقع التعويل على أنَّ التبعيض عيبٌ حادثٌ [فهذا لا] يتحقق في الحنطة وغيرها؛ فعلى هذا يجوز، ومقتضى التعليل الثاني منع [أخذ] اتحاد الصفقة من هذا النص، والله أعلم. التفريع: إن قلنا بالجديد، فرد أحدهما نصيبه واسترجع ما دفع ففيه وجهان:

أصحهما: أن الشركة [ين المشتريين] قد بطلت بالرد؛ فيكون نصف العبد [للممسك، وللراد نصف الثمن. والثاني: أن الشركة بينهما على حالها؛ لأنه لو لم يكن بينهما قسمه، فعلى هذا نصف العبد] بينهما، ونصف الثمن المسترجع بينهما، حكاه الماوردي. قلت: ويظهر أنه محمول على ما إذا كان الثمن مشتركاً بينهما، أمَّا إذا لم يكن فلا وجه لذلك. وإن قلنا بالقديم فهل لمن أراد رد حصته الأرشُ؟ ينظر: إن كان المبيع عبداً، فأعتق الشريك حصته وهو معسر، رجع به، وإن لم يكن قد أعتق الحصة، أو كان المبيع غير رقيق نظر: فإن أجاز الشريك أيضاً العقد، فرجوع الآخر بالأرش ينبني على أنه لو ملك نصيب المجبر، وأراد رده مع نصيبه، ويرجع بما يقابل حصته من الثمن لا غير، فهل يجبر البائع على القبول؟ فيه وجهان. فإن قلنا: لا، رجع بالأرش، فإن قال: أنا أقبله. فإن قلنا: نعم، فهل يرجع بالأرش؟ فيه وجهان، أصحهما في "النهاية": أنه يرجع أيضاً. وإن غاب الشركي ولم يبطل حقه، قد نقل صاحب "التقريب" وجهين في أنه هل يرجع بالأرش للحيلولة الناجزة. ولا يخفى الحكم بعد ما ذكرناه فيما لو كان البائع أو المشتري، أو كلاهما وكيلاً، لكن مع ملاحظة ما ذكرناه في اتحاد الصفقة وتعدها في باب "ما يجوز بيعه". فرع: لو كان البائع أو المشتري واحداً، فمات المشتري، وخلف وارثين - فليس لأحدهما ردّ نصيبه على الأصح، لكن يجب له الأرش عند إجازة الآخر على أحد الوجهين، [كما هو محكيُّ] في "زوائد" العمراني في خيار المجلس. وفي الرافعي حكاية وجه: أنه يجوز أن ينفرد برد نصيبه؛ لأنه رد جميع ماله، والمذكور في هذا الفرع في "الحاوي": أن البائع مخير بين أن يأخذ نصف المبيع ويعطي نصف الثمن، وبين أن يعطي نصف الأرش.

وحكمُ الموكلين لو أخذ في شراء عبد واحد في الرد والإجازة، وأخذ الأرش عند الرافعي - تفريعاً على أن الاعتبار بالعقاد - حكم الوارثين، ولو كان المشتري واحداًلكنه لنفسه ولموكله، وقد صرح بذلك في العقد: فهل لأحدهما أن ينفرد برد نصيبه؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو اختيار أبي إسحاق -: لا؛ لاتحاد الإيجاب، ويخالف ما إذا باشر الشراء؛ لأنه لو أنكر المذكور أنه أمره بالشراء كانت الصفقة كلها لازمةً لمتولِّي الشراء؛ فالصفقة واحدة، وإلاَّ لتفرقت إذا أنكر الآخر. والثاني - وهو الأص، وبه قال ابن أبي هريرة -: أن له ذلك؛ لأنهما بالذكر صارا كما لو باشرا واجباً لهما، حكاه صاحب "البحر" والقاضي أبو الطيب في كتاب "الشركة". قال:"فإن وجد العيب، وقد نقص المبيع عند المشتري" - أي: لا بسبب وجد في يد البائع - "بأن كانت جارية بكراً فوطئها، أو ثوباً فقطعه، سقط حقه من الرد" - أي: سواء ردّ معه أرش العيب الحادث أو لا - أمَّا إذا لم يرده؛ فلما في ذلك من الإضرار بالبائع، وأما إذا رده؛ فلأن ذلك عيب حدث في المبيع لا لاستعلام العيب؛ فوجب أمن يمنع من الرد، كما إذا قطع طرف العبد في يد المشتري ثم وجد به عيباً قديماً؛ فإنه لا يجوز له رده بالإجماع، على ما حكاه أبوالطيب. وقولنا: "لا لاستعلام العيب" احتراز عمَّا استدل به أبو ثور على جواز الرد في هذه الصورة، وهو رد الصاع من التمر في المصراة؛ فإن النقص ثَمَّ جاء من جهة استعلام العيب، على أن المردود ليس بدلاً عن العيب بل عن اللبن. وفيه احترازٌ عن مسألة البطيخ. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجه موافق لمذهب أبي ثور مخرجاً مما حكيناه فيما إذا منعنا ردّ أحد العبدين، فكان الباقي تالفاً: أنه يفسخ العقد فيهما، ويرد الباقي ويمة التالف، وفيما إذا اشترى ما لا يوقف على عيبه إلاَّ بكسره، فإن الرد له بعد الكسر.

واعلم أن ضابط ما يمنع الرد: [كل] ما إذا حدث في يد البائع أثبت الخيار، إلا إذا كانت جارية فزوجها، وقال الزوج قبل الدخول: إن ردك سيدك بعيب فأنت طالق، على ما حكاه الروياني. وضرب لك الشيخ هذين المثالين؛ لتقيس مسألة قطع الثوب على مسألة الجارية؛ بجامع ما اشتركا فيه من تنقيص القيمة بفعل مضمون، وقد واق أبو حنيفة في الجارية، ومنع في الثوب لهذه العلة. قال: "وله أن يطالب بالأرش" إذا لم يرض البائع بالمبيع معيباً؛ لتعينه طريقاً لدفع الضرر، ويشترط في ذلك إعلام المشتري البائع على الفور، حتى لو أخر من غير عذر بطل حقه من الرد والأرش، إلا أن يكون العيب الحادث قريب الزوال غالباً كالرمد والحمى؛ فلا يعتب رالفور في الإعلام على أحد القولين، وألحق القاضي أبو حامد الأمة الحامل بذلك؛ فجزو له إمساكها إلى حين الوضع وردها إن لم تنصها الولادة، وجعل الماوردي هذا القول مبنيًّا على أنَّ الحمل يقابله قسط من الثمن؛ فلا يتبع الأم في الرد. قال: فإن قال البائع: أنا آخذه منك معيباً – أي: من غير أرش – "سقط حقه من الأرش"، وله الرد؛ لأن العدول عن الردّ إلى الأرش كان نظراً للبائع، فإذا رضي بالرد سقط الأرش، وهكذا الحكم فيما لو كان المبيع عصيراً حلواً، فاطلع على عيب به بعد أن صار خمراً ثم خلاًّ؛ فإن للبائع أن يأخذه ولا يعطي الأرش، صرح به الماوردي. أمَّا إذا رضي به معيباً مع ضم الأرش إليه، ففي سقوط حق المشتري من الأرش إن لم يجبه وجهان ينبنيان على القولينيما لو اشترى ما لا يطلع على عيبه إلاَّ بكسره، وقلنا: لا يمتنع الرد بالكسر، هل يلزمه أرش الكسر إذا فسخ العقد؟ فإن قلنا: نعم، فإذا امتنع من بدل الرش سقط حقه من الأرش، وإلا فلا. قاله القاضي الحسين. وهذا إذا لم يُحْدِث المشتري في الثوب غير القطع، أما لو خاطه فله الأرش قاله الماوردي. فلو تنازعا، فدعا أحدهما إلى الرد مع أرش العيب الحادث، ودعا الآخر إلى

الإمساك مع غرامة أرش القديم - فحاصل ما شاتمل عليه كلام الأصحاب وجوه: أحدها: أن المتبع رأي المشتري، وروي عن أبي ثور أنه نصه في القديم. والثاني: أن المتبع رأي البائع. والثالث - وهو الأصح -: أن المتبع رأي من يدعو إلى امساك والرجوع بأرش العيب، سواء كان البائع أو المشتري. أمَّا إذا كان سبب العيب الحادث في يد المشتري موجوداً في يد البائع كما إذا جنى في يد البائع فاقتص منه في يد المشتري، فقد ذكرنا أنَّ المذهب ان ذلك ليس مانعاً من الرد، خلافاً لابن سريج. ويلتحق بذلك [إذا اشترى جارية بكراً من وجه وافتضها الزوج في يد] المشتري، ويناسبه انه إذا اشترى جارية حاملة ووضعت في يده، ونقصت بسبب - أن يتخرج على الوجهين، ويؤيده أن الرافعي حكى فيما إذا أصدق زوجته جارية حائلاً فحملت في يده، ووضعت في يدها، ثم طلقها: فالنقص الحاصل منسوب إليها أو إليه؟ فيه وجهان، وقد جزم الماوردي فيما ذكرناه بأنه ليس له ردها. فرع: لو وهب البائع المشتري الثمن، ثم اطلع على عيب بالمبيع - لم يجز له طلب بدل الثمن على قول، وامتنع بسببه رد المبيع عند بعضهم؛ لعروه عن الفائدة، على ما تضمنه كلام الغزالي في كتاب "الصداق"، وجزم القاضي الحسين بجواز الرد فيما إذا كان قد أبرأه من الثمن، وفائدته: التخلص عن حفظ المبيع. حكاه في باب "المصراة". واعلم أن طريق معرفة الأرش أن يقوّم المبيع سليماً، فإذا قيل: مائة، قوّم معيباً، فإذا قيل: تسعون - عُرف أن التفاوت بينهام العُشْر؛ فيرجع بعشر الثمن إن كان معلوماً، وإن كان مجهولاً فبعشر ما يتفقان عليه، وإن اختلفا، قال الجيلي: فيخرج على قولين: أحدهما: ان القول قول البائع؛ لأنه غارم. والثاني: أن القول قول المشتري؛ لأن البائع يدعى استقرار ملكه على مقدارٍ؛ فلا يقبل قوله مع بدو العيب القديم، ثم القيمة بأي حال تعتبر؟

حاصل ما قيل في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: وقت العقد، وهو ما حكاه مجلي عن الفوراني عن رواية عبد العزيز بن مقلاص. والثاني: وقت القبض، وهو ما عزاه الرافعي إلى رواية ابن مقلاص. والثاثل – وهو الأصح، والذي جزم به الشيخ في "المهذب" والقاضي أبو الطيب، والماوردي -: أقل القيمتين من يوم العقد إلى يوم القبض؛ لأنها إن كانت يوم البيع أقل فالزيادة حدثت في ملك المشتري، وإن كانت يوم القبض أقل فما نقص من ضمان البائع، وعبر في "النهاية" عنه بأنَّا نراعي ما هو الأضر بالبائع في الحالين؛ فإن الأصل عدم استقرار الثمن. وفي "المرشد": أنه بأي القيمتين قُوّم فهو جائز، سواء اتفقت قيمته من ين العقد إلى حين القبض أو اختلفت؛ لأن العيب إذا أثر في تنقيص عشر القيمة من كير القيمة أثر أيضاً في تنقيص العشر من قليل القيمة؛ فلا فائدة لاعتبار أقل القيمتين. قلت: وهذا معنى قول الشاشي: ولا يظهر عندي لاعتبار ذلك فائدة، وإنما تعتبر قيمته وقت العقد. وفيما قالاه نظرٌ؛ فإنه قد يقوم في حالة العقد سليماً بعشرة ومعيباً بثمانية، وقد يقوم في حالة القبض سليماً بعشرة ومعيباً بتسعة؛ فيكون الواجب عند من اعتبر أقل القيمتين الذي يضر بالبائع: الخُمس من الثمن، وعند من راعى وقت القبض: العُشر من الثمن، وذلك فائدة ظاهرة، والله أعلم.

ثم هذا فيما يرجع به المشتري على البائع من أرش العيب القيم، أمَّا ما يرجع به البائع على المشتري من أرش العيب الحادث فيقوم وبه العيب القديم؛ ويقوم وبه العيب القديم والحادث، ويجبما بينهما، وبأي وقت تعتبر القيمة؟ حكمه حمك السوم، وفيه عند العراقيين وجهانا: أحدهما: حين حدوث العيب. والثاني: أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين حدوث العيب. وأبدى مجلي في وجوب ما بين القيمتين احتمالاً وقال: الفسخ عندنا رافع للعقد من حينه، لا من أصله، وإذا كان كذلك فقد وجد العيب في يده، وهو مضمون عليه بالثمن؛ ففوات ذلك الجزء مضمون بجزء من الثمن، فكيف يشبه بالمقبوض سوماً، ولا عقد فيه؟ قال: وعلى هذا يكون حكمه حكم [أرش] المشتري. قلت: وهذا [ما صرحنا به] نقلاً عن القاضي أبي الطيب في "شرح الفروع" وغيره في باب "ما يتم به البيع"، ويعضده أن غريم المفلس إذا رجع في العين، وقد نقصت بفعل مضمون ضرب مع الغرماء بقدر أرش النقص [من الثمن. فروع: لو باع جارية من ابنه أو أبيه، فوطئها، ثم اطلع على عيب بها] بعد الاستبراء - كان له ردها، وكذا في كل ما يجري في يد المشتري مما يقتضي تحريماً مؤبداً من رضاع وغيره. وفي "حلية" الشاشي في كتاب "النفقات" حكاية عن "الحاوي" عن العراقيين من أصحابنا: [أنَّ الأب إذا وطئ جارية الابن يجب عليه قيمتها؛ بسبب تحريمها على الابن، فإن صح هذا عن العراقيين من أصحابنا،] يتجه أن يكون وطؤه مانعاً من الرد من طريق الأوْلَى، وسيأتي لنا وجه مرتب منه. لو كان المبيع غزلاً فنسجه المشتري، ثم اطلع على عيبه - كان له الرجوع بأرشه، فإن رضي البائع بعيبه فقولان حكاهما ابن سريج:

أحدهما: أن للمشتري الخيار في رده منسوجاً ولا أجرة له، وإن شاء أمسكه معيباً. والثاني: أن البائع إن بذل أجرة النسج كان له استرجاع الغزل منسوجاً، وإن أبى لزمه الأرش، حكاه الماوردي. لو كان المبيع دابة فأنعلها، فإن لم ينقصها قلعه كان له ذلك والرد بعده، وإن نقصها فقلع سقط حقه من الرد والأرش إذا كان بعد العلم بالعيب، ولو ردها مع النعل، ولم يحصل به تنقيص أُجبر البائع على قبول النعل؛ لأنه محتقر، لكنه هل يملكه بذلك حتى لو سقط استمر ملكه، أو المشتري أعرض حتى لو سقط عاد إليه؟ فيه وجهان، أشبهها الثاني. لو كان املبيع ثوباً فصبغه، ولم يمكن فصل الصبغ منه، وزادت قيمته، فإن رده ولم يطلب قيمة الصبغ أجبر البائع على القبول، ويصير الصبغ ملكاً له؛ فإن صفة الثوب لا تزايله، ولا صائر إلى أنه يرد الثوب، ويبقى شريكاً بالصبغ كما في الغاصب؛ لأن الشركة عيب حادث. وإن أراد الرد، وأخذ قيمة الصبغ، فالأظهر من الوجهين يه عم وجوب الإجابة، وللمشتري الأرش، ولو طلبه ابتداءً فقال البائع: رد الثوب لأغرم [لك] قيمة الصبغ، فمن المجاب منهما؟ فيه وجهان، المذكور منهما في "الشامل" و"التتمة": البائع، ولا أرش للمشتري. وسلك الغزالي طريقاً في الترتيب فقال: إذا طلب المشتري قيمة الصبغ فهل يجب على البائع ذلك مع رد الثمن؟ فيه وجهان: فإن قلنا: لا نكلفه قيمته، فهو كعيب حادث؛ فتعود الأوجه الثلاثة في أنَّ تمليك شيء حادث أولى، أو تغريم أرش العيب القديم. وما قاله يحتاج إلى تأمل؛ فإن الأوجه لا تعود مع قولنا: إنَّا لا نكلفه قيمة الصبغ، إذا أخذها، إنا نكلفه قيمة الصبغ، وإنما الأوجه الثلاثة لعلها تكون في أصل المسألة من غير هذا الترتيب، ووجه مشابهة هذه المسألة بمسألة العيب الحادث: ما أشار إليه الغزالي أن إدخال الصبغ في ملك البائع، مع أنه دخيل في العقد كإدخال الأرش الدخيل، وتمتاز هذه الصورة بإدخال قيمة الصبغ في ملك المشتري، وإخراجها من ملك البائع.

قال الرافعيُّ: ورواية الوجه الثالث لا تكاد توجد لغيره، وبتقدير ثبوته فقد بينا ثمّ أن الأصح الوجه الثالث. وقضية إيراد الأئمة هاهنا: أنه لا يجاب المشتري إذا طلب الأرش. [إذا] قصر الثوب، ثم اطلع على عيبه، فإن قلنا: إن القصارة بمنزلة العين، هي كالصبغ. وإن قلنا: إنها بمنزلة الأثر، فيرد الثوب، ولا شيء له؛ كالزيادات المتصلة. إذا أخذ الأرش عن العيب القديمن ثم زال الحادث، فهل له رد المبيع والأرش؟ فيه وجهان. ولو لم يأخذه ولكن قضى القاضي بثبوته- فوجهان بالترتيب، وأولى بالجواز. ولو تراضيا [ولا قضاء] فوجهان بالترتيب وأولى بالجواز، وهو الأصح في هذه الصورة. ولو عرف العيب القديم بعد زاول الحادث كان له رده، وفيه وجهٌضعيف، ولو زال القديم بعد أخذ أرشه رده، ومنهم من جعله على الوجهين. ولو كان القديم والحادث من نوع واحد، وزال أحدهما، واختلفا في الزائل-[فيحلفان]: فإن امتنع أحدهام قضي بيمين الآخر، وإن حلفا استفاد البائع بيمينه دفع الرد، والمشتري بيمينه أخذ الأرش، فإن اختلفا في الأرض فليس له إلا الأقل؛ لأنه المستيقن، كذا قاله الرافعي. وفي "الوسيط" أن دعواهما على التعارض، [والقول] قول البائع؛ لأن الأصل هو اللزوم، وكلام الرافعيّ فيه تفسير لذلك وتتمة. قال: وإن كان لا يقف على عيبه إلا بكسره – أي: وله مع عيبه قيمة قبل الكسر وبعده كالبطيخ والرانج – فكسر منه قدر ما يعرف به العب، ففيه قولان: أحدهما: يرده؛ لأن النقص حصل باستعلام العيب، فلم يمنع من الرد أصل المصراة.

وهذا ما صححه الشيخ أبو حامد والماوردي، واختاره في "المرشد". قال: "ويَرُّد معه أرش ما نقص بالكسر في أحد القولين"؛ قياساً على المصراة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بردّها ورد صاع من تمر بدل اللبن؛ فعلى هذا يُقوّم معيباً بلا كسر ومعيباً مكسوراً، ويجب ما بين القيمتين، ويجيء فيه ما قاله مجلي. قال: "دون الآخر"؛ لأن البائع سلطه على كسره؛ لأنه لا يمكن إدراك صلاحه وفساده إلا بذلك، فلم يجب عليه ردّ شيء معه، قال البندنيجي: "ولأنه قطع قطعاً مستحقًّا؛ فهو كما لو اشترى عبداً فختنه، ثم علم بالعيب"، وهذا ما صححه الشيخ أبو حامد، والبغوي وغيرهما. قال:"والثاني" – أي: القول الثاني في الأصل -: "لا يرد"؛ لانه حدث في يده نقصٌ؛ فوجب أن يسقط ردّه بالعيب؛ كما لو اشترى ثوباً فقطعه. قال: بل يرجع بالأرش إن كان لما بقي قيمة – أي: بعد الكسر كالبطيخ الذي حمض بعضه، والجَوْز، واللوْز، والرانج، وبيض النعام؛ لتعينه، طريقاً لدفع الضرر. وهذا ما صححه المزني والبغوي. وقد يعضد بما استدل به صاحب القول الأول من حديث المصراة؛ فإنَّ اللبن قابله قسط من الثمن، ومع هذا منع الشرع رده؛ لما حصل فيه من عيب في يد المشتري وإن كان لاستعلام العيب، وعلى تقدير أن يقول القائل الأول: امتناع الرد ليس كذلك، بل اختلاطه بملك المشتري وجهل قدره- فيقال له: ذلك مبطل لما استدللت به؛ لأنه يصير في المحلأمران يحتمل امتناع الحكم بسبب كلٍّ منهما؛ فلا يتعين ما ذكرته، لكن له أن يبقى على دليله الأول، وهو إيجاب الشرع التمر في مقابلة اللبن يدل على انفساخ العقد فيه؛ إذ لو لم يكن كذلك لكان الواجب في مقابلته قسطاً من الثمن، كما إذا وجد بأحد العبدين عيباً وردّه، وقلنا: يمسك الآخر، وكونه منع فسخ العقد فيه لم يوجب الشرع ردّه؛ لعدم العلم بقدره، واختلاطه بغيره، وسنذكر عن ابن سريج نحواً من ذلك في مسألة ظهور العيب بالحلي، وقد يحصل في المسألة عند الاختصار ثلاثة أقوال: لا يردُّ ويرجع بالأرش، يرد [ويرد] الأرش، يرد ولا يرد الأرش.

قال الإمام: وهذا هو الذي تميزت به هذه المسألة عن العيوب الحادثة في يد المشتري. يشير بذلك إلىلخلاف الذي حكيناه عن القاضي في ضم أرش العيب الحادث. قال: "وإن لم يكن له قيمة" - أي: قبل الكسر، كبيض الدجاج الفاسد والجوزة الفارغة، والبطيخة الدائدة الحامضة- "رجع بالثمن كله" -أي: قولاً واحداً؛ لأنه تبين بطلان البيع؛ فإن ما لا قيمة له لا يصح بيعه، كالخناس ونحوها، وقد يفهم من كلام الشيخ أن هذا تفريع على القول الثاني؛ فيكون الثمن كله أرشاً حتى تبقى القشور مختصة بالمشتري يجب عليه تفريغ الأرض منها، كما حُكي عن القفال في أحد درسيه وغيره، وليس كذلك؛ بل المذكور في طريقة العراق ما ذكرناه أولاً، وهو الصحيح في غيرها، وادّعى الإمام فسادغيره، أمَّا إذا كسر منه قدراً كان يمكنه الوقوف على الفساد بأقل منه، كما إذا شق البطيخةبنصفين، وكانت له قيمة، فقد قيل: يمتنع الرد قولاً واحداً، وهو الصحيح، وبه قال أبو حامد المرورُّوذي وجمهور أصحابنا. وحكى أبو إسحاق المروزي عن بعض أصحابنا أنه على القولين. وطريقة معرفة حموضة الرمان وحلاوته التي يتضرر بها، وكذا البطيخ -بإدخال مِسَلَّة وذَوْق [ما] تعلق بها. ومعرفة ساد الجوز واللوز، والرانج، وتَدْويد البطيخ بالكسر، أمَّا حموضة الرمان المعروفة وحلاوته فليست بعيب، ولا خيار بفواتها إلا ان يشترط، وعلى ذلك يحمل ما قاله الرافعي وغيره. تنبيه: البطيخ بكسر الباء، ويقال: طبيخ - بتقديم الطاء - لغتان، وممن ذكرهما ابن فارس.

فرع: إذا اشترى ثوباً مطوياً على طاقين ملتصقين مثل السختياني، فنشره واطلع على عيب به - فإن النشر ينقصه، وحكمه في الرد وغيره حكم الرانج. صرح به العراقيون. وفي "النهاية" حكايةً عن بعضهم: القطعُ بأنه إذا نشر قدر ما يطلع على العيب به لا يمتنع الرد قولاً واحداً، والفرع مصور عند الإمام في بيع الغائب، وعند الماوردي وأبي الطيب بما ذكرناه، وقد رأى كلاًّ من وجهيه. وعند الرافعي أيضاً بما إذا كان قد رآه قبل الطيّ أو بعده وبعد النشر؛ فإن نشره مرتين ينقصه أكثر من نشره مرة، وقال: إن فيما حكاه الماوردي تفصيلاً وخلافاً سبق. قال::وإن وقف المبيع، أو كان عبداً فأعتقه"- أي: من غير شرط - "أو مات" - أي: قبل العلم بالعيب، ثم علم به "رجع بالأرش"؛ لوقوع الإياس من الرد، وتعين الأرش طريقاً لدفع الضرر، وهكذا الحكم فيما لو أكل المبيع أو أتلفه أجنبي. وحكى الإمام قبيل كتاب "الرهن" أن المزني ذهب إلى أنّ الرجوع بالأرش لا يثبت بعد تلف المقبوض، أمَّا إذا كان العتق مشروطاً في البيع فقد نقل القاضي عن

أبي الحسين: أنه لا أرش له؛ لأنه وإن لم يكن معيباً لم يمسكه، ونقل عنه وجهين فيما إذا اشترى من يعتق عليه، ثم وجد به عيباً، ولأجل الاحتراز عن ذلك عدل الشيخ عن قوله: وإن كان عبداً فعتق، إلى ما ذكره. قال القاضي: "وعندي أنَّ له الأرش في الصورتين"، وفي "النهاية" قبيل كتاب "السلم": أنه يرجع في شراء القريب [بالأرش]، ولم يحك سواه. ثم في هذه الأحوال التي ذكرناها هل يثبت له الأرش بنفس الاطلاع قهراً، أو لابد من اختياره، حتى لو رده لم يرجع به؟ فيه وجهان، اختيار الشيخ أبي عليّ منهما على ما حكاه الإمام في "الكتابة"، والقاضي الحسين على ما حكاه أيضاً في "السلم": الأول، وفي الرافعي هاهنا: أنَّ الأظهر الاثني، لكنه حكاه فيما إذا كان الثمن في الذمة، وجعل وجه التعيين يرجع إلى حصول البراءة بمجرد الاطلاع، والأرش مأخوذ في مقابلة [فوات سلطة الرد عند الإمام على ما حكاه في باب "بيع المرابحة" وقال: لا ينتظم عندنا إلاَّ ذلك، وعند غيره في مقابلة] الجزء الفائت، حتى لو كان الثمن معيناً في العقد تعين فيه على أظهر الوجهين، وهو ما حكاه الإمام في "الكتابة"، وقال: لو كان الثمن عبداً آخر رجع فيه بقدره. وهذه مناقضة، ثم إذا بطل العقد فيما يقابله هل يبطل في الباقي؟ المشهور: لا، وادّعاه الإمام بلا خلاف في كتاب "السلم"، وفي "شرح فروع" ابن الحداد للقاضي أبي الطيب في كتاب "السلم": إذا ابتاع حنطة معينة بعبد معين، وسلم الحنطة وتسلم [العبد] وأعتقه، ثم وجد بالعبد عيباً، قدر الأرش ثم يرجع بقدره من الحنطة، وانتقض البيع فيه، وهل ينتقض في الباقي؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنه من قال: على القولين في تفريق الصفقة، ومنهم من قال: لا يفسد قولاًواحداً، وإنما لقولان في تفريق الصفقة [إذا كان العقد لم ينعقد في البعض، ومقتضى رأي من قال

بتخريج ذلك على تفريق الصفقة] إن ثبت الخيار لمن انحط له شيء، وقدجزم الإمام أيضاً بأنه لا خيار له؛ لأن هذا حط مستحق شرعاً؛ فلا خيرة مع حكم الشرع. فرع: [لو كان المبيع المعيب حليًّا وقد تلف، وكان الثمن من جنسه أو من غير جنسه – فقد ذكرنا حكمه في باب [الربا]. ولو كان المبيع صاع حنطة بصاع حنطة، وتقابضا، فتلف أحدهام، ثم اطلع على عيب به – ففيه ثلاثة أوجه حكاها القاضي الحسين: أحدها: يرجع بأرش المعيب من نقد البلد. والثاني: يسترد من الصاع الآخر بقدر ما يقابله. والثالث: يغرم مثل التالف، وسترد ما أعطي في مقابلته. قال: وإن باعه لم يرجع بالأرش، وهو المنصوص، وبه جزم أبو الطيب، والماوردي، وغيرهام، وَلِمَ ذلك؟ قال أبو إسحاق وابن الحداد: لأنه استدرك الظُّلامة، وغبن كما غبن، وقد رُئيَ ذلك منصوصاً عليه في الخلاف. وقال أبو علي بن أبي هريرة: لأنه لم ييأس من الرد، وقد رُئيَ منصوصاً عليه في "اختلاف العراقيين"، وهو الذي صححه الشيخ أبو حامد وأبو الطيب، وفي "تعليق" القاضي الحسين: "أنه الأظهر"، ولهذا الخلاف ثمرةٌ تظهر من بعد. قال: "وقيل: يرجع" – أي: بالأرش – نظراً إلى العجز في الحال؛ كما لو مات العبد أو أعتقه، وهذا من تخريج ابن سريج، وفي رواية البويطي ما يقتضيه؛ فعلى هذا: لو أخذ الأرش، ثم رده عليه مشتريه بالعيب، فهل يرده مع الأرش ويسترد الثمن ام لا؟ فيه وجهان: قال:"وليس بشيء"؛ لما ذكرناه. واعلم أن الكلام فيما يرجع بأرشه من العيوب في هذا القسم وما قبله ما عدا الخَصْي، أمَّا إذا كان العيب القديم هو الخَصْي فلا أرش له أصلاً؛ إذ لا نقص في القيمة حتى يعتبر من الثمن، صرح به الإمام والرافعي، وفي تعليله نظرٌ؛ فإنه قال: "لا

أرش له كما لا رد"، وقد صرح هو وغيره بثبوت الرد عند إمكانه بعيب الخصي. قال: "فإن رده عليه الثاني بالعيب، أو وهبه له، أو ورَّثه ردَّه" - أي: إذا فرعنا على المذهب، وهذا من الشيخ اختيار للمعنى الثاني كما رجحه الشيخ والقاضي، أمَّا إذا قلنا بالأول؛ فلا يرد إذا عاد إليه بالهبة أو الإرث، ويردإذا ردّ عليه بالعيب، وبنى الإمام والغزالي الخلاف في الرد عند العود بالهبة أو الإرث، وكل جهة لا يتعلق بها عهده: على أن الملك إذا زال، ثم عاد فهو كالذي لم يَزُلْ، أو كالذي لم يَعُدْ وفيه جوابان: فإن قلنا: إنه كالذي لم يعد؛ فلا رد. وإن قلنا: كالذي لم يزل؛ كان له الرد، وبنينا الرجوع بالأرش في الحال على الخلاف في الرد عند العود: [فإن قلنا: لا يرد رجع بالأرش]. وإن قلنا: يرد؛ ففي الرجوع بالأرش [في الحال للحيلولة وجهان؛ كالقولين في شهود الحال إذا رجعوا، وادّعى أن القياس ما ذهب إليه طوائف من المحققين، وهو الرجوع بالأرش]. وعلى الوجهين يخرج ما إذا عاد إليه بالبيع، فعلى قول أبي إسحاق: لا ردَّ له، وعلى قول أبي علي: له الرد، كذا هو في "تعليق" القاضي أبي الطيب، وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إذا كان عالماً بالعيب لم يكن له الفسخ؛ لأنه لما أقدم على شرائه مع العلم بعيبه صار راضياً به، وإن كان جاهلاً بالعيب حال الشراء الثاني؛ نظر في البائع الثاني: إن علم به قبل البيع الثاني، وأسقط حقه؛ فليس للمشتري أن يرده على البائع الأول، وله رده على البائع الثانين وهل له الرجوع على الأول بالأرش؟ لم يتعرض له القاضي.

وفي "النهاية" حكاية قولين فيه عن رواية صاحب "التقريب"، والأظهر: أنه لا يرجع. وإن كان الآخر جاهلاً بالعيب نظر: إن كان الثمن الثاني من غير جنس الأول، أو أكثر منه [أو أقل] – ردّه على البائع الثاني، وإلا فوجهان: أحدهما: يرد على البائع الأول. والثاني- وهو الأصح -: أنه يرد على البائع الثاني. وفي الرافعيّ حكاية وجه ثالث – تفريعاً على ما ذهب إليه ابن أبي هريرة -: أنه إن شاء ردّ على الأول، وإن شاء ردّ على الثاني، فإذا ردّ على الثاني فله أن يرد عليه، وحينئذ يرد هو على الأول. وعلى الوجهين معاً: لو كان قد وهبه هبة لا تقتضي الثواب، ثم عاد إليه بالبيع، أو الهبة، أو الإرث – يكون له ردّه قولاً واحداً. صرح به القاضي أبو الطيب، ومقتضى طريقة الإمام: جريان الخلاف [المذكور] أيضاً. وفي الرافعي حكايته فيما إذا عاد إليه بالهبة، لكنه بناه على أنه لو لم يعدْ هل يأخذ الأرش؟ وفيه خلافٌ مذكرو في "تعليق" القاضي أبي الطيب مبنيٌّ علىقول أبي إسحاق وابن أبي هريرة أيضاً إن قلنا: لا، فله الرد، وإن قلنا: يأخذ، فينحصر الحق فيهن أوي عود إلى الرد عند القدرة؟ فيه وجهان. وإن عاد إليه بالبيع، فإن قلنا: لا يرد في الحالة الأولى، فكذلك هاهنا، ويرد على البائع الأخير، وإن قلنا: يرد، فهاهنا يرد على الأول، او على الأخير، أو يتخير؟ فيه ثلاثة أوجه. ثم محل الكلام في عود المبيع إليه بالهبة أو الإرث، كما حاكه الشيخ إذا لم يجز المشتري الثاني العقد، ويرضَ بالعيب. أمَّا إذا رضي به قال الماوردي:"استقر سقوط الأرش والرد، ولو كان قد وقف المبيع، أو أعتقه، أو أتلفه، أو حدث به عيبٌ مانعٌ من الرد؛ ففي "تعليق" أبي الطيب حكاية وجهين مبنيين على مأخذ المنع من الرد: فعلى قول أبي إسحاق: لا يرجع، وعلى قول ابن أبي هريرة: يرجع.

وفي الرافعي حكاية هذا الخلاف فيما لو أعتقه أو وقفه أو أتلفه، ولم يرجع عليه المشتري الثاني بالأرش، أو أبرأه منه. أمَّا إذا رجع عليه به فيرجع وجهاً واحداً، وأمَّا في حدوث العيب فينظر: إن قبله المشتري الأول معباً؛ خير بائعه: إن قبله فذاك، وإلا أخذ الأرش منه، وعن أبي الحسين: أنه لا يأخذه، واسترداده رضا بالعيب، وإن لم يقبله، وغرم الأرش؛ ففي رجوعه بالأرش على بائعه وجهان: أحدهما - وبه قال ابن الحداد -: لا يرجع؛ لأنه ربّما قبله بائه لو قبله هو؛ فكان متبرعاً بغرامة الأرش. وهذا ما جزم به الماوردي. وأظهرهما في الرافعي: أنه يرجع؛ لأنه ربما [لا] يقبله بائعه فيتضرر. قال الشيخ أبو علي: "وعلى الوجهين معاً: لا يرجع ما لم يغرم للثاني". واعلم أن استيلاد الجارية المبيعة قائم مقام عتقها في هذا المعنى، والكتابة ملحقة بالتزويج عند المتولي. وفي الرافعي أن الأظهر: أنها كالرهن وسنذكرهما، وفي "الحاوي" إلحاقها بالبيع، وتعليق العتق بالصفة والتدبير لا يمنعان من الرد بالعيب. نعم، لو وجد البائع بالثمن عيباً فرده، وكان العبد المبيع قد دبره المشتري، فهل له الرجوع في عيبه؟ فيه خلاف مذكور في كتاب الصداق من "الوسيط". والهبة: إن قلنا: "إنها تقتضي الثواب كالبيع"، وإن قلنا: "لا تقتضيه". ففي "الحاوي" حكاية وجهين على المذهب المنصوص في البيع مبنيين على العلتين. وفي تعليق أبي الطيب الجزم بأنه لايرد، وقوى به تعليل ابن أبي هريرة، وعلى تخريج ابن سريج: يرجع بالأرش، والرهن والإجارة [المذكور منهما في تعليق القاضي الحسين أنهما لا يمنعان الرد، لكن في الحال أم حتى ينفك الرهن؟] وتمضي مدة الإجارة؟ فيه وجهان:

فإن منعنا الفسخ في الحال لم يكن له الرجوع بالأرش، وفي "الحاوي" حكاية وجهين: أحدهما: [لا أرش] له، وهو مقتضى تعليل أبي علي. والثاني -: وهو مقتضى تعليل أبي إسحاق -: له الخيار في أن يتعجل الأرش، ويسقط حقه من الرد، أو يتوقف لينظر ما يئول إليه الحال. وفي الرافعي: أن الحكم كذلك في الإجارة إذا منعنا بيع المستأجر، فإن جوزناه، ورضي البائع به مسلوب المنفعة مدة الإجارة - ردّ عليه، وإلاَّ تعذر الردّ، وفي الأرش الوجهان، وأنهما يجريان فيما إذا تعذر الرد بغصب أو إباق، وصورته: إذا كانقد أبق في يد البائع، ثم أبق في يد المشتري كما صوره أبو الطيب، وجزم فيه بعدم الأخذ، [وأيد به أيضاً تعليل ابن أبي هريرة]، على الجزم بمنع الأخذ جرى ابن الصباغ. والتزويج يمنع الرد بدون رضا البائع، ويوجب الأرش؛ لأنه ليس لغايته أمد معلوم، والمقاسمة إذا جرت في المشاع قبل الاطلاع على العيب هل يمنع الرد؟ إن قلنا: إنها إفراز حق؛ فلا، وإن قلنا: إنها بيع؛ فهي كما لو باع بعض المبيع، ثم وجد بالباقي عيباً. قال: والعيب الذي يردّ به ما يعده الناس عيباً: من المرض - أي: وإن قلّ - والعمى [أي]: ولو في إحدى العينين، والجنون أي: وإن كان متقطعاً - والبرص اولجاذم - أي: وإن لم يستَحْكِمْ والبخر - أي: الناشئ من تغير المعدة - دون ما يكون من فَلَجِ الأسنان، والزنى، والسرقة، وما أشبه ذلك مثل التمكن منعمل قوم لوط أو عمله، والصُّنان الي لا يزول إلا بعلاج يخالف العادة، وفي "تعليق" القاضي الحسني أنه قال: عندي أنَّ الصنان لا يثبت الخيار. و"اعتياد الإباق"، كما صرح به الغزالي والإمام في باب "السلم" "دون المرة الواحدة"، خلافاً لأبي علي الزجاجي، والقاضي الحسين، كما صرح به في الموضع الذي سنذكره، وهذا منهما إشارة إلى أنه لو وجد في يد البائع، ولم يوجد في يد المشتري كفى، وعلى الأول: لا يكفي، وإلى ذلك أشار في "الإشراف".

وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن محل الرد بعيب الإباق إذا تكرر منه في يد البائع، واشتهر ووجد في يد المشتري. أمَّا إذا وجد في يد البائع، ثم وجد في يد المشتري؛ بحيث تنقص القيمة – لم يرد لحدوث عيب آخر في يده، ويرجع بالأرش. قال الرافعيُّ: والسرقة قريبة من هذا، وقد صرح القاضي الحسين في باب"الخلاف باليمين مع الشاهد" بذلك. ومحل الخلاف في الإباق والسرقة: ما إذا صدرا من البالغ. أمَّا إذا صدرا من صبي، وكذا الزنى في يد البائع، ولم يجر شيء منها في يد المشتري- فلا رد به، صرح به صاحب "الإشراف". واعتياد البول في الفراش في غير أوانه من العبيد والإماء، عيب دون المرة الواحدة على الأظهر، وما إذا كان في أوانه، وهو ما دون سبع سنين، كما صرح به البغوي. وكون الضيعة منزلاً للجند واختصت به دون ما حولها، كما صرح به القاضي

الحسين في "فتاويه"، وكون الخراج المصروف على الأرض ظلماً ثقيلاً دون ما حولها، وعن حكاية أبي عاصم العبادي وجه: أنه لا يدر بثقل الخراج، ولا بكونها منزلاً للجند؛ لأنه لا خلل في نفس المبيع. وكون الدار يجاورها قصارون يتأذى من صوت دقهم وتتزعزع الأبنية به. وكون الأرض يجاورها خنازير تفسد ما بها من زرع ملحقٌ بالصورتين قبلها عن المتولي. وكون العبد أقرع، أو أخفش، أو أجهر، أو أعشى، أو أرَتَّ لا يفهم، أو فقيد الظر أو الشعر، أو له أصبع زائدة، أو سن زائدة، كما ذكر في "الحاوي"، أو مقلوع بعض الأسنان، أو آدر، أو ذا قروح، وكذا آثارها وآثار الشجاج، أو ثآليل كثيرة، أو بَهَق، وكونه أبيض الشعر في غير أوانه، أو كذاباً كما حكاه القاضي الحسين، أو نمَّامًّا، أو ساحراً، أو قاذفاً للمحصنات، او مقامراً، أو تاركاً للصلاة، أو شارباً للخمر – ملحقٌ بالعيوب المتفق عليها. وفي "الرقم" للعبادي: أنه لا يرد بالشرب، وترك الصلاة. وكونه خنثى مشكلاً [أو غير مشكل – عيبٌ]، وعن بعض المتأخرين: أنه إن كان رجلاً، وكانيبول من فرج الرجال، فلا ردّ به. وهذا ما حكاه العمراني في "زوائده" عن القاضي في "السلم". وكونه مخنثاً، وكون الجارية مستحاضة، أو معتدة، أو مستأجرة، أو محرمة، أو مزوجة، وكذا الغلام – وفي "البيان" حكاية وجه في التزويج. وكون الجارية لا تحيض في سن تحيض فيه النساء غالباً وهو عشرون سنة، كما قاله القاضي الحسين، وكذا تطاول طهرها إذا جاوز الادة، وحملها – عيب، وكذا الحمل في سائر الحيوانات عند صاحب "التهذيب" دون غيره، وهو ما حكاه الرافعيُّ في الصداق أنه أظهر الوجهين. وكون العبد أو الجارية جانيين جناية تعلق الأرش بالرقبة، وإن كانت خطأ إذا كثرت – عيب، أمَّا إذا لم تكثر جناية الخطأ؛ فلا. واصطكاك الكعبين، وانقلاب القدمين، واسوداد الأسنان، والكَلَف المغيِّر للبشرة،

وكون أحد ثديي الجارية أكبر من الآخر، والحَفَر في الأسنان لتراكم الوسخ الفاحش في أصولها، والكي – عيب، وكذا العنة عند الصيمري، وهو الأظهر عند الإمام، وعند غيرهما: لا خيار بها. وكون الدابة جموحاً، أو عضوضاً، أو رموحاً، أو زهيدة، أو تشرب لبنها، أو خشنة المشي، بحيث يخشى منها السقوط – عيبٌ، وكذا قطع بعض الأذن بحيث لا يجزئ في الأضحية عند صاحب "التقريب"، وكون الماء المشتري مشمساً، أو المبيع نجساً ينقص بالغسل – عيب. وكذا الرمل تحت الأرض إن كان مما يبطل البناء، والأحجار إن كانت مما تبطل الزرع والغرس، وفي "الوسيط" حكاية خلاف في الأحجار، وإن كانت مودعة يثبت الخيار، إلاَّ أن يقول البائع: أنا أزيلها في مدة قريبة لا أجرة لمثلها. ولو أضرت الحجارة بالغراس دون الزرع؛ ففيه وجهان في "الحلية": أحدهام – ويحكي عن ابن أبي هريرة -: أنه ليس بعيب. وقال الماوردي: عندي ينظر في أرض تلك الناحية: فإن كانت مرصدة للزرع دون الغراس لم يثبت، وإن كانت مرصدة للغراس ثبت. وظهورُ قَبَالَةٍ تُوقِفُ المبيع، وعليها خطوط المتقدمين، وليس في الحال من يشهد بذلك – عيب، قاله في "العدة". وكذا كون البائع وكيلاً، أو وصيًّا، أو أمين حاكم على وجه محكي في "الحاوي"، وكذا لو كان العبد مبيعاً في جناية عمدٍ، وقد تاب على وجه فيه أيضاً. ولا ردّ بكون الرقيق رطب الكلام، أو غليظ الصوت، أو سيء الأدب، أو ولد زنى، أو غنياً، أو حجاماً، أو أكولاً، أو زهيداً، قال القاضي الحسين: إلاَّ أن يكون لعلة به. وكذا لو كان العبد مرتداً حالة العقد، وقد تاب قبل العلم على المذهب. وفي "الحاوي" في كتاب "الرهن": أن ذلك عيبٌ في الحال، وأمَّا إذا قلنا: إنه ليس بعيب، فهل له الرد به؟ فيه وجهان. وكذا لا ردّ بكونه عقيماً وغير مخفوض أو مختون، إلاَّ إذا كان الغلام كبيراً يخاف عليه من الختان، وقيل: ألا تستثني هذه الحالة أيضاً، وإطلاق القاضي

الحسين يوافق هذا. وكذا لا ردّ بكون الرقيق ممن يَعْتِقُ على المشتري، ولا بكون الأمة أخته من الرضاع أو النسب، أو موطوءة ابنه، بخلاف المحرمة والمعتدة؛ لأنّ التحريم ثم عام فتقل الرغبات، وهاهنا يختص التحريم به، ورأى القاضي ابن كجٍّ إلحاق ما نحن فيه بالمحرمة والمرتدة، هذا ما أشرت إليه من قبل. وكذا لا أثر لكونها صائمة على الأصح. وضابطه: أن الردّ يثبت بكل ما في المعقود عليهمما ينقص قيمة العين، أو نفسها من الخلقة التامة نقصاناً يفوت به غرض صحيح، بشرط أن يكون الغالب في أمثال المبيع عدمه، وإنما اعتبرنا نقصان العين لمسألة الخصي؛ فإنه يثبت به الردّ – وإن زادت القيمة – لفوات غرض صحيح به، وإنما اعتبرنا الخلقة التامة؛ ليخرج ما إذا نقص من العين ما هو زائد عن الخلقة التامة كالأصبع الزائدة إذا أزالها البائع- فإنه لا ردّ بسبب فوات ذلك إذا لم يبق شُيْنٌ، وإنما اشترطنا فوات غرض صحيح؛ احترازاً عمَّا إذا قطع قُلْفة يسيرة من فخذها، أو ساقه، بحيث لا يؤثر شيئاً، ولا يفوت غرضاً. فرع: لو وجد الإباق، والسرقة، والزنى، ونحو ذلك في يد البائع، وارتع مدة مديدة؛ بحيث يغلب على الظن زوالها، ثم وجدت في يد المشتري. قال الثقفي والزجاجي وأبو علي: لا يجوز الرد؛ لاحتمال أن تلك المعاني ارتفعت، ثم حدثت في يد المشتري؛ فصارت كالمرض الحادث في يد المشتري، حكاه في "الإشراف". قال: "وإن اشترى جارية فوجدها ثيباً" – أي: في سن تحتمله –"أو مسنة، أو كافرة" – أي: يحل وطؤها كاليهودية والنصرانية – لم يرد"؛ لأن هذا ليس بنقص، بل

فوات فضيلة، أمَّا إذا كانت الثيب صغيرة بحيث يندر ثيابتها، أو الكافرة ممن لا يحل وطؤها كالمجوسيّة والوثنية والمرتدة- ثبت الرد؛ لأنّ ذلك نقص، وفي "التتمة" في الكافرة الأصلية: أنه لا يثبت الرد في هذه الصورة أيضاً، وطرده في الغلام. وفي "النهاية" في هذا الباب: أنه لو اشترى عبداً فخرج كافراً، فالذي ذهب إليه عامة الأصحاب: أن الكفر عيبٌ. وذكر العراقيون وجهاً: أنه ليس بعيب، واسم "العبد" لا يتعرض للإيمان ولا للكفر. وفي هذا القول تفصيلٌ عندي: فإن كان الغالب العبد المسلم في موضع العبد الكافر، وكان الكفر منقصاً للقيمة فهو عيبٌ، وإن لم يكن الإسلام غالباً في العبيد، بل كانوا منقسمين، وكان الكفر منقصاً للقيمة، فهذا فيه تردد، ظاهر القياس: أنه ليس بعيب، وظاهر النقل أنه عيب، وإن لم يكن الكفر منقصاً، والعادات مضطربة، فالوجه: القطع بأنّ الكفر لا يكون عيباً. وقال – متصلاً بباب "بيع حبل الحبلة" -: إذا اشترى المسلم عبداً، فخرج كافراً نُظر: إن اشتراه في بلاد الإسلام له ردُّه؛ فإن الكفر في العبيد نادرٌ في هذه الديار، وإن كان في دار الحرب فالذي ذهب إليه الأكثرون: أنه لا يرده، وكان شيخي يقول: يثبت الخيار؛ لأنّ الكفر عيبٌ مهما اتفق، وما قاله أولاً وآخراً يجري في الأمة الكتابية من طريق الأوْلى، وقد أشار إليه في "التهذيب". قال: "إلاَّ أن يكون قد شرط أنها بكر، أو صغيرة، أو مسلمة" فيثبت له الرد؛ لأجل الخلف. وحكى الإمام في آخر "النهاية" فيما إذا شرط أنها بكر، وكانت مزوجة، خرجت ثيباً – وجهين في ثبوت الخيار. قال: "وإن شرط أنها ثيبٌ، فخرجت بكراً لم يرده؛ لأنها أكمل مما شرط، وهذا هو الأصح. قال: "وقيل: يرد؛ لأنه قد يتعلق له بذلك غرض؛ لضعف آلته، أو كبر سنه، وقد فات عليه؛ فيثبت له الخيار. ويجري هذا الخلاف – على ما حكاه الماوردي – وغره فيما إذا اشترط أنها سبطة، فخرجت جعدة الشعر، أو بيضاء الشعر – علىقول من لم يشترط الرؤية –

فخرجت سوداء الشعر، أو خصيًّا فخرج فحلاً عند أبي الحسن العبادي. والمذهب فيه أنه يثبت، وكذا لو شرط أنه أقلف فبان مختوناً. قاله المتولي. إلاَّ أن يكون العبد مجوسيًّا، وثَمَّ مجوس يشترون الأقلف بزيادة، فله الرد. قال: "ولو شرط أنه كافرٌ فخرج مسلماً" – أي: والبائع مسلم – "ثبت [له] الرد" [؛ لأنّ قيمة الكافر في السوق أكثر؛ لأنه يشتريه المسلم والكافر، فَطِلابه أكثر، وذلك غرض مقصود، فإذا فات ذلك عليه ثبت له الرد]، وحكى الإمام في هذا الباب: أنهما إن كانا متوجهين إلى بلاد الكفر، وكانوا يكثرون الولوج فيها – فقد يكون الكافر أكثر قيمة، فإذا أخلف الشرط والحالة هذه ثبت الخيار. وأبعد بعض أصحابنا وقال: لا خيار، وارتاع هؤلاء من تشعيث في نسبتنا إلى إيثار الكفر. وهذا غير سديد؛ فإن المالية هي المرغبة، وهي مأخوذة من الرغبات في كثرتها وقلتها، وذكر ما ذكرناه من قبل، ثم قال: وهذا إذا كان الكافر أكثر قيمة، إن لم يكن الأمر كذلك جرى الحكم فيه بمثابة خُلْف الشرط في البكارة واليوبة. فإن بان مسلماً – والشرط كونه كافراً – فهو كما لو شرط أن يكون سبط الشعر فخرج أجعد، وحكى في كتاب "النكاح" متصلاً بباب "الأمة تغرُّ من نفسها" ثلاثة أوجه: أحدها: أنّ الخيار يثبت؛ لأن المقصود المالية، وقد يكون الكفر في المملوك من الأغراض المالية. والثاني – ما ذهب إليه المزني -: أنه لا خيار. ووافقه بعض الأصحاب. والثالث: إن كان الموضع الذي جَرَى فيه الشراء قريباً من ديار الكفر، وكان يتوقع أن يطرقوا ذلك الموضع ويرغبوا فيه – فيثبت الخيار، وكذلك إن اتفق ذلك في بلد أهل الذمة، فأما إذا جرى في موضع بعيد عن بلاد الكفر، ولا يكثر فيه أهل الذمة؛ فلا خيار. وما ذكره الأولون من النظر إلى الأغراض المالية غير صحيح؛ فإن القيمة إن كانت تزيد من وجه رغبة الكفار مثل رغبة باطلة مستندها الكفر وتحسينه، واعتقاد كونه حقًّا – فيكاد أن يكون ذلك المزيد بمثابة ثمن الخمر.

ولو أتلف هذا العبد، فذهب جماعة الأصحاب: أنه يجب على المتلف أان يغرم قيمته؛ اعتباراً بما يطلب فيه، وإن كان بأكثر مما يشتري به المسلم، وذهب المزني ومن وافقه إلى أنّ ذلك المزيد لا يضمن؛ لما أشرنا إليه، وهو بمثابة ازدياد قيمة الجارية بأن تصير عوَّادة، فلا يكاد يخفى أن القيمة تزداد في القينة ضعف ما تكون الجارية الناسكة، ومن اشتراها لم يعترض عليه؛ فإنّ الشراء يرد على عينها، ولكن لو أتلفت لم يضمن متلفها إلاَّ قيمة مثلها لو كانت لا تحسن الغناء، والله أعلم. أمَّا لو كان البائع كافراً كان في جواز الرد ما ذكرناه في باب "ما يجوز بيعه" إن جوزنا شراءه. فرع: لو اشترى أرضاً أو ثوباً على أنه عشرة أذرع، فخرج دونها أو فوقها – ففي الصحة قولان، أظهرهما – وبه قطع قاطعون – فيما إذا خرجت ناقصةً: الصحة، تنزيلاً للخُلْف في الشرط في القدر منزلة الخلف في الصفات. وللمشتري الخيار عند النقص، وإذا أجاز فبقسطه، أو بجميع الثمن؟ قولان، أظهرهما: الثاني؛ لأن المتناول بالإشارة المعين، وللبائع الخيار على قول الصحة في حال الزيادة على المشهور، فإن أجاز كان الجميع للمشتري، وفي وجه: لا خيار له، واختاره البغوي. وعلى المشهور: لو قال المشتري للبائع: لا تفسخ فأنا أقنع بالقدر المذكور شائعاً والزيادة لك، فهل يسقط خيار البائع؟ فيه قولان عن رواية صاحب "التقريب" وغيره، وحكاهما القاضي أبو الطيب قبيل كتاب الرهن عن رواية ابن سريج وجهين، أظهرهما – وبه قال الإمام، ورجحه ابن سريج -: أنه لا يسقط. قال الرافعي: وقياس هذا ما إذا باع القطيع على أنه عشرون رأساً، والصبرة على أنها ثلاثون صاعاً. وفرق صاحب "الشامل" بين الصبرة وغيرها، ورأى أن الصبرة إذازادت يرد الفضل، وإن نقصت وأجاز المشتري يخير بالحصة، وفيما عداها يخير بجميع الثمن؛ لأن أجزاءها تتساوى، فلا يجرُّ التوزيع جهالة. قال: وإن باع، وشرط البراءة من العيوب؛ ففيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه يبرأ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ"؛ [لأنّ خيار العيب] إنما يثبت لاقتضاء مطلق العقد السلامة، فإذا صرح بالبراءة فقد ارتفع الإطلاق، فعلى هذا: لو حدث به عيبٌ قبل القبض لم يبرأ منه، وكان له الرد، فلو اختلف في تقدمه على العقد وتأخره عنه، وحدوثه قبلا لقبض، فهل القول قول البائع أو [قول] المشتري؟ فيه وجهان [في "الحاوي". قال: والثاني: لا يبرأ؛ لأنه خيار ثابت بالشرع، فلا ينتفي بالشرط] كسائر مقتضيات العقد، [و] لأنه إبراء عن مجهول لا يدري، وذلك غَرَر، ولأن الرد بالعيب مستحقٌّ بعد لزوم العقد؛ فلم يجز إسقاطه بالشرط قبل لزوم العقد كما في الشفعة. قال: "ويبطل البيع على هذا، وقيل: لا يبطل"، يوجههما ما تقدم في نفي خيار المجلس، والأظهر منهما عدم البطلان؛ لاشتهار القصة المذكورة بين الصحابة، وعدم إنكارهم، والذي عليه جمهور الأصحاب- كما حكاه الماوردي -: البطلان. قال: "والثالث: أنه يبرأ من كل عيب باطن في الحيوان لم يعلم به البائع"؛ لأن الحيوان يتغذى بالصحة والسقم، وتتحول طبائعه، وقلَّما يبرأ من عيب خفيِّ؛ يحتاج البائع إلى هذا الشرط فيه ليثق بلزوم البيع. قال:"ولا يبرأ مما سواه" – أي: مما يعلمه – أو هو ظاهر في الحيوان ولم يعلمه، وما لا يعلمه من غيره؛ لما روي أن ابن عمر باع عبداً من زيد بن ثابت بثمانمائة درهم بشرط البراءة، فأصاب زيد به عيباً، فأراد ردّه على ابن عمر، فلم يقبله، فترافعا إلى عثمان، فقال لابن عمر: تحلف إنك لم تعلم بهذا العيب؟ فقال: "لا"، فرده عليه، فباعه ابن عمر بألف درهم، ولأن كتمان العيب تلبيس، وهذا هو الأصح في هذا الطريق الذي قاله ابن سريج وابن الوكيل، والإصطخري، وابن خيران وأبو سحاق جزماً به. ولنصه في "المختصر"، وفي " [اختلاف] العراقيين" به إشعار.

وفي "الحاوي" طريقة ثالثة عن ابن أبي هريرة: أنه يبرأ في الحيوان من غير المعلوم [دون المعلوم، ولا يبرأ في غير الحيوان من المعلوم، وفي غير المعلوم] قولان، ولو قال: بعتك بشرط ألاَّ ترد بالعب، جرى فيه هذا الخلاف، وزعم المتولي أنه فاسدٌ قطعاً مفسد للعقد. قال القاضي الحسين في "تعليقه": "لأنه منع تصرفه في حق يثبت له بمقتضى العقد، بخلاف شرط البراءة؛ فإنه اشترط البراءة من ثبوت الحق. ولو شرط البراءة من العيوب الموجودة والتي تحدث، ففيه وجهان، أحصحهما - ولم يذكر الأكثرون سواه -: أنه فاسد. ولو عين بعض العيوب، وشرط البراءة عنه نظر: إن كان مما لا يعاين، مثل أني قول: بشرط براءتي من عيب الزنى والسرقة والإباق، برئ منها بلا خلاف، وإن كان مما يعاين كالبرص: فإن أراه قدره وموضعه فكمثل، وإن لميره فهو كشرط البراءة مطلقاً، وحكى الغزالي في هذه الصورة خلافاً على القول بعدم الصحة في الأصل مبنيًّا على العلتين في فساده. قال الإمام: "وليس المعنى بالإعلان أن يطلع المشتري على العيب، [أو يرى من نفسه العلم بها، وإنما المراد البراءة من صفات لا يقطع الشارط بكونها، وإنما بقدر البراءة لو كانت؛ إذ لو حصل الإطلاع على العيب] فلا حاجة إلى الشرط، ومن الاطّلاع أن يقول البائع: "هذه العيوب به فأبرئني منها". قال:"وإن اختلفا في عيب يمكن حدوثه -أي: مثل تخريق الثوب، وكسر الإناء، والبرص، وأمثال ذلك، فقال البائع: حدث عندك، وقال المشتري: بل كان عندك - فالقول قول البائع؛ لأن حدوث العيب متفق عليه، والأصل عدم حصوله في يد البائع، ولأن دعوى المشتري تقتضي الفسخ، ودعوى البائع تقتضي الإمضاء،

وهو الأصل فاتبع فيه. قال: "مع يمينه"؛ لأن ما يدعيه المشتري محتمل فحلف لذلك، واليمين تكون على البت؛ لأن العيب نقص شيء، والبائع يدعى إقباضه، واليمين في القبض على البت، ويسوغ له ذلك بغلبة الظن [كما يحلف] على خط أبيه وصدق الشهود. وفي "الحاوي" في باب "الخلاف في اليمين مع الشاهد" حكاية وجه فيما إذا كان المدعى من العيب الإباق: أنه يحلف على العلم، فيحلف: لقد باعه ولا يعلم أنه آبق؛ لأنه غاية ما يقدر عليه، وعلى الأول في هذا وفي غيره، فكيفيتها إن أجاب عن الدعوى بأنه لا يستحق على الرد بهذا العيب كذلك، وله أن يحلف أنه باعه وما به العيب الذي ذكره، إن كان المشتري قد ادّعى أنه باعه وهو معيب، كما حمل عليه نصُّ الشافعيّ، أو أنه أقبضه وما به العيب الذي ذكره، إن كان المشتري قد ادعى حدوث العيب بعد العقد، وإن أجاب بأنه باعه وأقبضه وما به العيب الذي ذكره، فهل يحلف لذلك أم له أن يحلف إنه لا يستحق عليه رد السلعة بهذا العيب؟ فيه خلاف، قاعدته مذكورة في الكتاب، والأظهر الأول، وهو ما أورده في "التهذيب". ولو اختلفا في بعض الصفات هل هي عيبٌ أم لا؟ فالقول قول البائع أيضاً، إلاَّ أن يخبر عدل واحد من أهل العلم بأنه عيبٌ كما حكاه في "التهذيب"، واعتبر المتولي فيه شهادة شاهدين. ولو اختلفا في العلم بقدر العيب: فأنكر المشتري أنه علم بقدره، وادّعاه البائع – فالقول قول المشتري، فيحلف إنه لم يعلم قدره يوم رآه، أو يحلف إنه زائد على ما اعترف به، حكاه في "الإشراف". ولو ادعى البائع علم المشتري بالعيب، أو تقصيره في الرد، فالقول قول المشتري،

وقيّد ذلك في "الإشراف" بما إذا كان مثل العيب يخفى عليه. ولو اختلفا في الثمن، وقد دعت الحاجة إلى الرجوع بالأرش، فالقول قول البائع أو المشتري؟ روى القاضي ابن كجٍّ فيه قولين، والأصح: الأول. ولو اختلفا في قدر الثمن بعد ردِّ المبيع، فعن أبي الحسين أن ابن أبي هريرة قال: "الأَوْلَى أن يتحالفا، وتبقى السلعة في يد المشتري، وله الأرش على ابائع" قبل له: إذا لم يتبين الثمن كيف تعرف الأرش؟ قال: "أحكم بالأرش في القدر المتفق عليه". قال أبو الحسين: "وحكى أبو محمد الفاسي عن أبي إسحاق أن القول قول البائع، كما لو اختلفا في الثمن قبل الإقالة"، وهذا هو الصحيح. قال: "وإن باعه عصيراً، وسلمه [إليه]، فوجد في يد المشتري خمراً، فقال البائع: عندك صار خمراً – أي: ومضى زمان يمكن انقلابه فيه خمراً – وقال المشتري: بل عندك كان خمراً؛ ففيه قولان: أحدهما: أن القول قول البائع"؛ لما ذكرناه في الفصل قبله، وهذا ما صححه النواوي. "والثاني: أن القول قول المشتري"؛ لأنّ البائع يدعى عليه قبضاً صحيحاً، وهو منكر له، والأصل عدمه، ولا حكم للقبض الذي اعترف به؛ فإنه فاسد، ليس قبضاً شرعيًّا؛ فكأنه لا قبض. قال المتولي: وبهذا فارق مسألة العيب؛ لأن وجود العيب لا يمنع صحة القبض. وهذا القول قد صحح الماوردي نظيره فيما لو وقع الاختلاف على هذا النحوبن الراهن والمرتهن [وفي العصير المرهون]، وقضيته التصحيح هنا أيضاً. [والقولان يقربان – على ما أشار إليه الإمام في كتاب "الرهن" – من اختلاف الأصحاب في حد المدعيِي والمدعَى عليه: فمنهم من يقول: المدعي: من يدعي أمراً خفيًّا، والمدعَى عليه: من ينكر أمراً جليًّا. ومنهم من يقول: المدعي: من لو سكت تُرِكَ والسكوتَ، والمدعي عليه: من

لا يُترك والسكوت. ووجه التخريج: أن المشتري لو سكت ترك فهو المدعي، إذاً فيكون القول قول البائع؛ لأنه المدعي عليه؛ فإنه لو سكت لم يترك. وإن قلنا: المدعي من يدعي أمراً خفيًّا" فالمدعي هو البائع؛ فإنه يدعي القبض الملتزم، والأصل عدمه، والمشتري يدعي عدم القبض، وهو الأصل، ويقرب من هذه المسألة ما حكاه الإمام في "الرهن" عن القاضي، وهو ما إذا اشترى لبناً في قمقمة، فصبه البائع في قمقمة المشتري، فوجد فيه فأرة، فاختلفا، فقال المشتري: بعتني اللبن طاهراً فوجدت فيه فأرة، وقال البائع: لا، بل كانت الفأرة في قمقمتك، وكان من جوابه أن هذا تخريج على القولين في إقباض العصير والخمر. فإن قيل: إذا كانت النجاسة في ظرف المشتري، فاللبن ينجس بملاقاة النجاسة؛ فليس ما ادّعاه إقباضاً على الصحة. قلنا: ليس كذلك؛ فإن اللبن إذا حصل في فضاء الظرف، ثبت له حكم القبض جزءاً جزءاً قبل أن يلقى النجاسة. واعلم أن الشيخ تكلم في سخ العقد بسبب التدليس والعيب والخلف، وسكت عن سخه بالتراضي، وهي الإقالة، ولا شك في جوازها واستحبابها عند ندم أحدهما على العقد؛ لما روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَقَالَ مُسْلِماً أَقَالَ اللهُ عَثْرَتَهُ".

وصيغتها أن يقولا: تقايلنا، أو يقول أحدهما: أقلت، فيقول الآخر: قبلت، لكن هل هي فسخ أم بيع؟ قولان: أصحهما – وهو المنصوص عليه في الجديد -: الأول؛ إذ لو كانت بيعاً لصحت

من غير البائع، وبغير الثمن الأول، ولافتقر إلى ذكر الثمن فيها، وكل ذلك غير معتبر. والمنصوص عليه في القديم – كما حكاه الإمام -: الثاني: ولو قالا: تفاسخنا العقد، فمنهم من قال: إنه فسخ قولاً واحداً، وعند هذا القائل البيع يقبل الفسخ بالتراضي. ومنهم من قال: كلُّ ما فرض على التراضي من لفظ الإقالة أو الفسخ، فهو خارج على القولين، ولا نظر إلى الألفاظ. وعند هذا القائل البيع لا يقبل الفسخ بالتراضي على القديم. وحيث قلنا: إن الإقالة فسخ، فهل من وقت الفسخ أو من أصل العقد؟ فيه وجهان تظهر فائدتهما في "الزوائد" حكاهما الرافعيُّ في حكم العقد قبل القبض وبعده، وللمشتري جنس المبيع لاسترداد الثمن على القولين جميعاً. ويجوز من الورثة بعد موت المتعاقدين أو أحدهما، وهل يجوز بعد تلف المبيع؟ إن قلنا: إنها بيع، فلا، وإن قلنا: إنها فسخٌ، فنعم على الأصح، كما في الفسخ بالتحالف. ولو كان أحد العبدين تالفاً، فالخلاف مرتب، وأولى بالجواز، وادّعى القاضي أبو الطيب في كتاب "السلم" إجماعنا [على] صحتها في هذه الصورة، ويجوز في بعض المبيع الذي يتقسط الثمن عليه بالأجزاء، وكذا إن كان يتقسط عليه بالقيمة إذا قلنا: إنها فسخٌ، وإن قلنا: إنها بيعٌ، فلا. وحكى الفوراني على قول الفسخ أنه ينفسخ في البعض، وهل ينفسخ في الباقي؟ قولاً تفريقِ الصفقة، وعلى القولين يخرج أيضاً تحديد حق الشفعة، ووجوب التقابض في مال الربان وجواز التصرف بعد الإقالة وقبل القبض، وكذلك التلف في هذه الحالة في أنه يرجع بالثمن أو بدله، وجواز الإقالة قبل القبضن وفي المسلم فيه. فإن قلنا: إنها فسخٌ، جاز، وإن قلنا: إنها بيعٌ، لم يجز [في المسلم فيه]، وفي المبيع قبل القبض يكون كالبيع منه، على ما حكاه الرافعي. وقال الإمام: لم أر أحداً من الأصحاب يخرج الإقالة قبل القبض على أنها فسخٌ أو بيعٌ.

حتى إذا قلنا: إنها بيعٌ، خرجت على الخلاف في أن بيع المبيع من البائع قبل القبض، هل يجوز، وكذلك لم يردِّد أحد من أصحابنا القول في الإقالة في المسلم، بل أطلقوا جوازها، وكان شيخي يقول: الإقالة قبل القبض تنفذ، فإن جوزنا بيع المبيع من البائع قبل القبض خرجت المسألة على القولين في أن الإقالة فسخٌ أو بيعٌ، فإن قلنا: لا يصح بيع المبيع من البائع، فالإقالة [له] نافذة فسخاً قولاً واحداً. ولو تعيب المبيع في يد المشتري، ثم تقايلا واطلع عليه البائع. فإن قلنا: إنها [بيع]، ثبت له الخيار. وإن قلنا: إنها سخ، أخذ الأرش، قاله الرافعي، ولم يحك سواه، والذي جزم به في "الشامل" جواز الرد، ولم ينبه على شيء، وكان يتجه أن يتخرج على الخلاف فيما إذا فسخ البائع العقد بعيب في الثمن، ثم وجد المبيع قد تغير في يد المشتري؛ فإنه هل يرجع بالأرش مع أخذ العين، أو يتخير بين أن يرجع في العين ليس إلاَّ وبين أن يأخذ قيمتها سليمة؟ وفيه وجهان منقولان في آخر "النهاية"، واختار القاضي الحسين وابن سريج – على ما حكاه ابن أبي الدم – الثاني، وهو المحكي في "الوسيط" في آخر كتاب الغصب، ومقابله هو الذي رجحه الإمام، وهو المحكي في "كتاب الصداق من "الوسيط"".

باب بيع المرابحة والنجش والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادين وتلقي الركبان

باب بيع المرابحة والنجش والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادين وتلقي الركبان [قال:] يجوز أني بيع ما اشتراه برأس المال؛ [للإجماع] وبأقل منه، أي: ولو من البائع قبل نقد الثمن الأول، وإن كان الثمنان من نوع يجري فيه الربا. ودليل الصحة فيما إذا باع من غير البائع، أو منه بعد قبض الثمن الأول - الإجماع؛ على ما حكاه المحاملي، وهو محمول على ما إذا لم يتكرر، أمَّا إذا تكرر، فالإمام مالك - رحمه الله - قد يمنع منه في بعض السور. وفيما إذا باعه من البائع قبل قبض الثمن الأول: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ". وقوله صلى الله عليه وسلم لبلال - على ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري - حين جاءه بتمر بَرْنيِّ: "مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ " فقال بلال: "تمرٌ كان عندنا ريءٌ، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "أَوَّاهُ! عَيْنُ الرِّبَا، لاَ تَفْعَلْ وَلكِنْ إِذا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ التَّمْرَ فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ" ولم يفصل، ولأن ما جاز بيعه من غير بائه [ثمن جاز بيعه من بائعه] بذلك الثمن كالأجنبي، وكما بعد القبض الثمن الأول. ولا يقال: إنه إذا كان قبل القبض من بائعه فهو وسيلة إلى تحليل الربا؛ لأنه لو كان بيعه بالأقل ربا لكان بيعه بالأكثر منه ربا، وما روى عن عائشة - رضي الله عنها - في قصة زيد بن أرقم الذي استدل به على منع ذلك، ضعيف السند، على أنَّ إنكارها محمول على كون البيع الأول وقع إلى لعطاء، وهو مجهول. هذا مشهور المذهب.

وقال الإمام: قد يضطرب في ذلك إذا عم العرف بشيء؛ فيجعل عموم العرف في حكم الشرط، كما تردد الأصحاب فيما إذا عم العرف بانتفاع المرتهن [بالمرهون]، هل يجعل كالمشروط في الرهن. وبالمنع أفتى الأستاذ أبو إسحاق، والشيخ أبو محمد إذا صار ذلك عادة؛ فيبطل العقدان جميعاً، وألحق الماوردي بأصل المسألة ما إذا باع طعاماً بثمن مؤجل، ثم حلَّ الأجل؛ فإنه يجوز أن يأخذ بذلك الثمن طعاماً وغيره من المطعوم. وهذا منه تفريعٌ على جواز التصرف في الثمن الذي في الذمة، كما صرح به غيره، وهذه المسألة تعرف بـ"مسألة العِينة" أخذاً من العين، وهو النقد الحاضر، نبه عليه ابن الصباغ في مداينة العبيد. قال: "ويجوز أن يبيعه مرابحة إذا بين رأس المال ومقدار الربح، صورة ذلك أن يقول: "ابتعتها بمائة"، أو: "رأس مالي مائة"، أو: "هي عليَّ بمائة"، أو "قامت عليَّ بمائة"؛ و"بعتك بمائة"، وربح كل عشرة درهماً مثلاً. ودليل جواز ذلك من غير كراهة عموم قوله تعالى: - وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ولأن الثمن فيه معلوم كما أنه معلوم فيما إذا قال: بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم، أو هذا القطيع كل شاة بدرهم. قال القاضي أبو الطيب: وقد أجمعنا على جوازه؛ فكذلك هاهنا، [ويجوز أن يضيف إلى الثمن شيئاً ثم يبيعه مرابحة؛ بأن يقول: اشتريته بمائة، وقد بعتكه بمائتين، وربح كل عشرة درهماً، وكأنه قال: بعتك بمائتين وعشرين]. أمَّا إذا لم يبين رأس المال، وقال: بعتك مرابحة كل عشرة درهماً بما اشتريته – فثلاثة أوجه حكاها المتولي مجموعة، وهي متفرقة في "تعليق" القاضي الحسين.

أقيسها: أنه لا يجوز؛ لجهالة الثمن، كما لو قال: بعتكه بما اشتريته، ولم يقل: مرابحة، وهو جاهل بالثمن؛ فإنه لا خلاف على ما حكاه القاضي الحسين: أنه لا يجوز. والثاني: أنه يجوز؛ لأنّ الثمن فيه مبني على الثمن الأول، وذلك معلوم في الخلوة، وإن لم يسمِّه في العقد، بخلاف ما إذا لم يقل: مرابحة؛ فإنه لا ينبني فيه على الثمن الأول. قال القاضي: بدليل ما لو خان فيه لا يحط، ولا يثبت له الخيار. والثالث: إن أعلمه في المجلس استمرت صحته، وإلاَّ بطل. ثم على قول الصحة: لو اختلفا في قدر الثمن، فالقول قول البائع مع يمينه؛ كالمشتري مع الشفيع، قاله القاضي. ويجري الخلاف المذكور فيما لو كان الثمن [الأول] كفًّا من الدراهم مجهولاً لم يفسر بعد، كما صرح به المتولي، والله أعلم. وكما يجوز البيع مرابحة يجوز محاطّة، مثل أن يقول: الثمن مائة، وبعتك بما اشتريت بحط درهم من كل عشرة، لكن في القدر المحطوط وجهان: أحدهما: أنه يُحَطُّ من كل عشرة واحد؛ فيكون الثمن تسعين. والثاني – وهو ما حكاه الشيخ أبو حامد عن أصحابنا بعد أن قال: ليس لصاحبنا في هذه المسألة نصٌّ -: أن المحطوط من كل أحد عشر درهماً درهم، كما أن الربح من كل أحد عشر درهماً درهم، فيكون الثمن على هذا في مثالنا: تسعين وعشرة أجزاء من أحد عشر جزءاً في مجموع الدرهم؛ لأن الذاهب من تسعة وتسعين تسعة، فيبقى درهم يضع منه جزءاً من أحد عشر جزءاً، وهذا ما حكاه المحاملي، ونسبه إلى مذهب الشافعي، لكنه صور المسألة بما إذا قال: بعتك بوضيعة درهم في كل عشرة. وقد خطأ القاضي أبو الطيب الشيخ أبا حامد فيما حكى عنه، قوال: ذلك مذكور فيما إذا قال: بعتك على وضيعة دهْ يَازده وهو أن يضع من كل أحد عشر درهماً درهماً، فأمَّا في هذه المسألة فلا يكون الثمن إلا تسعين من غير زيادة، وعلى

هذا [المنوال] جرى المتولي والإمام، ووافقهما البندنيجي في الحكم، ولم يتعرض للتخطئة، وقال الماوردي - بعد أن حكى أن الذي ذهب إليه الجمهور مثل ما قاله الشيخ أبو حامد -: الأصح عندي، أنه إذا قال: يحط درهم من كل عشرة، فالمحطوط واحد من عشرة، وإذا قال: يحط درهم لكل عشرة، فالمحطوط واحد من أحد عشر. قال: "وما يزاد في الثمن وما يحط منه في مدة الخيار" - أي: خيار الشرط؛ لأن المختص بالمدة يلحق برأس المال؛ لأنّ لكل واحد منهما ترك العقد وإتمامه؛ فأشبه حالة العقد، وإذا كان هذا الحكم ثابتاً في خيار الشرط، ففي خيار المجلس من طريق الأَوْلى، وهذا هو الأصح عند الأكثرين فيهما. وذهب أبو زيد والقفال إلى أنه يلحق في خيار المجلس دون خيار الشرط؛ لأنّ مجلس العقد كنفس العقد؛ ألاّ ترىنه لو عين رأس المال والعوض في "الصرف" في خيار المجلس جاز؛ بخلاف زمان الخيار المشروط؟! قال الإمام متصلاً بباب الربا: "وهذا مما انفرد به أبو زيد، ولا يظهر فرق بين الخيارين. وقيل: لا يلحق في واحد منهما؛ لتمام العقد، كما بعد اللزوم، وهذا هو الصحيح في "التتمة"، وقد حكى الإمام أنه مبني فيما إذا زاد على ان المبيع في زمن الخيار ملك المشتري، والأول مبنيٌّ على أنه باق على ملك البائع، ووافقه من العراقيين على ذلك أبو علي الطبري في "الإفصاح"، وطرد هذا البناء في لحوق الحط أيضاً، كما حكاه عنه مجلي في كتاب "الشفعة". قال الإامم: والصحيح عندنا أن ذلك لا يلحق. وإن قلنا: إن البيع لا ينقل الملك، فإن البيع الأول إذا لمي رتفع ولم يشتمل لفظ العقد على الزيادة، فلا معنى لتقدير إلحاق الزيادةمن غير فسخ محقق وإعادة، فيمتنع لحوق الزيادة؛ لفساد الصيغة. حكى ذلك قبيل "باب تجارة الوصي بمال اليتيم". وحكى مجلي في كتاب "الشفعة" عن بعضهم أنا إذا قلنا بانتقال الملك

فالحطيطة إبراء، وهل ينفذ؟ كل الأصحاب على نفوذه، ومنهم من قال: في النفوذ خلاف مرتب على عتق البائع في مدة الخيار على هذا القول، فإن قلنا بالنفوذ فهل يلحق ذلك بالعقد؟ فيه وجهان: فإذا قلنا: إن الخيار يمنع انتقال الملك، فإذا حط عنه البعض كان إبراءً. وذكر القاضي في نفوذها وجهين: وجه النفوذ توافُقُ الخلق على ذلك في العُصُر الخالية. وفي "الحاوي" في باب "بيع الطعام": أن النقصان إذا كان قبل التفرق كان فسخاً للبيع الأول، واستئنافَ بيعٍ بعده بما بقي من الثمن الأول، حتى لو كان ذلك بعد تلف المبيع أو عتقه لم ينفذَ القبض، ويبقى الثمن الأول، بحاله، ولو كان [قد] قبض المبيع، ثم حط عنه شيئاً من الثمن، وأبطل في هذا الباب أن يكون النقص او الزيادة فسخاً للعقد، وقال في أواخر باب "الربا": إن المشتري إذا أبراه البائع في زمن الخيار لم يصح؛ لأنه إبراءٌ مما لم يستقر ملكه عليه، وحكم إلحاق الأجل في زمن الخيار حكم الزيادة. ولو ذكراه في العقد ثم أسقطاه وصار حالاًّ، كما صرح به

الأصحاب في باب "السلم". وقال القاضي الحسين متصلاً بباب تجارة الوصي: ينبغي أن ينفسخ العقد؛ لأنه جعل الثمن إذا كان عشرة مثلاً في مقابلة المبيع والأجل، ولما أسقط الأجل يحتاج إلى أن يسقط شيئاً من الثمن، ولا يعرف ذلك؛ فيصير مجهولاً. قلت: لو كان هذا معتبراً لوجب إذا حط من الثمن بعضه أن ينفسخ العقد فيما يقابل المحطوط من المبيع، ولا قائل به، ولوجب إذا اشترى سلعة بثمن مؤجل ومات أن يبطل العقد؛ لأن الأجل سقط بالموت، ثم مع الصحة لا يثبت للوارث الخيار في فسخ العقد لفوات بعض المقابل بجزء من الثمن، وذلك يقدح فيما ذكره. تنبيه: قول الشيخ: "وما يحط منه" احترز به عما لو حط جميعه؛ فإن العقد ينفسخ عند من يرى إلحاق الحط في بعض الثمن، صرح به الإمام والرافعيُّ. وفي "الحاوي": في الموضع الذي حكى فيه أن الحط يلحق، من هذا الباب: أن حطيطة الثمن كله لا تكون فسخاً للعقد. وقال المتولي في كتاب "الشفعة": "إنه إذا حط الثمن كله كان كأنه قال: بعتك بلا ثمن، على طريقةٍ ينعقد هبة، وعلى طريقةٍ يكون بيعاً فاسداً، وعلى ذلك جرى في "الذخائر" في "الشفعة". وقال في "الإبانة": " [إنا] إذا قلنا: إن الحط لا يلحق، المبيع ملك المشتري، لكن هل بالبيع أو بالهبة؟ فيه وجهان. قوله: "يلحق برأس المال" يجوز أن يكون المراد فيما إذا أراد أن يخبر بأن رأس ماله فيه كذا، أمَّا إذا أراد أن يخبر بأن شراءه كذا فيجوز ألاَّ يعتبر الحطّ ولا الزيادة، وهو قضية إطلاق المتولي لهذا التفصيل من غير أنّ يفرق بين أن يكون العقد قد لزم قبل الحط أم لا. وفي الرافعي تخصيص ما حكاه المتولي بما إذا كان بعد اللزوم؛ فإنه قال: ما يزاد في الثمن بعد انقضاء الخار لا يلحق بالمشتري. الثاني: وأمَّا الحط، فإن كان البيع بلفظ "ما اشتريت"، لم يلزمه حط المحطوط،

وإن كان بلفظ "قام عليّ" لم يخبر إلاَّ بالباقي، فإن حط الكل لم يجز بيعه مرابحة بهذا اللفظ. وفي "تعليق" القاضي الحسين وغيره حكاية وجه فيه، كما في لفظ الشراء، ولو حط عنه بعض الثمن الأول بعد جريان المرابحة لم يلحق الحط المشتري منه. وعن الشيخ أبي محمد وجه: أنه يلحق كما في التولية والإشراك، والفرق على الأول أن بناء عقد التولية والإشراك على العقد الأول أقوى وآكد، بدليل أنه لا يقبل الزيادة، وأمَّا المرابحة فيقبلها كما ذكرناه. قال: وما يرجع به من أرش العيب يحط من رأس المال؛ لأنه جزءٌ من الثمن. فلو جنى على العبد المبيع وأخذ الأرش لم يحط على أحد الوجهين، كما لا يضيف ما غرمه من أرش جنايته إلى الثمن. قال الماوردي: وعلى هذا للمشتري الخيار إذا علم. وفصل الإمام فقال: إن بقي للجناية أثر ونقصان في عين أو مال وجب الإخبار به، وإلاَّ فلا يجب على أحد الوجهين، ولو جنى عليه جناية، وقلنا بالأصح: أن جراح العبد مقدرة، وقدر الجناية نصف القيمة، وما نقص إلاَّ ثلثها – فهل يحط ما غرمه له الجاني وراء النقصان؟ فيه الوجهان، والأصح: لا. ثم قال: وقد يرى الناظر في كتب العراقيين وجهين مطلقين في أنه هل يجب ذكر [أرش] الجناية؟ وهذا غير معقول إلاَّ في أرش لا يقابل تنقيصاً من القيمة كما ذكرته في الصورتين، وحيث قلنا: "يحط" وكان الثمن مائة، والأرش عشرة، فلا يقول: "اشتريته بتسعين"، ولا: "ثمنه تسعون" بل يقول: "قام عليَّ بتسعين" قاله في "المهذب" في الأرش، وفي "الحاوي" أنه يخبر بأي العبارات الثلاثة شاء. فرع: لو اشترى شيئاً بعشرة، وباعه بخمسة عشر، ثم اشتراه بعشرة خبَّر بها خلافاً لابن سرجي؛ فإنه قال: يخبر بخمسة. ولم يطرد ذلك فيما إذا خسر في الأول خمسة أنه يضيفها إلى الباقي، كذا هو المشهور عنه. وفي "التتمة" أنه طرده، وأنه جعل الخسارة كمؤنة التزمت من أجرة خياطة أو

قصارة، والله أعلم. قال: "وإن اشترى ثوباً بعشرة، وقَصَره بدرهم، ورفأه بدرهم، خبّر به في المرابحة فيقول: "قام عليَّ باثني عشر" – أي: وبعتك بربح كل درهم ثمن مثلاً؛ لأنه صادق، وكذا أن يقول: "هي عليّ باثني عشر". قال: "ولا يقول: ابتعته باثني عشر"؛ لأنه كذب. وهل يجوز أن يقول: "رأس مالي فيه اثنا عشر"؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنه يجوز. وفي "مجموع" المحاملي: الجزم بأنه لا يجوز، وكذلك في "الحاوي"، ومثل هذا التفصيل يجري فيما إذا أدَّى أجرة الحمال، والحارس، والصباغ، وقيمة الصبغ، وأجرة الحان، وتطيين الدار، وكراء البيت الذي فيه المتاع، وأجرة الكيال والدلال إذا كان الثمن مكيلاً أو عرضاً نادى عليه واشترى السلعة بعد ذلك، وسائر المئونات التي تلزم الاسترباح، دون [سائر] المئونات التي يقصد بها استيفاء الملك: كنفقة العبد وكسوته، وعلف الدابة، وفداء العبد بسبب الجناية. وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه يدخل [العلف الزائد على المعتاد لا محالة]؛ ذكره القاضي الحسين وغيره. وأجرة الطبيب – إن اشتراه مريضاً – كأجرة القصَّار، وإن حدث المرض في يده فهي كالنفقة. وفي مؤنة السائس تردد الإمام، والأظهر أنها كالعلف. والمكس الذي يأخذه السلطان يدخل في لفظ القيام، ولا يدخل في لفظ الشراء، وهل يدخل في لفظ "رأس المال"؟ فيه وجهان في "التتمة". تنبيه: قوله: "رفأه بدرهم" مهموز، يقال: "رفأت الثوب وأرفؤه رفئاً": إذا أصلحت ما تهرَّشَ منه. قال الجوهري: "وربما لم يهمز". قال: "وإن عمل فيه عملاً يساوي درهمين أخبر به، فيقول: "اشتريته بعشرةن وعملت فيه بدرهمين" لأنه الواقع، "ولا يقول: قام عليَّ باثني عشر؛ لأن عمل

الإنسان بنفسه لا يتقوم عليه. تنبيه: قوله: "يساوي درهمين" هذه اللغة الفصيحة، وفي لغة قليلة: "يَسْوَى"، وأنكرها الأكثرون، وعدُّوه لحناً. قال المرزوقي في "شرح الفصيح": يقال: هذا الشيء يساوي ألفاً أي: يستوي معه في القدر". قال: وإن أخذ من لبنه أو صوفه الموجود حال العقد شيئاً أخبر به؛ لأن ذلك يناله قسط من الثمن فيحتاج إلى تقويم ما أخذه من الصوف أو اللبن، ويوزع الثمن عليه [وعلى الشاة] على قدر قيمتهما، كما يفعل في العبدين، ولو لم يكن ذلك موجوداً حال العقد، ثم وجد وأخذه – لم يخبر به؛ كما لو انتفع بالعبد. قال: "وإن اشترى عبدين بثمن واحد، جاز أن يبيع أحدهما مرابحة، إذا قسط الثمن عليهما بالقيمة" – أي: قيمتهما وقت الشراء؛ لأن العقد يقتضي ذلك. قال في "التتمة": إلاَّ أنه لا يقول: "اشتريته بكذا" [إلاَّ] إذا بين حقيقة الحال فيه. وقال القاضي الحسين: يجوز له أن يخبر بلفظ: "قام عليَّ" خاصة. ولو اشترى مائة قفيز حنطة بمائة درهم، وأراد بيع قفيز منها مرابحة، جاز أن يخبر أن ثمنه درهم، ومن أصحابنا من منع إلا بإخبار الصورة، قال الماوردي: والأول أصح. ولا يجوز مثل ذلك فيما إذا اشترى عبداً بمائةٍ، وأراد أن يبيع نصفه بخمسين بلفظ الشراء. صرح به المتولي. ولو أسلم في عبدين بصفة واحدة، ثم قبضهما، وأراد بيعهما مرابحة – قسم الثمن عليهما بالسوية؛ قاله مجلي، سواءً كانا من ذوي الأمثال أوا لقيم، وسواءً كانا متفقين في القيمة أو لا؛ لأن الثمن وقع عليهما بالسوية. قال: وإن قال: "اشتريته بمائة"، ثم قال: بل [اشتريته] بتسعين – أي: وباعه مرابحة، لكل عشرة درهم مثلاً – ففيه قولان: أحدهما: يحط الزيادة وربحها" – أي: وذلك أحد عشر في مثالنا – ويأخذ

المبيع بالباقي – أي: وهو تسعة وتسعون؛ لأنه ملك نقل بالثمن الأول مع زيادة منسوبة إليه، فيحط الزائد عليه، كما في الشفعة والتولية، ولاخيار للمشتري؛ ذلأنه زاده خيراً. قال: "والثاني: أذنه بالخيار" – أي: المشتري – "بين أن يفسخ البيع، وبين أن يحط الزيادة وربحها، ويأخذ المبيع بالباقي"؛ أنه ربما كان له غرض في الشراء بمائة وربحها لتحِلَّة قَسَمٍ أو نفاذ وصية، ولأنه لا يأمن أن يكون الثمن أنقص من تسعين، وحاصل ما قاله الشيخ أن البيع حيحٌ، وفي ثبوت الخيار القولان، وقد بناهما الماوردي على أن إخباره بالتسعين كذب أم لا؟ وفيه خلاف: فمن لم يجعله كذبا، ً ووجهه بأن التسعين تدخل في المائة – قال: لا يثبت للمشتري خيار، وهذا ما حكى من بعد هذا البناء أنه المذهب، وصححه غيره، وفي الرافعي: أنه نصّ عليه في كتاب "اختلاف العراقيين". ومن جعله كذباً؛ لأن التسعين بعض المائة، وهي مقابلة بعض المبيع؛ فلم يجز أن يخبر بأنها جميع الثمن، ومقابله لجميع المبيع – أثبت للمشتري الخيار، وهو ما

حكى بعد هذا البناء أنه قولٌ مخرج من المسألة التي نذكرها من بعد، وفي الرافعي: أنه الذي نقله المزني، وقد جزم بعض الأصحاب بالقول الأول، وحمل ما نقله المزني على ما إذا ثبت النقص بالبينة، وفرق بأنه إذا ثبت ذلك بالإقرار دلّ على أمانته وديانته؛ فلا يخاف خيانته مرة أخرى؛ ولذلك لم يثبت للمشتري خيار، وإذا ثبت خيانته بالبينة لا تؤمن خيانته، بأن يكون هذا الثوب قد اشتراه بثمانين، وأخفى الذي اشتراه بتسعين. ثم إذا ثبت للمشتري الخيار، وأجاز، أو لم يثبته له، فهل للبائع خيار؟ فيه وجهان، وقيل قولان، أظهرهما: لا، وقيل: محلهما إذا ثبت النقص بالبينة، أمَّا إذا ثبت بالإقرار فيثبت قطعاً، ووراء ما ذكرناه قولان، أو وجه وقول: فالوجه رواه القاضي أبو حامد في "الجامع"؛ بناءً على الحط أن العقد باطل لكون الثمن مجهولاً عند العقد، وحكاه صاحب "التقريب" قولاً، وضعفه الإمام. وتقريره: أن الحط لا يفتقر إلى إنشاء حط، كما في أرش العيب القيم على رأي، بل من أصل العقعد، وذلك يحصل الجهالة. وقد أجاب الإمام عن ذلك بأنّ العقد عقدٌ على ظن العلم بالثمن؛ فاكتفى به، وإذا أخلف فطريق الاستدراك الخيار، لا الحكم بالفساد، وهذا يناظر قولنا: لا يزوج السيد أمته من مجبوب على علم، ولو فعل لم يصح، ولو زوجها على ظن السلامة انعقدت وخيرت الأمة. وعبر الماوردي عن هذا الوجه: بأن من أصحابنا من قال على قول الحط: يأخذه بعقد مستأنف. ثم قال: وهذا غلطٌ؛ لأنه لو أخذه بعقد مستأنف لبطل العقد الأول، إلى اشتراط قدر الربح، كما افتقر إليه الأول. وما قاله الإمام من الاستدراك بالخيار فيه نظرٌ؛ لما قد عرفت ان المذهب: أن الخيار لا يثبت. والقول: أن العقد ينعقد بجميع الثمن، وهو في مسألة الكتاب مخرجٌ مما إذا ثبت

النقص بالبينة؛ فإن فيها قولين منصوصين في كتاب "اختلاف العراقيين" على ما حكاه أبو الطيب، وعلى هذا للمشتري الخيار جزماً، إلاَّ أن يكون عالماً بكذبه؛ فلا يثبت. ولو قال له: "لا تفسخ؛ فإني أحط عنك الزيادة" فهل يسقط خياره؟ فيه وجهان. وهذا كله إذا كان المبيع باقياً، أمَّا لو تلف قبل ذلك ففي "التهذيب" وغيره من كتب العراقيين أنه تنحط الزيادة وربحها قولاً واحداً، ويلزم البيع. قال الرافعي: "والظاهر جريان القولين في الانحطاط، وأمَّا الخيار [فلا يثبت للمشتري] إن قلنا بالانحطاط، وفي ثبوته للبائع الخلاف السابق، وإن قلنا بعدم الانحطاط فلا يثبت للبائع، وكذا للمشتري على أظهر الوجهين؛ كما لو عرف بعيب المبيع بعد تلفه، لكن يرجع بقدر التفاوت وحصته من الربح كما يرجع بأرش العيب، أمَّا إذا لم يبعه مرابحة، بل قال: اشتريته بمائة، وبعته لك بمائة وعشرة، وكان قد اشتراه بتسعين – انعقد بمائة وعشرة قولاً واحداً، ولا خيار للمشتري؛ لأنه الذي ضيعه حقه، حيث اعتمد قوله فيه. قاله القاضي الحسين في "التعليق". قال: وإن قال: اشتريته بمائة – أي: وباعه مرابحة – ثم قال: [بل] بمائة وعشرة – لم يقبل" – أي: قوله في ذلك؛ لأنه رجوع عن إقرار تعلق به حق آدمي فلم يقبل؛ كما لو أقرّ لأدميّ بمال، ثم رجع عنه. قال: "وإن أقام عليه بينة بذلك؛ لأن سماع البينة فرع الدعوى، ودعواه غير مسموعة؛ لمناقضتها قوله السابق، وفي قوله السابق تكذيب للبينة أيضاً، ويخالف ما إذا قال: لا بينة لي حاضرة ولا غائبة، ثم أحضر بينة؛ فإنها تسمع على أحد الوجهين، وإن كان في قوله الأول ما يمنع سماعها؛ لأن دعواه صحيحة؛ لعدم المناقضة؛ فجاز أن يترتب عليها. ولأن المقرَّ بهِ هنا إثبات مستند إلى محسوس، فقوى المترتب عليه؛ لبعد خلافه، وما ذكره في مسألة الشهود نفي يجوز أن يكون مستنداً إلى العدم الأصلي، وتكون البينة حاصلة، كما يجوز خلافه، فضعف المترتب عليه؛ فلم يؤثر؛ ولهذا

المعنى جرى الخلاف – أيضاً – فيما إذا قال:"ما أودعني" ثم أقام بينةً بالتلف. ومما يؤيد هذا الفرق: أن الماوردي حكى الجزم بعدم سماع البينة إذا قال عند الشراء: اشتريته بنفسي بمائة. وفيما إذا كان قد أخبر عن شراء وكيله وعبده المأذون، ثم عاد يذكر أن الوكيل أخطأ، والعبد غلط في إخباره – حكى وجهين في سماع البينة بما ادّعاه ثانياً، وقد أشار الإمام في باب "الضمان" إلى ما ذكرته من الفرق. قال: إلاَّ أن يصدقه المشتري" أي: فتلزمه الزيادة وربحها؛ لأن الحق لهما ولا يعد وهماً، ويثبت للمشتري الخيار، وهذا ما حكاه العراقيون. وقيل: لا تثبت الزياة أيضاً، ولكن يثبت للبائع الخيار، وهذا أصح في "الوجيز". وحكى الإمام أن الذي ذهب إليه الجمهور من فقهاء الأصحاب: أنا نتبين بطلان العقد من أصله، وأن والده ذهب إلى ما حكيناه من صحة العقد. فرع: إذا كذّبه المشتري، فهل له تحليفه؟ فيه طريقان في الطريقين: أحدهما: أنه ينبني على أن يمين الرد بمنزلة الإقرار، أو البينة؟ فإن قلنا: بمنزلة البينة، لم تعرض، وألا عرضتن فإن حلف برء، وإن نكل حلف البائع، وحمك له بالزيادة وربحها، ويثبت للمشتري الخيار. والطريق الثاني: أنه [إن] قال: اشتريت، لم نعرض، وإن قال: وكيلي اشترى، وأخبرني بالثمن، ثم تبينت خطأه – عرضت. وعلى طريقة الماوردي في اصورة التي جوز فيها إقامة البينة: إذا لم يكن ثمّ بينة، له تحليفة قولاً واحداً قال: وإن واطأ غلامه، فباع منه ما اشتراه بعشرة، ثم اشتراه بعشرين، وخبر بالعشرين –كره [له] ذلك"؛ لأنه لو صرح بذلك فسد البيع، وكل شرط يفسد البيع إذا اعتقده كان مكروهاً، وهذا كما نقول: إذا اعتقد في النكاح أن يطلقها كان مكروهاً؛ [لأنه] لو صرح به فقال: قبلت نكاحها على أن أطلقها، إذا وطئتها – فسد العقد على أحد القولين. قال القاضي أبو الطيب: ولا يجوز عندي أن يبيع هذا الثوب مرابحة؛ لأن الثمن

الثاني مع غلامه زيادة من طريق الغش والخيانة، وإذا باعه مرابحة بهذا الثمن كان للمشتري الخيار، وعلى ذلك اقتصر ابن الصباغ والمتولي. وفي "المهذب": أنه لا خيار، وهو الذي صححه ابن أبي عصرون. تنبيه: واطأ غلامه: مهموز، والمراد بالغلام: الأجير الحر. أمَّا لو كان رقيقاً لم يجز أن يخبر إلاَّ بالثمن الأول؛ لأن الشراء الثاني لم يصح، وهكذا الحكم فيما لو اشترى من عامل القراض [عنه،] وكان للعامل نصف الربح، وقد اشترى السلعة بعشرة، ثم اشتراها رب المال بعشرين، لم يجز أن يخبر بأنّ رأس ماله فيها إلاَّ خمسة عشر، صرح به الماوردي. فائدة: من جملة ما يجب الإخبار به في بيع المرابحة ذكر الأجل، إن كان قد اشترى بمؤجل، خلافاً لما حكاه المسعودي وجهاً. فإن لم يخبر به - قال المحاملي: ليس في هذه المسألة نصٌّ، والقياس على مذهبنا ثبوت الخيار للمشتري، وهذا ما صرح به الماوردي عن المذهب، والقاضي أبو الطيب عن القاضي أبي حامد في "جامعه"، فإن أجاز كان ما وقع عليه العقد حالاً. وكذا يجب عليه أن يخبر بما حدث في المبيع من عيب في يده، وكذا بما علمه من عيب قديم رضي به. ولو اشتراه بغبن فهل يجب عليه الإخبار بذلك؟ فيه وجهان، أصحهما عند الإمام: أنه لا يجب. قال الرافعيُّ: وقضية كلام الأكثرين مقابله؛ لأنهم قالوا: لو اشتراه بدين على مماطل، وجب أنا يخبر به، وكذا لو اشترى من ابنه الطفل وجب الإخبار عنه؛ لأن الغالب في مثله الزيادة في الثمن نظراً للطفل، واحترازاً عن التهمة، فإذا وجب الإخبار عند ظن الغبن فَلأَنْ يجب عند تيقنه كان أولى. وفي "الإبانة" حكاية الخلاف فيما إذا اشترى بالدين. ولو اشترى من ابنه البالغ، أو من أبيه، فأصح الوجهين بالاتفاق: أنه لا يجب الإخبار عنه، كما لو اشترى من زوجته أو مكاتبه. وفي "الشامل" ما يقتضي تردداً في الشراء من المكاتب.

ولو اشترى بعرض وجب عليه أن يخبر به، فيقول: اشتريته بعرض، وقيمة العرض كذا؛ لأن العادة فيما بين التجار انهم يتشددون يما يبيعون بالعروض، ويتسامحون فيما يبيعون بالنقود، ولو قال: قام عليَّ بكذا- وذكر القيمة- جاز. فرع: بدل الخلع، والصداق، والكتابة، ودم العمد، والمنافع يجوز بيعه مرابحة، ففي الصداق والخلع يقول: "قام عليَّ بكذا"، وهو مهر المثل، وفي الإجارة أجرة المثل، وفي الصلح عن دم العمد ديةُ المقتول. قال القاضي الحسين في "تعليقه": "ويحتمل وجهاً آخر: أنه لا يجوز بيعه مرابحة؛ لأنه لا يقصد بذلك التجارة، بخلاف البيع. قال: "ويحرم النجش". أصل النَّجْش: بفتح النون، وسكون الجيم الاستيثار؛ ومنه: نجشت الصيد، أنجُشه - بالضم - نجشاً: إذا استثرته، وسمي الناجش في السلعة - كما سنذكره - ناجشاص؛ لأنه يثير الرغبات فيها، ويرفع في ثمنها، وكل من استثار شيئاً فهو ناجش. وقيل: أصله الختل، بمعنى الخَدْع؛ ومنه قيل للصائد: ناجش؛ [لأنه يختل الصيد، ويحتال له]. وقيل: أصله المدح والإغراء. والمحرم منه ما قاله الشيخ، وهو أن يزيد في الثمن، أي: عما تساويه العين؛ ليغر غيره فيشتريه. والدليل على تحريمه: ما روى الشافعيُّ عن مالك عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهم - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش. وروى بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لاَ تَنَاجَشُوا" والنهي يقتضي التحريم.

قال أصحابنا: ويأثم الناجش، علم بتحريم ذلك أو لم يعلم؛ لما فيه من الغرر، صرح به في "التهذيب". قال مجلي: "وفيه نظرٌ؛ فإن تأثيم من لا يعلم التحريم بعيد". وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: تقييد التأثيم بحالة العلم، وهذا الشرط يعم جميع المناهي المذكورة في الباب، كما صرح به الرافعيُّ. والبيع صحيح؛ لأنّ النهي لمعنى في غير المبيع، فأشبه البيع وقت النداء، ولا يثبت للمشتري خيار إذا لم يكن النجش بمواطأة من البائع، وإن كان فوجهان أو قولان: أحدهما – وبه قال أبو إسحاق -: أنه يثبت، للتدليس كما في التصرية. والثاني – وهو ظاهر قول الشافعيّ كما حكاه أبو الطيب، والأشبه عند الأئمة كما قاله الرافعيّ، وبه قال ابن أبي هريرة -: أنه لا يثبت؛ لأن التقصير من جهة المشتري، حيث اغتر بقوله، ولم يحتط بالبحث عن ذلك من تفاوت أهل الخبرة. ويخالف التصرية؛ إذ لا تقصير من المشتري. ومثل هذا التفصيل يجري فيما إذا اشترى جوهراً بعدما أراه لمن له معرفة بالجوهر، فأخبر الرائي المشتري بجودته، وبان بخلافه، على ما حكاه القاضي الحسين في باب "بيع البراءة" ويلتحق بالنجش ما إذا قال أعطيت في ههذ العين كذا كذباً ليغر به المشتري. قال: ويحرم [البيع] على بيع أخيه – أي: التسبب إلى البيع على بيع أخيه – وهو أن يقول لمن اشترى شيئاً بشرط الخيار: افسخ البيع – أي: في زمن الخيار – فإني أبيعك مثله بأقل من هذا الثمن؛ لما روى الشافعيُّ بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يَبِيعُ الَّرجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ". وروى النسائي عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ

أَخِيهِ حَتَّى يَبْتَاعَ أوْ يَذَرَ". والمعنى فيه: أن ذلك يوغر الصدور، ويورث الشحناء والقطيعة والهجران. واشترط ابن كجِّ في تحريم هذا: ألا يكون المشتري مغبوناً غبناً مفرطاً، وقال بجوازه إذا كان مغبوناً غبناً مفرطاً؛ لأنه ضرب من النصيحة. ولو باع على بيع أخيه بالإذن منه؛ ارتفع التحريم على الأصح، وفي معنى ما ذكره الشيخ ما إذا قال: أبيعك أجود منه بمثل هذا الثمن، أو قال لبائع سلعة في زمن الخيار: افسخ البيع لأشتريها منك بأكثر من هذا الثمن، وكذا لو طلبها من المشتري بزيادة ربح في زمن الخيار بحضرة البائع – على ما دلّ عليه كلام الماوردي- لأنه يؤدي إلى أن يفسخ البائع على المشتري؛ طمعاً فيما يبذل له من الربح. قال: "فإن فسخ وباعه صحّ البيع؛ لما ذكرناه في النجش، وهكذا الحكم فيما يذكره من المناهي. قال: "ويحرم [على الرجل] أن يدخل على سوم أخيه، وهو أن يجيء إلى رجل أنعم لغيره في سلعة بثمن – أي: أجابه وقال له: نعم – كما ذكره الجوهري – "فيزيده ليبيع منه؛ [فإن فعل ذلك صح البيع"؛] لما روى أنه – عليه السلام – "نَهَى أَنْ يَسُومَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ" والمعنى فيه ما ذكرناه، وشرط أبو عبيد بن حربويه في تحريم ذلك أن يكون الأول مسلماً، أمَّا لو كان ذميًّا فلا يحرم، حكاه عنه الرافعيّ في "الخِطْبة على الخطبة". قال: وإن [كان قد] عرض له بالإجابة – أي: بأن قال: أشاور عليك وما أشبه ذلك، كره الدخول في سومه؛ لما فيه من الإيحاش، ولا يحرم لعدم رضا البائع، وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه يحرم، وغيره نسبه إلى القديم. ولو عرضت السلعة في النداء جازت الزيادة فيها؛ لما روى الترمذي عن أنس: أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم باع حلساً وقدحاً، فقال: "مَنْ يَشْتَرِي هَذَا؟ " – عن الحلس والقدح – فقال رجل: آخذهما بدرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟ " فأعطاه الرجل درهمين، فباعهما منه ولأن في النداء لا يقصد رجل بعينه، ولا يؤدي ذلك إلى الإيحاش. قال: ويحرم أن يبيع حاضرٌ لبادٍ، وهو أن يقدم رجل ومعه سلعة، يريد بيعها – أي: في الحال – ويحتاج إليها في البلد، فجيء إليه رجل ويقول له: لا تبع حتى أبيع لك قليلاً قليلاً، وأزيد [لك] في ثمنها، [فإن فعل صح البيع"؛] لما روى النسائي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أباه أو أخاه. وروى الشافعيُّ ومسلم بسندهما عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ فِي غَفَلاَتِهِمْ يَرْزُقُ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضِ". أمَّا إذا كانت السلعة لا يحتاج إلذيها إلاَّ نادراً فلا يحرم، وإن كان عدم الحاجة لقلة السلعة وكبر البلد، أو لعدم الاحتياج إليها في الحال كما قال القاضي أبو الطيب، أو لكونه عامَّ الوجود رخيصاً كما قال في "التهذيب" – ففي التحريم وجهان، ينظر في

أحدهما إلى عموم الحديث، وفي الثاني إلى المعنى. ولا نزاع في أن القادم لو سأل الحاضر ذلك ابتداءً جاز؛ لأن في المنع منه إضرارً بالبدوي، ولو استشار البدوي الحاضر في ذلك، فهل يرشده إلى ذلك؟ حكى ابن كجٍّ عن أبي الطيب وأبي إسحاق المروزي: أنه يجب عليه إرشاده إليه؛ لبذل النصيحة، وعن أبي حفص بن الوكيل: أنه لا يرشده إليه. تنبيه: قول الشيخ: "يقدم رجل" هو بفتح الياء والدال، يقال: قدم: بكسر الدال، يقدم: بفتحها، قُدُوماً، ومَقْدَماً: بفتحها. قال: "ويحرم تلقي الركبان" وهو أن يلقى القافلة ويخبرهم بكساد ما معهم؛ ليغبنهم، أي: فيما يشتريه منهم- لما روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ تَلَقَّوُا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَ أَتَى سَيّدُهُ بِالسُّوقِ فَهُوَ بِالْخِيارِ". وقد روى أبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ، فَإِنْ تَلَقَّى مُتَلَقِّ فَاشْتَرَاهُ فَصَاحِبُ السِّلْعَةِ بِالْخِيَارِ إِذَا وَرَدَ السُّوق. وغير ذلك من الأحاديث، وفي نظرٌ إلى أهل البادية كما نظر في الأحاديث المذكورة في الفصل قبله إلى أهل الحاضرة، كذا قاله أبو إسحاق في "الشرح". وفي "الحاوي" ما يدل على أنّ المنع من تلقي الركبان؛ لأجل أهل المدينة: إمَّا خشية انقطاع القوافل عنها وعدولهم إلى غيرها – كما حكاه عن الجمهور – أو خشية أن يحبسه المبتاع في بيته؛ فتضيق الحال على أهل المدينة، كما حكاه عن غيرهم. تنبيه: القافلة عند أهل اللغة: الرفقة الراجعة من السفر، ومن قال: القافلة تطلق على الذاهبة والراجعة، فقد أخطأ؛ لأن القفول الرجوع. يقال: قفل يقفل، بضم الفاء. والشيخ أطلق على الحاضرة قافلة؛ باعتبار ما تئول إليه. الكساد: مصدر: كسَد الشيءُ – بفتح السين – يكسد كساداً؛ فهو كاسد وكسيد. وقوله: "ليغبنهم" بفتح المثناة وكسر الباء الموحدة، يقال: غبنه – بالتفح – يغبنه

في البيع غبناً: بإسكان الباء، وفي رأيه غبن – بفتح الباء -: ضعف. وقال ابن السكيت: هما لغتان: إسكان الباء، وفتحها، وأكثر ما يستعمل في الشراء والبيع بالفتح، وفي الرأي بالإسكان. والغبن في الشراء والبيع: الوكس. وقيل: الخديعة، وقيل: النقص. قال: "فإن قدموا، وبان لهم الغبن، كان لهم الخيار"- أي: سواء أخبرهم بسعر البلد، أو كذب، أو سكت كما صرح به في "التهذيب": لعموم الخبر، وهل هو على الفور أو يمتد إلى ثلاثة أيام؟ فيه وجهان كما في خيار التصرية، وأصحهما: الأول، ولا يثبت لهم قبل أن يقدموا ويعرفوا السعر، صرح به البغوي وغيره، وكان ينبغي أن يتخرج على الخلاف الآتي في أنه إذا لم يغبنهم هل يثبت لهم الخيار؟ فإن قلنا: لا يثبت، اتجه ذلك، وإن قلنا: يثبت، فيكون في ثبوته قبل قدوم السوق خلاف، كما حكيناه في شراء الغائب. قال: وإن لم يغبنهم فقد قيل: يثبت لهم الخيار؛ لعموم الخبر، وهذا قول من علل المنع بالمعنى الثاني الذي حكيناه عن الماوردي. [قال:] "وقيل: لا يثبت"؛ لأنه لم يوجد تغرير وخيانة، وهذا هو الأصح، وقول من علل المنع بالمعنى الأول. قال الرافعيُّ: وقد أُجْرِيَ الوجهان فيما إذا ابتدأ الباعة والتمسوا منه الشراء عن علم منهم بسعر البلد أو غير علم. وفي "حلية الشاشيِّ" جريانهما فيما إذا كان قد غبنهمن فلم يقدموا البلد حتى رخص السعر، وعاد إلى ما كان أخبرهم به، ولو لم يقصد التلقي، ولكن خرج لشغل آخر من اصطياد وغيره فرآهم متنقلين، فاشترى منهم شيئاً – فهل يعصي؟ فيه وجهان: أصحهما عند الأكثرين نعم؛ لعموم المعنى، فعلى الأول لا خيار لهم وإن كانوا مغبونين. وقيل: إن اخبر عن السعر كاذباً ثبت، وعلى الثاني حكمه ما سبق. ولو تلقى الركبان، وباع منهم ما يقصدون شراءه في البلد، فهل هو كالتلقي

للشراء؟ فيه وجهان. قال: "ويحرم التسعير"، وهو أن يأمر الناظِرُ في أمر المسلمين أهل السوق ألاَّ يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا، فالأصل فيه ما روى أبو داود عن أنس: قال الناس: يا رسول الله، غلا السعر، فَسَعِّرْ لنا، قال رسول الله: "إِنَّ اللهَ هَوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ". ولأنّ الناس مسلطون على أموالهم، وفي التسعير عليهم إيقاع حجر، وذلك غير جائز في مطلق التصرف، ولأن الإمام مندوب إلى النظر في مصالح الكافة، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن بأولى من نظره في مصلحة البائع بوفور الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، ولا فرق في ذلك بين حالتي الغلاء والرخص، وفي وقت الغلاء وجه: أنه يجوز؛ رفقاً بالضعفاء. وعن أبي إسحاق: أنه إن كان يجلب الطعام إلى البلد فالتسعير حرام، وإن كان يزرع بها، ويكون اقتناؤه فيها فلا يحرم، وحيث جوزنا التسعير فذاك في الأطعمة، ويلتحق بها علف الدواب في أظهر الوجهين، وإذا سعر الإمام مخالفاً استحق التعزير، وفي صحة البيع وجهان منقولان في "التتمة". وعلى القول بتحريم التسعير لو فعله الإمام، وباع الناس أمتعتهم بما سعر - عليهم نظر: إن أكرههم على بيعها، ولم يمكنهم من تركها لم يصح، وإن لم يكرههم لكنهم كانوا كارهين للسعر، فالبيع جائز لكنه مكروه. قاله الماوردي.

قال: "ويحرم الاحتكار في الأقوات" –أي: خاصة – "وهو أن يبتاع [طعاماً] في وقت الغلاء – أي: بالمد – فلا يبيعه ويمسكه؛ ليزداد في ثمنه"؛ لما روى مسلم عن سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ احُتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ". وروى ابن عمر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ". قال:"وقيل: يكره"؛ لأن فيه تضييقاً على المسلمين ولا يحرم؛ لأنه ماله المطلق فيه تصرفه، وقد [كان سعيد بن المسيب يحتكر، فقيل له، فقال: إنَّ معمراً الذي كان يحدث هذا الحديث أي: الأول] كان يحتكر. كذا حكاه مسلم. والمذهب الأول [لما روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يحتكر الطعام، وظاهر النهي [يقتضي] التحريم، وكذلك اللعن لا يكون إلا على محرم. ولا بأس بالشراء في وقت الرخص، ليبيع في وقت الغلاء، ولا [بأس] أن يشتري في قوت الغلاء لنفقة نفسه وعياله، ثم يفضل شيئاً فيبيعه في وقت الغلاء، ولا [يحرم عليه] أن يمسك غلة ضيعته ليبيع في وقت الغلاء، والأولى أن يبيع ما فضل

عن كفايته، وهل يكون إمساكه مكروهاً؟ فيه وجهان: ولو اضطر الناس إلى الطعام، وعند شخص فضل عن قوته، وجب عليه بيع ما فضل [عنه]، فإن لم يفعل أجبره السلطان عليه، [والمراد بالفضل: ما يفضل عن قوته وعائلته لسنة كاملة، كما أشار إليه الإمام في قسم الصدقات]. ولنختم الباب بما جرت عليه عادة الأئمة بذكره معه، وهو بيع التولية والإشراك؛ لأن الشيخ ذكرهما في باب "السلم"، فحتاج إلى معرفتهام. فالتولية: أن يشتري شيئاً، ثم يقول لغيره: وليتك هذا العقد، فيقول المشتري: قبلت أو توليتُ، على قاعدة التخاطب، وذلك جائزٌ، ويلزم القائل مثل الثمن الأول قدراً وجنساً وصفة، ولا يشترط ذكره إذا علماه، فإن لم يعلمه المشتري أعلمه البائع أولاً، ثم ولاه العقد، فإن لم يعلمه فهل ينعقد؟ فيه الخلاف المذكور في نظيره في "المرابحة" على ما حكاه المتولي. ولو حَطَّ عن المولي شيئاً من الثمن انحط عن المولي، ولو كان بعد التولة، ولو حط الكل بعد التولية، فكذلك على ما حكاه في "البسيط" [وغيره] مع حكايته عن الأصحاب القطع بأن قح الشفيع يتجدد بعقد التولية، وأنّ الزيادات المنفصلة تسلم للمولى. وعن القاضي الحسين: أن الوجه التردد في جميع هذه الأحكامن فعلى رأي يجعل المولى نائباً عن المولى، فتكون الزوائد للمولى ولا تتجدد الشفعة، ويلحق الحط المولى. وعلى رأي تعكس هذه الأحكامن ويقول: هي بيع جديد، فظاهر المذهب الفرق بين الزوائد والشفعة، وبين الحط، وعلى هذا: لو حط البعض قبل التولية لم تجز التولية إلاَّ بالباقي، ولو حط الكل لم تصح التولية، ولو أخبر المولى عمَّا اشتراه وكذب، فمنهم من قال: هو كالكذب في عقد المرابحة، ومنهم من قال: ويحط قدر الخيانة قولاً واحداً. ومن شرط هذا العقد: القدرة على التسليم، والتقابض إذا كان في مال الربا، وكذا سائر الشروط، ولا يجوز قبل القبض من غير البائع على أحد الوجهين في الرافعيّ،

وفي البائع وجهان مرتبان على البيع منه، وأولى بالصحة. قال المتولي: ويشترط أن يكون الثمن الأول من ذوات الأمثال، فلو كان عرضاً، وأرادأن يعبر عنه بعبارة الشراء بأن قال: اشتريت بكذا، وقد وليتك العقد بما اشتريته لم يصح إلاَّ أن يكون ذلك العرض بعينه في ملك المولى. أمَّا إذا قال: قام عليَّ بكذا، وقد وليتك العقد بما قام عليَّ – فوجهان: أحدهما: يجوز كالمرابحة. والثاني: لا يجوز. والفرق: أن العقد الثاني في المرابحة مخالف للأول في قدر الثمن؛ فجاز أن يحتمل أيضاً نوع مخالفة باختلاف الجنس مع الاتفاق في المعنى، وذلك أن يبيع بقدر قيمته، فأمَّا في التولية فلا مخالفة بين العقدين أصلاً. وأمَّا الإشراك: فهو أن يشتري شيئاً ويشرك غيره فيه؛ ليصير بعضه له بقسطه من الثمن، ثم إن نصَّ على المناصفة فذاك، وإن أطلق فوجهان: أحدهما: يصح، ويحمل على المناصفة، وهو الأصح عند الغزالي، وبه جزم في "التتمة". والثاني: الفساد، وهو ما أورده في "التهذيب". وحكم الإشراك في البعض حكم التولية في الكل في جميع ما ذكرناه، والله أعلم.

باب اختلاف المتبايعين

باب اختلاف المتبايعين قال: "إذا اختلف المتبايعان في ثمن السلعة، أو في شرط الخيار أو الأجل أو قدرهما، ولم يكن لهما بينة - تحالفا". والأصل في قاعدة التحالف قوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ".

رواه الترمذي عن ابن مسعود.

ومعناه: أن المبتاع بالخيار بين إمساكه بما حلف عليه البائع، وبين أن يحلف على ما يقوله، تفسيره الرواية الأخرى: "إِذَا اخْتَلَفَ الْمتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا، وقوله صلى الله عليه وسلم: "البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، واليَمينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"، وكل من المتبايعين منكر ومدعٍ؛ ولأن البائع يدعي الزيادة في الثمن وينكر النقصان، والمشتري يدعي تملك العين بالثمن الأول، وينكر الزيادة، ويوضح ذلك أن لكل منهما إقامة البينة ابتداءً على ما ادّعاه، والبينة إنما تسمع من المدعي على مُنْكرٍ. وكان قياس الخصومات يقتضي أن يكون القول قول المشتري [إذا كان الاختلاف في الثمن؛] كما صار إليه أبو ثور؛ لأنّ الملك مسلم إليه، وقد ادّعى عليه الزيادة، وهو ينكرها. ولكن صرفنا عنه ما ذكرناه من الأحاديث. والمعنى: أنه لَمَّا كثر الاختلاف في العقود، ومَبْنَى المعاوضات على تساوي المتعاوضين، ففي تصديق أحدهما إضرار بالآخر. ولا فرق في ذلك بين أن تكون السلعة قائمة أو تالفة، ولا بين أن يكون بعد لزوم العقد أو قبله، خلافاً للقاضي الحسين؛ فإنه قال: "لا تجزئ في زمن الخيار؛ لإمكان الفسخ بغيره"، وهو ما حكاه الماوردي في كتاب "السلم" فيما إذا اختلفا في الأجل قبل التفريق، وزاد أنه ال قد بينهما، وقد أبطل ما قاله القاضي بأنه وافق على جواز التحالف في القراض مع جوازه، وقد نصّ الشافعيُّ على التحالف في الكتابة مع

جوازها من جانب المكاتب، وللقاضي أن ينفصل عن القراض بأن محله بعد الخوض في العمل؛ فإن الاختلاف قبل الخوض فيه لا معنى له، مع أنه يعرض له ان يجعل نفس التناكر تفاسخاً، وإذا كان كذلك فللتحالف فائدة لا يفيدها الفسخ، بخلاف فسخ البيع في زمن الخيار؛ فإنه لا يبقى شيئاً يزيله التحالف. ثم الاختلاف في الثمن يكون من ثلاثة أوجه: أحدها: في قدره، كما إذاقال: بعتك بألف، فقال: بل بخمسمائة. والثاني: في جنسه، كما إذا قال: بعتك بالدنانير فقال: بل بالدراهم. والثالث: في نوعه، كما إذا قال: بعتك بقاساني، فقال: بل بنيسابوري، وأمثال ذلك. والاختلاف في شرط الخيار والأجل يكون من وجهين، كما ذكره الشيخ: أحدهما: في أصله، بأن يقول أحدهما: تبايعنا بشرط الخيار أو الأجل، فينكر الآخر. والثاني: في قدره، بأن يقول أحدهما: شرطنا الخيار ثلاثةأيام، والأجل شهراً، فيقول الآخر: بل يومين وعشرة أيام، مثلاً. وعدول الشيخ عن قوله: "أو قدرها"؛ أعني للثمن والخيار والأجل إلى قوله:"أو قدرهما" لدلالة ذلك على جوا زالتحالف عند الاختلاف في قدر الثمن من طريق الأولى؛ لأن أثر طول الأجل [والخيار] وقصرهما يظهر في الثمن؛ إذ هو يزيد بزيادتهما ويقل بقصرهما، أو لأنّ التثنية لا تعود إلى الخيار والأجل، بل إلى النوعين اللذين ذكرهما، فالأول ما لابدّ منه، وهو الثمن، والثاني ما منه بد، وهو ما يصح اشتراطه من خيار وأجل، والله أعلم. ولو وقع الاختلاف في انقضاء الأجل، مع الاتفاق على قدره فلا تحالف، والقول قول من عليه الأجل، وحكم المبيع إذا وقع الاختلاف فيه، وكان الثمن معيناً – حكم الثمن، وإن كان في الذمة فينظر: إن وقع الاتفاق على شيء من المبيع، والاختلاف في ضميمةٍ إليه، مثل أن يقول: بعتك هذا العبد بألف، فيقول: بل هو وهذه الجارية بألف – فجيري التحالف أيضاً، صرح به المحاملي، والماوردي، وابن الصباغ، والمتولي، وغيرهم.

وإن لم يقع الاتفاق على شيء من المبيع، بأن يقال: بعتك هذا العبد بألف فقال: بل هذه الجارية - فسيأتي الكلام فيه. وحكم الاختلاط في شرط الرهن والضمين وفي قدرهما حكمه في الأجل، وهو جار في كل ما يجوز شرطه، من كون المبيع كاتباً أو خياطاً ونحو ذلك، وكذا [في] البراءة من العيوب، إذا صححنا هذا الشرط، كما صرح به القاضي الحسين في "التعليق"، وحكى اختلاف الأصحاب في حد ما يشرع التحالف فيه، فقال: منهم من قال: أن يتنازعا على وجه بعد اعترافهما بالانعقاد، لو تنازعا على ذلك الوجه حالة العقد امتنع به الانعقاد؛ لأجل المخالفة. ومنهم من قال: أن يتنازعا على وجه تُسمع بينة كل واحد منهما، ولو أقاما جميعاً البينة تعارض بينهما. ومنهم من قال: أن يتنازعا في مقصود في العقد أو مشروط فيه، لو أقام كل واحد منهما [عليه] البينة سمعت. وقال: القياس في شرط الكتابة والبراءة أن لا تحلف، والقول قول البائع، وهذا قد صرح به المتولي في شرط الكتابة حكايةً عن بعض الأصحاب، وهو قضية ما حكاه في "الإشراف" عن ابن سريج في أن التحالف لا يجري في الاختلاف في الخيار والأجل، وضبط الإمام ما يجري التحالف فيه بكل عقد يشتمل على عوض. أمّا إذا كانت لهما بينة، وقلنا: يستعملان - ففي الرافعيّ و"التتمة": أنه يتوقف على ظهور الحال. وفي "شرح" ابن التلمساني: أنه لا تجيء القسمة، وفي القرعة والوقف وجهان، والمذكور في "الحاوي" وجه القرعة. تنبيه: كلام الشيخ يشمل ما إذا كان المتبايعان وكيلين، أو مالكين، أو أحدهما وكيلاً والآخر مالكاً، وقد حُكي في خلف الوكيل وجه آخر: أنه لا يجوز، ويحلف موكله، وهو المحكي في "المرشد"، ولا نزاع في أنّ الوارث يقوم مقام مورثه في التحالف. فرع: لو قال: بعتك هذا العبد بهذا الثوب وثوب آخر تلف في يدك، وقال

المشتري: إنما اشتريته بهذا الثوب لا غير. قال القاضي الحسين في "تعليقه": هذا ينبني على تفريق الصفقة، وقدر ما يخبر به العقد. فإن قلنا: لا تفرق الصفقة في الانتهاء، وينفسخ العقد في القائم أيضاً. وإن قلنا: تفرق ويأخذ القائم بجميع الثمن، فلا معنى للتحالف؛ لأنه في الأولى لا يدعي بقاء عقد في الحال حتى يرد عليه التحالف، وفي الثانية يلزمه جميع العبد في مقابلة الثوب الذي في يد المشتري، وإن قلنا: يأخذه بالحصة، فيتحالفان؛ لأنه نزاع في قدر ما يلزم تسليمه من العبد المُشْتَرَى. قال الإمام: وهذا الذي ذكره حسنٌ سديدٌ، ولكن يتطرق الكلام إليه في شيءٍ، وهو إذا قلنا: البدل في مقابلة الباقي، فهذه الحالة لو جرت تضمنت خيار البائع، والمشتري ينكره؛ فقد أدى التنازع إلى تناكر في الخيار، وهو مستند إلى نزاع في المعقود عليه؛ فيتجه التحالف كما لو تنازعا في شرط الخيار، ثم قال: هذا نظرنا الآن، والرأي بعد ذلك مشترك بين الفقهاء. قلت: ويتجه أن يقال: الاختلاف الذي يقتضي التحالف ما ينقص به الثمن أو يزيد، كما صرح به الأصحاب آنفاً، وذلك في أمر يقترن بالعقد أو ما في معنى الاقتران؛ إذ هو حالة المقابلة، وإذا كان كذلك فهذا الخيار المختلف فيه بعد ذلك يثبت؛ فلا يقتضي زيادة في الثمن ولا نقصانا، ويصح ما قاله القاضي، والله أعلم. قال: "فيبدأ البائع؛ لما روى النسائي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم - أمر البائع أن يحلف، ثم يختار المبتاع، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، ولأن جنبته أقوى بعد التحالف؛ إذ المبيع يرجع إلى ملكه، والأصل في اليمين أن يكون من طرف مَنْ جانبه أقوى، ولأن البائع يأتي بصدر العقد؛ فكان أولى بالبداية، وهذا نصه هاهنا، ويوافقه نصه في السلم أنه يبدأ بالمسلم إليه، وفي الكتابة بالسيد، ويخالفه نصه في الصداق على أنه يبدأ بالزوج، وهو في رتبة المشتري، ولأجله خرج بعض الأصحاب منه قولاً

إلى هاهنا: أنه يبدأ بيمين المشتري. ووجهه بأنه أقوى جنبة؛ لكون المبيع وقت التحالف على ملكه، وقد خرج بعضهم من نصه في كتاب "الدعاوى والبينات" على أنه إن بدأ البائع باليمين خُير المشتري، وإن بدأ بها المشتري خيرّ البائع – قولاً ثالثاً: أنهما يستويان، ووجهه أن كلاًّ منهما مدعٍومدعّى عليه، وقد حكى أن الشيخ أبا حامد قال: "إنه الأقيس". فعلى هذا يتخير الحاكم في البداية بأيهما، وهو ما جزم به الماوردي والمحاملي وابن الصباغ وغيرهم. وقيل: يقرع بينهما، ورجحخ الإمام، والصحيح ما قاله الشيخ، وبه جزم بعضهم، وفرق بين البائع والزوج بأن أثر التحالف في النكاح يظهر في الصداق، والزوج في رتبة بائع له، ولأن جانبه أقوى بعد التحالف؛ فإن النكاح يبقى له، فهو بمنزلة البائع، وحمل نصه في العاوى على حكاية مذهب الغير، وبعضهم حمله على أنَّ ذلك راجع إلى الاجتهاد؛ فإن للاجتهاد مساغاً فيها، وحل هذا الخلاف – على ما حكاه الإمام – فيما إذا باع عرضاص بثمن في الذمة. أمَّا إذا تبادلا عرضاً بعرض فلا تتجه إلاَّ التسوية. قال الرافعي: وينبغي أن يتخرج ذلك [الخلاف] على أن الثمن ماذا؟ وهل هذا الخلاف في الاستحباب أو الاستحقاق؟ فيه وجهان في "الحاوي": أظهرهما: الأول، والذي نقله الإمام: الثاني. واعلم أن ما ذكرناه من تقديم البائع [أو المشتري] يجري في كل من حلّ محلهما من: مسلم ومسلم إليه، ومساقٍ ومساقّي، ومُقَارِضٍ ومُقَارَضٍ، ومُسْتَاجِر

وآجِر، ومُكَاتِب ومُكَاتَب، وزوج وزوجة في صداق او عوض خلع، وغير ذلك على ما صرح به الإمام. قال: فيحلف إنه ما باع بكذا، ولقد باع بكذا، ويحلف المشتري: إنه ما اشترى بكذا، ولقد اشترى بكذا، أي: بعد أن يعرض علهي ما حلف عليه البائع فينكر؛ كما صرح به المحاملي. والدليل على أنَّ كلاًّ منهما يأتي بالنفي والإثبات: أنه مدعٍ؛ فيحتاج في إثبات ما يدعيه إلى اليمين على الإثبات، ومدعى عليه؛ فيحتاج في نفي ما ادّعاه عليه به إلى يمين النفي. ووجه تقدي النفي على الإثبات: أن الأصل يمين المدعّي عليه، ولأجل ذلك سمعت يمين الإثبات قبل النكول؛ تبعاً لما هو الأصل. ووجه الجمع بينهما في يمين واحدة: أن ذلك أقرب إلى فصل القضاء، وهذا هو الصحيح في الطرق، ووراءه وجوه أخر: أحدها: أنه يكتفي بيمين النفي؛ قياساً على سائر الخصومات، وهو مخرج من نصه فيما إذا كان في يد رَجُلَيْن دارٌ، فادّعى كل منهما [أن] جميعها له؛ فإنه قال: يحلف كل منهما على مجرد نفي استحقاق صاحبه ما في يده، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، فالآخر يحلف يميناً أخرى على الإثبات.

قال ابن يونس: قال القاضي أبو الطيب: وهذا هو الصحيح. وقد فرق القائل الأول: بأن المثبت في مسألة الدار متميز عن المنفي؛ ولهذا إذا حلفا سلم لكل واحد ما في يده، وهاهنا المثبت لا يتميز عن المنفي؛ ولهذا إذا تحالفا لاي بقى حق أحدهما في العقد الذي أثبته، وإذا لم يتميز أحدهما عن الآخر كان المدعي شيئاً واحداً يتضمن النفي والإثبات، وهو صفة العقد؛ فجمعنا بين الأمرين كذلك. وقد خرج الأكثرون قولاً إلى مسألة الدعوى في الدار من مسألتنا: أنه يكتفي فيها بيمين واحدة جامعة بين النفي والإثبات. وحكى الإمام والغزالي ذلك في "الدعاوى والبينات"، وقال هاهنا: إن مسألة الدار لا خلاف فيها، وليس هذا مما ينتقل فيه الجواب إلى الجانب الآخر حتى يفرض جريان القولين في الجانبين نقلاً وتخريجاً، لكن مسألة الدار متفق عليها. واقتصر في "الوسيط" من هذا اللفظ في هذا الموضع على لفظ الاتفاق وقد ساعدهما على ذلك أبو حامد والمحاملي. قال الرافعي: "وهذا [هو] الحق؛ لأن كل واحد منهما لا يحتاج فيما في يده إلى الإثبات، واليمين على الإثبات يمين الرد، فكيف يحلف الأول يمين الرد، وصاحبه لم

ينكل بعد؟ وكيف يحلفها الثاني، وقد حلف صاحبه؟ [الثاني]: ذهب أبو سعيد الإصطخري إلى تقديم الإثبات على النفي؛ [قياساً على اللعان]. قال أصحابنا: وليس بشيء؛ لأن اللعان لا نفي فيه؛ فإنه لا فرق بين أن يقول: إنه لمن الصادقين، وبين أن يقول: ليس من الكاذبين؛ فإنه مثبت للصدق في الحالين. [ومحل خلاف الإصطخري إذا اكتفينا بيمين واحدة جامعة بن النفي والإثبات، أمَّا إذا قلنا: لابد من يمينين، قال الماوردي: لا خلاف بينهم أنه يبدأ في اليمن الأولى بالنفي. وفي "الشامل" إعادة خلاف الإصطخري على القولين، وكذلك في "مجموع" المحاملي]. والثالث – حكاه في "الإشراف" عن أبي الحسين بن القطان -: أنه لا ترتيب بين النفي والإثبات، فإن بدأ أحدهما بالنفي، حلف الثاني على الإثبات؛ ليكون ضده، وإن بدأ بالإثبات، حلف الثاني على النفي؛ ليكون ضده. الرابع: نقل القاضي أبو حامد في "جامعه": أن من أصحابنا من قال: يحلف كل منهما يمينين، فيقول البائع: والله ما بعت بكذا، ويقول المشتري: والله ما اشتريت بكذا، ثم يقول البائع: والله لقد بعته بكذا، ويقول المشتري: والله قد اشتريته بكذا. قال: وهو الأقيس، وبه أجاب في "المرشد". وقال القاضي أبو الطيب في "تعليقه" عقيب هذا: اليمينان أصح عندي؛ لأن المنفي غير المثبت، وقد تقدم ما يمنع ذلك. وعلى هذا القول قال الماوردي: لا يعرض الحاكم على المشتري قبول العقد بما

حلف عليه البائع يمين النفي، وإنما يعرض عليه ذلك بعد أن يحلف البائع يمين الإثبات. ثم هذا التصوير مفرع على القول بأنّ البداية بالبائع، أمَّا إذا قلنا: البداية بالمشتري، فتنعكس الحال. ولو قيل: يبدأ بنفي من ادّعى عليه الزيادة من بائع أو مشترٍ؛ لأنه الأصل – لكان أولى، وفحوى كلام الأصحاب يدل على أن الاختلاف السابق فيمن يبدأ به إذا كان الاختلاف في غير المبيع. والخامس –عكس الرابع من جهة الاختصار -: أن البائع يقول: والله ما بعت إلاَّ بكذا، ويقول المشتري: والله ما اشتريت إلا بكذا. التفريع: إذا اكتفينا بيمين واحدةجامعة بين النفي والإثبات، فإذا حلف أحدهما، ونكل الآخر عن النفي والإثبات – قضى للحالف. وإن قلنا: يحلف كل واحد يمينين، فإذا حلف الأول على النفي ونكل الثاني عنه، عرضت على الأول يمين الإثبات، [فن حلف قضى له، وإن نكل لم يقض له؛ لاحتمال صدقه في نفي ما يدعيه صاحبه، وكذبه فيما يدعيه. وعن الشيخ أبي محمد: أنه كما لو تحالفا. ولو نكل الأول عن يمين الني حلف الثاني يمين النفي والإثبات] وقضى له. ولو حلفا على الني فوجهان:

أصحهما –وبه قال الشيخ أبو محمد -: أنه يكفي ذلك، ولا حاجة بعده إلى اليمين الإثبات؛ لأن المحوج إلى الفسخ جهالة الثمن، وقد حصلت، وهذا يظهر أنه عين القول المخرج، من مسألة الدار، إلاَّ أن يقال: إنه لا ينفسخ العقد على ذلك [القول]، ويكون كما إذا قال: بعتك هذا العبد، فقال: بل هذه الجارية؛ فحينئذ يكون غيره. والثاني: يعرض يمين الإثبات عليهما، فإن حلفا تم التحالف، وإن نكل أحدهما قضى للحالف – وهذا ما حكاه ابن الصباغ – ولو نكلا جميعاً فوجهان: أحدهما: أن ذلك بمنزلة حلفهما. والثاني: يوقف الأمر. وأبدى الإمام إشكالاً فيما إذا حلفا يمين النفي، وحلف الأول يمين الإثبات، ونكل عنها الآخر من حيث إن يمين الإثبات من الأول عارضتها يمين النفي من الثاني فكيف يقضي بها؟ وأجيب عنه بأنهما صارا كاليمين الواحدة، والنكول عن بعض اليمين بمنزلة النكول عن جميعها؛ فلا معارضة. فرع: لو كان المبيع جارية، ووقع الاختلاف في ثمنها، فهل يحل للمشتري وطؤها قبل التحالف؟ فيه وجهان، ولو جرى التحالف، وأراد الوطء قبل الفسخ فوجهان مرتبان، وأولى بالتحريم. قال: "فإذا حلفا لم ينفسخ العقد حتى يفسخ على المنصوص، أي: في الكتب الجديدة، والقديمة على ما حكاه القاضي أبو حامد، وهو الصحيح؛ لأن كلاًّ منهما يقصد بيمينه إثبات الملك؛ فلم يجز أن تكون موجبة لسخ الملك؛ لأنهما ضدان، ولأن البينة أقوى من اليمين.

ولو أقام كل منهما بينة على ما يقوله لا ينفسخ العقد؛ فباليمين أولى [ألا ينفسخ]، ولأن العقد وقع صحيحاً باتفاقهما؛ فلا ينفسخ إلاَّ بالفسخ، قياساً على سائر العقود. قال: "فإن رضيا بأحد اليمينين – أي: على البدل بأن يقنع البائع بما قاله المشتري، أو المشتري بما قاله البائع – "أقر العقد"؛ لأن الآخر مقرٌّ بوقوع البيع كذلك، فيجبر عليه إن لم يرض بعد". قال:"وإن لم يرضيا فسخاً" – أي: بأنفسهما- من غير احتياج إلى إذن الحاكم [فيه]، بعد جريان التحالف عنده؛ إذ هو شرطه؛ لأنه فسخ لاستدراك الظلامة في المبيع، فأشبه الرد بالعيب، وهذا هو الأظهر في الرافعي، والأقيس في "الوسيط" – وقال -: إذ قطعوا بأن البائع يفسخ بإفلاس المشتري، والمرأة تفسخ بإعسار الزوج بالنفقة. وفي "الشامل": "أن هذا لا يصح؛ لأنا لا نعلم أيّهما يستدرك ظلامته؛ لأن أحدهما ظالم" وهذا منه يدل على أنه لا يشترط على هذا الوجه أن يتوافقا على [هذا] الفسخ، بل أيهما فسخ كفى، كما صرح به البندنيجي، فيكون قول الشيخ "فسخاً" – [أي]: على البدل، وقد وافق الشاشيُّ ابن الصباغ على تضعيف هذا الوجه في "الحلية"، وحمله على حالة اجتماعهما على الفسخ، وكذلك صاحب "الإشراف"، وأورد على نفسه أن الفسخ الواقع منهما لا يختص بحالة التحالف؛ فإنهها لو تقايلا أو الحالة هذه أجاز التقايل، ثم أجاب بأن معناه: أن القاضي لا يدعهما يتنازعان ويتبايعان الحق، بل يقول لهما: إمَّا أن ترضيا بأحد اليمينين، وإمَّا أن أحملكما على الفسخ بالإجبار، ونظيره المُولِي إذا امتنع عن الفيئة أجبره القاضي على الإطلاق. قال:"وقيل: لا ينفسخ إلا بالحاكم"؛ لأنه فسخٌ مجتهد فيه، فافتقر إلى الحاكم كالفسخ بالعنّة والإعسار.

وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب، وميل ابن الصباغ إلى ترجيحه، وبه أجاب في "المرشد"، ثم ظاهر كلام الأئمة هاهنا: أن القاضي يتعاطى الفسخ بنفسه. ويؤيده أن صاحب "الإشراف" قال: إن هذا قول من قال: إن القاضي يُطَلِّق على المُولِي. ويظهر أن يكون الأمر على هذا القول كما قاله الأصحاب في الفسخ بعيوب النكاح: أنّ للمرأة أن تفسخ بإذن الحاكم، أو يفسخ الحاكم بنفسه، والخيرة إليه على ما حكاه ابن الصباغ، وأن الخيرة إلى المرأة بعد الرفع إلى الحاكم بين أن تفسخ بنفسها وبين أن يفسخ بإذنها؛ كما قال القفال. ويؤيده: أنهم قاسوا هذا القول على ما ذكرناه، لكن في "الوسيط": [أنهم قطعوا بأن القاضي هو الذي يفسخ بعذر العنة، وإن كان المحكي في "الوسيط"] في أحكام العنة موافقاً لما ذكرناه، فإنه قال: إذا قضى القاضي بالعنة فسخت كما في الجب وسائر العيوب. وفيه وجه: أن القاضي هو الذي يتعاطى الفسخ [انتهى]. ثم على هذا القول، لا يتقوف فسخ القاضي على طلبهما الفسخ. قال في "الإشراف": وقد غلط من ظن من أصحابنا أن الفسخ من القاضي يقف على طلب المتبايعين الفسخ، أو طلب أحدهما؛ لأن القاضي لا يتركهما يتماديان في الخصومة، كما في مسألة الشقاق. وفي المسألة قولٌ مقابل للمنصوص: أن العقد ينفسخ بنفس التحالف، وهو قول المزني في "المنثور" كما حكاه في "الإشراف". ووجهه: ما روى أنه – عليه السلام – قال: "إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادًّ". وبالقياس على فسخ النكاح؛ باللعان، فإنه ينفسخ به، فعلى هذا: لو رضيا

بأحد الثمنين لم يقر العقد، واحتاجا إلى عقد جديد، وهل هذا الفسخ يرفع العقد من أصله أو من حينه؟ فيه وجهان، أَوْلاَهُمَا: الثاني وهو ما جزم به القاضي الحسين في التعليق، ونفي سواه، ويحكي الأول عن أبي بكر الفارسي، وعليه ينبني رد الزوائد والفوائد، وبنى عليه أيضاً الشيخ أبو علي تتبع التصرفات بالنقض، وهو بعيد، ثم على قول الفسخ أو الانفساخ لا شك في النفوذ ظاهراً، وهل ينفذ باطناً؟ حكى [الماوردي وغيره من] العراقيين فيه ثلاثة أوجه: ثالثها: إن كان البائع صادقاً فنعم؛ لتعذر وصوله إلى حقه، كما لو فسخ بالإفلاس، وإن كان كاذباً فلا، لتمكنه من الوصول إلى ما ثبت له، واختار ابن أبي عصرون في "المرشد" عدم الانفساخ. وهذه الوجوه تنتظم من طريقين حكاهما الإمام فيما إذا قلنا: لا ينفسخ بنفسه، وجزم بانفساخه باطناً إذا قلنا بقول الانفساخ، وكذلك هو موجود في "تعليق" القاضي الحسين أيضاً. وقال المحاملي [في] هذه الوجوه: "ترجع إلى وجهين؛ لأن البائع لابد أن يكون ظالماً أو مظلوماً"، وسلك الغزالي طريقاً آخر فقال: فوضنا الأمر إلى القاضي، فالظاهر أنه ينفسخ في الباطن، وإن جوزناه للمتعاقدين، فإن تطابقا على الفسخ انفسخ باطناً؛ كما لو تقايلا، وإن أقدم عليه من هو صادق فكمثل، وإن بادر الكاذب فلا ينفسخ، فطريق الصادق أن ينشأ الفسخ إن أراد. وتظهر ثمرة الاختلاف في جواز تصرف البائع في المبيع بعد عوده إليه؛ فإنه لا

نزاع في أن يعود إليه، فإن قلنا: إنه ينفسخ في الباطن [حلّ له وطء الجارية المبيعة، والتصرف في المبيعة كيف شاء، وإن قلنا: لا ينفسخ في الباطن]، فلا، نعم، إن كان مظلوماً كان بمنزلة من كان له على شخص دين، وظفر بغير جنس حقه. فرع: لو قال البائع: لم أعلم كوني كاذباً، ولا صدقاً، حلّ له أن يمسك المبيع؛ بناءً على أن الظاهر أنه لا يكذب، قاله القاضي الحسين. فرع آخر: إذا انفسخ العقد بالتحالف، وكانت العين المبيعة تالفة – وجب مثلها إن كانت من ذوات الأمثال. وفي "الحاوي": أن الأصح من الوجهين أنه يرد قيمتها؛ لأنه لم يضمنها وقت العقد بالمثل، وإنما ضمنها بالعوض، بخلاف الغصب، وإن كانت من ذوات القيم ضمن قيمتها، سوا ءكانت قدر الثمن او أقل أو أكثر. وقال ابن خيران: "لا يستحق ما زاد على الثمن الذي يدعيه". صرح به في "الحلية"، وهو نازع إلى أن الفسخ لا ينفذ في الباطن، وأي قيمة تعتبر فيه؟ أربعة أوجه: أصحها عند الغزالي: قيمة يوم التلف؛ لأن مورد الفسخ العين [لو بقيت،] والقيمة خَلَفٌ عنها. والثاني: أقصى القيم من وقت القبض إلى وقت التلف؛ لأن يده يد ضمان، فتعتبر أقصى القيم، وهما الموجودان في طريقة العراق، وفي "التهذيب". والثالث: قيمة وقت القبض؛ لأنه وقت الدخول في الضمان، وما حصل من زيادة أو نقصان؛ فهو في ملكه. والرابع: أقل قِيَمِهِ من وقت العقد إلى وقت القبض؛ لأنها إن كانت يوم القبض أقل فالنقص حصل في يد البائع؛ فلا يغرمه المشتري، وإن كانت القيمة يوم العقد أقل فالزيادة حصلت في ملكه، وهذا ما حكاه القاضي الحسين في "تعليقه"، وقال الإمام: "إنه أضعفها". قال الشيخ أبو علي: هذا الخلاف ناظر إلى أن العقد يرتفع من أصله أو من حيته؟ إن قلنا بالأول لزمه أقصى القيم، وإن قلنا بالثاني اعتبرنا قيمته يوم التلف.

وقال المتولي: إن قلنا بالأول فهو كالمستام، أي: فتأتي فيه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في ضمان البيع الفاسد، وإن قلنا بالثاني فيجيء الوجه الذي حكيناه عن القاضي الحسين. ومحل هذا الخلاف [ما حكاه في "الإشراف"]: إذا قلنا: إن الفسخ يقع في الباطن. ولو كانت العين المبيعة باقية بحالها لم يتعلق بها حقٌ ثالث، ردّها، وكذا لو اكنت زائدة، وإن كانت ناقصة ردّها مع الأرش، وهو قدر ما نقص من القيمة. قال الشيخ أبو علي: وهذا أصل مطّرد في المسائل: أن كل موضع لو تلف الكل كان مضموناً على الشخص بالقيمة، فإذا تلف البعض كان مضموناً عليه ببعض القيمة [الأولى]، إلا في تعيُّب الزكاة المعجلة في يد الفقير؛ فإنها لو تلفت ثم تلف المال، رجع عليه بقيمتها، ولو كانت قد تعيبت ففي الرجوع عليه بالأرش وجهان، وكذلك حكاه الإمام، وادعى انعكاسه بأن كل من لا يضمن القيمة إذا تلفت العين في يده، لا يضمن الجزء إذا تلف، كالبائع يتعيب المبيع في يده قبل القبض. قلت: وهذا الأصل يستثني منه مسائل، منها: المسألة التي نحن فيها؛ فإن الإمام حكى في آخر "النهاية" عن الشيخ أبي علي أنه تشبث بإجراء الخلاف فيها بعد أن قال: إن صاحب الوجه بعدم الرجوع بالأرش [إن طرده فيها] كان قريباً من خرق الإجماع. ومنها: لو تعيب الصداق في يد الزوجة قبل الطلاق، وعاد الشطر إليه، لم تغرم الزوجة الأرش، إذا اختار الزوج الرجوع إلى الشطر، ولو تلف لغرمت نصف القيمة على ما حكاه الغزالي. ومنها: لو ردّ المبيع بعيب، فوجد الثمن قد تعيب في يد البائع - كان المشتري مخيراً بين أن يقنع به ولا أرش له، وبين أن يأخذ القيمة على أحد الوجهين، كما حكيناه من قبل. ومنها: اللقطة إذا حضر مالكها، وقد تعيبت في يد الملتقط، فإنه يجري فيها مثل هذا الخلاف، مع أن ذلك لو تلف لرجع بالقيمة.

ومنها: القرض إذا تعيب في يد المقترض، ثم رجع المقرض فإنه مخيرٌ: إن شاء رجع فيه ناقصاً ولا أرش له، وإن شاء رجع بمثله إن كان من ذوات الأمثال، كما حكاه الماوردي، ولم يحك سواه، وخحكى فيما إذا كان الواجب رد القيمة خلاف ذلك. ويقرب مما ذكرناه مما حكاه الغزالي عن نصّ الشافعي فيما إذا تعيبت العين المغصوبة في يد المشتري من الغاصب، وغرم أرشها: أنه يرجع بالأرش على الغاصب، ولو تلفت العين، وغرم قيمتها لم يرجع بها، والله أعلم. وعتق المبيع، ووقفه، وبيعه وهبته مع القبض كتلفه، وتزويج الجارية [والعبد] عيبٌ حادث، وكذا إباق العبد، ولا يمتنع بسببه الفسخ؛ فإنه لا يزيد على التلف، ويغرم المشتري قيمته؛ لتعذر الوصول إليه، لكن الفسخ يرد على القيمة حتى يبقى العبد ملكاً للمشتري لو عاد، أو على عين العبد، وما يؤخذ للحيلولة، حتى يجب ردّه بعد العود؟ فيه وجهان: أصحهما: الثاني. والكتابة الصحيحة حكمها حكم الإباق فيما ذكرناه، وفيها طريقة قاطعة [للشيخ أبي محمد]، ببقاء الملك فيه للمشتري، ولو رهن المبيع، [قال الرافعيُّ:] "يخير البائع بين أخذ القيمة والصبر إلى [انفكاك الرهن]، فإن أخذ القيمة كان فيما يرد عليه الفسخ الطريقان في المكاتب. وأيّد الإمام طريقة شيخه بأن الرهن إذا لم ينفك تعين أن يبقى مملوكاً حال نفوذ الفسخ. [وإذا بقى مملوكاً حال نفوذ الفسخ فيستحيل أن يتغير هذا بعد الفسخ]. قلت: وما قاله الرافعيّ من أن البائع يتخير فيه نظر؛ فإن الغزالي حكى فيما إذا طلق الرجل زوجته قبل الدخول، وكان الصداق مرهوناً، [لو قال الزوج]: "أنظر الفكاك

للرجوع"؛ فلها إجباره على قبول القيمة خِيفةً من غرر الضمان، إن قلنا: إن الصداق مضمون في يدها، وإن قلنا: لا ضمان، أو بدأها عن الضمان حيث صححنا الإبراء عما لم يجب، فهل تلزمه الإجابة؟ فيه وجهان. ومنشأ هذا الخلاف أنه وعد وربما يبدو له المطالبة بالقيمة، وتخلو يدها في ذلك الوقت عن النقدِ، وما ذكره من المعنى موجود في مسألتنا، وقد حكى ذلك المتولي. نعم، لو لم تتفق المطالبة تى انفك الرهن تفريعاً على عدم الإجبار، فهل يتعلق حقه بالعين أو القيمة؟ يتجه جريان الطريقين فيه، كما أجرى الغزالي الخلاف في نظيره في الصداق، وقد أشار الإمام إلى أنّا إن قلنا: إن الفسخ يرد على العين، كان له ذلك، وإن قلنا: يرد على القيمة، كان حكمه كما في الإجبار على قبض الدين الحال. وفي "الحاوي": أن البائع: هل له أن يأخذ المشتري بفكاك الرهن قبل محله؟ فيه وجهان، كمن أذن لغيره في رهن عبده، فإن بيع في الدين رجع بالقيمة. ولو أجر المبيع، فالرجوع ينبني على جواز بيع المستأجر: فإن منعناه كان كالمرهون، وإن جوزناه فللبائع أخذه، ولكنه يترك عند المستأجر إلى انقضاء المدة، والأجرة المسماة للمشتري، وعليه للبائع أجرة مثل المدة الباقية. وهل الفسخ على قول منع الرجوع ملحق بالفسخ الوارد على المكاتب أو الآبق؛ لأن حق المستاجر لا يتعلق بمورد البيع والفسخ، وهو الرقبة؟ فيه احتمالان للإمام. قال: وإن اختلفا في [عين] المبيع، فقال البائع: بعتك هذه الجارية –أي:

بألف في ذمتك – وقال المشتري: بل يعتني هذا العبد- أي: بالألف –لم يتحالفا؛ لأن ما في الذمة لا يتعين إلاَّ بالقبض، ولم يتفقا على مبيع معين، فقدمت قاعدة التحالف، وهي أن يتفقا على بيع ومبيع معين، وهذا ما حكاه الشيخ أبو حامد والمحاملي والبندنيجي، واختاره الإمام. قال: "بل يحلف البائع: إنه ما باعه العبد، ويحلف المشتري: إنه ما ابتاع الجارية، كما تقدم في سائر الخصومات. وحكى القاضي أبو الطيب أن التحالف يجري في هذه الصورة أيضاً، واختاره ابن الصباغ، واستدل له [القاضي] بأن ابن الحداد قال: إذا اختلف الزوجان فقال: مهرتك أباك، وقالت: بل مهرتني أمي – تحالفا: وكذلك إذا قال: مهرتك أباك ونصف أمك وقالت: بل أبي وأمي، ولم يختلف أصحابنا في ذلك، وذلك يسقط ما قاله أبو حامد. قلت: ليس هذا [نظير المسألة التي خالف فيها الشيخ أبو حامد؛ لأن المختلف

فيه في مسألتي ابن الحداد أخذ العوضين، والعوض الآخر معين؛ فهو نظير ما إذا قال: [بعتك هذا العبد بهذا الألف، فقال: بل [بعتني هذه الجارية] بالألف المشار إليه؛ فإنهما يتحالفان، كما حكيناه، وفي مسألتنا كل من العوضين غير متعين: أمَّا البيع فلم يتفقا عليه، وأمَّا الألف الذي في الذمة، فغير متعين إلا بالقبض؛ فإن الذمة قابلة لآلاف، وبذلك يظهر اندفاع ما أبداه القاضي. وخرج الإمام الخلاف في المسألة على الخلاف فيما إذا أقر إنسانٌ لإنسانٍ بألف من ثمن مبيع، فقال: بل عن قرض، في أنه هل يملك المطالبة به؟ فإن قلنا: إنه يملك المطالبة به، صار كالمعين؛ فإنه لو قيل مثل ذلك في العين ملك المطالبة بها وجهاً واحداً. وإن قلنا: لا يملك المطالبة بها، فلا تحالف، ويبقى العبد في يد البائع، يتصرف فيه، وأمَّا الجارية فينظر: إن كانت في يد المشتري، فلا يجوز للبائع المطالبة بها؛ لأنه لا يدعيهاز قال في "المرشد": إلاَّ أن يكون البائع لم يقر بقبض الثمن، فله المطالبة بها. وإن كانت في يد البائع، فلا يجوز له التصرف فيها؛ لأنه معترفٌ بأنها للمشتري، [و] لكن ثمنها في ذمته، فيتلطف القاضي به، ويقول له: "قل: فسخت البيع إن كنت شريتها"، ويقول للبائع: " [قل]: قد قبلت الفسخ". كما نصّ عليه الشافعيُّ، ويكفي ذلك. قال في "الإشراف": وفي هذا النص إشكالٌ؛ لأن الفسخ معلق بالصفة، وتعليق الفسخ بالصفة لا يجوز، إلا أن الجواب عن هذا أن يقال: الفسخ معلق بصفة هي من ضرورة الفسخ؛ لأن الفسخ إنما يصح بعد الشراء فلا يضر هذا التعليق؛ كما لو قال: بعتك هذا إن شئت؛ فإن البيع ينعقد على أصح الوجهين؛ لأن المشيئة من ضرورة البيع، وقد حكى الغزالي في "الوكالة" فيما إذا اختلف الوكيل والموكل في الثمن المأذون في الشراء به أن الموكل لو قال للوكيل: إن كنت أذنت لك في الشراء

بكذا فقد بعتكه بكذا وجهين في الصحة، وأصحهما: الصحة، ويتجه جريان مثلهما هاهنا. ولو أبى المشتري أن يقول ذلك قال الشافعيُّ: "فإن ذهب ذاهب إلى أنه يصير ملكاً للبائع بالجحود والحلف كان مذهباً"، وحكاه صاحب "الإشراف"، قولاً ولم يحك الجيلي سواه، ونفي غيره. وكانيتجه أن يجيء وجه آخر: أنه يحتاج إلى إنشاء الفسخ، ويجعل تعذر الثمن بهذا السبب كالتعذر بالفلس، كما سيأتي مثله في المسألة التالية لهذه. وفي الرافعي: أنه لا يتعلق بثمنيهما فسخ ولا انفساخ، فعلىهذا يكون بمنزلة الظفر بغير جنس الحق، ويظهر تأكد قول الجواز هنا، بل القطع به؛ لأن مَنْ له الجارية لا يدعيها لنفسه، بخلاف ما إذا ظفر بغير جنس حقه وهذا مادة ما قاله أبو إسحاق في مسألة إنكار الموكل الإذن في الشراء بقدر معلوم، وقد اشترى الوكيل به؛ فإنه صار إلى ذلك فيه، ولو أقام البائع بينةً على ذلك قضى على المشتري بالثمن، وهل يجبر على قبض الجارية؟ فيه وجهان، وإن قلنا: لا يجبر؛ قبضها الحاكم، وحفظها إل أن يتكشف الحال، وله بيعها واستكسابها لأجل النفقة إذا رأى المصلحة في ذلك. قال: "وإن قال: بعتك هذه الجارية –أي: بألف- وقال: بل زوجتنيها، حلف كل واحد منهما على نفي ما يدعي عليه" – أي: لا غير – لما تقدم، واستدل صاحب "التقريب" وقال: "من يدعي أنه باع، فهو يطالب بالثمن؛ فله التحليف على نفي الشراء، أمَّا من يدعي التزويج على الآخر، وهو قد قال: بعت، فقد أنكر ملك نفسه في الجارية، فلو أقرَّ لكان لا يقبل إقراره، فأي فائدة في تحليفه؟! " ثم قال: "إلاَّ أن ينبني على أن يمين الرد كالبينة؛ ففائدته النكول". قال الغزالي: واستدراكه على وجهه. وعلى الأول: إذا حلفا، رجعت الجارية إلى سيدها إن لم يكن قد استولدها، وعلى أي وجه ترجع؟ فيه وجهان:

أحدهما: أن ذلك بمنزلة الرجوع بسبب تعذر استيفاء الثمن بالفلس؛ فيحل له وطؤها، وسائر التصرفات فيها. والثاني: ترجع إليه رجوع مال من عليه دين ولا يقضيه. وعلى كلا الوجهين: لا مهر للسيد إن كان قد وطئها المشتري، ولو أحبلها السيد معترف بأنها أم ولد للواطئ، وأن ولده حرٌّ؛ فيلزمه حكم إقراره، وهل يرجع على الواطئ بأقل الأمرين من الثمن وصداقها، أو لايرجع بشيء؟ فيه وجهان في "التتمة" وغيرها. وهل يحل لمن ادعى الزوجية وطؤها؟ قال الغزالي: ينظر: إن كان صادقاً حلّ له باطناً، وفي الظاهر وجهان: وجه المنع: الاختلاف في الجهة. ومنهم من شبهه بمن اشترى زوجته بشرط الخيار، وقد قال الشافعيّ: لا يطؤها في مدة الخيار؛ فإنه لا يدري أيطأ زوجته أو مملوكته، مع أنه كيفما كان فهو حلال. قلت: التعليل باختلاف الجهة لا يحسن؛ فإنه إنما يجري فيما في الذمة، أمَّا في المعين فلا أثر له كما حكيناه عن "النهاية" من قبل، والجارية هاهنا معينة؛ فلا معنى لاختلاف الجهة فيها. ويعضده أن الإمام في هذا الباب حكى أنه لو ملك جارية، وقطع بالملك فيها، وأشكل عليه فلم يدر انه اتهبها أو ورثها أو اشتراها فالوطء حلال بلا خلاف. والتعليل الثاني أيضاً فيه نظر؛ لأن الشافعي حيث من من وطء الزوجة المشتراة في زمن الخيار، علله بأنه لا يدري أيطأ زوجته أو مملوكته، وهذا يدري أنه يطأ زوجته، وعلى تقدير أن يكون البائع صادقاً، فملك المشتري قوى يحل به الوطء، والله أعلم. ولو أتت بولد فنفقته على الواطئ، ونفقة المستولدة على المستولد، إن قلنا: يحل

له وطؤها، وإن قلنا: لا يحل له، فوجهان: أحدهما: أنها على البائع؛ إذ يقبل قوله في زوال ملكه، لا فيما على غيره، وهو سقوط النفقة. والثاني: أنها تأكل من كسبها، فإن لم يكن فمن بيت المال. وحكى العجلي عن "النهاية": أنه لا صائر إلى إيجابها على المستولد على وجه التحريم؛ لأنه لا يدعي الملك، ولم يثبت ملكه، ولا حلها لهن والحيلولة إذا وقعت على وجه لا ترتفع؛ فلا تتقاصر على النشور. فرع: لو قال: بعتك هذه الجارية فقال: بل وهبتنيها [-فالذي حكاه القاضي حسين هنا والعراقيون في كتاب "العارية": أن القول قول المالك، وحكى الغزالي في كتاب "الهبة" في المسألة قولين: أحدهما: أن القول قول الآخذ؛ لأنه وافقه صاحبه على الملك، ويعي عليه عوضاً الأصلُ عدمه. والثاني: أنهما يتحالفان لتساويهما؛ إذ هذا يعارضه أن الرجوع في وجه الزوال إلى المزيل. قال الإمام: وما أطلقه هذا القائل من التحالف ليس على قياس التحالف المذكور في اختلاف المتبايعين، بل يحلف كل واحد منهما على نفي ما يدعيه صاحبه، فإذا حلف المقبض على نفي الهبة، وحلف القابض على نفي الثمن، كان سبيل رد العين على المقبض – بعد إقراره بأنه قد ملك القابض العينَ – قريباً من استرداد المبيع ممن قبضه؛ تفريعاً على أن البائع مأمور بتسليم المبيع، أو لا إذا امتنع عن تأدية الثمن؟ ولعل الظاهر أنه يعود المسترد في مسألتنا بفسخ البيع، وإذا كان كذلك لم يتعرض له ولم يقل له: افسخ، أوْ لا إذا كان الفسخ مما ينفرد به؛ فيتول ذلك إلى الحكم الواقع بين العبد روبه.

وهذا حكمنا على الظاهر، ولا يخفى الحكم على الباطن]. وقال المتولي: [على طريقة الشيخ أبي حامد] لا يثبت التحالف، وعلى الصحيح من المذهب يثبت التحالف. والعلة: أن كل واحد منهما يدعي انتقال الملك بجهة صحيحة غير الجهة التي يدعيها صاحبه، ولو قدرنا هذا الاختلاف حالة العقد امتنع الانعقاد؛ فصار كما لو اختلفا في قدر المبيع. قال: "وإن اختلفا في شرط يفسد العقد" أي: إمَّا ثبوته كما إذا ادعى أحدهما أن العقد جرى بشرط خيار أربعة أيام، وقال الآخر: بل يومين، ونحو ذلك، وإمَّا نفيه، كما إذا ادعى أحدهام وقوع البيع بثمن مجهول، وقال الآخر: بل بثمن معلوم، ونحو ذلك على ما حكاه أبو الطيب. قال: "فالقول قول من يدعي الشرط في أحد القولين"؛ لأن الأصل عدم العقد، ومدعي الفساد يدعي ما يمنع صحة العقد؛ فهو متمسك بالأصل، وهذا ما قال به صاحب "التقريب"، واختاره في "المرشد" و"التهذيب". قال: والقول قول من ينكر ذلك في [القول] الآخر"؛ لأن الأصل في العقود والظاهر من حالها الصحة، وهذا ما رواه البويطي في "مختصره" فيمن أسلم إلى رجل في طعام واختلفا: فادّعى المسلَم إليه أنه شرط فيه الخيار، وأنكر المسلم ذلك، وبه جزم المحاملي في "المجموع" في المثال الثاني، واختاره ابن الصباغ. وقال القفال: "القولان ينبنيان على القولني في تعقيب الإقرار بما يرفعه". قال القاضي الحسين في "تعليقه": "وهذا يطرد إلاَّ في مسألة، وهي: إذا قال البائع: بعت بألف، وقال المشتري: اشتريت بزق خمر – فعلى مذهب من يبعّض الإقرار، لا يمكننا أن نجعل القول قول البائع، لكن الوجه أن يقال: يحبس المشتري حتى يبين ما يكون ثمناً. وحكى المتولي في هذه الصورة أننا ننظر: فإن اتفقا على أن إيجاب البائع سبق،

فنحكم بصحة العقد؛ لأنه إذا سقط تسمية الخمر يبقى قوله: اشتريت، وهو مرتب على إيجاب البائع. وإن اتفقا على ان لفظ المشتري سبق، فلا يصح العقد؛ لأن قوله: اشتريت، لا يوجب حكماً ما لم يكن معه ذكر ثمن. وإن اختلفا في السابق منهما فالمسألة على وجهين: أحدهما: القول قول من يدعي الصحة. والثاني: القول قول من يدعي الفساد، وهذا فيه نظرٌ؛ لأن التفريع على أن القول قول مدعى الصحية. وجوابه: أن القائل بهذا القول يوافق مدعي الفساد في هذه الصورة. وروى القاضي أبو الطيب الخلاف في أصل المسألة وجهين عن حكاية الشيخ أبي علي في "الإفصاح"، ثم قال: وقد نص الشافعي على ما يدل عليهما، وهو إذا ادّعى الكفيل أنه يكفل بشرط الخيار ثلاثاً، وأنكر المكفول له ذلك – فإن فيمن المصدق منهما قولين، والوجهان يجريان فيما لو اختلفا [في التسليم] بعد التفرق: هل فسخ العقد قبله أو تفرقا عن تراض؟ قال: "وإن اختلفا في التسليم، فقال البائع" – أي: لملك نفسه -: لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن، وقال المشتري – أي: لنفسه -: "لا أسلم الثمن حتى أقبض المبيع" – أي: وكان الثمن في الذمة – "أجبر البائع على ظاهر المذهب"؛ لأن العقد يستقر به ويؤمن الانفساخ، والبائع يقدر على التصرف في الثمن قبل قبضه بالحوالة وغيرها، والمشتري لا يقدر على ذلك في المبيع إلاَّ بقبضه، فأجبر البائع عليه؛ ليتساويا فيه، ولأن المبيع معين، والثمن غير معين، وما تعلق بالأعيان احق بالتقديم مما يثبت في الذمم كالرهن في أموال المفلس، وهذا هو الأصح، وبه جزم بعضهم، ووراءه قولان، وآخر مخرج من نصه في الصداق. فأحد القولين: أنهما يجبران؛ لأنَّ كل واحد منهما قد استحق القبض على صاحبه، فأجبر كل واحد منهما على إياء صاحبه حقَّهُ، فعلى هذا يأمرهما الحاكم

بإحضار المبيع والثمن، إذا أمكن إحضارهام، وسلم لكل منهما ما يستحقه، ولا يبالي بأيهما بدأ، أو يأمرهما أن يسلما ذلك إلى عدل، فيفعل مثل ذلك، وجعلالماوردي الثاني مع الأول قولين، ولم أفهم لهذا الاختلاف معنى، ولا جرم أن حكى عن أبي إسحاق أنهما حالة واحدة، واستضعفه، وقال: الأكثرون على أنهما قولان. والثاني: لا يجبران، بل أيهما بدأ بالتسليم أجبر الآخر عليهن ويمنعان من التخاصم؛ لأن كل واحد منهما قد وجب عليه حق بإزاء حق له؛ فلم يجبر على إبقاء ما عليه دون ما لَهُ. والقول المخرّج: أن المشتري يجبر؛ لأن حقه متعين في المبيع، وحق البائع غير متعين في الثمن؛ فيؤمر بالتعيين للتساوي. أمَّا إذا كان الثمن معيناً، فلا يجيء إلا قول الإجبار وعدمه، صرح به المحاملي والإمام والبغوي وغيرهم. وفي كلام الرافعي ما يدل على انه لا يسقط في هذه الصورة من الأقوال الأربعة إلاَّ المخرج؛ فإنه قال: إذا اكنت الصورة كما ذكرناه يسقط القول الثالث، وإن تبايعا عرضاً بعرض سقط الرابع أيضاً؛ فيبقى قولان. ولا وجه لما قاله، ثم كلامه فيما إذا تبايعا عرضاً بعرض، إنما يتجه إذا قلنا: لا ثمن إلا النقدين، أما إذا قلنا: الثمن ما اتصل به باء الثَمَيِنَّةَ، فيكون كالنقد نائباً عن الغير [أو للغير في المبيع حق كالمرتهن وغرماء المفلس، فلا يجيء ظاهر المذهب، ولا أنهما لا يجبران. وقد حكى عن أبي الحسين بن القطان في بيع مال المفلس أنه يجبر المشتري بلا خلاف. وحكى الماوردي أن قول إجبار البائع يجيء فيه أيضاً عن رأي البغداديين من أصحابنا كما حكاه في كتاب "التفليس".

وإذا كان المشتري نائباً عن الغير] فلا يجيء القول المخرج، [ولا قول عدم إجبارهما]، ولو كانا نائبين فلايجيء إلاَّ قول الإجبار، صرح به الإمام في كتاب "الفلس"، [ويجيء فيها ما حكاه الماوردي أيضاً]. قال: "فإن كان الثمن حاضراً – أي: في المجلس – "أجبر المشتري على تسليمه"-أي: بعد تسليمه المبيع؛ لأنه مستحقٌّ عليه، ولا مانع منه، فلو أصر على الامتناع [فهل يثبت للبائع فسخ البيع؟ فيه وجهان. أصحهما في "الإشراف": أنه لا يثبت، [وجعله الإمام في كتاب "الفلس" ظاهر المذهب]. واعلم أن مراد الشيخ بحضور الثمن: حضور نوعه؛ لأنّ هذا تفريعٌ على إجبار البائع على ظاهر المذهب، وقد ذكرنا أن محله إذا كان الثمن في الذمة، وإذا كان كذلك تعين ما ذكرناه. قال: وإن لم يكن حاضراً، ولكنه معه في البلد، حجر على المشتري في السلعة وجميع ماله حتى يحضر الثمن؛ كي لا يتصرف في أملاكه التي يجب الوفاء منها بما يفوت حق البائع. وهذا حجر غريب رآه الشافعي. وفي "الوسيط" حكاية وجه: أنه لا يحجر عليه، بل يمهل إلى أن يأتي بالثمن. ال الرافعي: ولم أر لغيره نقل هذا الوجه على الإطلاق. قلت: الغزالي لم يطلقه، بل حكاه فيما إذا كان غنيًّا بعد أن حكى أنه إذا تحقق إفلاسه، ولم يكن معه سوى المبيع، أو كان وزادت الديون عليه؛ فتعين أن مراده بالغنى من ساوى مالُهُ ديونه، أو زاد عليها، وإذا كان كذلك فهذا الوجه منقول في "النهاية" عن رواية الشيخ أبي محمد، وبه جزم القاضي الحسين في "التعليق"، وقائله يراعي فيه قياس حجر الفلس [حتى لو كان ماله لا يفي بما عليه إلاَّ بالمبيع أو بعضه، فهل يحجر عليه؟ فيه خلاف كما في المفلس،] وإذا حجر عليه كان للبائع الفسخ. نعم، في "التهذيب": أنه يحجر عليه في المبيع، وفيما عدا المبيع لا حجر إذا كان

ماله مع المبيع يفي بما عليه، وإلا فيحجر عليه فيه أيضاً. قال:"وإن كان في بلد آخر بيعت السلعة في الثمن" – أي: ولا يثبت للبائع خيار؛ لأنه يمكن إبقاء حقه، فإذا بيعت وازد ثمنها على حقه كان الفاضل للمشتري. تنبيه: قد يفهم من كلام الشيخ أنه لا يححر عليه في هذه الحالة، وليس كذلك؛ فإنه إذا حجر عليه في حضور المال في البلد، وقرب مسافة الحضور، فمع البعد أولى، ولفظ الشافعيّ دالٌ عليه؛ فإنه قال: فإن غاب ماله أشهد على وقف ماله وعلى قف السلعة، فإذا دفع أطلق [عنه الوقف. وإطلاق الشيخ هذا الحكم يقتضي أنه لا فرق في البلد الآخر أن يكون على مسافة القصر أو دونها، وهو وجهٌ ينتظم من مجموع كلام الأصحاب، على ما سنذكره. ويظهر أن الحامل للشيخ على ترجيحه ما حكاه البندنيجي والبغوي فيما إذا باع عبداً وهرب المشتري قبل قبضه، ولم يكن المشتري محجوراً عليه بفلس، ولا مال له في البلد -: أن الحاكم يبيع العبد، فإن كان ثمنه مثل الثمن الأول وفّاه للبائع، وإن كان أكثر فالفاضل للمشتري، وإن كان أقل بقى الباقي على المشتري. وإطلاق الأصحاب ذلك يدل على أنه لا فرق بين أن يكون هربه إلى موضع قريب أو بعيد، وإذا كان كذلك في ال غيبة الغريم، فحضوره لا يظهر أن له تأثيراً في تغيير هذا الحكم بثبوت حق الفسخ، على أن في "الشامل" في كتاب "النفقات": أن الأصحاب قالوا في هذه الصورة: للبائع الفسخ. وقريب منه ما حكاه المتولي في كتاب "الفلس"، فيما إذا اشترى عيناً وأقبض الثمن، ثم هرب البائع أو امتنع من إقباضه: أن للمشتري الفسخ على وجه، والذي حكاه الأصحاب في مسألة الكتاب أنَّ ننظر: إن كان بين البلدين مسافة القصر فوجهان حكاهما المحاملي وغيره: أحدهما: ما ذكره وهو الأصح في "التهذيب".

وأظهرهما عند الأكثرين، وبه جزم أبو الطيب والبندنيجي: أن له أن يفسخ البيع؛ لتعذر تحصيل الثمن، كما لو أفلس بالثمن، فإن فسخ فذاك، وإن صبر إلى الإحضار فالحجر كما سبق. قال الرافعي عقيب هذا الكلام: وحكى الإمام عن ابن سريج أنه لا يفسخ، ولكن يرد المبيع إلى البائع، ويحجر على المشتري؛ ويمهل إلى الإحضار. وادّعى في "الوسيط" أن الصحيح وإن كان بينهما دون مسافة القصر، فهو كما لو كان في البلد، أما لو كان على مسافة القصر، ففيه وجهان. هذا آخر كلامه، ومقتضاه: أن خلاف ابن سريج فيما إذا كان المال في مسافة القصر، والذي رأيته فيما وقفت عليه من "النهاية" أنَّ ابن سريج قال: إن كان ماله في البلد غائباً عن المجلس فيمهل المشتري إلى تحصيل الثمن، ولا يحجر عليه، ويرد المبيع إلى البائع إلى أن يتوفر عليه الثمن. وإذا انتهى الأمر إلى الامتناع إلى الوصول إلى الثمن بغيبة شاسعة يعد مثلها امتناعاً ثبت له الفسخ.

ويقرب مما قاله ابن سريج من بعض الوجوه ما حكاه الماوردي، حيث قال: إن كان بينهما أقل من يوم وليلة، فهو في حكم الحاضر، وإن كان بينهما ثلاثة أيام فصاعداً فلا يلزم انتظار ماله؛ لبعده عنه، وأنه في حكم المعسر والحكم في المعسر – كما حكاه غيره – أنَّ له الفسخ على المنصوص. وقيل: تباع السلعة في الثمن، وإن كان بينهما أكثر من يوم وليلة وأقل من ثلاثة أيام فعلى وجهين: أحدهما: حكم ما دون اليوم والليلة. والثاني: حكمه حكم الثلاث فما فوقها. فعلى هذا: هل له الفسخ أو تباع السلعة [فيه] في الثمن؟ فيه وجهان. وحكم الاختلاف الجاري بين المكري والمكنزي في الباية بالتسليم حكم البائع والمشتري فيما ذكرناه. ولو بدأ المشتري بتسليم الثمن أجبر البائع على تسليم المبيع، فلو كان عبداً وقد أبق في يد البائع، ولم يتمكن من رده – لم يسترد الثمن، وللمشتري الخيار. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجه: أن له استرداد الثمن قبل فسخ العقد. ووجه آخر: إن تسلم الثمن بأن وقع بعد الإباق لم يستحق رده؛ لأن التسليم كان واجباً. واعلم أن الرافعيَّ ذكر هاهنا مهمًّا لابد من ذكره، وهو أنَّ طائفة توهمت أن الخلاف في البداية في التسليم خلاف في أن البائع: هل له حق الحبس أم لا؟ فإن قلنا: البداية بالبائع، فليس له حبس المبيع إلى استيفاء الثمن، وإلا فله ذلك،

ونازع الأكثرون فيه، وقالوا: هذا الخلاف مفروض فيما إذا تنازعا في مجرد البداية، وكان كل واحد يبذل ما عليه، ولا يخاف فوت طعن صاحبه، فأمَّا إذا لم يبذل البائع المبيع، وأراد حبسه، خوفاً من تعذر تحصيل الثمن، فله ذلك بلا خلاف، وكذلك للمشتري حق حبس الثمن؛ خوفاً من تعذر تحصيل المبيع، نصّ على ذلك الشيخ أبو حامد، وأقضى القضاة الماوردي قال: ما قاله الأولون، هو ما أشار إليه الإمام في كتاب الرهن عقيب الكلام في رهن المبيع بثمنه، والغزالي في مواضع منها عند الكلام في انفساخ العقد قبل القبض: هل يكون من أصله، أو من حينه وهو الذي يقتضيه إطلاق الأئمة الذي نقل عنهم؛ فإنهم فصلوا بعد إجبار البائع علىتسلمي المبيع بين أن يكون الثمن حاضراً في المجلس، أو غائباً عنه في البلد أو بلد آخر، ولو كانت الصورة يما إذا بذل كل واحد منهما ما عليه لم تعقل غيبة الثمن عن املجلس أو البلد؛ إذ لا بذل إلا مع الحضور، اللهم إلاَّ أن تحمل هذه الصورة على ما إذا أظهر البذل، ثم ظهر أنه لا شيء معه. ويؤيد ذلك أن] القاضي الحسين في "التعليق" حكى أنه إذا لم يكن ماله في البلد لم يجبر البائع على التسليم، وإن كان له مال غائب خصوصاً إذا كان منهما على مسافة القصر، بل لا يجب على البائع الإنظار وله الفسخ، وإن كان دون مسافة القصر فوجهان، والله أعلم. وحيث تكلمنا في حق الحبس فنكمل ما قيل يه؛ إذ هذا محله، فنقول: ليس للبائع حق الحبس إذا كان الثمن مؤجلاً، ولو حلَّ قبل التسليم؛ إذ العقد لا يقتضيه، وقيل: إنه له حق الحبس إذا حل قبل التسليم، حكاه القاضي أبو الطيب في كتاب "الصداق" عن رواية المزني في "المنثور". ولو تبرع البائع بالتسليم عند حلول الثمن، فليس له رده إلى حبسه. وكذا لو أعاره من المشتري في أصح الوجهين. ولو أودعه إياه قال الرافعيُّ: لم يبطل حق الحبس. وفي "النهاية" في باب "الرهن" و"الحميل": أن في بطلانه وجهين مرتبين على

الوجهين في العارية. ومنهم من يقول: الإيداع أولى بالبطلان من جهة أنه يبعد أنا يحفظ المالك ملكه لغيره. ومنهم من جعل ايداع أولى بألا يبطل؛ فإنه ليس فيه تسليط أصلاً، وفي الإعارة تسليطٌ. ولو وجدنا المبيع في يد المشتري قبل توفية الثمن الحال، فقال البائع: غصبته، وقال المشتري: بل سلمته إليَّ - فالقول قول البائع، على الأصح. ولو قال البائع: أعرتكه أو أودعتكه، وقلنا: لا يبطل حق الحبس بذلك، وقال المشتري: بل سلمته إليَّ - فَمَنِ المصدق منهما؟ فيه وجهان، كما في نظيره في الرهن إذا ادّعى المرتهن أن الراهن أقبضه العين عن جهة الرهن، وقال: بل عارية أو وديعة، حكاه الإمام في كتاب الرهن أيضاً. ولو سلم إليه بعض الثمن، فهل يجب عليه تسليم بعض المبيع؟ نظر: إن كان مما لا ينقسم فلا، وإن كان مماي نقسم كالحنطة - مثلاً - فوجهان: أظهرهما: لا، هكذا حكاه الغزالي، [وجعل الإمام في كتاب الرهن مقابله رديئاً غير معتد به]، وأطلق الماوردي حكاية الوهين عن ابن سريج من غير تفصيل. وهل يستكسب المبيع في يد البائع لحق المشتري كما يستكسب المرهون في يد المرتهن لحق الراهن؟ فيه وجهان في "النهاية" في باب "الزيادةفي الرهن"]. ولو باع ثوباً بدينار في الذمة، وقبض ديناراً عنه، وسلم الثوب، ثم خرج الدينار زيوفاً - رده عليه، ويعود حقه في الحبس. ولو أخرج رديء الجوهر بحيث لو رضي به جاز ورد عليه، فهل يعود حق الحبس؟ يه وجهان ينبنيان على القولين في جواز الاستبدال في مسألة الصرف على النعت الذي ذكرناه، كذا قال القاضي الحسين في "باب بيع الطعام قبل أن يستوفي". ولو أتلف البائع المبيع قبل القبض أو المشتري أو أجنبي، فهل يبطل حق الحبس؟ قد تقدم الكلام فيه في أول البيع، وهل للبائع حبس زوائد المبيع؟ قال الغزالي في

"الوسيط" عند الكلام في حقيقة الرد: "والفسخ إن قلنا: إنها تنقلب بالفسخ إلى البائع فله حبسها للثمن إذا قلنا: له حبس المبيع؛ لأنه يتوقع التعلق بها، وإن قلنا: يسلم للمشتري، فليس له حق الحبس"، وفيما قاله نظرٌ؛ لأن الزوائد الحادثة بعد العقد لم يقتض العقد حبسها للثمن، كما قلنا فيما إذا كان الثمن مؤجلاً، ثم حلّ قبل التسليم، وقد صرح الإمام بذلك، بل حبسها على ما اقتضاه التفريع؛ لجواز اكونها تسلم له، فيكون صواب الكلام: فإن قلنا: إنها تنقلب بالفسخ إلى البائع، فله حبسها، لا لأجل الثمن. ولو اشترى بوكالة اثنين شيئاً، ووفى نصف الثمن عن أحدهما-لم يجب على البائع تسليم النصف؛ بناءً على أن الاعتبار بالعاقد. ولو باع بوكالة اثنين، فإذا أخذ نصيب أحدهما من الثمن فعليه تسليم النصف، هكذا ذكره في "التهذيب". قال الرافعيُّ: وفيه كلامان: أحدهما: أن العبد المشترك بين رجلين إذا باعاه، ففي انفراد أحدهما بأخذ نصيبه من الثمن وجهان، فأخذ الوكيل لأحدهما بمنزلة أخذ الموكل نفسه. قلت: ويؤيده حكاة وجه مثله يأتي في نظير المسألة في الرهن. والثاني: أنَّا إذا قلنا: الاعتبار في تعدد الصفقة واتحادها بالعاقد، فينبغي أن يكون تسليم النصف على الخلاف فيما إذا أخذ البائع بعض الثمن، والله أعلم.

باب السلم

باب السلم قال الأزهري: السلم والسلف واحد، يقال: سلَّم وأسلم، وسَلَّف وأسلف بمعنى واحد، واستسلف وتسلَّف. وسمى سلماً؛ لتسليم رأس المال في المجلس، وسلفاً لتقدم رأس المال، وهذا الاسم يشترك فيه القرض. وادعى الرافعي: أن اسم السلم يشمل القرض أيضاً. لكن حد السلم الشرعي يخرجه: وهو العقد على موصوف في الذمة ببدل يعطي عاجلاً. والأصل في جوازه من الكتاب قوله تعالى: - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله - تعالى- في كتابه، ثم تلا الآية. وفيها ما يدل على ذلك، وهو قوله تعالى: - إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282]. وهذا في البيع الناجز، فدل على أن ما قابله في الموصوف غير الناجز. ومن السنة: ما روى الشافعي بسنده أيضاً، عَنِ ابْنِ عَبَّاس أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدم

المدينة، وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين، وربما قال: السنتين، والثلاث، فقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَسْلَفَ، فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُوم"، ولفظ البخاري: "السنتين وثلاثاً فقال: من أسلف في شيء في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" وغير ذلك من الأحاديث. ومن جهة القياس: أن البيع لما اشتمل على عوضين، المثمن والثمن، فلما جاز أن يكون الثمن معيناً، وموصوفاً في الذمة حالاً، وإلى أجل [مسمى] فكذلك المثمن؛ ولأن بالناس حاجة إليه؛ لأن أرباب الضياع، والبساتين؛ ربما لا يكون معهم مال ينفقونه على مصالحها، فيستسلفون على الغلة ما يحتاجون إليه ويتفقون به. وكذلك أرباب النقود يرتفقون بالرخص والنقصان من السعر فَجُوِّز لذلك، وإن كان فيه غرر؛ كعقد الإجارة على المنافع المعدومة. قال: السلم صنف من البيع؛ لأن الرواةلما رووا قوله صلى الله عليه وسلم "لاَ يَحِلُّ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ" خافوا من التعلق بعمومه في منع السلم فألحقوا به أنه صلى الله عيه وسلم أرخص في السلم؛ لما ذكرناه فلو لم يكن السلم صنفاً من البيع لما احتاجوا إلى ذلك. قال: وينعقد بجميع ألفاظ البيع: لأنه بيع، وإن اختص باسمٍ وحكمٍ كالصرف، وهذا ما صححه ابن الصباغ. وفي الحاوي: أن من أصحابنا من قال: لا ينعقد بلفظ البيع سلماً، بل بيعاً حتى لا يشترط فيه قبض رأس المال؛ لأنه في العرف وغيره، وعزاه القاضي أبو الطب إلى أبي إسحاق، وهو الأصح. وفي التهذيب ويجوز تفريعاً عليه شرط الخيار في هذا العقد. وهل يجوز الاعتياض عن المبيع قبل قبضه؟ فيه طريقان:

أحدهما: أنه فيه قولين كما في الثمن. والثاني: القطع بأنه لا يجوز، حكاهما الإمام. وقيل: لا ينعقد بيعاً [أيضاً]، رواه ابن التلمسان في شرحه. قال: وينعقد بلفظ السلم؛ لأنه اسمه الخاص. قال: ويثبت فيه خيار المجلس؛ لعموم الأخبار، ولا يثبت فيه خيار الشرط؛ [لأنه عقد من شرطه القبض في المجلس، فلم يثبت فهي خيار الشرط؛] كالصرف؛ ولأن الخيار تأجيل لنقل الملك، أو للزومه، والسلم وإن قبل التأجيل في جهة المسلم فيه فلا يتصور ذلك في رأس المال؛ إذ إقباضه في المجلس شرط العقد كما سنذكره، فلو قدر ثبوت الخيار لتضمن التأجيل في العوضين؛ إذ لا يتصور بيع جائز في أحد العوضين دون الثاني. واعلم ان الشيخ استغنى بما ذكره من كون السلم صنفاً من البيع عن بيان أهلية المتعاقدين، وقد سبق ما يغني عن إعادته، ونحتاج هنا إلى ذكر فرعين. أحدهما: الكافر هل يصح إسلامه في العبد المسلم؟ حكى الماوردي فيه طريقين: أحدهما: القطع بالصحة، وصححها. والثانية: تخريجه على القولين في البيع. وقال: هذه ليست بصحيحة؛ لأن البيع إنما بطل لاستقرار يده على مسلم، وليس في السلم استقرار يد له [عليه]. وإذا قلنا بالصحة، ففيه وجهان: أحدهما: لا اعتراض عليه حتى يقبضه. والثاني: أنه يمنع من استدامة العقد، ويؤخذ بفسخه. الثاني: إذا أسلم إلى مكاتب عقيب العقد هل يصح؟ فيه وجهان محكيان في الوسيط في "الكتابة". ووجه الجواز: أنه يملك رأس المال.

قال: "ومن شرطهأن يسلم رأس المال في المجلس". شرع الشيخ – رضي الله عنه – من هاهنا في بيان الشرائط المختصة بالسلم، وقد عدها الإمام سبعة، اثنان في رأس المال: أن يسلم في المجلس، وأن يكون موصوفاً معلوم القدر وإن كان معيناً على قول، وخمسة في المسلم فيه: أن يكون ديناً، وموصوفاً بالصفات التي تختلف بها الأثمان والأغراض. ومعلوم القدر إن كان مما يقدر، وعام الوجود عند المحل، وتعيين مكان التسليم لى قول، وعدها القاضي أبو الطيب ثمانية، وهي متداخلة وتأتي في الباب متفرقة، وننبه عليها – إن شاء الله تعالى. فالأول: تسليم رأس المال في المجلس، ودليل اعتباره قوله صلى الله عليه وسلم "مَنْ أَسْلَفَ، فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ" فأمر بسلف المكيل فيه، وذلك يقتضي التعجيل؛ لأن اسم السلف مشتق من التقديم كما ذكرناه. وكذلك اسم السلم مشتق من إسلام المال وهو تعجيله، وأسماء العقود المشتقة من المعاني لابد من تحقق تلك المعاني فيها، وتوفير مقتضياتها عليها، وإلا لسلب معنى الاسم. ولأن في السلم غرراً، فلو جاز فيه تأخير رأس المال لازداد الغرر وزيادة الغرر في البيع [تبطله]؛ ولأن رأس المال إذا تأخر مع تأخر المسلم فيه صار ديناً بدين، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ [كما رواه

الدارقطني عن ابن عمر] وهو بيع الدين بالدين. [يقال: نكلأه كلأة، أي نسأت نسيئة، كما حكاه أبو الطيب]، فلو لم سلم بطل العقد. ولو سلم البعض فثلاثة أوجه: أحدها: ينفسخ العقد في الجميع، وهو قول البصريين. والثاني: أنه ينفسخ منه ما يقابل ما لم يقبض، ويصح في مقابل ما قبض وهذا قول البغداديين، ولا خيار في هذا التفريق. والثالث: أنه ينفسخ في مقابل ما لم يقبض، وفي الباقي قولاً تفريق الصفقة وهذا ما حكاه القاضي الحسين وهو عنده من تفريق الصفقة في الابتداء، وقد حكاه ابن الصباغ في باب تفريق الصفقة في الدوام، وجعله الإمام رتبة ثالثة بين الابتداء والدوام. وفي الحاوي علىهذا القول يثبت الخيار للمُسْلَم إليه دون المسلم. ثم التسليم المشترط يعتبر فيه أني كون حقيقيًّا، إذا أمكن، فلوأحال به المسلم لم يصح وإن قلنا: إن الحوالة استيفاء، وكذا لو قبضه المسلم إليه من المحال عليه في المجلس كما صرح به القاضي الحسين في التعليق. وقياس ما ذكرناه في الصرف أن يصح فيما إذا قبض في المجلس، وقلنا: إنها استيفاء. [مسألة] ولو كان راس المال عبداً فأعتقه [قبل القبض في المجلس]. قال القاضي أيضاً: ذلك ينبني على أن الملك في زمن الخيار لمن؟ إن قلنا: للبائع فلا ينفذ [عتقه].

وإن قلنا: للمشتري، ففي بيع العين هو نافذ، وفي السمل يمكن أن يقال: لا ويمكن أن يقال: نعم. ويصير قابضاً ويلزم العقد. وحكى الرافعي هذين الاحتمالين وجهين. أما إذا لم يمكن فيه القبض الحقيقي كما إذا كان رأس المال منفعة دار مدة معلومة فيكفي فيه تسليم الدار قبل التفرق إذ هو الممكن. ولو أودع المسلم إليه المسلم رأس المال في المجلس بعد قبضه لم يضر، ولو وفاه له من [دين له عليه]. قال الروياني: لا يصح الإيفاء، ويصح السلم بعد التفرق على رأي بعض الأصحاب. فرع: هل ينوب تسليم المسلم فيه في المجلس إذا اكن حالاً مناب تسليم رأس المال؟ [فيه] وجهان: [في التتمة] والأظهر المنع. قال: فإن كان في الذمة بين صفته وقدره. [أي] كما في المسلم فيه إذ به يحصل التعريف، وهذا إذا لم يكن من نقد البلد [أما إذا] كان كفى معرفة القدر قاله أبو الطيب [وهذا ما حكاه الزبيلي، في أدب القضاء عن ابن أبي هريرة سواء كان السلم حالاً، أو مؤجلاً. وحكى عن أبي إسحاق أنه لابد من الوصف سواء كان حالاً أو مؤجلاً، وعن ابن سريج: أنه لا يعتبر في الحال، ويعتبر في المؤجل]. وذهب أبو العباس بن صالح البصري من أصحابنا وطائفة [من البصريين] إلى أن رأس المال إذا كان في الذمة كان [السلم] باطلاً؛ لأنه يصير كلا

البدلين موصوفاً وذلك غير جائز، والأول عليه جمهور أصحابنا البغداديين. قال: وإن كان معيناً. أي: مشاهداص مثل إن قال: أسلمت إليك هذا في كذا من الحنطة ووصفها؛ لم يفتقر إلى ذكر صفته وقدره في أصح القولين، لقوله صلى الله عليه وسلم "مَنْ أَسْلَفَ، فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" ولم يأمر بذلك في رأس المال، فدل على أنه ليس من شرطه أن يكون معلوم الوزن والكيل؛ ولأنه عوض في عقد فوجب أن يغني مشاهدته عن ضبط أوصافه ومعرفة مقداره كما في بيوع الأعيان. والقول الثاني: وهو اختيار أبي إسحاق في الشرح: أنه يفتقر؛ لأنه أحد عوضي السلم، فوجب ضبطه بصفاته؛ كالمسلم فهي. وأيضاً: فإن السلم لا يتم في الحال، وإنما هو عقد منتظر تمامه بتسليم المسلم فيه، وربما ينقطع ويكون رأس المال تالفاً فلا يدري إلى ماذا يرجع به، وعلى هذا قال القاضي أبو الطيب غيره: لا يجوز أن يكون رأس المال إلا ما يجوز السلم فيه، وعلى الأول، لا يشترط ذلك. وقال الإمام: ليس هذا على الإطلاق، بل الدرة الثمينة إذا عرفا قيمتها وبالغا في وصفها، وجب أن تجوز أن تجعل رأس المال؛ لأن منع السلم فيها مع الإطناب في الوصف سببه عزة الوجود، ولا معنى لاشتراط عموم الوجود في رأس المال، ومحل القولين في الأصل في ذوات الأمثال. أما إذا كان رأس المال متقوماً موصوفاً وضبط صفاته بالمعاينة، ففي اشتراط معرفة قيمته طريقان: منهم من طرد القولين أيضاً، والأكثرون قطعوا بصحة السلم، ولا فرق في جريان القولين بين السلم المؤجل والحال. ومنهم من خصهما بالمؤجل وقطع في الحال: بأن المعاينة كافية كما في البيع. وفي كتاب ابن كج حكاية طريفة قاطعة في المؤجل بالمنع. ثم هذا الخلاف فيما إذا تفرقاقبل العلم بما شرطناه، أما إذا علما ذلك قبل التفرق

فلا خلاف في الصحة، صرح به الرافعي، وعلى الصحيح لو انفسخ السلم وتعذر الروع إلى رأس المال واختلفا في قدره؛ فالقول قول المسلم إليه، وهذا هو الشرط الثاني في رأس المال. فرع: لو أسلم جارية صغيرة في كبيرة. فعن أبي إسحاق: أنه لا يجوز؛ لأنها قد تكبر وهي بالصفة المشروطة فيسلمها بعد أن يطأها، فيكون في معنى استقراض الجواري، والصحيح الجواز، كإسلام صغار الإبل في كبارها، وهل يمكن من تسليمها عما عليه؟ فيه وجهان، وهما يجريان على ما حكاه الشاشي فيما إذا كان رأس المال بصفة المسلم فيه فدفعه إليه عنه. قال: ولا يصح السلم إلا في مال يضبط بالصفة، كالأثمان والحبوب والأدقة والمائعات، والحيوان، والرقيق، واللحوم، والبقول، والأشعار، والأصواف اولقطن، وافبريسم، والثياب، والرصاص، والنحاس، والحديد، والأحجار، والأخشاب، والعطر، والأدوية وغير ذلك مما يضبط بالصفات أي: كالثمار، والبلور، والفخار، والآجر، واللبن، ونحو ذلك، أما كونه لا يصح فيما لا يضبط بالصفة؛ فلأن البيع لا يحتمل جهالة المعقود عليه وهو عين؛ فلأأن لا يحتملها السلم وهو دين كان أولى. وأما صحته فيما يضبط بالصفة في الأشياء التي ذكرها؛ فلأن المكيل منها والموزون دل عليه الحديث المشهور. وأما الحيوان: فالدليل عليه ما روى أنه - عليه السلام - أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يبتاع البعير بالبعيرين والأبعرة إلىخروج المصدق، وقد أجمع الصحابة عليه. روى أن علي بن أبي طالب باع جملاً يدعى عصيفيراً بعشرين بعيراً إلى أجل، وأن عمر اشترى راحلة بأربعة أبعرة يوفيها صاحبها بالربذة. وروي أن عبد الله بن عمر سئل عن السلم في الوصائف، فقال: لا بأس به.

وإذا ثبت في هذه الأشياء بالنص مع أن الحيوان يعز ضبطه، كان ما عداه مما لا يعز ضبطه منطريق الأولى. ومحل جواز السلم في الأثمان إذا كان رأس المال غيرهما، مثل الثياب، والدواب ونحو ذلك. أما إذا أسلم الدراهم في الدراهم، أو الدنانير في الدنانير أطلق القاضي أبو الطيب الحكاية عن الأصحاب بأن ذلك لاي صح. وقال: قلت أنا: إن أسلم ذلك مطلقاً كان حالاً، فإن تقابضا في المجلس جاز عندي، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز؛ لأن في السلم لا يستحق قبض العوضين، وفي الصرف يستحق ذلك، وهذا ما حكاه الماوردي، وأطلق الغزالي حكاية وجه أنه لا يجوز السلم فيها، وحكاه الإمام فيما إذا كان رأس المال ربويًّا أو غيره. وعلى الأول، هل يكفي [إطلاق اسم الدراهم] إذا كانت غالبة في بلد [التعامل] أم لابد من وصفها؟ حكى افمام في أول "كتاب القاضي إلى القاضي" [فيه] وجهين، و [قد] حكى عن الداركي: أنه منع السلم في الدقيق. وفي المهذب: أن السلم في الطيور لايجوز؛ لأن سنها لا يعرف، ولا يضبط قدرها بالزرع، وهو المحكي في البويطي. قال البندنيجي: وما علمت أحداً من أصحابنا حكى هذا عنه بعد أن حكى أن السلم في كل حيوان جاز بيعه، جائز في القديم والجديد، وقد صرح المراوزة بجواز السلم فيها. وفي الرافعي: أن السلم في العلس، والأرز لا يجوز لاستتارهما في الكمام، وفي الحاوي: في البقول تفصيل: وهو أن منها ما المقصود منه شيئان كالفجل والخَسِّ فإن اللب منها مقصود، والورق مقصود فالسلم فيها باطل، ومنها ما المقصو منه شيء واحد، ولكن يتصل به ما ليس بمقصود، كالجزر، والسلجم فإن ما عليهما من

الورق غير مقصود فلا يجوز السلم يها إلا بعد قطع ورقه، ومنها ما المقصود منه واحد ولا يتصل به غيره فيجوز السلم يه وزناً؛ كالبقل، وأما الباذنجان بأقماعه يحتمل ألا يجوز السلم فيه إلا بعد قطع أقماعه؛ ويحتمل أن يجوز السلمفيه بأقماعه، وقصب السكر لا بأس بالسلم يه إذا شرط قطع أعلاه الذي لا حلاوة فيه، وهل يشترط قطع مجامع العروق من أسفله؟ فيه خلاف بين أصحابنا، اختيار المزني أنه يشترط كالأعلى، كذا قال الماوردي، ولا يجوز السلم فيه إلا وزناً. واعلم أن الشرط الثالث: وهو أن يكون المسلم فيه دينا، يؤخذ من كلام الشيخ هاهنا فإنه لو جاز في العين لما افتقر إلى ذلك؛ كالبيع، نعم لو قال: أسلمت إليك هذه الدراهم في ثوبك هذا لا ينعقد سلماً؛ لما ذكرناه، وهل ينعقد بيعاً؟ فهي وجهان، حكاهما القاضي الحسين غيره ومأخذهما أن النظر إلى اللفظ أو إلى المعنى إن نظرنا إلى اللفظ أبطلنا وإن نظرنا إلى المعنى صححنا، قال الإمام: وهذا أصل طرده القاضي. قال: ولا يجوز حتى يضبط بالصفات التي [تختلف] بها الأغراض عند أهل الخبرة. أي: مما لا يفضي إلى عزة الوجود؛ إذ بذلك يحصل التميز المسوغ للمطالبة وينتفي الغرر وتنقطع المنازعة، ويقوم مقام الوصف وصف ثوب ثم يسلم في آخر بصفته، وكذا قوله: أسلمت إليك في ثوب كهذا الثوب، أو في مائة صاع من الحنطة كهذه الحنطة عند صاحب التهذيب، والأصح عند الغزالي في الوسيط على ما حكاه عند الكلام في بيع الحنطة أنه لا يقوم مقامه، وذلك ما صرح به العراقيون كما هو مقتضى كلام الشيخ، ويشترط مع الوصف أن يعرف المتعاقدان الصفات المذكورة، فلو جهلها أحدهما لم يصح، ولو ذكرا أوصافاً علماها دون غيرهما لم يصح على المنصوص. وفي الرافعي: حكاية وجه فيه، ويشبه أن يكون منسوباً إلى القفال. فإن الفوراني

حكى [عنه] أنه قال: إنما قال ذلك – يعني الشافعي – على سبيل الاحتياط ولا نزاع في الصحة إذا علم الأوصاف أهل الاستفاضة، ولو لم يعلمها إلا عدلان فوجهان. أظهرهما: الصحة، ويجري الوجهان فيما لو لم يعرف المكيال الذي عيناه إلا عدلان، وكل صفة اشترطت فهي منزلة على أقل الدرجات، حتى إذا أُتي بما يقع عليه اسم الوصف المشروط كفى، وهل يشترط مع ذكر الأوصاف المقصودة ذكر الجودة أو الراءة؟ فيه وجهان. مختار العراقيين، والقاضي الحسين منهما الاشتراط وهو ظاهر النص، والأظهر عند الرافعي، والغزالي مقابله، وادعى الإما اتفاق الأئمة عليه. وقد جرت عادة الأئمة ببيان ماي جب ذكره من الشرائط في المسلم فيه واستيعابها في جميع الأشياء أو أكثرها بطول فلنقتصر منها على ذكر ما يتيسر: فالحبوب يحتاج فيها إلى ذك رالجنس فيقول: قمح، أو شعير، وهذا ليس من الصفات، فإن الجنس أصل الشيء وأصل الشيء لا يكون صفة له، كما صرح به البندنيجي، ولكنه من جملة الشرائط، ولم يتعرض له الشيخ فاحتجنا إلى ذكره مع أنه لا يتصور ذكر الصفات بدونه، ولذلك لم يذكره الشيخ. والنوع: مثل الصعيدي، والبحري، واللون من البياض، والحمرة، والسمرة، والقدر؛ كصغر الحبة أو كبرها، أو توسطها، والضخامة والرقة؛ لأن الرقيق أقل دققاً، وهل هي مسقية أو غير مسقية، وهل هي جديدة أو عتيقة على النص. وفي الوسيط: أنه لا يجب التعرض للجدة والعتق، ولا يشترط عليه تقدير ما مضى من المدة. وفي تعليق القاضي الحسين: أنه يصف ذلك بحصاد عام مسمى إن كان في البلد من يميز بينهما، فإن لم يكن لم يجز. وحكم التمر حكم الحبوب، ومن أصحابنا من قال يحتاج فيه أن يذكر أنه عتيق عام أو عامين، وهو قول البصريين، ويحتاج فيه إذا اختلف جنسه في البُلْدَانِ [أن]

يذكر البلد مثل البرني، فإن برني بغداد إذا أحلى؛ لعذوبة أرضها، وبرني البصرة أنقى؛ لملوحة أرضها ومائها نص عليه في الأم، وذلك يعضد قول تعيين النوع إذا اختلف في الإبل كما سنذكره، وحكم الرطب حكم التمر إلا في اشتراط العتق والحداثة فإنه لا يكون إلا حديثاً، واعتبر الغزالي فيه ذكر [الحداثة والعتق]. فرع: لو أسلم في تمر منزوع النوى هل يصح؟ فيه وجهان في الحاوي، وإذا صححناه يكون المعتبر فيه الوزن؛ لأنه يتجافى في المكيال. والدقيق يذكر فيه ما يذكر في القمح؛ لأنه يتجافى في المكيال. والدقيق يذكر فيه ما يذكر في القمح، ويزيد عليه ثلاثة أشياء: ذكر ما يطحن به من رحى الدولاب، أو الماء. والثاني: خشونة الطحن ونعومته. والثالث: قرب زمان الطحن وبعده؛ فإنه قد يبعد زمانه في الطحن، قاله الماوردي. والعسل يذكر بلده كما قال الماوردي، والناحية من البلد، وأنه جبلي، أو بلدي صيفي، أو خريفي، والجبلي والخريفي أجود، وأنه أبيض، أو أصفر، ويبين المرعي ولا حاجة لى ذكر الحداثة والعتق، قاله الرافعي. وحكى الماوردي: أنه يجب ذكر الحداثة والعتق ويقبل ما رق منه بسبب الحر دون ما رق لعيب فيه، [وله أن يمنع من قبض المصفى بالنار فإنه تعيب] قاله أبو الطيب وغيره، وفي النهاية: أن ذلك فيما إذا أثرت النار في انعقاد أجزائه، أما إذا كانت لينة فهو كالمصفى بالشمس. وفي التتمة: أن المصفى بالنار لا يصح السلم فيه. والحيوان يحتاج يه إلى ذكر الجنس: إبل، أو بقر، أو غنم، والنوع كنعم بني فلان إذا كثر عددهم وعرفت بهم كبني قيس، وأما بالنسبة إلى طائفة القبيلة فهو

كتعيين البستان في الثمار، ولو اختلفت نَعَمُ بني فلان إلى عِرَابٍ ومَهْرِبَّة وبَخْتِيَّةِ فلابد من تعيين ذلك على أصح القولين، و [أما] ما لا يبين نوعه من الحيوانات بالإضافة إلى قوم يبين بالإضافة إلى بلد وغير بلد، ويجب ذكر الذكورة والأنوثة، والسن، واللون، والطيور إذاجوزنا السلم فيها، كما يقتضيه إطلاق الشيخ يذكر فيها النوع، والصغر، والكبر من حيث الجثة، ولا يكاد يعرف سنها فإن عرف وصفه. فرع: لو شرط كون الشاة لبوناً؛ ففي الأم حكاية قولين، أحدهما: لا يصح، والثاني: يصح، وتسلم إليه الشاة بعد حلبها، والرقيق يحتاج فيه إلى ذكر النوع، فيقول: تركي، أو رومي، وهل يجب التعرض لصنف النوع إن كان فيه اختلاف؟ فيه القولان، واللون إذا اختلف لون الصنف فإن لم يقع فيه اختلاف، كالزنج فلا يشترط ذكره، والذكورة والأنوثة والسن فيقول: محتلم، أو ابن سبع، وهو مجري على التقريب، حتى لو شرط أنه ابن سبع بلا زيادة ولا نقصان لم يصح، والرجوع في الاحتلام إلى قول العبد وفيما دونه إن كان مولداً فإلى قول من ولد عنه، وإن لم يكن، ونشأ في بلاد الكفر فالمعتبر فيه ظنون النخاسين، وأهل الخبرة بالرقيق، والقد؛ فيبين أنه طويل أو قصير، أو ربع. صرح به العراقيون. وفي النهاية حكاية عنهم: أنه لا يعتبر، وشدد النكير عليهم فيه. وعن البندنيجي: أن الصغر يقال فيه: رباعي، أو خماسي، ومعناه أربعة أشبار، أو خمسة، أما الرجل فلا يحتاج أن يذكر فيه الطول بالأشبار. وسكت عن اعتبار شيء آخر، وفي الحاوي أنه لابد من ذكر حال بدنه، فيقول: سميناً أو دقيقاً، وفي اعتبار شرط الكحل والدعج وتكلثم الوجه، وسمن الجارية وما أشبه ذلك وجهان. قول الشيخ أبي محمد منهما: الاشتراط، والأظهر أنه لا يشترط، وهو مذهب العراقيين صرح به القاضي أبو الطيب، وقاس عليه الجعودة والسبوطة. وفي اشتراط ذكر الملاحة تردد للقفال بناءاً على أنها من جملة المعاني، والمرجع فيها إلى ما يميل إليه الطبع، ولا يجب ذكر الثيوبة، والبكارة على الأصح. وعن الصيمري: أنه يجب، وبه أجاب في المهذب، والحاوي، وهو الأولى، وفي

حلية الشاشي: أن من أصحابنا من قال إن كان الثمن يختلف به، وجب ذكره. فروع: لو أسلم في جارية مغنية – نظر: إن كان غناءً مباحاً، وهو بغير آلة الملاهي جاز، وإن كان غناءً محرماً بآلة الملاهي من مزمار، أو عود؛ ففي الحاوي حكاية وجهين في صحة السلم، وأصحهما: أنه لا يصح. ولو أسلم في عبد شاعر لم يجز؛ لأن الشعر طبع لا يمكن تكليفه ولا فعله، فيبعد أن يكون العب بالأوصاف المذكورة مطبوعاً على قول الشعر بخلاف سائر الصنائع، ولو أسلم في أمة سارقة، أو عبد زان، ففيه وجهان في الحاوي. واللحوم: يشترط فيها ذكر الجنس، فيقول: لحم إبل، أو بقر، أو غنم، والنوع؛ مثل لحم بختي، أو عِرابي، كما حكاه العمراني، أو جواميس، أو بقر أهلي، أو وحشي، أو ضأن أو ماعز، والذكورة والأنوثة، وإذا بين الذكر فليبين أنه خصي، أو غير خصي، وذلك لا يعتبر في الوحشي، والسن فيقول صغير، أو كبير، ومن الصغير مرضع، أو فطيم ومن الكبير جَذَع أو ثنيِّ، والمأكول فيقول راعية، أو معلوفة، ويبين مايأكله، والراعية في الإبل أطيب قاله مجلي والمعتبر من العلف ما يؤثر في اللحم، وهذا الشرط لا يجيء في لحم الصيد؛ إذ لا تكون إلا راعية، والمحل فيقول: من الكتف، أو من الفخذ، أوا لجنب. والسمن والهزال، وفي الوسيط أن شرط الهزال لا يجوز؛ لأنه عيب لا ينضبط، قال مجلي: قال بعض أصحابنا: إنما كره الشافعي الأعجف؛ لأنه هزال مع داء ومرض، فلا يمكن ضبطه والذي عليه عامة الأصحاب ما ذكرناه أولاً، وإنما الممنوع أن يشترط الأعجف. وإذا أطلق السلم فيه وجب قبول ما فيه من العظم على العادة، وإن شرط نزع العظم جاز، ويشترط في لحم الصيد أن يقول: لحم صيد صيد بأحبولة، أو سهم، أو بجارحة ويبني أنها كلب، أو فهد؛ لأن صيد الكلب أطيب لطيب نكهته، وفي لحم الطير والسمك يبين السن والنوع والصغر والكبر من حيث الجثة، ولا حاجة إلى

ذكر الذكورة والأنوثة إلا إذا أمكن وتعلق به غرض، ولا يلزم قبول الرأس [أو] الرجل من الطير والرأٍ اولذنب من السمك [وكان بعض أصحابنا البصريين يقول ما كان من الطير صغيراً، لا يحتمل أن يباع مبعضاً لزمه يه أخذ الرأس والرجلين، وكذا ما كان من الحيتان صغيراً يلزم فيه أخذ الرأس والذنب لأنه يؤكل معه ويطبخ والمذهب الأول. وأما أخذ الجلد مع اللحم فإن كان لحم إبل، أو بقر، أو غنم لم يلزمه أخذه، وإن كانلحم طير، أو حوت لزمه؛ لأنه مأكول معه ولا يكاد ينفصل عنه، وكذا الحكم في السلم في الجدا الصغار يلزمه قبول الجلد]. واللبن يحتاج فيه إلى ذكر ما يذكر في اللحم إلا الثالث، وهو الأنوثة، والسادس وهو المحل، ويعتبر نوع العلف ولا حاجة إلى ذكر اللون، ولا إلى ذكر الحلاوة، بل لو أسلم في اللبن الحامض لم يجز؛ لأن الحموضة عيب، ولذا لا يشترط إلى ذكر أنه حليب يومه أو أمسه كما صرح به البندنيجي، فإذا أتاه بحليب أمسه ولم يتغيروجب قبوله، وسيأتي كلام الماوردي بما يخالفه. والسمن: يذكر فيه ما يذكر في اللبن، ويحتاج إلى التعرض إلى أنه أصفر، أو أبيض، ولا يحتاج إلى ذكر العتق والحداثة عند الشيخ أبي حامد؛ لأن العتيق معيب لايصح السلم فيه. قال القاضي أبو الطيب: العتيق المتغير هو المعيب، لا كل عتيق فيجب البيان.

والزبد: يذكر فيه ما يذكر في اللبن والسمن، ويذكر أنه زبد يومه أو أمسه. والجبن: يذكر فيه ما يذكر في اللبن أيضاً، ويحتاج إلى وصفين: البلد الذي فيه الجبن، وأنه رطب أو يابس كذا. قال العمراني وفي الحاوي: يقيد الأول بما إذا كان الجبن يابساً، وأنه إذا ذكر الرطب احتاج إلى أن يقول جبن يومه كما يذكر ذلك في الزبد واللبن. والصوف: يجب فيه ذكر بلده ولونه وطوله وقصره وأنه ربيعي أو خريفي، والخريفي أصلح، وأنه من ذكر أو أنثى، وصوف الإناث أشد نعومة ولا يقبل إلا نقيَّا من الشوك والبعر، وإن شرط أن يكون مغسولاً جاز وإلا أن يعيبه الغسل والوبر والشعر؛ كالصوف. والقطن يجب فيه ذكر البلد واللون، وكثرة لحمه وقلته، والخشونة والنعومة، والعتق، والحداثة إن اختلف الغرض بذلك. وزاد الماوردي ذكر أنه لقط رطباً أو يابساً، فإن ما لقط رطباً أنعم وأضعف، وما لقط يابساً أقوى وأخشن، ويذكر طول شعرته وقصرهان ووقت لقاطه من حر أو برد، فإنه يختلف به لا سيما بالبصرة، وإن كان لايختلف في بلد فلا حاجة إليه، والمطلق يحمل على الجاف، وما فيه من الحب، ويجوز السلم في الحليج وحب القطن، ولا يجوز في القطن في الجوز قبل التشقق، وأما بعده ففي التهذيب: أنه يجوز. وقال في التتمة: ظاهر المذهب أنه لا يجوز، وهو ما أطلقه العراقيون حكاة عن النص. والإبريسم: يذكر فيه البلد، واللون، والدقة، والغلظ، ولا حاجة إلى ذكر النعومة والخشونة، ولا يجوز السلم في القز وفيه الدود حيًّا أو ميتاً، ويجوز السلم فيه بعد

إخراج الدود منه، وإن كان لا يمكن سله ولا يدور في القدر بسبب قطع طاقِهِ؛ لأنه يطبخ ويغزل ويعمل منه ثياب القز، قاله أبو الطيب. وإن أسلم في الغزل ذكر فيه ما يذكر في القطن، ويذكر الدقة والغلظ، ويجزو شرط كونه مصبوغاً، ولابد من بيان الصبغ. والثياب: يجب فيها بيان الجنس إما من إبريسم، أو كتان، أو قطن، والنو والبلد الذي ينسج فيه، إن اختلف به الغرض والغلظ [والرقة،] والصفاقة، والدقة، والنعومة، والخشونة، ويجوز في المقصور، والمطلق محمول على الخام. وفي تعليق القاضي أبي الطيب حكاية عن النص: أنه إذا لم يذكر شيئاً أعطاه ما شاء، ويجوز السلم في القميص والسراويلات، إذا ضبط طولها وعرضها وضيقها وسعتها. فرع: لو أسلم في ثوب وشرط فيه وزْناً معلوماً ففيه وجهان: أحدهما: وهو اختيار الشيخ أبي حامد: أنه لا يصح. حكاه في الحلية، واختيار القاضي أبي الطيب، في تعليقه: الصحة، وفصل الماوردي، فقال: إن أمكن نسجه بذلك الطول والعرض والوزن جاز، وكان أولى، وإن كان ذلك يتعذر على صناعه لم يجز. والرصاص: [بفتح الراء] يذكر نوعه من قلعي، وغيره ويصفه بالنعومة أو الخشونة واللون إن كان يختلف. والنحاس: بضم النون يذكر فيه نوعه من مرسي أو غيره ولونه، وخشونته، ولينه. والحديد: يذكر فيه النوع، وأنه ذكر أو أنثى، والذكر منه على ما قاله القاضي الحسين الفولاذ، والأنثى اللين الذي يتخذ منه الكوافي، يوذكر لونه وخشونته، ولينه. والأحجار: مثل حجارة الأرحية. والأبنية: يذكر فيها النوع، واللون، والطول، والعرض، والطريق في معرفة دور عرضها أن يتخذ خيطاً فيخاط به ثم يذرع الخيط ويذكر الوزن، فإن كان لا يتأتى بالقبان وضع في شقتيه [شيء موزون] ويعلم على القدر الذي انتهى إليه الماء، ثم

يخرج منها ويوضع فيها الحجارة إلى أن ينتهي الماء إلى ذلك الموضع، وكذلك الحكم في الخشب الكبير إذا أسلم فيه، قاله القاضي الحسين، وأبو الطيب. قال: إن ذكر الوزن في حجارة الأرحية جاز، وإن لم يذكره جاز، والحجارة الصغار التي تصلح للحشو لا يجوز السلم فيها إلا وزناً، وينسبها إلى الصلابة، وإذا ذكرها لا يلزمه أن يقول كذانا، وكذا حجارة الأبنية تحتاج إلى ذكر الوزن. والأخشاب أنواع، فالحطب يذكر فيه مع النوع الغلظ والرقة، وأنه من نفس الشجر، أو من أغصانه، ولا يجب التعرض للرطوبة والجفاف، والمطلق محمول على الجاف، والذي يطلب للبناية يذكر فيه النوع، والطول، والغلظ، والرقة ومنهم من اعتبر التعرض للون، ولا حاجة إلى ذكر الوزن خلافاً للشيخ أبي محمد، ولو ذكره جاز، ولا يجوز السلم في المخروط منه؛ لاختلاف الأعلى والأسفل. قال القاضي أبو الطيب: ويلزمه أن يسلمه إليه بالصفة المذكورة منا لطرف إلى الطرف، فإن كان أحد طرفيه أغلظ مما شرط أجبر على قبوله، والذي يطلب للقسي، والسهام يذكر فيه النوع، والدقة، والغلظ، ورأى بعضهم التعرض لكونه سهليًّا، أو جبليًّا؛ لأن الجبلي أصلح لها، والله أعلم. ويذكر الرطب واليابس، والمقدار بالوزن، ولا يجوز أن يسلف فيه جزافاً، ولا عدداً قاله أبو الطيب. والعطر: مثل المسك، والعنبر، والكافور، يذكر فيه النوع فيقول: عنبر أشهب، أوأبيض، أو أخضر، أو قطع، أو فتات. قال الشافعي: [العنبر:] أخبرني عدد ممن أثق به أنه نبات يخلقه الله تعالى بحافات البحر. قال: [ولو شرط فيها] الأجود لم يصح. لأن أقصاه غير معلوم فكأنه شرط شيئاً مجهولاً. وأيضاً فإنه ما من شيء يأتي به إلا والمسلم يطالبه بأجود منه تمسكاً باللفظ،

فيدوم النزاع بينهام. فإن قيل: مدلول لفظ الأجود إن كان واحداً ينبغي أن ينزل العقد عليه ولا منازعة ولا جهالة وإن كان متعدداً يقع على كثيرين، فينبغي أن ينزل العقد على أول درجات الأجودكما قلتم في سائر الصفات. قلنا: قد قال بعض أصحابنا بصحة العقد [تخريجاً]، على ما حكاه الشيخ أبو حامد، وعلى المذهب، فنقول المدلول واحد لكن بالنسبة إلى شيء آخر غير معين؛ فلذلك امتنع تنزيل العقد عليه. قال: وإن [أسلم في] الأردأ فعلى قولين: أحدهما: وهو المنصوص في المختصر أنه لا يصح؛ لما ذكرناه من عدم الوقوف على أقصاه. وأصحهما: الجواز؛ لأنه إذا أتى برديء لم يطالبه المسلم بما هو أردأ منه، وإن طالبه به كان معانداً فيمنع منه ويجبر على قبول ذلك]، وقدتقدم أن شرط الجودة والرداءة معتبر عند العراقيين، وادعى القاضي أبو الطيب أن المذهب ال يختلف في جواز اشتراط ذلك. والمراد بالرداءة: ثَمَّ رداءة النوع والصفة؛ لا رداءة العيب؛ لأنها لا تنضبط وألحق المراوزة بها رداءة الصفة أيضاً من حيث إنه ما من رديء إلا وهناك ما هو خير منه، وإن كان رديئاً فيفضي إلى النزاع، وسلكوا بذلك مسلك الأجود. [تنبيه: الأردأ مهموز. قال أهل اللغة: يقال: رَدُؤَ الشيء بضم الدال يَرْدُؤُ بضمها أيضاً رداءة فهو رديءٌ وأردأ وهو أردأ من غيره، كله مهموزٌ]. قال: وما لا يضبط بالصفة لا يجوز السلم فيه. للجهل بالمعقود عليه [قال]: "كالجواهر" أي مثل اللؤلؤ الكبير، والياقوت، والبلجين، والزبرجد، والمرجان ورأي الإمام وغيره المنع من ذلك لعزة الوجود،

فإنه لا بد فيه من التعرض للحجم والشكل والوزن والصفاء؛ لعظم تفاوت القيمة باختلاف هذه الأوصاف واجتماع المذكور فيها نادر، وألحق الفوراني بذلك السلم في بطيخة واحدة. [فإنه قلَّما توجد بطيخة واحدة] بالوزن المذكور على الصفة المشروطة. أما اللؤلؤ الصغير إذا عم وجوده فيجوز السلم فيه وزناً وكيلاً، وقد اختلف الأصحاب في حده، فمنهم منق ال: ما يطلب للتداوي فهو صغير، وما يطلب للتزين فهو كبير. وعن الشيخ أبي محمد: أن ما وزنه سدس دينار يجوز السلم فيه، وإن كاني طلب للتزين؛ لعموم وجوده. قال الرافعي: والوجه أن يكون اعتبار السدس بالتقريب. والبَلُّور: قال الاموردي: لا بأس بالسلم فيه؛ لأن صفته مضبوطة بخلاف العقيق؛ فإن الحجر الواحد منه يختلف. قال: والحيوان الحامل؛ لأن وجود الحمل مع ما ذكرناه من الصفات يعز وجوده. وقيل: هذا إذا قلنا إن الحمل يقابله قسط من الثمن، وهو الصحيح؛ لأنه لا يمكن وصف ما في البطن فيمتنع السلم فيه كذلك، وهو الذي يقتضيه كلام الشيخ. أما إذا قلنا: لا يقابله [قسط] جاز السلم فيه، وههذ طريقة أبي إسحاق وأبي علي الطبري، وابن القطان. قال: وما دخله النار كالخبز والشواء، أي: وما أشبه ذلك مثل العسل المصفى بالنار، والسكر، والفانيذ، والسمن، واللبأ؛ لأن تأثير النار لا يمكن ضبطه، ولأن الصنعة قد تصلح الفاسد منه، وتفسد الجيد، واختيار القاضي أبي الطيب في اللبأ جواز السلم، وهو وجه حكاه المراوزة في الجميع؛ لأن لتأثير النار في ذلك نهاية مضبوطة، ورجحه الإمام في الخبز، والأكثرون على خلافه فيه؛ لأنه إذا لم يجز السلم في العجين قبل خبزه، وهو أقل جهالة؛ فلان لا يجوز في الخبز مع كثرة جهالته أولى،

ورجح الماوردي هذا الوجه في السكر والفانيذ والقند. وجزم به في العسل والسمن. وحكى الإمام طريقة قاطعة بجوازه في السكر والفانيذ. والشواء ممدود. وهل يجوز السلم في السويق إذا جوزنا السلم في الدقيق؟ فيه وجهان في الحاوي. وهل يجوز في الماورد؟ تردد فيه صاحب التقريب. وحكى الماوردي فيه وجهين، ولا عبرة بتأثير السمن فيجوز في العسل المصفى بها، ويلحق بنوع ما دخله النار ما دخله السوس، او البلل، أو العفن من الطعام. قال الماوردي: لأن ذلك لا ينضبط. فائدة: إذا جوزنا السلم في الخبز احتيج فيه إلى ذكر البلد والنوع، وأنه رطب، أو يابس، وإذا جُوِّز في السكر احتيج فيه إلى ذكر الناحية ونوع القصب، واللون، والقوة، اولحداثة، والعتق، والقد. قال: وما يجمع أجناساً مختلطة أي مقصودة غير مضبوطة، وقد يوجد في أكثر النسخ بدل "مختلطة"، "مختلفة"، والصواب ما ذكرناه، وهو الذي وقفت عليه في نسخة عليها خط المصنف - رحمه الله - لأن الأجناس، لا تكون إلا مختلفة وقال النواوي: وإنما يحتاج إلى التقييد بمختلطة فإنها قد لا تكون مختلطة. قال كالقسي: أي العجمية (وهو) بكسر القاف والسين وتشديد الياء، جمع قوس، ويجمع على أقواس وقياس، وكان أصل قسي قووساً. قال: والنبل المريش، النبل: السهام العربية. قال أهل اللغة: ولا واحد لها من لفظها، وجمعها: نبال، وأنبال. قال ابن مكي: من غلط العامة قولهم لواحد النبل نبلة؛ وإنما هو سهم وقدح. والمريش: بفتح الميم، وكسر الراء، وإسكان الياء، يقال: رشته أريشه ريشاً فهو مريش، كبعته أبيعه بيعاً فهو مبيع، وهو الذي جعل فيه ريش. قال: والغالية: وهو طيب متخذ من مسك وعنبر خلطا بالدهن.

قال الجوهري: يقال أول من سماها بذلك سليمان بن عبد الملك يقول تغليت بالغالية. قال: والند وهو بفتح النون، مسك وعنبر وعود خلط بغير دهن. [قال]: والخفاف وفي معناها النعال، وقد حكى الماوردي عن ابن سريج جواز السلم في الخفاف والنعال. أما النبل غير المريش إذا لم ينحت فيجوز السلم فيه وزناً. وقال أبو علي الطبري، إن أمكن ضبط طوله وعرضه جاز السلم فيه عدداً، وإن نحت فلا يجوز السلم فيه أيضاً. وفي الحاوي حكاية قول في جوازه إذا ضبط نحتها ووصفها، وعزاه إلى نصه في الأم، وصححه، وجعل الحكم في القسي على هذين الحالين، ففي الحالة الأولى لا يصح، وفي الثانية قولان. والمغازل كالنبال. اولترياق المخلوط كالغالية والأدهان المطيبة كدهن البنفسج والبان والورد وإن خالطها شيء من الطيب لم يجز السلم فيها، وإن تروح السمسم بها ثم اعتصر جاز. والشهد في جواز السلم فهي وجهان: أصحهما: الجواز، ومقابله هو الذي أورده الماوردي، ورواه ابن كج عن النص. قال: والثوب المصبوغ؛ لأن الصبغ مع ما ذكرناه يمنع من الوقوف على نعومة الثوب وخشونته وإدراك صفته. وفي الحاوي: أنه يجوز كما لو أسلم في ثوب صبغ غزله ثم نسج، واختاره الشاشي. وهو الأصح عند الإمام، ولم يحك عن شيخه سواه. قال: فإن أسلم في ثوب صبغ غزله، ثم نسج، او في ثوب قطن سداه إبريسم جاز.

أما في الأولى؛ فلأن لونه يجري مجرى لون الغزل فإنه ينسج على صفته كما ينسج على لون الغزل، ويحتاج في وصف الصبغ بعد وصف الغزل إلى ذكر اللون وما يصبغ به، والبلد الذي يصبغ فيه وأنه صبغ بالصيف أو الشتاء، كذا قال الماوردي. وأما في الثانية فللعلم بالمخالط. وقيل: لا يجوز فيها؛ لأنه مختلط من جنسين فكان كالغالية، والقلنسوة المحشوة، وهذا ما حكاه الماوردي، ويخرج على الوجهين السلم في الثوب المعمول عليه طراز بالإبرة بعد النسج من غير جنس الأصل؛ كالإبريسم على القطن والكتان، فإن كان تركيبها بحيث لا تضبط أركانها فهي كالمعجونات، ولو أسلم في ثياب الخز ففي الصحة وجهان في الحاوي. ووجه المنع: أنه لا يدري من أي شيء يوجد. تنبيه: [السَّدي] بفتح السين مقصور. قال الجوهري: والسَّداة مثله وهما سَدَيان، والجمع أسْدِيَةٌ. تقول منه: أسديتُ الثوب وأسْتَيْتُه، والسدى هو المستتر، واللحمة هي التي تشاهد، كذا قال [النواوي]، والذي نعرفه العلس واللحمة بضم اللام وفتحها. قال ابن الأعرابي. لحمة القرابة ولحمة الثوب مفتوحتان، واللحمة بالضم ما يصاد به الصيد، وجمهور أهل اللغة يقولون لحمة بالضم في الثلاثة. فرع: لو أسلم في الصفر جاز على الأصح؛ لأن أخلاطه مقدرة، وإن زيد فيها أو نقص فسد، وهذا ما اخبرنا عنه قبل، وقد منع منه أيضاً بعض أصحابنا [لأنه أخلاط تجمع وتَسبك] وكذا أجرى في منع السلم في جوهر الزجاج؛ لأنه أخلاط مجموعة ذكره الماوردي. قال: وإن أسلم في الرءوس أي بعد التنقية من الشعر ففيه قولان:

أحدهما: أنه يجوز؛ لأنه لحم وعظم فكان كسائر اللحوم. والثاني: وهو الصحيح: أن لا يجوز لاشتمالها على أبعاض مختلفة، وهي المناخر والمشافر وغيرها وتعذر ضبطها؛ ولأن معظمها العظمم، وهو غير مقصود، وغير المقصود إذا انضم إلى المقصود كثر فيه الغرر، فمنع الصحة] كالعجف بخلاف سائر اللحوم. ويجري الخلاف في الأكارع، ورأى الغزالي، الأصح فيها الجواز، ورمز القاضي أبو الطيب إلى القطع بالمنع فيها، وحيث جوز السلم في ذلك فيكون بالوزن وبالعدد حتى لو اقتصر على أحدهما لم يصح، قاله الماوردي، واعتبر ابن كج في الرءوس على قول الجواز أن تكون المشافر والمناخر منحاة عنها، وهذا الاعتماد عليه، أما إذا لم تكن منقية من الشعر فلا يجوز السلم فيها. قال: وإن أسلم في المخيض وفيه الماء لم يجز؛ لاختلاطه بما لا منفعة فيه [ومنعه من ضبطه] وكذا الحكم في المصل، لكن لما فيه من الدقيق، والكشك يلحق به. وفي الجيلي حكاية وجه عن البسيط أنه يجوز السلم فيالمخيض، أما إذا لم يكن فيه ماء بل محض اللبن لا غير جاز السلم فيه إذا وصفه بالحموضة قاله الرافعي، وفي "الحاوي": أن السلم في اللبن الحامض لا يجوز، وفي اللبن القارص، وهو أن يتجاوز صفة الحليب إلى أول صفات الحامض، أن شيخه أبا القاسم الصيمري كان

يقول بجواز السلم فيه، وإن غيره [من أصحابنا] قال: لا يجوز؛ لأنها صفة لا تنضبط وصححه. قال: وإن أسلم في الجبن وفيه الأنفحة، أو في خل التمر وفيه الماء جاز لأنه لا غنى لهما عن ذلك، وقوامهما به بخلاف المخيض. وقيل: لا يجوز السلم فيهما كالمخيض، ورجحه الإمام والصيمري في الخل، والأصح الأول فيهما، وهما جاريان في السمك المملوح. وفي النهاية عن حكاية صاحب التقريب: أن الملح إن ظهر له وزن منع، وإن لم يظهر فإن لم يكن له قيمة فلا أثر له والسلم صحيح، وإن كان له قيمة فهو كالثوب المصبوغ بعد النسج والأقط كالجبن. تنبيه: الجبن: فيه ثلاث لغات أشهرهن وأفصحهن عند ابن الأعرابي وآخرين بإسكان [الباء]. والثانية بضمها بلا تشديد. والثالثة بضمها وتشديد النون. الإنفحة فيها أربع لغات، أفصحها عند الجمهور بكسر الهمزة، وفتح الفاء، وتخفيف الحاء. والثانية كذلك مع تشديد الحاء. والثالثة: بفتح الهمزة مع التشديد. والرابعة: [منفحة] بكسر الميم وإسكان النون وتخفيف الحاء، وهي كرش الخروف والجدي، [ما لم] يأكل غير اللبن، وإذا أكل فكرش [جمعها أنافح]. قال: وإن أسلم في الرق، والجلود لم يجز: لأنه لا يمكن ضبطها بالصفات، فإن جلد الورك ثخين قوي، وجلد البطن رقيق لين، وجلدالصدر ثخين لين. وقيل: إن سوى جوانبها، ودبغت جاز السلم فيها وزناً، وهذا ما حكاه الرافعي،

وحكاه الماوردي مع عدم الجواز. قال: وإن أسلم في الورق جاز؛ لأنه يمكن ضبطه بالصفة فيذكر عدده، ويبين منه النوع والطول، والعرض والبلد والزمان والوزن فيه أحوط. قال: وإن أسلم في آنية مختلفة الأعلى والأسفل والأوسط، كالأسطال الضيقة الرءوس والمنائر لم يصح كما في السلم في السهام، وهذا ما حكاه الشيخ أبو حامد. وقال القاضي أبو الطيب بجواه، وحكاه عن نص الشافعي في الأم، وطرده في القمقم، فعلى هذا يشترط بعد ذكر الجنس ضبطه بالسعة أو الضيق والصغر، أو الكبر والعمق والثخانة أو الرقة، وهل هو مضروب أو منصوب، فإن ذكر الوزن كان أصح، وإن لم يذكره جاز. وفي تعليق القاضي الحسين: أنه نص على أن اللبن يجمع في بين العدد والوزن، فيقول: كل لبنة وزنها كذا قال: وقياس هذا النص: أن يكون السلم في القماقم والطناجر وغير ذلك مما يكون بصنعة آدمي، يذكر فيه الوزن والعدد. تنبيه: الواو في قول الشيخ "والأسفل والأوسط" بمعنى "أو"، ولهذا نظائر في كلام العرب، وليس المراد اشتراط اختلاف الأعلى والأوسط والأسفل، بل كل واحد منها مستقل بالحكم المذكور. والمنائر: جمع منارة بفتح الميم باتفاقهم. وقال أهل اللغة والنحوجمعها مناور [بالواو]؛ لأنها من النور. وقال الجوهري وغيره: هي مفعلة بفتح الميم من الاستنارة، ويجوز منائر بالهمز تشبيهاً للأصلي بالزائد، كما قالوا مصائب وأصله مصاوب. قال صاحب المحكم: الجمع مناور على القياس، ومنائر بالهمز على غير قياس. ومن هذا يعرف أن كلام الشيخ صحيح، لكنه لو قال بالواو لكان أجود. قال: وإن كان مما لا يختلف كالهاون والسطل المربع جاز لإمكان ضبطه،

والهاون: بفتح الواو، وهو معرب، وكان أصله هاوَوْن؛ لأن جمعه هواوين مثل قانون وقوانين فحذفوا الواو الثانية استثقالاً وفتحوا الأولى، فإنه ليس في [كلامهم] فاعل بالضم، قاله الجوهري. وقال ابن فارس: الهاوون بالواوين عربي، كانه فاعول من الهون. وقال الجواليقي: هو فارسي معرب مثل فاعول. والسطل، يقال له: السيطل وهما معربان. قال: ولا يجوز السلم إلا في قدر معلوم للخبر. "ويجوز فيما يكال": أي مثل الحبوب والمائعات، بالكيل وفيما يوزن، [أي]: مثل الخضراوات من البقول، والأجبان والباذنجان، والرمان، والأحجار [والأخشاب] التي يختلف الغرض بوزنها، والعنبر وإن كان يمكن كيله؛ لأن اليسير منه له قدر كثير، والسمن الجامد ونحو ذلك بالوزن. وهل يجوز بالكيل؟ نظر: إن كان يتجافا في المكيال فلا؛ [ولأن الكيل يقصر عن تحصيل المقصود]، وإن أمكن من غير تجافٍ جاز كيلاً أيضاً صرح به الماوردي، وأبو الطيب. والتين يجوز فيه السلم كيلاً أو وزناً من جنس معروف إذا اختلفت أجناسه، قاله ابن الصباغ. وفيما يذرع مثل الثياب، والأبواب، والرخام، والأكسية، والليود، والبسط التي يجوز السلم فيها بالذرع وفيما يعد أي مثل الرقيق والحيوان والورق الأبيض، وكذا الإيواني من النحاس وغيره، كما صرح به الماوردي بالعد؛ لأن ذلك يحصل المعرفة بالمقدار. وفي تعليق البندنيجي: أن السلم لا يجوز بغير كيل، ولا وزن إلا في شيئن الحيوان، والثياب والورق [الطَّهور] الذي يراد للغسل، فالمعتبر فيه الوزن لا غير وإن كان من الطَّهور المقروة لم يجز السلم فيها. قال الماوردي: لاختلافها، وأنه لا يضبط صفاتها.

فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَسْلَفَ، فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" فاعتبر هذين الأمرين لا غير، فلم اعتبرتم العدد والذرع؟ ومقتضى الحديث أيضاً أنه لا يجوز يما لا يكال، ولا يوزن، لكن قام الإجماع على جواه فيما عداها. وأما الحديث فجوابه: أنه ورد على سبب خاص، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يسلمون في التمر السنتين والثلاث، فقال: "من أسلم ...) إلى آخره، فيكون تقدير ذلك من أسلم في مكيل فليكن المكيل معلوماً، ومن أسلم في موزون فليكن الوزن معلوماً، ومن أسلم في مؤجل فليكن الأجر معلوماً، وبهذا – أيضاً – يحتج على من استدل بهذا الحديث على اشتراط التأجيل في السلم. قال: [وإن كان] مما يختلف كالبيض، والجوز، واللوز، والقثاء –أي: وهو ممدود بكسر القاف وضمها – والبطيخ لم يجز السلم فيه إلا وزناً لأن الكيل لا يحصره. وقيل: يجوز في الجوز واللوز كيلاً لعدم تجافيه في المكيال، وهذا ما جزم به ابن الصباغ، ولابد في كل من الكيل والذراع أن يكون معلوماً، لمن ذكرنا اشتراط معرفته بالوصف من قبل، وسيأتي الكلام على اشتراط المكيال المعين، ويذكر ثم الذراع المعين. قال: وإن أسلم فيمؤجل لم يجز إلاإلى أجل معلوم. للحديث السابق والمعنى فيه أن الأجل يقابله قسط من الثمن، فإذا كان مجهولاً جر جهالة إلى الثمن، فلو ذكرا أجلاً مجهولاً فالعقد باطل، وكذا لو حذفاه في المجلس على الأصح، وفيه وجه عن رواية صاحب التقريب، تقدمت حكايته أنه يصح ويصير حالاً، وكذا لو ذكرا أجلاً صحيحاً ثم حذفاه في المجلس صار حالاً، وفي هذا شيء ذكرته عن القاضي الحسين، في أول باب المرابحة، ثم السلم الحال جائز عندنا، كما يؤخذ من لفظ الشيخ هنا، ومن بعد اللهم إلا أن يكون المسلم فيه لا يوجد في الحال، ويوجد في ثاني الحال فلا يصح السلم فيه إلا مؤجلاً لذلك الوقت كما سيأتي.

ووجه ما قاله الشافعي أنه إذا جاز مؤجلاً مع ما فيه من الغرر فهو حالٌّ أجوز، وعن الغرر أبعد. والجواب عن الحديث قد سبق، لكن هل من شرط الحلول أن يصرح به حتى لو أطلق ولم يصرح به ولا بتأجيل يبطل العقد؛ لأن العرف فيه التأجيل فيكون السكوت عنه بمنزلة ذكراجل مجهول؛ إذ الإطلاق يدل عليه أو يحمل على الحلول؟ فيه وجهان، أو قولان: الأصح منهما عند الجمهور الثاني وعند الغزالي الأول، وبنى الماوردي الخلاف على خلاف حكاه عن الأصحاب ثلاثة أوجه: في أن الأصل في السلم التأجيل والحلول رخصة، أو العكس، أو كل منهما أصل، فالأول مبني على أن الأصل التأجيل والثاني على أن الأصل الحلول، وإذا قلنا لابد من التصريح بالحلول فصيغته أن يقول: أسلمت إليك في كذا حالاً، أو أطالبك به متى شئت للعرف، فلو قال أطالبك به متى شئت من ليل أو نهار ففيه وجهان. وجه البطلان: أن المسلم فيه إنما يجب تسليمه وقت الإمكان، فإذا وقع الشرط كما ذكر اقتضى أنيطالبه به في وقت لا يقدر علىتسليمه، وما لا يمكن تسلميه عند استحقاق المطالبة [به] لا يصح السلم فيه. فرع: إذا قال: اشتريت منك بألف على أن يضمن فلان الثمن عني، ويكون مؤجلاً في حقه إلىشهر، صح الأجل في حق فلان، وهل يثبت الأجل في حق المشتري؟ فيه وجهان منقولان في التتمة [في خيار الشرط]، ويتجه أن يجري مثلهما هاهنا. واعلم أن العلم بمقدار الأجل يحصل بوجهين: أحدهما: بتقدير مدة الأجل بأن يقول: بأجل شهرين، أو مدة شهرين، أو استحق المطالبة به بعد شهرين، ولا فرق في ذلك بين أن يقول ابتداؤها من الآن أو يطلق كما صرح به المتولي، وعلله بأن إطلاق الزمان في العقد ينصرف إلى الزمان الموصول بالعقد، كما لو قال: اجرتك شهراً ينعقد العقد على الشهر الموصول بالعقد [وكذلك إذا قال لا أكلمك شهراً اقتضى المتصل باليمين].

ثم الشهران معتبران بالأهلة إن كان العقد منطبقاً على أول الشهر، وإلا فالأول بالعدد والثاني بالهلال. وفيه وجه: أنه متى انكسر الأول انكسر ما بعده، وتمنى الإمام فيما إذا وقع العقد وقد بقىمن صفر لحظة وكان التأجيل بثلاثة أشهر، وقد نقص الربيعان أن يلتقس في هذه الصورة بالربيعين وجمادي فإنه جرت عربية كوامل، وما تمناه هو الذي نقله أبو سعيد المتولي وغيره. وقطعوا بحلول الأجل بانسلاخ جمادي في الصورة المذكورة، فإن العدد إنما يراعى إذا جرى العقد في غير اليوم الأخير. قال الرافعي: وهو الصواب. وإذا كان العقد في غير هذه الصورة وقع وقت الزوال، اعتبر آخر المدة بوقت الزوال، وقد تقدم عند الكلام في الخيار حكاية وجه أن ابتداء الأجل من حين التفرق. الثاني: يعين وقت المحل، بأن يقول إلى سنة كذا من الهجرة، فيحل الأجل من أول ليلة من السنة التي تليها؛ لأن أول شهور الهجرة المحرم، وقد كان أولها شهر ربيع الأول؛ لأن الهجرة كانت يه، وجعل أولها المحرم؛ لأنه أول شهور العرب، وكانوا يؤرخون بعام الفيل ثم أرخوا ببناء الكعبة، ثم أرخوا بالمبعث، ثم أرخوا بالهجرة، واستقر عليه المسلمون، وكان أول من أرخ بالسنين من الهجرة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لكتاب حمل إليه ليشهد يه وقد أرخ بشعبان فقال عمر: أي شعبان الماضي أو الآتي، أو الذي نحن فيه؟! أرخوا بالسنين. ومن هذا النوع ما إذا قال إلى شهر رمضان سواء علما ما بينهما أو لا. ويحل الحق بغروب الشمس من آخر يوم من شعبان. ولو عدل عن لفظ "الغاية" إلى حروف الظرف، فقال: في شهر رمضان لم يجز، كما لو قال في سنة كذا. وقال [أبو] علي بن أبي هريرة: يحمل على أول الشهر، كما لو قال لزوجته أنت طالق في شهر رمضان، فإنها تطلق بأول جزء منه، وقياس هذا أن يطرد في السنة، وقد

وافق على أنه لو قال: في سنة كذا لم يحمل على أول جزء منها كما حكاه الماوردي. وفي التتمة طرده في السنة أيضاً. وفرق الأصحاب بين هذا وبين الطلاق، بأن الطلاق يقبل التعليق بالمجهول، وبالغرر بخلاف العقود. قال ابن الصباغ وهذا الفرق ليس بصحيح عندي؛ لأنه لو كان مجهولاً لوجب أن يصح ولا يتعلق بأوله بل يتعلق بوقت منه يقف على بيانه، فإذا فات جميعه وقع فلما تعلق الطلاق بأوله اقتضى ذلك أن الإطلاق يقتضيه. ولو قال في يوم كذا، فمن أصحابنا من ألحقه بالشهر. قال الماوردي: والصحيح جوازه في اليوم لقرب ما بين طرفيه، فإن في تحديد [الوقت في اليوم] ضيقاً بلحق الناس، والتأجيل إلى اليوم يحل الأجل بطلوع فجر ذلك اليوم، وكذا في التأجيل إلى النهار على أحد الوجهين. والثاني: يحل بطلوع شمسه، ولو جعل الأجل عقيب شعبان أو عجزه لم يصح، قاله الماوردي. وكذا لو جعله إلى أول الشهر، أو إلى آخره. وقال الإمام وصاحب التهذيب: وجب أن يصح ويحمل على الجزء الأول من كل نصف، قياسه: مسألة النفر، وهذا ما ذكره الجيلي، وهو خلاف المذهب. ولو أجل بالحصاد، أو القطاف، أو الميسرة لم يصح. وي كتاب ابن كج: أن ابن خزيمة جوز السلم إلى الميسرة؛ لأنه - عليه السلام - اشترى شيئاً إلى الميسرة. [ولو أجل إلى الوقت الذي يصلح فيه الحصاد والدياس، والجذاذ فلا يقع تأجيل الثمن إليه. وفي جواز تأجيل الضمان إليه قولان، ذكرهما الماوردي عن أبي العباس في كتاب الضمان]. ولو أجل بالنيروز، أو المهرجان، او إلى شهر من شهور الروم، أو الفرس- جاز

على ما أطلقه ابن الصباغ والبندنيجي، وفصل الماوردي [هنا] فقال: إن كان المتعاقدان من العرب لا يعرفان قدر ذلك من الأشهر الهلالية لم يصح، وإن عرفا ذلك [أو كانا من الفرس] فهل يصح؟ فيه وجهان: مذهب البغداديين: الجواز. ومذهب البصريين: عدمه. [وقال في كتاب الضمان: إنه لا يجوز الأثمان بهما، وفي جواز تأجيل الضمان قولان حكاهما ابن سريج]. ووجه الإمام المنع في النيروز والمهرجان بأنهما يطلقان على الوقتين اللذين تنتهي الشمس فيهما إلىوائل برج الحمل والميزان، وقد يتفق ذلك ليلاً وقد ينحبس مسير الشمس كل سنة بمقدار ربع يوم وليلة، وهكذا الخلاف فيما لو أجل بفطر اليهود. وفصح النصارى إذا عرف المسلمون ذلك، قاله المارودي، وظاهر ما حكاه ابن الصباغ عن النص من التعليل يقتضي الجواز؛ لأنه علل المنع بأنه لا يعرفه المسلمون، وعلله الأصحاب بأنه يحتاج فيه إلى الرجوع إلى قولهم. قال ابن الصباغ: وهذا إنما يتصور إذا كان منهم عدد [يسير] فأما الكبير في البلاد الكبار، فلا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب، في الأخبار عن أعيادهم، ولو لم يعرفه إلا المتعاقدان، فالأصح أنه يكفي، وقيل، لابد من معرفة عدلين مسلمين، حكاه الرافعي. ولو قال: إلى نفر الحجيج الأول، وهو الاثني عشر من ذي الحجة، أو الثاني وهو اليوم الذي يليه صح من أهل مكة لمعرفة عوامهم به، وفي جوازه لغير أهل مكة وجهان ولو قال: إلى يوم القر، وهو الحادي عشر من ذي الحجة، وسمي بذلك لاستقرار الحجيج فيه بمنى، أو يوم الخلاء وهو الثالث عشر من ذي الحجة، وسمي بذلك لخلو منيّ فيه من أهلها – لم يجز لغير أهل مكة، وفي جواز لهل مكة وجهان: كذا قال الماوردي، واستبعده الرافعي، ولو أطلق التأجيل بنفر الحجيج او

ربيع أو جمادى أو العيد ففي الصحة وجهان، ومن صحح تركه على الأول، ويحكي ذلك عن النص، ولم يحك ابن الصباغ سواه. قال: وإن أسلم في جنسٍ إلى أجلين. أي: كما إذا قال أسلمت إليك في عشرة أرادب من كذا مائة درهم مثلاً خمسة مؤجلة إلى شهر، وخمسة إلى شهرين أو في جنسين إلى أجل أي بأن يقول أسلمت إليك خمسين درهماً في خمسة أرادب قمح، وخمسة أرادب شعير إلى شهر جاز في أصح القولين؛ لعموم الخبر. فإنه لم يفرق فيه وبالقياس، على ما لو باع بثمن مؤجل بنجمين أو بجنسين. والثاني: لا يجوز؛ لأنه ربما يتعذر التسليم في بعض الأجلين، أو بعض الجنسين، فيرتفع العقد فيه، فلا ندري ماذا يقابله من رأس المال، وذلك غرر. وهذا القول، قال المتولي: إنه مخرج من أصلين: أحدهما: أن المسلم فيه إذا انقطع ينفسخ العقد. والثاني: أن الصفقة لا تفرق. وبنى ابن الصباغ والماوردي [القولين على] القولين في أن رأس المال هل يشترط أن يكون معلوم المقدار؟ قال: وإن أسلم حالاً لم يفتقر إلى بيان الموضع ويستحق التسليم في موضع العقد كالبيع. فإن قيل: هلاَّ فصل الشيخ بين أن يكون السلم في موضع يصلح للتسلمي فيكون الحكم، كما ذكره أولاً [يكون] في موضع يصلح للتسليم فيجب تعينه؟ قلنا: الذي يظهر من كلام الأئمة أن السلم الحال في موضع لا يصلح للتسليم بالمعنى الذي سنبينه لا يصح؛ لأن من شرط الصحة في العقود القدرة على التسليم عند المحل، وهو حال وقد عجز عنه في الحال، ويرشد إلى ذلك أن الماوردي صرح بأنهما إذا كانا في موضع لا يتمكن من قبضه فيه بأن كانا في سفر أن العقد باطل [لكن قد حكينا عن رواية الرافعي في أواخر ما يتم به البيع، أنه إذا عين مكاناً لتسليم

السلم الحال فيه غير موضع العقد صح وتعين، وعلى هذا يتعين حمل كلام الماوردي السالف على ما إذا أطلق العقد ولم يبين موضعاً يصلح للتسليم]. قال: وإن أسلم مؤجلاً في موضع لا يصلح للتسليم كالبادية والصحراء، وجب بيان موضع التسليم؛ [لأنه لا يمكن حمله علىموضع العقد لتعذره، والغرض يختلف باختلاف غيره، فوجب البيان لنفي الجهالة والغرر. وفي الرافعي: ما يفهم حكايةقول عن رواية القاضي أبي حامد، وصاحب الإفصاح أن القولين الآتيين جاريان في هذه الصورة أيضاً، وادعى القاضي الحسين في تعليقه نفي الخلاف فيها على وفق ما ذكره الشيخ. وفي التتمة: حكاية وجه أنه يحمل على أقرب موضع صالح للتسليم. قال: وإن كان في موضع يصلح للتسليم، فقد قيل لا يجب بيانه ويجب التسليم في موضع العقد كالبيع بثمن مطلق في موضع فيه نقد متعارف. وهذه طريقة أبي إسحاق، وعليها حمل ما نقل عن الشافعي، في عدم اشتراط بيان الموضع، ونصه على الاشتراط، على ما إذا كان في موضع لا يصلح للتسليم. قال الجيلي وهذا هو الأصح. قال: وقيل فيه قولان: أحدهما: لا يجب؛ لما ذكرناه. والثاني: يجب؛ لاختلاف الأغراض في المواضع فكان التعيين واجباً؛ كما لو باع بثمن مطلق في موضع ليس فيه نقد غالب وقد اختلف الأصحاب في محل القولين. فمنهم من قال: محلهما إذا لم يكن للنقل مؤنة. أما إذا كان فيجب البيان قولاً واحداً، وهذا أصح الطرق عند الإمام. وفي تعليق القاضي الحسين ويروي عن اختيار القفال. ومنهم من قال: محلهما إذا كان للنقل مؤنة، أما إذا لم يكن فلا يجب قولاً واحداً. ومنهم من قال: لا فرق في جريانهما بين أن يكون للنقل مؤنة أم لا.

وذهب ابن القاص إلى ان المسألة ليست على قولين، كما ذهب إليه أبو إسحاق لكنه حمل [نص الوجوب] على ما إذا كان للحمل مؤنة، والنص بعدم الوجوب على ما إذا لم يكن له مؤنة، وهذا ما اختاره القاضي أبو الطيب. وقال الرافعي: إن الفتوى عليه. واعلمأن البيان يحصل بأن يقول: تسلمه إليّ في موضع كذا، أو بلد كذا، وإذا أحضره في أول البلد لزمه قبضه منه، ولو قال على أن تسلمه إليَّ في أي موضع شئت من بلد كذا، نظر: إن كان كبيراً لم يجز، وإن كان [صغيراً كجدة] جاز؛ لقرب أماكنه. ولو قال على أن تسلمه إليَّ ببلد كذا، أو بلد كذا فوجهان: أحدهما: البطلان. والثاني: أنهي صح، وينزل على تسليم الشطر في كل بلد صرح بذلك [جميعه] الماوردي. وقد يشكل الفرق بين ما إذا قال: [تسلمه إليَّ في بلد كذا، وبين ما إذا قال:] تسلمه إليّ في شهر كذا على المذهب، خصوصاً إذا كان للبلد أبواب. فرع: لو عين مكاناً للتسليم فخرب وخرج عن صلاحية التسليم فثلاثة أوجه: أحدها: أن ذلك يتعين. والثاني: لا وللمشتري الخيار. والثالث: يتعين أقرب موضع صالح. ولو لم يخرب، ولكنه صار مخوفاً لفتنة فيه، ففي الحاوي أنه لو أحضره إليه فيه لم يجب قبوله وليس للمسلم أن يكلفه نقله إلى موضع آخر، بل يتخير بين أن يصبر إلى أن تزول الفتنة، أو [إلى أخذه] فيه. قال: ولا يصح إلا فيما يعم وجوده أي في الحال [إن كان السلم حالاً]، أو

عند المحل إن كان السلم مؤجلاً؛ ليتيسر التسليم، [قال]: ويؤمن انقطاعه، لنأمن الغائلة. قال: فإن أسلم فيما لا يعم، كالصيد في موضع لا يكثرفيه، أو في جارية وأختها، أي: لندرة اتفاقهما في الصفات المشروطة، أو أسلم فيما لايؤمن انقطاعه كثمرة قرية بعينها، أو على مكيال بعينه، أي لا يعتاد الكيل بمثله، كالكوز، أو زنة صخرة بعينها لم يصح. أما فيما لا يعم وجوده؛ فلأن القدرة على التسليم متعذرة فأشبه بيع العبد الآبق، وأما في ثمرة القرية؛ فلأنه لا يؤمن فيها تسليم المبيع؛ لتعرضها للتلف فأشبه بيع المبيع قبل القبض. ووجهه الغزالي: بأن التعيين ينافي الدينية، من حيث إن التعيين يضيق محل التحصيل، والمسلم فيه ينبغي أن يكون ديناً مرسلاً في الذمة لتيسير أداؤه، ومقتضى هذه العلة ألا يجوز فيما إذا عين قرية كبيرة، لكن الأصح من الوجهين فيها الجواز، ولا نزاع في أنه لو أضاف إلى [ناحية، أو قرية كبيرة] وأفاد ذلك تنويعاً، كمعقلي البصرة أنه يجوز، وأما في الباقي؛ لأن ذلك مجهول؛ ولأن المعين قد يتلف فلا يدري ماذا يرجع به عند المحل، وعقد السلم يصان عن الغرر بقدر الإمكان؛ خشية من تكثيره. ورأيت في الحاوي أن بعض أصحابنا أنكر أن السلم عقد غرر، وألحقه ببيوع الأعيان. وعلىلعلتين يخرج البيع، فإن عللنا بالجهل لم يصح أن يبيعه من الصبرة ملء هذا الكوز، وإن عللنا بالثانية صح، وهو الأصح، وعليه يدل نص الشافعي، فيما إذا أصدقها ملء ههذ الجرة خلا أنه لا يجوز؛ لأنها قد تنكسر والسلم الحال هل يلحق بالبيع، أو بالسلم المؤجل؟ فيه وجهان، اختيار الشيخ أبي حامد منهما أنه كالمؤجل.

وفي النهاية: أن الصيد لو كان يوجد في بلد آخر، فينظر: إن كان قريباً منه صح، وإن كان بعيداً لم يصح، ولا تعتبر مسافة القصر وإنما القريب [هو] الذي يعتاد نقل مثله منه إلى البلد الآخر في غرض المعاملة لا في معرض التحف. وفي الوسيط: أنه لو أسلم في الجارية الخادمة وولدها جاز؛ ولأن ذلك لا يعز في الحاضنات دون الأمة التي تراد للتسري. وفي الحاوي: أن المكيال الذي عينه إذا كان مساوياً لكيل البلد ففي صحة السلم وجهان، ينبنيان على أنه هل يلزم التعيين؟ فإن لزم بطل كما لو كان مجهولاً، وهي صورة مسألة الكتاب وإلا صح، وجاز أن يكال له بغيره وهذا هو الأصح في الرافعي. وكذا الكلام في الوزن والذرع، وحكى فيما إذا شرط الذرع بذراع يده وعينه أنَّ من أصحابنا من أجازه لتعينه، وانتفاء الجهالة عنه، والصحيح أنه لا يجوز؛ لأنه قديموت فلا يمكن الاستيفاء بذراعه. فرع: لو أسلم في قدر كبير من الحنطة أو غيرها في وقت الباكورة بحيث يغلب على الظن وجوده لكن لا يحصل إلا بمشقة عظيمة، ففيه وجهان: أقربهما إلىكلام الأكثرين وبه قطع القاضي الحسين: البطلان، وأقيسهما عند الإمام: الصحة؛ لأن التحصيل ممكن، وقد التزمه، وهذا قريب من بيع الطير في الدار الفيحاء، والسمك في البركة الواسعة. قال: وإن أسلم فيما يؤمن انقطاع كالرطب، ثم انقطع في محله [أي بأن مضى الأجل وهو مفقود أو مات المسلم إليه قبل أوانه فحلَّ عليه الحق، كما صرح به البندنيجي] ففيه قولان: أصحهما: أن المشتري بالخيار بين أن يفسخ وبين أن يصبر إلى أن يوجد؛ لأن العقد ورد على مقدور عليه في الظاهر، فعروض التعذر لا يقتضي فسخ العقد،

ويقتضي ثبوت الخيار للتضرر بالتأخير، كما لو أبق العبد المبيع قبل القبض، ولأن المعقود عليه في الذمة، فلم يقتض التعذر فيه انفساخ العقد، وأثبت الخيار كما إذا أفلس المشتري بالثمن. قال: والثاني أنه ينفسخ العقد؛ لأنه لما كان تلف العين المبيعة عند استحقاق القبض مبطلاً للعقد، [وجب أن يكون عدم الموصوف في الذمة عند حلول الحق مبطلاً للعقد]، ولأنه سلم في معدوم فار كما لو علما عند العقد أنه معدوم، فعلى الأول في مدة الخيار ثلاثة أوجه: أحدها: أنه على الفور؛ كخيار العيب. والثاني: أنه يمتد إلى ثلاثة أيام، حكاهما الماوردي. وإذا أخر الرد على الوجهين لزمه الصبر إلى العام الآتي، ولم يكن له الفسخ قبله، وإذا جاء العام الآتي والثمرة أيضاً معدومة، فله الخيار أيضاً؛ لعدم لثمرة في العام الثاني، وهكذا. والثالث: ولم يحك الغزالي سواه أنه على التراخي؛ كخيار المرأة في الإيلاء؛ لأنه نتيجة حق المطالبة بالمستحق، وهو قائم متجدد في كل حال. فعلى هذا لو صرح بالإسقاط هل يسقط؟ فيه وجهان: [الذي أجاب به الماوردي منهما في كتاب الغصب، قبيل قوله: وإن للعبد المغصوب ثبات السقوط]. والأصح أنه لا يسقط، كما لا يسقط بالتأخير، ووجهه الإمام بأن هذه الإجازة إنظار، والإنظار تأجيل، والأجل لا يلحق العقد بعد لزومه. قلت: والذي يَظْهر ترجيحُ ما حكاه الماوردي أولاً، فإن ماقاله الغزالي فيه نظر من حيث إنه يقتضي تجدد حق الفسخ أولاً فأولاً؛ لأن الثابت من الخيار أولاً مستمر إلى الأبد بل في كل زمان تجدد ما يقتضي ثبوت الخيار، وذلك يقتضي الفور، لكن يخلفه ما يقتضي خيار آخر، ثم الفرق بين ما نحن فيه ومسألة المولى، أن الزوج قادر على الوطء في كل زمان، فالطلبة متجددة فلذلك تجدد حق الخيار، وهاهنا عند

انقطاع الثمرة المسلم فيها المسلم إليه غير قادر على التسليم، فلا يتجدد الطلب عليه بما هو عاجز عنه، ولا يرد علينا مسألةالعبد الآبق، فإنا نورد عليها مثل هذا السؤال ثم إذا ثبت سقوط الخيار عند السكوت فعند الإجازة من طريق الأولى وما قاله الإمام قد يتوقف فيه، ويقال ليس الأمر كذلك بل هو إسقاط حق متحقق كما في رضا امرأة العنين. والله أعلم. والقولان يجريان عند العراقيين فيما إذا لم يوجد المسلم فيه؛ بسبب جائحة أصابته أو لتأخر القبض حتى نفذ. وحكى الرافعي عن بعض الأصحاب: أن القولين في الحالة الأولى، فأما في الحالة الثانية، فلا ينفسخ العقد بحال، ولا فرق على القولين بثبوت حق الفسخ، بين أن يكون رأس المال باقياً أو تالفاً، ويخالف الفسخ بسبب الإفلاس، فإنه يشترط فيه أن يكون المبيع – الذي هو وزان رأس المال – باقياً. والفرق أن الفسخ في الفلس جوز؛ حتى لا يلحق البائع ضرر المقاسمة، وإذا كانت العين تالفة، فالضررلاحقٌ به، فلا فائدة في الفسخ، وهاهنا أبت له حق الفسخ؛ لتأخير الحق، وذلك موجود عند التلف. فإن قيل: بم يحصل الانقطاع؟ قلنا بألا يوجد أصلا، وفي معناه: ما إذا كان يوجد في غير تلك البلدة التي يستحق القبض فيها، ولكن لو نقل إليها لفسد، وما إذا لم يوجد إلا عند قوم مخصوصين، وامتنعوا من بيعه ولو كانوا يبيعونه بثمن غالٍ – وجب تحصيله، ولم يكن ذلك انقطاعاً، وإن أمكن نقل المسلم فيه إلى البلد التي يستحق القبض فيها – وجب نقله إن كانت في حد القرب. ولا انقطاع، وبم يضبط؟ قال في التهذيب وغيره: يه وجهان: أقربهما: ما دون مسافة القصر. والثاني: مسافة العدو. وفي النهاية: إن النقل إن أمكن، ولو على عسر، فالأصح أن السلم لا ينفسخ أصلاً، ومنهم من طرد فيه القولين.

فرع: لو أسلم في شيء عام الوجود عند المحل، ثم عرضت آفة، علم بها انقطاع الجنس عند المحل، فينجز حكم الانقطاع في الحال، أو يتأخر إلى المحل؟ فيه وجهان: أظهرهما: الثاني، وهو مأخوذ (مما) إذا حلف ليأكل هذا الطعام غداً فتلف في يومه. آخر: إذا فسخ العقد أو انفسخ وجب رد رأس المال، إن كان باقياً وقد ورد العقد على عينه، وكذا إن ورد على ما في الذمة، وعين في المجلس على أحد الوجهين. وعلى الثاني: هو مخير إن شاء رده، وإن شاء رد بدله وبنى الإمام الوجهين على أن المسلم فيه إذا رد بالعيب هل يكون نقضاً للملك من أصله تبينا، أو هو نقض في الحال؟ وفيه خلاف، فإن قلنا بالأول وجب رده، وألا فللمسلم إليه الإبدال. وفي التتمة حكاية هذا الخلاف فيما إذا كان رأس المال من ذوات الأمثال. أما إذا كان من ذوات القيم، فيتعين رده وطرد هذا الحكم فيما إذا أقبض المسلِم المسلَم فيه ثم وجد المسلَم إليه برأس المال المعين في العقد عيباً ورده، وإن كان رأس المال تالفاً، رجع ببدله، من مثل أو قيمة. قال: ولا يجوز بيع المسلم فيه قبل القبض، ولا التولية، ولا الشركة لما روي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه سلم قال: "مَنْ أَسْلَفَ في شَيْءٍ فَلاَ يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِه" ولأن المبيع مع تعيينه لا يجوز بيعه قبل القبض، فالمسلم فهي مع كونه مرسلاً في الذمة أولا، ولو صالح من المسلم فهي على رأس المال قبل القبض. قال ابن سريج: يجوز ويكون سخاً للعقد بلفظ الصلح، حكاه عنه المتولي وغيره، وقد مضى الفرق بين الثمن، إذا كان في الذمة، وبين المثمن في باب "ما يتم به البيع"، وكذلك تقدم الكلام في باب "بيع المصراة" في أن الإقالة هل تجوز في المسلم فيه؟

وتقدم [في] آخر باب المرابحة، بيان التولية والشركة، وأنهما بيع في الحقيقة. قال: وإذا أحضر المسلم فهي، أي في محل قبضه، من زمان وكان، على الصفة التي يتناولها العقد أو أجود منه، وجب قبوله. أما إذا أتى به على الصفة؛ فلأنه المسلم فيه وله غرض في براءة ذمته، وأما إذا كان أجود منه؛ فلأنه أتاه بحقه وزيادة غير متميزة، ولا مخلة بمقصوده فكان الامتناع من القبض محض إضرار، وهذا هو الأصح في تعليق البندنيجي. ولا فرق فيه بين زيادة الصفة مثل أن يعطيه الجيد عن الردئ، أو الأجود عن الجيد وبين زيادة النوع. قال: وقيل إن كان الأجودمن نوع آخر، كالمعقلي عن البرني. أي وكالزيت الأسود عن الأبيض، والثوب المروي عن القزويني، لم يجب قبوله لاختلاف الأغراض باختلاف الأنواع، وهذا ما قال به القاضي أبو الطيب، وجعله المتولي المذهب، ورجحه ابن الصباغ، وإيراد الرافعي يقتضي ترجيحه. فعلى هذا هل يجوز القبول؟ فيه وجهان: أظهرهما عند الرافعي وقال: إن الشيخ أبا حامد قال به [لا]؛ لأنه يشبه الاعتياض، كما لو اختلف الجنس. والثاني: نعم، كام لو اختلفت الصفة. وحكى الماوردي هذا الخلاف ابتداء، وعزا الأول إلى أبي إسحاق. والثاني إلى ابن أبي هريرة، وصححه ثم ال: فإن قلنا بهذا أجبر المسلم إليه على القبول، وقد حكى الإمام في وجوب الإجبار، عند إتيانه بالأجود في الصفة وجها: أنه لا يجب؛ لمكان المنة، والتفاوت بين التركي والهندي من العبيد، تفاوت نوع لا تفاوت جنس، على الأصح، والتفاوت بين الرطب والتمر، وبين ماي سقىبماء السماء وما يسقى بغيره، تفاوت نوع لا تفاوت وصف، على الأشبه من الوجهين.

التفريع: حيث قلنا يجب القبول، فإذا امتنع من القبض قيل له إما أن تقبض أو تبرأ من الحق، فإن فعل وإلا قبضه الحاكم عنه، وبرئ المسلم إليه؛ لأنه حق وجب عليه يمكن أن ينوب الحاكم عنه فيه فقام مقامه فيه. وفي النهاية وغيرها من كتب المراوزة، حكاية طريقة أخرى: أنه لا يجبر على قبوله على أحد القولين، إذا لميكن للدافع غرض سوى البراءة، كما سنذكره في الدين المؤجل، أما إذا كان له غرض، من فك رهن أو براءة ضامن، أجبر قولاً واحداً. تنبيه: إطلاق الشيخ يقتضي مع قرينة التفصيل من بعد، أنه لا فرق في وجوب القبول عند الإتيان به على الصفة، بين أن يكون على المسلم فيه ضرر أم لا. وفي الحاوي: أنه لو أسلم إليه في جارية بصفة، فأتاه بها على تلك الصفة وهي زوجته لم يلزمه قبولها لأنه لو قبلها، بطل نكاحه فيدخل عليه بقبولها نقص وكذلك المرأة إذا أسلمت في عبد فأحضر إليها زوجها لميلزمها القبول، لما فيه من فسخ النكاح، ولو أسلم في عبد بصفة فأتاه بعبد على تلك الصفة فكان ابن المسلم أو جده، لم يلزمه قبوله أيضاً؛ لأنه يعتق عليه فلا يستمر له عليه ملك فصار عيباً؛ لأنه أسلم فيما يمملكه، فإن قبضه وهو لا يعلم أنه أبوه ثم علم فوجهان: أحدهما: أن القبض فاسد، فلا يعتق عليه، وله رده؛ لأنه ممنلا يوجب عقد السلم إقباضه، والثاني: أن القبض صحيح، والعتق نافذ، ولا أرش له؛ لأن كونه أبا المسلم ليس بعيب في الأسواق، يوجب نقص الثمن. ولو كان المأتي به أخا المسلم أو عمه، فهل له الامتناع من قبوله؟ على وجهين: أحدهما: له ذلك؛ لأن من جملة الحكام، من يعتقه عليه ويمنعه من بيعه انتهى. فإن قيل: ما ذكره من عدم وجوب قبول الزوج والزوجة ليس لما يلحقه من الضرر بفسخ النكاح بل؛ لأن الزواج عيب في الأمة والعبد عند عامة الناس، والمسلم فهي لا يجب قبوله معيباً.

قلت: لما كان القبض يرفع النكاح قدر عدمه، وإن كان عيباً، ويشهد لذلك أمران: أحدهما: ما قدمناه فيما إذا اشترىجارية وزوجها، وقال لها الزوج: إن ردك سيدك بعيب فأنت طالق، وكان قبل الدخول، فإن للمشتري رده بما اطلع عليه من عيبها؛ لأن الزوجية تزول بالرد، فقدرت كالمعدومة. الثاني: ما حكاه الإمام في ضمن فصل مذكور في نكاح الغرور أنه لو قتل أمة مزوجة يلزمه قيمتها خلية عن الزوج وإن كان تقدير النكاح فيهما ممكناً لو بقيت؛ لأن القتل يزيله فجعلنا المحقق فيه كالواقع، والله أعلم. فرع: لو أسلم في عبد فأتاه بخنثى، لم يلزمه قبوله، فإن تراضيا على قبوله، لم يجز لاحتمال أن يكون بضد ما أسلم فيه، وبيع المسلم فيه قبل القبض لا يجوز، نعم لو بان إشكاله جاز له قبوله، وله الخيار إن وجده يبول من الفرجين، وإن كان يبول من أحدهما فلا خيار. قال: وإن أحضره قبل المحل، ولم يكن عليه ضرر في قبضه لزمه قبوله؛ لما فيه

من تبرئة ذمة صاحبه من غير ضرر يلحقه، فالامتناع منه نوع من التعنت فيمنع [منه]. أما إذا كان عليه [فيه] ضرر فلا يجب عليه القبول؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَار".

ووراء ما ذكره الشيخ للأصحاب تفصيل آخر، فقالوا: إن كان للمتنع من القبض

غرض بأن كان في وقت نهب، أو كان المسلم فيه حيواناً يحذر من [علفه أوثمرة أو لحماً]، يريد أكله عند المحل طريًّا أو كان مما يحتاج إلى مكان له مؤنة كالقطن والحنطة الكثيرين، فلا يجبر، اللهم إلا ان يكون النهب والغارة يوجدان عند العقد فإن ذلك هل يجعل النهب الموجود عند الإقباض كالمعدوم؟ فيه وجهان في "الإبانة". وإن لم يكن له غرض وكان للمؤدي غرض من فك رهن أو براءة ضامن أو كان عليه في حفظه كلفة، كما قال المتولي، أجبر على القبول. وفي النهاية: أن من أصحابنا من قال بطرد القولين، في الدين المؤجل، وإن كان للمعجل غرض كيف ما فرض الأمر، ومراده القولين الآتيين في الصورة الثالثة.

وهذا يوهم طرد الخلاف في الصورة الأولى أيضاً، وهل يلتحق بهذه الأعذار خوفه من انقطاع المسلم فيه قبل الحلول؟ فيه وجهان. وإن لم يكن له غرض سوى براءة الذمة ففيه قولان: أصحهما في الرافعي وهو المنصوص [عليه في المختصر: أنه يجب لما ذكرناه، وهذا كله لا يأباه كلام الشيخ. ووجه الإمام] بأن الأجل حق من عليه الدين، فإذا أسقطه لم يكن لمستحق الحق أن يمتنع، وإذا كان أصل الحق يسقط بإبراء مستحقه من غير شرط القبول على الأصح، فينبغي أن يسقط حق الأجل، من غير حاجة إلى قبول من يستحق أصل الدين، وما قاله هنا قد يظهر أنه مخالف لما حكاه متصلاً بباب تجارة الوصي بمال اليتيم، فإنه قال: من عليه الحق المؤجل إذا أسقط الأجل لم يسقط في حق مستحق الدين، حتى لو أتى به قبل حلول الأجل المذكور لم يجبر مستحق الدين علىلقبول على القول الصحيح، وهل يسقط الأجل في حق من عليه الدين، حتى لو اراد مستحق الدين مطالبته قبل الحلول يكون له ذلك؟ فيه وجهان انتهى. ولو كان للمتنع غرض وللمؤدي غرض غير براءة الذمة، ففيه طريقان في النهاية: أحدهما: أنهما يتساقطان، ويجري القولان. وأصحهما: أن المرعي جانب المستحق، وعلى هذه الطريقة ينبغي أن يحمل إطلاقه التصحيح قبيل تجارة الوصي، وسلك الغزالي في التفصيل طريقاً آخر فقال: إن كان له غرض في التعجيل أجبر الممتنع على القبول، وإن لم يكن له غرض سوى البراءة – نظر: فإن كان للمتنع غرض فلا يجبر، وإن لم يكن له غرض في الامتناع فقولان. قال الرافعي: فإن ذكر هذا عن ثبت فهو منفرد بما نقل وألا فقد التبس الأمر عليه، وحكم سائر الديون فيما ذكرناه حكم المسلم فيه. ولو أتى بالمسلم فيه في غير المكان الذي استحق قبضه فيه، فإن كان لنقله مؤنة

لم يجبر على القبول، وإن لم يكن لنقله مؤنة، كالدراهم والدنانير وما في معناهما، ففي الإجبار على القبض القولان المتقدمان، فيما إذا أتى بالحق قبل حلول الأجل، فإن التفاوت المكاني في الحكم الذي ذكرناه كالتفاوت الزماني، صرح به القاضي الحسين، والإمام في أواخر الباب، [وإن كان قد جزم بقولٍ بعدم الإجبار في أثناء الباب]. فرع: إذا وضع المسلم فيه بين يدي المسلم، هل يكون قبضاً؟ قال القاضي الحسين: ذلك ينبني على أن ذلك هل يحصل به القبض في بيع العين؟ وفيه وجهان: فإن قلنا: لا يحصل به، فهاهنا كذلك. وإن قلنا: إنه يحصل، فهاهنا وجهان: والفرق أن هناك عين ماله أتى بها فأشبه الغاصب، بخلاف ما نحن فيه؛ لأنه يريد أن يجعل مال نفسه ملكاً للمسلم، فأشبه المستقرض إذا أتى بمال القرض، ووضعه بين يدي المقرض لا يخرج عن ضمانه. [آخر إذا قلنا بإجبار من له الدين على قبضه، فلو كان غائباً فهل يجب على القاضي قبوله إذا أحضر إليه؟ فيه وجهان مذكوران في الرافعي في الوديعة. آخر: إذا ادعى من عليه الدين ان الدين حال، وأراد إجبار رب الدين على قبضه. فقال: بل هو مؤجل، وكان في صورة لا يجب فيها قبض المؤجل، فهل القول قول المديون أو رب الدين؟ حكى الروياني في البحر في آخر الضمان أن والده، قال: يحتمل وجهين، وأصلهما ما إذا عقب الإقرار بالتأجيل]. قال: وإن قبض، ثم ادعى أنه غلط عليه في الكيل، أو الوزن لم يقبل في أصح القولين؛ لأن الأصل السلامة من لغلط، مع أن العادة فيمن يقبض حقه

بالكيل أو الوزن أن يقبضه جميعه. والقول الثاني: أن القول قول المسلم؛ لأن الأصل عدم قبض الجميع وبقاء الحق في ذمة المسلم إليه. وهذا الخلاف قد حكى الشيخ [في المهذب]، في باب اختلاف المتبايعين مثله فيما إذا باع منه عشرة أقفزة من صبرة، وسلمها إليه بالكيل، ثم وقع الاختلاف بينهما، كما ذكرناه. وقال في كتاب السلم: إن كان ما يدعيه قليلاً قبل، وإن كان كثيراً لم يقبل؛ لأنه لا يبخس بالكثير والقليل، كالواحد من العشرة، والكثير كالثلث والربع، [وحكم الثمن إذا وقع الاختلاف فيه كما ذكرنا، وقد قبضه بالوزن حكم المسلم فيه، صرح به البندنيجي في باب بيع الطعام]. قال: وإن دفع إليه جزافاً، فادعى أنه أنقص من حقه، فالقول قوله: مع يمينه صورة المسألة: أن يحضر المسلم إليه، المسلم فيه، ويقول للمسلم إنه قدر حقه فيقبضه منه من غير كيل ولا وزن، اعتماداً علىقوله أنه قدر حقه، ثم يتلف ويقع الاختلاف بعده فالقبض فاسد، وهكذا الحكم فيما لو [لم] يقل له المسلم إليه أنه قد رحقه. ووجه فساده [الجهل بمقدار حقه. قال البندنيجي، والمحاملي في باب بيع الطعام، ومعنى فساده]، أن القول قول القابض في قدر نقصانه قليلاً كان النقصان، أو كثيراً؛ لأنه لم يعترف بشيء حتى يؤاخذ بموجبه، والأصل عدم قبض القدر الزائد، وهذا هو تعليل ما قاله الشيخ. أما إذا كان المقبوض باقياً واتفقا عليه اعتبرناه، فإن خرج قدر حقه فذاك، وإن زاد استرجعنا الفاضل، وإن نقص كمل له ولا يملك المسلم التصرف في جميعه

قبل اعتباره وهل يملكه فيما يستيقن أنه له؟ فيه وجهان، حكاهما المحاملي، قول أبي إسحاق منهما: أنه يصح، وهو الذي صححه المحاملي، وقول ابن أبي هريرة لا، وبه جزم الماوردي لعدم القبض المستحق بالعقد، وادعى الرافعي، أن الجمهور ساعدوا ابن أبي هريرة، لكنه حكى الوجهين فيما إذا باعه طعاماً مكايلة فقبضه جزافاً، وهما عند صاحب حلية الشاشي هما، وفي الحاوي حكاية الوجهين فيما لو كان المقبوض بدلاص عن قرض؛ فإن الأصح الصحة؛ لأن ملك القرض مستقر بخلاف البيع. وقال: إن الشافعي أشار إليه في الأم. وقال الإمام في باب بيع الطعام: إن الخلاف المذكور لا يجري فيما إذا كان الحق في الذمة؛ لأن في مسألة بيع الطعام جزافاً، الملك يثبت في معين، فالقبض جرى في المملوك، وخالف ما في الذمة، فإنه إذا لم يصح القبض لم يملك المقبوض ولم يتعين حقه فيه إذا لم يسبق له حق في العين، ومقتضى هذا أنه لا بد من تجديد القبض بعد الكيل أو الوزن، إن كان المقبوض باقياً، وإن كان تالفاً فقد ثبت لكل منهما في ذمة الآخر شيء فلا يجيء أقوال التقاص؛ لأنه نوع اعتياض عن المسلم فيه، وذلك لا يجوز. [تنبيه: الجزاف بكسر الجيم وضمها وفتحها. قال صاحب المحكم: وهو الجزافة أيضاً. قال الجوهري: أخذته مجازفة وجزافاً]. قال: وإن وجد بما قبض عيباً رده؛ لأن الإطلاق يقتضي السلامة كما في بيع الأعيان، وهل ذلك نقض للملك من أصله، أو من حين الرد؟ فيه وجهان تقدما، تظهر فائدتهما فيما لو كان المقبوض جارية في وجوب الاستبراء، قال: ويطالب بالبدل؛ لأن حقه ثابت في الذمة، وهذا إذا لم يرض به، أما إذا رضي به فله إمساكه. قال: فإن حدث عنده عيب آخر طالب بالأرش، كما في البيع.

قال في التتمة: وفيه وجه آخر، أنه يرده، ويرد معه الأرش، ويطالب بحقه، وطرده فيما لو اطلع على العيب بعد تلفه، وقال: برد بدله من مثل أو قيمة ويطالب بالمسلم [فيه]. قال: فإن أنكر المسلم إليه، وقال: الذي أسلمت إليك غيره، فالقول قول المسلم إليه، مع يمينه. لأنهما قد اتفقا علىجريان القبض المبرئ في الظاهر، والمسلم يعي مرجعاً على المسلم إليه، والأصل عدمه، وصار هذا كما لو أحضر المشتري عبداً بعينه وادعى أنه المبيع، وأنه معيب، فأنكر البائع أنه المبيع، فإن القول قوله. وفي النهاية حكاية وجه [آخر]، قبيل كتاب السلم أن القول قول المسلم، فإنهما اتفقا على اشتغال ذمة المسلم إليه، والمسلم إليه يدعي براءة ذمته، والأصل اشتغالها، وليس كذلك العبد المعين، فإنهما اتفقا على أن المشتري قبض ما اشتراه، ثم اختلفا في أن العقد هل ينفسخ بعد ذلك، أم لا؟ والأصل بقاء العقد، وهذا موافق لما حكى عن القاضي أبي الطيب في شرح المولدات. والخلاف يجري في الثمن الواقع في الذمة والمثمن. وذكر ابن سريج وجهاً ثالثاً في الثمن، أنه لو قال البائع: الدراهم التي تسلمتها زيواً، وليست ورقاً، فالقول قوله، فإنه منكر أصل القبض، وإن قال: هي معيبة، فالقولقول المشتري حينئذ، فإن أصل القبض ثابت بدليل أنه لو رضي القابض به عد ثمناً وجرى عوضاً، وهذا ما حكاه الماوردي قبيل "باب بيع اللحم باللحم". فروع: لا يجب على المسلم في التمر قبوله إلا جافاً، ولا يلزمه قبوله إذا أتى به وقد

انتهى إلى غاية الجفاف، بحيث لم يبق فيه نداوة؛ لأن ذلك نقص، وإذا أسلم في الرطب لم يقبل بسراً، ولا مذنباً ولا منصفاً، حتى يكون رطباً [كله]، وإذا كان رطباً لم يقبل مشدخاً. قال الشافعي: ولا محلقاً وهو إذا ذهب من كل رطبة بعضها بأكل أو غيره، ولا يقبل منه ناشفاً، قاله [القاضي] البندنيجي. وليس عليه أن يأخذ من الحبوب، ما اختلط بغيره من جنس آخر، وكذا من قصل أو زوان، وكذا من تراب إن كان السلم فيه بالوزن، وإن كان بالكيل فيغتفر فيه من التراب والتبن، ما لا يظهر له أثر في المكيال.

باب القرض

باب القرض القرض: بفتح القاف وكسرها في اللغة: القطع؛ ومنه قولهم للثوب المقطوع: مقروض، وأطلق على المعنى المراد في هذا الباب؛ لأن المقرض يقطع قطعة من ماله، يدفعها إلى المقترض؛ ولهذا المعنى سمي المقارض مقارضاً، ويقال: أقرضه يقرضه، واستقرضت منه طلبت منه القرض، واقترضت منه أخذت منه القرض، وقد ذكرنا أنه يطلق على القرض: سلف. وهي لغة أهل الحجاز. والقرض لغة أهل العراق. والأصل في مشروعيته: ما سوى مسلم، عن أبي رافع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فوردت عليه إبل من الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعيًّا؛ فقال: "أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء". وروى البزار عن ابن عباس، قال: "اسْتَسْلَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ أَرْبَعِينَ صَاعاً وَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ فَضْلاً، وَأَرْبَعِينَ بِسَلَفِهِ، فَأَعْطَاهُ ثَمَانِينَ". وروى إبراهيم بن عبد الله بن ربيعة عن أبيه، عن جده قال: استقرض مني رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين ألفاً، ثم أتى بمال فقال: ادعوا لي ابن أبي ربيعة، فقال: "هَذَا مَالُكَ، فَبَارَكَ اللهُ لَكَ فِي مَالِكَ وَوَلَدِكَ إِنَّمَا السَّلَفِ الْحَمْدُ وَالْوَفَاءُ" [وأخرجه النسائي بغير هذا اللفظ]. وروى أنه - عليه السلام - اقترض من رجل صاعاً، ورد عليه صاعين. قال: القرض مندوب إليه؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كَشَفَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَة،

وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ، مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ". [وروى مسلم عن أبي قتادة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ]، والقرض مما يحصل به تفريج الكربة [والتنفيس] وقد روي عن كل من ابن عباس وابن مسعود وأبي الدراء أنه قال: لأن أقرض مرتين أحب إليَّ من أن أتصدق مرة. وروى البزار عن ابن سعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: "قَرْضُ مَرَّتَيْنِ [يَعْدِلُ] صَدَقَةَ مَرَّةٍ"، وإنما كان القرض خير من الصدقة؛ لأنه لا يأخذه إلا محتاج إليه؛ بخلاف الصدقة. قال: ويجوز قرض كل ما يثبت في الذمة بعقد السلم أي من عين ومنفعة، [كما صرح به المتولي]. والأصل فيه في الحيوان، والدراهم، وما يكال: الأحاديث السابقةن وفيما عدا ذلك: القياس على المنصوص عليه، ولأنه عقد تمليك؛ يثبت العوض فيه في الذمة؛ فجاز فيما يملك ويضبط بالصفة كالسلم، ولا يستثني من ذلك إلا ما سنذكره من الجواري.

ويشترط في المقترَض: أن يكون معلوم القدر والصفة؛ [لأنه] يحتاج إلى رد بدله فافتقر إلى معرفة ما يرجع به، كما في القراض، صرح بذلك البندنيجي هاهنا، وجعله القاضي أبو الطيب، والماوردي أصلاً وقاساً عليه القول، باعتبار ذلك في رأس مال السلم، ويكفي في التقدير الكيل أو الوزن، [وإن كان مكيلاً]. وعن القفال: أنه لا يجوز أن يقرض ما يكال مما يجري فيه الربا. كما قيده في التتمة إلا كيلاً، وما يوزن إلا وزناً، وحكاه الماوردي وجهاً، والأول أصح. وهذا إذا كان المقرض عيناً، أما إذا كان ديناً، مثل أن يقول أقرضتك عشرة دراهم صفتها كذا [وقبل]، فإن عين في المجلس صح، وإن عين بعد مفارقة المجلس. قال في المهذب: إن لم يطل الفصل جاز، وإن طال لم يجز حتى يعيد لفظ القرض. قال: وما لا يثبت في الذمة بعقد السلم؛ كالجواهر، والخبز، والحنطة المختلطة بالشعير لا يجوز قرضه؛ لأن ما كان وصفه شرطاً في صحة العقد عليه لا يجوز العقد عليه عند تعذر الوصف كالمسلم فيه، وهذه مادة ما حكينا في رأس مال السلم عن العراقيين، وقد صار إلى هذا البصريون من أصحابنا، وبه جزم القاضي الحسين، وصاحب التلخيص.

وحكاه الإمام عن جماهير الأصحاب، وذهب البغداديون من أصحابنا إلى صحة القرض، اعتباراً ببيعه، وبنى القاضي أبو الطيب وغيره الخلاف على الخلاف الآتي في أن الواجب في رد ما لا مثل له حقيقة [رد] المثل الصوري، أو القيمة فإن قلنا بالأول، لم يجز القرض، وإلا جاز القرض، وإلا جاز، وضمنه بالقيمة، وهذا ماجزم به المحاملي في الجواهر، وإن أجرى الخلاف في أن الواجب فيما لا مثل له حقيقة رد المثل الصوري أو القيمة. وقال في الشامل: إنه الذي صار إليه الشيخ أبو حامد. ويلزم هذا القائل من العراقيين أن يفرق بين هذا، وبين رأس مال السلم، وله أن يفرق بما ذكرناه عن الإمام ثم إن لم يلاحظ ما علل به أبو إسحاق قول اشتراط القدر والوصف ثم، وقد جزم المتولي بجواز إقراض الخبز، وحكى وجهين في جواز إقراض الخمير، وعلل ذلك باتفاق أهل الأمصار عليه، ثم المعتبر فيهما على قول الجواز [الوزن] وفي الكافي أنه يجوز إقراض الخبز وزناً وعدداً. [ومما يندرج في كلام الشيخ، قرض منفعة دار بعينها؛ لأنه لا يجوز السلم فيها، وقد صرح بذلك القاضي الحسين في كتاب الغصب، ومن جوز نظراً إلى جواز البيع قد يجوز ذلك]. قال: ولا يجوز أن يقرض الجارية لمن يملك وطأها أي: يحل له وطؤها في الجملة؛ لأن ملك القرض غير مستقر؛ من حيث إن للمقرض استرجاعه وللمقترض رده، والوطء لا يجوز إلا في ملك تام لئلا يصير الإنسان مستبيحاً للوطء بغير بدل،

وليس هذا كالأب إذا وهب جارية لولده يحل له وطؤها مع جواز استرجاع الأب [لها]؛ لأن الملك من جهة الابن لازم وهو ما نص عليه الشافعي في القديم والجديد، كما صرح به البندنيجي. قال الماوردي: ولا يصح ما ذهب إليه المزني من تأويل كلام الشافعي [في جواز قرضهن أن يكون قولاً ثانياً – كما وهم بعض المتأخرين من أصحابنا – بل منصوصات الشافعي] كلها دالة على التحريم. وفي الوسيط: أن للشافعي في ذلك قولين منصوصين، وأن القياس الجواز كما في العبيد، وهكذا رأى الإمام وبنى بعضهم الخلاف على أن المال المقترض بماذا يملك؟ فإن قلنا بالقبض جاز، وإلا فلا؛ لما في إثبات اليد على أجنبية من خوف الوقوع في الوطء، وهذا ما حكاه الإمام عن الأكثرين، وعكس الشيخ أبو علي ذلك فقال: إن قلنا: يملك بالقبض لم يجز؛ لما ذكرناه أولاً. وإن قلنا: لا يملك به فيجوز؛ لان الوطء يخرج عن أن يكون في صورة الإباحة. قال: ويجوز لمن لا يملك وطأها يعني: كالأخت من النسب أو الرضاع، ومن هي محرمة عليه تحريماً مؤبداً؛ لأن المحذور فيها منتفٍ، فأشبه قرض العبيد. وهذا ما ادعى الرافعي، والغزالي نفي الخلاف فيه، ونسبه الماوردي إلى البغداديين، وحكى وجهاً هو قول البصريين من أصحابنا: أنه لا يجوز قرضها أيضاً، وطرده في جواز اقتراض المرأة الجارية. قال: "ويملك المال فيه بالقبض" القرض لابد فيه من الإيجاب والقبول عند العراقيين، وصاحب التهذيب؛ لأنه تمليك، كالبيع، والهبة. وينعقد بالكتابة في حال الغيبة على وجه. وحكى الغزالي وجهاً: أن القبول لا يشترط في الحضور؛ لأنه إذن في الإتلاف بشرط الضمان. وادعى الإمام، أنه أظهر، وحكى المتولي أن الإيجاب والقبول ليس بشرط، بل إذا

قال: أقرضني كذا، أو أرسل إليه رسولاً فبعث إليه المال، صح [القرض وثبت حكمه،]. وهكذا لو قال رب المال: أقرضتك هذه الدراهم [وسلمها إليه فقبضها]، ثبت القرض. والذي أورده المعظم الأول. ثم صيغة الإيجاب أن يقول: أقرضتك أو أسلفتك، [أو ملكتك] على أن ترد عليَّ بدله، فلو قال: ملكتك ولم يذكر رد البدل، فهو هبة. وفي التتمة: أنه إذا قال: خذ هذه الدراهم وتصرف فيها لنفسك، أو قال: خذ هذا الطعام، وازرعه لنفسك، هل يكون قرضاً أم لاّ؟ فيه وجهان: وجه المنع: أن ارتفاق الغير بمال الغير قد يكون على سبيل القرض، وقد يكون على سبيلالهبة، واللفظ يحتملهما، فلا يقطع حقه عن ملكه إلا بيقين [وقد أبدى الإمام هذا الخلاف تردداً عن القفال في باب بيع الطعام]. وقريب من هذا الخلاف ما حكاه الغزالي في كتاب القراض فيما إذا قال: اشتر لي هذا الثوب بفرسك، [ففعل] فإنه هل يصح للآمر؟ [فيه] وجهان. [وإذا صح فهل يُعَدُّ انتقال الفرس إلى الآمر بطريق القرض أو الهبة؟ وجهان: و] إذا تقرر ذلك فمتى يملك المال فيه [بعد صدور العقد]؟ فيه قولان منتزعان من كلام الشافعي: أحدهما – كما قال الشيخ: أنه يملك بالقبض، وهو الصحيح؛ لأنه إذا قبضه ملك التصرف فيه من جميع الوجوه، ولو لم يملكه لما ملك التصرف فيه؛ إذ ليس هو نائباً عن المالك، ولا وليِّ عليه؛ ولأن الملك يحصل في الهبة للولد بالقبض ففي القرض أولى؛ لأن للعوض مدخلاً فيه، [وعلى هذا يكون القبض في المنافع المقرضة بقبض

العين المستوفي منها]. قال: وقيل: لا يملك إلا بالتصرف؛ لأنه لما كان للمقترض قبل التصرف رده بعينه على المقرض، [وللمقرض استرجاعه] دل على أنه ملكه؛ ولأنه إزالة ملك بعوض، فوجب ألا يزول إلا بتقدير العوض، وما دام عين المال في يده لم يتقرر البدل في ذمته، وإنما يتقرر بإزالة اليد، وهذا ما اختاره في المرشد. التفريع: إن قلنا: إنه يملكه بالقبض، فهل للمقرض أن يرجع في ما دام باقياً في يد المستقرض بحاله؟ فيه وجهان. أحدهما: لا؛ صيانة لملكه، وله أن يؤدي حقه من موضع آخر، وهذا ما حكاه البندنيجي، والبغوي. وأظهرهما عند الأكثرين، وبه أجاب الماوردي: أن له ذلك؛ لأنه يملك مطالبته بالبدل، جبراً لحقه، فأولى أن يكون له المطالبة بما هو عين حقه، فعلى هذا لو زال ملكه عنه ثم عاد، فهل يثبت له الرجوع في عينه أو بدله؟ فيه وجهان. [و] في الحاوي: إن قلنا: إنه يملكه بالتصرف، فمعناه: إنه إذا تصرف تبين ثبوت الملك فيه. وفي البسيط حكاية وجه آخر: أنا نتبين دخوله في ملكه حال القرض، وهذا يؤخذ مما حكاه القاضي أبو الطيب، عن شرح التلخيص من أن الملك في القرض يراعى إلى أن يرجع فيه المقرض، فتبين أنه لم يكن مستقراً أو يتلفه المستقرض، فنتبين أنه كان مستقراً، وعلى القولين يتخرج وجوب النفقة على المقرض، فإن قلنا: ملك بالقبض إما ناجزاً أو نسيئاً كانت على المقترض، وإن قلنا بالتصرف يملكه، فهي على المقرض. ثم ما التصرف الذي يملك به؟ فيه [أوجه ثلاثة].

أظهرها: أنه كل تصرف يزيل الملك. والثاني: كل تصرف [لازم] يتعلق بالرقبة. والثالث: كل تصرف يستدعي الملك، فعلى الوجوه يكفي البيع والهبة والإعتاق والإتلاف، ولا يكفي التزويج والرهن والإجارة، وطحن الحنطة وخبز الدقيق وذبح الشاة على الوجه الأول، ويحكم ببطلان التزويج والإجارة على ما حكاه في التهذيب، ويكفي ما سوى الإجارة على الثاني. قلت: ويتجه أن يكون ذلك في الإجارة، بناء على أن موردها المنفعة. أما إذا قلنا: [إن] موردها العين، فينبغي أن يكفي أيضاً، وما سوى الرهن يكفي على الثالث؛ لأن الرهن يجوز أن يكون في المستعار. وعن الشيخ أبي محمد عبارة أخرى، وهي أن التصرف الذي يملك به القرض، وهو التصرف الذي يقطع رجوع [البائع والواهب] عند إفلاس المشتري، وهذا يقتضي أن التزويج وذبح الشاة، ونحو ذلك والإجارة على قول – لا يثبت الملك. وعلى الأول هل يفيد نقل الملك البيع بشرط الخيار؟ إن قلنا: لا يزيل الملك فلا؟ وإن قلنا: يزيله فوجهان. ولو استقرض من يعتق عليه، عتق عليه إذا قبضه على القول بأنه يملك به، وإلا فلا يعتق، حكاه في المرشد، والرافعي. وقال صاحب التهذيب: يجوز أن يقال: يعتق، ويحكم بالملك قبله. قلت: وهذا ما حكاه في التتمة، وقال: وجهاً واحداً؛ لأنه لو كان عبداً أجنبيًّا، وأعتقه نفذ، وكل سبب يفيد اعتبار عتق الأجنبي، يفيد عتق القريب. قال: ويجوز أن يشترط فيه الرهن والضمين؛ لأن ذلك ليس بزيادة في البدل، وإنما هو استيثاق للقدر المستحق؛ وهو من مصلحة العاقدين، وقد استدل بعضهم على

الجواز بأن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهون عند أبي الشحم اليهودي؛ على شعير أخذه لأهله. وقاس الضمان عليه بجامع اشتراكهما في الوثيقة؛ وهذا لا دلالة له فيه على المدعي؛ إلا أن يكون الرهن وقع بالشرط حال العقد، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المال المقترض من ذوات الأمثال أو من ذوات القيم؛ ولا بين أن يقول: إنه يملك بالقبض أو بالتصرف، ولا بين أن تكون القيمة أو المثل معلوماً لهما أو مجهولاً، إذا قلنا: إنه لابد بعد جريان، القبض من الإيجاب والقبول في عقد الرهن؛ كما سنذكره في كتاب الرهن. وحينئذ يشترط العلم بمقدار ما يرهن به أو يضمن، وهل يصح الوفاء بالشرط بعد القبض، [وقبل التصرف؟ ينظر: إذا قلنا: إنه يملك به، فنعم، وكذا إن قلنا: إنه لا يملك إلا بالتصرف، وكان المقبوض] من ذوات الأمثال، أو من ذوات القيم. وقلنا: إن الواجب قيمة المثل الصوري، أو القيمة وقت القبض؛ لأن ذلك معلوم، وسيأتي في كتاب الرهن حكاية عن الإمام أن الرهن بثمن المبيع في زمن الخيار، إذا قلنا: إن البائع لا يملكه – لا يصح على الظاهر؛ لوقوعه قبل ثبوت الملك، ولا شك أن هذا يجري هاهنا إذا قلنا: لا يملك إلا بالتصرف، ويجيء في الضمان أيضاً؛ لأن البندنيجي وغيره مصرحون بأن الضمان لا يصح إلا فيما يصح الرهن به، إلا في مسألة ضمان الدرك، على النص والأول يقتضيه إيراد الرافعي؛ فإنه قال: لو قال: أقرضتك هذه الدراهم وارتهنت بها عبدك، فقال: استقرضتها وارتهنت فوجهان: أصحهما وهو ظاهر النص [صحته]، أما إذا قلنا: لا يملك إلا بالتصرف، والواجب رد القيمة أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين الملك، [فلا يصح للجهل بقدر الدين] وعلى هذا لا يظهر لاشتراط الرهن معنى إذا قلنا: إن التصرف

الناقل للملك هو ما يزيل الملك؛ إذ شرط الرهن والضمين لا يوجب إجبار الشارط على الوفاء به، بل يثبت الخيار في فسخ العقد عند عدم الوفاء بالشرط، والرجوع إلى العين، وبعد زوال الملك، لا يتمكن من ذلك. فرع: قال الماوردي: إذا قال رجل لآخر: أقرض زيداً مائة درهم، وأنا لها ضامن فهذا جائز، فإذا أقرض زيداً لزمه الضمان. وحكى الرافعي في كتاب الضمان عن الروياني: أن المذهب أنه لا يجوز [، وعن ابن سريج تجويزه. قال:] ولا يجوز شرط الأجل فيه؛ لأنه عقد منع التفاضل فيه، فمنع من دخول الأجل فيه؛ لأنه يقتضي جزءاً من العوض كالصرف. قال الماوردي: وكان بعض أصحابنا يغلط فيذهب إلى جواز القرض مؤجلاً؛ متمسكاً فيه بقول الشافعي في كتاب الفلس، وإن وجد الحاكم من يسلفه المال حالاً لم يجعله أمانة. فإن دليل هذا الكلام جواز القرض مؤجلاً. قال مجلي: واتفق الأصحاب على تخطئته. قال الأصحاب: ويصير الحال مؤجلاً فيما إذا أوصى من له الحق ألا يطالب به إلا بعد شهر مثلاً ومات [كما حكاه المتولي، وسمعت من بعض مشايخنا أنه يتأجل بالنذر أيضاً.

وعلى المذهب الصحيح إذا شرط الأجل، في وقت نهب أو غارة، فهو مفسد، كما إذا شرط [شرطاً] جر منفعة كذا حكاه في الوسيط].

وحكى في البسيط [وجهاً آخر: أنه يصح]. ووجهه بأن الأجل تأخير المطالبة، وهو سقوط في حقه، فلا نظر إلى بوادر الأحوال، وإن لم يكن في وقت نهب فلا أثر لذلك. وفي الحاوي حكاية الوجهين من غير تقييد. أحدهما: أن ذلك يبطل القرض؛ لاشتراط ما ينافيه. والثاني: وهو قول ابن أبي هريرة أن القرض صحيح، وهو ما جزم به المتولي؛ لأنه وعد وهو لا يلزم، لكن المستحب الوفاء به، وكذا فيما إذا أجل الدين الحال بعد لزومه لا يتأجل، ولكن المستحب الوفاء بالوعد. قال: ولا شرط جر منفعة، مثل أن يقول: أقرضتك ألفاً على أن تبيعني دارك بكذا، أو ترد عليَّ أكثر من مالي أو تكتب لي به سفتجة أي: كتاباً لوكيله أو تأتيه في بلد آخر لتدفع إليه بدله، فنوفر عليه مؤنة الحمل، ويحصل له الأمن من خطر الطريق. والدليل على منع ذلك ماروي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن قرض جر منفعة. وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِباً". وعلى هذا لا يملك المستقرض المال، ولا يجوز له التصرف فيه، قاله المتولي. وفي البيان نقل وجه: أنه لا يفسد بذلك. وقيل: شرط الزيادة في البدل إنما يضر إذا كان مما يجري فيه الربا، أما ما لا ربا فيه فلا يضر شرطها فيه وكذلك شرط رد الأجود، وهذا قول ابن أبي هريرة، وأبي حامد المروروزي. ووجهه الماوردي: بأنه لما جاز مثل هذا في البيع، ولم يجز مثله في القرض انصرف هذا العقد عن حكم القرض إلى البيع؛ نظراً إلى المعنى، وهذا ليس بشيء؛ لعموم الخبر، ثم إذا حصل البيع في الصورة الأولى، فالحكم فيه كما ذكرنا فيما إذا قال: بعتك هذا العبد بعشرة على أن تبيعني دارك بمائة.

قال: فإن بدأه المستقرض بذلك من غير شرط جاز. لحديث أبي رافع والحديث المذكور معه، وهذا إذا لم تجر عادة المستقرض برد زيادة، أما إذا كان من عادته ذلك، فمنهم من جعل ذلك كالشرط ومنهم من منع من ذلك في الربويات، والمذهب الأول، ولكن هل يكره [له] الأخذ، أم لا؟ فيه وجهان: ولو قال: أقرضني ألفاً على أن أرهن به، وبالألف القديم هذا الرهن، فقد حكى الإمام فيه تردداً؛ بناء على أن القبول من المستقرض غير معتبر، والأصح اعتباره وفساد القرض، كما لو صدر [الشرط من المقرض]. حكى ذلك الرافعي في كتاب الرهن، ولو شرط أن ينقصه من البدل، فالشرط أيضاً باطل، وفي بطلان القرض به وجهان كالأجل، ولو أقرضه بشرط أن يقرضه شيئاً آخر، صح على الأصح، [و] فيه وجه: أنه كالبيع بشرط الإقراض، فيكون باطلاً. قال: ويجب رد المثل فيما له مثل؛ لأنه أقرب إلى جبر الفائت، وفيما لا مثل له أي: حقيقة كالنبات والجواري والحيوان. قيل: يرد القيمة؛ كما لو أتلفه، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد. [وقال في التتمة وفي كتاب الشفعة إنه المذهب الصحيح]، وهو القياس، فعلى هذا تجب قيمته يوم القبض، إن قلنا: إنه يملك بالقبض، وإن قلنا: إنه يملك بالتصرف، فالأكثر من وقت القبض إلى وقت التصرف. وفيه وجه: أن الاعتبار بوقت القبض. وهذا الوجه يظهر لي أن يكون مأخذه ما ذكرناه، في أنه إذا تصرف تبينا ملكه من حين القبض، والأول مبني على أنا نتبين ملكه قبل التصرف. نعم إن طرد صاحب هذا الوجه وجهه يما إذا تلف القرض في يده قبل التصرف المحصل للملك انتفى أن يكون مأخذه ما ذكرته، وقد يجيء- تفريعاً على أنه لا يملك إلا بالتصرف – وجه ثالث أنه لا يضمن إلا قيمته وقت التصرف الناقل للملك، ويجعل التصرف كإتلافه له عليه، وقد حكى الإمام فيه هذا الوجه، عند الكلام في

ضمان البيع الفاسد، حيث قال: والأقوال نجريها في كل ضامن من غير متعد، ولا متصرف في غصب، ومن جملة الأقوال ما ذكرناه. قال: وقيل يرد المثل أي: في الصورة؛ لحديث أبي رافع، وهذا ما صححه القاضيان الماوردي، وأبو الطيب، والبغوي والأكثرون، ثم لو اختلفا في صفة المثل، أو في قدر القيمة، فالقول قول المستقرض، صرح به الرافعي وغيره، وهذا لا يدل على أن ذكر [القدر أو القيمة] في الابتداء ليس بشرط، فإن ذلك قد يذكر [ثم يقع] الاختلاف بعده. فرع: إذا جوزنا إقراض الخبز، وقلنا الواجب فيه رد القيمة، فشرط فيه رد المثل، ففي جوازه وجهان: قال: وإن أخذ عن القرض [أي: عن بدل القرض] عوضاً جاز؛ لأن ملكه عليه مستقر، فجاز له أخذ العوض عنه، كالعين المغصوبة في يد الغير، ويخالف المسلم فيه؛ فإنه غير مستقر؛ لأنه يجوز أن يلحقه فسخ أو انفساخ، وليس بدل القرض كذلك، ويشترط في صحة ذلك قبض العوض في المجلس إن كان ربويًّا، والمقرض من جسه سواء ورد العقد على العين أو الذمة. وإن لم يكن ربويًّا أو كان مما لا يحرم فيه التفرق، قبل التقابض فإن ورد على الذمة فلابد من قبض العوض في المجلس؛ لأن ذلك في معنى بيع الكالئ بالكالئ. وحكى القاضي الحسين في هذه الصورة وجهاً: أنه لا يصح، وإن اتصل به القبض في المجلس، وإن ورد على العين، ففي اشتراط القبض وجهان، اختيار الشيخ أبي حامد وأبي إسحاق وجماعة من الأصحاب، وهو ظاهر النص في المختصر: أنه لابد منه، ومقابله نسبه الماوردي إلى ابن سريج. وحكى في الفروع المذكورة في آخر باب الربا أنه ظاهر المذهب، وهو اختيار الإمام وصاحب التهذيب، كما لو باع بدراهم في الذمة. وكلام الشيخ مشير إلى ترجيح ما ذهب إليه أبو حامد، حيث ذكر لفظ الأخذ الذي هو حقيقة في القبض، وعدوله عن لفظ "بعوض"، وقد صرح بذلك في كتاب الصلح.

وفرق القاضي أبو الطيب، بين هذا وبين ما إذا باع بثمن في الذمة في كتاب السلم بفرقين؛ أحدهما: أن الثمن والمثمن في مسألتنا يصيران من ضمان واحد، وذلك لا يجوز، وهذا قد يرد عليه ما إذا اشترى ثوباً بثمن في الذمة، ثم قبضه، فإن الثمن والمثمن من ضمان واحد – وهو المشتري، ومع هذا لم يكن ذلك مانعاً من الصحة. لكن جوابه أن المراد بضمان المعين أنه لو تلف انفسخ العقد، وهذا لا يوجد فيما إذا قبض المشتري المبيع، فإن به يستقر العقد. الفرق الثاني: أن المبيع هاهنا دين، والمبيع إذا كان ديناً اعتبرنا به قبض الثمن في المجلس دليله السلم. وفرق المتولي بينهما بأنه لم يسبق في بيع الثوب بالدراهم في الذمة حكم الدينية، وإنما يجب ديناً في الوقت. وهاهنا الدين ثابت قبل العقد، وعدم قبض المعين في المجلس [يلحق بالدين في نظر الشرع، ألا ترى أنه لو أخر قبض أحد البدلين في الصرف عن المجلس بطل العقد، كما لو باع نسيئة، فاعتبر) قبض المعين في المجلس]؛ حتى لا يصير في حكم بيع الدين بالدين هذا مشهور المذهب. وفي الوسيط: أن المقرض إذا استبدل عن القرض عيناً وقبض في المجلس جاز، وإن استبدل ديناً لم يجز؛ لأنه منطبق على بيع الكالئ بالكالئ، وهو منهي عنه. والكالئ: هو الدين، وإن استبدل عيناً ولم يقبض في المجلس فإن جوزنا بيع الدين، فلا مأخذ لاشتراط القبض، وإن لم نجوز، فلابد من القبض. قال الإمام – عن شيخه -: لأن تجويز البيع منه لأجل معنى الاستيفاء، والاستيفاء لا يتعدى المجلس، وما ذكره الغزالي قد يفهم [منه] منع بيع الدين بالدين، وإن قبض في المجلس؛ لأنه فصل في استبدال العين بين ما قبل القبض وبعده، وأطلق القول بعدم الجواز في الاستبدال بالدين، ويقتضي أيضاً أن الأصح عنده اشتراط قبض العين في المجلس؛ لأنه بناه على جواز بيعه من الأجنبي، والأصح عنده عدم

الصحة، وذلك مخالف لما حكاه في كتاب الصلح؛ حيث قال: وإن صالح عن دين، نظر: فإن صالح عن دين آخر فلابد من التسليم في المجلس، فإنه بيع كالئ بكالئ، وإن صالح عن عين وسلم في المجلس صح، وإن لم يسلم فوجهان، والأظهر الصحة؛ لأنه عين. وفيه وجه يجري في لفظ البيع، والجواب عن الأول، أن ما ذكره في البيع مصور، بما إذا باع الدين الذي له على زيد مثلاً لزيد بالدين الذي لزيد على عمرو مثلاً، وذلك حقيقة بيع الكالئ بالكالئ، وقد أشار إلى ذلك الماوردي في أواخر باب الربا. والمذكور [في الصلح] مصور بما إذا باع الدين الذي له على زيد له بدين أنشأه في ذمة زيد؛ عوضاً عن الأول. نعم حكى الرافعي في هذه الصورة وجهاً، أنه لا يصح، وإن قبض في المجلس، وقد حكيناه عن القاضي من قبل ووجهاً أنه يصح، وإن لم يقبض في المجلس، إذا لم يكن المصالح عليه مما يوافق المصالح به في علة الربا وعينه في المجلس، وأنه أصح. وفي النهاية في كتاب السلم: أنه لو استحق على رجل ديناً مستقراً ثم اعتاض عنه دراهم موصوفة في الذمة، ثم عجلها في المجلس صح، وإن لم يعجلها، وكان الدين نقداً لم يجز، وإن كان عرضاً، ففي المسألة خلاف، قدمناه في البيع. وقد انتظم من مجموع ما حكيناه عند الاختصار، إن لم يكن – كلام الإمام محمولاً على ما حاكه الرافعي من التعيين في المجلس – أنه [إن] استبدل عيناً وقبض في المجلس جاز، وألا فوجهان أصحهما الصحة، [وعند الشيخ أبي حامد ومن تابعه عدمها] وإن استبدل ديناً لم يجز على وجه، وعلى وجه يجوز إذا قبض في المجلس، وعلى وجه يجوز إذا عين في المجلس، وإن لم يقبض بشرط، ألا

يتفق العوض والمعوض في علة الربا، وعلى وجه يجوز [وإن لم يقبض] ولا عين [العوض] في المجلس بالشرط المذكور. وحكم الدين بسبب الإتلاف، وأرش الجناية حكم بدل القرض، وهل يجوز أخذ العوض عن القرض من غير من هو عليه؟ فيه وجهان محكيان في الحاوي عن تخريج ابن أبي هريرة. [وفي التتمة في كتاب الصلح أنهما قولان، ويقرب من قوله ما حكيته في باب ما يتم به البيع، عن ابن الصباغ أن الشافعي نص على جواز بيعه وهبته، وأن بعض الأصحاب خالفه، وجعل في المهذب الأظهر من الوجهين الجواز. وقد يؤخذ من كلام الشيخ هنا بأن ينزل قوله: "وإن أخذ عن القرض عوضاً جاز" على ظاهره؛ فإنه يقتضي جواز ذلك من المستقرض، ومن غيره]. وفي الوسيط: لعل الأصح من القولين المنع، وه والذي صححه الرافعي، والمتولي في كتاب الرهن، والصلح، وجعله البغوي المذهب. وحكى الإمام، في كتاب الصلح عن بعضهم: القطع به، [وهو ما حكاه القاضي الحسين فيه والمحاملي]. قال الغزالي: والمنع ليس مأخوذاً من قاعدة القبض، ولكنه من ضعف الملك، وهو عدم التعيين. ووجهه الإمام: بأنه ليس ملكاً محققاً؛ ولهذا لا يصح رهنه، والمتولي: بأن الدين ليس بمال في الحقيقة، وإنما هو حق مطالبه، يصير مالاً في ثاني الحال، والشرط في البيع أن يكون العوض مالاً، ويخالف ما لو أخذ ممن هو عليه عوضاً؛ لأن ذلك بدل مال في مقابلة إسقاط، كما لو صالح عن القصاص على مال، أو قال: أعتق عبدك على ألف.

وعلى الأول [قال ابن الصباغ في آخر كتاب الهبة: لا يفتقر إلى رضا من عليه الدين، ولا يحتاج إلى القبض فيه؛ لأن الشافعي شبه ذلك في كتاب الشروط بالحوالة، فقال: إذا أنكر من عليه الحق أو جحد، لم يرجع بالدرك. وقال غيره]: لابد من أن يقبض مشتري الدين الدين في المجلس، وبائعُهُ العوضَ في المجلس، حتى لو تفرقا قبل قبض أحدهما بطل، كما حكاه البغوي والرافعي، وأن يكون ما اشترى به الدين عيناً، فلو كان ديناً لم يجز بلا خلاف، كما قال الإمام. وفي [مجموع المحاملي] قبيل باب المصراة اعتبار قبض العوض والسكوت عن الدين، أما جواز أن يأخذ عوضه؛ لأنه قد زال ملكه عن العين، أي: إذا قلنا: إنه يملك بالقبض. [قال]، أما إذا قلنا: إنه لا يملك إلا بالتصرف، فقد قال بعض أصحابنا: لا يجوز أخذ بدله للمقرض؛ فإنه وإن كان ملكه باقياً إلا أنه قد ضعف؛ بتسليط المستقرض، هذا آخر كلامه. وفي الرافعي ما يفهم حكاية هذا عن الشامل، فيما إذا أراد أخذ العوض عن البدل الثابت في الذمة، وكلامه لا يقتضي إلا ما ذكرناه فليتأمل.

وكان ينبغي من جهة البحث أن يقال: إذا قلنا: إنه ملك بالقبض، فإما أن يقول: إن المقرض إذا فسخ القرض، وأراد الرجوع إلى عين مال القرض له ذلك أم لا؟ فإن قلنا: ليس له أخذ المال المقترض، بل الخيرة إلى المقبوض، فالحكم ما قاله ابن الصباغ، بلا نزاع. وإن قلنا: إن العين ترجع إلى المقرض؛ فينبغي أن يتخرج على ما إذا باع الأب ما وهبه لابنه، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: صحة البيع؛ فإنه يتضمن الرجوع. وهو الذي صححه الغزالي في فتاويه. والثاني: لا يصح البيع والملك للابن، والثالث: يجعل رجوعاً، ولا يصح البيع؛ إذ لا فرق بينهما. [فإن قلت: ثم المشتري غير الموهوب له، وهو غير مالك للمبيع، فلهذا صح المشتري، وهنا المقرض قد ملك العين فكيف يشتري ملكه؟ نعم، هذا يظهر إذا باع المقرض العين المقرضة من أجنبي. قلت: لا يعد في مجيئه في المقترض أيضاً؛ لأن من صحح البيع من الأجنبي، قدر الفسخ قبله، وذلك لا يمتنع فيما إذا كان المقترض هو المشتري، وفائدة ذلك تظهر فيما يرجع به المقرض وأمن المستقرض من رجوع المقرض في العين المقرضة]. قال: وإن أقرضه طعاماً ببلد ثم لقيه ببلد آخر، فطالبه به لم يلزمه دفعه إليه؛ لأن قيمة الطعام تختلف [ومن هذا يظهر أن قيمة الطعام لو كانت في البلدين سواء أنه يلزمه، كما صرح به ابن الصباغ وغيره في كتاب الغصب]. نعم لو أحضره إليه المستقرض، لا يلزم المقرض قبوله؛ لأن في حمله عليه

مؤنة، فإن لم يكن في حمله مؤنة؛ لقلته أو قرب ما بين البلدين – اتجه أن يخرج على الوجهين، يما لو أحضر المسلم إليه المسلم فيه في غير المكان المشروط وقد تقدما. قال: وإن طالبه بالعوض عنه لزمه دفعه؛ لأنه في البلد [الذي] اجتمعا فيه كالمعدوم. ولو كان مثل الطعام الذي أقرضه إياه معدوماً، كان له المطالبة بالقيمة، فكذلك هاهنا، وهذا ما علل به القاضي أبو الطيب، وظاهره يقتضي أن ذلك معاوضة؛ حتى تبرأ ذمة المستقرض من القرض، كما إذا عدم مثل الطعام المغصوب، وهي قضية لفظ الشيخ حتى إذا لقيه في بلد القرض لا يملك رد العوض ومطالبته بالطعام، وكذلك ليس للآخر رد الطعام والمطالبة بالمقبوض، كما إذا أخذ الدراهم للحيلولة، ويؤيده أنه حكى مع غيره من العراقيين، وصاحب التهذيب في نظير المسألة في السلم أنه لا يجوز أخذ البدل؛ لأنه بيع المسلم فيه قبل القبض، وكذلك الغزالي عند الكلام فيما إذا أبرأ الوكيل في السلم المسلم إليه من المسلم فيه من كتاب الوكالة في الوسيط. ونسبه في الغصب إلى قول صاحب التقريب. وفي ابن يونس: أن أخذ القيمة يكون للحيلولة فقط، حتى يبقى معه استحقاق الحق، ويلزمه دفع الطعام إليه في بلد القرض، ويوافقه ما حكاه الغزالي وإمامه في باب السلم؛ حيث قالا: يجوز أخذ القيمة من المسلم إليه؛ للحيلولة، [وإن] أبدى الغزالي ذلك في كتاب الغصب احتمالاً. وقد حكى الرافعي في أن المستقرض، هل يملك المطالبة بالمقبوض، والمقرض بالطعام في بلد القرض؟ وجهين، وهما مأخوذان من اختلاف النقلين، ثم [إن] القيمة المأخوذة تعتبر ببلد القرض، إن لم ينقل القرض إلى موضع آخر أو نقله وقلنا:

إنه ملك بالقبض، أما إذا قلنا: إنه لا يملك إلا بالتصرف، فيجب قيمته في الموضع الذي ملك فيه. قال: وإن أقرضه دراهم في بلد ثم لقيه في بلد آخر فطالبه بها، لزمه دفعها إليه؛ لأن القيمة في ذلك لا تختلف، فانتفى الضرر. قال الإمام: وهكذا إذا كان المقرض من النقود، التي لا عسر في نقلها، ولا تتفاوت قيمتها بتفاوت البقاع، أما إذا كانت مما يعسر نقلها، وتختلف قيمتها فلا نطالبه بغير بلد الإقراض. وحكى الجيلي في الصورة الأولى، وجهاً [آخر]: أنه لا يلزمه الدفع، وقد أشار إليه الإمام بقوله: لزمه الدفع على ظاهر المذهب. والله أعلم.

باب الرهن

باب الرهن الرهن في اللغة: الثبوت، ومنه الحالة الراهنة، أي الثابتة. وقال الماوردي: الاحتباس؛ ومنه قوله تعالى: - كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 83] أي: محتبسة. وفي الشرع: جعل عين المال وثيقة بدين يستوفي منها، عند تعذر استيفائه ممن عليه. وجمع الرهن: رهان؛ كحبل، وحبال. ويقال: رُهُن بضم الهاء. قال الأكثرون: جمع رهان. وقال أبو عمرو بن العلاء: جمع رهن؛ كسقف، وسقف. ويقال: رهنت الشيء وأرهنته، والأول أفصح وأشهر، ومنهم من منع الثانية. ويقال: رهنته الشيء، وأرهنته إياه، والراهن دافع الرهن، والمرتهن آخذه. والشيء رهن ورهين، والأنثى رهينة. والأصل فيه من الكتاب، قوله تعالى: - فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وقرئ: فرهان، وفي تأويل هذه القراءة وجهان: أحدهما: أنها جمع رهن. والثاني: أنها مستعملة في السبق والنضال، وقوله: فرهن مستعمل في المعاملات؛ وهو مصدر أقيم جزاء للشرط بحرف التعقيب، فقام مقام الأمر؛ فإن الشرط والجزاء لا يعتقبان إلا على الأفعال فجرى مجرى الأمر، كقوله تعالى: - فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]، وقوله: - فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، وقوله تعالى: - فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196]، وقوله تعالى: - فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} [البقرة: 185]، أي: فحرروا واضربوا، وافدوا، وصوموا. ومن السنة: ما روى الشافعي عن عبد العزيز بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه عند أبي الشحم اليهودي، وهذا مرسل، لكنه روي مسنداً، عن عكرمة، عن ابن عباس والأسود، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند

يهودي، وأخذ منه شعيراً لأهله. [وقد روى البخاري ومسلم عن عائشة معناه]. ويقال: إنه – عليه السلام –عدل عن أصحابه مخافة أن يحابوه. قال الماوردي: واختلف الناس هل مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل فكاك درعه؟ فقال قوم: افتكه قبل موته؛ لأنه – عليه السلام – يقول: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي" وهذه صفة تنتفي عنه صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون، وهو الصحيح: إنه مات قبل فكاكه؛ لرواية عكرمة عن ابن عباس قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند [رجل من اليهود]، بثلاثين صاعاً من شعير، فعلى هذا يكون قوله: "نَفْسُ الْمُؤْمِنِ [مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى] " محمولاً على من مات، ولم يترك وفاء، وقد أجمع المسلمون على جواز الرهن في الجملة. قال: لا يصح الرهن إلا من مطلق التصرف، أي: في العين المرهونة؛ لأنه عقد على مال، فلم يجز من غير مطلق التصرف، كالبيع، وهذا يشمل الولي وغيره؛ لأن الولي يصح تصرفه بالرهن؛ حيث يكون فيه غبطة المولى عليه، كما سنذكره، وحيث لا يكون فلا؛ لأنه غير مطلق التصرف فيها؛ لأنه مأمور له بالحظ والمصلحة. قال: ولا يصح على دين لم يجب، ولم يوجد سبب وجوبه، مثل أن يرهنه على

ما يقرضه غداً، أي وعلى [ثمن] ما يشتريه منه؛ لأنه وثيقة، يمكن أن يستوفي بها [عند] منع الحق، فلم يصح قبل ثبوت الحق، كالشهادة. وفي النهاية: أن الرهن يجاري الضمان، في محل الوفاق والخلاف، في القديم والجديد، كما سنذكره في أول الضمان، إلا في إمساك ضمان العهدة فإن الرهن ينفصل عن الضمان في ظاهر المذهب، ويجري وجه مطرد للقفال من تنزيل الرهن منزلة الضمان وفيها [في كتاب الضمان] حكاية عن القديم أن ضمان ما لم يجب ولم يجز سب وجوبه صحيح، وكذا ضمان المجهول، إذا أمكن تقدير الإحاطة [به]، بأن قال: ما بعت من فلان فأنا ضامن لثمنه [أما إذا لم يمكن الإحاطة به كما إذا كان له عند شخص ديون فقال له شخص: ضمنت لك شيئاً منها، لم يصح فإنه ليس متعلقاً بضبط]. وفي الرافعي أن القاضي ابن كج حكى وجهاً في صحة الرهن، [في مسألة الكتاب] إذا عين ما يستقرضه [وأن] من الأصحاب من قال: إذا ارتهنا بالثمن ثم لم يتفرقا حتى تبايعا، صح الرهن فتحصل لنا في كل من المسألتين ثلاث مقالات، فإن فرعنا على ما حكاه الإمام، فلو أراد الراهن فك الرهن قبل الاستقراض أو البيع، فهل له ذلك؟ يجيء فيه ما حكاه في الضمان، بمقتضى ما قرره أولاً، والمحكي في الضمان [عن ابن سريج] أن له ذلك، قال الإمام: وقد خالفه في جواز فسخ الضمان مخالفون، وقالوا: الضامن وإن كان لا يطالب قبل الوجوب ولا يتمكن من قطع الضمان، وإن فرعنا على المذهب الجديد، [وهو عدم الصحة] فإذا وجد الرهن وإقباضه، كان مأخوذاً على جهة سوم الرهن، فإذا استقرض أو اشترى بعد ذلك لم يصر رهناً إلا بعقد جديد، وفيه وجه أنه يصير رهناً. وقد احترز الشيخ بقوله: "ولم يوجد سبب وجوبه" عما إذا لم يجب، وجرى سبب

وجوبه مثل أن تقول: أقرضتك هذه الدراهم وارتهنت بها عبدك فيقول: استقرضتك ورهنته، أو بعتك هذا العبد بألف، وارتهنت هذا الثوب به، فيقول: اشتريت ورهنت، فإنه يصح الرهن على ظاهر النص وهو الصحيح [وبه جزم الماوردي]؛ لأن شرط الرهن في القرض والبيع جائز؛ لحاجة التوثق من عدَّيُهما. وقال أبو إسحاق: القياس أن الرهن فاسد؛ لأن أحد شقي الرهن مقدم على ثبوت الدين فبطل، كما لو قال لعبده كاتبتك وبعتك، فقال: قبلت الكتابة والبيع، فإن البيع لا يصح لما ذكرناه. وأجيب عن ذلك – أن سلم الحكم [فيه] – بفرقين: أحدهما: أن العبد لا صير أهلاً للمعاملة مع مولاه، حتى يتم الكتابة. والثاني: أن الرهن من مصالح القرض والبيع، وليس البيع من مصالح الكتابة، ويجوز أن يكون ذكره؛ ليخرج الرهن المختلف فيه، فإن الإمام حكى وجهين [أو قولين] في صحة ضمان ما لم يجب، وجرى سبب وجوبه بناء على الجديد. [ومقتضى ما حكاه الإمام والبندنيجي، من أن حكم الضمان وفاقاً، وخلافاً حكم الرهن مثله أن نجري الوجهين في الرهن] ولذلك صور؛ منها: نفقة الزوجة في الزمن المستقبل، فإن النكاح سبب وجوبها [وهو ناجز]. وقال الماوردي: إن فرعنا على القديم، جاز ضمان النفقة. وهل يجوز أخذ الرهن [عليها]؟ فيه وجهان وقاس وجه المنع على الدرك. ومنها: إذا ضمن شخص عن شخص ديناً في صورة يرجع عليه [به] إذا غرم، [فقبل أن يغرم]، للأصحاب خلاف، في أن الضامن هل يملك أخذ الدين من المضمون عليه؟ فإن قلنا: ليس له ذلك، فقد حكى الإمام في صحة ضمانه القولين، وهما يجريان

[في] الرهن [بمقتضى ما تقرر]. ومنها: الجعل في الجعالة. حكى الإمام عن شيخه في كتاب الضمان، أنه إن كان يلحق ضمانه قبل عمل المجعول له بضمان ما لم يجب، وجرى سبب وجوبه من قبل أن الجعل مصيره إلى الوجوب، عند فرض العمل، وهو غير واجب قبله، وإن طوائف من أصحابنا منعوا ضمان الجعل في الجديد، وإن جوز ضمان ما وجد سبب وجوبه. ثم قال: وهذا متجه عندي من قبل أن نفقة العبد في النكاح، وإن لم تكن واجبة في الحال، فسبب النفقة النكاح، وهو لازم في الحال، فكان في قول الجواز يقيم ما يتنجز من وجود السبب مقام وجود المسبب. والجعل قبل العمل غير واجب، والجعالة في نفسها على الجواز، فلم يتحقق وجود سبب ولا مسبب، ومقتضى [كلام الإمام] جريان مثل هذا في الرهن. وعلى ذلك جرى الرافعي، وحكى أن الصحيح من الوجهين: عدم الصحة. وقال الماوردي: إنه المنصوص عليه، وصور البندنيجي محل الخلاف، بما إذا قال: من جاء بعبدي فله دينار، فقال له رجل: أعطني به رهناً، وأنا آتيك به، والقاضي الحسين، والرافعي بما إذا شرع في العمل [قبل تمامه]، فإنه لا ثبوت للجعل قبل الشروع بحال. قال الرافعي: وكيف يتخيل ذلك، وليس [له] هو مستحقًّا معيناً. ولنا: أن نبني الوجهين على الوجهين في جواز رجوع المالك بعد الشروع في العمل، ونقول: إن لم نجوز الرجوع؛ فقد لزم الجعل [من قبله]؛ فيصح الرهن به، وإن جوزناه لم يصح الرهن به، انتهى. وكلام الإمام في باب الضمان والرهن أقرب إلى كلام البندنيجي، وهو الذي صرح به في المهذب، حيث قال: "قبل العمل". قال: ولا يصح إلا بدين لازم، كثمن المبيع أي: بعد قبضه أو قبله، و"دين السلم"

أي: من عين ومنفعة "وأرش الجناية"، أو يئول إلى اللزوم؛ كثمن المبيع بشرط الخيار"، أما صحته في ذلك؛ فلعموم قوله تعالى: - إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ} إلى قوله: - فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] ولما تقدم من أنه - عليه السلام -: "رَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ الْيَهُودِي عَلَى طَعَامٍ [لأِهْلِهِ] "، كما رواه البخاري. واعلم أن كلام الشيخ في ثمن المبيع يدل على أن ذلك مفرع على الصحيح في انتقال الملك، [فإنه أثبت فيه الملك وجعله غير لازم، أما إذا قلنا بعدم انتقال الملك]، فلا دين؛ فيكون من القسم قبله، وقد صرح الإمام بأن الظاهر على هذا منع الرهن، ولا شك أنه لا يباع المرهون بالثمن في زمن الخيار، ويشترط في الدين اللازم أن يكون معلوماً لهما، فلو لم يعلمه أحدهما لم يصح، كما صرح به في الاستقصاء، في مواضع منها عند الكلام في قوله: "ألق متاعك في البحر وعليَّ ضمانه" من هذا الباب. قال: فأما ما لا يلزم بحال مال الكتابة فلا يجوز الرهن به؛ لأن الرهن للتوثيق، والمكاتب بسبيل من إسقاط النجوم متى شاء؛ فلا معنى لتوثيقها؛ ولأن الرهن إنما جعل ليحفظ عوض ما زال الملك عنه، والعوض في الكتابة هو الرقبة، وهي باقية على ملكه لا يزول ملكه عنها إلا بالأداء، فلا حاجة به إلى الرهن، وقد حكى الإمام عن ابن سريج: أنه جوز ضمان نجوم الكتابة تخريجاً على جواز ضمان ما لم يجب، وقد جرى سبب وجوبه، ومقتضى ما حكيناه عن الإمام جريانه في الرهن. تنبيه: قول الشيخ: "ولا يصح إلا بدين" يخرج الرهن على الأعيان المضمونة، كما هو الصحيح، خلافاً للقفال، كما حكيناه من قبل. والفرق بينه وبين الضمان أن الضرر في الرهن، لو صح يدوم في حبس العين لا إلى غاية وهو منتفٍ في الضمان، ويخرج الرهن على العمل المعين؛ لتعذر استيفائه من المرهون، ويدخل العمل إذا ألزم في الذمة بلفظ الإجارة، وقد حكى

الماوردي في صحته به تفصيلاً فقال: إن لم يكن الآخر قبض الأجرة، لمي صح الرهن به؛ لأنه وثيقة في الحق المستحق، والعمل قبل دفع الأجرة [غير مستحق]. [قلت: وهذا منه تفريع على أن عقد الإجارة، إذا ورد على منفعة في الذمة، يعتبر فيه قبض الأجرة في المجلس؛ كالسلم، وألا فلا فرق بينه وبين المرهن بثمن المبيع قبل القبض]. وإن كان [قد] قبض الأجرة، ففي جواز أخذ الرهن على العمل الملتزم في الذمة وجهان: وجه المنع: أن استيفاء العمل في الرهن غير الممكن. ووجه الجواز: أنه حق في الذمة له قيمة يمكن استيفاؤها من الرهن، فجاز كالدين. قال: ولا يصحَ إلا بالإيجاب والقبول؛ لأنه عقد بين اثنين على مال، فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالبيع. ويجيء فيه الخلاف السابق في انعقاد البيع بالمعاطاة، والاستيجاب، والإيجاب، وهل يقوم اشتراط الرهن في عقد البيع، مثل أن يقول: بعتك بكذا، على أن ترهنني دارك بكاذ، فيقول المشتري: قبلت، ورهنت – مقام القبول؟ فيه خلاف، وظاهر النص –على ما حكاه المتولي – الاكتفاء به. وقال القاضي الحسين: لا يتم به، بل يشترط أن يقول بعده: ارتهنت أو قبلت؛ لأن الذي وجد منه شرط إيجاب الرهن لا استيجابه، وهذا أصح عند صاحب التهذيب، والإمام، وحكى أنه الذي ارتضاه المحققون. قال: ولا يلزم أي: من جهة الراهن – إلا بالقبض [خلافاً لأبي ثور] لقوله تعالى: - فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ووجه الدلالة [منه] على ما حكاه الماوردي من ثلاثة أوجه. أحدها: أنه وصف الرهن بالقبض، فوجب أن يكون شرطاً في صحته، كوصف الرقبة بالإيمان، والاعتكاف بالمسجد، والشهادة بالعدالة.

والثاني: أنه ذكر غير الرهن من العقود [ولم يصفه] بالقبض، وذكر الراهن ووصفه بالقبض، [فلا يخلو أن يكون وصف الرهن بالقبض]، إما لاختصاصه به، أو يكون تنبيهاً على غيره، وأيهما كان فهو دليل على لزومه فيه. والثالث: إن ذكر القبض يوجب فائدة شرعية لا تستفاد؛ لحذف ذكره، ولا فائدة في ذكره، إن لم نجعل القبض شرطاً في صحته. وأما من جهة المرتهن، فلا يلزم بحال. فرع: لو دفع الراهن الرهن إلى المرتهن بعد العقد، ونوى أن يكون وديعة [عنده]، ثم اختلفا فقال المرتهن: أقبضنيه عن الرهن، وقال: [الراهن]:بل وديعة، فمن المقبول قوله؟ [فيه] وجهان: [في النهاية في الرهن] ويشترط في القبض أن يكون بإذن الراهن، وإن كان الرهن مشروطاً في البيع؛ لأن به يبطل حق الراهن من التصرف في العين، فلا يجوز بغير إذنه، ولا فرق في ذلك، بين ألا يكون المرهون في يد المرتهن أو في يده وديعة أو عارية أو إجارة أو غصباً، على النص وسيأتي في كتاب الهبة حاكية نصه في كتاب الإقرار والمواهب: أنه إذا وهب له هبة في يده فقبلها تمت، وأن من الأصحاب من طرد في كل من المسألتين قولين وهو [قول] أبي إسحاق وأن منهم من جرى على ظاهر النصين، وأن منهم من قطع بأنه لابد من الإذن لهما على ما حكاه ابن كج [وتوجيه] ذلك - إن شاء الله تعالى, وفي النهاية أن القول المخرج في المرهون من الهبة، لا يجيء على رأي في المغصوب، بخلاف المودع؛ لأن يد المودع صدرت عن حكم المال، فإذا صادفها الرهن كان دوام اليد بمثابة ابتدائها، وهذا لا يتحقق في يد العدوان، وهذا ما جزم به الماوردي، والأول أصح عند الإمام، ثم على كلا القولين لا يلزم العقد ما لم

يمض زمان تتأتى فيه صورة القبض، لكن إذا شرطنا الإذن، فابتداء الزمان يكون من وقت الإذن، وإلا فمن وقت الرهن، وحكى العراقيون عن حرملة على قول عدم اشتراط الإذن أنه لا حاجة إلى مضي زمان، ويلزم العقد بنفسه. قال الإمام: ومقتضى نقلهم عنه، أنا إذا اعتبرنا الإذن، فلابد من مضي الزمان، وقياس مذهبه إسقاط اعتبار الزمان بعد الإذن، كما يسقط اعتباره بعد العقد، إذا لم يشترط الإذن، وعلى المذهب، هل يشترط المسير إليه ومشاهدته؟ فيه وجهان: ظاهر النص منهما نعم، وأصحهما: لا. وبعضهم حكى وجهاً ثالثاً، وحمل النص عليه، فقال: إن كان المرهون يتردد في بقائه كالحيوان الذي لا يؤمن انفلاته، فلابد من المشاهدة، وألا فلا يشترط، وبهذا قال أبو إسحاق، ومن أصحابنا من قال: إن أخبره ثقة "أنه باق على صفته بعد مضي الزمان" صار مقبوضاً، ثم على القول بالاشتراط فهل يعتبر معه النقل؟ فيه وجهان: أصحهما- وبه قطع طوائف -: أنه لا يشترط، وإذا شرطنا وراء مضي المدة الرجوع إلى مكان الرهن، فلو وكل وكيلاً حتى يرجع، ويشاهد وينوب عنه، فهل يصح التوكيل في ذلك، أم لابد من رجوع المرتهن بنفسه؟ فيه وجهان حكاهما الإمام، وأصحهما: الجواز، كما في أصل القبض. ولو ذهب المرتهن إلى الموضع الذي فيه الرهن، فوجده قد خرج من يده قبل الرهن، نظر، فإن كان قد أذن له في القبض أخذه حيث وجده، وإن لم يكن قد أذن له، فلابد من أن يقبضه إياه الراهن، وإن كان قد خرج بعد الرهن. فإن قلنا: لابد من الإذن فالحكم كما تقدم، وإن لم نشترط تجدد الإذن، فله أخذه حيث وجده. ثم القبض المعتبر – فيما إذا لم يكن المرهون في يد المرتهن – مذكور في كتاب البيع. قال القاضي الحسين: ويستثني من ذلك التخلية، إذا جعلناها قبضاً في المنقول؛ لان القبض ثَمَّ مستحق فقوي. قال الإمام: وما ذكره حسن، ولكن صرح الأصحاب بذكر قول التخلية في الهبة

والرهن مصيراً إلى أن القبوض صور، ولا تختلف باختلاف المحال، ولا نزاع في أن الغاصب لا يبرأ من [ضمان الغصب] وإن أذن له في القبض، كما سيأتي في الكتاب، وهل يبرأ منه بالإبراء؟ فيه وجهان، الظاهر منهما في الشامل، وهو المذكور في الحاوي: أنه يبرأ. وأما المستعير فهل يبرأ بالرهن منه؟ ينظر: إن لم يمنعه من الانتفاع بها – لم يبرأ، وإن منعه فوجهان، في الشامل، وغيره أطلق حكاية الوجهين، [وبناهما الماوردي على أن الرهن هل يبطل العارية أو لا؟ فيه وجهان، إن أبطلها برئ، وإلا فلا يبرأ]. فرع: لو رجع الراهن في الإذن قبل مضى الزمان، إذا اعتبرناهما صح رجوعه، وإن لم نعتبر الإذن، واعتبرنا مضي الزمان، فرجع قبل انقضائه، فهل يصح؟ فيه وجهان، صرح بهام صاحب التقريب، وأشار إليهما الشيخ أبو محمد. آخر: هل يبطل الرهن بموت أحد المتعاقدين قبل القبض؟ فيه ثلاث طرق. أظهرها: طرد قولين، وأصحهما عدم البطلان. والثانية: القطع بعدم البطلان. والثالثة: أنه يبطل بموت الراهن، دون المرتهن، وبهذا قال أبو إسحاق، والفرق أن بعد موت الراهن، إن لم [يكن] هناك دين لغير المرتهن، فجميع التركة سواء في وجوب قضاء دينه منها في الحال، وإن كان هناك دين لغيره، فقد تعلق حق ذلك الغير بعين الرهن، كتعلق حق المرتهن، فلا يحصل بتسلم الوارث الرهن الغرض فيما قبض فلا حاجة إلى بقاء الرهن، وفي صورة موت المرتهن يبقى الرهن كما كان، وإنما ينتقل الاستحقاق فيه إلى الورثة وهم يحتاجون إلى الوثيقة حاجة مورثهم، ولا فرق في جريان الطرق بين الرهن المشروط في البيع، وغير المشروط على المشهور، وبه قال أبو الطيب ببن سلمة. وقال ابن أبي هريرة: محلهما في المتبرع به، أما في المشروط فلا يبطل وجهاً واحداً؛ لتأكده بالشرط السابق، وإقرانه بالبيع اللازم.

والجنون، والإغماء قبل القبض يترتب على الموت، إن قلنا: إن الموت يؤثر، ففي الجنون وجهان: والأصح في الحاوي: أنه لا يؤثر، فعلى هذا إذا جن المرتهن، قبض له الرهن من ينصبه القاضي ناظراً في ماله، وإن جن الراهن فالوالي ينظر في الرهن، فإن لم يكن في تسليمه حظ [له لم يكن له تسليمه]، وإن كان في [تسليمه] حظ [له] بأن يكون مشروطاً في بيع فيه فضل، إن لم يسلم الرهن، فسخ البائع البيع، فهل يجوز [له] تسليمه [أم لا]؟ فيه وجهان في الحاوي. وكذا لو مات المرتهن، والورثة محجور عليهم، وكان الرهن مشروطاً في بيع، وقد امتنع الراهن من الإقباض، وكان الحظ للورثة في البقاء، فإن كان الراهن أميناً موسراً، فهل على الولي أن يفسخ البيع؟ فيه وجهان، وطريان الحجر؛ بسبب السفه أو الفلس، كطريان الجنون. قال: فإن اتفقا على أن يكون في يد المرتهن، جاز [أي: إذا لم يكن الرهن جارية ولا كراعاً، ولا سلاحاً، والمرتهن كافر، وصححناه؛ لأن الحق لهما، فجاز ما اتفقا عليه من ذلك. أما إذا كان جارية، فينظر إن كانت محرماً له، أو صغيرة لا يشتهي مثلها، أو المرتهن امرأة أو أجنبيًّا ثقة، عنده زوجة، أو أمة يؤمن معها من الإلمام بها، فالحك كذلك، وإن عدم ذلك، لم يجز أن توضع على يده، وتوضع عند محرم لها، أو امرأة ثقة، أو عدل على الصفة المذكورة فإن شرط وضعها عنده؛ قال القاضي أبو الطيب [وغيره]: كان الشرط فاسداً، والرهن صحيحاً، ولو كان الرهن خنثى، فإن كان صغيراً جاز أن يكون في يد المرتهن، وعلى يد عدل وعند امرأة ثقة، وإن كان كبيراً، وضع على يد محرم له، ولا يجعل على يد أجنبي ولا أجنبية، صرح به

العمراني، وإن كان كراعاً، أو سلاحاً جعل على يد عدل مسلم، صرح به ابن الصباغ. قال: وإن اتفقا على أن يكون عدل جاز لما ذكرناه. وإن تشاحا أي: تمانعا، فيمن يكون تحت يده، وكان الرهن مشروطاً في بيع، كما نبه عليه الإمام، والرافعي، في الباب الثالث من كتاب البيع سلمه الحاكم إلى عدل؛ لأنه العدل. وقيل: إذا أطلق العقد، ولم يتبين من الذي يكون الرهن في يده، بطل. قال الإمام: وظاهر النص معه، [وبه جزم المحاملي إذا كان الرهن عبداً، دون ما إذا كان أمة، فإنه لا جهة لها إلا جهة واحدة، كما حكاه عنه في الزاوئد، وكذا الخلاف فيما إذا عقد الرهن من غير شرط، ولم يتبين من يكون تحت يده]. والعدل نائب عن المرتهن، وليس له أن يسلمه لأحدهما من غير إذن الآخر، فإن فعل ضمن، وإذا فوضا للعدل البيع عند حلول الحق جاز [وهو وكيل فيه عن الراهن وأمين عن المرتهن]، ولكن هل يحتاج إلى إذن الراهن عند البيع أيضاً؟ فيه وجهان: أصحهما: لا، وبه قال أبو إسحاق. قال الإمام: ولا خلاف أنه لا يحتاج ثانياً إلى إذن المرتهن. وفي الشامل [وغيره من كتب العراقيين]: أنه لابد من مطالبة المرتهن ببيعه. [وفي الحاوي: أنه لا يحتاج إلى تجديد إذنهما، ويكفي استمرارهما على الإذن، وسنذكر في آخر الباب فرعاً يتعلق بهذا]؟ أما إذا وقع التشاحح فيمن يقبض الرهن غير المشروط ابتداء، فالذي يظهر أنه لا يسلم إلى العدل إلا برضا الراهن؛ لأن له الامتناع من أصل الإقباض.

ولو اتفقا قبل القبض على أن يقبضه للمرتهن الراهن من نفسه لم يصح، وقبض عبده القن. وأم ولده ومدبره كقبضه، ويجوز أن يستنيب مكاتبه. وفي جواز استنابة عبده الماذون وجهان. وقال الشيخ أبو علي وجها ثالثاً: إن ركبته الديون جاز، وألا فلا يجوز وجهاً واحداً، والأصح المنع مطلقاً. [فرع: إذا مات المرتهن والرهن في يده فقال الراهن: لا أرضى بيد الورثة، فله ذلك على النص، كما حكاه الإمام عن العراقيين، قوال: إنه الأصح ورفع الأمر إلى الحاكم ليضعه على يد عدل، ولا فرق بين أن يكون الورثة عدولاً أم لا. وقال بعض أئمتنا: لا يزيل القاضي يد الورثة، نعم له أن يضم إليهم يداً إذا استدعاها الرهن]. قال: وكل عين جاز بيعها جاز رهنها؛ لأن المقصود من الرهن البيع؛ ليستوفي المرتهن حقه منه وذلك يحصل مما يجوز رهنها، وإن قلنا بجواز بيع المستأجر]. وعلى المذهب لا يحتاج لفظ الشيخ إلى استثناء شيء منه كما نبه عليه ابن يونس في استثناء المواضع التي تذكر في الكتاب؛ لأن ذكر قول ثانٍ في المدبر لا يمنع من

صحة الإطلاق الأول، ثم المشتري يجوز له رهنه وإن لم يجز للبائع المدبر كما اعتذر به الماوردي، وكذلك ذكر طريق في عدم صحة رهن الجاني وقول في المعلق عتقه بصفة، وما يتسارع إليه الفساد [لا يرد لما ذكرناه أولاً وأيضاً فإن المعلق عتقه وما يتسارع إليه الفساد] يصح رهنهما بالدين الحال، وليس في كلام الشيخ ما يقتضي تعميم الأحوال لأنه عام في الأعيان، والعام في الأعيان مطلق في الأحوال والأزمان والأمكنة، وإذا كان كذلك صح تفسيره بما ذكرناه. وبهذا رد البندنيجي على ابن القاص حيث قال: من الأشياء ما يجوز بيعه قولاً واحداً، وفي رهنه قولان، وهو الطعام الرطب وبه يحسن الجواب أيضاً عما ذكره الماوردي، وصاحب الاستقصاء من أن العبد إذا تزوج امرأة بإذن مولاه بصداق مبلغه ألف درهم، ثم إن السيد ضمنه فإنه لا يصح أن يرهن العبد عند الزوجة على الصداق؛ لأن الدَّين مضمون على العبد، فلم يجز أن يجعل رهناً في الدين؛ لأن الوثيقة غير الموثوق فيه، على أن في عدم الصحة في هذه الصورة نظر، إذا قلنا إن المهر لا يتعلق برقبته، نعم قد يحتاج إلى استثناء المرهون فإنه يجوز بيعه من المرتهن ولا يصح رهنه منه بدين آخر على الجديد، اللهم إلا أن يقال المراد ما يصح بيعه من كل أحد فيندفع ذلك. قال: وقيل إن المدبر لا يجوز رهنه؛ لأن المدبر إما أن يكون غير الذي عليه الدين، أو هو الذي عليه الدين. فإن كان الأول كما إذا دبر [زيد] مملوكه، ثم رهنه عند عمرو، على دين له على خالد، وذلك جائز كما صرح به المتولي، غيره وكما إذا أعاره المدبر لمن يرهنه بدين؛ فلأن الرهن ليس برجوع عن التدبير. فإن قلنا إن التدبير عتق بصفة كما هو الجديد [لم يحصل الرجوع فيه إلا بما يزيل الملك وإن قلنا إنه وصية كما هو القديم وبعض الجديد]، قلنا: في أن الرجوع في الوصية هل يحصل بالرهن؟

وجهان، فإن قلنا: لا يكون رجوعاً فكذلك هاهنا، وإن قلنا يكون رجوعاً، فالفرق أن التدبير أقوى بدليل نفوذه بعد الموت من غير قبول بخلاف الوصية، وإذا ظهرت قوته وضعف الوصية عنه لم يحسن القياس عليها، وإذا لم يكن رجوعاً احتمل أن يموت المدبر فجأة فيبطل مقصود الرهن وذلك غرر من غير حاجة فأبطل الرهن في الابتداء. والصورة الأولى هي التي يقتضيها كلام المزني في المختصر، فإنه قال: ولو دبره ثم رهنه كان الرهن مفسوخاً؛ لأنه أثبت له عتقاً قد يقع قبل حلول الرهن ولا يتصور أن يقع قبل حلول الرهن إذا كان المدبر هو الذي عليه الدين [إن أجرى اللفظ على ظاهره]، فإن الدين يحل في الوقت الذي يعتق فيه المدبر لا بعده، نعم إن أول مجمل قوله حلول الرهن على انفكاكه لم يختص بالصورة المذكورة، ولم أر في كلام الأصحاب ما يقتضي صريحاً أن الخلاف في غير هذه الصورة إلا في كلام الإمام. وإن كان المدبر من عليه الدين فالمنع من رهنه ليس كخشية موته فجأة، وعتق المدبر به كما يقتضيه إطلاق الأصحاب؛ لأن المدبر إنما يعتق من الثلث ووفاء الدين من رأس المال، فهو مقدم على ما يعتبر من الثلث؛ بل لأن سقوط الأجل بالموت أو الحلول يقتضي الإجبار على بيع المرهون في وفاء الدين على الفور إذا امتنع من تعين عليه وفاء الدين من إيفائه، والمدبر بعد الموت لو صح رهنه لا يباع في الحال بل ينظر: إن وفت التركة بالديون سواه لم يبع، وعتق إن خرج من الثلث، وإن لم توف بيع منه ما يوفى بها إذ ذاك، وفي حال الحياة إذا انقضى الأجل لا يجبر على الرجوع في التدبير، وإذا لم يرجع فيه لا يبادر إلى بيع المدبر لو صح رهنه ما وجدنا له مالا غيره كما سنذكره عن الأصحاب من بعد، وفي ذلك تغيير لمقتضى العقد فلم صح معه. وأيضاً فإن المرتهن ينحصر حقه في عين المرهون؛ حتى لا يتمكن من إجبار الراهن على الدفع من غيره، كما صرح به الإمام قبل باب الرهن، والحميل بخمس عشرة ورقة، وإن كان قادراً على تحصيله من غيره، وأشار إليه أيضاً بقوله في الأصل

الثاني في أوائل كتاب الضمان: أن المرتهن وإن قصر بالارتهان حصر حقه في العين المرهونة فليس له الانفراد ببيعها، وإذا كان كذلك فقد خالفنا هذا المقتضى بإيجابنا بيع غير المرهون في وفاء دين الرهن، وهذا القول منصوص في الأم أيضاً. فإنه قال: لو دبره ثم رهنه كان الرهن مفسوخاً، ولو قال: رجعت عن التدبير ثم رهنه ففيه قولان، وإليه مال الأكثرون. قال: وقيل يجوز أي: ويكون التدبير بحاله؛ لأنه لما جاز أن يطرأ التدبير على الرهن ولا يبطل الرهن، وإن أبطله العتق لجواز بيعه جاز أن [يطرأ الرهن] على التدبير، ويكون الرهن جائزاً؛ لجواز بيعه، وليس ما يطرأ من جواز أن يعتق بموت السيد قبل حلول الحق [بمانع من صحة الرهن، كما أن الحيوان قد يجوز أن يموت قبل حلول الحق]، وليس ذلك بمانع من صحة الرهن، هكذا قال المارودي. وفي قوله: "وليس ما يطرأ من جواز أن يعتق بموت السيد قبل حلول الحق" إشارة إلى أن الراهن غير المدبر كما صورناه من قبل، وهذا الطريق هو الذي رجحه الغزالي، وإمامه من جهة أن عتق المدبر متأخرعن وفاء الدين، فيؤمن معه تلف

المرهون بسبب العتق، ومقتضى هذا تخصيص التصحيح بما إذا كان المدبر هو المديون وعلى هذا الطريق. قال أبو إسحاق المروزي: إذا حل الحق فإن قضى من جهة أخرى سقط حكم الرهن وبقي العبد على تدبيره، وإن لم يقض قيل له ارجع في التدبير، فإن اختار الرجوع فيه بيع في الدين، وإن لم يختر: فإن كان له مال غيره [قضى منه الدين ويبقى العبد مدبراً وإن لم يكن له مال غيره]، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحكم بفساد الرهن، وعلى هذا الحال يحمل كلام الشافعي أن الرهن مفسوخ. والثاني: أنه يباع، وهو الصحيح عملاً بمقتضى صحة الرهن. قال: وقيل على قولين القائل بهذا الطريق ابن سريج، وقد بنى الخلاف على أن التدبير وصية، أو عتق بصفة. فإن قلنا بالأول جاز رهنه؛ لأنه يجوز الرجوع فيها بالقول فجعل الرهن رجوعاً كما لو وصى به ثم رهنه. وإن قلنا بالثاني لم يجز رهنه، لما ذكرناه من قبل. قال القاضي الحسين في تعيقه: وقيل إنه يجوز تفريعاً على هذا أيضاً كما سيأتي مثله في رهن المعلق عتقه بالصفة. وهذا الطريق أصح الطرق عند الماوردي، وأقرب إلى القياس عند ابن الصباغ. واعلم أن النواوي قال: قول الشيخ، وقيل: يجوز – تكرارٌ لا حاجة إليه. قال قوله: "كل عين جاز بيعها جاز رهنها" مغنٍ عن ذلك؛ لأنه يجوز بيعه. وجوابه: أن ذلك خص بالذكر؛ ليقام عليه دليل خاص به، إذ لا يمكن دفع حجة المنازع بما يضمنه دليل القاعدة المذكورة. وتقييد الشيخ الكلام بالعين يخرج المنافع؛ فإنه لايصح رهنها، كما صرح به ابن الصباغ وغيره والدين أيضاً. وإن قلنا بجواز بيعه، وفي الدين المستقر وجه أنه يصح رهنه حكاه الشيخ في

المهذب [وغيره من العراقيين] والغزالي في كتاب الهبة. قال في البيان: وعلى هذا يلزم بنفس العقد، و [قد] حكى في البسيط في هبة الدين وجهين عن حكاية صاحب التقريب، وأنا إذا صححناها ففي اللزوم بمجرد العقد وجهان، فإن قلنا لا يلزم وهو القياس فوجهان، أحدهما: لابد من قبض الدين، والثاني: يكتفي بتسليط وراء الإيجاب وهو أن يقول استوفى الدين، ينزل ذلك منزلة التخلية في العقار؛ فإنه غير قابل للقبض في صورته كالعقار. قلت: ولم يحك جريان مثل ذلك في رهنه. [قال الرافعي: لأن الرهن لا يفيد انتقال الملك والاستحقاق]. وفي الاستقصاء: أنه لو رهن الدين ممن هو عليه صح وجهاً واحداً؛ لأنه يجوز بيعه منه [فكذلك الرهن]. فإن قيل: قد حكى [القاضي] أبو الطيب وغيره عن نص الشافعي في ضبط ما يرهن به أن ما جاز بيعه جاز رهنه، وذلك يقتضي جواز رهن المنافع والدين إذا قلنا بجواز بيعه؟ قلنا: لم يذكر الشافعي ذلك إلا في معرض منازعة الخصم [في] أن رهن المشاع غير صحيح، وإقامة الحجة عليه، فإن عندنا رهنه صحيح، ولا فرق فيه بين أن يرهن نصيبه من جملة الدار أو في بيت منها والباقي مشترك بينهما، وفي رهن نصيبه من بيت من الدار مشاعاً وجه أنه لا يصح؛ لأنه ربما تقاسم الشريك فيقع الجميع في حصته، ولا يبقى للرهن مقر. ووجهه الشيخ في المهذب، والمحاملي بأن فيه إضراراً للشريك بأن يقتسما، فيقع البيت في صحته فيكون بعضه مرهوناً. قال المحاملي: ومحله إذا كان [الرهن] بغير إذن الشريك، أما إذا كان بإذنه، فإنه يصح؛ لأنه رضي بما يلحقه من الضرر، وهذا الوجه صححه مجلي، والأول صححه المتولي، وصاحب المرشد.

ثم إذا صححنا الرهن ووقع البيت في نصيب الشريك. قال الغزالي: احتمل أن يقال هو تلف، واحتمل أن يقال الراهن ضامن، والتفويت منسوب إليه، ومقتضى ما ذكرناه من تعليل الشيخ والمحاملي، أنه يبقى مرهوناً. قال: والمعتق [صفة تتقدمي على حلول الحق لا يجوز رهنه أي: من غير أن يشترط بيعه قبل وجود الصفة؛ لأنه رهن ما لا يمكن استيفاء الحق منه، الذي هو مقصود العقد. قال: وقيل فيه قول آخر أنه يجوز هذا القول خرجه أبو الطيب من رهن ما يتسارع إليه الفساد، وسنذكر تعليله. قال الإمام: وإنما ينتظم التخريج إذا قلنا بنفوذ العتق المعلق قبل الرهن عند وجود الصفة بعد الرهن، كما سنذكره، أما إذا لم يقل به فلا يخاف تسارع الفساد إليه وفوات الوثيقة، والصحيح الأول، وبه قطع الماوردي وغيره؛ لأن الظاهر فيما يسرع إليه الفساد من جهة الراهن بيعه إذا خشي تلفه وجعل ثمنه رهناً، وهاهنا الظاهر من جهته بقاؤه على الوفاء بذلك لغرضه في حصول العتق. أما إذا شرط بيعه قبل وجود الصفة، صح الرهن، كما في نظير ذلك مما يتسارع إليه الفساد، صرح به في المرشد. ووراء صورة الكتاب صورتان: إحداهما: أن يرهنه بدين حال، أو بدين يحل قبل وجود الصفة فلا خلاف في صحة الرهن للقدرة على تحصيل المقصود. نعم لو تأخر بيعه حتى وجدت الصفة، انبنى أمره كما قال القاضي الحسين، على أن العبرة في التعليقات بحال التعليق أو بحال وجود الصفة، وفيه قولان، فإن فرعنا على الأول عتق، وإلا انبنى على جواز عتق المرهون.

الثانية: أن يرهنه بدين يحتمل حلوله قبل وجود الصفة أو بعدها، كما إذا كانت الصفة وجود زيد مثلاً، وفي صحة الرهن والحالة هذه قولان، تفريعاً على المذهب في مسألة الكتاب أصحهما، وبه قطع بعضهم المنع، وقول الجواز. قال القاضي أبو الطيب: إنه مخرج من جواز رهن المدبر فإن التدبير عتق بصفة. أما إذا فرعنا على قول أبي علي الطبري فيها جاز هاهنا وجهاً واحداً، كما قال القاضي الحسين وفيه نظر؛ لأن أبا علي في مسألة تحقق الصفة قبل حلول الأجل يأمر ببيعه قبل وجود الصفة، كما يباع ما يسرع إليه الفساد قبل إشرافه عليه. وهاهنا لا يتحقق حال وجود الصفة حتى يباع قبلها، نعم إن أمكن معرفة وقت وجود الصفة اتجه ذلك، ويبيعه قبل ذلك كما قال صاحب التقريب، فيما إذا كان العتق ارتفع بعَتَهٍ. قال: وما يسرع إليه الفساد، أي: كالأطعمة والفواكه الرطبة التي لا يمكن تجفيفها، لا يصح رهنه بدين مؤجل، أي: بوقت يفسد قبل مجيئه من غير شرط بيعه عند خوف الفساد، في أصح القولين؛ لأنه لا يمكن إجبار الراهن على إزالة ملكه قبل حلول الدين؛ لكونه خلاف مقتضى العقد، وإذا كان كذلك تعذر استيفاء الحق من ثمنه؛ فلا يصح رهنه [كأم الولد]، وكما لو شرط ألا يباع عند إشرافه على الفساد. قال: ويصح في الآخر أي: ويجبر على بيعه عند خوف الفساد، ويكون ثمنه رهناً؛ لأن العقد المطلق يحمل على المتعارف، والمتعارف فيما يفسد أن يباع قبل فساده، فيصير كما لو شرط ذلك، ولو شرط ذلك جاز وجهاً واحداً، فكذلك عند الإطلاق، وهذا القول مال غير العراقيين إليه، وهو الموافق لظاهر نصه في المختصر. [وفي الحاوي: إذا صححنا رهنه لا نلزم الراهن ببيعه عند فساده] ولا خلاف في جواز رهنه بالدين الحال، ويباع عند الإشراف على الفساد، أما إذا كان المرهون مما يمكن تجفيفه كالرطب والعنب، وكذا اللحم جاز رهنه وجهاً واحداً، من غير

شرط، ووجب على الراهن ذلك، كما يجب عليه نفقة الحيوان؛ لأنه من مؤنة حفظه. فرع: إذا قلنا لا يصح رهنه فأخذه المرتهن وتركه حتى فسد. قال في التهذيب: إن أذن له الراهن في بيعه ضمن وإلا لم يضمن. وفي الجيلي في آخر هذا الباب: لو أذن الراهن [للمرتهن في بيع الرهن] عند حلول الدين، فلم يبع حتى مر على ذلك زمان، وتلف لم يلزمه ضمانه؛ لأن البيع لم يكن واجباً عليه فهو كالوكيل المأذون بالبيع مطلقاً، وهذا يطرد في كثير من السائل، فما لا يجب عليه فعله لا ضمان عليه بتركه إذا فرط في ذلك، حتى تلف بخلاف الولي [والوصي]، وما قاله فيه دليل على أن المرتهن له البيع، وليس ذلك رأي العراقيين كما سنذكره. فرع: إذا كان المرهون لا يقطع ببقائه ولا بفساده، وتردد الاحتمال، ففي جواز الرهن المطلق من غير تقييد بالبيع عند الإشراف على التلف قولان مرتبان على القولين في الصورة السابقة، وأولى بالصحة. فرع: إذا رهن ما لا يسرع إليه الفساد، ثم طرأ عليه ما يقتضي فساده، قبل حلول الدين لم يبطل الرهن. وهل يجبر على بيعه ليكون الثمن رهناً مكانه؟ فيه قولان في الحاوي. قال: والفرق على أحد القولين بينه وبين ما يسرع إليه الفساد، إذا قلنا بصحة رهنه حيث لا يجبر الراهن على البيع، أن البيع يمنع الفساد في هذه الصورة، فوجب [وفاءً] مما اقتضاه الرهن في الابتداء، وليس كذلك ما كان فاسداً وقت العقد؛ لأنه في الانتهاء على ما كان عليه في الابتداء، ولا خيار للبائع، إذا كان هذا الرهن مشروطاً في بيع؛ لأن فساده قد كان معلوماً له، ولو طرأ ما يقتضي الفساد بعد العقد وقبل القبض، فهل يحكم بانفساخ الرهن؟ فيه وجهان في الرافعي، وهما مبنيان على القول: بأن رهن ما يتسارع إليه الفساد باطل، ويجري الوجهان كما حكاه الإمام فيما لو قتل العبد المرهون بعد العقد، وقبل

القبض في أن حق الوثيقة، هل تتعلق بالقيمة الواجبة على المتلف؟ قال: وما لا يجوز بيعه أي: وفاقاً كالموقوف، والمرهون ونحو ذلك، أو على رأي كالجاني والغائب ونحوهما كما تقدم، خلا ما سنبينه وما في معناه. [قال:] لا يجوز رهنه؛ لأنه لا يحصل مقصود العقد، وهو اسيتفاء الحق من ثمنه عند التعذر. قال: وما لا يجوز في البيع من الغرر لا يجوز في الرهن؛ لاشتراكهما في قصد المالية. فإن قيل: الكلام الأول يغني عن هذا، فإن عدم جواز البيع تارة يكون لفقد شرط، وتارة لوجود مانع، والغرر أحدهما فلا معنى لذكره. فالجواب: أن ذلك صحيح في المبيع بالنظر إلى ذاته لكن كلام الشيخ ثانياً يرجع إلى نفس العقد لا إلى المبيع، فلم يكن كلام الشيخ شاملاً له لو اقتصر على الأول. قال: فإن رهن المبيع قبل القبض جاز. [رهن المبيع قبل القبض له حالتان: الأولى: أن يرهنه من البائع فهو صحيح، وإن كان لا يجوز بيعه منه على الأصح، كما قدمناه؛ لأن الرهن غير مضمون على المرتهن، وما لا يقتضي نقل الضمان فليس من [شرط صحته] قبضه، وهذا ما نص عليه الشافعي، كما حكاه ابن الصباغ، قبيل باب المصراة، وحكى أن من أصحابنا من قال أنه لا يصح؛ لأنه عقد يفتقر إلى القبض فأشبه الهبة]. وهذا منه يدل على أن الهبة منه ممتنعة جزماً، وقد صرح بذلك البندنيجي من قبل، وأجرى الرافعي الوجه الأول فيها أيضاً، وصحح منهما المنع وحكى عن بعضهم الجزم به، وعلى ذلك جرى المتولي [في الرهن] في كتاب الرهن، ووجهه بأن الثمن إن كان حالاًّ فهو محبوس به، إن قلنا: إن البداية بالمشتري فلا يجوز رهنه كالمرهون، وإن كان مؤجلاً [أو حالاً،] وقلنا البداية بالبائع، ففيه تغيير لمقتضى

العقد في التسليم، وما قاله من أنه كرهن المرهون تفريع منه على أن رهن المرهون من الراهن لا يجوز، ويجيء هاهنا طريقة قاطعة بأنه يجوز كما حكاها في الاستقصاء، فيما إذا رهن العبد الجاني من المجني [عليه]؛ لأن رهنه بالجناية ليس رهناً حقيقة [كذلك جنس المبيع على الثمن ليس رهناً حقيقة]. الثانية: أن يرهنه من غير البائع، فالصحيح عند عامة الأصحاب على ما حكاه الرافعي، وبه جزم ابن الصباغ والبندنيجي في أوائل باب بيع الطعام، المنع لضعف الملك كما أن المكاتب لا يصح بيعه، ولا يصح رهنه، وفيه وجه أنها يصح إذا لم يكن للبائع حق الحبس؛ نظراً إلى أن المانع من صحة البيع توالي الضمانين، [وهذا ما رجحه الغزالي]. وكلام البندنيجي في كتاب الرهن يوهم الجزم به فإنه قال: وإن اشترى شيئاً فرهنه قبل القبض – نظرت: فإن كان قبل تسليم الثمن إلى البائع لم يصح. [وقال] وإن كان بعد أن أسلم ثمنه إلى البائع فقد نص في [باب الرهن] على جواز ذلك؛ لأنه قد استحق قبضه على وجه لا يملك منعه منه كالميراث سواء، وجعله صاحب الاستقصاء المذهب، وجزم به القاضي الحسين، في التعليق وادعى نفي الخلاف فيه، وقد ذكرناه عنه من قبل. إذا عرفت ذلك كان لك أن تحمل كلام الشيخ على العموم من غير فرق بين أن يرهنه من البائع، أو من غيره، والله أعلم. فرع: إذا صححنا الرهن من البائع وأذن له في القبض ففعل لزم، ولا يزول ضمان البيع، بل إذا تلف ينفسخ العقد، وليس لنا رهن إذا تلف في يد المرتهن يكون من ضمانه من غير تعدَّ إلا هذا، وحكم قبض غير البائع إذا جوزنا الرهن منه، قد تقدم في أول كتاب البيع. قال: وإن رهنه بثمنه لم يجز أي: إذا كان للبائع حق الحبس؛ لأنه محبوس به، فلا يجوز كرهن المرهون. ولقائل أن يقول: ينبغي أن يصح ويتقوى أحد الجنسين بالآخر، ويعضده ما سيأتي

حكايته عن الإمام من بعد، أما إذا لم يكن له حق الحبس، بأن كان الثمن مؤجلاً، أو حالاًّ، وقلنا البداية بالتسليم، يجبر عليها البائع فهو كما لو رهنه منه بدين غير الثمن وقد تقدم، وهذا إذا لم يكن الرهن مشروطاً في البيع. أما لو شرط في البيع [بأن يكون المبيع مرهوناً بالثمن] لم يصح البيع؛ لأن المرهون غير مملوك له بعد؛ ولأن الثمن إما مؤجل أو حال، وأيما كان امتنع رهنه؛ لما ذكرناه من تعليل المتولي؛ ولأن ذلك يؤدي إلى تناقض الأحكام، فإن قضية الرهن كون المال أمانة، وإن تسليم الدين أولى وقضية الدين بخلافه، وفي ذلك أيضاً استثناء منفعة الاستيثاق، ولا يجوز أن يستثني البائع بعض منافع المبيع لنفسه. وفي النهاية: حكاية وجه مفرع على القول بأن البداية بالمشتري أنه يصح، هذا الشرط لموافقته مقتضى العقد، ولو شرط أن يرهنه بالثمن بعد القبض ويرده إليه، فالبيع باطل أيضاً؛ لبعض المعاني المذكورة. قال: وإن رهن الثمرة أي: التي يمكن تجفيفها عبد بدو الصلاح قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع جاز في أصح القولين؛ لأن الدَّين إن كان حالاًّ- بيعت في الحال فلا عذر، وإن كان مؤجلاً، فعذره يسير وبتقدير العاهة التي علل بها النبي صلى الله عليه وسلم منع البيع لا يَسقُط من دينه شيء بخلاف البيع؛ فإنه لو جوز لتضرر المشتري بفوات الثمن. والقول الثاني: أنه لا يجوز، وإن كان الدين حالاًّ؛ لأنه عقد لا يصح فيما لا يقدر على تسليمه، فلم يجز في الثمرة قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع كالبيع. وفيه احتراز من العتق، والوصية، ومحل تصحيح القول الأول عند الرافعي، إذا كان الدين حالاًّ أو يحل مع بدو الصلاح أوب عده، أما إذا كان يحل قبل بدو الصلاح، فالأصح من القولين عنده عدم الصحة، ولا نزاع في أنه إذا شرط في الرهن على الدين الحال القطع – جاز. ولو شرط في الدين الذي يحل قبل بدو الصلاح القطع عند المحل فطريقان: منهم من خرجه على القولين، ومنهم من قطع بالجواز، وإليه أشار الشيخ أبو

حامد، وصاحب التهذيب. أما الثمرة التي لا يمكن تجفيفها حكمها حكم رهن ما يتسارع إليه الفساد، [و] هذا كله إذا رهن الثمرة وحدها. أما لو رهنها مع الأشجار، فإن كانت مما يمكن تجفيفها، صح مطلقاً، وإن لم يمكن تجفيفها، ولم نصحح رهن ما يتسارع إليه الفساد، فطريقان. أشبههما: أنه لا يصح في الثمار، وفي الأشجار قولاً تفريق الصفقة. والثاني: يصح فيهما قولاً واحداً، وتكون الثمار تابعة للأشجار. فرع: إذا رهن زرعاً قبل أن يشتد حبه من غير شرط القطع. قال في الاستقصاء هو على القولين، يعني في مسألة الكتاب. وروى غيره عن صاحب التلخيص، أنه لا يجوز قولاً واحداً إذا كان الدين مؤجلاً، وإن صرح بشرط القطع عند المحل؛ لأنه لا يجوز بيعه إذا سنبل، وقد يتفق الحلول في تلك الحالة. ومن جملة المستثنيات أيضاً: رهن الجارية دون ولدها، الذي لا يجوز بيعها دونه، فإنه صحيح كما يجوز إجارتها دونه؛ لبقاء ملك الرقبة، وإن زال ملك المنفعة؛ ولأن الجارية لو ولدت في يد المرتهن، لم يدخل الولد في الرهن، فلا يمنع ابتداء الرهن، لكن إذا دعت الحاجة إلى البيع والولد بعد صغير، بحيث لا يجوز التفرقة بينهما، فهل تباع منفردة، ويقع التفريق ضرورة، أو يباعان معاً؟ فيه وجهان حكاهما ابن أبي هريرة. وأصحهما في الطريقين، وذكر في الزوائد للعمراني أن المنصوص الثاني، وبه جزم ابن الصباغ، ويعضده أن القاضي الحسين حكى أن الشافعي نص في الجنايات على أن الجارية لو جنت، ولها ولد صغير يباعان، وهاهنا أولى. وفي زوائد العمراني أن الوجه الآخر يجري فيما إذا جنت أيضاً، وعلى الصحيح إذا بعناهما، قومت الجارية ذات ولد دون ولدها، فإذا كانت قيمتها مائة، قوم الولد دون أمه، فإذا كانت قيمته خمسين، كان للمرتهن من ثمنها الثلثان، وهذا ما حكاه ابن الصباغ.

وحكى الماوردي، أنا نقول كم قيمة الجارية وحدها، إذا بيعت مع الولد، وكم قيمة الولد إذا بيع مع الأم، وبين العبارتين فرق. وحكى أمام وجهين كالوجهين فيما إذا رهن أرضاً بيضاء، وكان فيها نوى فقبض الرهن ثم أنبت النوى أشجاراً وبعناها مع الأشجار، فأحد الوجهين في الأرض: أن تقوم بيضاء فإذا قيمتها مائة، ثم يقومها مع الغراس فإذا قيمتها [مع الغراس] مائة وعشرون، فيكون للمرتهن من ثمنها خمسة أسداسه وهكذا، ونظيره من مسألتنا أن تقوم الأم وحدها فإذا قيمتها مائة، ثم يقومها مع الولد فإذا قيمتها مائة وعشرون، فيكون للمرتهن من ثمنها خمسة أسداسه وهكذا. الوجه الثاني في الأرض، أنا نقومها بيضاء فإذا قيمتها مائة، ثم نقوم الغراس [في الأرض متفرداً فإذا قيمته خمسون، فيكون للمرتهن من منها الثلثان، ونظيره من مسألتنا أن تقوم الأم وحدها فإذا قيمتها مائة، ويقوم الولد وحده مضموماً إلى الأم كما قدرنا الأشجار ثابتة، فإذا قيمته خمسون، فيكون للمرتهن من ثمنها الثلثان، ثم قال: واختيار الشيخ أبي علي والقاضي هذه الطريقة. وذكر صاحب التقريب معها طريقة أخرى واختارها، أنا نقوم الأم مع الولد وهي حاضنته، ونقوم الولد مع الأم، ولا يفرد واحد منهما بالتقويم على تقدير الانفراد، بخلاف مسألة الغراس. والفرق: أن الجارية رهنت وهي ذات ولد، فاستحق المرتهن بيعها على نعت الضم، والأرض رهنت ولا غرس فيها، ثم حدث الغراس [من بعد، فلا جرم قدرنا الأرض بيضاً في الوجهين جميعاً، ورجعت ثمرة الخلاف إلى قيمة الغراس]، نعم نظير مسألة الغراس أن تعلق الجارية بولد بعد الرهن. قلت: وما حكاه صاحب التقريب من الحكم مقارب لما حكيته عن الماوردي، وما قاله من الفرق فيه نظر: من حيث إنه جعل نظير مسألة الغراس، ما إذا حملت بعد الرهن وليس كذلك؛ لأن مسألة الغراس مصورة ما إذا رهنت،

والنوى فيها فهو بمنزلة العلوق بل نظيرها ما إذا علقت ثم رهنها، [وكذلك جزم المحاملي في المجموع بأنه إذا كان فيها النوى وعلم به المرتهن، إما قبل عقد الرهن أو بعده ورضي به ثم نبت نخلاً، أنا إذا بعناهما دفعنا للمرتهن قيمة أرض فيها نخل؛ لأنه لما علم بذلك ورضي به صار راضياً بارتهان أرض ذات نخل، فاستحق قيمتها على تلك الحال]. ثم مقتضى قوله أنها إذا علقت بعد الرهن، يجيء فيها الوجهان في كيفية التقويم، والمنقول في الرافعي أن للمرتهن من الثمن قيمة الجارية ولا ولد لها. وإذا تأملت ما حكيناه انتظم لك من أربعة أوجه: فرع: هل يثبت للمشتري إذا كان جاهلاً بأن لها ولداً، وكان الرهن مشروطاً في بيع [الخيار؟]. قال الماوردي: إن قلنا تباع دون ولدها فلا خيار له، وإلا فوجهان، أحدهما – وهو ما جزم به القاضي أبو الطيب في تعليقه [وغيره]: - الثبوت لما يلحقه من النقص في قيمتها. آخر: إذا رهن بهيمة ذات ولد يرضع، وقلنا لا تباع الجارية دون ولدها، فهل تباع البهيمة دون ولدها؟ فيه وجهان في الاستقصاء. قال: وإن رهن نخلاً وعليه ثمرة غير مؤبرة لم تدخل الثمرة في الرهن في أصح القولين، ما لا تدخل الثمرة الحادثة بعد الرهن، وهذا هو الجديد وبه جزم بعضهم، كما حكاه ابن الصباغ "ويدخل في الآخر" كما يدخل في البيع، وهذا هو القديم. وحكم أغصان الخلاف، وورق الآس، والفرصاد حكم الثمرة غير المؤبرة، وأما الأغصان [التي] لا تقصد، والجريد، وكذا الورق الذي ينزل إلى أن يتساقط فإنه داخل في الرهن، وإذا سقط الورق واجتمع منه شيء، كان كما يسقط من الدار المرهونة، قال الإمام: ومن أصحابنا من قال إذا انبترت أو بترت، لم يتعلق

استحقاق المرتهن بها [وجزم في الشامل وتعليق أبي الطيب في الجريد الموجود حالة الرهن بعدم الدخول]. وإذا جرى الخلاف في اندراج الثمرة مع إمكانها بيعها دون النخيل العكس، ففي اندراج الحمل فيه من طريق الأولى، وقد صرح [به] الأصحاب، فإن قلنا بعدم الاندراج، فلو قال رهنتك الجارية وحملها، فهل يكون الحمل مرهوناً؟ فيه تردد للأصحاب قال الإمام: والظاهر أنه لا يندرج، وفي اندراج اللبن الكائن في الضرع حالة العقد طريقان. أحدهما: القطع بأنه لا يدخل. والمشهور أنه على الخلاف، ثم هو عند بعضهم بمنزلة الثمار، وعند آخرين بمنزلة الجنين. وفي الصوف على ظهر الحيوان طريقان: أحدهما: القطع بدخوله [كالأغصان،] حكاه في التتمة. وأظهرهما: أنه على القولين في الثمار وزاد بعضهم قولاً ثالثاً فارقاً، بين ما قصر بحيث لا يعتاد جزه، فيدخل دون ما يعتاد جزه فلا يدخل. فرع: إذا رهن الأشجار فيه وجهان، وكذا في دخول الأساس تحت اسم الجدار، الذي جزم به القاضي أبو الطيب في المغارس عدم الدخول، ولا يدخل البناء بين الأشجار في الرهن عند رهن الأشجار إن أمكن الانتفاع به منفرداً، وإلا فهو على الخلاف في المغارس عند صاحب التقريب، والشيخ أبي محمد، والأشهر عدم الدخول. قال: وإن شرط في الرهن شرطاً ينافي مقتضى الرهن فإن كان ينفع الراهن أي مثل إن شرط ألا يباع في الدين، أو ألا يباع إلا بأكثر من ثمنه، أو ألا [يتقدم] به عند ازدحام الديون أو أن يكون مضموناً على المرتهن بطل الرهن؛ لأن ذلك مخالف لمقصود الرهن فمنع الصحة كما لو قال بعتك بشرط ألا تملكه.

وفي كتاب القاضي ابن كج أن ابن خيران حكى في إفساد الرهن فيما عدا الصورة الأخيرة القولين الآتيين فيما إذا كان ينفع المرتهن، وحكاهما أبو علي في الإفصاح في الأخيرة أيضاً. قال ابن الصباغ فيها: والأول أصح. قال: وإن كان ينفع المرتهن أي مثل أن يشترط أن يباع بأي ثمن كان، وإن قل، أو قبل حلول الحق، أو أن ما يحدث من ثمرة ونتاج وكسب يكون مرهوناً أيضاً، ففيه قولان: أصحهما: أنه يبطل؛ لأنه شرط باطل، قارن العقد فأبطله، كالشرط المضر بالمرتهن. والثاني: لا يبطل؛ لأن هذه الشروط لا تقدح في الوثيقة فلغت، وبقي الرهن بحالة بخلاف الشرط الذي ينفع الراهن؛ ولأن الرهن ينزع من الراهن وهذا الشرط فيه تبرع آخر، وأحد التبرعين لا يبطل ببطلان الثاني كما لو أقرضه الصحاح، وشرط رد المكسر، و [قد] حكى عن القديم صحة الشرط، بأن ما يحدث من الثمار أو النتاج يكون مرهوناً، ووجه في صحة شرط ما يحدث من الكسب. فرع: لو شرط المرتهن أن يبيع الرهن؛ لوفاء الدين، كان الشرط فاسداً، فإن شرط زيادة فاسدة في حق المرتهن، ويبطل بذلك البيع المشروط- فيه ذلك. [وإن لم يكن الرهن مشروطاً في بيع فهل يفسد الرهن؟ فيه قولان: ووجه فساد الشرط أن توكيل المرتهن في بيع المرهون لوفاء الدين فاسد، كما سنذكره عن العراقيين وفي النهاية ما يخالفه كما سنذكره في آخر الباب، ويجيء عليه أن يكون الشرط صحيحاً قال: وإن شرط الرهن في بيع، فامتنع [الراهن] من الإقباض، أي بعد عقد الرهن أو أقبضه، ثم وجد به عيباً، ثبت له الخيار في فسخ البيع، أي بعد رد الرهن لأنه لم يرضَ بذمته إلا بتوثيقه، فإذا لم يحصل له كان ذلك نقصاناً وعيباً، فثبت له الخيار، فإن قيل: لما لا يجبر الراهن على الإقباض وفاءً بالشرط عملاً بقوله: صلى الله عليه وسلم "الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِم"؟

قال ابن الصباغ: لان الرهن لا يلزم إلا بالقبض، كما دللنا عليه من قبل، وهكذا الحكم فيما لو شرط في البيع كفيلاً، فامتنع من الضمان لا يجبر، ويثبت للبائع الخيار، ثم الخيار في الرهن يثبت على الفور بعد الامتناع؛ لأنه خيار نقص، والامتناع يكون بعد الطلب، صرح به الماوردي، أما إذا لم يطلع على عيب المرهون إلا بعد تلفه في يده، لم يكن له خيار في فسخ البيع ولا طلب الأرش، وكذا لو شرط في الرهن رهن عبدين فأقبضه أحدهما، وتلف عنده أو تعيب، ثم امتنع الراهن من تسليم الآخر لم يثبت للمرتهن خيار. قال في الاستقصاء: لأن الخيار يثبت إذا رد المأخوذ على الوجه الذي أخذه، وقد تعذر الرد [لذلك]. وفي النهاية حكاية وجه في ثبوت الخيار أيضاً، وادعى ميل النص إليه. فرع: إذا خلَّى الراهن بين المرتهن وبين الرهن المشروط في البيع فامتنع من قبضه فهل يجبره القاضي على قبضه؟ فيه وجهان عن رواية صاحب التقريب. فإن قلنا: لا يجبره أبطل القاضي خياره في فسخ البيع. [مسألة]: قال: وإن شرط البيع رهناً فاسداً أي: مثل أن قال بعتك عبدي هذا بألف على أن ترهنني به دارك هذه بشرط ألا تباع في الدين، أو بشرط أن تكون منفعة المرهون لي مدة بقاء الرهن، أو يكون مبيعاً منك بعد شهر بالدين، [وما] جانس ذلك بطل في أحد القولين؛ لأن الرهن ينزل في مقابلته جزءٌ من الثمن، فإذا لم يصح اقتضى ضم ذلك الجزء إلى الثمن وه ومجهول فتصير جملة الثمن مجهولاً فبطل لذلك، وهذا هو الصحيح في الاستقصاء وغيره. قال: دون الآخر؛ لأن الرهن ينعقد منفرداً عن البيع فلم يفسد بفساده؛ كالصداق مع النكاح. قال أبو إسحاق: ولا يجوز أن يقال الرهن مقابلة جزء من الثمن؛ لجواز اشتراطه في القرض الذي لا تجوز الزيادة عليه بالشرط، وهذه طريقة الشيخ أبي حامد، وقال

القاضي أبو الطيب: فيما إذا شرط أن تكون منافع المرهون للمرتهن إن كانت المنفعة مجهولة: بطل الرهن والبيع، وإن كانت معلومة فقد اشتمل هذا العقد على بيع وإجارة؛ لأنه جعل المبيع في مقابلة الثمن ومنفعة الرهن فيجيء في صحة ذلك القولان السابقان وهذا ما حكاه الماوردي في هذه الصورة. وقال: أما إذا شرط كون المنافع للمرتهن في نفس الرهن لا في عقد البيع كان الشرط باطلاً، وفي بطلان الرهن قولان، فإن أبطلناه كان في بطلان البيع القولان. وقال ابن الصباغ: ظاهر كلام الشافعي ما قاله الشيخ أبو حامد. فرع: لو قال: بعني عبدك بألف على أن أعطيك بها وبالألف التي لك عليَّ داري رهناً [فيه] ففعل كان البيع والرهن باطلين. أما البيع فلأنه شرط فيه رهناً فيما لا يستحق رهناً فيه فبطل، وإذا بطل جر جهالة إلى الثمن. وأما الرهن في ثمن المبيع فلبطلان البيع، وفي الألف الآخر؛ لأن الرهن فيه كان بشرط البيع. وقال ابن أبي هريرة: هذا فساد من جهة الشرط في الرهن وهو شرط ينتفع به المرتهن فكان باطلاً، وفي بطلان الرهن به قولان، فإن صححناه صح البيع، وإلا كان في صحة البيع القولان. [و] قال الماوردي: والصحيح التعليل الأول وقد حكى عن الشيخ أبي محمد وغيره [في] صحة الرهن بالألف القديم أن كان عالماً بفساد الشرط، أو لم يعلم إذا قلنا بجواز تفريق الصفقة فيه. ورأى القاضي الحسين عدم صحة الرهن بالألف القديم عند الجهل بالفساد. قال: ولا ينفك من الرهن شيء حتى يقضي جميع الدين؛ [لأنه قد] تعلق به حق فكان متعلقاً به وبكل جزء منه كرقبة المكاتب، وتركة المديون ولا فرق في قضاء الدين المحصل لفكاك الرهن بين أن يكون يدفع نفس الحق أو بدله، والعبارة الوافية بالمقصود في هذا أن يقال:

ولا ينفك من الرهن شيء حتى يبرأ من عليه الدين من جميع الدين المرتهن به؛ لأنها تشمل ما ينفك به الرهن من القضاء والإبراء والحوالة [على المديون أو منه كما صرح به المتولي في الحوالة] والإقالة والمعاضة. وكلام الشيخ يقتضي الحصر في القضاء، ولا خلاف في أن العين التي اعتاضها عن الدين لو تلفت قبل القبض عادت وثيقة الرهن كما كانت، كذا لو تقايلا عقد المعاوضة كما صرح به القاضي أبو الطيب وغيره. ثم هذا كله إذا كان الرهن في عقد واحد من شخص واحد عند واحد والمديون واحد، وكذلك مالك الرهن أو من انتقل إليه بالإرث، فلو رهن نصف العين بعشرة، والنصف الآخر بعشرة فلكل نصف حكم الرهن الكامل. ولو رهن العين من شخصين على عشرين لهما بالسوية، ثم برئ من دين أحدهما انفك نصيبه بلا خلاف، اللهم إلا أن يتحد جهة الدينين كما إذا أتلف عليهما مالاً أو ابتاع منهما شيئاً، فإنه لا ينفك إلا أن يبرأ من جميع دين الآخر، على وجه غريب رواه صاحب التقريب. ولو تعدد المدين والراهن وكيل فالأصح التعدد كما لو باشر من عليه الدين بنفسه. ولو تعدد مالك الرهن في صورة الاستعارة والراهن واحد وقصد فك نصيب أحدهما بدفع ما عليه، فالأظهر من القولين في عيون المسائل الانفكاك. وروى المحاملي وغيره قولاً ثالثاً: أن المرتهن إن كان عالماً بأنه لمالكين فللراهن فك نصيب أحدهما بأداء نصف الدين، وإن كان جاهلاً فلا. قال الإمام: ولا يعرف لهذا وجهاً. ولو اتحد الراهن والمدين، وكان المرهون عبدين متماثلي القيمة استعار كلا منهما من مالك فأدى نصف الدين ليخرج أحدهما عن الرهن ففيه طريقان: أحدهما: القطع بانفكاكه لانضمام تعدد المحل إلى تعدد المالك. والأظهر طرد القولين [كما حاكه ابن الصباغ. عن الرهن الصغير] وإذا قلنا

بالانفكاك فلو كان الرهن مشروطاً في بيع، فهل للمرتهن الخيار إذا كان جاهلاً بأن المرهون لمالكين؟ فيه وجهان [أو قولان] أصحهما أن له الخيار. ولو مات الراهن وخلف ولدين فأدى أحدهما نصف الدين، لا ينفك نصف المرهون على أصح القولين، وبه قطع قاطعون. وقول الانفكاك رواه صاحب التقريب، واستبعده الإمام وقال: إنما ينقدح في فك قدر نصيبه من التركة إذا أدى قدر حصته من الدين؛ بناء على أنه لو أقر بدين على مورثه وأنكر الآخر لا يلزمه إلا قدر حصته، ومقتضى هذا البيان أن يكون هذا القول هوا لصحيح، فإن الجديد أنه لا يلزم المقر من الورثة إلا قدر حصته من الدين، وأيده الرافعي بأن تعلق الدين بالتركة هل هو كتعلق الرهن أو الجناية؟ وفيه خلاف، فإن كان الأول فهو كتعدد الراهن، وإن كان الثاني فهو كما لو جنى العبد المشترك فأدى أحد الشريكين نصيبه فإنه ينقطع عنه التعلق، لكنه خص ذلك بما إذا لم يسبق الموت مرض، وقال فيما إذا سبق الموت مرض: إن التعلق يكون سابقاً على ملك الورثة، لأن للدين أثراً بيناً في الحجر على المريض، فيشبه أن يكون القول في انفكاك نصيبه كما في السورة السابقة يعني في الرهن، وما قاله أخيراً فيه نظر: فإن تصرف المريض في ماله لايختلف على المذهب بين أن يكون عليه دين أم لا. نعم حكى وجه: أنه إذا وفى بعض ديونه في المرض بجميع ماله أن لمن بقي من أرباب الديون مقاسمته بعد الموت، فإن أراد هذا فهو صحيح لكن لا يعكر [على] هذا على المذهب. قال: ولا ينصرف الراهن في الرهن بما يبطل به حق المرتهن كالبيع والهبة ولا ينقص به قيمة الرهن كلبس الثوب وتزويج الأمة ووطئها إن كانت ممن تحبل) أي أو كانت بكراً، لقوله صلى الله عليه وسلم "لا ضَرَرَ، وَلا ضِرَارَ فِي الإِسْلامِ" ولما ذكرنا في أوائل باب ما يجوز بيعه، وقد تقدم ثم حكاية ما أبداه الإمام في بيعه، ولو كانت ذات زوج لم يمنع من وطئها لسبق حقه، ولا من صيرورتها أم ولد، وكذا لو طلقها طلاقاً رجعياً لا يمنع من المراجعة.

قال الماوردي: لأنه مع الرجعية مقيم عليها بالنكاح. قلت: وسنقف في باب الرجعة على خلاف في أن الرجعة في حكم ابتداء النكاح، أو في حكم استدامته؛ حتى أجرى خلاف: في أن العبد هل له المراجعة بغير إذن سيده أم لا؟ فقد يظن جريان مثل ذلك هاهنا [وليس كذلك؛ لأن رضا الحرة غير معتبر في رجعها فلسيد الأمة أولى، وإنما جرى الخلاف ثم؛ لأن رضا الزوج هو المعتبر في الارتجاع؛ فلذلك تبينا ابتداء النكاح]. قال: [وإن كانت ممن لا يحبل أي لصغر، أو كبر وهي ثيب جاز وطؤها كسائر الانتفاعات التي لا تضر بالمرتهن، وهذا قول أبي إسحاق واختاره ابن كج. وقيل: لا يجوز؛ إذ العلوق ليس له وقت معلوم فإن الطباع مختلفة فيمنع حسماً للباب، كما قلنا في شرب الخمر لما لم يتميز ما يسكر منه مما لا يسكر مع اختلاف الطباع في السكر حرم الجميع، وعلى الوجه الثاني – وهو الذي قال به ابن أبي هريرة والأكثرون- لا يجوز له استخدامها بنفسه؛ حذاراً من وطئه لها. ويجري الوجهان فيما إذا كانت الأمة حاملاً من زنا وجوزنا وطأها [ويتجه جريان مثل هذا الخلاف فيما لو كانت الجارية لصغير، انتقلت إليه مرهونة بالإرث، وغير ذلك]. تنبيه: إنما مثل الشيخ التصرف المبطل لحق المرتهن بالبيع والهبة؛ ليخرج إبطال حق المرتهن من الرهن باستيفاء القصاص منه كما سنذكره، وتمثيله بما ينقص قيمته باللبس ونحوه؛ ليخرج ما إذا نقص حقه بالمقاسمة، كما إذا رهن من شخصين شيئاً

وقضى دين أحدهما وأراد أن يقاسم المرتهن في المرهون، وكان ينقص بذلك، فإن له المقاسمة على أحد الوجهين كما حكاه في المهذب، والخلاف يجري فيما إذا رهن ما يخصه من شيء مشاع، وأراد الشريك والراهن القسمة، والأظهر أن المرتهن لا يجبر على ذلك. وحكى الإمام في جواز القسمة خلافاً، وإن كان المرهون مكيلاً أو موزوناً، أو ما يجبر الشريك على قسمته وبناه على أن القسمة بيع أو إفراز حق، ومقتضى هذا البناء ألا تجوز القسمة وإن رضي المرتهن إذا قلنا: إن القسمة بيع ولم نجوز نقل الوثيقة من العين إلى عين أخرى، كما هو أصح الوجهين، أما إذا جوزنا نقل الوثيقة فينبغي أن نجوز، وبالمنع أجاب الإمام، وإن جوزنا نقل الوثيقة؛ لأن هذا تبادل بصيغة البيع، ولا خلاف فيه. قال الرافعي: والمفهوم من كلام المعظم صحتها. قلت: وعندي في دعوى الإمام نفي الخلاف في منع التبادل بصيغة البيع نظر، من حيث إن كتب المذهب مشحونة بحكاية قولين فيما إذا أذن المرتهن للراهن في بيع المرهون على دين مؤجل، بشرط أن يكون الثمن رهناً مكانه، فأحد القولين أن البيع والشرط صحيحان، وهذا عين التبادل بصيغة البيع الصريحة. فإن قيل: الإمام قد وجه هذا القول بأن المرهون إذا هلك، تعلق حق المرتهن بالقيمة، وما يقع لا يمتنع شرطه وليس يقع مثل ذلك فيما ذكرتم؟ قلت: الإمام عمم الحكم بالمنع في المكيلات والموزونات من ذوات الأمثال مع وجود ما علل به قول صحة الشرط والبيع [في المثليات]؛ لأنه إذا تلف الرهن وكان مثليًّا تعلق حق الوثيقة بمثله فاندفع الجواب. وجعل الشيخ أبو إسحاق – رحمه الله ونفعني به – وطء الجارية مما ينقص القيمة، تفريعاً منه على أن إحباله لا ينفذ فإنه يتوقع من الوطء العلوق، المفضي إلى الطلق وكل منهما منقص للمالية. أما إذا قلنا بنفوذ الاستيلاد فيحسن إلحاقه بما يزيل الرهن، [ولا يقال] الأحسن

أن يجعل قسماً ثالثاً؛ فإن الأول لو صح أزال الرهن في الحال، وهذا يتوقع به الزوال؛ لأنا نقول سبب الزوال قد يقام مقام الزوال، ألا ترى أن الوطء منعنا منه، وإن قلنا: بعدم نفوذ الاستيلاد مع أنه لا ينقص في الحال، لكنه سبب النقص في المال. وقوله: بما يبطل به حق المرتهن: فيه إشارة إلى أن محل هذا الكلام بعد القبض إذ به يتعلق الحق له، أما قبل القبض فيصح منه سائر التصرفات من البيع والهبة وغيرهما؛ لفقد المانع منهما، كما صرح به الأصحاب، لكن هل يكون تصرفه رجوعاً عن الرهن؟ ينظر فيه، فإن كان بيعاً أو هبة أو رهناً واتصل بهما القبض أو إصداقاً أو عتقاً أو كتابة أو وطئاً حصل منه إحبال كان رجوعاً، والوطء من غير إحبال والتزويج لا يكون رجوعاً، وكذا الإيجار إن جوزنا بيع المستأجر، وإن لم نجوزه فالأصح أنه رجوع والتدبير رجوع على المنصوص. وخرج الربيع قولاً أنه ليس برجوع. وقال الإمام: وهو منقاس إذ بيع المدبر جائز عندنا. واعلم أن اللغة الفصيحة في قول الشيخ بما ينقص أن تفتح الياء وتسكن النون وتضم القاف المخففة، وبها جاء القرآن العزيز، ويجوز ضم الياء، وفتح النون، وكسر القاف المشددة. قال: ويجوز أن ينتفع به فيما لا ضرر [فيه] على المرتهن، كالركوب والاستخدام أي والسكنى، وزراعة ما لا يبقى بعد حلول الدين، ولا ينقص قيمة الأرض. قال: وله أن [بعير و] يؤجر أي: من ثقة إن كانت مدة الإجارة دون محل الدين؛ لأن المنافع ملكه كما سنبينه، ولا ضرر على المرتهن في استيفائها، فكان له الاستيفاء بنفسه، وبمن بينا كما في غير المرهون، وقد حكى عن القديم قولان: أحدهما: أنه ليس له استيفاء المنفعة بنفسه، ولم يطرده الماوردي في الانتفاع بالأرض [في الزراعة] بل جزم القول بجوازه، وفرق بين الزراعة، والسكنى: بأن يد

الساكن على الدار، وليس للزارع يد على الأرض، وإنما يده على الزرع فلم يمنع منه، ومنع بعض الأصحاب الخلاف في المسألة، وحمل الأول على ما إذا كان ثقة، والثاني على غير الثقة؛ حذاراً من الجحود، وهذا ما صححه الماوردي، والثاني، رواه صاحب التقريب: أن الرهن لا يخرج من يد المرتهن بحال، وعلى المشهور إذا أراد الراهن أخذه، فإن كان غرضه منفعة يدام استيفاؤها؛ كالسكنى فتبقى في يده، وإن كان منفعة تستوفي في بعض الأوقات، كالاستخدام والركوب فتستوفي نهاراً وترد ليلاً. وهل يجب الإشهاد عند كل أخذ؟ ينظر: إن وثق المرتهن بالتسليم فلا، وإلا أشهد عليه شاهدين أن يأخذه للانتفاع، وإن كان مشهور العدالة موثوقاً به عند الناس فوجهان أشبههما أنه يكتفي بظهور حاله، ولا يكلف الإشهاد لما فيه من المشقة، ومحل ما ذكرناه إذا أراد الراهن شيئاً من الانتفاعات التي يحوج استيفاؤها إلى إخراج الرهن عن يد العدل كالركوب والاستخدام، أما إذا لم يرد ذلك، وكان المرهون مكسباً وتيسر اكتسابه في يد المرتهن، لم يخرج من يده، كذا قال الرافعي. ثم قال من بعد: وكلام الغزالي في الوسيط، والوجيز يدل على أن العبد لا ينزع من يد المرتهن إذا أمكن اكتسابه، وإن طلب الراهن منه الخدمة والأكثرون لم يتعرضوا لذلك. وقضية كلامهم: أن له أن يستخدمه مع إمكان الاكتساب، ولا خلاف أن الراهن ليس له المسافرة بالمرهون لحاجة الخدمة والاكتساب، وإن كان السفر قصيراً؛ لما فيه من الخطر، والحيلولة القوية من غير ضرورة، أما السفر لحاجة الرعي ففيه كلام يأتي. ولو أراد أن يزرع ما لا يستحصد إلا بعد حلول الدين فهل يمنع منه؟ فيه قولان أو وجهان، بناهما الماوردي على جواز بيع الأرض المزروعة، فإن جوزنا البيع جاز له أن يزرع، وإلا فلا، فعلى هذا، لو زرع لا يكلف القلع، قبل حلول الحق، وإذا حل الحق كلف ذلك، إلا أن يختار المرتهن الصبر إلى أوان الحصاد. وقيل: يجبر على القلع في الحال، وعلى الأول إذا حل الحق، بأن وفي بيع

الأرض به فلا كلام، وإلا كلف قلع الزرع إذ ذاك، إن لم يكن محجوراً عليه، أو بيع الأرض مع الزرع، ودفع المرتهن قيمة الأرض. وكيف تقوم؟ يتجه أن يكون الحكم فيه أن تقوم الأرض بيضاء، ولا زرع فيها، فما قومت به تعلق حق المرتهن به كما حكاه في الاستقصاء عن نص الشافعي، فيما إذا نبت في الأرض شجر بعد الرهن. ولو أجر المرهون مدة تنقضي بعد حلول الدين، أو كان حالاً، فعن بعض الأصحاب فيما رواه ابن القطان بناء صحة الإجارة على القولين، في جواز بيع المستأجر، إن لم نجوزه لم تصح وألا صحت. وزاد الماوردي: إذا لم توكس الإجارة ثمن المرهون. وفي المهذب: أن أبا علي الطبري، قال: المسألة على القولين في زراعة ما لا يستحصد قبل محل الدين، والمشهور بطلانها قطعاً، أما إذا لم نجوز بيع المستأجر فظاهر، وأما إذا جوزناه؛ فلأن الإجارة الحق فيها للمستأجر، فلا يقدر الراهن على إزالته بخلاف الزرع، ثم القائلون بالمنع لم يفصل الجمهور [منهم]. وفي الحاوي والتتمة في المسألة الأولى: أن الإجارة تبطل فيما زاد على مدة الأجل، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة. قال الماوردي: سواء رضي بذلك المرتهن [يما بعد] أو لم يرض، وحكم إجارته قدر مدة الدين حكم إجارته دون مدة الدين. ولو مات الراهن في أثناء المدة التي جوزنا العقد عليها، ففي قطع الإجارة وجهان، فإن قلنا لا ينقطع ضارب المرتهن مع الغرماء بحقه في الحال، ثم إذا انقضت مدة الإجارة بيع الرهن في حقه، فإن فضل منه شيء أخذه الغرماء، ثم هذا كله فيما إذا وقع عقد الإجارة من غير المرتهن، أما إذا صدر معه فيصح وجهاً واحداً، ولا يبطل بذلك الرهن، وإن صدرت الإجارة قبل تسليم الرهن [ويتسلمه عنهما]، وهاذ لو كان مستأجراً ثم رهنه من المستأجر [صح].

قال: وإن رهنه بدين آخر، أي: من جنس الأول عند المرتهن ففيه قولان أصحهما: أنه لا يجوز، وهذا هو الجديد؛ لأنه رهن مستحق بدين، فلا يجوز رهنه بغيره كرهنه عند آخر. والثاني – وهو القديم واختاره المزني -: أنه يجوز؛ لأنه وثيقة على حق ليس عوضاً عنه فجازت الزيادة فيه كالضمان والشهادة]، وقد قيل إن هذا القول محكي في الجديد أيضاً وأيده المزني بأن الشافعي نص في المختصر على أن المرهون إذا جنى، ولم يفده السيد، فاختار المرتهن أن يفديه؛ ليكون رهناً بحاله بالحق الأول، وبما فداه به من الأرش بإذن الراهن صح. قال الإمام: ومن بدائع الأمور اختيار المزني جواز ذلك مع ميله إلى القياس في اختياراته، وقد أجاب الأصحاب عن الأول بأنه يجوز أن يضمن الضامن دين غيره، ولا كلك الرهن، فإنه لا يجوز أن يجعل على دين غيره، [وحكم المشاهد] يتسع لحقوق كثيرة، وحملوا النص على حكاية القول القديم، ومنهم من حمله على الجديد، وهو الظاهر. وفرق بأن الذي نص عليه الشافعي إنما جاز؛ لأن الأرش متعلق بالرقبة مع بقاء الرهن، فإذا رهنه به فقد علق بالرقبة ما كان متعلقاً بها، وغيره من الديون لم يكن متعلقاً بها، فلم يجز رهنه به. ولأن المجني عليه يملك استيفاء الحق من رقبته، وإن بطل الرهن به فصار بذلك في معنى الرهن الجائز، ويجوز أن يلحق بالعقد الجائز ما لا يلحق باللازم؛ ولأن ذلك من مصلحة الرهن وحفظه على المرتهن والمالك، بخلاف مسألتنا، ومثار الخلاف في المسألة المستشهد بها عند بعض من أثبته، أن المشرف على الزوال إذا استُدْرِكَ وصِينَ عنه يكون استدراكه كإزالته وعادته، وهو حض استدامة وفيه قولان مأخوذان كما قال الإمام من معاني كلام الشافعي، فإن قلنا بالأول فكأنهما يوافقا على فكاك الرهن، واستأنفاه بالدينين، وإن قلنا بالثاني ففيه القولان، أما إذا كان الدين الأول دراهم والثاني دنانير، وقلنا أنه يجوز، فهل يجوز هاهنا؟ فيه وجهان: أقيسهما في الاستقصاء أنه يجوز، ويجري الطريقان فيما إذا أنفق

المرتهن على الرهن عند عجز المالك على النفقة بإذن الحاكم، وشرطا أن يكون مرهوناً بهما، كما صرح به القاضي أبو الطيب. فروع: لو اعترف الراهن بأن المرهون مرهون بعشرين، ثم ادعى أنه رهنه أولاً بعشرة، ثم بعشرة ونازعه المرتهن فعلى القديم لا ثمرة لهذا الاختلاف، وعلى الجديد القول قول المرتهن مع يمينه. وفي الحاوي حكاية وجه: أن القول قوله من غير يمين، ولو قال المرتهن في جوابه فسخنا الأول واستأنفاه بالعشرين، فالقول قول المرتهن أيضاً؛ لاعتضاد جانبه بإقرار صاحبه، أو قول الراهن؛ لأن الأصل عدم الفسخ؛ فيه وجهان مذكوران في تعليق البندنيجي وغيره، وميل الصيدلاني إلى الأول. وعن صاحب التهذيب الأصح الثاني. ومما يترتب على ذلك: أنه لو قال لشاهدين: كان هذا رهناً بألف، فجعلته رهناً بألفين [فيقبل]، [ما لم يصرح] الشاهدان بأن الثاني كان بعد فسخ الأول. وفي النهاية حكاية وجه عن صاحب التقريب: أنه يلزمه الحكم بكونه رهناً، فإنه يجب على الحاكم حمل ما ينقله الشهود على الصحة، وهذا إذا لم يطلع الشاهدان على شرح الحال، فلو أقر الراهن عندهما بأن [هذا] العبد رهنته عند فلان بألف، [ثم] رهنته بألف أخرى أو جرى الرهن بحضورهما، ثم ترافع المتراهنان إلى الحاكم وجب على الشاهدين أن يشهدا بما تحملاه مفصلاً، إن لم يكونا من أهل الاجتهاد وإن كانا فهل فهما الاجتهاد في ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم فإن كانا يعتقدان أن القول القديم كان لهما أن يشهدا أنه مرهون بألفين، وألا فيشهدا أنه مرهون بألف. والثاني: لا، وهو قول أبي إسحاق المروزي. والأصح في الحاوي: بل حالهما كما لو لم يكونا من أهل الاجتهاد، وهكذا

الحكم في كل شهادة طريقها الاجتهاد، صرح به الماوردي. وفي النهاية: أن الشاهدين إذا كانا يعتقدان أن ذلك لا يجوز، وأرادا أن يشهدا مطلقاً وينقلا لفظ الراهن: إني جعلت هذا رهناً بألفين، فهل لهما ذلك؟ قال صاحب التقريب: هذا ينبني على أن القاضي هل يقبل ذلك؟ فإن قلنا: لا يقبله، فلا نظر إلى إطلاقهما. وإن قلنا: القاضي يقضي بالمطلق من شاهدتهما من غير [بحث، ففيه] وجهان، الأصح: أنه لا يجوز الإطلاق. وقال: وإن أعتقه ففيه ثلاثة أقوال: أحدهما: يعتق أي موسراً كان أو معسراً، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا عِتْقَ إِلا فِيمَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَم" أثبت العتق في المملوك، والرهن مملوك للراهن، فوجب أن ينفذ عتقه فيه. وأيضاً فإنه عتق محبوسة لا استيفاء حق، فوجب أن ينفذ فيها عتق المالك، أصله: العبد المبيع في يد البائع والعبد المستأجر والزوجة. قال: والثاني لا يعتق أي: معسراً كان أو موسراً؛ ولأن العتق معنى يبطل به حق الوثيقة، من عين الرهن مع بقائه؛ فوجب ألا يصح من الراهن بغير إذن المرتهن كالبيع. قال: والثالث إن كان معسراً لم يعتق، وإن كان موسراً عتق، وأخذت منه

القيمة، وجعلت رهناً مكانه؛ لأنه عتق في ملكه يبطل به حق الغير، فاختلف فيه الموسر والمعسر كالعتق في العبد المشترك بينه وبين غيره، وهذا هوا لصحيح والمنصوص عليه في المختصر، والأولان أخذا من نصه في الجامع الصغير، وهو من الكتب القديمة على عدم النفوذ، فيما إذا كان معسراً، وأن في نفوذه مع اليسار قولين، ومن نصه في الأم على النفوذ إذا كان موسراً، وعلى قولين فيما إذا كان معسراً، فانتظم من ذلك ما ذكره الشيخ. التفريع: إن قلنا بالنفوذ مطلقاً فعلى الراهن قيمته يوم الإعتاق، صرح به الأصحاب. وكان يتجه أن يتخرج على الخلاف في وقت النفوذ، وإليه أشار ابن يونس بقوله على الصحيح. ثم إن كان موسراً أخذت منه في الحال وجعلت رهناً مكانه، قاله في المهذب، ولا يفتقر إلى تجديد عقد الرهن، كما صرح به الرافعي وغيره، ويتجه أن يجيء فيه ما سنذكره في بدل الجناية من بعد. وفي النهاية: أنه لا يتم ذلك ما لم يقصد المعتق التسليم عن جهة الغرم، وأنه جاز في كل مال في الذمة، حتى لو قال قصدت الإيداع عندك، وقع وديعة. قلت: وكان يتجه أن يجيء فيه الوجه الذي تقدم، فيما إذا دفع الراهن الرهن إلى المرتهن، وقال قصدت الإيداع، وقال المرتهن: بل قصدت الإقباض عن الرهن، أن القول قول المرتهن لقرينة الحال. ويمكن أن يفرق بينهما بأن العقد ثم على العين قوى القرينة في جانب المرتهن، وفي تعليق القاضي [أبي الطيب:] أن القيمة تجعل رهناً، إن كان الدين مؤجلاً، وإن

كان حالاً وفي منها الدين، إلا أن يقول الراهن: أقضي من غير هذه القيمة؛ فيكون له ذلك، وإن كان معسراً انتظر يساره، ثم إذا أيسر كان الحكم كما تقدم. يفرق فيه بين أن يكون الدين حالاً أو على نعت ما قاله أبو الطيب، وكلام الشيخ في المهذب موافق له؛ [فإنه قال: إذا أيسر وقد حل الحق] يطالب به، ولا معنى للرهن. قال الرافعي: ولك أن تقول: كما أن ابتداء الرهن قد يكون بالحال، وقد يكون بالمؤجل؛ فلذلك قد تقتضي المصلحة أخذ القيمة رهناً، وإن حل الحق إلى أن يتيسر استيفاؤه وبتقدير صحة التفصيل، وجب أن نجري مثله في القيمة التي تؤخذ من الموسر؛ يعني في الابتداء، وهذا سؤال على ما في المهذب كما ذكرناه من قبل. وإن قلنا بعدم النفوذ مطلقاً، فالرهن باقٍ بحاله، فلو انفك بالبراءة من الدين فقولان أو وجهان. أظهرهما: أنه لا يحكم بنفوذه أيضاً. والثاني: وبه قطع قاطعون: أنه ينفذ؛ لأن المانع قد زال. وإن قلنا بالقول الثالث؛ فالحكم في حال الإعسار كالقول الثاني، وفي حال اليسار حكى الإمام عن العراقيين خلافاً في كيفية نفوذ العتق؛ منهم من يخرج في وقت نفوذه ثلاثة أقوال، كما في عتق الشريك. أحدها: يتعجل نفوذه، وبعده يتوجه الغرم. والثاني: أن نفوذ العتق بيع مع غرامة القيمة للمرتهن. والثالث: أن الأمر موقوف على أداء الدين أو قيمته رهنا مكانه. وهذا الثالث حكاه ابن الصباغ في كتاب الطهارة عن أبي إسحاق. ومنهم من قطع بالنفوذ في الحال، وفرق بأن عتق الراهن صادف ملكه، والعتق الذي يسريه في العبد المشترك ينفذ في نملك الغير، فيجوز أن يتوقف انتقال الملك فيه إلى المعتق على تقدير ملك الشريك على العوض وإنما يستقر الملك على عوض المتلف إذا بدل وتثبت يد المتلف عليه على ذلك العوض، وهذا هو الأظهر في الرافعي. واختيار الشيخ أبي حامد كما حكاه ابن الصباغ [عنه] في كتاب الطهارة، وقال

إن ما صار إليه أبو إسحاق من زلاته، وأن القاضي أبا الطيب نَصَرَ أبا إسحاق، وقال: هو نص الشافعي، وأجراه مجرى الشريك إذا أعتق، وبهذا الطريق جزم القاضي ابن كج، ومثل الطريقين يجري على ما حكاه الرافعي وغيره، فيما إذا كان الراهن موسراً، وفرعنا على القول [الأول]. وفي هذا نظر؛ لأنه لو كان معسراً لنفذنا عتقه على هذا القول، فكيف يتوقف مع اليسار. قال: وإن كانت جارية فأحبلها فعلى الأقوال: أي في أنها هل تصير أم ولد في الحال، [أم لا] وقد تقدم توجيهها، وكلام الشيخ يقتضي التسوية بين العتق والإحبال، وهي طريقة الشيخ أبي حامد، وغيره جعل الخلاف في الاستيلاد مرتباً على العتق، ثم اختلفوا، فمنهم من جعل الاستيلاد أولى بعدم النفوذ؛ لأنه [لا] يفيد حقيقة العتق، وإنما يثبت به [حق] العتق، وجعل أبو إسحاق [والأكثرون] الاستيلاد أولى بالنفوذ؛ لأنه فعل، والأفعال أقوى وأشد نفوذاً، ولهذا ينفذ استيلاد المجنون والمحجور عليهن ولا ينفذ إعتقاهما، وينفذ استيلاد المريض من رأس المال، وإعتاقه من الثلث. التفريع: إن قلنا: لا تصير أم ولد لم تبع، إلا بعد وضعها وسقيها الولد اللبأ الذي لا يعيش إلا به، واستغنائه بلبن غيرها وقد تقدم في البيع حكاية وجه في جواز بيع الأمة الحامل بالحر، ولا يباع منها إلا بقدر الدين، وإن نقص قيمة الباقي بخلاف ما إذا اتفق ذلك في العبد، وكانت قيمته مائة وهو مرهون [بخمسين] وكان لا يشتري نصفه إلا بأربعين، ويشتري الكل بمائة؛ حيث يباع الكل دفعاً للضرر عن المالك؛ اللهم إلا أن يوجد من يشتري البعض فيباع الكل دفعاً للضرر عن المالك؛ اللهم إلا أن يوجد من يشتري البعض فيباع الكل للضرورة، وإذا بيع البعض وقبض ثمنه المرتهن انفك الرهن عن الباقي واستقر الاستيلاد فيه، وإذا ماتت الأمة من الطلق

غرم الراهن قيمتها، وعن أبي علي الطبري وغيره أنه لا يجب القيمة؛ لأن إضافة الهلاك إلى الوطء بعيد وإضافته إلى علل وعوارض [تقتضي] شدة الطلق أقرب. قال الإمام: ولا خير في هذا الوجه فلا تغتروا به، وعلى المذهب بأي وقت تعتبر القيمة؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها: وقت الإحبال. والثاني: وقت التلف. والثالث: أكثر ما كانت من وقت الإحبال إلى وقت التلف. ولو نقصت بسبب الولادة ضمن أرش النقص، ويفعل به ما ذكرناه في قيمة المعتق. قال: إلا أنها إذا بيعت بعدما أحبلها ثم ملكها، ثبت حكم الاستيلاد وإن بيعت بعدما أعتقها ثم ملكها لم يثبت العتق. والفرق: أن الإعتاق قول يقتضي العتق في الحال فإذا رد لغي بالكلية، والاستيلاد فعل لا يمكن رده، وإنما منع حكمه لحق الغير، فإذا زال عمل عمله، وهذا هو الصحيح في الطرفين فقد حكى أن الحكم في الاستيلاد يخرج على القولين، فيما إذا أحبل جارية الغير بشبهة ثم ملكها، وإن اختيار المزني منهما: عدم النفوذ، وهذه الطريقة أظهر عند الرافعي، وحكي وجه آخر في نفوذ حكم الرهن. تنبيه: إذا عرفت من كلام الشيخ أن حكم الاستيلاد ينفذ إذا ملكها بعد البيع، مع أنه ملك جديد على رأي [نفوذه]، عرفت [نفوذه] من طريق الأولى إذا زال الرهن، والملك باقٍ، وقد جزم بهذا بعضهم، [وبعضهم] خرجه على الخلاف أيضاً. فروع: لو علق عتق عبده المرهون بفكاكه صح، وإن علقه بصفة أخرى ووجدت قبل

الفكاك بعتقه على الأقوال، وإن وجدت بعد الفكاك فوجهان: أصحهما: النفوذ، فلو رهن نصف عبدهن ثم أعتق النصف الآخر، أو أعتق نصفه مطلقاً عتق ما ليس بمرهون، وهل يسري إلى المرهون إن منعنا عتق الراهن؟ فيه وجهان: أصحهما: أن يسري كملك الغير، وعلى هذا يفرق بين الموسر والمعسر، صرح به الإمام عن المحققين، وفي التتمة أنه يسري بكل حال؛ لأنه ملكه. ولو دبر المرهون جاز ثم ينظر إذا حل الدين، ولم يكن له مال غيره بيع في الدين وإن كان له مال غيره، وامتنع من بيعه ومن الرجوع في التدبير. قال في الاستقصاء: قضى الدين من ماله، وبقي على التدبير، وإن مات الراهن قبل الحلول وخلف تركة؛ يخرج المدبر من ثلثها قضى دينه وعتق، وإن لم يخلف سواه واستغرق الدين قيمته بيع فيه، وإن لم يستغرق [قيمته] بيع منه بقدر الدين، ولا يخفى الحكم في باقيه، وقيل: إن التدبير كالعتق، وهذا ما حكاه البندنيجي فيكون فيه قولان، والمنصوص منهما في الأم: أنه يفسخ، ولو وقف المرهون ففي صحته طريقان: أحدهما: أنه كالعتق؛ لما فيه من القربة. وأظهرهما: القطع بالمنع، ويفارق العتق؛ لقوته بالسراية وغيرها. وقال المتولي: إن قلنا إن الوقف لا يحتاج إلى القبول فهو كالعتق، إن قلنا يحتاج إليه فتقطع بالمنع. واعلم أن جميع ما منع منه الراهن مفروض فيما إذا صدر من غير إذن المرتهن، أما إذا أذن فيه فلا منع منه، ولا غرم بعده، نعم لكيفية إذنه في البيع صور منها: أن يأذن فيه بعد حلول الدين لأجل الوفاء، أو يطلق فالثمن يتعلق حق المرتهن [به]، ولا يملك الراهن البيع لأجل الوفاء، إلا بإذن المرتهن أو نائبه أو الحاكم إن تعذر إذنهما، وإذا أذن فلبيعه شرطان متفق عليهما: وهو ألا يبيع بمؤجل، ولا بما

يتغابن بمثله إلا بإذن المرتهن، فإن خالف بطل العقد، وثالث مختلف فيه: وهو جواز شرط الخيار ثلاثاً من غير إذن، والأصح أنه يجوز، وعليه ألا يسلم المبيع إلا بعد قبض الثمن، [فإن سلمه قبل قبضه ضمن، صرح به الماوردي]. فرع: لو كان نصف الدين حالاً والنصف مؤجلاً، فإن باع الكل في عقد واحد اعتبرت الشرائط المذكورة، وإن باعه في عقدين اعتبرت في أحدهما دون الآخر. ومنها: أن يكون الدين بعد مؤجلاً، فيأذن في البيع ليعجل له، فالإذن فاسد على المنصوص فلا يستفيد به البيع؛ لفساد الشرط. وعن أبي إسحاق تخريج قول أنه يصح ويجعل الثمن مرهوناً، مما إذا أذن في البيع بشرط أن يجعل الثمن رهناً، فإن في ذلك قولين سواء كان الدين حالاً أو مؤجلاً. أصحهما عند المحاملي، والغزالين والماوردي: فساد الإذن فلا يصح البيع، وهو المنصوص عليه في الأم ومقابله في الإملاء وقد قدح قادحون في تخريج أبي إسحاق، من حيث إن الشرط في هذه المسألة صحيح على قول، فصح الإذن المقابل له بخلاف مسألة التخريج، وبعضهم قدح في صحة النقل. وقال المعتمد فيما روي عن أبي إسحاق على ما يوجد في شرحه ولم يوجد هذا في شرحه، كذا حكاه الإمام عن العراقيين ومثل الخلاف في المسألة المخرج منها، يجري فيما لو أذن في الإعتاق، بشرط أن تكون القيمة رهناً أو في الوطء بهذا الشرط إن اختل. ولا نزاع في أنه إذا رجع قبل التصرف المأذون فيه صار كما لو لم يأذن، وكذا لو كان أذن في الهبة والرهن والإقباض، ثم رجع قبل الإقباض، ولو رجع بعد البيع في زمن الخيار [و] لم يؤثر رجوعه على أصح الوجهين، ولو رجع ولم يعلم الراهن حتى تصرف ففيه خلاف، ولو اختلفا في الإذن بعد التصرف فالقول قول المرتهن مع يمينه، وهل يثبت إذنه برجل وامرأتين؟ فيه وجهان، والقياس: المنع، ولو نكل عن اليمين حلف الراهن، فإن نكل فهل ترد اليمين على العبد إذا كان التصرف عتقاً أو الجارية إن كان قد أحبلها؟ فيه طريقان:

أحدهما وبه قال ابن القطان: فيه قولان كما لو نكل الوارث عن يمين الرد هل يحلف الغرماء؟ والأصح منهما على ما حكاه الإمام عن العراقيين عدم الرد، وأشبه الطريقين وبه قال أبو إسحاق، والقاضي أبو حامد: القطع بالرد. ولو اختلفا في صفة الإذن فقال: أذنت بشرط أن يكون الثمن رهناً، وقال الراهن: بل أذنت مطلقاً. قال الراعي: القول قول المرتهن مع يمينه، ثم إن كان الاختلاف قبل البيع امتنع، وإلا فإن صححنا الإذن فعلى الراهن رهن الثمن، وإن أفسدنا الإذن فإن صدق المشتري المرتهن، فالبيع مردود والرهن باقٍ وإن كذبه مع اعترافه بأصل الرهن فعليه رد المبيع وإن أنكر الرهن حلف، [وتم البيع] وعلى الراهن أن يرهن قيمته. قلت: وكان يتجه على القول بفساد الإذن، أن يكون القول قول الراهن على قول بناء على ما إذا اختلفا في شرط يفسد العقد؛ لأنهما اختلفا في شرط يفسد الإذن، وقد حكاه الإمام عن بعض أصحابنا، لكنه جعل مادته أن أصل الإذن متفق عليه والمرتهن يدعي ضم زيادة إلى الإذن والأصل عدمها، وهذا يطرد على قول صحة الشرط ومقابله، وما أبديته خاص بقول الفساد. ولو اتفقا على الإذن وعلى صورة الرجوع فيه، واختلفا هل حصل التصرف قبل الرجوع أو بعده؟ فالقول قول المرتهن على الصحيح. وقيل: قول الراهن لقوة جانبه بالإذن الذي سلمه المرتهن. وفي التهذيب: أن الراهن إن قال أولاً: تصرفت بإذنك، ثم قال المرتهن: كنت رجعت قبله فالقول قول الراهن مع يمينه، [وإن قال المرتهن: رجعت، فقال الراهن: كنت تصرفت قبله فالقول قول المرتهن مع يمينه]، ولو أنكر الراهن أصل الرجوع فالقول قوله مع يمينه، وعلى الصحيح إذا تعذر رد الرهن، كان على الراهن غرم قيمته يكون رهناً مكانه أو قصاصا. ً فرع: لو أذن المرتهن للراهن في الوطء، وأتت الأمة بولد، وادعى الراهن أنه

من الوطء المأذون فيه، وأنكر المرتهن صدور الوطء، فثلاثة أوجه: أحدها: أن [يكون] القول قول الراهن؛ لأنه مأذون له في أمر يقدر على إنشائه، فيقبل منه الإقرار به. والثاني: القول قول المرتهن؛ [لأن الأصل عدم الوطء، فصار] كما لو علق طلاق زوجته على زناها، فادعته فإنه لا يقع الطلاق على المذهب، وفرق القائل الأول بأن الراهن سلط على التصرف بالوطء، فقبل إقراره [في] زمن تسليطه، وهذا المعنى لا يتحقق في تعليق الطلاق، وإن كان بدخول الدار، فإنه ليس فيه تسليط على أمر وتولية في شيء. والثالث: إن كان الراهن ابتدأ بدعوى الوطء فالقول قوله، وإن كان المرتهن ابتدأ بدعوى عدم الوطء فالقول قوله، وهذا ما اختاره القاضي الحسين، وهو ضعيف عند الإمام. ولا خلاف في أن المرتهن إذا اعترف بالوطء، وأن الولد منها، وأنكر أن يكون من وطء السيد في نفوذ الاستيلاد. قال: وإن جنى – أي: المرهون – عمداً يوجب القصاص؛ اقتص منه؛ لقوله تعالى: - وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة: 45] إلى آخرها، ولأن القصاص موضوع للانتقام والردع وحراسة النفوس، قال الله تعالى: - وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] وذلك يستوي فيه المرهون وغيره، ولا فرق في ذلك بين أن تكون الجناية على أجنبي، أو على المالك الراهن في نفس أو طرف؛ لأن المالك إلى الانتقام من عبده أحوج من غيره؛ لأن العبد يحصل في نفسه على سيده حقد في استخدامه وتأديبه. لكن هل للسيد أن يستوفي منه القصاص بنفسه إذا استحقه أو السلطان يستوفيه له؟ فيه وجهان في الحاوي. قال: وإن جنى خطأ، أي على أجنبي، أو عمداً وعفا عنه على مال، أو أطلق العفو، وقلنا: مطلقه يقتضي المال قال: بيع في الجناية أي: بجملته إن كان أرشها يستغرق

قيمته، أو بقدره إن نقص عنها وأمكن لأن حق المجني عليه يقدم على حق المالك؛ فلأن يقدم على حق المستوثق كان أولى، ولا يبطل حق المرتهن بالجناية، بل بالبيع فيها حتى لو عفا مستحق الأرش عنه؛ بقى حق المرتهن بحاله، ثم هذا إذا كانت الجناية بغير إذن السيد، ولم يختر السيد ولا المرتهن الفداء. فلو كانت بإذن السيد؛ نظر: إن كان العبد يعتقد وجوب طاعة السيد في ذلك كالأعجمي، فالجاني هو السيد وعليه القصاص أوالضمان، لكن هل يتعلق الأرض برقبته؟ فيه وجهان منقولان في الرافعي وغيره. وأظهرهما: المنع، وعلى مقابله إذا بيع في الجناية، فعلى السيد أن يغرم قيمته؛ ليكون رهناً مكانه، ومقتضى هذا الإطلاق أنا على قول التعلُّق بيع العبد، موسراً، كان السيد أو معسراً. وفي الشامل وغيره من كتب العراقيين بعد حكاية، أن العبد لا يتعلق به شيء، أن من أصحابنا من قال: يباع العبد في الجناية، إذا كان السيد معسراً لا مال له غيره، فإن لم ينك الإطلاق محمولاً على هذا؛ كان ذلك وجهاً ثالثاً، وإن كان يعرف أن طاعة السيد في ذلك لا تجوز، فهو كما لو لم يأذن له السيد. ويستوي في ذلك البائع وغيره، ولو اختار الراهن أو المرتهن الفداء امتنع البيع، وبكم يفدي؟ فيه قولان: أحدهما: أقل الأمرين من أرش الجناية وقيمته. والثاني: أرش الجناية. إما إذا جنى على السيد، أو من يتعلق به فينظر: إن جنى على طرف السيد فلا أرش له، وإن كان عمداً وعفا على مال؛ لأن السيد لا يثبت له على عبده مال، ويبقى الرهن كما كان. وحكى المحاملي، [والبندنيجي]، والشيخ في المهذب عن ابن سريج رواية قول أنه يثبت له الأرش، ويتوسل ببيعه إلى فك الرهن، وغيرهم حكاه وجهاً عن ابن سريج. وإن جنى على نفس السيد؛ ففي ثبوت الأرش، إذا كانت الجناية خطأ أو عمداً،

وقد عفا الوارث على مال، قولان، حكاهما المحاملي وغيره عن نصه في الأم. وأصحهما في تعليق أبي الطيب وغيره: أنه لا يثبت، وقد بنى أبو علي بن أبي هريرة والشيخ أبو حامد، وتابعهما الماوردي – القولين على أن الدية تبت للوارث ابتداء أم تلقيا، فإن قلنا بالأول ثبت المال؛ لاستفادته من جنايته على الغير. قال الماوردي: وعلى هذا يباع العبد وينضاف ثمنه إلىلتركة؛ ليقضي منها ديون السيد الراهن، وتنفذ منه وصاياه، ويكون المرتهن [في ثمنه]،وجميع الغرماء أسوة، كما يكونون في جميع التركة أسوة، وإن قلنا بالثاني؛ لم يثبت؛ [لأنه لم يثبت] للقتيل حتى يتلقى عنه. وحكى الفوراني عن القفال أنه قال في كرة: هذا البناء وأنا إذا قلنا: إن الدية تثبت للوارث ابتداء؛ انبنى على ما لو جنى عليه عبده، ثم ملكه هل يستدام الأرش عليه إلى أن يعتق أو يسقط؟ وفيه خلاف سنذكره، وأنه قال فيكرة أخرى: لا يثبت له الأرش؛ إذ لو ثبت بعد موت المورث [فهو] عقيب موته يدخل في ملكه، وهذا ما اختاره القاضي الحسين، وجزم به، وحكى ابن الصباغ عن الأصحاب أن خلافه ليس بصحيح، وعلى ذلك جرى الغزالي في البسيط، وزاد فادعى نفي الخلاف [فيه]، وأنه لم يخرج على أن الدية تثبت للوارث ابتداء أم تلقيا. ووجهه بأمر آخر: وهو أنا، وإن قلنا: إن الدية تثبت للوارث ابتداء، فلابد من إمكان الملك للمورث ولا إمكان هاهنا. ولو جنى على ابن السيد أو أبيه أو مكاتبه نظر: إن كان على طرفه؛ فلكل منهم الأرش والعفو على مال، إذا كانت الجناية عمداً، فلو مات القريب أو عجز المكاتب قبل الاستيفاء، وانتقل حقه إلى السيد الراهن؛ كان له بيعه في حقه كما كان للمورث، ويحتمل في الاستدامة ما لايحتمل في الابتداء. وحكى الإمام مع هذا وجهاً آخر وصححه موافقاً فيه الصيدلاني: أنه لما انتقل إليه سقط حقه، ولا يجوز أن يثبت له عند استدامة الدين، كما لا يجوز أن يثبت له ابتداء،

وشبه الخلاف بالخلاف فيما إذا ثبت له عند غيره مال، ثم ملكه، هل يسقط أو يبقى حتى يبيعه به بعد العتق؟ والأقيس في تعليق القاضي الحسين السقوط، وهو الصحيح في شرح فروع ابن الحداد [في باب الحوالة، وفي الرافعي في الفصل الخامس في تزويج العبيد أن الصحيح: انه لا يسقط، وكلام ابن الصباغ في الحوالة يرشد إليه]. قال الإمام: وهذا ما اشتملت عليه الطرق – يعني: التشبيه – واتفق عليه الأصحاب، وكانهم تواصوا فيه، وهو في نهاية الإشكال من جهة أن الملك في العبد مستدام، والإرث إن أثبت له ملكاً أثبته جديداً [على مملوكه] فكيف يكون الاستحقاق الطارئ على الملك بمثابة الملك الطارئ على الاستحقاق؟ ثم أجاب بأن الدَّين إذا ثبت لغيره، فنقله إليه بالإرث إدامة لما كان، كما أن إبقاء الدين الذي كان له على عبد الغير بعدما ملكه إدامة لما كان؛ فانتظم التشبيه من هذا الوجه. ولهذا المعنى أشار الغزالي بقوله: والإرث دوام. [هذا إن كانت جناية العبد على طرف ابن السيد، أو أبيه، أو مكاتبه، أما إن كانت] على نفسه ففي الحاوي حكاية عن النص في الأم: أن له أن يعفو على الدية. وفي الرافعي بناء ذلك على أن الدية تثبت للوارث ابتداء أم تلقيا؟ فعلى الأول: لا يثبت على المذهب. وعلى الثاني: يكون على الوجهين في قطع الطرف. ولو جنى على عبد آخر للمرتهن [نظر: إن] لم يكن مرهوناً؛ فالحكم كما لو جنى على السيد والحكم في القن والمدبر وأم الولد سواء. وإن كان مرهوناً نظر: فإن كان عند أجنبي؛ فللراهن القصاص إن كان عمداً، والعفو على مال لحق

المرتهن ويتعلق برقبته، وكذا لو كانت خطأ. ولو عفا [بغير مال [وكانت الجناية عمْداً:] فإن قلنا: موجب العمد احد الأمرين [، أي: القصاص أو الأرش؛] وجب المال، ولم يصح عفوه عنه إلا برضا المرتهن. وإن قلنا: موجبه القود عيناً، فإن قلنا: إن مطلق العفو لا يوجب المال، صح العفو، ولم يجب المال. وإن قلنا: يوجبه [فوجهان: أصحهما: أنه لا يثبت؛ لأن القتل لم يوجبه، وإنما يجب بعفوه المطلق أو بعفوه على مال، وذلك نوع اكتساب، وليس عليه اكتساب للمرتهن. وإن عفا مطلقاً، فإن قلنا: مطلق العفو يوجب المال، ثبت إما على الجديد أو على القديم. وإن قلنا: لا يوجبه صح العفو، بناء على القديم، وبطل رهن مرتهن القتيل، وبقي القاتل رهناً كما كان. ولو امتنع من القصاص والعفو في الحال، ففي الإجبار عليه طريقان: أحدهما: يجبر؛ لكون المرتهن على ثبت من أمره. والثاني: إن قلنا: موجب العمد أحد الأمرين أجبر، وإن قلنا: موجبه القود، فلا، وهذه الأبحاث بعينها تجري فيما لو جنى على العبد المرهون أجنبي عمداً. ثم مهما وجب المال في مسألتنا، وكان أكثر من قيمة القاتل أومثلها، فوجهان: أحدهما: أن القاتل يصير مرهوناً عند مرتهن المقتول. وأظهرهما، وهو اختيار القاضي الحسين: بأنه يباع ويجعل الثمن رهناً عنده؛ لأن حقه في مالية العبد لا في العين، وقد يرغب راغب بزيادة، فيتوثق المرتهن للقاتل بتلك الزيادة، وقد وافق الماوردي على تصحيحه، إلا أن يقطع بنفي الزيادة، وإن كان أقل فعلى الأول: ينتقل إليه من القاتل بقدر الواجب، وعلى الثاني: يباع منه بقدره إلا أن يتعذر بعي البعض، أو ينقص قيمة الباقي، فيباع الكل، ويكون الفاضل مرهوناً عند

مرتهن القاتل، وهذا ما حكاه الماوردي وابن الصباغ والمحاملي مع حكايتهم الوجهين في الصورتين المتقدمتين. والوجهان محلهما إذا طلب الراهن نقل الوثيقة إلى القاتل، والمرتهن بيع القاتل. أما إذا انعكس الحال، فالمجاب الراهن. ولو اتفقا على أحد الطريقين، فليس لمرتهن القاتل المناقشة وطلب البيع. قال الرافعي: وقضية التوجيه الثاني لأظهر الوجهين، أن له ذلك، وإن كان القاتل مرهوناً عند مرتهن المقتول، فإن كان بذلك الدين فلا مستدرك، وإن كان بدين آخر نظر [فإن استويا في الحلول والتأجيل، والجنس، والاستقرار أو عدمه، والقدر، واستوت قيمة العبدين كانت الجناية هدراً؛ إذ لا فائدة في نقل الوثيقة. وإن اختلفا في الحلول والتأجيل، أو قدره، فله أن يتوثق بالقاتل في الدين الذي كان المقتول مرهوناً به، وألحق الغزالي اختلاف الجنس بالاختلاف في الحلول والتأجيل، وهو الراجح، والنص بخلافه، وبه قال عامة الأصحاب. والاختلاف في الاستقرار [لا غير] ينظر فيه: إن كان المستقر مارهن به القاتل، فلا معنى للنقل. وإن كان ما رهن به المقتول، ففي الشامل حكاية وجهين عن رواية أبي إسحاق. وإن اختلفا في القدر لا غير نظر: فإن كان المقتول مرهوناً بأكثرهما، فللمرتهن حق نقل الوثيقة، وإن كان بأقلهما، فالجناية هدر. وإن اختلفت قيمة العبدين لا غير، فإن كانت قيمة المقتول أكثر، فالجناية هدر، وإن كانت أقل، نقل القدر الزائد، وبقي الباقي رهناً بما كان. وحيث قلنا بنقل الوثيقة، فيقام ثمنه مقام القتيل، إذ عينه فيه الوجهان السابقان، وإن قلنا لا ينقل الوثيقة فلو قال المرتهن: إني لا آمنه، وقد جنى فبيعوه، وضعوا ثمنه مكانه فهل يجاب إليه؟ روى الإمام فيه وجهين. قال: وإن أقر عليه السيد بجناية الخطأ أي: منسوبة إلى ما قبل الرهن،

وصدقه المقر له وكذبه المرتهن، قال: قبل في أحد القولين؛ لأنه أقر في ملكه بما لا تهمة تلحقه، فنفذ كما في غير المرهون؛ ولأن الرهن يوجب حجراً لحق الغير؛ فلا يمنع من نفوذ الإقرار في العين كالمريض إذا أقر بجناية في رقبة عبده، قال: [ولا يقبل في] الآخر؛ لأنه محجور عليه في التصرف فيه فلا ينفذ إقراره فيه كالسفيه، وهذا هوا لصحيح، واختاره المزني. قال ابن الصباغ: وما قاله الأول من عدم التهمة فغير مسلم؛ لأن التهمة تلحقه في إبطال الرهن، ومواطأة المقر له، فلم يقبل قوله، كما لو باع ثم أقر بأنه كان مغصوباً أو جانياً، ويجري الخلاف فيما لو أقر بأنه رهنه وأقبضه كما حكاه البندنيجي، أو أعتق العبد أو غصبه أو اشتراه شراء فاسداً، أو باعه قبل الرهن. [وفي تعليق أبي الطيب في باب التفليس حكاية قولين، فيما إذا أقر المفلس بعد الحجر بدين قبل الحجر، كان في مشاركة المقر له للغرماء قولان: أصحهما: المشاركة، ثم قال: وهما بعينهما جاريان فيما لو رهن شيئاً ثم أقر بأنه ملك غيره، وهذا يقتضي أن الصحيح فيها قبول الإقرار]. وقال ابن الصباغ [فيما نحن فيه: كان] ينبغي أن يكون لنا قول آخر، أنه إن كان معسراً لم ينفذ إقراره [بالعتق]، وإن كان موسراً نفذ، ويجري مجرى الإعتاق، وهذا قد أبداه غيره قولاً، ونقله الإمام في الصور كلها، وجعلها ثلاثة أقوال وأن على الثالث يلزمه أن يغرم قيمة المرهون؛ لتوضع رهناً، فإنه تسبب بقوله إلى بطلانه. وحكى أن بعض الأصحاب أجرى الخلاف فيما لو باع ثم أقر بما يبطله، وأن شيخه رمز إليه ويعضده أن الرافعي حكى أيضاً في أواخر التحالف أن المشتري إذا رد المبيع بعيب، ثم قال بعد ذلك: كنت أعتقته يرد الفسخ ويحكم بالعتق، ومع هذا فقد قال الإمام: إنه هفوة ولا يعتد به؛ فإنه أقر بما هو خارج عن ملكه بخلاف إقرار الراهن، ثم قال: وقد يعترض للناظر أن الراهن إذا أقر بكونه غاصباً، فليس إقراره في محل ملكه على زعمه، وفيه الأقوال.

ويجري الخلاف فيما لو أقر باستيلاد سابق على الرهن، وفيما لو أتت الجارية بولد فأقر أنه [منه] من وطء قبل الرهن، ولم يقر بأنها علقت ولم يكن ثَمَّ بينة على الوطء، وحكى الإمام في هذه الصورة وجهاً فارقاً بين أن تأتي بالولد لستة أشهر، فما دونها من وقت الإقباض، وبين أن تأتي به لأكثر من ذلك، وإن كانت ثَمَ بينة على الوطء. حكم بالاستيلاد إذا أقامها أو أقامتها الأمة، ولا نظر إلى أن إقامة البينة على الوطء لا يلزم منها الشهادة بالعلوق؛ لأن العلوق عيب فلا شيء يدار عليه الحكم إلا الوطء، وكذلك إذا اعترف بوطء مملوكته لحقه الولد في زمن الإمكان، وإن لم يكن منه إقرار بالعلوق. واعلم أن الخلاف في قبول الإقرار بالعتق والاستيلاد مفرع على القول بأن عتقه واستيلاده نافذ، إذا صدر في حالة الرهن، من حيث إنه قادر عليه حساً وممنوع منه شرعاً، كما جرى الخلاف في قبول إقرار السفيه بالإتلاف كذلك، أما إذا قلنا عتقه واستيلاده لا ينفذ فلا يقبل إقراره وجهاً واحداً، أشار إلى ذلك الإمام. التفريع: إن قلنا بالأول فهل يحلف الراهن؟ فيه قولان في الحاوي، ووجهان في الشامل، وجه عدم التحليف وهو اختيار القاضي أبي الطيب، أنه لو رجع عن إقراره لم يقبل رجوعه، ومقابله، هو اختيار الشيخ أبي حامد، وعلى الوجهين إذا حلف حكمنا ببطلان الرهن على الصحيح من المذهب، في أن رهن العبد الجاني جناية خطأ لا يجوز حتى لو فداه السيد، أو بيع في الجناية، وفضل من قيمته شيء لا يتعلق به [حق] المرتهن. وفي الحاوي وغيره حاكية قول آخر معزي إلى الإمام، أن على المذهب حق المرتهن يتعين فيما فضل، وفي العبد إذا فداه السيد. وإذا نكل الراهن عن اليمين، فهل ترد على المجني عليه أو على المرتهن؟ فيه وجهان في الحاوي، والمشهور منهما فيه جزم أكثرهم أنها ترد على المرتهن، فإن رددناها على المجني عليه فحلف، [فكان كحلف الراهن فإن نكل بقي الرهن، وإن رددناها على المرتهن فحلف] استمر الرهن.

وحكى الرافعي وغيره أن فائدة حلفه على قول حكاه الصيدلاني وغيره: أن يغرم الراهن قيمته ليكون رهناً مكانه ويباع العبد في الجناية بإقرار الراهن. وعلى الأول وهو الصحيح: هل يستحق المجني عليه على الراهن أرش الجناية؟ فيه قولان، وإن نكل فهل ترد على المجني عليه؟ فيه وجهان، وعلى القول الثاني: يحلف المرتهن على نفي العلم بالجناية، وإذا حلف استمر الرهن. وهل يغرم الراهن للمجني عليه شيئاً؟ فيه قولان، أصحهما وهو اختيار المزني: نعم. وإن نكل عن اليمين، فهل ترد على المجني عليه، أو على الراهن؟ فيه قولان، أصحهما في الشامل: الأول؛ فإن رددناها على المجني علي، فنكل فلا شيء له على الراهن؛ لأنه قادر على حقه بيمينه. لكن العبد إذا عاد إليه تعلق حقه برقبته. وهل يحلف الراهن؟ فيه وجهان: وإن رددناها على الراهن، وحلف بيع العبد في الجناية. وإن نكل فهل ترد على المجني عليه؟ فيه وجهان مخرجان من غرماء المفلس، فإن لم يدها عليه ففي تغريم الراهن شيئاً للمجني عليه، فيه القولان. وفي قدر ذلك المغروم طريقان: أحدهما: حكاية القولين في فداء العبد الجاني. والثاني: القطع بأنه لا يغرم إلا أقل الأمرين، كما في أم الولد، وهذا ما قال [به] الأكثرون. أما إذا أقر عليه بجناية صدرت بعد لزوم الرهن قال الرافعي: فالقول قول المرتهن، ولا غرم عليه، وحكى ابن كج وجهاً آخر: أنه يقبل. وفي الجيلي إجراء ما ذكرناه من القولين في هذه الصورة أيضاً [وسيأتي في باب الفلس، حكاية طريقة مثل هذه فيما إذا أقر المفلس بدين] وقد أبدى القاضي الحسين في تعليقه في هذه الصورة احتمالين:

أحدهما: إلحاقها بالصورة الأولى. والثاني: أنه يقبل في الحال؛ لأن الجناية تقدم على الرهن. ورأيت في كلام الإمام ما يقتضي أن يكون الخلاف في هذه الصورة مرتباً على الخلاف في الصورة السابقة، إن قلناه ثَمَّ، فهاهنا أولى وإن لم نقبله ثَمَّ، فهاهنا وجهان، فإنه قال بعد ما حكيناه من التفريع في الصورة الأولى، وهذا كله إذا قلنا: إن رهن العبد الجاني لا يصح، أما إذا قلنا: إن رهنه صحيح فقد تردد الأئمة في ذلك؛ بناءً على أنه لا يقبل إقراره في الصورة الأولى، فقال بعضهم: إقراره مقبول بتقدم الجناية، وإنه لا منافاة بين تصحيح إقراره بتقدم الجناية وبين الرهن، وهو مطلق أقر بأمر ممكن في ماله وليس كما إذا فرعنا على أن رهن الجاني مردود فإنه إذا رهن واقتص ثم أقر، فإقراره يتضمن مناقضة ما قدمه من عقده وإقباضه فلم يقبل منه، وذهب بعضهم إلى رد إقراره هذا أيضاً؛ فإن قبول إقراره يتضمن نقض يد المرتهن، والرهن إذا انبرم بالقبض فمقتضاه لزوم حق المرتهن، فإذا أتى بما يناقض قوله ومضمون فعله رد. انتهى. وما ذكره دليل على ما قدمناه للمشاركة في المعنى المذكور، وإذا كذب المقر له المقر فيما أقر به، بقي الرهن بحاله بلا خلاف. فرع: لو أقر بجناية ينقص أرشها عن قيمة العبد ومبلغ الدين فالقول في مقدار الأرش على الخلاف السابق، ولا يقبل فيما زاد على ذلك لظهور التهمة. وقيل: يطرد الخلاف فيه. واعلم أن الشيخ احترز بقوله: وإن أقر عليه بجناية الخطأ؛ عما إذا أقر عليه بجناية العمد، فإنه لا يقبل وجهاً واحداً، نعم إقرار العبد بها مقبول مع تكذيب السيد وإن أضر به لنفي التهمة، واستحق القصاص أن يعفو على مال، ويثبت في رقبة العبد يباع فيه، ويقدم على حق المرتهن إلا أن يفدى كما تقدم. وفي تعليق القاضي الحسين: إن عفو ولي الدم ينبني على أن موجب العمد القود، والدية أحدهما لا بعينه أو القود عيناً.

فإن قلنا بالأول ففيه خلاف مرتب على ما إذا أقر بسرقة مال، وأولى بأن ينفذ الصلح من حيث إنه في السرقة أقر بشيئين: القطع والمال، فلم يقبل في المال في الحال لحق المولى، وفي مسألتنا الإقرار بأحد الأمرين لا بعينه، ولم يكن في علمه أنه يأخذ المال دون القصاص، فكان أبعد عن التهمة. وإن قلنا بالثاني انبنى على أن مطلق العفو على هذا، هل يقتضي المال؟ فإن قلنا: يقتضيه صح وتعلق برقبته، وإن قلنا لا يقتضيه، فهو مرتب على قولنا: الواجب أحد الأمرين وأولى بالثبوت. والفرق أن أصل القتل ما أوجب المال. قال: وإن جنى عليه تعلق حق المرتهن بالأرش أي: إذا ثبت إما في صورة الخطأ، أو عمد الخطأ، وقتل من لا يكافئه، أو عند وجوب القصاص، وعفا السيد فواً يوجب المال، كما قدمناه، ووجهه: أن الأرش بدل عن الفائت، فقام مقامه في تعلق الحق به، والقابض لذلك من كان الرهن تحت يده. قال الماوردي: وليس للراهن قبضه، وهل يحتاج إلى استئناف رهن فيه ظاهر كلام الأصحاب أنه لا يحتاج. وفي الرافعي في كتاب الوقف حكاية خلاف فيه، وعلى الأول هل يوصف قبل الأخذ بأنه مرهون؟ فيه خلاف فمن منع قال: لأنه دين والدين لا يرهن، ومن جوز هذا الإطلاق قال: هو مال. قلت: ويشبه أن تكون مادة الخلاف في أن رهن الدين ابتداء هل يجوز؟ ويجوز أن يكون هذا بناء على المذهب في منع رهن الدين، ويغتفر في الاستصحاب ما لا يغتفر في الابتداء ولا فرق في الجناية بين أن تذهب قيمة المرهون أو تنقصها، فلو أذهبت حرًّا ولم تنقص من القيمة شيء، كما إذا قطع ذكر العبد، ففي الحاوي أن القيمة الواجبة بهذه الجناية تختص بالراهن ولا يتعلق بها حق المرتهن كالنماء. فروع: أحدها: لو ضرب الجارية المرهونة [ضارب]، فألقت جنيناً ميتاً فعلى الضارب

عشر قيمة الأم؛ لأنه يكون مرهوناً؛ لأنه بدل الولد، فإن دخلها نقص لم يجب بسببه شيء آخر ولكن قدر أرش النقصان من العشر يكون مرهوناً، قاله الرافعي، وكلام صاحب الاستقصاء والقاضي [أبي الطيب] يفهم أنه لا يكون شيء منه مرهوناً في هذه الحالة أيضاً وقد حكاه الإمام عن العراقيين صريحاً، قبيل باب الرهن والحميل: فيما إذا نقصت نقصاناً عائداً إلى صفتها زائداً على مزايلة الولد، وأنهم وجهوا ذلك بأن الولد ليس مرهوناً ونقصانها يندرج تحت بدل الجنين، وصير نقصانها بمثابة نقصان بآفة سماوية ثم قال: وهذا حسن لطيف. الثاني: لو ألقته حيًّا ومات ففيما على الجاني؟ قولان: أصحهما: قيمة الجنين حيًّا وأرش نقص الأم إن نقصت، ويتعلق حق المرتهن بالأرش. والثاني: أكثر الأمرين من [أرش النقص] أو قيمة الجنين. فعلى هذا إن كان الأكثر قيمة الجنين فقدر الأرش من المأخوذ حق المرتهن متعلق به، وإن كان الأكثر الأرش، كان حق المرتهن يتعلق بجميعه [حتى لو عفا الراهن عن الأرش لا يصح وفيه قول: أن العفو موقوف ويؤخذ المال في الحال فإن انفك الرهن بغيره فك رد الجاني، وبان صحة العفو ولا تأتي بطلانه]. كذا حكى الرافعي، [وقول وقف العفو هو الذي حكاه البندنيجي]. وفي الاستقصاء وتعليق القاضي أبي الطيب حكاية القولين [في الأصل]، على غير هذا الوجه. أحدهما: أن الواجب قيمة الولد، ولا يجب أرش النقص؛ لأنه يدخل فيه، ولا يتعلق حق المرتهن بذلك. والثاني: يجب أكثر الأمرين من قيمة الولد حيًّا، وما نقص من قيمة الأم، فإن كانت قيمته حيًّا أكثر وجبت للراهن، ولا يتعلق بها حق المرتهن، ويصح عفوه عنه، وإن كان ما نقص أكثر كان رهناً. قال الإمام: والوجه أن يتخرج ذلك على أن الحمل الموجود يوم الرهن هل يدخل

تحت الرهن؟ فإن قلنا: إنه داخل؛ فيجب أن يكون المأخوذ من الجاني رهناً كيف كان، وإن قلنا: لا يدخل فإن أوجبنا قيمة الجنين لم يكن رهناً، وإن أوجبنا نقصان الولادة، فالمسألة محتملة. والأصح عندي: أنه لا يكون رهناً. وقد ظهر لك من مجموع ما حكيناه أن في المسألة خارجاً عما أبداه الإمام من عند نفسه أربعة أقوال [لكن في حال تظهر لك من بعد،]. فإن قال قائل ليس في المسألة إلا قولان، وما ذكرته من الاختلاف محمول على حالين يرشد إليهما كلام الإمام، فإنه حكى عن العراقيين القولين اللذين حكيناهما عن رواية أبي الطيب، ثم قال: والذي يجب الاعتناء به فهم صورة المسألة فإذا كانت وهي ماخض تساوي مائة، وإذا ولدت صارت تساوي تسعين، ولم يظهر فيها نقص إلا أن الولد زايلها، فنقصت لذلك لا لعيب أحدثته الولادة، ثم انفصل الولد حيًّا وعليه أثر الجناية فمات، فالذي حكاه أبو الطيب وغيره محمول على هذه المصورة، والذي حكاه الرافعي محمول على ما إذا نقصت نقصاناً زائداً على مزايلة الولد. قلت: كلام الإمام في الفرع قبله حكاية عن العراقيين يأبى تصوير العراقيين هذه المسألة بما ذكره، [بل يقتضي التصوير بما حملت عليه كلام الرافعي]، فإنه حكى عنهم أن نقصانها [الزائد عن مزايلة الولد يندرج تحت بدل الجنين، ويصير نقصانها بمثابة نقصان] بآفة سماوية، وإذا كان هذا مقتضى مذهبهم انتظم لك فيما إذا كان النقصان زائداً على مزايلة الولد الأقوال الأربعة، والله أعلم. ثم من مقتضى ما ذكره الإمام أن يجب في هذه الصورة على الجاني قيمة الولد، ونقصان الولادة؛ لأنه علل عدم الجمع بين الأرش وما نقص فيما حمل عليه صورة مسألة القولين بأنه يؤدي إلى تضعيف الغرامة، وهاهنا لا تضعيف بل المقابل متعدد. [وهو الذي حكاه الرافعي قولاً أولا]. وحكم الحيوان إذا ضرب فألقى الجنين حيًّا ثم مات، حكم الأمة فيما ذكرناه،

صرح بذلك الإمام، ولم يفرض الخلاف المذكور إلا فيه. الثالث: لو أبرأ المرتهن الجاني لم يبرأ، وهل يسقط حقه من الوثيقة؟ فيه وجهان، أصحهما: لا، والمذكور في الحاوي مقابله. واعلم أن حق المخاصمة في الجناية على المرهون للراهن؛ لأنه المالك وللمرتهن حضور ذلك؛ لتعلق حقه بالبدل، وكذا حق المخاصمة في العين المستأجرة إذا غصبت، وفي الوديعة والمستعار [للمالك]، فلو امتنع الراهن من المخاصمة فهل للمرتهن المخاصمة؟ فيه قولان: قال في التهذيب: أصحهما عند الأصحاب، وبه قال القفال: أنه لا يخاصم [وهو ما جعله في البحر في الإجارة أصلاً، وقاس عليه كلام الإمام في آخر باب التحالف يقتضي أن له المخاصمة، ولم يمتنع الراهن من المخاصمة، فإنه قال: إذا أتلف الأجنبي العين المرهونة، توجهت عليه الطلبة من الراهن لحق الملك، وتوجهت عليه الطلبة من المرتهن لحق الوثيقة، وهذا متفق عليه]. وقد أجري هذا الخلاف في أن المستأجر هل يخاصم أم لا؟ والمحكي عن النص في المستأجر أنه لا يخاصم إذا امتنع الآخر، [كما حكاه في البحر وغيره]. ورأى الإمام وطائفة المخاصمة له أقرب إلى القياس. وقال في البحر: إنه الأصح عندي؛ لأن المنفعة له، ومراد الشافعي أنه لا يخاصم في الرقبة، ورأيته عن القفال، وقال الزبيلي في أدب القضاء [له]: إنه مخرج من نص الشافعي على أن الأمة المزوجة لزوجا أن يتكلم عنها، وإن القائلين بتقرير النص فرقوا بأن التزويج المبتغى منه الأبد بخلاف الإجارة. [ألا ترى أنها] لو ماتت قبل الدخول استقر المهر، ولو هدمت الدار قبل [أن] تقضي المدة لم يستحق تمام أجرتها، ولما رأى الإمام مخاصمة المستأجر أظهر، جزم بمخاصمة المرتهن في كتاب الرهن، ولو ردت اليمين على الراهن فنكل

عنها، فهل يحلف المرتهن؟ فيه قولان كما إذا نكل المفلس والوارث هل يحلف الغرماء؟ قال: وإن حصل من عين الرهن فائدة لم تكن حالة العقد كالولد، والثمرة فهو خارج عن الرهن؛ لما روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُوناً، وَلَبَنُ الدَّرُّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُوناً، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ". وعن قاسم بن أصبغ عن سعيد بن المسيب [وأبي سلمة] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يُغْلَقُ الرَّهْنُ، الرَّهْنُ لِمَنْ رُهِنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ"

وقد روي مرسلاً عن سعيد، ورفع عنه في هذا الإسناد وغيره، قال عبد الحق: ورفعه صحيح.

ولأن الرهن عقد لا يزيل الملك عن الرقبة فلم يسر إلى الولد، [كالثمرة، والإجارة]. وفي النهاية: حكاية وجه أن الاعتبار فيما يتبع المرهون في دخوله في الرهن، وما لا يتبعه بحالة القبض، فيلزم منه أن الثمرة إذا حدثت بعد العقد وقبل القبض يكون في دخولها في الرهن الخلاف السابق، وكذا فيما ذكرناه [معه] من قبل وهو غير

سديد، وله أن ينزي على الحيوان لطلب الولد، إن كان محل المال قبل ظهور الحمل، أو يلد قبل حلول الدين، وإن كان يحل بعد ظهور الحمل وقبل الولادة، فإن قلنا: الحمل لا يعرف جاز أيضاً لأنها تباع معه، وإن قلنا: يعرف وهو الصحيح لم يجز؛ لأنه لا يمكن بيعها دون الحمل، والحمل غير مرهون ولا يجوز مثل ذلك في الأمة؛ لأن الحمل فيها نقص. نعم، لو اتفق أنها حملت، ودعت الحاجة إلى بيعها، فإن قلنا: [الحمل] لا يعلم بيعت، وكان كالوصف، وإن قلنا يعلم لم يكن مرهوناً، وتعذر بيعها، كذا قاله الأصحاب. وقد يعترض على قولهم بجواز الإنزاء، إذا كان الدين يحل بعد ظهور الحمل، من حيث إن الأظهر من الوجهين، كما حكاه الرافعي في "كتاب الصداق": أن الحمل في البهيمة نقص. وحكى عن بعضهم في الموانع من الرد بالعيب: إطلاق القول بأن الحمل الحادث نقص؛ لأنه في الحيوان المأكول ينقص اللحم وفي غير المأكول يخل بالحمل، وإذا كان كذلك وجب أن يمنع منه؟ وقد يجاب عن ذلك: بأن هذا القول مفرع على أن الحمل لا يعرف، وإذا لم يعرف لا يحسن أن يقول: إنه عيب قبل معرفته، وقد اختلف الأصحاب فيما إذا رهن نخلاً، ثم أطلعت – على طريقين: أحدهما: أن بيعها مع الطلع على قولين كما ذكرنا في الحمل. والثاني: القطع بأن الطلع غير مرهون فيباع النخل، وستثنى الطلع. والجريد الحادث بعد الرهن، حكمه حكم الثمرة. قال: وما يلزم [على] الرهن من مؤنة أي: مثل النفقة والعلف وسقي الأشجار ومؤنة الجذاذ وكراء اصطبل والبيت الذي يحفظ فيه وكذا نقله إلى المرتهن، أو إلى من يوضع تحت يده فهو على الراهن؛ للخبر الذي ذكرناه، وقد روى البخاري أيضاً

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونَا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبْ بِنَفَقَتِهِ إِذَ كَانَ مَرْهُوناً، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ". ثم ما المراد بكونها على الراهن؟ فيه وجهان: أصحهما – وهو مذهب العراقيين- أنه يجب عليه أن يقوم بها من غير المرهون؛ استيفاء لوثيقة الرهن. والثاني: ويحكي عن الشيخ أبي محمد وغيره: أنه لا يجبر عند الامتناع لكن يبيع القاضي جزءاً من المرهون بحسب الحاجة، إلا أن يعلم أن النفقة تأكل المرهون قبل حلول الحق، فيلحق بما يفسد قبل الأجل فيباع، ويجعل ثمنه رهناً وهذا ما حكاه الغزالي عن قول المراوزة معبراً عنه بأن الإنفاق على الحيوان لا يلزمه إلا لحق الله تعالى، فإنه لم يرهن منه إلا ذاك، وضعف الرافعي هذا الوجه، بأن ذلك يفضي إلى إجراء الخلاف المذكور في رهن ما يتسارع إليه الفساد؛ إذ الاحتياج إلى هذه المؤنات محقق وهو بعيد، وعلى الأصح إذا لم يكن للراهن شيء أو لم يكن حاضراً باع الحاكم جزءاً من المرهون، وأكرى به بيتاً يحفظ فيه الرهن، وكذلك يفعل في مؤنة السقي والجذاذ والتجفيف، كذا حكاه الرافعي. وفي تعليق [القاضي] أبي الطيب أن الحكم كذلك فيما إذا لم يكن له مال، أما إذا كان غائباً فإن الحاكم يكري من ماله، فإن لم يجد مالاً أكرى من الثمرة، فإن قال المرتهن: أنا أعطي مقدار الأجرة من مالي، وأرجع عليه بها، وكذا لو قال ذلك فيما إذا لم يكن له مال، وأذن له الحاكم في الإنفاق، جاز، وإن لم يجد حاكماً أو أنفق بهذا الغرض، وأشهد؛ ففي الرجوع عليه وجهان؛ بناء على القولين في هرب الجمال. وأما المؤنات الدائرة فقد قال الرافعي: يشبه أن يقال: يحكمها حكم ما لو هرب الجمال، وترك الجمال المكراة أو عجز عن الإنفاق عليها، وهذا إذا لم يكن المرهون ماشية، أما إذا كان ماشية فللراهن أن يرعاها بالنهار ويأوي بالليل إلى الموضوعة على

يده، وإن أراد الراهن أن ينتجع بها، فإن كان في موضع مخصب يكفي الماشية؛ لم يكن له الانتجاع، وإن أجدبت الأرض، ولم يكن فيها ما يكفي الماشية بحيث [أن] تتماسك، كان له أن ينتجع بها، وليس للمرتهن منعه. لكن يوضع على يد عدل تأوي إليه، وإن لم ينتجع الراهن وانتجع المرتهن؛ كان له ذلك، ولا يمنعه الراهن منه، وإن أرادا جميعاً النجعة إلى موضعين، فالمتبع الراهن، [قاله أبو الطيب،] وجعلت على يد عدل. أما المؤنات التي تتعلق بالمداواة؛ كالقصد والحجامة وتوديج الدابة، وتبزيغها، والتغريب، والمعالجة بالأدوية والمراهم فلا تجب عليه؛ [وأجرى المتولي الوجهين السابقين في المداواة،]. ومعنى التوديج: فتح الودجين؛ حتى يسيل الدم، وهو في الدابة بمنزلة الفصد من الآدميين. وأما التبزيغ فهو فتح الرَّهْصة. والماء إذا نزل في الحافر. يقال: بزغ البيطار الرهصة، وأصله من الشق؛ ولهذا يقال بزغت الشمس إذا طلعت. ومعنى التغريب: أن يشرط أشعار الدابة شرطاً خفيفاً لا يضر بالعصب، ثم يعالج وأشعار الدابة فوق الحافر؛ كذا حكاه أبو الطيب. ولا نزاع في أن للراهن فعل ذلك، إذا كان بحيث لا يخاف منه غائلة. وإن كان يخاف؛ فعن أبي إسحاق أن للمرتهن المنع منه، وقال أبو علي الطبري: لا منع منه، ويكتفي بأن الغالب منه السلامة واختاره القاضي أبو الطيب، وقد أجرى الخلاف في قطع اليد المتآكلة إذا كان في قطعها وتركها خطر، فإن كان الخطر في الترك دون القطع فله القطع، وليس له قطع سلعة وإصبع لا خطر في تركها، إذا خيف منه ضرر وإن كان الغالب السلامة ففيه الخلاف، وله أن يختن العبد والأمة في وقت اعتدال الهواء إن كان يندمل قبل حلول الأجل، وإن لم يندمل وكان فيه نقص لم يجز، وكذا لو كان به عارض يخاف معه من الختان.

فرع: مؤنة رد المرهون بعد فكاكه على من تكون؟ فيه وجهان في الحاوي. أحدهما: على الراهن. والثاني: على المرتهن. قال: والرهن أمانة في يد المرتهن فإن هلك أي من غير تفريط لم يسقط من الدين شيء وجهه قوله تعالى: - وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، فجعل الرهن بدلاً من الكاتب، والإبدال في غالب أحكامها في حكم ميدلاتها؛ كالصيام في الكفارة والتيمم في الطهارة؛ لما كان أصلها واجباً لذلك كانا واجبين، وإذا وجب أن يكون حكم البدل حكم المبدل وجب أن يكون حكم الرهن حكم الكتاب، وتلف الكتاب لا يسقط الدين فكذلك الرهن، وما روى معمر وابن أبي ذئب وإسحاق بن راشد وابن أبي أنيسة، عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُغْلَقُ الرَّهْنُ، الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ؛ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ". وجه الدلالة: قوله: من صاحبه، يعني: من ضمان صاحبه، فإنه لا يصح حمله على أنه من ملك صاحبه؛ لأن حرف التمليك هوا للام، فلو أراد الملك لقال الرهن لصاحبه. ولفظة من تستعمل في الضمان. وأيضاً قوله: [له] غنمه وعليه غرمه. فالغنم: الزيادة والنماء، والغرم: العطب والنقص. ومن جهة المعنى: أنه وثيقة في دين ليس بعوض فيه، فوجب ألا يسقط بتلفه؛ كالضامن والشاهد. وفيه احتراز من تلف المبيع في يد البائع، وإذا ثبت لنا في هذه الصورة أنه غير مضمون [مع أن المرتهن قبض العين لغرض نفسه] فهو إذا كان في يد العدل من طريق الأولى. وحكم ثمن المرهون إذا ضاع في يد العدل بعد أن باعه بالإذن، حكم تلف المرهون، وحكم المرهون بعد زوال الرهن في يد المرتهن في كونه غير مضمون

كما قبل زواله. وقال ابن الصباغ: [ينبغي أن] يكون بعد الإبراء [في الغنيمة]، كمن طير الريح ثوباً إلى داره؛ حتى يعلم الراهن به أو يرده؛ لأنه لم يرض بيده إلا على سبيل الوثيقة، [بخلاف ما إذا علم؛ لأنه قد يرضى بتركه عنده]. فرع: إذا خرج الرهن مستحقاً، وقد تلف في يد المرتهن، فهل للمالك مطالبته ببدله؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، وعلى هذا إذا غرم هل يرجع على الراهن؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، وقد قطع المراوزة بالمطالبة والرجوع، وهذا الخلاف يجري في المستأجر من الغاصب والمودع منه، والمضارب والوكيل في بيعه. قال: فإن اختلفا في رده فالقول قول الراهن؛ لأن يد المرتهن على العين لغرض نفسه وهو متمكن من إقامة البينة على ما ادعاه، فلم يقبل قوله كالمستعير وهكذا الحكم عند العراقيين في دعوى المستأجر رد العين، واختلفوا في الوكيل بجُعل، وعامل القراض والأجير المشترك إذا لم يضمنه، إذا ادعى الرد على وجهين، [لأن يد هؤلاء نيابة عن المالك، وإنما تعلق لهم بها حق فلذلك جرى الخلاف. وقال] ابن الصباغ وغيره: [و] الفرق بين هؤلاء والمرتهن أنه قبض العين للانتفاع بها بخلاف هؤلاء؛ لان الانتفاع بالأجرة لا بالعين، ومذهب المراوزة قبول قول المرتهن في دعوى الرد، وطردوه في كل يد هي أمانة في حق من صدر منه إثبات اليد كالرهن والإجارة والوكيل بالجُعل. وفي الوسيط في كتاب الوكالة: أن العراقيين ذكروا في كل ذلك وجهين.

ولو اختلف الراهن والمرتهن في تلف الرهن فالقول قول المرتهن، [توافق عليه المراوزة والعراقيون كما حكاه ابن الصباغ وغيره؛] لأنه لا يتعلق بالاختيار، فلا يساعده فيه البينة فكان القول قوله [فيه] لدفع الضرر، وإيراد الغزالي في الوسيط وغيره يوهم أن العراقيين خالفوا في ذلك وألحقوه بدعوى الرد، ومستنده فيه ما قاله الإمام أن القياس يقتضي أن ينزل دعوى التلف منزلة دعوى الرد في كل تفصيل، والله أعلم. ولنختم الباب مسائل تتعلق به، وقد وعدنا من قبل بذكرها فمنها: إذا سلم الراهن الرهن للمرتهن ووكله في بيعه عند المحل، كانت الوكالة فاسدة، ولو باعه لم يصح بيعه؛ لأنه توكيل فيما ينافيه الغرضان، فلم يصح كما لو وكل وكيله في بيع شيء من نفسه، وينافي الغرض أن الراهن يريد الزيادة في الثمن، والمهل على البيع؛ حتى لا تفوته الزيادة والمرتهن يريد تعجيل الحق وإنجاز البيع، ويفارق غير المرتهن فإن حق المرتهن لا يتعين فيه، وهذا ما يقتضيه نص الشافعي فإنه قال: لو شرط للمرتهن إذا حل الحق أن يبيعه لم يجز له أن يبيع لنفسه إلا بأن يحضر رب الرهن. فإن قيل: ألستم ذكرتم في الوكالات الفاسدة أن بيع الوكيل يصح فيها فلم لا يصح البيع هنا؟ قيل: الفرق بينهما أن الوكالة الفاسدة من حيث فساد عوضها لا تمنع ذلك الإذن في البيع، والإذن المجرد يصح معه البيع، وهاهنا الفساد من ناحية الإذن، فانتفى ما يصحح البيع، ثم هذا إذا لم يكن الراهن حاضراً، [أما إذا كان حاضراً]، فقد انتفت التهمة فيصح البيع وهذا ظاهر نص الشافعي. ومن أصحابنا من قال: لا يصح بيعه؛ لأنه يكون وكيلاً فيما يتعلق بحق نفسه. قال ابن الصباغ: والأول أصح، هذا ما حكاه العراقيون وجزم الإمام في النهاية بصحة بيع المرتهن إذا قال له الراهن: بع الرهن [لي] واقبض الثمن لي، ثم استوفه لنفسك، وحكى في صحة استيفائه لنفسه إذا حدد وزنه وجهين:

أما إذا لم يحدده فلا يحصل القبض، وليس كما لو رهن الوديعة عند المودع؛ لأن الاستيفاء إنما يصح بناء على إذن الراهن ولفظه في الإذن: ثم استوف منه حقك، وهذا تصريح بإحداث أمر. ولو قال: بعه لي واستوف الثمن لي ثم أمسكه لنفسك؛ فالظاهر أيضاً أنه لابد من فعل في القبض. ومن أصحابنا من أقام الإمساك على قول صحة [القبض] مقام الاستيفاء، وإذا لم نصححه ولم يوجد منه سوى مجرد نية الاستيفاء، فلا يدخل في ضمانه انتهى. وحمل ما قاله العراقيون من فساد الإذن والبيع وحكوه عن النص على ما إذا قال بعه لنفسك فباع، وان القاضي وافقهم على اختيار ذلك؛ لأنه لا يتصور أن يبيع الإنسان مال الغير لنفسه. [وحكى عن صاحب التقريب رواية قول، وأنه ارتضاه لنفسه] أن البيع صحيح. وحكى فيما إذا قال: بعه، ولم يقل: لي ولا: لنفسك، في أنه على أيهما يحمل؟ وجهين، والقائلون بالمنع عللوه بعلتين: أحداهما: أن البيع بعد حلول الدين مستحق للمرتهن، فإذا أقرن به الإذن المطلق حمل عليه، فكأنه قال بعه لنفسك. والثانية: ما حكيناها عن العراقيين من قبل، وعليهما يخرج ما إذا كان المرتهن حاضراً البيع أو أذن في البيع بثمن معين، أو كان الدين مؤجلاً، فإن عللنا بالأول بطل في الأولى والثانية وصح في الثالثة إذ لا استحقاق، وإن عللنا بالثانية صح في الأولى والثانية. وبطل في الثالثة. ومنها: أن الراهن والمرتهن لو أذنا للعدل في بيع الرهن ثم عزلاه عنه امتنع عليه البيع وانفسخت الوكالة، وكذا لو فسخ الراهن الوكالة انفسخت، وهل للمرتهن فسخ الوكالة؟ قال المحاملي: ظاهر كلام الشافعي يدل على أن فسخه يصح؛ لأنه قال [في

المختصر] ما لم يفسخا أو أحدهما. وقال أبو إسحاق: لا يصح من المرتهن فسخ الوكالة؛ لأن العدل ليس بوكيله، وإنما هو وكيل الراهن، وقول الشافعي: "ما لم يفسخا أو أحدهما" تعني: أن العدل يجوز له البيع ما لم يمنع الراهن أو المرتهن من ذلك، وهذا ما رجحه القاضي أبو الطيب في تعليقه، ونسب الأول إلى قول بعض الأصحاب، وقال: إنه ليس بصحيح؛ لأن العدل ليس بوكيل للمرتهن بالإجماع، وهذا يدل على أن الخلاف في [أن] الوكالة من جهة الراهن هل ترتفع بعزل المرتهن حتى يفتقر الراهن إلى تجديد وكالته إذا أريد بيعه، وقد صرح به الإمام. وفي الحاوي: أن الذي عليه الجمهور من أصحابنا، وهو قول البصريين أن الوكالة ارتفعت، وما حكى عن أبي إسحاق لا يتحصل منه شيء وبعضه يناقض بعضاً؛ لأن الوكالة إنما هي إذن بالبيع فإذا منعه برجوع المرتهن عن البيع فقد زال موجب الوكالة. وهذا صريح الشيخ إلا أن وكالة الراهن [لا] تنفسخ برجوع المرتهن كما لا تنفسخ وكالة المرتهن برجوع الراهن. انتهى. وهذا منه يدل على أن وكالة الراهن لاترتفع على القولين معاً، وهوا لذي يقتضيه إيراد الغزالي في الوسيط فإنه قال: لو رجع أحدهما عن الإذن امتنع عليه البيع، ورجوع الراهن عزل فإنه الموكل، وإذن المرتهن شرط وليس بتوكيل، ولذلك لو عاد المرتهن، واذن بعد رجوعه جاز، ولم يجب تجديد التوكيل من الراهن. ثم قال: ومساق هذا الكلام من الأصحاب مشعر بأنه لو عزله الراهن، ثم عاد ووكله افتقر إلى تجديد الإذن، وعليه يلزم لو قبل به ألاَّ يعتد بإذنه، للعدل قبل توكيل الراهن فلبؤخر عنه، ويلزم عليه الحكم ببطلان رضا المرأة في التوكيل بالنكاح قبل توكيل الولي، وكل ذلك محتمل، ووجه المساهلة إقامة دوام الإذن مقام الابتداء تعلقاً بعمومه فإنه إن لم يعمل في الحال فليقدر مضافاً إلى وقت التوكيل، وإذا احتملت الوكالة التأقيت والتعليق كان الإذن أولى بالاحتمال. قلت: ووجه إشعار كلام الأصحاب بما ذكره أنهم لما استدلوا على أن إذن

المرتهن شرط وليس بتوكيل، بأنه لو عاد وأذن جاز، ولم يجب تجديد التوكيل، اقتضى أن الراهن لو عاد بعد عزله ووكل، افتقر المرتهن إلى تجديد الإذن وإلا لم يحسن الاستدلال، وما قاله من الإلزامين: الأول منهما صحيح؛ لأن زوال توكيل الراهن لما أبطل إذن المرتهن بعد الحكم [بصحة الراهن، لما أبطل إذن المرتهن بعد الحكم] بصحته بعدم التوكيل أولى أن يمنع؛ لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء. وأما الثاني: فسياق كلام الأصحاب يقتضي خلافه من حيث إن رضا المرأة بالتوكيل إذا اعتبرناه كرضا المرتهن ببيع العدل؛ [لأن المرأة لا يصح توكيلها في النكاح] ولما كان إذن المرتهن شرطاً في صحة بيع العدل، ويفتقر إلى تقدمه على البيع، لزم أن يكون إذن المرأة بالتوكيل شرطاً في صحة التوكيل ومتقدماً عليه. نعم، لو كان إذن المرتهن شرطاً في صحة توكيل الراهن لا في بيع العدل، وقد اقتضى مساق كلامهم ما ذكر، لزم منه ألا يعتد برضا المرأة بالتوكيل قبله؛ لأنه حينئذ يكون الوزان وحيث هو منتف انتفى الإلزام. وقوله: ووجه المساهلة، يعني: مساهلة الأصحاب في رضا المرأة بالتوكيل متقدماً عليه، وإن كان مخالفاً لمساق كلامهم إلى آخره – جواب على اعتقاده صحة الإلزام، وقد يثبت أنه مساق كلامهم، فلا مساهلة. ويؤيد ما ادعيت أن الغزالي عنها بقوله من بعد: فليقدر مضافاً إلى وقت التوكيل، وهذا ما حضرني من البحث في ذلك وكان شيخي السيد الشريف عماد الدين العباسي –رحمه الله – يستشكل كلام الغزالي في هذا، وكتب لي ورقة بخطه فيما وقع له منه، وسأذكر صورة المكتوب فيها ثم أبدي ما ظهر لي عليه، وصورته: الذي زعم الشيخ أنه مساق كلام الأصحاب ليس مساقاً لكلامهم، ووقع الغلط في هذا الفرع في ثلاث عشرة كلمة، وهأنا أرسمها بالحمرة بين الأسطر ليتبينه الناظر، وأكتب بالحمرة المسألة التي ذكرها الإمام، أعني الوجه الذي نقله الإمام عن

الأصحاب؛ إذ كان الشيخ أراد أن يفرع عليه لكن كان الأمر أشبه عليه، فعكس الصواب في تفريعه عليه، ونقل حكم إذن المرتهن إلى توكيل الراهن بالعكس. فأقول بعد أن أعلمك أن المكتتب بالسواد هو نفس كلام الشيخ، والمكتتب بالحمرة فوق الكلمات بعد مسألة الأصحاب هو صوابه. قال: فروع أربعة: الأول: أنه لو رجع أحدهما عن الإذن امتنع البيع ورجوع الراهن عزل، فإنه الموكل، وإذن المرتهن شرط وليس بتوكيل، ولذلك لو عاد المرتهن وأذن بعد رجوعه جاز، ولم يجب تجديد التوكيل من الراهن. وذهب بعض الأصحاب إلى أن رجوع المرتهن يوجب رفع الوكالة، ومساق هذا الكلام من الأصحاب مشعر بأنه لو: رجع المرتهن وأذن الراهن التوكيل. عزل الراهن، ثم عاد ووكل – افتقر المرتهن إلى تجديد الإذن، وعليه يلزم لو قيل به أنه لا يعتد بإذنه؛ للعدل قبل توكيل الراهن؛ فليؤخر عنه، ويلزم عليه الحكم ببطلان رضا المرأة بالتوكيل في النكاح قبل توكيل الولي، وكل ذلك محتمل، ووجه المساهلة: إقامة دوام الإذن مقام الابتداء؛ تعلقاً بعمومه، وأنه إن لم يعمل في الحال فليقدر مضافاً إلى وقت التوكيل. هذا آخر ترتيبه، والذي وقع لي عليه، أن هذا الوجه الذي بني الشيخ عليه هذا الكلام نسبه الإمام إلى بعض الضعفة، فكيف يمكن إلزام الأصحاب بمقتضاه؟ ثم لو صححناه؛ لم يكن مساقه مشعراً بما ذكره بل مصرحاً به؛ لأن الوكالة إذا ارتفعت علم بالقطع أنها لا تعود إلا بتوكيل جديد، وإذا كان كذلك لم يحسن [حمل] كلام الغزالي على ذلك.

نعم ما ذكره صحيح بناء على اختيار هذا الوجه. ومنها: أن المرتهن بعد حلول الحق له مطالبة الراهن بوفائه كما سنذكره، فإن امتنع من الوفاء طولب ببيع الرهن في الدين، فإن امتنع فهل يبيعه الحاكم عليه أو يجبره على البيع؟ فيه كلام نذكره في باب التفليس، كذا قال المحاملي: وليس للراهن مطالبته بإحضار الرهن، حتى يقع قضاء الدين، واسترداد المرهون معاً، وكذا لو أدى الدين لا يلزمه إحضاره أيضاً بل عليه التخلية بينه وبينه، ومقتضى ما حكيته عن الماوردي من أن مؤنة الرد بعد الفكاك تجب على المرتهن على وجه، [وهو ما حكاه القاضي الحسين في كتاب القراض عن العراقيين] أن الرد واجب على ذلك الوجه. ولو امتنع الراهن من وفاء الحق بتعذر أو غيبة، فإن كان للمرتهن بينة، رفع الأمر إلى القاضي، وإن لم يكن له بينة أو لم يكن في البلد حاكم؛ كان حكمه حكم من ظفر بغير جنس حقه. قال الإمام: وفائدة الرهن أن الراهن لو مات أو أفلس اختص بثمنه، وفي مسألة الظفر لا يختص بما ظفر به، بل شارك فيه.

باب التفليس

باب التفليس التفليس: النداء على المفلس، وإشهاره بصفة الإفلاس، قاله الرافعي. وقال الغزالي: هو أن يجعل من عليه الدين مفلساً ببيع ماله. ولفظ التفليس والفَلس والإفلاس، مأخوذ من الفلوس التي هي أخس الأموال؛ فإنه إذا حجر عليه منع التصرف في ماله إلا في شيء تافه لا يعيش إلا به، وهو مؤنته ومؤنة عياله. وقيل: لأنه صار ماله كالفلوس؛ لقلته بالنسبة إلى ما عليه من الديون. وقيل: لأنه فني خيار ماله وجيده، وبقي معه الفلوس. قال المحاملي: وبعض أصحابنا يقول: إنما اشتق من الفلوس؛ لأنه ذهب ماله حتى الفلوس. وهذا بضد ما قاله أهل اللغة. ويقال: أفلس، إذا أعدم، أو: صار ذا فلوس؛ كما يقال: أيسر، إذا صار ذا يسار، وهكذا يقدر في قولهم: مفلس؛ كقولهم: مُفِضّ، أي: ذو فضة. وتفالس؛ أي: ادعى الإفلاس. قال الماوردي: وكره بعض أصحابنا أن يقال في هذا الباب: باب الإفلاس؛ لأن الإفلاس مستعمل في إعسار بعد اليسار، والتفليس مستعمل في حجر الحاكم على المديون؛ فكان أليق بالحال. وقد فسر الأصحاب المفلس في الشرع بمن ركبته الديون، وماله لا يفي بها، ويتجه أن يضاف إليه حجر الحاكم؛ أخذاً مما قاله الماوردي - كما ذكرناه - والبندنيجي، والمحاملي، حيث قالا: قال: فلَّسه الحاكم، إذا حجر عليه، ومنعه من التصرف في ماله. قال: إذا حصلت على رجل ديون، فإن كانت مؤجلة لم يطالب بها - أي: قبل حلولها - لأنه لو جوز الطلب بها سقطت فائدة التأجيل. قال: وإن أراد السفر - أي: أي سفر كان - لم يمنع منه؛ لسقوط المطالبة عنه قبل الحلول، ولرب الدين المسافرة معه ليطالبه عند حلوله؛ بشرط ألا يلازمه ملازمة الرقيب.

قال: وقيل: يمنع من سفر الجهاد – أي: إلا أن يقوم بالدين أو يَكْتَفِل به – لأن ذلك مظنة الهلاك؛ فإن المجاهد قد يطمع في الجنة فيحرص على طلب الشهادة، وذلك مضيع للدين. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في معركة القتال يوماً: "مَنْ وَضَعَ سَيْفَهُ فِي هَؤُلاَءِ مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ حَتَّى قُتِلَ فَلَهُ الجَنَّةُ، فَقَالَ بَعْضُ الأَنْصَارِ – وَكَانَ بِيَدِهِ تَمَرَاتٌ يَاكُلُهَا -: ليس بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ ورمى بالتمرات واخترط سيفه وكسر غمده في العدو، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْكَ دَيْنٌ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَادَ وَانْغَمَسَ حَتَّى قُتِلَ"، وهذا ما نسب إلى الإصطخري، وحكى الرافعي في السير أن الروياني صححه، وقد حكى القاضي ها الوجه في غير سفر الجهاد، في أي سفر كان في كتاب السير، ووجهه بأنه ربما حل الحق؛ فلا يمكنه المطالبة به. وقيل في سفر الجهاد: إن خلف وفاءً بالدين فلا منع منه، وألا منع. وقيل: إن كان من المرتزقة لم يمنع، وإلا منع، وفي كتاب القاضي ابن كجٍّ: أن الأجل إن كان يدوم إلى أن يرجع فلا منع، وإن كان يحل قبل أن يرجع ففيه الخلاف. والأضعف على ما حكاه الإمام – المنع مطلقاً، والمذهب الأول، وخوف الهلاك موجود في الإقامة. والحديث دال على منع جهاد من عليه دين، لا على منع السفر له، ومنع الجهاد مذكور في آخر الكتاب، وتجري الوجوه الثلاثة الأوَل في كل سفر مخوف مثل سفر البحر، [وفي "تتمة التتمة": أنها لا تجري فيه؛ فإن راكب البحر يسعى في السلامة، والغازي من يعرض نفسه للشهادة]. وعلى المذهب: لا يجب على المديون القيام لمستحق الدين عند طلبه الكفيل أو الراهن، أو أن يشهد [له] ذلك، وقد حكى عن صاحب "التقريب" رواية وجه في وجوب الإشهاد، واختار الروياني في زمانه وجوب القيام بالكفيل في السفر البعيد المخوف عند قرب الأجل؛ لخبث أهل الزمان. قال: وإن كانت حالة وله مال يفي بها طولب بقضائها؛ [أي]: وإن لم يرد

سفراً؛ لقوله تعالى: - وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]؛ فدل على أنه إذا لم يكن ذا عسرة أنه لا يجب إنظاره، [ويجب عليه القيام به]، ولأن ذلك فائدة الحلول. وما أطلقه الأصحاب من أن الدين إذا كان حالاًّ فله منعه من السفر حتى يُقْبِضه، أرادوا: برفعه إلى مجلس القاضي ومطالبته به، ومن هذا يظهر أنه ليس له منع المعسر من السفر، إلا أن يكون سفر جهاد على رأي، وقد صرح الرافعي به في السير؛ حيث حكى أن القاضي ابن كجٍّ قال- فيما إذا أراد من عليه دين حال وهو معسر سفر الجهاد-: المذهب أنه ليس له منعه، وأن أبا إسحاق قال: له منعه؛ لأنه يرجو أن يوسر فيؤدي، وفي الجهاد خطر الهلاك، وهذا يدل على أن المنع يكون بغير الحبس عند المنع منه في الدين المؤجل. فرع: إذا لم يطالبه صاحب الدين الحال به، وهو قادر عليه، هل يجب عليه أداؤه على الفور؟ أو على التراخي؟ قال في "البحر" في آخر كتاب الغصب: يحتمل أن يقال: إن كان وجوبه يرضي المالك فهو على التراخي، ويتعين أداؤه بالمطالبة، أو لخوف منه على ماله فيفوت قضاؤه، وإن كان وجوبه بغير رضا المالك [فالقضاء على الفور؛ لأن صاحبه لم يرض وجوبه في ذمته، وهذا لأنه إذا كان يرضى المالك،] فصاحب الدين مندوب إلى ألا يطالب الدين، ولو كان وجوب القضاء على الفور لكان مندوباً إلى المطالبة؛ ليخرج من عليه الدين من العصيان بتأخير القضاء. ويحتمل أن يقال: إذا كان الوجوب بغير رضاه ينظر: فإن كان صاحب الحق لا يعلم به كان على الفور، [وإن كان عالماً به، فإن وجب بتعدٍّ منه كان على الفور]، وإن كان بغير تعد فعلى التراخي. قلت: ومقتضى ما قاله أخيراً أنه يجب عليه عند عدم العلم في صورة غير التعدي أحد أمرين: إما الوفاء، أو إعلامه بالدين. وقال الإمام في كتاب [الزكاة عند الكلام في أن التمكن شرط الضمان: إن من

عليه دين وهو غير ممتنع من أدائه، ومستحقه غير مطالب به، فالدين الثابت، ولكن لا يتعين أداؤه ما لم يطالبه مستحقه، وقال في كتاب] القضاء بعد قوله: "إن الأداء لا يلزم إلا مع الطلب": وقد يقول الفقيه: من عليه دين حال يلزمه أداؤه، وإن لم يطالبه صاحبه، وإنما يسقط وجوب الأداء برضا مستحق الحق بتأخيره. قال: فإن امتنع؛ أي: من القضاء بعد أمر الحاكم به، باع الحاكم ماله- أي: إن رأى ذلك [وقضى دينه]؛ لما روي عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: ألا إن الأسَيْفِعَ – أسيفعَ جُهَيْنَةَ – رضي من دِينِه وأمانته بأن يقال: سبق الحاج، ويقال: سابق الحاج، فادَّان معرضاً – أي: عن الوفاء، [وقيل: أعرض الناس فادان منهم – فأصبح] قدرِينَ بِهِ فمن كان له عليه دين فليحضر غداً؛ فإنا بائعوا ماله، وقاسموه بين غرمائه. ولم يخالفه أحد من الصحابة؛ فكان إجماعاً. وإن رأى ألا يبيعه ويجبره على البيع بنفسه بالحبس والتعزير فله ذلك، صرح به الشيخ أبو حامد، وحكاه القاضي أبو الطيب. وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه لا يحبسه؛ لأنه ربما يقعد في الحبس ولايبيع المال؛ فيتضمن ذلك تأخير حقوق الغرماء، وهذا ما حكاه في "الذخائر" عن الأصحاب وصاحب "الاستقصاء" عن سليم الرازي ونصر المقدسي، وهل للحاكم أن يحجر عليه إذا التمسه الغرماء [عند امتناعه]؛ خشية من إتلاف أمواله؟ فيه وجهان:

أصحهما: نعم؛ لما ذكرناه، وهو الذي حكاه في "التتمة" عن الشيخ أبي حامد. ووجه مقابله: أن عمر - رضي الله عنه - لم يحجر على الأسيفع، كذا قال المتولي والرافعي. واعلم أن الحاكم إذا رأى بيع المال فلا يتولاه، إلا أن يثبت عنده أن ذلك ملكه بالبينة، كما صرح به الماوردي هنا، [والقاضي الحسين في كتاب الأقضية؛ حيث قال: إذا ادعى الخصم أن للمديون عقاراً في موضع كذا، فأقر به، وامتنع من بيعه - لا يبيعه القاضي حتى يقيم المدعي بينةً بأنه للمدعي عليه؛ لأنه ربما يكون لغيره، وبيع القاضي إياه يكون حكماً بأنه له]، وكلام الإمام في مسألة الظفر يدل عليه؛ فإن ضعف قول من قال: لا يبيعه بنفسه، بأنه إذا رفع الأمر إلى القاضي قد لا يجد بينة على إثبات دينه، وإن وجدها فقد يعجز عن إثبات كون هذه العين ملكاً لمن عليه الدين، وكلام صاحب "الإشراف" يدل على ذلك، وشيء آخر فإنه قال: القاضي يبيع الرهن بعد ثبوت الدين وصحة الرهن وملك الراهن أو يده يوم الإقباض، ثم قال: قال القاضي: هكذا ذكر المصنف، وهو في كتب أصحابنا بالعراق، إلا أنه قول أبي حنيفة، وعندنا مجرد اليد لا يدل على الملك، بل يشترط مع اليد قرينة التصرف، وامتداد المدة، وعدم المنازع، ويشترط في بيع التركة ثبوت الدين والملك والموت، والشهادة على أنه ملك الميت إلى أن مات، أو في يده وتصرفه تصرف الملاك. قلت: وما ادعى القاضي أنه في كتب العراقيين من الاكتفاء باليد، يتجه جريانه هنا لأجل الحاجة، وقد يؤخذ من قول الشيخ في مسألة الظفر. وقيل: يواطئ من يقر له بحق .. إلى آخره، وكلام ابن الصباغ ثم أدل عليه؛ فإنه ذكر أن أبا علي بن أبي هريرة، قال: لا يبيعه بنفسه، بل يواطئ رجلاً يدعي عليه ديناً عند الحاكم فيقر له، [ويقر له] بملك الشيء [الذي أخذه، فيمتنع من عليه الدعوى من قضاء الدين؛ يبيع الحاكم الشيء] المأخوذ، ويدفعه إليه. وعلى الأول: يتجه أن يتعين الحبس إلى أن يتولى الممتنع من الوفاء البيع بنفسه؛ فإنه لا معترض عليه - كما قال الماوردي - ويوفي الدين.

تنبيه يحتاج إليه في ألفاظ عمر – رضي الله عنه -: الأسيفع: بضم الهمزة وفتح السين بلا نقط، والياء منقوطة بثنتين من تحتها. فادَّان: بتشديد الدال بلا نقط. رين به: بكسر الراء بلا نقط، والياء آخر الحروف، يقال: رين بالرجل رَيْناً، إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ولا قبل له به، ويقال: رين به: انقطع به، وهو راجع إلى الأول، ومنه قوله تعالى: - كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين: 14]، قيل: هو الذنب على الذنب حتى يسودَّ القلب. قال: فإن لم يكن هناك مال، وادعى الإعسار: فإن كان قد عرف له قبل ذلك مال – أي: قبل دعوى الإعسار – سواء كان مبيعاً الدين ثمنه، أو قرضاً الدين عوضه، أو غير ذلك. قال: حبس؛ أي: إذا طلب الغريم ذلك [ولم يكن ولداً لمن عليه الدين]؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ". وأراد باليد: الملازمة والحبس، وباللسان: الاقتضاء والمطالبة، ولأن الحبس يتوصل به إلى استيفاء الحق؛ فكان واجباً؛ لأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب: كالملازمة، كذا قاس الماوردي، فظاهره يقتضي أن عمر بن عبد العزيز والليث بن سعد – اللذين خالفا في جواز الحبس – توافقا على الملازمة، وإلا لما حسن منه القياس عليها. أما إذا كان ولداً له، أو ولدَ ولدٍ وإن سفل، فهل يحبس في حقه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن الحبس نوع عقوبة، وليس للابن أن يوجه العقوبة إلى أبيه، وهذا ما صححه البغوي.

وقال القاضي الحسين في كتاب الإجارة: إنه قول العراقيين، وقال الإمام قبيل كتاب الدعاوى: إنه الذي ذهب إليه معظم أئمتنا. والثاني: يحبس، وإلا أقر وامتنع عن الأداء، وحينئذ يعجز الابن عن الاستيفاء، ويضيع حقه، وهذا ما نسبه القاضي إلى القفال، والإمام إلى أبي زيد المروزي من أصحابنا، وقال: إنه القياس عندي، ولأجل ذلك صححه الغزالي في هذا الكتاب. [قال الإمام:] وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً – وهو اختيار صاحب "التلخيص" -: أنه يحبس في نفقة ولده إذا امتنع من الإنفاق عليه، ولا يحبس في غيره من الديون. [والأمهات والجدات من الجهتين؛ كالأب والأجداد فيما ذكرناه]. وإذا حبس لا يلزم إخراجه إلى الجُمَع والجماعات، ولا يعصي بتأخره عنها إذا كان معسراً، ولا يلزمه الاستئذان للخروج إلى الجمعة إذا علم بشاهد الحال وغالب العادة أنه لا يأذن له، ولا يمنع من عمل صنعته في الحبس على أصح الوجهين. ولو دعا المحبوس أمته أو زوجته إلى فراشه لم يمنع إن كان في الحبس موضعٌ خالٍ، فإن امتنعت أجبرت الأمة، ولا تجبر الزوجة الحرة؛ لأنه لا يصلح للسكنى، وإنما هو حبس ولا حبس عليها، والزوجة الأمة تجبر إن رضي سيدها. [قال الرافعي في كتاب القضية: وكان يجوز أن يقال: الحبس وزجر وتأديب. وإن اقتضى الحال أن تمتنع منه زوجته أو أمته فعل]، ولو كانت امرأة لم تمنع من إرضاع ولدها في الحبس ما لم يوجد منه بدٌّ، ويمنع الزوج منها. ونفقة المحبوس في ماله على الأصح، وقيل: على الغريم. قال الماوردي: وهذا مذهب مُطَّرَح، ولا يضاف إلى حبسه تعزير آخر إذا أصر على دعوى الإعسار، بخلاف ما إذا امتنع من وفاء ما أقر به، مع اعترافه بالمَلاءة؛ فإنه يضاف إلى الحبس التعزير، ويكرر عليه الوقت بعد الوقت فيروه من الأولى، وإن انتهى مجموع ذلك إلى قدر الحد، ويجوز للغريم أن يقول له في هذه الحالة: يا

ظالم، يا مماطل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ"، [خرجه النسائي]. والليُّ: المطل، وعرضه: ما ذكرناه، والعقوبة: التعزير والحبس. ولو امتنع من وفاء ما ثبت عيه بالبينة مع إقراره باليسار، وتعريفنا إياه بما يترتب على ذلك - قال الإمام في باب نكاح المشركات: الظاهر عندنا امتناع التعزير، وفي الحبس مَقْنَعٌ، وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن للقاضي أن يعزره. فرع: لو أراد الغريم ملازمته حيث يجوز حبسه مكن منها؛ لأنها أخف. قال [الرافعي في كتاب الأقضية: إلا أن يقول المحبوس للقاضي: إنه يشق عليّ الطهارة والصلاة بسبب ملازمته؛ فامنعه من الملازمة واحسبني؛ فإنه يرده إلى الحبس. ولو استشعر القاضي من المديون بعد [ما حبسه] الفرار من حبسه، فله نقله إلى حبس الجرائم، كذا حكاه الرافعي في كتاب الأقضية، عن أبي العباس بن القاص. قال]: إلى أن يقيم البينة على إعساره؛ لأن الأصل بقاء ذلك المال، ولا فرق في ذلك - على ما حاكه الإمام - بين أن تكون البينة معدلة أم لا، وقد شرع في طلب الاستزكاء؛ لأن الحبس على الجملة من بعض العقوبات، وللمديون طلب يمين

الغريم إنه لا يعلم إعساره بعد الدعوى عليه بذلك: فإن حلف سقطت دعواه فإن عاد وادعى تجدد علمه بذلك سمع منه، وكان له تحليفه، وهكذا إلى أن يعلم القاضي تعنُّتَهُ. وإن نكل الغريم عن اليمين حلف المديون، وثبت إعساره، ولم يكن للغريم ملازمته؛ لما سنذكره، وإن لم يحلف حبس. تنبيه: إذا ظهر من كلام الشيخ امتناع الحبس بإقامة البينة على الإعسار مع احتمال أن يكون مستنداً لبينة الوقوف على تلف المال، كما حمل الصيدلاني الشهادة عليه، أو أنه لو كان باقياً مع مخالطتها له لاطلعت عليه – ظهر لك من طريق الأولى أن الحبس يمتنع إذاشهدت بالوقوف على المال، كما صرح به العراقيون. قال: ولا يقبل في ذلك إلا شهادة شاهدين من أهل الخبرة بحاله؛ لما روى مسلم عن قبيصة بن مخارق الهلالي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ إِلاَّ لأَحَدِ ثَلاَثَة – وعد منهم -: "رجل أصابته فاقة حتى يقولَ ثلاثة من ذوي الحجي من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة؛ فحلت له المسألة، حتى يصب قِوَاماً من عيش، قال: أو قال سداداً من عيش"، والحجي: العقل. ولأن الإعسار يخفى عمن لا يطلع على باطن الأحوال، ويكفي علم القاضي بأن

الشاهد من أهل الخبرة بحاله، فإن لم يعرف ذلك اكتفى بقول الشاهد إذا كان عدلاً رضاً – كما قال الإمام -: فإن لم يذكر الشاهد ذلك ولم يعرفه القاضي توقفت الشهادة. [وقد يقال – على رأي الصيدلاني –في حمل الشهادة بالإعسار على وقوف البينة على التلف: إنه لا يشترط أن يكون الشاهد من أهل الخبرة – [كما صرح به الأصحاب – فيما إذا شهدت البينة بتلف المال، وقد يجاب بأنا وإن قدرنا ذلك فخلافه مظنون؛ فاعتبرنا أن يكون من أهل الخبرة]؛ ليتحقق الشرط على كل حال]. ووراء ما ذكره الشيخ أمران: أحدهما: الجزم في "الإبانة" و"التتمة" بأنه لا يقبل في هذه الشهادة إلا ثلاثة؛ للخبر المذكور، ولأن عسرة الإنسان وإعدامه أمر تغمض معرفته، ويشق الوقوف عليه؛ فيشترط يه زيادة في العدد كشهود الزنى. قال الإمام: وهذا خُرْق عظيم وخروج عن الضبط. وأبعد منه الثاني – وهو ما حكاه ابن أبي الدم في "أدب القضاء" له عن الشيخ أبي علي -: أنه يكتفي في هذه الشهادة برجل وامرأتين، أو برجل ويمين المدعي، كما في الأجل والخيار على رأي. فيحصل في المسألة ثلاثة أوجه، والمذهب منها: الأول، وحمل الأصحاب الثلاثة في الحديث على الاستظهار والاحتياط.

ويجوز إقامة البينة بالإعسار قبل الحبس وبعده، طال زمانه أو قصر، وكيفية الشهادة فيه أن يقول: أشهد إنه معسر لا يملك إلا قوت يومه وثياب بدنه، ولا يشترط أن يقول: وهو ممن تحل له الصدقة. قال في "التتمة": ولا يقتصر على أنْ لا ملَك له، حتى تتضمن شهادته النفي لفظاً ومعنىً. وفي "الجيلي" أنه قيل: إنه يشهد على نفي العلم، فيقول: لا أعلم له مالاً، ولا عرضاً، ولا عقاراً، ولا عيناً. قال: فإن قال الغريم: أحلفوه إنه لا مال له في الباطن، [أي: بعد دعواه أن له مالاً في الباطن]، وقد أخفاه – حلف في أحد القولين، أي: وجوباً؛ لأنه يجوز أن يكون له مال لم تقف عليه بينة الإعسار، فإذا ادعى ذلك حلف، وهذا ما صححه الرافعي وغيره، وهو المنصوص في "حرملة"، وظاهر نصه في "المختصر". فإن امتنع من اليمين، حكى الماوردي عن [ابن] أبي هريرة: أنه يحبس إلى أن يحلف. والقول الثاني: أنه لا يحلف وجوباً؛ لأن في ذلك قدحاً في الشهادة فلم يعرض كما إذا شهد عليه بأنه أقر، فسأل إحلاف المدعي على أنه أقر له، وللحاكم أن يستحلفه استحباباً واستظهاراً، وهذا ما حكاه في "الأم"، وهو ظاهر نصه في "الإملاء"، وهو الذي صححه الشيخ أبو حامد، والقائلون بالأول فرقوا بأن في المسألة المستشهد بها: الشهادة وقعت بأمر معلوم؛ فكان في التحليف عليه قدح في الشهود، وفي مسألتنا: [الشهادة] اعتمدت الظن؛ فلا يخالفه وقوع خلافه. نعم، لو شهدت البينة بتلف المال لم يحلف وجهاً واحداً، وهو نظير المسألة المستشهد بها، وقد رجع حاصل القولين إلى أنه يحلف، لكن وجوباً أو استحباباً؟ فيه القولان، وعلى ذلك جرى البندنيجي والمحاملي وابن الصباغ وغيرهم، وحكى في "الاستقصاء" طريقة أخرى، وصدر بها كلامه: أن في جواز تحليفه قولين. [وإذا قلنا: يحلف، فهل واجباً أو مستحباً؟ فيه قولان].

ولا نزاع في أن رب الدين إذا قنع بالشهادة، ورضي بعدم اليمين أنه لا يحلف، ولو لم يصدر منه طلب اليمين ولا الرضا بتركها، فهل للحاكم تحليفه، ويكون من أدب القضاء؛ فيجب عليه حتماً؟ فيه وجهان، أظهرهما: لا. تنبيه: الغريم: هو الذي عليه الدين وغيره من الحقوق، ويطلق في اللغة – أيضاً – على صاحب الحق، والغَرَامة والغُرَم والمَغْرَم: ما وجب أداؤه، وقد غَرِم الرجل، وغَرَّمته، وأغرمته. وأصله من: الغرام، وهو الدائم؛ ومنه قوله تعالى: - إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان: 65]، فسمي الغريم: غريماً؛ لملازمته المَدِين ودوامه. أحلفوه: لغة، وحَلَّفوه: أخرى. قال: وإن لم يعرف له مال حلف إنه لا مال له؛ لأن الأصل عدم ملكه المال، وخلّي سبيله؛ لأنه إذا حلف ثبت إعساره، والمعسر لا يحل حبسه؛ قال الله تعالى: - وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، وكما لا يجوز حبسه لا يجوز ملازمته؛ لما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمارٍ ابتاعها، فكثر دينه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ"؛ فتصدقوا عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: "خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ"؛ وليس لكم إلا ذلك"، وهذا ما حكاه العراقيون، وهو الصحيح عند المراوزة، ووراءه لهم ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يحبس إلى أن يقيم البينة على الإعسار. قال الرافعي: لأن الظاهر من حال الحر أنه يملك شيئاً قل أو كثر. والثاني: أن الدين إن لزمه باختياره كالضمان والصداق، فلابد من البينة، وإن لزمه بغير اختياره كإتلاف المال خطأ، فالقول قوله من غير بينة؛ لأن الظاهر أنه لا يشغل ذمته ولا يلزم ما لا يقدر عليه. والثالث: إن كان الدين لزمه بمعاوضة، فلابد من البينة، وإن لزمه بغير معاوضة،

فلا يحتاج إليها، كذا حكاه القاضي الحسين وغيره، وهذا قد اعترض على قائله بأنه إذا كان عن معاوضة فقد عُرِف له مال؛ فكأنك قد أعدت ذكر المذهب؛ فإنه إذا عرف له مال لا يقبل قوله إلا بالبينة، إن لم يعرف له مال قبل قوله بيمينه. قلت: يجوز أن يريد هذا القائل المعاوضة التي ليست محضة كالنكاح ونحوه، [وكذا شراء القريب والإجارة]، دون الضمان ونحوه؛ فإن الظاهر أن الإنسان لا يقدم على تملك حق الغير إلا مع قدرته على مقابله؛ لأن الإبقاء واجب عليه حتماً، بخلاف الضمان؛ فإنه قد لا يطالب به فيتساهل فيه لذلك. وقال الإمام: قد يخطر للفقيه حمل هذا الوجه على دين ثبت عوضاً، وكان ملتزمه يدعي أنه لم يقبض العوض، لا على أنه قبض المعوض، وادعى تلفه، لكنه ضعيف؛ فإنه إذا ثبت الملك في حق المعوض، فالظاهر قبضه، ونحن إنما لا نقبل قول من سبق له يسار بتأويل ادعاء زواله من جهة أن قوله يظهر الحلف، وزوال اليسار ممكن؛ فعدم قبض المبيع بهذه المثابة. واعلم أن الرافعي سوى في جريان الوجوه الثلاثة الأُوَل [في الحكم والتعليل] بين ما ذكرناه، وبين ما إذا كان مع المحجور عليه مال، وقسم على الغرماء وبقي بعض الدين، وفي جريان الثاني منها في مسألة المحجور نظر؛ فإنه علله بأن الظاهر من حال الحر أنه يملك شيئاً قل أو كثر، وقد عمل هذا الظاهر، وتحقق بما قسم، وليس الظاهر أن الحر يملك مالاً كثيراً، [حتى يقال: يفي منه]. ثم حيث جرى الخلاف فيما ذكره، فيتجه على قياسه أن يجري فيما عرف له مال لا يفي بديونه، وشهدت البينة بتلف ذلك المال، وحينئذ لا ينتفي رفع الخلاف بشهادة تلف المال، إلا بأن يشهد من هو من أهل الخبرة بحاله بتلف جميع أمواله. ثم على المذهب: إذا قبلنا قوله باليمين، قال الإمام: لست أرى قبول ذلك بداراً، بل يظهر عندي تَأَنْي القاضي في إطلاقه مع البحث الممكن عن أحواله، [والمذهب:

القبول في الحال]، وحيث قلنا، لا يقبل قوله باليمين، فلو كان غريبا ًلا يتأتى له إقامة البينة، قال الرافعي: فينبغي للقاضي أن يوكل [به] من يبحث عن منشئه ومن قلبه، ويفحص عن أحواله بحسب الطاقة، وإذا غلب على ظنه إفلاسه شهد به عند القاضي؛ كي لا تتخلد عليه عقوبة الحبس، وهذا ما أبداه الإمام فقهاً لنفسه. فرع: إذا عاد الغريم بعد ثبوت الإعسار، وادعى أنه استفاد مالاً، وأنكر المديون – فالقول قوله مع يمينه، وعلى رب الدين البينة، فإن أتى بشاهدين شهدا بيساره لم تسمع هذه الشهادة حتى يبينا ما أيسر به، فإن قالا: رأينا في يده كذا، وهو ملكه – وفينا منه دينه عند امتناعه من الوفاء، ولا يستفسره، وإن قالا: رأينا في يده كذا، وهو ملكه – وفينا منه دينه عند امتناعه من الوفاء، ولا يستفسره، وإن قالا: رأينا في يده مالاً يتصرف فيه، وعيناه – ففي "الحاوي": أنا لا نتصرف فيه حتى نستفسره عنه، كما سنذكره. وفي "الرافعي": أنا نأخذه لرب الدين، فإن قال: هو لفلان وديعة أو مضاربة، وصدقه المقر له – فهو له. وفي "الذخائر" حكاية وجه: أنا لا نقبل إقراره إلا بالبينة، ونوفي منه الدين، [وقد حكاه في "المهذب" [و] أبو الطيب وغيره في كتاب الأقضية فيما إذا قامت بينة على أنه ملك [للغريم، فادعى الغريم أنه ملك] لغيره، وهو ما اختاره في "المرشد" ثَمَّ، وقال البندنيجي: إنه أصح]. وعلى هذا: للمقر له تحليف رب الدين، فإن نكل حلف المقر له، قاله في "الاستقصاء". وعلى المذهب: هل لرب الدين تحليف المديون إنه لم يواطئ المقر له؟ فيه وجهانا، أصحهما: المنع، وبه جزم الإمام، وعلى مقابله: إذا امتنع من اليمين حبس إلى أن يسلم المال أو يحلف، قاله ابن الصباغ. ولرب الدين تحليف المقر له، كما حكاه في "الاستقصاء" عن "الإيضاح". وإذا نكل حلف رب الدين، وقضى له ببيعه، وتحليف المقر له، أبداه ابن الصباغ اعتمالاً لنفسه، فإن كذبه المقر له صرف إلى رب الدين، ولا يلتفت إلى إقراره لإنسان آخر، وإن كان المقَر له غائباً، قال المحاملي والرافعي: وُقِفَ حتى يحضر الغائب، فإن صدقه أخذه، وإلا أخذه رب الدين.

وفي "الشامل" و"الاستقصاء": أن القول قوله مع اليمين، وسقطت المطالبة. قال الإمام: وهذا من مَغاصات كتاب الدعاوى: أن يحلف في [حال] غيبة المقر له، ولا يحلف في [حال] حضوره، فلو نكل عن اليمين. قال الماوردي: ردت اليمين على الغرماء، فإن حلفوا لم يستحقوا المال، ولكن يحبس لهم المديون حتى يستكشف أمره، ولو لم [يقر ما] في يده إلى أحد حلف الغرماء، واستحقوا حبسه دون المال، واستكشف القاضي عن أمره حتى يتبين، قاله الماوردي. قال: وإن كان ماله لا يفي بديونه – أي: الثابتة عند الحاكم بالبينة، أو بإقراره – وسأل الغرماء الحاكم الحجر [عليه]، حجر عليه – أي: وجوباً – لما روى أبو داود عن عبد الرحمن بن كعب بن دينار: أن معاذ بن جبل لم يزل يدَّانُ حتى غَلِقَ ماله كله، فأتى غرماؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطلب معاذ [إلى النبي صلى الله عليه وسلم] أن يسأل غرماءه أن يضعوا أو يؤخروا، فأبوا، فلو تُرِكَ لأحد من أجل أحد لترك لمعاذ من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فباع النبي صلى الله عليه وسلم ماله كله في دينه حتى قام معاذ بغير شيئ. قال عبد الحق: وهذا وإن كان مرسلاً فهو أصح مما أسند فيه.

وفي "الرافعي" و"المهذب": أن كعب بن مالك روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ، وباع عليه ماله. ولأن في الحجر مصلحة للغرماء؛ فإنه قد يخص بعضهم بالوفاء فيتضرر الباقون، وقد يتصرف فيه فيضيع حق الجميع، ومن هذه العلة يستنبط أن المال لو كان مرهوناً امتنع الحجر، اللهم إلا أن يكون فيه رقيق، ونقول بنفوذ عتق الراهن، وهذا ما ظهر لي فقهاً، ولم أقف عليه منقولاً. وإنما اعتبرنا سؤال الغرماء؛ لأن الحجر لحقِّهم، وهم أهل رشد، نعم، لو كانت الديون لمحجور عليهم، حجر الحاكم عليه من غير التماس؛ كما له استيفاء ديونهم، ولو كانت لغُيَّب لم يحجر؛ لأنه لا يستوفي ما لهم في الذمم. ثم كيفية اللفظ الذي يقع به الحجر من القاضي، اختلف فيه أصحابنا. فذهب البغداديون [منهم] إلى أنه يقول: وقفت مالك، ومنعتك من التصرف فيه. وقال البصريون: يقول له: حجرت عليه بالفلس؛ لأن الحجر يتنوع، والمنع من التصرف ووقف المال من أحكام الحجر؛ فلا يقع به الحجر، وهذا يشابه عدم انعقاد البيع بلفظ التمليك.

واعلم أن الشيخ ذكر صريحاً شرطين من شرائط الحجر، والثالث – وهو أن تكون الديون حالة – يقتضيه مساق كلامه من أول الباب، على أن في "النهاية" حكاية وجه: أنا إذا قلنا: تحل الديون بالإفلاس، أنه يجوز أن يحجر عليه بسببها. ووراء ما ذكره الشيخ أمور: منها: إذا كانت الديون مساوية لماله، والرجل غير كسوب، أو لا يفي كسبه بنفقته، ونفقة عياله، أو فيه ...... فهذا قد ظهرت عليه أمارات الفلس، وفي جواز الحجر عليه وجهان: أصحهما عند العراقيين، كما حكاه الرافعي، واختاره في "المرشد": أنه لا حجر في الحال. ومقابله – ذكر الماوردي أنه مأخوذ من نص الشافعي، فيما إذا تسلم المشتري المبيع، [وكان الثمن معه في البلد-: أنه [يحجر] عليه [في] المبيع، وجميع ماله، مع أن فيه وفاء بالثمن]. [وفي جواز الحجر عليه وجهان]. وقال الإمام: إنه المختار عند الأئمة. قلت: ويظهر أن تكون مادة الخلاف أن المشرف على الزوال كالزائل كما تقدم، وقد أجرى العراقيون – مثل أبي الطيب وغيره – الخلاف فيما إذا كانت الديون أقل، وكان يغلب على الظن انتهاؤها إلى المساواة، ثم الزيادة على قرب بسبب كثرة الإنفاق، ورتبه الإمام وقال: هذا أولى بالمنع، ولا خلاف أن دَخْله إذا وفي بَخْرجه لا يَخْرجه لا يحجر عليه، اللهم إلا أن يمتنع من الوفاء، ففيه الخلاف السابق في أول الباب. ومنها: إذا سأل بعض الغرماء الحجر، فينظر: إن كان دينه لو انفرد اقتضى الحجر أجيب إليه، ولا يكون قاصراً عليه، بل يتعدى في حق سائر الغرماء، وإن كان لو انفرد لا يحجر عليه به، فوجهان: الأظهر منهما: المنع. واختيار الشيخ أبي محمد، وهو الذي يقتضيه إطلاق العراقيين: أنه يحجر عليه؛

كي لا يضيع حقه بتكاسل غيره، وفي "الجيلي" حكاية وجه: أن للحاكم الحجر عليه من غير طلب [والتماس]. ومنها: إذا لم يطلب الغرماء الحجر، وطلبه المديون، ففي إجابته وجهان، أظهرهما في الرافعي، وادعى الإمام أن عليه الأكثرين: أنه يجاب، لأن له فيه غرضاً ظاهراً، وقد رأى العلماء أن الحجر على معاذ كان بالتماسه دون الغرماء، ورأى الإمام أنه كان بسؤال الغرماء، وقال في "الاستقصاء": إن هذا الوجه ليس بشيء. تنبيه: إذا كان من جملة مال المديون مبيع لم يقبض ثمنه، ولو قوم مع ماله وحسب ثمنه مع الديون، اقتضى ذلك ألا يحجر عليه. ولو أخرج عن التقويم وثمنه عن الديون اقتضى ذلك الحجر – فهل يدخل في التقويم أم لا؟ فيه وجهان في "الحاوي" وغيره، وأصحهما عند العراقيين: الإدخال، وقد بناهما المتولي مع قولنا بالحجر عند مساواة المال الدينَ، على أنه هل يرجع البائع في عين ماله [والحالة] هذه أم لا؟ فإن قلنا: يرجع فيها، لم تدخل، وإلا أدخلت. قال: والمستحب أن يشهد على الحجر – أي: وينادي عليه – ليتسير إثباته عند من بعده من الحكام، ولتعرف الناس حاله، فإن عاملوه كانوا على بصيرة، وليس مع من [له] عليه دين ممن لم يسأل فيحضر، وهذا ما ذهب إليه البغداديون من أصحابنا. وحكى الماوردي أن البصريين من أصحابنا قالوا: من شرط ثبوت الحجر الإشهاد؛ لأن المقصود بهذا الحجر الشهرة، وإظهار الأمر فيه، ولا يكون مشهوراً إلا بالإشهاد، وأجرى مجرى اللعان الذي قصد به الشهرة. قال: وإذا حجر عليه لم ينفذ تصرفه في المال – أي: الموجود – بما يبطل به حق الغرماء من البيع، والرهن، والهبة، ونحو ذلك؛ [وذلك] لتعلق حق الغرماء به كتعلق حق المرتهن، ولأنه محجور عليه بحكم الحاكم؛ فلا يصح تصرفه على

مراغمة مقصود الحجر كالسفيه. وقد يفهم من العلة الثانية: أن الحجر يتعدى لنفسه، حتى لا يصح منه بيع شيء في ذمته سلماً، ولا شراؤه لشيء بثمن في ذمته كالسفيه، وهو قول حكاه الإمام. ومن العلة الأولى: أن الحجر لا يتعدى إلى ما يتجدد له من الملك بعد الحجر بسبب البيع، والشراء، والاحتطاب، والاحتشاش، وغير ذلك، بل يتصرف فيه كيف شاء، [وهو وجه رواه المراوزة]، وأنه إذا باع ما وقع عليه الحجر، أو وهبه بإذن الغرماء نفذ تصرفه كما في المرهون، وهو في البيع احتمال أبداه الإمام، وجعله الغزالي أظهر الوجهين، وفي الهبة قول حكاه الشاشي عن الماوردي؛ قياساً على هبة العبد بإذن سيده، والصحيح - وبه جزم العراقيون - صحة بيعه وشرائه بثمن في الذمة، وتعدي الحجر إلى ما يتجدد له من ملك. ولنا قول آخر في أصل المسألة، [في المذهب الجديد، كما حكاه الإمام في كتاب الإقرار]: أن تصرفه موقوف كتصرف المريض: فإن وفي ماله بديونه بسبب ارتفاع الأسواق، أو استفادة مال، أو إبراء بعض الغرماء - نفذ تصرفه، وإلا فسخ الأضعف فالأضعف، والأضعف الهبة، ثم البيع، ثم الوقف والكتابة والعتق. قال الشيخ في "المهذب": ويحتمل عندي أن يفسخ الآخِر فالآخِر، كما في تبرعات المريض. وفي "الحاوي": أنه يبدأ من تصرفاته بنقض ما ليس في مقابلته عوض كالهبة والعتق، فإن لم يَفِ فسخت الكتابة قبل البيع، فإن لم يَفِ المكاتب نظر في البيع: فإن كان بدون ثمن المثل نقض، وإن كان بأكثر [من ثمن المثل]، والثمن باقٍ أجيز العقد ولا ينقض. وإن كان ثمنه قد أتلفه المشتري فسخ؛ لأن العين ترجع إلى الغرماء، ويبقى الثمن في ذمة المفلس، وإن كان قد باعه بثمن المثل، والثمن مقبوض تالف فسخ؛ لما ذكرناه. وإن كان باقياً نظر: إن زادت قيمة الثمن، أو نقص سعر المبيع لم ينقض، وإن كان

الآخر باقياً بحاله، فظاهر إطلاق الشافعي وأصحابه يقتضي أن يفسخ عليه، والصحيح عندي أنه لا يفسخ، وهذا ما حكاه صاحب "الاستقصاء" عن "الإيضاح"، وطرده يما إذا وهب شيئاً، وكوفئ بمثله في أن الهبة لا تنقض، ولو لم يوجد من يشتري إلا ما أجزنا التصرف فيه وحث الغرماء على البيع، قال الإمام: فيه احتمال. والظاهر أن الغرماء يجابون فيباع، والمذهب القول الأول، وهو اختيار المزني، والفرق بين المفلس والمريض: أن المريض لا يتعلق بماله في الحال حق؛ بدليل أنه يجوز صرفه في شهواته وملاذِّه، ولا كذلك المفلس، على القولين يجوز له الوصية به، وتدبير ما في ماله من العبيد، صرح به صاحب "الاستقصاء"، وألحق بهما [في] الصحة بيعه جميع ماله من جميع الغرماء جملة ديونهم، وإن كان بغير إذن الحاكم على الأصح. وحكى [أن] مقابله وجه ضعيف، وهو الذي نسبه الرافعي وغيره إلى أبي زيد، وقال: إنه الأظهر، وهو مبني على أن الديون إذا قضيت [لا يرتفع] الحجر بنفسه، والأول مبني على أنه يرتفع. قال الرافعي: ولك أن تقول: وجب ألا يجزم بصحة البيع، وإن قلنا بسقوط الدين يسقط الحجر؛ لأن صحة البيع إما أن تفتقر إلى تقدم ارتفاع الحجر أو لا، فإن كان الأول وجب أن يجزم بعدم الصحة؛ للدَّوْر؛ فنه لا يصح البيع ما لم يرتفع الجحر، [ولا يرتفع الحجر] ما لم يصح البيع، وإن لم يفتقر فليخرج على الخلاف فيما إذا قال: كلما ولدتِ ولداً فأنتِ طالق، فولدت ولداً بعد ولد: هل تطلق بالثاني؟ واستيلاد المفلس هل ينفذ؟ مقتضى ما قاله الأصحاب من عدم نفوذ عتقه في الحال على القولين، أن يكون كذلك إذا قلنا: إن استيلاد الراهن كعتقه، أو قلنا: إنه مرتب عليه، وأولى بألا ينفذ، وإن قلنا: أولى بأن ينفذ، ففيه هاهنا نظر. مقتضى ما حكاه الماوردي من القولين في أن هذا الحجر حجر سفه أو حجر

مرض: أن ينفذ في الحال وجهاً واحداً؛ لأن المريض ينفذ استيلاده من رأس المال، وكذا السفيه، والله أعلم. فرع: لو اشترى شيئاً بشرط الخيار، أو وباعه، ثم حجر عليه، فهل له الفسخ والإجازة؟ ينظر: إن كان له الحظ في أحدها ففعله نفذ، وإن كان الحظ في خلافه فثلاثة طرق: أظهرها – وهو ظاهر النص -: أن ذلك نافذ؛ لأنه ليس بتصرف مستجدٍّ، وإنما يمنع المفلس من التصرفات المنشأة. والثاني: لا ينفذ كما في الرد بالعيب، وهذا ما ذهب إليه ابن أبي هريرة [وأبو إسحاق، كما نقله في "المهذب"،] واختاره في "المرشد"، وقال الماوردي: إنه لا وجه له، والقائل الأول فرق بأن الملك في زمن الخيار ضعيف، بخلاف العيب. والثالث: أن ذلك ينبني على أقوال الملك، فإن قلنا: لا ملك [له]، نفذ فسخه [إن كان مشترياً]، وإجابته [إن كان بائعاً]، وإن قلنا: الملك له، نفذ منه ما يقتضي استدامة ملكه دون ما يزيله. تنبيه: احترز الشيخ بقوله: لم ينفذ تصرفه في المال، عن نفوذ تصرفه في النكاح والطلاق، واستيفاء القصاص والعفو عنه، واستلحاق النسب ونفيهن وكذا إقراره بالمال، لكن فيه تفصيل: فإذا أقر بمال لزمه قبل الحجر، وأخذناه به بعد فك الحجر، وهل يشارك المقر له به الغرماء؟ فيه قولان منصوصان في "المختصر"، وهما يجريان فيما لو أقر بعين في يده أنه غصبها أو استودعها، أو استعارها، أو استؤجر على العمل فيها وكان صباغاً أو صائغاً، والأصح القبول. وجعل الإمام الخلاف في الإقرار بالعين محكيًّا عن القديم، وأن الأئمة ألحقوا الإقرار بالدين [المرسل] بالعين، وتبعه الغزالي في ذلك. [فإن قبلنا إقراره بالعين سلمت إلى المقر له، وإن لم نقبله وفضلت سلمت إليه

أيضاً، وإلا فالغرم في ذمته، كذا قاله الرافعي وغيره هنا. وفي "النهاية" و"تعليق" القاضي الحسين في كتاب الإقرار: أنه إذا أقر بالعين، فإقراره غير مقبول على الغرماء، حتى لو مست الحاجة إلى صرف تلك العين إلى الديون صرفناها. نعم، إذا فضلت بعد فك الحجر، هل تسلم للمقر له؟ فيه قولان. انتهى. وعلى قياس هذا يتجه أن يجيئا في الغرم – أيضاً – وفي الدين، وبذلك يحصل في المسألة طريقان]. وإن أسند الدين إلى ما بعد الحجر: فإن كان عن معاملة فلا يضارب الغرماء. كذا قاله الأصحاب، وفيه [نظر] يظهر لك من بعد. وإن كان عن إتلاف أو خيانة، فأصح الطريقين: أنه كما لو أسنده إلى ما قبل الحجر، والثاني: أنه كما لو قال: عن معاملة، [وهذا ما حكاه الماوردي]. [قلت: ويشبه أن يكون الخلاف مبنيًّا على ما لو ثبت ذلك بالبينة، ومذهب العراقيين: المشاركة، والمحكي عن القاضي الحسين عدم المشاركة، [وهو ما ادعى الإمام في كتاب الإقرار: أنه المذهب، والقاضي: أنه أقيس الوجهين]. فالطريقة الأولى ماشية على ما ذهب إليه العراقيون، والثانية على ما حكى عن القاضي. ولو أقر بما يوجب القصاص، فعفا المستحق على مال – قال في "التهذيب": هو

كما لو أقر بدين جناية. وقطع بعض شارحي "المختصر" بالقبول]. قلت: وقد تقدم لنا كلام فيما إذا أقر العبد المرهون بما يوجب القصاص، وعُفِي عنه على مال، ويتجه أنا يجيء مثله هاهنا. فرع: لو ادعى على المفلس بمال لزمه قبل الحجر، فأنكر ولم يحلف، حلف المدعي، وشارك الغرماء إن قلنا: إن اليمين مع النكول بمنزلة البينة، وإن قلنا: كالإقرار، ففي المشاركة القولان. هكذا حكاه معظم الأئمة هنا، وسيأتي في كتاب الأقضية – إن شاء الله تعالى – أنا إذا قلنا: إن يمين المدعي مع نكول الخصم كالبينة، فذاك إذا لم يتعدَّ الثالث، أما إذا تعدى فالأصح أنا لا نعاملها معاملة البينة في حقه، وقد حكى المتولي هذا وجهاً هنا. قال: فإن لم يكن له كسب أنفق عليه وعلى عياله – أي: من زوجاته، و [أم] ولده، وقريب تلزمه نفقته، إلى أن ينفك عنه الحجر: أما الإنفاق عليه؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: "ابْدَا بِنَفْسِكَ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ"، وممن يعول: الزوجة، ونفقتها دين ثابت في الذمة، وقد قدم نفقته عليها، دل على تقدمها على الديون، ولأنه إذا لم يكن ذا مال وجبت نقته على كافة المسلمين؛ فوجب إذا كان له مال أن يقدم بالإنفاق منه [بطريق] الأولى. وأما الإنفاق على الأقارب؛ لأنهم يجرون مجراه في وجوب الإنفاق قبل الحجر، وعتقهم إذا ملكهم؛ كما يعتق إذا ملك نفسه؛ فوجب أن يقدم نفقتهم بعد الحجر كما يقدم نفقته، ووجه الرافعي ذلك بأن المفلس موسر بالمال قبل القسمة، وإذا ثبت تقديم نفقة الأقارب على وفاء الدين كان تقديم نفقة الزوجات أولى؛ لأنها تقدم على نفقة الأقارب مع أنها دين.

والمراد بالنفقة: قوت مثله الذي لا يستغني عنه، ولا يعتبر في ذلك شهواته وملاذُّه. وما الواجب من نفقة الزوجات؟ قال الإمام: نفقة المعسرين. قال الرافعي: وفي التجريد للقاضي الروياني: أنه ينفق عليهن نفقة الموسرين، وهذا قياس الباب، ولو كان ينفق نفقة المعسرين لما أنفق على الأقارب. قلت: ما ذكره الإمام هو الحق، وعليه ينطبق [أكثر ما قيل في] حد المعسر [في النفقات]، بل كله كما ستقف عليه. ووجوب نفقة القريب قد حكى الزبيلي من أصحابنا في "أدب القضاء" له: أنه لا ينفق على ولده، والدين أولى منه؛ لأن نفقة الولد مواساة والدين لازم، وعلى تقدير تسليم الحكم – كما ادعى الإمام اتفاق الأصحاب عليه – فهو مشكل. تنبيه: محل وجوب الإنفاق على الزوجة إذا كانت في العصمة قبل الحجر، أما إذا تزوجها بعد الحجر فلا ينفق عليها من المال، صرح به المتولي والرافعي في كتاب النكاح، والفرق: أن القياس يقتضي أن ما عدا نفقة يوم الحجر لا يجب للزوجة على الجديد، ولا للقريب [فيه]؛ لأنها تجب يوماً فيوماً، والحال الذي يجب فيه المال قد سبق تعلق حقوق الغرماء به؛ فأشبه ما إذا كان مرهوناً خالصاً. ذلك فيما إذا كانت الزوجة متقدمة؛ لأنها سبب الوجوب، فأقمناها مقامه، وكذلك القرابة، وذلك منتفٍ فيما إذا تأخرت الزوجية؛ فأعملنا القياس. فإن قيل: مقتضى ما ذكرت ألا تجب نفقة قريب تجدد بعد الحجر. قلت: تجدده كالأرش [يتقاعد عن] جناية صدرت [من عند المفلس] بعد تعلق حق الغرماء به، ومع هذا يقدم عليهم؛ كي لا يضيع حقه؛ فكذلك هنا. ثم وجوب الإنفاق على الأقارب لك أن تستنبط منه أن سكنى المفلس وملبسه، وما ينام عليه ويستعمله في وضوئه وأكله وشربه – مما لا غنى لمثله عنه – يخرج من المال

أيضاً؛ لأنه إنما يجب على القريب إذا فضل عن ذلك، كما ستقف عليه في النفقات. وقد صرح الأصحاب بوجوب الكسوة، وحكى المتولي – وتابعه الرافعي – أنه لا يترك له الفُرُش والبُسُط، ويسامح باللبد والحصير القليل القيمة. ثم الكسورة لا يتصر فيها على زمن الحجر ويوم القسمة كما يفعل في النفقة، بل يعطي إن كان في فصل الصيف كسوة الصيف: قميص وسراويل، ومنديل، ومكِعْب، ودُرَّاعة [يلبسها فوق القميص]، وطيلسان، وخف، إن كان عادته ذلك. وإن كان [في فصل الشتاء]، أعطى [مع] ما ذكرناه: جبة أو ما يليق به من فرو وغيره، وتوقف الإمام في الخف والطيلسان، وقال: إن تركهما لا يخرم المروءة، وذكر أن الاعتبار بما يليق بحاله في إفلاسه، لا في بسطته وثروته. قال الرافعي: لكن المفهوم من كلام الأصحاب أنهم لا يساعدونه عليه، ويمنعون قوله: إن تركهما لا يخرم المروءة. ولا يجمع له بين كسوة فصلين في وقت واحد. وحكم العائلة فيما ذكرناه حكمه، وكذا حكم كفنه وكفن قريبه، وأم ولده وزوجته [على رأي – يخرج من المال، وفي قدر المخرج ثلاثة أوجه: أضعفها – وهو ما رواه الإمام عن أبي إسحاق]-: ما يستر العورة. وثانيها: ثوب واحد. وثالثها: ثلاثة أثواب كما في حال الحياة، وهو الأصح. فرع: إذا كان على المفلس ثياب فوق ما صلح لمثله بيعت، وأعطي ما يليق بمثله، وكذا الحكم في أم ولده؛ لأن ذلك ملكه، بخلاف الزوجة والقريب إذا كساهم قبل الحجر ذلك وبقي؛ لأنهما ملكاً ذلك قبل الحجر. ولو كان من عادة

المفلس أن يلبس قبل الإفلاس دون ما يليق به تتيراً، لم يزد عليه في حال الحجر، ولا خلاف على المذهب: أنه لا يترك له رأس [مال] يكتسب به، وإن كان جهة اكتسابه التجارة، وحكى الإمام في كتاب الحجر: أن العراقيين حكوا عن ابن سريج أنه يخلف عليه رأس ماله الذي بالتجارة فيه يتبلغ ويتوصل إلى تحصيل قوته في مستقبل الزمان إذا كان لا يحسن الاكتساب إلا من هذه الجهة؛ كما يخلف له دست وبل يليق بمنصبه، وأنهم غلَّطوه وزَّيفوه، وإن الأمر على ما ذكروه. [فرع: في "فتاوى" العبادي: إذا كانت له كتب علم، وهو عالم، وللكتب قيمة – أنها لا تباع في الدين، وتباع المصاحف فيه؛ لأن كتب العلم علم، ويحتاج إليها الناس]. واعلم أن ما ذكروه ظاهر فيما إذا كان بعض ماله لم يتعلق به حق لمعين، أما إذا تعلق بجميع ماله حق معين: إما بسبب الحجر، أو بغيره، أو بهما كالأعيان المبيعة التي لم تقبض أثمانها، والرهون، والرقاب التي تعلقت بها أروش الجنايات – ففي "النهاية": [أنه] إذا لم يكن له سوى المرهون، لا ينفق عليه وعلى عياله منه، وغير المرهون لم أقف فيه على نقل، والقياس: أن يلحق بالمرهون في ذلك، ويؤيده قول جمهور أصحابنا في مؤنة تجهيز الميت ودفنه: إنها لا تخرج من عبده الجاني أو

المرهون، أو الذي اشتراه ولم يوفِّ ثمنه، وقد مات مفلساً. وقد حكى الشيخ أبو محمد في "الجمع والفرق" عن بعض مشايخنا: أن الميت يقدم على حق المجني عليه، وحق المرتهن، وإن لم يخلف مالاً سواه. ويظهر جريان مثله هاهنا؛ لأن الميت أحوج إلى براءة الذمة من الحي، وكذلك في الصورة الثالثة؛ لأنه إذا قدم على من يقدم حقه، فأولى أن يتقدم على من تساوى معه في ثبوت الحق، والله أعلم. وأما إذا كان له كسب يفي بنفقتهن ونفقة عياله، واكتسب - صرف ذلك إليهم، فإن لم يَف بالنفقة كمل من المال، وإن لم يكتسب. قال في "التتمة": لا ينفق عليه من المال حتى يكتسب. قلت: والذي يظهر [أن مراده] أن حكمه حكم من لم يكن له مال، وستقف على ما قيل في تكليفه الاكتساب للنفقة في النفقات، فإن لم نوجبه عليه؛ اتجه أن ينفق من المال. قال: وإذا أراد الحاكم بيع ماله أحضره، أو وكيله، وأحضر الغرماء -أي: استحباباً - لأن ذلك أنفى للتهمة، والمالك أخبر بثمن أمواله وصفاته، فإذا أحضر أخبر بذلك، وكنا سبباً لزيادة في الأثمان، وقد يطلع فيه على عيب فيخبر به؛ حتى لا يقع البيع متعرضاً للفسخ، وإحضار الغرماء؛ لاحتمال أن يرغب أحدهم في شراء شيء فيكثر طلابه، وذلك يزيد في الثمن. قال الماوردي: والأولى أن يتولى المفلس البيع أو وكيله بإذن الحاكم؛ ليقع الإشهاد عليه، وتطيب نفس المشتري والبائع، ولا يحتاج إلى إقامة البينة على أن ما يبيعه ملك له، بخلاف ما إذا باع الحاكم، أو أذن لمن يبيع؛ فإن شرطه أن يثبت

عنده أنه ملك للمفلس بالبينة، كما حكيناه عنه من قبل. قال: وباع كل شيء في سوقه؛ لأن أهل سوقه؛ لأن أهل سوقه فيه أرغب، والمشتري هناك أكثر، والتهمة منه أبعد، وهذا إذا لم يكن في نقله كبير مؤنة، أما إذا احتاج إلى مؤنة كبيرة في نقله، ورأى الحاكم من المصلحة ألا يحمله إلى سوقه، ويستدعي أهل السوق إليه - فعل، قال الماوردي. ولو باع الشيء في غير سوقه جاز، كما صرح به القاضي أبو الطيب والمتولي، لكن بثمن المثل؛ إذ هو الشرط في بي مال المفلس، وكذا كونه حالاًّ، ومن نقد البلد، وإن لم يكن ما على المفلس من جنسه، ويشتري لهم من جنسه. قال المتولي: وإن وجد الرضا من المفلس والغرماء [بالبيع]، بغير نقد البلد، [جاز، وحكى الرافعي في كتاب الوكالة: أن الحاكم لو رأى المصلحة في البيع بمثل حقوقهم جاز، وأن حكم بيع الحاكم المال المرهون هكذا]، ولا يسلم المبيع إلا حقوقهم جاز، وأن حكم بيع الحاكم المال المرهون هكذا]، ولا يسلم المبيع إلا بعد قبض الثمن، ويجبر المشتري عليه على النص، ووراءه شيء آخر مذكور في آخر باب اختلاف المتبايعين. قال: فإن لم يوجد من يتطوع بالنداء، استؤجر من خمس الخمس من ينادي؛ لأنه من المصالح، وهل يجوز أن يؤخذ من أربعة أخماس الفيء، فيه قولان في "الحاوي". قال: فإن لم يكن - أي: خمس الخمس - أو كان ولكن ثم ما هو أهم من ذلك، أو منع منه استؤجر من مال المفلس؛ لأن ذلك واجب عليه وهو - أيضاً - من مصلحة ملكه؛ فهو كنفقة العبد والدور قبل أن تباع، ومقدم بذلك على سائر الغرماء، وإن كان وجوبه حادثاً بعد الحجر؛ لأجل المصلحة، وهكذا يفعل في أجرة الكيال، والوزَّان، وكراء البيت الذي يحفظ فيه المتاع، والأولى أن يكون تقدير الأجرة من الغرماء، كما قال المتولي؛ لأن ذلك ينقص حقوقهم، فإن أبوا دفع الحاكم أجرة المثل. قال الماوردي: ولو رأى الحاكم ألا يستأجر، ويجعل للمنادي جُعْلاً مشروطاً، أو أجرة المثل جاز، وهذا هوا لمشهور، وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أن المنادي

يعطي من خمس الخمس كأجرة الكيال والدلاَّل، فإن لم يكن طلبنا من تبرع، فإن لم نجد كان من مال المفلس. قال: وبدأ بما يسرع إليه الفساد – [أي]: كالطعام الرطب، والفواكه، والبقول ونحو ذلك – حراسة له عن الهلاك، ثم بالحيوان؛ لأنه يحتاج إلى مؤنة مع تعرضه للتلف، ثم بالعقار – أي: إن لم يكن ثم غيره من الأثاث – لأنه لا يخشى عليه الهلاك كغيره، ويؤمن من سرقته، ولأن العقار ليس له سوق يباع فيه، ويحتاج إلى التأنِّي في بيعه حتى ينتشر في الناس بيعه؛ فيتوفر طلابه، وذلك سبب في زيادة ثمنه، ولا يزاد في التأني على ثلاثة أيام، ولا ينادي عليه، بل يعرض. قال الشافعي: وإن كان بقرب البلد الذي فيه العقار بلد يرغب أهله في شراء العقار، أنفذ إليهم وأعلمهم ليحضروا ويشتروا، كذا حكاه المحاملي، وفي التتمة: أن الحاكم إذا رأى أن ينادي عليه فعل. أما إذا كان ثم غير العقار من المنقولات قدم بيعه عليه، ويقدم بيع الثياب على بيع النحاس والصفر، وإن كان مع العقار أرضون قدم بيع العقار عليها؛ لأن العقار قد يخاف عليه من هدم أو حريق. قاله الماوردي. ووراء ذلك أمور: أحدها: حكى المتولي أن المرهون من الأموال يباع أولاً، ثم ما يسرع إليه الفساد. الثاني: حكى الإمام أن الحيوان يبدأ ببيعه، ثم بما يسرع إليه الفساد. الثالث: حكى الماوردي، والمحاملي، وغيرهما في موضع: أن أول ما يباع المرهون، ثم العبد الجاني، وسكتوا عن الذي يليهما، ثم قالوا في موضع آخر: أول ما يباع ما يسرع إليه الفساد، كما ذكرنا. وأحسن القاضي أبو الطيب في "تعليقه" إذ بين ذلك فقال: قد ذكرنا أنه يبدأ ببيع المرهون، والعبد الجاني، إذا لم يكن في ماله ما يخاف هلاكه، أما إذا كان فيقدم بيعه، ثم المرهون والعبد الجاني، ثم الحيوان. ولا فرق في العقار بين أن يكون معدًّا لسكنه – وهو سكن مثله – أو لا، وكذا لا

فرق في الرقيق بين أن يكون المفلس محتاجاً إليه للخدمة؛ بسبب منصبه أو زمَانته أولا، وبهذا جزم العراقيون، وحكى المراوزة أنه خُرِّج قولٌ في مسكنه وخادمه: نهما لا يباعان، [من نصه على أنهما لا يباعان] في الكفارة، كما خُرِّجَ منهما قولٌ: أنهما يباعان في الكفارة، والمذهب: تقرير النصين، والفرق أن للكفارة بدلاً ينتقل إليه، وهو الصوم، والدين بخلافه. قال الإمام: والمسكن أولى بالإبقاء من الخادم؛ فينتظم أن يترتب، ويقال: فيهما ثلاثة أوجه، ثالثها: يبقى المسكن دون الخادم. وإذا قلنا بإبقاء ذلك له، فلو لم يكن في ملكه اشترى له على أصح الوجهين. فرع: إذا كان له أم ولد، وضيعة موقوفة عليه، فهل تؤاجر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لا يؤجر المفلس إذا كان مكتسباً، بلا خلاف في المذهب. والثاني-: وهو الصحيح في "الاستقصاء"، والذي حكاه القاضي أبو الطيب في أم الولد عند الكلام في أن المفلس لا يؤجر -: نعم؛ كما لو استأجر داراً بأجرة معجلة، ثم أفلس؛ فإنها تؤجر عليه. قال: وقسم – أي: الثمن – بين الغرماء على قدر ديونهم؛ توخيًّا لإنصافهم، ولا يكلف الغرماء إقامة البينة على أن لا غريم سواهم. قال صاحب "التقريب": بخلاف الورثة؛ فإنا قد نقول: لا يقسم الحاكم التركة بينهم حتى يقيم بينة خبيرة بباطن أمر المتوفى: أنهم لا يعرفون له وارثاً سواهم؛ لأن الحجر يشتهر أمره؛ فيغلب على الظن أن لو كان غريمٌ لظهر، [وفرق الماوردي بأن الغريم تعذر أن يستحق جميع المال، وإن كان ثم غريم غائب بإبراء الغائب أو عفوه عن حقه، وليس كذلك الوارث؛ فإن الغائب لو أراد إسقاط حقه لم يسقط [حقه]]. قال الإمام: وما ذكره [صاحب "التقريب"] حسن، ولكن لا فرق عندنا بين القسمة على الغرماء، والقسمة على الورثة؛ فحيث نقول: لابد من إقامة البينة على أن لا وارث، فلابد من مثله في القسمة على الغرماء. وكيفية القسمة: أنه إذا كان

لأحدهم عشرة، ولآخر عشرون، ولآخر ثلاثون – دفع لصاحب الثلاثين النصف من المتحصل، ولصاحب العشرين الثلث، ولصاحب العشرين السدس، وهكذا يفعل فيما إذا كانت ديونهم من غير النقدين، وتقسم على قدر القيم. ثم اليون التي يقسم المال عليها هي الثابتة عند الحجر، أو المتجددة بسبب إتلاف أو جناية، كما ذكرناه، أما ما تجدد عن قرض أو ثمن مبيع، فلا يقسم عليه شيء من المال الذي تناوله الحجر، وهل يقسم المبيع بين البائع وبين الغرماء [إذا طرد الحجر إليه]؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يشاركهم فيه أيضاً؛ بل حقه في ذمتهم إلى يساره؛ لرضاه بذلك أو تقصيره، وهذا ما يفهم من كلام العراقيين. والثاني: أنه يشاركهم فيه، كذا حكاه الإمام والغزالي في "البسيط"، وكلامه في "الوسيط" و"الوجيز" يفهم المشاركة في جميع المال على وجه؛ فإنه قال: والثاني يضارب؛ لأنه أدخل في ملكه شيئاً جديداً بدينه الجديد، وعلى ذلك جرى الرافعي. فإن قلنا به، اتجه أن يكون في قبول إقرار المفلس بدين مُسْنَدٍ إلى ما بعد الحجر – بسبب مبيع في يده – القولان السابقان، وهذا ما أشرت إليه من قبل. ولو تجدد دين بسبب خروج بعض ما أبيع مستحقًّا، وقد تلف ثمنه في يد الحاكم- فإنه من ضمان المفلس؛ ففيه طرق: إحداها: [حكاية قولين: أحدهما – وهو ظاهر نصه في "المختصر"، وفي "حرملة" على ما حكاه المحاملي -: أنه يقدم به على سائر الغرماء. والثاني: أنه يشاركهم [فيه] كما في أرش الجناية، وهذا ما حكاه الربيع، وحرملة على ما حكاه البندنيجي وغيره، [في كتاب الرهن، وصححه، وكذا هو] الأصح في "مجموع" المحاملي، والأظهر عند عامة الأصحاب. والثانية: القطع بالقول الأول، وبها جزم في "الوسيط".

والثالثة - حكاها العراقيون -: أن المسألة على حالين: فمن قال بالتقديم محل قوله إذا لم يكن الحجر [قد فُكَّ، ومن قال بالمضاربة محل قوله إذا كان] قد فك عنه الحجر، وليس له في الحال مال فيثبت حقه في ذمته، فإذا استفاد مالاً، وحجر عله، كان صاحب الثمن أسوة الغرماء، ونظير طريقة القولين: ما إذا باع شيئاً قبل الحجر، ثم رد بعد الحجر؛ بسبب عيب. ولو استأجر منه داراً بأجرة معجلة، وانهدمت بعد الحجر في أثناء المدة - فللمستأجر أجرة ما بقي من المدة، وهل يضارب بها؟ ينظر: إن كان الانهدام قبل القسمة ضارب، وإن كان بعدها فوجهان، أصحهما في "مجموع" المحاملي: المضاربة. واعلم أن وقت القسمة حين يجاز بيع الأموال وحيازة أثمانها إن رضي الغرماء بالتأخير إلى ذلك الوقت، أو لم يمكن قسمة ما يتحصل أولاً فأول، أما إذا أمكن، وامتنع الغرماء من التأخير، أطلق القاضي أبو الطيب والمحاملي والإمام وغيرهم القول بإجابتهم. وفي "الحاوي" أنهم لا يجابون؛ لاحتمال أن يظهر غريم لم يطلع عليه، وهذا ما قال الرافعي: إنه الظاهر. ولا نزاع في أن الغريم لو كان واحداً سلم إليه ما يتحصل أولاً فأول؛ لأنا حيث

احتجنا إلى التأخير، وقدرنا على [إقراض ما يتحصل مليًّا وفيًّا] لا يودعه، حتى لو أودع، فتلف – ضمنه المودع، فدفعه لمن يستحقه أولى. وإذا احتجنا لإيداع ما يحصل إلى وقت القسمة، لا يودع إلا عند عدل، وإن رضي الغرماء والمفلس بغير عدل؛ لأن الحق هاهنا قد يتجاوزهم إلى غائب، بخلاف المرهون، والأولى أن يعين الغرماء والمفلس والعدل، فإن اختلفوا في التعيين، وتساوت صفات من عين حتى في عدم طلب أجرة على الحفظ، وقدر على ضم أحدهما إلى الآخر فعل، وألا عين الحاكم واحداً. فروع: لو كان بعض الغرماء غائباً، فإن عرف قدر ما لَهُ قسم عليه، وإن لم يعرف ولم يمكن مراجعته، ولا هو ممن يرجى حضوره – رجعنا إلى قول المفلس فيما لَهُ وقسم عليه: فإن حضر وظهر له زيادة على ما اعترف به المفلس، فذلك بمنزلة ظهور غريم آخر. وإن أمكن حضوره وعرف موضعه، قال المتولي: لا يقسم حتى يرسل إليه، [و] إذا ظهر غريم [آخر] بعد القسمة لا ينقض على الصحيح، وبه جزم المتولي، وحكاه الماوردي عن ظاهر منصوصه في القسمة؛ فيسترجع من كل من الغرماء نسبة ما يستحقه الذي ظهر لو كان حاضراً، مثاله: إذا كان الحضور الثلاثة، ودين أحدهم ألفٌ، والآخر ألفان، [والآخر ثلاثة آلاف]، والمال المقسوم ثلاثة آلاف، ودين الذي ظهر ثلاثة آلاف – استرد من كل من الحضور ثلث ما أخذه، وفيه وجه: أن القسمة الأولى تنقض، ثم يستأنفها الحاكم بعد دخول الظاهر فيها. وعلى الأول: لو أتلف اثنان من الحضور الذي قبضاه وهما معسران حالة قدوم الغائب، فهل يجعل ما قبضه الآخر كأنه جميع الموجود، ولا غريم سواهما حتى يسترد منه على حساب ذلك، أو لا يسترد منه أكثر مما كان يسترده عند يسار الجميع؟ فيه وجهان، أصحهما، وبه جزم المتولي: الأول.

ولو لم يظهر الغريم إلا بعد أن ظهر للمفلس مال قديم، أو حادث بعد الحجر؛ صرف منه إلى الذي ظهر بقسط ما أخذه الأولون. إذا أفرز الحاكم نصيب غائب من الغرماء، فتلف في دية بعد تسليم الحاضرين ما خصهم. قال في "التتمة": ذكر القاضي أن الغائب لا يزاحم من قبض، وكذلك لو لم يكن قد سلم إلى أحد من الحضور شيئاً من المال، ولكنه أفرز لكل واحد شيئاً، فهلكت حصة أحدهم – لم يزاحم الباقين، وذكر بعض أصحابنا أن من لم يسلم له نصيبه يزاحمهم ثانياً. فائدة: لا خلاف بعد قسمة مال المفلس، واعتراف الغرماء: أنه لا مال له – أنه لا يدام عليه الحجر، ولكن هل ينفك بتفرقة المال الموجود، أم لابد من فك الحاكم؟ فيه وجهان محكيان في الطريقين: أظهرهما في "الرافعي": الثاني. وفي تعليق القاضي الحسين: الأصح: الأول، وبه جزم في "التهذيب" و"الإبانة" في كتاب الحجر. وتطابق الغرماء على الفك هل يقوم مقام فك الحاكم؟ فيه وجهان في "الوسيط"، ولو ظهر له بعد فك الحجر مال لم يشعر به، فلا ينفذ تصرفه فيه، ويصرف إلى الغرماء، [ولا تنقض القسمة، ولا تسترد الأعيان التي رجع فيها بائعوها. قال المتولي: لأن الفسخ عند الامتناع مجتهد فيه، فإذا أصابه حكم الحاكم بالإفلاس فقد صح. قال الرافعي: وقد يتوقف فيه؛ لأن القاضي ربما لا يعتقد جواز الرجوع بالامتناع، فكيف يجعل حكمه – [هنا] – بناءً على ظن آخر حكماً بالرجوع بالامتناع، وما نقله الشيخ في "مهذبه" من نقض القسمة المراد به ما ذكرناه، إلا انه يسترجع من كل من الغرماء ما أخذه، ثم يقسم، وإنما ذكر ذلك؛ ليظهر أن مذهبنا مخالف لمذهب من قال: إن الغرماء يفوزون بما قبضوه، ولا يسترد منهم شيء، وقد نبه على ذلك في

"الاستقصاء"، والله أعلم]. قال: وإن كان فبهم من له دين مؤجل، لم يقض دينه في أصح القولين، [[وفيه] قول آخر: أنه بالإفلاس تحل ديونه، أي: فتقضي]. إذا حجر على المديون بسبب الفلس، وعيه ديون مؤجلة فهل تحل؟ فيه قولان: أصحهما، وهو مذهب المزني: لا؛ لأنه معنى لا يقطع تصرفه في ذمته، فلم تحل به الديون؛ قياساً على نفس الإفلاس قبل الحجر. والثاني: أنها تحل؛ لأنه حدثت [به] حالة عَلِقَتْ حقوق غرمائه بعين أمواله؛ فوجب أن تحل بها ديونه المؤجلة كما لو مات. وهذا بناه الماوردي على [أن] حجر الفلس حجر السفه، والأول بناه على أنه حجر مرض. وقد حكى الإمام هذا الخلاف في طرآن الجنون المستمر، وأن الشيخ أبا محمد قال: حلوله بالجنون أولى؛ لأن المجنون لا استقلال له كالميت، والأجل إنما جعل رفقاً لمن عليه الدين، وقد فات، والقيم ينوب عنه كما ينوب الوارث، ورأى الإمام الترتيب بالعكس أولى؛ لأن قيم المجنون له أن يبتاع له بثمن مؤجل عند ظهور المصلحة، فإذا لم يمنع الجنون التأجيل ابتداءً فَلأَلأَ يقطع الأجل دواماً كان أولى. إذا عرفت ذلك، عرفت أن القول الأول مبني على عدم الحلول، وأن على القول بالحلول تقسم الديون المؤجلة، كما تقسم الديون الحالة، وتسلم إلى أربابها. وحكى الماوردي عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة: أنا نقسم على الديون المؤجلة كالحالة، وما يخص المؤجلة يبقى على ملك المفلس، ولا يدفع إلى أرباب الديون المؤجلة حتى تحل، وأطلق الإمام حكاية هذا وجهاً، ثم قال: وهو مزَّيف لا أعده من المذهب. قال: وإن كان فيهم من له رهن خص بثمنه لسبق حقه، فإن فضل له بعد ذلك شيء، ضارب به مع الغرماء، وإن فضل من ثمنه شيء، رد إلى الغرماء. قال: وإن كان له عبد في رقبته أرش جناية – أي: وإن وجدت بعد الحجر – قدم

حق المجني عليه؛ لأنه يقدم على حق المرتهن، وحق المرتهن يتقدم على حقوق الغرماء، [فكان هذا أولى، فإن فضل من ثمنه شيء عن أرش الجناية فُضَّ على الغرماء، وإن لم يوف بأرش الجناية فلا شيء له مع الغرماء]. قال: وإن كان فيهم من له عين مال باعها منه – أي: قبل الفلس – بثمن حال لم يقبض منه شيء، وهي باقية، ولم تخرج عن ملكه، ولا تغيرت، ولا تعلق بها حق الغير، والراجع من أهل تملُّك [تلك] العين. قال: فهو بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء، وبين أن يفسخ البيع ويرجع فيها. الأصل في ذلك ما روى مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ"، [وما روى] الشافعي بسنده عن خلدة – أو ابن خلدة – قاضي المدينة أنه قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس، فقال: هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ، فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِالْمَتَاعِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ"، وخلدة وابن خلدة ثقتان؛ فلا يضر الشك فيهما. وقد رواه أبو داود عن ابن خلدة عن أبي هريرة، [ولفظ أبي هريرة:] "لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمْ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ فَوَجَدَ رَجُلٌ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ".

ومن جهة المعنى: أنه أحد عوضي العقد القابل للفسخ بالإقالة؛ فثبت حق الفسخ بتعذره كإباق العبد، وانقطاع المُسْلَم فيه. وحكى الماوردي عن أبي عبيد بن حربويه من أصحابنا، أنه قال: "إنما يكون البائع أحق بعين ماله؛ ليستوفي حقه من ثمنه، ويمنع الغرماء من مشاركته فيه، كالرهن"، ثم قال: وهذا خالف به الإجماع. وعلى المذهب [هل يتوقف فسخه على إذن الحاكم أم لا؟] قال في "الحاوي" قبيل [باب] شهادة النساء: لابد أن يحكم الحاكم بجواز الرجوع بالأعيان المبيعة، وبعد ذلك وجهان: أحدهما: لا يرجع به البائع إلا أن يحكم له الحاكم برده عليه. والثاني: يجوز أن يرجع، وإن لم يحكم له بالرد. وغيره قال: بعد ثبوت الفلس، هل يتوقف فسخه على إذن الحاكم أم لا؟ فيه وجهان: المذكور منهما في "الحاوي" [هنا:] الأول، وهو الذي اختاره في "المرشد". وفي "الرافعي": الشبه مقابله. [وهل هذا الخيار على الفور أو على التراخي ما لم يعزم الحاكم على بيع ماله كما قيده الماوردي؟] فيه وجهان: أصحهما في "الرافعي"، و"تعليق" أبي الطيب: الأول. وعن القاضي الحسين: أنه لا يمتنع تأقيته بثلاثة أيام. [وعلى الصحيح: لو ترك حق الفسخ على مال لم يثبت، وسقط خياره مع العلم، ومع الجهل وجهان، كما ذكرنا في الرد بالعيب، وإذا اختار عين ماله لزمه، ولا خيار له، وروى القاضي ابن كجٍّ: أن أبا الحسين حكى وجهاً أنه بالخيار ما دام في المجلس].

ولا نزاع في جواز الفسخ باللفظ الصريح كقوله: فسخت البيع، ونقضته، ورفعته، ولو قال: رددت الثمن، فوجهان، أصحهما: الاكتفاء به، وهل يجوز بالفعل كما في خيار المجلس؟ فيه وجهان: أصحهما في "الحاوي": المنع. ولو حكم حاكم بمنع الرجوع، قال الإصطخري: نقض حكمه. واختار الشيخ في "المهذب" لنفسه أنه لا ينقض، وهو ما حكاه في "المرشد". أما إذا كان البيع صدر بعد فلسه، ففي ثبوت خيار الرجوع [فيه] وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه باعه قبل وقت الفسخ، فلم يسقط حقه من الفسخ؛ كما لو تزوجت المرأة بمعسر بالنفقة. والثاني: لا؛ لأنه باعه مع العلم بخراب الذمة؛ فسقط خياره، كما لو اشترى سلعة يعلم بعيبها. هكذا عللهما في "المهذب". وقد تفهم علة الأول: أن محل الخلاف ما إذا باع منه قبل الحجر وبعد الفلس؛ لأن بالحجر يثبت حق الرجوع، أما إذا كان بعد الحجر فلا رجوع وجهاً واحداً؛ لأن البيع جرى بعد وقت الفسخ، وعلى ذلك جرى مجلي، وليس كذلك، بل الخلافُ جارٍ وإن وقع البيع بعد الحجر، صرح به الإمام والرافعي وغيرهما، وقد بين صاحب "الاستقصاء" قوله: لأنه باعه قبل الفسخ [بأن الفسخ يثبت لأجل تعذر الثمن، وهو لا يستحق الثمن إلا بالبيع؛ فلم يسقط حقه من الفسخ قبل وقت الفسخ. وعلة الثاني: أنه إذا كان جاهلاً بفلسه، أن له الخيار وجهاً واحداً، كما صرح به في "الاستقصاء"، وليس كذلك؛ بل قد أجرى الإمام وغيره الخلاف فيه، والظاهر من المذهب: أنه يثبت؛ كما أن الظاهر عند العلم عدم الثبوت]، وهو الذي يقتضيه قياس ما جزم به ابن الصباغ وغيره فيما إذا باع عبدٌ شيئاً بغير إذن سيده، وصححناه: أن له أن يرجع في المبيع قبل أن ينزعه السيد منه، وفي "التتمة" ما يقتضي أن الظاهر في حال الجهل عدم الثبوت، فإنه حصل أصل الخلاف في هذه الصورة الخلافُ

المذكور في جواز الفسخ؛ بسبب تعذر الثمن من غير إفلاس، من جهة أن الشراء في الذمة لم يدخل تحت الحجر، وقد تعذر عليه الوصول إلى حقه، والصحيح في هذه المسألة: أنه لايفسخ، وإذا كان كذلك لزم منه ما قلناه. وقد انتظم من مجموع ما ذكرناه ثلاثة أوجه، وقد حكى العمراني في "الزوائد" في باب الخيار في النكاح عن صاحب "الفروع" الوجهين الأولين قولين، وأن الجديد: الثبوت. ولو كان الثمن مؤجلاً فلا رجوع له في العين على وجه، وإن حل قبل الحجر عليه، والمذهب: أن الأجل إن انقضى قبل الحجر كان له الرجوع في العين، وإن لم ينقض، فينبني على أن الحجر يحل به الدين أم لا؟ فإن قلنا: إنه يحل به، ثبت له الرجوع عند الشيخ أبي حامد. وحكى الماوردي عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة: أنه لا رجوع له. وفائدة القول بالحلول: أنها لاتباع في حقوق الغرماء؛ بل تبقى محفوظة لبائعها إلى مضي المدة، فإن وجد المفلس وفاءً فذاك، وإلا فحينئذ يفسخ. قال القاضي أبو الطيب: وهذا ليس بصحيح؛ لأن الدين إذا حل فلا معنى لحبس العين على الأجل. وإن قلنا بعد الحلول فهل تباع ويصرف ثمنها لأرباب الديون الحالة، أو لا تباع وتجعل كالمرهونة بحق بائعها؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد، وأصحهما الأول، وبه قطع القاضي أبو الطيب. فإن قلنا به، فلو لم يتفق بيعها حتى حل الأجل ففي جواز الفسخ الآن وجهان. وإن قلنا بمقابله، وهو ما أشار إليه الشافعي في "الإملاء"، كما قال في "الاستقصاء"، واختاره في "المرشد"، وقال الإمام: إن المحققين زَّيفوه – فإن انقضى الأجل والحجر باقٍ ثبت حق الفسخ، وإن كان قد أطلق، ووفاه الثمن فذاك، وإن لم يوفه كان له حق الفسخ من غير تجديد حجر. وفي "النهاية" حكاية وجه: أنه لابد من تجديد الحجر، وإنه بعيد غير سديد.

ومن هذا الكلام يظهر لك أن الجحر لا يدام على المفلس؛ بسبب الدين المؤجل، ولو قبض بعض الثمن فالقديم: أنه لا رجوع له في العين، ويضارب مع الغرماء سواءٌ كان المبيع شيئاً واحداً أو متعدداً. واستدل له بحديث رواه مالك، عن الزهري، وهو مرسل. والجديد: أن له خيار الرجوع بقدر ما بقي له من الثمن؛ لأن الإفلاس سبب يعود به كل العين إليه، فجاز أن يعود [به] بعضه إليه؛ كالفرقة قبلا لدخول يرتد بها جميع الصداق إلى الزوج تارة بالردة، وبعضه [تارة] أخرى بالطلاق. فعلى هذا: إن كان المبيع عبداً واحداً أو عبدين، وقد قبض نصف الثمن – رجع في النصف مشاعاً، ولو تلف المعقود عليه فلا مضاربة إلا بالثمن، وعن رواية الشيخ أبي محمد وغيره وجه: أن له المضاربة بالقيمة إذا كانت أكثر؛ ليزداد ما يأخذه. ولو كان المبيع عبدين، فتلف أحدهما، ولم يقبض من الثمن شيئاً – فله أن يأخذ الباقي [بحصته من الثمن]، ويضارب بحصة ثمن التالف، بل لو بقي العبدان، وأراد أن يرجع في أحدهما، مُكِّن منه؛ كما لو رجع الأب في نصف ما وهبه. ولا فرق في ذلك بين أن يكون التلف بآفة سماوية، أوب فعل المشتري، أو بفعل أجنبي، كما صرح به في "التهذيب". والقيمة التي يوزع عليها الثمن أقل قيمة من حين العقد إلى حين القبض، صرح بذلك في "الاستقصاء". وعن القاضي أبي حامد، وأبي الحسين، وصاحب "التقريب": أن من الأصحاب من ذكر قولاً: أنه مخير بين أن يأخذ الباقي بجميع الثمن، أو يدع، وزُيِّفَ. ولو كان قد قبض نصف الثمن والصورة هذه، فالقديم: أنه لا رجوع له. وقد نص في الجديد على: أنه يرجع في الباقي إذا كانت قيمته مثل قيمة التالف،

ونص فيما إذا أصدق زوجته أربعين من الغنم، فأدت زكاتها شاة، ثم طلقها قبل الدخول – على قولين مع قول ثالث حكاه ابن الصباغ: أحد القولين: أنه يرجع في عشرين شاة، قال الأصحاب: وهو موافق لنصه في المفلس. والثاني: أنه يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة الشاة المخرجة. فمن الأصحاب من خرج من هذا قولاً إلى المفلس، وجعل مسألته على قولين: وأظهرهما: أن يأخذ الباقي بماله في مثالنا. والثاني – وهو اختيار المزني -: أنه يأخذ نصف العبد الباقي بنصف الباقي من الثمن، ويضارب الغرماء بنصفه. ومنه من قطع بالنص، وفرق: بأن الزوج إذا لم يرجع إلى عين الصداق، أخذ القيمة بتمامها، والبائع لا يأخذ الثمن؛ بل يحتاج إلى المضاربة، وزوال ملك المفلس الذي لا يتسلط على استرجاعه بمنزلة التلف فيما ذكرناه، وحيث يتسلط على استرجاعه، كما في القرض إذا كان باقياً في يد المقترض، أو في يد المشتري في زمن الخيار إذا قلنا بزوال الملك – يجوز للبائع استرجاعه كما هو للمفلس. قاله الماوردي. ولو عاد الملك بعد الزوال على وجه اللزوم، فإن كان بعد الحجر ففي "الاستقصاء" حكاية عن الصيمري في "الإيضاح" أنه: لا رجوع له. وغيره أطلق حكاية وجهين في جواز الرجوع، وأجراهما فيما لو خرج الموهوب عن ملك الولد ثم عاد، والصداق عن ملك الزوجة ثم عاد قبل الطلاق. لكن الأصح في مسألة الصداق عند الأكثرين: أن حق الزوج يتعلق به، [وبه] جزم في "المهذب" و"الشامل"، بخالف الهبة؛ لأن الرجوع في الهبة يختص بالعين، فاختص بذلك الملك، ورجوع الزوج لا يختص بالعين، بل يتعلق بالبدل، والعين العائدة أولى من بدل الفائت، ومقتضى هذا أن يكون الصحيح في مسألتنا عدم الرجوع كما في الهبة، وهو الذي اختاره في "المرشد"، وقد بنى الشيخ أبو محمد في

"السلسلة" الخلاف في هذه المسألة على الوجهين في رجوع [الواهب، والوجهين في رجوع الواهب على الوجهين في رجوع] الصداق إلى الزوج، والوجهين في الصداق على القولين فيما إذا قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، فباعه ثم اشتراه، ودخل الدار. قال الرافعي: ولك أن تقول: بناء الوجهين على القولين المنصوصين معقول، وأما بناء صورة من صورة الوجهين على أخرى مع استوائهما في المعنى، فليس بأولى من القلب والعكس. قلت: ليس ما ذكر مستوياً في المعنى؛ لأن في مسألة الصداق والهبة، [الفرق] بينهما ما ذكر، وفي مسألة الهبة والفلس – وإن تساويا في إثبات حَقِّ – الرجوعُ في العين لا غير، لكن البائع إذا منعناه من الرجوع ضارب بالثمن؛ [فلا يفوت مقصوده بالكلية، والواهب إذا منعناه من الرجوع] لم يرجع إلى شيء. ثم على القول بالرجوع: لو كان عوده إلى المفلس بسبب بيع يأتي، ولم يوف فيه الثمن أيضاً –ففي "الحاوي": أن البائع الثاني أولى، فإن ترك فهل للأول الرجوع؟ فيه وجهان، وفي طريقة المراوزة في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها – وهو الصحيح -: أن الحكم كما ذكرناه عن "الحاوي". والثاني: أن الأول أولى، مع عدم ترك الثاني. والثالث: أنهما يشتركان فيه نصفين. وعلى الصحيح: لو كان المفلس قد باعه، ثم اشتراه من ثالث، ولم يَنْقُدْه الثمن أيضاً – فالحق للثالث، فإن تركن فثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا حق لغيره. والثاني: أن الحق للثاني. والثالث: أن الأول والثاني يشتركان، ويكون بينهما نصفين. ولو كان البائعون أربعة، فالحق للرابع، فإن ترك فعلى الوجه: الأول لا حق لغيره،

وعلى الثاني: يكون الحق للثالث، فإن ترك فالحكم كما لو كان البائعون ثلاثة، وعلى الثالث: تكون بين الثلاثة أثلاثاً. قاله الماوردي، وصاحب "الاستقصاء". ولو كان المبيع صيداً، والبائع في حال الحجر مُحْرماً أو كافراً، والمبيع عبداً مسلماً، وقلنا: الكافر لا يشتري المسلم – لم يكن له الرجوع إلى عين المبيع، وضارب مع الغرماء بالثمن. كذا قاله مجلي. وقد يقال: حكيتم فيما إذا باع الكافر العبد المسلم بثوب، ثم اطلع على عيب به، هل له رد الثوب ليرجع إليه العبد المسلم؟ فيه وجهان؛ فكان يتجه أن يجريا هاهنا؛ لأن نقص الثمن أقمتموه مقام العيب، خصوصاً إذا قلنا: [إن] الخيار على الفور، وكذا الخلاف المحكي في صحة شراء المحرم الصيد، يتجه أن يجيء مثله هاهنا، فإن جوزنا الشراء جاز الرجوع، وإن لم نجوزه اتجه أن يتخرج على الوجهين – أيضاً – في رد الكافر بدل العبد المسلم بالعيب. قال: إلا أن يكون قد استحق بشفعة، أو رهن، أو جناية – أي: تعلقت برقبته، أو خلطه بما هو أجود منه – أي: مثل: أن [خلط صاع] حنطة قيمته درهم بصاع حنطة قيمته درهمان، أو مكيلة زيت قيمتها درهم بمكيلة زيت قيمتها درهمان، ونحو ذلك مما يجري فيه الربا، وهو من ذوات الأمثال، والدليل على امتناع الرجوع في الثلاثة الأُوَل: سبق تعلق حق الغرماء بها، وفي الرابعة: أنه تعذر عليه الرجوع إليها حقيقة وحكماً: أما حقيقة؛ فللاختلاط، وأما حكماً؛ فلأنه لو استرجع مكلة منه استفضل زيادة غير مستحقة، وأدخل بها على الغرماء مضرة، وإن أخذ من المكيلة بقدر ما يخصه بالقيمة، صار معاوضاً في مثالنا صاعاً بثلثي صاع، وذلك ربا، وإذا تعذر الرجوع إلى العين بطل حق البائع منها، وهذا هو الصحيح في المسائل كلها، وفي المسألة الأولى وجهان آخران: أحدهما: أن البائع أولى؛ فلا يتسلط الشفيع على الأخذ. والثاني: أن الشفيع يأخذ، ويخص البائع بالثمن. ثم هذا إذا حضر البائع والشفيع، وتزاحما على الأخذ، أما إذا لم يحضرا، وأخذ

البائع العين، فهل يستقر أخذه، أو للشفيع الانتزاع منه؛ تفريعاً على أنه أولى في نظير ذلك من الصداق؟ وجهان، ويتجه جريانهما هنا أيضاً. وفي المسألة الثانية: إذا كان بعض المرهون يوفي بما هو مرتهن به بيع منه بقدره، وثبت للبائع بعد فك الرهن في الباقي الرجوع فيه، وهكذا الحكم في العبد الجاني. ولو سقط الرهن، وأرش الجناية، ثبت للبائع حق الرجوع في الجميع صرح به الرافعي. وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه لا رجوع له في المرهون، ولا في العبد الجاني، وهو يشابه وجهاً محكيًّا في الهبة: [أنه لا رجوع للواهب فيما وهبه، إذا كان الموهوب له قد رهنه، ثم زال الرهن، ويتجه أن يجيء الوجه الذي حكاه مجملي في الهبة] أيضاً: أنه يجوز له الرجوع في حال الرهن، ويكون موقوفاً، لكن مع التقييد بما إذا أبرأ البائع المفلس من ضمان العين لو تلفت، وصححنا هذا الإبراء، كما هو وجه محكي على هذا النعت في "الوسيط" وغيره، فيما إذا طلق الزوج قبل الدخول، وكان الصداق مرهوناً. وفي المسألة الرابعة قول: أن للبائع حق الرجوع، واختاره المزني، لكن في كيفية الرجوع قولان. وقيل: وجهان: أصحهما: أن ذلك يباع، ويأخذ البائع في مثالنا ثلث الثمن، ويقسم على الغرماء الثلثان، وهذا ظاهر ما نقله المزني، على ما حكاه ابن الصباغ. والثاني: أنه يعطي من المختلط ثلثه. قال الماوردي: وهذا ظاهر كلام الشافعي، وهو في "الرافعي" محكي عن رواية الربيع والبويطي، ثم قال: وربما يخرج هذا الخلاف على أن القسمة بيع أو إقرار؟ إن قلنا بالأول لم يقسم عين ذلك، وإن قلنا بالثاني فيجوز. [وما ذكره فيه نظر؛ لأن المبيع كان إردبًّا فيستحيل أن نقول: تبينًّا بالقسمة أنه كان ثلثي إردب، والله أعلم].

تنبيه: تقييد الشيخ امتناع الرجوع في مسألة الخلط بما إذا كان خلطه بالأجود يفهم انه إذا خلطه بمثله أو بما [هو] دونه: أن الرجوع لا يمتنع، وهو كذلك على الصحيح، وادعى ابن الصباغ أن المذهب لا يختلف فيه؛ لأن عين ماله موجودة من جهة الحكم، بخلاف ما إذا خلط بالأجود. لكنه إذا خلط بالمثل قسم المال بينهما بالسوية، فإن لم يطلب القسمة، ولكن طلب البائع البيع، فهل يجبر عليه المفلس؟ فيه وجهان. وإذا خلط بالأردأ إن رضي البائع بأخذ مكيلته منه، فلا كلام، وإن لم يرضَ فوجهان: أحدهما – وهو الصحيح -: أنه ليس له إلا ذلك إن رجع، وله المطالبة بالبيع وجهاً واحداً، كما هو في "الشامل" و"الحاوي". والثاني: أن ذلك يباع، فإذا كانت قيمة المبيع درهمين، وقيمةُ المخلوط به درهمٌ؛ دُفِعَ للبائع الثلثان من الثمن، وهذا قول أبي إسحاق، وقد خرج بعض الأصحاب فيما إذا خلط المبيع بمثله أو بما دونه قولاً مما إذا خلطه بالأجود: أنه لا يثبت للبائع حق الرجوع، وأيد بأن الحنطة المبيعة إذا انثالت عليها حنطة أخرى قبل القبض انفسخ العقد على قولٍ؛ تنزيلاً له منزلة التلف، والقائلون بالصحيح قالوا: الملك قبل القبض غير مستقر؛ فلا يمتنع تأثره بما لا يتأثر به الملك المستقر. قلت: والظاهر صحة التخريج [عند الخلط بالمثل]، ويؤيده أن الصحيح عند أبي الطيب الطبري، والظاهر من نص الشافعي فيما إذا خلط المغصوب بالمثل: أن الغاصب مخير بين أن يدفع إليه منه أو من غيره، ولولا [أنه] كالمفقود لما خيره. ولو خلط الزيت بالشريج، ودقيق القمح بالشعير ونحو ذلك؛ فلا رجوع له في عين المبيع، وهل يسقط حقه من ثمنه بعد اختلاطه؟ على وجهين، أحدهما – وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أن حق البائع لا يبطل فيباع الجميع، ويدفع للبائع ما قابل ثمن [الزيت، وإلى غرماء المفلس ما قابل ثمن] المخالط، كذا قال الماوردي. وأبدى الإمام احتمالاً في جواز الرجوع، قال: سيما على قولنا: إن فائدة الرجوع فيما إذا

خلط بجنسه بيع المخلوط، وقسمة الثمن. فروع: لو كاتب المشتري المبيعَ امتنع على البائع الرجوع، وإن أجره لم يمتنع. كذا قال الرافعي وغيره، وهو في الإجارة جواب على جواز بيع المستأجر، وألا فهو كالمرهون، كما صرح به المتولي، وكذا يظهر أن يكون ما قيل من منع الرجوع في المكاتب جواباً على منع بيع المكاتب، أما إذا قيل بجواز بيعه فيظهر جواز الرجوع، كما قال الأصحاب في أن الواهب يمتنع رجوعه في الموهوب إذا كاتبه الموهوب له، وقلنا بعدم جواز بيعه، وبصحة الرجوع إذا جوزنا البيع، لكنهم قالوا في البيع: يبقى مكاتباً في حق المشتري إذا جوزنا البيع على الصحيح حتى يعتق بأداء النجوم إليه، كما ذكرناه في باب: ما يجوز بيعه، ومثل هذا في الرجوع فيه احتمال؛ من حيث إن الرجوع يعتمد رقبة العبد؛ فيكاد أن يكون رجوعاً في نجومه؛ فلذلك جزموا بعدم الرجوع. ويشهد لما ذكره المتولي في الإجارة أن الإمام حكى عن شيخه أن الطلاق إذا وقع قبل الدخول، والصداق مستأجر: أنه لا يرجع إلى عينه إذا منعنا بيع المستأجر، واختاره. وكذلك قال الأصحاب فيما إذا وقع التحالف والعين المبيعة مستأجرة.

ثم على المذهب في المكاتب: لو انفسخت الكتابة، فهل له الرجوع فيه؟ فيه طريقان: أحدهما: إجراء القولين في زوال الملك وعوده. والثاني: القطع بجواز الرجوع، وهذا [هو] الذي يتجه الجزم به فيما إذا رجع في العين المستأجرة. وإذا رجع في العين المستأجرة قال الأصحاب: لم تنفسخ الإجارة، والأجرة للمفلس تقسم على الغرماء. وسكتوا عن رجوع البائع على المفلس بها، وكذلك في مسألة الصداق، وقالوا في مسألة التحالف: إن البائع يرجع على المشتري بأجرة المثل لما بقي من المدة، والذي يظهر: عدم جريان مثل ذلك في مسألتنا وفي الصداق؛ من حيث إن الإجارة عيب جرى في يد المشتري والزوجة، ولهما مندوحة عنه بالرجوع في الصداق إلى القيمة، وفي مسألتنا إلى الثمن، وفي مسألة التحالف تعين حقه في العين؛ فلذلك طالب بالأجرة. واعلم أنه لا فرق فيما ذكرناه بين ألا يرضى الغرماء بتقديم صاحب العين بثمنها، أو يرضوا؛ لاحتمال ظهور غريم آخر، وما في ذلك من المنة على البائع، ويشبه أن يكون الخلاف المذكور في جواز الرجوع في العين عند مساواة الديون المال حيث جوزنا الحجر، وفيما إذا ضمن له الثمن ضامن بغير إذن المفلس، وفيما إذا أعير منه شيء؛ ليرهنه بالدين، فرهنه – مأخذُهُ ما ذكرناه. فعلى العلة الأولى: يكون له الرجوع عند مساواة الديون المال، ولا رجوع له عند وجود الضامن والرهن. وعلى الثانية: ينعكس الحال؟ ولو كان الضامن قد ضمن بإذن المفلس. قال في "التتمة": ليس له الرجوع. وقد حكى الرافعي فيما إذا قدم الغرماء البائعَ بالثمن وجهاً: أنه يمتنع عليه الرجوع. قال: وإن نقصت العين – أي: عن الحالة التي وقع عليها العقد – بفعل

مضمون – أي: مثل أن جنى عليها أجنبي، أو البائع – رجع فيها، وضرب مع الغرماء بقدر أرش النقص [من الثمن – أي: إن شاء، ويكون [أرش] النقص] للمفلس، مقدراً كان أو غير مقدر، وإن شاء ضرب مع الغرماء بالثمن: أما وجه جواز رجوعه في العين فما ذكرناه. وأما وجه [جواز] رجوعه بالأرش؛ فلأن المشتري أخذ بدل النقصان الذي كان البائع يستحقه لو بقي؛ فلا يحسن تضييعه عليه. وأما وجه اعتبار ذلك من الثمن لا من القيمة: لأن الكل لو ذهب لم يضارب إلا بالثمن؛ لكون التالف تلف في ملك المفلس؛ فكذلك النقص. هذا هو المشهور. وفي "الحاوي": أن محل مضاربة البائع بقدر أرش النقص إذا كان المفلس قد قبضه، وتلف في يده، فلو لم يقبضه، وكان باقياً في ذمة الجاني – فلا يأخذه المشتري، وللبائع أن يختص بأخذه، ولا يشاركه الغرماء فيه؛ لأنه بدل من عين ماله الذي تفرد باسترجاعها. أما إذا نقصت العين بآفة سماوية نظر: إن كان نقصان صفة، وهو نقص ما لا يمكن إفراده بالعقد: كاليد، والرجل، والحرفة، ونحو ذلك – فليس للبائع إلا الرجوع في العين من غير أرش، أو المضاربة بكل الثمن. وفي كتاب القاضي ابن كجٍّ: أن من أصحابنا من أثبت قولاً: أنه كالنقص بالفعل المضمون. وإن كان نقصان جزء، وهو نقص ما يمكن إفراده بالعقد، وقد وقع عليه العقد مقصوداً. كأخذ الثوبين والعبدين –فقد تقدم الكلام فيه، وما دخل في العقد ضمناً كالثمرة غير المؤبرة، هل يلحق بالجزء، حتى إذا تلفت بالآفة السماوية ضارب بقسطه أم لا؟ فيه وجهان في الحاوي وغيره، مع الجزم بأن المشتري إذا أتلفها ضارب البائع

بقسطها، وقال المحاملي: إن أصل الوجهين أن الثمرة غير المؤبرة هل يقابلها قسط من الثمن أم لا؟ ولو نقصت العين بفعل المشتري نقصان صفة، فطريقان: أصحهما عند الإمام: أن ذلك بمنزلة فعل الأجنبي. والثاني – وهو ما حكاه الماوردي -: أن فيه وجهين، وغيره قال: فيه قولان: أحدهما: ما حكيناه أولاً. وأصحهما – وهو المذكور في "الشامل"، وغيره من كتب العراقيين، وفي "التهذيب" -: أنه كالآفة السماوية. فروع: انهدام الدار، وغرق بعض الأرض، حكى الماوردي فيه ثلاث طرق: إحداها: أن في ذلك قولين: أحدهما: أنه نقص صفة. والثاني: أنه نقص جزء. وهذه طريقة أبي الطيب بن سلمة، وأبي حفص بن الوكيل. والثانية: القطع بالقول الأول. والثالثة – وهي طريقة أبي إسحاق المروزي -: حمل اختلاف ما روي عن الشافعي على حالين: فرواية المزني وحرملة: أنه يأخذه بكل الثمن إذا كانت الآلة بعد الهدم باقية. ورواية الربيع والبويطي: أنه يأخذه بحسابه وقسطه من الثمن إذا كانت بعد الهدم تالفة، وهذا يدل على إجراء الخلاف [المذكور أولاً] فيما إذا ذهب بعض النقص، [أو لم] يذهب منه شيء، وقد جزم الرافعي فيما إذا لم يهذب من النقص شيء أنه نقصان صفة، وأن الأصحاب ألحقوا به إحراق سقف الدار. [وإن لك أن تقول: وجب أن يطردوا الخلاف المذكور في تلف سقف الدار] المبيعة قبل القبض أنه كالعيب، أو كتلف أحد العبدين.

نقصانُ الزيت بالعرض على النار، وكذا العصير مثل أن كان أربعة أرطال فعاد إلى ثلاثة – نقصان جزء أو صفة؟ فيه وجهان: أصحهما في الزيت: الأول؛ فيضارب في مثالنا بربع الثمن. وإذا قلنا بمقابله، وكانت قيمة العصير ثلاثة دراهم، فعادت بعد النقص إلى درهمين، كان له أن يرجع فيه، ولا شيء له، وإن بقيت قيمته بعد ذلك أربعة دراهم فله الرجوع، والقدر الزائد هل يفوز به؟ ينبني على أن الزيادة بالصفة عين أم أثر؟ إن قلنا بالثاني فاز بها، وكذا إن قلنا بالأول عند القفال، وعند غيره: يصير المفلس شريكاً للبائع بقدر الزيادة، وهو الربع في مثالنا. ولو كانت القيمة بعد النقص ثلاثة دراهم، وقلنا: إن الزيادة عين، فعند القفال: هي للبائع، وعند غيره: يصير المفلس شريكاً له بثلاثة أرباع درهم؛ لأن هذا القدر هو قسط الرطل الذاهب، وهو الذي زاد بالطبخ في الثاني. فائدة: حكى الإمام عن صاحب "التلخيص" فيما إذا كان وزن العصير عشرة، فاشتراه بعشرة، وهو يساويها، ثم صار ونزه بعد الغلي ثمانية، وقيمته سبعة – أنه يرجع في العين، ويضارب الغرماء بقدر نقصان القيمة، وقدر النقصان ثلاثة، وأنه علله بأن قال: ليس ما حدث مجرد نقصان صفة؛ بل انضم إليه نقصان العين. ثم قال: وهو خطأ. والصواب أن يقول: قد نقص بالنار خمس المبيع؛ فهو كما لو نقص بانصباب أو غيره من أسباب الضياع، فرجع [في الرُّبِّ إن شاء]، وإلا حُط له في مقابلة الدرهم الناقص من القيمة؛ فإن العين باقية في الأربعة الأخماس وزناً وقدراً، ويضارب بخمس الثمن، وهو درهمان. قلت: وما قاله صاحب "التلخيص" تظهر صحته؛ لأن درهمين من النقص حصلا بسبب نقصان الجِرْم، كما ذكره الإمام، وهو يفهم من كلام صاحب

"التلخيص" –أيضاً – والدرهم الآخر، [كلام صاحب "التلخيص" يرشد إلى أنه بسبب نقصان الصفة]؛ فإن صفة العصير تغيرت بالعرض على النار. وقد تقدم أن الأصح عند الإمام فيما إذا حصل نقصان الصفة بفعل المشتري أنه كالحصول بفعل الأجنبي، ولو حصل نقصان الصفة بفعل أجنبي ضارب به البائع قولاً واحداً؛ فكذلك في هذه الصورة؛ لأن النقص حصل بفعل المشتري، والله أعلم. قال: وإن زادت زيادة متميزة كالولد والثمرة – أي: إذا حدث ذلك، وانفصل في ملك المفلس، رجع فيها دون الزيادة؛ لأن الزيادة حدثت على ملك المفلس، فسلمت له، كما في الرد بالعيب؛ ولأنها غير مبيعة والبائع إنما يثبت له الرجوع في المبيع. ثم لا فرق في جواز الرجوع في الأم دون الولد بين أن يكون آدميًّا في سن يجوز التفريق فيه بينه وبين أمه أو لا، نعم إذا كان في سن لا يجوز فيه التفريق حكى العراقيون وجهين: أحدهما: أن الجارية تباع مع الولد، ويفوز البائع بثمنها، وهذا هو الأصح في الشامل، وغيره. والثاني: أنه لو بذل قيمة الولد كان له الرجوع فيها وسلِّما له، وألا فلا حق له في الرجوع. وأبدى الرافعي في هذه المسألة مباحثة، وهي أنا ذكرنا وجهين فيما إذا وجد الأم معيبة، وهناك ولد صغير: أنه يترك الرد، وينتقل إلى الأرش، أو يحتمل التفريق للضرورة، وفيما إذا رهن الأم دون الولد: أنهما يباعان معاً، أو يحتمل التفريق، ولم يذكروا فيما نحن فيه احتمال التفريق، وإنما احتالوا في دفعه؛ فيجوز أن يقال: يجيء وجه التفريق أيضاً هنا، لكنهم لم يذكروه اقتصاراً على الأصح. ويجوز أن يفرق بأن مالا لمفلس مبيع كله، مصروف إلى الغرماء؛ فلا وجه لاحتمال التفريق، مع إمكان المحافظة على جانب الرجوع، وكون ملك المفلس مزلزلاً. وما قاله من أن الوجه المذكور في الرهن لم يذكره أحد هنا قد حكاه الماوردي حيث قال: من أصحابنا من جوز التفرقة بينهما للضرورة، مثل ما قيل في التفرقة

بينهما في الرهن، وقد أشار إليه الإمام – أيضاً – في كتاب السير بقوله: إنهم جوزوا الرجوع في الأم للضرورة، وصرح به الشاشي في "حليته"، وابن يونس في شرح هذا الكتاب، أما إذا اشتراها وهي حامل، ثم وضعت قبل الفلس، أو اشترى النخل والثمرة غير مؤبَّرة، ثم آبِّرت قبل الفلس – فله الرجوع في الجارية والنخل، وهل له الرجوع في الولد والثمرة إذا كانا موجودين؟ فيه قولان، لكن القولان في جواز الرجوع في الثمرة مرتبان على القولين في الولد، وأولى بالرجوع؛ لأنها مقصودة في نفسها، بدليل جواز إفرادها بالبيع على المذهب، بخلاف الحمل. وقد وجه الإمام وجه الرجوع في الولد بأنه كان موجوداً عند البيع؛ فأشبه الأم، ومقابله: بأنه كان صفة عند العقد غير موثوق بها، وهو الآن عبد مملوك مستقل بنفسه؛ فقدرنا كأنه وجد جديداً بعد البيع. ثم قال: وقد بنى الأصحاب الخلاف على أن الحمل [هل يعرف أم لا؟ وما ذكرته مع ضعفه أولى من كون الحمل] مجهولاً؛ فإنا إن شككنا في الحمل حالة اجتنانه، فإذا انفصل لما دون ستة أشهر، لم نشك بعد انفصاله في كونه موجوداً عند العقد. وحيث قلنا بجواز الرجوع في الولد والثمرة عند الوجود، فلو كانا مفقودين فالذي حكاه الماوردي في الولد: أن البائع يضارب بقيمته حملاً في بطن أمه حين القبض؛ لأنه بعد الولادة أكثر ثمناً، وكثرة ثمنه حادثة في ملك المشتري؛ فتقوَّم الأم حاملاً؛ فإنا إن شككنا في الحمل حالة اجتنانه، فإذا انفصل لما دون ستة أشهر، لم نشك بعد انفصاله في كونه موجوداً عند العقد. وحيث قلنا بجواز الرجوع في الولد والثمرة عند الوجود، فلو كانا مفقودين فالذي حكاه الماوردي في الولد: أن البائع يضارب بقيمته حملاً في بطن أمه حين القبض؛ لأنه بعد الولادة أكثر ثمناً، وكثرة ثمنه حادثة في ملك المشتري؛ فتقوَّم الأم حاملاً، ثم حائلاً، وما بينهما يعطي للبائع من الثمن. ولو كانت الزيادة غير متميزة: كسمن الجارية، وطول النخلة، وطيب الثمرة، فلا خلاف في جواز الرجوع فيها، بخلاف الصداق، [وستقف على ما قيل بينهما من الفرق في كتاب الصداق]. ولو كان المبيع بذراً فزرعه، فصار حبًّا، أو بيضاً فصارت فرخاً، أو عصيراً فصار خمراً، ثم خلاًّ، فهل له الرجوع فيه؟ [فيه] وجهان: أصحهما عند العراقيين وصاحب "التهذيب": أن له الرجوع.

وعند القاضي أبي الطيب، وابن كجٍّ، والغزالي: مقابله، وهو الذي جعله المتولي المذهب. ولو اشترى زرعاً أخضر مع الأرض، ثم أفلس وقد اشتد الحب – حكى العراقيون ترتيبه على الخلاف السابق، وأنه أولى بالرجوع، وقد حكى الرافعي فيها طريقين: أحدهما: القطع بالرجوع. والثاني: طرد القولين، وهما يؤخذان مما ذكرناه. قال: وإن كانت الزيادة طلعاً غير مؤبرة، ففيه قولان: أحدهما: يرجع فيها مع الطلع؛ لأنه يتبع الأصل [في البيع]، فيتبعه في الفسخ كالسمن والكبر، وهذا ما رواه المزني وحرملة، وقال الإمام: إنه الظاهر. والثاني: يرجع فيها دون الطلع؛ لأن الطلع ليس عين ماله، فلم يرجع فيه، وهذا ما رواه الربيع، وقد روى الرافعي طريقة جازمة به، وهي تؤخذ مما قاله الإمام أن هذا الخلاف مرتب على الخلاف الآتي في مسألة الحمل، وأولى بألا يرجع فيه، وحكم غير النخل من الأشجار إذا رجع فيها البائع وقد أثمرت في يد المشتري، يظهر لك من باب بيع الأصول والثمار، كما صرح به الأصحاب. فرع: إذا جوزنا الرجوع في الطلع، فلم يتفق حتى أبر، سُلِّم للمفلس وفاقاً، ولو رجع البائع ووجد الطلع مؤبراً، واختلف في أنه أبر قبل الرجوع أو بعده، نظر: إن ادعى المشتري أنه رجع بعد التأبير، وأن الثمرة التي هي الطلع غير تابعة، وصدقه الغرماء – فالقول قوله مع يمينه؛ فيحلف: إنه لا يعلم أن البائع رجع قبل التأبير، قال الإمام: ولا يتأتى تحليفه ما لم يدع عليه العلم بتقدم رجوعه على وقوع التأبير، فلو صدقه البائع على عدم العلم [بذلك لم يحلف، وحكى عن المسعودي تخريج قول: أن المفلس لا يحلف، وإن لم يصدقه البائع على عدم العلم]؛ بناءً على أن النكول وردَّ اليمين كالإقرار، وأنه لو أقر لما قبل إقراره، وعن أبي الحسين أن بعضهم ذكر قولاً: أن القول قول البائع، لأنه أعرف بتصرفه، وعلى المذهب لو نكل المفلس عن اليمين، فهل يحلف الغرماء، أو ترد على البائع؟ فيه طريقان، يأتي

مثلهما في المسألة التي في آخر الباب. فإن قلنا: إنهم يحلفون، فحلفوا، قسم ذلك بينهم. وإن نكلوا، أو قلنا: إنهم لا يحلفون، فيحلف البائع: فإن نكل فهو كحلف المفلس، وإن حلف، قال الإمام والرافعي: انبنى ذلك على أن يمين الرد مع الحلف بمنزلة الإقرار أو البينة؟ إن قلنا بالثاني استحق، وإن قلنا بالأول؛ ففي استحقاقه قولان؛ كما لو أقر له المفلس ابتداءً، وأنكر الغرماء، فإن لم يسلمها له كانت فائدة يمينه أنها لو فصلت سلمت إليه. وما قالاه ظاهر فيما إذا قلنا: إن الغرماء لا يحلفون، أما إذا قلنا: إنهم يحلفون، فنكلوا، فالذي يجب القطع به: استحققا البائع للثمرة، كما صرح به الماوردي وغيره؛ لأنا إذا قلنا: إن ذلك بمنزلة الإقرار، فالمفلس والغرماء لو أقروا سلمت الثمرة له بلا خلاف. ثم إذا لم تسلم الثمرة للبائع بيمينه بعد نكول المفلس، وقولنا: إن الغرماء لا يحلفون – فهل للبائع طلب يمينهم على عدم العلم برجوعه قبل التأبير؟ فيه طريقان: أحدهما: القطع بأنهم يحلفون. والثاني: في المسألة قولان: فإن حلفوا سلمت الثمرة إليهم. وإن نكلوا ردت اليمين على البائع مرة أخرى، وحلف واستحق. ولو حلف بعض الغرماء، ونكل البعض استحق الحالف بيمينه بقسط دينه من الثمرة، واختص به دون من لم يحلف، وحلف البائع على الباقي واستحقه، ولو صدق المفلس البائع في رجوعه قبل التأبير، وكذبه الغرماء، فهل القول قول المفلس أو الغرماء؟ فيه قولان: فإن قلنا: قول المفلس، لم يحلفه، صرح بذلك الماوردي. وكان يتجه أن يتخرج حلفه على الخلاف في تحيف الراهن إذا أقر بجناية العبد المرهون. وإن لم يقبل قول المفلس، قال ابن الصباغ: فهو كالناكل؛ فيحلف الغرماء على أحد القولين، وبه قطع بعضهم، وهو الذي جزم به الماوردي، فإذا حلفوا قسمت

بينهم، وثبتت في ذمة المفلس للبائع، وعلى القول الآخر يحلف البائع. ولو صدق الغرماء البائع، وكذبه المفلس، فالقول قوله أيضاً، وليس للغرماء بعد حلفه طلب توفية الثمرة في ديونهم. قال الرافعي: وليس للمفلس التصرف فيها؛ لمكان الحجر، واحتمال أن يكون له غريم آخر، وللمفلس إجبارهم على قبول الثمرة عن حوقهم إن كانت من جنس حقوقهم، أو الإبراء، كذا أطلقه الماوردي. وفي "النهاية": أن هذا فيما إذا قالوا: له مال آخر، وأبوا فك الحجر عنه، وأنهم إذا أجابوا إلى فك الحجر، أو اعترفوا أنه لا مال له سوى ما قسم بينهم، ففي الإجبار الخلافُ المذكور في الدين الحال، وقد ذكرته في السلم. وفي "المشاكل" أطلق حكاية الخلاف عن الأصحاب في الإجبار، والظاهر – كما حكاه غيره -: الإجبار. وإذا قبضوا الثمار وجب عليهم ردها إلى البائع، بخلاف ما لو كانت من غير جنس حقوقهم وبيعت، وصرف ثمنها إليهم؛ فإنه لا يجب عليهم رده إلى البائع، وعليهم رده على المشتري، فإن لم يأخذه فهو مال ضائع، وفي "الحاوي" حكاية وجه: أن الغرماء إذا قبضوا ثمن الثمرة [وجب عليهم رده إلى البائع صاحب النخل. ولو امتنع الغرماء من قبض ثمن الثمرة]، قال المتولي: الحكم فيهم كالحكم في الذمي إذا باع الخمر والخنزير، وجاء بثمنه إلى مسلم ليقضيه دينه، [والنقل في هذه المسألة] – كما صرح به هو وابن الصباغ وغيرهما في كتاب الرهن –حكاية وجهين، وعللا وجه الإجبار على القبض أو الإبراء: بأن أهل الذمة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة جرى مجرى الصحيحة، وفي "الوسيط" في كتاب الشفعة: أن الذمي إذا أحضر إلينا ثمن خمر شاهدناه عن الجزية لم نقبلها منه. وإن لم نره واعترف به؛ ففيه وجهان، وجه الجواز: أنه لا اعتماد على قولهم. ولم يظهر لي فرق بين المسألتين؛ فينبغي أن يكون الحكم فيهما واحداً عن مسألة

الدين ومسألة الجزية، وأما مسألتنا: فعندي إلحاقها بما إذا أقر المرتهن بجناية العبد المرهون، وأنكر الراهن وباع العبد، وأراد إجبار المرتهن على قبض حقه منه أو الإبراء – أشبه، والحكم في هذه الصورة كما ذكره المتولي: الإجبار. ووجه الشبه: أن الشرع يحكم بصحة التصرف ظاهراً في الموضعين، والله أعلم. ولا نزاع في أن للغرماء أن يشهدوا للبائع، وليس لهم أن يشهدوا للمفلس. قال الرافعي: وأحسن بعض الشارحين حيث حمل شهادتهم للبائع على ما إذا شهدوا قبل تصديقه، ولو صدق المفلسَ بعضُ الغرماء والبائع البعض، فللمفلس تخصيص مصدِّقه بالثمار. ولو أراد قسمتها على الكل فوجهان: قال أبو إسحاق: له ذلك. قال أبو إسحاق: له ذلك. وقال الأكثرون: لا، كذا حكاه الماوردي وابن الصباغ والرافعي، وفيه نظر؛ من حيث إن الذي يتولى القسمة الحاكم، وكذلك فرض الإمام الكلام فيه. ولو لم يفِ ما حصل للمصدقين بديونهم، فيضاربوا سائر الغرماء ببقية ديونهم؛ مؤاخذة لهم بزعمهم، أو بجميع ديونهم؟ فيه وجهان، أصحهما – وهو المنصوص – الأول. قال: وإن كانت الزيادة حملاً لم ينفصل، ففيه قولان: أصحهما: أنه يرجع فيها مع الحمل. والثاني: يرجع فيها دون الحمل. وتوجيههما ما ذكرناه، وقد بناهما الماوردي وغيره على أن الحمل هل يقابل بالثمن أم لا؟ إن قلنا: لا، أخذها حاملاً. وإن قلنا: نعم، كان له الرجوع في الأم، ولا حق له في الولد. وفي الرافعي على هذا حكاية وجه: أنه يرجع فيه أيضاً. ثم قال: وقضية هذا البناء أن يكون الصحيح القول الثاني، وكذلك ذكر بعض شارحي "المفتاح"،

والأكثرون على ترجيح القول الأول. واعلم: أن كلام الشيخ مصرح بجواز الرجوع في الجارية في الحال على القولين، وهو قول الشيخ أبي حامد، فتوضع الجارية على يد عدل إذا قلنا: إنه لا يرجع في الحمل، وتكون نفقتها على البائع مالك الأم دن المفلس مالك الحمل، سواء قلنا: إن النفقة تجب لها، أو للحامل، كذا قال الماوردي، وفي "الشامل" أنا إذا قلنا: إن الحمل يسلم للمفلس؛ لم يكن له الرجوع في الأمة؛ لأن الولد كالزيادة المنفصلة؛ فلا يمكن الرجوع فيها، ولا يمكن الرجوع في الأصول دون الحمل. وظاهر هذا يقتضي منع الرجوع مطلقاً، وقال الصيدلاني وغيره، -وهو المحكي [في "التتمة"]-: إن البائع على هذا القول يصير إلى انفصال الولد، ولا يرجع في الحال. ثم الاحتراز من التفريق بين الأم والولد بعد الوضع طريقُهُ ما مر، وقد ذكرت طرقاً فيما يستتبع الحم والثمرة من العقود والفسوخ جزماً، وما هو مختلف فيه في باب ما يجوز بيعه فليطلب منه. قال: وإن زادت قيمة العين بِقصَارةٍ أو طحن رجع في العين - أي: إن اختار - لما ذكرناه، وكنت الزيادة للمشتري؛ لأنها حصلت بفعل متقوم فجزم بجواز إفراده بعقد الإجارة؛ فجرت مجرى الأعيان. ونقل عن الشافعي قول آخر، واختاره المزني: أن الزيادة للبائع؛ لأنها لا تتميز فأشبهت السمن، ولان القصارة تزيل وسخ الثوب، وتكشف عما فيه من البياض، والطحن تفريق أجزاء مجتمعة فأشبه كسر الجوز. وهذا الخلاف يعبر عنه الفقهاء بأن القصارة والطحن يسلك بهما مسلك العين [أو الأثر، والصحيح أنها كالعين] كما حكاه الشيخ. التفريع: إن قلنا بما رجحه المزني كان للبائع حق الرجوع، زادت القيمة أو نقصت، ولا شيء له عند النقص بسبب ذلك؛ كما لا يغرم شيئاً عند الزيادة، وتكون أجرة الصانع

في مال المفلس، وعن صاحب "التلخيص": أن على البائع أجرة القصار، وغلطه الأصحاب. ولك أن تقول: قد قدمتم حكاية خلاف فيما إذا حصل في العين نقصان صفة بفعل المشتري أن ذلك يلحق بالآفة السماوية أو بالفعل المضمون؛ فيتجه أن يجيء مثله هنا إذا نقصت القيمة. وإن قلنا بالثاني – كما حكاه الشيخ – فإذا كانت قيمة العين قبل العمل عشرة، وبعده خمسة عشر بسبب العمل، لا لارتفاع الأسواق – فقد صار المفلس شريكاً للبائع إذا رجع بثلث العين، ولا تسلم إلى واحد منهما، بل توضع على يد عدل حتى تباع، ثم ينظر: فإن كان المفلس هوا لذي قصر الثوب وطحن الحب بيعت العين، وسلم للبائع ثلثا الثمن، ولغرماء المفلس الثلث. وإن كان الذي قصر وطحن أجيراً؛ نظر: فإن كانت الأجرة قدر الزيادة رجع فيها الأجير، وصار شريكاً للبائع في العين في ثلث ثمنها. وإن كانت الأجرة أكثر من الزيادة، مثل أن كانت عشرة، كان الأجير شريكاً للبائع في العين في ثلث ثمنها، ويضارب بما بقي له من الأجرة، وهو خمسة، وللبائع الثلثان. وإن كانت الأجرة أقل من الزيادة، مثل أن كانت درهمين ونصفاً صار الأجير شريكاً للبائع في الثمن بالسدس، وللبائع الثلثان، وللمفلس السدس يقسم على غرمائه. وهذا ملخص ما قاله الماوردي والإمام. وفي "الشامل" و"التهذيب": أن للبائع أن يمسك المبيع، ويمتنع من بيعه، ويبذل للمفلس ما زاد فيه بسبب العمل. ومنع المتولي منه؛ لأن الصفة [لا] تقابل بعوض. فإن قيل: إن جعلتم الأجير كالواجد لعين عمله حتى يقدَّم بما يقابله عند تساوي

الزيادة والأجرة على الغرماء؛ فينبغي أن يعطي ذلك إذا كان زائداً، ولا يضارب مع الغرماء بتمام أجرته عند نقص الزيادة عنها. قلت: قد حكى الغزالي أن بعض الأصحاب [قال به، وطرد القياس، لكن المنصوص الأول. وقد ادعى الرافعي أن ما حكاه الغزالي عن بعض الأصحاب] لم يعثر عليه لغيره، لكن ذكر ابن كج أن أبا الحسين خرَّج وجهين في أنه لو قال الغرماء للقصار: خذ أجرتك، ودعنا نكون شركاء صاحب هذا الثوب – هل يجبر عليه؟ وأن الأصح: الإجبار، وعلى هذا القياس على البائع إذا قدمه الغرماء بالثمن. وقد أجاب الماوردي عن عدم أخذه الزيادة: بأنه أسقط حقه منها؛ حيث رضي بالأجرة المقررة. وعن كونه يضارب بما نقص: بأنه لما لم يستحق الزيادة، وجب ألا يحسب عليه النقصان. والذي أجاب به الإمام: أنه جعل حق المستأجر من العين كحق المرتهن من الرهن، وقد سبق أن الحكم في المرهون على هذا النحو. وما قاله ظاهر إذا كانت العين في [يد المستأجر]؛ بناءً على أن للبائع حق الحبس، أما إذا كان قد سلم العين إلى المفلس ففي جعله كالمرهون نظر، وإلى ما حكاه الإمام أشار الغزالي بقوله: فله حق حبس الثوب. يريد: على سبيل الوثيقة. وقد فهم الرافعي من ذلك أن المراد به: إذا كان الثوب في يد القصار كان له حبسه إلى استيفاء الأجرة؛ فلأجل ذلك قال: ولا تعلق له بالمفلس. وقد حكى الإمام بعد ما حكيناه أن في هذه المسألة غلطتين للأصحاب: أحداهما: أن شيخه قال: إذا كانت قيمة الثوب عشرة، والأجرة درهماً، والثوب بعد القصارة يساوي خمسة عشر، فاشتراه راغبٌ بثلاثين- أن للبائع عشرين، وللقصار درهمين، وللمفلس ثمانية. فإن مقتضى ما ذكر من تشبيه تعلق [حق] القصار بالثوب بالمرتهن ألا يعطي القصار إلا درهماً، وأن الوجه القطع به. والغلطة الثانية: أن الأصحاب قالوا في التفريع على أن القصارة عين: يفسخ

القصار العقد، ويرجع إلى القصارة، ثم فصلوا المذهب كما ذكرناه. ولو كان الأمر كما ذكروا لاستحق القصار [الأجرة] بكمالها بالغة ما بلغت. قلت: ولعل ما حكاه الغزالي عن بعض الأصحاب أخذه من هاهنا. واعلم: أن الحكم في الخياطة بخيط من نفس الثوب، والصباغة، والنجارة، والبناية، وذبح الشاة، وشي اللحم، وخبز العجين، ونسج الثوب – ملحق بما ذكرناه، وقد الحق ابن سريج، وصاحب "التلخيص" وأبو محمد به – أيضاً – تعليم العبد الحرفة، والقرآن، والكتابة، والشعر المباح، ورياضة الدابة. [وذهب] أبو إسحاق، وابن أبي هريرة، وابن القطان إلى أن هذه الأشياء لا تجري مجرى الأعيان قطعاً؛ لأنه ليس بيد المعلم والفرائض إلا التعليم، وقد يجتهد فيه فلا يحصل الغرض؛ فكان كالسمن، وهذا ما حكاه في "الاستقصاء". وقال الرافعي: الأصح الأول، والضابط عليه أن يصنع في المبيع ما يجوز الاستئجار عليه، ويظهر أثره فيه، واحترز بظهور الأثر عن حفظ الدابة وسياستها. تنبيهان: أحدهما: قول الشيخ: زادت قيمة العين بقصارة أو طحن، فيه إشارة إلى أن الزيادة لو حصلت عند القصارة والطحن؛ بسبب ارتفاع السوق، لا بسبب القصارة والطحن – أن الحكم لا يكون كذلك، وهو صحيح؛ لأن للبائع أن يرجع في العين، ولا شيء لغيره معه. الثاني: القصارة: بكسر القاف، يقال: قصره يقصره- بضم الصاد – قصراً: إذا بيَّضه ودقه. قال الزجاجي والواحدي: كل ما اشتمل على شيء فهو فِعالة – بالكسر – نحو: الغِشاوة والعمامة، والقلادة، والعصابة، وكذا أسماء الصنائع لا تشتمل كلها فيها: كالخياطة والقصارة، وكذا من استولى على شيء فاسم ما استولى عليه: الفِعَالة: كالخلافة، والإمارة. قال: وإن اشترى ثوباً، وصبغاً فصبغ به الثوب – أي: بنفسه – فإن لم تزد

قيمتهما [أو لم تنقص] –أي: مثل أن كانت قيمة الثوب عشرة والصبغ خمسة، فصارت قيمة الثوب مصبوغاً خمسة عشر، قال: رجع كل واحد منهما في ماله؛ لأنه وجده، ويكونان شريكين في ذلك. ثم ما كيفية الشركة؟ حكى البغوي والطبري عن رواية الشيخ أبي علي في "الشرح" فيما إذا كان المشتري قد صبغ الثوب بصبغ من عنده، ورجع بائع الثوب فيه [وجهين] في كيفية الشركة في هذه الصورة: أحدهما: أن يكون لصاحب الثوب ثلثا الثوب وثلثا الصبغ، ولصاحب الصبغ ثلث الصبغ وثلث الثوب؛ لأن مال كل واد منهما لا يتميز عن مال الآخر؛ فصار كما لو اشترى زيتاً فخلطه بمثله. والثاني: أن جميع الثوب يكون لبائعه، وجميع الصبغ لصاحبه؛ كما لو اشترى أرضاً، وبنى فيها وغرس. قلت: ويتجه جريانهما في مسألتنا؛ إذ لا فرق بينهما، والمشهور فيها: أن الثوب يباع، وتقسيم الثمن في مثالنا: الثلثان، والثلث. وقد تظهر ثمرة الخلاف في كيفية الشركة، فيما لو أراد صاحب الثوب قلع الصبغ، أو المفلس والغرماء؛ فإن قلنا بالأول فلا يمكنوا، وإن قلنا بالثاني كان الحكم كما سنذكر في مسألة الأرض إذا غرست، وهو المنقول في "الرافعي"؛ حيث قال فيما إذا طلب صاحب الثوب قلع الصبغ: إنه كما لو طلب صاحب الأرض التي بنى فيها المفلس [وغرس، قلع البناء والغراس، وفيما إذا طلب المفلس] والغرماء قلع الصبغ: يغرمون نقصان الثوب. [وعن الأصحاب]: أن القاضي ابن كج قال لهم ذلك. ولا فرق فيما ذكرناه عن الأصحاب من الشركة بين أن يكون الصبغ يمكن فهي التمييز والاستخلاص أم لا. وعن القاضي أبي حامد وجه: أنه ينزل منزلة القصارة والطحن إذا كان لا يمكن تمييزه واستخلاصه؛ حتى يكون تبعاً للثوب على أحد القولين.

قال: وإن زادت قيمتهما -أي: بسبب الاجتماع لا بسبب ارتفاع الأسواق - مثل أن صارت قيمة الثوب مصبوغاً عشرين - قال: رجع كل واحد منهما في ماله؛ لما ذكرناه، وتكون الزيادة للمشتري؛ لأنها حصلت بفعله. وهذا من الشيخ جواب على ما جزم به أولاً من أن الصنعة كالعين؛ فيكون لبائع الثوب النصف من الثمن، ولبائع الصبغ ربعه، وللمفلس الربع، وعلى القول الذي اختاره المزني: أن الصنعة أثر؛ فتكون الخمسة الزيادة بين صاحب الصبغ وبين صاحب الثوب بالقسط، ولا شيء للمفلس. وفي "النهاية" فيما إذا كان المفلس قد صبغ الثوب بما ليس يمتنع: أن الشيخ أبا على ذكر في "الشرح" أن بائع الثوب يفوز بالزيادة إذا قلنا: إن الصنعة أثر، ثم قال: وكنت أود أن نقص الصنعة على الثوب والصبغ. وما ودَّهُ هو الذي أورده الشيخ أبو علي في "شرح الفروع"، وصاحب "التهذيب"، والأكثرون على نحو ما قلنا هنا. وفي كتاب القاضي ابن كج نقل الوجهين معاً، كذا حكاه الرافعي، وقال بعده: إن ما ذكره في هذه المسألة يجري فيما إذا كان الصبغ مشترًى؛ فيجيء مع ما ذكرناه فيها وجه آخر: أن لبائع الثوب النصف والربع، ولبائع الصبغ الربع. أما إذا كان سبب الزيادة ارتفاع الأسواق لا حصول الصنعة، نظر: إن كانت الزيادة في قيمة الثوب لا غير كانت بائعه، وإن كانت في قيمة الصبغ كانت لبائعه، وإن كانت فيهما وزعت عليهما بالنسبة، كذا صرح بمثله ابن الصباغ في مسائل الغصب، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. قال: وإن نقصت - أي: مثل أن صارت قيمة الثوب مصبوغاً اثني عشر، وسعر الثوب باقٍ على حاله - قال: حسب النقصان [على صاحب] الصبغ؛ لأن أجزاءه تتفرق وتنقص، والثوب موجود بحاله، ولأن الثوب لو كان قيمته مصبوغاً كما كانت قبل الصبغ، أو أنص، لا بسبب نقصٍ في قيمة الثوب - لم يكن لصاحب الصبغ فيه

حق؛ فأولى أن يحسب النقص عليه. قال: ويرجع صاحب الثوب بمالَهُ؛ لأنه وجده، يكون له من ثمن ذلك عشرة، صاحب الصبغ بالخيار: إن شاء رجع فيه ناقصاً – أي: يعطي من الثمن درهمان، ولا شيء له غير ذلك، وإن شاء ضرب مع الغرماء – أي: بالثمن – كما لو نقص الصبغ من غير أن يصبغ به. وقد وافق الشيخ في هذا الماوردي، وهو قول الشيخ أبي حامد، وفي "الشامل" و"المهذب" وغيرهما: أن لصاحب الصبغ إذا رجع فيه أن يضارب مع الغرماء بما نقص من قيمته. قال ابن الصباغ: لان النقصان تلف جزءٍ من الصبغ. وفي "الجيلي" تأويل قول الشيخ: إن شاء رجع فيه ناقصاً – أي: ويضارب بقدر أرش النقص من الثمن؛ حملاً على ما قاله ابن الصباغ. وفي "المهذب": وإن أحداً من المصنفين لم يذكر أنه مع الرجوع في الصبغ لا يضارب بما نقص، وقد علمت ما حكيناه فيه. قلت: والتحقيق في هذه المسألة أن يقال: إن كان النقصان بسبب نقصان صفة الصبغ لا غير، كما إذا كانت زنة الثوب خمسة أرطال، وزنة الصبغ رطلاً، وزنة الثوب مصبوغاً ستة – فلا يرجع بائع الصبغ إذا اختاره بغيره، كما قاله الشيخ؛ لما تقدم ان المبيع إذا نقص بفعل المشتري نقصان صفة كان كالنقص بالآفة السماوية عند العراقيين، وإن كان النقص بسبب نقصان جزء من الصبغ، وذهابه في الثوب – كما قال ابن الصباغ في التعليل: وكلام الشيخ في "المهذب" يوافقه – كان لبائع الصبغ الرجوع في الدرهمين، والمضاربة بما بقى [له] من الثمن، وهو ثلاثة في مثالنا، كما حكاه في "المهذب" و"الشامل"؛ لما تقرر أن نقصان الجزء لافرق فيه بين أن يكون بفعل أجنبي أو بآفة سماوية أو المشترى، لكن بشرط أن يكون الثمن الذي اشترى المفلس به الصبغ مساوياً لقيمته، ولو احتل أن يكون نقصان [الثمن؛ بسبب نقصان الصفة أونقصان] جزء، وبنينا الأمر على أنه نقصان جزء؛ فيضارب بائع الصبغ بعد الرجوع في الدرهمين بثلاثة دراهم؛ لأن جملة الثمن قبل الفسخ ثابتة في ذمة

المفلس، وعند الفسخ يسقط منه ما قابل الذي استرجعه البائع، ونحن نشك في أن الدراهم الثلاثة برئت منها ذمة المفلس أم لا؟ والأصل بقاؤها في الذمة، والله أعلم. والحكم فيما لو كان المشتري قد صبغ الثوب بصبغ من عنده، ثم أفلس كالحكم فيما إذا كان قد اشتراه، وصبغ به، إلا أن في هذه الصورة لبائع الثوب أن يبذل ما يستحقه المفلس من الصبغ ليخلص له مصبوغاً، وفيه مَنْع صاحب "التتمة" الذي حكيناه في الفصل قبله، وصرح بأن له أن يقلع الصبغ، ويغرم للمفلس نقصان الصبغ، ولو كان الصبغ مبتاعاً من بائع الثوب، فالحكم كما ذكرناه عند الجمهور. وفي "الحاوي" في هذه الصورة: أن قيمة الثوب إذا كانت عشرة، وقيمة الصبغ عشرة، فصارت قيمتهما بعد الصبغ خمسة عشر – أن البائع بالخيار بين أن يرجع فيهما ولا شيء له، أو ضرب مع الغرماء بالعشرين؛ لأن العمل قد ضاع، وصار مستهلكاً، وقد نقص الثوب والصبغ نقصاناً لا يتميز. ولا يخفى عليك ما فيه من النظر. فرع: لو كان المبيع أرضاً، وقد بنى فيها المشتري وغرس، ثم أفلس، وحجر

عليه، والبناء والغاس قائم في الأرض [-نُظِر:] إن توافق الغرماء والمفلس على قلع ذلك فهو لهم، ولبائع الأرض أن يرجع فيها بيضاء، فإن قلع بعد رجوعه، ونقصت الأرض بالقلع: فإن أمكن إزالة النقص بتسوية الأرض كان عليهم ذلك، وإن لم يمكن به فعليهم غرم ما نقصت به الأرض، ويقدم بذلك على الغرماء، كما صرح به الماوردي، والشيخ في "المهذب"، وصاحب "التهذيب"، وغيرهم. وفي "الرافعي" أن الشيخ أبا حامد ذكر أنه يضارب بها مع الغرماء. قلت: والظاهر أن ما ذكره أبو حامد في الحالة الثالثة لهذه؛ فإن راويَيْه: البندنيجي والمحاملي قد قالا في هذه الصورة مثل ما حكيته عن الماوردي وغيره. وإن قلع قبل رجوه فهل على المشتري غرم نقص الأرض؟ فيه وجهان في "الحاوي"، فإن رجع به ضارب به الغرماء، وليس لبائع الأرض في الحالة الأولى أن يجبرهم على أخذ قيمة البناء والغراس ليتملكها. ولو رضي المفلس بالقلع، وقال الغرماء: نأخذ القيمة من البائع ليتملك البناء والغراس، أو كان الأمر بالعكس، أو وقع هذا الاختلاف بين الغرماء – قال ابن كج: يجاب من في قوله المصلحة. وإن امتنع الغرماء والمفلس من القلع، فإن بذل بائع الأرض قيمتهما قائمين كان له الرجوع في أرضه، ويجبر المفلس والغرماء على أخذ قيمة ذلك أو قلعه مجاناً، كما صرح به الماوردي، وإن كان لفظ الرافعي يوهم تعين أخذ القيمة. وفي "تعليق" القاضي الحسين أن من أصحابنا من قال: لا يقلع ذلك مجاناً بال، بخلاف بناء المستعير وغراسه. ولو لم يبذل بائع الأرض قيمة البناء والغراس، ولكن ألزم أرش نصهما إذا قلعا – كان له الرجوع في الأرض، وإجبارهما على القلع، قال القاضي الحسين في

تعليقه: بلا خلاف. ولو لم يبذل البائع قيمة البناء والغراس، ولا ألزم أرش نقصهما فهل له الرجوع في أرضه؟ فيه طريقان: إحداهما – وهي طريقة المزني، وابن سريج وأبي إسحاق – حكاية قولين [فيه]: أحدهما – وهو اختيار المزني -: أن له ذلك ما في مسألة الصبغ. والثاني – وهو الأصح -: لا، ويضرب البائع مع الغرماء بالثمن؛ لما في ذلك من الإضرار بالمفلس، وضرره من وجهين: أحدهما: زوال منفعة البناء بزوال الانتفاع بالأرض، وفي الأشجار عدم إمكان الاستطراق إليها، وبهذا فارق مسألة الصبغ؛ فإنه لا ضرر على مالك الصبغ بالرجوع في الثوب. والثاني: نقصان قيمة ذلك بسبب تسلط الغير على نقصه، وقد قاس ابن الصباغ هذا القول [على] ما إذا باعه مسامير فسمَّوها في خشبة. والطريقة الثانية: [حمل] ما نقل عن الشافعي من القولين على حالين، وقد اختلف الأصحاب في الحالين على أربعة أوجه: [أحدها] – وهو ما حكاه الماوردي – رحمه الله – مع طريقة القولين لا غير، وأن أبا الفياض البصري وأكثر البصريين ذهبوا إليه -: أن القول الأول محمول على ما إذا كان البناء والغراس يسيراً، وأكثر منافع الأرض [إذا استُرْجِعَتْ باقياً، والقول الثاني محمول على ما إذا كان البناء والغراس كثيراً، وأكثر منافع الأرض] مشغولاً؛ لفوات المقصود منها؛ فتصير مستهلكة. والوجه الثاني – وهو ما حكاه ابن الصباغ مع طريقة القولين لا غير -: أن القول الأول محمول على ما إذا كانت قيمة الأرض أكثر وقيمة الغراس والبناء قليلة، والقول الثاني: محمول على ما إذا كانت قيمة الأرض قليلة. وهذه عبارة البندنيجي

والمحاملي وغيرهما، وبينها وبين عبارة الماوردي فرق يظهر لك في باب المزارعة، إن شاء الله تعالى. والوجه الثالث – وهو ما حكاه القاضي الحسين مع طريقة القولين لا غير -: أن القول الأول محمول على ما إذا رجع في البياض المتخلل بين الأبنية والأشجار، ورضي بمضاربة الغرماء بقسط الباقي من الثمن. والقول الثاني محمول على ما إذا أراد أن يرجع في جميع الأرض وما تحت الأشجار، والأبنية، وغيره. والوجه الرابع – وهو محكي في "الاستقصاء" بدلاً من الوجه الذي قبله -: أن القول الأول محمول على ما إذا رجع في الأرض وحدها: لأنها عين ماله، والقول الثاني محمول على ما إذا أراد أن يرجع بالأرض مع الغراس والبناء؛ لأن ذلك عين مال المشتري أودعها في الأرض، لا أنه نماء للمبيع؛ فلا يملك الرجوع في الأرض معه. والصحيح من الطريقين في "التتمة" وغيرها: الأولى، قال القاضي أبو الطيب: لأن ما اعتبر أن تكون قيمة الأرض أقل من قيمة البناء في سقوط الرجوع يلزمه أن يقول: إذا بذل البائع قيمة الغراس والبناء لا يكون له الرجوع في الأرض؛ لأنها تبع للبناء والغراس؛ لأن قيمتهما قليلة معه. التفريع: حيث قلنا: لا رجوع له في الأرض، ضارب بالثمن مع الغرماء. صرح به القاضي الحسين، وفي "مجموع" المحاملي و"تعليق" البندنيجي و"الرافعي": أن له مضاربة الغرماء بالثمن، [أو يعود] إلى بذل قيمة الغراس والبناء، أو أرش نقصانهما بعد القلع. وحيث قلنا: الرجوع له، فرجع قال المحاملي: كان له الخيارات الثلاثة؛ كما نقول في المعير والشفيع.

وقال القاضي الحسين: إنه الظاهر. ثم قال: فإن اختار أحدها، وامتنعوا قلع مجاناً. وحكى عن بعض أصحابنا ما حكيته من قبل. ولو أراد البائع والمفلس والغرماء بيع الأرض وما فيها من الغراس والبناء، بيعت، ودفع لبائع الأرض ما قابل ثمنها، وإلى الغرماء ما قابل ثمن البناء والغراس، لكن هل يدفع إلى البائع ما قابل ثمن الأرض بيضاء، أو ما قابل ثمنها وهي ذات بناء وغراس؟ فيه وجهان حكاهما ابن أبي هريرة، أصحهما في "الحاوي"، وبه جزم البندنيجي: الثاني؛ كما أن النقص في الثوب المصبوغ يحسب على صاحب الصبغ، فيقال على هذا: كم قيمة الأرض [مع البناء والغراس؟ فإذا قيل مائة، قيل: وكم [قيمة] الأرض] ذات بناء وغراس دونهما، فإذا قيل: تسعون، وجب لبائع الأرض تسعة أعشار الثمن، وفي "الرافعي" وغيره إحالة كيفية التقسيط على ما هو مذكور في كتاب الرهن. ولو امتنع البائع من بيع الأرض مع البناء والغراس، فهل يجبر عليه. المنصوص – وهو [الأصح في "الحاوي" وغيره -: لا. وحكى ابن سريج قولاً آخر: أنه يجبر كما يجبر على بيع الجارية مع ولدها وعلى] بيع الثوب مع صبغه، والقائلون بالأول فرقوا بأن البناء والشجر يمكن إفراده بالبيع دون ما قيس عليه، وحكى المحاملي في "المجموع" مع القولين أن من أصحابنا من قال: إن الأرض والبناء والغراس تؤاجر وتدفع إلى البائع أجرة الأرض، ويكون للمفلس أجرة البناء والغراس تصرف على الغرماء. ثم قال: وهذا لا يصح في الغراس؛ لأنه لا أجرة له. هذا ما أورده الجمهور في الفرع المذكور، وفي "النهاية" ما يجتمع منه أربعة أقوال فيه: أحدها: أن بائع الأرض فاقد عين ماله؛ فلا يرجع بحال.

والثاني: أن الأرض والبناء والغراس يباعان معاً كما يفعل في الثوب المصبوغ. والثالث: أنه يرجع في الأرض، ويتخير بين ثلاثة أشياء، كما في حق المستعير، وإذا عين خصلة من الثلاثة، فاختار المختارَ المفلسُ، والغرماء غيرها، أو امتنعوا من الكل – فوجهان في أنه يرجع في الأرض ويقلعهما مجاناً، أو يجبرون على ما عينه. والرابع – حكاه عن العراقيين –أنه إن كانت قيمة الأرض أكثر فهو واجد، وإن كانت قيمة البناء أكثر فهو فاقد، وأن الحكم فيما لو وهب لولده أرضاً، فبنى فيها الولد وغرس، ورام الوالد الرجوع فيها – كالحكم في الأرض المبيعة؛ فتجري فيها الأقوال. قال الرافعي: وأنت إذا تأملت هذا الكلام بعد وقوفك على المذهب المعتم، وتصفحك عن كتب علمائنا، ورأيت ما بينهما من المخالفة الصريحة – قضيت العجب منه، وقلت: ليت شعري من أين أخذت هذه الأقوال؟! فرع: لو كان الغراس أيضاً مبتاعاً من آخر، فلكل واحد من البائعين الرجوع فيما باعه، ولبائع الغراس قلعه، ويغرم ما نقص من الأرض بسببه، فإن امتنع من قلعه، وبذل له صاحب الأرض قيمته [قائماً لم يكن لصاحب الغراس إبقاؤه، وقيل له: أنت مخير بني قلع غراسك أو أخذ قيمته]. ولو امتنع صاحب الأرض من بذل قيمة الغراس وطلب القلع: فإن التزم [أرش نقص] الغراس بالقلع أجيب، وإن امتنع من التزام الأرش، وامتنع صاحب الغراس من قلعه: فهل [يجبر على] القلع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كالمفلس، وهذا هو الأصح في "حلية" الشاشي. والثاني: نعم، والفرق: أنه باع الغراس مقلوعاً، [فإذا أخذه مقلوعاً] لم يلحقه ضرر، بخلاف المفلس؛ فإنه قد استقر ملكه على غراس نامٍ، وقلعه يزيل النماء؛ فيلحقه به الضرر.

فرع: لو زرع المشتري الأرض المبيعة، ثم أفلس واختار البائع الرجوع في الأرض جاز؛ لأنه وجد المبيع مشغولاً بما ينقل؛ فلم يمتنع عليه الرجوع؛ كما لو وجد بائع الدار الدارَ مشغولة بأمتعة. وإذا رجع فيها: فإن كان الزرع قد استحصد وجب نقله، وإلا فيبقى إلى أوان الحصاد بغير أجرة، فإن طلب المفلس القطع في الحال، وامتنع الغرماء منه أو العكس – قدم من طلب القطع. وقال أبو إسحاق: يقدم من طلب الأحظ من الأمرين: قال: وإن كان للمفلس دين وله به شاهد – أي: وقد أدى بإذن المفلس، ولم يحلف فهل يحلف الغرماء؟ فيه قولان: هذه المسألة اختلف أئمة المذهب في نقل القولين فيها: فالقاضي أبو الطيب والماوردي حكياهما عن القديم والجديد، وكذلك ابن الصباغ حكاه عن الشرح: أحدهما- وهو الذي قاله في القديم -: أنهم يحلفون؛ لأن المال إذا ثبت استحقوه؛ فكان لهم الحلف على إثباته كالورثة، ولأن الوكيل إذا اختلف مع البائع في قدر الثمن حلف، وق الغرماء في مال المفلس أثبت من حق الوكيل [في مال الموكِّل، وإذ قد حلف الوكيل] فالغرماء أولى. والثاني – وهو الجديد والصحيح – أنهم لا يحلفون؛ لأنهم يحلفون لإثبات المال لغيرهم فلا يجوز؛ كما لا يجوز للزوجة أن تحلف لإثبات مال زوجها، وإن كان إذا ثبت تعلقت به نفقتها، وكذلك المستأجر والمرتهن إذا غصبت العين منه، وأراد أن يحلف على إثبات غصبها، ويخالف الورثة؛ فإنهم يثبتون الملك لأنفسهم، والوكيل إن سلم الحكم إليه، فإنه يثبت بيمينه فعل نفسه الذي باشره، ولا يثبت حقًّا لغيره، يدل على ذلك أن الموكل لا يجوز له أن يحلف على ذلك، بخلاف المفلس، والشيخ أبو حامد وراوياه المحاملي والبندنيجي، والإمام والقاضي الحسين نقلوا قول المنع منصوصاً عليه هاهنا، وأنه نص فيما إذا مات من عليه دين وله دين، وامتنع وارثه من

الحلف لإثباته – على قولين في القديم، وأن من الأصحاب من خرج من غرماء الميت قولاً إلى غرماء المفلس، وجعل في حلفهم قولين، ومنهم من أجرى النصين على ظاهرهما، وفرق بفرقين: أحدهما: أن الحق للمفلس؛ فامتناعه عن اليمين يورث ريبة ظاهرة، وفي غرماء الميت الحق كان للميت، وإنما حلف الورثة بناء على معرفتهم بشأن الميت، وقد يكون الغرماء أعرف به. والثاني: أن غرماء الميت أيسوا من حلفه؛ [فمكنوا من اليمين كي لا يضيع الحق، وغرماء المفلس غير آيسين من حلفه]، وهذه الطريقة أصح عند الإمام. وقال ابن الصباغ حكاية عن الشيخ أبي حامد، قال: والمذهب أنها على قولين، والطريقان يجريان يما لو كان المدعى عيناً، وفيما لو لم يكن للمفلس [شاهد ولكنه ادعى، ونكل المدعى عليه عن اليمين، وامتنع المفلس من الحلف. أما إذا لم يدع المفلس] بالحق، وكذا الوارث فليس للغرماء أن يدعوا، وإذا انتفت الدعوى انتفى طلب استحلاف الخصم وإقامة البينة عليه، وفي "الإشراف" حكاية وجه: أن لهم أن يدعوا ويطلبوا يمين الخصم ويقيموا البينة، وهذا ما حكاه الإمام عن شيخه. وقال القاضي حسين في كتاب القسامة: إنه يؤخذ من قول الشافعي: ولو لم يقسم الورثة لم يكن لهم ولا هلا إلا أيمان المدعى عليهم. والضمير في "لهم" يعود إلى غرماء الميت، وفي "لها" يعود على أم الولد إذا أوصى لها سيدها بقيمة عبد فقتل، واللَّوثْ موجود. فرعان: على قولنا: إن الغرماء يحلفون: [أحدهما:] لو حلف بعضهم دون البعض استحق الحالفون بالقسط؛ كما لو حلف بعض الورثة على دينٍ لمورثهم. صرح به الماوردي، وابن كج.

الثاني: لو حلفوا، ثم أبرءوا عن ديونهم، فالمحلوف عليه يكون لهم ويلغو الإبراء، أو يكون للمفلس، أو يبقى على المدعي [عليه]، ولا يستوفي أصلاً؟ فيه ثلاثة أوجه، صرح بها ابن كج، والثالث منها هو المذكرو في "زوائد العمراني" في كتاب الشهادات في غرماء الميت. واعلم أن ما ذكرناه من الأحكام في رجوع البائع في المبيع يجري في رجوع المستأجر شخصاً على عمل في الذمة، إذا كانت الأجرة باقية، وكذا الأجير عند فلس المستأجر بالأجرة قبل انقضاء مدة الإجارة على الأصح، وله بعد الرجوع في المبيع إذا كان أرضاً – وهي مشغولة بزرع المفلس – أجر مثل ما بقي من المدة مقدماً به إن رضي الغرماء بذلك، وإلا فله قلعه مجاناً، وليس له القلع مع الرضا، [وكذا للمسلم عند فلس المسلم إليه وبقاء رأس المال: الفسخ والرجوع إلى رأس المال، وكذا عند تلفه عند أبي إسحاق والصيدلاني وابن سريج، ولكنه يضارب برأس المال، وينزل ذلك منزلة انقطاع المسلم فيه. [وعلى هذا: فهل يجيء قولٌ بانفساخ المسلم فيه؟ فيه وجهان:] والأصح خلاف ما قاله أبو إسحاق وغيره؛ بل يتعين حقه في المضاربة: فإن كان ما يخصه من الموجود من جنس حقه سلم إليه، وإلا اشتري لهن ودفع إليه. وهذا إذا لم يكن المسلم] فيه منقطعاً، أما إذا كان فعلى وجهٍ: ليس للمسلم الفسخ أيضاً؛ لأنه لابد من المضاربة فَسَخَ أو لم يفسخ بالإفلاس، والإفلاس إنما يفسخ به حيث يتخلص عن المضاربة، والأصح: أن له الفسخ. وفائدته تسليم ما يحصل له من رأس المال إليه، بخلاف ما إذا ضارب بقيمة المسلم فيه؛ فإنه يحفظ له حتى يشتري له به من جنس حقه. وحكم غرماء الميت إذا مات مفلساً حكم غرماء المفلس بعد الحجر، لكنا ذكرنا في جواز الحجر عليه إذا كانت أمواله تساوي ديونه وجهين خشية من تبذيره، وهاهنا هذا المعنى مفقود، مع أن الورثة ممنوعون من التصرف في التركة [حتى يوفى

الدين]؛ فيكون حكمه في هذه الحالة حكم الموسرين فلا يتمكن من باع منه عيناً، ولم يقبض ثمنها وهي باقية أن يرجع فيها. وقد ذهب الإصطخري إلى أنه إذا مات موسراً أن للبائع أن يرجع في عين ماله؛ تمسكاً بظاهر الخبر، وقوله يجري هنا. ولو قال الوارث للبائع – في الصورة التي يجوز له الرجوع في المبيع -: أنا أعطيك الثمن من مالي، فهل يمتنع عليه بذلك الرجوع؟ يه وجهان، أصحهما – وبه جزم أكثرهم -: أنه لا يمتنع، والله أعلم.

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء العاشر يحتوي على الأبواب التالية: الحجر- الصلح- الحوالة- الضمان- الشركة الوكالة- الوديعة- العارية- الغصب

باب الحجر

بسم الله الرحمن الرحيم باب الحجر الحجر في اللغة: المنع، والحظر، والتضييق؛ قال الله تعالى: {حِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان: 22]، أي: حراماً محرماً، وكل محرم ممنوع، وكل تحريم منع، وقال صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً: "لقد تحجَّرْتَ واسعاً"،أي: رحمة الله واسعة، فلا يجوز أن تحجرها وتمنعها من الوصول إلى غيرنا. ومن ذلك سُمي حِجر البيت حِجْراً؛ لأنه يمنع من الطواف. وقيل في الدار المحوطة: حجرة؛ لأن بناءها يمنع من الوصول إليها. والمراد بالحجر في اصطلاح العلماء: المنع من التصرف، وهو نوعان: الأول: لحق الغير، وهو خمسة أضرب: حجر المفلس لحق الغرماء، وحجر الراهن لحق المرتهن، وحجر المريض لحق الورثة، وحجر العبد لحق السيد، وكذا المكاتب، مع أن فيه حق الله - تعالى - أيضاً. قال الإمام: وقد أنكر بعض أصحابنا عد الرقيق من المحجورين، وقال: إنه لا يملك شيئاً ففيمَ يتصرف؟! ثم قال: وهذا لا أصل له. وحجر المرتد لحق المسلمين. [قلت:] وينبغي أن يلحق بما ذكر حجر سادس: وهو الحجر على الورثة

في التركة لحق الميت وحق الغرماء. وسابع: وهو الحجر على السيد في المكاتب لحقه، وكذا في العبد الجاني على قولٍ.

.......................................................

وهذا الأضرب بأسرها خاصة لا تعم جميع التصرفات. الثاني: لمصلحة المحجور عليه، وهو ثلاثة أضرب: أحدها: حجر المجنون، وألحق به القاضي الحسين الحجر على النائم؛ لأن التصرفات الصادرة منه في النوم لا تنفذ. قال: ويمكن نظمها في لفظ واحد، وهو زوال العقل. والثاني: حجر الصبي، وألحق به المتولي من له أدنى تمييز، ولم يكمل عقله. والثالث: حجر السفه، وهذا النوع هو المبوب عليه، وقد أُلحق به السكران على أحد القولين [عموماً، وعلى قولٍ: فيما له دون ما عليه، على طريقٍ: في أقواله – على أحد القولين] – دون أفعاله. ثم أضرب هذا النوع الأول أعم من الثاني، والثاني أعم من الثالث.

والأصل في ثبوت الحجر على من ذكر هذا الباب قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282]، أخبر الله – تعالى – أن هؤلاء ينوب عنهم أولياؤهم فيما عليهم، فدل على ثبوت الحجر عليهم، والمراد بالسفيه في الآية: المبذر، صغيراً كان أو كبيراً، وبالضعيف – كما قال الشافعي -: الصغير والكبير إذا اختل، وبالذي لا يستطيع الإملال: المجنون، ويدل على ذلك في الصبي أيضاً قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] إلى آخرها. قال: لا يجوز تصرف الصبي والمجنون في مالهما؛ لمكان الحجر الذي دللنا عليه، وإلا ذهبت فائدته، ولأن أصلح التصرفات فيه البيع، وقد دللنا في أول كتاب البيع على امتناعه منهما، فغيره بالمنع أولى، ولا يستثني من ذلك إلا وصية الصبي تدبيره؛ فإن فيهما خلافاً يأتي، إن شاء الله تعالى, قال: ويتصرف في مالهما الولي، ولأنه الناظر المنصوب لمصالحهما. قال: وهو الأب، ثم الجد – أي: أبو الأب – بعد الأب؛ لأن التصرف ولاية في حق الصغير، فقدم الأب والجد فيها على غيرهما، كولاية النكاح؛ ولأن الحجر عليهما يثبت بغير حاكم؛ فلم يكن النظر إليه إبتداءً. ويشترط في صحة تصرف الأب والجد ولايتهما على مال الولد – وإن سفل عند العراقيين -: العدالة الظاهرة، وهل تشترط العدالة الباطنة؟ فيه وجهان. وحكى الإمام في كتاب النكاح أن الشيخ أبا علي والقاضي، وكل مُنْتَمٍ إلى التحقيق قالوا: ولاية المال تتنزل منزلة ولاية النكاح في طرق القطع وطرق الخلاف، فإن جعلنا المسألة على قولين في أن الفاسق هل يلي التزويج نطرد القولين في ولاية المال بلا فصل. ثم قال: وهذا الذي لا ينقدح غيره. وفي "التتمة": أن العدالة لا خلاف في أنها معتبرة في حفظ المال، حتى لو كان القريب فاسقاً لا يمكَّن منه، وهل يمكن من التصرف فيه؟ فيه وجهان مبنيان على أن عامل المساقاة إذا فسق هل يضم إليه أمين؟ أو ينصب الحاكم عاملاً عنه؟ فيه قولان.

ولا خلاف عند الفريقين في اشتراط إسلام الأب إذا كان الولد مسلماً، وإن كان كافراً؛ ففي اشتراط كون الأب مسلماً وجهان في "الذخائر"، وقال: إن الأظهر منهما عدم الاشتراط، وهو ما ادعى الإمام في باب شرط الذين تقبل شهادتهم: أنه ظاهر المذهب كولاية النكاح. وحُكيَ في "بحر المذهب" قبل باب إتيان النساء في أدبارهن: قال في "الحاوي": ولاية المال في الكافر على الصغار من أولاده إن لم يرفعوا إلينا نقرهم عليها، وإن رفعوا إلينا لم يجز أن يؤتمنوا على أموالهم، وترد الولاية فيه إلى المسلمين، بخلاف الولاية في النكاح؛ لأن المقصود بولاية المال الأمانة، وهي في المسلمين أقوى، والمقصود بولاية النكاح الموالاة، وهي في الكافر للكافر أولى. فرع: إذا اعتبرنا فيهما العدالة، ففسق من له الولاية منهما فهل ينعزل؟ حكى الإمام في كتاب العارية وجهين فيه، بناءً على عزل الوالي، وأظهرهما – [على] ما حكاه القاضي الحسين في باب تجارة الوصي بمال اليتيم -: أنه ينعزل والمذكور في "الرافعي" في باب الوصية، أن المال ينزع منه، فإن قلنا بأنه ينعزل فلو عاد أميناً عادت الولاية من غير نظر الحاكم على أحد الوجهين. قال الإمام: وهو الذي يجب القطع به. وهو ما حكاه الرافعي، والوجه الثاني: أنه لا يعود ما لم ينظر الحاكم في أمره، فإن رآه أميناً واستبرأه عاد إلى حكم الولاية، ولا يشترط أن يقول الوالي: نصبتك وليًّا. آخر: إذا فسق الولي قبل انبرام البيع، هل يبطل البيع؟ فيه وجهان في "الرافعي" في آخر الوصايا عن "الجرجانيات" لأبي العباس الروياني. قال: ثم الوصي – أي: من قبل الأب أو الجد؛ لأنه يقوم مقامهما، وهذا إذا صرح له في الوصية بالتصرف في المال، أما إذا قال له: نصبتك وصيًّا على أطفالي، فإنه يثبت له بذلك حفظ المال، وهل يتسلط به على التصرف؟ فيه وجهان يأتيان في الوصية. وقيل: إن وصي الأب مقدم على الجد. وهو بعيد. قال: ثم الحاكم؛ لأنه ولي من لا ولي له، كما نص عليه صاحب الشرع؛ ولأن ذلك من المصالح؛ فإذا عدم الولي الخاص انتقل إلى الحاكم كولاية النكاح.

قال: أو أمينه؛ لأنه قائم مقامه، وهذا إذا نصبه الحاكم ليتصرف في المال، ولا يكفي أن يقول: نصبتك [قيماً] في أمرهما، فإن [قال] ذلك لا يتسلط إلا على حفظ المال لا غير. وفي "الرافعي" في باب الوصية: أن الأستاذ أبا منصور أغرب فحكى عن بعض الأصحاب: أنه إذا كان في الورثة رشيد قام بقضاء الديون وتنفيذ الوصايا وأمور الأطفال وإن لم ينصبه القاضي. قال: وقيل: تتصرف الأم بعد الجد، أي: وإن كان له وصي كما صرح به الرافع، وهو قول أبي سعيد الإصطخري، ووجهه: أنها أحد الأبوين؛ فكانت لها ولاية التصرف في المال كالأب، وهذا ما حكى الرافعي في كتاب النفقات أن الجويني صححه في "النهاية"، وأنه أفتى به القاضي الروياني. فعلى هذا: تكون الولاية بعدها لوصيها، وهل تنتقل إلى أبويها؟ فيه وجهان: المذكور منهما في "الإيضاح" للصيمري: الانتقال، وفي "الحاوي" في كتاب الرهن: أن أمها تستحق الولاية بعدها، وأما أبوها فهل تكون له الولاية على هذا المذهب؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لاحضانة له، وفي "الذخائر" أن بعض أصحابنا قال: إذا بان للأم ولاية فإنها تقدم على الجد، وكذلك حكاه القاضي أبو الطيب في باب الأوصياء عن أبي سعيد الإصطخري. والمذهب الصحيح: أن الأم لا تصرف لها، ولا ولاية؛ لأن ذلك أمر ثابت بالشرع، لا بولاية آدمي؛ فلم يثبت للأم كولاية النكاح، وقد ذكرت في باب (ما يجوز بيعه): أن كلام الشيخ هنا يفهم أن لفظ الولي يشمل الأب والجد والوصي والحاكم وأمينه، وقد وجدته مصرحاً به في "تعليق" القاضي الحسين في [باب] تجارة الوصي بمال اليتيم، وسنذكر من كلام الغزالي ما يقتضي خلافه. واعلم أن التصرف الذي يَسُوغ للولي في مالهما وفي مال السفيه – أيضاً – هو ما له فيه مصلحة من بيعه بالغبطة، ونحوها – كما سنذكره – وصرفه فيما على المولى عليه من ديون وغرامات المتلفات، وله تفرقة الزكوات، وإخراج

الكفارات بسبب قتل في حق الصبي والمجنون، ويمين في حق السفيه، كما صرح به القاضي الحسين، وحكى الرافعي عن المتولي وجهاً في كفارة القتل؛ لأنها ليست على الفور، ويتجه أن يجيء في كفارة اليمين – أيضاً – إذا قلنا: إنها على التراخي، كما ستقف عليه في موضعه. والمذكور في "تعليق" البندنيجي و"مجموع" المحاملي: أن السفيه إذا حلف يكفر بالصوم كالعبد، وقال المتولي: إذا كثرت أيمانه وحنثه فالكفارة تلزمه، ولكن لا يخرجها الولي من ماله، ولا يصح صومه عن الكفارة أيضاً؛ لأنه موسر، ولكن تبقى الكفارة عليه، حتى إذا أعسر يوماً من الدهر يصوم، ثم قال: وهذا على قولنا: الاعتبار في الكفارات بوقت الأداء. وينفق عليه وعلى من تلزمه نفقته من والد وولد وغيرهما، لكن يشترط في نفقة الولد أن يثبت نسبه بالبينة؛ فإنه لو ثبت نسبه بإقرار السفيه [- إذا رأيناه، كما سنذكره في الإقرار، إن شاء الله تعالى-] كانت نفقته في بيت المال، وينفق على السفيه ما يحتاج إليه بسبب الحج الواجب [عليه]، وكذا ما يحتاج إليه في إتمام حج التطوع الذي [أحرم به قبل الحجر، أو نذره، ولا ينفق عليه في حج التطوع الذي] شرع فيه بعد الحجر إلا قدر نفقة الحصر، فإن لم يكفه ذلك، وكان يقدر على تحصيل ما يكفيه بالتكسب والتحمل، لزمه المضيُّ فيه، وألا فهو كالمحصر؛ فيتحلل بالصوم إن رأيناه، وقيل: هو كالمفلس الفاقد للزاد والراحلة؛ فلا يتحلل إلا بلقاء البيت، حكاه الرافعي، والذي أورده الأكثرون، وهكذا إذا ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام كفر بالصوم، قاله المحاملي والبندنيجي. قلت: ويتجه أن يكفر بالمال؛ بناء على مذهب القاضي في كفارة اليمين، وحكم الإنفاق عليه في الحجة المنذورة بعد الحجر كحجة الإسلام؛ إن قلنا: يسلك بالنذر مسلك واجب الشرع، وألا فكالمتطوّع بها. قاله المتولي، وأنه لا يسلم الولي إليه عند سفره شيئاً من النفقة، بل يدفعها إلى أمين ينقها عليه في الطريق، ولا يسرف في الإنفاق عليه لا يقتر، فإن أسرف ضمن، وحكي في

"الذخائر" عن الشاشي: أن من أصحابنا من قال: يجب له مثل كسوة أبيه، قال في "البحر" في كتاب الوصية: وهذا لا يصح. قال القاضي الحسين في أواخر باب حد الخمر: وينفق عليه أجرة من يعلمه من القرآن ما يؤدي به فرائض الصلاة؛ لأنه يجب عليه بعد البلوغ تعلمه، ولو علمه حرفة أو جميع القرآن ففي الأجرة وجهان: أحدهما: في مال الصبي؛ [لأن النفع عائد إليه]. والثاني: لا؛ لأنه يجب عليه بعد البلوغ. وله أن يشتري للمولى عليه خادماً عند الحاجة إذا كنا مثله يُخدم. وفي "الرافعي" في كتاب الوصية: أنه إذا رأى أن يدفع للسفيه نفقة أسبوع أسبوع فَعَل، فإن كان لا يثق به دفعها إليه يوماً بيوم، ويكسوه كسوة مثله، فإن كان يخرقها هددهن فإن لم يمتنع اقتصر في البيت على إزار، وإذا خرج كساه، وجعل عليه رقيباً. وينفق على عقاره ودوابهن والله أعلم. قال: ولا يجوز لمن يلي مالهما أن يبيع لهما شيئاً من نفسه؛ [لأجل التهمة]، إلا الأب والجد؛ فإنهما لا يتهمان لوفور شفقتهما، وفرط حنوهما، ويؤيد المنع في حق غيرهما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يَشْتَرِي الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ"، وكذلك لا يجوز لغير الأب والجد أن يبيع مال صغير تحت يده، لصغير آخر تحت يده، ويقبل له، لكن المأخذ في هذه الصورة اتحاد العاقد، وفي "الرافعي" في باب الوصية: أنه يجيء مما تقدم في نظائر المسألة من الوكالة وجه: أن له أن يبيع المال من نفسه، ويتولى الطرفين. فرع: إذا كان الصبي محتاجاً إلى الاستقراض لأجل النفقة، فهل يجوز للقاضي أن يأذن للقيم في أن ينفق عليه من مال نفسه ليرجع عليه؟ قال أبو الفرج السرخسي: هو كما لو أذن القاضي للملتقط في الإنفاق على اللقيط من مال نفسه ليرجع عليه.

والحكم في هذه الصورة: أن الشافعي نص على أنه يجوز له ذلك، ونص على أنه لو أذن له في أن ينفق على الضالة من مال نفسه ليرجع لا يجوز، بل يأخذ منه، ويدفعه إلى أمين، ثم الأمين يدفع إليه كل يوم بقدر الحاجة. واتفق أكثر الأصحاب على أن المسألة على قولين: أحدهما: المنع في الصورتين، وبه قال المزني، وإلا كان قابضاً للغير من مال نفسه ومُقْبِضاً. وأشبههما عند الشيخ أبي حامد: الجواز؛ لما في الأخذ والرد شيئاً فشيئاً من العسر والمشقة، ولا يبعد أن يجوز للحاجة تولي الطرفين، ويلحق الأمين بالأب في مثل ذلك. قال: ولا يبيع لهما شيئاً بدون ثمن المثل؛ لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]، وليس هذا بحسن؛ فثبت في اليتيم بالنص، وقسنا المجنون عليه؛ لأنه في معناه، وكما لا يجوز أن يبيع بدون ثمن المثل، لا يجوز أن يبيع بثمن المثل وهناك من يطلبه بزيادة ولو حبة، كما صرح به الإمام، وزاد الماوردي: واعتبر في بيعه المال أن يجتهد بحيث لا يتوقع بعد ما باع به زيادة. ولو اتفقت زيادة قبل لزوم العقد، فهل يجب على الولي الفسخ؟ هذا يظهر لي مشابهته للوكيل إذا باع ثم وجد من بذل زائداً قبل اللزوم، وسأذكره – إن شاء الله تعالى – في الوكالة. قال: ولا يهب لهما مالاً؛ لأنه يؤدي إلى إذهاب المال، إن كانت لا تقتضي الثواب، أو تسليم المال قبل قبض الثواب إن اقتضته، وليس ذلك من التي هي أحسن. قال: ولا يكاتب لهما عبداً؛ لأن الكتابة في الحقيقة بيع ماله بماله؛ فكان كأنه أخرجه مجاناً، ومن هاهنا يؤخذ أنه لا يجوز له أن يعتق عنهما مجاناً؛ لأنه إذا منع من الكتابة مع ما يتحصل فيها فالعتق مجاناً أولى بالمنع. قال: ولا أن يغرر بمالهما في المسافرة – أي: سواء كان ذلك للتجارة أو

لغيرها؛ لما روي أنه – عليه السلام – قال: "إِنَّ الْمسَافِرَ وَمَالَهُ لَعَلَى قَلَتٍ، إِلاَّ [مَا] وَقَى اللهُ"، وأراد: لعلى هلاك، وإذا كان كذلك فليست المسافرة من التي هي أحسن. وظاهر كلام البندنيجي وصاحب "الاستقصاء" يقتضي المنع من المسافرة مطلقاً، حتى قال البندنيجي: ولا يتجر له إلا في البلد وحولها من القرى التي تجري مجرى جوف البلد. وقد صرح الرافعي بذلك عن العراقيين، والمذكور في طريقة المراوزة – على ما حكاه القاضي الحسين وغيره -: أن السفر إن كان مخوفاً؛ فلا خلاف في المنع منه، سواء كان في البحر أو البر، وإن كان الغالب منه السلامة فوجهان، أظهرهما في "تعليق" القاضي، وهو الأصح في "الرافعي": الجواز، وحكى الإمام الوجهين في سفر البر، وقال في سفر البحر: الذي قطع به معظم الأصحاب: المنع، وذهب بعض الأصحاب إلى تخريج ذلك على وجوب ركوب البحر لأجل الحج، فإن لم نوجبه لم تجز المسافرة بالمال فيه، وإن أوجبناه كان كالبر. قلت: وكلام الشيخ يجوز أن يحمل على ما حكاه البندنيجي من حيث إن السفر مظنة للغرر، ويجوز أن يحمل على ما إذا كان مخوفاً، ويرشد إليه قوله: يغرر؛ فإن السلامة إذا كانت غالبة فلا غرر؛ لما ذكرناه عن "الحاوي" أن الغرر: ما تردد بين جوازين متضادين الأغلب منهما أخوفهما، والله أعلم. قال: ولا أن يبيعه نسيئة، أي: بثمن مثله حالاًّ، أو بأكثر منه من غير رهن؛ لأنه لاحظ للمولى عليه فيه: أما في الأولى؛ فلأن الأجل يقابله قسط من الثمن،

وقد فوته، وأما في الثانية؛ فلأنه يخرج ماله من يده من غير عوض بأجر. قال: إلاَّ لضرورة – أي: لخوف النهب والغرق – فإن البيع في هذه الحالة من التي هي أحسن، وهل يحتاج في هذه الحالة إلى أخذ الرهن على الثمن؟ الحكم فيه – على ما صرح به القاضي أبو الطيب والمتولي – كالحكم فيما [إذا] أقرضه في مثل هذه الحالة. قال: أو لغبطة، وهو أن يبيع بأكثر من ثمن المثل، ويأخذ عليه رهناً، أي: يفي بالثمن. صورة المسألة: [أن يكون] ثمن مثل المبيع نقداً مائة، فيبيعه بمائة وعشرين نسيئة، ويأخذ عليه رهناً يساوي مائة وعشرين فأكثر، ووجه الجواز في هذه الحالة: أن الولي مأمور بالتجارة وطلب الفضل؛ بقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَلِيَ يَتِيماً، فَلْيَتَّجِرْ لَهُ وَلا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَاكُلَهُ الصَّدَقَةُ"، وروى أنه قال: ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، لاَ تَاكُلُهَا الصَّدَقَةُ"، وهذا طريق ذلك، وهذا [هو] ظاهر النص، وبه قال أبو إسحاق، وأبو علي بن [أبي] هريرة، وسائر الأصحاب كما حكاه الماوردي وغيره، ولكن بشروط أُخَر: أحدها: أن يشهد على البيع على وجه حكاه الماوردي، وهو ما جزم به البندنيجي [وغيره].

والثاني: أن يكون الأجل سنة فما دونها، على وجه حكاه الماوردي، وامتنع سائر الأصحاب من تحديده بسنة، وأن المرجع فيه إلى العرف، وهو الذي جعله صاحب "الحلية": المذهب. والثالث: أن يكون المشتري ثقة موسراً؛ فيجتمع فيه الوصفان، فلو فقد أحدهما لم يصح. قلت: وفي اعتبار اليسار مع أخذ رهن يساوي الدين نظر. وقد حكى عن أبي سعيد الإصطخري أنه منع البيع بثمن مؤجل مطلقاً، إلا أن يكون الأجل فيما زاد على [المثل، ويكون] ثمن المثل حالاًّ، وقبض قدر ثمن المثل، وارتهن بالقدر الزائد عليه. قال الإمام: وهذا بعيد لا أصل له، ولا ينتظم عليه عاقل، وكلام الماوردي قريب منه. وفي "المرشد": أنه إذا باع في مثالنا بمائة نقداً وبمائة وعشرين نسيئة من غير رهن جاز، ولا يقوم الكفيل مقام الرهن فيما ذكرناه. وقال الإمام: الأصح: أنه لا حاجة إلى الرهن مع يسار المشتري. وبه جزم الغزالي في "الوسيط" متمسكاً بأنه ليس في بيع ماله نسيئة من غير رهن بأكثر من الإبضاع بمال الطفل، وهو جائز؛ لأجل الزيادة. ثم ما ذكرنا فيما إذا بيع مالهما لغير الأب والجد، [أما إذا بيع من الأب والجد]، فلا يحتاج إلى أخذ الرهن، صرح به البغوي [وغيره]. فائدة: قد ذكرت في أثناء الكلام أن الولي مأمور بالتجارة وطلب الفضل من غير بيان أن ذلك على وجه الاستحباب، أو على وجه الوجوب، ولا غنى عن بيانه: فالذي حكاه ابن الصباغ وغيره مما وقفت عليه من كتب العراقيين: الأول. وفي "الوسيط" في الفصل السادس فيما يجب على الولي من كتاب النكاح: أن مال الطفل – [أي]: الذي ليس بمعد للقُنْية والحاجة، كما قيده الرافعي- إذا طلب بزيادة وجب البيع، وأنه لا يجب على الولي أن يكد [نفسه

بالتجارة] والاستنماء في مال الطفل، ولكن يجب صونه عن الضياع بقدر من الاستنماء المعتاد الذي يصونه عن أن تأكله النفقة، وأنه لو بيع شيء بأقل من ثمن مله فله أن يشتريه لنفسه، فإن لم يزد فليشتر لطفله، وحكي في باب الشفعة أنه إذا بيع شيء فيه غبطة للصبي، ففي وجوب الشراء [وجهان. ولابد عند الشراء] بقصد التجارة لهما – على ما حكاه الماوردي – من أن يكون ما يُشترى لا يسرع إليه الفساد، وأن يكون الربح حاصلاً منه في الغالب حالاً أو مآلاً، وأن يكون بالنقد دون النسيئة. قال: ولا يقرض من مالهما شيئاً؛ لما فيه من التقصير في حقهما. قال: إلا أن يريد سفراً يخاف عليه [فيه]؛ فيكون إقراضه أولى من إيداعه؛ لأن القرض مضمون، والمودَع أمانة؛ فكان القرض أحظ له. وهل الأولوية في كلام الشيخ على وجه الوجوب حتى إذا أودع مع القدرة على الإقراض يضمن أو لا؟ فيه وجهان منقولان عن الأصحاب: المذكور في "الشامل": أنه على سبيل الاستحباب. وأصحهما في "التهذيب": أنه على وجه الوجوب. واعلم أن ظهر كلام الشيخ يقتضي أموراً: أحدها: أنه لا يجوز الإقراض في حال الإقامة مع وجود خوف النهب والحريق ونحو ذلك، وهو وجه حكاه الماوردي، لكن الجمهور على خلافه. الثاني: أنه لا فرق فيما ذكره بين أن يكون الولي أباً [أو جدًّا] أو حاكماً، وهو ما رواه الحناطي، وقال في "الإشراف": إنه المذهب.

والجمهور على أن الحاكم يجوز له الإقراض من غير ضرورة دون من عداه؛ لأن ولايته عامة؛ فيشق عليه حفظ جميع الأموال. ومقتضى كلام البغوي: أنه يجوز له الإيداع أيضاً، كما صرح به الحناطي؛ فإنه قال: كل موضع جوزنا الإقراض فلم نجد من يستقرضه أودعناه حينئذ. وقد حكى الرافعي في كتاب القضاء على الغائب، والهروي في "الإشراف" أن صاحب "التلخيص" جوز للأب من جوزه للقاضي من جواز الإقراض. الثالث: أن الإيداع لا يجوز في حال الأمن مع الإقامة، كما صرح به في "المهذب"، والبغوي وصاحب "الاستقصاء"؛ لأنه إذا لم يجز القرض في هذه الحالة مع أنه أولى من الإيداع فالإيداع بالمنع أولى. وفي "الشامل" في كتاب التفليس: أن الشافعي نص على انه يجوز لولي الصبي أن يودع ماله، ولا يقرضه، وأنه نص على أن الإمام إذا وجد ثقة يسلفه مال المفلس إلى أن تتهيأ القسمة على الغرماء، لم يجعله أمانة. وأن الفرق عندي: أن مال الصبي معد لمصلحة تظهر له من شراء عقار أو تجارة، وقرضه قد يتعذر معه المبادرة إلى ذلك، ومال المفلس معد للغرماء خاصة. الرابع: أنه إذا أقرض المال في حال إرادة السفر لا يحتاج إلى آخذ رهن به؛ إذ لو كان يفتقر إليه لذكره، كما فعل في البيع نسيئة. وقد قال ابن يونس: إنه إذا أقرضه أخذ عليه رهناً فيه وفاءٌ به. وإن من أصحابنا من قال: [إنه] يجوز ألا يأخذ عليه رهناً. وما قاله ابن يونس عندي فيه نظر؛ من حيث إن المسافرة بالرهن لا تجوز، اللهم إلا أن يريد به أن يتفقا علىوضعه تحت يد عدل، ولم أَرَ للأصحاب في صورة الكتاب نقلاً. نعم، صيغة ابن يونس حكاها الماوردي فيما إذا أقرض المال عند وجود

النهب والحريق في البلد، والمذكور في "تعليق" القاضي أبي الطيب، و"مجموع" المحاملي، و"الرافعي في هذا [الكتاب، وغيرهم: أن له الأخذ إذا رأى المصلحة، والترك] إن كان فيه مصلحة. وحكى الرافعي في كتاب الرهن عن الصيدلاني: أن الأولى ألا يرتهن إذا كان المرهون مما يخاف تلفه؛ لأنه قد يتلف ويرفع الأمر إلى حاكم يرى سقوط الدين بتلف المرهون، وهل يحتاج في هذه الحالة عند أخذ الرهن إلى اعتبار الإشهاد؟ فيه الخلاف السابق. صرح به الماوردي، وعلى كل حال لا يجوز أن يقرض مالهما إلا ثقة [أو] مليًّا. قال: وإن وجبت لهما شفعة، وفي الأخذ لهما غبطة لم يجز له تركها؛ لأنه مأمور بطلب الحظ لهما، فلو ترك الأخذ في هذه الحالة كان لهما عند زوال الحجر الأخذ، [ولو تركه حيث كان الحظ في الترك لم يكن لهما عند زوال الحجر الأخذ] على الأصح، وهو المنصوص، وفيه وجه. فعلى الصحيح: لو قالا بعد زوال الحجر: تركت، وكان الحظ في الأخذ، فقال: بل كان في الترك – فالحكم كما – لو اختلفا في بيع العقار، صرح به صاحب "الاستقصاء"، ولو استوى الحال في الأخذ والترك، ففيه ثلاثة أوجه ذكرها صاحب "البحر" و"الحلية" في كتاب الشفعة: أحدها: لا يجوز للولي الأخذ. والثاني: يجب عليه الأخذ ما لم يظهر عليه ضرر. والثالث: أنه مخير بينهما. وعلى الأول: إذا بلغ [الصبي، ورام الأخذ فهل له ذلك؟ فيه وجهان:] قال: ويتخذ لهما العقار؛ لأنه يبقى فينتفع بغلته، والغرر فيه أقل من الغرر في التجارة، وهذا على وجه الاستحباب، كما صرح به ابن الصباغ [وغيره]، ولابتياعه شروط:

أحدها: أن يكون من ثقة أمين؛ ليؤمن منه بيع ما لا يملكه. الثاني: ألا يكون في موضع قد أشرف على الخراب من خوف أو غلاء ونحو ذلك، [أو يخاف] عليه غلبة الهلاك بالماء [في وقت زيادته، أو يكون بين طائفتين تقتتلان من أهل البلد فيخاف عليه الهدم أو الحريق]؛ لأن في ذلك تغريراً بالمال. الثالث – قاله الماوردي – أن يحصل من ريعه قدر الكفاية؛ فإن لم يحصل فالتجارة أولى عند إمكانها مع [اجتماع] عدل السلطان، وأمن الزمان، ويقرب من هذا قول الإمام: إنه لا يجوز أن يشتري عقاراً نفيساً من جهة القيمة لا يُغِلُّ غلة [عليه] بمبلغها احتفالٌ بالإضافة إلى ما بذل من ثمن العقار، مثل أن يشتري داراً عظيمة لا حاجة بالصبي إليها، ولا يوجد من يسكنها. قلت: ويتخرج من كلام الماوردي شرط رابع: وهو أن يكون الثمن نقداً لا نسيئة؛ [فإنه قال: ولا يجوز أن يبتاع له شيئاً بالنسيئة] إلا في موضع واحد، وهو أن يكون محتاجاً إلى ما [لا] يستغني عنه من مأكول أو لباس، أو مما في معناه مما لا يجد منه بدًّا، كما سنذكره. قال: ويبنيه لهما؛ لأنه في معنى الشراء، لكن قيد ذلك ابن الصباغ بما إذا كانت قيمته بعد الفراغ تساوي ما أنفق عليه. قال: بالآجر والطين، وهذا نص [عليه] الشافعي؛ لأن الآجر يبقى في العمارة، والطين قليل المؤنة [أيضاً، و] منفعته عند النقض بحالها، بخلاف الجص، ولا يجوز أن يبني بالجص والآجر؛ لأنه يعلق به فيتكسر عند الاحتياج إلى النقض، ولاأن يبني باللبن والجص، ولا باللبن والطين، لقلة بقائهما. وقال الماوردي: ليس لهذا التحديد وجه صحيح؛ لأن لكل قوم عراً، ولكل بلدة عادة: فمن البلاد من يبني بالحجر والطين، ومنها من يبني بالآجر والجص،

ومنها من يبني باللبن والطين، ومنها من يبني بالخشب الوثيق؛ فالمعتبر في كل بلدة عادتها. وحكى الرافعي أن الروياني قال: إن أكثر الأصحاب عليه، وإنه الذي يختار، وبه أجاب في "المرشد"، وعلى ذلك جرى الشاشي، وقال: إنه حسن صحيح. وفي "الاستقصاء" أنه ليس بشيء؛ لأن هذا وإن اختلف فلا يقدح فيما ذكرناه. فرع: إذا أهمل الوصي عقار الطفل، فلم يعمره حتى خرب: فإن كان لإعواز النفقة لم يضمن، وإن كانت النفقة موجودة أثم، وفي الضمان وجهان: وجه عدم الضمان – كما حكاه في "البحر" -: أنه لم يكن بفعله، ومقتضى هذا التعليل: أن يجري هذا الوجه فيما إذا ترك [الولي] ورق الفرصاد حتى فات وقته. وقد حكى الرافعي في آخر باب الوديعة عن فتاوي القفال: أنه يضمن. ولا نزاع في أنه لو ترك الدواب بلا سقي ولا علف حتى تلفت أنه يضمن، وأنه إذا ترك تلقيح الثمرة أنه لا يضمن، ولو ترك إجارة عقاره مع التمكن فهل يضمن؟ فيه وجهان كذا هو في كتاب الوصية من "البحر". ويقرب منهما ما حكاه الرافعي في كتاب الخلع، فيما إذا خالع السفيه على عين فقبضها بغير إذن وليه، وتركها الولي في يده [حتى تلفت] بعد العلم [بالحال]، فإن في وجوب الضمان على الولي وجهين: تنبيه: العقار: بفتح العين، قال الأصمعي: هو المنزل والأرض والضِّياع، وهو مأخوذ من: عقر الدابة – بضم العين وفتحها – وهو أصلها. قال صاحب "المحكم": العقر والعقار – بفتح العين فيهام -: المنزل. الآجر: فارسي معرب، وهو الطوب المشوي، وفيه ست لغات: إحداهن: آجر، بالمد وضم الجيم وتشديد الراء. والثانية: كذلك لكن الراء مخففة. والثالثة: آجور بالمد.

والرابعة: يأجور. والخامسة: آجرون. والسادسة: آجرون، بالمد وفتح الجيم. وحكى عن الأصمعي في الواحدة: آجرة وأجرة. والهمزة في "الآجر" فاء الكلمة. قال: ولا يبيع [العقار عليهما]؛ إذ ليس هو من التي هي أحسن. قال: إلا لضرورة؛ لأنه إذ ذاك يكون منها، ولا يتجاوز في البيع قدر الحاجة. صرح به [في] "المرشد"،وستقف في كتاب النفقات على خلاف في كيفية بيع العقار في نفقة القريب، ويتجه أن يجري هاهنا. ثم الضرورة المجوِّزة للبيع: أن يكون محتاجاً إلى النفقة والكسوة وما لا بد له منه، وكذا إلى عمارة ما انهدم من أملاكه، أو خرب من ضياعه، وليس في العقار ما يفي بالمطلوب، ولا مال له غير العقار، أو كان له مال غائب، أو يحل في المآل ولم يوجد من يقرضه عليه. وقد ألحق بهذا القسم ما إذا خاف على العقار الخراب بالأسباب التي ذكرناها، وما إذا كان يقبلا لخراج، ولو وجد من يقرضه ما يحتاج إليه بسبب ذلك لم يجز البيع، وكذا يمتنع البيع إذا أبى المقرض أن يقرض إلا برهن، ويتعين الاستقراض إذا كان فيه مصلحة، والرهن عليه، لكن يزيد في المرهون على قيمة المقبوض، ويوضع الرهن تحت يد المرتهن إن كان عدلاً، وإلا فتحت يد عدل، صرح بذلك الماوردي وأبو الطيب والبندنيجي. ولا يجوز الإقراض في غير هذه الأحوال، ولا فيما هو في معناها، وكما يجوز أن يقترض لهما، ويعطي الرهن – لأجل ما ذكرناه – يجو أن يشتري بثمن مؤجل، ويعطي عليه رهناً يساوي ما اشتراه، سواء كان عقاراً أو غيره. قال الماوردي: لكن المستحق أن يكون عقاراً. وفي "الوسيط" التصريح بجواز الرهن إذا كان عقاراً، والسكوت عن غيره. وحيث تكلمنا في رهن مالهما [فلنقل ما ذكر فيه، وقد قال الأئمة: لا يجوز أن يرهن مالهما]، وكذا مال السفيه إلا بشرط المصلحة والاحتياط.

ومن صورها: أن يشتري لهم ما يساوي مائتين بمائة نسيئة، ويرهن بها ما يساوي مائة؛ فلو لم يرضَ البائع إلا برهن يساوي مائتين فما دونها: لم يجز ذلك. وروي عن الشيخ أبي محمد أنه جوز رهن البراح من الأرض إذا كان في الشراء غبطة؛ إذ لا يخاف فوته، قال الإمام: وهو منقاس، لكنه خلاف ظاهر المذهب، وما صار إليه الشيخ أبو محمد هو ما حكاه المتولي. ومن صورها – أيضاً-: إذا كان زمان نهب، وخاف الولي على المال فله أن يشتري عقاراً، [وبرهن بالثمن] شيئاً من ماله إذا لم يتهيأ أداؤه في الحال، ولم يبع صاحب العقار عقاره إلا بشرط الرهن، فإن الإيداع المجرد في مثل هذه الحالة جائز ممن لا يمتد النهب إلى يده، فهذا أولى. ولو استقر ضلهم مالاً، والحالة هذه بشرط أن يرهن به لم يجز. قاله الصيدلاني؛ لأنه يخاف التلف على ما يستقرضه خوفه على ما يرهنهز قال الرافعي: وأنت بسبيل من أن تقول: إذا لم يجد من يأخذه وديعة، ووجد من يأخذه رهناً، وكان المرهون أكثر قيمة من القرض: وجب أن يجوز له الرهن. قال: أو لغبطة بأن يبيع بأكثر من ثمن المثل بزيادة كثيرة؛ لأن البيع في هذه الحالة من التي هي أحسن، وقد اعتبر بعض الأصحاب – وهو الذي جزم به الإمام –أن يقدر الناظر على ابتياع عقار للطفل أكثر قيمة وريعاً مما يبيعه؛ فلو لم يقدر على تحصيل العقار، فالغالب أن الأخير في بيع العقار، والمراد بالزيادة هاهنا: ألا يستهين بها أرباب العقول، بالإضافة إلى شرف العقار مع الاستمكان من تحصيل عقار الطفل كما ذكرنا، [صرح به الإمام ولفظ البندنيجي فيما إذا كان لليتيم شريك في العقار، وأراد أن يشتري نصيب اليتيم، وبذل أضعاف نصيب اليتيم لينفرد بالقار؛ فحينئذ يباع عليه. وحكم أواني المحجور عليه من صُفْر وغيره مما هو معدٌّ للقنية حكم العقار فيما ذكرناه]،صرح به البندنيجي. وما عدا ذلك من سائر أمواله لا يجوز – أيضاً – بيعه إلا لغبطة أو حاجة، لكن

يجوز لحاجة يسيرة وربح قليل يليق به، بخلاف العقار، وإذا وجد من يشتري ذلك بغبطة، فلم يفعل الولي حتى تلف – قال الجيلي: وجب عليه الضمان كما سبق في عمارة العقار. ولو لم يعل حتى رخص، وكان يمسكه لتوقع زيادة، فليس ذلك بتعدٍّ. صرح به الرافعي في [آخر] كتاب الوديعة عن "فتاوى القفال". قال: فإن بلغ الصبي، واعدى أنه باع العقار من غير غبطة ولا ضرورة، فإن كان الولي أباً أوجدًّا، فالقول قولهما – أي: مع اليمين – وإن كان غيرهما لم يقبل إلا ببينة؛ لما ذكرناه من وفور شفقة الأب والجد المانعة من اتهامهما، ووجود التهمة فيحق غيرهما، وهذا الحكم فيما إذا رفع بيعهم للعقار إلى الحاكم فإنه لا يمضي [بيع غير الأب أو الجد إلا بعد ثبوت الغبطة أو الضرورة، ويمضي] بيع الأب والجد من غير أن يسأل عن ذلك، كما صرح به في "الاستقصاء" وغيره، فضلاً عن ثبوته. وفي "الشامل": أن القاضي في "المجرد" ذكر وجهاً [في] أن الوصي وأمين الحاكم ملحقان بالأب والجد فيما ذكرناه؛ فيقبل قولهما ويمضي بيعهما. [ثم] قال: وهذا له عندي وجه؛ لأنه إذا جاز لهما التجارة في ماله فيبيعان ويشتريان، ولا يعترض الحاكم عليهما. والحكم فيما إذا باع الولي شيئاً من أثاثه الذي للقنية كالحكم في العقار، صرح به البندنيجي، وفي "الرافعي" حكاية طريقة جازمة بأن غير الأب والجد لا يقبل قولهما بالنسبة إلى بيع العقار، وفي غير العقار وجهان. أظهرهما: أنه كالعقار. والفرق عسر الإشهاد في كل قليل وكثير يبيعه. وإن منهم من أطلق وجهين من غير فرق بين ولي وولي، وبين العقار وغيره. ويتلخص من مجموع ما ذكرته أربعة أقاويل: أحدها: قبول قول الولي مطلقاً [أباً كان أو وصيًّا، وهو ما جزم به الغزالي في كتاب الوصية].

والثاني: عدم القبول مطلقاً. والثالث: قبول قول الأب والجد دون من عداهما. والرابع: قبول قول الأب والجد في كل شيء، وغيرهما لا يقبل قوله في العقار، وفي غيره وجهان، والأصح منهما ما في الكتاب. فرع: هل يجب على الوصي الإشهاد في بيع مال اليتيم؟ فيه وجهان محكيان في "الرافعي" في آخر كتاب "الوصية" عن "جرجانيات" أبي العباس الروياني. قال: وإن ادعى الولي – أي: أباً كان أو غيره – أنه أنفق عليه ماله – أي: بالمعروف – أو تلف – أي: كذبه المولى عليه – فالقول قوله؛ لأن ذلك مما يعسر إقامة البينة [عليه] مع كونه مؤتمناً شرعاً. قال ابن الصباغ: ويخالف دعواه رد المال؛ فإنه لا يتعذر إقامة البينة عليه. وفرق الماوردي في كتاب "الوكالة" بأن دعوى الإنفاق تستند إلى حالة الحجر، ودعوى رد المال تستند إلى حالة زواله؛ فلم يقبل قوله فيه، وقبل في دعوى الإنفاق، وهذا هو الصحيح، وبه جزم الغزالي، [و] الرافعي في كتاب "الوصية". وقيل: لا يقبل قول غير الأب والجد في دعوى الإنفاق إلا ببينة؛ كما لا يقبل في رد المال، ولفظ الإمام في كتاب "الوكالة" يقتضي إجراء هذا الوجه في الأب والجد أيضاً؛ فإنه قال: أما ما يدعيه الولي من الإنفاق في حال الصغر، ففي قبول قوله مع يمينه وجهان ذكرهما القاضي، وأصحهما: أنه يقبل. ولفظ "الولي" إن لم يكن قاصراً على الأب والجد دون من عداهما فلا يخرجهما، وسيظهر لك من كلام الغزالي ما يدل على قصره عليهما، [وإذا قبلنا قول الأب ولجد فذاك مع اليمين، ولكن هي واجبة أو مستحبة؟ فيه وجهان في "الذخائر"]، ولو وافق المولى عليه الولي على أصل الإنفاق [في مدة، لكنه ادعى أنه أسرف فيه – نظر: إن اتفقا على قدر النفقة] نظر فيه، وصدق من يقتضي الحال تصديقه، وإن لم يعينا فالمصدق الوصي؛ لأنه يدعي خيانته، والأصل عدمها، كذا حكاه الرافعي في كتاب "الوصية"، وأن صاحب "التهذيب" حكى أن من الأصحاب من جعل في قبول قوله في قدر ما أنفق وجهين؛ وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب "تجارة الوصي

بمال اليتيم": أن الدعوى إن كانت على الأب والجد فالقول قولهما، وإن كانت على الوصي والقيم فوجهان. ولو اختلفا في قدر المدة التي وقع الإنفاق فيها، فادعى الوصي أنه أنفق عليه منذ مات أبوه، ومدة ذلك عشر سنين، وقال المولى عليه: بل خمس سنين - فالقول قول الوصي عند أبي سعيد الإصطخري، والأصح وبه جزم الغزالي في كتاب "الوصية" أن القول قول المولى عليه؛ لأن إقامة البينة على الموت ممكنة. قال: وإن ادعى أنه [دفع المال] إليه لم يقبل إلا ببينة، أي: سواءٌ كان الولي أباً أو وصيًّا أو قيماً؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] [فالأمر بالإشهاد] دال على أن المردود عليه لو جحد لم يصدَّق. وفي "الحاوي" في كتاب "الوكالة" الجزم بقبول قول الأب فيه، [وكذا الجد]، وفي "الوسيط" في كتاب "الوكالة": أن قول الولي مقبول في الرد على وجه، وهو في "النهاية" منسوب إلى رواية الشيخ أبي علي، وصاحب "التقريب"، والقاضي، ولفظ الغزالي في هذا الموضع يفهم أنه أراد بالولي الأب والجد، وأن هذا الوجه لا يجري في الوصي؛ فإنه قال: [الولي والوصي إذا ادعيا] رد المال على الطفل بعد البلوغ لم يقبل، [وفي الولي وجه]: [أنه يقبل]؛ وفي الرافعي ["والحاوي"] في كتاب "الوكالة" إثباته في حق الوصي والقيم عن رواية ابن المرزبان [وغيره]، [وأعاده] الرافعي مرة أخرى في حق الوصي في كتاب "الوصية"، والقائل به يوشك أن يحمل الأمر في الآية على الإرشاد. وظاهر المذهب عدم القبول في الجميع، وكذا دعوى كل أمين ادعى الرد على صاحب المال، وهو لم يأتمنه: كالملتقط يدعي الرد على صاحب اللقطة، ومن طير الريح ثوباً إلى داره إذا ادعى الرد على صاحب الثوب لا يقبل قوله فيه على ظاهر المذهب، كما حكاه الإمام في "الوكالة"، وكل من لا يقبل قوله في

الرد له الامتناع من الدفع لعذر الإشهاد، ومن يقبل قوله فيه، هل له الامتناع بعذر الإشهاد كالمودع والوكيل بغير جعل؟ فيه خلاف، ومحل استقصاء الكلام فيه كتاب "الوكالة". قال: وإن احتاج الوصي أن يأكل من مال اليتيم – أي: الذي تحت يده – شيئاً – أي: لانشغاله بأمر اليتيم عن التكسب وفقره – أكله؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]. [قال المحاملي]: ولأنه يتصرف في مال من لا يمكن موافقته، فجاز له الأخذ منه بغير إذنه، كالعامل على الصدقات، وليقتصر فيما يأخذه على قدر النفقة، كما حكاه الرافعي، وسنذكر من كلام المحاملي ما يقاربه، والمذكور في "الشامل" حكاية عن النص: أنه يأخذ أقل الأمرين من كفايته أو أجرة مثله؛ لأنه يستحق ذلك بالعمل والحاجة فلم يأخذ إلا ما وُجِدا فيه، وهذا ما نسبه الرافعي عن "تعليق" الشيخ أبي محمد، والمذكور في "الحاوي": أنه يأخذ [من] ماله أجرة مثله، ولو كان غير محتاج لم يجز له الأكل؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] أي: بماله عن مال اليتيم، وحكى الماوردي وجهاً آخر: أنه يجوز [له] أن يأخذ قدر أجرة مثله؛ لأنه عوض عن قيامه [به]؛ فلم يختص بها فقير دون غني كسائر الأجور، والآية محمولة على الاستحباب. قال: ورد عليه البدل؛ لأنه أكل مالاً لغيره أبيح له لحاجته؛ فوجب أن يرد بدله كالمضطر؛ فعلى هذا: [يدفع قيمة ما أكله إلى الحاكم إن دامت ولايته إلى وقت يساره؛ لأنه لايبرئ نفسه بنفسه. قاله القاضي الحسين قبيل باب] "زكاة المعدن". وعلى هذا] يكون الفقير جوز له الاقتراض من مالهما، وهو قول عمر وانب عباس وجمهور التابعين. قلت: وقد يتمسك بما ذكرناه من هذا الحكم والتعليل بما يؤيد ما

أطلقه [وغيره]، وإن أنكره ابن يونس. قال: وقيل: لا يرد [له] البدل؛ لأن الله تعلى أباح له الأكل، ولم يوجب القضاء؛ ولأن [ذلك] جاز له العمل فيه، فلم يلزمه بدله: كالمستأجر، والإمام إذا أكل من بيت المال، وهذا [الخلاف] رواه المحاملي وجهين، وأنه ذكرهما في "الوصايا". وقال ابن الصباغ: إن الشافعي خرجه على قولين. تنبيه: إنما عدل الشيخ عن صيغة "احتياج الولي" إلى "احتياج الوصي"؛ لأمرين سأذكرهما: أحدهما: أنا قد ذكرنا أن لفظ "الولي" يشمل الأب والجد وغيرهما، وما ذكره في هذه المسألة بجملته لا يجيء في الأب والجد؛ لأنهما إذا كانا محتاجين من غير أن يكون لهما نظر في مال الولد كانت نفقتهما فيه، ولا يجب عليهما رد البدل، فكيف بك مع عملهما في المال؟! لو ذكر لفظ "الولي" – كما فعل ابن الصباغ والرافعي – لاندرج فيه الأب والجد. فإن قيل: الشيخ قد اختار فيما إذا كان الأب أو الجد صحيحاً أن نفقته لا تجب على الولد، وهذا صحيح؛ فاستوى هو الوصي في ذلك. قلت: إنما لم يجب في هذه الحالة على رأيه، وإن كان غيره قد صحح الوجوب، كما ستقف عليه في موضعه؛ لأنا جعلنا قدرته بالتكسب كقدرته بالمال، وقد تعذر عليه هنا التكسب؛ بسبب حفظ المال والتصرف فيه؛ فصار كما لو لم يكن كسوباً. الثاني: على تقدير أن يكون حكم الأب والجد في رد البدل كالوصي، فالمراد: التنبيه على أن للوصي أن يستقل بأخذ ما يحتاج إليه من غير مراجعة الحاكم فيه، وإن كان قابضاً من نفسه لنفسه، ومثل هذا في غر هذه الحالة لا يسوغ [له]، بل هذا من مرتبة الأب والجد، فلو ذكر لفظ "الولي" لاحتمل أن

يقال: أراد به الأب والجد، كما قلنا: إن كلام الغزالي يفهم، فأراد نفي هذا الاحتمال. واعلم أن قول الشيخ: "وإن احتاج الوصي أن يأكل" لفظ "الأكل" ليس المراد حقيقة، بل خصه بالذكر؛ لأنه أعم وجوه الانتفاعات؛ كما جاء في قوله تعالى: {وَلا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء: 10] ويدل على ذلك أن المحاملي قال: "إذا احتاج الوصي أو الأمين الذي نصبه الحاكم إلى شيء من المال الذي يلي عليه، فيجوز أن يأخذه منه، والله أعلم". فرع: إذا تبرم الأب بحفظ مال الطفل، فله رفع الأمر إلى الحاكم لينصب قيماً بأجرة، وله أن ينصب نفسه، ذكره الإمام في كتاب "النكاح". ولو طلب الأب من القاضي أن يثبت له أجراً على عمله، قال الرافعي: فالذي يوافق كلام أكثر الأصحاب أنه لا يجيبه إليه، غنيًّا كان أو فقيراً؛ لأنه إذا كان فقيراً ينقطع عن كسبه، فله أن يأكل منه بالمعروف كما ذكرناه، وقد ذكر الإمام أن هذا هو الظاهر، ثم قال: ويجوز أن يقال: ويثبت له أجراً؛ لأن له أن يستأجر من يعمل، وإذا جاز له بدل الأجرة لغيره جاز له طلب الجرة لنفسه، وبهذا الاحتمال أجاب الغزالي في كتاب "النكاح"، ومن قال بهذا قال: لابد من تقدير القاضي، وليس [له] الاستقلال به. وهذا إذا لم يجد متبرعاً بالحفظ والعمل، فإن وجد متبرعاً وطلب الأب الأجرة فقد أشار في "النهاية" إلى احتمالين أيضاً، أظهرهما: أنه لا يثبت له؛ لحصول المقصود من الأجنبي كما يحصل من الأب، بخلاف الأم [إذا طلبت أجرة الإرضاع] وثم متبرعة على الظاهر؛ لما في ذلك من التفاوت الظاهر. قال: وإذا بلغ الصبي، وعقل المجنون، وأونس منهما الرشد – انفك الحجر عنهما: أما في الصبي؛ فلقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ

آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، وأما في المجنون فبالقياس عليه. والمراد بالابتلاء [في الآية: الاختبار] والامتحان؛ قال الله تعالى: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} [البقرة: 124]، {لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ} [البقرة:249] وأراد بجميع ذلك: الاختبار والامتحان. وبـ"اليتيم": الذي مات أبوه قبل بلوغه ما لم يبلغه، سواء كانت أمه باقية أم لا. وببلوغ النكاح: البلوغ نفسه، وعبر بالنكاح عنه؛ لأن النكاح هو الجماع، والعادة أن الإنسان لا يشتهي الجماع إلا إذا بلغ؛ فلذلك عبر به عنه. وبإيناس الرشد: العلم، فوضعه موضعه؛ كما وضعه موضع الإبصار والرؤية في قوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ} [القصص: 29] أي: أبصر، وقال الزهري: إن أصل الإيناس الإبصار [والرؤية]، وإنه مأخوذ من إبصار العين، وهي الحدقة التي يبصر بها. وبيان الرشد يأتي إن شاء الله تعالى. ومراد الشيخ بـ"الفك": الإطلاق والإرسال، ومنه: فكَّ رقبةً، أي: أطلقها من العبودية، لكن هذا الإطلاق في المجنون لا يتوقف على مطلق له، أطبق عليه الأئمة في آخر كتاب "التفليس"، وعبارتهم: أنه ينفك بمجرد الإفاقة، والزيادة التي قالها الشيخ لم أرها لغيره؛ فلعلها محمولة على ما إذا جن بعد بلوغه وقبل إيناس الرشد، وفي الصغير هل يتوقف عل مطلق؟ فيه كلام سيأتي. قال: والبلوغ في الغلام بالاحتلام، والاحتلام – كما قال الماوردي -: إنزال المني الدافق في نوم أو جماع أو غيرهما، بالاختيار أو بدونه، والدليل [على] كونه بلوغاً: قوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ} [النور: 59] وأراد بلوغ

الاحتلام، وقوله صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنِ الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِمَ" كما رواه الترمذي، وقد روى: "حَتَّى يَبْلُغَ"، وإحدى الروايتين تفسيرُ الأخرى. وقد اعترض النواوي على الشيخ فقال: "حققة الاحتلام نزول المني في النوم لرؤية جماع أو غيره، وليس البلوغ مختصًّا به؛ فلو قال: والبلوغ في الغلام بالإنزال أو بإنزال المني، لكان أصوب وأصح". وجوابه: أن الشيخ اتبع في ذلك لفظ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان أصوب، مع أنا قد ذكرنا عن الماوردي أنه فسر الاحتلام بخلاف ما ذكره، والله أعلم. ثم السن الذي يحكم بالبلوغ فيه إذا خرج المني من الصبي، فيه أربعة أوجه: أحدها – وهو الذي رجحه الرافعي، وبه جزم المحاملي والبندنيجي في كتاب "اللعان" وابن الصباغ في كتاب "الإقرار" -: [تسع سنين. والثاني – وهو الذي جزم به الماوردي، وكذا القاضي الحسين في كتاب "الإقرار"]-: عشر سنين. فكان مرادهم استكمال ذلك حتى يكون الاحتلام بعد الطعن في السنة التي تليها، وكذلك حكى الوجهين القاضي الحسين في "التعليق". والثالث – وادعى الإمام في كتاب "الحيض" أنه ظاهر نص الشافعي في كتاب "اللعان" -: مضي ستة أشهر من السنة العاشرة. والرابع: مضي ستة أشهر من السنة التاسعة، وهو مذكور في باب "ما يلحق من النسب" كما ستقف عليه. قال: أو استكمال خمس عشرة سنة، أي: من وقت [استكمال] خروجه من الجوف؛ لما روى الدارقطني بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِذَا اسْتَكْمَلَ الْمَوْلُودُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً كُتِبَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ"، والحد لا يقام

إلا على بالغ. وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال:"عُرِضْتُ عَلَي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ بَدْرٍ وَأَنَا ابْنُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي، وَعُرِضْتُ عَامَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي، وَلمْ يَرَنِي بَلَغْتُ، وَعُرِضْتُ عَامَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي فِي المُقَاتَلَةِ". وفي "الرافعي": زيادة "فَرَآنِي بَلَغْتُ". وكذلك في "الذخائر"، وجه الدلالة [فيه] من وجهين: أحدهما: أنه أجازه في المقاتلة، ولا يجاز فيها إلا بالغ؛ لأنه يتعين عليه حضور الصف والقتال. والثاني: أنه علل الرد في المرة الثانية [بأنه] لم يره قد بلغ؛ فدل على أنه إنما أجازه في المرة الثالثة؛ لكونه رآه قد بلغ. فإن قيل: هذا الخبر [لا يصح]؛ لأن محمد بن إسحاق قال: "بين أحد والخندق سنتان"، وخبر ابن عمر يقتضي أن يكون بينهما سنة. فالجواب أن الزهري قال: كان "بدر" في شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة، وكان "أحد" في شوال سنة ثلاث، والخندق في شوال سنة أربع، وقول الزهري أثبت من قول محمد بن إسحاق، لا سيما مع رواية ابن عمر، ولأنه يجوز أن يكون العرض في عام أحد وهو في أول سنة أربع عشرة، وعرض [في] عام الخندق، وهو في آخر سنة خمس عشرة؛ صار بينهما سنتان. ووراء ما ذكره الشيخ وجهان آخران: أحدهما – رواه المراوزة -: أن البلوغ يحصل بمجرد الطعن في السنة الخامسة عشرة، وزيفوه. والثاني – رواه الجيلي -: أنه يحصل بمضي ستة أشهر منها. قال: أو إنبات الشعر الخشن، أي: حول الفرج بحيث يحتاج إلى الموسى، كما ذكره المحاملي.

قال: [على العانة] في أظهر القولين. لا خلاف في أن الشعر الخشن الذي يحتاج إلى الموسى دون الزغب، والشعر الضعيف إذا نبت على عانة أولاد المشركين عاملناهم معاملة البالغين؛ لما روى النسائي عن عطية القرظي قال: عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة، فكان من أنبت قُتِلَ، ومن لم ينبت خُلِّي، كنت يمن لم ينبت فخلي سبيلي، وفي "الحاوي": أن [سبي] قريظة نزلوا من حصونهم على حكم سعد بن معاذ الأِهلي، فقال سعد: حكمي أن من جرت عله الموسى قتل، ومن لم تجر عليه استرقَّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَذَا حُكْمُ اللهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ". لكن هل ذلك لكون الإنبات بلوغاً في نفسه؟ أو لكونه علماً على البلوغ؟ اختلف نص الشافعي فيه: فقال في "السير": إنه بلوغ. وهو الذي اختاره في "المرشد". وقال في "الجزية" ونسبه المحاملي في "المجموع" إلى الجديد: إنه علم على بلوغ المشركين. وادعى الإمام أنه لا طريق إلى القطع به. فإن قلنا بالأول كان بلوغاً في حق أولاد المسلمين أيضاً، وهو الذي جعله الشيخ الأظهر. وإن قلنا بالثاني فقولان حكاهما القاضي أبو الطيب وغيره، ومنهم من رواهما وجهين. أحدهما: أنه علم في أولاد [المسلمين] أيضاً؛ كالحمل لما كان علماً فيهم

كان علماً في غيرهم، وهذا ما ادعى الجيلي أنه الجديد. والثاني: أنه لا يكون علماً في أولاد المسلمين، وهو ما ادعى المحاملي والشيخ في "المهذب" والقاضي الحسين أنه ظاهر المذهب، والفرق من وجهين: أحدهما: أن المسلمين إذا أشكل بلوغهم رجع إلى آبائهم [وأقاربهم؛ لأنهم غير متهمين في ذلك، بخلاف الكفار]. والثاني: أن المسلمين يتهمون في الإنبات؛ فإنهم ربما تداووا بدواء [تنبت] به عانتهم ليكملوا ويشرفوا، ولا يتهم الكفار فيه؛ لأنه إذا نبت عليهم قتلوا وألزموا الجزية؛ فلذلك كان علماً فيهم دون غيرهم. رع: لو أسر الإمام كافراً مراهقاً قد أنبت، وأراد قتله، فادعى أنه أنبت بنوع معالجة – فإن قلنا – إنه بلوغ، لم يقبل [قوله، وإن قلنا: إنه علم على البلوغ، حكى المتولي عن الشيخ أبي عاصم العبادي أنه تسمع دعواه ويحلف، وإذا حلف ترك قتله. ولو كان من أولاد أهل الذمة، وأراد الإمام مطالبته بالجزية، فادعى مثل ذلك – لا يسمع [منه]]. تنبيه: احترز الشيخ بقوله: "على العانة" من إنباته على غيرها من لحية وشارب، وتحت الإبط؛ فإن ذلك لا يكون بلوغاً [ولا علماً عليه]، صرح به القاضي أبو الطيب وغيره، ووجهه بأن ذلك يتقدم تارة، ويتأخر أخرى، وربما لا تطلع لحية الإنسان إلى أن يصير شيخاً. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن إنبات اللحية والشارب والإبط يجب أن يجعل بلوغاً؛ لأن اللحية إنباتها أبطأ من العانة [فكانت أولى بالدلالة على البلوغ من العانة]، والإبط أقرب إلى العانة، والشارب أبعد. واستحسنه الإمام. وفي "الرافعي" حكاية ما ذكرناه وجهين، وأن الأصح – على ما ذكره المتولي في شعر الإبط – أنه لا أثر له، وأن صاحب "التهذيب" ألحق شعر الإبط بشعر العانة، ولم يلحق به اللحية والشارب، وقد ألحق المتولي ثقل الصوت ونهود

الثدي وانفراق الأرنبة بذلك، وأجرى الخلاف فيه، والجمهور على أنه لا أثر له. وحيث قلنا بأن شعر العانة علم على البلوغ، فالمراد به البلوغ بالاحتلام، كما أشار إليه المحاملي في "المجموع"، وعلى هذا يكون السن الذي يعتبر فيه خشونة الشعر ونعومته: السن الذي يعتبر فيه البلوغ بالاحتلام، وقد أشار إلى ذلك الرافعي، ثم قال: والاعتماد [فيه على الاستقراء؛ كما في الحيض. وفي "التتمة": أن الغلام إذا أنزل المني قبل الطعن في العاشرة] لا يكون بلوغاً، وأن الإنبات في السنة التاسعة يجعل بلوغاً. قال: والبلوغ في الجارية بما ذكرناه، والدليل على حصوله بالاحتلام: ما روي أن أم سليم سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، قال: "إِذَا رَأَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ". ثم أقل السن الذي يعتد بذلك فيه أقل سن الحيض، والفرق بين الجارية والغلام على رأي: أن الإناث طبعهن أحرُّ؛ فكان بلوغهن أسرع، وقد حكى المراوزة وجهاً: أن احتلام المرأة لا يكون بلوغاً؛ لأنه نادر. قال الإمام: [وعلى هذا] فظاهر كلام الأصحاب: أنه يجب عليها الغسل منه، والذي يتجه عندي: أنه لا يلزمها الغسل؛ لأنه لو لزم لكان حكماً بأن الخارج مني، والجمع بين الحكم بأنه مني وبين الحكم بأنه لا يحصل البلوغ به متناقض.

قال الرافعي: ولك أن تقول: إن كان التناقض مأخوذاً من تعذر التكليف بالغسل مع القول بعدم البلوغ فنحن لا نعني بلزوم الغسل سوى ما نعنيه بلزوم الوضوء على الصبي إذا أحدث، فبالمعنى الذي أطلقنا ذلك ولا تكليف يطلق هذا، وإن كان غير هذا فلابد من بيانه، والدليل على أن استكمال الخمس عشرة سنة بلوغ في حقها: ما رويناه من الخبر؛ فإن المولود يشمل الذكر والأنثى، وعلى الإنبات: القياس على الرجل. قال: وبالحيض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَقْبَلُ اللهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ" يعني: بلغت وقت الحيض، [لا أنه أراد كونها حائضاً؛ لأن الحائض لا تصح صلاتها بحال، ولقوله – عليه السلام- لأسماء بنت أبي بكر: "إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْحَيْضَ] لاَ يَصْلُحُ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلاَّ هَذَا"، وأشار إلى الوجه والكفين. ووجه الدلالة منهما: تعليق وجوب الستر بالحيض، وذلك تكليف؛ فدل على أنه بلوغ يتعلق به التكليف. قال: وبالحبل، الحبل على المشهور – علم [على] البلوغ في حق المسلمين والكفار، ووجهه القاضي أبو الطيب بأمرين: أحدهما: أن الله تعالى أجرى العادة أن المرأة لا تحبل حتى يتقدمها حيض. والثاني: أن الحمل مخلوق من ماء الرجل وماء المرأة؛ قال الله تعالى: {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 5، 6] أي: مدفوق، وقال ابن عباس: "إنه اللزج [يخرج] من بين الصلب والترائب" أي: صلب الرجل وترائب المرأة وهي الصدر. وقيل: موضع القلادة من الصدر. ويقال: إن العظم والعصب من الرجل، واللحم والدم من المرأة، وقال الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] يعني أخلاط.

وإذا كان الولد مخلوقاً من مائهما دل الحمل على تقدم إنزالها، فصار كما لو أنزلت. ومن هذين التعليلين يظهر [لك] أنه علامة على أي نوع من أنواع البلوغ، وفي "الحاوي": أن بعض أصحابنا وَهِمَ فجعله بلوغاً في نفسه. وعلى كل حال: إن كانت المرأة ذات زوج حكم ببلوغها قبل أن تضع بستة أشهر؛ لأنه أقل ما تضع له المرأة، كما حكاه في "المهذب" وغيره. [وقيل في "الرافعي"]: ستة أشهر وشيء، وفيه نظر. وإن كانت مطلقة، وأتت بولد يلحق الزوج: - حكم ببلوغها قبل الطلاق بلحظة، قال المحاملي: "لجواز أن تكون في تلك اللحظة حملت، وأثر ذلك يظهر في وجوب قضاء الصلوات الفائتة في ذلك الوقت وترتب الأحكام". فرعان: أحدهما: الخنثى المشكل بلوغه بالسن كبلوغ غيره، وخروج [صورة] المني من الفرجين يحصِّل البلوغ. ولو خرج من أحدهما، أو رأى صورة الحيض من فرج النساء، فقد حكى الإمام عن العراقيين والشيخ أبي علي: أنا لا نحكم بالبلوغ؛ لجواز أن يعارضه خروج ما هو على صفة الحيض. ثم قال: وهذا مشكل؛ لأن الأصحاب قالوا: الخنثى إذا أمنى في أوان البلوغ بفرج الرجال فهو رجل، وإذا حاض بفرج النساء فهو امرأة، فإذا كان ما هو على نعت المني دالاًّ على الذكورة فيجب القطع بكونه منيًّا دالاً على البلوغ، فإذا لم نحكم بالبلوغ وجب ألا نحكم بالذكورة، وكذلك القول [في الحيض إذا انفرد ولم يعارضه المني كالقول] في المني إذا لم يعارضه الحيض. ثم الحق الذي يجب اتباعه أن نقول: إن المني إذا انفرد خروجه كان بلوغاً،

وكذلك القول في الحيض إذا انفرد، وتقريب قول الأصحاب أن يقال: إن سبق المني حكمنا ظاهراً بالبلوغ، وكذلك إن سبق الحيض، فإن سبق أحدهما ولحقه الآخر حكمنا بالبلوغ ربطاً، فالسابق منقوض لا محالة، فهذا المعنيُّ بقول الأصحاب: [لا نحكم] بالبلوغ. قلت: وقد يظهر أن يقال: الوجه حمل ما قاله الأصحاب على ظاهره، ولا نحكم بالبلوغ ظاهراً كما أوله، وإن حكمنا بكونه ذكرا ًأو أنثى؛ لأن احتمال كون الخنثى المشكل ذكراً مساوٍ لاحتمال كونه أنثى؛ فإذا ظهرت صورة المني أو الحيض من محله في زمن الإمكان غلب على الظن أنه مني أو حيض، وإذا كان كذلك رجح أحد الاحتمالين، وبقي مقابله مرجوحاً، والعمل بالاحتمال الراجح متعين؛ فلذلك حكما بالذكورة أو الأنوثة، مع أنه لا غاية بعد ذلك محققة تنتظر، ولم نحكم بالبلوغ؛ لأن لنا أصلاً محققاً وهو الصِّبان وما وجد من مني أو حيض يجوز أن يحدث بعده ما يقدح في ترتيب الحكم عليه، فلا نزيل أصلاً محققاً بظن لم يشهد لمثله الشرع بمعارضة الأصول، فضلاً عن تقدمه عليها، مع أن لنا غاية [محققة ننتظرها] وهي استكمال خمس عشرة سنة، ولهذا الأصل نظائر في الشرعيات: منها: إذا علق الطلاق بالولادة، فثبتت الولادة بشهادة النسوة: لا يقع الطلاق. [ومنها: إذا علق الطلاق بغضبها فثبت بشاهد ويمين، فإنا لا نحمك بوقوع الطلاق]. ومنها: إذا ثبت رمضان بشاهد واحد لا نحكم بحلول الديون وإن أوجبنا صومه، والله أعلم. ولو خرج المني من الذكر، والحيض من الفرج حكمنا ببلوغه على الأصح، وبه جزم أكثرهم، [وقال الشيخ أبو علي: إن نص الشافعي يدل على أنا لا نحكم ببلوغه]. ووجهه الإمام: بأن تعارض الخارجين يدل على انهما ليسا منيًّا ولا حيضاً، فإن الجبلة التي تنشئ المني لا تنشئ الحيض

لا تنشئ المني، وإذا كان كذلك امتنع الحكم بالبلوغ. قال الماوردي: "والقائل بهذا وهم، فإن الشافعي حيث قال: لو حاض واحتلم لم يكن بالغاً، أراد: إذا كان من أحد الفرجين". الثاني: إذا ادعى الطفل أنه قد بلغ نظر: إن ادعى البلوغ بالاحتلام أو الحيض في سِنِّه - صدق من غير يمين؛ لأن في تحليفه إبطال تحليه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون في مخاصمة أو لا. نعم، إذا كان في مخاصمة، وبلغ مبلغاً يتيقن بلوغه، قال الإمام: الظاهر أنه لا يحلف - أيضاً - على أنه كان بالغاً حينئذ، [لأنا حكمنا] بموجب قوله، وأنهينا الخصومة، ولا عود إلى التحليف. وفي "التهذيب" وغيره: أنه إذا جاء واحد من الغزاة يطلب سهم المقاتلة، وذكر أنه احتلم حلف وأخذ السهم، فإن لم يحلف فوجهان عن صاحب "التلخيص" تخريجاً: أنه لا يعطي، وقال غيره: يعطي. ولو ادعى البلوغ بالسن طولب بالبينة لإمكانها. نعم، [لو كان] غريباً خامل الذِّكْر، فيلحق بدعوى الاحتلام، أو يطالب بالبينة؛ لإمكانها من جنس المدعي، أو ينظر إلى الإنبات؛ لتعذر معرفة التاريخ كما في صبيان الكفار؟ فيه ثلاثة احتمالات للإمام، وقد أبدى الأول والثاني منها القاضي الحسين في "الفتاوى" أيضاً، والظاهر الثاني. ولو أطلق الإقرار بالبلوغ، قال القاضي في "الفتاوى": هل يقبل؟ فيه وجهان. وإذا أردنا معرفة إنباته، ففي كيفية ما يُطَّلع عليه ثلاثة أوجه: أصحها: أنا نكشف عن مؤتزره، كما فعل في بني قريظة. والثاني: أنه يدفع إليه طين رطب أو شمع يلصقه على الموضع. والثالث: [أنه يلمس] من فوق ثوب رقيق ناعم. قال: وإيناس الرشد: أن يبلغ مصلحاً لدينه وماله، كذا فسر به الحسن البصري ومجاهد وابن عباس الآية، كما حكاه المتولي، وفي "تعليق" القاضي أبي

الطيب أن ابن عباس قال: أن يبلغ ذا وقار وحلم وعقل، وهو قريب من الأول. فإن قيل: الله تعالى ذكر الرشد منكَّراً وأثبته، والنكرة في الإثبات لا تعم؛ فمتى وجد منه شيء من الرشد وجب أن يدفع إليه ماله، لكن قام الإجماع على [أن] إيناس الرشد في الدين عند البلوغ من التبذير في المال لا يكفي؛ فتعين أن يكفي الرشد [في المال] وإن كان سفيهاً في الدين كما صار إليه أبو حنيفة. قلنا: قد حكاه المتولي عن بعض أصحابنا، والمذهب الأول، ودليله أن الآية اقتضت وصفه بالرشد، ومن كان فاسقاً في دينه وصف بالغي، [ومن وصف بالغي] لا يوصف بالرشد؛ لأن الرشد والغي صفتان متضادتان لا يجوز اجتماعهما، ولأنه لا يؤمن من تبذيره في المال؛ فإنه إذا فسق بارتكاب المعاصي لا يؤمن أن يبذر ماله أو يضيعه؛ فلم يكن لرشده مع فسقه [حكم]، وهذا كما قلنا في رجل معروف بصدق اللهجة لا يكذب، وكان يشرب الخمر؛ فإنه لا تقبل شهادته؛ لأنه غير موثوق به، كذلك هاهنا. ثم المراد بالرشيد في الدِّين: ألا يرتكب من المعاصي ما يخرجه عن حيز العدالة، وإن أتى بما يسقط المروءة كالأكل في السوق ونحوه، كذا قاله ابن الصباغ وغيره، وهو بناء على المشهور من أن تعاطي هذه الأشياء ليس بمحرم، وسماعي من شيخ المشايخ قاضي القضاة تقي الدين [أبي عبد الله] محمد بن رزين – رحمة الله عليه – أنه سمع من بعض علماء الشام أن تعاطي ما ترد به الشهادة من الأكل في الأسواق ونحوه هل حرام أم لا؟ فيه ثلاثة أوجه للأصحاب. ثالثاً: إن كان قد تحمل شهادة حرم عليه [تعاطي ذلك]؛ لأن فيه سعياً في إبطال شهادته المتعلق بها حق الغير، وألا فلا، فعلى وجه التحريم ينبغي أن يكون كسائر المحرما، وقد حكاه الماوردي وجهاً، لكن مأخذه أن الشافعي

قال: والرشد: الصلاح في الدين؛ حتى تكون الشهادة جائزة مع إصلاح المال، فأجرى اللفظ على ظاهره، والجمهور على الأول. وبالرشد في المال المتفق عليه عند الجمهور: أن يصرف المال في وجهه من غير إسراف ولا تقتير، فلو صرفه في اتخاذ الأطعمة الفائقة والكساوي الرقيقة الرائقة التي لا تليق بحاله، ويتجاوز فيها الحد – فلا رشد عند الغزالي وإمامه. وحكى الماوردي وجهاً: أنه لا يحجر عليه بسبب ذلك، وصححه الشاشي، وادعى الرافعي أن عليه الأكثرين. وفي "الذخائر": أن الشيخ أبا محمد قال فيما إذا بلغ مقتصداً، ثم ظهرت منه هذه الحالة أنه لا يعاد عليه الحجر، ولم أَرَ في "النهاية" في هذا الموضع له ذكراً. ولو أسرف في صرف المال إلى جهة الخيرات: من صرف الصدقات، وبناء المساجد والمدارس، وكل القربات – لم يعد مبذراً، وإن تناهى في الإسراف فيها. قال الإمام: ومن رشيق كلام المتقدمين قول بعضهم: لا خير في السرف، ولا سرف في الخير. وحكى عن شيخه أبي محمد أن هذه الحالة لو قاربت البلوغ منعت، بخلاف ما إذا ظهرت منه بعد أن بلغ مقتصداً؛ فإنه لا يحكم بصيرورته مبذرا. ً ولو قتر على نفسه شحًّا عليها فلا حجر، وفي "الحاوي" عن أبي العباس ابن سريج والإصطخري: أنه يحجر عليه. تنبيه: الرُّشْد والرَّشَد والرَّشاد: نقيض الغي، وقيل: هو إصابة الخير، وقال

الهروي: هو الهدى والاستقامة. يقال: رَشَد: بفتح الشين، يرشُد بضمها، رشداً: بضم الراء. ورَشِدَ: بكسر الشين، ويرشَد: بفتحها، رشداً: بفتح الراء والشين، ورشاداً؛ فهو راشد ورشيد، وأرشده غيره ورشَّده: هداه، واسترشده: طلب منه الرشد. قال: ولا يسلم إليه المال حتى يختبر اختبار مثله؛ لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] والابتلاء: الاختبار [كما سبق. ثم الاختبار] في الدين يكون بمشاهدة حاله في العبادات، وتجنب المحظورات وتوقي الشبهات، ومخالطة أهل الخير والعفاف أو غيرهم: فإن ظهر محافظته على القيام بالواجبات وتجنب المحظورات فرشيد، وإلا فلا رشد. [والاختبار في المال] يختلف باختلاف الناس: فولد منهو من السُّوقة كالبزاز والخباز والبياع وغيرهم، اختباره: أن يُدفع إليه شيء من ماله، [و] يأمره الولي أن يتعاطى فيه أسباب البيع والشراء كما يقتضيه منصب أبيه، فيساوم ويماكس ويفعل ما جرت عادة أمثاله به: فإن ظهر أنه يحسن ذلك فهو رشيد، وإن ظهر أنه يغبن بما لا يتغابن بمثله فلا رشد، ولا يكفي في ذلك المرة الواحدة؛ فإنها قد تصدر اتفاقاً، واعتبر الماوردي جريان ذلك ثلاث مرات كما قلنا في الكلب المعلم، وفي "الرافعي": أن المرتين والثلاث تكفي إذا أفادت غلبة الظن برشده. وولد الأمير والتاجر يختبر بأن يُدفع إليه شيء من ماله لينقه في مدة شهر [في خبز وماء ولحم ونحوه: فإن كان يحسن ذلك فهو رشيد، وإلا فلا رشد. وفي "الحاوي": أنه يدفع إليه نفقة يوم ثم بعدها نفقة أسبوع، ثم نفقة شهر]. وإن كان اليتيم صاحب زراعة اختبره في تدبيرها وزراعتها: فإن رآه مصيب الرأي فيها؛ [واضعاً الأمور مواضعها]، يقدر النفقة على واجبها فهو رشيد، وإلا فلا.

والجارية، قال القاضي أبو الطيب: تختبر بأن يُدفع إليها شيء من الحمال، ويجعل نساء ثقات تستوفين عليها: فإن غزلت واستغزلت ونسجت واستنسجت ولم تبذر فرشيدة، وإلا فلا. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنها تختبر بمعاملة محارمها والنسوان، وتؤمر بالتصرف في القطن والغزل وغيرهما من آلة النساء: والكل متقارب. قال: وإما قبل البلوغ أو بعده. هذا الكلام من الشيخ فيه إشارة إلى ذكر خلاف حكاه الأصحاب وجهين في وقت الاختبار: أحدهما: أن وقته بالتجارة – كما قيده في "الاستقصاء" – بعد البلوغ؛ لأن البيع والشراء لا يصح من الصبي، وكان قائله يرى صحة بيع السفيه بإذن الولي. والثاني –وهو الأظهر -: أنه قبل البلوغ؛ لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] [فجعل غاية الابتلاء – وهو الاختبار – بلوغ النكاح]، فدل على أنه يكون قبله، ولأنه لو كان بعد البلوغ أدى ذلك إلى أن يحجر على البالغ الرشيد إلى أن يختبر، وهذا لايجوز وعلى هذا فاختباره يكون بما ذكرناه من مقدمات البيع والشراء، وإذا آل الأمر إلى العقد باشره الولي. وقيل: الولي يبتاع سلعة له ويواطئ بائعها في بيعها منه، ثم يأمر الصبي بأن يعاقد عليها بعد المساومة. وقيل: يأذن له في المعاقدة مع المساومة، ويصح عقده للضرورة. والذي حكاه الجمهور: ذكر الخلاف في وقت الاختبار من غير تقييده باختبار التجارة، والأول أقرب. وعلى كل حال: فلو تلف المال المدفوع إلى الصبي بسبب الاختبار فلا ضمان على الولي. قال: فإن كان سفيهاً في دينه أو ماله استديم الحجر عليه؛ لأن الله تعالى علق دفع المال إليه بشرطين: البلوغ، وإيناس الرشد، وكما لا يرتفع عنه الحجر إذا رشد قبل البلوغ لا يرتفع عنه إذا بلغ غير رشيد، وقد قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] وأراد بها أموال السفهاء، بدليل أمره بالإنفاق عليهم

منها، ولا يجب الإنفاق من غير أموالهم، وإنما أضيفت إلى المخاطبين؛ لأنها الجنس الذي جعله الله قياماً للناس، ونظيره قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] أي: ليقتل بعضكم بعضاً، ولأن الحجر إنما يثبت للحاجة إلى حفظ المال، وهي باقية؛ فوجب أن يبقى. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الحجر الأول هو المستدام، وليس كذلك؛ بل الأول كان للصِّبا وقد زال بالبلوغ، وخلفه حجر السَّفَه، وبين الحجرين كما قلنا تفاوت، لكن لما اتصل السفه [بالصِّبا] كان بمثابة تمادي الصِّبا؛ ولهذا كان الناظر عليه في هذه الحالة من كان ناظراً في حال الصبا من أب، أو جد، أو وصي، أو حاكم، وإن كان النظر على السفيه يختص بالحاكم، وحكم الجنون إذا اتصل بالصبا حكم السفيه المتصل به. قال: ولا يجوز بيعه ولا نكاحه، أي: بغير إذن الولي لماكن الحجر عليه، وإذا امتنع بيعه فكتابته وعتقه وهبته أولى بالامتناع، ولا فرق في ذلك بين أن يصدر في الصحة أو في مرض الموت، وفي "الحاوي" حكاية وجه في نفوذ عتقه في مرض موته؛ تغليباً لحجر المرض على حجر السفه، ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون قد بلغ في موضع فيه حاكم، أو له أب أو جد [أو وصي، أو في موضع لا حاكم فيه ولا أب [له] ولا جد] ولا وصي. وذكر الشيخ أبو علي في "شرح التلخيص" وجهاً عن بعض الأصحاب في الصورة الثانية: أن تصرفه ينفذ إلى أن يلحقه نظر والٍ: فيضرب عليه حجراً حينئذ. وهذا ما حكاه في "الاستقصاء" عن القفال في "شرح التلخيص". وقد يؤخذ من قول الشيخ في باب الإقرار: من لم يحجر عليه يجوز إقراره، وحكم شراء السفيه شيئاً [ثمن في ذمته] حكم بيعه على الأصح. وفيه وجه: أنه يصح كالعبد، وقد نسب هذا الوجه إلى الشيخ أبي حامد. قال

الإمام: وقد تتبعت كتب العراقيين وتعاليق أبي حامد فلم أجده. [وإجازته نفسه هل تلحق ببيعه شيئاً من أمواله؟ حكى القاضي الحسين عن العبادي فيها وجهين]، وهما مذكوران في "الإشراف" قولين، وفي "الحاوي": أنه إن أجر نفسه فيما هو مقصود من عمله مثل أن يكون صانعاً، وعمله مقصوداً في كسبه – لم يصح ذلك منه، وتولَّى الولي العقد عليه، وإن كان غير مقصود مثل أن يؤاجر نفسه في حج أو وكالة في عمل، وليس عمله مقصوداً في كسبه؛ لاستغنائه بماله – صحت الإجارة؛ لأنه لما جاز أن يتطوع عن غيره بهذا العمل، فأولى أن يجوز منه بعوض. قال الشيخ –رضي الله عنه -:فإن أذن له في النكاح صح. الكلام في هذا مستوفي في كتاب النكاح، فليطلب منه. وإن أذن له في البيع فقد قيل: يصح؛ لأنه عقد معاوضة فملكه بالإذن كالنكاح. وهذا هو المذهب في "النهاية" في كتاب النكاح، ويشترط عليه أن يعين له العين التي يبتاعها وثمنها. قال: وقيل: لا يصح؛ لأن المقصود منه المال، ولا يصح منه مع الحجر كما إذا كان بغير إذن وليه، ولأنه فيه بمنزلة الصبي، وقد تقدم أن الصبي لا يصح بيعه وإن أذن له الولي، وهذا هو الصحيح في [كتاب] "التتمة" في كتاب النكاح، و [هو] الأصح في "التهذيب"، وقال [الإمام] ثَمَّ: إنه غير معدود من المذهب. وهذا الخلاف جيري كما حكاه البندنيجي فيما إذا أذن له في الشراء أو الإجارة وغير ذلك من عقود المعاملات، إذا قدر له العوض فيه كما قاله الرافعي، وحقيقته ترجع إلى أنه مسلوب العبارة في المعاملات كالصبي، أو هو صحيح العبارة لكن يتوقف الحكم بصحتها على الإذن، وعلى هذا يخرج ما إذا وكله [غيره] في شيء منها، وما إذا اتهب وقبل الوصية، كما حكاه الرافعي. والمذكور في "الحاوي" في الوصية وقبول الهبة: الصحة، وادعى الإمام ان الأكثرين على صحة الهبة.

ويجري الخلاف في بيع السفيه بالإذن في قبضه، ما توجه له [في] قبضه بالإذن، لكنه وجهان كما حكاه الرافعي وغيره في كتاب الخلع، وأرجحهما في "المجرد" للحناطي: صحته. فرع: إذا اشترى شيئاً بغير إذن وليه وتسلمه، فتلف في يده أو أتلفه فلا مطالبة للبائع بسبب ذلك، لا في الحال ولا بعد فك الحجر، سواء كان عالماً بسفهه أو لا؛ لتقصيره. نعم، إذا أتلفه وفك الحج رعنه هل يجب عليه فيما بينه وبين الله تعالى وفاء بدل ذلك؟ فيه وجهان رواهما الماوردي وصاحب "التقريب"، قال الإمام: وهذا عندي هفوة؛ لأنه لو وجب لثبتت المطالبة به ظاهراً؛ إذ لا مانع، وقد حكى الرافعي ذلك وجهاً، وجوز المطالبة ظاهراً. قال: وإن طلق أو خالع صح: أما الطلاق؛ فلأن الحجر لا يتناوله؛ لأنه حراسة للمال وحفظ له؛ فإنه يسقط عن نفسه نفقة امرأته، وإن كان قبل الدخول بها رجع إليه نصف الصداق، وإذا كان كذلك لم يمنع منه، وأيضاً: فإن العبد يطلق بغير إذن مولاه، ولا يجري مجرى العقود التي منع منها، فكذلك هاهنا، ولا يقال: في إيقاع الطلاق منه تسبب إلى إتلاف ماله في النكاح، والتزام المهر الجديد؛ لأنا نقول: إذا كان كذلك سَرَّيناه بجارية، ولا نزوجه حتى لا يؤدي إلى ذلك، كذا أجاب به القاضي أبو الطيب، وفيه نظر؛ لأنا إنما نسرِّيه بعد كثرة الطلاق منه، وذلك لا يمنع ما جرى من محذور. وأما في الخلع؛ فلأنه إذا صح طلاقه فبعوض أولى. قال: إلا أنه لا يسلم إليه المال؛ للحجر عليه فيه، فلو سلمه إليه ضمنه المسلم. تنبيه: السفه: ضعف العقل وسوء التصرف، وأصله: الخفة والحركة، [يقال: سفهت الريح الشجر: مالت به، وسمي هذا سفيهاً؛ لخفة عقله. قيل: ولهذا سَمَّى الله تعالى النساء والصبيان سفهاء في قوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء: 5].

وقد حكى عن أهل اللغة: أن السفيه: الجاهل الذي قل عقله، وجمعه: سفهاء، وقد سفه – بكسر الفاء – يسفه: بفتحها، والمصدر: السفه، والسفاهة والسَّفَاهُ]. قال: وإن كان مصلحاً لدينه وماله انفك عنه الحجر، أي: من غير حاكم؛ لأنه حجر ثبت بغير حاكم؛ فلم يتوقف زواله على إزالة الحاكم كحجر المجنون، وهذا ما صححه الإمام والمتولي، وجزم به الغزالي، وينسب إلى ابن سريج. قال: وقيل: لا ينفك إلا بالحاكم؛ لأن الرشد مما يعرف بنظر واجتهاد؛ فافتقر إلى الحاكم كفك الحجر عن السفيه، وهذا يروي عن ابن أبي هريرة، وهو الأصح في "التهذيب"، والقائلون به قالوا: كما ينفك بالحاكم ينفك بالأب والجد، وفي الوصي والقيم وجهان. قال الرافعي: وهذا يطعن في توجيههم إياه بالحاجة إلى النظر والاجتهاد. وحكى الطبري عن أبي حامد: أن الصبي إن كان الناظر في ماله الأب والجد، فبلغ رشيداً زال الحجر عنه من غير حاكم، وإن كان الناظر فيه الحاكم فوجهان، وعلى هذه الطريقة ينبغي أن يحمل ما قاله الشيخ أولاً وما قاله هنا، وجزم في "البحر" في كتاب "الوصية" بأن الولي إن كان أباً أو جدًّا انفك بنفسه، وإن كان حاكماً أو قيماً فلابد من فك الحاكم، وإن كان وصيًّا فوجهان. فرع: لو ادعى [الابن] على الأب أنه بلغ رشيداً، وطالب فك الحجر عنه، وأنكر الأب لم يحلف. قال في "الإشراف": ويحتمل أن يخرج وجه آخر على مقتضى قول أبي حامد: إن الأب يحلف؛ لأن الحلف يستخرج منه الإقرار، [فهو لو] أقر برشده انعزل عن الولاية؛ فكان للتحليف فائدة. فرع: إذا حكم الحاكم للسفيه في تصرف خاص ففيه وجهان:

أحدهما: لا يستفيد به جواز التصرف على العموم؛ كالعبد المأذون له في نوع من التجارة لا يصير مأذوناً له في سائر الأنواع. والثاني: يلي؛ لأن القاضي إذا رأى الرشد فيه حتى أطلق الحجر عنه في نوع وجب عليه إطلاق الحجر عنه على العموم؛ فانطلق على العموم بالإطلاق الخاص، كذا حكاه القاضي الحسين في باب "مداينة العبيد". فرع: لو بلغ الصبي، ولم يظهر منه ما يخالف الرشد قال الإمام: فالأصح أن [الحجر يطلق] عنه، ولا حاجة إلى إطلاق القاضي، وذكر بعض الأصحاب وجهاً بعيداً [مما حكيناه] في هذا المقام أيضاً: في أن رفع الحجر يتصل بالحكم وإطلاق الحاكم، وهذا بعيد جداًّ، وهو أبعد مما حكيناه فيه إذا بلغ سفيهاً ثم زال السفه واستمر الرشد؛ فإنه قد يظن أن الحجر يثبت بمجتهد فيه وهو السفه؛ فيزيله المجتهد بنظره، وهذا بعيد كل البعد؛ إذ لم يثبت سفه متصل [بزوال الصبا]. هذا آخر كلامه، وقد فهم منه [بعض علماء زماننا أن الحجر ينطلق عن الصبي على الصحيح بمجرد البلوغ، وعد ظهور أم رمنه يخالف] الرشد. وأنه استشكله، وعندي: أن هذا ليس المراد؛ وإنما الإمام – رضي الله عنه – قدم على هذا الفرع ما إذا بلغ سفيهاً ثم رشد: أن الحجر يرتفع عنه بمجرد الرشد على الأصح، ثم فرض هذا الفرع، ومراده حصول الرشد بعد حالة البلوغ التي لم يعرف فيها هل هو رشيد أم سفيه، ويؤيده ما ذكره من بعد كما حكيناه، ثم فحوى كلام الإمام: أنه لو بلغ رشيداً لا يحتاج إلى فك الحاكم وجهاً واحداً، والله أعلم. وإن فك الحجر عنه، ثم بر، أي: صرف المال في غير وجهه على النعت الذي ذكرناه من قبل. قال أهل اللغة: التبذير: تفريق المال إسرافاً، ورجل مُبَذِّر وتِبْذَارة. قال: حجر عليه الحاكم؛ لما روي أن عبد الله بن جعفر ابتاع أرضاً سبخة

بستين ألف درهم، فمر عليها عثمان بن عفان – رضي الله عنه – فقال: ما يسرني أن تكون [لي] بنعلين، ثم رأى علي بن أبي طالب فقال: لِمَ لا تأخذ على يد ابن أخيك؟! اشترى سبخة بستين ألفاً ما يسرني أنها لي بنعلين. فعلم عبد الله بن جعفر بذلك، فلقي الزبير بن العوام، وذكر له الحال، فقال: شاركني فيها، فشاركه، ثم اقبل علي إلى عثمان – رضي الله عنهما – فسأله الحجر على عبد الله، قال عثمان بعد أن بلغه مشاركة الزبير: كيف أحجر على من شريكه الزبير؟! [ذلك أن الزبير] كان معروفاً بالإمساك والاستصلاح؛ فصارت شركته شبهة تنفي استحقاق الحجر. فكان ذلك منهم – ومن باقي الصحابة [في إمساكهم] – إجماعاً منعقداً على استحقاق الحجر على البالغ، وأن الذي يتعاطاه هو الحاكم، ولأن التبذير معنيّ لو فارق البلوغ منع من دفع المال إليه؛ فإذا طرأ بعده وجب انتزاعه من يده، أصله الجنون. وقد يستدل لجواز الحجر [عليه] بقوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] فذم المبذر، فوجب المنع منه، ولا يصح المنع من التبذير وإلا بالحجر. وبقوله صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِكُمْ"، ولا يصح ذلك إلا بالحجر. قال: ولا ينظر في ماله غيره، أي: غير الحاكم؛ لأنه حرج ثبت بالحاكم؛ فكان هو الناظر فيه كمال المفلس، هذا هوا لصحيح، ووراءه وجوه: أحدها – [حكاه] في "الإشراف" -: أنه إذا حجر عليه وله أب أو جد كانت الولاية عليه للأب والجد. والثاني: أن الحجر لا يفتقر إلى حاكم، بل يعود عليه بنفسه؛ كما لو جن، فعلى هذا يكون الناظر عليه الأب والجد أو الحاكم؟ فيه وجهان كالوجهين

فيما إذا جن الرشيد، يكون النظر في ماله لمن؟ لكن الأصح في المجنون أن النظر في ماله للأب والجد، وهاهنا الأصح. أن النظر للحاكم. والثالث –رواه ابن كج عن أبي يحيى البلخي -: أن للأب والجد إعادة الحجر عليه كما للحاكم؛ فعلى هذا يظهر أن يكون النظر [لهما]. قال: والمستحب أن يشهد على الحجر؛ ليجتنب [الناس] معاملته. وقد أشار الشيخ – رضي الله عنه – إلى علة الحكم بما ذكره. وقال ابن أبي هريرة: لا يصح هذا الحجر إلا بالإشهاد عليه. قال الماوردي: ويستحب بعد الإشهاد أن ينادي في الناس بإيقاع الحجر عليه؛ ليكون أشهر لأمره. فرع: لو كان يغبن في بعض التصرفات خاصة فهل يحجر عليه في ذلك النوع خاصة؟ فيه وجان؛ لبعد اجتماع الحجر والإطلاق في شخص واحد. قال: وإن انفك الحجر عنه، ثم سفه في الدين دون المال – فقد قيل: يعاد الحجر عليه، كما لو سفه في المال؛ بجامع توقف فكاك الحجر على وجود الرشد فيهما عند البلوغ، وهذا قول ابن سريج، وهو الأصح في "التهذيب". وقيل: لا يعاد؛ لأن الأولين لم يحجروا على الفسقة، ويخالف الاستدامة؛ لأن الحجر كان ثَمَّ ثابتاً، والأصل بقاؤه، وهاهنا ثبت الإطلاق والأصل بقاؤه؛ لا يلزم من الاكتفاء بالشك للاستصحاب الاكتفاء به لترك الأصل، ويخالف التبذير؛ فإنا نتحقق به تضييع المال، وبالفسق لا نتحقق؛ فإنه ربما لا ينفق المال إلا يما يسوغ وإن كان فاسقاً، ومقصود الحجر صيانة المال، كذا قال الرافعي، واختار صحة هذا الوجه، كما جعله الإمام المذهب، وهو قول أبي إسحاق المروزي، قال القاضي أبو الطيب: وهو ظاهر لفظ الشافعي. قلت: ولك أن تعترض على ما قاله الرافعي من "أن الحجر كان [ثم] ثابتاً، والأصل بقاؤه" بأن الحجر الذي كان ثابتاً حجر الصِّبا، وقد زال بالبلوغ، والحجر

عليه بعد ذلك حجر سفه، فقياس ما قاله ألا يحجر عليه [إلا] في حالة بلوغه كما في هذه الحالة، والله أعلم. ولا يخفى أن هذا الخلاف مفرع على المذهب في اعتبار الرشد في الدين حالة البلوغ، أما إذا قلنا: [إنه لا يعتبر كما رويناه عن حكاية صاحب "التتمة" فلا يعاد هاهنا وجهاً واحداً، ثم الوجه الذي حكيناه في عود الحجر صاحب "التتمة" فلا يعاد هاهنا وجهاً واحداً، ثم الوجه الذي حكيناه في عود الحجر عليه بنفسه إذا سفه في المال – كما هو منسوب إلى أبي ثور – قال [الإمام]: لا يجيء في هذه الصورة. فرع: إذا رشد بعد وقوع حجر عليه فيما كان سفيهاً فيه افتقر [زوال الحجر] إلى رفع الحاكم وجهاً واحداً إن قلنا: لا يثبت إلا بالحاكم. وإن قلنا: إن الحجر يعود بنفسه، قال الإمام: فحكمه حكم من بلغ سفيهاً ثم رشد، والأصح فيه: أن الحجر يرتفع [عنه] من غير حاكم. وغيره ألحقه بالصبي إذا بلغ رشيداً، والكل متقارب. والله أعلم.

باب الصلح

باب الصلح الصلح، والإصلاح، والمصالحة: قطع المنازعة. مأخوذ من قولهم: صلح الشيء - بفتح اللام وضمها - إذا كمل، وهو خلاف الفساد. وهو في عرف الشرع: معاقدة يتوصل بها إلى الإصلاح بين المتخاصمين. وهو يتنوع أنواعاً: صلح بين المسلمين، والمشركين. وصلح بين الإمام والفئة الباغية. وصلح بين الزوجين إذا وجد الشقاق، أو [إذا] وجدت من الزوج إعراضاً وخافت النشوز. وصلح في المعاملات: وهو الذي ذكر هذا الكتاب لأجله. ولا يقع في الغالب إلا على انحطاط رتبة إلى ما دونها لبلوغ بعض الغرض. ويقال: صالحته مصالحة [وصلاحاً - بكسر الصاد - ذكره الجوهري [وغيره]. قال: وهو يذكر ويؤنث، وقد اصطلحا وتصالحا] واصَّالحا. والأصل في جوازه آيات من الكتاب، منها قوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} إلى آخرها [النساء:114]. ومن السنة: ما روى أبو هريرة وعمرو بن عوف المزني [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم] قال: "الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلا صُلْحاً حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً" كذا

خرَّج أبو داود رواية أبي هريرة. وأراد بالأول: أن يصالح على دراهم بأكثر منها، وبدنانير غير مؤجلة، أو بخمر أو خنزير ونحو ذلك. [وبالثاني: أن يصالح زوجته على ألا يطلقها أو لا يتزوج عليها، أو لا يتصرف في المال المصالح به ونحو ذلك]. وقد جاء لفظ الخبر أثراً عن عمر، قيل: وهو المشهور، وإن أكثر أحكام عمر كانت صلحاً. وقد أجمع المسلمون على جواز الصلح ومشروعيته. واختلف أصحابنا في أنه رخصة؛ لاستثنائه من [جملة] محظور، أو وهو مندوب إليه؛ لكونه أصلاً بذاته؟ على وجهين: اختار الأول منهما [ابن] أبي هريرة، وهو ظاهر قول أبي إسحاق المروزي؛ لأنه فرع لأصول يعتبر بها في صحته وفساده، وليس أصلاً بذاته، فصار لاعتباره بغير رخصة [مستثناة] من جملة محظور. والثاني [قاله] أبو الطيب بن سلمة؛ لأنه أصل بذاته قد جاء الشرع به، وجرى العمل عليه. قال في "الحاوي": وقد أشار إلى القول به أبو حامد. ولهذا الاختلاف أثران: أحدهما: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "الصُّلْحُ جَائِزٌ ... " إلى آخره، هل هو مجمل أو عام؟ فمن قال بالأول قال: إنه مجمل، ومن قال بالثاني قال: إنه عام. والأثر الثاني يأتي في الكتاب. والذي جزم به الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ: أنه ليس أصلاً بنفسه، وإنما هو فرع لغيره، وسنذكر ما هو فرع له. قال الشيخ – رحمه الله -: الصلح بيع؛ لوجود معنى البيع فيه. هكذا وجهه الشيخ، رحمه الله.

فإن قيل: الشيخ – رحمه الله – حصر الصلح في كونه بيعاً، وقد حكى عن الشيخ أبي حامد: أن الصلح ثلاثة أنواع – كما جزم به راوياه المحاملي والبندنيجي -: صلح هو بيع، وصلح هو إبراء، وصلح هو هبة، فكيف يحسن من الشيخ مخالفته، و"التنبيه" مختصر "تعليقه"؟! قلت: الجواب [أن المحاملي حكى] عن الشيخ أبي حامد تصوير صلح الإبراء: بما إذا كان له عند زيد ألف وهو مقر بها، فقال: أعطني [خمسمائة وأبرأتك من خمسمائة. وصلح الهبة: بما إذا كان له عنده عينان أو عين واحدة، فقال]: أعطني أحداهما أو بعض العين ووهبتك الباقي، وأنه جزم بالبطلان فيما إذا قال: صالحتك من الألف على خمسمائة، ومن العينين على إحداهما أو بعض العين الواحدة؛ كما حكاه ابن الصباغ هنا، وإن كان في باب خيار المجلس قد فسرهما بمثل ما قاله أبو حامد. فلما نظر الشيخ في ذلك وجد ما قاله من تصوير صلح الإبراء والهبة حائداً عن حقيقته؛ فإنه لم يأت فيهما بلفظ الصلح؛ فإن حقيقته فيهما: أن يصالح من الألف [على] خمسمائة، ومن العينين على أحداهما، أو من العين على بعضها و [قد] جزم في هاتين الصورتين بالمنع، وأعرض عن ذكرهما؛ لتناقض الكلام فيهما، واقتصر على ذكر كونه بيعاً؛ لكون هذا الكتاب مختصراً من "تعليقه". ثم البيع الذي فسر به الصلح يشمل بيع الدين والعين والمنفعة، وقد حكى في "المهذب" وجهين في أن الصلح بيع بالتفسير الذي ذكرناه [ليس] إلا؛ حتى لا يصح فيما عداه، أو يتنوع إلى ذلك وإلى كونه إبراء أو هبة أو عارية، حتى تصح جميع هذه العقود. والذي جزم به القاضي أبو الطيب واختاره في "المرشد"، ورجحه ابن الصباغ [وغيره: الثاني. وحكى ابن الصباغ] أن أبا الطيب ذكر في صورة الإبراء ما يقتضي موافقة الشيخ أبي حامد في عدم الصحة، وأنه قال في موضع آخر بالصحة فيها، وأن غيره حكاه.

والأول – وهو ما اختاره الشيخ في هذا الكتاب – مؤيد بما حكاه الماوردي: أن الشافعي – رضي الله عنه – نص على أن الصلح من الدار على سكناها لا يصح. ثم صورة الصلح الذي هو بيع: أن يكون له في يده عين أو في ذمته دين، فيقر له به، [ثم] يصالحه على ما يتفقان عليه من غيره، سواء كان عيناً أو ديناً أو منفعة، لكنه إذا وقع على منفعة كان إجارة. وصورة الصلح الذي هو [إبراء: أن يصالحه على أن يسقط بعض الدين ويدفع إليه الباقي. وصورة الصلح الذي هو هبة: أن يدعي عليه عيناً، فيصالحه على بعضها، ويكون الباقي] هبة. وصورة الصلح الذي هو عارية: أن يصالحه من الدار على سكناها شهراً – مثلاً – وله أن يرجع فيه، وسيأتي بعض هذه المسائل في الكتاب. واعلم أن كثيراً من الطلبة يسالون عن المعنى الذي لأجله قال الشيخ في السلم: إنه صنف من البيع، وقال هنا: إن الصلح بيع، وكذلك قال في الإجارة: وقد قيل في معناه: إن السلم لما كان لا ينعقد به إلا بيع خاص وهو بيع الدَّيْن – حسن تسميته صنفاً منه، والصلح لما انعقد به بيع ما في الذمة وبيع العين، [وكذلك الإجارة لماصح ورودها على ما في الذمة وعلى العين] حسن تسميتها بيعاً. وقد يقال: إن لفظ "الصنف" و"البيع" [إذا نطق به منكراً مترادفان؛ لأن الصنف واحد الجنس، وكذلك البيع] إذا نطق به منكراً كان واحد الجنس أيضاً؛ فلا فرق بينهما، والتغاير في اللفظ من أساليب البلاغة. ويعضده أن الإمام حكى [في هذا الكتاب] عن الشافعي أنه قال: الإجارة صنف من البيوع، والله أعلم.

قال: يصح ممن يصح منه البيع، ويثبت فيه ما يثبت [في البيع] من خيار المجلس، وخيار الشرط، أي: إذا لم يكن ثم ما يمنعه كما تقدم في البيع. قال: والرد بالعيب، أي: وباقي الأحكام من التحالف، والاستتباع، وثبوت الشفعة، وغير ذلك؛ تحقيقاً لمعنى البيع. قال: ولا يجوز الصلح على ما لا يجوز عليه البيع من المجهول وغيره، أي: مما هو مذكور في الأبواب السالفة؛ للمعنى الذي ذكرناه. واعلم [أن الشيخ نبه بقوله: يصح ممن يصح منه البيع، على أمرين: أحدهما: أنه [لا] يصح ممن لا يصح منه البيع. والثاني:] أنه يصح وإن لم يتقدم بينه وبين المشتري مخاصمة؛ لأنه يصح منه البيع في هذه الحالة. وقد حكى [عن] الشيخ أبي محمد رواية وجه في هذه الصورة: أنه لا يصح بيعاً؛ فإن الصلح من غير تقدم منازعة غير مستعمل، وجعله الرافعي أظهر، ثم قال: وهو مفروض فيما إذا لم ينوياً أو أحدهما به شيئاً، أما إذا نويا به البيع، فإنه يكون كناية بال شك، ويكون على الخلاف المشهور في انعقاد البيع بالكنايات. ونبه بقوله: ولا يجوز الصلح على ما لا يجوز البيع عليه .. إلى آخره [على] أنه يصح على ما يصح عليه [البيع]؛ إذ لو لم يكن هذا المراد لما كان لتخصيص المذكور بالذكر فائدة، وهذا هو الصحيح، وما روي عن صاحب "التلخيص" من أنه جوَّز الصلح عن أرش الموضحة إذا علما قدره، وأنه منع صحة بيعه –فقد خالفه فيه المعظم، وإن كان الغزالي جعل المخالف له الشيخ أبا علي، وقالوا: إن كان الأرش مجهولاً كالحكومة التي لم تقدر بعد، لم يصح الصلح عنه ولا بيعه. وإن كان معلوم القدر والصفة: كالدراهم إذا ضبطت في الحكومة، جاز الصلح عنها، وجاز بيعها ممن عليه. وإن كان معلوم القدر دون الصفة على الحد المعتبر في السلم؛ كالإبل الواجبة في

الدية، ففي جواز الاعتياض عنها بلفظ الصلح وبلفظ البيع جميعاً وجهان – وقال: قولان-أظهرهما فيما ذكره السرخسي: المنع. قال: فإن صالح من دين، أي: يجوز بيعه، على عين أو دين، لم يجز أن يتفرقا من غير قبض. هذه المسألة قدمت الكلام عليها في باب القرض؛ فليطلب منه. وقد حكى المحاملي هنا- وهو الذي اختاره في "المرشد" – أن الأصح فيما إذا صالح على عين: انه لا يشترط القبض كما حكيناه [ثم] عن الغزالي وغيره. قال: وإن صالح من ألف على خمسمائة، أي: بأن قال: صالحتك عن الألف الذي في ذمتك [على خمسمائة في ذمتك]، وقبضها في المجلس – لم يصح؛ لأنا [قدرنا أن الصلح بيع، هو] لو قال: بعتك الألف بخمسمائة لم يصح اتفاقاً؛ فكذلك إذا كان بلفظ الصلح، وهذا [ما حكينا] من قبل أن الشيخ أبا حامد جزم به. قال: وقيل: يصح؛ لأن معنى ذلك: أعطني خمسمائة، وأبرأتك من خمسمائة. وهو لو صرح بذلك لصح – كما سنذكره –فكذلك إذا أتى بلفظ الصلح، وهذا ما جزم به القاضي الحسين في "التعليق"، ورجحه الإمام والرافعي وابن الصباغ، كما ذكرناه.

وقدح في علة الأول بأن الصلح إنما يكون بيعاً إذا ذكر فيما يقتضي معاوضة، أما أن يكون لفظه يقتضيه فليس بصحيح؛ لأن الصلح إنما معناه: الاتفاق [والتراضي، والاتفاق] قد يوجد في المعاوضة وغيرها، وهذا كما أن لفظ التمليك إذا كان فيام طريقه المعاوضة، مثل أن يقول: ملكتك هذا [بهذا، يكون بيعاً، وإذا قال: ملكتك هذا]، كان هبة؛ لما تجرد عن العوض، كذلك هذا. وفي "الحاوي" حكاية ما جزم به أبو حامد عن أبي إسحاق المروزي، وما رجحه ابن الصباغ عن أبي الطيب بن سلمة، وأنهما بنيا ذلك على اعتقادهما أن الصلح رخصة وفرعٌ لغيرهِ، أو هو أصل بنفسه؟ فأبو إسحاق قال: هو فرع للبيع؛ [فلا يصح، و] أبو الطيب بناه على أنه أصل بنفسه؛ فيصح. ثم على هذا: هل يفتقر إلى الإتيان بلفظ الإبراء؟ فيه وجهان في "التتمة". فإن قلنا: إنه لا يفتقر – وهو المشهور – فهل يفتقر [إلى القبول]؟ بناه الإمام وغيره على أن الإبراء هل يفتقر إلى القبول أم لا؟ والأصح: أنه لا يفتقر. وإن قلنا بافتقاره فهاهنا كذلك، وألا فوجهان كالوجهين فيما إذا قال: وهبتك ما لي عليك من دين؛ لأن اللفظ معناه التمليك؛ فيستدعي في وضعه القبول؛ ولهذه العلة جعل الرافعي وجه الاشتراط أظهر. أما لو قال: صالحتك من الألف الذي في ذمتك على هذه الخمسمائة، فقد ادعى بعضهم جريان الخلاف السابق في هذه الصورة – أيضاً – وهو ما صححه المتولي، وقال الإمام والقاضي الحسين في "تعليقه": الأصح فيها البطلان، ويبقى الألف بحاله؛ فإن اللفظ الذي جاء به مع التعيين صحيح في عوض المعاوضة، وبيع الألف بخمسمائة باطل، ويجري الخلاف الذي حكاه الشيخ وأصله فيما إذا أقر بعين، ثم قال: صالحتك على بعضها كما حكيناه من قبل؛

لأن بيع الشيء ببعضه باطل، ولكن على قول الصحة – وهو الأصح عند الإمام وابن الصباغ والرافعي – لابد من وجود [شرائط] الهبة وجهاً واحداً. فرع: لو كان له في ذمته ألف درهم وخمسون ديناراً، فصالحه [منها] على ألف درهم – [صح، بخلاف ما لو كان له تحت يده ألف درهم وخمسون ديناراً، فصالحه منها على ألف درهم]؛ حيث لا يصح؛ لأنه من قاعدة مُدِّ عَجُوة، بخلاف الأولى؛ لأنه يجعل قابضاً للألف، معتاضاً [عن الخمسين] ديناراً ألف درهم. وقال القاضي الحسين: لا يصح في هذه الصورة أيضاً، تنزيلاً له على معنى المعاوضة، وهو الذي تقتضيه طريقة الشيخ أبي حامد. ويجري الخلاف فيما لو كان له عنده صاع حنطة وصاع شعير، فصالحه على صاعي حنطة أو شعير، كما صرح به القاضي الحسين في "التعليق". قال: وإن قال: أعطني خمسمائة وأبرأتك من خمسمائة، جاز؛ لأنه أبرأه عن بعض حقه وأخذ بعضه، ولا منافاة في ذلك، وقد استدل له بما روى مسلم وأبو داود بسندهما: أن كعب بن مالك تقاضى ابن أبي [حَدْرَدٍ دَيْناً كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما] حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته؛ فخرج إليهما حتى كشف عن سجْفِ حجرته، ونادى: "يَا كَعْبُ" قال: لبيك، يا رسول الله، فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده: أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ، فَقَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُمْ فَاقْضِهِ". ثم هل يشترط قبض الخمسمائة الأخرى في المجلس؟ الذي يقتضيه كلام الماوردي: لا؛ فإنه قال: لو ادعى عليه ألفاً، فأقر بها، ثم

صالحه [منها] على خمسمائة، وأبرأه من الباقي – [كان ما صالحه] عليه من الخمسمائة مستحقًّا؛ فالصلح صحيح، والإبراء لازم، [ويرجع] على المقر ببدل ما استحق من يده. قلت: فلو كان القبض شرطاً لما برئ في هذه الصورة؛ لأن قبض المستحق كلا قبضٍ، دليله: لو وقع مثل ذلك في الصرف ورأس مال السلم، ويعضد ذلك ما قاله المتولي في المسألة قبل هذه: أنا إذا صححنا العقد فيها لا يشترط قبض الخمسمائة في المجلس؛ لأنا لم نجعل لهذا العقد حكم المعاضة، بل جعلناه إبراء، وذلك في مسألتنا من طريق الأَوْلى، وفي "الجيلي": أن من شرط صحة الإبراء قبض الباقي في المجلس، وأنه هل يفتقر إلى القبول فيها [على قولنا: إن الإبراء لا يفتقر إلى القبول؟ فيه] وجهان. وفي "الزيادات" لأبي عاصم العبادي: أنه إذا امتنع من أداء الخمسمائة كان في المسألة وجهان أحدهما: يعود الدين. والثاني: لا يعود؛ بناء على أن الإبراء هل يقتضي القبول؟ فإن قلنا: يقتضيه، فامتناعه رد للقبول حكماً؛ فلم يسقط الدين، وإن قلنا: لا يقتضي القبول، فالدين ساقط. والحكم فيما لو كان المدعي عيناً، وأقر بها، ثم قال: أعطني نصفها ووهبتك [الباقي]، كما ذكرنا، لكن يشترط في النصف الموهوب استكمال شرائط الهبةز فرع: لو قال: أبرأتك من الخمسمائة على أن تدفع إليَّ الخمسمائة الباقية، لم يصح؛ لأنه ترك [بعض حقه ليأخذ البعض، وليس يجوز أن يبيع] بعض حقه ببعض، كذا قال المحاملي، ثم قال: ومن أصحابنا من غلط فقال بجواز ذلك. قال: وإن ادعى عليه مالاً، فأنكره، ثم صالح منه – [أي: من المدعي عليه] – على شيء، أي: من المدَّعَى أو غيره – لم يصح الصلح؛ لقوله – عليه السلام-: "إِلاَّ

صُلْحاً أَحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً". وهذا يحل الحرام ويحرم الحلال: لأنه [إن كان المدعي كاذباً فقد استحل من المدعي عليه ماله وهو حرام، وإن كان] صادقاً فقد حرم عليه ماله الحلال. ولأنه أحد عوضي الصلح؛ فلم يصح عليه مع عدم ثبوت ملك مالكه عليه؛ قياساً على العوض المصالح عليه، وهذا ما ذهب إليه العراقيون، وقالوا: لو صرح بعد وقوع هذا الصلح بالإبراء عن الباقي، لمي صح. وفي "ابن يونس" و"حلية" الشاشي حكاية وجه في صحته، وقد وافق المراوزةُ العراقيين في مسألتين، وخالفوهم في مسألتين: فإحدى الأُولَيَيْنِ: إذا صالح على غير المدعى. والثانية: أن يدعي عليه ألفاً في ذمته، ثم يصالحه على خمسمائة في الذمة. فإن قيل: قد حكمتم فيما لو جرى مثل هذا الصلح مع الاعتراف بالألف: أن الصلح صحيح، ويكون بمعنى الإبراء، وأنه لا يفتقر إلى القبول على رأي؛ فينبغي على هذا الرأي أن تبرأ ذمة المدعي عليه من القدر الذي حصل عنه الإبراء، حتى لو قامت عليه بينة بعد ذلك بالألف لا يطالب إلا بخمسمائة؛ كما [لو] صرح بإبرائه من الألف الذي أنكره، وقلنا: لا يفتقر إلى القبول. فالجواب عنه من وجهين: أحدهما – ما قاله الماوردي وغيره -: أن الإبراء في هذه الصورة مقرون بملك ما صالح به، فلما لزمه رده لعدم ملكه بطل إبراؤه؛ لعدم صفته؛ كمن باع عبداً بيعاً فاسداً، فأذن لمشتريه في عتقه، فأعتقه المشتري بإذنه – لم ينفذ. والثاني – يؤخذ مما حكاه الجيلي من قبل -: أنَّ مِنْ شَرِطِ صحة الإبراء عن الخمسمائة في حال الاعتراف – قبضَ الخمسمائة الأخرى، وقد انتفى الشرط هنا؛ فلا جرم انتفت صحة [الإبراء عن الخمسمائة]. وإحدى الثانيتين: أن يصالح من العين على بعضها، ففي صحة الصلح على قولنا بالصحة في حال الإقرار وجهان: أحدهما – وبه قال القفال -: نعم؛ لأن المتعاقدين متوافقان بعد العقد على أن

النصف مستحق المدعى، والنصف الآخر للمدعى عليه؛ لأن المدعي يزعم أنه يملك الجميع، وأنه مَلَّك النصف للمدعي عليه هبةً، والمدعى عليه يزعم مثل ذلك، والاختلاف في جهة ملك العين لا يقدح [في] الاستحقاق. والثاني: لا؛ كما لو كان على غير المدعى، ولأن الدافع والقابض مهما اختلفا في الجهة، كان القول قول الدافع، وإذا كان كذلك فالدافع يقول: إنما بذلت النصف؛ لدفع الأذى حتى لا يرفعني إلى القاضي، ولا يقيم على بينةً. والثانية: إذا ادعى عليه ألفاً، فصالحه على خمسمائة معينة، [فهي تبنى] على المسألة قبلها، فإن منعنا ثَمَّ، فهاهنا أولى، وألا فوجهان: أحدهما: أن الحكم كذلك، ويقدر كأن المدعي عليه وهبه الخمسمائة بزعمه، وأن المدعي يقبضها؛ لأنها من حقه، وأنه أبرأه من الباقي. والثاني: لا، والفرق: أن ما في الذمة ليس [ذلك] المعين، وفي الصلح عليه معنى المعاوضة، ولا يمكن تصحيحه معاوضة مع الإنكار، وقد اتفق الناقلون على أن هذا أصح. واعلم أن صورة الصلح على الإنكار بالاتفاق: أن يدعي عليه ديناً مبلغه ألف – مثلاً – أو عيناً، فينكر، ثم يقول: صالحتك، أو: صالحني عن دعواك الكاذبة. ولو قال: صالحني عن الألف أو العين، فالحكم كذلك عند العراقيين، وكذا عند المراوزة؛ على الأصح. وعلى وجه: يجعل بذلك مقرًّا؛ فيكون الصلح الواقع بعده صلحاً على الإقرار. ولو قال: بعني أو هبني أو زوجني، فهو إقرار عند المراوزة والقاضي أبي الطيب؛ كما لو قال: ملكني، وهو الذي صححه ابن الصباغ وغيره، وقال الشيخ أبو حامد: هو كما لو قال: صالحني. ولو قال: آجرني أو أعرني، ففيه خلاف مرتب، وأولى بألا يكون إقراراً، وهو الذي جعله في "الإشراف" في مسألة الإجارة أقيس. ولو قال: أبرئني من الدين، كان إقراراً.

ولو قال: أبرئني من المال، فكذلك؛ على الأصح. وفي "الإشراف": أن ابن القاص حكى عن بعض أصحابنا: أنه ليس بإقرار؛ لأن الله – تعالى – قال: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب: 69]، وموسى لم يكن آدر، وتبرئته عن عيب الأُدْرة، لم تقتض إثبات الأدرة. قال: وإن صالح عنه – أي: عن الدعي عليه – أجنبي: فإن كان المدعي ديناً جاز الصلح، أي: بعد قول الأجنبي للمدعي: حقك ثابت؛ لأنه إن كان وكيلاً فالتوكيل في وفاء الدين جائز، وإن كان غير وكيل فقد قضى دين غيره [بغير إذنه] وذلك جائز؛ لما روي أن عليًّا وأبا قتادة – رضي الله عنهما – قَضَيَا ديناً عن الميت. وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه لابد مع اعتراف الأجنبي بالحق أن يقول: وقد أقر به عندي. ثم هل للأجنبي أن يرجع على المدعي عليه بشيء؟ نظر: إن كان المدفوع من مال المدعي عليه بإذنه فلا، وإن كان من مال الأجنبي: فإن كان قد صالح بإذنه وأدى بإذنه مع شرط الرجوع فنعم، وإن صالح وأدى بغير الإذن فلا رجوع، وإن صالح بالإذن وأدى بغير الإذن فلا رجوع له. جزم به المحاملي والقاضي أبو الطيب، وقاساه على ما إذا وكَّل وكيلاً في شراء شيء، فاشتراه ووزن الثمر، وسنذكر فيه كلاماً في باب الضمان وغيره،

ويتجه جريان مثله هنا، وحكى البندنيجي في الرجوع في هذه الصورة وجهين [كالوجهين] فيما إذا ضمن بالإذن وأدى [بغير الإذن، ولو صالح بالإذن وأدى] بالإذن، ولم يشترط الرجوع فالجمهور على أنه يرجع، وبه جزم ابن الصباغ وغيره، وحكى الماوردي فيه وجهين: ثم لا فرق فيما ذكرناه [بين] أن يصالح الأجنبي بغير إذن من مال نفسه على جنس المال المدعى أو على غيره، كما صرح به المحاملي وأبو الطيب. وحكى الإمام والقاضي الحسين فيما إذا صالح على جنس المدعي به وجهاً: أن الصلح لا يصح، كما في العين. وقال الإمام: إنه بعيد. وعلى الأصح: لو صالح على غير الجنس المدعى [به] هل يصح؟ فيه وجهان حكاهما هاهنا، وقال: إن الأظهر منهما الصحة، وهو ما قال في أواخر كتاب الرهن: إنه المذهب. فعلى هذا: إذا كان في صورة ثبت له الرجوع فيها، فإن كان المصالح به أكثر من المدعي [به] لم يرجع بالقدر الزائد، وإن كان مثله رجع به، وإن كان دونه فوجهان: أحدهما: يرجع بقيمة ما بذله. والثاني: بقدر الدين. فرع: لو صالح الأجنبي عن الدين لنفسه، قال الإمام وغيره: هو على الخلاف في [بيعه من] غير من هو عليه. وحكى غيرهم فيه طريقين: أحدهما - وبه صدر ابن الصباغ كلامه، وقال المحاملي: إنه المذهب -: أنه لا يصح؛ لأنه اشترى ما لا يقدر على قبضه. والثاني: حكاية وجهين فيه، وهذا ما حكاه الشيخ في "المهذب" وأبو الطيب في "تعليقه"، ومقتضاه: أن يكون الأظهر منها عند الشيخ الصحة؛ كما قال: إن الأظهر صحة بيع الدين من غير من هو عليه.

وقد قال المحاملي: إنه ليس بشيء. فعلى هذا: ينبغي أن يشترط في صحة العقد اعتراف المشتري بقدرته على الانتزاع، كما سنذكره في العين. آخر: إذا صالح مع الأجنبي على عين، ثم جحد الأجنبي وحلف- هل يعود إلى من كان الدين عليه؟ قال القاضي الحسين: نعم، ويفسخ الصلح، [وعن حكاية الشيخ أبي عاصم أنه لا يعود،] كذا حكاه الرافعي في باب الحوالة. قال: وإن كان عيناً، لم يجز حتى يقول: هو لك، وقد وكلني في مصالحتك. هذه المسألة تنبني على أصل، وهو أن الأجنبي لو صالح بغير إذن، هل يصح؟ فيه خلاف بين الأصحاب. فالذي ذهب إليه الإصطخري وأبو الطيب بن سلمة: أنه لا يصح. فعلى هذا: لو أذن له في الصلح، هل يكفي أم لابد من إقرار المدعي عليه عند الوكيل بأن العين ملك المدَّعِي؟ فيه وجهان. أصحهما في "الحاوي": الأول. [والذي ذهب] إليه ابن سريج، وأبو علي الطبري، وأبو حامد فيما إذا صالح بغير الإذن: الصحة. عدنا إلى مسألة الكتاب، فإن قلنا بقول أبي سعيد الإصطخري، وبأنه لا يحتاج مع الإذن إلى الإقرار – فيكفي الوكيل أن يقول: هو لك وقد وكلني في مصالحتك، كما قاله الشيخ. وبه جزم القاضي أبو الطيب في "تعليقه"، ووجهه بأن العبرة بإتفاق المتعاقدين على ما يجوز العقد عليه، وقد وجد ذلك. فعلي هذا: لو لم يكن قد وكله في الباطن [لم يملك العين في الباطن]، وكانت ملكاً للأجنبي المصالح على أحد الوجهين. وإن كان قد وكله نظر: إن عين له العوض من ماله فذاك، وإن لم يعين فهو في ذمته.

فلو أداه الوكيل من مال نفسه فالحكم في الرجوع كما ذكرنا من قبل، لكن البندنيجي جزم في هذه الصورة فيما [إذا] أدى بغير الإذن: بأنه لا يرجع. وإن قال له: صالح [على ذلك] بثوبك هذا، ففعل: فهل يصح؟ فيه وجهان، [وإذا صح [فهو] قرض للثوب أو هبة؟ فيه وجهان] حكينا نظيرهما من قبل. وفي "الشامل" وغيره حكاية عن أبي إسحاق: أن الوكالة لا تجوز في الباطن مع الإنكار في الظاهر. وقد يفهم من هذا عدم صحة الوكالة والصلح، كما فهمه ابن يونس، وصرح بحكايته، وأشار إليه الشاشي، وصاحب "المرشد". ويقال: ينبغي على هذا الرأي أن يكون الحكم ما لو لم يكن قد وكله. وقد يفهم: أن المراد بعدم الجواز عدم الحِلِّ [لا عدم الصحة]، كما صرح به المتولي، ويعضده: أن الناقلين لهذا القول عنه جزموا بصحة ملك المنكر للعين المدعاة في الباطن إذا كان قد وكله، ولو كان المراد عدم الصحة لكان الحكم كما لو لم يكن قد وكله. وأيضاً: فإنه كان يجيء وجه أنه لا يصح مصالحة [الأجنبي أصلاً]؛ لأنه لا بد أن يقول: وكلني، ونحن لا نصحح الوكالة، فيصير كأنه لم يقل ذلك، والطرق متفقة على صحة صلح الأجنبي، والله أعلم. وإن قلنا: إنه لابد مع الوكالة من إقرار الموكل عند الوكيل فلابد أن يقول الوكيل: العين لك، وقد أقر بها المدعي عليه، ووكلني في مصالحتك. وهذا ما ادعى ابن يونس أن كلام الشيخ محمول عليه، وهو الذي أورده ابن الصباغ والمحاملي.

وإن قلنا بقول ابن سريج لم يحتج الأجنبي إلى أن يقول سوى: هو لك، ويملك المنكر العين في الباطن، وهذا ليس بصحيح عند مجموع النقلة. وقد تنخَّل من مجموع ما ذكرناه في الذي ينطق به الأجنبي حتى يصح صلحه للمدعي عليه ثلاثة أوجه، ولا خلاف أنه لو قال الأجنبي: لم يقر عندي ولا وكلني، وأنا الآن أصالحك له أنه لا يصح [كما حكاه الإمام]. قلت: وكأن القائل بالوجه الأخير اكتفى بعدم التصريح بالثاني، وحمل الأمر عند السكوت على أن الوكالة جرت في الباطن، ثم على القول الأول والثاني يشترط ألا يصدر من المدعي عليه بعد اعتراف الأجنبي وقبل الصلح إنكار، فلو ادعى الإنكار كان عزلاً؛ فتنقطع الوكالة، صرح به الإمام، وهو منه بناء على أن إنكار الموكل الوكالة عزل، كما ستعرفه، إن شاء الله تعالى. قال: وإن قال – أي: الأجنبي -: هو لك فصالحني عنه على أن يكون لي، أي: فإن قادر على أخذه –جاز، كبيع المغصوب ممن يقدر على انتزاعه، وحكى الإمام عن شيخه أنه كان يطلق القول بأنه لا يجوز، فإن ظاهر الشرع قاضٍ بثبوت الملك للمدعي عليه، وانتزاع ملكه المحكوم به من غير إذنه لا يصح، ثم قال: والوجه

أن يقال: إن كان الأجنبي كاذباً فالعقد باطل باطناً، وفي مؤاخذته في الظاهر لالتزامه الخلافُ المذكور. وإن كان صادقاً حكم بصحة العقد باطناً، ويجب القطع بالمطالبة، لكنه لا سبيل إلى الانتزاع ظاهراً. قلت: قطعه بالمطالبة ظاهر على القول بإجبار المشتري على تسليم الثمن قبل قبض المبيع، أما إذا قلنا: لا يجبر، ففيه نظر. واعلم أن صحة هذا الصلح مبنية على القول بعدم اشتراط تقدم المخاصمة، أما إذا قلنا: من شرط صحة العقد بلفظ الصلح تقدم المخاصمة، فهاهنا وجهان؛ من حيث إن المخاصمة صدرت في الجملة لكن من غير المصالح. قال: فإن سَلِمَ له انبرم، أي: لزم وتم؛ كسائر البيوع إذا اتصل بها القبض، [وإن لم يسلم]، أي: لعجزه عن أخذه، رجع فيما دفع، أي: [إن اختار] فسخ العقد؛ لأن المبيع لم يَسْلَم له فسلط على الفسخ، وأخذ ما بذله؛ كما إذا أبق العبد المبيع قبل القبض. تنبيه: سين "سلم" مفتوحة ولامه مكسورة، وياء "يسلم" مفتوحة وسينها ساكنة. قال: ويجوز أن يُشْرع الرجل جناحاً إلى طريق نافذ إذا كان عالياً لا يستضر به المارة؛ لأنه ارتفاق بما لم يتعين عليه ملك من غير إضرار؛ فأشبه المشي في الطريق والقعود في السوق، وبالقياس على جواز إشراع الميزاب؛ فإنه صح أنه – عليه السلام – نصب ميزاباً لعمه العباس بيده، وأن عمر قلعه حين نقط عليه، فلما قال له العباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعه جعل عمر ظهره [سُلَّمًا] للعباس حتى أعاده موضعه. ولاتفاق أهل الأمصار على ذلك من غير إنكار، ولا خلاف أن ذلك لا يصير ملكاً [له] حتى لو انهدم كان لمن يقابله أنا يخرج جناحاً يمنعه من إعادته، ويجوز للمقابل له مع بقاء الجناح الأول أن يخرج جناحاً فوقه بحيث لا يُضِر بمن يمشي على الجناح

الأول، وأن يشرع جناحاً تحت الأول بحيث لا يضر بالمارة. ثم المرجع فيما يضر وما لا يضر إلى حال الطريق: فإن كانت القوافل والفوارس لا تمر فيه، فالمعتبر: أن يرفع الجناح بحيث يمر الماشي تحته منتصباً وعلى رأسه الحُمُولة العالية، كما قيده الماوردي. وإن كانت القوافل والفوارس تمر فيه، فالمعتبر فيه: أن يرفعه بحيث يمر تحته العَمَّاريَّة والراكب منتصباً. وحكى عن أبي عبيد بن حربويه من أصحابنا وعن ابن سريج – كما حكاه الماوردي – أن المعتبر: أن يمر الراكب ورمحه منصوب؛ لأنه ربما ازدحم الفرسان فيحتاجون إلى نصب الرماح، [ومتى لم ينصبوها تأذى الناس بالرماح]، وقد اتفق الناقلون على عدم صحته، وفي إيراد بعضهم ما يوهم حكاية هذا في كل طريق من [غير] فصل. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يظلم الجناح [الطريق] أولا، كما صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما. وقال المتولي: إن منع الضوء بالكلية منع منه، وإن لم يمنعه بالكلية فلا. قال: ولا يجوز أن يشرع إلى درب غير نافذ إلا بإذن أهل الدرب؛ لأنه مملوك لهم، وقد قال – عليه السلام -:"لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"، وهذا ما جزم به الماوردي و [اختاره] القاضيان [أبو الطيب] وأبو حامد. قال: وقيل: يجوز، أي: إذا كان له فيه باب؛ [لأن له فيه] حق السلوك [والدخول]؛ فجاز أن يشرع إليه كالشارع. وهذا ما جزم به الشيخ أبو حامد ومن تابعه، ورجحه في "الاستقصاء"، وهو الذي حكاه الغزالي عن العراقيين وضعفه. أما إذا لم يكن له فيه باب: بأن كان ظهر داره إليه، فلا يجوز إلا بإذن أهل الدرب وجهاً واحداً، صرح به القاضي أبو الطيب وغيره، وإليه يرشد قول الشيخ:

ولا يجوز أن يشرع إلى ملك غيره، ويجوز أنا يشرع بإذنهم وإن كان يضر بالمارة وجهاً واحداً، اللهم إلا أن يكون فيه مسجد؛ فإن لكافة المسلمين الاستطراق إليه؛ فيكون كالشارع. أشار إلى ذلك الرافعي. وقد حكى المراوزة طريقاً آخر، فقالوا: للذين دورهم أسفل من الدار التي يشرع فيها الجناح المنع بلا خلاف وإن لم يضر، وهل للذين دورهم أعلى من الدار المنع؟ فيه وجهان. وهذا ينبني على أن استحقاق الاستطراق في السِّكَّة [لجميع من فيها، أم شركة كل واحد مختصة [بما بين رأس السكة] وباب داره ولا تتخطَّى عنه؟ وفيه وجهان، أظهرهما –وهو] الذي أورده ابن كج -: الثاني؛ لأن ذلك [القدر] هو محل تردده ومورده، وما عداه فحكمه فيه حكم غير أهل السكة. واعلم أنه كما يجوز له أن يشرع الجناح إلى الشارع يجوز لمن له فيه داران متقابلتان أن يركب عليهما ساباطاً، ويجوز له أن يحفر فيه سرداباً ويبني عليه أَزَجاً يمر عليه المارة ويُحْكِمه، صرح به العراقيون وغيرهم. قال في "بحر المذهب": وبمثل هذا أجاب الأصحاب. يعني في السرداب فيما إذا لم يكن الطريق نافذاً، وغلط من قال بخلافه.

قال الرافعي: وهذا اختيار منه؛ لكونه في معنى الشوارع، والظاهر بخلافه. يعني: أنه لا يجوز إلا بإذن أهل الدرب، وهذا ما ذكره العبادي في "الزيادات"، ثم قال: وهل يشترط مع إذن أهل الدرب إذن المستأجر؟ ينظر: إن تضرر به فلا بد من إذنه، [وإلا فلا] يشترط، قاله أبو الفضل التميمي. فرع: لو أذن صاحب الدار لإنسان في حفر سرداب "تحت داره، ثم باعها – قال العبادي: كان للمشتري أن يرجع كما [كان] للبائع". فائدة: حكى الإمام فيما يصير به الموضع شارعاً [طريقين: أحدهما: أن يجعل إنسان ملكه شارعاً] وسبيلاً مسبَّلاً. والثاني: أن يحيى جماعة خِطَّة [قرية] ويتركوا مسلكاً نافذاً بين الدور والمساكن، ويفتحوا الأبواب إليه. ثم حكى عن شيخه طريقاً ثالثاً، وهو أن يصير موضع من الموات جادَّة يطرقها الرفاق؛ فلا يجوز تغييره، وأنه كان يتردد في بُنَيَّاتِ الطرق التي يعرفها الخواص ويسلكونها، وكل موات يجوز استطراقه، ولكن لا يمنع من إحيائه وصرف الممر إليه، فليس له حكم الشوارع. تنبيه: [قوله]: يشرع جناحاً، هو بضم الياء، أي: يخرجه، والجناح: الخارج من الخشب، مأخوذ من: جنح، [بجنح] – بفتح النون وضمها –جنوحاً: [إذا مال]، واجتنح يجتنح، واجْنَحَهُ. الدربُ: معروف، وهو [غير] عربي.

وقال الجواليقي: معرب، وأصله: المضيق في الجبال. قال: ولا يجوز أن يشرع إلى ملك غيره، أي: بغير إذنه؛ للحديث السابق، ولقوله – عليه السلام -: "لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ"، ولأنه لا يملك الانتفاع بالسُّفْل؛ فلا يملك الانتفاع بما هو تابع له وهو الهواء. قال: فإن صالحه مالكه عن ذلك بعوض لم يجز؛ لأنه إفراد لما هو تابع لغيره بالعقد، وهو الهواء وذلك لا يجوز. قال: وإن أراد أن يضع الجذوع على حائط جاره، أو حائط مشترك بينهما لم يجز، أي: من غير إذنه في أصح القولين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا بِطِيبِ نَفْسٍ منهُ"، وبالقياس على التصرف في سائر أمواله. والقول الثاني – وهو القديم -: أنه يجوز [من غير إذنه، وليس له منعه]؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ"، ثم قال أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضينّ والله أرمين بها بين أكتافكم. وأراد: لأرمين بهذه السنة، وألزمكم العمل بها، [وقيل: لأكلفنكم ذلك، ولأضعن جذوع الجار على أكتفاكم، وقصد به المبالغة]، كذا قاله القاضي الحسين في "تعليقه" والإمام. وإن ذلك كان منه حين ولي مكة أو المدينة. ثم على هذا يشترط في الجواز شروط: أحدها: ألا يكون مالك الجدار محتاجاً لوضع جذوعه عليه. والثاني: أن تكون الجذوع خفيفة لا تضر بالجدار. والثالث: ألا يتمكن الجار [من أن] يسقف مكانه إلا بالوضع عليه؛ كما إذا كان له جدار واحد وأرض، ولجاره باقي الجدر كما حكاه البندنيجي وغيره.

وفي "النهاية" عكس هذا، وقال: يشترط أن تكون الجوانب الثلاث من البيت لصاحب البيت، وهو محتاج إلى جانب رابع، فأما إذا كان [الكل] للغير، فلا يضع الجذوع قولاً واحداً. ثم قال: ومن أصحابنا من لم يشترط هذا الشرط الأخير. واعتبر المحاملي والمتولي في "التتمة" مثل ما اعتبر الإمام، وحكى المتولي الوجهين فيما إذا لم يملك إلا جانباً واحداً أو جانبين، والجديد هو القول الأول، والقائلون به حملوا حديث أبي هريرة على الاستحباب، ومنهم من حمله على أن الجار ليس له منع صاحب الحائط من وضع أجذاعه في حائطه، وإن كان الجار يتضرر بذلك في منع ضوئه أو الإشراف عليه. قال في "الاستقصاء": وهو الحقيقة في اللغة: لأن الكناية ترجع إلى أقرب مذكور، ولا نزاع في أنه لو أراد أن يبني على رأس الحائط خصَّا خفيفاً، لم يجز، كما صرح به القاضي أبو الطيب، وكلام ابن الصباغ مشير إليه. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ هنا، مع قوله من بعد: ولا يجوز أن بفتح كوة ... إلى آخره، يفهم أن محل القول القديم في وضع الجذوع فيما إذا لم يحتج إلى فتح شيء في الحائط ليدخل فيه الجذوع، وليس كذلك، بل هو جار في هذه الصورة أيضاً كما صرح به الماوردي وابن الصباغ وغيرهما، وفرقوا بينه وبين فتح الكوة – كما سذنركه – بأن رأس الجذع يسد ما يفتح لأجله ويقوى به الحائط، بخلاف الكوة. قال: فإن صالحه عن ذلك بشيء جاز إذا كان ذلك معلوماً؛ لأنه بذل مال في مقابلة ما يقصد بالأعواض؛ فصح، كما في بيع الأعيان والمنافع، وهذا من الشيخ تفريع على الجديد، والإشارة بذلك إلى الجذوع وهي الأخشاب؛ لأنها التي يستوفي بها المعقود عليه؛ فاشترط معرفتها؛ كالصبي في الرضاع. ثم المعرفة تارة تحصل بالمشاهدة، وتارة تحصل بالوصل، مثل: أن يذكر عددها، وطولها، وسمكها، ووزنها – على ما حكاه القاضي أبو الطيب – وموضعها من الحائط، وقدر دخولها فيه، كما قاله الماوردي.

ثم هذا الصلح، هل هو بيع لموضع رأس الجذوع من الحائط أو لا؟ ينظر فيه. فإن قدر الانتفاع بمدة، فلا نزاع في أنه إجارة. وإن لم يقدر، فوجهان: أحدهما: أنه بيع لموضع الجذوع، حتى لو انهدم الجدار ثم أعيد، عاد حقه وجهاً واحداً، وهذا ما حكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد، والماوردي عن أبي حامد المرْوَرُّوذِي. والثاني: لا، وإن صرح بلفظ البيع، وهو ما صححه الرافعي، لكن ما حكمه؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه إجارة لا غاية لها، وإنما لم يشترط تقدير المدة؛ لأن العقد الوارد على المنفعة تتبع فيه الحاجة، فإذا اقتضت الحاجة التأبيد أبد على خلاف سائر الإجارات، وألحق بالنكاح، وهذا ما اختاره ابن الصباغ، ورد على من قال بأنه بيع بأن عقد البيع تملك به الأعيان، وهاهنا لم يملك بهذا العقد شيئاً من الأعيان؛ بدليل أن الحائط لو انهدم كانت الآلات كلها لمالك الحائط دون صاحب الجذوع، ولو كان قد ملك لكانت الآلة له، ولم يقل بهذا أحد. وأيضاً: فإن موضع الجذوع لو ملك خاصة لوقع هذا القائل فيما فر منه؛ فإن موضع الوضع يحمله بقية الحائط الذي لغيره، وتلك منفعة استحقاقها لا إلى غاية. والثاني: أنه إجارة يعتبر فيها تقدير المدة، ولا يصح بدونها، وهذا ما حكاه الماوردي، وصححه مع حكاية الوجه الصائر إلى أنه بيع. والثالث- وهو ما ادعى الرافعي أنه أظهر -: أن ذلك ليس بإجارة محضة، ولكن فيه شائبة إجارة: [وهو أن] المستحق به منفعته، وشائبة البيع، وهو أن الاستحقاق [فيه على التأبيد؛ فكأن الشرع نظر إلى أن الحاجة تمس إلى ثبوت الاستحقاق] المؤبد في مرافق الأملاك وحقوقها – مساسها إلى ثبوت الاستحقاق المؤبد في الأعيان.

وعلى قولنا: إنه إجارة، لا يفتقر إلى بيان المدة؛ فلو عقد [هذا العقد] بلفظ الإجارة، هل يصح من غير بيان المدة؟ فيه وجهان. أما إذا قلنا بالقول القديم، فلا تجوز له المصالحة على عوض. قال الشيخ في "المهذب" وغيره من العراقيين [والمراوزة]: لأن من وجب عليه حق لم يجز أن يعتاض عنه. قلت: قد حكى الغزالي في باب الإجارة فيما إذا أسلمت امرأة، وليس ثم من يحسن الفاتحة إلا واحد، فجعل صداقها تعليمها الفاتحة – جاز على الأصح من الوجهين، مع أن ذلك واجب عليه؛ يتجه أن يجيء مثل ذلك هاهنا. ويجوز للجار على هذا إذا انهدم الحائط، وأعيد بغير النقض [أن يعيد جذوعه وغيرها بالشرط المذكور، وله أيضاً إذا امتنع صاحب الحائط من إعادته] أن يعيده، ويجوز لمالك الحائط أن يصالحه عن حقه في الموضع على عوض؛ ليسقط حقه من الوضع؛ قال في "المهذب" وغيره: لأن ما جاز بيعه جاز شراؤه؛ كسائر الأموال. قال في "البحر": وعندي لا يجوز أخذ العوض [بحال؛ لأنه أبيح له ذلك للحاجة؛ فلا يجوز له أخذ العوض]، كما لا يجوز له أخذه عن فضل الماء الذي أبيح له للحاجة. فرع: إذا اشترى عُلْوَ بيتٍ دون سُفْله [صح] وله أن ينتفع به للسكن ونحوه، وهل له أن يبني؟ ينظر: فإن شرط ذلك في البيع، وبين طول البناء

وعرضه وارتفاعه، وموضعه من السطح، وآلته وكيفية البناء من التجويف وغيره، وكيفية السقف هل هو أَزَجٌ أو غيره – صح، واشترط بعض أصحابنا بيان قدر ذلك، قال مُجَلِّي: وهو بعيد. ويقوم مقام وصف الآلة تعيينها، فلو شرط أن يبني عليه ما شاء فهو باطل، وإن شرط البناء وأطلق ففي صحة الشرط وجهان: أحدهما: أنه يصح، ويبني [على] ما احتمله؛ لأنه قد يتقدر عند أهل الخبرة بالمعتاد المألوف. والأصح: البطلان. فإن تبايعا بشرط ألا يبني صح، ولا يسوغ له البناء. وإن تبايعا ولم يتعرضا لشرط البناء صح، وهل له أن يبني؟ فيه وجهان مذكوران في "الحاوي". ولو اشترى منه حق البناء على السطح صح بإجماع الأصحاب، خلافاً للمزني، وماذا يملكه بلك الحكم؟ فيه كما في مسألة الجذوع. تنبيه: واحد "الجذوع": جذع، ويجمع في القلة على: أجذاع. والجار: المجاور؛ يقال: جاورته، مجاورة وجواراً – بكسر الجيم وضمها – وتجاورا واجتورا. قال: وإن صالح رجلاً على أن يجري على أرضه أو سطحه ماء، أي: بعوض، وكان ذلك معلوماً – جاز؛ لما ذكرناه. [و] لكن هذا الصلح: هل هو بيع للموضع المعين من الأرض ولمنافع السطح على الأبد أو إجارة؟ قال الأصحاب: ينظر فيه: فإن قيد بمدة فإجارة بلا شك. وكذا إذا وقع على إجراء ماء في ساقية في أرض المصالح؛ فيشترط في صحة ذلك أن تكون المدة معلومة، والمجراة في مسألة الأرض محفورة، وقد عرفا طولها وعرضها وعمقها، وفي مسألة السطح تعين المدة أيضاً، وأن يعرفا طول السطح الذي يجري عليه الماء وعرضه وقوته وضعفه؛ لأنه قد يحمل قليل الماء دون كثيره، وأن يعرفا قدر السطح المجاور له

الذي يجري منه الماء إليه؛ فإن المسألة مفروضة – كما بينه الأئمة – فيما إذا صالحه؛ ليجري ماء المطر الذي يجتمع على سطحه من على السطح المصالح عليه، وقدر الماء لا يمكن ضبطه؛ فإنه يزيد بكبر الموضع الذي يقع فيه، ويقل بصغره، ويعتبر مع ذلك بيان الموضع الذي ينزل منه الماء من أحد السطحين إلى الآخر. وإن أطلق العقد ولم يقيد بمدة، وكان اللفظ: صالحتك على مسيل ماء في أرضك، أو على إجراء ماء سطحي على سطحك – فظاهر كلام المحاملي وغيره يقتضي أنه بيع في السطح؛ كما صرحوا بأنه بيع في الأرض، حتى قالوا فيها: لا يشترط فيها مع بيان الطول والعرض بيان العمق؛ لأن من ملك أرضاً ملك الانتفاع بها إلى القرار. وحكى الرافعي وجهاً في اشتراطه؛ بناء على أنه لا يملك به إلا حق الإجراء، وحكاه في "التهذيب" أيضاً. وما قلنا: إنه ظاهر كلام المحالين هو مقتضى قول أبَويْ حامد في مسألة الجذوع، [وقد جزم ابن الصباغ في [مسألة السطح] بأنه إجارة غير محتاجة [إلى بيان مدة، بخلاف سائر الإجارات؛ كما صار إليه في مسألة الجذوع]، ووافقه المتولي، وفرق بين هذا وبين سائر الإجارات: بان هذا العقد لا يتضمن تفويت منافع السطح عليه؛ لأنه يرتفق به بعد هذه المصالحة مثل ما كان يرتفق به قبلها، بخلاف سائر الإجارات؛ فإنها تمنع المالك من الانتفاع بملكه؛ فكان عقدها مؤبداً تفويتاً للملك في التحقيق، وقد تحتمل الجهالة في العقد إذا كان لا يتضمن ضرراً، ولا تحتمل إذا تضمنه، ودليله صحة ضمان الدرك، وعدم جواز [أخذ] الرهن به. وفي "الحاوي" حكاية وجه في مسألة الأرض: أنه إجارة، كالوجه الذي حكيناه أنه صححه في مسألة الجذوع؛ فيكون على هذا العقد باطلاً؛ لعدم ذكر المدة، وقد صرح بذلك.

وقد يقال: إنه يجري في مسألة [السطح من طريق الأوْلى، وقد يفرق بينهما بما أبداه المتولي، وهو] الظاهر. ولو أتى بدل لفظ الصلح بلفظ البيع، وقال: بعتك حق مسيل الماء – كما صوره القفال – فهو كبيع حق البناء، ويجيء في حقيقة العقد ما مر؛ كذا قاله الرافعي. أما إذا كان الصلح عن ذلك بغير عوض، فهو إعارة. قال في "التهذيب": ولا يحتاج في مسألة الأرض إلى بيان؛ لأنه إذا شاء رجع، والأرض تحمل ما يحمل، بخلاف السطح. ويقرب منه في الحكاية – وإن كان الفقه مبايناً ما قاله الماوردي [فيه إذا قلنا بأن الجار لا يجبر على وضع الجذوع على حائطه، فأذن له في وضعها من غير عوض] – أنه يعتبر في ذلك معرفة عدد الأجذاع دون العلم بطولها وموضع تركيبها، [قال]: لأن الجهل بمنافع العارية لا يمنع من صحتها. واعلم أنا حيث صححنا عقد الصلح على إجراء الماء، فليس للمصالح دخول الأرض التي فيها المجراة بغير إذن مالكها، إلا أن يريد تنقية الساقية وهي المجارة، وعليه أن يخرج من أرضه ما يخرجه منها، وليس له في مسألة السطح [إلقاء الثلوج] على السطح، [ولا أن يترك الثلج على سطحه حتى يذوب فيسيل إليه، ولا أن يجري فيه ما غسل به ثيابه وآنيته، بل لا يجوز أن يصالح على ترك الثلوج] على السطح أو إجراء الغُسَالات عليه على مال؛ لأن الحاجة لا تدعو إلى مثلهن وألحق المتولي بذلك المصالحة على جري ماء الثلج، ووجه المتولي ذلك في مسألة الثلج بأن الثلج يذوب قليلاً قليلاً وماؤه يبقى على السطح، بخلاف ماء المطر. وتجوز المصالحة على إلقاء الثلج في داره، وكذا على قضاء الحاجة في حُشِّ الغير على مال، وكذلك عن جمع الزِّبْل والقمامة في ملكه، وهي إجارة

يراعى فيها شرائطها، وكذلك المصالحة على البيتوتة على سطح الجار. ثم لو باع مستحق البيتوتة منزله، فليس للمشتري أن يبيت عليه، بخلاف ما لو باع مستحق إجراء الماء على سطح الغير مدة بقاء داره؛ فإن المشتري يستحق الإجراء بقية المدة؛ لأن إجراء الماء من مرافق الدار دون البيتوتة. فروع: [الأول]: لو قال: صالحتك عن إجراء ماء المطر على سطح دارك كل سنة بكذا، قال المتولي: يجوز؛ لأنه لما جاز العقد مطلقاً بعوض واحد جاز بعوض مقسط على السنين، وإن كانت جملة الأجرة غير معلومة، ويحتمل هذا القدر من الغرر في الأجرة؛ كما احتملناه في المعقود عليه، ويصير كالخراج المضروب على الأرض. [الثاني:] إذا صالحه عن إجراء الماء على سطحه على مال، فليس للمصالح أن يمنع صاحب السطح من تعلية داره. نعم، إذا وقع المطر فله أن ينقب الحائط المبني قدر ما يجري فيه الماء إلى ملكه؛ لأن ذلك حاجز يمنعه من استيفاء حقه؛ فصار كما لو استأجر منه داراً، ثم سد الباب، فله فتحه. [الثالث:] إذا استهدم السطح من إجراء الماء، لم يجب على المستحق عمارته؛ فإن العمارة تتعلق بالأعيان، وليست مستحقة [له]. وفي "الجيلي" إشارة إلى حكاية وجه في وجوب العمارة عليه إذا استهدم بسبب الماء. واعلم أن الشيخ نبه بجواز الصلح على إجراء الماء على الأرض والسطح، [على عدم إجبار صاحب الأرض والسطح على] التمكين من ذلك؛ فإنه لو وجب لما جازت المصالحة عليه، كما ذكرناه من قبل. وقد حكى الرافعي عن البندنيجي وغيره رواية قول عن القديم: أنه يجبر.

قال: ولا يجوز أن يفتح كوة في حائط جاره، ولا في حائط مشترك [بينهما] إلا بإذنه؛ للخبر، والمعنى الذي قدمناه في الجذوع، ولو أذن له في ذلك، ثم أراد الشريك أن يسدها لم يكن له إلا بإذن شريكه، ولو صالح الجار جاره على فتح كوة في حائطه لم يجز؛ لأنه صلح على الهواء والضوء. ويجوز للجار أن يبني حائطاً في ملكه [وإن سدت كوة جاره ومنعت الضوء؛ لأنه متصرف في ملكه]، قاله الماوردي. وحكم دقِّ وَيْد في الحائط، وتتريب الكتاب بترابه حكم فتح الكوة. ولا خلاف في جواز الاستضاءة بسراج الغير، والاستظلال بجداره، وكذلك في جواز الاستناد إليه بحيث لا يضر به؛ فلو منعه من الاستناد فهل يمنع منه؟ فيه تردد؛ لأنه عناد محض، كذا صور الإمام المسألة، وعليه يحمل ما في "الوسيط". تنبيه: الكوة - بفتح الكاف [وتشديد الواو -: فتح في الحائط، وغالبُ ما يشق لأجل الضوء، وجمعها: كواء، بكسر الكاف] والمد؛ كقَصْعَةٍ وقِصَاع، ويجوز: كِوَى - بالقصر - كبَدْرة وبِدَر. وحكى الجوهري وغيره لغة غريبة في المفرد: كوة - بضم الكاف - وجمعها: كوّى؛ كرُكْبة ورُكَب. قال: وإن حصلت أغصان شجرة في هواء [دار] غيره، فطولب بإزالتها - لزمه ذلك؛ لأن الهواء تابع للقرار؛ فكما يلزم تفريغ القرار إذا شغله ملكه؛ فكذلك الهواء التابع له. قال: إن امتنع كان لصاحب الدار قطعها، أي: قطع الأغصان من حد داره، ولا شيء عليه إذا كانت إزالتها لا تمكن إلا بالقطع؛ لأنه تعين طريقا ًفي دفع الضرر، أما إذا أمكنت الإزالة بالثني لرطوبتها فلا يجوز قطعها، وتثني. ولا يفتقر في القطع إلى إذن الحاكم على الأصح؛ كما لا يفتقر في إخراج بهيمة دخلت داره إلى إذنه، وفي وجه ضعيف.

فعلى الأول: لو قطعها من غير مطالبة مالكها بالقطع، قال الماوردي: إن كانت يابسة لا تثني جاز، [ولم يضمن]، وإن كانت رطبة ضمن ما نقص من قيمة الشجرة بقطع الغصن منها. وحيث يجوز القطع، فتولاه صاحب الدار – لم يرجع على مالك الأغصان بأجرة القطع، إلا أن يحكم الحاكم بالتفريغ، قاله في "الإيضاح". قال: فإن صالحه عنها بعوض لم يجز؛ لأنه إفراد للهواء بالعقد. نعم، لو كانت الأغصان مستندة إلى الجدار، وأراد المصالحة على ذلك نظر: إن كانت يابسة جاز، وكان كمسألة الجذوع، صرح به المتولي. وإن كانت رطبة فوجهان: أحدهما –وهو قول [أكثر] البصريين -: أنه يجوز، وما ينمو يكون تبعاً. والثاني – وهو قول ابن أبي هريرة وجمهور البغداديين -: لا؛ لأنه يزيد ولا يعرف قدر ثقله وضرره، وانتشار عروق الأشجار في الأرض كانتشار الأغصان، وكذلك ميل الجدار إلى الهواء، قاله الإصطخري. ولو كان ميل الجدار إلى دار صاحبه، وكان الجار خائفاً من انهدامه على نفسه أو ماله لم يلزمه هدمه؛ لأنه لم يفوت عليه في الحال حقًّا، ولا أتلف عليه ملكاً، وانهدامه في الثاني مضمون، قاله الماوردي. تننبيه: قوله: في هواء دار غيره، بالمد، وهو ما بين السماء والأرض، وجمعه: أهوية؛ كغطاء وأغطية. قال أهل اللغة: وكل خال هواء. وأما هوى النفس؛ فمقصور يكتب بالياء. وجمعه: أهواء. فرع: إذا غرس الرجل غراساً في أرضه، وكان يعلم أن الغراس إذا كبر وطال انتشرت أغصانه إلى دار الجار – لم يكن للجار أن يأخذ بقطعه في الحال. وهكذا لو أراد حفر بئر في أرضه، وكانت نداوة البئر [تصل إلى حائط الجار] لم يكن للجار أن يمنعه من حفرها؛ لأنه متصرف في ملكه؛ كما لا يمنعه من وقود النار في أَتُون حمَّامِ أنشأها بين الدور وإن تأذوا بالدخان. قال: وإن كان له دار في درب غير نافذ، وبابها في آخر الدرب، فأراد أن

يقدمه إلى وسط الدرب أو أوله – جاز؛ لان في ذلك تركاً لبعض حقه، ولا فرق في ذلك بين أن يسد الأول أو يتركه مفتوحاً، صرح به الماوردي، ولم يحك سواه. وقال الرافعي: محل الاتفاق إذا سد الأول، أما إذا لم يسده فعلى ما سنذكره في المسألة بعدها؛ لأن الباب الثاني إذا انضم إلى الأول أورث زيادة زحمة الناس ووقوف الدواب في السكة؛ فيتضررون به. قال: وإن كان بابها في أول الدرب، فأراد أن يؤخره إلى وسطه أو آخره، أي: بغير إذن – لم يجز؛ لأنه يريد أن يجعل لنفسه استطراقاً لم يكن. وقيل: يجوز. ومأخذ هذا الخلاف ما أشرنا إليه من قبل، والصحيح ما ذكره الشيخ. ثم المعتبر إذنه ومنعه [هو] من كانت داره فوق الباب الأول بلا خلاف، وهل لمن داره بني الباب الأول ورأس السكة ذلك؟ فيه وجهان؛ بناء على كيفية الشركة كما مر. وفي "النهاية" طرق أخرى جازمة بأنه لا منع لهم؛ لأن الفاتح لا يتميز عليهم، وتحويل الميازب من موضع إلى موضع كفتح باب وسد باب. فرع: لو كان له داران تنفذ أحداهما إلى [الشارع، وباب الأخرى إلى درب غير نافذ، فأراد فتح باب من أحداهما] إلى الأخرى –هل لأهل الدرب المنع؟ فيه وجهان، أظهرهما: لا. ولو كان باب كل دار منهما إلى درب غير نافذ، جرى الخلاف في جواز المنع لكل [واحد] من أهل الدربين، ومحل هذا إذا كان الفتح لغرض الاستطراق، أما إذا كان لغرض الاتساع فلا منع.

قال: وإن كان ظهر داره إلى درب غير نافذ، فأراد أن يفتح باباً إلى الدرب للاستطراق – لم يجز؛ لما فيه من إحداث حق لم يكن له في ملك غيره بغير إذنه، وجلب ضرر لم ينك: إما بمرورهم عليه، أو بمروره عليهم؛ فلو أذنوا له في ذلك جاز، وكانت إعارة حتى يجوز لهم الرجوع فيها متى شاءوا، ولا يجب له عليهم أرش بسبب فتح الباب وسده. قال: وإن فتح لغير الاستطراق، [أي]: بأن قال أركب عليه باباً وأسمِّره، فقد قيل: يجوز؛ لأنه لو رفع جميع الحائط لم يمنع؛ فكذلك إذا [أراد] رفع بعضه، وهذا ما صححه أبو القاسم الكرخي، قال: وقيل: لا يجوز؛ لأن الباب يشعر بثبوت حق الاستطراق؛ فعساه يستدل به على الاستحقاق، وهذا ما صححه الشاشي في "حلبته". ولا خلاف في جواز فتح الكوة والشباك للضوء. قال: فإن صالحه أهل الدرب بعوض – جاز؛ لأن الحق فيه لهم؛ فجازت لهم المصالحة عليه، وهل ذلك بيع أو إجارة؟ حكمه حكم إجراء الماء في أرضه. وهذا إذا لم يكن فيه مسجد، أما إذا كان فيه مسجد فإن للمسلمين فيه حقًّا؛ فلا تجوز المصالحة عليه، ويبقى النظر في أنه هل يجوز من غير إذن؟ فرع: لو اجتمع أهل الدرب على سد بابه، فجواب المعظم: أنهم لا يمنعون. [وقال أبو الحسن العبادي: يحتمل أن يقال: يمنعون]؛ لأن أهل الشوارع يفزعون إليه إذا عرضت زحمة، ولا شك أنه لو امتنع بعضهم لم يكن للباقين السد، ولو سدوه متفقين لم ينك لبعضهم فتحه، ولو اتفقوا على قسمة صحن السكة [بينهم جاز، ولو أراد أهل رأس السكة قسمة الرأس بينهم – منعوا، ولو أراد أهل الأسفل قسمته وجهان؛ بناء على أن أهل رأس السكة] هل يشاركونهم في الأسفل؟

وكذا لو لم يكن في الأسفل إلا دار واحدة، [فأراد صاحبها] أن يقدم بابها إلى وسط الدرب، ويجعل ذلك دهليزاً، حكاه في "الحلية"، والذي اختاره في "المرشد" في هذه: المنع. فرع: هل يجوز غرس شجرة وتصب دَكَّة في الشارع؟ فيه وجهان، المذكور منهما في طريقة العراقيين: المنع. ولا فرق بين أن يفعل ذلك بفناء داره أو لا، صرح به في "الوسيط". ومحل الجواز إذا لم يضر بالمارة. ويجوز أن يعجن الطين في الطريق؛ إذا لم يمنع المرور فيه، قاله العبادي. قال: وإن كان بينهما حائط واقع، أو لأحدهما العُلْو وللآخر السُّفْلن فوقع السقف، أي: وهو مشترك بينهما، فدعا أحدهما صاحبه إلى البناء، أي: في الأولى، وإعادة السف في الثانية، وامتنع الآخر – ففيه قولان: أصحهما: أنه لا يجبر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"، فلم يجبر على إنفاق ماله بغير طيب نفس منه، ولأنه لا يجبر على عمارة ملكه وإن تضرر به الغير؛ كما إذا كان خربه بعذر فيها، ولا على عمارة ملكه في حال الانفراد؛ فوجب ألا يجبر على ذلك في حال الاشتراك؛ كالزرع والغراس إذا أشرف على الجفاف طرداً، ونفقة البهائم عكساً. والقول الثاني- وهو القديم عند الجمهور [لا غير]، والقديم وأحد قولي الجديد عند المزني وابن أبي هريرة على ما رواه الماوردي -: أنه يجبر، وهو الذي صححه ابن الصباغ، واختاره في "المرشد"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَار"، فلما نفى لحوق الإضرار دل على وجوب الإجبار، ولأنه لما استحق الشفعة؛ لزوال الضرر بها، ووجبت القسمة إذا دعا إليها أحد الشريكين؛ لينتفي الإضرار – كان وجوب المنافاة مع ما فيها من تضاعيف الضرر أولى.

والقائلون بالأول أجابوا عن الحديث: بأن استعماله في نفي الضرر عن الطالب ليس بأولى [من استعماله في نفي الضرر] عن المطلوب. وعن الشفعة: بأنه لا ضرر على المأخوذ منه؛ لأنه يأخذ ما بذله. وعن القسمة: بأنها [ليست] غرماً والعمارة غرم. ويجري القولان فيما إذا كان العُلْو لأحدهما والسُّفْل للآخر، ووقع الجدار، فدعا صاحب العلو صاحب السفل إلى عمارة السفل، ولا خلاف أن صاحب السفل لا يطالب صاحب العلو بالعمارة. ويجري أيضاً فيما لو كان بينهما نهر أو بئر فارتدم، أو ساقية فتشعثت، وفيما إذا لم يكن بين سطحيهما سترة، فطلب أحدهما إيجادها، كما حكاه الرافعي [وكذا المتولي في باب إحياء الموات؛ لأنه ثم ذكر هذه المسألة [فروعها] وكثيراً من مسائل الصلح]. التفريع: إذا قلنا بالقديم نظر في الممتنع: فإن كان موسراً، أجبر في الحال، فإن امتنع وله مال أنفق الحاكم منه ما يخصه، فإن كان التداعي في حائط مشترك بينهما نصفين، أو في سقف فهي عليهما كذلك. وإن كان السفل لواحد والعلو لآخر، كان على صاحب السفل عمارة سفله لا غير. وإن كان في بئر أو نهر، قال الماوردي: فكيفية التقسيط عند الشافعي والجمهور على قدر أملاكهم، إلا أن منهم من قسطها على [قدر] مساحات الأرضين وقدر جريانها؛ لأن الماء الجاري فيها يسيح عليها على قدر مساحتها وجريانها.

ومنهم من قسطها على قدر مساحة وجه الأرض التي على النهر، وهو أشبه بمذهب الشافعي وقول أصحابه؛ لأن مؤنة الحفر تزيد بطول مسافة الوجه الذي على النهر، وتقل بقصره؛ فوجب أن يكون معتبراً به. وإن كان الممتنع معسراً، كان للحاكم أن يستقرض [عليه، وله أن يقول للطالب: أنت مخير بين أن تعمر الجميع بمالك]، وترجع عليه عند اليسار بحصته، أو تكف؛ على ما حكاه الماوردي. فإن عمر بالإذن، وأشهد فلا شك في رجوعه عليه، وإن عمر بغير إذن الحاكم، ففي الرجوع ثلاثة أوجه، ثالثها: إن قدر على إذن الحاكم فلم يستأذنه، فلا رجوع، وإن لم يقدر على إذنه رجع، وادعى الإمام: أن هذا أعدل الوجوه. وفي "الحاوي": أن الذي عليه الجمهور القول بعدم الرجوع مطلقاً؛ كما لو كان الممتنع موسراً، ومقابله منسوب إلى أبي حامد المَرْوَرُّوذِي، وقال تفريعاً عليه: إن له منع الشريك من التصرف فيما بناه إلى توفية ما بذله عنه، ويصير كالمرهون تحت يده. وفي "الرافعي": أن المزني أشار إلى قولين في المسألة؛ وللأصحاب فيها طرق: أظهرها- وبه قال ابن خيران وابن الوكيل -: القطع بعدم الرجوع [، والقائلون به حملوا قول الرجوع] على ما إذا كان بالإذن. والثاني: أن القول بعدم الرجوع محمول على الجديد، والقول بالرجوع تفرعي على القديم الذي عليه نفرع، وبه قال ابن القطان. والثالث: أنا إن قلنا بالقديم رجع لا محالة، وإن قلنا بالجديد فقولان. قال: فإن أراد أحدهما أن يبني، لم يمنع على القولين معاً؛ لأنه يزول بذلك الضرر عن الطالب من غر ضرر يلحق الممتنع. قال: فإن بناه بآلة له، فهو ملك له ينفرد به، أي: بالارتفاق به؛ لأنه عين

ماله، وليس [للممتنع الانتفاع به بدق وتد ولا فتح كوة، وليس] للثاني منع صاحب السفل من الاستظلال به والجلوس والقرار فيه، وكذا من الاستناد على رأي. وفي "الحاوي": الجزم بمنع الاستناد. وعن صاحب "التقريب" رواية وجه: أن له المنع أيضاً من السكون والاستظلال به. قال الإمام: وهو غريب غير معتد به. والثاني: نقض ما بناه، فإن بذل له الشريك في الجدار قدر ما يخصه منه لم يمتنع عليه النقض على الجديد، ويمتنع على القديم؛ لأنا على هذا القول نجبر الممتنع على ابتداء العمارة، كذا قاله الأصحاب، وفيه نظر؛ من حيث إن في ذلك إجباراً على تمليك نصف آلته الخاصة به، وهو لا يجبر على ذلك ابتداء، وكذا الخلاف يجري فيما لو بذل صاحب السفل لصاحب العلو قيمة ما بناه في السفل، كما حكاه القاضي الحسين [والماوردي تفريعاً على الجديد والقديم، وادعى الإمام إجماع الأئمة عليه، موجهاً وجه الوجوب بأنا على القديم نراعي المصلحة]. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب تسلم الحكم في مسألة الجدار، والجزم في مسألة السفل بأنه لا يمتنع عليه النقض على القولين معاً؛ لأن صاحب العلو لا يجب عليه أن يبني حيطان السفل قولاً واحداً، و [لو] لم يقصد الثاني الهدم، بل أراد التبقية، فبذل له الشريك القيمة؛ ليتملك ما كان مطالباً بعمارته – أجبر على القديم، وعلى الجديد قال الأصحاب: يقال للثاني: أنت بالخيار بين أن تأخذ منه القيمة وبين أن تنقض حتى تعيداه معاً. قال: وإن بناه بما وقع من الآلة، فهو مشترك بينهما؛ لأنه عين مالهما، وهو متبرع بما غرمه على التالف ويعود الحكم في الانتفاع بذلك كما كان قبل

الوقوع، فلو أراد الثاني هدمه لم يكن له إلا بإذن الشريك، فلو بادر وهدمه، قال الإمام: فالمذهب أنه يغرم ما نَقَضَهُ النقض. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ وغيره من العراقيين والمراوزة يقتضي: أن للطالب على القول الجديد أن يبني المستهدم بما سقط من الآلة، كما صرحوا بأن له أن يبني بآلته التي تفرد بملكها على الأساس المشترك؛ لدفع الضرر. وقد صرح الإمام بما اقتضاه ظاهر كلام الشيخ وغره، ونقل إجماع الأصحاب عليه، والمذكور في "التهذيب" وهو الذي ادعى الرافعي أنه الظاهر من المنقول، وأنه المتوجه من جهة المعنى -: أنه لو أراد على القول الجديد البناء بالآلة المشتركة، وأراد صاحب العلو أن يبني السفل [بآلة السفل] –كان للآخر منعه. فرع: لو قال صاحب السفل لصاحب العلو بعد بنائه السفل بآلة نفسه: انقض ما بنيته لأبنية بآلة نفسين نظر: إن كان قد طالبه بالبناء، فلم يجبه لم يجب الآن؛ لما يفوته، وإن لم يطالبه وقد بنى علوه عليه فكذلك لا يجاب، ولكن له أن يتملك السفل بالقيمة، وإن لم يبن عليه العلو بعد – أجيب صاحب السفل، قاله المتولي. تنبيه: "العلو" و"السفل": بضم أولهما وكسره، قال صاحب "المحكم": السُّفْل والسِّفْل والسِّفْلة – بكسر السين وإسكان الفاء -: نقيض الأعلى، ويكون اسماً وظراً، قال: "السقف" جمعه: سُقُوف وسُقُف، وقد سَقَْتُ البيت، أَسْقُفُهُ سَقْفاً. قال: وإن استهدم، أي: بفتح التاء، فنقضه أحدهما، أي: إما تعدياً أو بإذن شريكه؛ بشرط أن يعيده من ماله كما قاله المحاملي، أو من مالهما كما قاله الماوردي – قال: أجبر على إعادته – لتعديه – أو التزامه، وهذا ما حكاه البغوي في صورة التعدي، والماوردي عن الإمام في الصورة الثانية وصححه، وجعله

المحاملي في الصورتين ظاهر المذهب، وعليه حمل الجمهور ما حكيناه عن الجديد من قبل. قال: وقيل: هو أيضاً على قولين، أي: السابقين؛ لما ذكرناه. قال الماوردي: وهذا ليس بصحيح. وفي "الرافعي" و"التهذيب" و"مجموع" المحاملي: أن هذا الطريق هو الذي يقتضيه القياس؛ فإن الحائط لا يضمن بالمثل؛ فيغرم أرش النقصان. وهذا الكلام فيه دلالة ظاهرة على أنا على الطريق الأول نوجب على الهادم الإعادة جبراً؛ لما تعدى به، والذي يظهر: أن المراد به إذا غرم أرش النقصان ليس له الامتناع من المباناة، بل يجبر عليها على الجديد؛ كما يجبر على القديم، ويعضده: أن الطريق الثاني مصرح بذلك. وأمر آخر: وهو أنا لو أجبرنا الهادم على الإعادة من ماله جبراً لما أزاله: فإما أن نجبره على أن يعيده مستهدماً [كما كان، أو غير مستهدم] ولا قدرة له على الأول؛ لأنه غير منضبط، ولا سبيل إلى الثاني؛ لكونه زائداً على ما أزاله، وذلك حيف؛ فلا يجوز. [ثم الصورة التي يكون متعدياً فيها قد ذكرها الماوردي في باب وضع الحجر، وهي: أن يفعل ذلك بدون إذن شريكه، وتكون قيمته قائماً أو أكثر، وقال أهل الخبرة: إن سقوطه لا يتعجل، ويثبت على انتصابه، أما إذا قالوا: إن سقوطه يتعجل فلا يبت على انتصابه فإن له أن ينفرد بهدمه؛ لتحتم ضرره]، والله أعلم. وقد نجز شرح مسائل الكتاب فلنختمه بذكر شيء يتعلق به. قال ابن سريج: إذا كان في يد رجل نصف دار، فادعى عليه إنسان سدسها، فأنكره، وانصرف المدعي، ثم قال له المدعي عليه: خذ مني السدس الذي ادعيته منها بسدس دارٍ، فأجابه – لم يكن صلحاً على إنكاره. كذا حكاه البندنيجي في كتاب الشفعة. قال ابن الصباغ: إذا استهدم الجدار أجبر على نقضه، ولو تراضى الشريكان على أن يعيدا الجدار بأنفسهما، ويكون الجدار لأحدهما زيادةٌ فيه – لم يجز؛ لأنه شرط عِوَض من غير معوَّض؛ فإنهما مستويان [في العمل وفي الجدار

وعَرْصَتِهِ، وعن صاحب "التقريب" رواية وجه أنه: يجوز ذلك،] كذا صرح به الإمام والغزالي في "البسيط"، ونسبه في "الوسيط" إلى رواية القفال؛ فلعلهما روياه. ولو انفرد أحد الشريكين بإعادة البناء بالنقض المشترك بإذن شريكه، بشرط أن يكون له الثلثان [في النقض والأساس] –جاز، والسدس الزائد يكون في مقابلة عمله في نصيب الشريك، هكذا أطلقوه. واستدرك الإمام فقال: هذا صور بما إذا شرط له [سدس النقض في الحال، فأما إذا شرط له] السدس بعد البناء لم يصح؛ فإن الأعيان لا تؤجل. قال الرافعي: ولك أن تقول: التصوير وإن وقع فيه ذكره، وجب أن يكون الحكم فيه كالحكم فيما إذا شرط للمرضع جزءاً من الرقيق [المرتضع] في الحال، ولقاطف الثمار جزءاً من الثمار المقطوفة في الحال، ونظائرهما؛ لأن عمله يقع على ما هو مشترك بينه وبين غيره. وسنعيد الكلام في ذلك مرة أخرى – إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

باب الحوالة

باب الحوالة الحوالة - بفتح الحاء - مشتقة من التحويل والانتقال، يقال: حال فلان عن العهد، إذا زال وانتقل عنه، وحالت الأسعار: إذا تغيرت وانتقلت عما كانت عليه. وهي في عرف الشرع: نقل دَيْنٍ من ذمة إلى ذمة. وقد حكى الجيلي أنها تقال بالكسر أيضاً. ويقال: أحد عليه [بالحق]، يُحِيلهُ إحالة، واحتال الرجل: إذا قبل الحوالة. والأصل في جوازها: من الكتاب: قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، والحوالة عقد، فوجب الوفاء به، وإذا وجب الوفاء به دل على جوازه. ومن السنة: ما روى مسل وغيره عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَطْلُ الغنيِّ ظُلْمٌ، وإذا أُتْبعَ أحدُكم على مَلِيءٍ فَلْيَتَّبعْ". ألف "أتبع" مضمومة، وتاؤه تسكن وتخفف، وتاء "فليتبع" مشددة. والمطل: المدافعة. المليء - بالهمز -: الغني [المكثر، قاله في "المستغرب"]. ومعنى الحديث: إذا أحيل أحدكم على مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ. قال الجوهري: يقال: أتبع فلان [بفلان]، إذا أحيل عليه، والتبيع:

الذي لك عليه مال. وقال في "الاستقصاء":يقال: تبعت الرجل بحقي، أتبعه تباعة – بضم التاء-: إذا طالبته، وأنا تبيعه، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} [الإسراء: 69]. قال الماوردي: وقد روى العراقيون، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ". قال الرافعي: والأشهر في هذه الرواية بالواو، ويروي: "فَإِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ" بالفاء، فعلى التقدير الأول هو مع قوله: "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ"، جملتان [لا تعلق للثانية] بالأولى؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "الْعَارِيَّةُ مَرْدُودَةٌ، وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ". وعلى الثاني: يجوز أن يكون المعنى في الترتيب: أنه إذا كان المطل ظلماً من الغني، فإذا أحيل [بدَيْنه] عليه، فإنه يحترز عن الظلم ولا يمطل. وقد أجمع المسلمون على جواز الحوالة في الجملة كما حكاه أبو الطيب. قال القاضي الحسين: والمعنى فيها بعد الإجماع: ما فيها من الإرفاق بالناس؛ فإن الإنسان يَستحق ديناً، ويُستحق عليه مثله؛ فتلحقه المشقة في الاستيفاء والإيفاء؛ فجوزها الشرع؛ لإسقاط هذه المشقة والكلفة، وألا فالقياس أنها لا تجوز؛ لأنها بيع دين بدين، وقد نهى صاحب الشرع عنه، وهو بيع الكالئ بالكالئ. وهذا كما أن القرض جوز للإرفاق، [وإن كان القياس منعه؛ لأنه [بيع]

عاجل بآجل، والسلم جوز للإرفاق]، وإن كان عقداً على معدوم [و] كذلك الإجارة. وما قاله حسن على قولنا: إنها بيع دين بدين. وقد اختلف أصحابنا في حقيقتها: فذهب ابن سريج إلى أنها بيع، ولكنها لم تبن على المغابنة والمماكسة، وطلب الربح والفضل. وادعى الرافعي وغيره من العراقيين أنه الذي نص عليه الشافعي في باب بيع الطعام [بالطعام]. ووجهه: أن المحال يبذل ما له في ذمة المحيل بما للمحل في ذمة المحال عليه، والمحيل يبذل ما له في ذمة المحال عليه بما عليه من دين المحتال، وذلك حقيقة البيع، ويؤيده أنها ممنوعة من المسلم فيه؛ لما سنذكره من الحديث. فعلى هذا: هل هي بيع دين بدين، أو عين بعين، أو عين بدين؟ فيها ثلاثة أوجه مجموعة من نقل الماوردي والرافعي عن القاضي أبي حامد. والقائل بأنها بيع عين بعين، نزَّل استحقاق الدين على الشخص منزلة استحقاق منفعة تتعلق بعينه؛ كالمنافع في إجارات الأعيان. والأول هو المشهور من كلام الأئمة. ومنهم من قال: ليست بيعاً، بل هي عقد إرفاق نازلة منزلة قبض الحق من المحيل ودفعه إلى المحال عليه قرضاً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ندب إليها بقوله: "فَلْيَحْتَلْ"، ولأنها لا تصح بلفظ البيع، ولا بغير جنس الحق، ولا يثبت للمحتال الرجوع على المحيل عند تعذر [قبض] الحق من المحال عليه، [و] يجوز التصرف فيها قبل القبض في الربويات. ولو كانت بيعاً [لما] ثبتت هذه الأحكام.

وقد حكى البغوي [القولين] من تخريج ابن سريج. وكذلك القاضي الحسين في "تعليقه"، ثم قال: والأولى أن يلفّق بين المعنيين، ويجمع بينهما، ويقال: الحوالة معاوضة تضمنت استيفاء، أو استيفاء بطريق المعاوضة، [كما لو أخذ عوضاً عن ماله في ذمته، يكون معاوضة تتضمن استيفاء، أو استيفاء بطريق المعاوضة]. ويقرب من هذا ما ذهب إليه الغزالي وإمامه وشيخ إمامه، وهو أنها مشتركة بين المعاوضة والاستيفاء، وإنما يقع النظر في تغليب أيهما؛ ولهذا الاختلاف أثر يظهر في الباب – إن شاء الله تعالى. قال: لا تصح الحوالة إلا برضا المحيل والمحتال. أما رضا المحيل؛ [فلأن الحق في ذمته مرسل؛ فلا يتعين عليه قضاؤه من محل معين، كما لو طلب منه الوفاء من كيس بعينه. وأما رضا المحتال: فلأن حقه تعلق بذمة المحيل]؛ فلا يملك نقله إلى ذمة غيره [إلا برضاه،] كما لو تعلق حقه بعين وأراد نقله إلى عين مثلها، مع أن الذمم [غير] متساوية. وقد خالف أبو ثور في هذا – على ما حكاه الماوردي –وقال: إذا أحيل على مليء وجب القبول؛ لظاهر الخبر. وتمسك أصحابنا في الرد عليه بقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ يَداً وَمقَالاً"، فكان عاماً، وبأن الحقوق التي في الذمم قد تنقل تارة إلى الذمة بالحوالة، وتارة إلى عين بالمعاوضة؛ فلما ثبت أن نقله إلى عين لا يلزم إلا بالرضا، فنقله إلى الذمة أولى؛ لأن بنقله إلى عين أخرى يصل إلى حقه، وبنقله إلى ذمة أخرى لا يصل إليه. وقالوا: الخبر محمول على الاستحباب؛ لما فيه من الإعانة على قضاء الحق.

وهذا قول القاضي أبي الطيب، وبه جزم الرافعي. وفي "الحاوي": أنه محمول على الإباحة؛ لأنه وارد بعد حظر، وهو نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين بالدين. واعلم أن بعض الشارحين حكى وجهاً: أن الحوالة تصح بدون رضا المحيل، وصور محله بما [إذا قال: أحلتك على نفسي بالدين الذي لك على فلان، فيقول المحتال: قبلت، وأن هذا يتجه] إذا لم يكن على حق المحيل، وصرح بعضهم بأن ذلك تفرعي على جواز الحوالة، [على من لا دين عليه. وما قال فيه نظر؛ لأنها في هذه الحالة ما صحت إلا بمحيل، وهو القائل: أحلتك]؛ [بدليل أن المحتال لابد أن يقول: قبلت، كما قال، وقابلٌ بلا موجب محالٌ، ولا يقال: إن ذلك ليس محالاً]؛ بدليل أن الأب إذا باع مال ولده من نفسه اكتفينا بمجرد الإتيان بأحد شقي العقد على رأي؛ لأنا نقول: ذلك مصور – على ما حكاه الإمام في باب الهبة- بما إذا أتى بلفظ يستقل الابتداء به [مثل أن] يقول: اشتريت أو اتهبت، أما قوله: قبلت البيع أو الهبة، فلا يمكن الاقتصار عليه [بحال]. نعم، في هذه الصورة اتحد المحيل والمحال عليه، ولا بعد في اتحاد العاقد والمعقود عليه؛ ألا ترى أن السيد إذا وكل عبده في بيع نفسه صح؟! ثم على تسليم القول بصحة هذا العقد، وأنه لا محيل فيه؛ بناء على أن المراد بالمحيل:

من يكون عليه الدين - كما صرح به الماوردي وغيره - فهو ليس بحوالة، وإنما هو ضمان كما ستعرفه من بعد. قال: ولا تفتقر إلى رضا المحال عليه على المنصوص، [أي: في "المختصر"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَإِذَا أُتْبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ"، ولم يعتبر فيه رضا المحال عليه. ولأنها تصرف في مملوك؛ فلا يعتبر فيه رضا المملوك [عليه] كالتصرف في رق العبد [بالبيع وغيره]. وقولنا: "في مملوك" احترزنا به عن النكاح؛ فإنا نعتبر فيه رضا المنكوحة [في حاله]؛ [لأنها ليست] بمملوك للزوج، ولأن مالك الدين مخير في استيفائه بنفسه، وبغيره بالوكيل؛ فكذلك بالمحتال. وقد صار إلى هذا أبو العباس بن سريج، وأبو إسحاق المروزي، وأبو علي بن أبي هريرة. ومقابله: أنه لابد من رضاه، وقد رواه أبو العباس بن القاص عن نص الشافعي في "الإملاء"، وبه قال المزني وأبو عبد الله الزبيري، وأبو سعيد الإصطخري وابن الوكيل؛ مستدلين بأن من كان وجوده شرطاً في الحوالة كان رضاه شرطاً فيها، كرضا المحيل والمحتال.

وبأن الدين يتعلق بالذمة أصلاً، وبالرهن فرعاً؛ فلما لم يكن لصاحب الدين أن يولي الرهن إلى غيره، فأولى ألا يكون له أن يولي الدين إلى غيره. والقائلون بالأول حملوا نصه في "الإملاء" على ما إذا لم يكن على المحال عليه دين كما سنذكره. وأجابوا عن القياس على المحيل والمحتال: بأنهما كالمتبايعين، بخلاف المحال عليه؛ فإنه كالعبد المبيع. وعن الرهن: بأن المرتهن ليس مالكاً للرهن؛ فلذلك لم يكن له نقله، بخلاف الدين. [وقد] بنى صاحب "التهذيب" هذا الخلاف على الخلاف السابق في أن الحوالة معاوضة أو استياء؟ [فإن قلنا بأنها معاوضة، لم يفتقر إلى رضاه، وهو الأصح، وإن قلنا: إنها استيفاء،] فلابد من رضاه؛ لأنه لا يمكن إقراضه إلا برضاه. واعلم أن عدول الشيخ وغيره من المصنفين عن لفظ الإيجاب والقبول إلى اعتبار الرضا المستلزم للإيجاب والقبول؛ لعدم الاطلاع عليه؛ لأنه الأصل المعتبر في العقود، ولا يقال لمن اعتبر الأصل: لم اعتبرته؟ نعم، يقال ذلك لمن اعتبر الفرع وعدل عن الأصل. ثم كيفية الإيجاب والقبول الذي استلزمه الرضا: أن يقول المحيل: أحلتك على فلان، فيقول: قبلت، كما هو المفهوم من إطلاق الشيخ الحوالة. ويقوم مقام ذلك – كما حكاه ابن أبي الدم [الحموي] في "أدب القضاء" – قول المحيل: نقلت حقك الذي في ذمتي إلى ذمة فلان، أو: جعلت ما استحقه على فلان لك بما لك [علي]، أو: ملكتك ما في ذمة فلان بما لك في ذمتي. وهل تنعقد بلفظ البيع؟ قال: إن فيه خلافاً مشهوراً.

وفي "الجيلي": أن أبا الفياض حكى عن الشافعي أنه قال: لابد مع الإيجاب من أن يقول المحتال: قبلت الحوالة، وأبرأتك عن حقي. وقد حكيت قريباً منه في أول كتاب البيع، ويجري الخلاف المذكور في انعقاد البيع بالاستيجاب والإيجاب هاهنا. وفي "الرافعي": في "الجرجانيات" لأبي العباس الروياني طريقة أخرى قاطعة بالانعقاد؛ لأن الحوالة أجيزت رفقاً بالناس؛ فيتسامح فيها بما لا يتسامح في غيرها. قال: ولا تصح الحوالة إلا بدين مستقر [وعلى دين مستقر]؛ لأن الحوالة إما بيع [دين] كما هو الصحيح، وبيع الدين لا يصح ما لم يكن بهذه المثابة، وإما استيفاء، واستيفاء ما هو متعرض للسقوط لا يحصل به الغرض. قال: فأما ما ليس بمستقر كمال الكتابة، ودين السلم، فلا تصح الحوالة به ولا عليه؛ لما ذكرناه. وقد روي عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلاَ يَصْرِفْه إِلَى غَيْرِهِ". وهذا ما جزم به العراقيون في المسلم فيه، وذهب إليه القاضي أبو حامد في مال الكتابة، ولم يحك في "التهذيب" سواه، ووراءه في كل من الصورتين وجهان: أحدهما: تجوز الحوالة بهما وعليهما، وهو في مسألة المسلم فيه منسوب إلى أبي حص بن الوكيل، وفي مسألة مال الكتابة منسوب إلى ابن سريج كما حكاه الإمام.

وحكى غيره أن الحليمي قال به في الحوالة عليه، ويجيء من طريق الأولى تجويز الحوالة به. وقد بناه الرافعي والماوردي في مسألة المسلم فيه على أنها استيفاء لا معاوضة، ويشبه أن يبني في مسألة [مال] الكتابة عليه أيضاً. والثاني: تجوز الحوالة بهما ولا تجوز الحوالة عليهما، وبه جزم ابن الصباغ، والأكثرون في مسألة الكتابة؛ لأن للمكاتب أن يقضي حق سيده باختياره، بخلاف حوالة السيد عليه به؛ لأنه يؤدي إلى إيجاب القضاء عليه بغير اختياره. [قلت: ولمن قال بمنع الحوالة به أن يقول: شرط الحوالة: أن يكون ما على المحيل مثل ما على المحال عليه صفةً وقَدْراً؛ حتى لا يستفيد المحتال بالحوالة شيئاً لم يكن له، وفي هذه الحوالة [ليس] الأمر كذلك؛ لأن السيد لو صحت حوالة المكاتب له؛ لاستفاد بها لزوم دينه على المحال عليه، وقد كان على المكاتب غير لازم؛ فامتنعت الحوالة لهذا المعنى. ولهذا المعنى منع ابن سريج الحوالة بدين [لازم] لا ضامن به على دين به ضامن؛ ليطالب به الضامن المضمون عنه، لكن في كلام أبي حامد ما يمنع - كما سيأتي - وحينئذ يبقى ما ذكره الجمهور خالياً عن الاعتراض. وقد خص الجرجاني محل [هذا] الوجه بمابعد حلول مال الكتابة، وكذلك المحاملي دون ما قبله.

وعكس في "الوسيط" هذا الوجه في مسألة المسلم فيه فقال: لا تجوز الحوالة به، وتجوز عليه. ثم صورة الحوالة بهما: [أن يحيل المكاتب أو المسلم إليه السيد أو المسلم بما له في ذمته على غيرهما. والحوالة عليهما]: أن يحيل السيد أو المسلم على المكاتب أو المسلم إليه بما له في ذمته إنساناً. واعلم أن المراد بالدين المستقر هاهنا: ما يجوز بيعه، لا ما أمنا انفساخ العقد فيه بتلفه، أو تلف مقابله كما ذكرناه في البيع. ويدل على ذلك أمران: أحدهما: أن ثمن المبيع الذي [لم] يقبض لا يؤمن انفساخ العقد فيه بتلف المبيع، ومع ذلك تجوز الحوالة به، كما استنبطه الرافعي من اختلاف الأصحاب في محل القولين [الآتيين]، فيما إذا أحال المشتري البائعً بالثمن على رجل، ثم رده بالعيب: هل هو فيما إذا كانت الحوالة بعد قبض المبيع، أما إذا كانت قبله فتنفسخ وجهاً واحداً، أو محلهما قبل القبض وبعده على حد سواء؟ والثاني: أن الزوجة يحص منها أن تحيل بالصداق قبل الدخول مع أنه غير مستقر بالمعنى الذي أردناه، وذلك يدل على ما ذكرناه؛ [و] لأجل ذلك جاءنا وجه في صحة الحوالة بنجوم الكتابة، كما قيل به في جواز بيعها. وفي "شرح الفروع" للقاضي أبي الطيب – أو لغيره – إشارة إلى منع الحوالة في مسألة الصداق؛ فإنه قال –فيما إذا أحالت الزوجة بالصداق قبل الدخول -: ظاهر المذهب: ملكها للتصرفات قبل القبض من البيع، والهبة، والعتق؛ فكذا الحوالة.

فروع: تجوز حوالة السيد على المكاتب بدين المعاملة على الصحيح، وبه جزم ابن الصباغ؛ لأنه يجبر على أدائه. وقيل: لا تجوز له؛ لأن له أن يسقط ذلك بتعجيزه نفسَهُ كمال الكتابة. وبني المتولي هذا الخلاف على أن المكاتب إذا عجَّز [نفسه] هل يسقط هذا الدين أم لا؟ إن قلنا: نعم لم تصح، وألا صحت، ومقتضى هذا البناء أن يكون الصحيح على رأي عدم الصحة، وهذا يظهر لك إذا نظرت فيما حكيته في المسألة المبني عليها في باب الرهن. الثمن في زمن الخيار: هل تجوز الحوالة به، وعليه؟ فيه وجهان: أحدهما – وهو قول القاضي أبي حامد -: لا. والثاني: وهو الأصح في "الرافعي" و"النهاية" و"الوسيط": نعم. وهما منبنيان [في "الحاوي"، و"التتمة"] على أن الحوالة معاوضة أو استيفاء؟ فإن قلنا بالأول لم تصح، وألا صحت؛ فعلى هذا لا ينقطع الخيار، فلو اتفق فسخ البيع، انقطعت الحوالة وجهاً واحداً، صرح به الشيخ أبو حامد وغيره. قال الإمام: ولم يصر أحد من الأصحاب إلى أن الحوالة في الثمن تقطع الخيار في البيع. وفي الرافعي حكاية وجه عن الشيخ [أبي علي] وأنه اختاره: أن الخيار يبطل؛ لأن قضية الحوالة اللزوم، فلو بقي الخيار لما صادفت الحوالة مقتضاها، وكانت [كالحوالة] على النجوم. وعلى قول المنع، هل ينقطع خيار البائع إن كانت الحوالة عليه، وخيارهما إن كانت الحوالة به؟ فيه وجهان سبق أصلهما في كتاب البيع. الجعل في الجعالة: جزم الماوردي والمتولي بعدم صحة الحوالة به قبل العمل، وبالصحة بعده.

قال الرافعي: والقياس: أن يجيء في الحوالة به وعليه الخلاف المذكور في الرهن [و] في ضمانه. الزكاة: هل يصح أن يحيل المالك بها الساعي؟ إن قلنا: [إنها] استيفاء، صحت، وإلا فلا. قال: ولا تصح إلا على من عليه دين؛ لأنها إذا لم تصح بغير الجنس الذي عليه، فأولى ألا تصح إذا لم يكن عليه حق، كذا قاله القاضي أبو الطيب. قال: وقيل: تصح على من لا دين عليه برضاه؛ كما يصح أن يصالح عنه، وهذا ما اختاره ابن الحداد في "فروعه" وقال مَنْ شَرَحَها - من القاضي أبي الطيب وغيره -: هو الصحيح عندي. وقد خرج ابن سريج هذا الخلاف على أن الحوالة بيع أو عقد إرفاق يتضمن الاستيفاء؟ فإن قلنا: بالأول - وهو الصحيح - لم تصح؛ لأن ذلك بيع معدوم. وإن قلنا بالثاني: صحت؛ فكأنه استوفاه منه وأقرضه له، وعلى ذلك جرى صاحب "التهذيب" والجمهور. وبناهما غيره - كما حكاه القاضي الحسين - على أن الضمان بشرط براءة الأصيل هل يصح؟ وفيه جوابان لابن سريج أيضاً: فإن جوزناه جوزنا هذه الحوالة، وألا فلا؛ لأنه في الحقيقة تضمين ما في ذمة المحيل بشرط أن تبرأ؛ ولهذا اعتبرنا على قولا لصحة رضاه وجهاً واحداً؛ لأنه لا يصح إلزامه الحق بغير الرضا، وهذا ما صححه الإمام، ثم قال: وليس هو مأخوذ من ذلك؛ بل هو عينه. فلهذا قطع به الغزالي في "الوسيط". وهذا البناء إنما يصح إذا قلنا: إن ذمة المحيل تبرأ من الدين المحال به في الحال، كما صار إليه الصيدلاني، وحكاه ابن كج وجهاً، وصححه من شرح "فروع" ابن الحداد -من القاضي أبي الطيب وغره -[وبه جزم ابن الصباغ]،

وهو الذي يقتضيه قول الشيخ: ومتى صحت الحوالة، برئت ذمة المحيل. أما إذا قلنا بأنه لا يبرأ قبل توفية المحال عليه الحق كما أورده في "التهذيب" والأكثرون [كما حكاه الرافعي]، وعليه يدل كلام الماوردي حيث قال: إنه يجري مجرى الضمان، وإنه لا رجوع له [بالحق] قبل أدائه؛ فلا يستقيم هذا البناء. وقد عكس الماوردي هذا البناء، وقال: إذا ضمن عن إنسا ديناً على شرط أنه برئ منه، فإذا صح – كما هو قياس مذهب المزني – كانت حوالة بلفظ الضمان؛ لأن الألفاظ مستعارة. وإذا قلنا: لا تصح – كما هو قياس [قول] ابن سريج – يكون ضماناً باطلاً؛ اعتباراً بظاهر اللفظ. التفريع: على القول بالصحة: هل تكون لازمة قبل قبض الحق من المحال عليه، كما في سائر الحوالات، أو لا تلزم إلا بالقبض؟ فيه وجهان حكاهما الإمام عن العراقيين، والأصح الأول. وهل له أن يرجع على المحيل في الحال؟ ينظر: إن قلنا: إنه يبرأ بمجرد الحوالة، فنعم – كما حكاه الرافعي – وعند القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ: لا ما لم يغرم. وإن قلنا: لا يبرأ، فالحكم فيه كالضامن مع المضمون [عنه] في هذا، وفي غيره من الأحكام كما سنذكره. إلا أن الأصحاب جزموا هاهنا فيما إذا أدى بالإذن بالرجوع، وإن حكوا ثَمَّ وجهاً في أنه لا يرجع. وأن الظاهر هاهنا – كما قاله مجلي – فيما إذا أدى بغير الإذن: أنه يرجع؛ لأن الحوالة تقتضي الإذن في القضاء؛ إذ مضمونها تحوُّل الحق وانتقاله، بخلاف الضمان؛ فإنه مجرد وثيقة، وإن كان الماوردي قد جزم بعدم الرجوع، وان المحال إذا أبرأ المحال عليه يخرج على الخلاف فيما إذا أبرأت الزوجة الزوج ثم

طلقها قبل الدخول، كما حكاه الإمام عن [العراقيين و] شيخه، والذي جزم به الجمهور: عدم الرجع. ولو أحال المحال عليه المحتال على غيره نظر: إن كان على من له عليه دين، رجع في الحال. وإن كان على من لا دين له عليه، لم يرجع ما لم يرجع عليه الذي أحاله عليه. ثم مقتضى هذا التفريع كله: أن المحتال له مطالبة المحيل والمحال عليه؛ كما في الضمان. واعلم أن هاهنا أمرين لابد من التنبيه عليهما: أحدهما: أن الشيخ جزم بأن الحوالة لا تصح إلا بدين مستقر [وعلى دين مستقر] وفي هذا غنية عن قوله من بعد: ولا تصح إلا على من عليه دين؛ لأنها [إذا امتنعت] مع وجود الدين ولا استقرار فمع عدمهما أولى. نعم، لو كانت هذه المسألة متقدمة على تلك؛ لم يرد السؤال الثاني، أن ما ذكره أولاً يقتضي ألا تصح الحوالة على من لا دين عليه إذا جوزناها إلا بدين مستقر، وقد ظهر لك أن هذه الحوالة ضمان عند الجمهور؛ فكان ينبغي أن تصح بما يجوز ضمانه، ولا يشترط أن يكون الدين مستقراً، وبهذا يقوي ما أبداه الرافعي في الحوالة بمال الجعالة كما قدمناه عنه. قال: ولا تجوز إلا بمال معلوم؛ لأن بيع المجهول واستيفاءه غير جائز؛ لما فيه من الغرر. والمراد بالمعلوم هاهنا: أن يكون معلوماً بالصفات التي تعتبر في المسلم فيه، سواء كان [المال] مِثْلِيًّا: كالدراهم والدنانير والحبوب وغير ذلك، أو غير مثلي: كالحيوان والنبات وغير ذلك. وفي غير المثلي وجه: أنه لا تصح الحوالة به ولا عليه.

وفي "الشامل" و"تعليق" البندنيجي وغيرهما في باب بيع الطعام [بالطعام] حكاية وجه ثالث: أن الحوالة لا تصح إلا بالأثمان، قوالوا: إنه ليس بشيء. قال: وقيل: تصح في إبل الدية، وإن كانت مجهولة، أي: الصفات؛ لحصول المقصود من الجانبين؛ فإن المسألة مصورة بما إذا أوضحت رأس إنسان، وأوضح ذلك الإنسان رأس آخر، فإن الواجب له وعليه خمس من الإبل، فأحال المجني عليه [أولاً] المجني عليه [ثانياً] بها على الجاني أولاً، هكذا علله بعضهم، والذي حكاه البندنيجي وغيره: أن هذا أخرجه ابن سريج من أحد قولي الشافعي في جواز المصالحة عليها، موجهاً ذلك بأن القدر واللون ينحصر إلى أقل ما يقع عليه الاسم، فينحصر إلى معلوم. وحكى في "الاستقصاء" وغيره: أن الخلاف في الصلح وجهان مخرجان من قولين نص عليهما الشافعي فيما لو جنت امرأة على رجل موضحة، فتزوجها، وجعل تلك الإبل صداقها. قال: ولا يجوز إلا أن يكون المال الذي في ذمة المحيل والمحال عليه متفقين في الصفة، أي: كالصحاح بالصحاح، والمكسَّر بالمكسر، والجيد بالجيد، والرديء بالرديء. قال: والحلول والتأجيل. أي: بحيث يكون الأجلان سواء؛ لأن الحوالة عقد إرفاق كالقرض، فلو جوزت مع الاختلاف، صار المطلوب منها الفضل؛ فتخرج عن موضوعها. وقيل: إذا قلنا: إنها استيفاء، جاز أن يحيل بالحالِّ عن المؤجل، وبالمؤجل إلى شهر عن المؤجل إلى [أكثر منه] وبالصحيح عن المكسر، وبالجيد عن الرديء، ولا يجوز العكس. وفي "الوسيط" عكس هذا؛ فإنه قال: كل ما يمنع الاستيفاء [إلا بمعاوضة] تمتنع الحوالة فيه. ولو كان لا يمنع الاستيفاء، بل يجب القبول، ولا يشترط رضا

المستحق [به]، كتسليم الصحيح عن المكسر، والأجود عن الرديء، والحال عن المؤجل في بعض الأحوال – جازت الحوالة به. وإن كان يفتقر إلى الرضا المجرد دون المعاوضة، ففيه وجهان، وهذا ما حكاه الإمام عن شيخه خاصة، وهو خلاف ما عليه الجمهور. ثم على القول بعدم الجواز: لو وقعت الحوالة، قال في "التتمة": هي حوالة على من لا دين عليه، وقد تقدمت. وقد أغرب الزبيلي في "أدب القاضء" [له]، فقال: إذا كان عليه دراهم فأحاله بها على شخص له عليه دينار، أو كان عليه قمح فأحاله به على شخص له عليه شعير [فرضي - جاز]، إلا أنهما لا يفترقان إلا عن قبض. واعلم أن الشيخ اكتفى بما ذكره عن ذكر التساوي في المقدار؛ لأن الأجل إذا

منع لكونه يقابله قسط تقديراً فالزيادة المحققة أولى. فرع: لو كان له على رجلين ألف، على كل منهما خمسمائة، وكل منهما ضامن صاحبه يما عليه، فأحال بالألف رجلاً له عليه ألف على أنه يأخذ الألف من أيهما شاء – قال أبو العباس بن سريج: فيه وجهان: أحدهما: لا تصح الحوالة؛ لأنها زيادة في حقه؛ لأنه كان له مطالبة واحد فصار له مطالبة اثنين، ولأن الحوالة بيع، فإذا كان الحق على اثنين كان المقبوض [منه مجهولاً، فصار العوض] مجهولاً، وهذا ما اختاره القاضي أبو الطيب. والثاني: يصح، [ويثبت للمحال] عليهما ما كان ثابتاً للمحيل، وهذا اختاره الشيخ أبو حامد، وقال: الزيادة التي تمنع إذا كانت في القدر أو الصفة؛ ألا ترى أنه يجوز أن يحيله على من هو أملأ منه؟! قال ابن الصباغ: ولو أحاله بدين لا رهن به على دين به رهن، ينبغي [أن يكون على هذا الاختلاف، أو ينبغي] ألا يصح وجهاً واحداً؛ لأن الرهن عقد وقع له فلا يقبل النقل إلى غيره، بخلاف الذي له على الضامن؛ لأنه يقبل النقل؛ ولهذا لو أحاله به وحده جاز [وينفك الرهن]. قال: ولا يثبت فيها خيار الشرط؛ لأنها [إما بيع] دين بدين، وهو لا يدخله الخيار، أو استيفاء حق، واستيفاء الحقوق لا خيار فيه. قال: ولا خيار المجلس؛ لأنه عقد لا يثبت فيه خيار [الشرط؛ [الأجل القبض]؛ فلم يثبت فيه خيار المجلس كالنكاح. قال: وقيل: يثبت فيه خيار] المجلس؛ لما فيه من شائبة المعاوضات، وقد بنى البندنيجي الوجهين فيه على الخلاف في أنها بيع أو استيفاء، فقال: إن قلنا: إن استيفاء، فلا يثبت، وإلا ثبت.

ومقتضى هذا: أن يكون الصحيح الثبوت، والذي حكاه الإمام والرافعي: أن الصحيح مقابله؛ ولذلك جعله القاضي الحسين المذهب. والمذكور في "الحاوي": بناء الوجهين على الوجهين في أنها بيع عين بدين، أو بيع دين بدين؟ فإن قلنا بالأول ثبت، وإلا فلا. وقد أجرى القاضي الحسين [هاهنا] والشيخ أبو محمد- على ما حكاه الإمام في باب الخيار وجه الثبوت في خيار المجلس دون خيار الشرط، وقال: إنه الأوجه إن لم يكن [من الخيار بد]. فرع: لو احتال على شخص بشرط أن يعطيه المحال عليه بالحق رهناً، حكى الماوردي في أواخر كتاب الرهن في صحة ذلك وجهين، وأنهما مبنيان على أنها بيع أو عقد إرفاق؟ فإن قلنا: إنها بيع جاز، وإلا فالشرط باطل، وفي بطلان الحوالة وجهان. وقال هاهنا: إن الخلاف مبني على أنها بيع عين بدين أو بيع دين بدين؟ فإن قلنا بالأول صح اشتراط الرهن، وإن قلنا بالثاني فلا يصح. وكذا الخلاف يجري فيما لو شرط أن يكون به ضامن – كما حكاه الإمام عن تخريج ابن سريج – فيجوز على القول [بأنها بيع، ويمتنع على القول] بأنها استيفاء. قال: وإذا صحت الحوالة برئت ذمة المحيل، وصار الحق في ذمة المحال عليه. قال الماوردي: وهذا إجماع. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب وغيره أن زفر قال: لا يبرأ؛ كما لا يبرأ الضامن. ودليلنا: أن الحوالة مشتقة من التحويل؛ ينبغي أن يعطي اللفظ حقه من الاشتقاق، وليس كذلك الضمان؛ فإن اشتقاقه من انضمام ذمة إلى ذمة أخرى؛ فلذلك تعلق الحق بذمة الضامن وذمة المضمون عنه، كذا قاله القاضي.

وفي كلام الإمام في باب الضمان ما يمنع ما ادعاه من الاشتقاق؛ فإنه قال: وغلط من ظن أن الضمان من الضم؛ فإن النون أصلية في "الضمان" شهدت لها التصاريف، نعم فيه معنى الضم. وأيضاً: فإن المحتال لو أبرأ المحيل بعد الحوالة لم يبرأ المحال عليه، و [لو] لم ينتقل الحق، وكان المحال عليه كالضامن لبرئ. فرع: لو اشترط ألا تبرأ ذمته من المال [المحال به حتى يقبضه، وقد أحاله على من له عليه دين-] فهل تصح هذه الحوالة؟ فيه وجهان في "الاستقصاء" كالوجهين في صحة اشتراط الضمان بمال الحوالة. قال: فإن تعذر من جهته، [أي: بفلس في الحياة، أو بموت المحال عليه مُعدَماً، أو بجحوده وحلفه] – لم يرجع على المحيل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ، فَلْيَتْبَعْ" قال الماوردي وغيره: وجه الدلالة منه من وجهين: أحدهما: أنه لو كان له الرجوع لما كان لاشتراط الملاءة فائدة؛ لأنه إن لم يصل إلى حقه رجع به، فلما شرط الملاءة علم أن الحق قد انتقل بها انتقالاً لا رجوع به؛ فاشترط الملاءة حراسة لحقه. والثاني قوله: "فَلْيَتْبَعْ" فأوجب عموم الظاهر اتباع المحال عليه أبداً، فليس أو لم يفلس. ومن جهة المعنى: أن الحوالة تجري مجرى القبض؛ لأمرين: أحدهما: أنه صرف يجوز الافتراق فيه، فلولا أنه قبض لبطل الافتراق. والثاني: أن المحيل لو مات جاز لورثته اقتسام التركة. فدل هذان على أن الحق مقبوض، والحقوق المقبوضة إذا تلفت لم يستحق الرجوع بها كالأعيان المقبوضة.

وبهذا يندفع سؤال من قال: إن الحقوق المستقرة في الذمة تنتقل تارة إلى ذمة أخرى بالحوالة، وتارة إلى عين بالمعاوضة، فلما كان تلف العين قبل قبضها يوجب عود الحق إلى الذمة الأولى وجب أن يكون تلف الذمة بالموت قبل القبض كذلك. ومن قال: إن خراب الذمة إما أن يجري مجرى العيب أو مجرى الاستحقاق: فإن جرى مجرى الاستحقاق فقد عاد الحق إلى الذمة وهذا يمنعه، وإن جرى مجرى العيب كان مخيراً في الرجوع إلى الذمة الأولى. ولا رق فيما ذكرناه بين أن يشترط ملاءة المحال عليه فيظهر معسراً أو لا، على ما حكاه المزني. وقد حكى عن ابن سريج أنه قال: يثبت له الخيار إذا شرط ملاءته فأخلف الشرط؛ لأنه لما رجع المشتري في البيع بالغرور [في العيب، وجب أن يرجع المحال عليه في الغرور باليسار، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد كما حكاه البندنيجي، وقال الماوردي وغيره: إنه خطأ. والفرق: أن إعسار المحال عليه قد يصل إليه من غير جهة المحيل؛ فلم يكن له الرجوع بها مع الغرور]، والعيوب قد لا يصل إليها إلا من جهة البائع؛ فلذلك رجع بها مع الغرور. وفي "النهاية" حكاية وجه: أنه يثبت له بالخيار، وإن لم يشترط ملاءته؛ فإن ذلك بمنزلة العيب القديم، وجعل هذا الخلاف يقرب من الخلاف في أن الحوالة: هل يلحقها خيار المجلس والشرط؟ وهذا ما رجحه الغزالي، والجمهور على خلافه. فرع: لو شرط في الحوالة الرجوع على المحيل بتقدير الإفلاس والجحود، ففي صحة الحوالة وجهان، [وإن صحت، ففي صحة الشرط وجهان] حكاهما ابن كج. فرع: لو بان المحال عليه عبداً، نظر: إن كان عبداً لأجنبي، فإن قلنا: للمحتال الخيار عند إفلاس المحال عليه فها هنا أولى.

وإن لم نثبت [له] ثَمَّ فهاهنا وجهان؛ إذ [طرآن] العتق ليس مما يعد من ميسور الأموال، بخلاف اليسار. وإن كان عبداً للمحيل، ففي "الاستقصاء": أنه إن كان مأذوناً له صحت، ولا يبرأ السيد حتى يعطيه العبد مما في يده؛ لأنه بمنزلة الإذن له في القبض من وكيله، وإن لم يكن مأذوناً فوجهان: أصحهما: أنه لا يصح؛ لأنه لا يتم إلا برضا العبد فهو كما لو أحال على نفسه. والثاني: [أنه] يصح برضا العبد، ويكون ضامناً، وما قاله محمول على ما إذا لم يكن له عليه دين، [وسنذكر تصوير ما إذا كان له عليه دين]. وفي "النهاية": أن صاحب "التقريب" قال: إن كان العبد كسوياً تعلق الدين بكسبه، وإن لم يكن كسوباً فبذمته. قال الإمام: [و] هذا خطأ، والوجه أن يقال: العبد لا يتصور أن يكون للسيد عليه دين يتعلق بذمته أو كسبه إلا فيما إذا ملكه وله عليه [دين] على وجه، فإن لم يكن كذلك فالحوالة باطلة، إن لم نجوز الحوالة على من لا دين عليه، وإن جوزناها فهي [ضمان]، وسيأتي. وإن كان له عليه دين، وقلنا: لا يسقط، فأحاله به – صحت الحوالة، وكان كما لو كان لأجنبي. قال: وإن أحال البائع على المشتري رجلاً بالمال، أي: الذي هو ثمن، ثم خرج المبيع مستحقًّا – بطلت الحوالة، وكذا لو خرج العبد المبيع حرًّا؛ لأن الحوالة وقعت بالثمن، وقد بان أن لا ثمن، فإن لم يكن المحتال قد قبض المال فلا مطالبة له، وإن كان قد قبضه فعليه رده، والمراد بخروج المبيع مستحقًّا: ظهور كونه [ملكاً] لغير البائع: [إما بينة، وإما] بتقارُرِ البائع والمشتري

المحتال، وكذا ظهور حرية العبد المبتاع. فلو صدَّق العبد في دعوى الحرية البائع والمشتري، وكذبهما المحتال – لم تبطل الحوالة، إلا أن تقام بينة عليها. قال الرافعي وغيره: وهذه البينة يتصور أن يقيمها العبد، ويتصور أن يبتدئ بها الشهود على سبيل الحِسْبة. قال صاحب "التهذيب": ولا يتصور أن يقيمها المتبايعان؛ لأنهما كذباها بالدخول في البيع، وكذلك ذكر الروياني. قلت: وفيما قيل من إمكان إقامة البينة من العبد نظر؛ لأن المشتري إذا صدق العبد في دعوى الحرية عَتَقَ، ولا يتوقف عتقه على تصديق المحتال؛ فدعواه عليه غير مسموعة، وبينته من طريق الأولى، وقد وقفت في "تعليق" أبي الطيب على تصوير المسألة بما إذا اشترى عبداً بألف وقبضه، ثم باعه، وأحال على المشتري الأول البائع منه بالألف رجلاً، ثم تصادق البائع الأول والمشتري منه على أن العبد حر، ولم يصدقهما المشتري الثاني، فإن كان إطلاق الأصحاب محمولاً على هذه الصورة فقد اندفع الإشكال؛ فإن العبد والحالة هذه لا يحكم بحريته. والله أعلم. وللبائع والمشتري عند عدم البينة تحليف المحتال على نفي العلم، فإن حلف بقيت الحوالة في حقه، وله أخذ المال، وهل يرجع المشتري على البائع المحيل بشيء؟ قال في "التهذيب": لا؛ لأنه يقول: ظلمني المحتال بما أخذ، والمظلوم لا يرجع إلا على من ظلمه. وقال الشيخ أبو حامد، والقاضي ابن كج، والشيخ أبو علي: يرجع؛ لأنه قضى دينه بإذنه، فعلى هذا: يرجع إذا دفع المال إلى المحتال، وهل يرجع قبله؟ فيه وجهان. فإن نكل المحيل حلف المشتري، ثم إن جعلنا اليمين كالإقرار بطلت الحوالة، وإن جعلناها كالبينة فالحكم كما لو حلف. قلت: وفي هذا – أيضاً –نظر من وجهين:

أحدهما: أن سماع الدعوى من البائع على المحتال بماذا؟ فإنه بعد وقوع الحوالة غير مطالب، ولا له حق بزعمه عند المشتري حتى إذا بطلت الحوالة رجع به. الثاني: أن تحليف المشتري مع القول بأن يمينه مع النكول كالبينة لا معنى له؛ إذ لا يترتب عليه شيء؛ فينبغي ألا يحلف كما ذكره الأصحاب في غير هذا الموضع، ورطيق الجواب عن دعوى البائع أن يقال: البائع له إجبار من له عليه حق حال قبضه على الصحيح فيحضره إليه، ويدعي عليه استحقاق قبضه بحكم بطلان الحوالة بسبب حرية العبد الذي أحاله بثمنه، والله أعلم. قال: وإن وجد بالمبيع عيباً فرده لم تبطل الحوالة؛ لأن بمجرد الحوالة انتقل ملك البائع عن الثمن إلى المحتال فلم يكن للمشتري إبطال ذلك بالرجوع؛ كما لو كان الثمن عيناً فباعها من أجنبي. قال: بل يطالب المحتال المشتري بالمال [بحكم الحوالة] لبقاء ملكه عليه، ويرجع المشتري على البائع [به]، أي: ببدله [كما يقول ذلك فيما لو كان [الثمن] عيناً وقد خرج] عن ملكه. وهذا الذي ذكره الشيخ هو الصحيح في الطرق، وادعى ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب في "تعليقه" إجماع الأصحاب عليه. وفي "النهاية": أن منهم من الحق هذه الصورة بالتي تليها، وعلل بأن الحوالة وإن تعلقت باستحقاق ثالث فإنها تبع للبيع، والتبعية لا تزول، ثم قال: وهذا وإن كان منقاساً فهو غريب، حكاه العراقيون والقاضي وغيرهم. قلت: ويؤيد الحكاية عن العراقيين: أن القاضي أبا الطيب في "شرح الفروع" لابن الحداد حكى فيما إذا أحالت الزوجة على الزوج بالصداق، ثم طلقها قبل الدخول وقبض المحتال – أن من أصحابنا من قال: لا يرجع الزوج عليها بشيء، ويدفع [إليها] الزوج نصف الصداق، وأن الصحيح ما قاله ابن الحداد، وهو أنه يرجع عليها بنصف الصداق.

ثم لا فرق على الصحيح بين أن يكون المحتال قد قبض المال أو لم يقبضه، وفيه قول [آخر]: أنه لا يجرع عليه ما لم يقبضه، وله مطالبته بقبضه على الأصح. قال: وإن أحال المشتري البائع بالثمن على رجل، ثم وجد المشتري بالمبيع عيباً فرده، فإن كان بعد قبض الحق لم تنفسخ الحوالة؛ لأنها تمَّت بالقبض بالمحصل؛ لبراءة ذمة المحال عليه. قال: بل يطالب المشتري البائع بما قبض، أي: ببدله، ولا يتعين حقه [في] المقبوض لصحة الحوالة، وهذا ما حكى الرافعي أن العراقيين جزموا به، وأن الشيخ أبا علي [قال:] ومن الأصحاب من خرج ذلك [أيضاً] على القولين فيما لو وجد فسخ البيع ولم يقبض المال بعد، وعلى ذلك جرى البغوي والمتولي وغيرهم. قلت: وكلام ابن الصباغ يدل على ذلك؛ فإنه قال: إذا قبض المال برئت ذمة المحال عليه. وهل يرجع المشتري على البائع بالثمن المسمى أو بما قبضه من المحال عليه؟ فيه خلاف سنذكره، ولا وجه لرجوعه بما قبضه من المحال عليه إلا إذا قلنا بأن الحوالة انفسخت ولهذا قال الأصحاب: إذا قلنا بالانفساخ وجب عليه رد المال المقبوض إلى المشتري، وإنه لو رده على المحال عليه لم تسقط طَلِبَة المشتري عن البائع. قال: وإن كان قبل قبض الحق فقد قيل: تنفسخ؛ لأن الحوالة وقعت بالثمن، فإذا فسخ البيع خرج المحال به عن أن يكون ثمناً، [وإذا خرج عن أن يكون ثمناً] ولم يتعلق به قح غيرهما وجب أن تبطل الحوالة، وبهذا فارقت هذه المسألةُ المسألةَ قبلها. وهذا ما حكاه المزني في "المختصر"، وجزم به أبو إسحاق وابن أبي هريرة

وأبو الطيب بن سلمة، وأكثر أصحابنا، على ما حكاه الماوردي. فعلى هذا: ليس له قبض المال، ولو قبضه لم يقع عنه، وفي وقوعه عن المحيل وجهان عن الشيخ أبي محمد، وأصحهما: لا. قال: وقيل: لا تنفسخ؛ لأنه تصرف في أحد عوضي البيع قبل الرد [فلا يبطل بالرد] بالعيب كما لو أخذ عنه ثوباً، وهذا ما حكاه أبو إسحاق في "الشرح" عن نقل المزني في "الجامع الكبير"، وجزم به أبو علي الطبري في "الإفصاح". وحمل ما [حكى عن] المزني في "المختصر" على الخطأ، وتابعه على الجزم به ابن الحداد، والأكثرون من أصحابنا، كما قاله القاضي في "شرح الفروع" وقال: إنه الصحيح. والقائلون بالطريق الأول منهم من حمل ما حكي عن نصه في "الجامع الكبير" على ما إذا كان حدوث العيب ممكناً بعد القبض، وكان القول في حدوثه قول البائع مع يمينه، فنكل عن اليمين، ردت عل المشتري، فحلف واستحق الرد، فالحوالة ثابتة لا تبطل؛ [لأن الحوالة تبطل] باتفاق المحيل والمحال عليه كما كان تمامها بهما، وإذا أنكر البائع تقدم العيب صار بطلانها لو بطلت بقول المحتال وحده وهو المشتري. وما قاله في "المختصر" [محمول] على ما إذا كان العيب متقدماً، ولا يجوز حدوث مثله بعد القبض، وهذه طريقة أبي إسحاق. وقال القاضي أبو حامد المرْوَرُّوذِي: طلبت ما نسب إلى المزني في "الجامع الكبير" فلم أجده في شيء منها، بل وجدت فيها خلاف ذلك. وكذلك قال الماوردي: إن هذه الطريقة أسوأ الطرق. فعلى هذا: له مطالبة المحال عليه وقبض الحق منه، وهل يرجع على البائع بالثمن قبل القبض؟ فيه وجهان، وأقيسهما عند الإمام: الرجوع، والأصح عند الصيدلاني: أنه لا يرجع، فعلى هذا له مطالبته بتخليصه على الأصح، وفيه وجه. وفي "النهاية": أن الجمهور جعلوا إطلاق النقلين من المزني قولين، وبنوهما

على أن الحوالة استيفاء أو معاوضة. فإن قلنا: إنها استيفاء، انفسخت الحوالة؛ لأنها على هذا التقدير – نوع إرفاق ومسامحة؛ فإذا بطل الأصل بطلت هيئة الإرفاق التابعة له؛ كما إذا اشترى شيئاً بدراهم مكسرة، وتطوع بأداء الصحاح ثم رده بالعيب – فإنه يسترجع الصحاح. وإن قلنا: إنها اعتياض، لم تبطل؛ كما لو استبدل عنه عيناً، ثم رد المبيع بالعيب؛ فإنه لا يسترد العين. على أن القاضي أبا الطيب والروياني منعا الحكم في هذه المسألة، وجعلاها كمسألة الحوالة، والذي رجحه القاضي ابن كج والغزالي من القولين – قول الانفساخ. ثم اعلم أن محل الخلاف بالاتفاق: ما إذا كان الرد بعد قبض المبيع، أما إذا كان قبله: فمنهم من جزم بالانفساخ، ومنهم من طرد الخلاف وهو الأصح. وفي "الحاوي": تخصيص محل القولين في انفساخ الحوالة بما إذا وقع الرد بالعيب بحكم الحاكم، وواق المحتال على أن ما وقعت الحوالة به هو الثمن، أما إذا لم يوافق [على ذلك، أو وافق] ووقع فسخ البيع بينهما من غير حاكم – فلا تبطل الحوالة وجهاً واحداً، وحكم الفسخ بسبب الإقالة أو التخالف وغيرهما حكم الفسخ بالعيب. وعلى رأي الماوردي ينبغي ألا يجري في الإقالة، كما إذا توافقا على الرد بالعيب من غير حاكم من طريق الأَوْلى. وقد ألحق الإمام وغيره بذلك فسخ النكاح بالعيب وانفساخه بالردة والرضاع، إذا كان الدين الحال به صداقاً، وأجري أيضاً فيما إذا طلق الزوج [قبل] الدخول. ومنهم من جعل الخلاف في ذلك مرتباً على الخلاف في غيره، وأولى بعدم الانفساخ، وهو ما جزم به ابن الحداد.

والفرق: أن الطلاق سبب حادث، لا استناد له إلى ما تقدم، بخلاف الفسخ، ولأن الصداق أثبت من غيره، وكذلك لو زاد زيادة متصلة، لم يرجع في نصفه إلا برضاها، بخلاف ما إذا كانت في المبيع. قال: وإن اختلف المحيل والمحتال، فقال المحيل: وكلتك في القبض، وقال المحتال: بل أحلتني. نقدم على الكلام في هذه مسألةً وهي: إذا قال رجل لمن لا حق له عليه: أحلتك على فلان بما لي عليه، كانت وكالة في جميع أحكامها، صرح بذلك صاحب "الاستقصاء" وغيره، وحكاه المتولي عن ابن سريج. ثم قال: وهذا على طريقة من ينظر إلى المعنى عند استعمال اللفظ في غير موضوعه، أما على طريقة من يعتبر اللفظ فلا تنعقد وكالة، وعلى الأول: إذا جرى مثل هذا اللفظ مع من له عليه دين وقال: قبلت، ثم اختلفا، وهي صورة مسألة الكتاب، فقال المحيل: أردت الوكالة، وقال المحتال: بل الحوالة – قال: فالصحيح أن القول قول المحيل؛ لأنهما اتفقا على ملك المحيل للدين، والمحتال يدعي انتقال الدين إليه وبراءة ذمة المحيل به، والأصل عدمه، ولفظ الحوالة كما يستعمل في نقل الحق يستعمل في نقل الطالبة، وهذا ما ذهب إليه المزني وأكثر الأصحاب؛ كما حكاه الرافعي. قال: وقيل: [إن] القول قول المحتال؛ لأن ظاهر اللفظ وافق دعواه، فكان حمل الحكم على ما يقتضيه ظاهر اللفظ أولى من حمله على ما يخالفه، وهذا ما ذهب إليه ابن سريج، وحكى الرافعي عن القاضي الحسين القطع به، وأنه حمل ما حكى عن المزني على ما إذا اختلفا في أصل اللفظ، فقال المحيل: وكلتك بلفظ الوكالة، وقال المحتال: بل أتيت بلفظ الحوالة واردتها، فإن القول قول المحيل بلا خلاف. والذي رأيته في "تعليقه" تصحيحه لا القطع به. وفي "تعليق" البندنيجي: أن ابن سريج حكى الوجهين، وقال: [إن] أصلهما

القولان فيما إذا ضرب ملفوفاً فقده نصفين، ثم اختلف هو وورثته في حياته، فإن فيه قولين؛ لتقابل أصلين: بقاء الحياة، وبراءة الذمة، وكذلك هاهنا أصلان: بقاء حق المحيل في ذمة المحال عليه، وقول المحيل: أحلتك على زيد، حقيقة في تحويل الحق. أما لو قال: أحلتك على فلان بما لك علي، فلا خلاف في أن هذا حوالة، صرح به في "الاستقصاء" وغيره، وفي "النهاية": أن منهم من أجرى ذلك وجهاً ثالثاً، وأن هذا لا يجوز أن يقدر فيه خلاف. التفريع: إن قلنا بقول ابن سريج فلا يخفى حكمه. وإن قلنا بقول المزني: فإن كان المحتال لم يقبض الحق بعد، لم يكن له قبضه، فلو قبضه فهل يكون مضموناً عليه؛ فيه وجهان. قال الماوردي: مأخوذان من اختلاف أصحابنا، في أن هذه وكالة فاسدة أو حوالة فاسدة؟ فإن قلنا: وكالة فاسدة، لم يضمن، وألا ضمن. وإن كان قد قبضه برئ المحال عليه. وحكى الرافعي عن الإمام رواية وجه ضعيف عن صاحب "التقريب": أنه لا يبرأ، والذي فهمته من كلام الإمام ما حكيته عن الماوردي من قبل.

فعلى الصحيح: إن كان المال باقياً انتزعه المحيل منه، وهل يرجع عليه المحتال بشيء؟ فيه وجهان: أصحهما في "الشامل" و"التتمة" وغيرهما: أن له الرجوع. واختيار الشيخ أبي حامد: لا. وإن كان تالفاً فلا تراجع بينهما؛ لأن المحيل يقول: تلف عليَّ ملكي في يدك، والمحتال يقول: تلف بعد أن أخذته من حقي. قال: وإن قال المحيل: أحلتك، وقال المحتال: بل وكلتني وحقي باقٍ عليك – فالأظهر أن القول قول المحتال؛ لأنهما توافقا على شغل ذمة المحيل وهو يدعي براءتها بالحوالة، والأصل بقاء الشغل، وهذا قول المزني. قال: وقيل: القول قول المحيل؛ اعتباراً بالظاهر كما قررناه، وهذا قول ابن سريج. قال الرافعي: [وقد حكى] عن القاضي الحسين القطع به. التفريع: إن قلنا بمذهب المزني نظر: فإن لم يكن المحتال قد قبض المال لم يجز له قبضه، ويرجع على المحيل بحقه، وهل للمحيل أن يرجع بما أحال به على المحال عليه في الظاهر؟ فيه وجهان. وإن كان قد قبضه وهو باقٍ قبل للمحتال: [خذه] في حقك، وفي "الوسيط" حكاية وجهين: أحدهما: أنه يطالبه بحقه ورد المقبوض إليه. والثاني: ما ذكرناه.

وإن كان تالفاً نظر: إن كان بتفريط منه كان من ضمانه، وإن كان بغير تفريط تلف من مال المحيل، وحق المحتال باق في ذمة المحيل، جزم به الماوردي، وفي "تعليق" البندنيجي رواية وجه: أن المال يتلف من ضمان المحتال، وأنه ليس بشيء. ووجهه الإمام بعد حكايته عن رواية صاحب "التقريب" بأنا إنما عجلنا القول قوله؛ لأن الأصل بقاء طَلِبته على الآخر، وهو يدعي استيفاءه، فإذا آل الأمر إلى الغرامة فالأصل أن ماله لا يكون أمانة إلا أن يقر بها، ومن تلف في يده ملك غيره فالأصل أن يكون مضموناً عليه. وإن قلنا: [بمذهب ابن سريج] فيحلف المحيل – كما قال [القاضي] أبو الطيب – بالله: لقد أحلته وما وكلته؛ فيبرأ في الظاهر من الدين، ثم ينظر: فإن لم يكن قد قبض المال من المحال عليه فله مطالبته به في الظاهر والباطن؛ لأنه قد ثبت أنه محتال فله مطالبته بالحوالة، وهو مقر بأنه وكيل وأن له المطالبة بالوكالة؛ فلم ينك ثم ما يمنع من المطالبة [به]. فرعان: أحدهما: إذا كان لرجل على رجل ألف درهم، فطالبه به، فادعى أنه أحال [به] فلاناً الغائب – فالقول قول رب الدَّيْن، فإن أقام المديون بينة بالحوالة سمعت وسقطت المطالبة عنه، ولا يقضي بها للغائب على من له الدين؛ لأن القضاء للغائب لا يجوز، فإذا حضر الغائب وادعى احتاج إلى إقامة البينة حتى يقضي له بها، كذا قاله [القاضي] أبو الطيب. وفي "الزوائد" حكاية عن ابن سريج: أنه لا حاجة عند حضوره إلى إقامته البينة؛ لأنه إنما يدعي بالحوالة على المحال عليه وهو مقر [له]. وهذا ما أبداه في "الاستقصاء" احتمالاً.

وقد حكى الرافعي ما ذكرناه أولا وآخرا وجهين. الثاني: إذا أحال رجل من له عليه دين على يزد به، فدفعه، ثم اختلف زيد والمحيل: فقال زيد: لم يكن لك عندي شيء، فلي الرجوع عليك بما دفعته، وقال المحيل: بل كان لي عليك – فالقول قول زيد مع يمينه، وله الرجوع على المحيل، صرح به صاحب "الزوائد" وغيره. والله أعلم.

باب الضمان

باب الضمان "الضمان" مأخوذ من "التضمين". ومعناه: تضمين الدين في ذمة من لا دين عليه، مع بقائه في ذمة من عليه. واختصاره: ضم ذمة إلى ذمة. وهو مصدر: ضَمِنته أضمَنُه ضماناً: إذا كفلته، ويقال: ضمن الشيء، وضمن به [ضَمْناً و] ضماناً، وضمَّنه إياه: أي كَفَّله. والضامن: يسمى الضمين، والحميل - بفتح الحاء - والزعيم، والكفيل، والصبير. قال الماوردي: غير أن العرف جارٍ بأن الضمين مستعمل في الأموال، والحميل في الديات، والزعيم في الأموال العِظام، والكفيل في النفوس، والصبير في الجميع، والضمان يصح بكل واحد منها ويلزم. والأصل في مشروعيته من الكتاب قوله تعالى: {سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40]، وقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]. وذلك يدل على مشروعية الضمان في الجملة عندهم. وقد ورد في شرعنا ما يقرره، وهو ما روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ" وقال: إنه حديث حسن صحيح. وروى أبو سعيد الخدري: أن جنازة أُتِيَ بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هَلْ عَلَى

صَاحِبِكُمْ مِنْ دَيْنٍ؟ " فقالوا: نعم، درهمان، قال: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ" فقال علِيٌّ: هما عليَّ يا رسول الله، وأنا بهما ضامن؛ فصلى عليه، ثم قال له: "جَزَاكَ اللهُ عَنِ الإِسْلامِ خَيْراً، وفَكَّ رِهَانَكَ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ". وقد روي عن أبي قتادة أنه ضمن عن ميت دينارين. وفي البخاري: أنه أتى بجنازة، فقيل: يا رسول الله، صلِّ عليها، قال: "هَلْ تَرَكَ شَيْئاً؟ " قالوا: لا، قال: "هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ " قالوا: ثلاثة دنانير، فقال: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ" قَالَ أَبُو قَتَادَة: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. قال جابر: كان في ابتداء الإسلام لا يصلي النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة عليها دين، حيث كان في الأموال قلة؛ لأن صلاته توجب المغفرة إذ هي شفاعة، وهو صلى الله عليه وسلم مُشَفَّع في أمته، والديون معاقب عليها، فلام كثرت الأموال نسخ ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَلفَ مَالاً أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ خَلفَ كَلاًّ أَوْ دَيْناً فَكَلُّهُ إِلَيَّ وَدَيْنهُ عَلَيَّ" فقيل: يا رسول الله، وعلى كل إمام بعدك؟ فقال: "وَعَلَى كُلِّ إِمَامِ بَعْدِي". واختلف العلماء – عل ما حكاه الماوردي-في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَلفَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ خَلفَ دَيْناً فَعَلَيَّ" على وجهين: أحدها: أنه إذا مات وعليه دين، قضاه من مال الصدقات من سهم الغارمين، ومن مات ولا دين عليه وله مال، كان لورثته.

والثاني: أن من ترك ديناً له ومالاً، فَعَليَّ اقتضاء الدين له، واستخراجه ممن هو عليه حتى يصير مع ماله تركة إلى ورثته. [ولأجل هذا الاختلاف، اختلف أصحابنا في أنه: هل كان يجب عليه صلى الله عليه وسلم قضاء ديون من مات ولا مال له أم لا؟ على وجهين، أصحهما في "النهاية" في أول كتاب النكاح: نعم، وعلى هذا: هل يجب مثل ذلك على الأئمة من بعده أم لا؟ فيه وجهان]. [وبالتفسير الثاني أخذ من لم يوجب من أصحابنا على الأئمة قضاء [ديون] المَوْتَى، إذا قلنا بأن ذلك كان حتماً على النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما هو الأصح في "النهاية" في أول كتاب النكاح. ومن قال منهم بأنه يجب على الأئمة ذلك من سهم المصالح، تمسك بظاهر الخبر، وفسره بالتفسير الأول]. وقد أجمع المسلمون على أصل الضمان، وإن اختلفوا في التفصيل. قال: من صح تصرفه في ماله بنفسه صح ضمانه، [أي: سواء كان المضمون عنه حياً أو ميتاً: أما إذا كان ميتاً؛ فلحديث علي وأبي قتادة]. وأما إذا كان حيًّا فلما روي عكرمة، عن ابن عباس – رضي الله عنهم – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحمل عن رجل عشرة دنانير، وأنه أتى له بها فردها النبي صلى الله عليه وسلم عليه. وروي أن قَبِيصة بن المخارق الهلالي تحمل حمالة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "نُؤَدِّيهَا عَنْكَ يَا قَبِيصَةُ" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "حَرُمَتْ الْمَسْأَلَةُ – أَوْ قَالَ: لاَ تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ – إِلاَّ لِثَلاَثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَيَسْأَلُ حَتَّى يَقْضِيهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ". وقد حكى الرافعي عن أبي الحسين: أن من الأصحاب من لم يصحح ضمان

الأخرس بالإشارة، وقال: لا ضرورة بنا إليه، بخلاف سائر التصرفات، وانه لو ضمن بالكتابة كان في الصحة أيضاً وجهان، أظهرهما: الصحة عند وجود القرينة المشعرة بالمقصود. قال: ومن لا يصح تصرفه في المال كالصبي، والمجنون، [أي: ومن [في معناهما من مغمي عليه] أو مُبَرْسَمٍ أو سكران بغير مُحَرَّم. قال: والمحجور عليه لسفه لا يصح ضمانه؛ لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح ممن ذكرناه كالبيع. أما السكران بمحرم فقد قدمت الكلام في تصرفاته في باب الحجر، وسيأتي في كتبا الطلاق، وقد قال الماوردي هنا: إن ضمانه صحيح على الجديد، ويجيء قول آخر من القديم: أن ضمانه باطل. وعن السفيه احترز الشيخ بقوله: بنفسه؛ لأنه يصح تصرفه في ماله بإذنه وليه على الأصح. واحترز عنه الغزالي بقوله: وكونه من أهل التبرع. وهو ما نَحَا إليه الإمام؛ فإنه قال: المحجور عليه وإن كان تصح عبارته عن إذن وليه فضمانه مردود من قبل أنه تبرع وتبرعات المبذر مردودة، ولا يصح من الولي الإذن فيها. وقد اعترض الرافعي عليه [فيها] بأنه إنما يكون تبرعاً إذا كان في صورة لا يثبت فيها الرجوع، أما إذا كان في صورة يثبت فيها الرجوع فهو إقراض لا محض تبرع. ويدل عليه: أنه إذا ضمن في مرض الموت بغير إذن من عليه الدين فهو محسوب من ثلثه، وإن ضمن بإذنه فهو محسوب من رأس المال، وهذا وإن لم يكن تبرعاً فلا يصح من المحجور [عليه]، كالبيع، فإن أذن فيه الولي فليكن كما لو أذن في البيع. انتهى. قلت: ما ذكره الإمام ظاهر الصحة، وفيما اعترض به الرافعي عليه نظر من

وجهين: أحدهما: أنه أطلق على الضمان بأنه قرض في الصورة التي يثبت فيها الرجوع، وليس كذلك؛ بل الأداء هو القرض. وجوابه: أنه يجوز؛ [فعبر عنه بما] يئول إليه. الثاني: أن قوله: فليكن إذا أذن فيه الولي كما لو أذن في البيع، لا تظهر صحته؛ فإنه قد قرر أنه قرض، وقرض مال السفيه لا يجوز إلا لضرورة كما تقدم. فرع: لو ضمن مالاً، ثم ادعى أنه في حال الضمان كان صبيًّا أو مجنوناً، واحتمل ما يقوله – فالقول قوله، ويعتبر فيما إذا ادعى الجنون أن يُعْهَدَ له جنون سابق أو يقيم عليه بينة، هكذا أطلقه الأصحاب هاهنا. وقد حكى الغزالي قبيل كتاب الصداق فيما إذا زوج أمته، ثم ادعى أنه زوجها في حال جنونه أو صباه، واحتمل ما يقوله – وجهين في قبول قوله، ويتجه جريان مثلهما هاهنا أيضاً. قال: والمحجور عليه بالإفلاس يصح ضمانه، أي: وإن لم يصح تصرفه في ماله بنفسه. ويطالب به إذا انفك الحجر عنه، أي: وله مال إذ ذاك؛ لأن الحجر عليه لحق الغرماء، ولا ضرر عليهم في الضمان؛ فصح منه. ومقتضى الوجه الذي تقدم في أن الحجر يتعدى إلى نفسه: أنه لا يصح ضمانه؛ كما لا يصح شراؤه بثمن في ذمته. قال: والعبد لا يصح ضمانه بغير إذن سيده، أي: المأذون غيره؛ لأنه إثبات مال في الذمة بعقد فلم يصح من العبد بغير إذن سيده كالنكاح. وهذا ما ذهب إليه ابن سريج، وبه قال الإصطخري، وجعله القاضي الحسين في "تعليقه" هنا، والإمامُ في آخر "النهاية" المذهبَ، والرافعيُّ: أصحَّ الوجهين، وكلام القاضي أبي الطيب في "تعليقه" يقتضي ترجيحه، كما سنذكره. قال: وقيل: يصح ويُتَّبع به، أي: يطالب به، وهو بفتح التاء المثناة فوق المشددة، إذا عَتَقَ، أي: وأيسر؛ لأن الحجر عليه لحق السيد والسيد لا ضرر عليه في الضمان؛ ولهذا لو أقر العبد لأجنبي بمال قبل إقراره إذا لم يكن على السيدات والسادة:

ضرر فيه، وهذا قول ابن أبي هريرة كما حكاه الماوردي وغيره. وقال الرافعي: إن الأول من تخريج ابن سريج، وإن أبا إسحاق قال به. فإن قيل: قد حكى الغزالي: أن العراقيين ألحقوا شراء العبد بغير إذن سيده بثمن في ذمته، بشراء المفلس، وكذلك حكاه القاضي أبو الطيب في كتاب التفليس، ومقتضى ذلك: أن يكون الصحيح جوازه، وقد ذكرتم هاهنا أن الصحيح عدم صحة الضمان بغير إذن السيد، مع أنه في الموضعين شغل ذمته بما لا ضرر على السيد فيه في الحال؛ فكان القياس التسوية. قلت: قد صار إلى التصحيح هاهنا صاحب "المرشد"، والإمام في مداينة العبيد، وهو الذي يقتضيه كلام ابن الصباغ؛ فإنه أخذ يذكر ما رد به القاضي أبو الطيب على القائل بهذا القول سؤالاً، [وقال: فإن قيل: إن في الضمان إضراراً بالسيد؛ لأنه مستحق إرث ماله بالولاء، إذا أعتقه]، وثبوت الدين يمنع الإرث. وأجاب بأن حكم الإرث لا يمنع الضمان، بخلاف حكم الملك؛ ولهذا لا يمنع الإقرار، والملك يمنع الإقرار فيه. ويمكن الفرق بين الضمان والبيع عند من قال بتصحيح القول بعدم صحة الضمان: بأن السيد وإن تضرر بتعلق الثمن بتركته بعد عتقه، فقد انجبر بدخول المبيع في ملكه عاجلاً، بخلاف دين الضمان؛ فإنه لا جابر له - خصوصاً إذا كان بغير إذن المضمون عنه - لا عاجلاً ولا آجلاً. على أن من حكى من العراقيين أن شراء العبد ملحق بشراء المفلس - وهو القاضي أبو الطيب - قد حكى هاهنا أن شراءه وإقراضه ملحق بضمانه. وكذلك [هاهنا] حكاه البندنيجي، وطرده في عقود المعاوضات كلها: من الصلح، والإجارة وغيرهما، إلا النكاح؛ فإنه لا يصح وجهاً واحداً. وما قالاه مشكل بما ذكرناه من الفرق. قال: ويصح بإذنه كما يصح نكاحه؛ [ويتبع به إذا عتق]، أي: إذا لم يعين له السيد ما يوفي منه، أطلق الإذن له؛ لأن اللفظ لم يكن فيه ما يقتضي [التزام]

السيد شيئاً، والعبد لا ملك له؛ فصار كضمان المعسر. قال: وقيل: يؤديه من كسبه، أو من مال التجارة إن كان مأذوناً له فيها؛ لأن الضمان يقتضي الغرم كما يقتضي النكاح المهر والنفقة، وهو لو أطلق الإذن له في النكاح تعلق المهر والنفقة بما ذكرناه، وكذلك إطلاق الإذن في الضمان. وهذا ما اختاره في "المرشد"، وجعله القاضي الحسني في الأولى ظاهر المذهب. وحكى الماوردي: أنه قول أبي علي الطبري، وصححه الرافعي والإمام فيها. وقال الإمام فيما إذا كان العبد مأذوناً له في التجارة: إن الخلاف فيه يبني على الخلاف في غيره، وأولى بأن يتعلق بما في يده؛ لأن ظاهر الحال مشعرٌ بذلك. وقيل: يتعلق الغرم برقبته. والقائلون بالأول فرقوا بين ما نحن فيه وبين المهر والنفقة، بأنهما يجبان عوضاً عن الاستمتاع المعجل؛ فلذلك عجلاً بخلاف الضمان. وأيضاً فإنه لا يزيد على الإذن [له] في الشراء، ولو ابتاع بالإذن كان الثمن في ذمته دون كسبه كما قاله الماوردي؛ فكذلك الضمان. على أن في كلام الإمام وغيره ما يشعر بأن الإذن في المعاملات يتعلق بما ذكرناه وجهاً واحداً؛ فلا يحسن الإلحاق [به]. فرع: إذا قلنا: يتعلق بمال التجارة، فهل يتعلق [بما يكسبه] من بعد الضمان؟ أو به وبما في يده من الربح الحاصل من قبل؟ أو بهما وبرأس المال؟ فيه ثلاثة أوجه، أقيسها الثالث، وهو الذي يقتضيه إطلاق الشيخ. ومحل الخلاف إذا لم يكن على المأذون دين –كما يدل عليه كلام الشيخ

من بعد – أما إذا كان وقد حجر عليه الحاكم، [فلا] يتعلق بما في يده وجهاً واحداً, وإن وجد الدين دون الحجر، فثلاثة أوجه: أحدها: أنه يتعلق بها، ويشارك الغرماء. [والثاني: لا تعلق له بما في يده أصلاً؛ لأنه كالمرهون بحقوق الغرماء]. والثالث: أنه يتعلق بما في يده، لكن حقوق الغرماء تقدم، فإن ضل من المال عنها شيء، أو سقطت حقوق الغرماء، [أي]: بسبب من الأسباب – وفِّي منه دين الضمان، كذا صرح به الإمام. وحكم المدبر وأم الولد، حكم القن، ومن بعضه حر وبعضه رقيق كذلك إن لم يكن بينهما مهايأة أو كانت، ووقع الضمان في نوبة السيد. قال الرافعي: وكان يجوز أن يقال: إلزامه [بالضمان كإلزامه] بالشراء؛ فيصح ويختص به، ويجوز أن يخرج على الخلاف في أن المؤن والأكساب النادرة، هل تدخل في المهايأة؟ ولو ضمن في نوبته صح بلا خلاف، وفي "تعليق" القاضي الحين فيما إذا لم يكن بينهما مهايأة في صحة ضمانه وجهان مبنيان على أنه هل يورث أم لا؟ فإن قلنا: يورث عنه، صح. قال: وإن قال للمأذون له: اضمن في مال التجارة، لزمه القضاء منه؛ لأن المنع كان لعدم استلزام اللفظ [ذلك]، وقد صرح به. قال: إلا أن يكون عليه دين آخر، أي: فلا يلزمه؛ لأن حقوق الغرماء متعلقة به، وهي سابقة فقدمت. وفي "الحاوي" حكاية خلاف في المسألة – والحالة هذه – مبني على أن العبد المأذون هل هو محجور عليه بالنسبة إلى الغرماء، كما هو محجور عليه بالنسبة إلى السيد؟ وفيه قولان حكاهما ابن سريج:

فإن قلنا: إنه محجور عليه بالنسبة إليهم، لم يقض من مال التجارة، كما أشار إليه الشيخ. وإن قلنا: إنه غير محجور عليه بالنسبة إليهم، شاركهم المضمون له. ثم على الأول في صحة ضمانه وجهان: أحدهما: إنه باطل؛ لأنه صرفه إلى جهة لم يثبت فيها الرجوع. والثاني: أن ضمانه جائز. فعلى هذا: فيه وجهان: أحدهما: أنه يكون فيما اكتسبه بعد الضمان، وفيما فضل من المال الذي كان بيده قبل الضمان. والثاني: أن يكون في ذمته يتبع به إذا عَتَقَ. ولو عجز مال التجارة عن الوفاء بالمضمون حيث لا دين على العبد، قال الماوردي: تعلق الفاضل بالمستقبل من كسبه. فإن قيل: الحر لو قال: ضمنت لك مالك على فلان في هذا المال، لم يصح؛ لأن حقيقة الضمان الضم، ولم يوجد، وقد صححتم ضمان العبد فيما في يده من مال التجارة بإذن سيده، فأي فرق بينهما؟! قلنا: لا نسلم أن الضمان في العين لا يصح؛ فإن القاضي ابن كج صححه كما ستقف عليه في العارية، [إن شاء الله تعالى]. وإن سلمنا عدم الصحة فنقول: لا فرق بينهما؛ فإنا لم نصححه فيما في يده غير متعلق بذمته؛ فإنه لو صرح بذلك لم يصح – كما ذكرناه في الحر – بل صححناه في ذمة العبد والمال متعين للأداء. قال البندنيجي: كما لو قال الحر: ضمنت لك ما في ذمة زيد على أن أؤديه من هذا المال؛ فإنه يصح، ويلزم على ما ضمن.

على أن القاضي الحسين جزم في هذه الصورة التي استشهدنا بها بالبطلان، لكنه فرق بين الحر والعبد؛: بأن الحر ذمته واسعة وجهات أداء المال في حقه كبيرة، فإذا شرط هذا يكون ذلك حجراً على نفسه فلم يجز، بخلاف العبد فإنه ليس له جهات كثيرة، ولا له ذمة سليمة تتعلق بها الحقوق. فروع: إذا ضمن العبد بإذن سيده، وأدى في حال رقه، فحق الرجوع يثبت للسيد، وإن أداء بعد العتق، فحق الرجوع للعبد، على أصح الوجهين، وفي الثاني: هو للسيد؛ فيرجع حاصل الخلاف إلى أن العبرة بحال الضمان أو بحال الأداء. وعلى ذلك يخرج ما لو ضمن ديناً عن سيده، وأداه بعد العتق، فإن قلنا: حق الرجوع للسيد، لم يرجع عليه العبد؛ كما صار إليه القاضي أبو حامد. وإن قلنا: إنه للعبد، رجع كما صار إليه ابن سريج. وعلى ما أشرت إليه من المأخذ يخرج ما لو ضمن السيد عن عبده مالاً، وأداه بعد عتقه، هل يرجع عليه أم لا؟ كما لو صرح به الماوردي. فعلى رأي أبي العباس: يرجع؛ اعتباراً بحال الأداء، وعلى رأي القاضي أبي حامد: لا يرجع؛ اعتباراً بحال الضمان؛ فإن السيد لا يثبت له على عبده دين ابتداء. وفي "الوسيط" الجزم في هذه الصورة بالرجوع، وحكى أن رأي الأصحاب فيما لو أدى قبل العتق: أنه يرجع، وان فيه نظراً من حيث إن فيه إثبات دين السيد على عبده في دوام الرق. آخر: لو ضمن العبد ديناً لسيده، لم يصح. وفي "الحاوي" – حكاية عن ابن سريج -: أنه يصح ويطالب به إذا عَتَقَ، ثم

قال: إن كان ابن سريج يقول في مبايعة السيد لعبده مثل ما يقوله في الضمان، فقد جرى على القياس، وكان لقوله وجه، وإن كان يمنع من مبايعته فقد ناقض، وفسد مذهبه. قال: وأما المكاتب قبل الإذن فهو [كالعبد القِنِّ)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الْمُكَاتِبُ قِنٌّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ". [قال]: فإن أذن له ففيه قولان، أي: مبنيان على تبرعاته بإذن سيده، وفيها خلاف محل ذكرها باب الكتابة. فإن قلنا بصحتها صار كالعبد القن إذا ضمن بإذن سيده فيما في يده، وإن قلنا: لا تصح، اتُّبع بما ضمنه إذا عَتَقَ وأيسر، ويكون فائدة الإذن: صحة الضمان، لا الأداء مما في يده. تنبيه: القن- بكسر القاف – عند أهل اللغة: العبد المملوك هو وأبواه، قال الجوهري: ويستوي فيه الواحد والإثنان والجمع، والمؤنث، قال: وربما قالوا: عبيد أقنان، ثم يجمع على: أقنة. وفي اصطلاح الفقهاء: الرقيق الذي لم يحصل فيه شيء من أسباب العتق ومقدماته، بخالف المدبر، المكاتب، والمستولدة، ومن عُلِّقَ عتقه بصفة. قال: "ولا يصح الضمان حتى يعرف الضامن المضمون له؛ لأن الناس متفاوتون في الاقتضاء والاستيفاء: تشديداً، وتسهيلاً، والأغراض تختلف بذلك؛ فلذلك اشترطت معرفته، [كما اشترطت معرفة] قدر الدين؛ لاختلاف الغرض به. وهذا ما ذهب إليه أبو علي بن أبي هريرة من غير اشتراط معرفة المضمون عنه، واختاره في "المرشد"، وصححه الرافعي، وحكى البندنيجي: أنه المنصوص عليه في "اختلاف العراقيين". وقيل: تشترط معرفة المضمون عنه أيضاً؛ لينظر: هل هو ممن يستحق إسداء

الجميل إليه والمعونة أم لا؟ وهل هو موسر وممن يتوقع منه المسار إلى وفاء الدين أو لا؟ وذلك مما يختلف الغرض به. وهذا قول المزني. وقيل: لا تشترط معرفة واحد منهما، وهو قول ابن سريج؛ لأن عليًّا وأبا قتادة ضمناً دينَ من لم يعرفاه، مع قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، ومن يجيء به غير معروف؛ كذا قاله الماوردي مع أنه حكى في موضع آخر: أن المضمون عنه كان من أهل الصُّفَّة، واستدل له القاضي أبو الطيب من حديث علي وأبي قتادة بأنه – صلى الله عليه وسلم لم يسألهما عن معرفتهما بصاحب الدين ولا بالميت. التفريع: إن قلنا باشتراط معرفة المضمون عنه فلا خلاف في عدم اشتراط رضاه، وإن قلنا باشتراط معرفة المضمون له – كما جزم به الشيخ – فهل يشترط قبوله أو رضاه، أو لا يشترط واحد منهما؟ فيه ثلاثة أوجه مجموعة من كلام الماوردي وغيره، كما سيظهر لك: أحدها: أن تمام الضمان موقوف على قبوله في الحال؛ لأن الضمان عقد وثيقة يفتقر إلى لفظ الضامن بالضمان؛ فافتقر إلى لفظ المضمون له بالقبول؛ كالرهن.

وهذا ما نسبه البندنيجي إلى ابن سريج، وكذلك الماوردي. وقال: إن أبا علي الطبري، صرح بهذا القول في "إفصاحه"، وهو الذي جزم به المحاملي. والثاني - حكاه ابن أبي هريرة عن بعض شيوخه؛ على ما حكاه الماوردي -: أن رضاه شرط دون القبول باللفظ؛ لأنه لو كان شرطاً لاعتبرت المواجهة فيه، وقد ضمن علي وأبو تقادة دين الميت مع غيبة صاحبه؛ فعلى هذا: إن رضي المضمون له بقول صريح، أو فعل دال على الرضا في مجلس الضمان -جاز، وإن تراخى عن حال الضمان، فإن لم يوجد منه الرضا حتى فارق المجلس، فلا ضمان، وللضامن أن يرجع في ضمانه، وإن رضي المضمون له. الثالث - وهو المذكور في "الشامل"، و"تعليق" القاضي أبي الطيب وغيرهما بدلاً من الوجه الأول - أنه لا يشترط رضا المضمون له، ونسبوه إلى ابن سريج، وأن وجهه: أن عليًّا وأبا قتادة ضمنا الدينارين والدرهمين عن الميت، ولم يستأذنا المضمون له. ونسبوا الثاني إلى قول أبي علي الطبري، وهذا ترتيب العراقيين. وسلك الإمام في الترتيب طريقاً آخر، قال: لم يختلف أصحابنا في أنه لا يشترط رضا المضمون عنه لصحة الضمان، فهل يشترط رضا المضمون له؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم. والثاني - وهو الذي ذهب إليه الأكثرون -: لا. لكن على هذا: لا يلزم المضمون له قبول ما يحضره الضامن إن كان بغير إذن المضمون عنه، وإن كان في صورة يثبت للضامن الرجوع بما غرم وجب. وإن كان بإذن المضمون عنه حيث لا يثبت له الرجوع - كما سنذكره - ففي اللزوم وجهان: والأشهر: أنه ليس له الامتناع، وهما مبنيان على أن المؤدي يقع فداء أو موهوباً ممن عليه الدين؟

إن قلنا بالثاني لم يكن له الامتناع، وعلى القول باشتراط الرضا، هل يشترط [القبول]؟ فيه وجهان قرَّبهما الشيخ أبو محمد من اشتراط القبول في الوكالة؛ لأن كل واحد منهما تَجَدد سلطةٌ لم تكن مع أن أصل الحق ثابت. وعلى القول بعدم اشتراط الرضا والقبول، لا يضر تقدم الرضا المعتبر على الضمان بزمان متطاول، ولو تأخر الرضا عن الضمان، كان في حكم الإجازة إذا جوزنا وقف العقود. وعلى القول في اشتراط الرضا والقبول، هل يشترط معرفة المضمون له والمضمون عنه؟ فيه أربعة أوجه جمعها صاحب "التقريب"، رابعها – غير ما ذكرناه -: يشترط معرفة المضمون عنه دون معرفة المضمون له. قال الرافعي: وفي طريقة الصيدلاني ما يقتضيه، وهو غريب.

فرع: هل يشترط أن يأتي الناطق بلفظ الضمان، أو تكفي كتابته مع القرينة المشعرة بالمقصود؟ فيه وجهان، أظهرهما: الثاني. آخر: هل يشترط إقرار المضمون عنه بالدين، حتى لو أنكر أصل الدين واعترف به إنسان ثم ضمنه: هل يصح؟ فيه وجهان، حكاهما الإمام في باب الإقرار بالنسب، والأصح – وهو المشهور في الطرق -: أنه لا يشترط. تنبيه: لا شك أن الضمان يلزم [بقول الضامن] ضمنت ما لك على فلان، أو تكفلت به، أو: تحملته، أو تقلدته، أو التزمته، أو أنا بهذا المال ضامن، أو: زعيم، أو: حميل، أو: صبير، أو: قبيل، كما حكيته من قبل. وفي "البيان" عن كتاب الطبري حكاية [وهج] في لفظ "القبيل": أنه ليس بصريح. قال الرافعي: ويطرد في "الحميل" وما ليس بمشهور في العقد. ولو قال: خل عن فلان، والدين الذي لك عليه عندي – فهذا ليس بصريح في الضمان. ولو قال: دين فلان إليَّ، فوجهان في "زوائد" العمراني حكايةً عن الطبري في أنه هل هو صريح في الضمان أم لا. قال: ويصح ضمان كل دين لازم: كثمن المبيع، أي: سواء كان منفعة أو عيناً، قبض أو لم يقبض، ودين السلم، وأرش الجناية، أي: إذا كان نقداً؛ لأنه وثيقة يستوفي منها الحق؛ فصحت في كل دين لازم، وإن لم يكن مستقراًّ كالرهن، والمراد باللازم – كما صرح به المارودي -: ما يلزم إقباضه عند المطالبة، وبهذا التفسير يصح ضمان الأجرة في الإجارة قبل استيفاء المنفعة، والصداق قبل الدخول، ونفقة القريب بعد الوجوب في ابتداء النهار؛ اعتباراً بلزومها وقت الضمان، وإن كانت قد تسقط بمضي الوقت، كما صرح به البندنيجي. وفي "التتمة" حكاية وجه آخر: أنه لا يصح ضمان نفقة القريب؛ لأنه ليس طريقها طريق الديون.

وفي "الحاوي" حكاية وجه في ثمن المبيع إذا لم يقبض، وفي الأجرة إذا لم تُستوفَ المنفعة، وفي الصداق قبل الدخول: أن حكم ذلك حكم ثمن المبيع في زمن الخيار، وسنذكره. قال: أو يئول إلى اللزوم كثمن المبيع في مدة الخيار، وكمال الجعالة، أي: مثل أن يقول: من رد عليَّ عبدي فله درهم، كما صور ابن الصباغ؛ لأنه لما كان مما يئول إلى اللزوم ألأحق باللازم. وقد استدل لصحة ضمان مال الجعالة بقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]. وهذا ضمان من المنادي قبل الرد، إذ الجاعل يوسف – عليه السلام -. قال: وقيل إن مال الجعالة لا يصح ضمانه. قال القاضي أبو الطيب: لأن العقد ليس بلازم في الحال في حق المجعول له، ولا يئول إلى اللزوم في حقه بحال؛ لأنه لا يجبر على رد الآبق بحال فكان المال في حقه بمنزلة مال الكتابة في حق المكاتب. قال ابن الصباغ: وهذا [غير صحيح]؛ لأن العمل لا يلزم، والمال يلزم بوجوده، والضمان في المال دون العمل. وقد أجرى بعضهم الخلاف المذكور في مال الجعالة في ثمن المبيع في زمن الخيار، وهي طريقة البندنيجي، لكن قال: الصحيح في ضمان الثمن الصحة، وفي ضمان مال الجعالة البطلان. ثم محل الخلاف في الثمن إذا كان الخيار للمشتري وحده أو لهما، أما إذا كان للبائع [وحده] صح وجهاً واحداً، صرح به المتولي.

وأشار الإمام إلى أن محل الصحة إذا قلنا: إن الملك ينتقل [بنفس العقد، أما إذا قلنا: لا ينتقل؛ فهو] ضمان ما لم يجب، وقد حكينا عنه مثل ذلك في الرهن. ومحل الخلاف في مال الجعالة – على ما حكاه البندنيجي هنا، والمتولي والقاضي الحسين – بعد الشروع في العمل. وقال القاضي: لا خلاف في عدم الصحة قبل الشروع. والذي حكاه ابن يونس، واقتضاه تصوير ابن الصباغ المسألة: أن محله قبل الشروع في العمل، وهو ما اقتضاه كلام البندنيجي في صحة الرهن [به] كما حكيته في الرهن. وقد حكى الإمام عن شيخه أنه خَرَّج ضمان الجعل قبل العمل، على الخلاف في ضمان ما لم يجب، ولكن جرى سبب وجوبه. فرع: حقوق الله تعالى المالية لا تصح الكفالة بها؛ لأنها موكولة إلى أمانته إن تعلقت بذمته، أو زكاة تؤخذ من [عين ما بيده]، كذا قاله الماوردي في باب اللعان. قال: وأما ما ليس بلازم ولا يئول إلى اللزوم كدين المكاتب فلا يصح ضمانه؛ لأن المكاتب لا يجبر على دفعه [و] الضامن فرعه، والضمان هو الالتزام؛ فإذا لم يلزم الأصل لم يلزم الفرع. وحكى الإمام عن شيخه: أنه حكى عن ابن سريج وجهاً في جواز ضمانه؛ تخريجاً على ضمان ما لمي جب وقد وجد سبب وجوبه، ثم قال: وهذا فيه بعد.

وحكى أيضاً وجهين عن ابن سريج في صحة ضمانه على الترتيب القديم في صحة ضمان ما لم يجب [ولا وجد] سبب وجوبه. قال: ولا يصح ضمان مال مجهول، أي: مثل: أن يقول: ضمنت لك ما لك على فلان، وهو لا يعرفه؛ لأنه إثبات مال في الذمة لآدمي بعقد لازم، فلا يصح مع الجهالة؛ كالثمن في المبيع. واحترزنا بقولنا: "في الذمة" عمن غصب من رجل شيئاً مجهولاً، وبقولنا: "بعقد" عمن أتلف على غيره مالاً مجهولاً، أو وطئ امرأة [في نكاح] فاسد. قال: وقيل: يصح ضمان إبل الدية وإن كانت مجهولة؛ لأنها معلومة السن، والعدد، والمرجع في الصفة واللون إلى عرف البلد، وهذا خرجه من صحة من الصلح عنها وإصداقها، وهذا الخلاف في الجديد. وأما في القديم: فيجوز ضمان المجهول إذا أمكن تقدير الإحاطة به؛ بأن قال: ما بعت من فلان، فأنا ضامن لثمنه، كما سنذكره. فروع: لو قال: ضمنت لك الدراهم التي على فلان، وهو لا يعرف قدرها - فلا يصح؛ على الجديد فيما زاد على ثلاثة دراهم، وفي قدر الثلاثة وجهان، في "التتمة". لو قال: ضمنت لك من واحد إلى عشرة، ففي الصحة وجهان على الجديد. وإذا صح - كما هو الأصح في الرافعي- وكان [على] المضمون أكثر من عشرة، فيلزمه عشرة أو ثمانية أو تسعة؛ إدخالاً [للطرف الأول] دون الثاني؟ فيه ثلاثة أوجه، أصحها في "التهذيب": الأول. لو قال: ضمنت لك ما بين الدرهم والعشرة، وعرف أن دينه لا ينقص عن عشرة - صح، وكان ضامناً لثمانية. وإن لم يعرف، ففي صحة الضمان الوجهان في المسألة قبلها. قال: ولا يجوز ضمان ما لم يجب، مثل: أن يقول: ضمنت لك ما تقرضه

لفلان من الدراهم، من درهم إلى ألف، أو ثمن ما تبيعه منه؛ لأن الضمان وثيقة بالدين؛ فلم يصح قبل ثبوته كالشهادة، وقد اختار الشيخ أبو حامد هذا الطريق. وحكى هو وغيره طريقاً آخر عن ابن سريج: أن في المسألة قولين، وادعى الرافعي أنه أشهر من الأول: أحدهما: ما ذكرناه، وهو الجديد. والثاني – وهو القديم -: الصحة؛ لأنه قد تمس الحاجة إليه. وقد حكيت هذا القول في كتاب الرهن، وذكرت ثم [بعض] تفاريعه، وحكيت عن الماوردي وغيره شيئاً يتعلق بما نحن فيه؛ فليطلب منه. ومن تمام تفاريع القول القديم أمور: أحدها: أنه إذا قال: ضمنت لك ما تبيعه من فلان، فباع منه الشيء بعد الشيء –كان ضامناً للكل، بخلاف ما لو قال: إذا بعت من فلان فأنا ضامن؛ حيث لا يكون ضامناً إلا لثمن ما باعه أولاً، وفرق الإمام بينهما بما لا يكاد يسلم له، وهو أن "ما" من أدوات الشرط؛ فتقتضي التعميم، و"إذا" ليست من أدوات الشرط؛ [فلا تشعر بالتعميم أصلاً]. الثاني: إذا شرطنا معرفة المضمون له عند ثبوت الدين فهاهنا أولى، وإن لم تشترطها فهاهنا وجهان، وكذا معرفة المضمون عنه. الثالث: لا يطالب الضامن ما لم يلزم الدين على الأصل. ويلتحق بهذا النوع الدية على العاقلة، وقد صرح المتولي بأنه لا يصح ضمانها؛ لأنها غير واجبة في تلك الحالة ولهذا تسقط بالموت، والدين المؤجل لما كان واجباً حل بالموت. واعلم أن إطلاق الشيخ يقتضي عدم صحة الضمان عند عدم الوجوب، سواء وجد سبب الوجوب أو لم يوجد، وقد حكى الغزالي في صحة ضمانه على الجديد قولين، غيره حكى ذلك وجهين: قال: ويصح ضمان الدرك على المنصوص؛ لأن الحاجة تدعو إلى معاملة من

لا يعرف من الغرماء، ولا يوثق بيده وملكه، ويخاف عدم الظفر به لو ظهر الاستحقاق، فاحتيج إلى التوثُّق، وبهذا قطع أبو إسحاق وابن القطان. وخرج ابن سريج قولاً: أنه لا يصح. قال القاضي أبو الطيب: وهو قول أبي العباس ابن القاص؛ لأنه ضمان ما لم يجب، وضمان مجهول؛ فإنه قد يخرج بعض المبيع مستحقًّا. وحكى في "البيان" عن ابن سريج: أنه قال: لا يضمن درك المبيع إلا أحمق. والصحيح هو المنصوص، وبه قال عامة أهل العلم، وأطبق الناس عليه. وصورته: أن يشتري إنسان عيناً أو بعضها، ويخشى أن تخرج مستحقة لغير البائع: إما بأن تكون مغصوبة، أو يكون قد أخذ الحصة المبيعة بالشفعة، فيضمن له نسان الثمن إن خرج المبيع مستحقًّا. وصيغته أن يقول: ضمنت لك الثمن إن بان المبيع مستحقًّا. ويقوم مقام هذا قوله: ضمنت لك عهدة المبيع، أو الدرك فيه، أو خلاصك منه، ولو قال: ضمنت لك خلاص المبيع – لم يصح؛ لأن المستحق ربما لا يسلمه. ولو قال: ضمنت لك عهدة الثمن وخلاص المبيع – لم يصح ضمانه بخلاص المبيع، وفي ضمانه العهدة قولاً تفريقِ الصفقة. وقد رد الأصحاب على ابن سريج بأن المبيع إن لم يخرج مستحقًّا فلا ضمان، وإن خرج مستحقًّا بان وجوبُ رد الثمن وصحة الضمان، وليس يشبه ضما المجهول؛ لأن جملة الثمن معلومة، فإن خرج البعض مستحقًّا فهو بعض ما ضمنه؛ فلا يكون في الجهالة غرر؛ كما قلنا بصحة البيع فيما إذا خرج بعض المبيع مستحقًّا. التفريع: إن قلنا: يصح، فمحله بالاتفاق: إذا علم الضامن قدر الثمن قبل الضمان، ووقع الضمان بعد قبض البائع الثمن وتصرفه فيه بحيث لم يبق في يده منه شيء، أما إذا لم يعلم بقدره ففي "التتمة": أن الحكم فيه كالحكم في المرابحة، ولو علمه لكن الضمان وقع قبل قبضه:

فالذي حكاه معظم العراقيين: أنه لا يصح؛ لأنه ضمان ما لم يجب. وفي "المهذب"، و"التتمة" وغيرهما حكاية وجه: أنه يصح؛ لأن هذا النوع من الضمان إنما جاز للحاجة، والحاجة تدعو إلى تجويزه في هذه الحالة – أيضاً – وهذا هو الذي يقتضي كلام الإمام ترجيحه؛ فإنه حكى الخلاف في صحة ضمان العهدة، ثم قال: وذكر بعض أصحابنا قولاً ثالثاً مفصلاً بين أن يكون البائع قبض الثمن فيصح، أو لا فلا يصح. ولو وقع الضمان بعد القبض، أطلق ابن الصباغ وغيره القول بالصحة. وقال البندنيجي: إن كان باقياً في يد البائع فهو ضمان عين، وسيأتي الخلاف فيه. وكما يصح ضمان العهدة للمشتري، يصح ضمان نقصان الصنجة للبائع؛ بأن جاء المشتري بصنجة، ووزن بها الثمن، فاتهمه البائع فيها، فضمن ضامنٌ النقصَ، وقد يقوى في هذه الصورة ما خرجه ابن سريج من حيث إن المضمون النقص، وهو مجهول، بخلاف جملة الثمن في ضمان الدرك؛ فإنه معلوم. وكذا يجوز ضمان رداءة الثمن إذا شك البائع في أن المؤدى: هل هو من الضرب الذي يستحقه أم لا؟ ولا يختص ذلك بالثمن، بل لو كان لرجل على رجل ألف درهم، فقبضها، وضمن له رجل بدل ما في من زائف أو بَهْرَجٍ – جاز. قال الماوردي – قبل باب بيع اللحم باللحم -: وهذه من منصوصات ابن سريج. فإن وجد القابض فيها زائفاً أو بهرجاً، فهو بالخيار في إبداله من القاضي أو الضامن، فلو قال الضامن: أعطوني المردود بعينه لأعطيكم بدله، لم نعطه إياه. ولو اختلف البائع والمشتري في نقصان الصنجة، صدق البائع بيمينه، فإذا حلف طالب المشتري بالنقصان دون الضامن [على أقيس الوجهين. ولو اختلف البائع والضامن] في نقصانها، فالمصدق الضامن على أصح

الوجهين؛ لأن الأصل براءة ذمته، بخلاف المشتري؛ فإن ذمته كانت مشغولة بحق البائع، والأصل بقاء الشغل. ولو اختلفا في أن المردود من المعوَّض أم لا؟ قال الماوردي هاهنا: فإن كان معيباً فالقول قول البائع وضمانه، وإن كان من غير جنس الدراهم، فهو كما لو وقع الاختلاف في النقص. واعلم: أن ضامن الدرك يلزمه عند خروج المبيع مستحقاً القيام ببذل الثمن، ولا يلزمه ذلك عند فسخ العقد بالإقالة، أو بتعذر تسليم المبيع من غصب أو إباق، أو نحوه. وهل يلزمه عند الفسخ بالعيب السابق على العقد؟ ينظر: إن كان لفظه: ضمنت لك ثمن المبيع إن كان مستحقاً، فلا، وإن كان لفظه ما عدا ذلك مما ذكرناه ففي لزومه وجهان حكاهما العراقيون والمراوزة، وقال الإمام: إنهما مأخوذان عندي من أصلين: أحدهما: ضمان العهدة؛ فإن الاستحقاق يبين إسناد وجوب الرد إلى حالة الضمان. والثاني: ضمان ما لم يجب ولكن وجد سبب وجوبه؛ فإن وجوب رد الثمن يتحدد عند جريان الرد، ولكن لا يجوز أن يقدر العيب القديم قبل الاطلاع عليه شيئاً ناجزاً. والمذكور منهما في "الحاوي"، وهو الذي اختاره المزني والأكثرون: عدم اللزوم؛ لأنه مختار فيه فأشبه الفسخ بخيار المجلس والشرط والإقالة. ومقابله، قال القاضي الحسين: هو قول من يقول: الرد بالعيب فسخ للعقد من أصله. وهما يجريان فيما لو خرج بعض المبيع مستحقًّا، وقلنا: بفسخ العقد في الجميع بالنسبة إلى القدر المقابل لم يكن مستحقًّا، أو قلنا بعدم انفساخ العقد في غير المستحق وفسخ العقد [في المستحق]. قال القاضي الحين: والأظهر هاهنا: أنه يرجع عليه؛ لأن الفسخ حصل بسبب

الاستحقاق، وفيما إذا اطلع المشتري على العيب وقد تعذر الرد، في الرجوع بالأرش على الضامن. قال أبو العباس: اللهم إلا أن يقول الضامن: ضمنت لك كل درك يلحق من عيب، فحينئذ يرجع بالأرش على الضامن، كذا حكاه البندنيجي عنه، وأرسله المحاملي وقال: يرجع عليه وجهاً واحداً. وحكى الماوردي في هذه الصورة: أن الضمان لا يصح، ثم قال: وفيه وجه: أنه يصح مخرج من القديم في ضمان نفقة الزوجة، وإيراد المتولي يقرب منه؛ فإنه قال: لا يصح على ظاهر المذهب. وهذا الخلاف يجري كما حكاه الرافعي فيما إذا قال: ضمنت لك الثمن إن تلف المبيع قبل القبض. وانفساخُ العقد بتلف المبيع عند العراقيين – كما حكاه القاضي والبندنيجي – ملحقٌ بفسخه بالإقالة. وبناه المتولي على أنه يرفع العقد من أصله أو من حينه: فإن قلنا بالثاني كان كالرد بالعيب. وإن قلنا بالأول فمن الأصحاب من قال: إنه كظهوره مستحقًّا، ثم قال: وهذا ليس بصحيح، بل هو كالرد بالعيب؛ لأن ملك المشتري زال عن الثمن ثم عاد، بخلاف ما إذا كان مستحقاً. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنا إذا قلنا: إنه يرتفع من حينه، ففيه خلاف مرتب على الرد بالعيب، وأولى بأن يرجع. وفساد العقد بسبب شرط فاسد أو جهالة في العقد بناه المتولي على الرد بالعيب، فقال: إن قلنا في الرد بالعيب: إن الضامن يغرم، فهاهنا كذلك، وإن قلنا: لا يغرم، فهاهنا وجهان؛ لأن ذلك شُبِّهَ بالاستحقاق من حيث إن ملك المشتري عن الثمن لم يزل. فروع: يجوز ضمان المسلم فيه للمسلم إليه إذا خرج رأس المال مستحقًّا بعد تسليم

المسلم فيه، وقبله لا يجوز في أصح الوجهين؛ قاله الرافعي، ويتجه أن يجيء فيه ما ذكرناه في المثمن. ولا يجوز ضمان رأس المال للمسلم لو خرج المسلم فيه مستحقًّا؛ لأن المسلم [فيه] في الذمة، والاستحقاق لا يتصور فيه. ولو ضمن له رأس المال إن تعذر التسليم بالانقطاع، قال المتولي: إن قلنا: الانقطاع لا يوجب فسخ العقد، فهو كما لو ضمن الثمن إن حدث بالمبيع عيب، وإن قلنا: بالانقطاع ينفسخ العقد، فهو كما لو ضمن الثمن إن تلف المبيع قبل القبض. ولو ضمن مع العهدة نقص ما يحدث من بناء وغراس في الأرض المبيعة عند خروجها مستحقة وقلع ذلك ونقضه – لم يجز، إن كان ذلك واجباً على البائع للمشتري على أصح الوجهين؛ لأنه ضمان مالم يجب. ويصح ضمان العهدة للمستأجر، كما حكاه الرافعي في آخر الإجارة عن "الفتاوى"، حتى يرجع على الضامن عند خروج الاستحقاق، خلافاً لابن سريج. تنبيه: الدرك – بفتح الدال وبفتح الراء وإسكانها -: التَّبِعَة. قال المتولي: وسمي دركاً؛ لالتزامه الغرامة عند إدراك المستحق عين ماله. والعهدة، قال البندنيجي هي في الحقيقة عبارة عن الصَكِّ المكتوب فيه الثمن، غير أن الفقهاء يستعملونه [عبارة عن] الثمن؛ لأنه مكتوب في العهدة. وقال المتولي: إنما سمي به؛ لالتزامه ما في عهدة البائع برده. قال الرافعي: ويجوز أخذه في شيئين آخرين: أحدهما: قال في "الصحاح": يقال: في الأمر عهدة، أي: لم يحكم بعد، وفي عقله عهدة، أي: ضعف؛ فكأن الضامن ضمن ضعف العقد والتزم ما يحتاج فيه من غرم. والثاني: قال: العهدة: الرجعة، يقال: أبيعك المَلَسَي لا عُهْدةً، أي: لا تَنْمَلِس وتنفلت لا ترجع إليَّ، فالضامن التزم رجعة المشتري عليه عند الحاجة.

قال: وإن قال: ألق متاعك في البحر وعليَّ ضمانه، فألقاه – لزمه ضمانه: هذه المسألة تحتاج إلى مقدمة، وهي: أن إلقاء ما في السفينة من غير حاجة لا يجوز. وإذا احتيج إلى إلقاء شيء منها؛ بسبب إشرافها على الغرق – جاز. وقد يجب؛ رجاء نجاة الراكبين إذا خيف. ويجب إلقاء ما لا روح فيه؛ لتخليص ذي الروح ولا يجوز إلقاء الدواب إذا حصل الغرض بغير الحيوان. وإذا مست الحاجة إلى إلقاء الدواب، ألقيت لإبقاء الآدميين، والعبيد كالأحرار. وإذا قصر من له الإلقاء، فلم يُلْقِ حتى غرقت السفينة – فعليه الإثم، ولا ضمان؛ كما لو لم يطعم صاحب الطعام المضطر حتى هلك، يعصي ولا يضمن. إذا تقرر ذلك عدنا إلى مسألة الكتاب، فإذا قال: ألق متاعك في البحر وعليَّ ضمانه، وكان في صورة يجوز فيها الإلقاء، فألقاه – لزمه ضمانه؛ لأنه استدعاء إتلاف ما يعاوض عليه لغرض صحيح؛ فلزمه كما لو قال: أعتق عبدك على ألف في ذمتي، أو طلق زوجتك. وقال أبو ثور وبعض أصحابنا – كما حكاه الرافعي عن "شرح التلخيص" -: إنه لا يصح؛ لأنه ضمان ما لم يجب. وجوابه: أن هذا ليس على حقيقة الضمان وإن سمي به، وإنما هو استدعاء إتلاف؛ لمصلحة؛ كما ذكرنا. قال الإمام في أوائل باب السلم: وهو قريب من أكل المضطر لطعام الغير. ولا فرق في لزوم الضمان بين أن يكون المستدعي [في السفينة أو لا، إذا كان فيها غير مالك المتاع، وقيل: يشترط أن يكون المستدعي] فيها، ولا بين أن يسلم المستدعي إذا كان فيها أو لا، ويؤخذ الغرم من تركته. ولو لم يكن فيها إلا مالك المتاع، لا يصح هذا الضمان؛ لأنه يجب [عليه] إلقاء المتاع لحفظ نفسه.

ولو كان فيها مع غيره، فالصحيح: أن الضمان لازم. وقيل: لا يلزم، حكاه ابن يونس. وقيل: يسقط من الضمان ما يقابله، حتى لو كان فيها عشرة، سقط من الضمان العُشْر. ولو قال: ألق متاعك، ولم يتعرض للضمنا، ففي "الشامل" – وبه قال الأكثرون -: أنه لا ضمان عليه إذا وجد الإلقاء، بخلاف ما لو قال: اقض ديني، فقضاه؛ فإن في رجوعه عليه وهجين. والفرق: أن قضاء الدين يسقط الحق يقيناً، وأما إلقاء المتاع فيجوز أن ينفعه، ويجوز ألا ينفعه وسوى الغزالي بين المسألتين في إجراء الخلاف، وهو ما حكاه ابن يونس. ولو ألقى صاحب المتاع متاعه من غير استدعاء – لم يرجع على من في السفينة، سواء كان في حالة يجب فيها الإلقاء أم لا، وسواء كان فيها أم لا؛ بأن يكون في زورق، أو على الشط، بخلاف ما إذا أطعم إنسان المضطر طعامه؛ فإنه يرجع على أحد الوجهين، والفرق ما ذكرناه في المسألة قبلها. وعن "المنهاج" للشيخ أبي محمد: إجراء الوجهين فيما إذا ألقى المتاع ولا خوف عليه، وأبدى الإمام ذلك احتمالاً لنفسه، وقال: ظاهر كلام الأئمة بخلافه. ولا نزاع في أن الإلقاء والاستدعاء إذا كان في غير حالة الخوف لا يجب الضمان، وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه يضمن وإن كان الإلقاء في حالة المن من الغرق، وقال: إنه أقيس. وأما أخذ الرهن في هذا الضمان فلا يجوز. قال الماوردي: وقد أجازه بعض أصحابنا كالضمان، وليس بصحيح؛ لأن حكم الضمان أوسع من حكم الرهن؛ لأن ضمان الدرك يجوز، وأخذ الرهن عليه [لا يجوز]. فرع: حكاه الشيخ وغيره. لو قال: بع مالك من فلان بخمسمائة وعليَّ خمسمائة، فالأصح: أنه لا يصح. وفيه وجه، واختاره في "المرشد".

فائدة: الواجب على المستدعي بعد الإلقاء المثل إن كان الملقي مثليًّا، والقيمة إن كان من ذوات القيم، ويعتبر بما قبل هيجان الأمواج؛ لأنه لا قيمة له في تلك الحالة. وفي "النهاية" في أوائل كتاب السلم حكاية عن القاضي؛ أنه ذكر وجهاً: أن الواجب في ذوات القيم المثل الصوري، كما في القرض. قلت: وهذا منه يدل على أن الملقَى يملكه المستدعي. وهو قضية ما حكاه الماوردي؛ فإنه قال في كتاب الأيمان: حكى ابن أبي هريرة قولين فيما إذا قال لغيره: أعتق عبدك عني، متى يملكه الآمر؟ أحدهما: أنه يصير بإعتاقه مالكاً له قبل إعتاقه، وهو الظاهر من المذهب. والثاني: أنه ليس بمالك، وإنما يجير عليه حكم الملك؛ فإنه قبل العتق لا يملك، وبعده لا يصح أن يملك. ثم قال: ومثل هذين القولين يجري فيما إذا قال: ألق متاعك في البحر وعليَّ قيمته، هل يصير مالكاً قبل إلقائه أم لا؟ على هذين القولين: أحدهما: أنا لا نعلم بعد إلقائه: أنه كان مالكاً قبل إلقائه. والثاني: يجري عليه حكم الملك؛ لأنه قبل الإلقاء لا يملك، وبعده لا يصح أن يملكه. والذي حكاه الإمام هاهنا وغيره: أن الملقَي لا يخرج عن ملك الملِقي حتى لو لفظه البحر على الساحل، واتفق الظفر به فهو لمالكه، ويسترد الضامن ما بذله، وهل للمالك أن يمسك ما أخذه، ويرد بدله؟ فيه خلاف كما في القرض. فروع: لو قال: ألق متاعك في البحر؛ على أن أضمنه وكل واحد من ركبان السفينَة، كان ضماناً للجميع، ولو قال: علي أن أضمِّنه ركبان السفينة، [فإنه يلزمه] بحصته. ولو قال: علي أن أضمنه وركبان السفينة، وعلي تحصيله من مالهم، فإنه يضمن جميعه.

ولو قال: علي أن أضمنه وركبان السفينة، وقد أذنوا لي في هذا الضمان عنهم، وأنكروا ذلك – وجب عليه ضمان الكل. ولو قال: أنا وهم ضامنون، أو: على أن أضمنه وركبان السفينة –فيه وجهان: أظهرهما: أنه يلزمه الجميع. ومقابله: أنه يلزمه بحصته، وينسب إلى اختيار المزني. ولو قال: ألق متاعك على أن أضمنه وركبان السفينة، فأذن له فألقاه، ففيه وجهان: أحدهما –وبه قال القاضي أبو حامد -: أنه يلزمه ضمان الجميع. وعلى الثاني: لا يلزمه إلا قدر حصته. ولو قال: أُلْقِي متاعي وعليك ضمانه؟ فقال: نعم، أو: أجل، فألقاه – لزمه ضمانه. ولو قال [لآخر]: ألق متاع فلان وعلي ضمانه إن [طالبك، فألقاه] فالضمان على الملقي دون الآمر. ثم قول المستدعي عن ركبان السفينة: هم ضامنون، إما للجميع أو للحصة: إن قصد به الإخبار عن ضمان سابق منهم، فاعترفوا به توجهت المطالبة عليهم، وإن أنكروا فهم المصدقون، وإن قال: أردت إنشاء الضمان عنهم، فعن بعض الصحاب: أنهم إن رضوا به وجب المال عليهم، والظاهر خلافه؛ لأنا [لا] نرى وقف العقود، وهذا ما ارتضاه القاضي الحسين والإمام، وقرَّب في "الوسيط" الأول؛ لأن هذا يبني على المسامحة. قال: ولا يثبت في الضمان خيار المجلس ولا خيار الشرط؛ لأن الخيار يطلب لطلب الحظ، والضامن يعلم أنه مغبون، قال الشيخ وابن الصباغ: يقال في الكفالة: إن أولها ندامة، وأوسطها ملامة، وآخرها غرامة. فلو شرط فيه خيار الثلاث للضامن – فسد، وسواء فيه كفالة المال والبدن،

وإن شرط للمضمون له فلا أثر له؛ لأن الخيار له دائماً. وفي "الحاوي" عند الكلام في تأجيل الضمان حكاية قول للشافعي فيما إذا شرط للضامن أن الضمان لا يفسد ويبطل الشرط. قال: ولا يجوز تعليقه على شرط مستقبل، أي: مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر فقد ضمنت [لك]، أو: إن لم يؤد ما لك غداً فأنا ضامن؛ لأنه عقد من العقود فلا يقبل التعليق كالبيع ونحوه. وكما لا يقبل التعليق لا يقبل التأقيت، مثل أن يقول: أنا ضامنه إلى شهر، فإذا انقضى ولم أغرم أبرأُ. وعن ابن سريج: أنه إذا جاز على القديم ضمان المجهول وما لم يجب – جاز التعليق؛ لأن من حقيقة الضمان قبل الوجوب تعليق مقصوده بالوجوب؛ فعلى هذا: لو قال: [إذا] بعت عبدك لفلان بألف، فأنا ضامن للثمن، فباعه منه بألفين – قال ابن سريج: لا يكون ضامناً [لشيء، وقال صاحب "التقريب": يكون ضامناً لألف. ولو باعه بخمسمائة فعند صاحب "التقريب": يكون ضامناً لها]، وعند ابن سريج: لا. قلت: وقد حكى الإمام عن ابن سريج في أواخر هذا الباب: أن رجلاً لو ادعى: أن فلاناً ضمن لي ألف درهم، وأقام شاهدين: شهد أحدهما: أنه ضمن ألفاً، والآخر: أنه ضمن خمسمائة – [فالألف لا تثبت]، وهل تثبت الخمسمائة؟ فعلى قولين خرجهما ابن سريج، وكان يتجه أن يخرج مثلهما هاهنا.

ولو قال: إذا أقرضته عشرة، فأنا ضامن لها، فأقرضه خمسة عشر –كان ضامناً لعشرة على الوجهين؛ لأن من أقرض خمسة عشر، قد أقرض عشرة، والبيع بخمسة عشر ليس بيعاً بعشرة. ولو أقرضه خمسة فقد وافق ابن سريج على أنه يضمنها. قال الإمام: وهذا يخالف قياسه؛ لان الشرط لم يتحقق. قال: وإن شرط ضماناً فاسداً في بيع، أي: مثل أن قال: بعتك هذا بدرهم على أن يضمنه لي فلان، على أنه بالخيار في الأداء –بطل البيع في أحد القولين دون الآخر، وتوجيههما قد تقدم في كتاب الرهن. ولا نزاع في أنه لو شرط في البيع، أو في زمن الخيار: أن يضمن له نقص الغراس والبناء الذي يحدث في الأرض المبيعة عند خروجها مستحقة، وقلع ذلك- أن البيع باطل قولاً واحداً؛ كما صرح به القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما. قال: وللمضمون له مطالبة الضامن والمضمون عنه، أي: إذا كان الدين حالاً وضمنه على حكمه، أو أطلق، أو كان مؤجلاً وضمنه على حكمه، أو أطلق ثم حل: لقوله صلى الله عليه وسلم: "الزَّعِيمُ غَارِمٌ" ولم يفرق. ولأنه دين حال على مليء؛ فجاز لمستحقه أن يطالب أيهما شاء؛ كالضامنين والغاصبين أحدهما من الآخر. فإن قيل: لا نسلم أن الدين يبقى في ذمة المضمون عنه، بل الضمان نقله إلى ذمة الضامن فلا يملك المضمون له إلا مطالبته، كما صار إليه أبو ثور فيما حكاه عنه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ. ويدل على ذلك ما روى جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي قتادة لما ضمن الدينارين: "حَقُّ الْغَرِيمِ عَلَيْكَ وَبَرِئَ مِنْهُ

المَيِّتُ"، قال: نعم: وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي لما ضمن الدرهمين: "جَزَاكَ اللهُ عَنِ الإِسْلاَمِ خَيْراً، وَفَكَّ رِهَانَكَ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ"، هذا يدل على أن المضمون عنه يبرأ من الدين بالضمان، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من الصلاة قبلا لضمان، فلما حصل الضمان صلى. فالجواب عن [حديث] أبي قتادة: أن المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: "وَبَرِئَ مِنْهُ [المَيِّتُ] " براءته من رجوع أبي قتادة عليه؛ لأنه ضمان بغير أمره، وقد روى جابر: أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي قتادة من الغد: "مَا فَعَل الدِّينَارَانِ؟ " فقال: يارسول الله، إنما دفناه أمس، ثم قال له من بعد: "مَا فَعَل الدِّينَارَانِ؟ " قال: قضيتهما يا رسول الله، قال: "الآن بَرَّدتَ جِلْدَتَه"، فلو كان الحق قد انتقل بالضمان لكان قد بَرَّدها به. وعن حديث علي: أن المراد بفك رهان الميت، الفك من امتناع النبي صلى الله عليه وسلم [من الصلاة عليه]. وعن امتناعه من الصلاة قبل الضمان وصلاته بعده: بأنه كان من أهل الصٌّفَّة كما حكاه الماوردي لا يملك شيئاً فلما ضمن عنه الدين صار كمن خَلَّف وفاءً، وامتناع الصلاة كان إذا لم يخلف الميت وفاء. وقد حكى الماوردي عن أبي ثور أنه قال: لا يطالب الضامن إلا إذا

تعذرت عليه مطالبة المضمون عنه، ثم قال: وجعل ابن أبي هريرة هذا قولاً محتملاً، وخرجه لنفسه، والصحيح هو الأول. ثم محله إذا أطلق الضمان، أما إذا قال: بشرط براءة الأصيل، فقد حكينا في صحة الضمان وجهين عن ابن سريج، وأشبههما: المنع؛ لأنه قرن به شرطاً يخالف مقتضى الضمان، فإن قلنا بالصحة، ففي صحة الشرط وجهان. قال الرافعي: وقد يعكس الترتيب، ويقال: في صحة الشرط وجهان، وإن فسد ففي فساد الضمان وجهان. وإذا صححناهما، برئ الأصيل، وبقي الحق في جهة الضامن، وله الرجوع على المضمون عنه في الحال؛ إن كان قد ضمن عنه بإذنه، كما حكاه الرافعي. فرع: لو أفلس الضامن والمضمون عنه، وأراد الحاكم بيع مالهما في دينهما، فقال الضامن: ابدأ ببيع مال المضمون عنه، وقال المضمون له: أريد بيع مال أيكما شئت بديني – قال الشافعي، كما حكاه الماوردي عن رواية حرملة: إن كان الضامن ضمن بأمر المضمون عنه فالقول قوله، وإن ضمن بغير أمره فالخيار إلى المضمون له في بيع مال أيهما شاء. أما إذا ضمن الضامن الدين الحال مؤجلاً إلى أجل معلوم ففي صحته وجهان: أحدهما- وهو الأصح، والذي أورده العراقيون -: الصحة. وعلى هذا: فلا يطالب: إلا كما التزم، وهذا ما يوجد لعامة الأصحاب، وفي "تعليق" القاضي الحسين: إنه يصح حالاً على وجهٍ، وادعى الإمام إجماع الأصحاب على أن الجل لا يثبت، وأن في فساد الضمان بفساده وجهين، أظهرهما: الفساد. ومن العجب: أن اعتماد الإمام في كتابه على القاضي، وقد حكى في "تعليقه" أن الضمان يصح، ويثبت الأجل، وأن للشافعي ما يدل عليه. وما ذكرناه يجري فيما لو كان الدين مؤجلاً إلى شهر فضمنه إلى شهرين، ولو ضمن المؤجل حالاً، فقد حكى العراقيون في صحته وجهين، أصحهما -: وبه جزم القاضي الحسين -: الصحة.

وعلى هذا: فهل عليه الوفاء بشرط التعجيل؟ فيه وجهان: أحدهما- وبه قال ابن سريج كما حكاه الماوردي -: نعم، وغلطه. وأشبههما – وبه قطع القاضي الحسين -: لا؛ لأنه فرع فينبغي أن يكون كأصله. وعلى هذا: فالأجل يثبت في حقه مقصوداً أم تبعاً لقضاء حق المشابهة؟ حكى الإمام فيه وجهين تظهر فائدتهما فيما لو مات الأصيل قبل الحلول: فإن قلنا: يثبت تبعاً، حلَّ على الضامن أيضاً، وإلا فلا. والحكم فيما لو كان الدين مؤجلاً إلى شهرين فضمنه إلى شهر كذلك. فرع: إذا كان له ألف، فأعطاه عليها رهناً، وأقام له بها ضامناً – صح. وإذا حل الحق، فقولان حكاهما القاضي أبو حامد في "جامعه": أحدهما: أن لصاحب الحق مطالبة الضامن، وليس [له] بيع الرهن إلا بعد تعذر استيفائه من الضامن. والثاني: ليس له مطالبة الضامن إلا بعد تعذر استيفائه من الرهن. قال الماوردي في أواخر الرهن: والصحيح عندي: أن له بيع الرهن ومطالبة الضامن. قال: فإن ضمن عن الضامن ضامن آخر طالب الكل؛ لأن الضمان صحيح لكون الدين المضمون لازماً على الضامن كما هو على الأصيل، وإذا صح الضمان توجهت المطالبة؛ لما ذكرناه. ومقتضى ما حكيناه عن [ابن] أبي هريرة: أنه لا يطالب الضامن الثاني ما لم يعجز عن مطالبة الأول. ويؤيده أن القاضي الحسين وغيره قالا: إن الضامن الثاني مع الأول كالأول مع الأصيل سواء، وأثر هذا يظهر في البراءة أيضاً، ويجوز أن يضمن الأصيل ضامن آخر وأكثر؛ لبقاء الحق في ذمته – كما قررناه – ويجوز أن يضمن الأصيل وضامنه ضامن، ولا يجوز للأصيل أن يضمن ضامنه ما ضمنه عنه. وهل يجوز لأحد الضامنين للأصيل أن يضمن صاحبه فيما ضمنه عن الأصيل؟

المذهب: لا. وعن ابن سريج: أنه يجوز. قال الماوردي: وهو خطأ. فرع: إذا ضمن ألفاً بشرط أن يرهن [بها] عيناً، ففي صحة الضمان وجهان، كما لو رهن عنده رهناً على ألف بشرط أن يضمن الألف ضامن، فإن في صحة الرهن وجهين حكاهما الماوردي في أواخر كتاب الرهن. قال: فإن أبرأ الأًيل برئ الكفيل؛ لأن الفرع يسقط بسقوط أصله، دليله: انفكاك الرهن بالبراءة منا لدين. قال: وإن أبرأ الكفيل لم يبرأ الأصيل؛ لأنه إسقاط وثيقة [الدين]، فلا يسقط بها الدين كما لو فك الرهن. قال: وإن قضى الكفيل الدين، فإن كان [قد] ضمن عنه بإذنه رجع عليه؛ لأن الضمان الذي هو سبب الوجوب وقع بالإذن، والأداء الذي حصلت به براءة ذمتها مرتب عليه؛ فاكتفى به، وهذا هو المنصوص في النكاح والطلاق في رواية الربيع، وفي "الإملاء" على مسائل مالك كما حكاه القاضي أبو الطيب، وبه قال ابن أبي هريرة، وأكثر الأصحاب كما حكاه الماوردي وصححه. قال: وقيل: لا يرجع حتى يضمن بإذنه ويؤدي بإذنه؛ لأن الضمان قد يوجد معه الأداء، وقد لا يوجد؛ فلم يكن الإذن فيه مستلزماً للأداء، فإذا لم يصرح بالإذن فيه، كان كما لو أدى دين غيره بغير إذنه، وهذا ما حكى الجيلي أنه الأصح في "الشامل"، ولم أره في هذا الموضع فيه. وقد خص الماوردي محل الخلاف بما إذا أدى الضامن الدين من غير مطالبة، وجزم بالرجوع فيما إذا أداه بعد المطالبة له والتشديد عليه ومحاكمته، وفي "الشامل" وغيره حكاية هذا وجهاً ثالثاً عن أبي إسحاق، معبرين عنه بأنه: إن أدى من غير مطالبة أو عن مطالبة، لكنه أمكنه مراجعة الأصل واستئذانه، فلم يفعل – لم يرجع، وإن لم يمكن مراجعته لكونه غائباً أو محبوساً فله الرجع.

قال الإمام: وقد مال إلى هذا صاحب "التقريب". وحكى ابن الصباغ والبندنيجي عن الأصحاب: أن الأوجه تجري فيما إذا وكل إنساناً في أن يشتري له عبداً بألف، وأدى الوكيل ذلك من ماله؛ إذ المطالبة متوجهة عليه. وقال الماوردي: إن الحكم في الوكيل كما ذكره في الضمان، وروى الإمام رمزاً عن صاحب "التقريب" فيما إذا ضمن بالإذن، وأدى بالإذن من غير شرط الرجوع: أنه لا يرجع. وقد حكيت مثله وجهاً عن رواية الماوردي فيما إذا صالح عن المنكر أجنبي بإذنه. قال: وإن ضمن بغير إذنه لم يرجع؛ لأن الأداء فرعُ الضمانِ ولم يأذن فيه، فكان كما لو قضى دينه بغير إذنه، وهذا هو الأصح. قال: وقيل: إن دفع بإذنه رجع؛ لأن الأداء هو المقصود، وقد حصل بالإذن، وخص الماوردي محل هذا الوجه بما إذا قاله له: أدِّ عني ما ضمنته، وجزم بعدم الرجوع فيما إذا [قال: أد ما ضمنته، من غير أن يقول: أدِّ عني، وجزم بالرجوع فيما إذا] قال [له]: أدِّ عني ما ضمنته لترجع عليَّ به. ولم يجعل الإمام لهذه الزيادة أثراً في الرجوع، وبني القاضي الحسين الكلام في هذه المسألة على ما إذا قال ابتداء لشخص: أدِّ ديني، من غير شرط الرجوع، وفي ذلك وجهان، أصحهما: أنه يرجع، فإن قلنا بأنه لا يرجع فهاهنا أولى، وإن قلنا بالرجوع فهاهنا وجهان، والفرق: أن في الضمان قد التزم فغلب في أدائه القيام بما وجب عليه، وقد حكى الإمام عن شيخه في مسألة الأداء بالإذن من غير ضمان: أنه رتبها على ما إذا وهب إنسان لإنسان شيئاً من غير شرط الثواب، وهاهنا أولى بالرجوع؛ لوجهين: أحدهما: أن الهبة في صيغتها مصرَّحة بالتبرع، وليس كذلك الأمر بالأداء. والثاني: أن المتبرع مبتدئ بالهبة، والاستدعاء فيما نحن فيه قرينة من ثبوت الرجوع.

وكان يقول في الهبة قولاً ثالثاً فارقاً بين أن يكون الواهب ممن يسترفد من مثل الموهوب له أم لا. ثم قال الإمام: ولا يمتنع أن يتخرج وجه ثالث هاهنا على هذا النحو. والذي اختاره القاضي أبو الطيب في مسألة الأداء بالإذن من غير ضمان – كما حكاه ابن الصباغ في كتاب الرهن – قول أبي إسحاق، وهو ثبوت الرجوع، وقال: إنه ظاهر كلام الشافعي. والذي اختاره الشيخ أبو حامد، وقال ابن الصباغ: إنه الذي يجيء على المذهب –قول ابن أبي هريرة، وهو عدم الرجوع؛ تمسكاً بمسألة القصَّار إذا قصر الثوب من غير شرط. ولو ضمن بغير الإذن وأدى بغير الإذن فلا رجوع له عندنا اتفاقاً، وإن كان قد قام عنه بواجب؛ لأن أبا قتادة لما وفي الدينارين عن الميت، قال له – عليه السلام -: "الآن بَرَّدتَ جِلْدَتَهُ"، فلو كان الدين يثبت في ذمته، مع أنه ضمن وأدى بغير الإذن، لما كانت الجلدة قد بردت؛ لأن الدين الذي سقط خلفه غيره. وفي هذا نظر من حيث إن الأصحاب صرفوا قوله صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة: "وَبَرِئَ مِنْهُ الْمَيِّتُ" إلى براءته بالنسبة إلى أبي قتادة – كما ذكرناه – وإذا كان كذلك ففيه دليل على أن للضامن أن يرجع وإن ضمن وأدى بغير الإذن. وحوالة الضامن المضمون له على من له عليه دين كالقضاء فيما ذكرناه، وكذا الحوالة عليه إن شرطنا رضاه، وإن لم نشرطه فلا يتجه أن يجيء وجه أبي إسحاق. ثم محل الرجوع – حيث بينته – إذا أشهد الضامن على الأداء رجلين يقبل الحاكم شهادتهما، أو رجلاً وامرأتين كذلك، وكذا لو أشهد من ظاهره العدالة، وإن كان في الباطن غير عدل؛ على أولى الوجهين في الرافعي. ولو أشهد عدلاً واحداً؛ اعتماداً على أنه يحلف معه، ففي "الحاوي" وغيره حكاية وجهين، أصحهما في "الرافعي": أنه يكفي.

ووجه مقابله: أنه قد يرفع الأمر إلى حنفي فلا يقضي به، وذلك تقصير منه. وخص القاضي الحسين محل الخلاف بما إذا مات الشاهد أو غاب، أما إذا كان حاضراً، وشهد وحلف معه الضامن عند إنكار المضمون له القبض- فإنه يرجع وجهاً واحداً، وعلى ذلك جرى البندنيجي والمتولي أيضاً، وألحق بحال موته ما إذا رفعه إلى حاكم لا يرى الشاهد واليمين. أما إذا لم يشهد من يقع الاغتناء به نظر: فإن صدقه المضمون له وعنه كان كما لو أشهد، وإن كذباه فلا رجوع له، وإن كذبه المضمون عنه وصدقه المضمون له، رجع على أصح الوجهين، وإن كذبه المضمون له، وصدقه المضمون عنه فالقول قول رب الدين، وله مطالبة الأصيل والضامن، فإن غرم الضامن، كان له الرجوع على المضمون عنه؛ إن كان تصديقه لكونه حضر الأداء وجهاً واحداً، وكذا إن صدقه ولم يكن حاضراً على المذهب. وفيه وجه: أنه لا يرجع؛ لأن الأول غير مبرًّا في الظاهر، والثاني هو مظلوم فيه. وقد أجرى الماوردي هذا الوجه فيما لو كان المضمون عنه حاضر الأداء؛ بناء على أنه يجب على الضامن الإشهاد، فإن كان المضمون عنه حاضراً ثم [أداه رجع بما غرمه أولاً]؛ إن كان الأصيل حاضر الأداء الأول. وإن كان غائباً فثلاثة أوجه: أحدها: يرجع بالأول. والثاني: بالثاني. [وفائدتهما تظهر] فيما لو كان الأول صحيحاً والثاني مكسراً. والثالث – حكاه المتولي-: بأقلهما.

وتجري هذه الأوجه أيضاً فيما إذا كان الأصيل حاضر الأداء على الوجه الصائر إلى وجوب الإشهاد بحضرة الأصيل. وإن غرم رب الدين الأصيل، فهل للضامن الرجوع عليه بما غرمه فيه وجهان، أصحهما في "تعليق" القاضي الحين وغيره فيما إذا كان المضمون عنه حاضر الأداء: الرجوع، وفيما إذا كان غائباً: العدم، وبه جزم البندنيجي. فإن قلنا: إن له أن يرجع عليه، فله تحليفه إذا أنكر. وإن قلنا: لا يرجع عليه، فينبني تحليفه على أن النكول مع اليمين كالبينة أم الإقرار؟ فإن قلنا: كالبينة، كان له تحليفه، وألا فلا، كذا صرح به المتولي. فرع: إذا أشهد من يكتفي به في الرجوع، فمات أو غاب، فلا أثر لذلك فيمنع الرجوع إذا صدق المضمون عنه على جريان الإشهاد، إلا أن يشهد من يعرف أنه يظعن عن قريب. وفي "النهاية" حكاية وجه فيما إذا مات من أشهده: أنه لا يرجع إذا لم ينتفع المضمون عنه بأدائه – فإن القول قول رب الدين في نفي الاستيفاء، ولو كذبه في دعواه الإشهاد، فالقول قول المضمون عنه على الأصح، وفيه وجه: أن القول قول الضامن؛ لأن الأصل عدم التقصير. ولو عين الضامن شاهدين، وقال: إنه أشهدهما، فكذباه، فهو كما لو لم يشهد. ولو قالا: لم نذكر وربما نسينا، ففيه تردد للإمام. فرع: إذا كان الضامن بحيث إذا غرم رجع، فهل له مطالبة المضمون عنه بشيء قبل الأداء؟ قال الأصحاب: إن طولب الضامن بأداء الدين وحبس، فله مطالبة المضمون عنه بتخليصه إن كان بالغاً عاقلاً، وإن كان صغيراً وقد أذن أبوه في الضمان فكذلك له مطالبة الأب بتخليصه قبل بلوغ الصبي، وبعده يطالب الصبي الذي بلغ، كما صرح به الماوردي.

وإن لم يطالب فهل له المطالبة بتخليصه؟ فيه وجهان، أصحهما: لا. فعلى هذا: للضامن أن يقول للمضمون له: إما أن تبرئني من الحق، وإما أن تطالبني به لأطالب المضمون عنه بفكاك ذمتي، هكذا حكاه البندنيجي عن أبي العباس. وقد حكى عن القفال وجه: أن الضامن ليس له المطالبة بالتخليص، وإن طالب ما لم يغرم، والمشهور هو الأول. ومعنى التخليص: أن يؤدي دين المضمون له ليبرأ ببراءته. وقد حكى الأصحاب: أن أصل الوجهين في تمكن الضامن من المطالبة بالتخليص قبل المطالبة وجهان خرجهما ابن سريج: في أن مجرد الضمان هل يثبت للضامن حقًّا على الأصيل ويوجب عُلْقةً بينهما أم لا؟ وبعضهم حكى هذا الخلاف قولين، وبنوا على هذا الأصل أربع مسائل أخر: منها: أن الضامن هل يتمكن من تغريم الأصيل المال قبل أن يغرم؟ فيه وجهان ذكرهما الشيخ أبو محمد. ومنها: إذا أخذ المال هل يملكه؟ فيه وجهان، فإن قلنا: إنه يملكه، فله التصرف فيه كالفقراء إذا أخذوا الزكاة المعجلة، لكن لا يستقر ملكه عليه إلا بالغرم، حتى لو أبرأه المستحق رد ما أخذه. ومنها: أن الضامن إذا حبس هل له حبس المضمون عنه، وقد قلنا: له المطالبة بتخليصه كما قيده الإمام؟ فيه وجهان، والأصح: لا. ومنها: لو أبرأ الضامن الأصيل مما سيغرمه هل يبرأ؟ إن قلنا: إن الضمان بمجرده يثبت عُلْقَةً، صح، وألا خرج على الإبراء مما لم يجب ووجد سبب وجوبه. ومنها: لو رهن المضمون عنه عند الضامن شيئاً على ما سيغرمه هل يصح؟ فيه وجهان، وهما يجريان في الضمان: فإن صححناه وشرط في ابتداء الضمان أن يعطيه بما يضمنه ضامناً أو رهناً – صح، فإن وفىَّ به وألا فله فسخ الضمان. وإن أفسدناه فشرطه في ابتداء الضمان، فسد به الضمان على أصح الوجهين.

فرع: إذا أدى ضامنُ الضامنِ الدينَ كان حكمه مع من ضمنه كحكم الضامن مع الأصيل. وإذا لم يكن له الرجوع على الضامن الأول، [لم يثبت بأدائه للأول الرجوع على الأصيل. وإن كان له الرجوع على الضامن الأول]، فرجع عليه، رجع الأول على الأصيل إذا وجد شرطه. ولو أراد ضامن الضامن أن يرجع على الأصيل، نظر: إن كان الأصيل قد قال له: اضمن عن ضامني، ففي رجوعه عليه وجهان؛ كما لو قال لإنسان: أدِّ ديني، وليس كما لو قال: اقضِ دين فلان، ففعل؛ حيث لا يرجع على الآمر؛ لأن الحق لم يتعلق بذمته، ولو لم يقل له: اضمن عن ضماني، فإن كان الحال بحيث لا يقتضي رجوع الأول على الأصيل، لم يرجع الثاني عليه، وكذلك لو كان يقتضيه على أصح الوجهين. فرع: إذا أدى الضامن الدين، وكان ثمن مبيع، فخرج مستحقًّا – استحق عين ما بذل، وإن خرج معيباً، فرده المضمون عنه، نظر: إن كان الضمان في صورة تثبت الرجوع، وجب رد المقبوض على المضمون عنه؛ فإنا نقدر دخول المدفوع في ملك المضمون عنه قبيل الدفع للمضمون له، كما صرح به الإمام في ضمن ما إذا ضمن للمرأة صداقاً عن زوجها، وغرم، ثم ارتدت قبل المسيس. وإن كان في صورة لا تثبت له الرجوع، فهذا شبيه بما إذا أدى ذلك من غير ضمان. وقد حكى الإمام في أواخر كتاب الرهن وجهين في أن المقبوض- والحالة هذه – هل يرد إلى المؤدي أو إلى المؤدي عنه؟ وكذلك حكى المحاملي هذين الوجهين في كتاب الرهن أيضاً. تنبيه: ما الذي يرجع به الضامن إذا ثبت له الرجوع؟ ينظر: فإن كان المضمون مثليًّا وقد أداه، رجع بمثله، وإن كان من ذوات القيم كالحيوان ونحوه، قال الإمام هاهنا: لا يمتنع أن يجري فيه الخلاف المذكور في إقراض الحيوان، وصرح

بحكاية ذلك عن رواية القاضي في أوائل باب السلم، فقال في وجه: يرجع بالمثل الصوري، وفي وجه: بالقيمة. وهذا البحث صحيح؛ لما تقرر أن المؤدي عند الرجوع فيه بسبب العيب، يرجع إلى المضمون عنه. قال: وإن ضمن ديناً مؤجلاً فقضاه قبل الأجل، لم يرجع قبل الأجل؛ لأنه متبرع بالتعجيل. وهكذا الحكم فيما لو مات الضامن وأدى ورثته المال بسبب حلوله [عليهم] لا يرجعون به قبل الأجل. قال: وإن مات أحدهما حل [عليه] الدين؛ لوجود سبب الحلول في حقه، ولا يحل على الآخر؛ لعدم ما يقتضيه، فلو حل به لكان إضراراً به؛ فإنه يرتفق بالأجل، وخرج ابن القطان وجهاً فيما إذا مات الأصيل: أن الدين يحل على الضامن؛ لأنه فرعه. ونقل ابن كج وجهاً: أن الضامن إذا مات لا يحل عليه كما لا يحل على الأصيل، والمذهب: ما حكاه الشيخ. نعم، لو كان الميت هو الأصيل، فأخر المستحق المطالبة، كان للضامن أن يطالبه بأخذ حقه من تركة الأصيل في الحال، أو يبرئ الضامن؛ لأن التركة قد تهلك، فلا يجد مرجعاً إذا غرم. وفي رواية أبي علي وجه: أنه ليس للضامن هذه المطالبة. قال: وإن تطوع بزيادة لم يجرع بالزيادة [كما] إذا كان [الدين] مكسراً فدفعه صحاحاً ونحو ذلك؛ لأنه تبرع بها. ولو كان المدفوع مكسراً عن الصحاح لم يرجع إلا بالمكسر كالمسألة التي تليها. وهذا ما جزم به البندنيجي، واختاره الشيخ أبو محمد، وخرج بعضهم ذلك

على الخلاف في المسألة التي تليها. قال: وإن دفع إليه عن الدين – أي: الثابت في ذمته بطريق الضمان – ثوباً، رجع بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الدين؛ لأن قيمة الثوب إن نقصت لم يغرم إلا هي، وإن زادت لم يرجع بالزائد؛ لأنه متبرع به، وهذا ما جزم به الماوردي، وهو الأصح. وقل: يرجع فيما إذا كانت قيمة الثوب أقل من الدين بقدر الدين، وهو ما حكاه الروياني في "البحر" عن ابن سريج، وأنه طرده فيما إذا قضى المكسَّر عن الصحاح؛ لأنه قد حصل براءة ذمته بما فعل، والمسامحة جرت معه. ولو أنه باعه الثوب بقدر الدين وتقاصَّا فالرجوع بالدين بلا خلاف، أما إذا دفعه عن الدين المضمون بأن قال للمضمون [له]: بعتك هذا [الثوب] بما ضمنته لك عن فلان، ففي صحة البيع وجهان حكاهما الرافعي عن الأستاذ أبي منصور البغدادي. فإن صححناه، فيرجع بما ضمنه أم بالأقل مما ضمنه ومن قيمة الثوب؟ فيه وجهان. قلت: والخلاف في صحة البيع قريب مما حكيته في الصلح عن الإمام وغيره [فيما إذا أدى من لم يكن ضامناً عن دين غيره] عوضاً، هل يصح؟ فيه وجهان، والأصح: الصحة. وقد رجع حاصل الخلاف إلى أن الضامن يرجع بما أسقط، أو بما أدى إذا كان أقل مما أسقط. وعلى ذلك يخرج ما لو ضمن ذمي عن مسلم مالاً لذمي، ثم تصالحا على خمر: هل يبرأ المسلم؟ فيه وجهان. إن قلنا بالأول: انبنى على ما أشرنا إليه، وإن قلنا: إن الضامن يرجع بما أسقط، رجع هاهنا بقدر الدين، وإن قلنا: [بما أدى]، فلا.

قال: وإن أحاله الضامن على من له عليه دين، رجع على المضمون عنه، أي: في الحال؛ لأن الحوالة إما بيع – كما هو الصحيح – فأشبه ما إذا أعطاه عن الدين ثوباً، وإما استيفاء، وهو لو أوفاه لرجع؛ فكذلك إذا أحاله. قال: وإن أحاله على من لا دين له عليه، أي: وصححناها – لم يرجع، أي: في الحال؛ لأنه لم يغرم شيئاً. قال: حتى يدفع إليه المحال عليه، ثم يرجع على الضامن، فيغرمه، ثم يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأنه حينئذ قد غرم بإذنه وهذا من الشيخ تفريع على أن هذه الحوالة لا تحصل براءة ذمة المحيل في الحال؛ بناء على أنها في الحقيقة ضمان – كما حكيناه عن صاحب "التهذيب" وغيره في بابها – وقد وجد من المحيل الإذن في الأداء، أو لم يوجد على أصح الوجوه فيما إذا ضمن بالإذن، فأدى بغير الإذن؛ إقامة للحوالة مقام الإذن في الضمان؛ كما صرح به البندنيجي. أما إذا قلنا: إنها تحصل براءة الذمة في الحال، فلا يشترط دفع المحال عليه المال للمحتال، بل يشترط رجوع المحال عليه على المحيل الذي هو الضامن؛

كما صرح به الرافعي في باب الحوالة، وإن كان القاضي أبو الطيب وابن الصباغ قد صارا إلى براءة ذمة الضامن والمضمون عنه بمجرد الحوالة إذا صححناها، وقالا كما قاله الشيخ. قلت: وقد حكى الرافعي فيما إذا صححنا الضمان بشرط براءة الأصيل: أن الأصيل يبرأ، وأن الحق يبقى في ذمة الضامن، وأن له الرجوع على المضمون عنه في الحال إن كان قد ضمن عنه بإذنه، ومثل ذلك يظهر مجيئه هاهنا؛ إذ لم يظهر لي فرق بينهما. قال: وإن دفع إليه الحق، ثم وهبه منه رجع؛ لأنه عاد إليه بسبب جديد، فلم يسقط رجوعه، كما لو وهبه لأجنبي، ثم وهبه الأجنبي منه، وهذا هو الأصح في "الجيلي، واختاره في "المرشد". قال: وقيل: لا يرجع؛ لأنه لم يغرم شيئاً على الحقيقة، وقد صرح الأئمة بأن هذا الخلاف وجهان مبنيان على القولين فيما إذا وهبت المرأة زوجها الصداق، ثم طلقها قبل الدخول. قال: ولا تصح الكفالة بالأعيان: كالغصوب، والعواريِّ، وكذا بالعين المبيعة قبل القبض، والعين في يد المستلم؛ لأن حقيقة الضمان: ضم ذمة إلى ذمة، والذي [تكون] العين مضمونة عليه لا شيء في ذمته بعد، وهذا هو المذهب في "بحر المذهب". قال: وقيل: تصح؛ لأن الأعيان ستحق تسليمها [بعقد البيع وغيره؛ فاستحق تسليمها] بعقد الضمان؛ كالديون. وبنى ابن سريج الخلاف – كما حكاه البندنيجي – على الخلاف في كفالة البدن، قال: إن قلنا [بأنها] لا تصح، لم تصح هذه، وإلا صحت. ومقتضى هذا البناء: أن يكون الصحيح الصحة، وهو الذي اختاره في "المرشد". وحكى الرافعي: أن بعضهم جزم به وإن أجرى الخلاف في كفالة البدن،

وأنه فرق بأن حضور الخصم ليس مقصوداً في نفسه، وإنما هو ذريعة إلى تحصيل المال، وهاهنا المضمون رد العين، وهي المقصودة بالرد. فعلى هذا: لو تلفت العين قبل الرد، فهل عليه قيمتها؟ حكى البندنيجي عن ابن سريج أنه خرجه على الوجهين الآتيين فيما لو مات المكفول ببدنه. ومقتضى هذا: أن يكون الصحيح عدم اللزوم، ولكن الذي اختاره في "المرشد": اللزوم. فعلى هذا: [هل يجب] في المغصوب أقصى القيم أم قيمة يوم التلف؛ لأن الكفيل لم يكن متعدياً؟ حكى الإمام فيه وجهين. وإذا تلفت العين المبيعة في يد البائع انفسخ العقد، فإن لم يكن المشتري قد وفي الثمن لم يطالب الضامن بشيء، وإن كان قد وفاه فهل يغرم الضامن الثمن أو أقل الأمرين من الثمن وقيمة المبيع؟ فيه وجهان، أظهرهما: أولهما. وهذا كله إذا تكفل برد أعيانها، أما إذا تكفل برد قيمتها إذا تلفت، فقد قال في "التهذب": يبني ذلك على أن المكفول ببدنه إذا مات هل يغرم الدين؟ إن قلنا: نعم، صح ضمان القيمة لو تلفت العين، وإلا لم يصح، وهو الأظهر. وأيضاً: فإن القيمة قبل التلف ليست بواجبة وهي مجهولة عند الوجوب؛ فيكون ضمانها ضمان ما لم يجب وهو مجهول. تنبيه: الكفالة: بفتح الكاف. ويقال: كفله، وكفل به، وكفل عنه، وتكفل به. الغصوب: جمع غصب، وهو اسم الشيء المغصوب. قال الجوهري: وشيء غصب، ومغصوب. وياء "العواري" يجوز تشديدها. قال: وفي كفالة البدن قولان، أصحهما: أنها تصح؛ لقوله تعالى: {إِنَّ لَهُ أَباً

شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف: 78]، قيل: وذلك كفالة البدن. وقد روى أن عبد الله بن مسعود لما ضرب عنق عبد الله بن النَّوَّاحة؛ لكونه أذَّن في مسجده مسجد بني حنيفة، وقال [فيه]: أشهد أن مسيلمة رسول الله –شاور الصحابة في بقية من كان في المسجد حين الأذان، فقال عدي بن حاتم: تُؤْلُولُ كُفْرٍ قد اطلع رأسه فاحْسِمْه وقال غيره: استَتِبْهم، [فإن تابوا كفَّلْهم عشائرهم وإلا قتلوا، فاستتابهم] فتابوا، فخلَّى عنهم وكفَّلهم عشائرهم. وهذا يدل على إجماعهم على أن الكفالة بالبدن صحيحة. ولأن بالناس حاجةً إليها كحاجتهم لكفالة المال. ولأن البدن يستحق تسليمه بعقد النكاح والإجارة؛ فاستحق تسليمه بعقد الضمان كالدين. والثاني: لا يصح؛ لقوله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَاخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79]، [فكان قوله ذلك إنكاراً للكفالة أن تجوز حين سأل إخوته أن يأخذ أحدهم كفيلاً عمن وجد متاعه عنده]. ولأنها كفالة بعين؛ فلم تصح كالكفالة ببدن الشاهد والزوجة. ولأن المكفول به لا يجب عليه تسليم نفسه، وإنما يجب عليه الخروج مما عليه من الحق، وحبسه – إن حبس – ليخرج من الحق، فَلأَلاَّ يجب على الكفيل تسليم المكفول به أولى، وهذا القول أخذ من قول الشافعي في "الدعاوى والبينات" بعد أن نص على جوازها: "كفالة البدن ضعيفة". وأجاب من صار إليه عن أثر ابن مسعود بأنه وقع بعد التوبة، [ثم هو] ضمان [من عليه حد لله تعالى، والخصم يسلم عدم صحة الضمان به]. وهذه الطريقة صار إليها المزني، وأبو إسحاق، وابن أبي هريرة والقاضي أبو حامد.

قال: وقيل: تصح قولاً واحداً؛ لما ذكرناه. وقد صار إلى هذه الطريقة ابن سريج وطائفة من متقدمي الأصحاب، وحملوا قول الشافعي: إنها ضعيفة، على ضعفها من جهة القياس. وما أجاب به القائلون بالمنع عن أثر ابن مسعود: بأن الاستدلال به وقع من جهة أن الصحابة أمروا بأن يُكَفِّلَهم عشائرهم، وذلك منهم دليل على أن كفالة البدن مشهورة عندهم، لا من خصوص هذه الكفالة، كما استدل الأصحاب بمثل ذلك في قول الصحابة لعمر - رضي الله عنه - في حق ولديه: يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضاً. التفريع: إن قلنا بالبطلان فلا كلام، وإن قلنا بالصحة فله شروط: أحدها: أن يكون عارفاً بالمكفول بدنه. وهل يشترط أن يكون عارفاً بالمكفول له؟ فيه وجهان. الثاني: أن يكون على المكفول بدنه حق يستحق المطالبة به، سواء كان ثابتاً في الظاهر أم لا، هكذا قال الماوردي. وقال البندنيجي وغيره: أن يكون على المكفول به حق يصح ضمانه. وما قاله الأول يقتضي جواز الكفالة ببدن امرأة يدعي رجل زَوْجِيَّتها، وكذا الكفالة بها لمن ثبتت زوجيَّتُه، وكلام البندنيجي وغيره يقتضي عدم ذلك، وقد صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ عند الكلام في توجيه القولين في صحة الكفالة، ويقرب منه قول المتولي: إن حكم الكفالة ببدنها حكم الكفالة ببدن من عليه قصاص؛ لأن المستحق عليها لا يقبل النيابة. وما ذكرناه في ضمان المرأة يجيء مثله في ضمان البد الآبق، وقد صرح ابن سريج بأنه يصح ضمانه. ومقتضى كلام الماوردي: أنه تصح الكفالة ببدن الكفيل؛ كما صرح به في "المهذب"، وعلى قول البندنيجي يلزم منه الدَّوْر؛ لأنا لا نعلم: أنه يصح ضمانه

إلا إذا وجد الشرط، والشرط: أن يكون ما عليه يصح ضمانه. ثم مقتضى الكلامين: جواز الكفالة ببدن من هو ببغداد لمن هو في البصرة، وقد صرح الإمام بعدم الجواز؛ لأن من بالبصرة لا يلزمه الحضور ببغداد في الخصومات، والكفيل فرع المكفول بدنه؛ فإذا لم يجب عليه الحضور لا يمكن إيجاب الإحضار على الكيل. قال الرافعي: وهذا منه بناء على ما سنذكره من أن المكفول لو كان فوق مسافة القصر، أو غاب إليها لا يلزمه إحضاره. الثالث: هل يشترط أن يكون عارفاً بقدر ما على المكفول بدنه من الدَّيْن إن كان الضمان لأجله؟ فيه وجهان يبنيان على أنه إذا مات: هل يلزم الكفيل ما عليه أم لا؟ وبقية الشروط مذكورة في الكتاب نأتي عليها – إن شاء الله تعالى. قال: وإن تكفل ببدن من [عليه] حد لله – تعالى – أي: كحد الزنى لم يصح؛ لأن الكفالة للاحتياط شرعت، وبناء الحد على الإسقاط، [وحكى القاضي الحسين قولين في كتاب اللعان في جواز الكفالة]. قال: وإن تكفل ببدن من عليه قصاص، أو حد قذف صح؛ لأنه حق لآدمي فأشبه ما لو كان له عليه دين. قال: وقيل: لا تصح؛ لأنه لا تصح الكفالة بما عليه فلم تصح ببدنه كمن عليه حد لله تعالى. وهذه طريقة ابن سريج ومتقدمي الأصحاب، وحكاها الماوردي عنهم في حدود الله تعالى أيضاً: كحد الزنى والخمر. والقاضي الحسين حكى الخلاف المذكور قولين في كتاب اللعان. وصرح الرافعي بنسبة ذلك إلى أبي الطيب بن سلمة وابن خيران، وادعى القاضي أبو الطيب الإجماع على دم صحة الكفالة [في حدود الله تعالى، وقد

حكى الرافعي عن الشيخ أبي حامد: أنه بنى القولين في صحة الكفالة] ببدن من عليه قصاص أو حد قذف، على أنه إذا مات المكفول ببدنه، هل يغرم الكفيل ما عليه من الدين؟ إن قلنا: نعم، لم تصح، وإلا صحت. ومقتضى هذا البناء: أن يكون قولُ التصحيح المذهبَ، كما اقتضاه كلام الشيخ، واختاره القفال، وصاحب "المرشد"، وجزم به بعضهم، وادعى الروياني أن المذهب المنع. قال: وإن تكفل بجزء شائع من الرجل، [أي:] كالثلث والربع. قال: أو بما لا يمكن فصله عنه – أي: مع بقاء الحياة –كالكبد والقلب صح؛ لأنه لا يمكن تسليم ذلك إلا بتسليم جميع البدن؛ فأشبه ما لو قال: تكفلت ببدنه. وقيل: لا يصح، وهو اختيار الشيخ أبي حامد والقاضي [أبي] الطيب وابن الصباغ؛ لأن ما لايسري إذا خص به عضو لم يصح كالبيع. والذي جزم به الماوردي: [الأول]، وألحق به ما إذا قال: كفلت لك نفسه، أو روحه، أو وجهه، أو عينه، وحكى الخلاف عن ابن سريج فيما لو قال: تكفلت لك [بيده أو رِجْله] وما في معناهما. وأجرى البندنيجي الخلاف فيما لو قال: كفلت لك عينه، والقاضي الحسين أجراه فيما لو قال: كفلت شعره. وقد تَنَخَّلَ بما إذا تكفل بعضو من البدن ثلاثة أوجه، كما صرح [بحكايتها في "المهذب" وغيره،] ثالثها: إن كان المكفول عضواً لا يبقى البدن دونه صح، وألا فلا، وهذا ما صححه البغوي. وروى الرافعي وجهاً رابعاً عن القفال في "شرح التلخيص": أنه إن تكفل بما يعبر به عن جميع البدن: كالرأس والرقبة، صح، وإلا فلا، وقال عنه: إنه صححه.

قال: وإن تكفل به بغير إذنه لم يصح؛ لأن المقصود إحضار المكفول بدنه عند المطالبة، فإذا كان بغير إذنه لم يلزمه الحضور معه؛ فبطلت فائدة الكفالة. قال: وقيل: تصح؛ كما يصح [ضمان] الدين بغير إذن من هو عليه، وهذا قول ابن سريج، وبناء على أنه إذا عجز عن إحضاره يلزمه الغرم، والأول مبني على أنه لا يلزمه الغرم عند العجز عن إحضاره. وحكى صاحب "التقريب" وجهاً في جواز الكفالة به بغير إذن إن قلنا: إن الكفيل لا يغرم عند العجز عن إحضاره. ثم على قول ابن سريج: للكفيل مطالبة المكفول بدنه بالحضور معه [إذا طالبه المكفول له بإحضاره، ويجب على المكفول بدنه الحضور معه] لا من جهة الكفالة، بل من جهة الوكالة في إحضاره. فلو لم يقل المكفول له للكفيل: أحضره، ولكن قال [له:] أخرج من الكفالة- فهل يستلزم ذلك التوكيل في إحضاره حتى يلزم المكفول بدنه الحضور مع الكفيل؟ فيه وجهان عن ابن سريج كما حكاه البندنيجي عنه وغيره، واستبعده الأئمة. قلت: وفي وجوب الحضور معه مع التصريح بطلبه من المكفول له، نظر من حيث إن من عليه الحق لا يجب عليه الحضور إذا طلبه صاحب الحق بنفسه كما ذكرناه من قبل، وصرح به الإمام في موضعه، بل الواجب وفاء الحق، نعم: إذا استدعى القاضي الخصم وجب عليه الحضور؛ إجابة له. وإذا كان صاحب الحق غير قادر على إحضاره، فوكيله أولى؛ ولهذا المعنى خَطًّأ الماوردي [ابن سريج] في قوله. وقال القاضي الحسين: إن المذهب عدم صحة الكفالة؛ لأنه ليس له أن يكلفه الحضور إلا بإذن الحاكم، حتى لو وكله الخصم في إحضاره لم يكن له ذلك. وقد بنى الماوردي صحة الكفالة ببدنه الصبي والمجنون على الخلاف في

اعتبار إذن المكفول ببدنه، وقال: إنها على المذهب لا تصح. وذلك منه محمول على ما إذا لم يأذن الولي فيها، أما إذا أذن صحت وجهاً واحداً، كما في البالغ العاقل، ويكون الولي هو المخاطب من جهة الكفل بالإحضار إذا طولب الكفيل به؛ للحاجة إلى إقامة البينة على عينهما بإتلافهما مال الغير، وغير ذلك، وهذا ما لم يزل الحجر عنهما. أما إذا زال فلا طلبة على الولي، والمطالب بالحضور من زال عنه الحجر، كما صرح [به غير] الماوردي. ومؤنة إحضار المكفول ببدنه واجبة على الكفيل، صرح بذلك القاضي الحسين. واعلم أن محل خلاف ابن سريج في صحة الكفالة بغير الإذن – كما حكاه القاضي الحسين -: ما إذا تكفل به بعد ثبوت المال. أما إذا كان قبل ثبوته فلا خلاف أنه لا يصح بدون الإذن. قال: وإن أطلق الكفالة طولب به في الحال؛ لأن كل عقد صح حالاً ومؤجلاً إذا أطلق كان حالاًّ كالعوض في البيع والإجارة. قال: وإن شرط فيه أجلا – أي: معلوماً – طولب [به] عند المحل؛ وفاء بالشرط كما في ضمان الأموال، والمحل: بكسر الحاء. أما إذا كان مجهولاً: كما إذا أُجِّلَ بالحصاد والقطاف والصرام، ففي الصحة وجهان عن ابن سريج حكاهما البندنيجي وغيره، وأصحهما: البطلان، ووجه الصحة: القياس على العارية. وقد أجرى مثل هذا الخلاف فيما لو علق كفالة البدن بمجيء الشهر، وكذا فيما لو علقها بحصاد الزرع، أو بقدوم زيد، لكنه في التعليق بالحصاد مرتب على الخلاف بمجيء الشهر وأولى بالبطلان، وفي التعليق بقدوم زيد مرتب [على] [التعليق بالحصاد] وأولى بالبطلان أيضاً.

فرع: لو اشترط أن يكفله شهراً، فإذا انقضى برئ من كفالته – لم يصح على الأصح، وفيه وجه محكي في "التتمة" وقول في "التهذيب": أنه يصح. قال: وإن أحضره قبل المحل وليس عليه ضرر في قبوله، أي: مثل أن كان حقه حالاًّ وبينته حاضرة، والقاضي يتيسر الاجتماع به في ذلك الوقت؛ ولا ظالم يمنعه من تسليمه – قال: وجب قبوله؛ لما ذكرناه في السلم. وقد حكى القاضي الحسين وجهاً: أنه لا يجب قبوله كما حكينا مثله في السلم. وعلى الأصح: إذا لم يقبله سلمه الكفيل إلى الحاكم، فإن لم يكن حاكم أشهد عليه شاهدين بالامتناع من التسليم، [ويبرأ. وقال القاضي أبو الطيب: لا يحتاج إلى الدفع إلى القاضي، بل يشهد الشاهدين ابتداء]، وهذا ما اختاره ابن الصباغ وجزم به في "المهذب". أما إذا كنا [عليه] ضرر بأن فقد ما ذكرناه أو بعضه، لم يجب قبوله لدفع الضرر عنه. فرع: حكاه القاضي أبو الطيب وغيره: إذا تكفله على أن يسلمه إليه في موضع، فسلمه إليه في موضع آخر: فإن كان عليه مؤنة في حمله إلى موضع التسليم لم يلزمه قبوله. وإن لم يكن عليه مؤنة ولا ضرر لزمه قبوله كما ذكرناه في المحل، ولا فرق في ذلك بين [المكان والزمان]. وهكذا الحك فيما لو أطلق العقد وأحضره في غير موضع العقد؛ فإنه يستحق تسليمه في موضع العقد. وحكى البندنيجي عن ابن سريج وجهاً فيما إذا أحضره إليه في غير الموضع المشروط، أو في غير الموضع الذي أطلق فيه العقد: أنه لا يلزمه قبوله، وإن لم يكن عليه ضرر؛ كما لو أحضره له في [غير] البلد، وسوى الماوردي بين البلد والمحلة فيما ذكرناه أولاً.

قال: وإن سلَّم المكفول به نفسه، أي: عن الكفيل؛ كما قيده القاضي أبو الطيب وغيره – برئ الكفيل؛ كما لو قضى المضمون عنه الدين؛ فإن ضامنه يبرأ من ضمانه، أما إذا أطلق فلا يبرأ، صرح به الرافعي وغيره. وهكذا لو لم يسلم نفسه، لن ظفر به المضمون له في مجلس الحكم، فادعى عليه بالحق. وكذا لو سلمه أجنبي لا عن جهة الكفالة، ولو سلمه عن جهة الكفالة برئ لكن للمكفول له الامتناع من قبول إذا كان [ذلك] بغير إذن الكفيل، ولو كان بإذنه وجب تسليمه. فرع: لو تكفل ببدنه اثنان، فأحضره أحدهما، أطلق العراقيون: أنه لا يبرأ، وقال في "المهذب": يحتمل عندي أنه يبرأ؛ كما لو قضى أحدهما الدين. وهذا ما حكاه ابن الصباغ عن المزني، وحكى ابن يونس هذا الخلاف وجهين. وفي "التهذيب": أنهما إن كفلا على الترتيب وقع تسليمه عن المسلم دون صاحبه، سواء قال: سلمت عن صاحبي، أو لم يقل، وإن كفلا معاً فوجهان، المذكور منهما في "تعليق" القاضي الحسين: أنه يبرأ. قال: وإن غاب – أي: إلى موضع معلوم – لم يطالب به حتى يمضي زمان يمكن المضي [فيه إليه والرجوع]؛ لأن القدرة على تسليم الدين المضمون شرطٌ في المطالبة؛ فكذلك في البدن. فإذا مضت تلك المدة ولم يأت به حبسه الحاكم إلى أن يحضره أو يموت المكفول به.

وهكذا الحكم فيما لو كان المكفول به ابتداء غائباً. وفي "الجيلي" حكاية وجه في مسألة الكتاب: أنه يحبس في الحال، وهذا ما حكاه القاضي الحسين في "تعليقه". ولا فرق فيما ذكرناه بين أن تكون المسافة قريبة أو بعيدة كما صرح به البندنيجي، وصححه الرافعي. وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه إذا كان في مسافة القصر لا يكلف إحضاره؛ إلحاقاً لهذه الغيبة بالغيبة المنقطعة كما لو غاب الولي أو شاهد الأصل إليها. انتهى. فرع: لو كان المكفول بدنه حال المطالبة به محبوساً أو لحق بدار الحرب، قال المزني: يلزمه إحضاره من دار الحرب؛ لأنه ما مات، وإن كان في الحبس فعليه رده إليه؛ لأنه يمكنه أن يقضي دينه ويفكه من الحبس. قال البندنيجي: والذي عليه أصحابنا: أنه يلزمه تسليمه إليه وهو في الحبس كما فصلناه. والذي فصله: أنه إن كان في حبس الحاكم، فقال المكفول له: أحضر مجلس الحكم حتى تتسلمه – فإنه يحضر معه، ويسلمه إليه في الحبس، والحاكم ينظر بينه وبين المحبوس. قال: وإن انقطع خبره لم يطالب به حتى يعرف مكانه؛ لعدم القدرة على التسليم قبل العرفان، وإمكانه بعده كما في ضمنا المعسر. قال: وإن مات سقطت الكفالة؛ لأن الإحضار [منوط] بالحياة؛ فإنه الذي يخطر بالبال غالباً، وقد انتهت بالموت. ولا فرق في ذلك بين أن يكون المكفول مشهور النسب؛ بحيث لا يحتاج في الشهادة عليه إلى إحضاره، أو لا. وفيه وجه صححه الرافعي وغيره: أنه إذا لم يكن مشهور النسب، واحتيج إلى إقامة الشهادة على عينه -:أنها لاتسقط بالموت، بل يطالب بإحضاره ما لم يدفن؛ كما تصح الكفالة ببدن الميت؛ لهذا الغرض.

فإن دفن لم يُنْبَش، قاله في "التهذيب". قال: وقيل: يطالب الكفيل بما عليه من الحق، أي: إن كان قد ضمنه بعد ثبوت الحق كما قاله القاضي الحسين؛ لأن الكفيل وثيقة في الحق، فإذا مات من عليه وجب استيفاؤه من الوثيقة، أصله: الرهن، وهذا قول ابن سريج. وقيل: يلزمه أقل الأمرين من قدر الدين أو دية المكفول. وقد حكى الرافعي وغيره: أن هذا الخلاف مبني على القولين في أن السيد يفدي العبد الجاني بماذا؟ وفي ذلك نظر؛ لأن وجه من قال: إن السيد يفدي العبد بالأكثر؛ لاحتمال وجود زَبُونٍ يشتريه به، وهذا الاحتمال مفقود هاهنا بل هذا شبيه بأم الولد إذا جنت. وقد حكى الماوردي: أن ابن سريج طرد قوله فيما إذا هرب المكفول به إلى حيث لا يعلم أو توارى. وقال الرافعي: إن الخلاف في هذا مرتب على الموت، وأولى بألا يطالب إذا لم يحصل اليأس عن إحضاره، وهو الذي جعله القاضي الحسين المذهب. ولو شرط في الكفالة أنه إذا جز عن تسليمه غرم الدين: فإن قلنا إن يغرم عند الإطلاق، فلا بأس، وإلا لم يصح؛ لأنه ضمان معلق بشرط، وفي صحة الكفالة بالبدن دون المال وجهان يبنيان على تفريق الصفقة، كذا حكاه القاضي الحسين. أما إذا كان قد ضمنه ولم يثبت الحق عله بعدُ ومات فلا شيء عليه. فروع: لو مات المكفول له، [هل] تبطل الكفالة؟ فيه لاثة أوجه عن ابن سريج: أظهرها – وهو ما حكاه الماوردي -: بقاء الكفالة؛ كما لو ضمن له المال. فعلى هذا: لو كان للميت ورثة، وموصى لهم، وغرماء، فسلمه إلى الورثة والغرماء والموصى لهم دون الوصي، ففي براءته ثلاثة أوجه، أحدهما: لا؛ كما

لو سلمه إلى واحد من الثلاثة دون الباقي، أو إلى اثنين منهم، حكاه الماوردي. والثاني: أنها تنقطع؛ لأنها ضعيفة. والثالث: إن كان له وصي أو عليه دين بقيت؛ لأن الوصي نائبه، وتمس حاجته إلى قضاء الدين، فإن لم يكن وصي ولا عليه دين، انقطعت. وأبدل في "الوسيط" لفظ "الوصي" بـ"الوصية"، والمذكور في "النهاية" ما ذكرناه. لو مات الكفيل: قال الماوردي: فعلى مذهب الشافعي سقطت الكفالة. ويجيء على مذهب ابن سريج: أنها لا تبطل؛ لأنها قد تفضي إلى مال، فيتعلق بالتركة، ثم قال: لكن لم أجد له نصًّا فيه. [لو تكفل ببدن فلان على أن يبرأ فلان من كفالته، أو: على أن يبرئه من الكفالة – لم تصح الكفالة. وفي "المهذب" وجه في الثانية عن ابن سريج: أنها تصح، وهو ما حكاه القاضي الحسين في المسألة الأولى؛ فإن الأول يبرأ إذا رضي المضمون له، وطرد فيما إذا ضمن ديناً له به ضامن آخر بشرط أن يبرأ الضامن الآخر إذا تكفل ببدن زيد، ثم قال: تكفلت به ولا حق لك عليه – فالقول قول المكفول له، لكن بيمين أو بغير يمين؟ فيه وجهان حكاهما العراقيون، وحكى الغزالي فيما لو قال الكفيل: كنت أبرأت قبل كفالتي ولم أعرف – في سماع دعواه للتحليف – وجهين يجريان في كل دعوى محتملة [يناقضها عقد سابق]].

باب الشركة

باب الشركة الشركة - بكسر الشين وإسكان الراء - والشِّرْكُ: بمعنى واحد. وجمع الشركة: شِرَك، بكسر الشين وفتح الراء. وهي في اللغة بمعنى: الاختلاط والامتزاج. وفي الشرع: عبارة عن ثبوت الحق في الشيء الواحد لمستحقَّينِ على جهة الإشاعة. ثم هي تحصل تارة بالخلط على الوهج الذي نبيِّنُه، وتارة بالشيوع الحكمي، وذلك يقع على وجهين: أحدهما: بالاختيار، كما إذا اشتريا عيناً أو اتَّهَبَاها أو أوصي لهما بها أو تُصُدِّق عليهما بها، ونحو ذلك. والثاني: بغير الاختيار، كما إذا ورثاها أو غنماها ونحو ذلك. والمراد بالشركةِ المُبَوَّب عليها: الشركة لابتغاء العمل بالتصرف. والأصل في جوازها قبل الإجماع من الكتاب قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص:24]. [ومن السنة] ما روى أبو داود عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [أنه] قال: "يَقُولُ اللهُ تعالى: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَالم يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا".

وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يَدَ اللهِ عَلى الشَّرِيكينِ مَا لَمْ يَتَخَاونَا". ولقد كان البراء بن عازب وزيد بن أرقم شريكين، فاشتريا فضية بنقد ونسيئة، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم "فأمرهما: أن: مَا كَانَ بِنَقْدٍ فأجِيزُوهُ، وَمَا كَان بِنَسِيِئَةٍ فَرُدُّوهُ". قال [الشيخ رحمه الله]: يصح عقد الشركة [أي] التي سنصفها من كل جائز التصرف بالإجماع. ولأن وضع الشركة توكيل بالتصرف منضم إلى التصرف في الملك والوكالة تصح من كل جائز التصرف ولا تصح من غيره؛ لأنه تصرف في المال فافتقر إلى أهلية التصرف فيه كالبيع. فإن قيل: إذا كان وضع الشركة التوكيل، والأحكام لا تتغير بها فأي فائدة منها؟ قيل: الشركة ما أثبتت لتغيير وضع الأصول، وإنما الغرض منها أن المال إذا قل لا يجري في المتاجر، وإذا كثر انتظمت التجارة. فالمقصود منها تكثير المال للتوصل إلى تحصيل الربح. ولا فرق في صحة العقد بين أن يصدر بين مسلمين أو كافرين، أو [بين] مسلم وكافر. نعم شركة المسلم للكافر مكروهة؛ لما روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: أكره أن يشارك المسلم اليهودي. ولا يُعرف له مخالف. ولأن مال الكفار ليس بطيب؛ لأنهم يبيعون الخمور ويتعاملون بالربا؛ ولذلك كرهت مخالطته. [ومن هذه] العلة يظهر لك أنه لا فرق في الكراهة بين أن يكون المتصرف: المسلم أو الكافر، كما صرح به البندنيجي، وقد ألحق الغزالي بالكافر في الكراهة: الفاسقَ.

قال: ولا يصح، أي عقد الشركة إلا على الأثمان على ظاهر النص، والأثمان: الدراهم والدنانير خاصة والدليل على صحته عليهما: الإجماع. وعلى عدم صحته على غيرهما من النقار، والسبائك، وذوات الأمثال والعُروض: أنه عقد يبتغي به النماء فاختص بالأثمان لتيسر المقصود بها كالقراض. وهذا ما نسبه الشيخ في "المهذب" [وغيره] إلى رواية البويطي. قال: وقيل: صح على كل مَا لَهُ مثل، أي حقيقي، كما سنذكره في الغصب من الحبوب والأدهان المتساوية في الوصف، كما قاله الروياني في "البحر" والرافعي وغيرها. وكذا "التبر" إن قلنا: إنه مثلي؛ لأنهما مالان إذا اختلطا لم يتميز أحدهما عن الآخر، وقيمتهما واحدة في حال الارتفاع والانخفاض، فصح عقد الشركة عليهما كالأثمان، وهذا قول ابن سريج، وأبي إسحاق وأكثر الأصحاب، كما حكاه الماوردي. قال: وهو الأظهر؛ لما ذكرناه، وكذلك صححه الرافعي، واختاره في "المرشد" وقال الإمام: إنه المعتمد في الفتوى. وقد ظهر لك من علة ظاهر المذهب وعلة مقابله، أن عدم الصحة على العروض: هل لعدم تيسر تحصيل المقصود بها، أو خشية أن يفوز أحدهما بجزء من مال صاحبه أو ربحه؛ فإنه قد تزيد قيمة عرض أحدهما وتنقص قيمة عرض الآخر بارتفاع الأسواق وانخفاضها، وذلك يخرج الشركة عن موضوعها؟ وسيظهر لك ثمرة هذا الخلاف من بعد.

فرع: الدراهم المغشوشة هل يصح عقد الشركة عليها؟ جزم الروياني فيها بالمنع [وحكى] صاحب "العدة": أن الفتوى على الجواز إذا استمر في البلد رواجها. وخرج الرافعي [ذلك على] جواز القراض عليها، وفيه خلاف سنذكره-إن شاء الله تعالى – آخراً. قال الرافعي: إذا جوزنا الشركة في المثليات، فإن استوت القيمتان كانا شريكين على السواء، وإن اختلفتا؛ كما إذا كان لأحدهما كُرُّ حنطةٍ قيمته مائة، وللآخر كُرٌّ قيمته خمسون [درهماً] [فهما] شريكان في الثلثين والثلث، كذا حكاه العراقيون. ثم قال: وهذا مبني على قطع النظر في المثليات عن تساوي الأجزاء في القيمة، وإلا فليس هذا الكثير مثلاً لذلك القليل. قلت: وهذا الكلام منه يدل على صحة [عقد] الشركة عليها، والذي شرطناه أولاً من تساوي المثلين في الوصف يمنع ذلك. وقد صرح بحكاية المنع في هذه الصورة الروياني [في البحر]، نعم

قال: تصح الشركة فيها بالطريق الذي [تصح به] في العروض [، كما سنذكره]. فائدة: كثيراً ما يورد بعض الطلبة على الشيخ أنه ناقض حصره هاهنا جواز الشركة على النقدين وعلى ذوات الأمثال على رأي دون ما عدا ذلك بقوله: "وإن كان مالهما عرضاً ... " إلى آخره. فإنه قد جوّز الشركة في غير النقدين والمثلي وهو [غير] وارد؛ لأن الكلام أولاً في عقد الشركة وهو قولهما: اشتركنا في هذين المثلين. وهذا العقد لا يصح إيراده على عرضين ليسا بمثلين أصلاً. وإنما تصح الشركة على ما ذكره؛ فلا اعتراض أصلاً. قال: ولا يصح من الشركة إلا شركة العنان. لما انقسمت الشركة إلى أربعة أنواع، منها ثلاثة باطلة وهي: شركة الأبدان، وشركة المفاوضة، وشركة الوجوه، وواحدة صحية احتاج الشيخ إلى بيان الصحيحة منها وهي شركة العنان. وقد أجمع العلماء على جوازها، وهي بكسر العين. واختلف في المعنى الذي لأجله سميت بهذا الاسم: فقيل: سميت بذلك؛ أخذاً من عِنَانِ فَرَسَي الرهان؛ لأن الفارسَيْنِ إذا استبقا تساوى عنان فرسيهما فكان أحدهما بِحَدِّ الآخر، كذلك هذه الشركة من شأنها أن يتساوى الشركيان فيها وفي قدر ربح مالهما. وقيل: أخذاً من عنان فرسي الرهان بجهة أخرى، وهي أن كل واحد من الفارسين يفعل كفعل صاحبه ويصنع كصنعه لا يخالفه، كذلك كل واحد من الشريكين [ما يترك] شريكه ولا يخالفه. وقيل: لأن عنان الدابة يمنعها من التصرف باختيارها، [كذلك الشركة تمنع] كل واحد منهما من التصرف في المال باختياره ويقتصر على

أن يتصرف بما فيه مصلحة. وقيل: لأن كل واحد من الفارسي يأخذ بعنان الدابة ويحبس يده عليها، ويده الأخرى مرسلة يتصرف بها كيف شاء، كذلك كل واحد من الشريكين بعض ماله محبوس على الشركة ومقصور على التصرف [فيها] وباقي المال مطلق له يتصرف به كيف شاء. وقيل: لأن كل واحد منهما يملك التصرف في جميع المال كما يملك عنان فرسه [يتصرف فيه] كيف شاء. وقال الفراء وابن قتيبة: إنها مشتقة من: عنَّ الشيء، يعنُّ إذا عَرَضَ، يقال: عنت لي حاجة: أي عرضت، فسميت بذلك؛ لأن كل واحد منهما قد عنَّ له أن يشارك صاحبه. وقيل: إنها مشتقة من عنَّ الشيء، إذا ظهر؛ ولهذا سمي العنين: عينيناً؛ لأنه ظهر عجزه، حكاه القاضي الحسين. قال: وهو أن يعقدا على ما تجوز الشركة عليه أي كأحد النقدين أو المثليات إن قلنا بالأظهر. وصيغة العقد أن يقولا: اشتركنا في هذا المال، وهل يحتاجان مع ذلك إلى الإذن في التصرف ليستفاد به جواز التصرف، أو لا يحتاج إليه ويستفيده بنفس العقد؟ فيه وجهان حكاهما المراوزة: أحدهما – وهو ما اقتضاه كلام الشيخ -: الثاني وهو الأظهر في "الوجيز" إذا كان يفهم المقصود منه عرفاً؛ لأنه لو اشترط لم يَبْقَ في العقد فائدة؛ لأن المال مختلط، والإذن حاصل، وسأذكر في آخر الباب مايؤيده أيضاً. والذي جزم به القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين: الأول، وهو [الذي] رجحه ابن كج والبغوي [وغيرهما]. وروى الماوردي عن ابن سريج أنهما إذا خلطا المالين على الشركة أو ابتاعا

متاعاً للشركة – جاز أن يتصرف كل واحد منهما في جميعه من غير احتياج إلى إذن، وهو الذي حكاه في الإفصاح، كما حكاه الروياني. وعلى القول بعدم اعتبار الإذن [لكل واحد] منهما أن يتصرف في جميع المال، ويجو أن يكون مال الشركة في يدهما. وعلى القول باعتبار الإذن] ينظر: إن وجد من كل واحد منهما [للآخر] تصرَّفَا أيضاً، وإن أذن أحدهما دون الآخر تصرف المأذون [له] في جميع المال، والإذن في ماله خاصة. وهكذا الحكم فيما إذا قلنا: لا يشترط الإذن في التصرف وعقداها ابتداء بهذا الشرط. قال [الإمام]: واختصاص المأذون له بالتصرف في ملك صاحبه يلحق المعاملة بمضاهاة القراض، ولا يعد في تسميتها [شركة] بالاشتراك في رأس المال. وقال البندنيجي والقاضي أبو الطيب والروياني في "بحر المذهب" وغيرهم في هذه الصورة: إنها ليست بشركة ولا قراض: لأن مقتضى الشركة أن يشتركا في العمل والربح، ولم يوجد ذلك. قلت: [وهو ينطبق على] أن شركة العنان مأخوذة من التساوي في الفعل. قالوا: ولا ذلك القراض؛ لأن مقتضاه أن يكون للعامل في مال الغير نصيب من الربح لكنها بضاعة ثم في هذه الصورة هل يشترط انفراد المأذون له باليد كما في عقد القراض؟ فيه وجهان. وهل يشترط في الآذن منهما أو من أحدهما تعيين التصرف؟ الذي حكاه العراقيون أنه إن وجد [تصرفٌ] عامٌّ فيما يرى من أنواع التجارات وصنوف الأمتعة تصرف فيها مطلقاً. [وإن عين له جنساً دون جنس، أو نوعاً دون نوع كان له التصرف في ذلك الجنس أو النوع دون ما عداه. وقال

القاضي الحسين في التعليق: الصحيح أن تعيين النوع في الشركة شرط كما في الوكالة؛ إذ هي نوع توكيل، وقيل: لا يشترط كما في القراض. فعلى الأول – وهو الصحيح – يجوز أن يأذن أحدهما للآخر في التصرف في الثياب والدواب .. فرع: قال في "الزوائد" عن المحاملي: ولا فرق في النوع المعين بين أن يعم وجوده أو لا؛ لأن ذلك توكيل، والإنسان يوكل غيره [في شراء ما لا يعم] وجوده، [ويصح، بخالف القراض؛ حيث قلنا: لا يصح أن يقارض إلا على ما يعم وجوده] لأن القصد منذلك حصول الربح، فمتى كان النوع مما ينقطع لم يحصل المقصود قلت: ويتجه أن يتخرج وجه فيما إذا أذن فيما لا يعم: أن الشركة لا تصح مما ذكرناه في علة اختصاص الشركة بالنقدين. قال: وأن يكون مال أحدهما من جنس مال الآخر وعلى صفته؛ فإن كان من أحدهما دراهم ومن الآخر دنانير، أو من أحدهما صحاح ومن الآخر قراضة لم تصح الشركة؛ لأن أسماء العقود المشتقة من المعاني [فيجب تحقق تلك المعاني] فيها، كما في الحوالة والسلم والصرف، ومعنى الشركة: الاختلاط والامتزاج، وهو لا يحصل في ذلك؛ لأن مال كل منهما متميز عن مال الآخر، وهكذا الحكم فيما لو امتاز أحد النقدين عن الآخر بالصكة، أو بالتأريخ مع استوائهما في الصكَّة أو بياض أو سواد وفيما إذا جوزنا الشركة على ذوات الأمثال، فكان من أحد الشريكين بذر كتان ومن الآخر سمسم، أو من أحدهما حنطة حمراء ومن الآخر حنطة بيضاء، لما ذكرناه. وحكي عن أبي سعيد الإصطخري أنه جوز الشركة على الدراهم السود مع البيض، وعن أبي إسحاق رواية وجه أنه جوز الشركة على الحنطة السمراء والبيضاء. قال: وأن يخلط المالان؛ ليتحقق معنى الشركة وهذا الخلط شرط في صحة العقد فيعتبر تقدمه على قولهما: اشتركنا، والإذن في التصرف إن اعتبرناه، وقيل: إن وجد الخلط بعد العقد في المجلس كفى كما حكاه القاضي الحسين والمتولي، ولو تأخر عن المجلس لم يصح. وفي كلام الإمام ما يقتضي الجواز

أيضاً؛ فإنه حكى عن الأصحاب ما ذكرناه أولاً، ثم قال: وفيه فضل نظر؛ فإن مستند الشركة [في] التوكيل بالتصرف، وفي تعليق الوكالة خلاف. فإن علق المالكان التوكيل بالتصرف بالخلط خرج على الخلاف لا محالة، وإن نجز التوكيل مع تمييز المالكين ثم فرض اختلاطهما فالوجه: القطع بصحة الوكالة أولاً، ودوامها مع وجود الاختلاط إذا كان يجري ذلك على حسب الإذن. نعم، لو قيد الإذن بالتصرف في المال المنفرد فلابد من الإذن بعد الخلط. وما ذكرنا في اعتبار الخلط مفروضٌ فيما إذا كان المالان متميزين، أما إذا كان المال مشتركاً بينهما على سبيل الشيوع، فهو آكد [في الخلط]. قال: وقيل: يشترط أن يكون مال أحدهما مثل [مال] الآخر في القدر؛ لأن الربح يحصل بالمال والعمل، فكما لا يجوز الاختلاف في الربح [مع التساوي في المال، والاختلاف] في العمل لا يجوز الاختلاف في الربح مع التساوي في العمل والاختلاف في المال، وهذا قول أبي القاسم الأنماطي. قال: وليس بشيءٍ. وقال الإمام: إنه هفوة غير معتد به؛ لأن المال أصل؛ بدليل أنه لا يجوز أن ينفرد أحدهما به، والعمل تابع [بدليل جواز انفراد] أحدهما به، والأصل لا يقاس على التابع. ثم على المذهب وهو عدم اشتراط التساوي في المال: لو كان بينهما مال مشترك على الشيوع فهل يشترط العلم حالة العقد بمقدار النصيبين بأن يعرفا أن المال بينهما نصفان أو على نسبة أخرى؟ فيه وجهان: [المذكور منهما في "بحر المذهب": عدم الجواز؛ فإنه قال: لا يجوز عقد الشركة على الدراهم المغشوشة؛ لان الفضة فيها مجهولة، ويجب أن يكون مال الشركة معلوماً، وكذلك في "الحاوي" عند الكلام في شركة الأبدان. وأظهرهما] في الرافعي: أنه لا يشترط، وقيدَّه بما إذا أمكن معرفته من بعد، وهذا الوجه جزم به في "الوجيز"، ومقابله حكاه الإمام عن طوائف من الأصحاب

ثم قال: فيه نظر سنذكره. وقد حكى الرافعي أن مأخذ الخلاف وجهان حكاهما الأصحب فيما إذا كان بين رجلين مال مشترك وكل منهما يجهل قدر حصته فأذن كل [واحد] منهما للآخر في التصرف في جميع المال أو في نصيبه: هل يصح الإذن؟ و [قال]: إن أظهرهما الصحة. ومقتضى هذا ألا يتقيد تصحيح الوجه بصحة الشركة بما إذا أمكن معرفة النصيب من بعد كما أطلقه في "الوسيط"، والله أعلم. قال: وإن كان مالهما عرضاً وأرادا الشركة – أي: به – باع كل واحد منهما بعض عرضه- أي: مشاعاً كالثلث والربع – ببعض عرض صاحبه سواء كان مساوياً لذلك البعض كالنصف بالنصف، أو غير مساو كالثلث بالثلثين. قال: فيصير مشتركاً بينهما، أي: [على نسبة] ما وقع عليه العقد، ثم يأذن كل واحد منهما للآخر في التصرف، [أي: بعد قبض ما شاتراه؛ لأن عقد الشراء لا يتضمن الإذن في التصرف وإن تضمنه عقد الشركة على رأي، ويجيء فيه ما حكاه الماوردي عن ابن سريج فيما إذا ابتاعا مشاعاً للشركة: أنه لايحتاج إلى الإذن في التصرف وإنما اعتبرا أن يكون بعد القبض؛ لأن المشتري لا يصح تصرفه قبل القبض فوكيله من طريق الأولى. تنبيه: قول الشيخ: ثم يأذن كل [واحد] منهما للآخر، احترز به عما إذا قارن الإذن العقد؛ فإنه إن كان مشروطاً أبطل كما صرح به الروياني في البحر والبندنيجي وغيرهما، وإن كان غير مشروط فهو قبل حصول القدرة عليه فلا يصح. قال: فما حصل من الربح يكون بينهما على قدر المالين، [وما حصل من الخسران يكون بينهما على قدر المالين]؛ عملاً بقضية الشركة. ولا يشترط معرفة قيمة العرضين على الأصح، وفي ذلك وجه حكاه الماوردي، وهذه الصورة اخترعها المزني وسيلة إلى تصحيح الشركة بالعروض

المتقومة، وهي ترجي فيما لو كان مع أحدهما دراهم ومع الآخر دنانير، [ولا يختص] تصويرها بأن يبيع أحدهما بعض عرضه ببعض عرض صاحبه، بل يجوز أن يبيع كل منهما بعض عرضه من صاحبه بثمن في ذمة صاحبه، ثم يتقاصا أو يتباريا أو يتقايضا على حسب ما يتفق، ويجوز أن يشتريا عرضاً للشركة على الشيوع. ثم ظاهر إطلاق الأئمة [يقتضي] أن ذلك إذا وجد ثبت [جميع أحكام] الشركة كما لو كان مالهما نقداً. وفي "التتمة": أن ذلك إذا وجد؛ صار العرضان مشتركين ويملكان التصرف بحكم الإذن، ولكن لا تثبت أحكام الشركة فيما يحدثانه من التصرفات بعد ذلك إلا باستئناف عقد على الثمن بعد نضوضه، وهذا ما حكاه القاضي الحسين في تعليقه، وقال الفوراني في "إبانته": إن الحكم في هذه الشركة كالحكم في الحنطة والشعير، يشير إلى أن فيها خلافاً كما في ذوات الأمثال، ومأخذه اختلاف ما أشرت إليه من علة ظاهر النص ومقابله. تنبيه: العَرض - بفتح الراء - كل ما يتمَوَّل من النقود وغيرها، وبسكون الراء كل ما يتمول إلا النقود، كذا حكاه البندنيجي، ومقتضى هذا أن كلام الشيخ [يشمل] ما ليس بمثلي، والمثلي إذا قلنا: لا يجوز عقد الشركة عليه، كما قاله الجيلي. قال: فإن تساويا في المال، أي: مثل، أن كان لكل [واحد] منهما ألف وشرطا التفاضل في الربح، أي: مثل إن شرطا لأحدهما ثلثي الربح وللآخر الثلث، أو تفاضلا في المال، أي: بأن كان لأحدهما ألف وللآخر ألفان، وشرطا التساوي في الربح بطل العقد؛ لأن الربح جزء من الثمن، والأثمان تتوزع على [قدر] المثمنات؛ ولهذا إذا أطلق العقد نزل على ذلك، فإذا شرطا خلاف مقتضاه بطل، كما لو شرطا أن يكون جملة الربح لأحدهما، ولأن الشركة قد

تفضي إلى الربح تارة وإلى الخسران أخرى، فلما كانالخسران يتقسط على المال ولا يتقسط بالشرط، وجب أن يكون الربح مثله. وفي "بحر المذهب" حكاية [وجه] عن القاضي الطبري أنه حكى عن بعض الأصحاب أن الشرط يفسد: وتصح الشركة، وحكى الماوردي وجهين في أن شرط التفاضل إذا [بطل كما] ذكرناه في الصورتين هل يوجب بطلان الشركة بمعنى بطلان الإذن في التجارة بالمال المشترك؟ أحدهما: قد بطل الإذن؛ لبطلان الشرط فيه، فلا يجوز لأحدهما أن يتصرف في جمي المال، فإن تصرف كان كمتصرف في مال مشترك عن شركة فاسدة. والثاني: لا يبطل الإذن؛ فيجوز أن يتجر كل واحد في جميع المال، ويكون الربح مقسوماً بالحِصص، وهذا إن لم يكن عَيْن الوجه الذي حكاه الطبري فلا أعرف بينهما فرقاً، مع أن الروياني حكاهما. قال: وقسم الربح بينهما على قدر المالين لما ذكرناه، ولأنه مستفاد من المالين فكان على قدرهما، كما لو كان بينهما نخل فأثمرت أو شاة فَنُتِجَتْ. ففي الأولى: يقسم الربح نصفين، وفي الثانية: أثلاثاً، وهذا من الشيخ يدل على صحة التصرف؛ لأن الربح فرع له، وقد صرح به في "المهذب" وغيره اعتماداً على بقاء الإذن. قال: ويرجع كل واحد منهما على الآخر بأجرة عمله في ماله؛ لأن الشركة عقد يقصد به الربح في النامي فاستحق العوض فيه عن العمل عند فساده كالقراض، فعلى هذا في كيفية التراجع في المسألة الأولى حالتان: أحداهما: أني ساوي عمل كل منهما مائة؛ فلكل منهما على صاحبه خمسون؛ لأن عمله يقع على ملكه وملك الآخر فيتقاصان.

والثانية: أن تساوي أجرة أحدهما مائة والآخر مائتان، فقد استحق صاحب المائة على الآخر خمسين و [استحق] صاحب المائتين على صاحب المائة مائة، فيتقاصان في خمسين ويرجع [صاحب المائتين] على صاحب المائة بخمسين. وفي كيفية التراجع في المسألة الثانية ثلاثة أحوال: إحداها: أن تكون أجرة عمل صاحب الألفين مائتين، وأجرة عمل صاحب الألف مائة، فقد وجب لصاحب الألفين على صاحب الألف ستة وستون درهماً وثلثان، ووجب له عليه مثلها فيتقاصان، والباقي ساقط بحكم العمل في الملك. الحالة الثانية: إذا كانت أجرة كل منهما مائتين، رجع صاحب الألف على صاحب الألفين بستة وستين [درهماً] وثلثين، ويسقط مثلها في مقابلة ملكه، ويتقاصان بمثلها؛ إذ هو الواجب على صاحب الألف لصاحب الألفين. الحالة الثالثة: إذا كانت أجرة صاحب الألفين مائة وأجرة صاحب الألف مائتين، رجع صاحب [الألف على صاحب] الألفين بمائة، وسقط من أجرته ستة وستون درهماً [وثلثا درهم] في مقابلة ملكه، ويتقاصان في ثلاثة وثلاثين درهماً وثلث؛ إذ هي الواجبة على صاحب الألف لصاحب الألفين. و [قد] حكى المتولي وجهاً أن الشركة إذا فسدت لا يرجع أحدهما على الآخر بأجرة عمله؛ لأن الفاسد كالصحيح في وجوب الضمان وعدمه والشركة إذا كانت صحيحة لا يرجع فيها بأجرة العمل؛ فكذلك إذا كانت فاسدة. وهذا الوجه يضعف إذا كان المشروط له الزيادة من أجرة عمله [أكثر ولم يحكه الإمام في هذه الحالة، ويقوى إذا كان المشروط له الزيادة من أجرة عمله] أقل، وهو الذي صححه الإمام وغره.

وعلى هذا لا أثر لفساد الشركة في هذه الصورة [أصلاً]، بل الفاسد هو الشرط إذا قلنا: إن الإذن لا يبطل بالشرط، كما جزم به معظم الأصحاب. وقد حكى المراوزة فيما إذا شرطت الزيادة لمن له مزيد عمل وجهاً أنه يصح والأصح عندهم عدم الصحة أيضاً. والقائلون بالمذهب فرقوا بين الصحيحة والفاسدة، بأن كلاًّ منهما قد شرط في مقابلة عمله جزءاً من الربح، وقد تعذر عليه الرجوع إليه [في] الفاسدة؛ فكان له الرجوع إلى قيمة المبذول، كما لو باع عيناً بخمر وقد تعذر رَدُّها؛ فإنه يرجع [إلى] قيمتها، وإذا كانت صحيحة فالمسلم قد سلم له قيمتها، وما ذكرناه مفروض فيما إذا كان العمل منهما. أما إذا انفرد أحدهما به بالشرط، نُظر: فإن كان في المسألة الأولى قد شرطت الزيادة للمنفرد بالعمل، مثل أن شُرط له ثلثا الربح وللآخر الثلث – صح، واستحق النصف بحكم الشركة والسدس بحكم أنه مقارض، وجاز القراض هاهنا على المشاع؛ لأنه لا يمنع من التصرف. وحكى المراوزة وجهاً أنه لا يصح هذا الشرط أيضاً وصححه الرافعي؛ لأن لا يمكن جعل هذا العقد شركة وقراضاً؛ فإن العمل يقع في القراض مختصًّا بمال المالك، وهاهنا يتعلق بملكه وملك صاحبه. قلت: وهذا قريب الشبه من مسألة قفيز الطَّحَّان كما سيأتي، والأول مشابه لما حكيناه عن العراقيين والمراوزة فيما إذا وقع الجدار المشترك نصفين، فبناه احدهما على أن يكون له ثلثا النقض والأساس فإنهم قطعوا بالصحة. وإن شرطت الزيادة لغير العامل فالحكم كما تقدم فيما إذا كان العلم منهما متساوياً. ووجه عدم الرجوع بأجرة العمل هاهنا أظهر؛ لأنه رضي بأن يكون عمله مجاناً مع نقص حصته من الربح، فكيف وقد حصل له تمام ربح ماله، وسيأتي مثله فيما إذا قال: قارضتك على أن يكون الربح كله لي، وكذا فيما

إذا تزوج امرأة على ألا يقسم لها أو لا يبيت عندها، وكان مهر مثلها أكثر من المسمى فإنها لا تستحق [القدر الزائد]؛ لما أشرت إليه. وإن كان في المسألة الثانية، نُظِر: فإن كان صاحب الألف هو المنفرد بالعمل فالحكم كما لو كانا متساويين وشُرِطَ له من الربح الثلثان؛ فيستحق النصف من الربح، ثلثه بحكم الشركة، وسدسه بحكم القراض. وإن كان صاحب الألفين هو المنفرد بالعمل، فالحك كما لو كان العمل منهما وقد تساويا في المال. فرع: إذا قلنا بصحة شرط الزيادة لمن زاد عمله أو انفرد به، فأطلقا العقد فظاهر كلام العراقيين أن الربح يقسَّم على نسبة المالين. وحكى الإمام وجهاً عن رواية صاحب "التقريب" والشيخ أبي محمد أنه يثبت لمن زاد عمله بسبب الزيادة أجرة؛ تخريجاً مما إذا استعمل صانعاً ولم يذكر له أجرة. قال: وأما شركة [الأبدان وهي أن يشتركا] على ما يكتسبان بأبدانهما فهي باطلة. صورة المسألة: أن يقول الصانعان: اشتركنا، على أن ما يحصل لهما من كسبهما يكون بينهما على حسب ما يشترطانه، سواء كانا متفقي الصنعة كالنجارَيْنِ والخياطَيْنِ، أو مختَلِفِيها كالنجار والخياط. ودليل بطلانها كما حكاه بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم عن الغرر كما رواه ابن عباس وهذا غرر؛ لأن كل واحد منهما لا يدري: أيكسب صاحبه شيئاً أم لا، وكم قدر كسبه؟ ومن جهة المعنى: أن المعقود عليه في هذه الشركة العمل، كما أن المعقود عليه في شركة العنان المال،

[والمال] لو كان مجهولاً فيها لم تصح أيضاً؛ فكذلك إذا كان العمل مجهولاً في هذه؛ ولأنهما عقدا على منفعة عينين متميزتين؛ فوجب ألاّ يصح، كما لو عقد السقاء الشركة مع صاحب الجمل والراوية على الاستقاء؛ فإنه لا يصح بالإجماع كما سنذكره وبالقياس على ما لو اشتركا على بعيرين ليؤاجرهما ويشتركا في أجرتهما. قال: ويأخذ كل واحد منهما أجرة عمله؛ لأنه لم يبذله مجاناً فاختص بمقابله عند فساد الشرط، فإن كان عمل أحدهما متميزاً عن عمل الآخر، مثل أن خاط [أحدهما] ثوباً والآخر مثله ونحو ذلك، كانت أجرة كل ثوب لمن خاطه، وإن لم يتميز كما إذا خاطا القميص معاً، أو نسجا إزاراً معاً، كانت الأجرة على قدر أجور أمثالهما، وقد حكى العراقيُّون أن من الأصحاب من قال: إن للشافعي قولاً في هذه الشركة أنها جائزة؛ لأنه [قال:] لو أقر أحد الشريكين على صاحبه بمال لم يقبل إقراره، سواء كانا شريكين في المال أو في العمل. وروى صاحب "التقريب" هذا وجهاً عن بعض الأصحاب. والصحيح هو الأول، والقائلون به قالوا: ما ذكره الشافعي في الإقرار، يحتمل أن يكون تفريعاً على مذهب الغير؛ فلا يدل على أنه قول آخر. وقد نسب [الروياني] هذا [التأويل] إلى ابن أبي هريرة وأنه قال: أو يحمل على ما [إذا اشتركا] في المال على أن يعملا جميعاً. قال: وأما شركة المفاوضة، وهي أن يشتركا على ما يكسبان بأموالهما وأبدانهما، وأن يضمن كل واحد منهما ما يلزم الآخر بغصب أو بيع فاسد أو ضمان مال فهي باطلة؛ لما فيها من الغرر. قال الشافعي: لا أعلم في الدنيا [شيئاً باطلاً] إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة، ولا أعلم القمار إلا هذا وأقل منه. ولأنها شركة معقودة على أن

[يشارك كل منهما صاحبه على ما يختص بسببه؛ فلم يصح عقدها كما لا يصح على ما يرثان أو يتهبان. ولأنها شركة معقودة على أن يضمن كل منهما ما يجب على الآخر بَعُدْوانِهِ فلم تصح، كما لو عقداها على أن] يضمن كل منهما ما يجب على الآخر بجنايته. ولأن هذا العقد يخالف موجبه موجب سائر العقود [في الأصول، وإذا كان كذلك وجب ألا يصح، ولا يقال: النكاح قد خالف موجب سائر العقود] في اشتراط الإشهاد فيه وقد صح؛ لأنا نقول: إنما صح أن يفرد بذلك؛ لما ثبت في الشرع عن النبي صلى الله عليه وسلم فصار أصلاً بنفسه، وليس من شرط الأصل موافقة الأصول. وليس كذلك في هذه الشركة فإنها مجتهد [فيها]، فوجب إلحاقها بالأصول التي تقررت بالشرع، كذا قاله القاضي أبو الطيب. قال: ويأخذ كل واحد منهما ربح ماله وأجرة عمله، ويضمن ما يختص به من الغصب والبيع الفاسد وضمان المال؛ لاختصاص كل [واحد] منهما بسبب ذلك. فرع: لو استعملا لفظ المفاوضة وأرادا شركة العنان جاز: [نص عليه] كذا قاله الرافعي. تنبيه: سميت هذه الشركة: شركة المفاوضة؛ من قولهم: تفاوض الرجلان في الحديث، إذا شرعا فيه جميعاً، وقيل من قولهم: قوم فوضى، أي: مستوون. قال: وأما شركة الوجوه وهي أن يشتركا في ربح ما يشتريان بوجوههما فهي باطلة. صورة المسألة: أن يكون لشخصين وجاهة بين الناس ومنزلة يمكن أن يشتري كل منهما بجاهه شيئاً بثمن إلى أجل، ويتَّجِرا فيه، فيشتركان على ما يشتريان بوجوههما، ويكون ذلك بينهما، ويبيعان ثم يقضيان الدين عند المحل، وما

يفضل يكون بينهما، كذا صور الرافعي. وحكى صاحب "البحر" أن بعض أصحابنا صورها بما إذا كان أحدهما ذا وجاهة فيقول لمن لا جاه له: أنا آخذ المتاع بجاهي وأعطيك حتى تتصرف [فيه]؛ فيكون المال مني، ومنك التصرف. وإن هذه الصورة هي المذكورة في "الإفصاح". وحكى القاضي ابن كج والإمام فقالا: صورتها أن يشترك وجيه لا مال له وخامل ذو مال؛ ليكون العمل من الوجيه، والمال من الخامل، ويكون المال في يده ولا يسلمه إلى الوجيه والربح بينهما. وقيل: صورتها: أن يكون أحدهما ذا وجاهة فيقول للآخر: اشتر على جاهي متاعاً والربح بيننا. وتسمى هذه الشركة على [التصوير] الأول والأخير شركة الجاه، وبعضهم خص هذه التسمية بالصورة الأخيرة. والكل باطل؛ لأنها شركة في غير مال فلم تصح كالشركة على الاحتطاب والاحتشاش، ولأن ما يشتريه كل [واحد] منهما قد تفرد بملكه فلا يشاركه غيره في ربحه؛ لأن الربح يتبع الملك قال: فإن أذن كل واحد منهما للآخر في شراء شيء معلوم [بينهما]، فاشترياه، ونويا عند الشراء أن يكون ذلك بينهما، [كان بينهما]؛ لأن هذه وكالة؛ فيترتب عليها حكمها. قال: وربحه لهما؛ لأن الربح نماء الملك؛ فكان لمن هو له، وللمشتري على المشتري له نصف أجرة عمله فيما اشترى. صرح به الروياني في "البحر". والعلم في المشتري يحصل بذكر الجنس وغيره مما يعنيه في الوكالة بالشراء في موضعه، كما صرح به القاضي أبو الطيب. وليس المراد من قول الشيخ: فاشترياه، [ونويا] أن يقع العقد منهما في

حالة واحدة؛ بل المراد: أن يصدر العقد منهما على البدل في شيء واحد، أو منهما على شيئين بالصفة المذكورة. ولو لم ينويا عند الشراء، وكانا قد عقدا الشركة على ذلك، وقع العقد المباشر خاصة. قال: والشريك أمين فيما يشتريه، أي: أن يشتري شيئاً فيه خسران، فيدعي عليه الآخر أنه اشتراه لنفسه، فيقول: بل للشركة فالقول قول المشتري؛ لأنه أَخْبر بنيته. والمراد بالخسران: النقص الذي يتغابن بمثله [أو] انخفاض الأسعار بعد الشراء، وكذا لو اشترى شيئاً فيه ربح، وادعى انه لنفسه، وقال الشريك: [بل] للشركة فالقول قول المشتري؛ لما ذكرناه، ولأن الأصل عدم الشراء للشركة، يدل عليه أنه لو أطلق وقع لنفسه. قال: وفيما يدعيه من هلاك، أي: [إمّا] بسبب خفي، أو مع إقامة البيِّنة على السبب الظاهر؛ لأنه يعسر عليه إقامة البينة على التلف مع أنه ائتمنه فكان القول قوله كالمودع. وكل هذا يظهر مما قررناه أن الشركة في الحقيقة وكالة، وعلى هذا يجري سائر تصرفاته في نصيب الشريك حتى لا يبيع بدون إذنه شيئاً بدون ثمن المثل وبغير نقد البلد ولا نسيئة؛ ولا يسافر به. فرع: لو ادَّعى الشريك تلف المال في يوم كذا، فأقام الآخر بيِّنةً أنه رآه في يده في يوم بعده؛ ففي بطلان يمينه وجهان: أحدهما: نعم؛ فيغرم حصة الشريك. والثاني: لا وبه قال أبو الفياض، ويسأل عن ذلك: فإن ذكر وجهاً تسلم معه يمينه الماضية لم يغرم، [وإن لم يبين] غرم، حكاه في "البحر". قال: وفيما يدعي عليه من خيانة، أي: بعد تبيينها دون ما [إذا] أطلق دعوى الخيانة؛ فإنها لا تسمع، ووهج ما قاله الشيخ: أن الأصل عدم الخيانة.

فرع: لو كان في يد أحدهما مال فقال: قد اقتسمناه، وهذا الذي خلص لي بالقسمة، وقال الآخر: لم نقسم بعدُ [وهو مشترك] فالقول قول الثاني؛ لأن الأصل بقاء الشركة، وعلى مدَّعي القسمة البينة. قال: فإن عزل أحدهما صاحبه عن التصرف أي: في نصيبه انعزل؛ لأن الشركة في الحقيقة وكالة، وهي من العقود الجائزة، فكذلك [في] الشركة. قال: وبقي الآخر على التصرف أي: في نصيب المعزول إلى أن ينعزل؛ إذ لم يصدر في حقه ما يقتضي عزله. ولو قال أحدهما: سخت الشركة، انعزلا جميعاً؛ لأن فسخ الشركة مقتضاه زوال إذن كل واحد منهما لصاحبه، وفي "بحر المذهب" أن القاضي الطبري [قال]: إذا [قال] أحدهما: فسخت الشركة، [نُظِر]: فإن أراد في جنبة صاحبه، له أن يتصرف في جميع المال. وإن أراد في جنبتيهما جميعاً، لم يجز لواحد منهما التصرف في حق صاحبه، والمشهور هو الأول، وبه يقوى أن التصرف في شركة العنان بعد عقدها وخلط المال لا يتوقف على الإذن فيه كما اقتضاه كلام الشيخ؛ فإن عقد الشركة لو كان مستلزماً [له] لما امتنع بفسخ عقد الشركة. ولما تأمل المتولي هذا المعنى بنى انعزالهما على أن التصرف هل يملك بمجرد عقد الشركة أم لابد من الإذن فيه؟ وعلى الصحيح: لا يجوز لأحد الشريكين بعد سخ الشركة أن يتصرف [إلا] في نصيبه مشاعاً وإن كان عرضاً، بخلاف القراض حيث جوزنا للعامل بعد فسهخ بيع العروض؛ لأن حقه في الربح وهو لا يحصل إلا بالنضوض، وهاهنا كل منهما له حق في الأصل والربح يتبعه فلا يحتاج إلى البيع. قال: وإن مات أحدهما أو جن انفسخت الشركة؛ لأنها عقد جائز فبطلت

بالموت والجنون كالوكالة والقراض. وهكذا الحكم فيما لوطرأ على الشريك حجر بسبب السفه، ولو أغمي عليه، نظر: إن كان يسيراً لا يسقط معه فرض عبادته لم يضر، وإن كان بحيث يسقط فرض صلاة واحدة بمرور وقتها انفسخت الشركة، كذا قاله في "البحر". ثم الوارث في مسألة الموت مخيَّر: إن شاء قاسم الشريك أو أبقاه على الشركة بأن يجدد له إذناً في التصرف، ولا فرق بين أن يكون المال عرضاً أو نقداً. وهذا إذا لم يكن على الميت دين، فإن كان، لم يجز للوارث الإذن إلا بعد وفاء الدين، وإن أمكن وفاؤه من غير مال الشركة؛ لأنه محجور عليه فيها كما في المرهون، قال أبو إسحاق: والأولى للوارث ألا يأذن في التصرف إلا بعد معرفة ماله؛ خشية أن يظهر على الميت دين وقد ظهر ربح في المال ولا يدري ما يخصه منه ولو ترك ذلك جاز. والموصى له إذا كان معناً وقبل، حكمه حكم الوارث، وإن كان غير معين كالفقراء وجب إفراز نصيبهم من المال. ويقع الإذن في التصرف إن اختاره الوارث بعد ذلك فيما يخصه. وفي مسألة الجنون وطرآن الحجر بسبب السفه، فإذا كان وارث [أحدهما] مولى عليه فينظر: إن كان الحظ للمولى عليه، في بقاء الشركة والإذن في التصرف فعله الولي، وإلا فلا. فروع نختم بها الباب: إذا تولى أحد الشريكين [الشراء للشركة] فللبائع أخذه بكل [الثمن، فإن [أداه] من خال ماله، كان مال الشركة لم ينضَ منه شيء رجع على شريكه بحصته، وإن فعل ذلك مع نضوض مال الشركة ففي رجوعه على شريكه وجهان في "الحاوي". لو أخذ بغلةً، والآخر راويةً، وتشاركا مع ثالث ليستقي الماء، ويكون الحاصل

بينهم فهو فاسد؛ لأنها منافع أبدان متميزة. فلو استقى الثالث فلمن يكون الماء وثمنه؟ نقل صاحب التلخيص وآخرون اختلاف قول فيه، ولم يحمد المعظم ذلك، وإنما ارتضوا تفصيلاً ذكره ابن سريج وهو أن الماء إن كان مملوكاً للمستقي أو مباحاً، وقد قصد به نفسه عند أخذه فهو له، وعليه لكل من صاحبيه أجرة مثل ملكه، وإن قصد الشركة فهو على الخلاف في جواز التوكيل في المباحات، وسنذكره، فإن لم نجوزه فالحكم كما لو قصد نفسه، وإن جوزناه وهو الأصح فالماء بينهم. وفي كيفيته وجهان: أحدهما: أنه يقسم بينهم على نسبة أجور أمثال البغل والراوية والاستقاء؛ لأنه حصل بذلك، وهذا ما أورده الشيخ أبو حامد ويحكي عن نصه في البويطي. فعلى هذا لا يرجع أحدهم على الآخر بشيء. وأصحهما عند الشيخ أبي علي ولم يورد القفال وغيره سواه: أنه يقسم بينهم بالسوية. فعلى هذا، للمستقي على كل من صاحبيه أجرة مثله [وثلث عمله]، وكذا يرجع كل من صاحب البغلة والراوية على كل واحد من الآخر والمستقي بثلث أجرة ملكه. وقد حكى القاضي الحسين أن القولين في جواز التوكيل في الاحتطاب [والاحتشاش] من هاهنا خرجا. لو اشترك أربعة لأحدهم رحى، لآخر بيت الرحى، ولآخر بغلة تديره، والرابع يعمل في الرحى على أن الحاصل من أجرة الطحن يكون بينهم فهو فاسد. فلو اتفق طحن شيء قسمت أجرته على أجور أمثال ذلك ولو كان لواحد بذر، ولآخر أرض [فاشتركا مع ثالث على زراعة الأرض فالزرع لصاحب البذر، وعليه أجرة مثل الأرض] والزراعة. قال في "التتمة": فلو أصاب الزرع آفةٌ، ولم يحصل من الغلة شيء فلا شيء؛ لهم؛ لأنهم لم يحصلوا له شيئاً، والله عز وجل أعلم بالصواب.

باب الوكالة

باب الوكالة الوكالة- بفتح الواو، وكسرها -: التفويض، يقال: وكله، أي: فوض إليه، ووكلت أمري إلى فلان، أي: فوضت إليه، واكتفيت به، ومنه: توكلت على الله. وتقع الوكالة على الحفظ أيضاً، ومنه: قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، أي: نعم الحافظ. وأصل الوكيل: الكافي؛ لأنه يكفي مراد الموكِّل؛ قال الله تعالى: {أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً} [الإسراء:2]، أي: كافياً. و [هي] في الشرع [إقامة الوكيل مقام الموكِّل في العمل المأذون فيه. والأصل في مشروعيتها] قبل الإجماع من الكتاب قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً} [الكهف: 19]- أي: أكثر، وقيل: أجل {فَلْيَاتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19]، وهذا توكيل بالشراء. وقوله تعالى حكاية عن يوسف: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} [يوسف: 93] وهذا استنابة على وجه التوكيل. وقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: 72] [وهذا كان توكيلاً] في الحقيقة من جهة يوسف. ومن السنة ما روى أبو داود عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين اراد الخروج إلى خيبر: "إِذَا لَقِيتَ وَكِيلِي، فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقاً، فَإِنِ

ابْتَغَى مِنْكَ [آَيَةً، فَضَعْ] يَدَكَ عَلَى تَرْقُوتِهِ". وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم وكَّل عمرو بن أمية الضمري في قبول نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت بالحبشة، ووكَّل أبا رافع في قبول نكاح ميمونة بنت الحارث، ووكل عروة بن الجعد البارقي في شراء شاة، ووكل حكيم بن حزام في شراء شاة. ومن جهة المعنى: أن بالناس حاجة إليها؛ لأن كل واحد لا يتمكن من التصرف في جميع [ماله] سيما إذا كثر؛ فجوزت للحاجة؛ كما جوز القراض، والمساقاة، ونحوهما. وقد قال القاضي [الحسين]: إنها مندوب إليها؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، ومن البر والتقوى أن يتوكل عن الغير بالقيام بأشغاله. قال الشيخ – رحمه الله -: من جاز تصرفه أي: بنفسه فيما يوكل فيه – يعني: في شيء يقبل النيابة؛ كما سنذكره، وصرح به غيره – جاز توكيله –أي: لغيره – وجازت وكالته –أي: عن غيره فيه –لما ذكرناه من الأدلة؛ فيصح توكيل المطلق التصرف في ماله، والسفيه والعبد في الخلع والطلاق، وكل ما يملكان إنشاءه بملك التصرف فيه، والمفلس [في الطلاق] والخلع والشراء [والبيع] في ذمته؛ على الأصح، والمكاتب في جميع ذلك؛ [لما ذكرناه وقد

استثنى مما ذكره الشيخ مسائل: منها الفاسق]؛ فإنه [يجوز أن] يقبل النكاح لنفسه، ولا يقبله لمستنيبه. وادعى المحاملي والبندنيجي في ذلك نفي الخلاف، والروياني في البحر عند الكلام في العزل: أنه ظاهر المذهب. وحكى القاضي أبو الطيب في وجهين: ومنها: العبد يقبل النكاح لنفسه بإذن سيده، ولا يقبله لغيره بإذن سيده؛ كما قيده [في المهذب] غيره على أحد الوجهين، ومنها: العبد يملك الطلاق بغير إذن سيده، ويجوز أن يوكل فيه من يطلق، ولا يجوز أن يتوكل فيه بغير إذن سيده؛ كما حكاه في البحر، وجوزه في التهذيب جزماً. ومنها: العبد المأذون [يجوز] له التصرف فيما في يده، وهل يجز له أن يوكل فيه؟ فيه خلاف. ومنها: لا يجوز للوصي والوكيل التوكيل يما يجوز أن يتولياه بأنفسهما مع قدرتهما على التصرف [أما الوكيل فبلا خلاف، وأما الوصي فعلى وجه] ومنها: العبد والسفيه إذا أذن لهما في النكاح، فهل يجوز أن يوكّلا فيه؟ فيه وجهان في تعليق القاضي الحسين: والمذكور منهما [في الحاوي] في العبد: الجواز. ومنها: الولي في النكاح الذي لا يجبر إذا أذن له في النكاح – جاز تزويجه، وهل يجوز أن يُوكل فيه من غير إذن؟ فيه وجهان:- وطريق الجواب عن ذلك أن يقال: إن الشيخ اختار [في توكيل الفاسق المشهور، وهو أنه يصح توكيله في القبول، كما حكاه] في المهذب، والماوردي وابن الصباغ عند الكلام في توكيل الكافر في شراء العبد المسلم، وادعى الغزالي القطع به.

وما عداه فمندفع؛ [لأن مراد الشيخ بقوله]: "من جاز تصرفه"، [أي:] بنفسه من غير افتقار فيه إلى الإذن؛ لأنه المتبادر إلى الفهم. فإن قيل: مقتضى كلام الشيخ [مع ما] فسرتموه به: أن الوصي يجوز له التوكيل فيما يقدر على التصرف فيه؛ فإنه لا يتوقف في تصرفه على إذن، وقد أشار الشيخ في باب الوصية إلى أنه لا يجوز. قلت: لي أن أمنع ذلك؛ فإن تصرفات الوصي كلها بالإذن. وإن سلمت ما قلتموه، فهو مؤيد [لما أجيب] به؛ فن الشيخ لما فهم أن كلامه يقتضي جواز توكيل الوصي في كل ما يتصرف فيه [احتاج إلى التنبيه على أنه مستثنى من القاعدة عند الحاجة إليه. على أن الشيخ أبا حامد ومن تابعه، ومنهم الماوردي وكذلك ابن الصباغ جزموا بجواز توكيله في كل ما يتصرف فيه] من غير عجز عنه، وكذلك الإمام [في باب الوصية وقد استثنى الجيلي الإقرار والرجعة على وجه، وكذا الأيمان] وتليق الطلاق، والعتاق، وما ذكره خارج من كلام الشيخ، [غني] عن الاستثناء بقوله: من جاز تصرفه فيما يوكَّل فيه؛ لأن "ما" ها هنا نكرة موصوفة والكاف في يوكل مفتوحة؛ فيكون تقدير الكلام: من صح تصرفه في شيء يقبل النيابة. وما استثناه الجيلي سنذكر أنه لا يجوز التوكيل فيها، [إن شاء الله تعالى].

قال: ومن لا يجوز تصرفه لا يجوز توكيله؛ لأنه إذا لم يملك ذلك لنفسه فأولى ألاّ [يملك ذلك] غيره من جهته. قال: ولا وكالته؛ لان التصرف الخاص بالإنسان أقوى من التصرف في حق الغير، فإذا لم يقدر على الأقوى، فعلى الأضعف من طريق الأولى. قال: إلا الصبي المميز؛ فإنه تصح وكالته في الإذن في دخول الدار، أي: [مثل أن] يفتح الباب، ويأذن [للخارج في الدخول] إليها. قال: وحمل الهدية، مثل: أن يعطي هدية؛ ليحملها إلى بعض الإخوان؛ فيجوز للمأذون له أن يدخل، وللمهدي إليه أن يتصرف في الهدية؛ اعتماداً على قوله؛ لاطِّراد العرف به من غير إنكار. وحكى الإمام في ذلك تفصيلاً، فقال: إن لم يوجد مع ذلك قرينة، ففي الاعتماد على قول الصبي فيهما خلاف مبني على الخلاف في [قبول] روايته إذا لم يكن به غرامة. وإن وجد مع ذلك قرينة؛ نظر: فإن أنتج ذلك العلم سقط أثر قوله؛ وإن لم تنته القرينة إلى العلم، فلأصحابنا طريقان: منهم من خرجه على الخلاف؛ ومنهم من قطع بالاعتماد. قال الرافعي: وإذا جاز ذلك، وكان منه على سبيل التوكيل، فلو أنه وكل غيره فيه، فالقياس تخريجه على الخلاف في أن الوكيل هل [له أن] يوكل؟ فإن جاز، لزم [أن يكون] الصبي أهلاً للتوكيل أيضاً، وهذا ما حكاه الفقهاء.

والذي حكاه الأصوليون منع قبول روايته. وقال الفوراني في "الإبانة" في أول كتاب الصيام: إن الصحيح من المذهب قبولها، وهو مذهب أبي حنيفة. واعلم: أنه [قد] استُثْني مع ما ذكره الشيخ صور: منها: الأعمى، لا يصح بيعه، ولا إجارته، ولا شراؤه؛ على الأصح، ويصح منه التوكيل في ذلك ونحوه. ومنها: إذا قال لزوجته: "إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثاً"؛ فإنه يمتنع عليه إيقاع الطلاق [على رأي]، وله التوكيل في الطلاق، فإذا طلق الوكيل، وقع على الأصح؛ كما حكاه الجيلي. ومنها: العبد لا يصح قبوله النكاح لنفسه بغير إذن سيده، ويصح منه أن يتوكل

فيه لغيره؛ على الأصح في النهاية، وتعليق القاضي الحسين، وبه جزم المتولي. ومنها: السفيه لا يصح [قبوله النكاح] بغير إذن وليه، ويجوز أن يقبله لغيره بغير إذن وليه؛ على الأصح، وبه جزم القاضي الحسين، والمتلوي. ومنها: الكافر لا يجو أن يكون وليًّا في تزويج مسلمة، ولا أن يتزوجها، ويجوز أن يكون وكيلاً في تزويجها من مسلم؛ على ظاهر المذهب، كما حكاه الإمام في كتاب الخلع. وكذا يجوز أن يكون وكيلاً في قبول نكاح مسلمة على رأي؛ [كما] حكاه القاضي الحسين في هذا الباب. ومنها: الكافر لا يصح شراؤه العبد المسلم، على الأصح، وكذا المصحف، ويجوز أن يكون وكيلاً في شرائه لمسلم؛ إذا صرح بالسفارة، [و] على قولٍ [وإن] لم يصرح. ومنها: الكافر لا يقدر على طلاق مسلمة، ويجوز أن يوكل في طلاقها؛ على أحد الوجهين في الحاوي، وبه جزم الإمام في كتاب الخلع. ومنها: المرتد لا يصح تصرفه في ماله؛ على رأي، ويصح أن يوكل فيه؛ كما حكاه ابن الصباغ وغيره. وفي [التتمة]: أنا إذا قلنا: إنه يصير محجوراً عليه، لا يصح. ومنها: المرأة لا يصح منها الإنكاح، [ويجوز أن توكل] من يزوج؛ خلافاً للمزني، كما حكاه المتولي في كتاب النكاح، وحكى القاضي الحسين في جواز ذلك وجهين، وحكى الإمام في ذلك في باب ما على الأولياء تفصيلاً، فقال: إن قال لها: وكلي عن نفسك، لم يصح وإن قال: وكلي عني؛ فوجهان ينبنيان على أن الوكيل وكيل الوكيل، أو وكيل الموكل؟ وفيه وجهان. وما قاله فيه نظر؛ لأنه إذا قال: "وكلي عني"، كان الوكيل وكيلاً عنه بلا

خلاف؛ كما ستعرفه [من بعد]؛ فلا يحسن إجراء الخلاف. ومنها: لو وكل حلالٌ محْرماً في أن يوكل حلالاً بالتزويج؛ ففي صحة التوكيل وجهان في الرافعي، عند الكلام في [إحرام] الولي -: وأصحهما الصحة. ومنها: المرأة لا تقدر على الطلاق عن نفسها، ويصح توكيلها فيه، على أصح الوجهين في التهذيب وغيره. وطريق الجواب عن ذلك: أما في الأولى؛ فلأنه يصح منه البيع والشراء [في الجملة، وصورته: أن يبيع شيئاً في ذمته سلماً بثمن في ذمة المشتري]، ويشتري شيئاً في ذمة غيره بثمن في ذمته، ويشتري نفسه وجهاً واحداً، ومثل ذلك يتصور في الإجارة، ونحوها، وإذا صح منه ذلك، لم يخرج مما ذكرناه. وأما في الثانية؛ فيجوز أن يكون الشيخ اختار [فيها وقوع الطلاق؛ كما هو المختار] عند ابن الصباغ وغيره؛ كما ستعرفه في موضعه. وأما في الثالثة؛ فمذهب العراقيين – كما حكاه ابن الصباغ وغيره هنا: أنه لا يجوز وجهاً واحداً؛ فلم يخرج مما ذكرناه. وأما في الرابعة؛ فلأن الذي جوز للعبد ذلك هو [الذي جوزه] للسفيه، بجامع صحة عبارتهما، وعدم مناقضة ما وقع الحجْر عليهما لأجله. وقد حكينا عن العراقيين المنع في مسألة العبد مع وجود ما ذكرناه، وهو في السفيه أولى؛ لأن الحجر عليه لحق نفسه. وأما في الخامسة؛ فمذهب العراقيين – كما دل عليه كلام الشيخ في كتاب النكاح، وصرح به صاحب البحر هنا، وادعى نفي الخلاف فيه: عدم الصحة؛ فلا يخرج مما ذكرناه، أيضاً. وأما في السادسة؛ فمذهب العراقيين – كما حكيناه عن القاضي أبي الطيب في

باب ما يجوز بيعه -: عدم الجواز، وكذلك جزم به المتولي؛ فلا يخرج مما ذكرناه. وأما في السابعة؛ فإن كان اعتقاد الشيخ فيه الصحة، فنقول: طلاق الكافر يتصور وقوعه على مسلمة؛ بأن تسلم أولاً، ويتخلف، ثم يطلقها في العدة، ثم يسلم قبل انقضائها – فإن طلاقه واقع عليها. وقد أشار إلى هذا التوجيه الإمام في فصل التوكيل من كتابع الخلع؛ فلا يخرج مما ذكرناه. وأما في الباقي؛ فقد حكيت في كل صورة منها خلافاً؛ فلعل الشيخ رأى وجه عدم الصحة فيه أوجه. فرع: المكاتب هل يجوز أن يتوكل عن غيره؟ ينظر [فيه]: إن كان بجعل مثله فنعم، وبدونه بغير إذن [سيده فلا، ومع إذن] سيده قولان؛ كما في تبرعاته. [فرع] آخر: يجوز للمرأة أن تتوكل عن زوجها، ولا يجوز أن تتوكل عن غيره إذا كانت مزوجة إلا بإذنه؛ قاله الماوردي. قال: ويجوز التوكيل في حقوق الآدميين من العقود، أي: عقود المعاوضات: كالبيع، والنكاح، والخلع، ونحوها؛ وغير عقود المعاوضات: كالرهن، والضمان، والهبة، ونحوها. ووجهه في بعضها ما ذكرناه من الكتاب والسنة، وفي الباقي القياس على المنصوص عليه؛ بجامع اشتراكهما في العلة المشار إليها، ووراء ذلك أمور أُخَر، انفرد بها القاضي الحسين في تلعيقه: فمنها: أن التوكيل في الحوالة – مثل: أن يقول: "وكلتك لتحيل صاحب

الحق على فلان [بكذا"] – لا يصح، وهل يصير محيلاً بذلك؟ فيه وجهان، وعن هذا احترز صاحب التهذيب بقوله: ["لا] يجوز التوكيل في الحوالة من الجانبين". ومنها: أن التوكيل بعقد الوصية لا يصح، وهل يصير بالوكالة [له] موصياً، أم لا؟ يحتمل وجهين، وربما أشار إلى مثل ذلك في عقد الضمان [أيضاً. وقال الإمام مشيراً إلى ذلك: الوجهُ القطع بتصحيح التوكيل في عقد الضمان] وعقد الوصية. قال: "والفثسُوخ؛ لأنه إذا جاز في العقود، ففي حلها من طريق الأولى". [كذا] قال في المهذَّب: وقد يستثني من ذلك التوكيل في فسخ نكاح الزائدات على العدد الشرعي عند إسلامهن؛ فإنه غير جائز؛ لتوقفه على شهوة النفس. [أما] إذا قلنا: إن الفرقة تحصل بالاختيار، لا بنفس الإسلام – كما ستقف عليه في موضعه، وهو الذي يقتضيه إيراد البغوي، وابن الصباغ، حيث قالا: إن العدة تكون من حين الاختيار، ولا يحتاج إليه إذا قلنا: إن الفرقة تحصل من حين الإسلام؛ كما اقتضاه كلام الأكثرين؛ حيث اعتبروا ابتداء العدة من حينه [وقد تقدمت حكاية خلاف في جواز التوكيل بالفسخ [في خيار] الرؤية]. ثم جواز التوكيل في الفسوخ مصور بما إذا لم يكن حق الفسخ على الفور، أما إذا كان على الفور. قال الرافعي: فالتأخير فيه بالتوكيل قد يكون تقصيراً؛ وهذا ما ذكره المتولي جزماً، [وقد تقدمت حكاية خلاف في جواز التوكيل في الفسخ بخيار

الرؤية]. قال: والطلاق والعتاق- أي: تنجيزاً – لأنه إذا جاز التوكيل في العقد؛ ففي قطعه أولى. وأما إذا وكله في تعليقهما؛ فالذي جزم به الجمهور هاهنا – ومنهم المتولي: عدم الصحة. وحكى في كتاب الطلاق [في جواز التوكيل في تعليقه] ثلاثة أوجه: هذا أحدها. والثاني: الجواز. والثالث: أنه ينظر إلى الصفة التي أمر بالتعليق بها: فإن كانت توجد لا محالة: كطلوع الشمس، فيجوز؛ لأن مثل هذا التعليق ليس بيمين. وإن كانت قد توجد، وقد لا توجد: [كدخول الدار] فهو يمين؛ فلا يجوز. وهي تجري [في تعليق العتق] أيضاً؛ [إذ لا] فرق بينهما. وألحق القاضي الحسين – هاهنا –بمنع التوكيل في تعليق الطلاق والعتق منع التوكيل بعقد التدبير، وقال: إنه هل يصير بالتوكيل معلقاً للطلاق والعتق ومدبراً؟ فيه وجهان. وبنى المتولي [التدبير] على أنه وصية أو عتق بصفة؟ فعلى الأول يصح

التوكيل فيه، وعلى الثاني لا. قال: - إثبات الحقوق – أي: سواء حضر الموكل ذلك، أو لم يحضر – لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع دعوى حويصة ومحيصة على يهود خيبر: أنهم قتلوا عبدالله بن سهل؛ نيابة عن عبد الرحمن بن سهل أخي المقتول ووليه، وكان حاضراً، ولم ينكر عليهما، ولو كان [ذلك] غير جائز؛ لأنكر حتى يبتدئ الولي بها؛ ألا تراه أنكر على محيصة حين ابتدأ بالكلام [قبل] حويصة، وقال [كبِّر، كبِّر] وليس تقديم الأكبر بواجب. وروي أن علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – وكَّل أخاه عقيالً في مجلس أبي بكر – أو عمر، الشك من الشافعي-وقال: هذا عقيل فما قضى عليه فَعَلَيَّ، وما قضى له فلي. وروي أنه قال: إن للخصومات قُحَماً وإنها لتلحق، وإن الشيطان يحضرها، وإني إن حضرت خفت أن أغضب، [وإن غضبت] خفت ألا أقول حقًّا. فلما ضعف عقيل، وكل عبد الله بن جعفر أخيه في مجلس عثمان، ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك؛ فكان إجماعاً. قال: واستيفائها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعت العمال لقبض الصدقات والجِزَي.

ويدخل في هذا استيفاء الشفعة، ويستثني منه حق القسم؛ كما صرح به صاحب البحر. قال: والإبراء منها؛ لأنه إذا جاز التوكيل في الاستيفاء، ففي الإبراء – مع أنه إسقاط – أولى. ويشترط أني كون ما يبرئ منه معلوماً؛ كما حكاه الماوردي، والبندنيجي، والشيخ في المهذب، وغيرهم. وحكى عن القاضي الحسي أنه قال: إذا عرف الموكل قدر الدين – كفى، ولم يجب إعلام الوكيل به، وهوا لذي أورده في الوجيز. وفي البحر حكاية وجه: أنه يجوز مطلقاً وإن لم يذكر القدر، وصورة ذلك أن يقول: "أبرئه من ديني". وما ذكره الجمهور والقاضي؛ بناء على الصحيح في أن الإبراء من المجهول لا يصح: [أما] إذا قلنا: إنه يصح؛ فيحسن أن نجزم بالصحة، وعليه يتفرع ما إذا قال: "أبرئ فلاناً عن شيء من ديني، أو عما شئت منه"، فيصح إبراؤه بشرط أن يبقي منه شيئاً.

قال: وفي الإقرار وجهان: وجه الجواز: أنه قول يلزم به الحق؛ فجاز التوكيل فيه؛ كالشراء، وهذا ظاهر المذهب في تعليق البندنيجي، [والمهذب]، والأصح في التهذيب. ووجه المنع: أنه توكيل في إخبار عن حق، فلم يصح؛ كالتوكيل في الشهادة به؛ وهذا قول ابن سريج، ويحكي عن الأكثرين، واختاره القفال، والإمام، وقال القاضي الحسين: لا خلاف فيه على مذهبنا. التفريع: إن قلنا بالأول، فلا يجعل الموكل مقرًّا ما لم يقر الوكيل، ولا يشترط أن يكون ما يوكل بأن يقر به معلوماً، بل يجوز أن يقول: "وكلتك؛ لتقر عني بألف مثلاً، أو بمال". وحكى صاحب العدة عن رواية الشيخ أبي علي: أنه يشترط أن يكون معلوماً، وهو ما حكاه الماوردي، والغزالي، [والشيخ في المهذب] فإذا لم يذكر القدر والصفة؛ لم يصح. فإن قلنا: لا يشترط، فلو قال: "أقر عني"، كان كما لو قال: أقر عني بشيء في وجه حكاه الرافعي عن الشيخ أبي حامد، والإمام، والطبري في العدة عن حكاية الشيخ أبي علي. والمذهب – وهو الذي جزم به البندنيجي: أن الوكيل إذا قال: أقررت عنه، لم يكن إقراراً بشيء؛ كقول الموكل: "أقررت".

قلت: وهذا التصوير من البندنيجي يقتضي أن كيفية الإقرار إذا عين له شيئاً يقر به – أن يقول: ["قررت عنه بكذا". وقد صور بعضهم إقرار الوكيل عن موكله بأن يقول]: "جعلت موكلي مقرًّا بكذا". وعلى الثاني- وهو أن التوكيل في الإقرار لا يصح – فهل [يجعل] الموكل مقرًّا به؟ فيه وجهان: أحدهما -: وبه قال ابن سريج، وهو الأصح في التهذيب -: لا؛ كما لا يكون الأمر بالأمر أمراً. والثاني: نعم، وقد نسبه المتولي إلى رواية ابن سريج أيضا، ً وصاحب [التهذيب] قال: إنه من تخريج ابن القاص؛ لأن توكيله دليل على ثبوت الحق عليه، واختاره الإمام؛ هذه طريقة الجمهور. وفي الحاوي وحلية الشاشي: أنا إذا صححنا التوكيل، فهل نجعله مقرًّا به أم لابد من إقرار الوكيل؟ فيه وجهان: قال: وفي تملك المباحات: كالصيد، والحشيش، والماء – قولان: وجه المنع، وهو الأصح في الجيلي: أن سبب الملك وجد منه، وهو وضع اليد؛ فلا تنتقل عنه بالنية؛ كما في الغنيمة. ووجه الجواز – وهو الأصح عند الجمهور، والمختار في المرشد -: أنه تمليك مال بسبب لا يتعين عليه، فجاز أن يوكل فيه؛ كالابتياع والاتهاب. واحترزنا بقولنا: بسبب لا يتعين عليه عن الجهاد. والخلاف المذكور يجري في [التوكيل في] إحياء الموات؛ كما صرح به في المهذب، وقد حكينا عن القاضي الحسين في آخر باب الشركة: أنه مخرج من القولين في مسألة الاشتراك في البغلة، والراوية، والاستقاء، وكذلك قاله القاضي أبو الطيب.

فرع: لو استأجر شخصاً؛ ليحتطب له أو يحتش مدة معلومة، أو يحيى له أرضاً ميتة – فالإجابة صحيحة؛ كما صرح به القاضي الحسين في أواخر الشركة، وادعى الإمام الجزم بذلك. وأجاب القاضي ابن كج [وابن سريج] بمنع الصحة. وحكى البغوي والمتولي في باب الإجارة في [صحة] ذلك وجهين. وعلى الأول لو كانت الإجارة على استقاء الماء – فسدت؛ للجمع بينها وبين غيرها من العقود على عوض واحد، فالماء للمستأجر؛ لأن منافعه مضمونة عليه بأجرة المثل؛ وهذا [إذا] لم يقصد المستقي نفسه، أما إذا [قصد نفسه] في هذه الحالة، فعن الشيخ أبي علي أنه يكون للمستأجر – أيضاً – وتوقف الإمام فيه؛ لأن منفعته غير مستحقة للمستأجر، وقد قصد نفسه، فليكن الحاصل له. [فرع] آخر: لو أمره بالالتقاط، فالتقط، كان المُلتَقِط أحق به؛ قاله في البحر، ولم يحك فيه الخلاف المذكور [في التوكيل] في الاحتطاب. وقال صاحب البيان: يحتمل أن يتخرج [على الوجهين] [فيه]. قلت: -وهذا يظهر إذا غَلَّبنا على اللقطة شائبة الاكتساب. قال: ولا يجوز التوكيل في الظاهر والأيمان [والإيلاء]. أما في الأيمان؛ فلأن التوكيل لا يحصِّل مقصودها، وهو تعظيم الرب – سبحانه وتعالى – فأشبه العبادات، والشهادة. وأما في الظهار؛ فلأنه منكر من القول وزورٌ، وفي ذلك إعانة عليه مع أنه فيه معنى اليمين؛ [لأنه [قد يفضي إلى] وجوب الكفارة. والإيلاء واللعان والقسامة من جملة الأيمان،] فلا يجوز التوكيل فيها، وقد ألحق بها النذور.

وحكى القاضي الحسين في جواز التوكيل في الظهار خلافاً، مبنيًّا على أن المغلب فيه شائبة الطلاق، أو اليمين؟ فإن غلب الأول؛ جاز، وهو ما قال في التتمة: نه المذهب، وإن غلب الثاني؛ فلا، كما هو الظاهر عند المعظم، ونسبه المتولي إلى المزني. قال: وفي الرجعة وجهان: وجه الجواز - وهو الأصح، وبه جزم الماوردي، والإمام [هاهنا] القياس على النكاح؛ فإن كل واحد منهما القصد به استباحة المحرم. ووجه المنع: [القياس] على التوكيل في اختيار [العدد الذي جوزه الشرع عند إسلام الزوج على أكثر منه، وعلى التوكيل في اختيار] المطلقة من الزوجتين طلاقاً مبهماً والمعتقة من الأمتين كذلك؛ لتوقف ذلك على شهوات النفوس. وفي بحر المذهب حكاية قول في جواز التوكيل في اختيار الزوجات عند الإسلام؛ إلحاقاً له بالرجعة. وجزم المتولي بعدم الإلحاق عند إطلاق التوكيل، وبالإلحاق إذا أشار إلى أربعة منهن، وقال: [وكلتك في اختيارهن في النكاح. وكذلك قال فيما إذا طلق إحدى المرأتين لا بعينها، ثم أشار إلى واحدة، وقال:] [وكلتك في] اختيارها للنكاح، أو للطلاق. قال: وأما حقوق الله تعالى، فما كان منها عبادة، لا يجوز التوكيل فيها؛ لأن المطلوب منها ابتلاء الشخص وامتحانه بإتعابه نفسه، وذلك لا يحصل بالتوكيل. قال: إلا في الزكاة - أي: في تريقها - والحج - أي: عند العجز - لما ذكرناه في موضعه.

ويندرج في الحج ركعتا الطواف. وفي الجيلي حكاية وجه في الزكاة: أنه لا يجوز التوكيل فيها؛ كالصلاة، وفي الصلاة: أنه يجوز فيها [كركعتي] الطواف. وعلى الأول- وهو الصحيح – تلتحق بالزكاة الكفارات، وتفرقة النذور، وذبح الأضاحي، والهدايا، وبالحج الصوم على القول القديم في حق الميت. والتوكيل في إزالة النجاسة جائز، وعنها احترز الشيخ بقوله: "عبادة"؛ لأنها من باب التروك؛ ولهذا لا يشترط فيها النية. وغسل الميت قال في البحر: لا يجوز التوكيل فيه؛ لأنه من فروض الكفايات. قلت: ويحتمل أن يكون ما قاله محمولاً على ما إذا لم يكن ثم من يجب عليه بخصوصه. قال: وما كان منها حدًّا – أي: كحد الزنا، والشرب، والسرقة – يجوز التوكيل في استيفائه – أي: في حضرة الإمام، وغيبته وكذا في حضرة السيد وغيبته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت، فارجمها". قال: دون إثباته؛ لأنه يحتاط لإسقاطه، فالتوكيل في إثباته مناقض للمقصود فيه. ولأن الوكالة لو جازت في ذلك؛ لكانت في العدوى، والدعوى فيه غير مسموعة؛ كما صرح به في البحر. قال: وما جاز التوكيل فيه، جاز مع حضور الموكل ومع غيبته:

أما في الأموال؛ فلما ذكرناه من أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث العمال؛ لقبض الصدقة والجزية، وقد اتفق العلماء على ذلك. وأما في الباقي؛ فلأنه حق يجوز التوكيل فيه بحضرة الموكل، فجاز في غيبته؛ كقبض الديون. قال: وقيل: لا يجوز في استيفاء القصاص، وحد القذف مع غيبة الموكل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ادرءوا الحدود بالشبهات"، وفي استيفاء هذا الحد شبهة؛ لأنه لا يدري الوكيل: [هل] عفا موكله أم لا؟ فلم يجز له استيفاؤه. ولأن الحاضر قد يرق فيعفو، والغائب بخلافه؛ فاشترط حضوره؛ احتياطاً للدم؛ وهذا ما نص عليه الشافعي هاهنا؛ لأنه قال: "لم أحد، ولم اقتص حتى يحضر المحدود له، [أو المقتص] له" ولأجل ذلك قال الطبري في المنهاج – كما حكاه في البحر عنه: إنه المذهب الصحيح. وحكى الرافعي عن الروياني: أنه قال: هذا الذي يفتي به. قال: وقيل: يجوز – أي: قولاً واحداً – لما ذكرناه أولاً؛ وهذا قول أبي إسحاق وغيره من أصحابنا، وتمسكوا فيه بظاهر قول الشافعي في باب الشهادة على الجناية، وبقوله في آخر الديات: [إذا وكله في تثبيت [حد لم يكن]، له

أن يقتص حتى يحضر المقتص له أو وكيله). وحملوا ما روي [عنه هنا] على الاحتياط. وقد اختار هذه الطريقة- على ما حكاه في البحر –القاضي أبو الطيب الطبري، والقاضي أبو حامد، وأضاف ابن الصباغ إلى الطبري الشيخ أبا حامد. وقد اعترض النواوي – رحمه الله – على الشيخ في إعادته هذا القول من حيث إنه داخل فيما ذكره أولاً. وقد يجاب بأن المراد [به] بيان أن الأصحاب نصوا على جوازه، لا أنه مأخوذ من عموم قاعدة قرروها. قال: وقيل: فيه قولان، ووجههما ما ذكرناه، واصحهما عند الماوردي، والبغوي: [الجواز، وقد اختار هذه الطريقة صاحب الإفصاح، وادعى الرافعي: أنها المشهورة، والماوردي]: أنها الذي صار إليها الأكثرون. وقرب القاضي الحسين القولين من القولين في جواز الشهادة على الشهادة فيهام، وكذلك في كتاب القاضي إلى القاضي. ومحل الاتفاق على صحة التوكيل على هذه الطريقة إذا صدر بعد ثبوت القصاص، فلو صدر قبل ثبوته؛ في صحته وجهان: أحدهما – وهو قول أبي إسحاق – لا يصح؛ كذا قاله الماوردي في كتاب القسامة. التفريع: إن قلنا: بعدم الجواز، فوكل فهي، واستوفاه الوكيل – وقع الموقع، لكنه لم يستوفه بوكالة صحيحة. وإن قلنا بالجواز، ففعله الوكيل بعد العفو، وقبل العلم به، فهل يجب على الوكيل الدية؟

[قال الماوردي في كتاب الجنايات: إن كانت مسافة الوكيل أبعد من زمان العفو، مثل: أن يكون الوكيل على مسافة عشرة أيام، وعفو الموكل قبل القصاص بخمسة أيام – فعفوه باطل؛ كما لو رمى سلاحه على المقتص منه، ثم عفا عنه قبل وصول السلاح إليه؛ [فإنه لا يجب] على الوكيل شيء. وإن كانت مسافة الوكيل أقصر من زمان العفو، مثل: أن يكون الوكيل على مسافة خمسة أيام، وعفو الموكل قبل القصاص بخمسة أيام؛ ففي وجوب الدية على الوكيل] قولان، وقد بناهما البندنيجي وابن الصباغ على انعزال الوكيل قبل العلم. قلت: وفي البناء نظر؛ من حيث إن الوكيل ينعزل ضمناً وإن لم يبلغه الخبر وجهاً واحداً؛ كما إذا باع الموكل ما وكل فيه، أو أزال ملكه عنه؛ وهذا منه؛ لأن العزل وقع ضمناً بالعفو عن الحق. وقد يجاب عن ذلك بأن الخلاف المذكور راجع إلى صحة العفو، وعدم صحته قبل العلم؛ كما صرح به المحاملي في المجموع، فمن لم يصحح العفو قبل العلم؛ لم يوجب الدية، ومن صححه أوجبها، [والله أعلم]. ثم إذا لم تجب الدية، [فهل تجب الكفارة؟ فيه وجهان. وإن أوجبنا الدية، وجبت الكفارة. لكن الدية] هل تجب في ما له دية عمد، أو تجب على عاقلته دية عمد الخطأ؟ فيه وجهان: أولهما: اختيار الشيخ أبي إسحاق. والثاني: اختيار ابن أبي هريرة فإن أوجبناها عليه، فهل يرجع [بها] على الموكل؟ [حكى الجيلي عن ابن الصباغ فيه وجهين. وعن البغوي القطع بعدم الرجوع.

وإن أوجبناها [على العاقلة]، فلا رجوع لهم على الموكل]. عند ابن الصباغ، والبغوي. وفيه وجه حكاه الجيلي، أيضاً. ولا نزاع في انه لا يجب عليه القصاص. وفي الجيلي حكاية وجه [فيه]. ثم اعلم أن [من] المستثنيات – أيضاً – توكيل المرتهن في بيع الرهن؛ فإنه لا يصح البيع منه في غيبة الموكل، ويصح [مع] حضوره؛ على الأصح عند العراقيين؛ كما ذكرناه في باب الرهن، ولم يستثنه الشيخ. قال: ولا تصح الوكالة إلا بالإيجاب والقبول؛ لأنها إثبات حق السلطنة والتصرف للوكيل؛ فافتقرت إلى ذلك؛ كسائر التمليكات. وصيغة الإيجاب أن يقول: "وكلتك"، أو: "أنت وكيلي"، أو: [قد] جعلتك لي وكيلاً في كذا، ويقوم مقام ذلك قوله: "فوضت إليك"، "وأنبتك فيه"، و"أقمتك مقامي فيه"، وكذا قوله: "بعه"، و"وهبه لزيد"، [وما] أشبه ذلك؛ للدلالة على المقصود. قال: ويجوز القبول فيه بالقول؛ كما في سائر العقود، وصورته أن يقول: "قبلت الوكالة"، ويقوم مقامه قوله: "توكلت". قال: والفعل – أي: الموكل فيه – لأن الوكالة أمر للوكيل، وقبول الأمر امتثاله، وذلك يحصل بالتصرف؛ كما قلنا في الوديعة والعارية، [أيضاً]، ويخالف هذا سائر العقود من الهبة، والوصية، غيرهما؛ لأنها تتضمن التمليك؛ فافتقرت إلى القبول بالقول؛ كالبيع. وقد صار إلى هذا أيضاً صاحب التهذيب، وكثيرون. وحكى – أيضاً – عن القفال، لكنه عبر عنه بأنه [لايحتاج] إلى القبول؛

لأن الاشتغال بالتصرف قبول منه له. قال الروياني: والأولى العبارة الأولى. وحكى الإمام وجهاً مع ما حكى عن القفال: أنه لابد من القبول باللفظ. والذي حكاه القاضي الحسين: أنا لا نشترط القبول باللفظ إذا كان لفظ الموكل صيغة أمر، كقوله: "بع"، ونحوه، وأجرى الخلاف فيما إذا كان على صيغة العقود؛ كقوله: "وكلتك"، و"فوضت إليك". وعلى ذلك جرى المتولي، لكنه جعل المذهب المشهور حيث أجرى الخلاف: أنه لا يشترط القبول - يعني: باللفظ - كما هو عند غيره، وأن من صار إلى اشتراطه هو الذي [يراعي في العقود ألفاظها لا معانيها. والذي ذكره القاضي أن اشتراط القبول هو الذي يدل عليه] ظاهر النص، وقد استحسن الإمام هذه الطريقة هاهنا، وقال في أول كتاب الوديعة: الأصح: أنه لا يشترط القبول في الوكالة، على أي وجه فرضت. وألحق المتولي بقوله مع قوله: أذنت لك في كذا. قال: ويجوز على الفور؛ كسائر العقود وعلى التراخي؛ لان الوكالة تصح بالمعلوم والمجهول: كالخصومات، وبالموجود وبالمعدوم: كاستيفاء ما وجب له وما سيجب؛ فجاز تراخي القبول فيها؛ كالوصية. هذه علة الشيخ أبي حامد، وقد يمنع جواز التوكيل فيها بالمجهول - كما صوره [في المخاصمة]- فإن لأصحابنا وجهاً في عدم صحة التوكيل بها. كذا والذي وجهه به القاضي أبو الطيب: أن التوكيل إذن في التصرف، والإذن قائم ما لم يرجع الآذن، وإذا كان الإذن باقياً، لم يكن فرق بين أن يقبل في الحال، أو يؤخر القبول إلى وقت آخر. وحكى القاضي الحسين وجهين فيما إذا اشترطنا القبول بالنطق: أنه هل يكتفي

به في [غير] ذلك المجلس؟ وقال: الأصح [عند]: أنه يختص [بذلك في] المجلس. وقال في التتمة: لا خلاف أنه لا يجب القبول كسائر العقود، والأمر فيه موسع. وحكى الشيخ والماوردي عن القاضي أبي حامد: أنه اعتبر وقوع القبول على الفور؛ كما في البيع، وخطأه الماوردي. قال الرافعي: وهذا إذا اشترطنا النطق، أما إذا لم نشترطه، فلا يشترط التعجيل بحال، ولو خرج على أن الأمر [هل] يقتضي الفور؟ لما بعد. وقد حكى الغزالي ما ذكره الشيخ عن العراقيين، قوال: إنه عين إسقاط القبول، وي إطلاقه نظر؛ من حيث إن القبول يطلق بمعنيين: أحدهما: اللفظ الدال على الرضا على النحو المعتبر في المعاملات. والثاني: الرضا، والرغبة فيما فوض إليه، ويقتضيه الرد، فإن أراد المعنى الأول فصحيح، لكن المعتبر عند العراقيين في الوكالات القبول بالمعنى الثاني؛ حتى لو رد، وقال: "لا أقبل، ولا أفعل"، بطلت، ولو ندم، وأراد أن يفعل، احتاج إلى تجديد الإذن. ثم ما ذكرناه من عدم اشتراط الفورية مفروض فيما إذا لم يعين زمان العمل الذي وكل فيه. فإن تعين، وخيف فواته، كان القبول فيها على الفور. وكذلك لو عرضها الحاكم عليه عند ثبوتها عنده صار قبولها على الفور؛ صرح به الماوردي، وتبعه الروياني.

[فرعان]: على القول [بأنا لا نشترط] القبول؛ كما حكاه الإمام: أحدهما: لو وكله، والوكيل لا يشعر [به]، هل تثبت وكالته؟ قال في النهاية: فيها وجهان، يقربان من القولين في أن العزل هل ينفذ قبل بلوغ الخبر، فالوكالة أولى بألاَّ تثبت، فن لم نثبتها، فهل يحكم بنفوذها حالة بلوغ الخبر؛ كالعزل أم لا؟ فيه وجهان عن رواية الشيخ أبي محمد. إن لم نحكم به، فقد اشترطنا اقتران علم الوكيل بالوكالة. والأظهر: ثبوت الوكالة وإن لم يعلم، وعلى هذا فلو تصرف الوكيل، وهو غير عالم، ثم تبين الحال، خرج على الخلاف فيما إذا باع مال أبيه على [ظن] أنه حي، فإذا هو ميت. الثاني: لو كتب إليه بالوكالة، وأرسل إليه، كفى. وعلى القول "باشتراطه بالنطق"، فالحكم كما لو كتب بالبيع، والذي أجاب به الماوردي، والبندنيجي، والروياني الجواز، وادعى القاضي أبو الطيب في مسألة بلوغ الخبر إجماع المسلمين على الصحة. [فرع:] تعيين الوكيل شرط في الوكالة؛ حتى لو قال: أذنت لكل من أراد بيع عبدي [هذا]، لم يصح التوكيل؛ صرح به الإمام في الجعالة، ونسبه الغزالي في كتاب الحج إلى القفال. قال: ولا يجوز عقد الوكالة على شرط مستقبل، أي: مثل إن قال: "إذا جاء رأس الشهر، فقد وكلتك في بيع عبدي"؛ كما صوره في التهذيب، أو:"إذا تزوجت فلانة، فقد وكلتك في تطليقها"، أو: إذا اشتريت عبداً، فقد وكلتك في

بيعه [أو عتقه]؛ كما صوره ابن أبي الدم. [و] وجهه: أنه عقد يملك به التصرف في حالة الحياة، لم يبن على التغليب والسراية، وتؤثر فيه الجهالة؛ فلم يجز تعليقه على شرط؛ كالبيع، والإجارة، والقراض. وحكى الشيخ في المهذب [وغيره] وجهاً: أنه يجوز كما في الوصية، والإمارة؛ وكذا حكاه ابن أبي الدم في الصورتين اللتين ذكرهما. وقال الإمام في آخر باب الطلاق قبل النكاح فيما إذا قال الإنسان: "إن تزوجت فلانة؛ فقد وكلتك في طلاقها": إن الوجه القطع ببطلان الوكالة؛ فإنه تصرف في الطلاق قبل الملك. وأيضاً: فإنا [إذا] لم نجوز تعليق الطلاق قبل النكاح مع أنه يقبل التعليق، فكيف تصح الوكالة مع الاختلاف في قبولها [التعليق]. وقال هاهنا: أحسن الطرق عندي تخريج ذلك على الخلاف في [أن] القبول هل يشترط؟ فإن قلنا بعدم اشتراطه، لم يمتنع تعليق الوكالة، وإن شرطناه [فيبعد تصحيح التعليق في الوكالة. وحكى عن شيخه: أنا إن لم نشترط القبول، جاز التعليق، وإن اشترطناه]، ففي جواز التعليق وجهان. وإن هذا بعيد، لم نره إلا له، ومقتضى ما قاله هو وشيخه: أن يكون الصحيح صحة التعليق؛ فإن الصحيح عدم اشتراط القبول، والصحيح عند العراقيين ما ذكره الشيخ، [وأجابوا] عن الوصية بأنها تجوز بالمجهول، وما جاز بالمجهول جاز تعليقه؛ لأنهما متقاربان.

وعن الإمارة بأنها تجوز مع الجهالة – أيضاً – فإن عمر – رضي الله عنه – جعلها شورى. وقد تحصل من مجموع ذلك في كيفية [بناء] الخلاف – ثلاث طرق: أحدها: وهي طريقة العراقيين: أن القبول بالقول لا يشترط، وفي جواز التعليق وجهان. والثانية والثالثة طريقة الإمام ووالده. [فرع: قال في البحر في كتاب القراض: إذا قال: "وكلتك في بيع [هذه السلعة]، وصرف ثمنها في سلعة أخرى" – صح التوكيل بالبيع، وفي التوكيل بالشراء وجهان]. قال: فإن عقد على شرط، ووجد الشرط، فتصرف الوكيل، نفذ تصرفه – أي: وإن فرعنا على المذهب – لوجود الإذن الخالي عن المفسد؛ كما لو وكله في البيع، وشرط له جعلاً فاسداً؛ فإن الوكالة فاسدة، والبيع صحيح بصحة الإذن، لكن التصرف وإن صح فلا يسوغ للوكيل الإقدام عليه؛ لفساد الوكالة، ويستحق أجرة المثل [إذا تصرف]، وقد شرط له جعلاً. واستبعد ابن الصباغ عدم جواز التصرف مع القول [بصحة الإذن]، وقال: لو لم يستبح التصرف، لم يصح منه فلما صح منه تبين أنه يستبيحه بالإذن وإن فائدة الفساد: أن المسمى لا يثبت، وتجب أجرة المثل. وعكس الشيخ أبو محمد ذلك، وقال: هو لا يستبيح التصرف؛ فلا ينفذ تصرفه، وقطع به. قال الإمام: وكشف الغطاء عن ذلك: أن صيغة الإذن الصادر من الموكل إن

كانت [أمراً وجرينا] على أنه لا يقتضي القبول، فيجب القطع بأنها تقبل التعليق. [وإن كانت توكيلاً، وقضينا بأنها تفتقر إلى قبول، فالتعليق يسد بخروج القبول عن الضبط؛ فكأن لا قبول، وإذا فسد القبول، لم] يستفد الوكيل التصرف. وقد حكى المتولي ما صار إليه الشيخ أبو محمد وجهاً. [قال:] وإن وكله في الحال، وعلق التصرف على شرط – جاز. قال في المهذب: لأنه لم يعلق العقد على شرط، وإنما علق التصرف فيه، فلم يمنع صحة العقد، وصورة [ذلك أن يقول: وكلتك "أن تبيع مالي، أو تطلق زوجتي بعد شهر". وصور الإمام] ذلك بأن يقول: وكلتك ببيع عبدي، ولا تبعه إلا بعد شهر. والرافعي بأن يقول: "وكلتك ببيع عبدي الآن، ولا تبعه إلا بعد شهر". وادعى اتفاق الأصحاب على صحة ذلك. وقال الإمام: في صحة التوكيل نظر؛ فإنه لا معنى للتوكيل مع امتناع التصرف، والمقصود من الألفاظ معانيها، وحكى أن في كلام العراقيين رمزاً إلى أنه لا فرق بين تعليق الوكالة، وبين تعليق التصرف بالوكالة، وأنه حسن. وقد ألحق البغوي بما ذكرناه في الصحة ما إذا قال: وكلتك [أن تطلق] كل امرأة أتزوجها، وتعتق كل عبد أشتريه، ثم نكح، وملك. والمتولي عند الكلام في اشتراط الفورية في القبول [ألحق به] ما إذا قال: وكلتك ببيع ما يثمر نخلي وتنتج مواشيَّ؛ نظراً إلى تنجيز الوكالة في الحال. وما قالاه قد حكاه الإمام وجهاً عن القاضي في [آخر باب] الطلاق قبل

النكاح فيما إذا قال: وكلتك في بيع [عبد] فلان إذا ملكته، أو: في طلاق فلانة إذا نكحتها، ثم ملك، ونكح. وحكى عنه وجهاً آخر: أنه لا يصح [ثم قال: والوجه عندي القطع بالفساد؛ فإن الوكالة لا تصح]، لتنجيزها، والتصرف غير ممكن؛ فلا فرق في المعنى بين هذه الصورة وبين ما إذا قال: "إن تزوجت فلانة، فقد وكلتك في طلاقاه". فروع: [أحدها:] لو أَقَتَ الوكالة، فقال:"وكلتك إلى شهر، صح؛ كما حكاه الرافعي عن العبادي في الرقم، والقاضي الحسين في كتاب: القراض. [الثاني:] تعليق العزل على شرط يجز؛ على الأصح؛ [كما] في النهاية، وفيه وجه. وقد أشار القاضي الحسين والإمام إلى أن الخلاف يترتب على تعليق التوكيل، وأولى بالجواز؛ فإن الطريقة الصحيحة بناء تعليق التوكيل على اشتراط القبول فيها، وهو غير مشترط في العزل. [الثالث:] تعليق الإباحة على الشرط، مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر، فقد أبحتك كذا، هل يجوز؟ فيه وجهان في آخر كتاب الوكالة [في البحر]. فرع: إذا جوزنا تعليق الوكالة، فقال الموكل: وكلتك في كذا، وكلما عزلتك، فأنت وكيلي –صحت الوكالة في الحال؛ على الأصح. وفي تعليق القاضي الحسين وغيره حكاية وجه: أنها لا تصح؛ لاشتمالها على شرط التأبيد، وهو إلزام العقد الجائز. فإن قلنا بالأول، أو كان قوله: مهما عزلتك، فأنت وكيلي منفصلاً عن الوكالة – إذا عزله، وعلم الوكيل، عاد وكيلاً، وهكذا الحكم فيما إذا لم يعلم،

وقلنا: لا يشترط بلوغ الخبر في العزل، أما إذا اشترطناه؛ فلا يكون [قد] عزل، ثم عاد، بل هو مستمر على الوكالة. وقد حكى الإمام فيما إذا قلنا: إنه ينعزل وإن لم يشعر به –تردداً عن الأصحاب: [و] أن منهم من الحق عوده وكيلاً بالتوكيل، حيث لا يشعر الوكيل، ول يشترط القبول، وقد ذكرناه. ومنهم من قال بنفوذ التوكيل هاهنا؛ فإن صورة المسألة تؤمن الوكيل من اطراد العزل عليه. ثم قال: ولا شك أنا نضطر إلى عود العزل في وقت وإن لطف، ثم نفرض على الترتيب عود الوكالة، فلو صادف تصرف الوكيل ذلك الوقت اللطيف، فهل ينفذ؟ فيه وجهان: فإن لم ننفذه، [و] وقع الاختلاف فيه، فالأصل استمرار الوكالة، والحكم بنفوذ التصرف. قال الرافعي: وهذا الفرض والتصوير إنما [يتضح] لو وقع بينهما ترتيب زماني، والترتيب في مثل هذا لا يكون إلا عقليًّا. وطريق الموكل في عزل الوكيل أن يوكل غيره، فيعزله، فإن كان قد قال: "كلما عزلتك، أو عزلك غيري، فأنت وكيلي" – فطريقه [فيه] كما قال الشيخ أبو محمد: أن يقول: "كلما عدت وكيلي، فأنت معزول" فيلتقي عود الغزل وعود الوكالة، والعزل أغلب، وإلى ذلك أشار الغزالي بقوله: "فيتقاوم العزل والوكالة والأصل منع التصرف". قال: وإن وكله في خصومة، أو [في] استيفاء حق – لم يفتقر

[إلى] رضا الموكل عليه؛ لأن التوكيل في ذلك رضا الخصم جائز اتفاقاً، وما جاز التوكيل فيه برضا الخصم، جاز التوكيل فيه بدونه، كالتوكيل في قبض الزكاة، والجزية. ولأنه توكيل لا يعتبر فيه رضا الخصم مع غيبة الموكل، فلم يعتبر فيه [مع] حضوره؛ كتوكيل المريض [والمخدرة، وقد وافق الخصم]- وهو أبو حنيفة - على جواز ذلك. فرع: لو وكله في مخاصمة كل خصم يحدث له في ففي صحة هذه الوكالة وجهان: أحدهما - وهو [قول] البصريين - أنها باطلة؛ لما يتضمنها من الجهالة بالموكل فيه، وأنها على غير شيء في الحال. والثاني - وهو قول البغداديين - أنها صحيحة؛ لأنها من العقود الجائزة؛ فلا تبطل بالجهالة. فعلى هذا هل يحتاج إلى بيان ما فيه الخصومة من عين، أو دين، أو أرش جناية، أو بدل مال؟ فيه وجهان حكاهما العبادي، كالوجهين في بيان من يخاصم معه. قال: وإن وكَّله في حق، لم يجز للوكيل أن يجعل ذلك إلى غيره؛ لأنه لم يأذن له في التوكيل، ولا تضمنه إذنه عرفاً؛ فلم يجز له، والأصل في التصرف في مال الغير الحظر. ولأنه إنما رضي بأمانته؛ فلا يجوز أن يأتمن غيره؛ [كما في الوديعة]. قال: إلا أن يأذن له فيه؛ لزوال المانع، أو كان ذلك مما لا يتولى مثله بنفسه، أي: مثل أن يوكل في البيع والشراء من لا يتولى التصرف في الأسواق، أو من هو جاهل بما وكله فيه.

ووجهه: أن الموكل إذا علم أن الوكيل لا يحصل المقصود بنفسه في العادة، انصرف الإذن فيه إلى ما جرت به العادة من الاستنابة. قال: أو لا يتمكن منه؛ لكثرته؛ لما ذكرناه، وقاسه في [بحر] المذهب على عامل القراض. والكثرة: بفتح الكاف، وحكى كسرها. وحكى المتولي وغيره وجهاً: أنه لا يجوز له التوكيل في هذه الحالة. وحكى الروياني عن بعض المراوزة: انه صححه، وغلطه فيه، وقد حكى هذا الوجه - أيضاً -فيما إذا كان الوكيل لا يتولى مثل الموكل فيه بنفسه. وعلى الصحيح هل يملك التوكيل في جميع ما وكل فيه، أو فيما عجز عن التصرف فيه؟ فيه وجهان: أصحهما في الرافعي: الثاني. ويجيء من مجموع ما ذكرناه ثلاث طرق: إحداها: الجواز يما لا يقدر على التصرف فيه، وفيما يقدر وجهان. [والثانية: لا يجوز فيما يقدر، وفيما [لا يقدر] عليه وجهان]. والثالثة: إجراء الخلاف في الحالتين. فرع: [قال ابن سريج:] إذا وكله في تصرف سماه له، [ثم] قال: [قد] أذنت لك أن تصنع ما شئت، فهل يكون ذلك إذناً في التوكيل؟ فيه قولان: في مجموع المحاملي، ووجهان في الشامل وغيره. قال في البحر: وهو الأصح، والمختار في المرشد منهما المنع. فرع: إذا وكل بالإذن، فالوكيل الثاني وكيل عمن؟ ينظر: فإن قال: "وكِّلْ عني"، فهو وكيل عن الموكِّل، لا ينعزل بانعزال الواسطة، ولا عزله. وإن قال: "عن نسك"، فالذي حكاه العراقيون عن القاضي أبي الطيب،

والماوردي، والشيخ في المهذب، وغيرهم: أنه وكيل عن الوكيل، فله عزله، وينعزل بانعزاله، وللموكل-أيضاً – عزله. وحكى القاضي الحسين: أنه ينعزل بموته، وجنونه، وهل ينزل بعزله؟ فيه وجهان: أحدهما: [لا]؛ لأنه وكيل في التوكيل دون العزل، والعزل ضده: كالوكيل في البيع، لا يملك الإقالة. وأن طريق الموكل الأول [في عزل الثاني أني عزل الأول،] فلو عزل الثاني، فهل ينعزل؟ يحتمل وجهين. وحكى الغزالي مع ما حكيناه عن العراقيين وجهاً آخر: أنه وكيل عن الموكل؛ فعلى هذا يكون حكمه ما ذكرناه أولاً. وحكى الروياني عنهم [أنه] الأصح، ظاهر مذهب الشافعي. وفي الوسيط على هذا: إذا مات الواسطة هل ينعزل الأخير؟ فيه وجهان: فإن قال: "وكل"، وأطلق، فهل [يكون] ذلك كما لو قال: "وكل عني" أو "عن نفسك"؟ فيه وجهان في الحاوي وغيره، وأصحهما [في الرافعي] الأول، وهو الذي حكاه في البحر. فرع: حيث جوزنا التوكيل بغير الإذن، فينبغي ان يوكل عن موكله، فلو وكل عن نفسه؛ ففيه وجهان [في الرافعي]. تنبيه حيث جوزنا للوكيل التوكيل، فلا يجوز أن يوكل إلا ثقة كافياً فيما يوكِّل فيه، إلا أن يعين له الموكل شخصاً. وفي البحر في كتاب الوصية [وجه] أنه يجوز أن يوكل الفاسق. وعلى المذهب: لو وكل عدلاً حيث لا تعيين من جهة الموكل، ففسق، فهل [له] عزله دون إذن موكله؟ فيه وجهان في الحاوي وغيره، والمختار في المرشد الجواز، وخص الغزالي محل الوجهين بما إذا قال: "وكل عني".

واستشكل بعضهم وجه جواز العزل؛ فإنه إذا لم يكن [وكيلاً] عنه، فكيف يقدر على عزله. قال: وإن وكل اثنين، لم يجز لأحدهما أن ينفرد بالتصرف؛ لأنه إنما رضي باجتادهما دون اجتهاد أحدهما. قال: إلا أن يجعل الموكل ذلك إليه؛ لرضاه بتصرف كل [واحد] منهما. وحكى العراقيون وجهاً فيما إذا وكلهما في حفظ مال: أنه يجوز لأحدهما أن يسلمه إلى الآخر؛: لينفرد بحفظه، ونسبوه إلى ابن سريج. قال [الإمام]: والفرق بين ذلك وبين ما إذا أِرك بينهما في التصرف؛ أن استحفاظهما مشعر في الظاهر بقيام كل واحد منهما بحق الحفظ لو لم يكن صاحبه حاضراً، فإن اعتقاد اجتماعهما أبداً على الحفظ وهوأمر دائم - بعيد، والألفاظ الملطقة تؤخذ من موجب العرف، والتصرفات تقع في أوقات، فليس يتعذر الاجتماع عليها؛ فلذلك حمل الأمر فيها على الاشتراك، وصدرو التصرف عن رأيهام؛ كذا حكاه قبل باب الرهن والحميل. وما قاله من الفرق منتفض بتوكيلهما في الخصومة؛ فإنه حكى وجهين في أن أحدهما هل له أن يستبد بها، مع أنها تقع في أوقات [لا يتعذر] فيها الاجتماع. ثم على وجه الجواز في [مسألة] التوكيل بالحفظ: لو "أرادا" أن يقسما ما وكلا في حفظه، وأمكنت قسمته، جاز؛ كما حكاه القاضي أبو الطيب في الرهن، ونسبه في المهذب إلى [تخريج] ابن سريج، وحكى الإمام معه في أواخر كتاب الرهن [وجهاً آخر:] أن القسمة لا تجوز.

[و] على وجه الجواز: إذا وقعت القسمة، ثم أراد أحدهما أن يدفع نصيبه إلى صاحبه، هل يجوز؟ قال القاضي أبو الطيب في كتاب الرهن: يحتمل وجهين: أحدهما: يجوز؛ كما جازت القسمة، وحكى في الشامل هذين الوجهين عن ابن سريج. والصحيح عند المراوزة؛ كما حكاه الإمام ثَمَّ، وبه جزم أكثر العراقيين هنا – ما دل عليه كلام الشيخ: [أنه] لا يجوز لأحدهما ان ينفرد بالحفظ، وإذا مات أحدهما، لم يقُم غيره مقامه؛ بخلاف الوصيين إذا مات أحدهما. ولو غاب أحد الوكيلين، فأقام الحاضر بينة على وكالتهما، سمعت، وثبتت في حق الغائب تبعاً، فإذا حضر تصرفا جمنيعاً؛ قاله القاضي أبو الطيب وغيره. قال: وإن وكله في البيع، لم يجز أن يبيع من نفسه؛ لأن إطلاق الأمر له لا يقتضي دخوله فيه؛ فلا يملكه. ولأن البائع عن الغير مأمور بطلب الاستقصاء في الثمن، والمشتري لنفسه طبعه يحثه على أن يسترخص، ويقلل الثمن، وهما متنافيان. وحكى ابن كج أن القاضي أبا حامد حكى عن الإصطخري وجهاً: أن للوكيل أن يبيع من نفسه [عند] حصول الثمن الذي لو باع [به] من غيره؛ لصح. قال: وقيل: إن نص له على ذلك – جاز؛ نظراً للعلة الأولى، وصيغته أن يقول: [إن] اخترت أن تشتريه لنفسك من نسك، فافعل، وهذا قول أبي إسحاق. وحكى الماوردي أنه من تخريج ابن سريج، قال: وليس بشيء؛ لما في ذلك من اتحاد الموجب والقابل، وإذن الموكل لا ينفي ما ذكرناه من تضاد

الغرضين؛ فإن غاية الأمر أن يشتريه لنفسه بثمن المثل، وهو متهم بالتساهل في طلب زيادة عليه. نعم: لو قال [له] "بعه من نفسك بكذا" جزماً اتجه تصحيح البيع [لأن النظر إلى اتحاد الموجب والقابل إنما كان لما يلحقه من التهمة المفضية] إلى تضاد الغرضين، ولذلك لما فقدت التهمة في حق الأب والجد، لم يكن الاتحاد مانعاً من الصحة، وهاهنا قد انتفت التهمة بالنص على البيع من نسه بشيء معلوم؛ فإنه لو نص على البيع من الأجنبي بشيء لا يجوز البيع من غيره مع وجود الزيادة عليه، وقد وجد هذا هاهنا. وللقائل بعدم الصحة أن ينظر إلى الغالب. والخلاف المذكور يجري - كما حكاه المتولي -فيما لو وكله في أن يبيع من ولده الصغير. [و] قال صاحب التهذيب: وجب أن يصح؛ لأنه رضي بالنظر للطفل، وترك الاستقصاء، وتولي الطرفين في حق الولد معهود في الجملة، بخلاف ما لو باع من نفسه. [ويجري - أيضاً - الخلاف فيما لو وكله بالهبة، وأذن له أن يهب من نفسه، أو في أن يستوي من نفسه] ما له عليه من دين، أو قصاص. وعلى قول المنع: إذا استوفى - سقط الضمان. قال المحاملي: لأنه يسقط بالشبهة. وأجري - أيضاً -فيما لو وكل الإمام السارق في قطع يده، أو الزاني ليجلد نفسه، واستبعده الإمام في الزاني؛ لأنه متهم بترك الإيلام، بخلاف القطع. وأجري - أيضاً - فيما لو وكل السيد عبده في أن يكاتب نفسه على نجمين. وظاهر المذهب في الكل: المنع. ولو وكله في أن يبرئ نفسه، فطريقان:

إحداهما: حكاية الخلاف فيه. والثانية: القطع بالجواز، وذلك مبني على أنه هل يفتقر إلى القول أم لا؟ فإن افتقر، خرج على الوجهين. وإن لم يفتقر [جاز]، كما يجوز أن يوكله في أن يعفو عن القصاص الواجب عليه، وأن يوكل العبد في عتق نسه، والزوجة في طلاقها. قال في البحر: وإذا صح توكيله في إبراء نفسه، احتاج أن يبرئ في الحال، وإن أخره، لم يصح. وإنه لا فرق في ذلك بين أن يقول: أمرتك أن تبرئ نفسك، أو: وكلتك في أن تبرئ غرمائي، وتبرئ نفسك إن شئت. ولو وكله في أن يصالح من نفسه، ففيه وجهان في البحر؛ إذا عين له ما يصالح عنه، فلو أطلق لا يجوز أن يصالح إلا على شيء تبلغ قيمته قدر الدين. ولو قال: [صالح على ما شئت]، يجوز له أن يصالح على كل وجه. فروع: [أحدها:] لو وكل الولد أباه في البيع، هل يجوز له [أن يبيع] من نفسه؛ كما لو استفاد البيع بالولاية أم لا؟ فيه وجهان [في الحاوي]، والمختار منهما في بحر المذهب: المنع. الثاني: ولو وكل إنسان إنساناً في البيع، ووكله آخر في شراء ذلك، فهل يجوز أن يتولى الإيجاب والقبول؟ فيه وجهان في تعليق القاضي أبي الطيب وغيره، والمذكور منهما في الحاوي والمهذب: المنع، وهو الذي حكى ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد الجزم به، وقال: إن الطريق الأول أصح؛ فإنه لا يتقاعد عن بيعه من نفسه، وقد حكى فيه الوجهين. [وقال الماوردي: إن الوكيل لو أراد أن يقيم على وكالته الثانية من بيع أو

شراء، ويلغي الأولى، هل يجوز؟ يحتمل وجهين]. وقد حكى الإمام في باب الرهن والحميل ما يقتضي عكس ذلك؛ فإنه قال: [إذا قال] من عليه الدين لشخصين، وقد وكلا وكيلاً في قبضه: خذ هذا وادفعه إلى فلان أحد الموكلين، فقد [اختلف] أصحابنا في هذه المسألة: منهم من قال: ينعزل الوكيل بالقبض عن حكم ذلك الموكل، وصار وكيلاً للمؤدى. ومنه من قال: [لا ينعلز عن التوكيل بالقبض وإن قبل الوكيل. ثم قال: و] الأفقه الوجه الأول، ولا يشترط فيه تصيرح الوكيل بالقبول لا قال من عليه الدين: "ادفع إلى موكلك"، [بل] مجرد قوله: "ادفع" يتضمن: أني لا اقنع ببدل على حسب ما وكلك صاحبك. [الثالث:] لو وكل المتداعيان في المخاصمة شخصاً واحداً، هل يجوز؟ فيه وجهان، أصحهما المنع. قال: ويجوز أن يبيع من ابنه – أي: البالغ – ومكاتبه؛ لان الملك يقع لغيره، والقابل غيره؛ [فهو] كما لو باع من أجنبي؛ وهذا قول الإصطخري والصح في الرافعي وغيره. قال: وقيل: لا يجوز؛ لأنه متهم في حقهما؛ لما له من الشفقة على ولده، والاحتياط له، وتوقع عود المكاتب إليه؛ ولهذا لا تسمع شهادته لهما؛ كما لا تسمع شهادته لنسه؛ وهذا قول أبي إسحاق، واختاره في المرشد. وحكى في البحر: أنه اختيار القاضي أبي الطيب. وقد أجرى هذا الخلاف في البيع من الزوج والزوجة؛ إذا لم تسمع شهادة أحدهما للآخر. قال في الشامل، والتتمة، والبحر: ولو أذن له [في] أن يبيع من ولده – جاز بلا خلاف.

ولو عين الموكل الثمن للوكيل عند إطلاق الإذن، ففي جواز البيع من الابن البالغ، ونحوه وجهان مرتبان على ما إذا لم يعين، وأولى بالجواز؛ صرح به القاضي الحسين. قال: وإن وكل عبداً لغيره – [أي: بإذنه] – في شراء نفسه له من مولاه، فقد قيل: يجوز؛ كما لو وكله في شراء شيء من غير مولاه بإذنه؛ وهذا هو الأقيس في الشامل، والذي ذكره المراوزةن وجعله الرافعي الأظهر. قال: وقيل: [لا] يجوز؛ لأن يد العبد كيد سيده، فكذا قبوله، وإذا كان كذلك، صار السيد كأنه الموجب والقابل، وذلك لا يصح؛ على الأصح. وهذا الوجه قال الماوردي: إنه مذهب الشافعي. وحكى البغوي الوجهين في مداينة العبيد، قوال: [إن ظاهر المذهب منهما: الصحة، لأنه] لا يحتاج إلى إذن السيد قبل الشراء؛ لأن بيعه لنفسه منه إذن له بالشراء. وقال القاض الحسين في باب بيع المكاتب: إن كانت الوكالة بإذن السيد – جاز قولاً واحداً، وإن كانت بدون إذنه، فوجهان. والوجهان – [أيضاً] – يجريان فيمالو وكله في أن يشتري له من سيده شيئاً غيره، وفيما لو وكل السيد عبده في بيع نفسه؛ كما حكاه الإمام في آخر النهاية، لكنه جعل الأصح فيهما الصحة؛ فإن مأخذ المنع الاتحاد، وهو منتف هاهنا. [ثم] حيث صححنا توكيل العبد في شراء نفسه من سيده، فصيغة العقد أن يقول: "اشتريت نفسي لموكلي". فلو أطلق العبد، ونوى موكله، قال ابن الصباغ: إن صدقه السيد على ذلك، وكان له مطالبة الموكل.

وإن قال: ما اشتريت إلا لنفسي، فالقول قول السيد مع يمينه، يحلف: أنه لا يعلم أنه اشتراه لغيرهن ويطالبه، ولم يتعرض لعتقه. وكلام الإمام يقتضي: أنه يعتق عند إطلاق العقد؛ فإنه [قال:] إذا أطلق العقد، وقع عن نسه دون موكله، وإن نواه؛ لأن قوله: "اشتريت لنفسي صريح في اقتضاء العتق، فإذا أطلقه، ثم أراد أن يرد الظاهر الدال على العتق، لم يقبل، وعلى ذلك جرى الغزالي. قال: ولا يجوز للوكيل – أي: في البيع [المطلق] – أني بيع بدون ثمن المثل – أي: بما لا يتغابن بمثله – لأنه توكيل بعقد معاوضة، فوجب أن يقتضي إطلاقه عوض المثل؛ كما لو وكله بالشراء. وقد وافق الخصم – وهو أبو حنيفة – على أنه لا يلزم الموكل فيها إلا ثمن المثل [إذا عقد به. ولأن البيع بدون ثمن المثل] محاباة، وهي بمنزلة الهبة، ولهذا تعتبر إذا وجدت في المرض من الثلث؛ كما تعتبر الهبة، ثم الوكيل لا يملك هبة جزء من المال، فلذلك لا يجوز محاباته. أما إذا نقص عنه ما يتغابن بمثله، فلا يضر؛ لجريان العادة بالمسامحة به؛ على أنه لو قيل: نقص ما جرت العادة به، لا يخرجه عن أن يكون ثمن المثل – لم يبعد، ولايحتاج كلام الشيخ إلى تقييد. ثم المرجع في ذلك إلى العرف. قال الروياني: وهو يختلف باختلاف أجناس الأموال من الثياب، والعبيد، وغيرها. ولا فرق في بطلان البيع بدون ثمن المثل على الجديد [بين] أن يرضى الموكل بصحة البيع به أم لا.

وعلى القديم – وهو جواز وقف العقود-يكون الموكل بالخيار، وعليه يحمل ما حكاه القاضي أبو حامد [في جامعه] عن الشافعي: أنه قال: "إذا باع بما لا يتغابن الناس بمثله، كان [له] أن يرد البيع"، [كما] حكاه القاضي أبو الطيب [في تعليقه]. وهكذا الحمك فيما لو وكله بالشراء، فاشترى بأكثر من ثمن المثل، لا يقع العقد للموكل وإن رضي. وقال الإمام عند الكلام في الكفارة: وقد رأيت لبعض الأصحاب وجهاً في أنه إن رضي [به]، جاز على شرط الخيار، ثم قال: "ولست واثقاً بهذا الوجه"؛ وهذا قد حاكه الماوردي عن ابن سريج هاهنا، وأنه لم يطرده في البيع. ثم على [كل] حال إذا لم نصحح بيع الوكيل عند بيعه ما يساوي عشرة بثمانية، وفرض أن القدر الذي يتغابن به [درهم] [من عشرة دراهم]، وقد سلم المبيع – فإن كان باقياً، استرده الموكل؛ إن اعترف المشتري بأن البائع وكيل، أو قامت عليه بينة، وألا فهو كام لو تلف؛ فيكون الوكيل ضامناً، وماذا يضمنه؟ فيه ثلاثة أوجه [حكاها في المهذب أقوالاً]: أحدها: تمام القيمة والثاني: القدر الذي لو باع به ابتداء لصح، وهو تسعة، ويأخذ من المشتري درهماً. وقد حكى المتولي هذين الوجهين قولين منصوصين، [نص] عليهما في اللطيف، وكذلك ابن الصباغ في كتاب الرهن، وقال: إن الأصح، وبه قال أبو إسحاق: الأول، وجعله البندنيجي المذهب، وهو الذي اختاره في المرشد.

وما قاله الثاني من انه لو باع بما يتغابن [بمثله]، لصح؛ فلا يغرم إلا ذلك، يلزمه في حق المشتري – أيضاً –فإن البيع لو وقع كذلك، لم يلزمه إلا ذلك القدر، وقد وافق على أنه يلزمه جميع القيمة، وقد قرب الخلاف [من الخلاف] فيما إذا صرف جميع السهم في الزكاة أو الوصية إلى اثنين، هل يغرم للثالث أدنى جزء، أو الثلث؟ والوجه الثالث: [الذي] يضمنه درهم؛ لأنه لم يفرط إلا فيه، ويرجع على المشتري بتسعة؛ وهذا إذا أراد الموكل الرجوع على الوكيل، فلو أراد الرجوع على المشتري – رجع عليه بالقيمة وجهاً واحداً، وأي قيمة تعتبر؟ قد تقدم بيانها في باب: ما يجوز بيعه. تنبيه: محل جواز بيع الوكيل بثمن المثل: إذا لم يجد من يبذل زيادة عليه، أما إذا وجد، فهو كما لو باع بدون ثمن المثل. وحكى الروياني عن والده في ضمن فرع احتمالاً في هذه الصورة. ولو باع بثمن المثل، ثم حصل من يزيد، فإن كان بعد اللزوم، فلا أثر لذلك، وإن كان قبل اللزوم، فقد حكى ابن الصباغ وغيره عن الشافعي في كتاب الرهن: أنه قال: "لزمه أن يفسخ العقد، ويبيع بالزيادة، فإن لم يفعل، كان البيع مردوداً"، ["وأن من] الأصحاب" من أجرى النص على ظاهره، ووجهه بأنه مأمور بالاحتياط، وحالة الخيار بمنزلة حالة العقد. قال المحاملي: ومنهم من قال: [لا يلزمه ذلك]، ولكن الأولى أن يفعل، فإن لم يفعل، لم يبطل الأول؛ لأنه لا يتحقق حصول هذه الزيادة. والصحيح الأول. والذي حكاه في الوسيط في كتاب الرهن: أن البيع ينفسخ بمجرد الزيادة من غير أن يجعله مرتباً على امتناع الوكيل من الفسخ؛ وهي طريقة الإمام.

وحكى في كتاب الوكالة: أن في وجوب الفسخ وجهين، فصلناهما في كتاب الرهن. وحكى الإمام عن شيخه شيئاً يحتاج فهمه إلى ذكر مسألة تجدد العهد بها، وهي إذا باع البائع المبيع في زمن الخيار، فهل يصح، يكون متضمناً لفسخ الأول، أو لا يصح، ولا يكون فسخاً [للأول]؟ فيه ثلاثة أوجه. [قال]: فإن قلنا: يصح الثاني، فإن فعله الوكيل، لم يحكم بانفساخ العقد، وإن لم يفعله، أو قلنا: إن الثاني لا يصح، [و] لابد لصحته من ارتفاع العقد الأول – فلا سبيل إلى الحكم بوجوب إنشاء الفسخ، بل ينفسخ بنفسه. ثم على الصحيح إذا لم يفسخ الوكيل، ثم بدا للراغب في الشراء، نظر: إن [كان] قبل التمكن من البيع منه، تبينا ان الأول لم ينفسخ وإن كان بعده فكذلك عند الصيدلاني؛ كما لو بذل الابن الطاعة للأب، ثم رجع قبل أوان الحج، فإنانتبين أن لا حج على الأب؛ وهذا ما جعله في الوسيط الأصح. وعند غير الصيدلاني: أن البيع الأول قد انفسخ [فلابد من تجديد العقد]. قال الإمام: وهذا أوجه وقياسه بين؛ فعلى هذا: هل يتمكن الوكيل من البيع ثانياً: إما من الأول، او من غيره؟ فيه وجهان: وجه الجواز: حمل الوكالة على بيع يحصل به المقصود، والأول لم يحصل ذلك؛ فكأنه لم يكن. وقد اجرى الإمام مثل هذا الخلاف قبل كتاب السلم فيما إذا وكله ببيع [عبد] فباعه، ثم رد عليه بالعيب، هل له بيعه [ثانياً وكذالو أذن له في البيع بشرط الخيار للمشتري، فباعه كذلك، ففسخ العقد، هل يجوز للوكيل بيعه].

ثانياً: فيه وجهان، وإن القفال قربهما من القولين في أن البيع بشرط الخيار هل ينقل الملك؟ فإن نقله، فالأشبه أن الوكيل لا يبيع مرة أخرى، وإن لم ينقله، جاز للوكيل البيع ثانياً. قال الإمام: والمسألة متحملة على القولين. والذي جزم به الرافعي ها هنا المنع في الصورتين، حكى في ضمن فرع حكاه قبل النظر الثالث في حكم العقد قبل القبض في مسألة الخيار: أنا إن قلنا: الملك للبائع – جاز له البيع ثانياً، وإن قلنا: [إنه] للمشتري، فوجهان؛ كما في الرد بالعيب. قال: ولا بثمن مؤجل – أي: وإن كان قدر ثمن المثل مؤجلاً – لأن الإطلاق يقتضي النقد؛ لأنه البيع المعتاد في الغالب، وغنما يباع الشيء نسيئة؛ لعلة فساد، أو كساد، ويؤيد ذلك أنه لو قال: "بعتك بكذا"، اقتضى ذلك البيع حالاًّ. قال: ولا بغير نقد البلد؛ [لأن نقد البلد] هو الذي يقتضيه الإطلاق في البيع، فكذلك في التوكيل. ولنا: أن نقيس عدم الصحة في الصور الثلاث التي ذكرها الشيخ على الوصي؛ فإنه لا يصح بيعه في حالة منها؛ بجامع ما اشتركا فيه من النيابة، بل نيابة الوصي أقوى؛ بدليل جواز توكيله فيما يقدر عليه عند الجمهور. وقد ظهر من كلام الشيخ: أن للوكيل أن يبيع بثمن المثل، وبالحال، وبنقد البلد، وإلا لم يكن لتخصيص المنع بهذه الأحوال فائدة. ولو كان في البلد نقدان، باع بالغالب منهما، فإن استويا في البيع، باع بما شاء منهما، قال في التتمة: على المذهب؛ ما لو قال: بع بأيهما شئت. ولو [باع] بهما جميعاً، فالأصح من الخلاف في النهاية: الصحة. وقال في التهذيب بعد حكاية جواز البيع بأحد النقدين [عند الاستواء:]

وجب ألاَّ يصح التوكيل إذا لم يبين؛ كما لو باع بدراهم وفي البلد نقدان متساويان. قال الرافعي: وقد رأيت في كلام [الشيخ] أبي حامد مثل ما ذكره، وهو ما أشار إليه المتولي. قال: إلا أن ينص له على ذلك كله – [أي:] فيجوز – لأن المنع كان لحقه؛ فزال بإذنه. ومحل الجواز في البيع مؤجلاً إذا عين له قدر الأجل، أما إذا أطلق، فالمذكور في التهذيب: أنه لا يصح التوكيل. وحكى في المهذب وغيره مع ذلك وجهاً آخر: أنه يصح، واختاره في المرشد، [وكذلك] صححه الرافعي وغيره. [فعلى هذا يرجع في قدره إلى العرف؛ على أصح الوجوه، فإن لم يكن [ثم] عرف، باع بأنفع ما يقدر عليه]. وقيل: له أن يؤجل ما شاء. وقيل: لا يزيد [في] الأجل علىسنة؛ فإنه الأجل المعتبر شرعاً في الزكاة والجزية. ويجب علىلوكيل إذا باع مؤجلاً بيان الأجل؛ حتى لا يكون مضيعا لحقه، فإن امتنع كان متعدياً. وهل يجب عليه الإشهاد ظاهر كلام [الشيخ و] صاحب البحر قبيل كتاب [قسم الفيء] يدل على خلاف فيه؛ فإنه قال: إذا دفع إلى رجل ثوباً؛ ليبيعه إلى مدة، فباعه، وقلنا: يجب عليه الإشهاد، فلم يشهد، ولكنه أخذ الخط على ما جرت به العادة، وقاضي البلد ممن يرى العمل بالخط، فهل يضمن؟ يحتمل وجهين.

وهذا تخريج بعيد [عندي] والمذهب أنه يضمن، ولا يجوز الحكم بالخط بحال. انتهى. فرع: لو وكله في السلم مطلقاً، فإن أسلم الوكيل مؤجلاً، فهل يصح؟ فيه وجهان. وكذا لو أسلم حالاًّ. والخلاف مبني على ما لو قال: "أسلمت إليك هذا في كذا" مطلقاً، هل يبطل [العقد]، أم يصح حالاًّ؟ وفيه وجهان؛ كذا قاله القاضي الحسين. تنبيه: ثمن المثل [ما] تنتهي إليه رغبات المشترين على الصحيح من المذهب. وحكى ابن أبي الدم في أدب القضاء له وجهاً: أن القيمة صفة قائمة بالمتقوم ذاتية، فإن الرغبة تنقص تارة، وتزيد أخرى. فروع: [أحدها:] لو قال: "بع بما شئت"، حكى الإمام في كتاب النكاح في أثناء فصول المولى عليها: أن للوكيل أن يبيع بما عز وهان. وكلام المتولي في النكاح يوافقه؛ حيث قال: لو قالت: "زوجتي بما شئت من المهر"، فزوجها بأقل من مهر المثل – صح، كما لو [قال]: "بع بما شئت". وةكذلك حكاه في البحر في كتاب الشركة، وقال [فيما] إذا [قال] "بع بما ترى"، أو: "تصرف بما ترى": إنه يجوز أن يبيع بما يتغابن الناس بمثله. وفرق بأنه إذا قال: "بع بما شئت" ظاهره الرضا بمشيئته، وإذا قال: "بع بما ترى" فقد وكله إلى الرأي، والرأي: الاجتهاد. ثم قال: على أنه إذا قال: "بع بما شئت"، فالحال يدل على ان مراده بما شئت

من نقد، أو عرض، وليس المراد: بالغبن، والمحاباة، فإن لم تدل قرينة الحال ومقدمة اللفظ على ذلك، فظاهر اللفظ: أنه خيره من جميع الوجوه. وجزم الرافعي بأنه لايجوز له في هذه الحالةأن يبيع بالعين، ولا بالنسيئة، ويجوز أن يبيع بغير نقد البلد، وهو ما حكاه المتولي هاهنا، والقاضي الحسين. ولو قال: "بع بكم شئت" يجوز بالعين ولا يجوز بالنسيئة، وغير نقد البلد. [ولو قال: "كيف شئت"، فله البيع بالنسيئة، ولا يجوز بالعين، وغير نقد البلد]. وعن القاضي الحسين –كما حكاه الرافعي: أنه يجوز الكل. ولو قال: "بع بما عز وهان" فهو كما لو قال: "بع كيف شئت" [وبكم شئت]. وقال العبادي "إنه يجوز بالعين، والعرض،" ولا يجوز بالنسيئة. قال الرافعي: وهو الأولى. [و] في تعليق القاضي: أنه يجوز أن يبيع بأقل من ثمن المثل. قال: وإن قال: "بع بألف درهم"، فابع بألف دينار، لم يصح؛ لأن الإذن في جنس لا يتناول غيره، فكان كالمتصرف من غير إذن. وأبدى في الوجيز في صحة البيع احتمالاً. قال الرافعي: وقد أورد القاضي ابن كج نحواً منه. ولا يجوز للوكيل أن يبيع بأقل من ألأف، ولو بقيراط؛ كما صرح به المارودي. قال: [وإن قال: "بع بألف" – أي: ولم يعين من يبيع منه – فباع بألفين، صح؛ لان من رضي بألف، فرضاه بألفين أولى. قال:] إلا أن ينهاه

-[أي:] فلا يصح – لأن النطق أبطل حكم العرف. وحكى العبادي أن بعض البصريين من أصحابنا لم يجوِّز البيع بما فوق الألف [وإن لم ينهه؛ لأنه لم يرض بعهدة ما فوق الألف]. حكى الإمام عن صاحب التقريب رواية وجه: أن البيع يصح بالزيادة [مع [التصريح بالنهي] عنها؛ إذا كانت الزيادة] من الجنس. وحمله الإمام على ما إذا ظهر أن مراد الموكل: أن الوكيل لا يكد نفسه، أما إذا صدر من الموكل نص لا يقبل التأويل في منع الزيادة على الألف – فالوجه القطع بأن البيع لا ينفذ. والمشهور ما في الكتاب، وعليه يطلب الفرق بينه وبين ما إذا وكله في شراء شاة بدينار، فاشترى شاتين تساوي كل واحدة منهما ديناراً؛ فإن الشراء لا يصح [للموكل؛ على قول] في الشاتين؛ كما سيأتي. وقد يفرق بينهما بأن الأثمان مرغوب في تحصيل الزيادة فيها عرفاً وعادة فالاقتصار في الإذن على شيء معين منها، يفهم أن القصد به عدم النقص عنه، فإذا زاد عليه، فقد حصل ما هو المقصود عرفاً وعادة، وليس العرف والعادة يشهد بأن من يرغب في شراء شاة يرغب في شاتين؛ حتى يستند التصرف إليهما؛ فوجب الاقتصار على ما دل عليه اللفظ. وأيضاً: فإن الوكيل بالشراء بائع للثمن، وقد تقرر: أن الوكيل في البيع لا يجوز له أن يبيع بغير نقد البلد، فضلاً عن العروض؛ لأن العرف لا يقتضيه، فلو صححنا شراء الشاة الزائدة على ما أذن فيه، لخالفنا موجب اللفظ، وهو الاقتصار على واحدة، وموجب العرف، وهو بغير نقد البلد. ومما يؤيد ذلك: أن القاضي الحسين حكى القولين المذكروين في الشاتين فيما

إذا وكله في البيع [سلعة، فباع] بسلعة وحمار، وجزم بالصحة فيما إذا باع بسلعة ومائةدرهم من نقد البلدز فرع: هل يجوز للوكيل – والحالة هذه – البيع بالألف مع وجود من يرغب بزيادة؟ فيه جهان في التتمةوغيرها، والذي يظهر ترجيح المنع. وفي بحر المذهب: أنه لو قال: "بع بثمن مثله"، وكان ثمن المثل ألفاً، فباع به مع وجود من يرغب بألفين: أنه يصح، ولم يحك سواه؛ وهذا نظير وجه الجواز فيما نحن فيه. أما إذا أذن له في البيع بألف من شخص، لاي جوز أن يبيع منه [بزيادة عليها؛ لأنه قد يقصد محاباته؛ فلا يفوت عليه ذلك]. فإن قيل: لو قال: "شارت هذا العبد من فلان بمائة"، جاز أن يشتريه منه بما دونها؛ كما صرح به المتولي وإن كان ما ذكرتموه موجوداً فيه. قلت: قد فرق الماوردي بينهما، بأن الوكيل في البيع غير موكل في قبض القدر الزائد [على الألف] فلذلك امتنع البيع بالزيادة، والوكيل في الشراء مأمور بدع الزيادة، ودفع الوكيل البعض جائز؛ فلذصلك جاز شراؤه بأقل مما عين. وما قاله يبطل بما إذا كان وكيلاً في البيع دون قبض الثمن؛ فإنه لا يجوز أن يبيع بأكثر من المائة مع انتفاء ما ذكره، وبما لو قال: "بع بمائة" ولم يعين المبيع منه؛ فإنه يجوز له قبض الزيادة إذا جاز له قبض الثمن. والذي يظهر من الفرق أن البيع لما كان [ممكناً من المعين] ومن غيره،

كان في التنصيص عليه دليل على مراعاته؛ فلذلك امتنعت الزيادة، ولما لم يمكن شراء العبد المعين من غير المذكور، ضعف أن يكون التخصيص بالذكر دالاًّ على مراعاته؛ فإنه كما يحتمل ذلك يحتمل أن يكون لأجل التعريف. وبالجملة: فالذي يظهر لي في مسألة التوكل في الشراء تفصيل استنبطته من كلام الأصحاب في مسألة سأذكرها في أواخر باب الوصية، وهو أن يقال: إن كان [ما] قدره الموكل قدر [ثمن المثل]، أو أقل، فيجوز أن يشتريه بأقل من ذلك؛ لأن القرينة دلت على عدم مراعاة المحاباة. وإن كان أكثر من ثمن المثل، فقصده المحاباة ظاهر، فلايجوز تفويته. ومثل هذا متجه في مسألة التوكيل في البيع، فيقال: إن كان ما قدره الموكل قدر ثمن المثل، فيجوز أني بيع منه [بأكثر منه]، ومن طريق الأولى إذا كان لامقدر أكثر من ثمن المثل، وإن كان أقل من ثمن المثل، فلا [تجوز الزيادة] عليه. فرع: لو قال: "بع بمائة، ولاتبع بمائة وخمسين"، فله البيع بما فوق المائة [و] دون "المائة والخمسين"، ولا يبيع بمائة وخمسيننوفيما فوقها وجهان: أصحهما: المنع. قال: وإن قال: "بع بألف"، فباع بألف وثوب، فقد قيل: يجوز؛ كما لو باع بألف وزيادة من ذلك الجنس؛ فإنه زاده خيراً؛ وهذا هو الأصح في الجيلي. قال: وقيل: لا يجوز؛ لأن الدراهم والثوب تتقسط على المبيع فما قابل الثوب [مبيع، وهو خلاف إذنه؛ وعلى هذا يبطل العقد فيما يقابل الثوب]، وهل يبطل فيما يقابل الدراهم؟ فيه قولا تفريق الصفقة، فإذا صح: لا يثبت للبائع

خيار؛ لأنه رضي ببيع جميعه بالألف، فأولى إذا حصل بيع بعضه بها، ويثبت للمشتري الخيار. وفي الشامل والتتمة: أن أبا العباس حكى فيه وجهاً آخر: أنه لا خيار له إذا علم بأنه للموكل؛ لأنه دخل على ذلك. قال ابن الصباغ: وليس بشيء؛ لأن الاعتبار بمقتضىلعقد، والعقد قاتضى أن يكون [العقد] صفقة واحدة. وحكى البندنيجي والمحاملي عن ابن سريج وجهاً ثالثاً: أن المشتري إن قال: علمت أنه لموكله، غير أني اعتمدت أن لي الخيار، أو: قلت: إن بيع وكيله ينفذ عليه – فله الخيار؛ لأنه دخل على هذا، وإن لم يكن كذلك، لم يكن له الخيار. فرع: [لو قال: "بع بألف" "فـ] باع بألف" ودينار، قال ابن الصباغ: صح. ولم يحك فيه خلافاً وإن كان حكاه في مسألة الكتاب. والقياس يقتضي طرده، وهو ما حكاه المتولي عن ابن سريج. وحكى البندنيجي عن ابن سريج أنه صحح البيع فيها؛ تفريعاً على القول الصحيح فيما إذا وكله في شراء شاة بدينار، فاشترى شاتين تساوي كل واحدة منهما ديناراً: أن الشاتين للموكل. وأنه حكى فيما إذا باع بألف وثوب، أو بألف وعبد: أن في صحة البيع يما يقابل الثوب والعبد قولين: أحدهما: يصح، كما لو باع بألف ودينار؛ لأنه امتثل الإذن لفظاً في الألف، والعرف في الزيادة. والثاني: [يبطل] لأن الثوب ليس من الأثمان في [العادة، والدينار] ثمن في العادة. ومن هذا يظهر أن محل هذا إذا كان الدينار من نقد البلد، أما إذا لم يكن، فهو كالعرض، وقد صرح بذلك القاضي الحسين في تعليقه.

قال: وإن قال: "بع بألف مؤجل" – أي: وعين المدة، او لم يعينها، وصححنا ذلك – فباع بألف حال، جاز؛ لأنه زاد خيراً. قال: إلا أن ينهاه – أي: فلا يجوز – [لما مضى]، أو كان [الثمن مما يستضر بحفظه في الحال – أي: مثل أن كان في وقت لا يؤمن فيه النهب والسرقة أو] كان لحفظه مؤنة في الحال. ووجهه: ما في ذلك من الإضرار بالموكل المنفي بالشرع. وقيل: لا يجوز البيع بثمن حال وإن انتفى ما ذكرناه. قال الماوردي: وهذا غير صحيح. وقال المتولي: إن أصل المسألة إذا كان عليه دين مؤجل فجاء به قبل محله، هل يلزمه قبوله أم لا؟ وهذا الخلاف [يجري] فيما لو قال: "بع بألف إلى شهرين"، فباع به إلى شهر. ولا يخفى مما تقدم: أن محل هذا إذا لم يعين [له] من يبيع منه، أما لو قال: "بع من زيد بألف إلى شهر"، فباع منه بألف حال، فإن لم نجوز البيع عند الإطلاق لذلك فهاهنا أولى؛ وإن جوزناه، فقياس ما تقدم: أنه لا يجوز أيضاً. وقد حكى الإمام في الصحة وجهين. قال: وإن قال: "اشتر بألف حال". أي: شيئاً عينه له، فاشترى بألف مؤجل، جاز؛ لأنه زاده خيراً. قال: إلا أن ينهاه، [أي:] فلا يجوز؛ لما ذكرناه. وفي معنى النهي ان يكون [الثمن] حاضراً ولا يأمن عليه إذا لم يسلمه؛ كما صرح به أبو الطيب. قال: وقيل: لا يجوز؛ لأنه ربما يخاف هلاك المال، وبقاء الدين في ذمته. قال ابن الصباغ: وقول المنع عند عدم النهي وغيره لا يتصور إلا في الأشياء التي لا يجبر صاحبها إذا كانت [مؤجلة] على أخذها في الحال.

وهكذا الحكم فيما لو أذن له في الشراء مطلقاً، فاشترى [نسيئة ماي ساوي حالاًّ، أو أذن في الشراء إلى شهر، فاشترى] إلى شهرين؛ كما صرح به الماوردي. فائدة: الصورة المتفق عليها في شراء الوكيل لموكله بصيغة السفارة: أن يقول: "اشتريت منك هذا لموكلي"، فيقول: "بعتك". فلو قال ابتداء: "بعتك هذا بكذا"، فقال: "اشتريت لموكلي"، وسماه – ففي صحة العقد للموكل وجهان منقولان في التهذيب، والتتمة، قدمت حكايتهما في باب ما يجوز بيعه ند الكلام في شراء الكافر العبد المسلم. ووجه المنع: [أنه] ما أوجب له. ولو قال: "بعتك لنفسك، وإن كنت تشتريه لغيرك، فلا أبيعه لك"، فاشتراه للغير – لم يصح. ولو وجد هذا الشرط قبل العقد، ثم قال له: "بعتك"، فقبل، ونوى موكله – صح على الأصح. وفيه وجه حكاه في البحر؛ بناء على [أن] الشرط السابق كالمقارن. ولو قال: [بعت موكلك]، فقال الوكيل: "قبلت له" –لم يصح عند الشيخ أبي بكر، والقاضي الحسين؛ [كما] حكاه في التعليق، وهو الذي اختاره الإمام، وجعله الرافعي ظاهر المذهب. وحكى الشيخ أبو محمد [فيه] وجهين، وأيَّد وجه الصحة بالنكاح. والفرق بينهما ستقف عليه في أول كتاب النكاح من هذا الشرح. ولو قال: "بعتُك"، فقال: "اشتريت"، ونوى موكله، صح؛ بخلاف ما لو قال: "وهبت منك"، فقال: "قبلت"، ونوى موكله؛ فإن الهبة تقع للوكيل، ولا تنصرف إلى الموكل؛ لأن الواهب قد يقصد بالتبرع عينه، وما كل أحد يسمح بالتبرع عليه،

ويخالف الشراء؛ لأن المقصود منه حصول العوض. فإن أراد أن يقبل لموكله، يُسميه في العقد؛ كذا حكاه الرافعي عن فتاوى القفال. ثم إذا صح البيع للموكل، نُظِر: إن كان مع التصريح بالسفارة، فالمذهب أن الملك يقع للموكل ابتداء. [وإلَّم يصرح، ولكن نواه، فهل يقع الملك للوكيل ابتداء، ثم ينتقل إلى الموكل، أو يقع للموكل ابتداء؟ فيه وجهان؛ كذا رتبه القاضي الحسين في تعليقه. وغيره أسند الوجهين إلى ابن سريج. والصحيح والمشهور في كتب العراقيين: أن الملك يقع للموكل ابتداء؛ كما لو اشترى الأب شيئاً لطفله. ولأنه لوثبت الملك فيه للوكيل، لعتق عليه قريبه إذا اشتراه بالوكالة. قال: وإن قال: اشتر عبداً بمائة، فاشترى عبداً يساوي مائة بما دون المائة – جاز؛ لأنه زاده خيراً. وحكى صاحب البحر وجهاً في هذه الحالة: أن الموكل بالخيار في قبول هذا الشراء ورده، قوال: إنه ليس بمشهور. ثم محل الجواز على المشهور إذا لم ينهه، أما إذا نهاه عن النقص، فقد حكى الإمام في نفوذ الشراء للموكل الوجهين اللذين ذكرناهما فيما إذا باع الوكيل بأكثر مما أذن له في البيع به، وقد نهاه عن الزيادة عليه، ونسبهما الماوردي في كتاب الوديعة إلى أبي إسحاق المروزي، وستقف على أصلهما فيه. ولو قال: "اشتر بمائة، ولا تشتر بخمسين"، [جاز أن يشتري بمائة وبما بين خمسين ومائة، ولا يجوز أن يشتري بخمسين]، وهل يجوز أن يشتري بما دونها؟ فيه وجهان في الطريقين، وقد تقدم مثلهما في طرق البيع. قال: وإن قال: اشتر عبداً بمائة، فاشترى عبداً بمائتين، وهو يساوي المائتين –

لم يجز؛ لمخالفته الإذن والعرف، وهكذا الحكم فيما لو اشترى عبداً بما دون المائة، وهو لا يساوي المائة. وفي المهذب وغيره فيما إذا اشترى الوكيل بزيادة على ما أذن [له] فيه الموكل، عن ابن سريج: أن الشراء يصح للموكل بالقدر المأذون فيه، والوكيل ضامن للزيادة من ماله، وعليه غرمها للبائع؛ لأنه يصير بمجاوزته القدر المعين متطوعاً بها. قال الماوردي: وهو خطأ؛ لأن الزيادة من جملة الثمن الذي [لزم بالعقد]، فلم يجز أن ينتقض حكمه، ولو جاز أن تكون الزيادة بقدر المغابنة في البيع مضمونة على [الوكيل مع صحة الشراء للموكل، لكان النقصان بقدر المغابنة في البيع مضموناً على الوكيل] مع لزوم البيع للموكل، وهذا مما لا يرتكبه أبو العباس في البيع؛ فبطل مذهبه في الشراء. وأيضاً: فإنه وافق على أنه لو قال: "اشتر [لي] سالماً"، فاشتراه بأكثر من ثمن المثل بما لا يتغابن به أن البيع باطل. وقد فرق – عن ابن سريج – بين الشراء والبيع بأنه إذا اشترى بأكثر مما أذن [له] فيه، فقد وافق العقد المأذون فيه مع زيادة التزمها الوكيل بقوله: "اشتريت"، فإن من اشترى بمائة وخمسين – [مثلاً] – فقد اشترى بمائة؛ [حتى قال] بعض أصحابنا: لا يكون كاذباً فيما إذا أخبر أنه اشترى بمائة؛ كما ذكرناه في المرابحة، ومن باع بتسعين، لم يبع بمائة أصلاً، ولا في لفظه ما يتضمن التزام القدر الزائد؛ فلذلك لم يصح بيعه. قال: وإن دفع إليه ألفاً، وقال: ابتع بعينها عبداً، فابتاع في ذمته – لم يصح؛ لأن في ذلك إلزام ذمة الموكل ما لم يأذن فيه، وهل يقع العقد للوكيل؟ نظر: إن لم يصرح بالسفارة، وقع له، وإن صرح فوجهان، أظهرهما الوقوع.

قال: وإن قال: "ابتع في ذمتك، وانقد الألف فيه"، فابتاع بعينها، قد قيل يصح؛ لأن ذلك أقل غرراً، فقد زاده خيراً؛ وهذا قول أبي علي في إفصاحه، وهو الصحيح في بحر المذهب. [قال]: وقيل: لا يصح – أي: للموكل؛ [للمخالفة؛ لأنه] أمره بعقد [يلزمه] مع بقاء [المدفوع] وتلفه، فعقد عقداً يلزم مع بقاء المدفوع دون تلفه؛ وهذا اختيار الشيخ أبي حامد، وهو الصحيح في النهاية وغيرها، والمذكور في المرشد. وكما لا يصح للموكل لا يصح للوكيل؛ لأنه وقع بعين ماله. نعم: لو كذبه البائع في أنه اشترى لغيره، فسنذكر حكمه فيما إذا قال: "أذنت لك في الشراء بعشرة"، فقال: "بل بعشرين". ولو دفع إليه الألف، وقال: "اشتر بهذا الثمن عبداً"، ولم يقل: "بعينه"، و"لا في الذمة" – فوجهان: أحدهما –وهو قول أبي علي الطبري -: أن مقتضاه الشراء بعينها، [وقد تقدم حكمه. والثاني: [أنه] يجوز أن يشتري بعينها]، وفي الذمة، وينقد الألف، وهو ما اختاره في المرشد، ورجحه الرافعي.

فرع: لو اشترى في الذمة، ثم تلف [الألف] قبل أن يقبضه البائع؛ ففيه وجهان [حكاهما] في التتمة: أحدهما: أن العقد ينقلب إلى الوكيل. والثاني: أنه يبقى على ما كان، ويطالب المشتري بالثمن، وهكذا الحكم في صحة العقد للموكل أو للوكيل إذا تلف الألف قبل العقد؛ كما صرح به القاضي الحسين. فرع: إذا قال لوكيله: "ابتع لي من مالك عشرة أقفزة حنطة بمائة درهم"، جاز، ثم لأصحابنا وجهان، حكاهما الصيمري: أحدهما: أن ذلك قرض فيه وكالة؛ فعلى هذا لو لم يعين الثمن –لم يصح؛ لأن قرض المجهول لا يصح. والثاني: أنه عقد وكالة فيه قرض؛ فعلى هذا لو لم ينص على قدر الثمن – جاز؛ كذا حكاه الماوردي، وبنى على الوجهين ما إذا قال [لغيره: قد] أقرضتك ألفاً على [أن] ما رزق الله من ربح فهو بيننا نصفان: فعلى الأول، يكون ضامناً للمال إذا قبضه، وله الربح دون المقرض. وعلى الثاني يكون مضاربة فاسدة؛ فلا يكنو عليه ضمان، والربح لرب المال، وللعامل أجرة المثل. وفي [بحر] المذهب حكاية عن القاضي أبي حامد: أن العقد لا يصح

للموكل. وإن صرح بلفظ الطلب والإقراض، وقد حكاه في الوسيط في تكاب القراض وجهاً. فائدة: الوكيل بالشراء هل يطالب بالثمن، أو الموكل، أو هما؟ ينظر [فيه]: فإن كان الشراء بثمن معين، وهو في يد الوكيل – طولب به، وإلا فلا. وإن كان بثمن في الذمة، [نُظِر]: فإن سلم إلى الوكيل، وأذن له في صرفه إلى الثمن – كما حكاه الشيخ- فالوكيل مطالب به، وهل يطالب به الموكل؟ حكى الإمام في باب العبد المأذون عن الأصحاب طريقين: أحدهما: أن فيه خلافاً؛ كما في مطالبة [المقارض. والثاني: القطع بالمطالبة، وادعى أن القياس الأول. وإن لم يسلم الثمن إلى الوكيل، ولم يصدقه] البائع في دعوى الوكالة – فالقول قوله، ويتعين مطالبة الوكيل، وإن صدقه في نية الشراء لموكله، أو كان قد صرح بالسفارة؛ ففي مجموع المحاملي والشامل: أن الثمن يثبت في ذمة الموكل، والوكيل ضامن له، ولم يحك لقاضي أبو الطيب عند تصريح الوكيل بالسفارة سواه، واختاره في المرشد. وحكى ابن الصباغ والمحاملي عن ابن سريج في صورة التصريح والنية: أنه قال: يحتمل وجهين آخرين: أحدهما: أن الثمن يكون في ذمة [الوكيل، ولا يثبت [في ذمة] [الموكل شيء منهن ويجري ذلك مجرى الحوالة على من لا دَين عليه، وإذا دفعه الوكيل] ثبت له الرجوع على الموكل. والثاني: أنه يثبت للوكيل في ذمة الموكل. قال الرافعي: وهذا بناء على أن العقد يقع للوكيل، ثم ينتقل إلى الموكل، فعلى [الثاني] [للبائع] مطالبة الوكيل والموكل] وعلى الأول لا يطالب

إلا الوكيل، وليس للوكيل مطالبة الموكل قبل الغرم. قال الرافعي: وهو الأصح؛ كما قلنا في المحال عليه؛ وهذا ما جزم به [ابن] الصباغ، والمحاملي. وإذا غرم رجع على الموكل، وليس له حبس المبيع عن الموكل إلى أن يقبض الثمن منه على المذهب. وفي التتمة حكاية وجه: أن له حق الحبس؛ بناء على أن الملك يقع للوكيل ابتداء، ثم ينتقل [إلى الموكل]. ولو أبرأ البائع الوكيل من الثمن –فاز الموكل بالمبيع بلا غرم على هذا الوجه الذي عليه نفرع. قال ابن الصباغ والمحاملي: وعلى هذا الوجه قال ابن سريج: لو قال: "بع فلاناً عيناً بألف في ذمتي، وعليَّ"، فإذا باعه، ثبت في ذمة "القابل" دون المشتري، فإذا غرم، لم يرجع؛ إن دفع بغير إذنه؛ لأنه متطوع؛ قاله المحاملي. وعلى الثالث لا يملك البائع مطالبة الموكل، ويملكها الوكيل، وإن لم يغرم بعد؛ كما صرح به في المهذب. وكذلك لو أبرئ منه؛ كما صرح به الماوردي؛ هذا [هو] المشهور في طريقة العراق، وإطلاقهم جواز رجوع الوكيل على الموكل بالغرم على الوجه الثاني؛ تفريعاً منهم على أن الإذن في الشراء إذن في الأداء والرجوع؛ كما حكيته عنهم في باب الضمان، وقد حكوا ثَمَّ مع هذا شيئاً آخر، فليطلب منه. وقد حكى المتولي هاهنا: أن المذهب القطع بالرجوع، وإلا خرج المبيع عن أن يكون مملوكاً للموكل بالعوض، وفي ذلك تغيير لوضع العقد، وهذا بعينه حكاه الإمام هاهنا، وفي كتاب الخلع والرهن. وحاصل ماذكرناه: أن الوكيل مطالب من هجة البائع على الأوجه الثلاثة،

والموكل معه على الأول منها. والذي حكاه الماوردي: أن الوكيل إن صرح بالسفارة، كان الثمن في ذمة الموكل، وهل [يكون] الوكيل ضامناً له؟ فيه وجهان حكاهما ابن سريج. [وإن لم يصرح، بل نوى موكله، فالوكيل ضامن للثمن وهل يصير الثمن واجباً على الموكل بالعقد؟ فيه وجهان حكاهما ابن سريج]. فإن قلنا: لا يجب عليه، فهل يستحق الوكيل على الموكل الثمن قبل أدائه عنه؟ فيه وجهان. ومما قاله يحصل وجه رابع مضاف إلى الأوجه الثلاثة: أن الوكيل إذا صرح بالسفارة لا يطالب، وقد حكاه المتولي، وصححه. والذي حكاه الإمام هاهنا عن ابن سريج فما إذا لم يصرح بالسفارة ثلاثة أوجه: أحدها –وهو الذي رجحه -، وكذلك البغوي: أن للبائع مطالبة من شاء منهما. والثاني: أنه لا يطالب إلا الوكيل، وهو المرجح في الوجيز، وفي الرافعي عند الكلام في خلع الأجنبي: أنه الأظهر. والثالث: لا يطالب إلا الموكل، وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن المراوزة، وإذا انضاف إلى ما ذكرناه، صار وجهاً خامساً. وقد قال الإمام في كتاب الرهن: إن الموكل مطالب، ولم يختلف فيه أصحابنا، وكذا قال في [فصل: اختلاع] الأمة. وقال في باب تعجيل الصدقة: إن الوكل إذا أضاف العقد إلى موكله – لم يتعلق به الضمان أصلاً من جهة أنه لم يضف العقد إلى نفسه، وهو الملتزم؛ فلم يتضمن اللفظ إلزام شيء، وهذا يوافقه قوله في باب العبد المأذون: واختلف الأصحاب في أن الوكيل [بالشراء]، هل يطالب بالثمن إذا

أضاف العقد إلى نفسه، ولم يعقدالعقد على صيغة السفارة؟ فرع: الوكيل بالاستقراض [إن صرح بالسفارة]، لم يطالب، المطالب الموكل، وإن لم يصرح، بل نوى، وعلم [المقرض]: أنه وكيل، فهل يطالب؟ حكى الإمام في [باب] تعجيل الصدقة: أن من أصحابنا من قال: يطالبه؛ كما يطالب الوكيل بالشراء، [وهو ظاهر المذهب في الوكيل بالشراء]. ومنهم من قال: لا يطالب الوكيل بالاستقراض وإن طالب الوكيل بالشراء، والفرق: أن الوكيل [في الشراء] يقول: اشتريت، وهذه الكلمة في وضعها ملزمة؛ فيجب الجريان على موجبها، وأما الوكيل بالاستقراض، فلم يصد رمنه ما يقتضي الضمان. فرع: قال الماوردي: أبو الطفل، وولي اليتيم إذا لم يذكرا في العقد اسم الطفل، كانا ضامنين للثمن، ولا يضه الطفل في ذمته وينقدان ذلك من ماله. وإن ذكراه في العقد، لم يلزمهما ضمان الثمن، بخلاف الوكيل في أحد الوجهين. والفرق: أن شراء الولي لازم للمولى عليه بغير إذنه، فلم يلزم [الولي] ضمانه، وشراء الوكيل يلزم بإذنه موكله، فلزم الوكيل ضمانه. قال: وإن قال: بع بيعاً فاسداً، أي: مثل: أن قال: "بع إلى مقدم الحاج، وإدراك الزرع"، أو: بشرط ألاَّ نُسلِّم، ونحو ذلك. قال: فباع بيعاً صحيحاً أو فاسداً- لم يصح: أما الفاسد؛ فلأن الشرع لم يأذن فيه. وأما الصحيح؛ فلأن الموكل لم يأذن فيه.

ولأنه توكيل في بيع فاسد، فوجب ألاَّ يملك به الصحيح؛ أصله: [ما] إذا وكله في البيع بخمر، أو خنزير، أوميتة، فباع بالدراهم والدنانير. قال: وإن قال: اشتر بهذا الدينار شاة -أي: موصوفة - فاشترى شاتين تساوي كل واحدة منهما ديناراً - أي: بالصفة كما أمره به - كان الجميع له -أي: للوكل - لما روي أنه صلى الله عليه وسلم دفع إلى عروة بن الجعد البارقي ديناراً؛ ليبتاع به شاة، فاشترى شاتين، فلقيه رجل، فساومه في أحداهما، فباعها بدينار، ثم أتى النبي ومعه شاة ودينار، فحدثه الحديث فقال: "بارك الله لك في صفقة يمينك"، فكان بعد ذلك يخرج إلى كناسة الكوفة، فيربح الربح العظيم، وكان من أكثر أهل الكوفة مالاً. فلما قبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك [دل] على جوازه؛ لأنه حصل له المقصود وزيادة؛ فصح للموكل؛ كما لو وكله في شراء شيء بعشرة، فاشتراه بخمسة، أو [في] بيع شيء بعشرة فباعه بخمسة عشر؛ وهذا هو الأصح في الطرق. قال: وقيل: للوكيل شاة بنصف دينار، يعني: وللموكل كذلك. ووجهه: أن الموكل إنما أذن في شراء شاة، فلا يملكه ما لم يأذن في شرائه، وينفذ في حق الوكيل؛ لتعلق أحكام العقد به. و [أما] الحديث، فقد قيل: إنه مرسل؛ كما حكيناه عند بيع الفضولي؛ فلا حجة فيه، فإن صح - كما ذكر عبد الحق: أن البخاري خرّج عن شبيب ابن غرقدة. قال: سمعت [الحي] يتحدثون عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ... وذكر الحديث - ففيه ما يستدل به لهذا القول؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أجاز بيع

عروة الشاة، فلولا أنه ملكها، لما صح بيعه؛ إذ انسان لا يملك [بيع] مال الغير بغير إذنه. وأما القياس على جواز البيع بخمسة عشر عند الإذن في البيع بعشرة – فقد تقدم ذكر الفرق بينهما، وهو مانع من الإلحاق. واعلم أن معظم الأصحاب قالوا على هذا القول: يكون الموكل بالخيار بين أن يأخذ الشاتين [بالدينار]، وبين أن يترك الشاة للوكيل، ويسترجع منه نصف دينار. وحكوا ذلك عن نص الشافعي في الإجارات، وأن ابن سريج وجهه بأن انتازع ملك الغير بغير اختياره يجوز؛ لتعلقه بملكه ومشاركته له؛ [كما] في الشفعة، وهاهنا أولى؛ فإن الوكيل أضاف العقد إلى موكله؛ فإن محل هذا [القول إذا وقع العقد على ثمن في الذمة. وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه: إنه لا وجه لهذا] القول عندي إلا أن يكون بناء على القول الذي حكى عن الشافعي في البيع الموقوف: أنه يجوز، وعلى ذلك جرى المتولي.

ولم يتعرض في المهذب لذكر ثبوت الخيار للموكل على هذا القول، بل أورد فيه ما أورده في [هذا] الكتاب، ولعله يرى أنه لا يثبت [[الخيار]؛ كما حكاه] الزبيلي في أدب القضاء [له] وجهاً خامساً. وحكى في البحر: أن صاحب الإفصاح أورده احتمالاً؛ كمذهب أبي حنيفة، ووافق الشيخ [معظم الأصحاب] في أن محله إذا ورد العقد على ثمن في الذمة، [وقال يما إذا أورد على عين الدينار: إن ذلك ينبني على ما إذا اشترى في الذمة:] فإن قلنا: يقع العقد في الشاتين للموكل، فكذلك هاهنا، وإلا بطل في إحدى الشاتين، وصح في الأخرى للموكل. وقال المتولي إذا بطل [العقد] في إحدى الشاتين، جرى في الأخرى [قولا] تفريق الصفقة، وإن الأصح منهما هاهنا البطلان؛ لأنه يؤدي إلى أن يتخير بينهما، وعندنا لو اشترى شاة من شاتين على أن يختار أحداهما – لا يصح العقد، قلت: وفيما قالوه نظر؛ فإن القاضي أبا الطيب حكى في تعليقه عن الشافعي: أنه ذكر في الإجازات: أن أحداهما تلزمه بنصف دينار، وهو بالخيار في الأخرى: إن شاء أمسكها بالنصف الآخر، وإن شاء ردَّها، ويرجع على الوكيل بنصف دينار. وكذلك حكى الماوردي والمتولي النص بهذه العبارة، أو بما يقاربها، وإذا كان [هذا صورة] النص، لم يلزم منه أن يكون حاكماً بأن [للوكيل] شاة بنصف دينار؛ لأن رجوعه على الوكيل عند عدم الإجازة يجوز أن يكون لأجل أنه صرفه في ثمن ما بطل العقد فيه؛ لعدم الإذن فيه والإجازة؛ ولأجل

ذلك حسن من القاضي أن يقول: لا وجه [لهذا] عندي إلا أن يكون بناء على [أن] البيع الموقوف يجوز، لكن الذي حكاه ابن الصباغ والمحاملي والروياني وغيرهم عن الشافعي في الإجازات: انه قال: إذا أعطاه الدينار، وقال: اشتر به شاة، فاشترى شاتين، ففيهما قولان: أحدهما: ينتقل ملك الشاتين معاً إلى الموكل. والثاني: ينتقل ملك إحداهما إلى الموكل، وملك الأخرى إلى الوكيل، ويكون الموكل فيها بالخيار: إن شاء أقرها على ملك وكيله، وإن شاء انتزعها. وهذا صريح يما حكوه من أن للوكيل شاة بنصف دينار؛ وعلى هذا لا يحسن قول القاضي وغيره: إن هذا بناء على قول الوقف؛ لأنا على [قول] الوقف لا نحمك بالملك فيه للفضولي قبل الإجازة، والرد، وهاهنا قد حمك بأن الملك له. وقد رأيت لمن تكلم على التنبيه: أن المراد بقولا لوقف هاهنا ليس الوقف على القديم، بل الوقف على الجديد، وهو ما إذا باع المفلس بعض ماله بعد الحجر عليه، وهو لا يُنجي من المناقشة. ويلزم الأصحاب مما حكوه من صورة النص أن تكون صورة المسألة إذا وقع الشراء بعين الدينار، [وألا لم يقع العقد للموكل في شيء من الشاتين؛ لأن قوله: اشتر بهذا الدينار] شاة صريح في الشراء بالعين؛ كما صرح به الإمام فيما إذا دفع إلى إنسان دراهم، وقال له: اشتر لي بها طعاماً. وقد تقرر: أنه لووكله في أن يشتري بالعين، فاشترى في الذمة – لا يصح العقد للموكل وفاقاً. وقد حكوا أن محل الخلاف إذا وقع الشراء في الذمة، ويلزم عليه – أيضاً- أن يصح العقد على شاة من شاتين؛ كما استشكله المتولي [ومجلي]. وطريق الجواب عن الإلزام الأول علىصورة النص الذي حكاه الأكثرون: أن

يمنع أن قوله: اشتر بهذا الدينار شاة كقوله: اشتر بعينه، بل هو كما لو دفعه إليه، وقال: اشتر [بهذا الثمن شاة]، وقد حكينا: أن الأصح في هذه الحالة صحة الشراء بالعين وفي الذمة؛ فيكون هذا مؤكداً [له]. فإن قيل على مقابله: يلزم ألا يصح [للموكل العقد] في شيء من الشاتين –أيضاً- إذا وقع الشراء في الذمة. قلنا: قد حكاه الإمام وجهاً، وأن العقد يلزم في حق الوكيل، وكذلك الزبيلي مع وجه آخر: أن العقد يبطل في الشاتين. واعلم أن الجيلي حكى عن بعضهم: أنه أجرى الخلاف في مسألة الكتاب من غير فرق بين أن يرد العقد على العين أو الذمة، وكذلك هو في الإكمال فيما وقع في التنبيه من الإجمال. وغالب الظن: أنهما نقلا ذلك عن البحر؛ فإنه ذكر مثل ذلك، لكنه حكى في البحر ذلك بعد أن حكى الخلاف فيما إذا ورد العقد على العين [في] أنه يصح في الجميع، أو يبطل في إحدى الشاتينن وأشار إلى جريان [هذا] الخلاف فيما إذا كان العقد على ما في الذمة؛ ففهم منه [أنه] الذي أورداه، ولا يكاد يصح ذلك؛ فإنه لا يتصور ان يصح الشراء لشخص بملك غيره من غير إذنه، والله أعلم. فروع: أحدها: هل يجوز للوكيل بيع شاة من الشاتين والمحالة هذه؟ إذا قلنا بأنهما للموكل بغير إذنه؛ ففيه وجهان حخكاهما المحاملي وغيره من العراقيين، كما حكاهما المراوزة، وهما [مبنيان عند] الشيخ أبي حامد – كما حكاه البندنيجي والقاضي الحسين – على القولين فيما إذا غصب مالاً واتجر به.

والجديد منهما: أن تصرفه باطل. والقديم: أن لرب المال الخيار بين أن يجيز البيع؛ فيكون كل الربح له، وبين أن يبطله، ويكون له بدل ماله. ومقتضى هذا: أنا إذا صححنا بيع الوكيل، ثبت للموكل الخيار. وقد تمسك القائل بالصحة بحديث عروة، والقائلون بالصحيح الذين سلموا صحة الحديث، قالوا: هذه واقعة حال، وعروة يحتمل أن يكون وكيلاً مطلقاً، بمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم وكله في بيع ماله إذا رأى فيه المصلحة؛ كما صرح به المتولي. ولا يقال: إنه صلى الله عليه وسلم إن كان قد وكله [في بيع ماله، فذلك محمول على الموجود، وهذا مال متجدد، وإن كان قد وكله] في بيع المتجدد، فهو تعليق للوكالة، وأنتم لا ترونه؛ فلا يحسن بكم هذا التأويل؛ لأنا نقول: بقي قسم ثالث، وه وأن يكون قد وكله في بيع الموجود وما يتجدد، ويجوز ذلك بطريق التبع؛ كما يجوز التوكيل في البيع، وقبض الثمن، والتصرف فيه وإن لم يملك الثمن بطريق التبعية، [وكذلك] الوقف يصح على الموجود من أولاده ومن سيوجد، [ولو أفرد] من سيوجد بالوقف [عليه]، لم يصح. الثاني: لو اشترى الوكيل شاتين تسايو كل واحدة منهما دون الدينار، وتساويان أكثر من دينار، لم يصح العقد للموكل. الثالث: لو كانت أحداهما تساوي ديناراً، والأخرى دونه، فقد حكى ابن الصباغ، والروياني، وغيرهما في صحة العقد عليهما للموكل- وجهين، وأن أقيسهما الصحة في الجميع للموكل، وجعله القاضي أبو الطيب المذهب. قلت: وينبغي أن ينبني الخلاف فيها على مسألة الكتاب:

فإن قلنا فيها: لا يلزم الموكل إلا شاة، فهاهنا لايلزمه إلا التي قيمتها دينار، وتكون الأخرى للوكيل بنسبة قيمتها من الثمن. وإن قلنا ثم: إن الشاتين للموكل، فهاهنا وجهان كالوجهين فيما لو قال: "بع بمائة" [فباع] بمائة وثوب؛ لأنها زيادة خير، لكنها بغير الصفة التي أذن فيها. ثم على الصحيح فإذا جوزنا للوكيل بيع إحدى الشاتين، فإن باع التي قيمتها دينار – لم يصح؛ لأنه يفوت المقصود، وإن باع الأخرى – صح. وحكم التوكيل في شراء عشرةأقفزة من الحنطة بدينار حكم التوكيل في [شراء] شاة بدينار، حتى إذا اشترى أحد عشر قفيزاً من النوع الذي ذكره بدينار، خرج على القولين؛ صرح به صاحب البحر. قال: وإن وكَّله في بيع عبد، أو شارء عبد، لم يجز أن يعقد علىنصفه؛ لما في الشركة من الإضرار وهذا في جانب الشراء مطلقاً؛ حتى لو اشترى النصف الآخر، لم يقع العقد للموكل، وفيه وجه. وفي جانب البيع مقيد بما إذا باع النصف بدون قيمة الكل، أما إذا باعه بقيمة الكل – صح اتفاقاً، كما صرح به في المهذب وغيره. ولو وكله ببيع ثلاثة أعبد، فباع واحداً [منها] بدون قيمة الجميع – لم يصح، وإن كان بقيمتهم صح، وهل يبقى وكيلاً في بيع الباقيين؟ فيه وجهان في الطريقين ولو وكله في شراء عشرة أعبد، ملك أن يعقد عليهم صفقة واحدة،

وأن يعقد على واحد واحد. وإن قال: [اشترهم في صفقة] واحدة، فاشتراهم من شخصين بثمن [واحد من] كل واحد [منهما] خمسة، وصححنا مثل هذا العقد – ففي صحة الشراء للموكل وجهان في الشامل. وفي الحاوي في هذه الصورة الجزم بالبطلان، وخكاية الخلاف عن ابن سريج فيما إذا كانوا مشتركين بينهما على الإشاعة؛ وعلى ذلك جرى المحاملي، والبندنيجي. قال: وإن أمره أن يشتري شيئاً موصوفاً- لم يجزأن يشتري [شيئاً] معيباً، أي: وإن كان يساوي ما اشتراه به، أو يزيد عليه؛ لأن الإطلاق يقتضي السلامة. وكذلك لو اشترى عيناً [فوجد بها عيبا] ثبت له الرد، فلو اشترى مع العلم بالعيب – لم يقع للموكل؛ لأنه غير المأذون فيه، [[وهذا] هو] الأظهر عند المراوزة – أيضاً – وحكوا معه عند مساواة المبيع ما اشتراه به أوجهاً: أحدها: [أن] العقد يقع للموكل. [والثاني: إن كان العيب يمنع من الإجزاء في الكفارة والمبيع عبداً – فلا يقع للموكل] [وإلا وقع]. والثالث – حكاه الإمام عن شيخه في كتاب القراض، واستحسنه -: أنه إن كان يشتريه للتجارة، وقع العقد [للموكل]، وله الخيار، وإن كان يتشريه للقنية والخدمة، فلا يقع للموكل [؛ لمكان العيب المعلوم له].

ثم قالوا: إذا قلنا بوقوعه للموكل، فلا خيار للوكيل، وفي ثبوته للموكل وجهان: وجه المنع: إقامة علم الوكيل مقام علم الموكل؛ كما أن رؤيته المبيع تقوم مقام رؤية الموكل. وعلى مقابله – وهو الأصح: إذا فسخ الموكل، فهل يرتفع العقد من أصله، أو يرتد الأمر للوكيل؟ فيه وجهان. قال: فإن لم يعلم بالعيبن ثم علم، رده – أي: من غير احتياج إلى إذن الموكل فيه – لأن الموكل أقامه مقام نفسه، ولما كان للموكل إذا اطلع على العيب أن يفسخ، كذلك للوكيل؛ وهذه علة القاضي أبي الطيب، وغيره. وقال في المهذب: لأنها ظلامة حصلت بعقده، فجاز له دفعها؛ كما لو اشترى لنفسه. ومنهم من علل بأنه لا يأمن ألا يرضى الموكل [به]، ولا يصدقه البائع في دعوى الوكالة؛ فيلزمه الثمن؛ فيتضرر به، ومقتضى هذا التعليل: ألا يملك الرد إذا سمي الموكل في العقد، أو كان [ما اشتراه] يساوي الثمن، أو أكثر، أو وقع العقد [على عين] مال الموكل، وقد حكاه المتولي [وجهاً] في الصور الثلاث. وحكى الإمام في كتاب القراض فيما إذا كان المعيب يساوي أكثر من ثمنه: أنه لا يرد قبل المراجعة. وروى صاحب التقريب وجهاً [غريباً عن ابن سريج: [أن الوكيل لا يملك الرد إلا بإذن موكله. قال الإمام]: وهو ظاهر في القياس، بعيد في الحكاية.

وعلى المذهب: لو رضي به [الموكل]، لم يكن للوكيل الرد [إلا بإذن موكله] – قال الإمام: إجماعاً. قال المتولي: والفرق بينه وبين الفسخ بخيار المجلس، حيث [أثبتنا للوكيل] الفسخ وإن أجاز الموكل: أن خيار المجلس يختص بالوكيل، يعني: بقول صاحب الشرع: المتبايعان بالخيار؛ فكان هو المتصرف فيه، وخيار العيب ثابت للموكل، يعني: لأن سببه يختص به، وهو التضرر بسبب العيب؛ فكان رضاه معتبراً. وقال الرافعي: إن ما فرق به المتولي لاتكاد النفس ترتكن إليه. ولو رضي الموكل بالعيب بعد رد الوكيل، لم يكن له أثر. ولو استمهل البائع الوكيل في الرد إلى أن يعلم موكله – لم يلزمه ذلك، فلو أجابه، فهل يسقط حقه من الرد؟ فيه وجهان في المهذب، المختار منهما في المرشد: عدم السقوط، قد حكاهما الإمام عن العراقيين – أيضاً – فيما لو أبطل الوكيل حق رد نفسه بإلزام العقد، وصحح وجه السقوط، وهوا لذي اختاره في المرشد على [مثل هذا في المسألة قبلها:] إذا حضر الموكل، وأجاز العقد، فلا كلام، إن لم يرض [به، ففي التهذيب: أن المبيع للوكيل، ولا يرد؛ لتأخيره مع الإمكان]. وقيل: يرد؛ لأنه لم يرض بالعيب، وضعفه؛ وهذا القول لم يحك المتولي والبندنيجي سواه، واختاره في المرشد، وادعى الإمام: أنه متفق عليه؛ لأنه إذا لم يبطل حق الموكل بإبطال الوكيل؛ فبالتأخير أولى. ثم هذا إذا توافق البائع والمشتري والموكل على أن العقد وقع للموكل بالنية،

أو بالتصريح بالسفارة، أما لو أخر الوكيل الرد، أو أسقط حقه من الرد، ولم

يصدقه البائع على أن العقد وقع للموكل – فالمنصوص، وبه جزم البغوي، والمتولي: أن السلعة تلزم الوكيل إذا كان الثمن في الذمة. وقيل: تلزم الموكل، وهو الذي نقله أبو حامد، ولم يحكه البندنيجي، بل قال بعد حكاية الأول: ولأصحابنا [فيه] ما لا يحكي؛ لفساده؛ [لأنه خلاف] المنصوص. ثم على خلاف المنصصو يغرم له الوكيل الأرش [من الثمن]؛ لتقصيره عند الجمهور، وهو الأصح في المهذب. وقال أبو يحيى البلخي: يرجع عليه بما نقص [عن] الثمن؛ حتى لو اشتراه بمائة وهو يساويها، لا يغرمه شيئاً. ولا فرق في وقوع العقد للموكل عند عدم العلم بالعيب بين أن يكون المبيع يساوي الثمن أم لا عند الأكثرين. وحكى الإمام فيما إذا كان لا يساويه وجهين في وقوعه للموكل، [وأن

المذهب منهما: أنه لا يقع له؛ لأن الغبن يمنع الوقوع عن الموكل] مع [سلامة المبيع] [وإن لم يعرف الوكيل]، فعند العيب أولى. وفرق الأكثرون بينه وبين الغبن بأن العقد لو صح للموكل معه، لما كان له مستدركاً؛ فإنه [لا] يثبت فيه [خيار]، بخلاف العيب. قال: وإن وكله في شراء شيء بعينه، فاشتراه، ثم وجد به عيباً، فالمنصوص – [أي: في اختلاف العراقيين] أنه يرده؛ [لما ذكرناه]. [قال:] [وقيل: لا يرد؛ لأن الموكل قطع اجتهاده بتعيينه، ولعله قد أمره بشرائه بعد علمه بعيبه]، وهذا قول الجمهور؛ كما حكاه الماوردي، وقال: إن الأول قول أبي حامد الإسفراييني، والذي اختاره في المرشد الثاني. قال الرافعي: ولم يذكروا – يعني الأصحاب – في هذه المسألة متى يقع عن الموكل؟ ومتى لا يقع؟ والقياس: أنه كما سبق في الحالة الأولى. نعم: لو كان المبيع معيباً يساوي ما اشتراه به، وهو عالم، فإيقاعه عن الموكل هاهنا أولى؛ لجواز تعلق الغرض بعيبه. ومحل الخلاف – كما قاله في الكافي – ما إذا لم يعين الموكل الثمن، أما إّا قال له: "اشتر هذا بهذا"، فاشتراه، ثم وجده معيباً –فلا رد للوكيل قولاً واحداً. فرع: لو ادعى البائع على الوكيل علمه برضا الموكل بالعيب قبل الفسخ، نظر: إن لم يمض زمان إمكان ذلك، لم يسمع. وإن أمكن، حلف على نفي [العلم] وهو الذي جزم به المعظم. و [عن] القاضي أبي حامد وغيره [وجه]: أنه لا يحلف. فعلى الأول: إن حلف الوكيل، رد المبيع، فلو حضر الموكل من بعد،

وصدق البائع، بان بطلان الرد؛ كما حكى عن ابن سريج. وعن القاضي الحسين خلافه؛ كما حكاه المتولي. والذي رأيته في [تعليق القاضي]: أن الموكل إذا حضر، وقال: "كنت قد رضيت به"، لا يحتاج إلى بيع جديد. وقد يقال: إن هذا الخلاف ينبني على انعزال الوكيل قبل العلم؛ كما حكيناه عن ابن الصباغ فيما إذا عفا ولي الدم عنه قبل القصاص. ولو نكل الوكيلعن اليمين – حلف البائع، ولم يكن للوكيل الرد، [ثم] إذا حضر الموكل، وكذبه، قال في التهذيب: لزم العقد الوكيل، ولا رد له؛ لإبطال الحق فيه بالنكول؛ وهذا منه بناء على ما صححه من أن الوكيل إذا أخر الرد، سقط حق الموكل، قود وافقه فيما ذكره هنا صاحب البحر. وقال القاضي الحسين هنا في تعليقه: هذا إذا أنكر الموكل الشراء، ولم يسم الوكيل الموكل في العقد، فإن سماه، فعلى وجهين. واعلم: أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن محل الكلام في جواز رد الوكيل إذا كان العيب مقارناً للعقد، أما إذا حدث، فليس فيه تصريح بحكهم، ومقتضى ما حكيناه عن القاضي أبي الطيب من التعليل جوازه [أيضاً] قال: وإن وكله في البيع من زيد، فباع من عمرو – لم يجز؛ لأنه قد يريد البيع من زيد؛ لطيب ماله، أو لإرادة تخصيصه بالمبيع دون غيره؛ [فلا يلزم أن يكون الإذن في البيع منه إذناً في البيع من غيره،] والأصل المنع.

ولا فرق في منع البيع من عمرو بين أن يكون وارثاً، [لزيد] أو غير وارث؛ لما ذكرناه؛ ولهذا لو قال: خذ مالي من فلان، [لم يجز] أن يأخذه من وارثه، [بخلاف ما لو قال: خذ مالي على فلان؛ فإنه يجوز أن يأخذه من وارثه]. قال: وإن وكله في البيع في سوق، فباع في غيرها - أي: ولا تفاوت بينهما - جاز؛ لاتفاق الغرض فيهام. وقيل: لا يجوز؛ كالمسألة قبلها. وقال بعضهم: إنه ليس بصحيح، وصححه ابن القطان، والبغوي، واختاره في المرشد، وقال الماوردي: إنه أشبه. وقد نسب القاضي أبو الطيب [الأول] إلى النص، وجزم به، وتابعه في الجزم [به] الغزالي في الوجيز. قال في رفع التمويه: ومحل القول الثاني إذا لم يقدر [له] الثمن، أما إذا قدره، فقال: بع بمائة، فباع في غيرها بها - جاز وجهاً واحداً. والحكم فيما لو قال: بع في بلد كذا كالحكم في قوله: بع في سوق كذا؛ [كذا] صرح به القاضي ابن كج، لكنه إذاباع في غيره، كان ضامناً للمبيع والثمن؛ [إذ مطلق الإذن في البيع لا يقتضي الإذن في السفر. أما إذا كان الثمن] في الوضع الذي عينه أكثر، أو النقد فيه أجود-

لم يجز البيع في غيره وفاقاً، وكذا إذا نهاه عن البيع في غيره. ولا خلاف في أنه إذا أذن في البيع في زمان، لا يجوز أن يبيع في غيره: متقدماً، أو متأخراً. [وعند إطلاق] الوكالة تحمل على البيع بالنهار، فإن باع بالليل، قال القاضي الحسين في تعليقه: إن كان الراغبون فيه كالنهار، جاز، وإلا فلا. قال: وإن وكله في البيع، سلم المبيع – أي: إذا كان معيناً في يده –لأنه من مقتضى العقد؛ بدليل أنه لو باع بشرط ألا يسلم – بطل، وإذا كان [الثمن] من مقتضى العقد [تضمنه التوكيل]؛ كخيار المجلس، ونحوه. فعلى هذا لو شرط [في التوكيل]: ألاَّ يسلم المبيع وإن قبض الثمن – لم يكن له التسليم؛ كما حكاه في شرح الفروع. وقال قائلون: هذا الشرط فاسد؛ فإن التسليم مستحق بالعقد، ورووا عن أبي علي الطبري وغيره وجهين في أن الوكالة هل تفسد به؛ حتى يسقط الجعل المسمى، ويجب أجرة المثل؟ وحكى الشيخ أبو علي في جواز تسلم المبيع عند إطلاق الوكالة وجهين؛ كالوجهين الآتيين في أنه هل يقبض الثمن أم لا؟ [قال:] وكيف لا، وتسليم المبيع دون قبض الثمن فيه خطر ظاهر؟! وعلى هذا جرى صاحب التهذيب وغيره. وحكى الرافعي: أن وجه المنع يجري وإن كان [الثمن مؤجلاً؛ لأنه لم يفوض إليه. وجعل في الوسيط جواز تسليم المبيع بعد توفير] الثمن، ليس من مقتضى الوكالة [له]، بل لأنه ملكه، ولا حق يتعلق به، وهو ظاهر. قال: ولم يقبض الثمن –أي: حيث لم يكن القبض – شرطاً في صحة العقد،

وكان الثمن حالاًّ؛ لأنه قد يرضاه للبيع، ولا يرضاه للقبض، وهذا ما اختاره في المرشد. قال: وقيل: يقبض؛ لأن موجب العرف قبض الثمن، وتسليم المبيع؛ فنزل عليه؛ وهذا هو الأصح في الرافعي، وحلية الشاشي، والتتمة. أما إذا كان القبض شرطاً في العقد – كما في الصرف ونحوه – فلا خلاف في أن له القبض والإقباض. ولو كان الثمن مؤجلاً، لم يكن له القبض وجهاً واحداً. وحكم الوكيل في الشراء في تسليم الثمن المعينن وتسلم المبيع – حكم وكيل البائع في تسليم المبيع وتسلم الثمن فيما ذكرناه وفاقاً وخلافاً؛ كما صرح به [ابن] الصباغ وغيره. وفي الوسيط فرق بينهما. التفريع: إن قلنا بالأول، فإذا سلم الوكيل المبيع قبل قبض الوكل الثمن، وتعذر قبضه بسبب إعسار المشتري – لا يكون الوكيل ضامناً؛ كما صرح به القاضي أبو الطيب، والبندنيجي. ووجهه المتولي بأن الوكيل لم يثبت له حق التسليم؛ حتى نجعله مفرطاً بتسليم المبيع [قبل استيفاء الثمن. وإن قلنا بالثاني؛ فليس له التسليم إلا بعد قبض الثمن، فإن سلم قبله، صار ضامناً، وله طلب المشتري بتسليم المبيع] إن كان قائماً إلى أن يوفي الثمن، وإن كان تالفاً، فله المطالبة بالثمن؛ كما صرح به القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ. وما الذي يضمنه الوكيل للموكل؟ ينظر: إن كان الثمن، وقيمة المبيع سيان، غرم القيمة، وإن كانت القيمة أقل، لم يضمن غيرها، وإن كانت أكثر مثل: إن باعه بما يتغابن بمثله، فوجهان:

أصحهما: أنه يغرم جميع القيمة. والثاني: قدر الثمن؛ لأنه الذي فوته بالتسليم. وقد رجع حاصل الوجه الثاني [إلى] أنه يغرم أقل الأمرين من القيمة أو الثمن، وهو ما حكاه الإمام هاهنا، واختاره القاضي الحسين في كتاب القراض بعد أن قال: قالل أصحابنا: يضمن أكثر الأمرين من قيمة المبيع، أو ثمنه. وقال الإمام في كتاب التفليس: إذا عسر على الموكل قبض الثمن، ضمن الوكيل، وفيما يضمنه وجهان ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما: الثمن؛ فإنه فوت متعلقه؛ فكان كالشاهد بالزور. والثاني: قيمة المبيع؛ فإنه التزم ألا يسلمه إلا بشرط، فإذا لم يف بالشرط، لزمته القيمة؛ نظراً إلى ما قبل البيع. ثم قال: وهذا الضمان على الجملة بِدْع خارج عن قانون الضمان؛ فإنه لم يلتزم [الثمن] بجهته، ولما سلم المبيع لم يَجْرِ عُدوانه في ملك الموكل؛ فالقياس الكلي نفي الضمان، لكن اتفق الأصحاب عليه. وإذا اعتبرنا قيمة المبيع فالمعتبر حالة التسليم؛ كما صرح به القاضي الحسين. ثم إذا قبض الوكيل الثمن بعد الغرم للموكل، كان له حبسه حتى يسترد ما غرمه للموكل – قال القاضي الحسين: كالغاصب إذا غرم. فروع: [أحدها] إذا قبض الوكيل الثمن حيث جاز له القبض، فخرج المبيع مستحقًّا، وأخذه مالكه بعد تلف الثمن في يد الوكيل؛ فللمشتري الرجوع بالثمن على الوكيل؛ إن انكر كونه وكيلاً، وحلف على نفي العلم، فإن صدقه، فمن الذي يرجع عليه؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الإمام عن ابن سريج: أحدها: أنه الموكل لا غير؛ لأن الوكيل متوسط؛ كالسفير، ويده في القبض كيد الموكل؛ فكأن الموكل قبض المال، فتلف في يده؛ [وهذا ما حكاه القاضي أب والطيب في كتاب

الرهن؛ قياساً على ما لوباع العدل الرهن بإذن الحاكم، وقبض الثمن، وتلف في يده، وخرج [الرهن] مستحقًّا؛ فإنه لا يرجع على العدل [بشيء]، وادعى الإجماع عليه. وفي النهاية [حكاية] خلاف [فيه] أيضاً، مع الاتفاق على أن الحاكم لو باع، وتلف الثمن في يده، وخرج المبيع مستحقًّا: أنه لا ضمان. والوجه الثاني: أنه الوكيل لا غير؛ لبيان انقطاع أثر التوكيل بالاستحقاق؛ وهذا ما جعله الإمام هاهنا أقيس، وقال في كتاب الرهن: الذي يجب القطع به أن الوكيل مطالب، ولو أراد المشتري مطالبة البائع بالثمن، وما ثبتت يده عليه – فلست أرى ذلك؛ من جهة أن يده ما وصلت إلى عين مال المشتري، ولم يوجد منه في حق المشتري إلا أنه أمر وكيله بالمعاملة، ومن أمر غيره بغصب مال لم يصر بأمره غاصباً. ثم قال: وليست أنفي احتمالاً يراه ناظر [في] تثبت مطالبة الموكل؛ كما ذهب إليه العراقيون. والوجه الثالث: [له] مطالبتهما جميعاً، وهو المختار في الرافعي، وحكاه الماوردي أيضا. فعلى هذاإذا غرم الوكيل؛ فالمشهور من المذهب – [كما حكاه الإمام-]: أنه يرجع على الموكل. وقيل: لا. وإن غرم الموكل، لم يرجع على الوكيل. وقيل: يرجع عليه في هذه الحالة؛ لتلف العين تحت يده. وإن قلنا بالوجهين الأولين، فمن غرم منهما، لم يرجع على الآخر؛ كذا حكاه الإمام هنا. وقال في كتاب الرهن: إن الوكيل مطالب دون الموكل، وإذا غرم رجع على الموكل.

ولو تلف المال في يد الموكل بعد أن سلمه له الوكيل، فلا نزاع في أن الموكل مطالب، وهل يطالب الوكيل؟ ذكر الإمام فيه خلافاً في كتاب الرهن. الثاني: إذا اشترى عبداً لموكله، وقبضه بإذنه، وتلف في يده قبل أنيسلمه إلى موكله، ثم خرج ما قبضه مستحقًّا - فلمالك [العبد] مطالبة البائع قطعاً، وكذا [مطالبة المشتري إذا انكر كونه وكيلاً، فإن صدقه، فهل له] [مطالبة الموكل دونه، أو مطالبتهما؟ فيه ثلاثة أوجه، ووجه] مطالبة الموكل هاهنا بعيد؛ إذا كان الإذن في شراء عبد موصوف؛ إذلم يصدر منه مايقتضي التغرير الذي جعلناه في الفرع قبله سبباً لمطالبته، والرجوع عليه. نعم: إن كان قد عين العبد في التوكيل، شابه الفرع [الذي] قبله، وحكم التراجع بين الوةكيل والموكل كما ذكرناه من قبل. الثالث: قال الرافعي: إذا باع الوكيل ما وكل فيه بثمن في الذمة، ودفعه إلى موكله، فخرج مستحقًّا أو معيباً، فرده؛ فللموكل مطالبة المشتري بالثمن، وله تغريم الوكيل؛ لأنه صار مسلماً للمبيع قبل أخذ ثمنه، وفيما يغرمه الوكيل وجهان: أحدهما: قيمة العين. والثاني: الثمن. [قال: وإن وكله في تثبيت دين، فثبته؛ لم يجز له قبضه؛ لأنه غير مأذون فيه لفظاً ولا عرفاً؛ فإن الإنسان قد يرضى بالشخص في التثبيت، ولا يرضاه في القبض. وفي طريقة المراوزة حكاية وجه: أنه يجوز له القبض؛ كما في [قبض] الثمن، وجعله في بحر المذهب ظاهر المذهب، والصحيح خلافه]. قال: وإن وكله في بضه، فجحد من عليه الحق، فقد قيل يثبته؛ لأنه يتوصل به إلىما وكل فيه؛ فاقتضاه الإذن؛ وهذا [هو] الأصح في الجيلي.

قال: وقيل لا يثبته؛ لأنه قد يرضاه في القبض؛ لأمانته، ولا يرضاه في التثبيت؛ لقصور حجته؛ وهذا ما اختاره في المرشد. ويجري هذا الخلاف فيما إذا وكله في قبض عين، فجحدها من هي في يده. ولو وكله في بيع [دار]، أو قمسة نصيبه من دار، [وطلب شفعة] – لم ينك له تثبيتها عند بعض الأصحاب. قال في [بحر المذهب]: وقيل: فيه وجهان – أيضاً – نسبهما الماوردي إلى ابن سريج في مسألة المقاسمة لا غير، وأبداهما ابن الصباغ من عند نفسه احتمالاً في الجميع. فرع: الوكيل بالشراء إذا سلم الثمن، وخرج المبيع مستحقًّا، هل [له] مطالبة البائع بالثمن؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي عن أبي القاسم بن كج، [وهام في المهذب]، والمذكرو منهما في المرشد المنع. قال الماورديك والصحيح عندي غيرهما، وهو أن ينظر: فإن استحق من يد الوكيل قبل وصوله إلى يد الموكل؛ فللوكيل المطالبة. وإن استحق من يد الموكل، فلا؛ إذ الوكالة قد انتهت. فرع: إذا وكله في قبض دين، فقبضه الموكل معيباً، ولم يعلم بعيبه، ثم [قبضه الوكيل] سالماً، فهل يصح قبض الوكيل له أو قبض الموكل؟ قال في البحر: [إنه يجوز قبض الوكيل، قال: وعندي أنه لا يجوز]؛ لأن الرد بالعيب انتقاض من الوقت لا من الأصل، وقد أخذ الوكيل ذلك بعد براءة ذمته؛ فلايصح قبضه. قلت: هذا الفرع يظهر بناؤه على أن الدين [الناقص] متى يملك؟ هل

بمجرد القبض، وينتقض بالرد، أو لا يملك إلا بالرضا بالعيب؟ وفيه خلاف حكاه الغزالي وإمامه في باب الاستبراء والكتابة. فعلى الأول يخرج ما قاله صاحب البحر، وعلىلثاني يخرج ما قاله والده. قال: وإن وكله في كل قليل وكثير – لم يجز؛ لما في ذلك من الغرر؛ [فإنه لو] صح لملك أن يعتق جميع عبيده، ويطلق جميع نسائه، ويبيع جميع أمواله، ويتشري له ما لا يقدر على أداء ثمنه، وأي غرر أعظم من ذلك؟! نعم لو قال: وكلتك في عتق عبيدي، وطلاق زوجاتي، وبيع جميع مالي، وقبض ديوني – صح وقيد صاحب التهذيب جواز التوكيل في بيع المال، وبض الديون بما إذا كانت معلومة، ومفهوم ذلك [أنها] [إذا لم تكن معلومة، لا يصح] وهو ما صرح به القاضي الحسين في تعليقه في مسألة بيع المال؛ حيث قال: لو قال: وكلتك [في بيع مالي، ولم يعين المال، لم يجز، ولو قال: وكلتك] في كل قليل وكثير [مما إلي] من التصرفات [لم يصح؛ وحكى الغزالي وإمامه وجهاً فيه، والأصح الأول؛ كما لو أطلق، ولم يقل: [فيما إلي] من التصرفات]؛ فإن الإنسان إنما يوكل فيما يتعلق به، سواء نص على الإضافة إلى نفسه، أو لم ينص؛ ولهذا لو قال: وكلتك في شراء كذا، لم يحتج إلى أن يقول: لي. وقد حكى الماوردي في كتاب الوديعة وجهين في صحةالوكالة العامة في كل شيء، ولعل محلهما ما حكاه الإمام. ولو قال: "وكلتك في بيع ما تراه من مالي"، أو: "من عبيدي" – لم يصح؛ كما [صرح به] الماوردي.

وفي الزوائد للعمراني: أنه لا يصح في الأولى، ويصح في الثانية. وفي النهاية [حكاية فرع يدل على الصحة في الثانية] أيضاً، وه إذا قال رجل لىخر: بع من عبيدي من شئت، فليس للوكيل أني بيع جميعهم، فلو باع الجميع إلا واحداً، فقد اتفق الأصحاب عليه، وإن كان التبعيض في النظم المعروف ربما يورد على النصف فما دونه. وفي المهذب والتهذيب: أنه لو قال: بع ما شئت من مالي، أو: اقبض ما شئت من ديوني: أنه يصح. فرع: الوكالة بالتصرف فيما يجهل قدره مثل: أن يكون بين شخصين مال، وكل منهما يجهل [قدر] حصته منه، فيوكل أحدهما صاحبه في بيع حصته، أو يوكلان وكيلاً في بيع الجميع، هل يصح؟ فيه وجهان، تقدمت حكايتهما في باب الشركة، والأظهر [منهما] الصحة. قال: وإن وكله في شراء عبد، ولم يذكر نوعه – لم يصح التوكيل؛ لأن فيه غرراً؛ فإن العبيد تختلف أثمانهمن فربما يشتري له عبداص لا يملك الوفاء بثمنه. ولا فرق في ذلك بين أن يقول للوكيل: اشتره كيف شئت، أو لا. وفي الحاوي حكاية وجه: أنه يصح، فإذا اشترى أي عبد، كان بثمن مثله، أو أقل – صح الشراء. وقد نسب الإمام هذا الوجه إلى رواية صاحب التقريب، وحكى عن الشيخ أبي محمد أنه إذا قال: اشتر لي عبداً كما تشاء: أنه يظهر تجويز ذلك؛ فإنه تصريح بالتفويض التام، ثم قال: وهو متجه. قال في "الوسيط": وهذا تصرف لم يذكره غيره. قلت: قد حكى نظيره عن القاضي أبي حامد فيما إذا قال: "زوجني أي امرأة شئت" من غير أن يعين واحدة: أنه يصح. وفي هذه الصورة –أيضاً –وجه: أنه لا يجوز حتى يصفها بما تضبط به.

قال في الشامل: وهو اختيار الزبيري، وكذلك قال في البحر، وعلله بأن الأغراض تختلف: فمن الناس من يرغب في الجمال، ومنهم من يرغب في كثرة المال، ومنهم من يرغب في العشيرة، أو في النسب. قال: وإن ذكر النوع، ولم يقدر الثمن –أي: مثل: أن قال: اشتر لي عبداً تركيًّا، أو حبشيًّا، أوزنجيًّا – لم يصح التوكيل؛ لأن أثمان النوع تختلف، فالغرر فيها ثابت؛ وهذا ما قال القاضي الحسين: إنه الظاهر ما لم يذكر جميع أوصاف العبد التي يختلف الثمن باختلافها، مثل: أن يقول: قامته كذا، وسنه [كذا]. وقيل: يصح، وهو اختيار ابن سريج؛ كما حكاه المحاملي، والبندنيجي، [والشيخ في المهذب]، وصححه الرافعي؛ لأن مع ذكر النوع يقل الغرر، [ويحمل ذلك] على أغلى ثمن. قال: وإن ذكر النوع، وقدر الثمن، ولم يصف العبد، أي: بما يميزه [عن] غيره، لا بصفات السلم؛ كما صرح به الماوردي، والإمام [قال]: فالأشبه: أنه لا يصح؛ لاختلاف الأغراض باختلاف الصفات مع التساوي في القيمة، وذلك غرر. قال: وقيل: يصح؛ لأن ذلك القدر لا يخفى مقابله في العادة. وأيضاً: فإن الوكالة جوزت للحاجة، والتضييق فيها يخرجها عن موضوعها، وهذا ما [جزم به] القاضي أبو الطيب وغيره، وادعى البندنيجي [نفي] خلافه. و [قد] قال بعض الشارحين: إنه لم ير الأول في الكتب المشهورة، وكذلك أقول، لكن طريق الجواب عنه أن الشيخ أبداه احتمالاً لنفسه، ويقرب

[منه] ما حكاه الماوردي فيما إذا قال: "اشتر لي عبداً بمائة"، ولم يصفه بما يتميز به مراده من العبيد من أن ذكر [الثمن هل يقوم مقام الصفة، أم لا؟ وفيه وجهان. واعلم أن ما ذكرناه من] اعتبار ذكر النوع وغيره مفروض فيما إذا لم يكن القصد بالشراء التجارة، أما إذا كان القصد منه التجارة، فلا يشترط بيان ذلك، بل يجوز أن يقول: وكلتك [في] أن تشتري بهذا الألف ما شئت من العروض، أو: ما علمت فيه حظًّا من الأموال؛ صرح به الماوردي، والمتولي؛ قياساً على القراض. قال: وما يتلف في يد الوكيل من غير تفريط، لا يلزمه ضمان؛ لأنه نائب عنه في اليد والتصرف؛ فكانت يده كيده. ومفهوم هذا: [أن ما يتلف في يده بتفريط]، يلزمه ضمانه. وهل يجعل إمساكه لما وكل في بيعه مع قدرته على البيع – تفريطاً؛ حتى يضمن عند التلف؟ فيه وجهان في تعليق القاضي الحسين. قال: والقول في الهلاك، وما يدعي عليه من جناية – قوله: أما في الهلاك؛ فلتعذر إقامة البينة عليه، ولا فرق بين أن يدعيه بسبب ظاهر، أو خفي؛ كما سنذكره في الوديعة. وأما في دعوى الجناية؛ فلأن الأصل عدمها. قال: وإن كان متطوعاً، فالقول في الرد قوله؛ لأنه قبض العين لحق المالك؛ فكان القول قوله في الرد؛ كالمودع. قال: وإن كان بجعل، فقد قيل: القول قوله؛ لأنه مؤتمن من جهته، لا يضمن العين عند التلف؛ فكان القول قوله في الرد على من ائتمنه؛ كالمودع؛ وهذا قول الجمهور، وهو الأظهر في الحاوي. قالك وقيل: القول قول الموكل؛ لأنه قبض العين لمنفعة نفسه؛ فلم يقبل قوله

في الرد؛ كالمرتهن، والمستأجر؛ وهذا قول أبي علي الطبري. وقد أجرى هذا الخلاف بعينه في عامل القراض، والأجير المشترك إذا لم نضمِّنه، وقد قدمت في كتاب الرهن الفرق بين المرتهن والمستأجر، وبين الوكيل بالجعل ومن في معناه، فليطلب منه. تنبيه: الجعل - بضم الجيم -: ما يجعل للعامل عوضاً. وتفرقة الشيخ بين الوكيل بجعل وغيره في دعوى الرد، تعرفك أن ما ذكره من الأحكام فيه غير الرد لا فرق فيها بين أن يكون بجعل أو غيره. وقد حكى عن أبي علي الطبري: أن الوكيل بالجعل حكمه حكم الأجير المشترك؛ حتى يكون في ضمانه قولان، وهو ما حكاه الماوردي في كتاب الإجارة، لكن فيما قبضه لبيعه دون الثمن، وفيما قبضه ليشتري به دون المبيع، إذا جعل الجعل في مقابلة البيع أو الشراء، فإن جعله في مقابلتهما، فالذي يظهر من كلامه في موضع آخر: أن حكمهما في الضمان سواء. فرع: لو مات الوكيل، فادعى وارثه الرد على الموكل، نظر: فإن ادعى أن الرد صدر منه، لم يقبل؛ لأنه لم يأتمنه، وهكذا حكم الوكيل إذا ادعى الرد على ورثة موكله، والمقارض إذا ادعى الرد على ورثة رب المال، وكل من لم يأتمنه المدعي عليه وإن كان مؤتمناً شرعاً؛ كمن طيرت الربح الثوب إلى داره، [والملتقط؛] كما حكاه العراقيون. وفي كلام الإمام إشارة إلى خلاف فيه؛ فإنه قال بعد ذكر ذلك: [على الصحيح، فكأنه يشير إلى الوجه الصائر إلى قبول قول الوصي في الرد على الصبي بعد البلوغ: أنه يجيء هاهنا، وقد صرح به القاضي الحسين في تعليقه احتمالاً، وأجراه فيما إذا ادعى رد العبد الموصى بخدمته بعد انتهاء مدة الخدمة على الورثة؛ حتى يقبل قوله على وجه. وإن ادعى أن مورثه هو الراد، قال المتولي في الوديعة: لا يقبل قوله.

وقال البغوي: يقبل، وأجريا ذلك في دعوى التلف من غير تفريط. والذي رجحه امام قبول قوله في دعوى التلف، وهذا بعينه يجيء هاهنا. فرع: من يقبل قوله في الرد، هل له ان يمتنع [منه]؛ بعذر الإشهاد؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها الماوردي: أصحها: أنه ليس له. والثاني- وهو ما نسبه القاضي أبو الطيب إلى ابن أبي هريرة-: أن له ذلك. والثالث: أنه إن قبض المال بالإشهاد، كان له الامتناع؛ لأجله، وإلا فلا. وأما من لا يقبل قوله في الرد إلا ببينة: كالمستعير، والمديون، والمستأجر، والمرتهن، هل له الامتناع؛ بعذر الإشهاد؟ قال العراقيون: إن كان عليه بينة [به] فنعم، وإلا [فلا، على] الأصح، وبه جزم بعضهم: كالمحاملي، وغيره. وحكى الماوردي وجه ابن أبي هريرة فيه. وعلى هذا الترتيب جرى القاضي الحسين في تعليقه. وقال ابن الصباغ: لا بأس بوجه ابن أبي هريرة [عندي في] المسائل كلها؛ إذا كان الإشهاد ممكناً لا يؤدي إلى تأخير الحق، فأما إذا أدى إلى تأخير الدفع – كان على التفصيل؛ وهذا أبداه المتولي وجهاً. قال: وإن اختلفا: فقال: أذنت لك في بيع حال- أي: وقد بعت مؤجلاً – فأنت ضامن، فقال الوكيل: بل [في بيع مؤجل؛ أو قال – أي: الموكل] – في الشراء بعشرة، وقال – أي: الوكيل -: [بل] بعشرين، فالقول قول الموكل – أي: مع يمينه – لأنهما لو اختلفا في أصل التوكيل، كان القول قوله؛ فكذلك إذا اختلفا في صفته؛ أصله: الزوجان إذا اختلفا في الطلاق وصفته؛ فإن القول قول الزوج. ويخالف ما إذا دفع إلى خياط ثوباً، فقطعه، ثم اختلفا – كما سنذكره – حيث لايجعل القول قول الآذن – على قول – وإن كان اختلافاً في صفة الإذن؛ لأان

صاحب الثوب يريد [أن] يثبت على الخياطبيمينه غرامة، والأصل براءته منها؛ فتعارض بسبب ذلك أصلان؛ فلذلك جرى الخلاف، و [ها] هنا الموكل لا يثبت [يمينه] على الوكيل غرامة لنفسه؛ فسلم أصله عن المعارضة، وما يغرمه الوكل من الثمن ظاهر، يرجع به من ثمن العين أو العين؛ كما سنذكره. فرع: المشتري في المسألة الأولى إذا صدق الموكل، بطل العقد، ولا يخفى حكمه. وإن ادعى أن البائع باع لنفسه؛ فالقول قول مع يمينه، إن لم تكن بينة؛ فإن الظاهر أن ما يبيعه الإنسان ملكه، وإذا حلف أقرت العين في يده، وإن نكل، حلف الموكل، وإن نكل، فهو كما لو حلف المشتري، ولا يمنعه هذا النكول من حلفه: أنه ما أذن للوكيل في البيع بنسيئة، فيحلف، ويرجع على الوكيل ببدل المبيع، فإذا غرم الوكيل، لا يطالب المشتري حتى يحل الأجل، وإذا حل الأجل، فإن صدق الوكيل الموكل، لم يرجع لى المشتري إلا بأقل الأمرين من الثمن، أو القيمة، وإن لم يرجع، وأصر على قوله الأول، فيطالبه بالثمن بتمامه فإن كان قدر ما غرمه، او أقل، أخذه، وإن كان أكثر فالزيادة في يده للموكل بزعمه، وهو ينكرها، فيحفظها، أو يلزمه دفعها إلى القاضي؟ فيه خلاف. قلت: في تسليط الوكيل على قبض [الزائد على ما غرمه نظر؛ لأن تسليطه على] قدر ما غرمه إنما كان لأجل الظفر، وجزم به؛ لما سنذكره من أن [من هو منسوب] إليه لا يدعيه.

ولا يقال: إنه يتسلط عليه بطريق الوكالة؛ فإن الموكل إن كان صادقاً، فلا عقد يستحق الوكيل بسببه المطالبة، [وإن كان كاذباً، فإنكار الموكل التوكيل بالبيع، يمتنع به المطالبة] ظاهراً؛ كما في إنكاره الوكالة صريحاً [وإن لم ينعزل] في نفس الأمر؛ على رأي كما سنذكره. على أن الأصحاب [قد] حكوا في جواز أخذ الوكيل قدر [ما غرمه- الخلاف] المذكور في مسألة الظفر بغير جنس الحق، وقدجزم المحاملي، والبندنيجي، وابن الصباغ، والماوردي فيما إذا صدق المشتري الوكيل في صحة التوكيل، ورجع البائع على الوكيل ابتدءا عند تلف العين -: أن الوكيل لا يطالب المشتري عند الحلول إلا بأقل الأمرين من الثمن والقيمة؛ لأن القيمة إن كانت أقل، فلم يغرم إلا هي، ومازاد لا يدعيه الموكل، وإن كان الثمن أقل، لم يرجع عليه إلا به؛ لأنه يقول: هذا هو الواجب، وما زاد [عليه] ظلمني به الموكل؛ فلا أستحق الرجوع [به] عليك؛ وها بعينه موجود في مسألتنا؛ فيجب أن يكون الحكم فيها كذلك، وهو مقرر لما أبديته من النظر. فرع: إذا حلف الموكل في المسألة الثانية على ما ادعاه، فلمن يكون المبيع؟ ينظر: إن وقع العقد على العين، وقد صرح الوكيل بالسفارة، وأن المال للموكل- حكمنا ببطلان العقد ظاهراً؛ على الجديد، والصحيح من القديم. وقد خرّج ابن أبي هريرة وجهاً من القديم: أنه يصح موقوفاً على إجازه الموكل، فإن أجاز، كان كما لو صدق الوكيل، وإن رد، كان كما في الجديد. وإن لم يذكر الوكيل ذلك في العقد، لكن ذكره بعد لزومه، فإن صدقه البائع على ذلك [أو قامت بينة] على ملك الموكل عين الثمن؛ بطل أيضاً.

وإن لم يصدقه البائع، ولا بينة، فالبيع نافذ في الظاهر على الوكيل، والثمن مسلم للبائع بعد يمينه علىنفي العلم بالوكالة، ويغرم الوكيل بدله للموكل. قلت: وكان يتجه [أن يجري] في تغريمه البدل قولا الغرم؛ بسبب الحيلولة. وإن اشترى في الذمة، نظر: إن صرح بالسفارة، وصدق البائع الوكيل على أنه اشترىللموكل، بطل العقد [أيضاً؛ صرح به الماوردي، والرافعي. وإن كذبه، ففي بطلان العقد]، أو تعلقه بالوكيل ظاهراً وجهان: أظهرهما – وبه قال أبو إسحاق -: الثاني، وقد بناهما الماوردي على أن الوكيل – والحالة هذه- هل يكون ضامناً للثمن، أم لا؟ كما صرح [به] عندالكلام في إنكار الموكل أصل الوكالة، وقال المحاملي في مجموعه: لا فرق في جريان الوجهين بين أن يصدقه البائع، أو يكذبه. وإن لم يصرح بالسفارة، وكذبه البائع في الشراء للموكل؛ فالقول قوله مع يمينه على نفي العلم، والشراء يلزم الوكيل ظاهراً. وإن صدقه، فهل يبطل العقدنأو يلزم الوكيل؟ فيه وجهان مبنيان – كما قال الماوردي – على الوجهين في أن الموكل هل يصير مشاركاً للوكيل [في التزام الثمن بالعقد] – والحالة هذه، [أم] لا؟ ثم حيث يحكم بصحة العقد بالنسبة إلى الوكيل، فالطريق في تحصيل الملك في الباطن له جزماً: أن يتلطف القاضي بالموكل، ويقول له: كنت أذنت في الشراء بعشرين [فقد بعتك إياه بعشرين]، فإن قال ذلك من غير صيغة التعليق، وقبل الوكيل، صار المبيع ملكاً له باطناً – أيضاً – ولا يجعل الموكل بهذا القول مقرًّا بما ادعاه الوكيل؛ كما حكاه الرافعي، وصاحب البحر.

وفي كلام ابن الصباغ خلافه؛ كما سنذكره. ولو أتى بصيغة التعليق، فقال: إن كنت أذنت لي في الشراء بعشرين، فقد بعتك بعشرين، ففي صحة العقد وجهان: أصحهما – وبه قال جمهور البغداديين -: الصحة؛ لأنه تعليق [وضع العقد يقتضيه. وجعل ابن الصباغ الأول خطأ؛ لأن الموكل إذا أطلق قوله: بعتك]، يكون إقراراً منه بالملك، وتكذيباً لنفسه فيما ادعاه، فلا يؤمر به. فإن امتنع الموكل من ذكر شيء من ذلك، كان المبيع جارية – مثلا ً- فإن كان الموكل كاذباً، أو صادقاً وقد وقع الشراء بعين المال – لم يحل له وطؤها؛ لأنها ملك الغير. وفي الرافعي إشارة إلىجراين وجه في حل الوطء، ونقل الملك؛ إذا كان صادقاً؛ بناء على أن [الملك] يقع للوكيل ابتداء. وإن وقع الشراء بثمن في الذمة، والوكيل كاذب، حل الوطء أيضاً. وإن كان صادقاً، فقد حكى الأصحاب فيما يصنع بها ثلاثة أوجه: أحدها – ويحكي عن قول الإصطخري، وينسب أيضاً إلى أبي قاسم الأنماطي، كما حكاه القاضي الحسين -: أنها تكون للوكيل باطناً [-أيضاً-] بالامتناع؛ كما قيده البندنيجي؛ فيحل له وطؤها. قال الرافعي: وهذا بناء على أن الملك يثبت للوكيل، ثم ينتقل إلى الموكل؛ فإنه إذا تعذر نقله منه، بقي على ملكه. والثاني: أن الوكيل إن ترك مخاصمة الموكل، فهي له ظاهراً وباطناً، وكأنه كذب نسه، وإلا [فلا]؛ حكاه الرافعي، والقاضي الحسين. والثالث – وهو قول أبي إسحاق، وابن أبي هريرة، وسائر الأصحاب؛ كما قال المحاملي؛ والأصح، وحكاه البندنيجي، والقاضي الحسين عن الإصطخري أيضاً -: أنه لا يتملكها باطناً، بل هي للموكل، وللوكيل الثمن عليه وقد ظفر بغير

جنس حقه من ماله، وفيه خلاف يأتي في موضعه. والأصح هاهنا: أن له بيعها بنفسه؛ لأن القاضي لا يجيبه إلى البيع. ولأن المظفور بماله في غير هذه الصورة يدعي المال لنفسه. ثم إن كان الثمن قدر حقه، أو أقل، أخذه، وإن [كان] أكثر؛ فلا حق له في الزيادة. قال المحاملي: [و] يسلمها إلى الموكل. وقال الماوردي: هل يجوز إقرارها في يده، أو ينتزعها الحاكم منه؟ فيه وجهان، وأجراهما الرافعي فيما إذا قلنا: لا يأخذ الحق من ثمنها. قلت: وفي جواز بيعه القدر الزائد نظر، تقدم ذكره في الفرع قبله. وللوكيل إذا رأى أن يؤجر الجارية، ويقبض حقه من الأجرة- أن يفعل، ثم يردها على الموكل، صرح به البندنيجي. وقد حكى المتولي جواز بيع الوكيل بنفسه، أو بالحاكم فيما إذا كان الوكيل كاذباً، وقد اشترى بعين مال الموكل؛ لأن البائع حينئذ [يكون] أخذ مال الموكل لا عن استحقاق، وقد غرم الوكيل للموكل، فله أن يقول للبائع: رد مال الموكل، أو اغرمه؛ إن كان تالفاً، لكنه قد تعذر ذلك؛ بسبب الثمن، فله أخذ حقه من الجارية التي هي ماله. قال: وإن اختلفا في البيع، وقبض الثمن، فادعاه الوكيل- أي: ووافقه المشتري- وأنكر الموكل، أو قال الوكيل: [اشتريته بعشرين] – أي: وهو يساويها – قوال الموكل: [بل بعشرة] ففيه قولان. هذا الكلام ينظم مسألتين: الأولى منهما تصور بوجهين: أحدهما: أن ينكر الموكل أصل البيع.

والثاني: أن يعترف به، وينكر قبض الثمن بعد دعوى الوكيلقبضه وتلفه في يده؛ فإنه لو كان باياً – سلمه، ولم يكن للاختلاف أثر، والقولان جاريان في الجميع: فأحد القولين في الأولى – على اختلاف تصويرها-: أن قول الوكيل غير مقبول؛ لأنه إقرار في حق الموكل بما يبطل عليه ملكه؛ فيسقط حقه؛ فلم يقبل؛ كما لو أقر عليه بقبض الحق مع أن الأصل فيما ادعاه العدم، ويخالف ما إذا ادعى الوكيل الرد، أو التلف؛ فإنه يقبل؛ لدفع الضمان [عن نفسه، لا لإلزام الموكل شيئاً؛ وهذا ما نص عليه الشافعي في العدد، والنكاح، والرهن]، واختاره ابن الحداد في مسألة دعوى البيع، ولم يذكر ابن كج غيره، وكلام الأكثرين يدل على ترجيحه. والقول الثاني: أن قول الوكيل مقبول؛ لأنه أقامه مقام نفسه؛ فيقبلقوله عليه فيما هو إليه؛ كقبول قوله علىنفسه؛ وهذا ما نص عليه في الرهن الكبير، و [هو] الأقيس عند البندنيجي، والمحاملي، والروياني، وصححه القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو علي، والروياني في الحلية في دعوى البيع، وفي البحر –أيضاً – في آخر كتاب الشركة في دعوى القبض. ولا فرق في جريانهما بين أن يصدر الوكيل الدعوى بالبيع – كما صوره الشيخ – وبين أن يقول الموكل أولاً: ما بعت، فيقول الوكيل: قد بعت. وحكى الإمام عن القاضي الحسين في كتاب الرهن عند اختلاف الراهن والمرتهن في وطء الجارية [في الحالة] الأولى: أن القول قول الوكيل، وحكى الخلاف في الحالة الثانية أنه وجه عدم القبول بما تخيله من أن ما قاله الموكل عزل صدر قبل إقرار الوكيل. قال الإمام ثم: وهذا كلام عَرِيٍّ عن التحصيل.

وحكى المتولي عن القاضي طريقة في دعوى القبض، وهي أن الاختلاف إن وقع قبل تسليم المبيع إلىلمشتري، فالقول قول الموكل؛ كما لو وكله في قبض دين، فادعى قبضه. وإن كان بعد التسليم، فقولان: أصحهما في الرافعي، وبه جزم الإمام، واختاره ابن الحداد: أن القول قول الوكيل؛ لأن دعوى الموكل عدم القبض تتضمن تعدي الوكيل بالتسليم؛ فلذلك كان القول قوله؛ وهذه الطريقةجعلها الرافعي أظهر. ثم هذا التفصيل فيما إذا أذن في البيع مطلقاً، أو حالاًّ، وجوزنا للوكيل قبض الثمن. أما إذا أذن في التسليم قبل القبض، أو في البيع بثمن مؤجل، وفي القبض بعد الأجل- فالاختلاف في هذه الحالة بعد التسليم [كالاختلاف قبله؛ لأنه لا يكون ضامناً بالتسليم،] فإذا صدقنا الوكيل، فحلف، هل تبرأ ذمة المشتري من الثمن؟ فيه وجهان، أصحهما عند البغوي: لا. وعند القاضي الحسين: نعم، وهو ما حكاه البندنيجي عن ابن سريج؛ تفريعاً على هذا القول في كتاب الرهن عند الكلام في بيع العدل. ثم القولان في الأصل يجريان فيما إذا وكله في الهبة والإقباض، وكذلك في النكاح، أو الطلاق، أو العتاق، أو الإبراء، أو إقباض مال مع تصديق المنكوحة المطلقة والقابض والمقبض وأنكره الموكل. وحكى [عن] ابن سريج معهما وجهين: أحدهما: أن ما يستقل الوكيل بالإتيان به: كالطلاق، والعتاق، ونحوه – يقبلقوله فيه؛ لقدرته عليه في الحال، وما كان بخلافه، فلا يقبل. [والثاني –وهو اختياره -: أن ما كان الإقرار به كإيقاعه قبل قوله فيه، وما كان

بخلافه، لم يقبل قوله] فيه؛ كذا قاله الماوردي. وقد فسر الإمام والبغوي ما يكون الإقرار به كإيقاعه: بالطلاق، والعتاق؛ فإنه [إذا قال]: [طلقت التيأمرتني بطلاقها]، أو: أعتقت الذي أمرتني بإعتاقه – يقبل قوله؛ لأن لفظه مماثل للفظ الإنشاء، وهذا التفسير يرد الوجهين إلى وجه واحد وكذلك الإمام غيره إلىحكايته. قال الماوردي: وهذان الوجهان إنما يكون القول بهما وجهاً [واحداً] إذا كان الوكيل عند الاختلاف باقياً على الوكالة، فأما مع عزله، فلا؛ لما يقتضيه تعليلهما. وهذا منه يدل على أن القولين يجريان مع بقاء الوكالة، ومع العزل، وقد حكى الرافعي أن قول الوكيل بعد العزل لا يقبل وجهاً واحداً، وان محل الخلاف قبل العزل، وعليه يدل كلام معظم الأئمة؛ حيث عللوا وجه القبول: بأنه يملك الإنشاء بملك الإقرار؛ كالأب يقر بتزويج البكر. وفي كلام الإمام في باب الرجعة شيء، وقد يعكر على ذلك؛ فإنه قال: إذا قال الزوج: راجعتك أمس، وقالت المرأة: ما راجعتني أصلاً، والعدة باقية – قال صاحب التقريب: المذهب أن القول قول الزوج، وحكى وجهاً غريباً

أن القول [قول] المرأة، فإن أراد الزوج تصديق ما قال، فليبتدر الارتجاع. قال: ويلزم على قياس ما قال إذا وكل رجلاً [بيع شيء] من ماله فقال الوكيل: قد بعت، وأنكر الموكل بيعه، ولم يعزله عن الوكالة فالقول قول الوكيل؛ فإن طرد الخلاف في الوكيل، كان هاجماً علىخرق الإجماع، وإن سلّم عَسُرَ الفرق. وأحد القولين في المسألة الثانية: أن القول قول الوكيل؛ لأن قوله مقبول في أصل العقد؛ فكذا في صفته؛ وهذا ما جزم به الماوردي، والروياني. والقول الثاني: أن القول قول الموكل؛ لأن الوكيل يريد [أن] يلزم ذمة الموكل شيئاً [الأصل] فراغها منه، أو يزيل عن ملكه شيئاً فيما إذا كانت الدعوى أنه اشترى [بالغين] والأصل بقاء ملكه عليه، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد، وجزم به المحاملي. وقال البندنيجي: إنه المشهور في كتبه. فرع: إذا قلنا: [القول] قول الوكيل في قبض الثمن، وإن المشتري بريء منه، فخرج المبيع مستحقًّا، فرجع المشتري على الوكيل – لم يكن له الرجوع على الموكل، وكذا لو تحالفا، وانفسخ العقد. وحكى الروياني في كتاب الشركة من البحر: أن بعض أصحابنا قال: [له الرجوع]؛ لأنه يثبت بيمينه قبضه، وتلفه، والرجوع يثبت له بسبب آخر، وهو أنه نائب عنه في البيع، وهذا كما نقول: لا يثبت النسب بشهادة النساء، ولكن إذا شهدت الولادة في الفراش، ثبت النسب. فائدة: إذا شرط للوكيل جُعْلاً علىلبيع، [وقد] وقع الاختلاف في البيع

بسبب استحقاق الجعل، وأنكره الموكل – قال الماوردي: القول قوله مع يمينه، ولا جعل للوكل إلا ببينة يقيمها على البيع، سواء قبلنا قوله في البيع أم لا؛ لأنه يدعي عملاً يستحق به جعلاً، فلم يقبل قوله في دعواه. وكثير من الطلبة يصور مسألة الكتاب بهذه الصورة، وهذا يمنع التصوير بها. قال: وإن وكله في قضاء دين فقضاه في غيبة الموكل، ولم يشهد، وأنكر الغريم، ضمن –أي: سواء صدقه الموكل في ذلك، أوكذبه – لأنه وكله بدفع مبرئ من المطالبة، ولا يكون ذلك مع الجحودإلا بالإشهاد، وكان مفرطاً بتركه؛ [فضمن]؛ كما يضمن الجناية؛ وهذا ما جزم به في المهذب، ومعظم الأئمة، ولرب الدين مطالبة الموكل بدينه، دون الوكيل؛ اتفق عليه الأصحاب. قال: وقيل: لا يضمن؛ لأن الذي دل عليه اللفظ القضاء لا غير؛ فلا يجعل مفرطاًبترك غيره. قال: وليس بشيء؛ لأن العرف إذا دل على شيء كان بمنزلة المصرح به في اللفظ، والعرف دال على اعتبار الإشهاد؛ فكان بتركه مقصراً. وهذا الوجه حكاه في حال تصديق الموكل البغوي، والرافعي عن أبي الطيب بن سلمة، وهو مشابه لوجه حكاه الرافعي عن [ابن] أبي هريرة فيما إذا أدى الضامن الدين من غير إشهاد، وأنكر المضمون له القبض، ولم يكن المضمون عنه حاضراً، لكنه صدق الضامن: أنه يرجع عليه، ولم يجعله بترك الإشهاد مقصراً؛ وهذا لأن الضمان إذا كان بالإذن، كان توكيلاً في الأداء، متضمناً للإقرار. وفي حال التكذيب من تخريج ابن سريج – كما اقتضاه كلام المحاملي- حيث قال بعد حكايته عن عامة الأصحاب: إن الوكيل يضمن إذا قضى الدين بغير إشهاد في غيبة الموكل؛ صدقه الموكل أو كذبه:

إلا أن ابن سريج خرج فيها وجهاً آخر سها فيه: أن قول الوكيل مقبول على موكله. وقد حكى ابن الصباغ عن أبي حينفة: أن الموكل إذا صدق الوكيل، فلا ضمان على الوكيل، فإذا كذبه؛ القول قوله، ثم قال: وحكى أبو العباس وجهاً مثل ذلك، كما يقبل قوله على موكله بالبيع، والقبض؛ على أحد القولين. وحكى الإمام قبول قول الوكيل في ذلك وجهاً عن رواية صاحب التقريب أيضاً. وإذا كان قول الوكيل مقبولاً على موكله في الأداء عند قوم، كانت فائدته سقوط الضمان؛ كما صرح به الإمام فيما إذا جعلنا القول قول الوكيل فيما إذا ادعى الرد على رسول الموكل، وكذبه الموكل في الرد؛ فإن فائدته سقوط الضمان. نلخص من ذلك: أن الوكيل غير ضامن على وجه، سواء صدقه الموكل في الأداء، أم لا. وقد خص الماوردي في كتاب الوديعة محل الخلاف في ضمان الوكيل عند تصديق الموكل بما إذا لم يكن الدين ببينة، أما إذا كان ببينة، فإنه يضمن وجهاً واحداً. فإن قيل: قد حكيتم عن الماوردي: أنه حكى أن القولين المذكورين عن الشافعي فيما إذا قال الوكيل: بعت، وأنكر الموكل – محكيان عنه أيضاً [فيما إذا وكله] في إقباض المال، وحكيتم ثَمَّ: أن جماعة رجحوا من القولين قبول قول الوكيل، وجعلتم – هاهنا- قبول قول الوكيل في الأداء وجهاً لبعض الأصحاب، ومن تخريج ابن سريج، وأنه سها فيه، وذلك تناقض: قلنا: محل القولين – كما حكاه الماوردي ثَمَّ – فيما إذا صدق القابض الوكيل، وكذبه الموكل، وهاهنا محل خلاف ابن سريج وغيره مع الجمهور بالعكس من تلك المسألة، ولم يجتمع الكلامان على محل واحد؛ فلا تناقض.

نعم: أطلق القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ القول فيما إذا صدَّق الغريمَ الوكيلُ في القبض: أنه لا يضمن، وهذا الإطلاق لا اعتراض عليه إذا كان الموكل مصدقاً – أيضاً – أما إذا كان مكذباً، فقد قال المحاملي والبندنيجي: إنه لا فائدة في هذا الاختلاف؛ لأن العين – أي: التي وفيت في الدين – إن كانت تالفة سقط الدين باعتراف من هو له عليه ببراءة ذمته منه، وإن كانت باقية، فهو بالخيار بين أن يأخذها، ويقضي الدين منها، أو من غيرها. وما قالاه فيه نظر؛ لأنا إن جعلنا القول قول الوكيل في الإقباض؛ على قول – كما حكيناه عن رواية المارودي – استقام ما قالاه في حالة التلف، دون حالة البقاء. وإن جعلنا القول قول الموكل، استقام ما قالاه [في] حالة البقاء دون حالة التلف؛ فإنه ينبغي فيها أن تجري أقوال التقاص بين الموكل والغريم، فإن لم يره، اتجه تضمين الوكيل على المذهب قال: وإن أشهد شاهدين ظاهرهما العدالة – [أي] ثم بانا فاسقين – أو شاهداً واحداً، فقد [قيل:] يضمن؛ لتقصيره؛ حيث لم يتفحص عن حال الشهود، واكتفائه ببينة مختلفٍ فيها؛ وهذا ما اختاره في المرشد، وفي المسألة الثانية. قال: وقيل: لا يضمن؛ لأن طلب الأسرار، ومعرفة باطن [أحوال] الشهود من مصب الحاكم؛ فلا ينسب في تركه إلى تقصير، والشاهد الواحد مع اليمين حجة في الأموال؛ كالشاهدين؛ وهذا هو الأصح في الجيلي في المسألتين، وهو ماحكينا مثله في كتاب الضمان. ولا يخفى أن هذا الخلاف مفرع على المذهب في أن الأداء من غير إشهاد مضمَّن، وأن محله إذا لم يحصل المقصود بمن أشهده، أما إذا حصل؛

بأن رفعت القضية إلى حاكم يرى الشاهد واليمين، أو كان الشاهدان عند الأداء ممن تقبل شهادتهما، فأديا - فإنه لا ضمان على الوكيل، وقد نبهت على شيء من ذلك في باب الضمان. والحكم في إنكار الموكل الإشهاد، ودعوى الوكيل موت الشهود، أو غيبتهم - كما ذكرناه في الضمان؛ صرح به الرافعي. ويتجه أن يكون الخلاف هاهنا مرتباً على الخلاف ثم، وأولى بقبول قول الوكيل. ووجه الفرق: أن الأصل عدم تعدي الوكل، والأصل براءة ذمة المضمون عنه من دين الضامن. وقدادعى القاضي الحسين في كتاب الوديعة، وكذلك صاحب البحر حكاية عن القفال: أن أكثر أصحابنا على أن القول قول الوكيل؛ لما أشرت إليه واستشهدوا له بما قاله ابن الحداد فيما إذا ادعى الوكيل قبض الثمن بعد تسليم المبيع: إن القول قوله؛ لأن به ينتفي عنه الضمان. قال: وإن قضاه بحضرة الموكل، ولم يشهد، قد قيل: يضمن؛ لأن ترك الإشهاد في حال الغيبة موجب للضمان، فكذلك في حال حضوره، وسكوته؛ كالجناية على ماله؛ وهذا ما نسبه القاضي الحسين إلى ابن سريج، وأبي إسحاق، واختاره في المرشد. قال: وقيل: لا يضمن؛ لأن تضمين الوكيل في حال الغيبة، كان لتركه الاحتياط، وإذا كان حاضراً، فهو اللائق به الاحتياط لنفسه، فإذا فرط فيه لا يجب على غيره الضمان؛ وهذاقول المزني، وأبي إسحاق، وسائر أصحابنا - كما حكاه المحاملي - وهو الأصح في الرافعي، وبه جزم القاضي أبو الطيب، وابن الصابغ، والمتولي، وهو نظير المنصوص وظاهر المذهب فيما إذا ضمن، وأدى بحضرة المضمون عنه، ولم يشهد، وأنكر المضمون له - أن له الرجوع. فعلى الصحيح: لو قال الموكل: أديت في حال الغيبة، وقال الوكيل بل

بحضورك، فالقول قول الموكل؛ جزم به الرافعي. وقال ابن الصباغ: عندي أن القول قول الوكيل مع يمينه؛ كما إذا ادعى الرد إليه وأنكر، [ولا بينة به] هذا إذا أقر: أنه باع، أو قبض وأنكر الموكل؛ فإنه لا يقبل قوله في أحد القولين؛ لأنه يثبت حقًّا على موكله لغيره، وهاهنا يسقط عن نفسه الضمان بما ذكره؛ فكان القول قوله مع يمينه؛ وهذا ما حكاه الروياني عن بعض أصحابنا، وأورده المتولي. واعلم: أن النواوي قال: إن الذي ضبطه عن نسخة المصنف: قضاه بِمَحضر من الموكل: بفتح الميم، وأن الذي ذكرناه هو الواقع في أكثر النسخ، وياقل: بفتح الحاء، وضمها، وكسرها؛ ثلاث لغات مشهورة، وكلاهما صحيح. قال: وإن وكله في الإيداع، فأودع، ولم يشهد – لم يضمن؛ لأن فائدة الإشهاد الإثبات عند الجحد، والمودع بسبيل من إسقاط الطلبة عنه بدعوى الرد، والتلف، وذلك يسقط فائدة الإشهاد عليه؛ [وإذا لم يكن فيه فائدة] لم يكن بتركه مفرطاً. وأيضاً: فإن العرف جارٍ بإخفاء الودائع، وهو المحكم في الألفاظ المطلقة، وفي الإشهاد عليها إظهار لها؛ وهذا هو الأصح، والمختار في المرشد. قال: وقيل: يضمن؛ لأن الموكل فيه الإيداع، وهو لا يثبت إلا ببينة، وفائدتها تظهر بعد الجحد؛ فإنه لا يقبل قوله إذ ذاك في الرد والتلف؛ فأشبه التوكيل لقضاء الدين؛ وهذا قول أبي إسحاق. وحكى الإمام وجهاً ثالثاً وهو أن الإشهاد إن تيسر عند الأداء، فلم يفعل، ضمن؛ لتقصيره، وإن فرض ذلك في مكان يتعذر [عليه] الإشهاد فيه، فلا تقصير. ومحل الخلاف – كما حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: إذا أودع في

غيبة الموكل، أما في حضوره، فلا يضمن الوكيل، وهذا منهما بنا ءعلى ما جزما به في مثل هذه الصورة في قضاء الدين، وإلا فقد حكينا عن أبي إسحاق: أنه صار إلى ضمان الوكيل إذا قضى الدين بحضرة الموكل، ولم يشهد، ومثله يجيء هاهنا. وقال الماوردي: إن محل الخلاف إذا كذب الموكل والمودع [الوكيل]، أما إذا صدقه الموكل، وكذبه المودع فلا يضمن، ولا يقبل قول الوكيل على المودع؛ وهذا [يوافق] ما حكاه ابن الصباغ. وإن كذبه الموكل، وصدقه المودع عنده، وكانت العين تالفة – فلا ضمان على الوكيل؛ لأن الإقرار بالقبض أقوى من الإشهاد عليه؛ فلما برئ بالإشهاد عليه، فأولى أن يبرأ بالإقرار. ورتب الإمام ضمان الوكيل [في هذه الصورة] فقال: "إذا كذب الموكل والمودع الوكيل في دعواه الإقباض، فلا يقبل قوله على المودع، وهل يقبل على الموكل؛ حتى لا يضمن [[له] شيئاً؟ فيه وجهانا ذكرهما صاحب التقريب. فإن قلنا: لا يضمن"] في هذه الحالة، فإذا صدقه الموكل، وكذبه المودع أولى. وإن قلنا: إنه يضمن عند تكذيبهما، فهل يضمن عند تصديق الموكل، وتكذيب المودع؟ فيه وجهان مشهوران؛ بناء على أنه [هل] يعد بترك الإشهاد مقصراً، أم لا؟ وحكى في كتاب الوديعة فيما إذا صدق المودع الوكيل في دعواه الإقباض، وكذبه الموكل: أن القول قول الموكل، لم يختلف فيه أصحابنا. وقال القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، والمحاملي – على القول بضمان الوكيل بترك الإشهاد -: يرجع الموكل على الوكيل بقيمة العين [إن كانت

تالفة]، وإن كانت باقية؛ فالمالك بالخيار بين استرجاعها وردها، ولا ضمنا بعدُ على الوكيل. فرع: لو وكله في قبض دين، أو استرداد وديعة، فقال المديون، [أو المودع:] دفعت، وصدقه الموكل، وكذبه الوكيل – فالقول قوله [مع يمينه]، هل يغرم الدافع لأجل ترك الإشهاد؟ فيه وجهان في آخر هذا الباب من الرافعي. قال: وإن كان عليه حق لرجل – أي: سواء كان ديناً أو عيناً، أمانة أو مضموناً – فجاء رجل، وادعى أنه وكيله في قبض الحق، فصدقه – جاز الدفع؛ لأنه محق بزعمه. قال: ولا يجب؛ لأنه دفع غير مبرئ في الظاهر إذا أنكر الموكل الوكالة؛ فلم يلزمه؛ كما لو كان عليه دين [بشهادة، فطولب] به بغير إشهاد. ولأنه مقر في مال غيره، فلا يلزمه إقراره؛ كما لو أقر بموت رب الدين، وأن هذا الحاضر وصيّته على ولده في قبض دينه، [فلا يلزمه] الدفع إليه؛ وهذا ما علل به ابن أبي هريرة. وذهب المزني إلى [أنه] يجب عليه الدفع؛ كما في مسألة الوارث الآتية. [قال الإمام:] وحكى شيخي عن بعض الأصحاب موافقة المزني، وفي تعليق القاضي الحسين ما يوافقه؛ كما سنذكره. وقال بعده: إن الحكم في مسألة الوصية كالحكم في الوكيل. على أنه يمكن أن يفرق بينهما بتقدير تسليم الحكم في مسألة الوصية – كما قاله ابن أبي هريرة، وهو الذي يقتضيه كلام أبي الطيب – بما أبداه أبو الطيب سؤالاً على أبي حنيفة، [وهو أن في إلزامه] تسليم المال

[إلى] الذي اعترف له بالوصية إسقاط حق الحاكم الذي ثبت له في ذلك المال؛ بخلاف مسألة الوكالة. قلت: ولو قيل بوجوب الدفع إلى الوكيل عند التصديق؛ إذا لم يكن عليه [بالحق] بينة – لم يبعد؛ كما قلنا في أن من عليه حق بغير بينة: ليس له أن يمتنع من أدائه لمستحقه بعذر الإشهاد؛ فإنه قادر على دفع ما يطلب منه بأن يجيب بأنه لا حق [له] عليه. فرع: لو ادعى شخص أنه وكيل في مخاصمة زيد، وصدقه، فهل يستمع الحاكم الخصومة [فيه وجهان في البحر قبيل الكلام في مسألة الكتاب]. قال [في البحر] عند الكلام في العزل: مذهب الشافعي: أن [ذلك] لا يقبل منهما، ولا تُسمع مخاصمتهما؛ لما فيه من إثبات الحجة على صاحبهما. وقال ابن سريج: يقبل الحاكم ذلك منهما، ويسمع مخاصمتهما؛ لأن إقرار الوكيل على الموكل غير مقبول؛ فلم يكن فيه إضرار به، وإنما هو إقامة بينة على المطلوب، وذلك يجوز مع حضور الموكل [و [مع] غيبته؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين في تعليقه، وقال: إن الوكيل إذا أنكر الوكالة؛ للمدعي تحليفه]؛ وقال في موضع آخر: تثبت الوكالة وله أن يمتنع عن مخاصمته، وحكى أنه إذا وكله في الخصومة؛ فالقياس يقتضي ألاّ يختص بالمجلس؛ حتى يملك المخاصمة بعد التفرق في مجلس ىخر، غير أن القضاة اصطلحوا على اختصاص الوكالة في الخصومة بذلك المجلس، لما رأوا عادات الناس: أنهم يقصدون بالمطلق الخصومة في مجلس العقد دون غيره [أما لو ادعى شخص: أنه وكيل فلان في مخاصمة زيد، وصدقه، ففي الإشراف: أن له

المخاصمة، وكذا له تحليفه إن أنكر؛ قاله ابن القاص، وطرده فيما إذا ادعى: أنه وصي فلان، وحكي عن غيره: أنه لا يحلفه على ذلك؛ لأنه لم يدع لنفسه شيئاً عليه]. وفي التتمة: أنه لا خلاف في جواز المخاصمة، ولكن هل تجب؟ الحكم فيها كالحكم فيما لو ادعى: أنه وكله في قبض الحق، وصدقه. [وفي البحر: في الفروع المذكورة قبل كتاب: الشهادات: أن [ابن] أبي أحمد قال: إذا صدق المدَّعي عليه المدعي في الوكالة، وأنكر المدعي به، وأقام الوكيل بينه بالدين المدعي – لاتسمع البينة؛ لأن الوكالة لا تثبت بإقراره إلا ببينة تقوم عليه؛ قلته تخريجاً. وقال قبيل الكلام في مسألة الكتاب من كتاب الوكالة: هل يسمع الحاكم الخصومة؟ فيه وجهان]. واعلم أن محل الخلاف في وجوب الدفع إذا لم يقم الوكيل بينة بالوكالة، أما إذا قام عدلين [عليها]،ليس أحدهما بولد للمدعي، ولا للمدعي عليه-[فلا خلاف] في وجوب الدفع، واحتمال عزل الموكل في الغيبة إن نفَّذناه مدفوع بما في ذلك من تعطيل الوكالة في الغيبة. قال القاضي الحسين: ولا يستقصي في أمر الشهود على ذلك حسبما يستقصي في الشهود على أصل المال، ولا يحتاج في إقامة هذه البينة إلى حضور الخصم، خلافاً للقاضي الحسين، فإنه قال: لابد من شخص ينصبه القاضي فيدعي عليه [الوكيل، ويقيم] البينة في وجهه؛ إذا كان الخصم غائباً؛ لأنه قضاء بالبينة فيقتضي مقضيًّا عليه. [وحكى الإمام عنه في باب: الامتناع من اليمين: أنه يحضر الخصم، ويدعي

عليه: إني مستحق مخاصمتك بتوكل فلان إباي؛ لأن الوكالة حق آدمي؛ فينبغي أن ترتبط بخصم عند مخالفة الإثبات. وفي البحر قبل كتاب الشهادات في [ضمن فرع] من الفروع: أن ابن سريج قال: إن الاحياط ذلك، بعد أن قال: إن عند الشافعي لا يحتاج إلى ذلك؛ فإنه قال: وليس الخصم من الوكالة بسبيل]. ولو كان الشاهدان ولدي الموكل، سمعت شهادتهما، قال الماوردي: لأنهما يشهدان على أبيهما. وجزم المحاملي، والبندنيجي بعدم القبول؛ لأنها شهادة له؛ فإنهما يثبتان بشهادتهام تصرفاً عن الموكل. وحكى ابن الصباغ ذلك عن بعض الأصحاب، ثم قال: وفيه نظر؛ لأن هذه وكالة تثبت بقول الموكل، ويستحق الوكيل بذلك المطالبة بالحق، وما يثبت بقوله يثبت بشهادة القرابة عليه؛ كالإقرار. قال: وإن قال: أنا وارثه – [أي: ولا وارث له غيري] [وبيَّن جهة الوراثة – كما قيده في الفتاوى] فصدقه، وجب الدفع إليه؛ لأنه اعترف له بملك الحق، وأن الدفع إليه مبرئ في الظاهر؛ لعدم إمكان ظهور خلاف المدعي؛ وهذا نصه. وحكى القاضي الحسين، [وكذا الإمام في كتاب الإقرار]: أن من الأصحاب من خرج من مسألة الوكالة إلى هاهنا قولاً: أنه لا يلزمه الدفع، ومن هاهنا) إلى ثَمَّ قولاً: أنه لا يلزمه، وجعل السألتين على قولين. ثم قال: والصحيح: أن المسألة على قولين؛ فإن المزني أشار إلى قولين

في كتاب الإقرار. وفي الرافعي: أن هذا الطريق ينقل عن أبي إسحاق. وأيد المتولي قول عدم الوجوب في مسألة الواث في باب الإقرار: بأن أحد الوارثين إذا أقر بوارث، وكذبه الآخرن لا يثبت النسب، ولا الإرث، فكيف بإقرار الأجنبي، ثم فرق بأن القصد من إقرار الوارث النسب، فإذا لم يثبت؛ [لم يثبت] فرعه، والقصد من إقرار الأجنبي المال دون النسب؛ فلذلك يثبت، [ولو لم] يثبت أصله؛ كما لو أقر: أنه ضمن عن زيد مالاً، وأنكر زيد المال؛ فإن الضامن يؤاخذ به. قال: وإن قال: أحالني عليك، وصدقه، فقد قيل: يجب الدفع إليه؛ كالوارث؛ فإنه اعترف بانتقال الحق إليه؛ وهذا هو الظاهر في تعليق القاضي الحسين، والأصح في التهذيب؛ والرافعي، وهو الذي يقتضي كلام القاضي أبي الطيب في كتاب الحوالة الجزم به. قال: وقيل: لا يجب؛ لأن الدفع غير مبرئ في الظاهر لو أنكر المحيل الحوالة، فألحق بالوكالة؛ وهذا ما اختاره في المرشد، إلا أن يكون التصديق عن علم بالحوالة؛ فإن هيجب. ومثل هذا الخلاف يجري - كما حكاه الرافعي - فيما إذا أقر بأن من له الحق أوصى به لزيد. وقال في التهذيب: إنه ملحق بمسألة الوارث؛ حتى يلزمه الدفع؛ على الأصح. والذي يظهر: أن ما قاله الرافعي أصح؛ لأن إنكار الورثة متوقع؛ كإنكار المحيل. قال: فإن جاء صاحب الحق، فأنكر - أي: وحلف - وجب على الدافع الضمان؛ لأن الأصل عدم التوكيل، والحوالة، ولصاحب الحق مطالبة القابض -أيضاً - إذا كان الحق عيناً، دون ما إذا كان ديناً. وعن أبي إسحاق المروزي: أن له مطالبته - أيضاً - إذا كان ديناً في مسألة

دعوى الوكالة؛ إذا كان المال المأخوذ باقياً في يده؛ كما دل عليه كلام ابن الصباغ، وصحر به الرافعي، وقال: إن هذا القول هو ما أجاب به الشيخ أبو حامد في التعليق. وقال القاضي أبو الطيب: إن هذا من غلطات أبي إسحاق. وحكى القاضي الحسين هذا الوجه، ولم ينسبه إلى أبي إسحاق، وقيد مطالبة الوكيل بما إذا كان من عليه الدين معسراً. ثم إذا غرَّم صاحبُ الحق الوكيلَ، لم يرجع على المقبوض منه، وإن غرم المقبوض منه، لم يرجع على الوكيل، إلا أن يكون ما قبضه منه في يده، او تلف بتفريطه؛ فإنه يرجع عليه بطريق الظفر؛ [صرح به أئمة العراق. ولو دفع من عليه الحق الحقَّ إلى الوكيل من غير أن يصدقه، رجع عليه عند الغرم،] صرح به الإمام، وغيره. وكذا له أن يرجع على الوارث، والموصى له، والوصي؛ إذا ظهر صاحب الحق حيًّا؛ بخلاف ما لو ظهر له وارث آخر؛ فإنه لا يرجع على القابض؛ كما صرح به المتولي في الإقرار. وكذا لا رجوع عليه عند إنكار المحيل الحوالة. ولو كذَّب من عليه الحق مدعي الوكالة، والإرث، والحوالة، والإيصاء في الوصية – فالقول قوله، ولا يجب عليه الدفع، وهل يجب عليه الثمن؟ قال الأصحاب: حيث قلنا يجب الدفع إذا أقر، توجهت اليمين عند الإنكار، وحيث لا نوجب الدفع عند اقرار، فلا يجب اليمين عند الإنكار. وحكى القاضي الحسين والرافعي: أنها تجب- أيضاً – إذا قلنا: إن اليمين مع النكول بمنزلة البينة. وفي الشامل، والبحر: أن قياس مذهبنا: أنه لا يسمع من الوكيل الدعوى؛ لأن الوكيل بالخصومة لا يدعي قبل ثبوت وكالته عندنا.

فرع: ذكر صاحب البحر في أواخر كتاب الضمان: إذا كتب سفتجة بلفظ الحوالة، ووردت على من عليه دين، لزمه أداؤه بأربع شرائط: أن يعترف بدين الكاتب والمكتوب [له]. وأن هذا كتاب المحيل. وأنه أراد بكتابته الحوالة ليس إلا، فالمذهب الذي يوجبه القياس: أنه لا يلزمه. ومن أصحابنا من قال: يلزمه. ولو لم يعترف بالكتاب، ولنكه أجاب إلى دفع المال؛ ليكون مضموناً عليه إلى أن تصح الحوالة - جاز، ولكن هل له استرجاعه قبل ظهور الحوالة؟ فيه وجهان. ولو كانت السفتجة بلفظ الأمر، والرسالة، لم يلزم المكتوب إليه الدفعُ. ومن أصحابنا من قال: إذا اعترف بالخط، لزمه، وهو غير صحيح. قال: وللوكيل أن يعزل نفسه متى شاء، وللموكل أن يعزله متى شاء؛ لأن الوكالة عقد إرفاق على تصرفٍ في المستقبل، ليس من شرطه تقدير [العمل، لا الزمان]؛ فكان لكل من العاقدين فسخه؛ كالجعالة. والمعنى في ذلك: أن الموكل قد يبدو له في الأمر الذي أناب به، أو في إنابة ذلك الشخص، وقد لا يتفرغ له الوكيل، والإلزام يضر بهما، أو يسد باب الإعانة من جهة الوكيل. ثم لا فرق فيما ذكرناه بين أن يتعلق لثالث بالوكالة حقٌّ - كما في بيع المرهون - أو لا، ولا بين أن تكون الوكالة بصيغة الأمر [أم لا] [ولا بين أن تكون بجعل] أو: لا.

وحكى الرافعي عن بعض المتأخرين فيما إذا كانت الوكالة بصيغة الأمر –كقوله: بع، أو أعتق – أن الوكيل لا ينعزل برد الوكالة، وعزل نفسه؛ لأن ذلك إذن، وإباحة؛ فأشبه ما إذا أباح الطعام لغيره؛ فإنه لا يرد برد المباح له؛ وأن الإمام أورد هذا على سبيل الاحتمال قلت: وظاهر كلامه يقتضي تسليم ما ادعاه في الإباحة، وهو قضية قول الإمام: إنه لا أثر لقوله: رددت الإباحة. وكلام الشيخ في المهذب يقتضي خلاف ذلك؛ فإنه استدل بجواز عزل الوكيل نفسه، وعزل الموكل له: بأنه إذن في التصرف في ماله؛ [فجاز لكل منهما إبطاله؛ كالإذن في أكل الطعام. وفي بحر المذهب حكاية وجه فيما إذا دخل الوكالة العوض]: أنها لازمة، كالإجارة؛ وهذا أبداه الرافعي احتمالاً؛ بناء على أن الاعتبار بمعاني العقود، دون ألفاظها. ثم صيغة العزل: أن يقول [الوكيل]: عزلت نفسي من الوكالة، أو يقول الموكل: عزلتك عنها، ويقوم مقام ذلك قول أحدهما: سخت الوكالة أو: نقضتها، وكذا لفظ الإزالة، والصرف. وأما العزالضمني، فحصل بخروج ما تعلق به التوكيل عن الموكل بالبيع، والإبراء، والعتق، والطلاق، والحجر – في بعض الصور – ونحو ذلك. فرع: لو وكل زيداً ببيع سلعة سماها، ثم قال وكلت عمراً بما وكلت به زيداً، لم يكن ذلك عزلاً؛ على الأصح، وكانا وكيلين له في بيعها. وفي الحاوي في كتاب الوصية: أن بعض أصحابنا قال: إنه يكون عزلاً للأول. قال: وإن عزله، ولم يعلم الوكيل، انعزل في أحد القولين؛ لأنه رفع عقد لا يعتبر فيه رضا أحدهما؛ فلا يعتبر فيه علمه به؛ كالطلاق. ولأنه لما لم يكن [علمه] معتبراً في سخ الوكالة بالشرع – كما بالجنون

ونحوه – ولا بفسخها ضمناً ببيع الموكل فيه اتفاقاً –ففي فسخها بصريح العزل أولى؛ وهذا هو الأصح. قال: دون الآخر؛ لأن الوكالة تشتمل على شيئين: أحدهما: التصرف. والثاني: الإمساك، ثم ثبت أن الإمساك باق بعد العزل حتى يعلم به الوكيل؛ فكذلك التصرف. ولأن نفوذ العزل قبل بلوغ الخبر إليه يسقط البت بتصرفه. وحكى ابن الصباغ: أن من أصحابنا من حكى هذا الخلاف وجهين مبنيين على قولين نص عليهما الشافعي فيما إذا وكل في استيفاء القصاص فتنحى به الوكيل، فعفا الموكل، ثم قتله الوكيل -: أن الوكيل هل يجب عليه الضمان أم لا؟ وقد أجرى هذا الخلاف – أيضاً- في انعزال القاضي قبل بلوغ الخبر إليه، لكن الصحيح فيه عدم الانعزال؛ لكثرة الوقائع وعسر تتبعها بالنقض. وأجرى – [أيضاً] – في نسخ الحكم قبل بلوغ الخبر. وبعضهم جزم بأن من شرط النسخ بلوغ الخبر، وتمسك فيه بعدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أهل قباء بإعادة ما صلوه إلى بيت المقدس بعد نسخ القبلة. التفريع: إن قلنا بالأول، فتصرف الوكيل بعد العزل باطل، لكن لا يقبل قول الموكل فيه إلا ببينة، أو تصديق من تعلق حقه بالتصرف. ولو سلم ما باعه بعد العزل فهل يصير ضامناً للسلعة؟ حكى في البحر أن القاضي أبا الطيب قال: رأيت المحصلين من أصحابنا [لم يزيدوا على بطلان التصرف، ولم يتعرضوا لذكر الضمان.

ورأيت بعض أصحابنا] في الكلام مع المخالف سلم أنه إذا سلمها [للمشتري، ضمن وإن قلنا بالثاني، فبلغ الوكيل العزل ممن يقبلي روايته، انعزل حينئذ، دون ما [إذا] كان المبلغ صبيًّا أو فاسقاً؛ كذا حكاه الرافعي. ويظهر أن يكون الحكم في ذلك ما في بلوغ الخبر بالبيع إلى الشفيع. قال: وإن خرج الوكيل، أو الموكل عن أن يكون من أهل التصرف بالموت، أو الجنون، أو الإغماء – انسخت الوكالة؛ لأنه لا يملك التصرف بنفسه، فمن هو من جهته من طريق الأولى. وحكى عن صاحب التقريب: أنه تردد جوابه في الانعزال بالجنون الذي يطرأ ويزول عن قرب، فضبط الإمام موضع التردد بألاَّ يكون امتداده بحيث يبطل المهمات، ويحوج إلى نصب القوام. وفي بحر المذهب نسبة عدم الانعزال في هذه الحالة إلى ابن سريج. وحكى الغزالي وجهاً مطلقاً: أنه لا يتقضي العزل. وقال القاضي الحسين: عندي في الإغماء إشكال؛ لأن المنصوص فيه أنه يلزمه قضاء الصوم. وقال في كتاب الحجر: ظاهر المذهب: أنه لا يتقضي العزل، وحكاه غيره وجهاً، وهو الأظهر عند الإمام، وكذلك صححه في الوسيط، لكنه احتج له بأن المغمي عليه لا يلتحق بمن يولي عليه، والمعتبر في الانعزال التحاق الوكيل أو الموكل بمن يولي عليه.

وقد صرح في بحر المذهب بحكاية الخلاف في هذه الحالة عن رواية القاضي أبي علي الزجاجي، وأن مدته إن طالت، اقتضت العزل. وحكى في كتاب الشركة: أن الإغماء إن استمر حتى مضى عليه وقت صلاة واحدة- انفسخت الشركة، وإن لم يمض [ذلك] فلا. فروع: إذا خرج أحدهما عن أن يكون أهلاً للتصرف بالردة – على قول- نُظِر: فإن كان الموكل، بطلت الوكالة فيما خرج عن أن يكون من أهل التصرف [فيه]. وإن كان الوكيل، فلا عند الجمهور، وخلافاً لما حكاه المتولي. وإن خرج بالفلس؛ انعزل وكيله فيما لا ينفذ تصرفه [فيه بنفسه] في حال الفلس، ولا ينعزل هو عن وكالة غيره؛ على الأصح؛ بناء على أن الحَجْر لا يتعدى لنفسه. وإن خرج بالسفه، انعزل وكيله عما لا يصح تصرفه فيه في حال سفهه، وكذلك هو ينعزل في ذلك وحكم طريان الرق على الموكل والوكيل بالاسترقاق حكم طريان السفه. وطريان السكر هل يقتضي العزل؟ قال القاضي الحسين في كتاب الحجر: إن قلنا: إن طلاقه [لا ينفذ، اقتضاه، وإلا فلا. وقال هاهنا: إن قلنا: إن طلاقه] يقع فلا ينعزل، وإن قلنا: لا يقع؛ هو كالإغماء. وطريان الفسق يقتضي العزل فيما العدالة شرط فيه. قال: وإن وكل عبده في شيء، ثم أعتقه احتمل أن ينعزل؛ لأنها من جهة السيد أمر؛ بدليل أن العبد يلزمه الامتثال، إذا كان كذلك، زالت بالعتق؛

كسائر الأوامر. واحتمل ألاَّ ينعزل؛ مكا لو وكل زوجته، ثم طلقها. وقد حكى الإمام [والرافعي] [هذا] اختلافاً عن ابن سريج، وأنه مبني على أنه توكيل محقق، أو استخدام وامر؟ فإن قلنا بالأول، بقي الإذن بحاله؛ لأنه صار أكمل مما كان. وإن قلنا بالثاني، ارتفع الإذن؛ لزوال الملك؛ وهذا ما اختاره في المرشد، وقال في البحر: إنه اختيار ابن سريج. وعلى هذا لا يشترط قبوله. ولو قال العبد قبل العتق: عزلت نفسي، فهو لغو. وقد حكى الإمام عن العراقيين في هذه المسألة: أن أمره على سبيل الإلزام كدأب السادة في استخدام العبيد، فإذا أعتقه، انقطع الأمر. وإن نص على التوكيل وقرنه بالتخيير، فقال: [قد] وكلتك في هذا، ولم أكلفك بحكم ملكي، فإذا أعتقه لا ينعزل، وإن أطلق، ففي المسألة وجهان، واستحسن هذا. ثم قال: "وصاحب التقريب أطلق الوجهين، ولم يفصل، [ولا يبعد] حمل الأمر على عموم الزمان". انتهى. وقد أقام بعضهم هذا وجهاً فارقاً بين أن تكون الصغية صيغة [أمر؛ فينعزل، وبين أن تكون صيغة] توكيل؛ فلا. ثم الخلاف يجري – كما حكاه العراقيون – فيما إذا وكله، ثم باعه. وحكاه الإمام مرتباً على العتق، وأولى بألاَّ يكون عزلاً، وضعف الفرق. ثم إذا قلنا: لا ينعزل، فعليه استئذان السيد [الثاني] فيما يفتقر فيه إلى إذنه

في الابتداء، ولو تصرف [فيه] من غير إذنه – نفذ. وأبدى الإمام فيه احتمالاً. وقد أجرى بعضهم الوجهين فيما إذا توكل عن أجنبي بإذن السيد، ثم أعتق، أو بيع؛ كما حكاه ابن الصباغ، وغيره. وبعضم جزم بعدم الانعزال، وقال في البحر: إنه الأشبه. وقال في الحاوي فيما إذا باعه: إن الوكالة بطلت، لكن إذا أذن له السيد الجديد، هل يكتفي به حتى لا يحتاج إلى إعادة الوكالة [أو لا يكتفي به]؟ فيه وجهان: [أصحهما: الثاني]. والكتابة كالبيع والإعتاق في جريان الوجهين. فروع: إذا وكله في بيع شيء، ثم أجره، قال في التتمة: انعزل الوكيل. وإن قلنا بجواز بيع المستأجر؛ لأنه علامة على الندم؛ لأن من يريد بيع شيء، لا يؤجره؛ فإنها تقل الرغبات في المبيع. وكذا لو زوج الجارية. وفي طحن الحنطة وجهان: والعرض على البيع، وتوكيل وكيل آخر – لا يقتضي العزل. قال: وإن تعدى الوكيل – أي: فيما وكِّل فيه –مثل: إن انتفع به بوطء، أو استخدا، لم يكن فيه مصلحة، أو جعله في غير حوزةً. قال: انسخت الوكالة – [أي:] فيما تعدى يه، دون غيره – لأنها عقد أمانة؛ فبطلت بالخيانة؛ كالوديعة؛ وهذا ما قال الإمام: إنه المذهب؛ كما هو

قضية كلام الشيخ. فعلى هذا لا يملك التصرف إلا بعقد جديد وإن أحدث له استئماناً. ولا يجري هذا القول فيما إذا [تعدى بالقول، مثل: إن باع بأقل من ثمن المثل، ونحوه، ولم يسلم؛ لأنه لم يجر منه تعدٍّ فيما وكل فيه؛ كما صرح به في البحر. ويتجه أن يجيء فيه وجه؛ كما حكاه الماوردي فيما إذا] أوصى المودع بالوديعة لغير أمين ولم يسلمها: أنه يضمن إذا تلفت قبل موته؛ لأنه سلطه عليها بالإيصاء؛ نظراً لهذه العلة. قال: وقيل: لا تنفسخ؛ لأن الوكالة تضمنت الأمانة، والتصرف، فإذا بطل أحدهما، لم يبطل الآخر؛ كعقد الأمانة لما تضمن الأمانة والوثيقة، لم تبطل الوثيقة ببطلان الأمانة، ويخالف الوديعة؛ فإنها لاشيء فيها غير الأمانة؛ وهذا هو الأصح في البحر، وغيره. فعلى هذا إذا باع؛ نفذ بيعه، وما يقبضه من الثمن يكون أمانة في يدهن ومتى يزول عنه الضمان؟ قال القاضي أبو الطيب: عندي أنه يزول بمجرد البيع؛ لأنه صار ملكاً للمشتري. وقال غيره من الأصحاب لا يبرأ إلا بالتسليم، وهو الذي صححه المتولي هنا. وقال في كتاب الغصب: إذا وكل الغاصب في بيع المغصوب صح، [ثم] إذاباعه يحكم ببراءته عن الضمان، فإن انفسخ العقد قبل التسليم بتلف

المبيع، أو مقابلِهِ، فإن قلنا: إن التلف يرفع العقد من أصله، كان المبيع من ضمان الوكيل، وإن قلنا: من حينه، فلا؛ لأن الضمان فرع الملك والملك تجدد؛ فلا يجب الضمان إلا بسبب مجدد، ولم يوجد؛ لأن المالك رضي بيده. قلت: وهذا البناء يقتضي أني كون الصحيح أنه يبرأ بنفس العقد، كما صرح به القاضي، وصار إليه. ولو انفسخ العقد بسبب العيب، فالذي رآه ابن الصباغ: أنه يعود مضموناً على الوكيل بعد قبض المشتري له؛ لأن المشتري قبض لنفسه، لا للموكل، فحكما بالبراءة؛ لأجل ذلك، فلما فسخ العقد، انفسخ القبض؛ فعاد الضمان؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين في تعليقه، ونسبه في البحر إلى بعض الأصحاب. ثم قال: والصحيح عندي: أنه لا يعود مضموناً عليه؛ لأن فسخ القبض من وقته، لا من أصله – على أصلنا – فلا يضمن [ما ثبت] بسبب حادث؛ وهذا ما جزم به المتولي في كتاب الغصب، وإن كان الرد قبل القبض؛ بناء على أنه لا يرفع العقد [من] أصله، على الصحيح، والله أعلم. ولنختم الباب بفروع تتعلق به: [أحدها:] شهادة الوكيل لموكلهبما وكله فيه غير مسموعة في حال وكالته، وكذا بعد عزله؛ إن انتصب فيها مخاصماً، وإن لم ينتصب مخاصماً، فوجهان، أصحهما: القبول. قال الإمام: وقياس المراوزة: أن يعكس؛ فيقال: إن لم يخاصم، تقبلشهادته، وإن كان قد خاصم، وعزل، فوجهان. ورأى أن هذا فيما إذا جرت الشهادة على تاوصل، أما إذا طال الفصل؛ فالوجه: القطع بقبول الشهادة مع احتمال فيه. [الفرع الثاني:] الوكيل بالخصومة لا يملك الإقرار على موكله، لكنه إذا

أقر بما لو ثبت، لم يكن للوكيل المخاصمة، لا يثبت ذلك بالنسبة إلى الموكل، وانعزل الوكيل. وحكى ابن كج وجهاً: أنه لا ينعزل. والوكيل بالخصومة من جهة المدعي عليه لا يقبل منه تعديل بينة المدعي؛ كما حكاه الإمام؛ لأنه كالإقرار في كونه قاطعاً للخصومة، وليس للوكيل قطع الخصومة بالاختيار. وقال في الوسيط: لا شك أن تعديله [وحده] لا ينزل منزلة إقرار الموكل بعدالتهم، لكن ترك شهادته [فيها] مطلقاً بعيدٌ؛ لأن التعديل غير مستفاد من الوكالة. [الفرع الثالث:] إذا وكله في السلم في شيء، فأسلم فيه الوكيل، ولم يصرح بالسفارة، ثم أبرأ الوكيل المسلم إليه من ذلك - نفذت البراءة ظاهراً. وإذا أنكر المسلم إليه أن المسلم وكيل؛ فالقول قوله مع اليمين على نفي العلم، وللموكل الرجوع على الوكيل إذا أوجبنا الغرم بسبب الحيلولة؛ كما هو الأظهر، لكن بماذا؟ الذي حكاه الإمام عن العراقيين - وهو موجود في كتبهم -: أنه رأس المال؛ فإنه لو رجع بقيمة المسلم فيه، كان اعتياضاً [عنه]. [وهذا منهم بناء على اعتقادهم: أن أخذ البدل اعتياض؛ كما حكيناه عنهم في باب القرض]، واستحسنه الإمام، وكذلك جرى عليه الغزالي في الوسيط، وهو مناقض لما حكاه في باب السلم: أنه يجوز أن يأخذ القيمة عنه؛ للحيلولة، [وقياسه] أن يأخذ منه هاهنا المثل، هكذا قال الرافعي: إنه [رآه] في تعليق أبي [حامد]، وهو محمول على ما إذا كان المسلم فيه مثليًّا.

ثم على ما قاله الغزالي هاهنا من أن [أخذ] القيمة عن المسلم فيه اعتياض –سؤال؛ لأنه جزم عقيب المسألة فيما إذا باع عيناً بطريق الوكالة، وأبرأ عن الثمن – بأن الوكيل يضمن للموكل مبلغ الثمن، لا قيمة المبيع، وكان قياس قوله في المسلم فيه: ألا يضمن الوكيل إلا بدل المبيع؛ لأن هذا يكون اعتياضاً عن الثمن من غير مَن هو عليه، [وهذا] لا يصح على الصحيح عنده وعند بعضهم؛ كما نبهت عليه في أواخر القرض، والله أعلم. [الفرع الرابع] – لو وكل وكيلين على الاجتماع والافتراق، ثم عزل أحدهما، [ولم يعين،] فوجهان في البحر: أحدهما: أن كل واحد منهما على جواز التصرف ما لم يعلم أنه المعزول. والثاني: أن كل واحد منهما معزول عن التصرف. [الفرع الخامس:] لو وكل عشرة أنفس على الاجتماع، ثم قال: عزلت أكثرهم، انعزل منهم ستة، وإذا عينهم هل لمن بقي [منهم] التصرف في ذلك الشيء؟ فيه وجهان في البحر. [الفرع السادس:] إذا جحد الوكيل الوكالة، هل يكون ذلك عزلاً؟ فيه ثلاثة أوجه في الوسيط: أصحها: ثالثها، وهو إن [قال ذلك] عن نسيان، أو لغرض في إخفائها – فلا، وإن أنكر مع العلم، فهو رد من جهته. قال الرافعي: ولم أعثر على هذه المسألة في النهاية، ولكن اورد قريباً من هذه الأوجه في أن إنكار الموكل التوكيل، هل يكون عزلاً؟ قلت: الذي حكاه الإمام في إنكار الموكل وجهان: أصحهما: ألاَّ يكون عزلاً [وأشهرهما: أن يكون عزلاً]، وأبدى الثالث احتمالاً.

وقال في كتاب التدبير: لو قال الموكل بعد ثبوت الوكالة [لوكيله]: [لست بوكيلي]، وجب القطع بخروجه عن كونه وكيلاً، بعد أن حكى الوجهين في [أن] إنكار الوكالة هل هو عزل أم لا؟ والله – عز وجل – أعلى وأعلم بالصواب.

باب الوديعة

باب الوديعة الوديعة: اسم لعين يضعها مالكها، أو من يقوم مقامه من ولي ونائب، عند آخر؛ ليحفظها له. وهي مأخوذة من: ودع الشيء يدع، إذا سكن واستقر؛ فكأنها مستقرة ساكنة عند المودع. وقيل: من قولهم: فلان في دَعَةٍ: أي: [في] خفض من العيش؛ لأن الوديعة في دعة من المودع غير مُبْتَذَلة بالانتفاع. وبما ذكرناه من القيود تخرج العين في يد الملتقط، والثوب إذا طيَّره الريح إلى دار آخر ونحوه؛ فإن حكمه مغاير لحكم الوديعة، كما سنذكره. ويقال: أودعته: دفعت إليه وديعة، وأودعته: قبلت منه وديعته، كذا حكى عن الكسائي. قال الأزهري: والأول معروف دون الثاني. والمودع - بكسر الدال - صاحب المال، وبفتحها: من عنده المال. والأصل في مشروعية الودعية قبل الإجماع: من الكتاب قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]،وقوله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]، وقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ...} [الآية] [آل عمران: 75]. ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم ["عَلامَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَ قَالَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ

أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ"، وقوله صلى الله عليه وسلم:] "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَك"، خرجه الترمذي عن أبي هريرة، وقال: إنه حسن صحيح. وما روي أنه صلى الله عليه وسلم كانت عنده ودائع، فلما أراد الهجرة إلى المدينة تركها عند أم أيمن، وخلَّف عليًّا ليردها إلى أهلها. و [من] المعنى: أن بالناس حاجة إلى التعاون بها ماسة، وضرورةً حاقَّةً لعوارض الزمان؛ فلأجل ذلك جوزت. ولا شك في استحباب قبولها إذا كان الذي عرضت عليه أميناً قادراً على القيام بها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ". وقد تجب إذا لم يكن ثَمَّ من يصلح لها غيره، وخاف إن لم يقبل أن تهلك، كما صرح به في "المهذب" وغيره. وهو محمول على أصل القبول دون أن يتلف منفعة نفسه وحرزه من غير عوض، كما نبه عليه الشيخ أبو الفرج. وقال في "المرشد": لا يجوز له في هذه الحالة أخذ الأجرة على الحفظ؛ لأنه صار واجباً عليه، وإنه يجوز له أخذ أجرة مكانِها. ولو كان ممن يعجز عن القيام بها ولا يثق بأمانة نفسه، لم يجز له قبولها، صرح به في "المهذب" وغيره. ولو كان يقدر على حفظها إلا أنه غير واثق بأمانة نفسه: فمنهم من يقول: لا يجوز له القبول.

ومنهم من يقول: يكره، وسيأتي – إن شاء الله تعالى – [ذكر قريب] من ذلك في "باب اللقطة". قال الإمام: وقد تردد أئمتنا في تسمية الوديعة عقداً [أم لا]، وإن سبب الاختلاف الاتفاق على أن القبول من المودع ليس بشرط. وقال القاضي الحسين: إن الخلاف مبني على أن الصبي إذا أتلف مال الوديعة هل يجب عليه الضمان؟ وفيه قولان، فإن قلنا: لا يجب، فهي عقد، وإلا فلا. والذي يدل عليه إطلاق الجمهور: أنها عقد، وكذلك قال الشيخ: وللمودِع والمودَع فسخها. قال الإمام: وليس للاختلاف في أنها عَقْدٌ فائدةٌ فقهية. قلت: بل له فوائد، ذكر هو منها فائدتين في باب الزيادة في الرهن؛ حيث قال: لو أودع بهيمة أو جارية فولدت في يد المودَع، ففي ولدها وجهان: أحدهما: أنه وديعة. والثاني: لا، وهذا القائل يقولك إنه ليس مضموناً؛ بل هو كالثوب تهب به الريح فتلقيه في دار إنسان، ثم قال: وهذا الخلاف له التفات على خلاف الأصحاب في أن الوديعة له عقد أم لا. وهذا ما صرح به القاضي الحسين هاهنا وغيره. ثم قال الإمام: ومن أدنى آثار الخلاف: أنه لو أودع وشرط شرطاً فاسداً، فمن جعل الوديعة عقداً أفسدها، ولابد من ائتمان جديد، وألا كان كما لو طيَّر الريح الثوب. وإن لم يجعل الوديعة عقداً فالشرط لا يؤثر فيها أصلاً، بل يلغو الشرط الفاسد، ويبقى موجب الإيداع، وحكى القاضي الحسين في باب الوكالة [طريقة] ثالثة – حكاها عنه الغزالي هاهنا – وهي أن المودَع إذا عزل نفسه

في غيبة المودِع هل ينعزل؟ وفيه وجهان ينبنيان على أن الوديعة عقد أم لا؟ فإن قلنا: ليست بعقد، فلا ينعزل؛ لأن ابتداءه بالفعل [فكذا رفعه وجب أن يكون بالفعل]. وإن قلنا: إنها عقد، فإذا عزل نفسه انعزل، وتنقلب أمانةً، فإن هلكت قبل التمكن من الرد على المالك لم يضمن، وبعد التمكين [على وجهين]، ومراده: أنها تنقلب أمانة -أي: من جهة الشرع - كما إذا طير الريح الثوب. وقد صرح في "الوسيط" وغيره بجريان الخلاف في طيران الثوب، كما صرح به القاضي عند التلف بعد العزل. والمجزوم به في طرق العراق - كما حكاه ابن الصباغ في كتاب الرهن وغيره -: أنه متى تمكن من الرد في مسألة طيران الثوب ونحوها، فلم يعلم المالك بها ولم يرد: أنه يضمن، مع الجزم بأن الوكيل إذا عزل لا يضمن ما لم يطالب بالرد فيمتنع منه، وفرق أبو الطيب بأنه وضع اليد على العين في الوكالة بإذن صاحبها، بخلاف الثوب، وهذا بعينه موجود في الوديعة؛ فإن وضع اليد عليها كان بإذن مالكها. وقد حكى الإمام في مسألة طيران الثوب إلى داره أن ذلك بمنزلة الالتقاط، وفيه خلاف، وقال هاهنا: إنه حكاه في فصل الركاز من كتاب الزكاة. فإن جعلناه لقطة لم يَخْف حكمه، وإن لم نجعله لقطة فهو أمانة، وفي وجوب الإشعار بها تردد، والظاهر: أنه لا يجب طلب المالك؛ فإن وجوبَ التعريف في معاضرة تسليط الملتقط على التملك، وذهب بعض أصحابنا إلى وجوب الإشعار به. قال - رحمه الله -: لا يصح الإيدا إلا من جائز التصرف؛ لأنه تصرف في المال فلم يصح من الصبي، والمجنون، والسفيه والعبد- إن جعلنا له ملكاً - كالبيع.

قال: إلا عند جائز التصرف؛ لأن مقصوده حفظ المال فافتقر إلى من هو أهل له والعبد وإن كان أهلاً للحفظ لكن منافعه مستحقة للسيد. قال: فإن أودع صبيٌّ مالاً ضمنه المودع؛ لوضع يده عليه بغير إذن معتبر كالغاصب. قال: ولا يبرأ إلا بالتسليم إلى الناظر في أمره؛ كما لو غصبه، وفي هذا الحصر نظر؛ فإن الصبي لو أتلف المال المودع من غير تسليط من المودع عنده عليه، فالذي يظهر: براءته؛ فإن فعل الصبي لا [سبيل إلى إحباطه] وتضمينه مال نفسه محال؛ فتتعين البراءة، وحينئذ يحمل كلام الشيخ على البراءة بالتسليم لا بغيره. واعلم أن إطلاق الشيخ تضمينَ الأخذ محمولٌ علىما إذا لم يخشَ المودَع من تلف المال باستهلاكه له إن لم يقبله. أما إذا خشي عليه فقد حكى في "المهذب" و"التهذيب" في وجوب ضمانه إذا تلف في يده في هذه الحالة وجهين؛ بناء على ما إذا أخذ المحرم صيداً من جارحةٍ هل يضمن؟ وفيه وجهان، وجه المنع: أنه وضع يده عليه من غير ائتمان. وفيما قالاه نظر من حيث إن أخذ الوديعة في هذه الحالة من جائز التصرف واجب، كما حكينا عنهما التصريح به من قبل فمن الصبي أولى، وإذا كان الأخذ واجباً لم يتجه جعله مضموناً؛ لأن الضمان سببه التعدي، والتعدي مع الوجوب لا يجتمعان، والمسألة المبني عليها الخلاف لا يجب فيها تخليص الصيد من الجارحة، ولو فرض وجوبه كان إيجاب الضمان مشكلاً لما ذكرناه وقد اختار في "المرشد" عدم الضمان [كما هوا لصحيح في المسألة المبني عليها].

قال: وإن أودع صبيًّا مالاً، فتلف عنده بتفريط أو غير تفريط – لم يضمنه؛ لأنه لا يلزمه الحفظ فلم يلزمه الضمان؛ كما لو تركها عند بالغ من غير إيداع، وإن فرط فيه. قال: وإن أتلفه ضمنه؛ لأنه لم يسلطه على الإتلاف فضمنه؛ كما لو أذن له في دخول داره لأكل شيء فأتلف غيره، وهذا ظاهر المذهب في "البحر"، والأظهر في "الشامل". قال: وقيل: لا يضمن؛ كما لو باع منه شيئاً وسلمه إليه. والفرق على الأول: أن البيع يتضمن التسليط على التصرف، بخلاف الإيداع، وقد حكى بعض الأصحاب هذا الخلاف قولين، وبعضهم وجهين، وهو يجري بعينه في السفيه، كما صرح به أبو الطيب في كتاب الحجر وغيره. وأجراه الماوردي أيضاً فيما لو أعار من السيه شيئاً فأتلفه. وإذا أودع من العبد: فإن تلف في يده فلا ضمان، وإن أتلفه: فإن قلنا: يضمن الصبي بالإتلاف، تعلق الضمان [برقبة العبد]، وإن لم نضمِّن الصبي تعلق الضمان بذمة العبد لا برقبته. قال: ومَنْ قَبِلَ الوديعة لزمه حفظها؛ لأنه مقصود الوديعة وقد التزمه، ومن هاهنا يؤخذ أن الوديعة لا تتم إلا بالقبول، ومن ضرورته الإيجاب؛ إذ لا يعقل قبول بدونه، أما ما يقوم مقام القبول فقد يعقل انفراده كما إذا قال الأب: اشتريت من نفسي هذا لولدي؛ فإنه يكتفي به على رأي. وقد اتفق الأئمة على أن الإيجاب هاهنا لابد منه، وأنه يتعين فيه اللفظ الدال على الاستحفاظ؛ كقوله: استودعتك هذا، أو: أودعتك، أو: اسحتفظتك، أو: أَنَبْتُك في حفظه، أو: احفظه، أو: هو وديعة عندك، وما في معناه. فلو وضعه بين يدي غيره ولم يتلفظ بشيء لم يحصل الإيداع – وإن كان قد قال قبل ذلك: أريد أن أودعك – حتى لو قبضه صار ضامناً له.

وأما القبول فقد قال في "الوسيط": إن في اشتراطه لفظاً ما ذكرناه في الوكالة، وهاهنا أولى بألا يشترط؛ لأنها أبعد عن مشابهة العقود؛ وسوى بينهما في "الوجيز" حيث قال: وصيغتها كصيغتها. ومقتضى هذا: أنه لابد من القبول باللفظ على رأي مطلقاً كما صرح به في "التهذيب"، وبعضهم بناه على قولنا: إن الوديعة عقد، وبعضهم يفصل بين أن يكون بصيغة العقود، أو بصيغة الأمر. وعلى رأي – وهو مذهب العراقيين -: أنه يحصل بالقول والفعل، فعلى هذا: إذا قال: أودعتك هذه، ووضعها بين يديه، وقبل ذلك، أو وضع يده عليه، أو قال: ضعه – كما حكاه في "التهذيب"، تمت الوديعة، وإن لم يوجد شيء من ذلك فلا ضمان على المودَع إذا تركها. وفي "التتمة": أن الإيداع لا يتم بقوله: ضعه، ما لم يقبضه. وفي "فتاوى" الغزالي: أن الوضع إن كان في يده، فقال: ضعه-دخل المال في يده، وأنه لو قال له: انظر إلى متاعي في دكاني، فقال: نعم – فهذا التماس؛ لكونه على سبيل التبرع؛ فلا يضمن بتركها. فرع: لو قال: أودعتك هذا بعد شهرٍ – صح، جزم به في "البحر"، وفي "حليته"، وقال الرافعي: القياس تخريجه على الخلاف في تعليق الوكالة. ولو قال: أودعته لك اليوم وفي الغد لا يكون وديعة [، كان وديعة في الكل. ولو قال: أودعته لك على أن ترده غداً،] وبعد غد يكون وديعة، فلم يردها، وتلفت في اليوم الثالث – ضمن، صرح به في "البحر". قال: في حرز مثلها؛ لأن الإطلاق يقتضيه، وله أن يحرزها بمن [يثق به] استانة، مثل أن يقول لغلامه: احفظها في الصندوق ونحوه، صرح به في "البحر"، وغيره نسبه إلى ابن سريج. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إذا فعل ذلك من غير ضرورة ضمن. ولعله

محمول على ما إذا فعل ذلك وترك الملاحظة؛ فإن الإمام حكى في هذه الحالة تردداً، وأن في بعض التصانيف التصريح بالمنع، و [أن] الذي يشعر به فحوى كلام الأئمة الجواز. أما إذا كان مع ذلك ملاحظاً لها فلا وجه له. قال الإمام: ولو كان الموضع الذي هي فيه خارجاً عنه، وكان لا يلاحظها أصلا، وفوض الحفظ إلى من يتصل به من ولد وزوجة وجارية – فالظاهر تضمينه. ولا نزاع في أن له أن ينقل الوديعة من الموضع الذي أحرزها فيه إلى غيره، سواء كان مثله أو فوقه [أو دونه إذا كان حرز مثلها؛ كما لو وضعها فيه ابتداء، ولا فرق بين أن ينقلها مع ماله أو دونه]. قال الماوردي: وقياس قول الإصطخري أنه إن أحرزها مع غير ماله أو نقلها مع غير ماله ضمن، كما سنذكره عنه في الدابة. قال: فإن قال: لا تقفل عليها قفلين، أو: لا ترقد عليها، فخالفه في ذلك – لم يضمن؛ لأنه زاده خيراً بمبالغته في الحفظ. قال: وقيل: يضمن – أي: إذا سرقت؛ لأنه أغرى بها السارق. قال القاضي أبو الطيب: والصحيح الأول، وهو ما قاله الشافعي، ولا اعتبار بما ذكر هذا القائل؛ لأنه لو قال: عندي وديعة وحالها كذا وصفتها كذا، فسمعه لص، سرقها – لم يضمن؛ فأولى إذا نبه عليها بالنوم ألا يضمن. قلت: وما قاله القاضي من الاستشهاد قد يمنعه القائل بهذا الوجه، وقد حكى العبادي: أن رجلاً لو قال للمودَع: عندك لفلان وديعة؟ فأخبر بها ضمنها؛ فإن كتمانها من حفظها، فإذا أخبره فقد ترك الحفظ، وقال بعض

الخراسانيين: إن هذا الوجه إنما إذا قال المالك ذلك خشية من إغراء السارق، أما لو قاله تحقيقاً عن المودع فلا يضمن وجهاً واحداً. ولو تلف الصندوق بالرقاد عليه أو ما فيه ضنه وجهاً واحداً. وجزم القاضي الحسين بعدم الضمان في الصندوق إذا كان محرزاً، وقال فيما إذا كان في خزانة [غير محرزة: ينظر] إن سرق من جوانبه ضمن؛ لأن المالك إنما أمره بألا يرقد عليه حتى يحفظه من الجوانب، وقد اء التلف من جهة المخالفة. وإن سرق من رأس الصندوق لم يضمن؛ لأن التلف لم يأت من ناحية المخالفة. وهذا أصل، وهو إذا شرط المالك شرطاً لا يقتضيه مطلق الإيداع، فخالفه المودع؛ لكونه رأى الاحتياط في تركه، فإن جاء التلف من ناحية المخالفة ضمن، وإلا فلا. وحكى التمولي فيما إذا سرق من الجانب وجهين، قال الرافعي: أظهرهما – وهو المذكور في "الوجيز" -: أنه يضمن؛ لأنه إذا رقد عليه فقد أخلى جنب الصندوق، وربما لا يتمكن السارق من الأخذ إذا كان بجنبه، وهذا مصور بما إذا كان الجنب الذي سرق منه لو لم يرقد على ظهره لكان قد رقد فيه، وقد أجرى الخلاف في الأصل فيما لو قال: لا تقفل عليها فقفل، أو: لا تغلق باب الدار، فأغلقه، أو: لا ترقد عند الصندوق، فرقد عنده. تنبيه: تاء "تقفل" مضمومة، وفاؤه مكسورة، يقال: أقفل يقفل. وقاف "يرقد" مضمومة، يقال: رَقَدَ يرقد رقداً ورقوداً ورقاداً، إذا نام، فهو راقد، وهم رقود، وهي راقدة، والرقْدَة: النومة. والمرَرْقَد: المضجع، والمُرْقُدِ: دواء معروف يُرْقِدُ من يشربه. قال: وإن قال له: احفظ في هذا الحرز، فنقله إلى ما دونه –ضمن، أي: وإن كان حرز مثله؛ لأنه لم يرضَ به، وحكى أبو الفرج الزاز وجهاً غريباً أنه لا يضمن إذا كان حرز مثله.

ولو نقله إلى مثله أو فوقه لم يضمن، وحمل التعيين على تقدير الحرز به دون التخصيص الذي لا غرض فيه، كما إذا استأجر أرضاً لزراعة الحنطة؛ فإن له زراعة مثلها. وقيل: إن تلفت بسبب انهدام الثاني ضمن؛ لأنه جاء من جهة المخالفة؛ كما لو اكترى دابة فوضعها في الإصطبل ووقع عليها. وإن تلفت لا بسبب النقل، بأن كانت حيواناً فمات لم يضمن، حكاه المتولي، وألحق السرقة من الثاني مع سلامة الأول بالانهدام، ووافقه عليه صاحب "التهذيب". قال الرافعي: ولفظ "الوجيز" في الإجارة يقتضي إلحاق السرقة والغصب بالموت، وكذلك أورده بعضهم. وحكى الإمام: أن في كلام صاحب "التقريب" وجهاً ثالثاً، وهو أنه إن نقل إلى مثله ضمن، وإن نقل إلى خير منه لم يضمن. ومحل ما ذكرناه: إذا كان الحرز للمودَع، أما إذا كان للمالك فوجهان في "الحاوي": أحدهما: أن الحكم كذلك؛ تغليباً لحكم الحفظ المعين. والثاني: لا يجوز، ويضمن؛ اعتباراً بالتعيين القاطع للاختيار. قال: وإن نهاه عن النقل عنه، فنقله إلى مثله، أي: من غير خوف، وتلف بسبب الثناي – ضمن؛ لمخالفته، وهذا ظاهر كلام الشافعي، واختاره في "المرشد". وقد أشار الغزالي إلى ما ذكرته بقوله: لا بأس بالعدول عن جهة حفظه إلى مثلها، لكن لو أفضى المعدول إله إلى التلف وجب الضمان، وهو مستمد من القاعدة التي قررها القاضي الحسين. قال: وقيل: لا يضمن؛ لتساوي الحرزين، وهذا قول أبي سعيد الإصطخري

وابن أبي هريرة، ومحله - كما صرح به المتولي والماوردي وغيرهما -: إذا كان البيت مختصًّا بالمودَع، أما إذا كان مختصًّا بمالك الوديعة بسبب ملك أو إجارة أو إعارة ضمن وجهاً واحداً إذا لم يخف الهلاك، وعلى هذه الحالة حمل الإصطخري كلام الشافعي، وقد أجرى هذا الخلاف فيما لو نقله عند النهي إلى حرز فوق المعين. قال: وإن خاف عليه الهلاك في الحرز فنقله لم يضمن، أي: وإن كنا نضمِّنه به لو لم يخف؛ لوقوف الاحتياط في هذه الحالة على النقل، ولا فرق في هذه الحالة بي أن ينقل إلىمثل الأول أو دونه إذا كان حرز مثله، ولابين أن يكون ملكاً للمودَع أو للمودِع. وفي "التتمة" تخصيص جاوز النقل إلى ما دون الأول بما إذا لم يجد سواه، أما إذا وجد فعليه الضمان؛ لأنه خالف غرضه. قال: فإن لم ينقله حتى تلف ضمن، أي: مع عصيانه؛ لتغريره به، وهذا ما جزم به الماوردي. قال: وقيل: إذا نهاه عن النقل [، أي: وإن كان عاصياً]- لم يضمن؛ لأنه مطيع له؛ فأشبه ما لو قال له: أتلف مالي، فأتلفه. والقائل الأول حمل النهي على حالة السلامة؛ إذ هو الذي يقتضيه العرف. قال: وإن قال: لا تنقل وإن خفت عليه الهلاك، فخاف الهلاك فنقل - لم يضمن؛ لأنه موضع غرر وقد زاده خيراً، وقيل: ضمن؛ للمخالفة. ولو لم ينقل أثم على القولين معاً، صرح به المتولي؛ وكلام الغزالي في "الوسيط" يقتضي خلافه. وقد بنى الغزالي والمتولي هذا الخلاف على ما إذا غصب من الغاصب ليرد على المالك فهلك في يده: هل يضمن؟ وفيه وجهان. وبناه الماوردي على خلاف حكاه عن أبي إسحاق المروزي فيما إذا وكل في شراء عبد بعشرة، ونهى الوكيل عن الشراء بدونها: فهل الشرط صحيح حتى لا

يصح الشراء بدونها، أو يُلْغَى حتى يصح؟ وفيه وجهان، وأنهما جاريان هاهنا، فإن قلنا: الشرط صحيح، ضمن بالإخراج [ولا يضمن بالترك، إن قلنا: إنه مُلْغَى، فلا يضمن بالإخراج، وهل] يضمن بالترك؟ فيه وجهان؛ كما إذا قال: لا تعلف الدابة، فلم يعلفها حتى ماتت، والصحيح في غيره: أنه إذا أخرج أو ترك لا يضمن، والقائل بالضمان عند الترك هو الإصطخري. وقد أجرى القاضي الحسين الخلاف المذكور في النقل عند خوف الهلاك فيما إذا دفع إليه ثوباً، وأمره بتحريقه، فتركه في يده حتى تلف. فرع: إذا نقل الوديعة من ظرف إلى ظرف [، فقد أطلق الغزالي أن الظرف] إن كان للمالك لا يضمن. وأطلق مطلقون – والحالة هذه – أنه يضمن؛ كما لو نقلها من بيته. قال الرافعي: والذي يتلخص من كلام الأصحاب: أنه إن لم يَجْرِ فتح قفل ولا فض ختم ولا خلط، ولم يعين المالكُ ظرفاً – فلا يضمن بمجرد النقل، سواء كانت الصناديق للمودع أو للمالك، وإن جرى شيء من ذلك، فإن كان فضًّا أو فتحاً ضمن. قلت: وفيه شيء سأذكره: فإن كان قد عين الظر وهو للمالك ففي الضمان وجهان وجه عدم الضمان – وهو الأصح-: أن الظرف [والمظروف وديعتان ليس فيه إلا أنه حفظ أحدهما في حرز والآخر في غيره، وإن كانت] الظروف للمودع فهي كالبيوت بلا خلاف. قال: وإن قال: اربطها في كمك، فأمسكها في يده – ففيه قولان: أحدهما: يضمن؛ لأن الكم أحرز من اليد؛ فإنه قد يسهو فيرسل يده يسقط ما فيها، بخلاف الكم، وإذا كان كذلك شابه ما لو قال: احفظ في هذا الحرز، فنقل إلى ما دونه وهذا ما رواه الربيع في "الأم".

قال: والثاني: لا يضمن؛ لأن الكم يقدر الطرَّار على بَطِّهِ دون اليد فكانت أحرز، وهذا ما نص عليه في "المختصر" و"الجامع الكبير"، وهو موافق للنص فيما إذا نقل الوديعة من الحرز المعين إلى أحرز منه. قال: وقيل: يضمن قولاً واحداً؛ لما تقدم، وهذا هو الصحيح، والقائلون به منهم من حمل ما نقله المزني [على ما إذا ربطها في كمه وترك اليد عليها؛ لأنه زاد خيراً، ومنهم من حمله] على ما إذا تلفت بأخذ غاصب؛ لأن اليد احرز بالإضافة إليه، وهو ما اختاره الشيخ ابو حامد، وحكى الرافعيُّ أن لفظ النص في "عيون المسائل" مصرح بهذا التنزيل. وقيل: إن تركها في يده للخوف عليها في الكم لم يضمن، وإلا ضمن. ولو امتثل امره فربطها في كمه فلا يحتاج مع ذلك إلى الإمساك باليد، لكن ينظر: إن جعل الخيط خارج الكم فأخذها الطرَّار ضمن؛ لأنه فيه إظهار الوديعة وحلُّه وقطعه أسهل، وإن ضاع بالاسترسال وانحلال العقد لم يضمن إذا كان قد احتاط في الربط؛ لأن الذي سقط يبقى في الكم، ولوجعل الخيط الرابط داخل الكم انعكس الحكم. قال الرافعي: وذلك مشكل؛ لأن المأمور به مطلق الربط، فإذا أتى به وجب ألا ينظر إلى جهة التلف، بخلاف ام إذا عدل عن المأمور به إلى غيره فأفضى إلى التلفن وإن قضية هذا أن يقال: إذا قال احفظ في هذا البيت، فوضعها في زاوية منه، فانهدمت عليها – يضمن؛ لأنها لو كانت في زاوية أخرى لسلمت، ومعلوم أنه بعيد. تنبيه: قوله: اربطها، هو بكسر الباء على المشهور، وحكى الجوهري عن الأخفش ضمها. وربط، ربِط ويربُط، ربطاً: أي شد. والكم: جمعه: أكمام، وكِمَمة، بكسر الكاف وفتح الميم. قال: وإن قال: احفظها في جيبك، فجعلها في كمه – ضمن؛ لأن الجيب أحرز من الكم؛ فإن الكم قد يرسله فيسقط ما فيه، بخلاف الجيب. قال: وإن قال: احفظها في كمك، فجعلها في جيبه –لم يضمن؛ لأنه زاده

خيراً، وفيه وجه ضعيف: أنه يضمن. ولو كان الجيب واسعاص غير مَزْرُورٍ ضمن. تنبيه: الجيب من جاب يجوب، إذا قطع، يقال: جبت القميص، أجوبه وأجيبه: أي قَوَّرْتُ جَيْبَهُ. قال: وإن أراد سفراً ولم يجد صاحبها [ولا وكيله]، أي: في تسليم تلك العين خاصة، أو في قبض أعيان أمواله كلها – قال: سلمها إلى الحاكم؛ لأن المالك لوكان حاضراً وجب عليه القبول، فإذا كان غائباً ولا وكيل له ناب الحاكم عنه في ذلك عند الحاجة إليه؛ كما لو خطبت المرأة وليها غائب فإن الحاكم ينوب عنه في التزويج، ويجب على الحاكم في هذه الحالة القبول، بخلاف ما لو أراد الرد على الحاكم من غير سفر، كما سنذكره. وحكى الإمام فيما إذا كان سفره عن اختيار من غير حاجة ولا ضرورة مرهقة اختلافاً عن العلماء المتكلمين في أحكام الأمانات، والشريعة محتاجة إليها، وليس للفقهاء اعتناء بها. قال: فإن لم يكن [سلمها إلى] أمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عنده ودائع بمكة، فلما أراد الهجرة سلمها إلى أم أيمن، واستخلف عليًّا – كرم الله وجهه – في ردها. وهل يجب على المودِع الإشهاد على الأمين؟ فيه وجهان، فإن لم يشهد على وجه الوجوب ضمن. والمراد بالأمين: من يأمنه المودِع غيره، كما صرح به في "البحر". وحكى الرافعي عن رواية الشيخ أبي حاتم القزويني وجهاً: أنه يشترط أن يكون الأمين بحيث يودع المودِع عنده ماله، وأن الظاهر خلافه. وقد أشار الماوردي إلى هذا الوجه – أيضاً – وقال: إنه قياس قول الإصطخري، كما سنذكره في إيداع البهيمة.

ولو كان الحاكم غير مأمون كان وجوده كعدمه، صرح به الماوردي. قال: فإن سلم إلى أمين مع وجود الحاكم ضمن، قال القاضي أبو الطيب: لأن أمانة الحاكم مقطوع بها؛ فإنه لا يُوَلَّى إلا بعد أن تعرف عدالته ظاهراً وباطناً، وليس كذلك الواحد من الرعية؛ لأن عدالته إنما تثبت من طريق الظاهر؛ فكان عُدُوله عن الحاكم إلى الأمين غيرجائز، كعدول الحاكم عن النص إلى الاجتهاد؛ لأنه إذا دفع الوديعة إلى الحاكم، حفظها بولاية على صاحبها؛ لأن ولايته في حفظ مال الغائب، وليس كذلك غيره، وهذا ظاهر قوله في الرهن، وبه قال أبو سعيد الإصطخري، وابن أبي هريرة، وابن خيران، واختاره الشيخ أبو حامد وصححه القفال، وصاحب "التهذيب" وغيرهم، وبه جزم بعضهم. قال: وقيل: لا يضمن؛ لأن القصد الحفظ، وهما في الحفظ سواء، ولأنه يجوز له الدفع إليه عند عدم الحاكم فجاز مع حضوره كالدفع إلى الوكيل، وهذا ظاهر النص هاهنا، وبه قال أبو إسحاق، واختاره في "المرشد"، وقال صاحب "البحر" والبندنيجي: إنه المذهب: وبه قطع بعضهم؛ فيحصل به في المسألة ثلاثة طرق: القطع بالضمان. القطع بعدمه. إجراء قولين. وسلك الإمام طريقاً آخر فقال: إن سلمه إلى أمين مع وجود المالك أو وكيله أو الحاكم ضمن، وإن سلمه إليه عند خلو البلد عنهم فظاهر النص هاهنا: أن له ذلك. وقال الشافعي في كتاب الرهن: العدل الذي أودع الرهن عنده، لو أراد سفراً فأودع ما عنده إلى أمين ضمن، وإنما قال ذلك في شُغُور المكان عن الحاكم، فلم يَرَ علماؤنا بين المسألتين فرقاً، وجعلوا المسألتين على قولين، ولا شك في أنه إذا وجد المالك فرد عليه وجب عليه القبول، وله الرد على الوكيل مع وجود المالك، وله مطالبة الوكيل بالإشهاد جزماً، وإن كان قد قبض الوديعة

منه كما قاله الماوردي، وهل يجب؟ فيه وجهان، وهل له مطالبة المالك بالإشهاد؟ فيه ثلاثة أوجه تقدم ذكرها في الوكالة. ولو سلم إلى الحاكم مع وجود المالك أو وكيله ضمن. وعن الشيخ أبي حامد رواية وجه: أنه لا يضمن؛ لأن أمانة القاضي أظهر من أمانة المودع فكأنه جعل الوديعة في موضع آخر. فعلى هذا: لو دعاه المودع للإشهاد كان مخيراً بينه وبين إعلام مالكها بالاسترجاع؛ فإن أخذها واجب عليه، وهل يجب على الحاكم القبول في هذه الحالة؟ قال في "التهذيب": نعم. وفي الرافعي: أنه لا وجه لوجوبه عليه إذا كان التسليم إلى المالك متيسراً. فرع: إذا أودع أميناً عند إرادة السفر بشرطه، [ثُم قدم] المودع وأراد أن يسترد الوديعة من الأمين هل له ذلك؟ أبدى الإمام فيه احتمالاً، وقرَّبه من الخلاف في أن وكيل الوكيل [هل هو بمنزلته حتى يعزل بعزله وجنونه، أم هو وكيل الموكل؟] والذي أجاب به العبادي: أن له استرجاعها، وعلى ذلك يدل قول الغزالي في "الوسيط"، والمتولي حيث قالا: لو ادعى الأمين الرد على المودع قبل قوله دون دعواه الرد على المالك. قال: وإن دفن في دار، أي: المال المودع عند جواز إيداعه الأمين. قال: وأعلم به أميناً يسكن الدار، لم يضمن على ظاهر المذهب؛ لأن ما في الدار في يد ساكنها فكأنه أودعه إياها، وهذا ما حكاه في "المهذب" و"التهذيب". قال: وقيل: يضمن، ويفارق إذا أودعها عنده؛ لأنه إذا أودعها إياه فقد أزال يده عنها وجعلها في حكم الوديعةن وليس كذلك هاهنا؛ لأنها على حكم يده ولم يجعلها في يد غيره فلزمه الضمان، كذا وجهه القاضي أبو الطيب. فعلى الأول – وهو الذي اختاره في "المرشد" –يشترط أن تكون الدار حِرْزاً

مثله، وهل يكتفي بإعلام أمين واحد، أم لابد من إعلام رجلين ممن تقبل شهادتهما، أو رجل وامرأتين؟ فيه وجهان في "الحاوي". وعلى الثاني: لابد من أن يحضر الدفن، ولا يلزمه أن يأذن لهما في النقل عندالخوف؛ لأن المغلَّب على ذلك الشهادة. وعلى الأول – وهو قول ابن أبي هريرة، والظاهر في "الرافعي" – يجوز ألا يحضره، ويكتفي بإعلام ثقة، رجلاً كان أو امرأة؛ مراعاة لحكم الائتمان: وعلى هذا: هل يلزمه أن يأذن له في النقل إن حَدَث بمكانها خوف؟ فيه وجهان. فإن لم نوجبه، فنقلها الأمين عند الخوف فهل يضمن؟ فيه وجهان في "الحاوي". ولو لم يُعْلِمْ بما دفنه أحداً، أو أعلم به غير ساكن الدار، أو ساكنها لكنه غير أمين ضمن. وألحق الإمام – كما حكاه الرافعي – في إعلام المراقب للدار من الجوانب أو من فوقها، مراقبةَ الحارس بإعلام الساكن، والذي وقفت عليه في "النهاية": أن بعض الأئمة أطلق الاكتفاء باطلاع الأمين مع كون الموضع حرزاً، وحكى عن أئمة العراق ما ذكره الشيخ واستحسنه، ثم قال: ولست أدري في ذلك خلافاً بين الطرق. والاطلاع الذي ذكره غير العراقيين محمول على ما ذكره العراقيون، ولكنهم بينوه وفصَّلوه: فإن كانت الدار خالية والمطلع لا يدخلها، ولكنه يرعاها من فوق رعاية الحارس أو من الجوانب فلا يكاد يصل إلى الغرض، وإن أحاطت بالدار حياطته، وعمَّها في الجوانب برعايته – فهذه اليد التي تليق بالوديعة، وهي التي عناها العراقيون، وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه يجوز أن يعلم من هو بعيد عنها؛ بناء على أن المغلَّب على هذا الإعلام الخبر، وطرده في الاكتفاء بإعلام العبد. وقد صور الجيلي المسألة بما إذا دفن في الدار مع قدرته على الحاكم أو

أمينه؛ فتكون حقيقة الخلاف راجعة إلى جواز إيداع الأمين مع وجود الحاكم أو أمينه أو نائبه، وما قاله هو ما حكاه البندنيجي، والأكثرون على خلافه. واعلم أنه كما يجوز الإيداع بعذر السفر - كما تبين - يجوز بسائر الأعذار، كما إذا وقع في البقعة حريق أو غارة أو خاف الغرق ولم يجد حرزاً ينقلها إليه. قال الرافعي: وليكن في معناه ما إذا أشرف الحرز على الخراب، ومن طريق الأولى يجوز الإيداع عند خوف الموت بحدوث مرض مخوف وما في معناه. فإن لم يودع مع الإمكان، أو لم يوصِ بها عند عدمه حتى مات - ضمن. قال الرافعي: لكن كأنا نتبين بالموت أنه كان مقصراً من أول ما مرض، أو يلحق التلف إذا حصل بعد الموت بالتردي في بئر حفرها متعدياً. وفي "التهذيب": أن الوصية تكفي وإن أمكن الرد إلى المالك؛ لأنه لا يدري متى يموت، وإذا أوصى فليُشْهِدْ؛ صوناً لها عن الإنكار. ويشترط أن يكون الموصى إليه أميناً، وهل يشترط أن يكون ممن يوصي ماله إليه حتى لو أوصى بماله لشخص وبالوديعة لآخر هل يضمن؟ فيه وجهان في "الحاوي". ولو أوصى إلى فاسق وسلم إليه ضمن، وإن لم يسلم وتلف قبل الموت فهل يضمن؟ فيه وجهان في "الحاوي". ولو قال: عندي وديعة لفلان، ووصفها، ولم توجد في تركته. قال أبو إسحاق: لا يضارِب المقَر له بها مع الغرماء؛ لأنها أمانة فلا يضمن بالشك، وبهذا أجاب في "التهذيب"، وخالفه غيره. قال في "المهذب": وهو ظاهر النص.

ولو وجد في تركته أثواب بذلك الوصف ضمن. ولو وجد ثوب واحد ففي "التهذيب" و"التتمة": أنه ينزل عليه، ومنهم من أطلق أنه يكون ضامناً. ولو مات المودَع ولم يوص، فادعى المالك أنه قصر في الإيصاء، وقال الورثة: لعل الوديعةتلفت قبل أن يوصف بالتقصير. قال الإمام: فالظاهر براءة الذمة، ولا خلاف أنه إذا مات فجأة أنه لا يضمن بترك الإيصاء. فرع: لو سافر المودَع بالوديعة فهل يضمنها؟ ينظر: إن لم يجد من يودعه إياها وكان السفر مأموناً والحضر مخوفاً، جازت المسافرة، ولا ضمان. وإن كان الحضر مأموناً أيضاً، فلا يجوز على النص، وبه قال أبو إسحاق، وصححه صاحب "التقريب"، فإن سافر بها ضمن. وقال ابن أبي هريرة: يجوز، ولا ضمان؛ لاستواء الأمين في الحالين وفضل حفظها له بنسه، وحمل قول الشافعي على حالة الخوف، وهذا ما اختاره القفال. وقال الرافعي: إنه أظهر عند المعظم، وبه جزم في "المهذب" وقال: إنه يلزمه أن يسافر بها وإن سافر بها مع إمكان إيداعها ضمن.

وحكى القاضي أبو الطيب والرافعي وجهاً: أنه لا يضمن إذا كان الطريق آمناً. قال الرافعي: وكذا لو سافر بها في "البحر" وكان الغالب منه السلامة، وحكى في موضع آخر: أنه يجوز له السفر مع أمن الطريق، وكون البلد المنقول إليها أحرز. ولو أراد النقل من بلد إلى بلد وليس بينهما مسافة تسمى سفراً: هل يجوز؟ فيه وجهان: أظهرهما: الجواز؛ كما لو اتصلت عمارتهما، وعلى هذا يراعي أيهما أحرز. وقيل: لايجوز؛ كما لو كان ما بينهما مخوفاً. ولو أودعه وهو مسافر، له أن يسافر بها، قال الروياني: ولا يقال له متى وصلت إلى عمارة فلا تفارقها ولا تخرج الوديعة. ونسب ذلك إلى القفال. [تنبيه: قول الشيخ: ولم يوجد صاحبها، يشمل ما إذا كان مسافراً أو مَحولاً بينه وبينه بحبس لا يصل إليه بسببه، وقد صرح بذلك في الحالة الثانية صاحب "البحر"، والقاضي الحسين حكاية عن أبي إسحاق، وأنه جعل تعذر الوصول كالغيبة، وأطلقه البغوي ولم ينسبه إلى أحد]. قال: وإن أودعه بهيمة، فلم يعلفها حتى ماتت – أي: بسبب ترك العلف مدة [يموت مثلها] بترك العلف فيها – ضمنها؛ لتعديه فإنه يجب عليه أن يعلفها لحق الله تعالى، ولأن به يحصل الحفظ الذي التزمه بقبوله الوديعة. ولو لم تَمُتْ بعد انتهائها إلى تلك المدة، قال في "التهذيب": ضمنها وإن لم تتلف جوعاً، وكذا لو دخلها نَقْصٌ ضمنه. ولو ماتت قبل مضي تلك المدة بسبب جوع سابق انضاف إليه جوعٌ في يده: فإن علم بالأول ضمنها، وإلا فوجهان في "التهذيب"، [وأظهرهما في "التتمة": عدم الضمان.

وإذا أوجبنا الضمان فالكل أو بالقسط؟ فيه وجهان]. ولا فرق في ذلك بين أن يأذن له المالك في العلف أو يطلق الإيداع. نعم، إذا أذن له في العلف ينظر: إن شرط له [الرجوع] وقدَّر العلف رجع عليه، وإن لم يشترط الرجوع، أو لم يقدِّر العلف ففي الرجوع عليه وجهان في "الحاوي"، وألحق الرافعي الوجهين عند عدم اشتراط الرجوع بالوجهين فيما إذا قال له: أدِّ دَيْني، من غير شرط الرجوع، وقد قدمت في باب الضمان حكاية المختار منهما. وإذا لم يأذن له في الإنفاق كان له عند حضور المالك أو وكيله مطالبته بالإنفاق عليها، أو استرجاعها. فإن كانا غائبين رفع الأمر إلى الحاكم وأثبته عنده ليفعل ما فيه المصلحة من إيجارها أو بيعها، أو بيع بعضها، أو الاستقراض عليها إذا كانت المؤنة خفيفة، وله أن يستقرض من المودع ويسلمه إلى عدل لينفق عليها، فلو أذن له بالإنفاق بنفسه فهل يجوز؟ فيه خلاف يأتي مثله في الكتاب في "باب الإجارة". فإن جوزناه فهل يجب تقدير المنفق؟ فيه وجهان في الحاوي، ولو أنفق عليها المودع من غير إذن الحاكم نظر: إن قدر على إذنه لم يرجع. وإن لم يقدر في رجوعه عند شرط الرجوع ثلاثة أوجه حكاها الماوردي: أحدها: أنه يرجع، أشهد أو لم يشهد. والثاني: لا يرجع وإن أشهد. والثالث: إن أشهد رجع، وإلا فلا. فإن اعتبرنا الإشهاد وجب في كل شيء ينفقه كما قيده في "الذخائر" في نظير المسألة من الإنفاق على اللقيط. وقيد أيضاً محل المرجوع عند عدم الإشهاد في مسألة الجمال بما إذا عجز عنه. أما إذا تركه مع القدرة عليه فلا يرجع وجهاً واحداً، وظيهر مجيء مثله هنا.

قال البندنيجي حكايةً عن أبي إسحاق: إنا إذا جوزنا له الإنفاق والرجوع، فالوجه: أن يفعل ما فيه الحظ لربها من إجارتها وبيعها أو بيع بعضها. واستقراضه كالحاكم، وكم ترك السقي حكم ترك العلف، وله أن يستعين في ذلك بغلامه، وله إخراجها بنفسه ومن يستعين به من الموضع التي هي فيه للعلف والسقي إذا كان ضيقاً حتى لو هلكت في حال الخروج لا ضمان عليه. وقيل: إنه يضمن إذا تلفت في يد الأمين، وكان المودع ممن لا يتولى مثل ذلك بنفسه. ولو أخرجها مع اتساع الموضع فتلفت ضمن على النص، وبه قال الإصطخري. وقال أبو إسحاق: لا يضمن. وحمل النص على ما إذا أخرجها من حرز إلى خوف، وغيره حمله على ما إذا أخرجها من غير أمين. قال: وإن قال: لا تعلفها، فلم يعلفها حتى ماتت – لم يضمن؛ لأن الضمان يجب للمالك، وقد أذن في سببه؛ فأشبه ما إذا قال: اقتل عبدي، ففعل، وهذا قول الجمهور. قال: وقيل: يضمن؛ لأنه لا حكم لنهيه عما أوجبه الشرع؛ بدليل أنه آثم؛ فكان وجوده كعدمه، وهذا قول الإصطخري، وصححه الماوردي، وروي أن ابن أبي هريرة رواه فيما إذا أذن له في قتل عبده، وأنه زعم أن الخلاف مخرَّج من اختلاف قوليه في أن الراهن إذا أن للمرتهن في وطء الجارية المرهونة: هل يسقط عنه المهر أم لا؟ ولو كان النهي عن العلف لعلة بالبهيمة من قُولَنْج أو تخمة، فأعلفها المودع قبل الزوال – ضمن. وحكم العبد حكم البهيمة فيما ذكرناه.

وألحق بعضهم بها ترك سقي النخلة، وبعضهم قال: لا يضمن بتركه إذا لم يأمره به. ولا فرق عندنا – في عدم تضمين المودع إذا وجد منه العلف والسقي على الوجه المأثور وتلفت البهيمة – بين أن يكون العلف والسقي على الوجه المأثور وتلفت البهيمة – بين أن يكون العلف والسقي مع دواب المودع أو مفردة. وقال الإصطخري: متى عزلها عن دوابِّه وعلفها في غير إصطبله ضمنها بكل حال. تنبيه: يقال علفت الدابة، أعلفها – بكسر اللام – علفاً: بإسكان اللام، والعلف – بفتحها -:التبن والشعير وغيرهما مما تأكله الدواب. قال: وإن أودع عند غيره من غير سفر ولا ضرورة – ضمن، أي: وإن كان لا يضمن لو أراد سفراً، أو كان ثم ضرورة. أما إذا كان الإيداع عند أجنبي غير حاكم فبالاتفاق منا ومن الخصم. وأما إذا كان عند من هو في رعاية المودع: كعبده، وأجيره، وولده، وزوجته، أو من حاكم؛ فلأنه أودع من لم يأتمن المالك من غير حاجة ولا ضرورة؛ [فضمن كما لو أودع] أجنبيًّا غير حاكم. وقد حكى القاضي أبو الطيب وجهاً: أنه يجوز له الإيداع عند الحاكم في غيبة المالك ووكيله؛ لأنه لو كان حاضراً لوجب عليه القبول، فقام الحاكم فيه مقامه كولاية التزويج، وغيره نسب هذا الوجه إلى الشيخ أبي حامد. وعلى هذا هل يجب على الحاكم القبول؟ فيه وجهان، أظهرهما: نعم، كما ذكرناه. هذا ما حكاه الأصحاب هاهنا، وحكى القاضي أبو الطيب وابن الصباغ فيما إذا كان الرهن على يد عدل، وأراد دفعه إلى الحاكم، أو أمين عند غيبة الراهن والمرتهن، من غير أن يريد سفراً ولا ضرورة-أنه ينظر: إن كانت غيبتها طويلة – وهي السفر الذي تقصر فيه الصلاة – فإن الحاكم يقبضه عنهما، ولا يلجئه إلى حفظه، وإن لم يكن حاكمٌ أودعه عند أمين.

وإن كانت المسافة قصيرة فهو كما لو كانا حاضرين. وكذلك حكى الإمام، ثم قال: ولا يبعد عندنا اعتبار مسافة العَدْوَى حتى يقال: إن كانا على مسافة العدوى فلابد من مراجعتهما، وإن كانا فوقها ففيه تردد. قلت: وهذا بعينه يتجه جريانه هاهنا؛ [إذ لا] يظهر بينهما فرق، كما حكيناه عن رواية الإمام من قبل عن الأصحاب عند إرادة المودع السفر لحاجة؛ ولهذا أحال الرافعي الكلام في مسألة الرهن على إيداع الوديعة. قال: وله أن يضمّن الأولَ؛ لتفريطه بتسليم الوديعة لمن لا يجوز تسليمها إليه. والثاني- لأنه أخذ ما ليس له أخذه وتلف تحت يده. ولا فرق في ذلك بين أن يكونا عالمين بالحال أو أحدهما؛ لأن الضمان لا يختلف بالعلم والجهل. قال: فإن ضَمَّن الثاني رجع على الأول، أي: إذا جهل الحال؛ لأنه غره. ومن هذا يؤخذ أن الأول إذا غرم لا يرجع على الثاني؛ إذ لا فائدة فيه. وقيل: لا يرجع الثاني، أما لو علم الثاني حقيقة الحال لم يرجع على الأول عند تغريمه وجهاً واحداً، ويرجع الأول عليه عند تغريمه وجهاً واحداً، ويرجع الأول عليه عند تغريمه وجهاً واحداً. قال الماوردي: وعلى مالك الوديعة الإشهاد بقبض القيمة وجهاً واحداً؛ [لأنها] مضمونة. قال: وإن خلط الوديعة [بمال له] لا يتميز – أي: كالحنطة إذا خلطها بمثلها، والدراهم بمثلها – ضمن؛ لسخط صاحبها بهذا الخلط المفضي إلى سوء المشاركة. وهكذا لو خلطها بمال المودع الذي لا ختم عليه ولا قفل وما في معناه، على أظهر الوجهين.

وفيه وجه: أنه لا يضمن والحالة هذه. أما إذا تميز مال الوديعة من المختلط به، مثل: أن خلط الدراهم بالذهب فلا ضمنا، اللهم إلا أن يحصل نقص بسبب الخلط؛ فيضمنه، كما صرح به الماوردي. قال: وإن استعملها، أي: مثل: أن كان ثوباً فلبسه، أو دابة فركبها. قال: أو أخرجها من الحرز لينتفع بها، أي: غير ظان أن ذلك ملكه. قال: ضمن، أي: وإن لم ينتفع؛ لتفريطه وخيانته. ولو أخرج البعض بهذا الغرض، مثل: أن كانت الوديعة عشرة دراهم مثلاً، فأخرج منها درهماً، ولم يكن الحرز مقفلاً ولا مختوماً – ضمنه لا غير. فلو تصرف فيه وأعاد بدله لم يملكه المالك ما لم يقبضه، لكن ينظر: إن لم يتميز عن المختلط به ضمن جميع العشرة، وإن تميز فلا، وإن تميز عن البعض ضمن ما لم يتميز عنه خاصة. ولو أعاد الدرهم بعينه: فإن تميز لم يضمن سواه، وإن لم يتميز فكذلك على أصح القولين، هو ظاهر النص في "المختصر"، ونسبه الماوردي إلى ابن أبي هريرة والبغداديين؛ لأن هذا الاختلاط كان حاصلاً قبل الأخذ. فعلى هذا: لو تلفت العشرة لم يضمن إلا درهماً، وإن تلفت خمسة لم يضمن إلا نصف درهم. أما إذا كان الحرز مقفلاً، ففتح قفله ضمن جميع العشرة، وإن لم يخرج منها شيئاً، كذا لو كان مختوماً ففك ختمه، أو مربوطاً فحله، أو قطع الكيس من تحت الرَّبْط. وحكى الماوردي في فك الختم، وحل الربط وجهاً: أنه لا يضمن العشرة بمجرد ذلك؛ لأنه لم يكن منيعاً، بخلاف القفل. وهذا ما أورده الرافعي في حل الخيط [من رأس] الكيس، ومن رزمة الثياب، وعلله: بأن القصد من ذلك المنع من الانتشار، لا أن يكون مكتوماً

عنه، وحكاه مع الأول في فتح القفل أيضاً. وعلى الأول: هل يضمن الظرف من كيس إذا حله، أو صندوق إذا فتحه؟ فيه وجهان في "الرافعي". أما إذا خرق الكيس من فوق الربطة، قال الرافعي: لم يضمن إلانقصان الخرق، وما قاله فيه نظر؛ فإنه حكى من بعد فيما إذا أتلف بعد الوديعة وكان له اتصال بالباقي: كتخريق الثوب، وقطع طرف العبد – فإنه ينظر: إن كان عامداً فهو جانٍ على الكل فيضمن، وإن كان مخطئاً ضمن المتلف، وفي الباقي وجهان، أصحهما: المنع. وما ذكره يتجه أن يجري في [مسألة تخريق الكيس]، وقد ألحق بنقصالختم نبش ما أودعه إياه مدفوناً. ولو كانت الدراهم في غير وعاء، فعدها أو وزنها، أو ذَرَعَ الثوبَ المودع: فهل يضمن بذلك؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وجه الضمان: أنه نوع من التصرف. أما إذا أخرج الوديعة ظاناًّ أنها ملكه، لم يكن ذلك سبباً في الضمان. نعم، لو ادعى ذلك لا يقبل منه في الظاهر. ولو انتفع بالوديعة ظانًّا أنها ملكه ضمن، صرح به الإمام في أول كتاب الغصب. ثم محل كون الاستعمال مضمِّناً إذا لم يتعلق به مصلحة الوديعة، أما ما يتعلق بمصلحتها: كلبس الصوف الذي لا يصلحه إلا نفس الآدمي وبسطه، إذا فعله المودع كذلك فلا ضمان عليه. نعم، لو لم يفعله ضمن، إلا أن ينهاه المالك عنه. وفي "التتمة": إشارة إلى أنه يجري وجه الإصطخري في البهيمة فيه، [وقد حكيناه عن كتاب الزبيلي من قبل]. وكذلك إخراج الوديعة من الحرز مشروط بألا يتعلق به مصلحة الوديعة. أما

الذي يتعلق به مصلحتها: كنشر الثوب، وفرش البسط، مشي الدابة إذا خشي عليها الزمانة – فلا يضمن به، وإن احتاج في ذلك إلى فتح قفل وفض ختم. وفي "التهذيب" حكاية وجه فيما إذا فتح القفل: أنه يضمن. وعلى الأول: لو لم يفعل ذلك مع العلم به ضمن، وعن ذلك احترز الشيخ بقوله: "لينتفع بها". قال: وإن نوى إمساكها لنفسه – أي: بعد أن قبضها – لم يضمن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ عَفَا لأَّمتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا"، ولأنه مال يضمنه بالإتلاف فلا يضمنه بالنية [كمال غيره، والذي] ليس بمودع عنده إذا نوى إتلافه. قال: وقيل يضمن؛ كما إذا نوى ذلك عند القبض، وبالقياس على الملتقط إذا أمسك العين وترك التعريف، ونوى تملكه. وهذا قول ابن سريج. والقائلون بالأول منهم من سوى بين نيته في الابتداء والانتهاء؛ فلم يضمِّنه فيهما. ومنهم من فرق بأن النية في الابتداء اقترن بها الفعل فأثرت، بخلاف الدوام، وبهذا فرق أبو الطيب بينه وبين اللقطة من حيث إنه إنها ضمنها؛ لاقتران نيته بالفعل، وهو [تَرْكُ التعريف]، وغيره قال: لأن أمانته تثبت بالنية؛ فكذلك الضمان يكون بها، بخلاف المودع وهذا الخلاف يجري ما لو نوى أن يستعملها وإن لم يخرجها من الحرز. وحكى الماوردي عن القاضي أبي حامد: أنه في هذه الحالة لا يضمن بهذه النية، ويضمن إذا نوى إمساكها لنفسه، وأنه لا يردها لمالكها، وصححه. قال: وإن طالبه بها، أي: بالتمكين منها؛ إذ هو الواجب عليه كما نص [عليه] في "شرح الفروع"، وادعى الإمام فيه الوفاق. قال: فمنعها من غير عذر – ضمن؛ لأنه متعدٍّ بترك الرد، قال الله تعالى: {إِنَّ

اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. أما إذا كان بعذر، مثل: أن طالبه في جُنْح الليل، والوديعة في خزانة لا يتأتى فتح بابها في ذلك الوقت، أو كان مشغولاً بصلاة، أو قاضء حاجة، أو طهارة، أو في حمام، أو على طعام؛ فأخر حتى يفرغ، أو كان ملازماً لغريم يخاف هربه، أو كان يخشى المطر والوديعة في البيت؛ فأخر حتى يقلع ويرجع إلى البيت، وما أشبه ذلك – فلا نزاع في أن ذلك جائز، لكن هل يضمن؟ الذي قاله في "الوسيط" هاهنا: أن التأخير إن كان بسبب تعذر الوصول إليها – كما في جنح الليل – لم يضمن، وإن كان بسبب كونه في حمام أو على طعام، ضمن، وإن لم يَعْصَ بالتأخير. وكذلك حكاه في كتاب الوكالة عن قول الأصحاب، ثم قال: وهذا منقدح إذا كان التلف بسبب التأخير، وبعيد إذا لم يكن التأخير سبباً فيه. وما ذكره هاهنا وثَمَّ هو احتمال أبداه الإمام لنفسه. والمنقول عن الأصحاب: أنه لا يضمن في الجميع، كما صرح به القاضيان الحسين وأبو الطيب، وكذلك ابن الصباغ والماوردي وغيرهم في الوكيل إذا أخر الرد بهذا العذر، وطرده في كل يد أمانة كالمودع وغيرهن وهو ما حكاه المتولي أيضاً، وإيراد البغوي يقتضيه. فروع: لو وكل المالك وكيلاً ليرد عليه المودَع، لزمه الرد مهما طلب، فإن تمكن منه ولم يطالبه الوكيل ففي الضمان وجهان. قال الغزالي: كنظيره في الثوب إذا طيَّرته الريح في داره؛ لأن أمره بالرد للوكيل عزل فصارت أمانته شرعية. ولو قال له: رد الوديعة على من قدرت عليه من وكلائي ولا تؤخر، ضمن بتأخيره عن الرد على بعضهم عند قدرته عليه، وعصى، ولو لم يقل له: ولا تؤخر، ضمن بالتأخير، وفي العصيان وجهان. ولو قال: ردها على من شئت منهم، فلم يردها على واحد ليرد على آخر –

فلا يعصي، وفي الضمان وجهان، كذا قال الإمام في "الأساليب". قال: وإن تعدى فيها – أي: بما ذكرناه أو غيره – ثم ترك التعدي، لم يبرأ من الضمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ"، ويد المودع متعدية قد أخذت الوديعة؛ فوجب أن يكون عليه حتى يؤديها، ولأنه ضمنها بالعداون فلم يبرأ من الضمان بالرد إلى المكان؛ كمن غصب من دارٍ ثم رد إليها، وكما لوجحد الوديعة ثم اعترف بها؛ فإن الخصم – وهو أبو حنيفة – قد وافق على عدم البراءة. قال: فإن أحدث له استئماناً – أي: مثل أن قال: استأمنتك عليها، أو: أودعتك إياها، أو: أذنت لك في حفظها، أو: أبرأتك من ضمانها – برئ على ظاهر المذهب؛ لأنه ضمن بحقه فسقط بإسقاطه. قال: وقيل: لا يبرأ حتى تُرد إلى صاحبها، أي: أو وكيله؛ للحديث، ولأن الإبراء يختص بما في الذمة، ولا حق بما [في] ذمته بعد، وقد روى بعضهم هذا عن ابن سريج، وبعضهم قال: إنه منصوص عليه في "الأم". ولو أمره بردها إلى الحرز بعد التعدي، قال الماوردي في كتاب العراية: كان في سقوط الضمان وجهان كالإبراء. قال: وللودِع والمودَع فسخ الوديعة متى شاء. وإن مات أحدهما، أو جن، أو أغمي عليه – انفسخت الوديعة؛ لأنها في الحقيقة وكالة في الحفظ، وهذا حكم الوكالة. ولو قلنا: إنها ليست بعقد، بل مجرد إذن فالآذن يبطل إذنه بطرآن هذه الأحوال، والمودع يخرج عن أهليَّة الحفظ بها – أيضاً – ويظهر أن يأتي فهيا من الخلاف عند طرآن الجنون والإغماء ما ذكرناه في الوكالة. ثم إذا انفسخت بموت المودَع، وجب على الوارث إعلام صاحب الوديعة بها إذا عرفه أو الرد عليهن وكذلك يجب على وليه إذا جن أو أغمي عليه. وهل

يجب عليه السعي في معرفته؟ قد تقدم الكلام فيه في أول الباب؛ لأنها أمانة شرعية، وهذا إذا ثبت أن ثم وديعة: إما بإقرار الميت، أو بإقرار الورثة، أو قايم بينة عليها. أما لو لم يوجد سوى الكتابة عليها بأنها وديعة لفلان، فليس ذلك بحجة على الورثة. قال: وإن قال المودَع: رددت عليك الوديعة، فالقول قوله – أي: مع يمينه –لقوله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، فأمر بأداء الأمانة ولم يأمر بالإشهاد؛ فدل على أن قوله مقبول من غير بينة؛ إذ لو لم يكن كذلك لأرشد إليه كما أرشد إليه – تبارك وتعالى – في حق من بلغ رشيداً بقوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6]؛ ولأنه ائتمنه فقبل قوله عليه. قال القاضي أبو الطب: ولأنه لا خلاف أنها إذا هلكت قبل قوله؛ فكذلك إذا ادعى ردها إليه وجب أن يقبل قوله مع يمينه. وما قاله منتقض بالمرتهن والمستأجر؛ فإنه لا يقبل قولهما في دعوى الرد عند العراقيين وإن قبل قولهما في التلف. قال: وإن قال: امرتني بالدفع إلى زيد –أي: ودفعتُ إليه – فقال زيد: لم يدفع إلي، فالقول قول زيد، وهذا مما لم يختلف الأصحاب فيه؛ لأن الأصل عدم الدفع إليه، وهو غير مؤتمن من جهته؛ فلا يقبل قوله عليه كما لو ادعى الوصي الدفع إلى الصبي بعد البلوغ. نعم، لو كان كذلك زيد مالك الوديعة وقد أودعها عند الآمر، وأذن له في إيداعها عند المودع – كان القول قول الدافع؛ لأنه ائتمنه، كذا قاله الماوردي، ولو خرج على أن وكيل الوكيل

وكيل لم يبعد. وإذا لم يقبل قول المودع على زيد فما حكمه مع المالك؟ ينظر: إن كان الدفع في وفاء دين، أو إيداعاً، فقد قدم الشيخ الكلام فيه في الوكالة. وإن كان عارية أو قرضاً فقد جزم الماوردي بأن المودع يضمن، سواء صدقه أو كذبه؛ إذ هو مقصر بترك الإشهاد. وإن كان هبة، وقلنا: إنها تقتضي الثواب – فكذلك الحكم، وإن قلنا: لا تقتضيه، فلا ضمان. قلت: وكان يتجه الا يكون ضامناً بترك الإشهاد – على رأي – كما في ضاء الدين، ويمكن أن نفرق بأن هاهنا لابد من المطالب؛ فالحاجة إلى البينة متوقعة، وهذا إذا صدقه المالك في صدور الإذن في الدفع إلى زيد، أما إذا كذبه فالقول قوله، والمودع ضامن. قال: وإن هلكت الوديعة فالقول قوله؛ لأنه أمين مقبول القول في الرد؛ فكذلك في دعوى التلف من طريق الأولى؛ لأن الرد لا يتعذر إقامة البينة عليه؛ لأنه منوط بالاختيار، بخلاف التلف. ولا فرق في ذلك بين أن يدعي التلف بسبب خفي أو ظاهر يتيسر إثباته بالشهادة. نعم، إذا ادعى التلف بسبب خفي كالسرقة والغصب –كما صرح به في "المهذب" و"التهذيب" ونحوهما – لم يكلَّفْ إقامة البينة على السبب. وإن ادعاه بسبب ظاهر: كالحريق والنهب، وكذا موت الحيوان والغصب – عند صاحب "التتمة" كُلِّفَ إقامة البينة على السبب دون التلف، ويقوم مقام البينة على الحريق وجودُ أمارته، وكذا تصديق المالك وجودَ الحريق والنهب دون تلف الوديعة. ولو أطلق دعوى التلف لم يكلَّف بيان السبب. وإذا نكل عن اليمين عند ذكر السبب الخفي فللمالك الحلف على نفي العلم بالتلف، ويضمن المودع. قال الإمام: ومن أصحابنا من يكلفه جزم اليمين؛ من جهة أن من الممكن أن

يطلع على بقاء العين في الوقت الذي ادعى المودع تلفها فيه، وإذا لم يُقِمِ المودع البينة على ما ادعاه من السبب الظاهر: فإن كان لا يبعد وقوعه في الوجودحلف المالك، وإن كان مماي حكم العرف باشتهاره لو وقع ولم يشتهر، في تحليفه وجهان: وجه المنع: أن المشاهدة تكذبه؛ فإن الحريق الظاهر لا يخفى، وتتوفر الدواعي على نقله، فإذا لم ينقل بأنَ الكذبن وهذاما رجحه الإمام وضعف مقابله. وحكى عن المراوزة انهم رأوا تصديق المودع وإن ظهرت مخايل كذبه، واكتفوا بإمكان صدقه، قرب أو بعد، وأنهم فصلوا القول في الحريق فقالوا: إن كان ليلاً بحيث يتوقع إطفاؤه من غير اطلاع يفرض في طرف البلد، فخفاؤه نادر ولكنه ممكن؛ فالمودع مصدَّق مع يمينه. وإن كان الحريق نهاراً بحيث يستيقن أنه لو كان لما خفي فلا سبيل إلى التصديق. فرع: لو مات المودع قبل الحلف فللمالك تحليف الورثة، لكن الوارث إن تحقق تلف الوديعة جاز له الحلف، وكذا إن غلب على ظنه. وإن غلب على ظنه كذبُ مورثه فلا، وإن أمكن استواء الأمرين ففي جواز اعتماده على قول المورث في الحلف خلاف حكاه الإمام. فرع: لو مات المالك، فادعى المودع التلف بعد ذلك – نظر: إن ادعى أنه وجد في حالة حياة المالك فالقول قوله مع يمينه. وإن ادعى تلفها بعد موته وقبل تمكنه من الرد فمن المصدق؟ فيه وجهان، ومثلهما يجري فيما إذا مات المودع وتلف المال في يد ورثته، وقال الإمام فيها: الوجه عندنا القضاء بتصديقه؛ لأنه أمين ليس متعدياً. قال: وإن قال: أخرجتها من الحرز، أو: سافرت بها لضرورة، أي: مجوِّزة للإخراج والسفر وقد تلفت، فقال المالك: أنت متعدٍّ بذلك؛ فدعواك التلف لا

تقبل ويجب عليك الغرم. قال: فإن كان ذلك بسبب ظاهر كالحريق والنهب وما أشبههما، أي: مثل خشية الغرق ونحوه – لم يقبل إلا ببينة؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليه. قال: ثم يحلف: إنها هلكت؛ لأنه ثبت عدم تعدِّيه في الإخراج، ويحتاج أن يحلف أيضاً: إنه أخرجها لأجل هذا السبب؛ فإنه قد يخرجها معه لغيره. وقيل: لا يحتاج إلى اليمين على الإخراج لأجل هذا السبب؛ اكتفاء بظاهر الحال. قال: وإن كان سبب خفي –أي: كخشية السرقة – قبل قوله [مع يمينه]؛ لأنه أمين، وقد ادعى عليه الخيانة فيما يعسر إقامة البينة عليه، فكان القول قوله كدعوى التلف، وقد شبه العراقيون ذلك بما إذا قال لزوجته: إن ولدت فأنت طالق، فادعت الولادة، لا يقبل قولها إلا ببينة، بخلاف ما لو قال: إن حِضْت. قال: وإن قال: ما أودعتني – أي: بعد أن طلب منه الوديعة – فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم الإيداع، لكنه إن كان كاذباً صار بالإنكار متعدياً، حتى لو أقر بذلك أو قامت عليه بينة بالإيداع، وتلفت في يده ضمنها. ولو ادعى تلفها أو رَدَّها قبل الجحود، ولم يكن له بينة – لم تسمع منه؛ لأن دعوى التلف والرد مناقض لإنكار الإيداع فلم يقبل منه. قال: فإن أقام المدعي بينة بالإيداع، فقال – أي: المدعي عليه -: أودعتني، ولكنها هلكت، أقام بينة أنها هلكت قبل الجحود – سمعت؛ لأن البينة حجة ناصَّةٌ على الغرض فيجب الحكم بموجبها، وهذا ما قال القاضي الحسين: إنه المذهب، والإمام هاهنا: إنه ظاهر المذهب، ورجحه الرافعي أيضاً،

ويحكي عن اختيار القفال والشيخ أبي علي. قال: وقيل: لا تسمع؛ لأن دعواه غير مسموعة لمناقضتها إقرار الأول، والبينة فرع الدعوى، وإذا لم يسمع الأصل لم يثبت الفرع، وهذا ما اختاره ابن أبي هريرة، وذكر الإمام في باب الوكالة أنه الأظهر، والغزالي ثَمَّ: أنه الأصح، واختاره في "المرشد". والقائلون بالأول قالوا: المودع قد أنشأ الآن قولاً ممكناً، وقوله الأول يجوز أن يكون لنسيان، والدعوى قول ممكن؛ فإذا اعتضدت البينة ثبت المقصود بها؛ ولهذا لو قال: لا بينة لي، ثم أحضر بينة – سمعت لهذا المعنى. قال الإمام: وإنما لا تقبل البينة إذا كان قول من يقيمها عند إقامتها يناقضها. وطرد هذا القول في كل من سبق منه قول مناقض ورجع عنه وكذب نفسه فيه، وأقام على وفق القول الثاني بينة، وهذا يلزمه عليه مسألة المرابحة، وهي ما إذا قال: اشتريته بمائة، ثم قال: اشتريته بمائة وعشرة – فإنه لا يقبل وإن أقام بينةً، اللهم إلا أن يبدي عذراً – كما ذكرناه في موضعه – فإن في سماع البينة خلافاً، فإن كان قد أراد هاهنا هذه الحالة فقد خرج عن عهدة السؤال، مع أن كلامه يوهم إجراءه مطلقاً؛ ولهذا قال الرافعي: قد حكيت عن بعض الأصحاب في مسألة المرابحة: أنهم فرقوا بين أن يذكر وجهاً محتملاً في الغلط أو ال يذكر، ولم يتعرضوا لمثله هاهنا، والتسوية بينهما متجهة. وعلى كل حال: فالجمهور متفقون في مسألة المرابحة على عدم سماع البينة، وهاهنا على السماع، وقد أشرت إلى فرق لطيف بينهما في "باب المرابحة"، وقد يظهر بينهما فرق آخر: وهو أن ما حصل به بالتضاد من قول المودع ثانياً: أودعتني، بعد قوله أولاً: ما أودعتني – مالكُ الوديعة موافق له عليه، وهو معمول به؛ لأنه إقرار بعد إنكار، وأيضاً: فإن البينة غير معمول بها في إثبات

الوديعة بعد إقراره بها، وإذا كان معمولاً بها – مع أنه صريح في المناقضة – رتب عليه مقتضاه، ولا كذلك في مسألة المرابحة ونظائرها؛ فإن ما حصل به التضاد من قول البائع ثانياً لقوله أولا، لم يوافق عليه مَنْ تَعَلَّق حقه به، وكذلك لم يعمل بموجبه، والله أعلم. أما إذا قال المودع للمالك من غير مطالبة: ما أودعتني، فهل يكون بذلك ضامناً؟ فيه وجهان، ولا خلاف في أنه لو قال لأجنبي: ما أودعني فلان شيئاً، لم يَصِرْ بذلك ضامناً، ثم الخلاف المذكور في سماع البينة على التلف – كما ذكره الشيخ – [بعينه يجري] في سماع البينة على الرد على المالك قبل الجحود. ولو لم يكن له بينة، ولكنه أراد أن يحلِّفَ المالكَ على ما اعداه من تلف أو ردٍّ: فهل له ذلك؟ حكى الإمام فيه تردداً عن الأصحاب، ثم قال: ظاهر المذهب: أنه يحلفه. قلت: ولو بنى ذلك على أن يمين الرد مع النكول كالبينة أو كالإقرار حتى إذا قلنا: إنها كالإقرار، حلف، وإن قلنا: إنها كالبينة، جرى الخلاف – كما حكاه الغزالي في مسألة المرابحة – لم يبع. ولو أقام بينة على تلفٍ بعد الجحود لم تفده بالنسبة إلى إسقاط الضمان، وتفيده في نقل المطالبة إلى البدل. ولو أقام بينة على ردٍّ بعد الجحود قبلت؛ كالغاصب، وأبدى افمام فيه احتمالاً في إجراء الوجهين السابقين في سماع مثل هذه البينة قبل الجحود؛ نظراً إلى أن البينة مرتبة على الدعوى، ودعوى الرد بعد الجحود مناقضة لإنكار الوديعة أولاً. وإلى ذلك أشار مجلي بقوله: ومن أصحابنا من قال: هل تسمع البينة؟

فيه وجهان، ولم يفصل قبول الجحود أو بعده، ومن هاهنا اختلفت نسخ "الوسيط" في آخر باب الوكالة – حيث حكى مثل هذا الخلاف بين الوكيل والموكل -: ففي بعض النسخ: أن الوكيل إذا أقام بينة على تلفٍ بعد الجحود فكذلك على أحد الوجهين، وفي بعض: فكذلك على الوجهين: قال: وإن قال: مالك عندي شيء، فأقام البينة بالإبداع، فقال: أودعتني ولكنها تلفت – قبل قوله، أي: مع يمينه؛ إذ لا منافاة بين ما ذكره صيرحاً آخراً وبين ما أبهمه أولا؛ فلذلك قبل منه، بخلاف المسألة قبلها. والحكم فيما لو ادعى الرد قبل الجحود حكمُ دعوى التلف، ولو ادعى [بعد إقامة] البينة رد الوديعة بعد الجحود لم تسمع، ولزمه الغرم، وإن ادعى تلفاً فهو ضامن، لكن هل يقبل قوله مع اليمين حتى تنتقل المطالبة من العين إلى البدل؟ فيه خلاف، كما في الغصب، والمذهب: القبولُ. فروع: إذا غصبت الوديعة من يد المودَع، هل له المخاصمة عليها واستردادها؟ فيه وجهان. إذا أكره المودَع على تسليم الوديعة فسلمها، هل يضمنها؟ فيه قولان. إذا أدخل المودَع أقواماً إلى موضع الوديعة فسرقت: فإن سرقها الداخل أو من دَلَّهُ عليها الداخل ضمن ذلك، وإن لم يكن ذلك فلا ضمان. وهكذا الحكم فيما لو نهاه المالك أن يدخل عليها أحداً، فأدخله وجاء التلف من جهته والله أعلم.

باب العارية

باب العارية العارية: مشددة الياء، وروي تخفيفها، وجمعها: العواري مشدداً، أو مخففاً، وهي مشتقة من عار الرجل؛ إذا ذهب وجاء، ومنه العير؛ كما قاله مجلي. وقيل للغلام الخفيف: عيار؛ لخفته في بطالته، وكثرة ذهابه ومجيئه. قال الأزهري: وإنما شُددت؛ لأنهم نسبوها إلى العارة، يقال: أعرته إعارة [وعارة]، فالإعارة مصدر، والعارة الاسم، وهو كقولهم: أجبته إجابة وجابة، وأطعته إطاعة وطاعة. وقيل: من التعاور، وهو التناوب؛ من قول العرب: اعتوروا الشيء، وتعاوروه، وتعوروه؛ إذا تداولوه، وتناوبوه، وكأن من دفع ما يختص به إلى غيره؛ لينتفع [به]، فقد جعل له نوبة. وقيل: من العار؛ لأن طلبها عار وعيب؛ [قاله الجوهري]. ويقال: أعاره يعيره، واستعاره ثوباً فأعاره. وحقيقتها شرعاً: إباحة الانتفاع [بما يحل الانتفاع] به مع بقاء عينه، لردها عليه.

وقيل: إنها هبة للمنافع، مع استيفاء ملك الرقبة؛ قاله الماوردي. والأصل في جوازها واستحبابها قبل الإجماع من الكتاب – قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، وهي [من البر،] وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [النساء: 114] وهي منه. ومن السنة ما روى مالك، وأبو داود، والنسائي عن صفوان بن أمية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه أدراعاً يوم خيبر، فقال: أغصباً يا محمد؟ فقال: "لا، [بل] عارية مضمونة مؤداة". وفيه: أنه ضاع بعضها، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له، قال: أنا اليوم يا رسول الله في الإسلام أرغب. وقال النسائي في بعض رواياته: "ثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً"، وغير ذلك من الأخبار التي سنذكرها. ومن جهة المعنى: أن الأعيان لما جازت هبتها وإباحتها، فكذلك المنافع. قال في البحر: وقد كانت واجبة في ابتداء الإسلام؛ حتى توعد الله – [تعالى – من] منعها، فقال {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون]، وهو كما قال ابن عباس، وابن مسعود: العارية. وخصها ابن مسعود بإعارة الدلو، والقدر، والميزان. قال: من جاز تصرفه في ماله، جازت إعارته؛ لأنها إباحة للمنافع؛ فلم تصح ممن لا يصح تصرفه في المال، وصحت ممن يصح تصرفه فيه؛ كإباحة الأعيان.

ولا فرق فيمن تصح إعارته بين أن يكون مالكاً للعين [المعارة]، أو لمنفعتها بسبب إجارة، أو وصية، أو غير ذلك. وإن كان مستعيراً، فسيأتي الكلام فيه. واحترز الشيخ بقوله: في ماله عن العبد المأذون؛ لأن الإذن في التجارة لا يبيح التصرف في غيرها. ومما ذكره الشيخ فيمن [تصح إعارته يؤخذ: من يصح منه طلب الاستعارة وقبولها. وفي الحاوي: أن من] يصح منه قبول الهبة، يصح منه طلب العارية؛ لأنها نوع من الهبة، ومن لا؛ فلا. وقريب من هذه العبارة قول الغزالي: "لا يعتبر فيه إلا أن يكون أهلاً للتبرع عليه". وفيما قالاه [نظر؛ فإن السفيه يصح منه قبول الهبة بغير إذن وليه؛ على الأصح، ومقتضى ما قالاه] أن يصح منه طلب العارية بدون إذن وليه، وقد صرح مجلي بأنها لا تصح [منه]، وهو موافق لما يقتضيه كلام الماوردي في باب الحجر؛ حيث قال فيما إذا أعار من سفيه شيئاً، فأتلفه: إن حكمه حكم إتلاف السفيه الوديعة؛ حتى يجري في [ضمانه] الخلاف، ولو كانت صحيحة منه، لضمنها قولاً واحداً. وإن لم يتلفها. ووجه عدم الصحة: أن في تسليطه عليها تسليطاً على سبب يقتضي الضمان، وبهذا فارقت العارية الهبة؛ فإنه لا ضمان فيها. واعلم: أنه لابد في صحة العارية من الإيجاب والقبول، ويكفي من أحدهما الإتيان به بالقول، ومن الآخر بالفعل؛ كما صرح به في المهذب؛ قياساً على إباحة الطعام، وعلى [ذلك] جرى البغوي.

وفي الوسيط: أنه لابد في جانب المعير من اللفظ، وهو أن قول: أعرت أو خذ، أو ما يفيد معناه. وفي التتمة: أن اللفظ لا يعتبر في واحد من الطرفين حتى لو رآه عرياناً، فأعطاه قميصاً، فلبسه – تمت العارية. وكذلك لو فرش لضيفه بساطاً، أو فراشاً، أو مصلى، أو ألقى إليه وسادة، فجلس عليها – كان ذلك إعارة؛ بخلاف ما لو دخل، فجلس على الفرش المبسوطة؛ لأنه لم يقصد بها. قال: ويجوز إعارة كل شيء ينتفع به –أي: منفعة مباحة – مع بقاء عينهن أي: كالدواب، والدور، والدروع، والدلو، والفأس – وكل ما يجوز [إيراد] عقد الإجارة [عليه]، وكذا ما لا يجوز عقدها عليه من فحل الضراب، ودراهم، ونانر؛ للتزين، وكلب الصيد، وغير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من أبي طلحة فرساً، فركبه، ومن صفوان أدرعاً، وقال ليعلي بن [أبي] أمية: "إذا أتتك رسلي فادفع [إليهم] ثلاثين درعاً، وثلاثين بعيراً، فقال: [يا] رسول الله، عارية مضمونة، أو عارية مؤداة؟ فقال: بل عارية مؤداة"؛ كما أخرجه أبو داود. ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة نزل في دار أبي أيوب الأنصاري بغير أجرة، وهي حقيقة العارية. وقد قيل: يا رسول الله، ما حق الإبل؟ قال: "حَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا، وَإِعَارَةُ فَحْلِهَا". وتفسير ابن مسعود المعاون يقوى ذلك؛ فثبت الجواز في هذه الأشياء بالنص،

وقيس عليها ما عداها؛ للاشتراك في المعنى. وعلى ما فسر به أبو عبيد الماعون: من أنه اسم لكل منفعة، وعطية – يستغني عن القياس بالكتاب. وما ذكرناه من جواز [إعارة] الدراهم، والدنانير – هو ما ذكره الماوردي، وصاحب البحر، والفوراني، والمتولي. وحكى الغزالي في صحة إعارتها - لما ذكرناه – وجهين: ووجَّه المنع بأن غرض التزيين من المقاصد البعيدة، وهو الذي صححه البغوي، والرافعي، وأفهم أن محل الخلاف عند الإطلاق، أما مع قصد منفعة التزين، فلا يتجه إلا الصحة. فإن لم نصحح إعارتها، فهل تكون مضمونة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنها فاسدة، والفاسد [حكمه] حكم الصحيح؛ وهذا ما نسبه الغزالي إلى العراقيين، وفيه إشارة إلى أنهم وافقوا على إجراء الخلاف في صحة إعارتها [، وهو كما نقله، وأفهمه كلامه عنهم؛ كما ستعرف ذلك في باب الإقرار]. والثاني: لا. قال القاضي: لأن العارية تعتمد عيناً منتفعاً بها [ولا منفعة] لهذه العين، فبقي مجرد القبض من المالك برضاه ومن أقبض الغير مال نفسه لا لينتفع به، كان أمانة، وهذا ما نسبه الغزالي إلى المراوزة، وقال الإمام: إنه الأفقه. وهكذا الحكم فيما لو أعاره حنطة، أو شعيراً؛ صرح به القاضي الحسين. فرع: إعارة الشاة والناقة؛ للبنهما. قال القاضي أبو الطيب: [تجوز]؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: المنحة مردودة.

وأراد به: الشاة التي تستعار؛ لينتفع بلبنها. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز؛ كإجارتها [لذلك، وأشار إلى الشيخ أبي حامد؛ كما صرح به ابن الصباغ، ثم قال: ولا ينبغي [أن يكون] في هذا خلاف،] ويكون ذلك إباحة للبن الذي كان فيها، وإباحة الأعيان جائزة. وكذلك قال في الشجرة. وما صار إليه أبو الطيب هو ما ذكره الماوردي، وكذلك المتولي، ونفى خلافه، لكن الماوردي لم يسم ذلك إعارة، بل قال: يجوز منحة الشاة؛ للبنها، وهو الذي يقتضيه ظاهر الخبر. قال في البحر: وهذه التسمية هي الصحيحة. وحكى البغوي الوجهين في صحة ذلك فيما إذا أتى بلفظ الإباحة، وطرده في إباحة النسل. فرع: هل يشترط تعيين المستعار؟ قال المتولي: [لا؛ حتى] لو قال [لأجنبي]: أعرني دابة، فقال: ادخل الإصطبل، وخذ ما أردت، صحت العارية.

قال: ويكره إعارة الجارية الشابة من غير ذي رحم محرم؛ لأنه لا يؤمن أن يخلو بها، فيواقعها. أما العجوز التي لا تشتهي، [فلايكره إعارتها؛ لأنه يؤمن عليها الفساد. ومن هذا [يؤخذ] أنه إذا كانت الشابة شوهاء لا يشتهي] مثلها، أو صغيرة بهذه الصفة- لا يكره إعارتها؛ كما صرح به الأئمة. وفي الجيلي حكاية وجه في الصغيرة. [وفي البحر حكاية وجه في] الكراهة مطلقاً. ثم [ما] المراد بالكراهة [هل] التنزيه أو التحريم؟ ظاهر كلام الشيخ الأول؛ فإنه عقب ذلك بقوله: وتحرم إعارة العبد المسلم من الكافر، فلو كان مراده الثاني، لجمع بينهما؛ وهذا ما صدر به في البحر كلامه، ثم قال: ومن أصحابنا من قال: إذا كانت شابة يخاف منه عليها، لا يجوز الإعارة منه، وتحرم؛ وهذه [الكراهة كراهة] تحريم، وما قاله آخراً هو ما ذكره في المهذب، وابن الصباغ، والغزالي، والرافعي، ويعضده أن الشيخ في باب [القرض] جزم بعدم جواز [إقراض] من هذا شأنها؛ خشية من الوقوع في وطء يكون في معرض الإباحة، والمنع هاهنا أولى؛ لأن ثم شبهة ملك، ولا شبهة هاهنا. وعلى هذا إن كان هو مراد الشيخ – أيضاً – فيكون قد أتى بلفظ الكراهة؛ للاقتداء بالشافعي في لفظه؛ فإنه كذا نقل عنه فيها، لكن الظاهر الأول؛ فإن الإعارة لا يلزم فيها الخلوة المحرمة؛ فلذلك كرهت؛ ولذلك جزم الإمام بعدم التحريم فيما إذا استخدمها من غير خلوة.

[نعم:] حيث أطلقت الكراهة بالخلوة بها في الاستخدام – كما صرح به الماوردي – فهي محمولة على التحريم؛ كما صرح به الإمام، ولا يكاد يخالف فيه، وامتناع إقراض الجارية كان لما ذكرناه من الفرق. ثم حيث تحرم الإعارة، فلا يكون قادحاً في صحتها. تنبيه: قال النواوي: كان الصواب أن يقول الشيخ: "من غير امرأة، ومحرم"، لتدخل المرأة والمحرم بمصاهرة أو رضاع؛ فإنه لا كراهة فيهما. فرع: لو استعار جارية للوطء، لم يصح؛ فإن وطئها، نظر: فإن كان عالماً فهو زانٍ، وإن كان جاهلاً بتحريم الوطء، فهو وطء شبهة موجب للمهر، وملحق للنسب، وينعقد الولد به حرًّا، ويلزمه قيمته. قلت: وكان ينبغي أن يكون الحكم فيه كما لو وطئ المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن؛ إذ لا يظهر [لي] بينهما فرق، والحكم فيها: أنه إن كان عالماً وجب الحد، على الصحيح. وقيل: إن مذهب عطاء إباحة الجواري [الوطء] بالإذن؛ فيصير شبهة، ويلتحق بوطء الشبهة. وإن كان جاهلاً، فلا حد، وهل يجب المهر؟ فيه وجهان. وفي قيمة الولد طريقان: أحدهما: أنها كالمهر. والثاني: القطع بالوجوب؛ لأنه لم يأذن في الاستيلاد، وهذا ينقضه أن المرتهن لو أذن للراهن في الوطء، نفذ استيلاده قطعاً. قال: وتحرم إعارة العبد المسلم من الكافر؛ لتحريم خدمته عليه؛ قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] وأي سبيل أعظم من الاستخدام. ولا يمكن أن يجيء القول القديم هاهنا؛ لأن الإعارة تقتضي ملكاً حتى

يؤمر فيه بالنقل؛ كما يفعل معه [فيما] إذا استأجره. وقال في الوسيط [إنه]: تكره الإعارة منه، ومراده كراهة التنزيه؛ فإنه قال في أول كتاب البيوع: والأولى فيه جواز الإجارة- يعني: من الكافر – كما في الإيداع، والإعارة، وقد صرح بذلك الرافعي هنا. قال: والصيد من المحرم-أي: سواء كان المعير حلالاً أو محرماً – لأن المُحْرِم يحرم عليه التصرف في الصيد، وإمساكه [له]، وفي الإعارة منه إعانة على محرَّم؛ فحرمت لذلك، وإذا حرمت الإعارة على الحلال، فالاستعارة على المحرم من طريق الأولى. فرع: إذا استعاره، فتلف في يده، وجب عليه الجزاء، وقيمته؛ لمالكه؛ إن كان حلالاً، وكذا إن كان محرماً، وقلنا: لا يزول ملكه عنه، وإن قلنا: يزول ملكه، لم يجب عليه [سوى] الجزاء. ولو كان المعير محرماً، والمستعير حلالاً، فلا جزاء عليه، وعليه القيمة إن قلنا: لا يزول ملك المحرم [عنه]، وإن قلنا: بزواله، فلا، وعلى المحرم القيمة؛ لتقصيره بعدم الإرسال؛ [قاله المحاملي]. قال: ويكره أن يستعير أحد أبويه للخدمة؛ لكراهة استخدامهما؛ لما فيها من تبذلهما. أما لو استعارهما لا لهذا الغرض، بل ليوفرهما من الخدمة، كانت مستحبة؛ قاله القاضي أبو الطيب، والكراهة هاهنا كراهة تنزيه.

وفي الرافعي في كتاب الإجارة: أن [الولد إذا استأجر] [عين والده] للخدمة، ففي صحتها وجهان؛ كالوجهين فيما إذا أجر المسلم نفسه من كافر، وهذا التشبيه يقتضي التحريم. قال: ومن استعار أرضاً للغراس والبناء، جاز أن يزرع؛ لأن ضرر الزرع أقل من ضررهما، فإذا رضي به ففيما دونه أولى. وشبه الإمام ذلك بما إذا وكله بالشراء بمائة، فاشترى بخمسين ما يساوي مائة. وقيل: لا يجوز؛ لأنه يرخي الأرض؛ حكاه ابن يونس. وفي المهذب تخصيصه بما إذا استعار للبناء. ولا خلاف في أنه إذا استعار [أرضاً] للزرع، لا يجوز له الغراس، ولا البناء. قال: وإن استعار [أرضاً] للغراس، أي: لغرس الغراس؛ فإن الغراس هو نفس الأغصان، ويطلق أيضاً على وقت الغرس. [قال: لم يبن] وإن استعار للبناء لم يغرس؛ لاختصاص كل [واحد] منهما بضرر؛ فإن ضرر الغراس في الباطن أكثر؛ بسبب انتشار العروق، وضرره في الظاهر أقل؛ لأنه يمكن الزرع تحته، وضرر البناء في [ظاهر الأرض] أكثر؛ لأنه لا يمكن الزرع تحته، إذا اختلفا، لم يملك وضع أحدهما موضع الآخر؛ كما لو وكله في البيع بدراهم، فباع بذهب. قال: وقيل: يغرس فيما استعار للبناء، ويبني فيما استعار للغراس؛ لأن ضررهما متقارب؛ فإن كلاًّ منهما يراد للبقاء، ويحتاج إلى الحفر في الأرض، وسد الحفرة؛ فتقاربا. قال: وليس بشيء؛ لما ذكرناه. وجزم الماوردي بهذا الوجه فيما إذا استعار للبناء، حكاه مع الأول فيما إذا

استعار للغراس. قال: وإن قال: ازرع الحنطة، زرع الحنطة؛ [لإذنه فيها]، وما ضرره ضرر الحنطة؛ لأن رضاه بزراعة الحنطة رضاً بزراعة مثلها. وله من طريق الأولى زراعة الشعير، إلا أن ينهاه؛ فلا يجوز؛ على ظاهر المذهب؛ كما حكاه الإمام. ولا يجوز له زراعة أضر من الحنطة: كالقطن، والذرة، بلا خلاف. قال الإمام: فإن قيل: قد قلتم: ليس للمستعير أن يعير [في ظاهر المذهب] وإن كان انتفاع غيره بمثابة انتفاعه، فهلا قلتم: ليس له أن يبدل زرعاً بزرع مثله؛ جرياً على الاتباع في الموضعين. [قلنا:] لا استواء؛ لأن الأغراض تختلف باختلاف واضعي الأيدي، ولا كذلك في المزروع المتساوي. وما قاله سؤالا وجواباً هو ما [أبداه] القاضي الحسين. فرع: إذا قال: "ازرع الحنطة"، فزرع الذرة، كان كما لو زرعها [من غير] إذن، وليس كما لو استأجر لزراعة الحنطة، فزرع الذرة؛ حيث قلنا على قول: للمؤجر مطالبته بالمسمى وأرش النقص؛ إذا صحت الإجارة، ولم نعدل عن جنس الزرع، وكان وزان هذا [هنا]: أن يرجع على المستعير بأرش لنقص، ليس إلا؛ لأن تسليط المستأجر على الانتفاع يشبه الملك، وهو قوي؛ بخلاف المستعير. قال: وإن قال: ازرع، ولم يسم شئاً ... [إلى آخره]. هذا من الشيخ – رحمه الله – بناء على أن العارية تجوز للزراعة من غير تعيين ما يزرع، وهو مذهب العراقيين، وواقهم [فيه] صاحب التهذيب، وابن

كج [وقالوا] بجواز الرجوع فيها متى شاء، وطردوا ذلك في جواز الإعارة مطلقاً من غير تقييد بزرع وغيره؛ حتى قال في المهذب: يجوز له إذا قال: "أعرتك لتنتفع بها" أن يزرع، وأن يغرسن وأن يبني، وهو محمول على ما جرت به عادة تلك الأرض من هذه الأنواع؛ كما قيده الماوردي. ولا يجوز له في هذه الحالة التسليط على دفن ميت فيها؛ كما ذكره الرافعي. وما ذكروه فهو الصحيح عند غيرهم في مسألة التقييد بالزراعة. وقيل: لابد فيها من تعيين ما يزرع؛ [لتفاوت ما يزرع]. قال الرافعي: ولو قيل: تصح الإعارة، ولا يزرع إلا أقل الأنواع ضرراً – لكان مذهباً. والقائل بعدم الصحة عند الإطلاق في الزراعة قائل بعدم الصحة عند [إطلاق الإذن] بالانتفاع من طريق الأولى. وقد جعل الإمام هذا الوجه في هذه الحالة أظهر، و [جعله] القاضي الحسين ظاهر المذهب؛ ولأجله جزم في الوجيز به؛ لأن العارية معونة شرعية، جوزت للحاجة، فلتكن على وجه الحاجة. فعلى هذا لو قال: "أعرتك؛ لتنتفع كيف شئت"، أو لتفعل به ما بدا لك – فوجهان في الوسيط: وجه الصحة: أنه فوض الأمر إلى مشيئته. ويظهر [لي] أن يكون الصحيح منهما عنده الصحة؛ فإنه جزم بها فيما إذا قال: أجرتك؛ لتنتفع [بها] كيف شئت، حتى يجوز له أن يزرع، ويبني، ويغرس، وكل ما أمكن من المنفعة، مع أن الإجارة لازمة، لا مستدرك لها.

وقد حكى في التهذيب في مسألة الإجارة وجهاً: أنها لا تصح، أيضاً. رجعنا إلى [كلام الشيخ رحمه الله]. قال: ثم رجع، والزرع قائم، فإن كان مما يحصد قصيلاً –أي: كالشعير، والفول، ونحوهما؛ عند تناهيه إلى الحالة التي يقصل فيها – حصد؛ لأن العارية ليست بلازمة؛ لأنها مبرة وتبرع بالمنافع المستقبلة، ولم يتصل بها القبض؛ [فجاز الرجوع] فيها؛ كما في التبرع بالأعيان قبل القبض. وإذا كان له الرجوع، وقد أمكن تفريغ الأرض من غير ضرر يلحق المستعير – عمل بموجبه. والقصيل في كلام الشيخ، قال النواوي: بمعنى: مقصول أي: مقطوع، وإذا كان كذلك لم يستقم نظمه. قال: وإن كان مما لا يحصد – أي: قصيلاً كالقمح، والذرة، ونحوهما، ترك إلى الحصاد، وعليه الأجرة من حينئذ؛ لأن الزرع محترم، وله أمد ينتظر؛ فوجب إبقاؤه بالأجرة إلى أوان حصاده؛ جمعاً بين الحقين؛ بخلاف البناء والغراس؛ فإنه لا أمد له ينتظر؛ فلذلك سلطناه على قلعه، أو تملكه؛ كما سنذكره. قال الإمام: وأبعد بعض أصحابنا، فقال: لا يملك المعير طلب الأجرة؛ لأن المنافع صارت في حكم المستوفاة، والمستعير إذا استوفى المنافع، لم يلزمه بعد استيفائها أجرة، ثم نسبه إلى العراقيين، ونسبه الفوراني في كتاب الإجارة إلى [قول] القفال. وحكى القاضي أبو الطيب وغيره وجهاً: أن حكم الزرع حكم الغراس، وهو ما حكى في البحر: أن القاضي أبا الطيب اختاره.

ونسب الإمام تسليط المعير على قلع الزرع- إذا اختاره مع غرامة أرش النقص - إلى تخريج صاحب التقريب، ونبه على [فساد] جواز بذل قيمة الزرع؛ لإرادة تملكه وإن لم يصرح بذكره؛ بأن في تغريم [قيمة الزرع] قبل الإدراك عسراً لا يهتدي إله؛ فإن الزرع إذا كان بقلاً فعاقبته مجهولة [له،] فإن قوم بقلاً فهو إفساد وإحباط، وإن قوم بتقدير إدراكه، فلا مطلع على هذا؛ وقيمة النباء والغراس تتيسر في الحال. فرع: لو أقَّت الإعارة في الزرع مدة، فاتفق تأخير الحصاد عن منتهاها؛ بسبب اختلاف الهواء. قال الإمام -: لا يقلع وراء المدة - أيضاً - لما ذكرناه. قلت: ولو خرج على الخلاف في مثله من الإجارة، لم يبعد. قال: وإن قال: ازرع الحنطةن لم يقلع إلى الحصاد؛ لأن العادة جارية بإبقائها إليه، وكان المستعير راضياً بذلك؛ فالتزم مقتضاه. فإن قيل: الحنطة مما لا تستحصد قصيلاً، فهذه المسألة مندرجة في قوله: "وإن كان مما لا يحصد [ترك إلى الحصاد"، فأي فائدة في تكرارها؟ قلت: كأن الشيخ أراد بذكرها التنبيه على أن ما لا يحصد] قصيلاً إذا اذن فيه المعير بخصوصه، ثم رجع، [لا أجرة] له؛ كما حكاه القاضي الحسين وجهاً للأصحاب؛ متمسكاً فيه بأنه لما أذن فيه مع علمه بأوان الحصادن فقد رضي بكون أرضه مشغولة به إلى تلك الغاية، وجزم في المسألة الأولى بالرجوع بالأجرة؛ لأن الإذن لما كان مطلقاً، لم يتحقق زرع ما يبقى إلى هذه الغاية؛ فلم يفد رضاه بالبقاء إليها. قال: وإن استعار أرضاً للغراس، والبناء مدة- أي: كشهر مثلاً -

جاز [له] أن يغرس، ويبني ما لم تنقص المدة، أو يرجع فيها. وإن استعار مطلقاً، كان له الغراس والبناء ما لم يرجع فيها-أي: فإذا رجع – لا يجوز له ذلك؛ لأنه ملك التصرف بالإذن؛ فيبقى إلى أن يزول، وزواله بما ذكرناه. وإنما جوزنا الإعارة مقيدة بزمان، وغير مقيدة؛ لأنها عطية لا بدليها بحال؛ فصحت معلومة، ومجهولة؛ كالوصية. فرع: لو أعار للغراس والزرع مطلقاً، قال في التهذيب: لم يزرع إلا زرعاً واحداً، [أو غراساً] واحداً؛ حتى لو قلعه لا يغرس بعده إلا بإذن جديد. وحكى القاضي أبو الطيب فيما إذا أذن له في غرس شجرة في أرضه، فغرسها، ثم قلعها، فهل له أن يعيد بدلها؟ فيه وجهان: وجه الجواز: أن الإذن [قائم ما] لم يرجع، وجعل الوجهين كالوجهين فيما إذا أعاره حائطاً لوضع الجذوع، فسقطت الجذوع، فهل له أن يعيد غيرها؟ قال: فإن رجع فيها أي: بعد البناء والغراس- فإن كان قد شرط عليه القلع – [أي]: عند رجوعه – أجبر عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ" قال: ولا يكل تسوية الأرض؛ لأنه مأذون فيه؛ فلم يلزمه الضمان فيما يحصل به من النقص؛ كاستعمال الثوب. قال: وإن لم يشترط، واختار المستعير القلع، فقلع، لم يكلف تسوية الأرض؛ لأن القلع مباح؛ لكون المقلوع ملكه، وإذن المعير في البناء والغراس مع علمه بأن له القلع [يتضمن الرضا] بما يحصل من التخريب؛ فلم

يلزمه التسوية؛ كما لو شرطه. قال: وقيل: يكلف ذلك؛ لأن النقص حصل باختياره؛ ولهذا لو امتنع لم يجبر، وإذا كان كذلك، لزمه جبره؛ ليرد العين كما أخذها؛ وهذا ما صححه الرافعي، وصاحب البحر، واختاره في المرشد، وادعى الإمام اتفاق الأصحاب عليه في نظير المسألة من كتاب الإجارة، وهي إذا انقضت مدة الإجارة، فاختار المستأجر القلع، وأبدى الوجه الأول المذكور هاهنا احتمالاً [فيها] لنفسه، مع تصريحه بحكايته هاهنا. فعلى هذا: لو قلع المستعير بناءه، أو غراسه قبل الرجوع في العارية، أو انتهاء المدة المعينة- لزمه التسوية أيضاً. وحكى الإمام فيما إذا قلع المستأجر الغراس في أثناء المدة وجهاً عن العراقيين: أنه لا يلزمه التسوية، وإن كان قد قلع بعد [انتهاء المدة]، لزمته؛ فقد [يقال بمجيء] مثله هاهنا، لكنه وجَّه الوجه المذكور بأنه تصرف في ملكه، وفي الأرض التي تحت يده، وهذه العلة مفقودة هاهنا. قال: وإن لم يختر – أي: المستعير – القلع، فالمعير بالخيار بين أن يبقى ذلك [قيمته]، وبين أن يقلع، ويضمن [له] أرش ما نقص بالقلع-أي: إن حصل [به] نقص – فيقوم قائماً ومقلوعاً، ويجب ما بينهما. وإنما قلنا: له ذلك؛ لأن العارية مكرمة ومبرة، فلا يليق بها منع المعير من ماله، ولا تضييع مال المستعير؛ لكونه غير ظالم فأثبتنا الرجوع على وجه لا يتضرر به المستعير؛ جمعاً بين الحقين، وربطنا الأمر باختيار المعير؛ لأنه الذي صدرت منه هذه المكرمة.

ولأن الأرض ملكه، وهي أصل، والبناء والغراس [تابع لها، وفرع عنها]؛ ولذلك يتبعها في البيع. أما إذا لم يحصل بالقلع نقص، فليس له إلا القلع. وقدحكى الشيخ في المهذب وغيره من العراقيين والمراوزة: [أن] للمعير الخيار في خصلة ثالثة، وهي بذل قيمة البناء والغراس؛ ليتملكهما، ويعتبر فيهما حالة البذل، لكن لم يصرح العراقيون عند اختيار البقاء بأن له طلب الأجرة، وسلكوا في ذلك مثل ما قاله الشيخ هنا. وحكى الرافعي عنهم، وعن القاضي أبي علي الزجاجي، وغيرهم: أن المعير يتخير بين خصلتين: القلع وضمان الأرش، والتمليك بالقيمة، دون اختيار التبقية بأجرة، ثم قال: ويشبه ان يكون هو الأظهر في المذهب، وصرح المراوزة بأن له مع اختيار التبقية طلب الأجرة، وهو ما قيد به ابن يونس كلام الشيخ. قال الإمام: وقد نسب الأئمة تخيير المستعير بين هذه الخصال إلى ابن سريج، وهو مذهب كافة الأصحاب. ثم إذا اختار المعير خصلة من الثلاث، ووافقه عليها المستعير، فلا كلام. وإن خالفه، نظر: فإن عين القلع مع غرامة النقص –فعل، ودخل الأرش في ملك المستعير قهراً، وله إسقاطه بالإبراء؛ كما صرح به الإمام هاهنا. وإن ين التبقية بأجرة، فإن قلع، وألا فهي واجبة على المستعير عند المراوزة. قال في البحر: ومن أصحابنا من قال: لا يلزم المستعير بذل الأجرة، ولا القلع؛ لأن العارية تقتضي الانتفاع من غير ضمان، وهو اختيار المزني، وهذا عين ما حكاه الرافعي عن العراقيين. وإن عين بذل القيمة؛ ليتملك العين، قال القاضي أبو الطيب، وأبو الحسن العبادي، والغزالي: أجبر المستعير على قبولها، وظاهر هذا يقتضي أنه يتملك

ذلك عليه قهراً؛ كما في الشفعة، وسنذكر [من] بعد عن المحاملي ما يعضده. وقال الماوردي في هذه الحالة: إذا لم تحصل الموافقة، قلع بناءه وغراسه مجاناً، وهو ما صرح به القاضي الحسين، وأبداه الإمام هاهنا احتمالاً لنفسه، وحمل عليه إطلاق [كلام] الأئمة. وفي الرافعي [أن] من اعتبر - يعني: من أصحابنا - رضا المستعير في التمليك [بالقيمة]، لا نكلفه التفريغ، بل يكون الحكم عنده كالحكم فيما إذا لم يجز المعير شيئاً مما خيرناه فيه. وحكى الإمام عن ابن سريج فيما إذا انقضت مدة الإجارة، والبناء قائم في الأرض، ولم يشترط عليه القلع: أن الأجير يتخير بين الخصال الثلاث التي ذكرناها، وأي خصلة عينها، فلم يرض بها صاحب البناء، فيقال له: إما أن ترضى [بها] وإما أن تقلع بناءك مجاناً؛ وأن ما ذكره ابن سريج [هو الذي قطع به معظم أئمة المذهب. ثم حكى [عن] الشيخ أبي علي أنه قال: فيما ذكره ابن سريج] نظر عندي؛ فإني أقول: إذا عين صاحب الأرض خصلة، وامتنع [منها] صاحب البناء، فله أني قلع بناءه، ولا يقلعه مجاناً؛ إذ يستحيل أن يحبط حقه، ويبطل ملكه بسبب امتناعه عما له الامتناع عنه؛ حتى يصير في حكم من بنى في أرض مغصوبة. وبيان ذلك: أنه إذا قال صاحب الأرض: [بع مني فامتنع]، فلا سبيل إلى أن يباع ملكه عليه قهراً، ولكن يقال له: إن بعت منه ذلك فذاك، وإلا فاقلع، ولك أرش ما ينقصه القلع.

قال الإمام: وحقيقة ما ذكره الشيخ أبو علي يئول إلى أن مالك الأرض يجبر صاحب البناء [على القلع]، ويغرم له أرش النقص، وهو مخالف لقول المعظم وإن كان متجهاً في المعنى. [قلت: وما قاله الشيخ أبو علي قد صرح بمثله البندنيجي، وابن الصباغ فيما إذا دفع إنسان لشخص أرضاً؛ ليغرسها بغراس من عنده؛ ليكون الغراس والأرض مشتركين بينهما؛ حيث قالا: إن الغراس محترم في هذه الصورة إذا وقع، فلو أراد صاحب الأرض تملكه، وقال صاحب الغراس: بل أقلعه، وأغرمك أرش النقص- فإن المجاب صاحب الغراس. وهكذا الحكم فيما لو قال صاحب الأرض؛ أبق الغراس بأجرة، وقال رب الغراس: بل أقلعه، وأغرمك أرش النقص – أن المجاب صاحب الغراس. وللمالك أن يسقط عن نفسه غرامة [الأرش] بأن يقره [بغير أجرة]؛ ذكر ذلك في كتاب القراض]. ولا خلاف أن المتعير لو بذل قيمة الأرض؛ ليتملكها – لم يجب؛ لأنها أصل؛ فلا تتبع الفرع؛ بخلاف البناء والغراس؛ ولأن ملكها أسبق. واعلم ان محل تخيير المعير في الخصال الثلاث إذا كانت الأرض كلها له، أما لو كان للمستعير شيء فيها، لم يكن للمعير إلا التبقيةبأجرة؛ كما صرح به المتولي. واعتبر القاضي الحسين في تنجيز التخيير عند الرجوع ألاَّ يكون على الأشجار ثمرة لم يبد صلاحها، أما لو كانت، فلا يخير في الخصال إلا بعد جذاذها؛ كما في الزرع؛ لأن لها أمداً ينتظر؛ قاله في كتاب الصلح؛ وعلى ذلك جرى الإمام ثم. فائة: قال الإمام في كتاب الإجارة؛ إذا طلب المالك القلع مع بذله أرش النقص، فأجرة القلع على من؟ هذا مما لم يصرح به الأصحاب وكنت من أمرهم

فيه على تردد، [والظاهر] من كلام المعظم: أن ذلك على صاحب البناء، وإذا قلع فعليه النقل، والتفريغ. ثم قال: وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن مؤنة القلع على صاحب الأرض؛ كماأن عليه ما ينقصه القلع، وهو متجه جدًّا. وأما النقل والتحويل، فعلى مالك الأرض بلا خلاف. قال: وإن تشاحا –أي: تباخلا – فامتنع المعير من البذل، وطلب القلع مجاناً، وامتنع المستعير من القلع مجاناً؛ فإنه ليس بواجب عليه بذل الأجرة – لم يجبر المستعير على القلع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقّ"، والمستعير ليس بظالم؛ فلم يجزأن يؤخذ بالقلع [كالظالم]. قال الماوردي: ومتى وجد الشرطان – وجب الإقرار، ومتى فقد أحدهما – تعين القلع. وأراد بالشرطين: بذل الأجرة، وامتناع المعير من البذل مع طلب القلع. وفي ابن يونس حكاية وجه فيما إذا طلب المعير [القلع] من غير أرش، وبذل المستعير الأجرة: أنه يجبر على القلع. وفي المهذب حكاية وجه فيما إذا امتنع المستعير من بذل الأجرة، ومن القلع، وامتنع المعير من بذل الأرش مع طلب القلع: أن القلع يمتنع، وإطلاق الجمهور

هاهنا دال عليه و [هو] ما جعله الإمام أظهر الوجهين في باب الإجارة. وحكى وجهاً عند امتناع مالك الأرض من بذل [أرش النقص، وطلب القلع، وامتناع مالك البناء من إجابته، ومن بذل] الأجرة: أن البناء يقلع، ويجب على مالك الأرض أرش النقص. وحكى في البحر: أن بعض أصحابنا ذهب إلى أن الأرض، والبناء أو الغراس يباعان عليهما في هذه الحالة، ويوزع الثمن [عليهما] على قدر قيمتهما، وكيفية التوزيع قد قدمتها في كتاب الرهن. والمذهب: [عدم] الإجبار. فعلى هذا: هل تجب الأجرة؟ قال الإمام في الإجارة: والظاهر الوجوب، وعقبه بأن ما ذكرته لا اختصاص له بالإجارة، بل يجري في الإعارة، وكل ما في معناها. وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه عند طلب المعير القلع بغير أرش، وامتناع المستعير منه – ستة أوجه: [أحدها]: لا يقلع، تجب أجرة المثل. [الثاني] لا يقلع، ولا أجرة. [الثالث]: يقلع، ويجب الأرش. [الرابع]: يقلع، ولا أرش؛ إن بذل المستعير الأجرة. [الخامس]: لم يقلع، وإلا قلع. [السادس]: يباعان عليهما. وكلام الشيخ يقتضي عدم القلع والبيع؛ فإنه ذكر ما يترتب على ذلك؛ حيث قال: لم يمنع المعير من دخول أرضه، أي: وإن كان مستغلاًّ البناء والغراس؛

لأن الأجرة مأخوذة على إقرار الغراس والبناء، والبياض الذيبين إنشائه ليس بمشغول بملك الغير، ولا أخذ عنه أجرة؛ فلا يجوز منعه منه. وهكذا لو بذلت [له] عنه أجرة، لم يلزمه قبولها. نعم: ليس له أن يستند إلى شيء من ذلك، ولا [أن] يربط فيه شيئاً؛ كما حكاه المحاملي، والماوردي، والقاضي الحسين. ثم قال: وقد ذكرنا في كتاب الصلح في مثل هذا: أنه يستند، [والله أعلم]. قال: ويمنعالمستعير من دخولها؛ للتفرج؛ لأنه انتفاع بملك الغير بغير إذنه، ولا يمنع من دخولها؛ للسقي، والإصلاح – [أي] [كذا] لجني الثمار، و [نحوه] – لأنا لو لم نمكنه من ذلك، لأتلفنا عليه ماله؛ فألحقنا به الضرر، وهو منهي عنه شرعاً؛ وهذا قول ابن أبي هريرة، وهو المذهب في البحر، والأصح عند الشيخ، والإمام، غيرهما. فعلى هذا: إذا تعطلت المنفعة على صاحب الأرض بدخوله، لا يمكن إلا بأجرة؛ قاله في التتمة. قال: وقيل: يمنع من ذلك؛ لأنه انتفاع بملك الغير؛ فلا يجز من غير إذنه. قال الإمام: وهذا سرف، وفيه إرهاق إلى هدم البناء، وتعطيل الثمار. قال: فإن أراد صاحب الأرض بيع الأرض – جاز؛ لخلوص [الحق له] فيها. وحكى الإمام في باب الإجارة في جواز البيع بعد انقضاء المدة – وجهين؛ على [قولنا] بمنع بيع المستأجر، وحكاهما هنا صاحب البحر، ورجح وجه المنع، ووجهه بأن مدة الغراس فيها مجهولة، واسترجاعها غير ممكن إلا ببذل قيمة الغراس، أو أرش النقص، وذلك غيرواجب على المعير، ولا على المشتري.

ثم إذا جوزنا البيع، ثبت للمشتري الخيار؛ إن كان جاهلاً بالحال، وإن كان عالماً، أو رضي بعد العلم – ثبت له ما كان للبائع من الخيار [بين] الخصال الثلاثة أو الخصلتين [؛ كما] صرح به القاضي الحسين هنا. و [قال] في البحر: [إنا] إذا صححنا البيع أخذنا المستعير بقلع الغراس، وأجبرنا البائع على بذل نقص الغراس؛ لأنه من حققو التسليم؛ كما يجبر على مؤنة التسليم. قال: وإن أراد صاحب الغراس بيع الغراس – جاز. وقيل: لا يجوز من غير صاحب الأرض. هذا الخلاف بناه القاضي أبو الطيب على أن المستعير هل له الدخول للسقي، والإصلاح، أم لا؟ فإن كان له، جاز بيعه من الغير؛ لانه يتمكن من تسليمها، [وتسلمها]. وإن [لم يكن له]، لم يجز البيع؛ لعدم القدرة على التسليم. ومقتضى هذا البناء أن يكون الصحيح الجواز؛ كما صرح به في المهذب، وغيره. وبناه الماوردي على أن المستعير؛ هل له [أن] يعير أم لا؟ لأنا لو صحنا البيع، كان المشتري مع المعير [كالبائع]. ومقتضى هذا [البناء]: أن يكون الصحيح المنع. ووجَّه المحاملي [المنع] بأن ملك المستعير على ذلك غير مستقر؛ فإن لصاحب الأرض أن يدفع إليه قيمة غراسه، ويزيل [ملكه]. [ووجه الجواز – وهو الصحيح –: بأنه ملكه، وأكثر ما فيه: أن غيره يملك

إسقاط حقه، وإزالة ملكه عنه]، وهو لا يمنع صحة البيع؛ كما في بيع الشقص المشفوع. واعلم أن هذا كله فيما إذا كان الرجوع في العارية المطلقة بلا خلاف، أما الرجوع في المؤقتة، فقد اختلف فيها الأئمة: فالذي ذهب إليه الجمهور: أن الحكم كذلك. وذكر الإمام عن صاحب التقريب: أنه خرج لنفسه احتمالاً في أن الحكم في حال بقاء المدة كالحكم في الإعارة للزرع الذي لا يحصد قصيلاً، وبعد انقضاء المدة، يكون الحكم [كما في العارية] المطلقة بعد الرجوع. وروى الماوردي [عن المزني]: أن للمعير بعد انقضاء المدة القلع مجاناً، وكذلك مذهبه فيما إذا انقضت مدة [إجارة] البناء، والغراس. وحكى أبو لي الزجاجي قولاً مثل مذهبه في العارية عن رواية الساجي، قال الرافعي: وهو اختيار القاضي الروياني، والذي رأيته في البحر تخطئته. وقال الإمام: قد صار طائفة من الأئمة إلى موافقته في مسألة [الإجارة [وفي كلام القاضي رمز إليه، ثم حكى عن بعض الأئمة موافقته في مسألة] العارية دون مسألة الإجارة]، وقال: الفرق: أن التأقيت في الإجارة مستحق؛ لإعلام المعقود عليه؛ فلم يتعين حمله على اعتبار القلع مجاناً؛ بخلاف العارية؛ فإنها تصح مطلقة ومؤقتة؛ فانتفى هذا الاحتمال فيها، وكانت فائدة التأقيت القلع مجاناً. والمذهب الأول؛ فإن التأقيت كما يجوز أن يكون لهذا الغرض يجوز أن يكون للمنع من إحداث البناء والغراس بعده، أو لطلب الأجرة؛ فلا يسقط حق المستعير بالشك. فرع: على مذهب الزني ومن وافقه: إذا قال رب الأرض: انقضت المدة،

وقال الثاني: لم تنقض المدة – فالقول قول صاحب الأرض مع يمينه؛ حكاه في البحر عن [القاضي] أبي علي الزجاجي، وفيه نظر؛ فإن الأصل بقاء المدة، ولذلك جعل [القول] قول المستأجر في مثل هذه الصورة. قال: وإن حمل الماء بذراً أي: حنطة، أو نوى، أو غيرهما – لرجل إلى أرض غيره فنبتت، فقد قيل: يجبر على قلعه –أي: مجاناً – لأن ملكه حصل في ملك غيره بغير إذنه؛ فأجبر على إزالته وإن لم يكن بفعله؛ كما لو حصلت أغصان شجرة في هواء دار غيره؛ وهذا هو الصحيح في الطرق. وعلى هذا: لا أجرة على صاحب البذر لما مضى. قال القاضي أبو الطيب: لأنه حصل بغير صنع منه. قال الماوردي: وكذا لو حمل الهواء شيئاً لرجل، فملأ به دار غيره، لا أجرة عليه. قال: [وقيل]:لا يجبر –أي: مجاناً – بل هو كما لو حصل ذلك بإذن المالك، ثم رجع في العارية؛ لأنه غير متعد في إنباته فأشبه المستعير. قال في البحر: وعلى هذا إذا قلع، لزمه تسوية الأرض: ولا يخفى أن الهواء إذا حمل ذلك، كان كحمل الماء. وقال الماوردي في كتاب الغصب: أصح من هذين الوجهين عندي: أن ينظر في الزرع بعد قلعه: فإن كانت قيمته كقيمة الحنطة أو أكثر – [أي: إن كان البذر حنطة] أجبر على قلعه. وإن كانت أقل من قيمة الحنطة، لم تقلع ويندفع الضرر عن صاحب الأرض بالأجرة. ولو حمل الهواء أو الماء ما لا قيمة له من نواة واحدة، أو حبات، فنبتت، فهي

لمالك الأرض في وجه، ولمالك الأصل في وجه؛ لأنها محرمة الأخذ؛ فعلى هذا الحكم كما تقدم. قال: وإن استعار شئاً؛ ليرهنه بدين؛ فرهنه، ففيه قولان، أي: منصوصان في الرهن الصغير من الأم؛ كما صرحبه أبو حامد، ومن تابعه، والغزالي قال: إنهما مأخوذان من تردد الشافعي في المسألة. قال: أحدهما: أن حكمه حكم العارية؛ لانه قبض مال الغير بإذنه؛ لمنفعة نسه منفرداص بها؛ فكانت عارية؛ كما لو قبضه للخدمة. قال: فإن تلف في يد المرتهن، أو بيع في الدين، ضمنها المستعير بقيمتها؛ لأن العارية مضمونة بالقيمة. وأي وقت تعتبر فيه القيمة؟ سيأتي الكلام فيه؛ وهذا ما حكاه الجمهور. وقال القاضي أبو الطيب: إذا بيعت [بأكثر] من القيمة، رجع المعير بما بيعت به؛ لأنه ملك الثمن قبل إيفائه؛ فكان كالعين؛ وهذا ما صححه ابن الصباغ، والإمام، وغيرهما. قال: والثاني: أن المعير كالضامن للدين في تلك العين؛ لأن الأعيان كالذمم؛ بدليل جواز التصرف فيهما، وقد صح الضمان في الذمة؛ فكذلك في العين. قال القاضي أبو الطيب: ولأن العارية ما أتلفت منافعها، وحيل [بين صاحبها] وبين الانتفاع بها في حال الاستعارة، وقد أجمعنا على أن منفعة العين المعارة هاهنا لصاحبها؛ فوجب ألا تكون إعارة، وإذا بطل كونه إعارة تعين أن يكون ضماناً؛ لأنه لا يحتمل غيرهما؛ وهذا هو مختار الشافعي، وعليه نص في الرهن الكبير؛ كما حكاه البندنيجي، وصححه، ووافقه في

التصحيح الرافعي، وغيره. قال: فلا يجوز حتى يبين جنس الدين، وقدره، وصفته؛ أي: من صحة وتكسير، وحلول وتأجيل، وغير ذلك؛ كما في الضمان. وهل يشترط معرفة من يرهن عنده؟ فيه خلاف؛ أصله: اشتراط معرفة الضامن للمضمون له. والأصح-هاهنا-:الوجوب. وحكى عن القديم أنه أجاز السكوت عن الحلول والأجل. وهذا الكلام من الشيخ فيه إشعار أنا على القول الأول لا نشترط شيئاً من ذلك، وقد صرح به غيره. وقال: لا يشترط معرفة المعير المرهون عنده، [عليه] أيضاً. قال: وإذا تلف في يد المرتهن –لم يرجع المعير بشيء؛ لأنه لم يقض عنه شيئاً، والامن لا يرجع ما لم يقض. وهكذا الحكم فميا لو تلف في يد الراهن عند الشيخ أبي حامد. وكلام الغزالي الآتي ذكره يقتضي أنه يضمن على القولين معاً. قال: وإن بيع [في] الدين – رجع بما بيع به؛ لأنه القدر الذي غرمه. ثم الحالة التي يسوغ فيها البيع ما هي؟ قال البندنيجي: المرتهن يطالب الراهن بوفاء دينه، فإن لم يوفه، طالبه ببيع الرهن [به] فإن امتنع، باعه الحاكم، ومتى باع هو أو الحاكم، ففي قدر ما يرجع به المعير ما ذكرناه. وفي النهاية: إذا أراد المستعير بيع العين في وفاء الدين دون مراجعة المعير – فعلى الول: لم يجد [إليه] سبيلاً، ولا يبيعه إلا بإذن مجدد.

قال الإمام: وقياس طريق القاضي – [أي]: في أن العارية لازمة على هذا القول؛ كما سنذكره- أنه يجوز بيع الرهن عند الإعسار من غير مراجعة. وعلى الثاني: ليس له الانفراد ببيع الرهن ما وجد اقتداراً على أداء الدين من مال نفسه، فإن أفلس، ولم يجد ما يفوي به دينه فيباع المرهون في دينه وإن سخط المعير. وأبدى الرافعي احتمالاً لنفسه في جواز البيع [في] حال اليسار [كما يطالب الضامن في حال اليسار]،وكانه لم يقف على ما حكاه البندنيجي. وقد بقي من تمام [التفريع على القولين] مسائل: منها: هل يملك المعير مطالبة المستعير بفك الرهن؟ قال الأصحاب: إن كان [الدين] حالاً، ملك ذلك على القلين جميعاً، وإن كان مؤجلاً، فعلى الأول: نعم، وعلى الثاني: لا؛ إذ الضامن لا يمكن له مطالبة المضمون عنه [إذا كان الدين مؤجلاً قبل حلوله. فإن قيل: قد حكيتم فيما إذا ضمن بإذنه و [كان مؤجلاً وفيما إذا ضمن بإذنه و] كان الدين حالاًّ –خلافاً في أن الضامن هل يملك مطالبة المضمون عنه بتخليصه أم لا؟]. ولم تجروه هاهنا على قول الضامن. قلنا: قد فرق الإمام بينهما بأن الضامن قبل أن يغرم ليس عليه بأس إلا تعلق

الدين بذمته، و [لا] كذلك ما نحن فيه؛ فإن العين المستعارة مستغلة بوثيقة الرهن فكان شبيهاً بأداء الضامن ما ضمنه. ومنها: لو [كان] المستعار عبداً، فأعتقه المعير بعد القبض. قال القاضي الحسين: إن قلنا بالثاني – نفذ. وفي التهذيب: أنه مخرج على عتق المرهون. [وإن قلنا] بالأول، قال القاضي: كان بمثابة عتق الراهن [المالك] للعبد المرهون، وهو بناء على [أن] الصحيح فيه أن الرهن لازم. قال الإمام: ومعظم الأصحاب علىمخالفته في ذلك؛ فإنهم ضعفوا الرهن وحكمه على قول العارية، وألزموه، وأكدوه على قول الضمان. والوجه عندنا تنزيل العبد على قول الضمان منزلة العبد الجاني الذي تعلق الأرش برقبته. ومنها: لو جنى العبد المستعار، فعلى الثاني: لا ضمان على المعير؛ لأن يده ليست يد ضمان؛ على هذا القول. قال الإمام: فما ظنك باليد المتفرعة على يده. فإن قلنا: الرهن عارية، فهل يجب الضمان على المستعير؟ فيه وجهان مبنيان على أن العارية تضمن ضمان المغصوب [أم لا]؟ فعلى الأول: يضمن أرش الجناية، وهو الأقيس في النهاية، وبه جزم البندنيجي، والبغوي. وعلى الثاني: لا. وعلى القولين معاً: إذا تلف الرهن في يد المرتهن، لا يطالب بشيء، وكلام الغزالي يشعر بالمطالبة على قول الضمان؛ فإنه قال: وحقيقة هذا العقد لا تتمحض، بل هو فيما يدور [بين المرتهن والراهن رهن محض، وفيما بين

المستعير والمعير عارية، وفيما] بين المعير والمرتهن تزدحم عليه مشابهة العارية والضامن؛ وهو غير مساعد عليه. نعم: حكى الإمام تفريعاً على مذهب ابن سريج [في] أن الرهن باطل على قول العارية - كما سنذكره - تردداً في ضمانه، وقال: الظاهر: أنه لا يضمن. وعلى القولين معاً: إذا استعار ليرهن [من شخص، لم يجز أن يرهن من غيره وإن لم يشترط معرفته في الابتداء]، وإذا استعار ليرهن بدين حال لا يجوز أن يرهن بدين مؤجل، وكذلك العكس، وإذا استعار ليرهن [بجنس، أو بصفة، لا يجوز أن يرهن بغير ذلك، ولو عين قدراًن جاز أن رهن] بدونه، دون ما فوقه، فلو فعل، بطل في الجميع في ظاهر المذهب، في تعليق القاضي أبو الطيب، وهو الذي صار إليه المعظم؛ كما حكاه الإمام، وجزم به [في] المهذب. وقيل: يبطل في القدر الزائد، وفي [القدر] المأذون فيه قولاً تفريق الصفقة. وعد الإمام هذا من تخريج صاحب التقريب. وعلى القولين معاً: للمضمون عنه الرجوع في العين قبل الرهن وبعده، وقبل القبض؛ لأنه إذا لم يلزم في حق المستعير، ففي حق المعير أولى وليس له الرجوع بعد القبض عند العراقيين، والقاضي ابن كج، والحسين، وإن كان في الوسيط قد حكى عن القاضي: أنه له الرجوع في هذه الحالة؛ على قول العارية، والمنقول عنه في النهاية والبسيط؛ الأول. نعم حكى العراقيون عن ابن سريج على قول العارية: أن الرهن لا يصح؛ لأن العارية لا تكون لازمة، والرهن لازم، وأجابوا: بأنها ليست بلازمة هاهنا، فإن للمعير مطالبة المستعير بالفكاك؛ على قول العارية، بكل حال كما ذكرناه. وغيرهم أجاب بأن العارية قد تفضي إلى اللزوم في موضع؛ كما في الإعارة للدفن؛ لحرمة الميت؛ فكذلك هاهنا؛ لان في رجوعه إبطالاً لوثيقة الرهن.

وحكى الإمام: أن صاحب التقريب والشيخ [أبا محمد]، والأثبات من أصحاب القفال – صاروا إلى أن للمعير الرجوع على قول العارية متى شاء، فيسترد العين. ثم قال: وهذا عندي راجع إلى ما صار إليه ابن سريج؛ فإن الرهن إذا كان لا يلزم، [ولا يملكي المستعير بيعه في دينه – كما ذكرناه – فلا أثر للحكم بصحته. وحكى عن صاحب التقريب فيما إذا كان الدين مؤجلاً، هل له لأن يرجع في العين في الحال؟ [فيه وجهان]: أحدهما: نعم؛ كما بعد الحلول. والثاني: لا؛ لأنه أقت إذنه، وربط به شيئاً؛ فصار كما لو أعاره للغراس [إلى مدة]. فرع: لو قال مالك العبد: "ضمنت ما لفلان عليك في رقبة عبدي [هذا] "، ولم يقبل المضمون له – قال ابن كج: صح على قول الضمان، ويكون كالإعارة [للرهن]؛ وهذا منه تفريع على أنه لا يشترط القبول [في الضمان]. قال الإمام: وعلى هذا يدل كلام القاضي. ويجوز أن يعتبر القبول في الضمان المتلعق [بالأعيان؛ تقريباً له من المرهون وإن [قلنا:] لا يعتبر في الضمان المطلق] في الذمة، ويجوز ألاَّ يعتبر؛ نظراً إلى اللفظ، فإن الشروط قد تختلف باختلاف الألفاظ وإن اتحد المقصود؛ فإن المذهب أن الإبراء لا يفتقر إلى القبول، ولو كان بلفظ الهبة، افتقر إليه؛ على الأصح. فرع: لو استعار منه شيئاً؛ ليؤجره – جاز؛ على وجه حكاه الرافعي في

آخر الإجارة عن ابن كج؛ كما لو استعاره؛ ليرهنه. قال: وإن أعاره حائطاً؛ لوضع الجذوع، لم يرعج فيها ما دامت الجذوع عليها – أي: محكمة – لأن الشيء ينتفي؛ لانتفاء ثمرته، وثمرة الرجوع هاهنا [منتفية؛ فانتفى لذلك، وإنما قلنا: إن الثمرة] منتفية؛ لانها منحصرة في تملك ما أحدث في المستعار بالقيمة أو المطالبة بقلعه مع بذل أرش النقص، أو مجاناً، أو طلب الأجرةِ، وكل منها منتفٍ: أما التمليك؛ فلأنه لا سبيل إلى تملك كل الجذع؛ لأنه إنما يتملك ما علا ملكه، وبعضه لم يعله، بل علا ملك صاحبه. ولا سبيل إلى تملك رأس الجذوع؛ لأنه لا منفعة فيه، وقد يتضمن بيع ما تنقص قيمته بقلعه. وأما القلع مع ضمان أرش النقص، فلأن الجذع إذا رفع طرفه من حائط، لم يستسمك على الحائط الآخر؛ فاستلزم القلع إجباره على إزالة ملكه عن ملكه، وليس للمعير الإجبار على مثل ذلك؛ ألا ترى أنه لو أعاره حصته من أرض له فيها حصة؛ ليبني فيهان أو يغرس – لم يملك إجباره على القلع؛ فكذلك هاهنا. وأما القلع مجاناً؛ فلأنه إذا امتنع القلع مع ضمان النقصان – لما ذكرناه – فمع عدمه أولى، مع أنه أذن فيه، وهو مراد للبقاء؛ فأشبه البناء والغراس. وأما طلب الأجرة؛ فلأن هذه المنفعة مسامح بها، ولم تجر عادة بمقابلتها بالأعاض؛ ولهذا أجبر عليها [في القديم، وجازت المصالحة عليها] لا إلى غاية؛ لتمكن مالك الجدار من الانتفاع به مع بقاء الجذوع؛ بخلاف الأرض المعارة للبناء والغراس؛ فإن العادة جارية بأخذ مقابل منفعتها؛ فإن الانتفاع بها متعذر مع ذلك؛ وهذا ما حكى الرافعي أنه مذهب العراقيين، وحكى الإمام – هاهنا -: أنه الذي أطلقه المحققون.

وحكى الماوردي وجهاً آخر: أنه يجوز له الرجوع فيها، [وفائدة ذلك]: طلب الأجرة، فإن امتنع من بذلها – اخذ بقلعها، وهو ما حكاه الإمام في كتاب الصلح، عن رواية القاضي، عن بعض الأصحاب؛ وحكاه الغزالي عن القاضي. وحكى عن المذهب [جواز الرجوع] وأن فائدته التسلط على النقض؛ بشرط أن يغرم الأرش، وهو الذي جعله الإمام فيه ظاهر المذهب. والذي رأيته في تعليق القاضي الحسين: أنه لا يملك القلع مجاناً، وهل يملكه مع ضمان أرش النقص؟ فيه وجهان. [وإيراد البغوي يقتضي ترجيح الرجوع، وأنه يتخير بين النقض بالأرش، وبين طلب الأجرة]. وحكى في الزوائد؛ أن صاحب الفروع قال: إن الفتوى عليه. وعلى ذلك جرى الرافعي، وصحح الرجوع، وجعلالأظهر التخييربين القلع مع ضمان الأرش، وبين التبقية بأجرة. وقد رأيت في تعليق البندنيجي في كتاب الصلح [ما يداني ذلك]؛ فإنه قال: إذا وضع الجذوع، لزمت العارية، ولم يكن [له الرجوع]؛ وهذا أصل كل عارية كانت [لما] يتأبد بقاؤه كالغراس والبناء، لزمت إذا صارت علىصفة لا يمكن المعير [أن يرجع فيها] إلا بضرر المستعير. ولا خلاف أن للمعير الرجوع في العارية قبل وضع الجذوع على الحائط، وكذابعده، وقبل البناء عليه؛ كما صرح به الرافعي، والبغوي، وابن الصباغ، ودل عليه كلام [غيره من] العراقيين، ومنهم الشيخ في المهذب؛ فإنه قال: لو أعاره حائطاً؛ ليضع عليها أجذاعاً، فوضعها، لم يملك إجباره على قلعها [؛ لأنها تراد للبقاء؛ فلم يجبر على قلعها] كالغراس. وحكى في الغراس: أنه إذا لم تنقص قيمته بالقلع، كان له القلع؛ فيجب أن

يكون هاهنامثله، والقلع قبل إحكام الجذوع بالبناء [لا نقص فيه]. وفي الذخائر أن من أصحابنا من قال: ليس له الرجوع بعد وضع الجذوع، ولم يشترط وجود البناء، وهو الذي حكاه في المهذب، ولم يحك سواه. انتهى. وغالب ظني: أن من أطلق الوضع، أراد به [الوضع] المفيد، ولا يكون [مفيداً] ما لم يحكم بالباء عليه. ولو تأمل الشيخ مجلي ما نبهت عليه من كلام الشيخ لم يأبه؛ علىن ما قاله الشيخ مجلي إذا أجرى على ظاهره، أمكن أن يوجه بأنه لو ألزم إزالة الجذوع عن الحائط المعار، استلزم إجباره على إزالة طرفها الآخر عن ملكه، وهو ممنوع. ولو تأمل الشيخ مجلي ما نبهت عليه من كلام الشيخ لم يأبه؛ على أن ما قاله الشيخ مجلي إذا أجرى على ظاهره، أمكن أن يوجه بأنه لو ألزم إزالة الجذوع عن الحائط المعار، استلزم إجباره على إزالة طرفها الآخر عن ملكه، وهو ممنوع. واعلم: أن ماذكرناه من تعليل المنع من التسليط على القلع مع غرامة النقص، ومن عدم التمليك – يقتضي أن الجذوع لو كان طرفاها على حائطين للمعير: أنه يجوز ذلك، وهوما حكاه في رفع التمويه في جواز الرجوع. وقد حكى الرافعي: أن الخلاف في جواز الرجوع و [في] فائدت التي ذكرناها تجري في هذه الحالة أيضاً. فائدة: قال في التهذيب: يجب أن يعين في الإعارة لوضع الجذوع الموضع الذي توضع عليه، وما يضعه عليه. قلت: وينبغي أن يعتبر مع ذلك ما ذكرناه عند إرادة المصالحة عليها بعوض، خصوصاً على مذهب العراقيين في أنها لازمة، ولا يتمكن من الرجوع فيها. قال: فإن انهدم – أي: الحائط-أو هدمه –أي: [إما] متعدياً عند سلامته، أو من غير تعد؛ كما استهدم، ثم أعيد بنقضه. قال: أو سقطت الجذوع- أي: والحائط [باقياً] –فقد قيل: يعيد مثلها؛

اعتماداً على الإعارة السابقة، والإذن يقتضي بقاءه على الدوام. قال: وقيل: لا يعيد، وهو الأصح – أي: إلا بإذن جديد – لأن المأذون فيه الأول، وقد زال؛ فلم يملك غيره. ورتب القاضي الحسين الخلاف فيما إذاهدم الجدار أو قلعت الجذوع على الخلاف فيما إذا انهدم بنفسه، أو سقطت الجذوع، وقال: الأولى [عدم] الإعادة. [وفي الجيلي: أن محل الخلاف في إعادة تلك الجذوع] أما إذا أراد إعادة غيرها عند سقوطها، فليس له ذلك وجهاً واحداً. والذي حكيته من قبل عن القاضي أبي الطيب عند الكلام في مسألة الغراس [يرد عليه، ولا نزاع في أن الجدار إذا أعيد بغير النقض الأول، لا يملك المستعير الإعادة [عليه]]؛ كما صرح به ابن الصباغ، والبندنيجي، والإمام، وغيرهم. وفي البحرك أنه قيل: لا فرق بين أن يعيده بتلك الآلة، أو غيرها في جريان الوجهين. وقال في ابن يونس: إن الشيخ أبا حامد لم يذكر هذا التفصيل. واعلم: أن ظاهر [كلام الشيخ] يقتضي جواز الإعادة على القول الأول وإن منعه المالك منها. وتعليل الماوردي يقتضيه فيما إذا أعيد الجدار؛ حيث قال في كتاب الصلح في توجيهه؛ لأنه صار مستحقًّا على التأبيد؛ كما لو كان الأول باقياً. وقال- هاهنا: - لأن العاريةأوجبت دوا وضعها. فعلى هذا لو امتنع صاحب الحائط من بنائه، كان لصاحب الأجذاع: أن يبنيه؛ ليصل إلى حقه من وضع أجذاعه فيه، وهو ما صرح به القاضي أبو الطييب في كتاب الصلح.

وقال الإمام: لا ينبغي أن يُعتقد خلافٌ في أن صاحب الجدار لو منع من الإعادة؛ لعلة – يبقى للمستعير خيار، وإنما الخلاف في [أنه هل] له ذلك من غير إذن؛ بناء على الإعارة الأولى؟ وعلى ذلك جرى المتولي، ووجهه بأن المنع من الرجوع في حال البقاء، كان لأجل الإضرار، وهو منتفٍ هاهنا. فرع: لو رأينا أجذاعاً لشخص علىحائط لآخر، ولم ندر هل هي موضوعة بحق، أو بغير حق – حمل على أنها موضوعة بحق لازم وجهاً واحداً؛ صرح به الشيخ في المهذب، والمحاملي، والبندنيجي، وغيرهم في كتاب الصلح، وهنا. قال: وإن أعاره أرضاً؛ للدفن، لم يرجع فيها – أي: بعد الدفن – ما لم يبل الميت؛ لأن الدفن يراد للاستدامة شرعاً وعرفاً؛ فاقتضاه الإذن، وفي نبشه هتك لحرمته. قال الإمام: ولأن النبش من غير ضرورة حرام. ولو رضي أولياؤه بنقله منعوا منه؛ لأنه حق للميت. قال الماوردي: ولأن فهي انتهاك حرمته بالنقل. وليس لصاحب الأرض المطالبة بأجرة القبر بعد الرجوع في العارية؛ صرح به في التهذيب، وقال الماوردي: قولاً واحداً؛ لأن العرف غير جار به، والميت زائل الملك، والأولياء لا يلزمهم. أما لو وضع الميت في القبر، ولم يدفن، فكلام الرافعي يقتضي [منع] الرجوع في هذه الحالة؛ فإنه قال: وله الرجوع قبل الحفر وبعده، مالم يوضع فيه الميت. ثم قال: وقال المتولي: له الرجوع. ومؤنة الحفر في هذه الحالة على ولي الميت، ولا يلزم المعير الضمان.

وكلام الإمام يقتضي ما ذكره المتولي؛ فإنه قال: وللمعير الرجوع قبل إيعاب الدفن. فرع: لو كان للمعير في تلك البقعة أشجار، فأراد سقيها، قال الإمام: نظر: إن كان السقي يخرق [موضع] الدفن؛ بحيث يُندي من المدفون شيئاً منع، وإلا فلا. قال: ويما سواه – أي: سوى ما [ذكره مما يقتضي منع الرجوع] – يرجع إذا شاء؛ إذ لا ضرر في ذلك.

قال: ومؤنة الرد على المستعير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى [تُؤَدِّيَ"، أخرجه] أبو داود. [ولأنه ضامن للعين]؛ فكانت مؤنة الرد عليه؛ كالغاصب. ولأن العارية بر ومعروف، فلو لم تجب مؤنة الرد على المستعير، لامتنع الناس من الإعارة. قال: فإن تلفت العارية- أي: بغير الاستعمال – وجب عليه قيمتها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم [لأمية بن صفوان، وقد قال للنبي صلى اللهعليه وسلم] لما استعار منه أدرعاً: أغصباً يا محمد؟ [قال: لا]، بل عارية مضمونة مؤداة، فوصفها بالضمان عند التلف، وبالرد عند البقاء؛ بياناً لحكمها عند جهله به. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ"؛ فأوجب الأداء، وهو يقتضي عموم الحالين من قيمة وعين. ولأنها عين تفرد باحتباسها لنفسه من غير استحقاق؛ فوجب أن تكون من ضمانه؛ كالقرض. ولأنها مضمونة الرد؛ فكانت مضمونة العين؛ كالغصب. وقد روى الشخي أبو علي عن الشافعي قولاً في الأمالي: أنها غير مضمونة إلا إذا تعدى فيها. قال الماودي: وهو وهم من الربيع؛ فإن قول الشافعي في الإجارات: العارية غير مضمونة إلا بالتعدي – محمول على أحد ثلاثة أوجه: إما على سقوط ضمان [الأجرة، أوعلى سقوط ضمان] الأجراء. أو حكاية [عن] مذهب الغير. قال: يوم التلف؛ لأن الأصل فيما [يجب رده رد العين]، والتحويل إلى

القيمة سببه فوات رد العين، وهذا إنما يتحقق بالتلف؛ فعلى هذا لو حصلت [في العين] المستعارة زيادة: كالسمن، وغيره، ثم زالت في يد المستعير، لا يضمنها؛ كذا دل عليه كلام القاضي أبي الطيب في كتاب الغصب؛ حيث حكى عن [ابن] أبي هريرة: أن الجارية المبيعة بيعاً فاسداً، إذا قبضها المشتري، وزادت في يده، ثم ردها، أو تلفت: أنه لا يجب عليه ضمان الزيادة التي حصلت في يده [عند رد العين]؛ وإن تلفت في يده، لم يلزمه قيمتها إلا وقت التلف؛ كالعارية. قال: وقيل: يجب قيمتها أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف؛ لأنها لو تلفت في حال زيادة القيمة - لضمنها؛ فأشبه المغصوب. فعلى هذا: لو كانت العارية من ذوات الأمثال - وجب فيها المثل. وعلى الأول: [لا]؛ صرح به في المهذب، والحاوي. وقال في التتمة: إن [صورة] محل الخلاف في الأصل إذا كان ما نقص من القيمة بسبب تغير السوق أما إذا كان بسبب الاستعمال، [ولم تذهب العين]، ثم تلفت- فلا يضمن القدر الزائد؛ وهذا مادة ما سنذكره عن الإمام من بعد، ومقتضى ذلك الجزم برد القيمة في ذوات الأمثال - أيضاً - كما اقتضاه إطلاق الشيخ هنا، لكن كلامه في المهذب، وكلام الماوردي، وغيرهما يقتضي خلافه؛ فإنهم قالوا على القول الثاني: تصير الأجزاء تابعة للعين، فإن ضمن العين بالقيمة، ضمنها، وإذ لم يضمن العين، لم يضمنها. وحكى [قول] آخر: أنه يجب قيمتها يوم القبض تشبيهاً لها بالقرض، وهو مشهور من طريق المراوزة، ورأيته في نسخة من تعليق القاضي أبي الطيب. وادعى في التتمة أن محله فيما إذا كانت قيمته أكثر من قيمته يوم التلف، أما

إذا كانت قيمته يوم التلف [أكثر]، فقدادعى أنه لا يختلف المذهب: أنه يضمنها. وكلام الجمهور - كما ذكرته في باب: ما يجوز بيعه - يدل على خلافه. والمذهب في الطريقين الأول؛ فإنه لو ضمن أكثر القي، أو قيمة يوم القبض - أدى إلى أن يضن مما أذن له في إتلافه، وهي الأجزاء المنسحقة بالاستعمال، وهو لا يضمنها إذا انسحقت به، دون ما [إذا تلفت بغيره] على الأصح. وعلى تقدير: أن يضمنها عند رد العين وانسحاق بعض الأجزاء بالاستعمال؛ ما هو وجه محكي في طريق المراوزة، ونسبه الطبري إلى أبي العباس- قال الإمام -: يلزم منه أن يقع في عملية أخرى؛ فإن ما يفوت لا تعتبر قيمته بعد فواته. قال الرافعي: ومعنى هذا: أن من قال بتضمينه أقصى القيم؛ [فعلى تقدير أن تكون القيمة] يوم التلف أكبرن فقد ضمنه الآن قيمة ما تلف قبل ذلك، وذلك ممتنع. قال الإمام في باب الشروط التي تفسد البيع: والوجه التفريع على الصحيح في أن التالف بالبل يغير مضمون، فنقول: إذا انسحق الثوب بعض الانسحاق، ثم تلف في يده، ففي قول: يجب قيمة ثوب منسحق [بأنقص ما يقدر من يوم القبض إلى يوم التلف. وفي قول: تجب قيمته يوم التلف. وفي قول: يجب قيمة ثوب منسحق] يوم القبض. أما إذا تلفت العارية بالاستعمال؛ بأن انسحق الثوب باللبس، ففي الضمان وجهان: أصحهما: أنه لايجب؛ كالأجزاء.

والثاني: يجب؛ لأن حق العارية أن ترد، فإذا تعذر الرد، لزم الضمان؛ وعلى هذا، [فما الذي] يضمن؟ فيه وجهان: أحدهما: [-وهو المذكور في النهاية -: أنه يضمن العين بجميع أجزائها. وأصحهما]-وهو المذكور في التهذيب -: أنه يضمن في آخر حالات التقويم. فعلى هذا: إذا انتهى الثوب إلى تلك الحالة- ليس له استعماله؛ قاله المتولي، والبغوي. وتلف الدابة [المستعارة] بسبب الركوب، والحمل المعتاد - كانمحاق الثوب بالاستعمال، وتعيبها به كانسحاق بعض الأجزاء؛ صرح به الرافعي. وكذا انكسار السيف المستعار للقتال في القتال؛ صرح به في البحر. وفيماجمع من فتاوي القفال أنه لو جرح ظهرها بالحمل، وتلفت منه في يده، أو في يد المالك - ضمن وإن لم يكن متعدياً بما حمل؛ لأنه إنما أذن في الحمل، لا في الجراحة. قال الرافعي: وهو في غير حالة التعدي جواب على وجوب الضمان في صورة الانسحاق. فرع: لو اشترط في العارية: أن يرد عند تلفها أكثر من قيمتها؛ بأن كانت قيمتها خمسة، فشرط أن يرد عشرة - فوجهان خرجهما القاضي: أحدهما: هي عارية فاسدة؛ فتكون مضمنوة عليه، وهل يستحق فيها أجرة المنفعة؟ فيه وجهان في الحاوي، والبحرن وهما جاريان في كل عارية فاسدة. والثاني: إجارة فاسدة بلا ضمان. تنبيه: محل ما ذكرناه فيما إذا وجدت العارية من المالك لحاجة المستعير، أما

إذا وجدت لحاجة المالك؛ كما إذا أرسله في حاجته، وأعاره دابته؛ ليركبها في شغله، فتلفت في يده – لا ضمان على المستعير. وكذا لو لقيه في الطيرق، ومع دواب، فأركبه [دابة]؛ ليحفظها [له]، فتلفت – لم يضمنها. ولو وجدت العارية من غير المالك، نظر: فإن كان مستعيراً، فسيأتي حكمه. وإن كان مستأجراً، أوموصى له بالمنفعة، فهل تكون مضمونة على المستعير؛ كما لو استعار من المالك، أو لا؛ لأن يده نائبة عمن يده ليست مضمنة؟ فيه وجهان: [وأصحهما]: الثاني. ونسب القاضي الحسين القائل بمقابله إلى الغلط. وعلى المستعير مؤنة الرد؛ إن رد على المستأجر، وإن رد على المالك؛ فهي عليه؛ كما لو رد على المستأجر. و [إن استعار] من الغاصب، وتلف في يده، غرم المالك من شاء منهما أقصى القيم من يوم [وضع يده] إلى يوم التلف، ولا يرجع المستعير على المعير بما غرم من قيمة العين، إن قلنا: تضمن العارية ضمان المغصوب، وإن قلنا: إنها تضمن بقيمتها يوم التلف، فكذلك الحكم؛ إن كان ما غرمه قيمة يوم التلف، وإن كان أكثر من قيمة يوم التلف، فهل يرجع عليه بما زاد عن قيمة يوم التلف؟ فيه قولان، وهما جاريان في الرجوع بما غرمه من الأجرة: والجديد: لا رجوع. وهذا إذا كان قد استوفى المنافع، أما إذا لم يستوفها – رجع بها؛ هكذا حكاه القاضي الحسين في [كتاب] الغصب.

والمستعير من المستأجر من الغاصب إن ضمناه فكالمستأجر من الغاصب وإن لم نضمنه، رجع بالقيمة التي غرمها على المستأجر، ورجع المستأجر على الغاصب. قال: وإن تلف ولدها، [ضمن؛ لأنها مضمونة، ضمن ولدها]؛ كالمغصوبة. قال البندنيجي: وليس بشيء. قال: وقيل: لا يضمن؛ لأن معنى الضمان في الأم معدوم في الولد؛ بخلاف الغصب؛ لأن ولد العارية لا يكون معاراً؛ فإنه لا يجوز له استعماله بلا خلاف، وولد المغصوب يكون مغصوباً؛ وهذا ما جعله البندنيجي في كتاب الغصب المذهب واختاره في المرشد. ولا فرق في ذلك بين الولد الموجود حال العقد، أو الحادث بعده. وفي الجيلي: تخصيص محل الخلاف بما إذا حدث، وجزم فيما إذا كان موجوداً حال العقد، فتسلم الأم، وتبعها الجحش: أنه لا ضمان. وقد بنى القاضي الحسين وغيره هذا الخلاف على أن العارية تضمن ضمان

الغصوب أم لا؟ فعلى الأول: يضمن الولد. وعلى الثاني: يكون حكمه حكم ما لو هبت الريح بثوب إلى داره قال: ومن استعار شيئاً، لم يجز أن يعيره- أي: من غير إذن - لأنه مخصوص بإباحة المنفعة؛ فلم يجز له أن يبيحها؛ كما في إباحة الطعام. قال: وقيلك يجوز، كما يجوز للمستأجر أن يؤاجر [قال:] وليس بشيء؛ لأن المستأجر ملك المنفعة فملك نقلها؛ كالأعيان؛ بخلاف المستعير؛ فإنه لا يملك المنفعة إلا بالاستيفاء؛ كذا قاله ابن الصباغ في أثناء كلامه؛ [وإذ ذاك] لا يملك النقل، ويجوز له أن يستوفي المنفعة بوكيله. ولو استعار دابة؛ ليُركبها زوجتها زينب، [فلا يجوز] أن يركبها زوجته عمرة وإن كانت مثلها؛ على أحد الوجهين في العدة. أما الإعارة بالإذن، فجائزة، لكن إن لم يسم المستعير الثاني، كان الأول على إعارته، والثاني مستعير منه؛ فله الرجوع فيها متى شاء، فإذا ردها عليه - برئ. وإن سماه للمعير خرج الأول منهما، وبرئ من ضمانها، وليس له الرجوع فيها، وإذا ردها الثاني عليه، لم يبرأ - قاله الماوردي. ولا نزاع في مشهور الكتب: أن المستعير لا يملك الإجارة. وحكى الزبيلي في أدب القضاء له عن الشافعي: أن من استعار داراً، كان له أن يؤجرها؛ كما لو كانت مستأجرة، وأن أبا الحسين قال: إنه الأولى. ثم قال: فإن قيل المؤجرة لا يملك صاحبها استرجاعها؛ بخلاف المستعارة. قلنا: [المؤجرة] يحتمل أن تغصب، وأن تنهدم في أثناء المدة؛ فتسقط

منفعتها، أو يحال بينه وبينها، ثم لم يجعل ذلك علة في منع إجارتها؛ [فكذلك هذا]، فإذا استرجعها صاحبها، أخذ المستعير من المستأجر بقد رما ثبتت العارية في يده؛ كالمؤجر إذاتلف. قال: وإن أعاره، فهلك عند الثاني، فضمن، لم يرجع به على الأول؛ لدخوله على الضمان، وقد وجد التلف تحت يده. ولا فرق بين أن نقول: يضمن المستعير أقصى القيم، أو قيمة يوم التلف، أو يوم القبض؛ إذا كان المستعير عالماً بأن المعير مستعير؛ لأنهما عاصيان. وإن لم يعلم: أنه مستعير، فحكهم معه كما لو استعار من الغاصب، وقد تقدم. قال: وإن دفع إليه دابة، فركبها، ثم اختلفا، فقال صاحب الدابة: أجرتكها؛ فعليك الأجرة، وقال الراكب: بل أعرتني – [أي:] والعين قائمة – فالقول قول الراكب في أصح القولين؛ لأنهما اتفقا علىتلف المنافع على ملك الراكب؛ لان صاحب الدابة يزعم أنه ملكها بالإجارة، والراكب يزعم أنه ملكها بالاستيفاء؛ لأن المستعير يملك بذلك، والمالك يدعي عليه ثبوت عوض في ذمته، والأصل عدمه، وهذا ما نص عليه الشافعي في العارية. والقول الثاني: أن القول قول المالك، وبعضهم يرويه منصوصاً. والجمهور على أنه مخرج مما نص عليه [الشافعي] في كتاب المزارعة، فيما إذا اختلف رب الأرض وزارعها بعد الزراعة، على مثل هذا النحو – أن القول قول المالك؛ كما خرج من هنا إلى هناك قول: أن القول قول المستعير؛ وهذا القول اختيار المزني، والربيع، وهو الذي صححه الرافعي. ووجهه: أن المنافع مملوكة تصح المعاوضة عليها؛ كالأعيان وقد ثبت أنه لو اختلفا في العين بعد استهلاكها، فقال المالك: بعتكها، وقال المستهلك: بل

وهبتنيها –أن القول قول المالك، دون المتلف، وله البدل، وهذا ما استدل به العراقيون. وقد يخالف القائل الأول في مسألة الهبة؛ كما نبهت عليه في باب التحالف. وقداختار هذه الطريقة أبو إسحاق، وأبو علي وابن أبي هريرة، والربيعن والمزني، وابن سريج؛ كما حكاه الرافعي، والجمهور. وجعل في الوسيط مأخذ القولين تقابل الأصلين؛ إذ يمكن أن يقال: الأصل وجوب الضمان في المنفعة، وعدم ما يسقطها، والأصل عندجريان الإذن [عدم الضمان]. وذهب ابن سريج-كما حكاه الماوردي – إلى تقرير النصين؛ اعتباراً بالعرف فيهما؛ لأن العادة جارية بإعارة الدواب فكانت شاهدة للمستعير، وجارية باستئجار الأراضي؛ فكانت شاهدة للمالك. وقد روي [في الرقم] أن هذا أظهر عند القفال. ومن قال [بالأول، قال:] لا اعتبار بالعادة في ترجيح المدعي؛ دليله: اختلاف الزوجين في متاع البيت؛ فإنه يقسم ما يليق بالنساء وما يليق بالرجال بينهما. التفريع: إن قلنا بالثاني، قال الغزالي: حلف المالك على نفي الإعارة، ولا يتعرض لإثبات الإجارة، والمسمى؛ فإنه مدع فيهما، فإذا حلف، أخذ أقل الأمرين من المسمى، أو أجرة المثل. وقال القاضي والعراقيون: إنه يتعرض للإجارة، فيحلف ما أعاره، ولقد أجره بكذا، إذا حلفن فهل يستحق المسمى، أو أجرة المثل؟ فيه وجهان:

أصحهما –وهو المنصوص في الأم كما حكاه المحاملي -: الثاني. وحكى الإمام [بدله]: أنه يستحق أقل الأمرين، ويكون الحلف على إثبات الإجارة؛ لينتظم كلامه، وبهذا يحصل ثلاثة أوجه. فإن نكل عن اليمين، قال العراقيون، والقاضي الحسين في تعليقه: لا ترد على الراكب؛ لأنه لا يستفيد بها شيئاً. وفي الوسيط حكاية عن القاضي: أنه يحلف، وفائدته: رفع الغرم، وهو أقرب من القضاء بالنكول. وإن قلنا بالأول فحلف الراكب – برئ، وإن نكل، حلف المالك، واستحق المسمى. قال الماوردي والشيخ: وجهاً واحداً. وقال المحاملي والقاضي الحسين: فيه الوجهان السابقان، لكن الأظهر منهما في تعليق القاضي [الحسين] – هنا -: استحقاق المسمى. ولا خلاف في أن هذا التنازع لو وقع قبل مضي المدة بتقوم منفعتها: أن القول قول الراكب في نفي ما يدعي عليه من الإجارة المستقبلة. ولو وقع هذا الاختلاف والدابة هالكة، فإن قلنا بالثاني، استحق الأجرة دن القيمة؛ لأنه لا يدعيها، لكن [هل] يحتاج إلى اليمين؟ ينظر: إن كانت القيمة والأجرة سواء، أو كانت القيمة أكثر – فوجهان؛ بناء على اختلاف الجهة، وإن كانت الأجرة أكثر، فلا يستحق القدر الزائد، إلا بيمين وفي القدر المساوي الوجهان. وإن قلنا بالأول، فهل يلزمه للمالك أقل الأمرين من الأجرة، أو القيمة، أو لا يلزمه شيء؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لاتفاقهما على استحقاقه؛ فعلى هذا لا يحتاج إلى اليمين.

والثاني: لا؛ لانه لا يدعي القيمة، ولا يستحق الأجرة. قال: وإن قال صاحب الدابة: أعرتكها، وقال الراكب: بل أجرتني، فالقول قول صاحب الدابة، أي: إذا كانت الدابة قد تلفت في يد الراكب، [أو هي] باقية، ولم تمض المدة التي ادعى الراكب وقوع عقد الإجارة [عليها؛ لأن الأصل عدم ما ادعاه الراكب من عقد الإجارة]، وضمنا مال الغير إذاتلف في يده، ما لم يثبت أن اليد [يد] أامنة، [ولم يثبت]. لكن حال قيام [الدابة] يحتاج إلى [اليمين على] نفي الإجارة، وفي حال تلفها، ينظر: إن كان ما اعترف به الراكب من الأجرة أو أقل [من قيمتها، أو لم يكن قد مضت مدة لمثلها أجرة، فلابد من اليمين؛ لأجل استحقاق القيمة. [وإن كانت القيمة قدر ما اعترف به الراكب من الأجرة، أو أقل] فهل يستحق المالك قدر القيمة بيمين، أو بغير يمين؟ [فيه وجهان]. ولا نزاع في أنه لا يستحق القدر الزائد على القيمة إلا أن يكذب نفسه. أما لو كانت الدابة باقية وقد انقضت المدة، فلا يظهر لهذا الاختلاف فائدة. قال: وإن قال صاحب الدابة: غصبتني، وقال الراكب: بل أعرتني، فالقول قول الراكب؛ لأن المنافع قد تلفت، وليست ملكاً قائماً، والمالك يدعي عليه عوضاً، والأصل براءة ذمته. [و] لأن الظاهر من اليد أنها بحق، ومدعي الغصب يدعي خلاف الظاهر؛ فكان القول قول صاحب اليد؛ وهذا ما نقله المزني. وقال الشيخ أبو حامد: إنه منصوص الشافعي في الأم، ووجهه بما ذكرناه. وقيل: في المسألة طريقان؛ كما في المسألة الأولى؛ لأن المالك يدعي الأجرة.

هاهنا، كما يدعي المسمى هناك، والراكب ينكرها، والأصل براءة الذمة؛ وهذا من تخريج ابن سريج، وجعله الرافعي الأظهر. وقيل: منا نقله المزني غلط، والقول قول المالك قولاً واحداً؛ لأن المالك لم يساعد على أن المنافع تلفت في يد المتصرف؛ بخلاف المسألة الأولى، وهذا ما صححه ابن الصباغ [وكذا القاضي أبو الطيب في آخر باب الإجارة، وحكى أن الربعي قال: ما نقله المزني مدفوع عنه] وادعى الغزالي أن [عليه] أكثر الأصحاب، وأنه الأولى. [ولا] نزاع [في] أن القيمة تجب في هذه الصورة عند التلف من غير يمين؛ إذا قلنا: إن المستعير يضمن ضمان الغصوب، أو قيمة يوم التلف [إن كانت أكثر أو مساوية للقيمة يوم القبض، أما إذا كانت قيمته يوم التلف] أقل، وقلنا: لا يضمن المستعير سواها - فله أخذها بغير يمين، وهل يستحق القدر الزائد؟ إن جعلنا القول قول المالك، استحقه [مع اليمين]، وإلا [فلا، وكذا] تظهر ثمرة الخلاف في الأجرة أيضاً. ولو قال المالك: غصبتها، وقال الراكب: [بل] أجرتني - فالقول قول المالك؛ لأن الأصل عدم الإجارة، لكن إن كانت الدابة تالفة، فلابد من اليمين؛ لاستحقاق القيمة، وإن كانت باقية، فكذلك إن لم تكن المدة قد انقضت، [وإن كانت قد انقضت]، فهل يستحق أجرة المثل بيمين، أو بغير يمين؟ ينظر: إن كانت قدر المسمى، أو أقل، استحقها من غير يمين. وإن كانت أكثرن فلابد في استحقاق القدر الزائد من اليمين؛ وهذا هو الصحيح.

وفي الرافعي: أنه خُرِّجَ قول مما [مر] في المسألة الأولى: أن المصدق الراكب عند هلاك الدابة قبل مضي مدة لمثلها أجرة. ولو قال المالك: غصبتني، وقال صاحب اليد: بل أودعتني، قال الرافعي: حلف المالك؛ على الأصح، وأخذ القيمة إن تلف المال، وأجرة المثل إن مضت مدة لمثلها أجرة. وفي بحر المذهب في كتاب الوكالة: أن أبا حنيفة قال: لو قال [رجل: أخذت من فلان كذا وديعة، وقال] المالك: بل غصباً- فالقول قول المقر له [ولو قال: دفعه فلان إلى وديعة، وقال [المالك]: بل غصباً، فالقول قول المقر،] فمن أصحابنا من قال: لا نقول بهذا التفصيل، والقول قول المقر في الموضعين. وقال القفال: عندي المذهب كما قال أبو حنيفة؛ لأنه إذا قال [أخذت]، فقد أقر بأخذه، وهو فعل من جهته، وادعى على المقر الإذن في الأخذ، والأصل عدمه. وما قاله بعض الأصحاب هو ما حكاه القاضي الحسين في تعليقه في باب الكالة. [والذي أورده صاحب الإشراف [منقولاً]: أن القول قول المقر؛ لأن المالك ادعى الضمان عليه، وهو أنكره، والأصل فراغ ذمته عن الضمان، وخرج من عند نفسه وجهاً: أن القول قول المالك؛ بناء على تقابل الأصلين، وفرق بين ما نحن فيه؛ حيث جعل القول قول المقر، وبين ما إذا ادعى المالك الإعارة، والمقر الإجارة؛ حيث جعل القول قول المالك: بأن المقصود من الإجارة ملك العوض المسمى فيها، وحكم الأمانة تابع، فإذا سقط المتبوع من جهة أن الأصل عدم العوض، سط التابع في ضمنه؛ بخلاف عقد الوديعة؛ فإن

[الحكم] المقصود فيه هو الأمانة، والأصل عدم الخيانة] [وسيكون لنا عَوْدَةٌ إلى هذا الفرع في باب الإقرار –إن شاء الله تعالى – لأن الأصحاب ذكروه ثَمَّ، فليطلب منه]. قال: وإن اختلف المعير والمستعير في رد العارية، فالقول قول المعير؛ لأن الأصل عدم الرد، مع أن المستعير قبض العين [لمحض حق] نفسه. ولنختم الباب بفروع تتعلق به. أحدها: إذا قال: أعرتك هذه الدابة، بشرط أن تعلفها، أو الدار بشرط أن تطين سطحها – فهي إجارة فاسدة، لاتضمن العين فيها. وكذا لو قال: أعرتك داري بعشرة دراهم لتعيرني ثوبك شهراً. وفيه وجه: أنها عارية فاسدة؛ نظراً إلى اللفظ. الثاني: إذا أركب أمن عياه المشي في الطريق؛ تقرباً لله تعالى، فهي عارية. وأبدى الإمام فيه احتمالاً، جعله الغزالي وجهاً [أظهر:] أنه لا يضمن؛ كما لو أركبه لحاجته، وهو قريب مما حكاه المتولي في الغصب، فيما إذا أوصى للغاصب بمنفعة المغصوب، ومات، وقيل: إنه يبرأ [على وجه] من ضمان الغصب؛ كما لو أجره المغصوب؛ موجهاً ذلك بأن المقصود من الوصية الثواب، وقد تعجل له، واستحق الموصى له المنافع؛ كما في الإجارة. وعلى الأول إذا أركبه خلفه، فعلى الرديف نصف الضمنا. ورأي الإمام: أنه لا يلزمه شيء تشبيهاً بالضيف. وعلى الأول: لو وضع متاعه على دابة غيره، وأمره أن يسير الدابة، ففعل، كان صاحب [المتاع مستعيراً] [للدابة] [بقسط متاعه مما عليها].

ولو لم يكن صاحب المتاع سيرها، ولكن سيرها المالكن لم يكن صاحب المتاع مستعيراً، ودخل المتاع في ضمان صاحب الدابة. الفرع الثالث: إذا استعار دابة؛ ليركبها إلى موضع، فجاوزه، فهو متعد من وقت المجاوزة، وعليه أجرة المثل ذهاباً ورجوعاً إلى ذلك الموضع، وفي لزوم الأجرة من ذلك الموضع إلى البلد الذي استعاره [فيه] وجهان: وجه المنع: أنه مأذون فيه من جهة المالك. ووجه اللزوم: أن ذلك الإذن قد انقطع بالمجاوزة. وعلى هذا فليس له الركوب من هذا الموضع، بل يسلمه إلى حاكم الموضع الذي استعار إليه. الفرع الرابع: إذا اشترى من إنسان شيئاً، وتسلمه في ظرف، فتلف الظرف في يد المشتري، فهل يكون مضموناً عليه ضمان العارية؟ فيه وجهان: أصحهما في الرافعي في كتاب الإجارة: الضمان. ويقرب منه ما حكى عن الشيخ أبي عاصم: أن المهدي إليه إذا انتفع بظرف الهدية المبعوثة إليه حيث جرت العادة باستعماله: كأكل الطعام من القصعة المبعوث فيها –كان عارية؛ لأنه منتفع بملك الغير بإذنه. ويقرب من ذلك – أيضاً – ما حكاه القاضي الحسين فيما إذا أخذ من سقاء كوزاً، فسقط من يد الآخذ، وتلف، وكان عادته أن يشرب منه في كل جمعة بكسره فإنه لا يضمنه على المذهب؛ لكونه أمانة [في يده]. وفيه وجه أنه عارية. الفرع الخامس: إذا استعمل المستعير العارية بعد رجوع المعير فيها، وهو جاهل بالرجوع – لم تلزمه الأجرة؛ كذا ذكره الرافعي عن القفال. قلت: ويتجه أن يتخرج على ما إذا رجع المبيح للثمار فيها، ولم يعلم

المباح له، وفيها ثلاث طرق: إحداها: مثل ما ذكره القفال هنا، وهي ما جزم بها الغزالي في كتاب القسم. والثانية: أن في تغريم المتناول ما يتناوله بعد ما رجع – قولان؛ كما في مسألة عزل الوكيل، وهي طريقة الشيخ أبي محمد. والثالثة: عن أبي بكر الصيدلاني: الجزم بالغرامة؛ لأن الغرامات لا فرق فيها بين العلم والجهل، وإلى هذه مال الإمام؛ كذا حكاه الرافعي في كتاب القسم. الفرع السادس: إذا مات المستعير، وجب على الورثة الرد، وإن لم يطلب المعير؛ لأن الرد واجب؛ بخلاف الوديعة، والله أعلم.

باب الغصب

باب الغصب الغصب: مصدر غصبته، أغصبه - بكسر الصاد-غصباً، واغتصبته، و [غصبته] على الشيءن وغصبت منه، والشيء مغصوب، غصب [وهو في اللغة]: أخذ الشيء ظلماً، مجاهرة، لا سرًّا، فإن أخذه من حرز سرًّا، سمي: سرقة، وإن أخذه [مكابرة] في صحراء، سمي: محاربة، إن أخذه استلاباً سمي: اختلاساً، إن أخذه من شيء كان مؤتمناً عليه، مسي: خيانة؛ كذا قاله في البحر. واختلفت عبارات الأئمة في ضبطه شرعاً. فقيل: الاستيلاء على مال الغير على جهة التعدي. وقيل: الاستيلاء على مال الغير بغير حق. واختار الإمام هذه العبارة؛ لأنها أعم من الأولى، ولا حاجة إلى التقييد بالعدوان، بل يثبت الغصب وحكمه من غير عدوان؛ كما أن المُودَع إذا لبس الثوب المودع ظانًّا أنه ثوبه، [أوأخذ المُودِع ثوباً ظانًّا أنه ثوبه،] فكان غيره - فإنه يضمنه ضمان الغصوب. وقيل: كل مضمون على ممسكه، فهو مغصوب؛ حتى المقبوض بالشراء الفاسد. واختار الرافعي الأولى، وقال: الثابت فيما ذكر من الصور حكم الغصب، لا حقيقته. واختار النواوي: أنه الاستيلاء على حق الغير عدواناً، وكأنه احترز بقوله:

عدواناً عن الاستيلاء على مال الكفار بالاغتنام، وعن الاستيلاء على مال الغير الذي في يد الغاصب؛ ليرده على مالكه؛ على أحد الوجهين، وهو الموافق لنص الشافعي فيما إذا انتزع مال المسلم الذي في يد الحربي؛ ليرده على المسلم؛ حيث قال: إنه لا يلزمه الضمان؛ كما حكاه القاضي الحسين. وأخرج بذكره "الاستيلاء": أخذ المال على جهة الخفية بسرقة، أو اختلاس؛ [فإن الاستيلاء – كما قال مجلي] – ينبني على القهر والغلبة، وإنه لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد يمانعه عنه، وأن ذلك حقيقة اللفظ في اللسان. قال الشيخ محيي الدين النواوي: ولا يصح قول من قال: على مال الغير؛ لأنه يخرج منه الكلب، والسرجين، وجلد الميتة، وخمر الذمي، والمنافع، والحقوق، والاختصاص. قلت: ومقتضى الحدود كلها: أنه لو ركب دابة الغير، أو جلس على فراشه، ولم ينقله: أنه يكون غاصباً، وهو أحد القولين في النهاية، والذي صححه الرافعي. [وحكى] في البحر أن القاضي أبا الطيب قال [في مسألة الدابة]: لا

أعرفها لأصحابنا، والذي عندي: أنه لا يضمن؛ لأن ضمان الغصب عندنا معتبر بضمان القبض في العقد، و [القبض في العقد في] الدابة بنقلها، وتحويلها، فكذلك هاهنا؛ [ولذلك] إذا وضع يده علىثوب إنسان بغير إذنه، لا يضمن. وفي الحاوي: أن الغصب هو منع الإنسان من ملكه، والتصرف فيه بغير استحقاق، فإذا وجد ذلك، تم الغصب؛ فلزم الضمان، سواء نقل المغصوب عن محله أم لا. وهذا يخرج ما إذا دفع لعبد الغير شيئاً؛ ليوصله إلى بيته من غير إذن مالكه. وقد جزم القاضي الحسين في تعليقه، في آخر باب اللقيط؛ أنه يكون غاصباً؛ لأن مثل هذا يدخله في ضمانه بالعارية، وما ضمن في العارية، ضمن في الغصب، وطرد ذلك فيما إذا استعمله في شغله. ثم الأصل في تحريم الغصب من الكتاب: قوله تعالى: [{إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] والغصب من جملة المنكر، [وقوله تعالى]: {وَلا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وهو من الباطل. وقوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42]، والغصب من جملة الظلم؛ لأن حقيقة الظلم: وضع الشيء في غير محله. ومن السنة: ما روى البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَخَذَ مِنَ الأَرْضِ شِبْراً بِغَيْرِ حَقٍّ، خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ". [وما روى مسلم عن سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنِ اقْتَطَعَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ ظُلْماً، طَوَّقَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ"].

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا؛ أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟! اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا. أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ؛ فَلاَ يَحِلُّ لامْرِئٍ مَالُ أَخِيهِ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟! اللَّهُمَّ اشْهَدْ". قال الماوردي: وقد أجمعت الأمة على أن من فعله مستحلاًّ، كان كافراً، ومن فعله غير مستحل، كان فاسقاً. قال: إذا غصب – [أي: من تجري عليه أحكامنا] – شيئاً له قيمة، ضمنه بالغصب – أي: عند التلف – ولزمه رده – أي: عند البقاء، والتمكن منه – وإن غرم عليه أضعاف قيمته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ"؛ وهذا يشمل عموم الحالين من بدل وعين. وقيل: إذا احتاج [في] رد الطعام المغصوب إلى مؤنة كثيرة، لم يلزمه رده، وكان عليه المثل، وهكذا الحكم فيما لو بذره، ولم يتمكن من جمعه إلا بمؤنة كبيرة؛ كما صرح به الماوردي. ومتى رد المغصوب بعينه من غير نقص فيه – برئ، وإن نقصت قيمته بسبب انخفاض الأسعار. وقال أبو ثور: يضمن ارتفاع الأسواق مع الرد، كما يضمنه مع التلف؛ قياساً على السِّمَن.

وحكى الوفق بن طاهر: أن من الأصحاب من يوافقه. وقال الإمام: إنه منقاس. واحتج الأصحاب عليه بأنه لو غصب مثليًّا، وتلف في يده؛ برئ برد مثله وإن كان أنقص قيمة من الأصل، فأولى أن يبرأ برد العين نفسها. وأجابوا عن السمن بأن الذاهب [منه] ملك المغصوب [منه] فضمن بدله، وزيادة السوق ليست بملك للمغصوب منه؛ فلذلك لم يضمنها. ثم المردود عليه هو المالك، أو وكيله في ذلك. ولو كان الغصب من يد المودع عنده، أو من المستأجر، أو المرتهن، أو العدل الذي وضع الرهن تحت يده فرده إليه، برئ على المذهب. وفيه وجه محكي في الرافعي في كتاب الرهن: أنه لا يبرأ إلا بالرد على المالك، أو بإذن جديد للعدل في أخذه. ولو كان الغصب من يد الملتقط لم يبرأ بالرد [إليه]، ولو كان من يد المستعير، أو المستام، ثم رده إليه، ففي البراءة وجهان؛ لأنهما مأذون لهما من جهة المالك، لكنهما ضامنان؛ كذا حكى الرافعي في كتاب

الرهن، [والله أعلم]. قال: وإن كان خيطاً، فخاط به جرح حيوان لا يؤكل، وهو مما له حرمة-أي: كالآدمي المصان الدم، والبغل، والحمار، ونحو ذلك- وخيف من نزعه الضرر، لم يلزمه رده؛ لحرمة الحيوان؛ فإنها آكد من حرمة المال؛ بدليل: أنه يجزو أخذ مال الغير قهراً؛ لحفظ الحيوان؛ على المذهب، ولا يجوز؛ لحفظ المال. وأيضاً: فإن حق المال ينجبر بأخذ بدله وحق الحيوان [لا جابر له. ومن قال بأنه لا يجوز أخذ مال الغير؛ لحرمة الحيوان]؛ كما حكاه مجلي وجهاً في كتاب النفقات [وكذا الإمام، والغزالي] قد لا يقول بمثله هنا؛ لأنه يغتفر في الدوام مالا يغتفر في الابتداء. ثم المراد بالضرر: فوات النفس، أو العضو، وكذا شدة الضنى، وإبطال النزو، والزيادة في المرض على أحد الوجهين؛ كما في إباحة التيمم؛ خشية [من] حصول ذلك [باستعمال] الماء. وفي البحر حكاية طريقة قاطعة بعدم النزع عند خوف الزيادة في المرض. والذي ذكره الرافعي ضابطاً لذلك: خوف كل محذور، يجوز العدول من الوضوء إلى التيمم، وفاقاً وخلافاً. وقال الإمام: لو رتب انقدح وجهان: أحدهما: أن ترك الخيط أولى؛ لقيام القيمة مقامه. والثاني: [أن] النزع أولى؛ لتعلقه بحق الآدمي المبني على التضييق. وأما إذا كان الحيوان لا حرمة له: كالخنزير، والكلب العقور، ونحوهما – نزع. وكذا ينزع من المرتد عند الشيخ، والروياني، والماوردي.

وحكى غيرهم فيه وجهين. وقال بعض الخراسانيين: غير الآدمي لايكون مانعاً من الرجوع، وهو وزان الوه الذي حكيناه عن رواية مجلي في ابتداء أخذ المال. فرع: إذا مات الحيوان هل ينزع الخيط إذا كانت له قيمة؟ ينظر: إن كان آدميًّا، وأثر القلع فحشا لم يقلع، وإن لم يؤثر، أو كان غير آدمي قلع. وأطلق الإمام حكاية وجهين في جواز النزع من الآدمي، وصحح وجه النزع. وقال في البحر: الأصح: أنه لا ينزع بحال. وخرج المتولي على هذا [الخلاف] جواز النزع إذا خيط به جرح الزاني المحصن، والمحارب. قال: وإن خاط به جرح حيوان يؤكل – أي: وهو ملك الغاصب – ففيه قولان: أحدهما- وهو الذي رواه الربيع -: وجوب النزع؛ لأنه يمكنه نزعه بسبب مباح؛ فكان كالساج يدخله البناء. والثاني- وهو رواية حرملة، وظاهر ما نقله المزني، والمذهب في البحر، وتعليق البندنيجي -: أنه لا يجب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان، لا لمأكله، وقال عليه السلام: "مَنْ ذَبَحَ عُصْفُوراً بِغَيْرِ حَقِّهَا حُوسِبَ بِهَا" قيل: وما حقها؟ قال: "أَنْ تَذْبَحَهَا لِغَيْرِ مَاكَلَةٍ" فعلى هذا يغرم القيمة؛ للحيلولة. أما لو كان الحيوان ملكاً لغير الغاصب، فلا ينزع وجهاً واحداً.

فرعان: [أحدهما:] إذا مرت بهيمة في السوق، فابتلعت جوهرة، نظر: إن لم يكن مالكها معها، لم يضمن، ولم يجب عليه بيع الدابة لمالك الجوهرة. وإن كان معها، ضمن، سواء كانت البهيمة شاة أو بعيراً. وقال ابن أبي هريرة: إن كانت بعيراً، ضمن، و [إن كانت شاة]، فلا. والفرق: أن العرف في البعير النفور؛ فلزمه منعه، ومراعاته، والعرف في الشاة السكون؛ فلم يلزمه منعها، ومراعاتها. ثم إذا قدر على رد الجوهرة، ردها، وأخذ ما بذله. ولو أدخلت البهيمة رأسها في قدر لغير مالكها؛ بحيث لا يمكن إخراجها إلا بكسر القدر، أو ذبح الحيوان، نظر: إن كانصاحب البهيمة متعدياً ليس إلا، فإن كانت البهيمة لا تؤكل، كسرت القدرنوكان على صاحب البهيمة ضمانها [وإن كانت تؤكل فهل تذبح، أو تكسر القدر ويجب على صاحب البهيمة ضمانها؟! فيه وجهان. وإن كان صاحب القدر متعدياً ليس إلا، فالواجب كسر القدر، وهو هدر. وإن لم يكن واحد منهما متعدياً، فالحكم كما لو كان صاحب البهيمة متعدياً؛ لأنه يخلص ملكه. وإن كانا متعديين، فإن كانت البهيمة غير مأكولة، كسرت القدر، وضمن صاحب البهيمة نصف أرشها، والنصف الثاني هدر. وإن كانت مأكولة، وقلنا: لا تذبح [لذلك]، فكذلك الحكم. وإن قلنا: تذبح، فتنازعا، فقال صاحب القدر: اذبحها، وأنا أغرم لك نصف أرشها، وقال صاحب البهيمة: [بل] اكسر القدر، وأنا أغرم لك نصف أرشها -

قال الماوردي: لا يجبا البادئ منها بطلب التخليص ويجاب الآخر. ولو أمسكا عن النازع حتى تطاول بهما الزمان، أجبر صاحب البهيمة على ذلك. وهكذا القول في فصيل دخل داراً فكبر فيها حتى لا يقدر على الخروج من بابها إلا بهدمه. وفي أترجمة من شجرة دخلت [في إناء]، فكبرت فيه، ولم تخرج إلا بكره. قال: وإن كان لوحاً فأدخله في سفينة، وهي في اللجة، [أي:] وكانت بحيث لو نزع، لهلكت وما فيها. [قال]: وفي السفينة مال لغير الغاصب، أي: ولم يعلم صاحبه حالةوضعه المال فيها بالغصب. قال: أو حيوان – أي: محترم -: لم ينزع؛ لحرمة المالك والحيوان، مع أن لذلك أمداً ينتظر، وله المطالبة بالقيمة؛ للحيلولة. أما إذا كانت السفينة على الشط، أو بقرية في زوراق – نزع؛ قاله الماوردي. ولو علم صاحب الما بغصب اللوح الذي فيها حالة وضع ماله في السفينة – كان كمال الغاصب؛ صرح به في التهذيب. ولو كان الحيوان غير محترم، كان الأمر كما لو لم يكن فيها. قال: وإن كان فهيا مال للغاصب، فقد قيل: ينزع؛ كما يقلع بناؤه؛ [لرد الساج] وإن تضرر؛ وهذا هو الأصح عند الإمام. وقيل: لا ينزع؛ لأنه يمكن الرد مع سلامة المال؛ إذا جاءت إلى الشط؛ بخلاف الساج؛ وهذا هو الأصح عند ابن الصباغ، وغيره.

والخلاف يجري فيما لو لم يكن في السفينة شيء، ولو نزع اللوح لتلفت، وكانت للغاصب. وفي الجيلي حكاية وجه: أن اللوح ينزع، سواء كان المال لغير الغاصب، وكانت في اللجة، أولا. فرع: لو اختلطت السفينة التي أدخل اللوح فيها بعشر سفن للغاصب، ولم يتوصل إلى اللوح إلا بهدم جميعها؛ بأن يكون مبنيًّا عليه –ففيه وجهان: أحدهما: يهدم جميعها. والثاني: لا، إلا أن يتعين اللوح؛ لأنه لا يجوز أن يستهلك عليه [ما لا] يتعين التعدي فيه؛ قاله الشيخ في المهذب، وغيره. تنبيه: السفينة: واحدة السفن والسفين؛ قال ابن دريد: هي فعيلة بمعنى: فاعلة؛ لأنها تسفن الماء، أي: تسفن اللجة، واللج: معظم الماء، ومنه قوله تعالى: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور: 40]. [قال] وإن أدخل ساجاً في بناء، فعفن [فيه]، لم ينزع؛ لأن فيه إتلاف مال بغير فائدة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، ويطالب الغاصب بقيمته. وهكذا الحكم في الخيط إذا كان لا يخرج إلا بتقطيع، ولا ينتفع به – لا ينزع. أما إذا لم يعفن، [الساج] نزع وإن تلف على الغاصب [سبب نزعه] أضعاف قيمته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لعرق ظالم حق"، ويطالب بأجرة مثله؛ إن كان لمثله أجرة، وكذلك أرش نقصه؛ إن نقص.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون ما بني عليه منارة لمسجد، أو غرها. ويجب عليه بعد نقض المنارة غرم نقضها للمسجد وإن كان هو المتطوع بها. قال الماوردي: لخروجها عن ملكه. تنبيه: الساج [تكسير، وهو] – بالسين المهملة، وتخفيف الجيم -: نوع من الخشب، [وهو أجوده]. [و] عفن: بكسر الفاء. قال: وإن تلف المغصوب عنده، أي: بآفة سماوية، أو أتلفه؛ وكذا لو أتلفه أجنبي بسبب قصاص جرى سببه في يده، أو بغير سبب. قال: فإن كان له مثل، ضمنه بمثله؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. ولأنه أقرب للجبر. ولا فرق في ذلك بين أن تكون قيمة المثل مثل قيمة الأصل، أو أنقص؛ كما إذا كان الأصل يساوي عشرة، وقيمة المثل تساوي خمسة؛ لان الرجوع للمثل رجوع [إلى المشاهدة] والرجوع إلى القيمة رجوع إلى الاجتهاد، [والمشاهدة أقوى من الاجتهاد]؛ وكذا قال في البحر وغيره. نعم: لو كان للأصل قيمة عند الغصب، والمثل لا قيمة له عند الرد: كما إذا غصب ماء [في يده] [في برية]، ثم ظفر به على الشط – فإن المطالبة هاهنا تكون بقيمة البرية؛ كما حكاه المتولي، ونقله الإمام عن شيخه هاهنا، [و] عن نص الشافعي قبيل [باب] ما يفسد الماء. ثم إذا اجتمعا في تلك البرية، [أو في مثلها]، هل يجب رد المثل،

واسترداد القيمة، أم لا؟ فيه وجهان: المذكرو منهما في التتمة الأول. فرع: لو تراضيا على أخذ القيمة مع وجود المثل، هل يجوز؟ فيه وجهان، بناهما الماوردي على الوجهين في جواز أخذ أرش العيب مع القدرة على رد المعيب، وأصحهما في البحر: الجواز. تنبيه: ما حد المثلي؟ اختلف الأصحاب فيه. فقيل: كل مقدر بالكيل، أو الوزن؛ لأن التقدير يدل على تقارب الأجزاء؛ وهذا ما ينسب إلى الشيخ أبي محمد، وإلى النص؛ أخذاً من قوله في المختصر؛ وما له كيل، أو وزن، فعليه مثل كيله أو وزنه. وقد أبطل هذا الحد بالمعجونات، والمعروضات على النار؛ فإنها ليست مثلية مع اندراجها فيه. وقيل: كل مقدر بالكيل أو الوزن، ويجوز فيه السلم؛ لأن السلم يثبت بالوصف في الذمة، والضمان يشبهه. ولأنه يثبت في الذمة. وهذا يدخل الملاعق، وصنجات الميزان، [وهي غير مثلية]. وقيل: كل مقدر بالكيل، أو الوزن يجوز السلم فيه، ويجوز بيع بعضه ببعض [متماثلاً؛ لتشابه] الأصلين في قضية التقابل، وهو ما ذكر عن القاضي أبي الطيب، وحكى عن القفال، واقتصر الفوراني على حكايته، وكذا البغوي لم يحك سواه عن المراوزة. قال الغزالي هاهنا: وهذا يخرج منه الرطب والعنب، وإخراجهما من المثليات بعيد وإن كان قد قال في كتاب الزكاة: إن الرطب من ذوات القيم؛ على الصحيح. وقال الإمام – حكاية عن القاضي -: إنه يدخل القماقم، والملاعق، والمغارف

المتخذة من الصفر، والنحاس؛ فإنها موزونة، ويجوز السلم فيها، وبيع بعضها ببعض، وليست مثلية. قال الرافعيك لكن قد مر في باب السلم: أن القماقم، ونحوها، لا يجوز السلم فيها لاختلافها، وإنما الجواز في الأصطال المربعة، والظروف المصبوبة في القوالب، فإن كان الإلزام بمثلها فلا يبعد ممن صار إلى العبارات الثلاث طردها فيها والحكم بأنها مثلية. قلت: ما قاله من منع السلم في [القماقم] ونحوها هو ما صار إليه الشيخ أبو حامد. وقد حكيت عن القاضي أبي الطيب: أنه قال: يجوز السلم فيها، وأنه حكاه عن نص الشافعي في الأم؛ وحينئذ يكون السؤال متقدماً على النص، ولا يمكن من قال به أن يقول: إن القماقم والملاعق مثلية. نعم: قد يجاب عنه بأن القائل بجواز السلم فيها، لا يشترط ذكر الوزن [فيها] – كما ذكرناه في موضعه – وإذا كان كذلك، فقد خرجت من الحد؛ لكونها غير موزونة؛ فإنه قد يقال: المعتبر في كون الشيء موزوناً: أن يكون الوزن معتبراً فيه؛ إذا ثبت في الذمة، والله أعلم. وقيل: المثلي هو الذي يقسم بين الشريكين من غير حاجة إلى تقويم. قال الرافعي: ولك أن تقول: هذا يشكل بالأرض المتساوية الأجزاء؛ فإنها تقسم، وليست مثلية. وقيل: ما تقاربت أجزاؤه، ولم تتفاوت قيمته؛ وهذا ما وقفت عليه في تعليق القاضي أبي الطيب، وهويدخل الرطب، والعنب، والدقيق. وقد صرح عند الكلام في خلط الدقيق بالدقيق: أنه متقوم.

وحكى الإمام عن العراقيين: أنهم [رأوا الرطب، والعنب، والدقيق مثليات. ونسب الرافعي إلى العراقيين: أنهم] قالوا: المثي: ما لا تختلف أجزاء النوع [الواحد] منه في القيمة، وربما يقال: في الجرم والقيمة. ويقرب منه قول من قال: المثليات هي [التي] تتشاكل في الخلقة، ومعظم المنفعة. و [ما] اختاره الإمام – وهو تساوي الأجزاء في المنفعة، والقيمة؛ فزاد النظر إلى المنفعة، وعلى ذلك جرى في الوسيط، وزاد: من حيث الذات، لا من حيث الصنعة، وقصد به الاحتراز عن الملاعق، والمغارف، وصنجات الميزان المتساوية. قال الرافعي: ولك أن تقول: الملعقة، ونحوها، لو وردت على الضابط المذكور، فإما أن ترد؛ لتماثل أجزائها، وهي ملعقة، أو لتماثل أجزاء جوهرها فقط. والأول باطل؛ لأن أجزاء الملعقة غير متماثلة في المنفعة. [وأما الثاني: فالصفر الذي هو جوهر الملعقة] إذا كان مثليًّا، كان تماثل أجزائه من حيث الذات لا الصنعة. ثم قال: والأحسن أن يقال: المثلي كل ما [يحصره الكيل]، أو الوزن، ويجوز السلم فيه. ولا يقال: كل مكيل، أو موزون؛ لأن المفهوم منهما: ما يعتاد كيله ووزنه؛ يخرج منه الماء، وهو مثلي، وكذا التراب، وهو مثلي على الأصح. وقد نشأ من اختلاف العبارات خلاف في الصُّفْر، والنحاس، والحديد،

والآنك –وهو الرصاص –لأنا أجزاءها مختلفة الجواهر، وفي التبر والسبيكة، والمسك، والعنبر، والعود، [والنفط]، والملح، والجمد، [والقطن]، والإبرسم، والغزل، وفي الصوف – أيضاً – كما حكاه في البحر. وقال القاضي الحسين فيه: المذهب: أنه غير مثلي. ثم قال: إن كان صوفاً لايتفاحش فيه التفاوت، [فهو من ذوات الأمثال، وإن كان يتفاحش فيه التفاوت]، فلا مثل له. وفي الرطب، والعنب، وسائر الفواكه الرطبة، والأظهر: أنها جميعاً مثلية. وفي السكر، والفانيذ، والعسل المصفى بالنار، واللحم الطري، وكذا القديد – على رأي حكاه في البحر- وفي الخبز، والأظهر [فيه]: أنه مثلي. وقد أفتى القفال بأن البطيخ والخيار من ذوات القيم، وحكاه المزني في المنثور قولاً، واختاره. وأما الحبوب، والتمر، الزبيب، والأدهان، والألبان، والسمن، والمخيض، والخل الذي لا ماء فيه، ونحو ذلك- فإنها مثلية، قال الرافعي: بالاتفاق. وألحق في البحر: السمن، واللبن، [والبلح]، [والسكر]، ونحوه، ومقتضاه: جريان الخلاف فيها.

والدراهم والدنانير مثلية اتفاقاً. قال الرافعي: وقضية العبارة الثانية: إثبات الخلاف فيها؛ لأن في السلم [في الدراهم والدنانير] اختلافاً. وأيضاً فإنهم جعلوا المُكسَّرة على الخلاف في التبر، والسبيكة؛ لتفاوت القراضات في الجرم. ومثل ذلك يفرض في الصحاح؛ فيلزم مجيء الخلاف فيها؛ وهذا في الدراهم والدنانير الخالصة، أما المغشوشة، ففي التتمة: أن أمرها مبني على جواز التعامل بها: إن جوزناه فهي مثلية، وإلا [فهي متقومة]؛ لأن ما لا يملك بالعقد، [لا يملك] عوضاً عن متلف. قال: فإن أعوزه المثل: أي: في البلد وحوله؛ على النعت الذي ذكرناه في السلم. [قال]: أو وجده بأكثر من ثمن المثل، ضمنه بقيمة المثل: أما عند الإعواز؛ فلأنه غاية الممكن في الجبر. وأما عند وجوده بأكثر من ثمن المثل؛ فلأن الموجود كذلك كالمعدوم بالنسبة إلى القيام بالواجب؛ دليله: الرقبة في الكفارة، والماء في التيمم. وقيل: يلزمه المثل في هذه الحالة؛ كما لو لم يقدر على رد المغصوب إلا بأضعاف ثمنه؛ وهذا ما صححه البغوي، والروياني، واختاره في المرشد. والقائلون بالأول – ومنهم الغزالي – فرقوا بين المثل والعين بأنه تَعَدَّى في العين دون المثل. قال: وقت المحاكمة والتأدية –أي: طلب التأدية – لأن الواجب في الذمة هو المثل؛ بدليل: أن المالك لو صبر إلى وجوده، لم يجبر على أخذ القيمة، وإنما تجب القيمة بالطلب جبراً لحقه؛ فاعتبرت في وقته؛ لأن ما قبل ذلك لا ينضبط؛ وهذا ما صححه ابن يونس. وحكى مجلي أن بعض أصحابنا قال: إنه غلط، ولا وجه له؛ لأن زيادة القيمة

بعد تلف المغصوب لا تعتبر، فكيف [بعد إعواز] المثل. ويقرب منه ما حكاه في البحر عن القاضي الطبري: أنه خلاف النص. قال: وقيل: يضمنه بقيمته أكثر ما كانت من حين القبض إلى وقت الحكم بالقيمة؛ لأن المثل هو الواجب إلى الحكم؛ كما أن الواجب رد العين المغصوبة إلى وقت التلف، ثم هناك يعتبر أكثر القيمة من الغصب إلى التلف –كما ستذكره –فكذلك هاهنا؛ وهذا ما حكاه أبو الطيب عن ابن أبي هريرة. قال: وقيل: عليه قيمته أكثر مما كانت من حين القبض إلى حين تعذر المثل؛ لأن وجود المثل [كبقاء] عين المغصوب؛ من حيث إنه كان مأموراً برد المثل [كما كان مأموراً برد العين] فإذا لم يفعل، غرم أقصى قيمته في المدتين؛ كما يضمن ما لا مثل له إذا تلف لهذا المعنى؛ وهذا قول أبي إسحاق المروزي، وصححه الرافعي، واستحسنه الإمام، وبه جزم الصيدلاني، وقال في البحر: إنه ظاهر المذهب. ووراء ما ذكره الشيخ وجوه يتم بها في المسألة اثنا عشر وجهاً: أحدها: أنه يضمن المثل بقيمته يوم الانقطاع؛ لأن الثابت في الذمة لا يتصف بالزيادة، ولا بالنقصان؛ حكاه القاضي الحسين. قال في البحر: وهذا اختيار أبي علي الزجاجي، والحناطي، والماوردي، وجماعة، وبه أقول. والثاني: أنه يضمن قيمته يوم أخذ القيمة، لا يوم المطالبة، ولا يوم التلف؛ حكاه الرافعي عما علق عن الشيخ أبي حامد، وهو الذي جزم به البندنيجي، وقال: لا فرق بين أن يكون الحاكم قد حكم عليه بدفع القيمة عند الإعواز أو لا. والثالث: أنه يضمنه بقيمته أكثر ما كانت من [حين] القبض إلى

حالة الأخذ، وهو ما حكاه المحاملي، وهو مخالف للوجه الثاني الذي حكاه الشيخ هنا؛ فإن بين وقت الحكم وبين حالة الأخذ فرقاً؛ ولأجله [أضمرت طلبه]، والتأدية في القول الأول من كلام الشيخ؛ خشية التناقض؛ فإن القيمة قد تكون في يوم المحاكمة مخالفة لقيمة يوم التأدية، والشيخ في هذه العبارة هاهنا وافق عبارة القاضي أبي الطيب في تعليقه. والرابع: أنه يضمنه [بقيمته أكثر] ما كانت من وقت تعذر المثل إلى وقت المطالبة. قال الإمام: وهذا عندي غلط، [ووجَّه غلطه] بما ذكرناه عن مجلي في تغليط القائل بالوجه الأول في الكتاب. والخامس: أنه يضمنه بقيمته أكثر ما كانت من وقت تلف المغصوب إلى وقت المطالبة. والسادس: أن الواجب عليه قيمته أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين تلف المغصوب، لأنه لما أتلفه، ولم يوجد له مثل، صار كالذي لا مثل له. والسابع: أن الواجب عليه قيمته أكثر ما كانت من حين تلف المغصوب إلى الإعواز. قال الرافعي: وربما بنى هذا والذي قبله على أن الواجب عند إعواز المثل قيمة المغصوب؛ لأنه الذي تلف على المالك، أو قيمة المثل؛ [لأنه الواجب عند] التلف، وإنما رجعنا إلى لاقيمة؛ لتعذره، وفيه وجهان لأبي الطيب بن سلمة. قلت: أما الأول فصحيح، وقد حكاه الماوردي عن [رواية] أبي حفص بن الوكيل مبنيًّا عليه. وأما الثاني، فلا؛ لأن ارتفاع الأسواق لا يضمن بعد التلف، وقد ضمنه هذا القائل.

والثامن: أن الواجب قيمته [يوم تلف المغصوب. وقال مجلي: وهذا يختص بقولنا: إن الواجب قيمة المغصوب] المغصوب لا المثل. والتاسع: أنه ينظر، إن كان مما [ينقطع في جميع البلاد: كالعصير، فالاعتبار بقيمة يوم الإعواز، وإن كان مما] لا ينقطع عن أيدي الناس، وإنما يتعذر في موضع دون موضع – فالاعتبار بقيمة يوم الحكم بالقيمة؛ حكاه في المهذب، وهو

ما اختاره في المرشد، ونسبه القاضي أبو الطيب إلى أبي العباس بن القاص، وغلطه فيه. فرع: إذا ظفر المالك بالغاصب في غير موضع الغصب وكان المغصوب مثليًّا، والمثل موجود، وقد تلف الأصل، هل له المطالبة بالمثل، أو بالقيمة؟ ينظر: إن كان مما لا مؤنة لنقله: كالدراهم، والدنانير؛ فله المطالبة بالمثل عند الأكثرين. وإن كان لنقله مؤنة، فالذي حكاه [الرافعي عن الأكثرين: أنه لا يطالب إلا بالقيمة من غير تعرض لتفصيل. والذي حكاه] ابن الصباغ، والماوردي، والبندنيجي: أن ذلك فيما إذا كانت قيمة المثل في بلد المطلبة أكثر [قال الزبيلي: قال الشافعي: [لأنا لو حملناه على المثل؛ لكان في ذلك ضرر وإتلاف ماله؛ لاختلاف الأسعار]. أما إذا كانت مساوية لقيمة بلد الغصب، أو أقل – فله المطالبة بالمثل. وقد حكى الإمام ذلك عن الشيخ أبي علي، وأنه حمل ما قاله الشافعي] والأصحاب على ما إذا كانت قيمة بلد الغصب أقل. وحكى عن شيخه وجهين في المطالبة بالمثل في هذه الحالة، وأظهرهما: أنه لا يطالب بالمثل، وإنما يطالب بقيمة المثل ببلد الغصب. والثاني: [أنه] يطالب بالمثل، واختلاف الأماكن كاختلاف الزمان. ثم قال: وهذا الوجه منقاس، لكني لست أثق به، فإني لم أره في شيء من الطرق، وسبيل فيما انفرد بنقله عنه، إذا لم أجده في غير طريقه – أن

أتوقف، ولا أخلي الكتاب عن ذكره. قلت: لم يكن شيخه منفرداً بنقله؛ فإن الزبيلي من أصحابنا حكاه عن أبي إسحاق، وانه ليس له إلا المثل في جميع المواضع وإن اختلفت الأسعار؛ كما [أنه] ليس له إلا المثل وإن اختلفت الأزمان؛ كذا حكاه في أدب القضاء له. وحكى فيه –أيضاً – أن ابن أبي هريرة قال: إن كان اختلاف الأسعار لاختلاف الأزمان، فليس له إلا القيمة، وإنما يحمل على المثل إذا لم تختلف الأزمان. وقد خرج في الوسيط الخلاف الذي ذكرناه في المثليّ في الدراهم والدنانير. ولو كان المغصوب [باقياً] بحاله، وهو مثلي، وقد ظفر المالك بالغاصب في غير موضعه. قال الماوردي: لا يطالب بالمثل. وقال ابن الصباغ والبندنيجي: ينظر: إن لم يكن لنقله مؤنة: كالأثمان، [لم يكن] له المطالبة به؛ وإن كان لنقله مؤنة: كالحبوب، والأدهان، فإن كانت قيمة البلدين متساوية؛ كان له المطالبة بالمثل، وإن كانت مختلفة؛ فالمغصوب منه بالخيار بين أن [يأخذ] قيمة ما يساوي في بلد الغصب، وبين أن يصبر حتى يأتيا بلد الغصب، فيأخذ عين ماله، وإذا أخذ القيمة ملكها، ولم يملك الغاصب الطعام. فرع: إذا أتلف إنسان مثليًّا من غير أنا يضع يده عليه، وعدم المثل؛ حكى القاضي الحسين [فيما يضمنه] وجهين: أحدهما: قيمة يوم الانقطاع. والثاني: أكثر ما كان المثل قيمة من يوم [الوجوب إلى يوم الانقطاع. قال الإمام: ويندرج وجه ثالث ضعيف: وهو اعتبار قيمة يوم] التغريم.

فرع: إذا غصب ملثيًّا، فتلف في يده، والمثل مفقود. قال الرافعي: فالقياس أن يجب – على الوجه الثالث، والتاسع – أقصى القيم من حين الغصب إلى حين التلف. وفي البحر حكاية ذلك عن النص. وعلى [الوجه الرابع والحادي عشر: قيمة يوم التلف. وعلى الخامس: قيمة يوم الأخذ. وعلى] السابع والثامن: أقصى القيم من وقت التلف إلى وقت المطالبة. على الثاني [عشر]: إن كان المثل منقطعاً في جميع البلاد، فقيمة يوم التلف، وإلا فقيمة يوم التغريم. والأوجه الثلاثة الباقية لا يختلف الحكم فيها؛ فيكون المتحصل في هذه المسألة ثمانية أوجه.

قال: وإن لم يكن له مثل – [أي:] كالعبيد، والجواهر، والثياب – ضمنه بقيمته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ عَبْداً وَلَهُ فِهِ شُرَكَاءُ وَلَهُ وَفَاءٌ فَهُوَ حُرٌّ، وَيَضْمَنُ نَصِيبَ شُرَكَائِهِ بِقِيمَةِ مَا أَسَاءَ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَبدِ شَيْءٌ"، خرجه النسائي. وجه الدلالة منه: أن ما لا مثل له لو ضمن بالمثل الصوري؛ لضمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأن إيجاب المثل في الخلقة لا يمكن؛ لاختلاف الجنس الواحد في القيمة؛ فكانت القيمة أقرب إلى جبر الفائت. قال: أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف؛ لأنه غاصب في الحال التي زادت فيها قيمته؛ فلزمه ضمان قيمته فيها؛ كالحال التي غصبها فيها. ولأنه ما من حالة يفرض فيها قيمة إلا والغاصب كان مخاطباً فيها برد العين، فإذا لم يرد، فقد فوت الرد؛ فلزمه بدله؛ كذا قاله الإمام. قال: وتجب قيمته من نقد البلد [في البلد] الذي غصب فيه؛ لأنه موضع الضمان. ولا فرق في ذلك بين أن يكون المغصوب عرَضاً، أو ذهباً، أو فضة، ونقد البلد من غير جنسه، أو من جنسه، استوت قيمته ووزنه، أو زادت [قيمته] على وزنه؛ بسبب الصنعة؛ كما إذا كان المغصوب حليًّا، أو آنية، وجوزنا اتخاذها، وزنة ذلك مائة، وقيمته مصوغاً مائة وعشرون – فإنه يضمن مائة وعشرين. وإذا لم نجوز اتخاذها؛ كانت الصنعة كلا صنعة. وفي النهاية في ضمن فروع ذكرها بعد باب الوليمة: أنه يضمن قيمتها –

أيضاً – على وجه، وقال: [إنه] غريب غير متجه. قال: وقيل: إن كان حليًّا من ذهب –أي: ونقد البلد ذهب –ضمنالعين بمثل وزنها من جنسها- أي: وهو مائة في مثالنا – وضمن الصنعة بقيمتها فضة؛ لأنا لو قلنا: إنه يضمن الجميع بجنسه؛ لكان يدفع مائة وعشرين في بدل مائة، وذلك ربا. قال: وليس بشيء؛ لأن الزيادة إنما تراعى في العقود والمعاوضات، وأما في الفسوخ والإتلافات فلا، وهذا إتلاف. [أيضاً:] فإن القدر الزائد على زنة المغصوب في مقابلة الصنعة التي لا يدخلها الربا، ولو دخلها الربا إذا قومت بالذهب؛ لدخلها إذا قومت بالفضة؛ نظراً إلى قاعدة: مد عجوة. وفي تعليق القاضي الحسين [حكاية] وجه: أنه يضمن العين في مثالنا بالفضة، والصنعة بالذهب. وحكاية قول منصوص للشافعي في كتاب الصداق الكبير: أنه يضمن العين والصنعة في مثالنا بالفضة، وحكاه الماوردي وغيره وجهاً. وفي الرافعي وغيره حكاية وجه: أنه يضمن العين بوزنها من جنسها، والصنعة بنقد البلد؛ سواء كان من جنس المغصوب، أو غير جنسه. والفرق بينه وبين الوجه الثاني في الكتاب: أن هاهنا يضمن العين بجنسها [وإن كانت من غر نقد البلد، ويضمن الصنعة [نقد البلد، ثم ضمن العين بجنسها]؛ لكونه نقد البلد، وضمن الصنعة] بالفضة، وهي من غير نقد البلد. وما ذكرناه فيما إذا كان المغصوب ذهباً، ونقد البلد ذهباً – يجري مثله فيما إذا كان [المغصوب] فضة، ونقد البلد فضة. والسبيكة إن قلنا: إنها مثلية، قال الرافعي: فيها وجهان:

أحدهما: أنه يضمن الكل بغير جنسه. وأصحهما: أنه يضمن الوزن بالمثل، والصنعة بنقد البلد، سواء كان من جنسه، أو من غير جنسه. وإن قلنا: إنها متقومة، فيضمن الكل [بنقد البلد كيف اكن]. قال: وينبغي أن يجيء على هذا وجه التضمين بغير الجنس، إن كان نقد البلد من الجنس؛ لأن معنى الربا لا يختلف. وما اختلفت قيمته من النقار، لا بسبب صنعة فيه، [الواجب فيه] قيمته بغير جنسه، وإن لم يكن من نقد البلد عند العراقيين. وحكى الرافعي فيه وجهاً آخر: أنه تجب قيمته بنقد البلد [و] إن كان من جنسه. تنبيه: قال الجيلي: قول الشيخ: وتجب قيمته من نقد البلد الذي غصب فيه، ليس بصواب؛ إذ لم يذكره أحد من المصنفين، ولا هو في [كتاب] المهذب، بل صوابه أن يقول: من نقد البلد الذي حصل فيه التلف؛ لأنه موضع وجوب الضمان، وينتقل من العين إلى الذمة [بالتلف]. وما قاله هو الذي يقتضيه كلام الرافعي؛ حيث قال: وإنما تجب القيمة من نقد البلد الذي حصل فيه التلف. [ويقرب منه ما [حكاه] في المهذب والبحر: أن القيمة تجب من نقد البلد الذي تلفت فيه]. قلت: وفيما قيل نظر من وجهين: أحدهما: أن الذي يوجد في أكثر النسخ: "وتجب قيمته من نقد البلد في البلد الذي غصب فيه"، وهكذا هو في توجيه ابن الخل؛ وهذا اللفظ يفهم غير ما يفهمه اللفظ الأول.

الثاني: على تقدير أن يكون اللفظ كما ذكره، وهو الذي في ابن يونس - أيضاً - فإنما يظهر صحة ما قالوه إذا كانت قيمة بلد التلف أكثر، أو أروج، أما إذا كانت قيمة بلد الغصب أكثر، أو أروج؛ فلا. بل يظهر اعتبار نقد بلد الغصب؛ عملاً بما علل به الأصحاب وجوب أكبر القيمتين؛ بأن ما من حالة تفرض فيها قيمة إلا والغاصب كان مخاطباً فيها برد العين، فإذا لم يرد [العين]، فقد فوت الرد؛ فلزمه بدله. كذلك نقول في النقد: ما من بلد حل فيها المغصوب، إلا والغاصب مطالب بالرد فيه، فإذا لم يرد، فقد فوت قيمة المغصوب بذلك النقد؛ فوجب أن يجب إذا كانت القيمة [نقده] أكثر، أو هو أروج. وقد حكى صاحب البحر عن والده ما يقاربه، فإنه قال: إذا كان نقد البلد وقت الغصب دراهم، ثم تلف المغصوب في يده، ونقد البلد يوم التلف دنانير، فأراد صاحب المال أن يضمنه دراهم، [ثم] يعدل إلى قيمتها بالدنانير؛ لكونها أحظ له - أن له ذلك، ووجهه بما ذكرته. ثم قال: ومن الأصحاب من قال: الاعتبار بحال الاستقرار [عند] تغير الأحوال. ومما يؤيد ما ذكرته: أن الرافعي حكى فيما إذا نقل المغصوب المثلي إلى بلد، وتلف فيه، أو أتلفه ثم ظفر به المالك في بلد، وقلنا: إنه لا يطالب بالمثل في غير موضع التلف، فله أخذ قيمة [أكثر] البلدين قيمة. وفي الوسيط في هذه الصورة: أن [له أن] يطالبه بقيمة أي بلد شاء من بلدي الغصب والإتلاف، وذلك يؤيد ما ذكرته، أيضاً.

وقد يظهر منه تصحيح كلام الشيخ؛ فإن وزان ما قاله الغزالي في هذه المسألة: أن يكون مخيراً في تلف ما لا مثل له في غير بلد الغصب بين أخذ قيمته ببلد الغصب، وبلد التلف؛ لأنه يستحق مطالبته [بإقباض العين] في كل منهما، والتخيير [فرع وجوب قيمة البلدين؛ كما أن تخيير المضمون له في مطالبة الأصل والفرع] فرع وجوب دينه في ذمتهما. ومقتضاه: أنه إذا قبض قيمة أحداهما؛ برئ من قيمة الأخرى؛ كما نقول في الدين على الضامن؛ وإذا كان كذلك، فقد صح ماقاله الشيخ من وجوب القيمة بنقد بلد الغصب؛ لأنها إذا وجبت فيهما، وجبت في أحدهما، غاية الأمر أن يقال: كلام الشيخ يوهم الحصر فيه، وهو أسهل من نقله ما لم [يقل به] أحد، والله أعلم. فروع: أحدها: إذا غصب مثليًّا، فاتخذ منه ما لي سبمثليِّ، ثم تلف: كالحنطة، إذا جعلها دقيقاً، وقلنا: إنه ليس بمثلي، أو غصب تمراً، فاتخذ منه خلاًّ – قال العراقيون: ضمن المثل. وفي كتاب التهذيب: أنه يضمن المثل؛ إن كان أكثر قيمة، أو ساوت قيمته قيمة المتقوم؛ [وإن نقصت؛ ضمن قيمة المتقوم]. وعن القاضي الحسين: أنه يضمن أقصى القيم، وليس للمالك مطالبته بالمثل. وفي الحاوي: أنه يرجع بالمثل، والقدر الزائد في قيمة الدقيق مثلاً عن املثل؛ إن حصل بالطحن زيادة. الفرع الثاني: إذا غصب ما ليس بمثلي، واتخذ منه مثليًّا: كما إذا غصب زيتوناً، ثم عصره زيتاً، ثم تلف – قال العراقيون: ضمن مثل الزيت.

وفي الحاوي: أنه يضمن المثل، وما نقص من قيمة الزيتون عنه. والمذكور في التهذيب: أنه يضمن المثل؛ إن كانت قيمته أزيد من قيمة الزيتون، أو متساوية؛ وإن كانت أقل فقيمة الزيتون. وقال الغزالي: إنه مخير بين أن يأخذ المثل، أو القيمة عن المعصوب. الفرع الثالث: إذا غصب مثليًّا، فاتخذ منه مثليًّا: كما إذا غصب سمسماً، فاتخذ منه شيرجاً، ثم تلف – قال العراقيون والغزالي: المالك بالخيار، فيغرمه ما شاء منهما. وفي التهذيب: إن كان أحدهما أكثر قيمة، غرم مثله، ولا يخير المالك. قال: وإن ذهب المغصوب من اليد، ولم يتلف؛ بأن كان عبداً، فأبق- أي: أو بهيمة فضلت، أو ثوباً فضاع – ضمن البدل، أي: القيمة إذا طلبها المالك؛ ليقع الجبر بها بقدر الإمكان. والواجب أقصى قيمة المغصوب من يوم الغصب إلى يوم المطالبة. وفي الحاوي: أن الواجب قيمته أكثر ما كانت من وقت الغصب إلى وقت فوات الرد. وإذا أخذ المغصوب منه البدل؛ ملكه على الصحيح. وقال القفال: لا يملكه؛ كما لا يملك الغاصب الآبق؛ فإنه لو ملكه لاجتمع له الأصل والبدل، بل له الانتفاع به مع بقائه على ملك الغاصب. وعبر الماوردي عن هذا بأنه ملك القيمة ملكاً مراعىً. وعلى الأول، هل يبرأ الغاصب من أجرة العبد من حين غرم القيمة أم لا؟ فيه وجهان:

أظهرهما -في تعليق القاضي الحسين -: الأول. وأصحهما: الثاني، مع أن غير الغاصب لو استعمله، ضَمِن الأجرة للمغصوب منه وجهاً واحداً كما قاله الماوردي، وبنى المتولي الوجهين في عدم مؤاخذة الغاصب بالأجرة من حين الغرم على أن مأخذ تغريم القيمة ماذا؟ فمنهم من قال: وجبت بإزاء ما يفوته من الانتفاع بملكه دفعاً للضرر عنه. ومنهم من قال: إنما وجبت للحيلولة عقوبة عليه على سبيل التغليظ، والوجهان جاريان في أن الزوائ الحاصلة بعد دفع القيمة هل تكون مضمونة على الغاصب؟ وفي أنه هل يلزمه مؤنة رده، وفي أن جناية الآبق هل يتعلق ضمانها بالغاصب؟ وهكذا الحكم عند الشيخ أبي محمد [لو غيب] الغاصب العبد المغصوب إلى كان بعيد وعسر رده. ومنهم من قطع بوجوب الأجرة وثبوت سائر الأحكام في هذه الصورة؛ وعلى ذلك جرى في الوسيط والقاضي الحسين. والفرق: أن من غيبه باختياره باق في يده وتصرفه فلا تنقطع علائق الضمان بخلاف الآبق، وليس للغاصب إجبار المالك على أخذ القيمة بحال؛ لأنها ليست حقًّا ثابتاً في الذمة حتى يجبر على قبوله، والإبراء منه، بل لو أبرأه المالك عنها لم ينفذ. وعن بعض الأصحاب: تنزيلها منزلة الحقوق المستقرة. قال: إن عاد رده أي وجوباً؛ لأنه لا يصح تملكه بالبيع؛ فلا يصح بالتضمين؛ كالتالف. قال: واسترجع البدل أي: إن كان باقياً لزوال الحيلولة التي كانت سبب التمليك. قال الشيخ في المهذب: ويسترجعه مع زوائده المتصلةدون زوائده المنفصلة؛

كالولد، واللبن، وهو في ذلك موافق لابن الصباغ، والقاضي أبي الطيب، وفي ذلك نظر؛ فإن البدل المراد به القيمة؛ كما صرح به في المهذب والشامل، والقيمة إنما تؤخذ نقداً، والنقد لا زوائد له. وطريق الجواب عنه: أن يكون المالك قد اعتاض عن القيمة شاة مثلاً فإن عند القاضي أبي الطيب إذا استبدل من له ثمن في ذمة شخص [عنه] عيناً ثم رد المبيع بعيب – أن له أن يسترجع العين؛ كما حكيناه في باب المصراة. ووزانه ان يسترجع [الشاة] هاهنا، وعلى ذلك [يحمل] ما قالوه، وبه صورة الروياني المسألة في "الحبر". فرع: إذا كان النقد المأخوذ بدلاً باقياً هل يجب رده بعينه أم لا؟ تردد فيه الشيخ أبو محمد، وهو نظير خلاف حكيناه في البيع عند الرد بالعيب، ولا خلاف في أن البدل إذا كانتالفاً وجب رد بدله ولم يختلف الأصحاب [في] أن ملك المغصوب منه لا يستقر على اخذ البدل في صورة إباق العبد ونحوها؛ بخلاف ما إذا أخذه لإعواز المثل، أو للظفر بالغاصب في غير بلد الغصب، [ولم يوجب دفع المثل؛ لاختلاف قيمته، أو كان المغصوب عبداً وهو باق في بلد الغصب] ثم وجد المثل أوعاد إلى بلد الغصب؛ فإن القيمة تستقر على ملكا لمالك، وليس له ردها والمطالبة [بالمثل أو العبد] كما جزم به الماوردي، والذي حكاه القاضي أبوا لطيب فميا إذا ظفر به بغير بلد الغصب وكان المغصوب مثليًّا – أن للمالك مطالبته بقيمة المغصوب ببلد الغصب، ثم إذا عاد إلى بلد الغصب تسلم المغصوب منه المغصوب وزال ملكه عن القيمة، وردها إلى الغاصب، ومقتضى هذا طرده في [باقي] الصور.

وقد حكى الإمام الوجهين فيما إذا أخذ القيمة لإعواز المثل، أو للظفر به في غير بلد الغصب، ووافق في الوسيط القاضي أبا الطيب فيما حكاه، وحكي الوجهين فيما إذا أخذ القيمة عند إعواز المثل. قال الرافعي: وهذا ال وجه له، بل الخلاف في المستألتين واحد باتفاق الناقلين. فرع: هل للغاصب حبس المغصوب إلى أن يسترد القيمة؟ جزم في الوجيز بأن له ذلك. وحكى في الوسيط ذلك عن القاضي، وأنه أسنده إلى نص الشافعي في [غير] المختصر، وقد رأيته في تعليقه، وطرده فيما إذا اشترى [شراء فاسداً] أن له حبس المبيع إلى أن يرد الثمن [عليه] ثم قال الغزالي: وفيما ذكره احتمال ظاهر. قلت: -وقد قدمت في البيع: أن المذهب عدم [ثبوت حق] الحبس للمشتري [في البيع الفاسد؛ كما نص عليه ابن سريج. قال الرافعي: ويشبه أن يكون حبس الغاصب في معناه] واختار الإمام المنع في الصورتين. فرع: إذا أعتق المالك العبد الذي أبق من يد الغاصب بعد أخذ القيمة للحيلولة؛ رجع الغاصب بها على المالك، ول كان المغصوب الذي أبق أم ولد المالك فأعتقها بعد أخذ القيمة، أو مات فكذلك الحكم. وحكى المتولي في [مسألة الموت] عن أبي عاصم [العبادي] [وجهاً] أنه لا يرجع.

فرع: لو كان موضع العبد معروفاً أُخِذَ الغاصب بردهن وإن غرم أضعاف ثمنه، فلو استأجر على رده أجنبيًّا جاز، ولو استأجر مالكه فوجهان في الحاوي وإذا اخذ المالك [القيمة] في هذه الحالة قهراً. قال الماوردي: ملكها ملكاً مستقرًّا، وملك الغاب العبد ملكاً مراعىً [ليتملكه بعد] القدرة عليه إن شاء، أو يتوصل [به] إلى أخذ ما أجبر على دفعه من القيمة إن شاء؛ لان الإجبار يمنع من استقرار الملك بالإعواض، وإذا قدر على العبد المغصوب، فهو حينئذ بالخيار بين أن يتملكه عن اختيار المغصوب منه، فإن اختار رده ورضي بذلك المغصوب منه – جاز، ولا يستحق عليه أجرة ما مضى، وألا بيع، فإن كان ثمنه قدر القيمة المأخوذة؛ أخذه الغاصب، وإن زاد عليها كان الفاضل للمغصوب منه، وإن نقص فلا شيء له غيره. قال: وإن نقص من عينه شيء بأن تلف بعضه أو حدث فيه ما [ينقص قيمة المغصوب]؛ بأن كان مائعاً فأغلاه أو فحلا فأنزاه على بهيمة فنقصت قيمته ضمن أرش ما نقص؛ كما يضمن القيمة عند التلف، ويضمن الأرش بأكثر الأمرين أيضاً؛ لما ذكرناه، وهكذا الحكم [أيضاً] فيما لو كان ثوباً فنشره فنقص بسبب النشر، أو حيواناً فذبحه أو حنطة فطحنها، أو سمسماً فجعله شيرجاً ونحو ذلك؛ بالقياس على ما لو كان عبداً فقطع يده، أو حماراً فقطع أذنه. وفي الحاوي في مسألة السمسم: أن المغصوب منه يستحق المطالبة بالمثل؛ لأنه أشبه بالمغصوب من أجزائه.

وفي المهذب حكاية مثله في الدقيق. تنبيه: قول الشيخ: ضمن أرش ما نقص يعرفك أن مراده بتلف البعض [تلف] جزء غير مثلي، فإنه لو كان التالف جزءاً مثليًّا لما ضمنه [بأرش النقص؛ كما إذا كان زيتاً أو دهناً أو عصيراً فأغلاه فنقص وزنه فإنه يضمن مثل ما نقص] سواء كانت قيمته بعد الغلي مثل ما كانت قبله أو أنقص. وعن [ابن سريج: أنه لا يضمن ما نقص من العصير إذا لم تنقص القيمة فإن الفائت المائيةُ بخلاف الزيت وهو اختيار الشيخ أبي حامد والروياني. وروى عن صاحب التقريب: أنه صار في الزيت والدهن إلى ما صار إليه] ابن سريج في العصير، والأصح الأول، والخلاف المذكور في إغلاء العصير يجري فيما إذا صار خلا أو انتقصت عينه دون قيمته، وكذا إذا صار الرطب تمراً. فرع: إذا نقص إغلاء للعين والقيمة ضمن [مثل] الذاهب باغلاء إلا إذا كان ما نقص من القيمة أكثر فيلزمه مع مثل الذاهب أرش نقصان الباقي. قال: وإن تلف بعضه ونقص قيمة الباقي مثل أن يغصب زوجي خف قيمتهما عشرة [دراهم] فضاع أحدهما وصار قيمة الثاني درهمين لزمه قيمة التالف، وأرش ما نقص وهو ثمانية. أما [قيمة التالف] فلتلفه تحت يده. وأما أرش ما نقص، فلأنه حصل بالتفريق الحاصل في يده، فأشبه نقص قيمة المائع بالإغلاء، ونقص الثوب بقطع بعضه وتلفه، وهذا ما جزم به الرافعي. قال: وقيل: يلزمه درهمان؛ لأنه لم يتلف في يد الغاصب إلا ما قيمته درهمان، وهذا الوجه لم أقف عليه في هذه المسألة في شيء مما وقفت عليه من كتب المذهب، لكن كلام الأئمة في الطريقين يقتضيه، فإنهم حكوا فيما

إذا غصب واحداً من خفين قيمتهما عشرة فاستهلكه أو أتلفه ابتداء من غير غصبن وقيمة كل واحد منهما عند انفراده درهمان [أن فيما يلزم الوجهين المذكورين في الكتاب: أحدهما: يلزمه ثمانية: درهمان] قيمة الذي أتلفه، وستة ضمان النقص بالانفراد؛ لأنها جناية منه. والثاني: لا يضمن إلا درهمين وهما قيمة ما تفرد باستهلاكه؛ فإذا كانت الزيادة الحاصلة [في المتلف] بسبب الانضمام وهي ثلاثة لا يضمن إذا فاتت بالغصب والإتلاف المضمن [الزائد من القيمة] بسبب ارتفاع الأسواق لم يظهر فرق بين أن يكون الآخر غير مغصوب أو مغصوباً وقد رده؛ لأن الإتلاف مع الغصب إذا كان لا يضمنها، فالغصب وحده مع الرد أولى، وقد حكى البندنيجي وصاحب الحلية والتتمة في مسألة الكتاب وجهاً؛ أنه يضمن خمسة، وهو القياس؛ لأن الزيادة قد استقرت [بالتلف] فضمنها؛ كارتفاع السوق. وقياس هذا أن يطردوه في المسألة المستشهد بها، وقد حكاه فيها المراوزة أيضاً، ورجحه الإمام، والبغوي، وكذا القفال على ما حكاه في البحر، وقاسه على ما إذا كان عبد بين اثنين قيمته مائة دينار فأعتق أحدهما نصيبه وهو موسر؛ فإنه لا يضمن خمسين ولكنه يضمن قيمة نصفه إذا بيع منفرداً، والذي رجحه الشيخ أبو حامد والشيخ في المهذب ضمان الثمانية، وهو الذي اختاره في البحر، والقاضي أبو الطيب في شرح الفروع، ونسبه إلى أبي العباس – يعني ابن القاص – كما صرح [به] غيره في شرح الفروع وقد تحصل في كل من المسألتين ثلاثة أوجه ولا خلاف [في] أنه لو سَرق فردَ خفَّ منهما لم يجب عليه القطع.

وحكى المتولي عن بعض أصحابنا: أنه قال فيما إذا شق الثوب وتلف [نصفه] ونقصت قيمة النصف الباقي بالشق أن الحكم كما ذكرناه في مسألة الخف، والجمهور على تضمينه النقص في هذه الحالة. تنبيه: قوله زوجي خف: يعني فردتين، يقال: عندي فردا خف، وزوجا نعال، وزوجا حمام لذكر وأنثى، وكذا كل فردتين لا يصلح أحدهما إلا بالآخر. قال: وإن كان عبداً فقطع يده لزمه [أكثر الأمرين] من أرش النقص أو نصف القيمة أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين قطع اليد؛ لأنه قد وجد سبب ضمانهما وهو اليد والجناية؛ فوجب [أكثرهما] مثال ذلك: إذا كانت قيمة العبد مائة ثم بلغت مائتين وقطعت يده، فإن كانت قيمته بعد القطع مائة وخمسين ضمن المائة لأن اليد تضمن بنصف الدية من الحر فضمنت من العبد بنصف القيمة، وإن كانت قيمته بعد القطع خمسين؛ ضمن مائة وخمسين؛ لأن هذا النقص حصل في يده بسبب جنايته. وقيل: لا يضمن إلا نص القيمة بأكثر الأمرين؛ لان ما ضمن ببدل مقدر في الإتلاف ضمن في الغصب به؛ كالنفس، وهذا تفريع على الجديد في أن جراح العبد من قيمته؛ كجراح الحر من ديته. أما إذا كان الواجب فيه أرش ما نقص فهو الواجب هنا أيضاً. ومحل المطالبة بالقيمة إذا اندمل الجرح، أما إذا لم يندمل ففي جواز المطالبة بأرش اليد قولان يأتيان إن شاء الله. ولو سقطت يد العبد بآفة سماوية ضمن الأرش ولا يضمن المقدر؛ لأن التقدير من خاصية الجناية، وهذا ما جزم به البندنيجي وصححه الغزالي وجعله الشيخ في المهذب المذهب، وحكى عن بعض أصحابنا أنه يرد معه ما يجب

بالجناية، ولو ذهبت يد العبد بجناية أجنبي [وجب] على [العبد] الجاني نصف القيمة بسبب القطع، وعلى الغاصب أكثر الأمرين. وفي الوسيط حكاية وجه فيما إذا زاد نصف القيمة على ما نقص من القيمة: أن الغاصب لا يطالب بالزائد، وألحق الرافعي قطع اليد بسبب سرقة في يد الغاصب، أو جناية؛ بسقوطها بالآفة السماوية، وسوَّى في ذلك بين أن يكونا القطع في يد الغاصب أو بعد استرداد العبد، ولو قطعت يده في يد الغاصب بسرقة في يد المالك، أو جناية ففي وجوب ضمانها على الغاصب وجهان، كما لو اشترى عبداً سارقاً فقطع في يده، فإن ضَمَّنَّاهُ فهل يكون كما إذا سقطت بآفة سماوية؛ لأنه تلف بلا بدل أو بإتلاف أجنبي؛ لأنه حصل بالاختيار؟ فيه تردد، والذي اختاره في المرشد ضمان النقص. فرع: لو جنى العبد في يد الغاصب جناية تتعلق برقبته، فداه الغاصب بأرش الجناية في قول، وبأكثر الأمرين من أرش الجناية أو القيمة في قول؛ كما حكاه الإمام ومن تابعه، والذي حكاه المتولي الثاني، وكذلك البندنيجي. ولو مات العبد قبل الفداء أخذ المالك قيمته من الغاصب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف، وإن كانت حين التلف أكثر – تعلق حق المجني عليه بجميعها ورجع المالك على الغاصب بقدر ما أخذه المجني عليه منها إن كان الأرش دونها. وإن كانت قيمته يوم الغصب أكثر؛ مثل: إن كانت مائتين ويوم الجناية مائة؛ فلا يتعلق حق المجني عليه إلا بمائة منها، والحكم كما تقدم. وحكى الشيخ أبو علي وجهاً: أن ما يأخذه المالك من الغاصب لا يملك

المجني عليه المطالبة به، ويطالب الغاصب بمثله إن تعلق به حقه أو بما دونه، ولا خلاف في أنه لو سرق في يد المالك، ثم قُطِع بعد الرد إليه؛ لا يجب على الغاصب شيء. قال: وإن أحدث فيه فعلاً نقص به وخيف عليه الفساد في الباقي: بأن كان حنطة فبلها، أو زيتا فخلطه بالماء وخيف عليه الفساد استحق عليه مثل طعامه وزيته؛ لأن فساده يتزايد إلى أن يتلف فصار كالمستهلك، وهذا ما نص عليه في الأم، وهو الأظهر في طريق العراق، وجعله البندنيجي المذهب. قال: -وقيل فيه قولان: أحدهما: -هذا. والثاني: [أنه] يأخذه وأرش ما نقص؛ لأنه وجد عين ماله فرجع إليه؛ كالشاة إذا ذبحت، والثوب إذا مزق وهذا ما حكاه الربيع. وقال الغزالي: إنه مخرج. وحكى الرافعي عن البندنيجي حكايةقول عن أبي إسحاق أن الغاصب يتخير بين أن يمسكه ويغرم بدله، وبين أن يرده مع أرش النقصان، والمذكور في الوسيط حكايةً عن الشافعي: أن المالك إن شاء ضمَّن الغاصب ما نقص الآن، ولا شيء له في زيادة تحصل من بعد، وإن شاء تركه له وطالبه بجميع البدل، وهذا ما حكاه الماوردي عن أبي إسحاق، وابن أبي هريرة، وقد تحصَّل في المسألة أربعة أقوال.

التفريع: إن قلنا بالأول: فلمن يكون المغصوب؛ هل للمغصوب منه، أو للغاصب؟ فيه وجهان في التتمة. وإن قلنا بالثاني: فكلما نقص المغصوب أخذ المالك أرشه، هكذا حكاه القاضي أبو الطيب، والبندنيجي في مسألة غصب العسل والسمن والدقيق، وجعله عصيدة وخيف فساده، وظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا يغرم له بعد ذلك شيئاً كما حكيناه عن شارح المفتاح في تصوير القول الرابع، وهو قضية كلام الرافعي؛ فإنه قال: يغمه أرش عيب سار. وحكى عن المتولي أن الحاكم إذا رأى تسليم جميع الأرش إليه فعل، وإذا رأى أن يسلم إليه أرش النقص المتحقق في الحال ويوقف الزيادة إلى التحقق فعل، ثم قال [الرافعي] وفي هذا توقٌّفٌ؛ لأن المعقول من [أرش العيب الساري] أرش العيب الذي شأنه السراية، وأنه حاصل في الحال. أما المتولد منه فيجب قطع النظر عنه؛ إذ الكلام في النقصان الذي لا تقف سرايته إلى الهلاك، فلو نظرنا إلى المتولد منه لا نجر ذلك إلى وجوب القيمة، وهو عَود إلى القول الأول أي التخيير، ولو كان للنقص غاية ينتهي إليها، لكنه لم ينته إليها بعد، قال الماوردي: فليس له إبدال الزيت بغيره، وينتظر حدوث نقصانه فيرجع به، فإن تلف المغصوب قبل انتهاء نقصانه؛ فهل يجرع بما كان ينتهي إليه من نقص أم لا؟ فيه وجهان مخرجان من القولين فيمن [إذا] قلع سن صبي لم يثغر ومات قبل أن يثغر. ولو باع المغصوب منه المغصوب قبل أن ينتهي إلى حالة النقص، فإن علم به المشتري فللمغصوب منه أن يرجع على الغاصب بنقصه؛ لأنه عاوض عليه ناقصاً، وإن لم يعلم المشتري به ولم يرده، كان في رجوع المغصوب منه على

الغاصب بأرش نقصه وجهان:- وجه المنع: أنه بالمعاوضة عيه سليماً قد وصل إليه من جهة المشتري حقه، فصار بمثابة ما لم يحدث به نص، وحكم العفن الساري من غير تلك كما حكاه الشيخ أبو حامد عن الشافعي – حكم البلل، وهو ظاهر لفظ المختصر، وفيه تكلم الإمام، وكذلك الماوردي، وألحق به الحنطة إذا ساست أو دادت بالدود. وقال القاضي أبو الطيب يجب في العفن رد العين، وما نقص قولاً واحداً؛ لأنه ليس من فعله فلا يضمن ما يتولد منه بخلاف البلل، واختاره في المرشد وصححه ابن الصباغ. ثم قال: فإن قيل: فالعفن مضمون عليه؛ لوجوده في يده، وإن لم يكن [من] فعله فكنا ما تولد منه يتولد في الضمان؛ الا ترى أنه لو ابتل بماء المطر أو بله غيره كما لو أتلفه بنفسه. فالجواب عندي: أن يقال: أن النقص الذي حصل بالبلل إذا زاد وكثر، فإنما حصل متولداً منه، وأما العفن فإنما يزيد ببقائه ومكثه في يده كما أن الأول حصل بذلكن وبعضه يولد بعضاً. ومرض العبد المغصوب إذا كان سارياً؛ مثل السل والاستسقاء تردد الشيخ أبو محمد في إلحاقه بالعفن الساري، ولم يرض الإمام ذلك؛ فإن المرض الميئوس منه قد يبرأ، والعفن المفروض في الحنطة يفضي إلى الفساد [لا محالة]. قال:-وإن كان له منفعة أي تستوي بعقد الإجارة ضمن [أُجرته] للمدة التي أقام في يده أي وإن لم ستوفها؛ لأن ما ضمن [بالمسمى] في العقد الصحيح [و] بالبدل في الفاسد ضمن [من] غير عقد بالغصب؛ كالأعيان. نعم إذا استوفاها فنقصت قيمة الثوب بسبب الاستيفاء، فهل يضمن أرش

النقص مع الأجرة؟ أو يضمن أكثرهما لا غير؟ فيه وجهان: ظاهر النص منهما كما حكاه القاضي أبو الطيب؛ الأول، وهو الذي صححه الرافعي قياساً على ما لو حصل النقص بسبب آخر، والذي حكاه المزني على ما نقله المتولي: الثاني، وهو الذي [حكاه] في المرشد؛ لأن فيه جبراً للحقين؛ فلا يقابل مضمون بضمانين، ومقتضى هذا أن يجب عند عدم الاستيفاء أجرة استعمال لا تنقص من العين شيئاً وهي أقل من أجرة استعمال تنقص من العين، ولو كان للمغصوب منافع ضمن أغلاها أجرة، ولا يجب أجرة الكل. فرع: إذا كانت الأجرة في مدة الغصب متفاوتة فبم يضمن؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها القاضي أبو سعد: أضعفها: أنها [تضمن] بالأكثر في جميع المدة [أيضاً]. وأظهرها: أنها تضمن في كل بعض من أبعاض المدة بأجرة مثلها فيه. والثالث: أن الأمر كذلك إن كانت الأجرة في أول المدة أقل، وإن كانت في الأول أكثر ضمنها بالأكثر في جميع المدة؛ لأنه لو كان المال في يده فربما أجره بها في جميع المدة.

فرع: إذا غصب قميصاً قيمته عشرة؛ فأبلاه بالاستعمال إلى أن عاد إلى خمسة، ثم زاد السعر فعادت القيمة إلى عشرة. قال ابن الحداد: يقوم ملبوساً في [هذا الوقت] وغير ملبوس، ويلزمه ما بين القيمتين وهو عشرة في هذه الحالة. قال القاضي أبو الطيب، وغيره: هذا ليس بصحيح، ونما يلزمه مع رده خمسة، وهو الذي نقص باللبس؛ لأن زيادة السعر بعد [التلف] لا اعتبار به. قال: وإن كانت جارية فوطئها مُكرَهَة ضمن مهرها؛ لأنه أتلف منفعة متقومة بعدوان، وهو من أهل وجوب ضمانه فشابه ما لو قطع يدها، ولأن منفعة البضع تضمن بالعقد الفاسد فضمنت بالإتلاف على وجه التعدي؛ كالأعيان بل أولى؛ لأن المنكوحة نكاحاً فاسداً عاصية، وهذه ليست بعاصية، والمنكوحة ممكنة والمغصوبة مستكرهة، وهكذا الحكم فيما لو طاوعته جاهلة بالتحريم، مع كونها قريبة عهد بالإسلام وقد نشأت في برية. وحكى الطبري أن الصبية التي لا تشتهي مثلها إذازنا بها؛ لا يضمن مهرها، ويضمن أرش بكارتها إن أزالها، وعلى الأول إن كانت ثيباً، فالواجب مهر [ثيب]، وإن كانت بكراً ففي الرافعي حكاية وجهين: أحدهما: أن الواجب مهر ثيب وأرش البكارة، وادعى أنه المرجح وهو الذي أورده الغزالي في باب الديات، وينسب إلى النص. والثاني: مهر بكر، والذي جزم به القاضي أبو الطيب أنه يجب مهر بكر

وأرش البكارة، كما ذكره الشيخ في البيع الفاسد؛ لوجوبهما بسببين مختلفين، ونقله القاضي الحسين أيضاً. وذكر أن الشافعي نص على مثله في نظير المسألة في عيون المسائل، ثم قال: والذي عندي أنه يجب مهر مثلها بكراً. قال الرافعي: [بناء] على ما حكاه. فإن قلت: هل يختلف المقدار بالاعتبارين أم لا؟ فإن اختلف وجب أن يقطع بوجوب الزائد؛ لأن بناء أم رالغاصب على التغليظ، وإن لم يختلف فلا فائدة للوجهين. فالجواب أنه إن اختلف المقدار فالوجه ما ذكرته، وقد أشار إليه الإمام، وإن لم يختلف فللوجهين فوائد: منها: ما يظهر في المسألة التالية لهذه. قال: وإن طاوعته أي وعلمت بالتحريم لم يلزمه على ظاهر المذهب؛ لما روى مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغيِّ وحلوان الكاهن. والبغيُّ بالتشديد: المرأة الزانية. قال الله تعالى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28]. وحلوان الكاهن: ما يأخذه على تنجيمه وكهانته. قال: وقيل يلزمه؛ لأن المهر حق لليد فلا يسقط ببذل الأمة، وهذا قول ابن سريج كما حكاه الماوردي، ولا خلاف في انه إن لم يطأها لا يلزمه المهر؛ لأن منفعته لا تدخل تحت اليد؛ ألا ترى أن السيد يملك تزويجها ولودخلت تحت يده لما ملكه كما لا يملك إجارتها. وأيضاً: فإن منفعة البضع تستحق استحقاق ارتفاق للحاجة، وسائر المنافع تستحق [استحقاق] ملك تام؛ ألاترى أن من ملك [منفعة بالاستئجار] ملك نقلها إلى غيره بخلاف الزوج.

ولو وطئت الجارية المغصوبة في يد الغاصب فهل يضمن الغاصب المهر؟ الذي صرح به الماوردي والمتولي وغيرهما عند الكلام فيما إذا وطئ المشتري من الغاصب الجارية المغصوبة – وجوب الضمان. وروى صاحب التقريب وجهاً: أنه لا يطالب؛ لأن منفعة البضع لم تدخل تحت يده؛ بدليل عدم ضمانها دون إتلافها وأشار الإمام إلى جريان الوجهين، سواء قلنا: يرجع المشتري على الغاصب بالمهر أم لا. وقال: [إذا قلنا بعدم الرجوع فظاهر القياس ألا يطالب وغيره محتمل] وإذا قلنا: بالرجوع؛ فالظاهر الطالبة لاستقرار الضمان عليه، ومثل هذا الخلاف جارٍ فيما إذا وطئت بالشبهة. فرع: لو اختلفا في الإكراه فمن القول قوله؟ فيه قولان في الحاوي وقال: ويشبه أن يكونا مبنيين على اختلاف قوليه فيما إذا اتلف رب الدابة وراكبها، ورب الأرض وزارعها. فرع: إذا تكرر منه الوطء [فهل] يجب مهر واحد، أو مهران؟ فيه كلام ستقف عليه في أواخر الصداق. قال: - فإن زاد في يده، بأن سَمِنَ أو تعلم صَنعَة، أو ولدت الجارية ولداً أي حيًّا، إما منه أو من غيره، بنكاح أو زنا، كما صرح به القاضي الحسين، قال: ضمن ذلك كله أي عند زواله كما يضمن العين؛ لأنها زيادة حصلت في ملك المغصوب منه، والغاصب مأمور بردها فضمنها؛ كالعين فإذا كانت قيمته قبل السمن وتعلم الصنعة مائة وبعدها ألفاً ثم هزل ونسي الصنعة [فعاد إلى مائة، ردها] وتسعمائة، وهكذا الحكم يما لو غصب [سميناً، أو عارفاً] بصنعة قيمته ألف فرده بعد زوال السمن ونسيان الصنعة وقيمته مائة، ولو لم تنقص قيمته بالهزال، بأن كان سميناً مفرطاً فلا يضمنه بخلاف ما لو خصي العبد وزادت قيمته.

قال القاضي أبو الطيب، والمتولي: لأن الشرع قدر بدله فضمنه، والسمن لم يقدر بدله فكان الرجع فيه إلى ما ينقص [ولا نقص]. أما لووضعت الولد ميتاً فوجهان: أحدهما: - وهو ظاهر النص [أنه يضمنه، ويحكي عن الأنماطي وأبي الطيب بن سلمة، [واختاره القفال]. والثاني: - لا، وهو الذي صححه الماوردي، وجعله الإمام المذهب، وبه قال ابن أبي هريرة، وأبو إسحاق وحملا النص على ما إذا ألقته حيًّان ثم مات، ويجري الوجهان في حمل البهيمة المغصوبة إذا انفصل ميتاً. وعلى ظاهر النص] نوجب قيمة الولد حالة الانفصال لو كان حيًّا، وخرَّج الإمام وجهاً في ولد الجارية أنه يضمنه بعشر قيمة الأم، ولا يخفى أن محل ما ذكرناه في الجارية إذا كان الواطئ عالماً بالتحرم، أما إذا كان جاهلاً بتحريم الوطء فلا شيء عليه بسبب الولد؛ لأنه ينعقد حرًّا، والحر لا تثبت عليه اليد، وإنما يضمن بالحيلولة دون الوضع، ولا حيلولة بخلاف ما لو كان عالماً؛ فإنه ينعقد مملوكاً؛ كذا فرق به المحاملي. وفي التتمة حكاية وجه: أنه يضمن في صورة الحمل، وقد ذكرت في آخر باب ما يجوز بيعه شئاً يتعلق بهذا الموضع، فليطلب منه. فرع: لو غصب جارية مهزولة هزالاً حسناً فسمنت في يده ونقصت قيمتها ردها. قال الطبري:- ولا يجب عليه شيء؛ لأنه لم يحصل بها نقص في الخلقة، ولا من جهة العرف والعادة. وقال: لو غصب جارية ناهدة الثديين فسقط ثدياها ونقصت قيمتها بذلك، أو غلاماً أمرد فالتحي في يده، ونقصت قيمته بذلك، كان عليه الأرش، ويلتحق بذلك بياض اللحية؛ كما ذكره ابن الصباغ.

فرع: لوغصب بقرة فتبعها الفحل، أو غصب الهادي فتبعه القطيع؛ ضمِن الكل على أحد الوجهين في تعليق القاضي الحسين. قال: -وإن سمن ثم هزل ثم سَمِن [ثم هزل] ضمن أرش السمنين؛ لأن الثاني غير الأول، فهو كزيادة جنس آخر. وطريق التقويم على هذا: أن يقوم سميناً، فإذا قيل: مائة – قوِّم مهزولاً [[بالهزال الأول]، فإذا قيل: خمسون [وجب خمسون]، ثم يقوم بالسمن الثاني، فإذا قيل: مائة وخمسون قوِّم مهزولاً] فإذا قيل: خمسون – وجبت مائة، فيكمل للمغصوب منه مائة وخمسون. قال: - وقيل: يضمن أكثرهُما قيمة لأن النقصان الأول ذهب في يده ثم زال من الوجه الذي ذهب فوجب ألا يضمنه، كما لو أبق العبد ثم عاد وجنى على عين فابيضت ثم زال البياض، وهذا قول ابن أبي هريرة، فعلى هذا يضمنفي مثالنا القيمة الثانية، ولو انعكس المثال كان الواجب عليه مائة أيضاً، لكن خمسون عن الأول؛ فإنه لم يتخير ما يقابله، وخمسون عن الثانين والصحيح هوا لأول وهو قول أبي سعيد الإصطخري؛ لأن السمن الثاني غير الأول وقد حصل في ملك المالك فلا يسقط ما وجب [عليه] بالأول، وهو أيضاً قد زال فوجب ضمانه، وبه قطع صاحب التلخيص، وبنى القاضي أبو الطيب الخلاف على القولين فيما إذا قلع سن كبير فعاد، وضعف المتولي هذا البناء بأن عضوْد سن الكبير نادر، وعود السمن غير نادر، وهو يعود سن الصغير أشبه، والوجهان يجريان فيما إذا نسي المغصوب الصنعة، ثم تذكرها، أو تعلمها، واختيار الشيخ أبي حامد عدم الانجبار، ورأي ابن سريج مقابله. ومنهم من قطع به، وقد اختاره القاضي أبو الطيب في شرح الولدات، وكذلك ابن الصباغ وصاحب المرشد. والفرق: أن السمن الثاني زيادة في الجسم محسوسة مغايرة لما كان، وتذكُّر

الصنعة لا يعد في العرف شيئاً متجدداً، ويجريان أيضاً يما لو كسر الحلي أو الأواني [المغصوبين]، ثم أعاد تلك الصنعة المباحة. فروع: لو زادت قيمة الجارية بتعليم الغناء ثم نسيته، نقل الروياني عن النص أنه لا يضمن النقصان؛ لأنه محرم. وعن بعض الأصحاب: أنه يضمن؛ ولهذا لو قتل عبداً مغنيًّا [فإنه] يغرم تمام قيمته، ثم قال: وهو الاختيارز وحكى في موضع آخر من البابِ [الأولَ] عن العراقيين، والثاني عن بعض الخراسانيين وقال: إن الأول أظهر. قلت: وهو الأظهر ودعوى القائل الثاني ان العبد المغني إذا قُتِل يضمن قيمته مغنيًّا – ممنوع، بل قد جزم الإمام في كتاب النكاح متصلاً بباب الأمة تغر من نفسها أنه لو أتلف جارية مغنية لم يضمن إلا قيمة مثلها لو كانت لا تحسن الغناء، والله أعلم. لو مرض العبد المغصوب ثم برئ وزال [أثر] المرض [وردَّه] فلا شيء عليه بسبب ذلك؛ كما قاله ابن أبي هريرة. وحكى الماوردي عن الإصخري: أنه يضمن النقص الحاصل بالمرض ولا يسقط عنه بالبرء. وقال: إنه الأشبه بأصول الشافعي، وما ذكرناه يجري فيما لو رده مريضاً ثم برئ. لو غصب شجرة فسقط ورقها، ثم أورقت، أو شاة فجزَّ صوفها، ثم نبت، يغرم الأول [قطعاً] ولا ينجبر بالثاني، بخلاف ما لو سقط سن الجارية

المغصوبة ثم نبت، أو تمعَّط شعرها ثم نبت حيث يحصل به الجبر. قال في التهذيب: لأن الورق والصوف متقوّمان فغرمهما، وسن الجارية وشعرها غير متقومين، وإنما يغرم أرش النقص الحاصل بفقدهما وقد زال. تنبيه: هزل بضم الهاء وكسر الزّاي؛ يقال: هزلت تهزل مثل علفت تعلف. هزالاً بضم الهاء [وهي مهزولة] وهزلتها هزلاً؛ كضربتها ضرباً. قال: وإن خلط المغصوب بما لا يتميز؛ كالحنطة إذا خلطها بالحنطة والزيت بالزيت، فإن كان مثله أي في القيمة لزمه مثل مَكِيلَته منه، لأنه قادر على بعض عين ماله عاجز عن البعض، فهو كمن غصب [منه] صاعان فتلف أحدهما، وهذا ما ذهب إليه [ابن سريج]، وأبو إسحاق، وابن أبي هريرة، اولمنصوص أن للغاصب أن يدفع إليه من غيره، وهو الصحيح في تعليق القاضي أبي الطيب كما ذكرناه في [باب الفلس]، وادعى الإمام أن بعضهم جزم به، وهو ما اختاره في المرشد. ووجهه: أنه لا يقدر على رد العين؛ فجاز أن يدع إليه مثلها كما لو هلكت، والصحيح في ابن يونس وغيره الأول؛ لأن جعل مال الغاصب كالهالك أولى من جعل مال المغصوب منه كذلك لتعديه، وقد امتنع ذلك فليمتنع الآخر من طريق الأولى. قال: وإن خلطه بأجود منه فهو بالخاير بين أن يدفع إليه مكيلته منه؛ أي ويجبر المغصوب منه على الأخذ؛ لأن بعضها عين [حقه، وبعضها خير مما فات عليه]. قال: وبين أن يدفع إليه مثل ماله [لأن الخلط] جعله كالتالف دليله أنه لو انثالت صبرة طعام مبيعة علىخرى قبل القبض – حكم بانفساخ العقد كما لو تلفت.

وإذا كان كالتالف وجب رد بدله، وهذا ظاهر النص، فعلى هذا يملك الغاصب المغصوب، وهو مخالف لأصول الشافعي. قال: وقيل: يجبر على الدفع إليه منه؛ لأنه اكتساب المغصوب صفة الجودة بالخلط لزيادة متصلة حصلت في يد الغاصب، وهي لا تمنع الرد فكذلك هاهنا، وهذا ما ادعى افمام أن في كلام العراقيين رمزاً إليه، وأنه متجه، وفي المسألة قول آخر: ان المختلط يصير مشتركاً بينهما [بالنسبة، فإذا كانت قيمة المغصوب درهماً، وقيمة ما خلط [به] درهمين – كان المخلوط بينهما] أثلاثاً، وهو مخرَّج من قول نص [عليه] الشافعي في التفليس، في نظير المسألة مع قول آخر [موافق] ما نص عليه هاهنا إلحاقاً للخلط بالصبغ، وبما لو اختلاط من غير فعل، وجعل الإمام والمتولي هذا القول أظهر، والأول هو الأظهر عند الأكثرين. ومنهم من قطع به، وفرق بأنه إذا لم تثبت الشركة هناك لا يحصل للبائع تمام حقه، بل يحتاج إلى المضاربة، وهاهنا يحصل للمالك تمام البدل، ثم على القول المخرج يباع المختلط، ويقسم الثمن على نسبة الملكين؛ فإن جاء ما يخص المالك من الثمن [قدر] حقه لم يبق [له] طلب، وإن كان أقل من حقه كان له بقيته ودخل النقص على الغاصب. قال مجلي، والشيخ في المهذب: لأنه نقص بفعله. وقال الماوردي الأمر كذلك إلا أن يكون النقص لرخص السعر فلا يضمنه، ولو أراد قسمة المخلوط على نسبة التقويم، فالظاهر أنه لا يجوز [وهو قول أبي إسحاق] لأنه يكون أخذاً لثلثي صاع لجودته في مقابلة صاع، وهو ربا.

وعن رواية البويطي: أنه يجوز، وبنى ذلك على أن القسمة إفرا حق لا بيع. وقد حكيت مثل هذا الخلاف في مسألة المفلس، وضع المتولي هاهنا هذا البناء؛ لأن [القسمة إنما تكون إفراز حق إذا كان أحدهما لا يرد على الآخر من ماله شيئاً في مقابل زيادة] يستوفيها، وهنا المالك يزيل ملكه عن ثلث صاع فيما يحصل [له] من الجودة في ثلثي صاع. قال: وإن خلطه بأردَأ منه فالمغصوب منه بالخيار بي أن يأخذ حقه منه وبين أن يأخذ مثل ماله؛ لأن بكل منهما يندفع الضرر عنه، فعلى هذا إذا اختار أخذ حقه منه هل يرجع بأرش النقص الذي دل عليه كلامه في المهذب؟ لا، فإنه قال: إذا امتنع الغاصب من الدفع أجبر عليه؛ لأنه رضي بأخذ حقه ناقصاً،

وكذلك كلام الماوردي فإنه قال: يكون مسامحاً بالجودة، والذي صرح به في الذخائر والتتمة وغيرهما: نعم. وقيل: لا يجبر الغاصب علىلدفع إليه منه؛ لما ذكرناه من أنه صار كالمستهلك، وهذا ما حكاه البندنيجي. وقال الإمام: إنه ظاهر النص، وحكى [عن] بعضهم القطع به. وقيل: يصير المخلوط شركة بينهما، فإذا كانت قيمة المغصوب درهمين، وقيمة المخلوط [به] درهماً – كان بينهما أثلاثاً يباع ويسلم للمغصوب منه الثلثان فإن [نقص ما أخذه عن قيمة ماله اخذه من مال الغاصب، فلو أراد سمته بالنسبة] [فمنهم من] خرجه على الخلاف [الابق] فيما إذا خلط بالأجود، ومنهم من قطع بالمنع؛ لانه يمكن الرجوع إلى صاع منه مع الأرش، فلا حاجة إلى احتمال [القسمة المشتملة على التفاضل]. واعلم أن ابن يونس قال، بعد حكاية القول المخرج في مسألة الخلط بالأجود [أنه] جار فيما [لو] خلطه بمثله أو أردأ منه. وقيل: يختص القول بالأجود، وما ذكره من جريانه في الأردأ ظاهر. وأما جريانه فيما إذا كان الخلط بالمثل فهو عين ما حكاه الشيخ، فإن القائلين به كما حكاه الإمام وغيره قالوا: حق المالك مختص بهذا المخلوط، ولا يتعداهن وسبيل الوصول إليه أن يسلم إليه مثل مكيلته من هذا المخلوط، وهو موافق لما حكيناه في باب التفليس في نظير المسألة إذا أثبتنا للبائع الرجوع، وكلام ابن يونس يوهم أنه غير ما حكيناه للشيخ، وقد حكيناه.

ثم على هذا القول أن البائع لو طلب بيع المخلوط وقسمته، هل يجبر عليه المفلس؟ فيه وجهان. ويظهر جريانهما هاهنا. قال: وإن خلط الزيت بالشَّيْرج – أي بفتح الراء –وتراضيا على الدَّفع منه- جاز؛ لأن الحق لهما ولا يعدوهما. قال: فإن امتنع أحدهما لم يجبر الممتنع؛ لأنه لا يُلزم الغاصب ببدل ما لا يجب عليه، ولا المغصوب منه بقبول ما لم يجب له، فعلى هذا يكون كالمستهلك. قال البندنيجي وجهاً واحداً: فيغرم للغاصب مثل الذي غصبه منه. وقيل يجريان القول الخرج [هاهنا] أيضاً وهو ما اختاره المتولي، وقال: إن تراضيا على بيع المخلوط وقسمة الثمن – جاز، [وإن أرادا قسمته جاز] وكان المغصوب منه باع ما يصير في يد الغاصب من المغصوب بما يصير في يده من مال الغاصبن وغير المتولي اقتصر على حاكية بيع المخلوط وقسمة ثمنه على قدر القيمتين. وحكى الماوردي فيما إذا طلبا القسمة على نسبة القيمتين وجهينن ينبنيان على أن القسمة بيع، أو إفراز، فعلى الأول لا يجوز، وفيه نظر. فروع: خلط الخل بالخل، اللبن باللبن، كخلط الزيت بالزيت، وخلط الدقيق بالدقيق، كخلط الحنطة بالحنطة إن قلنا: [إن] الدقيق مثلي كما صار إليه ابن سريج، وإن قلنا: إنه متقوم كما صار إليه أبو إسحاق، وابن أبي هريرة، فإن قلنا: إن المخلوط كالهالك، فالواجب القيمة، وإن قلنا بالشركة، فيباعان ويقسم الثمن بينهما على قدر القيمتين، فإن أراد قسمة عَين الدقيق على نسبة القيمتين، فهو على ما ذكرناه في قسمة الزيت إن جعلناها إفرازاً جاز، وإن جعلناها بيعاً لم يجز؛

لأن بيع الدقيق بالدقيق لا يجوز، بخلاف بيع الزيت بالزيت، الحنطة بالحنطة. ولت السَّويق بالشيرج، حكى البندنيجي والإمام عن الأصحاب إلحاقه بخلط الزيت بالشيرج، واستبعده، قال: إنما هو كصبغ الثوب، ولو كان المغصوب دراهم فخلطها بمثلها ولم تتميز جزم ابن الصباغ بالشركة. وحكى صاحب البحر فيما إذا خلطها بدراهم لغيره وجهين: أحدهما: تقسم بينهما. والثاني: - هما باخليار بين القسمة والمطالبة بالمثل، كما لو كانا مختلفين. قال: وإن أحدث فيه عيناً بأن كان ثوباً فصبغه، فإن لم تزد يمتهما ولم تنص؛ أي: مثل إن كانت قيمة الثوب عشرة، وقيمة اصبغ خمسة فبلغت قيمته مصبوغاً خمسة عشر. قال: صار الغاصب شريكاً له بقدر الصبغ، أي: هذا بثوبه، وهذا بصبغه كما نبه عليه البندنيجي والروياني فيباع ذلك، ويقسم الثمن عليهما بالنسبة لتعين ذلك طريقاً لدفع الضرر عنهما، فإن الصبغ عين انضمت إلى عين الثوب؛ فلا يمكن تقويتها عليه، كما لو غصب طعاماً فخلطه بطعام آخر، فلو امتنع الغاصب من البيع عند طلب المالك. جزم القاضي الحسين والإمام بعدم إجبار واحد منهما على البيع عند [عدم] إمكان فصل الصبغ؛ لكونه منعقداً. وفي المهذب وغيره، أنه يجبر عليه، وكذا لو امتنع المالك عند طلب الغاصب على أحد الوجهين، وهو المختار في المرشد، ومقابله هو الأظهر في الرافعي، وخص الماوردي وجه الإجبار، بما إذا لم يبذل المالك قيمة الصبغ، أما إذا بذلها فلا يجبر [وجهاً] واحداً. وحكى القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ وجهاً، أن مالك الثوب إذا بذل قيمة الصبغ؛ ليتملكه أجبر الغاصب على قبولها، كما قلنا في المستعير مع المعير، وهذا ما حكاه البندنيجي عن القديم.

قال الرافعي: ولا فرق في جريان هذا الوجه بين ان يكون الصبغ مما يمكن فصله أم لا. وحكى البندنيجي قولاً آخر عن القديم، أن [مالك الثوب] إذا أراد أخذه مصبوغاً من غير أن يضمن للغاصب قيمة الصبغ؛ كان له، كما لو كان الثوب خاماً فقصره. قال ابن الصباغ: وهذا مرجوع عنه. وحكى الإمام عن رواية صاحب التقريب هذا القول في [حال] إمكان فصل الصبغ، وعدم إمكانه، لكنه قيد حالة إمكان الفصل بأن يكون المفصول لا قيم ةله، ثم قال: وهذا الذي ذكره في الصبغ الذي [يمكن] إزالته في نهاية البعد، إنه إن تخيل متخيل مشابهة الصبغ المعقود [فهو] [مما] مكن فصله بعيد. قال: فإن أراد الغاصب قلع الصبغ، لم يمنع؛ لأنه عين ماله فمكن من أخذه، كما لو غرس في أرض مغصوبة، ثم [رام] قلع غراسه. وقيل: إن نقص القلع قيمة الثوب لم يمكَّن منه، وإن كان يضمن النقص؛ لأن فيه تسيط عرف ظالم على تنقيص ملك الغير. قال: وإن أراد صاحب الثوب قلع الصبغ، وامتنع الغاصب؛ أجبر عليه، كما يجبر على قلع النخل إذا غرسها متعدياً في الأرض المغصوبة؛ وهذا قول أبي إسحاق، وابن خيران وصححه البغوي، والماوردي قال: وقيل: لا يجبر، وهو الأصح؛ لأن الصبغ يهلك بالاستخراج ولا حاجة به إلى ذلك؛ لأنه يمكنه أن يستوي حقه بالبيع، فلا يجوز أن [يستوفي بتلف] مال الغير، ويخالف الغراس؛ لأنه لا يتلف بالقلع، وأيضاً فالأرض تعود إلى حالها، والثوب لا يعود، وضرر الغراس لم يستقر؛ لأنه يزيد، وضرر الصبغ مستقر، [وهذا]

[هو] قول أبي العباس، وعامة الأصحاب، كما حكاه القاضي الحسينن ومحل الخلاف عند الماوردي، إذا كان الصبغ قد أحدث زيادة تفوت [باستخراجه الصبغ منه]. [أما إذا لم يكن الصبغ قد أحدث زيادة تفوت بالاستخراج؛ أجبر على استخراجه ونقص الثوب بعده]. وحكى مجلي عن العراقيين، أن محله إذا نقصت قيمة الصبغ بالقلع، أما إذا لم تنقص أجبر قولاً واحداً، كما جزم به [المراوزة في الحالتين]. وحكى عن ابن سريج – أيضاً – أن فصل الصبغ إن كان بصنعة، أو لا [تفي قيمته] بما يحدث في الثوب من [نقصان بسبب الفصل] فلا يجبر عليه. فرع: إذا نقصت قيمة الثوب في حال الصبغ بالقلع، كان ذلك على الغاصب، ولو كان الثوب قيمته عشرة، واصبغ قيمته خمسة، فصارت قيمتهما بعد الصبغ ثلاثين، فأجبر الغاصب على قلع الصبغ، فعادت قيمة الثوب إلى عشرة، لا يضمن الغاصب لصاحب الثوب العشرة التي كانت يستحقها، بخلاف ما لو فصله الغاصب مختاراً، فإنه يضمنها، قاله الماوردي، ومجلِّي. قال: فإن وهب الصبغ من صاحب الثوب، فقد قيل: يجبر على قبوله؛ لأنه غير متميز عن الثوب، فأجبر على قبوله كما يجبر الزوج على قبول سِمَن الجارية المصدقة إذا طلق قبل الدخول عند مسامحة الزوجة به، وبالقياس على إجبار البائع على قبول النعل إذا وجد المشتري بالدابة عيباً، وكان قلعه ينقصها إذا بدله المشتري. قال الرافعي: ولو ألحق هذا الوجه بما إذا صبغ المشتري الثوب بما زاد في قيمته، ثم اطلع علىعيبه فرده مسامحاً بالصبغ؛ لكان أقرب لما مرَّ من أن الصبغ يصير ملكاً للبائع وأما في مسألة النعل [فإنه يجبر على قبول الدابة، وفي دخول

النعل] في ملكه اختلاف مذكور في موضعه. قلت: بل الأقرب ما ذكرناه؛ لأن مسألة الصبغ التي ذكرها في الرد بالعيب مصورة بما إذا كان الصبغ لا يمكن فصله، والكلام هاهنا في صبغ يمكن فصله أو لا يمكن كما سنذكره، فكان القياسعلى مسألة النعل أولى؛ لأنه عند إمكان الفصل مشابه له، وعند عدم الإمكان، يثبت هذا الحكم من طريق الأولى، بخلاف ما لو ألحق بالصبغ فإن حالة إمكان انفصال الصبغ هاهنا لا يبقى على الإجبار فيها دليل، وهذا الوجه حكى البندنيجي أنه ظاهر قوله في الأم، حيث قال: لو غصب ساجة وشقَّقها وأصلحها أبواباً، وسمر فيها مسامير من عنده، ثم رد الأبواب على مالكها، ووهب له [ما] فيها من المسامير؛ لزمه قبوله. قال: وقيل: لا يجبر، وهو الأصح؛ لأنه عين قابلة الانفصال، فأشبه ما لو كانت منفرد، [و] كما قلنا في النعل إذا تركها له، فإنه لا يجبر على قبولها، كذا علل به القاضي أبو الطيبن ويخالف مسألة النعل؛ لأن الغاصب متعد، والمشتري غير متعد، ومما قاله القاضي يظهر أن محل الخلاف فيما إذا كان يمكن انفصاله، كما صرح به الماوردي و [كذلك طرده الروياني] في البحر في هبة المسامير، في الباب الذي اتخذه من اللوح المغصوب، وفي هبة الغراس في الأرض المغصوبة ووافقه في حكاية الخلاف في هبة الأشجار القاضي الحسين، وفي النهاية أن العراقيين قالوا: لا فرق في جريان الوجهين بين أن يكون الصبغ منعقداً لا يمكن فصله أو يمكن فصله، ولا بين أن تنقص قيمة الصبغ، أو الثوب بالفصل [أم لا]، وإن [كان] معتمد جريانهما الاتصال، وقيام الصبغ مقام الصنعة، وضعف قولهم. وحكى طريقين آخرين عن الأصحاب في محل الوجهين يخصهما:

أحدهما: إن كان الفصل سهلاً، وللمنفصل قيمة معتبرة، أو الصبغ منعقداً، فلا إجبار، وإن كان للفصل تعسر؛ بحيث لا تفي فائدة الفصل باحتماله، أو كان ينقص قيمة المفصول أو الثوب، فهو محل الوجهين. والثاني: إن كان يحصل منه نقص في الثوب، لا يجبره قيمة المفصول فهو محلهما، وفيما عداه لا يجبر. فرع: إذا قلنا بالإجبار، فلا حاجة إلى تلفظ بالقبول، ولابد من جهة الغاصب من لفظ يشعر بقطع الحق؛ كقوله: أعرضت عنه، أو تركته، أو أبرأته عن حقي، أو أسقتطه، كماحكاه الإمام ثم قال: ويجوز أن يعتبر اللفظ المشعر بالتمليك. قال: وإن زادت قيمة الثوب والصبغ، أي بسبب ارتاع سوقهما، أو بسبب العمل، كما صرح به البندنيجي، والقاضي أبو الطيب، وغيرهما. قال: [كانت الزيادة بينهما]، أما في الحالة الولى؛ فلأنها زيادة في مال مشترك بينهما، وأما في [الحالة] الثانية؛ فلأنها بفعل الغاصب في ماله، ومال المغصوب منه [حصلت، وكانت زيادة ماله له، وزيادة مال المغصوب منه] له؛ لتعدي الغاصب بالعمل فيه، والزيادة مقسومة على نسبة قيمة الثوب، والصبغ في الحالة الثانية، فيصرف لصاحب الثوب في مثالنا ثلثاها، وللغاصب ثلثها، وكذا في الحالة الأولى، إن كان ارتفاع السوق فيهما على نسبة قيمتهما بأن بلغت قيمة الثوب خمسة عشر وقيمة الصبغ سبعة ونصفاً، اما إذا بلغت قيمة الصبغ في مثالنا عشرة؛ كانت الزيادة بينهما نصين، [ولو كانت الزيادة بسبب [ارتفاع سعر الياب] خاصة كانت الزيادة للمغصوب منه] وإن كانت بسبب زيادة سعر الصبغ خاصة [كانت] [للغاصب] كذا صرح به القاضي أبو الطيب،

والبندنيجي، وابن الصباغ، وقال: إن أحدهما لو زاد في هاتين الصورتين بيع ملكه على الخصوص. قال بعض الأصحاب: ينبني على بيع قطعه من أرض لا ممر لها؛ إذ لا يمكن الانتفاع بأحدهما إلا بالآخر، وهذا عين ما حكاه الإمام، لكنه لم يفرضه في محل الزيادة، بل حكاه في أصل المسألة, قال الرافعي: والأظهر منهما المنع. [قال: فإن أراد صاحب الصبغ قلعه لم يجز حتى يضمن لصاحب الثوب ما ينقص من الزيادة؛ لأنه يفوت على صاحب الثوب الزيادة الحاصلة بخلاف ما ذكرناه من قبل؛ حيث لا يمنع إذا لم يكن فيه زيادة فيحصل الفرق بينهما]. قال: وإن نقصت قيمة الثوب أي [بصبغه] مثل أن صارت اثني عشر حسب النقصان على صاحب الصبغ؛ لان جرم الثوب [باق حقيقة] وجرم الصبغ يحتمل أن يكون قد نقص بتبدده، وتفرق أجزائه، ويحتمل أن يكون لأجل اتصال أحدهما بالآخر، وهو من فعل الغاصب فحسب النقص عليه، ولو عادت قيمة الثوب، والحالة هذه إلى عشرة، فلا شيء للغاصب، وليس له الإجبار على البيع، ولا هبة الصبغ؛ لأنه مستهلك، ولو أراد قلع الصبغ كان

له، أرش النقص. وقال المزني: لا يقلع؛ [لأنه] لا فائدة في القلع. قال أبو إسحاق: وهذا خطأ؛ لأنه عين ماله، ومن له عين مال، فله أخذه، انتفع به، أو لم ينتفع به؛ ولأنه ربما ينتفع [به] في ثوب آخر، ولو حصل النقص بسبب سعر الثوب؛ مثل أن عادت قيمته غير مصبوغ خمسة، وقيمته مصبوغاً عشرة، فلا يلزم الغاصب في هذه الحالة شيء، كما صرح به [القاضي] أبو الطيب، وابن الصباغ والإمام، والمتولي، وهذا كله، إذا كان الصبغ [للغاصب، أما إذا كان لصاحب الثوب؛ فإن قيمتهما بعد] الصبغ كما قبله؛ فلا شيء عليه، وإن نقصت. قال القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ وغيرهما: فالنقص على الغاصب، إلا أن يعلم أن النقصان [لنقصان سعر الثياب أو الصبغ]؛ فإنه لا يضمن؛ لأن نقصان السعر لا يضمنه الغاصب، مع رد العين، وما قالوه ظاهر فيما إذا كان الصبغ مما يكن فصله [وكذا إذا لم يمكن صله] وكان سبب النقص نقصان سعر الثياب، أما إذا كان سببه نقصان سعر الصبغ، فينبغي أن يضمن؛ لأن الصبغ صار كالمستهلك، كما ستقف عليه فيما يحكيه في الفروع من بعد عن الماوردي. وإذا كان كذلك، فيضمن قيمته أكثر ما كانت من [حين الغصب إلى] حين الصبغ كما حكاه الماوردي، فيما لو كان الصبغ زعفراناً، بخلاف ما إذا كان النقص بسبب سعر الثوب؛ لأن الثوب غير مستهلك، ولو زادت قيمتهما فالكل له، وهل للمالك أن يطالبه باستخراج الصبغ؟ قال الرافعي، والإمام: نعم. وقال الماوردي: ينظر إن كان له في ذلك غرض؛ مثل أن يحتاج إلى الصبغ، أو إلى الثوب أبيض، أو يكون بعد استخراجه أكثر قيمة، أو في

الاستخراج مؤنة يذهب بها شطر قيمته، فله المطالبة، وإن لم يكن له [فيه] غرض؛ نظر، فإن لم يستضر الغاصب بنقص [يضمنه في الثوب أخذ باستخراجه، وإن كان يستضر بنقص] يحدث فيه فهل يؤخذ باستخراجه، أم لا فيه وجهان كالشجر في الأرض: أحدهما: نعم، فعلى هذا يضمن ما نقص من القيمة، ولا يضمن زيادة إن كانت قد حدثت بالصبغ، ولو طالبه بغرم النقص من غير استخراج أجيب إليه، ولو كان الصبغ لثالث، فإن كانت قيمتهما بحالهما فهما شريكان، ولا شيء على الغاصب، ويكون الحكم كما لو كان الصبغ للغاصب. قال في المرشد: إلا أنه إذا أراد صاحب الصبغ قلعه، فقلعه، ونقصت قيمة الثوب، كان النقصان على الغاصب. وقال الماوردي: إذا كان قيمة [الصبغ، والثوب عند الصبغ وبعده متساوية، وبذل رب الثوب لرب الصبغ قيمته] أجبر على قبولها؛ لأنه لا يقدر علىعين ماله؛ [لأه صار] مستهلكاص في الثوب، وإن رب الصبغ لو بذل قيمة الثوب قيل له: أنت مخيربين أخذها، وبين بذلقيمة الصبغ، ولو زادت قيمتهما كانت الزيادة بينهما، وإن نقصت القيمة، فإن كان لنقصان سعر الثياب؛ كان من صاحب الثوب وإن كان [لنقصان قيمة الصبغ كان النقصان محسوباً على صاحبه، ويرجع به على الغاصب وكذا لو] كان النقصان للعمل، صرح به في المرشد، وفيما قاله نظرٌ من وجهين: أحدهما: -[أنه حكي] أن النقص بسبب نقص [سعر الصبغ] من ضمان الغاصب، وهو مخالف لما حكاه فيما إذا كان الصبغ لصاحب الثوب، ونقصت قيمته؛ بسبب نقصان قيمة الصبغ، أنه لا يضمن، ولا يظهر بينهما فرق.

الثاني: أن قوله: وكذا، لو كان النقصان للعمل؛ فإن النقصان بسبب العمل تارة يستوعب قيمة الصبغ، وتارة لا يستوعبها، وهو فيما إذا لم يستوعبها، [كما] إذا صارت قيمة الثوب بعد الصبغ اثني عشر – ظاهر؛ لأن أجزاء الصبغ قد تفرقت فأضيف النقص إلى ذلك، على أن الماوردي، والبغوي حكيا فيما إذا كانت قيمة الثوب عشرة، وقيمة الصبغ عشرة، وصارت قيمتهما بعد الصبغ خمسة عشر، [أن كلاًّ] منهما يرجع على الغاصب بدرهمين ونصف هي نقص ما غصب له، أما إذا استوعب النقص قيمة الصبغ بأن كان الثوب مصبوغاً يساوي عشرة؛ فلا [يظهر] لكون جرم الصبغ باقياً، فكيف يسقط حق مالكه من التعلق به، ويخالف [ما] إذا كان الصبغ للغاصب فإنه في هذه الحالة يجعل جابراً لما نقص من مالية الثوب على أن هذا يوجد جوابه من كلام الإمام، فإنه جزم بأن الريح لو طيرت ثوباً إلى إجانة صباغ، فانصبغ بصبغ قيمته خمسة، ولم تزد قيمة اثلوب بسببه شيئاً، وكان الصبغ معقوداً لا يمكن فصله، أن حق مالك الصبغ قد حبط، ومن تعجب من ذلك، فلينظر إلى مسألة المفلس وهي ما إذا اشترى ثوباً بعشرة، وصبغه بصبغ قيمته عشرة، فإذاً قيمته مصبوغاً عشرة، وقد قال [بعض] الأصحاب: إن صابغ الثوب يرجع فيه، ويستبد به، وإن كان [فيه] عين الصبغ، وحيث تكلمنا في مسألة طيران الثوب إلى الإجانة [فلنكملها. قال الرافعي: [ليس] لأحدهما عند بقاء قيمة الثوب] والصبغ أن يكلف الآخر الفصل ولا التغريم [إن حصل نقص [في أحدهما]] إذ لا

تعدي، ولو أراد صابح الثوب تملك الصبغ بالقيمة؛ فعلى ما تقدم. فروع: لو غصب [منه] سمناً، وعسلاً، ودقيقاً فعصده، قال البندنيجي: إن لم تزد قيمة ذلك، ولم تنص، أو زادت فالكل للمالك، وإن كان قد نقص واستقر، أخذه وما نقص بالخلط وإن كان غير مستقر، فالحك ما في الحنطة إذا بلها. لو كان الصبغ بإذن المالك، وقد حصل به نقص فلا ضمان على الغاصب، فلو أذن له ثم قال: رجعت في الإذن قبل الصبغ وقال الغاصب: بل كنت باقياً على الإذن إلى حين الصبغ، فمن يقبل قوله منهما؟ فيه وجهان في الحاوي، ولو اختلفا في أن [المصبوغ به] للغاصب أو للمغصوب منه. قال الماوردي: [نظر] إن كان مما يمكن فصله، فالقول قول الغاصب [مع يمينه]، وإن كان مما لا يمكن فصله، فالقول قول المغصوب منه [مع يمينه]؛ لأنه [قد] صار مستهلكاً في الثوب، فجرى مجرى أجزائه. وإذا زوق الدار المغصوبة بما لو نزع لحصل منه شيء؛ فالحكم في جواز النزع، والإجبار عليه وعلى قبول هبته كما ذكرناه في الصبغ الممكن فصله. وإن كان التزويق محض تمويه [و] لا يحصل منه عين لو نزع، فليس للغاصب المنع إن رضي المالك، وهل له إجباره عليه؟ فيه وجهان: أصحهما في التهذيب: لا، [وهو الصحيح، والآخر: نعم؛ لأنه قد يريد تغريمه أرش النقص الحاصل بإزالته].

قال: وإن عمل فيه عملاً زادت [به] قيمته، بأن قَصَّر الثوب، أو علم من الخشب أبواباً، فهو متبرع بعمله: لأنه لم يأذن له فيه، ولا حق له فيما زاد، لكنه حصل بما هو متبرع به، وهكذا الحكم فيما لو غصب غزلاً، فنسجه، أو نُقرة فضربها، أو طيناً فضربه لبناً، وهل للمالك إجباره على إعادة النقرة كام كانت بسبكها، واللبن طيناً بدقه؟ قال الإمام: الذي قطع به الأئمة، [أن له] [أن يكلفه] ذلك، والنظر إلى تتبع الأغراض، فإنها على الجملة ممكنة، وهذا مقطوع به في الطرق. قال: وفيه تنبيه على أصل، وهو أن من غصب شيئاً على صفة، وغير صفته فهو على حكم هذه القاعدة ماطلب بر صفته إذا أمكن. قلت: وهو موافق لما حكيته عنه فيما إذا [كان الصبغ لمالك الثوب] أن له إجباره على فصله مطلقاً، وقد يجري – هاهنا – ما حكيته عن الماوردي من التفصيل، والخلاف في مسألة الصبغ، ويؤيد القول بعدم الإجبار على النزع ما ذكرته عن صاحب التهذيب في آخر الفروع المذكورة من قبل. قال: وإن غصب دراهم، فاشترى [بها] سِلعة في ذمته، ونَقَد الدَّراهم في ثمنها، وربح – رد مثل الدراهم؛ لأنها من ذوات الأمثال، وقد تعذر ردها، فغرم مثلها. قال: وفيه قول آخر، أنه يلزمه ردها مع الربح؛ لأنه مما ملكه [و] في ذلك حسم باب ارتفاق الغاصب بالمغصوب؛ فإنه ربما يتخذ ذلك ذريعة إلى تحصيل الرباح، وهذا ما علل به الشافعي هذا القول في القديم كما حكاه القاضي أبو الطيب، في كتاب القراض، وحكى أن شيوخنا الخراسانيين مثل القفال، وغيره، بنوه على أن البيع الموقوف يصح عنده، فإن له في البيع الموقوف

قولين، وإن أبا العباس وأبا إسحاق أنكرا أن يكون له قول بوقف العقود، وأنهما أبَّدا الول بأنه لم يفصل بين أن يكون التصرف في العين، أو في الذمة، وإنما يتصور الوقف، إذا كان التصرف بعين المال. وفي البحر في كتاب القراض: أن بعض أصحابنا قال: إن للشافعي في الجديد قولاً بوقف العقود وسنعيده في كتاب القراض. قال: والأول أصح، فإن المشترَى مضمون على الغاصب؛ لكونه لو تلف تلف على ملكه، فلو كان الربح للمغصوب منه؛ لكان مخالفاً "لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضن"، وهذه المسألة تعرف بمسألة البضاعة. تنبيهان: كلام الشيخ يقتضي أن [يكون] الربح للمالك [على القديم] من غير تعلقه بإجازة العقد وهو موافق لما حكيناه من تعليل الشافعي، وقد حكاه الإمام عن معظم المحققين، لكنه علله بتعذر البيع وقال: [إن] في كلام القاضي إشارة إليه وهو بعيد، ومعظم أقوال الأصحاب مصرحة بأن المالك بالخيار في الإجازة، ومضمون هذا [أنه] لو لم يجز، انقلب التفريع إلى قياس القول الجديد،

ولو لم يظهر في المال ربح، [فلا مساغ] للقول القديم، وليس إلا اتباع القياس، اللهم إلا أن يكثر التصرفات ويعسر تتبعها بالنقض، فإن شيخي قال بجريانها، انتهى. وكلام الشيخ يقتضي أن القول القديم [يجري عند] حصول الربح، وإن لم [تكن العقود] بحيث يعسر تتبعها بالنقض. ومن طريق الأولى: إذا كثرت، وقد حكى الإمام عن بعضهم اختصاصه بما إذا كثرت وعسر التتبع، وكلام [الشيخ] يقتضي: أنه لا فرق في جريانه بين أن ينوي الغاصب عند الشراء أنه ينقد الدراهم في الثمن، أو يعِنّ له ذلك من بعد. وقال الإمام فيما إذا عنَّ له الوفاء منه بعد الشراء: ينبغي أن يخرج من تفريع القديم إن صدقه صاحب الدراهم. وإن لم يصدقه فالحكم كما ذكرنا. فرع: لو اشترى الغاصببعين المال شيئاً وباع بيوعاً كثيرة، عسر تتبعها بالتقصي؛ فعلى الجديد – العقود باطلة. وفي القديم كما حكاه البندنيجي، وغيره في الوكالة والإمام في القراض، أن رب المال بالخيار بين أن [يجيز البيع، فيكون كل الربح له، وبين أن يبطلها]، ويكون له بدل ماله، وإيراد الغزالي في أوائل البيوع يوهم أن الخلاف في هذه المسألة في الجديد، وهو ما صرح به الإمام في [آخر] كتاب الغصب. قال: وإن غصب شيئا، وباعه، [أي وقبضه المشتري]؛ كان للمالك أن يضمن من شاء منهما؛ لثبوت يده على مال الغير من غير استحقاق.

قال: وإن علم المشتري بالغصب فضمنه لم يرجع على الغاصب، أي إذا غرم لأنه غاصب، تلف المال عنده، فاستقر عليه الضمان، كالغاصب من المالك، وله أن يرجع على الأول بالثمن، إن كان قد قبضه منه. قال: فإن لم يعلم فما التزم ضمانه بالبيع، لم يرجع به [أي] على الغاصب، كقيمة العين، والأجزاء أي مثل أرش اليد إذا سقطت في يده، أو عن عيب حدث فيها عنده، وغرمه؛ لأنه دخل على ضمان ذلك [بالبدل]، فانتفى التغرير المقتضي وجوب الضمان. وفي تعليق القاضي الحسين: أن هذا في أرش ما تلف بفعله، أما [أرش] ما تلف بآفة سماوية فقد قال الشافعي: يرجع به على البائع. وقال المزني: هذا خلاف أصله؛ لأنه [قد] قال: لو تلفت الجملة فغرم قيمتها، لا يرجع، والأجزاء حكمها حكم العين. وقال ابن سريج: إن قلنا: لا يرجع فالوجه ما ذكره المزني، أي فتوجيهه ما ذكره المزني، فإن قلنا: لا يرجع على ظاهر النص، فوجهه أن العاقد دخل في العقد على ان يضمن الجملة دون الأجزاء، يدل عليه أن المبيع إذا تعيب في يد المشتري، ثم اطلع البائع على عيب بالثمن، فليس له أن يسترد المبيع مع الأرش، فيرد الثمن، بل الذي له الفسخ والرجوع بالمبيع، بلا أرش، أو الرجوع بقيمته، فقد [ذكرت أنا] في باب التحالف شيئاً يتعلق بذلك، ونظائر المسألة؛ فليطلب منه. فائدة: إذا قيل: إن كلام الشيخ يفهم أن المشتري التزم ضمان المبيع بالقيمة، فلذلك لم يرجع بها – فهو ممنوع؛ بل المشتري إنما دخل على أن يضمن المبيع بالثمن ينبغي إذا كان الثمن ألفاً، والقيمة ألفين، وغيرهما أن يرجع بالألف الزائد؛ لأنه لم يلتزمه.

قلت: قد حكى هذا صاحب رفع التمويه على التنبيه جزماً فقال: إنه يرجع على البائع بالقدر الزائد من القيمة عن الثمنن وحكاه [الإمام، عن] صاحب التقريب، وقال: إنه مما انفرد به من بين الأصحاب كافة، فإنهم اعتبروا مقابلة العين بالثمن، ولانظر إلى الثمن بل الواجب قيمة العين بالغة ما بلغت، [فإن علقة الضمان متعلقة بالعين]، وعلى هذا فيقال للسائل: ما ذكرته من [أن] كلام الشيخ يفهم ضمان القيمة ممنوع؛ لأن الملتزم ضمانه بالبيع، هو ما دخل على أن يملكه بعوض، كما صرح به البندنيجي وهو المبيع، هو ما دخل على أن يملكه بعوض، كما صرح به البندنيجي وهو المبيع، وأجزاؤه، وقول الشيخ: لم يرجع به لا يعود الضمير [في ذلك] إلى الملتزم ضمانه بالبيع؛ لأنه تالف بل يعود إلى المغروم عنه. وقوله: كقيمة العين، والأجزاء تفسير للغمروم، وبذلك يندفع السؤال. نعم: يتجه أن يقال في المسألة، إن قلنا: المشتري في البيع الفاسد يضن ضمان الغصوب، فلا يرجع بما غرمه من القيمة مهما كان، كما أطلقه الأصحاب. وإن قلنا: إنه يضمن قيمة يوم القبض، أو يوم التلف وكان ما غرمه أكثر من [ذلك،] فيتجه أن يكون في رجوعه [به] قولان كما [قلنا] في المستعير من الغاصب، إذا تلفت العين في يده، وفرعنا على الصحيح في أنه يضمن قيمة يوم التلف، [وكان ما غرمه] أكثر منها فإن في رجوعه بالقدر الزائد قولين، [كما] حكاهما القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وغيرهما. والجديد منهما: عدم الرجوع.

والقديم: الرجوع. وقد أغرب الماوردي، فحكى أنا إن قلنا في البيع الفاسد: لا يضمن إلا قيمة وقت القبض – أن ما يحدث من زيادة بعد القبض يختص الغاصب بتحملها، وكذا ما يحدث فيه من نقص، وعزا الأخير إلى رواية الربيع في الأم، ولعله أراد أن للمشتري الرجوع عليه بذلك، وإلا فالمودع من الغاصب يطالب بقيمة العين، وإن كان قد دخل على ألا يضمنها. قال: وما لم يلتزم ضمانه، ولم يحصل له به منفعة، كقيمة الولد ونقصان الولادة، يرجع به على الغاصب؛ لأنه لم يرضَ به ولم يحصل له في مقابلته منفعة، فكان مغروراً بهن وما قاله الشيخ هو ما حكاه الإمام عن العراقيين، وحكى عن المراوزة القطع بأنه لا يرجع بنقصان الولادة، وفيما قاله مخالفة من وجهين: أحدهما: أن القاضي الحسين من المراوزةن وقد قال بمثل ما حكاه الشيخ. والثاني: أن أكابر العراقيين من القاضي أبي الطيب، والبندنيجي والماوردي، وصاحب البحر – قطعوا بعدم الرجوع بنقصان الولادة، لكن يمكن حمل ما قاله الشيخ، والقاضي على ما إذا سمنت في يد المشتري ثم زال السمن؛ بسبب الولادة كما صرح به صاحب رفع التمويه على التنبيه، وما قاله الماوردي وغيره، على ما إذا نقصت عن الحالة التي اشتراها. وفي التتمة: أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني حكى طريقة [قاطعة] في شرح الفروع؛ أنه لا يرجع بقيمة الولد الحر؛ لأن نفع حرية الولد تعود إليه. قال: وما حصل له به منفعة كالمهر، والأجرة، وأرش البكارة فقد قال في القديم: يرجع؛ لأنه دخل على أن ذلك لا يكون مضموناً عليه؛ كقيمة الولد، فكان غارًّا له فرجع عليه، وهذا ما قال في البحر: أن الفتوى به عندي. قال: وقال في الجديد: لا يرجع؛ لأن الغاصب متسببن والمشتري مباشر، والضمان متعلق بالمباشر دون المتسبب؛ ولأنه [حصل] له في مقابلة منفعة؛

فضمن بدلها بخلاف الولد، فإنه لم يحصل له في مقابلة قيمته بدل، ولا لذة، والخلاف المذكور يجري فيما لو كان المغصوب شاة، فنتجت، أو شجرة، فأثمرت، فذبح السخلة، وأكل الثمرة، هل يرجع بما غرمه عنهما أم لا؟ وكذا [فيما] لو أكره امرأة على التمكين من الزنى، وأكره رجلاً على الزنا، وقلنا بإمكانه فالرجل يغرم المهر، وهل يرجع به على المكره فيه؟ هذا الخلاف صرح به المتولي [وقد ألحق المتولي] أيضاً بمسألة الكتاب في الحكم ما إذا كان المغصوب داراً، فباعها [الغاصب]، ثم نقضها المشتري وبناها، فإن عليه رد العرصة، وما بين قيمتها مبنية، ومنقوضة، وعليه [ما بناه، و] أجرة مثلها من حين القبض إلى حين النقض، وأجرة العرصة إلى حين الرد، وليس عليه أجرة ما بناه فيها، وله أن يرجع على الغاصب بنقض التالف، ولا يرجع بقيمة الأجزاء، وهل يرجع بالأجرة؟ فيه الخلاف، وحكى الإمام، ومن تابعه في الرجوع بنقص التالف خلافاً، وإن ميل القاضي إلى الرجوع. تنبيهان: الأول: كلام الشيخ يقتضي أن محل الخلاف في الرجوع بالأجرة، إذا استوفى المنفعة، أما إذا لم يستوفها بل أوجبنا الأجرة عليه؛ لكون المنفعة فاتت تحت يده، فإنه يرجع بها وجهاً واحداً، وهو ما حكاه القاضي الحسين، وحكاه في البحر عن بعض الأصحاب، وحكى عن بعضهم انه لا فرق بين أن يستوفي المنفعة، أو تفوت تحت يده، و [الذي] صححه الرافعي الأول. وحكى المتولي الخلاف أيضاً وأجراه فميا لو تلفت السخلة التي أنتجتها الشاة تحت يده، أو لبنها ولو برضاع ولدها، وكذا الثمرة الحاصلة من الأشجار المبيعة. الثاني: قول الشيخ كالمهر وأرش البكارة فيه نظر؛ لأنا قد حكينا فيما

[يجب عليه] إذا وطئ البكر ثلاثة أوجه: أحدها: مهر بكر، وأرش البكارة. والثاني: مهر [ثيب]، وأرش البكارة. والثالث: مهر بكر، لا غير. وعلى كل حال، فلا يتجه [أن يرجع] بأرش البكارة؛ لأنا إن أوجبنا مهر بكر وأرش البكارة، أو مهر ثيب، وأرش البكارة، فقد جعلنا إزالة البكارة جناية على الجزء، وقد تقدم أن الأجزاء إذا ضمنت لا ترجع بغرامتها، وإن قلنا: مهر بكر لا غير فلا أرش يغرم حتى يرجع به؛ ولأجل هذا جزم الماوردي، والقاضي أبو الطيبن والبندنيجي بعدم الرجوع بأرش البكارة، وغاية الممكن في توجيه ما ذكره الشيخ، كما حكاه المتولي وجهاً بعد حكايته ما حكيناه عن القاضي المذهب أن الشراء [يضمن تسليط المشتري] على تفويت البكارة؛ فلأنه لا يتمكن من الاستمتاع إلا بتفويت البكارة، فنزلت تلك الجلدة منزلة منفعة البضع. فرع: إذا وهب الغاصب الجارية المغصوبة لإنسان، فأتت منه بولد، هل يرجع بقيمته على الغاصب؟ حكى الرافعي فيه وجهين على قولنا: يرجع بقيمته إذا أتت به في مسألة الكتاب. ووجه الفرق: أن الواهب متبرع، والبائع ضامن سلامة الولد بلا غرامة، وما قاله لا يصح؛ لأنه حكى في البيع الفاسد أن المشتري يغرم قيمة الولد، [ويستقر عليه، ولو كان البائع ضامناً لسلامة الولد لما رجع بقيمته] إذا كانت الجارية له على أنا حكينا، [ثَمَّ] عن القاضي ما يمكن أن يدفع به هذا السؤال. [آخر: لو كان المشتري قد بنى وغرس فيما اشتراه؛ للمالك إجباره على القلع؛

قال الماوردي في كتاب الإقرار: وللمشتري إن كان جاهلاً بالحال [أن] يرجع على البائع بما بين قيمة غراسته وبنائه قائماً ومقلوعاً، وبما غرم من نقص الأرض بالقلع؛ لأنه ألجأه بالغرور إلى ذلك، وحكاه عن الشافعي]. قال: وإن ضمن الغاصب فكل ما رجع به المشتري على الغاصب –أي؛ كقيمة الولد، ونقصان الولادة على زعمه لم يرجع به [الغاصب] أي علي المشتري لعروه عن الفائدة؛ فإنه لو أخذ منه شيئاً لاسترده منه. قال: وكل ما لم يرجع به المشتري [على الغاصب] أي كقيمة العينن والأجزاء من حين قبض العين إلى حين التلف يرجع به على الغاصب لأن قرار الضمان على المشتري فيرجع عليه، أما إذا ضمن الغاصب قيمة يوم الغصب، لكونها أكبر قيمة من يوم قبض المشتري فلا يرجع بالقدر الزائد على المشتري؛ لأنه لم يدخل في ضمانه؛ فلهذا لا يطالبه به ابتداء. فروع: لو أجر [الغاصب] المغصوب وسلمه؛ كان للمالك مطالبة أيهما شاء، فإذا غرم المستأجر الأجرة لا يرجع بها قولاً واحداً، ويرجع بالثمن. وإن غرم قيمة العين والأجزاء رجع بهما قولاً واحداً، [وهو ما] جزم به الروياني. [و] في الوسيط: أن العراقيين قالوا: إن يد المستأجر والمرتهن هاهنا كيد العارية؛ لأن لهم غرضاً في أيديهم؛ بخلاف المودع والوكيل بغير جعل إذا زوج الجارية المغصوبة وغرمه المالك أجرة المنفعة فهل يرجع بها؟ ينظر: إن استوفاها فلا، وإلا فنعم. وإن غرمه قيمة العين رجع بها، فإن غرمه المهر لم يرجع به؛ لأنه دخل في

العقد على أنه يتقوم عليه. قال القاضي الحسين، والمتولي وغيرهما: ويخالف المغرور بالحرية إذا بَانَ للمغرور حقيقة الحال بعد الوطء وفسخ، فإنه يرجع بالمهر على القول القديم. والفرق: أنه ملك المحل وحصلت له تلك المنفعة، وهو إنما بذل المهر على أن يتأبد له البضع، وقد بان معيباً، ولا يلزم الرضا بالمعيب، وإذا فسخ فمقتضى الفسخ بالعيب استرجاع البدل فرجع به وهاهنا لم يملك المحل، وقد دخل في العقد على أن يتقوم عليه فينظر أن لو كان ممن لا يحل له نكاح الإماء؛ فإن العقد باطل، ولا يرجع بالمهر. قال: وإن كان المغصوب طعاماً، فأطعمه إنساناً، فإن قال: هو مغصوب، فضمن الغاصب، رجع به على الآكل؛ لفقد سبب الضمان، وهو الغرور مع دخوله على أنه يضمن؛ فإن ضمن الآكل لم يرجع [به] على الغاصب؛ لأنه غاصب استهلك ما غصبه. قال: وإن قال هو لي فضمن الغاصب لم يرجع [به] على الآكل خلافاً للمزني؛ لأنه أقر بأن المدعي ظلمه بما أخذه منه فلا يرجع [به] على [غير] من ظلمه. قال: وإن ضمن الآكل رجع في أحد القولين؛ لأنه دخل على أنه لا يغرم، وقد غرم مستنداً إلى تغرير الغاصب فيرجع عليه، وهذا هو القديم، ويروي في بعض كتب الجديد. قال: ولا يرجع في الآخر وهو الأصح؛ لأنه أتلفه في منفعة نفسه والغاصب منكر للغرور، فإنه يدعي أنه قدم إليه ملكه. قال: وإن قدمه إليه، ولم يقل: هو لي أو مغصوب؛ ضمن الآكل – رجع في أحد القولين دون الآخر. وتعليلهما ما ذكرناه.

وحكى الماوردي عن البصريين من أصحابنا أنهم جزموا بالرجوع هاهنا، وحكوا الخلاف فيما إذا وهب الطعام منه وأقبضه إياه [فأكله، وفرقوا بأن] استهلاك الأكل بإذن الغاصب حصل فرجع عليه، [واستهلاك الموهوب له [حصل يوم إذن الغاصب] فلم يرجع عليه]، وهذه الطريقة تؤخذ من كلام المتولي؛ فإنه جعل الخلاف في الهبة مرتباً على الخلاف في التقديم، وأولى بالرجوع، والأصح في الكل عدم الرجوع، وسكوت الشيخ عنه في هذه المسألة استغناء بما ذكره فيما إذا قال هو: لي، فإن التغرير فيه أبلغ، ومع هذا لم يكن سبباً للرجوع، وكان فيما دونه من طريق الأولى. فرع: لو اختلفا في العلم بالحال والجهل به. قال الماوردي: إن قال الواهب: علمت أنه مغصوب من غيري، فالقول قول الموهوب له، وإن قال: أعلمتك حال الهبة أنه مغصوب، فالقول قول الواهب؛ لأنه زعم فساد الهبة. قال: وإن ضمن الغاصب، فإن قلنا: لا يرجع الآكل على الغاصب، رجع الغاصب؛ لاستقرار التلف تحت يده، وتخالف المسألة [التي] قبلها؛ لأنه ثَمَّ اعترف بأنه مظلوم بما [غرمه فيؤاخذ] بإقراره. قال: [وإن قلنا: يرجع الآكل؛ لم يرجع الغاصب لعرو ذلك عن الفائدة، ثم لا يخفى أن محل ما ذكرناه من الرجوع على الآكل إذا كان حرًّا مكلفاً، أما لو كان عبداً، أو بهيمة، فإن كان ذلك بغير إذن مالكها؛ فهو مضمون على الغاصب وحده فيرجع به عليه، ولا يرجع به على مالك البهيمة والعبد، ولا يتعلق برقبتهما [شيء] قاله الماوردي. وقال الرافعي وغيره: ما أكله العبد هل يتعلق برقبته؟ يخرج على الخلاف إن قلنا [إنه] يرجع به على الحر فقد جعلنا ذلك بمنزلة الجناية، يتعلق ذلك

برقبة العبد وألا فلا، وإن كان أطعمها بإذن [مالكها]، فإن علم عند أمره أنه مغصوب فهو مضمون عليه وقرار الضمان عليه وإن لم يعلم فإن سلمه إليه حتى تولى هو إطعام البهيمة والعبد؛ كان في حكم الموهوب له، فإن لم يسلمه إليه كان في [حكم] الآكل. فرعان: [أحدهما]: إذا غصب شاة وأمر قصَّاباً فذبحها جاهلاً بالحال، كان قرار الضمان على الغاصب. قال الرافعي: ولا يخرج على الخلاف في أكل الطعام؛ لأنه ذبح للغاصب وهناك [انتفع لنفسه]. قال البندنيجي: وكذا [في كل] ما استعان به الغاب [غيره] كطحن الحنطة، وخبز العجين وقطع الثياب ونحو ذلك. الثاني: لو أمر الغاصب إنساناً بإتلاف المغصوب بقتل، أو كسر، أو حرق ففعل، ولم يعلم أنه مغصوب فغرمه المالك؛ ففي رجوعه على الآمر خلاف مرتب على الخلاف في الإذن في أكل الطعام وأولى بعدم الرجوع؛ لأن الإتلاف لا يباح بالإباحة؛ بخلاف الأكل، صرح به القاضي الحسين، والمتولي. قال: فإن أطعم المغصوب منه [المغصوب] وهو يعلم برئ الغاصب؛ لأنه استهلك مال نفسه باختياره، مع علمه بالحال. قال: وإن لم يعلم ففيه قولان: أحدهما: يبرأ لأنه أتلف مال نفسه؛ فأشبه ما لو كان عالماً وهذا ما رواه الربيع. قال: والثاني لا يبرأ لأنه أزال يده وسلطانه ولم يفد ذلك بتقديمه إليه؛ فلم يحصل التسليم الواجب، وهذا هو المنصوص وجعل القاضي الحسين والرافعي

أصل الخلاف في هذه المسألة الخلاف في [أن] قرار الضمان على الآكل إذا كان أجنبياً أم لا؟ فإن قلنا: لم يستقر عليه برئ الغاصب هاهنا وألا فلا، ومن هذا يظهر أن الصحيح أنه يبرأن كما صرح به ابن يونس وغيره. و [قد] حكى الإمام عن الأصحاب أنهم رأوا أن البراءة هاهنا أولى من الاستقرار هناك؛ لأن تصرف المالك في ماله بالإتلاف يتضمن قطع علقة الضمان عن الغاصب، لكن القول بعدم البراءة هو الذي صححه في "البحر". وحكى عن البصريين [أنهم قطعوا به] فيما إذا قال للمالك: كله، وكلام ابن الصباغ وغيره من العراقيين يرشد إليه، فلو لم يطعم الغاصب المالك الطعام لكن المالك أكله على أنه طعام الغاصب برئ وجهاً واحداً، صرح به المتولي، وما ذكرناه من الخلاف والوفاق، [و] في مسألة الكتاب يجري فيما لو أودع المغصوب من المالك، أو رهنه عبدهن أو أجره منه فتلف في يده كما صرح به الماوردي وغيره، وقد يظهر من هذا أن الخلاف في مسألة الكتاب مادته الخلاف في قرار الضمان [على الآكل إذا كان أجنبيًّا، فإن الوديعة لا خلاف أن قرار الضمان] فيها على الغاصب، وإن أجرى العراقيون في قرار الضمان على المرتهن والمستأجر وجهين، وعلى كل حال فالمذهب في هذه الصورة عدم البراءة؛ كما صرح به الرافعي ولو باعه من المالك، أو أعاره، أو أقرضه برئ اتفاقاً، وكذا إذا أسامه. ولو كان المغصوب عبداً فأعتقه المالك بوكالة الغاصب له فهل يعتق؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لمصادفة ملكه، كما لو أعتق عبد غيره بزعمه في ظلمة

[مثلاً] فإذا هو عبده. والثاني: لا؛ فإنه هاهنا سفير في العبارة، وهذا ما نسبه ابن الصباغ إلى رواية الشيخ أبي حامد، وعلى الأول هل يبرأ الغاصب وجهان: أصحهما: في الرافعي أنه يبرأ، وفي "البحر": [الأصح] خلافه. ولو كان المغصوب جارية فزوجها من المالك فأولدها نفذ الاستيلاد قطعاً وبرئ الغاصب وشبب بعض الأصحاب بالخلاف [فيه، كذا قاله الإمام، وفي البسيط، وظاهره يوهم أن الخلاف] في البراءة لا في نفوذ الاستيلاد. وفي "الوسيط": صرح بأن التشبيب في الاستيلاد. ولو قال للمالك: أعتق هذا العبد عني فالمذهب أنه لا يقع عنه. وفيه وجه حكاه المتولي أنه يقع عنه، كما إذا باع مال أبيه على ظن أنه حي [فإذا هو ميت]، فإن العتق يتضمن التمليك، وعلى المذهب هل يعتق [على] المالك؟ فيه وجهان. قال: وإن رهن المغصوب منه المغصوب من الغاصب لم يبرأ من الضمان [أي] إلا بأن يقبضه، أو نائِبه ثم يعيده إليه، خلافاً للمزني؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تْؤَدِّيَهُ" والمعنى على اليد ضمان ما أخذت؛ [حتى تؤديه] ولا يمكن إضمار: رد ما أخذت فإنه لو كان مراداً لما قال: حتى تؤديه؛ ولأنه عقد لا يمنع طريان الضمان عليه فوجب ألا ينافي ضماناً سابقاً [له]، كما لو استأجر المالك الغاصب ليخدم العبد المغصوب كذا قاله القاضي أبو الطيب، ولأن الرهن لا ينافي الضمان؛ بدليل ما لو رهنه شيئاً فتعدى فيه؛ فإنه لا يبطل الرهن، فإذا لم ينافه فلا يكون متضمناً زواله كما في حال الاستدامة، واعترض الإمام في كتاب الرهن على قياس رهن المغصوب على

تعدي المرتهن بأن طرآن العدوان سببه إحداث المرتهن ما لم يكن له أن يحدثه، وليس يشبه هذا إذن المالك للغاصب في الإمساك، ثم قال: ومن لا يستشعر غموض هذه المسألة فليس من الفقه في شيء، فإن سبب ضمان الغاصب عدوانه، وقد انقطع باذن بالإمساك في جهة غير مضمونة. فإن قيل: لو رهن المعير العين المعارة من المستعير – زال عنه الضمان على أحد الوجهين، فهلا كان هنا مثله؟! قلنا: الخلاف في براءة المستعير من ضمان العاريَّة، وعدم البراءة مبني كما حكاه المتولي هاهنا، والماوردي في كتاب الرهن على أن العارية هل تبطل بالرهن أم لا، ومن جزم بعدم بطلان العارية بالرهن، وهو ابن الصباغ – خصَّ محل الخلاف في البراءة وعدمها بما إذا رجع المعير في العارية. وإذا كان كذلك فضمان العارية إنما كان بسبب الارتفاق والانتفاع بملك الغير لا عن استحقاق وقد زال، وهاهنا الضمان ضمان يد، واليد قائمة حساً ومشاهدة، وهذا ما أشار إليه المتولي. قال: وإن أودعه إياه فقد قيل يبرأ لأن الوديعة تنافي الضمان؛ فكانت متضمنة للبراءة، هذا ما ذهب إليه أبو علي الطبري وأكثر الأصحاب؛ كما حكاه القاضي أبو الطيب في كتاب الرهن. وقيل: لا يبرأ [كما لو رهنه منه] وهذا قول [ابن أبي هريرة]، وهذا الخلاف قريب الشبه من الخلاف فيما إذا تعدى المودع في الوديعة، ثم أحدث له استئماناً أو هو هو، ولا خلاف في أنه لو باعه منه سقط حكم الضمان، ولو أجره أو أوصى [له] بمنفعته ومات. وقيل: قال المتولي فيه وجهان: أحدهما – وهو الذي قال به العراقيون -: أنه لا يبرأ. والثاني – وهو اختيار القفال -: أنه يبرأ؛ لأن منفعة يده عائدة للآجر؛ لأنه

يستحق الأجرة، والثواب في الوصية قائم مقام الأجرة. ورتب الماوردي في تكاب الرهن الخلاف في [الغاصب بالإجارة على الخلاف في] براءته بالإيداع، وقال: الأولى البراءة؛ لأن الإجارة صنف من البيع، والإمام ثَمَّ رتبه على الوديعة، لكن قال: الأولى ألا يبرأ، وقال: لو وكله في بيعه من غير أن يستحفظه إياه؛ ففي براءته من الغصب الخلاف في الإجارة وأولى بألا يبرأ. قال الغزالي: لأنه كالمستأجر فيه [إلا أن غرض المالك هاهنا في اليد أظهر، ونوقش في ذلك؛ لأن هذا يقتضي حصول البراءة. وجوابه أنه لما قال: إنه كالمستأجر [فيه]] اقتضى أنه لا يبرأ جزماً، كما حكيناه من قبل عند الكلام في الرهن منه، ثم ذكر مستند الخلاف، وهو أن غرض المالك في اليد أظهر، وقد ذكرت في أواخر الوكالة شيئاً يتعلق بذلك، فليطلب منه. ولو ضارب المالك الغاصب على المال المغصوب فثلاثة أوجه في الحاوي -: ثالثها: وهو الأصح عنده أنه لا يبرأ ما لم يتصرف، وإذا تصرف فإن وقع عقده بعين المال سقط عنه الضمان بتسليمه، وإن وقع على ما في الذمة ثم نقد الثمن لم يبرأ. والفرق: أنه إذا اشترى بعين المال صار دافعاً للمال إلى مستحقه عن إذن مالكه؛ فبرئ من ضمانه وإذا اشترى في ذمته صار قاضياً لدين تعلق بذمته، لم يبرأ من الضمان. فرع: إذا كان المغصوب منه حاضراً فطالبه الغاصب بقبض ماله وجب عليه، فإن امتنع أناب الحاكم من يقبضه عنه، ولو كان غائباً فقبضه منه.

الحاكم برئ، لكن هل يجب على الحاكم قبضه؟ فيه وجهان في "التتمة". قال: وإن فتح قفصاً عن طائر فوقف ثم طار لم يضمن؛ لأن الطير له اختيار بدليل توقيه المكاره وطلبه الرعي، وقد وجد من الفاتح سبب غير ملجئ، ومن الطائر مابشرة فرجحت على السبب غير الملجئ واحترزنا بالسبب [غير الملجئ] عن المكره وشهود الزنا ونحوهما، وهذا ما حكاه العراقيون، وحكى صاحب التهذيب وغيرهم طريقة أخرى بجريان قولين في الضمان، ونسب في"التهذيب" قول الضمان إلى القديم. وغلَّط [الروياني] في البحر من صار إلى وجوب الضمان. وحكى الرافعي [عنه، وعن الشيخ] أبي خلف السلمي [ونحوهما] اختيار وجوب الضمان، فعلى هذا لو دخلت هرة إلى القفص [وقتلت الطائر عقيب الفتح أو سقط القفص] بسبب خروج الطائر فتكسر، أو كسر الطائر بطيرانه شيئاً؛ ضمنه الفاتح؛ لان فعل الطائر على هذا القول منسوب إليه؛ كذا حكاه الرافعي عما جمع من "فتاوى القفال". وقياس ما ذكره العراقيون صريحاً في إفساد الدابة الزرع والعلق أنه لا يضمن كما ستعرفه من بعد. قال: وإن طار عقيب الفتح أي من غير تهييج ففيه قولان: أصحهام: أنه لا يضمن؛ لأنه طار باختياره فأشبه ما لو وقف ثم طار، وقد وافق الشيخ في هذا التصحيح القاضي أبو الطيب.

والقول الثاني: أنه يضمن؛ لأن من طبع الائر النفور ممن قرب منه، فإذا طار عقيب الفتح عرف أن طيرانه لنفوره، فصار كما لو نفّره. وقد حكى في "التهذيب": أن هذا القول هو القديم، والذي حكاه القاضي أبو الطيب، والبندنيجي أن النص في القديم: أنه لا يضمن مطلقاً. وحكى في البحر أن ظاهر ما نقله المزني وجوب الضمان، وبه قال أكثر الأصحاب واختاره [الشيخ] أبو إسحاق، وابن أبي هريرة. وفي "المرشد" وقال الرافعي: إنه الصحيح، وحكى عن بعضهم القطع به، وحكى طريقة أخرى؛ وهي أن خروج الطائر إن كان من غير [اضطراب] فلا ضمان، وإن اضطرب عقيب الفتح ثم خرج ضمن؛ لأنه يدل على [فزعه ونفرته]، ولو كان الطائر في أقصى القفص فأخذ يدب قليلاً قليلاص ثم [طار]، قال القاضي الحسين: حكمه حكم ما لو طار عقيب الفتح، ولا خلاف أنه إذا نفّر الطائر بعد الفتح ضمن، وادعى الماوردي فيه الإجماع، وحكم حل [رباط] الدابة أو فتح باب الإصطبل عنها إذا خرجت عقيب الفتح او شرعت في المشي من أقصى الإصطبل إلى أن خرجت، [أو خرجت] بعد الفتح بساعة وضاعت – حكم فتح القفص. وحكى الإمام عن شيخه أنه [إن] كان تسبب بالفرق بين الحيوان النافر بطبعه وبين انسيِّ، وأنه جعل خروج [الإنسيِّ] على الاتصال؛ كخروج النافر على الاتصال وقال: إنه منقاس، وحخكم حل قيد العبد المجنون وفتح باب السجن عنه [حكم] حل رباط البهيمة فيما ذكرناه، كذا قاله الغزالي

[وغيره] من المراوزة، وإطلاق الماوردي يقتضي أنه لا ضمان وكذلك الروياني ووجهه بأنه لا يستمسك بالقيد عرفاً، وأبدى [الروياني] الضمان احتمالاً لبعض الأصحاب. ولو كان العبد عاقلاً؛ نُظر إن لم يكن آبقاً فلا ضمان، وكذا لو كان آبقاً على الصحيح، ومنهم من جعل حل قيده كحل قيد البهيمة، وهو ما حكاه القاضي الحسين وتابعه صاحب التهذيب فيأتي فيه التفصيل السابق. فرعان: أحدهما: إذا فتح مُرَاح الغنم فخرجت ليلاً فرعت زرعاً للغير، فإن كان الفاتح المالك وجب عليه الضمان، وإن كان غيره فلا ضمنا عليه عند العراقيين، وبه جزم في "البحر"؛ لأنه لا يجب عليه حفظها بخلاف المالك. وعن القفال: أنه يضمن [الثاني]: إذا حّل دابة مربوطة عن علف أو شعير فأكلته؛ لم يضمنه؛ لأن الدابة هي المتلفة دونه، وكذا لو كسرت إناء [في الدار] لم يضمنه. قال الماوردي: سواء اتصل ذلك بالحلِّ أو انفصل عنه قال: وإن فتح زقًّا فيه مائع فاندفق ما فيه أي في الحال ضمن؛ لأنه محفوظ بوكائه، وحله له سبب تلفه، ولا شيء بقطعه فتعلق الحكم به، وكذا لو اندفق بعضه فابتل أسفله أو ثقل به أحد جانبيه فسقط وذهب ما فيه [ضمن]؛ لأن فعله سببه. وقيل: إن كان المالك حاضراً أو أمكنه التدارك لكون الخارج شديداً [فلم يفعل] فلا ضمان، ويخالف ما لو قتل عبده، أو حرق ثوبه، وأمكنه منعه من ذلك ولم يفعل حيث يجب الضمان؛ لأن القتل والتحريق مباشرةٌ، وحل

الوكاء سبب [، والسبب] يسقط حكمه مع القدرة على الامتناع منه؛ كمن حفر بئراً فمر بها إنسان وهو يارها ويقدر على اجتنابها، فلم يفعل حتى سقط فيها؛ فإنه لا يضمن، كذا قال في البحر. قال: وإن بقي ساعةً، ثم وقع بالربح، أو ما في معناه من زلزلة أو سقوط طائر عليه فسال ما فيه لم يضمن، لأنه لم يوجد الخروج بفعله ولا بسبب فعله. قال ابن الصباغ: وهكذا الحكم فيما لو لم يعلم كيف سقط، وحكم حل السفينة وغرقها عقيبه أو بعد ساعة بسبب [حادث أو] الربح، أو نحوه حكم [حل] الزق الذي فيه المائع، فلو غرقت بعد الحل ولم يظهر سبب حادث؛ ففي التهذيب والمهذب وغيرهما في وجوب الضمان وجهان. قال في الحاوي [والبحر]: ويخالف مسألة الزق فإن الماء أحد المتلفات. والرافعي قال: إن الخلاف جارٍ في مسألة الزق. قال:- وإن كان ما فيه جامداً فَذَابَ بالشمس وخرج، أي وكان الزق على صفة لو كان [ما] فيه ذائباً لخرج عقيب الفتح ضمن؛ لأن [الشمس لا] توجب خروجه بل تذيبه، والخروج بسبب فعله فضمن؛ كالمائع. وقيل: لا يضمن؛ لأن خروجه إنما حصل بعارض الشروق فأشبه هبوب الريح. قال: -وليس بشيء لما ذكرناه، [مع ان] الشمس يعلم شروقها فيكون الفاتح معرضاً لما فيه للشمس، وذلك تضييع بخلاف هبوب الريح؛ فإنه ليس مما ينتظر. وعن القاضي الحسين: إجراء الوجهين فيما إذا أزال اوراق الكرم وجرد

عناقيده للشمس حتى أفسدتها، وأجريا أيضاً فيما إذا ذبح شاة [إنسان] فهلكت سخلتها، أو حمامة فهلك فرخها لفقدان ما يصلحهما، وأجراهما المتولي أيضاً فيما لو كان لإنسان زرع، ونخل وأراد سوق الماء إليهما فمنعه ظالم من السقي حتى فسدت، وكذا أجريا فيما لو نقل صبياً إلى مسبعة فافترسه سبع، أو إلى أرض محواة فنهشته حية، لكن الأظهر [منهما] هاهنا عدم الضمان، وهو ما حكى الإمام أنه نص الشافعي، والغزالي جعله ومسألة الشمس سواء، ولا خلاف أنه لو حمله إلى مضيعة فاتفق أن سبعاً افترسه فلا ضمان. فرعان: أحدهما: -لو كان [ما] في الزق جامداً فحله [واحد] وقرب آخر منه ناراً فخرج، فقد قيل: لا ضمان على واحد منهما، وإن قلنا: إنه إذا خرج بالشمس يضمن الحال. قال في الحاوي:- لأن طلوع الشمس معلوم فصار كالقاصد له، ودنو النار غير معلوم فلم يصِرْ قاصداً له. وقيل: يجب الضمان، على المقرب للنار، وهو ما اختاره في المهذب، وجعله الرافعي الأظهر، والغزالي الأصح، وأجرى الرافعي الوجهين فيما لو قرب الفاتح النار منه. وقال في البحر، [والحاوي]: إنه يضمن وجهاً واحداً.

الثاني: - إذا فتح زقًّا مستعلى الرأس وما فيه شديد فنكسه آخر حتى يسرع خروج ما فيه، فقد قيل: يشتركان في ضمان الخارج بعد التنكيس. وقيل: يختص به النمكس، وهو الأصح في الرافعي؛ لأنه كالذابح مع الجارح. تنبيه: الزق: السِّقاء، وجمعه في القلة: أزقاق، وفي الكثرة زِقاق، [وزُقَّاق] – بضم الزاي -؛ كذئب وذئاب [وذؤبان]. قال: -وإن سقي أرضه فأسرف أي جاوز ما يكفي أرضه في العادة؛ لأن الإسراف مجاوزة الحد حتى هلك أي أتلف أرض غيره أو أجَّج ناراً أي تلهبها وأشعلها على سطحه فأسرف حتى تعدَّى إلى سطح غيره [فأحرقه] ضمن لتعديه بالإسراف، وكذا لو لم يسرف في النار، لكنه أوقدها في قوت هبوب الرياح، وكلام القاضي الحسين في باب وضع الحجر يفهم أن في هذه الحالة خلافاً؛ فإنه حكى عن [بعض] الأصحاب فيما إذا أشعل ناراً في ملكه فطارت منه شرارة [فأحرقت أرض] الغير – انه لا ضمان، ثم قال: وقال القفال: إن كان ذلك في وقت هبوب الرياح، وفي [ظلمة الليل] وجب الضمان، وإلا فلا. وفي الحاوي في باب الصائل على البهائم: أنه إذا أحرق بالنار حشيشاً في أرضه فتعدت فأحرقت زرع غيره، فإن كان زرع الغير [غير] متصل بالحشيش؛ فلا ضمان [وإن كان [الزرع] متصلاً بالحشيش المحرق، فإن كانت الريح مصروفة عن جهة الزرع؛ لهبوبها إلى غره فلا ضمان]، وإن كان هبوبها في جهة الزرع ففي الضمان وجهان: وجه الوجوب: أن من طبع النار أن تسري إلى جهة الريح.

ووجه المنع: [أن هبوب الريح] ليس من فعله، وقال فيما إذا أرسل الماء في أرضه فخرج إلى أرض غيره فأفسدها، وكان الذي أرسله أكثر من قدر حاجة أرضه وقدر على حبسه؛ ففي الضمان وجهان: وجه المنع: أن الجار قد كان يقدر على الاحتراز منه [بحظيرة تصد] عنه، أما إذا سقى [أرضه] من غير إسراف؛ كما إذا سقى أرضه بما تحتمله عادة فتعدى إلى أرض غيره، أو أوقد في وقت سكون الريح ما يحتمله سطه ثم عصفت الريح فشرع في طفيها [فتعدت] فأحرقت فلا ضمان؛ لعدم التفريط. ولو كان في أرضه نقبة فسقى أرضه من غير إسراف فنفذ من النقبة إلى أرض غيره. قال البندنيجي: إن [علم بها] فلم يسدها ضمن، وإن لم يعلم بها لم يمضن. وقال القاضي الحسين: انه يضمن سواء علم بالنقبة أو لم يعلم؛ لأنه مفرط حيث لم يطالع ولم يسد، وكذا لوكانت ارضه مستعلية فقاها فخرج ماؤها إلى أرض غيره ضمن ما لم يسدها على ما جرت [به] العادة. فرع: لو شككنا في أن الساقي أو الموقد أسرف أم لا؟ قال الإمام: لا ضمان. ولو غلب على الظن مجاوزة الحد من غير قطع [به] قال: أمكن تخريجه على غلبة الظن في النجاسات. قال: -فإن غصب حرًّا على نفسه لزمه تَخلِيَتُهُ ليبرأ من ظلمه. [قال]: فإن استوفى منفعته ضمن الأجرة [بعدوانه بإتلاف متقوم، وإن حبسه مدة أي ولم يستوف له منفعة ضمن الأجرة]؛ لأنها منفعة تضمن

بالأجرة فضنت بالغصب، كمنفعة العبد، وهذا ما يحكي عن ابن أبي هريرة. وقيل: لا يضمن؛ لأن الحر لا يدخل تحت اليد [فمنافعه تفوت تحت يده] بخلاف العبد، وهذا هو الأصح في الرافعي وبه قال جمهور الأصحاب كما حكاه الماوردي، وبنى الغزالي الخلاف على أن الحر [هل] يدخل [تحت] اليد أم لا؟ قال الرافعي: ولم أر ذلك لغيره ولا خلاف في أن أم الولد، والمكاتب إذا [حبسها حتى] مضت [مدة] لمثلها أجرة ضمن أجرتها؛ سواء استوفاها أو فاتت تحت يده. فرع: لو نقل حرًّا صغيراً، أو كبيراً بالقهر من موضع إلى موضع آخر، فإن لم يكن [للمنقول غرض في] الرجوع إلى الموضع الأول فلا شيء على الناقل، وإن كان له [فيه] غرض واحتاج إلى مؤنة فهي على الناقل؛ لتعدِّيه قاله المتولي. ولو كان على الحر الصغير ثياب وحلي فهل يضمنها الغاصب؟ قال القاضي الحسين: يحتمل وجهين: أحدهما: لا يضمن؛ لأنه إذا لم تثبت يده عليه لا تثبت يده على ما معه. والثاني: يضمن؛ لأن يده ناقصة. قلت: وهذا الخلاف [كالخلاف] الذي حكاه الشيخ فيما إذا سرق حرًّا صغيراً وعليه حلي يساوي نصاباً؛ هل يقطع [أم لا؟] [أو] هو هو. قال: وإن غصب كلباً فيه منفعة لزمه رده لاستحقاق صاحبه منافعه مع عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيهَ" وتكون مؤنة الرد على الغاصب،

فلو استوفى منفعته فهل يضمن أجرته؟ فيه وجهان ينبنيان على جواز إجارته. قال الإمام في باب بيع الكلاب: والذي أراه تصحيح الإجارة، فإ لم نصححها؛ فالوجه عندي إثبات أجرة المثل، فإنها منافع مقصودة [تطلب بالأموال]، فإن امتنعت الإجارة لتغليظ شبه المنع من التعامل على [الكلاب فلا] وجه لتعطيل منفعته، ولو اصطاد الغاصب [به]، فالصيد للغاصب على وجه، كما لو اصطاد بشبكة مغصوبة، وهو الأصح في النهاية وغيرها، وللمغصوب منه على وجه، كما لو اصطاد بالعبد المغصوب؛ لأن للكلب اختياراً، وعلى هذا هل يلزهم أجرة مثل الكلب في [مدة الاصطياد]؟ وإذا قلنا بوجوبها، فلو استعمله لنفسه ففيه وجهان: وجه الوجوب: القياس [على] ما لو غصب بذراً وأرضاً من واحد فزرعه فيها، فإن الزرع لمالك البذر [والأرض، وعليه مثل البذر] وأجرة الأرض وإن صرفت منفعتها لفائدة مالكها، وهذا الخلاف يجري فيما لو غصب صقراً فاصطاد به. فائدة: منفعة الكلب تكون بالاصطياد وحفظ الزرع، والماشية، واقتناؤه لذلك جائز، وهل يجوز لحفظ البيوت فيه وجهان: ظاهر النص منهما: الجواز. وأما الكلاب التي لا تصلح لذلك فلا يجوز افتناؤها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض [فإنه ينقص] من أجره

قيراطان" خرجه مسلم. قال الإمام: وأجمع الأصحاب على أنه نهي تحريم، واقتناء الجرو الصغير الصالح للمنافع [المذكورة] عند كبره هل يجوز؟ فيه وجهان؟ واقتناء كلب الصيد، والماشية، والزرع لمن لا غرض له في ذلك في الحال ويتوقعه في المآل فيه وجهان، أجراهما الشيخ أبو حامد، كما حكاه ابن الصباغ في جواز اقتناء كلب الصيد، وإن لم يصطد به. قال: وإن غصب خمراً من ذمي أي ولم يكن قد أظهرها [فيما] بين المسلمين وجب ردها عليه؛ لأنه مقر على الانتفاع بها. وفي الجيلي حكاية وجه: أن الواجب عليه تمكينه [منها]، وهذا ما حكاه الإمام عن المحققين قبيل كتاب الصيد والذبائح، وإن الأول كان يقطع به شيخه، وأثر الخلاف يظهر في مؤنة الرد. أما إذا أظهرها للمسلمين ولو للبيع أريقت ولا ترد إليه. قال: وإن أتلفها لم يضمن [أي] سواء كان المتلف مسلماً، أو ذميًّا؛ لأنها شراب مسكر فوجب ألا يستحق على [متلفها] قيمة لكافر، كما لو أتلفها على مسلم، ولأن ما أبيح الانتفاع به [من الأعيان] إذا لم يملك الاعتياض عنه؛ كالميتة فما حرم الانتفاع به من الأعيان النجسة؛ كالخمر والخنزير أولى ألا يملك الاعتياض عنها؛ و [لأنه لو ضمن بدلها] للكافر أدى إلى تفضيله على المسلم بسبب كفره وذلك ممتنع.

قال: وإن غصبها من مسلم أراق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمر أبا طلحة بإراقة ما كان عنده من خمور الأيتام" حين نزل تحريمها، وهذا هوا لصحيح. وقيل يجب ردها [إليه] لينتفع بها في طء نار أو بلِّ طين، ونحوه. قال: فإن صارت خلاًّ؛ ردَّه لأنه فرع ملكه، ولو تلف في يده غرمه. وقيل: إن [للغاصب تملكه] بحدوث الملك في يده. وفي ابن يونس: أن وجوب الرد مفرع على القول الصحيح بوجوب الإراقة وحكى وجهين في وجوبه بعد صيرورته خلاًّ على قولنا: بأنها ترد إليه خمراً. قيل: ولو عكس الأمر لكان أولى، ولا فرق عند العراقيين في وجوب الإراقة بين الخمرة المحترمة وهي التي عصرت لأجل الخلية أو غير المحترمة، وهي التي عصرت للخمرية، كما حكاه في "الاستقصاء" في أوائل الكتاب. وعند الماروزة: الخمرة المتحرمة [أصلاً، وقال الإمام – قبيل كتاب الصيد والذبائح-: إن في ذلك احتمالاً] على كل حال، وجعل في كتاب الرهن قول من أوجب إراقتها هذياناً، وقال: إنه لم يصر إليه أحد من أئمة المذهب وإنما هو من ركوب أصحاب الخلاف. وقال في تكاب الإقرار: لو اطلعنا على خمر ومعها مخايل [تشهد] أنها خمر خل، فالمذهب [أنا لا نتعرض] لها. وقال القاضي الحسين: قبيل باب [بيع الطعام بالعطام] لو أراقها إنسان فهل يجب عليه الضمان؟ فيه وجهان:- فإن أوجبناه؛ قلنا: كم قيمة ذلك لو صار خلاًّ، وكم قيمته في طريق تصييره

خلاًّ؟ ويوجب عليه ذلك، وغيره بنى الخلاف في الضمان على أنها طاهرة أو نجسة، والمذهب نجاستها. فرع: من أبرز خمراً وزعم أنها [خمر] خل قال الإمام في كتاب الإقرار: قد سبق طوائف إلى أن ذلك لا يقبل منه. فرع: من في يده خمر إذا أراقها فجمعها جامع وصارت في يده خلاًّ؛ ففيه وجهان: أحدهما: يعود ملكاً للأول. والثاني: يكون للثاني؛ لأن الأول أزال يده عنها وأسقط حقه منها فتكون لمن هي في يده. قال ابن الصباغ في كتاب الرهن: وهذا لا وجه له؛ لأنه فعل ما أمره الشرع بفعله، ولو كان كذلك لوجب أن يكون مباحاً؛ كالمنبوذ، ولا يختص بملكها الجامع بل يكون أحق لحصولها بيده، وقد أجرى الرافعي الوجهين فيما إذا ألقى الجلد فأخذه أخذ وديعة، لكن ما ضعف به ابن الصباغ الوجه الثاني منتفٍ هاهنا. قال: وإن غصب جلد ميتة ردَّه؛ لأنه منتفع به وقد قال عليه السلام:"عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ". قال: فإن دبغه فقد قيل: يُرَدُّ كالخمر إذا صارت خلاًّ. وقيل: لا يرد أي ويكون ملكاً للغاصب؛ لأن الملك فيه حصل بفعله فكان له بخلاف الخمر. وحكى المتولي عن بعضهم: أنه جزم بوجوب رد الجلد، وأجرى وجهين في رد الخل وأنه فرق بأن يده في الخمر مستحقة الإزالة شرعاً فلم يجعل لها حكم، ويده على الجلد غير مستحقة الإزالة فكان تفويتها جناية فلا يسقط

بها الحق، وهذه الطريقة ظاهرة عند من لم يفرق بين الخمر المحترمة وغيرها وعند من فرق إذا لم تكن الخمر محترمة، أما إذا كانت محترمة فهي كالجلد سواء؛ لجواز إمساكها. قال: وإن غصب عصيراً فصار خمراص ثم صار خلاًّ [رده]؛ لأنه عين ماله وما نقص من قيمة العصير أي: إن [حصل] نقص؛ لأنه حصل تحت يده [وقيل يرد] الخل لماذكرناه، ويضمن مثله من العصير؛ لأن ذلك لزمه بانقلابه خمراً، ولم يسقط عنه بعوده خلاًّ؛ كما لو غصب جارية فسمنت في يده، ثم هزلت، ثم سمنت، وقد حكى الخلاف هكذا في المهذب وغيره. وفي بعض النسخ بعد قوله: [ويضمن مثله من العصير] وأرش ما نقص أي: من قيمة الخل والعصير الذي أخذه بدلاً عن قيمة العصير أي: إن [حصل] نقص؛ لأنه حصل تحت يده [وقيل يرد] الخل لما ذكرناه، ويضمن مثله من العصير؛ لأن ذلك لزمه بانقلابه خمراً، ولم يسقط عنه بعوده خلاًّ؛ كما لو غصب جارية فسمنت في يده، ثم هزلت، ثم سمنت، وقد حكى الخلاف هكذا في المهذب وغيره. وفي بعض النسخ بعد قوله: [ويضمن مثله من العصير] وأرش ما نقص أي: من قيمة الخل والعصير الذي أخذه بدلاً عن قيمة العصير المغصوب إلى حين انقلابه خمراً، وهذا [كأنه] بناء على مذهب أبي ثور في أن الغاصب يضمن عند رده العين فوات الأسعار. ومنهم من قال: يظهر بناؤه على أن الاصب يضمن أرش السمنين ولم يظهر لي صحة ذلك فتأمله.

قال: وليس بشيء؛ لأن الخل عين العصير وإنما تغير من صفة إلى صفة، فاشبه ما لو طرأ على العين بياض ثم زال، ومخالف السمن فإن الثاني عين الأول قطعاً. وقال الماوردي: إن هذا الخلاف يعني المشهور الذي ذكرناه [أولاً] مخرج من الخلاف فيما لو قلع سنَّ مَنْ أثغر ثم عاد سنه بعد أخذ أرشه؛ هل يجب رد الأرش أم لا؟ فإن قلنا: يجب، ردها وما نقص وإن قلنا: لا يجب رد الأرش؛ غرم قيمة العصير، والجمهور على ضمان العصير بالمثل لا بالقيمة. وحكى الرافعي وغيره على قول ضمان المثل من العصير وجهاً أن الخل يكون للغاصب كالوجه الذي حكيناه فيما إذا غصب الخمر فتخللت في يده. واعلم أن ما ذكرناه من الخلاف جار فيما لو غصب بيضة فتفرخت عنده، أو بذراً فرعه فنبت وازداد، أو بذر قزّ فصار قزّا فعلى [القول] الأول وهو الصحيح يكون ذلك للمالك ولا يغرم [له] الغاصب إلا ما نقص عن قيمة الأصل، وعلى الثاني يغرم البدل، والحاصل للمالك على أظهر الوجهين، وللغاصب على مقابله. فرع: لو انقلب العصير خمراً ولم ينقلب خلاًّ. قال الماوردي: وجب على الغاصب قيمته، وهل له أخذ الخمر؟ فيه وجهان: قال: وإن غصب صَليباً أو مِزماراً فكسره [أي الكسر المأمور به لم يضمن الأرش لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئاً حَرَّمَ ثَمَنَهُ" وهذه الصنعة محرمة فلا قيمة لها] أما إذا زاد علىلكسر المأمور به بحيث فوت بكسره صلاحيته لمنفعة مباحة كانت تحصل مع الكسر المأمور به - لزمه ما بين قيمته مكسوراً

[بالكسر المباح] وغيره [وقد اختلف الأصحاب في حد الكسر المأمور به] على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكسره [حتى تنتهي] إلى حد لا يمكن اتخاذ آلة محرمة [منه] لا الأولى ولا غيرها. والثاني: أن يزيله عن حالته الت قصدت لاستعامله عليها، فالصليب يرفع أحد الجسمين عن الآخر والعود يزيل وجهه حتى يبقى جفنه، وهذا ما حكاه [الروياني] في البحر. والثالث وهو أظهرها: أن يكسره بحيث لا يمكن إعادته إلى تلك الحالة إلا مع عسر. قال الرافعي: وما ذكرناه من الاقتصار على تفصيل الأجزاء، فهو [فيما] إذا تمكَّن المحتسب منه، أما إذا منه من هو في يده وكان يدفع عن المنكر؛ فله إبطاله بالكسر [قطعاً]. قال الإمام: ولم يكتف أحد من أصحابنا بقطع الأوتار مع ترك الآلات، وادعى في الوسيط في ذلك الإجماع. تنبيه: [الصليب] يجمع على صُلُب وصُلبَان، وثوبٌ مصلَّبٌ: عليه نقش؛ كالصَّليب. قالا لماوردي: وهو موضوع على معصية؛ لزعمهم أن عيسى ابن مريم – عليه السلام – قتل وصلب على مثله واعتقدوا إعظامه طاعة، والتمسك به قربة، وقد أخبر الله تعالى بكذبهم فيه ومعصيتهم به فقال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] وقال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} [النساء: 157]

[وفيه تأويلان: أحدهما: أن الكناية راجعة إلى عيسى، وتقديره وما قتلوا عيسى يقيناً]. والثاني: أنها ترجع إلى العلم به، وتقديره: وما قتلوا العلمَ به يقيناً، من قولهم: قَتلت ذلك علماً إذا تحققته ومنه جاء [الحديث به]: قتلت الأرض جالها، [وقتلت أرض عالمها]. المزمار: بكسر الميم، واحد المزامير وزَمَرَ َزمِر، [ويزمُز] زمراً، فهو زمار. وقال الجوهري: ولا يكاد يقال: زامر، قال: ويقال: للمرأة زمَّارة. قال: ويقال للمزمار: مزمور، بفتح الميم وضمها. قال النواوي: وبالوجهين ضبطناه في الحيدث الصحيح. قال: وإن اختلفا في رد المغصوب؛ فالقول قول المغصوب منه؛ لأن الأصل عدم الرد، وإن اختلفا في تلف الغصوب، فادعاه الغاصب وأنكره المالك، فالقول قول المالك على وجه؛ لأن الأصل البقاء. والأصح أن القول قول الغاصب؛ لأن ذلك قد يكون [خفيًّا، وقد] يعجز عن إقامة البينة، فلو لم يصدقه [الجلد انحبس] عليه، ولم يجد منه مخرجاً فعلى هذا إذا حلف هل يلزمه البدل؟ فيه وجهان: وجه المنع: [أن المالك] يزعم أن العين قائمة، فلا يستحق القيمة. والأصح: أن له ذلك إذ تعذر الرجوع عليه بسبب الحلف. قال: وإن اختلفا في قيمته فالقول قول الغاصب) لأنه غارم والأصل براءة ذمته، وعلى المالك البينة بقدر القيمة إن لم يرض بما قاله الغاصب، ويكفي فيها عند [أبي إسحاق] شاهد ويمين، [وشاهد] وامرأتان. وعن ابن أبي هريرة طريق ذلك [طريق] الحكم فلا

مدخل للنساء فيه. قال أبو الحسن، والأولى قول أبي إسحاقك كذا حكاه الزبيلي في [كتابه] أدب القضاء له، [و] ينبغي للبينة أن تشهد بأن قيمة المغصوب كذا، فلو أقام منيشهد على الصفات دون القيمة لم يجز للمقومين [أن يعتمدوا] على الوصف في التقويم؛ لأن المشاهدة هي المعرفة للقيمة. وعن صاحب التقريب رواية قول غريب: أن لهم الاعتماد على الصفات، وينزل على أقل الدرجات؛ كما في السلم. والفرق على الأول: أن السلم من باب الرخص فلا يقاس عليه، فعلى هذا لو أبعد الغاصب في التقليل فيطالب بأن يرتقي إلى [أول] درجة تحتمل هذه الصفات. ولو ذكر الغاصب أن القيمة مائة، فأقام المالك بينة بأنها فوق المائة ولم يعينوا قبلت [هذه] الشهادة في وجوب الزيادة على المائة على الأصح، وهو الذي عليه الأكثرون. وفائدة ذلك: أن يزيد على ما ذكره ويرتقي، فإن زاد فقالت البين: كانت القيمة أكثر من ذلك فيكلفه الزيادة إلى أن ينتهي إلىموقف لا يقطع الشهود بالزيادة عليه. قال الإمام: ولا ينحصر ما صورناه بالغصب، بل لو ادعى رجل على ىخر ألف درهم فاعترف المدعي عليه بخمسمائة، فأقام المدعي بينة أن له عليه أكثر من خمسمائة، فالأمر فيه على التفصيل الذي ذكرناه. ولو وقع اختلاف المالك والغاصب في صفات المغصوب، فقال المالك: إنه

كان سالم الأعضاء، و [قال] الغاصب إنه [كان] مقطوع اليد؛ فالقول قول المالك على الأصح من القولين. ولو قال الغاصب به عيب من أصل الخلقة مثل كونه أكمه، أو أنه ولد أعمى، أو أعرج، أو عديم اليد، فالقول قوله على الأصح. وقيل: القول قول المالك في نفي ذلك. وقيل: إن كان ما ادعاه الغاصب مما يندر من العيوب؛ فالمصدق المالك، وإن كان مما لا يندر؛ فالمصدق الغاصب. ولو ادعى المالك أن المغصوب كان كاتباً أو محترفاً، وأنكر الغاصب فالقول قوله على الأصح. وحكى العراقيون: أن القول قول المالك؛ لأنه أعرف بحال مملوكه. وحكى الماوردي الخلاف في أن القول قول المالك أو قول الغاصب في الصورتين الأوليين في كتاب العتق، وفحوى كلامه الجزم في الأخير بأن القول قول الغاصب. ولنختم الباب بفروع تتعلق به. وهو إذا غصب أرضاً فحاله فيها تنقسم أربعة أقسام: الأول: أن يبني فيها، ويغرس، فينظر إن كان البناء والغراس له – أجبر على قلعه مجناً، ولا يجبر على أخذ قيمة البناء والغراس. وإن كان قلعه يضر بالأرض لما روى هشام بن عروة عن أبيه أن رجلاً غصب أرضاً من رجلين من بني بياضة من الأنصار فغرسها نخلاً [عما] فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقلعه، فروي عنه أنه قال [:"لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقُّ" قال] عروة فأخبرني من رأي القوس يعمل في أصولها. وفي قوله: [نخلاً عما] تأويلان:

أحدهما: طوالا. والثاني: أنها [قد] عمت بخيرها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:" ... عَمَّتكُمُ النَّخْلَةَ" يعني: عمت بخيرها. وقيل: بل عنى أنها خلقت من فضل طينة آدمن فصارت عمة في النسب، والعروق أربعة: عرقان ظاهران: البناء، والغراس، وعرقان باطنان: البئر، والنهر، كذا نبه عليه الماوردي في أثناء الباب. إذا ثبت ذلك فإذا قلع البناء والغراس نظر في الأرض؛ فإن لم تنقص بالقلع فلا شيء على الغاصب سوى الأجرة، وإن نقصت؛ لكونها صارت حفراً، فالغاصب ضامن لها غير أن الشافعي قال هنا: يرد ما نقصت الأرض، وقال في البيوع في رد الحجارة المستودعة: إن عليه تسوية الأرض، فاختلف الأصحاب كذلك في المسألة؛ فبعضهم خرج المسألتين على قولين، وبعضهم فرق بأن الغاصب متعد فغلظ حكمه بالأرش والبائع غير متعد فخفف حكهم بتسوية الأرض، فعلى هذا [هل] تجب الأجرة مع الأرش أو [يتم] أكثرها؟ فيه وجهان في البحر كما في الثوب وغيره، واستبعد مجيء القول الثاني هنا. ولو باع الغاصب [ذلك من مالك الأرض صح، ولو باعه من غيره، فإن كان بشرط البقاء بطل، وإن كان بشرط القلع والنقص] جاز، وإن أطلق فوجهان: ولو باع مالك الأرض الأرض صح، وكان للمشتري إجبار الغاصب على

القلع، ولا يستحق البائع أرش نقص الأرض بالقلع؛ لأن المشتري دخل على عيبه. قال الماوردي ويكون البيع سبباً لسقوط الأرش عن الغاصب، ولو كان البناء، والغراس [لصاحب الأرض، فإن رضي بأن يأخذها لذلك أخذها، ولا شيء عليه من مؤنة الغراس، والبناء]، وليس للغاصب أن يزيل ذلك، ولو طالبه المالك بالإزالة؛ نظر إن كان له فيه غرض صحيح أجبر عليه، ولزمه غرم تنقيص الغراس والبناء عما كان قبل الغراس والبناء، وعليه نقص الأرض أيصاً، وإن لم يكن في قلعه غرض صحيح لقاصد؛ فهل يجبر على القلع؟ فيه وجهان: فإن قلنا بعدم الإجبار فللمالك مطالبته إذا لم قلع بأرش ما ينقصه القلع عن الحالة التي كان عليها المغصوب قبل الغرس والبناء؛ لأنه لما استحق المطالبة به مع التزام مؤنة القلع؛ فأولى مع عفوه عنها. وإن قلنا بمقابله، فلا. ولو كان الغراس والبناء مغصوبين من ثالث فلكل من رب الأرض والغراس والبناء أن يأخذ الغاصب بالقلع [إن كان له غرض]، ويرجع كل منهما عليه بأرش ما نقص، ولو اشترى مالك الأرض الغراس والبناء – كان له مطالبة الغاصب بالقلع إن كان له غرض ويرجع بنقص البناء والغراس دون الأرض. ولو هرب الغاصب عن أن يلتزم لهما مؤنة القلع، واختلفا في تحملها ففيمن يجب عليه منهما؟ فيه وجهان. ولو كان [الغراس في أرض] فقلعه الغاصب، فإن كان باقياً؛ ففي كيفية ضمانه لأصحابنا ثلاثة أوجه: أحدها: ما بين قيمة [الشجر قائماً ومقلوعاً.

والثاني: يضمن ما بين قيمة] الأرض ذات شجر قائم وبين قيمتها والشجرُ مقلوع منها؛ لأن تعديه قد سرى إلى الأرض. والثالث: أنه ضمن أغلظ الأمرين. وإن كان قد استهلك الشجر بعد قلعه، فعلى الأول يضمن قيمة الشجر قائماً، وعلى الثاني ما نقص من قيمة الأرض بقلع الشجر، وعلى الثالث أغلظ الأمرين كذا قاله الماوردي. القسم الثاني: أن يدفن فيها ميتاً، فإن الغاصب يجبر على نبشه، وإن كان فيه انتهاك حرمة الميت، ثم إذا نبش ضَمِن أرش نقصها كما تقدم، فلو قال المالك: أنا أقر الميت في الأرض إن ضمن لي نقص الأرض بالدفن فيها؛ ففي إجبار الغاصب على بدله وجهان في الحاوي. القسم الثالث: أن ينقل ترابها، وله حالتان: أحداهما: أن يكون [قد] كشطه من على وجه الأرض، فللمالك إجباره على رده على صفته إن كان باقياً، ومثله إن كان تالفاً؛ سواء كان للمالك به نفع أم لا، وسواء عظمت مؤنة ذلك أو خفت، ولو لم يجد مثله ضمن القيمة، وفيها وجهان: أحدهما: وهو ما نقله المزني عن الشافعي في "الكبير" -: أنه تقوم الأرض وعليها الراب الذي أخذ منها، ثم تقوم بعد اخذه منها، ويجب مابينهما. والثاني: -أكثر الأمرين من هذا أو من قيمة التراب بعد نقله عن الأرض، حكاه الماوردي، ولو لم يطالبه المالك بالرد نُظر فإن كان للغاصب في الرد غرض؛ بأن دخل الأرض نقص يرتفع برد التراب، أو كان قد نقله إلى ملكه أو إلى دار غيره أو إلى شارع يحذر من التعثر به الضمان، فله الاستقلال بالرد، إن لم يتيسر [عليه في الصورتين الأخريين، نقله إلى موات أو نحوه كما قيده

الإمام والماوردي، دون ما إذا تيسر] وله عند إعادته بسطه كما كان، فإن منعه المالك مِنْ بَسْطه لم يبسطه وإن كان في الأصل مبسوطاً، وإن لم يكن له غرض فإن منعه [المالك] من الرد لم يرده، وإن لم يمنعه وخالف فهل يفتقر إلى الإذن؟ فيه وجهان في التتمة؛ بناء على وجهين في أنه لو منعه فخالف ورد، هل للمالك مطالبته بالنقل ثانياً؟ إن قلنا: لا، رده من غير إذنه، وإن قلنا: نعم، فلا بد من إذنه وهو الأظهر. الحالة الثانية: أن يحفر في الأرض بئراً وينقل ترابها، فإن أمره المالك بطمِّها لزمه، إن كان له فيه غرض صحيح، وألا فوجهان حكاهما الماوردي، وإن لم يأمره، كان له أن يستقل به، خلافاً للمزني، فلو تراضيا على تركها فذاك لهما، وعلى الغاصب ضمان ما يسقط فيها، لتعديه بحفرها، وليس لرب الأرض أن يطالبه بمؤنة السد، وإنما له أن يأخذه متى شاء بالسد كذا قاله الماوردي، ولو منعه المالك من السد، وقال: رضيت باستدامة البئر، فإن كان للغاصب غرض في الطم سوى دفع ضمان التردي كما ذكرناه فله الطم، وإن لم يكن له غرض سواه فوجهان، أظهرهما:- وهو قول ابن أبي هريرة -: المنع، ويندفع عنه الضمان؛ لخروجه عن أن يكون جناية وتعدياً. وقد عبر الماوردي وغيره عن محل الوجهين فيما إذا أبرأه المالك من الضمان. وقال الإمام: ليس معناه حقيقة الإبراء، فإن الضمان حق عساه يثبت للمتردي فكيف يبرئ عن حق الغير قبل ثبوته، وإنما المارد الرضا بإنقاء البئر. وقال أيضاً: إن محل جواز الطم له إذا كان بعين التراب المنقول، أما إذا كان قد تلف؛ ففي جواز الطم بتراب آخر دون إذن المالك وجهان. قال الرافعي: - والظاهر أنه لا فرق بين ذلك [التراب] وغيره، ولو لم يقل المالك: رضيت باستدامة البئر واقتصر على المنع من الطم ففي التتمة: أنه كما لو صرح بالرضا.

وقال الإمام: لا يتضمنه. ولو كان الغاصب قد طوى [البئر] من مال نفسه فله نقضه، وللمالك إجباره عليه، فإن وهب ذلك منه لم يلزمه القبول على أظهر الوجهين، ثم إذا أعاد هبة الأرض إلى ما كانت في الحالتين إما بطلب المالك أو دونه، فإن لم يدخل الرض نقص فلا أرش عليه، [وعليه الأجرة]، وإن دخلها نقص ففي كيفية جبره ما ذكرناه في حال البناء والغراس. القسم الرابع: أن يترك الأرض في يده من غير أن يتصرف [فيها] فيجب عليه أجرة مثلها، فلو نقصت بسبب ترك الزراعة؛ كأرض البصرة – ضمن أرش النقص قاله [القاضي الروياني] في البحر. [والله أعلم]. آخر: غصب المشاع متصور عندنا. قال الشافعي في كتاب الشركة: إذا كان العبد بين شريكين فغصب رجل حصة أحدهما، ثم [إن] الغاصب والشريك الآخر باعا العبد من رجل فالبيع جائز في نصيب الشريك البائع، ولا يجوز بيع الغاصب، كذا حكاه [عنه] القاضي أبو الطيب في شرح الفروع في مسألة أولها: لو أن رجلاً وكَّل شريكه في عبد أن يبيع نصيبه [مع نصيبه] وإذا كان ذلك متصوراً فتصوره في غير الغاصب من طريق الأولى، لكن قد أشار الأصحاب عند الكلام في ما إذا أقر بعض الورثة [بنسب] وكذبه الآخر [إلى] أن الوارثَين إذا وضعا أيديهما على التركة يكون يد كل واحد منهما على جميعها كما سنذكره ثَمَّ إن شاء الله تعالى، وفيه نظر. والله أعلم.

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء الحادي عشر يحتوي على الأبواب التالية الشفعة- القراض- العبد المأذون- المساقاة- المزارعة- الإجارة الجعالة- المسابقة- إحياء الموات- اللقطة- اللقيط

باب الشفعة

بسم الله الرحمن الرحيم باب الشفعة الشفعة من شفعت الشيء إذا ضممته وثنيته، ومنه شفع الأذان، وسميت شفعة؛ لضم نصيب إلى نصيب، وقيل: من الزيادة. ولهذا إذا ضم إلى الوتر غيره صار شفعاً. فسميت شفعة؛ لأن الشفيع يضم نصيب شريكه [إلى نصيبه] فيصير نصيبه زائداً بعد أن كان ناقصاً. وهذا قول ثعلب، كما حكاه عن الهروي في الغريبين. وقيل: من التقوية والإعانة، يقال: شَفَعْتُهُ عند السلطان فشفعني فيه؛ لأن كل واحد من الفردين يتقوى بالآخر، ومنه قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} [النساء: 85] أي: من أعان محسناً في إحسانه، ومنه الحديث: "القرآن شافع مشفع". ومنه: شاة شافع: التي معها ولدها لتقويتها به، قاله الرافعي، وفي تعليق القاضي الحسين أن الشاة الشافع: السمينة. وقيل: من الشفاعة؛ لأن في الجاهلية كان [الرجل] إذا أراد بيع منزل أو حائط أتاه الجار أو الشريك أو الصاحب ليشفع إليه [فيما باع] فيشفعه، وهذا قول ابن قتيبة في غريب الحديث كما حكاه الماوردي. وقد فسرت في [الشريعة: بحق تملك] قهري يثبت للشريك القديم على الشريك الحادث بسبب الشركة بالبدل الذي تملك به لدفع الضرر.

والأصل في مشروعيتها من الكتاب: قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 3] وهي منه؛ لأن فيها إزالة الضرر عن الشريك. ومن السنة أحاديث: منها ما روى مسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الشُّفْعَةُ في كُلِّ شِرْكٍ فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ، لا يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَريكِهِ فَيَاخُذَ أَوْ يَدَعَ، فَإِنْ أَبي فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤذِنَهُ". ومنها: ما روى البخاري ومسلم وأبو داود بسند كل منهم عن جابر. أنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم، ربعة أو حائط "لاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَركَ، فَإِنْ بَاعَهُ وَلَمْ يُؤذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ". وقد اختلف في المعنى الذي لأجله ثبتت على قولين: أحدهما: دفع ضرر مؤنة القسمة واستحداث المرافق وغيرها، وهو اختيار الشافعي. والثاني: وإليه ذهب ابن سريج: دفع ضرر سوء المشاركة. ولهذا الاختلاف فائدة تظهر من بعد. قال- رحمه الله-: لا تجب الشفعة أي: لا تثبت إلا في جزء مشاع، من عقار أي: [من] أرض محتمل القسمة، فأما الملك المقسوم فلا شفعة فيه؛ لما ذكرناه من [حديث] جابر الذي رواه البخاري. وقد روى عنه أيضاً: "إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة". وأخرجه أبو داود والترمذي وإن اختلفت ألفاظهم، وقال الترمذي: إنه

حديث حسن صحيح. وجه الدلالة منه: أنه ذكر الشفعة بالألف واللام، وليس لهما معهود يرجع اللفظ إليه؛ فثبت أنه للجنس. وكلمة إنما موضوعة للحصر، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171]. وقد قال الأزهري: قال أهل اللغة: إنما تقتضي إيجاب شيء ونفي غيره وذلك يدل على المدعي. فإن قيل: فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ .. "، وروى البخاري عن أبي رافع [قال]: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ". وروى الترمذي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ، يُنْتَظَرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِباً إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِداً"، وذلك يقتضي ثبوت الشفعة للجار. قلنا: قد روى صاحب "التقريب" عن ابن سريج أنه أثبتها للجار الملاصق دون المقابل فيشبه أن يكون مستنده ذلك، وروي عن الروياني أنه قال: رأيت بعض أصحابنا يفتي به، وهو الاختيار. وذكر الإمام أن الشيخ أبا علي لم يثبت ذلك عن ابن سريج، وحمل كلامه على أنه لا يعترض في الظاهر علي الشافعي إذا قضى له الحنفي بشفعة الجوار،

وأن في الحِل في الباطن خلافاً، والمذهب الأول. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أَحَقُّ بِصَقَبِهِ" المراد [بالصقب] بالسين والصاد: القرب، كما حكاه ابن الصباغ، فيكون معنى الخبر: أحق بقربه، وهذا مجمل فلا بد فيه من حمله على معنى صحيح. ونحن نحمله على الرحبة تكون للرجل، فيتنازع اثنان في الانتفاع بها، فيكون الجار الأقرب أحق بالانتفاع بها. وأيضاً: فإن المراد بالجار: الشريك؛ لأن جميع أجزاء ملك شريكه مجاورة لجميع أجزاء ملكه، فهو أحق باسم الجوار من الجار المقاسم. ومعنى الجوار: القرب؛ ولهذا تسمي العرب الزوجة: جارة لقربها، قال الأعشى في جملة أبيات: أجارتنا بيني فإنك طالقه ... ..... .... .... .... ..... وموموقة ما كنت فينا ووامقه. قال الماوردي: وكان السبب في قول الأعشى ذلك، أنه تزوج امرأة كرهه قومهأ، وأخذوه بالنزول عنها فلم يقنعوا منه بالطلقة الأولى والثانية، فلما طلقها الثالثة كفوا عنه. ومن جهة المعنى: أن الشفعة شرعت لدفع الضرر بها [لا] لدخول الضرر

منها، وفي وجوبها للجار ضرر داخل لتقاعده بالملك عن بدل النجش من الثمن؛ لتيقنه بأن غيره لا يقدم على ابتياعها مع علمه بشفعته، ولا يوجد مثل ذلك في المشترك؛ لأن الشريك يقدر على دفع هذا الضرر بالمقاسمة، وما كان موضوعاً لدفع الضرر [لا يجوز] أن يدخل منه الضرر. قال: وغير العقار من المنقولات فلا شفعة فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا شُفْعَةَ إِلا في رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ"، ولأن المنقول لا يبقى دائماً، والعقار يتأبد؛ فيتأبد ضرر المشاركة فيه، والشفعة تملُّكُ قَهْريُّ فلا يحكم بثبوته إلا عند شدة الضرر. فإن قيل: قد روى البخاري عن أبي هريرة أنه قال: "جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَا لمْ يُقْسَمْ"، وهذا عام. فجوابه: أنه محمول على ما لم يقسم من العقارات، يدل عليه تتمة الحديث: فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. فأثبت جنس الشفعة فيما لم يقسم ثم فسر ذلك بتفسير لا يتناول إلا ما لا ينقل ولا يحول؛ لأن الحدود وصرف الطرق إنما تستعمل في الأرض. قال: وأما البناء والغراس فإنه إن بيع مع الأرض أي: الحاملة لذلك والمتخللة بينه، إذا كانت تقسم قال: ففيه الشفعة؛ للخبر الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود؛ [إذا] الربعة والربع: المنزل الذي يربع به الإنسان ويتوطنه، يقال: هذا ربع بفتح الراء، وهذه ربعة. وقيل: الربع: اسم للدار ببنائها، والحائط: اسم للبستان بغراسه. ولأن البناء والغراس متصلان بالأرض، فصارا كأجزائها؛ ولهذا يندرجان تحت

مطلق [بيع الأرض]. أما إذا بيع ذلك مع الأرض الحاملة [له] لا غير، وكان ذلك عريضاً بحيث يقبل القسم فهل تثبت فيه الشفعة أم لا؟ فيه وجهان في الطريقين: أقيسهما في الرافعي: المنع؛ لأن الأرض في هذه الحالة تابعة والمنقول متبوع، والعبرة بالمتبوع لا بالتابع، وهذا ما ادعى في [البحر] أنه المشهور [عند أهل العراق. وقال الإمام أبو محمد الجويني: إنه المذهب المشهور] ولا فرق في جريان الخلاف بين أن ينص على إدراج المغارس والأساس في البيع، أو يقول باندراجها في البيع عند إطلاق بيع البناء والغراس على وجه، صرح بذلك الرافعي. فرع: إذا كانت دار ذات علو مشترك وسفلها لغير الشركاء، فباع أحد الشركاء في العلو نصيبه- نظر في السقف: فإن كان لرب السفل فلا شفعة، وإن كان لرب العلو ففي ثبوت الشفعة وجهان في الطريقين؛ وجه الجواز: أن السقف كالعرصة، وهو المختار في "المرشد"، وفي "البحر" والرافعي: عدمه أحسن. ولو كان السفل لاثنين، ولأحدهما العلو، فباعه صاحبه مع نصيبه من السفل ثبت للشريك في السفل الشفعة [فيه]. وهل تثبت له في نصف العلو تبعاً؟ فيه جوابان للقفال، أصحهما: عدم الثبوت ومثل ذلك [الخلاف جار] فيما لو

كانت الأرض مشتركة بين اثنين ولأحدهما فيها غراس فباعه مالكه مع نصيبه من الأرض. قال: وإن بيع منفرداً فلا شفعة فيه؛ لأنه منقول فأشبه العبد وادعى الروياني في [ذلك] نفي الخلاف، وحكى أبو الفرج السرخسي أنه يثبت فيه الشفعة؛ لثبوتها في الأرض. وقال الإمام: إن بعض الأصحاب خرجها على تفصيل القول في القسمة، وقال: إن قلنا: [إن ما لم يقسم] لا شفعة فيه؛ فلا شفعة فيها، إذا كانت مما لا تقسم وإن قلنا: بثبوت الشفعة فيه أو كان المبيع جداراً عريضاً، أو سقفاً كاملاً لها؛ ففي المسألة قولان: وجه الثبوت: أنها لا تعد من المنقولات، والمذهب الأول. قال: وإن كان على النخل أي: التي في الشقص طلع غير مُؤَبَّر- أي حال العقد- فقد قيل: يؤخذ مع النخل بالشفعة: لأنه تبع للأصل في البيع، فكذلك في الأخذ. وهذا ما نقله المزني، وهو الأصح في "التهذيب". فعلى هذا: لو تأخر الأخذ لغيبة الشفيع حتى أُبِّرَت، فهل يأخذها؟ فيه وجهان: أصحهما في الرافعي، و"التتمة"، وتعليق القاضي الحسين: نعم، لأن حقه تعلق بها، وزيادتها كزيادة الشجر تطول أغصانها، وبُسُوقها. وعلى هذا لا فرق بين أن [تكون تابعة] للنخل، أو قطعت، كما صرح به في "البحر". والثاني: لا، وبه قال القاضي أبو الطيب؛ لخروجها عن أن تكون تابعة للنخل. فعلى هذا هل يحط من الثمن شيء لأجل الثمرة؟ الذي جزم به القاضي الحسين: نعم، وغيره حكى وجهين، وقال: إنهما مبنيان على الخلاف في أن الثمرة غير

المؤبرة يقابلها قسط من الثمن أم لا؟ والأصح: المقابلة. قال: وقيل: لا يؤخذ أي: الطلع بالشفعة؛ لأنه منقول فأشبه الزرع، وهذا الخلاف قد أثبته بعضهم قولين، وبعضهم وجهين، وهو يجري فيما إذا كان المبيع شقصاً من طاحونة، وقلنا بدخول الحجر الأعلى في البيع في أنه هل يأخذه بالشفعة أم لا؟ وأما الأسفل إذا قلنا بدخوله [في البيع] [له] أخذه بالشفعة جزماً. قلت: ويتجه جريان الخلاف في كل ما لا يمكن الانتفاع به مع كونه منقولاً إلا بشيء ثابت في الأرض كغطاء التنور ونحوه كما ذكرناه في البيع. قال: وما لا ينقسم كالرحى، والحمام الصغير والطريق الضيق أي ونحو ذلك كالعضائد الصغار، وفي بعض النسخ: والبئر [فلا شفعة فيه؛ لقول عثمان- رضي الله عنه- لا شفعة في بئر ولا فحل، والأُرف تقطع كل شفعة. وأراد: البئر التي] لا تقبل القسمة، وفحل النخل، ولا يعرف له مخالف من الصحابة. ولأن كل من ليس له المطالبة بالقسمة، ليس له المطالبة بالشفعة، أصله الجار المقابل. ولأن الشفعة تثبت لدفع الضرر عند طلب القسمة، ببدل المؤن وبضيق المكان واستحداث المرافق من المصعد والمبرز والبالوعة ونحوها، وذلك مفقود هنا. والمراد بـ"الأرف" في حديث عثمان: المعالم والحدود بين المواضع المقسومة. وهي [بضم الهمزة وفتح الراء]. واحدها أرفة. ويقال: الإرث بالثاء أيضاً، قاله في المستغرب. وحكى الجيلي عن الأزهري أن الأرف بضم الهمزة وفتح الراء

المهملة وضم الفاء: الحدود بين المواضع المستوية، وبفتح الهمزة وسكون الراء: المعالم والحدود بين الأرضين. قال: وقيل فيه قولان: أحدهما: لا تثبت؛ لما ذكرناه. والثاني: تثبت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "الشُفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسْمْ"؛ ولأنها شرعت لدفع الضرر عن الشريك، والضرر فيما لا يقبل القسمة أدوم منه فيما يقبلها؛ فكان ثبوتها فيه بطريق الأولى. وما ذكره القائل الأول من أن الشفعة إنما تثبت لأجل الضرر اللاحق بسبب القسمة، لا يصلح أن يكون علة؛ لأن ذلك ثابت مع بقاء الشريك الأول فلم يجدده البيع، وهذا ما صار إليه ابن سريج واختاره أبو خلف السلمي والروياني. وقال: إن الفتوى عليه اليوم، ومنهم من حكاه عنه قولاً مخرجاً كما حكاه الشيخ، وعلى ذلك جرى ابن الصباغ والمذهب الأول؛ لما ذكرناه. ولأن إثبات الشفعة فيه يُضِرُّ بالبائع؛ لأنه لا يمكنه أن يتخلص من إثبات الشفعة في نصيبه بقسمته، وقد يمتنع المشتري من الشراء؛ لأجل الشفعة فيقل ثمنه والضرر لا يزال بالضرر. وما ذكره من الحديث شاهد لنا؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: [إنما الشفعة] فيما لو يقسم يقتضي أن يكون ذلك فيما يقبل [القسمة]، فإنه لو أراد نفي القسمة جملة لقال: فيما لم ينقسم، والذي يؤيد هذا وأن المراد ما يقسم ولكنه لم يقسم

بعد: قوله صلى الله عليه وسلم: "فَإِذَا وَقَعَت الْحُدُودُ [وَصُرِفَتِ الطُّرق] فَلاَ شُفْعَةَ". وهذا بيان لما اشتمل عليه اللفظ الأول. وعلى الخلاف يخرج ما إذا كان لشخص في دار عشرها ولآخر تسعة أعشارها، وكانت بحيث لو طلب صاحب العشر القسمة لم يُجِبْ إليها، فباع صاحب العشر نصيبه- فإن قلنا: إن الشفعة تثبت فيما لم يقسم، ثبتت، وإلا فلا. ولو باع مالك [التسعة أعشار نصيبه] وقلنا: لا تثبت الشفعة ففيما لم يقسم، فهل تثبت الشفعة لصاحب العشر؟ فيه وجهان [ينبنيان على أن صاحب الأعشار إذا طلب القسمة هل يجاب إليها أم لا]؟ فيه وجهان يأتيان [من بعد]، إن شاء الله تعالى. هكذا حكاه الإمام، والغزالي، والرافعي ومقتضاه: أن الشفعة إنما ثبتت على المذهب خوفاً من طلب المشتري القسمة، والذي ذكره الشيخ في المهذب أنها إنما تثبت لدخول غير شريكه عليه، فيتأذى به فتدعو الحاجة إلى مقاسمته فيدخل عليه الضرر. قلت: وعلى هذا ينعكس التفريع على المذهب فيقال: إن باع صاحب الأعشار نصيبه فلا شفعة لصاحب العشر؛ لأنه لو طلب القسمة لم يجب إليها كما حكاه المراوزة والشيخ؛ لعدمك [انتفاعه] بالقسمة، فيكون طلبها منه سفها، فإن باع صاحب العشر نصيبه ثبتت الشفعة للآخر على الأصح؛ لأنه لو طلب القسمة أجيب إليها على الصحيح كما ذكره المراوزة والشيخ؛ لأنه ينتفع بها، وعلى ذلك جرى القاضي الحسين في تعليقه ومجلي، وقد يصار إلى هذا الترتيب مع نظرنا إلى الخوف من طلب المشتري القسمة، إذا راعينا ما حكاه أئمة العراق عن الشيخ [في الإجبار على القسمة]، فإنهم قالوا: إن كان الضرر فيها على الممتنع أجبر، وإن كان على الطالب فوجهان، والله أعلم. أما الطاحون الكبير الذي يمكن أن يجعل طاحونين لكل منهما حجران،

والحمام الذي بيوته واسعة بحيث يمكن جعل كل بيت [منها] بيتين، أو كل بيت حماماً، والبئر الواسعة التي يمكن أن تجعل بئرين، لكل واحد منهما بياض يقف عليه المستقي، ويلقي فيه ما يخرج منهما، ولم تنقص القيمة [بالقسمة] نقصاناً فاحشاً، أو كان مع البئر بياض بحيث يمكن جعل البئر في سهم والبياض في سهم، كما قاله ابن الصباغ وأبو الطيب- تثبت فيه الشفعة. وحكى الإمام والقاضي الحسين- فيما إذا كانت قسمة البئر غير ممكنة والبياض الذي عليها يمكن قسمته- وجهين في ثبوت الشفعة: وجه الثبوت: القياس على ثبوتها في الأشجار إذا بيعت تبعاً للأرض. ووجه المنع: أنها مباينة عن الحريم؛ إذ هي بقعة أخرى فلم تتبع الحريم بخلاف الغراس فإنه متصل بالشقص [في محل الشفعة]. وخص في "البحر" الجواز في مسألة البئر عند البياض بما إذا لم يكن فيها ماء، وقال فيما إذا كان فيها ماء ولم يكن لها بياض: إنه ينظر فإذا كانت واسعة لها عينان، ويمكن أن تجعل بئرين، ويجعل بينهما حاجز مثل الحريرة، فهذه تثبت [فيها] الشفعة. وإن كان فيها عين واحدة لا تثبت فيها؛ لأنه لا يجبر الشريك على قسمتها. وقال في الرحى: الواحد إذا لم يمكن قسمته، لكن كان معه في البيع البيت الذي لا يستغني عنه الرحى، كالذي يجعل فيه الطعام ويرد إليه البهائم التي تعمل في الرحى، وقيمتهما واحدة: إن ذلك مما يمكن قسمته وتثبت فيه الشفعة. ومحل عدم الثبوت: إذا لم يكن مع الرحى بيت، وهو في ذلك موافق لما في "الشامل". وأما الطريق الواسع الذي يمكن قسمته [إذا كان مملوكاً] كالسكة المفسدة الأسفل إن بيع منه شيء منفرداً، ثبت فيه الشفعة. وإن بيع مع الدار التي يستطرق إليها منه، نظر: إن كان للدار طريق غيره، تثبت

فيه الشفعة دون الدار على الأصح، وإذا أخذه الشفيع امتنع على المشتري التطرق منه. وفي البحر، والرافعي عن ابن سريج: أن الشفعة تثبت في الدار للشريك في الطريق أيضاً. وإن لم يكن للدار طريق غيره، نظر: فإن كان الطريق بحيث إذا قسم نصفين كفى أحد النصفين للاستطراق، ثبتت الشفعة في أحد النصفين بلا خلاف. وهل تثبت في النصف الآخر؟ الحكم فيه كما لو كان لا يمكن الاستطراق إلا في جميعه، وفيه أربعة [أوجه]: أصحها عند القاضي أبي الطيب وغيره من العراقيين: أنها لا تثبت. وهو ظاهر المذهب في "البحر"؛ وبه قال ابن سريج، وأبو إسحاق. والثاني: أنها تثبت لإمكان القسمة. ونسبه الروياني إلى ابن أبي هريرة. والثالث: [إن مكن] الشفيع المشتري من التطرق فيه تثبت، وإلا فلا، وهذا ما ذهب إليه أبو الفرج السرخسي، واختاره في "المرشد". والرابع: أن الشفعة تثبت وللمشتري الاستطراق، حكاه ابن الصباغ وغيره. قال الروياني: فعلى هذا إن أخذ أهل الدرب جميعهم الحصة المبيعة بالشفعة واقتسموا، كان للمشتري الاستطراق في حصة كل [واحد] منهم، وإن أخذها بعض الشركاء في الدرب [و] اقتسموا، فهل يثبت للمشتري الطروق في حصة الآخذ خاصة أو في حصة كل من الشركاء؟ فيه وجهان. والحكم فيما إذا أمكن اتخاذ ممر الدار المشتراة من سكة نافذة عند القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ، كالحكم فيما إذا كان لها ممر آخر. وعند الشيخ أبي محمد: كما إذا لم يكن لها ممر لكن بشرط أن يلحقه في

الفتح [عسر وتلحقه] مؤنة لها وقع. فرع: شركة مالكي بيوت الخان في صحنه، كشركة مالكي الدور في الدرب. وكذا الشركة في مسيل ماء الأرض دون الأرض. وفي بئر المزرعة [دون المزرعة]. تنبيه: [اختلفت أقوال] الأئمة فيما يمكن قسمته على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الذي لا تنقص القسمة قيمته نقصاناً فاحشاً، كما لو كانت قيمة الدار مائة، ولو قسمت عادت [قيمة] كل نصف [إلى] ثلاثين. قال البندنيجي: وهذا ما صار إليه عامة الأصحاب والشيخ؛ يعني أبا حامد. وقال الإمام: إن العراقيين زيفوه. والثاني: أنه الذي يبقى منتفعاً به بعد القسمة بوجه ما. والثالث: أنه الذي إذا قسم أمكن أن ينتفع به من الوجه الذي كان ينتفع به [قبل] القسمة. فإن كانت مزرعة أمكنت الزراعة في كل حصة، وإن كانت داراً مسكونة أمكن السكن فيما يقسم وإن كان بتجديد مرافق كما ذكره الإمام، ولا عبرة بإمكان الانتفاع [به] من وجه آخر؛ للتفاوت العظيم بين أجناس المنافع، [وهذا ما] صححه الإمام، والرافعي. وقال في "البحر": إنه الذي رواه العراقيون مع الأول. وكلام الشيخ في منع الشفعة في الحمام الصغير منطبق عليه. [وفي تعليق البندنيجي في كتاب القسمة أن الشافعي قال: وإن كان ينتفع واحد منهم بما يصير إليه أجبرتهم، [و] هذا اللفظ يحتمل الوجه الثاني وهو ظاهر

فيه، ويحتمل الوجه الثالث]. وفي الوسيط حكاية وجه: أن المعتبر: أن تبقى تلك المنفعة من غير تضايق، كالدار الفيحاء وعرصة الدار. [وعلى ذلك ينطبق قول الماوردي في كتاب القسمة: إن ظاهر مذهب الشافعي أن النقصان الذي يحصل به الضرر المانع من القسمة نقصان المنفعة [والله أعلم]]. قال: ولا شفعة إلا فيما ملك بمعاوضة يريد أن الذي يستحق أخذه بالشفعة هو المملوك بعقد المعاوضة. قال: كالبيع، والإجارة، والنكاح، والخلع، وكذا السلم والقرض والجعالة بعد العمل، ومعاوضته عن نجوم الكتابة إذا حصل العتق، وعن المتعة، وفي الصلح عن دم العمد، أو جراحة لها أرش مقدر إذا جوزنا ذلك بشرطه وغير ذلك. ووجه ثبوتها في البيع: ما روى البخاري ومسلم، وأبو داود، بسند كل منهم عن جابر [أنه] قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم، ربعة أو حائط: "لاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤذِنَ شَريكَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِنْ بَاعَهُ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ". وفيما عداه: القياس عليه بجامع الاشتراك في المعاوضة مع لحوق الضرر الذي تقدمت الإشارة إليه، ولا فرق في ذلك بين أن يعتاض عنه ما ثبت في الذمة بعقد السلم والقرض، أو لا. وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسي أن صاحب "التقريب" قال: إذا كان ما يقابل الشقص مما لا يثبت في الذمة [بعقد] السلم، ولا بالقرض؛ فلا شفعة [فيه]؛ لأنه تعذر أخذه بما ملك به المتملك، وهو

غريب. قال: فأما ما ملكه بالإشارة أو بوصية أو هبة أي لا تقتضي ثواباً كهبة الأعلى للأدنى فلا شفعة فيه؛ لأنه مملوك بغير بدل، فلا تجب فيه الشفعة، كما لو ملكه بالإرث. قال الرافعي: ولأن الموهوب له والموصى له يقلد المنة من المواهب والموصي بقبول تبرعهما. ولو أخذ الشفيع [لأخذ عن استحقاق وتسليط، فلا يكون متقلداً للمنة، ووضع [الشفعة] على أن يأخذ [الشفيع] بما أخذ به المتملك. أما إذا كان الهبة تقتضي الثواب إما عند الشرط أو عند إطلاق هبة الأدنى للأعلى وقلنا: إنه يستحق الثواب فهل تثبت الشفعة فيه؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم؛ لأنه مملوك بعقد معاوضة. فعلى هذا هل يأخذه قبل قبض الموهوب [أم لا؟]؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم؛ لأنه صار بيعاً. قال الرافعي: وهذا الخلاف مبني على أن الاعتبار باللفظ أم بالمعنى؟ ولو قايل المشتري البائع في صورة إسقاط الشفيع حقه بسبب

الشراء، ثبتت له الشفعة بسبب الإقالة إن قلنا: إنها بيع كما صرح به القاضي الحسين. وإن قلنا: إنها فسخ، فلا، وكذا لو رد عليه بالعيب؛ لأن الفسوخ وإن كانت تشتمل على تراد العوضين، فلا تعطى أحكام المعاوضات؛ ألا ترى أنه يتعين فيها العوض الأول؟ ولا نزاع في ثبوتها بالتولية. فروع: لو قال لأم ولده: إن خدمت ورثتي شهراً، فلك هذا الشقص، فخدمتهم شهراً ملكت الشقص. وهل تثبت فيه الشفعة؟ فيه وجهان: وجه المنع وهو الأصح: أن ذلك وصية [في الحقيقة لأنها] تعتبر من الثلث. لو دفع المكاتب عن نجوم كتابته شقصاً، ثم عجز ورق، فهل للشفيع [في الشقص شفعة]؟ فيه وجهان: أصحهما: لا. لو حضر رجل مغنماً، فأعطاه الإمام لحضوره شقصاً من دار، فهل تثبت فيه الشفعة؟ نظر: إن أعطاه عن رضخ فلا؛ لأنه تبرع. وإن أخذه بسهم مستحق؛ ففيه وجهان: وجه الثبوت: أنه اعتاضه بدلاً عن حضور وعمل. فعلى هذا يأخذه الشفيع بقدر سهمه من الغنيمة، حكاه في "البحر" قال: وما ملكه بشركة الوقف لا يستحق. أي: الموقوف عليه فيه الشفعة؛

لأن الوقف لما لم يستحق أخذه بالشفعة لم يستحق به الأخذ، وهذا ما جزم به القاضي أبو الطيب. وقيل: إن قلنا: إن الملك للموقوف عليه؛ كان له الأخذ بالشفعة؛ لأنه يلحقه الضرر في ماله من جهة الشركة، وهذا ما اختاره في "المرشد". ونسب الماوردي في كتاب الوقف مقابله إلى أبي إسحاق. وبنى الغزالي الخلاف على أن الوقف والملك هل يقسم أم لا؟ وحكاه الرافعي مرتباً على القول بجواز القسمة، وجزم بالمنع على القول بامتناعها. ثم إذا قلنا بثبوت الشفعة للموقف عليه، فلو كان الوقف على جهة عامة كان للناظر الأخذ بالشفعة، إذا رأى المصلحة في ذلك. ولا نزاع في أن المسجد إذا كان له حصة مملوكة من دار، بابتياع قيمة ذلك، أو اتهابه ليصرف ريعها في عمارته، وبيع من تلك الدار حصة، ورأى القيم أخذها بالشفعة أن له ذلك، كما صرح به القاضي الحسين، وكذلك الرافعي، وقاسه على ما لو كان لبيت المال شركة في دار، فباع الشريك نصيبه، فإن للإمام الأخذ بالشفعة. وفي "البحر" حكاية وجهين فيما إذا مات الشفيع قبل العلم بالشفعة، ووارثه بيت المال، أن الإمام هل له الأخذ أم تبطل الشفعة؛ لأنها تثبت لدفع الضرر، وهاهنا لا يتعين [للضرر] واحد. ومقتضى هذا أن يجري هذا الوجه فيما لو بيع ما لبيت المال فيه شركة. تنبيه: اقتصار الشيخ على منع ثبوت الشفعة لمن سبب ملكه الوقف، يعرفك أنها تثبت لكل من ملك بغيره سواء كان بعقد معاوضة أو بغيره، وهو ما صرح به غيره حتى طرده في "المرشد" في المُعْمَر والمُرْقَب، والشيخ أبو محمد فيما إذا ملك عبده شقصاً من دار وقلنا: إنه يملك. وقال الإمام: فيه احتمال ظاهر من حيث إن ملك العبد ضيعف، والشفعة لا تستحق بالملك الضعيف عند كثير من أصحابنا، وأشار- رضي الله عنه- بذلك إلى الملك في زمن الخيار وسنذكره، ثم إذا قلنا بالثبوت للعبد، فهل يحتاج في

الأخذ إلى إذن من جهة السيد؟ فيه وجهان. فائدة: ثبوت الخيار في الملك الذي يستحق به الشفعة، هل يمنع استحقاق الشفعة؟ قال الماوردي: إن كان خيار عيب لم يمنع؛ لبقائه على ملك مشتريه، وإن كان خيار رؤية، لم يملك به المشتري الشفعة، سواء قيل بصحة البيع أو بفساده؛ لأنه إما غير مالك أو غير مستقر الملك إن صح البيع. وأما البائع فإنه يملك به الشفعة إن أبطلنا البيع. وفي ملكها مع القول بالصحة وجهان مبنيان على اختلافهم في لزوم البيع في خيار الرؤية قبل وجود الرؤية. وأما خيار المجلس فلا يملك البائع فيه شفعة بالشقص الذي باعه في مجلس بيعه وخياره، سواء قيل: إن ملكه قد انتقل بالعقد أو لا؛ لأنه ببيعه راض بإسقاط شفعته. وأما المشتري، فإن فسخ العقد فلا شفعة له [بما لم] يستقر ملكه عليه. وإن تم له البيع، فله الشفعة، وكذا لا شفعة له إن قلنا: لا ملك له قبل انقضاء الخيار. وإن قلنا بانتقال الملك [إليه]، أو بقول الوقف، ففي استحقاقه الشفعة وجهان: وجه المنع: أن ملكه غير مستقر؛ لأنه لا يجوز له أن يعاوض، فلم يجز أن يملك به. وأما خيار الشرط فإن كان لهما؛ فحكمه حكم خيار المجلس، وكذا إن كان الخيار للمشتري وحده. وإن كان [الخيار] للبائع وحده ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا شفعة لواحد منهما. أما البائع؛ فلما في بيعه من الرضا بإسقاط حقه. وأما المشتري؛ فلعدم ملكه واستقراره.

والثاني: أنها للبائع؛ لأن في اشتراطه الخيار [لنفسه] تمسكاً بما تعلق به من حقوق. والثالث: إن تم البيع بينهما، فالشفعة للمشتري. وإن انفسخ فللبائع، كذا حكاه الماوردي. وفي كلام الرافعي ما يقتضي خلافه في بعض ذلك؛ فإنه قال: لو باع أحد الشريكين نصيبه بشرط الخيار لزيد، ثم باع الشريك الآخر نصيبه في زمن الخيار بيعاً بتاً لعمرو، فلا شفعة في المبيع الأول لبائع عمرو؛ لزوال ملكه، ولا لعمرو وإن تقدم ملكه على ملك زيد، إذا فرعنا [على] أن الخيار يمنع الملك؛ لأن سبب الشفعة البيع وهو سابق على ملكه. وأما الشفعة في المبيع لعمرو فموقوفة إن توقفنا في ملك زيد، ولبائع زيد إن أثبتنا الملك له، ولزيد إن قلنا بانتقال الملك إليه. وعلى هذا قال المتولي: إن فسخ البيع قبل العلم بالشفعة بطلت شفعته إن قلنا: إن الفسخ بخيار الشرط يرفع العقد من أصله. وإن قلنا: يرفعه من حينه فهو كما لو باع ملكه قبل العلم بالشفعة. وإن أخذه بالشفعة ثم فسخ البيع، فالحكم في الشفعة كالحكم في الزوائد الحادثة في زمن الخيار. قال: ويأخذ الشفيع [الشقص بالعوض] الذي استقر عليه العقد هكذا هو نسخة عليها خط المصنف رحمه الله؛ لأنه جاء في حديث جابر: "فَإِنْ بَاعَهُ فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ". قال الماوردي: ولأن عدولهما عن الثمن لا يخلو من ثلاثة أحوال فاسدة. إما أن يأخذه بما يرضى به المشتري، وفي ذلك إضرار بالشفيع. وإما أن يأخذه بما يرضى به الشفيع، وفي ذلك إضرار بالمشتري. وإما أن يأخذه بالقيمة، وقد تكون أقل من الثمن فيستضر المشتري، أو أكثر فيستضر الشفيع، وإذا بطلت هذه الأحوال ثبت أخذه بالثمن.

ثم اعتبار الشيخ الأخذ بما استقر عليه العقد، يعني من زيادة أو نقصان في مدة الخيار؛ بناء على ما هو الصحيح من إلحاق الزيادة والنقص في حال الخيار بالعقد، وقد ذكرنا في باب المرابحة ما قيل في ذلك، وعليه ينبني أمر الشفيع. قال: فإن كان له مثل أي العوض كما إذا كان من الدراهم والدنانير أو الحبوب والأدهان- أخذه بمثله؛ لأنه الأعدل، فلو كان الثمن مائة رطل من الحنطة فهل يكال ويدفع للمشتري قدرها بالكيل، أم يعطى له مائة رطل [من الحنطة]؟ فيه وجهان. والذي ذهب إليه الجمهور منهما وبه جزم في "البحر": الأول. والذي حكاه القاضي الحسين: الثاني، موجهاً له بأن ذلك في مقابلة الشقص؛ ولذلك اختاره الغزالي، وقال: إنه حسن [بالغ]. فرع: لو كان المثل منقطعاً عند إرادة الأخذ. قال المتولي: فللشفيع الأخذ بالقيمة كما لو اشتراه بما لا مثل له. قال: وإن لم يكن له مثل أي كالثوب والعبد ومنفعة البضع والمنافع في الإجارة، والجعالة، وحق القصاص، ونحو ذلك أخذه بقيمته [أي بقيمة] العوض؛ لأنها مثل في المعنى، ولأن ما يضمن بالمثل إذا كان له مثل- ضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل، كما لو أتلف على رجل مالاً. قال: وقت لزوم العقد كما يعتبر قدر الثمن فيه، وهذا الذي أورده في المهذب، هو من تخريج ابن سريج. وقد صححه [الروياني] في "البحر"، واختاره في "المرشد"، واقتصر عليه أيضاً صاحب "التهذيب"، والشاشي في "حليته"، وصاحب "الفروع". كما حكاه في "البيان". والذي نص عليه الشافعي كما حكاه البندنيجي، وذهب إليه جمهور الأصحاب: أنها معتبرة بحالة العقد؛ لأنها وقت وجوب الشفعة، فلا اعتبار بما يحدث بعدها من زيادة [أو نقصان؛ لأن الزيادة تكون] في ملك البائع،

[والنقصان عن ملكه، وليس على الشفيع شيء مما يحدث]. وفي هذا التعليل ما يرشد إلى أن هذا تفريع على القول بانتقال الملك بنفس العقد. أما إذا قلنا بأنه لا ينتقل إلا بزوال الخيار، فالوجه ما قاله ابن سريج. وفي "الذخائر" أن بعضهم قال فيما إذا شرط في العقد خيار: إن قلنا: الملك ينتقل بنفس العقد، اعتبرت القيمة حين العقد. وإن قلنا: لا ينتقل إلا بانقضاء الخيار اعتبرت عند انقضائه. ثم قال: وهذا ليس بشيء؛ إذ يلزم عليه خيار المجلس ولم يطرده فيه. والذي جزم به الماوردي أنا نعتبر أقل قيمة من حين العقد إلى [حين] أن يقبض البائع الثمن؛ لأنه إن زاد فالزيادة حادثة في ملك البائع لم يتناولها العقد. وإن نقص فالنقصان مضمون على المشتري فخرج من العقد. وعلى ذلك ينطبق ما حكاه فيما إذا كان العوض عبداً، فاعور في يد المشتري ورضي به البائع- أن الشفيع يأخذه بقيمة العبد أعور. وقياس ما حكيناه عن ابن سريج أن العور إذا حصل في حال بقاء الخيار، فالحكم كذلك وإن حصل بعده أخذه بقيمة عبد سليم. وهو الذي يقتضيه قياس المذهب في كل حال، وهو ما حكاه [المتولي عن] الجمهور فيما إذا اشترى الشقص بعبد، فخرج معيباً ورضيه البائع. ووجهه بأن رضا البائع بالعيب نوع مسامحة فصار كما لو حط بعض الثمن، وكما لو اشترى [بألف] من نقد جيد، فوفاه من نقد دونه ورضي به، فإن الشفيع لا يأخذ إلا بالجيد. وحكي عن ابن سريج أنه يأخذه بقيمة عبد معيب. وإن كان عوض الشقص منفعة في إجارة، أو جعالة رجع بمثل أجرة تلك المنفعة، وذلك في الجعالة بعد الفراغ من العمل. وإن كان منفعة بضع، كما لو أصدقها شقصاً، أو خالعها على شقص، رجع

بمهر مثلها حال العقد والخلع على الصحيح. وفي "البحر" أنه يحكى عن القديم في مسألة الصداق أنه يأخذه بقيمة الشقص لا غير، وحكاه المتولي عن بعض الأصحاب وجهاً مخرجاً في الصداق. والخلع أيضاً من قول لنا في الصداق إذا رد بالعيب، أن الزوجة تأخذ قيمته لا مهر المثل. وإن كان الشقص مقرضاً أخذه بقيمته، وإن قلنا: يرد في القرض المثل الصوري؛ لأن أخذ الشفيع كالإتلاف، قاله المتولي. وإن كان الشقص عوضاً عن نجوم الكتابة أو متعة أو عن دم عمد، أخذه بقدر النجوم والمتعة والدية. تنبيه: في قول الشيخ: أخذه بقيمته وقت لزوم العقد ما يعرفك أن الأخذ في زمن الخيار غير جائز؛ لأن الأخذ لا يكون إلا بثمن المثل أو قيمته، وذلك لا يجوز إلا بعد اللزوم؛ فلزم منه تأخر الأخذ إلى اللزوم. وقد قال الأصحاب: إن الحكم كذلك فيما إذا كان خيار البائع باقياً؛ لأن في الأخذ قبل انقضائه- إن قلنا بعدم انتقال الملك- تسليط على ملك البائع، ووضع الشفعة أخذ ملك المشتري، وإن قلنا: بانتقال [الملك] ففيه إبطال لحقه، وفي ذلك إضرار به. وعن صاحب "التقريب" احتمال في جواز الأخذ في هذه الصورة الأخيرة. وإن كان الخيار للمشتري وحده، وقلنا: لا ملك له فكذلك الحكم؛ لما أشرنا إليه. وعن صاحب "التقريب" وجه أن له الأخذ في هذه الحالة، ويتبين بالأخذ الملك قبيله وينقطع الخيار. وإن قلنا: إن الملك له، فالذي رواه المزني، أن للشفيع الأخذ، وكذلك هو منصوص في الأم، وهو الأصح عند عامة الأصحاب، لأنه مسلط عليه بعد لزوم الملك واستقراره، فقبله أولى. وروى الربيع قولاً أنه ليس له الأخذ حتى ينقضي الخيار.

وقال أبو إسحاق المروزي: إنه الصحيح، واختاره القفال كما حكاه في "البحر"، وكلام القاضي أبي الطيب يدل على اختياره، فإنه وجهه بأمرين: أحدهما: أنه خيار مشروط لأحد المتبايعين، فوجب أن يمتنع الشفيع عن الأخذ، أصله خيار البائع. والثاني: أن المشتري إنما شرط هذا الخيار لينظر أي الأمرين أحظ له، وفي أخذ الشفيع إبطال لهذا الغرض فلا يجوز، وما ذكروه فيبطل بما إذا كان الخيار للبائع، فإن البيع إذا استقر للمشتري بانقطاعه أخذ الشفيع الشقص، وقبل [أن يستقر بانقطاعه] ليس له الأخذ. وقد روى الإمام ومن تبعه عن بعضهم القطع به. ولا فرق فيما ذكرناه بين خيار المجلس وخيار الشرط. فرع: إذا قلنا بعدم جواز الأخذ في زمن الخيار، لو قال المشتري: اشتريت بشرط الخيار، وكذبه الشفيع. قال أبو حامد في "الجامع": القول قول المشتري مع يمينه حكاه في "البحر". قال: وإن كان الثمن مؤجلاً ففيه [ثلاثة] أقوال: أحدها: أنه مخير بين أن يعجل ويأخذ، وبين أن يصبر إلى أن يحل فيأخذ؛ لأن مطالبته بالمال في الحال تجحف به؛ لإلزامه زيادة على ما لزم المشتري؛ فإن الأجل يقابله قسط من الثمن. وأخذه بثمن مؤجل يجحف بالمشتري؛ لاختلاف الذمم. ولهذا إذا مات من عليه دين مؤجل؛ حكم بحلوله وعدم انتقاله إلى ذمة الورثة، وإن رضوا به مع إقرارهم بالحلول. وأخذه بسلعة تساوي الثمن خروج عن وضع الأخذ بالمثل والقيمة، فلما بطل ذلك تعين ما ذكرناه. وهذا هو الجديد.

قال: والثاني: يأخذه بثمن مؤجل؛ لأنه الثمن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "فَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ [بِهِ] " أي بالثمن. وهذا قوله في القديم، ونسبه الإمام إلى رواية حرملة. وقال ابن الصباغ: إن الشيخ أبا حامد اختاره. ومحله كما قال في "التتمة": إذا لم يكن الشفيع معسراً ولا مطولاً. فإن كان، فليس له الأخذ. وكذلك حكاه الإمام عن الشيخ أبي علي وأنه أقام الكفيل مقام الملاءة. وحكى أن من الأصحاب من لم يشترط ملاءة الشفيع، ولا الإتيان بكفيل، وأحل الشفيع محل المشتري، واستبعده. وعلى هذا القول إذا مات أحدهما حل عليه ولم يحل على الآخر. قال: والثالث: أنه يأخذه بسلعة تساوي الثمن؛ لتعذر أخذه بثمن مؤجل أو حال [لما ذكرناه]، فتعين هذا؛ لأنه أقرب إلى العدل، فعلى هذا إذا كان الثمن مائة إلى شهر أعطاه سلعة تساوي مائة إلى شهر، وهذا حكاه ابن سريج عن النص في كتاب الشروط. وقال ابن الصباغ عن هذا [القول: إنه أضعف، يعني من الذي قبله، وبعضهم قال: إن هذا] القول من تخريج ابن سريج من قول الشافعي في كتاب الشروط: إنه يجوز بيع الدين. وحكى مجلي أن الشيخ أبا حامد اختاره وغيره، فعلى هذا لو لم يتفق طلب الشفيع حتى حل الأجل. قال الإمام: وجب ألا يطالب إلا بالسلعة المعدولة؛ لأن الاعتبار بقيمة عوض المبيع [حال البيع]؛ ألا ترى أنه لو باع بمتقوم يعتبر قيمة يوم البيع.

قال: والأول أصح؛ لما ذكرناه. قال مجلي والرافعي: فعلى هذا إذا قلنا: إن حق الشفعة على الفور، فأخر الشفيع الطلب حتى حل الأجل فهل يبطل حقه؟ فيه وجهان: منهم من لم يبطله؛ إذ لا فائدة في طلبه، ومنهم من قال: إن أشهد لم يبطل، وإلا بطل؛ لأن التأخير قد يكون للزهد، وقد يكون لانقضاء الأجل، فلا بد من تميز. قال: والشفعة على الفور في قول: [أي خيار طلب الشفعة على الفور، كما صرح به في "المهذب"، ووجهه قوله صلى الله عليه وسلم: "الشُّفْعَةُ] لِمَنْ وَاثَبَها". أي: بادر إليها، وروي [أنها] "كَنَشْطَةِ العِقَالِ: ِان قُيِّدَتْ ثَبَتَتْ، وَإِنْ تُرِكَتْ فَاللَّومُ عَلَى مَنْ تَرَكَهَا". وهذا نصه في الجديد والإملاء. قال: وإلى ثلاثة أيام في قول: لأن التأبيد فيها يضر بالمشتري؛ لأنه لا يبقى على ثقة مما يبنيه ويحدثه، والفور يضر بالشفيع؛ لأنه لا يتمكن من معرفة الحظ والمصلحة: هل هو في الأخذ أو الترك. [فعلق] على غاية حد القلة وبداية حد

الكثرة، وهذا ما قاله في السير التي يرويها الطحاوي عن المزني كما نقل البندنيجي. وفي "الذخائر": أنه مذكور في سير حرملة. قال الماوردي: وعلى هذا لو حصل في خلال الثلاثة أيام زمان تتعذر فيه المطالبة؛ لم يحسب به منها، بل لا بد من ثلاثة أيام يتمكن في جميعها من المطالبة. ولو عرض بإسقاط الشفعة فيها؛ سقطت كما حكاه الإمام، ثم قال: ولا يبعد [على] قولٍ اشتراط التصريح بما يسقط الشفعة، كما سنذكره من بعد تفريعاً على القول الثالث. ولهذا القول الذي ذكره الشيخ نظائر في مسائل: قتل المرتد، وتارك الصلاة، وطلاق المولى، وفي العنة، ونفي الولد باللعان، وفسخ الزوجة بإعسار الزوج، وخيار الأمة إذا عُتِقَتْ. قال: وعلى التأبيد في قول، وإلى أن يصرح بالإسقاط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر الذي حكيناه عن رواية مسلم [في صدر الباب: فَإِنْ أبى فَشَريكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤذِنهُ" فكان على عموم الأوقات ما لم يسقطه]. ولأنه خيار لا ضرر على المستحق عليه في تأخيره، فكان على التراخي كخيار القصاص، وهذا ما قاله في القديم، فعلى هذا ليس للقاضي أن يقطع خياره إذا رفع إليه؛ لأن الحاكم لا يملك إسقاط الحقوق كالدين، قاله الماوردي. وإذا أخذ الشفيع الشقص بعد أن عمر فيه المشتري، أو أحدث فيه شيئاً، أخذ ما أحدثه بقيمته وقت الأخذ، قاله القاضي أبو الطيب. قال: أو يعرض بأن يقول: بعني، أو بكم اشتريت- في قول؛ لاشتراك التعريض والتصريح في المقصود بالعفو ومن جملة التعريض طلب القسمة والعمارة واستئجاره منه ومساقاته عليه.

وحكى الإمام عن [صاحب] التقريب تفريعاً على هذا القول: إن المساومة ليست مبطلة؛ فإن [الشفيع قد يبغي الشراء استرخاصاً. وحكى الماوردي قولاً ثالثاً على قولنا بأن الشفعة على] التأبيد أنها تسقط بأحد أمور ثلاثة: بالعفو الصريح، [أو] بما يدل عليه من التعريض، [أو] بأن يحاكمه المشتري إلى القاضي فيلزمه الأخذ أو الترك، فإن أخذ، وإلا حكم عليه بإبطال الشفعة. وحكى مجلي عن بعضهم طريقة قاطعة: بأن للمشتري الرفع إلى الحاكم وإجباره على الأخذ أو الترك. وحكى صاحب "التقريب" قولاً رابعاً في أصل المسألة، أنها تختلف باختلاف المطلوب ومقدار الثمن، فيدوم الطلب إلى حد لا يعد الشفيع فيها مقصراً [بل متروياً]. قال: والصحيح: أنه- أي: الخيار- على الفور لما تقدم، وأخر ذكر الصحيح؛ ليقع عليه التفريع. والجواب عن قولهم: إن في الفور ضرراً على أحدهما وفي التراخي ضرراً على الآخر- أنه يبطل بخيار الرد بالعيب. وعن الحديث: أنه عام مخصوص بما ذكرناه من الأحاديث. وعن قياسهم على خيار القصاص: [منع] كون التأخير لا ضرر فيه على المشتري؛ لأنه إذا عمر شيئاً أخذه بقيمته [وقد تكون قيمته أقل من ثمنه]، وقد يكون [له غرض] في أعيان أمواله، وذلك ضرر ظاهر. والمراد بالفور: حال اطلاع الشفيع على البيع عند بعض الأصحاب كما في العيب، وهو المتبادر إلى الفهم من إطلاق الأئمة وميل النص إليه. ومن ألفاظ الشافعي في ذلك: أنه إن علم فطلب [مكانه فهو له]، والمذهب على ما حكاه البندنيجي: أن له الخيار في الطلب وتركه ما لم يفارق مجلس البلاغ كخيار المتبايعين.

والمراد بالطلب: طلب المشتري بالشفعة [ويقوم مقامه طلب الحاكم ليطلب الشفعة] بحضرته، ولا يقوم مقام واحد منهما في القدرة عليه؛ للإشهاد على الطلب، كما صرح بها لأئمة هنا. وقد حكينا في باب الرد بالعيب وجهاً أنه يقوم مقام طلب الحاكم. وحكى مجلي عن الشيخ أبي حامد: أن الشفيع متى قدر على مطالبة المشتري فرفع الأمر إلى الحاكم؛ بطلت شفعته. وليس عليه في السير [إلى الطلب] إرهاق ولا عجلة على خلاف المعتاد، بل يمشي على عادته ولا يكلف بسوق دابته. وإذا علم بالشراء ليلاً ولم يمكنه السير [فيه] أخر إلى [أن يصبح] وإن علم [بها] نهاراً فله أن يؤخر إلى أن يلبس ثيابه ويجمع ماله ويغلق بابه، وإن كان في أكل فحتى يفرغ منه ويتنظف. وإن كان في حمام فحتى يفرغ حاجته. وإن كان في صلاة فحتى يتمها، وكذا لو حضر وقت الصلاة، فله التأخير حتى يؤذن ويقيم ويصلي الفريضة وسننها، كما صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ. وحكى الإمام عن بعض الأصحاب أنه قال: يجب قطع ذلك سوى الفريضة، وأنه أشار إليه القاضي يعني الحسين. وعلى الأول لا يفتقر إلى الإشهاد على الطلب على ظاهر المذهب وإن أمكن. وقيل: باعتباره عند الإمكان. قال: وإن طلب وأعوزه الثمن بطلت شفعته؛ لأن تأخير الثمن يضر بالمشتري، والضرر لا يزال بالضرر. وصورة ذلك، كما حكاه الماوردي: أن يبادر بالطلب ويقول: أنظروني بالثمن، فإن للحاكم أن ينظره يوماً ويومين، وأكثره ثلاثة أيام، فإذا لم يحضره في المدة التي أنظره الحاكم إليها؛ بطلت شفعته، وإن أحضره في المدة استمر على حقه

وسنذكر ما قيل في كيفية تملكه. وإنما أنظرناه هذه المدة؛ لأن تحصيل الثمن في الحال يتعذر في الغالب، فاعتباره يؤدي إلى إسقاط الشفعة والإضرار بالشفيع. وحكى الإمام عن الأصحاب أنهم عبروا عن النسخة التي أشرنا إليها في التأدية بأن قالوا: كل اشتغال لا يوجب حبس من عليه الحق في الديون، فهو محتمل فيما نحن فيه، وكل اشتغال يجر تطويلاً يسوغ لصاحب الحق استدعاء الحبس معه؛ فهو غير محتمل فيما نحن فيه. لكن هل يبطل الحق بمجرد ذلك، أم لا بد من إبطال القاضي؟ فيه خلاف للأصحاب. ثم هل نقول عند اطراد العسرة إن الشفعة لم تثبت أصلاً، أو نقول: ثبتت ثم سقطت؟ فيه خلاف بين الأصحاب أيضاً [كما] حكاه الإمام، وعلى الثاني كلام الشيخ. فرع: لو قال الشفيع: عندي عقار وأنا أظهره وأحصل الثمن منه فهل ينظر إلى بيعه؟ قال الإمام: إن كان عقاراً لا يطلب مثله فلا تعلق به. وإن كان [عقاراً] يطلب مثله ولكن تباطأ انتظام بيعه، فهذا مما لو فرض في الديون لا يستحق صاحب الدين طلب الحبس إلى اتفاق البيع. وهل يبطل حق الشفيع في مثل هذا المقام. والضياع المعروض معروف؟ فيه احتمال عندنا. قال: وإن أخَّر الطلب [أي] من غير عذر على الفور بطلت شفعته؛ [للحديث] ومن جملة الأعذار غير ما ذكره الشيخ: عدم علمه بالمشتري ولا قدر الحصة المبيعة، وكذا قدر الثمن، وجنسه، كما صرح به القاضي الحسين والفوراني، ووافقهما في كون الجهل بقدر الثمن عذراً في ترك الطلب: الطبري،

وزاد فقال: لو عفا صريحاً قبل معرفته كم الثمن لم تسقط شفعته. وفي "الإشراف" ما يقتضي ذلك وزيادة فإنه قال: إذا لم يعرف الشفيع الثمن سعى في طلب المشتري ليعرف منه الثمن ثم يقول: تملكته عليك بالثمن المعلوم. ولا يجوز أن يتوانى في طلب المشتري، ليعرف منه الثمن، وهو معنى قول أصحابنا: إن الطلب [على الفور. وقال الرافعي: إنهم لم يشترطوا في الطلب أن يكون الثمن] معلوماً للشفيع. وهل يكون الجهل بكون الشفعة على الفور [عذراً]؟ فيه وجهان مخرجان من الخلاف المذكور في جهل المعتقة بأن خيارها على الفور، هل يبطل حقها أم لا [كما] صرح به [في] "البحر"؟ وفي "النهاية" الجزم بأنه إذا كان حاله يليق به أن يجهل هذا أنه يعذر. وكذا الخلاف في أن الجهل بثبوت أصل حق الشفعة مع العلم بالبيع، هل يكون عذراً أم لا؟ صرح به الشاشي في الحلية. ولو كان على النخل المأخوذ مع الأرض بالشفعة طلع غير مأخوذ بالشفعة فهل يكون تأخيره إلى جذاذه عذراً أم لا؟ فيه وجهان في "النهاية" ولا نزاع في أن التأخير إلى حصاد ما في الأرض من زرع عذرُ. فرع: لو عفا الشفيع قبل العلم بالمشتري أو قدر الحصة، فهل يصح عفوه؟ قياس ما ذكرناه عن الطبري في العفو قبل العلم بقدر الثمن: عدم الصحة. وهو ما جزم به الفوراني. وفي "التتمة" حكاية خلاف فيه، وبناه في الأولى على الخلاف فيما إذا قال لغريميه: أبرأت أحدكما، ومقتضاه أن يكون الصحيح الصحة، وكذا صرح به في "البحر"، وبناه في الثانية على الإبراء من الحقوق المجهولة هل يصح أم لا؟

قال: وإن قال: بعني، أو كم الثمن، بطلت شفعته يعني: أن الشفيع لما بلغه البيع بادر إلى طلب المشتري، فلما لقيه بادره بقوله له: بِعْنِي، أو كم الثمن. ووجه إبطال الشفعة في الأولى: أنه عدل عن المطالبة بالشفعة إلى أن يتملك بجهة أخرى. وذلك يدل على الإعراض. وفي ابن يونس حكاية وجه عن المراوزة: أن الشفعة لا تبطل بذلك، ولم أقف عليه فيما وقفت عليه من كتبهم إلا على قولنا: إن الشفعة على التأبيد. ووجه إبطال الشفعة في الثانية: ما حكي عن الشيخ أبي حامد، والمحاملي، وقاله القاضي "الحسين" في تعليقه أيضاً أنه كان يمكنه أن يقول عوض ذلك: أخذت بالثمن الذي ابتعت به، فلما لم يقل ذلك، كان تاركاً لطب الشفعة مع القدرة عليه؛ فبطلت الشفعة. قال في "البحر" وهذا على قولنا: [إنه] لا يتقدر الأخذ بالمجلس: يشير إلى خلاف سنذكره في أن الشفيع إذا ترك الطلب أو عفا صريحاً: هل يكون له الطلب ما دام في المجلس أم لا؟ واعلم أن ما حيكناه عن الشيخ أبي حامد وغيره، يفهم أن الأخذ يجوز بالثمن المجهول، وهو مخالف لما يفهم من اللفظ الذي حكيناه من قبل. ولما صرح به الرافعي، وصاحب "المرشد" من أن الأخذ بالثمن المجهول لا يجوز. وحينئذ فيجتمع من مفهوم ما حكيناه عن الشيخ أبي حامد وغيره خلاف في جواز الأخذ بالثمن المجهول، وقد قال الرافعي: ينبغي أن يكون في صحة التملك مع كون الثمن مجهولاً ما ذكرناه في بيع المرابحة.

وادعى أن في "التتمة" إشارة إليه. ويقتضي هذا أن يكون في المسألة ثلاثة أوجه كما هي ثَمَّ: أحدها: عدم الصحة مطلقاً. والثاني: الصحة مطلقاً؛ لبناء العقد الثاني على الأول. والثالث: إن علمه في المجلس نفذ، وإن تفرقا قبل البيان بطل العقد؛ لأن المجلس جعل في الشرع كحالة المقاولة. والذي رأيته في "التتمة" هاهنا الجزم بأنه إذا لم يطلع على الثمن في مجلس [الأخذ لم يصح، وإن اطلع علي في المجلس] انبنى على مسألة المرابحة. وهذا الذي قاله متضح إذا قلنا بثبوت خيار المجلس في الأخذ بالشفعة كما سنذكره. فإن قيل: لم لا يحمل ما قاله [الشيخ] أبو حامد ومن تابعه على ما إذا كان الشفيع عالماً بقدر الثمن وأراد أن يستنطق المشتري؛ ليكون قوله حجة عليه إن وقع اختلاف في قدر الثمن؛ [إذ به يقع الجمع بين النقلين] ويؤيده أمران. أحدهما: أن البندنيجي- وهو أحد المتلقين عن الشيخ أبي حامد- وابن الصباغ- وهو من أجلاء أصحاب القاضي أبي الطيب- جزما بعدم [جواز] الأخذ بالثمن المجهول، ولم يحكيا عنهما شيئاً من ذلك؛ [مع محافظتهما] على نقل كلامهما. والثاني: أن الروياني [في "البحر"] جزم بأن الأخذ بالثمن المجهول [لا يمتنع]، وأن التأخير لمعرفته لا يسقط الشفعة. وقال بعده بأسطر مثل قول الشيخ أبي حامد ومن تابعه، فلولا أنه محمول على ما ذكرناه لكانت مناقضة ظاهرة؟ قلت: يمنع [من] ذلك أن الإمام أفهم بكلام الأصحاب منا، وقد حكي عن العراقيين: أنه لو انتهى إلى المشتري، وقال: بكم اشتريت الشقص، بطل حقه. وقال: قياس المراوزة في ذلك: [إنه] لا يبطل؛ فإنه معذور في [البحث] من جهة أنه ربما يطالب بالشفعة إذا كان الثمن مقدراً عنده، ولا

يطلبها إذا كان أكثر منه. ثم قال: ولا شك أن هذا يفرض فيه إذا لم يكن عالماً مقدار الثمن من جهة أخرى. ولا يمتنع أن يقال: إن كان عالماً يعذر في البحث، ويحمل الأمر فيه على إقرار المشتري. انتهى. وهذا ينفي أن يكون ما قاله الشيخ أبو حامد محمولاً على حالة العلم. وقد جعل الغزالي ما أبداه من قياس المراوزة مذهباً له وطرده في حالة العلم والجهل. وقد جعل الغزالي. وكلام القاضي الحسين يدل على خلافه فإنه قال: إذا قال: بكم الثمن؟ وقال أصحابنا: بطل حقه؛ لأنه لم يبادر إلى الطلب مع الإمكان. والذي عندي أنه لا يبطل؛ لما بينا أن الجهل بقدر الثمن وجنسه يسوغ له التأخير. وحكى الإمام ذلك في آخر الباب عنه وعنهم. ولا خلاف عند العراقيين أن الشفيع لو ابتدأ المشتري عند لقياه بتحية السلام لم تبطل شفعته، بل ذلك مستحب؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ بَدَأَ بِالكَلامِ قَبْلَ السَّلامِ فَلاَ تُجِيبُوه". وكذا لو قال: بارك الله في صفقة يمينك [كما قال في "المهذب"، أو بارك الله لك في صفقة يمينك]، كما قاله ابن الصباغ، وأبو الطيب، والبندنيجي،

والماوردي؛ لأن وصوله إلى الثمن من الشفيع بركة في صفقته. وألحق المتولي بذلك ما لو قال: بلغني أنك اشتريت نصيب شريكي، بارك الله لك في صفقة يمينك. واستحسن الإمام ما قالوه في السلام، وقال: إنه خارج على ما ذهب إليه المحققون من أنا لا نشترط قطع الأشغال التي يكون الشفيع ملابسها عند بلوغ الخبر وأما [من أبعد] من أصحابنا باشتراط قطعها؛ فلا يبعد أن يشترط الابتداء بطلب الشفعة. وقال: قياس المراوزة في الدعاء خلاف ما قالوه، فإن قوله: بارك الله لك، يشعر بتقرير الشقص في يده. والمذكور في تعليق القاضي [الحسين] ما حكيته عن العراقيين. فرع: ضمنه مسائل نحتاج إلى ذكرها: إذا ابتدر الشفيع الطلب عند لقيا المشتري، ثم أمسك بعد الطلب من غير تعريض ولا تصريح. قال القاضي الحسين، والماوردي: بطلت شفعته حتى يكون مستديماً للطلب بحسب الإمكان. وهذا منهما يدل على أن حقيقة الطلب غير حقيقة الملك، وهو ما يفهمه كلام الرافعي حيث قال: اعتبر الأصحاب في التمليك أن يكون الثمن معلوماً للشفيع ولم يشترطوا ذلك في الطلب، وقد صرح بذلك الماوردي حيث قال: الشفعة تجب بالبيع، وتستحق بالطلب، وتملك بالأخذ، وذلك [يدل] على التغاير، وكلام الشيخ أبي حامد ومن تابعه الذي حكيناه في تعليل بطلان الشفعة بقوله: بكم اشتريت. يدل على أن المراد بالطلب نفس الأخذ حيث قالوا: لما لم يقل: أخذت بالثمن- كان تاركاً لطلب الشفعة مع القدرة عليه، وكلام الشيخ يحتمل الأمرين. وعلى كل احتمال فإن قيل: اعتبار العراقيين مبادرة الشفيع إلى طلب المشتري، أو الحاكم على الفور إذا لم يكن ثم عذر، وجعل الشفيع معذوراً في تأخير الطلب إذا اطلع ليلاً إلى الصباح، أو قضى ما هو فيه من شغل كما ذكرتموه

- مشكل؛ لأن تمليك الشقص بالشفعة لا يفتقر باتفاق [أهل] الطريقين إلى حضرة الحاكم؛ لأنه ثابت بالنص، ولا إلى رضا المشتري، ولا إلى حضوره كما حكاه ابن الصباغ وغيره؛ لأن من لا يعتبر رضاه لا يعتبر حضوره كالزوجة إذا طلقها الزوج. وفي "الإشراف" وغيره: أن الشيخ أبا سهل الصعلوكي قال: الطلب من باب الإضافة يستدعي مطلوباً، ولا معنى لإظهار الشفيع الطلب إلا في وجه المشتري أو وكيله أو البائع إن كان الاستشفاع منه ولا يفتقر التملك عند العراقيين إلى بذل الثمن، كما دل عليه كلام ابن الصباغ حيث قال: إذا أخذ الشفيع الشقص وجب عليه الثمن ولا يلزم المشتري تسليم الشقص حتى يقبض الثمن، فإن كان الثمن موجوداً سلمه، وإن لم يقدر عليه في الحال؛ أجلناه ثلاثاً، فإن أحضره وإلا فسخ الحاكم عليه الأخذ ورده [إلى] المشتري ونسب البندنيجي هذا القول لابن سريج. وقال الشيخ أبو حامد: هكذا الحكم فيما لو هرب الشفيع بعد الأخذ؛ جاز للحاكم فسخ الأخذ ورده للمشتري وصرح به في "الإشراف" و"التتمة"، وكذا في تعليق البندنيجي حيث قال: إذا قال اخترت التمليك، انتقل المبيع إلى الشفيع ووجب عليه الثمن بغير اختيار المشتري. ولفظ الشيخ في المهذب أنه يملك الشقص بالأخذ؛ لأنه تمليك [مال] ثابت له بالقهر، فوقع الملك له فيه بالأخذ؛ كتملك المباحات، وإذا كان التمليك لا يفتقر إلى ذلك، فهو قادر حين اطلاعه [على الشراء على التمليك] فإذا لم يفعله وجب أن يعد مقصراً؛ لأنه اشتغل عن المقصود بغيره. وإذا تملك عقيب الاطلاع، وأشهد خشية ألا يصدق في دعواه التملك

على الفور: وترك مطالبة المشتري بانتزاع الشقص من يده لا يعد مقصراً؛ لأن التملك بعقود المعاوضات ليس من شرطه تقابض العوضين، نعم ذلك شرط فيما يحذر فيه الربا. فإذا كان في الشقص صفائح من ذهب وقد أبيع بفضة، اشترط فيه التقابض؛ حذراً من ذلك. قلت: أما كون الشفيع إذا تملك وجب أن يقال: لا يعد مقصراً بترك مطالبة المشتري [بقبض الشقص]؛ ففي كلام البندنيجي ما يقتضيه فإنه [قال]: إذا قال: اخترت التملك انتقل المبيع إليه ووجب الثمن عليه بغير اختيار المشتري. فإذا عرف هذا الفصل فقد استغنى عن أن يكون على الفور أو على التراخي؛ لأنه إذا ملك نقل المبيع إلى ملكه بغير اختيار المشتري، فقد بلغ مراده، وكان الخيار إليه. وأما اعتبار التملك عقيب الاطلاع حتى إنه إذا لم يفعله، واشتغل بطلب المشتري ينبغي أن يعد مقصراً، فقد استشعره صاحب "الإشراف" وأجاب في أثناء كلامه عنه في حالة كون الشفيع جاهلاً بقدر الثمن، بأن التملك ممتنع والطلب لأجل معرفة قدر الثمن حتى يتعقبه التملك. وفي حالة العلم بمقدار الثمن وقدرته على التملك جعل جوابه مبنياً على أصل بعد العهد به، وهو أن المشتري إذا اطلع على عيب بالمبيع ولا أحد حاضر معه، هل يجب عليه أن يقول: فسخت العقد أم لا؟ وحكي فيه عن القاضي الحسين أنه قال بالوجوب؛ إذ الثابت على الفور كلمة الرد والفسخ، وهي لا تنحبس على الرد الفاسخ بعذر. وعن القفال المروزي أن المشتري لو أخر الرد إلى الرفع إلى الحاكم جاز، وأن الاشتغال بالرفع إلى الحاكم كالاشتغال بنفس الرد. والحكمة فيه أنه أراد أن يرد رداً خارجاً عن الخلاف؛ إذ على قول بعض العلماء لا بد من رضا المردود عليه أو حكم الحاكم. ثم قال: والاستشفاع بمنزلة الرد بالعيب.

فنقول: الشفيع على رأي القاضي في أي حال كان يملك الربع بالشفعة. ثم إن حضره شاهدان فقد تحملا الشهادة عليه، وإلا إذا ظفر بهما أشهدهما عليه؛ ليخرج من الخلاف، يعني خلاف أبي حنيفة، فإنه يعتبر حضور المشتري، أو حكم الحاكم، كما حكاه عند الرافعي، أو رضا المشتري أو حكم الحاكم، كما حكاه ابن الصباغ. ثم قال صاحب "الإشراف": [وعلى ذلك يخرج ما قاله الأصحاب في تفسير الأعذار]، وعلى ذلك يتخرج أيضاً. أما الذي على الفور فيجيء فيه جوابان، وما قاله في حالة عدم العلم بالثمن حسن بالغ، وما قاله في حالة العلم فهو الممكن في الجواب، ويجعل كأن العراقيين صاروا إلى ما صار إليه القفال من التعليل؛ وهذا مع [تسليم] ما نقل عنهم في عدم اعتبار ما ذكرناه، وإلا فقد حكي في "الإشراف" أيضاً في فصل كيفية الحكم وما يختص [به القاضي] أن التملك لا يحصل إلا ببذل الثمن [على وجه، وعلى وجه] لبعض أصحابنا أنه لا يحصل إلا ببذل الثمن وقضاء القاضي. وكلام الماوردي يقتضي أنه لا يحصل له الملك إلا ببذل الثمن، فإنه قال: لو قال من بادر بالطلب: أنظروني بالثمن واحكموا لي بالملك [حتى أحضر الثمن]- لم يجز أن يحكم له بالملك حتى يكون حاضراً، فلو أحضر رهناً بالثمن أو عوضاً عنه، لم يجز أن يحكم له بالملك. وعلى هذا يندفع السؤال، فإن البذل لا يتم إلا بقابض، والقابض إما المشتري أو وكيله أو الحاكم، فيتعين طلبه لعدم القدرة على الملك بدونه. والله أعلم. فإن قيل: هل يتوجه إيراد هذا السؤال على المراوزة؟ قلت: لا. وذلك يظهر لك إذا عرفت ما ذكروه فيما يحصل به الملك، فأذكره وإن طال لما فيه من فوائد.

وقد قالوا: لا بد من لفظ دال على الرضا، إذا لم يكتف بالمعاطاة، وإن أفهم لفظ "الوسيط" و"البحر" عدمه. ثم اللفظ الدال قوله: تملكت، أو اخترت الأخذ بالشفعة، أو أخذت الشقص بالشفعة، وما أشبه ذلك؛ ولا يحصل بنفس الطلب كما صرح به المتولي. ووجهه: بأن المطالبة رغبة في التملك، والملك لا يحصل بالرغبة المجردة. وهذا قضية ما حكيته عن كلام الماوردي في صدر الفرع. وحكى الرافعي عن أمالي السرخسي أن الطلب يكفي سبباً لثبوت الملك، ولا يقف على قوله: تملكت، وعليه ينطبق كلام [القاضي] مجلي حيث جعل قوله: طلبت شفعتي لفظاً مملكاً؛ كقوله أخذت وهو مؤيد لما استنبطه من كلام أبي حامد أن المراد بالطلب نفس الأخذ. والأظهر كما قاله الرافعي: الأول. ثم وجود اللفظ وحده [عندهم] غير كاف في حصول الملك، وهو الذي استقر عليه جواب شيخهم القفال بعد أن كان يقول بحصوله بمجرد الأخذ، لكن بعده لا ينفذ تصرف المشتري في الشقص بالبيع وغيره، وإن كان يجوز قبله. كما حكاه القاضي الحسين عنه، وحكاه الإمام عن صاحب "التقريب". ثم أبدى احتمالاً في جواز التصرف، وجعل الأظهر النفوذ إذا لم يحصل الملك. وإذا وجد مع اللفظ تسليم الثمن إلى المشتري، فقد حصل الملك، فإن بذله فامتنع المشتري من قبضه، خلى بينه وبينه، أو رفع الأمر إلى القاضي حتى يلزمه التسليم. فإن لم يوجد ذلك وسلم المشتري الشقص إلى الشفيع راضياً بذمته؛ حصل الملك أيضاً. وإن [وجد مجرد] رضا المشتري بذمة الشفيع، ولم يسلم [له] الشقص، أو لم يوجد ذلك، ورفع الشفيع الأمر إلى الحاكم وأثبت حقه في الشفعة لديه وحق طلبه، فقضى له [بحق الشفعة] فوجهان:

أصحهما في الرافعي: الحصول، وفي الوسيط الأظهر: عدم الحصول في الثانية، وفي الوجيز الأظهر: عدم الحصول فيهما. ثم على الأول [لا يملك] تسليم الشقص ما لم يسلم الثمن، وإن قلنا: في البيع يبدأ بالبائع. وخرجه الإمام في الصورة الأولى على الخلاف في البيع. ولو عدم قضاء القاضي [ورضا] المشتري، ووجد من الشفيع الإشهاد على الطلب واختيار الشفعة. فإن قلنا: بعدم الحصول الملك مع قضاء القاضي فهاهنا أولى. وإن قلنا: بالحصول ثم فهاهنا وجهان. والفرق قوة قضاء القاضي. ثم على القول بحصول الملك بقضاء القاضي أو الإشهاد، فإذا أخر الشفيع تأدية الثمن مقصراً من غير عجز، فهل يحكم ببطلان ملكه بعد جريانه أم يحتاج في إبطاله إلى الرفع إلى الحاكم؟ فيه وجهان في "النهاية" و"البسيط". واختار القاضي منهما الثاني. وسلك في الوسيط طريقاً آخر فقال: إذا قلنا بحصول الملك بذلك، فقصر في أداء الثمن، بطل ملكه، لكن بطريق التبين أم بطريق الانقطاع؟ فيه وجهان: ثم قال: [هذا] إذا رضي المشتري فإن أبى إلا أخذ الثمن، فهل يبقى خيار الشفيع إلى أن يسلم الثمن؟ فيه وجهان. وقد حشا بعضهم على الوسيط فقال قوله: هذا إذا رضي المشتري [و] لم يظهر معناه [ومعناه: أن الخلاف الذي ذكره في [أن] الملك [يبطل] تبيناً أم انقطاعاً، شرطه طلب] المشتري ورضاه.

أما إذا أبى ذلك فلا يبطل، لكن هل يكون للشفيع إبطاله ما لم يسلم الثمن؟ فيه الخلاف الذي ذكره. والمذكور في "الإشراف" أن الامتناع من الأداء مع القدرة عليه هل يثبت [للمشتري] فسخ الاستشفاع أو يتعين حبس الشفيع إلى الوفاء؟ فيه وجهان. فإذا عرفت ما قالوه فيما يحصل به الملك، تلخص لك منه وجهان: أحدهما: لا يحصل إلا باللفظ وبذل الثمن أو تسليم الشقص، وعلى هذا لا بد من طلب المشتري؛ لأن القدرة على التملك لا تحصل بدونه أو نائبه، فلا يرد ما ذكرناه من السؤال. والثاني: أنه لا يحصل إلا بذلك، أو باللفظ، وقضاء القاضي، أو الإشهاد، فيكون مخيراً في طلب واحد منها، ومن سلك ما خير فيه لم يعد مقصراً، نعم السؤال متوجه عليهم في الرد بالعيب. فرع: إذا لقي الشفيع المشتري حين اطلع على الشراء في غير بلد الشقص المشفوع، فأخر الأخذ إلى حضورهما إلى بلد الشقص، بطل حقه لقدرته عليه، فلو أنكر المشتري الملك وكانت بينته في بلد الشقص فأخر إلى الحضور إليها؛ لم يبطل حقه لأنه معذور. ثم البينة المكتفى بها رجل وامرأتان، أو رجل مع يمينه، ويسمع فيها شهادة السيد لمكاتبه كما حكاه في "الزوائد" عن القاضي في "المجرد"، وحكاه الإمام عن شيخه وقال: أراه هفوة غير معتد بها، فإن شهادة السيد لمكاتبه لا تقبل. ولا خلاف في أن البينة إذا [شهدت له] بالملك ثبت حقه في الشفعة ولو شهدت له باليد دون الملك فهل يثبت [له] حق الشفعة؟ فيه وجهان في الحاوي. والذي دل عليه كلام الشيخ أبي حامد وغيره في كتاب الصلح الثبوت، فإن الرافعي حكى عنه ثَمَّ أنه قال: لو ادعى رجل على رجلين داراً في يدهما، فأقر

أحدهما وكذبه الآخر؛ ثبت له النصف بإقرار المصدق، فلو صالح المدعي المقر على مال، وأراد المنكر أخذه بالشفعة، فله ذلك إن ملكا في الظاهر بسببين مختلفين وكذا إن ملكا بسبب واحد من إرث أو شراء على أحد الوجهين، وهو الذي جعله الرافعي في الصلح الأظهر؛ لحكمنا في الظاهر بصحة الصلح وانتقال الملك إلى المقر [له]، وإن كان الغزالي وإمامه جعلا الأصح عند اتحاد السبب عدم الأخذ، لزعم المكذب بأن الصلح ما صح. ووجه دلالة هذا اللفظ [على] ما ادعيته أن المصدق مكذب للمنكر في دعواه الملك مع ثبوت يده، وقد حكمنا بالملك له بسببها ومع هذا لم يكن ذلك مانعاً من ثبوت شفعته. والذي صرح به المتولي، وابن الصباغ، وصاحب "الإشراف" هاهنا: عدم الثبوت، وهو الذي دل عليه كلام الرافعي في آخر الإيلاء حيث قال: لو وجدنا داراً في يد اثنين، وادعى أحدهما أن جميعها له، والآخر أنها بينهما نصفين، وصدقنا الثاني بيمينه؛ لأن اليد تشهد له، ثم باع مدعي الكل نصيبه من ثالث، فأراد الآخر أخذه بالشفعة وأنكر المشتري ملكه، فإنه يحتاج إلى البينة، ويمينه في الخصومة مع الشريك أفادت دفع ما يدعيه الشريك لا إثبات [الملك] [له] [والله أعلم]. قال: وإن قال: صالحني عن الشفعة على مال، أو أخذ الشقص بعوض مستحق، فقد قيل: تبطل، وقيل: لا تبطل. هذا الفصل ينظم مسألتين: صورة أولاهما: أن يقول الشفيع للمشتري: صالحني عن الشفعة على مال فيصالحه عليه، فهذا الصلح غير صحيح على المذهب؛ لأنه إسقاط خيار ثابت بالشرع لا يسقط إلى مال، فلم يجز أخذ العوض عنه؛ كخيار المجلس. وفي "التتمة": أنه حكي عن ابن سريج جواز المصالحة عن حق الشفعة. والمشهور أن المجوز لذلك أبو إسحاق، وأنه جوز المصالحة أيضاً على مقاعد الأسواق وحد القذف.

فعلى هذا يجب رد المال، وهل تسقط الشفعة؟ فيه خلاف. ووجه السقوط: أن عدوله عن طلب الشفعة إلى العوض رضا بإسقاطها. ووجه عدم السقوط: أنه إنما سمح بالترك طمعاً في العوض فإذا لم يسلم له رجع إلى حقه كما في البيوع الفاسدة. وهذا الخلاف هو الخلاف [الذي تقدم] في الرد بالعيب، ومحله إذا كان الشفيع جاهلاً بعدم صحة المصالحة، أما إذا كان عالماً بطلت وجهاً واحداً. وصورة الثانية: أن يقول الشفيع: أخذت الشقص بالشفعة بهذه الدراهم ثم ظهرت مستحقة. ووجه السقوط فيها: أنه أخذ الشفعة بما لا يملك فصار كأنه ترك الأخذ مع القدرة عليه، وهذا ما حكاه الشيخ أبو حامد والبغوي. ووجه البقاء: أنه لم يقصر في الطلب والأخذ، والشفعة لا تستحق بمال معين حتى تبطل باستحقاقه. وهذا ظاهر لفظ المزني، وبه قال أبو إسحاق وابن أبي هريرة واختاره كثير من الأصحاب ومنهم الغزالي. ولو قال: أخذت الشقص بثمن في ذمتي، ثم دفع عنه [شيئاً] مستحقاً؛ لم تبطل وجهاً واحداً إلا أن يعسر بالعوض، حكاه الماوردي. وقيل بجريان الخلاف في هذه الحالة أيضاً. وخروج الدراهم نحاساً كخروجها مستحقة. ولو خرجت معيبة فلا تبطل بها الشفعة. وفيه وجه: أنها كما لو خرجت مستحقة. ومحل الخلاف في الأصل كما حكاه الرافعي فيما إذا كان الشفيع عالماً باستحقاق المأخوذ به. أما إذا كان جاهلاً باستحقاقه؛ فلا تبطل وجهاً واحداً. لكن [هل] يتبين أنه لم يملك بأداء المستحق حتى يفتقر إلى تملك جديد أو نقول: إنه ملكه والثمن دين عليه؟

فيه وجهان حكاهما الإمام. وقال مجلي: لا وجه لعدم السقوط مع علمه بالاستحقاق، وقولنا الشفعة على الفور. قال: وإن بلغه الخبر وهو مريض، أي مرضاً يمنعه [من] السعي والمطالبة، أو محبوس أي: حبساً لا يقدر على إزالته ولم يقدر على التوكيل فهو على شفته لقيام عذره. وظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا حاجة في هذه الحالة إلى الإشهاد، وهو قول أو وجه اختاره الشيخ أبو محمد. وقيل: إن يشترط إذا أمكن، فإذا لم يفعله سقطت شفعته، وهو ما صار إليه أكثر الأصحاب كما حكاه في "البحر"، والأظهر في الرافعي. [فعلى هذا] يعتبر أن تشهد بينة كاملة يقبل قولها عند الحاكم. قال في "البحر": ولا يكفي إشهاد عدل واحد ليحلف معه؛ لأن من الحكام من لا يحكم بالشاهد واليمين. قلت: قد ذكر في باب الضمان والوكالة ما يمكن أن يخرج منه الاكتفاء به على رأي فيطلب منه. وإذا لم يقدر على الإشهاد فلا يجب عليه أن يقول بينه وبين الله تعالى: أنا طالب بالشفعة، صرح به الإمام وفيه ما ذكرناه. أما إذا قدر على التوكيل فلم يفعله؛ ففيه ثلاثة أوجه: المذهب منها في "تعليق" أبي الطيب و"الشامل" و"التتمة": أنها تسقط. وبعضهم حكاه عن القاضي أبي حامد. والثاني: لا [لأن التوكيل] إن كان بعوض- لزمه غرم، وإن كان بغير عوض ففيه منة، وذلك ضرر، وأيضاً فقد يكون ألحن بحجته من وكيله. وهذا ما اختاره أبو إسحاق كما حكاه في "البحر". والثالث: إن وجد متطوعاً بها [فلم يفعل] بطلت [شفعته] وإلا فلا؛ لأن المنة في ذلك يسيرة.

أما إذا كان المرض لا يمنعه من المطالبة، كالصداع اليسير [ونحوه] أو كان يقدر على الخروج من الحبس، بأن كان معسراً قادراً على إقامة البينة على إعساره، أو كان مليئاً يقدر على وفاء ما اعتقل بسببه؛ فهو كالصحيح المطلق. والخائف من العدو في هذا المعنى؛ كالمريض. قال: وإن بلغه [الخبر] وهو غائب، فسار في طلبه وأشهد فهو على شفعته؛ لشروعه في الطلب بقدر الإمكان. وهكذا الحكم فيما لو لم يسر، لكنه وكل عقيب بلوغ الخبر وسار الوكيل، وليس عليه في السير إلى ذلك إرهاق ولا عجلة كما ذكرناه من قبل. قال: وإن لم يشهد أي مع تيسر البينة؛ ففيه قولان: مأخذهما تقابل الأصلين: بقاء حق الشفعة وبقاء ملك المشتري، فإن الذي وجد من السير [كما] يحتمل أن يكون للطلب يحتمل أن يكون لغيره، وقد صحح في "البحر" وغيره قول عدم السقوط؛ لأنه اعتمد بالظاهر أيضاً. ولا نزاع في أن مقابله لا يجري فيما إذا وكل ولم يشهد؛ لأن التوكيل قائم مقامه. فرع: حيث اعتبرنا الإشهاد فقال الشفيع: قد أشهدت وسرت، وقال المشتري لم يشهد. [أو قلنا]: الإشهاد ليس بشرط، فقال الشفيع: سرت عقيب السماع، وقال المشتري لم يسر عقيبه مع الإمكان، فالقول قول الشفيع؛ لأنه اختلاف في فعله وهو أعلم [به]. وكذا لو اختلفا فقال [الشفيع] أخرته للعجز، وقال المشتري: بل مع القدرة، فالقول قول الشفيع، قاله في "البحر". وقال الرافعي في هذه الحالة: إن وجد مع ذلك ما يدل عليه [فالقول قول الشفيع] وإلا فالقول قول المشتري. قال: وإن لم يقدر أن يسير أي لخوف [في] الطريق أو لحر أو برد مفرط

أو لعدم النفقة كما قاله القاضي الحسين، ولا أن يوكل فهو على شفعته [أي] إلى أن يتمكن لإيضاح عذره. والحكم في اعتبار الإشهاد والتوكيل مع القدرة عليه، وفي وجوب اختيار التملك في الباطن كما ذكرناه. قال: وإن أخر وقال: أخرت لأني لم أصدق المخبر [أي] بالبيع فإن كان المخبر صبياً أو امرأة أو عبداً لم تبطل شفعته؛ لأن أقوال هؤلاء لا تثبت بيعاً. ويلتحق بهم أخبار [الكفار والفساق] وهذا ما حكاه الشيخ أبو حامد والقاضيان أبو الطيب والحسين، وابن الصباغ. وفي "المهذب" [حكاية] قول أنها تسقط بإخبار المرأة والعبد تغليباً لحكم الخبر لا لحكم الشهادة، وحكاه في "البحر" من تخريج القاضي الطبري، وهو في "الوجيز" و"الرافعي" الأظهر عند إخبار العبد. وعلى هذا يجيء في سقوطها بإخبار الصبي الذي لا عرامة [به] وجه بناء على قبول روايته، وقد صرح به ابن يونس. وفي الحاوي: أنها تسقط بإخبار من يقع في قلبه صدقة ولو من كافر. قال: وإن كان حراً عدلاً فقد قيل: هو على شفعته [إذ ليس] الشاهد الواحد ممن يثبت البيع وحده. وقيل بطلت شفعته؛ لأن حجة في الشرع عند اليمين، فأشبه ما لو أخبره عدلان أو رجل وامرأتان. وهذا ما اختاره في "المرشد"، وجعله الغزالي الأظهر.

فرع: لو أخبره نسوة هل تسقط شفعته على قولنا: إن إخبار الواحدة لا يسقطها؟ قال المتولي: ذلك ينبني على أن المدعي إذا أقام امرأتين هل يقضي بيمينه معهما؟ إن قلنا لا: فهن كالمرأة الواحدة. وإن قلنا نعم: فكالعدل الواحد. وهذا كله إذا لم يبلغ الخبر حد التواتر. أما إذا بلغ [حد التوتر] وأخر- بطلت شفعته، وإن كان المخبرون فساقاً. قال: وإن دل في البيع أي صار دلالاً في بيع الشقص أو ضمن الثمن أي في مدة الخيار أو قال: اشتر ولا أطالبك [بالشفعة] لم تسقط شفعته. أما في الأولى والثانية، فلأن ذلك سعى في تحصيل السبب المثبت للشفعة فلا يكون مانعاً منها. وأما في الثالثة: فقد ادعى في "البحر" الإجماع عليها وأنه لم يخالف فيها إلا عثمان البتي، ويشبه أن يكون متمسكاً بمفهوم الخبر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ". ولنا عليه أنه أسقط الحق قبل ثبوته فلم يسقط، كما لو أبرأه من الدين قبل وجود سببه، وضمان الدرك وجعل الخيار المشروط للشفيع برضاه كضمان الثمن في عدم إسقاط الشفعة، صرح به الأصحاب وسنذكر شيئاً فيه. قال: وإن توكل في شرائه لم تسقط شفعته [لما ذكرناه. وقيل: تسقط] لأنه رضي له بالملك فألزم مقتضاه. [قال الإمام]: وكان شيخي في غالب ظني يطرده في ضمان الشفيع العهدة وضمان الثمن، وما ذكره إن كان ينقدح في ضمان العهدة فليس له ظهور في ضمان الثمن.

ولو اشترى الوصي ليتيم تحت نظره شقصاً له فيه شفعة، فهل له الأخذ بها؟ فيه وجهان في "الشامل": والمشهور منهما كما حكاه الرافعي الجواز، وإيراد صاحب "البحر" يقتضي ترجيح خلافه. ووجهه بأن ذلك يثبت عهدة على اليتيم إن استحق الشقص. قال: وإن توكل في بيعه سقطت شفعته؛ لأن التهمة تلحقه من تخفيف الثمن ليأخذ به، ولو قدر البيع بأكثر من ثمن المثل؛ لأنه قد يتهاون في طلب زيادة [ثمن] عليه، وإذا كان كذلك بطل حقه، كما لو باع الوصي شقصاً له فيه شفعة. وقد ادعى الشيخ أبو علي كما حكاه الإمام عنه فيه إجماع الأصحاب على أنه لا شفعة للوصي، وهذا قول ابن الحداد كما حكاه ابن الصباغ ورأيته في فروعه. وقيل: لا تسقط؛ لأنه تولى أحد طرفي العقد، فلم تسقط شفعته، كما لو ولي الشراء، وهذا ما حكاه في الحاوي، والقاضي أبو الطيب، وصار إليه الأكثرون كما حكاه الشيخ أبو علي وصححه في الوسيط. وعن رواية صاحب "التقريب" جريانه في الوصي أيضاً. وبه قال ابن القطان والقفال أيضاً كما حكاه ابن الصباغ، ووجهه بأن ذلك يجب على المشتري بعد تمام العقد.

والفرق على الأول [أن البالغ] العاقل متمكن من دفع الظلامة عن نفسه في الحال [إن اتفقت] بخلاف اليتيم. واعلم أن مقتضى ما عللنا به الوجه الأول، أن الشفعة لا تسقط جزماً إذا وكل [في البيع] من معين بثمن معين؛ إذ لا تهمة في هذه الحالة، فإنه لا يقدر على البيع [في هذه الحالة] بأكثر من [ثمن المثل]. وما ذكرته هو المشهور في مسألة التوكيل في الشراء والبيع. وفي رفع التمويه عن التنبيه أن من أصحابنا من قال: إذا توكل في البيع لم تسقط شفعته، وإن توكل في الشراء سقطت. والفرق: أنه إذا توكل عن المشتري فهو معين على التملك، وإذا أعانه على تحصيل الملك لم يجز أن يزيل ملكه. ولا خلاف في جواز أخذ الوصي الشقص إذا باعه بطريق الوصاية لمن هو تحت ولايته بالشفعة. فرع: إذا اشترى عامل القراض شقصاً لرب المال فيه شفعة هل لرب المال أخذه؟ فيه ثلاثة أوجه رواها في "البحر" عن ابن سريج: أحدها: نعم لكن ليس بطريق الاستشفاع بل بحكم استرجاع مال القراض؛ فإنه لم يظهر فيه ربح. والثاني: يأخذه بالشفعة لا بحكم القراض؛ لأن المالك لا يملك أخذ مال القراض إلا ناضاً.

والثالث: لا يأخذ أصلاً. فعلى هذا لو باعه العامل فهل يأخذ رب المال بالشفعة؟ فيه وجهان. وجه المنع: أن الملك المبيع له فلو أخذ لأخذ ما بيع له، وهذا قريب مما حكاه الأصحاب فيما إذا مات من عليه دين يستغرق ما خلفه من حصة من عقار، [فبيع فيه] ولوارثه شركة في العقار قديمة، فإنه ليس له الأخذ بالشفعة؛ لما أشرنا إليه. وقد صار ابن الحداد إلى ثبوت الشفعة للوارث، وقال في "البحر" إن القاضي صار إليه؛ لأنه [يجعل] كأن الميت باعه في حياته، وأنه لم يذكر سواه. وقد يظن [أن] ابن الحداد فرع على أن الدين يمنع الإرث كما حكاه الإمام هنا عن القديم وغيره عن الإصطخري، وليس كذلك، لأن ابن الحداد قد جزم فيما إذا مات شخص وله شقص من عقار، وعليه دين يستغرقه، فباع شريك الميت حصته من العقار قبل [بيع] حصة الميت في دينه، أن لوارثه الأخذ بالشفعة، فلو اعتقد مذهب الإصطخري لم [يكن له] الأخذ. قال: وإن باع حصته قبل أن يعلم بالشفعة ثم علم فقد قيل: تسقط؛ لأن الشفعة شرعت لإزالة الضرر وهو منفي عنه، وهذا قول ابن سريج، وهو الأصح في "الحاوي" و"البحر"، واختاره في "المرشد". وقيل: لا تسقط لأنه تجب بالشركة عند العقد وقد وجدت، وهذا قول أبي حامد، ولهذا نظائر منها: إذا لم يعلم بالعيب حتى زال، ومنها إذا لم تعلم الأمة بالعتق حتى عتق الزوج. ومحل الخلاف في مسألة الكتاب، كما صرح به في "المرشد" إذا باع بغير شرط خيار، أما إذا باع [به] وفسخ البيع ثم علم فله الشفعة. ولو باع حصته بعد العلم بالشفعة سقطت [شفعته] وجهاً واحداً. ولو باع بعضها فحيث لا تسقط إذا باع الجميع فهاهنا أولى، وحيث تسقط إذا

باع الجميع إما مع الجهل أو العلم فهاهنا وجهان: وجه الثبوت في حال الجهل وهو الأصح في "التهذيب" بقاء الضرر، وبالقياس على ما لو [لم يكن] في ملكه من ذلك ابتداء إلا قدر ما بقي من ملكه. وفي حال العلم والبناء على أنه إذا عفا عن بعض شفعته لا تسقط شفعته كما في "البحر" و"الحلية". ومقابله في هذه الحالة عند الإمام وغيره أظهر. قال: وإن أظهر له شراء جزء يسير، أو جزء كثير بثمن كثير فترك الطلب، ثم بان خلافه، فهو على شفعته؛ لأنه لم يترك الاستشفاع للزهد فيه بل للقلة والغلاء فلا يكون مقصراً. ولو أظهر له شراء جزم كثير فظهر يسيراً نظر: إن كان بالثمن الأول فلا شفعة له، وإن كان بأقل منه ثبتت؛ لأنه قد تيسر معه ثمنه دون ثمن الكثير، فكان تركه لذلك. ولو بلغه أن المشتري زيد فعفا، فإذا هو عمرو، أو قد اشتراه زيد لعمرو- لا تسقط شفعته؛ لأنه قد يرضى بمشاركة زيد دون [مشاركة] غيره. وفي "الحاوي" [في الأولى] حكاية وجه: أنها تسقط بناء على أن الشفعة إنما وجبت لأجل مؤنة القسمة وقد رضي بها. ومقتضى هذا أن يكون هو الصحيح؛ إذ هذه علة المذهب. ولو علم أن المشتري وكيل فعفا عن الموكل دون الوكيل سقطت شفعته، ولو عفا عن الوكيل دون الموكل ففي بطلان شفعته وجهان في الحاوي: وجه البطلان: أن الوكيل خصم فيها. ووجه عدمه: أنها مستحقة على غيره. ولو بلغه الشراء بنقد فعفا، ثم ظهر الشراء بنقد غيره، كان على شفعته. وقال الإمام: إن لم يتفاوت القدر عند التقويم فلا شفعة.

ولو بلغه الشراء بألف [حال] فعفا، فإذا هو مؤجل لم تسقط شفعته، ولو كان بالعكس فلا شفعة له عند العراقيين، كما حكاه البندنيجي، والروياني في "البحر"، وهو الذي صححه بعض المراوزة، وجزم به القاضي الحسين [والله أعلم]. قال: ولا يأخذ الشقص إلا من يد المشتري أي: ومن يقوم مقامه؛ لأن الشفيع يحل محل المشتري في الأخذ بالثمن، وشراء ما لا يقبض لا يجوز فكذلك أخذه بالشفعة، وهذا ما وجه به الماوردي والروياني، وقد يفهم أن المراد بالأخذ التملك لا نفس القبض. وغيرهما وجهه بأن الأخذ من البائع يبطل التسليم المستحق بالعقد للمشتري، فيؤدي إلى إبطال البيع والشفعة، وهذا يفهم أن المراد بالأخذ القبض دون حصول الملك، وهو الذي دل عليه كلام ابن الصباغ حيث قال: إذا وجبت له الشفعة، وقضى له بها القاضي، والشقص في يد البائع، ودفع الثمن إلى المشتري، فقال البائع للشفيع: أقلني فأقاله لم يصح؛ لأنها إنما تصح بين المتبايعين، وليس الشفيع مالكاً من جهته، فإن باعه منه لم يجز قبل قبضه. قال: وعهدته عليه أي إذا خرج الشقص مستحقاً رجع الشفيع بالثمن على المشتري، وإن تلف قبل القبض تلف من ضمانه؛ لأنه منه انتقل إلى الشفيع، فكانت عهدته عليه، كما أن عهدة الشقص للمشتري على البائع وكما لو اشتراه منه. قال: فإن امتنع من قبضه أي: امتنع المشتري من قبض الشقص من البائع أجبر عليه؛ ليتمكن الشفيع من الوصول إلى حقه المتوجه عليه. قال: ثم يؤخذ منه لما تقدم، وألحق القاضي أبو الطيب [بقبض المشتري] في ضمان العهدة ما إذا تسلمه الشفيع من البائع بإذن الحاكم، وقال: إن الشقص لو خرج مستحقاً رجع الشفيع على المشتري بالثمن، ثم المشتري يرجع على البائع، وكذلك ابن الصباغ، وقال: إن للحاكم أن ينيب من يسلمه للمشتري من البائع عند امتناعه، أو غيبته ثم يأخذ الشفيع. وذكر الماوردي هذه الحالة في [حالة] غيبة المشتري، وحكى هو وابن

الصباغ وجهاً [عن ابن سريج] أن للشفيع أخذه من يد البائع قبل قبض المشتري. ووجهه الماوردي: بأن الشفيع يأخذه جبراً للحق وإن كره المشتري فجاز وإن كان قبل قبضه، كما يجوز الفسخ والإقالة قبل القبض، ويبرأ البائع من ضمان الشقص بقبض الشفيع [المبيع]؛ لأنه أخذه بحق توجه على المشتري، وعلى هذا قال ابن الصباغ: لا يجبر المشتري على القبض. قلت: وحاصل ما حكاه الماوردي يرجع إلى أن الشفيع بمنزلة مشتر أم لا؟ وعلى ذلك ينبغي أن يتخرج جواز قبض الشقص الذي لم يره الشفيع قبل الرؤية، وجواز بيع الشقص قبل قبضه، وثبوت خيار المجلس، وقد قال ابن سريج: لا يجوز أخذ ما لم ير، وإن قلنا بجواز بيع الغائب إلا أن يرضى المشتري بخيار الرؤية [فيجوز إذا جوزنا بيع الغائب. والفرق أنا إذا جوزنا بيع الغائب أثبتنا [فيه] خيار الرؤية] برضا البائع بالعقد، وفي مسألتنا: الشفيع يأخذ قهراً فلا يثبت الخيار وهو شرطه. وفي تعليق القاضي الحسين: أنا إن لم نشترط الرؤية في البيع ففي الشفعة [أولى، وإن اشترطناها في البيع ففي الشفعة] وجهان، بناء على الوجهين في ثبوت خيار المكان للشفيع، وعلى ذلك جرى في "الوسيط". وقد حكينا عن ابن الصباغ الجزم بأن الشفيع إذا أراد بيع الشقص من بائعه بعد تملكه، وإقباضه المشتري الثمن، أنه لا يجوز. وحكى الإمام في جواز البيع قبل قبضه وجهين، وجعل المذهب منهما ما حكاه ابن الصباغ، وقال [إن الشفيع] مع المشتري، كالمشتري مع البائع فيما

ينفذ ويرد من التصرفات، والذي حكاه البندنيجي أن للشفيع بعد قبض المشتري الثمن- أن يقبض المبيع من البائع، ويكون كالنائب عنه في القبض. فلو قال الشفيع: لا أقبضه ولكن أكلف المشتري قبضه. قال أبو العباس: في المسألة قولان يعني وجهين: أحدهما: أنه ليس له ذلك، [ويقال له: إما أن تأخذ من البائع أو تدع. والثاني: له إجبار المشتري على ذلك]. قال: ولا يأخذ بعض الشقص أي بالشفعة، وإن بذل الشفيع ما يقابل ما يأخذه، أو بذل جميع الثمن في [مقابله] البعض. أما في الحالة الأولى؛ فلما في ذلك من الإضرار بالمشتري بسبب تفريق الصفقة عليه، والضرر [لا يزال بالضرر]. وأما في الحالة الثانية؛ فلما في ذلك من تقليد المنة، وهي ضرر أيضاً مع ما في الشركة من أضرار. ولو قال الشفيع: عفوت عن أخذ نصف الشقص [بالشفعة] فهل تسقط شفعته في الجميع أم لا؟ فيه وجهان في الحاوي، أصحهما وبه قال ابن سريج: السقوط، كما لو عفا عن بعض القصاص. وحكى الخراسانيون وجهاً ثالثاً: أنه يسقط ما عفا عنه، ويبقى ما لم يعف عنه. وحكى الروياني عنهم أنهم قالوا: إنه المنصوص. قال الصيدلاني: وموضعه إذا رضي المشتري بتبعيض الصفقة، أما إذا أبى؛ فله أخذ الكل. قال الإمام: وهذه الوجوه على القول بأن الشفعة ليست على الفور. أما على القول بأنها على الفور، فمنهم من قطع بأن العفو عن البعض تأخير للطب في الباقي. ومنهم من احتمل ذلك إذا بادر إلى طلب الباقي، وأجرى الوجوه. قال: وإن اشترى شقصين من أرضين في عقد واحد؛ جاز للشفيع أن يأخذ

أحدهما: لأنه قد يكون الضرر عليه فيما أخذه، وفي أخذ الآخر إضرار به؛ ومع ذلك فلا ضرر على المشتري، لأن الشقص الآخر يبقى له ولا تبعيض عليه في الشقص المأخوذ. وعلى هذا لا خيار للمشتري في تبعيض الصفقة عليه؛ لأنه دخل على ذلك، أو لأن التفريق جاء من جهة غير البائع بعد القبض. [قال] وقيل: لا يجوز أي إذا كان الشفيع شريكاً فيهما؛ لأنه بعض ما وجب له، فلم يكن له ذلك، كما لو ثبتت الشفعة في شقص فأراد أخذ بعضه، وهذا ما ادعى الماوردي أنه الأظهر في المذهب، وكذلك الشيخ في "المهذب". والذي صححه الرافعي والبندنيجي الأول، وكذلك ابن الصباغ بعد أن قال: إنه منصوص الشافعي. قال القاضي الحسين: وهذا الخلاف مبني على القولين في جواز تفريق الصفقة بالرد بالعيب. أما إذا لم يكن شريكاً في الشقصين أخذ ما هو شريك فيه مقتصراً عليه وجهاً واحداً. قال: وإن هلك بعض الشقص يفرق أخذ الباقي بحصته من الثمن؛ لأنه

أخذ بالشفعة بعض ما تناولته الصفقة، فوجب أخذه بالحصة، كما لو اشترى مع الشقص سيفاً بثمن واحد، فإنه يأخذ الشقص بحصتيه من الثمن. فعلى هذا يقوم الجميع حال العقد، فإذا قيل: مائة. قوم بعد الفرق. فإذا قيل: تسعون، علم أن الفائت العشر، فيأخذ الشقص الموجود بتسعة أعشار الثمن. وقال الإمام: إذا فرعنا على أن الملك ينتقل بانقضاء الخيار، فيجوز أن نعتبر القيمة وقت انقطاع الخيار، وما حكاه الشيخ هو ما رواه الربيع، ونسبه الماوردي والبندنيجي إلى القديم، والقاضي أبو الطيب إلى رواية الزعفراني في القديم، والرافعي إلى القديم ومواضع في الجديد. وقيل: يأخذ الشفيع بكل الثمن لقوله صلى الله عليه وسلم: "فَإِنْ بَاعَهُ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ" أي الثمن، فجعله [أحق] بجميع الثمن ولم يفصل، وبالقياس على ما لو سقطت يد العبد في يد البائع قبل القبض. وهذا ما رواه المزني [هاهنا وقاله في كتاب التفليس. وحكى القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق أن المزني] نقل ذلك عن رواية حرملة. وحكى الإمام مثله في كتاب التفليس في مسألة الشقص والسيف عن رواية صاحب "التقريب" والعراقيين قولاً أخذاً من قول من قال: إذا رد أحد العبدين بالعيب، كان المشتري مخيراً بين أن يمسك الباقي بجملة الثمن أو يدع، ثم قال: [وهو] عندي قريب من خرق الإجماع.

وقد تحزب الأصحاب في مسألتنا ستة أحزاب: فذهب أبو الطيب بن سلمة، وأبو حفص بن الوكيل إلى إثبات النصين قولين في المسألة، وتوجيههما ما ذكرناه، وهذه الطريقة تجري فيما إذا انهدم الشقص ولم يذهب من نقضه شيء مع القطع بأن الشقص يسلم للمشتري كما صرح به أبو الطيب وغيره. وذهب ابن سريج، وأبو إسحاق [المروزي] كما حكاه الماوردي إلى القطع بما رواه الربيع، ونسبا المزني إلى الغلط فيما نقله في هذا الموضع، وأنه لا يعرف للشافعي في شيء من منصوصاته، وكذلك حكى البندنيجي إنكار هذا النقل عن أكثر الأصحاب. وذهب جماعة من الأصحاب إلى صحة ما نقله المزني والربيع، ولم يثبتوا ذلك قوليلن، لكن حملوا ذلك على حالين واختلفوا في الحالين. فمنهم من قال وهو ابن أبي هريرة: أن رواية المزني محمولة على ما إذا ذهب التالف وبقي النقض، فيكون للشفيع- نظراً إلى حالة وجوب الشفعة-[الأخذ بجميع الثمن]، ورواية الربيع محمولة على ما إذا فات النقض. وفي تعليق أبي الطيب أن أبا إسحاق المروزي قال بهذه الطريقة، [واختارها القاضي] أبو الطيب، والبندنيجي، وأكثر المشايخ ببغداد، كما قال في "البحر"، وهي موافقة لما في الكتاب. ومنهم من قال: رواية المزني محمولة على [ما إذا كانت العرصة باقية بحالها، ورواية الربيع محمولة على] ما إذا تلف بعض العرصة. وهذه الطريقة لا يأباها كلام الشيخ. ومنهم من قال: رواية المزني محمولة على ما إذا كان سبب الهلاك آفة سماوية. ورواية الربيع محمولة [على ما إذا كان بفعل مضمون؛ لأنه لا ضرر على المشتري.

ومنهم من حمل رواية المزني] على ما إذا تزلزل الشقص وتكسرت الجذوع ولم تسقط، ورواية الربيع على ما إذا سقطت على الأرض، فيكون النقض للمشتري، لأنه منقول حالة الأخذ. وهذه الطريقة إذا انضمت مع طريقة ابن أبي هريرة حصل منهما وجهان أو قولان في أن النقض هل يؤخذ مع الأرض بالشفعة أم لا؟ [كما صرح به الأصحاب وهما كالوجهين المذكورين فيما إذا اشترى شقصاً فيه نخل وعليه طلع غير مؤبر، فأبر قبل الأخذ، هل يؤخذ مع النخل بالشفعة أم لا]؟ وسلك القاضي الحسين فيما إذا تزلزل الشقص طريقاً حسناً فقال: إذا تزلزل الشقص المشفوع [فيه]، وتكسرت أخشابه ولم تسقط؛ فالشفيع بالخيار بين [الترك] والأخذ بكل الثمن. وإن سقط على الأرض فإن كان النقض تالفاً ابتنى ذلك على أن البناء والنقض يجري مجرى الصفات أو مجرى الأعيان؟ وفيه جوابان: فإن جعلناه بمنزلة الصفات أخذ الشقص بكل الثمن إن شاء. [وإن جعلناه] بمنزلة الأعيان، وهو ظاهر المذهب، أخذ الشقص بحصته من الثمن؛ كالشقص، والسيف. وإن كان النقض قائماً فهل له أخذ النقض؟ يحتمل وجهين وقد ذكرناهما وأصلهما، وما ذكره [من ثبوت الخيار] عند عدم سقوط شيء منه لم يخالف فيه. قال: وإن كان في الشقص نخل فأثمرت في ملك المشتري ولم تؤبر، أخذ الثمرة مع الأصل في أحد القولين كما يأخذها في الربيع. [قال] دون الآخر؛ لأن الشفيع يأخذ بالشفعة ما ملكه المشتري من جهة البائع بالثمن، والثمرة ليست كذلك، وهذا الخلاف حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه وجهين مبنيين على القولين في المفلس إذا أطلعت النخل المبيعة في

ملكه ولم تؤبر فرجع البائع في النخل فهل تكون الثمرة له أم لا؟ وابن الصباغ، والماوردي، والقاضي الحسين حكوا الخلاف قولين [كالقولين]. وقال في "المهذب"، و"البحر": إن الأول هو القديم، والثاني هو الجديد. وكلام الرافعي يقتضي ترجيح الأول؛ فإنه قال: وقد ذكر كثير من الناقلين أنه القديم، ومقابله هو الجديد، وعلى هذا فالمسألة مما يجاب فيها على القديم. قال: وإن كان للشقص شفيعان- أخذا على قدر النصيبين في أحد القولين؛ لأنه حق مستحق بسبب الملك فيقسط عند الاشتراك [على قدر] الأملاك؛ كأجرة الدار وثمرة البستان، وهذا هو الأصح. وبعضهم يرويه عن الجديد، وبعضهم عن القديم. [قال] وعلى عدد الرؤوس في الآخر؛ لأن سبب ثبوت الشفعة أصل الشركة بدليل أخذ الشريك الواحد الجميع عند الانفراد قل نصيبه أم كثر، وهما في أصل الشركة سواء، وهذا ما اختاره المزني، واستدل له أيضاً بأن العبد الواحد إذا كان لثلاثة على التفاوت فأعتق اثنان نصيبهما، وهما موسران في وقت واحد، فإنهما يغرمان نصيب الثالث بالسوية، فكذلك هاهنا. وهذا ما قال بعضهم: [إنه منصوص عليه في القديم. وبعضهم]: إنه منصوص عليه في الجديد، كما ستعرفه. وبنى القاضي الحسين القولين على أصل ثم على أصل: أحدهما: أن العلة الموجبة للأخذ بالشفعة ما يلحقه من مؤنة القسمة بسبب [الدخيل] والاحتياج إلى إفراز المرافق. إذا ثبت هذا كما حكيناه من قبل أنه مختار الشافعي، ابتنى على أن مؤنة القسمة تقسم على قدر الأنصباء أو على عدد الرؤوس؟ وفيه قولان: أظهرهما: الأول. قال: فإن منعوه، فالدليل عليه أن القسام يستحقون الأجرة بسبب العمل، وعمله

لصاحب الكثير أكثر من صاحب اليسير، وهذا يثبت أن الأجرة تقسم على قدر الأملاك، فالغنم في مقابلة الغرم، فلما كان الغرم عليه أكثر كان [الغنم له أكثر]. وأجاب الأصحاب عن الدليل الأول للقول الثاني: بأن الاستقلال بالشيء عند الانفراد لا يلزم منه التساوي عند الاجتماع مع التفاوت، بدليل ما لو كان لرجل مائتان على شخص ولآخر [عليه] مائة، ومات المدين وماله مائة، فإن صاحب [المائة يأخذ] الثلث [من المائة المخلفة، والآخر ثلثيها مع أن صاحب المائة] لو انفرد لأخذ [جملة] المائة. وكذلك الفارس والراجل إذا انفرد أحدهما بالحضور عند أخذ المال استحق جميعه، ولو حضرا معاً اختلفا في الأخذ والاستحقاق. وعن الثاني: بأنا لا نمنع الحكم، بل إنما يغرم كل [واحد] منهما على نسبة ملكه، كما صار إليه بعض الأصحاب، وعلى تقدير التسليم، وهو الصحيح في "البحر"، فالفرق أن ذلك ضمان إتلاف، فالنظر فيه إلى المتلفين لا إلى حالة الإتلاف، والشفعة من فوائد [الملك] فتتقدر بقدره. فإن قيل: السريان إلى ملك الغير إنما استفيد بسبب الملك فوجب أن يكون على قدر الملكين بعين ما ذكرتم. فالجواب: أن ذلك إنما حصل بعد زوال ملكهما، فلو استفاداه بالملك لسقط بزواله كما نقول في الشفعة. وما ذكره الشيخ هاهنا فيما إذا وجبت الشفعة لشخصين ابتداء. أما إذا وجبت لهما بالدوام بالإرث فسيأتي. [قال:] فإن عفا أحدهما أو غاب، أخذ الآخر جميع المبيع أو يترك، أي فلا يجوز له أخذ البعض كي لا يتضرر المشتري بتبعيض الصفقة عليه، وذلك في صورة العفو [يقيناً] وفي صورة الغيبة توقعاً، فإن الغائب قد لا يأخذ، وهذا هو الأصح.

وقيل في مسألة العفو: يسقط حق الآخر، كما لو عفا أحد الوارثين عن القصاص، وهو ما ينسب إلى ابن سريج. وقيل: لا يسقط [حق واحد منهما؛ لأن العفو لا يتجزأ فغلب جانب الثبوت. ونظير ذلك ما ذكرناه في خيار المجلس إذا أسقط أحدهما خياره هل يسقط] خيار الآخر أو يبقى خيار المسقط؟ وقيل: يسقط حق العافي خاصة وليس للآخر إلا أخذ حصته كما لو لم يعف صاحبه، وليس للمشتري إجبار الشفيع على أخذ الجميع أو الترك. وهذا فيما إذا ثبتت الشفعة لهما ابتداء. أما إذا ثبتت [لهما دواماً] بالإرث فسيأتي. فرع: لو قال الحاضر: لا آخذ بالشفعة حتى يقدم الغائب، فإن أخذ نصيبه أخذت نصيبي، وإن ترك أخذت المجموع، فهل يكون ذلك عذراً [في التأخير] على قول الفور؟ فيه وجهان: اختيار ابن أبي هريرة: لا. وأصحهما وبه قال ابن سريج وأبو إسحاق: نعم. وهو الذي صححه الشيخ أبو حامد، وقال في "البحر": إنه أقيس. فرع: لو عفا الشفيع عن الشفعة في مرض موته، فهل للوارث إبطال عفوه أو لا؟ فيه وجهان في البحر: وأصحهما: الثاني؛ كما لو لم يقبض الهبة. قال: فإذا قدم الغائب، أي بعد أخذ الحاضر الجميع، أخذ منه ما يخصه؛ لأنه مستحقه، ثم إذا خرج الشقص مستحقاً رجع الغائب بما دفعه للحاضر من الثمن على المشتري. وقيل: يرجع به على الحاضر، ثم الحاضر يرجع على المشتري، وهو الأظهر عند الغزالي والرافعي، والأول عند العراقيين أرجح.

وقال في "البحر" إنه الذي قاله أكثر الأصحاب. وفي "التتمة": أن هذا الخلاف في الرجوع بالمغروم من أجرة المثل وما عساه ينقص من قيمة الشقص، فأما الثمن فلا رجوع به على قابضه بلا خلاف. وما حصل من الزائد والفوائد بعد أخذ الأول وقبل أخذ الثاني، يستبد به الأول؛ لحدوثه على ملكه في أصح الوجهين، وبه جزم في "البحر" والقاضي الحسين. فرع: لو كان للشقص ثلاثة شفعاء، وحصصهم متساوية، وأحدهم حاضر، فالحكم في الأخذ والترك كما ذكرناه. فإذا حضر واحد بعد الأخذ، كان له أخذ النصف أو الترك، فإذا أخذ النصف ثم قدم الثالث، استرجع من كل واحد منهما ثلث ما أخذه. والحكم في الرجوع بالثمن عند استحقاق الشقص، ولمن تكون الزوائد والفوائد [الحاصلة] بعد أخذ الثاني وقبل أخذ الثالث كما تقدم. ولو أراد الذي حضر أولاً بعد أخذ الحاضر جميع الشقص أن يأخذ الثلث دون رضا الآخذ أولاً مقتصراً عليه فهل له ذلك؟ فيه وجهان في "البحر" وغيره: أحدهما: لا، كما لو أراد الأول أن يأخذ نصيبه ويدع الباقي. وأصحهما: نعم كما لو صالحه عليه؛ ولأنه أخذ لا يفرق الحق على الأول، فإن الحق [لهم ثبت] هكذا، بخلاف الحاضر إذا أراد أخذ الثلث؛ فإن فيه تفريق الصفقة على المشتري. وعلى هذا إذا حضر الآخر وأخذ من الأول نصف ما في يده وهو ثلث الشقص فذاك، وإن أراد أن يأخذ من الثاني ثلث ما في يده فله ذلك؛ لأنه يقول: ما من جزء [إلا ولي] فيه ثلثه، وترك الثاني حقه وهو السدس، حيث لم يشاطر الأول لا يلزم منه أن أترك حقي.

ثم له أن يجيء إلى الأول فيقول: ضم ما معك إلى ما أخذته ليقسم نصفين فإنا ممتساويا القدر والشقص، وحينئذ تصح القسمة من ثمانية عشر؛ لأنا نحتاج إلى عدد له ثلث ولثلثه ثلث صحيح وأقله تسعة ثم يضرب في اثنين [لأجل أن ما استرد من الراضي بالثلث وهو سهم لا ينقسم على اثنين]، فيضرب التسعة في اثنين يبلغ ثمانية عشرة، للذي اقتصر على أخذ الثلث [منها] أربعة، ولكل من الآخرين سبعة. هكذا حكاه الرافعي عن الأكثرين وأنهم نقلوه عن ابن سريج، وهو وجه حكاه في "البحر" مع وجه آخر، أن الحاضر ليس له إلا مقاسمة من بيده الثلثان فيأخذ منه الثلث، كما لو كانوا حضوراً عند وجوب الشفعة. وقال: [إنَّ] ابن سريج اختاره، [و] قال الماوردي: الصحيح عندي غير هذين الوجهين: أن يجعل الشقص تسعة أسهم؛ سهمان لمن اقتصر على أخذ الثلث في غيبة الآخر، وثلاثة أسهم للذي حضر آخراً، وأربعة أسهم للذي أخذ أولاً بالشفعة. ووجه ذلك: أن الراضي بالثلث لما صالح على الثلث صار الشقص بينه وبين الأول على ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان للآخر، فرضي بإسقاط حقه [له]. فإذا قدم الغائب رجع على من أخذ الثلث بثلث ما في يده، وهو [ثلث سهم؛ لأنه شريكه بالثلث، وعلى الآخر بثلث ما في يده وهو ثلثا سهم؛ لأنه شريكه بالثلث، فيكمل له سهم، وبقي ما في يد الراضي بالثلث] ثلثا سهم، وفي يد الآخر أولاً سهم وثلث، فيضرب ذلك في مخرج الثلث وهو ثلاثة فيبلغ تسعة أسهم كما ذكرنا. وحكى الإمام عن القاضي الحسين أن الثاني بتركه السدس على الأول

عاف عن بعض حقه، والشفيع إذا عفا عن بعض حقه، سقط جميعه على الظاهر، فينبغي أن يكون الشقص بين الأول والحاضر آخراً، ويسقط حق الراضي بالثلث بالكلية وبذلك يجتمع في المسألة أربعة أوجه. ولو حضر من الثلاثة عند وجوب الشفعة اثنان، فأخذا الشقص، ثم حضر الغائب وأحد الآخذين غائب. قال ابن الصباغ: فإن قضى له القاضي على الغائب، أخذ من كل واحد من [الحاضر والغائب] ثلث ما في يده، وإن لم يقض له لكونه لا يرى القضاء على الغائب كما بينه البندنيجي، فوجهان: أحدهما: أنه يأخذ من الحاضر ثلث ما في يده. والثاني: نصفه. ثم إذا حضر الغائب وغاب الحاضر، فعلى الأول يأخذ منه الثلث مما في يده، وعلى الثاني يأخذ منه سدس ما في يده؛ إذ به يتم نصيبه، وحينئذ يقسم الشقص على اثني عشر؛ لأنه أقل عدد له نصف، ولنصفه ثلث ونصف وسدس. قال: وإن كان البائع أو المشتري اثنين؛ فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما دون الآخر. أما في الأولى- وصورتها: إذا كان العقار لثلاثة، فباع اثنان نصيبهما لثالث بثمن واحد- فلأن بيع الاثنين من الواحد يجري عندنا مجرى العقدين المنفردين، ولو باع كل منهما نصيبه لشخص واحد [بعقد منفرد كان له أخذ نصيب كل واحد]، فكذلك في هذه الحالة. وأما في الثانية- وصورتها: إذا كان للعقار مالكان فباع أحدهما نصيبه من اثنين صفقة واحدة- فلأنه إذا أخذ نصيب أحدهما لم يلحقه ضرر، فأشبه ما لو لم يكن بائعه قد باع شيئاً غير ما باعه منه، وهذا ما يوجد في طريق العراق. وادعى الفوراني في الثانية الإجماع. وحكى القاضي الحسين وغيره في الأولى وجهاً أنه ليس له إلا أخذ الجميع أو الترك.

فرع: لو كان بين ثلاثة عقار فوكل [أحدهم] واحداً من شركائه في بيع نصف نصيبه، وجعل له إذا أراد أن يبيع مع ذلك نصيبه [أو بعضه] أن يفعل، فباع نصف ما يملكه ونصف ما يملكه موكله من شخص. قال الماوردي: فللموكل أخذ نصيب [الوكيل، وللوكيل أخذ نصيب] الموكل، ولا يجوز للثالث أخذ نصيب أحدهما دون الآخر؛ لأن البائع واحد، فإما أن يأخذ الجميع أو يدع. وما قاله مبني على أن اتحاد الصفقة وتفرقها يكون بالنسبة إلى العاقد، وأن الوكيل له أخذ ما باعه، وفي كل من ذلك خلاف قد تقدم في موضعه. وقد حكى الرافعي: إنه يمتنع على أحدهما أخذ نصيب صاحبه؛ لأجل تفريق الصفقة عليه. قال: وإن كان المشتري شريكاً فالشفعة بينه وبين الشريك الآخر على ظاهر المذهب. صورة المسألة: أن يكون العقار بين ثلاثة أثلاثاً، فيبيع أحدهم نصيبه لشريكه، فللآخر أخذ السدس منه لا غير؛ لأن المشتري شريك في بعض المشتري فلم يكن لغيره من الشركاء أخذ جميع الشقص بالشفعة، كما لو كان المشتري أجنبياً، وأحد الشفيعين حاضر فأخذ الجميع، ثم قدم الغائب فإنه لا يأخذ من الحاضر إلا حصته، والجامع بينهما أن [الشراء مملك] كما أن الأخذ بالشفعة مملك،

وهذا ما ذكره المزني، وبه قال أبو إسحاق وعامة أصحابنا. وحكى الشيخ أبو حامد والقاضيان أبو الطيب والحسين عن ابن سريج أنه قال: للشريك [الآخر] أخذ جميع الشقص المشتري؛ لأنا لو جعلنا للمشتري أن يأخذ بالشفعة لكان يأخذ بها من ملك نفسه [والإنسان لا يستحق أخذ الشفعة من نفسه]. ورد الأصحاب عليه بأنا لا نقول إنه يأخذ بالشفعة من ملك نفسه، وإنما يدفع الشريك عن الأخذ عن نفسه. وقال الماوردي: إنه وجد أبا العباس ابن سريج قائلاً بخلافه وموافقاً لأصحابه، فحينئذ ارتفع الخلاف. وعلى هذا لا يلزم غير المشتري أن يأخذ غير حصته، وإن رضي المشتري بأخذه جميع الشقص؛ لأن الشفعة إنما وجبت له فيه، فلا يلزم أكثر منه، وليس هذا تفريقاً في الصفقة، وإنما هو تفريق في الشفعة وهو لا يمتنع فيها. وحكى الإمام عن الشيخ أبي على رواية وجه: أن الشفيع المشتري إذا عرض على الشفيع الذي لم يشتر أخذ الجميع، فليس له إلا أخذ الجميع أو الترك. قال: وإن ورث رجلان داراً عن أبيهما، ثم مات أحدهما وترك ابنين، ثم باع أحد هذين الابنين نصيبه- كانت الشفعة بين [الأخ والعم] في أصح القولين؛ لأنهما شريكان في الدار حالة وجوب الشفعة، [فكانت الشفعة] بينهما كما لو ملكا بسبب واحد؛ لوجود المعنى الذي لأجله ثبتت الشفعة وهو لحوق الضرر. وهذا ما حكى الإمام والقاضي الحسين أنه الجديد [وأطلقا والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ أنه منصوص في الإملاء، والماوردي أنه منصوص عليه في الجديد] وبعض القديم. قال: وللأخذ دون العم في القول الآخر؛ لاشتراكهما في سبب الملك، وذلك دليل على قربه.

وهذا ما نص عليه في القديم [كما حكاه الجمهور وقال الماوردي: إنه أحد قوليه في القديم]. فعلى هذا لو عفا الأخ عن الشفعة فهل تثبت للعم؟ فيه وجهان عن ابن سريج: أحدهما: لا؛ لأنه لو كان مستحقاً له لما تقدم عليه غيره. والثاني: نعم؛ لأنه شريك وإنما تقدم [عليه] الأخ؛ لزيادة قربه، وصار هذا كما لو قتل واحد جماعة على الترتيب، فإن لولي الأول والقصاص، فلو عفا كان لولي المقتول ثانياً القصاص، لزوال المرجح. وعلى الأول هل تقسم الشفعة بين الأخ والعم على عدد الرؤوس أو على قدر الأنصباء؟ فيه طريقان: أحدهما: وهو ما حكاه القاضي أبو الطيب والماوردي: طرد القولين السابقين، والقديم منهما، ما حكاه [الماوردي، والقاضي الحسين] والإمام أنها على عدد الرؤوس. والجديد كما حكوه أنها على قدر الأنصباء. [والثاني: حكاه القاضي الحسين مع الأول: القطع بأنها على قدر الأنصباء] ولا يتخرج على القولين؛ لأن قول القسمة على عدد الرؤوس قول قديم، وقول مشاركة [الأخ العم] قول جديد، فلا معنى لبناء الجديد على القديم. وهذا الطريق أبداه الإمام احتمالاً، ونازعه الرافعي في [دعوى] أن القسمة على عدد الرؤوس هو القول القديم، وقال: إن الذي نقله الأكثرون أن القولين في التوزيع وعدمه منصوصان معاً في الأم، والقديم منهما هو التوزيع على الحصص. وكذلك اعترضوا على ابن القاص ومن أثبت قول التوزيع [في المسألة تفريعاً

على ثبوت الشفعة للأخ والعم جميعاً [بأن الشفعة] إنما تثبت لهما في الجديد، وفي الجديد التوزيع على عدد الرؤوس، فلا يجيء فيها إلا قولان: التخصيص بالأخ [وحده]، والتسوية بينهما. قلت: وطريق جواب المعترضين على من أثبت قول التوزيع على قدر الأنصباء أو على عدد الرؤوس] في هذه المسألة على التفريع على أن الأخ والعم يشتركان، يؤخذ مما حكيته عن الماوردي أن قول التشريك بين الأخ والعم في الشفعة هو الجديد، وأحد قولي القديم. فإن من قال [بأنها] تقسم بين الأخ والعم على السواء، فرع على أحد قوليه في القديم إن كان يعتقد أن القديم التوزيع على عدد الرؤوس [كما حكاه الإمام وغيره إذ هذا مقتضاه، أو على الجديد إن كان يعتقد أن الجديد القسمة على عدد الرؤوس] كما حكاه الرافعي. [ومن قال] بأن الشقص يقسم بين الأخ والعم على [قدر] الأنصباء، فرع: على الجديد: إن كان يعتقد أن الجديد التوزيع على قدر الأنصباء. كما حكاه الإمام [وغيره] إذ هو مقتضاه أو على أحد قولي القديم: إن كان يعتقد أن القديم التوزيع على قدر الأنصباء. واعلم أن القولين الذين حكاهما الشيخ جاريان في كل صورة ملك [فيها] اثنان شقصاً بسبب واحد، وغيرهما من الشركاء ملك بسبب آخر. كما إذا باع رجل شقصاً من دار لرجلين أو وهبه منهما أو أوصى لهما به فقبلاه، ثم باع أحد الاثنين نصيبه من ذلك. فهل الشفعة لمن شاركه في السبب خاصة أو له ولبقية الشركاء؟ فيه القولان. ولو مات مالك الدار وخلف بنتين وأختين [ثم باعت إحدى الأختين]

نصيبها، فعلى القديم هل تختص [به] الأخت [أو تشاركها البنات]؟ فيه وجهان عن ابن سريج. أظهرهما: الثاني؛ لأن سبب ملكهن واحد وهو الإرث. وإنما الاختلاف في مقادير الملك,. فرع: مات شخص وخلف ثلاثة بنين وخلف أرضاً، ثم مات أحدهم وخلف ابنين، فباع أحد العن نصيبه. فهل يكون العم الآخر أحق به أو يشاركه فيه ولدا أخيه؟ قال ابن سريج: يحتمل وجهين: أحدهما: إن ذلك كمسألة الكتاب فيكون على القولين. والثاني: أنهم يشتركون. والفرق: أن هاهنا يقوم ابنا الميت مقام أبيهما لكونهما خلفاه في الملك، ولو كان أبوهما باقياً شارك أخاه في الشفعة [فكذلك ولداه]. وفي مسألة الكتاب، البائع ابن أخيهما وهما لا يقومان مقام أخيهما، وإنما يقومان مقام أبيهما، كذا حكاه ابن الصباغ. قال: وإن تصرف المشتري في الشقص [بالغراس والبناء] فالشفيع مخير بين أن يأخذ ذلك بقيمته. أي يأخذ البناء والغراس بقيمته [والشقص بالثمن]، وبين أن يقلع ويضمن [له] أرش ما نقص [بالقلع]. لأن البناء والغراس موضوع بحق، وقلعه مجاناً يضر بصاحبه، وإبقاؤه يضر بالشفيع، فتعين ما ذكرناه طريقاً لدفع الضرر عنهما بقدر الإمكان. وهذا ما اقتصر العراقيون على ذكره هاهنا وحصروا التخيير بين التملك بالقيمة أو القلع مع غرامة النقص أو ترك الشفعة. وزاد في الحاوي فقال: لو قال الشفيع أنا أقر بناءه في الأرض لم يجز؛ لأمرين:

أحدهما: أنه متطوع بهبة لا يلزمه قبولها. والثاني: أنه إقرار بناء في غير ملك قد يلحقه فيه ضرر. وهذا يدل على أنه لو طلب التبقية بأجرة لا يجاب إليها من طريق الأولى. وقد تقدم في باب العارية أن المعير للبناء والغراس مخير [بعد رجوعه في] ثلاثة أشياء: [أحدها: التبقية بأجرة]. وقد صرح الإمام والقاضي الحسين والرافعي بجريان مثل ذلك هاهنا، وما ذكرناه من كيفية التخيير ثَمَّ يجري هاهنا. وإذا اختار المشتري هاهنا قلع بنائه وغراسه، وأثر ذلك نقصاً في الأرض، لا يلزمه تسوية الأرض ولا يسقط بسببه عن الشفيع شيء [من الثمن] بل هو مخير بين أن يرضى بها كذلك بكل الثمن أو يترك. صرح به القاضي أبو الطيب وغيره. ولو تصرف المشتري في الشقص بالزرع فحكمه حكم المستعير في التبقية إلى أوان الحصاد، ولا يجب عليه هنا أجرة في الأصح، وبه جزم القاضي الحسين وغيره بخلاف المستعير فإن الأصح وجوب الأجرة عليه. وقد حكى الإمام أن في كلام صاحب "التقريب" ما يدل على جريان مثله في حق المشتري، ثم قال وهو غير بعيد في القياس وإن كان بعيداً في الحكاية وصرح به المتولي. فإن قيل: الشفعة إنما تثبت على المذهب في الملك المشاع حالة البيع، وغرس المشتري وبناؤه إن كان بعد المقاسمة فهي مبطلة للشفعة؛ إذ التفريع على أنها على الفور، [أو يكون] ذلك رضا بالشركة. وإن كان قبل المقاسمة بإذن الشفيع، فكذلك الحكم، وإن كان بغير إذنه فالمشتري عرق ظالم، فيقلع بناؤه وغراسه مجاناً، وحينئذ فالمتلخص أحد أمرين:

إما القلع مجاناً، أو لا شفعة، فما وجه ما ذكرتموه؟ قيل: المسألة مصورة بما إذا حصلت مقاسمة بعد الشراء، ومع ذلك لا تبطل الشفعة، وذكر لذلك [صور] نبدي منها ما تيسر: فمنها إذا قيل للشفيع أنه اشترى بثمن كثير فعفا [ثم قاسم] ثم ظهر أن الثمن قليل، فإنه على شفعته. ومنها: إذا أظهر المشتري أنه اتهب الشقص فقاسمه الشفيع، ثم ظهر أنه اشتراه، فالشفعة ثابتة. ومنها: إذا كان الشفيع وكل في القسمة، فقاسم الوكيل المشتري، فالموكل على شفعته. ومنها: إذا كان الشفيع غائبا، فرفع المشتري الأمر إلى الحاكم وطلب منه القسمة فقاسمه، ثم حضر الشفيع فإنه على شفعته، وللإمام وقفة في جواز مقاسمة الحاكم مع علمه بثبوت الشفعة للغائب، والمشهور الإجابة. ومنها: إذا وكل المشتري البائع في المقاسمة، فقاسمه الشفيع ظاناً أنه قاسمه لنفسه، فإن شفعته لا تبطل. ومنها: إذا كان الشراء بثمن مؤجل، ولم يرغب الشفيع في الأخذ بثمن حال، فجاء المشتري وطلب القسمة من الشفيع وقاسمه، ثم حل الأجل، فإن له الأخذ بالشفعة، كما صرح به القاضي الحسين في تعليقه؛ لأنه كان معذوراً. ثم قال: وهذه المسائل لم يختلف أصحابنا في ثبوت الشفعة فيها، وفيه إشكال من حيث إن القسمة تمنع ثبوت الشفعة عندنا؛ لعدم الملك، ولو زال ملكه ولم يعلم ببيع الشريك نصيبه ثم علم؛ فهل له الشفعة أم لا؟ فعلى وجهين:

ويمكن أن يقال [ها] هنا أيضاً في وجه لا شفعة له. قال: إلا أنه خلاف النص. وفي "التتمة" إشارة إلى جعل ما أبداه القاضي طريقاً حيث قال بعد ذكر الصور: [فالقسمة صحيحة وعلى] أحد الطريقين لا تبطل الشفعة. واعلم أن الجيلي ذكر من جملة الصور: ما إذا أظهر المشتري شاء جز يسير، ثم ظهر أنه اشترى جزءاً كثيراً بعد المقاسمة. وما إذا كانت دار بين ثلاثة؛ فاستأجر أحدهم نصيب أحد شريكيه واشترى الآخر ثم بنى وغرس. وما قاله فيه نظر: أما الأول: فلأن المقاسمة إن وقعت على ما أظهره فهي مقاسمة على بعض الحق، فلا يحصل المقصود، وإن وقعت على كل الحصة فقد اطلع الشفيع عليها، وذلك يسقط شفعته. وأما في الثاني: فإن أراد أن مسألة الكتاب مصورة بما ذكره فليس كذلك؛ لأن المشتري شريك، وبناؤه وغراسه محترم، وقد ذكرنا في باب العارية أن الشريك إذا استعار حصة شريكه للبناء والغراس [ثم رجع الشريك بعد البناء والغراس] أنه يتعين حقه في التبقية بأجرة، ولا يتمكن من التملك والقلع. ويشبه أن يكون هاهنا كذلك. وإن أراد تصوير مسألة [ما] لا تعلق لها بالكتاب فهذا صحيح. فرع: لو كان للشقص شفيعان، فغاب أحدهما وأخذ الآخر الجميع، ثم بنى وغرس بالطريق المشروع، ثم حضر الغائب وأخذ حصته بالشفعة،

فهل يقلع بناء الشفيع الآخذ [أولاً] مجاناً أم لا؟ المذهب: لا. وفي وجه: نعم. قال المتولي: وأصل الخلاف أن الشفيع الثاني يرجع على الشفيع الأول بالعهدة أم على المشتري؟ فإن قلنا بالثاني: فقد جعلنا ملكه كالمعلوم. قال: وإن وهب أي هبة لا ثواب فيها. أو وقف فله أن يفسخ ويأخذ؛ لأن استحقاقه سابق لتصرف المشتري والجمع متعذر. وقال البندنيجي: إن ذلك إجماع. وحكى الرافعي عن أبي إسحاق أن تصرف المشتري ليس بأولى [من غراسه وبنائه] فلا ينقضي، وأن بعضهم أجراه على عمومه. وحكى القاضي أبو الطيب عن الماسرجسي أن تصرف المشتري بالوقف لا ينقض، وينقض ما عداه. والمذهب: الأول. والفرق بين [البناء والغراس] ونقض التصرفات ما قاله القاضي الحسين؛ أن الشفيع لا يتوصل إلى أخذ حقه بالعقد الأول من غير نقض [التصرفات، بخلاف البناء والغراس، فإنه يتوصل إلى [أخذ] حقه بالعقد الأول من غير نقضها] فلا ضرورة به إلى النقض. تنبيه: إخبار الشيخ [بأن للشفيع] [الفسخ] يدل على صحة التصرف من المشتري قبل الأخذ بالشفعة، كما صرح به غيره. واستدل له بأن التصرف صادف ملكه، وحق تملك الشفيع [لا يمنع] من التصرف، كما أن حق تملك الواهب بالرجوع لا يمنع تصرف المتهب.

وفي "التتمة": حكاية وجه عن ابن سريج أن تصرفات المشتري باطلة؛ لأن للشفيع حقاً لا سبيل إلى إسقاطه، فأشبه حق المرتهن. وهذا أعم مما حكيناه من قبل عن القفال ورواية صاحب "التقريب". أما لو كانت الهبة تقتضي ثواباً، وشرط فيها عوضاً معلوماً وصححناها فهي بيع وسنذكره. قال: وإن باع فله أن يفسخ ويأخذ [أي يفسخ البيع الثاني ويأخذ] من المشتري الأول بما اشترى [وله أن يأخذ من المشتري الثاني بما اشتراه] لوجود سبب الأخذ [منه] وهو الشراء. وهكذا الحكم فيما لو أصدق المشتري الأول الشقص أو جعله عوضاً في خلع أو صالح عليه ونحو ذلك. وقيل: ليس للشفيع إبطال البيع الثاني؛ لإمكان أخذه من المشتري الثاني، وهذا ما حمل بعضهم كلام أبي إسحاق المروزي عليه. وقد روى الشيخ أبو علي عن أبي إسحاق: أنه لا يأخذ من الأول ولا من الثاني؛ لأن تصرف المشتري إذا كان مبطلاً للشفعة فلا يكون مثبتاً لها، كما إذا تحرم بالصلاة، ثم شك فجدد [نية وتكبيراً] لا تنعقد به الصلاة؛ لأنه يحصل بها الحل [فلا يحصل] بها العقد. ثم قال: ويمكن أن ينبني الوجهان على القولين فيما إذا عَتَقَتْ الأمة تحت عبد، فطلقها قبل أن تختار، هل ينعقد الطلاق أم لا؟ ووجه الشبه أن الطلاق يبطل حقها في الفسخ ولم تسلط عليه كما ذكرنا في الشفيع. قلت: قد يمنع اتجاه البناء؛ لأن ثم الطلاق حصل أحد مقصوديها وهو إزالة قيد النكاح فاغتفر بصنيع الآخر وهو السلطنة [الثابتة لها] وهاهنا لم يحصل للشفيع بالبيع الثاني غرض، بل جدد له ضرراً.

فرع: لو باع أحد الشريكين نصف نصيبه من شخص، ثم لم يطلع الشريك عليه حتى باع البائع باقي حصته من آخر، كان للشريك الذي لم يبع أخذ أي النصفين شاء وأخذ المجموع، فإن [أخذ] أحدهما فذاك، وإن أخذ الأول وعفا عن الثاني استقل به، وإن عفا عن الأول وأخذ الثاني شاركه المشتري للنصف الأول- في النصف الثاني، هكذا ذكره العراقيون. وحكى القاضي الحسين [وغيره] فيما إذا أخذ الأول: أن للمأخوذ منه أن يشاركه في النصف الثاني على وجه؛ لثبوت ملكه حالة البيع الثاني. فرع: إذا أجر المشتري الشقص أو رهنه فله نقض [ذلك] على المذهب، فلو أراد تأخير الأخذ إلى حين انفكاك الرهن وانقضاء الإجارة بطل حقه؛ لقدرته على الأخذ في الحال ونقض التصرف. قال: وإن قابل البائع فله أن يفسخ ويأخذ؛ [لما ذكرناه]. وهذا إذا قلنا: إن الإقالة فسخ. أما إذا قلنا: إنها بيع فهو كما لو باع، وحكى القاضي الحسين على الأول أنه يمتنع على الشفيع فسخها، كما يمتنع عليه [رد] الرد بالعيب على وجه. قال وإن رد عليه أي [رد] البائع الثمن المعين بالعيب فقد قيل: له أن يفسخ ويأخذ لما ذكرناه. فعلى هذا فسخ البائع العقد لا يرتفع، وإنما الشفيع يأخذ الشقص ويرجع البائع على المشتري بقثمة الشقص. قال الماوردي: أقل ما [كان قيمة] من وقت عقد البيع [أو قبض المشتري] والشفيع هل يأخذ بالثمن الأول أم بقيمة الشقص؟ فيه وجهان في تعليق القاضي أبي الطيب وغيره. قال: وقيل: ليس له؛ لأن الشفعة جعلت لدفع الضرر عن الشفيع، فلا يزال

ضرره بإدخال الضرر على البائع، وهذا الخلاف مفرع على قولنا: إن البائع لو لم يرد واجتمع هو والشفيع، وأراد البائع الرد والشفيع الأخذ- أن الشفيع مجاب، أما إذا قلنا: البائع هو المجاب كما هو المختار في "المرشد" فبعد الرد ليس للشفيع الأخذ وجهاً واحداً. وقد حكى الإمام في مسألة ازدحامهما على الأخذ طريقة جازمة بتقديم البائع. ولو اطلع البائع على عيب الثمن بعد أخذ الشفيع فله الرد، لكنه لا يملك نقض ملك الشفيع. [وعن صاحب "التقريب" رواية [قول] إن المشتري يسترد الشقص من الشفيع] ويرد عليه ما أخذه منه، ويسلم الشقص إلى البائع؛ لأن الشفيع نازل منزلة المشتري فرد البائع يتضمن نقض ملكه، كما يتضمن نقل ملكه المشتري لو كان في ملكه. وعلى الأول: للبائع أخذ قيمة الشقص من المشتري، فإن كانت مثل الثمن فذاك، وإن كانت أقل أو أكثر، ففي رجوع من بذل الزيادة من المشتري والشفيع على صاحبه وجهان: أظهرهما: عدم التراجع: ولو عاد [الشقص إلى يد] المشتري يوماً من الدهر، فلا يملك البائع إجباره على نزعه منه، ولا يملك المشتري إجبار البائع على قبوله ورد ما أخذه [منه]، كما حكاه الجمهور. وفي "التتمة" حكاية وجهين في ذلك بناء على ما لو خرج المبيع من ملك المشتري ثم عاد إليه ثم اطلع البائع على عيب بالثمن المعين هل يسترجعه أم لا؟ هذا حكم البائع إذا اطلع على عيب بالثمن المعين. أما إذا اطلع المشتري على عيب بالشقص، وأراد رده وأراد الشفيع أخذه. فمن المجاب منهما؟

فيه [أيضاً] القولان أو الوجهان. والأرجح منهما عند الأكثرين، وبه جزم القاضي أبو الطيب والبندنيجي: الشفيع. ولو لم يطلع الشفيع على البيع حتى رد المشتري الشقص [فإن قلنا عند التزاحم: المشتري هو المجاب فليس للشفيع النقض. وإن قلنا: المجاب هو الشفيع. فهاهنا وجهان: والأظهر منهما: أن للشفيع النقض، وهو ما جزم به القاضي أبو الطيب والبندنيجي أيضاً. وهذه الحالة هي التي صور الجيلي بها مسألة الكتاب، والذي صورها به ابن الخل وابن يونس ما ذكرته، وهو الأولى؛ فإن الشيخ في "المهذب" وغيره من العراقيين، [و] الذي وقفنا على كلامهم- لم يحكوا في هذه المسألة خلافاً، بل الموجود منها مثل ما حكيته عن البندنيجي وغيره. فرع: لو كان ثمن الشقص عبداً فقبض المشتري الشقص، وتلف العبد قبل أن يقبضه البائع، وقبل أخذ الشفيع الشقص، بطل البيع والشفعة عند ابن الصباغ وغيره، وهو كذلك في "التهذيب" على وجه، وعلى وجه: للشفيع الأخذ بالشفعة، ويدفع المشتري للبائع القيمة والشفيع للمشتري القيمة. قال: وإن تحالفا على الثمن فله أن يأخذ بما حلف عليه البائع؛ لأن إقرار البائع بالبيع يضمن حقاً للمشتري وهو حصول الملك له بالثمن، وحقاً للشفيع وهو استحقاقه أخذ الشقص] بالثمن، فإذا بطل حق المشتري [بالتحالف] لم يبطل حق الشفيع، كما لو أقر لاثنين بحق فكذبه أحدهما وصدقه الآخر. ولا فرق في ذلك بين أن نقول: إن العقد ينفسخ بنفس التحالف أو لا ينفسخ إلا بفسخ الحاكم. قال ابن الصباغ: لأن حقه ثبت بالعقد فلا يسقط باختلافهما.

وعلى ذلك جرى القاضي الحسين وصاحب "البحر" وقالا: لا فرق [بين] أن نقول: ينفسخ في الظاهر والباطن أو في الظاهر فقط. وفي الحاوي: إنا إذا قلنا: ينفسخ العقد بمجرد التحالف أو كان الاختلاف في عين الثمن، بأن قال البائع: بعتك بهذا الثوب، وقال المشتري: بل بهذا العبد، فليس للشفيع الأخذ؛ لبطلان البيع في الأولى، وعدم قدرة الشفيع على بذل عين الثمن الذي ادعاه البائع في الثانية. وحكى الرافعي فيما إذا طلب الشفيع الأخذ بعد فسخه بسبب التحالف هل له فسخ ذلك والأخذ أم لا؟ [فيه] الخلاف المذكور فيما إذا أراد الأخذ [بعد رد] الشقص بالعيب، وهو كذلك في الإبانة، وجرى القاضي أبو الطيب على [مقتضى قوله في] مسألة رد الشقص بالعيب. وقال: له هاهنا رد الفسخ والأخذ. فرع: إذا وقع الاختلاف بين البائع والمشتري بعد أخذ [الشفيع] الشقص بما ادعاه [المشتري]؛ فلشفيع أن يشهد على المشتري بما ادعاه البائع من الثمن، وليس للمشتري أن يرجع بالزائد على الشفيع إذا غرمه؛ لأنه لا يدعيه، ولو تعذر غرم المشتري له بغيبه أو عسر، فهل يستحق البائع أخذه من الشفيع أم لا؟ فيه وجهان في الحاوي. وهل للبائع أن يدعي على الشفيع ابتداء في هاتين الحالتين ويحلفه؟ فيه وجهان بناء على الوجهين السابقين. وقد أطلق الرافعي القول بسماع شهادة الشفيع للبائع، ومنع شهادته للمشتري؛ لأنه متهم في تقليل الثمن، ولعله يريد ما بعد الأخذ بالشفعة كما ذكرنا. أما لو كان قبل الأخذ، فقد يتطرق إليه تهمة امتناع جريان التحالف المفضي إلى إبطال الشفعة على رأي، [والله أعلم].

قال: وإن أنكر المشتري الشراء، وادعاه البائع أي: وأنه لم يقبض الثمن، أخذ من البائع؛ لإقراره بحق المشتري والشفيع [وقد] بطل حق المشتري بالتكذيب، فبقي حق الشفيع لتصديقه. وهذا ما جزم به الماوردي، وبه قال عامة الأصحاب، كما حكاه القاضي أبو الطيب، وقال الإمام: إنه قول المزني، وهو الأصح. قال: ودفع إليه الثمن؛ لأنه يندفع الضرر عن البائع بذلك. قال: وعهدته عليه؛ لأنه منه أخذ وإليه دفع الثمن. وفي "الشامل" و"تعليق" القاضي أبي الطيب أن البائع إن اختار أن يترك مخاصمة المشتري ويدفع الشقص إلى الشفيع ويأخذ منه الثمن، فله ذلك، وإذا دفع الشقص وأخذ الثمن؛ كانت عهدة الشفيع عليه، وإن اختار مطالبة المشتري فهل له ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه يحصل له المقصود [من جهة الشفيع فلا حاجة إلى خصومة المشتري]. والثاني: له ذلك؛ لأنه ربما كان له غرض لكون المشتري أسمح من الشفيع وأسهل معاملة، وماله أقل شبهة. فعلى هذا، إن حلف المشتري، أخذ البائع الثمن من الشفيع وكانت عهدته عليه، وإن نكل وحلف البائع، سلم الشقص إلى المشتري وأخذ منه الثمن وتكون عهدة الشفيع [عليه. انتهى. وقد رجع حاصل ما قالاه إلى أنه يتعين على وجه أخذ الثمن من الشفيع وتكون عهدته] على البائع كما ذكره الشيخ. [و] على وجه: يقال للبائع: هل تريد أن تخاصم؟ فإن قال: بلى، يتوقف دفع الثمن إليه حتى يتبين له أي شيء يظهر، فإن ثبت البيع؛ دفع الثمن إلى المشتري ويرجع بالعهدة عليه، وإلا فالحكم كما قلناه.

وقد حكى هذا القاضي الحسين مع وجه ثالث عن ابن سريج أن القاضي ينصب قيماً يقبض الثمن للمشتري من الشفيع ويدفعه للبائع وإذا خرج الشقص مستحقاً رجع الشفيع بالعهدة على المشتري، وهل يرجع على قيم القاضي؟ فيه وجهان. وسلك في "التهذيب" طريقاً آخر فقال: إذا قلنا: يأخذ الشفيع الشقص من البائع [ويقبضه الثمن] فهل للبائع مخاصمة المشتري ومطالبته بالثمن؟ فيه وجهان. فإن قلنا: نعم، فإن حلف المشتري فلا شيء عليه، وإن نكل، حلف البائع وأخذ الثمن من المشتري وكانت عهدته عليه وما أخذه من الشفيع يترك في يده أم يؤخذ ويوقف؟ فيه وجهان. قال: وقيل: ولا يأخذ لأن الشفعة فرع للبيع، فإذا لم يثبت الأصل؛ لم يثبت الفرع، وصار هذا كما لو أقر أحد الابنين بنسب أخ وكذبه الآخر، فإن النسب لما لم يثبت [لم يثبت] فرعه وهو الإرث. وهذا ما قال البندنيجي: إنه ظاهر كلام الشافعي، ويحكى عن ابن سريج. والقائلون بالأول فرقوا بين ما نحن فيه وبين النسب، فإن النسب يتضمن حقاً له وحقاً عليه، فإذا لم يثبت ما له لم يثبت ما عليه. وهاهنا قد ثبت ما له وهو الثمن، فثبت ما عليه، كذا حكاه ابن الصباغ. قال: وإن قال البائع: أخذت الثمن، لم يأخذ الشفيع على ظاهر المذهب؛ [لأنه لا سبيل إلى دفع الثمن إلى البائع لإقراره بقبضه، ولا إلى المشتري لإنكاره استحقاقه، فلو سلط الشفيع على الأخذ لكان بغير عوض، وذلك ممتنع، وبهذا قال ابن سريج، وأبو إسحاق، وابن أبي هريرة. [وللشفيع على هذا مخاصمة المشتري في الشفعة، وإحلافه على إنكاره الشراء]. وقيل: يأخذ لما تقدم، وهو الأظهر في الرافعي، وبه قال كثير من الأصحاب كما حكاه الماوردي، والثمن يبقى في ذمة الشفيع، أو يأخذه

الحاكم ليحفظه إلى أن يدعيه صاحبه. أو يقال للمشتري عند طلب الشفيع: إما أن تقبضه أو تبرئ عنه، أو يؤخذ من الشفيع ويدفع إلى البائع، ويسترجع منه ما أقر بقبضه؛ ليكون هو الموقوف للمشتري في بيت المال؟ فيه أربعة أوجه؛ رابعها حكاه الماوردي، ولا يخفى أن محل هذا الخلاف إذا قلنا في المسألة الأولى: إنه يأخذ، [أما إذا قلنا في الأولى: لا يأخذ] فهاهنا أولى. فرع: لو كان المشتري غائباً حين أقر البائع بالبيع منه، واطلع الشفيع، قال القاضي الحسين قبل الكلام في مسألة الكتاب بسبع ورقات: إن الحكم كما لو كان حاضراً وأنكر الشراء. قال: وإن ادعى المشتري الشراء والشقص في يده والبائع غائب، فقد قيل، يأخذ؛ [لأنه أقر له بحق فيما في يده، فيلزمه الوفاء به، وهذا هو الأظهر. وقال الإمام: الوجه القطع به. فعلى هذا يكتب الحاكم ذلك في السجل وإذا حضر الشريك، فإن صدقه في دعواه الشراء فذاك، وإن كذبه انتزع الشقص من الشفيع]. وقيل: لا يأخذ؛ لأنه أقر بالملك لغائب، ثم ادعى انتقاله إليه فلم يقبل قوله، فعلى هذا يكتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي فيه الشريك ليسأل عن ذلك. ويقال لمن في يده العين: إن كنت صادقاً [في الشراء] فسلم للشفيع. كذا قال القاضي أبو الطيب. وحكى الإمام أن صاحب اليد لو سلم الشقص طوعاً إلى الشفيع ففيه جوابان: أحدهما، وبه قطع صاحب "التقريب": أنا لا نتعرض لهذا. والثاني: وهو الذي قطع [به] العراقيون تفريعاً على هذا القول: أنه لا يجوز وما ذكره الشيخ من الخلاف قال الإمام: إنه تردد محكي عن ابن سريج، وهو مخصوص بالشفعة، ولم يصر أحد إلى إزالة [يد] من يدعي الشراء، ولا يجوز أن يكون في هذا الخلاف، فإن الأيدي نراها تتبدل ولا يتعرض لها، و

كما لا يتعرض لأصحاب [الأيدي]، كذلك لا يتعرض لانتفاعهم بما في أيديهم وهذا أصل مجمع عليه. والخلاف الذي ذكره الشيخ يجري فيما لو ادعى حاضر أنه وكيل عن الغائب في البيع، وباع حصة الغائب وسلمها إلى المشتري، كما حكاه البندنيجي وقال: إن للشريك- على قولنا بجواز الأخذ إذا حضر وأنكر التوكيل- طلب الشفيع بأجرة الشقص، ويرجع بها الشفيع على الوكيل على وجه. ويجري الخلاف الذي حكاه [الشيخ] أيضاً فيما لو أراد صاحب اليد الذي ادعى الشراء من غائب أن يتصرف فيما في يده ببيع أو هبة أو رهن أو تصرف يستدعيه حقيقة الملك، كما حكاه الإمام. فروع: [أحدها:] لو لم يتعرض من في يده الشقص إلى ذكر الشراء بل قال: هو ملكي بسبب هبة أو إرث ولا شفعة لك فيه، وادعى [الشفيع] عليه الشراء فالقول قول من [في يده العين، وإن كان للشفيع بينة عمل بموجبها، وما حكم الثمن؟ فيه الثلاثة أوجه السابقة وإن لم يكن له بينة، فله تحليفه، فإن حلف فذاك. قلت: وكان يتجه أن يتخرج تحليفه على أنه لو أقر، هل يأخذ منه أو لا؟ فإن قلنا عند إقراره: لا يأخذ؛ فلا فائدة في التحليف. وإن نكل؛ حلف الشفيع أنه اشتراه. وهل يلزمه أن يقول في يمينه: وأنه يستحق الشفعة؟ فيه وجهان في الحاوي. والمذكور منهما في تعليق أبي الطيب: اللزوم، ثم إذا حلف كما ذكرنا حكم له بالشفعة، وفي الثمن: الأوجه. ولو قال من في يده العين: أنا وكيل لمالكها الغائب ولم أكن أملكها فالقول قوله، فإن نكل؛ حلف الشفيع وحكم له بالشفعة. قال الماوردي: ولا يكون ذلك حكماً على الغائب بنقل ملكه إلى الشفيع، وإنما يكون رفعاً ليد الحاضر، ثم في الثمن وجهان:

أحدهما: يقبض من [يد] الشفيع ويوضع في بيت المال حتى يحضر الغائب. والثاني: يترك في ذمة الشفيع إلى قدوم الغائب، ويمكن من التصرف في الشقص بما لا يؤدي إلى استهلاكه، وإن باعه لم يمنع من بيعه. وهل يؤخذ بكفيل فيما يحصل عليه؟ فيه وجهان. ولو اعترف من في يده الشقص بالشراء لغيره نظر، إن كان حاضراً استدعاه الحاكم، فإن صدقه كانت الشفعة عليه. وإن كذبه حكم بالشراء لمن هو في يده وأخذ منه بالشفعة. وإن ادعاه لغائب أخذه الحاكم منه ودفعه إلى الشفيع، وكان الغائب على حجته إذا قدم. قال ابن الصباغ: لأنا لو أوقفنا الأمر في الشفعة إلى حضور المقر له، كان في ذلك إسقاط الشفعة؛ لأن كل من يشتري شقصاً يدعي أنه اشتراه لغائب. ولو قال: اشتريته لابني الطفل أو لطفل له عليه ولاية، ففيه وجهان: أحدهما: أن الشفعة لا تثبت؛ لأن الملك يثبت للطفل فلا تجب الشفعة بإقرار الولي عليه. والثاني: تثبت لأنه يملك الشراء له فصح إقراره فيه، كما يصح في حق نفسه. قال: وإذا أخذ الشقص لم يكن له أن يرده إلا بعيب، أما رده بالعيب؛ فلما في الإبقاء من الضرر، وأما عدم رده إذا كان في مجلس الأخذ؛ فلأنه إزالة ملك لدفع الضرر، فلم يثبت فيه الخيار كالرد بالعيب، وهذا ما صار إليه ابن سريج. وقيل: [له] أن يرد بخيار المجلس؛ لأنه تمليك مال بالثمن، فيثبت فيه خيار المجلس كالبيع، وهذا ما نص عليه في اختلاف العراقيين كما حكاه ابن الصباغ. وقد حكى القاضي أبو الطيب في "التعليق" هذا الخلاف أيضاً في أنه إذا عفا عن الأخذ صريحاً، فهل له أن يعود إلى الطلب في المجلس [أم لا]؟ وهو في العدة أيضاً. وحكى البندنيجي ما حكاه القاضي من الخلاف تفريعاً على قولنا: إن خيار

الشفيع في الطلب وتركه يمتد إلى مفارقة مجلس البلاغ، ونسب الأول إلى ابن سريج، والثاني إلى نصه في اختلاف العراقيين. فعلى [هذا] لو فارق المشتري المجلس، وتخلف [فيه الشفيع] ففي انقطاعه وجهان في النهاية. قال: وإن مات الشفيع انتقل حقه إلى ورثته أي: إن مات قبل العلم بالشفعة ووجهه: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَلَّفَ حَقاً فَلِوَرَثَتِهِ"؛ ولأنها حق مالي لازم؛ فانتقل إلى الورثة كالرد بالعيب. لكن هل يثبت لهم على قدر أنصبائهم أو على [عدد] رؤوسهم؟ فيه ثلاث طرق: أظهرها: أنها على قدر الأنصباء. وقال البندنيجي: إنها التي عليها شيوخ أصحابنا أبو العباس وأبو إسحاق وغيرهما. والثانية: في المسألة قولان كما سبق، وهذه الطريقة مع الأولى مبنيان على أن الورثة يأخذون للموروث ثم يتلقون منه أو [يأخذون] لأنفسهم ابتداء؟ وفيه خلاف؛ فالأولى مبنية على الوجه الأول، والثانية مبنية على الوجه الثاني. والطريقة الثالثة: القطع بأنها على عدد الرؤوس، لأن للموروث من الشفيع حق تملك الشقص [لا الشقص]، ومجرد الحق قد يسوَّى فيه بين الورثة كحد القذف. قال: فإن عفا بعضهم عن حقه أخذ الآخر الجميع أو يدع، لأنها شفعة من اثنين، فإذا عفا أحدهما عن حقه كان للآخر أخذ الجميع أو الترك كالشريكين، وهذا ما قال البندنيجي إنه المذهب. وعلى مقتضى هذه الرواية تجيء الأوجه السالفة المجموعة من

الطريقين، ومجموعها أربعة أوجه. وقيل: إن عفو أحدهما كعفو الموروث [عن بعض حقه] فيجيء في [المسالة] ثلاثة أوجه. وهذا الخلاف ينبني على الأصل الذي ذكرناه في أنهم يأخذون لمورثهم أو لأنفسهم. فرع: لو كان من جملة الورثة حمل فليس لوليه الأخذ بالشفعة [له]؛ لأنه لا يتحقق ملكه، قاله ابن الصباغ وغيره. فلو أخذ له ثم ظهر حياً صح ذلك الأخذ على أحد الوجهين كما حكاه العمراني في "الزوائد" في الوصية والرافعي هنا حكى [في] جواز الأخذ في هذه الحالة وجهين: قال: وإن اختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن [أي] بأن قال المشتري: [هو] ألف، وقال الشفيع: [بل] خمسمائة [أو كان عرضاً وقال المشتري قيمته ألف، وقال الشفيع: بل خمسمائة] قال: فالقول قول المشتري؛ لأنه [العاقد فكان] أعرف بالثمن [ولأن الشقص] ملكه فلا ينزع منه إلا بقوله. فإن حلف كان للشفيع أن [يأخذه بما حلف عليه] المشتري أو يدع. وإن نكل حلف الشفيع وأخذ بما حلف عليه. فإن قيل: قد حكيتم عن المتولي أن الأخذ بالشفعة كالإتلاف بالنسبة إلى جنس ما يغرمه فهلا جعلتم هاهنا كذلك حتى يكون القول قول الشفيع [كالمتلف]. قيل: إنما كان القول قول المتلف؛ لأنه ثبت في ذمته شيء [والمتلف عليه يدعي عليه] زيادة، الأصل فراغ ذمته منها، وهنا الشفيع يريد أن ينزع مال الغير ببذل يبذله، فلم يكن له ذلك إلا بما يقوله المشتري، كما ليس للمشتري أن يأخذ المبيع إلا بما يقوله البائع، كذا وجه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ

والماوردي ذلك وهو ظاهر عمن يقول: لا يملك الشقص إلا ببذل الثمن. أما إذا قلنا: إنه يملكه بمجرد الأخذ، فهو شبيه بما إذا أعتق شركاً له في عبد وهو موسر وقلنا: إنه يملك حصة الشريك ويعتق عليه دون دفع القيمة، والحكم في هذه الصورة إذا وقع الاختلاف في القيمة أن القول قول المعتق، تمسكاً بأن الأصل فراغ ذمته من القدر الزائد. ووجه الشبه: قدرة المعتق والشفيع على تملك [مال] الآخر [بفعل أحد المتنازعين] قهراً. وطريق الجواب أن يقال: الاختلاف في مسألتنا وقع في أمر دخل الوجود بفعل أحد المتنازعين، فكان المرجع فيه إليه؛ لأنه أعرف به. والاختلاف في قيمة المعتق اختلاف في أمر مظنون لكل من المختلفين، فلم يكن أحدهما فيه بأولى من الآخر، ويرجح جانب المعتق بفراغ ذمته من القدر الزائد [والله أعلم]. فإن قيل: لم لا يتحالفان كما يتحالف المتبايعان؟ قيل: لأن كل [واحد] من المتابعين مدع ومدعى عليه؛ فتحالفا لاستوائهما، وفي الشفعة الشفيع مدع وحده دون المشتري، بدليل عدم سماع بينة المشتري ابتداء، وإذا كان كذلك جعل القول قول المشتري؛ لتفرده بالإنكار، وهذا ما أورده الماوردي. وقيل: لأن البائع والمشتري اتفقا [على السواء] على وقوع الملك للمشتري وكل منهما مباشر للعقد، والاحتمال في قولهما على السواء. وهاهنا لم يتفقا على وقوع الملك للشفيع، والشفيع أجنبي عن العقد، فكان تصديق المباشر أولى. وقيل: لأن البائع والمشتري يرجع كل منهما إلى شيء بعد التحالف، والشفيع لو جوز له التحالف لم يرجع إلى شيء بعده، فلا فائدة في تحليفه. وهذا قول أبي إسحاق. و [اعلم أنه] لا خلاف [في] أنه إذا كان لحدهما بينة عمل بها، ويكفي فيها شاهد [ويمين ورجل] وامرأتان، ولا تسمع في ذلك شهادة البائع

لا [للشفيع ولا للمشتري] وبهذا جزم العراقيون. وقيل: تسمع شهادته لهما أما للشفيع فلأنه ينقض حقه [وهو ما صححه في "التهذيب" فيه، وأما المشتري، فلأنه لم يجر بشهادته نفعاً لنفسه والثمن ثابت له بإقرار المشتري. وقيل: إن شهد للشفيع قبل قبض الثمن قبلت شهادته؛ لأنه ينقض حقه] إذ لا يأخذ أكثر مما شهد به، وإن شهد بعده، لم تقبل؛ لأنه يجر إلى نفسه نفعاً من حيث إنه إذا قل الثمن قل ما يغرمه عند ظهور الاستحقاق. وهذا ما حكاه في الإبانة. والصحيح هوا لأول لكونه شاهداً على فعل نفسه. ولو أقام كل واحد منهما بينة على ما يدعيه، ففي "الشامل" وغيره أن الذي حكاه الشيخ أبو حامد: أن بينة المشتري أولى كما أن بينة الداخل أولى من بينة الخارج، وأن القاضي أبا حامد قال: تتعارض البينتان، وأنه الأصح. فعلى هذا على قول يسقطان، ويكون القول قول المشتري، وهو ما صححه في "التهذيب" وإيراد ابن الصباغ يقتضيه أيضاً. وعلى قول: يستعملان القرعة. وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه قولان كذا قال الماوردي [وابن الصباغ وغيرهما]. وفي الرافعي أنا على [قول] الاستعمال نوقف أو نقرع. فرع: لو ادعى المشتري أن الثمن ألف، فقال الشفيع: هو دون الألف ولكن لا أعرف كم ينقص عنه، فله تحليف المشتري على أن الثمن ألف. ولو قال الشفيع: لا أعلم [أنه ألف] أو دونها، وطلب يمين المشتري على أنه ألف لتهمة رآها، فهل له ذلك؟ فيه وجهان في الحاوي. قال: وإن ادعى المشتري الجهل بالثمن، أي بأن قال الثمن كف من الدراهم لا أعرف [قدرها] أو صبرة من الحنطة لا أعرف كيلها، وقد تلف ذلك أو تعذرت معرفته، وقال الشفيع بل قدره كذا.

قال: فالقول قوله؛ لإمكان صدقه، ويحلف على نفي العلم بالثمن، فإذا حلف فلا شفعة. كذا نص عليه الشافعي وبه قال أبو حامد المروروذي والشيخ الإسفراييني؛ لأنه لا يمكن الأخذ بثمن مجهول، قال: وقيل: يقال له: بين، وإلا جعلناك ناكلاً كمن ادعي عليه ألف، فقال في جوابه: لا أعلم كم لك علي [منه]. فعلى هذا إذا لم يبين حلف الشفيع على مبلغ الثمن، وأخذ بالشفعة. وهذا قول ابن سريج [وأبي علي] بن أبي هريرة، وحملا ما نقل عن الشافعي على ما إذا كان الشفيع أيضاً جاهلاً بقدر الثمن. وقد حكى الماوردي في صورة جهل الشفيع بالثمن أن له تحليف المشتري: إنه لا يعلم قدر الثمن وتسقط الشفعة. وحكى البغوي فيها وجهين: أحدهما: أن دعواه تسمع على المشتري بأنه عالم بالثمن، فإذا نكل حلف الشفيع على علمه بالثمن وحبس المشتري حتى يبين قدر الثمن. وأصحهما: أن دعواه غير مسموعة على هذا النحو. وطريق دعواه كما حكاه القاضي الحسين وكذا الرافعي عن ابن سريج وغيره أن يعين الشفيع قدراً فإن ساعده عليه المشتري أخذ به وإلا حلفه على نفيه فإن نكل؛ استدل الشفيع بنكوله وحلف على ما عينه، وإن حلف المشتري زاد وادعى ثانياً، وهكذا يفعل إلى أن ينكل فيحلف الشفيع، والصحيح [هو القول] الأول. ويخالف ما لو ادعى على شخص ألفاً فقال: لا أعلم كم يستحق علي منه، فإن المدعى- هاهنا- هو الشقص لا الثمن المجهول، وبتقدير صدق المشتري ليس له الأخذ بالشفعة فكان ذلك كإنكاره لولاية الأخذ. وعلى هذا الخلاف لو قال: نسيت مقدار الثمن الذي اشتريت به وكذبه الشفيع. وادعى الروياني [أن الماوردي] والقفال وافقا ابن سريج وابن أبي هريرة في هذه الصورة [والله أعلم بالصواب].

ولنختم الباب بفروع تتعلق به: إذا باع في مرض موته شقصاً قيمته ألفان بألف من أجنبي وثلثه يحتمله، ولوارثه شفعة في الشقص ففيما يصنع؟ خمسة أوجه: أحدها: أن البيع يصح ولا يأخذ الوارث بالشفعة. أما صحة البيع مع المحاباة؛ فلكون المشتري أجنبياً، وأما عدم ثبوت الشفعة للوارث؛ فلأنها لو ثبتت كان المريض متسبباً إلى نفع وارثه بالمحاباة. والثاني: أن البيع يصح ويأخذ الشفيع الشقص بالثمن. والثالث: لا يصح البيع أصلاً؛ لأنه لو صح لتقابلت فيه أحكام متناقضة. والرابع: يصح البيع في الجميع ويأخذ الشفيع ما يوازي الثمن [منه]، ويبقى الباقي للمشتري محاباة. والخامس: لا يصح إلا في القدر الموازي للثمن؛ لأنه لو صح في الكل فإن أخذه الشفيع وصلت إليه المحاباة، وإن أخذ ما وازى قدر المحاباة؛ كان إلزاماً لجميع الثمن ببعض المبيع، وهو خلاف وضع الشفعة. وقد يقال في العبارة عن هذا الوجه إن ترك الشفيع الشفعة صحت المحاباة مع المشتري، وإلا فهو كما لو كان المشتري وارثاً فلا تصح المحاباة. والأصح من هذه الأوجه عند العراقيين وصاحب "الإفصاح" والأستاذ أبي منصور والإمام [و] البغوي: الثاني. وعن ابن الصباغ الأول، [وهي تجري] فيما إذا لم يجزم الورثة عند كون المحاباة أكثر من الثلث، وصححنا البيع في قدر بعض المحاباة. إذا شهد شاهدان بأن المشتري سلم الشقص المشفوع إلى الشفيع، وآخران بأن الشفيع سلم الشفعة إلى المشتري، ففيه أقوال لابن سريج. أحدها: أن البينة بينة من في يده الشقص. والثاني: بينة المشتري؛ لاحتمال أنه سلم الشقص قبل العلم بالعفو عن الشفعة، والأصل بقاء ملكه.

والثالث: أن بينة الشفيع أولى، كذا حكاه صاحب "الإشراف". والحيلة في إبطال الشفعة بالجوار مباحة قبل العقد وبعده. قال البندنيجي: لأنها حيلة في إبطال ما ليس بواجب. وأما الحيلة في إبطال [حق] الشفعة بالمشاركة فينظر فيها؛ فإن كان بعد وجوبها فلا يحل ذلك؛ لأنه حق قد وجب فلا يجوز السعي في إسقاطه، وأما قبل وجوبها كما إذا فعل شيئاً يزهد الشفيع فيها. قال أبو العباس: يكره ذلك فإذا فعل صح. وقال أبو بكر الصيرفي في كتاب "الحيل": هو مباح كما حكاه البندنيجي. وفي كلام الزبيلي في "أدب القضاء" له ما يدل على المنع، فإنه قال: إذا أراد أحد الشريكين في عقار أن يبيع نصيبه من غير شريكه، فلقنه إنسان أن يهب بعض نصيبه من المشتري ويبيع الباقي منه، فإن هذا التلقين لا يجوز؛ لأن فيه إسقاط حق الشفيع، والمشهور الأول، وقد ذكر الأصحاب في ذلك صوراً: منها: أن يبيع الشقص الذي قيمته مائة بمائتين، ثم يأخذ عرضاً قيمته مائة عن المائتين. وفي هذه الصورة غرر على المشتري. ومنها: أن يشتري الشقص بمائة وهو يساوي خمسين، ثم يحط عن المشتري بعد المجلس خمسين. وفيها أيضاً تغرير المشتري، فإنه قد لا يبرأ. ومنها: أن يشتري عرضاً من المشتري بمائتين وهو يساوي مائة [ثم يعطيه [عن المائتين] الشقص وهو يساوي مائة] [لكن] في هذه الصورة تغرير بالبائع، فإنه بعد شراء العرض [قد] لا يشتري منه بائعه الشقص بما عليه، وذكروا غير

ذلك صوراً. وعندي صورة أخرى، وهي أن يستاجر المريد لشراء الشقص [الشقص] مدة لا يبقى الشقص لأكثر منها، بأجرة يسيرة، ثم يشتري الشقص بقيمة مثله. فإن عقد الإجارة لا ينفسخ بهذا الشراء [على] المذهب، ولو أراد الشفيع الأخذ لأخذ [الشقص مسلوب المنافع] مدة بقائه، وهذا مما ينفر به الشفيع فيأمن المشتري المحذور [عن مطالبته] والله [عز وجل] أعلم.

باب القراض

باب القراض القراض: بكسر القاف لغة أهل الحجاز، وهو مشتق من القرض، وهو القطع. يقال: قرض الفأر الثوب إذا قطعه؛ ومنه المقراض؛ لأنه يقطع به، فسمي هذا العقد بذلك؛ لأن المالك قطع للعامل قطعة من ماله يتصرف فيها وقطعة من الربح. وقيل: اشتقاقه من المقارضة وهي المساواة، والموازنة. يقال: تقارض الشاعران: إذا ساوى كل واحد منهما صاحبه فيما ينشده من الشعر، فسمي هذا العقد به لتساويهما في استحقاق الربح. وأهل العراق يسمون هذا العقد مضاربة؛ [لأجل أن كل واحد منهما تصرف بسهم في الربح، فلما حصل لكل منهما التصرف في الربح قيل: مضاربة]. كما يقال: مقاتلة ومشاتمة. وقيل إنه مشتق من الضرب في الأرض وهو السفر؛ لأن أهل مكة كان أحدهم يدفع للآخر مالاً على أن يخرج به إلى الشام واليمن وغيرهما من المواضع، يبتغون فضل الله تعالى بجزء من الربح، فلذلك سمي مضاربة. ثم لزم [هذا] الاسم هذه المعاملة سواء خرج أو أقام. ويقال للمالك من اللفظة الأولى: مقارض بكسر الراء، وللعامل مقارض

بفتحها. ومن اللفظة الثانية يقال للعامل: مضارب بكسر الراء؛ لأنه الذي يضرب بالمال، ولم يشتقوا للمالك منها اسماً. وفي "البحر": أن بعض أصحابنا قال: [إن] المضارب اسم رب المال، وأن جماعة من العلماء قالوا به، وهو غلط. وحقيقة القراض شرعاً: عقد يعقد على النقدين؛ ليتصرف فيه بالبيع، والشراء على أن [ما يكون] في ذلك من ربح يكون بين المالك والعامل؛ إما نصفين، أو أثلاثاً، أو نحو ذلك كما شرطا. والأصل في مشروعيته من الكتاب قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وفي القراض ابتغاء فضل الله وطلب نماء. ومن السنة: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: "ضَارَبَ لِخَدِيجَةَ بِأَمْوَالِهَا إِلَى الشَّامِ وَأَنْفَذَتْ مَعَهُ عَبْداً [لِخِدْمَتِهِ] يُقَالُ لَهُ مَيْسَرَةُ". وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كان العباس إذا دفع مالاً مضاربة اشترط على صاحبه ألا يسلك به بحراً، ولا ينزل به وادياً، ولا يشتري به ذات كبد رطبة، فإن فعل فهو ضامن، فرفع شرطه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجازه. وقد أجمع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على جوازه، قال القاضي الحسين: ولا بد للإجماع من أصل ينعقد عنه، وهو عند بعضهم قياساً على المساقاة، وإن كان مختلفاً فيه. والجامع أنهما مالان تجب الزكاة في عينهما، ولا يجوز الاستئجار عليهما، ويطلب نماؤهما بكثرة العمل فيهما؛ فجاز المعاملة عليهما ببعض ما يخرج منهما: كالكروم، والنخيل.

وقال الغزالي: مستند إجماعهم: أنهم ألفوا هذه المعاملة [في زمن] للنبي صلى الله عليه وسلم شرعاً أغنى عن النقل، وقد نقلت فيه ما روى الشافعي في اختلاف العراقيين: أن أبا حنيفة روى عن حميد بن عبد الله بن عبيد الأنصاري عن أبيه عن جده أن عمر ابن الخطاب –رضي الله عنه- أعطي مال يتيم مضاربة فكان يعمل به في العراق. وروي أن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- أعطى العلاء بن عبد الرحمن مالا مقارضة. وروي أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر لقيا عند مصرفهما من غزوة "نهاوند" أبا موسى الأشعري بـ"البصرة" إذ كان عاملاً عليها فقال [لهما] أريد أن أصلكما وليس في يدي ما أصلكما به، وإنما معي مائة ألف درهم من مال بيت المال أدفعها لكما لتشتريا بها سلعة وتبيعانها بالمدينة، وتردان رأس المال على أمير المؤمنين، والربح لكما، فاشتريا [بها] من أمتعة العراق، فربحا عليها بالمدينة ربحاً كثيراً. فقال لهما عمر: أو كلَّ الجيش أسلف [مثل ما] أسلفكما؟ فقالا: لا. فقال عمر- رضي الله عنه: لا أراه فعل ذلك إلا لمكانكما مني، ردَّا المال وربحه، فسكت عبد الله، وراجع عبيد الله أباه فقال: يا أمير المؤمنين أليس لو تلف المال كان من ضماننا؟ فقال: بلى، فقال: الربح لنا، وأشار إلى أن الخراج بالضمان، فسكت عمر ساعة.

ثم قال مثل قوله الأول: رُدَّا المال وربحه، فراجعه عبيد الله ثانياً. وأعاد قوله الأول، فعند ذلك قال عبد الرحمن بن عوف: لو جعلته قراضاً على النصف يا أمير المؤمنين، فأخذ منهما النصف، أي نصف الربح وترك النصف في أيديهما. وقد ورد هذا الخبر بألفاظ أخرى رواها مالك. قال الماوردي: وعلى هذا الأثر اعتمد الشافعي. ووجه التمسك به كما قال القاضي أبو الطيب قول القائل: لو جعلته قراضاً، فلولا أنه [قد] عرفه وخبره لم يقل ذلك، وعمر أجابه إليه ولم ينكره. وقد اختلف الأصحاب في معنى جعل الربح في هذه القصة نصفين على أربعة أوجه: أحدها: وبه قال ابن سريج أن ما جرى من أبي موسى كان قرضاً صحيحاً؛ لأن الطريق كان مخوفاً، والقرض في هذه الحالة جائز فكان جميع الربح لهما، لكن عمر- رضي الله عنه- استنزلهما عن الربح خيفة أن يكون أبو موسى قصد إرفاقهما لا رعاية مصلحة بيت المال. الثاني: وبه قال أبو إسحاق أن عمر- رضي الله عنه- أجرى على ذلك في الربح حكم القراض الفاسد؛ لأنهما عملا على أن يكون الربح لهما، و [لو] لم يكن قد تقدم في المال عقد حتى حملهما عليه، ومقتضاه أن يكون الربح لبيت المال، لكن أجرةم ثلهما كانت قدر نصفه فسلمه لهما. الثالث: أن عمر- رضي الله عنه- أجرى عليهما في الربح حكم القراض الصحيح وإن لم يتقدم معهما عقد؛ لأنه لما كان من الأمور العامة فاتسع حكمه عن العقود الخاصة، فلما رأى المال لغيرهما، والعمل منهما جعل ذلك عقد قراض صحيح، وهذا ذكره ابن أبي هريرة. الرابع: حكاه القاضي الحسين أن ما فعله أبو موسى كان قرضاً فاسداً؛ لأنه

كان سفتجة شرط عليهما الرد بالمدينة فجر منفعة وكل قرض جر منفعة [فهو] حرام، فكان ترك النصف؛ لأنهما كانا اشتريا في الذمة ونقدا فيه المال، فكان كل الربح لهما غير أنهما لما ارتفقا بمال بيت المال، أراد عمر أن يحصل لبيت المال من جهتهما رفق في مقابلته، وإن اشتريا بعين ما دفع إليهما، فعلى قول الشافعي في القديم: العقد موقوف على إجازة المالك، وعمر قد أجاز ذلك، والله أعلم. قال- رحمه الله-: من جاز تصرفه في المال، صح منه عقد القراض؛ لأنه تصرف في المال وهذا اللفظ وإن كان من جوامع الكلم؛ لأنه يشمل ما إذا كان المتصرف مالكاً أو ولياً من أب، أو جد، أو وصي، أو حاكم، أو قيم كما صرح به في "الشامل" وغيره، فهو يدخل جواز القراض من الوكيل والعبد المأذون، وهو غير جائز منهما ويدخل عامل القراض وسنذكره ونبين أن كلا من المقارض والعامل يعتبر [فيه أن يكون أهلاً لجواز التصرف] في المال؛ لأن عقد القراض به يتم، وهذا هو الأقرب إلى الفهم. قال: ولا يصح القراض إلا على الدراهم والدنانير أما صحته عليهما [فبالإجماع، وأما عدم صحته على ما عداها] من ذوات [القيم وذوات] الأمثال؛ فلأن القراض مشروط برد رأس المال واقتسام الربح، وعقده بغيرهما يمنع من هذين الشيئين؛ لأن من العروض ما لا مثل له، فلا يمكن رده، وماله مثل قد تكون قيمته حال العقد أكثر من قيمته حال الرد، وذلك يؤدي إلى أن يفوز العامل بجزء من رأس المال بغير عمل، وإذا كان هذا [ممنوعاً في القراض] وجب منع ما يؤدي إليه. ولا يقال: إن مثل هذا الاحتمال يجيء في الدراهم والدنانير؛ لأن سوقهما يرتفع مرة وينخفض [مرة] أخرى: لأن ذلك إن وقع فنادر لا يعتد به، ويسير لا يؤثر. وقد وجه اختصاص هذا العقد بهما [معنى آخر] وهو أن القراض معاملة

تشتمل على إغرار؛ إذ العمل غير مضبوط، والربح غير موثوق به، وإنما جوز للحاجة، فيختص بما يسهل للتجارة عليه في جميع البلدان، وهو الدراهم والدنانير؛ لأنه يرغب فيهما كل واحد، ويؤخذ بهما كل شيء وتنفقان في كل مكان، وتروجان في كل زمان. قال القاضي الحسين: وهذا أصح؛ لأن السبيكة من الذهب، والنقرة من التبر لا يوجد فيهما المعنى الأول غالباً، ومع هذا يمتنع القراض عليهما للمعنى الثاني. وقيل يجوز القراض على ذوات الأمثال، حكاه في "الإبانة". وفي البيان عن المسعودي وقيل: يجوز القراض على الفلوس إذا راجت رواج النقود حكاه المتولي، وادعى الإمام الاتفاق على المنع فيها. وقيل: إذا مات رب المال، ومال القراض عروض فقارضه الوارث عليه، صح، وإذا كانت قيمته معلومة، ولم يتعلق به حق؛ وهذا قول أبي إسحاق، وهو ظاهر المذهب؛ فإنه قال: فإن رضي الوارث بترك المقارض على قراضه، وإلا فقد انفسخ القراض. قال القاضي أبو الطيب: والقائل بالمنع حمل النص على ما إذا كان رأس المال ناضاً. وقال القاضي الحسين: الخلاف مبني على الخلاف في أن الوارث [هل يبنى على حول المورث أم لا؟]. وعلى الوجهين يخرج ما إذا كان المال ناضاً وقد جهل الورثة قدره،

وقارضوا العامل عليه، صرح بها الماوردي. وقال الإمام: ومن ذكر الوجهين في هذا المقام يلزمه أن يقول بهما إذا فسخ القراض في حال الحياة، ثم أعاده المالك والمال عروض، وقد امتنع بعض الأصحاب من جريانه في هذه الحالة، وهو ما جزم به المحاملي في "المجموع". ولا خلاف في أن العامل لو مات ومال القارض عروض، فقارض رب المال وارثه عليها لم يصح. قال أبو الطيب: والفرق أن عمل العامل قد هلك وتعذر بموته، وليس كذلك في موت المالك؛ لأن عمل العامل قائم بحاله. وفرق في "الوسيط" بأن الوارث لم يشتر المال بنفسه؛ فتكون العروض كلاً عليه بخلاف موت رب المال. قال: ولا يجوز على المغشوش منها؛ لأن غش الفضة أو الذهب لو ميز عنهما ثم قارضه عليهما لم يصح، فكذلك إذا كانا مختلطين، وبالقياس على ما لو كان الغش أكثر من الفضة أو الذهب. وقد وافق الخصم وهو أبو حنيفة على عدم الصحة في ذلك، وهذا هو المذهب المثبوت وقد صار إلى تجويز القراض على المغشوش إذا راج: الأقلون من المتأخرين كما حكاه الإمام بعد أن قال: قال القاضي: وأبعد بعض أصحابنا فجوز القراض على المغشوش إذا جرى نقداً. ومحله إذا كانت قيمته قريبة من مبلغ الخالص وقيمة النحاس ومؤن الطباعين؛ لأن أمثال هذه الدراهم لو فرض في جريانها ركود، لقل المقدار الذي يفرض فواته وجعل المتولي حكم القراض عليها مبنياً على جواز التعامل [بها] وقد ذكرناه. قال: ولا يجوز إلا على مال معلوم الوزن أي: والصفة حال العقد؛ لأنه موضوع على الفسخ، ورد المال عند المفاضلة وقسمة الربح على مقتضى الشرط وهذا متعذر مع الجهل. وبما ذكرناه من التعليل يظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين رأس مال السلم حيث جاز مجهولاً على قول؛ لأنه لم يعقد ليفسخ حتى يرجع فيه برأس المال. ويظهر أنه لو دفع للعامل عرضاً يبيعه ويكون ثمنه رأس مال لا يصح؛ لعدم

المعرفة بالقدر والصفة حال العقد مع أن في ذلك معنى آخر يقتضي البطلان لو فقد ما ذكرناه وهو التعليق، فإن القراض لا يحتمله وإن كان وكالة على وجه مخصوص، وجوزنا تعليق الوكالة لما سنذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى. فرع: لو دفع إليه كيسين في كل منهما ألف درهم معلومة الوصف على أن يكون أحدهما رأس مال والآخر وديعة؛ ففي صحة القراض وجهان في الطريقين: أصحهما: المنع ولا يجري مقابله فيما إذا جعلهما رأس مال وشرط [له] في أحدهما نصف الربح، وفي الآخر ثلثه ولم يعينه؛ كما حكاه الماوردي. تنبيه: كلاما لشيخ قد يفهم منع القراض على مال في الذمة [إذا قلنا: إن ما في الذمة ليس بمال] وهو ما جزم به في "التهذيب" فيما إذا قارضه على ألف في الذمة ثم عين في المجلس [من غير بيان]، وصرح به الماوردي وغيره فيما إذا كان المقارض عليه ديناً على الغير؛ سواء كان في ذمة العامل أو في ذمة غيره وأذن له في قبضه. لكن الإمام حكى عن القاضي- فيما خالف فيه صاحب "التهذيب"- الجواز وقطع به، وكلامه في "البحر" يرشد إليه حيث قال: لو قال قارضتك على ألف درهم، وكان له على رجل ألف درهم، فقال: ادفعها إليه- صح، وهو قريب مما حكيته في قرض شيء في الذمة، ثم يعين في المجلس. ووجه الفساد فيما إذا كان المال في ذمة غيره: عسر التجارة والتصرف فيما في الذمة؛ ولأن ما في الذمة لابد من تحصيله أولاً، وسنذكر أنه لا يجوز في القراض ضم عمل إلى التجارة؛ كذا قال الإمام. وفيه نظر؛ لأن مثل هذا العمل مغتفر في القراض، ألا ترى أن العامل يصح بيعه بثمن في الذمة بالشرط الذي سنذكره ويتقاضى الثمن من المشتري. ووجه الفساد فيما إذا كان في ذمة العامل ما ذكرناه أولاً، وعدم صحة قبضه من نفسه لغيره. وفي "البحر" حكاية وجه عن القاضي الطبري عن ابن سريج: أنه يصح القراض على ما في ذمته؛ لأنه [بمنزلة] الوكيل؛ فأشب ما لو قال: اشتر لي

سلعة بألف درهم، ثم [قال] ادفع الألف الذي [لي] عليك في ثمنها. وعلى المشهور لو وقع عقد القراض على الدين، وتصرف العامل على حكم القراض؛ نظر إن كان قيما قبضه من غيره، فتصرفه فيه واقع لرب المال، والربح والخسران عليه، وللعامل أجرة مثله فيما فعله من قبض وشراء وغيره. وإ، كان فيما عزله مما عليه من دين بعد قول رب المال: اعزل الألف الذي لي في ذمتك وقد قارضتك عليه. فهل يكون الربح [له]، والخسران عليه أو على رب المال؟ فيه قولان خرجهما القاضي في جامعه. وعلى الأول: وهو الأصح لا تبرأ ذمة العامل بذلك. وعلى الثاني: تبرأ بالاتجار كذا قال الماوردي. وفي الرافعي: أنه إذا عزل الألف وقارضه عليها، فإن اشترى بعين الألف، كان كالفضولي يشتري لغيره بعين ماله، وإن اشترى في الذمة، ونقد ما عزله، فوجهان: أصحهما في "التهذيب": أن الشراء للمالك، وهو الذي يقتضي إيراد البندنيجي في "التعليق" ترجيحه؛ فعلى هذا: يكون للعامل أجرة مثله. والثاني: أنه للعامل؛ لأنه إنما أذن في الشراء بمال القراض إما بعينه أو في الذمة؛ لينقده فيه، فإذا لم يملكه فلا قراض. وهذا أظهر عند الشيخ أبي حامد؛ وهذا الترتيب إيراد القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ يوافقه. وفي "تعليق" القاضي الحسين: [أنه] إن اشترى بعين الألف؛ فالربح والخسران على العامل، وإن اشترى في الذمة، وقع العقد لرب المال، وعليه أجرة مثل العامل، والربح له، والخسران عليه، ولا يلزم العامل أن ينقد الثمن من ماله، فإن نقده جاز، وسقط الحق عنه؛ لأنه أذن له فيه. وأبدى احتمالاً في المسألة اقتصر الإمام ومن تابعه عليه، وهو أن ذلك يخرج على أصلين: أحدهما: إذا قال شخص لشخص: اشتر لي بثوبك هذا الفرس، فاشتراه له

[به] وسماه في العقد، فهل يقع العقد للآمر أم لا؟ فيه وجهان: [فإن وقع له، فهل يكون الثوب معوضاً من الآمر أو موهوباً له؟ فيه وجهان]. وعلى القول بعدم وقوع العقد للآمر، هل يقع لمباشره أم يبطل؟ فيه وجهان. وإن اشترى الفرس بالثوب [له] ونواه في الشراء، فالحكم كما تقدم، إلا على قولنا: إنه لا يصح العقد للآمر فإنه في هذه الصورة يقع للمباشر وجهاً واحداً. والأصل الثاني: ما إذا قال له: اشتر لي خبزاً بدرهم من مالك، فاشترى له خبزاً بدرهم في الذمة فإن العقد يقع للآمر، وإذا وفاه المأمور، فهل يرجع به عليه؟ فيه وجهان. فإذا اشترى العامل بعين الألف، فهو كما لو اشترى الفرس بعين الثوب، وإذا اشترى في الذمة، ونقد الألف، فهو كما لو اشترى الخبز ونقد ثمنه، والله أعلم. ولا خلاف [في] أن الألف لو كان في يده أو في يد غيره وديعة صح القراض عليه، ولو كان في يده غصباً؛ فكذلك على المذهب في "الشامل" وغيره. وفيه وجه: أنه لا يصح. قال الغزالي: ولعله غلط. وعلى الأول هل يبرأ الغاصب بذلك؟ فيه خلاف قدمته في باب الغصب. قال: ولا يجوز إلا على جزء معلوم من الربح [أي:] كالنصف، والثلث، [والربع] ونحوها نفياً للغرر والمرجع في قدر الجزء إلى ما يتفقان عليه حالة العقد؛ لأنه عقد على منفعة؛ فأشبه الأجرة والصداق، فلو أطلقا العقد كان قراضاً فاسداً، يصح تصرف العامل فيه، وله أجرة مثله، ربح المال أم خسر ويخالف الشركة إذا أطلقت فإنها تقع صحيحة؛ لأن الربح فيها مقسوم على الأملاك وهي معلومة. وفي "الحاوي" حكاية وجه عن ابن سريج فيما إذا [قال]: قارضتك ولم يزد على هذا: أن القارض جائز، ويقسم الربح بينهما نصفين؛ لأن ذلك هو الغالب،

فحمل إطلاقه عليه، وغلطه فيه بأن الغالب لو كان معتبراً في مثل ذلك؛ لوجب إذا أطلق عقد البيع أن يصح بثمن المثل؛ لأنه الغالب وليس كذلك. فرع: لو قال: قارضتك على أن لك من الربح مثل ما شرطه فلان [لعامله فلان] فإن كانا يعلمان [مبلغ ذلك] صح، وإن جهل أحدهما ذلك؛ فلا. قال: [وإن قال]: قارضتك على أن الربح بيننا؛ جاز وكان بينهما نصفين: كما لو قال: هذه الدار بيني وبين فلان فإنها تجعل بينهما نصفين، وإذا قال: بعتكما هذه الدار؛ كانت بينهما نصفين، وهذا قول أبي العباس، واختيار الشيخ أبي حامد. قال: وقيل: لا يجوز؛ لأنه يحتمل [أن يكون] بينهما نصفين وثلثاً وثلثين وأقل وأكثر، فلما لم يبين واحداً من ذلك؛ كان العوض مجهولاً، وهذا كما لو قال: بعتك بألف مثقال ذهب [وفضة]، فإن البيع لا يصح؛ وهذا ما صححه في "التهذيب". قال: وإن قال: على أن لك [نصف الربح] صح؛ لأن الربح نماء المال ومقتضى ذلك أن يكون النصف جميعه لرب المال فإذا شرط للعامل منه شيء معلوم؛ بقي الباقي للمالك بالأصل. وقيل: لا يصح؛ لأنه لم يبين ماله من المال. قال: والأول أظهر؛ لما ذكرناه، وبه [جزم] المراوزة وكذا الماوردي وجعل مسألة الوجهين فيما إذا قال: تصرف فيه بالبيع والشراء [على أن لك نصف الربح، وقاس وجه المنع على ما لو قال: تصرف فيه بالبيع والشراء]، ولي نصف الربح فإنه يكون قراضاً فاسداً وجهاً واحداً. ويجري الخلاف الذي حكاه الشيخ فيما لو قال: قارضتك على [أن] المال بالنصف، [أو الثلث]. فعند ابن سريج يصح. وعند أبي إسحاق المروزي: لا، كذا حكاه البندنيجي وغيره.

قال: وإن قال: على أن لي النصف- لم يصح؛ لأنه ذكر لنفسه بعض الربح الذي هو مالك لجميعه؛ فلم يكن فيه بيان لما بقي. وهذا قول المزني كما حكاه الفوراني، وابن سريج كما حكاه البندنيجي، وأبو إسحاق، وابن أبي هريرة كما حكاه الماوردي. وقيل: يصح حملاً على موجب القراض واشتراكهما في الربح، فصار البيان لنصيب أحدهما دالاً على أن الباقي للآخر، وهذا كما قال تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فإن في ذلك دلالة على أن الباقي للأب، وهذا قول ابن سريج كما حكاه الماوردي والفوراني. قال: والأول أظهر؛ لأن العامل لا يملك شيئاً إلا بالشرط ولم يوجد. وعلى هذا الخلاف يبنى ما لو قال: قارضتك على أن لي نصف الربح، ولك ثلثه وسكت عن الباقي، فيكون على الأظهر قراضاً فاسداً؛ للجهل بحكم السدس الباقي وعلى مقابله: يصح. ولو انعكس الحال فقال: على أن لك نصف الربح ولي ثلثه، كان على الأظهر في المسألة قبلها [قراضاً صحيحاً. وعلى مقابله] قراضاً فاسداً. قال: [وإن شرط لأحدهما ربح شيء يختص به. لم يصح. صورة ذلك: أن يدفع إليه [ألفين في كيسين]، ويقول: لك ربح هذا أو لي ربح هذا، أو يقول: لك ربح ما يحصل في الثياب، ولي ربح ما يحصل في الدواب، أو نحو ذلك. ووجه المنع: أنه قد لا يربح في أحدهما؛ فيؤدي إلى فوز المالك بعمل العامل مجاناً، أو العامل يفوز بنماء مال رب المال من غير أن يحصل له شيء، وذلك خلاف وضع القراض. وهكذا الحكم فيما لو قال: قارضتك على أن لي من الربح درهمين، والباقي بيننا نصفين؛ لأنه قد لا يربح المال إلا درهمين؛ فيؤدي إلى ما ذكرناه. ويخالفه لو قال: على أن لي أو لك الثلث والباقي بيننا، فإنه يصح؛ لأن أحدهما لا يفوز بالربح دون الآخر.

وهكذا لو قال: على أن لك نصف الربح، وما بقي فثلثه لي وثلثاه لك صح؛ إن علما نسبة ذلك وإن جهلها أحدهما فعند القاضي الحسين: لا يصح. وعند ابن الصباغ: يصح وحكى صاحب "التقريب" الوجهين. فرع: لو قال: خذ هذا الألف قراضاً، ولك ربح نصفه، ولي ربح نصفه؛ لم يجز خلافاً لأبي ثور وأبي سعيد كما حكاه المتولي. ولو قال: ولك نصف ربحه، ولي النصف الباقي- صح. والفرق أنه إذا جعل له ربح نصفها، صار منفرداً بربح أحد النصفين من غير أن يكون لرب المال فيه حق، [وعمل في النصف الآخر من غير أن يكون له فيه حق]، بخلاف ما لو قال: نصف ربحه؛ فإن هذا المعنى مفقود فيه. وهذه طريقة ابن الصباغ والبندنيجي والماوردي، وحكاه المتولي عن ابن سريج وهو موافق لما حكاه القاضي الحسين عنه فيما لو قارضه على ألفين غير متميزين على أن يكون لرب المال ربح ألف وللعامل ربح ألف. وقال: عندي أنه يجوز؛ إذ لا تمييز بين الألفين، ولا فرق بين أن يقول: نصف الربح لك وبين أن يقول: ربح الألف من الألفين لك. وقال الإمام: إنه متجه حسن، ولا وجه لما قاله ابن سريج إلا فساد اللفظ، فإن الذي يقتضيه موجب العقد قسمة الربح على الشيوع، فإذا قال: نصف الربح لك فهذا جار على الإشاعة، وإذا قال: ربح أحد الألفين لك، لم يوجد ذلك، والمعول في العقود على الألفاظ. قال: وإن قال: قارضتك على أن يكون الربح كله [لي، أو كله] لك؛ فسد [العقد]. هذا الفصل ينظم مسألتين: إحداهما: أن يقول: قارضتك على أن يكون الربح كله لي. [والثانية: أن] يقول: قارضتك على أن [يكون] الربح كله لك. والعقد فاسد فيهما؛ لأن وضع القراض يقتضي الاشتراك في الربح، وقد شرط الاخصتاص [به لأحدهما] فبطل؛ لكونهما شرطا ما ينافي مقتضاه. قال ابن سريج: وأصل هذا أن كل لفظة كانت خالصة لعقد حمل إطلاقها

عليه، فإن وصل بها ما ينافي مقتضاه بطل. قال: إلا أنه إذا تصرف [العامل] نفذ التصرف؛ لأن الإذن موجود، ولا فساد فيه، وبه يستفاد التصرف، قال: ويكون الربح كله لرب المال؛ لأنه نماء ملكه، وللعامل أجرة المثل؛ لأنه عقد يستحق المسمى في صحيحه؛ فاستحق أجرة المثل في فاسده كعقد الإجارة. وفي المسألة الأولى وجه نسبه الماوردي إلى المزني: أنه لا يستحق أجرة المثل؛ لأنه عمل مع الرضا بأنه لا ربح له؛ فهو متطوع بعمله. والصحيح الأول، وبه قال ابن سريج؛ لأنه عمل في قراض فاسد؛ فصار كالمنكوحة على غير مهر تستحق مع الرضا بذلك مهر المثل. وحكى المراوزة في المسألتين خلافاً في أن [هذا] الذي جرى، عقد قراض فاسد أم هو في الأولى إبضاع وفي الثانية عقد قرض؟ وبنوا ذلك على أن الاعتبار في العقود بألفاظها أو بمعانيها؟ فإن اعتبرنا الألفاظ كان قراضاً فاسداً، وإن اعتبرنا المعنى، كان في الأولى إبضاعاً، وفي الثانية قرضاً؛ لأن ذلك معناهما. وقالوا: إذا قلنا في الأولى: إنه قراض فاسد، فهل يستحق أجرة المثل؟ فيه وجهان: وخرجوا على هذه القاعدة ما لو قال: باضعتك على أن الربح كله لك، فعلى قول من نظر إلى اللفظ، جعل الربح كله لرب المال، وجعل للعامل أجرة المثل؛ لأنه لم يعمل مجاناً. وعلى قول من نظر إلى المعنى، جعل ذلك قرضاً. ولا فرق في استحقاق أجرة المثل بين أن يحصل في المال ربح أم لا، بخلاف ما لو كان عقد القراض صحيحاً؛ فإنه لا يستحق شيئاص ما لم يكن في المال ربح. قال القاضي أبو الطيب: والفرق أنه لما استحق المسمى وإن كان أكثر من أجرة المثل عند وجود الربح وصحة القراض، جاز ألا يستحق شيئاً إذا عري عن الربح حتى إذا كان له الفضل في الزيادة، كان عليه الضرر في النقصان. وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه لو كان في المال ربح فاضل عن أجرة المثل، لم يكن له، فكذلك إذا لم يكن فيه فضل استحق أجرة المثل، فتكون الزيادة لما لم تنفعه لا يضره النقصان.

وحكى الإمام عن شيخه وجهاً رواه أنه لا يستحق الأجرة إذا لم يحصل بعمله ربح، وقال: إنه لا اتجاه له. [فرع:] قال: [وإن قال تصرف] والربح كله لي، فهو إبضاع، لا حق للعامل فيه، وإن قال: تصرف والربح كله لك فهو قرض؛ لأن لفظ تصرف محتمل التصرف على [جهة القراض وعلى جهة] غيره، وقد اقترن به ما يخلصه لأحدهما فغلب حكمه؛ كلفظ التمليك لما كان يحتمل الهبة والبيع إذا اقترن به العوض حمل على البيع لاعتباره فيه. قال أبو العباس: وهذه القاعدة كل لفظة وضعت لعقدين فأكثر لم ينصرف إطلاقها إلى شيء، فإن عقبها ببعض ما يصلح لبعض تلك العقود؛ أخلصها له. وفي الحاوي في الأخيرة حكاية وجه أنه يكون قراضاً فاسداً؛ فيكون [الربح جميعه] لرب المال، وللعامل أجرة المثل وهو ما اختاره القاضي الحسين. ولا نزاع في أنه لو قال: خذه واعمل فيه على أن الربح بيننا نصفين، كان قراضاً صحيحاً. ولو قال: خذه وتصرف فيه بالبيع والشراء، فمقتضى ما ذكرناه من القاعدة عن ابن سريج [ألا ينصرف] إلى شيء من العقود. وقد حكى في "البحر" في ذلك وجهين: أحدهما: أنه إبضاع. والثاني: أنه قراض فاسد. ولو دفع إليه ألفاً وقال: اشتر به لنفسك، فهل يقع العقد للمباشر أم للآمر؟ فيه وجهان. فإن قلنا بوقوعه للمباشر، فهل الألف هبة منه أو [قراض؟] فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين. تنبيه: إبضاع بكسر الهمزة أي: [هو] بضاعة للمالك [ربحها] والعامل وكيل متبرع. قال أهل اللغة: البضاعة: طائفة من المال يبعثها للتجارة، يقال: أبضعت الشيء واستبضعته: أي جعلته بضاعة. واعلم أن كلام الشيخ مصرح بأن القارض ينعقد [بلفظ القراض]، وهو لا

شك فيه وفي كلامه في صدر الباب ما يدل على افتقاره إلى القبول حيث قال: صح منه عقد القراض، فإن العقود وضعها الافتقار إلى القبول، وقد صرح بذلك الرافعي و [غيره]، وأثبته الإمام بلا خلاف. وكما ينعقد القراض بلفظه، ينعقد بلفظ المضاربة [والمعاملة] أيضاً، ويعتبر القبول فيه على الفور، كما في [عقد] البيع ونحوه ولا يفتقر مع ذلك إلى قوله: "بِعْ مَا تَشْتَرِيهِ" على الأصح، وفي "النهاية" وجه ضعيف في الافتقار إليه كما يفتقر إليه في قوله- عند دفع المال إليه مقتصراً على قوله: [اشتر به] على الأصح حتى لو لم يقل ذلك كان الربح كله لرب المال. وينعقد أيضاً بقوله: خذ هذا الألف وتصرف فيه أو اتجر فيه على أن الربح بيننا مع القبول اتفاقاً، وكذا بدونه عند القاضي الحسين كما لو قال لمن يخاطبه: "بع عبدي" فإنه لا حاجة إلى القبول، بل يكفي قبضه والتصرف فيه، وبهذا جزم في "التهذيب" واستبعده الإمام. وحكي عن شيخه والطبقة العظمى من نقلة المذهب: أنه لا بد من القبول، ثم قال: وكيف لا يكون كذلك وهذه معاملة اختصت [بمعين] وفيها استحقاق العوض والمعوض، فكيف تثبت من غير قبول، وبهذا خالف الجعالة؛ فإن إبهام العامل فيها جائز، والوكالة؛ فإنها إذن مجرد، وليس العوض فيها مستحقاً. وينعقد- أيضاً- بقول رب المال أو وارثه أو من يقوم مقامه بعد فسخ عقد القراض: تركتك أو أقررتك على ما كنت عليه على أظهر الوجهين عند الإمام، ولا ينعقد بذلك عند شيخه، وهو مفرع على منع انعقاده بالكتابة. وهل ينعقد بلا لفظ من ألفاظ العقود، مثل أن يقول رجل للآخر: طلبت من فلان ألف درهم؛ ليكون قراضاً والربح بيننا نصفيفن، فأبى؛ فدفع إليه السامع ألفاً؟ فيه طريقان في "التتمة"، والصحيح عدم الانعقاد، وقال: إن طريقة الانعقاد مخرجة على جواز بيع المعاطاة. فرع: لو شرط أن يكون للعامل ثلث الربح والثلث لرب المال والثلث لغلامه

نظر في الغلام، فإن كان مملوكاً ولم يكن قد شرط عمله مع العامل صح، ويكون للعامل الثلث ولرب المال الثلثان؛ لأن المشروط لعبده مشروط له، كما أن الموصى به للعبد موصى به لسيده فإنه لا يملك. وإن شرط أن يعمل معه فكذلك الحكم عند ابن سريج [وأبي إسحاق] وحذاق أصحابنا كما حكاه البندنيجي. وبعضهم قال بعدم الصحة، ومأخذه اشتراط العمل كما سنذكره. وإن كان الغلام أجيراً قد انتهت مدة إجارته أو كان [قد] شرط الثلث لوالد رب المال أو [لزوجته أو لأجنبي] نظر إن لم يشترط عمله [مع العامل]؛ لم يصح العقد، سواء كان الشارط العامل أو رب المال؛ لأن الربح في القراض يستحق بمال أو عمل، وهذا خارج عنهما ففسد العقد لفساد الشرط. ولا يقال: ينبغي أن يصح ويسلم للعامل ما شرطه ولرب المال الباقي. فإن العامل إنما يستحق بالشرط وقد شرط له الثلث ورضي به، والربح نماء المال وهو ملك ربه، فإذا لم يحصل لمن شرط له [عاد إلى ملكه؛ لأنا نقول: العامل إذا كان هو الشارط فرضاه بالثلث، كان حصول الثلث لمن شرط له] وقد يتعلق له بذلك غرض ولم يحصل، وإذا كان الشارط رب المال فهذا العقد لابد فيه من القبول، وقبول الشرط شرط من القابل فكأنه شرطه كذا أشار إليه الإمام. وإن شرط عمل المشروط له، قال في الحاوي: لا يصح إلا أن يتصادقا على أن ما سمى [له] لرب المال ويكون ذكر ذلك على سبيل الاستعارة. وقال البندنيجي: [يصح] قولاً واحداً، وكأنه قارض شخصين بالثلثين، وقراض الواحد لشخصين لا شك عند الأصحاب في جوازه، وكلام القاضي أبي الطيب يقتضي أن كلاً منهما مقارض على النصف، فإنه قال: إذا قارض رجل رجلين بألف صح، ويكون في حكم العقدين فكأنه قارض كل واحد منهما على الانفراد بخمسمائة، ثم قال: فإن قيل: فالمضاربان قد اشتركا في العمل وهذا تجويز شركة الأبدان.

فالجواب: أن كلا منهما عامل لرب المال، وليس في ذلك أكثر من أن المال مشاع، وذلك لا يوجب شركة الأبدان، كما لو كان العامل يتصرف في مال القراض وماله فإنه يصح، ولا يكون شركة، ويعمل في المال بحق الملك وبحق القراض، فكذلك هنا يكون كل واحد منهما يتصرف في نصف المال لحق القراض. وقال ابن الصباغ: أوضح من هذا الفرق عندي أن يقال: كل واحد منهما يعمل على نصف المال [والربح] واشتراكهما في العمل لا اعتبار به؛ لاشتراكهما في المال: ألا ترى [أن] في شركة العنان يعملان في المال، والربح بينهما على قدر المالين ولا اعتبار [باشتراكهما] في العمل وإن كان له ثلثان في الربح وكذلك هاهنا. وهذا [منه] يدل على أنه مقارض في النصف ويعمل في الكل. وكلام الإمام في هذه المسألة مختلف، وآخره يدل على خلاف ما دل عليه كلام ابن الصباغ: فإنه قال في أوائل الباب ما نذكره بالمعنى لا باللفظ وأطلق الأصحاب جواز مقارضة الرجل الواحد رجلين، والذي دل عليه ظاهر كلامهم فساد ذلك إن شرط ألا يستقل واحد منهما بالتصرف دون صاحبه؛ لما في ذلك من التضييق في التصرف. وإن أثبت لكل منهما استقلالاً بالتصرف، فهذا هو الذي جوزه الأصحاب. ثم أبدى في أواخر الباب في هذه الحالة إشكالاً، وهو أن أحدهما لا يثق بتصرف نفسه؛ لاحتمال سبق الآخر [بالتصرف. وقد يتفرع عليه أن أحدهما إذا عمل ولم يعمل الآخر] شيئاً فيستحيل أن يستحق من لم يعمل شيئاً، ويجب أن يكون المشروط للعامل وهو مشكل؛ لأنه لم يشترط له الربح وحده، ثم يلزم منه إذا قيل بذلك أن يختلف الربح بمقدار العملين وهذا أمر لا ينضبط. ثم قال: ونحن نقول-[من] بعد- مقارضة رجلين على أن يستقل كل واحد منهما بالتصرف في جميع المال فاسد لا شك فيه؛ لما أشرنا إليه فلتخرج

هذه الصورة عن إرادة الأصحاب للحكم بالصحة، وأما إذا قارض رجلين على ألا ينفرد واحد منهما بالتصرف فهذا يتضمن حجراً على كل واحد منهما، فقد قدمنا أن المالك لو شرط على العامل أن لا يمضي أمراً حتى يراجع رجلاً عينه أو رب المال؛ فالقراض فاسد، لكن يعارض هذا الحجر في مسألتنا التعاون والتناصر، وهذا يزيد أثره على ما ينحسم بالحجر. وينفصل رجوع [أحد] العاملين إلى الثاني عما ذكرناه من الفساد باشتراط مراجعة ثالث أو رب المال بأن الثالث لا حظَّ له في الربح فقد يتبرم بالمراجعة وذلك يجر عسراً في التصرف بخلاف العاملين، وبأن التصرف إذا توقف على مراجعة المالك كان في حكم الهابط بالكلية، وما يسقط استقلال العامل [فإنه] ينافي وضع القراض. ويتجه: أن يحمل ما قاله الأصحاب على كون كل واحد من [المقارضين مقارضاً] في قسط من المال، وقد ذكرنا أن الشيوع غير ضائر، وكلام الأصحاب في التفريع يشير إلى ذلك فإن مما ذكروه أنه لو قارض رجلين وجعل نصيب أحدهما من الربح أقل جاز، وهذا إنما يفرض إذا كان كل منهما مقارضاً في قسط منفرداً فيه بمعاملة المالك، ولو قدرنا صحة مقارضة رجلين على التناصر؛ فهما كالعامل الواحد في جميع المال، [فليس لرب المال] الاحتكام بتفضيل أحدهما على الثاني، فخرج من مجموع ما ذكرناه ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقارضهما على أن يتصرف كل منهما في جميع المال، وهذا باطل لا شك فيه. والثاني: أن يتعاونا على العمل في الجميع؛ فهذا محتمل والأظهر البطلان؛ لما ذكرناه آخراً. والثالث: أن يجعل كلا منهما عاملاً في شطر المال، وهذا جائز لا يرده راد وقد قال الشافعي: تعدد المقارض يتضمن تعدد القراض. ولا محمل لكلامه

إلا ما ذكرناه آخراً، [وقد] قال بعد ذلك بورقتين: فرع: ذكر العراقيون مسألة عن ابن سريج وهي أنه لو قارض رجل رجلين على مال وحصل في يدهما ثلاثة آلاف درهم، فقال رب المال: الربح ألف ورأس المال ألفان وصدقه أحد العاملين وقال الآخر: [بل] الربح ألفان ورأس المال ألف فإنه يأخذ من الربح خمسمائة بعد حلفه ويقسم الخمسمائة الباقية من الربح بزعم رب المال والآخر بينهما أثلاثاً؛ لرب المال ثلثاها وللمصدق ثلثها، وهو جواب حسن. وفي تفريعه ما يدل على [أن] مقارضة الرجل [الواحد] لرجلين على صفة التناصر والتعاون جائزة وفيه ما تقدم من الإشكال، وليس عندي نقل صريح في إفسادها والذي قدمته من التقسيم والتفصيل احتمال أبديته وليس عندي أيضاً نقل في فساد القراض عند استقلال كل منهما بالعمل من غير مراجعة الثاني، وإنما قلته عن احتمال، والذي أشار إليه الغزالي في "الوسيط" صحة القراض في حالة التعاون، والله أعلم. فرع: إذا قارض اثنان رجلاً على مال صح إذا بينا نصيب العامل من الربح وكون الباقي يكون بينهما على نسبة مالهما، ولا فرق بين أن يتساويا فيما يشترطانه للعامل كالنصف مثلاً أو يتفاضلا، مثل أن يشترط له أحدهما نصف ربح ماله، والنصف الآخر [له]، ويشترط له الآخر ثلث ربح ما له، والباقي له. ولو كان مالهما ألفاً على السواء فشرط له أحدهما الثلث والآخر النصف، وشرطا أن يقسم الفاضل عن نصيب العامل من الربح بينهما؛ فسد؛ لما فيه من شرط ربح لمن ليس بمالك ولا عامل وهو الشارط للنصف. قال: ولا يجوز إلا على التجارة في جنس يعم وجوده، أي: كالثياب والطعام والحيوان، ونحو ذلك. أما اعتبار التجارة؛ فلأن القراض شرع رخصة لحاجة من معه مال إلى تحصيل الأرباح فيه بالتجارة، وهو لا يحسنها مع كونه لا يمكنه تحصيل المقصود منها [إلا] بالاستئجار على أعمالها؛ لكونها غير مضبوطة فاغتفر فيه الجهالة بالعوضين كذلك كما اغتفرت في أعمال المساقاة. وغير التجارة من الأعمال كما إذا قارضه على أن يشتري الحنطة ويطحنها

ويخبزها ويبيعها ويكون الربح بينهما، أو الغزل لينسجه أو الثياب ليقصرها أو يصبغها يمكن تحصيل المقصود منها بالاستئجار؛ فلا ضرورة ولا حاجة إلى ارتكاب جهالة يستغنى عنها. ومن هذا القسم ما إذا قارضه على أن يشتري مركباً يعمل عليها، أو شبكة ليصطاد بها، أو أشجاراً لأجل ما يحصل منها من ثمار، أو حيواناً لأجل دره ونسله، وإذا اتفق ذلك كان ملك ما اشتراه لرب المال، وللعامل الأجرة الحاصلة من العمل على المركب وما حصل من صيد له، وعليه أجرة المركب والشبكة. وأما اعتبار عموم الوجود فيما يحصل فيه التجارة فلأن المقصود بالقراض تحصيل الأرباح وذلك إنما يكون غالباً فيما يعم وجوده فاختص به. قال: فإن علقه على ما لا يعم أي: كما إذا قارضه على أن يشتري العود الرطب في موضع لا يكثر فيه، أو الياقوت الأحمر أو الخيل البلق أو الغلمان الحسان الوجوه أو الصيد في موضع لا يكثر فيه. قال: أو على ألا يشتري إلا من رجل بعينه لم يصح؛ لأن في ذلك إخلالاً بمقصود العقد، وقد لا يكون عند من عينه ما يتوهم العامل حصول الربح فيه، أو لا يبيع إلا بثمن غال، ولا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك الرجل بيعاً يجلب إليه الأمتعة ولا ينقطع عنه في الغالب، أو لا. وحكى القاضي أبو الطيب [عن] الماسرجسي أنه جوز فيما إذا كان الرجل بيعاً، وكما يمتنع القراض إذا شرط عليه البيع من رجل بعينه، أو شرط عليه الشراء] والبيع من حانوت بعينه، بخلاف ما لو شرط عليه أن لا يشتري ولا يبيع إلا في سوق بعينه فإنه يصح؛ فإن السوق المعينة كالنوع العام والحانوت المعين كالعرض المعين، قاله الماوردي. فرع: لو اشترى العامل في القراض على الحنطة حنطة وطحنها من غير شرط؛ كان متعدياً وعليه ضمان ما نقص بسبب الطحن، وهل ينفسخ عقد القراض بذلك؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين. أحدهما: لا؛ لأن الربح حصل على تلك العين التي اشتراها للقراض، فصار كما لو سافر بغير إذن وتصرف يستحق الربح [كذا هنا مثله] وهذا ما أبداه

الإمام احتمالاً مقيساً على ما إذا اشترى عبداً صغيراً فكبر وباعه، فإنا لا نعرف خلافاً في أن ربحه مقسوم بينهما وإن كان ما يفرض من فائدة فهي حاصلة من التغيير الذي لحق الرقيق. والثاني: أن القراض ارتفع؛ لأنه أمره بالتصرف في الحنطة وهو يريد التصرف في الدقيق وليس له ذلك، ولو باع الدقيق أو الخبز؛ لم ينعقد البيع، ولكن الربح الذي حصل من الحنطة لهما، وهذا ما نسبه الإمام إلى القاضي وطوائف من المحققين وأنهم بنوا عليه ما إذا أمر رب المال العامل، فطحن الحنطة، أنه يصير بذلك فاسخاً لعقد القراض. وجعل الرافعي الأول أظهر، وهو الذي جزم به في "التتمة"، وكذا في "التهذيب"، لكن سوى في ذلك بين ألا يكون رب المال قد أذن له في شراء الحنطة كما ذكرنا وطحنها وبين أن يكون قد أذن له في التصرف مطلقاً، فاشترى الحنطة وطحنها. وعلة القاضي في الوجه الثاني ترشد إلى أنه إذا أذن له في التصرف مطلقاً أن القراض لا ينفسخ؛ لكن الإمام حكى عنه أنه علله بأن الربح يحال على التغير الحاصل بفعله وغير التجارة لا يقابل بالربح المجهول، وهذه العلة تقتضي [تعميم] جريان الخلاف. تنبيهان: أحدهما: المراد بعموم الوجود حالة العقد في الموضع المعين للتجارة، ولا يعتبر عموم وجوده في سائر الأزمان والأمكنة حتى يصح القراض على الثمار الرطبة إذا كانت موجودة، وإن كانت مفقدة لدى العقد فلا يصح، فإذا صح فهل ينقطع بانقضاء زمنها أو يبقى القراض مستمراً حتى إذا جاء أوانه تصرف فيه؟ فيه وجهان كذا صرح به الماوردي. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه [إذا قال] قبل إدراك البطيخ: قارضتك على أن تتصرف في البطيخ إذا أدرك؛ ففي صحة القراض وجهان، وهذا تفريع على صحة القراض عليه ناجزاً إذا كان موجوداً وهو الصحيح، وفيه وفي الثمار الرطبة وجه حكاه ابن الصباغ عن بعض أصحابنا: أنه لا يجوز القراض عليه أخذاً من قول الشافعي: إذا شرط أن يشتري صنفاً موجوداً في [الشتاء والصيف].

فجائز، وهو ما مال إليه القفال وجزم به في "التهذيب" أخذاً من منع تأقيت القراض، حتى لو قال: قارضتك على أن تعمل في الثمار الرطبة ثم بعدها في كذا؛ صح اتفاقاً. والذي جزم به الشيخ أبو حامد، الأول وانفصل القائلون به عن تأقيت القراض بأن المدة المعينة قد تنقضي قبل بيع ما عنده من العروض فيمتنع عليه التصرف فلذلك فسد، وهذا النوع ما دام باقياً في يد العامل لم ينته زمنه؛ فيكون القراض باقياً. الثاني: أن كلام الشيخ يدل بمنطوقه على اشتراط تعيين جنس ما يقارض عليه وهو يخرج القراض العام- وهو ما إذا قال: قارضتك على أن تتجر فيما أردت من أصناف الأمتعة وأنواع العروض- وقد صرح الماوردي وغيره بجوازه. وبمفهومه على أن تعيين النوع من الجنس لا يشترط وهو قضية ما حكاه في "المهذب" وغيره فيما إذا قارضه على أن يتجر في البز أن له أن يتجر في أصنافه من المنسوج من القطن والإبريسم والكتان، وما يلبس من الأصواف. ولا يجوز أن يتجر في البسط والفرش؛ لأنه لا يقع عليه اسم البز وهل يجوز أن يتجر في الأكسية البركانية والثياب المخيطة كما هو في الثياب؟ فيه وجهان وقد قال الرافعي: إن الخلاف في اشتراط [تعيين] نوع يتصرف فيه مثل الخلاف المذكورة في الوكالة. [ومقتضى هذا أن يكون التعيين شرطاً هاهنا عند الشيخ كما صح كونه شرطاً في الوكالة]. والظاهر وهو الذي أورده الإمام أنه لا يشترط؛ لأن الوكالة نيابة محضة، والحاجة تمس إليها في الأشغال الخاصة، والقراض معاملة يتعلق بها غرض كل من المتعاقدين، فمهما كان العامل أبسط يداً كان أفضى لمقصودها. قال: [ولا يصح إلا أن يعقد في الحال، فإن علقه على شرط لم يصح]؛ لأنه عقد يلزمه العوض، فلم يصح تعليقه على شرط كالإجارة، ولأنه عقد يبطل بالجهالة في رأس المال وإبهام العوض وهو الربح؛ فلم يجز تعليقه على

شرط؛ [كالسلم. وكما لا يصح تعليقه على شرط لا يصح تعليق] التصرف على شرط. وفيه وجه: أنه يصح كالوكالة، وهو قريب من الوجه الذي تقدم في صحة القراض على البطيخ في غير أوانه. قال: وإن عقده إلى شهر على ألا يبيع بعده؛ لم يصح؛ لأن وضع القراض أن يعلم كل منهما ما له من الربح عند المفاضلة، وذلك لا يمكن إلا بنضوض الثمن، والثمن لا ينض إلا بالبيع، وقد لا يتسع الوقت له قبل انقضاء الشهر، وهو بعده ممتنع فكان مخالفاً لمقتضى العقد فأبطله. قال: وإن عقده إلى شهر على ألا يشتري بعده أي وجعل له البيع؛ صح؛ لأنه لو عقد مطلقاً ملك رب المال منعه من الشراء أي وقت شاء؛ فلم يكن فيما شرطه منافاة لمقتضى العقد، وهذا ما جزم به الماوردي وأبو الطيب وابن الصباغ. وفي "المهذب" وغيره حكاية وجه: أنه لا يصح، ونسبه الروياني في "البحر" والمحاملي في "المجموع" إلى حكاية أبي الطيب الساوي فيما علقه من الزيادات على الشرح عن أبي إسحاق، والإمام إلى رواية العراقيين عن أبي الطيب بن سلمة، وقال الرافعي: إنه لا يكاد يوجد في كتبهم، وكأنه اشتبه عليه أبو الطيب بأبي الطيب. وقال ابن يونس: إن هذا الوجه ظاهر المذهب، ووجهه القاضي الحسين بأنه شرط ارتفاع العقد الذي قضيته [على] الإطلاق لوجود معنى مفسد، كما إذا

شرط أن تبين منه إذا أصابها في النكاح، وعلى الأول يتفرع مسألتان: الأولى: لو قال: خذ هذا المال ما أقام العسكر اقتراضاً أو إلى قدوم الحاج، وأراد فسخه بعد ذلك دون منع البيع، فيه وجهان في الحاوي؛ وجه الفساد: جهالة المدة. الثانية: لو قال: قارضتك شهراً، مقتصراً على هذا، فالأصح فساد القراض؛ لأن قضية انتهاء القراض امتناع التصرف بالكلية. وفيه وجه أنه يصح؛ لأنه عقد جائز يصح مطلقاً، فصح مؤقتاً، كالعارية، ويحمل هذا المنع على منع الشراء دون البيع. فرعان: لو قارضه على أن يشتري الحنطة، ويبيع في الحال، ويكون [الربح] بينهما نصفين- لم يجز. قال القاضي الحسين: لأن القراض عقد يطلب نماؤه بحذاقة التصرف منه على الإطلاق، [وهو لم] يطلق التصرف، بل حصر ذلك بالفعل، فهو كما لو حصره بالزمان. ولو قارضه على ألف على أن يتصرف في الحنطة ويمسكها زماناً حتى إذا غلا السعر [حينئذ] يبيع، ويكون الربح بينهما: لم يجز ولم ينعقد القراض؛ قاله القاضي أيضاً. قال: وإن شرط [أن] يعمل معه رب المال لم يصح؛ لأن وضع القراض على أن يكون من رب المال، ومن العامل العمل، فالجمع بينهما على رب المال ينافي مقتضاه؛ لأن بعض الربح يكون له بعمله وماله، وهذا هو الصحيح. وفي "الرقم × لأبي الحسن العبادي أن أبا يحيى البلخي جوز ذلك على طريق التبعية والمعاونة، وسنذكر ما يدفع هذا. وكما لا يصح شرط عمل رب المال، لا يصح شرط مراجعته أو مراجعة

شخص بعينه ليس بعامل القراض؛ لما في ذلك من التضييق في التصرف. وكذا لا يجوز [شرط] جعل المال في يد مالكه، أو في يد وكيله مع استقلال العامل بالرأي والتصرف. وفي هذه الحالة وجه حكاه الماوردي: أنه يصح، وأجراه فيما إذا شرط أن يكون مع العامل مشرف يطلع على ما يفعله ولا يتوقف تصرف العامل على مراجعته. قال: وإن شرط [أن يعمل معه] غلام لرب المال [أي] وهو معروف بشخصه أو صفته، صح على ظاهر المذهب؛ لأن غلامه [مال له] فجاز أن يجعل [غلامه] تابعاً لماله؛ ولأن القراض عقد على أصل يشترك رب المال والعامل على فائدته؛ فوجب ألا يفسد بشرط عمل العبد فيه كالمساقاة. وقيل: لا يصح؛ لأن عمل العبد كعمل سيده، وفي "البحر" أن هذا هو الظاهر من كلام الشافعي في "الأم" وأن القاضي أبا حامد قال: إنه الصحيح وكذا الطبري وقال في "المهذب" في باب المساقاة: إنه المنصوص. والجمهور وحذاق الأصحاب على [صحة] الأول، وفرقوا بينه وبين السيد بأن العبد يصح استئجاره واستعارته [ويصلح أن] يكون في يد المستعير ومنفعته حاصلة [له]، فيصلح أن يكون تابعاً للعامل بخلاف رب المال؛ فإنه لا وجه لجعله تبعاً في التصرف في مال لغيره. ومحل الخلاف إذا لم يشترط مراجعة الغلام في التصرف فإن شرط ذلك فسد العقد، وكذا لو شرط أن يكون المال في يده ويجيء فيه الوجه السابق. ولو دفع رب المال للعامل جملا يحمل عليه أنواع التجارة، أو كيساً يحمل فيه مال المضاربة- جاز على ظاهر المذهب، وبعضهم جوزه مطلقاً. قال: وعلى العامل أن يتولى بنفسه ما جرت العادة أن يتولاه؛ أي كتقليب السلع ونشرها على من يرغب في شرائها، وإدراجها في السقط، والبيع والشراء وذرع الثياب وقبض الأثمان ونقدها، ووزن ما خف: كالذهب، والفضة،

والعنبر، والمسك، ونحوها، وحفظ المتاع على باب الحانوت وإشرافه في السفر- إذا أذن له فيه- على جميع المتاع، وتحميل الأعدال والرقاد على بعضها وكل ما جرت عادة المالك بفعله في ماله مما يحفظ به؛ لأن إطلاق العقود يحمل على ما ألف وعرف فيها، وهذا هو العرف. ولو استأجر العامل من يتولى فعل ذلك أو بعضه جاز، كما صرح به الإمام، وكذا لو وكل أو استناب في ذلك كما قاله الإمام في أواخر كتاب الوصية. وكلام الشيخ قد يأباه [حيث قال] بنفسه. قال الإمام: لكن الأجرة في مال العامل؛ لأنه عمل عنه، بخلاف ما لو استأجر من ينقل الأعدال أو يحملها أو ينادي على السلع أو يحملها من الخان إلى الحانوت، فإن الأجرة تصرف من مال القراض؛ كما تصرف أجرة الحمال والخان وأجرة الحارس، وكذا ما صار معهوداً من الضرائب التي لا يقدر على منعها كما حكاه في "الحاوي"، ويخالف ما إذا عمل العامل بنفسه ما جرت العادة بالاستئجار عليه؛ فإنه لا يستحق [عليه أجرة]. فرع: لو غصب شيء من أموال القراض هل للعامل المخاصمة عليه؟ فيه وجهان: اختيار ابن سريج منهما: نعم، واختيار الأكثرين من أصحابنا: لا. قال الماوردي: وكلام ابن سريج أشبه بالصواب، وهو ما يقتضيه إيراد الإمام فإنه جزم بأن له مطالبة من أتلف من مال القراض شيئاً، وسنذكر من بعد عن رواية الرافعي تفصيلاً فيه. قال: [وأن يتصرف على وجه الاحتياط فلا يبيع بدون ثمن المثل ولا بثمن مؤجل]؛ لأنه يتصرف في مال الغير بإذنه فلا يتصرف إلا على وجه النظر والاحتياط كالوكيل، فلو باع بأقل من ثمن المثل أو بمؤجل كان حكمه كالوكيل إذا باع به وقد ذكرناه. قال: إلا أن يأذن له في ذلك كله؛ لأن المنع لحقه فزال بإذنه، ومحل ذلك: إذا لم ينهه المالك- مع إذنه له في البيع بالنساء- عن البيع بالثمن الحال كما

حكاه الماوردي، أما إذا نهاه عن البيع بالحال فالقراض باطل. وكما لا يملك البيع بالثمن المؤجل لا يملك الشراء به؛ لأنه قد [يهلك مال] القراض قبل حلوله، ويجب عليه إذا باع [بالثمن المؤجل] أن يشهد حتى إذا لم يفعل [ذلك] ضمن، كما قيل ذلك في حق الوكيل بخلاف ما إذا باع في الحال فإن العرف لم يجر به مع أنه مأمور بعدم تسليم العين قبل قبض الثمن حتى لو سلم العين قبل [قبض ثمنها] كان ضامناً، وما يضمنه مذكور في الوكالة. ولا يجوز للعامل أن يشتري بأكثر من رأس المال، ولا بغير جنسه حتى لو كان رأس المال ذهباً لا يجوز أن يشتري بالنقرة، بل يشتري بالذهب نقرة [ثم يشتري] بها. صرح به في الحاوي. ولو اشترى شيئاً بعين رأس المال، أو بقدره في الذمة ثم اشترى شيئاً آخر لم يقع لمال القراض؛ لأنه إذا اشترى الأول بالعين فقد ملكه البائع، وإذا اشتراه في الذمة فقد استحق صرف رأس المال إليه. وفي هذه الحالة يقع [الشراء] للعامل إن لم يصرح بالسفارة، وإن صرح فوجهان تقدم نظائرهما. تنبيه: سكوت الشيخ عن منع العامل من البيع بغير نقد البلد [وإن كان صرح به في الوكيل يعرفك أن العامل لا يمنع من البيع بغير نقد البلد] ولا بالعرض وهو ما صرح به الرافعي والمتولي وصاحب "المرشد" فيما إذا باع بالعرضز وفي "الشامل" وتعليق البندنيجي، و"البحر": الجزم بمنعه من البيع بغير نقد البلد كما في الوكيل. قال: فإن اشترى معيباً رأى شراءه [أي]: مربحاً؛ جاز؛ لأن القصد تحصيل الربح وقد ظنه.

وفي "التتمة" و"التهذيب" حكاية وجه: أنه إذا اشتراه بقيمته لم يصح؛ لأن الرغبات في المعيب تقل. قال: [وإن اشترى شيئاً على أنه سليم، فخرج معيباً، ثبت له الخيار]؛ لأنه فوض النظر [إليه] وهذا منه، ولا ينفذ فسخ العامل إذا كان في الإمساك حظ ومصلحة، [وينفذ إذا لم يكن فيه حظ]، سواء كان الحظ في الرد أو استوى الأمران؛ لقدرته على البيع بثمن المثل، كما صرح به الإمام، وحكى وجهاً: أنه ينفذ وإن كان الحظ في الإمساك كما ينفذ رد الوكيل في هذه الحالة على الأصح، [وقال: إنه متجه]؛ فإن حط رتبته عن الوكيل لا وجه له، وقد مال جواب القاضي إليه. قال الرافعي: وحيث يثبت الرد للعامل، فهو للمالك أولى، لكنه يرد على البائع إن وقع العقد على العين، وإن ورد على الذمة فله صرفه عن مال القراض، [وفي انصرافه للعامل ما] سبق وفي انصراف العقد للوكيل إذا لم يقع للموكل. قال: وإن اختلف هو ورب المال في الرد بالعيب، عمل ما فيه المصلحة؛ لأنه العدل، وفيه وجه: أن المالك إذا أجاز العقد لزم كما لو رضي الموكل بالعيب. قال في "البحر" في كتاب الوكالة: "وهو غلط". قال: وإن اشترى من يعتق على رب المال أو زوج رب المال بغير إذنه؛ أي: بعين مال القراض، لم يصح. أما في الأولى: وهي ما إذا اشترى أحد الوالدين وإن علوا، أو المولودين وإن سفلوا؛ فلأن القصد بهذا العقد ابتياع مربح ولم يوجد. وأما في الثانية: وهي ما [إذا] اشترى زوج رب المال؛ فلأن في ذلك إضراراً به بسبب انفساخ نكاحه، فلم يكن إذنه المطلق متضمناً له كما في شراء القريب والمراد بالزوج في أكثر الكتب: الرجل، ويجوز أن يكون ذلك مراد الشيخ، ويجوز أن يكون مراده الرجل [أو المرأة] كما صرح به الإمام. ويعضده أن لفظ الزوج يصدق لغة على كل واحد منهما كما ذكرناه في باب

الغصب، وقد قال تعالى: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90]. وهكذا الحكم في ابتياع أم ولد رب المال إذا بيعت في الرهن كما صرح به في "المرشد". ويجيء في صحة الشراء في الصورتين القول القديم في وقف العقود كما حكاه القاضي الحسين. وفي "المهذب" وغيره حكاية وجه في شراء الزوج أنه يصح للقراض؛ لأنه قد يكون مربحاً، وحكاه الماوردي قولاً. والقول بعدم الصحة هو المنصوص في "الإملاء". أما إذا وقع الشراء في الذمة وقع للعامل على الجديد إن لم يصرح بالسفارة، وإن صرح فوجهان. وإذا وقع الشراء بالإذن صح في الصورتين وانفسخ النكاح، وأما العتق فإن لم يكن في المال ربح، ولم يكن في ثمن القريب فضلة لو كان على رقه فيحصل في جملة القريب ويرتفع القراض إن كان الشراء بجميع المال، لكن هل يكون عقد ابتياعه داخلاً في عقد [القراض]؟ فيه وجهان في "الحاوي". أصحهما: عند الماوردي والشاشي في "الحلية": لا، فعلى هذا للعامل أجرة مثله على الابتياع. والثاني: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني: نعم، فعلى هذا لا شيء للعامل على المالك في هذه الصورة إذ لا ربح، وهذا ما جزم به الرافعي، والبندنيجي وابن الصباغ، والقاضي الحسين. وإن كان في المال ربح [بأن كان [مال] القراض ألفاً وكسب ألفاً، ووقع شراء القريب بكل الألفين، أو لم يكن في المال ربح] وكان في ثمن القريب فضل بأن اشتراه بألف، وقيمته ألفان، ففي "تعليق" القاضي الحسين: أنه يعتق كله إن كان رب المال موسراً، ويغرم للعامل قيمة الربع إن كان قد شرط له نصف الربح وذلك خمسمائة، وإن كان معسراً عتق عنه ثلاثة أرباعه والباقي قن للعامل سواء قلنا بملك العامل حصته بالظهور [أو بالقسمة]؛ لأن إتلاف

[المال كالقسمة]، وكذا قال الإمام وقال: إن قولنا: إنه إذا كان موسراً يعتق جميعه في الحال تفريع على تعجيل السراية. وفي "التتمة"، والرافعي: أن ذلك ينبني على أن العامل متى يملك حصته من الربح؟ فإن قلنا بالقسمة عتق جميعه وغرم المالك نصيب العامل من [الربح. وإن قلنا] بالظهور عتق منه حصة رأس المال ونصيب المالك من الربح وسرى العتق إلى الباقي إن كان موسراً وإن كان معسراً بقي رقيقاً. وفي "البحر": في صورة الشراء برأس المال والربح أنا إن قلنا: إن العامل لا يملك بالظهور [عتق جميع العبد]؛ لأنه على ملك رب المال، وإن قلنا: يملك بالظهور فإن علم العامل أنه قريب رب المال عتق جميعه عليه؛ لأنه اشتراه لأجله، وإذا اشترى الإنسان بماله لغيره أباه عتق عليه، كذلك هاهنا، وإن لم يعلم بأنه أبوه عتق منه بمقدار ملك رب المال منه، ونصيب العامل لا يعتق [إلا أن يكون] موسراً. وهذا الذي ذكره [فيما] إذا لم يكن عالماً بأن المشتري أبو رب المال؛ حكاه ابن الصباغ عن القاضي في "المجرد"، ولا يخفى أن هذا تفريع على وقوع الشراء لعقد القراض كما صار إليه أبو حامد. أما إذا قلنا بما صححه الماوردي [والشاشي] أنه لا يقع لعقد القراض وللعامل أجرة مثله، فيعتق العبد بكل حال سواء كان رب المال موسراً أو معسراً. ولو وقع شراء القريب ببعض مال القراض: حكى القاضي الحسين في "تعليقه" عن العراقيين أنهم قالوا: إن اشتراه بقدر رأس المال عتق عليه، وكأنه استرده، والباقي بينهما. وإن اشتراه بأقل من رأس المال [فيرد عليه تمام رأس المال]، والباقي بينهما. وإن اشتراه بأكثر من رأس المال؛ فما زاد يكون من حصة رب المال من الربح، فإن استوفاها، بقي الباقي للعامل، وإن بقي أكثر من نصيب العامل، سلم للعامل نصيبه وأخذ رب المال الباقي.

ثم قال: وهذا غلط؛ لأن المقبوض من المشترك أو المتلف منه يقع من الحقين؛ فلا يتعين المتلف من نصيب المتلف، وإنما حكمه حكم ما لو استرد طائفة من المال وسنذكره. والحكم فيما إذا أعتق رب المال عبداً من مال القراض كالحكم في شراء من يعتق عليه بالإذن. فرع: الوكيل بشراء عبد مطلق نصفه إذا اشترى من يعتق على موكله، هل يصح الشراء؟ فيه وجهان: أظهرهما: وهو الذي أورده المتولي والقاضي الحسين والجمهور: الصحة؛ لأن اللفظ شامل وقد رضي إن بقي له انتفع به، وإن عتق عليه ناله ثوابه، بخلاف القراض فإن قرينة طلب الريح أبطلت ذلك. فعلى هذا لو كان العبد معيباً، حكى الرافعي في كتاب الوكالة أن [الموكل بالخيار] في رده؛ لأنه لا يعتق عليه قبل الرضا بالعيب. ولو اشترى الوكيل عبداً شهد موكله بحريته أو بكونه ملك عمرو، فلم تسمع شهادته؛ ففي صحة الشراء وجهان في "تعليق" القاضي الحسين". قال: ولا يسافر بالمال من غير إذن أي سواء كان السفر بعيداً أو قريباً، وسواء كا الطريق آمناً أو مخوفاً، وسواء لحقته فيه مؤنة أم لا؛ لأن السفر ترك للنظر، روي أنه- عليه السلام- قال: "إِنَّ المُسَافِرَ وَمَالَهُ لَعَلَى قَلَتٍ .. " الحديث. وفي تعليق الشيخ أبو حامد قول عن البويطي أنه يجوز عند أمن الطريق. وفي الجيلي: أن الروياني قال في "الفتاوى": إذا كان الربح في السفر أكثر؛ والطريق آمن جاز؛ والمذهب الأول. فإذا سافر، ضمن، وهل يبقى عقد القراض أو ينفسخ؟ قال في "الحاوي": إن فعل ذلك مع بقاء عين مال القراض بيده؛ فقد بطل القراض؛ لأنه صار غاصباً. وإن فعل ذلك مع انتقال عين المال إلى العروض فلا؛ لاستقراره بالتصرف والشراء.

والذي أطلقه الإمام من أن العقد قائم، فهو محمول على ما قاله الماوردي، فإن كلامه من بعد يرشد إليه، لكن سنذكر عن الإمام في آخر الباب أن العامل إذا خلط رأس مال القراض بماله ضمن، ولا ينعزل عن التصرف مع أن ما ذكره الماوردي من كونه غاصباً موجود فيه. وعلى كل حال: إذا سافر بمال القراض ينظر: إن كان المتاع في البلد الذي سافر إليه أكثر قيمة أو تساوت القيمتان؛ صح البيع لعموم الإذن، والمنع من السفر إنما كان للخطر فيه، والبيع لا خطر فيه. وإذا صح البيع استحق الربح كما شرط. وإن كان أقل قيمة مما يتغابن [الناس] بمثله فباعه لم يصح البيع. ثم حيث يصح البيع فيكون الثمن مضموناً عليه؛ لكونه قبضه من موضع لم يتناوله الإذن. قال: فإن سافر بالإذن فقد قيل: إن نفقته في ماله؛ لأنه استحق الربح الذي [شرط بالعمل]؛ فلا يستحق شيئاً آخر لأجله كما في الحضر، ولأنه ربما يفوز بسبب ذلك بكل الربح. وهذا ما نص عليه في البويطي، وبه قطع أبو إسحاق [وابن أبي هريرة، وزاد أبو إسحاق]، فقال: ولا يعلم للشافعي في قديم ولا جديد أنه ينفق على نفسه، كذا حكاه [عنه] في "البحر"، وقال: إن أكثر أصحابنا على هذه الطريقة. قال: وقيل: على قولين أحدهما: أنها في ماله؛ لما ذكرناه وهو الأصح. والثاني: أنها في مال المضاربة وهو نصه في "المختصر" وبه قطع بعضهم؛ لأنه حبسه عن التكسب بالسفر؛ لأجل القراض، فأشبه المرأة تحبس عن التكسب بسبب الزوج. وبهذا خالف الحضر؛ فإنه غير ممنوع من التكسب فيه. وهذه الطريقة صار إليها أبو الطيب بن سلمة وابن الوكيل، واختارها الشيخ أبو حامد وجماعة؛ كما قال في "البحر"، وهي أظهر عند الرافعي. والقائلون بالأول حملوا نصه في "المختصر" على النفقة بسبب حمل الأمتعة.

قال: وأي قدر يكون في مال المضاربة؟ قيل: الزائد على نفقة الحضر؛ [أي:] كالركوب، وزيادة مأكول وملبوس وزيادة سعر في الماء والطعام؛ كما حكاه البندنيجي، وثمن الخف والإداووة والسطيحة والسفرة والمحارة، ونحو ذلك كما حكاه الرافعي. ووجهه: أن ذلك هو الملتزم لأجل السفر، وهذا هو الأصح في الرافعي وغيره. وقيل الجميع أي ذلك، والطعام، والإدام، والكسوة وأجرة المنزل، كما صرح به البندنيجي والرافعي وغيرهما، تشبيهاً بما إذا سلمت الزوجة نفسها. ولأن سفره لأجل المال؛ فأشبه أجرة الجمال. وهذا ما يقتضي كلام الماوردي أنه المذهب؛ لأنه صدر به كلامه، ثم قال: وقد حكى ابن أبي هريرة عن بعض متقدميهم أنه لا يستحق إلا ما زاد على نفقة الحضر، وهو أشبه بالقياس؛ هذا هو المشهور في الطرق. وقد قال المزني في "الجامع الكبير": والذي أحفظه له أنه: لا يجوز القراض إلا على نفقة مقدرة في كل يوم، وثمن ما يشتريه لنفسه في عمله. وحكى البندنيجي وغيره عن الشيخ أبي حامد [أنه] قال: هذا لا يلتفت إليه ولعله خلاف الإجماع. وليعلم أن النفقة محسوبة من الربح إن كان، وإلا فهي خسارة لحقت رأس المال، وأن على العامل ألا يسرف في الإنفاق، بل يأخذ بالمعروف، كما هو في "المختصر"، ولا تجب فيها أجرة حمام ولا حجام، ولا ثمن دواء ولا شهوة.

وفي "الحاوي" حكاية وجه أنها تكون مقدرة؛ كنفقة الزوجات؛ لأنها معاوضة وتقديرها لرفع الجهالة وأن الصائر إليه أخذه من رواية المزني في "الجامع الكبير". وعلى الأول لو وقع اختلاف فيقدر ما أنفقه العامل، فالقول قوله مع يمينه إذا كان محتملاً. وفيه وجه حكاه الماوردي: أن القول قول رب المال مع يمينه أخذاً من الوجهين في ادعاء العامل رد المال على ربه، وأن العامل مهما أقام في طريقه فوق مدة المسافرين في بلد لم يأخذ لتلك المدة نفقة كما جزم به الرافعي والمتولي، وهو في "الحاوي" مقيد بما إذا كان ذلك لعارض مرض أو شيء يختص به. أما إذا أقام فوق مدة المسافرين لأجل مال القراض انتظاراً لبيعه وقبض ثمنه أو التماساً لحمله أو لسبب يتعلق به فنفقته فيه كنفقته في سفره لاختصاصه بالقراض. فروع: أحدها: إذا شرط العامل نفقة السفر في القراض، فإن قلنا: إن مطلق العقد يقتضيها؛ كان ذلك تأكيداً لها. وإن قلنا: لا يقتضيها، فسد على أظهر الوجهين؛ كما لو شرط ذلك في الحضر. ووجه الصحة: أنه من مصالح العقد. وعلى هذا هل يشترط [فيه] تقديرها؟ فيه وجهان. [الثاني:] إذا حمل [مع] مال القراض مالاً لنفسه واتجر فيه، وأوجبنا النفقة لأجل السفر، وزعت على قدر المالين. وقال الإمام: يجوز أن ينظر إلى مقدار العمل في المالين ويوزع على أجرة مثلهما. وفي أمالي أبي الفرج السرخسي: أنها إنما توزع إذا كان مقدار ماله يقصد السفر لأجله، فإن كان لا يقصد [السفر] له فهو كما لو لم يكن معه غير مال القراض. الثالث: إذا عاد من سفره ومعه فضل زاد نقصه من كفايته أو آلته في السفر من

السفرة؛ والمطهرة ونحو ذلك، فهل يعاد لمال القراض أو يستقل به العامل؟ فيه وجهان حكاهما الإمام عن الشيخ أبي محمد و [أنه] قربهما من تردد الأصحاب [في] أن جند الإسلام إذا انصرفوا من دار الحرب ومعهم فضلة من طعام وجدوه فيها، هل يعاد إلى الغنيمة، أو لا؟ وفي "البحر": أن القاضي الطبري قال: ورأيت في كتاب "التهذيب" لابن القفال في رد الكسوة وجهين، كما يقول في كسوة المعتدة على الزوج إذا انقضت العدة هل ترد؟ وفيها قولان، والأظهر في مسألتنا عند الرافعي: وجوب الرد. وقال الإمام: إنه القياس الذي لا ينقدح غيره، وما ذكر من أمر الغنائم فمعتمده أخبار دلت على توسع ولا يسوغ أن يتخذ أصلاً في أحكام المعاملات. [الرابع:] إذا لقي رب المال العامل في البلد الذي سافر إليه بعد نضوض المال فاسترده، فهل تجب له [فيه] نفقة العود؟ فيه قولان في "أمالي" حرملة، والصحيح المنع. وفي "البحر": أن ظاهر المذهب الوجوب، وهو قضية ما "في تعليق" البندنيجي؛ فإنه قال: إن الخلاف مبني على أنه: هل يستحق نفقة الذهاب أم لا؟ فإن قلنا: يستحق، استحق وإلا فلا. تنبيه: ذكر الشيخ حكم النفقة عند السفر بالإذن يعرفك جوازه وهو متفق عليه لكن إذا عين له موضعاً لا يجوز أن يسافر إلى غيره. وإن أطلق له الإذن في السفر؛ جاز أن يسافر به إلى البلدان المأمونة المسالك والأمصار التي جرت عادة أهل بلده أن يسافروا بأموالهم ومتاجرهم إليها، ولا يخرج عن العرف المعهود فيها فإن تعداه، ضمن. وإذا وجد القيمة في البلد التي سافر إليها أقل، فهل له البيع [فيها] بالأقل؟

[قال] المتولي: إن كانت مؤنة الرد أكثر من [قدر] النقصان أو أمكن صرف الثمن إلى متاع يتوقع فيه ربحاً؛ فله البيع وإلا لم يجز؛ لأنه تخسير محقق. فرع: العامل في القراض هل له أن يضارب في مال القراض؟ ينظر إن كان بإذن رب المال بشرط أن يكون الربح بين رب المال والثاني خاصة صح. ويكون صورة عقد القراض مع الأول أن تقول: قارضتك على أن تعمل في هذا المال، وإن أردت أن تقارض عليه فافعل وحينئذ؛ فلا يجوز له أن يقارض إلا أميناً كافياً في التصرف. فإن قارض غير متصف بهذه الصفة لم يصح، وكذا لو قارض متصفاً بها وشرط لنفسه جزءاً من الربح مع شرط جزء لرب المال وجزء للعامل الثاني؛ لأن الربح في القراض يستحق بمال أو عمل وقد فقدا في حق العامل الأول. فإذا عمل الثاني كان الربح لرب المال وعليه أجرة المثل الثاني. وإن أذن رب المال للعامل في أن يقارض غيره ليكون ذلك الغير شريكاً في العمل والربح المشروط على ما يراه حكى الإمام فيه وجهين. أحدهما: الجواز كما لو قارض المالك شخصين في الابتداء. وأشبههما: المنع؛ لأنا لو جوزنا ذلك لكان الثاني فرعاً للأول منصوباً من جهته، والقراض معاملة تضيق فحال القياس فيها فلا يعدل بها عن موضعها، وموضعها أن يكون أحد العاقدين مالكاً لرأس المال لا عمل من جهته، والثاني صاحب عمل لا ملك من جهته. وإن قارض العامل الأول- وقد شرط له رب المال نصف الربح مثلاً- عاملاً ثانياً بغير إذن رب المال وشرط له نصف الربح لم يصح؛ كالوكيل. ويجيء فيه قول وقف العقود. فعلى الجديد إذا فعل ذلك وسلم المال إلى الثاني ضمنا، فإن كان الثاني عالماً بالحال فهما غاصبان آثمان، وإن لم يعلم فالأول غاصب والثاني ضامن ضمان الغصوب.

فإن غرم الأول لم يرجع على الثاني، وإن غرم الثاني ففي رجوعه على الأول وجهان في الطريقين. وحكى القاضي الحسين طريقة جازمة بالرجوع. ثم إذا تصرف الثاني في رأس المال وحصل ربح، فينظر: إن وقعت عقوده على عين مال القراض [فهي باطلة] كبيع مال الغير بغير إذنه وقد تقدم حكمه في البيع، وباب الغصب. وإن وردت على الذمة وصرف مال القراض في الثمن ابتنى ذلك على أن الغاصب إذا فعل مثل ذلك. فهل الربح له أو للمغصوب منه؟ وفيه القولان السابقان في الغصب. فإن قلنا بالقديم ففيما يستحقه المالك من الربح وجهان. أحدهما: وهو ما قال الرافعي: أنه لم يره إلا في كتاب أبي الفرج السرخسي جميع الربح كما قلنا في الغصب، وللعامل الثاني عليه أجرة مثله على وجه، وعلى آخر هي على العامل الأول. [وفي "الحاوي" نسب الرجوع بكل الربح وتغريم العامل الأول] أجرة مثل الثاني: إلى ابن سريج. والثاني: وهو الذي أجاب به المزني والمعظم، وهو الصحيح أنه يستحق النصف؛ ولأنه دخل على الرضا بالنصف [فلم يستحق أكثر منه، وعلى هذا ففي النصف] الآخر أربعة أوجه: أحدها: وهو ما أجاب به المزني، وقال به أبو إسحاق المروزي كما حكاه المحاملي؛ وصاحب البحر، وأبو علي بن أبي هريرة، كما حكاه الماوردي، وهو الأصح في الرافعي: أنه يكون بين العامل الأول والثاني نصفين [لأن العامل الثاني دخل مع الأول على أن ما رزقه] الله من ربح كان بينهما والذي رزقاه

النصف، وما أخذه رب المال؛ كالمستهلك فكأنه لم يحصل. والثاني: أن الأمر كذلك ويستحق العامل الثاني على الأولن صف أجرة مثله؛ لأنه دخل في العقد على أن يأخذ نصف الربح ولم يسلم له إلا نصفه، ونصف منفعته قد ذهبت من غير عوض فاستحق عليه بدلها وهو نصف أجرة المثل ومن هذا التعليل يفهم أن هذا الوجه إنما يجري إذا كان صفة العقد كذلك كما صار إليه الجمهور، وقد أجراه بعض الأصحاب كما حكاه القاضي الحسين والإمام عن شيخه، وإن كانت الصيغة أن ما رزق الله فهو بيننا. والثالث: أن جميع النصف للعامل الثاني؛ [لأنه العامل]، أما [العامل] الأول فليس له عمل ولا ملك. والرابع: أن نصف الربح للعامل الأول؛ لأنه مشروط له من جهة المالك، وشرط الأول للثاني نصف الربح فاسد، ويستحق عليه أجرة مثله، وهذا ما حكاه الماوردي عن أبي إسحاق المروزي وقال: إنه غلط المزني فيما قاله، وهو الذي أبداه ابن الصباغ احتمالاً ورجحه. وإن قلنا بالجديد؛ فقد قال المزني: الربح كله للعامل الأول، وللعامل الثاني عليه أجرة مثله، وغلطه بعضهم وقال: على هذا القول يكون الربح كله للعامل الثاني؛ لأنه المتصرف في المال فهو بمنزلة الغاصب المتصرف ومنهم من صوبه. قال المحاملي وغيره: وهو الأصح لأن الثاني لم يشتر لنفسه بل للأول؛ فكان الربح له ويفارق الغاصب؛ لأنه اشترى لنفسه فكان الربح له، وإذا حصل الربح له وجب عليه للثاني أجرة مثله وهذا هو المشهور. وفي "البحر" أن بعض أصحابنا قال: التفاريع المذكورة عن الشافعي على [القول] الأول ليست مفرعة على القديم، بل هذا قول جديد في وقف العقود، والشافعي يجوز في الجديد الوقف لاسيما إذا كان فيه مصلحة أموال الناس وهاهنا مصلحة لأنه ربما يدفع مالاً قراضاً فيشتري العامل وينوي نفسه، ثم يوفي ذلك من مال القراض، فيكون الربح له مع طول المدة، وذلك يؤدي إلى امتناع الناس من هذه المعاملة، فقلنا في هذا الموضع: رب المال بالخيار، إن شاء أجاز تلك

العقود واستفاد أرباحها، وإن شاء لم يجزها واقتصر على أصل ماله، وكذلك ما عقده العامل بعين المال، وقد مال ابن سريج إلى هذا القول مراعاة للمصلحة. قال: وإن ظهر في المال ربح ففيه قولان أحدهما: أن العامل لا يملك حصته إلا بالقسمة: لأنه لو ملكها قبل القسمة لصار شريكاً لرب المال حتى لو هلك شيء من المال هلك من المالين وليس كذلك بل الربح وقاية لرأس المال. ولأن القراض يجري مجرى الجعالة؛ لجهالة العمل فيه، ووجوب أجرة المثل عند الفساد، وكونه غير لازم، والمال من جانب والعمل من جانب والجعالة يجب البذل فيها بفراغ العمل وتسلمه، ولم يسلم العامل هاهنا شيئاً. وهذا ما اختاره المزني والأكثرون، ومنهم المسعودي، والقاضي الحسين، والبغوي، والروياني، وجزم بصحته الرافعي في كتاب الزكاة. وعلى هذا قال: فيكون الجميع لرب المال؛ لأنه نماء ملكه، وزكاته عليه، كما أن زكاة رأس المال عليه وهذا ما قطع به الأئمة. وقال الإمام: قطعهم بذلك في رأس المال وما يخص المالك من الربح ظاهر، وأما قطعهم بوجوب زكاة حصة العامل من الربح، فالاحتمال فيه لائح؛ فإنه [وإن لم] يملكه العامل، فملك المالك له ضعيف؛ لتأكد حق العامل فيه، فإن رب المال لو أراد إبطال حق العامل من حصته، لم يجد إليه سبيلاً وقد ذكرنا خلاف في زكاة المجحود والمغصوب والمتعذر. ولا خفاء في أن حول الربح إن كان المال عرضاً عند آخر حول الأصل؛ [كحول الأصل] وإن كان المال ناضاً، ففيه من الخلاف ما ذكرناه في باب زكاة التجارة. قال: وله أن يخرجها من المال: لأنه ملكه لكن من أي شيء تحسب؟ الذي حكاه العراقيون كما صرح به المحاملي والماوردي وابن الصباغ وغيرهم: ثلاثة أوجه. أحدها: من رأس المال لأنها وجبت في أصل المال، والربح تبع. وهذا أظهر عند القاضي والروياني، فعلى هذا بطل من القراض قدر الزكاة المخرجة منه. والثاني: من الربح خاصة؛ كالمؤن وأرش جناية العبد المشترى للمضاربة،

وهذا هو الأظهر عند الأكثرين، ويحكى عن نصه في "الأم" فعلى هذا لا ينفسخ القراض في شيء من المال. والثالث: أن زكاة الأصل من الأصل؛ و [زكاة] الربح من الربح؛ لأنها وجبت فيهما فلم يختص إخراجها بأحدهما. وهذا ما قال ابن الصباغ إنه الأقيس، وعلى هذا فينفسخ من القراض قدر زكاة راس المال وحكى المراوزة مع الوجه الثاني وجهاً آخر وهو أن ذلك يكون استرداد طائفة من المال فيكون قدر المخرج من رأس المال [والربح جميعاً على قضية التقسيط. مثاله: رأس المال] مائة والربح خمسون يكون ثلثا المخرج من رأس المال، وثلثه من الربح، والجميع محسوب على رب المال وينفسخ القراض [على هذا] في قدر المخرج عن المائة. والفرق بين هذا الوجه، والوجه الثالث الذي ذكرناه عن العراقيين أن المخرج [عن الربح] لا يحسب على رب المال من ربحه، وقد بنى في "التهذيب" الوجه الأول على قولنا: إن الزكاة تتعلق [بالعين، والوجه الثاني على قولنا: إن الزكاة تتعلق] بالذمة. وحكى الإمام عن بعضهم القطع بكونها من الربح إذا فرعنا [على] أن الزكاة تتعلق به، وبإجراء الوجهين إذا قلنا: إنها تتعلق بالذمة، ثم قال: وهذا الترتيب ليس بالمرضي ولا يمتنع تخريج الخلاف على قول زكاة العين أيضاً من جهة تعلق الزكاة بالجميع. قال: والثاني أن العامل يملك حصته منه بالظهور كرب المال؛ ولأنه عقد على عين ببعض نمائها؛ فوجب أن يملك المستحق من النماء بالظهور كالمساقاة؛ وهذا ما صححه أبو حامد وأتباعه، [وكذا القاضي أبو الطيب] وطائفة وعلى هذا قال: ويجري في حوله؛ لأنها ملكه، ومعنى ذلك أنه يعقد لما يخصه من الربح حولاً ابتداؤه من حين الظهور، وهو ظاهر نصه في "الأم"

و"المختصر" وهو الأصح؛ لأن ملكه ثبت عليه حينئذ، ووراءه ثلاثة أوجه: أحدها: حكاه الماوردي وغيره أن ابتداء حولها من حين المحاسبة والمفاصلة؛ لأنه من حينئذ يعلم حال الربح. والثاني: من حين تقوم المال على ربه لأخذ الزكاة. والثالث: أن ابتداءه ابتداء حول رأس المال. قال: إلا أنه لا يخرج الزكاة منه قبل المقاسمة؛ لأن الربح وقاية لرأس المال، فحق رب المال متعلق به؛ فلم يجز له التصرف فيه من غير إذنه كما لا يملك سائر التصرفات كذلك. ويجب على العامل أن يخرجها من غيره قبل قبض المال على وجه، لتمكنه من الاقتسام، والأصح أنه لا تلزمه قبل القسمة؛ لأنه متردد بين أن يحصل وبين ألا يحصل، فكان كمن له دين على مليء جاحد تلزمه الزكاة ولكن لا يلزمه الإخراج حتى يقبضه، وله أن يخرجها من غير مال القراض في الحال. وما ذكره الشيخ هو ما جزم به المراوزة وحكوا عن العراقيين وجهاً: أنه لا يجوز له إخراجها من المال، وذكر الروياني أنه المنصوص، والرافعي أنه الأظهر. ووجه ابن الصباغ بأنهما لما عقدا عقد المضاربة دخلا فيه على وجوب الزكاة عليهما؛ فلم يكن لأحدهما منع الآخر من إخراجها. وقال الماوردي: إن هذا الوجه مبني على أن الزكاة تتعلق بالعين، وهو قريب مما ذكره الإمام فإنه قال: ويمكن تخريج الخلاف على ما ذكرنا من أن الزكاة مؤنة أو استرداد طائفة. فإن قلنا: إنه مؤنة [فلا يمتنع] أن يخرجها من عين المال. وإن قلنا بالثاني؛ فيمتنع عليه إخراج الزكاة دون الإذن كما يمتنع عليه التصرف في نصيب نفسه قبل القسمة. قال الرافعي: ولك أن تقول: إنما يحسن أخذ الوجهين من هذا المأخذ إذا ثبت الخلاف في كون الزكاة مؤنة أو استرداد طائفة على الإطلاق، لكن أومأ الصيدلاني إلى تخصيص الخلاف بزكاة جميع المال إذا أخرجها رب المال تفريعاً على القول الأول، فأما ما يخرجه من المال لزكاة رأس المال ونصيبه من الربح،

فهو كاسترداد طائفة من المال فلا يتجه [فيه الخلاف]؛ لأن العامل قد التزم ما يخصه فكيف يحسب من الربح ما يخص المالك. وقد صرح الإمام بهذا الذي أومأ إليه الصيدلاني، فكان من حقه ألا يقول بأخذ الوجهين من المأخذ المذكور، أو لا يقول بتخصيص الوجهين بالقول الأول. انتهى. قلت: هذا السؤال وإن توجه على الإمام لاعتقاده جعل الزكاة؛ كالمؤن بالقول الأول؛ لما أبداه من اختصاص العامل بالتزام ما يخصه من الزكاة على القول الثاني، فكذلك المالك فهو لا يرد على من لم يخصه به كما حكاه الماوردي حيث قال: وعلى القول الثاني يجب على رب المال أن يخرج زكاة الأصل وحصته من الربح. وفي محل إخراجها الوجوه الثلاثة. وعني الوجوه التي حكيناها عنه من قبل، وكلام المحاملي موافق لكلام الماوردي في ذلك، ومن جملة الوجوه جعل الزكاة؛ كالمؤن. وعلى هذا فيمكن أن يقال: ما يخرجه رب المال من المال عن رأس المال يكون نصفه من النصف المختص به من الربح إذا كان الربح مشروطاً له بالنصف للعامل، والنصف الآخر مختص بنصيب العامل من الربح وزكاة نصيب رب المال من الربح إذا أخرجها من المال تختص بحصته؛ لأنه لا سبيل إلى إيجاب شيء منها في نصيب العامل؛ لأنه لم يجعل وقاية لربح المالك، وبهذا يندفع إشكال هذا الوجه، والله أعلم. وقد حكى المراوزة وراء ما ذكرناه طريقتين: أحدهما: وتحكى عن القفال: القطع بأنه لا زكاة على العامل. والثانية: وتحكى عن صاحب "التقريب": أن في وجوبها قولين؛ كما في المغصوب ونظائره. فرع على القول الأول: إذا أتلف رب المال مال القراض، ضمن للعامل قدر حصته من الربح. ولو كان مال القراض جارية لم يحل لرب المال وطؤها، وكذا لو لم يكن في المال ربح؛ لأن انتفاءه في المتقومات لا يتحقق إلا بالتنضيض، واستبعد الإمام

التحريم عند تيقن عدم الربح، ثم قال: ويمكن تخريجه على أن العامل لو طلب البيع في هذه الحالة وأباه المالك هل له ذلك؟ وفيه خلاف يأتي. وعلى المذهب لو وطئ هل يكون فسخاً للقراض؟ فيه تردد للشيخ أبي محمد والأظهر المنع، ولا يلزمه الحد، و [حكم] المهر سنذكره. فرع: على القول الثاني: إذا طلب رب المال أو العامل قسمة الربح قبل فسخ القراض لم يجبر الآخر عليها؛ لأنه لو وقع خسران بعده لجبر بالربح الحاصل قبله، فكان للعامل إذا امتنع أن يقول: الربح وقاية رأس المال فلا آمن حصول خسران؛ فأحتاج إلى رد ما قبضته، ولرب المال أن يقول: إذا امتنع الربح وقاية رأس مالي فلا أدفع لك شيئاً منه حتى أسلمه. وإذا ارتفع القراض والمال ناض وتسلم رب المال رأس مال القراض حصل الاستقرار، ووجبت قسمة الربح إذا كان ناضاً. وهل يحصل استقرار العامل على حصته من الربح بارتفاع عقد القراض ونضوض المال من غير قسمة؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، وضعف الإمام مقابله وقال: إن فائدة الاستقرار أنه لو طرأ نقص على المال كان محسوباً على رب المال والعامل ولا يكون الربح وقاية لرأس المال. ولو فسخ العقد والمال عروض وقد ظهر فيها ربح؛ فاستقرار نصيب العامل ينبني على أن العامل [هل] يجبر على البيع والنض أم لا؟ وسنذكره. فإن قلنا: نعم فظاهر المذهب أنه لا استقرار؛ لأن العمل لم يتم فيكون الربح وقاية. وفيه وجه ضعيف: أن ملك العامل قد استقر. وإن قلنا: لا يجبر على البيع؛ فوجهان كما لو كان المال ناضاً. فرعك على القولين [معاً]: إذا حصلت زيادة في مال القراض، كثمرة

الأشجار المشتراة للقراض، ونتاج البهيمة، وكسب الرقيق، وولد الجارية، ومهرها إذا وطئت بالشبهة. لمن يكون؟ أطلق الإمام ومن تابعه القول بأنها من مال القراض. وقال المتولي إن كان في المال ربح وملكنا العامل حصته بالظهور، فالجواب كذلك، وإن لم يكن [فيه] ربح، أو لم نملكه فمن الأصحاب من عدها من مال القراض، كالزيادة المتصلة. وقال عامتهم يفور بها المالك؛ لأنها ليست من فوائد التجارة. فإن قلنا بالأول قال في "الوسيط": هي من الربح، وهو قضية ما في "التهذيب"، وأورد بعض أصحاب الإمام كما حكاه الرافعي؛ أنها لا تعد من الربح خاصة ولا من رأس المال خاصة بل هي شائعة، ومما ذكرناه يظهر لك ماذا يجب على رب المال إذا وطئ جارية القراض. قال: وإن اشترى العامل أباه أي: سواء كان بإذن رب المال أو دون إذنه كما حكاه القاضي الحسين ولم يكن في المال ربح- صح الشراء؛ لأنه يمكن بيعه والتجارة فيه؛ فلم يكن على المالك فيه ضرر، ثم إن بيع قبل ظهور ربح في المال فلا كلام. وإن بقي حتى ظهر في المال ربح، فإن قلنا: لا يملك العامل [بالظهور] شيئاً، لم يعتق. وإن قلنا: إنه يملك حصته من الربح بالظهور، فوجهان أظهرهما عند القاضي الحسين والرافعي، وبه جزم في "الوسيط": أنه يعتق عليه؛ لتحقق ملكه، لكن هل يعتق جميعه أو بعضه؟ ينظر: إن كان نصيب العامل من الربح قدر ثمنه، عتق جميعه، وإن كان أقل، عتق منه بقدره، وقوم عليه نصيب رب المال إن كان موسراً، وإن كان معسراً استقر الرق في نصيب رب المال. قال البندنيجي: وانفسخ القراض في ذلك القدر؛ لأنه [قدر] قد تميز نصيب

العامل به. وحكى الإمام وجهاً عند يسار العامل أنه لا يسري العتق؛ لأنه عتق حصل في الدوام من غير اختيار من جهته؛ فأشبه الإرث، وبهذا جزم في "الوسيط". والثاني: لا يعتق عليه؛ لأن ملكه ضعيف؛ إذ هو وقاية لرأس المال. قال: وإن كان فيه ربح أي وفرعنا على أن العامل يملك حصته بالظهور؛ فقد قيل: لا يصح؛ لأنه لو صح لملك حصته منه، ولو ملكها لعتقت عليه، وذلك يؤدي إلى تنجيز حق العامل قبل حق رب المال، وهو ممتنع، فمنعنا ما يؤدي إليه. وقيل: يصح ويعتق عليه كأحد الشريكين إذا اشترى من يعتق عليه. وعلى هذا قال المحاملي: إن كان نصيبه من الربح قدر ثمن الأب عتق [جميعه] عليه. قال الماوردي: بالثمن دون القيمة؛ ويبطل عقد القراض في الباقي. وهكذا لو كان نصيب العامل من الربح أكثر [من ثمنه؛ لأن أخذ بعض الربح كأخذ جميعه في الفسخ. وإن كانت حصة العامل من الربح] أقل من ثمن الأب؛ مثل إن كانت قدر نصفه، عتق منه بقدره، وسرى إلى الباقي إن كان موسراً. وهذان الوجهان مفرعان على قولنا: إنه يعتق عليه فيما إذا اشتراه ولا ربح في المال ثم ظهر. وقيل: يصح ولا يعتق عليه؛ لضعف ملكه، كما ذكرناه. أما إذا قلنا: لا يملك العامل الربح إلا بالقسمة، صح الشراء وجهاً واحداً، إذ لا عتق حتى يحذر منه. وسلك الإمام طريقاً آخر، فقال: إن كان في المال ربح، فهل يصح الشراء في قدر حصة العامل من الربح؟ فيه قولان ذكرهما صاحب "التقريب" وجعل الرافعي أظهرهما الصحة. فإن قلنا: لا يصح في نصيبه، فهل يصح في غيره؟ فيه قولاً تفريق الصفقة. وإن قلنا: يصح في نصيبه، فهل يعتق عليه [فيه قولان ذكرهما صاحب

"التقريب" وهما يقربان] من القولين في عتق الراهن. هذا كله إذا وقع الشراء بعين مال القراض. فإن وقع في الذمة، وصرح العامل بالسفارة، فحيث قلنا: يقع للقراض عند الشراء بالعين، فكذلك الحكم أيضاً في هذه الحالة. وحيث قلنا: لا [يقع] للقراض، فهل يقع للعامل أو يبطل؟ يجري فيه الخلاف المذكور في نظائره. وإن لم يصح بالسفارة، لكن نوى القراض، فحيث نقول بصحته للقراض عند التصريح، [أنه يعتق] على العامل [فكذلك نقول هاهنا، وحيث نقول: لا يقع للقراض عند التصريح، فهاهنا يقع للعامل، وحيث قلنا: يقع القراض عند التصريح، ولا يعتق على العامل] فهاهنا هل يقع له وتقبل منه دعواه نيته ذلك أم لا؟ فيه قولان ذكرهما صاحب "التقريب". قال: وإن اشترى سلعة بثمن في الذمة أي بقدر رأس المال وهو ألف مثلاً، وهلك المال قبل أن ينقد الثمن [أي وبعد العقد] لزم رب المال الثمن؛ لأن العقد وقع صحيحاً، والملك لرب المال فلزمه الثمن. كما لو دفع إلى وكيله ألفاً وأمره أن يشتري عبداً فاشتراه وتلف الألف بعد العقد، فإنه يلزمه أن يدفع ألفاً آخر لينقده. وعلى هذا لو دفع إليه ألفاً فتلف وجب بدله أيضاً، وهكذا إلى أن يصل إلى البائع. وقيل: يلزم العامل، لأن إذن المالك لم يتضمن التصرف على وجه يلزمه غير ما دفع، ولا سبيل إلى إبطال العقد؛ لكونه وقع صحيحاً؛ فانقلب إلى العامل؛ كما قيل فيمن عقد الحج عن غيره ثم أفسده الآخر؛ فإنه ينقلب إليه بعد أن كان للمستأجر؛ لأنه خلاف المأذون فيه، كذلك هاهنا. وهذا ما صار إليه ابن سريج واختاره في "المرشد" وهو ظاهر النص في "البويطي"؛ فإنه قال: إذا دفع إليه ألفاً قراضاً، فاشترى العامل عبداً بألف، وتلف الألف قبل أن يدفعه إلى البائع؛ كان المبيع للعامل، والثمن عليه ولا شيء على رب المال. وقال ابن سريج: ومسألة الوكيل فيها وجهان: أحدهما: أن المبيع يلزم الوكيل.

وعلى الثاني فالفرق أن الوكيل مأذون له في شراء السلعة وقد وجد، فلزمه الثمن، وهاهنا المأذون فيه التصرف فيما دفعه إليه أولاً؛ فلا يلزمه الزيادة عليه. والقائلون بالأول حملوا النص على ما إذا تلف الألف قبل عقد العامل؛ فإنه يلزم العامل وجهاً واحداً؛ لانفساخ القراض. وقد بنى الماوردي [هذا] الخلاف على خلاف سيأتي فيما إذا دفع إليه ألفين فاشترى بهما عبدين وتلف أحدهما. فالأول مبني على قولنا: إن أحد العبدين يتلف من الربح. والثاني مبني على قولنا: إن العبد يتلف من رأس المال. قلت: ولو بني على خلاف ذكره الأصحاب عند الكلام في العبد المأذون؛ وهو أن الألف لو لم يتلف هل يطالب رب المال بالثمن أم لا؟ وأصحهما: أنه يطالب فإن قلنا به؛ ينبغي أن يلزمه عند التلف ألف آخر؛ ليخرج عن المطالبة. وإن قلنا: إنه لا يطالب فذاك لكوننا قصرنا إذنه على دفعه، فلا يلزمه غيره ويقع العقد للعامل. فرع: إذا قلنا بالأول فهل ينفسخ عقد القراض؟ قال في "المهذب": نعم، وهو المذكور في "مجموع" المحاملي، وأبداه الإمام احتمالاً واختاره في "المرشد". وفي "تعليق" البندنيجي، و"الشامل" وغيرهما: أنه لا ينفسخ. ولكن هل يكون رأس المال ألفاً أو ألفين؟ فيه وجهان: المذكور منهما في "الحاوي": الثاني، وهو الذي جعله البندنيجي المذهب، وقال: إن الأول ليس بشيء. وإذا قلنا: إنه ألف، فهل هو الأول أو الثاني؟ فيه وجهان في الرافعي، وذكر أن فائدتهما تظهر عند اختلاف الألفين في صفة الصحة وغيرها. والمذكور في "الشامل" و"تعليق" القاضي الحسين: أنه الألف الثاني. وبنى الإمام الوجهين في أن رأس المال ألف أو ألفان على خلاف سنذكره في أن رأس المال لو كان ألفين، فتلف أحدهما قبل التصرف [هل يتلف من رأس المال أم لا؟

فإن قلنا: من رأس المال كان رأس المال هاهنا ألفاً، وإلا فألفين. قال: وإن دفع إليه ألفين فتلف أحدهما قبل التصرف] تلف من رأس المال، وانفسخت فيه المضاربة بخلاف ما لو تلف قبل القبض فيكون رأس المال ألفاً واحداً. وهذا ما صار إليه أصحابنا، كما قال البندنيجي وابن الصباغ وصححه الجمهور. وقال الشيخ أبو حامد كما حكاه ابن الصباغ: إنه خلاف مذهب الشافعي؛ لأن المزني نقل في "الجامع الكبير" أنه قال: إذا ذهب بعض المال قبل أن يعمل، ثم عمل وربح، وأراد أن يجعل البقية رأس مال بعد الذي تلف فلا يقبل قوله، ويوفي رأس المال من ربحه حتى إذا وفاها، اقتسما الربح على شرطهما وقد أقام المراوزة ذلك وجهاً مع الأول. قال: وإن تلف بعد التصرف والربح تلف من الربح ولم تنفسخ فيه المضاربة؛ لأنه تصرف في رأس المال فلا يأخذ شيئاً من الربح حتى يرد ما تصرف فيه إلى المالك. والمراد بالتصرف أن يشتري بهما شيئاً ثم يبيعه ويقبض ثمنه، وقد حكى الإمام عن شيخه وطائفة: أن التلف متى وقع جرى خلاف في أن رأس المال هل ينتقص أم لا؟ وإنما النقصان الذي ينجبر به الربح هو الخسران وانحطاط الأسواق، فأما تلف عين المال؛ فيخرج على الخلاف، وأن على الوجه الصائر إلى تنقيص رأس المال يكون التنقيص في هذه الحالة داخلاً على رأس المال والربح، ثم قال: وهذا خبط وتخليط، والصحيح الأول. قال: وإن اشترى [بهما] عبدين فتلف أحدهما فقد قيل: يتلف من رأس المال وتنفسخ المضاربة فيه؛ لأنهما قاما مقام الألفين فتلف أحدهما كتلف بعض الألفين. وقيل: يتلف من الربح، وهو الأصح؛ لما ذكرنا من قبل. وهذا الخلاف حكاه القاضي الحسين قولين منصوصين في "أمالي" حرملة، ولا يخفى أنه مفرع على القول بأنه إذا تلف أحد الألفين يتلف من رأس المال كما ذكره الشيخ. وأما إذا قلنا بأن أحد الألفين إذا تلف يتلف من الربح، فهاهنا أولى.

وليعلم أن محل ما ذكرناه من القول بأن التالف يحسب من رأس المال أو يجبر بالربح مفروضاً فيما إذا حصل التلف بآفة سماوية، وألحق به السرقة والغصب إذا تعذر أخذ البدل منهما. أما إذا كان التلف بفعل آدمي من أهل الضمان، نظر: فإن كان أجنبياً، فقد قال الإمام: إن القراض لا ينفسخ، وكذلك لو أتلف كله بل يؤخذ البدل من المتلف، ويستمر القراض، والعامل يستقل بالمطالبة. وحكى القاضي الحسين ذلك عن القفال في [الرتبة الأولى] وقيده بما إذا كان الإتلاف بعد التصرف، أما إذا كان قبله، فإنه ينفسخ القراض؛ لأنه لم يتعلق به حق العامل بعد. وقال: إنه ذكر في [الرتبة الثانية] أن الإتلاف إن حصل، ولم يكن في المال ربح؛ ففي انفساخ عقد القراض وجهان أحدهما: نعم. والثاني: تؤخذ القيمة من المتلف وتجعل قراضاً. وإن كان فيه ربح فعلى الأول: العامل يطالبه بنصيبه، وليس له أن يخاصم عن رب المال. وعلى الثاني: له أن يخاصم عن رب المال، ويأخذ جميع القيمة، ويتصرف فيها. وهذا التفريع يدل على أن في انفساخ القراض في حالة الربح أيضاً قولين. وإن كان المتلف رب المال فإتلافه بمنزلة استرداد المتلف، فإن أتلف البعض انفسخ القراض فيه. قال القاضي الحسين: وكذلك إذا أتلف العامل، حكمه حكم ما لو استرد شيئاً من مال القراض ينفسخ العقد في ذلك القدر. والفرق بينهما وبين الأجنبي أن لهما الفسخ، فلذلك جعلنا ذلك فسخاً. ووافقه الإمام على ذلك، لكنه وجهه في حق العامل بأن ما يأتي به بعد الضمان لا يقع ملكاً لرب المال، فكيف يبقى القراض؟ وفسر الرافعي قول الإمام بأن العامل وإن وجب البدل عليه، فهو لا يدخل في ملك المالك إلا بقبض منه، وحينئذ يحتاج إلى استثناء القراض، ثم قال: ولك أن تقول: ذكروا وجهين في أن مال القراض إذا غصب أو أتلف، من الخصم؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنه للمالك إن لم يكن في المال ربح، وهما جميعاً إن كان فيه ربح.

والثاني: أن للعامل المخاصمة بكل حال؛ حفظاً للمال فيشبه أن يكون الجواب المذكور في إتلاف الأجنبي مفرعاً على أن للعامل المخاصمة. وبتقدير أن يقال: إنه وإن لم يكن خصماً لكن إذا خاصم المالك وأخذ عاد العامل إلى التصرف فيه بحكم القراض؛ لزم مثله فيما إذا كان العامل هو المتلف، قلت: ما أبداه أولاً هو عين ما حكيته عن القاضي الحسين، وما أبداه ثانياً من إتلاف العامل ينبغي أن يكون كإتلاف الأجنبي؛ حتى لا ينفسخ القراض: هو عين ما حكاه ابن يونس، وإن كان إتلافه قبل التصرف، لكن لا يندفع بهذا السؤال عن الإمام والله أعلم. فرع: إذا عمل العامل فخسر مائة وأخذ رب المال منه مائة، ثم عمل العامل بالباقي، فبلغ المال ألفاً، كما كان فالربح منه مائة وأحد عشر درهماً وتسع، يقسم بينهما إن انفصلا على حسب ما شرطا؛ لأنه لما استرد المائة تبعها [من] الخسران بنسبتها، كما يتبعها من الربح بالنسبة ونسبة الخسران في المائة أحد عشر درهماً وتسع درهم. وعلى هذا فقس. قال: والقول قول العامل فيما يذكر أنه اشتراه للمضاربة أو لنفسه؛ لأنه متصرف لنفسه تارة وللقراض أخرى، وإنما يبين ذلك بالنية والقصد، فيكون الاختلاف فيه راجعاً إلى النية والقصد، وهو أعلم بنيته وقصده، ولأنهما اتفقا على وقوع العقد واختلفا في صفته فكان القول قول فاعله ولا فرق في ذلك بين أن يكون فيما ادعى شراءه لنفسه ربح أم لا، ولا بين أن يكون فيما ادعى شراءه للمضاربة خسارة أم لا. وعن ابن سريج فيما إذا كان فيه خسارة أنه يجيء فيه قول آخر: أن القول قول رب المال بناء على ما قاله الشافعي من القولين فيما إذا ادعى الوكيل الشراء أو البيع وكذبه الموكل. فرع: لو ادعى العامل البيع وكذبه رب المال، قيل: فيه قولان؛ كما في الوكيل. وقيل: يقبل قول العامل جزماً، وهو الأظهر في "البحر". فرع: لو أقام رب المال بينة أن العامل اشترى بمال القراض عيناً وادعى العامل شراءها لنفسه؛ ففيه وجهان.

أحدهما: وبه قال ابن أبي هريرة أنه يحكم بأن ذلك للقراض. والثاني: لا يحكم بها؛ لأنه يجوز أن يكون قد اشتىر لنفسه بمال القراض على وجه التعدي؛ فلا يكون للقراض؛ لبطلان البيع. وهذا ما صححه الماوردي واختاره في "المرشد" وقال: إن العين تنزع من يده وترد إلى بائعها، ويعاد الثمن إلى مال القراض. قال: وفيما يدعي من هلاك؛ لأنه إنما يشتري لرب المال بإذنه فهو كالوكيل والوكيل أمين وقوله: في الهلاك مقبول؛ إذا لم يسند الهلاك إلى سبب ظاهر، أما إذا أسنده؛ فلا بد من إثبات السبب كما ذكرنا في الوديعة. فإن قيل: العامل يستحق على عمله أجراً وهو جزء من الربح، فهلا ضمن كالأجير المشترك على قول؟ قيل: الفرق بينهما أن الأجير تعجل له المنفعة وهي الأجرة فإنه يملكها بالعقد، وتأخرت المنافع للمالك؛ فكان المغلب في يده حقه؛ فضمن كالمستعير، وهاهنا المنافع تعجلت لرب المال وهي العمل، وتأخرت للعامل؛ فغلب في اليد عوض المالك، فلم يضمن كالمودع. وحكم دعوى العامل الخسران حكم دعواه التلف، فيقبل قوله وإن كان قد ادعى الربح. قال القاضي الحسين: وذلك إذا كان ما يقوله محتملاً؛ فإن كان غير محتمل مثل: أن يدعي خسران ألوف في ساعة واحدة فلا يقبل، وعلى ذلك جرى المتولي والروياني. قال: ويدعي عليه من خيانة؛ لأن الأصل عدمها، ومن جملة دعوى الخيانة أن يقول رب المال: اشتريت هذا العبد بعد أن نهيتك عن شرائه ويعضد قول العامل في هذه الصورة بأن الأصل عدم النهي. قال: وإن اختلفا في رد [رأس] المال فقد قيل: القول قوله؛ [لأنه قبض العين ومعظم منافعها لمالكها كما ذكرناه فيقبل قوله] في ردها كالمودع والوكيل بغير جعل. وهذا ما صار إليه المراوزة، واختاره في "المرشد".

اختلافهما في قدر رأس المال

وقال القاضي أبو الطيب: إنه المذهب. وقيل: القول قول رب المال؛ لأنه قبضها لمنفعة نفسه وهو الربح فأشبه المرتهن، وقد تقدم في باب الرهن ما ذكر من الفرق بينه وبين [نظائره وبين] قبول القول في التلف دون الرد. قال: وإن اختلفا في قدر الربح المشروط [للعامل] تحالفا، صورة ذلك: أن يدعي العامل أنه شرط له النصف، فيقول رب المال: بل الثلث فيتحالفا؛ لأنهما اختلفا في العوض المشروط في العقد فيتحالفا، كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن. وإذا تحالفا كان جميع الربح لرب المال، وللعامل أجرة مثله وإن زادت على نصف الربح وقيل: لا يستحق ما زاد على نصف الربح. ولو اختلفا في قدر ما حصل من الربح؛ فالقول قول العامل، فلو قال العامل: إنه مائة، ثم قال: إنما قلت ذلك خوفاً من انتزاع المال من يدي؛ لم يقبل منه، وهل له إحلاف رب المال؟ قال في "البحر": إن ذكر شبهة تحتمله استحق إحلافه، وإن لم يذكر؛ فوجهان: أحدهما: وبه قال ابن سريج وابن خيران: أن له إحلافه. والثاني: وبه قال أبو إسحاق لا عملاً بقوله السابق، ثم إذا لم يطلب إحلاف رب المال لكنه ادعى بعد ذلك خسراناً؛ قبل منه ولا تبطل أمانته بالقول السابق. هكذا قاله أصحابنا ونسبه الروياني في "البحر" إلى نصه، كذا حكاه الرافعي عنه، وكلامه في "البحر" مشير إلى الحكم المذكور. اختلافهما في قدر رأس المال قال: وإن اختلفا في قدر رأس المال؛ أي مثل أن قال المالك: إنه ألفان وقال العامل: بل ألف فالقول قول العامل؛ لأن الأصل عدم قبضه لما ينكره وقيل: إن كان في المال ربح تحالفا؛ لأنهما اختلفا فيما يستحقه العامل من الربح وليس بشيء؛ لأن الاختلاف في الربح المشروط- اختلاف في صفة العقد؛ فلذلك

تحالفا، وهاهنا الاختلاف وقع في القبض، فلا تحالف فيه؛ كما لو اختلفا في قبض الثمن في البيع. فرع: لو اختلفا في أصل القراض، فقال رب المال: دفعته لك؛ لتشتري لي [به] وكالة، وقال من في يده المال: [بل] مضاربة، فالمصدق رب المال، فإذا حلف أخذ المال وربحه، ولا شيء للآخر. قال: ولكل واحد منهما أن يفسخ العقد متى شاء؛ لأنه عقد ليس على التأبيد، ولا يفتقر إلى مدة معلومة، ولا عمل معلوم؛ فأشبه الشركة والوديعة؛ ولأنه في ابتدائه وكالة؛ لأنه يبتاع لرب المال، وفي انتهائه قد يكون شركة؛ إن قلنا: إن العامل يملك بالظهور، أو جعالة؛ إن قلنا: إنه لا يملك به، وكل هذه العقود يتمكن كل من [تعاقد بها] من فسخها متى شاء، فكذلك هذا. وكما يرتفع هذا العقد بلفظ الفسخ يرتفع بقول المالك للعامل: لا تتصرف بعد هذا، وكذلك باسترجاع المال منه. وهل يرتفع ببيع المالك ما اشتراه العامل للقراض كما ينعزل الوكيل ببيع ما وكل في بيعه، أو لا يعزل ويحمل فعله على الإعانة؟ فيه وجهان: أشبههما الثاني، وهما جاريان فيما لو حبس العامل، ومنعه من التصرف أو قال: لا قراض بيننا. قال: وإن مات أحدهما، أو جن، أو أغمى عليه؛ انفسخ العقد كما في الوكالة والشركة. قال: وإذا فسخ وهناك عرض وتقاسماه جاز؛ لأن الحق لهما. قال: وإن طلب أحدهما البيع لزمه بيعه؛ لأن حق [العامل] في الربح وحق رب المال في رأس المال وتحصيل كل من الحقين موقوف على البيع، فيتعين عند الطلب والفاعل له هو العامل. وحكم وارث أحدهما في طلب البيع حكم مورثه، ولا يحتاج العامل عند موت رب المال إلى إذن [من وارثه] في البيع بخلاف ما لو مات العامل، فإن وارثه يحتاج إلى الإذن من رب المال.

وفي "التتمة" حكاية وجه في العامل أيضاً أنه لا يبيع إلا بإذن، وهو جار في استيفاء الديون. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يطلب البيع في زمان كساد العروض أو رواجها، ولا بين أن يترك حقه لرب المال عند طلبه البيع أم لا. وقيل: إذا قلنا: إن العامل لا يملك إلا بالقسمة فدفع له رب المال قدر حصته من الربح، أو طلب مقاسمة العروض وأبى العامل إلا البيع أن المالك لا يجبر عليه على وجه في "المهذب"، وبه قطع الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وغيرهما في الحالة الأولى؛ لأن المعير إذا بذل قيمة ما غرسه المستعير في أرضه بعد رجوعه في العارية ليتملكه عليه؛ جاز لدفع الضرر فهاهنا أولى، وهذا ما صححه في "البحر". وإن ترك العامل الربح لرب المال مع طلبه البيع لا يجبر العامل على البيع على وجه في "المهذب" وغيره. وفي "الوسيط": أن العامل إذا ترك حقه لرب المال على القول الذي عليه فرعنا، وهو أن العامل لا يملك إلا بالقسمة، هل يسقط حقه؟ فيه وجهان كالوجهين في إجباره على البيع عند خلو المال عن الربح. وأظهرهما، وبه قال الشيخ أبو محمد وأبو علي والقاضي الحسين: أنه يجبر، وبه جزم العراقيون. وجزم في الوسيط بأن المال إذا لم يكن فيه ربح، وطلب العامل البيع، لا يجبر عليه رب المال إلا أن يوجد من يشتريه بزيادة على رأس المال. وحكى الإمام مع ذلك وجهاً آخر: أنه يجبر على البيع؛ لاحتمال مصادفة زبون. وهو ما جعله القاضي الحسين الظاهر. قال الإمام: وعند هذا يتجه ألا ينفذ بيعه بثمن المثل. وعلى الأول لو اتفق ارتفاع الأسواق، وظهر [في المال] ربح بعد رد العروض على المالك فهل للعامل طلب نصيبه من الربح؟ فيه وجهان. أظهرهما: وبه جزم الماوردي: المنع. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي وجوب بيع جميع العروض عند الطلب

والذي [جزم به] المحققون كما ذكره الإمام أن الذي يلزم تنضيضه قدر رأس المال؛ لأنه الملتزم بعقد القراض، وأما الباقي فحكمه حكم عرض آخر مشترك بين اثنين لا يكلف واحد منهما بيعه، وكلام الماوردي، والقاضي أبي الطيب منطبق عليه. ثم ما يباع به العرض: قال الأصحاب: ينظر: إن كان رأس المال من نقد البلد باع به، وإلا باع بما يرى فيه المصلحة من رأس المال أو نقد البلد، ثم يحصل به رأس المال؛ كما لو كان في يده عند الفسخ نقد غير نوع رأس المال، ولم يرض به رب المال، أو كان ما في يده [عند الفسخ] من نوع رأس المال لكنه مكسر، ورأس المال صحاح. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجه: أنه ليس له البيع إلا بنوع رأس المال. وعلى الأصح: لو أراد أن يشتري بما في يده عرضاً؛ ليبيعه بنوع رأس المال هل يجوز؟ فيها وجهان: أصحهما في الرافعي: الجواز، ووجه المنع: خشية تعوق البيع عليه. قال: وإن كان هناك دين، لزم العامل أن يتقاضاه؛ لينض: لأنه دخل في العقد على أن يرد رأس المال، وذلك لا يحصل بدون ذلك، هكذا علل الشيخ في "المهذب". وحكى الرافعي عن الأصحاب: أنهم وجهوا ذلك بأن الدين ناقص، وقد أخذ منه ملكاً كاملاً؛ فيلزمه رده كما أخذه. وكل من الكلامين يفهم أن رأس المال لو كان ناضاً لا يجبر العامل على تنضيض شيء آخر، وهو موافق لما حكيناه من قبل من أنه لا يجب على العامل بيع ما زاد على قدر رأس المال. وقد صرح في "المرشد" بأن العامل يجب عليه تنضيض جميع الدين وإن كان زائداً على رأس المال، وخص صاحب رفع التمويه محل وجوب التقاضي على العامل بما إذا كان ثم ربح، أما إذا لم يكن، ففي وجوبه وجهان. ومعنى قول الشيخ: يتقاضاه، أي يطلب قضاءه واستيفاءه وقوله: لينض أي

يصير نقداً حاصلاً وهو بكسر النون مأخوذ من نضاضة المال وهو بقيته. قال: وإن قارض في المرض اعتبر الربح من رأس المال وإن زاد على أجرة المثل: لأن المعتبر من الثلث ما يخرج من المال، والربح من كسب العامل لا من ماله، وحالة شرطه لم يكن مملوكاً لرب المال. والفرق بينه وبين العامل في المساقاة إذا شرط له أكثر من أجرة المثل؛ حيث يعتبر من الثلث على المذهب أن الثمرة لا تحدث من العمل بدليل أنها تحدث وإن لم يعمل وإنما حصلت من نفس الشجرة فكانت كمنافع الدار. قال: وإن مات وعليه دين قدم العامل على سائر الغرماء. أي: وإن قلنا إنه لا يملك بالظهور لتعلق حقه بعين المال، فلا يتقاعد عن المرتهن، وليس للوارث أن يلزم العامل أخذ حقه من غيرها، صرح به في "البحر". وكما لا يحسب ما شرط للعامل زائداً على أجرة مثله من الثلث، لا يحسب ما اشترطه العامل في المرض لنفسه ناقصاً عن أجرة مثله من الثلث؛ صرح به في "الحاوي". ولنختم الباب بفروع تتعلق به: ليس للعامل التصرف في الخمر شراء وبيعاً وإن كان ذمياً، فلو خالف واشترى خمراً أو خنزيراً أو أم ولد ودفع ثمن ذلك عن علم فهو ضامن، وإن كان جاهلاً فكذلك على الأشهر. وقال القفال: يضمن في الخمر دون أم الولد؛ إذ ليس عليها أمارة يعرفها. وفي "التهذيب" عن بعضهم: التسوية بين الخمر وبينها في عدم الضمان. قال الرافعي: وأبعد منه وجه نقله في "الشامل" أنه لا يضمن حالة العلم أيضاً.

ولو قارضه على أن ينقل المال إلى موضع كذا ويشتري به من أمتعة، ثم يبيعها هناك أو يردها إلى موضع القراض، فالذي ذهب إليه الأكثرون- كما قال الإمام- فساد القراض؛ لأن نقل المال من قطر إلى قطر عمل زائد على التجارة، فأشبه شرط الطحن والخبز. ويخالف ما إذا أذن له في السفر؛ فإن الغرض منه رفع الحرج. وعن الأستاذ أبي إسحاق وطائفة من المحققين: أن شرط المسافرة لا يضر؛ فإنها الركن الأعظم في الأموال والبضائع الخطيرة. لو قال: خذ هذه الدراهم قراضاً وصارف بها مع الصيارف؛ ففي صحته وجهان: لو خلط العامل مال القراض صار ضامناً، ثم مع هذا لا ينعزل عن التصرف والربح مقسوم في رأس المال كما شرط، صرح به الإمام. وكذا لو قارضه رجلان؛ هذا على مال وهذا على مال، فخلط أحدهما بالآخر، ولو اشترى بمال كل واحد منهما عبداً واشتبها عليه، ففي قول: يباعان ويقسم ثمنهما عليهما بالسوية، فإن زاد ثمنهما على رأس المال قسم الربح بينهما على ما شرط. وإن نقص لزم العامل النقص، وهو محمول عند المتأخرين على ما إذا لم يكن سببه انخفاض السوق.

وفي قول يحكم بانتقال ملكهما إلى العامل، ويغرم لهما قيمتهما بالسوية، فإن زاد فذاك، وإن نقص غرم قدر النقصان فكأنه مقصر بالنسيان. وقيل: لا يغرم إلا قدر رأس المال، وهو الذي صار إليه الأكثرون. وقال الإمام: القياس مذهب ثالث وراء القولين؛ وهو أن يبقى العبدان لهما على الإشكال إلى أن يصطلحا. لو دفع إليه ألفاً قراضاً ثم ألفاً آخر، وقال: ضمه إلى الأول، فإن لم يتصرف بعد في الأول جاز وكانا رأس المال. وإن تصرف في الأول لم يجز القراض في الثاني ولا الخلط؛ لأن حكم الأول قد استقر بالتصرف ربحاً وخسراناً، وربح كل ماله وخسرانه يختص به، والله أعلم بالصواب.

باب العبد المأذون

باب العبد المأذون اشتقاق العبد من الخضوع والتذلل، يقال: طريق معبد أي مذلل، وعبدت فلاناً أي: اتخذته ذليلاً. قال: إذا كان العبد بالغاً رشيداً، جاز للمولى أن يأذن له في التجارة. قال الرافعي: بالإجماع؛ ولأنه أهل للتصرف، والمنع كان لحق السيد، فإذا أمره؛ فقد ارتفع المانع. ولا يشترط في صحة ذلك أن يدفع إليه السيد مالاً؛ ليتجر فيه، بل يجوز ذلك، ويجوز أن يأذن له في أن يشتري في ذمته، كذا أطلقه ابن الصباغ في أواخر باب القراض، وظاهره [يقتضي]: أنه لا يحتاج عند الإذن في الشراء في الذمة إلى التقييد بقدر معلوم؛ لأن ذلك لا يثبت في ذمة السيد- كما سنذكرهح فشابه إذنه للعبد في النكاح، فإنه لما كان المهر في ذمة العبد، لم يفتقر إلى تعيين المهر ولا الزوجة. نعم: من قال من أصحابنا: إن السيد يكون مطالباً بدين التجارة يجوز أن يشترط تعيين ما يتجر فيه؛ [لما في كثرة التصرفات من الإضرار بالسيد، وهل يشترط تعيين ما يتجر فيه]؟ المنقول عن أبي طاهر الزيادي اشتراطه، واختاره الصعلوكي. وعن الجيلي وغيره: لا، بل له التصرف في أنواع الأموال، ولا يجوز للعبد إذا دفع إليه السيد مالاً ليتجر فيه أن يشتري بأكثر منه إلا أن يقول [له] السيد: اجعله رأس مالك، وتصرف، واتجر- فله أن يشتري بأكثر من المدفوع إليه، [وله] في كل حال عند [إطلاقه الإذن] أن يعقد على عين ما دفعه له السيد وبقدره في الذمة.

قال: وما يكسبه يكون لمولاه؛ لأنه إن اشترى بما دفع إليه من المال؛ فهو عوض ماله، وإن اشترى في الذمة، فالمشتري من أكسابه، وأكساب العبد لسيده. قال: وما يلزمه من دين التجارة يجب قضاؤه من مال التجارة؛ لتناول إذن السيد لذلك، ويستوي في ذلك الربح ورأس المال، ومن هذا يظهر أن مال التجارة [كالمرهون] بحقوق الغرماء؛ لأنه يتعلق حقهم في ذمة العبد، كما صرح به الإمام في "النهاية" وسنذكر عن الماوردي وغيره ما ينازع فيه. قال: فإن بقي [عليه] شيء اتبع به إذا أعتق، أي: ولا يتعلق برقبته؛ لأنه دين لزمه برضا مستحقه فتعلق بذمته دون رقبته، كما لو أقرض بغير إذن السيد، وكما لا يتعلق برقبته لا يتعلق بأرش الجناية عليها، ولا بالمهر إذا كان المأذون له جارية وقد وطئت مستكرهة. واعلم أن قول الشيخ: [فإن بقي شيء اتبع به إذا عتق] مع كلامه الأول يدل على أمرين: أحدهما: أن دين المعاملة يثبت في ذمة العبد، ولا تعلق له بشيء من أكساب العبد من احتطاب ونحوه. والثاني: أنه لا تعلق له بذمة السيد كما صرح به [ابن] الصباغ، وقد حكى الإمام في تعلق دين المعاملة بأكساب العبد من احتطاب، واحتشاش، ونحوه [وجهين]. أصحهما: التعلق مع قطعه بألا ينفذ تصرف العبد فيه. وصاحب "التهذيب" أجرى الوجهين في جواز التصرف أيضاً، وصحح وجه التعلق به والتصرف. [و] على هذا: إذا فضل عليه شيء من الديون بعد القسمة، استكسب إلى أن يوفيه، فإن لم يتفق الوفاء حتى عتق، قال الإمام: فلا شك أنه مطالب؛ فإنه لا يتصور أن يتعلق دين بالكسب إلا وهو متعلق بالذمة.

ثم إذا أدى، فهل يرجع على مولاه؟ [فيه] وجهان: أظهرهما في الرافعي: عدم الرجوع. وحكى الإمام- أيضاً- في مطالبة السيد بدين التجارة ثلاثة أوجه: أحدها: لا، كما دل عليه كلام الشيخ؛ لأن السيد بالإذن قد أعطاه استقلالاً، فشرط من تعامله قصر الطمع على ما في يده وذمته. والثاني: أنه مطالب؛ لأن العقد وقع له؛ فكأنه المشتري، أو لأن العبد وكيل، والموكل مطالب بما يشتريه الوكيل؛ فكذلك السيد، وهذا ما صححه الرافعي وصار إليه القياسيون. والثالث: أن السيد لا يطالب إذا كان في المال الذي في يد العبد وفاء، وإن لم يكن فيه وفاء بالديون طولب. قال الإمام: ولا خلاف في أن العبد يطالب في حال الرق وبعده، بخلاف الوكيل على رأي؛ لأن عقد العبد يعتمد أكسابه، وهي مملوكة للسيد، ولا يتأتى تعلق الطلبة بالكسب ما لم يتعلق بالذمة، وأمر السيد للعبد في الابتياع استخدام يجب عليه إمساكه؛ فأفضى الأمر إلى ذلك، بخلاف الأجنبي؛ فإن ذلك مفقود فيه. وكما يطالب العبد بثمن ما ابتاعه، فهو مطالب بما قبضه [بها عما] خرج مستحقاً، وقد باعه، وتلف ما قبضه في يده. وهل يطالب به السيد؟ [فيه] الأوجه المذكورة آنفاً، وضعف الإمام الوجه الصائر إلى عدم المطالبة، وقال: لولا أن في "التقريب" رمزاً إليه لم أحكه. وحكى غيره عن ابن سريج: أن السيد إن كان قد دفع إليه عين ماله، وقال: بعها، وخذ ثمنها، واتجر فيه؛ أو قال: اشتر هذه السلعة وبعها، واتجر في ثمنها ففعل، ثم ظهر الاستحقاق- فالسيد [مطالب]. فإن استقل العبد بالشراء دون تعيين السيد، [فلا يطالب السيد] [وقد]

حكى الإمام وجهين [في] أن العبد في هذه المسألة لا يطالب أصلاً؛ لأن عبارته مستعارة في "الوسيط"؛ فيده يد سيده، وقال: إنه مزيف. فرع: إذا دفع السيد للعبد ألفاً للتجارة، فاشترى العبد شيئاً في الذمة بألف، وتلف الألف قبل القبض – فالصحيح عند المراوزة: أن السيد يلزمه ألف بدله. وقيل: لا يلزمه. فعلى الأول: إذا نقد السيد الألف في الثمن، ثم انفسخ العقد، هل ينفذ تصرف العبد بالألف [بالإذن] السابق أم لا بد من استئناف إذن؟ فيه وجهان، وعليهما ينبني فسخ العبد العقد بأمر رأي فيه الغبطة: فإن قلنا: لا ينفذ تصرف العبد في الألف؛ فقد انعزل بتلف الألف الأولى. وإن قلنا: ينفذ، فهو باق على الإذن؛ فينفذ فسخه. وعلى الثاني: هل ينفسخ العقد كما لو ورد العقد على عينه، أو يكون السيد بالخيار: إن شاء دفع الألف واستمر العقد، وإن شاء لم يبذله ويكون للبائع فسخ العقد حينئذ؟ فيه وجهان: ثانيهما: اختيار الشيخ أبي محمد: وإليه مال الإمام، وأولهما اختيار القاضي الحسين، والوجهان في الأصل قبل التفريع ينبنيان على نظير المسألة في القراض، وقد رجع حاصل ما ذكرناه عند الاختصار إلى ثلاثة أوجه، وحكى الرافعي معها وجهاً رابعاً: أن الثمن يكون في ذمة العبد. قال: ولا يجوز أن يتجر إلا فيما أذن له فيه؛ لأن تصرفه بحكم الإذن [يقصر على محل الإذن]؛ كالمضارب فلو أتجر فيما لم يؤذن له فيه، نظر: إن كان بعين المال بطل، ويجيء فيه قول وقف العقود. وإن كان في الذمة، فهل يصح؟ حكمه حكم غير المأذون إذا اشترى شيئاً [بثمن] في ذمته، وفيه قولان: اختيار الإصطخري وأبي إسحاق كما حكاه في "المهذب": المنع، وهو الذي صححه الرافعي، وحكى الإمام وصاحب التقريب القطع [به] وعليه يدل كلام

القاضي أبي الطيب من بعد [واختار ابن أبي هريرة الصحة وهو ما حكاه في "المرشد"، وقال في كتاب التفليس: إن الشيخ أبا علي قال في "شرح التلخيص" إنه المذهب]؛ لأنه محجور عليه لحق السيد؛ فنفذ تصرفه فيما لا ضرر عليه [فيه]؛ كالمفلس. وفرق الإمام بينهما بأن المفلس من أهل التملك بخلاف العبد، وعماد الشراء إمكان الملك للمشتري. وهذا الخلاف يجري في عقود المعاوضات الصادرة منه سوى النكاح كما ذكرناه عن الأصحاب في باب الضمان. فعلى الأول لا يخفى الحكم [وإذا تلف المال في يده تعلق بذمته؛ وما المتعلق بها؟ المذهب: إنه القيمة، وفي كتاب الإقرار من "النهاية" وجه أنه ثمن ما أتلفه]؟ وعلى الثاني: الملك واقع للعبد أو للسيد؟ فيه وجهان في الرافعي: المذكور منهما في النهاية الأول، ونسبه إلى العراقيين، وقال: إنهم قالوا: السيد بالخيار بين أن يقره عليه وبين أن ينتزعه السيد من يده، وللبائع الرجوع إلى عين المبيع ما دام في يد العبد، فإن انتزعه السيد من يده؛ امتنع عليه الرجوع في هذه الحالة، وأبدى احتمالاً في جواز الرجوع، وأقامه الرافعي وجهاً، وقال: على قول وقوع الملك للسيد: إن علم البائع بالحال، لم يطالب بشيء حتى يعتق [العبد] فيطالبه، وإن لم يعلم فهو بالخيار بين أن يصبر إلى أن يعتق العبد وبين أن يفسخ، ويرجع إلى عين ماله. وحكى الإمام في كتاب التفليس وجهين فيما إذا علم البائع برق المشتري حالة العقد: أحدهما: يثبت له الخيار، وهو الذي حكاه الشيخ أبو علي في الشرح. والثاني: حكاه غيره: أنه لا خيار [له]. وحكى بعد ذلك في فرع عن الشيخ أبي علي القطع بعدم الفسخ فيما إذا كان

الثمن مؤجلا، ولم يحل، وكذا إذا حل وأبدى لنفسه [إذا حل احتمالاً]. فرع: هل يجوز للمأذون وغيره قبول الوصية والهبة من غير إذن السيد؟ فيه وجهان: مختار الإصطخري: المنع. وأصحهما: الصحة؛ لأنه اكتساب لا يستعقب عوضاً؛ فأشبه الاحتطاب. وادعى القاضي أبو الطيب في كتاب الوصية: أنه الذي قال به [أكثر] الأصحاب، وأنه المذهب. ثم قال: ومثل هذه المسألة إذا اشترى العبد من رجل شيئاً [بثمن] في ذمته، فهل يصح البيع أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح، ويملك السيد ما اشترى العبد، ويثبت الثمن في ذمته يتبعه البائع به إذا عتق. قال: فإن أذن له في التجارة لم يملك الإجارة؛ لخروجها عن التجارة ويملك البيع، والشراء، والمطالبة بالأثمان، وقبض السلع، والرد بالعيب، وطي الثياب ونشرها، ونحو ذلك مما جوز لعامل القراض؛ لأنه حقيقتها. وأطلق الرافعي القول بأن له المخاصمة في العهدة وغيرها. وقد ذكرنا خلافاً في [أن] عامل القراض هل له المخاصمة عند غصب مال القراض أو إتلافه؟ ويتجه أن يكون هنا مثله. قال: وقيل يملك ذلك في مال التجارة أي: كالعبيد، والدواب؛ لأن المنفعة من فوائد الملك، فملك العقد عليها: كالصوف، واللبن. ولأن التجار يعتادون ذلك، فجرى الإذن عليه، ولا يملك [ذلك] في نفسه؛ لانتفاء هذا المعنى؛ وهذا هو الأصح في الرافعي. وحكي عن الحليمي أنه يجوز أن يؤجر نفسه أيضاً، وحكاه مجلي في كتاب الإجارة وأن مأخذه أن الإذن في التجارة هل يتضمن الإذن في منافع نفسه أم لا؟ وقد حكيناه من قبل. فرع: هل يملك المأذون الاستقراض بحكم الإذن في التجارة؟

حكى الإمام في كتاب الإقرار عن القاضي تردداً فيه، فإن قلنا يملكه: كان وفاؤه كوفاء ديون التجارة [كما تقدم]. قال: ولا يتصرف إلا على وجه النظر والاحتياط؛ ولا يهب، [ولا] يتخذ دعوة، ولا يبيع بنسيئة، ولا بدون ثمن المثل [أي] بما لا يتغابن بمثله، ولا يسافر بالمال إلا بإذن المولى؛ لأنه متصرف للغير؛ فلم يملك ذلك دون إذنه؛ كالوكيل. وهذا إذا دفع إليه السيد مالاً؛ ليتجر فيه، أما إذا قال: اتجر بجاهك، ولم يدفع له مالاً- فله البيع والشراء في الذمة حالاً ومؤجلاً، وكذا له الرهن والارتهان؛ إذ لا ضرر فيه على السيد، فإن فضل في يده شيء؛ كان كما لو دفع إليه مالاً؛ كذا حكاه الرافعي في [كتاب الرهن]. والمراد بالدعوة الضيافة، وهي بفتح الدال عند جمهور العرب. قال: وإن اشترى من يعتق على مولاه بغير إذنه لم يصح الشراء في أصح القولين؟ لأن المقصود تحصيل الربح، وذلك ضده فلم ينفذ؛ كما في عامل القراض، وهذا ما نص عليه في "المختصر"، واختاره المزني ويستوي فيه الشراء بالعين و [في] الذمة؛ كما قاله أبو إسحاق. والقول الثاني: أنه يصح؛ لأن العبد لا يصح منه الشراء لنفسه، وإذا أذن له السيد فكأنه أقامه مقام نفسه في جميع الابتياع والتصرف؛ بخلاف العامل، وهذا ما نص عليه مع الأول في الدعاوى والبينات. ومحله: إذا لم يكن عليه دين. أما إذا كان عليه دين؛ فإن قلنا: لا يصح عند عدم الدين فها هنا أولى. وإن قلنا: يصح فهاهنا قولان: أحدهما: يصح ويباع العبد. والثاني: يبطل الشراء.

قال الروياني: - وهذا حسن قاله أبو إسحاق وقال ابن أبي هريرة وجهان: أحدهما: لا يصح. والثاني: يصح ويعتق [عليه] ويكون دين الغرماء في ذمة السيد، فحصل في حالة الدين ثلاثة أوجه كما حكاه ابن الصباغ: أحدها: يبطل الشراء. الثاني: يصح، ولا يعتق. والثالث: يصح، ويعتق، والثمن في ذمة السيد. قال: وإن اشترى أباه بإذنه أي اشترى العبد أبا سيده بإذنه صح الشراء؛ إذ المنع كان لحقه فسقط بإذنه وعتق عليه إن لم يكن عليه دين؛ لتحقق الملك، وعدم تعلق حق الغير به. قال: وإن كان عليه دين ففي العتق قولان: وجه المنع: تعلق حقوق الغرماء به. ووجه الوقوع: تحقق الملك. قال المحاملي وغيره: وهذان القولان، كالقولين في عتق الراهن فإن نفذناه فعلى السيد قيمته للغرماء، فلو كان معسراً. قال الشيخ أبو حامد لم يعتق وجهاً واحداً، وهذا منه يدل على [أن الغرماء يتعلق حقهم بما في يد العبد قولاً واحداً، وفي كلام الماوردي ما يدل على] خلاف فيه فإنه قال: [إذا اشترى] العبد بإذن سيده والده، فهل يعتق بمجرد الشراء، أو دفع الثمن؟ فيه وجهان مبنيان على وجهين في أن غرماء العبد هل ملكوا حجراً بديونهم على ما [في يده] أم لا؟ فروع: أحدها: إذا اشترى العبد المأذون جارية، فهل يجوز للسيد تزويجها؟

ينظر: إن لم يكن عليه دين؛ جاز بإذن العبد، وهل يجوز بدونه؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم. والثاني: لا، إلا أن يعيد الحجر عليه. وإن كان عليه دين: فإن زوجها بإذن الغرماء والعبد- صح، وإن زوجها بإذن العبد دون الغرماء، أو [بإذن] الغرماء دون العبد- لم يصح على أصح الوجهين؛ لأنهم يتضررون به. أما العبد؛ فلأن التزويج ينقص قيمتها، والباقي من الدين يتعلق بذمته. وأما الغرماء؛ فلأنهم لم يرضوا بتأخير حقوقهم وتعلقها بذمته إلى أن يعتق. وبيع السيد وهبته ووطؤه هذه الجارية؛ كالتزويج في حالة قيام الدين وعدمه؛ هكذا حكاه الرافعي في كتاب النكاح. ولم يحك في "التتمة" خلافاً في جواز البيع، بل استشهد به على جواز التزويج بغير إذن الغرماء. [وألحق الإمام] في كتاب الضمان تبرع السيد بما في يد العبد قبل الحجر عليه بوفاء مال الضمان مما في يده بعد الإذن فيه، وقال: إن فيه قولين. وإذا وطئ بغير إذن الغرماء فهل عليه المهر [لهم]؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لو وطئ المرهونة. والثاني: يجب، والفرق: أن منفعة المرهونة للراهن، ومنفعة رقيق المأذون الذي عليه دين لا تكون للمالك. ولو أحبلها، فالولد حر، والجارية أم ولد؛ إن كان موسراً، وإن كان معسراً لم تصر أم ولدن وتباع في الدين، ويجب عليه قيمة الولد. الثاني: لا يجوز للسيد معاملة عبده المأذون في الشراء والبيع منه؛ لأن ما في يده ملكه، بخلاف المكاتب. وحكى الإمام في آخر باب القراض عن العراقيين في جواز معاملته إذا ركبته الديون وجهين. الثالث: لا يجوز لمن عرف رق المأذون ولم يعرف الإذن له معاملته [فلو عامله، ثم ظهر أنه مأذون له كان كما لو باع مال أبيه على ظن أنه حي فإذا هو

ميت، ولمن لا يعرف رقه ولا حريته] ويجوز لمن عرف الإذن للعبد أن يعامله، وله أن يمتنع من دفع ثمن ما يشتريه منه إليه إلا ببينة تشهد بالإذن؛ خشية من إنكار السيد، كما قلنا فيما إذا اعترف من عليه دين لشخص بأنه وكيل عن رب الدين، ولو شاع في الناس أنه مأذون له ولا بينة، فهل يجوز معاملته؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لأن إقامة البينة لكل معامل مما يشق. ولو عرف كونه مأذوناً، فقال العبد: حجر على السيد امتنع عليه معاملته، وكذا لو قال السيد: لم أعزله على أصح الوجهين ولا ينعزل العبد بإباقة بحال، وكذا بعزله نفسه كذا صرح به المتولي. قال: وإن ملكه السيد مالاً لم يملكه في أصح القولين وهو الجديد؛ لأنه مملوك فلم يملك؛ كالبهيمة؛ ولأن التمليك سبب يملك به المال فلا يملك به العبد؛ كالإرث، ويملك في الآخر وهو القديم ملكاً ضعيفاً يملك المولى انتزاعه منه؛ لقوله عليه السلام: "من ابتاع عبداً وله مال؛ فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع" فأثبت له ملكاً، وجعله يرجع للسيد بالبيع، وذلك يدل على ضعفه. قال: ولا تجب فيه الزكاة أي لا على العبد؛ لضعف ملكه، ولا على السيد لزوال ملكه عنه، وكذا لا يعتق على العبد أباه إذا كان هو الملك. وقد قال الأصحاب: إن الحديث غير ثابت، على أنه حجة الجديد، فإن العبد لو ملك لم يكن للبائع، وقد دل الحديث على أنه للبائع فدل على أن العبد لم يملكه، والإضافة إليه غير حقيقية على القديم. فروع: أحدها: هل يحتاج العبد إلى القبول عند التملك؟ فيه وجهان ينبنيان على أن السيد هل يملك إجبار عبده على النكاح؟ حكاهما في "التتمة" في كتاب البيوع

قبل الفصل الرابع في اعتبار القدرة على التسليم بورقتين. الثاني: إذا كان الملك جارية فهل يحل له وطؤها؟ الذي جزم به ابن الصباغ: الحل، وجعله فائدة الملك، وكذا التكفير بالمال، والذي حكاه الإمام: أن السيد إن أذن له في الوطء جاز عند الجمهور خلافاً للأستاذ أبي إسحاق، وإن لم يأذن له امتنع عند الجمهور. وفيه وجه ضعيف، ثم قال: ولعل صاحب "المهذب" يطرد مذهبه في أكل الطعام المملك، وشرب الشراب. نعم كل ما يقتضيه زوال الملك فهو متعلق بتمليك السيد عبده من انقطاع الحول، ووجوب الاستبراء إذا رجع، وما يتعلق بصورة الملك فهو يحصل بملك العبد؛ كانفساخ النكاح [إذا ملكه] [زوجته، وما يستدعي كمالا في الملك لا يحصل في ملك العبد؛ كتقدير العتق] إذا ملكه سيده أباه أو ابنه. الثالث: إذا ملك الرجل عبدين: سالماً، وغانماً، فملك كل واحد منهما صاحبه- فالملك يثبت للآخر على الأول. ولو وكل وكيلين حتى يهبا سالماً لغانم وغانماً لسالم، ثم جرى ذلك منهما جميعاً- لم ينفذ واحد منهما. الرابع: السيد لا يعامل عبده فيما ملكه حتى لو ابتاع منه شيئاً فما ابتاعه منه راجع إلى السيد، وما بذله السيد [من الثمن هل يملك للعبد]؟ فيه وجهان: أصحهما في النهاية: لا. الخامس: إذا أتلف ما ملك العبد، فهل ينقطع حق العبد، وتكون القيمة للسيد، أو تنتقل القيمة إلى العبد؟ فيه وجهان:

أفقههما: الانقطاع؛ حكاهما الرافعي في الركن الرابع من القسامة. السادس: لو أعتق السيد قبل أن يسترجع منه ما ملكه هل ينقطع ملك العبد ويعود إلى السيد؟ قال الماوردي في كتاب القسامة: إنه لا يسترجعه منه؛ كما إذا ملك أم ولده شيئاً، وقلنا بالقديم إنها تملكه، فإن للورثة الانتزاع منه؛ لبقائه على رقه. وفي "تعليق" القاضي الحسين في كتاب القسامة أيضاً: أنه لو أعتقه عاد الملك إليه، والله أعلم.

باب المساقاة

باب المساقاة المساقاة اسم لعقد لازم، يعقده مالك الشجرة مع إنسان يحسن القيام بتعهد الأشجار، على أن ما يرزقه الله من ثمرة فيها يكون بينهما على حسب ما يشترطانه. واشتق هذا الاسم من السقي دون سائر الأعمال؛ لأنه [أنفع الأعمال فيها] وأكثر، لاسيما في الحجاز، فإن غالب ما تسقى الأشجار فيه من الآبار. وقيل: لأنها معاملة على ما يشرب بساقٍ. وقيل: لأن موضع النخل والشجر يسمى سقياً فاشتقوا اسم المساقاة منه. والأصل في مشروعيتها قبل اتفاق الصحابة والتابعين عليها: ما روى مسلم عن ابن عمر، قال: "أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع". وروي عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم "أعطى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم، وأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم [شطرها] ". وغير ذلك من الأخبار، ولا يقال: إن أهل خيبر كانوا عبيداً للمسلمين وأن أرض خيبر كانت لأهل خيبر، فما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مخارجة أو جزية؛ لأن عمر أجلاهم عنها لما سحروا ولده عبد الله فتكوعت يده. ولو كانوا عبيداً للمسلمين، أو الأرض لهم؟ لما فعل عمر ذلك.

وأيضاً: فقد قال عمر لرسول الله: "إني ملكت مائة سهم من خيبر، وهو مال لم أصب قط مثله .. ؟ " الحديث. وذلك ينفي السؤال. ومن جهة المعنى: أن الأشجار أعيان لا يجوز إجارتها ولا [يزكو نماؤها] إلا بالعمل عليها فجازت المعاملة عليها ببعض نمائها؛ كالدنانير، والدراهم في القراض، ولا ترد المزارعة، لأن إجارة الأرض ممكنة ولا المساقاة على أصول البطيخ ونحوها؛ لأنها تنمى من غير عمل والعمل يقع في غيرها وهو الأرض. قال: من جاز تصرفه في المال صح منه عقد المساقاة لأنه تصرف في المال. قال: وينعقد بلفظ المساقاة؛ لأنه موضوع له وبما يؤدى معناه أي كقوله: اسق هذا النخل، وتعهده بكذا من ثمرته؛ لوفائه بالمقصود. قال الرافعي: ويشبه أن يكون هذا من الأئمة جواباً على انعقاد العقود الكنايات مع النية، أو يكون ذهاباً إلى أن صرائح هذا العقد غير محصورة؛ كما قيل في الرجعة على رأي، ولا بد في هذا العقد من القبول لكونه لازماً بخلاف القراض حيث لم يشترط على وجه؛ كما صار إليه القاضي فيما إذا لم يأت بلفظ القراض، ولا يشترط مع ذلك بيان أعمال المساقاة، بل يحمل في كل ناحية على عرفها الغالب إذا عرفه المتعاقدان دون ما إذا لم يعرفه أحدهما. وفيه وجه: أنه يشترط تفصيلها وإن عرف العرف؛ لأنه يكاد يضطرب. فروع: لو قال خذ هذه النخلة واعمل عليها بكذا، ففي ابن يونس: أنه يصح. وفي "النهاية": أنه لا يصح ما لم يبين الأعمال التي تستحق على العامل.

ولو قال عاملتك على هذه الأشجار لتعمل عليها على كذا ففيه وجهان: وجه البطلان: أن هذا من أحكام العقد، فلم ينعقد [به] العقد. قال الماوردي: وهذان الوجهان من اختلاف أصحابنا في البيع إذا عقد بلفظ التمليك، ومقتضى هذا: أن يكون الصحيح عنده المنع؛ كما حكاه في لفظ التمليك، وعلى قول الصحة هل يحتاج إلى تفصيل الأعمال؟ فيه تردد حكاه الإمام. ولو قال: استأجرتك على سقي هذه الأشجار، وتعهدها بكذا من ثمرها وهي مفقودة؛ لم يصح إجارة؛ لجهالة الأجرة، ولا كناية في المساقاة؛ لأن ذلك عقد على منفعة. ولفظ الإجارة صريح فيه فلا يكون كناية فيه. وفي "الوسيط" حكاية وجه: أنه [يجوز]؛ لما بين العقدين من المشابهة، وهو جار في انعقاد الإجارة بلفظ المساقاة. وحاصل الخلاف كما قيل راجع إلى أن العبرة باللفظ أو المعنى. وإن كانت الثمرة موجودة لم يبد صلاحها لم تصح إجارة أيضاً؛ لأن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها لا يصح بدون شرط القطع. وقطع البعض متعذر. ولا تصح مساقاة على الوجه الضعيف أيضاً إن منعنا المساقاة [على] الثمرة الموجودة، وإن جوزناها: فيتجه أن يجيء الوجه الضعيف هنا أيضاً. وإن كان قد بدا صلاحها- صح العقد إجارة. قال: ويجوز على الكرم والنخل أما [على] النخل؛ فلما تقدم. وأما [على] الكرم فبعضهم قال: إن الشافعي قاسه على النخل بجامع ما اشتركا فيه من وجوب الزكاة وظهور الثمرة وإمكان خرصها.

وقال الماوردي إنه أشبه، وبعضهم قال إن الشافعي أخذه بالنص، وهو ما روى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من النخل والكرم"، كذا حكاه في "البحر". وهذا القول هو ظاهر لفظه في "المختصر"؛ فإنه قال: فإذا ساقى على النخل أو العنب بجزء معلوم؛ فهي المساقاة التي ساقى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرع: هل يجوز الخرص فيهما في المساقاة؟ فيه قولان حكاهما القاضي الحسين وغيره- وفائدتهما تظهر من بعد: أحدهما: يجوز كما يجوز في الزكاة تمسكاً بما روي أنه- عليه السلام-: "أرسل عبد الله بن رواحة خارصاً لخيبر فخرص نخلها عليهم". والثاني: لا يجوز؛ لأنه ظن وتخمين وما جاء في الحديث كان معاملة بين المسلمين [والمشركين ويعفى في المعاملة مع المشركين ما لا يعفى عنه في المعاملة بين اثنين من المسلمين]. تنبيه: أراد الشيخ بالكرم العنب، وكان الأولى ألا يذكر لفظ "الكرم"، ويذكر لفظ العنب كما حكيناه عن لفظ الشافعي في "المختصر"؛ لأنه ثبت في صحيح مسلم: "لا تقولوا: الكرم وقولوا: الحبلة يعني العنب".

قال: وفيما سواهما من الأشجار قولان- أي الأشجار المثمرة كالتين والكمثرى والمشمش والتفاح ونحوهما. وجه الجواز، وهو القديم وبه قال أبو ثور: "ما روى الدارقطني بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بالشطر مما يخرج من النخل والشجر". ولأن الحاجة تدعو إليها في [هذه الأشجار كما تدعو إليها في] النخل فألحقت به. ووجه المنع- وهو الجديد والأصح: أنها أشجار لا تجب الزكاة في ثمارها فلا تجوز المساقاة عليها؛ كالموز، والصنوبر. والخبر محمول على شجر خيبر [ولم يكن] [بها] سوى النخل، والكرم، ويخالف النخل والكرم؛ لأن ثمارها لا تنمو إلا بالعمل فيها؛ فالنخل يحتاج إلى اللقاح والكرم للكساح وسائر الأشجار تنمو من غير تعهد وعمل فيها، وبنى القاضي الحسين والفوراني القولين في جواز الخرص في النخل والكرم، كما تقدم: إن جوزناه لم تجز المساقاة فيما عداهما من الأشجار؛ لأن الخرص لا يتأتى فيها، وإلا جاز؛ لأن الخرص على هذا القول ساقط الاعتبار. قال الماوردي: والخلاف المذكور فيما [إذا] أفردت هذه الأشجار بالعقد عليها، أما إذا وقع العقد على النخل وهي في وسطه قليلة جازت المساقاة عليها تبعاً؛ كما تجوز [المزارعة تبعاً]. التفريع: إن قلنا بالجديد قال ابن سريج تجوز المساقاة على المقل وجهاً واحداً؟ قال القاضي أبو الطيب: وهو المنصوص والصحيح أنه على القولين. انتهى. وإن قلنا بالقديم: فهل تجوز المساقاة على شجر الفرصاد الذي يصلح ورقه

للقز، وعلى شجر الخلاف لينتفع بأغصانه بعد سنة أو سنتين؟ فيه وجهان: حكاهما الشيخ أبو علي. ووجه الجواز إقامة الورق والأغصان مقام الثمرة. [تنبيه:] احترز الشيخ على القديم بلفظ الشجر عما ليس بشجر من الخضراوات؛ كالبطيخ، والخيار ونحوهما، وعن قصب السكر، والباذنجان والبقول، والقصب ونحو ذلك، فإنه لا يجوز عقد المساقاة عليها. وفي "التتمة" حكاية وجه فيما إذا كانت البقول تجز مرة بعد أخرى أنه يجوز على القديم. قال: وإن ساقاه على ثمرة موجودة ففيه قولان: أحدهما: وهو المنصوص في "الأم"، والصحيح في الرافعي، وقال القاضي الحسين، والإمام: إنه الجديد أنه يجوز. ووجهه: ما حكاه القاضي الحسين عن الشافعي أن المساقاة لما جازت قبل خروج الثمرة فبعدها أجوز، ومن الغرر أبعد. قال القاضي: وهذا يدل على أن الذي يخرج كله [لرب النخل]، ثم يستحق العامل جزاء. والثاني: [أنه] لا يجوز؛ لفوات بعض الأعمال؛ ولأن الثمرة إذا ظهرت فقد ملكها رب النخل، فكان شرط جزء منها للعامل كشرط جزء من النخل. وهذا القول رواه البويطي كما حكاه الماوردي، وقال إنه المشهور من المذهب، وهو الذي صححه الروياني. وقال القاضي الحسين، والإمام: إنه القديم واستبعد الرافعي أن يكون هذا قولاً قديماً؛ لأن "البويطي" معدود من الكتب الجديدة [ولا وجه لاستبعاده فإن "الأم" من الكتب الجديدة] أيضاً. وفيها ما هو معزي إلى القديم. واعلم أن هذا الخلاف جار على المشهور في الطريق فيما إذا كانت الثمرة

لم يبد صلاحها، أما إذا بدا صلاحها فبعضهم أجراه أيضاً [مجرى] ما لم يتبين نضجها ولم يبق إلا الجداد وهو قضية إطلاق الشيخ، والماوردي حيث قال: حكي عن الشافعي في "الإملاء" جوازه بلا تفصيل، ولعل هذا على قولنا: إن العامل أجير لا شريك، وهو ما صرح به البندنيجي حيث قال: إذا ساقاه بعد ظهور الثمرة وقد بلغت أوان الجداد فهي باطلة قولاً واحداً، وإن كان قد بقي من العمل عليها ما فيه مستزاد فيها بالسقي والتسوية وقطع الحشيش المضر بالنخل ففيه قولان: قال في القديم: يصح. وقال في الجديد: لا يصح. وهذا على الضد مما حكيناه عن الإمام والقاضي. وبعضهم جزم بالإبطال، وهي الطريقة التي جعلها الرافعي أظهر؛ لأنها لا تتأثر بالعمل بعد، و [بها] جزم ابن الصباغ، والقاضي أبو الطيب. وحكى القاضي الحسين [الخلاف] في هذه الحالة مرتباً على الخلاف فيما إذا لم يبد صلاحها وأولى بالبطلان. وفرق بأن بعد بدو الصلاح فات معظم الأعمال، والمساقاة عقد عمل، وقبله بقي المعظم، وجزم الفوراني والمسعودي بالجواز قبل بدو الصلاح لهذا المعنى، وقد حيكنا الخلاف في الجواز بعده. قال: وإن ساقاه على ودي إلى مدة لا تحمل فيها أي غالباً كما قاله المحاملي، والبندنيجي، وغيرهما لم يصح؛ لأن المقصود أن يشتركا في الثمرة، وذلك معدوم. وفي "الوسيط" حكاية وجه في الصحة، ولم أر في "النهاية" تصريحاً به. قال: وهل يستحق أجرة العمل؟ فيه وجهان: وجه النفي: وهو ما صار إليه المزني، كما حكاه الشيخ في "المهذب" وغيره: رضاه بالعمل بغير عوض؛ إذ المسألة مصورة بما إذا عرف الحال، أما إذا لم يعرفه فإنه يستحقها وجهاً واحداً، وفيما وقفت عليه من "النهاية" حكاية خلاف في هذه الحالة أيضاً.

ووجه الاستحقاق: أن العمل في المساقاة يقتضي العوض فلا يسقط بالرضا، [كالوطء] في النكاح، وهذا ما صار إليه ابن سريج، وبه جزم الشيخ في نظير المسألة عن القراض وهي ما إذا قال: قارضتك على أن [يكون] الربح كله لي، أما إذا كانت تحمل فيها غالباً صح كما صرح به الماوردي وغيره. وعبارة الروياني: أن شرط الصحة أن يقدر بالمدة التي أجرى الله- تعالى- العادة بأن الثمار تطلع فيها إطلاعاً متناهياً وفي هذه العبارة زيادة على الأولى، فإن [بين التناهي] ومجرد الحمل فرقاً ظاهراً. وفي "النهاية" حكاية وجه: أنها لا تصح، وإن غلب [على] الظن الموجود [فيها ما] لم يتحقق، وضعفه. تنبيه: الودي: بكسر الدال المهملة وتشديد الياء صغار النخل، وتسمى أيضاً الفسيل. قال: وإن كان إلى مدة قد تحمل فيها وقد لا تحمل أي: وليس أحدهما أظهر، كما صرح به المحاملي والبندنيجي والجمهور، فقد قيل: يصح؛ لأنه يرجى وجود الثمرة [فيها] فهو كشرط مدة توجد [الثمرة فيها] غالباً، فعلى هذا لو لم تظهر ثمرة لا يستحق [العامل] شيئاً، كما لو ساقاه على نخل يحمل فلم يطلع. وقيل: لا يصح؛ لأنه عقد أجير على عوض غير موجود ولا الظاهر وجوده، فهو كالسلم في معدوم لا يوجد غالباً في المحل المشروط. وهذا ما صار إليه أبو إسحاق، وصححه الرافعي وغيره. قال: وللعامل أجرة المثل أي: على هذا القول وإن لم يطلع؛ لأنه لم يرض أن يعمل مجاناً ولم يسلم نفسه له ما شرط له فرجع إلى البدل ولا خلاف في أنه إذا ساقاه على عشر سنين مثلاً وجوزنا ذلك أنا لا نعتبر العلم بحمل الأشجار، أو الظن به في كل سنة بل يكفي العلم أو الظن بحملها قبل فراغ المدة. قال: وإن ساقاه على ودي يغرسه ويعمل عليه لم يصح؛ أي: سواء شرط له

جزءاً من الودي أو جزءاً من [ثمرته] عند حدوثها، وقد عقد إلى مدة يحمل في مثلها، [لأن هذا] تعليق للمساقاة على [صفة، وفيه مشابهة المساقاة على] الزرع لكونها لم ترد على أصل ثابت، ولأنه في الحالة الأولى [يشبه المزارعة]. وفي "الحالة" الثانية قد شرط عليه الغرس، وليس [هو] من أعمال المساقاة فكان كضم عير التجارة إلى عمل القراض. وفي الحالتين وجه عن رواية صاحب "التقريب": أنه يصح، وحكاه في الثانية غيره، وعلى الصحيح إذا عمل العامل في هذا العقد الفاسد استحق أجرة المثل إن كانت الثمرة متوقعة في المدة، وإن لم تكن متوقعة فعلى ما ذكرناه من خلاف ابن سريج والمزني. قال: ولا تجوز المساقاة إلا إلى مدة معلومة خلافاً لأبي ثور حيث قال: مطلقها يحمل على سنة، ولنا عليه أنه عقد لازم فافتقر [فيه] إلى تقدير المدة حتى لا يتضرر واحد منهما كالإجارة ويخالف القراض حيث لم يعتبر فيه التأقيت؛ لأنه [] يخل بمقصوده؛ لأن الربح ليس له وقت معلوم، وربما لا يحصل في المدة المقدرة، ولحصول المقصود في هذا العقد وهو الثمار غاية معلومة يسهل ضبطها فإن قيل قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود لما افتتح خيبر: "أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ؛ عَلَى أَنَّ الثَّمَرَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ" وهذا يدل على جواز عقدها [لا] إلى مدة فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه – عليه السلام- قال ذلك لهم؛ لأنهم لا يرون النسخ فشرط عليهم ذلك؛ قطعا لتوهم من يتوهم منهم اللزوم فيه ومثل هذا الشرط جائز؛ لأنه

عليه السلام كان يوحى إليه, ولا يجوز لواحد منا لعدم الوحي. الثاني: قاله الماوردي: أنه- عليه السلام- إنما شرط ذلك في عقد الصلح لا في عقد المساقاة. فرع: لو أقت المدة بإدراك الثمار هل يصح؟ فيه وجهان: وجه المنع فيه. قال الأكثرون: الجهل بوقت الإدراك. ووجه الجواز وهو الأصح عند الرافعي: أن ذلك هو المقصود في هذا العقد فكان التأقيت به أولى، فعلى هذا لو قال: ساقيتك سنة، فهل يحمل على سنة عربية أو على سنة الإدراك؟ فيه وجهان: أصحهما عند أبي الفرج السرخسي: الثاني وإن قلنا: بالأول أو أقت بالزمان فأدركت الثمار في بعض المدة وجب على العامل أن يعمل في باقي المدة ولا أجرة له، وإن انقضت المدة وعلى الأشجار طلع أو بلح فللعامل نصيبه منها، وعلى المالك التعهد إلى الإدراك، وإن حد الطلع بعد [تعد] المدة فلا حق له فيه كذا قاله الرافعي. وأوضح منه ما حكاه في "المهذب" أنه لو ساقاه عشر سنين فانقضت ثم أطلعت ثمرة السنة العاشرة لا يستحق؛ لتقضي مدته وزوال عقده. وكذلك هو لفظ الماوردي والروياني في "البحر" وقالا: فيما إذا أطلعت قبل تقضي تلك السنة ثم انقضت ولم يبد صلاحها فله حقه فيها، ثم إذا قيل: إنه أجير كان عليه أن يأخذ حقه منها طلعا أو بلحاً، وليس له استيفاء حقه إلى بدو الصلاح. وإن قيل: إنه شريك كان له استيفاؤه إلى بدو الصلاح وتناهي الثمرة وقد يشكل [الجمع بين] ما حكيته عنهما في صدر هذا الكلام وبين ما قالاه في موضع آخر من كتابيهما، وهو أنه إذا ساقاه إلى مدة تحمل الثمرة فيها غالباً ثم

تأخر الإطلاع فيها لعارض ثم أطلعت بعد تقضيها أما إن قلنا: إن العامل شريك في الثمرة كما هو المذهب كانت الثمرة بينهما؛ لأن ثمرة هذا العام حادثة على ملكهما، ولا يلزم العامل العمل بعد انقضاء المدة. وإن قلنا: إنه أجير فالثمرة لرب النخل وللعامل أجرة المثل وطريق الجمع يؤخذ من لفظ التأخر لعارض فتكون صورة ما قالاه أولاً: فيما إذا انقضت المدة ولم تحدث الثمرة ولا عارض، وصورة ما قالاه ثانياً: في أن الثمرة لولا العارض لظهرت في المدة. قال: ويجوز إلى مدة تبقى فيها العين في أصح القولين؛ أي: مثل أن يقول: ساقيتك على [هذه النخيل] خمسين سنة مثلاً. ووجهه: أنه يجوز عقدها إلى سنة بالاتفاق، وما جاز عقده إلى سنة جاز إلى أكثر منها كالأجل في البيع، والكتابة. [قال:] ولا يجوز في الآخر أكثر من سنة؛ لأنه عقد غرر جوز للحاجة، والحاجة لا [تدعو] إلى أكثر من سنة؛ لأن منافع الأعيان تتكامل فيها. وقيل: في المسألة قول ثالث؛ أنه لا يجوز [إلى] أكثر من ثلاثين سنة؛ لأنها شطر العمر فلا تبقى الأعيان على حال واحد أكثر منها في الغالب. وهذا أخذ من قول الشافعي: يجوز ثلاثين سنة، والصحيح: الأول، وذكر الثلاثين كان على سبيل التكثير لا على سبيل التحديد، أو قاله الشافعي فيما لا يبقى أكثر منها، وعلى هذا إن كانت الشجرة مما تثمر [في] كل سنة، فهل يجب تعيين [كل] حصة كل سنة، أم يكفي قوله: "ساقيتك على النصف"؛ لاستحقاق النصف كل سنة؟ فيه طريقان في "المهذب" وغيره: أحدهما: [إجراء] وجهين أو قولين كما سنذكرهما في الإجارة. والثاني: القطع بالوجوب، وبها جزم الماوردي، والفرق أن الاختلاف في الثمار يكثر وفي المنافع يقل.

قال: ولا يجوز إلا على جزء معلوم من الثمرة؛ لأنه أنفى للغرر وأقطع للمنازعة. واحترز الشيخ بلفظ الثمرة عن أن يجعله من غيرها فإنه لا ينعقد العقد مساقاة بل إجارة إن وجد شرطها. قال: كالثلث والربع والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ساقى أهل خيبر على الشطر مما يخرج من ثمر وزرع مع جهل قدره، وقد اتفق العلماء حتى أهل الظاهر على أنه لا يشترط التقييد بالشطر؛ فتعين أن المراد التقييد بالجزء. قال: وإن شرط [أن] له ثمرة نخلات بعينها أو آصعاً معلومة من الثمرة لم يصح؛ لأنه خلاف ما ورد الخبر به، ولما ذكرناه في القراض والحكم عند قوله: ساقيتك على هذا النخل من غير أن يذكر شيئاً من الثمرة، أو على أن لي النصف، أو على أن لك النصف، أو على أن الثمرة بيننا، أو على أن الثمرة كلها لي؛ كالحكم المذكور في القراض وفاقاً وخلافاً صرح به الرافعي والماوردي؛ حتى حكي عن ابن سريج فيما إذا قال: ساقيتك وأطلق أنه يصح على نصف الثمرة. وحكي عن الأكثرين فساد العقد فيما إذا قال: على أن الثمرة بيننا. ولو قال: ساقيتك على أن الثمرة كلها لك؛ قال الأصحاب: فسد العقد، ولا يجيء فيه ما ذكرناه في القراض أن الثمرة تكون للعامل [على] وزان أن الربح كله للعامل؛ لأن هناك قدرنا المدفوع إليه قرضاً وهاهنا لا يمكن قرض الأشجار، ولكن هل للعامل أجرة عمله؟ فيه وجهان في "الإبانة": ووجه المنع: أنه عمل وعنده أنه يعمل لنفسه، ومن عمل لنفسه لا يستحق أجرة على غيره. وفي "التتمة" حكاية وجه في صحة العقد إذا شرط كل الثمرة للعامل لغرض القيام بتعهد الأشجار وتربيتها، ويجوز إذا ساقاه على ثلاث سنين مثلاً وأن يجعل للعامل في السنة الأولى النصف، وفي الثانية الثلث، وفي الثالثة السدس وبالعكس كما جزم به في "الحاوي" وحكاه ابن الصباغ عن ابن أبي هريرة، وحكي عن غيره: أنه خرج ذلك على ما إذا أسلم في قمح وشعير إلى أجل واحد، لاختلاف السنين في الأحكام.

وهل يجوز أن يشترط له نصف [الثمرة السنة الثالثة دون ما عداها؟ فيه وجهان في "المهذب" وغيره: أحدهما: وهو الذي قطع به المحققون: المنع كما لا يجوز أن يشترط له نصف] ثمرة السنة الأولى دون ما عداها، ولا خلاف أنه إذا لم يغلب حدوث الثمرة إلا في السنة الأخيرة فساقاه على شطر ثمرتها أنه يصح، ويجب الوفاء بالشرط حتى إذا حدثت ثمرة نادرة قبل ذلك اختص بها رب النخل. ولو كان في هذه الحالة العقد بصيغة: أن ما حصل من الثمار في المدة المذكورة فلك منه كذا، ولم يقع التخصيص بثمار السنة الأخيرة؛ فالثمرة النادرة تقسم كما تقسم الغالبة- صرح به الإمام. ويجوز إذا كان النخل أنواعاً معروفة لهما أن يجعل له من ثمرة نوع نصفها ومن النوع الآخر ثلثها، ولا يجوز ذلك عند جهل أحدهما بالأنواع. فرعان: أحدهما: العرجون هل يدخل في المساقاة؟ فيه وجهان في "البحر". الثاني: سواقط النخل من السعف والكرناف والليف لرب النخل؛ لأنه ليس من مألوف الثمار ولا مقصود النخل، فإن شرطه العامل لنفسه بطل، وإن شرط بينهما على نسبة معلومة؛ ففي صحة المساقاة وجهان في "الحاوي". قال: فإذا انعقد لزم كالإجارة هذا من الشيخ مغن عن التعليل، لكن يحتاج إلى بيان الجامع، وهو أنهما عقدان على عمل على العين مع بقائها، وبهذا خالفا القراض، فإن العامل فيه متصرف في العين بإذن مالكها، كالوكيل، فلذلك كان جائزاً كالوكالة. وفرق الماوردي بينهما بأن نماء النخل في المساقاة متأخر عن العمل فكان في ترك لزومه تفويت للعمل بغير بدل، ونماء المال في القراض متصل بالعمل فلم يكن في ترك لزومه تفويت للعمل بغير بدل. وقد استدل الرافعي على اللزوم: بأنا لو قلنا بجوازها فربما يفسخ المالك بعد العمل وقبل ظهور الثمرة وحينئذ فإما أن نقطع حق العامل عنها، أو لا؛ فإن

قطعناه ضاع سقي العامل مع تأثيره في الثمار، وإنه ضرر، وإن لم نقطعه لم ينتفع المالك بالفسخ، بل يتضرر لحاجته إلى القيام ببقية الأعمال، ويخالف القراض فإن الربح ليس له وقت معلوم ولا له تأثير بالأعمال السابقة فلا يلزم من فسخه ما ذكرناه. قلت: ولا يرد عليه أن يقال: يفسخ ولا يسقط حق العالم بالكلية ولا يستحقه من الثمرة، بل يستحق أجرة مثل ما عمل كما يقول في الجعالة؛ [لأن العمل في الجعالة] مضبوط يمكن اعتباره وهو في المساقاة غير مضبوط. تنبيه: قول الشيخ: لزم كالإجارة فيه إشارة إلى أن خيار [الشرط] لا مدخل له فيها، وفي خيار المجلس وجهان كما سيأتي في الإجارة، وصرح به في "المهذب" هنا. فإن قيل: قد صرح الغزالي: بأن من شرط صحة المساقاة ورودها على الذمة، وهو الذي يقتضيه كلام الأصحاب حيث أطلقوا أن للعامل أن يساقي على جزء من الثمرة بقدر ما شرط له أو دونه، وكذا إطلاقهم أنه إذا هرب أو مات أن يؤجر من ماله من يعمل عنه، ولو كان وردوها على العين يصح لما صح هذا الإطلاق منهم. وإذا كان كذلك فسيأتي حكاية خلاف في ثبوت خيار الشرط في الإجارة الواردة على الذمة، فينبغي أن يأتي مثله هاهنا. قلت: لا نسلم أن من شرط المساقاة ورودها على الذمة وما ذكره الغزالي فهو احتمال أبداه الإمام وقد صرح المتولي بأنها إذا وردت على العين صحت، وليس للعامل أن يستعين بعامل غيره، وإنه إذا فعل ذلك انفسخت المساقاة بتركه العمل

وكانت الثمار لرب النخيل ولا شيء للعامل الأول، والعامل الثاني إن علم بالفساد فلا شيء له، وإن جهل ففي استحقاقه أجرة المثل ما سنذكره في خروج الأشجار مستحقة، وما أطلقه الأصحاب فهو محمول على الأعم الأغلب [فيها]. وعلى تقدير أن يكون من شرطها الورود في الذمة [كما] ذكر فيما ذكر من الاختلاف في ثبوت خيار الشرط في الإجارة الواردة على الذمة مخصوص بما إذا لم يقيده بمدة، أما إذا تقيدت بمدة فلا، وهو نظير مسألتنا. واعلم أنه قد بقي من الشروط شرطان لم يذكرهما الشيخ: أحدهما: أن تكون الأشجار معينة فلو قال: ساقيتك على إحدى حوائطي أو على ما شئت من نخلي كان باطلاً؛ لأن النخل أصل في العقد فبطل بالجهالة؛ كالبيع. الثاني: الرؤية فلو ساقاه على نخل لم يرها ووصفها- لم يصح، وبعضهم خرجه على قولي بيع الغائب، والذي صححه الماوردي والروياني- الطريق الأول؛ لما في ذلك من تكثير الغرر في [هذا] العقد، بخلاف البيع. فائدة: ذكرها القاضي الحسين وهي: أن هذا العقد شبيه بعقود: فمن حيث إنه التزام عمل في الذمة ولا يبطل بموت العامل شبيه بالسلم. ومن حيث إنه يجوز التفرق فيه قبل التقابض: شبيه ببيع العين. ومن حيث إنه معقود على العمل [في شيء ببعض ما يخرج منه شبيه بالقراض. ومن حيث إنه عقد لازم بعوض على العمل]. يشترط فيه التأقيت شبيه بالإجارة. انتهى. وما قاله أولاً [لا يعضد] ما قاله الغزالي: أن شرطها الورود على الذمة. قال: "وعلى العامل أن يعمل على ما فيه مستزاد في الثمرة" أي: عند إطلاق العقد من التلقيح، وصرف الجريد، وإصلاح الأجاجين وتنقية السواقي والسقي؛ لاقتضاء العرف ذلك. تنبيه: المستزاد: الزيادة.

والتلقيح: وضع شيء من طلع الذكور في طلع الإناث، والكثر يكون على المالك. وصرف الجريد قطعه إذا أضر بالنخل، يابساً كان أو رطباً. وقيل: إنه يرده عن وجوه العناقيد وتسوية العناقيد [بينها] لتصيبها الشمس وليتيسر قطعها عند الإدراك، وهو بالمعنى الأول متفق على وجوبه على العامل، وفي معناه تقليم قضبان الأشجار المضرة، وبالمعنى الثاني قال الماوردي: لا يجب على العامل إلا بالشرط، وغيره أوجبه من غير شرط، وألحق به المتولي تعريش الكرم حيث جرت العادة به، وكذا وضع الحشيش فوق العناقيد، صوناً لها عن الشمس عند الحاجة. الأجاجين: ما حول المغارس محوط عليه يشبه الإجانة التي يغسل فيها. السواقي: هي المجاري. ويجب على العامل تنقيتها من الحمأة، والسقي بأن يجري الماء بآلة المالك إلى الأشجار في الوقت المعتاد، ويفتح رأس الساقية، ويسدها عند الحاجة إليها. قال: وعلى رب المال ما يحفظ به الأصل [أي: مما يعد من الأصول]، كسد الحيطان وحفر الأنهار أي: الذي احتيج إلى تجديدها، أو التي: انهارت، وشراء الدولاب أي: ونصبه، وشراء الأبقار، والآلات التي يوفي بها العمل؛ كالفأس والمعول والمنجل، والمسحاة ونحو ذلك. ووجه وجوبه على المالك: العرف. وقيل: إن الثيران والمسحاة ونحوها على من شرطت عليه، ولا يجوز السكوت عنها، وهو المذكور في "أمالي" السرخسي. ويحكى عن أبي إسحاق ووراء ذلك أمور أخر مختلف فيها. فمنها: تنقية البئر والنهر [والمذهب] إنها على العامل. وقيل: على المالك. وقيل: هو على من شرط عليه؛ فإن لم يشترط بطل العقد، وهو قول أبي إسحاق.

ومنها: حفظ الثمار هل هو على العامل أو عليهما على نسبة ملكيهما في الثمرة؟ فيه وجهان: أظهرهما؛ وبه قال ابن الصباغ وغيره: الأول، وهما جاريان [في حفظ الثمار] عن الطيور والزنابير بأن يجعل كل عنقود في قوصرة، لكن القوصرة على المالك جزما. وفي جداد الثمار أيضاً وقطافها كما حكاها الماوردي وغيره وطردهما في "الرقم" في تجفيف الثمار، والظاهر وجوبه إذا اطردت العادة به أو شرطاه، وإذا وجب التجفيف وجب تهيئة موضع التجفيف، ونقل الثمار إليه وتقليبها في الشمس من وجه إلى وجه. ومنها: سد الثلم اليسيرة التي تتفق في الجدار، فيه وجهان، والأشبه: اتباع العرف، وكذلك في وضع الشوك على رأس الجدار الوجهان. فرع: لو شرط على العامل ما يلزم المالك بطل الشرط والعقد. [وقيل: يبطل الشرط دون العقد]. وقيل: يبطل العقد دون الشرط حملاً على الشروط الفاسدة في الرهن. وقال الماوردي: وهو خطأ؛ لأن عقود المعاوضات إذا تضمنت شروطاً فاسدة بطلت؛ كالشروط الفاسدة في البيع والإجارة. ولو شرط على المالك شيء مما على العامل بطل إلا السقي فإنه إذا شرط على رب النخل جاز كما نص عليه في "البويطي"؛ لأنه لو ساقاه على بعل جاز والبعل: ما شرب بعروقه من غير سقي كذا حكاه البندنيجي. وحكى الماوردي في ما يشرب بعروقه؛ كنخل البصرة ثلاثة أوجه: أحدها: أن سقيها على العامل. والثاني: أنه على رب النخل واشتراطها على العامل يبطل العقد. والثالث: يجوز [اشتراطه] على المالك، ويجوز على العامل. فإن أطلق العقد لم يلزم واحد منهما. تنبيه: الدولاب: فارسي معرب تضم داله وتفتح.

الأنهار: جمع نهر بفتح الهاء وإسكانها، وتجمع أيضاً على نهر بضمتين، مشتق من: أنهرت الدم وغيره: أي: أسلته. قال: وإن شرط أن يعمل معه غلمان رب المال أي فيما يلزمه من أعمال المساقاة ويكونوا تحت أمره- جاز على المنصوص أي: إذا كانوا معروفين بالرؤية، أو الوصف لما ذكرناه في القراض، وقد استدل له الغزالي بأن العبد يكون مستعاراً على التحقيق والإعانة به كالإعانة بالثيران، ولا خلاف في [جواز اشتراطها]. وقد اعترض عليه بأن الثيران على المالك كما تقدم، فإذا اشترطت فقد شرط على المالك ما هو واجب عليه. وجوابه: أن المراد أن المالك قد وجب عليه بعض الأعمال وهو إدارة السواقي بالثيران وكان مقتضى العقد أن يجب على العامل وقد وجب على المالك بالشرط؛ فكذلك [عمل] الغلمان. وإذا عين رب المال [الغلمان] فلا يجوز له أن يبدلهم بغيرهم صرح به الماوردي، أما إذا شرط في عمل الغلمان الاستقلال بالتصرف دون مراجعة العامل، أو ألا يتصرف [العامل] دون مراجعتهم لم يصح. وكما يجوز أن يشترط العامل عمل غلمان رب المال معه يجوز أن يشترط رب المال عمل غلمان العامل معه كذا حكاه الماوردي عن نص الشافعي وقال: إنه يجوز اشتراطهم من غير تعيين ولا وصف. قال: وتكون نفقتهم على رب المال؛ لأنهم ملكه، وهذا هو المشهور، ولم يذكر في "التعليق" وابن الصباغ غيره، ووراءه وجوه: أحدها: أنها على العامل حكاه في المهذب فعلى هذا لو اشترطت على المالك جاز. والثاني: أنها تكون من الثمرة وهو الذي اختاره في "المرشد". والثالث: أن العقد يفسد عند عدم بيان من هي عليه.

قال: وإن شرط أن يكون على العامل جاز؛ لأن العمل في المساقاة عليه فلا يبعد أن يكون [عليه] مؤنة من يعمل معه ويعاونه، وهو كاستئجار من يعمل معه، وعلى هذا هل يجب تقديرها؟ فيه وجهان: أقيسهما عند القاضي الحسين: نعم فيبين ما يدفع إليهم كل يوم من الخبز والإدام. والثاني: لا وبه أجاب الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب، ويحمل على المعتاد؛ لأنه يتسامح بمثل ذلك في المعاملات. وقيل: لا يجوز شرطها على العامل؛ لما في ذلك من قطع نفقة الملك [عن المالك] وبه قطع المسعودي. فرع: لو شرطت النفقة في الثمار قال في "التهذيب": لا يجوز؛ لأن ما يبقى يكون مجهولاً. وقال صاحب "الإفصاح": يجوز؛ لأنه قد يكون [ذلك] من صلاح المال. قال الرافعي: ويشبه أن يتوسط فيقال: إن شرطاها من جزء معلوم بأ، شرطا صرف ثلث الثمار للنفقة والثلث للمالك، والثلث للعامل جاز، وكأن المشروط للمالك ثلثاها وإن شرطاها في الثمرة من غير تقدير جزء لم يجز. وفي "الحاوي": إن كان عملهم قبل حدوث الثمرة فالشرط باطل لعدم محلها، وإن كان بعد حدوث [الثمرة] ونفقتهم من غير جنسها ليباع ويصرف في نفقتهم فهو باطل أيضاً؛ لأن الثمرة غير مستحقة، والنفقة غير ثابتة [في الذمة]. وإن كانت النفقة من الثمرة نفسها ففي الجواز وجهان: الأصح: البطلان، ووراء المنصوص طريقة أخرى بإجراء وجهين في الجواز كما قيل في القراض. ووجه المنع: أن يد العبد كيد سيده والقائل به حمل النص على ما إذا اشترط أن يعملوا [فيها لو تعلق] على السيد من الأعمال؛ كحفر الأنهار وبناء الحيطان. والأظهر: الطريقة الجازمة بالمنصوص.

وفرق قائلها بين المساقاة والقراض بأن في المساقاة بعض الأعمال على المالك. فجاز أن يشترط عمل غلمانه، وفي القراض لا عمل على المالك [أصلاً] فلا يجوز شرط عمل غلمانه، وأما ما حمل عليه النص فلا يستقيم؛ لأن تتمة قول الشافعي: "ونفقة الرقيق على ما يتشارطان عليه وليس نفقة الرقيق بأكثر من أجرتهم فإذا جاز [أن يعملوا] للمساقي بغير أجرة جاز أن يعملوا له بغير نفقة"، ومع هذه التتمة لا يحسن الحمل على ما قالوه. قال: وإن شرط أن يعمل معه رب المال لم يجز؛ لما ذكرناه في القراض، ويجوز للعامل أن يستأجر المالك في الأعمال المتوجهة عليه على الأصح كما يجوز للمالك أن يستأجر العامل فيما يجب عليه. وفيه وجه: أنه لا يجوز بناءً على أن من أجر داره لا يجوز أن يستأجرها. وهل يجوز أن يشترط رب المال لنفسه الدخول إلى الأشجار مع تسليم المفتاح إلى العامل؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لحصول الاستقلال والتمكن من العمل. ووجه المنع: أنه إذا دخل كانت الحديقة في يده وقد يتعوق بحضرته عن العمل. قال: والعامل ـــــــ فيما يدعي من هلاك؛ كالعامل في القراض لائتمانه لهما. فإن قيل: قد ألحقتم هذا العقد بالإجارة في لزومها؛ فيكون العامل كالمستأجر على عمل في الذمة، وهذا حقيقة الأجير المشترك فهلا جرى الخلاف في تضمينه كما في الأجير المشترك ثم على تقدير ألا يكون كالأجير المشترك فهو لا يتقاعد عن الوكيل بجعل، وقد حكى الماوردي في ضمانه وجهين فينبغي أن يكون هذا مثله. قلت: قد يظهر الفرق بينهما أن الأجرة في مسألة الأجير المشترك والجعل في الوكالة محقق فغلب غرض الأجير والوكيل، وهاهنا لم يتحقق العامل [حصول] الأجرة وغرض المالك حاصل فغلب جانبه وجعلت اليد له. قال: وفيما يدعى عليه من الخيانة؛ لأن الأصل عدمها، وقد وجهه

الغزالي بأنه أمين، واعترض عليه بأن القول قول من ادعى عليه الخيانة، وإن لم يكن أميناً؛ عملا بما ذكرناه ولا يسمع دعوى الخيانة إلا مفسرة كسائر الدعاوى. وفي "الحاوي": [أنه] إن أراد بدعوى السرقة التغريم لم تسمع الدعوى إلا معلومة، وإن أراد رفع يد العامل بها عن الثمرة ففي سماعها مجهولة وجهان. قال: فإن ثبتت خيانته أي: إما بإقراره أو بالبينة أو بيمين المدعي بعد النكول ضم إليه من يشرف عليه؛ لأنه مستحق العمل ويمكن استيفاؤه منه بهذا الطريق فتعين كما نقول في المرتهن: إذا تعدى في الرهن لم يبطل حقه منه، بل يحفظ عند عدل لتعينه طريقاً للجمع بين الحقين، وهذا ما نقله [المزني] في غير "المختصر" ويكون أجرة المشرف على العامل. وفي "التتمة": أن إيجاب الأجرة على العامل مبني على أن مؤنة الحفظ عليه [أم لا] فإن المقصود من ضم المشرف إليه الحفظ، أما إذا قلنا: [إن] الحفظ عليهما؛ فكذلك أجرة المشرف. وفي "الوسيط": أن أجرة المشرف على العامل إن ثبتت خيانته بإقراره أو ببينة، وإلا فعلى المالك. فإن قيل: هذا يفهم أنها إذا ثبتت بيمين الرد تكون على المالك، وكان ينبغي أن تجب على العامل في هذه الحالة أيضاً؛ لأنها بمنزلة الإقرار، أو البينة بالنسبة إلى الحالف والناكل وإيجاب الأجرة لحق الحالف، وقد وافق على أنها إذا ثبتت بالإقرار أو بالبينة تكون على العامل؛ فكذلك عند النكول والحلف وقد صرح بذلك الرافعي وغيره. وجوابه من وجهين: أحدهما: أن يجري اللفظ على ظاهره ويسلم [إليه بمقتضى] عدم إيجابها في حالة النكول والحلف، لكن يمنع أن الأجرة تعود إلى الحالف فإن مستحقها المشرف وهو أجنبي عنهما، والنكول مع الحلف إنما يجعل كالإقرار أو كالبينة بالنسبة إلى الحالف.

الثاني: أن نمنع أن المراد عدم إيجابها في حالة النكول والحلف كما ذكر؛ لكون الكلام الأول مغنياً عنه [لكن المراد ما إذا لم تثبت خيانته وضم إليه المالك مشرفاً احتياطاً، فإنه يجوز وأجرته عليه] كما صرح به الإمام والله أعلم. قال: فإن لم يتحفظ بالمشرف استؤجر عليه من يعمل، عنه؛ لتعذر استيفاء العمل بالواجب عليه منه والقدرة عليه بهذا الطريق. وقيل: يستأجر عليه ابتداء وهو ظاهر ما نقله المزني في "المختصر"، والجمهور لم يثبتوا اختلاف نقل المزني قولين، بل نزلوه على حالين كما ذكر الشيخ. قال: وإن هرب العامل استؤجر من ماله من يعمل عنه؛ لأن العقد لا ينفسخ بهربه؛ كما لا ينفسخ بصريح فسخه، وإذا لم ينفسخ فالحق متوجه عليه، وتحصيله ممكن بهذا الطريق فتعين، والمستأجر هو الحاكم فيرجع الأمر إليه وتثبت عنده المساقاة وهرب العامل بعد اللزوم، فإذا ثبت ذلك طلبه، فإن وجده ألزمه العمل، وإن لم يجده وكان له مال ظاهر اكترى عليه من يقوم مقامه في العمل. قال: وإن لم يكن له مال [أي] ظاهر أقرض عليه؛ لأن للحاكم ولاية الإقراض لوفاء الحقوق التي تفوت بالتأخير، والإقراض يكون من بيت المال، فإن لم يكن فيه فضل اقترض من آحاد المسلمين، ولو اقترض من رب النخل جاز، وهذا إذا لم يجد من يرضى بأجرة مؤجلة إلى مدة تدرك فيها الثمار، فإن وجد استأجره وأعطاه أجرته عند إدراك الثمرة من ثمر نصيب العامل. قال: فإن أنفق عليه رب المال بغير إذن الحاكم أي: مع قدرته عليه لم يرجع؛ لأنه متبرع، فإن أذن له الحاكم في ذلك جاز كما صرح به البندنيجي، وأبو الطيب، وادعى المحاملي نفي خلافه. وفي "تعليق" القاضي الحسين وغيره من كتب المراوزة حكاية وجهين في الرجوع: وأصحهما: المحكي عن العراقيين ووجه المنع: أنه متهم [في حق نفسه]

فطريقه: أن يسلم المال إلى الحاكم ليأمر غيره بالإنفاق، وهذه الطريقة [أشبه لما] سيأتي في مسألة هرب الجمال. قال: فإن لم يقدر على إذنه فأنفق ولم يشهد أي: مع القدرة عليه- لم يرجع؛ لأن عدم إشهاده مع القدرة دليل على تبرعه. قال: وإن أشهد أي: وشرط الرجوع كما صرح به البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما، فقد قيل: يرجع؛ لأنه موضع ضرورة، وقد بذل المجهود، وهذا هو الأصح وقيل: لا يرجع لئلا يكون حاكماً لنفسه على غيره، وهو لا يجوز وإن لم يشهد لعدم القدرة عليه فإن قلنا: إنه لو أشهد لا يرجع فهاهنا أولى، وإن قلنا: يرجع ثم؛ فهاهنا وجهان حكاهما القاضي الحسين وقال: إن حكم هذه المسألة حكم هرب الجمال في الإجارة، واختصر الغزالي، والإمام، والفوراني هذا التطويل وقالوا في رجوعه إذا أنفق عند تعذر مراجعة الحاكم ثلاثة أوجه: أحدها: يرجع. الثاني: [لا يرجع]. الثالث: إن أشهد رجع وإلا فلا، وقد يفهم من ذلك جريان وجه مطلق أنه يرجع وإن قدر على الإشهاد فلم يفعله كما فهمه الرافعي، والظاهر خلافه [لما سنبينه] في الإجارة- إن شاء الله تعالى. والمراد بالإنفاق: ما يصرفه أو يستأجر من يعمل على العامل، وفي معناه عمل رب النخل بنفسه. قال: فإن لم يمكن ذلك فله أن يفسخ؛؛ لأنه تعذر عليه استيفاء المعقود عليه، وكان له الفسخ؛ كما لو أبق العبد المبيع قبل القبض. ولا يسقط حقه من الفسخ ببذل رجل له العمل متبرعاً به عن العامل؛ [لأنه قد لا ياتمنه ولا يرضى بدخوله ملكه. نعم لو عمل متبرعاً به عن العامل] قبل شعور رب النخل [به] حتى حصلت الثمرة؛ سلم للعامل نصيبه منها، وأبدى الرافعي احتمالاً لنفسه في منع الفسخ عند بذل الأجنبي.

وحكي عن [ابن] أبي هريرة فيما إذا لم تكن الثمرة قد ظهرت أنه منع الفسخ، وقال: يساقي الحاكم عن العامل فربما يحصل له فضل من الثمرة، وهو الذي حكاه القاضي أبو حامد في "جامعه". وقال القاضي أبو الطيب: إنه غير صحيح؛ لأن المساقاة إنما تجوز إذا كان من أحدها الأصل ومن الآخر العمل، والهارب لا أصل له فيها فلم يصح أن يساقي عنه، وهذه العلة من القاضي تفهم أن العامل لا يجوز له أن يساقي بنفسه، وقد صرح في "البحر" وغيره بالجواز كما حكيناه من قبل. قال: فإن لم تكن ظهرت الثمرة أي: عند الفسخ؛ فالثمرة للمالك لزوال العقد قبل ظهورها الذي هو سبب ملك العامل، وللعامل أجرة ما عمل؛ لأنه عمل في عقد لازم طامعاً في العوض فأشبه المستأجر إذا وقعت الإجارة على عينه وهرب، ولا يقال: أن الثمرة عند حدوثها تتوزع على جميع المدة؛ لأن العمل فيها غير مضبوط حتى تتوزع الثمرة عليه. وأيضاً فإن الثمرة غير معلومة حالة العقد حتى يقال: اقتضى العقد التوزيع فيها. قال: وإن ظهرت فهي لهما؛ لأنه مقتضى العقد، وهذا من الشيخ تفريع على أن للعامل تملك حصته من الثمرة بالظهور. أما إذا قلنا: إنه لا يملكها به؛ فالحكم كما لو لم يظهر. قال: [فإن اختار رب المال] البيع أي: بيع حصته مع حصة العامل بشرط القطع فعل لأنه يسقط [عن] العامل العمل فإنه لا عمل بعد قطعها، ويحفظ نصيب العامل عليه [هذا ما] قاله البندنيجي وصاحب "البحر". قال: وإن لم يختر بيع منه نصيب العامل [أي:] أو بعضه على قدر ما يحتاج إليه من الأجرة؛ لأنا قدرنا على بيع ماله لوفاء ما بقي عليه من حق، وهو العمل؛ لأجل بقاء نصيب رب الشجر من الثمرة عليها، فهذا من الشيخ

جواب على ما ذكره في البيع أن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح بدون شرط القطع يصح من صاحب الأصل. وفيه وجه حكيناه ثم: إنه لا يجوز، فعلى هذا يكون الحكم كما لو امتنع من الشراء صرح به الأصحاب. قال: وإن لم يختر أي: المالك الشراء ترك إلى أن يصطلحا؛ إذ لا طريق غيره. قال المزني في "الجامع الكبير": ويقال للمالك: تصرف فلا حق لك عندنا، ولا يخفى أن مراد الشيخ بما ذكره إذا لم تكن الثمرة [قد بدا] صلاحها، أما إذا كان صلاحها قد بدا قبل الفسخ فبيعها من المالك وغيره ممكن من غير شرط القطع، وهي مال من جملة أمواله التي يقدر على التصرف فيها فيندرج في كلامه الأول. واعلم أن ظاهر ما ذكره الشيخ [يقتضي] أن لرب المال الفسخ وإن كانت الثمرة قد ظهرت، وكذلك كلام الغزالي في "الوجيز" يقتضيه، وهو ما ذكره في "المهذب" وصرح به الإمام في صدر الفصل فإنه لم يفرض المسألة إلا فيما إذا هرب بعد ظهور الثمرة كما ذكرها المزني في "المختصر"، وكذلك الماوردي فرض المسألة [فيما] إذا ظهرت الثمرة ولم يبد صلاحها وحكى الوجه المحكي عن ابن أبي هريرة ثم حكى وجهاً آخر أن له الفسخ وقال: إنه الصحيح عندي لكن الشيخ في "المهذب" لم يذكر التفريع الذي ذكره هنا بل سكت عنه وعن غيره، والإمام قال: إذا جرى الفسخ وقد عمل العامل بعض الأعمال فلا نقول يستحق العامل جزءاً مما [شرط له]، ويسقط جزء، بل ينقطع الاستحقاق من الثمار بالكلية، ولو جرينا على قياس الإجارة ونزلنا الثمرة منزلة الأجرة لأثبتنا بعضاً من الثمار فإن الإجارة إذا انقضى بعض مدتها وطرأ في باقيها ما يوجب الفسخ فإذا فسخت في البقية لم تنفسخ فيما مضى على ظاهر المذهب فأعمال المساقي لا تجري مجرى المنفعة في الإجارة حتى يقال: المقتضى منه يسقط من العوض المسمى في المعاملة، وهذا يفهم أن الثمرة كلها تسلم لرب المال، وللعامل أجرة عمله،

ويؤيده أنه قال في آخر الفصل: [و] في كلام القاضي إشارة إلى أن حق العامل إنما يسقط بالفسخ إذا لم تظهر الثمرة، فأما إذا ظهرت؛ ففي كلامه تردد ظاهر [في] أن الفسخ لو جرى لم يتضمن إسقاط حق العامل من الثمرة بالكلية التفاتاً على ما ذكرناه في الإجارة فلا [بد] من سقوط البعض ولا يرجح فيه إلا ما مهدناه في صدر الفصل، وما حكاه عن القاضي هو عين ما صار إليه الماوردي فإنه قال: إن الثمرة إذا ظهرت واختار رب النخل الفسخ كما هو الصحيح- صار العقد منفسخاً في الباقي من الثمرة، ثم الصحيح من مذهب الشافعي لزومه في الماضي من العمل ويكون حصة العامل من الثمرة مقسطة على الزمان الماضي منه والباقي، فيستحق العامل منها ما قابل الماضي من عمله، ويستحق رب النخل ما قابل الباقي من عمله مضموماً إلى حصته وقال الروياني: إنه حسن غريب، والذي صار إليه [الجمهور والمصنفين] من المحاملي، والبندنيجي، وأبي الطيب، وابن الصباغ، والقاضي الحسين: أن الفسخ إنما يتسلط عليه رب النخل إذا لم يكن قد ظهرت الثمرة. أما إذا كانت قد ظهرت فإن كان بدا صلاحها، فإن سمح رب النخل ببيع نصيبه مع نصيب العامل فعل. قال ابن الصباغ والبندنيجي: ويحفظ نصيب العامل. ووجهه البندنيجي: بأن العمل حينئذ لم يبق بعد قطعها. وفي "تعليق" القاضي الحسين أن في هذه الحالة أيضاً أنه يستأجر من [ثمر] حصة العامل من يعمل عنه وإن لم يسمح عرض عليه [شراء] نصيب العامل إذا قلنا بجواز بيع الثمرة من صاحب الأصل بدون شرط القطع، فإن رضي صرف ثمنه أو بعضه في أجرة من يكمل العمل، وإن لم يرض ترك، ويقال له: تصرف فلا حكم لك عندنا، وهذا هو المناسب فإن الثمرة إذا ظهرت وملكها العامل فقد صارت مالا من جملة أمواله يمكن بيعها بهذا الطريق، فأي فائدة في الفسخ قبله؛ وإلى هذا يجيء الرافعي حيث قال بعد حكاية ما ذكرناه عن "المهذب": ولا يكاد يفرض للفسخ بعد خروج الثمار فائدة.

قلت: وقد يفرض له فائدة وهي: أنه لو لم يفسخ يصير متطوعاً بالباقي من [العمل؛ فللعامل] حصته من الثمرة كما صرح حكايته الماوردي. وأيضاً: فإنه يتمكن بعد الفسخ من المساقاة عليها على جزء من ثمرة نفسه على رأي، بخلاف ما إذا لم يفسخ، فإنه لا يقدر على ذلك. فإن قيل: هل يمكن حمل كلام الشيخ في "التنبيه" على ما حكاه الجمهور من أنه لا يتمكن من الفسخ بعد حدوث الثمرة. قلت: نعم إذا حذفت واو مما يوجد في النسخ فيكون الكلام: فإن لم يكن ذلك فله أن يفسخ إن لم تكن ظهرت الثمرة فالثمرة للمالك، وإن ظهرت فهي لهما .. إلى آخر الكلام، والله أعلم. والعجز عن العمل بالمرض ونحوه؛ كالهرب قال: وإن مات العامل فتطوع ورثته بالعمل استحقوا الثمرة أي: التصرف في الثمرة؛ لأنها منتقلة إليهم بالإرث، وقد زال تعلق حق الغير بها. قال: وإن لم يعملوا استؤجر من ماله من يعمل [عنه] لأنه حق وجب عليه إبقاؤه، والمستأجر كذلك هو الوارث فإن امتنع فالحاكم. وفي "البحر"، وغيره عن رواية القاضي أبي حامد في الجامع وصاحب "التقريب": أن الوارث يجبر [على العامل]؛ لقيامه مقام المورث، كما يقوم وارث المستأجر مقامه. وعنه احترز الشيخ بقوله: فتطوع ورثته بالعمل. قال: فإن يكن له مال [فلرب] المال أن يفسخ؛ لتعذر استيفاء المعقود عليه، ويجيء فيه وجه ابن أبي هريرة وما ذكر من التفصيل كما صرح به الماوردي وغيره حتى قال البندنيجي: إن ما ذكرناه عند الهرب يجري في هذه المسألة حرفاً بحرف إلا جواز الاستقراض عليه، لخراب ذمته بالموت. وفي "البحر" [أنه] قيل: لا يستأجر عليه بأجرة مؤجلة، وهذا كله تفريع على أن عقد [المساقاة] لا ينفسخ بالموت إذا ورد على الذمة كما هو الصحيح. وقد حكى الإمام عن رواية الشيخ أبي علي وجهاً ضعيفاً: أن العقد ينفسخ بموت العامل.

قال: ويملك العامل حصته من الثمرة بالظهور كما ملك رب النخل حصته توفية للشروط وزكاته عليه؛ لتمام ملكه، وهذا إذا بلغت حصته نصاباً، أو كان الجميع نصاباً وقلنا: بصحة الخلطة في [غير] المواشي، أما إذا قلنا: بأنها لا تجري في غير المواشي فلا زكاة عليه. قال: وقيل فيه قولان: أحدهما: هذا. والثاني: أنه لا يملك إلا بالتسليم قياساً على القراض، والمذهب الأول. والفرق أن الفائدة هنا لم تجعل وقاية للأصل وليس كذلك في المضاربة؛ فإن الربح فيه وقاية لرأس المال، فإنه لو ذهب منه شيء جبر بالربح [ثم] على القول بعدم الملك، زكاة الجميع تخرج من الثمرة وهل هي محسوبة من نصيب المالك أم من نصيبهما؟ فيه طريقان: أحدهما: حكاية قولين كما في القراض، ولا يجيء الثالث المذكور في القراض هاهنا. والطريق الثاني: القطع بأنها تخرج من النصيبين، والفرق بينهما وبين القراض أن رب المال لما اختص ببعض المال الزكائي وهو الأصل اختص بتحمل الزكاة عن الكل، ولما لم يختص رب النخل بشيء من الثمرة لم يتحمل زكاة كل الثمرة. فرع: لو ظهرت الثمرة بعد لزوم العقد، وقبل أن يعمل العامل شيئاً من أعمال المساقاة، قال في "الحاوي": إن كان ذلك بعد قبض الأشجار استحق نصيبه من الثمار وإن كان قبل قبضها، فإن قيل: إنه أجير لم يكن له في تلك الثمرة نصيب؛ لارتفاع يده. وإن قيل: إنه شريك استحق نصيبه من الثمرة؛ لأنها بعد العقد حادثة على ملكهمأ، وعلى العامل أجرة مثل ما استحق عليه من العمل. وقال الإمام: إن وقع الاستغناء عن جميع أعمال المساقاة، أو عن معظمها فلا شك أن هذا يؤثر إذ لو قلنا: إنه لا أثر لذلك لزم، أن يستحق ما شرط له من

الثمرة من غير عمل، وهذا محال فإن الجزء الذي شرط له قوبل استحقاقه بالعمل فيستحيل ثبوت استحقاقه دونه. وينقدح لي إذا علم البعض! نسبة أجرة المثل إلى الأعمال التي لا تسقط من أعمال المساقاة إلا على ندور دون ما يغلب سقوطه في تارة ويغلب الإتيان به في تارة حتى يتبين أنه لو استتمها كم كانت [أجرة مثله؟ وإذا سقط بعض الأعمال؛ كم أجرة مثله؟ فينسب ما سقط من] أجرة المثل إلى جميعها وتسقط. مثال ذلك من الجزء [المشروط من الثمار] فإن كان الساقط نصف أجرة المثل [مثلاً] سقط نصف ما شرط للعامل ليفوز به رب الثمار، ولست أرى [إسقاط] استحقاقه من الثمار وإيجاب أجرة المثل؛ كما ذكرناه في انفساخ العقد، وليس يبعد المصير إليه، فإن تبعيض الثمار عسير في وجه الرأي. فرع: إذا لم تثمر الشجرة أصلاً أو تلفت الثمار بجملتها، أو غصبت، فعلى العامل إتمام العمل. وإن تضرر كما أن عامل القراض يكلف التنضيض وإن ظهر الخسران في المال كما حكاه المتولي. قلت: ويجوز أن يفرق بينهما بما ذكره الأصحاب في توجيه وجوب التنضيض، وهو أنه قبض المال ملكاً تاماً، والدين يناقض ذلك فلزمه رده، كما أخذه وهذا مفقود هنا، وقد قال الرافعي: إن ماصار إليه المتولي أشبه مما ذكره في "التهذيب" أن الثمار إذا هلكت كلها بالجائحة أن العقد ينفسخ إلا أن يريد بعد تمام العمل وتكامل الثمار، وإنه إن هلك بعض الثمرة؛ فللعامل الخيار بين أن يفسخ ولا شيء له، وبين أن يجبر ويتم العمل ويأخذ نصيبه من الباقي. قال: وإن ساقاه في المرض وبذل له أكثر من أجرة المثل اعتبرت الزيادة من الثثلث؛ لأنها محاباة؛ فأشبه ما لو أجره داره بأقل من أجره المثل. وقيل: يعتبر من رأس المال كما في القراض والجامع بينهما أنه [لو] لم يكن ملكا لما شرطه للعامل حين العقد والصحيح هو الأول.

والفرق بينهما مذكور في "باب القراض". وقد حكى المتولي في باب الوصية: أنه ينظر إلى القدر الذي يحصل من الثمار دون عمل العامل، وإلى ما يحصل من الزيادة بسبب عمله، فإن كان المشروط للمالك [قدر ما] يحصل له من فائدة النخل لو لم يكن عمل العامل، أو أكثر لم يعتبر من الثلث؛ لأنه لو ترك المساقاة لم يعتبر ما فاته من النخيل من الثلث وإن كان دون ذلك القدر فقدر النقصان مما كان يحصل له دون عمله، معتبر من الثلث. قال: وإن اختلفا في القدر المشروط للعامل أي مثل إن قال العامل شرطت لي النصف، وقال رب الشجر: بل الثلث، ولا بينة؛ تحالفا؛ لأنهما اختلفا في عوض العقد فتحالفا؛ كالمتبايعين والمتواجرين، فإذا تحالفا وانفسخ العقد أو فسخ، فإن لم يكن للعامل عمل فلا شيء له، وإن كان له عمل فله أجرة مثله، سواء أثمرت الشجرة أو لا، أما إذا كانت لأحدهما بينة عمل بها، وإن كان لهما بينة على عقد واحد في زمن واحد تعارضتا وفيهما قولان: فإن قلنا: يسقطان فكأن لا بينة. وإن قلنا: تعملان فيتعين هاهنا القرعة كما جزم به الماوردي وحكاه الفوراني عن القفال، وأنه قال: لا يجيء في هذه الصورة قول القسمة والوقف؛ لأن العقد لا يمكن قسمته ولا يجوز وقفه، وحكي عن غيره أنه يجيء قول القسمة أيضاً فيسلم للعامل ما اتفقا عليه وما اختلفا فيه وهو في مثالنا السدس، يقسم بينهما نصفين، وإذا استعملنا القرعة فخرجت لأحدهما، فهل يحلف معها؟ فيه وجهان: أصحهما [:لا]. ولنختم الباب [بفروع] تتعلق به. إذا كانت الأشجار بين شخصين نصفين، فساقى أحدهما صاحبه على نصيبه و [شرط له أكثر من نصف الثمرة، مثل أن جعل له ثلثي الثمرة صح، وإن] شرط له نصف الثمرة لم يصح؛ لأنه لم يثبت عوضا للمساقاة. ومن طريق الأولى: إذا شرط له الثلث؛ لأنه شرط [عليه] أن يترك بعض ثمرته.

وهل للعامل أجرة المثل؟ فيه خلاف المزني وابن سريج؟ و [قد] حكى الماوردي: أن أبا إسحاق وجمهور أصحابنا وافقوا المزني في عدم الرجوع. ولو شرط جميع الثمرة للعامل فسد [العقد] على الأصح كما ذكرناه، وفي استحقاقه أجرة المثل الخلاف السابق. إذا خرجت الأشجار المساقي عليها مستحقة أخذها المالك مع الثمرة إن كانت باقية، فإن جففها ونقصت [الثمرة بالتجفيف] استحق الأرش، والحكم فيه؛ كما لو كانت الثمار تالفة وسنذكره. قاله القاضي الحسين، ويرجع العامل على المساقي بأجرة المثل إن كان قد عمل جاهلاً بالحال؛ كما لو غصب نقرة واستأجر شخصاً على ضربها دراهم ولم يعلم الأجير. وفيه وجه: أنه لا أجرة له؛ تخريجاً على قول الغرور؛ لأنه الذي أتلف منفعة نفسه. وإن اقتسم الثمرة وتلفت في يدهما، فإن تلفت بسرا أو رطباً أو تمراً مكنوزاً- رجع بقيمتها.

وإن تلفت تمراً بثا رجع بمثله، قاله الماوردي، والمالك بالخيار في نصيب العامل بين أن يطالب بضمانه الغاصب أو العامل وقرار الضمان على العامل. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجه في رجوعه به على الغاصب المساقي؛ لكونه غره. وحكي عن أبي العباس أنه قال: وهذا كما لو اشترى أرضاً وبنى فيها وغرس فاستحقت وقلع عليه البناء والغراس، فإنه يرجع بأرش النقص إن كان جاهلاً بالحال على البائع الغار، وهو ما بين قيمته قائماً ومقلوعاً. وذكر في "التتمة": أن بعض الأصحاب بنى المسألة على ما إذا أطعم الغاصب المالك الطعام المغصوب، فيجيء من هاهنا وجه أن القرار على الغاصب قاله الرافعي وهو ما حكيناه عن القاضي. وأما نصيب الغاصب فللمستحق مطالبته به، وهل يطالب به العامل؟ قال القاضي الحسين: لا يخلو ما أن يكون قد دخل الجميع في يد العامل قبل الاقتسام بأن اجتنى الجميع وأحرزه في موضع إلى أن يتفق الاقتسام، أو لم يدخل الجميع في يده فإن [كان] لم يدخل في يده فلا يطالب به، وإن كان قد دخل في يده ففيه وجهان: أظهرهما عند المعظم كما قاله الرافعي: نعم؛ لثبوت يده عليه كما يطالب عامل القراض إذا خرج ماله مستحقاً. والثاني: المنع؛ لأن يده لم تثبت عليه حكما بدليل أنه لا يلزمه حفظها بخلاف عامل القراض: فإن اليد للعامل بدليل أنه يلزمه حفظه [وهذا] ما حكاه الماوردي، وحكاه في [بحر المذهب] عن القاضي الطبري، وعلى الوجهين يخرج ما إذا تلفت جميع الثمار قبل المخاصمة بجائحة أو غصب فعلى الأول: يطالب العامل، وعلى الثاني: لا، ولو تلف شيء من الأشجار ففيه الوجهان وإذا قلنا: إن العامل يطالب بنصيب الغاصب، فإذا غرمه ففي رجوعه على الغاصب الخلاف المذكور في رجوع المودع على المودع، والظاهر أنه يرجع إذا

بدا صلاح الثمرة فإن وثق المالك بالعامل؛ فتركها في يده إلى وقت الإدراك، فيقتسمان حينئذ إن جوزنا القسمة، أو يبيع أحدهما نصيبه من الآخر، أو يبيعان من ثالث، وإن لم يثب به وأراد تضمينه التمر أو الزبيب، فينبني على أن الخرص عبرة أو تضمين؟ إن جعلناه عبرة لم يجز، وإن جعلناه في الزكاة تضميناً انبنى على جواز دخوله المساقاة، وفيه قولان تقدما والصحيح دخوله، ويجري الخلاف فيما لو أراد العامل تضمين المالك بالخرص. إذا انقطع ماء البستان وأمكن رده ففي تكليف المالك السقي وجهان: أحدهما: لا يكلف؛ كما لا يجبر أحد الشريكين على العمارة. والثاني: يكلف؛ لأنه لا يتمكن من العمل إلا به، فأشبه ما إذا استأجر لقصارة ثوب بعينه يكلف تسليمه إليه، فعلى هذا لو لم يسع في رده لزمه للعامل أجرة عمله. ولو لم يمكن رد الماء، فهو كما لو [تلفت الثمرة] بجائحة.

باب المزارعة

باب المزارعة قال: المزارعة أن يسلم الأرض إلى رجل ليزرعها ببعض ما يخرج منها. هذا التفسير من الشيخ يقتضي صدق هذه التسمية سواء كان البذر من صاحب الأرض، أو [من] العامل، أو منهما على حسب ما شرطا كما صرح به الماوردي وهو منطبق على قول من ادعى أن المخابرة والمزارعة بمعنى واحد، وهو البندنيجي وقال: لا يعرف في اللغة بينهما فرقا. وحكى صاحب "البيان" "ورفع التمويه": أنه الذي صار إليه أكثر الأصحاب، وكلام القاضي أبي الطيب يدل عليه حيث قال: المخابرة المزارعة؛ لأن الأكار الذي هو الزارع يسمى: الخبير. وقول الشافعي: المخابرة استكراء الأرض ببعض ما يخرج منها ودلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في نهيه عن المخابرة [على] أنه لا تجوز المزارعة على الثلث، ولا على الربع ولا على جزء من الأجزاء؛ لأنه مجهول، ولا يجوز الكراء إلا معلوماً- دليل على ذلك أيضاً، وكذا قول الجوهري في "الصحاح": الخبير الأكار؛ ومنه المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، وقد ادعى النواوي وغيره أن الذي ذكره الجوهري هو ظاهر نص الشافعي، والصحيح أن المزارعة المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج من زرعها والبذر من مالك الأرض والمخابرة مثلها إلا أن البذر من العامل، فتكون المزارعة على هذا

إكراء العامل ليزرع الأرض ببعض ما يخرج منها، والمخابرة إكراء الأرض للزراع ببعض ما يخرج منها واشتقاقها من الخبار وهي الأرض الرخوة. وقيل: من الخبر، وهو شرب الماء يقال: كم خبر أرضك؟ أي كم شرب أرضك، حكاه أبو الطيب وقيل: من الخبر، وهو الزرع. وقيل: من معاملة خيبر حيث أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فقال: "خابروهم" أي عاملوهم على خيبر. وقيل: من الخبرة، وهي النصيب حكاه الماوردي. وقال رحمه الله تعالى: ولا يجوز ذلك لما روى مسلم عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المُحَاقَلَة، والمُزَابَنَة، وَالمُعَاوَمَة والمُخَابَرَةِ وعن الثُنيَا في البيع فثبت المنع في المخابرة بالنص، والمزارعة إن لم تكن هي نفسها قسناها عليها، على أنه قد روي عن ثابت بن الضحاك وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة، لكن قال الأصحاب: إن النهي عن المخابرة أثبت منه، وقد أشار الشافعي بقوله: ولم ترد إحدى سنتيه الأخرى إلى أن القياس التسوية بين الجواز في المساقاة والمزارعة، أو المنع فيهما؛ لأن كل واحد منهما عقد على عمل في الشيء ببعض ما يخرج منه غير أنا اتبعنا فيهما السنة، والسنة فرقت

بينهما والمعنى فيه: أن تحصيل منفعة الأرض ممكنة بإجارتها، فلم يجز العمل عليها ببعض ما يخرج منها. أصله: المواشي [وغيرها] من الأعيان. قال: إلا على الأرض التي بين النخيل أي وما في معناه، بحيث لا يمكن سقي ذلك إلا بسقي الأرض فيساقيه على [النخل ويزارعه] على الأرض، ويكون البذر من صاحب الأرض؛ فيجوز ذلك تبعاً للمساقاة. وقد استدل الأصحاب لذلك بما روى مسلم عن ابن عمر قال: "أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع"، وهو خاص فقدم على الخبر العام، وهو نهيه عن المخابرة. وبأن الحاجة ماسة إلى تجويز ذلك [إذ] لو منع أدى [إلى] أن يسلم لرب النخل عمل العامل في الأرض بالعقد على النخل مجاناً؛ [لأنه] لا يتوصل إلى العمل على النخل إلا بالعمل على الأرض التي تكون بين ظهراني النخل فاغتفر هذا العقد تبعاً لذلك، والشيء يجوز أن يدخل في العقد تبعاً، فإن امتنع إفراده، فكالعقد على الحمل في البطن، والثمرة قبل بدو الصلاح، واعتبار كون البذر من صاحب الأرض وإن لم يشهد له الحديث؛ ليكون العقدان واردين على مجرد المنفعة فيتحقق التبعية. أما إذا أمكن سقي النخيل وما في معناه بدون سقي الأرض التي بينه فلا يجوز المزارعة عليها تبعاً للنخل. قال: وقيل: إن كان النخل قليلاً والبياض كثيراً لم يجز أي وإن وجد ما ذكرناه من الشروط؛ لأن الكثير لا يجوز أن يتبع القليل، وعلى هذا فالكثير: ما تكون مساحته مثل مساحة مغارس النخل، أو أكثر. وقيل: العبرة بكثرة الريع. قال الغزالي: ولعله الأظهر. وحكى في "البحر" وجهاً غريباً: أنه يجب أن يكون البذر من العامل، ووجهاً أن البذر يجوز أن يكون على من شرط من رب الأرض أو العامل، وهذا ما

حكاه الشيخ أبو علي وغيره، وقد أجري هذا الوجه أيضاً فيما لو شرط على العامل الثور دون البذر، وصححه العبادي؛ لأنه يصير كأنه اكترى العامل وثوره بجزء من الزرع، وعلى هذا الوجه إذا أخرج العامل البذر على شرط [أن يكون] التبن [لأحدهما] و [الحب] بينهما نصفين صح، وكذا لو شرطا أن يكون التبن والحب بينهما، ولو شرطا الحب للعامل والتبن لصاحب الأرض والثور- لم يجز، ولو انعكس الحال فوجهان. والفرق أن صاحب الأرض أصل، فلا يجوز أن يعطى ما ليس بأصل، وهو التبن. تنبيه: في قول الشيخ [فيجوز ذلك] تبعاً للمساقاة ما يعرفك بأن محل الصحة إذا لم يفرد المزارعة بعقد؛ كما هو شأن البائع في البيع من الحمل وغيره. وصورته: أن يقول: ساقيتك على النخل، وزارعتك على البياض الذي بينهما بكذا، فيقول العامل: قبلت: ويقوم مقام ذلك قوله عاملتك على هذه النخيل والبياض الذي بينه بكذا، صح في المساقاة دون المزارعة، صرح به القاضي أبو الطيب. وقال في "البحر": يجب أن يبنى هذا على تفريق الصفقة، ولو أفرد كلاً من المساقاة والمزارعة بعقد، فإن قدم عقد المزارعة بطل، وإن قدم عقد المساقاة ففي الصحة وجهان شبههما القاضي أبو الطيب، والمحاملي وغيرهما بما إذا باعا الثمرة قبل بدو الصلاح من صاحب الأصل بغير شرط القطع. وحكى الإمام في صحة عقد المزارعة إذا أفرد ثلاثة أوجه: أقيسها: عدم الصحة، وأعدلها ثالثها وهو إن تقدمت المساقاة صحت المزارعة، وإلا فلا. [قال:] ومن قال بصحة المزارعة عند التقدم، فلا يراه إلا موقوفاً على وجود عقد المساقاة بعده، وإن صح هذا الوجه فهو بعينه يجيء فيما إذا باع الثمرة قبل بدو الصلاح مطلقاً، ثم باع الأصل من مشتريها. فرع: لو قال ساقيتك على النخل بكذا وزارعتك على البياض الذي بينهما بكذا، فقال العامل: قبلت قال القاضي الحسين: إن صححنا المزارعة عند إفرادها بالعقد فهاهنا أولى، وإلا فوجهان نظراً إلى اتحاد القبول.

ولو قال: زارعتك على البياض وساقيتك على النخيل بكذا، فقال العامل: قبلت- فقد حكى الإمام عن القاضي: أنه يصح وجهاً واحداً. وقال: إن الذي ذكره صحيح. قال: ولا يجوز ذلك إلا على جزء معلوم من الزرع كالمساقاة للخبر. وقول الشيخ: كالمساقاة يجوز أن يكون نظمه قياساً وهو الأقرب، ويجوز أن يكون جعله شرطاً آخر وهو أن يكون الجزء المشروط من الزرع للعامل، كالجزم المشروط في المساقاة؛ كما حكاه الماوردي عن البصريين. لكن الراجح- وهو الذي جزم به المحاملي والقاضي أبو الطيب، وحكاه الماوردي عن البغداديين: عدم اشتراط ذلك؛ بل يجوز أن يشترط له من الزرع الربع، ومن الثمرة النصف، وبالعكس. ولنختم الباب بذكر فائدة وفرع يتعلق به. فائدة: ما الحيلة في تحصيل مقصود المزارعة إذا لم يكن ثم نخل؟ قلت: قد ذكر الأصحاب لذلك صوراً فلنقتصر منها على ما نص عليه الشافعي، وهو أن يكري مالك الأرض نصفها بنصف عمل العامل، ونصف منفعة الآلات التي يستعملها العامل إن كانت الآلات له، ويكون البذر مشتركاً بينهما، فيشتركان في الزرع على حسب الاشتراك في البذر. والفرع: لو كان بين نخل المساقاة زرع لرب النخل- كالموز والبطيخ وقصب السكر- فساقاه على النخل والزرع معاً على أن يعمل فيهما بالنصف منهما، ففيه وجهان: أحدهما: تجوز المساقاة في الزرع تبعاً للمساقاة [في النخل؛ كما تجوز المخابرة تبعاً للمساقاة]. والثاني: لا، والفرق: أن المساقاة على الزرع هي استحقاق بعض الأصل، والمخابرة على الأرض لا يستحق فيها شيء من الأصل، كذا قال الماوردي، والله أعلم.

باب الإجارة

باب الإجارة الإجارة بكسر الهمزة. وقيل: بضمها: مصدر أجر يؤجر إجارة، وهي مشتقة من الأجر، والأجر: ثواب العمل وعوضه. يقال في الدعاء: آجرك الله؛ أي: أثابك، وكأن الأجر عوض عمله، [كما أن الثواب عوض عمله]. وهي في الشريعة: عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبدل والإباحة بعوض معلوم. ويقال: استأجرت دار فلان وآجرني داره ومملوكه يؤجرهما إيجاراً فهو مؤجر وذاك مؤجر، وأجرت داري أو مملوكي غير ممدود وآجرت ممدود والأول أكثر. قال الأخفش: ومن العرب من يقول: أجرت غلامي أجراً فهو مأجور وأجرته إيجاراً فهو مؤجر، وآجرته على فاعلته فهو مؤاجر. والأصل في مشروعيتها قبل إجماع الصحابة، والتابعين من الكتاب قوله

تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، وقوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} الآية [الكهف: 77]، وقوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَاجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَاجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26، 27]. وهذا وإن ورد في شرع من قبلنا؛ فقد ورد في شرعنا ما يقرره فكان حجة. روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: "رَجُلُ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلُ بَاعَ حُراً فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلُ اسْتَاجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ". وروي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ". وروى أنه- عليه السلام- لما ولد إبراهيم استأجر له ظئراً يقال لها: أم سيف؛ امرأة رجل بالمدينة، يقال له: أبو يوسف، وغير ذلك من الأخبار والآثار. ومن جهة المعنى: أن الحاجة إلى الإجارة داعية، والضرورة إليها ماسة؛ فإنه ليس لكل أحد ظهر يركبه ولا دار يسكنها، ولا يقدر كل أحد على أن يعمل جميع ما يحتاج إليه من الأعمال بنفسه، وإن قدر فلا يحسن به؛ فجوزت لذلك، كما جوز بيع الأعيان.

قال: الإجارة بيع؛ لأنها تمليك من كل المتواجرين لصاحبه، لصاحبه، فإن المستأجر يملك المنفعة في مقابلة الأجرة والآجر يملك الأجرة في مقابلة المنفعة فكان كبيع العين بالعين. ونظم ذلك قياساً: أنه تمليك معلوم بمال معلوم فكان كبيع العين بالعين. واختصاصه باسم الإجارة لم يخرجه عن أن يكون بيعاً؛ ألا ترى أن الصرف والسلم والصلح بيع، وإن اختص باسم. إذا تقرر ذلك فما المعقود عليه؟ الذي ذهب إليه الأكثرون: المنفع وتوجه العقد إلى العين لتعيين المنفعة لا لأنه ورد العقد عليها. وقال أبو إسحاق: إنما يتناول العقد [العين] دن المنفعة ليستوفي من العين- مقصوده من المنفعة؛ لأن المنافع غير موجودة حين العقد فلم يجز أن يتوجه العقد إليها. وخطأه الماوردي، وكلام القاضي الحسين يقتضي ترجيحه، فإنه قال: الأصح أنها عقد على العين لاستيفاء المنفعة منها وهذا حقيقة ما ذهب إليه أبو إسحاق. وقال الإمام: إن القاضي أشار بذلك إلى أن العاقد يقول: أجرتك هذه الدار، فيضيف لفظه إلى عينها؛ والمقصود استيفاء المنفعة منها، ومن هنا أخذ الرافعي أن هذا الاختلاف ليس خلافاً محققا؛ لأن من قال: المعقود عليه العين [لا] يعني به أن العين تملك بالإجارة كما تملك بالبيع؛ ألا ترى أنه قال: المعقود عليه العين لاستيفاء المنفعة، ومن قال المعقود عليه المنفعة لا يقطع الحق عن العين بالكلية؛ بل له أن يسلم العين وإمساكها مدة العقد لينتفع بها. وقد حكى في البحر وجهاً في أن حلى الذهب لا يجوز إجارته بالذهب، وحلي الفضة لا يجوز إجارته بالفضة، ولا يظهر له وجه إلا التخريج على مذهب أبي إسحاق، وإذا كان كذلك فقد صار خلافاً محققاً، ونشأ منه الاختلاف في هذا الفرع، ثم على الصحيح هل تحدث المنفعة على ملك المستأجر أو ملك الآجر ثم تنتقل إلى المستأجر؟ المشهور الأول.

وفي الحاوي حكاية خلاف في ذلك حكاه عند الكلام في أن الآجر هل يجوز له أن يستأجر العين المستأجرة من المستأجر؟ وقال: إن الشافعي أشار إلى ذلك في كتاب الرهن، قال: تصح ممن يصح منه البيع؛ أي ولا تصح من غيره؛ لأنه قد ثبت أنها بيع وهذا حكم البيع. قال: وتصح بلفظ الإجارة؛ لأنه الموضوع لها، ولا فرق في ذلك بين أن يضيف الإجارة إلى العين بأن يقول: أجرتك هذه الدار شهراً من الآن بكذا، كما اتفق الأصحاب عليه أو يضيفها إلى المنفعة بأن يقول: أجرتك منفعة هذه الدار كما صرح به ابن الصباغ، وصاحب المرشد، والقاضي الحسين في ضمن فرع أوله: إذا كان جمل بين رجلين مشتركا. وعلى هذا: يكون ذكر المنفعة ضرباً من التأكيد كما لو قال: بعتك عين هذه الدار أو رقبتها فإنه يصح وقد صدر في التهذيب [كلامه بهذا الوجه ثم قال: وقيل: لا يصح، وهو ما حكاه القاضي الحسين في أول هذا الكتاب وكذا الإمام ومن تابعه]. ووجههه القاضي: بأن لفظ الإجارة إذا أضيف إلى شيء يقتضي منفعة ذلك الشيء فإذا أضيف إلى المنفعة اقتضى منفعة المنفعة وليس للمنفعة منفعة، وحكم إضافة لفظ الكراء بالمد إلى الدار أو إلى المنفعة حكم إضافة لفظ الإجارة إلى ذلك، وقد صرح بالصحة فيما إذا أضيف إلى المنفعة القاضي أبو الطيب حيث تكلم في الصور المصححة لمقصود المزارعة في كتاب المزارعة. قال: وبلفظ البيع؛ لأنه قد ثبت أنها بيع والبيع ينعقد بلفظه، وهذا ما حكي عن ابن سريج، والمعتبر عنده: أن نضيف العقد إلى المنفعة فيقول: بعتك منافع هذه الدار شهراً من الآن بكذا فلو أضافه إلى العين فقال: بعتك الدار شهراً بكذا كان بيعاً فاسداً لتأقيته. وحكى الشيخ في المهذب وغيره وجهاً آخر: أنه لا يصح عقد الإجارة بلفظ البيع، وادعى القاضي الحسين، وصاحب التهذيب: أنه الأصح، والإمام، والغزالي، والرافعي أنه الأظهر؛ لأن البيع مخصوص بالأعيان عرفاً. ويحكى عن أبي العباس الروياني حكاية طريقة أخرى قاطعة به. وحكى الإمام اتفاق الأصحاب على أنها تنعقد بلفظ التمليك لعدم اختصاصه بعقد.

وحكى في التهذيب طرد الخلاف في لفظ البيع فيه، وقد تقدم في باب المساقاة حكاية وجه في انعقاد الإجارة بلفظ المساقاة. قال: وتصح على كل منفعة مباحة؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فثبت جوازها على الإرضاع بهذه الآية مع كثرة الغرر فيه؛ لأن اللبن قد يقل ويكثر، وكذلك شرب الرضيع، فجوازها في غيره من طريق الأولى على أنه قد وردت أخبار وآثار في جوازها على غيره، وقد قال الشافعي: لو لم يكن في الإجارة إلا هذه الآية لكانت كافية في الدلالة عليها؛ ولأن المنافع كالأعيان، فإذا جاز عقد البيع على الأعيان جاز عقد الإجارة على المنافع. واعلم أن الشروط المعتبرة في المنفعة سبعة: أحدها: أن تكون مباحة، وليس المراد بها ما يعتبره الأصوليون فإن الاستئجار للحج وتفرقة الزكاة وغسل الميت وحمله ودفنه [وتعليم القرآن المفروض منه عيناً: وهو الفاتحة، وكفاية: وهو ما عدا الفاتحة كما صرح به الإمام فيكتاب الصداق] جائز [بالاتفاق إذا لم يتعين ذلك على المستأجر]، وكذا إذا تعين عليه بأن لم يكن ثمة غيره على أصح الوجهين، بل المراد [ألا] تكون محرمة. الثاني: أن تكون مقدوراً على تسليمها. الثالث: أن تكون معلومة القدر والصفة إما برؤية العين المؤجرة أو بالوصف إن حصل به الغرض. الرابع: أن يكون الشروع في استيفائها بالعقد، وهذا ما ذكره الشيخ مصرحاً به. الخامس: أن تكون متقومة، واحترز به عن المنفعة التافهة؛ كما إذا استأجر تفاحة للشم، فإنه لا يجوز كما لا يجوز بيع حبة من الحنطة وإن كان تفاحاً جاز كما قاله الرافعي فإنه لا يتقاعد عن استئجار الرياحين والمسك للشم، وقد نصوا على جوازه. السادس: ألا يتضمن العقد عليها استهلاك عين قصداً واحترز به عن استئجار الأشجار لثمارها والشاة للبنها والبركة لحيتانها، ونحو ذلك، وقد استثنى استئجار المرضعة للرضاع كما سنذكره على وجه، وكذا الدار التي فيها بئر فإنه يستوفي ماءها تبعاً لا قصداً، وجعل الرافعي المجوز للاستئجار على الرضاع الضرورة

وألحق به في الحكم استئجار البئر ليستقي ماءها وغيره منع فيها كما سنذكره. ولو استأجر بركة ليحبس فيها الماء حتى يجتمع فيها السمك جاز. وفيه وجه: أنه لا يجوز. السابع: أن تكون واقعة لمن خرج عوضها عن ملكه واحترز به عن مسائل. منها: استئجار المسلم للجهاد لا يجوز؛ لأن الخطاب به متعلق بالمسلمين على العموم فيكون الأجير فيه قائماً بما خوطب به، ويستحيل أن يقع فعله عن غيره ويجوز للإمام استئجار الذمي عليه على الأصح؛ لأن المنفعة تعود للمسلمين دونه. ومنها: الاستئجار للأذان، وفي صحته ثلاثة أوجه: أحدها: وبه قال الشيخ أبو حامد، ويقال: إن ابن المنذر نقله عن الشافعي أنه لا يجوز لا للإمام ولا لغيره. والثاني: أنه يجوز لهما وهو الأظهر في الرافعي. وفي النهاية في كتاب الصداق. والثالث: يجوز للإمام ولا يجوز لغيره. وإذا قلنا بالجواز تبعت الإقامة. وما الذي يقابل الأجرة؟ فيه أربعة أوجه: أحدها: رعاية الوقت. والثاني: رفع الصوت. والثالث: [في] الإتيان بالحيلتين. والرابع: وهو الأصح جميع الأذان بجميع صفاته، وكل هذا مذكور في باب الأذان، وقد ألحق القاضي الحسين في فتاويه الاستئجار لقراءة القرآن الكريم على رأس القبر مدة بالأذان وتعليم القرآن وجزم [فيه] بالصحة. ومنها: الاستئجار لإمامة الصلوات المفروضة لا يجوز، وكذا في صلاة النفل والتراويح على أصح الوجهين، لأن الإمام يصلي لنفسه ومهما صلى اقتدى به من يريد، وإن لم ينو الإمامة على الأصح خلافاً لوجه حكاه العبادي في الزيادات أن من شرط صحة الاقتداء نية الإمامة، ومن جوز الاستئجار على ذلك ألحقه بالأذان لتأدي الشعار.

ومنها: الاستئجار للتدريس والإقراء من غير أن يعين أشخاصاً للقراءة والاشتغال بالعلم لا يصح دون ما إذا عين أشخاصاً، أو مسائل محصورة، أو سوراً، أو آيات بعينها فإنه يصح. وعن الشيخ أبي بكر الطوسي تردد جواب في الاستئجار لإعادة الدرس وأبدى الإمام احتمالاً في جواز الاستئجار على التصدر للقراءة. قال: وفي استئجار الكلب للصيد، والفحل للضراب والدراهم والدنانير- أي للزينة- وجهان: أظهرهما أنه لا يجوز أما في الكلب؛ فلأنه يحرم اقتناؤه إلا للصيد والحراسة وما أبيح للحاجة لا يصح أخذ العوض عنه؛ كالميتة؛ لأنه لا قيمة لعينة فكذلك المنفعة. وأما في الفحل؛ فلما روى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ". [وروى الشافعي في المختصر أنه صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ]. وروى مسلم عن جابر قال: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ [بَيْعِ] ضِرَابِ الْفَحْلِ". وعسب الفحل: الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل كما قاله الجوهري وأبو عبيد. ويؤيده رواية الشافعي. [وقيل: عسب الفحل: ماؤه، فعلى هذا يكون حديث أبي سعيد اقتضى النهي عن بيع ماء الفحل]. وقيل: عسب الفحل: ضرابه، قاله الجوهري أيضاً، فيكون المضمر البيع وتؤيده رواية جابر؛ ولأن فعل الضراب غير مقدور للمالك؛ لأنه يتعلق باختيار الحيوان.

وأما في الدراهم والدنانير؛ فلأن منفعة التزين من النقدين لا تقصد إلا نادراً، والأغالب سواها، وهو التصرف فيها فصار حكم الأغلب هو المغلب، وإذا كان كذلك فكأن لا منفعة مع أن ما قصده فيه غررو فلا يعان عليه؛ ولأن هذه المنفعة لا تضمن بالغصب فلم يصح عقد الإجارة عليها كوطء الأمة. والوجه الثاني: الجواز؛ لأن هذه منافع تستباح بالإعارة فاستحقت بالإجارة كغيرها من المنافع، وهذا ما اختاره في مسألة الكلب صاحب المرشد والبحر، وكذلك الإمام في باب بيبع الكلاب، وقال: لا يتجه عندنا تخريج الخلاف فيه على أن المعقود عليه العين أو المنفعة، فإن هذا يبطل بإجارة الجرو. وقال الجيلي: إنه مبني عليه، وخرجه الماوردي على الخلاف في أن منافع الكلب مملوكة أو مستباحة، واختار ابن أبي هريرة صحة استئجار الفحل للضراب. قال الرافعي في البيوع: ويجوز أن يعطي صاحب الأنثى صاحب الفحل شيئاً على سبيل الهدية أي على الوجهين: واختار القاضي الطبري صحة إجارة الدراهم والدنانير كما حكاه عنه في البحر، وحكم إجارة الكلب للحراسة وجلد الميتة [كما حكاه القاضيالحسين حكم إجرة الكلب للصيد وحكم إجارة الأغنام لوجه من وجوه الانتفاع]. كما حكاه مجلي عن الشامل أو الطعام ليعاير به مكيالاً. كما قاله الماوردي، أو لتزيين الحوانيت- كما أبداه الإمام تخريجاً- حكم إجارة النقدين، والذي جزم به القاضي الحسين عدم الصحة في إجارة الطام للزينة، وعلى ذلك جرى في الوسيط وألحق الماوردي وغيره بصور الخلاف إجارة الأشجار للاستظلال بها أو لتجفيف الثياب عليها، أو لربط المواشي أو السفن إذا كانت هذه المنافع غير مقصودة منها في العرف وجزم بالجواز فيما إذا صار ذلك مقصوداً من منافعها، وأطلق البندنيجي القول بجواز إجارتها لنشر الثياب عليها وربط الدواب فيها، وهذا ما حكى الرافعي أن بعضهم صححه وإن جرى الخلاف؛ لأنها منافع مهمة، وأجرى في التهذيب الخلاف في استئجار الببغاء للاستئناس بصوتها، وبالجواز أجاب المتولي فطرده في كل ما يستأنس [بصوته] [أو بلونه]

كالطاووس، وكذا أجاب به البندنيجي فيما إذا كان على الحائط صور مباحة فاستأجره للنظر إليها وألحقه باستئجار المصحف، أو الدفاتر، أو الحائط الذي عليه [شيء] مكتوب ليقرأه. فائدة: كثيراً ما يسأل عن محل الخلاف في استئجار الأشجار للاستظلال، ويقال: إن كان الموضع الذي يستظل فيه مباحاً [أو منفعته مملوكة للمستأجر فالاستظلال حاصل له بغير أجرة فلا يصح الاستئجار له؛ لأن بذل المال يكون سفهاً، ويشهد له أن العمراني في الزوائد حكى عن القاضي أبي الطيب أنه قال: لو استأجر بستاناً لينظر إليه لم يصح لما ذكرناه وإن كان مملوكاً] لصاحب الأشجار فالإجارة واقعة على الجميع فينبغي أن يصح جزماً. وجوابه من وجهين: أحدهما: أن المراد الصورة الأولى، وتكون فائدة الاستئجار الأمن من إزالة ذلك. الثاني: أن يصور المسألة بما إذا كان ظل الأشجار لا يصل إلى الموضع الذي يراد الاستظلال فيه إلا بإمالتها فيستأجرها ليميلها لأجل الاستظلال. قال: ولا يصح على منفعة محرمة؛ كالغناء والزمر وحمل الخمر .. أي: لا لأجل الإراقة؛ لأن ذلك محرم فلم يجز أخذ العوض عليه؛ كالميتة، والدم. ودليل تحريم حمل الخمر: الخبر المشهور، وفي معنى ذلك استئجار المرأة عبداً أجنبياً، والرجل حرة للخدمة وفي استئجار الأمة وجهان في العدة وكذا في استئجار الكافر للمسلم للخدمة إذا وقع العقد على عينه، والابن والده للخدمة [فيه] وجهان، ومن المتفق على منع الاستئجار له؛ لكونه محرماً- بناية البيع، والكنائس للتعبد، وتعليم السحر، والفحش، والتوراة، والإنجيل، وتعليم القرآن

لكافر لا يرجى إسلامه دون ما إذا كان مرجو الإسلام، وكذا كتابة كافر القرآن كما صرح به الماوردي؛ لأنه ممنوع من مس المصحف، وكذا الحائض لكنس المسجد، وقطع عضو سليم من آدمي أو غيره أو سن صحيح أو الختان في وقت الحر الشديد والبرد الشديد، أو في صغير لا يحتمل ألمه كما صرح به القاضي الحسين، وأبدى في الوسيط احتمالاً في جواز استئجار الحائض لكنس المسجد وإن كانت تعصى به كما تصح الصلاة في الأرض المغصوبة. وحكى في الإبانة قبيل باب الصيد والذبائح: أن مسلماً لو أجر نفسه لذمي ليبني له كنيسة قال الشافعي: كرهته فمنهم من قال هي كراهة تحريم فإذا عمل لا يستحق أجرة. ومنهم من قال: بل كراهة تنزيه، ويصح العقد ويستحق الأجرة؛ لأن الكنيسة ما هي إلا بناء قلعة يسكنها كما يسكن الدار، أما الاستئجار على حمل الخمر للإراقة فجائز، كالاستئجار على كنس الخلاء وحمل الجيفة إلى المزبلة، وكذا الاستئجار لقطع يد متآكلة إذا قلنا بجواز القطع إذا صعب الألم وقال أهل الخبرة: إنه نافع. وعن الشيخ أبي محمد: أنه لا يجوز القطع في هذه الحالة أيضاً؛ لأن القطع إنما ينفع إذا وقعت الحديدة على محل صحيح، فعلى هذا يمنع الاستئجار. وقد قيل بمنع الاستئجار عليه مطلقاً، وهو مطرد في الاستئجار على قلع السن الذي كثر ألمه، وقد صار إلى [تصحيحه] فيهما القاضي الحسين وقال: إنما ينعقد جعالة؛ لأن الوجع يهيج ثم يسكن فلا يتحقق إمكان الوفاء بهذا العمل. ورأى الإمام تخصيصه بالقلع؛ لأن احتمال فتور الوجع في الزمان الذي يفرض فيه القلع غير بعيد، أما زوال الآكلة في زمان القطع فإنه غير محتمل، وأجرى الخلاف في الاستئجار للفصد والحجامة وبزغ الدابة؛ لأن هذه إيلامات إنما تباح للحاجة وقد تزول الحاجة. تنبيه: كلام الشيخ مصرح بأن الغناء حرام وكذلك ابن الصباغ حيث قال في باب بيع البراءة: أن استئجار الجارية للغناء لا يصح فإن حرام، وكلام القاضي أبي الطيب في باب بيع المصراة يقتضي خلافه فإنه قال: وأما قول مالك: إن الغناء حرام فلا نسلم [ذلك] وإنما قال الشافعي: إنه لهو ولعب وسخف وليس من أخلاق الدين.

قلت: وليس ذلك بخلاف في المسألة، بل كلام الشيخ محمول على ما إذا تبعه شيء من آلة الملاهي المحرمة؛ كالمزمار ونحوه وما قاله القاضي محمول على ما إذا لم يصحبه شيء من آلة الملاهي المحرمة وقد صرح بهذا الحكم في الحالتين الماوردي والشاشي في الحلية كل منهما في كتاب السلم. آخر: الغناء: بكسر الغين والمد ولا تكتب إلا بالألف وفي رفع التمويه أنه يستعمل مقصوراً وأنه مشتق من الغنة: وهي: خروج الصوت من الأنف، وأما الغنى بالمال فمقصور يكتب بالياء. قال: ويصح الإجارة على منفعة عين معينة كاستئجار الدار للسكنى، والمرأة للرضاع والرجل للحج والبيع والشراء، والدابة للركوب، ويصح على منفعة في الذمة كالاستئجار لتحصيل الحج وتحصيل حمولة إلى مكان كما يصح البيع على معين وموصوف في الذمة. وقد استدل الأصحاب لصحة الاستئجار على الحج بأنه عمل تدخله النيابة فجاز العقد عليه كتفرقة الزكاة؛ ولأنه عمل معلوم يصح أخذ الرزق عليه فجاز أخذ الأجرة عليه؛ كبناء المساجد. واعلم أن الإجارة للرضاع مطلقاً تتضمن استقاء اللبن، ووضع الصبي في

الحجر، وتلقيمه الثدي، وعصر الثدي عند الحاجة إليه، لكن هل الأصل فعلها واللبن تابع، أو اللبن هو المقصود والفعل يتبعه؟ فيه وجهان في الرافعي، وأصحهما الأول. والذي حكاه القاضي أبو الطيب [والمحاملي: أن الأصحاب اختلفوا: فمنهم من قال: العقد واقع على اللبن، والحضانة والخدمة تابعة. ومنهم من قال: العقد واقع على الحضانة والخدمة، واللبن تابع له. وقال المحاملي: وهو الصحيح. وقال في البحر: إنه المذهب. ووجه القاضي أبو الطيب] بأن العين لا تملك بالإجارة؛ ولهذا لا يجوز إجارة البئر لاستقاء الماء منها، ويجوز على طريق التبع كما إذا استأجر داراً؛ ليستعمل ماء البئر. وهذه العبارة تفهم خلاف ما يفهمه لفظ الرافعي، فإن لفظ الخدمة والحضانة لا يصدق عرفاً وشرعاً على وضع الصبي في الحجر وتلقيمه الثدي فقط، بل يصدق ذلك كما صرح به القاضي الحسين وصاحب البحر على حفظ الصبي، وتعهده، وغسل ثيابه ورأسه وخروقه، وتطهيره من النجاسات، وتدهينه، وتكحيله، وإضجاعه في المهد، وربطه، وتحريكه في المهد لينام. وإذا كان كذلك؛ لزم مما ذكره المحاملي وأبو الطيب أن عقد الإجارة على الرضاع يتناول ذلك كله، لكن أصلاً وتبعاً، كما يتناول في تفسير الرافعي اللبن ووضع الرضيع في الحجر. وقد حكى الماوردي: أنه إذا استأجر للرضاع وأطلق، هل عليها مع الرضاع حضانته وخدمته أم لا؟ فيه وجهان ينبنيان على أن المقصود اللبن أو الخدمة والرضاع، فإن قلنا: إن المقصود اللب،، لم يلزمها الحضانة والخدمة وإن قلنا: اللبن تابع لزمها الحضانة والخدمة، ومقتضى هذا البناء: أن يكون الصحيح اللزوم؛ إذ الصحيح كما ذكرنا أن العقد واقع على الحضانة والخدمة. وقد حكى الرافعي أن الأصح خلافه، وحكى الخلاف فيما إذا استأجر للحضانة، هل يستتبعها الرضاع؟ والذي جزم به القاضي الحسين عدم استتباع الحضانة للرضاع.

وهذا كله إذا لم يصرح بهما، ولا ينفى أحدهما، فلو صرح بهما؛ بأن استأجر على الحضانة والرضاع، تعين الإتيان بهما؛ لكن المقصود [بالعقد]: اللبن، أو الحضانة والخدمة، أو هما [الجميع مقصود بالعقد]. فيه ثلاثة أوجه حكاها القاضي الحسين، وإن فائدتهما تظهر فيما إذا فقد أحدهما، هل [ينفسخ العقد أو يثبت الخيار؟ ثم قال: والوجهان في أن مطلق الإجارة على الإرضاع هل] يستتبع الحضانة؟ يمكن بناؤهما على هذا الأصل: إن جعلنا اللبن تابعاً لم يستتبعها، وإلا استتبعها. ولو صرح بالاستئجار على الرضاع، ونفى الحضانة، فقد حكى الرافعي عن الأكثرين: أن أصح الوجهين الصحة؛ كما لو استأجر للحضانة، ونفى الرضاع، وأن الإمام قال: محل الخلاف فيما إذا ورد العقد على صرف اللبن إلى الصبي، وقطع عنه وضعه في الحجر، أما الحضانة بالتفسر الذي ذكرناه، فلا خلاف في جواز قطعها عن الرضاع. قلت: وكلام القاضي الحسين مصرح بالخلاف فيها، ثم إن صح ما قاله الإمام، لزم أن يكون الأصح في هذه الحالة البطلان، إن قلنا بأن الأصح عند إطلاق العقد: أن اللبن تابع، كما حكاه من قبل، وقد حكي عن الأكثرين: أن الأصح [الصحة]. ولتعلم أيضاً أن محل جواز الاستئجار على البيع والشراء إذا لم يكن الاستئجار على بيع من معين ولا على شراء شيء معين، وكان مما يلحق المستأجر فيه كلفة؛ كما إذا استأجره على بيع ثوب أو عبد أو نحوهما، أو شراء ذلك، أما لو استأجره على بيع من معين أو شراء شيء معين لم يصح؛ لأنه استئجار على شيء غير مقدور على تحصيله. أو شراء شيء معين لم يصح؛ لأنه استئجار على شيء غير مقدور على تحصيله. حكاه الرافعي في أواخر هذا الباب. وحكى في البحر: أنه لو استأجره ليشتري له ثوباً بعينه جاز، ولو استأجره على كلمة البيع، أو كلمة تروج بها السلعة ولا تعب منها كالاستئجار على بيع [ما استقرت قيمته في البلد، كالخبز، واللحم ونحوهما لم تصح؛ لأنها منفعة] غير مقصودة غالباً. قال الرافعي: ولم يجعلوا ذلك من صور الوجهين. تنبيه: الحمولة، بضم الحاء، هي الأحمال، وبفتحها هي الإبل التي تحمل

[عليها] الأحمال، والفرش صغارها قال الله تعالى: {وَمِنْ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} [الأنعام: 142]، ولا يحتاج في العقد على الحمولة إلى معرفة الحمولة إلا أن يكون المحمول زجاجاً ونحوه، أو يكون في الطريق مطر أو طين فيحتاج إلى وصف الحمولة في كل حال. قال: فإن كان على منفعة عين لم يجز إلا على عين [يمكن استيفاء المنفعة منها .. ؛ لأن المنفعة هنا كالعين في البيع، وصحة البيع تتعين له عيناً مقدوراً عليها فكذا الإجارة، ومن هذه القاعدة يؤخذ منه الاستئجار] في مسائل بعضها مذكور في الكتاب، وبعضها مصرح به في غيره فمنها استئجار منكوحة الغير للرضاع وغيره لا يجوز بغير إذنه؛ لأن أوقاتها مستغرقة لحق الزوج؛ فلا تقدر على توفية ما التزمته ويصح بإذنه، ومنهم من صححه بغير إذنه أيضاً، وهو المختار في المرشد؛ لأن محل الاستئجار غير محل النكاح ولا حق له في كسبها وخدمتها وعلى هذا، فللزوج فسخه كي لا يحيل حقه، نعم لو أجرت نفسها ولاحق لها ثم نكحت في المدة لم يكن له فسخها كما لو وقع ذلك بإذنه، فلو كان جاهلاً بالحال ففي الحاوي في كتاب النفقات: أن له الخيار لفات الاستمتاع عليه بالنهار ولا يسقط خياره برضا المستأجر بالاستمتاع. وحيث لا يثبت الخيار فللزوج أن يستمتع بها في أوقات فراغها ولو كانت الإجارة للرضاع فهل لولي الطفل منع الزوج من وطئها؟ فيه وجهان: وجه المنع خشية حبلها فينقطع اللبن، أو يقل فيضر بالطفل. ووجه الجواز: وهو الذي أجاب به العراقيون- أن الحمل موهوم فلا يمنع به المستحق. وفي التهذيب: أن الإصابة إن كانت تضر باللبن منع. وإذا منع الزوج فلا نفقة لها عليه. ولو أجر السيد الأمة المزوجة جاز، ولم يكن للزوج منعها من المستأجر؛ لأن يده يد السيد وحكم استئجار الزوج زوجته للرضاع وخدمة البيت مثل: الكنس، والطبخ، والغسل ونحوها مذكور في كتاب النفقات من هذا الكتاب، وربما بعض ما ذكرناه هنا مذكور فيه أيضاً.

قال: وإن استأجر أرضاً للزراعة لم يجز حتى يكون لها ماء يؤمن انقطاعه، كماء النهر والمد بالبصرة والثلج والمطر في الجبل؛ ليثق بحصول المعقود عليه. قال: وإن كان بمصر لم يجز حتى يروي الأرض بالزيادة .. أي: إذا لم يكن لها شرب إلا من ماء النيل؛ لأن نيل مصر خوان لا يوثق بحصوله، بخلاف ما يروى من الأراضي بمد البصرة، فإنها يجوز إجارتها للزرع قبل ريها بالمد باتفاق الأصحاب كما حكاه الإمام؛ لأنه أثبت من كل ما عد، وكذا إجارة الجبل للزراعة قبل أوان المطر ووقوع الثلج الذي يكفي الأرض نداوته؛ لأن ذلك معلوم الوقوع والقليل منه يكفي كالكثير. ثم الظاهر أن ما أطلقه الشيخ في أرض مصر محمول على ما إذا كانت لا تروى بما يزيد من الماء في الغالب، كخمسة عشر ذراعاً فما دونها، أو كانت تروى من ذلك لكنه لا يتهيأ الاشتغال بعمارة الأرض بالزرع قبل حصول الماء عليها، كما صرح به ابن الصباغ والمتولي وأبو الطيب، أما إذا كانت الزراعة ممكنة قبل حدوث الزيادة وكانت الأرض تروى من الزيادة المعتادة التي لا تنقطع إلا نادراً فالعقد صحيح كما صرحوا به أيضاً. وعن القفال: ما يقتضي المنع في هذه الحالة أيضاً، فإنه صار إلى أن الأرض التي يكفيها المطر المعتاد والنداوة التي تصيبها من الثلج المعتاد في الجبل لا يجوز إجارتها للزراعة قبل حدوث ذلك متمسكاً بظاهر قول الشافعي في المختصر: وإن تكار الأرض التي لا ماء لها وإنما تسقى بنطف من السماء أو بسيل إن [جاء- فلا] يصحز ووجهه بأن السقي معجوز عنه في الحال والماء المتوقع لا يعرف حصوله، وبتقدير حصوله لا يعرف أنه هل يحصل في الوقت الذي يمكن الزراعة فيه أم لا؟ وهذا غرر ومقتضى هذا التعليل: أن يقول بطرد مذهبه في مسألتنا. [وقد] وافقه الماوردي فيما صار إليه فإنه شرط أن يكون الماء موجوداً حالة الاستئجار إلا في مد البصرة، والجمهور على الأول، وبه قال القاضي الحسين موجهاً ذلك: بأن توهم الانقطاع عند الحاجة لو منع صحة العقد لامتنع

فيما إذا كان لها شرب من نهر أو عين أو بئر؛ لأنه ما من ماء إلا ويتوهم انقطاعه وأما النص فمحمول على ما إذا لم يكن في ذلك عرف جار وإنما يتفق ذلك نادراً، وقد اتفقوا على المنع في هذه الحالة. ويؤيد ذلك أن النطف- بإسكان الطاء- القليل الذي يقطر، ومنه سمى المنى نطفة، لأنها تقطر. وقد أغرب في البحر حيث قال: حكى في أرض البصرة وجهاً: أنه لا تجوز إجارتها إلا على شرط أنه لا ماء لها. فإن قيل: ظاهر كلام الشيخ يقتضي جواز الإجارة عند ري الأرض بمصر، وإن لم ينحصر الماء عنها، كما هو ظاهر نص الشافعي، وذلك يمنع من الزرع، فينبغي ألا يصح قبل انحساره؛ لعدم إمكان اتصال الشروع في الاستيفاء بالعقد. قلت: لأجل هذا منع بعض أصحابنا العراقيين فيما إذا كان الاستئجار لزراعة ما لا يمكن زرعه [مع] قيام الماء، كما حكاه الإمام، وحمل النص كما حكاه الشيخ أبو حامد على ما إذا كان المستأجر له زراعة الأرز؛ فإنها تمكن مع الماء. والصحيح عند القاضي الحسين وبه جزم القاضي أبو الطيب: أنه لا فرق بين الأرز وغيره، والنص جار على عمومه؛ لأن الماء إذا كان على الأرض فهو من مصلحتها؛ لأنه يخرق العروق التي فيها فكان بمنزلة العمارة. وأيضاً فإن الأرض التي لها شرب يصح إكراؤها للزراعة في غير يوم شربها على انتظاره؛ فينعقد العقد على استحقاق المنفعة، ثم يستوفيها على حسب العادة، فكذلك هاهنا [كذا قاله القاضي الحسين]. فإن قيل: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق بعد حصول الري في جواز الإجارة بين الأرض التي يعلم انحسار الماء عنها وقت الحاجة بأن يكون لها مقطع ينصب إليه الماء أو لا. والجواز ظاهر في الحالة الأولى دون الثانية؛ فإنه [لا تتحقق] القدرة على الانتفاع عند الحاجة؛ فينبغي أن يمنع في هذه الحالة. قلت: قد صار إلى هذا بعض المتقدمين، كما حكاه ابن أبي هريرة وجهاً،

إلحاقاً لذلك بحالة العلم بعدم انحساره، وهو موافق مذهب القفال فيما إذا كان الماء معدوماً في الحال وغلب وجوده عند الحاجة، وظاهر النص هاهنا وبه قال أبو إسحاق، وجزم الإمام: الجواز؛ اعتماداً على ما استقر من العرف فيها، ولا يخفى أن محل الجواز عند رؤية الأرض إما قبل الري أو بعده؛ لكون الماء [صافياً، أما إذا لم يرها لكون الماء] كدراً خرج على القولين في بيع الغائب، وكلام القاضي الحسين يقتضي الجواز على الجديد، فإنه قال: الماء وإن كان كدراً فهو من مصلحة الأرض، وامتناع الرؤية بما هو من مصلحة الشيء لا يكون مانعاً من الصحة، كحشو الجبة لما كان مستقراً بما فيه مصلحة لم يمتنع العقد عليه، وهو ما جعله الرافعي الأصح، وإن ثبت الخلاف وضعفه الإمام، وجزم القاضي ابو الطيب والماوردي بخلافه. واعلم أن الأرض التي لها شرب معلوم إذا أوجرت للزراعة، وصرح بإدخال الشرب فيها، صح ويتبعها الشرب، وإن نفى الشرب عنها صح أيضاص؛ لتيسر سقيها من ماء آخر، وإن أطلق دخل الشرب في الإجارة إذا اطردت العادة بإجارة الأرض بشربها، بخلاف ما إذا باعها لا يدخل [حق] الشرب فيه؛ لأن المنفعة في الإجارة لا تحصل دونه، ولو اضطربت العادة في تبعية الشرب فثلاثة أوجه: أظهرها: أنه لا يجعل الشرب تابعاً. والثاني: يتبع؛ لأن الإجارة مفتقرة إليه. والثالث: أن العقد يبطل من أصله؛ لأن تعارض المعنيين موجب جهالة المعقود عليه. فرع: لو استأجر أرضاً مطلقاً نظر، إن قال: أكريتك هذه الأرض البيضاء ولا ماء لها لتنتفع بها كيف شئت خلا البناء والغراس- جاز، كما نص عليه الشافعي – وله أن يزرع فيها بماء يسوقه إلى الأرض، أو بماء يحصل من المطر نادراً أو ثلج و [إن] لم يقل عند الإجارة إنها لا ماء لها، فإن كانت الأرض رخوة؛ بحيث يمكن حفر بئر فيها، أو شق نهر إليها- لم يصح العقد؛ لأن الغالب في مثلها الزراعة؛ فكان كذكرها. وإن كانت صلبة بحيث لا يمكن ذلك ففي صحة الإجارة وجهان:

أحدهما: وبه قال أبو إسحاق، وهو ظاهر النص الصحة؛ لأن استحالة ذلك ينزل منزلة شرطه. تنبيه: "المد" بفتح الميم وتشديد الدال، وأصله: السيل. "والبصرة" بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات حكاهن الأزهري، والمشهور بالفتح. ويقال لها: البصيرة بضم الباء وفتح الصاد على التصغير. ويقال لها: تدمر، والمؤتفكة، وقبة الإسلام، وخزانة العز بناها عتبة بن غزوان فيزمن عمر سنة سبع عشرة، وسكنها الناس [سنة] ثمان عشرة، ولم يعرف صنم قط في أرضها، وهي داخلة في حد سواد العراق، وليس لها حكمه؛ لأنها حدثت بعد فتحه ووقفه. قال: ولا يجوز إلا على [منفعة] عين معروفة لاختلاف المنفعة باختلافها، فلو قال: أجرتك عبدي أو داري أو دابة لتركبها إلى موضع كذا لم يصح؛ لما ذكرناه ثم العرف تارة يكون بالرؤية مثل أن يقول: أجرتك هذا شهراً أو لتحمل عليه كذا من هنا إلى موضع كذا ونحو ذلك، ولا يحتاج مع ذلك إلى ذكر شيء آخر وتارة يكون بالوصف فيحتاج أن يذكر ما يختلف الغرض به كما ذكرنا في السلم، وفي هذه الحالة يكون المعقود عليه منفعة في الذمة متصفة بالصفات المذكورة إذا وقع معها العقد على العين لكان إجارة غائب وسنذكره. قال: فإن لم يعرف إلا بالرؤية كالعقار لم يجز حتى يرى لتعيينه طريقاً لنفي الغرور، وعلى هذا يحتاج إلى تحديده بالجهات كما يفعل في البيع صرح به أبو الطيب ويحتاج أن ينظر من العين كل ما يختلف الغرض به، والحمام ينظر إلى بيوتها، والبئر التي يستقى [منها] ماؤها وموضع الوقود ومبسط القماش يسخن فيه الماء. قال في الشامل: ويكفي فيها مشاهدة داخلها من الحمام أو ظاهرها من الأتون.

قال الرافعي: والقياس أن يعتبر مشاهدة الوجهين عند الإمكان كما يعتبر مشاهدة وجهي الثوب، وهذا كله تفري على منع بيع الغائب. أما إذا قلنا بجوازه جاز هنا أيضاً، ووجه كون العقار لا يمكن معرفته إلا بالرؤية: أن المعرفة بالوصف كما ذكرنا منتفية؛ إذ لا يتصور ثبوت عقار في الذمة؛ لأن موضعه مقصود يختلف الغرض به، فلو ذكر لانحصر المعقود عليه فيه، وذلك مخالف وضع ما في الذمة، وإذا لم يمكن التعريف بالوصف تعين له الرؤية إذ لا ثالث لهما، وقد ألحق البندنيجي بالعقار ما لم يكن حيواناً كالثياب، والخشب، والأواني، والفرش. قال: ولا يجوز إلا على منفعة معلومة القدر .. كما لا يصح البيع إلا على معلوم القدر، لكن العلم في البيع يكتفي فيه بالحدس، ولا يحتاج إلى ذكر شيء يتقدر به المبيع، وهنا الحدس والتخمين لا سبيل إليه فتعين ما سنذكره. قال: فإن كان مما لا يتقدر إلا بالعمل أي: وإن ورد العقد فيه على الذمة كالحج والركوب [من مكان] إلى مكان قدر به لتعينه طريقاً للمعرفة، فلو قال: استأجرت منك هذا البعير لأركبه مسافة شهر إلى مكة لم يجز؛ لأن ما يقدر العمل فيه لم يجز اشتراط المدة فيه. وقال بعض أصحابنا: يجوز لما فيه من زيادة التأكيد. وقال أبو الفياض: إن كان [العمل] ممكناً في مدة الإجارة جاز وإلا فلا يجوز. قال في البحر: والأول أصح. قال البندنيجي: ومما لا يتقدر إلا بالعمل دون المدة- المنفعة الموصوفة في الذمة. وفي الحاوي: أن المضمون في الذمة يجوز تقدير الركوب [فيه] بالمدة والمسافة كالمعين ولو استأجر للركوب شهراً صح لكن بشرطين: أحدهما: أن يذكر الناحية التي يركب إليهاز والثاني: المكان الذي يسلمها فيه؛ لأنه قد يركبها شهراً مسافراً إلى بلد مسافته شهراً ويكون تسلمه [في ذلك البلد وقد يركبها ذاهباً وعائداً مدة شهر فيكون تسليمها] في بلده، وإذا كان ذلك مختلفاً مع إطلاق الشهر لم يكن بد من

موضع التسليم فإذا أغفل شيئاً من ذلك بطل العقد قاله الماوردي. قال: وإن كان مما لا يتقدر إلا بالزمان كالسكنى والرضاع والتطيين قدر به [لتعينه] طريقاً للمعرفة فإن الرضاع يعسر ضبطه بالفعل وكذا تطيين السطوح وتجصيص الحيطان؛ لأنه يكون في موضع دقيق، وفي موضع كثيف ويلتحق بهذا القسم رعي الدواب، وكذا إدارة الدولاب كما ذكره الماوردي؛ لأنه لو قدر بالعمل كسقي عشرة أجربة مثلاً فقد يروى بقليل الماء وقد لا يروى بكثيره [وقد لا يروى بعشرة] فلا يصير بتقدير العمل معلوماً. قال: وإن كان مما يتقدر بأحدهما كالخياطة والبناء قدر بأحدهما أي: مثل أن يقول: استأجرتك [لتخيط لي هذا الثوب أو] لتخيط لي يوماً أو: استأجرتك لتبني [لي] في هذا الحائط أو لتبني لي يوماً ويعين ابتداءه في الصورتين وتوجيه ذلك: أن به يحصل الضبط. فلو قدر بهما بأن قال: استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب في يوم أوله الآن لم يصح؛ لأنه إن فرع منه في بعض اليوم فطالبه بالعمل في بقيته أخل بشرط العمل فإن ترك أخل بشرط المدة، وقيل: يصح، ولكن ما الذي يستحق به الأجرة؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: العمل فإن تم في بعض المدة لم يعمل في باقيها وإن انقضت قبل تمامه وجب إكماله. والثاني: وهو ما حكاه في التهذيب وصححه الرافعي: أسرعهما انقضاء. والثالث: عن القفال إن انقضى اليوم أولاً لم يلزمه خياطة الباقي، وإن تم العمل أولاً فللمستأجر أن يأتي بمثل هذا القميص ليخيط فيه بقية اليوم. ولو قال في هذه الإجارة: على إنك إن فرغت قبل تمام اليوم لم تخط غيره بطل؛ لأن زمان العمل يصير مجهولاً، وفي البحر حكاية عن البويطي: أن الأجل المضروب مع العمل إن كان مما يمكن العمل فيه كان ذكره أفضل. وقال: إنه صحيح عندي، وهذا وجه رابع، ويلتحق بهذا القسم صور:

منها الاستئجار على حراثة الأرض: لجواز التقدير فيه بالزمان بأن يقول: استأجرتك لتحرث لي هذه الأرض كذا يوماً من الآن. ويجوز بالعمل بأن يقول: لحراثة هذه [الأرض] ويجب بيان ما يحرث به وبيان ناحية الأرض التي يحرثها إن لم تكن مشاهدة. ومنها: الاستئجار لدراس الزرع من البر والشعير وغيرهما تقدر المنفعة فيه بالفعل بأن يقول: استأجرتك على دراس هذا بعد رؤيته، وبالزمان بأن يقول: استأجرتك على دراس هذا الزرع شهراً من الآن ويحتاج في هذه الحالة إلى بيان ما يداس به من البهائم مع ذكر العدد ولا يجوز التقدير بالباقات والحزم؛ لاختلاف ذلك بالصغر والكبر. ومنها: الاستئجار على تعليم القرآن يجوز أن تقدر المنفعة فيه بالعمل بأن يقول: استأجرتك على تعليم سورة كذا أو آيات معينة. وأن [يقدر بالمدة بأن] يقول: استأجرتك على تعليم القرآن شهراً أو يوماً كما حكاه الإمام والغزالي. قال الرافعي: وفي إيراد غيرهما ما يفهم عدم الاكتفاء بذكر المدة. فرع: قال القاضي أبو الطيب إذا استأجره ليحصل له خياطة خمسة أيام لم تصح؛ لأن العمل يختلف بخفة صنعة العامل وثقلها، ومثل هذا إذا استأجر منه بهيمة في الذمة ليركبها خمسة أيام لم يجز للعلة التي ذكرناها. وفي ابن يونس: أنه يصح استئجار دابة موصوفة في الذمة. فرع: لو قال: استأجرتك هذا اليوم بعينه لتبيع لي كذا وكذا شيئاً بعينه. قال ابن القطان في "التهذيب": يحتمل أن يجوز؛ لأن الأغلب إمكانه فإن تعذر البيع فيه كان له الأجرة المسماة؛ لأنه شغله عن منافع نفسه، ويحتمل أن يقال: لا أجرة له؛ لأن العمل لم يحصل. وقال القاضي الطبري: هذا يصح- على ما نص عليه في البويطي- أن العمل إن كان معلوماً جاز تقديره بمدة، وكان أفضل من السكوت قاله في البحر. قال: ويجوز أن يعقد إلى مدة تبقى فيها العين في أصح القولي ولا يجوز

أكثر من سنة في الآخر وقيل: فيه قول ثالث: إلى ثلاثين سنة، قد بينا توجيه ذلك في باب المساقاة. وحكى الرافعي عن بعضهم: أنه جوز الإجارة إلى مدة لا تبقى فيها العين في الغالب اعتماداً على أن الأصل الدوام والاستمرار، وهو ما جعله في البسيط الأظهر، وجعل المتفق على المنع فيه إجارة مدة يعلم أن العين لا تبقى إليها. ثم إذا وقع العقد على مثل ذلك، قال في البحر: بطل فيما لا يسوغ العقد عليه، وفي الباقي قول تفريق الصفقة، واعلم أنه يتفرع على القول الصحيح فرعان: أحدهما: أن المرجع في المدة التي تبقى فيها العين إلى أهل الخبرة. وفي التهذيب: أن العبد يؤجر ثلاثين سنة والدابة عشر سنين، والثوب [سنة وسنتين] والأرض مائة سنة وأكثر. وحكى الرافعي أن في كتاب ابن كج: أن العبد يؤجر إلى مائة وعشرين سنة من عمره. وفي رفع التمويه: أن الشيخ أبا حامد قال: [إن] العبد يؤجر ستين سنة والدابة من خمش عشرة سنة إلى عشرين [سنة]، والدار من مائة [سنة] إلى مائة وخمسين [سنة]، والأرض خمسمائة سنة، وأكثر ما يصح أن يبعي بثمن مؤجل إلى هذا القدر. وفي الحاوي أن أكثر مدة يصح استئجار الأرض فيها للزراعة ما لا يزيد على بقاء الشيء المؤجر فيها. وأقل مدة يصح استئجار الأرض [فيها] للزراعة: مدة الزراعة. وأقل مدة يصح استئجار الدار للسلكنى فيها يوم واحد وأقل من ذلك تافه لم يجر به عرف فلم يصح به عقد. الثاني: إذا أجر سنتين مثلاً هل يجب بيان كل قسط كل سنة من الأجرة؟ فيه قولان:

أحدهما: لا كما لا يحاج إلى ذلك في الشهور إذا أجر سنة واحدة، وكما لو كانت الأجرة في مقابلة عمل في أعيان فإنه لا يجب فيها التقسيط وفاقاً في المذهب كما قاله مجلي وهذا ما صححه الروياني وقال: إن الفتوى عليه. وحكى الرافعي عن ابن كج طريقة قاطعة به. والثاني: نعم، وهو ما نص عليه في كتاب المزارعة كما حكاه المحاملي واختاره تبعاً للشيخ أبي حامد، ووجهه: تردد ذلك بين السلامة والعطب، وأجور السنين تختلف غالباً فيتعذر معرفة القسط بخلاف الشهور، فإنها [تتماثل غالباً]، وقد بنى الماوردي القولين على القولين فيما إذا أسلم في جنس إلى أجلين ففي قول يجوز أخذاً بظاهر السلامة. وفي قول لا لما عساه يقع [من الجهالة] في الأجرة. وقال في البسيط: إنه مبني على أن الأجرة جزافاً هل تجوز أم لا؟ قال: وإن قال: أجرتك كل شهر بدرهم بطل؛ لأنه عقد على الشهور وهي غير معلومة. وقيل: يصح في الشهر الأول؛ لأنه معلوم وأجرته معلومة فوجب أن يصح كما لو أفرده، وهذا ما نص عليه في الإملاء وبه قال الإصطخري وكذا ابن سريج [على ما حكاه القاضي الحسين والإمام الغزالي، وأنكر الرافعي أن يكون ابن سريج] قال به في هذه الحالة، وإنما قال به فيما إذا قال: أجرتك كل شهر من هذه السنة بدرهم. والمذهب الأول في الصورتين؛ لأن المعلوم إذا أضيف للمجهول صار الجميع مجهولاً، ويخالف ما إذا قال: بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم فإنه يصح؛ لأن جملة الصبرة معلومة بالمشاهدة، والأشهر هنا غير معلومة الجملة، فنظير المسألة أن يقول: أجرتك هذه السنة كل شهر بدرهم، وهذا فيما إذا كان الاستئجار على غير الأذان، أما لو كان على الأذان فإن وقع من مال بيت المال جاز أن يقول: أستأجرتك لتؤذن في هذا المسجد في أوقات الصلاة كل شهر بكذا أو إن وقع لا بمال بيت المال ففي اشتراط [بيان] المدة وجهان:

قال: ولا يجوز إلا على منفعة معلومة الصفة كما لا يجوز البيع إلا في معوض معلوم الصفة لاختلاف الأغراض بها,. قال: فإن كان معلوماً بالعرف كالسكنى واللبس حمل العقد عليه، أي: على العرف؛ للاستغناء به عن الذكر كما استغني به في البيع بالثمن المطلق في موضع فيه نقد متعارف [عن ذكره] ثم كلام الشيخ يحتمل أمرين: أحدهما: أن يستأجر الدار للسكنى والثوب للبس ولا يبين السكنى ولا اللبس، [والثاني: أن يستأجر داراً وثوباً، ويطلق فيحمل الإطلاق على السكنى واللبس] لاقتضاء العرف أن الدور لا تستأجر إلا للسكنى والثياب إلا للبس، وكلاهما مصرح به في المهذب. وفي الرافعي- حكاية عن بعض شارحي المفتاح: أنه لا يكفي الإطلاق في تعيين السكنى بل لا بد [من] أني ذكر السكن. وحكى في موضع آخر عن شارحي المفتاح: أنه لا بد من ذكر عدد السكان من الرجال والنساء والصبيان. ثم لا يمتنع من دخول زائر وضيف وإن بات فيها ليالي. فرع: الاستئجار للخدمة، [شهراً] مثلاً، هل يكفي فيه الإطلاق أم لابد من تفصيل أنواعها؟ الذي حكاه في البحر والرافعي [عن الشافعي: الثاني. وقيل: إن الإطلاق يكفي وهو الظاهر في الرافعي]، والمذكور في الشامل في كتاب الكتابة ويلزم الأخير ما جرت به العادة من غسل الثوب والخياطة، والخبز، وتعليف الدواب، وحمل الماء للشرب، والطهارة، وخدمة الزوجة، وحلب المواشي، وأضاف بعضهم إلى ذلك العجن وإيقاد النار في التنور وفرش الدار. وقيل: علف الدواب، وحلبها وخدمة الزوجة لا يدخل إلا بالشرط. قال في البحر: وهو اختيار شيوخ نيسابور، ونسب الرافعي ذلك إلى سهل الصعلوكي.

وقال: ينبغي أن يكون الحكم كذلك في خياطة الثوب، وحمل الماء إلى الدار [ويجوز] أن يختلف الحكم فيه بالعادة، وعلى كل حال فليس للمستأجر إخراج الأجير عن تلك البلدة إلا أن يشترط له مسافة معلومة من كل جانب من فرسخ إلى خمسة عشر كذا قال القاضي الحسين. وقال: إن عليه المكث عنده من أول النهار إلى العشاء وقد نسب الرافعي ذلك إلى بعض من شرح المفتاح. قال: وإن لم يكن معلوماً بالعرف؛ أي كالاستئجار على حمل مائة رطل مثلاً من موضع كذا إلى موضع كذا، والاستئجار على بناء حائط طوله كذا وسمكه كذا وارتفاعه كذا. قال: وصفة كحمل الحديد، والقطن، والبناء بالجص والآجر، والطين، واللبن؛ ليعرف فإن الأغراض تختلف بذلك. وفي تعليق القاضي الحسين: الجزم بأنه إذا قال: أكريت منك هذه الدابة لأحمل عليها مائة منا جاز، وكأن المكرى رضي بأعظم الأمتعة ضرراً بالدابة، وهو ما حكاه الإمام وادعى إجماع الأصحاب عليه وعزاه في "الرقم" إلى حذاق المراوزة. وحكى في التهذيب فيما إذا قال: أكريتك هذه الدابة لتحمل عليها مائة من مما تشاء وجهين، وكذلك هما في البحر وصحح الروياني وفي الرافعي وجه الجواز، ثم قال: وهذا في التقدير بالوزن، أما إذا قدر بالكيل، فالمفهوم ما أورده السرخسي: أنه لا يغني عن ذكر الجنس، ولو وقع العقد على حمل شيء قد شوهد صح. وإن لم يعلم كيله ووزنه كما لو شاهد الصبرة المبيعة. وفي الحاوي حكاية قول آخر: إن الإجارة لا تصح حتى تكون الحمولة معلومة القدر، وأنه مخرج من أن دفع الدراهم جزافاً في السلم هل يجوز أم لا؟ لأن عقد الإجارة والسلم جميعاً غير منبرم بخلاف البيع. واعلم أن من هذا النوع صوراً لا غنى عن ذكرها: منها: الاستئجار للحج والعمرة لا يكفي إطلاقه بل لابد من بيان أنه إفراد، أو تمتع أو قران، ولا يحتاج في الاستئجار للحج وحده إلى بيان أفعاله إن كانا

[يعلمانها وإن] لم يعلمها أحدهما وجب البيان، وهل يحتاج إلى تعيين الميقات الذي يحرم منه؟ فيه طريقان: أظهرهما وبه قال ابن سريج وأبو إسحاق: إن المسألة على قولين: أحدهما: وهو ظاهر نصه في المختصر: أنه يشترط لاختلاف المواقيت قرباً وبعداً. والثاني [لا]: وهو ظاهر نصه في الإملاء وغيره، ويتعين ميقات تلك البلدة على العادة الغالبة، وبه أجاب المحاملي في المقنع، وذكر ابن عبدان أنه الصحيح. والطريق الثاني: تنزيل النصين على حالين، والقائلون به اختلفوا فمنهم من حمل النص الأول على ما إذا كان للبلد طريقان مختلفا الميقات أو كانت تفضي طريق إلى ميقاتين؛ كالعقيق، وذات عرق، وحمل الثاني على ما إذا كان لها طريق واحد إلى ميقات واحد ومنهم من حمل الأول على مع إذا كان المستأجر حياً والثاني على ما إذا كان الاستئجار لميت، والفرق: أن الحي له غرض واختيار والميت لا اختيار له، والقصد براءة ذمته، وتحكى هذه الطريقة عن ابن خيران ثم إذا اشترطنا تعيين الميقات فأهمل فسدت الإجارة ووقع الحج عن المستأجر لوجود الإذن وللأجير أجرة المثل. ومنها: الاستئجار لتعليم القرآن إذا لم يقيد بمدة فيحتاج فيه إلى بيان السور والآيات؛ لتفاوتها في الحفظ والتعليم سهولة وصعوبة. وفيه وجه: أنه لا يجب تعيين السور، وإ ذا عين عشر آيات كفى. وفي المهذب: وجه أنه لا بد من تعيين السورة لكن يكفي إطلاق العشر منها. فحصل في اشتراط تعيين الآيات ثلاثة أوجه. الثالث: الفرق بين أن يعين السورة فيتسامح بإطلاق الآيات بها أو لا يعين فيمتنع، وفي اشتراط تعيين الرواية التي يقرأ بها وجهان: أصحهما: أنه لا يشترط؛ لأن الأمر فيها قريب. وفي الحلية: الأظهر مقابله.

قال الإمام: وكنت أود ألا يصح الاستئجار لتعليم [القرآن] حتى يختبر حفظ الصبي؛ كما لا يصح إجارة الدابة حتى يعرف حال الراكب، لكن ظاهر كلام الأصحاب: أنه لا يشترط. ومنها: استئجار الأرض إذا كانت تصلح لمنافع كإيواء الدواب فيها، وخزن الأمتعة، والزراعة، والبناء، والغرس فلا بد فيها من بيان أحد الأنواع أو كلها؛ ذلك مختلفة اختلافاً تختلف الأغراض به. قال الرافعي: وقد نقلنا في مسألة الأرض التي لا ماء لها تصريح الأصحاب بجواز الإجارة مطلقاً فيشبه أن تكون إجارتها مطلقاً على وجهين كإعارتها، والظاهر المنع فيهما. ويقوم مقام تعيين الأنواع كلها قوله: أجرتك لتنتفع كيف شئت، كما صرح به الإمام، ويكون له أن يصنع ما شاء لرضاه. وفي التهذيب وجه: أنه لا يصح كما لو قال: بعتك من هؤلاء العبيد من شئت، وإذا عين الزراعة، ولم يذكر ما يزرع أو البناء، ولم يذكر ما يبني وأطلق؛ [ففيه وجهان] كالوجهين المذكورين فيما إذا أعار الأرض للزراعة ولم يبين المزروع، وأظهرهما عند الأكثرين كما حكاه الماوردي، وأبو الطيب هنا، وبه أجاب العراقيون في مسألة العارية-: الصحة وله أن يزرع ما يشاء. قال الرافعي، ويجوز أن ينزل على أقل الدرجات، ونقل ابن كج وجه المنع عن النص في الجامع الكبير، وبه قال ابن سريج، وحكى الأول عن تخريج ابن القطان حكاية الشيء الغريب. ولو قال: أجرتك لتزرع ما شئت صحت الإجارة وزرع ما شاء، نص عليه. وعن رواية ابن القطان وجه أنها فاسدة. ولو قال: أجرتك لتزرع أو تغرس لم يصح. ولو قال: إن شئت فازرع، وإن شئت فاغرس، فأصح الوجهين عند الغزالي، وبه جزم الماوردي الصحة ويتخير المستأجر ولو قال: أكريتكها فازرعها

واغرسها أو لتزرعها وتغرسها ولم يبين القدر فوجهان: أحدهما: وبه قال أبو الطيب بن سلمة، وابن أبي هريرة وهو ظاهر كلام الشافعي كما قاله في المهذب وغيره- أنه يصح وينزل على النصف، وله أن يزرع الكل لجواز العدول من الغرس إلى الزرع، ولا يجوز العكس، وأقربهما: أنه لا يصح، وهو ظاهر نصه في الأم كما قاله في البحر، وبه قال: المزني، وابن سريج، وأبو إسحاق لأنه لم يبين كم يزرع وكم يغرس، بل لو قال: ازرع النصف واغرس النصف، فعن القفال كما حكاه في التهذيب وغيره: أنه لا يصح لأنه لم يبين المغروس والمزروع فصار؛ كما لو قال: بعتك أحد هذين بألف والآخر بخمسمائة. وإذا عين في الإجارة البناء وجب بيان موضعه، وطوله، وعرضه، وفي بيان قدر ارتفاعه وقدره وجهان: أظهرهما: أنه لا حاجة إليه بخلاف ما لو استاجر سقفاً للبناء [عليه] فإنه يجب بيان الارتفاع والقدر جزماً لاختلاف الغرض. قال: [وإن كان مما لا] يعرف بالوصف لكثرة التفاوت، كالمحمل ولاراكب والصبي في الرضاع لم يجز حتى يرى .. لتعين الرؤية طريقاً للعلم في ذلك؛ لأن العرف يختلف بسعة المحمل وضيقه، وبثقل الراكب وخفته بالضخامة والنحافة وكثرة الحركات والسكنات، وبزهادة الولد ورغبته، وصحته وسقمه والوصف لا يفي بذلك، ولا يحتاج مع الرؤية إلى شيء آخر، وقياس ما ذكرته عن الماوردي في القول المخرج في مسالة الحمولة أن العلم بالقدر معتبر أن يجيء مثله في مسألة المحمل، ووراء ما ذكره [الشيخ] في المسألة الأولى وجهان: أحدهما: عن أبي إسحاق كما حكاه الجمهور: أن المحمل إن كان بغدادياً خفيفاً كفى فيه الوصف؛ لتفاوت محاملها، وإن كان خراسانياً ثقيلاً فلا بد من مشاهدته، وقد اختار هذا القفال كما حكاه في البحر. وحكى القاضي الحسين عن أبي إسحاق أنه إن كان في البلد محامل خفاف، وهي معروفة الصنعة؛ كالبغدادية، صح الإطلاق فيه ولا تجب الرؤية والوصف؛ لأنها لا تتفاوت.

والثاني: وبه قال ابن أبي هريرة، وهو الأشبه عند الرافعي والمذكور في الوسيط: إنه يكفي فيه الوصف وذكر الوزن؛ لإفادتهما التخمين، كالمشاهدة، فعلى هذا لو ذكر الوزن [دون الصفة أو الصفة دون الوزن] فوجهان: أظهرهما: عدم الاكتفاء؛ لبقاء الجهل مع سهولة إزالته، والذي رجحه الماوردي من الخلاف في الأصل ما حكاه الشيخ وبه جزم أبو الطيب، وفي المسألة الثانية وجه: أن الوصف يكفي عند الببة، والوصف يكون بذكر الوزن كما حكاه في التهذيب، ونسبه في البحر إلى القفال وحكاه الإمام مع وجه آخر: أنه لا يشترط وزنه ويكفي ذكر صفته من الضخامة والنحافة، وهو ما ذكره الغزالي وفي المسألة الثالثة: وجه اقتصر الماوردي على ذكره: أنه لا بد مع الرؤية من معرفة سن الرضيع مشاهدة أو خبراً؛ لاختلاف شربه باختلاف سنه، ويحتاج مع ذلك كله إلى بيان موضع الرضاع من بيت المرضعة، أو بيت الرضيع، لاختلاف الأجرة بذلك صرح به الشيخ في المهذب وغيره، وكلام الماوردي دال على عدم اعتباره حيث قال: وليس على المرضعة أن تأتي إلى الطفل [فترضعه بل على ولي الطفل] إذا أراد إرضاعه أن يحمله إليها ليرتضع، فلو كان التعيين شرطاً لاستغنى عن هذا الكلام والروياني لما رأى ذلك في الحاوي نقله بعد حكايته أن التعيين شرط فكان كلامه ملبساً. تنبيه: المحمل بفتح الميم الأولى وكسر الثانية كالمجلس كذا ضبطه الجوهري. وقال غيره: بكسر الأولى وفتح الثانية وهو مركب يركب عليه على البعير. واعلم أن ما ذكرناه في المحمل مفروض فيما إذا كانت المحامل تتفاوت تفاوتاً متفاحشاً، أما إذا كانت على قدر وتقطيع لا يتفاحش فيه التفاوت كفى الإطلاق، وحمل على معهودهم كذا قاله [الرافعي] وكلام القاضي الحسين يدل على خلافه فإنه قال بعد حكاية ما نقله عن أبي إسحاق كما حكيته من قبل: والنص أنه لا بد من الرؤية والوصف مع الوزن وهو المذهب؛ لأنها وإن خفت ولم يتفاحش التفاوت؛ فلا بد من نوع يتفاوت لا محالة وحكم العمارية فيما ذكرناه حكم المحمل.

ومحل الخلاف في الاكتفاء بالوصف فيما ذكرناه إذا لم يحصل به علم، أما إذا حصل كما إذا استقصى الأوصاف ففي البحر: أنه يقوم مقام المعاينة؛ لأن القصد من [الرؤية أن يصير معلوماً] وقد حصل العلم. وأما السروج والإكاف والزاملة فلا شك في أن الرؤية فيها كافية. وفي التهذيب: أن الزاملة تمتحن باليد ليعرف خفتها وثقلها بخلاف الراكب لا يمتحن مع المشاهدة. قال الرافعي: وينبغي أن يكون المحمل والعمارية في ذلك كالزاملة كما قال القاضي الحسين: الثياب التي تجمع ويشد بعضها إلى بعض على الدابة ليركب فوقها من غير محمل، وأضاف في البحر إلى [ذلك في تفسيرها: أن يكون مع المتاع الزاد والماء، وعند الغيبة يكفي فيي] ذلك الوصف، ويحتاج معه إلى الوزن على المشهور. وفي النهاية: أن أحداً من الأصحاب لم يتعرض لاشتراط الوزن في السرج والإكاف [لأنه لا يكثر فيها التفاوت، وفي الوسيط: أنه لا يحتاج إلى وصف السرج والإكاف لتساويهما]، وكل ذلك إذا وقع التعرض لذلك في الإجارة، وكان ذلك من مال الراكب. أما لو استأجر للركوب من غير أن يشترط ما يركب عليه كان على المؤجر أن يركبه على ما جرت به العادة مما يليق بالدابة من سرج، أو إكاف، أو زاملة، ولا يشترط وصفه، وكذا إذا عين الراكب نوعاً يركب عليه ويكون من مال الآجر لا يحتاج إلى وصفه كما صرح [به] الماوردي. فرعان: أحدهما: ما يفرش في المحمل ليجلس عليه، لا بد من معرفته ويكفي فيها الوصف، ومن أصحابنا من قال: يحتاج إلى مشاهدته حكاه في البحر، والغطاء الذي يستظل به ويتوقى به المطر قد يكون وقد لا يكون فيحتاج إلى شرطه، وإذا شرط فجواب الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ: أنه يكفي الإطلاق؛ لأن التفاوت فيه قريب ويغطيه بجلد أو كساء أو لبد.

قال في البحر: وليس ذلك بشيء. وفي الحاوي، وشرح ابن كج، والتتمة: أنه يتعين رؤيته أو وصفه كالوطء، وهو ظاهر النص، والذي صححه الروياني واعتبر الماوردي مع ذلك ذكر ارتفاعه وانخفاضه؛ لاختلاف ذلك على البعير والراكب، ولو كان في ذلك عرف مطرد لكفى الإطلاق كما سبق ذلك في المحمل وغيره. وظرف المحمل: كالغطاء. الثاني: التعاليق إذا شرطت كالقدر والسطيحة والقربة والسفرة ونحوها هل يحتاج إلى معرفتها بالرؤية أو الوصف مع الوزن أم لا؟ فيه طريقان: أحدهما: وهو ظاهر النص: أنه يحتاج إليه؛ لاختلاف الناس فيهاز والثاني: وهو الأظهر: أن في المسألة قولين: أصحهما: الاحتياج، والثاني: لا، وينزل على العادة وهذا ما قاله الغزالي في كتاب المسابقة أنه الأصح [وسلك الماوردي طريقاً آخر فقال: إن كانت معاليق الناس بتلك البلدة مختلفة فلا بد من معرفتها، وإن كانت متقاربة فقولان، أما إذا لم يشرط التعاليق فلا يستحق حملها؛ لأن الناس فيها مختلفون وقد لا يكون للراكب تعاليق. وفيه وجه: أنها لو شرطت] ومحل الخلاف في اعتبار الوصف إذا لم يكن فيها شيء من الزاد والماء، أما إذا كان فيها شيء فلا بد من ضبطه كما سنذكره. قال: وما عقد على مدة لا يجوز فيه شرط الخيار؛ لأنه عقد لازم على منفعة فلم يصح اشتراط الخيار فيه، كالنكاح؛ ولأن اشتراط الثلاث يتضمن إتلاف بعض المعقود عليه مع بقاء العقد في جميعه فلم يصح، كما لو شرط في ابتياع العبدين أنه إذا تلف أحدهما في يد البائع لم يبطل البيع. قال: وفي خيار المجلس وجهان: وجه المنع: أنه يفوت بعض المدة فأشبه خيار الشرط، ولأن الإجارة عقد غرر؛ لكونها عقداً على معدوم والخيار غرر فلا يضم غرر إلى غرر، وهذا ما صار إليه أبو إسحاق، وابن خيران، وصححه الإمام والبغوي، وصاحب المرشد، والأكثرون.

ووجه الجواز القياس على البيع؛ لكونها عقد معاوضة، وهذا ما صار إليه الإصطخري وصاحب التلخيص. وقال الرافعي: إن صاحب المهذب وشيخه الكرخي رجحاه. والفرق بينه وبين خيار الشرط: أن المجلس في غالب الأمر لا يمتد والفائت من المنفعة قدر يسير [لا يبالى به] وإن طال فعلى ندور النادر لا يغير وضع الشيء، وقد حكى [الإمام] أن الإمام وبعض أصحاب القفال ذكروا الخلاف في ثبوت خيار الشرط أيضاً، وبه ينتظم في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: يثبتان وهو ما حكاه القاضي الحسين في هذا الباب عن ابن خيران. والثاني: لا يثبتان. والثالث: يثبت خيار المجلس دون خيار الشرط، ويتفرع على القول بثبوت الخيار فرعان: أحدهما: ابتداء مدة الإجارة [هل تكون] من حين العقد أو من حين اللزوم؟ فيه خلاف حكاه الإمام ورجح الأول فإن المدة لو حسبت من وقت اللزوم لتأخرت المنفعة عن العقد فشابه إجارة الزمن المستقبل، وقال: إن للقائل بمقابله أن يقول: إنما يمتنع تأخير حكم الإجارة عن العقد إذا لزم، فعلى هذا تتعطل المنافع على المكرى، وليس له الانتفاع بالعين في المدة ولا إيجارها. ولو قال به قائل كان مقارناً بخرق الإجماع، والقياس يقتضي جواز إجارة الدار المكراة في مدة الإجارة على هذا، وأراه بعيداً كذا قاله الإمام، وعلى الأول: إن كانت المنافع في يد الآجر تلفت مضمونة عليه وإن تلفت في يد المستأجر، ففيه وجهان: ينبنيان على أن المبيع إذا تلف في يد المشتري في زمن الخيار يكون من ضمان من؟ فيه قولان: أصحهما: من ضمان المشتري. فعلى هذا تكون المنفعة محسوبة على المستأجر وعليه تمام الأجرة. والثاني: يكون من ضمان البائع، فعلى هذا يحسب على الآجر وينحط من الأجرة ما يقابل تلك المدة.

الثاني: إذا أجر الآجر العين قبل لزوم العقد من آخر صح على المذهب وانفسخ العقد الأول. وفيه وجه: أن الأول ينفسخ، ولا يصح الثاني؛ كيلا يكون اللفظ الواحد فسخاً وعقداً، وذلك متناف، كذا قاله الماوردي، ويتجه أن يجيء الوجه الثالث الذي حكيناه في نظير المسألة من البيع. قال: وما عقد على عمل معين أي كخياطة ثوب وبناء حائط والإركاب إلى مكان كذا يثبت فيه الخياران لأن [منفعة] العين المعينة كالعين المتعينة [في البيع ثم بيع العين يثبت فيه الخياران فكذلك هنا]، ولأن المحذور الذي ذكرناه في إجارة المدة من فوات بعض المعقود عليه منتف هاهنا. وقيل: لا يثبتان كما لا يثبتان في النكاح، ولأن الإجارة عقد غرر فيصان من غرر آخر. وقيل: يثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط؛ [لأنه عقد على منتظر فثبت فيه خيار المجلس] دون خيار الشرط كالسلم، وهذا ما اختاره في المرشد ثم هذان القسمان فيما إذا كانت الإجارة واردة على العين، أما إذا كانت واردة على منفعة في الذمة، ففي تعليق القاضي الحسين: أنا إن قلنا بحذائها حذو السلم، فحكمها حكم المسلم فيه، فثبت خيار المجلس دون خيار الشرط وإلا فمرتب على إجارة العين فإن قلنا: يثبت ثم خيار الشرط فهنا أولى، وإن قلنا: لا يثبت ثم فهاهنا وجهان؛ لأن إثبات الخيار هناك يتضمن تفويت جزء من المعقود عليه مجاناً بخلاف ما إذا كانت الإجارة على ما في الذمة، وهذا يقتضي الجزم بثبوت خيار المجلس والتردد في ثبوت خيار الشرط، وفي المهذب حكاية وجهين: أحدهما: لا يثبت فيه خيار أصلاً، لكونها عقد غرر. والثاني: يثبت خيار المجلس دون خيار الشرط؛ لأن الإجارة [في الذمة؛ كالسلم، وهذا ما اختاره في المرشد، وهذا من الشيخ] يقتضي الجزم بعدم ثبوت خيار الشرط والتردد في ثبوت خيار المجلس. وفي الوسيط: الجزم بثبوت الخيارين فيها؛ نظراً إلى كونه لا يحذر فوات

منفعته والإجارة بيع تحقيقاً، والأحسن ما قاله القاضي وإلا أشكل الفرق بينه وبين السلم حيث يثبت فيه خيار المجلس جزماً وحصل التردد في ثبوته هنا، وينتظم من مجموع ما ذكرناه ثلاثة أوجه كما صرح بها في البيان والمحاملي في المجموع، وعلى هذا إذا جمعت الطرق كان في ثبوت الخيار في عقد الإجارة كيف فرض ثلاثة أوجه: قال: ... ولا تجوز إلا معجلاً ويتصل الشروع أي إمكان الشروع في الاستيفاء بالعقد [أي إذا ورد العقد على العين سواء قدرت المنفعة فيه بالعمل] أو بالمدة؛ لأن إجارة العين كبيع العين، وبيع العين لا يجوز إلا على ما يمكن الشروع في قبضه فكذلك في الإجارة ولأن عقود المنافع إذا تعينت بزمانها بطلت بتأجيل إقباضها كالزوجة إذا شرط [تأجيل] تسليمها. قال: فإن أطلق وقال: أجرتك [هذا] شهراً أي ولم يعين أن ابتداءه من حين العقد؛ لم يصح لجواز أن يريد أن ابتداءه بعد يوم في مثالنا؛ لكونه منكراً فيخل الاتصال المذكور. وقد حكى القاضي الحسين وجهاً عن القفال وصححه: أن العقد يصح، ويحمل على الشهر الأول، وعلى ذلك جرى الإمام ومن تابعه؛ لأنها مدة مضروبة في عقد فوجب أن تتعقب [العقد] إذا أطلقت؛ كمدة الإيلاء، والحلف على ترك الكلام شهراً. والصحيح الأول، وبه جزم العراقيون، وأبطل القاضي أبو الطيب علة خلافه بأن هذا شهر منكر فلم يحمل على الأول؛ كما لو قال: أجرتك شهراً من شهور هذه السنة، وقد ادعى الإمام أنه لا خلاف في هذه الصورة في عدم الصحة، وكذا القاضي الحسين، وهو محمول على ما إذا بقي من السنة أكثر من شهر، أما إذا لم يبق فيها إلا شهر، فقد صرح المتولي والبغوي بالصحة فيه، ولو قال: أجرتك الشهر أو نصف الشهر حمل على ما بقي من ذلك الشهر في الصورة الأولى وعلى نصفه في الثانية، وهذا الحكم: فيما لو قال: السنة. صرح به القاضي

الحسين، أما إذا كانت الإجارة واردة على الذمة فيجوز تأجيلها قطعاً؛ كالمسلم فيه وسنذكرها. تنبيه: [قول الشيخ: ويتصل الشروع في الاستيفاء بالعقد. ظاهره يقتضي أن يتمكن] المستأجر من استيفاء المنفعة عقيب العقد ويلزم على ذلك مخالفة الأصحاب في بعض المسائل ومخالفة بعضهم في بعض فيتعين أن يصرف عن ظاهره ويحمل على التمكن من الشروع في استيفاء المعقود عليه إذا أمكن والتمكن من الشروع فيما يوصل إلى الاستيفاء إن لم يمكن وذل كيتضح برسم مسائل: منها: استئجار عين الشخص للحج قبل أشهره يجوز؛ إذا كان لا يتأتى الإتيان به من بلد العقد إلا بالسير قبله وكان في وقت خروج الناس من تلك البلد إليه، ولا مانع قائم بالأجير من مرض أو بالطريق من خوف أو تراكب الثلوج والأنداء التي لا يعلم وقت زوالها، فلو علم فالأصح عند الغزالي أنه غير مانع، وكذا الاستئجار على الحج في أشهره ليحرم الأجير من الميقات، جائز عند خروج الناس إليه، وفي كل من الحالتين المذكورتين لم يتصل الشروع في نفس المستأجر عليه؛ لأنه غير [معقود عليه] بل فيما يوصل إليه، ويدل على ذلك ما سنذكره من أن الأجير إذا مات بعد قطع المسافة وقبل الإحرام لا يستحق شيئاً من الأجرة، وقد استدرك الرافعي على الغزالي وإمامه حيث قالا: ثم مهما صحت الإجارة وجب على الأجير الخروج مع أول رفقة، ولا يجوز التأخير إلا بعذر انتظار الرفقة ولا عذر بعد وجودها، بأن ذلك يقتضي جواز تقديم الإجارة على خروج الناس، وأن له انتظار خروجهم، ولا يلزمه المبادرة وحده، والذي ذكره جمهور الأصحاب على طبقاتهم ينازع فيه ويقتضي اشتراط وقوع العقد في زمان خروج الناس من ذلك البلد حتى قال صاحب التهذيب: لا يصح استئجار العين إلا في وقت خروج القافلة من تلك البلد بحيث يشتغل عقيب العقد بالخروج أو أسبابه من شراء الزاد ونحوه وإن كان قبله لم يصح؛ لأن الإجارة للزمن المستقبل لا تجوز وفرع على ذلك أنه لو كان الاستئجار بمكة لم يجز إلا في أشهر الحج، لتمكنه من الاشتغال بالعمل عقيب العقد. ومنها استئجار الدار المشحونة بالأمتعة: يجوز على الأصح وإن لم يتصل

الشروع في استيفاء المنفعة؛ لأن الشروع في التفريغ في الحال ممكن وهو موصل إلى المقصود. وعن الشيخ أبي محمد: منع إجارتها بخلاف بيعها. وحكى الرافعي في أواخر الباب: أنه رأى للأئمة فيما جمع من فتاوى القفال في صحة إجارتها جوابين: أحدهما: أنه إن أمكن التفريغ في مدة ليس لمثلها أجرة صح العقد وإلا فلا؛ لأنها إجارة [مدة] مستقبلة، وفي هذا التعليل نظر. والثاني: أنه إن كان يذهب في التفريغ مدة الإجارة لم يصح، وإن كان يبقى منها شيء صح ولزم قسطه من الأجرة إذا وجد فيه التسليم وأنهم خرجوا على الجوابين: ما لو استأجر داراً ببلد آخر فإنه لا يتأتى التسليم إلا بقطع المسافة بين البلدين. ومنها: إذا استأجر شخصاً ليتعلم منه شيئاً من القرآن والأجير لا يعرف ذلك [ولكن] يتأتى منه أن يتعلم ويعلم ففي صحة الإجارة وجهان حكاهما الإمام في باب الجعل والجعالة من كتاب الصداق عن العراقيين، ثم قال ومحلهما: إذا كان يحسن مقداراً يشتغل بتعليمه في الحال، أو كانت الإجارة مع تعلقها بالعين واردة على مدة تتسع للتعلم وللتعليم أما إذا لم تكن مدة وكان لا يحسن شيئاً ألبتة فالوجه القطع بفساد الإجارة لتحقق العجز عن المستحق في الحال وعلى ذلك جرى في الوسيط هنا. فروع: لو أجر دابة إلى موضع ليركبها المكري زماناً ثم المكتري زماناً- لم يجز؛ لتأخر حق المكتري في بعض الطريق، وتعلق الإجارة بالزمن المستقبل، وإن أجرها منه ليركب المكتري بعض الطريق وينزل ويمشي في البعض، أو أجرها من اثنين ليركب هذا زماناً، وهذا مثله؛ ففيه أربعة أوجه: أحدها: أن الإجارة فاسدة في الصورة الأولى، صحيحة في الثانية؛ لأنه إذا أكرى من اثنين اتصل زمان الإجارة بعضه ببعض، وإذا أكرى من واحد يفرق

وتكون إجارة في الزمن المستقبل، وهذا ما صححه الماوردي. والثاني: المنع في الصورتين؛ لأنها إجارة إلى آجال متفرقة وأزمنة متقطعة. والثالث: وبه قال المزني في الجامع الكبير تخريجاً. ووافقه صاحب التلخيص، واختاره القاضي الطبري والروياني: أنه يجوز في الصورتين مضمونة في الذمة، ولا يجوز على دابة معينة، والفرق: أنها إذا كانت في الذمة فإن أجرها من واحد؛ فقد ملكه نصف المنافع على الإشاعة فيقاسم المالك، وإن أجرها من اثنين ملكهما الكل فيقتسمان. وأما إجارة العين فإنها تتعلق بأزمنة منقطعة فتكون إجارة للزمان المستقبل. والرابع- وهو أصحها وجعله أبو الطيب في تعليقه المذهب- جواز الإجارة في الصورتين على الذمة والعين ويثبت الاستحقاق في الحال، ثم يقتسم المكرى والمكتري أو المتكاريان والتأخر الواقع من ضرورة القسمة والتسليم فلا يضر، وعلى هذا إن كان في الطريق عادة مضبوطة إما بالزمان [بأن] يركب يوماً وينزل يوماً، أو المسافة بأن يركب فرسخاً ويمشي فرسخاً حمل العقد عليها، وإن لم تكن عادة مضبوطة فلا بد من البيان في الابتداء، وليس لأحدهما أن يطلب الركوب ثلاثاً والنزول ثلاثاً؛ لما في دوام المشي من التعب، ودوام الركوب من الإضرار بالدابة، ولو اختلفا فيمن يبدأ بالركوب فالمحكم القرعة، وهذه المسألة مشهورة بكراء العقب وهو جمع عقبة، والعقبة: النوبة إذا أكرى الدابة من اثنين ولم يتعرض للتعاقب. وقال القفال يجوز، ويتهايأ فيركبها هذا يوماً وهذا يوماً. قال في البحر بعد حكايته ذلك: وهذا عندي إذا أمكن أن يركبها معاً، فإن لم يمكن فلا يجوز كراهما للركوب معاً. وقال المتولي: إن احتملت الدابة ركوب الشخصين اجتمعا على الركوب، [وإلا رجع] إلى المهايأة. لو قال: أجرتك نصف الدابة إلى موضع كذا، أو أجرتك الدابة لتركبها نصف الطريق صح ويقتسمان إما بالزمان أو المسافة، وفي إجارة نصف الدابة وجه: أنها غير جائزة للتقطع.

قال: .... ولا تجوز الإجارة إلا على أجرة معلومة الجنس [والقدر] والصفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَاجَرَ أَجِيراً فَلْيُعْلِمْهُ أَجْراً"؛ ولأنها بمنزلة الثمن في البيع ومعرفة الثمن في البيع شرط فكذلك الأجرة، وهذا إذا كانت الأجرة في الذمة، أما لو كانت على العين فالمعتبر شرائط المبيع وإلا لا يكون عمله واقعاً فيما جعله له؛ كما إذا استأجر الطحان ليطحن الحنطة بقفيز منها مطحوناً؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان وهو مفسر بما ذكرناه، وألحق الأصحاب به ما إذا استأجر الطحان على الطحن بجزء شائع من الدقيق أو النخالة، أو السلاخ ليسلخ الشاة المذبوحة بجلدها وأظهروا للنهي معنى لأجله عدوا الحكم إلى ما ذكرناه، وهو أن الأجرة غير حاصلة في الحال على الهيئة المشروطة، وإنما تحصل بعمل الأجير من بعد فهي إذاً غير مقدور عليها في الحال. وفي بعض المسائل ما يقتضي الفساد، ولو خلت عن المعنى المذكور، وهو في مسألة الاستئجار بجزء من الدقيق أو النخالة: جهالة الدقيق في الحال، وكذا النخالة؛ لاشتمال القمح عليهما وفي مسألة السلاخ الجهل بصفاته؛ لأنه لا يعرف حاله في الرقة والثخانة وسائر الصفات قبل السلخ، وكذلك يمتنع جعله أجرة مطلقاً، وإن كان الاستئجار على عمل غير السلخ وقد ألحق الأصحاب على ما حكاه الغزالي وإمامه بمسألة قفيز الطحان أيضاً ما إذا استأجر مرضعة على الرضاع بجزء من المرتضع الرقيق في الحال وقاطف الثمار بجزء منها على رؤوس الأشجار موجهين ذلك بأن عمل الأجير لم يقع في خالص ملك المستاجر، ثم قال الغزالي: وزاد الأصحاب فقالوا: المرتضع المشترك بين امرأة

مرضعة ورجل لا يجوز للرجل استئجارها على الرضاع؛ لأن عملها لا يصادف خالص ملك المستاجر، وهذا فيه احتمال؛ إذ قطعوا في كتاب المساقاة: بأن أحد الشريكين لو ساقى صاحبه وشرط له جزاء جاز وهو على عمل مشترك، ولكن قيل: ما يخص المستأجر يستحق به الأجرة، وهو محتمل- هاهنا – أيضاً. قلت: وجه الزيادة في هذه المسألة على ما ذكره في الصورة السابقة: أن الفساد قد يعلل فيها: بأن الاستئجار لما وقع في حال كون جميع العين ملكاً للمستأجر انتهض ذلك دليلاً على أن المراد بالاستئجار العمل في كل العين، وإذا كان كذلك اقتضى العقد تمليك الأجير جزءاً من العين في مقابلة عمله فيه وفي باقيها، وإجباره على العمل في ملكه والأول مخالف لوضع الإجارة، والثاني مخالف لوضع الملك. وفي مسألة استئجار الشريك على الإرضاع لا بجزء من الرضيع، العقد واقع على العمل في حصته؛ لكون الظاهر أن الإنسان لا يستأجر إلا على العمل في ملكه [فيصير كما لو صرح بذلك، ولو صرح بذلك لانتفى ما ذكرناه من كونه يأخذ الأجرة على عمله في ملكه] وكونه مجبراً على العمل في ملكه قصداً فإلحاقه بالصورة السابقة زيادة وهو بصورة المساقاة أشبه، وقد أشار الإمام إلى أن المنع جاء من جهة أن الاستئجار على إيقاع العمل في الملك المشتر لا يجوز ما لم يجتمع عليه الملاك، فلو جاز لأحدهم لزم منه التصرف في ملك غيره بغير إذنه إلى انقضاء الإجارة أو عدم القدرة على تحصيل المنفعة. وكل منهما محذور وإذا كان كذلك فهذا المعنى موجود فيما إذا كان الأجير هو الشريك؛ لأنه لا يلزمه العمل في ملكه، وما ذكره لا يقتضي المنع في استئجار الشريك؛ لأنه بعينه موجود في مسألة المساقاة، وقد جزم فيها بالصحة وموجود فيما لو كان بين رجلين حمل مشترك فاستأجر أحدهما صاحبه على حمله إلى البيت، فإنه يصح بالأجرة المسماة كما لو قال: استأجرتك لحمل نصيبي بكذا وفيما إذا كان بين شخصين طاحون فاستأجر أحدهما صاحبه على أن يعمل فيه كذا يوما بأجرة معلومة فإنه يصح، ويجعل كما لو استأجره ليحمل نصيبه أو على

نصف منفعة بدنه، لأنه لو استأجر من حر نصف منفعته جاز، كذا حكاه القاضي الحسين الحكم والتوجيه في الصورتين، وموجود أيضاً فيما لو استأجر أحد الشريكين في الحنطة صاحبه ليطحنها أو في الدابة ليتعهدها بدراهم، وقد جزم في التهذيب فيهما بالصحة، فكان إلحاق مسألة الرضيع بهذه المسائل أولى والله أعلم. قال: فإن استأجر بالطعمة والكسوة لم يصح، كما لو جعل ذلك عوضا في النكاح والبيع، وهذا الحكم فيما لو اكترى الدابة بعلفها، أو الأرض بخراجها وكلفتها أو الدار بعمارتها، وكذا لو استأجر الدار بدراهم معلومة وشرط على المستأجر صرفها في العمارة؛ لأن الأجرة الصرف والدراهم، والعمل فيا لصرف مجهول، نعم لو قدر شيئاً من الطعام ووصفه بصفات السلم صح جعله أجرة، وإن قسطه في كل يوم شيئاً خرج على السلم في جنس إلى أجلين صرح به القاض الحسين، ثم إذا أذن له في صرف ذلك إلى العبد المستأجر جاز. وهكذا نقول فيما إذا استأجر داراً بقدر من الدراهم ثم أذن له في صرفها في العمارة بدون شرط صح ولم يخرج الأصحاب ذلك فيما وقفت عليه على اتحاد القابض والمقبض وكأنهم نزلوا القابض من المستأجر منزلة النائب عن الأجير وإن لم يكن معنياً واغتفروا مثل هذا التوكيل لوقوعه ضمناً، وإن كان لا يصح لو وقع قصداً كما صرح به القفال فيما إذا قال وكلت كل من أراد بيع مالي ببيعه [بل ادعى ابن الصباغ في كتاب الخلع فيما إذا خالع زوجته وأذن لها في إنفاق ذلك على ولده كان له، وأنه لا يختلف أصحابنا في ذلك]، لكن قياس هذا أن يقال: إذا كان له في ذمة شخص مال فأذن له في غسلامه في كذا أن يصح، وهو ما حكاه صاحب الإشراف عن ابن سريج، ثم قال: والمذهب خلافه وقضية هذا أن يجيء مثله هاهنا. وعلى الأول: لو اختلف الآجر والمستأجر في قدر المصروف وكان ما ذكره المستأجر محتملاً؛ فمن القول قوله؟ فيه قولان في الإبانة، والذي أجاب به ابن الصباغ أن القول قول المستأجر، وسيأتي فيما إذا أذن الحاكم للمستأجر عند هرب الجمال في الإنفاق وجدناه ثم اختلف الجمال والمستأجر في قدر المنفق، فمن القول قوله؟ فيه ثلاثة أوجه يتجه مثل جريان مثلها هاهنا، ولو أنفق المستأجر

عند اشتراط الإنفاق في أصل العقد بشرط الرجوع رجع عليه، وإن فسد العقد [لإذنه، فإن اختلفا] في قدر المنفق ذكر القاضي في تعليقه أن القول قول المنفق؛ لأنه ائتمنه على ذلك. قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لم يأتمنه وإنما شرط عليه أن تكون النفقة عليه، وذلك لا يقتضي الأمانة. تنبيه: الطعمة بضم الطاء: الإطعام. والكسوة: بكسر الكاف وضمها جميعاً، كسي، وكسوته [ثوباً] فاكتسى وهو كاس، وهم كساة ونسوة كاسيات. قال: ... وإن عقد على مال جزاف؛ أي: والعقد على منفعة عين معينة جاز؛ لأن المنافع في حكم الأعيان المقبوضة بدليل جواز التصرف فيها؛ فجاز أن يكون ما يقابلها جزافاً؛ كالثمن في البيع، وهذا هو المذهب. وقيل فيه قولان؛ كرأس مال السلم، والجامع: أنهما عقدان على منتظر يخشى انفساخ العقد فيه بتعذره. والقائل الأول: فرق بأن السلم معقود إلى أجل فهو غرر فلا ينضاف غرر إلى غرر، والإجارة معقودة على منفعة حالة وإنما تستوفي شيئاً فشيئاً فشابه الطعام إذا اشتراه وقبضه [كيلاً] قليلاً قليلاً، والأجل املذكور فيها ليس بأجل في الحقيقة وإنما يضرب لتقدير المنفعة فإن الأجل: ما يحل الحق عند انقضائه، وهذه المدة تعني الحق عند انقضائها، أما إذا كانت الإجارة على منفعة في الذمة؛ قال ابن يونس: فهي كالسلم بلا خلاف، وهذا إن قاله وقد عقد بلفظ السلم فهو ظاهر، وإن قاله وقد عقد بلفظ الإجارة ونحوها ولم يسلك به مسلك السلم فلا اتجاه له. قال: وإن أجر منفعة بمنفعة جاز؛ لأنهما منفعتان يجوز أن يعقد على كل منهما فجاز العقد على إحداهما بالأخرى عند اتفاق الجنس؛ كما لو كانتا مختلفتي الجنس، ومن منع الصحة عند اتفاق الجنس- وهو أبو حنيفة- اتبع في ذلك أصله، وفي تحريم الربا في كل جنس واحد، وقد بينا في باب الربا: أنه لا يجري إلا في المطعوم والنقدين.

قال: وتجب الأجرة بنفس العقد؛ لأنه عقد لو شرط فيه تعجيل العوض أو تأجيله تبع في ذلك بالاتفاق، فإذا أطلق وجب أن يحمل على التعجيل؛ كالثمن في البيع وأيضاً: فإن المستأجر قد ملك المنفعة وصح تصرفه فيها فوجب أن يملك الآجر مقابلها وهو الأجرة عملاً بتساوي المتعاقدين. قال: إلا أن يشرط فيها الأجل فتجب في محله [كالثمن]، وهذا إذا كانت الإجارة واردة على العين أما إذا وردت على الذمة فسيأتي. واعلم إنا وإن أوجبنا الأجرة بنفس العقد فلا يوجب تسليمها ما لم تسلم العين المؤجرة إلى المستأجر، كذا صرح به الماوردي، وكان يتجه أن يكون فيه الخلاف المذكور في البيع إذا كانت الإجارة على عمل، وقلنا: إن الصنعة كالعين، وإن قلنا: إنها أثر فتكون كالنكاح؛ لأن المنفعة تفوت بالتسليم كما تفوت منافع البضع بالوطء، خصوصاً إذا كانت المنفعة حراسة أو رعياً أو نحوهما، وقد صرح المتولي بإلحاق الآجر والمستأجر عند التنازع بالبائع والمشتري، وإذا تسلم الآجر الأجرة فهل ملكها ملكاً مستقراً أو ملكها ملكاً مراعى؟ فيه قولان صرح بهما الماوردي وغيره. ومعنى الملك المستقر كما حكاه الإمام في كتاب الزكاة: أن الإجارة لو انفسخت في أثناء المدة انتقص ملك الآجر عما يخص الذي انفسخ العقد فيه [من حينه. ومعنى الملك المراعى: أنها إذا انفسخت في أثناء المدة تبينا أنه لم يملك ما يقابل ما انفسخ العقد فيه]. فرع: إذا وقع العقد بأجرة مؤجلة والنقد على صفة ثم صار عند الحلول على غيرها، فالواجب النقد الموجود حالة العقد بخلاف ما لو كان النقد حال [عقد] الجعالة على صفة ثم تغير حال تمام العمل فإن المعتبر فيه النقد الموجود حال الفراغ على وجه؛ لأن به استحق الأجرة والصحيح أنه كالإجارة. قال: وإن كان العقد على مدة أي مثل [إن استأجر شيئاً شهراً من حين العقد فتسلم العين ومضت المدة، أو على عمل معين، أي: مثل] إن استأجر عبداً

ليخيط له ثوباً أو يبنى له حائطاً ونحو ذلك، [أو استاجر دابة ليركبها إلى موضع كذا، أو يحمل عليها شيئاً إلى موضع كذا ونحو ذلك]. فسلم العين ومضى زمان يمكن فيه الاستيفاء استقرت الأجرة أي سواء استوفى المنفعة أو لا، وسواء كان عدم الاستيفاء لعذر قام به أو بالطريق أو لا لعذر؛ لأن المعقود عليه تلف تحت يد متملكه فاستقر عليه بدله؛ كالمبيع إذا تلف تحت يد المشتري. وفي الحاوي: أن هذا فيما إذا كان العذر المانع من استيفاء المنفعة قائماً بالمستأجر كالمرض ونحوه أما إذا كان قائماً بالعين المستأجرة؛ كمرض الدابة فلا أجرة على المستأجر لكن إن كانت الإجارة على مدة فقد انفسخت وإن كانت إلى مسافة معلومة فهي بحالها. وألحق العذر القائم بالطريق من خوف أو حذر بالعذر القائم بالعين المستأجرة لكون المنع في الحالتين من غير المستأجر فصار ممنوعاً من استيفاء حقه، والأصحاب استشعروا ذلك وأجابوا عنه: بأن المستأجر متمكن من استيفاء المنفعة في طريق آخر إلى مثل الموضع المعين؛ إذ لا يتعين السير إلى الموضع الذي عينه عندنا فصار كما لو لم يكن في الطريق خوف. وليس للمستأجر عند تعذر [استيفاء] المنفعة عليه لا بسبب من جهة المؤجر فسخ الإجارة ولا أن ييلزم المكرى استرداد الدابة في الصورة الأخيرة من صور الكتاب إلى أن يقدر على استيفاء المنفعة، وقد ألحق بالتسليم فيما ذكرناه عرض الآجر العين المستأجرة على المستأجر وامتناعه من تسلمها إلى انقضاء المدة والزمان صرح به في المهذب وغيره فحينئذ [تستقر الأجرة] فيما إذا كانت الإجارة على منفعة عين معينة بأحد ثلاثة أشياء: كما صرح به في الذخائر- استيفاء المنافع، والتمكين من الاستيفاء بأن يسلم إليه العين وتمضي المدة وهي في يده، وأن تعرض عليه العين ويتمكن من قبضها فيتركها اختياراً حتى تمضي المدة. قلت: والجزم بالاستقرار في الصورة الأخيرة فيه نظر؛ لأن الأصحاب شبهوا

منفعة العين المعينة بالمبيع المعين، وقد تقدم حكاية وجه فيما إذا وضع البائع [العين المبيعة] في بيت المشتري أو حجره، أو بين يديه بغير إذنه ورضاه أنه لا يكون إقباضاً ما لم ينقله فيشبه أن يجيء مثله هاهنا. قال: ويجب رد العين أي: بعد مضي المدة والزمان؛ لأن ذلك قضية الملك، وهذا جواب على أن المستأجر يجب عليه [رد العين] بعد المدة كما سيأتي. فرع: إذا وقع العقد على منفعة حر فسلم نفسه ولم يستعمله المستأجر حتى مضت المدة أو مضت مدة يمكن فيها العمل المستأجر عليه، فهل تستقر الأجرة؟ قال الرافعي: الذي ذهب إليه الأكثرون الاستقرار، والذي ذهب إليه القفال عدمه؛ لأن الحر لا يدخل تحت اليد فلا تحصل منافعه في ضمان المستاجر إلا عند وجودها، وهذا ما قاله الشيخ أبو علي عند الكلام فيما إذا تلف الثوب الذي وقعت الإجارة على خياطته، وإيراد القاضي أبي الطيب، والماوردي وغيرهما موافق لما حكاه عن الأكثرين فإنهم قالوا فيما إذا استأجره على قلع ضرس وجيع ثم امتنع المستأجر من تمكين الأجير من القلع مع بقاء الألم حتى مضت مدة يمكن قلعه فيها: إنه لا يجبر على ذلك وتجب الأجرة عليه ويستقر. كذا حكوه عند الكلام في أن المستأجر ليس له فسخ الإجارة بعذره. وحكى ابن الصباغ: أن القاضي أبا الطيب قال في المجرد: وعندي أنها لا تستقر حتى إن هذا السن لو انقلع انفسخت الإجارة ووجب رد الأجرة كما قلنا في النكاح: إذا مكنت الزوجة من نفسها ولم يطأها الزوج، ويفارق هذا إذا حبس الدابة مدة المسافة أنه تستقر عليه الأجرة؛ لأن المنافع تلفت تحت يده بخلاف مسألتنا. وهذا التعليل يؤيد ما أوردته عن الأصحاب في الجزم باستقرار الأجرة بالعوض. قال: ... وإن كانت الإجارة فاسدة استقرت أجرة المثل ... أي سواء انتفع بالعين [بعد تسليمها أم لا]؛ لأن الإجارة كالبيع، والمنفعة كالعين، ثم البيع الفاسد كالصحيح في الضمان بالقبض فكذلك الإجارة.

قال: وما يحتاج إليه في التمكين من الانفاع كمفتاح الدار، وزمام الجمل والحزام والقتب، فهو على المكري؛ أي عند إطلاق العقد؛ لأن التمكين من الانتفاع واجب على الآجر، وهو متوقف على ذلك؛ [فوجب عليه] وفي معنى القتب الإكاف والبرذعة والثفر وبرة البعير: وهي التي تكون في أنفه من خشب أو غيره، واللجام، والسرج إذا كان المستأجر فرساً للركوب صرح به القاضي أبو الطيب وغيره. وحكى أبو الحسن العبادي في الرقم: أن مكري الدابة لا يلزمه تسليمها إلا عارية، والآلات كلها على الراكب؛ كما لو شرط ذلك عليه. وفي التهذيب: أن ما ذكرناه يجب على المؤجر؛ إذا كانت الإجارة واردة على الذمة، أما إذا كانت واردة على عين الدابة والبرة، والخطام، ولجام الفرس، وكل ما يحتاج إليه للتمكين يجب عليه أيضاً، والسرج والإكاف على المستأجر، وكذا الوعاء إذا كان الكراء لحمل متاع. فلو سلم إليه الدابة عارية، فركبها أو حمل عليها بلا إكاف ولا سرج ضمن؛ لأنه يرق ظهر الدابة إلا أن تكون المسافة قريبة. وذهب ابن كج إلى أن السرج لا يجب إلا إذا كانت العادة جارية بالركوب عليه، وجعله الرافعي وجهاً ثالثاً، وهذا يدل على الخلاف في إيجابه وإن لم تجر العادة بالركوب عليه. ولو كانت الدار مما يقفل عليها قفل حديد، فلا يجب على المؤجر. والفرق بينه وبين المفتاح: أن المفتاح منفعة تابعة للضبة وهي من الثوابت، بخلاف القفل؛ فإنه منقول غير تابع. تنبيه: جمع المفتاح مفاتيح ومفاتح، كالأماني، والأماني، [و] الزمام بكسر الزاي: أصله الخيط الذي يشد في [البرة] بضم الباء وتخفيف الراء، وقد يسمى المقود بكسر الميم وهو الرسن، [وهو مراد المصنف] الحزام بكسر الحاء جمعه حزم، والفعل حزمت الدابة أحزمها حزماً. القتب: بفتح القاف والتاء جمعه أقتاب، قال: و [ما يحتاج إليه لكمال الانتفاع: كالدلو والحبل، أي عند كراء شخص للاستقاء والمحمل والغطاء؛ أي عند

الكراء للركوب بهما كما تقدم- فهو على المستأجر؛ لأنه لا يتوقف الاستيفاء عليه بل كماله. ومن هاهنا يؤخذ أنه لا يجب على الآجر ما يشد به أحد المحملين إلى الآخر من طريق الأولى، وفي المهذب حكاية وجه: أنه يجب عليه وهو بعيد مع القطع في نفس المحمل وسائر توابعه المذكورة أنها على المكتري. قال الرافعي: والأقوم ما في تعليق الشيخ أبي حامد وغيره، وهو رد الوجهين إلى أن شد أحد المحملين إلى الآخر على من يجب؟ فعلى وجه: يجب على الآجر؛ كما يجب عليه الشيل والحمل؛ [لأنه يراد للتمكين من الركوب]. وفي الثاني: على المكتري؛ لأنه إصلاح ملكه [فهو كتأليف المحمل]. واعلم أن محل وجوب الحبل والدلو على المستأجر إذا كانت الإجارة واردة على العين، أما إذا كانت واردة على الذمة، فهي كالوعاء في الاستئجار على نقل الغلة في الذمة، فتكون على المكتري. وعن القاضي الحسين أن الرجل إن كان معروفاً بالاستيفاء بآلة نفسه؛ لزمه الإتيان بها. قال الرافعي: وهذا يجب طرده في الوعاء. تنبيه: الدلو قال ابن السكيت: الغالب عليها التأنيث، وقد يذكر، وتصغيرها: دلية، وجمع القلة أدل وفي الكثرة دلاء ودلى بضم الدال وكسر اللام وتشديد الياء، وأدليت الدلو أرسلتها في البئر، ودلوتها نزعتها منه، وأيضاً أرسلتها. والغطاء- بكسر الغين والمد-: جمعه أغطية، وهو ما يغطي الشيء، يقالك غطيته بتشديد الطاء تغطية، وحكى الجوهري أيضاً: غطيته غطيا بالتخفيف، ومنه قولهم: غطا الليل يغطو ويغطي أي أظلم. قال: وفي كسح البئر أي بئر الحش وتنقية البالوعة أي إذا امتلئ ذلك في أثناء المدة بعد تسليمه فارغاً، وجهان: وجه إيجابه على المكري: أنه من مقتضى التمكين من الاستيفاء؛ فوجب كما يجب تسليم ذلك في الابتداء فارغاً حتى إذا لم يفعله، ثبت للمستأجر الخيار؛

وهذا ما اختاره الروياني، ولم يحك الماوردي عن الأصحاب سواه. ووجه ثبوته على المستأجر: أنه تسلم ذلك فارغاً، وإنما حصل الامتء بفعله؛ فكان عليه، كتنظيف الدار عن الكناسة والأتون عن الرماد، وهذا ما صححه الرافعي، واختاره الماوردي لنفسه، وبه أجاب القاضي أبو الطيب، والبندنيجي وابن الصباغ، والمتولي. فعلى هذا: إذا لم يفعله المستأجر لا يثبت له خيار. وفيه وجه: أنه يثبت له. وفي الحاوي: أنه يجبر على ذلك. وهذا كله في خلال المدة، أما إذا انتهت المدة، فهل يجب على المستأجر تنظيف ما تسلمه فارغاً؛ ليسلمه كما تسلمه أم لا؟ قال الأصحاب: إن كان الموجود القمامات المجتمعة في زمن إجارته، وجب عليه إزالتها؛ وكذا الرماد عند الإمام. وفي التهذيب: أنه لا يجب؛ لأن طرح الرماد من ضرورة استيفاء المنفعة. وأما كسح البئر وتنقية البالوعة، فلا خلاف في عدم وجوب ذلك. ومستنقع الحمام- وهو الذي يجتمع فيه الماء الوسخ- حكهم حكم البالوعة عند بعضهم في الدوام والانتهاء. وحكى في البحر: أن القاضي في الجامع حكى عن بعض أصحابنا: أن كسحه على المكري أبدا، وهو المذهب؛ لأن التمكين من الانتفاع لا يكون إلا به ولا يشبه الحش في الدار؛ لأن معظم الانتفاع لا يكون به بخلاف الحمام. ثم القمامات التي وقع [فيها] الكلام القشور وما يسقط من الطعام ونحوه، أما التراب الذي حصل من هبوب الرياح، فلا يجب على المستأجر؛ لأنه حصل بغير فعله. قال الرافعي: لكن قد قيل: إن الثلج إذا وقع في العرصة وجف ولم يمنع الانتفاع كان ملحقاً بكنس الدار وكذا إن كثف على الظاهر، ومنه من ألحقه بتنقية البالوعة، وإن كان قد حصل لا بفعله، [فيجب أن يكون التراب أيضاً كالنكاسات في أثناء الإجارة وإن حصل لا بفعله].

تنبيه: الكسح: الكنس. والبئر مؤنثة مهموزة وتخفف بتركه، وجمع القلة: أبؤر؛ كأفلس وأبار بإسكان الباء وبعدها همزة، ومن العرب من يقلب الهمزة فيقول: آبار بمد أوله وفتح الباء [والكثرة بئار] بكسر الباء وبعدها همزة. البالوعة، والبلوعة: ثقب في وسط الدار تنصرف فيه الأوساخ. قال: وعلى المكري الإشالة والحط، أي إشالة الحمل وحطه، وإركاب الشيخ، أي بأن يمسك بيده، أو يضع له ركبته؛ ليركب عليها على العادة، وإبراك الجمل للمرأة؛ لاقتضاء العرف، وفي معنى المرأة: الرجل الضعيف؛ بسبب مرض أو نحافة، وكذا من جاوز الحد في السمن؛ كما صرح به الماوردي. والاعتبار في القوة والضعف بحالة الركوب، لا بحالة الإجارة؛ صرح به أبو الطيب وغيره. ولو كان المستأجر بغلاً أو حماراً؛ وجب عليه تقريبه من المرأة ومن في معناها؛ ليسهل الركوب. ويجب عليه بعد الإركاب سوق الدابة وتعهدها، وإعانة الراكب في النزول على العادة. وعليه إنزال الراكب؛ لقضاء الحاجة، والطهارة وصلاة الفرض؛ إذا طلب المستأجر ذلك ولو في أول وقت الصلاة، وإذا نزل انتظره، ولا يلزم المستأجر المبالغة في التخفيف ولا الاقصر، ولا الجمع، وليس له الإبطاء والتطويل، فإن كانت التطويل طبعاً فيه وعادة؛ كان عيباً فيه، وللجمال الخيار في فسخ الإجارة، والصبر عليه، وهكذا لو كان عسر الركوب إلا أن يستبدل الراكب بنفسه غيره صرح به الماوردي، ولا يجب إنزال المستأجر لصلاة النفل والأكل والشرب؛ ليأتيها على الراحلة. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في وجوب ما ذكرناه على المكرين بين أن تكون الإجارة واردة على العين أو على الذمة، وهو ما صرح به الماوردي. وقال الرافعي: إن محله إذا وردت على الذمة، أما إذا وردت على عين الدابة، فالذي يجب على الآجر التخلية بينها وبين المستأجر، وليس عليه أن يعينه في

الركوب ولا في الحمل وإن هذا ما يوجد للأكثرين في نوعي الإجارة، وإن الإمام حكى وراءه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يفترق في إجارة الذمة بين أن يقع العقد على التبليغ مثل أن يقول: ألزمت ذمتك تبليغي إلى موضع كذا على الدابة صفتها كذا فتقع الدابة تبعاً فتلزم الإعانة، وبين أنه تقع على الدابة بأن يقول: ألزمت ذمتك منفعة دابة صفتها كذا؛ لأركبها إلى موضع كذا فلا يجب. والثاني: أنه يجب الإعانة على الركوب في إجارة العين أيضاً. والثالث: أنها تجب في الحمل سواء كانت الإجارة في الذمة أو على العين لاطراد العادة بالإعانة على الحط والحمل وإن اختلفت في الركوب، وهذا ما اختاره في الوسيط ووضع الحط وحمله؛ كالحمل. فرع: أجرة الدليل والسائق والقائد ينظر فيه، فإن اكترى بهيمة بعينها فليس على الآجر غيرها وإن اكترى منه الركوب أو الحمولة في الذمة كان ذلك على الآجر قاله في البحر. تنبيه: الإشالة: الرفع يقول: أشلته، بضم الهمزة، إشالة [بكسرها] كأقمته أقيمه إقامة، وانشال هو، قال الجوهري: ويقال شُلْتُه أَشُوله شَوْلاً أي: رفعته. إبراك الجمل، قال أهل اللغة: يقال: برك البعير يبرك- بضم الراء- أي: استناخ، وأبركته أنا فبرك. قال ابن فارس: هو مشتق من البرك بفتح الباء وإسكان الراء وهو الصدر؛ لأنه يقع صدره على الأرض. وأصل هذه الكلمة من الثبوت قال: وللمكتري أن يستوفي المنفعة بالمعروف؛ لأن إطلاق العقد يقتضي المتعارف؛ فألحق بالمشروط؛ وهذا اللفظ من جوامع الكلم؛ لأنه ينظم مسائل كثيرة صرح بها الأصحاب. فمنها: أن من استأجر ثوباً للبس كان له أن يلبسه بالنهار وفي الليل إلى وقت النوم، وليس له أن ينام فيه ليلاً، وكذا في وقت القيلولة على وجه، وبه جزم في الوجيز. والصحيح: وهو الذي أورده الأكثرون- الجواز، ومحله في القميص الأسفل، أما الأعلى، فيلزمه نزعه في سائر [أوقات] الخلوة؛ لأنه إنما يلبس

عادة في وقت الخروج إلى الطريق ودخول الناس عليه. ولا يجوز له الاتزار بالقميص المستأجر للبس؛ لأنه أضر من اللبس، وهو غير متعارف في لبس القميص، وفي الارتداء به وجهان حكاهما شيوخ الطريقين. وأظهرهما: الجواز؛ لأن ضرر الارتداء دون ضرر اللبس ومن هذا يظهر: أنه لو صرح بالاستئجار للارتداء، لا يجوز له الاتزار به؛ كما صرح به في التتمة. ويجوز له أن يتعمم به؛ لأنه أخف ضرراً. ومنها: إذا استأجر داراً للسكنى كان له أن ينقل الأمتعة إليها، وهل له أن يضع فيها ما يسرع إليه الفأر وينقب بسببه الحيطان؟ فيه وجهان: أصحهما: الجواز؛ لأنه معتاد ولا يجوز له أن يضع التراب والرماد في أصل حيطانها ولا ربط الدواب فيها، ولا أن يسكنها حداداً ولا قصاراً؛ لإضرار ذلك بجدرانها. قال في البحر: فإن قيل: أليس قلتم: إذا استأجر أرضاً للزراعة، يجوز له أن يزرع أضر زرع، فهلا قلتم في السكنى مثله؟ قيل: الفرق: أن السكنى لا تتضمن الإضرار بالدار، فإذا أسكنها ما يضر بها لم يجز، والزرع متضمن الإضرار بالأرض، فإذا أطلق، فقد رضي بأكثر الضرر. وهذا جواب عما أورده الرافعي سؤالاً على جواز إطلاق الإجارة للسكنى. ومنها: من استأجر راحلة للركوب، كان له النوم عليها في الوقت المعتاد بالنوم فيه، وليس له ذلك في غير وقته؛ لأن النائم يثقل. وله استنهاض الدابة بالضرب، وكبح اللجام، وركض الرجل على العادة؛ روى جابر قال: "سَافَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاشْتَرَى مِنِّي بَعِيراً، وَحَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَسُوقُهُ وَأَنَا رَاكِبُهُ، وَإِنَّهُ لَيَضْرِبُهُ بِالْعَصَا".

ومنها: للمستأجر للركوب وضع الرجل والجلوس على الدابة على الوسط المعتاد، وليس لأحد المتآجرين أن يضع الرجل مكبوباً ولا مستلقياً والمكبوب: أن يجعل مقدم الجمل أو الزاملة أوسع من المؤخر، وهذا أنفع للدابة وأضر للراكب، والمستلقى عكسه كما قاله أبو إسحاق، وقيلك المكبوب: أن يضيق المقدم والمؤخر، والمستلقي: أن يوسعهما جميعاً، وهو قول أبي علي الطبري. وقيل: المكبوب تقديم المحمل إلى مقدم البعير، وهو أوطى للركوب، والمستلقيك تأخير المحمل إلى مؤخرة البعير، وهو أسهل على البعير، وهذا قول ابن أبي هريرة. ومنها: إذا كان في الطريق مراحل معلومة، جرت العادة بقطعها في كل يوم مرحلة، فليس للمستأجر أن يزيد عليها عند إطلاق العقد، وكذا ليس للأجير تكليفه ذلك. وهكذا الحكم في النزول في البلد أو في ظاهرها. وفي السير في الليل والنهار يتبع فيه العادة، فإن لم تكن ثم عادة في المراحل، ولا في السير في وقت مخصوص، ولم يقع في ذلك شرط في حال العقد، فسد. وإن وقع شرط بأن يسير في كل يوم قدراً معلوماً، جاز. قال أبو إسحاق: وقد جرت العادة في قطع البادية إلى مكة في أيام الحج بما لا تطيقه الحمولة؛ فلا يجوز الإطلاق في ذلك؛ لأن الإطلاق لا يمكن حمله عليه؛ لما فيه من حمل الحمولة على ما لا تطيق. ومنها: إذا كانت العادة به جارية بأن ينزل الراكب ويمشي في الرواح، فإن شرط مع ذلك النزول، اتبع الشرط. قال الإمام: ويعترض في شرط النزول إشكال لقطع المسافة ويقع في إكراء

العقب لكن الأصحاب احتملوه بناء على التساهل، وإن شرط بألا ينزل اتبع الشرط، وإن أطلق العقد، فإن كان الراكب امرأة أو مريضاً فلا يجب النزول، [وإن كان رجلاً قوياً فوجهان؛ لتعارض اللفظ والعادة، وكذل كحكم النزول] على العقاب الصعبة، والأقيس في تعليق القاضي الحسين: أن له الركوب. قال: وإن اكترى أرضاً، ليزرع الحنطة؛ زرع مثلها؛ لأن المعقود عليه منفعة الأرض، والزرع طريق في الاستيفاء، فلا يتعين؛ كما إذا كان له حق على غيره، فإنه مخير بين أن يستوفيه بنفسه أو بغيره؛ ومن طريق الأولى، يجوز له أن يزرع ما دونها؛ كالشعير والقرظ. ولا يجوز أن يزرع ما فوقها، كالأرز، والذرة؛ لما في ذلك من الإضرار بالآجر؛ فإن الأرز يحتاج إلى السقي الدائم؛ فيذهب قوة الأرض، والذرة تنشر عروقها في الأرض؛ فتستوفي قوتها. وعن البويطي: أنه لا يجوز العدول إلى غير الزرع المعين، فمن الأصحاب من قال: أنه قول للشافعي رواه، ومنهم من قال: إنه رآه، والمذهب الأول، فعلى هذا لو قال: أكريتك لتزرع الحنطة ولا تزرع غيرها، ففي المسألة ثلاثة أوجه حكاه ابن أبي هريرة: أحدها: أن العقد فاسد، وهو ما ذكره ابن كج، وذكر الروياني أنه المذهب. والثاني: أن العقد صحيح والشرط فاسد، وهذا ما اختاره الإمام، ولم يحك أبو الطيب غير هذين الوجهين. والثالث: صحة العقد والشرط؛ لأن المستأجر ملك المنفعة من جهة المؤجر فملك بحسب التمليك، وهذه الأوجه شبيهة بالأوجه المذكورة فيما إذا نوى بوضوئه استباحة صلاة بعينها ونفى غيرها، ومحل ما ذكرناه: إذا لم يعين الحنطة للمستأجر على زراعتها، أما لو عينها بأن قال: أجرتك لتزرع هذه الحنطة، فإن قال: ولا تزرع غيرها، ففي التهذيب: الجزم بالفساد، وإن لم يتعرض للنفي، فعن ابن القطان حكاية وجهين: أحدهما: أن العقد فاسد؛ لأن تلك الحنطة قد تتلف فتتعذر الزراعة. والثاني: وهو اختيار القاضي ابن كج: أنه كتعيين الجنس، وهو ما حكاه

الماوردي مستشهداً به على داود في أصل المسألة. فرع: لو زرع [الذرة أو الأرز، والإجارة واقعة على زراعة القمح؛ فللآجر إجباره على القلع؛ لتعديه، وهل يكون ضامناص لرقبة الأرض حتى يضمن قيمتها إذا غصبت أو تلفت بسيل [مثلاً؟] فيه وجهان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد أنه يضمنها. والثاني: وهو الأصح في الحاوي لا؛ لأن تعديه في المنفعة، لا في الرقبة، ثم إذا قلع الزرع، نظر: فإن أمكن زراعة الحنطة زرعها، وإلا لم تزرع، وعليه [الإجارة] لجميع المدة؛ لأنه المفوت للعقد على نفسه. ثم إن لم تمض مدة لمثلها أجرة فذاك، وإن مضت فما المستحق؟ الحكم فيه كما لو لم يتفق القلع حتى مضت المدة، وحصلت الذرة، وحاصل ما قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها: وهو ما نص عليه في المختصر، وبه قطع أبو علي الطبري، والقاضي أبو حامد، وكذا ابن سريج؛ كما حكاه ابن كج والماوردي: أن المالك بالخيار بين أن يأخذ المسمى في مقابله زرع القمح وأجرة المثل فيما زاد على ذلك، وبين أن يأخذ أجرة المثل [في زراعة] الذرة؛ لأنه أخذ شبها من أصلين: من الغصب؛ لأنه ابتدأ بالزرع وهو غير مأذون له فيه، ومن استئجار البهيمة إلى موضع فيجاوزه، فلما أخذ شبهاً منهما خير بينهما. والثاني: وهو اختيار المزني والقاضي الحسين أن الواجب المسمى وأجرة المثل للزائد، كما سنذكره فيما إذا اكترى دابة إلى موضع، فجاوزه؛ وهذان القولان لم يحك ابن القطان سواهما. والثالث: أن الواجب أجرة المثل، وهو الذي صححه الروياني، وهو مع الذي قبله أثبتهما المزني وأبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة، وحملا تخيير [الشافعي عليهما]، وهي الطريقة التي جعلها الرافعي أظهر، وحكاها الشيخ أبو حامد ومن تابعه، والقاضي الحسين عن ابن سريج أيضاً. وقد بنى الشيخ أبو محمد في السلسلة قول الرجوع بأجرة المثل: على أن

البائع إذا أتلف المبيع قبل القبض ينفسخ العقد، ويقدر كأن العقد لم يكن، وقول التخيير: على أن البيع لا ينفسخ، ويثبت للمشتري الخيار. قال الرافعي: وهذا البناء ليس بواضح؛ لأن المكري هو الذي يقع في رتبة البائع، ولم يوجد منه إتلاف، وإنما المكتري هو الذي فوت المنفعة على نفسه فكان بإتلاف المشتري أشبه. وهذا الخلاف بعينه يجري فيما إذا استأجر داراً، فأسكنها الحدادين والقصارين، أو دابة ليحمل عليها قطناً فحمل حديداً، أو ليقطع بها مسافة إلى ناحية فقطع بها مسافة أخرى أطول من تلك، كما حكاه القاضي أبو الطيب وفيه نظر، وفيما إذا اكترى غرفة ليضع فيها مائة من من الحنطة فأبدلها الحديد، وفي كل صورة لا يتميز فيها المستحق عما زاد. ولو استأجر للزراعة فغرس أو بنى، فالواجب أجرة المثل ومنهم من طرد الخلاف فيه. قال: وإن استأجر دابة ليركبها أركبها مثله أي: في الطول والقصر والضخامة والنحافة كما يجوز أن يؤجرها من غيره، وعن المزني أنه لا يجوز وبنى عليه ما تقدم ومن طريق الأولى: جواز إركابه دونه، ولا يجوز أن يركبها [من] هو فوقه؛ وهذا الحكم لا يختص بمسألة الدابة، بل هو جار في كل مستوفى؛ حتى إذا اكترى ثوباً للبس يجوز أن يلبسه من هو مثله؛ وإذا استأجر دابة لحمل القطن كان له حمل الصوف والوبر والتبن وبالعكس، ولو استأجر لحمل الحديد كان له حمل الرصاص والنحاس، ولو استأجر لحمل القمح؛ كان له حمل قدره من الشعير؛ إن كان التقدير بالكيل؛ لأنه دون حقه. وإن كان التقدير بالوزن، فلا؛ لأن الشعير ينتفش، فهو كالقطن مع الحديد لا يجوز أن يوضع أحدهما مكان الآخر. ولو استأجر دابة، ليركبها بإكاف، كان له أن يركبها بالسرج؛ [لأنه أخف، ولو عكس لم يجز؛ قاله القاضي الحسين. ولو اكتراها لحمل متاع، فأبد السرج] بالإكاف، قال القفال: يجوز إذا لم يكن أثقل من السرج، ولو عكس لم يجز، قال الروياني: وفيه نظر عندي.

ولو استأجر للحمل، فأراد أن يركب من لا يزيد وزنه على وزن المحمول، فقد أطلق الماوردي القول بالمنع. وقال في التتمة: يرجع إلى أهل الصنعة؛ فإن قالوا: لا يتفاوت الضرران جاز، وإلا فلا. ولو استأجر للركوب؛ فأراد أن يحمل، قال القاضي الحسين: له ذلك، إذا كان مثل ضرر الركوب أو دونه. وقال الرافعي: الأظهر المنع في الطرفين، وهو قضية ما في التهذيب. وكما يجوز أن يركب مثله يجوز له إذا اكترى إلى بلد أن يركب إلى مثل تلك المسافة من ناحية أخرى إذا كان مثلها في السهولة والحزونة والأمن. وفي الرافعي حكاية عن "شرح المفتاح" منع ذلك؛ لأنه قد يكون للمكري غرض في ذلك الموضع، وهو ما جزم به القاضي الحسين في ضمن فرع أوله: إذا اكترى دابة [ليركب فرسخين- لم يجز حتى يبين الجهة]. قال: وإن أكل بعض الزاد [أي] الذي قدره ووصفه حالة العقد كما هو المعتبر فيه. [قال:] وقيمته تختلف في المنازل جاز أن يبدله؛ لأن له فيه غرضاً [صحيحاً]، قال: وإن لم تختلف ففيه قولان: أحدهما: يبدله كما يبدل ما سرق منه أو تلف بغير الأكل أو أكل الجميع وكالحمل بدل الماء الذي شربه وهذا ما اختاره المزني، وهو الأصح في تعليق القاضي الحسين. والثاني: لا يبدله اعتباراً بالعرف المعهود فيه، وهو أن الزاد إذا فني بالأكل لا يبدل، وهذا الخلاف نازع إلى تعارض العرف واللفظ؛ فإن العقد تناول حمل كذا من موضع كذا إلى موضع كذا وهو شبيه بالخلاف المذكور في المشي في وقت الرواح.

وفي [البحر] أنه قيل: [إن] الوجهين في النزول في وقت الرواح مأخوذان من هذين القولين، وهذه الطريقة هي الصحيحة. وفي المهذب، والحاوي: ما يفهم إجراء الخلاف في الإبدال مطلقاً؛ فإنه قال: إذا أكل بعض الزاد فهل له إبداله؟ فيه قولان. وقال أبو إسحاق: إن كانت أسعار الزاد في المنازل متساوية في الرخص والغلاء وكان انقطاعه مأموناص لم يكن له الإبدال، وإن كان ينتقل إلى منازل يغلو فيها أثمان الزاد؛ فيبدل ولا يختلف القول فيه؛ لأن العرف [جار] فيه. قال: [وإن اكترى دابة إلى مكان، فجاوزه، لزمه المسمى في المكان؛ لأنه استوفى المنفعة المقابلة له]؛ فاستقر عليه، كما لو اشترى طعاماً فقبضه وزيادة على وجه التعدي. قال: وأجرة المثل لما زاد؛ لأنه تعدى بها فكان كالغاصب، ويخالف ما إذا اكترى لزراعة القمح فزرع الذرة حيث تجب أجرة مثل الجميع على قول؛ لأن ثم فعل المستحق لا يتميز عن الذي تعدى به؛ فلم يمكن إفراده بحكم، بخلاف ما نحن فيه. وأيضاً: فإن ابتداء فعله ثم عدوان؛ فوجب أجرة المثل، والتعدي هنا إنما وجب بعد قطع المسافة؛ فكانت أجرة المثل واجبة إذ ذاك ولا خلاف أنه لا يضمن الدابة قبل المجاوزة، وأما بعدها، فيضمنها إن لم يكن صاحبها معها، وإن كان وتلفت في حال العلف والاستراحة فلا ضمان، وإن تلفت في حال الحمل فينظر: إن كان بسبب وقوع في بئر أو غيره ضمن جميع القيمة، وإن لم يحدث سبب ظاهر فكذلك على وجه في الرافعي في آخر الباب، والأصح: أنه لا يضمن الكل لكن هل يضمن النصف أو القسط؟ فيه خلاف سيأتي، وهذا إذا لم يشمل الكراء العود إلى الموضع الذي اكترى منه، أما إذا شمله كما إذا اكترى من مكة إلى مر الظهرن وليرجع إلى مكة فجاوزها إلى عسفان نظر فإن كان قد شرط عليه تسليمها بمكة فالحكم كما تقدم، صرح به الماوردي وفي صحة العقد مع هذا الشرط شيء سيظهر لك من بعد، وإن لم يشترط فإن كان الطريق بين مر

وعسفان، كالطريق بين مر ومكة في السهولة والأمن والقدر ولم يقم [بمر] أكثر من المدة التي قدراها عند العقد [أو ما جرت] العادة به عند الإطلاق لم يضمن بالخروج من مر، فإذا مضى القدر الذي [لو] رجع إلى مكة [فيه] لوصل إليها، انقضى زمان استحقاقه ووجب عليه تسليم الدابة إلى المالك أو وكيله إن وجده ثم، وإلا فإلى الحاكم كما سنذكره، فإن تعدى ذلك ضمن. فروع: إذا اكترى دابة إلى بلد فبلغ عمارتها فللمكتري استرداد الدابة ولا يلزمه تبليغه داره كذا أطلقه بعضهم. وقال الماوردي مثل ذلك فيما إذا كان البلد واسعاً أما إذا كان صغيراً تتقارب أقطاره جاز أن يركب إلى منزله. قلت: ويتجه أن يتخرج على القولين فيما إذا استاجر حمالاً يحمل وقراً إلى داره، وهي ضيقة الباب هل عليه إدخاله الدار [أم لا؟]. ووجه الثبوت: النظر إلى العرف، ثم على الأول: إذا لم يكن صاحب الدار

معها عليه أن يسلمها إلى وكيله إن كان له وكيل هناك، وإلا فإلى الحاكم فإن لم يكن [هناك] حاكم فإلى أمين فإن لم يجد أميناً ردها أو استصحبها إلى حيث يذهب كالمودع يسافر بالوديعة للضرورة. إذا اكترى دابة إلى مكة لم يكن له الحج عليها، وإن اكتراها ليحج عليها ركبها إلى منى [ثم إلى عرفات ثم إلى المزدلفة ثم إلى منى ثم إلى مكة للطواف، وهل يركبها من مكة إلى منى] لأجل الرمي؟ فيه وجهان: قال: وإن حمل عليها أكثر مما شرط أي: مما لا يقع التفاوت به بين الكيلين فتلفت وهي في يده أي: بسبب ذلك ضمان قيمتها؛ لأنه صار غاصباً، وأبدى القاضي ابن كج احتمالاً في أنه لا يضمن الكل. قال: وإن كان صاحبها معها ضمن نصف القيمة في أحد القولين؛ لأن تلفها بمضمون وغيره فقسمت القيمة عليهما نصفين؛ كما لو جرحه واحد جراحة وآخر جراحات، وهذا ما صححه الشيخ أبو محمد في السلسلة. والقسط في الآخر مؤاخذة له بقدر الجناية، [وهذا ما رجحه الإمام وغيره، وحكى القاضي الحسين عن بعضهم القطع به. فعلى هذا: إذا استأجر على حمل أربعين رطلاً فحمل عليها خمسين؛ ضمن خمس قيمتها، ويخالف الجراحة؛ لأن هنا التوزيع متيسر، بخلاف الجراحات، فإن مكانتها لا تنضبط، ولا معنى لرعاية مجرد العدد. وأصل هذا الخلاف: ما إذا أمر الإمام الجلاد أن يضرب الشارب ثمانين فضربه إحدى وثمانين، فمات [المجلود] كم يضمن [الجلاد] وفيه الخلاف المشهور، وفي شرح المختصر حكاية قول ثالث: أنه يضمن جميع القيمة؛ كما لو انفرد باليد وبعضهم حكاه وجهاً. أما إذا كانت الزيادة مما يقع التسامح بها كالمكوك والمكوكين، فلا ضمان عليه بسببه ولا أجرة؛ قاله البندنيجي وغيره. ولو تلفت الدابة بسبب غير الحمل، فإن تلفت في يده ضمنها، وإلا فلا

ضمان؛ لأنا حيث ضمناه في المسألة قبلها، ضمناه بالجناية، ولا جناية. وعلى كل حال فما الواجب عليه من الأجرة؟ حاصل ما قيل فيه أربعة أقوال: ثلاثة منها ذكرناها فيما إذا استأجر [لزراعة القمح] فزرع الذرة. ورابعها: أنه يخير المالك بين أخذ المسمى وما نقص من الدابة بسبب الزيادة، وبين أن يأخذ أجرة المثل والمشهور أن عليه أجرة المثل لما زاد. فرعان: أحدهما: إذا لم يحمل المستأجر على الدابة شيئاً بنفسه، ولكن سلم ذلك إلى الآجر حتى حمله على البهيمة نظر: إن كان الآجر جاهلاً بالحال بأن لبس عليه وقال: إنه القدر المستأجر عليه، وهو كاذب، ففيه طريقان: أحدهما: أن الحكم كما لو حمله المستأجر بنفسه. والثاني: وهو ما حكاه القاضي الحسين أن المسألة على قولين في تعارض المباشرة والغرور، فإن اعتبرنا الغرور فهو كما لو حمله المستأجر أيضاً وهذا هو الظاهر، وبه أجاب الغزالي، وإن اعتبرنا المباشرة فلا ضمان ولا أجرة للزائد، وإن كان المكري عالماً بالزيادة نظر: إن لم يقل المكتري شيئاً ولكن حمله المكري فلا ضمان ولا أجرة، ولا فرق بين أن يضعه على الأرض فيحمله المكري على البهيمة أو بين أن يضعه على ظهر الدابة وهي واقفة فيسيرها المكري. وإن قال المستأجر للآجر: احمل هذه الزيادة فأجابه، قال في التتمة: فهو مستعير للدابة في الزيادة فلا أجرة، ويجب الضمان، وفي كلام الأئمة ما ينازع فيه. الثاني: إذا كال المكري وحمل على البهيمة؛ فلا أجرة له لما زاد؛ سواء كان غالطاً أو عامداً وسواء كان المكتري جاهلاً بالزيادة أو عالماً فسكت، ولا يجب عليه ضمان البهيمة. وللمستأجر مطالبة المكري بردها إلى الموضع المنقول منه، وليس للمكري ردها بدون رضى المستأجر، ولو لم يعلم المكتري حتى عاد إلى البلد المنقول منه، فله أن يطالب المكري بردها.

وأصح الوجهين، أو القولين: أن له المطالبة ببدلها في الحال؛ كما لو أبق العبد المغصوب من يد الغاصب، كذا حكاه الرافعي والبندنيجي. وحكى الماوردي الخلاف على غير هذا النحو فقال: لو دعا المالك إلى المطالبة برد العين ودعا الجمال إلى رد مثلها في الحال؛ ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق، وابن أبي هريرة: أن القول قول رب المال، وله أن يأخذ الجمال بالرد؛ كالغاصب. والثاني: أن القول قول الجمال؛ لأن الزيادة لما اتصلت فارقت حكم الغصب وصارت كالمستأجر عليها، وهذا إذا كان المحمول مما له مثل، أما إذا كان لا مثل له كالدقيق والسويق؛ لزم الجمال رد الزيادة بعينها على الوجهين معاً. قال: وللمكتري أن يكري ما اكتراه بعد قبض العين: أي من الآجر وغيره؛ لقوة حاله بقبض المعقود عليه، ولا يجوز أن يكري قبل القبض من غير المكري في أصح الوجهين؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض، والإجارة بيع؛ ولأنه ملك المنافع بعقد معاوضة؛ فلم يكن له أن يعقد عليها عقد معاوضة قبل القبض كالمبيع وهذا ما صححه الإمام هنا أيضاً، وادعى عند الكلام في التصرفات في المبيع قبل القبض نفي خلافه. والوجه الثاني: أنه يجوز؛ لأن المعقود عليه المنافع، والمنافع لا تصير مقبوضة بقبض العين فلم يؤثر فيها القبض، وهذا قول ابن سريج. وأجاب القاضي أبو الطيب عما ذكره [أبو العباس] بأن قبض المكتري يتعلق به الضمان؛ بدليل أن المدة إذا انقضت في يد الآجر، كانت من ضمانه، ولم تستقر له الأجرة، وإذا انقضت المدة والعين في يد المستأجر استقرت عليه الأجرة، ولزمه ضمان المنافع؛ فثبت بهذا أن القبض ينقل الضمان؛ فصار بمنزلة قبض الأعيان. وقد بنى الماوردي الوجهين على الخلاف السابق في أن مورد عقد الإجارة ماذا؟ فإن قلنا: موردها العين؛ لم يصح، وإلا صحت. وهذا البناء يقتضي أن يكون الصحيح الصحة؛ فإن الأصح عنده وعند غيره: أن مورد الإجارة المنفعة.

قال: ويجوز من المكري أي: قبل القبض في أصح الوجهين؛ لأن المعقود [عليه] في قبضه [وهذا قول ابن سريج. والوجه الثاني: لا يصح كما لا يصح بيع المبيع من بائعه قبل قبضه على الأصح]، وهذا ما صححه في "البيان". وقال أبو الطيب: إنه المذهب المشهور. وفي تعليق للبندنيجي أنا إذا جوزنا الإجارة من الأجنبي فمنه أولى، وإلا فوجهان، كما قلنا إن بيع المبيع قبل القبض من الأجنبي لا يصح، وفي صحته من البائع وجهان، وعند الاختصار يكون في صحة الإجارة قبل القبض من الأجنبي والآجر ثلاثة أوجه: ثالثها: يصح من الآجر دون الأجنبي، وهكذا فعل في المهذب. ولا فرق فيما إذا أجرها من الآجر أو من غيره بين أن يكون بقدر الأجرة الأولى أو أكثر منها أو أنقص، و [قد ذكرت في البيع: أنه إذا باع المبيع من البائع قبل القبض بقدر الثمن الأول: أنا إن جوزناه بغير جنس الأول وقدره، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان؛ لأن ذلك في معنى الإقالة. ويظهر جريان مثل هذا هنا. واعلم أن كلام الشيخ يقتضي أن استئجار الآجر ما أجره من مكتريه بعد القبض جائز، وإنما الخلاف فيما قبل القبض وهو ما أورده القاضي أبو الطيب والجمهور. وقد حكى الماوردي وطائفة من المراوزة في صحة ذلك بعد القبض وجهين – أيضاً- لكن الماوردي بناهما على اختلاف بين أصحابنا في أن المنافع تحدث على ملك الآجر أو على ملك المستأجر؟ فإن قلنا بالأول صح، وإلا فلا. وغيره بنى ذلك على خلاف سيأتي في أن المستأجر إذا ابتاع العين المستأجرة، هل تنفسخ الإجارة أم لا؟ فإن قلنا بانفساخها لأجل أن ملك الرقبة وملك المنفعة بالإجارة لا يمكن امتنع الاستئجار هنا؛ لأن الملك إذا قطع الدوام فمنعه الابتداء أولى. وإن قلنا: لا تنفسخ الإجارة لم يمتنع الاستئجار هنا؛ لأنه قد عقل أن يجتمع الملك في الرقبة والملك في المنفعة بالإجارة. ومنهم من علل وجه المنع بأنه: لو صح لأدى إلى أن يكون الشيء مضموناً له

وعليه؛ لأن الضمان لم ينتقل بالقبض عنه إلى المستأجر، وذلك لا يجوز. وقد نسب بعضهم وجه المنع إلى ابن سريج، ووجه الجواز إلى ابن الحداد، وعد ذلك من مناقضاته؛ لأنه حاكم بانفساخ الإجارة إذا اشترى المستأجر ما استأجره؛ لامتناع اجتماع الملك والإجارة. وذكر عن الشيخ أبي علي أنه قال: فإن قال من يضره الاستئجار السابق لم يمنع صحة الملك اللاحق كذلك الملك السابق، وجب ألا يمنع صحة الاستئجار اللاحق لكن تنفسخ الإجارة إذا [اجتمع الأمران] كما انفسخت هناك. فالجواب: أن ما ينفسخ إذا كان سابقاً وجب ألا يصح [إذا كان طارئاً على الملك]. قلت: وقد يظهر في دفع ما قدر ابتداؤه انتصاراً لابن الحداد أمراً آخر، وهو أن ابن الحداد لا يقول مع القول بصحة الإجارة بانفساخها ولو قال به لكان ملازماً للانعقاد، وحينئذ فلا يكون للقول بصحتها؛ معنى لأنها إذا انفسخت عادت المنفعة إلى الذي أجره وهو المستأجر، وكل ما لا يترتب عليه ما هو المطلوب منه فهو باطل. فرع: إذا أجر الحر نفسه، ومكن المستأجر من منافعه، فهل يجوز له أن يؤجره، بناء على منع الإجارة قبل التسليم؟ فيه وجهان، أصلهما: أن الحر إذا سلم نفسه إلى المستأجر، فلم يستعمله، هل يستحق الأجرة بمضي المدة أم لا؟ فإن قلنا: تستقر الأجرة، فقد جعلناه قابضاً للمنافع؛ فيعقد عليها. وإن قلنا: لا تستقر؛ فلم نجعله قابضاً للمنافع؛ فلا يعقد عليها. والذي صار إليه الأكثرون: أن له الإيجار ولو كانت الإجارة على عمل في الذمة، ففي جواز نقلها للغير كلام نذكره في أواخر الباب. قال: وإن تلفت العين المستأجرة، أي: مثل إن كانت أرضاً فغرقها السيل أو حيواناً فمات أو ثوباً فاحترق بعد القبض في أثناء المدة. قال: انفسخت الإجارة فيما بقي، لفوات المعقود عليه- وهو المنفعة- قبل

قبضها؛ لأنها إنما تحدث شيئاً فشيئاً، وما سبق من القبض، فأثره في جواز التصرف [وجواز التصرف] لا ينافي الفسخ؛ كما يجوز للبائع التصرف في الثمن قبل القبض [ويملك الفسخ بسبب الإفلاس به. وذهب أبو ثور إلى أن العقد لا ينفسخ؛ لأنه تلف بعد القبض] المستحق بالعقد؛ فأشبه تلف المبيع بعد القبض، حكى عنه ذلك القاضي أبو الطيب وغيره، وحكى عنه القاضي الحسين أن المنفعة تدخل في ضمان المستاجر بنفس العقد كما أن مذهبه دخول المبيع في ضمان المشتري بمجرد العقد. قال: دون ما مضى أي: إذا كان لمثله أجرة؛ لاستقراره بالقبض وهذا ما دل عليه أكثر الأصحاب، وهو الأصح في البحر وغيره. قال: وقيل فيما مضى قولان: وجه الامتناع ما ذكرناه. ووجه مقابله: أن العقد واحد، فلا سبيل إلى فسخه في شيء دون شيء، وقد انفسخ في شيء، فوجب أن ينفسخ في الباقي]، وهذا الخلاف أصله ما إذا باع عبدين فتلف أحدهما قبل القبض فإن العقد ينفسخ فيه وهل ينفسخ في الباقي؟ على طريقين، أما إذا لم يكن لما مضى أجرة، انفسخ في جميع المدة. ولا فرق في جريان الخلاف بين أن يكون التلف بآفة سماوية، أو بإتلاف المستأجر. وعن ابن أبي هريرة: أنها إذا تلفت بفعل المستأجر، استقرت عليه الأجرة؛ كما يستقر الثمن على المشتري بإتلافه المبيع. والمذهب الأول؛ لأن البيع ورد على العين؛ فجعل إتلافها قبضاً، والإجارة وردت على المنافع، ومنافع الزمان المستقبل معدومة لا يتصور ورود الإتلاف عليها. التفريع: إن قلنا: ينفسخ العقد فيما مضى، فالواجب على المستأجر أجرة المثل، وله استرداد ما دفعه، فإن كان من نوع أجرة المثل، جاءت فيه أقوال التقاص. وإن قلنا: لا ينفسخ، فهل يثبت للمستأجر الخيار؟

قال في البحر: إن كانت الأجرة عرضاً، فنعم؛ لتضرره بالتبعيض. وإن كانت نقداً، فلا؛ إذ [لا تبعيض]. ومنهم من خرجه على وجهين. والماوردي وغيره حكوا الوجهين مطلقاً، وصحح الإمام والبغوي منهما المنع؛ لأن المنافع قد صارت مستوفاة مستهلكة. والذي أجاب به ابن الصباغ والبندنيجي وآخرون- الثبوت، وإيراد القاضي الحسين يقتضي ترجيحه في موضع، وجزم به عند الكلام في حصول السيل على الأرض في بعض المدة؛ لأن جميع المعقود عليه لم يسلم له. فعلى هذا: إن فسخ، فالحكم كما تقدم. وإن أجاز، أو قلنا: لا خيار له. قال الرافعي: وجب قسط ما مضى من المسمى والتوزيع يكون على قيمة منفعة المدتين، لا على قدر المدتين، فإذا كانت الإجارة على سنة، و [قد] مضت أربعة أشهر في يد المستأجر، وأجرة مثلها مائة، وأجرة باقي السنة خمسون استقر عليه ثلثا الأجرة. والاعتبار في حالة التقويم بحالة العقد دون ما يطرأ من بعد، كما صرح به القاضي الحسين وغيره. وفي الحاوي والبحر حكاية قول مخرج: أنه إذا أجاز، فليجز بكل الأجرة، أو يفسخ، كما قيل في البيع. واعلم أنه يلتحق بتلف العين المستأجرة في انفساخ الإجارة طرآن الحيض على من استؤجرت عينها لكنس المسجد في أثناء المدة أو ابتدائها، دون ما إذا ألزمت ذمتها كنسه؛ لإمكان تفويضها الكنس إلى غيرها، وأن تكنس بعد الاغتسال. وكان بعض مشايخنا يقول: ينبغي في الصورة الأولى أن يخرج الانفساخ على الخلاف الآتي فيما إذا تلف الثوب المستأجر على خياطته حتى يقال: على وجه لا ينفسخ، وتكنس قذر المسجد. قلت: وقد يجاب عن ذلك بأن كلام الأصحاب محمول على ما إذا وقع الاستئجار بالريع المرصد لذلك أو هو الغالب وإذا كان كذلك فكنس غيره غير

ممكن فلذلك جزم فيه بالانفساخ، ثم على تقدير أن تكون الإجارة قد وقعت من آحاد الناس بماله فيشبه أن يكون القول بصحتها كالقول في الاستئجار على الآذان، فإن صح فقد ملك المسلمون تلك المنفعة، وفي استعمال المرأة في كنس [غير] المسجد تفويت لتلك المنفعة على مستحقها وذلك لا يجوز. قال: فإن وجد به عيباً أو حدث فيه عيب؛ أي: والعقد على عينه ثبت له خيار الفسخ؛ لتضرره بالبقاء، كذا أطلقه الجمهور. قال الرافعي: والوجه ما قاله المتولي، وهو أنه إن أراد أن يفسخ في جميع المدة، فهو كما لو اشترى عبدين، فتلف أحدهما، ثم وجد بالقائم عيباً، وأراد الفسخ فيهما. وإن أراد الفسخ فيما بقي من المدة، فهو كما لو أراد الفسخ في العبد القائم وحده، وحكمهما مذكور في البيع. ومهما امتنع الفسخ، فله الأرش. ثم هذا الخيار، هل هو على الفور أو على التراخي؟ قال في الحاوي: إنه على التراخي؛ لأنه يتجدد بمرور الأوقات لحدوث النقص فيها، فلو أجاز [العقد] ثم أراد أن يفسخ، قال الرافعي في أواخر الباب: ينظر: إن كان ذلك العيب لا يرجى زواله- كما إذا انقطع الماء، ولم يتوقع عوده- فليس له الفسخ؛ لأنه عيب واحد وقد رضي به. وإن كان بحيث يرجى زواله، فله الفسخ ما لم يزل؛ لأنه يقدر [كل ساعة] زواله فيتجدد الضرر، وهذا كما قلنا في زوجة المولى إذا تركت المطالبة بعد انقضاء مدة الإيلاء، وكما لو استأجر عبداً، فأبق قبل القبض، وأجاز، ثم أراد الفسخ فإن له ذلك ما لم يعد، فلو زال العيب قبل علم المستأجر بزواله؛ كما إذا تشعثت الدار، فلم [يختر المستأجر] الفسخ حتى عمرها المؤجر ففي بقاء الخيار وجهان في البحر. قال: ... فإن فسخ لزمه أجرة ما مضى أي إذا كان لمثله أجرة؛ لأنه مضمون بالعقد، أما إذا لم يكن لمثله أجرة فلا شيء عليه واسترجع الأجرة إن كان قد

دفعها، ثم المرجوع به إذا كان لمثل ما مضى أجرة ماذا؟ قال الأصحاب: ذلك ينبني على أن الفسخ في هذه الحالة يرفع العقد من حينه أو أصله، وفيه الطريقان السابقان، فإن رفعه من أصله كان اللازم أجرة المثل، وإن رفعه من حينه فاللازم ما يقابل المدة من المسمى على النعت الذي تقدم وعلى هذا ينبغي ملاحظة ما قاله المتولي، ولو أجاز المستأجر العقد استحق عليه جميع المسمى. وفي ابن يونس: أنه قيل: تقوم المنفعة سليمة من العيب [وتقوم وبها] ذلك العيب، ثم تقسم الأجرة على القيمتين، فيجب عليه من الأجرة بقدر ما يخصها من العيب وتسقط الزيادة على ذلك، وهذا لم [أره لغيره] فيما وقفت عليه على هذا النحو بل المذكور في المهذب: أنه إذا اكترى داراً فتشعثت فبادر المكري إلى إصلاحها لم يكن للمستأجر ردها فإن لم يبادر ثبت له الفسخ؛ لأنه يلحقه ضرر بنقصان المنفعة وإن رضي بسكناها ولم يطالب بالإصلاح فهل يلزمه جميع الأجرة فيه وجهان: وجه عدم اللزوم: أنه لم يستوف جميع ما استحق من المنفعة فلم تلزمه جميع الأجرة كما لو اكترى داراً سنة فسكنها بعض سنة ثم غصبت، فإن كان الشيخ عني بالتشعث ما يفهم في العرف من تكسير البلاط وزوال بعض البياض وانكسار جزع ونحو ذلك، فكلام ابن يونس موافق لكن يشكل على ذلك الفرق بين ذلك وبين [ما إذا اطلع] المشتري على عيب بالمبيع وأجاز فإنه لا يرجع بالأرش، وإن كان الشيخ قد عنى بالتشعث زوال سقف الدار [ونحوه فالخلاف الذي ذكره يشبه أن يكون مبنياً على أن إحراق سقف الدار] هل ينزل بمنزلة تلف أحد العبدين أو منزلة اليد من العبد؟ وفيه خلاف مذكور فيما تقدم، فمن قال: يخير بالقسط بناه على أنه كأحد العبدين، ومن قال: يخير بجميع المسمى بناه على أنه كاليد من العبد، وعلى هذا فالحكم في البيع والإجارة واحد ولا يكون كلام ابن يونس منطبقاً على هذا، واعلم أن العيب الذي يثبت الخيار في الإجارة، هو ما يؤثر في المنفعة تأثيراً يظهر به [تفاوت الأجرة، لا ما يظهر به] تفاوت قيمة الرقبة، فإن مورد العقد المنفعة، وذلك مثل: مرض العبد، وضعف

بصره، والجذام، والبرص في المستأجر للخدمة دون المستأجر لرعي المواشي والبناء، وكون لبن المرضعة لا يستمرئ الطفل [به] لعلة في اللبن؛ كما صرح به الماوردي، وكون الطفل لا يقبل لبن المرضعة، على أحد الوجهين في تعليق القاضي الحسين. وحكى الرافعي في هذه الصورة وجهين: أحدهما: ينفسخ. والثاني: يبدل الصبي بغيره. وكذا كون الأجير كافراً والمستأجر عليه بناء مسجد أو نحر أضاحي، ووقع العقد على عينه وإن وقع على ذمته، قيل له: إن استَنَبْتَ مسلماً؛ فلا خيار للمستأجر، وإن أردت أن تفعل بنفسك، كان للمستأجر الخيار؛ قاله الماوردي. ومرض الدابة وعرجها بحيث تتأخر عن القافلة عيب، وكذا [لو كان] البعير المستأجر للركوب صعب الظهر أو خشن السير. و [كذا] انهدام حائط في الدار، وانكسار جذع فيها- عيب؛ ولكن لو بادر الآجر إلى الإصلاح؛ فلا خيار. وتغير ماء البئر في الدار المستأجرة بحيث يمنع الشرب- إن كانت العادة بالشرب من الآبار- عيب. وكذا إن لم تكن العادة جارية بالشرب منها ومنع تغيره الطهارة. ولو قال ماء البئر، فإن كان مععهوداً في وقته، فلا خيار. وإن كان غير معهود في ذلك الوقت فإن كان مع نقصانه كافياً لما يحتاج إليه المستأجر من شرب أو طهارة- فلا خيار، وإن قصر عن ذلك، فله الخيار، وتغير ماء الرحا لا يثبت الخيار وكذا نقصه في الوقت المعتاد ويثبت إذا نقص في غير وقته وعدم دخول الناس الحمام؛ لفتنة حادثة أو خراب الناحية- عيب؛ صرح به في البحر. وفي الحاوي: أن خراب ما حول الدار المستأجرة، وبطلان السوق الذي فيه الحانوت المستأجر- لا يثبت الخيار؛ لأنه عيب حدث في غير المعقود عليه ولا فرق في ثبوت الخيار بالعيب على المذهب بين أن يكون قد حصل بآفة سماوية أو بفعل المستأجر.

وقال الإمام: قد يختلج في الصدر خلاف، وذلك إذا حصل بفعل المستأجر؛ لتضمن الرضا بالعيب. قال: فإن كانت داراً فانهدمت أو أرضاً فانقطع ماؤها، ففيه قولان: أحدهما: تنفسخ، لأن المقصود السكنى والزراعة وقد فات ذلك فأشبه موت العبد المستأجر، فعلى هذا يكون الحكم في الانفساخ وغيره كما تقدم. والثاني: يثبت له الخيار لأن بعض المعقود عليه موجود والانتفاع به على الجملة ممكن [فأشبه العيب وهذه الطريقة هي المشهورة. وقيل: في الانهدام تنفسخ؛ لأنها لا تبقى داراً وفي انقطاع الماء لا تنفسخ؛ لأن مسمى الأرض باقٍ [والزرع ممكن] بالأمطار، وسوق ماء آخر إليها، وهذا ظاهر النص في الصورتين، وهو الأصح حيث يثبت الخلاف. ثم إذا قلنا بثبوت الخيار، فينظر: فإن كان الانهدام أو الانقطاع طرأ قبل مضي مدة لمثلها أجرة، كان بالخيار بين أن يخير بكل الأجرة أو يفسخ. وقيل: إن اختار الإجارة، كانت بالحصة؛ وفي هذا نظر. وإن كان بعد مضي مدة لمثلها أجرة؛ فله الخيار في المستقبل، وهل له الخيار في الماضي؟ فيه وجهان في الحاوي. فإن أثبتنا له الخيار في الماضي والمستقبل، فاختار الإجازة في الماضي والفسخ في المستقبل لزمه حصة الماضي من المسمى. قال الماوردي: وقد خرج قول آخر: أنه إن أقام على الماضي بكل الأجرة وإلا فينفسخ. ومحل ثبوت الخيار في الأرض إذا امتنعت الزراعة، أما لو قال الآجر: أنا أسوق إليها الماء من موضع آخر، وساقه سقط الخيار؛ كما لو بادر إلى إصلاح الجدار. قال: وإن غصبت العين حتى انقضت المدة فهو كالمبيع إذا تلف قبل القبض وقد بيناه في البيع، استغنى الشيخ- رضي الله عنه- بما ذكره في البيع عن الإعادة هنا فلا بدل من تجدد العهد به فنقول: إذا غصب العين المستأجرة أجنبي

حتى انقضت المدة فهل تنفسخ الإجارة؟ فيه طريقان: أحدهما: حكاية قولين فيه كما هي طريقة الشيخ في البيع فالصحيح منهما: الانفساخ كما حكاه الماوردي، وهو نظير ما حكيناه في البيع عن أبي الطيب والمتولي، وقد حكى الرافعي أنه هاهنا منصوص عليه للشافعي وبه أجاب أكثر الأصحاب. والقول الثاني: لا تنفسخ بل يثبت للمستأجر الخيار، وقد حكينا عن القاضي الحسين والإمام وغيرهما أنهم صححوه في نظير المسألة من البيع، وكان مقتضى التشبيه أن يكون هو الصحيح عندهم هنا أيضاً كما صار إليه الروياني لكنهم رجحوا الأول هاهنا. وقال الإمام في باب الوصية: إنه المذهب الصحيح. وفرق القاضي الحسين في آخر باب التحالف بأن المعقود عليه في باب البيع المال وما وجب على الجاني مال والمال قابل للعقد ابتداء؛ فلهذا تعدى العقد من العين إلى بدلها بخلاف الإجارة فإن المعقود عليه المنفعة، وما وجب على المتلف للمنفعة مال والمال لا يقبل عقد الإجارة ابتداء؛ فلهذا لم يتعد العقد من المعقود عليه إلى بدله؛ لأنه غير قابل لجنس العقد الذي ورد على أصله، وبهذا الفرق فرق المتولي أيضاًز والطريق الثاني: لا تنفسخ قولاً واحداً كما حكاه [الروياني] وهو نظير الطريق الذي حكاها صاحب العدة عن أبي العباس في نظير المسألة في البيع. وإن كان الغاصب الآجر بعد أن سلمها أو منعها ابتداء ولم يسلمها حيث وجب عليه التسليم ففيه طريقان: أحدهما: القطع بانفساخ الإجارة. والثاني: طرد القولين اللذين في غصب الأجنبي، صرح بهما الماوردي والمتولي، وإن كان الغاصب المستأجر استقرت عليه الأجرة كما تستقر عليه إذا أتلف المبيع. وصورة غصبه: أن يأخذ العين من الآجر من غير إذنه قبل إقباضه الأجرة الحالة.

تنبيه: في قول الشيخ: حتى انقضت المدة، ما يفهمك أن الخلاف المذكور في الانفساخ لا يطرد فيما إذا كان العقد على عمل معين؛ مثل: أن يستأجر بعيراً ليركبه إلى موضع كذا فيغصب وتمضي مدة يمكن المضي فيها إلى ذلك الموضع كما صرح به في المهذب، وكلام الماوردي، والروياني في البحر يفهم أن الخلاف يطرد في هذه الحالة أيضاً فإنهما قالا بعد حكاية الخلاف في الانفساخ: إذا كان الغاصب أجنبياً. والأصح: أنه لا يبطل فعلى هذا إن كان الركوب مقدراً بمدة يخير بين شيئين: أحدهما: المقام على الإجارة والرجوع على الغاصب. والثاني: فسخ الإجارة، وإن كان الركوب مقدراً بالمسافة كان خياره بين ثلاثة أشياء: - الفسخ والرجوع بالمسمى. - الإجازة والرجوع على الغاصب. - الإجازة وركوب البعير إلى المسافة. وفي النهاية عند الكلام في موت الرضيع: حكاية خلاف عن العراقيين يعضد إجراء الخلاف الذي يفهمه كلام الماوردي [وسنذكره، وكذلك فيها، وفي الوسيط ما يقتضيه]؛ فإنهما حكيا- فيما إذا حبس المكري الدابة ولم يسلم ولم يكن قد عين مدة وجهين: أحدهما: ينفسخ، واختاره الإمام بعد أن نسبه إلى المراوزة؛ لأن المدة وإن ذكرت فليست معينة، وإنما المطلوب المنفعة فيها فليكن الاعتبار بمضي زمان إمكان الانتفاع؛ ولأن المكتري لو حبسها هذه المدة استقرت عليه الأجرة كما لو حبسها المدة المسماة، فإذا سوينا بين نوعي الإجارة في حق المكتري؛ وجب أن نسوي بينهما في حق المكري. والثاني: وهو الذي أجاب به العراقيون- أنها لا تنفسخ. قال في الوسيط: لكن يقال: قد تأخر حقه فله الخيار إن شاء؛ لأن الوقت

غير معين. قال الرافعي: وعدم الانفساخ به أجاب الأكثرون، ورواية الأصحاب في الخيار تخالف ما رواه فإنهم قالوا: لا خيار للمكتري كما لا خيار للمشتري إذا امتنع البائع من تسليم المبيع مدة ثم سلم. قلت: الوجه ما رواه الغزالي وبه أجاب الماوردي، ويخالف امتناع البائع من التسليم فإن الإجارة لا تراد للدوام ولا في كل وقت وزمان بل عند الحاجة إليها. فإذا تعذر عليه السير في الوقت الذي استأجر فيه فقد فات المطلوب؛ فلذلك ثبت له الخيار، [والملك يراد للداوم، فأي وقت حصل فيه التسليم حصل الغرض؛ فلذلك لم يثبت له خيار. والله أعلم]. فروع: لو ابتدر الآجر حين الغصب إلى انتزاع المغصوب، فإن لم تمض مدة لمثلها أجرة، فلا خيار للمستأجر، واستحق عليه تمام المسمى. وإن مضت مدة لمثلها أجرة، فإن قلنا بالانفساخ في مدة الغصب فالحكم كما سنذكره فيما لو هرب المكري، والعقد على منفعة، وهي مقدرة بالمدة. وإن قلنا بعدم الانفساخ، ثبت له الخيار لا غير. ولو قدر الآجر على انتزاع المغصوب من الغاصب، فهل يجب عليه ذلك؟ فيه وجهان: أصلهما ما إذا احتاجت الدار المستأجرة إلى إعادة جدار أو جذع أو مفتاح ضاع في يد المستأجر، وفيه خلاف: مذهب العراقيين- وهو الأظهر-: أنه لا يجب عليه ذلك؛ لما فيه من إلزام عين لم يتناولها العقد؛ فأشبه ما إذا احتاجت الدار إلى باب أو ميزاب. والذي صار إليه القاضي الحسين والشيخ أبو محمد: أنه يجب؛ توفيراً للمنفعة؛ كما يجب عليه إقامة جدرانها، بل وإصلاح جذع منكسر وما يجري مجراه من مرمة لا يحتاج فيها إلى تجديد عين. قال الرافعي: وكلام السرخسي يوهم طرد الوجهين في عمارة يحتاج إليها

لخلل قارن العقد كالباب، والميزاب. وإن جماعة أجابوا بعدم الإجبار على إقامة الجذع ونحوه، ومنهم البغوي، والمتولي [والعراقيون كما حكاه الإمام،] والدعامة التي تمنع الانهدام إذا احتيج إليها في معنى جذع [جديد] أو في [معنى] إقامة مائل، فيه تردد. قال: وإن مات الصبي الذي وقعت الإجارة على إرضاعه انفسخ العقد على المنصوص، أي: في الجامع والنفقات من الأم؛ لتعذر الاستيفاء بتعذر الإبدال؛ لاختلاف الصبيان في الرضاع؛ فلهذا لم نكتف في الاستئجار عليه بوصف الرضيع بل اشترطنا رؤيته. وقيل: فيه قول آخر؛ أنه لا ينفسخ؛ لأنه مستوفى به فلا تبطل الإجارة بموته كالراكب. قال: فإن تراضيا على إرضاع غيره جاز؛ لأن الحق لهما ولا يعدوهما وإن تشاحا أي: تمانعا في إرضاع غيره فسخ العقد لتعذر إمضائه، والفاسخ له- كما قال البندنيجي وغيره- المستأجر، ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي: أنه لا فرق في الرضيع بين أن يكون ولد المستأجرة أو لا. وحكى الإمام [أن محل الخلاف] فيما إذا كان غير ولدها، أما إذا كان ولدها: فإن فرعنا على أنها تنفسخ بموت الأجنبي فهنا أولى، وإلا فقولان منصوصان: وجه الانفساخ: أن لبنها لا يدر على الأجنبي دروره على ولدها، ثم قال: وهذا ضعيف لا أصل له، والمصير إلى الانفساخ باطل مطلقاً. قال في المهذب: وفي معنى موت الصبي أن يستأجر كحالاً فيبرأ أو من يقلع ضرسه فيسكن الوجع أو من يقتص له فيعفو عن القصاص فيكون على القولين، وقد حكى في مسألة الكتاب وجه: أن له إبدال الصبي مع بقائه، [وطرده متجه في باقي الصور [ومن أصحابنا] من أقام قلع وتد مقام الضرس عن سكونه]. وحكى القاضي في مسألة الاستئجار على قلع الضرس وجهاً: أن العقد لا

ينفسخ، بل يبقى في ذمته إلى وقت هيجان الوجع، فحينئذ يقلعه، وهو قريب مما حكيناه من قبل عن اختيار أبي الطيب. وألحق الأصحاب بمسألة الرضيع ما إذا استأجره لرعي أغنام بأعيانها فتلفت، وما إذا استأجره لخياطة ثوب بعينه أو حفظه فتلف؛ كما حكاه الإمام، لكن الإمام حكى الخلاف في مسألة الثوب وجهين عن العراقيين، وقال: أصحهما أن العقد لا ينفسخ، وهذا ما جزم به الماوردي عند الكلام في الأجير المشترك. قال الإمام: وعلى هذا فقد حكى العراقيون وجهين فيما لو قال المستأجر: ليس عندي ثوب آخر، أو: لست آتي به والثياب عندي عتيدة في أن الأجرة تستقر إذا مضت [مدة] يتأتى فيها العمل أو لا تستقر، وإذا مضت المدة انفسخت الإجارة؟ وهذا ما أشتر إليه من قبل، وقد جزم في التهذيب في كتاب الخلع بالانفساخ عند الامتناع من الإبدال للعجز. والوجه المذكور في جواز إبدال الرضيع مع بقائه مطرد هنا، وقد حكاه المتولين وصححه الإمام عن العراقيين في كتاب الصداق، وقال: إنه الأظهر، وقال: إن الممكن من الفرق على منع الإبدال- بينه وبين إبدال الراكب-: أن منفعة الدابة لا تقع بالراكب، وإنما هي انتفاع من غير تأثر به، والثوب يتأثر بالخياطة، وتقع فيه وتبقى ما بقي، والأثر عند الشافعي كالعين على قول مذكور في كتاب التفليس، وإذا كان كذلك، فالأعيان لا يدخلها الإبدال في العقود الواردة على الأعيان. ثم قال: وقد اختلف الأئمة في تنزيل الوجهين: فمذهب العراقيين وطوائف من المراوزة: أنا إذا منعنا الإبدال نمنعه مع التراضي به، إلا أن يعرض عقد صحيح. وصار صائرون إلى أن محل الخلاف فيما إذا أراد المالك أن يبدل، فأبى الخياط، أما إذا تراضيا جاز بلا خلاف؛ وهذه طريقة القاضي. والذي حكاه الرافعي عن العراقيين والشيخ أبي علي: انفساخ الإجارة بتلف الثوب المعين، وبه أجاب ابن الحداد- فيما إذا اكترى دواباً في الذمة لحمل

خمسة أعبد معينين، فمات اثنان، وحمل ثلاثة- أن له ثلاثة أخماس الكراء ويسقط خمساه؛ إذا تساوت أوزانهم، ويوافقه نص الشافعي فيما لو نكح امرأة على خياطة ثوب معين فتلف قبل أن تخيطه: أن لها مهر المثل، لكن الشيخ أبا علي صور المسألة في الثوب بما إذا وقع العقد على [عين] الدابة ليحمل عليها متاعاً بعينه، أو ليركبها مدة بجواز الإبدال، وأن العقد لا ينفسخ بهلاك المتاع والراكب، وفرق بأن العقد والحالة هذه يتناول المدة، ألا ترى أنه لو سلم الدابة، ولم يركب، تستقر الأجرة، وفيما إذا استأجر لخياطة الثوب المعين العقد يتناول العمل؛ ولهذا لو سلم نفسه مدة يمكن فيها الخياطة، ولم يخط، لم تستقر الأجرة. قال الرافعي: وفيما ذكره نزاع سنعرفه من بعد. قلت: النزاع الذي سيأتي فيما إذا وقع العقد على العين، كما إذا استأجره لخياطة ثوب بعينه، فسلم نفسه مدة تسع الخياطة، هل تستقر به الأجرة أم لا؟ وما ذكره الشيخ أبو علي وإن كان مشابهاً لهذه الصورة، فالمراد: إذا التزم الأجير خياطة الثوب في الذمة؛ فإنه صور المسألة كذلك، وسيأتي أن الإجارة إذا كانت على عمل في الذمة لا تستقر إلا بالعمل. فرع: لو لم يتلف الثوب المعين للخياطة، لكن بدا للمستأجر أن يقطعه. قال الإمام: الذي يتجه عندنا: أنه لا يجب عليه الإتيان به؛ ليقطع، ولكنا إذا فرعنا على أن أجرة الأجير تستقر [بعد مضي] مدة تسع العمل، فإذا لم يأت بالثوب حتى مضت تلك المدة بعد التمكين استقرت الأجرة. وإن قلنا: إن الأجرة لا تستقر بالتمكين ومضي المدة؛ يثبت للأجير الخيار، فإن فسخ تخلص، وسلمت [منافع نفسه] وإن لم يفسخ، فهو المتسبب في تفويتها. وأما المستأجر، فلا خيار له بحال؛ لأن العذر من جهته. قلت: وما قاله من عدم إلزامه القطع مع تفريعنا على أن الأجرة تستقر بالتمكين ومضي المدة لا شك في وضوحه، وأما على القول بعدم الاستقرار؛

ففي كلام الأئمة ما ينازع فيه؛ فإن الرافعي حكى في المساقاة عند الكلام فيما إذا انقطع الماء، وقدر رب النخيل على رده: أن من استأجر قصاراً لقصارة ثوب بعينه يكلف تسليمه إليه، وحكيت في باب: ما يتم [به] البيع عن المتولي وغيره: أن من استأجر صباغاً؛ ليصبغ له ثوباً، وسلمه إليه – ليس له بيعه ما لم يصبغه، وكذلك لو استأجر صائغاً على عمل ذهب، ونظائر ذلك فلو تمكن المستأجر من المبيع لم يمتنع عليه البيع والله أعلم. قال: وإن مات الأجير في الحج أو أحصر قبل الإحرام [أي]: وقد وقع العقد على عينه، لم يستحق شيئاً من الأجرة؛ لأن الأجرة تقابل المقصود وابتداؤه من الإحرام، وقد فات بكماله وما قبله من السير تسبب فيه فأشبه من استؤجر على الخبز أو البناء فأحضر الآلة ومات وهذا هو المنصوص في عامة كتبه وعن الصيرفي والإصطخري: أنه يستحق قسطاً من الأجرة بقدر ما قطع من المسافة؛ لأنهما أفتيا سنة حصر القرامطة الحج بالكوفة بأن الأجراء يستحقون من الأجرة بقدر ما عملوا. ووجهه: أن الأجرة تقع في مقابلة السير والعمل جميعاً؛ ألا ترى أنها تختلف باختلاف المسافة طولاً وقصراً وفصل ابن عبدان فقال: إن قال: استأجرتك لتحج من كذا، فالجواب كما قالاه. وإن قال: على الحج، فالجواب كما حكي على النص، وهذا كالتفصيل الآتي عن ابن سريج. قال: وإن كان بعد الفراغ من الأركان أي: وقبل الإتيان بالرمي والمبيت استحق الأجرة أي بجملتها، وعليه دم لما بقي. أما وجوب الدم فلأنه دخل الحج نقص فكان عليه جبره بالدم كما في حجه عن نفسه، وأما استحقاقه تمام الأجرة فلإتيانه بما قابلته الأجرة والنقص الحاصل الدم جابره. فعلى هذا فلو نقصت قيمة الدم عن القدر الذي يجب حطه من الأجرة؛ ففي حط قدر التفاوت وجهان، وقيل: يلزمه أن يرد ما يقابل الفائت بجملته؛ لأن الدم كان جابراً لحق الله تعالى. وبعضهم جزم بهذا فيحصل في المسألة طريقان، وهما جاريان فيما إذا أحرم

من دون الميقات، وهذا كله تفريع على القول بامتناع البناء على الحج كما هو الصحيح أما إذا جوزناه وكانت الإجارة على العين كما صورناه فقد انفسخت فيما بقي ووجب رد قسطه من الأجرة والمستأجر يستأجر من يرمى عنه ويبيت [ولا دم على الآجر، وإن كانت في الذمة استأجر وارث الآجر من يرمى عنه ويبيت] ولا حاجة إلى الإحرام؛ لأنهما يؤتى بهما بعد التحللين ولا يلزمه الدم ولا رد شيء من الأجرة، ذكره المتولي وسيأتي في كلام صاحب التهذيب ما يأتي ذلك. قال: وإن مات وقد بقي عليه بعض الأركان استحق بقدر ما عمل، كما لو استأجره على خياطة ثوب فخاط بعضه. وقيل: لا يستحق شيئاً؛ لأنه لم يسقط الفرض عن المستأجر وهو المقصود فأشبه ما لو التزم له مالاً ليرد عبده الآبق فرده بعض الطريق ثم هرب. وقد بنى بعضهم الخلاف [هاهنا] على الخلاف الآتي في [أن] البناء على الحج، هل يجوز أم [لا]؟ فإن قلنا يجوز استحق، وإلا فلا. وهذا البناء ضعيف؛ أن مقتضاه أن يكون الصحيح عدم الاستحقاق؛ لأن الصحيح عدم البناء. وقد حكى الكرخي وغيره: أن الصحيح الاستحقاق كما جزم به الشيخ، وحكاه ابن عبدان عن الجديد، و [حكى] المنع عن القديم. وحكى الإمام طريقة متوسطة، فقال: إن جوزنا البناء استحق لا محالة؛ لأن المستأجر بسبيل من إتمامه وإلا ففي الاستحقاق الخلاف. ولا فرق فيما ذكرناه على الأظهر بين أن يكون الباقي من أركان الحج الوقوف أو غيره، وقد قيل: إن القول بعد الاستحقاق مفروض فيما إذا كان الموت قبل الوقوف؛ أما إذا كان بعده، ففيه وجهان: قال: ويستأجر المستأجر من يستأنف الحج عنه أي: فلا يجوز البناء على حج الأجير؛ لأنها عبادة تفسد أولها بفساد آخرها فأشبهت الصوم والصلاة؛ ولأنه لو أحصر وتحلل ثم زال الحصر وأراد البناء عليه [لم يجز] وإذا لم يجز له البناء

على فعل نفسه فأولى [أن لا يجوز] على فعل غيره، وهذا هو الجديد والقديم جواز البناء؛ لأن النيابة جارية في جميع أفعال الحج، فتجري في بعضها كتفرقة الزكاة. وقد خص صاحب التهذيب هذا بما إذا كان قبل التحللين أما إذا كان بعد التحللين فلا تجري؛ إذ لا ضرروة إليه لإمكان جبر ما بقي من الأعمال بالدم وأوهم بعضهم بإجراء الخلاف. ثم على قول البناء: إن مات الأجير وقد بقي وقت للإحرام بالحج أحرم الثاني به [ووقف الثاني بعرفة إن لم يكن الأول قد وقف ولا يقف إن كان قد وقف] ويأتي بباقي الأعمال، ولا بأس بوقوع إحرام الثاني وراء الميقات؛ فإنه مبنى على الإحرام الأول. وإن فات وقت الإحرام بالحج فيم يحرم الثاني؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال [أبو] إسحاق- بعمرة؛ لفوات وقت الإحرام بالحج ثم يطوف ويسعى فيجزئانه عن طواف الحج وسعيه، ولا يبيت ولا يرمى فإنهما ليسا من أعمال العمرة، ولكنهما يجبران بالدم. والثاني: وهو الأصح: أنه يحرم بالحج ويأتي ببقية الأعمال والممنوع ابتداء الإحرام بالحج في غير أشهره وهذا بناء. فعلى هذا: إذا مات بين التحللين أحرم النائب إحراماً لا يحرم اللبس والقلم، وإنما تحرم النساء، وقد نسب الإمام الوجه الأول المحكي عن أبي إسحاق إلى العراقيين، ومقابله إلى المراوزة، والموجود في كتبهم تصحيح الوجه [الثاني] مع ذكر الأول. وهذا الذي ذكرناه مذكور فيما إذا حج الإنسان عن نفسه، ثم مات في أثناء الحج هل يجوز له البناء عليه؟ وشبه الخلاف في جواز البناء بالخلاف على الأذان والخطبة، وجواز الاستخلاف وإن اختلف الأظهر منها. أما إذا وقع العقد على حج في الذمة لم تنفسخ الإجارة بموت الأجير بل يستأجر من تركته من يحج عنه إن كان وقت الوقوف باقياً وإن لم يكن باقياً

ثبت للمستأجر الخيار كما سنذكره. تنبيه: قول الشيخ استحق بقدر ما عمل هل يكون المستحق من المسمى، أو من أجرة المثل؟ [ثم قال]: لم يصرح أحد بذكره فيما وقفت عليه، والذي يقتضيه القياس: أن يتخرج على [الخلاف السابق] في أن الفسخ في المستقبل هل ينعطف على الماضي أم لا؟ فإن انعطف، كان المستحق له أجرة مثله، وإلا فالقسط من المسمى، ثم التوزيع [يكون على قولين. أحدهما: أنه يقسط على الأعمال وحدها؛ لما ذكرناه من قبل، وهذا يفهم كلام الشيخ من قبل. وقال ابن يونس: إنه الصحيح وأظهرهما في الرافعي: أنها تقسط على العمل والسير جميعاً؟] لأن للوسائل حكم المقاصد إذا وقعت تبعاً، وتعب الأجير في السير أكبر، فيبعد ألا يقابل بشيء مع كونه حصل بعض المقصود. وقال ابن سريج: إن قال: استأجرتك لتحج عني، فالتوزيع على الأعمال وحدها، وإن قال: لتحج من بلد كذا فالتوزيع على السير والعمل جميعاً، وحمل القولين على حالين. فرع: لو أحصر الأجير في هذه الحالة، فله التحلل، وإذا تحلل فعمن يقع ما أتى به؟ فيه وجهان: أصحهما: عن المستأجر، وهو ما حكاه الشيخ أبو حامد كما لو مات؛ إذ لم يوجد من الأجير تقصير. فعلى هذا: الحكم كما تقدم، ودم الإحصار على المستأجر. والثاني: عن الأجير، وهو ما حكاه القاضي أبو الطيب؛ كما لو أفسده؛ لأنه لم يحصل غرضه. فعلى هذا: دم الإحصار على الأجير. وإن لم يتحلل، وأقام على الإحرام حتى فاته الحج، انقلب الحج إليه؛ كما في

صورة الإفساد، ثم يتحلل بعمل عمرة، وعليه دم الفوات. ولو حصل الفوات بسبب نوم أو تأخر عن القافلة، ونحو ذلك غير الإحصار- انقلب الحج إلى الأجير؛ كما في الإفساد ولا شيء للأجير. ومن أصحابنا من أجرى فيه الخلاف المذكور في الموت. [قال: وإن هرب المكري والعقد على منفعة، مثل: أن استأجره ليخيط له شهراً، أو هذا الثوب ثبت للمستأجر الخيار؛ [بين الفسخ والإبقاء؛] لتضرره بفوات بعض المعقود عليه في حالة، وبتأخر حقه في أخرى. والبقاء: بالمد مقصور مصدر بقي يبقى بقاء. قال: وإن كان [العقد] على مدة أي: ولم ينفسخ، انفسخ بمضي الوقت حالاً فحالاً، أي: كلما مضت لحظة انفسخ فيها وهو بتخفيف اللام. ووجه ذلك: أن المنافع تتلف بمضي الزمان. وقد قيل: إذا مضت مدة لمثلها أجرة انفسخ فيها، وهل ينفسخ في الباقي؟ فيه قولاً تفريق الصفقة، والصحيح الأول. قال البندنيجي: فعلى هذا إذا أحضر وأجاز المستأجر العقد، أجازه بالحصة. قال: وإن كان على عمل: أي كخياطة ثوب، أو بناء حائط- لم ينفسخ؛ لإمكان استيفاء المعقود عليه بعد مدة، فإذا قدر عليه طالبه به؛ لقدرته على القيام بالحق المتوجه عليه، ويجيء في هذه الصورة الوجه الذي اختاره الإمام وحكاه عن المراوزة فيما إذا لم يسلم العين حتى مضت مدة يمكن العمل فيها كما حكيناه من قبل؛ إذ لا يظهر فرق بينهما. واعلم أن الموجود في بعض النسخ: وإن هرب المكتري والعقد على منفعة، وفي بعضها: وهو المكري والعقد على منفعة، وعلى هذا يحتاج أن تقدر مع قوله: والعقد على منفعة: وعين ما تستوفي منه المنفعة، وإلا فمجرد هرب المكرى مع وجود ما يستوفى منه المنفعة لا يثبت خيار ولا غيره، وحينئذ يكون قد احترز بقوله: والعقد على منفعة عما إذا ورد العقد على ما في الذمة،

وسيأتي حكمه]. قال: وإن هرب الجمال وترك الجمال [وفيها فضل] بيع ما فضل أي: عن حق المكتري وأنفق عليها؛ لأنه قد قدر على إنفاق ما تعين عليه من ماله فتعين طريقاً، وكذا ينفق من ثمن الفاصل أجرة من يخدمها كما صرح به الماوردي؛ [و] لأن إخدامها واجب على الآجر كطعمتها. قال الفوراني وغيره: ولا يجوز بيع جميع الجمال؛ خشية أن يأكل ثمنها إذا رأى في ذلك [مصلحة] بخلاف ما إذا لم تكن مستأجرة، والفرق أن هاهنا تعلق حق المكتري بأعيان الجمال، فليس لأحد تفويت منفعته، [والصانع بخلافه؛ قال مجلي: وهذا الفرق ضعيف؛ فإن البيع لا يفوت عليه منفعة؛] إذ البيع لا يفسخ الإجارة. قال: فإن لم يكن فيها فضل اقترض عليه أي: من بيت المال أو من المستأجر أو من غيره؛ لانتهاء الإمكان إليه. والمقترض والبائع هو الحاكم؛ لأنه الناظر في أموال الغائبين، وله أن يدفع ما يقترضه المستأجر لينفقه عليها إن وثق به، سواء كان القرض منه أو من غيره، كما صرح به في المهذب. وحكى القاضي أبو الطيب القولين الآتيين في هذه الصورة، وقال: إذا قلنا: إنه [لا] يجوز فدفعه إليه- كان كمن أنفق بغير حكم حاكم، وذلك موافق لما سيأتي فيما إذا أذن الحاكم للملتقط أن ينفق على اللقيط من ماله: هل يجوز أم لا؟ والمشهور هاهنا ما في المهذب، حتى ادعى الرافعي في باب اللقيط: أنه لم ير سواه، وأبدى الخلاف تخريجاً. وإن لم يثق به دفعه إلى أمين لينفقه، فإذا انتهت مدة الإجارة ولم يحضر الآجر باع الحاكم منها ما يقضي بثمنه ما اقترضه، ويحفظ باقيها، وإن رأى بيع الجميع كي لا تأكل نفسها- فعل. قال: وإن أمر الحاكم المستأجر أن ينفق عليها قرضاً جاز في أصح القولين؛

لأنه موضع ضرورة؛ إذ قد لا يجد الحاكم غيره، وهذا موافق لما نص عليه الشافعي في أن للقاضي أن يأذن للملتقط أن ينفق على اللقيط من مال نفسه ليرجع، وعلى هذا قال: ويقبل قوله في النفقة بالمعروف أي: وإن نازعه الجمال فيما أنفق؛ لأنه أمين. وحكى الماوردي فيمن المقبول قوله في قدر النفقة في هذه الحالة- ثلاثة أوجه لأصحابنا، أشار إليها الشافعي في الأم. أحدها: أن القول قول المنفق، وهو الأصح في البحر. والثاني: أن القول قول الجمال؛ لأنه غارم. والثالث: أنه يرجع فيه إلى عرف الناس وعادتهم، فإذا وافق ذلك قول أحدهم فهو المعمول به، سواء وافق قول المنفق [أو قول] الجمال أو خالفهما، وهذا اختيار الشافعي. قال: وإن خالف قياس الأصول الموجبة لأحد المذهبين فقد يترك القياس إذا تفاحش إلى ما يكون عدلاً بين الناس. والقول الثاني: لا يجوز؛ ولأنه يؤدي إلى أن يكون مقبول القول فيما يستحقه على غيره كما ذكرنا من قبل، وهذا موافق ما نص عليه الشافعي في أن القاضي لا يأذن لواجد الضالة في الإنفاق عليها من مال نفسه ليرجع على صاحبها، بل يأخذ المال منه ويدفعه إلى أمين، ثم الأمين يدفع إليه كل يوم قدر الحاجة، وسنذكر إن شاء الله في باب اللقيط الفرق بينهما. وإذا تعذر على الحاكم الاقتراض من المستأجر وغيره باع الحاكم من الجمال بقدر الحاجة لينفق عليها من ثمنه، ولا يخرج على الخلاف في بيع المستأجر؛ لأنه محل ضرورة ويبقى في يد المستأجر إلى انتهاء المدة؛ ذكره الرافعي وغيره. قال: وإن لم يكن حاكم، فأنفق وأشهد أي: وشرط الرجوع رجع؛ لأنه حق على غائب؛ فجاز عند الضرورة أن يتوصل صاحبه إليه بحسب المكنة؛ كما يجوز لصاحب الدين الممنوع أن يتوصل إلى أخذه من مال من هو عليه جهراً أو سراً بحكم وغير حكم، وهذا هو الصحيح في تعليق القاضي الحسين. وقيل: لا يرجع؛ لأنه يصير حاكماً لنفسه ليستوفي حقه من مال غيره، وكما لا يرجع مستودع الدابة على ربها بثمن علوفتها، وإن أنفق وترك الإشهاد نظر: إن لم

ينو الرجوع لم يرجع وإن نواع فوجهان في تعليق القاضي الحسين، فإن اختلفا في نية الرجوع فالقول قول المنفق. وهذا الكلام [قد] يفهم أن الخلاف جار فيما إذا ترك الإشهاد مع القدرة عليه وبدونها كما فهم الرافعي مثله في مسألة المساقاة، والمصرح به في كتب المذهب: أن محلهما إذا لم يقدر على الإشهاد، أما إذا قدر [عليه] فلم يفعله فلا يرجع وجهاً واحداً؛ صرح به مجلي. وقد أحال معظم الأصحاب الكلام في هذه المسألة على ما ذكروه في باب المساقاة فليطلب منه، وقد ألحق الإمام عدم القدرة على إثبات الواقعة عند الحاكم أو عسرها- بحالة عدم الحاكم، وإذا قلنا: يرجع عند عدم الحاكم، فاختلف الجمال والمنفق في قدر المنفعة: قال الرافعي: القول قول الجمال؛ لأن إنفاق المكتري لم يستند إلى ائتمان من جهة الحاكم. وفيه احتمال للإمام من جهة أن الشرع سلطه عليه، وهذا منهما محمول على الرجوع في حالة عدم الإشهاد، أما إذا اعتبرنا الإشهاد فالبينة تقطع الخصومة، وقد قال مجلي في كتاب اللقطة: إنه يجب عليه أن يشهد في كل دفعة. قال: وإن مات أحد المتكاربين والعين المستأجرة باقية- لم يبطل العقد؛ لأنه عقد معاوضة [على ما يقبل النقل] ليس لأحدهما فسخه من غير عذر فلم ينفسخ بموت أحد المتعاقدين كالبيع. قال: وإن هلكت العين المستأجرة في يد المستأجر من غير عدوان- لم يضمن)؛ لأنها عين قبضها ليستوفي منها ما ملكه فلم يضمنها بالقبض، كالنخلة إذا اشترى ثمرتها، ولا يشبه ما إذا اشترى سمناً وقبضه في بستوقة حيث تكون مضمونة في يده على أصح الوجهين في تعليق القاضي الحسين وغيره؛ لأنه أخذها لمنفعة نفسه ولا ضرروة في قبض السمن فيها، والمرجع في العدوان إلى العرف، فلو ربط الدابة في الإصطبل، وماتت- فلا ضمان. ولو انهدم عليها، فهلكت، أطلق الرافعي القول- حكاية عن الأصحاب- بوجوب الضمان. وقال غيره: ينظر: إن كان انهدامه في وقت عهد أن تكون الدابة فيه تحت سقف كجنح الليل في الشتاء والمطر الشديد في النهار- فلا ضمان.

وإن كان في وقت لا يعهد ذلك فيه، ضمن؛ لأن التلف- والحالة هذه- جاء من ربطها في الإصطبل. ولو ضرب الدابة، أو كبحها باللجام، أو ركضها برجل، فإن فعل من ذلك ما يفعله العامة فلا شيء عليه وإن تعداه ضمن، ويخالف المؤدب إذا ضرب الصغير فمات، أو الزوج وزجته فماتت حيث يضمن بكل حال؛ لأن الآدمي يمكن تأديبه بغير الضرب بخلاف الحيوان؛ فقد حكى الإمام عن العراقيين في كتاب الرهن ما يقتضي أن العلة في ضمان الزوجة أمر آخر، [فإنه حكى أنهم] قالوا: لو قال السيد: اضرب عبدي فضربه ووالى الضرب عليه، فلا ضمان، بخلاف الزوج وإن كان مأذوناً من جهة الشرع في الضرب، وفرقوا: بأن الإذن في ضرب الزوجة مقيد بتوقي القتل وإبقائها والإبقاء عليها، والإذن في مسألة العبد لا تقييد فيه، قال: وكأنهم رأوا الأمر بالضرب أمراً بحسبه بالغاً ما بلغ، وهذا محتمل عندي؛ فإن الضرب يخالف القتل، والأمر به أراه مشعراً بالاقتصار عليه، ومن قتل إنساناً لا يقال ضربه، ولو قال: أدب عبدي فلا [يجوز أن] يشك في أنه لو قتله ضمنه؛ فإن التاديب مصرح بإبقاء المؤدب. فرع: إذا غصبت الدابة المستأجرة مع دواب سائر الرفقة، فذهب بعضهم في الطلب ولم يذهب المستأجر انبنى ذلك على أنه: هل يلزمه الرد عند انقضاء المدة أم لا؟ فإن قلنا: لا يلزمه الرد، لم يضمن. وإن قلنا: يلزمه؛ فإن استرد من ذهب دابته من غير مشقة ولا غرامة ضمن المستأجر المتخلف، وإن لحقتهم غرامة [أو مشقة] فلا ضمان؛ كذا حكاه العبادي في الزيادات. قال: وإن انقضت [مدة] الإجارة لزم المستأجر رد العين وعليه مؤنة الرد)؛ لأنه أذن له في إمساكها؛ لاستيفاء المنفعة من غير استحفاظ ولا إيداع، فإذا انقضت المدة وجب عليه الرد ومؤنته كالمستعير، وهو ظاهر كلام الشافعي، وبه قال الإصطخري. وقال البندنيجي: إنه المذهب، وهو الذي حكاه [القاضي الحسين] عن العراقيين.

وقيل: يجب ذلك على المؤجر؛ لأنها أمانة في يده؛ فهي كالوديعة. واستغنى الشيخ بجعل مؤنة الرد على المؤجر- على هذا القول- بأن المستأجر لا يجب عليه الرد، بل التخلية؛ لأن المؤنة ملازمة لوجوب الرد، وهذا ما حكاه القاضي الحسين والإمام عن المراوزة، واختاره القفال والقاضي الحسين والغزالي. وقال الماوردي: إنه مذهب الشافعي، ولا وجه لمن خرج من أصحابنا في الإجارة من الرهن وجهاً آخر أن الرد واجب على المستأجر؛ لأن الرهن يغلب فيه حق المرتهن؛ فجاز أن يكون وجوب رده على وجهين، وفي الإجارة يستويان؛ فاختص بها المالك [بحق الملك] وخص القاضي أبو الطيب محل الخلاف بما إذا لم يشترط على المستأجر الرد، أما إذا اشترطه وجب بلا خلاف، ومنعه ابن الصباغ وقال: من لا يوجب الرد عليه ينبغي ألا يجوز شرطه، وهذا ما يقتضيه كلام القاضي الحسين؛ فإنه حكى أن صاحب التقريب فرع على القول الأول إذا شرط الآجر على المستأجر أن يرد الدابة إلى بلد الآجر لزمه الرد، وإن أطلق العقد، وكان المالك معه، رد عليه إذا بلغ الموضع الذي اكترى إليه، وإلا فعليه أن يرده إلى بلده. ثم قال: وهذا عندي غلط، ولا يلزمه الرد إلى بلد المكري، بل إذا بلغ الموضع المقصود، فهي مال غائب، حصل في يده، يسلمه للحاكم، أو يودعه أميناً، وعلى هذا المذهب: إذا شرط الرد بطل العقد؛ لأنه خلاف مقتضاه، لكنه لو خرج لا ضمان. ثم على الخلاف المذكور في الكتاب يتفرع مسألتان إحداهما: إذا أمسك العين المستأجرة بعد انقضاء المدة فتلفت في يده فعلى الأول: يضمن، وعلى الثاني لا ضمان، إلا أن يطالبه المالك بالتمكين منها فيمتنع، وعلى هذه الحالة حمل [ما] قابله النص. الثانية: وجوب الأجرة، فعلى الأول: تجب وإن لم يستعملها، وعلى الثاني: لا. قال الماوردي: ومحل الخلاف في هذه والتي قبلها: إذا لم يكن ثم عذر، أما إذا كان ثم عذر مانع [من الرد] فلا ضمان ولا أجرة، وكذا قاله في المهذب.

ويلتحق بذلك: ما إذا ردها، فتلفت في الطريق؛ كما صرح به البندنيجي وابن الصباغ. وفي كلام الإمام ما يقتضي خلافه؛ فإنه قال في تضعيف وجه الضمان: ويبعد كل البعد أن يقال: إذا انقضت المدة، وهم المستأجر بالرد، فتلفت العين في يده من غير تقصير – يجب عليه الضمان. ومن أوجبه طرد القول في إثبات الضمان، وألحق العين بعد مدة الإجارة بالمستعار والمأخوذ سوماً. ولا نزاع في أن المستأجر إذا بذل العين للآجر فلم يقبلها: أنها تصير في حكم الوديعة، إلا أن يستعملها؛ ولو ترك الرد عليه بعد الطلب برضا الآجر، بقيت العين في يده عارية يضمنها بالقيمة، ولا يضمنها بالأجرة، صرح به الماوردي. فرع: إذا استأجر قدراً؛ ليطبخ فيها، ثم حملها بعد المدة على حمار ليردها، فسقط الحمار، وانكسرت القدر- قال العبادي في الزيادات: إن كان لا يستقل بحملها الراجل، فلا ضمان [عليه]، وإلا فعليه الضمان؛ لأن العادة أن القدر لا ترد بالحمار مع استقلال الآدمي بحملها. قال: وإن اختلفا في الرد فالقول قول المؤجر؛ لأن الأصل عدم الرد، وقد قبض العين لغرض نفسه؛ فكان كالمستعير، وقيل: القول قول المستأجر، وقد تقدم الكلام في ذلك وما قيل من الفرق بينه وبين الوكيل يجعل في مواضع؛ منها كتاب الرهن. قال: وإن هلكت العين [التي] استؤجر على العمل فيها في يد الأجير أي: من غير تفريط فإن كان العمل في ملك المستأجر أو في غير ملكه والمستأجر مشاهد له- لم يضمن؛ لأن المال غير مسلم إليه في الحقيقة، وإنما استعان المالك به في شغله، كما يستعين بالوكيل والتلميذ، وهذا ما نص عليه في الإملاء. وعن أبي سعيد الإصطخري، وأبي علي الطبري حكاية القولين [الآتيين] في هذه الحالة أيضاً.

قال: وإن كان في غير ملك المستأجر؛ ففيه قولان: أصحهما: أنه لا يضمن؛ لأنه قبض العين لمنفعته ومنفعة المالك، فلم يضمنها من غير تعد كالعين المستأجرة ومال القراض والرهن، وهذا ما اختاره المزني. والقول الثاني: أنه يضمن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ"؛ ولأنه أخذ العين لمنفعة نفسه من غير استحقاق فأشبه المستعير والمستام؛ ولأن الأجرة ترجع إليه فوجب أن يكون الضمان عليه، كما لو أجر دابة فتلفت تحت يد مستأجرها، فعلى هذا حكمه في الضمان حكم المستعير والمستام، ففي وجه [عند العراقيين]: يضمن القيمة وقت التلف. وفي وجه: يضمن ضمان الغصوب، وهو اختيار أبي حامد كما حكاه في البحر، ولا شك في ضمان الحر. وهذه الطريقة هي الصحيحة، وعليها يدل قول الشافعي في المختصر. والأجراء كلهم سواء؛ فما تلف في أيديهم من غير جنايتهم ففيه واحد من قولين: أحدهما: الضمان؛ لأنه أخذ الأجرة. والقول الآخر: لا ضمان إلا بالعدوان، ومن الأصحاب من قطع بالقول الأول؛ لما حكي عن الربيع أنه قال: كان الشافعي يرى أن الأجراء لا يضمنون، غير أنه كان لا يبوح به؛ مخافة [من] أجراء السوء، وأن القاضي يقضي بعلمه غير أنه كان لا يبوح به؛ مخافة قضاة السوء. وروى الحارث أن الشافعي سلم لقصار ثياباً مرتفعة فاحترق دكان القصار، واحترقت الثياب، فتشفع القصار إليه بقوم في الصبر عليه إلى أجل، فقال: لا أضمنه شيئاً؛ لأنه لم يصح عندي أن الصناع يلزمهم الضمان؛ كذا حكاه في البحر والقائل بهذا الطريق حمل قوله في المختصر: "ففيه واحد من قولين" على ترتيب من يفصل بين أن يتلف الشيء في يده بفعله من غير تعد، وبين أن يتلف بآفة سماوية، وهو أبو حنيفة؛ فإنه لا وجه إلا الضمان مطلقاً أو عدمه مطلقاً. وقد استدل المزني على ما اختاره بثلاثة أشياء:

أحدها: قال: قطع الشافعي بأنه لا ضمان على الحجام يأمره الرجل أن يحجمه أو يختن غلامه أو يشرط دابته. والثاني: قال: ما علمت أحداً ضمن الراعي بالمنفرد بالرعي. والثالث: قال الشافعي: لو اكترى رجلاً ليخيط متاعه في دكانه، فاحترق المتاع، لا ضمان عليه. فإذا ألقوا عن هؤلاء الضمان؛ لزمهم إلقاؤه عن الصانع- يعني: عن الأجير المشترك- وقد وافقه الغزالي في مسألة الراعي، فادعى الإجماع فيها وكتب الأصحاب كافة من "الحاوي" و"الشامل" و"تعليق" أبي الطيب، وغيرها مصرحة بأن الأمر فيما ذكره المزني خلا الحر- كما هو مذكور في غيره حرفاً بحرف حتى جعل ابن الصباغ إذنه للراعي بالرعي في موات بمنزلة رعيه في ملكه؛ فلا يضمن وإن لم تكن مشاهدة. فرع: إذا ضاع حلي الطفل في يد المرضعة هل تضمنه؟ قال الماوردي إن قيل: إن الأجراء يضمنون- انبنى ذلك على أن الأجرة للرضاع والخدمة تبع أو للخدمة والرضاع تبع؟ فعلى الأول: [لا] ضمان وعلى الثاني: لا تضمن إن كانت منفردة، وتضمن في أحد القولين إن كان مشتركاً. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي إجراء الخلاف في الأجير المشترك والمنفرد كما هو ظاهر النص في "المختصر"؛ لأن كل ما فسر به المشترك والمنفرد كما سنذكره عن الجمهور ينطبق عليه كلامه، وقد صرح بذلك صاحب الإفصاح وصححه الروياني في البحر، والقاضي الحسين وغيرهما، وقد روي عن ابن أبي أحمد [وأبي الحسن بن القطان] والقفال: أن الأجير المنفرد لا يضمن قولاً واحداً، وإنما الخلاف في المشترك، والأجير المشترك على الصحيح عند الروياني وغيره، هو الذي يتقبل العمل في ذمته كما هو دأب الخياطين والقصارين، والحمالين ونحو ذلك، فإذا التزم لواحد أمكنه أن يلتزم لغيره مثل ذلك العمل؛ فكان مشتركاً بين الناس، والمنفرد: هو الذي أجر نفسه مدة مقدرة لعمل فلا يمكنه تقبل مثل ذلك العمل لغيره في هذه المدة، وعبر القاضي الحسين عن هذا بأن المشترك: هو الذي لا يستحق الأجرة إلا بالعمل، والمنفرد: هو الذي يستحقها بالتمكين ومضي المدة وقيل: المشترك هو الذي يشارك في الرأي، فيقال له:

اعمل في أي موضع شئت، والمنفرد: هو الذي عين عليه العمل وموضعه. وقيل: المشترك هو الذي لا يضيق عليه وقت العمل، سواء ورد على عينه أو في ذمته؛ فإن له أن يؤخر العمل عن وقت العقد من غير فرق وإن ورد على عينه فيعمل لغيره. والمنفرد هو الذي يضيق عليه وقت العمل؛ فلا يمكنه من العمل لغيره فيه. قال مجلي: وهذا يقع بشيئين: أحدهما: أن يقع العقد على مدة معلومة. والثاني: أن يرد على عين الأجير. فإن قيل: إذا لم يضيق الوقت عليه، فالظاهر: أنه يتعين العمل عقيب العقد في مطلق الإجارة؛ فيصير بمثابة المضيق. قيل: ليس كذلك فإن المضيق تنفسخ الإجارة بمضي المدة من غير عمل فيها، وهاهنا لو مضت مدة تتسع للعمل، ولم يعمل، لم ينفسخ العقد، وقد فسر الماوردي المنفرد بالذي يكون عمله في ملك المستأجر أو في غير ملكه والمستأجر مشاهد له وحكى اختلافاً فيما إذا كان الأجير يعمل بحانوت نفسه لمستأجر واحد ولا يعمل لغيره ومستأجره غائب عن عمله هل يلتحق بالأجير المنفرد أو المشترك؟ فالذي صار إليه أبو إسحاق وهو مذهب البصريين: الأول؛ والذي صار إليه ابن أبي هريرة وهو مذهب البغداديين [الثاني]. قال: ويستحق الأجرة لما عمل في ملك المستأجر أي: أو بحضرته إلى أن هلكت؛ لأن العين كما ذكرنا تحت يد مالكها، فالعمل يسلم له أولاً فأولاً، ولا فرق في ذلك بين أن يوكن العمل قصارة ويقول: إنها عين أو أثر. قال: ولا يستحق لما عمل في غير ملكه أي: ولا عند غيبته إذا فرعنا على الصحيح في أن يده يد أمانة؛ لأنه لم يسلم ما عمله فشابه المبيع إذا تلف قبل القبض؛ وهذه طريقة أهل العراق، وبنى القاضي الحسين ذلك فيما إذا كانت الصنعة قصارة على أنها كالعين كما ذكرنا في باب التفليس أنه الصحيح الصنعة قصارة على أنها كالعين كما ذكرنا في باب التفليس أنه الصحيح. وقال: إذا قلنا إنها أثر استحق الأجير أجرة ما عمل. قال في البحر: وهذا لا يصح، لأن القصارة وإن كانت أثراً لابد [من] أن

تصل إلى يد صاحبه وفيه الأثر حتى تقرر الأجرة ويستقر حكم العمل فلا وجه لهذا القول وما قاله مصادرة أما إذا قلنا: إن الأجير يضمن فقد أطلق في "المهذب" استحقاق الأجرة، وهو ما حكاه الغزالي عن العراقيين؛ لأنه يقوم عليه معمولاً فيصير بما يغرمه مسلماً للعمل فيستحق الأجرة، وأطلق الماوردي القول بأنه لا يستحق. وقال القاضي الحسين: إن قلنا: إن الصنعة أثر استحق الأجرة، وإن قلنا: إنها كالعين فالمالك يغرمه قيمة ثوب غير مقصور. قال الغزالي: والصحيح عدم الاستحقاق فإنه لا ضمان، وعلى الخلاف المذكور في أن القصارة ونحوها عين أو أثر ينبني حق الحبس كما صرح به في المهذب وغيره. فإن قلنا: إنها عين كان له حق الحبس وإلا فلا. وعن أبي يعقوب الأبيوردي: أن الصنعة إن لم يكن لها أثر قائم لم يكن له الحبس قولاً واحداً، وإن كان له عين مال فيه كالصبغ ونحوه جرى الخلاف فيه. فروع: ذكرها القاضي الحسين. إذا أتلف أجنبي العين التي عمل الأجير فيها استحق الأجير الأجرة على المستأجر إن قلنا: إنها أثر ورجع صاحب الثوب على المتلف بقيمته مقصوراً، وإن قلنا: إنها كالعين انبنى ذلك على أن الأجنبي إذا أتلف المبيع قبل القبض هل ينفسخ العقد أو يثبت الخيار؟ فإن قلنا: ينفسخ انفسخت الإجارة هاهنا ورجع الأجير على المتلف بالأجرة، ورجع المالك عليه بقيمة الثوب [غير مقصور]. وإن قلنا: لا ينفسخ وثبت الخيار فهكذا الحكم في مسألتنا، فإن فسخ فالحكم كما تقدم وإن أجاز العقد غرم للأجير الأجرة ورجع على المتلف بقيمة الثوب مقصوراً، ولو أتلف صاحب الثوب الثوب تقررت عليه الأجرة. ولو أتلف الأجير الثوب انبنى على أن جناية البائع كالآفة السماوية أو كإتلاف الأجنبي، فإن جعلناها كالآفة السماوية غرم للمالك قيمة الثوب مقصوراً إن

جعلنا الصنعة أثراً واستحق الأجرة. وإن قلنا: كالعين لم يستحق الأجرة واستحق عليه قيمته غير مقصور، وإن جعلناها كجناية الأجنبي فيلزمه [قيمة العين ثم إن قلنا: القصارة أثر لزمه قيمته مقصوراً، وإن قلنا: إنها كالعين فللمالك الخيار على الأصح، وحكى في البحر عن بعض الخراسانيين أنا إذا قلنا: إنه كالآفة السماوية فلا أجرة للقصار وإن قلنا: إن القصارة أثر]. قال: وإن اختلف المستأجر، والأجير المشترك في رد العين؛ أي: مع قولنا: إنه غير ضامن فقد قيل: القول قول المستأجر، وقيل: القول قول الأجير وتوجيههما تقدم في الوكيل بجعل. أما إذا قلنا: إنه ضامن فالقول قول المستأجر قولاً واحداً كالمعير. قال: وإن باع المكري العين من المكتري جاز؛ لأنه في يده من غير حائل فهو كبيع المغصوب من الغاصب. ولأن الملك في الرقبة خالص له وعقد الإجارة إنما ورد على المنفعة، فلا يمنع من بيع الرقبة؛ كما أن تزويج الأمة لا يمنع من بيعها. وقد أشار في الوسيط إلى خلاف في صحة البيع بقوله: والظاهر الصحة وأذكره بعضهم؛ لكونه لم يجده في النهاية، بل وجد فيها نفي الخلاف في المسألة، وكذلك في أكثر الكتب المشهورة، وبعضهم قال: إنه مصرح به في المحيط، وكان يستخرجه من أصول في المذهب سأذكرها. قال: ولم تنفسخ الإجارة بل يستوفى ما بقي بحكم العقد؛ لأن الملك لا ينافيها، ولهذا يستأجر ملكه من المستأجر وهذا هو الأصح ولم يورد الماوردي هنا سواه. وعن ابن الحداد وغيره: أن الإجارة تنفسخ، [وهو محكي في الحاوي في كتاب الصلح]؛ لأنه إذا ملك الرقبة حدثت المنافع على ملكه تابعة للرقبة، إذا

كانت المنافع مملوكة له، لم يبق عقد الإجارة عليها، كما أنه لو كان مالكاً في الابتداء، لم يصح منه الاستئجار، [و] شبه بما إذا ملك أمة؛ فإنه لا يجوز أن يتزوجها، ولو تزوج أمة، ثم اشتراها، انفسخ النكاح. والقائلون بالأول قالوا: إنما ينتقل للمشتري ما كان للبائع والبائع لا يملك حين البيع المنفعة؛ فلم ينتقل إلى المشتري. [ويخالف النكاح؛ فإن السيد مالك لمنفعة بضع الأمة المزوجة؛ بدليل أنها لو وطئت بشبهة كان المهر له لا للزوج، فإذا باع انتقلت منافع البضع إلى المشتري] فاجتمع شيئان فقدم أقواهما وهو النكاح. التفريع: إن قلنا بالصحة فعليه فرعان: أحدهما: لو تلفت المنافع قبل انقضاء مدة الإجارة انفسخت الإجارة ورجع على الآجر بحصة ما بقي من المدة، وفي انفساخها في الماضي الطريقان السابقان. الثاني: لو انفسخ البيع قبل تمام المدة، كان للمستأجر أن يستوفي المنفعة إلى انقضاء المدة. وإنقلنا بمذهب ابن الحداد فعليه فرعان: أحدهما: أن المستأجر، هل يرجع على الآجر بأجرة بقية المدة أم لا؟ فيه وجان: أحدهما: لا، وبه قال ابن الحداد؛ لأن المنافع قائمة في يده، وأيضاً فإنه لو اشترى زوجته لا يسقط مهرها. [وأصحها في الرافعي: أنه يرجع؛ لأن الأجرة إنما تستقر بسلامة المنافع للمستأجر [على موجب الإجارة] ولم تسلم، ويخالف المهر؛ فإن استقراره لا يتوقف على سلامة المنفعة للزوج؛ بدليل استقراره بالموت. الثاني: العين في بقية مدة الإجارة: هل ترد إلى البائع حتى ينتفع بها في قدر المدة الباقية من مدة الإجارة أم لا؟ فيه وجهان في النهاية: أحدهما: أنها ترد إليه.

والثاني- وهو الأصح-: أنها لا ترد، والمنافع تحدث على ملك المشتري بعد انفساخ الإجارة. قال الإمام: وهذا الخلاف يناظر ما إذا باع المكري الدار من غير المكتري، وصححناه، ثم انفسخت الإجارة بعيب فالدار هل ترد للبائع، لينتفع بها في بقية المدة، أم تكون للمشتري؟ ثم هذا الخلاف جار، سواء قلنا: إن المستأجر يرجع على البائع بالأجرة أم لا، ولا تعلق لأحد الخلافين بالثاني؛ فإن سبب الخلاف في ارتداد المنافع إلى البائع تخيلنا استثناء المنافع عن استحقاق المشتري، وسبب الخلاف [في الرجوع] بالأجرة وعدمه: انتساب المشتري إلى جلب الملك وهو السبب الفاسخ، وكان شيخي يقول: إذا حكمنا بارتداد المنافع إلى البائع [في بقية المدة استرد المشتري قسطاً من الأجرة وجهاً واحداً، وإن قلنا: لا ترد المنافع إلى البائع] فهل يسترد المشتري قسطاً من الأجرة؟ فعلى وجهين وهذا ليس وراءه تحصيل. قلت: ومن القول بانفساخ الإجارة ورجوع منفعة المدة الباقية إلى الآجر البائع وعدم رجوع المشتري عليه بقسطها من الأجرة تمسك القائل بتصحيح ما أوهمه لفظ الغزالي من عدم صحة البيع؛ لكون ذلك ملازماً للبيع؛ فتصير المنفعة في بقية المدة كالمستثناة كما أشار إليه كلام أبي الطيب الذي سنذكره من بعد، والاستثناء باللفظ إذا كان مبطلاً للعقد كان الاستثناء بالشرع مثله. دليله: بيع الجارية واستثناء حملها وإذا كانت حاملاً بحر، والله أعلم. واعلم أن الخلاف المذكور في انفساخ الإجارة وعدمه يتخرج عليه مسائل:

منها: إذا أوصى لزيد برقبة دار ولعمرو منفعتها، فأجرها عمرو من زيد هل يصح؟ فيه وجهان: ومنها لو مات المستأجر ووارثه المؤجر ففي انفساخ الإجارة الوجهان. ومنها: إذا أجر داراً من أبيه ومات الأب في المدة ولا وارث له سوى المستأجر وعليه ديون مستغرقة وقلنا: إن الدين لا يمنع الإرث كما هو الجديد، أما إذا قلنا بالقديم فالإجابة باقية قولاً واحداً، وقد ادعى الروياني أن الانفساخ في هذه الصورة هو ظاهر المذهب وهو ما جزم به الماوردي وفرق بينه وبين البيع من المستأجر: بأنه بالإرث صار قائماً مقام المؤجر فلم ينفذ له عقد على نفسه وهو في البيع لا يقوم مقام البائع إلا فيما سمي بالعقد فعلى هذا قال ابن الحداد: الابن غريم يضارب بأجرة بقية المدة مع الغرماء وهذا بخلاف قوله في الشراء فمنهم من تكلف له فرقين: أحدهما: أن الانفساخ في صورة الشراء حصل باختيار المستأجر، وفي الإرث لا صنع للمستأجر؛ فلا يسقط حقه. والثاني: أن هناك الإجارة وإن انفسخت فلا تخرج المنافع من يده، وهاهنا تخرج، لأن الدار تباع في الديون وأبطل الأول بأنه لا فرق في سقوط الأجرة بين

أن يفوت [محل] المنافع بفعله أو لا؛ كما إذا انهدمت الدار المستأجرة أو هدمها فإنه يرجع بالأجرة وأبطل الثاني فإنا لا نسلم أن المنافع تبقى للمشتري ثم إذا سلمنا ذلك فبقاؤها ليس من مقتضى الإجارة بل لحدوثها على ملكه بسبب ملك الرقبة والتملك بغير جهة الإجارة لا يقتضي استقرار الأجرة. وقد حكى في البحر [عن القاضي الطبري] فرقاً آخر ومعناه: أن في مسألة البيع ما فات على المستأجر من الأجرة جبره نقص الثمن، وما فات على الآجر من الثمن بسبب كونها مستأجرة جبرته الأجرة، فلو أوجبنا في هذه الحالة الأجرة لأضررنا بالبائع وفي مسألة الإرث لم يفت على الميت شيء بسبب الإجارة حتى يجعل الأجرة جابرة له ولا حصل للمستأجر شيء حتى يجعل الأجرة في مقابلتهن فلو لم نوجب له الأجرة لأضررنا به وكان ابن الحداد يراع نفي الضرر في الصورتين. قال الروياني: وهذا فيه نرظ؛ لأنه يؤدي إلى جهالة الثمن وهي تبطل البيع، وفيما قاله نظر ومن تمام هذه المسألة أن المؤجر لو مات عن ولدين أحدهما المستأجر، وقلنا بمذهب ابن الحداد: لا تنفسخ الإجارة إلا فيما انتقل إليه بالإرث وهو النصف وله الرجوع بنصف أجرة ما انفسخ العقد فيه فيما ورثه أخوه وهذا ما حكاه الماوردي. قال الرافعي: وهو مستبعد عند الأئمة لأنه يؤدي إلى أن يرث المستأجر نصيبه بمنافعه والآجر نصيبه مسلوب المنفعة، والله أعلم. قال: وإن باع من غيره لم يصح في أحد القولين [أي: سواء أذن المستأجر أو لم يأذن كما ذكره المتولي؛ لأن] يد المستأجر مانعة من التسليم بحق فكانت أولى بمنع البيع من يد الغاصب التي تمنع منه بظلم، وهذا ما صححه الشيخ أبو علي. ويصح في الآخر، ويستوفي المستأجر ما بقي؛ [فإن لم يعلم المشتري بالإجارة ثبت له الخيار] لأن ثبوت العقد على المنفعة لا يمنع من بيع الرقبة، كالأمة المزوجة، وهذا هو الصحيح في الحاوي، وتعليق البندنيجي وغيرهما. فإن قيل: هل يمكن أن يكون مأخذ [هذا] الخلاف في أن العقد يرد على

العين أو [على] المنفعة. فإن قلنا: يرد على العين امتنع. وإن قلنا: يرد على المنفعة فلا. قلت: لا يمكن؛ لأمرين: أحدهما: أن هذا الخلاف حكاه الماوردي وغيره قولين، وما ذكرته وجهين، ولا يمكن تخريج قولين على وجهين. والثاني: أن الخلاف المذكور في أن الإجارة ترد على العين أو المنفعة مذكور بعينه كما ذكره القاضي الحسين في عقد النكاح على الزوجة، ولم يمنع صحة بيع المزوجة اتفاقاً؛ فظهر أنه لا يصلح أن يكون مأخذ الخلاف. ولكن الإمام حكى عن الأئمة أنهم بنوا هذا الخلاف على ما إذا باع داراً واستثنى سكناها سنة؛ ففي صحة البيع قولان: فإن قلنا: لا يمنع البيع عند الاستثناء؛ صح بيع الدار المكراة، وإلا فلا؛ هذه طريقة القاضي الحسين وسنذكر عن غيره خلافها. ثم إذا قلنا بصحة البيع، فوجد المستأجر عيباً بالمستأجر ففسخ الإجارة، فلمن تكون المنفعة فيما بقي من مدة الإجارة؟ فيه وجهان: اختار ابن الحداد منهما: أنها تكون للمشتري. واختار أبو زيد: أنها [تكون] للبائع؛ وهذا ما صححه في البحر. وحكي أن القاضي الطبري قال: وعلى هذا يجوز أن يبيع عيناً ويستثنى منفعتها مدة. قال ابن الصباغ والروياين: وهذا التخريج خلاف مذهب الشافعي. والفرق بينهما ذكرته في باب ما يجوز بيعه. وقد بنى المتولي الخلاف في أن منفعة المدة الباقية تعود إلى البائع والمشتري على أن الفسخ يرفع العقد من أصله أو من حينه إن قلنا بالأول، فهي للمشتري، وإلا فللبائع.

وقال: إنهما لو تقايلا وقلنا: إنها عقد، فهي للبائع، وكذا إن قلنا: إنه فسخ على الصحيح، وحكم هبة العين المستأجرة حكم بيعها، وفي رهنها طريقان حكاهما الماوردي في كتاب الصلح: أحدهما: طرد القولينك والثاني: القطع بالبطلان. فرعان: أحدهما: إذا أقر الآجر بالعين المستأجرة لغير المستأجر ففي قبول إقراره بالرقبة قولان: أحدهما: [لا؛] كما لو أقر بما باعه لغير المشتري. والثاني: نعم؛ لأنه مالك في الظاهر غير متهم في الإقرار، ويخالف إقرار البائع؛ لأنه يصادق ملك الغير؛ [وهذا هو الأظهر، والمنصوص في "عيون المسائل". قال الرافعي]: وقد ينبني الخلاف على أن المكري هل له بيع المستأجر؟ إن قلنا: نعم، صح إقراره، وإلا فهو على الخلاف في إقرار الراهن. وإذا قلنا: يقبل إقراره؛ ففي بطلان حق المستأجر من المنفعة أوجه: أظهرها: أنه لا يبطل. والثاني: يبطل؛ تبعاً للرقبة؛ كالعبد إذا أقر على نفسه بالقصاص، يقبل، ويبطل حق السيد تبعاً. والثالث: إن كان المقر به في يد المكتري؛ فلا تزال يده حتى انقضاء مدة الإجارة، وإن كان في [يد] المقر له، فلا ينزع من يده. وإذا قلنا: يبطل حق المكتري فهل له تحليف المكري؟ فيه الخلاف المذكور في أن المرتهن هل يحلف الراهن إذا أقر بالمرهون وقبلناه. الثاني: بيع الحديقة المساقى عليها في المدة يشبه بيع المستأجر. قال الرافعي: ولم أر له ذكراً، نعم في فتاوى صاحب التهذيب: أن المالك إن

باعها قبل خروج الثمرة لم يصح؛ لأن للعامل حقاً في ثمارها؛ فكأنه استثنى بعض الثمرة وإن كان بعد خروج الثمرة لم يصح البيع في الأشجار ونصيب المالك من الثمار ولا حاجة إلى شرط القطع؛ لأنها مبيعة مع الأصول ويكون العامل مع المشتري [كما كان مع البائع]. قلت: وقد ذكرت لمنع البيع قبل انتهاء مدة العمل في المساقاة وجهاً ظاهراً في باب ما يجوز بيعه فليطلب منه. قال: وإن كان أي المستأجر عبداً فأعتقه عتق؛ لأن الحيلولة لا تمنع العتق، دليله: صحة عتق المغصوب والآبق؛ ولأن الإجارة عقد على منفعة فلم يمنع العتق كالنكاح، [ولا تنفسخ الإجارة كالنكاح]. قال: ويلزم المولى للعبد أقل الأمرين من أجرته أو نفقته. أما وجوب أجرة المثل إذا كانت أقل من النفقة؛ فلأن الحرية قطعت سبب وجوب النفقة- وهو الرق- وقد فوت السيد عليه منافعه في باقي مدة الإجارة؛ فضمن بدلها، كما لو أكرهه على العمل. وأما وجوب النفقة إذا كانت أقل من أجرة المثل؛ فلأن العتق إنما يقع على ما هو مملوك للسيد، والمنفعة في حال العقد لم تكن مملوكة له، فلم ينلها العتق، وامتنع أن يرجع ببدلها، [فوجبت النفقة؛ لأنه] كالباقي على ملكه؛ بدليل أنه يملك بدل منفعته بحق الملك. وهذا الوجه على هذا النعت لم أره فيما وقفت عليه، بل المحكي في المهذب وغيره أن العبد هل يستحق على السيد أجرة المثل أم لا؟ فيه قولان: القديم: نعم، والجديد: لا، فعلى هذا هل يرجع السيد [بنفقته؟ فيه وجهان: أحدهما: أنها تجب في بيت المال. والثاني: وهو الأشبه في الرافعي والمختار في المرشد أنها تكون على السيد] استيفاء لما تقدم من حكمي الإجارة والنفقة؛ فقد حكى صاحب

التقريب وراء ذلك وجهين: أحدهما: أن الإجارة تنفسخ بالعتق. والثاني: أن العبد يثبت له الخيار بين فسخ الإجارة والبقاء عليها؛ كما ثبت للأمة إذا عتقت تحت عبد. والمذهب الأول، وهو الذي أورده الجمهور، ومنهم صاحب التهذيب، وقال: إن الحكم في أم الولد إذا أجرها سيدها، ثم مات قبل انقضاء المدة كذلك. وحكى وجهاً آخر: أن الإجارة تنفسخ بموت سيدها، وهو ما أورده [في] البحر؛ لأنه انتهى ملكه؛ فصار كما لو أوصى بمنفعة عبده لشخص مدة حياته، ثم مات، وأاجره الموصى له، ثم مات قبل انقضاء مدة الإجارة- فإنها تنفسخ في الباقي. والإمام في مثل هذه الصورة يقول: تبينا أن الإجارة لم تصح في ذلك القدر. وحكم المعلق عتقه بصفة إذا أجر ثم وجدت الصفة حكى أم الولد. فرع: إذا انفسخت إجارة المعتق بسبب من الأسباب؛ فالمنافع في المدة الباقية لمن تكون؟

قال المتولي: [إن قلنا إن للمعتق الرجوع على السيد بالأجرة عادت إلى المعتق]. وإن قلنا: لا يرجع عليه [بها] فالمنافع تكون للمعتق أو للسيد؟ فيه وجهان. فرع: إذا أجر عبده، ثم مات، فأعتقه الوارث، فالحكم كما تقدم إلا في الرجوع على المعتق؛ فإنه لا يثبت. فرع: للأب والوصي إجارة الصبي وماله كما يصح منهما بيع ماله. وحكى الإمام عن رواية صاحب التقريب وجهاً: أنه لا يجوز للأب إجارته. فعلى الأول: لا يجوز أن يجاوز بالإجارة مدة بلوغه بالسن. فلو أجره ثم بلغ في أثناء المدة، فهل تنفسخ الإجارة فيما بقي؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه متصرف المولى عليه حين كان له التصرف، فأشبه [ما لو] باع له شيئاً أو اشترى له شيئاً. والثاني: يبطل؛ لأنه عقد على منافع لا يجوز له التصرف فيها؛ لأن المولى عليه بعد بلوغه يجوز له التصرف في منافع نفسه وماله دون غيره. ومن هذه العلة يفهم أن محل الخلاف إذا بلغ رشيداً، أما لو بلغ سفيهاً؛ فلا. قال القاضي أبو الطيب بعد حكاية ما حكيته من الخلاف: ومن أصحابنا من قال: إن أجره مدة يتيقن أن يبلغ الصبي قبل مضيها؛ فإن العقد يبطل فيما يتيقن فيه البلوغ، وهل يبطل في الباقي؟ فيه قولاً تفريق الصفقة. وإن أجره مدة لا يتيقن بلوغه قبل انقضائها، لكنه بلغ بالاحتلام فإن العقد يكون صحيحاً في جميع المدة لازماً؛ كما نقول في السيد إذا أعتق العبد بعدما أجره مدة. وهذه الطريقة هي الصحيحة عند الروياني في الحلية. وحكى الرافعي طريقة أخرى فيما إذا أجره مدة يعلم بلوغه في أثنائها بالسن- أن العقد باطل في الجميع قولاً واحداً؛ كما إذا أجر الراهن المرهون مدة يحل الدين قبل انقضائها. وصححها البغوي والذي صححه الإمام والمتولي عند البلوغ بالاحتلام الانفساخ.

وصحح الروياني في الحلية وغيره عدمه. ثم إذا قلنا بعدم الانفساخ، فهل يثبت [له] الخيار؟ فيه وجهان في طريق المراوزة: أظهرهما: لا. وقد جعل الإمام الخلاف في انفساخ العقد إذا أورده على ماله مرتباً على الخلاف في انفساخه إذا ورد على نفسه، وأولى بعدم الانفساخ. والخلاف في ثبوت الخيار في هذه الحالة مرتب على الخلاف في التي قبلها، وأولى بألا يثبت، كذا حكاه في آخر الباب. ولو أجر [الولي مال المجنون، فأفاق في أثناء المدة، فهو في معنى البلوغ بالاحتلام. قال: وإن أجر] العين قبل انقضاء المدة من غير المستأجر- لم يجز. صورة المسألة: أن يؤجر داره مثلاً شهراً ثم يؤجرها من آخر الشهر الذي يليه، فلا يصح. الثاني: لأمرين: أحدهما: أنه أجر ما لا يقدر على تسليمه فشابه إجارة الآبق. والثاني: أن إمكان إيصال الشروع في الاستيفاء بالعقد لم يوجد. قال: وإن أجرها من المستأجر جاز في أظهر القولين، قال البندنيجي: وهو المنصوص؛ لأن الدار في يد المستأجر والمنفعة [تقع] متوالية في ملكه فصار القبض معجلاً؛ كما لو أجرها منه ابتداء الشهرين وقد صار إلى ترجيح هذا القول صاحب التقريب [وغيره]. والقول الثاني: إنه لا يجوز؛ كما لا يجوز أن يؤجرها من غيره، وهو الذي صححه في الوسيط. وقال الروياني [في البحر] والبندنيجي: إنه الأقيس، وأن نظير المسألة ما إذا باع الثمرة قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع، إن باعها من غير صاحب الأصل لم يجز، وإن باعها منه فوجهان، وقد احتج الغزالي لقول المنع بأن العقد الأول قد ينفسخ فلا يتحقق شرط العقد الثاني وهو الاتصال بالأول، ولناصر الأول أن يقول: الشرط رعاية الاتصال ظاهراً، وذلك لا يقدح فيه الانفساخ

العارض؛ ألا ترى أنه يجوز [السلم عندنا في المعدوم في الحال الموجود وكذا المحل وإن كان المسلم إليه قد يموت فيحل عليه الحق والمسلم فيه منقطع فلا يوجد شرط القطع، وكما يجوز أن يؤجر الشهر الثاني من المستأجر يجوز أن يؤجره من المستأجر منه ولا يجوز أن يؤجرها من المستأجر منه إذا كان المستأجر قد أجرها كما حكاه في التهذيب. وعن فتاوى القفال: أنه يجوز]؛ لأنه الذي عاقده [فيضم إلى ما استحق بالعقد الأول الشهر الثاني]. ولا يجوز أن يؤجرها من المستأجر ولو أجر داره سنة ثم باعها وجوزناه لم يكن للمشتري أن يؤجر السنة الثانية من المكتري، وترددوا في أن الوارث هل يتمكن منه إذا مات مورثه المؤجر. فرع: يجوز أن يؤجر الحيوان من آدمي وغيره شهراً [في] النهار دون الليل بخلاف غيره؛ لما في إدامة استعمال الحيوان من الإضرار به بخلاف غيره، وأوقات الصلوات من النهار مستثناة، وكذا سننها الرواتب وأوقات الطهارة ولا ينقص من الأجرة شيء، ولا فرق بين صلاة الجمعة وغيرها. وعن ابن سريج كما حكاه الرافعي في أواخر الباب: أنه يجوز له ترك الجمعة بهذا السبب والسبوت في استئجار اليهود تقع مستثناة إذا اطرد عرفهم بذلك ذكره الغزالي في فتاويه. قال: وإن انقضت مدة الإجارة وفي الأرض زرع فإن كان بتفريط من المستأجر أي بأن زرع ما يستحصد في تلك المدة أو أخر البذر جاز إجباره على قلعه وتسوية الأرض لتعديه كالغاصب، وهذا لفظه في التهذيب. قال: وجاز تركه بأجرة؛ لأن الحق للمالك فجاز تركه برضاه، قال في التتمة: ولا يجوز إجباره على القلع قبل انتهاء المدة؛ لأن منفعة الأرض في الحال ملكه وهل له منعه من زراعة ما لا يدرك في تلك المدة ابتداء؟ قال الشيخ في المهذب: يحتمل ألا يمنع زرعه كما لا يقلع إذا زرع، وما ذكرناه عن التهذيب يقتضي المنع.

قال: وإن لم يكن بتفريط منه أي: بأن يكون لتأخير المطر، أو لكثرته، أو لحر أو برد، أو لكون الجراد أكل رؤوس الزرع فنبت ثانياً وتأخر الإدراك لذلك. قال: فقد قيل: يجوز إجباره؛ لأنه مفرط بترك الاستظهار في مدة الإجارة. وقيل: لا يجوز؛ لأن هذه الموانع ليست من صنعه وهو معذور في ترك الزيادة على المدة المحتاج إليها عادة، وهذا ما قال المتولي: إنه المذهب، وجزم به القاضي الحسين؛ فعلى هذا يجب على المستأجر أجرة المثل لما زاد، وهذا كله إذا استأجر للزراعة وأطلق وجوزناه كما هو الصحيح، أما إذا عين زرعاً نظر: إن عين ما [لا] يستحصد في تلك المدة فالحكم فيما إذا زرع ما لا يستحصد فيها، أو ما يستحصد في تلك المدة كما إذا استأجر لزراعة الحنطة شهرين: فإن شرط القلع بعد مضي المدة جاز وكأنه لا [يبغي إلا الفضل] ثم لو تراضيا على الإبقاء بعد ذلك مجاناً لو تأخر فلا بأس، وإن شرط الإبقاء فسد العقد للتناقض بينه وبين التأقيت، فلو زرع لم يقلع زرعه مجاناً للإذن، بل يؤخذ منه أجرة المثل لجميع المدة، وإن أطلقا العقد ولم يتعرضا لقلع ولا إبقاء فوجهان: أحدهما: وهو ظاهر كلام الشافعي كما حكاه الماوردي وبه قال الشيخ أبو محمد: أنه فاسد؛ لأن العادة في الزرع الإبقاء فكان كما لو شرطا. وأصحهما في الرافعي وبه جزم القاضي الحسين: أن التأقيت يحضر المعقود عليه فيمنفعة تلك المدة فعلى هذا إن توافقا بعد المدة على إبقائه مجاناً أو بأجرة فذاك وإن أراد المالك إجباره على القلع فوجهان: أحدهما وبه قال أبو إسحاق: أنه يتمكن منه. [وأشبههما] ويحكى عن القفال: أنه لا يتمكن منه؛ لأن العادة في الزرع الإبقاء. وعلى هذا فأظهر الوجهين أن له أجرة المثل للزيادة. وفيه وجه لا؛ لأنه إذا أجر مدة لا يدرك فيها الزرع كان معيراً للزيادة على تلك المدة. قال أبو الفجر السرخسي: إذا قلنا لا يقلع بعد المدة [لزم تصحيح العقد فيما إذا شرط الإبقاء بعد المدة] وكأنه صرح بمقتضى الإطلاق ولو عين ما يشك

في أنه هل يستحصد في تلك المدة أم لا؛ كما إذا استأجر لزراعة البر خمسة أشهر- فإنه يجوز أن يحصد فيها في بعض البلاد وبعض السنين. قال الماوردي: حكمه حكم ما ذكرناه فيما إذا علم أنه يستحصد؛ إسقاطاً للشك واتباعاً لليقين. فرع: إذا انقضت مدة الإجارة للبناء والغراس، والبناء والغراس [قائم فالحكم] فيه كالحكم فيما لو رجع المستعير في العارية وقد ذكرناه، ومن تتمته: أنه لو شرط في الإجارة للبناء والغراس التبقية بعد المدة ففي الصحة وجهان: أرجحهما عند الإمام والبغوي: الفساد. والثاني وهو الذي أجاب به العراقيون أو معظمهم وكذا الماوردي: الصحة؛ لأن الإطلاق يقتضي الإبقاء فلا يضر شرطه ويصير مستعيراً على مذهب الشافعي؛ فلا يلزمه [الأجرة]. قال الرافعي: وبهذا يتأيد كلام السرخسي في مسألة الزرع. قال: وإن كانت الإجارة على عمل في الذمة جاز أن تعقد بلفظ السلم؛ لمساواته السلم في الثبوت في الذمة. وصورة ذلك أن يقول: أسلمت إليك هذا الدينار أو ديناراً في ذمتي في خياطة ثوب من صفته كذا وكذا، ويبين نوع الخياطة إن اختلف إلى فارسية ورومية. والفارسية بغرزة والرومية بغرزتين، أو في بناء حائط في موضع كذا طوله كذا [وعرضه كذا] وارتفاعه كذا ويصف ما يبنى به. قال: وإن عقد بلفظ السلم اعتبر فيه قبض الأجرة في المجلس؛ لأنه سلم وإن عقد بلفظ الإجارة فقد قيل: يعتبر أي القبض اعتباراً بالمعنى؛ فإن معناه معنى السلم، وهذا هو الأصح عند العراقيين، والشيخ أبي علي والبغوي. وقال في التتمة في كتاب الحج: إنه المذهب. وقيل: لا يعتبر اعتباراً بلفظه وهو ما اختاره مختارون، وهذه القاعدة مطردة في مسائل السلم بلفظ الشراء كما حكاه أبو الطيب، والشراء بلفظ السلم، والبيع بلا ثمن، والهبة بثمن، والقراض على أن الربح لأحدهما، والمباضعة على أن الربح بينهما، ولكن الأصح في بعض النظر إلى اللفظ إذا كان المعنى بعيداً، وفي

بعض النظر إلى المعنى إذا كان قريباً، وما ذكره الشيخ هو المشهور. وحكى مجلي فيما إذا عقد بلفظ السلم [أو بلفظ] الإجارة ثلاثة أوجه: أحدها: يشترط قبض الأجرة في المجلس. والثاني: لا يشترط والقائل به يقول: يتبع المعنى لا الاسم. والثالث: إن كان بلفظ السلم اشترط، وإن كان بلفظ الإجارة فلا. وعلى كل حال فلا يجوز أن تكون الأجرة في هذه الحالة مؤجلة كما صرح به في المهذب؛ كي لا يكون بيع دين بدين. وفي الحاوي: أنه إن عقد على ما في الذمة حالاً جاز أن تكون الأجرة فيه حالة ومؤجلة، وإن عقد على مؤجل كاستئجار بعير [في الذمة] يركبه إلى مكة بعد شهر من وقته لم يجز تأجيل الأجرة فيه؛ لأنها تصير ديناً بدين، وهل يلزم تعجيل قبضها قبل الافتراق أم لا؟ [فيه وجهان]: قال: ولا تستقر الأجرة في هذه الإجارة إلا بالعمل؛ لأن المعقود عليه ما في الذمة فلا يستقر بدله من غير استيفاء كالمسلم فيه. وفي الرافعي، والوسيط: أن الإجارة إذا وردت على الذمة وسلم دابة بالوصف المشروط فمضت المدة عند المكتري استقرت الأجرة لتعيين حقه بالتسليم وحصول التمكين. ويمكن أن يحمل ما قاله الشيخ على ما إذا اعتمد العقد العمل كما صورناه، وما قاله الرافعي وغيره على ما إذا اعتمد الدابة؛ كما إذا قال: آجرتك دابة في ذمتي من صفتها كذا وكذا إلى موضع كذا فسلمها، كما سنذكر مثله عن الشيخ

أبي محمد من بعد، ويدل عليه أن لفظ الغزالي إذا حبس المكري الدابة التي استأجرها استقرت عليه الأجرة، وإن لم يستعملها حتى مضت المدة في حبسه؛ سواء كانت الإجارة واردة على عين الدابة أو على الذمة. وفي التتمة: أنه إذا التزم في ذمته عملاً من الأعمال ثم سلم نفسه إليه ليستعمله. وقلنا: إن تسليم النفس في الإجارة على منفعة محصورة يحصل تسليمها أو سلم عبده ليستعمله، أو أذن لعبده حتى التزم في ذمته عملاً وسلم نفسه- هل تستقر الأجرة بمضي مدة يمكن فيها الإتيان بذلك الفعل أم لا؟ فيه وجهان: قلت: ولا بد مع ذلك من ملاحظة إجبار من له دين حال في ذمة إنسان بذله إليه لقصد براءة الذمة لا غير، أما إذا لم يجبره على قبضه فلا يتجه الاستقرار أصلاً. قال: ويجوز أن يعقد على [عمل] معجل ومؤجل [كالسلم]؛ وصورة المعجل أن تقول: أسلمت إليك في خياطة هذا الثوب حالاً [أو ألزمت ذمتك خياطة هذا الثوب حالاً أو استأجرتك على تحصيل خياطة هذا الثوب حالاً]. وصورة المؤجل: أن يقول ما ذكرناه ويذكر بدل قوله حالاً إلى شهر مثلاً. قال: وإن هلكت العين [أو غصبت أي العين] التي سلمها الآجر للمستأجر؛ ليستوفي منها ما في الذمة لم تنفسخ الإجارة بل يطالب بالبدل؛ لأن المعقود عليه ما في الذمة، وهو باق وليس للمستاجر في هذه الحالة مطالبة الغاصب بالأجرة اتفاقاً. ومن هذا يظهر أنها إذا تعيبت لا فسخ له، بل يردها ويطالب ببدلها من طريق الأولى. واعلم أن العين المسلمة عن هذه الإجارة وإن لم ينفسخ العقد بتلفها؛ فإنه يثبت فيها حق واختصاص حتى يجوز له إجارتها. ولو أراد المكري إبدالها، فهل له ذلك دون رضى المكتري؟ فيه وجهان: أصحهما عن المعظم: لا؛ لما فيها من حق المكتري. والثاني عن الشيخ أبي محمد: أنه يفرق بين أن يعتمد اللفظ الدابة بأن يقول:

أجرتك دابة في ذمتي من صفتها كذا [فلا يجوز إبدال التي] سلمها أو لا يعتمد بأن يقول: التزمت إركابك على دابة صفتها كذا، فيجوز الإبدال، وهذا ما اختاره في الوسيط ويترتب على الوجهين ما إذا أفلس المكري بعد تعيين الدابة، هل يقدم المكتري بمنفعتها؟ والأصح: [التقديم]، وهو المذكور في التهذيب. ولو أراد المكتري أن يعتاض عن حقه في إجارة الذمة، قال الرافعي: إن كان قبل أن يسلم دابة لم يجز؛ لأنه اعتياض عن مسلم فيه وإن كان بعد التسليم جاز؛ لأن الاعتياض- والحالة هذه- واقع في حق [عن عين]. وفي التتمة: أنه هل يجوز أن ينقل هذه المنفعة إلى غيره بعقد الإجارة أم لا؟ ينبني ذلك على أن تسليم الأجرة في المجلس هل هو شرط أم لا؟ فإن اعتبرناه- لم يجز- وإلا فالحكم كما ذكرناه فيما لو استأجر عين مال. قال: وإن [هرب المكري، اكترى عليه؛ لأنه حق في ذمته] تدخله النيابة فحصله الحاكم للمستحق؛ كمن أسلم في طعام إلى أجل، فهرب المسلم إليه عند حلوله – فإن الحاكم يستوفي لصاحب الحق حقه من ماله. والإكراء يكون بمال المكري إن أمكن، وإلا فيما يقترض عليه من مال بيت المال أو من المستاجر أو [من] غيره. ولا يجوز في هذه الصورة أن يفوض القاضي الأمر في الإكراء إلى المكتري كما نص عليه في البويطي؛ لأن حرصه على استيفاء حقه يمنعه من النظر للغائب. وهذا النص: شبيه بما حكيناه عن العراقيين في كتاب الرهن؛ أنهم لا يجوزون أن يكون المرتهن وكيلاً في بيع الرهن في غيبة الراهن؛ لهذا المعنى. قال: فإن تعذر ذلك؛ ثبت للمكتري الخيار بين أن يفسخ وبين أن يصبر إلى أن يجده؛ لأنه تأخر حقه؛ فثبت له الخيار؛ كما لو أسلم في شيء فتعذر. وإذا فسخ لا يقترض عليه الحاكم لوفاء الأجرة؛ لأنها دين، وبالاقتراض يجدد مثله. فرع: إذا كانت الإجارة على الحج في الذمة، ولم يحج الأجير في السنة الأولى، فهل تنفسخ الإجارة أم لا؟

قال الأصحاب: إذا أطلق العقد، كان محمولاً على السنة الأولى، منزلاً منزلة تعيينها ولو عين، فأخر الحج عنها، فهل تنفسخ الإجارة؟ فيه طريقان حكاهما الإمام: أظهرهما: أنه على قولين؛ كما في المسلم فيه إذا انقطع، وأصحهما: عدم الانفساخ. والطريق الثاني: القطع بهز فعلى هذا: إن كان الاستئجار من المغصوب، ثبت له الخيار، وكذا إن كان المستأجر للميت قد تطوع بالأجرة من ماله، فله الخيار. وإن كان الاستئجار] للميت بماله، فالذي صار إليه العراقيون: أنه لا خيار؛ لأن الأجرة لتحصيل الحج؛ فلا انتفاع باستردادها. وتوقف الإمام فيما ذكروه؛ فإن الورثة تستفيد بالفسخ صرف الأجرة إلى من هو أحرى بالتحصيل. وأيضاً فإنهم إذا استردوها، تمكنوا من إبدالها بغيرها. وأورد البغوي وغيره: أن على الوارث مراعاة النظر للميت: فإن كانت المصلحة بفسخ العقد، لخوف إفلاس الأجير أو هربه، فلم يفعله – ضمن. قال الرافعي: وهذا هو الأظهر، ويجوز أن يحمل المنسوب إلى العراقيين على أحد أمرين رأيتهما للأئمة: أحدهما: صور بعضهم المنع فيما لو كان الميت قد أوصى بأن يحج عنه إنسان بمائة- مثلاً ووجهه بأن الوصية مستحقة الصرف إلى المعين. الثاني: حكى الحناطي أن أبا إسحاق ذكر في الشرح أن للمستأجر للميت أن يرفع الأمر للحاكم ليفسخ العقد إن كانت المصلحة تقتضيه، وإن لم يستقل به فإذا نزل ما ذكروه على التأويل الأول لم يقع خلاف، وإن نزل على الثاني بان أمره. فرع: ذكره الإمام في باب الإجارة على الحج: إذا قال: ألزمت ذمتك أن تحصل لي حجة بنفسك، قال الصيدلاني: الإجارة صحيحة ومتضمنة أن يكون هو الحاج، ولا ينيب غيره مناب نفسه، وهذه الصورة من قسم إجارة الذمة. وهذ زلل عظيم، فإن ربط الشيء بمعين حتى لا يقوم غيره مقامه مع اعتقاد

التحاق ذلك بالديون- متناقض، والإجارة على الذمة قسم من أقسام السلم، والسلم في شجرة معينة باطل. انتهى. ويقرب مما ذكره الصيدلاني في البعد- وإن لم يكن في معناه- ما صار إليه القاضي الحسين فيما إذا قال: استأجرتك لكذا، أو لتفعل كذا- أن هذه إجارة ذمة، ولا تكون إجارة عين ما لم يقل: استأجرت عينك أو نفسك لكذا أو لتعمل كذا. والأظهر: أن هذه إجارة عين. قال: وإن دفع إليه ثوباً فقطعه قميصاً [ثم اختلفا]؛ فقال صاحب الثوب: أمرتك أن تقطعه قباء، فعليك الأرش، وقال الخياط: بل أمرتني بقميص فعليك الأجرة؛ تحالفا على ظاهر المذهب؛ لأنهما اختلفا في صيغة العقد مع اتفاقهما على أصله؛ فاقتضى أن يتحالفا؛ كالمتبايعين. [و] لأن كلا منهما يصير منكراً ومدعياً [عليه]؛ فالخياط يدعي الأجرة، وينفي الضمان، ورب الثوب يدعي الضمان، وينفي الأجرة. ولأنهما لو اختلفا والثوب صحيح، فقال رب الثوب: استأجرتك لتخيطه قميصاً، وقال الخياط [بل استأجرتني]: لأخيطه قباء تحالفا عليه، ولا يختلف قول الشافعي في ذلك، وإذا كان كذلك وجب إذا اختلفا بعد قطع الثوب أن يتحالفا عليه؛ لأن ما أوجب التحالف [مع بقائه أوجب التحالف] مع تغير أحواله، كذا قاله الماوردي. ومراد الشيخ بظاهر المذهب: ظاهر نصه في الجامع الكبير كما سنذكره مع نصه في الإملاء على التحالف فيما إذا سود الصباغ ثوب إنسان وقال له: هكذا أمرتني، وقال مالك الثوب: بل أمرتك بصبغه أحمر، وقد روى القاضي أبو الطيب أن الشافعي قال في اختلاف العراقيين: كان ابن أبي ليلى يقول: إن القول قول الخياط. وقال أبو حنيفة: القول قول رب الثوب، وهذا أصح القولين، وغير القاضي

يرونه أشبه القولين، وإن المزني نقل هذه المسألة إلى المختصر وجامعه الكبير وذكر هذين القولين ثم قال: قال الشافعي: وكلاهما مدخول؛ لأن الخياط يدعي الأجرة، وينفي الضمان، ورب الثوب ينفي الأجرة، ويدعي الضمان؛ فلا أقبل قولهما، وأردهما إلى أصل القياس على السنة، فيحلف كل واحد منهما لصاحبه، وأرد الثوب على صاحبه، ولا أجرة للخياط، ولا ضمان عليه. فاختلف الأصحاب من أجل هذه الروايات في هذه المسألة على خمسة طرق: أحدها: أن المسألة على قول واحد وهو ما ذكره الشيخ، وما قاله في الجامعين فهو حكاية مذهب الغير ويؤيدها قوله بعد حكاية كلامهما: وكلاهما مدخول؛ وبهذه الطريقة قال أبو علي الطبري في الإفصاح، وصاحب التقريب، والشيخ أبو حامد، ومتأخرو الأصحاب؛ كما قال الماوردي بعد أن صححها. وحكى في البحر: أن القاضي الطبري قال: إنما نقل ذلك صاحب الإفصاح من الجامع الكبير، وليس ذلك مذهب الشافعي، وإنما ذلك حكاية عن غيره. والطريق الثاني: أن المسألة على قولين: أحدهما: ما ذكرناه. والثاني: أن القول قول المالك لإعراضه عن مذهب ابن أبي ليلى، وقوله: إن مذهب أبي حنيفة أشبه. ووجهه: أنهما لو اختلفا في أصل الإذن كان القول قوله؛ فكذلك في صفته؛ كما إذا قلنا فيما إذا اختلف في صفة الإذن في الوكالة: إن القول قول الموكل، ونظائر ذلك. ولأن الخياط معترف بأنه أحدث نقصاً في الثوب، ويدعي أنه مأذون له فيه،

والأصل عدمه، وهذا ما اختاره المزني، وصححه الأكثرون، ومنهم القاضي الروياني، وقال: إن قول التحالف لا يصح؛ لأن الاختلاف واقع في الإذن لا في الأجرة والغرم، فكان القول قول الآذن. والطريق الثالث: أن المسألة على قولين لا غير: أحدهما: أن القول قول الخياط؛ لأنهما اتفقا على الإذن في القطع، والظاهر أنه لا يتجاوز المأذون. ولأن المالك يدعي عليه الغرم والأصل عدمه؛ وبهذه العلة فارقت هذه المسألة مسألة الوكالة، وقد ذكرت الفرق بينهما في باب الوكالة. والثاني: أن القول قول المالك لما ذكرناه. وما استدل به من كونهما اتفقا على القطع يبطل بما إذا دفع إليه ثوباً، وقال: هو وديعة، فقال الآخر: هبة- فإن القول قول الدافع مع اتفاقهما على القبض. وما ذكر من أن الظاهر أنه لا يتجاوز المأذون- لا يصح مع تجويز الخطأ والنسيان، مع أن العرف إنما يستعمل في إطلاق العقود لا في التنازع. دليله: أن العطار أو الدباغ لو اختلفا في شيء من آله العطر أو الدباغ؛ لم يرجح قول أحدهما. وما ذكر من كون المستاجر يدعي عليه الغرم والأصل عدمه يبطل بما لو اختلفا في [أصل] الإذن؛ وهذه طريقة ابن سريج، وأبي إسحاق، وابن أبي هريرة، والقاضي أبي حامد، كما حكاه الماوردي، وصار إليه الأكثرون؛ كما قال الرافعي، وصححها تبعاً للروياني. واحتج القائلون بأنهما قولان للشافعي بأنه قال لأحدهما: هو أشبه القولين. وفي البحر: أن القاضي أبا حامد قال: القول قول رب الثوب قولاً واحداً ولم يحك قولاً ثانياً في المسألة. الطريق الرابع: أن المسألة على ثلاثة أقوال: ظاهر المذهب: القول قول المالك. القول قول الخياط، وهذه الطريقة معزوة في شرح الجويني إلى القفال، وقد حكاها القاضي أبو الطيب والبندنيجي والشيخ في المهذب عن بعض أصحابنا،

وقال الماوردي: لعلها طريقة أبي الطيب بن سلمة وأبي حفص بن الوكيل. والطريق الخامس: حكاه أبو الفرج السرخسي في أماليه عن ابن سريج: أنه [إن جرى] بينهما عقد، فليس إلا التحالف؛ كسائر الاختلافات في بقية المعاوضات. وإن لم يجر فالخياط لا يدعي الأجرة، وإنما النزاع في الأرش، ففيه القولان المذكوران في الطريقة الثالثة. التفريع: إن قلنا بظاهر المذهب، وهو التحالف فلا تخفى كيفيته مما تقدم في البيع، والمالك هنا في رتبة البائع ثم والحكم بعد جريانه مذكور في الكتاب. قال: ولا يستحق الخياط الأجرة؛ لأن التحالف يوجب رفع العقد، فتصير كأن لا عقد، وحينئذ فلا أجرة؛ لأن العمل غير مأذون فيه. فعلى هذا: إن كان الخيط من نفس الثوب، لم ينزع وإن كان من الخياط، فله نزعه، وإن بذل له رب الثوب قيمته، لم يلزمه القبول. ولو قال: أنا أشد خيطي في طرف خيطك حتى إذا جررت خيطك دخل خيطي مكانه- لم يلزمه ذلك أيضاً. وهكذا الحكم في كل موضع قلنا: لا يستحق الأجرة. قال: وهل يلزمه أي الخياط أرش النقص؟ فيه قولان: أي منصوصان في [الإملاء]: أحدهما: يلزمه؛ لأنهما إذا تحالفا فكأن لا عقد و [لو] لم يتعاقدا وقطع لزمه الأرش، فكذلك هاهنا.

والثاني: لا يلزمه؛ لأنه نفى بيمينه ما ادعي عليه من العدوان؛ فوجب أن يعمل بموجبها كيمين صاحب الثوب في نفي الأجرة. وأيضاً: فإنه لو لم يحلف لكان لا يلزمه إلا أرش النقص، فلا بد وأن يكون ليمينه فائدة؛ وهذا ما رآه المزني في الجامع الكبير، وهو الأصح، وبه جزم الماوردي، والقاضي الحسين. ثم على الأول، فيما يغرمه من الأرش ثلاثة أقوال حكاه الماوردي: أحدها: ما بين قيمة الثوب صحيحاً ومقطوعاً قميصاً لأنه أثبت بيمينه: أنه لم يأذن في هذا القطع، وقد اختار هذا أبو إسحاق وصححه الإمام. والثاني: ما بين قيمته مقطوعاً قباء ومقطوعاً قميصاً، فيقال: كم قيمة الثوب صحيحاً؟ فإذا قيل: عشرون، قيل: وكم قيمته مقطوعاً قباء؟ فإذا قيل: خمسة عشر، قيل: وكم قيمته مقطوعاً قميصاً؟ فإذا قيل: ثلاثة عشر؛ لزمه درهمان. فلو خرجت القيمتان متساويتين، فلا شيء عليه. ووجه هذا: أن أصل القطع مأذون فيه، وإنما تعدى بالزيادة. قال الإمام: وهذان القولان محلهما إذا جرى ابتداء القطع على حسب الإذن، ثم ترتب عليه قطع يخالف الإذن، أما إذا كان القطع المنفي باليمين على وجه لا يترتب شيء منه على جنس القطع المأمور به، فيجب القطع بإيجاب إتمام الضمان. وقد حكى الشيخ أبو محمد هذين القولين وجهين، وبناهما على أصلين: أحدهما: القولان فيما إذا اكترى أرضاً ليزرعها حنطة، فزرعها ذرة- ففي قول: عليه أجرة المثل؛ نظراً إلى أن ابتداء الفعل عدوان، وفي قول: يغرم تفاوت ما بين الزرعين. والأصل الثاني: الخلاف في أن الوكيل إذا باع بالغبن الفاحش كم يغرم: هل جميع قدر الغبن أو يحط عنه ما يتغابن بمثله؛ لأنه كالمأذون فيه؟ ولم يرتض الإمام البناء على الأصل الأخير. والقول الثالث: أن ما يصلح من القميص للقباء لا يلزمه ضمانه، وما لا يصلح [له] يلزمه ما بين قيمته صحيحاً ومقطوعاً؛ وهذا ما اختاره ابن أبي هريرة وأدرجه الروياني في البحر في القول الثاني.

ثم إذا قلنا: إنه يغرم تفاوت ما بين القطعين، فهل يستحق الأجرة للقدر الذي يصلح للقباء من القطع؟ فيه وجهان عن ابن أبي هريرة: أحدهما: نعم، وبه أجاب في التهذيب، وضعفه ابن الصباغ؛ لأنه لم يقطعه للقباء، وإن قلنا: إن القول قول الخياط فلا بد من اليمين، وفي كيفيتها وجهان حكاهما الماوردي: أحدهما- وهو ما حكاه ابن الصباغ والبندنيجي والإمام-: أنه يحلف إنه ما أذن له في قطعه قباء ولقد أذن له في قطعه قميصاً. والثاني-: وهو قول الشيخ أبي حامد، وهو الذي صححه الماوردي-: أنه يحلف إنه أذن في قطعه قميصاً. ثم إذا حلف فلا أرش عليه، وهل يستحق الأجرة؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو قول ابن أبي هريرة وطائفة، والأصح في تعليق البندنيجي والبحر-: نعم؛ عملاً بتصديقه. فعلى هذا: أي أجرة يستحق؟ فيه وجهان في الحاوي وغيره: أحدهما: الأجرة التي ادعاها- عملاً بما ذكرناه. قال الإمام: وهذا الذي صرح به شيخي، وهو بعض ما ذكره الصيدلاني وغيره. والثاني: أجرة المثل، وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب، والقاضي الحسين، والبندنيجي. وفي الذخائر: أن هذا إذا كان دون ما ادعى: أنه المسمى، أما إذا كان المسىم أقل، فلا يجب سواه؛ وهو مستنبط من كلام الإمام. وعلى هذا القول: على الخياط تسليم الثوب مخيطاً؛ لأن الخيوط إن كانت لرب الثوب؛ فهو أحق بها، وإن كانت للخياط؛ فقد صارت تابعة لعمله. والأظهر في الرافعي، وبه قال أبو إسحاق وأبو علي الطبري: أنه لا يستحق الأجرة؛ لأنه في الأجرة مدع؛ فيكون القول قول المنكر، وفائدة اليمين: دفع الغرم عن نفسه. فعلى هذا: للخياط أخذ الخيط إن كان ملكه، وهو منتفع به، كما قيده الإمام، وعليه ضمان ما نقص من الثوب بأخذه؛ كما إذا صبغ ثوب الغير بصبغ من عنده، ثم نزعه.

فعلى هذا: له أن يعرض اليمين على المالك، فإن حلف انتهت الخصومة، وإن نكل فوجهان: أحدهما: تثبت له الأجرة بالنكول مع اليمين السابقة، وبه قال القاضي الحسين. والثاني: لا بد من الحلف ثانياً؛ حكاه مجلي. فإن قلنا: إن القول قول المالك مع يمينه؛ ففي كيفيتها وجهان فيالحاوي: أحدهما: أنه يحلف بالله ما أمره بقطعه قميصاً نفياً لما ادعاه الخياط، ولا يحلف لإثبات ما ادعاه من إذنه في القطع قباء، وهذا ما أبداه ابن الصباغ احتمالاً لنفسه. والثاني: أنه يحلف على النفي والإثبات، فيقول: والله ما أمرته بقطعه قميصاً ولقد أمرته بقطعه قباء. قال: وهذا غير صحيح؛ لأن ذلك إنما يكون عند التحالف وإذا حلف قال ابن الصباغ: وجب الغرم على الخياط وجهاً واحداً، والفرق بين الغرم والأجرة الواجبة بيمين الخياط: أن الأجرة إنما تجب له بثبوت الإذن في قطعه قباء، وذلك يثبت بيمينه، وفي مسألتنا الغرم وجب بالقطع، وإنما يثبت باليمين عدم الإذن في قطعه. ثم في قدر الغرم الأقوال السابقة. وحكى أبو الفرج السرخسي فيه وجهين كما في وجوب الأجرة، ولا خلاف في أن اختلاف المتعاقدين في الأجرة أو في المدة أو في قدر المنفعة بأن قال المكري: أكريتها إلى خمسة فراسخ، فقال: بل إلى عشرة، أو في قدر المستأجر بأن قال: أكريتك هذا البيت من هذه الدار، فقال: بل جميع الدار- يوجب التحالف كما في البيع، وإذا تحالفا فسخ العقد، وعلى المستأجر أجرة المثل؛ لما استوفاه. فرع: لو قال للخياط: إن كان يكفيني هذا الثوب قباء فاقطعه، فقطعه فلم يكفه- ضمن الأرش؛ لأن الإذن مشروط بشيء ولم يوجد، ولو قال: هل يكفيني قباء؟ فقال: نعم، فقال: اقطعه فقطعه- لم يضمن لأن الإذن مطلق. فرع: لو أتى الخياط لرب الثوب بثوب، فقال: هذا ثوبك، فقال: بل غيره، قال البندنيجي: القول قول الأجير. وهكذا الحكم في كل الأجراء، فإذا حلف، فقد اعترف بثوب لرب الثوب، وهو لا يدعيه. تنبيه: القباء ممدود، وجمعه: أقبية، وتقبيت القباء: لبسته.

قال الجواليقي: [قيل]: هو فارسي معرب. وقيل: عربي مشتق من القبو، وهو الضم والجمع. ولنختم الباب بفروع تتعلق به. يجوز الاستئجار لحفر الآبار مقدراً بالمدة؛ بأن يقول: تحفر لي شهراً، وبالعمل؛ بأن يذكر الطول العرض والعمق ويعين الموضع، وإذا وقع ذلك وجب على الأجير إخراج التراب المحفور، وإن انهار شيء من جوانب البئر لم يلزمه إخراجه، وإذا انتهى إلى موضع صلب أو حجارة نظر: إن كان يعمل فيه المعول وجب حفره على أظهر الوجهين، وبه قال القاضي أبو الطيب. والثاني: لا: وبه قال ابن الصباغ؛ لأنه خلاف ما اقتضته المشاهدة فيكون له فسخ العقد، وإن لم يعمل فيه المعول أو نبع الماء قبل أن ينتهي إلى القدر المشروط وتعذر الحفر انفسخ العقد في الباقي، ولا ينفسخ [فيما مضى] على أصح الطريقين فتوزع الأجرة المسماة على ما عمل وما بقي، وإذا استأجر لحفر قبر وجب بيان طوله وعمقه وموضعه وإذا وضع الميت في القبر لا يجب على الأجير رد التراب عليه. [ولو] استأجر لضرب لبن قدر بالزمان أو العمل، وإذا قدر به بين العدد والقالب وإن كان القالب معروفاً فذاك وإلا بين طوله وعرضه وسمكه، وعن القاضي أبي الطيب: الاكتفاء بمشاهدة القالب، ويجب بيان الموضع الذي يضرب فيه [اللبن]؛ لاختلافه بقرب الماء وبعده، ولا يجب عليه [بعد الضرب إقامته حتى يجف، ولو استأجر لطبخ اللبن فطبخه لم يجب عليه] إخراجه من الأتون. وإذا استأجر للرعي وجب بيان المدة وجنس الحيوان، ثم يجوز على قطيع معين ويجوز في الذمة، وحينئذ فأظهر الوجهين في المهذب: أنه يجب بيان العدد. والثاني- وبه أجاب ابن الصباغ والقاضي الروياني-: أنه لا يجب ويحمل على ما جرت العادة بأن يرعاه الواحد. قال الروياني: وهو مائة رأس من الغنم على التقريب، فإن توالدت قال ابن الصباغ: لا يلزمه رعى أولادها إن ورد العقد

على أعيانها، وإن كان على الذمة وجب. وإذا استأجر الوراق للكتابة جاز وعلى من يكون الحبر؟ فيه ثلاثة طرق أشبهها: أن الرجوع فيه إلى العادة فإن اضطربت وجب البيان وإلا فيبطل، وأشهرها: القطع بأنه لا يجب على الوراق؛ لأن الأعيان لا تستحق بالإجارة. والثالث: أنه على الخلاف في أن اللبن يتبع في الاستئجار [على الحضانة] أم لا؟ فإن أوجبناه على الوراق فهو كاللبن في حق الرضاع لا يجب تقديره، ولو صرح باشتراطه عليه كان كما لو صرح بالرضاع والحضانة، وإن لم يوجبه عليه فشرط عليه فسد العقد وإن لم يكن معلوماً، وإن كان معلوماً ففيه طريقان: أحدهما: القطع بالصحة؛ لأن المقصود الكتابة والحبر تبع. والثاني: أنه شراء أو استئجار. وإذا استأجر الخياط والصباغ وملقح النخل والكحال فالقول في الخيط والصبغ وطلع الفحال والكحل كما ذكرنا في الحبر. وقال في البحر: إن الكحل إذا شرط أن يكون على الكحال فسد العقد. وفيه وجه وفرق الإمام وشيخه بين الخيط والحبر والصبغ، [فقطعا في الخيط بأنه لا يجب على الخياط، وعلى ذلك جرى الغزالي وأورد في الحبر والصبغ] الطريق الثاني والثالث من الطرق الثلاثة التي أوردناها. ويجوز الاستئجار للخروج إلى بلد السلطان ليتظلم للمستأجر، ويعرض حاله في المظالم، ويسعى في أمره عند من يحتاج، مع التقيد بالمدة، وإن كان في ذلك نوع جهالة كما لو استأجره يوماً ليخاصم عنه غرماءه، ولو بدا للمستأجر فله أن يستعمله فيما ضرره مثل ذلك. وإذا استأجر للخبز وجب بيان الأقراص وغلظها ورقها، وأنه يخبز في تنور [أو فرن] وآلات الخبز على الأجير إن كانت الإجارة في الذمة، وإلا فعلى المستأجر، وليس على الأجير إلا تسليمه نفسه، والقول فيمن عليه الحطب كما في الحبر في الوراق. وإذا اكترى دابة [ليحمل عليها [كذا منا] ويركبها فحمل عليها

وركب] وأخذ في السير فأراد المكري أن يعلق عليها مخلاة أو سفرة إما من قدام القتب أو من خلفه أو أن يردفه رديفاً- كان للمستأجر منعه. وإذا استأجر من يكتب له صكاً على هذا البياض فكتبه خطأ قال في الفتاوى: عليه نقصان الكاغد، وكذا لو أمره أن يكتب بالعربية فكتب بالعجمية أو بالعكس. ولو اكترى دابة ليحمل عليها حطباً من موضع كذا إلى دارة يوماً إلى الليل فركبها في عوده فعطبت- ضمن؛ لأنه استأجرها للحمل لا للركوب، وقيل: لا يضمن للعرف، ولو اكترى دابة شهراً ليقضي عليها الحقوق، ويشيع عليها الموتى قاله في البحر: لا يجوز. وكذا لو استأجر شيئاً في أول النهار؛ ليرده بالعشي لم يجز؛ لأنه لا يعرف، وفيه وجه آخر: أنه يجوز ويرده بعد الزوال. قال القاضي الحسين: وإذا اكترى دابة ليركبها إلى موضع كذا ويشتري الحنطة هناك ويحملها عليها إلى بلد العقد- لم يجز؛ لأن شراء الحنطة لا يتفق في الحال فربما يتراخى إلى يوم أو يومين؛ فيجهل المدة. وفي الرافعي: أنه إذا اكترى دابة إلى بلد ليعود عليها راكباً فله أن يجاوز ذلك البلد؛ لأنه يستحق أن يقطع قدر تلك المسافة ذهاباً وإياباً، ثم إن قدر في هذه الإجارة مدة مقامه في المقصد فذاك، وإلا فإن لم يزد على مدة المسافرين انتفع بها في الإياب، وإن زاد حسبت عليه الزيادة. والذي ذكره الإمام: أن العادة إن كانت فيمن انتهى إلى ذلك البلد لا يرجع على فوره بل يبيت ثم يصبح، فإذا بات لا يحسب عليه وقت المبيت من المدة وإن كانت العادة [به] جارية بأن ينقلب على فوره، فإن أقام على خلاف المعهود حسب ذلك عليه من مدة إيابه، ولو اضطربت العادة فالأصح حمل مطلق العقد على الانقلاب على البدار، ومن أصحابنا من زعم أنه متى لم يبين بطل العقد، ولو خرج بالدابة في وقت الأمن ثم حدث خوف في الطريق، فإن سار فيه وضاعت الدابة ضمن، وإن [مكث] في ذلك المكان؛ احتياطاً للدابة قال الإمام:

كان في حكم المودع المؤتمن في تلك المدة؛ يعني: لا تحسب عليه، وإن استأجر وفي الطريق خوف ثم رجع وذلك الخوف قائم فماتت الدابة فلا ضمان عليه؛ لأن الحرص في العقد جرى مع العلم بالخوف القائم فيضمن الرضا [به]. ولو استأجر طاحونتين متقابلتين [ثم نقص] الماء وبقي ما يدير به إحداهما ولم يفسخ- قال العبادي: يلزمه أجرة أكثرهما ولو دفع غزلاً إلى نساج واستأجره لينسجه ثوباً طوله عشرة في عرض معلوم فجاء بالثوب وطوله أحد عشر لا يستحق شيئاً من الأجرة. قال المتولي: لأنه في آخر الطاقة الأولى من الغزل صار مخالفاً لأمره، فإذا بلغ طولها عشرة كان من حقه أن يعطفها ليعود إلى الموضع الذي بدأ منه، فإذا لم يفعل وقع ذلك وما بعده في غير الموضع المأمور، وإن جاء به وطوله تسعة فإن كان طول السدى عشرة استحق من الأجرة بقدره، لأنه لو أراد أن ينسج عشرة لتمكن منه، وإن كان طوله تسعة لم يستحق شيئاً لمخالفته في الطاقة الأولى فلو كان الغزل المدفوع إليه مسدَّى واستأجره كما ذكرناه، ودفع إليه من اللحمة ما يحتاج إليه، فجاء به أطول في العرض المشروط- لم يستحق للزيادة شيئاً، وإن جاء به أقصر في العرض فإن كان أنقص نظر. إن كان ذلك لمجاوزته القدر المشروط [من الصفاقة لم يستحق شيئاً من الأجرة؛ لأنه مفرط؛ لمخالفته أمره، وإن راعى المشروط] في صفة الثوب رقة وصفاقة فله الأجرة؛ لأن الخلل والحالة هذه من السدى، وإن كان أزيد فإن أخل بالصفاقة لم يستحق شيئاً [من الأجرة] وإلا استحق الأجرة بتمامها؛ لأنه زاده خيراً [إذا راعى الصفات المشروطة]، كذا قال المتولي هذا الفرع بجملته، والله أعلم.

باب الجعالة

باب الجعالة الجعالة: بكسر الميم عن الجوهري، وبفتح الجيم عن الأزهري، والجعل بضم الجيم: ما يجعل للإنسان على عمل يحصله. والأصل في مشروعيتها من الكتاب قوله تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: 72]، وكان حمل البعير عندهم معلوماً كالوسق، وشرع من قبلنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه كان شرعاً. ومن السنة: ما روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري: أن رهطاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقوا في سفرة سافروها، فنزلوا بحي من العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم. قال: فلدغ سيد ذلك الحي؛ فسعوا له بكل شيء لا ينفعه [شيء]، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا بكم؛ لعل أن يكون عند بعضهم شيء ينفع صاحبكم! فقال بعضهم: إن سيدنا لدغ فهل عند أحد منكم؟ يعني: رقية، فقال رجل من القوم: إني لأرقي، ولكن استضفناكم فأبيتم أن تضيفونا، ما أنا براقٍ حتى تجعلوا لي جعلاً، فجعلوا له قطيعاً من الشاء، فأتاه فقرأ عليه بأم الكتاب، وتفل حتى برأ كما أنشط من عقال؛ فأوفاهم جعله الذي صالحوه عليه، فقال: اقتسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنستأمره؛ فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مِنْ أَيْنَ عَلِمْتُمْ أَنَّهَا رُقْيَةُ؟! " أَحْسَنْتُمْ، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ" وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه. ولأن الحاجة قد تدعو إلى ذلك في رد ضالة وآبق؛ فجاز كالمضاربة.

قال: وهو أن يجعل، أي: المطلق التصرف، لمن عمل له عملاً، أي: يجوز بذل الأجرة في مقابلته على الجملة عوضاً، فيقول: من بنى لي حائطاً، أو: رد لي آبقاً- فله كذا؛ فإذا عمل [له] ذلك، أي: من سمع ذلك منه أو من غيره – كما ذكره القاضي الحسين- استحق الجعل؛ لما ذكرناه مع قوله- عليه السلام-: "الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ". ثم إن كان الجعل في الذمة فقد استقر، وإن كان معيناً وجب تسليمه؛ فلو تلف قبل إقباضه نظر: إن تلف قبل المطالبة كان فيما يرجع به قولان: أحدهما: قيمته. والثاني: أجرة المثل. وهما مبنيان على أنه مضمون ضمان يدٍ، أو ضمان عقد؛ كالقولين في الصداق. قال الإمام عند الكلام في مسألة العلج: ووجه المشابهة: أن المنفعة في الجعالة فائتة بعد تسليم العمل على وجه يستحيل تداركها؛ كما أن البضع بعد الوطء في حكم الفائت. وإن كان بعد الطلب، وامتنع من إقباضه متعدياً: فإن قلنا: إنه مضمون بالعقد، فقد قال القاضي الحسين: تلفه بعد الامتناع بمثابة إتلاف الجاعل نفسه؛ فيكون بمثابة ما لو أتلف البائع المبيع قبل القبض، وفيه قولان. أما إذا عمل من لم يسمع قول المالك ومن يقوم مقامه فهو كما لو عمل قبل الإذن، وأبدى الشيخ أبو محمد تردداً فيما إذا رده من لم يسمع؛ طمعاً في حصول أجرة. تنبيهات: أحدها: تمثيل الشيخ ببناء الحائط يدل على أن الجعالة تجوز حيث تجوز الإجارة، كما إذا قال: من رد عبدي الآبق من البصرة، أو: خاط لي هذا الثوب، ونحو ذلك. وتمثيله برد الآبق يدلع لى جوازها فيما لم تجز الإجارة فيه، للجهالة [فيه]. وعلى المثال الأول ينطبق ما حكاه المزني عن الشافعي في "المنثور" أنه قال: [لو قال]: أول من يحج عني فله دينار، فحج عنه إنسان استحق الدينار،

ولكن المزني قال بعد ذلك: وكان ينبغي أن يستحق أجرة المثل؛ لأنه إجارة فلا يصح بغير تعيين. وهذا منه يدل على اعتقاده [اختصاص] الجعالة بالمجهول الذي لا يتقدر بحيث تجوز الإجارة عليه؛ كما في المضاربة، والأكثرون على ما حكاه الشيخ، ونسبوا المزني إلى الغلط. وقد أبدى الغزالي في هذا الباب مذهب المزني احتمالاً، وحكاه الإمام عن بعض الأصحاب فقال: إنه الأصح. وإليه أشار في "الوسيط" في كتاب الحج، بقوله بعد حكاية ما نقله المزني عن الشافعي: وأشار بعض الأصحاب إلى تزييفه. فعلى هذا: لو عمل العامل ما وقع العقد عليه من بناء وخياطة وحج ونحو ذلك، استحق أجرة المثل؛ لوجود الإذن، وفيه وجه: أنه يفسد؛ لأنه ليس موجهاً نحو معين؛ [كما لو قال: وكلت كل من أراد بيع داري؛ فإنه لا يصح التوكيل]. الثاني: قول الشيخ: وهو أن يجعل لمن عمل له عملاً .. إلى آخره، فيه: [كما] لو قال: من رد عبد فلان الآبق فله [علي] كذا، فرده إنسان- لا يستحق عليه المسمى. وقد يستدل له بأن العمل لم يقع له؛ فلم يصح كالإجارة، ويؤيده: أنه لا يجوز لأحد بهذا القول وضع يده على الآبق؛ فكيف يستحق الأجرة؟ ولم أر هذا منقولاً، بل المجزوم به في "الرافعي" و"الحاوي": أنه يستحق عليه؛ لالتزامه، وليس كما [إذا] التزم [الثمن] في بيع غيره، والثواب على هبة غيره؛ لأنه عوض تمليك فلا يتصور رجوعه به على غير من حصل له الملك، والجعل ليس عوض تمليك، وهذا نازع إلى أن العوض في يد الجاعل مضمون ضمان يد، وقد ذكرنا على قول أنه مضمون ضمان عقد؛ فيتأيد به ما يفهم من كلام الشيخ، ويقوم مقام قول المالك: من رد عبدي فله كذا؛ قول غيره بإذنه: قال فلان: من رد عبدي فله كذا؛ إذا كان القائل ممن يعتمد على قوله، ويستحق على الإذن الجعل دون القائل. ولو قال ذلك بغير إذن فلا جعل على واحد منهما، وكذا لو قال من لا يعتمد على قوله. ويقوم مقام، قوله: من رد عبدي فله كذا، قوله: إن رده إنسان، أو: إن رددت فلك كذا، أو: رده ولك كذا.

الثالث: قول الشيخ: فإذا عمل له ذلك استحق [عليه] الجعل، يعرفك أن القبول باللفظ لا يعتبر وهو كذلك فيما صوره الشيخ اتفاقاً، وكذا [فيما] لو كان الخطاب مع معين بأن قال: إن رددت عبدي فلك كذا؛ على المذب، ويكفي الإتيان بالعمل. وقال الإمام في هذه الحالة: لا يمتنع أن يخرج على الخلاف في اشتراط القبول في الوكالة، ولا يمتنع مع ما ذكرناه الفرق: من جهة أن الوكالة لا تحتمل إبهام الوكيل المستعمل، والجعالة تحتمله؛ فإنه لو قال: أذنت لكل من أراد في بيع عبدي هذا، لم يصح التوكيل، ولو قال: من رد عبدي، صح، وذكر مجلي ما أبداه الإمام وجهاً في اعتبار القبول، وحكاه الإمام في باب المسابقة عن الأصحاب. فرع: لو قال: من رد عبدي الآبق من البصرة في الشهر فله كذا، قال القاضي في "المجرد": فلا يجوز؛ لأنه يكثر بذلك الغرر وعلى ذلك جرى المتولي. قال: ويجوز [أن يعقد] على عمل مجهول، أي: لا يمكن ضبطه كرد الآبق والضال ونحوه؛ للآية والخبر، ولأن الجهالة إذا احتملت في القراض؛ توصلاً إلى تحصيل الأرباح من غير اضطرار، فلأن تحتمل في الجعالة أولى؛ ولذلك تغتفر جهالة العامل وتعدده؛ لأن المعين والواحد قد لا يتمكن من تحصيل المقصود، ومن يتمكن منه قد لا يكون حاضراً، وإن كان حاضراً فقد لا يعرفه المالك، فإذا أطلق الاشتراط وشاع ذلك [بلغ] من يتمكن منه، [وأدى] إلى تحصيل الغرض؛ فاقتضت مصلحة العقد احتماله. وكذا تجوز جهالة المردود بأن يقول: من رد أحد عبدي الآبقين فله كذا، وإذا رد أحدهما استحق، وإن كان أقل قيمة، كما صرح به القاضي [الحسين]. أما العمل المجهول الذي يسهل ضبطه فلا بد فيه من الضبط، فإذا قال: من يبني لي حائطاً، فلا بد من ذكر البناء، وطول الحائط، وسمكه وارتفاعه، وما ينبى به. وكذا إذا قال: من خاط لي ثوباً، فلا بد من وصفه ووصف الخياطة. قال: ولا يجوز إلا بعوض معلوم؛ لأن هذا العقد جوز للحاجة، ولا حاجة إلى احتمال

الجهالة في العوض، وأيضاً: فإنه لا يكاد يرغب أحد في العمل إذا لم يعلم بالجعل؛ فلا يحصل مقصود العقد. قال ابن الصباغ: ولأنه يكون لازماً بوجود العمل فوجب كونه معلوماً، بخلاف العمل؛ فإنه لا يكون لازماً، فإن شرط جعلاً مجهولاً بأن قال: من رد آبقي فله ثوب أو دابة، أو: إن رددت فعليَّ أن أرضيك وأن أعطيك شيئاً، فرده- استحق أجرة المثل، وكذا لو جعل الجعل خمراً أو خنزيراً، ولو جعل الجعل سلب العبد أو ثيابه، قال المتولي: إن كان ذلك معلوماً أو وصفه بما يفيد العلم؛ فللراد المشروط، وإلا فله أجرة المثل. قلت: وما أطلقه في حالة الوصف جواب على أن استقصاء الأوصاف على وجه يفيد الإحاطة بجميع المقاصد يقوم مقام الرؤية، وفيه خلاف في الجديد: فإن منعناه كان كالأجرة الغائبة، ولو جعل الجعل نصف العبد أو ربعه، فالجواب في "التتمة": الصحة، وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسي: المنع، قال الرافعي: وهو قريب من استئجار المرضعة بجزء من الرضيع بعد الفطام. قلت: ليس كذلك، فإن الأجرة إذا كانت معينة ملكت بالعقد، وإذا جعلت جزءاً من الرضيع بعد الفطام اقتضى عدم الملك في الحال، أو حصوله مؤجلاً والأول مخالف لوضع العقد، وكذا الثاني؛ فإن الأعيان المعينة لا تقبل التأجيل، وهاهنا الملك إنما يحصل بعد تمام العمل؛ فلا مخالفة لمقتضى العقد، ولا عمل يقع في مشترك؛ فلا وجه إلا الصحة إذا كان موضع العبد معروفاً، والعبد مرئياً، وإن لم يكن موضعه معروفاً، فيظهر أن يكون موضع الخلاف، وتكون مادته: أن الاعتبار في هذا العقد بحاله أو بحالة الرد، كما ذكرناه فيما لو تغير النقد. ولو جعل الجعل ثوباً مغصوباً فقد أبدى الإمام فيه احتمالين: أحدهما: تخريجه على القولين فيما إذا جعل المغصوب صداقاً، حتى يرجع في قول إلى قيمة ما يقابل الجعل وهو أجرة المثل وفي قول: إلى قيمة المسمى. والثاني: القطع بأجرة المثل؛ لأن العوض ركن في هذه المعاملة، بخلاف الصداق. قال: ويجوز لهما الفسخ قبل العمل؛ لأنها شبيهة بالوصية من حيث إنها

تعليق استحقاق بشرط، والرجوع عن الوصية جائز؛ فكذلك هاهنا: ووجهه الإمام بأن انتهاءها غير معلوم، وما كان كذلك فثبوته على اللزوم بعيد كالقراض، بخلاف المساقاة والإجارة؛ فإن المقصود منهما مضبوط. وهذا ظاهر فيما إذا كان العمل مجهولاً، أما إذا كان معلوماً كبناء حائط، وخياطة ثوب، فلا. فرع: إذا رجع الجاعل مع علم المجعول له، ثم عمل- لا يستحق شيئاً. ولو رجع ولم يعلم به العامل إلا بعد العمل، فسيأتي حكمه. قال: وأما بعد الشروع في العمل فيجوز للعامل الرجوع فيه. أي: ولا يستحق لما عمل شيئاً؛ لأنه أسقط حظ نفسه ولا فرق [في ذلك] بين أن يكون قد قطع بعض المسافة أو عمل بعض العمل ووقع مسلماً؛ كما إذا شرط الجعل في مقابلة تعليم القرآن لصغير حر، فعلمه بعضه أو غير مسلم. نعم، لو شرط الجعل في مقابلة التعليم كما ذكرنا، فمات الصبي قبل تمام التعليم- استحق أجرة المثل، وكذا لو جعل على خياطة ثوب، فخاط بعضه، ثم تلف في يد المالك، أو في مقابلة بناء حائط، فبنى بعضه، ثم تعذر إتمامه كما قاله القاضي أبو الطيب ولو تلف [الثوب] قبل أن يصل إلى المالك، لم يستحق شيئاً كما صرح به ابن الصباغ. وكذا قال الإمام في كتاب الخلع فيما إذا جعل له جعلاً في مقابلة رد ثلاثة أعبد، فرد واحداً: إنه يستحق حصته. ولم يتعرض لقدرته على رد الباقي، ولا لعجزه عنه. وظاهر كلامه يقتضي الاستحقاق، وإن لم يتعذر فإنه جعل ذلك أصلاً لاستحقاق الزوج الحصة فيما إذا قالت: طلقني ثلاثاً على ألف. فطلق واحدة. ولو كان شرط استحقاقه الحصة العجز عن رد الباقين، لم يجز جعل ذلك أصلاً لمسألة الطلاق. ولا خلاف في أنه إذا هرب العبد في أثناء الطريق، أو بعد حضوره إلى باب دار مالكه، وقبل تسليمه إلى السيد أو من يقوم مقامه: أنه لا يستحق شيئاً من الجعل؛ لأنه لم يحصل شيئاً من المقصود.

فإن قيل: لو استأجر للحج عنه، فمات الأجير بعد ما فعل بعض الحج، استحق بقدر ما عمل على رأي، وإن لم يحصل شيئاً من المقصود. فالجواب عنه- كما ذكره الأصحاب- من ثلاثة أوجه: أحدها: أن القصد بالحج الثواب، وقد حصل للمستأجر بما فعله الأجير ثواب، وهاهنا شرطه الرد، وما رد. الثاني- وبه أجاب الشيخ أبو حامد-: أن الحج عقد لازم، بخلاف الجعالة. والثالث- قاله ابن الصباغ-: أن العمل في الحج يقع مسلماً؛ لأنه لا يمكن تسليمه إلا جزءاً بجزء؛ فلهذا وجب بعض الأجرة كما لو استأجره لخياطة ثوب، فخاطه في ملكه. وفي مسألتنا التسليم برد الآبق، فإذا لم يرده لم يستحق شيئاً، كما لو استأجره لقصارة ثوب، فقصر بعضه وتلف قبل تسليمه. وضعف الأول: بأن القصد بالحج إسقاط الفرض ولم يحصل منه شيء، والثاني: بأنه منتقض بالإجارة على خياطة ثوب؛ فإنه إذا خاط بعضه وتلف قبل التسليم، لا يستحق شيئاً من الأجرة مع أن العقد لازم. قلت: وما قاله منتقض- أيضاً- بما حكاه من أن الجعل لو كان في مقابلة تعليم صغير حر شيئاً من القرآن، فعلمه بعضه، ثم فسخ العقد- لا يستحق شيئاً من الجعل مع أن علمه وقع مسلماً. فرع: إذا مات العامل المعين في رد الآبق في بعض الطريق، فإن رده وارثه إلى يد مالكه استحق من الجعل المعين بقسط عمل مورثه؛ لأن عمله لم يفت، ولا يستحق الوارث غيره، وإن لم يرده الوارث فالصحيح: أنه لا شيء بسبب عمل الميت. وقال بعض أصحابنا: يستحق الوارث من الجعل المسمى بقدر ما عمله الميت؛ لأن تتمة العمل لم تفت باختياره، بخلاف الحي إذا ترك. قال الماوردي: وهذا ليس بصحيح؛ فإن العبد لو مات لم يستحق العامل شيئاً. قال: ولا يجوز لصاحب العمل إلا بعد أن يضمن للعامل أجرة ما عمل. وهكذا لفظ القاضي الحسين وكثيرين؛ لأنه استهلك منفعته بشرط العوض فلزمه أجرته؛ كما لو فسخ المضاربة بعد الشروع في العمل. ولفظ القاضي أبي الطيب في "تعليقه" وكذلك البندنيجي: لم يجز إلا أن يدفع إليه أجرة المثل في مقابلة ما

عمله. وكأنهما أرادا بالدفع ما قاله الأولون؛ كما في قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]، فإن المراد بالعطاء الإلزام لا نفس الدفع. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجه [آخر]: أنه لا يستحق شيئاً؛ لأن عقد الجعالة جائز، وإنما يلزم الجعل فيه بعد الفراغ. وفي "الوسيط" في كتاب السبق والرمي وجه: أنه لا ينفذ فسخه إذا كان ما يخص عمل العامل من المسمى يزيد على أجرة المثل، ووجه: أن الجاعل لو أضاف إلى ما شرط الجعل في مقابلته عملاً آخر- لا يجاب إليه، وفي وجه: يجاب ويثبت للعامل الخيار؛ فإن فسخ استحق [أجرة] المثل، بخلاف ما لو فسخ بلا سبب، ولا فرق على المذهب بين أن يكون ما صدر من العامل قطع بعض المسافة في الطلب، أو عمل بعض العمل في الحائط والثوب، كما صرح به ابن الصباغ وغيره. قال الرافعي: وكما تنفسخ الجعالة بالفسخ تنفسخ بالموت، ولا شيء للعامل بما يعمل بعد موت المالك، ولو قطع بعض المسافة، ثم مات المالك، فرده إلى وارثه- استحق من المسمى بقدر ما عمل في حياته. كذا ذكره أبو الفرج السرخسي، وهو موافق لما حكيناه من قبل عن "الحاوي"، لكن فيه في هذه المسألة: أنه يستحق تمام المسمى. فرع: لو فسخ المالك العقد في غيبة العامل بعد الشروع في العمل، ولم يعلم المجعول له به، ثم تمم العمل. قال المتولي: ذلك ينبني على القولين في عزل الوكيل قبل العلم. وقال الإمام: لا يبعد تخريجه على ذلك، والظاهر: أن الجعالة تنفسخ في

مسألتنا؛ فإن مقتضاها الجواز وقبول الجهالة، وفي "الحاوي" أنه إذا قال: من جاء بعبدي فله دينار، ثم رجع – فعليه إعلان الرجوع كما أعلن البذل، فإن أسره ولم يعلنه، كان الناس فيه على حكم الإذن: فمن جاء به فله الدينار، وإن أعلنه فلا شيء لمن جاء به بعد الإعلان؛ سواء علم برجوعه أو لم يعلم إذا كان قد شرع في المجيء بعد الرجوع؛ لأن إعلان كل الناس برجوعه متعذر؛ فلم يلزمه في الرجوع أكثر من الإعلان والإشاعة. ولو كان الجائي به شرع في حمله؛ فله الدينار ما لم يعلم بالرجوع، فأما إذا قال: يا زيد، إن جئتني بعبدي فلك دينار، ثم رجع السيد- فعليه إعلام زيد برجوعه ما لم يشرع في حمله؛ فإن لم يعلم فهو على حقه، سواء أعلن بالرجوع أم لا؛ لأن إعلام زيد بالرجوع غير متعذر، فلو شرع زيد في حمله، ثم أعلمه بالرجوع استحق زيد بقدر ما عمل. قال: وإن اشترك جماعة في العمل اشتركوا في الجعل؛ لاشتراكهم في سبب الاستحقاق، ويقسم الجعل بينهم بالسوية وإن امتازوا في الأجرة؛ لأن العمل في أصله مجهول فلا يمكن رعاية مقداره في القسط. قال الإمام: وليس يبعد عن قاعدة المذهب التوزيع على أقدار أجور أمثالهم؛ فإن الأجرة إنما تدفع إليهم عند إتمام العمل، وإذا تم فقد انضبط ما صدر من كل منهم. فرع: لو قال لواحد: إن رددت عبدي فلك دينار، فرده غيره معه- نظر: إن قصد مساعدة العامل، استحق العامل تمام الدينار، وإلا فالذي يستحقه النصف. ولو رده غيره لم يستحق إلا إذا كان عبده، كما ذكره القاضي [الحسين]. وقال الرافعي: إذا رده غيره بإذنه يتجه أن يتخرج على أن الوكيل هل يوكل. ولو قال لواحد: إن رددت عبدي فلك دينار، ولآخر: إن رددته فلك ديناران، ولآخر: إن

رددته فلك ثلاثة دنانير، فردوه- استحق كل منهم ثلث ما شرطه له لو رده بجملته، هكذا نص عليه الشافعي، قال المسعودي: وهذا إن عمل كل واحد منهم لنفسه، أما إذا قال أحدهم: أعنت صاحبي وعملت لهما، فلا شيء له، ولكل [واحد] منهما نصف ما شرط له. ولو قال اثنان: عملنا لصاحبنا، فلا شيء لهما، وله جميع ما شرط له. قال: ومن عمل لغيره شيئاً من ذلك من غير شرط لم يستحق عليه الأجرة؛ أي: سواء كان ممن جرت عادته بفعل ذلك بأجرة أم لا؛ لأنه بذل المنفعة من غير عوض فلم يستحقه. وهذا إذا عمله بغير الإذن، أو لم يسمع الإذن. وهل يصير ضامناً للعبد الآبق بوضع يده عليه؟ قال الإمام: فيه الوجهان المذكوران في أخذ المال من الغاصب على قصد الرد إلى المالك، والصحيح منهما- على ما حكاه الرافعي عن كتاب [الفوراني في كتاب] اللقطة: الضمان. أما إذا أذن له في العمل ولم يذكر له جعلاً، فهو على الخلاف الآتي في مسألة الغسال، صرح به الماوردي [وغيره]. قال: وإن قال العامل: شرطت لي عوضاً، فالقول قول المعمول له؛ لأن الأصل عدم الشرط وبراءة الذمة. وكذا لو اختلفا في أن الجعل مشروط في رد هذا العبد أو غيره، أو [أن العامل عاد] بنفسه أو برد العامل- كان القول قول المالك، ولو اختلفا: هل سمع الراد النداء أم لا؟ فالقول قول الراد؛ قال الماوردي: لأن علمه بالشيء يرجع فيه إليه دون غيره. قال: وإن اختلفا في قدره تحالفا؛ لأنهما اختلفا في قدر العوض المستحق فتحالفا؛ كما لو اختلفا في الأجرة في الإجارة، وتجب أجرة المثل. قال: وإن أمر غسالاً بغسل ثوب ولم يسم له شيئاً، فغسله- لم يستحق الأجرة؛ لأن أقصى درجات المنفاع أن تكون كالأعيان. ولو تقدم إلى خباز فقال: أطعمني من هذا الخبز، فأطعمه- لم يجب عليه ثمنه؛ فالأجرة من طريق الأولى، ولأنه لو قال: أسكني دارك شهراً، فأسكنه- لم يستحق عليه أجرة؛ فكذلك إذا

قال: اغسل ثوبي، فغسله. وهذا ما نسبه الأكثرون إلى ابن سريج، وقال الإمام: إنه المنصوص، وعليه عامة الأصحاب. وقيل: يستحق، أي: أجرة المثل لأن رب الثوب صار مستهلكاً لعمله في ملكه؛ فصار كالغاصب، وهذا قول المزني على ما حكاه الماوردي، وقال القاضي أبو الطيب: إنه نقله عن "الجامع الكبير"، والإمام حكاه عن بعض الأصحاب، وقال إن المزني اختاره. ووراء ذلك وجهان: أحدهما- وبه قال أبو إسحاق المروزي-: إن كان رب الثوب سأل الغسال مبتدئاً، فقال: اغسل ثوبي هذا- فله الأجرة. وإن كان الغسال طلبه مبتدئاً من ربه، فقال: أعطني ثوبك لأغسله- فلا أجرة [له]. والثاني- وبه قال ابن سريج كما حكاه الماوردي، والشيخ في "المهذب"، وصاحب "التهذيب"-: إن كان الغسال معروفاً بأنه يغسل بأجرة فله الأجرة، وإلا فلا [أجرة له]. وهذا ما أجاب به الغزالي في باب العارية، ونسبه إلى المزني، وكذلك الروياني. قال الماوردي: والأول مذهب الشافعي، وما عداه فاسد بباذل الطعام ودافع الدار؛ حيث لم يقع الفرق بين أن يكون سائلاً أو مسئولاً، أو معروفاً بالمعاوضة أو غير معروف. وقد أبدى الإمام في كتاب العارية لنفسه وجهاً خامساً، وهو أن يقال: إذا لم يكن معروفاً، ينظر فيه: فإن كان مثله لا يطلب على مثل هذا عوضاً فلا عوض، وإلا فيجب. وإن هذا يناظر اختلاف المذهب في الهبة المطلقة واقتضائها الثواب كما سيأتي. أما إذا سمى له شيئاً: فإن كان معلوماً استحقه، وإن كان مجهولاً استحق أجرة المثل وجهاً واحداً. وهكذا إذا قال: اغسله وأنا أرضيك، كما قاله القاضي الحسين. قال الماوردي وغيره: والوجوه الأربعة تجري في القصار والخياط والحلاق [والدلاك] في الحمام ونحوهم.

ولو نزل سفينة ملاح من غير إذنه، فحمله فيها إلى بلد- فله أجرة المثل؛ لأن الراكب صار مستهلكاً لمنفعة موضعه من السفينة على مالكها؛ فضمن الأجرة. وهكذا لو دخل حماماً بغير إذن فعليه الأجرة. وإن أخذ من ساق ماءً بغير طلب فعليه ثمنه. ولو نزل السفينة بالإذن، ودخل الحمام بالإذن، وأخذ الماء [بطلب] – فعلى الخلاف، قاله الماوردي. وفي الجزم باستحقاق الأجرة عند نزول السفينة نظر. وكان يتجه أن يقال: إن سير الراكب السفينة فالحكم [كما] ذكر، وإن سيرها ربها فتكون كما لو وضع المتاع على دابة فسيرها مالكها؛ فإنه لا أجرة على صاحب المتاع، [ولا ضمان] كما صرح به القاضي الحسين والرافعي في باب الإجارة. وقد جزم الإمام في خول الحمام بإيجاب قيمة الماء، وأنه قد يتجه إثبات المثل؛ فإنه من ذوات الأمثال، وأن أجرة منفعة الحمام واجبة؛ لأنه أتلفها، والمتلف عليه قيمة ما أتلف، وإن جرى الإتلاف بمشهد من المالك. وإن كان كذلك، فما الظن والعرف جار بإلزام الأجرة؟ ومهما غلبت العادة ظهر وجوب اتباعها، ثم إن لم نوجب الأجرة للخياط والقصار، فالثوب أمانة في يده، وإلا فأجير مشترك. وإذا أوجبنا في الحمام شيئاً فذلك في مقابلة ماذا؟ فيه وجهان: أحدهما: في مقابلة الماء، والحمامي متطوع بحفظ الثياب ومعير للسطل. وأظهرهما: أنه أجرة الحمام والسطل والإزار وحفظ الثياب، وأما الماء فإنه غير مشضبوط حتى يقابل بعوض، وعلى هذا: فالسطل أمانة، والحمامي أجير مشترك في الثياب. وعبارة صاحب "التهذيب" على الوجه الثاني: أن المأخوذ ثمن الماء وأجرة الحمام والسطل. وعلى هذا يحصل فيه ثلاثة أوجه. ولنختم الباب بفروع تتعلق به: ما يحصل في يد الراد يكون أمانة في يده إلى أن يرده، ثم لو رفع اليلد عن الدابة وخلاها في مضيعة فهو مقصر فيضمن، ونفقة العبد وعلف الدابة في مدة

الرد يجوز أن يكون على ما ذكر في مكري الجمال إذا هرب مالكها وخلاها عنده، ويجوز أن يقال: ذاك أمر أفضت إليه الضرورة، وهاهنا أثبت اليد عليه باختياره؛ فله كلف مؤنته. وقد يؤيد هذا بالعادة، كذا ذكر ذلك الرافعي، وقال: إنه لم يقف عليه منقولاً. ولفظ الماوردي: أنه إذا أنفق الجائي بالعبد من طعامه وشرابه كان متطوعاً. إذا قال: من رد عبدي فله عشرة، ثم قال: من رد عبدي فله خمسة، أو بالعكس- فالاعتبار بالنداء الأخير، صرح به الماوردي وغيره. وقال في "الوسيط": إذا لم يسمع العامل [النداء] الثاني، احتمل أن يقال: يرجع إلى أجرة المثل. وهذا إذا كان الثاني قبل الشروع في العمل، أما إذا كان بعد الشروع، فالظاهر تأثيره في الرجوع إلى أجرة المثل؛ لأن النداء الأخير فسخ الأول، والفسخ في أثناء العمل يقتضي الرجوع إلى أجرة المثل. إذا قال: بع هذا، أو: اعمل كذا ولك عشرة دراهم- قال الرافعي: ففي بعض التصانيف [أنه] إن كان العمل مضبوطاً مقدراً، فهو إجارة، وإن احتاج إلى ترددات غير مضبوطة. قلت: وهذا غير ما ذكره الإمام في آخر باب الإجارة إذا قال لغيره: إن أخبرتني بخروج فلان من البلد فلك كذا، [فأخبره] – قال القفال في "فتاويه": إن كان له غرض في خروجه استحق، وإلا فلا. وهذا يقتضي أن يكون صادقاً، قال الرافعي: وينبغي أن ينظر في أنه هل يناله تعب أم لا؟ إذا قال: إن رددت عبدي من البصرة فلك دينار، فأصابه بواسط فرده- كان له نصف دينار؛ لأنه وفى نصف العمل. ولو قال: من رده إلي فله كذا، وكان في يد شخص حالة النداء، فرده- استحق إن كان في رده كلفة ومؤنة كالعبد الآبق، وإن لم يكن كالدراهم والدنانير فلا يستحق. ولو جاء به من لم يسمع النداء، ثم سمعه قبل أن يدفعه إلى سيده، ثم دفعه- استحق. قال الماوردي: لأن السامع للنداء لو أجابه من أقرب المواضع استحق؛ فكذا هذا.

قلت: وينبغي أن يفصل- كما قيل من قبل- بين أن يكون في رده بعد سماع النداء كلفة أم لا: فإن كانت وجب له الجعل، وإلا فلا. ولو قال: من دلني على مالي فله كذا، فدله عليه من هو في يده- لم يستحق؛ لأن ذلك واجب عليه بالشرع فلا يأخذ في مقابلته جعلاً، بخلاف الرد، وبخلاف ما لو كان في يد غيره فدله عليه؛ لأن الغالب: أنه تلحقه مشقة في البحث عنه، والله أعلم.

باب المسابقة

باب المسابقة المسابقة: مصدر "سابقته مسابقة"، ويطلق- كما قال القاضي الحسين- على المسابقة على الخيل، وعلى المسابقة بالسهم، إلا أن المسابقة على الخيل تختص بأن يقال لها: رهان، والمسابقة على السهام يقال لها: مناضلة ونضال. والأصل في مشروعيتها- على الجملة- من الكتاب قوله- تعالى-: {يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} [يوسف: 17] فأخبر تعالى بذلك، ولم يعقبه بنكير؛ فكان شرعاً لنا وقال - تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]، والقوة الرمي؛ قال عقبة بن عامر: سمعت رسول الله صلى الله علي وسلم يقول: "أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ" قالها ثلاثاً. ولا غناء في إعداد القسي والسهام مع الخرق وعدم العلم بكيفية الرماية، وكذا لا غناء في إعداد الخيل من غير معرفة بالفروسية؛ فالإعداد يشعر بالتوصل إلى ما لا غناء عنه في التعلم، وهو المسابقة. ومن السنة: ما روى مسلم عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية. إلى مسجد بني زريق. والحفياء: تمد وتقصر، ويقال: إن بينها وبين الثنية خمسة أميال أو ستة، وبين الثنية وبين مسجد بني زريق ميل. وإضمار الخيل: أن تسمن، ثم تحبس في بيت، وتغطى بالجلال؛ لتعرق، ولا تعلف بعد ذلك إلا ما تتقوت به؛ لتضمر وتذهب رخاوتها؛ فتكون أقوى. وروى سلمة بن الأكوع قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم مِنْ أَسْلَم

يتناضلون بالسيوف، فقال: "ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ؛ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِياً". قال ابن الصباغ: وأجمع المسلمون على جوازها على الجملة. قال: المسابقة على عوض كالإجارة في أحد القولين. هذا الفصل يتضمن أمرين: أحدهما: جواز دخول العوض فيها، ودليلة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رِهَانُ الْخَيْلِ طِلْقُ" أي: حلال. وعن عثمان- رضي الله عنه- أنه قال له: أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس له، فجاءت سابقة؛ فهش لذلك وأعجبه. والرهن لا يكون إلا على عوض، ولأن في دخول المال في ذلك حثا على الاستعداد للجهاد. والثاني: ما حكمهما بعد ذلك: فأحد القولين- وهو الصحيح-: أنها كالإجارة، والجامع: أنه عقد يشترط أن يكون المعقود عليه معلوماً من الجانبين. فعلى هذا قال: تصح ممن تصح منه الإجارة، ولا يجوز فسها بعد لزومها، ولا الزيادة فيها، أي: في مسافة، أو عدد رشق، أو عوض، ولا الامتناع من إتمامها، وحكمها في [خيار المجلس وخيار الشرط] حكم الإجارة، ويجوز أخذ الرهن والضمين فيها، لأن هذه أحكام الإجارة. ويجب على هذا الإتيان بالإيجاب والقبول، وهل يجوز الزيادة فيها قبل اللزوم؟ فيه الخلاف المذكور في إلحاق الزيادة بالعقد. ولا يجب على أحد المتسابقين إذا كان هو الملتزم للمال تسليمه لصاحبه قبل السبق، واحتج القفال بهذا على أن المال لا يستحق إلا بالعمل؛ فخرج ضمانه على الخلاف في ضمان

ما لم يجب ولكن جرى سبب وجوبه. والخلاف يجري في الرهن من طريق الأولى؛ لأن الضمان أوسع ثبوتاً. وقد ذكر الفوراني وجهاً: أنه يجب دفع المال كالإجارة. وقال الغزالي: إنه فاسد. وسلك الإمام طريقاً في تصحيح الضمان والرهن مع القول بعدم وجوب تسليم العوض قبل السبق، فقال: لا يبعد أن يكون استحقاق السبق موقوفاً مراعى: فإذا سبق من شرط له السبق تبينا أنه استحق ذلك بالعدقن ويكون على هذا ضمان السبق كضمان العهدة، وهذه عهدة تقبل الرهن أيضاً؛ فإنها ستبدو على القرب؛ فليست كعهدة المبيع، ثم إنه ليس لمعرفتها غاية تنتظر. وما أبداه الإمام احتمالاً من كون استحقاق السبق يكون موقوفاً على هذا القول، قد حكى مثله قولاً منصوصاً في ملك الأجير الأجرة في كتاب الزكاة، وحكاه الماوردي في كتب الإجارة. قال: وكالجعالة في القول الآخر، والجامع: أنه عقد يبذل العوض فيه على ما لا يوثق به؛ فعلى هذا قال: فيجوز فسخها، أي: قبل الشروع، والزيادة فيها، أي: في العوض وإعداد السهام، والامتناع من إتمامها، ويفسخها متى شاء، أي: بعد الشروع، وإن كان لأحدهما فضل ولا يأخذ فيها الرهن والضمين؛ لأن هذه أحكام الجعالة. وقيل: إذا كان لأحدهما فضل لم يجز للمفضول الفسخ، وإلا أفضى الأمر إلى ألا يسبق أحد أحداً؛ فإنه يفسخ إذا أحس بغلبة صاحبه؛ فعلى هذا: يكون العقد جائزاً ما لم يظهر فضل، فإذا ظهر لزم في حق المفضول. وهذا الوجه- كما قال في "المهذب"- يجري في طلب الزيادة. وقيل: يجوز أخذ الرهن والضمين فيها؛ كما قيل في الجعالة على النعت المذكور في بابيهما، ورتب الإمام الخلاف في الرهن على الضمان، فقال: إن جوزنا الضمان ففي الرهن وجهان. وعلى هذا القول: لا يفتقر إلى القبول بالقول، وفيه وجه حكاه الإمام. وقد اختلف الأًحاب في محل القولين في الأصل: فالذي حكاه في "المهذب"، والبندنيجي في كتاب الضمان والرهن، والقاضي

الحسين في كتاب الضمان: أن محلهما إذا كان المال من المتسابقين وبينهما محلل، أما إذا كان من أحدهما أو من غيرهما؛ كان جعالة قولاً واحداً. قال الرافعي: والظاهر- وهو المذكور في "التهذيب"-: طرد القولين، وإن أخرجه أحدهما أو غيرهما، وهو الذي يقتضيه إطلاق الشيخ هنا، لكن إن كان المخرج للمال أحدهما أو أجنبياً فنقول: اللزوم مختص بالمعطى، أما الذي يغنم وقد لا يغرم شيئاً، فهو جائز من جهته، كذا قال في "التهذيب"، وبه قال الشيخ أبو محمد والأئمة، ويكون العقد جائزاً من أحد الطرفين لازماً من الآخر، ولا غرو في ذلك، فإن الرهن والكتابة كذلك. وقيل: إن العقد لازم في حق من التزم المال إذا كان من المتسابقين، وفي حق من لا يغرم وقد يغنم: وهو المحلل إذا أخرجا السبق، أو أحدهما إذا كان المخرج للسبق غيرهما كما صرح به الإمام، وكأن باذل المال أراد أن يستفيد من عمل صاحبه في الركض؛ فهو كالمستأجر وصاحبه كالأجير. واعلم أن ما ذكره الشيخ تفريعاً على القول الأول فيه منازعة من وجهين: أحدهما: أنه جزم بصحتها ممن تصح منه الإجارة، وهذا يشمل الرجل والمرأة، وقد قال الصيمري في "الإفصاح": إنه لا يجوز السبق والرمي من النساء؛ لأنهن لسن من أهل الحرب. الثاني: أنه جزم بأنه لا يجوز الامتناع من إتمامها، وغيره فصل فقال: إن كانا متساويين من غير فضل فالأمر كذلك، وكذا إن كان أحدهما مفضولاً واحتمل أن يلحق الفاضل ويفضله، أما إذا لم يمكن ذلك فيجوز للفاضل الامتناع من الإتمام دون المفضول، وبهذا جزم الرافعي، وحكى في "الذخائر" وجهين في جواز امتناع الفاضل من الإتمام. فروع: أحدها: إذا وقع عقد المسابقة في الصحة، وسلم المال في مرض الموت- فهو من رأس المال إن جعلناه إجارة، وإن جعلناه جعالة فوجهان. ولو ابتدأ العقد في المرض، قال في "البحر": يحتمل أن يحسب العوض من الثلث، ويحتمل أن يبنى على اختلاف القولين. الثاني: السبق يجوز أن يكون عندهما، ويجوز أن يكون عند عدل، فلو قال

أحدهما: نتركه عندنا، وقال الآخر: بل ندعه عند عدل- نظر: إن كان الملتزم ديناً أجيب الأول، وإن كان عيناً أجيب الثاني. فلو اتفقا على إخراجه من اليد، وقال أحدهما: نضعه عند زيد، وقال الآخر: بل عند عمرو- اختار الحاكم أميناً، وهل يتعين أحد الأمينين المتنازع فيهام أو له أن يختار غيرهما؟ فيه وجهان. الثالث: لو جمع بين بيع ومسابقة على عوض، فإن قلنا: إن المسابقة كالإجارة، خرج على القولين في الجمع بين بيع وإجارة، وإن قلنا: إنها كالجعالة؛ لم يصح؛ لأن الجمع بين معاملة لا تلزم وبيع يلزم في صفقة واحدة لا يمكن، كذا حكاه الرافعي عن الصيدلاني. ويجوز ذلك، أي: العقد بعوض على الرمي بالنشاب والرماح والزانات، أي: المزاريق وما أشبهها من آلة الحرب، أي: كالنبال والمسلة والإبرة؛ لما روى الشافعي بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ سَبَقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ، أَوْ خُفِّ، أَوْ حَافِرٍ" وخرجه أبو داود والنسائي والترمذي أيضاً.

والسبق- بفتح الباء-: هو المال الذي يدفع للسابق على سبقه، ويسمى: الخطر، والندب، والفرع، والواجب، وبالتسكين: مصدر "سبق يسبق"، وقد وردت الرواية بهما لكن الأولى أثبت. والنصال، قال في "الصحاح": نصل السهم والسيف والسكين والرمح والمزاريق. وأراد صلى الله عليه وسلم بالخف: الإبل، وبالحافر: الخيل. وفي "التهذيب" حكاية وجه: أن المسابقة بالعوض لا تجوز على الرمي بالرماح والزانات ونحوهما من آلة الحرب؛ لأنه قل ما يحتاج إلى الرمي بها في الحرب. ومن صور الخلاف: رمي الحجارة باليلد وبالمقلاع والمنجنيق، وجزم في "المهذب" بالجواز في الرمي بالمقلاع، وهو الصحيح في الجميع في غيره. ومن صور الخلاف: التردد بالسيوف والرماح، والأصح- وعليه نص في "الأم" ما حكاه أبو الطيب-: الجواز أيضاً، للخبر، ولأنه أعظم عدد القتال. ولا خلاف في أنه لا يجوز على الرمي بالجلاهق. تنبيه: النشاب: ما يرمى به عن القسي الفارسية، والنبل: ما يرمى به عن العربية، كذا حكاه الأزهري. قال: ويجوز على الخيل؛ لقوله تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]، ولخبر أبي هريرة، ولأنها المعتدة للقتال غالباً. قال: والإبل؛ للخبر، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة يقال لها: العضباء، وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها؛ فشق ذلك على المسلمين فقالوا:

يا رسول الله، سبقت العضباء! فقال [رسول الله صلى الله عليه وسلم]: "إِنَّهُ حَقُّ عَلَى اللهِ أَلَّا يَرْتَفِعَ مِنْ هَذِهِ الْقَذِرَةِ شَيْءُ إِلَّا وَضَعَهُ" خرجه البخاري والنسائي. ولأن العرب تقاتل عليها أشد قتال؛ فكانت كالخيل، وتخالف الغنيمة حيث لم يجعل للواحد من الإبل سهم كالفرس؛ لأن السهم منوط بزيادة المنفعة والفائدة، وما يتهيأ للخيل من الانعطاف والالتواء وسرعة الإقدام، لا تشاركها الإبل فيه، والقصد هنا ما فيه غناء وفائدة في القتال، والإبل كذلك. قال: وفي الحمار والبغل قولان: وجه الجواز- وهو الذي رجحه الأكثرون-: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أَوْ حَافِرِ". قال الإمام: ومما يخطر للإنسان في إمكان قصد التعميم عدول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإبل والخيل إلى الخف والحافر. ووجه المنع- وبه قال الإصطخري-: أنهما لا يصلحان للكر والفر في الحرب، ولا يقاتل عليهما غالباً. وهذه طريقة ابن خيران، ووراءها طريقان أخريان: إحداهما: القطع بالجواز، وبها قال ابن الوكيل وأبو إسحاق. والثانية: القطع بالمنع، وبها قال ابن سريج. قال: وفي الفيل وجهان: وجه الجواز- وهو الأصح-: أنه أعتى من غيره في الحرب، ولأنه ذو خف؛ فيدخل في الخبر. ووجه المنع أنه لا يسهل به الإقدام، ولا يحصل منه كر ولا فر، ولا يقاتل عليه غالباً؛ فلم يكن في معرض عموم الحاجة. وقد روى بعضهم هذا الخلاف قولين. قال: ولا يجوز على الأقدام، أي: على الجري على الأقدام، والزبازب والطيور في ظاهر المذهب؛ لخبر أبي هريرة وهذا هو الأصح، وقيل: يجوز

ذلك؛ لأنه يحتاج إليها في الحرب، وعلى هذا: هل يجوز في السباحة؟ فيه وجهان. ووجه الفرق بينهما وبين الأقدام: أن الماء يؤثر في السباحة، والأرض لا تؤثر في السعي. ولا تجوز المسابقة على مناطحة الكباش ومهارشة الديوك بعوض ولا بغيره؛ لأنه حرام. [قال]: وفي الصراع وجهان: وجه الجواز: أنه صلى الله عليه وسلم صارع ركانة بن عبد يزيد على شاة، فصرعه، ثم عاد فصرعه، ثم عاد فصرعه. ووجه المنع- وهو الأظهر-: ظاهر خبر أبي هريرة، وصراع ركانة كان الغرض منه أن يريد شدته ليسلم؛ ولهذا لما أسلم رد عليه غنمه. فعلى الأول: هل يجوز على المشابكة باليد؟ فيه وجهان منقولان عن "الحاوي"، ولا خلاف في جواز هذه الأشياء بغير عوض. تنبيه: الصراع: بضم الصاد، يقال: صارعته مصارعة، حكاه في "رفع التمويه". قال: ولا يجوز المسابقة بين الجنسين: كالخيل والإبل، وكذا بين الخيل والبغال، والبغال والحمير، إذا جوزنا المسابقة عليهما؛ لأن المقصود منهما اختيار الأفراس، وهؤلاء التفاوت بينهما معلوم، وقال أبو إسحاق: إذا تقارب جنسان كالخيل والنجيب جاز. قال: ويجوز على نوعين كالعربي والبرذون؛ لأن البرذدون في أول شوطه أجرى، وفي آخره ألين، والآخر بعكس؛ فربما تكافآ عند الغاية. وقال أبو إسحاق: إن تفاوت نوعان كالعتيق والهجين من الخيل، أو النجيب والبختي من الإبل- لم يجز. قال الرافعي: وهذا ينبغي أن يكون أرجح؛ لما سنذكره، وإن كان الجواز أشهر.

ولا نزاع في أنه لو كان الفرسان من نوع واحد، وكان كل منهما نجيباً [يمكن أن] يسبق الآخر- جاز إذا كان القتال عليه ممكناً. ولو كان أحد الفرسين [ضعيفاً] يقطع بتخلفه، أو فارهاً يقطع بتقدمه- لم يجز. ولو كان سبق أحدهما ممكناً على الندور، ففي الاكتفاء به للصحة وجهان، أقربهما في كلام الأصحاب: المنع؛ فإنه لا يقام للاحتمال النادر وزن، وهذا ما تمسك به الرافعي في تقوية مذهب أبي إسحاق، وقال: أي فرق بين أن يقع التخلف لأمر عارض أو لرداءة النوع؟ تنبيه: البرذون: هو الذي أبواه عجميان، والعتيق: أبواه عربيان، والهجين: أبوه عربي وأمه غير عربية، والمقرف- بضم الميم، وإسكان القاف، وكسر الراء، وبالفاء-: أبوه عجمي وأمه عربية. ويكون ذلك في الناس والخيل. قال: ولا يجوز إلا على فرسين معروفين؛ لتوقف المقصود على ذلك، وهو معرفة جوهرهما. ولا نزاع في أن التعيين في ذلك كاف، وهل يكفيفيه الوصف؟ فيه وجهان: المعزي منهما للعراقيين- كما حكاه الإمام ورجحه-: الجواز أيضاً؛ لن الوصف والإحضار بعده يقومان مقام التعيين في عقد السلم وعقود الربا؛ فكذلك هاهنا. وعلى هذا: فيجب أن يحضرا فرسين من نوع واحد. والثاني- وبه قال الشيخ أبو محمد، وهو الذي صححه في "الوجيز"، وأجاب به الروياني-: المنع. ولو جرت المسابقة مطلقاً، قال العراقيون: هو كما لو جرت على السهام مطلقاً. قال: ولا تجوز إلا على مسافة معلومة الابتداء والانتهاء، أي: يمكن وصول الفرسين إليها غالباً؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، وما لم يضمر منها من الثنية إلى مسجد بني زريق. ولأنهما لو تسابقا [على] إجراء الفرسين إلى أن يسبق أحدهما من غير غاية؛ لم يؤمن ألا

يسبق أحدهما إلى أن يعطب؛ حرصاً على طلب المال، ويتعذر عليهما إقامة البينة على السبق. وأيضاً: فإن فرس أحدهما قد يكون أكثر جرياً في الابتداء والآخر عكسه؛ فلا بد من غاية تجمع حالتيه، أما إذا كانت المسافة لا تنتهي إلى مثلها الأفراس غالباً، فلا يصح العقد. ولو عينا غاية، وشرطا أن السبق إن اتفق في وسط الميدان كفى- ففي جوازه وجهان مبنيان على المعنيين: فعلى الأول يصح، وعلى الثاني لا [يصح]، وهو الأشبه. ولو عينا غاية وقالا: إن اتفق السبق عندها فذاك، وإلا تعدينا إلى غاية أخرى، واتفقا عليها- فوجهان مرتبان، وأولى بالصحة. قال: ولا يجوز إلا على عوض معلوم كالإجارة والجعالة، والعلم تارة يحصل بالمشاهدة إن كان معيناً، وتارة بالوصف إن كان في الذمة. ويجوز أن يكون العوض حالاً ومؤجلاً. ولو عقدا على مجهول أو خمر أو خنزير فسد العقد، وهل يستحق السابق أجرة المثل؟ فيه وجهان جاريان في كل صورة يفسد فيها عقد المسابقة والمناضلة: أحدهما- وبه قال أبو إسحاق وابن القاص-: أنه لا يستحق شيئاً على باذل المال؛ لأنه لم يعمل له شيئاً، وفائدته ترجع إليه. وأصحهما- وبه قال أبو الطيب بن سلمة، واختاره الشيخ أبو محمد والقفال-: أنه يستحق؛ لأن المنفعة التي يستحق بها المسمى في العقد الصحيح لا تعرى عن العوض عند الفساد كما في الإجارة والقراض، والعمل قد لا يقع في القراض ومع ذلك يكون مضموناً. فعلى هذا: لو كان الفساد بسبب آخر، وكان العوض لا يتعذر تقويمه- ففيما يرجع به طريقان حكاهما الإمام: أحدهما: في المسألة قولان كما في الصداق والخلع، ووجه الشبه: أن السبق ليس على حقائق الأعواض؛ فإن فائدة العمل للعامل؛ كما أن الصداق وبذل الخلع ليسا على حقائق الأعواض.

والثاني: القطع بالرجوع إلى أجرة المثل، وهذا هو الصحيح وإن ثبت الخلاف، لكن تعتبر أجرة المثل بالنظر إلى الزمان الذي اشتغل فيه بالرمي، أو ما يجري في المسابقة بالنسبة إلى تلك المسافة في عرف الناس غالباً؟ فيه وجهان: الأول منهما: عن أبي الطيب بن سلمة، قال ابن كج: وكأنه بناه على أن الحر إذا غصب على نفسه يستحق أجرة المثل لتلك المدة. والثاني: عن أبي الحسين، قال الرافعي: وهو أقرب، مع أنه يمكن أن يقال: ليس للناس في هذا اعرف غالب يرجع إليه. قال: ويجوز أن يكون العوض منهما ومن غيرهما، أي: ولو من بيت المال؛ لأنه إخراج مال لمصلحة الدين فجاز من الجميع كرباط الخيل في سبيل الله، وقد روى عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل، وجعل بينهما سبقاً. فرع: إذا كان العوض منهما جاز أن يكونا متساويين فيه ومتفاضلين، وعن "الحاوي" والصيمري: أنه يجب أن يتساوى المالان. قال: فإن أخرج أحدهما السبق على أن من سبق [منهما] أحرزه، جاز؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بحزبين من الأنصار يتناضلون [وقد] سبق أحدهما الآخر، فأقرهما على ذلك، ولأن المقصود من العقد يحصل بذلك مع خلوه عن القمار؛ فإن المخرج حريص على أن يسبق كي لا يغرم، والآخر حريص عليه؛ ليحوز السبق. فرع: لو كان المخرج للمال يقطع بأنه سابق فهذه مسابقة على غير مال، وإن كان يقطع بأنه مسبوق؛ ففي صحة هذه المسابقة وجهان. قال: وإن أخرجا السبق على أن من سبق منهما أخذ الجميع، لم يجز؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَدْخَلَ فَرَساً بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَهُمَا فَهُوَ قِمَارُ، وَإِنْ لَمْ يَامَنْ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ"، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قماراً عند

الأمن من سبق فرس المحلل فرسهما، فبأن يكون قماراً إذا لم يكن ثم محلل أولى، ولأن معنى القمار موجود فيه؛ فإن كل واحد منهما يرجو الغنم ويخاف الغرم. قال: إلا أن يكون معهما محلل [وهو ثالث] على فرس كفيء لفرسيهما؛ لا يخرج شيئاً، أي: فيجوز؛ للخبر. وذهب ابن خيران إلى منع هذه المسابقة، ووجهه: بأن كل واحد من المخرجين قد يغرم وقد يغنم لو جوزناه، وذلك قمار. وقد حكى الإمام ما قاله ابن خيران قولاً، وجعل المسألة على قولين، وغيره حكى الخلاف وجهين وعبر عنه بأن المحلل يحلل لنفسه ولغيره، أو لنفسه فقط؟ وظاهر المذهب- وهو المنصوص: الأول؛ لما ذكرناه وهو الذي يأتي عليه التفريع. وأما إذا لم يكن فرس المحلل كفئاً لفرسيهما: فإن قطع بأنه مسبوق فهو كما لو لم يكن؛ للخبر، وإن قطع بأنه سابق؛ ففي الصحة وجهان، والأصح: عدم الصحة. تنبيه: الكفيء: بفتح الكاف وكسر الفاء، مهموز ممدود، وهو المكافئ المماثل للنظير، ويقال فيه: الكفء، والكفوء- بالضم والمد- على "فعول"، والمصدر: الكفاءة، بالفتح والمد. قال: فإن سبقهما أحرز سبقهما بسبقه، وإن سبقاه أحرز كل واحد منهما سبقه؛ لعدم سبقه لهما وسبق أحدهما للآخر، وإن سبق أحدهما [مع]

المحلل أحرز سبق المتأخر لسبقهما. وعلى مذهب ابن خيران: يفوز المحلل بالسبق. وإن سبق أحدهما أخذ السبقين: أما سبق نفسه؛ فلأنه لم يسبق، وأما سبق الآخر؛ فلسبقه له. وعلى مذهب ابن خيران: لا يأخذ سبق صاحبه. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون المخرج للمال اثنين أو مائة والمحلل واحد، وهاهنا أصل آخر حكاه الإمام، وهو أنه: إذا أطلقنا شرط المال للسابق فاللفظ للسابق المطلق، أو يتناول من سبق غيره وإن كان مسبوقاً بغيره؟ وفيه اختلاف للأصحاب، والظاهر الأول، ويترتب على الأصلين خلاف في صورتين: إحداهما: إذا كانت الصورة كما ذكرها الشيخ، ثم جاء المحلل ثم أحد المستبقين، ثم الآخر- فالمحلل يحوز ما أخرجه المصلي بلا خلاف، وفيما أخرجه الفِسْكِل ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه للمحلل أيضاً؛ بناء على أن الاعتبار في السبق السابق المطلق. والثاني: أنه للسابق والمصلي جميعاً؛ لأنهما سبقاه. وأضعفها: أنه للمصلى وحده، ويجعل سابقاً للفسكل؛ كما جعل المحلل سابقاً للمصلي. الثانية: لو سبق أحد المستبقين، ثم جاء المحلل، ثم جاء الثاني- فيحوز السابق ما أخرج، وأما ما أخرجه الثاني. فإن قلنا بظاهر المذهب ففيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه للسابق؛ لأن المحلل مسبوق. والثاني: أنه لو وللمحلل؛ لأنهما سبقاه. والثالث: أنه للمحلل وحده. وإن قلنا بمذهب ابن خيران فوجهان: أحدهما: أنه للمحلل. والثاني: أنه يحوزه مخرجه، ولا يستحقه السابق ولا المحلل: أما السابق؛ فلأنا نفرع على أن المحلل لا يحل لغيره، وأما المحلل؛ فلأنه مسبوق مطلق. فرع: ينبغي أن يجري فرس المحلل بين فرسي المتسابقين، فإن لم يتوسطهما وأجري من أحد الجانبين- جاز إذا تراضيا به؛ فلو رضي أحدهما بأن يعدل عن الوسط ولم يرض الآخر لزمه التوسط. ولو رضيا بألا يتوسط، لكن قال أحدهما:

يكون على اليمين، وقال الآخر: بل على اليسار- لزم التوسط، [وليس كما] لو تنازع المتسابقان في اليمين واليسار؛ فإنه يقرع بينهما. قال: وإن أخرج الإمام من بيت المال أو أحد الرعية من ماله السبق بين اثنين، وشرط أن من سبق منهما فهو له- جاز، أي: جاز من غير محلل؛ لانتفاء معنى القمار منهن وإلا فقد تقدم أنه يجوز أن يكون السبق من غير المتسابقين، وهو شامل للصورتين. قال: فإن سبق أحدهما استحق؛ عملاً بالشرط، وإن جاءا معاً لم يستحقا؛ لفقد الشرط. وإن شرط للسابق وللآخر أي: مثل أن قال: من جاء منكما أولاً فله درهم، ومن جاء آخراً فله درهم- لم يجز؛ لأن كل واحد منهما يعلم أنه يستحق فلا يجتهد؛ فلا يحصل المقصود الذي شرع له العقد، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأصحاب. نعم لو شرط للسابق أكبر من الآخر كان فيه الخلاف الآتي من بعد. قال: فإن كانوا ثلاثة فشرط لاثنين دون الثالث، أو أربعة، فشرط لثلاثة دون الرابع- جاز. صورة المسألة الأولى: أن يقول: من جاء منكم مجلياً فله درهم، ومن جاء منكم مصلياً فله درهم، ومن جاء منكم فسكلاً فلا شيء [له]. وصورة الثانية: أن يقول: من جاء منكم مجلياً فله درهم، ومن جاء منكم مصلياً فله درهم، ومن جاء تالياً فله درهم، ومن جاء فسكلاً فلا شيء له. وإنما جاز في هاتين الصورتين؛ لأن كل واحد منهم يجتهد حتى لا يكون فسكلاً. وكلام الإمام يشير إلى خلاف فيهما، وأن الأصح الفساد؛ فإنه قال: لو شرط للمجلي وللمصلي، وفاضل المصلى- فالمذهب: أن ذلك باطل. ولو سوى بين السابق والمصلي فهو في الترتيب كما لو فضل المصلي على السابق. وكل ما ذكرناه فيه إذا اشتمل مكان التسابق- وهي المسمى: الحلبة- على فرسان السابق والمصلي وغيرهما؛ فلو كان يتسابق رجلان فالمصلي فسكل، ولا خلاف أنه لا يجوز تخصيص الفسكل بالسبق، وهذا غير المثالين اللذين ذكرهما الشيخ.

قال: وإن شرط للجميع وسى بينهم، أي: مثل: أن شرط لمن جاء فسكلاً درهماً- أيضاً- لم يجز؛ لما ذكرناه. قال: وإن فاضل وجعل للسابق عشرة، وللمجلي تسعة، وللمصلي ثمانية- فقد قيل: يجوز؛ لأن كل واحد يجتهد أن يتقدم فيأخذ الأكثر، وهذا ما صححه ابن الصباغ، وجعله البندنيجي المذهب، وقال الإمام: إنه الذي قطع به معظم الأصحاب. وقيل: لا يجوز؛ لأن كل واحد قطع بحصول شيء له؛ فلا يبالغ في الاجتهاد. واعلم أن بعض الشارحين ناقش [الشيخ] فقال: قد جعل المجلي الثاني، والمصلي الثاني، وقد جاء في بعض النسخ تقديم المصلي على المجلي، والكل سهو؛ بل السابق هو: المجلي، والثاني هو المصلي، والثالث: التالي، والرابع: البارع، والخامس: المرتاح، والسادس: الحظي، والسابع: العاطف، والثامن: المؤمل، والتاسع: اللطيم، والعاشر: السكيت، والذي يجيء في آخر الكل: الفسكل، بكسر الفاء والكاف. قلت: لا سهو في النسخ المذكورة؛ لأن صاحب "الذخائر" حكى أن أبا منصور عبد الملك الثعالبي قال في كتاب "فقه اللغة": كانت العرب تعد السوابق ثمانية، ولا تجعل لما جاوزها حظاً، أولها: السابق، ثم المجلي، ثم المصلي، ثم المقفي، ثم المؤمل، ثم البارع، ثم اللطيم. وحكي عن الفراء: أنه ذكر في السوابق عشرة لم يحكها غيره، [وهي] السابق، [ثم المجلي]، ثم المصلي، ثم التالي، ثم المرتاح، ثم العاطف، ثم الحظي مخفف

الظاء- وقيل: ثم المؤمل- ثم اللطيم ثم السكيت بتخفيف الكاف، ثم يثقل. فعلى ما حكاه أبو منصور عن المشهور، ينطبق كلام الشيخ. وأما ما جاء في بعض النسخ من تقديم المصلي على المجلي فنقول: إن صح فالشيخ- رضي الله عنه- لم يعتبر الترتيب المعهود في كتب اللغة، ولكنه أراد أن يعرفك أنه إذا جعل للمتأخر أكثر من المتقدم هل يصح عقد المسابقة أم لا؟ وفيه خلاف مشهور في المذهب، كما هو مذكور فيما إذا شرط لجميع المتسابقين وفاضل بينهم حتى الفسكل، وهو جارٍ- أيضاً- فيما إذا شرط للمتاخر دون المتقدم، لكن الأصح في هاتين الصورتين: المنع، والأصح- كما ذكرناه- فيما إذا جعل الأكثر للسابق، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه: الجواز. قال: وإن شرط- أي: المخرج- أنه إذا سبق أحدهما أطعم السبق أصحابه، لم تصح المسابقة على ظاهر المذهب، وهو الصحيح؛ لأنه تمليك شرط فيه ما يمنع المالك كمال التصرف؛ فإذا لم يصح الشرط بطل العقد؛ كما لو باعه [شيئاً] بشرط ألا يبيعه. فعلى هذا: من سبق لا يستحق [المسمى] وهل يستحق على الشارط أجرة المثل؟ فيه الخلاف السابق. والأصح في "تعليق" القاضي الحسين- وبه قال الأكثر الأصحاب-: الاستحقاق. قال: وقيل: تصح، إلا أنه يسقط المسمى، ويجب عوض المثل؛ لأن المسابقة تصح بدون العوض، وثبوته فيها ليس على حقائق الأعواض، وقد اقترن به ما يفسده؛ فاقتصر الفساد عليه، كما نقول في الصداق والخلع. قال: وقيل: تصح، ولا يستحق [شيئاً]، أي: تصح بالمسمى، ويلغى الشرط، ولا يستحق المشروط له الطعمة شيئاً، لأن الشرط لا يعود نفعه إلى المستبق، فلا يكون شرطاً، وإنما يكون وعداً، وهذا قول أبي إسحاق المروزي، وشبهه بما قاله الشافعي فيما إذا قال: أصدقتك ألفين على أن تعطي أباك ألفاً؛ فإن الصداق صحيح؛ لأنه شرط عليها ما لا يعود نفعه إليه.

وقد حكى الإمام عن صاحب "التقريب": أنه قال: كل شرط فاسد لو فرض طرحه لاستقل عقد المسابقة والمناضلة بإطلاقه، فهل يبطل العقد؟ فيه وجهان. وكل ما لو صرح به لم يستقل العقد، فإذا فسد فلا بد من فساد العقد، وهو كما لو لم يذكر في المسابقة غاية ولا في المناضلة، أما إذا شرط المجعول له السبق الطعمة، قال القاضي الحسين: العقد صحيح؛ كما في البيع: إذا باع طعاماً، وشرط البائع على المشتري أن يطعم أصحابه لا يجوز، ولو شرط المشتري أن يطعم أصحابه لا يفسد العقد، وهذا كما قال الشافعي: لو عقد النكاح، وشرط ألا يطأها: لا يصح النكاح. وقال في موضع آخر: يصح النكاح. قال الربيع: المسألة على حالين: حيث قال: لا يصح، إذا شرطت المرأة على الزوج ألا يطأها. وحيث قال: يصح، إذا شرط الزوج ألا يطأها؛ وذلك لأن الوطء حق الزوج. وهذا مما استحسن من تخريجات الربيع. انتهى. واعلم أن بعض الشارحين لهذا [الكتاب] قال: إن القول الثاني غير موجود في مشاهير الكتب، وإن أقرب ما يؤول عليه كلام الشيخ أن يقال: عنى بقوله: لا يصح على ظاهر المذهب، أنه لا ينعقد على وجه يستحق به المسمى. وعنى بقوله: وقيل يصح إلا أنه يسقط المسمى ويجب عوض المثل، أنه ينعقد فاسداً ولا يلغو؛ فيجب أجرة المثل. وعنى بقوله: يصح ولا يستحق شيئاً، أنه لا يلغو بالكلية؛ من حيث إنه جعل لنفسه نفعاً، ولا يستحق شيئاً، لأنه لم يحصل لصاحبه نفعاً. قال: والسبق في الخيل إذا استوت أعناقها- أي: في الطول والقصر والارتفاع والمد عند الجري- أن يسبق أحدهما بجزء من الرأس من الأذن وغيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ وَالسَّاعَةَ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ كَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْبِقَ الآخَرَ بِأُذُنِهِ"، فأثبت

النبي صلى الله عليه وسلم السبق بالأذن، وفي هذه الحالة متى وجد السبق بجزء من الرأس وجد السبق بالكاهل. قال: وإن اختلفا في طول العنق، أو كان ذلك في الإبل- اعتبر السبق بالكاهل؛ كي لا يحصل السبق بزيادة الخلقة لا بجودة الجري. وفي هذه هالحالة إن سبق القصير العنق بكل عنقه أو بعضه فهو السابق، وكذا إن سبق الطويل العنق القصير العنق بكل عنقه فهو السابق، وإن سبقه ببعضه: فإن كان بقدر الزيادة فلا سبق، وإن كان بأقل من الزيادة فالسابق القصير. وهذه الطريقة المشهورة كتب العراقيين. وحكى الإمام عن الأصحاب [ترددا] في أن السبق يعتبر بمقدم الرأس والعنق والهادي، أو بمواقع الأقدام، وأن بعضهم نسبه إلى المنصوص، وجعل في المسألة قولين، وأن العراقيين قالوا: إن كان عنق أحد الفرسين أطول فسبق بقدر الزيادة؛ فلا يكون سابقاً، وإن استوى العنقان في الطول فهو موضع الخلاف. ثم قال: وفي ذلك إشكال؛ فإن الفرسين إذا استويا في طول الرقبة وقصرها، وكانا يمدان عنقهما في العدو- فالسابق بالرقبة يكون سابقاً بمواقع الأقدام لا محالة؛ فلا يبقى للتردد وجه، والوجه: حمل التردد على ما إذا كان الفرسان يتفاوتان في مد العنق عند العدو؛ فإن من الخيل ما يعتاد مد العنق في العدو، وذلك مما يستحسن، ومنها ما يكون شائلاً رأسه صعداً، وهذا غير محبوب في العدو، وإنما يؤثر ويستحب في السير والهملجة، وقد يصدم وجه الفارس إذا كان يستعمل سلاحاً في عدوه، وإذا كان كذلك؛ فلا نظر إلى [أقدار] الأعناق. وإن كانا يمدان الأعناق، وقلنا: الاعتبار بالأقدام- فلا نظر إلى الأعناق. وإن قلنا: الاعتبار بالأعناق فيتجه اعتبار التساوي في العنقين، وعلى هذا ينطبق ما حكاه الرافعي عن طريقة الصيدلاني والعمراني عن "العدة": أنه لو كان أحد الفرسين أطول عنقاً من الآخر، فسبق الآخر ببعض العنق، وسبقه الآخر ببعض الكاهل- فأيهما السابق؟ فيه وجهان، ووراء ذلك أوجه: أحدها: حكى الصيدلاني أن عند اختلاف العنق إذا سبق الأطول عنقاً ببعض عنقه- وكاهلهما سواء- عد ذلك سبقاً؛ لأن تقدير أعناق الخيل وضبطها عسير. والثاني: أن التقدم ببعض العنق أو بالكاهل سبق؛ فلو تقدم أحدهما بأحدهما والآخر بالآخر فلا سبق.

والثالث: أن المتبع عرف الناس وما يعتبرون به السبق. والرابع: الاعتبار بتقديم الأذن، أي: وإن اختلف العنق، وهو مذهب الثوري. وهذا كله فيما إذا أطلقا العقد، فأما لو شرطا في السبق أقداماً معلومة لم يحصل السبق بما دونها، كذا صرح به في "المهذب"، وحكى في موضع آخر: أن أبا علي الطبري قال في "الإفصاح": لو تسابقا على أن من سبق صاحبه خمسة أقدام- كان له السبق، قال: جاز ذلك عندي؛ كما في الرمى. ثم قال أبو علي: ورأيت لبعض أصحابنا منع ذلك، ولا أعرف له وجهاً. وقد تم الكلام في معرفة نهاية السبق، وأما موضع وقوفها في الابتداء؛ فلم يتعرض الشيخ لذكره ولا ضبطه، وقد حكى الإمام عن شيخه: أن المعتبر فيه بالأقدام لا غير، وأنما التردد في آخر الميدان، و [قال]: هذا حسن متجه لا يجوز غيره؛ فإنا لو اعتبرنا السبق من جهة استحسان مد الفرس عنقه فهذا لا يتحقق في الابتداء؛ فتعين اعتبار الأقدام؛ إذ بها السبق في الحقيقة، ولو اعتبرنا الرقبة لجر ذلك تفاوتاً في السبق مهما اختلفت الأقدام. تنبيه: العنق يسمى الهادي. والكاهل- بكسر الهاء- هو الكتف- بفتح الكاف وكسر التاء ثالثة الحروف – وهو مجتمع الكتفين، ويسمى: الكتد، وهو من الخيل مكان السنام من البعير، كذا نقله ابن الصباغ. وقال القاضي الحسين: إنه مجتمع أسفل العنق وأعلى الصدر، بقرب سنام الإبل فوق اليدين. [هنا] مناقشة: قال الشيخ محيي الدين النواوي- رحمه الله-: قد ينكر على المصنف كونه جعل الأذن من الرأس، ومذهبنا: أنه عضو مستقل لا من الرأس ولا من الوجه. ويجاب عنه: بأنه جعلها من الرأس هنا مجازاً؛ للمجاورة، وكونها في تدوير الرأس. وقد ينكر عليه شيء آخر، وهو أنه جعل الاعتبار بالرأس والأذن، وهذا خلاف ما نص عليه الشافعي والمصنف في "المهذب" وسائر الأصحاب: أن الاعتبار بالعنق لا بالرأس.

قلت: في كلام الإمام الذي حكيته من قبل ما يدل على خلاف ذلك، وكذا كلام اب الصباغ؛ فإنه قال- بعد أن حكى عن الثوري أنه اعتبر السبق بالأذن، وأنه استدل بالحديث الذي ذكرناه-: وأما الخبر فالقصد به المثل، وقد يكون ذلك مع تساوي العنقين ومدهما، وهذا عين ما ذكره الشيخ. قال: وإن مات أحد المركوبين قبل الغاية بطل العقد، أي: إذا ورد العقد على عينه؛ لأن القصد متعلق بعينه فبطل بتلفه كهلاك المبيع قبل القبض، أما إذا ورد على فرس موصوف، قال الرافعي: فلا ينبغي أن ينفسخ بهلاكه. قال: "وإن مات أحد الراكبين قام وارثه مقامه"، أي: فإ، لم يكن له وارث استأجر الحاكم من يقوم مقامه أي: إذا قلنا: إنه لازم كالإجارة، قال الرافعي: وقد أبدي فيه احتمال آخر؛ لأن للفارس أثراً ظاهراً، أما إذا قلنا: إنه جائز، انفسخ؛ كالجعالة. واعلم: أن من هذا الكلام يؤخذ أن من شرط المسابقة على الخيل- وما في معناها- أن تركب في حال السباق، حتى لو شرط إرسال الدواب لتجري بنفسها كان العقد باطلاً، كما صرح به الأصحاب. قال: "وإن كانت المسابقة على الرمي لم يجز إخراج السبق منهما أو من غيرهما، إلا على ما ذكرناه في الخيل"؛ لما ذكرناه. قال: "ولا يجوز" أي: العقد "حتى يتعين الرماة؛ لأن المقصود معرفة حذقهم؛ وذلك لا يحصل بغير تعيين، ولا يكفي في ذلك الوصف، بخلاف الخيل، كما حكيناه عن العراقيين"، ومن عبارتي الشيخ هنا وهناك يظهر اختلاف الحكم. ثم أقل ما يصح عليه عقد النضال اثنان، وقد قال الشافعي: لو قال: ارم عشرة، فإن كان صوابك أكثر فلك كذا- لم يجز أن يناضل نفسه. وفيه وجه: أنه يصح جعالة؛ لأن له فيه غرضاً صحيحاً، وهذا ما قال ابن الصباغ: إنه المذهب. وصححه البندنيجي. فعلى هذا: إذا رمى ستة على التوالي، فأصابها فقد استحق السبق، وهل يلزمه

استكمال العشرة؟ فيه وجهان. قال: "وإن كانوا حزبين لم يجز" أي: العقد "حتى يعرف كل واحد من رأس الحزبين أصحابه قبل العقد". جرت عادة الرماة أن يتحزبوا حزبين، وينزلوا كل حزب منزلة الرجل الواحد، وهو جائز على المذهب، ودليله: ما روى سلمة بن الأكوع قال: أتى علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نترامى، فقال: "حَسُنَ هَذَا لَعِباً! ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ؛ فَإِنَّ أبَاكُمْ كَانَ رَامِياً، ارْمُوا وَأَنَا مَعَ ابْنِ الأَكْوَعِ" فكف القوم أيديهم وقسيهم، وقالوا: غلب يا رسول الله من كنت معه. قال: "ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ جَمِيعاً". وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يجوز؛ لأنه يأخذ كل واحد منهم بفعل غيره. وعلى الأول: لا بد في صحة [هذا] العقد من أربع شرائط يمتاز بها عن غيره: أحدها: أن يكون لكل حزب زعيم، وهو الذي سماه الشيخ رأساً؛ فلا يكفي أن يكون للحزبين زعيم واحد يعقد عنهما، ويرتبهما في الرمي؛ كما لا يجوز أن يتوكل الواحد عن شخصين في البيع والشراء، قال القاضي الحسين: ويحتاج أن يكون الزعيم أحذقهم وأعرفهم باختيار الرجال. والثاني: [تعيين] رماة كل حزب؛ لاختلاف الغرض به، وصورته: أن يأخذ هذا الزعيم واحداً، والزعيم الآخر واحداً بالتراضي. ولا يجوز أن يعين أحد الزعيمين أصحابه دفعة واحدة، ثم الآخر كذلك؛ لاحتمال أن يعين أحدهما الأقوياء. ولا مدخل للقرعة في هذا التعيين؛ لأنها لا تنضبط، وربما أخرجت الحذاق لأحد الحزبين والضعفاء للآخر؛ فيبطل مقصود العقد. وكذا لو عدل الزعيمان بالاختيار وتساووا في القوة والضعف، ثم أخرجا القرعة على الحزبين؛ ليكون كل حزب لزعيم- لم يجز؛ لأنه عقد معاوضة فلم يجز تعيين المعقود عليه بالقرعة؛ كالبيع.

نعم، للقرعة مدخل في تعيين المبتدئ من الزعيمين بالتعيين، كذا حكاه العراقيون، ومنهم ابن الصباغ، والبندنيجي، والمصنف. ولا يشترط بعد هذا معرفة الرماة بعضهم بعضاً؛ بل معرفة الزعيم كافية. والثالث: أن يكون عدد الحزبين متساوياً عند العراقيين، وبه أجاب صاحب "التهذيب" وغيره. وقال الإمام ومن تابعه: لا يشترط التساوي في العدد، وإنما يشترط التساوي في الرمي وعدد الإصابة؛ فيجوز أن يكون أحد الحزبين واحداً، والحزب الآخر اثنين، فيرمي الواحد سهمين، ويرمي كل من الآخرين سهماً سهماً. ثم المحلل في التحزيب يجوز أن يكون من الحزبين، ويجوز أن يكون خارجاً عنهما يناضلهم أو لا يناضلهم. [و] الرابع: أن يكون عدد السهام يمكن قسمته على الحزبين من غير تفاوت ولا كشر. فإذا كان كل حزب ثلاثة؛ اعتبر أن تكون السهام لها ثلث صحيح؛ كالثلاثين والستين. وإن كان أربعة اعتبر أن يكون للعدد ربع صحيح كالأربعين والثمانين؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك بقي سهم، ولا يمكن اشتراك الجماعة في سهم واحد. فرع: إذا شرط الرماة لواحد [معين] من الحزبين: أن حزبه إن نضل شاركهم في المأخوذ، وإن كان الآخر هو الناضل فلا شيء عليه، وإنما يغرم أصحابه – فهل يغني هذا عن المحلل؟ فيه وجهان، أصحهما- كما ذكره الإمام-: لا؛ لأن المحلل هو الذي إذا فاز بالسبق استبد بالمال، وهنا لا يستدب؛ بل يوزع المال عليه وعلى أصحابه. ولو اشتمل كل حزب على واحد- كما ذكرنا- قال الإمام: ففيه وجهان مرتبان على التي قبلها، وهذه أقرب إلى الصحة، والوجه: المنع. ولو شرط كل حزب [كل] المال لمحللهم فهذا يمتنع على كل وجه. قال: "ولا يجوز" أي: عقد المناضلة "مطلقاً إلا ممن يحسن الرمي"؛ لتوقف

المقصود عليه، وهل يشترط تدانيهما في كثرة الإصابة وقلتها، حتى لو كان أحدهما كثير الإصابة والآخر كثير الخطأ- لا يصح؟ فيه وجهان، وجه المنع: أن نضل أحدهما معلوم؛ فيكون الناضل منهما كآخذ المال بغير حق. فعلى هذا: لو ترامى غريبان صح، وإن أمكن أن يكون أحدهما بحيث لو علم حاله لتحقق عجزه أو ظفره. وعن الشيخ أبي محمد في "المنهاج": أنه لا يبعد عن القياس المنع؛ لما فيه من الجهالة العظيمة، ولكن الشافعي نص على تجويزه. ثم إذا ظهر أنه لا يحسن الرمي بطل العقد، وإن تبين أن أحدهما أحذق فهل يتبين بطلان العقد؟ فيه خلاف في "الرافعي". قال: "فإن خرج في أحد الحزبين من لا يحسن الرمي" أي: مثل أن أدخل الزعيم غريباً في حزبه على ظن أنه يحسن، فبان عدمه- قال: "بطل العقد فيه"؛ لما ذكرناه، "وسقط من الحزب الآخر بإزائه واحد"؛ ليحصل التساوي؛ كما لو خرج أحد العبدين المبيعين مستحقاً فإنه يبطل العقد فيه، ويسقط ما قابله من الثمن. قال: "ثم الرماة بالخيار بين فسخ العقد وبين الإمضاء"؛ لتبعيض الصفقة عليهم، وقيل في المسألة قول آخر: إن العقد قد بطل في الجميع؛ عملاً بقاعدة تفريق الصفقة. وهذا الطريق هو المشهور، وهو الذي اقتصر ابن الصباغ على إيراده، وجعل الذي يبطل العقد فيه من الحزب الآخر إذا رأينا تفريق الصفقة للشخص الذي اختاره الزعيم في مقابلة من لا يحسن الرمي، كما ذكرناه من قبل، وكلام الشيخ في "المهذب" يقتضي أنه لا يتعين؛ فإنه قال تفريعاً على قول عدم البطلان في الجميع: لو اختلف الرماة في تعيين من يخرج في مقابلة من لا يحسن الرمي فسخ العقد؛ لأنه تعذر إمضاؤه على مقتضاه. ومن أصحابنا من قال: يبطل العقد في الجميع قولاً واحداً؛ لأن في مقابلته في الحزب الآخر لا يتعين؛ فلا وجه للقرعة. واستدرك الإمام ورأى أن يفصل فقال: إن كان الآخر بحيث لا يتمكن من أخذ القوس ونزع وتر فالحكم كما ذكروه، وإن كان يتمكن منها، لكنه ما اعتاد الرمي- ففيه احتمال، ويتطرق أيضاً إلى أن مثل هذا هل يرامى مع العلم بحاله،

أما لو خرج في [أحد] الحزبين من هو ضعيف الرمي قليل الإصابة، ولكن يحسن الرمي- فلا انفساخ، ولا خيار لإخوانه؛ لتقصيره، كما لا خيار للحزب الآخر لو خرج أقوى رمياً [مما] ظن به. فرع: إذا نضل أحد الحزبين الآخر؛ ففي كيفية قسمة المال وجهان في "المهذب": أحدهما- وبه جزم الغزالي، وابن الصباغ-: أنه يقسم بينهم بالسوية؛ كما يجب على المنضولين بالسوية؛ فعلى هذا: إن خرج فيهم من لا يصيب استحق. والثاني: يقسم بينهم على قدر إصاباتهم؛ لأنهم استحقوا بها، ويخالف ما لزم المنضولين؛ فإن ذلك وجب بالالتزام، والاستحقاق بالرمي؛ فاعتبر بقدر الإصابة؛ فعلى هذا: إن خرج فيهم من لم يصب لم يستحق شيئاً، وهذا إذا أطلق العقد، فإن شرطوا أن يقتسموا على الإصابة فالشرط متبع، وللإمام احتمال فيه. فرع: لو شرط في هذا العقد أن يرمى أول الحزب فلان، ثم بعده فلان، ثم بعده فلان، وهكذا في الحزب الآخر- لم يجز؛ لأن التقديم إلى الزعيم، حكاه البندنيجي وغيره. قال: "ولا يجوز إلا على عدد من الرشق معلوم" أي: بأن يقول: يرمي كل واحد منا عشرة سهام مثلاً؛ "وأن يكون عدد الإصابة معلوماً" أي بأن يقول: ويكون المصاب منها خمسة مثلاً، لتوقف معرفة السبق عليه، وقيل: إذا تناضلا على رمية واحدة، وشرطا المال للمصيب فيه- صح على الأصح". وقيل: لا يشترط بيان عدد الرشق؛ [بل التعويل على الإصابة. وقيل: إنه يشترط عدد الرشق] في المحاطة؛ لينفصل الأمر وتتبين نهاية العقد، ولا يشترط في المبادرة؛ لتعلق الاستحقاق بالبدار إلى العدد المشروط، وهو سهل المدرك، وهذا الخلاف موجود في طريق المراوزة. [تنبيه: الرشق- بكسر] الراء المهملة-: الوجبة من السهام، كذا أطلقه أبو عبيد وغيره. وقال الأزهري: هو ما بين العشرين إلى الثلاثين، يرمي بها رجل أو رجلان يتسابقان. قال القاضي الحسين: والعجم تسميه: دست.

وبفتح الراء: مصدر "رشقه، يرشقه، رشقاً" أي: رماه. قال: فإن شرطا إصابة "تسعة من تسعة، أو] تسعة من عشرة، أو عشرة من عشرة- لم يجز في أصح الوجهين؛ لأن ذلك يندر فيتعذر المقصود. والثاني: يجوز؛ لأنه يحتمل فأشبه ثمانية من عشرة، ولو شرط إصابة واحد من مائة- والرامي حاذق- ففيه أيضاً وجهان، أصحهما: المنع. قال: "وأن يكون مدى الغرض" أي: الغاية "معلوماً"؛ لاختلاف الإصابة بالقرب والبعد. والمدى: مقصور يكتب بالياء، [وهو الغاية]، والعلم به يكون بالمشاهدة و [بذكر] الذرعان، وحكى قول أو وجه: أن ذكر الذرعان لا يشترط، ويترك على العرف الغالب للرماة في ذلك الموضع. وهذا ما رجحه الرافعي، واقتصر ابن كج على إيراده، وكلام صاحب "المهذب" و"التهذيب" يقرب منه؛ فإنهما قالا: إذا كان هناك غرض معلوم المدى حمل مطلق العقد عليه، والقولان متفقان على أنه إذا لم يكن هناك عادة غالبة يجب الإعلام. [قال الرافعي: وليحمل على هذه الحالة ما أطلقه الأكثرون من اشتراط الإعلام]. قال: "فإن شرط دون المائتي ذراع جاز"؛ لأن الإصابة فيه معتادة "وفيما زاد، قيل: يجوز إلى مائتين وخمسين ذراعاً"؛ لما روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: كيف تقاتلون العدو؟ فقال: إِذَا كَانُوا عَلَى مَائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ ذِرَاعاً قَاتَلْنَاهُمْ بِالنَّبْلِ، وَإِذَا كَانُوا عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَاتَلْنَاهُمْ بِالسُّيُوفِ. وقيل: يجوز إلى ثلاثمائة وخمسين ذراعاً؛ لأن إصابة ذلك ممكنة، ولا

يجوز فيما جاوز ذلك أن يجعل غاية؛ لأن المقصود لا يحصل، وقد قيل: إنه ما رمى إلى أربعمائة إلا عقبة بن عامر الجهني. قال الرافعي: وقد عد الأصحاب ما بين المقدارين في حد النادر. يعني ما بين المائتين وخمسين والثلاثمائة وخمسين كما صرح به في "المهذب" و"التهذيب"، ومقتضى ذلك: أن يكون الأصح المنع؛ إذ الصحيح – كما ذكره من قبل- أن ما يندر الإصابة فيه لا يجوز المسابقة إليه، والذي حكاه القاضي الحسين عن المنصوص: الجواز. وقد طرد صاحب "التهذيب" الخلاف فيما إذا شرط التناضل في الليلة المظلمة إذا كان الغرض مرئياص لهما، وقرب الخلاف من الخلاف فيما إذا نوى الإمام الإقامة في مفازة ليست هي موضع الإقامة، هل يصير مقيماً؟ واعلم أن كلام الشيخ يقتضي أن المائتين وخمسين يجوز الرمي إليها اتفاقاً؛ كأنه ردد الخلاف فيما زاد على مائتين وخمسين إلى ثلاثمائة وخمسين. ويفهم أن الخلاف في المائتين؛ لكونه قال أولاً: "فإن شرط دون المائتي ذراع جاز"، و"هو مقتضى كلامه قد صرح به القاضي الحسين، وادعى أنه لا خلاف في الجواز إلى مائتين وخمسين، وفي الامتناع فيما زاد على ثلاثمائة وخمسين، وما هو مفهوم من كلامه قد حكاه الجيلي، حيث قال: إن في المائتين قولين ينبنيان على ما إذا شرطنا إصابة الرقعة، وفيها قولان، وعزا ذلك إلى "السلسلة". وعن رواية الطبري وجه: أنه لا تجوز الزيادة على مائتي ذراع. قال: وإن شرط الرمي إلى غير غرض، وأن يكون السبق لأبعدهما رمياً- لم يصح؛ لأن المقصود من الرمي الإصابة، لا بعد المسافة". وفيه وجه في الطريقين: [أنه يجوز]، وصححه الرافعي. قال الإمام: والذي أراه على هذا أنه يجب استواء القوسين في الشدة، وتراعى خفة السهم ورزانته؛ فإنهما تؤثران في القرب والبعد تأثيراً عظيماً. قال: "وأن يكون الغرض في نفسه معلوم الصفة، معلوم الطول والعرض [والسمك] والارتفاع والانخفاض من الأرض"؛ لاختلاف الإصابة

باختلاف ذلك، ويكفي في ذلك العرف إن كان، وإلا فلا بد من الشرط. وقيل: لا بد من الشرط. تنبيه: الغرض- بفتح الراء-: العلامة التي يرمى إليها من خشب أو قرطاس أو نعل أو شن وهو الجلد البالي، كما سنذكره- أو الدائرة التي في الشن: وهي نقش كالقمر قبل استكماله- أو الخاتم الذي في الدائرة: وهي نقش أيضاً كالخاتم. ومراد الشيخ بالوصف بيان أحد هذه الأنواع. وحكى القاضي الحسين: أنهما لو شرطا إصابة الحلقة والرقعة هل يجوز؟ فيه وجهان؛ لندور الإصابة. الهدف: ما ينصب الغرض عليه من كثيب الرمل أو التراب أو البناء، وغير ذلك. وقيل: القرطاس: ما وضع على الهدف ليرمى من أي شيء كان، والغرض: ما ينصب في الهواء، قال الأزهري: ويسمى القرطاس هدفاً وغرضاً على الاستعارة.\ السمك- بفتح السين-: الغلظ. الارتفاع إذا كان منصوباً في الأرض يعرف قدر ارتفاعه عنها. الانخفاض إذا كان معلقاً في الهواء يعرف قدر انخفاضه، وهو نزوله أو قربه من الأرض. قال: "وأن يعلم أن الرمي محاطة، أي: بتشديد الطاء "أو مبادرة أو مناضلة"؛ لأن الغرض يختلف به. وقيل: إذا أطلق العقد حمل على المبادرة، وهو الأصح في "التهذيب". قال: فالمحاطة: أن يحط أكثرهما إصابة من عدد الآخر؛ فيفضل له عدد معلوم يتفقان عليه فيفضله به. تقرير هذا الكلام ما قاله الشيخ محيي الدين النواوي: إن لفظة "من" هاهنا بمعنى "عوض"؛ كما في قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ} [التوبة: 38] أي: بدل الآخرة وعوضها، وقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة: 178] أي: بدل أخيه، وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60] أي بدلكم، ومنه قولهم: عوضت فلاناً من دراهمه ثوباً،

أي: بدلها، ذكره الأزهري. ومعنى كلام المصنف: المحاطة: أن يحط، أي: يسقط، أكثرهما إصابة، من إصاباته مثل عدد إصابات الآخر. مثاله: قالا: يرمي كل واحد عشرين سهماً، ويضم الإصابات بعضها إلى بعض فمن فضل له خمسة مثلاً فهو ناضل، وليس للثاني أن يكلفه [تمام الرمي؛ لفقد فائدته. وفيه وجه: أنه يكلفه]، كما ستعرف أصله في مسألة المبادرة. ولو رميا عشرة، فأصاب أحدهما منها ستة، والآخر واحداً- كان له طلب الرمي؛ لأنه يرجو أن يصيب العشرة الباقية ويحطها صاحبه؛ فتحصل له أحد عشر، ولصاحبه ستة فينضله. وهكذا لو رميا خمسة عشر، فأصاب أحدهما عشرة، والآخر خمسة- فله طلب الرمي؛ لرجائه أن يرمي الخمسة الباقية فيصيبها ويخطئ صاحبه [فيها] فيساويه. وهكذا لو رميا خمسة عشر فأصاب أحدهما أحد عشر، والآخر اثنين- فله طلب الرمي؛ لاحتمال [أن يصيب الباقي فيكمل له سبعة، ويخطئ صاحبه الثاني فلا يكون قد أتى بالمشروط]؛ لأن الفاضل حينئذ [يكون أربعة. وفي "الشامل" حكاية وجه: أن المفضول في هذه الأحوال ليس له طلب الرمي، وأنه] يكون منضولاً؛ لأن صاحبه قد ساواه فيما رماه وزاد عليه بالقدر المشروط- وهو خمسة- فشابه المبادرة. وسلك الرافعي طريقاً آخر فقال: إذا حصل الفضل بالقدر المشروط قبل استكمال الرشق، فهل يستحق [من له الفضل المال قبل إتمام الرشق؟ فيه وجهان، أصحهما: المنع. فإن قلنا: لا يستحق] المال ما لم يكمل الرشق، فلا بد من إتمامه، وإن قلنا بالاستحقاق، وقلنا: لا حط بعد خلوص العدد المشروط، فهل للآخر أن يكلفه إتمام العمل؟ فيه وجهان يأتيان في المبادرة. قال: "والمبادرة: أن يشترطا إصابة عشرة من عشرين، فيبدر أحدهما" أي

يسبق "إلى إصابة العشرة" أي: موضع التساوي في الرمي؛ "فينضل صاحبه". قال بعضهم: وهذه من صور المبادرة، وإنما المبادرة: أن يشترطا إصابة معلومة من الرشق، وأن من بدر منهما إليها مع تساويهما في الرمي كان ناضلاً، وعلى هذا جرى في "المهذب"، وابن الصباغ، وحكى في "الشامل" أن البويطي قال: المبادرة: أن يقوما جميعاً سهميهما، فأيهما وقع سهمه أولاً بدره بالسبق. وقال: الأصح الأول. فرع: إذا رمى كل واحد منهما عشرة وأصابها فقد تساويا، فلا يكمل الرشق؛ لأن المشروط من الإصابة حصل. وكذا لو أصاب أحدهما العشرة، والآخر تسعة، لكن [في هذه الصورة: الأول ناضل. وحكى الإمام وجهاً: أن الناضل يلزمه] الإتيان ببقية الرمي؛ لينتفع صاحبه بمشاهدة رميه، ويتعلم منه. وقرب هذا الخلاف من الخلاف في الرجوع إلى أجرة المثل عند فساد هذه المعاملة: إن قلنا: لا يرجع بالأجرة، وإنه يعمل لنفسه، واستحقاقه بالشرط- فلا يكلف إتمام العمل. وإن أثبتنا الرجوع بأجرة المثل، فقد قدرنا العمل كالمنافع المستحقة؛ فلا يبعد أن يكلف استكمال العمل بعد الفوز بالمال. ومقتضى هذا البيان: أن يكون الصحيح وجوب إتمام العمل؛ لأن الصحيح استحقاق أجرة المثل، لكن الصحيح الأول. ولو أصاب الأول تسعة من العشرة، والثاني ثمانية: فالنضال بحاله؛ فيرميان: فإن رمى الأول سهماً فأصاب، فقد نضل، وسقط رمي الثاني، على الأصح. وإن رمى سهمين فأخطأ فيهما، ورمى الثاني سهمين، فأصاب فيهما]- كان هو الناضل؛ لأن الأول أصاب تسعة من اثنين وعشرين، [والثاني أصاب عشرة من اثنين وعشرين]. أما إذا ابتدر أحدهما إلى إصابة العشرة من عدد، ولم يستوف الآخر ذلك العدد، وأمكن أن يساويه في تحصيل المشترط: كما إذا رمى أحدهما العشرة وأصاب تسعة، والآخر كذلك، ثم رمى الأول سهماً وأصاب- فليس بفائز؛ بل يرمي الثاني سهماً: فإن أصاب فقد استويا، وإن أخطأ فالأول ناضل.

قال: والمناضلة: أن يشترطا إصابة عشرة من عشرين على أن يستوفيا جميعاً، أي: العشرين، فيرميان معاً جميع ذلك: فإن أصاب كل واحد منهما العشرة [أو أكثر أو أقل أحرزا سبقهما، وإن أصاب أحدهما دون العشرة] وأصاب الآخر العشرة أو فوقها فقد نضله. وقد ذكر الأصحاب نوعاً آخر يسمى الحوابي: وهو أن يشترك إصابة عدد من الرشق، على أن يسقط ما قرب من إصابة أحدهما ما بعد من إصابة الآخر؛ فمن فضل له بعد ذلك من الإصابة ما اتفقا عليه من العدد كان السبق له. مثاله: إذا رمى أحدهما، فأصاب من الهدف موضعاً بينه وبين الغرض قدر شبر- حسب له، فإذا رمى الآخر فأصاب موضعاً بينه وبين الغرض إصبع حسب له، وأسقط ما رماه الأول، فإن عاد الأول فرمى وأصاب الغرض أسقط ما رماه صاحبه. ولو رمى أحدهما أولاً فأصاب الشن، ورمى الثاني فأصاب الرقعة التي في وسط الشن- قال الرافعي: القياس عندي أنهما سواء؛ لأن [القريب] إنما يسقط البعيد إذا كان خارجاً من الشن، أما إذا كان في الشن فلا؛ لأن الشن كله موضع الإصابة. قال: وأن يكون البادئ [منهما] معلوماً، أي: حالة العقد؛ لأنه لو أطلق من غير شرط لما كان أحدهما بأولى من الآخر، ولا سبيل إلى القرعة؛ لأن هذا العقد موضوع على نشاط القلب وقوة النفس؛ فلو اعتبرت لكان في خروجها لأحدهما كسر قلب الآخر فيسوء رميه. وقيل: إن شرط ذلك وجب الوفاء [به]؛ عملاً بالشرط، "وإن لم يشرط جاز"؛ لأن ذلك من توابع العقد، ويمكن تلافيه بما تذهب به التهمة من تراض أو عرض أو قرعة- كما سنذكره- وهذا ما حكاه القاضي الحسين. قال: "فإن تشاحا أقرع بينهما"؛ لأن القرعة يرجع إليها في كثير من مواضع المنازعات، وهذا ما اختاره القاضي الطبري، وهو ظاهر نصه في "الأم"، ويدخل المحلل إن كان ثم في هذه القرعة.

وقيل: إنه ينزل على عادة الرماة، وهو تفويض الأمر إلى المستبق: فإن أخرج السبق أحدهما فهو أولى بالبداية، وإن أخرجه غيرهما قدم من شاء منهما، وإن أخرجاه جميعاً حكمت القرعة. وعلى هذا لا يدخل المحلل في القرعة. وحكى القاضي الحسين: أنه إن كان المخرج للسبق غيرهما، رجع إليه، وإن كان المخرج له أحدهما، فوجهان. فرع: إذا شرط تقديم واحد، واعتبرنا القرعة، فخرجت لواحد، فيقدم في كل رشق، أو يؤثر بسبب التقديم في السهم الأول خاصة؟ فيه وجهان حكاهما الإمام، والمذكور في تعليق القاضي الحسين: الأول. ولو صرحوا بتقديم من قدموه في كل رشق اتبع الشرط؛ كما نقله الإمام عن الأصحاب. وفي الرافعي: أن الشافعي في "الأم" قال: لو شرط أن تكون البداية لأحدهما أبداً، لم يجز؛ لأن المناضلة مبنية على التساوي. وقضية هذا: أن يبتدئ الثاني في النوبة الثانية، ويتصل رميه برميه. وفائدة استحقاق التقديم: أن غيره لو رمى في نوبته لم يحسب له ولا عليه. قال: "ويرميان سهماً سهماً" أي: عند الإطلاق؛ لأنه المتعارف [عند الرماة]، فإن شرط [أن يرمي أحدهما] بجميع سهامه- حملاً على الشرط – عَمِلا بمقتضاه. وهكذا لو وقع الشرط على أن يرميا عشرة عشرة، أو خمسة خمسة: اتُّبعَ. فرع: يستحب أن يكون الرمي بين غرضين متقابلين: يرمي المتناضلان أو الحزب من عند أحدهما إلى الآخر، ثم يأتيان الثاني، ويلتقطان السهام، ويرميان الأول؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا بَيْنَ الْهَدَفَيْنِ رَوْضَةُ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ".

قال: وأن تكون صفة الرمي معلومة من القرع والخزق والخسق والمرق والخرم؛ لأن الغرض يختلف [بذلك]، قال النواوي وغيره: كان الأولى أن يقول: صفة الإصابة؛ لأن ما ذكره صفتها، لا صفة الرمي، لكنه من توابع الرمي ومتعلقاته؛ فأطلق عليه اسمه مجازاً. قال: "فالقرع" أي: بفتح القاف وإسكان الراء "هو إصابة الشن"، [أي]: من غير تأثير فيه، واشتق من قرع الباب. والشن- بشين معجمة ونون مشددة-: الجلد البالي الذي أتى عليه سنون، وجمعه: شِنان؛ ككلب وكلاب، والقرطاس للعجم كالشن للعرب، وقد سمى المحاملي السهام التي يحصل بها القرع: الخواصر، بخاء معجمة وصاد غير معجمة. وقال ابن الصباغ: الخواصر: ما كانت في جوانب الغرض، ومنه قيل: الخاصرة؛ لأنها من جانبي الإنسان، ويقال: حاز السهم بهذا المعنى، وجاز: إذا وقع وراء الهدف. قال: "والخزق" أي: بفتح الخاء المعجمة وإسكان الزاي: "أن يخدش الشن" أي: بكسر الدال "ولا يثبت فيه، والخسق": أي بفتح الخاء المعجمة وإسكان السين المهملة وقاف "أن يثبت فيه" أي: بعد أن يثقبه. قال: "والمرق" أي: بفتح الميم وإسكان الراء "أن ينفذ فيه"، قال صاحب "رفع التمويه": واشتقاقه من المروق، وهو: الخروج من الشيء، وإنما يتصور ذلك إذا كان الشن معلقاً، واعتبر ابن الصباغ في هذه التسمية أن يقع من الجانب الآخر. قال: "والخرم" أي: بفتح الخاء المعجمة وإسكان الراء "أن يقطع طرف الشن، ويكون بعض النصل في الشن وبعضه خارجاص منه"، وقد أضاف بعضهم إلى صور الكتاب صورة أخرى، وهي: الخرق- براء غير معجمة- وفسرها بأن يثقب الشن فقط. وعد ابن الصباغ من صفة الرمي: الحوابي، وهو ما وقع بين يدي الغرض، ثم حبى إليه؛ ومنه يقال: حبا الصغير. والخواصل- وهو كما قال الأزهري-: ما

أصاب القرطاس؛ يقال: أخصلت مناضلي، أخصله خصلاً. قال: "فيحملان على ما شرطا" عملاً بالشرط، قال في "المهذب": فإن أطلق العدق حمل على القرع؛ لأنه المتعارف، وقضية ذلك: أن يكون التعيين ليس بشرط؛ إذ لو كان شرطاص لما صح عند الإطلاق، وقضية كلامه هنا: أن التعيين شرط، وكما دل عليه كلام ابن الصباغ بعد قوله: إن كيفية الإصابة منقسمة إلى حوابي وخواصر وخوازق وخواسق وخواصل، وللإصابات أسماء غير هذه، ولكنها ليست من شرائط المناضلة، وقد صرح في "التهذيب" بالاشتراط بقوله: ويشترط في المناضلة بيان ستة أشياء، وعد منها صفة الإصابة، لكنه ذكر بعد ذلك مثل ما ذكره الشيخ في "المهذب". فرع: لو شرطا قرع عشرة من عشرين، وأن يحسب خاسق كل واحد منهما بقارعين- جاز، فإن أصاب أحدهما تسعة قرعاً، وأصاب الآخر قارعين وأربعة خواسق- فقد نضله؛ لأنه استكمل العشرة بالخواسق. قال في التهذيب: [وقيل:] هذا لا يجوز. واعلم أنه لا يجوز أن يتفاضلا في عدد الإصابة ولا في عدد الرشق، ولا في صفة الإصابة، ولا في محل الإصابة، ولا يحسب قرع أحدهما خسقاً ولا أن يكون في يد أحدهما [من السهام] أكثر مما في يد الآخر في حال الرمي، ولا أن يرمي أحدهام والشمس في وجهه، ولا أن يشترط تقدم أحدهما في الموقف؛ لأن القصد أن يعرف حذقهما، وذلك لا يعرف مع الاختلاف؛ فإذا شرط شيئاً من ذلك بطل العقد. ولو قدم أحد الراميين قدمه عمداً عند الرمي فلا بأس. وكذا يغتفر وقوف الرماة صفاً، ويرمي كل واحد منهم من موضعه، وإن كان الواقف في الوسط أقرب إلى الهدف من غيره. ولو تقدم الرامي الثاني عن الأول بخطوة أو خطوتين أو ثلاث، فإن كان ذلك عادة الرماة ففيه وجهان، ووجه الجواز: أن ذلك في مقابلة قوة النفس الأول بالبداية، فإن لم تكن عادة مطردة وجبت رعاية المساواة. قال: وإن شرطا إصابة حوالي الشن، فأصاب الشن أو بعيداً منه- لم

يحسب له؛ لأنه لم يأت بالمشروط. ولو كان الشرط إصابة الغرض، فأصاب الشن أو الجريد الذي يداور الشن، أو العرى وهي السير الذي يشد به الشن على الجريد حسب له؛ لأن ذلك كله من الغرض. وإن [شرطا] إصابة العلاقة التي يعلق بها الغرض في الهواء؛ فقولان. ولو شرط إصابة الشن، فأصاب العلاقة أو السير الذي يشد به، لم يحسب. قال: "وإن شرطا الخسق، وفي الغرض حصاة منعت من الخسق، أي: بتواقف المتراميين، فخرق السهم وسقط- حسب له خاسقاً؛ لأن الغرض إصابة الغرض وقد حصل". وفي "الرافعي": أن بعضهم أجرى في ذلك قولين. فإن قلنا: لا يحسب له، ويجعل كالعوارض المانعة [التي] نذكرها. ولو ادعى الرامي أن الحصاة منعت من الخسق، وهي موجودة في موضع الإصابة، [وأمكن الرسيل- فوجهان فيمن القول قوله. ولو لم يكن في موضع الإصابة] فالقول قول الرسيل بلا يمين. ولو لم يعرف موضع الإصابة، فإن كانت الحصاة موجودة فالقول قول الرسيل مع اليمين، وإذا حلف لم يحسب له، وهل يحسب عليه؟ فيه وجهان، أظهرهما: لا. وإن لم يكن ثم حصاة [فالقول قول الرسيل بلا يمين، وحسب على الرامي، أما إذا لم يكن ثم حصاة] وقد خرق السهم وسقط ولم يثبت، ففيه طريقان: أحدهما: أن فيه قولين، أظهرهما: أنه خسق. والطريق الثاني: القطع به، وهو الذي نص عليه في "المختصر"، والقول الآخر حكاه عن غيره، وهذا ما اختاره القاضي ابن كج والروياني وغيرهما؛ لأنه قد حصل الخسق، والمرق بعده يدل على زيادة القوة، ولو ثبت ثم سقط حسب له؛ كما لو ثبت ثم نزعه إنسان. ولو لم يثبت، ولكنه ثقب الموضع بحيث يصلح لثبوت السهم – ففيه قولان في "المهذب" وغيره:

أظهرهما عند الشيخ أبي حامد والإمام: أنه يحسب له خاسقاً، وفي موضع القولين طرق: أحدها: أن الخلاف فيما إذا كان خرم النصل خارجاً، أما إذا أخذ الغرض خرم النصل كله فقد حصل الخزق بلا خلاف. [والثاني: أنه إن كان بعضه خارجاً لم يحسب خاسقاً بلا خلاف]. ومحل القولين ما إذا بقيت جليدة تحيط بالنصل، ذكره في "المهذب". والثالث: إن أبان من الطرف قطعة لو لم يبنها لكان الغرض محيطاً بالنصل، فهو خاسق قولاً واحداً، والقولان فيما إذا خرم الطرف لا على هذا الوجه. والرابع: أنه إذا خرم الطرف لم يكن خاسقاً بلا خلاف، وإنما الخلاف فيما إذا خرم شيئاً من الوسط وثبت مكانه، وهذا أبعدها. [وعن القفال]: أنه لو كان بين النصل وبين الطرف شيء، لكنه تشقق وانخرم ليبوسةٍ كانت في الشن أو غيرها فهو خاسق، ولو فرض ما ذكرناه من إصابة الطرف، والمشروط القرع أو الإصابة دون الخسق ففيه طريقان: أحدهما: طرد القولين، وبه قال ابن القطان. قال: "وإن انقطع الوتر أو انكسر القوس" أي: قبل خروج السهم، لا بتقصيره وسوء رميه "أو استغرق في المد فسقط" أي السهم مثل أن بالغ في نزع القوس حتى وصل النصل إلى القبضة؛ فخرج السهم من يده بغير اختياره. قال: "أو عرضت [ريح] في يده أو هبت ريح شديدة، فرمى فأخطأ- لم يحسب عليه"؛ إحالة للخطأ على السبب العارض، وقيل: يحسب عليه في صورة الأعلاق؛ لأنه منسوب لتقصيره كما لو انكسر القوس أو انقطع الوتر بتقصيره وسوء رميه؛ فإنه يحسب عليه، وحكى الإمام وجهاً: أن السهم عند هذه العوارض إن وقع قريباً من الغرض حسبت الرمية عليه؛ لأنه قد وقع في حد غير بعيد عن الإصابة؛ فكأن النكبة لم تؤثر، ونسبه إلى أبي إسحاق، وخصص الأكثرون هذا الوجه بما إذا وقع السهم مجاوزاً للغرض، وجعلوا المجاوزة مشعرة بأن النكبة لم تؤثر، أما إذا حصل انقطاع الوتر وانكسار القوس بعد خروج

السهم فلا أثر له، صرح [به] ابن كج. قال: "وإن هبت ريح شديدة" أي: بحيث لم يكن له فيها حيلة، فرمى "فأصاب- لم يحسب له"؛ لأنه لم يكن بجودة رميه. وفي "الرافعي" و"الحلية" حكاية وجه فيه؛ أخذاً مما سنذكره فيما إذا أصاب السهم ارض فازدلف، ونفى الشيخ في "المهذب" الخلاف فيه، وفرق بينه وبين الازدلاف: بأن ذلك قد حصل بحدة رميه، ومع الريح العاصفة لا يعلم أنه أصاب برميه، وحكى الماوردي الوجهين في كتاب السرقة كالوجهين فيما إذا نقب ووضع المتاع في النقب، فهبت الريح فأخرجته، وجزم بأنه لو رمى في وقت هبوب الريح، فأعانته، فأصاب- حسب له؛ كما لو وضع المتاع في وقت هبوب الريح في النقب، فأخرجه: يقطع. ولو كانت الريح لينة فلا أثر لها، حتى لو رمى رمياً ضعيفاً، فقوته وأصاب- حسب له. وإن صرفت السهم بعض الصرف فأخطأ حسبت عليه؛ لأن الجو لا يخلو عن الريح الخفيفة غالباً. وفيها وجه: أنها تمنع الاحتساب له وعليه. وإن أصاب مع باقي الأعذار التي ذكرناها، وقلنا: لا تحسب عليه لو أخطأ- قال في المهذب: تحسب له؛ لأنه أدل على رميه. وحكى ابن الصباغ فيه وجهين، أصحهما في الرافعي: الأول. فرع: إذا انكسر السهم بعد خروجه من القوس نصفين، فأصاب بأحد النصفين، فهل يحسب له؟ فيه الوجهان، فإن فرعنا على الأصح فبأي النصفين الاعتداد؟ فيه وجهان: أحدهما: بالذي فيه النصل، فإن أصاب حسب له، وإلا فلا؛ كما لو أصاب بالأسفل من غير كسر السهم. والثاني: بالذي فيه الفُوقُ ولا عبرة بالآخر. وهذا ما أجاب به في "التهذيب"، والأول هو المنصوص، وبه أجاب العراقيون. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي: أن الرمي إذا وجد بغير هبوب الريح

الشديدة, وترتب عليها الخطأ أو الإصابة، لا يحسب ذلك، وهو ما حكي عن أبي الطيب بن سلمة والعراقيين، وهو الأظهر في "الرافعي"؛ لقوة تأثيرها، ومن طريق الأولى إذا عرضت بعد إرسال السهم. وفي الحالة الأولى وجه هو ظاهر النص، وبه أجاب الإمام: أنه يحسب؛ لأن ابتداء الرمي والريح تهب عاصفة- تقصير، وأيضاً: فللرماة حذق ونظر في الرمي وقت هبوب الريح؛ ليصيبوا، فإذا أخطأ فقد ترك ذلك النظر، وظهر سوء رميه. فلو ظهر هبوبها بعد خروج السهم من القوس فقضية الترتيب أن يقال: إن جعلنا اقترانها مؤثراً فطرؤها أولى، وإلا فوجهان: أحدهما: أنه كالنكبات العارضة. والثاني: المنع؛ لأن الجو لا يخلو عن الريح، ولو فتح هذا الباب لطال النزاع. قال: "وإن انتقل الغرض بالريح فأصاب موضعه، والشرط هو القرع حسب له"؛ لأنه لو كان الغرض مكانه لقرعه. وقيل: لا يحسب له ولا عليه، وقد نسب هذا إلى ابن القاص، فلو أصاب الغرض لم يحسب له وحسب عليه. قال: وإن كان الشرط هو الخسق، فثبت السهم، والموضع في صلابة الغرض [أي: بأن كان من الخشب أو الآجر أو الطين اليابس حسب له؛ لأنه لو كان الغرض مكانه لخسقه. وعن "الحاوي"، حكاية وجه: أنه لا يحسب له ولا عليه. ولو كان الموضع دون صلابة الغرض] كما إذا كان تراباً أو طيناً ليناً؛ فلا يحسب له ولا عليه؛ لأنه لا يدري هل كان يثبت لو أراد موضعاً [أم لا]؟ قال: وإن أصاب السهم الأرض [فازدلف]، أي: انتقل ووثب، وفي رفع التمويه أنه يقال: ازدلف الرجل، أي: تقدم، والأفصح أن يقال: زلف. قال: "وأصاب الغرض، حسب له في أحد القولين" وهو الأصح عند العراقيين، لأنه أصاب الغرض بالنزعة التي أرسل بها، وما عرض دونه كشيء

هتكه، ثم أصاب، وكما لو صرف الريح اللينة السهم فأصاب. "ولم يحسب له ولا عليه في القول الآخر؛ للشك. وهذا أصح عند الإمام، [والخلاف المذكور يجري فيما لو أصاب السهم شجرة أو حائطاً ثم أصاب الغرض. ووجه المنع: أصح عند الإمام] – أيضاً- لكنه فرض المسألة فيما إذا كانت الشجرة مائلة عن قبالة الغرض، ثم ردته الصدمة إلى الغرض. وقال أبو إسحاق: يحتمل أن يكون الجواب على اختلاف حالين: فإن كانت الأرض أعانته لم يحسب له، وإن لم تعنه حسب له. أما لو ازدلف فأخطأ فهل يحسب عليه؟ فيه وجهان- أظهرهما وبه أجاب الشيخ أبو محمد-: نعم. ولو ارتفع السهم في الهواء، ثم خطف نازلاً، فأخطأ- حسب عليه، وإن أصاب فهل يحسب له؟ فيه وجهان، أحدهما: لا، فعلى هذا: هل يحسب عليه من خطئه؟ فيه وجهان، [وهذا السهم يقال له: سهم خاطف]. قال: "وإن شرطا الرمي [عن القسي] العربية أو الفارسية، أو أحدهما يرمي [عن العربية]، والآخر [عن الفارسية]- حملا عليه"؛ عملاً بمقتضى الشرط. وكذا لو شرط أن يرمي أحدهما بالنبل والآخر بالنشاب.

وعن رواية صاحب "التقريب" وجه: أنه لا تجوز المناضلة على النبل والنشاب، وانهما ينزلان منزلة الخيل والبغال، وإلى هذا مال ابن كج. ولو شرطا أن يرمي أحدهما بالسهام، والآخر بالمزاريق أو الحراب إذا جوزنا المناضلة عليهما- فهل يجوز ويتعين الشرط أو لا يجوز؟ فيه وجهان كالوجهين في المسابقة على الخيل والإبل، وهذه الصورة أولى بالجواز؛ لأن التعويل في المسابقة على المركوب، والتعويل في الرمي على الرامي؛ فإنه لا عمل لآلته، ومع هذا فالجواب في "المهذب": المنع. قال: وإن أطلقا العقد حملا على نوع واحد أي: المتعارف في ذلك الموضع؛ لأن العرف يحكم عند الإطلاق كما في النقود المختلفة. وعن ابن القاص بأنه لا يصح مع الإطلاق؛ لأن الأغراض متفاوتة، والإصابة في الأنواع والحذق في استعمالها [يختلف]؛ فلا بد من البيان. وعلى الأول- وهو الأظهر، وبه أجاب الأكثرون-: لو لم يكن عرف بطل العدق؛ إذ لا مرجح. وقيل: يصح، ويستويان بالتراضي في القوس إما العربية أو العجمية، فلو تراضيا على أن يرمي أحدهما بالعجمية والآخر بالعربية ففي "التهذيب" ما يدل على الجواز، وهذا هو قياس الابتداء. ولو اختار أحدهما نوعاً، وقال الآخر: [بل] نرمي بنوع آخر- ففي "الحاوي": أنهما إن أصرا على النزاع [صح] الفسخ. والذي ذكره الإمام: أنا إذا قلنا بالجواز انفسخ، وإن قلنا باللزوم؛ فالوجه أن يحكم أن الإطلاق مفسد؛ لإفضائه إلى النزاع المذكور، وتعذر الفصل. قال: "وإن تلف القوس أبدلت، أي: بقوس من نوعها؛ لأن المقصود حذق

الرامي، وهو حاصل مع ذلك. قال النواوي: كذا ضبطناه عن نسخة المصنف بحذف التاء [من] "تلف"، وهو جائز، وبإثباتها في "أبدلت"، وهو لازم إذا أنثنا "القوس" وهو المشهور. ولا يجوز أن يبدلها بأعلى منها، وهل يجوز أن يبدلها بما هو دونها، كما إذا أبدل العربي بالفارسي؟ [فيه] وجهان، أظهرهما: المنع إلا برضا الشريك؛ لأنه ربما كان استعماله لأحد النوعين أكثر، ورميه به أجود. فرع: لو عينا قوساً أو سهماً من نوع لم يتعين، وجاز إبداله بمثله من ذلك النوع، سواء حدث فيه خلل أم لا، بخلاف الفرس. ولو شرط ألا يبدل ففيه ثلاثة أوجه حكاها في "الحلية" كالأوجه فيما إذا اكترى دابة وشرط ألا يركبها غيره: أظهرها: فساد الشرط والعقد. وثانيها: فساد الشرط خاصة. وثالثها: صحتها. ويجب الوفاء بالشرط ما لم ينكسر المعين وأمكن استعماله، فإذا انكسر جاز الإبدال للضرورة، فإن شرط ألا يبدل وإن انكسر فلا يحتمل هذه المبالغة؛ فيفسد العقد. قال: وإن مات الرامي بطل العقد؛ لأنه تعذر المقصود منه فشابه فوات المبيع قبل القبض، وهكذا الحكم فيما لو ذهبت يده. قال: "وإن عرض عذر" أي: يمنع الرمي، من مطر أو ريح أو ليل- جاز قطع الرمي أي تأخيره؛ لقيام العذر. والله- تعالى- أعلم.

باب إحياء الموات وتملك المباحات

باب إحياء الموات وتملك المباحات الموات، والموتان- بفتح الميم والواو- والميت، والميتة: الأرض الميتة التي لم تعمر قط، ويطلق الميت والميتة على الأرض التي لم تمطر ولم يصبها ماء. والموتان جمع "موات". قال الأزهري وغيره: كل شيء من مباح الأرض لا روح فيه يقال له: موتان الأرض، وما فيه روح: حيوان. والموتان- بضم الميم وإسكان الواو: الموت الذريع الذي يقع في الناس والبهائم، حكاه القاضي الحسين في "تعليقه" وأبو الطيب، وقيده الجوهري بالذي يقع في الماشية. وبفتح الميم وإسكان الواو: عمى القلب، يقال: رجل موتان القلب، [وامرأة موتانة القلب]: إذا لم يفهما، حكاه الجوهري والزبيدي في "مختصر العين". وعن الخطابي: أن هذه لغة في "موتان الأرض". والأصل في هذا الباب: ما روى النسائي عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَحْيَا أرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقُّ"، وخرجه - أيضاً-

الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.

وروى أبو داود عن عروة بن الزبير مثله. قال القاضي أبو الطيب: وربما ذكر "العرق" مضافاً إلى "الظالم" [وليس كذلك]، وإنما "العرق" منون القاف، و"الظالم" صفة له، و"العرق" قال الشافعي: هو كل ما وضع في الأرض للنبات. قال في البحر: والعروق أربعة: عرقان ظاهران، [وهما البناء والغراس]، وعرقان باطنان، وهما البئر والنهر. وروى أبو داود عن عروة- أيضاً- قال: "أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الْأَرْضَ أَرْضُ اللهِ وَالْعِبَادَ عِبَادُ اللهِ، وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتاً فَهُوَ أَحَقَّ بِهَا. جَاءَنَا بِهَذَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الَّذِينَ جَاءُوا بِالصَّلَوَاتِ عَنْهُ". ولأن ما لم يجر عليه ملك نوعان: أرض وحيوان، فلما ملك الحيوان إذا ظهر عليه بالاصطياد، ملك موات الأرض إذا ظهر عليه بالإحياء. قال الإمام: وقد أجمع المسلمون على جواز ذلك في الجملة، وإن اختلفوا في التفاصيل. قال: "من جاز أن يملك الأموال" أي: من مكلف وغيره "جاز أن يملك الموات بالإحياء"؛ لأنه يملك بفعل فجاز من كل من يملك المال كالاصطياد، ولا فرق في ذلك بين [أن] يأذن الإمام فيه أو لا؛ اكتفاء بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأسباب المملكة للمال ثمانية: الميراث، والمعاوضات، والهبات، والوصايا، والوقف، والصدقات، والغنيمة، والإحياء. والملك به مستحب عند علماءنا كما

قاله الشيخ في "المهذب" وغيره؛ لقوله- عليه السلام-: "مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيِّتَةً [فَلَهُ] أَجْرُ، وَمَا أَكَلَتِ الْعَوَافِي فَهُوَ لَهُ صَدَقَةُ". والعوافي: الوحش والطير والسباع، مأخوذ من قولهم: عفوت فلاناً أعفوه: إذا أتيته تطلب معروفه، وكل طالب رزقاً من إنسان [وغيره] فهو عافية، وجمعه: عوافي. واحترز الشيخ بقوله: "من جاز أن يملك الأموال" عن العبد؛ فإنه ليس بأهل لملك الأموال على الجديد، فإذا أحيا شيئاً كان ملكاً لسيده وإن لم يأذن فيه، كما إذا احتطبه واصطاده. قال: "ولا يجوز للكافر" [أي]: الذمي "أن يتملك بالإحياء في دار الإسلام"؛ لما روى الشافعي عن سفيان عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ... عَادِيُّ الأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي" يريد: ديار عاد وثمود ومن تقدم من الأمم، والياء في "عادي" مشددة. وروي: "مَوَتَانُ الأَرْضِ للهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي"، فواجه المسلمين بخطابه، وأضاف ملك الموات إليهم؛ فدل على اختصاص الحكم بهم، ويدل عليه أنه جاء في رواية حكاها البغوي في

"التهذيب" والإمام: "ثم هي لكم مني أيها المسلمون". ولأن من لم يقر في دار الإسلام إلا بجزية لا يملك بالإحياء، كالمعاهد، ولأنه نوع تمليك ينافيه كفر الحربي؛ فوجب أن ينافيه كفر الذمي؛ كالإرث من مسلم. وما تمسك به أبو حنيفة في جواز إحياء الذمي من عموم قوله- عليه السلام-: "مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ .. "، والقياس على الاحتطاب- فمدفوع؛ لأن الخبر وارد في بيان ما يقع به الملك. وقوله: فـ"هِيَ لَكُمْ مِنَّي" وارد في بيان من يقع له الملك؛ فصار المفسر في كل واحد منهما فيما قصد له قاضياً على صاحبه؛ فصار الخبر في التقدير: من أحيا أرضاً ميتة من المسلمين فهي له. والقياس منتقض بالغنيمة، ثم لو سلم من النقض فالفرق: أن الحطب والحشيش يستخلف فلا يتضرر المسلمون بأخذه، بخلاف الموات، وهذا هو المذهب. وقيل: إذا أحيا بإذن الإمام ملك، و [به] قال الأستاذ أبو طاهر: ثم على الأول: إذا أحيا وكان له عين مال كان له نقله، فإن بقي أثر العمارة: فإن أحيا محي بإذن الإمام ملكه، وإن لم يأذن فوجهان. فإن رتك العمارة متبرعاً تولى الإمام أخذها وصرفها إلى مصالح المسلمين، ولا يجوز لأحد تملكها. قال: "ويملك في دار الشرك"؛ لأنه من حقوق دارهم، ولا [ضرر] على المسلمين فيه؛ فملكوه بالإحياء كما تملكوا الصيد بالاصطياد، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المسلمون قد فتحوا ذلك أم لا إذا لم يكونوا قد ذبوا عن الموات، كما صرح به الإمام؛ لأنه ليس من بلاد الإسلام حتى يمتنع إحياؤه عليهم، أما إذا كانوا قد ذبوا عنه بالقتال فسنذكره. قال: "وكل موات لم يجر عليه أثر ملك ولم يتعلق بمصلحة عامر" أي: لحريم الملك ونحوه، كما سنذكره- "جاز تملكه بالإحياء"؛ لما ذكرناه. قال الإمام: ولا يشترط في ذلك العلم والدرك الحقيقي، بل يكفي ألا يرى

على ذلك أثر عمارة، ولا يراه من حقوق موضع عليه أثر عمارة، ولا يعلم أنه كان عامراً بسبب من الأسباب. قال: "وما جرى عليه أثر ملك" أي: وكان خرابة بعد الإسلام "ولا يعرف له مالك: فإن كان في دار الإسلام لم يملك بالإحياء"؛ لما روى البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَعْمَرَ أَرْضاً مَيِّتَةً لَيْسَتْ لأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا"، فشرط ألا تكون لأحد، وهذه إما لوارث أو لبيت المال، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"، وهذا مال امرئ مسلم في الظاهر؛ فعلى هذا يجوز للإمام أن يحفظه إلى أن يظهر صاحبه إذا رأى فيه مصلحة، وإن رآها في البيع فعل وحفظ ثمنه، وله أن يستقرضه على بيت المال، صرح به الإمام. وهل يجوز أن يقطعه لمن يعمره؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي عن ابن كج، ورجح الروياني وجه الجواز، وحكى البندنيجي وغيره وجهاً آخر: أنه يملك بالإحياء. وصور القاضي أبو الطيب محله بما إذا خربت قرية المسلمين وتعطلت؛ تمسكاً بقوله – عليه السلام-: "مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ"؛ فإن هذا أحق بالتسمية؛ لأنه كان حياً بالعمارة وقد مات بالخراب. والقائلون بالأول قالوا: ما لم يحي أصلاً أحق به؛ لأنه ميتة في كل حال. قال: وإن كان في دار الشرك فقد قيل: يملك؛ لأن الظاهر أنها لمن لا حرمة له فأشبهت الركاز، وهذا ما صححه الرافعي والبغوي، وبه قال صاحب "الإفصاح" وابن أبي هريرة. وقال في "البحر": إنه أشبه بمذهب الشافعي. فعلى هذا يجوز نقل ترابه، ومن بادر إلى أخذه ملكه، "وقيل: لا يملك"؛ لجواز أن يكون لمن لم تبلغه الدعوة وقد ورثه مسلم- كما قال أبو الطيب- أو الكافر لا يحل ماله، وهذا ما صار إليه أبو إسحاق، وهو المذهب عند الشيخ أبي حامد ومن تابعه، وعلى هذا: لا يجوز نقل ترابه إلا بإذن الإمام، قاله في "التهذيب". وقد حكى بعضهم هذا الخلاف قولين، وجعله الماوردي وجهين؛ كالوجهين

في الركاز الذي جهل حاله، وهذا يدل على أن الخلاف عند الشك في أنها لمسلم أو لكافر. وإذا جمعت ما قيل في دار الإسلام ودار الكفر واختصرت قلت: في المسألة ثلاثة أوجه، كما حكاها في "المهذب"، ثالثها: لا يملك في دار الإسلام، ويملك في دار الشرك. وحكى القاضي الحسين فيما إذا جرى على ذلك ملك جاهلي، ثم اندرس وخفي المالك، وقاس الجواز على الركاز، والمنع على ملك مسلم، وفرق بين الركاز وبينه: بأنه معرض للضياع فلو منع الواجد من تملكه لتولى عليه غيره، والأراضي مما تبقى بنفسها ولا تضيع. وعلى ذلك جرى الإمام [وأثبت الخلاف] قولين منصوصين للشافعي، وصور المسألة فيما إذا لم يدر كيف استولى المسلمون عليها، أما إذا علمنا كيفية الاستيلاء: فإن كان عنوة سلك بالأرض مسلك المغانم، ثم حصة الغانمين ملحقة بملك المسلم الذي لا يدرى، وإن كان من غير إيجاف [خيل] ولا ركاب فهي فيء. وفي البحر حكاية عن الخراسانيين قولان في مسألة الكتاب: أحدهما: لا تملك بالإحياء. والثاني: لا تملك، بل ينتفع بها ما أراد، ويكون أولى من غيره. وقيل: قولان: أحدهما: يملك. والثاني: يترك في بيت المال، ذكره القفال، وقال مرة أخرى: فيه وجهان: أحدهما: هو كالموات الذي لم يملك قط. والثاني: أنه [فيء]. أما إذا عرف مالكه فلا يجوز تملكه بالإحياء إلا أن يكون كافراً، وقد أعرض عنه قبل القدرة عليه، ولو كان خراب ذلك قبل الإسلام ملكه من أحياه من المسلمين قولاً واحداً، كما قاله الماوردي والإمام عن الشيخ أبي علي، ثم ادعى الإمام أن معظم الأصحاب على مخالفة ذلك والمصير إلى طرد القولين مهما رأينا أنه عمارة جاهلية، وحكى الإمام الرافعي عن ابن سريج وغيره: أنه وقع

الخلاف في المسألة: وينزل الجواز على حالة اندراس أثر العمارة وتقادم عهدها، والمنع على حالة بقاء أثر العمارة أو كان معموراً في جاهلية قريبة فرعان: إذا خرج الكفار من عامر ديارهم وقاتلونا في الموات، فالحكم في موضع القتال وما وراءه واحد، وهو: أنه لا يجوز للمسلم إحياؤه في حال القتال، فإذا ظهر المسلمون على المواضع التي وقع فيها القتال من الموات وما وراءها مع العامر، فهل يجوز تملك ذلك الموات بالإحياء؟ فيه وجهان في الطريقين: المذهب منهما في "تعليق" أبي الطيب: الجواز. وأصحهما – عند بعضهم، وبه جزم الماوردي أيضاً في كتاب السير، ونسبه القاضي أبو الطيب ثم إلى [الشيخ] أبي إسحاق: لا، ولأي معنى؟ فيه وجهان: أحدهما: إقامة لذلك مقام المعمور؛ فيكون غنيمة، وهذا ما نسبه الماوردي إلى القاضي أبي حامد وأبي الفياض. والأصح- وبه جزم الإمام والبندنيجي-: إقامة المنع مقام التحجر، وسيأتي خلاف في جواز بيع المتحجر: فإن جوزناه كان ذلك غنيمة أيضاً، وإن قلنا: لا- وهو الأصح- فالغانمون أحق بإحياء أربعة أخماسه، وأهل الخمس أحق بإحياء خمسه، فإن أعرق الغانمون عن إحيائه فأهل الخمس أحق به، وكذا لو أعرض بعض الغانمين فالباقون أحق، وإن تركه الغانمون وأهل الخمس جميعاً ملكه من أحياه من المسلمين. ولو فتحت البلدة صلحاً على أن تكون لنا، ويسكنوها بالجزية- فالمعمور منها فيء، والموات إن كانوا يذبون عنه هل يكون متحجراً لأهل الفيء؟ فيه وجهان، أصحهما: نعم، وعلى هذا فهو فيء في الحال، أو يخمسه الإمام لهم؟ فيه وجهان؛ أصحهما الثاني. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب في كتاب السير: إن أحيا ذلك على الوجهين في الحالة الأولى، فالمذهب فيهما: أنه يجوز لجميع المسلمين إحياؤه، وقال أبو إسحاق وابن أبي هريرة: لا يحييها إلا الغانمون. وإن صالحناهم على أن

تكون البلدة لهم؛ فالمعمور لهم والموات يختصون بإحيائه؛ فلا يجوز للمسلمين إحياؤه. قال القاضي أبو الطيب: ويخالف دار الحرب؛ حيث قلنا: إذا أحيا المسلم شيئاً منها ملكه؛ لأن دار الحرب تملك بالقهر والغلبة؛ فملك مواتها بالإحياء، وليس كذلك هذه الدار التي حصلت لهم بالصلح؛ لأن المسلمين لم يملكوها [بالقهر] والغلبة؛ فلم يملكوا مواتها بالإحياء. وعن القاضي أبي حامد وصاحب "التقريب": أنه إنما يجب علينا الامتناع عن مواتها إذا شرطناه في الصلح. الثاني: البيع التي للنصارى في دار الإسلام لا تملك عليهم إلا أن يتفانوا؛ فيكون كما لو مات ذمي ولا وارث له؛ فإن ماله يكون فيئاً للمسلمين، قاله في "التهذيب". قال: "والإحياء أن يهيئ الأرض لما يريد"؛ لأن الشرع ورد به مطلقاً، وليس له حد في اللغة ولا ضابط له في الشرع يرجع إليه؛ فاعتبر فيه العرف كالإحراز، وهو كما قال: فإن كانت داراً فبأن يبني ويسقف، أي: بما جرت عادة أهل ذلك الموضع به من حجر أو خشب أو جريد، ولا يشترط سقف جميعها، بل موضعاً منها. وعن رواية صاحب "التقريب": أنه لا حاجة إلى السقف. وقد سكت الشيخ عن نصب الباب وكذلك الماوردي، وحكى غيرهما في اشتراطه وجهين، ورجح الروياني وجه الاشتراط. ولا يشترط السكن فيها بحال، صرح به المتولي وغيره. وقال المحاملي: الإيواء إليها شرط. تنبيه: يسقف: ياؤه مفتوحة وسينه ساكنة وقافه مضمومة، قال أهل اللغة: يقال سقفه يسقفه سقفاً، كقتله يقتله قتلاً. فرع: قال المتولي: أهل البادية ومن يسكن الصحارى جرت عادتهما إذا أرادوا النزول في موضع نظفوا الأرض عن الحجارة والشوك، وسووا ظاهر الأرض؛ ليتأتى ضرب الفسطاط والخيم، وبنوا أبنية مثل المعلف للدواب وما لا بد لهم

منه- فإذا فعلوا ذلك: فإن قصدوا تملك البقعة ملكوها، ولا يزول ملكهم بالارتحال عنها، وإن لم يقصدوا التملك فهم أولى بالموضع ما لم يرحلوا، فإذا ارتحلوا كان لغيرهم أن ينتفع به، كما سنذكره في مقاعد الأسواق. قال: "وإن كان حظيرة" أي: لأجل الدواب أو تجفيف الثمار أو لحفظ الحطب والحشيش "فبأن يحوط عليها" أي: بما جرت به العادة من آجر وجبس، أو آجر وطين، أو حجر وطين، أو لبن وطين "وينصب عليها الباب". وقيل: لا يشترط نصب الباب؛ لأنه يراد للحفظ، وأما الانتفاع فيحصل بدونه، وهذا ما دل عليه كلام الماوردي؛ حيث لم يتعرض إلى ذكر [نصب] الباب، وقدر الإحاطة بقصب أو خشب أو شوك أو حجارة غير مبنية؛ لأن الملك لا يقف عليه في العادة، وإنما يفعل ذلك المحتازون. وفي "البحر": أن بعض أصحابنا بخراسان قال: إذا أحاط به بقصب أو خشب يكون إحياء. وعندي: أن هذا يختلف باختلاف البلاد: ففي طبرستان هذا إحياء؛ لأنه جرى به عرفهم، وهذا ما صرح به الماوردي، وألحق بطبرستان جيلان. ولو حوط بالبناء في طرف، واقتصر في الباقي على نصب الأحجار- حكى الإمام عن القاضي: أنه يكفي، وعن شيخه: أنه لا يكفي في ملك الجميع، ويكفي في ملك موضع البناء، ولا يشترط التسقيف هنا بحال. قال: وإن كان مزرعة فبأن يصلح ترابها؛ أي: بالحرث ونحوه. والحرث، قال الماوردي: يجمع الإثارة، وكسح ما استعلى، وتطويل ما انخفض. قال: ويسوق الماء إليها على حسب ما يليق بها: فإن كانت تشرب من بئر حفر لها بئراً، وإن كانت تشرب من المطر أو من ماء مباح من عين أو نهر- طرق إليها طريقاً بحيث لا يبقى إلا إجراء الماء فيه. قال: "ويزرع في ظاهر المذهب" أي: المنصوص في "المختصر" في هذا الموضع؛ لأن الدار والزريبة لا تصير محياة إلا إن حصل عين مال المحيي؛ فكذلك المزرعة.

وقيل: يملك وإن لم يزرع؛ لأنه انتفاع فلم يكن شرطاً في الملك؛ كسكنى الدار، وهذا [ما] مال [إليه] الأكثرون، ونسبه الماوردي إلى نص في "الأم"، واختيار أبي إسحاق وصححه. ورأيت في "الرافعي" أن الماوردي غلط من قال بخلافه، ولم أره في "الحاوي" في هذا الموضع، [وهو في "الأحكام"]. قال الرافعي: والأشبه تفصيل ذكره القاضي ابن كج، وتلخيصه: [أن البقعة] إن كانت بحيث يكفي لزرعها ماء السماء فلا حاجة إلى سقي ولا ترتيب ماء. وحكى عن أبي علي الطبري وجهاً: أنه لا بد منه وضعفه. وإن كانت تحتاج لها ماء يساق إليها لزم تهيئته من عين أو نهر أو غيرهما، فإذا هيأه بأن حفر له طريقاً ولم يبق إلا إجراء الماء كفى، ولم يشترط الإجراء ولا سقي الأرض، فإن لم يحفر بعد فوجهان. وأرض الجبال التي لا يمكن سوق الماء إليها ولا يصيبها إلا ماء السماء، قال صاحب "التقريب": إلا أنه لا مدخل للإحياء فيها، وبه قال القفال، وبنى عليه أنا إذا وجدنا شيئاً من تلك الأراضي في يد إنسان لم يحكم بأنه ملكه، ولا يجوز بيعه وإجارته. ومن الأصحاب من قال: يملك بالحراثة وجمع التراب على الأطراف، وهو ما اختاره القاضي الحسين، ولا خلاف أنه لا يشترط الحصاد، ويشترط أن يجمع تراباً يحيط بالأرض، وهو الذي يسميه أهل العراق- كما قال الماوردي- مساناة؛ لتتميز عن غيرها، ويقوم مقام ذلك الحجر والقصب والشوك. وعند الشيخ أبي حامد: لا يشترط ذلك بعد سوق الماء إليها، وهو ظاهر كلام الشيخ، ولو كانت الأرض بطائح كان عوض سوق الماء إليها حبس الماء عنها. فرع: إذا قصد إحياء بستان أو كرم فلا بد من التحويط بما جرت به العادة من قصب أو بناء أو شوك، وإن لم تجر عادة به- كما بالبصرة وقزوين- فلا يشترط، وحينئذ يكتفي بجمع التراب حواليه؛ كالمزرعة، كذا قاله ابن كج، والقول في سوق الماء إليه على ما ذكره في المزرعة، وغرس الأشجار عند من اعتبر

الزراعة لا بد منه، وعند من لم يعتبرها هل يعتبر الغرس؟ فيه وجهان، أو قولان: أحدهما: لا، وهو الذي حكاه الماوردي عن نصه في "الأم"، واختيار أبي إسحاق وصححه في الزرع. والأكثرون- كما قال الرافعي- على اعتباره، ومنهم القاضي الحسين، وهو الذي نسبه الماوردي إلى نصه هنا. والفرق من ثلاثة أوجه: أحدها: أن اسم المزرعة يقع على البقعة قبل الزرع، بخلاف البستان. والثاني: أن الزرع يسبقه تقليب الأرض وحرثها؛ فجاز أن يقام مقامه، والغرس لا يسبقه شيء يقوم مقامه. والثالث: أن الغرس يدوم؛ فألحق بأبنية الدار، والزرع بخلافه. ثم على هذا: هل يشترط تعليق الأرض بالغراس، أم يكفي في حصول الملك الغراس في البعض؟ حكى الإمام عن شيخه خلافاً، ثم قال: والوجه عندنا القطع بأن التعليق ليس بشرط. قال: وإن كان بئراً أو عيناً فبأن يحفرها حتى يصل إلى الماء؛ لأنها لا تصير بئراً أو عيناً بدون ذلك، فإن الماء هو المنفعة المقصودة، وهذا إذا لم تكن الأرض رخوة؛ فإن كانت فلا بد من طيها؛ لأنه المتعارف. وقال الرافعي: وفي "النهاية": أنه لا حاجة إليه. فرع: إحياء القناة يتم بخروج الماء وجريانه، وإحياء النهر يتم بحفره وانتهاء فوهة النهر الذي يحفره إلى القديم، مع جرى الماء فيه عند صاحب "التهذيب" وغيره. وفي "التتمة": أن الملك لا يتوقف على إجراء ماء فيه؛ لأنه استيفاء منفعة كالسكون في الدار. قال: "ويملك المحيي وما فيه من المعادن"؛ أي: التي تظهر بعد الإصابة، باطنة كانت أو ظاهرة- كما صرح به الماوردي- لأنها من أجزاء الأرض كترابها، ولا فرق في الباطن بين أن يعلم أنها فيه حالة الإحياء أو لا. وحكى أبو الفرج السرخسي طريقة أخرى حاكية قولين في ملك المعدن الباطن إذا علم به فاتخذ عليه داراً؛ كالقولين [الآتيين] في أنه هل يملك المعدن بالإحياء، فإذا

قلنا: إنه يملكه، قال الإمام: فظاهر المذهب أنه لا يملك البقعة المحياة أيضاً؛ لأن المعدن لا يتخذ داراً ولا مزرعة فالقصد فاسد، ومنهم من قال: يملكها بالإحياء. قال: والشجر والكلأ وما ينبت فيه؛ لأنه تابع. والكلأ: مقصور مهموز، وهو يطلق على الرطب واليابس، بخلاف الحشيش؛ فإنه لا يطلق إلا على اليابس. وذهب الصيمري وجمهور البصريين إلى أن الكلأ النابت في الأملاك لا يملك. قال الماوردي: والأصح عندي اعتبار العرف فيما أرصدت له تلك الأرض، فإن كانت مرصدة لنبت ذلك، وهو المقصود من نباتها: كالآجام المرصدة لمنابت القصب، والغياض المرصدة لمنابت الشجر، والمراعي المرصدة لمنابت الكلأ- فهو ملك لرب الأرض، وإن كانت مرصدة لغير ذلك من زرع وغروس؛ فنبات الكلأ والحشيش فيها ضرر بها؛ فلا يستقر ملكه عليه. وعلى الأوجه الثلاثة لا يلزمه تمكين المواشي من رعيه ولا تمكين أهلها من جزه. قال: "وينبع" أي: من ماء وغيره؛ لأنه مما ملكه فأشبه شعر الغنم. وينبع: مضموم الباء ثانية الحروف، وتفتح وتكسر، ويقال: نبع ينبع نبعاً نبوعاً ونبعاناً. قال: ويملك معه ما يحتاج إليه من حريمه ومرافقه؛ لأن هذا هو العرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده مع تضايق أملاكهم، "وقيل: لا يملك ذلك"، بل يستحق الانتفاع به؛ لأن ذلك يحصل بالإحياء، ولم يوجد فيها إحياء، وهذا ما عزاه ابن الصباغ إلى الشيخ أبي حامد، وقد يستدل له بما روي أنه- عليه السلام- قال:"لاَ حِمَى إِلَّا فِي ثَلاَثَةٍ: [ثُلَّةُ] الْبِئْرِ، وَطَوْلُ الْفَرَسِ، وَحَلَقَةُ الْقَوْمِ" وثلة البئر: ملقى طينها، وطول الفرس: ما انتهى إليه الفرس بحبله الذي قد ربط به، وحلقة القوم: عبر به عن النهي عن الجلوس وسط الحلقة.

والصحيح- وبه قال القاضي أبو الطيب-: الأول؛ كما يملك عرصة الدار ببناء الدار، وإن لم يوجد في نفس العرصة إحياء. فعلى هذا: لو أراد المحيي بيع الحريم دون المعمور هل يجوز؟ جواب الشيخ أبي عاصم العبادي: منعه؛ كما لو باع شرب الأرض وحده. واعلم أن الحريم: هو المواضع القريبة التي يحتاج إليها لتمام الانتفاع، سميت بذلك؛ لأنه يحرم على غير مالكها التعرض لها بنوع عدوان، وكذلك يختلف باختلاف المحيي: فحريم القرى: ما حولها من مجتمع النادي وملعب الصبيان ومرتكض الخيل إن كان سكان القرية خيالة- كما قاله الإمام- ومناخ الإبل ومطرح الرماد والسماد وسائر ما يعد من مرافقها. وأما مرعى البهائم فقد قال الإمام: إن بعد من القرية لم يكن حريماً لها، وإن قرب ولم يستقل مرعى، [ولكن] كانت البهائم ترعى فيه عند الخوف من الإبعاد- فعن الشيخ ابي علي ذكر خلاف فيه، والظاهر عندي: أنه ليس من حريمها، والذي جزم به البغوي: أن مرعى البهائم من حقوق القرية مطلقاً، والمحتطب كالمرعى. وحريم الدار [في الموات]: مطرح التراب والرماد والكناسات والثلخ، والممر في الصوب الذي فتح الباب إليه، وليس المراد منه استحقاق الممر في قبالة الباب، [بل يجوز [لغيره] إحياء ما في قبالة الباب] إذا بقي له ممر، وإن احتاج إلى انعطاف وازورار وعند جماعة من الأصحاب منهم القاضي ابن كج: فناء الدار من حريمها، وكذلك الشيخ أبو حامد وقال: إنه إذا حفر إنسان في فنائها وأصل حيطانها منع منه. وقال ابن الصباغ: عندي أن حيطان الدار لا فناء لها ولا حريم، ولو أراد محي أن يبني بجنبها لم يلزمه أن يبعد عن فنائها. نعم، يمنع مما يضر بالحيطان كحفر بئر في أصل الحائط.

وفي كلام الماوردي إشارة إلى خلاف فيه، كما سنذكره عند الكلام في مقاعد الأسواق. وحريم المزرعة: طرقها ومغيض مائها ومسيله وبيدر زرعها، وما يستغنى به من مرافقها. وحريم البئر: بقدر ما يقف عليه المستقي إن كان للشرب، وبقدره مع الدولاب وترداد البهيمة إن كان الاستقاء بها، ومصب الماء، والموضع الذي يجتمع فيه لسقي الماشية والزرع من حوض أو نحوه، والموضع الذي يطرح فيه ما يخرج منه وإن كان الاستقاء بالناضح، فحريم البئر قدر عمقها من كل جانب، وإن كان ألف ذراع- كما حكاه البندنيجي- وحمل الأصحاب قوله صلى الله عليه وسلم: "حَرِيمُ الْبِئْرِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعاً" على [آبار] الحجاز؛ فإنها تكون عميقة تحتاج في الموضع التي يمر فيها الثور إلى ذلك المقدار. وحريم النهر: ملقى الطين وما خرج منه من التقن- بكسر التاء ثالثة الحروف وتسكين القاف- وهو رسابة الماء- بفتح الراء وسين غير معجمة وباء ثانية الحروف- ويقال: إن ذلك يجتمع في الربيع. وأما القناة فآبارها لا يستقى منها حتى يعتبر به الحريم؛ فحريمها: القدر الذي لو حفر فيه لنقص ماؤها وجف من انهيار وانكباس، ويختلف ذلك بصلابة الأرض ورخاوتها. وفي "الوجيز" وجه: أن حريمها حريم البئر التي يستقى منها، ولا يمنع من الحفر بعد ما جاوزه، وإن نقص، وهذا بناء على ما حكى عن الشيخ أبي حامد: [أن] من حفر بئراً في موات كان لغيره أن يحفر فيما وراء حريمها، وإن نقص ماء الأولى بسبب ذلك، وهو قول الشافعي- كما حكاه الماوردي- فيما إذا نضب ماء البئر الأولى، أو كانت البئر الثانية بئر بالوعة فتغير بسببها ماء الأولى. وحكى وجه آخر- وبه أجاب القاضي أبو الطيب في "تعليقه" وابن الصباغ، وجعله الرافعي الأظهر تبعاً للغزالي: أنه يمنع من الحفر حيث ينقص ماء

الأولى، كما ليس لغيره أن يتصرف [قريباً من بنائه بما يضر به، وهذا موافق لما حكاه الماوردي آخر هذا الباب: من أن جماعة لو حفروا عيناً، فأراد رجل أن يتصرف فيما يمد هذه العين من أرض أو جبل تصرفاً يقطع ماءها، منع منه، إلا أن يكون مالكاً لما يتصرف] فيه من الأرض؛ فلا يمنع منه، وطرد القاضي جوابه فيما إذا أحيا أرضاً ليغرس فيها وغرس؛ فليس لغيره أن يغرس بجواره بحيث تلتف أغصان الغراسين، وبحيث تلتقي عروقهما. قال القاضي وابن الصباغ: ويخالف ما إذا حفر بئراً في ملكه فنقص ماء الأولى، حيث يجوز؛ لأن الحفر في الموات ابتداء تملك؛ فلا يمكن منه إذا تضرر به الغير، وهنا كل منهما متصرف في الملك. قال الرافعي: وعلى هذا الوجه يكون ذلك الموضع داخلاً في حريم البئر أيضاً. ثم ما حكمنا بكونه حريماً فذاك إذا انتهى الموات إليه، فإن كان الموضع مملوكاً قبل انتهاء الحريم فالحريم إلى حيث انتهى الموات، ولو كان المحيي بين آدر متلاصقة؛ فلا حريم له. فائدة: لكل واحد من الملاك أن يتصرف في ملكه على العادة، ولا ضمان عليه إن أفضى ذلك إلى تلف، نعم: لو تعدى ضمن. ولو أراد أن يتخذ بجوار [جدار] جاره زبلاً منع. ولو أراد أن يجعل داره حماماً، أو إصطبلاً، أو طاحونة، أو مدبغة- على خلاف العادة – [وكانت بين الدور، أو حانوته الذي في وصف العطارين حانوت حداد أو قصار على خلاف العادة]، أو دق في داره شيئاً دقاً عنيفاً تتزعزع منه حيطان الجار، أو حبس الماء في ملكه بحيث تنتشر نداوته إلى حيطان الجار- فهل يمنع من ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه في طرق المراوزة، ثالثها- وهو الأظهر-: [أن ما] كان مضراً بالساكن لا يمنع منه، وهو ما جزم به القاضي أبو الطيب والبندنيجي، وإن كان مضراً بالدار يمنع منه. فإن قلنا: لا يمنع مطلقاً، فإذا ضرب القصار الميجنة، فتزلزل الجدار حتى

انكسر ما كان معلقاً عليه- قال العراقيون: عليه الضمان إن سقط في حال الضرب [وإن سقط لا في حال الضرب] فلا ضمان. قال القاضي الحسين في آخر كتاب الصلح: وعندي أنه لا ضمان في الحالين. وحكم أسفل الجدار حكم أعلاه؛ حتى لا يجوز أن يعمل بجواره حشاً يضر به على الأصح. قال البندنيجي: وكان الشيخ يحكي عن أصحابنا: أنه لا يمنع موافقته على هذا، فرجع عنه إلى المنع، وجزم الإمام بأن الجار له حفر بئر في ملكه، وإن أدى إلى اختلال دار الجار، وأنه لا ضمان على الحافر، واختيار القاضي الروياني أن الحاكم يجتهد فيها، ويمنع إذا ظهر له التعنت وقصد الفساد. قال: وكذلك القول فيإطالة البناء ومنع الشمس والقمر. ولو حفر في داره بئر بالوعة، وفسد فيها ماء بئر الجار- فهو مكروه، [و] لكنه لا يمنع منه، ولا ضمان عليه بسببه، خلافاً للقفال. قال: "وقيل: لا يملك الماء، أي: بحال كما حكاه القاضي الحسين عن أبي إسحاق، وسواء بيع [في] بئر حفرها في موات أو في ملكه، كما صرح به القاضي أبو الطيب؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُونَ شِرْكُ فِي ثَلاَثٍ: فِي الْكَلَأِ، وَالْمَاءِ، وَالنَّارِ" خرجه أبو داود. وروي: "شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ". ولأن الماء في البئر لو كان مملوكاً لم يستبح بالإجارة؛ لأن الأعيان لا تستباح بالإجارة، وقد أجري هذا الوجه- كما حكاه الشيخ في "المهذب" والبندنيجي- فيما ينبع في ملكه من النفط والقير والمومياء والملح ونحوه. قال: "والمذهب الأول"، وهو المنصوص عليه في الأقضية من القديم و"وحرملة"؛ لأنه نماء ملكه فهو كثمرة الشجرة، ولأن هذا الماء معدن ظهر في

أرضه؛ فهو كمعدن الذهب والفضة إذا ظهر [في أرضه]. وأما الحديث فقد قال عبد الحق: إن بعض رجاله مجهول. وقال البخاري في بعضهم: إنه [منكر] الحديث. وضعفه أبو زرعة. والتمسك بمسألة الإجارة قد يمنع بأن اللبن في الرضاع قد تناوله عقد الإجارة وإن كان عيناً. التفريع: إن قلنا بالمذهب، فلو أخذه أحد لم يملكه، وإذا باع ماء البئر بجملته لم يصح؛ لاختلاط المبيع بغيره، وإذا باع أرطالاً منه صح، وإن كان يختلط بغيره، قال القاضي الحسين: كما لو باع آصعاً من صبرة، ثم خلط عليها شيئاً آخر. وعن القفال: أنه لا يصح، وهو موافق لأصله في منع بيع صاع من صبرة مجهولة الصيعان. ثم القول بالصحة محله: إذا لم يكن ماء البئر محتاجاً إليه للماشية- كما صرح به الماوردي- فإن كان محتاجاً إليه للماشية، وأوجبنا بذل فضل الماء- حرم البيع، وإن قلنا بقول أبي إسحاق فمن أخذ منه شيئاً ملكه. قال: "ولا يجب عليه بذل شيء من ذلك" أي: من [نيل] المعادن والشجر والكلأ وما ينبت وينبع في الأرض المحياة قبل حيازته في الأواني؛ لأنه نماء ملكه فلا يجب عليه بذله؛ كثمرة أشجاره، وصوف مواشيه. قال: "إلا- الماء؛ فإنه يجب عليه بذل فضله للبهائم دون الزرع" أي: سواء قلنا: إنه ملكه أم لا- كما صرح به مجلي- لما روى الشافعي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عنأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ فَضْلَ الْكَلَإِ مَنَعَهُ اللهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قال القاضي أبو الطيب: وفيه أدلة من وجوه:

أحدها: أنه توعد على المنع؛ فدل على أن البذل واجب. والثاني: أنه دل على أن الفاضل هو الذي يجب بذله. والثالث: أنه دل على أنه يجب البذل بلا عوض. والرابع: أنه دل على أنه إنما يجب [عليه] ذلك للماشية دون غيرها، وحكمته حرمتها في نفسها؛ بدليل وجوب سقيها، بخلاف الزرع. والفرق بين وجوب فاضل الماء وبين عدم وجوب فاضل الكلأ من وجوه: أحدها: أن الماء إذا أخذ استخلف في الحال. والثاني: أن الكلأ يتمول في العادة. والثالث: أن رعي الماشية يطول، فلم يلزمه تمكينها من دخول ملكه لأجله، والماء بخلاف ذلك. وقد حكى مجلي والمتولي عن بعض أصحابنا: أنه أوجب بذل الفضل للزرع إذا احتاج إليه، وقد يستدل له بما رواه البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةُ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ .. " وعد منها: "رَجُلُ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ". وروى القاضي أبو الطيب وغيره عن أبي عبيد بن حربوية من أصحابنا: أنه لا يجب البذل للبهائم؛ بل يستحب لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"، وهذا ما اختاره الإمام، وحكاه عن القاضي، والجمهور على الأول، وقالوا: ما ذكره من الحديث عام، وما ذكرناه خاص؛ فكان أولى. وعلى هذا: لو أراد من حفر بئراً طمها منع؛ لما تعلق بفضل مائها من حقوق السابلة. وهكذا لو حفر نهراً أو استنبط عيناً، صرح به الماوردي، ولو انطمت البئر لم يلزمه تنظيفها.

نعم، لو بذل ذلك لأرباب الماشية [لزمه التمكين. ثم المراد بالفضل: أن يكون فاضلاً عن حاجة نفسه وماشيته] وزرعه وشجره. والمراد بالبذل: التمكين منه. أما الاستقاء وإعارة الحبل والدلو فلا يجب، ومن هذا يظهر أنه إذا حاز الماء في أوانيه لا يجب عليه بذله وجهاً واحداً؛ كما صرح به القاضي أبو الطيب وغيره. وعن أبي الحسين أن من أصحابنا من أوجبه. واعلم أن [ظاهر] كلام الشيخ يقتضي أمرين: أحدهما: أنه لا فرق في البذل للبهائم بين أن تكون ترعى الكلأ التي بجوار الماء ولا يمكن رعيه إلا بسقي الماء، أو لا يكون ثم كلأ، أو يكون ماؤه في الطريق، أو قاطنه. وهو في حال وجود الكلأ وعدم ماء مباح غير ذلك الماء وكلأ غير ذلك الكلأ، متفق عليه، وكذا في حال مرور الماشية، كما حكاه المتولي والقاضي أبو الطيب والروياني والرافعي. [و] في حال الإقامة وجهان في "التتم"، [و] حكاهما في "الحاوي" عند عدم الكلأ، وحكاهما في "البحر" في حال وجوده واستغناء الماشية عنه لكونها معلوفة، والأصح: أنه لا يجب البذل. والثاني: أنه لا يجب البذل للآدمي، وقد حكى القاضي ابن كج الخلاف المذكور في وجوبه للماشية، وجوبه للراعي؛ لأنها لا تستقل بنفسها، والمنع منه يتضمن المنع منها. وحكى الماوردي الوجهين في وجوبه مع القول بوجوبه للماشية. وحكى الإمام فيه وجهين إذا فرعنا على أن الماء مملوك، وأن الذي ذهب إليه

القاضي وطبقة المحققين: [أن] للملاك المنع، وطرد الخلاف في أخذ [قريب] وشرب دواب معدودة لا يظهر لشربها أثر. فرع: إذا أوجبنا البذل هل يجوز أخذ العوض عنه؟ فيه وجهان في "التتمة": أحدهما: نعم؛ كما يطعم المضطر بالعوض. وأصحهما- وبه جزم الماوردي وأبو الطيب-: لا؛ لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ". وهذا كله إذا كان قد حفر بئراً في ملكه، أو في موات ليتملكه، كما صرح به القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، والماوردي، والشيخ أبو محمد وغيرهم، خلا الإمام والفوراني؛ فإنهما جزما بعدم وجوب البذل إذا حفر البئر بقصد التملك، وقلنا إن الماء يملك. وحمل الإمام الحديث على ما إذا حفر البئر في موات وقصد الارتفاق بها دون التملك- كما سنذكره- وقال فيما إذا أشرفت الماشية على الهلاك في هذه الحالة: سقاها فضل مائة بالقيمة. وعند الجمهور: إذا حفر البئر في موات للمارة فماؤها مشترك بينهم، والحافر كأحدهم، ويجوز الاستقاء منها للشرب وسقى الزرع، فإن ضاق عليهما فالشرب أولى. وإن حفرها في الموات لقصد الارتفاق دون التملك فالحافر أولى بمائها إلى أن يرتحل، لكن ليس له منع ما فضل عن حاجته كما ذكرنا عن سقى الحيوان، وله المنع من سقى الزرع، وللإمام احتمال فيه؛ من حيث إنه لم يملكه، والاختصاص إنما يكون بقدر الحاجة، وبهذا أجاب في "التتمة". ولو لحقت الماشية، فاستحدث حافر البئر مزرعة- قال الإمام: فالذي يظهر هاهنا أنه لا يصرف الماء إلى تلك المزرعة؛ إذ لو جوزنا منع الفضل بهذه الجهة لاستمكن حافر البئر من طرد الماشية بالزيادة في المزارع. وإذا ارتحل المرتفق صارت البئر كالمحفورة للمارة، فإن عاد فهو كغيره، ولو حفر في موات، ولم يقصد التملك ولا غيره ففيه وجهان في "النهاية":

وأظهرهما في "الرافعي"، وهو الذي ذهب إليه المحققون، ومنهم القاضي الحسين: أنه كالبئر المحفورة للمارة. والثاني: أنها كالمحفورة للارتفاق. وظاهر هذا: أنه لا يحصل للحافر ملك فيها على الوجهين معاً، وقد حكى الإمام- أيضاً- من قبل أن من حفر بئراً في مفازة أو مواضع العشب، فهذا مما يقع تارة لقصد التملك، وتارة [لا] لقصد [التملك]، فإذا خلا عن القصد فهل يحصل به الملك؟ فيه وجهان؛ كمن أغلق بابه على طائر، ولم يقصد اصطياده. وإذا جمعت بين ما حكاه في الموضعين حصل في المسألة ثلاثة أوجه، ولا خلاف أن القصد إلى الإحياء لا يعتبر فيما لا يفعله في العادة إلا المتملك: كبناء الدور، والمساكن، واتخاذ البساتين حتى يحكم له بحصول الملك، وإن لم يوجد منه قصد التملك. فصل: "وإن تحجر شيئاً من الموات بأن شرع في إحيائه" أي: بالحفر وجمع التراب ونحوه وبناء بعض المقصود، كما قاله القاضي أبو الطيب. قال: ولم يتمم فهو أحق به؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ". ولأن الإحياء إذا أفاد الملك وجب أن يفيد الشروع فيه الأحقية؛

كالاستيام مع الشراء، وأيضاً قلنا: من يقصد الإحياء بالشروع في العمارة. وهذه الأحقية [أحقية] اختصاص لا ملك؛ لأن سبب الملك الإحياء، ولم يوجد. وعن أبي الحسين بن القطان: أن بعض أصحابنا جعله مفيداً للملك، وإليه أشار صاحب "التهذيب" بقوله: والصحيح من المذهب: أنه لا يملك بالتحجر والإقطاع ما لم يحيها. وقال الإمام: كنت أود أن يقول: كل ما يحصل الملك في نفعه إذا وجه إليه القصد، فإنه يحصل الملك وإن فرض القصد في [جهة أخرى]، والذي أراه في ذلك الاستشهاد بالحائط؛ فالمحوط يملك المنفعة إذا انضم إليه قصد اتخاذ الحظيرة، فليكف مجرد التحويط في كل [غرض يفرض]. وقد وجدت هذا لصاحب "التقريب"، ولكنه لم يصرح بالقاعدة التي رمز بها؛ بل قال: لو رمت في حق من يبتغي مسكناً يكفي التحويط فيه لكان محتملاً. وقد يستشهد لذلك بما روى أبو داود عن الحسن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ أَحَاطَ حَائِطاً عَلَى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ". واعلم أنه يقوم مقام الشروع في الإحياء بما ذكرناه: غرز خشبات أو قصبات أو خط خطوط دالة على قصده، وبهذا فسر الإمام والمتولي التحجر. والتحجر أصله: من الحجر، وهو المنع؛ كأنه لما علم حولها بحجر أو

غيره منع غيره من التصرف فيه، كما يمنع الحجر عن التصرف. فرع: لا ينبغي للمتحجر أن يزيد على قدر كفايته فيضيق على الناس، ولا أن يتحجر ما لا يمكنه القيام بعمارته، فإن فعل قال في "التتمة": لا يمنع الغير من إحياء ما زاد على قدر كفايته، وما يعجز عن القيام بعمارته. وقال غيره: [لا يصح]؛ لأن ذلك [القدر] غير متعين. قال: فإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به؛ لأنه آثره به صاحب الحق؛ فأشبه ما لو آثره بجلد ميتة، "وإن مات قام وارثه مقامه فيه" أي: بفتح الميم؛ لأنه حق يملك له فانتقل إلى وارثه كحق الشفعة. قال: "وإن باع لم يصح بيعه"؛ لأنه لم يملكه، وحق التملك لا يباع. دليله: أن الشفيع لا يبيع الشقص قبل الأخذ، وهذا قول الجمهور. وقيل: "يصح"، ويعتمد العقد على الاختصاص؛ كبيع علو البيت للبناء والسكن دون سفله، وهذا محكي عن أبي إسحاق وطائفة- كما قال الماوردي- واختيار القفال- كما قال في "البحر- وتمسك قائله بقول الشافعي في "المختصر": كما يجوز بيع الموات من بلاد المسلمين إذا أجازه رجل. وفي "الحاوي": أن الشافعي أشار إليه في كتاب السير، والقاضي أبو الطيب وغيره قالوا: إن ذلك معدود من غلطات أبي إسحاق، والشافعي عبر بالإجازة عن الإحياء؛ فعلى هذا: الثمن لازم للمشتري أحيا أو لم يحى. ولو أحياها غير المشتري متغلباً صارت ملكاً للمتغلب المحيي، وفي سقوط الثمن عن المشتري وجهان حكاهما الماوردي عن رواية أبي علي بن أبي هريرة. أحدهما- وهو مختاره-: أن الثمن لا يسقط؛ لأنه من قبل نفسه أتى. وعلى هذا: لو أحياها غير المشتري، ملكها، ولا يلزم المشتري شيء، وإن أحياها المشتري بعد أن حكم بفسخ البيع ملكها ولا شيء عليه، وإن كان قبل الحكم بالفسخ فوجهان:

أحدهما: أنها ملك للمشتري. والثاني: أنها ملك للبائع المتحجر؛ لأن المشتري قصد أن يتملكها بالثمن دون الإحياء، فإذا لم يلزمه الثمن- لفساد البيع- لم يحصل له الملك. والخلاف المذكور في جواز بيع المتحجر مذكور في بيع الغانم سهمه من الغنيمة قبل القسمة، كما صرح به صاحب "البحر" عن القاضي [الطبري]، وسنذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى. قال: "وإن لم يحي، فطالت المدة- قيل له: إما أن تحييه، وإما أن تخليه لغيرك"؛ لأن ترك العمارة فيه ضرر بدار الإسلام فمنع منه، ولأن فيه نوع حمى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ حِمَى إِلاَّ للهِ وَلِرَسُولِهِ". ولا يبطل حقه بمجرد طول غيبته حتى يقال له فلا يعمر بعد القول- عند الشيخ أبي حامد- والقائل له هو الإمام أو نائبه، وليس لطول المدة الواقعة بعد التحجر حد معين، وإنما المرجع فيه إلى العادة، كذا قاله الرافعي. قال: "فإن استمهل" أي: لأجل عذر أبداه من إعداد الآلة وجمع رجال، أو قدوم مال قريب الغيبة، أو لا لعذر- كما قال في "البحر"- أمهل مدة قريبة؛ رفقاً به، ودفعاً لضرر غيره، والمرجع في تقديرها إلى رأي السلطان، ولا يتقدر بثلاثة أيام على أصح الوجهين. قال في "البحر": ومن حده بثلاثة أيام أراد: الأخذ في الإحياء والابتداء به، وأما إتمام العمل فقد لا يمكن إلا في أيام كثيرة. وفي "الذخائر": أن الشيخ أبا حامد قدر المدة القريبة من عشرة أيام إلى شهرين، والبعيدة: ما زاد على الشهرين. قال: "وإن لم يحى" أي: في المدة المقدرة له بعد الاستمهال "جاز لغيره أن يحييه" أي: سواء [أذن] في ذلك الإمام أم لا؛ لأنه لم يبق له حق بعد انقضاء المدة فاندرج المحيي في عموم قوله- عليه السلام-: "مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً لَيْسَ

فِيهَا حَقُّ مُسْلِمٍ فَهِيَ لَهُ"، لكن إذا كان: قد أسس الأس، وبنى بعض الحيطان- لا يتسلط الغير على البناء على ذلك، ولا على أن يملكه مجاناً، وله قلع ذلك. قال الإمام: وأرى أن ذلك مشروط بإلزام ضمان النقض الذي يحدثه القلع؛ فإن الذي بنى كان له أن يبني، وكل من بنى بناء مباحاً ثم سلط الشرع على نقضه فعلى الناقض أرش ما ينقضه القلع. وما ذكره من الترتيب هو طريق أبي حامد والقاضي الحسين والمتولي، وطريقة الغزالي وإمامه: أن التحجر [يبطل] بطول الزمان وتركه العمارة في غير مدة التهيؤ لها، وإن لم يرفع الأمر إلى السلطان ولم يخاطبه بشيء، وسواء كان التأخير عن عذر مثل أن يغيب أو يحبس، أو لا عن عذر. [و] وجه ذلك بأن التحجر ذريعة إلى العمارة، وهي لا تؤخر عن التحجر إلا بقدر تهيئة أسبابها، وكذلك لا يعتبر التحجر ممن لا يتمكن من تهيئة الأسباب: كفقير يتحجر منتظراً لقدرة عليها، ولا من متمكن يتحجر ليعمر في السنة القابلة؛ فإذا أخر، وطالت المدة، عاد الموات كما كان، وهذا قد حكاه الشيخ أبو حامد عن أبي إسحاق. ثم لو ابتدر إنسان، وأحيا قبل أن تطول المدة المسلطة على إبطال حق المتحجر- فهل يملك به؟ فيه وجهان في الطريقين: مختار أبي إسحاق المروزي، والشيخ أبي حامد- كما حكاه في "البحر" منهما: أنه يملك مع كونه مسيئاً، وهو الذي صححه الرافعي والقاضي الحسين؛ لعموم قوله- عليه السلام-: "من أحيا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ"، ولأن الأول أثر فيها أثراً لم يملكها به، والثاني أثر [فيها] أثراً يملك الأرض به؛ فكان أولى. ومقابله: حكاه القاضي ابن كج عن النص. قال الإمام: وقد بنى أئمتنا هذا الخلاف على خلاف سيأتي في أن الظبية

والطائر إذا عششا في ملك رجل، فباض وأفرخ، وأخذ غيره الفرخ أو البيض- هل يملكه، أو لا. على قولنا: إن صاحب الدار لا يملك الفرخ بذلك كما هو الصحيح؟ وقد رأى الإمام في "باب الصيد والذبائح" أن امتناع ملك المحيى هاهنا أولى من امتناع ملك آخذ الفرخ؛ لأن المتحجر قصد أن يتملك فكان حقه آكد، والذي حصل الصيد في ملكه [لم يقصد] تملكه ولا النسب إليه؛ فكان أخذ الصيد بالملك أقرب. ثم قال هاهنا: ومما يتصل بذلك: أن المتحجر إذا أخذ في العمارة، وكان يمهد الأساس، وبنى بعض الجدران- فقد ذكرنا أن هذا القدر لا يثبت له الملك، ولو ابتدر مبتدر إلى إحياء هذه البقعة فيجب القطع بأنه لا يملكها، والاختلاف السابق في الابتدار إلى عمارة البقعة المتحجرة، وسببه: أن العمارة أولى وإن كان المتحجر أسبق، ورأى بعض الأصحاب تقديم السبب الأقوى على السبب الأسبق؛ فإن التحجر ليس من العمارة، وهاهنا قد ابتدر المتحجر إلى العمارة؛ فله حق السبق والتمسك بالسبب الأقوى. وعكس الماوردي ذلك فقال: إن أكمل المتغلب إحياءها قبل أن يشرع المتحجر في عمارتها وقبل استكمالها، فأكمل المتغلب الإحياء وتمم العمارة- ففيه الوجهان، ويكون المتغلب متطوعاً بالنفقة على قولنا: إنها ملك للمتحجر. فرع: استحقاق الوقوف بعرفة هل ينزل منزلة التحجر حتى يمتنع إحياؤه؟ فيه وجهان: أحدهما: المنع، وبه أجاب المتولي. وقال الرافعي: إنه أشبه بالمذهب؛ تشبيهاً لذلك بالمواضع التي تتعلق بها حقوق المسلمين عموماً أو خصوصاً: كالمساجد، والطرق، والرباطات. والثاني-[و] هو الذي ذهب إليه القياسون-: جواز الإحياء حيث لا تضييق. وعلى هذا: هل يبقى حق الوقوف؟ فيه وجهان. وإذا بقي فمحله إذا ضاق الموقف، أو مع اتساعه وضيقه؟ فيه وجهان. قال: "وإن أقطع الإمام مواتاً صار المقطع كالمتحجر" أي: في اختصاصه

بذلك في حياته، وانتقاله إلى وارثه، وسقوط حقه عند عدم العمارة بالشرط المتقدم، وجواز بيعه على أحد الوجهين، كما صرح به القاضي الحسين. ودليل جواز الإقطاع: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الدور بالمدينة. وروي عن عمرو بن حريث قال: خط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم داراً بالمدينة بقوس، وقال: "أَزِيدُكَ [أَزِيدُكَ]؟ " خرجه أبو داود. وكذا خرج عن وائل بن حجر: أنه- عليه السلام- أقطعه أرضاً بحضرموت. وقال الترمذي: حديث حسن [صحيح]. ودليل الاختصاص ظهور فائدة الإقطاع. ووجه بطلان حقه عند الإطالة: مساواته المتحجر في إثبات الاستحقاق. وحكى المراوزة وجهاً: أن من تعدى بعد الإقطاع وأحيا لا يملك، وإن قلنا: إنه يملك إذا أحيا [ما] تحجر. ولا يجوز للإمام أن يقطع إلا ما يقدر المقطع على إحيائه. تنبيه: قال أهل اللغة: استقطعت الإمام قطيعة، أي: سألته إياها. وأقطعني، أي: أذن لي فيها وأعطانيها. وسميت: قطيعة؛ لأنه اقتطعها من جملة الأرضين. قال: "وما بين العامر من الشوارع والرحاب ومقاعد الأسواق لا يجب تملكها بالإحياء"؛ لأن إحياء الموات [جوز]؛ رفقاً بالمسلمين، وإحياء ذلك إضرار بهم.

والشوارع: جمع شارع، وهو الطريق [الكبيرة]. يقال: شرع الطريق. والرحاب: [جمع رحبة، وهو المكان المتسع]. قال: "ولا يجوز فيها البناء" أي: لقصد الارتفاق كما يفعل في الآبار؛ لما في ذلك من التضييق على المارة، وتضرر من يعثر [به] في الليل. قال: "ولا البيع ولا الشراء" أي: لا تباع ولا يشتري من الأئمة؛ لكونها غير مملوكة. قال: "ومن سبق إلى شيء منها جاز [له] أن يرتفق بالقعود فيه" أي: للبيع والشراء والاستراحة "ما لم يضر بالمارة"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "مِنِّي مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ"، ولاتفاق أهل الأمصار على ذلك. وليس لغير السابق أن يضايق السابق في موضعه، ولا أن يجلس بقربه في موضع يضيق عليه الكيل والوزن والأخذ والعطاء، وموضع متاعه وموقف المعاملين أو تمنعهم من رؤيته والتوصل إليه، وله أن يظلل بما لا يضر بالمارة من بارية أو ثوب؛ لأن الحاجة تدعو إليه. وهذا ما ذكره الجمهور ووافقهم الماوردي على ذلك في الشوارع والطرقات، وقال فيما يختص الارتفاق فيه بأفنية المنازل والأملاك- كمقاعد الباعة والسوقة في أفنية الدور وحريمها-: إنه ينظر فإن أضر ذلك بأرباب الدور لم يجز [إلا بإذن مالك الدار، وإن كان لا يضر بالدار ولا بمالكها فهل يجوز بذلك دون إذن

مالكها، أو لا يجوز] إلا بإذنه؟ فيه قولان، وعلى قول الافتقار إلى إذنه لا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، كما لا يجوز أن يأخذ عليه بانفراده ثمناً؛ لأنه تبع الملك وليس يملك، وعلى هذا: فلو كان مالك الدار مولى عليه، لم يجز لوليه الإذن. وحكم فناء المسجد حكم فناء الدار: إن أضر بأهله، لم يجز الجلوس فيه، وإن لم يكن فيه إضرار، فهل يلزم استئذان الإمام؟ فيه وجهان. [تنبيه: قوله: "ما لم يضر" هو بضم الياء وكسر الضاد، ويقال: ضره يضره- بفتح الياء وضم الضاد- وأضر به وأضره، يضره- بضم الياء وكسر الضاد- لغتان]. قال: فإن قام؛ ونقل عنه قماشه، كان لغيره أن يقعد فيه؛ لزوال يد الأول عنه، ولو لم ينقل قماشه، لم يكن لغيره أن يقعد فيه. قال القاضي أبو الطيب: كما لو قام من المسجد، وترك في موضعه منديله أو سجادته. تنبيه: القماش معروف، وهو [من] قمشت الشيء، وقمشته- بالتشديد- أيضاً أي: جمعته من هنا وهنا. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون قيامه لأجل الليل أو لا، وهو ما حكاه أبو الطيب والماوردي، وكذلك المتولي، ونقله عن الشافعي، ونسبه الرافعي إلى الإصطخري وقال: إن الأشبه بالمذهب- ما ذكره الإمام- أنه إن مضى زمان تنقطع فيه ألفة من عامله، بطل حقه، وإن كان دونه، لم يبطل؛ لأن الغرض تعيين الموضع لكي يعرف فيعامل- وأنه لا فرق بين أن تكون المفارقة لعذر كسفر أو مرض، أو لغير عذر. وعلى هذا: فلا يبطل حقه بالرجوع إلى بيته بالليل، وليس لغيره مزاحمته في اليوم الثاني- وأن الأسواق التيت قام في كل أسبوع أو كل شهر إذا اتخذ فيها مقعداً كان أحق به في النوبة الثانية، وهذا إذا لم يكن من الجوالة، أما الجوال الذي يقعد في كل يوم في موضع، فإنه إذا قام؛ بطل

حقه. والمذكور في "الوسيط" و"الإبانة": أنه متى قام لأجل الليل، لم يبطل حقه، وكذا إذا غاب يوماً أو يومين لمرض أو شغل، وإذا طالت غيبته بطل حقه، وظاهر كلام الشيخ- أيضاً- أنه لا فرق في السابق بين أن يكون مسلماً أو ذمياً، وقد حكى القاضي ابن كج في ثبوت هذا في حق الذمي وجهين. فرع: لو أراد غيره أن يجلس في مدة غيبته القصيرة للمعاملة إلى أن يعود فهل يمكن منه؟ فيه وجهان، أظهرهما: الجواز؛ كي لا تتعطل منفعة الموضع في الحال. قال: فإن طال مقامه وهناك غيره أي: محتاجاً إليه، أو سبق اثنان إليه- "أقرع بينهما"؛ توخيا للتسوية، وهذا هو الأصح. وقيل: يقدم الإمام أحدهما؛ لأن له نظراً واجتهاداً يدفع به المنازعة. وحكى الماوردي: أن أصل هذا الخلاف اختلاف الأصحاب في أن نظر الإمام في المقاعد مقصور على كفهم عن التعدى ومنعهم من الإضرار، أو نظره نظر مجتهد فيما يراه صلاحاً من إجلاس ومنع وتقديم كما يجتهد في أموال بيت المال؟ فالأول مبنى على الأول، والثاني على الثاني. وقيل: للإمام أن يقيم من طال مقامه وإن لم يكن هناك غيره؛ كي لا يصير ذريعة إلى تملكه وادعائه، حكاه في "المهذب" وغيره. تنبيه: ميم مقامه مضمومة، والمعنى: إقامته. والمقام- بالفتح-: موضع الإقامة. قال: وإن أقطع الإمام شيئاً من ذلك، صار المقطع أحق بالارتفاق به؛ لأن إقطاع الإمام في الموات قائم مقام السبق والتحجر فكان هنا مثله، وهذا ما نص عليه الشافعي، وعليه الأكثرون. وقيل: لا مدخل لإقطاع الإمام في هذا الارتفاق؛ لأنها منتفع بها على صفتها من غير عمل فأشبهت المعادن الظاهرة، وهذا ما جعله الغزالي أظهر، ويقال: إنه اختيار القفال، وجعل الماوردي أصل [هذا] الخلاف [الخلاف]

الذي تقدم في كيفية نظر الإمام فيها. واعلم أن ظاهر كلام من جوز الإقطاع- من الشيخ والقاضي أبي الطيب وابن الصباغ- ومن منعه، يقتضي أن الإقطاع خاص بالارتفاق لا في جواز التملك، وقد حكى الرافعي في كتاب الجنايات عند الكلام في حفر الآبار عن العراقيين والروياني والمتولي: أنهم جوزوا للإمام أن يخصص قطعة من الشارع ببعض الناس، وله أن يحفر فيها بئراً لنفسه- إذا كان غير مضر- بإذن الإمام. وحكى عن الأكثرين في إحياء الموات: أنهم جوزوا للمقطع أن يبني في الشوارع ويتملك، والذي حكاه هاهنا أن العبادي في "الرقم" وابن طاهر [في] "شرح مختصر الجويني" رويا وجهاً: أن للإمام أن يتملك من الشوارع ما يفضل عن حاجة الطروق. قال: فإن قام ونقل عنه قماشه لم يكن لغيره أن يقعد فيه لتأكيد حال الإقطاع، ويخالف غير المقطع؛ لأن استحقاقه كان بقعوده، وبقيامه زال، وهنا الاستحقاق بالإقطاع والإقطاع باق، وهذا ما صار إليه الجمهور، كما حكاه [القاضي] أبو الطيب وابن الصباغ والمتولي والروياني. وقيل: إن حكمه حكم من لم يقطع إذا لم يكن جوالاً- وقد تقدم- حتى حكى القاضي الحسين في إزعاجه عند طول مقامه الوجه السابق. فروع: من جلس في المسجد ليقرأ عليه القرآن أو يتعلم منه الفقه أو ليستفتى، قال الغزالي، والشيخ أبو عاصم العبادي: الحكم فيه كما في مقاعد الأسواق. قال الرافعي: وحكى الماوردي أنه مهما قام بطل حقه، وكان السابق إليه أحق به. قلت: وكذا قال به في مقاعد الأسواق، وكان اللفظ [الأول] مغنياً عنه. وفي حال الإقامة يمنع من استطراق حلقة الفقهاء والقراء في الجامع توقيراً، ولا يفتقر في الترتيب في المسجد للتدريس والفتوى إلى إذن الإمام إذا كان من مساجد

المحال، ويعتبر إذنه في الجوامع وكبار المساجد إذا كانت عادة البلدة فيه الاستئذان، وهذا كما ذكر في الترتيب للإمامة. ومن جلس في المسجد للصلاة لا يختص به في غير [ذلك] الصلاة إذا قام، بخلاف مقاعد الأسواق على رأي؛ لأن الصلاة في بقاع المسجد لا تختلف، والمقاعد تختلف باختلاف غرض المعاملين بها، وأما في تلك الصلاة التي حضرها فهو أحق بها لموضع فيها، وليس لغيره أن يزعجه، فإن فارقه إجابة لمن دعاه، أو لرعاف، أو قضاء حاجة، أو تجديد وضوء، فوجهان ذكرهام ابن كج وغيره: وأصحهما: أنها لا تبطل، ولا فرق على الوجهين بين أن يترك رداءه فيه أم لا. والذي جزم به القاضي أبو الطيب: أنه إن ترك منديله أو سجادته لا يبطل، وإلا بطل، ولو فارقه من غير عذر حادث فقد بطل حقه. والرباطات المسبلة في الطرق وعلى أطراف البلاد، إذا سبق إلى موضع منها سابق صار أحق به وليس لغيره إزعاجه سواء دخل بإذن الإمام أو بدون إذنه، إلا أن يكون الواقف قد جعل له ناظراً وشرط إذنه في الدخول، وإذا دخل لا يبطل حقه بالخروج كشراء طعام أو قضاء حاجة ونحوهما، وإن نقل [عنه] قماشه؛ لأنه قد لا يأمن عليه. ولو سبق اثنان على موضع وضاق، فالحكم كما ذكرنا في مقاعد الأسواق. وإذا أقام المسافر في الرباط أكثر من مدة المسافرين- وهي ثلاثة أيام- أزعج، إلا أن يشترط الواقف زيادة عليها، أو يعرض عذر من مطر أو غيره يمنعه من الخروج. والحكم في المدارس والخانقات إذا نزلها من هو من أهلها، كالحكم في الرباطات إلا في الإزعاج، وإذا سكن بها بيتاً مدة، ثم غاب أياماً قليلة فهو أحق إذا عاد، وإن طالت غيبته بطل حقه. ولا يزعج الفقيه قبل استتمام غرضه، إلا أن يترك العلم والتحصيل فيزعج،

وفي الخانقاه لا يمكن هذا الضبط؛ ففي الإزعاج إذا طال المكث- ولا شرط من جهة الواقف، وكذا من طال عكوفه في المسجد- وجهان كما ذكرنا في الشوارع، والأظهر- وبه قال أبو إسحاق-: أنه لا يزعج. قال: ومن حفر معدناً باطناً أي: في موات بقصد التملك وهو الذي يتوصل إلى نيله أي: إلى ما يخرج منه فإن كان وضعه الغطاء. قال: بالعمل كمعدن الذهب والفضة والحديد وغيرها أي: كالفيروج والياقوت والرصاص والنحاس، فوصل إلى نيله، ملك نيله؛ لاستيلائه عليه. وعن الشيخ أبي محمد تردد في [عد] حجر الحديد ونحوه من المعادن الباطنلة، [أم الظاهرة]؛ [لأن ما فيها من الجواهر باد على الحجر والظاهر الأول؛ لأن الحديد لا يستخرج إلا بمعاناة وليس البادي على الحجر عين الحديد، وإنما هو مخيلته. قال: "وفي المعدن" أي: البقعة التي تحتها الذهب والفضة قولان: أحدهما: يملكه إلى القرار؛ لأنه لا يتوصل إلى منفعته إلا بعمل فيه التزام مؤنة؛ وكان كغيره من أراضي الموات؛ فعلى هذا: إحياؤه هو العمل الذي يتوصل به إلى نيله، وإذا مات ورث [عنه]، ولا يجوز لغيره أن يعمل فيه وإن طالت غيبته عنه. ويملك مع المعدن عند الوصول إلى النيل ما حواليه بما يليق بجريمه وهو قدر ما يقف فيه الأعوان والدواب على حسب الحاجة- كما ذكرنا في البئر- حتى قال البندنيجي: إنه يملك طول الحفر من كل جانب إن كان الثور يمشي فيه كما يفعل الناضح. ومن جاوز الحريم، وحفر، لم يمنع وإن وصل إلى عرق الأول، كما صرح به البندنيجي وغيره؛ موجهاً ذلك بأنه لا يملك إلا ما قابل قدر ملكه. والثاني: أنه لا يملكه؛ لأنا لموات لا يملك إلا بعمارة، وحفر المعدن تخريب، ولأن الموات إذا ملك لا يحتاج في تحصيل المقصود منه إلى مثل ذلك

العمل، وهاهنا إذا عمل مرة أخرى احتاج إلى عمل مثله لإخراج النيل. قال أبو إسحاق: وهذا أشهر القولين، وهو الذي صححه الشيخ في "المهذب"، وكذلك المسعودي والروياني، وعلى هذا قال: فإذا انصرف كان غيره أحق به؛ كما في مقاعد الأسواق. فإن طال مقامه وهناك غيره، أو سبق اثنان إليه أقرع بينهما، وقيل: يقدم الإمام أحدهما، وتوجيههما ما سبق في المقاعد. والوجه السابق في أنه يزعج- وإن لم يكن ثم غيره- مطرد هنا، ومنهم من قطع هاهنا بعدمه؛ لأنه لا يحصل النيل إلا بتعب ومشقة. وقيل: يقسم بينهما [كما] في المعدن الظاهر، حكاه في "البحر"، ومنهم من لم يجزه هنا؛ لأنه يحتاج إلى إنفاق، وليس على الإمام أن ينفق عليه؛ لينال غيره، أما إذا لم يقصد التملك بل قصد الحفر؛ لينال ويتصرف فلا يملك قولاً واحداً، قاله البندنيجي. قال: "وإن أقطع الإمام شيئاً من ذلك [جاز]، فإن قلنا: إنه يملك المعدن بالعمل، صح الإقطاع، وصار المقطع أحق [به] من غيره" كالموات، وعلى هذا: إذا لم يحفر كان حكمه حكم المتحجر إذا لم يعمر، صرح به في "البحر". قال: "وإن قلنا: إنه لا يملك، ففي الإقطاع قولان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه معدن لا يملك بالإحياء فلا يصح إقطاعه؛ كالمعدن الظاهر. والثاني: يصح فيما يقدر على العمل فيه"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية جلسيها وغوريها، وحيث يصلح الزرع من قوس. خرجه أبو داود.

وفي رواية: "جَلْسَها وَغَوْرَها، وَلَمْ يُعْطِهِ حَقَّ مُسْلِمٍ". وقوله: جلسيها وغوريها" فيه تأويلان. أحدهما: أنه أراد: رباها ووهادها، قال الأصمعي: كل مرتفع جلس، والغوري ما انخفض من الأرض. الثاني: وبه قال أبو عبيد وابن قتيبة: أن الغوري: ما كان من بلاد تهامة، والجلسي: ما كان من بلاد نجد، ولأنه لا يتوصل إليه إلا بالرجال والمؤن والعمل الكثير، وليس كذلك [في] الظاهرة؛ لأنه يستوى في الأخذ منها القوي والضعيف، وهذا ما حكاه القاضي الحسين؛ تفريعاً على عدم الملك بالإحياء، وصححه الرافعي. فرعان: على القول بأنه ملك المعدن بالإحياء: أحدهما: إذا باع المعدن هل يصح؟ الذي جزم به القاضي الحسين والفوراني: أنه لا يصح؛ لأن المقصود منه النيل، وهو متفرق في طبقات الأرض مجهول القدر والصفة؛ فصار كما لو جمع قدراً من تراب المعدن وفيه النيل وباعه، وجعل القاضي أبو الطيب منع البيع بالاتفاق دليلاً على أنه لا يملك المعدن بالإحياء، وحكى الإمام وجهاً آخر في جوازه؛ لأن مورد البيع فيه المعدن، والنيل فائدته، ورفعه. الثاني: إذا قال لغيره: اعمل واستخرج النيل، ففعل- ففي استحقاقه الأجرة الخلاف في الغسال. ولو قال: استأجرتك فما تستخرجه فهو لك أجرة، قال الإمام: فالظاهر استحقاق الأجرة، وهو الذي جزم به الفوراني في "الإبانة"، وحكى الخلاف فيما إذا كان بصيغة الجعالة، ولو قال: اعمل لنفسك، ففعل- فالنيل للمالك، وهل يستحق الأجرة؟ الذي ذهب إليه الجمهور: عدم الاستحقاق، وهو الذي صححه القاضي الحسين.

وذهب ابن سريج إلى الاستحقاق، وقرب الأئمة هذا الخلاف من الخلاف في استحقاق الأجير في الحج الأجرة عند صرفه [إحرامه] إلى نفسه، بعد انعقاد إحرامه عن المستأجر؛ ظاناً أنه ينصرف. قال الإمام: وعندي: أن الصورة التي ذكرناها بعيدة عن استحقاق الأجرة؛ إذ لا استعمال فيها، وإنما جرى الإذن إطلاقاً ورفعاً، وليس كمسألة الحج؛ فإن المستأجر استعمله أولاً، ثم انصرف إليه العمل آخراً؛ فلا يبعد أن يلغو القصد الفاسد من الأجير، وليت شعري [ما] يقول ابن سريج إذا عمل ولم يستفد شيئاً؟ فإن جرى على قياسه في إثبات الأجرة كان في نهاية البعد إذا لم يصحل نيل هو شوقه ومتعلق طمعه، وعلى كل حال فهل يكون ما يخرج من المعدن في يد العامل مضموناً أو أمانة؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين. ولو قال: اعمل فما تستخرجه، فهو بيننا، لم يصح؛ لأن العوض ينبغي أن يكون معلوماً. قال في "الشامل": وليس كما لو شرط جزءاً من الربح أو الثمرة في القراض والمساقاة للعامل؛ لأنه جعل عوض العمل هنا جزءاً من الأصل فهو كما لو شرط للعامل جزءاً من رأس المال، وعلى هذا: فلا شك أنه يستحق نصف الأجرة، وهل يستحق النصف الآخر؟ فيه الخلاف السابق، حكاه الإمام. ولو قال: اعمل وما استخرجته فلك منه عشرة دراهم، لم يصح؛ لأنه ربما لا يحصل هذا القدر. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الكلام مفروض فيما إذا كان النيل متحقق الوجود، لكن لا يصل إليه إلا بالعلم، والسكوت عما عداه، وقد حكى الماوردي عن الأصحاب في أن ما يعلم ظهور نيله يقيناً هل يجري عليه حكم الموات في جواز إقطاعه وتأبيد ملكه بالإحياء، أم يجري عليه حكم المعادن الظاهرة؟ ونسب الأول إلى ابن أبي هريرة وصححه. قال: ومن سبق إلى معدن ظاهر، [وهو الذي] يتوصل إلى ما فيه

بغير عمل: كالقار، والنفط، والمومياء، والياقوت، والبلور [والبرام] والملح، والكحل، والجص، والمدر. وفي بعض شروح "المفتاح" عد الملح الجبلي من المعادن الباطنة، وفي "التهذيب" عد الكحل والجص منها، وهما محمولان على [ما إذا أحوج إظهارهما إلى حفر- كما قال الرافعي- وحينئذ فكلام الشيخ يخرجهما، ويدخل] ما إذا أظهر السيل قطعة ذهب أو أتى بها، كما صرح به الرافعي والبندنيجي في كونها من المعادن الظاهرة. [قال]: أو إلى شيء من المباحات كالصيد والسمك، وما يؤخذ من البحر من اللؤلؤ والصدف، وما ينبت في الموات من الكلأ والحطب، وما يبنع من المياه في الموات، وما يسقط من الثلوج، وما يرميه الناس رغبة عنه، أو ينتشر من الزروع والثمار وتركوه رغبة، عنه فأخذ شيئاً منه- ملكه" أي مسلماً كان الآخذ أو كافراً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا [لَمْ] يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ"، مع قوله صلى الله عليه وسلم: لما رأى تمرة ملقاة: "لَوْلاَ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا" كما خرجه البخاري، وهكذا الحكم فيما إذا لم يأخذ لكنه سبق، ثم جاء غيره: فالأول مقدم، وبأي قدر يستحق التقديم؟ عبارة أكثرهم: أنه يقدم بقدر حاجته التي يقتضيها العرف لأمثاله، فإن أراد الزيادة على ذلك فوجهان: أحدهما: لا يزعج، ويأخذ بحق السبق ما شاء؛ للحديث. وأظهرهما: أنه يزعج؛ فإن العكوف عليه كالتحجر والتحويط المانع للغير. وجزم الماوردي بإزعاجه إذا كان بقاؤه يمنع غيره، وحكى الخلاف فيما إذا

كان لا يمنع غيره. ولا خلاف في المعدن الظاهر أنه لا يختص به المتحجر، ولا يملكه أحد بالإحياء والعمارة وإن أراد بها النيل، حتى لو حوط على بعض هذه المعادن بناء واتخذ عليه داراً أو بستاناً لم يملك البقعة؛ لفساد قصده فإن المعدن لا يتخذ لذلك، وأشار في "الوسيط" إلى خلاف فيه، وكأنه أخذه من خلاف حكيناه عن الإمام في نظير المسألة في المعدن الباطن. تنبيه: النفط – بكسر النون وفتحها-: دهن معروف. المومياء- بضم الميم الأولى، وكسر الثانية ممدود-: معدن من معادن البادية. البرام- بكسر الباء-: جمع: برمة، وبضمها: حجر يتخذ منه القدر. المدر- بفتح الميم والدال-: الطين الشديد الصلب. اللؤلؤ معروف، وفيه أربع لغات قرئ بهن في السبع: لؤلؤ بهمزتين، و"لولو" بغير همز، وبهمزة أوله دون ثانية، وعكسه: قال جمهور أهل اللغة: اللؤلؤ: الكبار، والمرجان: الصغار. وقيل: عكسه. الصدف: غشاء الدر، واحدته: صدفة. قال: وإن سبق اثنان إلى ذلك وضاق عنهما: فإن كانا يأخذان للتجارة قسم بينهما؛ لعدم المزية، وكيفية القسمة: أن يهايأ بينهما فيه، فإن تشاحا في السبق أقرع. قال: وإن كانا يأخذان القليل للاستعمال، فقد قيل: يقرع بينهما؛ لانتفاء المرجح، مع أن للقرعة مدخلاً عند تساوي الحقوق، وهذا ما صححه القاضي أبو الطيب وغيره. [وقيل: يقسم الإمام بينهما؛ حذاراً عن تأخير الحق]. وقيل: "يقدم" الإمام "أحدهما" أي: بالاجتهاد، وظهور الأحقية كما يفعل في أموال بيت المال. وهذا الذي ذكره الشيخ [بجملته] نسبه البندنيجي إلى أبي إسحاق المروزي، وقد حكى الرافعي هذه الأوجه فيما إذا كانا يأخذان للتجارة، وقال: إنه الأشهر،

وإنه يشبه- على قياس ما قاله العراقيون- أن يقال: إن كان أحدهما تاجراً والآخر محتاجاً يقدم المحتاج. قال: فإن أقطع الإمام شيئاً من ذلك لم يصح إقطاعه؛ لما روت بهيسة عن أبيها أنه قال: "يَا نَبِيَّ اللهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: "الْمَاءُ"، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: "الْمِلْحُ"، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: "أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرُ لَكَ". ولما روى ثابت عن سعيد عن أبيه عن جده الأبيض بن حمال المازني أنه استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملح مارب، فأقطعه، فقال الأقرع بن حابس التميمي: يا رسول الله، إني قد وردت الملح [في الجاهلية]، وهو بأرض ليس فيها ملح، ومن ورده أخذه، وهو مثل الماء [العد بأرض]، فاستقال الأبيض من قطيعته الملح، فقال الأبيض: قد أقلتك منه على أن تجعله مني صدقة، فقال- عليه السلام-: "هُوَ مِنْكَ صَدَقَةُ، وَهُوَ مِثْلُ الْمَاءِ الْعِدِّ مِنْ وَرَدَهُ أَخَذَهُ"، خرجه أبو داود. والمارب- غير مهموز-: موضع. والعد- بكسر العين-: مجمع الماء، قاله الخليل. وقال الأزهري: الماء العد: الكثير الذي لا ينقطع كماء البئر، وماء العين. قال أبو الطيب: ولأن المسلمين أجمعوا على أنه لا يجوز أن يقطع السلطان مشارع الماء فيجعله أحق بها من غيره؛ فكذلك لا يجوز أن يقطعه شيئاً من المعادن الظاهرة؛ لأنه بمنزلة الماء من حيث إنها بارزة ظاهرة لا يحتاج في

تحصيلها واستخراجها إلى مؤنة وعمل. قال: "فإن كان من ذلك ما يلزم عليه مؤنة- بأن يكون بقرب الساحل موضع إذا حصل فيه حصل منه الملح- جاز أن يملك بالإحياء، وجاز للإمام إقطاعه"؛ لأنه ليس في الحال معدناً، وإنما هو موات؛ فيصير بالإحياء معدناً؛ فجاز أن يملك بالإحياء، وجاز إقطاعه كغيره من الموات. والساحل: معروف، وجمعه: سواحل، وهو: فاعل، بمعنى: مفعول؛ لأن الماء سحله، أي: قشره. قال: وإن حمى الإمام أرضاً لترعى فيها إبل الصدقة أي: الزكاة ونعم الجزية، وخيل المقاتلة، والأموال الحشرية، ومال من يضعف عن الإبعاد في طلب النجعة، ولم يضر ذلك بالناس، أي: لكونه قليلاً من كثير يكفي المسلمين، جاز في أصح القولين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين والمجاهدين ترعى فيه، كما خرجه أبو داود والبخاري؛ فكان للأئمة ذلك تأسياً به، كما في سائر المصالح.

"والنقيع"- بالنون والقاف-: بلد معروف بقرب المدينة قدر ميل في ستة أميال، وهو موضع مستنقع الماء، وينبت فيه الكلأ، كذا ذكره أصحابنا، وفي حواشي الشيخ زكي الدين: أنه [على] عشرين فرسخاً من المدينة. وقيل: على عشرين ميلاً، ومساحته ميل في بريد. وحكي عن الخطابي: أن من الناس من يقوله بالباء [وهو تضعيف]. وقال أبو عبيد: الثاني هو بالباء، مثل: بقيع الغرقد، وقد روى أن أبا بكر حمى بالربذة لإبل الصدقة، واستعمل عليها مولاه أبا أسامة، وولى عليه قرطب بن مالك، وقد روى أن عمر حمى من السرف بقدر ما حمى أبو بكر من الربذة، وولى عليه مولاه هنياً، وقال: يا هني، ضُمَّ جناحك للناس. أي: تواضع لهم. وقيل: اتق

الله واتق دعوة المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريرمة ورب الغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان و [نعم] ابن عوف؛ فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة والغنيمة يأتيني بعياله، فيقول: يا أمير المؤمنين [يا أمير المؤمنين]، أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ والكلأ أهون علي من الدينار والدرهم. وأراد: إن هلكت ماشيتهم احتجت إلى الإنفاق عليهم من الدينار والدرهم في بيت المال والكلأ دونهما. والسرف: بفتح السين وكسر الراء المهملتين، وبعضهم قيده بفتح الشين المعجمة وفتح الراء المهملة، قال الشيخ زكي الدين: وهو الصواب. والهنى: بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء من غير همز، ويروى مهموزاً. الصريمة- بصاد مهملة مضمومة، وراء مهملة مفتوحة، وياء آخر الحروف-: تصغير صرمة- بكسر الصاد- وهي القطيع من الإبل خاصة، وهو ما جاوز الذود إلى ثلاثين، والذود من الإبل: ما بين الخمسة إلى العشرة، كذا حكاه في "رفع التمويه". وفي "الذخائر": أن الصريمة تطلق على الخيل خاصة، وهي ما بين الذود إلى الثلاثين [من الخيل]، وأن الذود من الإبل: ما بين خمسة إلى عشرين، وقيل: ما بين ثلاثة إلى عشرة. وحكى في "البحر" وكذا البندنيجي أن الصريمة من الإبل والخيل: ما بين الذود إلى الثلاثين. والغنيمة- بضم الغين-: تصغير الغنم، وهي ما بين الأربعين إلى المائة من الشاء، وأما الغنم ما تفرد لها راع على حدة، وهي ما بين المائتين إلى أربعمائة. ولأن في ذلك مصلحة لكل مسلم في دينه ونفسه أو من يلزمه أمره من

مستحقي المسلمين؛ فكان ما حمى من خاصتهم أعظم منفعة لعامتهم وأهل دينهم، وقوة على من خالف من عدوهم، فعلى هذا: لو أحياه أحد بغير إذن الإمام فهل يملكه؟ فيه قولان، وقيل: وجهان: أحدهما: لا؛ كما لا يملك ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ما صححه في "البحر". ووجه الجواز: أن التمليك بالإحياء ثابت بالنص، والحمى إنما يثبت بالاجتهاد، والمنصوص عليه أولى من المجتهد فيه. ولو أحياه بإذن الإمام ملكه، كذا قاله القاضي أبو الطيب. قال: "ولا يجوز في الآخر"؛ لما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ حِمَى إِلَّا للهِ وَلِرَسُولِهِ"، ولأنه لا يجوز أن يحمى لنفسه؛ [فلا يجوز أن يحمى مطلقاً لغيره من الرعية، وعكسه النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يجوز له أن يحمي لنفسه] وإن لم يفعله؛ فكان له أن يحمي لغيره. والمنتصرون للأول منهم من يروي الحديث: " لاَ حِمَى إِلَّا للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ"، ومنهم من يرويه بغير هذه الزيادة، ويقول: معناه: لا حمى إلا أن يقصد به وجه الله تعالى كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حماه لفقراء المسلمين وفي مصالحهم، ورد على مخالفة فعلى الجاهلية؛ فإن العزيز منهم [كان إذا] انتجع بلداً مخصباً أوفى كلب على جبل أو على نشز من الأرض- أي: أشرف به- ثم استعوى الكلب، ووقف له من كل ناحية من يسمع منها صوته؛ فحيث انتهى صوته بالعواء حماه من كل ناحية لنفسه، ويرعى مع العامة فيما سواه ويمنع، هذا من غيره. فورد الخبر؛ نهياً لهم عن هذا. وأجابوا عن القياس على آحاد المسلمين: بأنه ليس لواحد منهم النظر في مصالح المسلمين؛ ولهذا لم يكن له أن يحمي، وليس كذلك الأئمة. تنبيه: الحمى: الممنوع، يقال: حميته أحميه، أي: منعته ودفعت عنه.

قال الجوهري: يقال: أحميته: جعلته حمى، وسمع الكسائي في تثنيته: حموان، والوجه: حميان. قال ابن فارس: قال أبو زيد: حمينا مكان كذان وهو حمى: لا يقرب؛ فإذا امتنع منه وحذر قيل: أحمينا. النعم: الإبل، والبقر، والغنم، وهو اسم جنس، وجمعه أنعام. والأموال الحشرية-[بفتح الحاء وإسكان الشين-: أي المحشورة، وهي المجموعة للمسلمين ومصالحهم. يقال: حشرته أحشره وأحشِره]؛ فأنا حاشر، وهو محشور. النجعة- بضم النون-: الانتجاع، وهو: الذهاب للانتفاع بالكلأ وغيره. قال: فإن زالت الحاجة جاز أن يعاد إلى ما كان أي: ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره؛ لأن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها، والمعتد له الإمام؛ لأنه متعلق بالاجتهاد. قال الإمام: ولا نقول: كما زالت العلة انقطع حكم الحمى. وقيل: ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز تغييره بحال؛ لأن ما حكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم نص فلا يجوز نقضه بالاجتهاد، وهذا ما صححه القاضي أبو الطيب، وجزم به البندنيجي، وحكاه الماوردي عن جمهور الأصحاب، ونسب الأول إلى الشيخ أبي حامد، وطريقة الفوراني في "إبانته": أن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينقض، وحمى غيره هل ينقض من بعده؟ فيه قولان: قال الإمام: ولعل الأصح الجواز؛ فإن حمى الإمام اجتهاد منه في طلب المصلحة للمسلمين، وإذا رأى من بعده رد الحمى نظراً لم يعترض عليه. ووجه المنع: بأنه في حكم المحرز للجهة المعينة؛ فلا سبيل إلى نقضه؛ كما لو جعل بقعة مسجداً أو مقبرة فلا يجوز تغييره، وإن اقتضت المصلحة التغيير، وهذا الخلاف جار- كما حكاه القاضي الحسين- في أن الحامي هل له نقض حمى نفسه أم لا؟ وقال الرافعي: إن في بعض الشروح: أنه يجوز للحامي أن ينقض حمى

نفسه، ولا يجوز لمن بعده من الأئمة نقض [ما] حماه. فروع: إذا حمى آحاد الناس مواتاً، ومنع الناس منه زماناً، ورعاه، ثم ظهر الإمام عليه رفع يده عنه ولم يغرمه؛ لأنه ليس لمالك، ولا يعزره؛ لأنه أخذ مستحقه، وينهاه عن مثل تعديه. ولو حمى والي الإقليم موضعاً لمصالح المسلمين رأى فيه مصلحة، فليس له ذلك إلا بإذن الإمام، كذا قاله الماوردي، وألحق الفوراني الولاة بالأئمة، وحكى فيهم القولين، ورجح الرافعي هذه الطريقة. ووالي الصدقات إذا اجتمعت معه مواشي الصدقة، وقل المرعى لها، أو خاف عليها أن تتلف، لم يحم الموات لها، فإن منع الإمام من الحمى كان والي الصدقات أولى، وإن جوز الإمام ففي جوازه لوالي الصدقات عندما ذكرناه وجهان: أصحهما في "الحاوي": المنع، وعلى مقابله يتقيد الحمى بزمان الضرورة ولا يستديم، بخلاف حمى الإمام.

باب اللقطة

باب اللقطة اللقطة- بفتح القاف، على المشهور-: الشيء الملقوط، وادعى الأزهري أنه الذي سمع من العرب، وأجمع عليه أهل اللغة ورواة الأخبار، قال: وكذا قاله الأصمعي والفراء وابن الأعرابي. وقال الخليل بن أحمد: هي بفتح القاف اسم للرجل الملتقط، وبإسكان القاف اسم للشيء الملقوط؛ لأن ما جاء على وزن "فعلة" فهو اسم للفاعل؛ كقولهم: هُمَزة لُمَزة ضُحَكَة لُحَنة، وما جاء على وزن "فعلة" فهو اسم للمفعول. قال الأزهري: وهذا هو القياس. وعن ابن السكيت في "الإصلاح": اللقطة من الأسماء التي على "فُعَلة" و"فُعْلة"، ويقال: لُقاطة- بالضم-: ولَقَطُ، بفتح اللام والقاف بلا هاء. قال الأزهري: وهي مختصة بما ليس بحيوان من سائر الأموال، وما كان حيواناً سمى: ضَوَالَّ، لا غير، وعلى ذلك جرى الشيخ في قوله: "وإن وجد ضالة .. " إلى آخره. والالتقاط: أخذ مال محترم يكون بمضيعة، يأخذه من هو أهل الالتقاط؛ ليحفظه على مالكه، أو ليتملكه بعد التعريف. وهذا الحد يخرج الكلب المعلم، ولا شك في جواز التقاطه للحفظ، وهل يجوز لغيره؟ فيه كلام سيأتي، فيجب أن يقال: الالتقاط: أخذ شيء محترم يكون بمضيعة، يأخذه من هو أهل الالتقاط، ليحفظه على صاحبه، أو ليختص به بعد التعريف.

وأما المغلَّب على اللقط هل حكم الأمانة أو حكم الأكساب؟ فيه قولان مأخوذان من معاني كلام الشافعي. ثم الأصل في مشروعيتها من الكتاب قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وفي أخذ اللقطة وردها على صاحبها معاونة على البر والتقوى. ومن السنة: ما روى الشافعي عن مالك عن ربيعة بن يزيد مولى [المنبعث عن] زيد بن خالد الجهني أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال: "اعْرِفْ عِفَاصَهَا، وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلا فَشَانُكَ بِهَا". وسأله عن ضالة الغنم فقال: "خُذْهَا، فَإِنَّهَا لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ"، وسأله عن ضالة الإبل فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى احمرت وجنتاه- وفي رواية: حتى احمر وجهه- وقال: "مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَاكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا"، وغير ذلك من الأخبار. وقد أجمع المسلمون على جواز أخذها في الجملة، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل. ومعنى قوله عليه السلام: "هِيَ لَكَ" أي: إن أخذتها ["أَوْ لأَخِيكَ" أي: إن أخذها] "أَوْ لِلذِّئْبِ" أي: إن لم تؤخذ أكلها الذئب. وقوله- عليه السلام- في ضالة الإبل: "مَا لَكَ وَلَهَا" أي: لا تأخذها. وقوله: "مَعَهَا" أي: أجوافها؛ فإنها تأخذ ماء كثيراً فتبقى عليه أكثر ما يبقى سائر الحيوانات. وقوله: "وَحِذَاؤُهَا" أي: خِفاف أرجلها التيت قدر بها على السير وطلب المرعى، وتمتنع بها من صغار السباع. وقوله: "تَرِد ُالْمَاءَ وَتَاكُلُ الشَّجَرَ" عنى به: أن عنقها طويل فتنال الماء والمرعى من الشجر؛ فهي محفوظة بنفسها غير محتاجة إلى أخذ وبهذه الأمور خالفت الغنم.

قال: "إذا وجد الحر الرشيد لقطة في غير الحرم في موضع يأمن عليها" أي: لأمانة أهله، وليس الموضع مملوكاً، ولا في دار الشرك- فالأولى: أن يأخذها؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وهذا منه، وقوله – عليه السلام-: "وَاللهِ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ"، وفي الأخذ إعانة. ولا يجب؛ لأنه أخذ مال على وجه الائتمان؛ فلم يكن عليه أخذ؛ كالوديعة. قال: "وإن كان في موضع لا يأمن عليها" أي: لخيانة أهله "لزمه أن يأخذها"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ". ولو خاف على نفسه لوجب عليه صونها؛ فكذلك ماله، وهذه طريقة ابن سريج وأبي إسحاق وجمهور أصحابنا، كما قاله الماوردي. قال: "وقيل: فيه قولان في الحالين"، وهذه طريقة الأكثرين كما قال الرافعي: أحدهما: يجب [الأخذ]؛ لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وإذا كان الواجد ولياً لصاحب اللقطة، وجب عليه حفظ ماله؛ كما يجب على ولي اليتيم حفظ ماله. وهذا أخذ من قول الشافعي في "كتاب اللقطة" من "الأم": ولا يحل ترك اللقطة لمن وجدها إذا كان أميناً عليها. والثاني: يستحب؛ لما ذكرناه. وهذا أخذ من قول الشافعي في "المختصر": "ولا أحب ترك لقطة وجدها إذا كان أميناً عليها". وهذا صححه الغزالي، والرافعي، وحكاه الإمام طريقة جازمة؛ لأنه دائر بين أن يكون كسباً أو أمانة؛ فلا معنى لوجوبها، وما ذكره الشافعي محمول على تأكيد الندب. ومنهم من قال: لا يجب الأخذ ولا يستحب أيضاً.

ثم على القول بالوجوب: لو لم يكن يأخذها حتى تلفت، لا ضمان عليه؛ لأن المال ما حصل في يده فلا يضمنه. قال القاضي الحسين: كمن كان معه طعام وإنسان يموت جوعاً؛ فيجب عليه أن يعطيه، فلو لم يعطه حتى مات، لا دية عليه. وقاسه البندنيجي على ما لو رأى مال شخص يغرق أو يحرق وقدر على خلاصه؛ فإنه واجب عليه، فإذا لم يفعل، وتلف لا ضمان عليه. تنبيه: جمع الشيخ بقوله: "الرشيد" البالغ العاقل المسلم الأمين، وهو مقتض لعدم التفصيل في الأمين بين أن يخاف على نفسه الخيانة أم لا [و] هو الصحيح في المذهب. وحكى الإمام طريقة: أن الملتقط إن كان لا يأمن نفسه ولا يثق بها فلا يجب عليه الالتقاط قولاً واحداً، والقولان فيمن يغلب على ظنه أنه لا يخون. وحكى عن الشيخ أبي محمد وجهين فيما إذا كان يخاف على نفسه الخيانة في جواز الأخذ، إذا قلنا: إن الأخذ سنة عند تحقق الأمانة، وشبههما- وكذلك الغزالي- بالوجهين في أن الصالح للقضاء إذا لم يأمن على نفسه هل يجوز له تقلد القضاء؟ لكن الغزالي في كتاب الأقضية جزم فيمن تعين عليه بوجوب القبول، وإن كان يخاف الخيانة فيمن لم يتعين عليه- لوجود مساو له أو فاضل أو مفضول، وقلنا بصحة ولاية المفضول-: بمنع القبول. ومن عدا الحر الرشيد سيأتي الكلام فيه. أما إذا كانت اللقطة في موضع مملوك، فقد قال الماوردي: [إنه لا] يجوز له التعرض لأخذها، وهي في الظاهر لمالك الأرض إن ادعاها. ولو كانت في دار الشرك ولا مسلم فيها، فقد حكى الغزالي والفوراني في "الإبانة": أنها له من غير تعريف، ولا ضمان عليه بالإتلاف. وفي "التهذيب": أنها تكون غنيمة خمسها لأهل الخمس، والباقي للواجد. قال: ثم ليعرف، أي: على الفور- كما قاله المتولي- "وعاءها وعفاصها

ووكاءها وجنسها وقدرها وصفتها": أما اعتبار معرفة العفاص والوكاء؛ فلحديث زيد بن خالد الذي ذكرناه. وأما اعتبار معرفة القدر؛ فلما روى البخاري عن شعبة في حديث مطول: أن أبي ابن كعب قال له- وهو بالمدينة-: وجدت صرة فيها مائة دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "عرِّفْها حولاً" فعرفتها حولاً، ثم أتيته الرابعة، فقال: "اعْرِفْ عَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا". وأما في الباقي: فإن لم تكن معرفته ملازمة للعدد، فيأخذه بالقياس على ما ثبت بالنص؛ بجامع الاشتراك في معرفة ما تمتاز به عن غيرها؛ حتى لا تختلط، وليعرف صدق واصفها من كذبه. لكن لك أن تقول: حديث أبي يدل على اعتبار العدد عند إرادة التملك، وأنت تريد إثباته عند الالتقاط، [والفرق ظاهر؛ فإنه يلجئ لمعرفة القدر حتى يرد مثله، ولا كذلك في حالة الالتقاط]. وحديث زيد بن خالد لا يحسن القياس على ما ذكر فيه؛ لأن أبا غسحاق المروزي حكى عن الشافعي- رضي الله عنه- أنه ذكر وجوهاً فيما يحتمله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم للملتقط بمعرفة الوعاء والوكاء: أحدها: التنبيه على حفظها؛ فإن العادة أن من التقط لقطة يرمي وعاءها ووكاءها لقلته واستحقاره، فأمره بحفظهما؛ لأنهما مال الغير فلا يجوز تضييعه وإن قل. والثاني: أن يكون تنبيهاً على حفظ ما في الوعاء من طريق الأولى. والثالث: أن يكون أمره به؛ حتى يميزها إن اختلطت.

والرابع: أن يكون أمره به؛ حتى يذكره في تعريفه. والخامس: أن يكون أمره به؛ حتى إذا جاء من أعطى صفتها علم أنه صادق في صفاتها، فإن غلب على ظنه صدقه جاز أن يدفعها إليه، وإن كان لا يجب. وإذا كانت هذه الاحتمالات قائمة لم يحسن القياس على أحدها إلا أن يدل عليه دليل. واعلم أن المعرفة بالقدرة تارة تكون بالوزن إن كان مما يوزن، وتارة بالعدد إن كان مما جرى العادة بعده. قال القاضي أبو الطيب: إلا أن يكثر بحيث لا يعرف مثله في العادة. تنبيه: قول الشيخ: "ثم ليعرف" هو بفتح الياء وإسكان العين، أي: ليتعرفه فيعرفه. والوعاء، والوكاء: ممدودان بكسر الواو فيهما، والوكاء: الخيط الذي يشد به الصرة [وغيرها]. والعفاص- بكسر العين- قال الخطابي: أصله الجلد الذي يلبس رأس القارورة، وأطلق- كما قاله الأزهري- على الوعاء على طريق التوسع؛ لأنها كالوعاء، والجمهور على أن العفاص: الوعاء، وهو ما حكاه في "المهذب"، وعليه يدل كلام الشافعي الذي حكيناه عن رواية أبي إسحاق من قبل، وكلاهما صحيح، لكن الأول بكلام الشيخ هنا أنسب؛ لأنه ذكر الوعاء معه. والصمام الذي تسد به رأس القارورة من خشب أو خرقة. قال: ويستحب أن يشهد عليها احتياطاً وتبرئةً لغرضه؛ فإنه إذا لم يشهد، اتهم في أنه إنما فعل ذلك؛ لينتفع بها، ولا يجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به في خبر زيد بن خالد، ولو كان واجباً لبينه؛ لأن ذلك وقت البيان، ولأن كل مال يجوز لواجد تناوله [فلا يلزمه الإشهاد عليه؛ كالركاز، وهذا ظاهر ما نص عليه الشافعي في "الأم" كما حكاه القاضي أبو الطيب وصححه. وقيل: يجب، وهو ظاهر ما نقله المزني، واختاره في "المرشد"، لما روى النسائي عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ الْتَقَطَ لُقَطَةً،

فَلْيُشْهِدْ عَلَيْهَا ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلَا يَكْتُمْهَا، وَلا يُغَيِّرْهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا، وَإِلا فَمَالُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ مَنْ أَخَذَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ عَلَيْهَا ذَا عَدْلٍ أَوْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلْيَحْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، وَلا يَكْتُمْ وَلا يُغَيِّرْ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَجِيءْ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ". والقائلون بالأول حملوا هذا على الاستحباب؛ لأنه لو كان واجباً لما خير بين الواةحد والاثنين. ثم إذا قلنا بالوجوب ففي كيفيته وجهان: أحدهما: يشهد أنه وجد لقطة، ولا يعلم بالعفاص ولا غيره؛ كي لا ينتشر فيتوسل الكاذب إلى أخذها إما بالوصف إذا اكتفينا به، أو بأن يواطئ الشهور إن أحوجناه إلى البينة. وهذا أصح عند صاحب "التهذيب"، لكنه قال: ويجوز أن يذكر جنسها. والثاني: أن يشهد على صفاتها؛ حتى لو مات لم يتصرف فيها الوارث. وأشار الإمام إلى التوسط بين الوجهين، وأنه لا يستوعب الصفات، ولكن يذكر عبضها؛ ليكون في الإشهاد فائدة. فلو ذكر تمام الوصف، قال: لم نر الأمر ينتهي إلى التحريم. وإذا ترك الإشهاد على القول بوجوبه دخلت في ضمانه، قاله القاضي. ولا خلاف في أنه لا تجب الكتابة عليها، بل يستحب. قال: وإن أراد حفظها على صاحبها لم يلزمه التعريف؛ لأن التعريف للملك وهو لم يرده، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ

عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا [وَإِلَّا] فَشَانَكَ بِهَا"؛ فألزمه التعريف لما جعلها له بعده، وهذا ما أورده الأكثرون، وحكى الإمام ومن تابعه وجهاً جعلوه الأظهر: أنه يلزمه التعريف، وعلى ذلك جرى البغوي، وظاهر كلام الماوردي يقتضي الجزم به؛ فإنه جعل إيجاب التعريف مجزوماً به من غير تفصيل، وحكى الخلاف في وجوب الإشهاد، وقد يستدل له بما روى النسائي عن عياض من قوله: "وَلَا تَكْتُمْ". فعلى الصحيح: إذا عرف، كان متبرعاً؛ فلو لزمته مؤنة بسبب التعريف، لم يرجع بها. وعلى الثاني: لا يلزمه المؤنة؛ بل يرفع الأمر إلى الحاكم، ليبذل أجرة التعريف من بيت المال، أو يستقرض على المالك، أو يأمر الملتقط به ليرجع كما في هرب الجمال. [و] في "الحاوي": أنه إذا قدر على استئذان الحاكم فلم يستأذنه وأشهد، فهل يرجع؟ فيه وجهان. ولو لم يأت به ضمن، حتى لو ابتدأ بالتعريف بعد ذلك فهلك في سنة التعريف ضمن. قال: "وإن أراد أن يتملكها، عرفها سنة"؛ لخبر زيد بن خالد، والمعنى فيه: أن السنة لا تتأخر عنها القوافل، وتمضي فيها الأزمان التي يقصد فيها من الحر والبرد والاعتدال، وفي هذه الحالة إذا احتاج إلى مؤنة بسبب التعريف كانت على الملتقط؛ لأنه سببه إلى تملكه، صرح بذلك القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما. ومنهم من قال: إن اتصل الملك بالتعريف فالأمر كذلك، فإن لم يتصل به بأن ظهر المالك فهل يكون على الملتقط أو على المالك؟ فيه وجهان، أظهرهما: الثاني. قال الرافعي: وهما جاريان فيما لو عرف لقصد الأمانة أبداً ثم عن له أن يتملك فتملك، وحاصلهما يرجع إلى أن المعتبر حال التعريف، أو حال انتهاء الأمر؟ ومحلهما في الصورة الأخيرة يظهر أن يكون إذا قلنا بوجوب التعريف عند

الالتقاط، أما إذا قلنا باستحبابه فقد حكى في موضع آخر: أنه إذا عرف، ثم بدا له قصد التملك عرفها سنة من يومئذ، ولا يعتد بما عرف من قل، على أنه سيأتي خلاف عن الأصحاب فيما إذا أخذ ما لا يمتنع من صغار السباع للحفظ، ثم عن له أن يتملكه: هل يجوز ذلك؟ ولا يبعد مجيء ذلك هاهنا، وإذا أوجبنا التعريف فهل تجب المبادرة إليه؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن العثور على المالك في ابتداء الضلال أقرب، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب، فإن أخره على هذا من غير عذر ضمن، وإن كان ثم عذر- كما إذا خاف إن عرفها أخذها السلطان منه ظلماً وطالبه بأكثر منها- فلا يجوز له التعريف؛ بل يحفظها على صاحبها أبداً. والثاني: لا، وهو الأشبه بكلام الأكثرين، وعليه قال الإمام: لو تمادى التأخير، وأمكن أن يقال: نسيت اللقطة في طول هذا الزمان، فهل ينفع التعريف بعد ذلك؟ فيه وجهان. ومن يصير إلى التعريف يقول: حق المعرف أن يؤرخ وجدان اللقطة في تعريفه، ويسنده إلى الوقت الذي لقيت فيه. وقد تساهل بعض الأصحاب في اشتراط ذلك، ورآه من باب الأولى، وجوز الاقتصار على التعريف المطلق. قال: "على أبواب المساجد" أي عند خروج الناس منها، خصوصاً يوم الجمعة "والأسواق، وفي الموضع الذي وجدها فيه" أي: إن كان في عمران، وكذا يعرفها في مثل الوقت الذي وجدها فيه، إذا كان في يوم جمعة في الجامع- كما قال الفوراني- لأن ذلك أقرب إلى وجود ربها، ولا يعرف في المسجد؛ كما لا يطلب الضالة فيه، قال الشاشي في "المعتمد": إلا أن أصح الوجهين جواز التعريف في المسجد الحرام. ولو كان الالتقاط في الصحراء فعن أبي إسحاق: أنه إن اجتازت به قافلة تبعها وعرف فيها، وإلا عرف في البلدة التي يقصدها، فإن بدا له الرجوع عرف عند الوصول إلى مقصده، ولا يكلف أن يغير قصده ويعدل إلى أقرب البلاد إلى ذلك الموضع- كما حكاه الإمام والغزالي- والذي ذكره الماوردي والمتولي وغيرهما: أنه يعدل ويعرف في أقرب البلاد إليها. وليس للملتقط تسليم المال إلى الذي يعرفه إلا بإذن الحاكم، فإن فعل ضمن، اللهم إلا أن يعرض له سفر؛ فيكون

الحكم كما في الوديعة. وفي "تعليق القاضي الحسين" و"الإبانة" وكتاب المسعود: أنه إذا دفع اللقطة للقاضي ليعرفها أو يأمر غيره ليعرفها، جاز، ولو دفع لغير القاضي ففيه وجهان، وجه الجواز: أن الشرع جعله ولياً في اللقطة؛ فصار تصرفه [فيها] كتصرف الأب في مال الابن. ولو دفع اللقطة للحاكم، وترك التعريف والتملك، ثم ندم وأراد أن يعرف ويتملك، ففي تمكنه وجهان حكاهما ابن كج. قال: "ويقول: من ضاع منه شيء، أو: من ضاع منه دنانير"، هذه الصيغة صريحة في التخيير بين الأمرين، وقد صرح به الماوردي والبندنيجي والفوراني، ويحتمل أن يكون فيها إشارة إلى وجهين ذكرهما الأصحاب فيما يجب ذكره في التعريف: فمنهم من قال: لا يجب ذكر شيء أصلاً؛ بل يستحب ذكر بعض الأوصاف. [ومنهم من قال: يجب ذكر بعض الأوصاف]، ويكفي فيه ذكر الجنس، وحينئذ فيكون قول كلام الشيخ: "فيقول: من ضاع منه شيئ" إشارة إلى الوجه الأول، وهو الأظهر من كلام الأصحاب، وبه جزم القاضي الحسين، وقوله: "او من ضاع منه دنانير" إشارة إلى الوجه الثاني، وهو الذي ذكره القاضي أبو الطيب. وقال الإمام: عندي أنه لا يكفي ذكر الجنس، ولكن يتعرض للعفاص والوكاء ومكان الالتقاط وتاريخه، ولا يستوعب الصفات، ولا يبالغ فيها بالاتفاق؛ كي لا يعتمدها الكاذب، فإن فعل، ففي صيروروته ضامناً وجهان، وأجراهما في "المهذب" فيما لو ذكر النوع، والقدر، والعفاص، والوكاء، واختار في "المرشد" منهما الضمان، والله أعلم. قال: "وقيل: إن كان قليلاً كفاه أن يعرفه في الحال، ثم يملكه" هذا قول الإصطخري، ووجهه: ما روي أن عمر- رضي الله عنه- رأى جراباً فيه سويق تطؤه الإبل، فأخذه، فعرفه، فلم يعرفه أحد، فأمر بقدرح، فشرب منه، وسقى أصحابه، وقال: "هذا خير من أن تطأه الإبل" ولم ينكر عليه أحد، ولأن الشيء

الحقير لا يدوم صاحبه على طلبه سنة، بخلاف الخطير. قال الرافعي: وهذا أشبه باختيار المعظم. وقيل: لا يعرف القليل، وهو قول أبي علي في "الإفصاح"؛ لما روي عن جابر أنه قال: "رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَصَا وَالسَّوْطِ وَالْحَبْلِ وَأَشْبَاهِهِ يَلْتَقِطُهُ الرَّجُلُ يَنْتَفِعُ بِهِ". وحكى الخراسانيون وجهين آخرين: أحدهما: أنه يعرفه ثلاثة أيام؛ لما روى عبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري: أن عليا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [بدينار] وجده في السوق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَرِّفْهُ ثَلاثاً" ففعل فلم يجد أحداً يعرفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [كُلْهُ]، أَوْ شَانُكُمْ بِهِ". الثاني: أنه يعرفه مدة يتصور رجوع المالك في مثلها في طلب الضائع، وذلك يختلف باختلاف قدر المال. قال القاضي الروياني: فدانق الفضة يعرف في الحال، ودانق الذهب يعرف يوماً، أو يومين، أو ثلاثة، وهذا ما جعله الرافعي أظهر. قال: "وقدر القليل بالدينار"؛ لما روى أبو داود بسنده في حديث مطول: أن علي بن أبي طالب وجد ديناراً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصابته ضائقة، فرهنه من قصاب على درهم فأخذه به لحماً، ولم يعرفه، ثم جاء رجل ينشده؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمضي إلى الجزار ويقول له: قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادفع الدينار إلى هذا، وعلي ضمان الدرهم.

قال القاضي أبو الطيب: يحتمل أن يكون علي لم يعرفه؛ لاضطراره إليه، والمضطر يجوز له الانتفاع بمال الغير من غير إذنه، وكأنه لم يقف على صدر الحديث؛ فإن فيه أن الرهن وقع بعد [أن] حصل له دقيق، وذلك ينفي الاضطرار. قال: وقدر بالدراهم؛ لأن ما دون الدرهم لا يجب تعريفه؛ لقول عائشة- رضي الله عنها-: "لاَ بَاسَ بِمَا دُونَ الدِّرْهَمِ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ". قال: "وقدر بما لا يقطع فيه السارق"؛ لأنه تافه، قالت عائشة- رضي الله عنها-: "مَا كَانَتِ الأَيْدِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُقْطَعُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ"، وقد اختار هذا الوجه صاحب "المرشد". وحكى القاضي الحسين في "تعليقه" الأوجه الثلاثة على النعت الذي ذكره الشيخ، ثم قال: والصحيح: أن كل ما لو ضاع عنه يحزن عليه [في العرف] ويتأسف في العادة عليه، إذا ضاع فهو [كثير، وما لا يحزن عليه إذا ضاع فهو] قليل، والدرهم فما فوقه كثير. وإذا جمعت ما قيل في حد القليل كان خمسة أوجه. قال: وظاهر المذهب: أنه لا فرق بين القليل والكثير؛ [لعموم الأخبار، ولأن اللقطة جهة من جهات التملك؛ فاستوى فيها القليل والكثير] كالابتياع، وهذا أظهر عند العراقيين، وأصح في "تعليق" القاضي الحسين، ومجزوم به في "الحاوي". وكل هذا إذا لم يبلغ في القلة إلى حد تسقط معه القيمة، أما إذا بلغ كالتمرة والزبيبة، فلا يجب تعريفها بحال، وأبدى الرافعي احتمالاً في منع التقاطها؛ بناء على عدم ضمانها، ومنع التقاط ما لا يضمن بدله: كالكلب، كما سنذكره.

وحكى الماوردي وجهين في إيجاب تعريف ما له قيمة، إلا أنه لا تتبعه نفس صاحبه، ولا يطلبه إن ضاع منه: كالرغيف، والدانق من الفضة. وقد حكى ابن الصباغ- أيضاً- وجه عدم وجوب التعريف، وجزم به، لكنه لم يمثل. والتقاط السنابل وقت الحصاد، قال المتولي: إن أذن مالك الزرع فيها، أو كانت بحيث يشق على المالك لو علم بها أن يلتقطها، حل التقاطها، وإلا لم يحل، قاله المتولي. واعلم أن التعريف تدخله النيابة، لكن لا يعرف من جرت عادته بالخلاعة والمجون، فإن فعل لم يعتد به. قال: "ويجوز التعريف في سنة متفرقة" أي: مثل أن يعرفها في شهر من كل سنة، أو أكثر إلى أن تكمل سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق السنة؛ فاحتمل التوالي، واحتمل التفريق، وكان كما لو نذر صيام سنة؛ فإن له تفريقها أو موالاتها. "وقيل: لا يجوز"؛ لأن القصد من التعريف [أن] يبلغ صاحبها، ويقف على خبر ماله، وإذا فرقها لم يحصل له المقصود بذلك، وهذا ما أورده الإمام، وقال في "التجريد": إنه المذهب. فعلى هذا: ليس من شرط الموالاة أن يعرف الأيام والليالي في جميع السنة؛ بل المعتبر أن يعرف بالنهار دون الليل، ولا يشترط- أيضاً- استيعاب النهار؛ بل يعرف بالابتداء في كل يوم مرتين في طرفي النهار، وفي أوقات الصلاة على أبواب المساجد، ثم في كل يوم مرة، ثم في كل أسبوع مرة أو مرتين، ثم في كل شهر بحيث لا ينسى أنه تكرار لما مضى، ولو قطع الموالاة الواجبة، لم يعتد بذلك التعريف السابق، وعليه الاستئناف، وهل يصير ضامناً؟ فيه الخلاف السابق المبني على أن المبادرة إلى التعريف هل تجب أم لا؟ قال: "والأول أظهر"، وهو الذي صححه القاضي الحسين والفوراني في "الإبانة". وقال البندنيجي: إنه المذهب، وبه أجاب الروياني؛ لما ذكرناه.

فإن قيل: قد روى البخاري في خبر أبي بن كعب الذي تقدم، أنه أمره بتعريفها ثلاثة أحوال؛ [فلم لا جريتم على ذلك؟. قيل: لأن البخاري روى عن سعيد من طريق آخر أنه قال: "فَلَقِيْتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي ثَلاثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلاً وَاحِداً". وفي مسلم في بعض طرقه: قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: عرفها عاماً واحداً. وإذا اختلفت الطرق عمل بالمتفق عليه وهو الحول. ولأن المسلمين- كما قال ابن المنذر- أجمعوا على أنه لا يجب تعريفها ثلاثة أحوال، وإنما يجب حولاً واحداً. قال: "وإذا عرف" أي: بعد قصد التملك، ولم يجد المالك، "واختار التملك، ملك"؛ لحديث زيت بن خالد؛ فإنه جعل فيه التملك إلى اختياره بقوله: "فَشَانَكَ بِهَا"، ولأنه تمليك مال ببدل، فتوقف على الاختيار؛ كالبيع، ولا فرق في ذلك بين الغني والفقير؛ لقصة أبي بن كعب وغيره. وقيل: يدخل في ملكه بالتعريف، أي: بانقضاء التعريف، [سواء اختار التملك بعد الحول أو سخطه وكان قد قصد عند الأخذ التملك بعد التعريف]، كما ذكرنا. ووجهه: ما روى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن اللقطة؛ فقال: "مَا كَانَ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَيْتَاءِ أَوِ الْقَرْيَةِ الْجَامِعَةِ فَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِيءْ فَهِيَ لَكَ". فجعلها له، ولم يعتبر اختياره. والطريق الميتاء: الطريق المسلوك القديمة، سميت بذلك؛ لإتيان الناس

فيها. وروى: "في طريق مأتي" [سميت به]، لإتيان الناس إليها. ولأن التعريف سبب التملك، فإذا حصل سبب الملك، تبعه الملك؛ كالاحتطاب والاحتشاش، وهذا ظاهر النص في "المختصر"، ونسبه الماوردي إلى قول أبي حفص بن الوكيل. قال مجلي: ومنه من اشتراط على هذا القول ألا يتغير قصد التملك إلى انقضاء المدة. والصحيح الذي عليه عامة الأصحاب في الأصل: الأول. وعلى هذا: فبم يحصل الاختيار؟ فيه خمسة أوجه: أصحها: بالقول، وهو: أن يملكها، وما أشبهه؛ كما في البيع. والثاني: بالقول والتصرف؛ تخريجاً من القرض؛ فإن التصرف في اللقطة بالاستقراض، وعلى هذا قال الرافعي: فيشبه أن يجيء الخلاف المذكور في القرض في أن الملك بأي نوع من التصرف يحصل؟ والثالث: بتجديد قصد التملك، ولا حاجة إلى لفظ ولا تصرف؛ لأن اللفظ إنما يعتبر حيث يكون هناك إيجاب. وهذه الأوجه لم يذكر القاضي أبو الطيب وكثيرون سواها. والرابع: بالنية والتصرف، حكاه الماوردي. والخامس: بمجرد التصرف فيه، حكاه في "الحلية". وإذا حصل الملك، قال البندنيجي: كانت قرضاً عليه يثبت بدلها في ذمته. وحكى أبو الطيب الساوي في "الزيادات على الشرح": أن أبا إسحاق سئل عن ذلك، فقال: يملكها بغير بدل، ولكن إذا جاء صاحبها وجب عليه الضمان حين الطلب؛ لأنه لو ثبت بدلها في ذمته لعزل ذلك عن تركته كالدين ورد عليه فيه. قال: وإن هلك قبل أن يملك لم يضمن؛ لأنها محفوظة لصاحبها، ولم يفرط فيها؛ فلم يضمنها كالوديعة، ولا فرق في ذلك بين ما قبل إتمام الحول بالتعريف أو بعده إذا اعتبرنا [اختيار] التملك ولم يوجد، كما صرح به ابن

الصباغ وأبو الطيب والبندنيجي، ووافق ذلك الغزالي إذا كان التلف قبل تمام الحول، وجزم [به] فيما إذا تلف بعده، وقبل التملك بالضمان إذا كان عزم التملك مطرداً؛ لأنه صار ممسكاً لنفسه فأشبه المستام. وإن هلكت بعد اختيار التملك، وقلنا: لا بد [معه] من التصرف- فلا شك أنها تكون من ضمانه، وإن لم يوجد التملك؛ كالمقرض. قال: "وإن هلك بعد ما ملك ضمن، خلافاً للكرابيسي من أصحابنا؛ فإنه قال: لا يضمن؛ لأنه مال لا يعرف مالكه، فإذا ملكه لم يلزمه ضمانه؛ كالركاز". ودليلنا عليه: ما روى أبو داود في حديث زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَاعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ كُلْهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ"، فأمره بالأداء إذا جاء صاحبها بعد الأكل، وما ضمن بالإتلاف بعد الحكم بالملك ضمن بالتلف في اليد؛ كالمبيع بعد القبض، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً بالغرم، فلما عجز به غرمه عنه ولأن مقصود اللقطة حفظها على مالكها، وفي إسقاط الغرم استهلاك لها، ويخالف الركاز؛ فإن المقصود منه ليس الحفظ، بدليل أنه لم يجب تعريفه فصار كسباً محضاً. فعلى هذا: إن كانت من ذوات الأمثال ضمنها بالمثل، وإلا فبالقيمة وقت حصول الملك، فلو اختلفا في قدرها فالقول قول المتملك؛ لأنه غارم، كذا قاله الماوردي وغيره. وقضية ما حكيناه من أن ملك اللقطة كملك المقترض: يكون الواجب فيما له مثل صورى، [رد] المثل الصوري على الأصح؛ كما في القرض، وفي "الجيلي": أنا إذا ضمناه القيمة فأي قيمة تعتبر؟ فيه وجهان؛ كالصداق في يد الزوج يضمن فيه وقت التلف أو أكثر ما كانت من وقت القبض إلى التلف، وهذا

رأيته في "الحاوي" هكذا، لكن فيما إذا أخذ ما لا يمتنع من صغار السباع، واختار تملكه في الحال، والفرق بين المسألتين ظاهر. وفي "رفع التمويه" أن القيمة بأي وقت تعتبر؟ فيه وجهان: أحدهما: يوم يطالب بها صاحبها. والثاني: يوم ملكها؛ كالقرض. وكأن الوجه الأول مفرع على ما حكاه أبو الطيب الساوي عن أبي إسحاق. ولو لم تتلف، لكنها تعيبت استرجعها مالكها، وغرم الملتقط أرش النقصان. ومن أصحابنا من قال: هو بالخيار بين أن يأخذها ويطالبه بأرش النقصان، وبين أن يدعها ويطالبه بجميع بدلها. قال القاضي أبو الطيب: وهذا غلط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله أحق بها بكل حال. وفي "الشامل": أن القاضي في "المجرد" حكى وجهاً: أنه يقنع بها، ولا يغرمه الأرش؛ لأن النقصان كان ملكه. وقال في "التهذيب": صاحبها بالخيار: إن شاء رجع بها ولا أرش له، وإن شاء أخذ بدلها سالمة. فرعان: أحدهما: لو أخذ اللقطة على قصد الخيانة [والإحراز] كان ضامناً، فلو عرف ذلك وأراد التملك فجواب أكثرهم- وبه قطع الشيخ أبو محمد-: أنه لا يمكن منه. وعن رواية الشيخ أبي علي وجهان، وجه التملك: وجود صورة الالتقاط والتعريف. الثاني: لو أخذ على قصد الأمانة في الابتداء، ثم قصد الخيانة فأصح الوجهين: أنه لا يصير ضامناً بمجرد القصد؛ كالمودع. ووجه الثاني: أن سبب أمانته مجرد نيته، وإلا فأخذ مال الغير بغير إذنه ورضاه مما يقتضي الضمان، بخلاف المودع؛ فإنه مسلط مؤتمن من جهة المالك.

فعلى هذا: لو أقلع وأراد أن يعرف ثم يتملك فوجهان، أصحهما في "التهذيب": الجواز، وإيراد الغزالي يشعر بخلافه، وهما جاريان فيما لو طرأت خيانة في الدوام ثم أقلع وأراد التعريف. قال: وإن جاء [صاحبها] قبل التملك أخذها مع زيادتها، وإن جاء صاحبها بعد التملك أخذها مع الزيادة المتصلة دون الزيادة المنفصلة؛ كما إذا رد [إليه] المبيع بالفسخ لعيب في الثمن، ومؤنة الرد في هذه الحالة على الملتقط. وفي طريقة المراوزة حكاية وجه: أن له إمساك العين ورد بدلها كما قيل به في القرض. وعن الكرابيسي: أنه يمسك العين، ولا يرد بدلها؛ استدلالاً بقوله- عليه السلام-: "فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَانَكَ بِهَا" وروي: "وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ" ولم يأمره برد شيء، والصحيح الأول. فرع: إذا باع الملتقط العين، ثم جاء مالكها في زمن الخيار، ففي انفساخ العقد تفريعاً على الصحيح وجهان ردهما ابن كج إلى أنه هل يجبر الملتقط على الفسخ أم لا؟ قال: "وإن جاء من يدعيها ووصفها، وغلب على ظنه صدقه، جاز أن يدفع إليه"؛ لأن الظاهر صدقه، ولا يلزمه إلا ببينة"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"، ولأن صفة المطلوب من تمام الدعوى؛ فلم يجز أن تكون بنية الطالب، ولأنه مال الغير؛ فلم يجز تسليمه بالوصف؛ كالوديعة إذا أشكل من دفعها إليه، وهذا ما ذكره عامة الأصحاب في كتبهم، ومنهم القاضي الحسين.

وقال الإمام: ذهب طوائف من أئمتنا إلى وجوب الدفع بالوصف، وهو اختيار الشيخ أبي حامد فيما أظن. ووجهه غيره: بأن إقامة البينة على اللقطة قد تعز، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَفَ عِفَاصَهَا، وَعَدَدَهَا، فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ". ولو وصفها ولم يغلب على الظن صدقه فلا يجب الدفع إليه اتفاقاً، وهل يجوز؟ المشهور: لا. وحكى الإمام تردداً فيهز ولا خلاف أنه يجب الدفع عند إقامة البينة، وهي شاهدان، أو رجل وامرأتان، أو شاهد ويمين. ولا يكفي إخبار البينة للملتقط [بذلك]، وقيل: يكفي. وعلى هذا: فهل يشترط العدد أم يكفي الواحد؟ فيه وجهان في "الذخائر"، وهما من احتمالات الإمام، وكذلك وجه الاكتفاء بسماع الملتقط ذلك من شاهدين، والمنقول عن الأصحاب- كما قال الإمام-: أنه لا بد من الحاكم، ولا يكفي الواحد من غير يمين. فرع: إذا دفع إليه بالوصف، ثم قامت بينة بأنها لغير الآخذ، نظر: إن كان الدفع بأمر الحاكم [و] رأى ذلك، والمدفوع عين اللقطة، فلا ضمان على الدافع. وإن كان المدفوع بدلها، أو عينها بغير إذن الحاكم، وقد تلفت، غرم، وله الرجوع على القابض إن لم يعترف بأنها له بأن قال: غلب على ظني أنها لك. وإن كان قد أقر بأنها له لم يرجع عليه، ولمن أقام البينة مطالبة الآخذ إن كان قد قبض عين ماله بكل حال. فرع: إذا أقام المدعي شاهدين عدلين عنده وعند الملتقط، وهما فاسقان عند الحاكم، فعن القاضي الحسين وجهان في أن القاضي هل يلزمه الدفع

لاعترافهما [بالعدالة]؟ والصحيح: المنع. فرع: إذا عرف الملتقط صاحب اللقطة فعليه الرد عند التمكن، وإن لم يطالب على أظهر الوجهين، حكاه الرافعي في كتاب الوديعة. قال: "وإن وجد اللقطة في الحرم لم يجز أن يلتقطها إلا للحفظ على ظاهر المذهب"؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مكة: "إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ: لَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا". وروي: "وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ". أحدهما- وهو قول أبي عبيد-: أنه صاحبها الطالب لها، والناشد هو الواجد المعرف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَحِلُّ لِمَنْ يَتَمَلَّكُهَا، إِلَّا صَاحِبَهَا الَّتِي هِيَ لَهُ". و [التأويل] الثاين- وهو قول الشافعي-: أن المنشد: الواجد المعرف، والناشد هو المالك الطالب، روى أنه- عليه السلام- سمع رجلاً ينشد في المسجد فقال: "أَيُّهَا النَّاشِد، غَيْرُكَ الْوَاجِد! " معناه: لا وجدت؛ كأنه دعا عليه. فعلى هذا معنى قوله: " وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ". أي: لمعرف عزم [على] تعريفها، ولا يتملكها. قال: وقيل يجوز أن يلتقطها للتملك؛ لأن الالتقاط نوع كسب فاستوى فيه الحل والحرم؛ قياساً على سائر أنواع الكسب، والمراد من الخبر: أنه لا بد من تعريفها كسائر البلاد؛ كي لا يتوهم أن تعريفها في الموسم كان لكثرة الناس، وبعد العود في طلبها من الآفاق.

وقيل: فائدة التعريف على هذا: إيجاب التعريف في لقطة الحرم، وعدم إيجابه في لقطة غيره، والقائلون بالأول أبطلوا القياس بالاصطياد؛ لأنه نوع كسب، ولا يجوز في الحرم، وعلى هذا: هل يجوز لقطة عرفة ومصلى إبراهيم؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وجه المنع- وإن كانا من الحل-: أن ذلك مجتمع الحاج ومنصرف النقار منه في سائر البلاد كالحرم. قال: "وإن كان الواجد عبداً" أي: لم يأذن له السيد في الالتقاط "ففيه قولان: أحدهما: يجوز التقاطه"؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ عَلَيْهَا ذَا عَدْلٍ أَوْ ذَوَيْ عَدْلٍ"، ولأنه سبب للتمليك يصح من المجنون والصبي؛ فصح من العبد كالاحتطاب والصيد، وقد أشار الشافعي إلى هذا في الرهن الصغير من "الأم" كما حكاه البندنيجي بقوله: لأنها جهة من جهات الكسب؛ كالصيد. وقد نقل المزني هذا القول عما وضعه بخطه، ثم قال: ولا أعلمه سمع منه. قال: ويملكها السيد بعد الحول إما بتعريفه أو بتعريف العبد. هذا اللفظ يفهم أن الشيخ فرع على أن الملك [يحصل] بانقضاء التعريف فقط، كما صرح به في "المهذب"، وذكره بعض شارحي هذا الكتاب، وقد يقال: إن المراد به بيان أمرين يختصان بهذه المسألة: أحدهما: بيان أن العبد يعتبر تعريفه كما اعتبر التقاطه على هذا القول، وإن كان بغير إذن السيد؛ لأن من صح منه الالتقاط- وهو صحيح العبارة- اعتد بتعريفه كالحر. وفيه وجه: أنه لا يعتد به بدون الإذن. الثاني: أن السيد يعتبر تعريفه- أيضاً- وإن لم يكن [ملتقطاً؛ لأن] الثمرة تحصل له، ويد عبده الملتقط كيده، ويكون قصده بذلك التنبيه على مخالفة هذا

حكم الهبة؛ حيث لو وهب للعبد فقبل السيد لا يصح، وكونه جعل الملك مسبباً عن التعريف لا يدل على عدم اعتبار اختيار التملك؛ لأن التعريف سبب في الملك قطعاً. وإن قلنا: بأن الملك يتوقف على الاختيار؛ كقولنا: إن الملك في المبيع لا يحصل إلا بانقضاء الخيار، لا يخرج العقد عن أن يكون سبباً فيه، وقد ادعى الغزالي الإجماع عليه. وحينئذ فنقول: إن فرعنا على توقف الملك على الاختيار، فاختار السيد التملك بعد الحول، ملك لا محالة، لأنها من اكتساب عبده، وكذا إذا أذن للعبد فيه، ففعله، ويكون الضمان على السيد في هذه الحالة، وإن لم يختره، فتملكه العبد لنفسه، قال المارودي: صح، و [كان] للسيد انتزاعها منه، والبدل في ذمة العبد كما في القرض. وقال الجمهور: لا يصح؛ لأنه ليس بأهل لأن يملك من جهة غير سيده، فإن تصرف فيها بعد ذلك، ضمن، لكن في ذمته أو رقبته؟ فيه وجان في "المهذب": وجه الأول- وهو الذي أجاب به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، والبندنيجي، والشيخ أبو محمد في "الفروق"، وحكى القاضي الحسين: أنه المنصوص عليه في "المختصر"-: التشبيه بالقرض الفاسد؛ فإن ذلك وجد في وقت التملك. ومقابله: هو الذي صححه القاضي الحسين، وكلام ابن الصباغ مصرح بوجوب الضمان بعد التلمك، وإن لم يوجد تصرف. ولو تملكه العبد لسيده بغير إذنه ففي حصول الملك [للسيد] طريقان أشار إليهما الإمام: أحدهما: أنه على الوجهين في أنه يصح اتهابه بدون إذن السيد، أو على القولين في شرائه بغير إذن السيد. والثاني: القطع بالمنع، بخلاف الهبة؛ فإنها لا تقتضي عوضاً، بخلاف الشراء،

فإن الثمن لو صح تعلق بذمة العبد، وهنا يبعد [ألا يطالب مالك اللقطة السيد؛ لأنه لم يرض بذمة العبد، وهذا هو الأصح، وإن ثبت الخلاف]. وإن فرعنا على أن الملك يحصل بانقضاء التعريف، [فإن قلنا: عند اختيار العبد التملك للسيد يحصل له الملك، فكذلك هنا يحصل بانقضاء التعريف]، وإلا ففيه احتمالان للإمام: أحدهما: أن التعريف لا يصح بدون الإذن. والثاني: يصح، ولا يحصل بسببه الملك؛ كما لا يثبت إذا عري من قصد الحفظ ابتداءً. وحكم العين في يد العبد قبل انقضاء الحول إذا كان أميناً حكم الحر، سواء علم به السيد [فأقره أو] لم [يتعرض] له، فإن تلفت من غير تفريط فلا ضمان، وإن أخر التعريف ففي الضمان الوجهان؛ ولو أتلفه ضمنه في رقبته عند الجمهور. وعن أبي إسحاق والقاضي أبي حامد: أن المسألة على قولين: أحدهما هذا. والثاني: التعلق بالذمة؛ لأنا إذا جوزنا الالتقاط، وكان المال حصل في يده برضا صاحبه، وإن كان خائناً، وأذن له السيد في استمرار يده، ضمن؛ كما لو أخذها منه ثم سلمها إليه، ولو علم بها وأهمل أمره فهل يضمنها السيد؟ قال القاضي أبو الطيب: الحكم فيه مبني على القولين في نظير المسألة؛ تفريعاً على القول الثاني: فيجيء فيه وجهان: أحدهما يضمن. والثاني: لا يضمن. ومقتضى كلامه أن العبد يتعلق الضمان برقبته بكل حال، كما سيأتي في الحالة الثانية، وهو مشكل؛ لما سيأتي أن الفاسق إذا صححنا التقاطه لا يضمن العين إلا إذا تعدى فيها.

وقول القاضي الحسين: إذا أذن له السيد في الإمساك فأتلفها العبد تعلق الضمان برقبته، وإن تلفت في رقبته فالضمان في مال اسيد مفهم أن الضمان لا يتعلق برقبته إذا لم يتلفها، وحكمها بعد انقضاء الحول عند أمانة العبد وتملكه بإذن السيد لا يخفى. وإن أذن له ولم يتملك ثم تلفت ففي تعلق الضمان بالسيد وجهان منقولان في "النهاية": أظهرهما: التعلق؛ لأنه في سبب الضمان فصار كما لو أذن في استيام شيء فأخذه وتلف في يده. والثاني: لا؛ كما لو أذن [له] في الغصب. وعلى القولين يتعلق الضمان برقبة العبد عنده، وهذا بناء على أن العين بعد انقضاء الحول وقبل التلمك مضمونة، وقد حكيت عن العراقيين خلافه؛ فلا يتأتى عندهم هذا التفريع، ويكون حكمها كما قبل الحول. قال: "والثاني: لا يجوز" التقاطه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "عَرِّفْهَا سَنَةً؛ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَاتِ فَهِيَ لَكَ"، والعبد لا يصح أن يتملك؛ فدل على أن الخبر يتناول الأحرار دون العبيد؛ ولأن الالتقاط أمانة وولاية في الابتداء وتملك في الانتهاء، والعبد لا يملك ولا هو من أهل الولاية والأمانة، وهذا هو المنصوص في "الأم"، واختاره المزني وصاحب "المرشد" والجمهور، وفي بعض الشروح: أن ابن سريج قال: القولان مبنيان على أن العبد يملك، أما إذا قلنا: بأنه لا يملك، فليس له الالتقاط بحال. قال الرافعي: وفي هذا نظر؛ من جهة أن القولين ليسا في [أن] العبد هل يملك مطلقاً، وإنما هما في أنه هل يملك من جهة السيد؟ ولا تمليك هنا من جهته. قلت: [قد] يظهر أن مراد ابن سريج: الملك الواقع في ضمن الشراء بثمن

في ذمته وبالإقراض، لا في مطلق الملك، وعلى هذا فيستقيم البناء. وعن صاحب "التقريب": أن محل القولين إذا نوى نفسه، أما إذا نوى سيده، قال: احتمل طرد القولين، واحتمل القطع بالصحة، والاحتمال الثاني هو المذكور في "الحاوي". وعن القاضي ابن كج حكاية عن أبي إسحاق والقاضي أبي حامد: أن القولين فيما إذا نوى سيده، أما إذا قصد نفسه لم يكن له ذلك قولاً واحداً. قال: "فإن تلفت في يده ضمنها في رقبته" [أي]: سواء كان بتفريط أو غيره؛ لأنه مال لزمه لا برضا مستحقه فتعلق برقبته؛ كأرش الجناية، ولا فرق فيه بين أن يعلم السيد بذلك فلا يتعرض له، أو لا يعلم. نعم، وإن علم وأقرها في يده وكان أميناً، كما لو انتزعها من يده، وسنذكره. وإن كان خائناً ضمنها السيد، وهل يسقط ضمانها عن رقبة العبد؟ فيه وجهان في "الحاوي". وإن لم يتعرض له بعد العلم فهل يكون السيد ضامناً أيضاً؟ فيه اختلاف نقل عن الشافعي: فالذي حكاه المزني عن "المختصر": المنع؛ كما لو رآه يتلف مالاً فلم يمنعه. والذي رواه الربيع: التعلق. وعكس الإمام والغزالي ذلك: فنسبا الأول إلى رواية الربيع، والثاني إلى رواية المزني. وقد اختلف الأصحاب في المسألة على أربعة طرق: أحدها: أن المسألة على قولين: أظهرهما عند الروياني وغيره: التعلق بالسيد أيضاً. قال القاضي أبو الطيب: ومن يرى بهذا لا يسلم عدم وجوب الضمان فيما إذا رأى عبده يتلف شيئاً على غيره، فسكت عنه. والطريق الثاني: القطع بما رواه المزني. والطريق الثالث: القطع بما رواه الربيع، وبه قال أبو إسحاق، ونسب المزني إلى الغلط؛ فإنه كى في "الجامع الكبير" ما قاله الربيع، فأشعر بفعله هنا عن آخر الكلام.

والرابع- حكاه ابن أبي هريرة، وينسب إلى أبي علي الطبري-: أن ما رواه المزني محمول على ما إذا كان [العبد بالغاً مميزاً، وما رواه الربيع محمول على ما إذا كان] غير مميز لصبا أو لكونه أعجمياً. قال: "وإن دفعها إلى السيد زال عنه الضمان" هذا اللفظ يقتضي أمرين: أحدهما: جواز الأخذ للسي. والثاني: براءة العبد بالأخذ. وجه الأول- كما قاله الأصحاب-: أن يد العبد إذا لم تكن يد التقاط كان الحاصل في يده يعد ضائعاً لعدم ذمته في الحال؛ فجاز للسيد أخذه كما لو كان ملقى. ووجه الثاني: أن العبد دفعها إلى نائب المالك، فإن كان أهلاً للالتقاط كأنه نائب عنه. وبهذا خالفت هذه المسالة ما إذا غصب العبد شيئاً ثم انتزعه منه سيده؛ حيث لا يزول الضمان؛ لأنه غير مأذون له في ذلك. ثم ما حكم يد السيد بعد الأخذ؟ فيها ثلاثة أوجه: المشهور منها- وهو الصحيح في "تعليق" القاضي الحسين وغيره-: أنها يد ملتقط فيعرفها، ويتملكها، ولا يعتد بتعريف العبد السابق إن اتفق، واستبعد الإمام هذا؛ لما في الأخذ على هذا الوجه من سقوط الضمان عن العبد، وتضرر المالك به. والثاني: أنها يد أمانة، وليس له أن يتملكها بعد التعريف؛ لأنه غير الواجد، حكاه الماوردي. والثالث- حكاه القاضي الحسين وغيره-: أنه لا يمسكها في يده، بل يدفعها إلى الحاكم. فإن قلنا: بأنها يد التقاط، فلو أراد أجنبي أن يأخذها من يد العبد [ابتداء]،

جاز، وبرئ العبد كما أبداه ابن الصباغ احتمالاً، والإمام تخريجاً على قاعدة العراقيين، وحكاه الرافعي ولم يعزه، وجعل المتولي أخذ الأجنبي على الخلاف فيما لو تعلق صيد بشبكة إنسان، فجاء غيره وأخذه، وسيأتي من كلام الأصحاب ما يأبى ذلك. وإن قلنا: إن يده يد موصل إلى الحاكم، فسلم للحاكم برئ العبد، وإن لم يصل إلى الحاكم: فإن تلفت في يد السيد بعد [التمكن من] الرد ضمن، وإن تلفت قبل التمكن من الرد لا يبرأ العبد، وهل يكون السيد طريقاً في الضمان؟ فيه وجهان؛ كذا حكاه المتولي في ولي الصبي، وقال: إن حكم العبد على هذا القول حكمه. وسلك الإمام طريقاً آخر فقال: إذا لم نجعل يد السيد يد التقاط ففي أخذه بنفسه وحفظه لمالكه وجهان مرتبان على أخذ الآحاد المغصوب للحفظ، [و] أولى بعدم الجواز؛ لأن السيد ساع لنفسه غير محتسب. ثم إذا جوزنا الأخذ ففي حصول البراءة وجهان مرتبان على الوجهين في براءة الغاصب إذا أخذ القاضي المال المغصوب منه، وأولى بألا يبرأ. أما إذا كان العبد قد التقط بإذن سيده، بأن كان قد قال له: أي لقطة وجدتها فخذها، وأتنى بها، ففيه طريقان: أحدهما: القطع بالصحة، وبه جزم الماوردي، وإليه ميل الإمام؛ كما لو أذن له في قبول الوديعة. والثاني- عن ابن أبي هريرة-: طرد القولين؛ لما في اللقطة من معنى الولاية، والإذن لا يفيد أهليتها. ولو أذن له في التجارة والاكتساب مطلقاً هل يدخل الالتقاط فيه؟ فيه وجهان. ولو كان السيد قد نهاه عن الالتقاط، فعن الإصطخري: القطع بالمنع، وعن سائر الأصحاب- كما قال الماوردي-: أنه على ما مضى من القولين. فرع: قال الماوردي: لو التقط العبد، ثم أعتق قبل الحول فالصحيح: أنها

كسب للسيد؛ فله أن يتملكها. وقال بعض أصحابنا: تكون كسباً للعبد؛ لأنها قبل التعريف أمانة، وبعد التعريف كسب. وبنى ابن الصباغ والبندنيجي الأول على أن العبد يصح التقاطه، والثاني على قول المنع، وغيرهما جعل الخلاف المذكور مع قولنا بالصحة، وقال: إذا لم يصح التقاطه، كان للسيد حق التملك إذا قلنا للسيد التملك- على هذا القول- لو كان قناً، وجواب المعظم: أنه ليس للسيد أخذها، وهل للعبد تملكها؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم. ومقابله: لا؛ فيتسملها الإمام وهذا يؤخذ مما تقدم. والمعلق عتقه بصفة والمدبر كالعبد، وكذا أم الولد، وإنما تخالفهم فيما إذا قلنا: لا يلتقط العبد، فالتقطت، وهلك المال في يدها؛ فإن السيد يضمنه، سواء علم بالتقاطها أو لم يعلم- على المذهب- لكن هل قدر قيمتها، أو أقل الأمرين من قيمة اللقطة أو قيمة أم الولد؟ الخلاف يأتي في موضعه. وفي "الأم": أنه إذا لم يعلم فالضمان في ذمتها، وصححه أبو إسحاق، وغيره قال: إنه سهو، وغلط [أبا إسحاق]؛ [لأنه شبه اللقطة بالإيداع على رأي، وليس المشبه بصحيح]؛ لأن التفريع على منع الالتقاط. وفي "حلية الشاشي" طرد قول التعلق بذمتها، خاصة فيما إذا علم السيد أيضاً. قال: "وإن كان نصفه حراً ونصفه عبداً فهو كالحر على المنصوص"؛ لأنه يملك بنصفه الحر حصته من الكسب كما يملك الحر، وله ذمة صحيحة؛ فعلى هذا قال: "فيكون بينه وبين مولاه" أي: [إذا] التقط يعرفان ويملكان إن لم تكن بينهما مهايأة كسائر الأكساب. وعن أبي حفص بن الوكيل: أن السيد يختص بها، إلحاقاً للقطة القن. قال: "فإن كان بينهما مهايأة" أي: مثل أن كان يكتسب لنفسه يوماً وعليه نفقته، ولسيده يوماً مثله وعليه نفقته، كما قال الماوردي "فهل تدخل اللقطة

فيها؟ فيه قولان"، وكذا في دخول الوصية والهبة والصدقة والركاز، وكل ما هو نادر. قال: "أحدهما: تدخل"؛ لأنها نوع كسب فكان كسائر الأكساب، وهذا هو الأصح في "الحاوي" وغيره، وهو المنصوص في "المختصر"، فعلى هذا قال: "فإن وجدها في يومه كانت له" أي: فيعرفها ويملكها، "وإن وجدها في يوم السيد كانت له" أي: فيعرف ويملك كل المنافع. وفي "الحاوي": أنه إذا وجدها في يوم سيده: إن قصد بها سيده كانت له، وإن قصد بها نفسه كانت على القولين. وأشار في "النهاية" إلى وجه آخر: وهو أن الاعتبار بوقت التملك، وأبدى تردداً فيما إذا وقع الالتقاط في نوبة أحدهما وانقضاء مدة التعريف في نوبة الآخر، وعلى المذهب: الاعتبار في الهبة والصدقة بيوم القبض، وفي الوصية إن قلنا: يملك بالقبول، فالاعتبار بوقته، وإن قلنا: موقوف، اعتبرنا الموت في أي اليومين كان، كذا قاله القاضي الحسين [هنا. وحكى الرافعي وجهاً آخر على قولنا: إنه يملك بالقبول، أن الاعتبار بيوم الموت- أيضاً- وصححه. وحكى عن بعض الأصحاب وجهاً: أن الاعتبار بيوم الوصية مطلقاً، فإن وجدت الوصية في يوم السيد فهي له، وكذا إن وجدت في يوم العبد كانت له، ووجهاً: أن الاعتبار في الهبة بيوم العقد مطلقاً؛ بناء على أنا نتبين بالقبض حصول الملك بالعقد، ووجهاً: أن الاعتبار بيوم عقد الهبة، وإن قلنا إن الملك يحصل عقيب القبض]. قال: "والثاني: لا تدخل؛ [فتكون بينهما] "؛ لأن المهايأة معاوضة؛ لأن كل واحد منهما يأخذ نصف الكسب في أحد اليومين بنصف الكسب في الآخر، والمعاوضة إنما تصح فيما يقدر على تسليمه ويكون معلوماً، والأكساب النادرة تتفق في وقت ولا يقدر عليها في كل وقت، فليست معلومة،

كذا قاله القاضيان الطبري والحسين. وهذا ما مال إليه العراقيون، والصيدلاني في زكاة الفطر. [فعلى هذا: لو عمت الهبات والوصايا في قطر، فهل تدخل كالأكساب العامة، أو يجيء فيها هذا القول؟ فيه تردد للإمام، فطرده فيما إذا صرح بإدراج الأكساب النادرة في المهايأة، هل تدخل جزماً، أو يجيء فيها هذا القول، كما أبداه في الوصية؟] قال: "وخرج فيه قول آخر: أنه كالعبد"؛ لأن الرق الذي فيه كامل، وإذا كمل الرق ضعف التصرف فيما يقابل الرق، وإذا تحقق ذلك في بعض الملتقط عم جميعه؛ فإن التقاط البعض الذي يضاف إلى الحرية غير ممكن؛ إذ من ضرورته لقط الكل، فعلى هذا يكون على القولين في العبد، وإذا منعناه وأخذ كان ضامناً للنصف في ذمته يؤخذ منه إن كان له مال، والنصف الآخر في رقبته. وقيل: التقاطه في النصف جائز قولاً واحداً، والطريقان فيما سواه، وهذا ما أبداه الشاشي في "المعتمد" احتمالاً، وأورده المتولي. وقال الماوردي: إن التقاطه للنصف صحيح، والنصف الآخر إن قصد به سيده كان له، وإلا فعلى القولين. وفي تعليق القاضي الحسين: أنا إذا قلنا: إنه ليس أهلاً للالتقاط، فالنصف له، والنصف لبيت المال. تنبيه: ظاهر قول الشيخ: إنه كالحر، يقتضي أنه لا تنزع منه اللقطة، وكذا حكى ابن كج في أنها تنزع منه أو تبقى في يده ويضم إليه مشرف؟ والظاهر الانتزاع، ثم وجهين على القول بالانتزاع في أنه [هل] يسلم إلى السيد أو يحفظه الحاكم إلى ظهور مالكه؟ والأظهر الثاني.

قال: "وإن كان مكاتباً ففيه قولان: أحدهما: أنه كالحر يعرف ويملك"؛ لأنه يملك المال الذي في يده، ويملك التصرف فيه، وله ذمة صحيحة يمكن مطالبته بالحق أي وقت جاء صاحب اللقطة، مع أن اللقطة نوع اكتساب يستعين بها على أداء نجوم الكتابة، وهذا ما نص عليه في "المختصر" في موضع [من] "الأم"، وهو الصحيح. "والثاني: أنه لا يلتقط"؛ لأنه وإن كان متصفاً بما ذكرناه لكن اللقطة تحتاج إلى حفظها لمالكها حولاً ويعرفها فيه، وذلك تبرع بأخذ، وحصول الملك موهوم؛ فمنع منه كتوكيله عن الغير بغير جعل، وإن أذن السيد [فيه] على قول. قال: "فإذا أخذ انتزع الحاكم من يده وعرفه"؛ لتعذر إقرارها في يده وتسليمها إلى سيده؛ لأنه ليس له عليه ولاية. قال: "ثم يتملك المكاتب"؛ لأن سبب التملك- وهو الالتقاط- وجد منه، وهو أهل له؛ لأنه [أهل لتملك، والمنع منه كان لأجل الشرع، فإذا وجد الحفظ والتعريف] من غيره- لعجزه عنه شرعاً- كان له التملك؛ كما في الصبي والمجنون إذا التقطا، ثم عرف وليهما وبلغ الصبي وعقل المجنون. وهذا ما حكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب في "المجرد"؛ تفريعاً على قولنا بمنع الالتقاط، وبه جزم القاضي الحسين؛ تفريعاً على هذا أيضاً، ويرجع على هذا- حاصل الأمر إلى أن المكاتب يتملك اللقطة قطعاً،

والخلاف في أنه هل تدام في يده أم لا؟ وهذا [هو] الذي حكاه الإمام عن العراقيين، واستحسن ما قالوه من القطع بالتملك، واستبعد ما ذكروه من إزالة يده. ووراء ذلك أمور [أخرى:]. أحدها: حكى الشيخ في "المهذب" وابن الصباغ والقاضي أبو الطيب والبندنيجي والمراوزة في جواز التقاط المكاتب طريقين: أحدهما: القطع بأنه كالحر. والثاني: أنه كالعبد، فيكون في صحة التقاطه قولان: أحدهما: [أنه] يصح، ويكون الحكم كما على الطريق الأول. والثاني: [أنه] لا يصح؛ فإذا أخذ ضمن، وإذا أخذها الحاكم برئ المكاتب. والحاكم يحفظ اللقطة لمالكها أبداً، ولا يعرفها ولا يتملكها المكاتب- كما صرح به في "المهذب" والبندنيجي وأبو الطيب في "تعليقه"- ويظهر أن يأتي في البراءة بأخذ الحاكم ما سنذكره في براءة الصبي بأخذ الحاكم اللقطة منه. قال القاضي أبو الطيب: ولا يبرأ المكاتب بالدفع إلى سيده؛ لأنه لا يد له على شيء من أكسابه، وليس للسيد أن يأخذها منه؛ كما ليس له أن يأخذ شيئاً من أكسابه، ويخالف العبد؛ لأن كسبه له وله يد على ما في يده، وكذا حكاه الرافعي عن الأصحاب، وبه يقوى ما اختاره الشيخ أبو حامد من تملك المكاتب بعد تعريف القاضي على قولنا: لا يلتقط، ومنه يظهر أنا إذا قلنا: لا يصح التقاط العبد، ليس لأجنبي أن يأخذ ما التقطه العبد- كما أشرت إلي من قبل- لكن الرافعي جعل جواز أخذ الأجنبي ما التقطه العبد إذا لم يصح التقاطه أصلاً، واستشكل عليه ما حكاه عن الأصحاب هنا، وقال: ليس السيد في حق المكاتب بأدنى من الأجنبي في القن. وعلى ذلك جرى ابن الصباغ، حيث اختار

أن من يجوز له الالتقاط إذا أخذها من يد المكاتب جاز ذلك، وبرئ من الضمان كما في العبد. الثاني: حكى ابن القطان طريقة قاطعة بالمنع، بخلاف القن؛ لأن سيده ينزعه من يده، والمكاتب انقطعت ولاية السيد عنه على نقصانه. الثالث: حكى ابن كج خلافاً في أن الخلاف في المكاتب سواء صحت الكتابة أو فسدت، وفي المكاتب كتابة صحيحة، وأما المكاتب كتابة فاسدة فهو كالقن لا محالة، والصحيح: الثاني. فروع: إذا تملك المكاتب فيدل اللقطة في كسبه، وفي تقديم صاحب اللقطة بها على سائر الغرماء وجهان مذكوران في "أمالي" أبي الفرج الوراق السرخسي. وإذا عتق في مدة التعريف أتم، وإن عاد إلى الرق قبل تمام التعريف فالقضي يأخذها ويحفظها للمالك. وقال صاحب "التهذيب": وجب أن يأخذها المولى ويعرفها ويملكها؛ لأن أخذ اللقطة اكتساب، وكسب المكاتب إذا عجز يكون للمولى، وكذا لو مات المكاتب أو العبد الملتقط؛ كما أن الحر لو مات بعد أن التقط عرف وارثه وتملك. قال: "وإن كان فاسقاً كره له أن يلتقط"؛ كي لا تدعوه نفسه إلى إتلافها، وهل هذه الكراهة كراهة تنزيه أو تحريم؟ الذي حكاه القاضي أبو الطيب في أول هذا الباب: الثاني؛ فإنه قال: إذا كان خائناً الأولى ألا يأخذها، والذي حكاه ابن يونس الأول. قال: "فإن التقط، أقر في يده في أحد القولين"؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال: "اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها حولاً"، ولم يفرق، ولأن الالتقاط سبب التكسب، فهو كالاحتطاب والاحتشاش، ولأنه لما ساوى الأمين بعد الحول، فكذلك قبله، ولما لم ينتزع من الأمين، فكذلك من غير الأمين،

وعلى هذا هل يضم مشرف يمنعه من التصرف فيه أم لا؟ فيه وجهان: اختيار أبي علي الطبري في "إفصاحه": الأول، واختيار ابن أبي هريرة: الثاني. قال: "وانتزع في الآخر" أي: ينزعها الحاكم؛ لأن اللقطة أمانة وولاية في السنة الأولى على مال لم يأتمنه، وغير الأمين ليس [من أهل] الولايات، ولأن مال أولاده لا يقر في يده، فكيف مال الأجانب؟ قال: "ويسلم إلى ثقة"؛ احتياطاً لحفظها، وهذا هو الأصح، وعلى كل قول لا يضمنها إلى بالتعدي، كما قاله القاضي أبو الطيب في أوائل الباب. قال: "وهل ينفرد بالتعريف" أي: الملتقط الفاسق؟ فيه قولان: أحدهما: ينفرد به؛ إذ لا خيانة في التعريف، [وهذا رواية الربيع. والثاني: أنه يضم إليه من يشرف عليه؛ خشية من التفريط في التعريف]. وهذا أصح في "تعليق" القاضي أبي الطيب، وهو ظاهر النص في "المختصر". وفي "الحاوي": أن الأمين هو الذي يعرف على هذا القول، والقولان جاريان – كما قال أبو الطيب- سواء قلنا: إن اللقطة تقر في يده، أو لا. ومؤنة التعريف عليه على القولين. قال: "فإذا عرف تملكه"؛ لأنه أهل للتملك، وهذه طريق أصحابنا العراقيين، وحكى الخراسانيون قولاً: أنه لا يصح التقاطه؛ كما في العبد. فرع: الصبي إذا التقط صح التقاطه عند العراقيين كاصطياده. وحكى المراوزة قولاً: أنه لا يصح؛ تغليباً لشائبة الولاية والأمانة. فعلى الأول إذا تلفت في يده من غير تفريط لا ضمان، وقيل: يضمن إذا أقامت في يده، والأول أرجح كما في الوديعة، وكما لو تلفت قبل تمكن الولي من أخذهان وإن كان التلف بتفريط منه لزمه الضمان في ماله، وإذا رآها الولي في يده لزمه أخذها منه، فإن لم يأخذها صار ضامناً لها، وإذا أخذها من يده ناب عنه

في تعريفها، ثم إن رأى المصلحة في تمليكه جاز حيث يجوز الاستقراض عليه، [وقال ابن الصباغ: عندي يجوز له التملك وإن كان ممن لا يجوز الاستقراض عليه]؛ لأنا ألحقناها على هذا القول بالاكتساب، وإن لم ير التملك حفظها أمانة أو يسلمها إلى القاضي. وإذا احتاج التعريف إلى مؤنة لم يعرفها من مال الصبي؛ بل يرفع الأمر إلى القاضي ليبيع جزءاً من اللقطة لمؤنة التعريف، وعلى الثاني: إذا تلفت في يد الصبي ضمنها في ماله، وليس للولي أن يقرها في يده، فإن أمكنه رفع الأمر إلى القاضي فعل، وإذا انتزع القاضي ففي براءة الصبي عن الضمان خلاف، والأولى حصول البراءة؛ نظراً للطفل. وإن لم يمكنه الرفع إلى القاضي أخذه بنفسه، وفي براءة الصبي الخلاف المذكور في براءة الغاصب بأخذ الأجنبي المال المغصوب منه إذا جوزناه، فإن لم تحصل البراءة ففائدة الأخذ صون عين المال عن الضياع، وقد ذكرت عن المتولي شيئاً في ذلك فيما تقدم. ولو ترك الولي المال فلم يأخذه حتى تلف. قال المتولي: لا يضمن؛ لأنه لم يحصل في يده، ولا حق للصبي فيه حتى يلزم الحفظ ما إذا عرفنا على صحة التقاطه. وقال الإمام: هذا إذا قلنا: إن أخذه لا يبرئ، أما إذا قلنا: إنه يبرئ، فعليه الضمان. ويجوز أن يضمن وإن قلنا: إن أخذه لا يبرئ؛ لأن المال عرضة للضياع فمن حقه أن يصونه. وأطلق القاضي الحسين القول بوجوب الضمان عند عدم الأخذ، لكنه جعل القرار على الصبي، وهو موافق لما حكاه الإمام [عنه] في كتاب الرهن فيما إذا تلاعب صبيان بجوز؛ حيث قال: إذا حصل في يد صبي جوزات صبي، وعلم بها الأب أو القيم أو من يلي بنفسه أو بتوليته، ولم ينزعها، وجب عليه الضمان؛ للتفريط، وإن علمت به أمه ولم تنزعها فلا ضمان عليها على الأصح؛ تخريجاً على أن الأم ليست ولية.

وقال الإمام: ثم لا إشكال في ذلك وما ذكرناه في أخذ الولي إذا لم يقصد به الالتقاط، أما إذا قصد به ابتداء اللقطة ففيه وجهان، جواب الأكثرين منهما: المنع. وحكم المجنون حكم الصبي، وكذا المحجور عليه بالسفه، إلا أنه يصح تعريفه [وكذا] يملك لنفسه إذا كان الحظ فيه، كما قاله الماوردي. وفي "الحلية": أنه هل يصح تعريفه؟ فيه وجهان. ولعلهما محمولان على ما إذا فعله بدون إذن الولي. قال: وإن كان كافراً أي: ذمياً- كما قاله أبو الطيب- فقد قيل: يلتقط أي: في دار الإسلام وغيرها ويملك؛ لأن له ذمة صحيحة وولاية؛ لأنه يلي أمر ابنه الصغير وماله، فهو في معنى الحر المسلم، كذا وجهه القاضي أبو الطيب، "و" هذا وهو الأصح، فعلى هذا يقر في يده، وينفرد بالتعريف. وقيل: فيه قولان كالفاسق، وهذه طريقة الشيخ أبي حامد. قال الرافعي: وربما شرط في التجويز كونه عدلاً في دينه. قال: وقيل: لا يلتقط في دار الإسلام، ولا يملك؛ كما ليس له أن يجبي؛ ولأن اللقطة أمانة وولاية فلا تثبت للكافر، وعلى هذا: إذا التقط أخذه الحاكم وحفظه لمالكه. واعلم أن الشيخ نفى بقوله: ولا يملك توهم من يفهم أن الحكم فيه كالمكاتب إذا قلنا: لا يلتقط. فرع: المرتد إذا التقط، إن قلنا: إن ملكه زائل، انتزع من يده؛ كما لو احتطب ينزع من يده. قال: وإن وجد جارية، يحل له وطئها، أي: وهي غير مميزة لم يجز أن يلتقطها للتملك؛ لأن التملك في اللقطة كالتملك في القرض، وإقراض مثل هذه لا يجوز؛ فكذلك هاهنا.

قال: "بل يأخذها للحفظ"؛ كما يجوز له استيداعها. ولو كانت ممن لا يحل [له] كالمجوسية وأخته المملوكة التي أبيعت لمن لا يعرفه في موضع لا يعرفه، جاز له التقاطها للتملك؛ كما يجوز إقراضها. وفي طريقة المراوزة حكاية وجه في جواز التقاط الجارية للتملك. وإذا جمعت ذلك حصل في المسألتين ثلاثة أوجه [كما] حكاها مجلي، والمجزوم به في الرافعي في صورة التحريم الجواز، وجعل الجيلي محل الوجهين فيما إذا كانت تحل له إذا قلنا: يجب عليه رد عين اللقطة. أما إذا قلنا: لا يجب، فيجوز الالتقاط وجهاً واحداً. ثم على قول المنع- وهو المشهور- تباع على مالكها إن كان البيع أحظ له، ثم هل يجوز للواجد أن يتملك ثمنها أم لا؟ على وجهين في "الحاوي"، وجه الجواز: أن معنى الأصل مفقود في الثمن. أما إذا كانت الجارية مميزة لم يجز التقاطها، قاله مجلي. والعبد الصغير يجوز التقاطه ونفقته في كسبه، فإن فضل منه شيء حفظ معه. وقال في "التتمة": يكون لقطة كالأصل. وإن لم يكن له كسب فعلى ما سنذكره في غير الآدمي. وإذا بيع، ثم ظاهر المالك وقال: كنت أعتقته قبل البيع، فأظهر القولين عند الشيخ أبي حامد، وهو ظاهر النص في "المختصر": أنه يقبل قوله ويحكم بفساد البيع؛ إذ لا تهمة. وحكى القاضي أبو الطيب طريقة قاطعة بعدم القبول وصححها. فعلى هذا: لو أكذب نفسه في دعوى العتق هل يقبل منه بالنسبة إلى تملكه الثمن خاصة؟ فيه وجهان في "الحاوي". قال: وإن وجد ضالة تمتنع من صغار السباع، أي: مثل صغار الثعالب، وابن

آوى، وأولاد الذئب ونحو ذلك. قال: "لقوته: كالإبل، والبقر" أي: والخيل والبغال والحمير، "أو بسرعته، كالظباء" أي: والأرانب المملوكة "أو بطيرانه كالحمام- فإن كان في مهلكة لم يلتقطها للتملك"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن ضالة الإبل: "مَا لَكَ وَلَهَا؟ " الحديث السابق. فنص على منع التقاط الإبل، وقسنا الباقي عليها. والمهلكة- بفتح الميم وفتح اللام وكسرها-: موضع خوف الهلاك، والمراد بها هاهنا: البرية مطلقاً، وهي ما سوى القرى. قال: فإن التقط لذلك ضمن؛ لتعديه بأخذه ما ليس له عليه ولاية من جهة [مالكه ولا من جهة] الشرع. قال: "وإن سلمها إلى الحاكم برئ من الضمان"؛ لأن للحاكم الولاية على مال الغائبين بدليل جواز أخذه ذلك للحفظ، وهذا هو الأصح. وقيل: لا يبرأ؛ إذ لا ولاية للحاكم على رشيد، وقد يكون لحاضر لا يولى عليه، ولا خلاف عندنا: أنه إذا ردها إلى الموضع الذي أخذها منه لا يبرأ. قال: "وإن التقط للحفظ: فإن كان حاكماً جاز"؛ لأن له ولاية على أموال الغيب، وقد كان لعمر- رضي الله عنه- حظيرة يحفظ فيها الضوال، [فعلى هذا: إن كان هناك حمى سرحها فيه، ووسمها ووسم الضوال]، ويسم نتاجها أيضاً، وإن لم يكن حمى فالقول في بيعها كلها أو بيع بعضها للنفقة- كما سنذكره- فيما إذا كانت في البلد والتقطها غير الحاكم تملك، لكن لو توقع مجيء المالك في طلبها عن قرب بأن عرف بأنها من نعم بني فلان، تأنى أياماً كما يراه، وحكم نائب الحاكم حكمه. قال: "وإن كان غيره فقد قيل: يجوز"، كي لا يأخذها خائن فتضيع، وهذا أظهر عند الشيخ أبي حامد والمتولي وغيرهما، ويحكي عن رواية الربيع [عن

النص] "وقيل: لا يجوز"؛ إذ لا ولاية [له] على المالك، ويخالف الحاكم؛ لأنه مرصد للمصالح وهذا منها، وهو أظهر عند البغوي. وهذا كله فيما إذا كان زمن أمن، أما إذا كان زمن الفساد والنهب فيجوز التقاطها- كما سيأتي- فيما لا يمتنع من صغار السباع، ذكره المتولي وغيره، وألحق الماوردي بذلك ما إذاعرف مالكها فأخذها ليردها إليه، وأنها تكون أمانة في يده إلى أن يردها إليه مع حكاية الخلاف السابق عند عدم معرفته. قال: "وإن كان مما لا يمتنع" أي: من صغار السباع "كالغنم وصغار الإبل والبقر، جاز التقاطه" أي: للحفظ والتملك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد لما سئل عن الغنم: "هي لك [أو] لأخيك أو للذئب"؛ فثبت فيها بالنص، وقيس الباقي عليها، وفي معنى ما ذكر: الكسير من كبار الإبل. قال: فإن التقطه فهو بالخيار بين أن يحفظها على صاحبها ويتبرع بالإنفاق عليها، وبين أن يعرفها سنة ثم يتملكها، وبين أن يأكلها ويغرم قيمتها إذا جاء صاحبها أو يبيعها في الحال" أي بأن ينقلها إلى بلد "ويحفظ ثمنها على صاحبها، ويعرفه سنة ثم يتملكه"؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك، فاستبقى الحيوان غير متبرع بنفقته، احتاج إلى نفقة دائمة تذهب قيمة الحيوان وغيرها، وفي ذلك إضرار بالمالك. وفي "الحاوي": أن له أن يتملكها في الحال ويستبقيها، كما له أن يأكلها. وحكى وجهاً عن الأصحاب: أنه إذا أراد أن يستبقيها في يده أمانة لا يجوز ويضمنها؛ لأنإباحة أخذها مقصور على الأكل المؤدي للضمان دون الائتمان. وعلى المذهب: إذا استبقاها، ثم عن له تملكها بالإنفاق عليها، ولا حمى للمسلمين، فلينفق بإذن الحاكم إن أراد الرجوع، [فلو لم يستأذنه] مع القدرة، لم يرجع، وإن لم يقدر على إذنه فأنفق ولم يشهد لم يرجع، وإن أشهد واشترط الرجوع فهل يرجع؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وقد يطلب [الفرق] على هذا

بين هذه المسألة وبين ما إذا أنفق مؤنة التعريف؛ فإن الماوردي حكى في رجوعه عند الإشهاد مع وجود الحاكم وجهين، وهل يجوز بيع جزء منها لنفقة الباقي؟ قال الإمام: نعم؛ كما يباع جميعها. وحكى عن شيخه احتمالاً: أنه لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى أن يأكل بقيتها، وهذا ما أورده أبو الفرج الزاز، وإن كان ثم حمى وأنفق فهو متبرع. فرع: إذا تملكها، ثم نوى أن يسقط [عنه] ملكه ويحفظها على مالكها، لم يسقط عنه الضمان، وهل يزول ملكه عنها؟ فيه وجهان في "الحاوي". فإن قلنا: لا يزول، أو: لم يقصد حفظها لمالكها، ثم أفلس كان صاحبها أحق بها من الغرماء، وإذا اختار الأكل فأكل فظاهر كلام الشيخ: أنه لا يجب التعريف بعده كما هو ظاهر النص. وبه قال بعض الأصحاب، وصححه القاضي الحسين. وحكي وجه آخر: أنه يجب، وأجري في وجوب إفراز القيمة من ماله بعد الأكل، كما سنذكره. قال: "فإن وجد في البلد" أي: ما يمتنع من صغار السباع وما لا يمتنع منها "فهو لقطة يعرفها سنة"؛ لفقد ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم من العلة وهي الاستقلال؛ لأن الصغار والكبار يخاف عليها في البلد، ولأن البهائم في العمران لا تهمل،

وفي الصحراء [قد] تهمل وتسرح؛ فيحتمل أن صاحبها لم يصلها، وهذا هو الأصح، وبه قال أبو إسحاق. وحكم القرية وما جاورها حكم البلد. قال: "إلا أنه إذا وجدها في البلد لا يأكل"؛ لإمكان البيع، "وفي الصحراء يأكل" أي: ما يجوز له التقاطه وهو مما لا يمتنع؛ لتعذر بيعه إلا بمشقة تحصل بسبب نقلها إلى البلد. قال: "وقيل هو كما لو وجده في الصحراء لا يأخذ الممتنع، ويأخذ غير الممتنع"؛ لعموم الخبر، إلا أنه ليس له الأكل في البلد، وله الأكل في الصحراء، وهذا قد أثبته بعضهم وجهاً، وبعضهم قولاً. وحكى عن القاضي أبي حامد حكاية طريقين آخرين: أحدهما: القطع بالأول. والثاني: القطع بالثاني. وعنه: أنه يجوز الأكل في البلد أيضاً؛ قياساً على ما يتسارع إليه الفساد. وعن صاحب "التقريب" وجه: أن ما لا يمتنع لا يلتقط في العمران؛ لأن الحيوان لا يكاد يضيع. فرع: صغار ما لا يؤكل: كالجحش والفلو، يجوز التقاطها، وحكمه في الإمساك والبيع حكم المأكول، وهل يجوز تملكها في الحال؟ فيه وجهان: أحدهم: نعم، كما يجوز أكل ما [لا] يؤكل. وأصحهما: المنع؛ لأن الشاة إنما جاز أكلها للحديث. قال: "وإن كان ما وجده مما لا يمكن حفظه كالهريسة وغيرها" أي: ما يتسارع إليه الفساد [كالشواء والبطيخ] والخيار "فهو مخير بين أن يأكل وبين أن يبيع" كما سبق في الغنم، والبيع أولى، فإن أكل عزل قيمته مدة التعريف وعرف، [أي: اللقطة] "سنة" أي: إذا كان في البلد، ثم "يتصرف فيها"؛ لأنه ليس له أن يتصرف في اللقطة قبل الحول، فإذا أكل أقيمت القيمة مقامها.

ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه الذي يعزل القيمة، فإذا عزلها صارت ملكاً لصاحب اللقطة، فإن تلفت من غير تفريط لا ضمان على الملتقط، كما صرح به القاضيان أبو الطيب والحسين وغيرهما. وفي "الرافعي": أنه يرعف الأمر إلى الحاكم ليقبض عن صاحب المال. وقال في "الإشراف": أنه الوجه المنقاس. فإن لم يجد حاكماً فهل للملتقط بسلطان الالتقاط أن ينيب عنه؟ فيه احتمال للإمام. وإذا فرزها، قال الغزالي: لم تصر ملكاً لصاحب المال، لكن هو أولى بتملكها، ويقدم بها عند إفلاس الملتقط. وفي ذلك نظر؛ لأنه لو كان كذلك لما سقط حقه بهلاك القيمة المفروزة، وقد نص على السقوط وعلى أنه إذا مضت مدة التعريف كان له أن يتملك تلك القيمة، وهذا يقتضي صيرورتها ملكاً لصاحب اللقطة.

قال: "وقيل: يعرف، ولا يعزل القيمة"؛ لأن البلد إذا لم يعزل مرض، وإذا عزل أماننة، والقرض- لأنه في الذمة- لا يخشى هلاكه، وهذا قول أبي إسحاق، وهو الأظهر في "الرافعي". أما إذا كان في الصحراء، فقد قال الإمام: الظاهر أنه لا يجب التعريف؛ لأنه لا فائدة فيه في الصحراء. وإذا تأخر بعد العثور على المستحق فقد حكى القاضي الحسين قولاً في عدم وجوب التعريف؛ أخذاً من عدم وجوبه في الشاة في الصحراء، ثم قال: والصحيح الفرق، وهو أن الطعام يمكن تعريفه حيث وجد، بخلاف الشاة في المفازة. وحكي قول آخر قال به أبو إسحاق وابن أبي هريرة وطائفة: أنه لا يجوز له الأكل في البلد، بل يبيع؛ لأن البيع متيسر في العمران. والأول أرجح عند عامة الأصحاب، ومنهم من قطع به كالشيخ. وحكى الماوردي أن أبا علي الطبري حمل القولين على اختلاف، وقال: إن تيسر البيع فلا يأكل، وإلا فيأكل. وقال الصيمري: إن كان الآخذ فقيراً أكل، وإن كان غنياً لم يسغ الأكل. ولا خلاف أنه إذا لم يقدر على البيع جاز له الأكل، قاله القاضي الحسين. فرع: إذا اختلفت القيمة يوم الأخذ ويوم الأكل ففي بعض الشروح: أنه إن أخذ للأكل غرم قيمته يوم الأخذ، وإن أخذ للتعريف اعتبر قيمته يوم الأكل. قال: وإذا أراد البيع رفع إلى الحاكام لولايته، فإن لم يكن حاكم باع بنفسه وحبس ثمنه؛ لأنه موضع ضرورة، فلو باع بنفسه مع وجود الحاكم فأظهر الوجهين- وبه قال أبو حامد وأبو الطيب في "تعليقه"-: أنه لا يجوز، بل لابد من استئذانه. ووجه الثاني: أن الملتقط ناب عن المالك في الحفظ؛ فكذلك في البيع. وهذا الترتيب في الخلاف يجري في كل موضع جوزنا فيه بيع اللقطة كما نبه عليه الرافعي.

وفي "الحاوي": أن قول المنع هنا لا يأتي في واجد الشاة؛ لأن يده على الشاة أقوى لما استحقه عاجلاً من أهلها. فرع: لو حضر المالك في زمن الخيار كان له فسخ البيع وجهاً واحداً لبيعها في حقها؛ كالوكيل، قاله الماوردي. قال: وإن كان ما وجده [مما يمكن حفظه] كالرطب، فإن كان الحظ في بيعه باعه، وإن كان [الحظ] في تجفيفه جففه إحرازاً للحفظ، ولو احتاج إلى بيع البعض لأجل التجفيف باعه. فروع: إذا وجد كلباً يقتنى فهل يجوز التقاطه لغير الحفظ؟ الذي مال إليه الإمام: لا؛ لأن الاختصاص به بالعوض ممتنع، ولا بعوض يخالف وضع اللقطة. وقال أكثرهم: يعرفه سنة ثم يختص به وينتفع، فإن ظهر صاحبه بعد ذلك وقد تلف لم يضمنه، وهل عليه أجرة المثل لمنفعة تلك المدة؟ فيه وجهان؛ بناء على إجارته، وجعل ابن الصباغ الانتفاع به مخرجاً على [جواز] إجارته. ولو وجد خمراً أراقها صاحبها، فأخذها، قال في "المهذب": لم يلزمه تعريفها، وإذا صارت عنده خلا فهل هو للمريق أو الآخذ؟ فيه وجهان، الوجه الثاني: كون المريق أسقط حقه منها، بخلاف الغصب؛ فإنه حينئذ مأخوذة بغير رضاه.

وجزم الرافعي بأن المحترمة إذا ضاعت من صاحبها، بأنها تعرف كالكلب. ولو ضاعت اللقطة من الملتقط، فوجدها غيره أطلق الجمهور: أن الأول أحق بها. وقيل: الثاني أحق إذا لم يكن الأول قد تملكها، حكاه ابن كج. ولو تماشى اثنان، فرأى أحدهما لقطة، فقال الآخر: ناولنيها، فأخذها لنفسه، كان هو الملتقط، وإن أخذها للآمر فوجهان بناءً على جواز التوكيل في الاحتطاب والاحتشاش. والله أعلم.

باب اللقيط

باب اللقيط اللقيط، والملقوط، والمنبوذ، والمدعى: اسم للطفل الذي يوجد مطروحاً، وهو "فعيل" بمعنى "مفعول"؛ كقتيل، ورهين، ودهين، وخصيب. وسمى لقيطاً؛ لأنه يلتقط، ومنبوذاً؛ لأنه ينبذ، ويرمى. وأصل الالتقاط: وجود الشيء على غير طلب. وهو في الشرع: دفع صبي لا متعهد له للقيام بحضانته. فمن هو مستغن عن الحضانة محتاج إلى الكفالة كالمميز، لا يدخل في ذلك، وللإمام احتمال في جواز التقاطه. وقربه بعضهم من منع التفرقة بينه وبين أمه، إلحاقاً بغير المميز، وهو ما اقتضاه كلام القاضي الحسين عند ازدحام شخصين على الالتقاط؛ حيث قال: يقرع بينهما، سواء كان ابن سبع، أو أقل، أو أكثر، وحكاه البندنيجي عن الشافعي في "الأم". وقال الرافعي: إنه الأوفق لكلام الأكثرين. فعلى هذا ينبغي أن يقال: هو في الشرع أخذ صبي لا متعهد له للقيام بترتبيه. قال: [و] التقاط المنبوذ فرض على الكفاية"؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] فوجبت المعاونة على كفالة الطفل؛ لأنها من البر والتقوى، ولأنه آدمي له حرمة فوجب حفظه؛ كالمضطر إلى طعام الغير، بل أولى؛ لأن البالغ ربما احتال لنفسه، والطفل لا حيلة له. فعلى هذا إذا التقطه أهل الحضانة سقط الفرض عمن علم به، وإلا أثم من علم به من أهل تلك الناحية. قال: "فإذا وجد لقيط حكم بحريته" أي: ظاهراً لما روى [الزهري] أن رجلاً من بني سليم يقال له أبو جملية وجد منبوذاً، فأتى به عمر، فقال له عمر: ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ فقال: وجدتها، ضائعة؛ فأخذتها، فقال عريفه:

يا أمير المؤمنين، إنه رجل صالح، فقال: كذا؟ قال: نعم، فقال عمر- رضي الله عنه-: [اذهب] فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته. فحكم عمر- رضي الله عنه- بحريته، و"العريف" في الحديث المراد به: المعرف الذي قال: هو رجل صالح. وقول عمر- رضي الله عنه-: "ولاؤه"، المراد به: ولايته التربية والحضانة، لا ولاية الإعتاق، ولأن الرق طارئ والحرية أصل؛ فكان الحر في الظاهر على حكم الأصل أولى. وفي "الحاوي" حكاية قول آخر عن الشافعي: أنه مجهول الأصل؛ لإمكان رقه وحريته، وهذا ما أبداه الإمام تخريجاً. قال: فإن كان معه مال متصل به، أو تحت رأسه فهو له؛ لأن ذلك منسوب إليه فحكم بأنه له؛ كالبالغ؛ لأن الصبي يملك كما يملك البالغ. وصورة ذلك: أن تكون عليه حلي، أو ثياب ملبوسة أو ملفوفة عليه أو مفروشة تحته، أو دراهم أو دنانير مربوطة في ذيله، أو في السفط الذي هو فيه، أو منثورة عليه، أو كان على دابة أو على الأرض وعنانها بيده، أو مربوطاً برجله [أو ثيابه]، أو كان في خيمة، أو في دار لا يعرف مالكها فليس فيها غيره، وكل ما على الدابة التي حكمنا بكونها له، فلو كان عليها شخصان كانت بينهما، ولو كان في ضيعة أو بستان ليس فيه غيره فهل يحكم [بكونه] له؟ فيه وجهان في "الحاوي"؛ لأن ذلك لا ينسب إلى السكنى، بخلاف الدار. ولو كان تحت بساطه الذي هو جالس عليه دراهم فهل تكون له؟ فيه وجهان في "الحاوي"، والمذكور في "النهاية": أن حكمه حكم الفراش. قال: وإن كان مدفوناً تحته [لم يكن له؛ كالبائع لا يحكم بكون ما هو مدفون تحته]، وكذا لو كان بالبعد منه لا يحكم بكونه له. ثم إطلاق الشيخ

يقتضي أنه لا فرق [في المدفون] بين أن يكون قريباً بحيث يكون بينه وبين الطفل بقدر ما بينه وبين المال الذي يعد قريباً منه، أو لا، ولا بين أن يكون في ثوب اللقيط رقعة تدل على ما تحت اللقيط مدفوناً له أو لا، وقد حكى الإمام في حالة القرب ووجود الرقعة وجهين، أظهرهما في "الوسيط": اتباع ما فيها، ثم قال الإمام: وليت شعري، من عول على الرقعة، ما قوله إذا أرشدت إلى دفن بعيد، وإلى دابة مربوطة بالبعد؟ وفيه تردد ظاهر. قال: "وإن كان بقربه، فقد قيل: هو له"؛ كما لو كان بقرب البالغ، فادعاه فإنه يكون له، كما حكاه المتولي وغيره وهذا قول ابن أبي هريرة. [قال]: "وقيل: ليس له"؛ لأن يده لا تثبت إلا على ما كان متصلاً به، وهو ظاهر النص، والأصح في التهذيب وغيره، وبه جزم القاضي أبو الطيب، وقال: ويفارق البالغ، لأن البالغ يراعيه؛ فتثبت يده عليه بالمراعاة، والصبي لا يتصور المراعاة منه؛ فوزانه من البالغ: أن يكون المال بعيداً منه بحيث لا يمكنه مراعاته؛ فإنه لا يكون تحت يده. وعكس الماوردي الفرق فقال: ما بقرب البالغ لا يحكم بكونه له، بخلاف الصبي؛ لأن الكبير يقدر على إمساك ما يفارقه من مال أو فرس، فإذا لم يفعل ارتفعت يده؛ فزال الملك، والصغير يضعف عن إمساك ما يفارقه؛ فجاز أن ينسب إليه ملكه، وأنه في حكم ما بيده. قال: "وإن وجد في بلد المسلمين" أي: سواء خطه المسلمون: كبغداد، والبصرة، والكوفة، أو [لم] يخطوه، لكنهم فتحوه: إما صلحاً على أن تكون رقبته لنا أو لهم وعليهم الجزية، وإما عنوة وتركناهم فيه بالجزية. قال: وفيه مسلمون، أو في بلد كان لهم ثم أخذه [الكفار]، أي: وفيه مسلمون- كطرسوس، والمصيصة- فهو مسلم، أي: محكوم بإسلامه ظاهراً؛ لأن المسلمين إن كانوا أكثر فالظاهر أنه منهم، والحكم يتبع الظاهر.

وإن كان الأكثر خلافهم فهو متردد بين أن يكون مسلماً أو كافراً، والدار دار الإسلام، فغلبناه؛ لعلوه وانحطاط غيره عنه. وقال الإمام في الثانية: يجوز أن تجري هذه الدار مجرى دار الكفر؛ لغلبة الكفر عليها. أما إذا أخذ الكفار بلد المسلمين، ولم يبق فيه من يتظاهر بالإسلام فهو كافر – كما سنذكره في بلد الكفار- نص عليه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما. وعن أبي إسحاق: أنه مسلم؛ لأن الدار دار إسلام، وربما يبقى فيها من يكتم إسلامه [أو إيمانه]. قال: وإن وجد في بلد فتحه المسلمون ولا مسلم فيه، أو في بلد الكفار ولا مسلم فيه فهو كافر؛ لأن حكم الإسلام إنما يغلب في حالة الاحتمال، ولا احتمال في هذه الحالة، وادعى الإمام: أن أئمتنا لم يختلفوا في الأولى، وعدم الاختلاف في الثانية الأولى. وفي "التتمة" حكاية وجه مخرج فيما إذا وجد في بلد فتحه المسلمون، وأقر الإمام أهلها فيها على خراج يؤدونه: أنه يكون مسلماً؛ لجواز أن يكون فيها مسلم لم يظهر إسلامه. قال: وإن وجد في بلد الكفار وفيه مسلمون، فقد قيل: هو مسلم؛ تغليباً للإسلام، كما ذكرنا، [وهذا قول ابن أبي هريرة، وهو ظاهر كلام الشافعي، كما قال الماوردي]. وقيل: هو كافر؛ تغليباً لحكم الدار، ولا فرق عند الفوراني بين المجتاز والمقيم من المسلمين في ذلك [البلد]، وأنه لو نفى من في البلد المسلمين اللقيط عنه، لا ينتفي الإسلام عنه، بل يحكم بإسلامه، وفي "تعليق" القاضي الحسين وغيره فرض المسألة في التجار الساكنين والأسارى، ورأى الإمام ترتيب الخلاف في الأسارى على التجار، [وأنه] يشبه أن ذلك في قوم

مَسْبِيِّين؛ لأنهم ممنوعون في الخروج من البلدة، وأما المحبوسون في المطامير فيتجه ألا يكون لهم أثر؛ كما لا أثر [لطروق العابرين من المسلمين]. فرع: حيث حكم على اللقيط بأنه كافر، فلو كان أهل البقعة أصحاب ملك مختلفة، قال الرافعي: فالقياس أن يجعل من خيرهم ديناً. ثم إذا حكمنا بكونه مسلماً: فإن كان لكونه وجد في بلد المسلمين ولا كافر فيه، فهو مسلم ظاهراً وباطناً، وإن كان لكون فيه مسلمون وكفار، فهو محكوم بإسلامه في الظاهر، دون الباطن؛ قاله الماوردي. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أن البدل متى كان فيه مسلمون كان اللقيط مسلماً، وأنه إذا لم يكن فيه مسلم أنه لا يكون مسلماً- قد يوهم أنه إذا وجد فيه مسلم واحد يكون في موضع النظر أو يكون فيه خلاف، وقد صرح القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين والمراوزة بأنه ملحق بما إذا كان فيه مسلمون. قال: "فإن التقطه حر أمين مسلم مقيم، أقر في يده"؛ لقصة أبي جميلة مع عمر، وقد ادعى الإمام أن ذلك مجمع عليه، وأنه لا يحتاج إلى مراجعة الإمام في ابتداء الأخذ ولا في دوامه، كما في أخذ اللقطة. ولأنه لابد له من أن يكون في يد من يكفله، فكان الملتقط أحق به. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الملتقط غنياً أو فقيراً، وفي كلام الشيخ من بعد ما يدل عليه. وفي "المهذب" حكاية وجه: أنه لا يقر في يد الفقير؛ لأنه لا يتفرغ للحضانة لاشتغاله بطلب القوت. قال: ويستحب أن يشهد عليه وعلى ما معه، وقيل: يجب [ذلك]، وتوجيههما ما تقدم في اللقطة، وقد أثبت بعضهم هذا الخلاف وجهين، وبعضهم قولين بالنقل والتخريج؛ لأنه نص هنا على الوجوب، وفي اللقطة على الاستحباب.

ومنهم من أقر النصين، وهو الأظهر في "الرافعي"، وفرق بأن القصد من اللقطة المال والإشهاد في التصرفات المالية مستحب، وفي اللقيط يحتاج إلى حفظ الحرية والنسب؛ فوجب الإشهاد؛ كما في النكاح. وأيضاً: فاللقطة يشيع أمرها بالتعريف، ولا تعريف في اللقيط. وحكى الإمام وجهاً فارقاً بين أن يكون الملتقط ظاهر العدالة؛ فلا يكلف الإشهاد، أو مستورها؛ فيكلف؛ ليصير الإشهاد قرينة تغلب على الظن الثقة به، وهذا الوجه قريب الشبه من وجه حكيناه في عدم وجوب الإشهاد على أخذ الراهن الرهن؛ لينتفع به إذا كان ظاهر العدالة. ثم إذا أوجبنا الإشهاد فلم يفعله، قال في "الوسيط": لا تثبت له ولاية الحضانة، ويجوز الانتفاع. قال الرافعي: وهذا يشعر باختصاص الإشهاد الواجب بابتداء الالتقاط، وفيما ادعاه من الإشعار نظر. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن للملتقط ولاية حفظ مال اللقيط كما له حفظ نفسه، وهو وجه حكاه الإمام مع وجه آخر: أنه يتعين عليه رفعه إلى القاضي؛ لأن إثبات اليد على المال يفتقر إلى ولاية عامة أو خاصة، ولا ولاية للملتقط، وإيراد البغوي يقتضي ترجيح الأول، وبه جزم الماوردي؛ حيث قال: لو كان الملتقط أميناً عليه [وعلى] ما معه فيقران في يده، وهل يكون للحاكم عليه نظر أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو قول أبي علي الطبري-: لا نظر له عليه، ولا اجتهاد له فيما إليه؛ كما لا نظر له في اللقطة على واجدها إذا كان أميناً. والثاني- وهو قول أبي علي بن خيران-: للحاكم عليه في المنبوذ نظر، وله في كفالته اجتهاد؛ لأنه الولي على الأطفال، [وخالف] اللقطة؛ لأنها كسب. فإن قيل: هذا عين الخلاف الذي حكاه الإمام؛ فلا جزم. قلت: لو كان كذلك للزم أن يكون في الافتقار إلى إذن القاضي في استمرار المنبوذ في يد ملتقطه خلاف، وقد ادعى الإمام الإجماع على عدم اعتباره، لكن

يظهر أن المراد من الخلاف: أن اثنين لو التقطا، وتنازعا هل يقرع بينهما؟ وللقاضي مدخلفي ذلك فيرجح واحداً بالاجتهاد، كما قال مثل ذلك في مقاعد الأسواق كما حكيته عنه من قبل. ويؤيده: أنه حكي عن ابن خيران أن عند تنازع الملتقطين في حضانته أن القاضي يرجح أحدهما. فإن قيل: قد حكى الماوردي وجهين في أن الملتقط هل يكون خصماً فيما نوزع فيه اللقيط من أمواله أم لا، وذلك يدل على أن الخلاف في ثبوت أصل ولايته. قلت: لا منافاة في ثبوت ولاية الحفظ وعدم المخاصمة، فإن المودع تثبت له ولاية الحفظ، وليس له المخاصمة على الأصح. قال: فإن كان له مال كان نفقته في ماله؛ لأنه لو كان في حضانة أبيه الموسر، وله مال كانت نفقته في ماله؛ فهنا أولى. قال: ولا ينفق عليه الملتقط من ماله بغير إذن الحاكم، [أي]: إذا أمكن؛ لأن الذي يلي التصرف في مال الطفل بغير تولية أبوه وجده، وأما ما عداهما من العصبات فليس له ولاية وإن كان حاضناً؛ فالملتقط أولى، وهذا ما ادعى الإمام نفي خلافه، وكذلك الماوردي، وقال: سواء قلنا: إن للحاكم عليه نظراً أم لا. وفي الجيلي: أن في "الحاوي" حكاية وجه: أن له أن ينفق بغير إذن الحاكم. قال: فإن أنفق [عليه من] غير إذنه، ضمن؛ لتصرفه في مال الغير بغير إذنه؛ فأشبه ما لو كان للطفل مال مودع عند إنسان، فأنفق عليه منه بغير إذن وليه؛ فإنه يلزمه الضمان. وفي كتاب ابن كج وجه غريب: أنه لا يصير ضامناً.

قال: فإن أذن له الحاكم، جاز؛ لأنه أمين، فإذا فوض إليه الحاكم، الإنفاق صار ولياً؛ كالوصي، وهذا ما جزم به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ"، وقيل فيه قولان: أصحهما: أنه يجوز كما ذكرناه. والثاني: لا يجوز؛ لأنه يكون قابضاً من نفسه ومقبضاً، وذلك ليس لغير الأب والجد. قال الإمام بعد حكايته هذا الوجه عن العراقيين: وهذا لا أعرف له وجهاً، ولا آمن أن يكون غلطة من الناسخ. قلت: قد يظهر وجهه على طريق من أوجب على الملتقط تسليم المال إلى الحاكم؛ فإنه إذا وجب كان في إنفاقه إسقاط لذلك الواجب فيتحد القابض والمقبض، لكن قد قلنا: إن الآجر لو أذن للمستأجر في صرف الأجرة في العمارة، جاز، ولم يخرج على اتحاد القابض والمقبض، وهذا أولى. وعلى هذا قال الماوردي: ففي كيفية ما يفعل وجهان: أحدهما: أنه يؤخذ من مال المنبوذ [القدر] الذي ينصرف في نفقته، ويدفع إلى أمين، يتولى شراء ما يحتاج إليه المنبوذ من طعام وكسوة، ثم يدفعه للملتقط حتى يطعمه ويكسوه؛ لأنه أحوط. والثاني: يأخذ قدر النفقة، ثم يدفع إلى الملتقط؛ ليتولى شراء ذلك بنفسه؛ لما فيه من حق الولاية عليه. قال: "وإن لم يكن حاكم، فأنفق من غير إشهاد، ضمن؛ لأنه ترك الاحتياط".

وفي "النهاية" وجه: أنه لا يضمن؛ فيجوز أن يكون عند تعذر الإشهاد، ويجوز أن يكون مع القرة عليه، وإلى ذلك أشار الرافعي بقوله: وفيه وجه: إما مطلقاً، وإما عند تعذر الإشهاد؛ كما ذكرنا في مسألة الجمال. قال: وإن أشهد ففيه قولان، وقيل وجهان: أحدهما: يضمن؛ لأنه أنفق بغير إذن معتبر، فكان كما لو أنفق مع وجود الحاكم؛ فعلى هذا: يدفع المال إلى أمين لينفقه عليه. "والثاني: لا يضمن"؛ لأنه محل الحاجة؛ فإنه لا يجوز تضييع الصبي به، وهو أحق به من سائر الناس، وهذا أصح، وبه جزم المتولي. قال القاضي الحسين: وهذا الخلاف كالخلاف فيما لو هرب الجمال، فأنفق المستأجر على الجمال بمحضر الشهود دون إذن الحاكم. ثم قال: ويمكن أن نفرق بأن هناك يريد أن يرجع على [الغير بمال؛ فلم يجز له ذلك، وفيما نحن فيه ليس يريد أن يرجع على] أحد بشيء. وفي "الحاوي": أن من أصحابنا من جعل المستأجر يرجع، وجعل الملتقط ضامناً؛ لأن المستأجر مضطر إلى استيفاء حقه، وليس الملتقط مضطراً إلى التقاطه. ثم قال: وهذا لا وجه له؛ لأنه ربما وجده ضائعاً في مهلكة فلزمه أخذه. وعلى الأصح قال مجلي: يجب أن يشهد في كل مرة. قال: "فإن لم يكن له مال وجبت نفقته في بيت المال" أي: من سهم المصالح- كما صرح به الإمام وغيره- لقول عمر في خبر أبي جميلة: "لك ولاؤه وعلينا نفقته". وقد روي أن عمر- رضي الله عنه- استشار الصحابة في نفقة اللقيط، فأجمعوا على أنها في بيت المال، كما حكاه القاضي الحسين والإمام. ولأن البالغ المعسر ينفق عليه من بيت المال؛ فاللقيط العاجز أولى. قال: "فإن لم يكن في بيت المال شيء" أي: أو كان ولكن ثم ما هو أهم [من ذلك كسد ثغر] يعظم ضرره لو ترك "ففيه قولان:

أحدهما: يستقرض له في ذمته" أي: من المسلمين؛ كالمضطر إلى الطعام يجبر من هو معه على دفعه ببدله، وهذا ما قال به الأكثرون كما حكاه أبو الطيب. فعلى هذا: لو امتنع أهل تلك البلدة من الإقراض، حصرهم الحاكم، وأحصى نفسه معهم، وقسط نفقته عليهم بالحصص، ثم ينظر: فإن حصل في بيت المال شيء قبل بلوغ اللقيط ويساره، قضاه منه. قال القاضي أبو الطيب: لأنه لما وجب الإنفاق عليه منه ابتداء، وجب القضاء منه في الثاني؛ كما نقول في ماله. وهذا يوهم أن القضاء يكون من سهم المصالح؛ لأنه ابتداء يجب فيه، وليس الأمر كذلك؛ بل القضاء يكون من سهم الفقراء والمساكين والغارمين؛ لأنه دين ثبت في ذمة اللقيط على هذا القول. ولو بان رق اللقيط أو غناه، رجع على سيده أو في ماله. وكذا لو اكتسب قبل حصول شيء في بيت المال، قضى ما أقرض له من كسبه. ولو حصل لبيت المال واللقيط مال دفعة واحدة، قضى من مال اللقيط. قال: "والثاني: يقسط على المسلمين من غير عوض؛ لأنه آدمي محتاج له حرمة وقد عجز عن نفقته فكانت على المسلمين؛ كنفقة المجنون والفقير الزمن، وهذا ما يقتضي إيراد الغزالي ترجيحه". فعلى هذا: إن قام بها البعض، اندفع الحرج عن الباقين، وإن امتنعوا طالبهم الإمام، فإن أصروا قاتلهم؛ فإن تعذر الإنفاق، استقرض على بيت المال، وأنفق عليه. ثم حيث قلنا بالتقسيط فذاك عند إمكان الاستيعاب، أما إذا كثروا وتعذر التوزيع عليهم، قال الإمام: يضربها الإمام على من يرى منهم باجتهاده، فإن استووا في نظره تخير. وحكى الإمام: أن هذا الخلاف يجري فيمن أنفق على فقير مضطر بالغ

بأمر الإمام عند خلو بيت المال عن مال، ولم يقصد المنفق تبرعاً هل يرجع به على بيت المال أم لا؟ وأما الفقير إذا أيسر، فلا يرجع عليه بحال، وما ذكره المصنف هو طريقة أبي إسحاق المروزي، والشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب، وابن الصباغ، ووراءها طريقان: أحدهما: ذكر في "المهذب" و"الحاوي": أن اللقيط إذا لم يكن له مال ففي نفقته قولان: أحدهما: أنها في بيت المال، وهو الأصح، فعلى هذا لا يرجع على أحد بما أنفق. والثاني: لا يجب في [بيت] المال؛ لجواز رقه أو حريته، وله مال أو قريب موسر تلزمه نفقته؛ فتكون على سيده وفي ماله وعلى قريبه، وبيت المال لا يلزم فيه إلا ما لا وجه له سواه. فعلى هذا: يجب على الإمام أن يقرض له ما ينفق عليه من بيت المال أو من أحد من المسلمين، فإن لم يمكن جمع الإمام من له مكنة، وعد نفسه منهم، وقسط نفقته عليهم، فإن بان عبداً أو له قريب أو مال رجع على مولاه وفي ماله وعلى قريبه، فإن لم يكن ذلك، رجع في كسبه، فإن لم يكن له كسب، قضى من سهم من يرى من المساكين أو الغارمين. والطريق الثاني- حكاه القاضي الحسين-: أن نفقته عند عدم ماله في محلها قولان: أحدهما: في بيت المال، فإن لم يكن ذلك، رجع في كسبه، فإن لم يكن له كسب، قضى من سهم من يرى من المساكين أو الغارمين. والثاني: يجب على كافة الناس، والإمام يحسب مياسير البلد، ويضرب على جماعة منهم. فعلى هذا: إذا بلغ اللقيط، قال الصيدلاني: ليس لهم الرجوع عليه، ومن أصحابنا من قال: لهم الرجوع؛ كما في المضطر.

فرع: حيث قلنا: يستقرض، فلو أمر الحاكم الملتقط أن ينفق عليه قرضاً؛ ليرجع- قال الشافعي هنا في "المختصر"، وفي الدعاوى: إنه يجوز. وقال في "الأم" في الضالة: أنه لا يأذن لواجدها في الإنفاق عليها من مال نفسه ليرجع على صاحبها، بل يأخذ المال منه، ويدفعه إلى أمين، ثم الأمين يدفع إليه كل يوم. فمن الأصحاب من جعل في المسألتين قولين، أشبههما عند الشيخ أبي حامد: الجواز؛ لما في ذلك من العسر. ومنهم من أقر النصين، وفرق بأن اللقيط لا ولي له ظاهر؛ فجاز أن يجعل القاضي الملتقط ولياً، وصاحب اللقطة قد يكون رشيداً لا يولى عليه. وهذا الخلاف مفرع على القول بأن للملتقط أن ينفق على اللقيط من ماله بإذن الحاكم، أما إذا قلنا: ثم إنه لا يجوز، فهاهنا من طريق الأولى، صرح به القاضي الحسين عن شيخه. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ قد يفهم أنه لا فرق بين اللقيط المحكوم بإسلامه أو بكفره في الإنفاق عليه من بيت المال، وهو وجه حكاه الأصحاب واستقربه الرافعي؛ فإنه لا وجه لتضييعه، وفيه نظر للمسلمين؛ فإنه إذا بلغ، أعطى الجزية. والصحيح: أن ما ذكره في اللقيط المحكوم بإسلامه، ويدل عليه أنه قال: والثاني: يقسط على المسلمين. فلو كان المراد الذمي والمسلم، لما اختص المسلمون بذلك. وقد جزم في "الحاوي" بأن المحكوم بكفره لا ينفق عليه من بيت المال؛ لأن مال بيت المال مصون لصالح المسلمين دون المشركين. ثم إن تطوع أحد من المسلمين أو من أهل الذمة بالنفقة عليه، وإلا جمع الإمام أهل الذمة الذين كان المنبوذ بين أظهرهم، وجعل نفقته مقسطة عليهم؛ ليكون ديناً لهم إذا ظهر أمره، فإن ظهر له سيد أو قريب موسر رجع بها عليه، وغن لم يظهر ذلك كانت ديناً عليه، يرجعون بها في كسبه، وهذا ظاهر النص كما حكاه القاضي الحسين.

قال: وإن أخذه عبد [أي]: بدون إذن سيده أو فاسق، [لم يقر في يده] أي: يخشى منه استرقاقه انتزع منه؛ لاشتغال العبد بخدمة السيد، وتهمة الفاسق أن يسترقه، ولأنهما ليسا من أهل الأمانة والولاية، وبهذا خالف التقاط المنبوذ اللقطة حيث تصح من العبد والفاسق على قول؛ لأن اللقطة جهة اكتساب، والعبد والفاسق في الكسب سواء. أما إذا أذن السيد لعبده في التقاطه، جاز، وكان السيد هو الملتقط، وهو نائبه في الأخذ والتربية. ولو كان الملتقط يؤمن على اللقيط من استرقاقه وهو غير مأمون على ماله، قال الماوردي: فهذا يقر المنبوذ في يده وينزع المال منه؛ لأنه قد صار له بالتقاطه حق في كفالته، فما لم يخرج عن حد الأمانة [فيه] كان مقراً معه، وليس يراعي فيه العدالة؛ فيكون جرحه في شيء جرحاً في كل شيء، وإنما تراعى فيه الأمانة، وقد يكون أميناً في شيء وإن كان غير مؤتمن في غيره. وهذا يوافق كلام المصنف في أول الباب، وكلام غيره يقتضي أنه ينزع؛ لأنه جعل العدالة شرطاً، حتى زاد الرافعي فقال: المبذر المحجور عليه لا يقر اللقيط في يده؛ فإنه ليس مؤتمناً شرعاً، وإن كان عدلاً، وفرع الماوردي على ما قرره: أن الملتقط لو كان أميناً على ماله غير أمين على نفسه: إما من استرقاقه، وإما لأنها ذات فرجح فينزع المنبوذ منه، وفي إقرار المال معه وجهان، ووجه التقرير هنا بعيد جداً. فرعان: من نصفه حر ونصفه رقيق إذا التقط منبوذاً في نوبة نفسه ففي استحقاقه الكفالة وجهان في "الحاوي". وفي "المعتمد": المكاتب إذا التقط بغير إذن سيده لم يقر في يده عند الجمهور. وفي "الحاوي": أنا إن عللنا المنع في العبد بكونه ليس بأهل الولاية؛ فكذلك

هاهنا: وإن عللناه بكونه مشتغلاً بخدمة السيد، فالمكاتب مستحق للكفالة؛ لأنه أملك من السيد بمنافع نفسه. ثم على المشهور: لو كان الالتقاط بإذن سيده على أن يكون هو كافله، خرج على تبرعاته بإذن السيد، وإن أذن له في أن يلتقطه للسيد جاز. قال الرافعي: ويشبه أن يكون على الوجهين في التوكيل في الاصطياد. قال: وإن أخذه كافر أي: عدل في دينه، فإن كان اللقيط محكوماً بإسلامه، لم يقر في يده؛ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ولأنه غير مأمون عليه في يده من أن يسترقه، وفي دينه أن يفتنه، وفي ماله أن يتلفه؛ لأن عداوة الدين تبعث على ذلك كله. قال: وإن كان محكوماً بكفره أقر في يده؛ لأنه أهل للحضانة، بدليل ولده. وكذا لو التقطه مسلم أقر في يده. قال: "وإن أخذه ظاعن" أي: مسافر، [فإن] لم تختبر أمانته، لم يقر في يده"؛ لأنه لا يؤمن أن يسترقه في غيبته، وهذا بخلاف ما لو أخذه من لم تختبر أمانته، وكان مقيماً، فإنا لا ننزعه من يده؛ لأن الظاهر الأمانة، لكن يوكل به الإمام من يراقبه من حيث لا يدري؛ كي لا يتأذى؛ فإذا وثق به، صار كمعلوم الأمانة. قال: وإن اختبرت نظر فإن كان ظاعناً إلى البادية واللقيط في الحضر لم يقر في يده"؛ لأنه ينقله من العيش في الرخاء إلى العيش في الشقاء. ولأن البلد أرفق باللقيط [وأحظ له]؛ لوجود من يعلمه، ويؤدبه فلا يفوت عليه ذلك، ولأنه أرجى لظهور نسبه، وأبعد عن استرقاقه. فعلى العلة الأولى: لو نقله إلى موضع قريب من البلد يسهل تحصيل ما يراد منها، أقر في يده، وهو المنصوص، وبه أجاب المعظم.

وعلى العلة الثانية والثالثة: ينتزع. قال: "وإن كان ظاعناً إلى بلد آخر"، أي والطريق آمن، وبينهما أكثر من يوم وليلة ودون مسافة القصر، بحيث أن تكون أخباره متصلة، والورود منه كثير- "ففيه وجهان": أحدهما: يقر في يده؛ لتساوى البلدين، وهو ظاهر النص؛ كما قاله في "المهذب"، واختاره في "المرشد". والثاني: لا يقر؛ لأن مقامه في البلد الذي وجد فيه أرجى لظهور نسبه، وأبعد عن استرقاقه، وهذا هو المذهب في "تعليق" القاضي الحسين. أما إذا كان الطريق مخوفاً، أو كان بينهما مسافة شاسعة؛ بأن تصير أخباره منقطعة، والطارئ إليه أو منه نادر: كمن بالعراق إذا أراد نقله إلى المشرق أو المغرب- فلا يقر في يده وجهاً واحداً. وإن كان بينهما أقل من يوم وليلة، أقر وجهاً واحداً كما قاله الماوردي. ويجيء فيما ذكرناه من قبل وجه: أنه يمتنع؛ مراعاة لحفظ النسب. وعلى قول الجواز: لو كان المنقول إليه قرية، والمنقول عنه بلد، فهل يجوز؟ فيه وجهان في "الحاوي". قال المتولي: ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يريد سفر نقلة أو تجارة أو زيارة. قال: وإن كان اللقيط في البادية، وأخذه حضري يريد حمله إلى الحضر جاز؛ لأنه أرفق باللقيط. وحكى عن القاضي الحسين وجه: أنه لا يجوز؛ نظراً للنسب. قال: وإن كان بدوياً: فإن كان له موضع راتب، أقر في يده؛ [لأن الحلة كالقرية]. وإن كان ينتقل من موضع إلى موضع، أي: لطلب الماء والكلأ- فقد قيل: يقره [في يده]؛ لأنه أرجى لظهور نسبه، وهذا ما اختاره في المرشد.

وقيل: لا يقر؛ لأن اللقيط يشقى بالتنقل، وفيه تضييع لنسبه. قال: وإن التقطه رجلان من أهل الحضانة، وأحدهما موسر، والآخر معسر- فالموسر أولى؛ لأنه أرفق بالطفل؛ فإنه ربما يوسع عليه، والفقير قد يشتغل بطلب القوت عن الحضانة. وقيل: هما سواء. والأول أصح، وبه قال أبو إسحاق. فعلى هذا: لو تفاوتا في الغنى، فهل يقدم أكثرهما مالاً؟ فيه وجهان في "النهاية". قال: وإن كان أحدهما مقيماً والآخر ظاعناً أي: واللقيط [في البادية] فالمقيم أولى؛ لأنه أرفق بالطفل، وأحوط لنسبه. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه ينظر: إن كان الظاعن له موضع راتب في البادية، فهو أولى، وإلا فإن قلنا: له حق الكفالة، كانا سواء. ولو كان أحدهما ظاهر العدالة بالإخبار، والآخر مستورها – قدم الأول عند الشيخ أبي محمد وغيره. وقيل: هما سواء. ولو كان أحدهما كامل الحرية، والآخر متبعضها، وقلنا: له حق الكفالة- فالحر أولى، قاله الماوردي. وإن كان أحدهما مسلماً، والآخر كافراً، واللقيط كافر- فهما سواء، وقيل: المسلم أولى ليعلمه [دينه]، وهذا خرجه الماوردي من مذهب ابن خيران، كما سنذكره. وفي بعض الشروح تقديم [الكافر] لأنه على دينه. ولا تقدم المرأة على الرجل، بخلاف الأم حيث قدمت على الأب؛ لأن الرجل

هنا لا بد له من امرأة تكفله، وهي مساوية للأخرى في كونهما أجنبيتين. قال: "وإن تساويا وتشاحا أقرع بينهما"؛ لتساويهما في الالتقااط، وتعذر اجتماعهما على حضانته؛ لما في ذلك من المشقة، وعدم إمكان المهايأة؛ لكونها تضر بالطفل لتبدل الأيدي وقطع الألفة واختلاف الأخلاق، وقد قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] وعن ابن خيران- كما حكاه الماوردي والمصنف-: أنه لا يقرع بينهما بل الحاكم يجتهد، ويقدم من يراه أولى، فإن تساويا في نظره، فلا سبيل إلى التوقف. ونسب في "الوسيط" هذا الوجه لابن أبي هريرة، ولعلهما قالا: ولا يخير الصبي بينهما، وإن [كان ابن سبع فأكثر، كما يفعل بين الأبوين؛ لأن التعويل تم على الميل الناشئ من الولادة. وقال الإمام: يجوز أن يقال: يخير، ويجعل اختياره أولى من القرعة. ثم إنه صور المسألة [إذا] التقطاه صغيراً، ثم لم يتفق انفصال الخصومة إلا بعد بلوغ الصبي سن التمييز. وهذا أحوجه إليه تردده في جواز التقاط المميز. وكلام القاضي الحسين وغيره مطلق. وأيضاً: فإن بقاء اللقيط في يديهما هذه المدة مستبعد. قال: "فإن ترك أحدهما حقه" أي: لو غاب "أقر في يد الآخر"؛ لأن المنع كان بحقه، وإلا فهو له حق الالتقاط. "وقيل: يرفع [الأمر] إلى الحاكم حتى يقر في يد الآخر". قال الرافعي: كما لو ترك حقه بعد خروج القرعة له؛ فإنا لا نجيز ذلك، وكما لو ترك المنفرد حقه، وسلم اللقيط لأمين بغير إذن الحاكم، وللحاكم على هذا أن يقرع بين الذي لم يترك وبين أمين آخر يعينه. قال: "وليس بشيء"؛ لأن الحق [كان] لهما، فإذا ترك أحدهما حقه ثبت

للآخر؛ كالشفعة. ثم اعلم أن ما حكيناه عن الرافعي مصرح بأن محل الخلاف قبل خروج القرعة. وفي "الحاوي" أجراه في الحالين معاً، وهو الذي يقتضيه إطلاق الشيخ هنا، ومنه يؤخذ أنه إذا كان منفرداً بالالتقاط: أن له أن يترك حقه، ويسلمه إلى الحاكم- وإن لم يكن له عذر- ولا يلزم بحفظه، كما صرح به الماوردي وغيره، بخلاف الوديعة على أحد الوجهين. وعن ابن كج وغيره حكاية الوجهين هنا- أيضاً- بناء على أن الشرع في فروض الكفايات هل يلزم الإتمام؟ وهل يصير الشارع معيناً له؟ لكن الذي رأى ابن كج ترجيحه: الأول. ومن قال باللزوم، قال: إذا ترك أحد الملتقطين حقه لا يتركه الحاكم، بل يقرع بينه وبين صاحبه: فإن خرجت القرعة عليه ألزمه القيام بحضانته، كذا صرح به الإمام. ولا خلاف في أنهما لو تساويا إلى المنبذو ولم يضع يده أحدهما عليه، وقال كل منهما: أنا آخذه وأحضنه- أن للحاكم أن يجعله في يد من يراه منهما أو من غيرهما، نعم: لو سبق أحدهم بالوقوف على رأسه من غير أخذ فهل يقدم بذلك؟ فيه وجهان عن الشيخ أبي محمد، وأظهرهما المنع. قال: "وإن ادعى كل منهما أنه الملتقط، فإن كان في يد أحدهما فالقول قوله مع يمينه"؛ لأ اليد تشهد له، "وإن كان في يديهما أقرع بينهما؛ لأن الكفالة لا تتبعض، ولا يمكن المهايأة فيها؛ لما ذكرناه؛ فتعينت القرعة. وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، ويجيء فيه وجه ابن خيران: أن الحاكم يقدم أحدهما بالاجتهاد، وفي "المهذب" و"المرشد": أنهما يتحالفان، فإن حلفا أو نكلا، صارا كالملتقطين يقرع بينهما على المذهب، وعلى قول أبي علي بن خيران: يقره الحاكم في يد من هو أحوط له. والظاهر أن المراد من التحالف هنا: الحلف من كل منهما، كما هو مذكور في

باب التحالف، [و] حينئذ يكون موافقاً لما ذكرناه أولاً، وقد أشار إلى ذلك ابن الصباغ في أثناء الفصل. قال: "وإن لم يكن في يد واحد منهما، سلمه الحاكم إلى من يرى منهما أو من غيرهما"؛ لأنه لم يثبت لهما حق الكفالة، و"إن قام أحدهما ببينة حكم له"؛ عملاً بها، ولا يكفى فيها إلا شاهدان؛ لأنهما يثبتاان الكفالة، وليست بمال. قال: وإن أقاما بينتين مختلفتي التاريخ، قدم أقدمهما تاريخاً؛ لثبوت سبقه إلى الالتقاط، ويفارق هذا ما إذا اختلف اثنان في مال، فأقام أحدهما بينة بالملك من سنة، والآخر بالملك من سنتين [حيث] سوينا بينهما على قول؛ لأن الملك قد ينتقل عن الأسبق إلى الأحدث، وليس كذلك هنا؛ فإن يد الملتقط لا تنتقل عنه من غير أن يتغير حاله، وإن كان باقياً بحاله كان حق الالتقاط ثابتاً له، وكان أولى. قال الشيخ أبو الفرج الزاز: وهذا إذا قلنا: إن من التقط لقيطاً، ثم نبذه، لم يسقط حقه، فإن أسقطناه، فهو على القولين في الأموال. قال: وإن كانتا متعارضتين، أي: بأن كانتا مطلقتين أو مؤرختين وقتاً واحداً، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة- سقطتا في أحد القولين، وصار كما لو لم تكن لهما بينة". لعدم المرجح. والقول الثاني: أنهما تستعملان بالقرعة، ولا يجيء قول الوقف؛ لما في ذلك من الإضرار بالطفل، ولا قول القسمة؛ لعدم إمكانها، وعلى هذا: من خرجت له القرعة هل يحلف معها؟ فيه قولان. قال: وإن ادعى [مسلم نسبه]، لحق به؛ لأنه أقر له بحق لا ضرر فيه على غيره؛ فأشبه ما لو أقر له بمال. وأيضاً: فإن إقامة البينة على النسب تعسر، فلو لم نثبته بالاستلحاق،

لضاع كثير من الأنساب. قال: وتبعه في الإسلام؛ لأنه ابنه ولا فرق بين أن يكون في يد الملتقط أو [في يد] غيره [أو في يده ويد غيره]، وقد تنازعا في التقاطه، ويسلم إليه؛ ليكفله، وكذلك ماله، ويعامله معاملة الأولاد في كل شيء، كما صرح به البندنيجي. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق بين الحر والعبد، وهو المذهب، وبه جزم في "المهذب"، وكذا القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، إلا أنه إذا استلحقه العبد لا يسلم إليه. وفي "الحاوي" حكاية وجه: أن العبد لا ينفذ استلحاقه ما لم يصدقه السيد، وغيره حكاه قولاً منصوصاً في الدعاوى، وعن [الشيخ] الشريف ناصر الدين العمري حكاية طريق قاطع بالأول إذا كان مأذوناً له في النكاح، ومضى من الزمان ما يحتمل حصول الولد، وتخصيص القولين بما إذا لم يكن مأذوناً، وسيأتي الكلام في ذلك مرة أخرى، إن شاء الله تعالى. قال: لو بلغ اللقيط وأنكر النسب فهل ينقطع؟ فيه وجهان، محلهما كتاب الإقرار، فلو أقام آخر بينة: أنه ولده، كانت البينة أولى من الدعوى، فيقدم بها، وينقطع نسبه من الأول. فلو أقام آخر بينة: أنه ولد على فراشه، كانت أولى من البينة المطلقة، كذا قاله البندنيجي [وغيره] في باب عقل من لا يعرف نسبه. قال: "فإن كان هو الملتقط استحب أن يقال له: من أين هو ابنك؟؛ كي لا يعتقد أنه يصير ابناً له بالالتقاط والتربية. فرع: لو كان للمستلحق امرأة وقد أنكرت كونه ابنها لم يلحقها، صرح به القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ وغيرهما.

قال: وإن ادعاه كافر لحق به؛ [لأنه] كالمسلم في النسب، ولأنه أقوى في الفراش من العبد؛ فإنه يثبت له بالنكاح والوطء في ملك اليمين؛ فكان استلحاقه أولى. قال: وإن أقام البينة على ذلك تبعه الولد في الكفر، وسلم إليهن عملاً بالبينة، وإن لم يقم البينة، لم يتبعه في الكفر؛ لأن الولد يحتمل ان يكون كافراً، ويحتمل أن يكون مسلماً؛ لكون أمه مسلمة، وقد حكمنا بإسلامه بالدار فلا ننقضه مع الاحتمال، ولأنه أقر بما يضره، وما يضر غيره، فقبلنا قوله فيما يضر به من لزوم مؤنة الطفل، ولم نقبله فيما يضر بالطفل وهو جعله كافراً، وهذا ام نص عليه [في هذا النعت في "الإملاء" كما قاله القاضي الحسين، وحمل عليه قول] أبي إسحاق المروزي، قوله في "الدعاوى والبينات" جعلته مسلماً. وقوله هاهنا: "أحببت أن أجعله مسلماً". قال: "ولم يسلم إليه؛ كي لا يفتنه، وهو ظاهر كلام الشيخ هنا، وإطلاق غيره يقتضي أن ذلك على وجه الوجوب". وقال في "المهذب": [و] يستحب أن يسلم إلى مسلم إلى أن يبلغ؛ احتياطاً للإسلام. قال: "وقيل: إن أقام البينة جعل كافراً قولاً واحداً؛ لما سبق، وإن لم يقم البينة، ففيه قولان". وجه جعله كافراً- وهو ما استنبط من قوله هنا: "أحببت أن أجعله مسلماً"-: إن كل ما يثبت به نسبه يثبت به دينه كالبينة، وعلى هذا: يحال بينه وبين اللقيط أيضاً، [ويكون] كما لو وصف ولد الذمي الإسلام، صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ. وهذه طريقة أبي علي الطبري، والأولى أصح عند القاضيين الحسين والطبري وغيرهما، وجعل الماوردي محل الخلاف في الحكم يتبعه في الكفر إذا استلحقه قبل أن يصدر من اللقيط صلاة وصوم، أما إذا صدر منه ذلك

والتزام شرائع الإسلام، فلا يغير عن حكم الإسلام". قال: "وإن ادعته امرأة، لم يقبل في ظاهر النص إلا ببينة" أي: تشهد بالولادة، ولا يثبت بالقافة كما صرح به البندنيجي، وهو الأظهر في الطرق؛ لإمكان إقامة البينة على ذلك، بخلاف الرجل فإنه لا يمكنه ذلك؛ ألا ترى: أنه لو علق طلاقها على ولادتها لا يقع إلا ببينة، ولو علقه على حيضها قبل قولها مع يمينها؟ "وقيل: يقبل"؛ لأنها أحد الأبوين؛ فصحت دعوتها كالأب، ولأن لحوق الولد بالمرأة أقوى من الرجل؛ لمساواتها له في كل سبب، وانفرادها بالتحاق ولدها من الزنى، وإذا كانت آكد حالاً في ذلك كان قبول دعوتها أولى، وما فرق به يبطل بإمكان إقامة البينة على الفراش؛ فإن الأب متمكن منها، ومع ذلك لا يكلفها، وهذا ما قال الشيخ أبو حامد: إنه رآه الشافعي في اللعان أو في غيره. فعلى هذا: إن كانت فراشاً لزوج أو سيد، لم يلحق به، وإن كانت رقيقة، لم يتبعها في الرق. وحكى الإمام وجهين في كتاب اللعان، في أن القائف لو ألحق الولد بالزوج، هل ينزل منزلة البينة على ثبوت الولادة؟ وأصحهما: أن الولادة لا تثبت. وقيل: إن كان لها زوج لم يقبل"؛ لأنه لو لحق بها لوجب لحوقه بزوجها؛ لأن الفراش لا يتبعض؛ بدليل: أنه يلحق به إذا قامت بينة على ذلك، ولا يجوز إلحاقه بالزوج مع جحوده بإقرارها؛ كما أن أحد الابنين لو أقر بأخ، لا يلحق بأخيه المنكر. "وإن لم يكن لها" زوج "قبل؛ لوجود ما ذكرناه وانتفاء المانع، قال البندنيجي: وليس يعني بالزوج أن تكون في عصمة زوج؛ بل المراد أن تكون فراشاً لشخص لو ثبت نسب اللقيط منها بالبينة للحق صاحب الفراش، سواء كانت في عصمته أو في عدة طلاق أو وفاة. قال: "وإن ادعاه اثنان" أي: معاً، وهما ممن يصح استلحاقهما، [أي]: سواء كانا مسلمين أو مسلماً وكافراً [أو

حرين] أو حر وعبد أو ذكرين أو امرأتين، "ولأحدهما بينة، أي: بأنه ولد على فرشه عند تنازع رجلين، أو ولدته عند تنازع امرأتين- "قضى له"؛ عملاً بالبينة، ويلحق الولد في هذه الحالة زوج المستلحقة إن كان العلوق به منه ممكناً، ولو أقامت البينة على أنه ولدها ولم تتعرض للفراش، ففي ثبوت نسبه من الزوج وجهان عن حكاية أبي الفرج الزاز. قال: وإن لم يكن لواحد منهما بينة، أو لكل واحد منهما بينة- "عرض" الولد "على القافة"؛ لأن لها أثراً في الأنساب عند الاشتباه والاختلاف، كما ستعرفه في "باب ما يلحق به النسب". وفي "المهذب" حكاية وجه: أنه لا مدخل للقافة في الحاق الولد بأمه، وإنما يحكم بها في الإلحاق بالأب. ونسبه الماوردي إلى ابن أبي هريرةن وعلى الصحيح المنصوص- وهو دخولها فيه- إذا ألحقه بإحدى المرأتين عند عدم البينة فهل يلحق بزوجها؟ فيه وجهان في "الحاوي" و"النهاية"، والصحيح: اللحوق. ولا فرق فيما ذكره الشيخ عند إقامة البينة بين أن يقول: إذا تعارضت البينتان في الأموال، تسقطان أو تستعملان، [و] على قول الاستعمال في الأموال في كيفيته ثلاثة أقوال، لا يجيء منها هاهنا شيء؛ لأنه لا يمكن القسمة ولا الوقف، ولا مدخل للقرعة في النسب، وإنما يدخل في المال؛ لأن [البينة] ترجح باليد فجاز أن ترجح بالقرعة، والنسب بخلاف ذلك. قال القاضي أبو الطيب والحسين، والإمام وابن الصباغ، وغيرهم: لأن ترجيح إحدى البينتين يمكن بالقافة، وانتساب الطفل بعد البلوغ، وذلك أقرب من القرعة. وفي "المهذب" حكاية وجه، وهو المجزوم [به] في "تعليق" البندنيجي في

موضع منه، ويحكى عن الشيخ أبي حامد [أن] قول القرعة يأتي هاهنا – أيضاً- وأن من خرجت له القرعة هل يحلف معها؟ فيه وجهان. وفي موضع آخر من "تعليق" البندنيجي عند الكلام في تنازع المرأتين: أنه لا مدخل للقرعة في النسب؛ فإنه ليس على قول الشافعي موضع تسقط فيه الأقوال الثلاثة إلا هذا المكان. ثم أثر استعمال البينة عند إلحاق القائف، أو انتساب الطفل، أو عند خروج القرعة- إن اعتبرناها تظهر فيما لو كان المتنازع في اللقيط امرأتين، ولكل منهما زوج؛ فإنا نلحق الولد بزوج من ألحقه القائف بها، أو انتسب إليها الطفل، أو خرجت عليها القرعة، وإن ماتت إحداهما أو زوجها، وقف من مال الميت نصيب ولد إلى أن يوجد القائف أو ينتسب الطفل. وحكى الماوردي عن ابن أبي هريرة: أنا إذا قلنا بالتساقط عند تعارض البينتين لا نقول به هاهنا. والفرق: أنهما لما تكافأتا في الأملاك، ولم يكن ما يرجح يد أحداهما جاز أن تسقطا، ولما أمكن ترجيح إحداهما في الانتساب بالقافة، لم تسقطا، وحكم لمن انضم إلى بينته بيان القافة. قال: فإن كان لأحدهما يد، لم تقدم بينته باليد [فإن ألحقته القافة بأحدهما لحق به]؛ لأنها لا تدل على النسب فلا ترجيح بها، بخلاف يد المال؛ فإنها تدل على الملك عند تجردها فرجحت البينة بها. وعن "الإيضاح" للمسعودي، و"أمالي" أبي الفرج الزاز: أن أحدهما لو أقام بينة على أنه في يده منذ سنة، والثاني على أنه في يده منذ شهر، وتنازعا في نسبه- فالتي هي أسبق تاريخاً أولى. وهذا كلام لا طائل تحته. واعلم أنه لا فرق فيما ذكره الشيخ بين أن تكون اليد للملتقط [أو لغيره، نعم: لو كانت اليد للملتقط]، وقد استلحقه، وحكمنا له بالنسب ثم ادعاه آخر-

فإنه يعرض مع الثاني على القائف: فإن نفاه عنه [بقي لاحقاً بالأول، وإن ألحقه بالثاني عرض مع الملتقط عليه: فإن نفاه عنه]، فهو للثاني، وإن ألحقه به، فقد تعذر العمل بقول القائفن فيوقف- كما سنذكره- وهذا ما حكاه الرافعي عن الشافعين وبه جزم البندنيجي. وقيل: يعرض عليها دفعة واحدة كما لو تداعياه معاً. وإن كان صاحب اليد غير الملتقط، وقد استلحقه وحكم له بالنسب، ثم جاء آخر وادعى نسبه؛ فقد حكى الإمام [و] الغزالي: أنه لا يلتفت إلى الثاني؛ لثبوت النسب من الأول معتضداً باليد. وإن لم يسمع استلحاقه إلا بعد ما جاء الثاني واستلحقه، ففيه وجهان: أحدهما: يقدم صاحب اليد كما يقدم استلحاقه. وأشبههما: التساوي؛ لأن الغالب من حال الأب أنه يذكر نسب ولده، ويشهره؛ فإذا لم يفعل، صارت يده كيد الملتقط في أنها لا تدل على النسب. وحكى العمراني عن ابن القطان أنه قال: إذا ادعى رجلان نسب لقيط فهل يقدم السابق بالدعوى، وكذا هل يقدم صاحب اليد بها؟ فيه وجهان: منهم من قال: يقدم. فعلى هذا إذا سبق واحد وادعى ثبت نسبه، ولو كان في يد غيره، فلو ادعى نسبه بعد ذلك آخر لم يقبل وإن كان في يد المدعي ثانياً. ولو ادعى [رجلان] نسبه معاً وكان في يد أحدهما قدم صاحبه اليد به. ومنهم من قال في أصل المسألة: السابق والمتأخر سواء، ولا يقدم أحد باليد؛ بل يرى القائف. فرع: إذا كذب أحد المدعين نفسه في دعواه النسب، وبقي الآخر مصراً عليه – قال العراقيون في أوائل كتاب الجنايات: إن نسب اللقيط يتعين من الآخر. وحكى الفوراني في "الإبانة" ذلك قولاً مع قول آخر: أنه لا يتعين؛ بل يصير كما لو ولطئ رجلان امرأة، فأتت بولد يمكن أن يكون منهما، ونفاه أحدهما عن

نفسه بغير لعان، وادعاه الآخر- فإنه لا يلحق بالمدعي بمجرد ذلك، ولا ينتفي عن الثاني؛ بل يعرض على القائف. وفي "التهذيب" حكاية وجه في الصورة الأخرى. قال: فإن ألحقته [القافة] بهما، أو نفته عنهما، أو أشكل عليها، [أو] لم تكن قافة- ترك حتى يبلغ فينتسب إلى من تميل إليه نفسه"؛ لما سيظهر في "باب ما يلحق به النسب". وقد حكى الماوردي قولاً: أنه لا ينتظر البلوغ؛ بل سن التمييز سبع سنين أو ثمان، وهو مذكور ثم عن القديم. ثم نفقة اللقيط في مدة الانتظار عليهما، فإذا انتسب إلى أحدهما، رجع عليه الآخر بما أنفق إن كان الإنفاق بإذن الحاكم، كما قيده الرافعي في الباب الثاني من العدد. وفي "تعليق" البندنيجي: أنه لا رجوع لمن لم ينتسب الولد إليه؛ لأنه يقول: ما أنفقت إلا على ولدي. وهذا بين. ولو وجد القائف بعد الانتساب، فألحقه بغير من انتسب إليه- قدم من ألحقه القائف به. وفيه وجه: أنه لا ينقض ما فعل، كما ستعرفه في "باب ما يلحق به النسب". وعن أبي إسحاق- فيما رواه ابن كج-: أن الانتساب يقدم على قول القائف. قال: وعلى هذا إذا ألحقه القائف بأحدهما كان للآخر أن ينازعه، ويقول: ينتظر حتى يبلغ؛ فينتسب. ولو أقام أحدهما بينة وألحقه القائف بالآخر فالعمل بالبينة. ولو ألحقه القائف [بأحدهما]، فبلغ، وانتسب إلى غيرهما فهل يقبل منه؟ فيه وجهان في "الحاوي".

وأكثر الفروع المذكور هاهنا في الكتب مذكورة في "باب ما يلحق به النسب" فما أخللت بذكره هنا فليطلب [ثَمَّ]. قال: "وإن ادعى رجل رقه" أي: من ملتقط وغيره كما صرح به في "الحاوي" "لم يقبل" أي، قوله؛ لأن الظاهر حريته، وفي قبول خلافه إضرار باللقيط. ويخالف ما إذا ادعى نسبه حيث يقبل؛ لأن اللقيط لا نسب له فجاز أن يثبت بالدعوى مع أنه لا ضرر فيه، بل يثبت للقيط حقاً. وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه إن ادعى رقه قبل أن يلتقط قبل كما في دعوى [النسب]، والذي عليه الأكثرون الأول. وفي "الرافعي": أن اللقيط لو ادعى رقه، وهو في يده، قبل على أحد القولين، وبه جزم الفوراني كما في يد غيره. ثم إذا بلغ! وأنكر الرق، فهل يستمر على الرق أو يكون القول قوله؟ فيه وجهان، وأصح القولين وبه أجاب في "الصرف": أنه لا يقبل، بل يحتاج إلى البينة، كما ذكره الشيخ. قال: إلا ببينة تشهد بأن أمته ولدته" أي: فلا تكفي البينة بأنه ملكه مطلقاً؛ لأن البينة قد يكون اعتمادها على ظاهر يد كانت عليه، وتكون اليد يد التقاط، وأمر الرق صعب خطير؛ فاحتيج فيه إلى الاحتياط. فإذا شهدت البينة بأن أمته ولدته عرف عدم استنادها إلى ظاهر اليد، والغالب أن ما تلده أمة الإنسان ملكه؛ فحكم له بالملك، وهذا ما نص عليه في "المختصر" هنا، وأنه يكفي في ذلك شاهدان، [أو شاهد] وامرأتان، أو أربع نسوة. قال الماوردي: وتكون شهادتهن بملك الأم؛ عند الولادة مقبولة [تبعاً] للشهادة بالولادة، وهذا إذا لم يكن في ملك الأم منازع، فإن نوزع فيه لم تقبل شهادتهن

بملك الأم فإذا ثبت ملكه لها سمعت شهادتهن بالولادة. قال: "و [قيل] فيه قول آخر: أنه لا يقبل حتى تشهد بأن أمته ولدته في ملكه"، وهذا نصه في كتاب الدعاوى؛ لأن من اشترى جارية قد ولدت أولاداً يصدق أن يقال: بأن أمته ولدتهم، وليسوا ملكاً له، فإذا تعرضت بأنها ولدته في ملكه انتفى هذا الاحتمال، وهذا ما جزم به البندنيجي، وقال: إنه يكفي في ذلك شهادة رجلين، ورجل وامرأتين، وأربع نسوة. وقال الإمام: لا تكفي هذه الشهادة أيضاً؛ لأن أمته قد تلد في ملكه حراً بالشبهة ومملوكاً للغير بوصية، ولا خلاف في أنها إذا شهدت أن أمته ولدته مملوكاً له أنه يكفي، ويقوم مقام ذلك إضافة الملك إلى السبي أو الشراء أو الهبة مع الإقباض، ولا بد في هذه الشهادة من رجل. وقد قيل: إنه تكفي الشهادة بالملك المطلق كما لو شهدت في دار أو دابة أو غيرهما، ويحكى هذا عن نصه في الدعاوى، وعن القديم، وأن المزني اختاره، وكذلك ابن كج وأبو الفرج الزاز. لكن الذي اختاره الإمام، والبغوي والروياني وآخرون: أن الإطلاق لا يكفي. وحكى البندنيجي أن بعضهم حمل النصين على حالين: فحيث قال: تكفي، فذاك إذا كانت الدعوى قبل الحكم بحريته. وحيث قال لا تكفي، فذاك إذا كانت الدعوى بعد الحكم بحريته. وأنه ليس بشيء، وأن محل الخلاف في السماع مطلقاً إذا كان المدعى لرقه غير الملتقط، أما إذا كان هو الملتقط فلا يسمع وجهاً واحداً. وقال الإمام: محلهما إذا كان المدعي هو الملتقط، أما إذا كان غيره، فيسمع وجهاً واحداً. والذي عليه الجمهور: أنه لا فرق، والصحيح في "الوجيز"، والمذهب في "تعليق" القاضي أبي الطيب: ما ذكره الشيخ أولاً، وبعضهم جزم به، وحمل نصه في الدعاوى على التأكيد. فرع: إذا كان المدعي لرقه هو الملتقط، ولم يثبت رقه، قال في "الحاوي": يقر في يده مع ماله ولا ينزع منه؛ لما استحقه من كفالته بالالتقاط، وعزا ذلك

إلى نقل المزني في "الجامع"، ثم قال: والذي أراه أن انتزاعه من يده واجب؛ لأنه قد خرج بدعوى رقه عن الأمانة في كفالته، وربما صارت استدامة يده ذريعة إلى تحقيق رقه. آخر: لو شهدت البينة لمدعي الرق باليد، قال في "المهذب": إن كان المدعي الملتقط، لم يحكم له، وإن كان غيره فقولان، وكذا هما في "الحاوي"- أيضاً- لكنه قيد الصورة بما إذا شهدوا باليد قبل الالتقاط: أحدهما: لا يحكم بأنها موجبة للملك كما لا يحكم بها للملتقط؛ لتغليظه حال اللقيط. قال الماوردي: فعلى هذا هل يبقى في يده؟ فيه ما تقدم. والقول الثاني- ذكره المزني في "جامعه الكبير"-: أنه يحكم له برقه بعد حلفه إنه كان في يده رقيقاً، بخلاف الملتقط؛ لأن في إقراره بأنه لقيط تكذيباً لشهوده بأن اليد موجبة للملك. ثم إحلافه هل هو واجب أم مستحب؟ فيه وجهان. والمذكور في "الشامل": أن غير الملتقط إذا أقام بينة، شهدت له باليد، حكم له باليد، وكان القول قوله مع يمينه، وكذا هو في "تعليق" القاضيين أبي الطيب والحسين، وفي "التتمة". وحكى الرافعي عن "الشامل" وغيره: أن المدعي إن أقام البينة على أنه كان في يده قبل [أن] التقطه الملتقط، قبلت، وتثبت يده، ثم يصدق في دعوى الرق؛ لأن من ثبتت يده على صغير مجهول الحال، وادعى رقه حكم له به؛ إذا لم يكن في يده غير التقاط، وبمثله أجاب صاحب "التهذيب" فيما إذا أقام الملتقط بينة على أنه كان في يده قبل أن التقطه. لكن روى ابن كج في هذه الصورة عن النص: أنه لا يرق حتى يقيم البينة على سبب الملك؛ لأنه لما اعترف بأنه التقطه فكأنه أقر بالحرية ظاهراً؛ فلا تزال إلا عن تحقيق.

قلت: وقضية ما حكيته آنفاً عن الرافعي وغيره في قبول قول من ادعى رق اللقيط وهو في يده: أن يجري هاهنا: فيقال: إن أقام غير الملتقط البينة بأنه كان في يده [حكم له بها، ويكون القول قوله في رقه مع يمينه جزماً. وإن أقام الملتقط البينة بأنه كان في يده]، فإن قبلنا قوله في دعواه الرق إذا كان في يده، حكم له باليد، وحلف على رقه، وإلا فلا، ولم أر ذلك لأحد من الأصحاب. فرع: إذا كان مجهول النسب غير لقيط، فادعى رجل أنه مملوكه، وكان طفلاً لا يعقل- حكمنا أنه ملكه. وإن كان عاقلاً مراهقاً، وادعاه وأنكر الصبي ذلك- فهل يحكم له به أم لا؟ على وجهين في "تعليق" البندنيجين وبناهما غيره على الوجهين في المولود إذا ادعاه اثنان ولا قائف، هل يؤمر بالانتساب لسن التمييز أم ينتظر بلوغه؟ وفي "الحاوي أن الخنثى المشكل: هل يراجع لسن التمييز أم ينتظر بلوغه؟ وعلى قول القبول- وهو المشهور من قول الشافعي-: أنه كالثوب لابد من اليمين؛ لخطر شأن الحرية. وهل ذلك مستحب أو واجب؟ فيه خلاف، والأول يحكى عن النص. ثم إذا بلغ، وأقر بالرق لغير صاحب اليد، لم يقبل. وإن قال: أنا حر، فوجهان: أصحهما- وبه أجاب ابن الحداد-: أنه لا يقبل إلا ببينة، وله تحليف السيد. والثاني: وبه قال أبو علي الثقفي: أنه يقبل. والوجهان عند الشيخ أبي علي مبنيان [على القولين] فيمن حكم بإسلامه بأبيه أو بالسابي، ثم بلغ، واعترف بالكفر هل يقبل؟ قال: "وإن قتل اللقيط عمداً، فللإمام أن يقتص من القاتل إن رأى ذلك، وله أن يأخذ الدية إن رأى ذلك" أي: سواء كان القاتل عبداً أو حراً، صدق على حرية اللقيط وإسلامه أو كذب؛ لأنه محكوم بإسلامه وحريته، ولا وارث له؛ فكان حق القصاص للمسلمين، ولنائبهم- وهو الإمام- العمل بما فيه المصلحة، وهذا هو المذكور في كتب العراقيين، وبه قطع بعض الأصحاب كما حكاه أبو الفرج

الزاز، ونفى [أن يكون] في المسألة خلاف. وحكى المراوزة قولاً آخر: أنه لا قود على القاتل؛ لأنه قد يدرأ بالشبهة. ووجهه المتولي: بأن الإنسان لا يخلو عن ابن عم وإن تباعد عنه، والحق له على القاتل، ولا ندري حاله، ومن الجائز أنه طفل أو مجنون. ووجهه غيره: بأنه لو وجب، لوجب لعامة المسلمين. ومنهم من لا يستوفي القصاص، وهم الصبيان والمجانين، وأبطل صاحب "التقريب" هذه العلة؛ بأن الاستحقاق منسوب لجهة الإسلام لا على آحاد المسلمين، ولهذا لو أوصى من لا وارث له خاصاً [لجماعة] المسلمين، لا تجعل وصيته لارث، وقال: إن الخلاف مبني على أن اللقيط تجري عليه أحكام الإسلام، أو تتوقف فيه إلى أن يعترف بالإسلام؟ فإن قلنا بالأول، أوجبنا القصاص، وإن قلنا بالثاني، فقد فات الاعتراف بقتله فلا يجب. قلت: وما قاله من الاستشهاد بمسألة الوصية قد يمنعه القائل بالأول؛ فإن لبعض أصحابنا وجهاً: أنه لا تصح الوصية- كما سنقف عليه في موضعه- وخرج الماوردي الخلاف في فصل آخر على القولين في أن اللقيط محكوم بحريته ظاهراً، أم هو مجهول الأصل كما تقدم. وحكى الماوردي في موضع آخر: أن بعض أصحابنا كان يجعل القولين على حالين، ويقول: إن قتله قبل البلوغ وجب القود، وإن كان بعد البلوغ، فلا؛ لأنه كان يقدر على إظهار حاله. ثم قال: وهذا الفرق مسلوب المعنى؛ لأنه إن اعتبر حال الشبهة، ففي الحالين، وإن اعتبر حال الظاهر، ففي الحالين؛ فلم يكن للفرق بينهما وجه. وهذا منه يدل على اعتقاده إجراء القولين في حال الصغر والكبر، لكن كلام الشيخ في حال الصغر، وأما حال الكبر فسيأتي، وقد نسب القاضي الحسين والإمام قول عدم وجوب القصاص إلى رواية البويطي، والمتولي إلى رواية الربيع. قال الرافعي: والمفهوم من كلام المعظم أنه غير منصوص عليه، جاء في

المسألة بخصوصها ولكن قال قائلون: اللقيط لا وارث له، وقد روى البويطي قولاً: أنه لا قصاص بقتل من لا وارث له. فيتناول اللقيط تناول العموم الخصوص. وعن أبي الطيب بن سلمة والقفال تخليجه من أحد القولين في أن من قذف اللقيط بعد بلوغه لا يحد، أما إذا قتل اللقيط خطأ [أو عمد خطأ] فالواجب فيه دية حر، توضع في بيت المال ميراثاً للمسلمين؛ كما يتحمل بيت المال جنايته الخطأ. وقد حكى القاضي الحسين في كتاب الوصية: أن [مال] من لا وارث له من المسلمين يكون سبيله سبيل المال الضائع، ويشبه أن يجيء مثله في ديته. قال الرافعي: وقياس من قال بالتوقف في أحكام اللقيط ألا يوجب الدية الكاملة، ولم أَرَ [من] ذكره. وفي ابن يونس حكاية قولين عن رواية البصريين: أحدهما: تجب فيه دية الحر. والثاني: يوقف إلى أن يتبين أنه حر أم عبد، وهما مذكوران في "الإبانة"، وحكاهما القاضي الحسين أيضاً، وقال: إن المذهب الأول. وحكى الرافعي في موضع آخر من الباب قولاً أن الواجب أقل من الأمرين من الدية والقيمة؛ بناءً على أن الحرية غير مستيقنة، فلا يؤاخذ الجاني بما لا يستيقن شَغْل ذمته به. قال الإمام: وقياس هذا أن يوجب الأقل من قيمة عبد أو دية مجوسي؛ لإمكان الحمل على التمجُّس. قال: [وإن] قطع طرفه عمداً، وهو موسر، انتظر حتى يبلغ؛ كي لا يفوت عليه حق التشفِّي والانتقام، وقد ادعى الإمام نفي الخلاف فيه إذا كان عاقلاً مميزاً، وهكذا لو كان معتوهاً موسراً. وقيل: للإمام في هذه الحالة أن يعفو على مال، حكاه الماوردي.

[و] عن القفال: أن له في حال جنونه أن يقتص، وعلى المذهب: يحبس القاطع إلى أوان الإفاقة؛ كما يحبس إلى أوان البلوغ. قال: "وإن كان معسراً: فإن كان معتوهاً، كان للإمام أن يعفو على مال يأخذه، وينفقه عليه". أشار الشيخ بهذه التتمة إلى علة الحكم، وهي الحاجة إلى النفقة، مع أن العَتَهَ يخفي وقت زواله، وهذا نصه في "المختصر"، وادعى الإمام نفي خلافه، لكنه زاد في القيود: أن يتحقق مسيس الحاجة إلى المال، [ويبعد] توقع الإفاقة. وقال المتولي: ليس تتضح هذه المسألة إلا على قول لنا: أن موجب العمد أحد الأمرين، وأن اللقيط إذا لم يكن له مال، فلا يجب على المسلمين نفقته، وإنما يجب إقراضه؛ فيجوز استيفاء المال على طريق المصلحة؛ لأنه أولى من الاستقراض، وربما لا يوجد من يقرضه. وعلى هذا: يجوز له أن يقتص على [وجه]، وهو مطرد في موضع جوزنا له أن يعفو على مال؛ لأنه أحد البدلين فكان له استيفاؤه. وقيل: ليس له العفو على مال. قال: "وإن كان عاقلاً، انتظر حتى يبلغ"؛ لما ذكرناه، وفي "الحاوي" حكاية وجه: أن له العفو؛ نظراً للحاجة إلى النفقة. قال المتولي: فعلى هذا: لو بلغ، واختار أن يرد الدية، ويقتص، ففيه وجهان؛ كالوجهين فيما إذا عفا وليه عن شفعته لمصلحة، ثم بلغ، وأراد الأخذ بها، وصاحب "التقريب" بناهما على أن أخذ المال عفو كلي وإسقاط للقصاص، أم أخذُ المال سببه الحيلولة لتعذر استيفاء القصاص الواجب؟ وما ذكرناه في أخذ الأرش للقيط يجري في كل طفل يليه أبوه أو جده. وحكى الإمام عن شيخه: أنه ليس للوصي أخذه، قال: وهو حسن إن جعلناه إسقاطاً، أما إذا جوزناه للحيلولة، فينبغي أن يجوز للوصي أيضاً.

واعلم: أنه لا فرق فيما ذكره الشيخ بين أن يعترف الجاني بحرية اللقيط وإسلامه أو يجحدهما، ويجيء فيه قول آخر- بناءً على مأخذ صاحب "الحاوي"، وأبي الطيب بن سلمة-: أنه لا يجب القصاص، وعلى مأخذ صاحب "التقريب": إن بلغ فأعرب بالإسلام، بان وجوبه، وإلا بان عدمه. قال: "وإن بلغ، فقذفه رجل، وادعى بأنه عبد، وقال اللقيط: بل أنا حر- ففيه قولان" أي: منصوصان في "المختصر": أصحهما: أن القول قول القاذف" أي: في درء الحد؛ لأنه يحتمل أن يكون عبداً، والأصل براءة الذمة من الحد مع أنه يسقط بالشبهة، وهذا ما نص عليه في اللعان. ومنهم من جزم به؛ بناءً على أن اللقيط غير محكوم بحريته ظاهراً، فعلى هذا يجب عليه التعزير. والقول الثاني: أن القول قول اللقيط؛ لأنا حكمنا بحريته ظاهراً؛ فلا ننقضها بالدعوى. وأيضاً: فكما وجب القصاص بالجناية عليه فكذلك يجب الحد بقذفه. وهذا ما نص عليه هنا، واختاره المزني، وصححه الشيخ أبو علي، ومنهم من قطع به، وحمل الأول على مجهول لم تعرف حريته بالدار. ومن جزم بالأول، فرق بين القذف والقتل إن سلّم وجوبه: بأن المقذوف حي يمكنه إقامة البينة على حريته؛ فإذا عجز عنها، ضعف حاله، والمقتول لا يقدر على إقامة البينة بعد قتله؛ فعمل فيه ظاهر حاله كالدية. ولا خلاف أن اللقيط لو سكت بعد القذف، ولم يدع الحرية، وطالب بالحد: أنه لا يجب، صرح به الماوردي وغيره. قال: "وإن جنى عليه حر" أي: بأن قطع طرفه، وقال: أنت عبد، وقال: بل أنا حر- فالقول قول اللقيط، فيحلف، ويقتص منه؛ لأن القصاص وجب من جهة الظاهر والقيمة مشكوك فيها، فلو تركنا القصاص إلى الدية عدلنا من الظاهر إلى مشكوك فيه، وذلك ممتنع. وتخالف المسألة قبلها؛ لأن التعزير ثَمَّ واجب،

وهو بعض الحد فهو متيقن، فإذا تركنا إليه، عدلنا من الظاهر إلى يقين ولأن القصد من القذف الزجر، والتعزير يحصله، ومن القصاص التشفي، وهو لا يحصل بالمال، ولأن القصاص آكد ثبوتاً من حد القذف، بدليل ثبوته لغير العفيف وللصغير على الكبير، بخلاف حد القذف، وهذا ما نص عليه. "وقيل: فيه قولان؛ كالقذف"، والجامع: قدرة اللقيط على إقامة البينة على الحرية، وهذه الطريقة التي أوردها الفوراني. قال: وإن بلغ القيط، ووصف الكفر: فإن كان قد حكم بإسلامه تبعاً لأبيه، [فالمنصوص: أنه لا يقر عليه. أشار الشيخ بهذا الفصل إلى أمرين: أحدهما: أن إسلام الطفل يحكم به تبعاً لأبيه]. والثاني: أنه إذا وصف الكفر بعد ذلك وبعد بلوغه، هل يقر عليه أم لا؟ والثاني مرتب على الأول، فنقول: إذا أسلم الأبوان قبل بلوغ الطفل، حم بإسلامه، سواء كان لقيطاً وغير لقيط، وهذا مما لم يختلف العلماء فيه؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]، وهكذا الحكم فيما إذا أسلم الأب. وسواء كانا في دار واحدة، أو كان الأب في دار الكفر والابن في دار الإسلام، كما قاله القاضي في "الفتاوى". وصوره بما إذا سبي الصغير مع أمه. وأما إذا أسلمت الأم والأب كافر، فهو عندنا كذلك، خلافاً لمالك؛ فإنه أتبعه بأبيه في الكفر، ولم يتبعه لأمه في الإسلام كما لا يتبعها في الأمان، ولنا عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الإِسْلامُ يَعْلُو وَلا يُعْلَى عَلَيْهِ". وقوله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ؛ كَمَا تنْتجُ الْإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ، هَلْ [تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ]؟! " قال: يا رسول الله،

أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: "اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ"، فأخبر أن الأبوين معاً يهودان الصبي، وينصرانه، [وعنده يهوده أحدهما]. ومعنى قوله: "يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ" أي: على الإقرار بأن الله [تعالى] خالقه، وضرب لليهود والنصارى مثلاً بالإبل إذا أُنتجت من بهيمة جمعاء- أي: سليمة- سميت بذلك؛ لاجتماع السلامة لها في أعضائها، فتُجدع أنوف نتاجها، وتفقأ عيونها. وأيضاً: فإنه يتبع الأم إذا كان حملاً فيتبعها إذا انفصل؛ كالأب، مع أنه يتبعها في الرق والحرية؛ لكونه منها حقيقة، فكانت التبعية بها في الإسلام أولى، ولبعض أصحابنا شيء في تبعيته للأم سنذكره في قتال المشركين، إن شاء الله تعالى. ولا فرق عندنا في ذلك بين أن يبلغ الصبي سن التمييز، ويحكم بإسلامه إذا اعترف به أم لا، وإن كان لأصحاب أبي حنيفة تردد في منعه. قال الإمام: وهو موضع التردد؛ لأن الجمع بين إمكان الاستقلال وبين إثبات التبعية بعيد؛ فإن البالغ العاقل لما قدر على الاستقلال، لم يتبع غيره في الإسلام اتفاقاً. وحكم من بلغ مجنوناً، ثم استمر إلى أن أسلم أحد أبويه- حكم الصغير عندنا. ولو كان مجنوناً عند الإسلام، وقد بلغ عاقلاً، ففي تبعيته وجهان، أصحهما في "تعليق" القاضي الحسين الاستتباع-[أيضاً- كما] أن الأصح عود ولاية المال لأبيه. وهو الذي ذهب إليه أكثر الأصحاب كما قال الماوردي، وجعله القاضي أبو الطيب والمصنف في كتاب السير المذهب.

ولو كان عند الإسلام بالغاً [عاقلاً]، ثم جن بعد ذلك، فهو كافر. وإسلام الجد وإن علا من قبل الأبوين عند فقد مَنْ دونه، وكذا الجدة وإن علت من قبل الأبوين عند فقد من دونها- كإسلام الأب والأم في التبعية. ولو كان ثم من هو أقرب منهما كافراً: كما إذا أسلم الجدُّ، والأبُ كافرٌ، أو الجدة، والأم كافرة، أو الجدة، والأب كافر- ففي الحكم بتبعية الولد في الإسلام وجهان: أقربها في "الرافعي": الاستتباع؛ لأن سبب التبعية القرابة، ولأنها لا تختلف بحياة الأب وموته؛ كسقوط القصاص، وحد القذف. والمذهب في "تعليق" القاضي الحسين: عدمه. وسنذكر في باب قتال المشركين طريقين آخرين فيه. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب في باب دعوى الأعاجم: أن القاضي أبا الطيب قال: سمعت أبا الحسين الماسرجسي يقول: سمعت أبا علي بن أبي هريرة يقول: إذا كان الصغير ذميّاً، فأسلم جده، هل يكون إسلاماً له؟ فيه وجهان لأصحابنا، ووجه المنع: أن إسلام الجد لو كان إسلاماً له، لوجب أن يحكم بإسلام جميع الأطفال بإسلام جدهم آدم؛ لأنه جد الأجداد. والماوردي حكى في الباب المذكور في تبعية ولد الولد لجده أو جدته ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كان الأب أو الأم موجوداً، لم يتبع، وإلا تبع، [قال القاضي الحسين في باب دعوى الأعاجم: والوجهان في تبعية الجد دون الأب يجريان في انعقاده مسلماً إذا تقدم إسلام الجد وبقي الأب كافراً عند العلوق]. وإذا حكمنا بإسلامه تبعاً، أجرينا عليه جميع أحكام الإسلام، حتى لو كان عبداً أجزأ عتقه عن كفارة الظهار وغيرها، وكان للمعتق وطء المرأة المظاهر عنها في الحال. فإذا تقرر ذلك، فبلغ الصبي، وعقل المجنون، ووصف الكفر- فالمنصوص في كتاب [السير]: المرتد الكبير أنه لا يقر عليه، ويقتل بالردة. وسواء حصل

إسلام الأبوين بعد العلوق وقبل الانفصال، أو بعد الانفصال- كما صرح به الإمام- لأنه سبق الحكم بإسلامه جزماً في الظاهر والباطن؛ فأشبه من باشر الإسلام، ثم ارتد. ومن أسلم أحد أبويه قبل العلوق، فإنه لا خلاف أنه لا يقر عليه، وخرج فيه قول آخر- أي من المسألة بعدها-: أنه يقر عليه؛ لأنه كان محكوماً بكفره حين خلق، فأزيل ذلك بطريق التبعية، فإذا استقل، انقطعت؛ فوجب أن يعتبر بنفسه. وهذا ما ادعى الإمام أنَّ مَيْلَ ظاهر النص الذي نقله المزني إليه، ومنهم من لم يثبت هذا القول أصلاً، وقطع بالأول. فعلى هذا: لا يجب عليه إذا بلغ أو أفاق أن يتلفظ [بكلمة الإسلام ولا ببعض شيء مما أمضيناه من أحكام الإسلام. وعلى الثاني: يجب عليه أن يتلفظ] بكلمة الإسلام بعد البلوغ والإفاقة، حتى لو مات، مات كافراً، [كما] صرح به الرافعي في كتاب الظهار، وهل ينقض ما جرى من الأحكام؟ فيه وجهان: أحدهما: لا. وأظهرهما: أنا [لا] نتبين الانتقاض، ويستدرك ما أمكن استدراكه حتى يسترد ما أخذه [منه] من النفقة من بيت المال كما حكيناه عن النص، وما أخذه من تركة قريبه المسلم، ويأخذ من تركة قريبة الكافر ما حرمناه منه، ويحكم بأن عتقه عن الكفارة لم يقع مجزئاً، ثم ينظر: فإن كان الكفر الذي كان عليه مما يقر عليه بالجزية، فلا نقاتله، ونقره بالجزية، وإن كان لا يقر عليه، ألحقناه بدار الحرب، فلو كان على اليهودية، وأراد أن ينتقل إلى النصرانية، فهو كمن انتقل من دين إلى دين، ومحله نكاح المشركات. وحكم المحكوم بإسلامه تبعاً للسابي- كما ذكره الشيخ في قتال المشركين- حكم المحكوم بإسلامه تبعاً لأبيه، صرح به القاضي الحسين وغيره. قال: وإن حكم بإسلامه تبعاً للدار، ثم بلغ ووصف الكفر- فالمنصوص:

أنه يقال له: لا نقبل منك إلا الإسلام. ويفزعه، فإن أقام على الكفر، قبل منه؛ لأنا إنما حكمنا بإسلامه ظاهراً، واختياره عن نفسه أقوى منه، ومما يدل على أن الحكم بإسلامه ظاهراً: أنه لو ادعاه كافر، وقامت بينة على أنه ابنه، حكم بكونه كافراً، ويخالف المسألة قبلها؛ فإنه ثَمَّ مقطوع بإسلامه ظاهراً وباطناً، وكذلك يفارق المسبي؛ لأنا حكمنا بإسلامه تبعاً للسابي، مع علمنا بأن أبويه كافران، وهذا ما اختاره في "المرشد". قال: "وخرج فيه قول آخر: أنه كالمحكوم بإسلامه بأبيه"، والجامع: الحكم بإسلامه ظاهراً، والقائل بظاهر النص هو أبو إسحاق. ومن التعليل الذي ذكرناه يظهر لك: أن محل الخلاف إذا حكم بإسلامه تبعاً للدار وفيها كفار، أما إذا لم يكن فيه كفار أصلاً، فهو محكوم بإسلامه ظاهراً وباطناً؛ فلا يقر على كفره قولاً واحداً، كما صرح [به] الماوردي، وذكر تفصيلاً في أصل المسألة: وهو أنه إذا أبى إلا أن يكون مشركاً، سئل عن سبب شركه؟ فإن قال: لأن أبي [مشرك] وصرت إلى أتباع أبي، ترك لما اختاره لاحتماله، وأجري عليه أحكام الشرك، وإن قال: لست أعلم دين أبي: هل هو الإسلام أو غيره؟ ولكني أختار الشرك؛ ميلاً إليه ورغبة فيه- فهو محل الخلاف، والأصح: أنه لا يقبل منه، ويجعل إن أقام على ذلك مرتدّاً. قال: "فإن بلغ، وسكت، وقتله مسلم، [فقد قيل:] لا قَوَد عليه؛ لأنه يحتمل أنه لم يصف الإسلام لاعتقاده الكفر، والقصاص يسقط بالشبهة، وهذا هو المنصوص، والمختار في "المهذب" و"المرشد". "وقيل: يجب"؛ لأنه محكوم بإسلامه؛ فوجب على قاتله القود كما قبل البلوغ. والقائل الأول فرق بأنه حينئذ محكوم بإسلامه تبعاً، وقد انقطعت التبعية بالبلوغ. والقولان مبنيان على أنه لو اعترف بالكفر، هل يكون مرتدّاً أو كافراً أصليّاً؟ إن قلنا بالأول، وجب القصاص، وإلا فلا.

قال الرافعي: لكن الأظهر منع القصاص، وإن كان الأظهر كونه مرتدّاً تعليلاً بالشهبة. وهذا منه إشارة إلى حالة الحكم بإسلامه تبعاً لأبيه أو السابي، وهي الصورة التي حكي في "المهذب" فيها الخلاف، وإلا إذا حكمنا بإسلامه تبعاً للدار، فالأظهر أنه كافر أصلي. وحكى الإمام عن القاضي الحسين إجراء القول بمنع القصاص مع الحكم بأنه لو أعرب بالكفر لكان مرتدّاً. وعده من هفواته. قال: "وقيل: إن الحكم بإسلامه تبعاً لأبيه، فعليه القود، وإن حكم بإسلامه بالدار، فلا قود [عليه] "؛ لضعف هذا، وقوة ذلك، كما تقدم. والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ حكيا الخلاف في وجوب القود بقتل من حكم بإسلامه تبعاً لأبيه أو للسابي ثم قالا: فلو كان محكوماً بإسلامه والولد، فإن قلنا في الأولى لا يجب القصاص، فها هنا أولى، وإلا فوجهان، ثم حيث لا يجب القود فالذي أطلقه الأصحاب: أنه يجب دية مسلم، وقياس ما تقدم في حال الصغر لا يخفى. ولو مات اللقيط بعد البلوغ، وقبل إعرابه بالإسلام، ورثه قريبه المسلم. ولو مات له قريب مسلم، فإرثه منه موقوف، كذا حكاه القاضي الحسين. وقال الإمام: أما التوريث منه فيخرج على ما إذا مات قبل الإعراب: هل ينقض الحكم الذي جرى في الصغر أم لا؟ وأما توريثه: فإن عني بالتوقف أن يقال له: أعرب عن نفسك بالإسلام، فهو قريب، ويستفاد به الخروج من الخلاف. والذي حكاه غيره: أنه إذا مات له قريب مسلم قبل أن يعرب عن نفسه بشيء، أو أعتق عن الكفارة- فإن قلنا: لو أعرب عن نفسه بالكفر لكان مرتدّاً، أمضينا أحكام الإسلام. وإن كنا نجعله كافراً أصليّاً: فإن أعرب بالكفر تبينا أنه لا وارث له، ولا إجزاء عن الكفارة.

وإن فات الإعراب بموت أو قتل، فوجهان: أحدهما: إمضاء الحكم؛ كما لو مات في الصغر. وأظهرهما في "الرافعي": يبين الانتقاض؛ لأن سبب التبعية الصغر، وقد زال، ولم يظهر في الحال حكمه في نفسه؛ فرد الأمر إلى الكفر الأصلي. أما إذا بلغ، ومات، أو قتل قبل أن يتمكن من الإعراب فحكمه حكم ما لو كان ذلك قبل البلوغ، حكاه القاضي أبو الطيب هنا، والرافعي في كتاب الظهار. قال: "وإن بلغ وباع واشترى، ونكح، وطلق، وجنى وجني عليه، ثم أقر بالرق" أي]: وصدقه المقر له، ولم يسبق منه إقرار بالحرية- فقد قيل فيه قولان: أحدهما: يقبل إقراره؛ كما لو قدم رجل من بلاد الكفر لا يعرف نسبه فأقر بالرق، ولأن الإقرار أقوى من البينة، ولو قامت بينة على رقه، حكم بها، وكذلك إذا أقر. فعلى هذا: حكمه حكم الرقيق في جميع التصرفات في الماضي والمستقبل. ولو ادعى عليه رجل: أنه رقيق، فأنكره- كان له أن يحلفه. والثاني: لا يقبل"؛ لأنه محكوم بحريته بظاهر الدار، وقد تعلقت به حقوق الله تعالى والعباد؛ فلم يقبل إقراره بما يسقطها، كما لو أقر بالحرية ثم أقر بالرق؛ فإنه لا يقبل منه. فعلى هذا: لا أثر لإقراره في التصرفات في الماضي والمستقبل. قال الإمام: اللهم إلا أن يكون اللقيط عبداً، وقد نكح؛ فإن في ضمن إقراره اعترافاً بأنها محرمة عليه؛ فلا يمكن القول بحلِّها. ولو ادعى عليه رجل: أنه رقيقه، فأنكره- لم يكن له تحليفه؛ بناءً على الصحيح في أن اليمين مع النكول بمنزلة الإقرار، كما قاله ابن الصباغ، أما إذا جعلناها كالبينة فله التحليف؛ رجاء أن ينكل، فيحلف المدعي، ويستحق، قاله الرافعي. وهذه طريقة أبي الطيب بن سلمة. وقيل: إذا أقر بالرق بعد الاعتراف بالحرية، يقبل، وحكى الإمام عن الصيدلاني القطع [به]؛ تشبيهاً بما إذا أنكرت الزوجة الرجعة في العدة، ثم أقرت بها؛ [حيث يقبل، وفي "تعليق" القاضي الحسين- حكاية عن القفال- فيما إذا ادعى عليه الرق فأنكره، ثم عاد، واعترف به- قبل منه؛ كما لو أنكرت الزوجة الرجعة

في العدة ثم أقرت بها]. وهذا التشبيه أقرب. قال: "وقيل: يقبل إقراره قولاً واحداً"؛ لما ذكرناه، وهذا ما نص عليه عامة الأصحاب كما قاله ابن الصباغ. وقال البندنيجي: إنه المذهب، وذكر القاضي الحسين أن الشافعي نص عليه في "الأم"، قال: "وفي حكمه قولان: أحدهما: يقبل في جميع الأحكام"؛ لأنها فرع الرق؛ فتثبت بثبوته، وهذا أظهر عند الغزالي. والثاني: [يفصل] فيقبل فيما عليه ولا يقبل فيما له"؛ كما لو قال: لفلان علي ألف، ولي عنده رهن بها؛ فإنه يقبل فيما عليه دون ماله، ولأنه أقر بما يضره ويضر غيره، فقبل فيما يضره دون ما يضر غيره؛ كما إذا أقر بدين على غيره وعليه. وهذا هو الأصح عند المسعودي، والبغوي، والروياني، وبه أجاب ابن الحداد. أما التصرفات الصادرة بعد الحكم برقه، فحكمه فيها حكم الأرقاء على هذه الطريقة قولاً واحداً. وفي "النهاية": أن بعض الأصحاب طرد قول التفصيل بين ماي ضره، ويضر غيره في المستقبل أيضاً، لكن الصحيح الأول وعليه يفرع، فإذا صدرت منه عقود، لا يقبل قوله في [فساد [أعواضها]، فإن كان في يده مال، استوفيت منه، وإن كانت مبيعة كما إذا باع عيناً فسلمت للمشتري]، والثمن إن لم يكن قد استوفاه، استوفاه السيد، وكان يتجه أن يجب له أقل الأمرين من الثمن أو القيمة- كما سنذكر في المهر بعد الدخول- لكن الفرق أن الصداق ركن في العقد، بخلاف الثمن. وإن كان اللقيط امرأة فتزوجت، فالنكاح في حق الزوج كالصحيح، سواء كان ممن يحل له نكاح الإماء أم لا، كما صرح به البندنيجي وابن الصباغ والمتولي. وعن ابن كج: أنه إن كان ممن لا يحل له نكاح الإماء، حكمنا بانفساخ

النكاح، والأولاد منها قبل الإقرار بالرق أحرار، ولا يغرم الزوج قيمتهم، وللزوج الخيار في فسخ النكاح كما نص عليه في "المختصر"، فإن فسخ، سقط عنه المهر إن كان قبل الدخول، وإن كان بعده، وجب عليه أقل الأمرين من المسمى ومهر المثل، وهل يرجع به عليها إذا عتقت؟ فيه قولان في "تعليق" القاضي الحسين و"الحاوي"، وهما قولا الغرور. وإن أمسكها، ففي "التهذيب" و"تعليق" القاضي الحسين و"الحاوي": أن عليه المسمى، وأنه إن طلقها قبل الدخول، فعليه نصف المسمى، وقياس ما قاله في "المهذب" والبندنيجي: أن النكاح بالنسبة إليها فاسد- أن يجب عليه أقل الأمرين إن كان بعد الدخول، وإن كان قبله، فلا شيء عليه، وعلى كل حال فلو كان الزوج قد دفع المهر إليها، فلا يغرمه ثانياً، وما يحدث من الأولاد بعد ذلك أرقاء. قال المتولي: لأنه رضي بذلك حيث لم يفسخ. وقال الإمام: هذا ظاهر إذا قبلنا الإقرار فيما يضر بالغير في المستقبل، أما [إذا] أجرينا قول التفصيل في المستقبل- أيضاً- فيحتمل أن يقال بحريتهم؛ صيانة لحق الزوج فإنهم من مقاصد النكاح؛ كما أَدَمْنا النكاح صيانة لحق الزوج في الوطء وسائر المقاصد، ويحتمل أن يقال برقهم، وهو ظاهر ما طلقه الأصحاب؛ لأن العلوق أمر موهوم فلا يجعل مستحقّاً بالنكاح بخلاف الوطء، وتردد أيضاً في أنا إذا أدمنا النكاح فنسلمها تسليم الحرائر أو تسليم الإماء؟ والظاهر الأول. ولو طلق، نظر: إن كان الطلاق رجعيّاً فوجهان. الذي ذكره الأكثرون: أنها تعتدُّ بثلاثة أقراء، وله الرجعة فيها. والثاني: أن عليها الاعتداد بقُرْأين؛ لأن هذا حكم ثبت في المستقبل بعد ثبوت الرق. ولو كان اعترافها في أثناء العدة، أكملت عدة حرة. وهذا أصح عند أبي الفرج الزاز، وحكاه عن ابن سريج. ولو كان الطلاق بائناً، فأصح الوجهين: أن الحكم كما في الطلاق الرجعي؛

لأن العدة [فيهما] لا تختلف. والثاني: أنها تعتد عدة الإماء مطلقاً. وإذا فسخ الزوج نكاحها، فهو شبيه بالطلاق البائن، وإن مات عنها، فعدتها: شهران وخمس ليال؛ لأن عدة الوفاء تجب لحق الله- تعالى- ولا حق له فيها، وهذا إذا كان قبل الدخول [بها]؛ فإن جرى الدخول، فعليها الاستبراء. قال الإمام: والقول في أنه بقرء أو قرأين على الذي سبق. وقد ذكرته أنا في كتاب العدد. ولو كان اللقيط عبداً، وقد تزوج، حكمنا بانفساخ النكاح من الآن، فإن كان قبل الدخول، وجب لها نصف المهر، وإن كان بعده، وجب لها كله، ولو كان قد قتل عبداً عمداً، وجب عليه القصاص على القولين معاً، وكذا تجب القيمة في رقبته إن كان خطأ على القولين معاً؛ لأن وجوب القصاص وتعلق القيمة بالرقبة يضره ولا يضر غيره. وفي "التهذيب": أنه إن كان في يده مال، أخذ الأرش منه. قال الرافعي: وهو خلاف قياس القولين؛ لأن أرش الخطأ لا يتعلق بما في يد الجاني حرّاً كان أو عبداً. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أنا إن قلنا: يقبل إقراره فيما لا يضر غيره، فإن الدية تكون في بيت المال. ورجح ابن الصباغ الأولى، وقال: إن كانت قيمته أقل من أرش الجناية، فينبغي أن يجب الفاضل في بيت المال، ولا يسقط حقه منه بإقرار الجاني بالرق. وحكى الماوردي قولاً: أن الفاضل عن قدر قيمته يتعلق بذمته إلى أن يعتق؛ تفريعاً على ما عليه التفريع. ولو جنى عليه حر عمداً، لم يجب عليه القصاص، وإن قطع يد حر خطأ، وجب له عليه أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية إن قلنا: إن جراح العبد مقدرة. وفي "النهاية" حكاية وجه: أنه إذا كان نصف الدية أقل، وجب نصف القيمة، أما إذا أقر بالرق، ولم يسبق منه تصرف يناقض ما أقر به، قبل إقراره.

وعن رواية صاحب "التقريب" قول: أنه لا يقبل؛ لأنه محكوم بحريته بالدار؛ فلا يغير بإقراره؛ كمن حكم بإسلامه بالدار، ثم بلغ ووصف الكفر، ولو كذبه المقر له، سقط إقراره، فلو عاد، وصدقه، لم يسلم إليه. ولو أقر اللقيط بالرق لغيره، فالمذهب المنصوص: أنه لا يقبل، ويحكم بحريته، وبه جزم الفوراني؛ لأنه لما أقر للأول، كان تقديره: أنه لا يملكني أحد سواه، فإذا كذبه، خرج عن أن يكون مملوكاً لأحد؛ فصار ما لو أقر على نفسه بالحرية ثم أقر بالرق، وقد قيل: يقبل، وينسب إلى تخريج ابن سريج- كما حكاه البندنيجي- والله أعلم.

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء الثاني عشر يحتوي على الأبواب التالية: الوقف- الهبة- الوصية- العتق- التدبير الكتابة- عتق أم الولد- الولاء كتاب الفرائض

باب الوقف

بسم الله الرحمن الرحيم باب الوقف الوقف, والتحبيس, والتسبيل: بمعنىً, وهو في اللغة: الحبس, يقال: حبست الأرض, وأحبستها, ووقفت الأرض وغيرها, أقفها وقفًا, ولا يقال: أوقفتها, إلا في لغة رديئة. وقال الجوهري وغيره: وليس في الكلام "أوقفت" إلا في حرف واحد: أوقفت عن الأمر الذي كنت عليه. قال أبو عمرو: كل شيء أمسكت عنه تقول [فيه]: "أوقفت". قال الكسائي: يقال: ما أوقفك هنا, أي: ما صيرك إلى الوقوف. وجمع الوقف: وقُوُفٌ وأوقاف. وحقيقته شرعًا -على الصحيح-: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه, ممنوع من التصرف في عينه, وتصرف منافعه إلى وجه من وجوه [البر] , يقصد به التقرب إلى الله تعالى. وإن شئت قلت: حبس ما يمكن الانتفاع به ... إلى آخره؛ ليدخل الكلب المعلَّم على رأي. وسمي هذا التصرف وقفًا؛ لأن عين المال تبقى موقوفة, وسمي حبسًا؛ لأن المال يصير محبوسًا [على جهة معينة].

وسمي سبيلًا؛ لأن الثمرة [تصير] مسبلة. قال الشافعي –رحمه الله-: ولم يحبس أهل الجاهلية –فيما عملته- دارًا ولا أرضًا [تبرُّرًا]. والأصل في مشروعيته: ما روى أبو داود مسندًا عن نافع [عن] ابن عمر قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضًا لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه, وكيف تأمرني؟ فقال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها", فتصدق بها عمر: أنه لا يباع أصلها, ولا توهب, ولا تورث, للفقراء, والقربى, والرقاب, وفي سبيل الله, وابن السبيل. وفي رواية: والضيف – لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف, ويطعم صديقًا غير متموِّل فيه. وفي رواية: غير متأثِّل مالًا. أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه. وقال يحيي بن سعيد –وهو الأنصاري-: نسخها لي عبد الحمي بن عبد الله [بن عبد الله] بن عمر بن الخطاب- يعني صدقة عمر بن الخطاب-: بسم الله الرحمن الرحيم, هذا ما كتب عمر في ثمغ, فقص [من خبره] نحو حديث نافع قال: "غير متأثل مالًا فما عفا عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم", قال: وساق القصة, وإن شاء ولى ثمغ اشترى من ثمره رقيقًا لعمله, وكتب معيقيب –وشهد عبد الله بن الأرقم: بسم الله الرحمن الرحيم, هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين: إن حدث فِىَّ حدثٌ أن ثمغًا وصرمة ابن الأكوع والعبد الذي فيه والمائة سهم التي بخيبر ورقيقه الذي أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم بالوادي –تليه حفصة ما عاشت, ثم يليه ذوو الرأي من أهلها, ألا يباع, ولا يشترى, ينفقه حيث رأى, من السائل والمحروم, وذوي القربى, ولا جناح على وليه إن أكل, أو آكل, أو اشترى

رقيقًا منه". ومعيقيب: هو ابن أبي فاطمة, وعبد الله بن الأرقم القرشي الزهري, ولهما صحبة. وثمغٌ: بفتح الثاء المثلثة, وبعدها ميم ساكنة –وقيدها بعضهم بالفتح- وغين معجمة, وصرمة ابن الأكوع: هما مالان معروفان بالمدينة كانا لعمر بن الخطاب فوقفهما. وأكل: أي أطعم, آكله إيكالًا: أطعمه. وقد قيل: إن ما وقفه عمر [بن الخطاب] من أرض خيبر صدقة تصدق بها في الإسلام. قال: الوقف قربة مندوب إليها؛ لقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] , وقوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ} [آل عمران: 115] والوقف خير؛ فاندرج تحت عموم ذلك. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: من صدقةٍ [جارية] , أو علم ينتفع به, أو ولدٍ صالح يدعو له" كما أخرجه أبو داود ومسلم وغيرهما. وحمل العلماء الصدقة الجارية على الوقف, وقد قال الشافعي في القديم: ولقد بلغني أن ثمانين نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار تصدقوا بصدقات محرمات موقوفات. وقال جابر: ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلا وقف. وهذه الوقوف [جارية على سبلها] إلى اليوم بمكة والمدينة.

واحترز الشيخ بقوله: مندوب إليها عن القربة الواجبة, ولأن القرب منها ما قام دليل عليه بخصوصه, كالعتق وصلة الرحم وغير ذلك, ومنها ما اندرج في عموم قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] ونحوه؛ فتبين أن الوقف من الأول وهو آكد من الثاني؛ لتظافر الدليل العام والخاص عليه. قال: ولا يصح إلا ممن لا يجوز تصرفه في ماله؛ لأنه تصرف في المال, ويعتبر مع جواز التصرف في المال أن يكون أهلًا للتبرع فإن المكاتب من يجوز تصرفه في ماله ولا يصح وقفه. قال: ولا يصح إلا في عين معينة, فإن وقف شيئاً في الذمة بأن قال: وقفت فرسًا أو عبدًا, لم يصح؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة؛ فلم يصح في عين الذمة كالعتق والصدقة, وهكذا الحكم فيما لو ثبت له في ذمة شخص فرس أو عبد فوقفه, ولو وقف أحد العبدين أو إحدى داريه ففيه وجهان في "الوسيط", وأصحهما: المنع كما في الهبة, ومن جوز قاسه على العتق. قال الإمام: وهذا التردد يضاهي تردد الأصحاب في أن الوقف هل يقبل التعليقَ [قبولَ] العتق له, ويلتفت على أن الوقف إذا اقترن بالشرط المفسد هل يفسد أم ينفذ نفوذ العتق؟ ثم إذا صححناه طالبناه بالتعيين, فإن أفضى الأمر إلى الإقراع أقرع, كما في العتق. قال: ولا يصح إلا في عين يمكن الانتفاع بها مع بقائها على الدوام كالعقار والحيوان والأثاث أي –سواء كان مفرزًا أو مشاعًا. ووجه صحة وقف هذه الأنواع –مع ما ذكرناه من حديث عمر-: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر ساعيًا على الصدقات, فلما رجع شكا العباس وخالدًا و [ابن] جميل, فقال صلى الله عليه وسلم: "ما نقم ابن جميل, إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله تعالى ورسوله, وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا؛ إنه قد احتبس أدراعه, وأعتاده في سبيل الله عز وجل". وروي: "أدراعه وأعتده". والأعتد, قال القاضي الحسين: الخيل.

و [بعضهم] روى أن أم معقل جاءت [إلى] النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله, إن أبا معقل جعل ناضحه في سبيل الله, وإني أريد الحج, فأركبه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اركبيه؛ فإن الحج والعمرة من سبيل الله". وذكر الشيخ العقار –وإن كان مجمعًا على جواز وقفه- لنقيس عليه ما ذكره معه؛ بجامع اشتراكهما فيما ذكره. وأيضاً: فالمسلمون متفقون على وقف الحصر والقناديل والزلالي في جميع الأعصار من غير إنكار. ولا فرق في الحيوان بين أن يكون بهيمًا أو آدميًّا, ولا في [الآدمي بين] المسلم والكافر, ولا في [الكافر بين] أن يكون كتابيًّا أو وثنيًّا, كما صرح به القاضي الحسين. تنبيه: الأثاث –بفتح الهمزة-: متاع البيت ونحوه, قال الفراء: لا واحد له من لفظه. وقال أبو زيد: الأثاث يقع على المال أجمع من الإبل والغنم والبقر, ومتاع البيع, واحدته: أثاثة, والأول بكلام الشيخ أمسُّ. [قال]: فإن وقف مالًا ينتفع به مع بقائه كالأثمان والطعام, أو مالاً ينتفع به على الدوام كالمشموم –لم يجز؛ لأنه ليس في معنى المنصوص عليه, فلا يمكن إلحاقه, مع أن تسبيل الثمرة وتحبيس الأصل غير ممكن فيه. وفي الأثمان وجه: أنه يجوز وقفها؛ بناء على جواز إجارتها, وبه جزم الفوراني عند التصريح بكونها للزينة, وقد حكاه أبو ثور عن الشافعي. قال البندنيجي: وليس بشيء.

قد ألحق الماوردي بما لا منفعة فيه وقف الخصي من الغنم. وقال في "البحر": وعندي يحتمل وجهًا: أنه لا يجوز؛ لأنه ينتفع بصوفه كما ينتفع من الأنثى بلبنها ونسلها, ورأيته عن أصحابنا. واعلم أن ما ذكره الشيخ من كون الوقف لا يصح إلا في عين يمكن الانتفاع بها مع بقائها على الدوام, صحيح, لكنه لا يكفي في ضبط ما يجوز وقفه؛ لأن الحر, والموصى بمنفعته, وأم الولد, والكلب المعلَّم يمكن الانتفاع بهم على الدوام, ومع هذا لا يصح وقف الحر ولا الموصى بمنفعته من مالك المنفعة اتفاقًا, وكذا وقف أم الولد, كما جزم به البندنيجي, وهو عند غيره الأصح؛ بناء على أن الوقف ينقل الملك, وهو المذهب. ومن قال: إن الوقف لا ينقل الملك, جوزه على وجه, كما صرح به الماوردي وغيره, وحكى الخلاف, ولم يثبته. وقال القاضي الحسين في "تعليقه": إن الظاهر الجواز, وهو الذي [اختاره] في "المرشد". وعلى هذا: إذا مات السيد هل يبطل الوقف؟ [قال المتولي]: لا؛ بل تبقى منافعها للموقوف عليه؛ كما لو أجرها ومات, ويكون لها الرجوع بعوض منافعها. وفي "الحاوي" و"النهاية": أنه يبطل بلا خلاف. قال الإمام: لأن الحرية تنافي الوقف دون الإجارة, وهذا قضية كلام ابن كج. وأما الكلب, فجزم المعظم بمنع وقفه, وإن جازت إجازته؛ لعدم الملك فيه كالحر. وممن جزم به: البندنيجي [والماوردي] والقفال كما حكاه القاضي الحسين, والقاضي أبو الطيب حكاه عن النص, وقد أجاز بعضهم وقفه. واختلفوا في أصله: فالشيخ أبو حامد كما حكاه عنه في "الإبانة", والماوردي والقاضي الحسين بنوه على جواز إجازته. ومنهم من بناه على جواز هبته. ومنهم من بناه على أن الوقف لا يقتضي نقل الملك, وقد حكى في "البحر" طريقة

قاطعة بهذا الوجه, ونسبها الفوراني إلى القفال, واختارها في "المرشد". ومن خرج هذا الوقف على ما ذكرناه يلزمه تجويز وقف الموصى له بالمنفعة ولم يجوزه؛ فلا جرم كان الأصل عند المعظم [المنع] , وحينئذ فلو قال الشيخ: ولا يصح الوقف إلا في عين يمكن بيعها ويمكن الانتفاع بها على الدوام –كما قال القاضي أبو الطيب- لكان شاملًا لما يجوز وقفه على الصحيح, وعليه ينطبق أن المكاتب لا يجوز وقفه على الصحيح, وبه جزم الماوردي. فإن قلت: ما ذكرته وإن كان مانعًا فهو غير جامع؛ لأمرين: أحدهما: أنه يقتضي أن وقف الأشجار لثمارها, والمواشي لأصوافها وألبانها ونتاجها, والفحل لطروقه على بهائم أهل القرية– لا يجوز؛ لأن ما وقف غير منتفع به, وإنما الانتفاع حاصل بما صدر عنه, والانتفاع به حقيقة: كالدار تسكن والدابة تركب, والثوب يلبس ونحوه؛ ولهذا قال الغزالي: يجوز وقف كُلِّ مُتعين تحصل منه فائدة, أو منفعة لا تفوت العين باستيفائها. الثاني: أنه يقتضي أن وقف المعلق عتقه لا يصح, وكذا المدبر إذا قلنا: إن التدبير عتق بصفة؛ لأنهما على قولنا: إن الوقف لا ينقل الملك, إذا مات السيد عَتَقَا؛ فهو مال لا ينتفع به مع بقائه على الدوام, مع أن وقفهما صحيح اتفاقًا. قلت: الجواب عن الأول: أن أهل العرف يعدون [مثل] هذه الأعيان منتفعًا بها,

وكذلك حملة الشرع حيث قالوا في شرائط المبيع: أن يكون منتفعًا به, ولولا شمول الاسم النوعين لما كان كلامهم به مستقيمًا. وعن الثاني من وجهين: أحدهما: أنه فرع على الصحيح في أن الملك ينتقل بنفس الوقف؛ لأن الحدود إنما تذكر لحصر ما عليه آحاده, وحينئذٍ فلا يعتق واحد منهما بموت الواقف –كما صرح به الماوردي وغيره- إلا أن يقول: الاعتبار في التعليق بحاله [التعليق لا حالة] وجود الصفة –كما حكاه المراوزة- فحينئذٍ [يعتق بكلٍّ, وقد يقال: إذا نظرنا إلى حالة وجود الصفة مع قولنا: إن الملك للواقف] , يكون في نفوذه الخلاف الآتي في تنجيز عتق الموقوف, وقد أغرب في "التهذيب"؛ حيث جعل التفريع على قولنا: إنه ينتقل إلى الله تعالى, كالتفريع على أنه لا ينتقل حتى ينفذ العتق. [و] الثاني: أن الشيخ اعتبر إمكان الانتفاع بالعين مع بقائها على الدوام, والإمكان موجود؛ لأن احتمال موتهما قبل موت السيد قائم. ومن هذا الجواب يظهر لك أنه لا يشترط في الموقوف أن يكون [بحيث] تحصل منه منفعة في الحال؛ بل يجوز وقف الأرض الخراب –كما صرح به الماوردي- لإمكان عمارتها, والعبد والجحش الصغيرين, والزمن الذي يرجى زوال زمانته –كما صرح به الأصحاب- قياسًا على جواز نكاح الرضيعة. وكذا يجوز وقف العين بعد إجازتها كما يجوز وقف [ماله] المغصوب, وهذا ما أجاب به في "البحر" في كتاب الإجارة قبيل باب كراء الإبل, وقال: إنه لا يرجع من وقف عليه بشيء من أجرة مدة الإجارة قولًا واحدًا. وفي "فتاوى" القفال: تخريجه على الوقف المنقطع الأول. وزاد بعضهم فقال: إن وقف على مسجد صح؛ لمشابهته الإعتاق. وإن وقف على إنسان, فإن قلنا: الملك في الوقف للموقوف عليه, فهو على

الخلاف في بيع المستأجر: فإن لم نصححه فكذلك الوقف, وإن صححناه جرى الخلاف في الوقف المنقطع أول, وإن قلنا: ينتقل إلى الله تعالى, فوجهان؛ لافتقاره إلى القبول. ووقف الورثة الموصى بمنفعته مهراً مثلًا, كوقف المستأجر. فرع: إذا استأجر أرضًا ليبني فيها أو يغرس, ففعل, ثم وقف البناء والغراس –ففي صحة الوقف وجهان: أصحهما –وبه قال ابن الحداد-: [الصحة] , وهو الذي حكاه الماوردي في كتاب الإجارة. ووجه المنع: أن مالك الأرض بسبيل من قلعه؛ فكأنه ما لا ينتفع به. وهما كالوجهين في أنه لو أراد بيع البناء والغراس هل يجوز؟ ولو وقف هذا أرضه وهذا بناءه جاز بلا خلاف؛ كما لو اجتمعنا على البيع. وإذا قلنا بصحة الوقف ومضت المدة, قال الماوردي: لم يكن لرب الأرض أن يبذل له قيمة ذلك؛ وإنما له أن يأخذ الواقف بقلعه إن بذل له أرش نقصه, وإذا قلعه لزمه أن ينقله إلى أرض أخرى يكون وقفها فيها جاريًا على سبيله, وكذلك قاله في "التهذيب" في كتاب العارية. وقال الرافعي: إذا قلع مالك الأرض البناء, فإن بقي منتفعًا به بعد النقل فهو وقف كما كان, وإن لم يبق فيصير ملكًا للموقوف عليه أو يرجع إلى الواقف؟ فيه وجهان, وأرش النقص الذي يوجد يسلك به مسلك الوقف. قال: ولا يجوز إلا على معروف وبر, أي: إذا كان الوقف على جهة عامة كالوقف على الأقارب والفقراء والقناطر وسبل الخير, فإن وقف على قاطع الطريق أو على حربى أو مرتد لم يجز؛ لأن القصد بالوقف القربة وبالأول تحصل, وفي الثاني إعانة على معصية؛ فهو ضد المراد. والمعروف الإحسان, والبر: اسم جامع للخير, واصله الطاعة؛ فهو اعم من المعروف.

قال: وإن وقف على ذمي جاز؛ لأن الوقف يجري مجرى صدقة التطوع, وصدقة التطوع على الذمي جائزة؛ فكذلك الوقف. فإن قيل: يظهر أن المراد بالذمي غير معين, وهو من عقدت له الذمة؛ كما أن مراده بقاطع الطريق والمرتد والحربي ليس شخصًا معينًا, بل من يقطع الطريق ومن يرتد ومن يحارب, وإلا فهو كما لو وقف على زيد مثلًا وكان قاطع الطريق؛ فإنه يصح جزمًا, وكذا لو وقف عليه وهو مرتد أو حربي على أحد الوجهين. قلت: ليس الأمر كذلك؛ بل المراد الواحد المعين؛ فإن هذه الصيغة ليس فيها عموم, وما ذكر من [أن] المراد بقاطع الطريق واحد غير معين فصحيح؛ لأنه مضاف إلى الطريق, ومثل ذلك يقتضي العموم كما في [ابن] السبيل, وما ذكر من أن المراد بالحربي والمرتد واحد غير معين, ممنوع؛ لما ذكرناه. والشيخ اقتصر فيهما على الصحيح, وهو منع الوقف عليهما –كما هو مذكور في

"الحلية" و"الرافعي"- لأنهما منقولان عن قرب, والوقف صدقة جارية؛ فكما لا يصح وقف ما لا [دوام له] لا يصح الوقف على من لا [دوام له] , ولك أن تقول: وقف ما لا دوام له لا يبقى له أثر بعد فواته, وإذا فات الموقوف عليه أولًا انتقل الوقف إلى من بعده؛ فمقصود الوقف حاصل وهو الدوام. ثم من جوز الوقف على المرتد [يجب] أن يقول ببقاء ملكه, والله أعلم. وقد ذهب بعض الأصحاب إلى أن الوقف على الجهة العامة لا يشترط فيه [وجود] القربة؛ بل الشرط انتفاء المعصية حتى جوز الوقف على مساكين أهل الذمة والأغنياء من المسلمين؛ كما لو وقف على ذمي بعينه أو مسلم بعينه –وكان غنيًا- نظرًا لكونه جهة تملك, وهذا ما اختاره الإمام وشيخه بعد أن حكى عن المعظم الأول, وأنهم استدلوا بأنه لا يجب استيعاب المساكين إذا وقف عليهم, ويجوز الاقتصار على ثلاثة منهم, ولو كان القصد التملك لما جاز مثل ذلك. وقال الرافعي: إن ما اختاره الإمام أشبه, وإنه مطرد في جواز الوقف على الفساق. واستشهد له بأن ابن الصباغ صحح الوقف على النازلين بالكنائس من مارة أهل الذمة وقال: إنه وقف عليهم لا على الكنيسة. وإن الأشبه توسط ذهب إليه بعض المتأخرين, وهو تصحيح الوقف على الأغنياء, وإبطال الوقف على اليهود والنصارى وقطاع الطريق وسائر الفساق؛ لتضمنه الإعانة على المعصية. ولا خلاف أن الوقف على شراء آلة برسم قطاع الطرق والمحاربين لا يجوز, وكذا على البيع والكنائس وكتب التوراة والإنجيل؛ لأنها محرمة لا لكونها منسوخة, كما قاله البندنيجي والقاضي أبو الطيب؛ لأن النسخ لا يذهب حرمتها, والقاضي الحسين علله بكونها منسوخة, وحكاه في "الحاوي" عن بعض الأصحاب وقال: إنه فاسد. وسواء فيما ذكرناه المسلم والذمي, حتى لو رفع إلينا وقف أهل الشرك نقضناه,

اللهم إلا أن يكون شيئاً وقفوه المبعث على كنائسهم القديمة, فنقره حيث تقر الكنائس. وقال في "الحاوي": إنه لو وقف دارًا على أن يسكنها فقراء اليهود, فإن جعل لفقراء المسلمين نصيبًا معهم جاز, وإلا فوجهان, وجه المنع: أنهم إذا انفردوا بسكناها, صارت ككنائسهم, وهو مخرج -أيضاً- مما ذكرناه من قبل, وسنذكر في باب الوصية مسائل تشابه ما نحن فيه, ولا يبعد جريان خلاف في جواز الوقف عليها؛ [أخذًا] مما ذكرناه. فروع: إذا وقف على سبيل الله, أو: [على] أن تصرف منفعته إلى الله -صرفت المنفعة إلى الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان, كما قال القاضي أبو الطيب, ولا يرد علينا حديث [أبي] معقل؛ لأنه-عليه السلام-[يجوز أن يكون] علم أن [أبا] معقل جعل الحج والعمرة من سبيل الله في وقفه. وعندنا لو أراد بـ "سبيل الله" الحج والعمرة صح, وصرفت نفقته إليهما, وكلامنا عند الإطلاق. ولو وقف على سبيل الخير أو البر أو الثواب صرف إلى أقارب الواقف, فإن لم يوجدوا فإلى أهل الزكاة. وذكر القاضي الحسين: أنه إذا وقف على سبيل الخير صرف إلى أهل الأصناف الذين يأخذون لحاجتهم دون العاملين. وذكر في "التهذيب" أن الموقوف على سبيل البر يجوز صرفه إلى ما فيه صلاح المسلمين من أهل الزكاة وإصلاح القناطر وسد الثغور ودفن الموتى وغيرها. وفرق بعض الأصحاب -كما حكاه الإمام عن رواية شيخه والعراقيين- فقال: إذا وقف على جهة الخير صرف إلى مصارف الزكاة, ولا يبني به مسجدًا ولا رباطًا, وإذا وقف على جهة الثواب صرف إلى أقاربه. قال الإمام: ورأيت في بعض تعاليق شيخي: أنه لا فرق بين لفظ الثواب والخير,

وحكى أن ذلك نص الشافعي, وأن بعض القياسين [ذهب] إلى أن الثواب والخير لا يختصان بجهة من جهات القرب, ولكنهما يحملان على جميع جهات الخير, وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره, ولا ينقدح فيه تردد, إلا في أنه لا يُبْنَى بالريع رباط ولا مسجد. وقال الرافعي: إن جواب الأكثرين الأول, وقالوا: لو جمع بين سبيل الله وسبيل الثواب وسبيل الخير, صرف الثلث إلى الغزاة المذكورين في الزكاة, والثلث إلى أقاربه, والثلث إلى الفقراء, والمساكين والغارمين, وابن السبيل, وفي الرقاب. وفي "تعليق" أبي الطيب: أن الثلث الثاني يصرف إلى [الفقراء والمساكين, ويبدأ بأقاربه. وقال البندنيجي: إن هذا الثلث يصرف إلى فقراء] أقرب الناس إلى الوقف. ويجوز الوقف على أكفان الموتى ومؤنة الغسالين والحفارين, وعلى شراء الأواني والظروف لمن تكسرت عليه. وعلى المتفقهة: وهو المشتغلون بتحصيل الفقه مبتدئهم ومنتهيهم, وعلى الفقهاء, ويخل فيه من حصل شيئاً منه وإن قل, كذا قاله الرافعي. والذي حكاه القاضي الحسين: أنه إذا وقف على [الفقهاء صرف إلى من يعرف من كل علم [من الأحكام] شيئاً, فأما من تفقه شهرًا أو شهرين فلا. ولو وقف

على] المتفقهة صرف إلى من تفقه يومًا مثلًا؛ لأن اسم المتفقه ينطلق عليه, بخلاف الأول. ولو وقف على الصوفية, قال الرافعي: فالذي رأيته بخط بعض المحصلين: أن الشيخ أبا محمد لم يصحح الوقف عليهم؛ إذ ليس للتصوف حدٌّ يوقف عليه, والمشهور: الصحة؛ فيصرف إلى كل من كان منشغلًا بعبادة الله تعالى في أغلب أمره, فأما ما كان مشتغلًا بالأكل والرقص والسماع فلا, كذا قاله القاضي الحسين في "التعليق". وقال الغزالي [في "الفتاوى"]: لا بد في الصوفى من العدالة ومن [تركه الحرفة]. نعم, لا بأس بالخياطة والوراقة وما يشبههما إذا كان يتعاطاها أحيانًا في الرباط لا في حانوت, ولا تقدح قدرته على الاكتساب والاشتغال بالوعظ والتدريس, ولا أن يكون له من المال قدر ما لا تجوز الزكاة فيه, أو لا يفي دخله بخرجه. وتقدح الثروة الظاهرة والعروض من الكثرة. ولا بد أن يكون في زي القوم, إلا إذا كان مساكنهم في الرباط؛ فتقوم المخالطة والمساكنة مقام الزي, وليس يشترط لبس المرقَّعة من يد شيخٍ, كذا ذكره المتولي. قال: ولا يجوز أن يقف على نفسه أي: وإن ذكر بعده مالًا؛ كالفقراء والمساكين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "حبس الأصل, وسبل الثمرة", وتسبيل الثمرة يمنع أن

يكون فيها حق, ولأن الوقف صدقة ومعناه تمليك المنفعة جزمًا, وتمليك الموقوف على رأي, والموقوف ومنفعته ملكه؛ فلا يمكن أن يتصدق بها على نفسه, ولا أن يملك نفسه ذلك, كما لا يجوز أن يملكها بالبيع, وهذا ما حكاه في "البحر" عن نصه في القديم. وذهب ابن سريج وأبو عبد الله الزبيري من أصحابنا إلى صحة ذلك –كما حكاه القاضي أبو الطيب والماوردي وغيرهما- تمسكًا بما روي أن عثمان لما وقف بئر رُومة, قال: "دلوي فيها كدلاء المسلمين", وحكاه في "البحر" عن المذكورين, وعن محمد بن عبد الله الأنصاري, وقال: إن الاختيار جوازه واستحسنه. وعن القاضي ابن كج: أنه نقل عن ابن سريج أنه صحح الوقف, وألغى الشرط والإضافة إلى نفسه. وهذا بناء على أنه لو اقتصر على قوله: وقفت, صح الوقف كما سنذكره. والمنتصرون للأول قالوا: عثمان –رضي الله عنه- لم يقل ذلك شرطًا, ولكن أخبر أن للواقف أن ينتفع بالأوقاف العامة؛ كالصلاة في [البقعة التي] جعلها مسجدًا وما أشبه ذلك, وتفارق الأوقاف العامة الخاصة؛ لأن العامة عادت إلى ما كانت عليه من الإباحة, بخلاف الخاصة؛ فإنها تقتضي ملك مخصوصين فلم يجز أن ينتفع بها. التفريغ: أن قلنا بالصحيح, فطريق تصحيح الوقف –كما قال ابن يونس وصاحب "رفع التمويه"-: أن يقف على أولاد أبيه الذين من صفتهم [كذا وكذا] , ويذكر صفات نفسه, [أو يقف على

نفسه] , ويرفع الأمر إلى حكم يرى ذلك ليحكم به, وفي الأول بحث سأذكره, ولو لم يفعل ذلك, وقال: وقفت على فلان, فإذا مات عاد إلى نفسي, ثم على الفقراء: فهل يصح؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين. ولو استبقى التولية لنفسه وشرط أجرة, ففي صحة الشرط وجهان يبنيان على أن الهاشمي إذا انتصب عاملًا للزكاة: هل له أن يأخذ سهم العامل؟ ولو وقف على الفقراء فافتقر ففي جواز الأخذ له وجهان: المجزوم به في "الحاوي" والذي مال إليه الرافعي: الجواز. وفي "الوسيط": ترجيح المنع. وهذا ينقدح طرده في الصورة الأولى التي فرضها ابن يونس في تصحيح الوقف على نفسه لولا أن الغزالي وجهه بأن مطلق الوقف ينصرف إلى غير الواقف. وإن قلنا بقول الزبيري ففي "الحاوي" وجهان: أحدهما: يبقى على حقه على التأبيد يخلفه فيه ورثته وذرية ذريته ما بقوا, فإذا انقرضوا عاد حينئذ إلى جماعة الفقراء والمساكين. [والوجه الثاني: أنه يقدم مدة حياته, فإذا مات عاد للفقراء والمساكين] دون

ورثته, إلا أن يكونوا من جماعة الفقراء. فروع: قال في "الحاوي": لو وقف رجل وقفًا ليحج عنه جاز, ولا يكون وقفًا على نفسه؛ لأنه لا يملك شيئاً من غلته, فإن ارتد عن الإسلام لم يجز أن يصرف الوقف على الحج؛ لأن الحج عن المرتد لا يصح, وصرف في الفقراء والمساكين, فإن عاد إلى الإسلام أعيد الوقف إلى الحج عنه, وهذا منه يظهر أنه تفريع على [أنه يجوز] النيابة في حج التطوع. ولو وقفها في الجهاد عنه جاز, فلو ارتد الواقف عن الإسلام كان الوقف على حاله يصرف على المجاهدين عنه؛ لأن الجهاد يصح عن المرتد. ولو وقف ضيعة على أن يصرف ريعها على عمارتها وحق السلطان وما حصل بعد ذلك [في تبعاتي] في الزكاة والكفارات. قال أبو العباس ابن سريج: [يصح] ويصرف للفقراء والمساكين؛ لأن الظاهر أنه أخرج زكاته وكفاراته, وإنما خاف التقصير فكان تطوعًا عنه, حكاه ابن الصباغ, وفي "التتمة" [حكاية عن ابن سريج]: أنه يصح, ويصرف إلى من تصرف إليه الزكاة والكفارات. وفي "الوسيط" وغيره: أنه إذا وقف وشرط أن تصرف من الريع ديونه وزكاته, فهو كما لو وقف على نفسه. قال: ولا على مجهول كرجل غير معين؛ لتعذر تنفيذ الوقف في مستحقه. وعن الشيخ أبي محمد احتمال فيما إذا وقف على أحد الرجلين على قولنا: إن الوقف على المعين لا يفتقر إلى القبول, وقد أقامه الغزالي وجهًا, وذكر أنه مخرج من وقف أحد العبدين, وعلى هذا يطالب الواقف بالبيان, فإن تعذر الرجوع إليه بموت أقرع.

ولو قال: وقفت على من شاء زيدٌ, كان باطلًا, ولو قال: على من شئت –وكان قد عين من شاءه [عند الوقف –جاز وأخد ببيانه] , ولو لم يعينه إذ ذاك لم يجز. قال: ولا على من لا يملك الغلة كالعبد أي: إذا قصد الوقف على نفسه والحمل؛ لأنه تمليك منجز فلا يصح على ما ذكرنا؛ كالبيع والهبة. واحترزنا بلفظ "التمليك" عن الإرث في حق الحمل, وبلفظ "التنجيز" عن الوصية. وفي "البحر": أن الشيخ أبا محمد حكى في "المنهاج" وجهين: أن الوقف عن الحمل يصلح كما يملك بالإرث. وفي "الحاوي" وغيره: أن منع الوقف على العبد مبني على قولنا: إنه لا يملك, أما إذا قلنا: إنه يملك, صح, فإذا عتق كان له, وكان على قياس هذا: أنه إذا وقف على عبد فلان [فباعه] أو وهبه يكون الوقف مستمرًا, لكن المتولي قال: إن الاستحقاق منوط بكونه عبد فلان, فإذا باعه أو وهبه زالت صفة الاستحقاق. قال الرافعي: ولك أن تقول: الخلاف في أنه ملك مخصوص بما إذا ملكه السيد, فأما إذا ملكه غير السيد, فلا خلاف أن [لا] يملك, وحينئذ إذا كان الواقف غير السيد كان الوقف على من لا يملك؛ فأي معنى لقوله: أو ملكه السيد ملك؟! قلت: قد تكرر من الرافعي ومن غيره القول بأنه: لا خلاف في أن العبد لا يملك بتمليك غير السيد, وقد تقدم منه ومن غيره: أن العبد يملك بالشراء وبالقرض على رأي من جهة غير سيده, وإذا ملك ببدلٍ فبدونه من طريق الأولى, وسأذكر في أول كتاب "الهبة" وأواخر "باب العتق" ذلك منقولًا عن الأصحاب صريحًا؛ فاطلبه تجده. فأما إذا أطلق الوقف عليه فهو على سيده؛ كما لو وهب منه, أو أوصى له, وإذا شرطنا القبول جاء الخلاف في أن العبد هل يستقل بقبول الهبة والوصية أم يحتاج إلى إذن السيد؟ وكذا في السيد لو قبل هل يصح؟ والأصح في الأخيرة: لا؛ لأن الخطاب لم يجر معه. وحكى ابن الصباغ عن القاضي أبي الطيب في "المجرد": أنه لو وقف على العبد

وقلنا: إنه يملك, صح الوقف عليه, وكان للسيد أخذ الريع منه, فإذا عتق كان له, وإن قلنا: إن العبد لا يملك, فهو كما لو وقف على بهيمتةٍ للغير, وظاهر المذهب في البهيمة: أنه يصح, ويكون وقفًا على مالكها, وينفق عليها من ريعه, فإذا نفقت تكون لصاحبها. وما ذكره عن القاضي صدره يقتضي أن تكون المسألة مفروضة فيما إذا قصد تمليك العبد, وعجزه يقتضي الإطلاق؛ فإنه لو قصد تمليكه بعد أن يشبه بالبهيمة التي الوقف عليها لا يقتضي التمليك, وأن تصرف السيد, ثم المختار في البهيمة ظاهر المذهب. وفي "ألرافعي" و"التهذيب": أن الصحيح فيها البطلان, وبه جزم الماوردي؛ كما لا تصح الوصية إليها ولا الهبة. وأما إذا صححنا وشرطنا القبول فالقابل المالك, والخلاف كما حكاه المتولي يجرى فيما إذا وقف على علف بهائم القرية المملوكة أو على بهائم فلان, بخلاف ما لو وقف على الوحوش أو على علف الطيور المباحة؛ فلا يصح جزمًا. وحكم المدبر والمعلق عتقه بصفة وأم الولد, حكم القن, وكذا المكاتب عند الشيخ أبي حامد. وفي "الحاوي" إطلاق القول بالصحة, سواء كان على معين أو على المكاتبين. وفي "التتمة" أن الوقف على المكاتبين صحيح. ثم إذا عجز بعضهم كان الحكم في استرجاع ما دفع إليه كما [هو] في الزكاة, وكذا إن كان على مكاتب بعينه يصح في الحال, وتصرف الفوائد إليه, ويلزم حكمه إذا عتق إن أطلق الواقف الوقف, وإن قيد بحال الكتابة بطل استحقاقه, وإذا عجز بان [أن] الوقف منقطع الابتداء, وهذا فيه [نظر, بل] ينبغي أن يتخرج على أنه هل يسترجع [منه ما أخذه] أم لا؟ فإن استرجع فالحكم كذلك؛ وإلا فليس بمنقطع الابتداء, [ويؤيد ذلك: أن تصرفات المكاتب بحكم الملك لا ينقضها عند عجزه]. ولو وقف على الأرقاء الموقوفين لسدانة الكعبة وخدمة قبر النبي صلى الله عليه وسلم صح على

الأصح؛ كما لو وقف على علف الدواب في سبيل الله. ولو وقف على المقبرة لتصرف الغلة إلى عمارة القبور, قال المتولي: لا يجوز؛ لأنه ليس فيه قربة. ولو وقف على هذه الدار على أن يأكل فوائدها طارقوها صح على أطهر الوجهين. ولو وقف على عمارة دار زيد: فإن لم يكن زيد [قد] وقفها لم يصح, وإن كان قد وقفها صح. قال الماروردي: لأن الوقف طاعة, وحفظ عمارته قربة؛ كما لو وقفها على مسجد أو رباط. فإن قيل: الوقف عندكم على من لا يملك غير صحيح, والوقف على مسجد ورباط قنطرة وفرس في سبيل الله صحيح, وإن لم يصح أن يكون شيء من ذلك مالكًا؟ قيل: هذا وقف على كافة المسلمين, وإنما عيّن مصرفه في هذه الجهة؛ فصار مملوكًا مصروفًا في هذه الجهة في مصالحهم. قال: فإن وقف على من يجوز [أي]: كأولاده الموجودين أو رجلٍ بعينه, ثم على من لا يجوز كأهل الحرب ونحوهم – بطل الوقف في أحد القولين؛ لأن المقصود بالوقف إيصال الثواب على الدوام حتى يتميز عن العواري, [ولم يحصل] , وصح في الآخر, لأن مقتضى الوقف القربة والثواب, فإذا بين مصرفه في الحال سهل إدامته على وجه الخير, وهذا نصه في "المختصر", وهو مع الأول في "حرملة", وهذا الوقف يلقب به "المنقطع الانتهاء". وبنى المتولي القولين على أن البطن الثاني يتلقون الوقف من الواقف أو من الموقوف عليه؟. فإن قلنا بالأول فلا بد من بيان من ينتهي إليه الاستحقاق. وإن قلنا بالثاني فلا حاجة إليه. قال الرافعي: وهذا البناء ترجيح قول البطلان؛ لأن قول التلقي من الواقف

أرجح وأصح, وإلى ذلك ذهب المسعودي والإمام, لكن الأكثرون قالوا: أصح القولين صحة الوقف, ومنهم القضاة أبو حامد والطبري [والروياني] , ووافقهم صاحب "التهذيب". وعن صاحب "التقريب" قول ثالث في المسألة: وهو الفرق بين أن يكون الموقوف عقارًا فلا يجوز إنشاؤه منقطع الآخر, وبين أن يكون حيوانًا فيجوز؛ لأن مصير الحيوان إلى الهلاك, وكما يجوز فوات الموقوف عليه مع بقاء الموقوف يجوز عكسه إن قلنا بالصحيح. قال: ويصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف أي: بعد انقراض الموقوف عليه أولًا؛ لأن قصده الثواب, وهو أبلغ فيه فكان الصرف إليه أولى من غيره, ولأن العادة جارية بأن الإنسان إذا أراد أن يتصدق بشيء بدأ بأقاربه؛ فيجعل كأنه صرح بذلك, وهذا نصه في "المختصر", وهو الأصح عند القاضي الحسين. ثم [إن] المراد بأقرب الناس إلى الواقف ماذا؟ فيه ثلاثة أوجه. أحدها –وهو ما حكاه القاضي الحسين عن تخريج ابن سريج -: الجيران, وهو أبعدها. والثاني: أقاربه الوارثون, حكاه المراوزة. والثالث –وهو الأصح, والمذكور في طريقة العراق, وينسب إلى رواية حرملة -: أنه أقربهم رحمًا وإن كان غير وارث, حتى يقدم ابن البنت على ابن العم. فلو اجتمع جماعة فمن المقدم منهم؟ سيأتي الكلام فيه في "باب الوصية" –إن شاء الله تعالى – فإن بعض الأصحاب أحال الكلام فيه عليه, ثم الاعتبار بالأقرب –كما قال في "البحر" –حالة رجوع الوقف إليهم, لا يوم الابتداء بالوقف. قال: وهل يختص به فقراؤهم, أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء؟ فيه قولان: وجه الاختصاص –وهو المذكور في "حرملة", والصحيح -: أن مصرف الصدقات: الفقراء. ووجه الاشتراك – وهو منصوص عليه في "المختصر", وظاهر رواية الربيع -: أن

اسم القرابة يشمل الجميع, والغني كالفقير في باب الوقف. وقيل: يختص به الفقراء قولًا واحدًا؛ لما تقدم, وهذا ما نسب إلى ابن سريج, وبه قال جمهور الأصحاب كما قاله الماوردي, وحملوا رواية المزني والربيع المطلقة على رواية حرملة المقيدة بالفقر. وهذا الخلاف جارٍ بلا شك عند الأصحاب في الوقف على القرابة, لكن هل يجري مثله فيما إذا قلنا: أقرب الناس إلى الواقف الجيران؛ الظاهر: أنه لا يجري؛ فإن الماوردي حكى فيما إذا وقف على الجيران: أنه لا فرق فيهم بين الغني والفقير, وأقصى درجات ذلك: أن يكون كالتصريح, ثم إذا قلنا: بالاختصاص بالفقراء فهل هو على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟ فيه وجهان. فإذا قلنا: على سبيل الوجوب, فلو افتقر من كان غنيًا عند موت الموقوف عليه أولًا صرف إليه, ولو كان الكل أغنياء [كان] كما لو كان الكل فقراء وانقرضوا, و [قد] قال ابن الصباغ في ذلك: إنه يصرف إلى الفقراء والمساكين. وقال في "البحر": الذي نص عليه الشافعي: أن الإمام يجعلها حبسًا على المسلمين يصرف غلتها في مصالحهم. وقال: أن القاضي الطبري صار إليه ورجحه. وقيل على قول الصحة: لا يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف, بل يصرف إلى المصالح العامة مصارف الخمس؛ فإنها أعم الخيرات, والأعم أهم. قال [الإمام]: وعلى هذا لا يتصرف فيه غير الولي على رأي الظاهر, ولا يبعد عن الاحتمال رد ذلك إلى نظر الناظر في الوقف, وقيل: بل إلى مستحق الزكاة غير العامل, وهذا جعله الروياني في "البحر" مع الذي قبله وجهًا واحدًا. وقيل: بل إلى المساكين؛ لأن سد الخلات أهم الخيرات. وعلى هذا فهل يقدم جيران الوقف؟ فيه وجهان, أشبههما: المنع؛ لأنا لو

قدمنا بالجوار لقدمنا بالقرابة بطريق الولى, وعلى قول التقديم فالفرق بينه وبين الوجه الذي حكيناه أولًا عن ابن سريج: أن ثمَّ يستحق الجار وإن كان غنيًا على رأي, وهاهنا لا بد أن يكون فقيرًا. قال الإمام: وينقدح على هذا القول –يعني القول بعدم تقديم الجار –جواز نقل الريع عن مساكين البلد, ومنع ذلك؛ تخريجًا على اختلاف القولين في نقل الصدقات. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن الوقف يعود ملكًا للواقف, والله أعلم. ومن صور هذا القسم: أن يوقف على قوم يمكن انقراضهم, كما إذا قال: وقفت على أولادي, فإذا انقرضوا فعلى أولاد أولادهم. ولم يقل بعد ذلك شيئاً آخر. وألحق بعضهم ما إذا قال: وقفت على أولادي, ثم بعدهم على هذا المسجد, [أو:] هذه القنطرة المعينة, أو: على هذا الرباط, ومنهم الماوردي, وكذا إذا جعل الوقف ابتداء على مسجد وقنطرة ورباط معين, كما ذكره القفال في "فتاويه". وبعضهم ألحق ذلك: بما إذا جعل المال للفقراء أو المساكين أو المساجد أو القناطر أو الرباطات, من غير تعيين أو وقف على ذلك ابتداء؛ فإنه وقف صحيح [في المال] والابتداء جزمًا, والقاضي الحسين حكى الوجهين فيما إذا جعل النهاية المسجد الجامع, وطردهما في "التهذيب" في الصور كلها, وفصل المتولي في الوقف على مسجد بعينه [أو رباط بعينه] , فقال: إن كان يبعد في الوهم خراب ذلك الموضع بأن كان في وسط بلدة صح, وإن كان لا يبعد في الوهم ذلك بأن كان في قرية أو على جادة فهو منقطع الانتهاء, فإذا خرب صرف إلى مسجد آخر, وإذا جعل الصرف إلى جهة العلماء نهاية الوقف صح [الوقف]؛ كما لو جعل نهايته لقراء القرآن والمجاهدين أو للفقراء.

وفي "فتاوى" القفال وخلافه؛ لأنهم قد ينقطعون. فرع: إذا قال: وقفت على زيد وعلى الفقراء, فذاك ينبني على ما إذا أوصى لزيد وللفقراء, [ووقف النصف الآخر]: فإن جعلناه كأحدهم صح الوقف, ولا يحرم زيد, وإن قلنا: النصف له, صح الوقف في نصف الفقراء, ووقف النصف الآخر منقطع الانتهاء, [فإن لم يصح] , قال الرافعي: فيقع في تفريق الصفقة. قال: وإن وقف على من لا يجوز [ثم على من يجوز] مثل أن قال: وقفت على هذا العبد, أو على رجل, ثم على أولادي, ثم على الفقراء – فقد قيل: يبطل قولًا واحدًا؛ لأن الأول باطل؛ لعدم إمكان الصرف إليه في الحال, والثاني فرع الباطل, وهذه رواية المزني, وبها قال أبو إسحاق المروزي, وصححها الماوردي والبغوي وصاحب "المرشد". وقيل فيه قولان أي: كالمسألة قبلها: أحدهما: يبطل؛ لما سبق. والثاني: يصح؛ لأن الأول لما بطل صار كالمعدوم فصار الثاني كأنه مبتدأ به, وهذا الطريق رواه حرملة, وبه قال ابن أبي هريرة, والقاضي الطبري وابن الصباغ حكيا أن أصحابنا بنوا الخلاف على الخلاف في تفريق الصفقة, كما إذا باع عبده وعبد غيره, ومقتضى هذا البناء: أن يكون الصحيح من القولين الصحة, وعلى ذلك جرى في "البحر"؛ فقال: إن المذهب الجواز. لكنه بنى الخلاف على أن البطن الثاني ممن يتلقون؟ فإن قلنا: من البطن الأول, لم يصح, وإلا فهو على الخلاف في تفريق الصفقة. وحكى القاضي الحسين عن شيخه: أنا إن لم نصحح الوقف في المسألة الأولى فهاهنا أولى, وإن صححناه ثم فهاهنا وجهان, والفرق: أن هناك نقله إلى من يصح الوقف عليه للابتداء, وهو الأصل فسومح في الفرع, وهنا عكسه. ورأي الإمام عكس هذا البناء فقال: إن قلنا: إن منقطع الابتداء لا يصح, فمنقطع الانتهاء أولى, وإن قلنا: منقطع الابتداء يصح, ففي منقطع الانتهاء وجهان؛ لأن وضع الوقف على أن يدوم, وليس في منقطع الأول إلا أن مصرفه منتظر.

قال الرافعي: والظاهر البطلان وإن ثبت الخلاف. وعلى مقابله قال الشيخ: فإن كان ممن لا يجوز الوقف عليه ممن لا يمكن اعتبار انقراضه كالمجهول أي: مثل إن وقف على رجل غير معين صرفت اللغة إلى من يجوز الصرف عليه, أي: في الحال؛ كي لا تبطل فائدة الصحة. وإن كان ممن يمكن اعتبار انقراضه كالعبد فقد قيل: يصرف في الحال إلى من يجوز الوقف عليه؛ إذ الأول كالمعدوم فانتقل [الوقف] إلى من بعده, وقيل: لا يصرف [إليه إلى أن] ينقرض أي: ويكون الريع للواقف وإلى ورثته [و] إن كان قد مات؛ لأنه لم يوجد شرط الانتقال إليه فلا ينتقل, وهذا هو المنصوص في "حرملة". وقال ابن الصباغ: إنه بعيد. وقال الشيخ أبو حامد: إنه المذهب. فعلى هذا ففي ثبوت الوقف في الحال وجهان: أحدهما: يثبت؛ لأنه يجزه ولكن تأخر الاستحقاق. والثاني: لا يثبت, بل هو ملك, وسبيله سبيل المعلق عتقه بصفةٍ. وقيل: يكون [لأقرباء] الواقف [إلى أن] ينقرض, ثم يصرف إلى من يجوز الوقف عليه؛ لأنه لا يمكن رده إلى الواقف؛ لأنه أزال ملكه فيه, ولا يمكن صرفه لمن يصح عليه الوقف؛ لأنه لا يوجد شرط الانتقال إليه, وهو انقراض العبد؛ فكان أقرباء الواقف أحق به, وهذا هو الأقيس في "الشامل", وإذا قلنا به جاءت التفاريغ المتقدمة. وحكى القاضي أبو الطيب وجهًا: أنه يصرف للفقراء والمساكين, ويبدأ [منه بأقرباء الواقف. وحكى الفوراني وجهًا: أن مصرفه إلى أن ينقرض من لا يجوز الواقف عليه؛ كالمصرف] في المنقطع الآخر, وهذا الوقف يسمى منقطع الابتداء, ومن صوره –كما قال الماوردي-: ما إذا وقف على ورثة زيد وزيد حي, ثم على الفقراء.

وبقى خارجًا عما ذكره الشيخ أقسام: قسم يكون الوقف فيه صحيح الابتداء والوسط والانتهاء: وهو أن يوقف على ولده الموجود مثلًا, وعلى من يحدث له من الأولاد, ثم على أولادهم وأولاد أولادهم, وغير ذلك, فإذا انقرضوا فعلى الفقراء, فهذا صحيح جزمًا, وكذا إذا وقف على مدرسة موجودة ثم على مدرسة يستجدها, ثم على الفقراء, كما قاله القاضي الحسين. وقسم منقطع الابتداء والانتهاء والوسط: مثل: أن يوقف على عبد, ثم على رجل, ثم على أهل الحرب والقطاع, فهذا لا يصح جزمًا. وقسم صحيح الابتداء والانتهاء منقطع الوسط: مثل أن يقول: وقفت على ولدي, ثم من بعده على رجل أو عبد, ثم من بعده على الفقراء, فهذا يترتب على المنقطع الانتهاء. فإن قلنا: إنه يصح, فهاهنا أولى, وإلا فوجهان, والأصح – كما قال القاضي الحسين -: الصحة. وقد مثل القاضي هذا القسم بما إذا وقف على زيد, فإذا مات ولد زيد فعلى الفقراء. فإن قلنا بالصحة فالحكم في حال انتهاء الوقف إلى من لا يجوز الوقف عليه؛ كالوقف المنقطع الابتداء. وقسم منقطع [الابتداء] والانتهاء وصحيح الوسط: مثل: أن يقف على رجل, ثم على أولاده, ثم على المرتدين, فهذا يترتب على الوقف المنقطع الأول, وهاهنا أولى بالبطلان, وهو الأظهر. وقسم منقطع الابتداء والانتهاء ولا وسط له: كما إذا وقف على رجل غير معين, أو على من يختاره فلان, أو على من يولد له,

أو على مسجد سيبنيه, قال في "التهذيب": فهو غير صحيح على الصحيح من المذهب. قال: وإن وقف على رجل بعينه, ثم على الفقراء, فرد الرجل أي: أصل الوقف بطل في حقه؛ لأن الوقف يتضمن إيجاب حق للموقوف عليه, وليس للواقف ولاية إيجاب الحق [له] بغير رضاه. [قال]: وفي حق الفقراء مأخذهما: أن البطن الثاني يتلقون الوقف من الواقف أم من الموقوف عليه أولًا؟ وفيه خلاف سبق. فإن قلنا بالأول صح, وإلا فلا, والقاضي أبو الطيب بناه على تفريق الصفقة, وعلى كلتا الحالتين فالبناء يقتضي أن يكون الصحيح الصحة. واعلم أن الأصحاب اختلفوا في أن الوقف على معين هل يفتقر إلى القبول أم لا؟ على وجهين, مع اتفاقهم أن الوقف على الجهة العامة كالفقراء والمساكين والرباطات لا يشترط فيه القبول, لتعذره, مع أنه شبيه بالتحرير. فأحد الوجهين –وهو الأصح عند الإمام وغيره, وبه جزم الفوراني -: الاشتراط؛ لأنه يبعد دخول عين أو منفعة في ملكه من غير رضاه, وعلى هذا فليكن متصلًا بالإيجاب كما في البيع والهبة, وسيأتي في الهبة حكاية وجه في عدم اشتراط القبول فيها على الفور, ولا يبعد [مجيء مثله] هنا. والثاني: لا يشترط, واستحقاق الموقوف عليه كاستحقاق العتيق منفعة نفسه, وهذا ما اقتضى إيراد صاحب "التهذيب" ترجيحه, وبه أجاب في "الاستقصاء", والروياني في "البحر" حيث قال: لا يحتاج لزوم الوقف إلى القبول, ولكن لا يملك عليه إلا باختياره, ويكفى الأخذ دليلًا على الاختيار في أول دفعة, ولا يشترط تكرره, وخصص في "التتمة" الوجهين بما إذا قلنا: إن الملك في الوقف

منتقل إلى الموقوف عليه, أما إذا قلنا بغيره فلا يشترط. وكلام الشيخ هنا يجوز أن يكون مفرعًا على عدم اشتراط القبول؛ لأنه لو كان مفرعًا على اشتراطه فالرد إما أن يكون قبل القبول أو بعده, فإن كان بعده لم يكن صحيحًا؛ للزوم الوقف, والوقف بعد لزومه لا يرد, وإن كان قبله فإحالة البطلان على عدم ركن العقد –وهو القبول- أولى من إحالته على غيره وهو الرد, ويجوز أن يكون تفريعًا على اعتبار القبول, وعبر بالرد عن عدم القبول؛ لأنه إذا كان شرطًا ولم يأت الموقوف عليه به فقد رده, أو يكون الرد بعد القبول, ولا نقول: إنه بالقبول لزم, ويكون معنى قول الشيخ: فإذا صح الوقف لزم أي: من جانب الواقف؛ ولهذا نقول: إنه إذا وقف الشقص المشفوع صح, وللشفيع نقض الوقف, وحينئذ يكون الخلاف في صحة الوقف على الفقراء وبطلانه هو الخلاف السابق في الوقف المنقطع الابتداء, وأعاده؛ لأنه [في الصورة الأولى جرى لأجل ذلك في الموقوف عليه, وهنا جرى تخلل في العقد, وهذا هو] المذكور في "النهاية" والمفهوم من كلام الأئمة, وقد قال الأصحاب: إن الوقف يبطل بالرد في حق الراد, سواء شرطنا القبول أو لم نشترطه؛ كما في الوصية والوكالة, وقضية قول الشيخ: وإذا صح الوقف لزم ألا يتمكن من الرد, إذا قلنا بعدم اشتراط القبول, وهو ما أبدأه في "التهذيب" عن شيخه احتمالًا, وقال: إنه الأصح عندي, خصوصًا إذا قلنا: إن الملك زائل إلى الله –تعالى – كما لو أعتق عبده فرده. أما إذا رد الريع دون أصل الوقف, قال في "البحر": إن رد غلة واحدة كان على حقه فيما يحدث بعدها, ويعرض عليه الغلة الأخرى, فإن عاد بعد الرد يطلبها نظر: إن كان بعد إعطائها إلى من رجعت إليه لم يسترجع, وإن كان قبل ذلك ردت إليه. وحكى فيمن يرجع إليه الغلة المردودة إذا لم يكن شرط من جهة الواقف

وجهين, كما لو مات: أحدهما: ترد إلى من معه. والثاني: ترد إلى الفقراء والمساكين. فرع: لو رد البطن الثاني فيما إذا كان [قد] وقف على زيد, ثم على عمرو, ثم على الفقراء – فهل يبطل برهم مع أنه لا يشترط قبولهم؟ فيه وجهان عند الغزالي وإمامه, وأجرى في "التتمة" الوجهين في اشتراط القبول منهم أيضاً, وبناهما على أنهم يتلقون ممن؟ فإن قلنا: من الواقف, فحكمهم حكم البطن الأول, وإلا فلا, واستحسنه الرافعي, وقال: لا يبعد ألا يتصل الاستحقاق بالإيجاب, ومع ذلك يعتبر القبول كما في الوصية. قال: وإن وقف وسكت عن السبيل أي: عن جهات المصرف, مثل أن قال: وقفت هذا –وسكت – بطل [الوقف] في أحد القولين؛ لأن الوقف يقتضي التمليك, فإذا لم يعين الملك بطل كما لو قال: بعت, أو: وهبت, وسكت ولم يعين المبيع منه والموهوب له, ولأنه لو وقف على مجهول بطل؛ فإذا أطلق كان أولى, وهذا ما قال الماوردي: إنه أقيس, والقاضي [الحسين] والغزالي: إنه الأظهر, والبغوي والرافعي: إنه الصحيح, والروياني: إنه اختيار القاضي أبي حامد. ويصح في الآخر؛ لأنه إزالة ملك عن جهة القربة فصح مطلقًا؛ كالأضحية والهدى, وهذا ما مال إليه الشيخ أبو حامد والمصنف وصاحب "البحر", وقال: إنه منصوص عليه, وغيره نسب القولين إلى نصه في "حرملة". وعلى الثاني قال الشيخ: ويصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لما سبق, ويجيء فيه ما تقدم من التفاريع, ومن هو الأقرب, وقد حكى الشيخ أبو حامد أن

الشافعي نص هاهنا على أنه يسوي بين [فقراء] أقرباء الواقف وأغنيائهم, وتابعه المحاملي في ذلك. ثم إذا انقرضوا, قال في "التهذيب": صرف إلى الفقراء والمساكين. والمذكور في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الشامل": أنه يصرف ابتداء [إلى الفقراء والمساكين, فيبدأ] [بأقاربه المحتاجين؛ لأنهم أولى بصدقته؛ كما لو أوصى بثلث ماله مطلقًا, ولم يذكر الموصى له يصرف] للفقراء والمساكين, ويبدأ بأقاربه. وفي "الحاوي" أن ابن سريج حكى في مصرفه ثلاثة أوجه: أحدها: ما ذكرناه عن القاضي أبي الطيب, وزاد أنه يقدم أقرب الناس إليه نسبًا ودارًا من ذوي الحاجات, وهذا ما صححه الماوردي. والثاني: يصرف إلى وجوه البر والخير؛ لعموم النفع بها. والثالث – وهو المذهب -: أن الأصل وقف المنفعة له ولورثته وورثة ورثته ما بقوا, فإذا انقرضوا كانت في مصالح المسلمين, وكأنه وقف الأصل واستثنى المنفعة لنفسه ولورثته انتهاء. وحكى المتولي: أنه إذا أوصى بثلث ماله ولم يعين الجهة كان في صحة الوصية الخلاف المذكور. فرع: لو قال: نصف داري هذه صدقة محرمة ليصرف من غلتها إلى فلان كل شهر كذا –ولم يزد –ففي صحة الوقف وجهان, إن صح ففي الفاضل عن المقدار ثلاثة أوجه: أحدها: الصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف. والثاني: الصرف إلى الفقراء. والثالث: الصرف إلى الواقف. قال: ولا يصح الوقف إلا بالقول أي: سواء كان الوقف يضاهى التحرير, كوقف

البقعة مسجدًا, أو لا يضاهيه ويتضمن نقل الملك كالوقف على معين, أو على الجهات العامة؛ لأنه إزالة ملك عن منفعة عين, أو عن عين ومنفعة على وجه القربة تبرعًا؛ فلم يصح بغير لفظٍ مع القدرة كشراء القريب والعتق. واحترزنا بلفظ "القربة" عن قضاء الديون وتقديم الطعام للضيف, وبلفظ "التبرع" عن الزكوات وكفارات, وبلفظ "القدرة" عن الأخرس؛ فإنه إذا عجز عن النطق صح منه الوقف بالإشارة المفهمة. قال المتولي ويخالف البيع حيث أثبتنا حكمه على طريقة بدون لفظ؛ لأن البيع كان معهودًا في الجاهلية والشرع ورد بإباحته فجرى عليه, والوقف لم نعهده في الجاهلية فاتبع فيه ما ورد في الشرع وهو اللفظ. قال: وألفاظه أي: الصريحة وقفت؛ لأنه موضوع له ومعروف به, وحبست وسبلت؛ لأنه ثبت لهما عرف الشرع بدليل حديث عمر. قال المتولي: ولأنهما تكررا في عرف الصحابة؛ فما نقل عنهم الوقف إلا بهذين اللفظين. وهذا هو الصحيح. وقيل: إن الألفاظ الثلاثة كناية, حكاه ابن كج عن رواية أبي حامد وأبي الحسين, وقد نسب هذا إلى الإصطخري, وبعضهم ينسب إليه أن لفظ: "التحبيس" و"التسبيل" كنايتان دون لفظ "الوقف". وبعضهم نسب إليه أن لفظ "التسبيل" خاصة كناية؛ تمسكًا بأنه –عليه السلام – غاير بين اللفظين في قصة عمر: فاستعمل التحبيس في الأصول, والتسبيل في الثمار التي ليست بموقوفة, وبأن "التسبيل" من "السبيل", وهو لفظ مبهم, و"التحبيس" معناه: حبس الملك في الرقبة عن [التصرفات المزيلة] فكان في معنى الوقف, وبذلك حصل في المسألة أربعة أوجه, والمذكور في أكثر الكتب: ما ذكره الشيخ, قال في "الإبانة": ويقوم مقام ذلك ما أدى معنى هذه الألفاظ.

قال: وفي قوله: حرمت وأبدت, وجهان: أحدهما: انهما كنايتان؛ لنه لم يثبت لهما عرف لغوى ولا شرعى, وهذا قول ابن أبي هريرة, وهو الأظهر في "الرافعي", والأصح في "تعليق" القاضي الحسين و"البحر". والثاني: أنهما صريحان؛ لأن التحريم والتأبيد في غير الأبضاع لا يكون إلا بالوقف فحمل عليه, وهذا ما اختاره في "المرشد". وقال المتولي: إن ظاهر كلام الشافعي –رضي الله عنه – يدل عليه؛ فإنه قال: إذا قال في لفظ الصدقة: محرمة مؤبدة, انعقد الوقف. فلو لم يكن ذلك صريحًا لما كان مفيدًا للصراحة؛ إذ الكناية إذا اقترنت بها كناية أخرى لا تمنع مقتضاها, وقد ذكر ابن الصباغ ما ذكره المتولي احتمالًا لنفسه, ولا يخفى أن هذا تفريع على أن الألفاظ السابقة صريحة, أما إذا قلنا بأنها كناية أو بعضها فهذا أولى. قال: وإن قال: تصدقت, لم يصح الوقف؛ لتردد اللفظ بين صدقة التطوع والصدقة الواجبة والصدقة الموقوفة. قال: إلا أن ينويه أو يقرن به أي: بضم الراء, ويقال: بكسرها ما يدل عليه كقوله: صدقة محرمة, أو: مؤبدة, أو: صدقة لا تباع, وما [أشبه ذلك] أي: مما يدل على إرادة الوقف: كذكر شرط من شروطه, أو حكم من أحكامه؛ لأن به تترجح إرادة الوقف, وحكى الإمام عن بعضهم عدم الاكتفاء بلفظ "التحريم" و"التأبيد" مع لفظ الصدقة, [وأنه لا بد من التقييد بقطع التصرف عن العين كقوله: صدقة لا تباع, أو: لا توهب, أو: لا تورث؛ لأن لفظ "التحريم" و"التأبيد" مع لفظ "الصدقة"] قد يحملان على تأكد الملك في الرقبة على معنى أن الملك فيها مستمر لا ينقضه المتصدق. [قال الرافعي]: ويشبه ألا يعتبر هذا القائل في قوله: صدقة موقوفة, [مثل]

هذا التفصيل, وأن هذا قول من ذهب إلى أن لفظ "التأبيد" و"التحريم" [ليسا] بصريحين. وحكى عن آخرين: أنهم رأوا أن لفظ "ما" لا يُلحق لفظ "الصدقة" بالصريح؛ لأنه صريح في التملك المحض الذي يخالف مقصوده الذي يخالف مقصوده مقصود الوقف؛ فلا ينصرف إلى غيره بقرينة [لا استقلال] لها, وأشار الإمام إليه – أيضاً –وبه يتحصل في إفادة لفظ "الصدقة" الوقف إذا اقترن به لفظ آخر ثلاثة أوجه, وظاهر المذهب على ما حكاه الإمام-: الذي حكاه الشيخ, وقال: إن الخلاف يجري إذا كان الوقف على معين كقوله: تصدقت على فلان وفلان صدقة محرمة [أو] مؤبدة, أو على جهة عامة كقوله: تصدقت على المساكين صدقة محرمة [مؤبدة] , وسلك فيما إذا تجرد لفظه عن لفظ آخر واقترنت به النية طريقًا آخر, فقال: إن كانت الإضافة إلى جهة عامة فمنهم من ينزل النية منزلة التقييد باللفظ؛ إقامة للفظ الصدقة مقام الكنايات في الطلاق والعتاق, وهو الذي صححه الرافعي, ومنهم من لم يكتف بالنية؛ فإن التصدق صريح في تمليك الرقبة, وإن كانت الإضافة إلى معين فالأصح أنه صدقة مقتضاها تمليك الرقبة؛ فإنها صريح في الباب, وأن لفظ التحريم إذا قلنا: إنه ليس بصريح, فاقترنت به النية –يجب القطع بصحة الوقف؛ لأنه ليس بتمليك للرقبة. وما قاله في اقتران النية عند الإضافة إلى جهة عامة لا اعتراض عليه؛ لأنه لا شيء غيرها يصرف اللفظ إليه فانصرف إلى الوقف, وما قاله من الإضافة إلى معين: إن فرضه مع كونه لم يذكر مالًا فصحيح؛ لأن الوقف الذي لا مال له غير صحيح عنده على الأصح, وقد وجد لفظ "الصدقة" نفاذًا [في موضوعه, فترتب عليه مقتضاه, ولا يجوز نقله عن] موضوعه لمجرد النية. وإن فرضه وقد ذكر له مالًا صحيحًا, فذكر المال قرينة ظاهرة على إرادة اللفظ؛ فنزل منزلة اقتران لفظ الصدقة بلفظ التحريم أو التأبيد؛ فلا يظهر الفرق في الحكم معنًى, وما أطلقه العراقيون من الاكتفاء بالنية

يجب حمله على ما إذا كانت الإضافة إلى جهة عامة إذا فرعنا على [أن الوقف المنقطع الانتهاء صحيح]، فلا فرق بين الجهة العامة والإضافة إلى معين. وأصل الاختلاف بين العراقيين والمراوزة عند وجود مجرد النية يرجع إلى أصل، وهو أن لفظ الصدقة إذا تجرد عن القرائن والنية هل يحمل على الهبة أم لا؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي: أحدهما – وبه قال البغداديون-: لا؛ كما لا يحمل على الوقف، وعلى هذا ينتظم ما قاله العراقيون من أنه إذا نوى حصل الوقف في الظاهر دون الباطن، فإن ذكر بأنه نوى لزم في الظاهر والباطن، وإن قال: ما أردت الوقف، قبل منه، فإن أنكر [ذلك] الموقوف عليه كان القول قوله مع يمينه؛ لأنه أعرف بنيته، كذا قاله ابن الصباغ. والوجه الثاني – وبه قال البصريون-: أنه يحمل على الهبة، وعلى هذا تجري مباحث الإمام، والله أعلم. تنبيه: يؤخذ من كلام الشيخ أن الألفاظ التي [ينعقد بها] الوقف ستة، كما صرح به أبو الطيب والماوردي وغيرهما: ثلاثة ألفاظ صريحة وهي الأُوَل، ولفظ واحد كناية جزمًا وهو الأخير، ولفظان مختلف في إلحاقهما بالأول أو بالأخير، وإذا كان كذلك لزم ألا ينعقد بلفظ غيرها، سواء كان مضاهيًا للتحرير كالمساجد أو لا، وعلى ذلك جرى القاضي الحسين والمتولي في موضع من كتابه والبغوي، ولم يحكوا سواه، وأن الوقف لا ينعقد بقوله: جعلت هذه البقعة مسجدًا؛ لأنه لم يوجد شيء من ألفاظ الوقف، وكذا أجاب به الأستاذ أبو طاهر، وقال: لأنه وصف البقعة بما هي متصفة به، قال – عليه السلام-: "جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا"، وكلام الغزالي في الوجيز ظاهر في أنها تصير مسجدًا بذلك، وإن لم يوجد شيء من ألفاظ الوقف؛ فإنه قال: لو أذَّ للصلاة في ملكه لم يصر مسجدًا [بذلك]، [وكذا إذا صلى]

[ما لم] يقل: جعلته مسجدًا، وكذا المتولي في أوائل هذا الباب قال: إن عندنا يلزم الوقف بمجرد قوله: جعلت هذا الموضع مسجدًا. وحكى الإمام أن الأصحاب ترددوا في استعمال لفظ الوقف فيما يضاهي التحرير كما إذا قال مالك المنفعة: وقفتها على صلاة المصلين، وهي [يبغي جعلها] مسجدًا. قال الرافعي: فانظر ما بين الكلامين من التباعد. والأشبه: أنه لا [بأس باستعمالي لفظ الوقف، وأن قوله: جعلته مسجدًا يقوم مقامه؛ لإشعاره بالمقصود، واشتهاره [به]. قلت: وقد صرح في "الوسيط" بأن لفظ "الوقف" و"التحبيس" و"التسبيل" يستعمل فيها، وإن حكى الخلاف في الصورة التي حكاها الإمام، ومحل التردد الذي ذكرناه إذا خلا عن نية الوقف، أما إذا قصد بقوله: جعلتها مسجدًا، الوقف – صارت مسجدًا، صرح به القاضي الحسين، وكذا محله إذا كان ملكه على الأرض مستقرًّا قبل إرادة جعل البقعة مسجدًا، أما إذا ابتدأ بناء مسجد في موات ونوى به المسجد صارت مسجدًا، ولم يحتج إلى صريح القول بأنه مسجد، قال في "الحاوي": لأن الفعل مع النية يغنيان عن القول، ويزول ملكه عن الآية بعد استقرارها في مواضعها من البناء، وهي قبل الاستقرار باقية على ملكه، إلا أن يصرح قولاً: إنها للمسجد؛ فتخرج عن ملكه، ولو بنى بعضه لم يجبر على التمام، ولو سقط على إنسان لم يضمنه، سواء أستأذن الإمام أم لا. قال: وإذا صح الوقف لزم أي: ولا يفتقر إلى القبض كما صار إليه بعض العلماء، ولا إلى حكم حاكم كما صار إليه أبو حنيفة، ووجهه: ما ذكرناه في أول الباب من حديث عمر، رضي الله عنه. ووجه التمسك به على الأول: أنه لما أمره – عليه السلام – بتحبيس الأمل

وتسبيل الثمرة لم يأمره بالإقباض، ولو كان شرطًا لذكره، [و] لأنه جعل إليه التحبيس، وعند المخالف: لا يملك الواقف التحبيس؛ لأنه لا يصير موقوفًا لازمًا حتى يقبضه غيره، وذلك سبب من جهته. ووجه التمسك [به] على الثاني من وجهين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يحبس الأصول، وعند المخالف لا يقع تحبيس الأصل بحال؛ لأنه لا يلزم إلا من جهة الحاكم. والثاني: أن عمر – رضي الله عنه – لما جعلها صدقة، ثم ذكر أحكامها فقال: "لا تباع، ولا توهب، ولا تورث" – دل على أن هذه الأحكام تتعلق بها إذا صارت صدقة، وإن لم يحكم بها حاكم، ولأنه تصرف يلزم إذا وجد في حال المرض من الثلث؛ فجاز أن يلزم في حال الصحة من غير حاكم. أصله: إذا بنى مسجدًا؛ فإنه يلزم من غير حاكم. وقال بعض أصحابنا: إذا اعتبرنا القبول في الوقف فلا بد من القبض فيه، وهو ما أفهمه كلامه في "المهذب" في باب الوصية حيث قال في توجيه رد الوقف بعد القبول: [إنه تمليك من جهة الآدمي من غير بدل؛ فيصح رده قبل القبض؛ كالوقف وهو فيه متبع للماوردي كما ستعرفه]. ثم قال: وإن شرط فيه الخيار أو شرط أن يبيعه إذا شاء بطل؛ لأنه إخراج مال على وجه القربة فلم يصح مع هذين الشرطين؛ كالصدقة والعتق، وحكى ابن سريج [وجهًا]: أنه يبطل شرط البيع، ويصح أصل الوقف، كذا حكاه الماوردي، ويوافقه مع حكاه ابن كج عنه فيما إذا وقف على نفسه: أنه يصح الوقف ويلغى الشرط والإضافة إلى نفسه، وفي "الرافعي" أن ابن سريج أبدى ذلك احتمالاً لنفسه في الصورتين، وحكى في باب الهبة وجهًا: أن الوقف لا يبطل بسائر الشروط الفاسدة، مخرَّجًا عن مسألة العُمْرَى، كما ستقف عليه، إن شاء الله تعالى.

وله وجه مما ذكرناه في أن الوقف يضاهي العتق، وحكاه عن الإمام في باب عقد الهدنة أيضاً، وحكى الجيلي عن "المجرد" وجهًا: أن خيار الشرط يصح. قال: ولا يجوز أن يعلق ابتدؤه على شرط، فإن علقه على شرط أي: مثل أن قال: إذا جاء رأس الشهر فقد وقفته على الفقراء، وإذا جاء رأس الشهر فقد وقفته على ولدى ثم على الفقراء. قال: بطل؛ لأنه عقد يقتضي نقل المال في الحال لم يُبْنَ على التغليب والسِّراية؛ فلم يصح تعليقه على شرط؛ كالبيع والهبة، وهذا ما حكى الإمام والغزالي عن العراقيين القطع به؛ لأنه لم يوافق مصلحة الوقف، بخلاف المنقطع الابتداء. وحكى الإمام في موضع آخر عن بعض المراوزة تخريجه على الخلاف المذكور فيما إذا وقف على من سيوجد من أولاده، ثم على الفقراء، وهو المنقطع الابتداء، وأن التصريح أولى بالفساد، وعلى هذا يكون حكمه كما تقدم. وقال القاضي الحسين في "تعليقه": إن وجه الصحة مبني على أن الوقف لا يثبت بالشاهد واليمين؛ فيكون شبيهًا بالعتق، والعتق يصح تعليقه. ويقرب منه ما حكى الإمام عن شيخه أنه قال: وقعت في "الفتاوى" مسألة في زمان الأستاذ أبي إسحاق، وهي أن من قال: وقفت داري هذه على المساكين بعد موتي، فأفتى الأستاذ بأن الوقف يقع بعد الموت وقوع العتق في المُدَبَّر. وساعَدَهُ أئمةُ الزمان. قال الإمام: وهو تعليق على التحقيق، بل هو زائد عليه؛ فإنه إيقاع تصرف بعد الموت. فإن قيل: قد تقدم في [باب] الوكالة أنه [لو] قال: جاء رأس الشهر فقد وكلتك، لم يصح؛ لأن هذا تعليق الوكالة، وهو غير جائز.

ولو قال: وكلتك بأن تبيع مالي أو تطلق زوجتي بعد شهر، صح؛ لأنه ليس بتعليق، وذلك يدل على الفرق بين اللفظين. قلت: تصوير الإمام التوكيل في الحال وتعليق التصرف على شرط – كما ذكرناه في باب الوكالة يُنجي من هذا السؤال. وقد حكى الرافعي عن "فتاوى" القفال في "الفتاوى" في المسألة التي أفتى فيها الأستاذ: أنه لو أوصى بالدار بعد ذلك كان رجوعًا. قال: وإن عُلق انتهاؤه على شرط بأن قال: وقفت هذا إلى سنة أي: وذكر مصرفًا صحيحًا بطل الوقف في أحد القولين؛ لأنه إخراج مال عن ملكه على وجه القربة فلم يصح إلى مدة؛ كالعتق والصدقة، لكن العتق نافذ والصداقة، وهذان باطلان، وهذا ما حكاه في "المهذب" لا غير. وقال الإمام: إنه المذهب الذي عليه الفتوى وإن صححنا الوقف المنقطع الآخر، فإن تصحيح ذلك يقرب من التأبيد؛ نظرًا [إلى الموقوف] عليه وتشبيهًا بالنكاح، وأما التصريح بالتأقيت فلا اتجاه له. قال: ويصح في الآخر، ويصرف [بعد السنة] إلى أقرب الناس [إلى الواقف]؛ تشبيهًا له بالمنقطع الانتهاء، وقد ادعى الجيلي أنه الأصح في أكثر

الكتب، وعلى هذا تجيء التفاريع السابقة. وعن بعض الأصحاب: أنه يصح وينتهي الوقف بانتهاء المدة، كما قلنا في الوقف المنقطع الانتهاء. قال الإمام: [وهذا] لا يحل الاعتداد به، ولا يسوغ إلحاقه بالوجوه الضعيفة؛ فإنه في التحقيق عارية، والعارية يستحيل الحكم بلزومها. ومنهم من قال: الوقف الذي لا يشترط فيه القبول لا يفسد بالتأقيت على أحد الوجهين، ويتأبد على أحد الوجهين، والذي يشترط فيه القبول على رأي بعض الأصحاب الأصح [فيه] أنه يفسد بالشرط الفاسد في العقود المفتقرة إلى الإيجاب والقبول، وما هو من قبيل التحرير كالمساجد والمقابر فلا يفسد بفساد الشرط والتأقيت جزمًا، وما عداه مُطَّرح، كذا قاله الإمام في موضع، وعليه جرى في "الوسيط"، ولو شرط أن يعود الوقف إليه بعد السنة ملكًا فعن البويطي: أنه على قولين؛ أخذًا من مسألة العُمْرى والمذهب البطلان، وعلى قول الصحة يتأبد حكمه كحكم الوقف المنقطع الانتهاء. وقيل: يعود إليه ملكًا بعد السنة، صرح به في "الإبانة" وغيرها. قال: وينتقل الملك في الرقبة بالوقف عن الواقف في ظاهر المذهب؛ لأنه سبب يقطع تصرف الواقف في الرقبة بالوقف؛ فأزال الملك كالعتق، وهذا أصح في الطرق، وعليه فلمن ينتقل؟ قال الشيخ: فقيل: ينتقل إلى الله تعالى؛ لأنه معنى يزيل الملك، ولا يقصد به الانتفاع بالرقبة؛ فانتقل إلى الله تعالى، كالعتق، وهذا ما نص عليه هاهنا. قال: وقيل إلى الموقوف عليه؛ لأن ما أزال الملك عن العين لم يزل المالية نقله إلى الآدمي؛ كالصدقة، وهذا لم يذكره البندنيجي والمصنف في "المهذب"، وأورده القاضي أبو الطيب وغيره، وهو مأخوذ من قول الشافعي- رضي الله عنه – في

الشهادات: أقضي في الوقف بالشاهد واليمين، ولا أقضى في العتق بشاهد ويمين، والقائلون بالأول قالوا: [قبول] الشاهد واليمين فيه ليس لأجل أن الملك في الرقبة قد انتقل إلى الموقوف عليه؛ بل لأن المقصود منه المال، وما كان مالاً أو المقصود منه المال ثبت بالشاهد واليمين، وليس كذلك العتق؛ لأنه ليس بمال ولا المقصود ومنه المال؛ فلا يدخل فيه الشاهد واليمين، على أن بعضهم منع ثبوت الوقف بالشاهد واليمين. قال: وقيل: فيه قولان، ووجههما: ما ذكرناه، وهذا أظهر الطرق، وعليه أكثر الأصحاب كما حكاه في "البحر"، والصحيح عند الجمهور – وإن ثبت الخلاف -: انتقاله إلى الله تعالى، وفي "الحاوي" تضعيف خلافه. ومقابل ظاهر المذهب قول حكاه الفوراني والقاضي الحسين والإمام عن رواية بعض الأصحاب: أن الملك لا ينتقل، بل يبقى على ملك الواقف؛ لأنه حبَّس الأصل وسبَّل الثمرة، وذلك لا يوجب زوال الملك – أيضاً – وقد قال – عليه السلام -: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثٍ، صدقة جارية ... " الحديث، وإنما يحصل له الثواب إذا كانت الرقبة باقية على ملكه؛ فتحصل له الزوائد والفوائد، ثم تصرف من ملكه في وجوه البر، فيحصل الثواب. وحكى في "الحلية" عن بعض الأصحاب القطع به، وبه قال القاضي الحسين في "تعليقه"، وهذا لا يوجد للشافعي – رضي الله عنه – وكذلك البندنيجي أيضاً: أنه لا يعرف مذهبًا للشافعي، رضي الله عنه. وفي "الحاوي": أن القائل به أبو حفص بن الوكيل، وادعى القاضي أبو الطيب والمتولي أن ابن سريج خرَّجه، وكذلك الرافعي قال: إنه مخرج من نص الشافعي

- رضي الله عنه – على صحة الوقف المنقطع، وأنه يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف، وأنه يحكي عن اختيار القاضي الحسين، وأشار إلى المتولي فإنه حكى ذلك [عنه]، والذي رأيته في "تعليقه": تضعيفه، وكذلك هو في غيره، وتمسك فيه الماوردي بأمرين: أحدهما: إجماعهم على الفرق بين الوقف والعواريِّ، دليلٌ على زوال الملك بالوقف وإن لم يزل بالعواري. والثاني: أن حكم الوقف بعد موت واقفه كحكمه في حياة واقفه، وهو لا يبقى له بعد الموت ملك؛ فدل على أنه لم يكن له في حال الحياة ملك. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون الوقف على معين أو على جهة عامة [كالمساكين] إذا كان القصد تمليك ما يحصل من الوقف من ثمرة وغَلَّة [للمساكين]. وفي "الوجيز" ما يخرج [منه] طريقة أخرى، وهي أن الوقف إن كان على معين فهو ملك للموقوف عليه بلا خلاف، وإن كان على جهة عامة فالملك لله تعالى بلا خلاف. وفي "الحاوي" حكاية الخلاف في الوقف على معين، والجزم بأنه ينتقل إلى الله تعالى في الجهة العامة، أما ما لا يقصد به تمليك الرَّيْع كجعل البقعة مسجدًا أو مقبرة فذاك فلكُّ عن الملك كتحرير الرقيق؛ فينقطع عنها اختصاص الآدميين، وليس ذلك موضع الخلاف. ويلتحق بذلك – كما حكاه الإمام-: الرباطات والمدارس. واعلم أن الموجود في أكثر نسخ "التنبيه": "وينتقل الملك في الرقبة بالوقف عن الواقف في ظاهر المذهب، وقيل: إلى الله" بالواو، والمضبوط عن نسخة المصنف بالفاء كما ذكرناه، وهو الصواب، وبه ينتظم الكلام.

قال: ويملك الموقوف عليه غلة الوقف أي: من ثمرة وأغصانٍ جرت العادة بقطعها كشجر الخِلَاف. قال: ومنفعته وصوفه ولبنه أي: وإن قلنا: إن الملك في الرقبة إلى الله تعالى أو للواقف؛ لأنه ليس مقصود الواقف إلا التقرب إلى الله – [عز وجل] – بذلك. قال المتولي: ولأنها لو لم تملك لصارت العين معطلة مُسَيَّبة، وقد قال الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ} [المائدة: 103]. والسائبة – كما قال القاضي أبو الطيب-: أن تلد الناقة عشر بطون كلها إناث، فتُسَيَّب ولا تُحْلَب إلا للضيف، ولا تُرْكب. والبحيرة: ولدها الحادي عشر إذا كان أنثى، وسمي بذلك؛ لأنهم يبحرون أذنها، أي يشقونها، والبحر: الشَّقُ. والوصيلة: الشاة تلد خمس بطون، في كل بطن عناقان، فإذا ولدت بطنًا سادسًا قالوا: أوصلت أخاها. فما ولدت بعد ذلك يكون حلالاً للذكور حرامًا على الإناث. والحام: الفحل ينتج من ظهره عشر بطون، فيُسَيَّب، ويقال: حمى ظهره؛ فلا يركب. وإذا ثبت أن ذلك مملوك للموقوف عليه كان له أن يستوفيه بنفسه وبالإجارة والإعارة إذا أمكنت كسائر الأملاك، كما صرح به المتولي، اللهم إلا أن يكون الوقف على أن ينتفع به، كما إذا وقف دارًا على أن يسكنها من يعلِّم الصبيان في هذه القرية؛ فإنه ليس له أن يسكنها غيره بأجرة وبدونها، وكذا إذا وقفها على معين، على المذهب المقطوع به.

وذهب بعض الأصحاب في هذه الصورة – كما حكاه الإمام – إلى أن الشرط فاسد، وهل يفسد الوقف؟ فيه وجهان، فإن صح كان على حكم الإطلاق. ولو كان الواقف شرط أن يستغل ويصرف [غلته إلى فلان]، فإنه يتعين الاستغلال، ولا يجوز [له] أن يسكنه. وما ذكرناه [من اللبن] والصوف، وكذا في النتاج – على ما سيأتي – مفروضٌ فيما إذا أطلق الوقف أو شرط ذلك للموقوف عليه، أما إذا وقف دابة على [ركوب] إنسان ولم يشترط [له] الدَّرَّ والنَّسْل، ففي "النهاية": أن من أصحابنا من قال: تخصيص الوقف ببعض المنافع يفسده، ومنهم من قال: الشرط يفسد، والوقف يَعُمُّ. وفي "الإبانة": أنه لو وقف دابة على رجل للركوب، ولم يجعل درها ووبَرها للموقوف عليه – فللموقوف عليه الركوب وليس له الدَّر والوبر، وحكم الدّر والوبر حكم ما لو وقف شيئاً على زيد ولم يقل بعده على من، ومات زيد. وفي "الرافعي": أن صاحب "التهذيب" قال ينبغي أن تكون للواقف. وهذا أوجه؛ لأن النسل والدّر لا يصرف لهما أولاً ولا آخرًا؛ بل هما غير داخلَيْن في الوقف، ونَظَّر جواز الوقف ببعض الفوائد والمنافع خاصةً بما إذا وُقفَ ثور للإنزاء، وقد قالوا: إنه جائز، ولا يجوز استعماله في الحراثة، ولا خلاف أنه [لو] جعل الركوب لشخص والصوف لآخر جاز، وصرح به الإمام. قال: وإن كانت جارية لم يملك وطأها: إما لانتفاء الملك، أو لنقصه لا بوطء سابق، والوطء لا يباح إلا بزوجية [أو ملك] تام، وبالقيد الأخير يخرج وطء أم الولد؛ لأن نقصان الملك فيها حصل بالوطء السابق، ولا يلزم جواز وطء العبد الجارية التي مَلَّكها له السيد بإذنه على [التقديم]؛ لأن الملك ثَمَّ غيرُ ناقص،

وإنما الناقص المالك، وهي كجارية المجنون يطؤها ولا يتصرف فيها لنقصانه، فلو وطئها فلا حد [عليه] للشبهة، وكذا لا مهر؛ فإنه لو وجب لوجب له، فلو أحبها فالود حُرُّ على كل قول، كما صرح به ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب والبندنيجي، والروياني وقال: إن هذا على القولين معًا. أي قولنا: إن الملك لله تعالى، أو للموقوف عليه، وقال الرافعي: الأصح: أن ذلك ينبني على أقوال الملك، فإن قلنا: إن الملك له، فلا حد عليه، وإلا فعليه الحد، ولا عبرة بملك المنفعة؛ كما لو وطئ الموصى له بالمنفعة الجارية. وهذه طريقة المتولي واختارها القاضي الحسين بعد أن قال: [قال] أصحابنا: لا حد عليه. وما ذكره الرافعي في الأمة الموصى بمنفعتها يفهم أنه لا خلاف في وجوب الحد عليها، وليس كذلك؛ بل الصحيح عنده – وبه جزم بعضهم، كما ستقف عليه في باب الوصية-: أنه لا حد عليها أيضاً. ثم قال الرافعي: ولا يجب عليه المهر بكل حال، وإن أحبلها، فإن أوجبنا الحد فهو كولدها من غيره – وسيأتي حكمه – وإن لم نوجبه فهو حر. وهل يغرم قيمته؟ ينبني على أنه [يكون] موقوفًا أم لا؟ فإن قلنا بالأول غرم إذا قلنا: إن الموقوف إذا أتلف [اشترى] بقيمته ما يقوم مقامه، وإلا فلا غرم، وهل تصير الجارية أم ولد [له]؟ ينظر: إن قلنا: لا ملك له، فلا. [وإن] قلنا: إن الملك له، صارت أم ولد له، جزم به ابن الصباغ. وقال القاضي الحسين: على الظاهر من المذهب. وقاله في "الوسيط": على الأصح. وإيراد الماوردي يقتضي ترجيح خلافه؛ فإنه حكى: أنها لا تصير أم ولد، ثم قال: وكان بعض أصحابنا يجعلها أم ولد له، وإن كان لا ينفذ إعتاقه؛ لأن حكم الاستيلاد

أقوى لكونه يثبت بغير الاختيار. وقد حكى غيره الوجه في نفوذ إعتاقه. ثم إذا جعلناها أم ولد عَتَقَتْ بموته، وتؤخذ قيمتها من تركته بلا خلاف، كما قاله البندنيجي والماوردي والمحاملي، والقاضيان أبو الطيب والحسين، وتصرف إلى ثمن جارية تكون وقفًا على قولٍ، وعلى قول تصرف إلى البطن الثاني؛ لأن حالةَ استحقاق القيمة يكون الوقف منتقلاً إليهم، ويكون حكمها كما لو قتل الموقوف [عليه]، وسيأتي. وحكم الواقف في امتناع الوطء – وإن قلنا: إن الملك له – حكم الموقوف عليه، بل من طريق الأولى؛ لأن المنفعة ليست له، وإذا وطئ وقلنا: لا ملك له، وانتفت الشبهة – واجب عليه الحد، والولد رقيق، ولا تكون الجارية أم ولد، وإن قلنا: الملك له، فلا حد، وإن أتت بولد فهو حر، وفي نفوذ الاستيلاد الخلاف في استيلاد الراهن؛ لتعلق حق الموقوف عليه بها، وهاهنا أولى بالمنع، وهو الذي حكاه في "الحاوي"، وكذلك في "البحر" ونسب [غيره] إلى الخراسانيين وقال: [إن] غيره ليس بشئ، والمهر لازم بكل حال. ولو كان الوطء بشبهة فالود حر، وعليه قيمته، ولمن تكون؟ فيه الخلاف الآتي، وتصير أم ولد إن ملَّكناه على أريٍ، فتعتق بموته، وتؤخذ قيمتها من تركته، وفيما يفعل بها الخلاف الآتي. واعلم أن كلام الأصحاب يقتضي: أنا إذا حكمنا بكون الجارية الموقوفة أم ولد عند استيلاد الموقوف عليه لا نحكم ببطلان الوقف قبل موته، وكذلك جزموا بأخذ القيمة من تركته. وقال الماوردي: إنها لو كانت في حياة المستولد لا غرم عليه؛ لأن الوقف باق

لبقاء رقها، وكذلك قالوا فيما إذا حكمنا بكونها أم ولد للواقف إذا استولدها؛ تفريعًا على أن الملك له. وحكى الإمام [عن الأصحاب] في هذه الصورة: أن بطلان الوقف بعد حكمنا بالاستيلاد يخرج على أن المستولدة هل يصح وقفها ابتداء أم لا؟ فإن حكمنا بصحته بقى الوقف فيها مع ثبوت الاستيلاد. ثم حكى عن الأصحاب [أنهم قالوا] في الصورة الأولى: إن بقاء الوقف يخرج على هذا الخلاف، واعترض عليه بأنا لا نثبت الاستيلاد في الموقوفة للموقوف عليه إلا بتقدير نقل الملك إليه بالكلية، مع إثبات الملك الذي أفاده الوقف، ومسافة يوجب إحلالها، فإذا حلت فليس هذا من جنس الملك الذي كان بسبب الوقف، قيل: فكيف تكون له مملوكة بالوقف ومنتقلة إليه بالاستيلاد؟! وهذا تناقض لا سبيل إلى التزامه، وليس هذا مما إذا وقع التفريع على أن الملك للواقف وقد استولد؛ فإنه إذا كان يقف مستولدته ابتداء فلا يمنع بقاء الوقف مع الاستيلاد انتهاءً، وكل واقف إنما يقف خالص ملكه؛ فيلزم من ثبوت الاستيلاد في حق الموقوف عليه بطلان الوقف، ولا ينقدح سواه، ومن قال من أصحابنا ببقاء الوقف مع ثبوت الاستيلاد يلزمه ألا يبيح المستولدة للموقوف عليه، وهذا خَبْطٌ عظيم، ثم إذا حكمنا ببطلان الوقف باستيلاد الواقف أو الموقوف عليه كان الاستيلاد بمثابة استهلاك الوقف، [وسيأتي]. انتهى. وهذا خلاف ما ذكره العراقيون والقاضي الحسين والمتولي وغيرهم، والمُحْوِج إليه تقديرُ انتقال ملك مستجد للموقوف عليه، ولا ضرورة بنا إليه؛ لأنا حكمنا بكونها أم ولد لأجل الملك الحاصل له بسبب الوقف، لا بتقدير ملك غيره، والله أعلم.

فرع: إذا أعتق الواقف العبد الموقوف، وقلنا: إن الملك له، لم ينفذ على الأصح، وعلى مقابله وجهان: أحدهما: تؤخذ قيمته ويشتري بها عبد مكانه. والثاني: لا، بل يعتق، وتبقى منفعته للموقوف عليه؛ كما لو أوصى برقبة عند لإنسان وبمنفعته لأخر، ثم أعتقه الموصي له بالرقبة – ينفذ عتقه، وتبقى منفعته للموصى [إليه بها]، كذا قاله القاضي الحسين، وأجرى الخلاف في نفوذ عتقه فيما إذا أعتقه الموقوف عليه، وقلنا: [إن] الملك له. قال: وفي التزويج ثلاثة أوجه: أحدهما: لا يجوز بحال؛ لأنه ينقص قيمتها ومنفعتها، وربما تتلف بالولادة، وفي ذلك إضرار بمن يأتي، و [هذا] هو الأصح في "تعليق" القاضي الحسين، و [قد] قال في "البحر": كذا قال عامة الأصحاب، والصحيح في غيرهما خلافه؛ لما في ذلك من تحصينها. والثاني: يجوز للموقوف عليه لأنه عقد على منفعتها فأشبه الإجارة، وهذا بناء على قولنا: الملك له، ولا يحتاج إلى إذن الحاكم. والثالث: يجوز للحاكم [أي: بإذن] الموقوف عليه؛ لتعلق حقه بها، وهذا بناء على قولنا: الملك لله تعالى، وهو المختار في "المرشد"، وفي المسألة قول آخر: أنه يجوز للواقف إذا قلنا: الملك له، ويستأذن الموقوف عليه، وهذا جواب المعظم، وفي "الوسيط": أن السلطان إذا زوج هل يستشير الموقوف عليه، [وفي أنه هل يستشير الواقف ويلزم مثله في استشارة الواقف إذا زَوَّجَ الموقوف عليه]، وقد صرح به مجلي. وفي "الحاوي": أن ولاية التزويج للوالي على الوقف، سواء كان أجنبيًا، أو

الواقف، أو الموقوف عليه، أو الحاكم، وبه جزم. فرع: لا يجوز للموقوف عليه أن يتزوجها إن قلنا: [لا ملك] له، وإن قلنا [الملك له]، فقد قيل بجوازه، وهو ما جزم به الإمام، وصاحب "الوسيط"، وفي "الرافعي": أن الظاهر المنع. ثم على قولنا بامتناع التزويج بناء على أن الملك له: لو تزوج بأمة، ثم وقفها سيدها عليه فهل ينفسخ النكاح؟ فيه وجان قربهما الإمام مما إذا ملك الابن زوجة أبيه، والمكاتب زوجة سيده، مع أنهما ممنوعان من التزويج ابتداء. قال: وإن وطئت أي: بشبهة أو مكرهة أخذ الموقوف عليه المهر؛ لأنه بدل منفعتها، وهكذا الحكم إذا زُوِّجت، وادعى القاضي الحسين فيه نفي الخلاف، وفي "الحلية" [في الأولى] ثلاثة أوجه، هذا أحدها، ولم يُبِنْ ما عداه، ولم أره في غيره. قال مجلي: ويحتمل أن يكون الآخران: أحدهما: يُشترى به عبد، ويكون وقفًا. والثاني: يكون للواقف كما جعلنا التزويج إليه على قولٍ. قلت: ويظهر فيهما شيء آخر إن صح النقل، وهو أن يقال: الوقف إنما يقتضي تمليك المنافع المعتادة كما قلنا: إذا أوصى له بمنفعةِ جاريةٍ لا يملك الموصَى له منفعة البُضْع على وجه؛ لأن الوصية إنما تقع بالمنافع المعتادة، ومنفعة البضع ليست منها، وإذا كان كذلك؛ فيكون بمنزلة ما إذا وقف دابة لاستيفاء بعض منافعها، وسكت عن باقيها، وقد تقدم ذكر ذلك.

قال: وإن أتت بولد أي: من نكاح أو زنى فقد قيل: يملكه الموقوف عليه ملكًا [يملك التصرف] فيه بالبيع وغيره؛ لأنه نما الوقف فأشبه الثمرة، وهذا أظهر في "الرافعي"، واختاره في "المرشد"، وقيل: هو وقف كالأم؛ لأن كل حكم يثبت لأم لأمرٍ ما يثبت لولدها تبعًا؛ لحرمة الاستيلاد، وهذا أصح في "الجيلي"، وهكذا الحكم فيما لو وقف شاة أو غيرها فنُتِجَتْ ففي ولدها الوجهان، وجزم أبو الفرج السرخسي بالوجه الأول في النعم؛ لأن المطلوب منها الدر والنسل، وذكر الوجهين في ولد الفرس والحمار، وحكى وجهًا ضعيفًا: أنه لا حق فيه للموقوف عليه، بل يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف، إلا إذا صرح بخلافه، وقد صرح به الماوردي، في ولد الجارية ونسبه إلى ابن أبي هريرة. وهذا كله في الولد الحادث بعد الوقف، أما إذا كان موجودًا حال الوقف، فإن قلنا:

الحادث يكون وقفًا، فهذا أولى، وإلا فوجهان بناء؛ على أن الحمل هل يعلم أم لا؟ وفي "الحاوي" أنا إذا قلنا: [إن] الحمل لا يعلم يكون للواقف، أما إذا وطئت بشبهة فعلى الواطئ قيمة الولد وهو للموقوف عليه، إن قلنا: ولد الزانية له، وإن قلنا: إنه يكون [وقفًا] له، فوجهان حكاهما العراقيون والمراوزة: أحدهما: أنهما للموقوف عليه – أيضاً – بناء على أن الموقوف إذا أتلف تكون قيمته له. والثاني: يُشترى بها عبد يوقف مكانه. قال القاضي الحسين: وكان الفرق على الأول بين القيمة والرقبة: أن الولد مما يجوز ابتداء وقفه، بخلاف القيمة. قال وإن أتلف الموقوف اشترى بقيمته ما يقوم مقامه؛ مراعاة لغرض الواقف من استمرار الثواب، وتعلق [حق] البطن الثاني وما بعده به، وهذا الطريق هو الأصح في "الشامل"، و"التتمة"، وبه قال ابن سريج، كما حكاه الفوراني والقاضي الحسين واختاره الشيخ أبو حامد وصاحب "المرشد"، ولا فرق بين أن يكون المتلف أجنبيًّا أو الواقف أو الموقوف عليه. قال: وقيل إن قلنا: إن الملك للموقوف عليه، فهي له؛ لأنها بدل ملكه فعلى هذا: إذا كان المتلف الموقوف عليه فلا شيء عليه. قال: وإن قلنا: إنه لله تعالى، اشترى بها ما يقوم مقامه أي: ويكون وقفًا؛ لأن القيمة بدل الرقبة وهي لله تعالى فلا يمكن صرفها للموقوف عليه ولا للواقف؛ فتعين صرفها لما ذكرناه، ومثل هذه الطريقة حكاها الفوراني وغيره من المراوزة فيما إذا قلنا: إن الملك للواقف، فعلى وجه: تكون القيمة له، فإن كان هو المتلف فلا شيء

عليه، وعلى وجه: يشتري بها ما يقوم مقامه ويكون وقفاً. وحكى في "البحر" عن بعض الأصحاب: أنه إذا أتلفه أجنبي أو الواقف كانت القيمة للموقوف عليه يتصرف فيها ويبطل حق الغير من غير بناء، وأن هذا أصح، وهو اختيار أبي حامد. وعلى هذا قال ابن الصباغ: عندي إذا كان الموقوف عبدًا، وقتله مكافئ له – كان له أن يقتص، وإن قلنا: إنه لله تعالى، فهو كعبيد بيت المال، والظاهر وجوب القصاص، وأطلق في "الحاوي" القول بمنع القصاص، لكن علته ترشد إلى [أن] ذلك مبنى على أن القيمة يشترى بها ما يقوم مقامه. ولو لم يتلف الموقوف عليه بجملته، [لكنه أتلف] بعضه، مثل: أن كان عبدًا فقطعت يده – فتؤخذ من الجاني نصف القيمة على الأصح، وفي مصرفه طريقان: أحدهما: البناء على أقوال الملك. والثاني: القطع بأنه يشتري به عبدًا [أو بعض عبد] يكون وقفًا؛ كالأصل، فإن لم يمكن أن يشتري به بعض عبد فثلاثة أوجه: أحدها: يستبقى على حاله تبعًا لأصله. والثاني: يكون ملكًا للموقوف عليه. والثالث: يُرد إلى أقرب الناس إلى الواقف كما قيل في الولد. كذا حكاه الماوردي، وحكى عن بعض أصحابنا: أنه جعل الأرش وقفًا وإن أمكن السراية، ثم قال: وهذا لا وجه له؛ لأن وقف القيم والأروش لا يصح. وجزم بعدم استيفاء القصاص في الطرف، وإن كان القطع عمدًا من مكافئ. وعن صاحب "التقريب" حكاية وجه: أن أرش الطرف يصرف للموقوف عليه على كل قول، وينزل منزلة المهر والأكساب. تنبيه: في قول الشيخ: اشترى به ما يقوم مقامه، ما يعرفك أنه لا يحتاج بعد شرائه إلى وقفه، وهو وجه حكاه أبو العباس الروياني في "الجرجانيات"، مع وجه آخر

جزم به المتولي والإمام عند الكلام في جفاف الشجرة، وأشار إليه القاضي الحسين في "تعليقه": أنه لا بد من إنشاء وقفه، وقال: إن الذي ينشئه الحاكم. قال الرافعي: ويشبه أن يقال: من يباشر الشراء يجدد الوقف، وقد اختلفوا فيمن يباشر الشراء: قيل: إن قلنا إن الملك لله تعالى، فيشتريه الحاكم. وإن قلنا: إنه للموقوف عليه، فهو المشتري. وإن قلنا: للواقف، فوجهان، وجه المنع: أنه لا يملك المنافع والفوائد، وفيه أيضاً ما يفهم [أنه] لا يجوز إذا كان الموقوف عبدًا أن يشتري بدله جارية، وبالعكس كما صرح به غيره، وإن اختلفوا في أنه هل يجوز أن يُشترى عبد صغير بقيمة الكبير أو بالعكس، على وجهين. فروع: إذا خرج الموقوف عن أن يكون منتفعًا به على النعت الذي وقف عليه بفعل غير مضمون، نظر: فإن لم يبق منه شيء ينتفع به، كما إذا كان عبدًا فمات فقد فات الوقف، وإن بقى ما يمكن الانتفاع به نظر: فإن كان لا يمكن الانتفاع به إلا بذهاب عينه، كحُصُر المسجد الموقوفة إذا بَلِيَتْ، وجِذْعه المنكسر بحيث لا يصلح إلا للوقود، ونحاتة أخشابه في البخر، وأستار الكعبة إذا لم يبق فيها منفعة ولا جمال، ففيما يفعل بذلك وجهان حكاهما البندنيجي وغيره. أحدهما: لا تباع؛ لأنها عين الوقف، بل تترك بحالها أبدًا؛ كما لو وقف أرضًا فخربت. وهذا بعيد عند الإمام لا اتجاه له، وقال القاضي أبو الطيب مرة: إنه لا يعرف غيره لأصحابنا، وقال مرة أخرى: إن فيه وجهين. كما حكاه في "البحر" عنه. والثاني – وهو الأصح في "الرافعي" و"التهذيب" و"شرح" الشيخ أبي علي [السنجي]، كما حكاه في "الزوائد" عن القفال [عنه، و] قال الإمام: إنه الذي

قال به الأئمة-: أنها تباع، وإلا فتَضِعْ ويضيق المكان بها من غير فائدة، وعلى هذا تصرف في مصالح المسجد. قال الرافعي: والقياس: أن يُشترى بثمن الحُصر حصرٌ، ولا يصرف لمصلحة أخرى. وفي "البحر": أن بعض أصحابنا قال في جذع المسجد ونحاتة أخشابه إذا طُبِخَ للمسجد جِصُّ وما يتعلق بمصلحته جاز أن يوقد تحته، فأما بيعه فلا يجوز. وإن أمكن أن ينتفع به مع بقاء عينه في منفعة أخرى بأن كان الجذع يمكن أن يتخذ منه باب أو ألواح، قال في "التتمة": يجتهد الحاكم ويستعمله فيما هو أقرب إلى مقصود الواقف، وإن كان شجرة فجفت أو قلعها الريح فحاصل ما ذكر في ذلك أربعة أوجه: أضعفها: أن الوقف ينقطع كما لو مات العبد، ويعود الحطب ملكًا للواقف. والثاني – وهو اقرب من الأول-: أنها تعود ملكًا للموقوف عليه. والثالث: يباع، لتعذر الانتفاع به بشرط الواقف، وهذا ما اختاره في "المرشد"، وما يصنع بثمنه فيه الخلاف السابق في قيمة ما أتلف من الوقف، و [قد] صدر البندنيجي كلامه [هنا] بأنها تصرف للموقوف عليه، ثم قال: والأولى أن يقال: يشتري بها ما يقوم مقامها؛ وهو اختيار صاحب "المرشد". والرابع: وهو الأصح-: لا يباع ولا ينتقل ملكًا لأحد، بل ينتفع بإجارته جِذْعًا إن لم يكن في استيفاء منفعته استهلاكه، وإن كان فالأصح: أنها تكون للموقوف عليه. وزَمَانة العبد الموقوف، قال الرافعي: كجفاف الشجرة. وفي "البحر" حكاية عن القاضي أبي الطيب: أن بيعه لا يجوز، ولا يختلف أصحابنا فيه.

وفي "الحاوي": الجزم بجواز بيع الدابة الموقوفة عند زمانتها، وأنه يستبدل بثمنها؛ لأن للدابة مؤنة إن التُزِمَتْ أًجْحَفَتْ. وقال: يحتمل [عندي] في العبد [الموقوف] وجه: أنه يجوز بيعه؛ قياسًا على الدابة، وهو موافق لما جزم به فيما إذا جنى العبد الموقوف عمدًا في طرف [واقتص منه؛ حيث قال: إن بطلت منافعه بيع، واشترى به عبد نافع يكون وقفًا مكانه؛ كالبعير إذا عطب]. وإشراف الدار على الانهدام، والجذع على الانكسار: هل يجوز بيعه؟ قال الرافعي: فيه الخلاف. يعني الخلاف الذي في الحصر إذا بَلِيَتْ، وهذا يقتضي أن يكون الصحيح عنده الصحة أيضاً، وينبغي أن يكون هذا مفرَّعًا على جواز البيع [إذا انكسر] الجذع، أما إذا منعنا ثَمَّ فهاهنا أولى، وقد حكى الإمام عن الأكثرين منع بيع الدار، ثم إذا جوزنا البيع كان في مصرف الثمن الخلاف في قيمة ما أتلف، وصحح الإمام طريقة صرف الثمن إلى جهة الوقف، وقال فيما عداها: إنه لا أصل له في هذا المقام. [وإذا قلنا] بأنه يكون للموقوف عليه، فقال: لا تبيعوها وأقِلُّوها إلى ملكي – فالمذهب: أنه لا يجاب، بل ارتفاع الوقف على هذا موقوف على البيع، وأبعد بعض الأصحاب فأجابه، وزعم أنه ينقلب ملكًا من غير عقد وقول. قال الإمام: وهذا في غاية الضعف. ولو كان الموقوف حيوانًا مأكولاً وانتهى إلى حالة يقطع بموته إن لم يذبح، قال في "التتمة" يجوز ذبحه للضرورة، وهل يباع لحمه ويشترى به ما يقوم مقام

الأصل، أو يصرف للموقوف عليه أو للواقف؟ فيه الخلاف المذكور في بدل ما أتلف، ولو لم يذبح حتى مات فالموقوف عليه أولى بجلده، وإذا دبغه ففي عوده وقفًا وجهان في "التتمة"، والظاهر: العود. ولا خلاف في أن المسجد إذا انهدم، وخربت المحلة، وتفرق الناس عنها، وتعطل المسجد – فلا يعود ملكًا بحال، ولا يجوز بيعه؛ كالعبد إذا عَتَقَ في زمن، ولأن الانتفاع به في الحال بالصلاة في العَرصْة ممكن، [لكن] لو خيف من أولي الفساد والعَرَامة نَقْضُ بنائه [وأَخْذُهُ]، نقض وحُفِظَ، وإن أراد الحاكم أن يعمر بنقضه مسجدًا آخر؛ جاز، وما كان أقرب إليه كان أولى، ولا يجوز صرفه في عمارة رباط أو مدرسة وبئر وحوض؛ كما لا يجوز صرف آلة الحوض وغيره إلى عمارة مسجدٍ. قال المتولي: إلا أن يؤخذ ذلك الحبس فيصرف إلى نوع آخر للضرورة، وعلى هذا: إذا كان على هذا المسجد أوقاف وقد خربت، قال المتولي: يصرف الحاصل من رَيْعه إلى عمارة مسجد آخر، بخلاف ما لو وقف على ثغر من الثغور فيعَطَّل: إما لاتساع رقعة الإسلام، أو لاستيلاء الكفار عليه – فإنه يجمع رَيْعُ وقفه؛ رجاء أن يعود، ولا يجوز صرفه إلى غيره. ولو وقف على قنطرة، فانخرب الوادي، وتعطلت تلك القنطرة، واحتيج إلى قنطرة أخرى – جاز النقل إلى ذلك الموضع. قال أبو عاصم العبادي: بخلاف المسجد الذي باد أهله؛ حيث تبقى عمارته، ويعمر بعد ما خرب إن أمكن، ليصلي فيه المارة. فرع: إذا عمر المسجد الخراب إنسان ولم يوقف الآلة، قال في "البحر": كانت عارية له يرجع فيها متى شاء. قال: وإن جنى خطأ وقلنا هو له أي: للموقوف عليه – فالأرض عليه؛ لأنها جناية

صدرت من مملوكه الذي لا يقدر على بيعه فوجب [عليه] كجناية أم الولد، وهكذا الحكم فيما إذا قلنا: إن الملك للواقف يكون الأرش عليه. قال وإن قلنا: لله تعالى، فقد قيل في ملك الواقف؛ لأنه منع البيع بسبب من جهته وهو الوقف؛ فأشبه سيد أم الولد، وهذا قول أبي إسحاق، وهو الأصح في "المهذب" وغيره. وقيل: في بيت المال؛ لأنه إيجابه على الواقف والموقوف عليه متعذر؛ لزوال ملكهما، وتعلقه بالرقبة غير ممكن؛ لأنه لا يتعلق إلا بما يمكن بيعه، ولا ذمة له تنتظر؛ فوجب في بيت المال؛ كالحر المعسر إذا جنى خطأ ولا عاقلة له. ويفارق هذا أم الولد؛ لأن حكم الملك باق لسيدها، مع أنه يمكنه التخلص من عهدتها بعتقها. وقيل: في كسبه؛ لأن محله كان للرقبة، فإذا تعذر [تعلقه بها تعلق] بأقرب الأشياء إليها وهو الكسب المستفاد منها لحقوق النكاح، وبالقياس على النفقة. وعلى هذا: فلو لم يكن له كسب لم يجز إلا الوجهان السابقان، ثم أضعف الوجوه – كما قال الروياني-: إيجابه على الموقوف عليه؛ لأنه يؤدي إلى الإجحاف به بأن يجني جنايات كثيرة، ويفارق أم الولد؛ لأن هناك في أحد القولين لا يلزم السيد أكثر من قيمة واحدة لجميع جناياتها، وفي القول الآخر: يجب أرش جميع الجنايات عليه؛ لأنه يمكنه التخلص بعتقها، والموقوف عليه لا يمكنه أن يتخلص. وعلى كل حال: فكل من ألزمناه الأرشَ يلزمه أقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية كما قلنا في جناية أم الولد، [وهكذا حكمُ تكرُّرِ جناية أم الولد]. هذا هو المشهور في طريق العراقيين، وكذلك هو المذكور في "تعليق" القاضي الحسين و"الإبانة".

وفي "النهاية" أنا إذا قلنا: الملك للموقوف عليه، ففيه وجهان: أحدهما: أن الفداء على الواقف مطلقًا. والثاني: أنا إن قلنا: إن الوقف لا يفتقر إلى القبول، فهو على الواقف، وإن قلنا: إنه يفتقر [إلى القبول]، فهو على الموقوف عليه؛ لأنه سبب إلى تحقيق المانع من البيع، وقد انضم إليه كونه مالكًا. [ولا فرق] على الصحيح في إيجاب الغرم على الواقف بين أن يكون الجاني مات عقيب الجناية أو يبقى، وبه قال ابن الحداد. وفيه وجه: أنه إذا مات عقيب الجناية بلا فصل أنه يسقط الفداء، كما لو جنى القِنُّ ومات، والقائلون بالأول فرقوا بأن القن تعلق الأرش برقبته، فإذا مات فات، وهاهنا تضمين الواقف كان بسبب كونه مانعًا من البيع بالوقف وقد تحقق، وهذا الخلاف يجري فيما إذا جنت أم الولد وماتت. فرع: إذا قلنا بوجوب الأرش على الواقف، فلو وجدت الجناية بعد موته، قال في "التتمة": لا يفدى من تركته؛ لأنها انتقلت إلى الوارث، والملك في الوقف: ما انتقل إليه، وهذا ما يرشد إليه قول الشيخ في ملك الواقف: وهو بعد الموت لا ملك له، فعلى هذا يتعلق بكسبه في وجه، وفي وجه: يكون في بيت المال. وفي "الجرجانيات": أنه إن ترك مالاً فعلى الوارث الفداء منه؛ لأن العبد ممنوع البيع بسبب صدر منه في حياته، فلزمه ضمان جنايته في ماله. قال: ويَنْظُر في الوقف مَنْ شَرَطَهُ الواقفُ، لأنه المتصرف بصدقته فهو أحق من يقوم بإمضائها وصرفها إلى مصارفها، وقد ثبت أن عمر – رضي الله عنه – كان يلي أمر صدقته، ثم جعله إلى حفصة وبعدها إلى ذوي الرأي من أهلها، وأشار في "النهاية" إلى خلاف فيما إذا كان الوقف على معين، وشرط التولية لأجنبي هل يتبع شرطه إذا فرعنا على أن الملك في الوقف للموقوف عليه؟ وعلى الأول لا فرق بين أن يفوض النظر إلى واحد أو إلى أكثر منه. ويجوز أن يشترط لواحد العمارة وتحصيل الرَّيْع، [و] إلى آخر حفظه وقسمته،

وكذا يجوز أن يشترط لواحد الحفظ واليد، ولآخر التصرف. قال: فإن شرط النظر لنفسه جاز؛ لأنه من أهل النظر فأشبه غيره، وبل أولى؛ [إذ النظر كان إليه]. [قال]: وإن لم يشترط أي: لنفسه ولا لغيره نَظَرَ فيه الموقوف عليه في أحد القولين؛ لأن النفع والفائدة ترجع إليه. والحاكم في القول الآخر؛ لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه وحق من ينتقل إليه؛ فكان صاحب النظر العام أولى بالنظر فيه. وفي المسألة وجه آخر حكاه في "المهذب" وغيره: أنه للواقف؛ لأن النظر والتصرف كان إليه، فإذا لم يصرفه عن نفسه بقى على ما كان عليه، وهذا ما اختاره في "المرشد"، وقال: إنه إذا مات نظر فيه الحاكم. وبعضهم بنى الخلاف على أقوال الملك، ومنهم من قال إن قلنا: الملك للواقف، فالتولية له، وقيل: للحاكم؛ لتعلق حق الغير به، وإن قلنا: لله تعالى، فهي للحاكم. وقيل: للواقف إن كان على جهة عامة؛ فإن قيامه بأمر الموقوف [عليه] من تتمة القربة. وقيل: للموقوف عليه إذا كان على معين. وإن قلنا: الملك للموقوف عليه، فالتولية له. وذكر كثيرون: أن التولية في صورة السكوت للواقف، من غير حكاية خلاف ولا بناء على شيء، ومنهم القاضي الحسين، وكذا المتولي كما ذكر هنا؛ تمسكًا بأن عمر وعليًّا وفاطمة – رضي الله عنهم – كانوا ينظرون في أوقافهم [إلى الموت]، وقال في كتاب الإجارة: لا خلاف أن الواقف ما دام حيًّا فله أن يؤاجر وأما بعد موته: فإن جعل النظر فيه لغيره فذاك، وإلا فإن قلنا: الملك للواقف أو لله

تعالى، فالحاكم يتولاه، وإن قلنا: الملك للموقوف عليه، فالمذهب: أن له أن يؤاجر وينفرد بالعقد إن كان واحدًا، وقد ذكر في المسألة وجه آخر: أنه لا يملك الإجارة، وقال الرافعي: الذي يقتضي كلام المعظم الفتوى به: [أن يقال]: إن كان الوقف على جهة عامة فالتولية للحاكم كما في الوقف على المسجد والرباط، وإن كان على شخص معين فكذلك إن جعلنا الملك لله تعالى، وإن جعلناه للواقف أو الموقوف عليه فالتولية كذلك. واعلم أنه لا بد فيمن ينظر في الوقف – من واقفٍ وغيره – من وصفين: الأمانة، والكفاية في التصرف، سواء كان الوقف على جهة عامة أو على معين مكلف رشيد، أو غير ذلك. وفي "الوسيط" وجه فيما إذا كان الوقف على بالغ: أنه لا تشترط العدالة. ولو شرط التولية للأفضلِ فالأفضلِ من بنيه، كان لأفضلهم حالة استحقاق النظر، حتى لو تحدد من هو أفضل ممن كان حال استحقاق التولية فاضلاً لم يكن إليه. نعم، لو تغير حال الفاضل حالة الاستحقاق فقد صار مفضولاً؛ فتنتقل الولاية إلى من هو أفضل منه، ولو جعلها للأفضل من ولده فهل يختص بالأفضل من الذكور أو بالأفضل من الذكور والإناث؟ فيه وجهان في "الحاوي". ولو لم يقبل الفاضلُ الولايةَ كانت لغيره، فلو عاد وطلبها بعد الرد ولم يكن من أهل الوقف بطلت ولايته ولم تعد إليه بالطلب؛ كالوصية، وإن كان من أهل الوقف فهل تكون له الولاية؟ فيه وجهان مبنيان على ما إذا لم يشترط النظر لأحد، كذا قال الماوردي. فروع: أحدها: الناظر في الوقف على المساجد إذا لم يشترط الواقف النظر لأحدٍ فهو

للإمام، كما دل عليه الكلام السابق، فلو لم يكن سلطان عادل ففي "الرافعي" في كتاب الفرائض: أن لصلحاء القرية صرفه إلى عمارة المسجد ومصالحه إذا قلنا: إن من مات ولا وارث له ولم يكن سلطان عادل-: إن لمن في يده المال أن يصرفه في المصالح بنفسه. الثاني: لو شرط الواقف للمتولي من الريع شيئاً جاز، وإن كان أكثر من أجرة نفسه كما حكاه الماوردي، اللهم إلا أن يكون هو المتولي فقد تقدم الكلام فيه، ولو لم يذكر شيئاً ففي استحقاق أجرة المثل الخلاف المذكور في مسألة الغسال. ولو شرط [له] عُشْر الريع أجرة لعمله، ثم عزله – بطل استحقاقه، وإن لم يتعرض لكونه أجرة، ففي "فتاوى" القفال: أن استحقاقه لا يبطل. الثالث: للواقف أن يعزل من ولاه وينصب [غيره]؛ كما يعزل الوكيل وينصب غيره، وكان المتولي نائبًا عنه، وفيه وجه: أنه ليس له العزل؛ لأن ملكه قد زال فلا تبقى ولايته عليه، ويشبه أن تكون المسألة مفروضة في التولية بعد تمام الوقف، دون ما إذا وقف بشرط أن تكون التولية لفلان؛ لأن في فتاوى صاحب "التهذيب": أنه لو وقف [مدرسة] على أصحاب الشافعي، ثم قال لعالم: فوضت إليك تدريسها، أو: اذهب ودَرِّس فيها – كان له تبديله بغيره. ولو شرط في الوقف أن يكون هو مدِّرسها، أو قال حالة الوقف: فوضت [تدريسها] إلى فلان – فهو لازم لا يجوز تبديله؛ كما لو وقف على أولاده، وكذا جزم فيها [بأنه] لا يبدل القَيِّم الذي نصبه الواقف قبل موته. الرابع: قبول المتولي، قال الرافعي: يشبه أن يجيء فيه ما في قبول الموقوف عليه أو الوكيل. قال: ولا يتصرف الناظر فيه إلا على وجه النظر والاحتياط؛ لأنه نظر في مصالح

الغير فاعتمد هذا المعنى كولي اليتيم، وتصرف الناظر يكون في: العمارة والإجارة وتحصيل الريع وحفظ الأصول والغلات وبيعها؛ ليصرف الثمن والأجرة للعمارة، أو ليقسمه على أرباب الوقف. قال: فإن احتاج [أي]: الوقف إلى نفقة أي: لكونه حيوانًا، أو احتاج غير الحيوان إلى مؤنة وعمارة تصونه عن الضياع – قال: أنفق عليه من حيث شرط الواقف وَفَاءً بشرطه. قال في "الإبانة": ويستحب إذا وقف شيئاً أن يقول: يصرف على عمارته من غلته، فما فضل فهو للموقوف عليه، وعلى ذلك جرى الإمام. قال: فإن لم يشترط أنفق عليه من [غلة الوقف]؛ [الوقوف الانتفاع به] على النفقة فحمل الوقف عليه. قال: ثم يصرف الباقي إلى الموقوف عليه؛ لأن الرَّيْع كان له [، و] في "تعليق" القاضي الحسين: أن من أصحابنا من قال: إن لم يشترط لم ينفق من كسبه، ويكون الأمر فيها كما لو لم يكن للموقوف ريع لعارض طرأ عليه، وكذلك حكاه الإمام عن بعض المصنفين، والحكم في ذلك: أنه ينظر: فإن كان حيواناً فزمن أو عطب خرج وجوب النفقة على أقوال الملك، فإن قلنا: [إنه] لله تعالى، كانت في بيت المال، [وإلا وجبت] على من له الملك، فإن حكمنا بأنه للواقف وقد مات كانت في بيت المال أيضاً، ومؤتة [تجهيز]

العبد الموقوف إذا مات كنفقته في حال الحياة. وإن كان غير حيوان لم يجب على أحد عمارته؛ كالملك الخالص. وفي "الذخائر" شيء في ذلك لم أر نقله؛ لأن فيه ما يدل على غلط في النقل، وحكم بعض النفقة إذا عجز عنها كحكم كلها. قال: والمستحب ألا يؤجر الوقف أكثر من ثلاث سنين أي: إذا جوزنا الزيادة عليها كما هو الصحيح، كي لا تطول المدة فيغلب عليه، وقد ادعى القاضي الحسين والمتولي أن الحكام اصطلحوا على منع إجارته [أكثر من ثلاث سنين كمنا ذكرناه. وفي "أمالي" أبي الفرج: أن المذهب منع إجارته] أكثر من سنة إذا [لم] تمس الحاجة لعمارة وغيرها. واستغربه الرافعي، وهو مذكور في "النهاية" عند الكلام فيما إذا طلب الوقف بزيادة لكنه لم يذكر لفظ المذهب، بل حكاه عن بعض أصحابنا، ثم قال: إن له اتجاهاً في الوقف على جهات الخير. ثم على المشهور لو شرط [الواقف]: ألا يؤجر الوقف، ففي طريقة المراوزة ثلاثة أوجه: أظهرها عند الإمام، والغزالي: أنه يتبع شرطه. والثاني: المنع؛ لأنه يتضمن حجرًا على مستحق المنفعة. والثالث: إن منع مطلقاً فلا يتبع، وإن منع الزيادة على سنة اتبع؛ لأنه لائق بمصلحة الوقف، فعلى هذا: لو كان الصلاح في الزيادة على السنة ففي "الزيادات" للعبادي [حكاية وجه]: أنه يزاد. قال: فإن مات الموقوف عليه في أثناء المدة أي: بعد أن أجر، وقلنا: له الإيجار،

أو كان الواقف قد جعل لكل ناظر أن يؤجر نصيبه، وكانت الإجارة بأجرة المثل- قال: انفسخت الإجارة؛ لأن المنافع بعد موته للنظر الثاني فلا يصح عقده عليها؛ كما لو أجر الموصى له بمنفعة دار مدة عمره الدار، ثم مات قبل فراغها؛ فإنها تنفسخ كما حكاه الرافعي في الإجارة، وهذا قول ابن أبي هريرة، وهو الأصح في "الرافعي" و"تعليق" القاضي الحسين، والأظهر عند الغزالي، واختاره القاضي الحسين [كما] قاله في "البحر" وصاحب "المرشد" فيما إذا لم يكن النظر مشروطًا له ولا مفوضًا إليه من جهة الحاكم، أما إذا كان كذلك فلا ينفسخ. فعلى هذا: هل ينفسخ فيما مضى؟ فيه قولان. قال: وقيل: لا تنفسخ؛ لأنه أجر عينًا ملك العقد عليها فأشبه ما لو أجر ملك الطِّلْق، وهذا ما اختاره في "المهذب" كما قاله ابن يونس، والأظهر في "الحاوي"، وقد بنى القاضي الحسين الخلاف على أن البطن الثاني يتلقون من الواقف أو [من] الموقوف عليه؟ فإن قلنا بالأول انفسخت، وإن قلنا بالثاني فلا، وهذا موافق لرأيه في أن الصحيح الانفساخ، ولم يستحسن الإمام الصيدلاني وطائفة عبارة الفسخ؛ لأن الانفساخ يشعر بسبق انعقادٍ، وردُّوا الخلاف إلى أنا هل نتبين البطلان أم لا؟! ثم على القول الثاني قال: ويصرف أجرة ما مضى إلى البطن الأول؛ لكون [أكثر] المنافع كانت في ذلك [الزمن حقًّا لهم]، وما بقي للبطن الثاني؛ لأن المنافع في هذا الزمن حقٌّ لهم فكان لهم عوضها. وعلى هذا: فلو كان الأول قد قبض تمام الأجرة رجع الثاني بها في تركته، ولا يطالب المستأجر بشيء، وإن كان الأول مفلسًا، لأن الثاني كما لزمه عقد الأول لزمه قبضه. أما إذا أجر الواقف أو ناظر من جهته أو الحاكم أو [أمين الحاكم]، ثم

مات البطن الأول – لم تنفسخ الإجارة؛ لأن الذي عقدها له النظر على جميع البطون، قاله ابن الصباغ والماوردي والإمام في كتاب "الإجارة". ولا تنفسخ بموت الآجر كما صرح به الماوردي. وحكى الرافعي عن الروياني فيما إذا أجر الناظر، ثم مات الموقوف عليه أولاً أنه تنفسخ، ولو كان قد أجر بدون أجرة المثل؛ لجواز ذلك له- كما صرح به الإمام- قياساً على الإعاقة؛ فيظهر الانفساخ هنا جزمًا. فرع: إذا أجر الوقف، ثم طُلِبَ بزيادة نظر: إن كان الآجر الموقوف عليه بحكم الملك فلا أثر للزيادة، وإن أجره المتولي بالشرط أو الحاكم فكذلك الجواب على أصح الوجوه؛ قياساً على ما لو باع اليتيم ماله ثم ارتفعت الأسواق. والثاني: أنه يتبع؛ لأنه يتبين وقوعه على خلاف الغبطة في المستقبل، وعلى هذا: ينفسخ بنفسه، وأبدى الإمام احتمالاً في أنه يتوقف على إنشاء فاسخ. والثالث: إن كانت الإجارة سنة فما دونها لم يتأثر العقد، وإن كانت أكثر فالزيادة مقبولة، وهذا ما أورده أبو الفرج السرخسي في "الأمالي". ومحل الخلاف عند الإمام إذا تغيرت الأجرة بكثرة الطالبين، فأما إذا وجدنا زَبُوناً يزيد على أجرة المثل [فلا خير] فيما يزيده ولا حكم له، وغيره فرض الخلاف فيما إذا طُلِبَ بزيادة أو زادت الأجرة. قال: وتصرف الغلة على شرط الواقف: من الأثرة، والتقديم، والتأخير، والجمع، والترتيب، وإخراج من شاء بصفة، وإدخاله بصفة؛ لأن الصحابة – رضوان الله عليهم- وقفوا وقوفًا وكتبوا شروطهم: فكتب عمر ما ذكرناه في أول الباب، وكتب على كرم الله وجهه: "تصدقت ابتغاء رضوان الله؛ ليدخلني الجنة، ويصرف النار عن وجهي، ويصرفني عن النار، في سبيل الله وذوي الرحم القريب

والبعيد"، وكتبت فاطمة – رضي الله عنها- لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفقراء بني هاشم وبني المطلب، ولم ينكر عليهم أحد. والأثرة- بفتح الهمزة والثاء المثلثة، وبضم الهمزة وكسرها مع إسكان الثاء-: الانفراد [بالشيء]، هذا أصله، ومثاله هنا: وقفت على أولادي بشرط إن كان [فيهم عالم] اختص بالجميع، أو جعل له نصيبان. ومثال التقديم والتأخير: [أن يقول]: بشرط أن يقدم الأَوْرع منهم بكذا، فإن فضل شيء كان للآخرين، أو يقول: وقفت على أولادي وأولادهم بشرط أن يقدم أولادي، فإذا انقرضوا فأولادهم، أو يقول: وقفت على أولادي وأولادهم بشرط أن يقدم أولادي، فإذا انقرضوا فأولادهم، أو يقول: وقفت على أولادي على أن يكون ريع السنة الأولى للذكور [خاصة] [والسنة الثانية للإناث. ومثال الجمع]: أن يقول: وقفت على أولادي وأولادهم بشرط أن يقدم أولادي، فإذا انقرضوا فأولادهم، ويطلق؛ فيدخل فيه أولاد البنين والبنات، الصغار والكبار، الأغنياء والفقراء، الذكر والأنثى [فيه] سواء، إلا أن يشترط التفاضل فيتبع شرطه، ولا يدخل أولاد أولاد الأولاد ومن أسفل منهم، إلا أن يقول: ما تناسلوا وتعاقبوا، أو: بطنًا بعد بطن، أو قال: أبدًا – كما ذكره البندنيجي – فإذا قال ذلك اتصل إلى انقراض نسله، ويصرف إلى الموجودين حالة حصوله ممن كان حالة الوقف، وممن حدث من بعد، ولا يصرف لمن كان مجننًا إذ ذاك. وفي "التتمة" وجه: أنه يصرف لمن كان مجننًا عند الوقف.

وفي "أمالي" أبي الفرج وجه: أنه لا يصرف لمن حدث بعد الوقف إذا كان من البطن الأول، وإليه أشار القاضي الحسين في تعليقه بقوله: فالموجودون يدخلون ومن يحدث بعدهم فالظاهر أنه يدخل، ويعضده: أن البويطي نقل أنه إذا وقف على قرابته فحدث له قريب بعد الوقف لا يدخل، لكن الأصحاب غلَّطُوه [فيه]. ومثال الترتيب خاصة: أن يقول: وقفت على أولادي وأولاد أولادي ما تعاقبوا وتناسلوا [أبدًا]، يكون الأول فالأول، والأعلى فالأعلى، والأقرب فالأقرب، [أو يقول: على أولادي، فإذا انقرضوا فعلى أولادهم ما تناسلوا بطنًا بعد بطن، كما قاله البندنيجي، وبه أفتى أبو طاهر الزيادي، واختاره القاضي الحسين، وقال: إن من أصحابنا من قال في الصورة الأخيرة: يكون للجميع؛ لأن قوله: "بطنًا بعد بطن" يكون كذلك للضرورة، وهذا ما حكى في "فتاوى" القاضي [عن] أبي عاصم العبادي والشيخ أبي القاسم، [وحكى فيها أيضاً عن الشيخ أبي عاصم في "المسائل" أن ذلك للجمع – أيضاً- وهو بعيد؛ فإن وضع "ثم" للترتيب]. ولو قال: على أولادي، فإذا انقرضوا فعلى أولادهم، وإذا انقرض أولاد الأولاد فعلى أولادهم، وهكذا – ولو ألف مرة – لا يكون ذلك مستوعبًا لجميع النسل ما لم يقل: ما تناسلوا، أو: أبدًا، كما صرح به المحاملي والقاضي الحسين. ومثال الجمع والترتيب: أن يقول: وقفت على أولادي وأولاد أولادي، فإذا انقرضوا فعلى أولادهم ما تعاقبوا، [أو]: بطنًا بعد بطن- فيكون الأولاد وأولاد الأولاد مشتركين، وبعدهم يكونون مرتبين، وكذا لو قال: وقفت على أولادي ثم على أولادهم، ثم إذا انقرضوا فعلى أولاد أولادي ما تعاقبوا، فيكون الترتيب ثابتًا بين

الأولاد وأولادهم، والاشتراك ثابتٌ بين أولاد أولاد الأولاد وإن سفلوا، وحيث وجد شرط الترتيب فلا يصرف إلى البطن الثاني شيء ما بقي من البطن الأول أحد، ولا إلى الثالث ما بقي من الثاني أحد، إلا أن يقول: من مات من أولادي فنصيبه لولده؛ فإنه يصرف إليه دون إخوته، كذا حكاه البندنيجي عن النص في "حرملة". قال الرافعي: والقياس فيما إذا مات واحد من البطن الأول أن يجيء في نصيبه عند الإطلاقِ الخلافُ المذكور فيما إذا وقف على شخصين ثم على المساكين، فمات واحد: إلى من يصرف نصيبه؟ ولم أَرَ له تعرضًّا، لكن الشيخ أبا الفرج السرخسي حكى وجهين: أحدهما: أن نصيب الميت لصاحبه. والثاني: أنه لأقرب الناس إلى الواقف، وبه قال صاحب "الإفصاح" في كتاب الشهادات. قلت: قد يظهر الفرق بين ما جمعه فيقال: الوقف على الأولاد [وأولاد الأولاد] القصدُ به تمليك القرابة على الجملة على النعت الذي شرطه، لا تمليك كل واحد منهم شيئاً مقدرًا، فإنه لو كان القصد ذلك لامتنع أن ينقص أحدهما عما استحقه حالة الوقف، وذلك ليس ممتنعًا؛ بدليل أنه إذا حصل له ولد أو ولد ولد شارك الموجود فيما كان ينفرد به، وإذا كان هذا هو المقصد فلا يعدل عنه عند إمكانه، وهو مع بقاء واحد ممكن، وليس كذلك الوقف على شخصين ثم على المساكين؛ فإن القصد ظاهر في تمليك كل منهما النصف؛ بدليل عدم تطرق النقص عنه، وهو لو قال: وقفت على هذا النصف وعلى هذا النصف، لم ينتقل نصيب أحدهما للآخر عند فقده؛ فكذلك [ها] هنا، وقد يُلَخَّصُ، فَيُقال: لما قبل نصيب الموجود دخول النقص عليه قبل الزيادة؛ لفهم المعنى، ولما لم يقبل نصيب أحد الرجلين

النقص لم يقبل الزيادة؛ لفهم المعنى، والله أعلم. ومثال الإخراج بصفة والإدخال بصفة: أن يقول: وقفت على بناتي، فمن تزوجت سقط نصيبها، فإن طلقت عاد نصيبها، أو: من استغنى منهم خرج من الوقف ومن افتقر دخل، أو: من غاب خرج [منه] ومن حضر دخل فيه، وليس هذا بتعليق للوقف، بل هو تنجيز في الحال، وإنما ذلك تعليق للاستحقاق؛ فصار كما لو علق الوكالة على شرط لا يصح، وإذا وكله في الحال وعلق التصرف على شرط جاز، أما لو شرط أن يخرج من شاء من أرباب الوقف باختياره، ويدخل من يدخل فيه باختياره، أو يقدم من شاء ويؤخر من شاء- ففيه وجهان: أحدهما: أنه جائز؛ كما لو أدخله بصفة وأخرجه بصفة. والثاني: وهو الأصح في "الحاوي" وغيره، وبه جزم المعظم-: أنه لا يجوز، ويكون الوقف باطلاً. قال الماوردي: إلا أن يجعل آخره للفقراء؛ فيكون على قولين، وإذا قلنا بالصحة فإذا فعل ذلك مرة واحدة فهل له الزيادة عليها؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، وله أن يفعل ذلك ما عاش، فإذا مات فقد تعين على من فيه عند موته. قال الرافعي: وعلى قول الجواز- أيضاً- لو شرط ذلك لغيره ففيه وجهان: أصحهما: الفساد، فإن أفسدناه ففي فساد الوقف به خلاف مبني على أن الوقف كالعتق أم لا؟ وقال في "الوسيط": إن قال: وقفت بشرط أن أحرم المستحق، وأحول الحق إلى غيره متى شئت، أو: أرجع متى شئت- فهو فاسد. وإن قال: بشرط أن أغير مقادير

الاستحقاق بحكم المصلحة، فهو جائز. وإن قال: أبقى أصل الوقف وأغير تفصيله، ففيه وجهان. قال الرافعي: وهذا لا يكاد يوجد لغيره، [ثم] فيه لبس؛ فإن التحويل من مستحق إلى مستحق المعدود في الرتبة الأولى، وتغيير مقادير الاستحقاق الذي جعله مثالاً للثانية- كل منهما مندرج فيما جعله موضع الوجهين، وهو إبقاء أصل الوقف وتغيير تفصيله. فروع متفرقة: إذا قال: وقفت هذا على سكان موضع، كذا فغاب بعضهم سنة، ولم يبع داره ولم يستبدل دارًا- لا يبطل حقه، ذكره العبادي. إذا قال: وقفت على زيد بشرط أن يسكن موضع كذا، ثم من بعده على الفقراء – فهذا وقف فيه انقطاع؛ لأن الفقراء إنما يستحقون بعد انقراضه، واستحقاقه مشروط [بشرط] قد تقدم. إذا وقف على أولاده لا يدخل فيه أولاد الأولاد على الأصح، وعليه نص في "البويطي"، وحكى أبو الحسن بن القطان وجهًا آخر: أنهم يدخلون. وخرجه صاحب "الإفصاح" قولاً للشافعي – رضي الله عنه – كما حكاه في "الحاوي"، وغَلِطَ فيه. وقال القاضي الحسين في كتاب الوصية: نص الشافعي – رضي الله عنه – في "المختصر" [على] أنه إذا أوصى لواحد بمثل نصيب أحد ولديه، وله بنت وبنت ابن [وعصبة- أعطى السدس، ولم أَرَ أنه مُوصىً له بالسدس؛ لأنه مثل نصيب ابنة الابن]؛ فيكون سبعًا. وهذا من كلام الشافعي – رضي الله عنه – دليل على أن اسم الولد عند الإطلاق يتناول ولد الولد، حتى لو وقف على أولاده يدخل فيه أولاد

الأولاد. انتهى. قلت: وقد يمنع أن [في] كلام الشافعي – رضي الله عنه – دليلاً على ما ادعاه؛ لأن قوله: "أحد ولديه"- ولا ولد له من الصلب إلا واحد- قرينةٌ دالة على إرادة المجاز بإطلاق اسم الولد على ولد الولد؛ فاستعمل فيه كما سنذكره، وليس عند الإطلاق دلالة عليه. [والله أعلم]. وفي "النهاية" ترتيب أولاد البنات على الخلاف في أولاد البنين، وأولى بعدم الدخول، وهذا عند الإطلاق، وقد يقترن به ما يقتضي الجزم بخروجهم كما إذا قال: وقفت على أولادي، [فإذا انقرضوا فلأحفادي الثلث والباقي للفقراء، ولو وقف على أولاده ولم يكن له أولاد أولادٍ]، ففي "التتمة" وغيرها: أنه يحمل اللفظ عليهم؛ صيانة لكلام المُكَلَّف عن الإلغاء. ولو قال: وقفت على أولادي، فإذا انقرض أولاد أولادي فعلى الفقراء – وقلنا بعدم دخولهم عند الإطلاق- فهلا يكون الوقف منقطع الوسط أو يدخلون بعد انقراض أولاد الصلب؟ فيه وجهان في "المهذب" وغيره، أصحهما: أولهما، والخلاف المذكور في أولاد الأولاد [مع الأولاد] يجري في دخول أولاد أولاد الأولاد عند الواقف على الأولاد وأولادهم، ولا نزاع في أنه لو قال: على نسلي وعقبي أو ذريتي، دخل فيه [أولاد البنات وإن بعدوا. إذا وقف على أولاده وأولاد أولاده ممن ينتسب إليه دخل فيه أولاد البنين، دون أولاد البنات. وحكى ابن كج وجهًا: أنهم يدخلون. ولو وقف على البنين أو البنات لا يدخل الخنثى [المشكِل]، وفي [دخول] بني الأولاد عند الوقف على البنين وبنات الأولاد عند الوقف على البنات وجهان، [ومنهم من خصهما ببني البنين، وجزم بعدم دخول بني البنات].

ولو وقف على البنين والبنات دخل الخنثى المشكل [على أصح الوجهين]، ووجه المنع: أنه لا يُعد منهما. والمنفي باللعان لا يستحق شيئاً. وعن أبي إسحاق: أنه يستحق، وأن أثر اللعان مقصور على الملاعن. إذا جُهِل شرط الوقف ولم نعرف مقادير الاستحقاق أو كيفية الترتيب، قال الإمام: إن لم نيئس من المعرفة وقفنا الأمر، وحملنا المستحق على الطلب، وإن أيسنا، فقد سمعت شيخي يقول: حق هذا أن ينزل منزلة الوقف الذي لا مصرف له إذا صححناه، وكان يحكي عن القفال فيه: أن الأصح الحمل على الجهة العامة. قال الإمام: ولا يتأتى هذا إذا عدمنا شرط الواقف وأشكل، مع العلم بانحصاره في معينين، فالوجه: وقف الرَّيْع إلى أن يصطلحوا. وغيره قال: إذا لم يكن الواقف حيًّا تقسم الغلة بينهم؛ إذ ليس بعضهم أولى بالتقديم والتفضيل من بعض، وإن كان حيًّا ففي "التهذيب" و"المهذب": أنا نرجع إليه – وكذا قال في "الحاوي" – وأنه لا يمين عليه، وأن وارثه يقوم مقامه في ذلك، وكذا عند عدم الوارث يرجع إلى الناظر من جهة الواقف دون الناظر من جهة الحاكم. وحكى فيما إذا اختلف الوالي من جهة الواقف والوارث في الشرط وجهين في أيهما يعمل بقوله. لو لم تُعرف الأرباب، قال الغزالي: جعلناه كوقف مطلق لم يذكر مصرفه؛ فيصرف إلى المصارف التي ذكرناها. إذا وقف داره رباطًا أو مدرسة وشرط اختصاصها بأصحاب الشافعي – رضي الله عنه – أو أصحاب الرأي، اتبع شرطه. ولو وقفهما مسجدًا، وشرط [أن يصلي فيه طائفة معينون دون غيرهم، فإذا

انقرضوا فعلى عامة المسلمين – ففيه وجهان: أحدهما: أن شرطه غير متبع؛ لأن جعل البقعة مسجدًا] كالتحرير فلا معنى لاختصاصه بجماعة، وعلى هذا قال في "التتمة": يفسد الوقف؛ لفساد الشرط. وقياس ما ذكرناه عن الإمام: أنه لا يفسد. والثاني- وبه جزم القاضي الحسين في "تعليقه"-: أنه يتبع حتى لا يجوز لغيرهم الصلاة فيه؛ لرعاية شرط الواقف، وحكى ذلك في آخر كتاب الجزيرة، وقال: إنه يكره. قال الرافعي: ويشبه أن تكون الفتوى به. ولو وقف مقبرة، وشرط اختصاصها بالغرباء أو بجماعة مخصوصين: فإن صححنا الشرط في المسجد فها هنا أولى، وإلا فوجهان؛ لترددها بين المسجد والمدرسة. والثاني أظهر؛ فإن المقابر للموتى كالمساكن للأحياء. ولو أطلق وقف ذلك كان لكل أحد أن يصلي في المسجد، ويعتكف فيه، ويسكن

المدرسة بشرط الأهليَّة، وكذلك الرباط، ويدفن في المقبرة، ولا يختص واقف المسجد بالأذان فيه والإمامة، بل هو وسائر المسلمين فيه سواء. فائدة: الصفة والاستثناء عقيب الجُمَل المعطوف بعضها على بعض يرجعان [إلى الكل]: مثال الصفة: وقفت على أولادي وإخوتي وأحفادي المحاويجِ منهم. ومثال الاستثناء: وقفت على أولادي وأحفادي وإخوتي إلا أن يفسق واحد منهم. ورأى الإمام تقييد ذلك بقيدين: أحدهما: أن يكون العطف بالواو الجامعة، فأما إذا كان بكلمة "ثم"، قال: [فإنه] يختص الصفةُ والاستثناءُ بالجملة الأخيرة. والثاني: ألا يتخلل بين الجملتين كلام طويل، فإن تخلل كما إذا قال: وقفت على أولادي، على أن من مات منهم وأعقب فنصيبه بين أولاده للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن لم يعقب فنصيبه للذين في درجته، فإذا انقرضوا فهو مصروف إلى إخوتي، إلا أن يفسق واحد منهم – فالاستثناء يختص بالأخيرة. والصفة المتقدمة على جميع الجمل مثل أن يقول: وقفت على محاويج أولادي وإخوتي، كالمتأخرة عن جميعهم حتى تعتبر الحاجة في الكل. قال: وإن وقف على الفقراء جاز أن يصرف إلى ثلاثة منهم؛ لأن عرف الشرع في هذه اللفظة: ثلاثة في الزكاة، فحمل اللفظ عليها [في الوقف]، وهل يجوز الصرف إلى فقراء غير بلده؟ فيه وجهان مرتبان على جواز نقل الصدقة، وأولى بالجواز، والحكم فيما لو وقف على المساكين كالحكم فيما لو وقف على الفقراء، وإذا وقف على أحد الصنفين جاز أن يصرف للآخر، خلافًا لأبي إسحاق؛ حيث منع الصرف إلى المساكين عند الوقف على الفقراء، ولو وقف على [أحد] الصنفين فأقلُّ ما يجزئ: الصرف إلى ثلاثة من كل صنف.

قال في "الحاوي": ولو وقف على الفقراء، فمن ادعى أنه فقير جاز الصرف إليه، ولا يكلف إقامة البينة على فقره، بخلاف ما لو وقف على الأغنياء من أقاربه؛ فإنه لا بد من إثبات الغنى بالبينة. ولو وقف على من افتقر فلا بد في الاستحقاق من سابق الغنى، [و] في هذه الحالة لا يقبل قوله في الفقر إلا ببينة، صرح به في "البحر". ويجوز الصرف لصغير فقير له أب غني، أو امرأة فقيرة لها زوج [غني]، أو رجل فقير له ابن غني، وهكذا لو لم يكن له مال وهو مشتغل بعمل يده كان من فقراء الوقف، وإن لم يكن من فقراء الزكاة، كذا جزم [به] في "الحاوي". وقال في "البحر": رأيت لبعض أصحابنا وجهًا: أنه لا يدفع إليهم. وحكى الرافعي فيما عدا الأخير أربعة أوجه عن حكاية الشيخ أبي علي في "الشرح": أحدها – وبه قال ابن الحداد-: أنه يجوز الصرف إليهم. والثاني- ويحكى عن أبي زيد والخضري-: المنع؛ لغنائه بالنفقة المستحقة له؛ فصار كمن حصلت [له] كفايته من كسبه أو من ضَيْعة موقوفة عليه. والثالث – عن الأودني، فيما نقله الفقيه أبو يعقوب-: أن من نفقته على قريبه يستحق دون الزوجة، والفرق: أنها تستحق عوضًا، وهي تستقر في ذمة الزوج كدين في ذمة الفقير حالٍّ أو مؤجلٍ، بخلاف القريب؛ فإن نفقته مواساة. والرابع: أن الزوجة يجوز الصرف لها دون من في نفقة القريب، والفرق: أن القريب يلزمه كفاية أمر القوت من كل وجه حتى الدواء وأجرة الطبيب؛ فاندفعت

حاجته بالكلية, [والزوجة] واجبها [مقدر, وربما] لا يكفيها؛ فتبقى محتاجة, والحكم في صرف الوصية [إلى من] ذكرناه حكم ريع الوقف, قاله الرافعي في قسم الصدقات. قال: وإن وقف على قبيلة كبيرة أي: كبني تميم وبني هاشم والأنصار بطل الوقف في أحد القولين؛ لأن الموقوف عليه معينون فلا يمكن تعميمهم فبطل الوقف؛ كما لو وقف على قوم. وصح في الآخر, ويجوز أن يصرف إلى ثلاثة منهم؛ لأن كل من صح الوقف عليهم إذا كان عددهم محصورًا [صح] , وإن كان غير محصور, صرف إلى ثلاثة منهم كالفقراء والمساكين, فعلى هذا: هل يجوز الصرف إلى نسائهم إذا كان قد قال: وقفت على بني تميم؟ فيه وجهان. أما القبيلة الصغيرة فيجوز الوقف عليها اتفاقًا, وحكم الوقف على عشيرته حكم الوقف على القبيلة, وإذا صح كان كالوقف على الأقارب. وقد خرج الرافعي الخلاف في مسألة الكتاب على أن الوقف على الجهات العامة القصد فيه القربة أو التمليك, فعلى الثاني لا يصح؛ لتعذر الاستيعاب, وعلى الأول يصح. قال: والأشبه بكلام الأكثرين: أنه تمليك, وأنه يصح هاهنا, [وهو الذي صححه النواوي]. تنبيه: القبيلة: بنو الأب. قال الماوردي في "الأحكام السلطانية": أنساب العرب ست مراتب تجمع أنسابهم, وهي: شعب, ثم قبيلة, ثم عمارة, ثم بطن, ثم فخذ, ثم فصيلة:

فالشعب: النسب الأبعد كعدنان, سمي شعبًا؛ لأن القبائل منه تتشعب. ثم القبيلة, وهي: ما انقسمت فيه أنساب الشعب, كربيعة ومضر, سميت قبيلة؛ لتقابل الأنساب فيها. ثم العمارة, وهي: ما انقسمت فيه أنساب القبيلة كقريش وكنانة. ثم البطن, وهو ما انقسمت فيه أنساب العمارة؛ كبني عبد مناف وبني مخزوم. [ثم الفخذ, وهو: ما انقسمت فيه أنساب البطن كبني هاشم وبني أمية]. ثم الفصيلة, وهي: ما انقسمت فيه أنساب الفخذ, كبني العباس وبني المطلب. فالفخذ يجمع الفصائل, والبطن تجمع الأفخاذ, والعمارة تجمع البطون, والقبيلة تجمع العمائر, والشعب يجمع القبائل, فإذا تباعدت الأنساب صارت القبائل شعوبًا والعمائر قبائل. وزاد غيره العشيرة قبل الفصيلة. قال: وإن وقف على مواليه وله موالٍ من أعلى وموالٍ من أسفل, فقد قيل: يبطل؛ لأنه وقفه على مجهول, وذلك أن المولى من أسماء الأضداد؛ لأنه يقع على المعتق [والمُعتق] , ولا يمكن حمل اللفظ فيه على العموم؛ لاختلاف معناهما, مع أن الذي يحمل على العموم أسماء الأجناس كالمسلمين؛ فلما تعذر ذلك بطل, وهذا أرجح عند الغزالي, وقال أبو الطيب: إنه ضعيف. وقيل: يصح, ويصرف إلى الموالي من أعلى؛ لأنهم أنعموا عليه بالإعتاق فكانوا أحق بالمكافأة, وأيضاً: فلاختصاصه بالعصوبة. قال الجيلي: فعلى هذا يدخل فيهم أولادهم. وقيل: يقسم بينهما, [وهو الأصح]؛ لتناول الاسم لهما بمعنى واحد على

جهة التواطؤ, وهو الموالاة والمناصرة. قال شيخنا الشريف عماد الدين –رحمه الله -: وصيغة الجمع منه تتناول الكل؛ ضرورة أنه متواطئ, وهو معنىً واحدٌ مشترك [فيه] كاشتراك اللفظ بين معنيين مختلفين لا مشترك بينهما, وهذا ما اختاره ابن القطان, وصححه القاضي أبو الطيب والمتولي وغيرهم. وحكى المتولي وجهًا آخر: أنه يختص [الأسفل]؛ لأطراد العادة بإحسان السادة إلى العتقاء. ثم الوجوه المذكورة في الكتاب منسوبة إلى رواية الإصطخري, ولو لم يكن له إلا أحد الصنفين تعين, ولو كان له من جهة واحدٌ [ومن جهةٍ] اثنان تعين الصرف للجميع, قاله في "المحيط". [ولو كان قد قال: وقفت على مولاه, وليس له إلا مولً من أعلى وملىً من أسفل –قال في "المحيط"]: فلا ينقدح في هذه الصورة إلا أحد وجهين: إما البطلان؛ للاحتمال, وإما الصحة؛ حملًا على الأعلى, أما الجمع فلا وجه له. قال: فإن وقف على زيد وعمرو وبكر, ثم على الفقراء – [أي]: وأطلق –فمات زيد, صرفت الغلة إلى من بقى من أهل الوقف, فإذا انقرضوا صرفت الغلة للفقراء؛ لأنه لا يمكن صرفه إلى الفقراء قبل انقراضهم؛ لعدم شرط استحقاقهم, ولا يرده للواقف؛ لزوال ملكه عنه؛ فتعين صرفه لأهل الوقف, وهذا هو المنصوص في حرملة, وبه جزم القاضي الحسين. وفي "البحر": أن صاحب "الإفصاح" حكى ذلك, وأنه يحتمل أن يرجع نصيب الميت إلى الفقراء, ثم قال صاحب "الإفصاح": وهو الأصح, وقد ذكره الصيمري أيضاً –أما إذا شرط أن من مات منهم انتقل نصيبه لولده أو لبقية أهل الوقف, فإنه

يتبع شرطه. ولو كان قد وقف على زيد, ثم على عمرو, ثم على بكر, ثم على الفقراء, فمات عمرو قبل زيد, ثم مات زيد –قال في "الحاوي": فلا حق فيها لبكر, وكانت للفقراء والمساكين؛ لأن بكرًا رُتِّب بعد عمرو, وجعل له ما كان لعمرو, وعمرو بموته قبل زيد لم يستحق فيه شيئاً؛ فلم يجز أن يتملك بكر عنه شيئاً. [وقال القاضي الحسين في "فتاويه": الأظهر: أنه يصرف إلى بكر, كما إذا قال: وقفت هذا على ولدي, ثم على ولد ولدي, ثم على الفقراء, فمات ولد الوالد, ثم الولد يرجع إلى الفقراء]. ولو وقف داره على زيد وعمرو: على أن لزيد [منها] النصف, ولعمرٍو الثلث –كانت بينهما على خمسة أسهم: لزيد ثلاثة أخماسها, ولعمرو خمساها. ولو وقف على زيد نصفها, وعلى عمرو ثلثها, ولم يقل في أصل الوقف: إنها عليهما –كان لكل منهما ما سمي له, وكان السدس الفاضل إذا صح الوقف فيه للفقراء. ولو وقف على أن لزيد جميعها, ولعمرو ثلثها –كان الموقوف على زيد ثلاثة أرباعها, وعلى عمرو الربع. ولنختم الباب بفروع تتعلق به: يستحب للقضاة أن [يجددوا إسجالات] الوقوف التي في ديوانهم كلما مضى زمان يخاف فيه [موت الشهود] , كذا قاله ابن الصباغ قبيل باب نصارى العرب, من كتاب الجزية. وحكى القاضي أبو الطيب ذلك ثم عن لفظ الشافعي –رضي الله عنهم –وأنه [علله]

فقال: [كي لا] تنقرض شهودها؛ فيؤدي ذلك إلى خفاء حالها [وبطلان الوقف]. إذا وقف على أهل بيته, صرف إلى قرابته من جهة الرجال والنساء, حكاه في "الشامل" عن "البويطي". وفي "الحاوي" حكاية ثلاثة أوجه [فيه]: أحدها: أنه يصرف إلى من ناسبه إلى الجد. والثاني: من اجتمع معه في الرحم. والثالث: إلى كل من اتصل به بنسب أو بسبب؛ قال صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت". إذا وقف على آله: ففيهم وجهان: أحدهما: إنهم أهل بيته. والثاني: أنهم من دان بدينه. إذا وقف على عياله فهم من في نفقته, وإن كان فيهم والدٌ وولد. ولو وقف على حشمه فهو على من في نفقته, سوى الوالد والولد. ولو وقف على حاشيته فهم المتصلون بخدمته. قال الماوردي: ولو وقف على يتامى بلد صرف إلى صغير مات أبوه, سواء كان فقيرًا أو غنيًا. ولو وقف على [اليتامى مطلقًا فهل يصرف إلى يتيم غنيٍّ؟ فيه وجهان.

ولو وقف على] الأرامل فهن النساء [اللاتي لا أزواج] لهن, وفي اعتبار فقرهن وجهان عند الإطلاق, وهل يدخل فيهن الرجال الذين لا أزواج لهم؟ فيه وجهان. ولو وقف على الفتيان أو الشباب فهم من احتلم ولم يبلغ ثلاثين سنة. ولو وقف على الكهول فهم من له ما بين الثلاثين إلى الأربعين. ولو وقف على الشيوخ فهم من جاوزا الأربعين. إذا وقف على عمارة مسجد [جاز] , وتصرف الغلة إلى حفظ جدرانه وسقوفه, وكذا شراء سلم للصعود عليه إلى سطحه, ومكانس يكنس بها, ومساحٍ ينقل بها التراب, كما قاله أبو عاصم العبادي. ولو كان يصيب بابه مطر ويفسده جاز بناء مظلة فيه بحيث لا تضر بالمارة. وقال المارودي وصاحب "العدة": ويجوز أن يدفع من غلته أجور قيامه, و [لو] لم يجز أن يدفع منه أجور أئمته ومؤذنيه. وهل يجوز أن يشتري منه دهن قناديله؟ فيه وجهان, المذكور منهما في "التهذيب": المنع, وهو الأصح في "العدة", لكنه جزم بجواز شراء البواري, وصاحب "التهذيب": جزم بالمنع فيها [أيضاً]. وفي "تعليق" القاضي الحسين أنه لو وقف على إصلاح المسجد صرفت الغلة إلى ثمن الحصر والدهن ونحوهما, ولا يجوز صرف شيء من الريع إلى تزويقه. نعم, لو صرح بذلك في الوقف فهل يجوز؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحين وغيره. ولو صرح بأنه يصرف الريع في دهن سراجه جاز وضعه في جميع الليل, قال أبو

عاصم العبادي: لأنه أنشط للمصلين. ولو فضل بعد ما يحتاج إليه المسجد من العمارة شيء فماذا يصنع به؟ فيه وجهان في "الحاوي": أحدهما – وهو قول ابن أبي هريرة -: أنه يكون محفوظًا للمسجد. والثاني –وهو قول ابن القطان -: أنه يشتري به عقارًا يوقف على المسجد. ولو بطل المسجد المعين لم يبطل الوقف عليه, صرح به الماوردي, وقال: إن غلته تصرف للفقراء والمساكين, وفيه نظر؛ لأنه ممن [جزم بأن] جعل المال مسجدًا معينٍا منقطع الانتهاء, فكيف إذا جعله ابتداء وانتهاء؟! نعم, يجوز أن يكون فرّع على الصحة مع الانقطاع. ثم كلام المتولي الذي حكيناه من قبل مصرح بأن ريع الوقف على المسجد إذا خرب يصرف إلى عمارة مسجد آخر. ولو وقف على المسجد مطلقًا ففي "التهذيب" التسوية بينه وبين أن يقف على عمارة المسجد. وفي "فتاوى" الغزالي: أنه يجوز صرف غلته إلى الإمام والمؤذن وبناء منارة إذا كان بهما تتوفر الصلاة فيه, وكان السلطان يعرض على وقفه فيأخذ ما فضل عنه بشرط أن يدخر للمسجد شيء من غلته وأجرته [ليستغلها, ولتوقع] واقعة. قال الرافعي: [ويشبه أن] يجوز بناء المنارة من الوقف على عمارة المسجد أيضاً. [و] قال في "الجرجانيات": في جواز الصرف في هذه الحالة إلى نقش المسجد وتزويقه وجهان.

وفي "فتاوى" القفال: أنه لو قال: وقفت على [مسجد كذا, لم يصح ما لم يبين جهته فيقول: وقفت على] عمارته وهن سراجه [ونحو ذلك] , وهذا ما حكاه الإمام عن الشيخ أبي علي في كتاب الوصية حيث قال: لو وقف شيئاً على مسجد, واقتصر عليه ينبغي أن يُفَصل القول في الوقف: فإن قال: نويت تمليك المسجد منافع الوقف, فالوقف باطل, وكذا إذا قال: لم يكن لي نية. ولو قال: قصدت صرف الريع إلى مصالح المسجد, فالوقف حينئذ يصح. قال الإمام: وينبغي ان يحمل الإطلاق على هذه الحالة؛ لأنها عمت في الاستعمال [عمومًا] ظاهرًا. وتبعه الغزالي فيما نقله [ثم]. ولو كان في البقعة التي وقفت مسجدًا شجرةٌ جاز للإمام قلعها باجتهاده, ثم ينقطع حق الواقف عن الشجرة, قاله العبادي. وقال الغزالي في "الفتاوى": مجرد ذكر الأرض لا يخرج الشجرة عن ملكه؛ كبيع الأرض, وحينئذ فلا يكلف تفريع الأرض. قال الرافعي: وكلام غيره محمول على ما إذا وقف المسجد ووقف الشجرة عليه, وقد سئل [الأستاذ] أبو عبد الله الحناطي عن رجل غرس شجرة في المسجد كيف يصنع بثمارها؟ قال: إن جعلها للمسجد لم يجز أكل ثمارها من غير عوض, ويجب صرف عوضها إلى مصالح المسجد, ولا ينبغي أن تغرس الأشجار في المساجد؛ لأنها تمنع الصلاة. إذا كان في يد رجل أرض, فأقر أن غيره وقفها على زيد وعمرو, ثم على أولادهما, ثم على الفقراء, فصدقه زيد وعمرو –صارت وقفًا كذلك إن لم يسم الواقف, فإن كذبه الأولاد صرفت [الغلة] بعد وفاة زيد وعمرو للفقراء. ولو كذبه زيد وعمرو وأولادهما صارت للفقراء, فإن عادوا بعد التكذيب وصدقوا

لم يعد الوقف إليهم, ولو صدق زيد وأولاده وكذب عمرو وأولاده –كان نصف الأرض وقفًا على زيد وأولاده والنصف الآخر للفقراء. ولو صدقه زيد وأولاد عمرو, وكذبه عمرو وأولاد زيد –كان النصف لزيد ثم للفقراء, ونصفه لأولاد عمرو ثم للفقراء. ولو عيّن المقر الواقف وقال: إنه والد الموقوف عليهما ولا ولد له غيرهما, فصدقاه – صارت بتصديقهما وقفًا, [لا] بالإقرار: ولو كذباه كانت لهما ميراثًا, فلو صدقه أولادهما فلا أثر لهما في حياة [زيد وعمرو] , ولكن إن ماتا وهي باقية في تركتهما صارت وقفًا, وإن لم تكن باقية فيه أخذ من تركة أبيهما قيمة الأرض وماذا يصنع بها؟ فيه وجهان: أحدهما: [أنها] تصير وقفًا. والثاني: يشتري بها مثل تلك الأرض, ويكون وقفًا جاريًا. ولو صدقه أحدهما, وكذبه الآخر – [كان] نصفها وقفًا على المصدق, والنصف الآخر ملكًا للمكذب, كذا قاله الماوردي. لو وقف دارًا, ثم أقر بأنها لشخص, وصدقه الموقوف عليه [لم يبطل الوقف, وسقط حق الموقوف عليه] من غلة الوقف, وتصرف إلى من بعده من أهل الوقف, قاله في "الحاوي" في كتاب الصلح. وإذا وقف طنجيرًا, أو فأسًا على قوم, أو [على] مدرسة, فانكسر في يد الموقوف عليه من غير تعدٍّ –فلا ضمان. وكذا لو وضع دنا فيه ماء على باب داره, فوقع الكوز الموضوع عليه من يد الشارب فانكسر –لا ضمان عليه, قاله القاضي الحسين.

وبعد انكسار الطنجير والفأس والمرجل لا يجوز بيعه, بل يتخذ منه أصغر منه. إذا وقف أرضًا على معين, فأراد أن يغرس فيها: هل له ذلك؟ قال القاضي الحسين: يحتمل وجهين, وجه المنع: تغيير الوقف. ثم قال: ولا خلاف أنه لو أراد أن يجعل المُرَاح الموقوف دارًا أو حمامًا, أو البستان الموقوف موضعًا آخر – [مُنع]؛ لما فيه من تغيير شرط الواقف. إذا أغلق إنسان المسجد, ومنع الناس من الصلاة فيه, فإن وضع فيه متاعه فهل تجب عليه الأجرة؟ فيه وجهان. أصحهما في "تعليق" القاضي الحسين قبيل [باب] إقطاع المعادن: اللزوم, وهو ما جزم به المتولي في كتاب الغصب, وقال: إن الأجرة تصرف لمصالح المسلمين. ولو غلق الباب, ومنع الناس من الصلاة فيه لا غير, لم [تلزمه أجرة]؛ لأن المسجد لا تثبت عليه اليد, ويخالف ما لو حبس حرًا؛ لأن منفعة الحر تستحق بالإجارة, بخلاف منفعة المسجد؛ [فإنها تُستحق بالإجارة] والله أعلم. * * *

باب الهبة

باب الهبة الهبة, والهدية, وصدقة التطوع: أنواع من البر, يجمعها: تمليك العين من غير عوض, فإن تمَّحض فيها طلب الثواب من الله تعالى بإعطاء محتاج فهي صدقة, وإن حملت إلى مكان المهدي إليه؛ إعظامًا [له] وإكرامًا وتوددًا فهي هدية, وإلا فهبة. وبعضهم اشترط في الهدية: أن يكون بين المهدي والمهدى إليه رسول, كما حكاه الزبيري وجهًا فيما إذا حلف: لا يهدى إليه, فوهب منه خاتمًا أو نحوه يدًا بيد -لا يحنث, والشبه الول, وعلى هذا: فكل هديةٍ وصدقة تطوعٍ هبةٌ, ولا عكس. وقد قيل: إن الهدية مشتقة من الهداية؛ لأنه اهتدي بها إلى الخير والتالف. وقال أهل اللغة: يقال: وهبت له شيئاً, وهبًا ووهبًا -بإسكان الهاء وفتحها -وهبة, والاسم: الموهب, الموهبة, بكسر الهاء فيهما. والاتهاب: قبول الهبة, الاستيهاب: سؤالها, ووهّاب ووهابة: كثير الهبة. قال: الهبة منوب إليها؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] , قيل: المراد منه الهبة, [وقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] والهبة بر] , وقوله تعالى: {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] الآية, يعني الهبة والصدقة, وقوله صلى الله عليه وسلم: "تهادوا؛ فغن الهدية تذهب وحر الصدر, ولا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاةٍ" خرجه الترمذي.

وقد وردت أخبار كثيرة تدل على ذلك, مع أن الأمة مجمعة على ذلك. قال: وللأقارب أفضل؛ لأن فيها صلة الرحم, وقد حث صلى الله عليه وسلم عليها بقوله: "من سره أن يُنسأ في أجله ويوسع عليه في رزقه فليصل رحمه", وغير ذلك من الأخبار. قال: ويستحب لمن وهب لأولاده [شيئاً] أن يسوي بينهم, أي: فيعطي الأنثى مثل الذكر؛ لما روى عكرمة عن ابن عباس –رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سوُّوا بين أولادكم في العطية", وفي رواية: "لو كنت مفضلًا لفضلت البنات", ولما روى مسلم بألفاظ مطولة: أن النعمان بن بشير قال: وهبني أبي هبة, ثم أتى [بي] النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, إن أم هذا أعجبها أن أشهدك على الذي وهبت لابنها, فقال النبي: "يا بشير, ألك ولدٌ غير هذا؟ " قال: نعم, قال: "كلهم وهبت له مثل هذا؟ " قال: لا, قال: "فلا تشهدني إذن؛ فلا تشهدني على الجور", وفي طريق آخر: "فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ " قال: لا, قال: "فليس يصلح هذا, وإني لا أشهد غلا على حق", وفي طريق آخر: "أشهد على هذا غيري" ثم قال: "أيسرك أن يكونوا في البر سواء؟ " قال: بلى, قال: "فلا إذن", وفي أخرى: "أفعلت هذا بولدك كلهم؟ " قال: لا, قال: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" فرجع, أي: فرد تلك

الصدقة. وفي أخرى: أنه –عليه السلام – أمره بردها. ولأنه يقع في نفس المفضول ما يمنعه من بره, فلو فاضل, قال ابن الصباغ والقاضي الحسين: فقد فعل مكروهًا, ولا إثم عليه. وفي "الرافعي" وجه: أن المستحب أن يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين. قال: ولا يصح إلا من جائز التصرف في ماله غير محجور عليه؛ لأنه تصرفٌ في المال. واحترز بقوله: غير محجور عليه عن المكاتب يهب بغير إذن سيده. وفي "الحاوي": أن المفلس هل تصح هبته؟ فيه قولان. وكأنه يشير إلى القول الذي حكيناه في باب المفلس: أن تصرفاته تكون موقوفة, وهو بعينه يجري في هبة المكاتب, كما به الأئمة في كتاب الكتابة, وهذه صفة الواهب. وأما الموهوب له, قال الماوردي: فهو من صح أن يحكم له بالملك من مكلفٍ وغيره, ثم المكلف يقبل لنفسه وإن كان سفيهًا, وكذا حكم قبضه, وغير المكلف يقبل ويقبض له وليه في المال. ولو وكل في قبول الهبة, قال القاضي الحسين: فالشرط فيها أن يصرح الوكيل بالسفارة؛ كالقبول في النكاح. وأما من لا يحكم له بالملك كالجمل والبهيمة فلا يصح أن يكون موهوبًا منه, وقد ألحق بهما الهبة من المسجد عند إرادة تمليكه دون الصرف في مصالحه, كما حكاه الغزالي في الوصية. وهكذا الحكم إذا أطلقت الهبة له عند الشيخ أبي علي واستبعده الغزالي, وقال: الإطلاق محمول عرفًا على مصالحه. وأما العبد ففي صحة كونه موهوبًا له قولان مأخوذان –كما قال الماوردي –من اختلاف قوليه: هل يملك إذا ملك أم لا؟ وهذا إذا ملك العبد نفسه, أما إذا أطلق الهبة فهي لسيده. وهل يصح قبولها بدون إذنه؟ فيه وجهان:

أصحهما: نعم, وهل يقوم قبول السيد مقام قبوله؟ فيه وجهان جاريان في قبول الوصية, وصار الإمام في باب الوصية إلى أنه لا يعتد بقبول السيد في الهبة؛ لأن القبول فيها كالقبول في سائر العقود, وقبول الوصية بخلافه؛ ألا ترى أنه يعتد به منفصلًا عن الإيجاب, واقعًا بعد خروج الموجب عن أهلية الإيجاب, وصادرًا من وارث [الموصي له] مع أنه لم يخاطب؟! ثم إذا جوزنا للعبد القبول بدون الإذن, فهل يجوز أن يقبل ما يلحق سيده منه ضرر كالعبد الزمن والدابة الزمنة؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحين في كتاب اللقيط, وسنذكر عن الإمام في كتاب العتق ما يقتضي الجزم بالمنع. والهبة من اللقطاء صحيحة وإن كانوا مجهولين, كما صرح [به] في "الوجيز" في باب اللقطة, وعلى هذا يقبل لهم القاضي. وقد استبعده الرافعي, [ثم] قال: ويجوز أن تنزل الجهة العامة منزلة المسجد حتى يجوز تمليكها بالهبة كما يجوز الوقف عليها. وهذا منه تصريح بأن الهبة بقصد التمليك للمسجد جائزة, ولعله محمول على هبة المسجد شيئاً يصرف في مصالحه كما صوره الأصحاب, وقالوا: يجوز أن يؤخذ ما اشترى له بالشفعة, ويجوز أن يأخذ له بالشفعة لهذا الغرض, كما صرح به القاضي الحسين وغيره في كتاب الوقف والشفعة, وقالوا: إن قيِّم المسجد يقبل له الهبة. وتصبح الهبة من الحربي على الأصح, وفي "الذخائر" حكاية وجه في كتاب الوصية: انها لا تصح منه؛ كما لا تصح [له] الوصية على وجه. قال: ولا تجوز هبة المجهول أي: العين أو القدر أو الصفة, ولا [تجوز] هبة ما لا يقدر على تسليمه أي: حسًّا أو شرعًا؛ لتعلق حق الغير به, و [لا] ما لم يتم ملكه كالمبيع قبل القبض؛ لأنه عقدُ يقصد به تمليك المال في حال الحياة فأشبه البيع.

وضابطه: أن كل ما جاز بيعه من الأعيان جازت هبته, وما لا فلا, وهذا على الصحيح, وقد يأتي في بعض المسائل جواز هبة ما لا يصح بيعه على وجهٍ: فمنها: الآبق: هبته صحيحة عند ابن سريج –كما دل عليه كلام الماوردي –حيث قال عند الكلام في كيفية القبض للابن من كتاب البيع حكايةً عن محمد بن الحسن أنه قال أثناء كلامه: ألا ترى أنه لو وهب لابنه الصغير عبدًا آبقًا, جاز, ولو باعه لم يجز؟! وأن ابن سريج قال: إنما جازت هذه الهبة, ولم يجز البيع؛ لأن الآباق عذر يجوز في الهبة, ولا يجوز في البيع. ومنها: المرهون تصح هبته على وجهٍ, وفائدة صحتها: أنه إذا انفك الرهن يجبر الواهب على الإقباض, ولا يحتاج إلى تجديد عقد, وخالفت الهبة على هذا البيع؛ لأنها لا تفيد الملك في الحال, بل يشترط فيه التسليم, وهي ليست بموجبة للتسليم, بخلاف البيع. وهذا الوجه يجري في هبة المغصوب الذي لا يقدر على انتزاعه. ومنها: هبة الأرض المزروعة دون الزرع, تصح على وجه, لكنه جزم به الأكثرون, والوجه الآخر محكي في "زوائد" العمراني. ومنها: هبة الكلب المنتفع به, تصح على وجه, وهو جارٍ في جلد الميتة قبل الدباغ, وفي الخمور المحترمة. قال الإمام: وحق من جوًز الهبة فيها أن يجوزها في المجاهيل, وفي الآبق؛ [كالوصية]. ومنها: هبة الدين المستقرض من غير من هو عليه, لا تصح [إلا] على وجه, وإن جاز بيعه, وبه جزم الماوردي, لكن نص الشافعي –رضي الله عنه –على الجواز, واختاره في "المرشد". وهبته ممن هو عليه جائزة قطعًا, وتبرأ بها الذمة.

ومنها: [هبة] المنافع, قال في "الجرجانيات": فيها وجهان؛ بناء على أن ذلك إعارة أم لا؟ وبيعها صحيح. وقد احترزنا بقولنا: "ما جاز بيعه من العيان جازت هبته, وما لا فلا" عن الدين [و] عن بيع الأوصاف سلمًا في الذمة؛ فإنه جائز, ولا تجوز الهبة على نحوه, مثل أن يقول وهبتك ألفًا في ذمتي, ثم يعينه في المجلس ويقبضه, كما صرح به الإمام في كتاب الصلح, والقاضي الحسين [هنا] , وقد ذكرنا في باب القرض عن "المهذب" أنه [إذا] قال: أقرضتك عشرة دراهم, ووصفها, ثم اقبضها في المجلس – صح وأنه لو عينها بعد مفارقة المجلس جاز, وإن طال لم يجز حتى يعيد لفظ القرض. وكان يتجه أن يجيء مثله هاهنا, وإن فرق بأن في القرض شائبة المعاوضة. قلت: فليخرج على الخلاف المذكور في نظير المسألة في القرض. قال: ولا يجوز تعليقه على شرط مستقبل, أي: مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر فقد وهبتك [, ولا على شرط ينافي مقتضاه, أي: مثل أن يقول: وهبتك سنة] , أو: بشرط ألا أقبضك, أو: [أن] أقبضك, ولا تنتفع به؛ لأنه عقد يبطل بالجهالة؛ فبطل بذلك كالبيع. وقيل: تصح الهبة إذا اقترن بها شرط فاسد, ويلغو الشرط. وقيل: يختص بإلغاء الشرط بما إذا كان من قبيل التأقيت, [كما إذا قال]: وهبتك سنة, وهو مخرج مما سنذكره في "العمرى". وحكى في "الزوائد" عن صاحب "العدة": أنا إذا لم نبطل الهبة [بالشروط الفاسدة] , فوهب له جاملًا, واستثنى حملها –بقى الحمل للواهب. قال: وإن قال: أعمرتك هذه الدار, وجعلتها لك حياتك ولعقبك من بعدك –

صح؛ لما روى مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل أعمر رجلاً عمري له ولعقبه, فقال: أعطيتكما وعقبك, ما بقى منكم أحد, فهي لمن أعطيها وعقبه, لا ترجع لصاحبها؛ من أجل أنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث". ولأن هذه عين الهبة ولكنه طوّل على نفسه. وفي معنى قوله: مدة حياتك, [قوله: ما] حييت, أو: ما عشت, أو: ما بقيت. قال: وإن لم يذكر العقب, أي: بأن قال: أعمرتك هذه الدار حياتك [صح] أيضاً, وتكون له في حياته ولعقبه [من] بعد موته؛ لما روى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ["العمري جائزة" أخرجه البخاري ومسلم, وروى أبو داود أنه قال]: "من أعمر عمري, فهي له, ولعقبه يرثها من يرثه من عقبه"

وخرجه النسائي. ولأن الأملاك المستقرة كلها مقدرة بالحياة, وتنتقل إلى الورثة؛ فلم يكن ما جعل له في حياته منافيًا لحكم الأملاك, و [هذا] هو الجديد [و] الصحيح, و [به قال في] القديم, وفي بعضه أنه ليس كذلك, وقد اختلف في كيفيته على طريقين مذكورين في الكتابة. قال: وقيل: فيه قول آخر: أنه باطل؛ لما روي عن جابر أنه قال: "إنما العمري التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك, فأما إذا قال: هي لك ما عشت, فإنها ترجع إلى صاحبها" خرجه أبو داود ومسلم. ومراد جابر عند هذا القائل: الرجوع في الحال, ولأنه تمليك عين إلى مدة؛ فهو كقولك: أعمرتك سنة, أو: عمري, أو: عمر زيد, وهذا رواه الزعفراني, [وبه] قال في "البحر", وقد كان بعض أصحابنا يغلب في قوله: جعلتها لك عمري, [أو]: عمر زيد – حكم العمري, ويجعلها أيضاً على قولين, وهو اختيار البغوي وجماعة من أصحابنا بـ"خراسان", ومن القول بالصحة [فيه] خرج إلغاء الشرط الفاسد في الهبة, والوقف كما ذكرناه, لكن الأكثرون على المنع في الصورة المذكورة. قال: وقيل: فيه قول آخر: أنه يصح, ويكون للمعمر في حياته, فإذا مات رجعت إلى المعمر, [أو إلى ورثته؛ تمسكًا بقول جابر, فإن المفهوم منه أنها تدفع إلى المعمر] بعد موت المعمر لا في الحال, وهذا تفسير أبي إسحاق القول القديم كما قاله الرافعي والقاضي أبو الطيب, ونسبه في "الحاوي" إلى ابن أبي هريرة, وهو أضعف من الذي قبله؛ لمخالفته القياس؛ فإن الإنسان لا يملك مؤقتًا, وقال

القاضي أبو الطيب: إنه أشبه [الوجوه] بالسنة. وفي "التهذيب": أن أبا إسحاق قال في القديم: إنها تكون عارية متى شاء استردها, فإذا مات عادت إلى المعمر, وهو قريب من وجه حكاه الروياني تفريعًا على القول الأخير في أن المعمر لا يملك الانتفاع بها مدة حياته مع وجه آخر: أنه يملك, وصحح الأول, وعلى هذا [يجتمع في المسألة] أربعة أوجه. قال: وإن قال: جعلتها لك حياتك, فإذا مت رجعت إليَّ –بطل في أحد القولين؛ لمنافاة الشرط لها؛ فإن مقتضى الملك أن تنتقل بعد الموت إلى ورثة المالك, وصح في لآخر, وترجع إليه بعد موته, أي: على قولنا بالقول الأخير من القولين في القديم؛ لأن هذا مؤكد لمقتضى العقد, وقد بنى القاضي أبو الطيب والقاضي الحسين والبندنيجي وابن الصباغ القولين على قولنا: إن العقد باطل في الصورة السابقة, كما قلنا: إن الوجه الثاني مبنيٌّ على القول بالصحة في الصورة السابقة, وتكون للمعمر في حياته, وترجع إلى المعمر أو إلى ورثته [إن كان قد مات بعد الموت]. وقالوا: إنا إذا فرعنا على الجديد في الصورة السابقة, فالعقد صحيح [ها] هنا أيضاً, وتكون له ولورثته من بعده؛ لعموم الحديث والشرط الذي ذكره, فليس هو المعمر الذي يملك العمري, وإنما هو شرط على إنسان آخر غيره وهو الوارث, ولا حق له في الحال؛ فكان وجوده وعدمه سواء, [وقد حكى المراوزة في هذه الحالة وجهًا: أن العقد باطل, ورجحه ابن كج [والمتولي]] , وبه جزم الماوردي, مع حكايته الخلاف عند الإطلاق في الصورة السابقة؛ كما ذكرناه, ولمن اختار هذا الوجه تفريعًا على الجديد [في الصورة السابقة, أن يقول: في المسألة وجهان: أحدهما: البطلان؛ بناء] على الجديد, وأحد قولي القديم.

والثاني –وهو القديم -: أنه يصح, ويكون للمعمر في حياته, فإذا مات رجعت إلى المعمر أو إلى ورثته إن كان قد مات –كما حكاه الشيخ –ولا يقال له: إنك ما فرعت على الجديد, بل ذكرت التفريع على القديم خاصة, كما أورد على الشيخ, على [أني سأبين] في كلام الشيخ ما يعرفك الحكم في هذه المسألة على الجديد كما ذكره الجمهور, والله أعلم. فرع: إذا أثبتنا الملك للمعمر, وقيدناه بالحياة, فلو باع ما ملكه, ثم مات والعين مبيعة –قال الإمام: يحتمل أن يقال: لا ينفذ بيعه؛ فإن مقتضى البيع إذا صح التأبيد, وهذا لا يسعه الملك المؤقت, وليس له أن يملك غيره ما لا يملكه في نفسه؛ فإذن له الانتفاع, وله وطء الجارية التي جرى الإعمار فيها, وليس له أن يبيع. ويجوز أن يقال: بيعه نافذ محمول على التأبيد الذي يقتضيه البيع. ولعل الأصح الأول, والذي أجاب به ابن كج الثاني. وعلى هذا قال الرافعي: ويشبه أن يرجع المعمر في تركته بالغرم, رجوع الزوج إذا طلق وقد خرج الصداق عن ملكها. فرع: لو قال: ملكتك هذه الدار بمائة دينار [عمرك] , قال في "الإفصاح": لا يصح. وبه قال ابن سريج. وحكى [عن] ابن خيران: أنه يصح؛ قاله في "البحر". وأبدى ابن كج قول ابن خيران احتمالًا لنفسه. تنبيه: العمرى مأخوذة من العمر, والرقبى من المراقبة؛ كأن كل واحد منهما يراقب موت صاحبه, وقد كانا عقدين في الجاهلية, ويقال: عُمُر: بضم العين والميم, وعمر: بضم العين وإسكان الميم, وعمر: بفتح العين. قال: وإن قال: أرقبتك هذه الدار: فإن مت قبلي عادت إليَّ, وإن مت قبلك استقرت لك –صح, أي: على الجديد, ويكون حكمه حكم العمرى, لما روى أبو

داود عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ["العمرى جائزة لأهلها, والرقبى جائزة لأهلها" وأخرجه ابن ماجه والنسائي, وقال الترمذي: إنه حسن. وروى أبو داود عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]: "من أعمر شيئاً لمعمره, محياه ومماته, ولا ترقبوا, ومن أرقب فهو سبيله". ومراد الشيخ بالعمري المذكورة في هذا الفصل: الصورة الأخيرة, لا العمري المشروط فيها أن تكون لوارث المعمر بعد موته, ولا المطلقة؛ لأن ما ذكره من صورة الرقبى وجد فيها شرط العود بعد الموت, بخلافهما, وإذا كان كذلك كان كلام الشيخ هاهنا مفهمًا لأمرين: أحدهما: أن العمري في الصورة السابقة يكون الصحيح فيها الصحة, كالخالية عن الشرط, كما صرح به [غيره] , وذلك مستنبط من قوله هنا: صح. والثاني: أن الخلاف المفرع على القولين في صورة العمري [يجري هاهنا] أيضاً, كما صرح به الأصحاب؛ لقوله: ويكون حكمه حكم العمري. [لكن] قال الأصحاب: إنا إذا قلنا ثم: يرجع إلى المعمر بعد وفاة المعمر, [نقول هاهنا: إن مات المرقب أولًا عادت إلى المرقب, وإن مات المرقب أولًا استقرت على] ملك المرقب, وتكون لورثته من بعده, وبهذه الحالة فارقت الرقبى العمرى, كما قاله القاضي أبو الطيب وصاحب" البحر", والمذكور في "الحاوي" في

صورة مسألة الكتاب من الرقبى: الجزم بالبطلان, وحكاية الخلاف فيما إذا قال: جعلت الدار رقبى, فالجديد الصحة, والقديم: البطلان, كما حكى مثله فيما إذا قال: جعلت هذه الدار [لك] عمري. قال: ولا يصح شيء من الهبات إلا بالإيجاب والقبول؛ لأنه تمليك ناجز؛ فافتقر إلى الإيجاب والقبول؛ كالبيع والنكاح. وعن ابن سريج: أن القبول في الهبة يجوز تأخيره عن الإيجاب؛ كالوصية؛ كذا حكاه ابن الصباغ, وكذا الرافعي عن كثير من أصحابنا. وفي "تعليق" البندنيجي حكايته عن ابن سريج في قبول الهدية؛ لأن ذلك عادة الهدايا, وكذلك قال في "التتمة": ومنع التأخير في الهبة جزمًا. وجمع الشيخ الهبة؛ لتنوعها إلى: هبة يقصد بها التقرب إلى الله –تعالى –وهي الصدقة, وإلى هبة تحمل إلى الموهوب؛ منه لقصد تعظيمه وهي الهدية, وإلى هبة خالية عن ذلك وهي المفهومة عند الإطلاق من هذا اللفظ, وهذه طريقة الشيخ أبي حامد, كما صرح بها المحاملي في "المجموع", وكذا القاضي أبو الطيب حيث قال في "التعليق": إن صدقة التطوع لا بد فيها من الإيجاب والقبول. وحكى ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد: أنه قال: إذا أراد [أن يملك] الهدية, وكل الرسول الحامل لها حتى يوجب, فيقبل المهدي إليه. وجزم في "الحاوي" بأن الهبة تفتقر إلى إيجاب وقبول, وفي الهدية بعدم ذلك, ويكفي فيها الأخذ والدفع بالرضا, سواء كان الدافع المهدي, أو رسوله, إذا غلب على ظن المهدي إليه صدقه, ويجوز له التصرف فيها, وبهذا أجاب الفوراني والمتولي والبغوي, وكذا القاضي الحسين, وصرح بمثله في الصدقة أيضاً, [وقال

الإمام في باب الزكاة: إن الظاهر في صدقة التطوع: أنه لا حاجة إلى اللفظ فيها؛ تشبيهًا بصدقة الفرض, وأنه الذي عمل به الكافة] واختار ابن الصباغ أنه لا يفتقر في الهبات المذكورة إلى إيجاب وقبول, بل إذا وجد ما يدل على ذلك كفى. واستشهد له في كتاب النفقات بأن الشافعي –رضي الله عنه –قال فيما إذا دفع الوثني إلى زوجته نفقة مدة, ثم اسلم, وتخلفت حتى انقضت عدتها, [وطالبها بالنفقة] فقالت: إنما دفعت لي هبة, وقال: بل سلفًا في النفقة –ينظر: إن كان حين دفع شرط أنها نفقة مستقبلة كان عليها ردها, وإن أطلق لم يكن عليها الرد؛ لأنه متطوع, وهذا يقتضي أن الهبة لا تفتقر إلى لفظ الهبة والإيجاب والقبول؛ فإنه جعله متطوعًا عند الإطلاق. ثم قال: وما قاله الشيخ أبو حامد والقاضي فغير مستقيم؛ لأنه خلاف ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم وما اجمع المسلمون عليه, فإنه كان يهدى إليه –عليه السلام –وكان يقبضه, ويتصرف فيه, ولم ينقل في [شيء من] ذلك إيجاب ولا قبول ونقل أنه صلى الله عليه وسلم تصدق, ولم ينقل عنه التلفظ, ولا يمكن حمل ما فعله السلف على الإباحة؛ لأن الإباحة تختص بالمباح له, وقد كان –عليه السلام –يتصرف فيما يهدى إليه. ثم صريح الإيجاب: وهبتك, وأعمرتك, وأرقبتك, ومنحتك, وكذا ملكتك بلا ثمن, وفي قوله: أطعمتك هذا الطعام فاقبضه, وجهان, أحدهما: أنه ليس بصريح حتى لو قبضه ثم قال: لم أرد به الهبة, [قبل قوله] , كما حكاه في "الزوائد" عن الطبري. فروع: إذا وهب الأب لولده الذي في حجره شيئاً, فهل يفتقر إلى الإتيان باللفظ أم يكفي فيه النية؟ وإذا افتقر, فهل يحتاج إلى إيجاب وقبول, أم يكفي أحدهما؟ فيه [وجهان تقدم

ذكرهما] في البيع. قال الإمام: ومحل الخلاف في الاكتفاء بالقبول [إذا كان يمكن الابتداء به: كقوله: اشتريت, واتهبت لولدي. وفي "فتاوى" القاضي] الحسين: أنه إذا قال لولده الصغير: وهبت هذا منك, حكاية وجهين: أحدهما: لا يصح, حتى لو قبل [له] الأب بعد ذلك لم يصح. والثاني: أنه يصح. وعلى هذا: هل يحتاج إلى القبول؟ فيه وجهان. إذا وهب رب الدين من الذي عليه الدين ما له من دين, فهل يفتقر إلى القبول؟ إن قلنا: إن الإبراء يفتقر إليه –كما حكى عن ابن سريج –فنعم, وإلا فوجهان حكاهما البندنيجي عن ابن سريج: أحدهما –ويحكى عن ابن أبي هريرة أيضاً: نعم, وهو ما قال الإمام في كتاب الرهن في آخر مسألة استعارة العبد ليرهن بدين: إنه الأصح. والثاني –وهو المذهب في "الشامل" -: لا. قال البندنيجي: ويبرأ بنفس الهبة؛ كصدقة التطوع. وكأنه يشير بذلك إلى ما ذكره ابن سريج وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد: أنه إذا قال: تصدقت عليك بما لي من دين –فأنه يصح, وتبرأ ذمته, كما لو أبرأه. فرع: [إذا ختن ولده] واتخذ دعوة, فحملت إليه الهدايا, ولم يسم أصحابها الأب ولا ولده –حكى العبادي في "زياداته" وجهين: أحدهما: أنها للأب. والثاني: أنها للابن, وبه أجاب القاضي الحسين في "فتاويه", وفيها أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أفتى بالأول.

وفي "فتاوى" الغزالي: أن خادم الصوفية الذي يتردد في الأسواق ويجمع لهم شيئاً, يملكه دونهم؛ لأنه ليس بولي ولا وكيل عنهم, سيما وهم غير محصورين, لكن الأولى به الصرف إليهم, فإن لم يفعل كان لهم منعه من أن يأخذ على اسمهم [شيئاً]. [إذا سيرت الهدية] في ظرف جرت العادة بتركه, ملك مع الهدية, وإلا فلا يملك, قاله الماوردي. وقال القاضي الحسين: إن الوعاء يكون في يده أمانة, ويستحب رده في الحال؛ لقوله –عليه السلام -: "استديموا الهدايا برد الظروف". فإن استعمله نظر: [فإن كانت] تلك الهدية مما جرت العادة بإخراجها عن الظرف في الحال, مثل: الحبوب, ونحوها –ضمن, وإن كانت مثل المرقة ونحوها, وجرت العادة بأن تؤكل في ذلك الوعاء –فلا ضمان. نعم: إذا استعمله في غير الهدية ضمن. وفي "التهذيب" فيما إذا كانت العادة جارية بأكل [المهدي] في الظرف, كان في يده كالمستعار. وإذا نفذ كتابًا إلى حاضر أو غائب, قال المتولي: إن استدعى منه الجواب على ظهره, فلا يملك الكاغد, وعليه رده, وإلا فهو هدية يملكها المكتوب إليه. وذكر غيره: أنه يبقى على ملك الكاتب, وللمكتوب إليه الانتفاع [به] على سبيل الإباحة؛ وهذا تخريج على طريقة الشيخ أبي حامد. قال: ولا يملك المال فيه إلا بالقبض؛ لما روى مالك عن الزهري عن عروة عن

عائشة –رضي الله عنهم –أن أبا بكر – رضي الله عنه –نحلها عشرين وسقًا [من ماله؛ أي: قدرًا من النخل تجد منه] عشرين وسقًا –كما بينه القاضي الحسين – فلما مرض قال: يا بنية, ما أحد أحب إليَّ غنى بعدي منك, ولا أحد أعز علي [فقرًا منك] , وإني كنت نحلتك [جداد] عشرين وسقًا وددت أنك خزنته أو قبضته وهو اليوم مال الوارث, وهما أخواك وأختاك, فاقتسماه على كتاب الله, فقلت: عرفت أخوي محمد وعبد الرحمن وأختي أسماء, فمن الأخرى؟ فقال: ألقى [الله] في روعي – وفي رواية: إن روح القدس نفث في روعي -: أن ذات بطن [بنت خارجة] جارية. فلو كانت الهبة تلزم بنفسها قبل القبض لم يكن لقوله: "وددت لو خزنته [أو قبضته"] معنىً, ولما كان تركةً. وقد روى عن عمر –رضي الله عنه –أنه قال: لا تتم النحلة حتى [يحوزها المنحول] له. وروي مثل ذلك عن عثمان, وابن عمر, وابن عباس, وأنس بن مالك, ومعاذ الغزي, وعائشة, ولا يعرف لهم مخالف, ولأنه عقد إرفاق مفتقر إلى القبول؛ فافتقر إلى القبض كالقرض, ولأنه هبة غير مقبوضة فلا تلزم؛ كما لو مات وقد, وافق الخصم – وهو الإمام مالك, رضي الله عنه – على عدم لزوم ذلك الوارث. ولا فرق في ذلك بين سائر الهبات بالاتفاق من أصحابنا, حتى قالوا: لو أرسل إلى شخص هدية, ثم استرجعها قبل أن تصل إليه, أو مات –لم يملكها المهدى إليه؛ استدلالًا بما روى أنه صلى الله عليه وسلم أهدى للنجاشي ثلاثين أوقية مسكًا, فمات قبل أن تصل

إليه, فردت إليه –عليه السلام –فأعطى كل واحدة من نسائه أوقيةً, ودفع لأم سلمة سائره. ولا يشترط في القبض الفور, بل يجوز على الفور وعلى التراخي. [ثم] اعلم أن ما ذكره الشيخ من كون المال لا يملك إلا بالقبض هو ظاهر المذهب, وعليه أكثر الأصحاب, وهو الصحيح في "تعليق" أبي الطيب وغيره, ووراءه قولان: أحدهما –حكى عن القديم -: أن الملك يحصل بنفس العقد, كمذهب مالك, ويحكى عن رواية عيسى بن أبان. والثاني –حكاه العراقيون والمراوزة -: أن الملك موقوف على أن يوجد القبض, فإذا وجد تبينًا حصول الملك من وقت العقد, وهذا مخرج مما ذكره فيما إذا وهب عبدًا في آخر رمضان, وأقبضه بعد الغروب –كانت زكاة الفطر على الموهوب له. قال البندنيجي: وهذا غلط؛ لأن الشافعي –رضي الله عنه –فرَّع مسألة [زكاة] الفطر على مذهب مالك, وثمرة الخلاف تظهر في الزوائد والفوائد. ثم كيفية القبض في العقار والمنقول كما قدمناه في البيع, وقد حكيناه ثم قولًا أن التخلية في المنقولات قبض. قال في التتمة: ولا جريان لذلك القول هنا, والفرق: أن القبض في المبيع مستحق, والمشتري مطالب [به]؛ فجاز أن يجعل قابضًا بالتمكين, وفي الهبة القبض غير مستحق؛ فاعتبر تحقيقه, ولم يكتف بالوضع بين يديه؛ ولهذا لو أتلف المتهب الموهوب لم يصر قابضًا, بخلاف المشتري [إذا أتلف] المبيع.

وما ذكره قد حكيناه مثله عن القاضي الحين, وحكينا عن الإمام ثم أن الأصحاب طردوا قول الاكتفاء بالتخلية في الهبة أيضاً؛ مصيرًا إلى أن صورة القبض لا تختلف, ولو أمر الواهب المتهب بإعتاق العبد الموهوب فأعتقه نفذ, وكان قبضًا. فرع: إذا صححنا هبة الدين المستقرض من غير من هو عليه, فهل يلزم بغير القبض أو لا بد منه؟ فيه وجهان: المختار في "المرشد": الافتقار. وإذا قلنا بمقابله فوجهان: أحدهما: أنه يلزم بمجرد الإيجاب والقبول. والثاني: لا بد من تسليط بعد العقد وإذن مجدد, ويكون ذلك كالتخلية في الأعيان التي لا يمكن نقلها. قال: ولا يصح القبض إلا بإذن الواهب؛ لأنه سبب ينتقل به الملك فلا يجوز من غير رضا المالك, وبالقياس على الرهن, ولأن القبض في البيع آكد من القبض في الهبة, ثم يثبت أنه لو قبض المبيع قبل تسليم الثمن كان القبض فاسدًا, ويلزمه رده, فهذا أولى. فإن قبضه بغير إذن كان عاصيًا. ثم ظاهر كلام الشيخ: أنه إذا أذن له في القبض فقبض كفى, و [به] صرح القاضي الحسين غيره. وفي "الحاوي" في كتاب العارية: أن الهبة لا تصح إلا بإقباض من الواهب أو وكيله فيه, ولا يصح الإذن في القبض من غير إقباض, وتصح العارية بالإقباض والإذن فيه من غير إقباض. والفرق: أن قبض المستعير لا يزيل ملك الغير؛ فجاز أن يأذن بالتصرف فيه, والقبض في الهبة مزيل للملك؛ فلم يتم إلا بإقباض الواهب. وما قاله من الفرق قد ينازع فيه؛ فإن القاضي أبا الطيب عدَّ من جملة أنواع الهبة

العارية؛ فإنها هبة المنافع, وقبضها يكون باستيفائها؛ فقد صار القبض في العارية مملكًا أيضاً, وهذا ما أورده ابن الصباغ في كتاب العارية في ضمن مسائل الاختلاف, لكن الإمام ضعفه واستبعده. فرع: ذكر القاضي أبو الطيب في "المنهاج": لو قال: وهبتك هذه الدار وسلطتك على قبضها, فقال الموهوب له: قبلت –صحت الهبة. قال العمراني في "زوائده": وأشار الشيخ أبو إسحاق في "تعليقه" في الخلاف إلى ذلك. وقال الفقيه زيد بن عبد الله اليفاعي: إنه لا يصح؛ لأنه فصل بين الإيجاب والقبول؛ ولأن الإذن بالقبض وجد قبل تمام العقد؛ فهو كما لو أذن له بالقبض قبل الإيجاب. قال: فإن وهب منه شيئاً في يده أو رهنه عنده, لم يصح القبض [حتى يأذن] [الواهب] فيه, ويمضي زمان يتأنى فيه القبض. أما افتقاره إلى الإذن؛ فلأنه عقد يفتقر لزومه إلى القبض, فافتقر القبض فيه إلى الإذن كما لو لم تكن العين في يده. وأما افتقاره إلى مضي زمان يتأتى فيه القبض؛ فلأن القبض حقيقةً يحصل بالاستيفاء, وبمضي الزمان يتأتى فيه الاستيفاء؛ فإذا لم يتحقق واحد منهما لم يكن القبض محققًا حقيقة ولا حكمًا. وقيل: في الرهن لا يصح إلا بإذن, وفي الهبة يصح من غير إذن, وهذا نصه

فيهما؛ لأن الهبة عقد يزيل فلم يفتقر إلى الإذن لقوته, والرهن لا يزيل الملك فافتقر إلى الإذن لضعفه, وهذا ضعيف؛ بدليل استوائها في الافتقار إلى الإذن إذا لم تكن العين في يده. وقيل: فيهما قولان, [و] وجه عدم الافتقار: أنه لما لم يفتقر إلى نقل مستأنف [لم يفتقر إلى إذن مستأنف] , ووجه الافتقار –وهو الصحيح -: ما تقدم. والفرق بين الاحتياج إلى [الإذن دون النقل] أن النقل يراد ليصير في يده وذلك موجود, والإذن يراد ليتميز قبض الهبة والرهن من قبض الوديعة والعارية والغصب, وذلك لا يحصل إلا بالإذن, وهذه طريقة أبي إسحاق, وأكثر الأصحاب –كما حكاه الماوردي –وقد تقدم في الرهن تفاريع ذلك؛ فليطلب منه. قال: وإن مات الواهب قبل القبض قام الوارث مقامه: إن شاء أقبض, وإن شاء لم يقبض يعني: ولا يبطل العقد؛ لأن الهبة عقد يئول إلى اللزوم فلم ينفسخ بالموت؛ كالمبيع المشروط فيه الخيار, وهذا ما عليه أكثر الأصحاب, وحكاه القاضي الحسين عن النص. وقيل: ينفسخ العقد؛ لأنها جائزة قبل القبض فانفسخت بالموت كالوكالة والشركة. قال: وليس بشيء؛ لما ذكرناه, ويخالف الوكالة الشركة؛ لأنهما لا يئولان إلى اللزوم. وقال بعض أصحابنا: محل جريان الخلاف إذا قلنا: بحصول الملك بنفس العقد إذا وجد القبض, أما إذا قلنا: لا يحصل الملك إلا عقيب القبض, بطل بلا خلاف؛ كما لو مات بين الإيجاب والقبول. [و] قال الرافعي: والخلاف في الأصل يجري فيما لو مات الموهوب له قبل

القبض, وفيما إذا جُنَّ أحدهما أو أغمي عليه. وقد ذكرت في باب الرهن فروعًا مشابهة لما نحن فيه؛ [فلتطلب منه]. فرع: ذكره الشافعي – رضي الله عنه – في الإقرار والمواهب, كما صرح به ابن الصباغ والبندنيجي [والقاضي] وغيرهم: إذا قال: وهبت لفلان هذه الدار وخرجت إليه منها, لم يكن ذلك إقرارًا بالقبض, [وكذا إذا قال: وهبت هذا فلان وملكه لم يكن إقرارًا بالقبض]؛ لأنه قد يكون مالكها يعتقد أن الملك يحصل بالعقد؛ فلا يكون هذا إقرارًا بالقبض؛ فيرجع في التفسير إليه. قال: وإن وهب الأب أو الأم أو أبوهما أو جدهما شيئاً للولد وأقبضه – جاز له أن يرجع فيه, أي: إذا كان خاليًا عن تعلق حق الغير [به]. أما في الأب؛ فلما روى أبو داود عن ابن عباس وابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبةً فيرجع فيها, إلا الوالد [فيما] يعطي ولده, ومثل الذي يعطي العطية, ثم يرجع فيها كالكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه". وأخرجه النسائي وابن ماجه, وقال الترمذي: حسن صحيح. وأما فيمن عداه؛ فلأنهم كهو في حصول العتق, ووجوب النفقة, وسقوط

القصاص؛ فكانوا كهو هاهنا أيضاً, وهذا هو الصحيح, وبه جزم ابن الصباغ, ووراءه أمور [أُخر]: [أحدها]: حكى الماوردي وغيره عن ابن سريج أن الأب لا يثبت له الرجوع إلا إذا قصد بهبته استجلاب بر أو دفع عقوق, ولم يحصل غرضه. أما إذا لم يقصد ذلك وأطلق الهبة فلا رجوع له. وخُطئ فيه. الثاني: لا يثبت لغير الأب الرجوع على قولٍ؛ اقتصارًا على مورد النص. الثالث: قطع قاطعون بثبوت الرجوع للأم مع الأب خاصة؛ لأنها كالأب في كون الولد منها, بل ولادتها متيقنة, وانتسابه إلى الأب ظاهر. الرابع: قطع آخرون بثبوت الرجوع [للجد أب الأب] , وخصص الخلاف بالأم [وأقاربها] وأمهاتها وأمهات الأب, وهذا ما أورده المتولي. ولا فرق في جواز الرجوع بين أن يكون الوالد والولد متفقين في الدين أو مختلفين ولا بين الهبة والهدية. فروع: إذا وهب من غلام ولده, ثبت له الرجوع, بخلاف ما لو وهب من مكاتبه. إذا [ادعى اثنان] مولودًا أو وهبا منه شيئاً فلا رجوع [لواحدٍ منهما, ويحتاج إلى أن يقبلا له هبة كل واحد منهما؛ كما سنذكره في الوصية] , فإن ألحق بأحدهما ففي جواز الرجوع له وجهان, وجه المنع: أن الرجوع لم يكن ثابتا في الابتداء, حكاه الماوردي وغيره. إذا أبرأ ابنه من دين له عليه, فلا رجوع [له] إن قلنا: إن الإبراء إسقاط, وإن

قلنا: تمليك, ثبت؛ ذكره المتولي, وعلى هذا ينبغي أن يتخرج ما إذا وهب من فقيرٍ ما له عليه [من] دين بنية الزكاة, وإن كان صاحب "التهذيب" قد جزم بعدم الإجزاء. إذا وهب من ولده شيئاً بشرط الثواب, ولم يعين الثواب, فأثابه الابن – قال القاضي الحسين: ينبغي ألا ينقطع الرجوع؛ لأن الرجوع إنما يثبت بالبعضية, والبدل لا يقطعها, وتصير هبة الابن للأب ابتداء عطية من جهته. إذا وهب لأولاده, وأراد الرجوع في هبة بعضهم: فهل يكره؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ كما تكره هبة بعضهم دون بعض. والثاني: لا؛ لأن الخبر إنما ورد في التسوية في العطاء [لا] في المنع, قاله الماوردي. قال: وإن تصدق عليه أي: صدقة [تطوع] , فالمنصوص أي: في "حرملة" – كما قاله القاضي أبو الطيب -: أن له أن يرجع؛ لما ذكرناه من أن صدقة التطوع نوع من الهبة فاندرجت تحت الخبر. وقيل: لا يرجع؛ لأن القصد بالصدقة إنما هو التقرب إلى الله تعالى فلم يمكن من الرجوع فيه كالعتق, والقصد بالهبة إصلاح حال الولد, وربما كان الإصلاح في الاسترجاع. قال: وإن زاد الموهوب [له] زيادة متميزة رجع فيه دون الزيادة؛ لأنها حدثت على ملك الولد فلم تكن موهوبة, وهذا إذا لم يكن الولد مجيبًا حالة الهبة, أما إذا كان [مجيبًا] فقولان. ولو كانت الزيادة متصلة لم تمنع الرجوع, وكانت للواهب. وحكى صاحب "العدة" عن شيخه حكاية وجه: أن الزيادة المتصلة تمنع الرجوع في الهبة.

وعلى هذا: لو اختلفنا فالقول قول المتهب, قاله في "الزوائد". ولو كان الحيوان الموهوب حاملًا حين الرجوع فهل يكون الحمل للواهب أو للولد؟ فيه خلاف في "الحاوي" هنا, وقد قدمت ذكره من قبل. ثم إذا قلنا: الحمل للولد, فهل يرجع الواهب في الحال, [أو يصبر إلى أن ينفصل؟ فيه وجهان في "التهذيب", أصحهما في "تعليق" القاضي الحسين: أن يرجع في الحال] , وبه جزم ابن الصباغ. قال: وإن أفلس الموهوب له وحجر عليه فقد قيل: يرجع؛ لبقائها على ملك الولد وسبق حقه؛ فإن الغرماء إنما يثبت حقهم بالحجر, وحق الرجوع بنفس الإقباض, وقيل: لا يرجع كما لو رهنه, وهذا هو الأصح في "الرافعي" و"تعليق" القاضي الحسين و"الشامل". قال: وإن كاتب الموهوب [له] أو رهنه لم يرجع فيه؛ لتعلق حق الغير به قبل الرجوع فأشبه البيع, ومنهم من خرج الرجوع في الكتابة على جواز بيع المكاتب. قال في "الذخائر": والمذهب الرجوع, فإذا جوزنا لا تبطل الكتابة. ثم قال بعض أصحابنا: إذا جوزنا بيع المكاتب يبقى مكاتبًا في حق المشتري حتى يعتق بأداء النجوم إليه, وأما في [حق] الرجوع, ففيه احتمال من حيث إن الرجوع يعتمد رقبة العبد؛ فيكاد أن يكون رجوعًا في نجومه, وحكى الإمام وجهًا في جواز الرجوع مع بقاء الرهن, كما حكيناه في جواز الهبة مع وجوده, لكنه يكون موقوفًا. قال: حتى تنفسخ الكتابة وينفك الرهن؛ لصفاء الملك عن الحقوق المانعة, وقد ادعى الماوردي نفي الخلاف في جواز الرجوع بعد زوال الكتابة. وفي "المجرد" للقاضي أبي الطيب حكاية وجه: أنه لا يجوز الرجوع, وطرده الإمام فيما لو انفك الرهن أيضاً.

وتعلق الجناية برقبة العبد الموهوب كرهنه في امتناع الرجوع, لكن له أن يفدي الجاني ثم يرجع فيه, كذا حكاه ابن الصباغ عن أبي الطيب في "المجرد", وأنه قال: وهذا بخلاف ما لو أراد الواهب أن يفك الرهن ببدل ما عليه لم يكن له, والفرق: أن فك الرهن فسخ لعقدٍ عقده الموهوب له فلم يملك ذلك, وهنا لم يتعلق الحق به من جهة العقد؛ فافترقا. وفي تعليق القاضي الحسين: أن له الرجوع في الجاني, ولا يصير بالرجوع مختارًا للفداء, بل هو بالخيار إن شاء فداه, وإن شاء سلمه ليباع في الجناية. قال: فإن باعه أو وهبه؛ أي: وأقبضه – لم يرجع في الحال؛ صيانة لحق الغير, وقيل: إن وهب ممن يملك الواهب الرجوع في هبته جاز له أن يرجع عليه؛ لأنه ممن يمكن الرجوع عليه فهو كما لو وهب منه. والصحيح الأول؛ لأن الملك لم ينتقل إليه منه فأشبه ما لو وهبه لأجنبي ثم وهبه الأجنبي لولده, والوجهان جاريان فيما لو انتقلت العين إلى ابن الابن بالإرث – كما حكاه ابن الصباغ – وفيما إذا باعها [ابنه] لابنه كما حكاه المتولي, وكلام صاحب "التهذيب" يقتضي الجزم بالمنع في الصورتين. فرع: لو وهب لولده, ثم مات الواهب ووارثه أبوه؛ لكون الولد مخالفًا [له] في الدين – قاله المتولي: فلا رجوع [للجد الوارث]؛ لأن الحقوق لا تورث وحدها, وإنما تورث بتبعية الأموال, وهو لا يرث [هذا] المال. قال: فإن عاد المبيع أو الموهوب إليه, أي: بأي جهة كانت من إرث أو شراء أو فسخٍ, فقد قيل: لا يرجع؛ لأن ذلك حصل في يده الآن من غير جهة الأب فهو كما لو وهب له دراهم فاشترى بها سلعة لم يكن [له] الرجوع [فيها] , وهذا

أصح عند الشيخ أبي حامد والقاضي الحسين وغيرهما. وقيل: يرجع؛ لوجود العين على صفتها لم تتغير في ملك الابن, فعلى هذا: لو كان الابن قد اشتراها ولم يوف الثمن كان البائع أولى بالرجوع في عينها, قاله ابن الصباغ. وق بنى الغزالي هذا الخلاف على أن الزائل العائد كالذي لم يزل أو كالذي لم يعد؟ ولو ارتد الولد وقلنا: الردة لا تزيل الملك, ثبت له الرجوع, وإن قلنا: تزيله, فلا رجوع. ثم إذا رجع إلى الإسلام ثبت الرجوع, ومنهم من جعله على الخلاف السابق. ولو وهب منه عصيرًا, فصار خمرًا, ثم صار خلًا – فله الرجوع؛ لأن الملك الثابت في الخل سببه ملك العصير؛ فكأنه الملك الأول بعينه. وذكر بعضهم وجهين في أن الملك هل يزول بالتخمير, ووجهين في عود الرجوع؛ تفريعًا على القول بالزوال. فروع: إذا وهب منه حبًا, فبذره فنبت, أو بيضة فصارت فرخًا – فلا رجوع؛ لأن ماله [صار] مستهلكًا؛ قاله القاضي الحسين. وقال في "المهذب": هذا إذا [ضمناها الغاصب] بذلك, وإلا فقد وجد عين ماله, فيرجع فيها. ولو كان الموهوب ثوبًا, فصبغه الابن, رجع في الثوب, والابن شريك له بالصبغ. ولو قصره, أو كان الموهوب حنطةً فطحنها, أو غزلًا فنسجه -: فإن لم تزد قيمته, فللأب الرجوع, وإن زادت, قال القاضي الحسين: فالظاهر أنه يرجع, ولا شيء للابن كالسمن.

ويحتمل أن يقال: الابن [يصير] شريكًا؛ كما قلنا في التفليس, خصوصًا إذا قلنا: القصارة عين. وفي "الشامل" و"تعليق" أبي الطيب: أنا إن قلنا: القصارة عين, فالابن شريك؛ كالمفلس, وإن قلنا: أثر, فلا شيء له. ولو كان الموهوب أرضًا, فبنى فيها أو غرس, رجع الأب, ويجبر كالمعير. وقال القاضي الحسين: فيه قولان كما في التفليس: أحدهما: لا يرجع. والثاني: يرجع في العرصة دون البناء والغراس. وإذا وطئ الابن الجارية الموهوبة ولم يُحبلها, لم يمتنع الرجوع على الأصح. ولو دبر الولد [العبد] الموهوب لم يمتنع بسبب ذلك الرجوع على أظهر الوجهين, حكاه في "الوسيط" في كتاب الصداق. فإذا فسخ الأب ولم تزد العين فهي أمانة في يد الولد. قال: وإن وطئ الواهب الجارية الموهوبة كان ذلك رجوعًا كوطء البائع الجارية المبيعة في زمن الخيار, وقيل: لا يكون رجوعًا؛ لأن ملك الولد ثابت من كل وجه فلا يسقط إلا بصريح الرجوع, بخلاف مسألة البيع؛ فإن الملك ثم ضعيف, وهذا هو الأصح في "الشامل" و"تعليق" القاضي الحسين, وأشار الإمام إلى وجه ثالث, وهو أن مجرد الوطء ليس برجوع, لكن إذا أحبلها كان رجوعًا. ثم الخلاف المذكور [في الكتاب] يجري فيما إذا باع الواهب الموهوب, أو وهبه من غيره وأقبضه, أو أعتقه, أو أتلف الطعام الموهوب. وفي "التتمة": أن الإتلاف لا يكون رجوعًا. وإذا قلنا: إن البيع والهبة رجوع, فهل يصح البيع والهبة؟ فيه وجهان.

وحكى الإمام في أن العتق [هل] يصح ويضمن الرجوع, وجهين عن العراقيين في باب الخيار. وحكى الفوراني في مسألة البيع ثلاثة أوجه: أصحها: صحة البيع, وأنه رجوع. والثاني: لا يصح [البيع] , ولا يكون رجوعًا. والثالث: لا يصح البيع, ويكون رجوعًا. وهذه الأوجه تقدم نظيرها في البيع في زمن الخيار. ولا نزاع في أن الأب لا يحل له وطء الجارية الموهوبة, ولو جعلنا وطأه رجوعًا, بخلاف الجارية المبيعة, والفرق: أنا لو أحللناه له, لكانت الأمة في وقت واحد حلالًا لشخصين: الأب, والابن, وذلك ممتنع. واعلم أن الشيخ تكلم فيما يتضمن الرجوع وسكت عن صريح الرجوع؛ لأنه واضح, [فلنذكره الآن] وهو قوله: رجعت فيما وهبه وارتجعت, واسترددت المال, أو رددته إليَّ, وأبطلت الهبة, ونقضتها. وعن الروياني في "أبطلت الهبة, وفسختها" أنها كناية. قال الماوردي: [ولا بد من اللفظ فيه وإن كان الولد صغيرًا, واكتفينا في الهبة منه بالنية]. ولا يصح تعليق الرجوع على شرط, وإن جاز تعليق الرجوع في الوصية في أحد الوجهين, كما قاله الماوردي. فرع تعم به البلوى: إذا أقر الأب بأن هذه العين ملك ابني, وهي في يدي أمانة, ثم ادعى بعد ذلك بأن المقر به كان نحلةً, وقد رجعت فيه, وكذبه الولد – جزم القاضي الحسين في

"التعليق" هنا بأن القول قول الولد. وقال في "فتاويه": الظاهر: أن القول قوله أيضاً. وفي "الإشراف" أن القاضي أبا سعد أفتى في هذه المسألة [بـ"هراة"] بإثبات الرجوع؛ لأن الإقرار المطلق ينزل من السببين أو [الملكين على أضعفهما] كما ينزل من المقدارين على [أقلهما؛ اسبقاءً] للأصل القديم, والسبب الضعيف هنا كون ذلك عن هبة. و [أن] الشيخ أبا الحسن العبادي, والقاضي أبا الطيب والماوردي أقتوا بمنع الرجوع؛ لأن الأصل بقاء الملك له. قلت: وهذا الذي يترجح في ظني؛ نظرًا لما ذكره الأكثرون غير القاضي

[فيه] , وإن كان النواوي قد صحح الرجوع, فإن مرادهم بأقل المقدارين: ما إذا قال: له عليَّ مال عظيم أو دراهم, نزل على أقل ما يتمول, وأقل الجمع, وإنما كان ذلك؛ لأن الأقل اعتضد بالأصل, وهو براءة الذمة مما زاد على ذلك. وهاهنا أضعف السببين عارضه أن الأصل بقاء الملك؛ فكما عمل [به] ثم بأضعف السببين؛ لأجل اعتضاده بالأصل – وجب أن يعمل هاهنا أقوى السببين؛ لقوته واعتضاده بالأصل من طريق الأولى. ومما يؤيد ذلك: أن الإقرار للوارث بالعين والدين معمول به على الصحيح باتفاق, وقياس تنزيل الإقرار على أضعف السببين مطلقًا تنزيله على الهبة, وهو إذا نزل على الهبة فأضعف الحالتين فيها حالة المرض مع أن الأصل [عدم] تقدم الهبة عليه؛ فكان مقتضى ذلك: أن يكون الصحيح رد الإقرار للوارث, خصوصًا إذا نازعه بقية الورثة أو الغرماء, ولم يعرف من قال به. وقد رأيت للنووي التسوية بين الأب والأم والجدة في ذلك, والتصحيح في الكل لقبول التفسير. وعندي في ذلك نظر؛ فإن الأب يقدر على النقل من غير واسطة, ولا كذلك الأم والجدة إذا لم [تثبت لهما] الولاية, فإن كان ما قاله نقلًا وجب اتباعه, وإن كان تخريجًا, ففيه ما ذكرناه.

والرافعي في "الشرح" لم يتعرض للكلام إلا في الأب، ولا [غيره مما] ذكرناه إلا فيه، والله أعلم. قال: وإن وهب شيئاً ممن هو أعلى منه؛ أي: كهبة بعض الرعية للسلطان، والغلام لأستاذه، والفقير للغني - ففيه قولان أي: في الجديد، كما حكاه القاضي أبو الطيب والبندنيجي عن نصه في كتاب النفقات، والرافعي عن نصه في اخلاف العراقيين: أحدهما: لا يلزمه الثواب؛ لأن ما صح تملكه من غير ذكر بدل لم يستحق فيه البدل، كالوصية، ولأنه تمليك [مال] لا يعوض فلا يوجب المكافأة [بعوض] كهبة النظير للنظير وهذا هو الصحيح عند المعظم ومنهم القاضي الحسين. والثاني: يلزمه؛ [لقوله صلى الله عليه وسلم لسلمان: "إنا نقبل الهدية, ونكافئ عليها", وقوله - عليه السلام -: "الواهب أحق بهبته ما لم يثب عليها"، ولأن العرف يقتضي ذلك فاتبع. وهذا ما اقتصر [بعضهم] على حكايته عن القديم، ورجحه الشيخ أبو محمد والروياني وصاحب "المرشد"، وطرده بعض المراوزة في الهبة للمساوي، وطرده صاحب "التهذيب" في هبة الأعلى للأدنى، والصحيح - وهو المذكور في طريق العراقيين -: الأول، وقرب القاضي الحسين الخلاف من الخلاف في مسألة الغسال والقصار والمزين. ثم محل الخلاف عند بعض الأصحاب فيما إذا نوى

الثواب [عند الهبة]، أما إذا لم ينوه لم يستحقه وجها واحدًا، وقد يستدل له بما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "من وهب هبةً يرجو ثوابها فهي ردٌّ على صاحبها [ما] لم يثب عليها". وعلى هذا: فلو اختلفا في النية فمن القول قوله؟ فيه قولان، ومنهم من طرد القولين سواء نوى أو لم ينو، وهو الأظهر. ثم الخلاف في الهبة بعينه يجري في الهدية، كما صرح به البندنيجي في كتاب الشفعة، بل من طريق الأولى؛ لأن العرف الغالب اقتضى الثواب فيها دون الهبة. تنبيه: الثواب: العوض، وأصله من: ثاب، إذا رجع، وكأن المثيب يرجع إلى المثاب مثل ما دفع. قال: وفي قدر الثواب، أي: إذا أوجبناه - ثلاثة أقوال؛ أي: منصوصة في التفليس - كما قال البندنيجي -: أحدها: يشبه إلى أن يرضى؛ لما روى الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: أهدى رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ناقة من إبله التي كانوا أصابوا بالغابة - وفي رواية: بكرةً - فعوضه منها بعض العوض - وفي رواية: بست بكرات - فسخطه، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "إن رجالًا من العرب يهدي أحدهم الهدية فأعوضه منها بقدر ما عندي, ثم يتسخطه, فيظل يتسخط فيه عليَّ, وايم الله, لا أقبل – بعد مقامي هذا – من رجل من العرب هديةً, إلا من قرشي, أو أنصاري, أو ثقفي, أو دوسي"، زاد أبو داود: "مهاجري", وفي رواية:

"لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قُرشي أو أنصاري أو أوسي". قال الأصحاب: وإنما خص من ذكر؛ لأنهم مشهورون بسماحة النفوس وقلة الطمع، وعلى هذا يكون للموهوب له الرد إن لم يرض الواهب بالبدل". والثاني: يلزمه قدر الموهوب؛ لأن العقد إذا اقتضى العوض ولم يستمر فيه وجبت فيه القيمة؛ كالنكاح، وهذا ما رجحه الإمام [والقاضي] الروياني. فعلى هذا: أي وقت تعتبر القيمة؟ فيه وجهان عن رواية صاحب "التقريب": أحدهما: يوم القبض، وهو الأظهر. والثاني: يوم الثواب، و [للموهوب] له ردها على هذا القول إذا طلب الواهب قيمتها، وإن لم يطلب وترك الثواب فليس له الرد، صرح به البندنيجي، وإذا أثابته قدر قيمتها لم يكن للواهب الرجوع. و [القول] الثالث: يلزمه ما يكون ثوابًا لمثله في العادة؛ لأن العوض ثبت بالعرف فرجع [في قدره] إلى العرف، وهذا ما اختاره في "المرشد". ومن الأصحاب من أوجب إثابة ما ينطلق عليه الاسم، وفي "الوجيز": أنه يلزمه - على قول - ما يزيد عن القيمة ولو بقليل. قال الرافعي: ولم أره بهذه العبارة لغيره، ولا له في غير هذا الكتاب، فلعله محمول على ما يكون ثوابًا لمثله في العادة؛ إذ العادة تقتضي زيادة عن القيمة. و [على] الأقوال كلها: لا يتعين للثواب جنس من الأموال، بل الخيرة فيه إلى المتَّهب. قال: فإن لم يثبه ثبت للواهب الرجوع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"الواهب أحق بهبته ما لم يثب عليها"، ولأنه لم يرض بزوال ملكه بغير عوض، ولا فرق في ذلك بين أن تكون

العين قد زادت في يده زيادة متصلة أم لا. وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسي وجه: [أن] للمتهب أن يمسكها في حال زيادتها ويبذل قيمتها دون الزيادة، ولو تلفت قبل الثواب مع الامتناع من الإثابة رجع في قيمتها على أحد القولين في "الحاوي"، [وهو الأصح في غيره. ولو نقصت: فإن كان يفعله ضمنه، وكذا بغير فعله على أحد الوجهين في "الحاوي"]. وقيل: للواهب في مثل هذه الحالة أن يترك العين ويطلب القيمة. وحكى الماوردي: أن غير الموهوب له لو أثاب الواهب جاز، ولم يكن للواهب الرجوع في الهبة - ولا للدافع [أيضاً]- بمثل ما دفع على الموهوب له لينزعه. قال: فإن قلنا: لا يلزمه الثواب، فشرط [له] ثوابًا مجهولًا بطل؛ لأنه خالف موجب الهبة وإثبات العوض و [موجب] البيع بجهالة العوض فبطل، لكن هل يضمن العين في هذه الحالة إذا تلفت في يده؟ المفهوم من كلام الشيخ الآتي من بعدُ: أنه يضمن؛ تغليبًا لشائبة البيع. وكان يتجه أن يقال يتغلب شائبة [الهبة]؛ لأن اللفظ لها كما سنذكره في الفصل بعده. وعلى هذا يكون في الضمان وجهان أو قولان؛ كما في الهبة الفاسدة. قال: وإن شرط ثوابًا معلومًا ففيه قولان: أحدهما: يبطل؛ نظرًا إلى اللفظ، وذلك منافٍ له على هذا القول، وهذا ما رواه الربيع، وقال البندنيجي [في كتاب الشفعة] إنه ليس بشيء. والثاني: يصح؛ نظرًا إلى المعنى، وهذا ما نص عليه في "المختصر"؛ في كتاب الشفعة، وصححه الرافعى. فعلى هذا: لو اختلفا، فقال: وهبت منك بثواب، وقال المتهب: بل بغير ثواب –

فمن القول قوله؟ فيه وجهان: الذي أجاب به ابن كج: أنه قول الواهب. وفي "الجيلي"؛ تفريعًا على هذا القول: أنه يكون هبة. وهذا لا يفهم. قال: وإن قلنا: يلزمه الثواب، فشرط ثوابًا مجهولًا جاز؛ لأنه أكد مقتضى العقد بالشرط، وحكى الغزالي وجهًا: أنها تبطل؛ بناء على ما سنذكره من أن ذكر العوض يلحقه بالبيع، وإذا كان ييعًا بطل؛ لجهالة العوض. والقائلون بالصحة يقولون: إنما نجعله ييعًا إذا تعذر جعله هبة، وهاهنا اللفظ والمعنى متطابقان؛ فلا معنى لجعله ييعًا، قال الماوردي: وعلى هذا إذا لم يثبه وتلفت العين لزمه أن يثيب أو يغرم القيمة قولًا واحدًا. قال: وأن شرط ثوابا معلومًا فقيه قولان: أحدهما: [أنه] ييطل؛ نظرًا إلى اللفظ، وهذا شرط ينافي مقتضاه، فعلى هذا قال الشيخ: [ويكون] حكمه حكم البيع الباطل؛ لأنه لم يرض بإزالة ملكه لا ببدلٍ، ولم يسلم له، فإذا تلف ضمن قيمته أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف على أصح الوجوه، ولو نقصت ضمن النقص. والثاني: يصح، ويكون حكمه حكم البيع الصحيح؛ نظرًا إلى المعنى، وهذا ما صححه الرافعي، فعلى هذا يثبت خيار المجلس، والشرط، والرد بالغيب، والشفعة. ومقتضى ما ذكره الشيخ: أن يلزم هذا العقد بمجرده، وتثبت هذه الأحكام. وحكى المراوزة وجهًا: أنه ينعقد هبة؛ نظرًا إلى اللفظ، ويتعين الثواب لا يفسد العقد؛ لأنه إذا صح مع جهالة الثواب فمع معرفته أولى. فعلى هذا: لا يثبت [فيه] خيار ولا شفعة، ولا يلزم إلا بالقبض؛ وهذا ما أفهمه كلام الماوردي حيث قال: وعلى هذا القول يكون الفرق بينه وبين البيع: [أنه في

الهبة إذا شرط الثواب المعلوم يكون مخيرًا بين دفع الثواب وبين رد الهبة] , وفي البيع يلزم دفع الثمن، ولا خيار. ولو كافأه على هذا بدون المشروط، إلا أنه قريب منه، ففي "شرح" القاضي ابن كج وجهان في أنه هل يجبر على القبول؛ لأن العادة فيه المسامحة، أم لا؟ ولو شرط على قولنا باقتضاء الهبة [الثواب] نفيه صح على الأصح، وفيه وجه: أنه لا يصح؛ لمخالفته وضع العقد. وإذا أطلقا عقد الهبة، وقلنا باقتضائها الثواب فهل يثبت فيه الخياران؟ فيه وجهان في "تعليق" البندنيجي في كتاب البيوع. وإذا خرج الموهوب مستحقًا [رجع المتهب بما بذل، وليس للواهب أن يقول: أهدي إليك غيره. ولو خرج الثواب مستحقًا]، وقلنا بوجوبه كان للمتهب أن يثيبه غيره ويمسك العين، قاله الماوردي. ولو خرج بعضه مستحقًا فهو بالخيار بين أن يرجع على الواهب بقسطه من الثواب وبين [أن يرد] الباقي ويرجع بجميع الثواب، وقيل: تبطل الهبة في الكل كما في نظيره من البيع. ولو وجد المتهب أو الواهب بما قبض عيبًا - كان له رده والرجوع على صاحبه بما أخذ منه، قاله القاضي الحسين. وقضية ما حكينا عن الماوردي: أن الواهب إذا ردَّ ما قبضه لا يمكن من أخذ ما بذله إلا أن يمتنع المتهب من بذل عوضه. فرع: إذا وهب من شخصين، فرد أحدهما، وقبل الآخر - صحت في حق من قبل، جزم به العراقيون. وحكى في "التتمة" وجهين فيما إذا وهب [له] عينًا، فقبل نصفها. وإذا دفع إنسان لآخر دراهم، وقال: ادخل بها الحمام، أو اشتر [بها] لنفسك

عمامة - ففي "فتاوى" القفال: أنه إن كان ذلك على سبيل البسط المعتاد، ملكه، وتصرف فيه كيف شاء. وإن كان غرضه تحصيل ما عينه؛ لما رأى به من الوسخ والشعث، أو لعلمه بأنه مكشوف الرأس - لم يجز صرفه إلى غير ما عينه [له]. وفي "فتاوى" القاضي الحسين: أنه لو دفع دينارًا إلى رجل، وقال: اشتر بهذا سمكًا لنفسك، هل يجوز صرفه إلى شيء آخر؟ يحتمل وجهان. وسئل الشيخ أبو زيد عن رجل مات أبوه، فبعث له إنسان ثوبًا؛ ليكفنه فيه: فهل يملكه حتى يمسكه، ويكفنه في غيره؟ فقال: إن كان الميت يتبرك بتكفينه؛ لفقه أو ورع؛ فلا، ولو كفنه في غيره وجب رده إلى مالكه. وفي [كتاب] "الوسيط" في كتاب الوصية: أن للوارث إبداله، وأن الصحيح [أن] هذه عارية في حق الميت، والله أعلم.

باب الوصية

باب الوصية الوصية مأخوذة - كما قال الأزهري -: من وصيت الشيء أصيه، إذا وصلته، وسميت وصية؛ لأنه وصل ما كان في حياته بما بعد موته. وعبارة القاضي الحسين: لأنه يصل بها خير دنياه بخير عقباه، وقربة العاجل بقربة الآجل. والأولى أعم؛ لأنها تدخل الوصاية، وهذه لا تدخلها. ويقال: وصى بوصية، وأوصى إيصاء. والاسم: الوصية، والوصاة، وهي في الشرع: عبارة عن تبرع بحق، أو تفويض تصرف خاص، مضافين إلى ما بعد الموت. وقد كانت الوصية واجبة في ابتداء الإسلام بجميع المال للأقربين؛ لقوله تعالى" {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّة} [البقرة:180]، نم نسخت بآية المواريث، وبقي استحبابها في حق من ليس بوارث في الثلث فما دونه. والدليل على ذلك - قبل الإجماع - من الكتاب قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] إلى آخرها، فذكر - تعالى- الوصية فيها في أربعة مواضع. ومن السنة: ما روى أبو داود عن ابن عمر - رضى الله عنهما - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما حق امرئٍ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه". وأخرجه البخاري ومسلم، وغيرهم.

[وفي لفظ لمسلم والنسائي: "يبيت ثلاث ليال". وفي لفظ لمسلم: "يريد أن يوصي فيه] ". وفي لفظ لمسلم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: "وما مرت عليَّ ليلةٌ منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال ذلك إلا وعندي وصيتي". قال الإمام الشافعي - رضي الله عنه -: يحتمل قوله: "ما حق امرئ مسلم": ما لامرئ مسلم يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده، ويحتمل: ما المعروف من الأخلاق إلا هذا من جهة الفرض. وقد حكى الاحتمالين القاضي الحسين. وقد [أجمعت الأمة] على أن ذلك محثوث عليه، ومطلوب من الشرع, ومع ذلك فالصدقة في حال الحياة أفضل منها؛ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أي الصدقة أفضل، فقال: "أن تصدق وأنت صحيح حريص, تأمل البقاء وتخشى الفقر, ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا؛ وقد كان لفلان".

كما خرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وأراد بقوله: "بلغت الحُلقوم": المقاربة؛ لأن من بلغت نفسه الحلقوم لا يجوز له وصية ولا صدقة. وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يتصدق المرء في حياته بدرهمين, خيرٌ من أن يتصدق بمائةٍ عند موته". وروى الترمذي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل الذي يعتق أو يتصدق عند موته, مثل الذي يهدي إذا شبع". وقال الترمذي: إنه حديث حسن صحيح. قال: من جاز تصرفه في ماله جازت وصيته؛ للخبر، ولا فرق في ذلك بين المسلم والذمي، ومن لا يجوز تصرفه، كالمعتوه والمبرسم لا يصح وصيته؛ لأن صحتها تتعلق بالقول، ولا قول معتبر لمن لا تمييز له ولا عقل؛ إذ البرسام والعته نوعان من اختلال العقل؛ كالجنون. قال الجواليقي: والبرسام معرب. وحكم الصبي غير المميز حكم المجنون. قال: وفي الصبي المميز [والمحجور عليه بتبذيره] قولان: أحدهما: لا تصح، كهبتهما وإعتاقهما. والثاني: تصح، أي وصيتهما بالمال. أما في الصبي؛ فلما روي أن غلاما لابن عباس - رضي الله عنهما – حضرته الوفاة [وله عشر سنين]، فأوصى لبنت عم له، وله وارث، فرفعت القصة إلى عمر - رضي الله عنه - فأجاز وصيته، ولم ينكر عليه.

وعن عثمان - رضي الله عنه - أنه أجاز وصية غلام ابن إحدى عشرة سنة. ولأن الوصية لا تزيل الملك في الحال، وتفيد الثواب بعد الموت؛ فصحت كسائر القربات. وأما في السفيه فبالقياس عليه، بل من طريق الأولى؛ لأنه صحيح العبارة؛ ولهذا جزم البندنيجى بصحة وصيته، وكذلك المراوزة هنا، وهو الذي صححه الرافعي. وحكى الغزالي [في كتاب] التدبير في صحته خلافاً. ولا فرق بينهما، وفي الحاوي أنا إذا لم نصحح وصية الصبي، ففي المبذر وجهان: والصحيح من القولين في الصبي عند الأكثرين: البطلان، وعند الأستاذ أبي منصور وصاحب المرشد مقابله. وعلى هذا قال في الحاوي: في صحة محاباته وهبته وعتقه في مرض موته وجهان: وجه الصحة: أن ذلك وصية تعتبر من الثلث. ووجه المنع: أن الوصية يقدر على الرجوع فيها إن شفي، والهبة والعتق لا يقدر على ردهما. والعبد إذا أوصى ثم مات على الرق؛ بان فساد وصيته، وإن عتق وترك مالا فوجهان: أصحهما في الرافعي: البطلان؛ لأنه لم يكن أهلا حينئذ. والمفلس إذا أوصى، فإذ رد الغرماء وصيته بطلت، وإن أمضوها جازت، إن قلنا: حجره حجز المرض، وإن قلنا: حجر السفه كان على الخلاف. والمرتد إذا أوصى، وقلنا ببقاء ملكه، ففي صحة وصيته وجهان: أصحهما في البحر: الجواز.

قال: ولا تصح الوصية – أي: بالتصرف في المال وعلى الأولاد – إلا إلى حر مسلم بالغ عاقل عدل؛ لأنها تقتضي أمانة وولاية صرفة, وذلك لا يصح إلا ممن جمع هذه الشروط؛ ولأن العبد مشغول بخدمة سيده, والصبي والمجنون مولى عليهما؛ فكيف تصح توليتهما على غيرهما؟! [وفي تعليق القاضي الحسين في باب عدد الشهود: أن لو أوصى إلى عبد غيره على أطفاله جاز] , وفي تفويض الكافر وصيته إلى كافر رشيد في دينه وجه حكاه العراقيون عن ابن أبي هريرة أنه يجوز, قال ابن الصباغ: لأنه يجوز أن يلي بالنسب؛ فجاز أن يلي بالوصية كالمسلم العدل, وهذا منه بناء على أنه يلي بالنسب, وقد حكينا في باب الحجر عن بعضهم المنع, وخرجه الإمام والغزالي على أن الكافر ولي في النكاح؛ ولذلك جعله الرافعي الأظهر, ويجيء في الأظهر على هذا ما ستعرفه في كتاب النكاح, ويمكن أن يكون مأخذ الخلاف في أن الكافر هل تثبت له ولاية المال على ولده الكافر؟ وقد قدمت الكلام فيه في باب الحجر. ثم اعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي الاكتفاء بهذه الصفات؛ حتى لا يعتبر شيء وراءها, وهو موافق لما [حكاه في البحر] عن الأصحاب؛ حيث قال: [ولا تصح الوصية إلا لمن جمع شرائط, وذكر ما ذكره الشيخ, ثم قال: وقال] القاضي الطبري: إنها سبع. والسادس: ألا يكون مغفلًا. والسابع: ألا يكون بينه وبين المولى عليه عداوة وخصومة؛ بأن يكون من أهل الشهادة على المولى عليه. وعن القاضي الطبري أنه عبر عن السادس بأن يكون فيه كفاية التصرف. قال: وإن وصى إليه وهو على غير هذه الصفات فصار عند الموت على هذه الصفات – جاز؛ لأنها حالة نفوذ التصرف؛ فاعتبرت الشرائط عندها, كما أن الاعتبار في صفات الشاهد عند الأداء, وهذا هو الصحيح, وبه قال ابن سريج, وأبو إسحاق, وبه جزم المراوزة, كما حكاه الإمام, وعلى هذا يجوز أن يوصي

إلى أم ولده ومدبره، وقيل: لا يجوز؛ لأنه عقد لم يوجد أهلية قابلة عند إيجابه، فلم يصح، كفقدها عند قبوله. وقيل: يعتبر أن يكون على هذه الصفات من حين الإيجاب إلى حين الموت؛ لأن ما من وقت إلا ويجوز أن يموت فيه ويستحق فيه التصرف؛ فاعتبر الشرط في الجميع، حكاه ابن الصباغ وغيره. وقال في البحر؛ إنه المذهب الصحيح؛ لما نص عليه الشافعي - رضي الله عنه - في الأم، من أنه إذا أوصى لأم ولده لا يجوز. قال: وإن أوصى إلى أعمى، فقد قيل: يجوز؛ لأنه من أهل الشهادة؛ فأشبه البصير، وهذا هو الأظهر في الرافعي، وقيل: لا يجوز؛ لأنه لا يقدر على البيع والشراء لنفسه؛ فلا يحسن أن يفوض أمره لغيره. وهذا أصح في تعليق القاضي الحسين. تنبيه: سكوت الشيخ عن اعتبار الذكورة، يعرفك أنه تجوز الوصاية للمرأة كما تجوز للرجل، روي أن عمر - رضي الله عنه- أوصى إلى حفصة، وقال - عليه السلام- لهند: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". وقد قال الأئمة: الأولى أن يفوض الوصاية إليها في أمر الأطفال، إذا وجدت فيها الأهلية. وعن الحناطي وجه: أنه لا تجوز الوصاية إليها، إذا قلنا: إنها لا تلي، قال الرافعي: وهذا غير بعيد من جهة المعنى؛ نظراً إلى أن في الوصاية ولاية، وأن حقه أن يطرد في جميع النساء. وقد تكلم الشيخ - رضي الله عنه - في صفات الموصي بالمال، وسكت عن صفات الموصي بالتصرف إلى شخص، وقد قال الأصحاب: إن كانت الوصاية في أمر الأولاد فشرطه: أن يكون له ولاية عليهم في الابتداء من الشرع لا

بتفويض، وهو الأب ثم الجد ثم جده، وكذا الأم على رأي الإصطخري. وسواء كان الولد صغيرا، أو بالغا مجنونا أو سفيها، كما صرح به القاضي أبو الطيب وغيره في المجنون، ومجلي في السفيه، وقول الغزالي في الوسيط: لا يجوز نصب الوصي على الأولاد البالغين؛ إذ لا ولاية له عليهم؛ مشيرٌ إليه. وفي البحر: أن الابن إذا كان بالغا عاقلا فلا، لكن حجر عليه لسفه لا يصح من الأب أن يوصي بالولاية عليه؛ لأن حجره بالحاكم، وهذا يشير إلى حالة بلوغه رشيدًا ثم طرأ السفه. وإن كانت الوصاية في قضاء الديون وتنفيذ الوصايا، فشرطه أن يكون حرا مكلفا. فرع: طريان ما يمنع الوصاية على الوصي بعد موت الموصي، يقتضي العزل [قطعا]، وفي المجرد للحناطي وجه: أنها تبطل بفسق الوصي حتى يعزله القاضي، والمشهور الأول. ولا تنفعه التوبة بعد الفسق في عوده إلى وصيته، وفيه وجه غريب. وإن أفاق بعد جنونه، ففيه وجهان مشهوران، كما في عود ولاية القاضي، والأصح في "الرافعي": عدم العود، وفي القاضي وجه إذا فسق: أنه لا ينعزل، كما قيل في الإمام على رأي الأصوليين، وقال الإمام فيه: إني لو قلت: إنه الأظهر، لكان مستقيمًا؛ لأن استمرار العصمة للإمام بعيد، وعلى ذلك جرى الرافعي فجعله الراجح، وحكى خلافه حكاية الوجوه، وأن الماوردي لم يورد سواه في الأحكام السلطانية، وفي تعليق القاضي أبي الطيب الجزم بانعزال الإمام بفسقه؛ فما دونه من طريق الأولى، وحكم أمين الحاكم فيما ذكرناه حكم الوصي. واعلم أن قبول الوصاية ممن علم من نفسه الأمانة والقدرة عليها مختار، كما قاله في البحر؛ لأنه روي أنه أوصى إلى الزبير سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم: عثمان، والمقداد، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وكان ينفق على أيتامهم من ماله ويحفظ عليهم أموالهم. وإن كان ممن علم من نفه خلاف

ذلك، فالمختار أن يردها؛ لما روى أبو داود عن أبى ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر, إني أراك ضعيفًا, وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ فلا تأمرن على اثنين, ولا تلين مال يتيم". وأخرجه مسلم والنسائي. قال: ويجوز أن يوصي إلى نفسين، كما يجوز أن يوكل إلى نفسين، فإن أشرك بينهما في النظر، لم يجز لأحدهما أن ينفرد بالتصرف؛ لأن تصرفه بالإذن من الموصي، ولم يوجد رضاه بنظره وتصرفه وحده. وصورة الإشراك في التصرف - كما قال القاضي أبو الطيب-: أن يقول: "ولا ينفرد أحدهما بالتصرف"، أو يقول: "أوصيت إليكما باجتماعكما". وعلى هذا: إذا أذن أحدهما للآخر في التصرف، أو أذنا لشخص فيه - جاز، وإن انفرد أحدهما به، لم ينفذ، وضمن، سواء كان التصرف موقوفا على اجتهاد أم لا؛ كما هو ظاهر كلام الشيخ وغيره. وقال الرافعي: إنك ستجد في كلام الأصحاب ما هو كالتصريح به. وقال البغوي وغيره: إذا كانت الوصية مما لا يفتقر إلى اجتهاد: كرد وديعة، أو عارية، أو مغصوب، أو وصية بشيء معين، أو قضاء دين اشتملت التركة على جنسه - فإن لكل منهما أن يتفرد به؛ لأن صاحب الحق مستقل بالأخذ في هذه الصورة؛ فلا يضير الانفراد، وعلى ذلك جرى الماوردي في مسألة الوصية، وقضاء الدين، وهو في غيرهما من طريق الأولى. وقد اعترض معترض على ذلك بأن الوصاية في رد الوديعة والمغصوب، ودفع الموصى به إذا كان معينا - قد اختلف في صحتها: فرأى بعضهم جوازها. وعليه يدل ما ذكرناه في كتاب الوديعة، ورأى الإمام وطائفة أنها لا تصح؛ لأنها مستحقة بأعيانها، فيأخذها أصحابها، وإنما يوصى فيما يحتاج إلى نظر واجتهاد كما سنذكره. فمن قال بهذا استغنى عن الاستثناء. ومن قال بالأول - وهو قضية صاحب التهذيب - يجب ألا يصح التصرف

إلا على الوجه المأذون فيه، وقد صرحوا بالاستقلال عند المنع منه، فهو في الحقيقة عائد إلى قول الإمام؛ فالوجه ما اقتضاه كلام الشيخ والأصحاب. وكما لا يجوز لأحد الوصيين - إذا أشرك بينهما في النظر - أن ينفرد بالتصرف، كذا لا يجوز إذا جعل عليه مشرفا أن ينفرد به؛ لأن للمشرف أن يتعاطى التصرف؛ كما صرح به في البحر. ثم اعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي جواز انفراد كل واحد منهما بالتصرف عند عدم الإشراك في النظر، وذلك يكون في صورتين: إحداهما: أن يصرح بالاستقلال، مثل أن يقول: "يتصرف كل منهما على الانفراد [أو] مع الآخر"، ولا شك في جواز ذلك، ويأتي فيه بعض ما أبداه الإمام من الإشكالات في مقارضة رجلين، كما ذكرناه في باب القراض، وقد ألحق أبو الفرج الزاز بهذه الصورة ما إذا قال: أنتما وصياي بكذا. وألحق بهما البغوي ما إذا قال: ["أوصيت إلى زيد" ثم بعد ذلك]: "أوصيت إلى عمرو" مقتصرا على ذلك، والمتولي والغزالي والماوردي ألحقوا الصورة الثانية بالصورة التي سنذكرها. وقال الرافعي: إنه الذي عليه عامة الاعتماد. الثانية: أن يطلق الوصاية، وقد قال القاضي أبو الطيب وغيره من الأصحاب: إن الحكم فيها كالحكم في حالة الإشراك في النظر؛ قياسا على ما إذا أطلق التوكيل بين شخصين. فرعان: أحدهما: إذا خرج أحد المستقلين بالتصرف عن أهليته؛ لا ينصب الحاكم مع الثاني غيره، بل يتفرد بالتصرف. ولو ضعف أحدهما، ولم يخرج عن الأهلية بالكلية، ضم إليه من يساعده، وكذا في المنفرد إذا ضعف.

ولو خرج أحد المشتركين في التصرف عن الأهلية، نصب الحاكم مع الثاني من يقوم مقام الخارج. فلو أذن الحاكم للباقي في الاستقلال، فهل يكفي؟ فيه وجهان؛ حكاهما العراقيون والإمام عنهم، وأصحهما في الرافعي؛ لا، وبه جزم الماوردي؛ لأن الموصي لم يرض بنظره وحده. ولو مات الوصيان معا، فهل للحاكم نصب قيم واحد أم لا بد من اثنين؛ اتباعاً لرأيه في التفويض إلى اثنين؟ فيه الوجهان، واستبعد الإمام جريان وجه المنع هنا؛ لأن الوصاية قد زالت بالكلية؛ فصار كما لو لم يرض. الثاني: إذا اختلف الوصيان، فإن كان في الحفظ، قال الشافعي - رضي الله عنه-: قسم المال بينهما نصفين. فحمل أبو إسحاق ذلك على الوصيين اللذين يتصرفان مجتمعين ومفترقين، وأن القسمة تكون بالتقريب؛ ليتصرف كل منهما في شيء، لا قسمة الأملاك كل شيء نصفين، وينفذ تصرف كل منهما في النصفين. وأما المشتركان في النظر فلا ينفرد أحدهما بحفظ شيء، وهذا أظهر في البحر. وقال ابن أبي هريرة وغيره من أصحابنا - وهم الأكثرون-: قول الشافعي - رضي الله عنه-: يرجع إلى حالة الاستقلال وحالة الإشراك في النظر، وقد ذكرت في باب الوكالة شيئاً يتعلق بما نحن فيه، فليطلب منه. ثم على كل حال، لو اختلفا بعد القسمة في عين النصف المحفوظ، فوجهان: أحدهما: يقرع. والثاني: يرجع إلى تعيين القاضي. ولو كان المال مما لا يقسم، ترك في موضع، ويقفلان عليه، أو يجعلانه تحت يد ثالث. وهكذا الحكم إذا كان مما يقسم، ومنعنا القسمة، على رأى أبي إسحاق. ولو امتنعا من ذلك، فعل الحاكم رأيه، وهل يضعه تحت يد أمين أو اثنين؟ فيه وجهان: أصحهما في النهاية: الأول. وإن كان الاختلاف في التصرف، فإن كانا مستقلين، قال الشيخ أبو حامد:

يقسم بينهما، ويتصرف كل منهما في نصفه، فإذا كان الشيء مما لا يقسم، ترك في أيديهما حتى يتصرفا فيه. وقال غيره: لا حاصل لهذا الاختلاف، ومن سبق نفذ تصرفه. نعم لو اختلفا في تعيين من يصرف إليه من الفقراء فماذا يصنع؟ فيه وجهان في النهاية: أحدهما: يقرع.، واستبعده. والثاني: يضعه الحاكم فيمن يراه أهلاً على وفق الوصية. وإن كانا غير مستقلين، أمرهما الحاكم بما يرى فيه المصلحة، فإن امتنع أحدهما، ضم القاضي إلى الآخر أمينا، وإن امتنعا أقام الحاكم مقامهما آخرين، ولا ينعزلان بالاختلاف. ولو اختلفا في تعيين من يصرف إليه من الفقراء، عين القاضي من يراه. قال: وإن أوصى إليه في شيء لم يصر وصيا في غيره، كما في الوكيل والحاكم. وإذا أطلق الوصية في مال الأطفال، استفاد الوصي بها حفظ المال، وهل يستفيد التصرف؟ فيه وجهان: المذهب منهما في التتمة: نعم؛ اعتمادًا على العرف. وذكر بدل الوجه الأول وجها: أن الوصاية لا تصح حتى يتبين ما فوضه إليه؛ فحمل في المسألة ثلاثة أوجه. ولا نزاع في أنه لو قال: "أوصيت إليك" مقتصرا على ذلك، فهو لغو. قال: وللوصي أن يوكل فيما لا يتولى مثله بنفسه؛ كالوكيل، ومفهوم هذا منع التوكيل فيما يتولى مثله بنفسه، وهو وجه حكاه القاضي أبو الطيب هنا. وحكى الشيخ أبو حامد عن المذهب: أنه يجوز فيه أيضاً؛ لأنه يتصرف فيما لم ينص عليه؛ فأشبه الأب، وبهذا جزم المحاملي في أواخر كتاب الوكالة، وقال: إنه يجوز أن يوكل عن نفسه وعن الموصى عليه. قال: وليس له أن يوصي؛ لأن تصرفه مستفاد من جهة آدمي؛ فلم يجز له أن يوصي؛ كالوكيل وأمين الحاكم. قال: جعل إليه أن يوصي، أي: عن نفسه، أو عن الموصي، ولم يعين من يوصى إليه - ففيه قولان: أحدهما: يجوز؛ لأن نظر الوصي أقوى من نظر الوكيل، وقد جاز للوكيل أن يوكل

بالإذن، فيجوز للوصي أن يوصي بالإذن من طريق الأولى، وهذا ما نص عليه في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، واختاره أبو إسحاق، وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، وكذلك الروياني في كتاب الوكالة: إنه الصحيح. والثاني: لا يجوز؛ لأنه ليس بكامل الشفقة؛ فلم يجز له أن يختار ناظرا بعد الموت؛ كأمين الحاكم ويخالف الوكيل؛ لأن إذن موكله باق؛ لكونه حيا؛ فلذلك عمل بموجبه، وليس كذلك الوصي؛ فإن استنابه بالتصرف في وقت ليس للمستنيب التصرف فيه، ولا أن يأذن فافترقا، وهذا ظاهر نصه في المختصر، واختاره المزني. أما إذا جعل له أن يوصي عن الموصي صح؛ كذا حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وصاحب البحر في الصورتين في كتاب الوكالة، وإن أطلقوا الكلام هنا. وكلام الرافعي مصرح بأن الخلاف في الصورة الثانية. وحكى طريقة أخرى جازمة بالصحة. ولو عين له من يوصيه؛ بأن قال: "أوصيت لك، فإن أوصيت إلى زيد فقد أوصيت إليه وهو وصيي" - فمنهم من خرجه على القولين السابقين، ومنهم من قطع بالصحة، وهذا الطريق لم يذكر الماوردي سواه، وقال: لو مات الوصي قبل أن يوصي، لم يكن زيد وصيًا ما لم ينصبه الحاكم، وهل يجوز للحاكم أن يفوض الأمر إلى غيره؟ فيه وجهان. ولو قال له: أوص إلى من شئت، إلى فلان أو فلان، ولم يضف إلى نفسه،

ولا إلى الموصي، قال في التهذيب: فيحمل على الوصاية عنه حتى يجيء فيه الخلاف السابق، أو يقطع بأنه لا يوصى عنه، فيه خلاف للأصحاب والأصح الثاني، وقياس ما حكيته عن أبي الطيب وابن الصباغ أن يقال: هل يحمل على الوصاية عن الموصي حتى يصح أو عن الوصي حتى يجيء فيه القولان؟ فيه خلاف، وقد تقدم مثله في الوكالة فيما إذا أذن له في التوكيل وأطلق. قال: فإن وصى إلى رجل، نم من بعده إلى آخر، جاز؛ لأن عمر - رضي الله عنه - أوصى إلى حفصة في أمر الوقف، ثم من بعدها إلى ذوي الرأي من أهلها، وكذلك فاطمة أوصت في وقفها إلى علي - رضي الله عنهما - فإن حدث فيه حادث، فإلى ابنها. وبالقياس على ما لو قال: أوصيت إلى سنة، أو إلى أن يقدم فلان فيكون وصيي، أو إلى أن يكبر ولدي فيكون وصيي، فإنه يصح في هاتين الصورتين الأولى والأخيرة؛ [فكذلك هاهنا]. وفي الحاوي: أن الشافعي - رضي الله عنه - أوصى سنة إلى شخص، ثم من بعده إلى غيره. وقال الرافعي: إن هذا ظاهر المذهب. وتحتمل الوصية التعليق كما تحتمل الجهالات. وحكى أبو عبد الله الحناطي وآخرون خلافا؛ أخذا من الخلاف في تعليق الوكالة. وأن بالمنع أجاب الروياني، فقال: "إذا مت فقد أوصيت إليك" لا يجوز، بخلاف قوله: "أوصيت لك إذا مت"، وقد استدل بعضهم على الجواز في مسألة الكتاب بما روي أنه - عليه السلام - بعث جيشا، وقال: "أميركم زيد بن حارثة، فإن أصيب فجعفر بن أبى طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب

فليرض المسلمون رجلا". وأصيب من عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الترتيب، فارتضى المسلمون خالد بن الوليد، وفي الدلالة به نظر؛ لأن المستنيب هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو [باق إذ ذاك]، وهو بالوكالة أشبه، والكلام هنا في صحة الاستتابة به بعد الموت. قال؛ ولا تتم الوصية إلا بالقبول؛ لأنها عقد على تصرف، فافتقر إلى القبول؛ كالوكالة، ومن هذا يؤخذ أنه لا بد من الإيجاب، لأن القبول بدونه لا يعقل، وحكى الإمام عن بعضهم إشارة إلى خلاف في اشتراط القبول. ثم صريح الإيجاب أن يقول: أوصيت إليك في كذا، أو فوضت، أو أقمتك مقامي، وما أشبه ذلك، وهل ينعقد بلفظ الولاية؛ بأن يقول: وليتك كذا بعد موتي؟ فيه وجهان عن جرجانيات الروياني. ولا خلاف أنه إذا اعتقل لسانه، وأشار إشارة مفهمة أن ذلك كاف. ولو قرئ عليه كتاب الوصية، وأشار برأسه - أي: نعم - صحت؛ لأنه بالعجز صار كالأخرس، وهذا مطرد في الوصية بالمال أيضاً، والقبول لا يخفى لفظه. وحكى الأستاذ أبو منصور وجهين في أن عمل الوصي هل يقوم مقام لفظ القبول؟ قال؛ وله أن يقبل في الحال، وله أن يقبل في الثاني؛ لأنه [إذن في] تصرف لا يفوت؛ فجاز قبوله في الحال والثاني؛ كما في الوكالة. والمراد بـ"الثاني": بعد الموت، وهذا ما جزم به أبو الطيب، وذهب ابن سريج إلى أن القبول قبل الموت لا يعتد به؛ كما لو قبل الوصية بالمال قبل الموت، وهذا أظهر في الرافعي. وعلى الخلاف خرج ما لو رد الوصية قبل الموت، هل يؤثر؟ فعلى الأول: نعم، وعلى الثاني: لا. وفي البحر حكاية وجه: أنا إذا اشترطنا أن يكون القبول بعد الموت أنه يشترط

فيه الفورية. قال: وللموصى أن يعزله متى شاء، وللوصي أن يعزل نفسه متى شاء، أي: قبل الموت وبعده؛ لأنه تصرف بالإذن، فجاز لكل من الآذن والمأذون له قطعه، كالوكالة. قال: ولا تجوز الوصية إلا في معروف: من قضاء دين، وأداء حج - أي: سواء كان الموصى إليه قريبا آو أجنبيًا - والنظر في أمر الصغار، وتفرقة الثلث، وما أشبه ذلك: كبناء المساجد، وقبور الأنبياء، والعلماء والصالحين، لما فيها من إحياء الزيارة والتبرك بها، وكذا افتكاك أسارى المسلمين [وبالعكس] كما صرح به القاضي أبو الطيب، وهو في الصورة الأولى بناء على الصحيح في جواز الوصية للحربي، كما ستعرفه إن شاء الله تعالى، وكذا رد الودائع والعواري والغصوب، كما ذكرناه. ووجه الجواز في أمر الأطفال، ما ذكرناه من إسناد بعض الصحابة وصيتهم إلى الزبير، مع اشتهار ذلك وعدم الإنكار. وأما فيما عداها؛ فلأن في ذلك إعانة على واجب أو مندوب، فاندرج في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى} [المائدة: 2]. ثم الوصية في أمر الأطفال معتبرة إذا لم يكن ثم جد لأب صالح [للولاية]، أما إذا كان فالصحيح: أنه الولي، ولا تنفذ وصية الأب. وفيه وجه: أن الوصية تنفذ، ويقدم الوصي على الجد. ولا خلاف في جواز الوصية مع وجود الجد في قضاء الديون وتنفيذ الوصايا، وكذا إذا لم يكن في الورثة صغير، جاز له الوصاية في ذلك، نعم لا يقدر الوصي على بيع العقار؛ لوفاء الدين، إلا إذا امتنع الورثة من توفيته. قال الرافعي: هذا إذا أطلق الوصاية لقضاء الدين، فإن قال: أدفع هذا القدر إليه

عوضا عن دينه، فينبغي ألا يكون للورثة إمساكه؛ لأن في أعيان الأموال أغراضا. وكذلك قيل: لو أوصى بأن تباع عين ماله من فلان، نفذت. وهذا ما أورده في البحر وجها وصححه. ولو قال؛ بعه، واقض ديني من ثمنه، قال الرافعي: فيجوز ألا يكون لهم الإمساك؛ لأنه قد يكون أبعد عن الشبهات، وهذا ما حكاه البندنيجى. وحكى في البحر ذلك وجهاً. وعن القاضي الطبري: أنه لا يقضى منه بلا خلاف، ثم حكى عن أبي عبد الله الحناطي؛ تفريعا على المذهب في اعتقاده: أنه لو باع ما عينه الموصي لوفاء الدين قبل إذن الورثة وقبل ظهور التمرد منهم عن وفاء الدين - ففي البيع وجهان: أحدهما: أنه باطل. والثاني: أنه موقوف. فإن أوفوا الدين، فلهم أن ينقضوا ذلك، وإلا انبرم. ثم قال: وكذلك إذا أوصى لرجل بقضاء دينه ولم يعينه في مال، فقبل إعلام القاضي الورثة، باع متاع البيت؛ ليصرفه في ديونه - فيه وجهان، والأظهر: أن البيع باطل ولو لم ينصب وصيا. قال في التهذيب: فأبوه أولى بقضاء الدين وأمر الأطفال، والحاكم أولى بتنفيذ الوصايا. وفي كلام القاضي الحسين أمر يخالف ذلك؛ فإنه قال: لو أوصى بثلث ماله للفقراء وله في ذمة رجل مال، فدفع الغريم المال إلى الوارث، فإن سلم الوارث الثلث إلى الفقراء فذاك، وإن لم يسلم الثلث إليهم، فإن الغريم لا يبرأ عن ثلث الفقراء. بخلاف ما نقول إذا كان للميت على رجل دين، ولرجل على الميت دين، فجاء الوارث فأخذ المال من الغريم وأتلفه - برئت ذمة الغريم، ويجب الحق على الوارث. والفرق: أن حق الفقراء متعين في ماله، ليس له أن يستبد بذلك المال، ويدفع

بقدره إلى الفقراء، بخلاف الدين. وأيضاً: فإن الوارث له قضاء الدين وإن لم يكن وصيا [من جهة الموروث، وليس له صرف المال إلى الفقراء؛ إذا لم يكن وصياً]، بل الحاكم يصرف المال إليهم. فعلى هذا صرف المال إليهم يكون تبرعا من جهته، وحق الفقراء باقٍ في مال الموروث. وحكى عقيب ذلك فيما إذا مات وعليه دين وله على رجل دين، فجاء من عليه الدين بمال ودفعه إلى الوارث - فإن [الغريم له مطالبة الوارث] بالمال، والقابض له هو الحاكم، فإذا غرم رجع بما غرمه على الوارث. ثم قال: وهذا إنما يصح على قولنا: إن الرجل إذا مات وعليه دين وله على رجل دين، فجاء الوارث، وأقام شاهدا على ذلك الحق، ولم يحلف الوارث، أن الغريم يدعي ويحلف على قول. وذكر أيضاً في الموضع المذكور؛ أنه إذا كان على الميت دين، وله وديعة عند رجل، ومات: أنه ليس للمودع أن يدفع المال إلى الوارث، ولو أنه [دفع المال] إلى الوارث وأتلفه، وجب على المودع الضمان، والغريم يطالبه بالمال، وهو يرجع بالغرم على الوارث. انتهى. وهذا يدل على أن الوارث لا يسوغ له قبض مال [اليتيم] عند وجود الدين؛ إذا لم يكن له وصية بذلك. أما إذا كانت له وصية بذلك. قال القاضي الحسين: إن الدفع للموصى مبرئ، وكذلك القاضي. قال؛ وإن أوصى بمعصية: كبناء كنيسة، أو كتب توراة، أو بما لا قربة فيه، كالبيع من غير محاباة - لم يصح؛ لأن الشرع إنما شرعها اجتلاباً للحسنات، ولاستدراك ما فرط وفات؛ قال عليه السلام: "إن الله أعطاكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم؛ زيادة في أعمالكم".

وقال صلى الله عليه وسلم: "ما حق امرئٍ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه". وقد اتتفى المعنيان فيما ذكر، وفي الأولى والثانية ارتكاب معصية - كما صرح به الأصحاب في كتاب الجزية - فهو ضد المطلوب. ولا فرق في ذلك بين المسلم وغيره، ولا بين أن ينفذ قاضي الكفار وقف الكنيسة؛ إذا كان الواقف ذميا، أم لا، على الصحيح. وحكى الإمام عن صاحب التقريب احتمالا في عدم نقضه؛ إقامة لحكمه مقام التقابض فيما لو اشترى واحد منهم خمرًا وقبضه. وألحق الماوردي بالمنع فيما ذكرناه في كتاب الجزية الوصية بكتاب [شريعة أحكام] اليهود والنصارى وحقيقة دينهم وكتب النجوم والفلسفة. وألحق القاضي الحسين بذلك كتابة الغزل؛ لأنه محرم. وقيل: إن أوصى بالبيع من معين صح؛ لأنه قصد تخصيصه بتلك العين، وهذا ما جزم به الغزالي، وحكى في المهذب، والشاشي في المعتمد الوجهين، وكذلك المتولي، لكنه بناهما على خلاف سنذكره فيما إذا أوصى لكل وارث بعين قدر حصته من الإرث، هل يحتاج إلى الإجازة أم لا؟ إن قلنا بالاحتياج صحت الوصية هنا، وإلا فلا، ومقتضاه: أن يكون الظاهر: [الصحة]؛ كما صرح به في البحر.

ثم ظاهر الكلام في الكنيسة إذا بنيت لقصد التعبد، أما إذا أوصى ببنيانها؛ لنزول المارة من أهل الذمة فيها، صحت الوصية؛ كما نص عليه الشافعي - رضي الله عنه - في كتاب الجزية، ونقله الأصحاب. ثم حكى الماوردي وجها آخر: أنه لا تجوز الوصية إذا خصص بالنزول أهل الذمة، وإن جازت الوصية لهم؛ لأن في ذلك جمعا لهم؛ فيؤدي إلى التعبد. وقال: إن محل الجزم بالصحة: إذا أوصى ببنائها؛ لينزلها أهل الذمة والمسلمون. وإن أوصى ببنائها؛ لنزول المارة والتعبد، فوجهان: أحدهما: تبطل فيما أسند للتعبد، وتصح فيما أسند للمارة، فيبنى بنصف الموضع الموصى به موضع للنزول خاصة. والثاني: يبنى بجميع الموصى به موضع للنزول خاصة. ومن هذا: ما إذا أوصى بمال يسرج في البيع والكنائس، إن قصد به تعظيما لم يجز، وإن قصد به الضوء على من يأوى إليها خاصة، قال الشيخ أبو حامد، وهو ما حكاه البندنيجي وصاحب العدة والنووي في كتاب الجزية-: صحت الوصية؛ لأن قصده منفعة الذين يأوون إليها؛ فتصح كالوصية لهم ابتداء. قلت: وقد ذكر في الوقف أنه لو وقف على كنيسة على هذا النحو لم يصح، وإن كان الوقف يجوز على أهل الذمة، لأن في الصرف على هذا الوجه تعظيما لهم، ولا يبعد أن يجيء مثله هاهنا ويعضده الوجه الذي حكاه الماوردي. واعلم أن هذا الفصل وإن كان دالا على امتناع الوصية في مثله، فهو أيضاً دال على امتناع صرف المال إلى مثل ذلك. وإن كان كذلك حسن أن تضاف الفروع المتعلقة بهذا إلى هذا الموضع: فمنها: إذا أوصى لذمي بصحف، فقد نص الشافعي - رضي الله عنه - على أن الوصية باطلة. وقد قال القاضي أبو الطيب: قال أصحابنا: ينبغي أن يكون فيه قول آخر: آن الوصية صحيحة، ويؤمر بإزالة الملك عنه [ويعضده أنهم حكوا فيما إذا أوصى له بعبد مسلم، هل يصح، ويوم بإزالة الملك عنه] أو لا يصح؟ قولين.

قال: وإن أوصى لوارث عند الموت، لم تصح الوصية في أحد القولين؛ لما روى أبو داود عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه, فلا وصية لوارثٍ". وهذا في إسناده إسماعيل بن عياش، وقد اختلف في الاحتجاج بحديثه، لكن قد خرجه النسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن خارجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال: وتصح قي الآخر، وتقف على الإجازة، وهو الأصح. قال الماوردي: وهو المنصوص عليه في عامة كتبه؛ لما روى الدارقطني عن ابن عباس - رضى الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز الوصية لوارثٍ, إلا أن يشاء الورثة". وهذا [ما] قال عبد الحق; إنه حديث مقطوع،

وإن يونس بن راشد وصله، والمقطوع هو المشهور، وقد جزم القاضي أبو الطيب بهذا القول في أول هذا الباب، وحكى عن المزني وابن أبى هريرة طريقة قاطعة بالقول الأول؛ لما في الإجازة من تغيير الفروض التي قدرها الله تعالى للورثة واعتبار ما نسخ. وفي "رفع التمويه": أن من أصحابنا من قال: القولان في الوصية له إذا جاوزت الثلث، أما إذا لم تجاوزه، فتصح قولا واحدا، كما في الأجنبي. قال: وهو ضعيف. ثم على الأصح - وهو المنصوص - إذا أجاز الورثة، فهل هي تنفيذ لما فعله الوارث أو ابتداء عطية؟ فيه قولان في "الحاوي"، وفيه أنه لا يشترط على هذين القولين الإتيان ببذل وإيجاب، بخلاف ما إذا فرعنا على القول الأول. نص عليهما في الأم، وسنعيد الكلام فيهما فيما إذا أوصى بأكثر من الثلث وأجاز الورثة. وحكم البيع من الوارث [بالمحاباة] وفي مرض الموت بالمحاباة، وكذا الهبة - حكم الوصية وكذا ضمان الدين عنه لأجنبي، كما حكاه الإمام، وهل يكون الضمان عن الأجنبي للوارث كذلك؟ فيه وجهان ذكرهما صاحب التقريب. وأطلق القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين أن الوصية لغير الوارث كالوصية للوارث، وسنذكر [تفصيل] ما قيل فيه من بعد، إن شاء الله تعالى. ثم لا فرق في جريان القولين بين أن يوصى إليه وهو غير وارث، ثم صار وارثا، كما إذا أوصى لأجنبية، ثم تزوجها، أو لأخ وله ابن [فمات الابن]؛ أو يوصي إليه وهو وارث، ثم يستمر على الصفة إلى موت الموصي، كما صرح به البندنيجي. نعم، لو أوصى إليه وهو وارث، ثم صار عند الموت غير وارث، فالوصية نافذة.

ولا يتخرج على الخلاف المذكور في الإقرار للوارث في أن الاعتبار بالوارث بيوم الإقرار أو بيوم الموت؛ لأن استقرار الوصية بالموت، ولا ثبات لها قبله، بخلاف الإقرار. وفي الجيلي تخريجه على ذلك ولم أره لغيره. فروع: إذا أوصى لكل من الورثة بقدر حصته من التركة لغت الوصية. قال الرافعي: ويجيء فيه وجه آخر؛ لأن صاحب التتمة حكى وجهين فيما إذا لم يكن إلا وارث واحد، فأوصى له بماله. المذهب منهما: أنه تلغو الوصية، ويأخذ التركة بالإرث. والثاني: أنه يأخذه بالوصية إذا لم ينقصها. وفائدة: الخلاف تظهر فيما إذا ظهر دين إن قلنا: يأخذ التركة إرثا، فله إمساكها، وقضاء الدين من موضع آخر. وإن قلنا: إنه يأخذ بالوصية، قضاه منها، ولصاحب الدين الامتناع لو قضاه من غيرها. ومعلوم أنه لا فرق بين [أن] يتحد الوارث أو يتعدد. ولو أوصى لكل منهم بعين هي قدر حصته من ثوب وعبد وغيرهما، فهل تحتاج هذه الوصية [إلى الإجازة] أو لا، ويختص كل منهم بما عينه؟ فيه وجهان: أظهرهما: الأول؛ لأن الأغراض تفاوت بأعيان الأموال والمنافع الحاصلة منها. ووجه الثاني: أن حق الورثة يتعلق بقيمة التركة لا بعينها؛ ألا ترى لو باع المريض أعيان التركة بأثمان أمثالها، صح، وحقوقهم في القيمة موفاة، مع أنه لو باع في مرض موته من وارثه عينا بثمن مثلها لم يعترض عليه؟! مسألة: إذا وقف دارًا في مرض موته على ابنه الحائز لتركته: فإن أبطلنا الوصية لوارث، فالوقف على الابن باطل، وإن اعتبرناها موقوفة على الإجازة، فعن ابن الحداد - وهو المشهور، وقال الإمام: إنه لم يرو في الطرق ما يخالفه - أنه ينظر:

فإن احتملها الثلث، لم يكن للوارث إبطال الوقف في شيء منها؛ لأن تصرف الوارث في ثلث المال نافذ، فإذا تمكن من قطع حق الوارث في الثلث، فلأن يتمكن من وقفه عليه وتعلق حق الفقراء به، كان أولى. وإن زاد على الثلث، صح في الثلث، وما زاد عليه: إن رده بطل الوقف فيه، وإن أجازه انبنى على أن الإجازة تنفيذ أو ابتداء عطية؟ فعلى الأول: يصح، وعلى الثاني: يتخرج على الوقف على نفسه. وعن القفال: أن للوارث رد كل الوقف؛ لأن الثلث في حق الوارث كالزائد على الثلث في حق الأجنبي؛ ألا ترى أنه لو أوصى لأحد وارثيه بأقل من الثلث، كان للآخر الرد، فإن أجاز كان الحكم كما ذكرنا في الزائد على الثلث؟! وأجاب الشيخ أبو علي عما وجه [به] القفال بأنا إنما جوزنا لأحد الوارثين الرد؛ لأن الموروث فضله عليه، ونقص حقه عن عطية الله تعالى، وهنا لا تفضيل. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يقبل الابن [الوقف] في حياة والده أو يقبل له لصغرٍ - أو لا؛ لأن الرد والإجازة إنما يعتبران في الوصية بعد الموت.

ثم لا يخفى أنا إذا أبطلنا الوقف على الوارث: إما ابتداء، أو بالرد، وكان الموقوف يخرج من الثلث - أنه يتخرج إبطاله على من بعده على الوقف المنقطع الأول. وكذا إذا زاد على الثلث وقدر الثلث. وقد أشار إلى ذلك الشيخ أبو علي، كما حكاه الإمام في كتاب الوقف. ولو كان الوقف على ابن وبنت، على أن للابن الثلثين وللبنت الثلث، ولا وارث له سواهما، وخرجت الدار من الثلث - فلا رد لهما على مذهب ابن الحداد. وإن زادت على الثلث فلهما رد الزائد، وفي الإجازة ما تقدم. وإن وقفها عليهما نصفين، والثلث يحتملها، فإن رضي الابن كانت عليهما وقفا نصفين، وإن رد قال الرافعي: فظاهر جواب ابن الحداد: أن له رد الوقف في ربع الدار؛ لأنه لما رد من عليه النصف، كان من حقه أن يقف على البنت الربع، فما زاد كان للابن رده. ثم يكون الربع المردود مطلقا بينهما على الفريضة، أي: إذا فرعنا على بطلان الوقف المنثني الابتداء. وقال الشيخ أبو علي: إن له رد الوقف في ثلثي الربع – وهو السدس - من الدار؛ لأنه معلق في حقه، وأما في حصتها منه - وهو نصف السدس - فلا، بل الخيرة في الرد والإجازة إليهما كما تقدم. وهذا ما استحسنه الإمام، وقال الرافعي: إن كلام ابن الحداد في الوارث في هذا الباب يمكن تنزيله على ذلك؛ فيرتفع الخلاف، لكنه يحتاج إلى ضرب تعسفٍ. قال: وإن أوصى للقاتل، أي: وهو حر، بطلت الوصية في أحد القولين؛ لعموم

قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لقاتل وصيةٌ"؛ كما خرجه الدارقطني عن رواية علي. ولأنه مال يملك بالموت؛ فاقتضى أن يمنع منه كالميراث، على أن الميراث أقوى التمليكات، فلما منع منه القتل كان أولى أن يمنع من الوصية. وصحت في الآخر، وهو الأصح؛ لعموم قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 14]، ولم يفرق بين القاتل وغيره. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارثٍ"؛ فإنه يدل على أن الوصية للأجنبي صحيحة، وسواء كان قاتلا أو غيره. ولأنه تمليك يفتقر إلى القبول، فلم يمنع منه القتل؛ كالبيع والإجارة. وما ذكر من الخبر، فقد قال أهل الحديث - ومنهم عبد الحق-: "وإنه ضعيف"، فيه مبشر بن عييد وغيره. ثم إن صح، حملناه كما قال القاضي أبو الطب على الميراث؛ لأن اسم الوصية يقع عليه؛ قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] وأراد به: الميراث. والجواب عن القياس على الميراث؛ بعلة استحقاقه بالموت، وهو منتقض بعتق أم الولد إذا قتلت سيدها، وحلول الدين إذا قتل رب الدين المدين، وأما الجواب عن قولهم بأن الميراث أقوى من الوصية، فممنوع؛ لأن الوصية ثبتت فيما لا يثبت فيه الميراث؛ لأنها تصح من المسلم للذمي، ولا يرث الذمي من المسلم. وفي "رفع التمويه": أن الأستاذ أبا منصور البغدادي قال في "الناسخ والمنسوخ": إنه ينظر: إن كان قتله بحق من قصاص أو غيره، صحت الوصية له، وإن كان قتله ظلما فهو محل القولين. وهذه الطريقة حكاها الرافعي عن صاحب التلخيص.

وعن القفال: أنه إذا رد الوصية على الإرث، فقال؛ إن ورثنا القاتل بحق، جوزنا الوصية له، وإلا ففيها الخلاف. أما إذا أوصى للقاتل وهو رقيق، صحت وجها واحدا؛ لأن المستحق لذلك غيره وهو السيد. واعلم أن المسألة مصورة في تعليق القاضي أبي الطيب بما إذا جرح إنسان إنسانا، فأوصى المجروح للجارح، ثم مات المجروح، وبما إذا أوصى لإنسان، فجرح الموصى له الموصي، ومات من جراحته. والأحسن: ما في تعليق البندنيجي، وهو تصويرها بالصورة الأولى. وفي الحكم بالصورة الثانية؛ أنها هل تبطل [بعد] صحتها أم لا؟ على قولين. وحكى الإمام طريقين آخرين: أحدهما: أن الوصية في الأولى صحيحة قولا واحدا، ومحل الخلاف الصورة الثانية. والثاني: أن الوصية في الثانية تبطل قولا واحدا، ومحل الخلاف في الأولى. ثم إذا قلنا بالبطلان، فهل تنفذ [بإجازة الورثة؟ فيه وجهان، على قولنا: إن إجازة الورثة تتفيذ]. أما إذا قلنا: ابتداء عطية، صحت جزما، كذا قاله الإمام. وقال عند الكلام في الوصية للوارث: إن الأصح عدم النفوذ. وبنى الماوردي الوجهين على أن الوصية للوارث تنفذ بالإجازة أم لا؟ فإن نفذناها، نفذنا الوصية للقاتل بالإجازة، وإلا فلا. ثم قال: والأصح هنا عدم التنفيذ، وإن كان الأصح ثم: التنفيذ. ولا خلاف في أنه إذا أوصى لمن يقتله: أن الوصية باطلة؛ لأنها معصية، وقيها إغراء بقتله. فرع: إذا قتلت المدبرة سيدها: إن قلنا: إن التدبير عتق بصفة فهو باق بحاله، وإن قلنا: وصية، كان في البطلان القولان.

قال الإمام: ومنهم من أجرى القولين - وإن قلنا: إنه عتق بصفة - لكونه يخرج من الثلث وعلى هذا جرى في التهذيب. ويعضد هذه الطريقة أن الماوردي قال فيما لو وهب في مرضه لقاتله، أو حاباه في بيع، أو أبرأه من حق-: إن ذلك مخرج على القولين؛ لأن ذلك يخرج من الثلث، ولأنهما جاريان فيما لو أعتق في مرضه عبدا، فقتله العبد حتى يكون في نفوذ عتقه قولان. فرع: إذا أوصى لمن جرحه، ثم قتل المجروح أجنبي، استحق الموصى له قولا واحدا؛ لأنه لم يمت بجرحه. قال: وإن [أوصى] لحري أي: بغير سلاح، فقد قيل: تصح، كما تصح الهبة منه. وهذا ما جزم به الماوردي، وهو منصوص في عيون المسائل. وقيل: لا تصح؛ لأن القصد يقع للموصى له، ونحن مأمورون بقتله واستئصال ماله، فأي معنى في قصد نفعه؟! وهذا ما نقله صاحب التلخيص عن نص الشافعي رضي الله عنه، وهو الظاهر عند الأستاذ أبي منصور، والشيخ في "المهذب" نسبه إلى قول صاحب التلخيص نفسه. قال: والأول أصح؛ لأنه تمليك يصح من الذمي فصح من الحربي؛ كالبيع، ولأنه إذا لم يمنع [الشركُ الحربي الوصية] إليه كالنكاح، وقد وافق الشيخ على تصحيح الأول الأكثرون، وفرقوا بينه وبين الوقف على الحربي، حيث كان الصحيح فيه المنع: بأن الوقف صدقة جارية، فاعتبر في الموقوف عليه الدوام، كما اعتبر في الوقف، وبأن معنى التمليك في الوصية أظهر منه في الوقف؛ لأن الموصى له يملك التصرف في رقبة الموصى به ومنفعته، ولا كذلك في الوقف. وهذا الخلاف يجري مثله فيما لو أوصى لشخص وهو مرتد، كما صرح به الماوردي. ومنهم من بنى صحة الوقف عليه على أن المرتد هل يملك أو لا؟ ثم لا فرق في

الوصية للحربي بين أن يكون في دار الكفر أو دار الإسلام عند القاضي أبي الطيب. وغيره قيد المسلم بدار الحرب. أما إذا كان الموصى به للحربي آلة الحرب، فهو كما لو باع منه سلاحا، وقد تقدم ذكره في البيع، صرح به الإمام. قال: ولو أوصى لقبيلة كبيرة، أو لمواليه وله موالٍ من أعلى وموالٍ من أسفل - فعلى ما ذكرناه في الوقف، وقد تقدم، والمنصوص في البويطي في مسألة الموالي: الإشراك، وقد جمع الماوردي مسائل من تصح الوصية له بقوله: تجوز الوصية لكل من جاز الوقف عليه من صغير، وكبير، وعاقل، ومجنون، وموجود، ومعدوم، إذا لم [يكن وارثا ولا قاتلا]، وهذا يقتضي أن الوصية لعبد الغير تخرج عن القولين في الوقف عليه نفسه هل يصح أم لا؟ فإن صح كان للسيد أن ينزعه منه، وكذا يقتضي أن الوصية للدابة تخرج على الوجهين في أن الوقف عليها هل يصح أم لا؟ فإذا صح كانت وصية للمالك وينفق عليها، إن كان يعتقد جريان الخلاف فيها، وسيأتي الكلام في ذلك، إن شاء الله تعالى. قال: وإن أوصى لما تحمل هذه المرأة، فقد قيل: يصح. كما لو أوصى لمن يدخل البلد من الحجيج أو من الغرباء، كذا قاله ابن الخل والقاضي أبو الطيب. ولأنه لو أوصى بحمل سيحدث صح، مع أنه تمليك ما لم يوجد؛ فلذلك يجوز تمليك عن لم يوجد، وهذا ما اختاره أبو إسحاق، وأورده الأستاذ أبو منصور. وقيل: لا يصح؛ لأنه تمليك، وتمليك من لم يوجد ممتنع، ولأنه لا متعلق للعقد في الحال؛ فأشبه ما إذا وقف على مسجد سيبنى، وهذا أظهر عند الأكثرين من الأصحاب منهم المصنف، وبه جزم الماوردي. وقد حكى القاضي الحسين أن الوجهين يبنيان على ما لو وقف داره على ولد سيحدث، أو على مسجد سيبنى، هل يصح؟

فيه قولان، وفيه وجه ثالث: وهو النظر إلى حال الموت: فإن كان [الحمل] موجودا حينئذ، صحت الوصية، وإلا فلا، وهذا ما أبداه ابن الصباغ احتمالًا لنفسه، وأيده بأن الوصية تصح للحمل في حال كونه نطفة، وإن كان لا يملك. فرع: لو أوصى لأحد الرجلين لم يصح على أظهر الوجهين، كما في سائر التمليكات، ومحل الخلاف: إذا قال: أوصيت لأحد الرجلين، أما إذا قال: أعطوا هذا العبد أحد [الرجلين، ففي] المهذب والتهذيب وغيرهما: أنه جائز؛ تشبيها بما إذا قال لوكيله: بع من أحد الرجلين. قال: ويستحق الوصية بالموت؛ إن كانت لغير معين: [كالفقراء، والمساكين، والعلماء، ونحوهم؛ لأنه لا يمكن اعتبار القبول منهم. وإن كانت لمعين، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: تملك بالموت، أي: شاء أو أبى، كما ذكره القاضي أبو الطيب والبندنيجي؛ لأنه استحقاق بالوفاة، ولم يكن من شرطه القبول، كالميراث، ولأن التدبير وصية كسائر الوصايا، [يجب] أن ينجز بالموت؛ وهذا ما حكاه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وأبو ثور عن الشافعي. ورأيت في نسخة من تعليق البندنيجي أن المزني نقله مع ابن عبد الحكم، فلعل ذلك غلط من الناسخ؛ فإن بعض الأصحاب قالوا: إن ابن عبد الحكم وأبا ثور تفردا بنقله عنه، وامتنع أبو إسحاق المروزي وأكثر المتقدمين من أصحابنا من إثباته قولا، ولم يثبتوا للشافعي سوى القولين الاثنين؛ لأنهما منصوصان في كتبه، وحملوا هذه الرواية على معنى أن بالقبول يحكم بدخوله بالموت في ملكه. وابن أبي هريرة وأكثر المتأخرين من أصحابنا -كما قال الماوردي - أثبتوه قولا للشافعي. والقائلون به يقولون: له رده، ويدخل في ملك الوارث من جهة الموصى له من حين الرد؛ كما ذكره أبو الطيب والبندنيجي.

قال: والثاني: بالموت والقبول؛ لأنه تمليك بعقد؛ فيوقف الملك فيه على القبول؛ كما في البيع ونحوه. ووجهه ابن الصباغ والشيخ في المهذب بأنه تمليك يفتقر إلى القبول، فلم يقع الملك قبله كالهبة. وهذا التعليل يفهم: أنا على القول الأول نعتبر الإتيان بالقبول، وإلا لكان مصادر، وعلى هذا ينطبق قول الغزالي: أما القبول فلا بد منه، وكذلك قول الإمام: لا خلاف أن القبول لا بد منه. وقد يظهر هذا تناقضا، وليس كذلك؛ بل المراد: أن القبول لا بد منه: إما في حصول الملك على القولين الآخرين، أو في لزومه على هذا القول، كما صرح به الإمام. فرع: لمن يكون الملك بعد الموت، وقبل القبول؟ فيه وجهان: أصحهما - وبه قال ابن سريج وأكثر البصريين-: أنه للوارث. والثاني - وبه قال أبو إسحاق وأكثر البغداديين-: أنه مستبقى على ملك الميت، وعليهما يخرج ما إذا كان الموصى به زوجة الوارث. فإن قلنا بالأول انفسخ النكاح، وإن قلنا بالثاني لم ينفسخ، قاله ابن الصباغ قبيل باب التعريض بالخطبة بورقة وشيء، بعد أن حكى في صدر المسألة عن ابن الحداد إطلاق القول بعدم انفساخ النكاح؛ إذا قبل الموصى له. قال: والثالث - وهو الأصح-: أنه موقوف، فإن قبل حكم له بالملك، أي: يقينا، من حين الموت، وإن رد حكم بأنها ملك للوارث؛ لأنه لا يملك جعله بعد الموت للموصي؛ لأنه جماد والجماد لا يملك، ولا للورثة؛ لأنهم لا يملكون إلا بعد الدين والوصية؛ للنص، ولأنه يؤدي إلى أن ينتقل الملك إلى الموصى له منهم، وذلك خلاف وضع الوصية، ولا للموصى له، وإلا لما صح رده له كالميراث، فتعين الوقف مراعاة. قال القاضي الحسين والمتولي: وهذا الخلاف كالخلاف المذكور في حصول الملك في البيع، وعليه تتفرع مسائل:

منها: كسب العبد، وثمرة الشجرة، وسائر زوائد الموصى به إذا حصلت قبل الموت، فهي له ولورثته من بعده، وإن حصلت بعد القبول، فهي للموصى له، وإن حصلت بعد الموت، وقبل القبول فعلى الأول والثالث: هي للموصى له. وعلى الثاني: هي للورثة على الصحيح. وقيل: للميت حتى يقضى منها ديونه. وقيل: للموصى له. وإن رد، وقلنا: ملك بالموت فهي له أيضاً، وبه جزم البندنيجي، وقيل: لا، وحكمها كما إذا قلنا: إنه لا يملك إلا بالقبول؛ فتكون للورثة على الصحيح، وقيل: للميت. وحكم الحمل الحادث بعد الوصية بالجارية، حكم الزوائد الحادثة؛ فلا يدخل في الوصية، إذا كان قبل موت الموصى. وحكى الإمام في كتاب التدبير عن شيخه إبداء احتمال في إجراء القولين في ولد المدبرة فيه، والظاهر القطع بالأول. ومنها: نفقة الموصى به، إذا احتاج إلى نفقة، وكذا زكاة الفطر تبنى على الأقوال. وفي الوسيط: أنها على الموصى له إن قبل على كل حال، وعلى الوارث أن يرد على كل قول، ولا يعود فيها الوجه المذكور في الزيادات، وإن كان يحتمل أن يقال: الغرم في مقابلة الغنم، لكن إدخال شيء في المال [فهذا] أهون من التزام مؤنه قهرا، وهذه طريقة الإمام؛ فإنه قال: ولا أحد من الأصحاب يستجيز إلزام الموصى له المؤن بين الموت والرد. فإن هذا هجوم عظيم على القواعد. ومنها: إذا كان قد زوج أمته من حر، وأوصى له بها، فإن رد الوصية استمر النكاح، إلا إذا قلنا: إنه يملك بالموت؛ فينفسخ من يوم الموت على الأصح، وفيه وجه حكاه المتولي. وإن قبل انفسخ النكاح، ويكون من وقت الموت على قول، ومن وقت القبول على آخر. وإن كان قد زوجها من وارثه، ثم أوصى بها لغيره، فإن قبل الموصى له الوصية استمر النكاح، إلا إذا قلنا: إن الملك يحصل بالقبول وأنه قل الموت

للوارث، ففيه وجهان: أظهرهما: الانفساخ. ووجه الثاني: أن الملك ضعيف يتعلق باختيار الغير. وإن رد انفسخ النكاح، وفي استناده إلى حالة الموت هذا الخلاف. وهذا إذا خرجت من الثلث، فإن لم تخرج ولم يجز الورثة، انفسخ أيضاً؛ لوجود شيء منها في ملكه. وإن أجازوا وقلنا بحصول الملك بالموت أو بالتوقف، فهل ينفسخ؟ إن قلنا: إن إجازتهم تنفيذ، وإلا فقد انفسخ. ومنها: إذا أوصى له بمن يعتق عليه، فإن قلنا: إنه يملك بالموت، عتق عليه من غير قبول، فإن رد فهل يرتد العتق؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ كما لو اشترى من يعتق عليه بشرط الخيار، كان له فسخ العقد. والثاني لا، وبه جزم المتولي، بخلاف الخيار في البيع. قال القاضي الحسين: لأن الخيار شرع؛ لاستدراك الظلامة، فلو قلنا: ليس له الفسخ لرفعنا معنى الخيار، بخلاف ما نحن فيه. وحكى الإمام الوجهين في أن العتق هل ينفذ قبل القبول أم لا؟ تفريعا على أنه ملك بالموت، وشبه الخلاف بما إذا أنشأ المشتري العتق في زمن الخيار، مع قولنا: إن الملك له، وأبدى بينهما فرقا ظاهرا؛ وعلى ذلك جرى الرافعي حيث قال: المذهب أن العتق لا ينفذ قبل القبول. وإن قلنا: لا يملك إلا بالقبول إذا قلنا بالوقف، فلم يقبل، لم يعتق، والأولى له أن يقبل، وسيأتي في كتاب العتق حكاية وجه في وجوب القبول إذا لم يلزمه نفقته. فرع: إذا أوصى بعتق عبده بعد موته، ثم مات، فلمن يكون الملك قبل اتفاق العتق؟

قال الرافعي والمتولي: إنه للوارث قولا واحدا، ومساق هذا أن العبد إذا اكتسب مالا قبل: العتق يكون للوارث؛ كما لو اكتسب الموصى به مالا قبل القبول، وقلنا بحصول الملك به لا قبله. وقد حكى الروياني في "البحر" - في باب الإقراع بين العبيد - في كسبه قولين: أحدهما: أنه للوارث. والثاني: للعبد المعتق. وهذا كالعبد الموصى به لإنسان إذا اكتسب العبد مالًا بعد موت سيده، وقبل القبول، لمن يكون كسبه؟ وفيه قولان: أحدهما: للوارث. والثاني: للموصى له. وإن منهم من قال: يكون للعبد قولا واحدا، وهو الصحيح. والفرق أن العبد استحق العتق بموت السيد استحقاقا مستقرًّا لا يسقط بوجه من الوجوه، وليس كذلك الموصى له؛ فإنه بالخيار: إن شاء قبل، وإن شاء رد. قال: فإن لم يقبل ولم يرد وطالب الورثة، أي: على القولين الآخرين – خيره الحاكم بين القبول والرد، فإن لم يفعل حكم عليه بالإبطال؛ لأن الملك متردد بينه وبين الوارث؛ فأشبه المتحجر إذا امتنع من الإحياء. وعلى هذا؛ عليه النفقة إلى أن يختار، وهذا الكلام من الشيخ يفهم أن القبول لا يشترط أن يكون على الفور. وقد فصل الماوردي فقال: إن لم يعلم الموصى له بحقه في القبول إلى أن يعلم، [فإن كان علمه] عند انعقاد الوصايا وقسمة التركة، فقبوله على الفور، فإن قبل وإلا بطل حقه في الوصية. فأما بعد علمه وقبل إنفاذ الوصايا وقسمة التركة، فمذهب الشافعي، وجمهور أصحابه: أن القبول فيه على التراخي؛ فيكون ممتدًّا ما لم يصرح بالرد، حتى تنفذ الوصايا وتقسم التركة. وحكى أبو القاسم بن كج عن بعض أصحابنا: أن القبول بعد علمه على الفور؛ كالهبة.

وحكى في البحر: أن منهم من جعل نهايته ثلاثة أيام. وهل يقوم رهن الموصى له الموصى به مقام قبوله؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها الإمام في كتاب الرهن: أحدها: نعم، ويصح الرهن. والثاني: لا، فلا يصح الرهن. والثالث: يكون قبولا، ولا يصح الرهن. ويظهر جريان هذا الخلاف في كل تصرف في معنى الرهن أو أقوى منه؛ كالبيع ونحوه، ولا خلاف في أن القبول في هذه الوصية لا يعتد به قبل الموت، وكذا الرد فيها. قال: وإن قبل الوصية وقبض ثم رد، لم يصح الرد؛ لأن ملكه قد استقر؛ فلم يملك إبطاله؛ كالملك بعد القبض في الهبة. قال: وإن رد بعد القبول وقبل القبض، فقد قيل: يبطل - أي عقد الوصية - وهو ظاهر النص في الأم والمذهب في تعليق البندنيجي، والأصح في غيره، قياسا على الغانمين؛ فإنهم يملكون الغنيمة بالاستيلاء، ولو أعرضوا سقط حقهم لأهل الخمس؛ كذا قاله المتولي. ولأنه تمليك من جهة آدمي من غير بدل؛ فصح رده بعد القبول وقبل القبض؛ كالوقف إذا رده بعد القبول وقبل القبض فإنه يرتد، وإن كان مالكا. [كذا] قاله الماوردي، والظاهر: أنه يرتد بالنسبة إلى الريع لا بالنسبة إلى إبطال الوقف. وقيل: لا يبطل؛ لأن المعقود عليه ليس من شرط الملك فيه القبض؛ فلم يملك رده بعد القبول؛ كالبيع، وهذا ما قطع به المراوزة، كما حكاه الإمام قبيل باب نكاح المريض، وأن العراقيين ارتضوه، وحكوا معه وجها آخر. وأشار إلى الأول ثم قال: وهو ضعيف لا مستند له من أثر [الرد]، ولا معنى، فلست أعتد به. ثم على القول الثاني، إذا قبل الوارث الرد، فهل يصح الرد؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم، ويكون كالإقالة؛ فيعود المال إلى التركة. والثاني: لا، إلا أن يأتي الموصى له بإيجاب وقبول وشروط الهبة، وحينئذ يكون ملكا للوارث لا للتركة؛ [كذا] حكاه الماوردي. واعلم أن الوصية بالمال تنعقد بالإيجاب الصريح، وهو قوله: أوصيت لك بكذا، أو أعطيتك كذا، أو أعطوه، أو جعلت هذه الدار ملكه بعد الموت. ولو قال: "عينت هذا له"، فهو كناية تنعقد بها الوصية عند النية. ولو قال: "وهبت هذا منه"، ففى كونه كناية وجهان: أصحهما: لا، فلو قال: "هذه لفلان"، ثم قال: أردت الوصية، لم يقبل إلا أن يقول: "هذا من مالي لفلان". ولو قال له إنسان: أوصيت لفلان بكذا؟ فقال: نعم. قال المتولي: لا نجعل ذلك وصية؛ لأنه لم يأت بلفظ عقد. فهذا يشكك بما حكيناه عنه في نظر المسألة من البيع. ولا يكفي في الوصية الكتابة، نعم لو كتب، ثم قال للشهود: [اشهدوا] أن مضمونها وصيتي، وختمها فهو ختمى - فهل يعمل به؟ فيه وجهان: المشهور: لا. وحكى في التتمة عن محمد بن نصر المروزي من أصحابنا أنه قال: يكفي، وتثبت الوصية بالشهادة على ذلك، وهو نظير وجه حكاه الغزالي في الباب الثالث في القضاء على الغائب، فيما إذا أسلم المقر [له] الضالة إلى الشهود، وقال: اشهدوا بما فيها؛ فإني عالم به، وقال: لعله الأصح، لكنه علله بأنه مقر على نفسه بما لا يتعلق [بحق] الغير، والإقرار بالمجهول صحيح، وهنا قد يقال: إن ذلك يتعلق بحق الغير. وعن بعض أصحابنا فيما رواه أبو الحسن العبادي: أنه تكفي الكتابة من غير إشهاد؛ لقوله - عليه السلام-: "إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه".

قال: وإن مات الموصى له قبل الموت، بطلت الوصية؛ لأنها قبل الموت غير لازمة، فبطلت بالموت؛ كما لو مات أحد المتعاقدين في البيع قبل القبول. قال: وإن مات بعد موته - أي: وقبل القبول والرد - قام الوارث مقامه في القبول والرد؛ لأنه حق يملك ثبت للوارث بغير اختيار من له العين، فقام الوارث فيه مقام الموروث؛ كالآخذ بالشفعة. قال الأصحاب: وليس لنا قبول يبقى بعد موت الموجب له [والموجب]، إلا هذا. ووراء ذلك أمران آخران: أحدهما: حكى الشاشي قولاً: أن الوصية تبطل بموت الموصى له قبل القبول. الثاني: حكى الإمام وجها عن رواية الشيخ أبي علي: أن الموصى به إذا كان ممن يعتق على الموصى له: كأبيه، وابنه، لا يجوز للوارث القبول؛ فإنا لو صححنا القبول، لعتق على الميت، ولثبت له الولاء عليه، ولا سبيل لإثبات الولاء للميت، بغير إذنه؛ وهذا بناء منه على أنه يعتق على الميت. وستعرف الخلاف فيه. ثم على الصحيح: إذا قبل الوارث، فلمن يحصل الملك في الموصى به ابتداء؟ قال الأصحاب: ذلك ينبني على أقوال الملك: فإن قلنا: يملك بالقبول، ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول ابن أبى هريرة وأبى حامد المروروزي؛ كما حكاه الماوردي: أنه حاصل للورثة ابتداء، وبهذا أجاب ابن الصباغ وأبو الطيب وآخرون. وعلى هذا: فهل تقضى منه ديون الميت، وتنفذ وصاياه؟ فيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب في المجرد، ووجه القضاء وهو المذهب في البحر، والذي حكاه ابن الصباغ عن الأصحاب: أنهم ملكوه بما ورثوه عنه من القبول، فهو موروث بسبب من جهته؛ كما يملكون الدية إذا قتل وتقضى منها ديونه، وإن قلنا: إنها ثبتت للوارث ابتداء.

ومقابله اختيار أبي حامد، ولم يحك في البحر والحاوي في كتاب الأقضية واليمين مع الشاهد سواه، وقالا: إن الموصى به يكون بين الورثة على السواء؛ تفريعا على هذا وإن تفاوتوا في الميراث، دون ما إذا قلنا: إن الملك حاصل للميت. [والثاني]- وهو الظاهر من مذهب الشافعي كما قاله الماوردي، وبه قال أكثر البصريين، وحكاه ابن كج عن شيوخه: أنه يثبت ابتداء للميت؛ لأن الموصى إنما أثبت الملك للموصى له؛ فلا يثبت لغيره، وقبول الوارث نيابة عنه، وعلى هذا قال الغزالي: يستند الملك إلى ألطف حين قبل موت الموصى له. وإن قلنا بقول الوقف أو بقول انتقال الملك بنفس الموت - فالملك حاصل للموصى له. وعلى ما ذكرناه ينبني ما إذا كانت الوصية بمن يعتق على الموصى له، فحيث قلنا؛ إن الملك يحصل ابتداء للوارث، فإن كان ممن يعتق عليه الموصى به أيضاً، كما إذا كان وارث الموصى له أباه والموصى به ابنه - عتق على الوارث أيضاً، وولاؤه له. وإن كان ممن لا يعتق عليه، فلا يعتق. وحيث قلنا: يحصل الملك للموصى له ابتداء عتق عليه، ولكن هل يرث منه؟ ينظر: إن حكمنا بحريته عند القبول، فلا. وإن حكمنا بحريته عند الموت: فإن كان ممن يحجب الوارث القابل كما إذا كان القابل أخا للموصى له أو عمه، والموصى به ولده - فلا يرث؛ لأن ثبوته يؤدي إلى نفيه. وأبدى ابن الصباغ في هذه الصورة احتمالا موافقا لما ذكر أنه أبداه في الإقرار من توريث الابن الذي أقر به عمه. وإن كان الوارث القابل ابنا، والموصى به ابنا آخر، فوجهان حكاهما القاضي في المجرد. أحدهما: أنه يرث؛ لأنه ليس في إرثه سقوط إرث أخيه الذي قبل الوصية؛ فلا يؤدي توريثه إلى نفيه، وهذا ما جزم به الماوردي. والثاني: لا يرث، وهو من تخريج ابن سريج، وصححه الروياني والغزالي.

وكذا هو عند الإمام كما حكاه في نفوذ نكاح العبد, ووجهه: أنا لو ورثناه لاعتبرنا قبوله, ولا يعتبر قبوله في حال رقه, ولا فائدة فيه بعد العتق. وعلى الأول قال الداركي: محله إذا كان القبول قد ثبت للموصى له وهو صحيح, أما إذا ثبت له وهو مريض, ثم مات قبل القبول – لم يرث الموصى به؛ لأن قبول الوارث يقوم مقام قبول الموروث. ولو قبل الموروث في حال مرضه, لكانت وصية للموصى به الذي يعتق عليه ولم يرثه؛ فكذلك هاهنا؛ ألا ترى أنه إذا أوصى له بولده, فقبل الوصية وهو مريض, فإنه يعتق عليه ولا يرثه؟ وهذا منه تفريع على ما استشهد به كما هو ظاهر النص في التتمة في هذا الباب, وإلا ففي مسألة الاستشهاد وجه يأتي في العتق – إن شاء الله تعالى – أنه لا يحسب عليه من الثلث ويرثه. ولو كان وارث الموصى له ابنان, فقبل أحدهما, ورد الثاني, قال الإمام: فالذي ذكره الأصحاب: أن القدر الذي قبله يعتق على الميت ثم إن كان نصيب القابل من التركة التي في يده تفي بالسراية, سرى, ويكون العتق عن الميت ابتداء وسراية والولاء له, ويرث الابن القابل وكذا الراد على أصح الوجهين. وإن لم يكن في يده من التركة شيء أصلا فلا يسري. وجواب الشيخ أبي على: أنه لا يسري في الصورة الأولى أيضاً؛ فإنه لو سرى لسرى عن الميت, والعتق لا يسري على ميت؛ لأن حكمه حكم المعسرين. قال الإمام: ولا وجه إلا ما ذكره الشيخ, وما سواه غلط في القياس. قلت: وفيما قالاه نظر؛ لأنا نفرع على قولنا الوقف, فإذا حصل القبول من الوارث, تبينا حصول العتق عند موت الموصي, وذلك في حياة الموصى له, فإذا أسرينا العتق لم نسره على ميت, بل [نسره] على حي. قال: وتجوز الوصية بثلث المال, أي: الفاضل عن وفاء الدين؛ لما روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل المدينة سأل عن البراء بن معرور, فقالوا: هلك وأوصى لك بثلث ماله, فقبله ورده على ورثته.

وقيل: إنه كان أول من أوصى بالثلث, وأول من أوصى بأن يدفن إلى القبلة, ثم صارا جميعاً سنة مشروعة. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الموصي جاهلا بقدر ثلثه أو عالما. ثم الاعتبار بثلث ماله حال الوصية أو حال الموت؟ فيه وجهان: [الذي ذهب إليه أكثر البغداديين منهما: الأول؛ حتى لا يدخل فيه ما حدث له من بعد]. والذي ذهب إليه أكثر البصريين: الثاني, وهو الذي صححه البندنيجي والرافعي. وحكي عن بعضهم الجزم به. ومساق هذا الخلاف أنه لو كان ثلث ماله عند الوصية مائة, وصار عند الموت ألفا: أن الوصية هل تكون بثلث المائة أو بثلث الألف؟ وقد حكى الإمام عند الكلام فيما إذا قال: [أعطوه] رأسا من رقيقي عن الشيخ أبي علي في شرح التلخيص, أن الأصحاب لم يختلفوا في صرف ثلث ما خلفه, وإنما اعتبرنا كون ذلك فاضلا عن الدين. وإن كانت الوصية في الآية مقدمة تلاوة, وبها عمل أبو ثور؛ فقدم الوصية على الدين؛ لما روي عن ابن عباس أنه قال: "إنكم تقرءون الوصية قبل الدين, والدين مقدم عليها", ولا يقول هذا إلا توفيقا. ولأن الدين آكد من الوصية؛ فإنه لو استغرق جميع التركة لم يكن للورثة اعتراض بخلاف الوصية. وإذا كان أقوى وجب أن يكون مقدما على الأضعف, وعلى هذا لا نقول بأن الوصية مع وجود الدين لا تصح؛ لأنه لو حصل إبراء من الدين أو تبرع أحد فقضاه من غير التركة, نفذت الوصية في التركة. قال: فإن كان ورثته أغنياء, أي: بمال لهم, أو بما يحصل من ثلثي التركة كما قاله القاضي أبو الطيب والبندنيجي وصاحب البحر – استحب أن يستوفى الثلث, وإن كانوا فقراء, أي: لا يغنيهم الثلثان كما قال [القاضي] أبو الطيب وغيره – استحب ألا يستوفى الثلث؛ لما روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال:

عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع [من وجع] أشفيت منه على الموت, قلت: يا رسول الله, بلغ منى الوجع ما ترى, وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة, أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا", قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: "لا", قلت: فالثلث؟ قال: "الثلث, والثلث كثيرٌ؛ إنك أن تذر ورثتك أغنياء, خير لك من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس. ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله, إلا أثبت عليها, حتى اللقمة تجعلها في فِي امرأتك". وأراد سعد بأنه ليس من يرثه, [أي: من ذوي] الأنصباء, أو من [بني] الأولاد, وإلا فبنو عمه من بني زهرة, وفيهم كثرة. ومعنى قوله – عليه السلام -: "عالة" أي: فقراء, كما قاله الأزهري, وقال الجوهري: العيلة والعالة: الفاقة. ويتكففون الناس: أي: يسألون الصدقة بأكفهم. وقد قال ابن الصباغ: في هذه الحالة التي ذكرها الشيخ يكون الاستحباب [في الوصية] بالربع فما دونه. وقال القاضي أبو الطيب: إن كان ورثته لا يفضل ماله عن غيابهم, فالأفضل ألا يوصي. وفي الرافعي إطلاق القول بأن المستحب ألا يستوفي الثلث؛ للخبر, ولما روى عن علي – رضي الله عنه – أنه قال: لأن أوصي بالخمس أحب إلى من أن أوصي بالربع, ولأن أوصي بالربع أحب إلى من أن أوصي بالثلث, فمن أوصى بالثلث فلم يترك. وهذا ما حكاه الروياني عن بعض أصحابنا بخراسان. قال: وإن أوصى بأكثر من الثلث ولا وارث له, بطلت الوصية فيما زاد على الثلث, أي: وصحت في الثلث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطاكم عند وفاتكم ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم"؛ فدل على عدم ملكه لما زاد على الثلث. ولأن

الأنصاري أعتق ستة مملوكين له لا مال له غيرهم, فجزأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء, فأعتق اثنين وأرق أربعًا. قال أصحابنا: ولو يكن له وارث؛ إذ لو كان, لوقفه على إجازته. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الزائد على الثلث لا تنفذ [الوصية فيه] بإجازة الإمام, وتوجيهه: أن مال من هذا حاله ينتقل إلى بيت مال المسلمين ميراثًا للمسلمين, والإمام نائب عنهم في التصرف فيه؛ فلا تنفذ الوصية فيما لم يجز الشرع تنفيذه بإجازته؛ كولي اليتيم. وقد حكى المتولي وجها آخر جزم به في البحر: أنها تنفذ بإجازته؛ إقامة للإمام مقام الوارث الخاص. وقد جعل القاضي الحسين هذا الوجه الأظهر, مع حكايته وجه المنع, وقال: إن من أصحابنا من قال: إن المال لا يصرف لبيت المال إرثًا, بل صرف المال الضائع؛ لأنا نتيقن أن له وارثا من المسلمين؛ لأنه لا يخلو عن بني أعمام وهم غير معلومين؛ فبقى ضائعا يوضع في بيت المال؛ ليصرف إلى المصارف. وهذا فيه نظر؛ لأن الميت يجوز أن يكون من زنى؛ فلا بني أعمام له؛ وبذلك ينتفي اليقين, ووراء ذلك وجهان غريبان: أحدهما: عن شرح أدب القضاء للشيخ أبي عاصم العبادي: أن الوصية نافذة بجميع المال, كمذهب أبي حنيفة؛ تمسكا بأنه – عليه السلام – لما منع سعدا من الزيادة على الثلث, قال: "لأن تدع ورثتك أغنياء ... " الحديث, فجعل المنع من الزيادة حقا للوارث, فلما لم يكن وارثا سقط المنع, هكذا قاله الرافعي, والكتاب المذكور هو "الإشراف", وقد رأيت هذا الوجه فيه, لكنه ذكره بصيغة تحتمل أن يراد بها الوجه الذي حكيناه من قبل, فإنه قال: وإذا لم يكن [له] وارث, صحت الوصية بجميع المال على أحد الوجهين.

والثاني: حكاه القاضي الحسين في تعليقه: أنه لا تصح الوصية ممن لا وارث له بشيء من ماله للمسلمين؛ بناء على أن المال يصرف لبيت المال إرثا, والوصية للوارث باطلة, وطرده في جواز شيء من مال من قتل من المسلمين – ولا وارث له – لقاتله. والصحيح ما في الكتاب, وما ذكر في الحديث فللتنبيه على الأخص, وليس بتعليل؛ لأنه لو كان للتعليل لاقتضى جواز الزيادة على الثلث , إذا كان الورثة أغنياء, والفرق بين الوارث المعين والواحد من المسلمين إذا قلنا: إن بيت المال وارث – أن المال في الوارث المعين واصل إليه, فيؤدي إلى اجتماع الميراث والوصية له, والشرع نهى عن ذلك, بخلاف الواحد من الأجانب؛ فإن الوصية إليه ليس من ضرورتها الاجتماع مع الميراث. قال: فإن كان له وارث, ففيه قولان: أحدهما: تبطل الوصية, أي بالزائد على الثلث, وتصح في الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى سعدا عن الزيادة على الثلث, والنهي يقتضي الفساد, وهذا ما اختاره كثير من مشايخ خراسان؛ كما نقله في البحر, ويجيء في المسألة على هذا وجه: أن الوصية تبطل في الثلث أيضاً؛ لأن المتولي حكى وجها فيما إذا أوصى بثلثه لوارثه ولأجنبي, ولم يصحح الوصية للوارث: إن الوصية للأجنبي تبطل؛ بناء على تفريق الصفقة, وحكاه في البحر – أيضاً – نظرا إلى أن الصيغة جمعت حلالاً وحراماً, وأشار إليه البندنيجي احتمالاً؛ لأنه حكى عن شيخه عدم البطلان في نصيب الأجنبي, ثم قال: وفيه نظر. وإذا جرى هذا الوجه ثم وجب جريانه هنا؛ لأن الأصحاب عن آخرهم جعلوا الوصية بالزائد عن الثلث في حق الأجنبي والوصية للوارث بينهما كان من المال على حد سواء في الصحة والفساد في الوصية للوارث والأجنبي؛ وامتناع تخريجه على تفريق الصفقة: بأن العقد مع شخصين ينزل منزلة العقدين, ولو فسد

أحد العقدين لم يفسد الآخر, وهنا قد انتفى ذلك؛ لأن الفساد في لفظ واحد جرى مع شخص واحد. ثم على القول بالبطلان في أصل المسألة: إذا أجاز الوارث كان ابتداء عطية يشترط فيها شرائط الهبة, ولو كان ما جرى من الميت عتقا فلا بد من أن يأتي الوارث بلفظ العتق, ويكون الولاء فيه للوارث على الأصح, وفي الحاوي: أن أبا الحسن الفرضي – يعني ابن اللبان – قال الولاء [لا] يثبت للموروث بجملته إذا لم بكن للمعتق مال سوى المعتق. وفي الحر حكاية هذا الوجه, ثم قال: واختاره أبو الحسن الفرضي. وهل يكفي فيه بلفظ الإجازة؟ فيه وجهان في تعليق القاضي الحسين هنا, وفي الوسيط في كتاب القراض قال المتولي: وظاهر كلام الشافعي يدل على الاكتفاء به, وفي الحاوي: أنه يكفي مع النية؛ لأن ذلك كناية في العتق, والمجزوم به في تعليق البندنيجي: أنه لا يكفى. قال: والثاني: يصح, ويقف على إجازة الوارث, فإن أجاز, صح, وإن رد, بطل؛ لأنها وصية صادفت ملكه, وإنما تعلق بها حق الغير؛ فأشبه بيع الشقص المشفوع؛ وهذا ما قال القاضي أبو الطيب والروياني وغيرهما: إنه الصحيح. وقال البندنيجي: إنه المنصوص عليه في عامة كتبه وفي عامة أبواب الأم. وعلى هذا إذا رد, فهل نقول: الزيادة ثبتت, ثم ردت, أو إذا ردت تبينا أنها لم تنفذ في غير ما بان؟ فيه قولان حكاهما الإمام في الفروع المذكورة في كتاب العتق. وإذا أجاز يكفي لفظ الإجازة, وإن كان الزائد على الثلث عتقاً, ويكون الولاء فيه للميت, ولا يحتاج إلى إقباض في غير العتق. ويجوز مع الجهالة كما القاضي أبو الطيب في تعليقه. وقال في التتمة: [إنه] إذا أجاز مع حال الجهالة, كان كالإبراء من المجهول, وعلى ذلك جرى الرافعي, وهذه طريقة الشيخ أبي حامد, وعليها جرى في المهذب, والقاضيان أبو الطيب والحسين, [والماوردي]؛ حيث قالوا تفريعاً

على القول الأول: إنها لا تتم إلا بالقبض, وله الرجوع فيها ما لم يقبض. وقال القاضي الحسين: إن الخلاف في الصحة وعدمها مستنبط فيها من مسألة نص فيها الشافعي على قولين, وهي: إذا أوصى بأكثر من الثلث, وأجاز الوارث الزيادة على الثلث, فهل الإجازة [ابتداء] تمليك أو عطية أو تنفيذ وصية؟ على قولين. فعلى الأول: تكون الوصية بالزيادة باطلة. وعلى الثاني: تكون منفذة. ثم ظاهر هذا النص يقتضي الاكتفاء بلفظ الإجازة على القولين معا, وبه قال القفال, واختاره ابن الصباغ لنفسه بعد حكاية الخلاف عن الأصحاب. قال: ولا يصح الرد والإجازة إلا بعد الموت؛ إذ لا حق للوارث قبل الموت؛ فلا ينفذ رده وإجازته؛ كما في عتق الشفيع قبل البيع, ولأن الرد والإجازة إنما يصحان من وارث, ويجوز أن يصير هذا غير وارث؛ فلم يصح الرد والإجازة. وهكذا الحكم فيما لو أذن لمورثه في الوصية بأكثر من الثلث. وعن الأستاذ أبي منصور فيما إذا حصلت الإجازة بعد الموت وقبل القسمة: أنها هل تنزل منزلة الإجازة قبل الموت؟ [قال: فيه] قولان مخرجان للأصحاب, والظاهر لزومها. قال: فإن أجاز, أي: على قولنا بأن الوصية صحيحة بالإجازة, ثم قال: أجزت؛ لأنني ظننت أن المال قليل, وقد بان خلافه – فالقول قوله مع يمينه أنه لا يعلم. صورة المسألة: أن يوصي رجل لشخص بنصف ماله, فيجيزه الوارث بلفظ الإجازة بعد الموت, ثم يقول بعد ذلك: ظننت أن التركة ستة آلاف دينار – مثلاً – فيكون ما أجزته ألفاً, وقد ظهر لي أن التركة ستون ألفاً؛ فيكون الزائد على الثلث عشرة آلاف, ولم أرض بذلك – فيكون القول قوله مع يمينه أنه لم يعلم؛ لأن الأصل عدم علمه بذلك, فإذا حلف نفذت الإجازة في القدر الذي

ادعى علمه به – وهو ألف – وسلم للموصى له مع الثلث؛ ليكمل له أحد وعشرون ألفا, والباقي للوارث؛ لأن ذلك إسقاط حق عن أعيان, فلم يصح مع الجهل؛ كالهبة, وهذا ما نص عليه في الأم؛ كما حكاه في الشامل والبحر, وفي الإملاء؛ كما حكاه الرافعي. وفي تعليق القاضي الحسين مع هذا وجه آخر: أنه لا تصح الإجازة في [شيء] أصلا؛ فيصح للوارث في مثالنا أربعون ألفا, وأن مثل هذا الخلاف يجري في الإبراء من المجهول, فعلى وجه: لا يصح في القدر الزائد على المحقق, ويصح في المحقق, [وعلى] وجه: لا يصح في شيء أصلا. قلت: وعلى قياس ما حكيته عن القاضي أبي الطيب من الجزم بصحة الإجازة مع الجهالة, ألا نجعل لقول الوارث أثراً, ويسلم النصف من التركة للموصى له, وكذا إذا قلنا: إن الإبراء عن المجهول يصح, ولم أر من صرح به. ولو أقام الموصى له بينة تعلم الوارث بمقدار التركة, لزمت الإجازة. قال: وإن قال: ظننت أن المال كثير وقد بان خلافه, ففيه قولان: صورة المسألة: أن يوصي إنسان لشخص بعبد معين أو نحوه, قيمته أكثر من الثلث, فيجيز الوارث الوصية, ثم يقول الوارث: ظننت أن المال كثير؛ فيكون الزائد من قيمة العبد على الثلث قدراً يسيراً, والآن فقد ظهر أن المال قليل, وأن قيمة العبد تستغرق أكثر التركة, ولم أرض بذلك. أو قال: ظهر لي دين لم أعلمه, أو: تبين لي أنه تلف بعض التركة – [فأحد القولين: أنه يقبل قوله] , كالمسألة قبلها؛ فتثبت الوصية في الثلث, والقدر الذي اعتقده كما قاله البندنيجي, والروياني, وغيرهما, وبه جزم المتولي. والثاني: لا يقبل, وتلزم الوصية في جميع العبد؛ لأن الإجازة هنا وقعت بمقدار معلوم, والجهل حصل في غيره؛ فلم يقدح فيها, وثم الجهل حصل فيما حصلت فيه الإجازة؛ فأثر فيها, وهذا كله تفريع على القول بصحة [انعقاد]

الوصية بالزائد على الثلث, [وأن إجازة الوارث تنفيذ. أما إذا قلنا بعدم انعقاد الوصية بالزائد على الثلث] وأن ما وجد من الوارث ابتداء عطية, فينظر بعد حلفه: إن كانت التركة في يد الموصى له, وقد وجد اللفظ المعتبر في ذلك كما قدمناه – لزمت في القدر الذي ادعى العلم [به] , وفسدت في الباقي. كذا نصه. وفي التتمة: أن الحكم كذلك فيما إذا كانت الإجازة بالزائد في العبد المعين, وأما إذا كانت الإجازة بجزء من التركة, فإنها تنفذ في الكل, وعلى ذلك جرى في الحاوي في الصورة الأخيرة. وإن لم تكن في يده, فله الرجوع في جميع القدر الزائد؛ لعدم اتصاله بالقبض, ولا يمين عليه. ولو أقام الموصى له بينة على علمه بمقدار التركة؛ فإن لم تكن التركة في يد الموصى له؛ فلا أثر للبينة, وإن كانت في يده كانت بمنزلة إقراره, فيخرج على أن الإذن في قبض ما وهبه له وهو في يده, هل يشترط أم لا؟ قال: وما وصى به من التبرعات, أي: كالعتق, لا في كفارة, والوقف, والهبة, وصدقة التطوع, والبيع محاباةً – يعتبر من الثلث, سواء وصى به في الصحة أو في المرض؛ لاستواء الكل في وقت اللزوم وهو حال الموت. ثم المحسوب من الثلث في البيع محاباة: القدر الناقص عما يتغابن الناس بمثله. كما ذكره الأستاذ أبو منصور [والحناطي]. قلت: وكان لا يبعد أن يعتبر جميع النقص من الثلث؛ كما قلنا في الوكيل على رأي إذا باع مما يتغابن الناس بمثله, أو الزوج إذا أقام عند الثيب سبعا, على رأي. ولو كان البيع بثمن مؤجل, حسبت قيمة العين بجملتها من الثلث, سواء كان البيع بثمن المثل أو بأقل أو بأكثر؛ لما فيه من تفويت اليد على الورثة, وتفويت اليد يلحق بتفويت المال؛ بدليل الغصب. وهكذا الحكم فيما لو كان له على رجل دين حال, فأوصى بتأجيله, فإنه

يحسب جملته من الثلث, كما ذكرناه. قال في البحر: ويحتمل عندي أن يقال: لا يعتبر من الثلث إلا التفاوت بين المؤجل والحال في العقود. فرع: لو قال لأمته: إذا مت فأنت حرة على ألا تتزوجي؛ فإذا مات وقبلت ذلك, عتقت, ولا بد من قبولها, وإن كان لا يلزمها الامتناع من التزويج؛ قاله صاحب التهذيب, ثم قال: ويجب أن يقع قبولها بعد الموت, ويجب عليها قيمة رقبتها. وخص الماوردي الرجوع بالقيمة إذا لم تتزوج, وأنها لا تعود ميراثا إن تزوجت؛ لأن عدم الشرط يمنع من إمضاء الوصية, ونفوذ العتق يمنع من الرجوع فيه, نعم, لو أوصى لأم ولده بألف على ألا تتزوج, أعطيت على هذا الشرط, فإن تزوجت استرجع الألف منها. ولو قال لأمته: إذا مت فأنت حرة إن بقيت على الإسلام, فلا تعتق بالموت ما لم تقبل. قال صاحب التقريب: وإذا قبلت عتقت, ويلزمها [قيمتها]. قال الإمام: وما ذكره بعيد؛ فإن الإصرار على الإسلام ليس مما يتخيل مقابلته بالمال؛ فإنها في امتناعها معطلة على نفسها حقها من التمتع, فالوجه أن يجعل التعليق بالإصرار على الإسلام تعليقاً محضاً. ثم في النفس شيء من الحكم بعتقها في الحال, فإن عنى بقوله: "إن بقيت مسلمة" بقاءها على الإسلام إلى [وقت موته, فلا إشكال. وإن عنى: بقاءها على الإسلام] إلى موتها, فالحكم بالعتق [قبل تحقق] ما يكون, فيه نظر. وما وصى به من الواجبات, أي: من قضاء دين, وأداء فرض الحج, والزكاة, فإن قيد بالثلث, اعتبر من الثلث؛ لأنه قصد الرفق بالورثة؛ فاعتبر قصده, وعلى هذا إن لم يوف الثلث بها, تممت من الثلثين.

وفائدة هذه الوصية – كما قال القاضي أبو الطيب -: إذا كان ثم وصية أخرى؛ فإن الثلث يقسم بينهما بالنسبة, ونكمل الواجب من رأس المال. وحكى الشيخ أبو علي قولًا آخر: أن الفائدة تقديم الواجبات على أرباب الوصايا, فإن فضل من الثلث شيء صرف إليهم, وإلا فلا. وقد حكاه القاضي أبو الطيب من بعد في مسألة الحج, ورواه في البحر عن حكاية أبي إسحاق وابن أبي هريرة عن بعض الأصحاب, وقال: إنه المذهب. قال: وإن أطلق, فالأظهر: أنه لا يعتبر من الثلث؛ لأنها في الأصل من رأس المال, فإذا لم يصرفها عنه, بقيت على الأصل, وكانت الوصية بها محمولة على التأكيد والتذكار بها, وهذا ما نص عليه عند الإيصاء بالحج في المناسك من كتبه الجديدة, وبه جزم أبو إسحاق وابن أبي هريرة؛ كما حكاه الماوردي وأكثر الأصحاب؛ كما قال القاضي أبو الطيب. وقيل: يعتبر من الثلث؛ لأنها من رأس المال, فلما وصى بها كانت قرينة دالة على أنها من الثلث, والوصية مصرفها من الثلث, وهذا ما نص عليه عند الإيصاء بالحج في المختصر في هذا الموضع من الوصايا, فإنه قال: [إذا أوصى بأن يحج عنه ولم يحج حجة الإسلام, فإن بلغ ثلثه حجةً من بلده] , حج عنه من بلده, وإن لم يبلغ, حج عنه من حيث بلغ [ثلثه]. والقائلون بالأول منهم من تأوله كما سنذكره, ومنهم من نسبه إلى الغلط, وقال: إنما قال الشافعي ذلك في حج التطوع؛ فإنه قال في عيون المسائل: إذا أوصى بأن يحج عنه تطوعا, فبلغ ثلثه الحج من بلده – حج عنه من بلده, وإن لم يبلغ حج عنه من حيث يبلغ ثلثه. ومنهم من يقول: إنه غلط من الناسخ, ويكون [موضع قوله: "ولم يحج": و"قد حج", وهكذا وجد في بعض النسخ. وقيل]: إن كان قد قرن به ما يعتبر من الثلث, أي: كما لو قال: حجوا عني وتصدقوا – اعتبر من الثلث؛ عملا بالقرينة, وإن لم يقرن لم يعتبر؛ عملا بالأصل.

وهذه طريقة أبي علي بن أبي هريرة, كما قال في المهذب, وأبي علي الطبري كما قال القاضي أبو الطيب. ورأى الإمام تخصيص هذه الطريقة بما إذا قال: أوصيت لكم؛ لتحجوا عني, وتعتقوا, وتتصدقوا, فإن لم يجر لفظ الوصية, وقال: حجوا عني, وأعتقوا [وتصدقوا] , فهو كما لو تجرد ذكر الحج. وطريقة أبي علي بن خيران: حمل النص الأول على أجرة المثل من الميقات, والنص الثاني على أجرة المسير من دويرة أهله إلى الميقات. وطريقة أبي الطيب بن سلمة وأبي حفص بن الوكيل: تخريج المسألة على قولين, وقد ألحق القاضي أبو الطيب الحج المنذور بحج الفرض, وقياسه: أن يطرد في سائر المنذورات, وكذا في الكفارات؛ لأنها لم تجب بأصل الشرع, وقد حكى ذلك القاضي الحسين قولاً في المنذورات مع قول آخر: أنه إذا أوصى بها تكون من الثلث, وإن لم يوص بها لا تقضى من تركته, وجعل أصل القولين: أن ما يوجبه الإنسان على نفسه, هل يسلك به مسلك إيجاب الشرع, أو مسلك ما تبرع به الإنسان؟ وطرد القولين في الكفارات أيضاً. ومحل ذلك وفاقاً وخلافاً إذا كان الإلزام في الصحة, أما إذا كان في المرض, فهو محسوب من الثلث قطعا, صرح به الفوراني في كتاب الحج. وحكى الجيلي: أن للشافعي قولا كمذهب أبي حنيفة: أنه إذا لم يوص بالحج, لا يجوز إخراجه من تركته؛ لفقد النية. وقال: إنه في البسيط. فرع: إذا مات من عليه الواجبات ولم يوص بها, فإن كان دين لآدمي, وجب وفاؤه من تركته, فإن لك يكن له مال, فللوارث والأجنبي أن يتبرع بأدائه عنه,

وتبرأ ذمة الميت بالقبض. نعم, إن كان الدافع هو الوارث, وجب على رب الدين القبول, بخلاف الأجنبي. قال الإمام في كتاب القسامة – في ضمن فرعٍ أوله: "ولو قتل عبدٌ لأم ولد" -: وغالب ظني أني رأيت الأصحاب خلافًا في أن الوارث أيضاً إذا لم من عليه الدين شيئاً, تنزيله منزلة الأجنبي المتبرع بقضاء الدين. وإن كان على الميت حج, فللوارث أن يحج عنه بنفسه, وله أن يأمر أجنبيا بذلك. وهل للأجنبي أن يفعل ذلك دون إذنه؟ فيه وجهان: أظهرهما: الجواز؛ كما لو كان عليه دين فقضاه عنه. والثاني – وهو قول أبي إسحاق [المروزي]-: المنع؛ لأن الحج عبادة تفتقر إلى النية إلا باستنابته أو استنابة نائبه. والزكاة في هذا المعنى كالحج, سواء فيه زكاة المال والفطر؛ فيجوز للأجنبي إخراجها عنه على الأظهر, وقد حكاه الروياني في البحر عن نصه. وأما الكفارات, فهي مذكورة في هذا الشرح في آخر باب كفارة اليمين, وذكرنا فيه ما إذا أوصى أن يكفر عنه في الكفارة المخيرة بالعتق وكان أكثر قيمة, هل تعتبر جميع الكفارة من الثلث أو القدر الزائد؟ فليطلب منه. وقد نص الشافعي في الإملاء على أن الصدقة عن الميت تنفعه, ويكون ثوابها للمتصدق عنه, ثم قال: وواسع في فضل الله أن يثيب المتصدق أيضاً. ولا فرق في ذلك بين الوارث والأجنبي, وبهذا قال الصيدلاني وغيره. وقال الإمام: وجدت في بعض المصنفات رمزا إلى شيء يدور في خلد الفقيه: أن الصدقة نرجو لحوق بركتها بالميت فإما أن تقع عن الميت, وصدورها من غير وارث وهي متطوع بها, فهذا بعيد عن القياس, وكما تجوز الصدقة عن الميت, يجوز الوقف عن الميت؛ كما صرح به صاحب العدة. قال الرافعي: وعلى هذا القياس ينبغي جواز التضحية عن الميت؛ فإنها

[ضرب] من الصدقة. قال: وقد رأيت أبا الحسن العبادي: أطلق القول بجواز التضحية عن الغير, وروى فيه حديثا, لكن في التهذيب: أنه لا يجوز بغير إذنه وأمره, وكذلك عن الميت إلا أن يكون قد أوصى به. ولا [شك] عندنا في أن الدعاء للميت ينفعه, ويلحقه ثوابه سواء كان الداعي قريباً أو غيره؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] فأثنى عليهم بدعائهم لهم. ولا يجوز أن يعتق عنه تطوعاً, ولا ينفعه أن يصلي عنه قضاء أو غير قضاء, وكذا قراءة القرآن, واستثنى صاحب التلخيص من الصلاة ركعتي الطواف, وقال: يأتي بهما الجير عن المحجوج عنه, ووافقه بعض الأصحاب, وقال: تقع عنه تبعا للطواف. ومنهم من قال: هما تقعان عن الأجير, وتبرأ ذمة المحجوج عنه, كما لو ارتكب محظورًا ولزمه دم أو صوم. والظاهر: الأول. وأما حج التطوع إذا جوزنا الاستبانة فيه, كما هو الصحيح, فلا يجوز أن يفعل عن الميت بغير إذنه؛ كما صرح به العراقيون. وفي أمالي أبي فرج السرخسي: أن للوارث أن يستنيب فيه, وأنه إذا أوصى الميت إلى معين, فعل, ولو استقل به أجنبي, فوجهان: أصحهما: المنع. وأما ما يعتاد قراءته من القرآن على رأس القبر وعند الموتى؛ قصدا لرجاء الإجابة, قال في البحر: إنه مستجيب, وقد سئل القاضي أبو الطيب عمن ختم عند القبر ختمة, وأهداها للميت؟ قال: الثواب لقارئها, ويكون كأنه حاضرها ترجى له الرحمة.

وفي الحاوي ما يقتضي وصول ذلك إلى الميت؛ فإنه قال: إذا تقرر ما وصفناه من عود الثواب إلى الميت بفعل غيره, فما يفعل عنه أربعة أقسام: أحدها: [ما] يجوز أن يفعل بأمره وبغير أمره, وذلك قضاء الدين, وأداء الزكوات, وفعل ما وجب عليه من حج أو عمرة, والدعاء له, والقراءة عند قبره, وكلام القاضي كما حكيناه في باب الإجازة يدل على وصول القراءة للميت؛ حيث [جوز] الاستئجار على ذلك. قال: وما تبرع به في [حال] حياته: كالهبة – أي مع الإقباض – والوقف, والعتق, والمحاباة – أي: في البيع والشراء – والكتابة, وصدقات التطوع: إن كان قد فعله في الصحة, لم يعتبر من الثلث؛ لأنه مطلق التصرف في ماله لا حق لأحد فيه, واعتبر من رأس المال. وهكذا الحكم فيما لو قال لعبده: أنت حر قبل مرض موتي بيوم أو شهر, ثم مرض ومات – لم يحسب ذلك من الثلث إذا مات بعد يوم أو شهر, وكذا لو قال: أنت حر قبل موتي بشهر, وقصر مرض موته عن شهر, وإن زاد على شهر فهو كما لو علق عتق عبده بصفة في حال الصحة, وحصلت الصفة في المرض, وفي ذلك قولان, قال المتولي الحسين وسنذكره [مرة أخرى في] باب التدبير. فرع: لو كاتب عبده في الصحة, ثم أبرأه عن النجوم في مرض الموت أو أعتقه – فالمعتبر من الثلث أقل الأمرين من نجوم الكتابة وقيمة رقبته. قال: وإن [كان] فعله في مرض مخوف [المرض المخوف]: كل ما يستعد الإنسان بسببه إلى ما بعد الموت, وليس من شرطه كما قال: الإمام أن تندر الحياة ويؤيس من المعالجة؛ فإن البرسام معدود من الأمراض المخوفة, والنجاة منه ليست بالنادرة, ولكن يكفي إلا يكون الهلاك منه في حكم النادر, والمرض الذي [ليس بمخوف هو الذي يليه ترتيب الموت عليه, فإن وقع الشك

من أنه مخوف أو غير مخوف؛] رجع فيه إلى قول شاهدين ذكرين حرين مسلمين عدلين من أهل الطب, إلا أن تكون العلة بامرأة على وجه لا يطلع عليه الرجال غالبا. فيقبل فيه [شاهدان, وشاهد] وامرأتان, وأربع نسوة [من أهل المعرفة]. وقال الإمام: والذي أرى أنه لا تلتحق [إقامة] هذه الشهادة بالشهادات من كل وجه بل تلحق بالتقويم, وتعديل الأنصباء حتى يختلف الرأي باختلاف العدد, وعلى المذهب لو اختلفوا عمل بقول الأعلم, فإن استووا رجع إلى قول [الأكثر منهم عدا, فإن استووا رجع إلى قول] من حكم بأنه مخوف قاله الماوردي. ومن أنواع المخوف – كما قاله الشيخ -: البرسام, وهو مرض [سببه] بخار يرتفع إلى الدماغ [يتأثر به] ويتغير به العقل, ولا فرق فيه بين [ابتدائه ودوامه, كما قاله الماوردي. قال: والرعاف الدائم؛ لأنه يسقط القوة. قال]: والزخير المتواتر, وهو خروج الخارج شيئاً فشيئاً بشدة [وألم] , وقد يوهم انفصال شيء كبير, فإذا نظر كان قليلا, وفي معناه: الإسهال الدائم؛ لأنه ينشف الرطوبات, ولا نظر إلى طريانه يومًا ويومين إذا لم يدم إلا أن يحترق منه البطن فلا يمكنه الإمساك. قال البندنيجي والقاضي الحسين: ولو ساعة واحدة, أو يخرج الطعام غير مستحيل, أو يعجل ويمنعه النوم, أو يكون معه دم من الكبد, وكذا سائر الأعضاء الشريفة, ونقل المزني انه مع خروج الدم لا يكون مخوفاً, فبعضهم خطأه, وبعضهم حمله على [دم يخرج من] البواسير ونحوها, كذا حكاه الرافعي. وفي الوسيط: أن الموت إذا اتصل بإسهال يوم أو يومين تبين باتصال الموت

به كونه مخوفاً, وكذا لو ظن أن القوة تحتمل فبان خلافه, وإن جاوز الإسهال يومين, وكان ينقطع ساعة ويعود اخرى وهو كالحمى الدائمة, فيكون تبرعه في اليومين محسوباً من رأس المال, وفيما عداهما من الثلث, قاله البندنيجي. قال: وطلق الحامل؛ لصعوبة أمر الولادة, وهذا هو الصحيح, وبه جزم في التهذيب, وفيه قول آخر ينسب إلى رواية الشيخ أبي حامد: انه ليس بمخوف؛ [لأن الغالب السلامة, وفي الحاوي أن بعض أصحابنا قال: إنه ليس بمخوف] في حق من توالت ولادتها من كبار النساء, بخلاف الأبكار والأحداث, وأبدى الإمام احتمالاً [في أن الحامل] وإن لم تطلق بعد, لا يمتنع أن تلتحق بتموج البحر ونظائره. والمنقول عن الأصحاب أنه لا أثر لذلك. وإن وضعت الحامل فالخوف باق إلى أن تنفصل المشيمة, فإذا انفصلت زال الخوف, إلا إذا حصل في الولادة جارحة أو حرقان شديد أو ورم وإلقاء المضغ والعلقة. قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والقاضي الحسين: لا خوف فيه, وعليه يدل كلام الماوردي حيث قال: إذا وضعت الولد لدون ستة اشهر ولم يتحرك, فليس بمخوف, وإن كان بعد حركته فوجهان: أحدهما – وهو الأظهر -: أنه مخوف. والثاني – وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه ليس بمخوف؛ إلحاقاً بما قبل الحركة. وفي التتمة: أن إلقاء المضغة كالولادة, وموت الولد في البطن مخوف. قال: وما أشبه ذلك أي كالقولنج, وهو أن ينعقد أخلاط الطعام في بعض الأمعاء فلا ينزل, أو يصعد بسببه البخار إلى الدماغ؛ فيقضي إلى الهلاك. والطاعون, وهو عند الأكثرين: هيجان الدم في جميع البدن وانتفاخه, وقيل: إنه انصباب الدم إلى عضو فيحم وينتفخ, وقد يذهب العضو إن لم يتدارك أمره في الحال, وإن سلم الشخص. وقال القاضي الحسين في تعليقه والمتولي: إنه قريب من الجذام, من أصابه تآكلت أعضاؤه وتساقط لحمه.

وذات الجنب: وهي قروح تحدث من داخل الجنب بقرب القلب بوجع شديد ثم ينتفخ في الجوف ويسكن الوجع وذلك وقت الهلاك. والدق: [وهو داء يصيب القلب, ووجع الخاصرة, ووجع الصدر, والسل]: وهو داء يصيب الرئة ويأخذ البدن منه في نقصان, وإفراز [البول] [هكذا] أطلق في الشامل [القول] بأنه مخوف, وأطلق في المختصر بأنه ليس بمخوف في أوله, ولا في آخره؛ فإنه وإن لم يسلم منه صاحبه غالبا فإنه لا يخشى منه الموت عاجلا؛ فيكزن بمثابة الشيخوخة والهرم, وقال الشيخ في المهذب والغزالي والماوردي: إنه في انتهائه مخوف دون ابتدائه, وعكس صاحب التهذيب ذلك فقال: ابتداؤه مخوف, فإذا استمر فليس بمخوف؛ لأن الغالب أنه إذا دام لا يقتل عاجلاً, ويبقى مدة [وهو كالهرم]؛ وبذلك يحصل في المسالة أربعة أوجه. والفالج في ابتدائه, وهو حال السلية, وسببه غلبة البلغم والرطوبة؛ فإنه إذا هجم ربما أطفأ الحرارة الغريزية وأهلك, فإذا استمر لم يخف منه الموت عاجلاً؛ فلا يكون مخوفاً, وفيه وجه: [أنه] إذا استمر وكان معه ارتعاش, لم يكن مخوفاً, وإلا فهو مخوف. والخراجة إذا كانت على مقتل أو نافذة إلى جوف أو موضع كثير اللحم, ولها ضربان شديد, أو حصل معها تآكل أو ورم [مخوفة] , وهكذا الحكم إذا ضرب بعصا, كما قاله البندنيجي والقاضي الحسين, وقيل: إن الورم وحده لا يوجب كونه مخوفاً, وغنما يكون مخوفاً بالورم مع التآكل. والقيء إن كان معه دم أو بلغم أو غيرهما من الأخلاط, فهو مخوف, إلا أن يدوم. والحمى اللطيفة التي لا تبرح إذا جاوزت الثلاث, فالتبرع فيها محسوب من الثلث. وفي اليوم الأول والثاني من رأس المال كما صرح به البندنيجي, وفي الحاوي

إلحاق الثالث بالثاني. وكلام الإمام مصرح بأنه متى جاوزت الحمى اليومين, فالتبرع في اليومين من الثلث. وفي التهذيب والتتمة وجه: أنها من أول حدوثها مخوفة, وعلى الأول إذا اتصل الموت بحمى يوم أو يومين, ففي تعليق البندنيجي: أنه لا أثر لذلك. وفي الوسيط لنا تبين أن ذلك مخوف, وهو منطبق على ما حكاه القاضي الحسين؛ حيث قال: [إنه] إذا تبرع في مرض غير مخوف ثم مات منه, بان لنا أنه أخطأ؛ فيعتبر من الثلث. وأما حمى الورد وهي التي تأتي كل يوم, والمثلثة وهي التي تأتي يومين وتقلع يوماً, وحمى الأخوين وهي التي تأتي يومين وتقلع يومين – فهي من الأمراض المخوفة. وحمى الربع, وهي التي تأتي يوماً وتقلع يومين, ليست بمخوفة, وحمى الغب وهي التي تأتي يومًا وتقلع يومًا, فيها وجهان: الذي أجاب في التهذيب منهما: أنها مخوفة. والذي أجاب به البندنيجي والقاضيان أبو الطيب والحسين وابن الصباغ: مقابله. والحمى اليسيرة ليست بمخوفة اتفاقا, وكذا وجع العين والضرس والجرب ونفور الطحال. فإذا تبرع في حالة من هذه الأحوال, فتبرعه من رأس المال, وهكذا الحكم

في كل مرض ليس بالمخوف, ثم لا خلاف في أن المريض إذا انتهى إلى حالة شخص فيها بصره وابيضت عيناه لا تعتبر وصيته, ولا شيء من أقواله حتى الإسلام, وكذا [من] أفعاله. وحكم من علاه وهو لا يحسن السبح, أو قطع نصفين وهو يتكلم, أو أخرجت حشوته – كذلك. قال: واتصل بالموت, اعتبر من الثلث؛ لما روى مسلم عن عمران بن حصين أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته لم يكن له مال غيرهم, فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم, ثم اقرع بينهم, فأعتق اثنين [ثم] أرق أربعاً, وقال له قولاً شديداً. والقول الشديد كما رواه النسائي عن الحسن عن عمران بن حصين أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذه القصة: "لقد هممت ألا أصلي عليه". فإذا رد العتق فغيره من طريق الأولى. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطاكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم", يشعر به, ولأن هذه الأحوال الظاهر فيها الموت؛ فكانت العطية فيها في حق الوارث بمنزلة الوصية. فعلى هذا إن خرجت التبرعات من الثلث فلا كلام, وإن زادت عليه كان [حكم الزائد حكم الزائد] في الوصية على الثلث, فإن أجاز الورثة نفذت جميعها, وإن ردوا قُدِّم من التصرفات الأول فالأول, إلى أن يستوفى الثلث, بخلاف الوصية إذا زادت على الثلث, كما سيأتي. ولا فرق بين أن يكون المتقدم المحاباة ولم تتصل بالقبض أو اتصلت به, وحكى الإمام في كتاب العتق فيما إذا كان ثلث ماله ألفاً, فاشترى عبداً بألفين

وقيمته ألف, ثم أعتق العبد المشتري, فقد قال ابن الحداد: ينظر: فإن لم يكن وفى الثمن قبل العتق نفذ العتق, وردت المحاباة, ولزم البيع في العبد بثمن المثل, وإن وفى الثمن له قبلت المحاباة, ورد العتق, قال الإمام: وقد جمع ابن الحداد بين غلطين فاحشين: أحدهما: أنه فرق بين أن يوفي الثمن وبين ألا يوفيه. والثاني: أنه ألزم البيع بمقدار ثمن المثل, والمذهب [خلاف] ذلك. ثم المعتبر من الثلث في الكتابة قيمة الرقبة بجملتها, وليس للمتبرع في هذه الأحوال أن يرجع في تبرعه اللازم مثله في حال الصحة؛ لاحتمال سلامته؛ فيكون التبرع لازما, ويجوز للمتبرع عليه أن يتصرف فيما يتبرع به عليه تصرف مثله لو جرى التبرع من المتبرع في صحته, صرح به الإمام هنا. ولو كان المنجز عتق أمة في مرض الموت, ملك قيمها تزويجها وإن لم يكن للمتبرع مال سواها؛ فإن ظهر أن العتق لم يشمل جميعها, تبين بطلان النكاح إن لم يجز الوارث, وكذا إن أجاز وقلنا: إنه ابتداء عطية, أما إذا قلنا: إنه تنفيذ, فيتبين صحة النكاح؛ كما لو برئ, أو اكتسبت مالاً تخرج من ثلثه, واعتبار الثلث بحالة الموت. ومنع ابن الحداد بعض الأصحاب التزويج في هذه الحالة؛ لأن أمر عتقها موقوف فربما لا تعتق كلها وهو ظاهر الحال, وربما تعتق كلها بأن يصح من مرضه, [أو تكتسب مالاً تخرج من ثلثه] , وإذا كان الأمر على هذا التردد, فالنكاح على الوقف, وهو مردود عند الشافعي, رضي الله عنه. وعلى هذا لو كانت الأمة تخرج بجملتها من الثلث ويفضل عنها, فهل يسوغ التزويج أم لا؛ لاحتمال تلف المال؟ هذا [ما أبداه الإمام احتمالاً] لنفسه, وهذه الحالة التي يشعر نظم الوسيط بذكر الخلاف فيها, وأبدى ما حكيناه في الحالة الأولى احتمالاً, والقائلون بالصحة قاسوا أمر التزويج على جواز التصرف في المتبرع به, وحكى الإمام عن الشيخ أبي علي أنه قال: ومن وافق ابن الحداد

يحتمل على قياس طريقه طرد ذلك في هبة المريض, حتى يقال: لو وهب هذه الجارية التي فرضنا إعتاقها وسلمها, لا ينفذ التصرف من المتهب القابض إذا كان التصرف لا يقبل الوقف ولا يحل له الإقدام على وطئها. قال: ولم يبعد أن يكون ذلك مذهباً له, يعني لأبي علي, ثم قال: ولو سلم ابن الحداد الحكم بنفوذ تصرفات المتهب في الحال لم يجد فرقاً, وإن طرد الخلاف في هذه المسائل – وهو الظن به – فلا شك أن مذهبه يقع مخالفاً لنص الشافعي, رضي الله عنه. حكى ذلك في كتاب النكاح [بعد أن جزم في باب تعجيل الصدقة بتسليط المتهب في المريض مرض الموت على التصرفات المفتقرة للملك التام؛ عملاً باستصحاب حياة الواهب]. وإيراد الرافعي هنا يقتضي منع التصرف؛ فإنه قال: إذا وجدنا المرض مخوفاً, حجرنا عليه في التبرع فيما زاد على الثلث, ولم ننفذه. وفي البحر في باب عتق العبيد: لا يخرجون من الثلث. [و] في آخر البحر: أنه إذا أعتق ستة أعبد في مرض موته لا مال له غيرهم, لا نحكم بعتقهم؛ لجواز أن يظهر عليه دين, ولا نرقهم؛ لجواز أن يستفيد مالاً يخرجون منه, [وكسبهم يكون موقوفاً] أيضاً. ولو كان للمعتق في مرض موته مال يخرجون من ثلثه لا نحكم بعتقهم قبل موته لاحتمال أن يتلف ماله؛ فلا يصل إلى مدينه. أما إذا لم يتصل ما ذكر من الأمراض المخوفة بالموت؛ بأن برأ منها أو قتل أو مات تحت ردم – فهي معتبرة من رأس المال, صرح به الماوردي وجزم القاضي الحسين في التعليق فيما إذا قده شخص بنصفين, أو جذ رقبته, بأنه يحسب من الثلث لأن القتل لم يزل العلة بل عجل ما كان منتظراً. فرع: إذا باع بالمحاباة بشرط الخيار, ثم مرض في زمن الخيار, وأجاز العقد, إن قلنا: إن الملك له, فقدر المحاباة من الثلث, وإلا فلا, وكذا لو اشترى بمحاباة, ثم مرض ووجد بالمبيع عيباً ولم يرد مع الإمكان – لا يعتبر قدر

المحاباة من الثلث, نعم لو وجده وقد تعذر الرد فأعرض عن الأرش اعتبر الأرش من الثلث. فرع: إذا استولد في مرض موته جارية, لم تحسب من الثلث؛ كما لو استهلك شيئاً من الطعام للتلذذ به, أو الثياب النفيسة, وكذا لو تزوج بمهر المثل, وإن زاد عليه: فإن كانت الزوجة وارثة والزيادة وصية لوارث, وإلا فهي صحيحة, ولو تزوجت المريضة بدون مهر المثل فالقدر الناقص وصية, وهذا ما حكاه القاضي الحسين وجها في كتاب العتق, وادعى في التتمة في كتاب النكاح أنه ظاهر النص, وأن بعض الأصحاب خرج وجها أنه لا يكمل مهر المثل, وقال: إنه القياس. فرع: إذا وجد التبرع في مرض ليس بمخوف, ثم حث به مرض مخوف ومات منه, فإن قال أهل الصناعة: إن سببه المرض الأول, [فإنه] يفضي إلى العلة الثانية غالباً, فالأول مخوف, وإن قالوا: يندر إفضاء الأول إلى الثاني, فالأول ليس بمخوف. فرع: لو اختلف الوارث والمتبرع عليه في أن المرض مخوف أم لا, ولا بينة, فالقول قول المتبرع عليه مع يمينه؛ لأن الأصل سلامته, قاله البغوي والماوردي وغيرهما. قال: وإن فعله في حال التحام الحرب, أي: والطائفتان متكافئتان, أو طائفة الموصي [له] أضعف سواء كان من المسلمين أو من المشركين, أو من مسلمين ومشركين, وكذا قاله القاضيان: أبو الطيب والحسين وغيرهما. قال: أو تموج البحر, أو التقديم للقتل, أي: قصاصاً, أو في قطع الطريق أو بالرجم, ففيه قولان: أحدهما: يعتبر من الثلث؛ لأنها أحوال تستعقب الهلاك غالبا, فكانت كالمرض المخوف, ولأن نفس المريض أسكن من هؤلاء؛ لما يرجو من صلاح الدواء؛ فكان هذا بالخوف أحق, وهذا هو الأظهر. والثاني: لا يعتبر؛ لأنه لم يحدث في جسمه ما يخاف منه؛ فكان كالصحيح.

وهذان القولان منقولان بالنقل والتخريج؛ لأنه نصَّ في التحام القتال وتموج البحر ووقوع الشخص في اسر كفار عادتهم قتل الأسرى – على أن ذلك يلحتق بالمرض المخوف. ونص في الإملاء على أنه إذا قدم للقتل قصاصا يكون في حكم الصحيح, فأجرى بعض الأصحاب القولين بالنقل والتخريج, وهي الطريقة الظاهرة, وبها قال المزني وأبو إسحاق, وابن أبي هريرة, والقاضي أبو حامد وطائفة كبيرة [كما حكاه الماوردي, ومنهم من أجرى النصين على ظاهرهما, وفرق] بأن [عند التحام] القتال لا يرحم بعضهم بعضاً, والبحر لا يغيث, والكافر لا يرحم المسلم؛ لأنه يرى قتله ديناً, ومستحق القصاص لا تتعدى منه الرحمة والعفو بعد القدرة؛ إما طمعا في الثواب أو في المال, وهذا الفرق لا يطّرد فيمن قم للقتل بالزنى, وقطع الطريق؛ لأنه لا يرحم؛ فيلتحق على هذه الطريقة بالتحام الحرب. ومنهم من فرق بين أن يثبت بالبينة فيكون على القولين, وبين أن يثبت بالإقرار فلا يكون مخوفاً, وعلى ذلك جرى الماوردي. وقال: إنه إذا جرى بمشاهدة الإمام كان مخوفاً جزماً, وعن صاحب التقريب: أنه إن كان هناك من يغلب على الظن أنه يقتص من شدة حنقه أو عداوة قديمة, فهو مخوف, وإلا فلا, وهذا ما حكاه الماوردي عن ابن سريج. أما إذا كانت طائفة الموصي أقوى, فهو في حكم الصحيح جزماً, وكذا إذا كان قبل التحام القتال, ولو كانا يتراميان بالنشاب والحراب. وظهور الطاعون في بلد هل هو مخوف؟ فيه وجهان مخرجان من الخلاف في الصور السابقة, وهما جاريان فيما لو فشا الوباء فيه, وأصحهما في التهذيب: أنه مخوف, والإمام حكاه عن النص, والمجزوم به في الحاوي, مقابله. والقولان كما قال الماوردي يجريان فيمن أدركه سيل, أو نار, أو أفعى, أو أسد, ولم يتصل ذلك به بعد, لكنه لا محالة يلحقه, وكذا فيما إذا كان في مفازة, وأيس من الطعام والشراب, واشتد جوعه وعطشه.

قال: وإن وصى بخدمة عبد اعتبرت قيمته من الثلث على المنصوص, لا شك في جواز الوصية بمنافع العبد والدار ون الرقبة مؤقتة ومؤبدة, وكذا بغلة الدار والحانوت؛ لأن منافع الأعيان لما جاز تملكها بعوض وبغير عوض, جازت الوصية بها كالأعيان, وقد ألحق بذلك الوصية بثمار البستان التي ستحدث, وهو ظاهر النص في المختصر كما سنذكره, وفيه وجه: أنه لا يصح, ثم للموصى له تمليك المنفعة المعتادة, والإجارة, والإعارة, والوصية؛ فهو لا فرق فيه عند الأصحاب بين: أوصيت لك بمنفعة العبد, أو بغلته, أو بكسبه, أو بخدمته, وبمنفعة الدار, وسكناها, أو غلتها. وللرافعي احتمال في هذا الإطلاق. وهل يملك الموصى له الأكساب النادرة؟ فيه وجهان, أصحهما في البحر والحاوي: نعم. وفي الرافعي: مقابله, وحكى عن الحناطي وأبي الحسن العبادي الوجهين في مطلق الأكساب عند إطلاق الوصية بالمنفعة, وأيد بوجه المنع ما أبداه احتمالاً. وإذا مات الموصى له بخدمة العبد وغلة الدار, انتقلت المنفعة إلى وارثه, وفي الإبانة والبحر حكاية وجه: أن المؤقتة لا تنتقل إلى وارث الموصى له, وحكى في البحر عن القفال أنه قال: إنه المذهب. وإذا أراد الموصى له بالمنفعة المسافرة بالعبد, فهل له ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا. وهو اختيار أبي طاهر الروياني؛ كالأمة المزوجة لا يملك الزوج المسافرة بها. وأصحهما: نعم. بخلاف السيد مع الزوج؛ فإن السيد يملك المنفعة [بالاستخدام وغيره سوى الوطء] , والوارث لا يملك المنفعة, وإذا تلفت العين في يد الموصى له, لم يضمنها, وليس عليه مؤنة الرد عند الرد, [كذا هو في التهذيب].

ولو قال: أوصيت لك بمنافعه مدة حياتك, فهذه إباحة وليس بتمليك؛ فليس له الإجارة, وفي الإعارة وجهان, وإذا مات [الموصى له] رجع الحق إلى ورثة الموصي. وقد ألحق القفال وغيره بهذا ما إذا قال: أوصيت لك أن يخدمك العبد, أو أن تسكن هذه الدار؛ فيكون إباحة لا تمليكا, وكذلك قال المتولي فيما إذا أوصى بأن يستخدم العبد ويسكن الدار؛ فلا يجوز له الإجارة, وله أن يستوفي المنافع بنفسه. وهل له أن يعير؟ فيه وجهان؛ بناء على أن المستعير هل يعير أم لا؟ وإذا تقرر هذا, فما المعتبر من الثلث عند تأبيد الوصية بخدمة العبد؛ لكونه صرح به أو أطلق, كما حكاه البندنيجي؟ المنصوص للشافعي في الإملاء واختلاف العراقيين: أن قيمة الرقبة والمنفعة كما قاله الشيخ, وهو ظاهر النص في المختصر فإنه قال: لو أوصى بخدمة عبده, أو بغله داره, او بثمرة بستانه والثلث يحتمله, جاز ذلك, ووجهه كما قال أبو الطيب: أن المنافع مجهولة؛ فإنه يجوز أن يبقى العبد وكذا الدار, والبستان مدة طويلة؛ فيحصل لها منافع كثيرة, ويجوز أن تتلف فتذهب منافعها, وإذا كانت مجهولة لم يكمن اعتبار قيمتها؛ فاعتبرت قيمة محلها وهي الرقبة؛ ولأن يد حالت بين الورثة و [بين] العين, والحيلولة كالإتلاف؛ بدليل أن الغاصب يضمن بها, وذكر الماوردي أن ابن سريج اختار هذا, فعلى هذا إذا قيل: قيمة الرقبة ومنفعتها مائة, فإن خرجت من الثلث فذاك, وإلا نفذ منه بقدر ما يخرج من الثلث إن لم يجز الورثة, فإن خرج منه النصف مثلا ففي كيفية استيفائه وجهان: أحدهما: يستخدم نصف العبد. والثاني: يتهايآن فيه. وحكى في الحاوي وجها عن المنصوص: أن [الموصى له] يملك الرقبة, وإن منع من بيعها كأم الولد, ونسبه إلى القاضي أبي حامد. قال: وقيل: تعتبر المنفعة من الثلث؛ لأن الموصي إنما أوصى بالمنفعة, [واعتبر] خروج قيمتها من الثلث, كما لو أوصى بمنفعة عشر سنين؛ فإنا نعتبر

قيمة المنفعة لا قيمة الرقبة. قال الماوردي: ولأنه لو أوصى بمنفعة لرجل وبالرقبة لآخر, لم يقوم في حق صاحب المنفعة إلا المنفعة ون الرقبة باتفاق أصحابنا؛ فكذلك إذا استبقى الرقبة على ملك الورثة, وقد وافقه على ما استشهد به القاضي الحسين, وهذا ما نسبه البندنيجي إلى ابن سريج, وفي تعليق القاضي أبي الطيب: أن بعض الأصحاب خرج ذلك قولا للشافعي وجزم به, وهو جار فيما إذا أوصى بثمرة البستان [ومنافع الدار] , كما هو في المهذب وغيره, فعلى هذا تقوم العين بمنفعتها, فإذا قيل: مائة, قومت مسلوبة على الورثة من الثلثين, فيه عشرة حسب على الثلث تسعون, وهل تحسب العشرة على الورثة من الثلثين, فيه وجهان حكاهما العراقيون والمراوزة عنهم, وأظهرهما في الرافعي هو الذي نسبه البندنيجي إلى ابن سريج, والماوري إلى أبي إسحاق: إنها تحسب عليهم, فعلى هذا يعتبر في نفاذ كل الوصية أن تكون التركة – غير العبد – مائة وثمانين, وقد طرد المتولي هذا الوجه, فيما إذا أوصى بالمنفعة لشخص وبالرقبة لآخر, أن الموصى له بالرقبة لا تحسب عليه من الثلث. واستضعف القاضي أبو الطيب تقويم الرقبة المسلوبة, وقال: ما لا منفعة له, لا قيمة له كالحشرات التي لا منافع لها ولا يصح بيعها, واستبعده الرافعي من جهة أنا إذا قومنا الرقبة مع منافعها فلا نعتبر فيه إلا صفات الرقبة في الحال, ولا ننظر إلى تأبدها [ولا] تأقيتها كما لا ينظر في الدواب إلى مدة بقائها, والموصى به ليس مجرد المنفعة, بل منفعة مدة العمر, فإذن الطريق لو أفاد, إنما يفيد معرفة قيمة المنفعة لا قيمة المنفعة أبداً, وهي التي أوصى بها, ثم قال: لكن هذا التقويم صالح لمعرفة ما فات على الورثة؛ لأنا إذا قومناه منتفعا به ومسلوب المنفعة عرفنا أن ما نقص هو الذي فوته عليهم؛ فأمكن أن يقال إنه المعتبر من الثلث, فالذي ينبغي أن يعتبر من الثلث هو الذي نقص من قيمتها, وهذا ما قال في الوسيط: إنه الصحيح, والذي صححه القاضي أبو الطيب, والأكثرون مقابله, أما

إذا أوصى [له] بالخدمة منه مثلا, فالمعتبر من الثلث قيمة المنفعة لا غير عند الماوردي والقاضي أبي الطيب, وفي كيفية التقويم وجهان: أحدهما – عن ابن سريج, وهو الأظهر عند الرافعي -: أنه يقوم الرقبة بمنفعتها, فإذا قيل: مائة قومت مسلوبة المنفعة سنة, فإذا قيل: ثمانون كانت الوصية بعشرين, والثاني: تقوم خدمة مثله سنة ولا تقوم الرقبة؛ لأن المنافع المستهلكة في العقود [والغصوب] هي المتقومة دون الأعيان؛ فكذلك الوصايا. قال الماوردي: وهذا الذي أراه مذهبا. واستبعده في الوسيط؛ بسبب أن المنافع تحدث بعد الموت؛ فليس الموصي بها مفوتا لها من ملكه, ووراء ما ذكرناه فيما [يعتبر من الثلث في هذه الحالة طرق: احدها – نقله بعض الشارحين -: أنه كما] إذا أوصى بالمنفعة أبدا. والثاني – عن الخضري -: [أنا إذا اعتبرنا في المؤبدة] ما بين القيمتين فهاهنا أولى, وإلا فوجهان؛ بناء على جواز بيع المستأجر: إن جوزناه, اعتبر قدر التفاوت من الثلث, وإن منعناه, اعتبرنا قيمة الرقبة؛ لأنها كالتالفة. الثالث – حكاه الإمام -: أنا إن جوزنا بيع العين كان المحتسب من الثلث قيمة المنفعة قولاً واحداً, وإن لم نجوزه: فمنهم من قطع بأن المحتسب من الثلث المنفعة لا غير, ومنهم من خرج المنفعة على وجهين كالوجهين المتقدمين في الوصية بالمنفعة أبداً. ثم عن طريق الذي حكيناه عن الماروي وغيره, ما كيفية استيفاء المدة؟ قال الماوردي: ينظر, فإن كان في التركة [مال] غير العبد, إذا أمكن الموصى له استخدام العبد سنة, أمكن الورثة أن يتصرفوا في تلك السنة بما يقابل مثلي العبد, فللموصى له أن يستخدم جميع العبد سنة متوالية, وإن لم يكن في التركة مال غير العبد ففي كيفية استخدام الموصى له [العبد] ثلاثة أوجه حكاها ابن سريج:

أصحها: يستخدمه سنة متوالية. والثاني: [يستخدم ثلث العبد ثلاث سنين, و] يستخدم الورثة ثلثيه, حتى يستوفي الموصى له سنة. والثالث: أن الورثة والموصى له يتهايئون عليه, فيستخدمه الورثة يومين والموصى له يوماً, حتى يستوفى الموصى له سنة. ولو أوصى له بثمرة بستان عشر سنين, ففي الحاوي حكاية وجه: أن الوصية لا تصح؛ لعدم إمكان تقويم الثمار, ومنهم من قال [بالصحة, وهو الصحيح]؛ كما في منافع العبد والدار, ثم على هذا ففي كيفية التقويم وجهان: أحدهما: يقوم البستان كامل المنفعة [ومسلوب المنفعة] , ويعتبر ما بين القيمتين. والثاني: ينظر إلى ما يثمره النخل غالباً في كل عام, ثم نعتبر قيمته بالغالب من قيمة الثمرة في أول عام ولا اعتبار بما يحدث من بعد من زيادة أو نقصان. فرع: إذا غصب العبد الموصى بمنفعته, فلمن تكون أجرة المدة التي كانت في يد الغاصب قال في التتمة: إن قلنا: المعتبر من الثلث جميع القيمة, فهي للموصى له. وإن قلنا: المعتبر التفاوت, فوجهان: أحدهما: أنها لمالك الرقبة؛ كما لو غصب العبد المستأجر, وأطهرهما وبه جزم الإمام: إنها للموصى له؛ لأنها بدل ملكه, ويخالف المستأجر؛ لأن الإجارة تنفسخ في تلك المدة؛ فتعود المنافع إلى ملك مالك الرقبة. فرع: إذا انهدمت الدار الموصى بمنافعها, فأعادها الوارث بآلاتها, فهل يعود حق الموصى له فيه وجهان في المعتمد والحاوي, ولو أراد الموصى له إعادتها بآلتها, فعلى وجهين. فرع: إذا قال للورثة: استخدموا سنة بعد موتي, ثم هو بعد السنة وصية لفلان - جاز ولا تقوم خدمة السنة على الورثة؛ لأنهم استخدموا ملكهم.

قاله في البحر. فرع: إذا أوصى بمنفعة عين لشخص وبرقبتها لآخر, فرد الموصى له بالمنفعة الوصية, فهل تعود المنفعة إلى الورثة؟ أو إلى الموصى له بالعين؟ فيه وجهان في التتمة هنا وفي كتاب الإجارة. قال: وإذا عجز الثلث عن التبرعات المنجزة في حال المرض, بدئ بالأول فالأول؛ لأن الأول أقوى؛ فإنه لازم لا يفتقر إلى رضا الورثة, وما بعده مما لا يخرج من الثلث يفتقر إلى رضاهم؛ فضعف, والقوى مقدم على الضعيف. ولا فرق بين أن يكون المتقدم والمتأخر من جنس أو من جنسين. [ولو كان المتقدم عتق عبد يخرج من ثلثه, والمتأخر هبة جارية لا تخرج منه, ووقعت الهبة من المعتق, وقد وطئها المتهب, وولدت له, ثم مات المريض, ورد الوارث ما يزيد عن الثلث بالعتق بعين ما قررناه – يتقدم والهبة مردودة. قال الإمام في باب تعجيل الصدقة من كتاب الزكاة: فيسترد الوارث الجارية, ويسترد ولدها رقيقاً إذا كان الإعلاق على علم بحقيقة الحال وحكمها. قال: وقطع شيخي بالجواب فيه, فإن قيل: إذا حكمتم بأن الوارث إذا أجاز فهو منفذ, فليس بمبتدئ في العطاء, فهل تحتمل إذا رفع التفريع عليه أن يقال: الملك في الجارية ينقطع بالرد؟ قال: قلنا: مبنى الرد والإجازة في الوصاية على الإسناد, فإذا ردت وصيته فتبين أن الملك لم يتم فيها أصلا, وإن كنا نرى الإجازة من الوارث تنفيذًا, والقول في هذا ينزل منزلة القول في الهبة ينقض قبل القبض. قلت: وفي هذا الجواب نظر؛ فإن المنقول فيما] إذا رد الورثة ما زاد على الثلث, [فإنا ننظر] فإن كان باقياً استرده الورثة, وإن كان تالفًا استردوا القيمة, وهل يستردون الزوائد والكسب الذي حصل فيها؟ قال القاضي الحسين في تعليقه: يحتمل وجهين, كما لو هلك المبيع قبل القبض, انفسخ العقد وعاد إلى ملك البائع, والولد والكسب لمن يكون فعلى وجهين لأصحابنا, يبنيان

على أن الفسخ وقع من وقته أو من أصله. قال: وإن وقعت دفعة واحدة, ويتصور ذلك بالوكالة أو إذا قال لعبديه: أنتما حران, أو: نصف كل واحد منكما حر, وأبرأ جماعة من دين له عليهم, ونحو ذلك. قال: أو أوصى وصايا متفرقة, أو زائدة على الثلث أو دفعة واحدة, فإن لم تكن عتقا ولا معها عتق, قسم الثلث بين الجميع, أي: كما تقسم التركة على الديون إذا ضاقت عن الوفاء؛ لتساويهم في الاستحقاق وعدم المرجح, وذلك في التبرع الناجز والوصايا المتجمعة ظاهر, ووجهه في الوصايا المتفرقة: أن لزومها في وقت واحد وهو [وقت] الموت, بخلاف التبرعات المنجزة. قال: وإن كان فيها عتق وغير [عتق] ففيه قولان: أحدهما: يقدم العتق؛ لما روي عن ابن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: يبدأ في الوصايا بالعتق. وعن ابن المسيب أنه قال: مضت السنة أن يبدأ بالعتاقة في الوصية, ولأن العتق أقوى؛ لأن له سراية, وحق الله تعالى وحق الآدمي يتعلقان به. والثاني: يسوى بين الكل؛ لما روي عن عمر أنه: حكم للرجل يوصي بالعتق وغيره بالتحاصّ, ولاستوائهما في وقت اللزوم والاحتساب من الثلث. ولا فرق في جريان القولين عند الشيخ [أبي علي] بين أن يكون الذي جاء مع العتق وصية لمعين أو للفقراء والمساكين, وفي التهذيب في الصورة الأخيرة: القطع بالتسوية؛ لأن كلا منهما قربة, وهذا ينبغي أن يبنى على أنه لو أوصى للفقراء والمساكين بشيء ولمعين بشيء, فهل يقدم الفقراء والمساكين على المعين أو يسوي بينهما؟ وفيه طريقان جاريان في تقديم الكتابة على غيرها مما هو دونها: أحدهما: القطع بالتسوية.

والثاني: طرد القولين وهو الأشبه. فإن قلنا: بالتسوية, فالأمر كما قال الشيخ أبو علي, وإن قلنا: بتقديم الفقراء, فهذا محل النظر, فيجوز أن يسوى كما قال في التهذيب, ويجوز أن يقدم العتق؛ لزيادة قوته بالسراية, وقد أجرى القفال الوجهين فيما إذا أوصى بحج التطوع وجوزناه وزاحمته الوصايا, هل يقدم عليها, أو يسوي بينهما وبينه؟ وطردهما في الإبانة فيما إذا أوصى بأن يحج عنه حج الفرض من ثلثه في أن القدر الزائد على أجرة المثل من الميقات هل [يقدم] بها, أو يزاحم بها الوصايا؟ قال الشيخ أبو علي: وما قاله القفال لم أره لغيره من أصحابنا, بل جعلوا الوصية بالحج مع سائر الوصايا على الخلاف فيما إذا اجتمع حق الله – تعالى – وحق الآدميين, وعلى ذلك جرى المتولي, ولا يخفى أن محل التسوية, وتقديم الوصية بالعتق, والوصية للفقراء والمساكين, والوصية بالكتابة على رأي – عند إطلاق الوصايا, أما إذا عين في الوصية المتقدم والمتأخر بلفظ "ثم" أو "بالفاء", فذاك هو المتبع, كما لو حصل التنجيز مرتباً. قال: وإن كان الجميع عتقا, [ولم تجز الورثة] , أي بأن قال في مرض موته: سالم وغانم وواثق أحرار, أو سالم حر وغانم حر وواثق حر, كما قال الرافعي, أو قال: إذا مت فهم أحرار, وإذا مت فسالم حر وغانم حر وواثق حر, وأعتقوهم عني بعد موتي, وفي البحر فيما إذا قال: سالم حر وغانم حر وواثق حر – أنه يقدم الأول فالأول, وبه جزم, وحكى عن الحاوي وجها فيما إذا قال: سالم حر بعد موتي وغانم حر بعد موتي وواثق حر بعد موتي, أنه يقدم الأول فالأول, كما في المرض, وهو قريب من قول حكاه هو والقاضي الحسين ورواه أبو الطيب وابن الصباغ والشيخ في المهذب في كتاب التدبير وجها فيما إذا دبر عبدا ثم أوصى بعتق عبد: أن المدبر يقدم, لكن المنصوص في الأم – كما قال في البحر -: يقرع بين المدبر والموصى بعتقه. قال: جزئوا ثلاثة أجزاء, وأقرع بينهم, فيكتب ثلاث رقاع, في كل رقعة

اسم, ويترك في ثلاث بنادق [من] طين متساوية, أي: في الوزن والصفات, وتوضع في حجر رجل لم يحضر ذلك, ويؤمر بإخراج واحدة منها على الحرية, فيعتق من خرج اسمه ويرق الباقون؛ لما ذكرناه من حديث مسلم عن عمران بن حصين؛ وحكمته: أن المقصود من العتق تكميل الأحكام, ولا يحصل إلا بعتق جميع الرقبة؛ وبهذا خالف سائر التبرعات؛ لأن المقصود منها الملك, وذلك يحصل في بعض ما وصى به أو تبرع به, وقد صار بعض الأصحاب – كما حكاه الماوردي في باب الإقراع بين العبيد – إلى أن الإقراع إنما يجري فيما إذا كان العتق منجزا؛ للخبر, أما إذا كان معلقا بما دون الموت, أو موصى به, فلا يجزئ, بل يقسط الثلث عليهم. وهذا مذكور في الوسيط في كتاب العتق, ورأى بعض الأصحاب بعد وضع البنادق في الحجر أن تغطى بثوب, وحكي فيه أيضا [نص] للشافعي, رضي الله عنه. وكما يجوز الإخراج عن الحرية يجوز الإخراج على الرق, لكن الأول أولى؛ لأنه أقرب إلى فصل القضاء, وكذا يجوز أن يكتب الحرية في رقعة والرق في رقعتين ويخرج على الأسماء, فمن خرج له سهم الحرية أولا عتق ورق الباقي, ومن خرج باسمه منهم الرق رق وعتق الآخر, وهذا هو المنصوص والأولى. قال القاضي أبو الطيب: إنه قول أصحابنا وهو أخصر. واعلم أن إخراج القرعة على هذا النعت ليس بمتعين, بل تجوز القرعة بالبعر؛ كما فعل رسول صلى الله عليه وسلم في قسمة بعض الغنائم, وبالنوى, وبالأقلام, لكن الأحوط الأول. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أن المعتقين إذا زادوا على اثنين جزئوا ثلاثة أجزاء, سواء استوت قيمتهم أو اختلفت, وعلى تقدير الاختلاف سواء كان للقيمة ثلث

صحيح أو لا, وهو ظاهر قول الشافعي رضي الله عنه, والصحيح من مذهبه في حالة. وفي حالة [هو] مجزوم به, وذلك يحتاج إلى بسط, فنقول: لذلك ستة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون عددهم وقيمتهم متساوية, فإن كانوا ستة – مثلا – فنجعل كل اثنين جزءا, وعلى هذه الحالة حمل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عبيد الحجاز متقاربو القيمة؛ لأنهم من الزنج والحبش. الحالة الثانية: أن تختلف قيمتهم, ويمكن مع ذلك التجزئة بالعدد المتساوي, مع التساوي في القيمة, فإن كانوا ستة, وكانت قيمة اثنين أربعمائة على السواء, وقيمة اثنين على السواء مائتين فنجعل الأولين جزءا, وواحدا من الأخيرين مع واحد من المتوسطين جزءا, والباقين جزءا. الحالة الثالثة: إذا لم يمكن التجزئة بالعدد؛ لأجل الاختلاف في القيمة, وأمكن التعديل بالقيمة, مثل أن كانت قيمة أحدهم مائة, وقيمة اثنين مائة, وقيمة ثلاثة مائةً, فنجعل الأول جزءا, والاثنين جزءا, والثلاثة جزءا, [ويعتق من الأحزاب من خرج سهم الحرية عليه. وقال بعض أصحابنا: تجزأ على العدد دون القيمة, فنجعل اللذين قيمتهما مائةٌ سهما, ويضم أحد العبيد الثلاثة الذين قيمتهم مائة إلى العبد الذي قيمته مائة, ويجعل سهما, ويكون قيمة ذلك مائة وثلث مائة, ونجعل الباقيين سهما وقيمتهما ثلثا المائة, فإن خرج سهم العتق على اللذين قيمتهما مائة, عتقا, وإن خرج على اللذين قيمتهما مائة وثلث مائة, رق الأربعة الباقون, وأقرع بين من خرج عليهما سهم الحرية, فإن خرج سهم الحرية للذي قيمته مائة, عتق خاصة, وإن خرج على الآخر عتق خمسة ومن الآخر خمسة ثلثاه, قال في البحر: وهذا غير مرضي]. الحالة الرابعة: أن تختلف قيمتهم, وليس لها ثلث صحيح, والعدد ثلث صحيح كما فرضناه؛ وذلك بأن: تكون قيمة أحدهم مائة, وقيمة اثنين خمسين, وقيمة ثلاثة خمسين, فنجعل الواحد جزءا, والاثنين جزءا, والثلاثة جزءا, فإن

خرج سهم الحرية على الواحد, [عتق ثلثاه, ورق ثلثه والأعبد الخمسة, وإن خرج على الاثنين] أو الثلاثة عتقوا, ثم أقرع بين الواحد وبين الحزب الآخر, فإن خرج على الواحد عتق منه سدسه, ورق باقيه مع الحزب الآخر, وإن خرج على الحزب الآخر, فإن كان حزب الثلاثة أقرع بينهم, فمن خرج عليه سهم العتق عتق بجملته, ورق رفيقاه مع العبد الواحد, وإن كان حزب الاثنين أقرع بينهما, فمن خرج عليه سهم الحرية عتق منه ثلثاه, ورق ثلثه وجميع رفيقه والعبد الواحد. الحالة الخامسة: أن تختلف قيمتهم ولا توافق عدهم, ويمكن التعديل بينهم, مثل أن كان العبيد ثمانية: قيمة واحد مائة, وقيمة ثلاثة مائة, وقيمة أربعة مائة, فيجزءون على القيمة دون العدد وجها واحدا؛ لأن العد لما لم يوافق سقط اعتباره؛ فتعين الآخر. الحالة السادسة: ألا يكون للعبيد ثلث صحيح, والقيمة مختلفة, وليس لها ثلث صحيح, كما إذا كان العبيد ثمانية, وقيمتهم سواء, ففيهم قولان: أحدهما: يجعلون أربعة أسهم, ثم يقرع بينهم, فأي حزب خرج عليه عتق, ثم يجزأ الباقون ثلاثة أجزاء, ويقرع بينهم, فإذا خرج سهم الحرية على حزب عتق منه تتمة الثلث – وهو ثلثا عبد – ثم يقرع بين العبدين اللذين خرج سهم الحرية عليهما أجزاء, فأيهما خرج عليه سهم الحرية عتق منه ثلثان ورق ثلثه. ولو كانوا سبعة, قال الشافعي – رضي الله عنه -: جعلتهم سبعة أجزاء, ثم أقرع بينهم, فإن خرج سهم العتق جزئ الباقي ثلاثة أجزاء, فمن خرج عليهما سهم العتق منهم, أقرع بينهما, فمن خرج عليه سهم الحرية عتق, وعتق من صاحبه ثلثه, ورق الباقي. والقول الثاني: أنا نجزئهم ثلاثة أجزاء, ففي الثمانية نجعل ثلاثة جزءا, وثلاثة جزءا, واثنين جزءا, وفي السبعة نجعل ثلاثة جزءا, واثنين جزءا, واثنين جزءا, فإن خرج سهم الحرية على الأقل, عتق من فيه, ثم أقرع بين الجزأين, فإذا خرج سهم الحرية على حزب آخر, أقرع بين من فيه, فمن خرج عليه سهم الحرية عتق ثلثاه ورق الثلث وباقي العبيد, وإن خرج سهم الحرية ابتداء على الحزب الأكبر,

أقرع بين من فيه. قال الشافعي – رضي الله عنه -: وهذا القول أصح وأشبه بمعنى السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جزأهم ثلاثة أجزاء, ولا يجوز عندي أبدا أن يقرع بين الرقيق قلوا أو كثروا إلا على ثلاثة, اختلفت قيمتهم أو لم تختلف. قال الأصحاب: ولو كانوا أربعة يجب أن يكون في كيفيتها قولان: أحدهما: يجزءون ثلاثة أجزاء, وهو الصحيح. والثاني: يجزءون جزأين, كما قال في ثمانية: أربعة أجزاء. قال القاضي أبو الطيب: وهذا المبسوط يرجع إلى اختصار, وهو أن الاثنين يجعلان جزأين والثلاثة ثلاثة أجزاء, والأربعة فصاعدا إن أمكن تعديل الأجزاء بالقيمة حتى يكون كل جزء ثلث المال – جعل أيضا ثلاثة, وإن لم يمكن ذلك؛ لأنه لا ثلث صحيحًا لقيمهم ولا لعددهم, فالمذهب الصحيح أنهم يجزءون ثلاثة أجزاء, ويقرع بينهم حتى يستوفى الثلث. فرع: قال في البحر: لو كان في العبيد أخوان, أو أب وابن, كان الجمع بينهما أولى من التفرقة, ولو كان فيهم أم وابن بالغ, فإن فرق بينهما, جاز, وإن كان فيهم أم وابن صغير, فلا يجوز أن يفرق بينهم؛ للنهي عنه. قلت: وفيه نظر؛ لما تقدم أن التفرقة بالحرية غير داخلة تحت التحريم. ولو كان فيهم زوجان, فهل تجوز التفرقة؟ فيه وجهان, وجه المنع: أن هذا يفضي إلى فسخ النكاح, وكل هذا إذا أمكن الجمع. فرع: لو أعتق في مرض موته عبدا قيمته مائة لا مال له غيره, ومات العبد في حياة سيده ففيه ثلاثة أوجه: أحدهما – وهو اختيار ابن سريج؛ كما حكاه الحاوي, وقال الرافعي حكاية عن الشيخ أبي منصور: إنه المشهور من المذهب -: أنه مات حرا وكسبه [لورثته. والثاني: بطل العتق ومات عبدا وانتقل كسبه] إلى سيده بالملك؛ لأن العتق في مرض الموت وصية, والوصية تبطل بموت الموصى له قبل موت الموصي.

قال الرافعي: وهذا من تخريج ابن سريج. والثالث: أن ثلثه حر وثلثاه رقيق, إذا لم يكن مال [سواه] وهذا, ما قال في البحر: إنه ظاهر المذهب والمعول عليه. ولو قتل العبد المعتق في المرض قبل موت معتقه جرى فيه الخلاف, وحكى الرافعي أن الأستاذ أبا منصور قال: قياس مذهب الشافعي – رضي الله عنه -: أنه يموت رقيقا, وذكر بعد ذلك بقليل أنه الأظهر. ولو كان قد وهب العبد في مرضه ولا مال له سواه, وقبضه المتهب, ثم مات العبد قبل سيده, فهل تبطل الوصية؟ فيه وجهان, أصحهما: البطلان, فإذا قلنا به, فهل يغرم المتهب؟ فيه وجهان, الأشبه: أنه لا يضمن, وإذا قلنا: يضمن, قال الأستاذ منصور: يضمن ثلثي القيمة. قال الرافعي: وقياس بطلان الهبة في الجميع أن يغرم جميع القيمة. فرع: إذا ظهر بعد القرعة دين مستغرق للتركة, لم ينفذ العتق. فلو قال الوارث: أنا أقضي الدين وأنفذ العتق, فهل لهم ذلك؟ فيه وجهان: قال في البحر: وأصلهما: إذا تصرف الوارث في التركة – والدين يستغرقها – قبل قضاء الدين, ثم قبض الدين, هل يصح التصرف أم لا؟ وفيه خلاف. وإن استغرق الدين نصف التركة [ولم تجز الورثة] , بطل العتق في قدره, ثم إذا كان المستغرق النصف جزئت التركة نصفين, وإن كان الثلث جزئت ثلاثة أجزاء, وإن كان الربع جزئت أربعا, ثم في الصورة الأولى يكتب على رقعةٍ: تركة وعلى رقعةٍ: دين, ويوضع في حجر رجل لم يحضر ذلك على النعت الذي تقدم, فمن خرجت عليه رقعة الدين, بيع فيه وقضى منه الدين, ثم يجزأ الباقي ثلاثة أجزاء, فيعتق ثلثه ويرق الثلثان على ما بيناه, وفي الصورة الأخيرة تجزأ التركة أربعة أجزاء ويكتب في رقعة: دين, وفي ثلاث رقاع: تركة, فإذا خرج سهم الدين بيع وقضى منه الدين, ثم يقرع بين الباقين, فيكتب في رقعة: عتق, وفي رقعتين:

رق, وعن القفال وجه آخر: أنه يجوز أن يجمع بين سهم الدين وسهم العتق وسهمي الرق, قال الروياني: والأول أصح, وبنى على قولين للشافعي – رضي الله عنه – فيما إذا عتق ثلث المال بالقرعة, ثم ظهر على الميت دين غير مستغرق: هل يبطل أصل القرعة أم لا؟ وأحد القولين – وهو المنصوص -: تبطل. فيقرع الآن للدين, ولا يبالي أن يقع سهم الدين على الذي خرجت عليه قرعة العتق في الابتداء؛ فعلى هذا لا يجوز أن يقرع للعتق ما لم يحصل قضاء الدين. والثاني: أنه لا ينقض القرعة الأولى, بل ينقض العتق في الذي خرجت له قرعة الحرية في الابتداء, ويبقى فيه بقدر ما يحمله الثلث. فرع: لو قال: إن أعتقت سالما فغانم حر, ثم أعتق سالما في مرض موته, ولم يخرج من ثلثه إلا أحدهما – أعتق سالما ولا قرعة؛ لاحتمال أن تخرج على غانم؛ فيلزم إرقاق سالم, وإذا رق سالم لم يحصل شرط رق غانم, وفيه وجه: أنه يقرع, ولو قال: إن أعتقت سالما فغانم حر في حالة إعتاقي سالما, ثم أعتق سالما في مرض موته – قال الرافعي: فالجواب كذلك, وفي الحاوي: أن اختيار الشيخ أبي حامد في هذه الحالة: يقدم سالم من غير قرعة. واختيار ابن سريج: جريان القرعة. قال: وإن كان له مال حاضر ومال غائب, أو عين ودين, دفع إلى الموصى له – أي: بالثلث مطلقا: ثلث الحاضر, وثلث العين, وللورثة من ذلك ثلثاه – وكلما نَضَّ من الدين شيء أو حضر من الغائب شيء, قسم بين الورثة والموصى له؛ لأن الموصى له شريك الوارث بالثلث؛ فمان كسائر الشركاء. وعلى هذا: إذا كان قد أوصى بعين حاضرة, وماله غائب أو دين, لا نسلم العين إلى الموصى له, بل كلما حضر من الغائب شيء أو نض من الدين شيء, سلم إلى الموصى له بقدر حصته من العين, إلى أن تستكمل. وهذا فيما عدا الثلث من العين, أما ثلث العين, فهل يسلم له في الحال أو حتى يحضر من المال قدره مرتين؟ فيه وجهان:

وجه المنع – وهو الأصح في الرافعي -: أنا لو دفعنا له ذلك, لاحتجنا إلى تسليم ثلثيها إلى الورثة حتى يتصرفوا فيهما كما يتصرف الموصى له في ثلثها, وفي ذلك إبطال لحقه. والثاني: يجوز, ويجوز للورثة التصرف في الثلثين. قال أبو الفرج السرخسي في أماليه: فإذا تصرف الورثة, ثم بان هلاك المال الغائب, تبينا نفاذ تصرفهم. قال الرافعي: فلك أن تقول: وجب أن يخرج [ذلك] على وقف العقود, ولو سلم وعاد إليهم, [فهل يبين] بطلان التصرف أم لا؟ ويغرمون للموصى له قيمة الثلثين؟ فيه وجهان, أضعفهما الثاني. وعلى الخلاف في الأصل يخرج ما لو أوصى بعتق عبد لا مال له حاضرًا سواه, وله مال غائب يخرج العبد من ثلثه, قال الماوردي: فالثلث محكوم بعتقه, ويوقف ثلثاه, لكن هل يمكن الورثة في حال الوقف من استخدام الثلثين, والتصرف في منفعتهما أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم, وهو على قولنا: يجوز للموصى له بالعين التصرف في ثلثهما؛ طلبا للتسوية. والثاني: يمنعون من ذلك؛ كما يمنعون من التصرف بالبيع؛ وهذا على قولنا: لا يجوز للموصى له بالعين التصرف فيها. ولو كان السيد قد نجز عتقه في مرض الموت, فالحكم كذلك, لكن في الحاوي في كتاب العتق: أنه إذا حضر المال الغائب, وتسلمه الورثة تبينا عتق باقيه, وهل يرجع العبد على الورثة بما بقي من ثلثي كسبه عن نفقة ثلثيه؟ فيه وجهان. وحكي أن الورثة لو أعتقوا الثلثين, لم ينفذ وإن ملكوه؛ لأنه موقوف على عتق مورثهم؛ فلم ينفذ فيه عتق غيره إلا بعد إبطال عتقه. ولو دبروه ففيه وجهان:

أحدهما: أنه باطل كالعتق. والثاني: أنه جائز؛ لتأخر العتق, وتغليب حكم الرق عليه. فرع: لو أوصى بثلث ماله, وخلف ابنين وعشرة دنانير, على أحد الابنين دينار وعشرة ناضة, ففي كيفية ما يصنع وجهان: أحدهما: يأخذ كل من الابنين والموصى له ثلث الناضة, ويسقط من العشرة التي [تقسم] على أحد الابنين ثلثها, ويبقى ثلثاها بين الموصى له والولد الآخر بالسوية. والثاني: أن العشرة الناضة تقسم بين الولد الذي لا دين عليه وبين الموصى له نصفين, ويبقى لكل منهما على الابن الذي عليه [الدين] دينار. وثلثان, وهذا ما حكاه الماوردي عن ابن سريج وبه جزم المتولي. وعلى هذا, إن كانت الوصية بالربع والصورة كما ذكرناه, فالمسألة من أربعة: للموصى له سهم, يبقى ثلاثة على اثنين, لا يصح ولا يوافق, وقد انكسرت على مخرج النصف فبتصرف في أصل المسألة تبلغ ثمانية: للموصى له بالربع سهمان, وللابن الذي لا دين عليه ثلاثة, فتنقسم العشرة الحاضرة على خمسة ينوب كلا منهم ديناران, للموصى له سهمان بأربعة دنانير وللابن الذي لا دين عليه ثلاثة أسهم بستة دنانير, ويبقى للموصى له في ذمة من عليه الدين دينار, ولأخيه دينار ونصف؛ إذ بذلك يتم للموصى له ربع التركة وهو خمسة, وللابن الذي ليس بمدين نصف الباقي بعد الوصية وهو سبعة ونصف, وسقط عن ذمة الابن المدين نظير ذلك, وسنذكر في أثناء الباب كيفية قسمة التركة على الموصى لهم والورثة, إن شاء الله تعالى. قال: وإن وصى بثلث عبد – أي: يملك جميعه في الظاهر – فاستحق ثلثاه, فإن احتمل ثلث المال الباقي, نفذت الوصية فيه, وإن لم يحتمل نفذت في القدر الذي يحتمل؛ لأنه وصى له بثلثه وهو يملكه, ويخرج من ثلث ماله؛ فوجب أن تصح الوصية, كما لو كان مقرًّا بأنه يملك ثلثه ووصى به, وهذا ما

حكاه المزني. وقيل: لا تصح الوصية إلا في ثلثه، أي: في ثلث الثلث، وإن احتمل الثلث ثلث ماله؛ لأن الثلث الذي وصى به شائع في جميع العبد، فإذا خرج ثلثاه مستحقاً بطل منهما ما وصى به، وبقي ما كان شائعاً في الثلث وهو ثلثه، كما لو أوصى له بثلث ماله، فخرج بعضه مستحقّاً، فإن الموصى له يستحق ثلث الباقي، وهذا ما حكاه الربيع كما نقله القاضي الحسين والبغوي، وفي غيرهما: أنه قول أبي ثور، واختيار ابن سريج. قال: وليس بشيء؛ لأن ثم لم يحتمله الثلث، وهنا احتمله الثلث. وهكذا الخلاف فيما إذا أوصى بثوب أو دار ونحو ذلك، فاستحق ثلثاه، وشبه القاضي الحسين الخلاف بالخلاف فيما إذا [كان] يملك من عبده نصفه، فقال: بعت نصف هذا العبد، ففي وجه: يصح في النصف الذي يملكه، وفي وجه: نصف النصف. وحكي أن من الأصحاب من نفى الخلاف في المسألة، ثم منهم من حمل ما نقله المزني على ما إذا عينه بالتسمية، وما نقله الربيع على ما إذا أطلق، ومنهم من حمل ما نقله المزني على ما إذا قال الوصي للورثة: أعطوه ثلث هذه الدار، فأقام الورثة مقام نفسه في التعيين، وهو لو عين ثم تبين الاستحقاق لم تبطل الوصية، كذلك إذا عين الورثة. وما نقله الربيع على ما إذا قال: أوصيت بثلث الدار، ولم يجعل التعيين للورثة. وعلى طريقة القولين الخلاف مفروض فيما إذا كان الموصي قد ملك الجميع في الظاهر بسبب واحد، وملك الثلث بسبب [ثم ملك الثلثين بسبب]، وأطلق الوصية بالثلث. أما إذا قال: أوصيت لك بما ملكته بسبب كذا، فإن الوصية تصح به وجهاً واحداً إذا لم يكن [هو] المستحق؛ قاله المتولي والقاضي الحسين، وقالا: إنه

لو أوصى بثلث صبرة من طعام، فتلف ثلثاها، فإنه يسلم الثلث الباقي [للموصى له] إذا خرج من ثلث المال. والفرق: أن المستحق غير قابل للعقد وقد وقع العقد شائعاً؛ فأبطلناه فيما لا يقبل عقده وهو الثلث من الثلث، وأما الصبرة فإن جملتها قابلة للعقد؛ فصح، وإذا صحت الوصية وأمكن الوفاء بها لا يجوز إبطالها، وهذا يعضده ما حكاه في البحر عن الأم فيما إذا أوصى بثلث شيء، فأذهب المالك ثلثيه، أن للموصى له الثلث، وللماوردي في هذه الصورة احتمال كمذهب ابن سريج في صورة الاستحقاق؛ لأن الوصية بالمشاع، والباقي بعد ما أخذه المالك مشاع؛ فوجب ألا يبقى إلا في ثلثه، ويعضده أنه لو أوصى له بدار فباع ثلثيها، لم تبق الوصية إلا في ثلث الباقي. قال: وتجوز الوصية بالمعدوم: كالوصية بما تحمله هذه الشجرة أو الجارية؛ لأن المعدوم يجوز أن يملك بعقد المساقاة والقراض والإجارة؛ فجاز أن يملك [بعقد] الوصية؛ لأنها أوسع باباً من غيرها، وهذا ما حكاه البندنيجي عن النص. ومن طريق الأولى جواز الوصية بالحمل الموجود، ولكن يشترط استحقاق الموصى [له] تحقق وجوده حالة الوصية، وطريقه ما سنذكره في الوصية للحمل، وهل يصح القبول في حال الاختيار؟ فيه وجهان؛ بناءً على أن الحمل هل يعرف؟ ولو قال: أوصيت [لك] بمن تلده جاريتي، فهل يراعى وجود الحمل وقت الوصية أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، ويكون كقوله: أوصيت بحمل جاريتي. والثاني: لا، كقول أبي إسحاق: ففي أي زمان ولدته كان للموصى له. ولو قال: إن ولدت هذه الجارية ولداً ذكراً فهو وصية لزيد، وإن ولدت أنثى فهي وصية لعمرو- فإن ولدت ذكراً وأنثى، صرف إلى كل منهما ما أوصى له به.

فلو وضعت خنثى مشكلاً، ففيه وجهان: أحدهما: لا حق فيه لواحد منهما؛ لأنه ليس بذكر؛ فيستحقه زيد، ولا بأنثى؛ فيستحقها عمرو. والثاني: يوقف حتى يصطلحا عليه؛ حكاه الماوردي. فرع: لو ضرب ضارب بطن الأمة الموصي بحملها، فأجهضت ميتاً، صرف الأرش للموصى له، بخلاف ما لو أوصى له بحمل بهيمة فضربها ضارب فوضعت، فإن الموصى له لا يستحق شيئاً. قال الماوردي: والفرق: أن دية الجنين بدل منه، وما وجب في جنين البهيمة بدل ما نقص من قيمتها، وليس هو موصى له بشيء من القيمة. قال: وبالمجهول: كالوصية بالأعيان الغائبة، وكذا بأحد العبدين أو بعبد من ماله، وبما لا يقدر على تسليمه: كالطير الطائر والعبد الآبق؛ لأن الموصى له يخلف الميت في ثلث ماله، كما يخلفه الوارث في ثلثيه، ثم الوارث يخلفه في هذه الأشياء؛ فكذلك الموصى [له]. قال: وبما لا يملكه: كالوصية بألف [درهم] لا يملكها، أي: ثم ملكها عند الموت، سواء كانت معينة أو غير معينة؛ كما صرح به الرافعي، وكذا بعبد لا يملكه؛ لأن الوصية تملك بالموت؛ فاعتبر أن يكون الملك موجوداً إذ ذاك، وهذا قول [أكثر] البصريين، وهو الصحيح؛ بناءً على أن الاعتبار بقدر الثلث بحالة الموت، كما حكيناه من قبل. وقيل: إن لم يملك شيئاً أصلاً، لم تصح الوصية؛ لأنها عقد، والعقود لا يعتبر فيها ما بعد، وهذا قول أكثر البغداديين؛ بناءً على أن الاعتبار في قدر الثلث بحالة الوصية، وعليه يخرج قول من منع الوصية بما تحمل الشجرة أو الجارية؛ لأن الحمل غير مملوك حال الوصية. وبعضهم قطع في الوصية بما تحمل الشجرة بالصحة، وبإجراء هذا القول فيما

تحمله الجارية، وفرق بأن الثمرة تحدث بغير إحداث أمر، والولد لا يحدث إلا بإحداث أمر في الأصل؛ ولهذا تجوز المساقاة على الثمار التي ستحدث، ولا تجوز المعاملة على النتائج الذي سيحدث. وبناه الماوردي على أن الاعتبار في الثلث بحال الموت أو بحال الوصية. أما إذا أوصى بثلث ماله وله مال فهلك واستفاد غيره، فعلى قول البصريين: تتعلق الوصية بالمتجدد، وهو ما ادعى القاضي أبو الطيب الجزم به، وكذلك ابن الصباغ. وقال البندنيجي في باب الرجوع عن الوصية: إنه المذهب. وعلى مقابله: بطلت الوصية. وقياس هذا أن يطرد فيما إذا باع المال الموجود حال الوصية، واستبدل غيره، وقد جزموا بالصحة في هذه الحالة، واستدلوا بها على فساد قول البغداديين. وللبغداديين أن يفرقوا بأن في الاستبدال: المالية التي كانت في الأعيان الموجودة حال الوصية انتقلت إلى الأعيان الموجودة حال الموت؛ فاعتمدت الوصية المالية في الحالتين؛ كما نقول في وجوب زكاة التجارة في مثل ذلك؛ لما ذكرناه، وعند التلف فإن مالية الأعيان الموجودة حال الوصية قد زالت بالكلية، ولم تعد؛ فلذلك بطلت الوصية. وفي النهاية في باب الطلاق قبل النكاح: أن الشيخ أبا محمد كان يقول: إذا صححنا الوصية مضافة إلى العين، فشرطه: أن يقيد بتقدير الملك، فيقول: إن ملكت هذا العبد، أما إذا وجه الوصية على عبد الغير مطلقاً من غير تقييد بالملك، فالوصية باطلة. قال الإمام: والظاهر عندنا ما ذكره العراقيون من البندنيجي وابن الصباغ، ومن المراوزة: القاضي الحسين في كتاب المكاتبة؛ حيث قالوا: لو أوصى برقبة المكاتب على القول بامتناع بيعه، لم يصح ولا يسلم له، وإن انفسخت الكتابة قبل موت الموصى [له]؛ كما لو أوصى بعبد الغير ثم ملكه، نعم: إن وصى

برقبة المكاتب إن عجز، أو بهذا العبد إن عاد إليه، ففيه وجهان، حكاهما الإمام والبندنيجي، ثم حكى الإمام وجهاً ثالثاً: أنه تصح الوصية برقبة المكاتب، وهو ما حكاه في البحر عن الأم، ولا تصح بمال الغير وسنذكره ثم، إن شاء الله تعالى. تنبيه: كلام الشيخ يفهم أن القول بعدم الصحة لا يجري عند ملكه لبعض ما أوصى به، وهو ما صرح به القاضي أبو الطيب، ومساق البناء على قول اعتبار حال الوصية، ألا تصح إلا في قدر ما يملكه إذ ذاك. فرع: إذا صححنا الوصية بما تحمل المرأة، فإن انفصل الولد لأقل من ستة أشهر فما فوقها ولدون أربع سنين، فإن لم تكن ذات زوج، فهو للورثة، وإن كانت ذات زوج يطؤها، فالظاهر أن الولد تجدد؛ فيكون للموصى له، قاله الماوردي. فرع: إذا صححنا الوصية بالثمرة التي ستحدث، فلا يجب على الورثة السقي عند الحاجة؛ لأن الثمرة تحدث على ملك الموصى له، ولا يجب على الموصى له أيضاً سقيها، بخلاف نفقة العبد؛ لأن نفقة العبد مستحقة؛ لحرمة نفسه. قال الماوردي: وكذا إن احتاجت النخل إلى سقي، لم يلزم واحداً منهما. قال: ويجوز تعليقها على شرط في الحياة، [أي: مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر، أو قَدِمَ زيد، فقد أوصيت لفلان بكذا، وإن كان في بطنك ذكر فقد أوصيت به لفلان؛ لأنها تجوز بالمجهول؛ فجاز تعليقها على شرط؛ كالطلاق. قال: وعلى شرط بعد الموت، أي: بأن يقول: إذا مت، ودخل زيد الدار بعد موتي، أو جاء المطر- فأعطوا فلاناً كذا؛ لأن ما بعد الموت في حال الوصية كحال الحياة. قال: وتجوز بالمنافع والأعيان، أي: تجوز بالمنافع خاصة وبالأعيان خاصة، كما إذا أوصى لشخص بمنفعة عبد ولآخر برقبته. قال: وبما يجوز الانتفاع به من النجاسات: كالسماد، والسرجين، والكلب، والزيت النجس؛ لما ذكرناه من أن الموصى له في الثلث كالورثة في الثلثين،

وهذه الأشياء تنتقل إلى الوارث، فكذلك الموصى له. وفي الكلب وجه: [أنه لا تجوز الوصية به، كما لا تجوز هبته على وجه. وفي البحر وجه]: أنه لا تجوز الوصية بكلب صيد أو زرع أو ماشية لمن لا يحسن الصيد ولا زرع له، ولا ماشية، وهو مستمد مما ذكرناه في باب الغصب: أنه لا يجوز لمن مثل هذا حاله اقتناء مثل هذا الكلب. وفي الكلب الذي لا ينتفع به وجه: أنه تجوز الوصية به. والأول وهذا غريبان. نعم، المشهور الخلاف في الوصية بالجرو الصغير؛ بناءً على جواز اقتنائه، والصحيح في البحر جوازه. وفي جواز الوصية بشحم الميتة الذي [يطلي] به السفن، إذا جوزنا الانتفاع به- وجهان. قال: [ولا تجوز بما لا ينتفع به]: كالخمر، والخنزير؛ لأنه يحرم الانتفاع بهما، ولا تقر اليد عليهما؛ فلا يجوز نقلهما إلى الغير، وهذا ما أطلقه العراقيون؛ بناءً على الصحيح عندهم في أنه لا فرق في الخمر بين المحترمة وغيرها. والمراوزة: فرضوا ذلك في غير المحترمة، وجزموا في المحترمة بجواز الوصية فيها؛ بناءً على اعتقادهم جواز إمساكها. ومحل الكلام في ذلك في هذا الكتاب، [في] باب إزالة النجاسة. قال: وإن أوصى لأقارب فلان، أي: وهم محصورون، دفع إلى من يعرف بقرابته، أي: من قبل الآباء والأمهات، ويسوي بين الأقرب والأبعد [منهم]؛ لاستوائهم في تناول اللفظ، ولا فرق فيهم بين الوارث وغيره، ولا بين الذكر والأنثى، ولا بين الغني والفقير، ولا بين المسلم والكافر، قال أبو إسحاق: لا يدخل الأبوان والأولاد في الوصية؛ للقرابة، ويدخل الأجداد والأحفاد، وادعى الأستاذ أبو منصور إجماع الأصحاب عليه، وقيل: لا يدخل الأصول والفروع،

وقيل: كل من اجتمع معه في الأب الرابع، [فهو من قرابته، ومن اجتمع بعد الرابع] خرج من القرابة؛ حكاه الماوردي. وقد خص بعض الأصحاب الصرف إلى [القرابة] الأقاربَ من [جهة] الآباء والأمهات إذا كان الموصي غير عربي، أما إذا كان عربياً، فلا يصرف إلى الأقارب من جهة الأم؛ لأن العرب لا يعتنون إلا بالأقارب، من جهة الأب وبهم يتناصرون. قال القاضي الحسين: وهذا ما ذكره الشافعي- رضي الله عنه- في أثناء الباب وصححه بعضهم، والذي ذكره في طرف الباب يدل على أنه لا فصل بين أن يكون الموصي عربياً أو غير عربي، وصححه آخرون، والصحيح ما ذكره الشيخ، وعلى هذا: إذا كان له أب أو جد يعرف به عند الناس، صرف إلى [من ينسب إلى] ذلك الذي عرف به دون من ينسب إلى أب ذلك أو على أخيه، مثاله: إذا أوصى لأقارب الشافعي- رضي الله عنه- فإنه يدفع إلى من ينسب إلى شافع بن السائب بن عبد يزيد [بن هشام بن عبد المطلب بن عبد] مناف، دون من ينسب إلى السائب أو إلى علي والعباس أخوي شافع، و [لا] إلى أولادهما؛ لأنهم لا يعرفون بقربته، وهذا في زمن الشافعي. [أما إذا أوصى موص لأقارب بعض أولاد الشافعي] دون غيرهم من أولاد شافع، وعلى هذا القياس، وهكذا الحكم في جانب الأم إذا لم تكن من قبيلة الأب فيعتبر في جنبتها ما ذكرناه في جنبة الأب، فكل من تنسب إليه الأم من الأب المشهور فإنه قرابتها، وإن كانت الأم من قبيلة الولد، قال في البحر: فنسب الجميع واحد. والحكم فيهما إذا أوصى لذي رحم فلان أو لأرحامه، كالحكم فيما إذا أوصى لقرابته. قال الرافعي: و [في] هذا اللفظ يدخل أقارب الأم بلا خلاف. أما إذا كان قرابته غير محصورين، فهو كما لو أوصى لقبيلة كبيرة.

ولو لم يكن له إلا قريب واحد، فوجهان: أصحهما: أنه يصرف إليه الجميع؛ لأن المقصود منه الصرف إلى جهة القرابة. والثاني: لا يصرف إليه إلا ثلث الموصي به؛ لأن أقل الجمع ثلاثة. وحكى الأستاذ أبو منصور وجهاً آخر: أنه يكون له النصف. فرع: لو أوصى لأقارب نفسه، فإنه لا يصرف للوارث [منهم]؛ لأن الوصية إليه غير صحيحة، قال القاضي والمتولي: ولا يقال: إنها تقسم على الجميع ثم تبطل الوصية في حصة من يرث، وغيره من المراوزة قال ذلك [وحكاه] وجهاً مع الأول، وقال الرافعي: لك أن تقول: وجب أن يختص الوجهان بقولنا: إن الوصية للوارث باطلة؛ أما إذا قلنا بأنها موقوفة على الإجازة فليقطع بالوجه الثاني. قال: وإن وصى لأقرب الناس إليه لم يدفع إلى الأبعد مع وجود الأقرب؛ عملاً بمقتضى اللفظ. نعم: لو أوصى لجماعة من أقرب قراباته، وكان الأقرب واحداً أو اثنين، قال ابن الصباغ: اشترك معه من دونه ليتم العدد؛ أي: الذي يصدق عليه أقل الجمع وهو ثلاثة، كما صرح به المتولي، فإذا خلف ابنين وابن ابن [ابن] دُفِعَ للابنين الثلثان ولابن ابن الابن الثلث، وإن كانوا ابنا، وابن ابن، وابن ابن ابن- دفع إليهم، وإن كان له ولد وأولاد بنين، دفع إلى الأكبر الثلث، والباقي لأولاد البنين بالسوية، وكذلك لو كان له ابنان وأولاد بنين دفع للابنين الثلثان، والثلث الباقي بين أولاد الابن بالسوية، والاعتبار عند اجتماع جماعة من القرابة من أولاد الأولاد وأولاد الإخوة، وأولاد الأعمام والأخوال والخالات- بالجهة لا بقرب الدرجة، فجهة الولادة مقدمة على جهة الأخوة، وجهة الأخوة مقدمة على جهة العمومة والخئولة، نعم قرب الدرجة معتبر في الجهة الواحدة. فرع: إذا اجتمع في الدرجة الأولى عشرة، فهل يجوز الاقتصار في الصرف إلى ثلاثة منهم، أو [يجب] بقيمتهم؟ فيه وجهان جاريان في الرتبة الوسطى

والسفلى، أصحهما في التتمة الأول، وهو ظاهر نصه في الأم، كما حكاه في البحر؛ حيث قال: دفع ذلك إلى ثلاثة من أقرب قراباته، واختاره، وبذلك أجاب البندنيجي في تعليقه، وشبهه بما إذا [أوصى إليه] أن يدفع للفقراء، وعليه يدل قول الإمام فيما إذا لم يكن من أقرباء الموصى له إلا واحد، أنه يجوز دفع جميع الثلث [إليه]؛ لأن الجميع ليس مقصوداً، وإنما المقصود الصرف إلى جهة القرابة. وكلام القاضي في المجرد يدل على الثاني؛ فإنه قال: إذا كان الأخ وبنو الإخوة، فإنه يدفع إلى الأخ الثلث، والباقي يدفع لبني الإخوة ويسوي بينهم فيه؛ لأنهم استووا في القرابة، وهو الذي رجحه ابن الصباغ؛ لأن مقابله يؤدي إلى أن يكون الموصى له مجهولاً، [قال] ويخالف ما إذا أوصى للفقراء؛ لأنهم لا ينحصرون، ولأن الوصية تقع للجهة دون الأعيان، وقال الرافعي: كان الأشبه أن يقال في مثل هذه الوصية: إنها وصية لغير معين؛ لأن لفظ الجماعة منكر؛ فصار كما لو أوصى لأحد الرجلين أو الثلاثة، لا على التعيين من جماعة معينين. قال: وإن اجتمع الأب والابن قدم الابن في أحد القولين؛ لأنه أقوى في التعصيب؛ بدليل تقديمه عليه في الإرث، وهذا هو المذهب. قال الرافعي: ولم يورد طوائف سواه، وبه جزم أكثر الأئمة في نظير المسألة من الوقف. قال: ويسوى بينهما في الآخر؛ لاستوائهما في القرب من الميت، وهذا أصح في الجيلي. وقال ابن الصباغ: لا نظر إلى الإرث؛ ألا ترى أن الأب والابن، والأم والبنت في ذلك سواء، وإن اختلفا في الميراث، وكذلك أب الأب وأب الأم يستويان، وهذه طريقة القاضي في المجرد، وغيره حكى الخلاف في المسألة وجهين. قال مجلي: وينبغي أن يجري الخلاف في دخول الأب والأم في دخولهما في الوصية. قال: وإن اجتمع الجد والأخ، أي: من الأبوين أو من أحدهما، [كما صرح به] المتولي والبغوي والعراقيون- قدم الأخ في أحد القولين، وهو الأصح

في الرافعي، ومنهم من قطع به؛ لأن تعصيبه تعصيب الأولاد؛ فقدم عليه كالابن، فعلى هذا يقدم ابن الأخ على الجد، والعم والعمة على أبي الجد، والخال والخالة على جد الأم وجدتها، ويسوى بينهما في الآخر؛ لاستوائهما في القرب والإدلاء بالأب، وهذا أصح في الجيلي؛ فعلى هذا يقدم الجد والجدة من الأب أو الأم على ابن الأخ، والعم والعمة وأبو الجد وأم الجد سواء، وكذا الخال والخالة وجد الأم وجدتها سواء. وفي البحر والحاوي [حكاية] وجه ثالث: أن جد الأب أو جدة الأب أولى من العم والعمة والخال [والخالة]. قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون ها هنا الأخ من الأم مع الجد كالأخ من الأب، وبه صرح المتولي وصاحب البحر، وكذلك غيرهما في نظير المسألة من [كتاب] الوقف، وأن الأخ من الأب كالأخ من الأم، والجد للأب كالجد للأم فيما ذكرناه، وأن الأخ من الأبوين مقدم على الأخ من أحدهما، وحكى الإمام في كتاب النكاح أن بعض الأصحاب أثبت في ذلك قولين كما في ولاية النكاح. قال الرافعي: وهذا ذكره الحناطي. قلت: وكذلك الماوردي في نظير المسألة من الوقف، لكن الجمهور في الوقف، وهذا على الأول، وبه جزم الماوردي هنا، وسنذكر دليله في قسم الفيء، إن شاء الله تعالى. والأخت فيما ذكرناه كالأخ، صرح به في البحر، والأعمام

والعمات والأخوال والخالات في درجة واحدة، وكذا أولادهم مستوون، ولو كان لإحدى الجدتين قرابتان فهل تقدم بهما أم لا؟ فيه وجهان في الشامل، وقال: إنه ذكر هذين الوجهين في ميراثها، والمشهور في ميراثها من الخلاف: أنها تأخذ نصيبين، والجدة التي معها تأخذ نصيباً ويقدر كأنهما ثلاث جدات، كما ستقف عليه. ولو اجتمع جد جد وابن عم، ففيه وجهان: أحدهما: جد الجد أولى. والثاني: ابن العم أولى. فرع: [إذا] أوصى لأهله، دخل فيه الأقرباء، ولا يدخل المعتق والرضيع، وهل يدخل الزوج والزوجة؟ فيه وجهان. ولو أوصى لعصبته، دخل المعتق، ولو أوصى لمناسبه، فهم من [نزل عن درجة الموصي من أولاده الذين يرجعون إليه في نسبهم دون من علا من آبائه، وهل تدخل] أولاد بناته؟ فيه وجهان، الأشبه في البحر: عدم الدخول. ولو قال: ادفعوا ثلثي إلى من أناسبه، دخل فيهم الآباء دون الأبناء، ودخل فيهم الإخوة والأعمام، وهل يدخل الأجداد والجدات؟ فيه وجهان، ولا يدخل الأخوال والخالات وإخوة الأم. ولو أوصى لورثة زيد فالوصية موقوفة حتى يموت زيد، ثم تدفع إلى من يرثه. قال: وإن أوصى لجيرانه صرف إلى أربعين داراً من كل جانب؛ لما روى أبو هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حَقُّ الْجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَاراً: هَكَذَا، وهَكَذَا، وهَكَذَا، وهَكَذَا؛ يَمِيناً وَشِمَالاً، وَقُدَّاماً وَخَلْفاً". وفي الحاوي في كتاب الوقف: أن مذهب الشافعي- رضي الله عنه-: أنهم من نسبوا إلى سكنى محلته، وسواء كان منهم مالكاً أو مستأجراً.

وعن بعض أصحابنا أن الجار هو الذي يلاصق داره [داره]. وقال الأستاذ أبو منصور: من يلاصق داره [داره] [من الجوانب جار، فيمن ليس بملاصق: فالذي باب داره حذاء باب داره]، والذين هم في زقاق واحد غير نافذ، [وفيه] اختلاف للأصحاب. فرع: لو كان للموصي داران، فإن كان سكناه فيهما واحداً، يصرف إلى جيران الدارين، وإن كان سكناه في إحداهما أكثر، كان الحكم للأكثر. قال: وإن وصى لفقراء بلده استحب أن يعمهم؛ ليعم الفضل ويشمل، ويصرف لكل منهم قدر كفايته إن أمكن، ويجوز أن يصرف [للمساكين، كما يجوز أن يصرف] ما وصى به للمساكين إلى الفقراء. وحكى ابن الصباغ عن أبي إسحاق المروزي حكاية قول: أنه يجوز صرف ما وصى به للمساكين إلى الفقراء دون العكس؛ لأن الفقير أشد حالاً من المسكين وكذلك رواه في الرقم عن النص، والأصح الأول. قال: فإن اقتصر على ثلاثة منهم جاز، أي: إذا لم يكن فقراء البلد محصورين؛ لأن عرف الشرع ثبت كذلك في الزكاة؛ فحملت الوصية عليها، فلو لم يكن في البلد فقير ولا مسكين، لغت الوصية، قاله القاضي الحسين. أما إذا كان الفقراء محصورين، اشترط استيعابهم والتسوية بينهم، واشترط قبولهم، ذكره في التهذيب وغيره، وعلى ذلك ينطبق قول الماوردي: إنه لو أوصى إلى أهل بلد: فإن كان صغيراً جاز، ووجب تعميمهم، وإن كان كبيراً كالبصرة، فهو [كالوصية للقبيلة] الكبيرة، ولو أوصى بثلثه للفقراء صرف إلى فقراء بلده. وهل ذلك على سبيل الإيجاب أو الاستحباب؟ فيه خلاف مرتب على نقل الصدقة، وأولى بالجواز، وهذه طريقة الماوردي والغزالي وغيرهما، وأطلق القاضي الحسين الخلاف من غير ترتيب، والقاضي أبو الطيب قال: يجب الصرف إليهم كما في الزكاة، وهو الذي حكاه البندنيجي [عن نص الشافعي- رضي الله عنه-.

وعلى هذا، يجب أن يكون قوله: أوصيت للفقراء بمائة] كقوله: أوصيت لفقراء هذه البلدة، وقد تقدم. وقد أشار إلى ذلك الرافعي، وعضده بأن الأستاذ أبا منصور ذكر في الوصية للغارمين: أنه يعطي ثلاثة منهم، إن كانوا غير محصورين، وإن كانوا محصورين استوعبوا، فإن اقتصر [القاضي] على ثلاثة [منهم] فتجزئه أو يضمن حصة الباقين؟ جعله على جوابين، إن قلنا بالثاني، فالحساب على قدر ديونهم أو على عدد رءوسهم؟ فيه وجهان. فرع: لو دفع الوصية إلى شخصين من الفقراء، ضمن نصيب الثالث، وفيه مثل الخلاف المذكور في الزكاة، والمنصوص عليه في الأم في هذه المسألة- كما قال الماوردي-: أنه يضمن الثلث. قال القفال: ولا يجوز للوصي أن يدفع ما يغرمه للفقير نفسه، بل يدفعه [إلى الحاكم]؛ ليدفعه إليه، فإن دفعه إليه [بنفسه] لم يبرأ، وإن أمره الحاكم بدفعه إلى فقير فدفعه إليه برئ. قال الإمام: وهذا حسن ظاهر. قال: وإن أوصى بالثلث لزيد وللفقراء، فهو كأحدهم؛ لأنه ألحقه بهم في الإضافة، وذلك يقتضي التسوية، وهذا نصه ها هنا؛ حيث قال: [القياس]: أنه كأحدهم. قال الرافعي: وأراد القياس على ما إذا أوصى لزيد وأولاد عمرو، فإن زيداً يكون كأحدهم. وقد اختلف الأصحاب في قوله: "كأحدهم" على أوجه: أحدها: أن للموصي أن يعطي سهماً من سهام القسمة، فإن قسم المال على أربعة من الفقراء، دفع إليه الخمس، وإن قسمه على خمسة دفع إليه السدس، وعلى هذا القياس، وهذا تقرير الأستاذ أبي منصور، وقال البندنيجي: إنه المذهب. والثاني: أنه كأحدهم: بمعنى أنه رابعهم؛ لأن أقل ما يجوز أن يصرف إليه من

الفقراء ثلاثة أسهم؛ فيدفع إليه الربع، والباقي يصرف للفقراء بالتساوي أو التفاضل كما يراه، وهذا ذكره في الإفصاح. والثالث: أنه يكون كأحدهم: بمعنى أنه يعطى جزءاً وإن قل. قال في البحر: وهذا ظاهر كلام الشافعي- رضي الله عنه- وأبي إسحاق، وهو الصحيح، ويكون فائدة ذكره: أنه لا يحرم، وأن يعطى وإن كان غنياً، ويجوز أن يعطى إلى ثلاثة منهم، وزيد أحدهم. انتهى. وما ذكره آخراً يفهم جواز دفع الثلث إلى ثلاثة، زيد أحدهم، وإن كان غنياً، وهو ما صرح به القاضي أبو الطيب في تعليقه، وأفهمه كلام ابن الصباغ. حيث قال: وينبغي أن يقال: إذا كان غنياً لا يجوز أن يكون من جملة من يقتصر عليه من الفقراء؛ فيكون ثلاثة غيره، وهذا ما جزم به في الحاوي، وأسقط هذا القول في حال غنى زيد؛ ولأجل ذلك قال صاحب البحر: وقد قيل: إن كان [غنياً] لا يجوز أن يجعل كأحدهم؛ لأن مخالفته في صفتهم تقتضي مخالفته في حكمهم. وعلى هذا ينطبق ما قاله المتولي: أنه ينصرف إليه الثلث إن كان فقيراً، والربع إن كان غنياً. وعلى ما حكاه القاضي أبو الطيب: أنه لا فرق بين الغني والفقير، وعلى هذا القول يكون له الثلث، [وكذلك صرح به]. قال: وقيل: يدفع إليه نصف الثلث، كما لو أوصى لزيد وعمرو وللفقراء والمساكين، فإنه يقسم بين النوعين نصفين. وقد روى أبو عبد الله في شرح التلخيص هذين القولين منصوصين؛ لأنه نص في كتاب اليمين مع الشاهد: أنه كأحدهم، ثم قال: وقد قيل: إنه له النصف. وغيره نسب القول الثاني إلى أبي إسحاق. وعن البندنيجي أنه حكى عن أبي إسحاق أنه قال في الدرس: إن كان زيد

فقيراً [فهو كأحدهم، وغلا] فله النصف. وهذا كله إذا لم يصف زيداً بالفقر، أما إذا قال: لزيد الفقير وللفقراء، أجري الخلاف فيما لزيد إن كان فقيراً. ومنهم من خصص الخلاف بهذه الحالة، وبقي القول بكونه كأحدهم عند الإطلاق، وإن كان غنياً لم يصرف إليه شيء، ويصرف للفقراء؛ إن قلنا: إنه كأحدهم، وإلا فهو لورثة الموصي. ولو وصف زيداً بغير صفة الجماعة، فقال: لزيد الكاتب وللفقراء، فعن الأستاذ أبي منصور أن له النصف قولاً واحداً. وفي الزوائد حكاية عن الشيخ أبي حامد في الشرح رواية وجه: أنه إذا أوصى لزيد وللفقراء، كانت الوصية لزيد باطلة؛ لجهل القدر الذي يصرف إليه. فروع: لو أوصى لزيد وللفقراء والمساكين، فإن جعلناه فيما تقدم كأحد الفقراء، فكذلك ها هنا، وإن جعلنا له النصف فله هنا الثلث، وإن جعلنا له ثَمَّ الربع، فله هنا السبع. ولو كان له ثلاث أمهات أولاد، فأوصى بثلث ماله [لهن] وللفقراء والمساكين، فالمذهب: أن لكل صنف ثلث الثلث. وفي التتمة: أنه حكى عن أبي علي الثقفي من أصحابنا: أنه يقسم الثلث على خمسة. ولو أوصى لزيد بدينار وبثلث ماله للفقراء وزيد فقير، لم يجز أن يعطى غير الدينار، وبه جزم في الحاوي. وفي البحر وجه آخر عن رواية الحناطي: أنه يجوز أن يجمع له بين ما أوصى له به وبين شيء آخر من الثلث. ولو أوصى بثلث ماله لحي وميت، [ولجبريل والملائكة والشياطين والحائط والرياح]، أو لمن يملك ولمن لا يملك، [فالوصية للميت] باطلة، وفيما

يملكه الحي وجهان: أحدهما: جميع الثلث. والثاني: إن كان المسمى معه ميتاً أو جبريل أو حائطاً، فله نصف الثلث، وإن كان المسمى معه الملائكة أو الشياطين أو الرياح فله النصف أو الربع، أو للوصي أن يعطيه أقل ما يتمول فيه، [على] الخلاف المذكور فيما إذا أوصى لزيد وللفقراء. وفي الحاوي: الجزم بأنه إذا أوصى له ولجبريل: أنه لا يستحق إلا نصف الثلث والنصف للورثة، وعلى ذلك جرى [في] المهذب. وفيما إذا أوصى بثلثه لزيد والملائكة وجهان: أحدهما: لزيد نصف الثلث. والثاني: الربع ويرد الباقي إلى الورثة. وفيما إذا أوصى لزيد والشياطين ثلاثة أوجه: أحدها: جميع الثلث. والثاني: النصف. والثالث: الربع، ويرد الباقي على الورثة. وفيما إذا أوصى بثلثه لزيد والرياح، كان فيما لزيد وجهان: أحدهما: جميع الثلث. والثاني: النصف، وحكاه في المهذب أيضاً. ولو أوصى بثلثه لله تعالى ولزيد، فوجهان: أحدهما: أن جميع الثلث لزيد. والثاني: لزيد نصف الثلث؛ وفي النصف الآخر وجهان في الحاوي: [أحدهما] يصرف في سبيل الله، وهم الغزاة. والثاني: في الفقراء والمساكين.

وحكى الرافعي عن الأستاذ أبي منصور أنه قال: يصرف في سبيل الله، وتصرف في وجوه القرب. وعن ابن القاص: أن النصف يرجع إلى ورثة الموصي. ولو أوصى لزيد ولحمار عمرو بالثلث، قال ابن أبي أحمد: كان النصف لزيد، وأما النصف المسمى للحمار، فينظر: إن قصد تمليك الحمار، فالوصية به باطلة، وإن أطلق ومات قبل البيان، سئل ورثته، فإن قالوا: أراد بها تمليك الحمار، فالوصية باطلة، والقول قولهم مع أيمانهم، وإن قالوا: أوصى به؛ ليتملكه [ربه] ويصرفه في علفه والإنفاق عليه، جازت الوصية؛ إذا قبلها صاحبه بعد موت الموصي؛ وينفق عليها الوصي إن كان له وصي، وإن لم يكن فصاحب الدابة، وإن قالوا: لا ندري، حلفوا إنهم لا يعلمون ذلك، وبطلت الوصية. وفي الرافعي حكاية وجه فيما إذا أوصى لبهيمة، وصرح بأن الموصي به يصرف في علفها: أنه لا يشترط القبول، ووجهه: أنه إذا قبل مالكها، لا يجب عليه صرف ذلك إلى علفها. [قال:] فإن قلنا بوجوب صرفه وهو الذي يقتضي إيراد الماوردي ترجيحه، فيتولى الإنفاق [عليها] الوصي، فإن لم يكن فالقاضي [أو أمين] بأمره. قال: وإن أوصى لحمل هذه المرأة، دفع إلى من يعلم أنه كان موجوداً عند الوصية، أي بعد انفصاله حيّاً؛ إذ به يتحقق الاستحقاق، وذكر في جواز الوصية للحمل أنه لما مَلَكَ بالإرث [الذي هو] أضيق، ملك بالوصية التي هي أوسع. ثم العلم بوجوده حالة الوصية يحصل بأن تضعه لما دون ستة أشهر من حين الوصية، وكذا إذا وضعته لأكثر منها إلى أربع سنين، و [لا] هي تحت زوج ولا مولى بعد الوصية.

وقيل: لا يستحق في هذه الحالة، وقد حكاه القاضي الحسين في موضع قولاً، وفي موضع آخر عن قول الربيع، وحكى الأول عن النص، والذي صححه في التهذيب الثاني. وقال غيره: إنه ليس بشيء. ولا نزاع في أنها إذا وضعته لأكثر من أربع سنين من حين الوصية، أو لما دونها وفوق ستة أشهر، وكانت تحت زوج أو سيد يمكن أن يطأها- أنه لا يستحق. ثم إذا صحت الوصية: فإن خرج الحمل واحداً: صرف إليه، وإن كان أكثر: صرف الموصي به [إليهما] بالسوية، إلا أن يفضل الذكر على الأنثى أو بالعكس، فيتبع. وكذا لو قال: إن كان حمل هذه المرأة ذكراً، [فله دينار، وإن كان أنثى فله] ديناران، فإنه يتبع شرطه، فلو وضعت في هذه الحالة ذكراً وأنثى، يستحقهما، [ولو وضعت ذكرين أو جاريتين فهل يستحقان؟] فيه وجهان: أحدهما: لا، كما لو وضعت غلاماً وجارية. والثاني: يستحقان، وفي كيفية الصرف لهما ثلاثة أوجه سنذكرها. ولو قال: إن كان في بطنك ذكر فله دينار، وإن كان في بطنك أنثى فله ديناران، فخرج ذكراً وأنثى- استحقا ما شرط لهما؛ كما في مسائل الطلاق. ولو وضعت غلامين أو جاريتين صحت الوصية، وفيها ثلاثة أوجه حكاها ابن سريج: أحدها: [أن للورثة أن يدفعوا] الدينار أو الدينارين إلى أي الغلامين أو الجاريتين شاءوا. والثاني: أن الغلامين أو الجاريتين يشتركان فيما شرط لهما. والثالث: أن ذلك يوقف بينهما إلى أن يصطلحا. ولو وضعت الموصي لحملها ولداً حيّاً وآخر ميتأً: ففيه وجهان، حكاهما في

الزوائد [عن رواية الشيخ سهل]: أحدهما: للحي جميع الثلث. والثاني: نصفه. فرع: لا يصح قبول الوصية للحمل في حال اجتنانه من وليه، كما حكاه في التهذيب عن القفال، وحكى عن غيره في صحته قولين؛ بناءً على ما لو باع مال أبيه على ظن أنه حي فإذا هو ميت وأنهما جاريان فيما إذا أخذ الأب الشفعة لولده في حال اجتنانه ثم ظهر حيّاً، وبعد الوضع يصح. ولو تداعى اثنان بسبب الحمل؛ لكونهما وطئا أمة في طهر واحد وقبلا له مع بقاء الإشكال- صح؛ لأنا نتيقن أن أحدهما أبوه، [كذا] قاله القاضي الحسين في باب العدد. فرع: إذا أوصى لحمل هذه المرأة من زيد، فكل موضع ألحقنا الحمل بزيد، وعلمنا وجوده حالة الوصية، صرفت له الوصية. وإن لم نلحقه به فلا يصرف له. ولو ألحقناه به وتحققنا وجوده حالة الوصية، فنفاه؛ إما بدعوى الاستبراء أو باللعان، قال أبو إسحاق المروزي: يصرف الموصي به إليه. قال القاضي أبو الطيب: وهو المشهور، بعد أن حكى عن باقي الأصحاب: أنه لا يستحق شيئاً من الوصية. ووجَّه قول أبي إسحاق بأن حكم لعانه مقصور عليه، لا يتعداه إلى غيره؛ ألا ترى أن عدة الأمة تنقضي بوضعه. وقد نسب الماوردي قول البطلان إلى ابن سريج. قال: وإن وصى للرقاب، صرف إلى المكاتبين، وإن وصى لسبيل الله، صرف إلى الغزاة من أهل الصدقات؛ لأنه المفهوم من عرف الشرع؛ فحمل عليه. وأقل من يجوز الصرف لهم ثلاثة. ولو لم يكن في الدنيا مكاتب، حكى القاضي أبو الطيب في تعليقه عن الشافعي: أنه يوقف الثلث؛ لجواز أن يُكاتَب عبيدٌ بعد ذلك؛ فيدفع إليهم.

وأبدى في البحر احتمالاً في بطلان الوصية، وكلامه يفهم أن الاحتمال لأبي الطيب. فرع: إذا قال: أعتقوا بثلثي رقاباً، فإن كان ثلث ماله يبلغ ثمن ثلاث رقاب، اشتُرُوا وعتقوا، وإن كان لا يبلغ إلا ثمن رقبتين اشتريتا وأعتقتا، وإن كان يبلغ ثمن رقبتين ويفضل: فإن كان الفاضل لا يبلغ أن يشتري به شقصاً من رقبة، [وأمكن أن يَشترِي رقبتين غاليتين- فعل، فإن فضل عن ثمن أغلى رقبتين، بطلت الوصية فيه، وفيه وجه: أنه يوقف إلى أن يوجد شقص يشتري به، وإن لم يمكن أن يشتري بجميع الثلث رقبتين غاليتين] وأمكن أن يشتري [به] رقبتين وشقصاً من رقبة- فعل، وفيه وجه: أنه لا يشتري وتبطل الوصية بتلك الزيادة، وهذا يحكى عن أبي إسحاق [وجعله الغزالي أظهر. وإن أمكن الأمران جميعاً، فأيهما يفعل؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو قول أبي إسحاق] والأظهر عند الغزالي-: أنه يشتري به شقصاً من آخر. والثاني- وبه قال ابن سريج وهو الأظهر عند عامة الأصحاب، وظاهر النص-: أن يُشْتَرىَ به رقبتان نفيستان. فرع: لو أوصى للخيرات أو البر أو الثواب، فالحكم كما لو وقف على هذه الجهات، وقد ذكرناه في الوقف. قال: وإن أوصى لعبد فقبل، دفع إلى سيده، كما لو اصطاد أو احتطب أو احتش. وهل يستقل العبد بقبولها دون إذن السيد؟ فيه وجهان: المذهب منهما في تعليق البندنيجي: نعم. واختيار الإصطخري: لا. قال في البحر: وعليهما ينبغي الاكتفاء بقبول السيد دون العبد: فإن قلنا بالأول، لم يجز، وبه جزم البندنيجي، وإن قلنا بالثاني، جاز ولا ترد الوصية برد

العبد، كما حكاه الإمام. ثم على الصحيح: لو منع السيد العبد من القبول فقبل، قال الإمام: الظاهر عندي الصحة وحصول الملك للسيد؛ كما لو نهاه عن الخلع فخالع، وإن قلنا: لا يصح من غير إذنه، فلو رد السيد فهو أولى من عدم الإذن، فلو بدا له أن يأذن في القبول [بعد ذلك، فالذي يظهر أنه لا أثر لذلك؛ فإنا على قول اعتبار الإذن في القبول نقيم قبول السيد] مقام قبول العبد، فكذلك، ينبغي أن يقام رده مقام رده. ثم السيد الذي يدفع الموصي به إليه، [هو مالكه عند الموت أو القبول، فلو أوصى له وهو ملك زيد فباعه، ثم مات الوصي] وقبل العبد- كان الموصي به للمشتري دون البائع؛ كذا حكاه الرافعي عن القاضي أبي الطيب في الركن الرابع من القسامة، وحكاه في البحر هنا، وألحق به ما لو أوصى لعبد وارثه، فباعه الوارث، ثم مات الموصي، كانت الوصية صحيحة، ويسلم الموصي به للمشتري إذا قبل العبد، بخلاف ما لو أوصى لعبد نفسه، ثم باعه من أجنبي، ثم مات الموصي، فإن الوصية لا تصح؛ لأنها لم تنعقد لعبد نفسه أصلاً. وفيما قاله نظر من وجهين: أحدهما: أن البندنيجي قال: الوصية لعبد نفسه وصية لعبد وارثه في الحقيقة؛ لأنه يكون لوارثه بعد الموت، فأي فرق بينهما؟! والثاني: أن الرافعي حكى عنه في الركن الرابع من القسامة: أنه لو أوصى لعبد نفسه، ثم أعتقه قبل أن يموت، تصح الوصية، والبيع من الأجنبي كالعتق. وقد صرح الرافعي: بأن الموصي إذا باع عبده الموصى له قبل موته، كانت الوصية للمشتري، [وإن] أعتقه، كانت الوصية للعتيق، ولو باع الأجنبي العبد الموصي به أو أعتقه بعد موت الموصي وقبل القبول، فإن قلنا: الملك لا يحصل إلا بالقبول، فالملك للمشتري أو للمعتق، وإن قلنا: يحصل بالموت

ناجزاً، أو تَبَيُّنَاً، فهو للبائع أو للمعتق إذا لم يكن وارثاً، وإن كان وارثاً فهي كالوصية للقاتل، كذا أبداه الغزالي لنفسه. فروع: الوصية لأم الولد صحيحة، وكذا للعبد بنفسه أو بعضها، وهل يفتقر عتقه بعد الموت إلى القبول؟ المشهور: نعم، وللإمام احتمال في عدم اشتراطه. وفي البحر في آخر باب الكتابة: أنه لو أوصى لعبده بثلث ماله، قال بعض أصحابنا بخراسان: فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يصح. والثاني: يصح بثلث نفسه فقط. والثالث: يصح بجميع ثلثه، وتُقَدَّمُ نفْسُهُ عليه. وفي الرافعي وجه آخر عزاه إلى ابن الحداد وجعله الأظهر: أن رقبته تدخل في الوصية، ويكون الحكم كما لو قال: أوصيت له بثلث رقبته وثلث سائر أموالي. والحكم في هذا كما لو أوصى لمن بعضه حر وبعضه رقيق لوارثه، وسنذكره. والوصية للمدبر إن خرج كله من الثلث، صحيحة، ولو خرج بعضه قال في الحاوي: صح من الوصية له بقدر ما عتق منه، وبطل منها بقدر ما رق منه. وقال في البحر: قال سائر أصحابنا: إذا رق بعضه، بطلت الوصية، وعلى ذلك جرى البندنيجي. وقال الرافعي: إن وفى الثلث بقدر الأمرين من الوصية والرقبة؛ بأن كانت الوصية بمائة ورقبة المدبر بمائة، وهو [يملك مائة أخرى- فوجهان: أحدهما- وبه أجاب الشيخ أبو علي]-: أنه يقدم رقبته؛ فيعتق كله، ولا شيء له من الوصية. الثاني- وهو أصح في التهذيب-: يعتق نصفه، والوصية [وصية] لمن بعضه حر وبعضه رقيق للوارث. وإن لم يف الثلث بالمدبر، عتق منه بقدر الثلث، وصارت الوصية وصية لمن

بعضه حر وبعضه رقيق للوارث، والحكم فيه: أنه إن لم يكن بينهما مهايأة، أو كانت وقلنا: لا تدخل الوصية فيها، فهي وصية لوارث؛ لأن ما ثبت له بالوصية يكون نصفه للوارث؛ ولهذا قلنا: لا يرث؛ لأنه لو ورث شيئاً لملك [السيد] بعضه وهو أجنبي عن الميت، قال الإمام: وكان يحتمل أن تتبعض الوصية، كما لو أوصى بأكثر من الثلث. وإن جرت بينهما مهايأة، وقلنا بدخول الوصية فيها: فإن قلنا: الاعتبار بيوم الوصية، فإن كان في يوم السيد فهو وصية لوارث، وإن كان في يوم العبد فهي صحيحة. وهكذا إن قلنا: الاعتبار بيوم الموت، كما هو الظاهر من المذهب، ووجد [الموت] في يوم أحدهما. ولو أوصى لمن نصفه رقيق لأجنبي ونصفه حر، فإن لم يكن بينهما مهايأة، وقبل بإذن السيد فالموصي به بينهما بالسوية، وكذا إن كان بغير إذنه، وقلنا: لا يفتقر العبد في قبولها إلى إذن السيد، وإن قلنا: يفتقر، بطل في نصف السيد، وفي نصفه وجهان، وجه المنع: أن ما يملكه ينقسم على نصفيه، فيلزم دخول نصفه في ملك السيد بغير رضاه. ولو كانت بينهما مهايأة وقلنا: لا تدخل فيها الأكساب النادرة، فالحكم كما تقدم، وإن قلنا: تدخل، فلا حاجة إلى إذن السيد في القبول. ثم الاعتبار بأي وقت؟ قد سبق الكلام فيه في باب اللقيط، وهذا إذا أطلق الوصية [له]، أما إذا قال: أوصيت لنفسك الرقيق أو الحر خاصة، فعن القفال: أن الوصية باطلة، ولا يجوز أن يوصي لبعض شخص، كما لا يجوز أن يرث بعض شخص. وعن غيره: أنها تصح، ويتبع شرطه. ولو أوصى لمكاتب نفسه أو لمكاتب وارثه، صح، جزم به البندنيجي.

وحكى في البحر عن ابن أبي أحمد في التلخيص: أنه لا تجوز الوصية لمكاتب وارثه، وأن القفال قال: إنه غلط، بل تجوز؛ كما تجوز لمكاتب نفسه، فلو عجز المكاتب نفسه قبل موت الموصي بطلت الوصية، بخلاف مكاتب الأجنبي إذا أوصى له وعجز نفسه، فإنها [لا] تبطل. قال في البحر: وكانت لمولاه. وقال في الحاوي: إن لم يكن أخذها فهي مردودة؛ لأنه صار عبداً. قال: وإن أوصى بعتق عبد، عتق عنه ما يقع عليه الاسم؛ لعموم اللفظ، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد، وبه جزم القاضي الحسين. وقيل: لا يجزيه إلا ما يجزئ في الكفارة؛ لأنه عرف الشرع، وهذا ما اختاره أبو الحسن الماسرجسي والقاضي الطبري، كما حكاه عنه في البحر. وهل يجوز على هذا أن يعتق الخنثى؟ فيه وجهان في الحاوي، ويجوز للموصي أن يعتق عنه [أبا] نفسه سواء كان العتق تطوعاً [أو واجباً.

قال الماوردي: ولو اشترى أبا الموصي وأعتقه فإن كان عن واجب، لم يجز، وإن كان تطوعاً أجزأ و] المستحب أن يشتري العبد المأذون المترفه عند مالكه والعبد الضعيف أولى من غيره، ولو أوصى بشراء جارية وتعتق عليه، ففعل الوصي ذلك، ثم ظهر دين مستغرق للتركة، فإن وقع الشراء بعين المال، فالعقد باطل، وإن وقع في الذمة ولم يسم الموصي في العقد وقع الشراء للمشتري. قال في البحر: وعتق عليه، كما لو أعتق مملوكه؛ ظاناً أنه مملوك غيره، وجزم في الشامل وتعليق البندنيجي والقاضي أبي الطيب والحسين، بأن عتقه عن الميت [لأنه أعتقه عن الميت]، وإن كان يملكه، فكل من أعتق عبد نفسه عن غيره بإذنه، كان العتق واقعاً عن ذلك الغير. قال في البحر: وهذا عندي خطأ؛ لأنه أمره بالإعتاق عنه فيما يشتريه له ويصح الشراء له، وها هنا لم يصح الشراء له؛ فلا يتناوله إذن الميت، ومن أعتق عن غيره بغير إذنه لا يعتق عنه عندنا. ولو أوصى ببيع عبد من تركته، وأن يشتري بثمنه جارية ويعتقها عنه، ففعل الوصي ذلك، ثم اطلع مشتري العبد على عيب قديم فرده- فللوصي أن يبيع ذلك العبد المردود على الأصح، ويؤدي من ثمنه ما قبضه ثمناً عنه أولاً، وفيه وجه: أنه لا يجوز له البيع، فعلى الأول: [إن وفى ثمنه الثاني الأول فلا] كلام، وإن كان الأول ألفاً والثمن الثاني تسعمائة؛ لمكان العيب، فعلى من يكون النقصان؟ فيه وجهان: أحدهما: على الوصي؛ لتفريطه. والثاني: أنه على ذمة الميت. ولو زاد الثمن الثاني على الأول، بأن بلغ [ألفاً ومائة]: فإن كان لأجل ارتفاع الأسواق، ولا لحدوث ديون، فقد بان لنا أن البيع الأول جرى بالغبن؛ فكان باطلاً. وحينئذ فإن كان شراء الجارية واقعاً في الذمة، فينصرف إلى الوصي، والعتق

واقع [عليه]، وعليه ألَّا يشتري بتمام ثمن العبد جارية فيعتقها عن الموصي، وإن كان شراء الجارية وقع بعين ما قبض، فلا يصح العقد ولا ينفذ العتق. كذا حكاه الإمام في أواخر باب بيع الكلاب. قبل كتاب السلم. قال: وإن قال: أعطوه رأساً من رقيقي، ولا رقيق له عند الموت، أي: إما لموتهم أو قتلهم، مع وجودهم [في] حال الوصية، أو لعدم وجودهم [حال الوصية]، واستمرار ذلك إلى الموت. قال: بطلت الوصية؛ لعدم إمكان الوفاء بها، وما يوجد من القيمة عند الإتلاف، فليس بموصى به، ولا هو بُدل ما تعلق به حق لازم. وفي الحاوي [وجه]: أنهم إذا قتلوا تعلق حقه بقيمة أحدهم، ولو كان له رقيق صحت الوصية؛ لأن غاية الأمر أنها وصية بمجهول، وللوارث أن يدفع إليه ما ينطلق عليه الاسم من: صغير وكبير، وذكر وأنثى، وسليم ومعيب، ومسلم وكافر. وهل يجوز أن يعطي خنثى؟ حكى القاضي الحسين عن المزني: أنه يعطي، وعن باقي الأصحاب: لا؛ لأن العرف لا يقتضيه، وهذا ما حكاه الماوردي عن الربيع، وحكاه الإمام وجهاً عن رواية صاحب التقريب، وأنه عرى عن التحصيل، لا اعتداد به، وجعل مقابله المذهب الصحيح، وعلى ذلك جرى الرافعي والروياني في البحر، وهذا إذا كان الرقيق موجوداً عند الوصية أيضاً. ولو لم يكن ففيه الخلاف السابق فيما إذا أوصى بألف أو عبد لا يملكه، وإيراد ابن الصباغ يفهم حكاية خلاف فيه، وإن صححنا ثم؛ لأنه قاس وجه الصحة على [ذلك]. وقال في وجه المنع: لأن ذلك يقتضي وجود الرقيق له في حالة الوصية. وعلى الخلاف يخرج ما إذا كان له رقيق عند الوصية، وتجدد له رقيق عند

الموت، هل يجوز أن يعطى من الثاني؟ وحكى الإمام عن بعض أصحابنا وجهاً آخر: أن للورثة الخيار في أن يعطوه العبد. ولو لم يكن له إلا رأس واحد وقال: أعطوه رأساً من رقيقي، ففيه وجهان في التتمة: أحدهما: البطلان. والمذكور منهما في تعليق البندنيجي: صحة الوصية، وتعين العبد، وهو المذهب؛ كما حكاه من تلقى عن الإمام. وفي كلام الشيخ إشارة إليه من بعد، والحكم عند القاضي أبي الطيب، فيما [إذا قال: أعطوه رأساً من عندي، كالحكم فيما لو قال: رأساً من رقيقي. وعند القفال وغيره: لا يجوز أن] يعطى جارية، وهل يجوز أن يعطى خنثى قد بانت ذكورته؟ فيه وجهان؛ كذا حكاه في البحر. قال: وإن قال: أعطوه عبداً من مالي اشْتُرِي [أي: إن لم يكن له عبد] ودفع إليه؛ لاقتضاء اللفظ ذلك. أما إذا كان له عبيد، فالورثة مخيرون بين أن يعطوه عبداً منهم، وبين أن يشتروا له عبداً ولو [كان] معيباً؛ كما قاله القاضي الحسين. وحكى الإمام عن بعض أصحابنا أنه لم يُجوِّز أن يُشتَرى له معيبٌ إذا كان الموصي قد قال: اشتروا له عبداً من مالي؛ لأن لفظ الشراء يقتضي سلامة المشتري. ثم قال: ورأيت في بعض التصانيف رمزاً إلى أنه يتعين تسليم عبد من الموجودين؛ إذا كانوا في التركة، وهذا غير معتد به. ولو قال: أعطوه عبداً، ولم يقل: من مالي، فالمذهب أن الوصية تصح، ويكون كما لو قال: من مالي.

وفي التتمة وجه: أنها لا تصح. قال: وإن قال: أعطوه رأساً من رقيقي، فماتوا كلهم، أي [في حياة] الموصي، أو قتلوا إلا واحداً- تعينت فيه الوصية، أي: وإن كان أكثرهم قيمة؛ كما قاله القاضي الحسين؛ لأن الوصية تعلقت بالرقبة؛ فلم يكن للورثة العدول عنها مع القدرة عليها، ولأن حقه تعلق بواحد لا بعينه؛ فأشبه ما لو قال: بعتك صاعاً من هذه الصبرة فتلفت إلا قدر صاع؛ فإنه يتعين البيع فيه؛ فكذلك ها هنا، وهذا ما نسبه البندنيجي إلى أبي إسحاق، وبه جزم ابن الصباغ والمتولي والقاضي الحسين والإمام، وحكى عن [بعض] الأصحاب نفى خلافه، وجعل صاحب البحر محله في مسألة القتل إذا وجد القتل بعد موت الموصي، وقاسه على ما إذا قُتِلوا [إلا واحداً] قبل موت الموصي. وحكى عن بعض أصحابنا وجهاً آخر: أن للورثة الخيار بين أن يعطوه العبد الباقي أو قيمة أحد العبيد المذكورين؛ كما لهم الخيار إذا قتلوا جميعاً، وهذا اختيار القفال، وحكاه الإمام عن طرق أئمتهم، وبه جزم الفوراني، وكذا الرافعي؛ إذا كان القتل بعد القبول أو قبله وقلنا بقول الوقف أوب أنه ملك بالموت، والحكم فيما لو أعتقهم إلا واحداً، كالحكم فيما إذا ماتوا إلا واحداً. فإن قيل: قد حكيتم فيما إذا لم يكن [له] إلا واحد عند الموت [هل تبطل الوصية] أو تصح وتتعين؟ فيه وجهان، وجزمتم فيما إذا ماتوا أو قتلوا إلا واحداً: أن الوصية تتعين فيه، [فهلا جرى] الخلاف السابق. قلنا: اللفظ في هذه المسألة كان صحيحاً عند الوصية؛ لأنه قال: "من رقيقي" وكان له رقيق، وهناك اللفظ فاسد؛ لكونه لا رقيق له يصرف منه رأساً. أما إذا مات واحد منهم بعد موت الموصي وقبول الموصى له، فللوارث التعيين فيه؛ حتى يجب تجهيزه على الموصى له.

وإن كان ذلك بعد الموت وقبل القبول، فكذلك الحكم إن قلنا بحصول الملك بالموت أو بالقبول تبيَّن حصوله بالموت وإن قلنا: يملك بالقبول، فيعطى [واحداً] من الباقين؛ كما لو كان ذلك قبل موت الموصي؛ كذا حكاه الرافعي، وهو بناءً على ما حكاه أولاً. وعند الأصحاب- كما حكاه الإمام-: أنه لا فرق بين أن يكون موتهم إلا واحداً، قبل موت الموصي أو بعده في أن الوصية تنفذ في الواحد. قال: وإن قتلوا كلهم، أي: بعد موت الموصي، قتلاً يوجب الضمان، دفعت إليه قيمة أحدهم؛ لأن القيمة بدل ما وجب له، ثم للورثة التعيين. وفي الشامل: أن للموصى له قيمة أحدهم. وفي تعليق [البندنيجي أن على الوارث أن يعطي قيمة أقلهم، وبين عبارة الشيخ وما عداها فرق؛ لأن عبارة] الشيخ مقتضى أنه إذا عين له أكثرهم قيمة كانت هي الواجبة [له]، وعبارة غيره مقتضى أنه إذا دفع إليه قيمة أكثرهم كان متبرعاً بالزائد على قيمة أقلهم، قال القاضي الحسين: ولا فرق في ذلك بين أن نقول: إنه يملك يوم الموت أو بالقبول. وفي الرافعي: أن هذا فيما إذا [قلنا: إنه] ملك بالموت أو بالقبول. أما إذا قلنا: [إنه] لا يملك إلا بالقبول، فإن الوصية تبطل، وهذا احتمال أبداه الإمام، وقال: إنه لم يصر إليه أحد من الأصحاب، والذي أطلقوه الأول، والممكن [فيه]: أنا وإن حكمنا بأن الملك يحصل بالقبول، فللموصى له حق في الموصي به قبل القبول، وآية ذلك أنه يستبد بتملكه، ولا يقدر أحد على إبطال هذا الحق عليه، وليس كحق القبول في البيع والهبة بعد الإيجاب، والحقوق

اللازمة المالية إذا تعلقت بالأعيان لم يمتنع الانتقال إلى أبدالها: كحق المرتهن. وأطلق في الحاوي حكاية قولين، فيما إذا قتل العبد الموصي به قتلاً مضموناً بالقيمة، هل تبطل الوصية أم لا؟ [وقال: إنهما مأخوذان من اختلاف قوليه في العبد المبيع إذا قتل في يد بائعه، هل يبطل البيع بقتله أم لا]؟ فأحدهما: تبطل الوصية؛ لأن القيمة لا تكون عبداً، وكما لو قطعت يده [لا يكون] أرشها له. والثاني: لا تبطل؛ لأن الوصية بدل من رقبته فأقيمت مُقامها، وخالفت قيمة رقبته أرش يده؛ لأن اسم العبد ينطلق عليه بعد قطعها؛ فلم يستحق أرش يده؛ لأنه حصل له ما ينطلق عليه اسم العبد، وليس كذلك بعد قتله، ولكن لو قتله السيد، بطلت الوصية به قولاً واحداً؛ لأنه لا يضمن قيمة عبده في حق غيره؛ كما لو أوصى له بحنطة فطحنها. وهذا منه يدل على أن الخلاف في قتله [لا يضمن] في حياة الموصي. ولو ماتوا كلهم من غير تفريط من الوارث، أو قتلوا قتلاً لا يوجب الضمان: كما إذا قتله حربي أو سبع- سقط حق الوصية؛ لأنه لا متعلق لها. فرع: لو أوصى بعتق عبد، فقتل قبل موت الموصي، بطلت الوصية، ولو قتل بعد موته وقبل العتق، قال الماوردي: فقد حكى المزني أن الوصية لا تبطل بموته. ويشتري بقيمته عبد يعتق مكانه، كمن نذر أضحية فأتلفها متلف، قال: ويحتمل أن تبطل الوصية بخروج القيمة عن أن تكون عبداً، بخلاف نذر الأضحية؛ لاستقرار حكمها، والعبد لا يستقر حكمه إلا بالعتق. فرع: لو شهد شاهدان: أنه أوصى له بعبده سالم الحبشي، وكان له عبدان حبشيان اسم كل منهما سالم: فإن عينا الموصي به منهما، صحت الشهادة، وإلا

فوجهان، ذكرهما ابن سريج: أحدهما: الوصية باطلة؛ للجهل بها. وعلى وجه الصحة وجهان: أحدهما: يوقف العبدان إلى أن يصطلح الورثة والموصى له. والثاني: يرجع إلى بيان الورثة، قاله في البحر. قال: وإن أوصى برقبة عبد دون منفعته، أعطى الرقبة، أي: خالية عن المنفعة؛ عملاً بالأصل. قال: [فإن أراد عتقها، أي: تبرعاً، جاز؛ لأنها ملكه]، ولو أراد عتقها عن الكفارة لم يجز. وفيه وجه: أنها تجزئ. قال: وعن ابن [القطان وجه: أن عتقها لا ينفذ مطلقاً؛ حكاه ابن يونس. وفي الحاوي حكاية وجه عن أبي الحسين بن] القطان فيما إذا أوصى بمنفعته دون رقبته: أن الوارث لا ينفذ عتقه، ثم قال الماوردي: وهذا على الوجه الذي يجعل الرقبة داخلة في ملك الموصى له، وإذا كان هذا مأخذ الوجه لم يحسن جريان مثله في مسألة الكتاب؛ لأن الموصى له ملك الرقبة، والصحيح الأول، وتبقى المنافع على ملك الورثة، ولا يرجع المعتق على المعتق بشيء؛ لأنه لم يفوِّت عليه شيئاً، وإنما المفوِّت لذلك الموصي؛ فأشبه ما إذا أجر مورثه [عبداً] وأعتقه الوارث؛ فإنه لا يرجع عليه بشيء، بخلاف عتق العبد الذي أجره؛ فإنه يغرم على أحد القولين؛ لأنه المفوت. وفي تعليق أبي الطيب: أنه إذا أوصى بالمنفعة فأعتق صاحب الرقبة الرقبة، فهل يسقط حق صاحب المنفعة من منفعته؟ فيه وجهان: وحكى الرافعي: وجه البطلان عن حكاية أبي الفرج الزاز؛ إذ يبعد أن يكون الحر مستحق المنفعة أبد الدهر.

وعلى هذا، فهل يرجع الموصى له على المعتق ببدل المنافع؟ فيه وجهان. وهذا بعينه يتجه جريانه في مسألتنا. قال: وإن أراد بيعها لم يجز؛ لأنها [عين] مسلوبة المنفعة؛ فلم يجز بيعها، كالأعيان التي لا منفعة لها، وهذا الصحيح من المذهب عند القاضي أبي الطيب، وقال: إن به قال أكثر الأصحاب. وقيل: يجوز؛ لأنه يملكها ملكاً تاماً، وفيها منفعة الإعتاق، وهذا هو المذهب في تعليق البندنيجي والبحر، وعلى هذا لو كان الموصي بمنفعته غير آدمي فهل يجوز [بيعه]؟ فيه وجهان. وقيل: إن أراد بيعها من [مالك] المنفعة، جاز؛ لأنه يتكامل له الرقبة والمنفعة؛ فيكون كبيع ما فيه منفعة. وإن أراد بيعها من مالك غيره، لم يجز؛ لأن يد صاحب المنفعة تمنع من تسليمها إلى غيره. قال الرافعي: وهذا أرجح [على] ما يدل عليه كلام الأئمة. فرع: هل تجوز كتابة مثل هذا العبد؟ المذهب في النهاية: لا. وفيه وجه: أنها تصح؛ اعتماداً على الصدقات. ولا يجوز للموصى له تزويج الأمة الموصي برقبتها، وكذلك مالك المنفعة، فلو اتفقا على التزويج: جاز؛ قاله ابن الصباغ والقاضي الطبري. وهذا [ما] حكاه في الحاوي وجهاً، وحكى [معه] وجهين آخرين: أحدهما: قال في البحر: وهو الصحيح أن لمالك المنفعة تزويجها؛ لأن المهر له. والثاني: [أن] لمالك الرقبة التزويج. وقال في التتمة: إن قلنا: يجوز للموصى له وطؤها، فيجوز له تزويجها،

[وإن قلنا: لا يجوز له وطؤها؛ فلا يجوز له تزويجها]. قال: وفي نفقته وجهان: أحدهما: [أنها] على الموصى له بالرقبة؛ لأن النفقة على الرقبة؛ فكانت على مالكها، وهذا هو المذهب في تعليق البندنيجي، والأصح في النهاية وبه جزم الفوراني. وقال في البحر: إنه نص عليه في زكاة الفطر. والثاني: أنها على مالك المنفعة؛ لأن المنافع له على التأبيد؛ فكانت عليه النفقة؛ كنفقة الزوجة؛ وهذا قول الإصطخري، واستضعفه الإمام. وفيه وجه حكاه العراقيون: أنها في كسبه، فإن لم يكن له كسب، ففي بيت المال. قال الإمام: وما ذكرناه في النفقة يطرد في الكسوة وجميع المؤن اللازمة للمالك في مملوكه. التفريع: إن قلنا بوجوب النفقة على مالك الرقبة، فله أن يسقطها بالبيع على رأي، أو بالعتق إن قلنا: إن العتق يبطل حق صاحب المنفعة منها، وتكون نفقته إذ ذاك في كسبه. وكذا إن قلنا: إن حق صاحب المنفعة لا يسقط منها [بالعتق]، تسقط نفقته عنه أيضاً بعتقه على المذهب الصحيح، وتكون في [بيت] المال. قال القاضي أبو الطيب في تعليقه: ومن أصحابنا من قال: على هذا له الرجوع على المعتق بأقل الأمرين: من أجرته التي هي قيمة منافعه، أو نفقته، وهذا لا وجه له. فرع: إذا كان الموصي برقبته أمة، فأتت بولد من نكاح أو زنى، ففيه وجهان: أحدهما: أنه لمالك المنفعة؛ لأنه من جملة الفوائد؛ كالكسب.

والثاني: أن حكمه حكم الأم. وفي الحاوي وجه ثالث فيما إذا كانت الرقبة للورثة والمنفعة للموصى له: أن الولد يكون للورثة؛ لأنه غير معهود من كسبها، وأنه تابع لرقبتها، وهذه العلة قد تمنع جريانه في مسألتنا. [أما] المهر: [فقد] [جزم] البندنيجي وغيره من العراقيين والروياني وصاحب التهذيب بأنه لمالك المنفعة، وهو متفق عليه، إذا كان مالك المنفعة الوارث. فأما إذا كان الموصى له بها، فهو كذلك عند العراقيين، وقال المراوزة: يكون للورثة إذا كانت الرقبة على ملكهم؛ لأن بدل منفعة [البُضع لا تجوز الوصية بها، فبدلها لا يستحق بالوصية. قال الرافعي: وهذا أشبه]، وبه جزم المتولي. قلت: ما قالوه منتقض بمهر الموقوفة؛ فإنه مصروف لمالك منفعتها، وهو الموقوف عليه، وإن كان لا يصح وقف منفعة البضع. ولو كان الوطء بشبهة فحكم المهر ما تقدم، والولد حر، وعليه قيمته. وفيما يصنع بها الخلاف السابق فيما لو كان الولد رقيقاً لمن يكون؟ ولا خلاف أنه لا يحل لمالك المنفعة دون الرقبة وطؤها، فلو وطئها فلا حد ولا مهر عند الجمهور؛ ومنهم القاضي الحسين. وقيل: يجب الحد، وهو ما جعله في التتمة المذهب؛ إذا كان عالماً بالتحريم وجعل الأول مبنياً على قول من أوجب النفقة عليه؛ فيصير كالنكاح، وإذا كانت المنفعة منتقلة إليه بالوصية يجب عليه المهر على قياس [قول] المراوزة، وعلى الصحيح إذا أتت بولد فهو حر. وقيل: رقيق. فإن قلنا بحريته، لم تصر الجارية أم ولد [له]، وقيمة الولد ما حكمها؟ فيها

الخلاف السابق. وهل يجوز لمالك الرقبة وطؤها؟ قال العراقيون: لا. وفصل غيرهم، فقال: إن كانت ممن تحبل، فلا يجوز له الوطء، وإن كانت ممن لا تحبل [جاز، وإلا] فوجهان؛ كما في وطء الراهن الجارية المرهونة. وعكس المتولي [ذلك]، فقال: إن كانت ممن لا تحبل، جاز [الوطء]، وإلا فوجهان؛ فبذلك يجتمع ثلاثة أوجه. فإن حرمنا الوطء فلا حد للشبهة، ووجب عليه المهر لمالك المنفعة؛ إذا قلنا: هو له، وولده حر، وفيما يصنع بقيمته الخلاف السابق، والجارية أم ولد [له] على المذهب، فتعتق بموته. وفيه وجه حكاه العراقيون: أنها لا تصير أم ولد [له]. قال: وإن قتل العبد اشتري بقيمته- أي: كامل المنفعة- ما يقوم مقامه؛ جمعاً بين الحقين، وهذا أصح عند الشيخ أبي حامد والروياني والإمام والقاضي الحسين، وهو [اختيار] أبي الحسن الماسرجسي، وشبهه بالعبد الموقوف. وقيل: قيمته للموصى له بالرقبة؛ لأن القيمة بدل الرقبة. وفي المسألة وجهان آخران حكاهما الماوردي: أحدهما: أنها لمالك المنفعة. والثاني: توزع على الرقبة مسلوبة المنفعة، وعلى المنفعة وحدها. وطريقه: أن يقوم العبد بمنافعه، فإذا قيل: مائة، قوم بدون منفعته، فإذا قيل: عشرة، سلم لمالك المنفعة تسعة أعشار القيمة، ولمالك الرقبة عشرها. ولو كان الواجب قصاصاً، اشتركا فيه على الوجه الأول، واختص باستيفائه مالك الرقبة على الوجه الثاني، وبه جزم الماوردي والرافعي، وكذا الروياني. ثم حكى الأول عن بعض المراوزة.

قال الماوردي: ولو عفا مالك الرقبة [عن القصاص] إلى مال، سقط القصاص، وإن عفا عن القصاص والمال، صح عفوه عن القصاص، وفي صحته عن المال وجهان. ولو جنى على طرف من أطرافه، فمن الأصحاب من طرد الأوجه في الأرش، وذكر أنه يشتري به على الوجه الأول، ومنهم من قطع بكون الأرش لمالك الرقبة. قال الرافعي: واتفقوا على ترجيحه، وإن ثبت الخلاف. وقال صاحب البحر والقاضي الحسين: الصحيح: أن ما يقابل ما نقص من قيمة الرقبة لمالك الرقبة، وما قابل ما نقص من قيمة المنفعة لمالك المنفعة. فإن لم ينقص الفائت من المنفعة شيئاً، قال الماوردي وابن الصباغ: فالأرش كله لمالك الرقبة. واعلم أن ما ذكرناه فيما إذا كانت الرقبة موصى بها يجري فيما إذا كانت المنفعة موصي بها خاصة، وهي التي فرض الأصحاب الكلام فيها، ويكون الوارث في هذه الحالة كالموصى له بالرقبة في مسألة الكتاب. وقد حكى الإمام فيما إذا كانت الوصية بالمنفعة مؤقتة: أن قيمة المقتول تصرف إلى الموصى له بالمنفعة؛ بناءً على [أن] المعتبر نم الثلث قيمة الرقبة بمنفعتها. فرع: إذا جنى العبد الموصي برقبته أو بمنفعته جناية، نظر: فإن كانت توجب القصاص في النفس واستوفى منه، [بطلت الوصية. وإن كانت توجبه في اليدين والرجلين واستوفى منه]. قال في الحاوي: بطلت الوصية بمنفعته. وإن كانت جنايته خطأ، تعلقت برقبته، فإن لم يتبرع أحد بفدائه، بيع في الجناية، فإن زاد الثمن على الأرش.

قال أبو الفرج السرخسي: يقسم الزائد بينهما [على قدر] حقهما. قال الرافعي: وينبغي أن يجيء فيه الخلاف السابق. قلت: وينبغي أن يقتصر على بيع قدر أرش الجناية؛ فإن به يحصل الغرض، اللهم إلا ألا يمكن بيع البعض؛ فيباع الكل. وإذا فداه مالك الرقبة بقي مالك المنفعة على حقه، وهل لمالك المنفعة بسبب الوصية فداؤه إجباراً كما لمالك الرقبة ذلك؟ فيه وجهان: المذكور منهما في الحاوي: أن له [أن يفديه]، ويبقى حق مالك الرقبة فيه، وهو نظير ما ذكرناه فيما إذا جنى العبد الموهوب من الابن وأراد الأب أن يفديه، بل ها هنا أولى؛ لأن الأب يطلب الفداء؛ ليثبت لنفسه حق الرجوع، والموصى له يطلب حتى لا يفوت حقه، وذا فيما إذا فدى أحدهما العبد بمنافعه، فلو أراد أحدهما أن يفدي ماله، قال أبو عبد الله الحناطي: يباع نصيب صاحبه. قال الرافعي: وفيه إشكال؛ لأنه إن فدى مالك الرقبة، فكيف يمكن بيع المنافع وحدها. وإن فدى صاحب المنفعة، فاستمر حقه؛ فبيع الرقبة يكون على الخلاف السابق. قال: وإن قال أعطوه شاة، أي من مالي أو من غنمي، وكانت غنمه ذكوراً وإناثاً، لم يعط ذكراً على المنصوص، أي: في الأم. وإليه أشار في المختصر؛ لأن الشاة في العرف تنصرف إلى الأنثى دون الذكر؛ فحمل لفظ الموصى عليه دون

حقيقته في اللغة. وقيلك يعطى؛ لأن لفظ الشاة اسم جنس؛ فيتناول الذكر والأنثى؛ ولهذا حمل قوله صلى الله عليه وسلم: "فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً: شَاةٌ" على الذكر والأنثى، وهذا اختيار ابن أبي هريرة، وبه جزم في التهذيب. وذكر الحناطي مصير أكثر الأصحاب إليه، [وهو قضية كلام] المتولي، حيث جعل الخلاف كالخلاف في الشاة المخرجة عن خمس من الإبل. وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه: إنه ليس بصحيح. ويجوز أن يعطى من الضأن والمعز، إلا أن يقول: شاة ينتفع بصوفها؛ فإنه لا يعطى المعز، أو يقول: شاة ينتفع بشعرها؛ فإنه لا يعطى [من] الضأن. وهكذا الحكم في كل وصية تحتمل أشياء؛ إذا قرن بها ما يدل على أحدها؛ فإنه يتعين ذلك. ولا يتعين على الوارث إذا قال: أعطوه شاة من مالي، وله أغنام: أن يعطى شاة منها، ويتجه أن يأتي فيه ما حكاه الإمام فيما إذا قال: رأساً من مالي، وكان له رقيق. فأما لو قال: [أعطوه] شاة من غنمي، وكانت غنمه كلها إناثاً أو ذكوراً لم يعط من غيرها. قال الرافعي: وكان قياس من يقول: اسم الشاة لا يطلق على الذكر، أن تبطل الوصية؛ إذا كانت غنمه كلها ذكوراً. ولو قال: أعطوه شاة من شياهي، ولم يكن له إلا ظباء، فالوصية باطلة على الأصح. وفيه وجه: أنه يعطى منها؛ لأن ذلك يطلق عليها مجازاً، فإنه يقال لها: شِيَاه البَرِّ، وقد انحصر الأمر فيها. ولا فرق فيما يعطى بين أن يكون صغيراً أو كبيراً؛ نص عليه في المختصر بقوله: أُعطِيَ شاة صغيرة كانت أو كبيرة.

قال في البحر: وبعض أصحابنا بخراسان حمل النص على صغير الجثة وكبيرها دون السخلة والعناق؛ لأن الاسم لا يطلق عليها، كاسم البقرة لا يقع على العجلة، وهذا ما صححه الرافعي، وجزم به المتولي. فرع: لو أراد أن يعطيه عن ذلك ظبية، لم يجز له القبول، قال المتولي: لأنه غير ما أوصى [له] به، ولأن حقه ثابت في ذمة الوارث حتى يأخذ عنه على سبيل الاعتياض. قال: وإن قال: أعطوه ثوراً، لم يعط بقرة، وإن قال: أعطوه جملاً، لم يعط ناقة؛ لأن اللفظ موضوع للذكر. وقيل: في الأولى، يعطى بقرة؛ حكاه ابن يونس. ولو قال: أعطوه [بقرة] أو ناقة، لم يعط جملاً ولا ثوراً. قال في البحر: ومن أصحابنا من خرج وجهاً: [أنه يعطى]؛ كما قال في الشاة. وهو جار فيما إذا قال: أعطوه بغلة؛ فإنه يجوز أن يعطى بغلاً، وتكون الهاء فيها للتوحيد لا للتأنيث؛ كما يقال: سخلة وسخل، ولا يعطى عند الوصية بالبقرة: الجواميس، [بخلاف الشاة التي تطلق على الضأن والمعز، اللهُمَّ إلا أن يقول: من بقري، وليس له إلا الجواميس]. قال الماوردي: ولو لم يكن له إلا بقر الوحش، فوجهان، كما ذكرنا في الظباء. قال: وإن قال: أعطوه بعيراً، لم يعط ناقة على المنصوص؛ لما تقدم. وقيل: يعطى. وادعى الرافعي أنه الأظهر عند الأصحاب، والقاضي أبو الطيب أنه الذي قال به أصحابنا، وأن أبا علي الطبري قال: إنه الصحيح، ووجهه: أن العرب تقول: حلبت بعيري، وإنما تحلب الأنثى، وقال أهل اللغة: سمت العرب ذلك على

ترتيب تسمية الآدميين، فقالوا: الجمل كالرجل، والناقة كالمرأة، والبَكْرَة والقَلُوص كالفتاة، والبَكْر كالفتى من الناس، والبعير بمنزلة الإنسان، والإبل بمنزلة الناس. والقائلون بالأول تمسكوا بما قاله الأزهري: أن هذا كلام العرب العاربة المحض، ولا يعرفه إلا خواص أهل العلم باللغة، وإذا كان كذلك، فالوجه أنا نجري حكمها على العرف لا على الأسماء التي تحتمل المعاني، وما قاله الشافعي- رضي الله عنه- هو المعروف من كلام الناس. ولو قال: أعطوه رأساً من الإبل أو البقر أو الغنم، جاز الذكر والأنثى؛ قاله في التتمة. ولا يجوز عند الإيصاء بالإبل أن يعطى فصيلاً ولا ابن مخاض؛ لأنها لا تسمى إبلاً. ولو قال: أعطوه عشراً من الإبل، قال بعض أصحابنا: إن أثبت الهاء في العقد لم يعط إلا من الذكور؛ لأن العدد في الذكور بإثبات الهاء، وإن أسقط الهاء في العدد لم يعط إلا من الإناث؛ لأن عددها بإسقاط الهاء. قال في الحاوي والبحر: وهذا لا وجه له؛ لأن اسم الإبل إذا كان يتناول الذكور والإناث تناولاً واحداً، صار العدد فيها محمولاً على القدر دون النوع، وبهذا أجاب البندنيجي وابن الصباغ. قال: وإن قال: أعطوه دابة، دفع إليه فرس أو بغل أو حمار على المنصوص، وهو الأظهر، وبه جزم الفوراني؛ لأن لفظ الدابة وإن كان يطلق لغة على ما دب ودرج، فهو لا يستعمل إلا في هذه الأجناس الثلاثة عرفاً بمصر، وإذا ثبت للفظ عرف [في] موضع، عَمَّ حكمه؛ كما لو حلف: لا يأكل خبزاً، حنث بأكل خبز الأرز، [وإن كان في غير طبرستان]. ولو حلف الحضري لا يدخل بيتاً، فدخل بيتاً من أدم أو شعر، حنث عند الشافعي- رضي الله عنه- نظراً لهذا المعنى. وقيل: إن قال هذا في غير مصر، لم يدفع إليه إلا فرساً؛ لأن في غير مصر

من البلاد لا يفهم منه إلا الفرس؛ فحملت الوصية على ما يفهمونه، وهذا ما صار إليه أبو إسحاق وابن سريج، وكلام القاضي أبي الطيب يقتضي ترجيحه، فإنه قال ردًّ على الأول بأن العرف لو كان إذا ثبت في موضع لعمّ في سائر المواضع- لوجب أن يثبت عرف سائر البلاد في مصر؛ ولا يدفع [لمن وصى] له بدابة إلا الفرس خاصة، [وليس كذلك]. وأما الحنث بدخول بيت الشعر والأدم؛ فإنما لزم لأن عرف الشرع اقترن به؛ فكان أولى من عرف العادة؛ قال الله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً} [النحل: 80]، وكذلك اسم الخبز هو حقيقة في خبز الأرز كما هو حقيقة في خبز البر لا فرق بينهما. وقال البندنيجي: إن هذا القول ليس بشيء. وقيل: [إن قال] ذلك في مصر، لم يعط إلا حماراً؛ لأنهم لا يطلقون اسم الدابة إلا عليه؛ حكاه في البحر. ومحل الخلاف عند الإطلاق، أما إذا قال: أعطوه دابة تصلح للكر والفر والقتال والنسل؛ [فيحمل على الخيل، ولو قال: دابة تصلح للنسل، حمل على الخيل والحمير، وإن قال: تصلح للحمل]، فتحمل على البغال والحمير، إلا أن يكون قد جرت العادة في تلك البلدة بالحمل على البراذين، فيجوز أن يعطى برذونا. قال المتولي: حتى لو كان المعهود في تلك البلدة الحمل على الجمال والبقر، يجوز أن يعطى جملاً أو بقرة، وناقشه الرافعي في ذلك. ولا فرق فيما يعطى من ذلك؛ كما قال في البحر بين أن يكون صغيراً أو كبيراً، سميناً أو مهزولاً، ذكراً أو أنثى. وفي التتمة: لا يعطى ما لا يمكن ركوبه؛ لأنه لا يسمى دابة. قال في البحر والقاضي الحسين [في التعليق]: تخير الوارث بين الأنواع

الثلاثة- على المنصوص، محمول على ما إذا كانت في ملكه، أما إذا لم يكن في ملكه إلا نوعان، دفع إليه أحدهما، وكذا إذا لم يكن في ملكه إلا نوع واحد دفع إليه منه، وما قالا لعله محمول على ما إذا قال: دابة من دوابِّي، كما قاله في الحاوي، أما إذا أطلق، أو قال: من مالي، كما هو لفظ المختصر- فقياس ما ذكرناه فيما إذا قال: أعطوه رأساً من مالي، أنه لا يتعين، ولا خلاف أنه لا يعطى مع ذلك سرج ولا إكاف ولا لجام. وكذا لو أوصى له بعبد، لم يجب على الورثة تسليم ثيابه، وإنما يجب على الموصى له أن يستره بثوب من عنده. [قال: وإن قال: أعطوه كلباً من كلابي، وله ثلاثة أكلب، دفع إليه أحدهم؛ أي: إذا كانت مما ينتفع بها؛ دابة من دوابِّي، كما قاله في الحاوي، أما إذا أطلق، أو قال: من مالي، كما هو لفظ المختصر- فقياس ما ذكرناه فيما إذا قال: أعطوه رأساً من مالي، أنه لا يتعين، ولا خلاف أنه لا يعطى مع ذلك سرج ولا إكاف ولا لجام. وكذا لو أوصى له بعبد، لم يجب على الورثة تسليم ثيابه، وإنما يجب على الموصى له أن يستره بثوب من عنده. [قال: وإن قال: أعطوه كلباً من كلابي، وله ثلاثة أكلب، دفع إليه أحدهم؛ أي: إذا كانت مما ينتفع بها؛ لما ذكرنا من قبل؛ ويجوز للوارث أن يعطيه ما شاء منها، وإن اختلفت منافعها، اللهم إلا أن يكون الموصى له صائداً أو له ماشية، أو زرع، وفي الكلاب ما يصلح لذلك؛ فإنه يجب أن يعطى ذلك على وجه]. قال: وإن كان له كلب واحد دفع إليه ثلثه؛ أي: إذا لم تجز الورثة؛ ليحصل للورثة مِثْلَا ما حصل للموصى له. قال القاضي أبو الطيب: فينتفع به الموصى له يوماً، والورثة يومين. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون للموصى له مال غيره أو لا، وهو وجه للإصطخري؛ لأنه لا يمكن اعتباره من ثلث المال، ولا قيمة له؛ فاعتبر بنفسه. ومنهم من خص ذلك بما إذا لم يكن له مالٌ غيره. [أما إذا كان له مال غيره] فيدفع إليه جميعه؛ لأن أقل المال خير من الكلب، وهذا اختيار ابن أبي هريرة، وأبي علي [الطبري] وبه جزم القاضي الحسين والفوراني، وقال: إن الدانق خير من الكلب. وقد حكينا عن المتولي [من قبل] حكاية وجه فيما إذا قال: أعطوه رأساً من

رقيقي ولم يكن له إلا رقيق واحد أن الوصية باطلة، وذلك الوجه يتجه جريانه هنا. فرع: لو كان [له] ثلاثة كلاب ولا شيء له غيرها؛ فأوصى بها لرجل، وردت الوصية إلى ثلثها، ففي الكيفية ثلاثة أوجه: أحدها: قاله أبو إسحاق: يعتبر العدد؛ فيدفع إليه واحد، وإلى الورثة اثنان بالتراضي، فإن [لم يتفقوا على] التعيين، أقرع. وحكى [في البحر] عن القاضي أبي الطيب أنه قال: ما ذكر من القرعة لا يصح؛ لأن الخيار إلى الورثة في إعطاء أي كلب شاءوه. والثاني: أنه يستحق من كل كلب ثلثه. والثالث- وهو اختيار ابن أبي أحمد ابن صاحب التلخيص-: يقدر أنها لو كانت متقومة، [كم] كانت قيمة كل واحد؛ فيراعى استخراج الثلث على هذا الاعتبار. وفيه وجه رابع: اختاره بعض مشايخ خراسان: أنه يعتبر فيها قيمة منافعها؛ لأنه يصح إجارتها على الصحيح من المذهب؛ كذا حكاه في البحر، وإن كان للموصي مال غير الكلاب، فنفاذ الوصية في جميع الكلاب أو ثلثها يخرج على الخلاف السابق. فرع: إذا أوصى بثلث ماله لزيد، و [بكلابه الثلاثة] لعمرو، فالوصية بثلث المال صحيحة، وأما الوصية بالكلاب، فعلى قول الإصطخري تلزم في الثلث. قال القاضي أبو الطيب: وعلى قول غيره، يدفع للموصى له الكلاب الثلاثة؛ لأن ما حصل للورثة من ثلثي المال خير من ضعف الكلاب، واستبعده ابن الصباغ؛ لأن ما يحصل للوارث من الثلثين هو حصتهم مما نفذت فيه الوصية، وهو الثلث؛ فلا يجوز أن يحسب عليهم مرة أخرى في الوصية بالكلاب. قال: وإن قال: أعطوه كلباً، ولا كلب له، بطلت الوصية؛ لأنه لا يمكن أن

يشتري له، بخلاف ما لو قال: أعطوه عبداً. قال: وإن قال [أعطوه] طبلاً، أي من طبولي، وليس له إلا طبل لهو، وهي التي تعرف بالكوبة: طبل المخنثين، ضيق الوسط واسع الطرفين. قال: أو عوداً أو مزماراً فإن كان ما يصلح منه للهو يصلح لمنفعة مباحة؛ أي: من غير زوال، [ما سمي] في الوصية عنه- دفع إليه؛ لأنه وصى بما يمكن الانتفاع به. وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة إلا بزوال اسم ما نطق به في الوصية- لم يصح؛ لأنه على تلك الهيئة لا منفعة فيه، وعلى غيرها لم تتناوله الوصية؛ كذا أطلقه الجمهور، ومنهم القاضي الحسين، والشيخ في المهذب، ووافق الإمام على ذلك في مسألة الطبل إذا لم يكن من شيء نفيس. وقال فيما إذا كان من شيء نفيس، كذهب أو عود: إن الوصية تنزل عليه، وكان أوصى برضاضِ إذا كسر، والوصية قابلة للتعليق، وقياس هذا أن يطلق في باقي الصور، وفي الحاوي في مسألة العود: إذا كان لا يصلح لغير اللهو إلا بعد تفصيله وتخليعه، فصل ودفع إليه. وقال: إن الكلام في المزمار كذلك، وقياسه: أن يطرد في الطبل أيضاً، وحينئذ يجتمع من مجموع منا نقلناه ثلاثة أوجه؛ كما [هي مذكورة] في البيع. أما إذا لم يقل عند الوصية: بطبل من طبولي، بل أطلق لفظ الإعطاء، أعطي طبل حرب، وهي التي تضرب للتهويل، أو طبل لهو تصلح لمنفعة مباحة. ولو قال: من طبولي، وله طبول حرب لا غير، أعطي واحداً منها، وكذا ما هو في معناه كما سنذكره. وإن كان [له] طبول لهو وحرب، أعطي طبل حرب، إذا لم يكن في طبول اللهو ما يصلح لمنفعة مباحة، ويقدر كأنه لم يكن سواها، وإن كان فيها ما يصلح [لمنفعة مباحة] تخير الوارث بين أن يعطيه ذلك أن يعطيه طبل حرب [منها]؛ صرح به الماوردي، والقاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وغيرهم،

وكذلك الفوراني، وقال: إن كان في طبوله طبل حرب وطبل العطار، وهو الذي يوضع فيه العطر، [كالسَّفَطِ]: يخير الوارث في إعطاء أحدها. قال الرافعي والمتولي: وكذلك إذا كان فيها طبل الحجيج والقوافل، وهو الذي يضرب؛ لإعلام النزول والارتحال. قال القاضي الحسين: وكذلك طبل البان. وعند الإطلاق للوارث أن يشتري أحدها ويدفعه إليه. ثم إذا صحت الوصية بالطبل، قال الشافعي- رضي الله عنه-: فإن لم يقع اسم الطبل عليه إلا وجلده عليه، لم يجز أن يعطيه إلا وجلده عليه، بخلاف العود إذا صحت الوصية به؛ فإنه لا يعطى الوتر؛ لأن اسم العود يقع عليه بغير وتر؛ كذا حكاه البندنيجي عنه، ثم قال: ومن أصحابنا من قال: العلة غير هذا، وهو أن الوتر لا يصلح لغير الضرب. وكما لا يعطيه [الوتر؛ لا يعطيه] ما عداه مما هو من توابعه؛ كالملاوي التي يكون عليها الأوتار، والمضارب، والحمار وهو: الخشبة التي يركب الوتر عليها ويحز فيها مواضع الوتر. وكذا لا يعطى عند صحة الوصية بالمزمار المجمع، وهو الأبيض الذي يجعله الزامر بين شفتيه ويزمر به. ثم لا فرق فيما ذكره الشيخ في الوصية بالعود بين أن يطلق أو يقول: من عيداني، وليس له إلا عود لهو، أو له عود لهو وعود بناء، وهو الذي لا يصلح إلا للبناء، وعود قسى ونبال، وهو الواحد من الخشب، الذي يصلح لأن يتخذ منه القسي أو النبال؛ لأن المفهوم من العود عند الإطلاق الذي يضرب به. وأطلق في التتمة فيما إذا قال: أعطوه عوداً، ولا عود له: أنه يشتري له ما لو كان موجوداً في ماله أمكن تنفيذ الوصية بالعود فيه، وعن بعض العراقيين من أصحابنا: أنه كالوصية بالطبل على التفصيل الذي ذكرناه. قال الرافعي: وللقائل به أن يقول للأولين: إذا كان الاستعمال في عود اللهو

أظهر، وجب أن يصرفوا [قوله:] أعطوه عوداً من عيداني، وليس له إلا عود بناء وقسي- إلى عود اللهو، وتلغو الوصية، وقد قلتم بالصحة. قال: وإن قال: أعطوه قوساً، دفع إليه قوس ندف أو قوس رمي؛ لأن اسم القوس يطلق عليهما، إلا أن يقرن به ما يدل على أحدهما؛ فيحمل عليه؛ للقرينة. ثم قوس الرمي [الذي] يطلق على قوس النبل، [وهو قوس العرب، وعلى قوس النشاب]، وهو الذي يرمى بالسهام، وعلى قوس الحسبان، وهو الذي يرمى بالسهام أيضاً، لكن سهامه صغار لا يراها الإنسان حتى تقع فيه، وهما للعجم، وعلى قوس الجلاهق، وهو قوس البندق، ثم ما ذكره الشيخ هو ما حكاه البندنيجي عن أبي إسحاق المروزي، حيث قال: إن اسم القوس يطلق على الأنواع الثلاثة، ما لم يكن في كلامه ما يدل على أحد الأنواع الثلاثة، وعني بالأنواع: الجلاهق، والندف، وما عداها. ثم قال: فإن كان في كلامه ما يدل على نوع منها، أعطي ما دلت القرينة عليه، فإن قال: قوساً يرمى عنها، أعطي من الثلاث؛ يعني: قوس النبال، وقوس السهام الكبار، والصغار، وإن قال: يندف بها، أعطي قوس ندف. والجمهور على أنه عند الإطلاق يدفع إليه قوس النبال أو النشاب، أو الحسبان؛ كما يراه الوارث؛ لأنه السابق إلى الفهم، ولا يعطى الجلاهق وقوس الندف. وهذا ما جرى عليه في المهذب، وهو ظاهر النص في المختصر. قال الإمام: وقوس النداف إنما سمي قوساً؛ لكونه شبيهاً بالقسيِّ؛ لمكان أوتارها، لا يوضع الاسم عليه، وكذا [قوس] الجلاهق، هكذا ذكره الشافعي- رضي الله عنه- وأطبق عليه الأئمة. ولو جرت الوصية في ناحية لا يعرف فيها إلا نوع واحد من هذه الأنواع، فهذا يخرج على التردد، والمذكور في الوصية بالدابة.

فرع: إذا قال: أعطوه أي قوس الرماة شئتم انطلق على ما ذكرناه، ولو قال: أعطوه أي قوس يقع عليه اسم قوس، قال في الأم: كان لهم أن يعطوه ما يقع عليه الاسم، سواء كان قوس نداف أو غيره، ولو قال: أعطوه قوساً من قسي، وليس له إلا جلاهق وقسي نداف. قال البندنيجي: أعطى أيها شاء الوارث، وجزم الماوردي والمصنف والرافعي: أنه يعطى في هذه الحالة الجلاهق؛ لأنها أخص بالاسم. واعلم أنه يجب إعطاء الموصى له القوس معمولة يمكن الرمي عنها، فلو بذلها الوارث قبل الفراغ منها، لم يجبر على قبولها، وهل يجب له الوتر؟ حكى العراقيون فيه وجهين، أصحهما وبه جزم الماوردي: لا؛ لخروجه عن مسمى القوس. وذكر الإمام عنهم حكاية الخلاف، فيما إذا أوصى بقوس وكان عليها الوتر، أو أوصى بقوس من قسي كلها موتورة، ثم قال: أما إذا لم يكن على القسي أوتار، وقال: اشتروا قوساً وسلموها إليه- فلا يجوز أن يتخيل خلاف في أنه لا يجب ضم وتر إلى القوس الموصي بها، وإن ما ذكر من الخلاف في خول الوتر تحت الوصية بالقوس، يجب طرده في بيع القوس الموتورة. قال: وإن أوصى بأن يحج عنه، أي: حجة الإسلام، فإن كان من رأس المال، أي: إما بتصريحه، أو بحملنا الوصية عليه- حج عنه من الميقات؛ لأنه الواجب عليه في حياته بالشرع. قال: وإن كان من الثلث، أي: إما بتصريحه [به] أو بحملنا الوصية عليه، فقد قيل: يحج عنه من الميقات، كما لو جعله من رأس المال، وهذا ما ادعى القاضي الحسين أنه الذي عليه [عامة] الأصحاب في الصورتين، والشيخ في المهذب في الصورة الأولى، وفي الثانية [يكون ذلك] من طريق الأولى. وفي المسألة وجه آخر: حكاه الماوردي: أنه يحج عنه من بلده؛ لأنه كان الواجب في الأصل هكذا لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قال

عمر وعلي وابن عباس- رضي الله عنهم- كما حكاه القاضي أبو الطيب: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فإذا أوصى به عاد إلى الأصل. قال: وقيل: إن كان قد صرح بأنه من الثلث حج [عنه] من بلده؛ لما ذكرناه. وإن لم يصرح حج عنه من الميقات؛ لأن المؤنة تكون من رأس المال، وهذا قول أبي إسحاق المروزي؛ لأن من مذهبه عند تقييد الوصية بالثلث: أن يحج عنه من بلده، وعند الإطلاق [أن] يكون من رأس المال جزماً؛ فيكون من الميقات. قال الماوردي: وما قاله أبو إسحاق عند التصريح بأنه من الثلث، وهو الظاهر من كلام الشافعي، رضي الله عنه. فإن قلت: لا يحسن أن يحمل [قول] الشيخ: وإن لم يصرح حج عنه من الميقات، على ما ذكرت؛ لأن الشيخ فرع على ما إذا كان الحج من الثلث وهذا يؤدي إلى التفريع على أنه من رأس المال. قلت: الشيخ ذكر أولاً: ما إذا كان الحج من رأس المال، وفرع عليه، وذكر ثانياً: ما إذا كان الحج من الثلث وفرع عليه، ونهاية التفريع [قوله] فقد قيل: يحج عنه من الميقات، وأشار إلى قول من ذهب إلى أنه يحج عنه من بلده كما ذكرنا، وهو خلاف ما عليه الأكثر، ثم عاد وذكر قول أبي إسحاق في الحالتين، ولا بدع في ذلك، وهو أولى من أن يحمل على شيء لم يقل به غيره، نعم حكى القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق، زيادة [على] ما ذكرته، وهو أنه عند إطلاق الوصية تكون مؤنة الحج من بلده إلى الميقات من الثلث، وباقي المؤنة من رأس المال، وهذا ما حكيته عن أبي علي بن خيران في تقدير النصين، وقد رأيت في تعليق القاضي الحسين، عند الكلام في وجوب الحط عن المكاتب، أن

المزني قال بمثل ذلك فيما إذا أوصى بأن يحج عنه من بلده. وحكى في الإبانة فيما إذا أوصى بأن يحج عنه حجة الإسلام من بلده، وكان ثلث ماله يفي بمؤنة الحج من بلده إلى الميقات بعد إخراج مؤنة الحج [من الميقات]- وجهين كالوجهين فيما إذا أوصى بأن يعتق عنه في كفارة اليمين، وكان ثلث ماله بعد إخراج الطعام أو الكسوة يفي بذلك: أحدهما: تبطل الوصية. وأصحهما: أنه يعتق عنه كسائر أنواع التبرعات، ويحج عنه من بلده: فروع: إذا أوصى بحج التطوع وجوزناه، فإنه محسوب من الثلث، ويحج عنه من الميقات، أو من بلده إن قيد، وإن أطلق فوجهان: أحدهما: من الميقات؛ حملاً على أقل الدرجات. والثاني: من بلده؛ لأن الغالب التجهز من البلد، وهذا ما جزم به الماوردي، ونص عليه الشافعي- رضي الله عنه- في عيون المسائل، حيث قال: إذا أوصى بأن يحج عنه متطوعاً، فبلغ ثلثه الحج [من بلده- حج] عنه من بلده. وإن لم يبلغ، حج عنه من حيث بلغ، قال الماوردي: فإن لم يوجد من يحج عنه من الميقات، ولا فوقه بطلت الوصية وعادت ميراثاً. وميل الأكثرين إلى الأول، وربما حملوا النص على ما إذا قيد به، إذا قال: أحجوا عني بثلثي، صرف ثلثه إلى ما يمكن من حجتين وثلاث فصاعدا، فإن فضل ما لا يمكن أن يحج به فهو للورثة، وإن لم يُوف ثلثه بحجةٍ، بطلت الوصية. وكذلك إذا قال: أحجوا عني من ثلثي بمائة، فلم يوجد من يحج بها. [بطلت الوصية، وعادت ميراثاً، قال الماوردي: ولا تعود إلى الثلث، وفي الإبانة حكاية قول: أنها] لا تبطل ويتصدق بها عنه، حكاه الإمام [عند

الكلام] فيما إذا أوصى أن يشتري بثلثه رقاب وتعتق عنه، ولو قال: أحجوا عني بثلثي حجة، صرف إلى حجة واحدة. قال في الحاوي: ولا فرق بين أن يسمى من يحج عنه أولاً، ثم إن كان الثلث قدر أجرة المثل أو دونها، جاز أن يعطى ذلك للوارث وغيره، وإن كان أكثر من أجرة المثل، لم يستأجر به إلا أجنبي؛ لأن الزيادة محاباة فلا تجوز للوارث، وحكى في الإبانة: أنه إذا لم يعين أحداً وجهين. [أحدهما]: لا يحج عنه إلا بأجرة المثل والزيادة للورثة. والثاني: الصحة، وتكون الزيادة لشخص موصوف بصفة، وهي: أن يحج عنه ذلك الشخص. وعن القفال أنه قال: وقعت مسألة اختلف فيها فتوى مشايخنا، وهي أن رجلاً أوصى بأن يشتري عشرة أقفزةٍ حنطةً بمائة درهم، ويتصدق بها، فوجدت عشرة أقفزة من أجود حنطة بما دونها. فمنهم من أجاز أن الزيادة ترد إلى الورثة. ومنهم من قال: هي وصية لبائع الحنطة. ومنهم من قال: يشتري بالزيادة حنطة بهذا السعر ويتصدق بها، وهذا الوجه لا يتصور في الحج. ولو أوصى بأن يحج زيد عنه بألف؛ نظر فإن كان الألف قدر أجرة المثل أعطيت له، سواء كان وارثاً أو غير وارث. وكذلك إن كان أقل، وإن كان الألف أكثر من أجرة المثل: فإن كان الموصى له أجنبيّاً أعطيت له. وإن كان وارثاً، فالزيادة على أجرة المثل وصية لوارث، فإن رضي بقدر أجرة المثل دفع إليه، وردت الزيادة للورثة، وإن لم يرض إلا بالألف [كله] استؤجر غيره بأجرة المثل، كما لو امتنع الأجنبي من الحج؛ فإنه يستأجر عنه بأجرة المثل، ويعود الفاضل ميراثاً، وكذا إذا رغب متطوع بغير جعل جاز، ولا يجوز استئجار المعين، وهذا إذا كان الحج فرضاً، فإن كان الحج تطوعاً، وامتنع المعين من الحج، فهل يجوز أن يحج عنه غيره؟ فيه وجهان في

الإبانة، والماوردي أطلق الجواز. فرع: إذا [استأجر] الوصي أو الوارث زيدا المعين على الحج بخمسمائة، وهو غير وارث، ولم يعلم [المستأجر] بالوصية، فما الحكم؟ هذه المسألة لم أقف فيها على نقل، لكن في الحاوي ما يمكن أن يخرج عليه، وهو [ما] إذا أوصى بشراء عبد [زيد] بألف ويعتقه عنه، فاشتراه الموصي بخمسمائة، وأعتقه عنه والبائع غير عالم بالوصية، فإن [كان] العبد يساوي ألفاً، فيعود الباقي من ثمنه إلى الورثة، وإن كان يساوي خمسمائة، عاد الباقي إلى زيد البائع؛ لأنها وصية له، وإن كان يساوي سبعمائة فالوصية بثلاثمائة فتدفع إلى البائع، وترد المائتان إلى الورثة ميراثاً. قال: وإن قال: أعطوه جزءاً من مالي، أو سهماً من مالي، أعْطي أقل جزء؛ لأن ذلك لا حد له في اللغة، ولا في الشرع، فأجزأ الأقل؛ لأنه المحقق. وهكذا لو قال: أعطوه قسطاً من مالي، أو نصيباً من مالي، أو حظّاً من مالي، أو قليلاً أو كثيراً من مالي. وعن ابن سريج، إبداء احتمال فيما إذا قال: أعطوه سهماً من مالي، أنه يعطى [أقل] الأمرين من نصيب أحد الورثة أو الثلث، كما رواه أبو الفرج الزاز، وعلى المذهب: المرجع إلى تعيين الوارث. فإن ادعى الموصى له أن الموصي أراد شيئاً مقدراً، وأن الوارث يعرفه، حلف الوارث- إن أنكر- على نفي العلم بإرادة الزيادة؛ كما ذكره الأستاذ أبو منصور، والحناطي، والمسعودي، وغيرهم. وإن لم يدع علم الوارث به، لم تسمع الدعوى. قال القاضي الحسين: لأنه لو أقر بجهالته سقطت الدعوى. وفي التهذيب: أنه لا يتعرض- للإرادة، وإنما يحلف: إنه لا يعلم استحقاقه الزيادة. ولو ادعى الوارث أن عنده بيان ما أوصى به مورثه، ولم يبين، قال في البحر:

فيه وجهان بناءً على القولين: إذا أقر بمجمل ولم يبين: أحدهما: يحبس حتى يبين. والثاني: يرجع إلى بيان الموصى له. فرع: لو قال: أعطوه ثلث مالي إلا شيئاً، فللوارث أن يعطيه أقل ما يتموَّل. وعن الأستاذ أبي منصور: أن هذه الوصية وصية بنصف الثلث وشيء، وكذا لو قال: أعطوه ثلث مالي إلا قليلاً؛ والمشهور الأول. قال: وإن قال: أعطوه مثل نصيب أحد وُرَّاثي، أعطي مثل نصيب أقلهم؛ لأنه نصيب، وهو محقق، والزائد مشكوك فيه. مثال ذلك: إذا كان له ابنان وبنت، أعطي مثل نصيب بنت، فيجعل كأن للميت ابنان وبنتان، فتكون المسألة من ستة: للموصى له: سهم، وللبنت: سهم، ولكل [واحد من الابنين] سهمان. ولو كان له بنت، وبنت ابن، وأخت، أعطي مثل نصيب بنت الابن، وهو: سدس؛ [فتكون المسألة] من ستة، وتعول إلى سبعة: للبنت: ثلاثة، ولبنت الابن: سهم، وللأخت: سهمان، وللموصى له: سهم. ولو كان معهن زوجة، أعطي مثل نصيبها، وتكون المسألة من أربعة وعشرين، وينضاف إليها نصيب زوجة وهو: ثلاثة، تبلغ سبعة وعشرين: للبنت: اثنا عشر، ولبنت الابن: أربعة، وللزوجة: ثلاثة، وللأخت: خمسة، وللموصى له: ثلاثة، فلو كانت الزوجات أربعة، أعطي مثل نصيب واحدة منهن، فالمسألة من أربعة وعشرين، وتصح من ستة وتسعين، [ينضاف إليها مثل نصيب زوجة- وهو: ثلاثة- تبلغ تسعة وتسعين]: للبنت: ثمانية وأربعون، ولبنت الابن: ستة عشر، وللأخت: عشرون، وللزوجات: اثنا عشر: لكل واحدة منهن ثلاثة، وللموصى له: ثلاثة، وعلى هذا فَقِسْ. وقال البندنيجي في هذه الصورة: إننا ننظر إلى عدد، لثُمُنِه ربعٌ صحيح، وأقله

اثنان وثلاثون، فنجعل المسألة منه، ويُضَمُّ إليه مثل نصيب زوجة وهو: سهم، يبلغ ثلاثة وثلاثين، فيعطى الموصى له سهماً منها، انتهى. وما قاله لا يصحح المسألة؛ لأن نصيب بنت الابن يبقى منكسراً، وهو من مخرج السدس، وبينه وبين الاثنين والثلاثين موافقة بالنصف، فنحتاج لضرب ثلاثة في ثلاثة وثلاثين، تبلغ تسعة وتسعين، ومنها تصح كما ذكرناه. وطريق التصحيح في مسألة الكتاب: أن نصحح مسألة الميراث بضرب وغير ضرب، وعول وغير عول، ثم ننظر إلى أقل نصيب، فنزيد على فريضة الميراث ذلك القدر. وهكذا يفعل فيما إذا [أوصى] بمثل نصيب واحد معين. ولو كان في مسألتنا أنصباء الورثة متساوية، مثل: إن خلف ثلاثة أولاد: فلكل ابن ثلث، فتعول المسألة بالثلث، ويقسم المال عليها؛ فيعطي الموصى له الربع؛ لأنا نجعله بمنزلة ولد رابع. وإن كان للميت أربعة أولاد، فلكل ابن ربع، فيجعل الموصى له بمنزلة ولد خامس؛ فيعطى الخمس. ولو كانت المسألة بحالها، وأوصى له بمثل نصيب ابن خامس لو كان- أعطى السدس، ويقسم الباقي بين الأولاد الأربعة. وعن أبي إسحاق: أنه يعطى الخمس، ويقدر الموصى له كأنه الابن الخامس، وهكذا في كل صورة من هذا النوع يفعل. فرع: لو كان له ابن وبنت، فوصى لواحد بمثل نصيب الابن، ولآخر بمثل نصيب البنت، فإن أراد بمثل نصيب البنت قبل دخول الوصية [عليها]، كان للموصى له بمثل نصيبها الربع؛ فتكون الوصية حينئذ بالخُمُسين والربع. وإن أراد بمثل نصيبها بعد دخول الوصية عليها، كانت الوصية له بالسدس؛ فتصير الوصيتان بخمسي المال وسدسه، وتوقف على إجازتهم.

قال: فإن قال: أعطوه مثل نصيب ابني، ولا وارث له غيره، كانت الوصية بالنصف؛ لأن الوصية بمثل نصيب الابن تقتضي أن يكون النصيبان مثلين؛ فيلزم التسوية، ولأن الابن يأخذ الكل لولا الوصية، فإذا نزل الموصى له منزلته، فقد أثبت له الكل أيضاً، والمبلغ إذا عال بمثله، كان الزائد مثل المزيد عليه. ولو قال: بمثل نصيب ابني، وابنه غير وارث؛ لرق أو غيره- فالوصية باطلة؛ لأنه لا نصيب للابن. ولو قال: بمثل نصيب ابني، وله ابن وبنت، فإن أجازا، قسمت التركة على خمسة: للابن سهمان، وللموصى له سهمان، وللبنت سهم. وإن ردا، أعطى الثلث، فيقسم المال على تسعة: للموصى له ثلاثة، وللابن أربعة، وللبنت سهمان. وإن أجاز أحدهما، ومنع الآخر، فسيأتي الكلام في طريق تصحيح ذلك. وقد نقل المزني فيما إذا قال: أوصيت بمثل نصيب ابني، ولا وارث له غيره- فله النصف، إلا أن يجيز الوارث ذلك. قال البندنيجي: وهو سهو في النقل والفقه. وإن قال: بمثل نصيب ابني لو لم أوص لأحد، كانت الوصية بكل المال؛ قاله البندنيجي. فرع: إذا كانت له بنت، وأخت لأب، أو شقيقة، فأوصى له بمثل نصيب البنت، قال في البحر: ففي قدر ما يستحق الموصى له، وجهان: أحدهما: الربع، نصف حصة البنت؛ لأنه لَمَّا استحق مع الابن الواحد إذا أوصى له بمثل نصيبه النصفَ؛ لأنه نصف نصيب الابن- وجب أن يستحق مع البنت الواحدة نصف نصيبها، وهو الربع. والثاني- وهو الأصح وبه جزم الرافعي-: أن له الثلث؛ لأنه يصير مع البنت الواحدة كبنت ثانية؛ كما يصير مع الابن [الواحد] كابن ثانٍ، وللواحدة من البنتين الثلث؛ كذلك للموصى له بمثل نصيب البنت الواحدة: الثلث، وهذا لو

لم يرث مع البنت أو الأخت غيرهما؛ لأن لكل واحدة الانفراد بالنصف، والباقي لبيت المال. قال الروياني: وعلى هذا، لو أوصى بمثل نصيب أخ لأم، فله في أحد الوجهين: [نصف] السدس، وفي الآخر: السدس، ومقتضى هذا التعليل: أنه لو أوصى بمثل نصيب ابنته وله بنتان، أن يعطى ثلث الثلثين؛ لأنه لو كان له ثلاث [بنات]، لكان لكل منهن ثلث الثلثين. لكن الرافعي جعل المأخذ فيما إذا أوصى [بمثل نصيب ابنته ولا ابنة له سواها: أن المسألة من اثنين لو لم يكن] وصية، فنزيد على الاثنين سهماً، ونعطيه سهماً من ثلاثة. وأنه إذا أوصى بمثل نصيب ابنته وله ابنتان، فالوصية بالربع؛ لأن المسألة من ثلاثة لولا الوصية: لكل من البنتين سهم، فنزيد للموصى له سهماً تبلغ أربعة. وأنه لو أوصى بمثل نصيبهما معاً، فالوصية بخمسي المال لأنها من ثلاثة، ولهما سهمان [من الثلاثة] فنزيد على الثلاثة سهمين تبلغ خمسة. ولو أوصى [بمثل] نصيب ابنته وله ثلاث بنات، فالوصية بسهمين من أحد عشر سهماً؛ لأن المسألة تصح من تسعة لولا الوصية، ونصيب كل بنت منهن سهمان؛ فنزيد على التسعة سهمين تكون أحد عشر. وعلى هذا [أبَداً، وهذا مقتضى] الضابط الذي ذكرناه من قبل. قال: وإن قال: أعطوه ضعف نصيب ابني، [ولا وارث له غيره،] كانت الوصية بالثلثين؛ لأن الضعف عبارة عن الشيء ومثله، كما قاله الفراء وأكثر أهل اللغة، ويعضده ما روى أن عمر- رضي الله عنه- صالح نصارى [بني] تغلب وتنوخ وبهراء، على أن يأخذ منهم الجزية باسم الصدقة، وأن يضاعف الجزية؛ فكان يأخذ منهم مثلى ما يأخذ من المسلمين، من كل مائتين: عشرة دراهم، ومن كل عشرين: ديناراً: [ديناراً].

ويقال: أضعفت الثوب: إذا طويته باثنين. قال: وإن قال: [أعطوه] ضعفي نصيب ابني، كانت الوصية بثلاثة أرباعه؛ لأن الضعف إذا كان عبارة عن الشيء ومثله، كان الضعفان عبارة عن الشيء ومثليه؛ لأن الضعف ليس شيئاً مستقلاً بنفسه؛ فلا يكون اسماً لمنقول معلوم، وإنما هو من أسماء الإضافة؛ فيقتضي أصلاً ينضاف إليه؛ ألا ترى أنه يقال للضعف في العربية: تضعيفاً؛ [لما يركب] منه حرفان، وانضم أحدهما إلى الآخر، وإذا كان كذلك فقد وجد ما ينضاف إليه؛ فلا حاجة إلى تكرار المضاف إليه. وقال أبو ثور: تكون الوصية بأربعة أخماسه؛ لأن الضعف إذا كان عبارة عن الشيء ومثله، كان الضعفان عبارة عن أربعة أمثال الشيء؛ وهذا ما حكى الإمام عن الأستاذ أبي منصور أنه قال: إنه القياس، وأنه حكى أن الموصي لو قال: ضاعفوا لفلان ضعف نصيب ولدي، فالضعف أربعة أمثال بلا خلاف، وإنما قال الشافعي- رضي الله عنه- ما قال إذا قال الموصي: أوصيت لفلان بضعف نصيب ولدي، فإذا صرح بتضعيف الضعف، كان كل ضعف ضعفين، ثم قال الإمام: وما قاله سديد، لا يجوز غيره. وقال في البحر: ما قاله أبو ثور لا يصح؛ لما ذكرناه، ألا ترى أنه لو كان معه مائة، فقال لغلامه: أضعفها، لزمه أن يزيد عليها مائة أخرى، ولو قال: أضعفها مرتين، لزمه أن يزيد عليها مائتين. وعلى المذهب لو قال: ثلاثة أضعاف نصيب ابني، أعطي أربعة أخماس المال، وعلى هذا القياس. قال: وإن قال: أعطوه نصيب ابني، فالوصية باطلة؛ لأنه وصى بما هو حق الابن؛ فأشبه ما لو قال: أعطوه دار ابني. قال الشيخ أبو حامد: وليست هذه المسألة منصوصة، وهذا ما أورده ابن الصباغ، وعزاه القاضي إلى ابن القاص، وأنه قال: قلته تخريجاً، وحكاه الداركي عن أبي إسحاق؛ كما قاله في البحر، ولم يحك القاضي الحسين عن العراقيين

سواه. قال: وقيل: هو كما لو قال بمثل نصيب ابني؛ لأن الوصية واردة على مال الموصي، فليس للابن نصيب قبل موته، وإنما الغرض من التقدير بما يستحقه من بعد، كما يقال: للمرأة مهر مثلها، ومهر مثلها لا يكون لها؛ وإنما يكون لها مثل مهر مثلها. وهذا ما أورده الأستاذ أبو منصور، واختاره القفال، والقاضي الحسين، والإمام، والروياني؛ كما حكاه الرافعي؛ فعلى هذا تكون الوصية بالنصف. وفي التهذيب وجه: أنه يكون موصى له بالكل. قال: وإن وصى لرجل بالنصف، ولآخر بالثلث، وأجاز الورثة، أخذ كل واحد منهما وصيته؛ لما تقدم. وإن لم يجيزوا كان للموصى له بالنصف ثلاثة أسهم من خمسة أسهم، أي: هي جملة الثلث، وللآخر سهمان؛ لأن ما قسم على التفاضل عند اتساع المال، قسم على التفاضل عند ضيق المال؛ كالمواريث والديون. واعلم أن الضابط في تصحيح مسائل الوصايا، مع تصحيح مسائل الورثة: أن تصحح فريضة الميراث بضرب وغير ضرب، وعول وغير عول، ثم ننظر إلى مجيز الوصية، ويعطى نصيب الموصى له، ثم نقسم الباقي على فريضة الميراث، فإن انقسمت عليها فبها ونعمت. مثاله: أوصى لواحد بربع ماله، وله ثلاثة من البنين، مخرج الوصية من أربعة: الربع للموصى له وهو سهم، والباقي يقسم على البنين الثلاثة. وإن لم ينقسم الباقي على الفريضة، فللحساب طريقان: أحدهما: طريق يعرف بطريق النسبة، وهو: أن ننظر إلى نسبة المقدر للوصية من مخرجها من الباقي، ثم نزيد على فريضة الميراث تلك النسبة، فإن كان المقدر للوصية مثل ثلث الباقي، زدت فريضة الميراث مثل ثلثها، وإن كان مثل نصف الباقي [زدت على فريضة الميراث] مثل نصفها، وهكذا، فإن لم يكن

لمسألة الفريضة نصف صحيح، والنسبة النصف مثلاً، [فتضرب] الفريضة في مخرج النسبة، ثم تزيد عليها تلك النسبة. والطريق الثاني: يعرف بطريق القسمة، وهو: أن يقابل بين الباقي من مخرج مسألة الوصية بعد إقرار الوصية وبين فريضة الميراث، فإن وجدتَ [بينهما] وفقاً صحيحاً، تضرب أقل جزء الوفق من فريضة الميراث في مخرج الوصية، وإن لم تجد بينهما موافقة بجزء صحيح، اضرب جميع فريضة الميراث في مخرج الوصية، فما بلغ قيمته تصح الوصية. مثال ذلك: إذا أوصى بالثلث وله ثلاثة بنين، فمسألة الوصية من ثلاثة، للموصى له سهم، وهو مثل نصف ما بقي، ومسألة الفريضة من ثلاثة، فعلى طريق النسبة نزيد على فريضة الميراث مثل نصفها، وليس لها نصف صحيح، فنضربها في مخرج النصف، فتصير ستة، ثم نزيد عليها مثل نصفها، وهو ثلاثة، تصير تسعة، ومنها تصح للموصى له ثلاثة، ولكل ابن سهمان. وعلى طريق القسمة: نقابل بين الباقي من مخرج الوصية بعد إقرار الوصية، وهو سهمان، وبين فريضة الميراث وهي ثلاثة، وليس بينهما موافقة، فنضرب ثلاثة في مخرج الوصية، وهي ثلاثة تبلغ تسعة، ومنها تصح. ولو كان البنون أربعة، فعلى طريق النسبة: تكون مسألة الفريضة من أربعة، فنزيد عليها مثل نصفها وهو اثنان تبلغ ستة، ومنها تصح: للموصى له سهمان، ولكل ابن سهم. وعلى طريق القسمة، نقابل بين الباقي بعد إخراج نصيب الموصى له وهو سهمان، وبين مسألة الورثة وهي أربعة، [فإذا كان] بينهما موافقة بالنصف، فنضرب نصف الأربعة في مسألة الوصية تبلغ ستة. ولو ترك الموصي ثلاث بنات وعصبة، فمسألة الفريضة أصلها من ثلاثة، وتصح من تسعة. فعلى طريق النسبة: الباقي بعد إخراج نصيب الموصى له سهمان، فنزيد على

مسألة الفريضة مثل نصفها، وليس للتسعة نصف صحيح، فنضربها في مخرج النصف تبلغ ثمانية عشر، ثم نزيد عليها مثل نصفها تبلغ سبعة وعشرين. وعلى هذا فَقِسِ الزيادة والنقص. ولو أوصى لواحد بالنصف، ولآخر بالثلث، وأجاز الورثة، فالمسألة من ستة؛ لأن مخرج النصف والثلث من خمسة، فيعطى للموصى له بالنصف ثلاثة أسهم، وللموصى له بالثلث سهمان [وللورثة سهم]. وإن ردوا الزيادة على الثلث، فالثلث للموصى لهما وهو سهم من ثلاثة، لا ينقسم على خمسة، فيضرب مخرج الثلث في مخرج الخمسة، فيصير خمسة عشر، للموصى لهما خمسة وللورثة عشرة. ولو كانت المسألة بحالها- لكن كان الورثة ابناً وثلاث بنات، وأجازوا- فمسألة الوصية من ستة كما ذكرناه، ومسألة الفريضة من خمسة. [فعلى طريق النسبة، الباقي بعد نصيب الموصى لهما سهم، والموصي به قدر السهم خمس مرات]، تبلغ ثلاثين: للموصى له بالنصف ثلاثة مضروبة في خمسة [بخمسة] عشر، وللموصى له بالثلث سهمان مضروبان في خمسة بعشرة، والباقي خمسة: للابن سهمان، ولكل بنت سهم. وعلى طريق القسمة: الباقي بعد نصيب الموصى لهما سهم، ولا وفق له، فنضرب مسألة الفريضة في مسألة الوصية تبلغ ثلاثين، ومنها تصح.

وأما إذا ردوا الوصية بالزائد، فالثلث بين الموصى لهما على النسبة التي كانت تخصهما عند الإجازة، وهي خمسة أسهم، وإذا كان ثلث المال خمسة، فجملته خمسة عشر، للموصى لهما خمسة، وللورثة عشرة، فهي منقسمة عليهم. وإن أجازوا البعض وردوا البعض، فالطريق في التصحيح: أن تصحح المسألة على تقدير الإجازة، ثم على تقدير الرد، ثم نضرب مسألة الإجازة في مسألة الرد؛ إن لم يكن بينهما وفق، وإن كان بينهما وفق، فنضرب جزء الوفق من أحدهما في كل الآخر، ثم من له شيء من الإجازة- إذا أجاز- أخذه مضروباً في مسألة الإجازة أو في وفقها، [ومن له من مسألة الرد شيء- إذا رد- أخذه مضروباً في مسألة الإجازة أو وفقها]. ومسألة الإجازة هنا قد صحت من ثلاثين، ومسألة الرد صحت من خمسة عشر، وبينهما موافقة [بالثلث]، فنضرب خمسة عشر في عشرة، أو خمسة في ثلاثين تبلغ مائة وخمسين، فإذا كان الابن مثلاً الذي أجاز، فنصيبه من مسألة الإجازة سهمان، نضربهما في خمسة، تبلغ عشرة، وللبنات من مسألة الرد ستة مضروبة في عشرة تبلغ ستين، والباقي وهو ثمانون بين الموصى لهما مقسومة على خمسة: للموصى له بالنصف ثمانية وأربعون، وللموصى له بالثلث اثنان وثلاثون. وإن كان الذي رد الابن، فله من مسألة الرد أربعة مضروبة في خمسة بعشرين، وللبنات من مسألة الرد ثلاثة أسهم مضروبة في خمسة بخمسة عشر، والباقي بعد ذلك، وهو مائة وخمسة [عشر] بين الموصى لهما مقسوم على خمسة: للموصى له بالنصف تسعة وستون، وللموصى له بالثلث ستة وأربعون. ولو أجاز الورثة وصية صاحب النصف، وردوا وصية صاحب الثلث، فالموصى له بالنصف يسلم له ما كان يستحقه في مسألة [الإجازة، والموصى له بالثلث يستحق ما كان يسلم له في مسألة] الرد.

وكذلك الحكم فيما إذا أجازوا وصية صاحب الثلث، وردوا وصية صاحب النصف، يكون لصاحب النصف ما كان له في حالة الرد، ولصاحب الثلث ما كان له في حالة الإجازة، والباقي يقسم بين الورثة. ولو كانت الوصية لواحد بالثلث، ولآخر بالربع، وأجاز الورثة وهم: بنتان وأبوانِ، فمسألة الوصية من اثني عشر؛ لأن أقل ما يخرج الثلث والربع منها، ومسألة الفريضة من ستة، فعلى طريق النسبة: الحاصل للموصى لهما من الاثني عشر سبعة، وهي مثل ما بقي ومثل خمسيه، فنزيد على مسألة الفريضة مثلها ومثل خمسيها، وليس للسبعة خمس صحيح، فنضرب مسألة الفريضة في مخرج الخمس تبلغ ثلاثين، ثم نزيد عليها مثلها ومثل خمسيها، وهو اثنان وأربعون، تبلغ اثنين وسبعين، ومنها تصح: للموصى له [بالثلث] من مسألة الوصية أربعة مضروبة في مسألة الفريضة، وهي ستة، تبلغ أربعة وعشرين، وهي ثلث الجملة، وللموصى له بالربع من مسألة الوصية ثلاثة مضروبة في مسألة الفريضة، وهي ستة، تبلغ ثمانية عشر، والباقي بعد ذلك ثلاثون [للورثة] للأبوين السدسان، عشرة، وللبنتين الثلثان: عشرون. وعلى طريق القسمة: الباقي بعد الموصى به خمسة، وليس لها وفق، فنضرب مسألة الميراث في مخرج الوصية تبلغ اثنين وسبعين، ومنها تصح. وإن رد الورثة الزائد على الثلث، فاقسم الثلث على الموصى لهما على النسبة التي كانت تخصهما عند الإجازة، وهي سبعة، وإذا كان ثلث المال سبعة، فجملته إحدى وعشرون، [للموصى لهما] سبعة، وللورثة أربعة عشرة [وأربعة عشرة] لا تنقسم على مسألة الفريضة، لكن بينهما وفق بالنصف، فنضرب نصف الستة في أصل المسألة، وهي إحدى وعشرون، تبلغ ثلاثة وستين، ومنها تصح: للموصى لهما سبعة مضروبة في ثلاثة بإحدى وعشرين: للموصى له بالثلث اثنا عشر، وللآخر تسعة، وللورثة اثنان وأربعون: للأبوين السدسان: أربعة عشر، وللبنتين الثلثان: ثمانية وعشرون.

[وهذا على] طريق القسمة. فإن أردت أن تصحح المسألة على طريق النسبة: فأصل المسألة كما ذكرنا من إحدى وعشرين: للموصى لهما سبعة؛ وهي مثل نصف ما بقي، فنزيد على فريضة الميراث مثل نصفها، فتصير تسعة، ثم نحتاج إلى قسمة الثلث على سبعة، فنضرب التسعة في مخرج السعة تبلغ ثلاثة وستين، ومنها تصح. وإن أجاز بعض [الورثة] ورد البعض، فمسألة الإجازة تصح من اثنين وسبعين، [ومسألة الرد من ثلاثة وستين، وبينهما موافقة بالثلث، فنضرب إحدى وعشرين في اثنين وسبعين] أو ثلاثة وستين في أربعة وعشرين، تبلغ [ألفاً] وخمسمائة واثني عشر، ومنها تصح، فإن [كان] الذي أجاز الأم خاصة مثلاً، من مسألة الإجازة خمسة مضروبة في وفق مسألة الرد، وهو [إحدى] وعشرون، [تبلغ مائة وخمسة، وللأب من مسألة الرد سبعة مضروبة في وفق مسألة الإجازة، وهو أربعة وعشرون، تبلغ مائة وثمانية وستين، وللبنتين من مسألة الرد ثمانية وعشرون مضروبة في وفق مسألة الإجازة، وهو أربعة وعشرون]، تبلغ ستمائة واثنين وسبعين، والباقي بعد ذلك، وهو خمسمائة وسبعة وستون، مقسوماً على سبعة بين الموصى لهما: للموصى له بالثلث: ثلاثمائة وأربعة وعشرون، وللموصى له بالربع: مائتان وثلاثة وأربعون. ولو كانت الوصية لواحد بالكل، ولآخر بالثلث، وأجاز الورثة وهم: أب وابنان، فالمسألة من أربعة: للموصى له بالكل ثلاثة أرباع، وللموصى له بالثلث الربع. [وإن ردوا الزائد على الثلث، فاقسم الثلث على أربعة، وإذا كان ثلث المال أربعة فجملته اثنا عشر، لهما منها أربعة: للموصى له بالكل ثلاثة، وللموصى له بالثلث سهم]، والباقي وهو ثمانية بين الورثة، ومسألتهم من ستة، وتصح من اثني عشر، وثمانية على اثني عشر، [لا تصح، ولكن توافق بالربع، فاضرب ربع الاثني عشر

في أصل المسألة وهو اثنا عشر تبلغ ستة وثلاثين، ومنها يصح للموصى لهما اثنا عشر]. والباقي وهو أربعة وعشرون للورثة منقسمة عليهم، وعلى هذا طريق القسمة. وإن أردت أن تصحح المسألة على طريق النسبة: فأصل المسألة كما قلنا من اثني عشر: للموصى لهما أربعة، وهي مثل نصف ما بقى، فنزيد على مسألة الفريضة مثل نصفها، تبلغ ثمانية عشر، ثم نحتاج إلى قسمة الثلث على أربعة، وبين الثمانية عشر والأربعة موافقة بالنصف، فنضرب الثمانية عشر في نصف الأربعة تبلغ ستة وثلاثين، ومنها تصح. ولو رد الأب خاصة، فكيفية التصحيح تؤخذ مما تقدم. ولو كانت الوصية لواحد بالنصف، ولآخر بالثلث، ولآخر بالربع، فإن أجاز الورثة وهم: زوجة وأبوان، قسم المال على ثلاثة عشر سهماً، وأعطى صاحب النصف ستة، وصاحب الثلث أربعة، وصاحب الربع ثلاثة. وإن ردوا، قسمت الثلث على ثلاثة عشر، وإذا كان الثلث ثلاثة عشر سهماً، فالجملة تسعة وثلاثون: للموصى لهم ثلاثة عشر، وللورثة ستة وعشرون، ومسألتهم من اثني عشر، وستة وعشرون على اثني عشر لا تصح، ولكن توافق بالنصف، فنضرب نصف الاثني عشر في مسألة الوصية وهي تسعة وثلاثون تبلغ مائتين وأربعة وثلاثين: للموصى لهم ثمانية وسبعون مقسومة على ثلاثة عشر: للموصى له بالنصف ستة وثلاثون، وللموصى له بالثلث أربعة وعشرون، وللموصى له بالربع ثمانية عشر، والباقي [وهو مائة] وستة وخمسون بين الورثة: للزوجة ربعها: تسعة وثلاثون، وللأم [ثلث الباقي]: تسعة وثلاثون، والباقي للأب، وهذا على طريق القسمة. وعلى طريق النسبة: نقول: أصل مسألة الوصية من تسعة وثلاثين، ثلثها ثلاثة

عشر، وهي مثل نصف الباقي، فزد على فريضة الميراث مثل نصفها، تبلغ ثمانية عشر، [ثم نحتاج إلى قسمة الثلث على ثلاثة عشر، فنضرب ثمانية عشر] في مخرج ثلاثة عشر، تبلغ مائتين وأربعة وثلاثين، ومنها تصح. وإن أجاز بعض الورثة ورد البعض، فطريق التصحيح ما تقدم. وعلى هذا فقس. ولنكتف بما ذكرناه؛ فإن الكلام في هذا الباب ومسائله متسع، ولو أنفذت العمر فيه لما بلغت مد ما ذكر الأئمة في ذلك ولا نصيفه. قال: وإن أوصى [له] بشيء ثم رجع في وصيته، صح الرجوع؛ لأنها عطية لم يَزُلْ عنها ملك معطيها؛ فأشبهت الهبات قبل القبض، وصريح الرجوع: رجعت في وصيتي، أو أبطلتها، أو فسختها، أو نقضتها، وما أشبه ذلك. وكما يحصل الفسخ بصريح الرجوع، يحصل بما يدل عليه مما ذكره الشيخ. قال: وإن أوصى لزيد بجميع ماله، أو بثلثه، أو بعبد، ثم وصى بذلك لعمرو، سوى بينهما، أي: ولا يكون رجوعاً فيما أوصى به لزيد، ولا في بعضه: أما في الثانية، فللإجماع كما نقله الماوردي، وأما في الأولى والثالثة؛ فبالقياس على الثانية. ولأنه لما كان قوله في وقت واحد: أوصيت بعبدي هذا لزيد، وأوصيت به لعمرو، لا يكون رجوعاً، ويجعل بينهما إجماعاً- وجب إذا تراخى [ما] بين الوصيتين [أن يكون بينهما، ولا يكون رجوعاً؛ إذ لا فرق بين اقتران الوصيتين] وافتراقهما. ولأن الوصية الثانية يجوز أن يكون أراد بها الرجوع، ويجوز أن يكون [فعلها لنسيان الأولى، ويجوز أن يكون] أراد بها التشريك بين الأول والثاني؛ فوجب أن يحمل مع هذا الاحتمال على التشريك بينهما؛ لاستوائهما في الوصية. وفي البحر حكاية عن أبي عبد الرحمن بن بنت الشافعي- رضي الله عنه-: أن الوصية لهما قد بطلت؛ لإشكال حالهما. والمذهب الأول، وإنما قلنا: إن ذلك لا يكون رجوعاً عن شيء من الموصي

به؛ لأنه لو كان رجوعاً لما كان لأحدهما الاستقلال بالجميع عند رد الآخر. وقد صرح القاضيان: أبو الطيب والحسين، والإمام بأن الجميع يسلم لمن قبل الوصية إذا رد الآخر، وحينئذ فيكون تسليم النصف كما قال القاضي الحسين؛ لأن لما وصى بذلك لزيد ثم وصى به لعمرو وقبلا، فقد اجتمع كلان، ولا يكون للشيء الواحد كلان، فازدحما؛ فجعل بينهما نصفين، واستشكل الإمام كونه لا يكون رجوعاً؛ لأنا نقول: العرض على البيع رجوع؛ لدلالته [على إرادة إبطال التملك]، وهذا في الدلالة أقوى، ثم محل الكلام في الصورة الثانية إذا رد الورثة، أما إذا أجازوا سلم الثلث كاملاً لكل [واحد] منهما، وهذا أيضاً مما يدل على أن وصيته للثاني لا تتضمن رجوعاً، وهذا هو المذهب. وفي التتمة حكاية وجه: أنه بالوصية الثانية راجع عن الوصية الأولى؛ كما لو وهب شيئاً لإنسان، ثم وهبه لآخر قبل القبض. فرع: لو أوصى لرجل بجارية حامل، وقلنا بدخول الحمل في الوصية مكا هو أحد الوجهين، ثم وصى بحملها لعمرو، فالجارية تكون للأول، والولد يكون بين الأول والثاني. ولو أوصى بالجارية لشخص وبحملها لآخر، [صح ذلك] اتفاقاً. ولو أوصى لشخص بدار أو بخاتم، ثم أوصى بأبنية الدار أو بفص الخاتم لآخر، فعرصة الدار والخاتم للأول، والأبنية والفص بينهما؛ تفريعاً على المذهب. ولو أوصى لزيد بدار، ثم لعمرو بسكناها، فعن الأستاذ أبي منصور: أن الرقبة للأول، وأن المنفعة للثاني. قال الرافعي: وكان يجوز أن يشتركا في المنفعة، كما في الأبنية والفص. [قال]: وإن قال: أوصيت لعمرو بما وصيت به لزيد، جعل ذلك [رجوعاً عن] وصية زيد؛ لأن ذلك صريح في الرجوع، وقد انتفى احتمال النسيان،

وهذا ما جزم به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ. وعن المزني: أنه لا يكون رجوعاً، ويجعل بينهما، ووافقه عليه بعض الأصحاب، واحتج له بأنه لو وكل زيداً ببيع سلعة سماها له، ثم قال: قد وكلت عمراً بما وكلت به زيداً، أنهما يكونان معاً وكيلين في بيعها، ولا يكون توكيل الثاني رجوعاً عن الأول. قال الماوردي: وهذا فاسد، وحكي أن من أصحابنا من ضاق عليه الفرق، فجعل ذلك رجوعاً عن توكيل الأول. ومنهم من فرق بأن الوكالة نيابة؛ فيصح أن ينوب كل واحد من الجماعة في كل البيع، والوصية تمليك، ولا يصح أن يملك كل واحد من الموصى لهما كل الموصى به. قال: وإن أوصى لزيد بشيء، ثم أزال الملك فيه ببيع أو هبة، أو ما في معناهما من عتق وغيره، أو عرضه لزوال الملك؛ بأن دبره، أي: ولم يتعرض في لفظه بذكر الوصية الأولى- كما قال الإمام- أو كاتبه، أو عرضه على البيع، أو أوصى ببيعه، كان ذلك رجوعاً؛ لأن القصد من الوصية حصول الموصي به للموصى له، وهذه الأشياء تنافى المقصود؛ لأنه لا يمكن حصوله بعد وجودها؛ فأبطلت الوصية. وفائدة القول بأنه رجوع فيما إذا باعه أو وهبه وأقبضه: أنه لو ملكه بعد ذلك، ومات وهو في ملكه، لا يعود حق الموصى له فيه، بخلاف ما إذا وهب من ولده شيئاً، فانتقل عن ملك الابن، ثم عاد إليه فإن له الرجوع على أحد الوجهين، وكذلك إذا باع عيناً، ثم خرجت عن ملك المشتري، ثم اشتراها أيضاً وأفلس، فإن للبائع الرجوع فيها على أحد الوجهين. قال الماوردي: والفرق أن رجوع الأب والبائع حق لهما، ليس للابن ولا للمفلس إبطاله [عليهما]؛ فكذلك لم يكن بيعهما وعوده إلى ملكهما مانعاً من الرجوع، وليس كذلك الوصية؛ لأن للموصي إبطالها، فإذا بطلت بالبيع لم تعد بالشراء.

أما إذا لم يَزُلِ الملك بالهبة، كما إذا لم يتصل بها [قبض]، فكلام الشيخ الأول يفهم أنه لا يكون رجوعاً، وقوله: أو عرضه على [البيع]، يفهم منه أنه يكون رجوعاً، وقد حكى الأصحاب ذلك وجهين: الأول منهما: قول بعض المتأخرين من البغداديين؛ لأنه لم يؤثر في ملكه؛ فلم يؤثر في رجوعه. والثاني: قول ابن أبي هريرة، وأبي إسحاق؛ لأنه قد عقد فيه عقداً يفضي إلى الزوال؛ فصار مخالفاً لما قصده من قبل، وهو ما رجحه الإمام، وقال: إنه يجب القطع به. وزاد القاضي الحسين على ذلك، فقال: قال أصحابنا: إذا وهبه، فلم يقبل الموهوب [له]، كان له رجوعاً، وهو مطرد في إيجاب الهبة والبيع. ثم قضية تعليل الوجه الأول: أن العرض على البيع لا يكون رجوعاً، وقد صرح به الماوردي وغيره؛ إذا كان في حياة الموصي، وهو جار كما حكاه الرافعي، فيما إذا وكل في البيع. وهل تكون الهبة الفاسدة رجوعاً؟ [حكى الماوردي فيها ثلاثة أوجه: ثالثها: إن أقبض كان رجوعاً]، وإلا فلا. ولا فرق في [بطلانها بالإيصاء] بالبيع [بين أن يفسخ في زمن الخيار أم لا. وعن الأستاذ أبي منصور: أنه إذا فسخ، وقلنا: لا ينتقل الملك إلا بانقضاء الخيار، لا يكون رجوعاً. وكذا لا فرق في بطلانها بالإيصاء بالبيع] بين أن يعين من يباع منه أَوْ لا، ومع التعيين لا فرق بين أن ينص على قدر الثمن أَوْ لا. وحكى الماوردي عن بعض أصحابنا أنه قال: إذا عين من يبيع منه، وقدر الثمن، وكان دون ثمن المثل، فهو كما لو أوصى به لزيد، ثم أوصى به لعمرو، فيكون ما حصلت فيه المحاباة بينهما، فإن كانت المحاباة [بينهما] بنصف

الثمن؛ فيكون كأنه أوصى بجميعه لزيد، ثم أوصى بنصفه لعمرو؛ فيكون بينهما أثلاثاً. وإن كانت المحاباة بثلث الثمن، كان بينهما أرباعاً. قلت: ولو قيل على هذا الوجه بأن للموصى له ثانياً: الربع في المثال الأول، وله في المثال الثاني []؛ لكان الوجه أحداً مما ذكرناه في أوائل الفصل. وأطلق في الرافعي حكاية وجه عن أبي الفرج الزاز: أنه إذا أوصى بالبيع وغيره مما هو رجوع، يكون كما لو أوصى لزيد ثم أوصى به لعمرو؛ لأن كليهما وصيه، وحكاه عن المعتمد فيما إذا أوصى بعبده لإنسان ثم أوصى بعتقه، حتى يعتق نصفه ويدفع للموصى له نصفه. وقيل في التدبير: إن قلنا: إنه وصية، لم يكن رجوعاً؛ حكاه ابن الصباغ. [والذي أورده] الماوردي: أنا إن قلنا: إنه عتق بصفةٍ فهو رجوع، وإن قلنا: إنه وصية: فإن قلنا بتقديم الوصية بالعتق على الوصية بالتمليك، كان رجوعاً في الوصية. وإن قلنا باستوائهما، ففيه وجهان: أحدهما- عن أبي علي الطبري-: [أنه يكون] نصفه وصية ونصفه مدبراً. والثاني- عن أبي إسحاق-: أنه يكون جميعه مدبراً، ويتضمن ذلك الرجوع عن الوصية؛ لأن عتق المدبر تأخر بالموت، فقُدِّم على الوصايا، كالناجز من العطايا. قال الإمام حكاية عن الأصحاب: ولأن مقصود التدبير العتق؛ وهو مخالف لمقصود الوصية بملك الرقبة، وإذا اختلف المقصودان ظهر بالثاني قصد الرجوع في الأول، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد والقفال، وعليه ينطبق كلام الشيخ، وحكى الإمام في باب وطء المدبرة عن صاحب التقريب رواية قول: في أن الكتابة هل تكون رجوعاً عن الوصية أم لا؟ لكن كلامه يرشد إلى أن محلها إذا كانت الوصية بعتق؛ فإنه قال: ومبنى التردد: أن مقصود الكتابة العتق

أيضاً، وأن الأصحاب أطبقوا على أن ذلك رجوع عن الوصية للغير. فرع: لو دبره ثم أوصى به، فإن قلنا: إن التدبير عتق بصفةٍ، كانت الوصية باطلة، وإن قلنا: إنه كالوصايا؛ نظر: فإن قال: العبد الذي [قد] دبرته قد أوصيت به لزيد، كان رجوعاً في تدبيره وموصى بجميعه، ويتجه أن يجيء فيه وجه المزني، وإن لم يقل [في] ذلك. وفي النهاية: إن الذي ذهب إليه أكثر الأصحاب: أن ذلك رجوع عن التدبير؛ فإن الوصية مع التدبير متناقضان، وأشار بذلك إلى ما حكيناه عن حكايته من الفرق بين التدبير والوصية. وفي الحاوي: أن في ذلك وجهين: قول ابن أبي هريرة منهما: أن نصفه باق على التدبير، ونصفه موصي به. وهذا [ما] أبداه الإمام أيضاً. وقول أبي إسحاق: أن تدبيره أقوى من الوصية؛ فتبطل الوصية، ويكون على التدبير. ثم قال: وهذان الوجهان جاريان فيما لو أوصى بعتقه بعد أن أوصى به، أو أوصى بعتقه ثم أوصى به. فرع: لو أوصى ببيع شيء وصَرْف ثمنه للفقراء، ثم أوصى ببيعه وصَرْف ثمنه إلى المساكين، [لم يكن] رجوعاً، [وصُرِفَ الثمن للفقراء والمساكين نصفين، بخلاف ما لو أوصى بشيء للفقراء، ثم أوصى ببيعه وصَرْف ثمنه للمساكين؛ فإنه يكون رجوعاً]. تنبيه: قول الشيخ: وإن أوصى بشيء؛ احترز به عما إذا أوصى بثلث ماله ثم باعه؛ فإن الوصية لا تبطل، قال البندنيجي: لأن الاعتبار بماله حين الوفاة، وقد تقدم الكلام في ذلك. قال: وإن أوصى به، ثم رهنه، فقد قيل: هو رجوع؛ لأنه عرضه للبيع؛ لما تعلق به من حق المرتهن، وهذا ما صححه ابن يونس والجيلي.

وقيل: ليس برجوع؛ لأن الرهن ليس بإزالة ملك في الحال ولا في ثاني الحال؛ فلم يكن رجوعاً. قال الإمام: ولست أرى في ذلك فرقاً بين أن يتصل به القبض أم لا؛ فإنا إنما جعلناه رجوعاً؛ لدلالته على القصد، وهذا لا يختلف بوجود الإقباض وعدمه. وفي البحر حكاية وجه ثالث: أنه إن اتصل به القبض كان رجوعاً، وإلا فلا. والمجزوم به في التهذيب عند القبض: أنه يكون رجوعاً، وحكاية الخلاف قبله. ولو كان الرهن فاسداً، فكلام الماوردي يفهم جريان الخلاف السابق في الهبة الفاسدة. قال: وإن أجره، أو كاتب جارية فزوجها، لم يكن رجوعاً؛ لأن ذلك لا ينافي الوصية؛ لأنه لا يزيل الملك. وهكذا الحكم فيما إذا أوصى بعبد، ثم زوجه؛ لأن ذلك من مصالحه، ونفقة الزوجة ومهرها في كسبه. وكذلك إذا عَلَّمَ الموصي به صنعة لم يكن رجوعاً؛ لأنه زاده خيراً، فهو كما لو كساه. ولا فرق في كون الإجارة لا تكون رجوعاً بين أن يوصي له بالدار فيسكنها، أو بسكنى دار فيؤجرها، لاحتمال انقضاء مدة الإجارة قبل موته. نعم، لو مات قبل انقضاء المدة، لزم الموصى له إذا قبل تمكينُ المستأجر من الاستيفاء. ثم إن [كانت الوصية بالسكنى] مقيدة بمدة، فهل يستوفى بعد انقضاء مدة الإجارة جميع مدة الوصية، أو ما بقي منها؟ فيه وجهان في المهذب وغيره: أرجحهما كما يقتضيه كلام الغزالي: الثاني. حتى لو لم تنقض مدة الإجارة إلا بعد فراغ السنة الموصي بها بطلت الوصية. ولو وطئ الجارية الموصي بها، لم يكن رجوعاً إلا أن يحبلها.

وقال ابن الحداد: إن عزل عنها لم يكن رجوعاً، وإن لم يعزل كان رجوعاً، وزعم أنه أخذ ذلك من قول الشافعي- رضي الله عنه- في الإملاء: لو حلف لا يتسرى، فوطئ جارية له، فإن كان يعزل عنها، فهو غير مُتَسَرٍّ ولا حنث عليه، وإلا فهو متسر، وقد حنث. قال: فلما جعل التسري طلب الولد لا الاستمتاع، دل ذلك على الفرق بينهما، وكان طلب الولد رجوعاً في الوصية دون الاستمتاع، وهذا ما حكاه الإمام والقاضي الحسين، والبغوي في باب وطء المدبرة، وقال الإمام هنا: إن من أصحابنا من قال: إن الوطء رجوع كيف فُرِضَ، وهذا أضعف الوجوه، وإن قول ابن الحداد، هو الطريقة المستقيمة. قال: وإن أوصى بشيء، ثم أزال اسمه؛ بأن كان قمحاً فطحنه، أو دقيقاً فعجنه، وعجيناً فخبزه، كان ذلك رجوعاً؛ لأنه زال عنه الاسم؛ فلم يبق متناولاً لوصيته. ولأنه قصد استهلاكه بالأكل، وذلك دليل على قصد الرجوع. وهكذا لو قلا الحنطة سويقاً، أو عمل منها شيئاً، أو بلها بالماء، أو بذرها. ولو كان الموصي به خبزاً يابساً، فدقه فتيتا، ففي كونه رجوعاً وجهان، في تعليق أبي الطيب وغيره. قال: وإن كان غزلاً فنسجه، أو نُقْرَة فضربها دراهم، أو ساجاً فجعله باباً- فقد قيل: هو رجوع؛ لزوال الاسم، وهذا أصح في الشامل، وبه جزم الماوردي في مسألة نسج الغزل وطبع النقرة دراهم. وقيل: ليس برجوع؛ لأن الاسم باقٍ عليه مع التقييد. قال بعضهم: وهذا الوجه غريب في مسألة نسج الغزل. وكأنه لم يقف على تعليق القاضي أبي الطيب والشامل؛ فإنهما حكيا الخلاف في الصور الثلاث، كما حكاه الشيخ وهو جار في تجفيف الثمار عند خشية الفساد. وقد أجرى وجه الرجوع في تقديد اللحم، والمذهب خلافه. كما أن المذهب: أن شَيَّهُ رجوع، وخلافه وجه بعيد حكاه في البحر.

والرافعي ادعى نفي الخلاف فيه، وألحقه بما إذا كانت شاة فذبحها. وفي الحاوي: الجزم بأنه لو كان قطناً فغزله، أو ثوباً فقطعه قميصاً، أنه يكون رجوعاً، وفي المذهب وجه فيه كما لو كان الثوب مقطوعاً فخاطه. ولو حشا بالقطن مخدة أو مضربة أو جبة، ففي كونه رجوعاً- تفريعاً على الأول- وجهان: أصحهما في النهاية والرافعي: أنه رجوع. وكذا لو قصر الثوب، هل يكون رجوعاً؟ فيه وجهان: وجه الرجوع: القياس على ما لو صبغه. ووجه مقابله: القياس على ما لو غسله. وقد حكى هذا أيضاً فيما لو صنعه؛ كما في عمارة الدار. ولو لبس الثوب الموصي به، قال القفال: يحتمل أن يكون رجوعاً، قال في البحر: وهو المذهب عندي؛ لأنه عرضة للإتلاق، كما لو عجن الدقيق. فرع: إذا عرض الموصي به لشيء من الأحوال المذكورة: كنسج الغزل، وطحن القمح، ونحو ذلك، قال الرافعي: فقد نص الأصحاب على وجهين في بعضهما، والباقي ملحق به. قال: وإن أوصى بدار فانهدمت، أي في حياة الموصي، بحيث زال [عنها] اسم الدار، وبقيت عرصتها- فقد قيل: تبطل؛ لأنه زال عنها الاسم؛ فبطلت الوصية، كما لو هدمها الموصي، وهذا هو الأصح في الحاوي، [والمذهب في] تعليق البندنيجي. وقيل: لا تبطل؛ لأنه لم يوجد منه شيء يدل على الرجوع، وظاهر كلام الشيخ يدل على أن الخلاف في بطلان الوصية في العرصة. أما النقض فقد بطلت الوصية [فيه] لا محالة. والمذكور في التتمة: حكاية الخلاف في أن الوصية هل تبطل بالنقض أم لا؟ وتبقى الوصية فيها على المنصوص. وعلى طريقة: أنها تبطل فيها أيضاً.

وحكى وجهاً فيما إذا هدم الدار: أن الوصية لا تبطل في العرصة. قال في البحر: وهذا وهذا غلط؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه- نص على أنه إذا أوصى بدار، فذهب السيل بها: أن الوصية تبطل؛ لأن العرصة [لا] تسمى داراً، أما إذا بقي عليها اسم الدار، فالوصية باقية. ولمن تكون الآلة؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو الذي نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- وبه قال جمهور أصحابنا-: أنها خارجة من الوصية؛ لأنها لا تسمى داراً. والثاني- حكاه القاضي ابن كج عن بعض أصحابنا-: أنها تكون للموصى له، وحمل نص الشافعي- رضي الله عنه- على ما إذا هدمها بنفسه. وجعل في الحاوي الخلاف في مسألة الكتاب مفرعاً على هذا الخلاف، وقال: إن من قال بأن النقض للموصي، قال: تبطل الوصية، ومن قال بأنه للموصى له، لا يقول بالبطلان، وهذا يوافق ما حكيناه عن المتولي من تصوير محل الخلاف. وإن كان الانهدام بعد موت الموصى له: فإن كان بعد القبول، فالوصية ممضاة، وجميع ما انفصل من آلتها للموصى له، وإن كان قبل القبول: فإن لم يَزُلِ اسم الدار عنها، فالوصية بحالها. ثم إذا قبل، وقلنا: يتبين الملك بالموت، أو قلنا: يملك بالموت، فالنقض للموصى له. وإن قلنا: إن القبول هو المملِّك، فله الدار، وفي المنفصل وجهان: أحدهما: للموصى له، وهو الأصح في البحر. والثاني: للورثة. وإن لم يبقى مسمى الدار بعد الانهدام، فإن قلنا: إن القبول [مبين، فالوصية جائزة، وله العرصة والنقض. وإن قلنا: القبول] مملك، ففي بطلان الوصية وجهان: أحدهما: نعم. والثاني: لا، وله العرصة وما اتصل.

وفي المنفصل وجهان. وفي تعليق البندنيجي: أن الانهدام إذا وجد بعد الموت وقبل القبول ثم قبل، وفرعنا على أن القبول مبين للملك، فالمذهب: أن العرصة والنقض [ملك] للموصى له. ومن أصحابنا من قال: النقض لا يكون له، وهو فاسد. ولم يفصل البندنيجي في الانهدام بين أن يزيل اسم الدار أم لا. فرع: إذا أوصى بأرض، فبنى فيها أو غرس، ففيه وجهان، أصحهما في الرافعي: أن ذلك رجوع. قال الماوردي: فعلى هذا إن كان البناء والغراس في جميعها كان رجوعاً في الجميع، وإن كان في بعضها كان رجوعاً فيه، وليس رجوعاً فيما لم يغرس فيه أو يبني. والثاني: أنه لا يكون رجوعاً؛ لأن ذلك من استيفاء منافعها. قال الماوردي والمصنف: فعلى هذا تكون الوصية فيما بين البناء والغراس من بياض الأرض بحالها، فأما أساس البناء وقرار الغراس، ففيه وجهان: أحدهما: يكون راجعاً فيه. والثاني: لا. ولو عمر الدار الموصي بها، نظر: فإن غير اسمها؛ بأن جعلها حَمَّاماً، كان رجوعاً، وإن لم يغير اسمها لم يكن رجوعاً، لكن الزيادة لا تدخل في الوصية [الأولى] على الأصح. وفي الإبانة وغيرها وجهٌ: أن الزيادة تدخل. وفي التتمة حكاية وجه: أن العمارة تكون رجوعاً. ولو جعل على الدار ساباطا، لم [يكن داخلاً] في الوصية، وهل يكون رجوعاً فيما وضع عليه الساباط من حيطانها؟ فيه وجهان. قال: وإن كان طعاماً بعينه فخلطه بغيره، أي: بحيث لا يمكن تمييزه، كان رجوعاً؛ لأنه جعله على صفة لا يمكن تسليمه بعينه.

وعن رواية أبي الفرج الزاز: أن الشيخ أبا زيد قال: إن خلطه بأجود منه كان رجوعاً، وإلا فلا. قال: وإن كان قفيزاً من صبرة، فخلطه بأجود منه، كان [ذلك] رجوعاً؛ لأنه بالخلط أحدث زيادة لم يرض بتمليكها. قال: وإن خلطه بمثله أو بما دونه، لم يكن رجوعاً؛ لأن القدر الموصي به كان مختلطاً بغيره، فإذا خلطه بالمثل لم يحدث صفة زائدة، وإذا خلطه بما دونه تنزل منزلة إتلاف بعضه، وإتلاف بعضه ليس رجوعاً في الباقي، وهذا يخالف الصورة السابقة؛ لأن الموصي به لم يكن مختلطاً بغيره. وقيل: إذا خلطه بما هو دونه يكون رجوعاً، وإذا خلطه بالأجود لا يكون رجوعاً، حكاه ابن يونس، وأبداه الرافعي تخريجاً لنفسه من قولنا: إنه إذا استجد في الدار بناء، أنه يدخل في الوصية، ثم قال: وهو أقرب هنا وإن لم يذكروه. ولو اختلطت الصبرة بنفسها، فهو على الخلاف في نظائره، صرح به المتولي. قال الرافعي: وإذا أبقينا الوصية فالزيادة الحاصلة بالجودة غير متميزة، فتدخل في الوصية. ولو جحد الموصي الوصية، كان رجوعاً على ظاهر المذهب. وقال الإمام: يتجه فيه نوع من الاحتمال من جهة أنه قد ينسى الوصية فينكرها، والإنكار إخبار وليس بإنشاء. وحكى في باب التدبير وجهين في أن الإنكار هل يبطلها؟ وكلام البندنيجي فيها يقتضي ترجيح عدم البطلان؛ فإنه حكى وجهين فيما إذا ادعى عبد على سيده أنه دبره، وأنكر التدبير، وقلنا: إنه وصية، هل يكون إنكاره رجوعاً أم لا؟ والمذهب: أنه ليس برجوع. ولو قال الموصي: هي عليه حرام، كان رجوعاً، جزم به في البحر، وقال الإمام فيما إذا قال: حَرَّمْتُ هذه العين على فلان، يعني [العين] الموصي بها على الموصى له، فظاهر المذهب: أنه رجوع، ولو قال: هي لوارثي، كان رجوعاً، ولو قال: هي من تركتي، فوجهان في الحاوي.

ولو نقل الموصى به من بلد إلى بلد، [فإن كان المنقول إليه أقرب إلى الموصى له، لم يكن رجوعاً، وكذا إن كان أبعد وكان لعذر]، فإن كان لغير عذر، فوجهان في البحر. ولو أوصى له بألف وأشهد بها شاهدين، وأوصى له بألف وأشهد بها شاهدين، نظر: إن كان الثاني من جنس آخر، فهما وصيتان، وإن كان مثله، فهما وصية واحدة، وإن كان ما أوصى به ثانياً أكثر في القدر من الأول كما إذا أوصى له بألفين، لغت وصيته الأولى وثبتت الثانية. ولو كانت الثانية أقل، كما إذا أوصى له بخمسمائة، ففيه وجهان [يبنيان]: [أحدهما: يثبت كلاهما]. والثاني: تلغو الأولى وتثبت الثانية، قاله القاضي الحسين، وقال الرافعي: إن الوجه الثاني أشبه؛ لأنه يحتمل أنه قصد تقليل حقه والرجوع عن بعض الوصية الأولى، فلا يعطى إلا اليقين. ولنختم الباب بفروع يسيرة تتعلق به: - إذا أوفى في مرض موته دين بعض الغرماء، وعجز ماله عن وفاء باقي الديون، فأصح الوجهين وبه جزم الفوراني: أنه لا يعترض عليه. وفيه وجه: أنه يسترجع منه ما يزيد على ما يخصه عند التوزيع. - إذا ادعى شخص على أحد الوارثَيْن أن مورثهما أوصى له بكذا، فصدقه أحدهما وكذبه الآخر، فماذا يلزم المصدق؟ فيه وجهان، كما لو أقر بدين فكذبه [الآخر]، حكاه في البحر. -[إذا أجاز الورثة بالثلث والأجنبي بالثلث]، فإن أجاز الورثة الوصيتين سُلِّم لكل منهما الثلث، وإن ردوا، فلا شيء للوارث، ثم ينظر في كيفية الرد: إن ردوا وصية الوارث، سلم للأجنبي الثلث تماماً. وفيه وجه: أنه لا يسلم له إلا السدس، وإن قالوا: رددنا ما زاد على الثلث من الوصيتين، فوجهان:

أحدهما- وهو الذي ذكره أبو حامد، ونسبه أبو الفرج الزاز إلى اختيار القفال والشيخ أبي علي والقاضي [الطبري]، كما حكاه في البحر-: أنه ليس للأجنبي إلا السدس. والثاني: أن له تمام الثلث؛ لأن القائل بالرد في حق الأجنبي الزائد على الثلث، وفي حق الوارث الجميع؛ فكان الانصراف إلى نصيب الوارث [أولى]، وهذا ما رجحه الإمام وجزم به في التهذيب، وقال في البحر: إن الشيخ أبا حامد قال: كنت أحكي أن له السدس، ثم رأيت [في] ظاهر كلام الشافعي في الأم أن له الثلث. قال الروياني: وهذا أقيس. إذا أجر المريض نفسه بدون أجرة المثل، لا يحتسب [القدر] الناقص من الثلث على الأصح، بخلاف المرأة إذا تزوجت في مرض موتها بدون مهر المثل؛ فإن ذلك التفاوت يحسب من الثلث على الأصح، وفرق المتولي بينهما بفرقين: أحدهما: أن النكاح من غير مهر المثل يقتضي مهر المثل، فإذا قال الولي: زوجتكها، وذكر ما دون مهر المثل، فكأنه أسقط العوض بعد ثبوته؛ فكان كالإبراء، وأما الإجارة فإنها لا تنعقد من غير ذكر العوض. والثاني: أن المحاباة في المهر تلحق نوع عار بالورثة؛ فأثبت لهم ولاية الدفع، بخلاف المحاباة في الإجارة. والوجه المذكور في اعتبار القدر الناقص عن أجرة المثل في الإجارة، [جار]- كما حكاه القاضي الحسين- فيما إذا أعار نفسه في مرض موته، إذا باع بثمن مؤجل ولم يكن له مال غير المبيع، قال صاحب شرح فروع ابن الحداد: للورثة إبطال البيع في الثلثين، وكذلك إذا رهن جميع ماله لهم فَسْخُ الرهن في الثلثين. - إذا أوصى بأمة لولدها من غيره، إن خرجت من الثلث وقبل الموصى له الوصية، عتقت عليه وإن رد بقية الورثة، وإن لم تخرج من الثلث، فالجواب في قدر الثلث كذلك، وأما الزائد عليه فإن أعتقه الوارث وهو موسر عتق عليه، ثم إن لم يقبل انتهاء الوصية فقد تبينا أن جميعها للوارث؛ فيسري العتق من البعض الذي أعتقه إلى الباقي، وإن قبل عتق عليه ما قبل.

قال ابن الحداد: ولا يكون نصيب الوارث عليه، ولا نصيبه على الوارث. أما الأول: فلأنه أعتق نصيبه قبل قبوله. وأما الثاني: فلأنا نتبين بالقبول حصول ملكه بالموت، وتقدمه على إعتاق الوارث الزيادة. قال الشيخ أبو علي: والصواب عند الأصحاب أن يقال: إن قلنا بحصول الملك [بالموت] ابتداء، وتبينا، فنقوم نصيب الوارث؛ لأنا تبينا استناد عتقه إلى وقت الموت، وعتق الوارث متأخر عنه، وإن قلنا بحصوله بالقبول فيعتق الكل على الوارث؛ لأنه يسري من نصيبه إلى قدر الثلث، والقبول بعده كإعتاق الشريك الثاني بعد الأول وهو موسر، هذا إذا حكمنا بحصول السراية بنفس الإعتاق، فإن قلنا: لا يحصل إلا بعد أداء القيمة فقبوله كإعتاق الشريك الثاني نصيبه قبل أخذ القيمة، وفيه وجهان: أحدهما: النفوذ؛ لأنه ملكه ما لم يأخذ القيمة. وأصحهما: المنع؛ لأن الأول [استحق تقويمه عليه بالإعتاق] وفي ذلك تفويت حق وجب له. قلت: وقد يتجه أن يقال في المسألة، إذا قلنا بأن الملك لا يحصل إلا بالقبول، وقد نفذنا عتق الوارث: تبطل الوصية؛ لأن العتق إتلاف شرعي؛ فكان كالحس، وقد ذكرنا في الإتلاف الحسي أنه إذا وجد قبل القبول [وقلنا]: لا يحصل الملك إلا بالقبول: أن الوصية تبطل. إذا أوصى لرجل بدينار كل شهرين من غلة داره، أو من كسب عبده، وجعله بعده لوارثه أو للفقراء، والغلة والكسب عشرة مثلاً، فاعتبار هذه الوصية من الثلث كاعتبار الوصية بالمنافع مدة معلومة؛ لبقاء بعض المنافع لمالك الرقبة، قال ابن الحداد: وليس للورثة بيع بعض الدار [إلا قدر] ما يحصل منه دينار؛ لأن الأجرة قد تتفاوت فتعود كل الأجرة إلى دينار أو أنقص منه؛ فيكون الجميع [للموصى له]. ولو أوصى بعشر الغلة في كل سنة، صح منهم بيع ما عدا عشر الدار.

ولو أوصى لإنسان بدينار كل سنة من ماله، قال الإمام: صحت الوصية في السنة الأولى بدينار، وفيما بعدها قولان: أحدهما: الصحة، وبمثله جزم في الإشراف فيما إذا قال: أعطوه كل يوم من الطعام مُدُّا بعد موتي. وأظهرهما: البطلان؛ لأنه لا يعرف قدر الموصي به حتى يخرج من الثلث، وعلى الأول إذا لم يكن ثم وصية أخرى، فللورثة التصرف في الثلثين، وفي الثلث وجهان: أحدهما: ينفذ تصرفهم فيه بعد إخراج الدينار؛ لأنا لا ندري استحقاق الموصى له شيئاً سواه. والثاني: أنه يوقف، [وهما كذلك في الوصية بالطعام، كما حكاه في الإشراف، وحكى وجهين آخرين: أحدهما: أنه يوقف له لتتمة سبعين سنة. وقيل: يعطى سنة. ومثلهما يظهر مجيئه في مسألة الدينار، والذي اقتضاه إيراده: ترجيح قول الوقف مطلقاً]؛ فعلى هذا: إن بقي الموصى له حتى نفدت التركة فذاك، وإن مات قبل نفاذها، قال الأصحاب: عاد الفاضل في مسألة الدينار لورثة الموصي، وقال الإمام: فيه نظر؛ لأن هذه الوصية إذا صححناها كالوصية بالثمار بلا نهاية؛ فوجب أن ينتقل الحق إلى الورثة، وإن نفذنا تصرف الوارث فيما عدا الدينار، فكلما مضت سنة طلب الموصى له الورثة بدينار، وكان ذلك لوصية تظهر بعد القسمة. وإن كان هناك وصايا أخر، قال صاحب التهذيب: يُفَضُّ الثلث بعد الدينار على أرباب الوصايا ولا يوقف، فإذا انقضت سنة أخرى، استرد منهم بدينار ما يقتضيه التقسيط. قال الإمام: وهذا [بين] إذا كانت الوصية مقيدة بحال حياة الموصى له، أما إذا لم تقيد وأقمنا ورثته بعد موته مقامه، فهذا مشكل [لا يهتدي إليه]، والله- عز وجل- أعلم.

باب العتق

باب العتق العتق في الشرع: إزالة ملك عن رقبة آدمي لا إلى مالكٍ؛ تقرباً لله تعالى. واحترزنا بقولنا: "عن رقبة آدمي" عن عتق البهائم؛ فإنه غير نافذ على الأصح. وقيل: إنه إخراج النسمة من ذل الرق إلى عزِّ الحريَّة، وهو عند الأزهري مأخوذ من قولهم: عتق الفرس، إذا سبق ونجا، وعتق فرخ الطائر، إذا طار واستقلَّ. فكأن العبد إذا فكت رقبته من الرق- وهو: الملك- تخلص فذهب حيث شاء. وقيل: إنه مأخوذ من قولهم: عتق فرخ الطائر، إذا قوى على الطيران؛ فكأنه بالعتق قوى على التصرفات. قال صاحب "المحكم": يقال: عَتَقَ يعْتِقُ، عِتَقاً وعَتْقاً- بكسر العين وفتحها- وعَتَاقاً وعَتَاقة؛ فهو عَتِيق، وهم عُتَقَاء، [وأعتقته؛ فهو مُعْتَق وعتيق، وهم عتقاء]، وأمة عَتِيقٌ وعتيقة، وإماء عتائق. وحلف بالعَتَاق، أي: الإعتاق. وزاد الجوهري فقال: عتُق، فهو عتيق وعاتق، ويقال: رَقَقْتُ العبد أَرُقُّه؛ فهو مرقوق. قال: العتق قربة مندوب إليها. الأصل في ذلك قبل الإجماع من الكتاب قوله- تعالى-: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ 11 وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ 12 فَكُّ رَقَبَةٍ 13} [البلد: 11 - 13]، وقوله- تعالى-: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [أي بالإسلام] {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}

[الأحزاب: 37] أي: بالإعتاق، وكانت قد نزلت في شأن زيد بن حارثة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم تبناه وأعتقه، ومن ثمَّ سمى المولى المعتِق: مُنْعِماً. ومن السنة: ما روى أبو داود عن أبي نجيح [قال] سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلاً مُسْلِماً، فَإِنَّ اللهَ- عَزَّ وَجَلَّ- جَاعِلٌ وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهِ عَظْماً مِنْ عِظَامِ مُحَرَّرِه مِنَ النَّارِ، وأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً، فَإِنَّ اللهَ جَاعِلٌ وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا [عَظْماً مِنْ عِظَامِ] مُحَرَّرِها مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ" وأخرجه النسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن [صحيح. وأبو نجيح: هو عمرو بن عبسة السلمي. وقد جاء في حديث خرجه أبو داود والنسائي] وابن ماجة، عن شرحبيل بن السمط، عن كعب بن مرة- أو مرة بن كعب- أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأتَيْنِ إِلَّا كَانتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِئُ مَكَانَ كُلِّ عَظْمَيْنِ مِنْهُمَا عَظْم مِنْ عِظَامِهِ"، وقد ضبط بعضهم "السمط" بكسر السين وإسكان الميم. وما روى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [أنه] قال: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً، أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْ أَعْضَائِهِ مِنَ النَّارِ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ".

وغير ذلك من الأخبار، وخصت "الرقبة" بالذكر دون سائر الأعضاء؛ لأن ملك السيد لعبده كالحبل في الرقبة، وكالغُلِّ هو [به مُحْتَبَسٌ] كما تحبس الدابة بحبل في عنقها؛ فإذا أعتق فكأنه أطلق من ذلك، ولأن في العتق فكاكاً من ذلِّ الرق بعز الحرية، وكمال الأحكام بعد نقصانها، والتصرف في نفسه بعد المنع منه، وتملك الرقبة بعد حظره عليه، فكان من أفضل القرب من المعتق، وأجزل النعم على المعتق، ولأن الله- تعالى- كفّر به الذنوب وجبر به المأثم، ومحص به الخطايا، وما هو بهذه الحالة فهو عند الله عظيم. ثم محل كون العتق قربة إذا كان منجزاً، أما "إذا كان معلقاً" فليس بعقد قربة، وكذلك الإيصاء ليس بعقد قربة، بخلاف التدبير؛ حكاه الرافعي في كتاب الصداق، في مسألة الرجوع بنصفه. قال: ولا يصح [إلا] من مطلق التصرف في ماله؛ لأنه تصرف في المال في حال الحياة فأشبه الهبة، وقد تقدم حكاية قول في صحة عتق المفلس موقوفاً على فك الحجر [عنه] وبقاء المعتق في ملكه، وحكاية وجه في

صحة عتق الصبي والسفيه في مرض الموت؛ إذا صححنا وصيتهما، ولا فرق في مطلق التصرف بين أن يكون مسلماً أو كافراً، ولا في الكافر بين أن يكون ذميّاً أو حربيّاً، والمعتق مسلم أو حربي، كما صرح به ابن الصباغ وغيره. نعم، عتق الكافر ليس بقربة منه، كما حكاه الرافعي عقيب الكلام في أن الملك في الموقوف لمن يكون؟ قال: ويصح بالصريح والكناية كالطلاق. قال: وصريحه: العتق والحرية؛ لأنه يثبت لهما عرف الشرع والاستعمال. وصورته أن يقول: أعتقتك أو: أنت معتق، أو: عتيق، أو: حررتك، أو: أنت حر، [أو: محرر]، ولا فرق بين أن يأتي بهذه الألفاظ على قصد إيقاع العتق أو لا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثَةٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وهَزْلُهُنَّ جِدٌّ .. " وعد من جملتها: العتق. فرع: لو كانت أمته تسمى حرة قبل جريان الرق عليها، فقال لها: "يا حرّة" على قصد النداء- لم تعتق، وإن أطلق، فوجهان، أشبههما: عدم العتق.

[وإن قال لها ذلك في معرض التوبيخ لم تعتق، وإن لم يكن اسمها حرة، جزم به القاضي الحسين قبل إقرار الوارث]. قال: والكناية قوله: لا ملك لي عليك، ولا سلطان لي عليك، ولا سبيل لي عليك، وأنت لله، وأنت طالق، وأنت حرامٌ، وحبلك على غاربك، وما أشبه ذلك أي: كقوله: لا رق لي عليك، أو: لا حكم لي عليك، أو: لا يد، أو: لا أمر، أو: لا خدمة، أو: أنت سائبة- كما صرّح [به] ابن الصباغ وغيره- أو: أنت مولاتي- كما قال في "التهذيب"- أو: أنت سيدتي عند الإمام دون القاضي الحسين؛ لأن ذلك يحتمل العتق وغيره، وفي قوله للجارية: أنت عليَّ كظهر أمي، أو أنا منك حُرٌّ- وجهان في أن ذلك كناية أو ليس بكناية، والمختار في "المرشد" في الأولى: الثاني، والأول هو الذي قال به أكثر أصحابنا في الثانية؛ كما قاله في "المهذب" في كتاب: الطلاق. وما عدا ذلك من صرائح الطلاق وكناياته فهو كناية في العتق، قاله في "التهذيب" و"تعليق" البندنيجي، وجعل في "التتمة" في أول كتاب: "الصلح" قول السيّد لعبده: "ملكتك رقبتك" كناية، حيث قال: لا يعتق من غير نيَّة، وهو ما حكاه في "البحر" عن "الأم"، وألحق به ما إذا قال: ملكتك على نفسك، فإذا أراد العتق وقع. وجزم في "التهذيب" و"تعليق" القاضي الحسين بأنه إذا قال: وهبتك نفسك، أو: ملكتك [نفسك]، وقبل في المجلس- بالعتق، وأنه إذا لم يقبل في المجلس لم يعتق. واعلم أن ضابط الكناية: هو كل لفظ محتمل شيئين فصاعداً، يقال: كنيت بكذا عن كذا وكنَوت، حكاهما الجوهري وغيره، وهو كانٍ وقومٌ كانُون. ومعنى قوله: حبلك على غاربك، قد بينته في كتاب "الطلاق".

قال: وفي قوله: فككت رقبتك وجهان: أحدهما: أنه صريح؛ لأنه قد ورد به القرآن الكريم في قوله- تعالى-: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13]. والثاني: أنه كناية؛ لأنه يستعمل في العتق وغيره، وهذا هو الأصح في "الجيلي". والأول جزم به البندنيجي، وقال في "البحر": إنه ظاهر المذهب، نص عليه في "الأم"، لكنه صور المسألة بما إذا قال: "فككت رقبتك من الرق"، ثم حكى [عن] بعضهم الوجهين فيه أيضاً. ومادة هذا الخلاف: [أن ما] ورد في القرآن مرة واحدة ولم يتكرر على لسان حملة الشريعة، هل يكون صريحاً أو كناية؟ وسيأتي الكلام فيه في كتاب الطلاق، إن شاء الله تعالى. فرع: لو قال لعبده: "أعتقك الله"، قال القاضي الحسين: لا يعتق؛ لأنه دعاء له بالإعتاق. وجزم العبادي في "الزيادات" بأنه يعتق، وطرده فيما إذا قال لامرأته: "طلقك الله"؛ لأن الله لا يطلق، [إلَّا وهي] طالق. وقال القاضي: إذا قال لعبده: "أعتقك الله"، فالظاهر أن هذا صريح في العتق. قال: [ويقع العتق] بالصريح من غير نيّة؛ لأن حقيقة الصريح في الشيء: ما لا يفهم منه غيره عند الإطلاق، مأخوذ من قولهم: "نسب صريح" أي: خالص، لا خلل فيه، وإذا كان كذلك فلا معنى لتقويته بالنيّة.

قال: ولا يقع بالكناية إلَّا بالنية؛ لأن اللفظ [فيها] محتمل للعتق وغيره، فافتقر في الصحة إلى النية؛ لأجل التمييز، كما في الإمساك في الصوم. ولا فرق في ذلك بين أن يحتف بالكناية قرينة أم لا. [قال] ويجوز أن يعلق العتق على الأخطار والصفات: كمجيء الأمطار، وهبوب الرياح، وغير ذلك من الصفات أي: كقدوم زيد، ومجيء الشهر، ودخول الدار، ونحو ذلك؛ لأنه تعليق قربة سارية على صفة؛ فجاز قياساً على التدبير، وقولنا: "سارية"، يخرج الوقف. فروع: لو قال لأمته: "إذا ولدت ولداً فهو حرٌّ"، فإن كانت حاملاً حال التعليق [فولدت ولداً حيّاً عتق، وإن ولدته ميتاً ثم حملت وولدت حيّاً لم يعتق، وإن كانت حائلاً وقت التعليق] ثم حملت ووضعت فهل تعتق؟ فيه وجهان، المذهب منهما في "تعليق" البندنيجي: أنه لا تعتق، ووجه حصول العتق-[وهو الأشبه في "الرافعي"]-: أنه مالك للأصل حالة التعليق. لو قال: إن ولدت أولاً ذكراً فهو حر، وإن ولدت أولاً أنثى فأنت حرة، فولدت ذكراً وأنثى-: فإن خرجا معاً لم يعتق واحد منهما، وكذا لو خرج ذكران معاً أو أنثيان معاً، [وإن خرج غلام وجارية] أحدهما بعد الآخر: فإن كان السابق الغلام عتق خاصة، وإن كانت الجارية عتقت الأم [والغلام؛ لأنه في حال عتق الأم كان جنيناً فيتبعها في العتق، ولا تعتق الأنثى بخروجها قبل عتق الأم]، فلو أشكل الحال: فإن كان [الإشكال في أنهما خرجا معاً، أو أحدهما قبل الآخر فلا عتق، وإن تحقق خروج] أحدهما بعد الآخر وأشكل السابق، فعن ابن الحداد: أنه يقرع بين الغلام والأم، فإن خرجت على الأم عتقت هي والغلام، وإن خرجت على الغلام رقت الأم، وقد وافقه بعض الأصحاب على ذلك،

وصححه القاضي أبو الطيب، وقد استشهد له بما [إذا] قال: إن كان هذا الطائر غراباً فزوجته طالق، وإن لم يكن غراباً فعبده حرٌّ، فإنه [عند اللبس يقرع] بينهما لأجل الحريّة، وإن كانت القرعة لا تفيد في الطرف الآخر، والذي ذهب إليه الأكثرون- وهو الأصح في "التهذيب"-: أن القرعة لا معنى لها في هذه الصورة. قال في "التهذيب": لأن القرعة إنما تكون في موضع يتحقق الوقوع، [ثم يشكل]، وهنا لم يتحقق الوقوع فلا قرعة؛ كما لو طار طائر فقال رجل: إن كان هذا غراباً فعبدي حُرٌّ، وإن لم نتبين لا يقرع للحرية. ووجهه الإمام: بأن القرعة [إنما تجري] إذا تردد العتق بين شخصين، ورددنا العتق بينهما قصداً، وأشكل الأمر، وليس الأمر كذلك في هذه المسألة؛ فإن الغلام لم يحصل في معاوضة الجارية، فالوجه أن يقال: الغلام حُرٌّ بكل حال، والأم أشكل أمرها؛ فالأصل بقاء [الرق فيها]، وبما ذكرناه عن الإمام من العلة يظهر الفرق بين هذه المسألة، وبين ما صار إليه جمهور الأصحاب فيما إذا أشار شخص إلى أمة لها ثلاثة أولاد، وقال: أحد هؤلاء ولدي، استولدتها به في ملكي- أنه يقرع بين الأولاد الثلاثة مع أن الأصغر [حرّ] بكل حال؛ فتكون فائدة القرعة: أنها لو خرجت عليه [اقتصر العتق عليه]، وإن خرجت على غيره عتق مع غيره، وغلطوا المزني في قوله معترضاً على نص الشافعي- رضي الله عنه-: "كيف يدخل الصغير في القرعة وهو حر بكل حال؟! "؛ لأجل ما أبدوه من الفائدة، على أن في النفس من تسليم ما ادعاه الإمام شيئاً. إذا قال: أول عبد من عبيدي يدخل الدار فهو حرّ، فدخل واحد عتق، وإن لم

يدخل ثان على الأصح، وهو ما ادعى الشيخ أبو علي نفي الخلاف في نظيره، حيث قال: لو قال: [إن كان] أول ولد تلدينه من هذا الحمل ذكراً فأنت طالق، فولدت ولداً ولم تلد غيره-: إنه لا يختلف أصحابنا أنه يقع الطلاق، وليس من شرط كونه أولاً أن تلد بعده آخراً، وإنما الشرط ألَّا [يتقدمه غيره]. و [حكي في "التتمة" وجهاً: أنه لا] يقع الطلاق، [قال:] والأول يقتضي آخراً كما أن الآخر يقتضي أولاً. وهذا قد حكي مثله في مسألتنا أيضاً، وإيراد بعضهم يقتضي ترجيحه. ولو دخل اثنان معاً، ثم دخل واحد- لم يعتق واحد منهم؛ لأن اسم الأول لمفرد حكاه في "التتمة" في الفصل الرابع من بيان القسمة من كتاب الوصية. لو قال: آخر عبد من عبيدي يدخل الدار فهو حرُّ، [فدخل واحد ثم واحد، وهكذا]- لم يعتق أحد ما دام الحالف حيّاً؛ لجواز أن يدخل بعدهم غيرهم، فإذا مات تبيَّنّا عتق آخر من دخل منهم قبل [موت السيّد] إذا كان موجوداً حين اليمين، فلو كان آخرهم دخولاً من لم يكن في ملكه حال اليمين فالذي يظهر أن يقال: لا يعتق واحد منهم؛ لأن الموجودين لم توجد الصفة في واحد منهم، والذي وجدت فيه الصفة لم يكن حين التعليق في ملكه؛ فلم يقع.

قال: وإذا علق العتق على صفة لم يملك الرجوع فيه بالقول؛ لأنه تعليق قربة، فلم يملك الرجوع فيها بقول؛ كاليمين والنذر، فإذا وجدت الصفة نفذ العتق، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المعلق في تلك الحالة مجنوناً أو سفيهاً، ولو كان محجوراً عليه بفلس، قال القاضي الحسين: فالأصح [من المذهب]: أن الاعتبار بوقت وجود الصفة. ومن أصحابنا من قال: قولان؛ كما في مسألة الطلاق والعتاق. إذا علق وكان المعلق صحيحاً، ثم وجدت الصفة في حال المرض- فأصح القولين في "التهذيب": أن الاعتبار بحال التعليق، وكذلك هو في "تعليق" القاضي في موضع آخر من كتاب العتق أو التدبير، فإن قلنا: الاعتبار بحال وجود الصفة، لم يعتق. قال القاضي: إلَّا على قولنا: إن تصرف المحجور عليه بالفلس [يكون موقوفاً]؛ فها هنا يكون موقوفاً، وإن قلنا: الاعتبار بيوم التعليق- وهو مذهب العراقيين- فنصيبه يعتق لا محالة، وهل يسري؟ إن قلنا: إن الدين يمنع السريان، امتنع، وإلّا سرى، وضارب الشريك الغرماء. قال: ويملك التصرف بالبيع وغيره، أي: كالهبة مع الإقباض، وجعله صداقاً، وبدلاً في الخلع، وعن دم العمد وغير ذلك؛ لأنها قربة علقت على شرط فجاز الرجوع فيها بالفعل المزيل الملك؛ كالتدبير، وقد خالف [الرجوع في] العتق الرجوع في الهبة من الولد؛ حيث لا يصح هناك بالفعل على الأصح، [ويصح بالقول]. وفرّق الأصحاب: بأن الابن ملك الموهوب ملكاً تامّاً، فكان الرجوع ابتداء تمليك؛ فاختص بما يملك به الأموال المنتقلة عن الغير، وهو اللفظ؛ فإنه لو جاز بالفعل لكان فيه بيع ملك الغير، أو تقدير انتقال الملك قبله، وذلك إنما يصار إليه للضرورة، ولا ضرورة، وهنا التصرف واقع في ملكه؛ فاكتفى فيه بالفعل.

وقد ألحق البندنيجي بما ذكرناه: الرهن مع الإقباض، وقد ذكرنا حكمه في كتاب الرهن والوقف. إن قلنا: يزيل الملك كالبيع، وإلا فيعتق عند وجود الصفة، قاله القاضي الحسين في كتاب: الوقف، [ويتجه تخريجه على أن الاعتبار بماذا لو أخر المعلق عتقه بصفة عتق عند وجودها وانفسخت الإجارة؟ قال القاضي حسين: في كتاب الوقف] بخلاف ما لو أعتق العبد المستأجر ابتداء: لا تنفسخ [الإجارة]؛ لأن ها هنا وجد سبب الإعتاق قبل الفعل. قال: فإن باعه ثم اشتراه لم تعد الصفة؛ لأن الملك الذي وجد فيه التعليق قد زال بآثاره، وبزواله بطلت الصفة، والملك الجديد غير مبني على الأول، والعتق علق قبله فلم يقع فيه؛ كما لو علق عتق عبد على ملكه، وما ذكرناه من الخلاف عن القديم والجديد في نظير المسألة من الطلاق مذكورٌ بعينه هنا، وقد صوّر [بعضهم محل] القول الثالث في الطلاق هنا: بأن يعلق الذمي عتق عبده [الكافر]، فيلتحق المعتق والمعتق بدار الحرب، [وكان قد نجَز عتقه قبل الإلحاق] ثم يملك السيد عبْده بالقهر والغلبة قبل وجود الصفة، ثم يؤخذ وهو في هذا الملك، [ولو باعه ثم وجدت الصفة ثم اشتراه، فقياس ما تقدم في الطلاق: ألا يعتق، وفي "البحر" في كتاب الأيمان: أن ابن أبي هريرة قال: يعتق ويقبض البيع ويرجع بثمنه؛ لاستحقاق عتقه قبل بيعه. قال: وهذا غلط؛ لأن نفوذ البيع أوجب زوال ملكه]. قال: وإن علق العتق على صفة مطلقة، فمات السيد بطلت الصفة، صورة المسألة أن يقول: إذا وقع المطر أو قدم زيد فأنت حر، ثم مات السيّد، ووجد ذلك بعد موته، وإنما بطلت الصفة؛ لأن وجودها يحتمل أن يحصل في حياته

وبعد وفاته، وتصرّف الإنسان مقصور على حال الحياة؛ فحمل إطلاق الصفة عليه. قال: وإن علق على صفة بعد الموت، أي: مثل أن قال: إذا مت ودخلت الدار، أو خدمت فلاناً كذا، وما جانس ذلك فأنت حر، [ثم مات] السيد- لم تبطل الصفة، أي: فإذا وجدت عتق؛ لأنه يملك العتق بعد الموت من الثلث بالتدبير، فملك عقده على صفة [بعد الموت في الثلث، كما أنه لما ملك العتق] في حال الحياة من رأس المال ملك [عقده على صفة في حال الحياة من رأس المال]. قال: وإن أتت الجارية التي علق عتقها على صفة، بولد- أي: من نكاح أو زنى- تبعها الولد في أحد القولين؛ كولد أم الولد، ولا يتبعها في الآخر، وهو الأصح؛ لأنه عقد يلحقه الفسخ فلم يسر إلى الولد؛ كالرهن، والوصيّة، والهبة. وحكى القاضي الحسين عن بعضهم في كتاب التدبير: القطع به، وهذا الخلاف في الولد الذي يحدث العلوق به بعد التعليق، أما إذا كان موجوداً عند التعليق فهو تابع لها، قولاً واحداً، صرّح به ابن الصباغ وغيره في كتاب التدبير. ثم اعلم أن التبعية ها هنا تكون في العتق- إذا حصل للأم- لا في الصفة؛ إذا كانت الصفة فعلها كدخولها الدار، حتى لو ماتت قبل الدخول ثم دخل ولدها الدار لم يعتق جزماً، بخلاف ولد المدبرة إذا قلنا: إنه يتبعها؛ فإن التبعية تكون في الصفة لا في العتق، حتى لو ماتت الأم ثم مات السيد والولد في ملكه، عتق إذا خرج من الثلث. قال ابن الصباغ: والفرق بينهما: أن ها هنا الشرط دخول الأم الدار، وإذا ماتت فات الشرط، والشرط في المدبر موت السيد، ولم يَفُتْ ذلك في حق الولد بموت أمه. نعم، لو كانت الصفة من فعل السيد، أو فعل غيرهما فيكون كولد

المدبرة سواء. هذا آخر كلامه، وغيره لم يفصل بين أن تكون الصفة من فعلها أو من فعل غيرها، بل أطلق أن ولد المعلق عتقها لا يتبعها في الصفة، ويتبعها في العتق، بخلاف ولد المدبرة؛ فإنه يتبعها، ومنهم الماوردي، وفرق بأن عتق المدبرة مستحق بالوفاة، وعتق الصفة مستحق في الحياة، وحكم ما استحق في الحياة خاص؛ كالعقود، وما استحق بالموت عام؛ كالميراث. وحكى الإمام عن شيخه: أنه كان يقول: متى تعدى العتق إلى ولد المعلق عتقها بصفة، فدخل الدار- عتق، وأما أنه [يعتق بعتق] الأم فلا. قال الإمام: وهذا وإن كان غريباً في الحكاية فليس بعيداً في التوجيه. قال: ويجوز العتق في العبد؛ للخبر، وفي بعضه بالقياس عليه، ولما سنذكره من الخبر عند عتق الشريك حصته وهو معسر. قال: فإن أعتق بعض عبده عتق جميعه؛ لما روى أبو داود عن أبي المليح عن أبيه: أن رجلاً أعتق شقصاً له من غلام، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ" وزاد ابن كثير في حديثه: "فَأَجَازَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِتْقَهُ"، وأخرجه النسائي وابن ماجة. وروى أنه أعتق ثُلُث غلامه فقال: "هو حُرٌّ كله، ليس فيه شِرْك"، ولأنه لو أعتق بعض عبد لا يملك سواه وهو موسر عتق جميعه وإن لم يكن ملكه، ففيما إذا كان الباقي ملكه من طريق الأولى؛ لأنه موسر به. لكن هل نقول وقع العتق على ما سماه ثم سرى إلى الباقي أو وقع العتق على جميع العبد جملة واحدة، ويكون قد عبّر بالبعض عن الكل؟ فيه خلاف ذكر مثله في مسألة الكتاب في الطلاق وهو جارٍ فيما إذا أوقع العتق على عضو من

أعضاء العبد كاليد والخنصر وغيرهما، ورتب القاضي الحسين الخلاف في الصورة الثانية على الخلاف في الأولى، فقال: إن قلنا بوقوعه في الأولى على الجميع ففي الثانية أولى، وإلّا فوجهان، والفرق: أن الجزء المعيّن من العبد لا يتصور انفراده بالحرية، بخلاف الجزء الشائع، وهذا لا يجيء في الطلاق، وعلى هذا الترتيب جرى الإمام. ومن ثمرة هذا الخلاف فيما إذا أضاف العتق إلى جزء شائع: أنه لو أوصى بعتق بعض عبده بعد موته، فإن قلنا: إن عتق الباقي يقع بطريق السراية، لم يعتق عن الميت إلَّا ما أوصى بعتقه، وإن قلنا: يقع بطريق [التعبير بالبعض عن الكل]، أعتق عنه جميع العبد، قاله في "البحر". ومن ثمرته ما إذا أضيف إلى عضو معيّن: أنه لو قال: إن دخلت الدار فخنصرك حر، ثم قطع، ثم دخل الدار- فعلى الأول: لا يعتق، وعلى الثاني يعتق، وكذا لو قال: خنصرك حرٌّ- ولا خنصر له- فعلى الأول: لا يعتق، وعلى الثاني: يعتق. واستبعد القاضي الحسين وقوع العتق في هذه الصورة؛ بأنه لم يضفْ إلى شيء متصل بها؛ فأشبه ما لو قال: يدك الثالثة، أو: رجلك الثالثة حرة؛ فإنه لا يعتق. وحكى الإمام ذلك طريقة ولم يسم الصائر إليها، وقال: إنها أفقه. وقال القاضي الحسين في الصورة الأولى: إن قلنا: إن الاعتبار في تعليق الطلاق [بحالة العتق] عتقت، وإن قلنا: بحالة وجود الصفة، فوجهان؛ بناءً على ما ذكرناه من المأخذين. قال: وإن عتق شركاً له في عبد أي: في الصحة، والمعتق مما يمكن أن يسري إليه العتق لو كان المعتق هو الشريك الآخر، وحصة الشريك الآخر قابلة للعتق. قال: فإن كان معسراً عتق نصيبه ورق الباقي؛ لما روى مالك عن نافع عن ابن

عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ فِي عَبْدٍ مَمْلُوكٍ أُقِيمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ العَدْلِ، فَأُعْطِيَ شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ، [وَأَعْتَقَ عَلَيْهِ العَبْد] وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ". وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة. قال الإمام الشافعي- رضي الله عنه-: وزاد فيه بعضهم: "وَرَقَّ [مِنْهُ] مَا رَقَّ"، وقد خرج هذه الزيادة الدارقطني في سننه. وقال في كتاب "الأفراد": تفرد به إسماعيل بن مرزوق عن يحيى بن أيوب عنه- يعني: عن عبد الله بن عمر- عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال الشيخ زكي الدين [عبد العظيم]: وإسماعيل هذا مرادي بصري كنيته: أبو زيد، روى عنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ويحيى بن أيوب، واحتج به مسلم، واستشهد به البخاري. فإن قيل: قد خرج أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصاً فِي مَمْلُوكٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتِقَهُ كُلَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَّا اسْتَسْعَى الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"، فَلِمَ لا عمل بموجب ذلك؟ قيل: ما ذكرناه من الأحاديث ليس فيه ذكر السعاية، والسعاية المذكورة

محمولة على أن العبد يستسعى لسيّده الذي لم يعتق [أي]: يخدمه بقدر نصيبه؛ كي لا يظن أنه يحرم عليه استخدامه، وكذلك قال: "غَيْرَ مَشْقُوقٍ [عَلَيْهِ] " أي: لا يحمل فوق ما يلزمه من الخدمة. فإن قيل: جاء عنه في رواية أخرى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصاً لَهُ أَوْ شَقِيصاً لَهُ فِي مَمْلُوكٍ، فَخَلَاصُهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْعَبْدُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِيَ لِصَاحِبِهِ فِي قِيمَتِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"، وهذا ينفي التأويل. قيل في جوابه: إن أبا داود قد رواه عن روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة [ولم يذكر السعاية، ويحيى بن سعيد وابن أبي عدي عن سعيد بن أبي عروبة] ولم يذكرا فيه السعاية. وقال البخاري: رواه سعيد عن قتادة ولم يذكر فيه السعاية. وقال الترمذي: روى شعبة هذا الحديث عن قتادة ولم يذكر أمر السعاية. وقال الخطابي: اضطرب سعيد بن أبي عروبة في السعاية يذكرها مرة، ولا يذكرها مرة؛ فَدَلَّ على أنها ليست من متن الحديث عنده، وإنما هو من كلام قتادة، وتفسيره على ما ذكره همام وبينه؛ فإن النسائي قال: إن هماماً ما روى هذا الحديث عن قتادة، فجعل الكلام الأخير- قوله: "وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"- قول قتادة، والله تعالى أعلم. ويندرج في هذه الحالة ما إذا أوصى بعتق حصته من عبد بعد الموت، أو دبر حصته من عبده؛ لأن التركة انتقلت إلى الورثة بموته، اللهم إلَّا أن يوصي بأن يعتق حصته، ويكمل من ثلثه؛ فإن ذلك يصير كالمستثنى من مال الورثة؛ فيكون موسراً به، كذا قاله الروياني، وحكى الرافعي عن القاضي أبي الطيب أنه قال: عندي إذا أوصى بالتكميل؛ فإنما يكمل باختيار الشريك؛ لأن التقويم إذا لم يكن

مستحقًّا لا يصير مستحقًّا باختيار العتق؛ ألا ترى أن المعتق لو كان معسراً ثم أيسر وقال: قوموه عليَّ حتى أستقرض، لا يجبر الشركي عليه؟! وحكى الإمام أن صورة الوصيّة بالتكملة أن يقول: اشتروا نصيب الشريك فأعتقوه، فأما إذا قال: أعتقوه إعتاقاً سارياً، فلا خير في هذه الوصيّة؛ لأنه لا سراية بعد الموت، وإن أعتقوا نصيبه، فالذي أتى به وصيّة بمحال. قال: وإن كان موسراً أي: حالة العتق بقيمة نصيب الشريك مما يجب عليه توفيته الدين؛ كما قاله القاضي الحسين وغيره. قال: قوم عليه نصيب شريكه يوم العتق أي: وسرى العتق إليه؛ للحديث السابق. ولا فرق على المذهب فيما ذكره الشيخ بين أن يكون المعتق مسلماً [أو كافراً]، [أو العبد مسلماً] أو كافراً، ولا بين أن يكون على المعتق دين يساوي ما معه من قيمة حصة الشريك، أو لا دين عليه؛ لعموم الخبر. وقيل: إن كان العبد مسلماً والمعتق كافراً لم يقوم عليه؛ بناءً على أن الكافر لا يملك [العبد] المسلم؛ لأن السراية تتضمن نقل الملك إلى المعتق. وحكى المصنف: أن منهم من قطع بالأول؛ لأن هذا إتلاف، والبيع إنما منع لكون فيه ذلٌّ، وهو منتفٍ هنا. وقيل: إن كان عليه دين يستغرق ما معه لم يسر العتق، كما يمنع وجوب الزكاة على قول حكاه الفريقان. قال القاضي الحسين: ووجه الشبه أن الزكاة إنما تجب عليه مواساة [للفقراء، وكذلك] في هذا الموضع إنما يقوم عليه نصيب شريكه على وجه المواساة حتى لا يبقى متحيّراً. وقال الإمام: إن الجامع كون العتق حقّاً لله- تعالى- وهو متعلق بحق الآدمي في الخواص؛ فكان في معنى الزكاة، وخص الماوردي محل الخلاف بما

إذا كان الدين حالّاً، وجزم بالسريان عند تأجيله. أما إذا كان ما باشره بالعتق لا يمكن عتقه بالسراية، كما إذا استولد الشريك الجارية المشتركة بينه وبين غيره نصفين مثلاً، وهو معسر، ثم أيسر وأعتق حصته المستولدة، فإن حصته ينفذ [العتق] فيها، ولا يسري إلى نصيب شريكه. قال القاضي أبو الطيب في كتاب: الشفعة: لأن العتق لا يسري عند إعتاق النصف الطلق إلى النصف المحكوم بأنه أم ولد؛ فكذلك العكس، وقد حكى الماوردي وغيره فيما إذا استولد الجارية المشتركة وهو معسر، ثم استولدها الشريك الآخر وهو معسر، ثم أيسر أحدهما وأعتق نصيبه- وجهاً: أن العتق يسري إلى حصة الآخر، ويعتق على المنجز، وهذا الوجه يجري هنا من طريق الأولى، كما أجرى أيضاً فيما إذا استولد أحدهما حصته وهو معسر، ثم أعتق الشريك الآخر حصته الطلق، ولو تعلق بحصة الذي لم يعتق حق- لازم كما إذا كانت موقوفة- لم يسر العتق إليها قولاً واحداً، كما حكاه المصنف والقاضي أبو الطيب والماوردي والبندنيجي، والقاضي الحسين، وغيرهم في كتاب الوقف، والفرق بين ذلك وبين الحصة المستولدة، حيث جرى إليها العتق على وجه: أنها قابلة للعتق المنجز؛ فلذلك قبلت عتق السراية واغتفر فيها نقل الملك الضمني، والوقف غير قابل للعتق الناجز على الأصح كما "ذكرناه" في كتاب الوقف. ولو كان تعلق الحق بسبب الرهن، فقد تقدم ذكره في الرهن، ولو كان العتق في حال مرض الموت أو موصي به، فالنظر في اليسار بقيمة الشريك والإعسار بها [بالنظر] إلى الثلث دون جميع ماله.

تنبيه: الاعتبار في التقويم بالوقت الذي أعتق الشريك حصته فيه، على الأقوال كلها عند العراقيين والقاضي الحسين، و [هو] ما ادعاه المزني؛ لأنه وقت الإتلاف [أو وقت] سببه، وإطلاق الشيخ وغيره محمول [عليه؛ لأن الغالب] أن القيم لا تختلف في اليوم الواحد في الرقيق. وقال بعض المراوزة: إن قلنا: يقوم في الحال، فالحكم كذلك، وإن قلنا: بالتأخير إلى الأداء، فثلاثة أوجه: أحدها: الاعتبار بحال الإعتاق أيضاً. والثاني: بحال الأداء. والثالث: يعتبر أكثر الأمرين، وهذا ما نسبه الإمام إلى بعض المصنفين، وقال: إنه الصواب، وإن وجه اعتبار يوم أداء القيمة [لا اتجاه له] إلَّا على وجه من جوز [للشريك] التصرف بالبيع والعتق، كما سنذكره. وسلك الماوردي طريقاً آخر فقال: الاعتبار بقيمة يوم الإعتاق على الأقوال كلها إن كانت أزيد قيمة من حين العتق إلى حين بذل القيمة، وإن كانت أنقص، وقلنا بسراية العتق باللفظ أو بقول الوقف- فالاعتبار بقيمة وقت العتق، وإن قلنا: بتوقف السراية على [أداء] القيمة ففيه وجهان: أحدهما: الاعتبار بوقت العتق؛ لأنه السبب. والثاني: الاعتبار بحال أداء القيمة؛ كالغاصب. ثم الحصة التي سرى إليها العتق تقوّم قبل العتق، حتى لو كانت قيمة نصفه قبل العتق مائة، ووقت العتق تساوي تسعين، وكان النقص بسبب العتق- لزمته المائة، ولو كان الجميع قبل العتق يساوي ثلاثمائة، والنصف يساوي

مائة- لا يلزمه إلَّا مائة، قاله في "شرح فروع ابن الحداد" في كتاب الغصب، وكذلك حكاه في "البحر" فيه، والماوردي هنا، ووجهه بأن العتق موكس بقيمته، وهذا الوكس بعتقه الجاري مجرى جنايته. قال: ومتى تعتق حصة الشريك؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: تعتق في الحال، لما روى أبو داود عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رجلاً أعتق شقصاً من غلام فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتقه، وغرمه بقيّة ثمنه. وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَعْتَقَ نَصِيباً لَهُ في مَمْلُوكٍ عَتَقَ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ"، وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة بنحوه. ولأن العتق إذا سرى سرى في الحال؛ كما لو كان كل العبد له. [ولأن القيمة تعتبر] حال العتق؛ فدلّ على أن تلك الحالة حالة الإتلاف. وهذا ما قال الماوردي: إنه المشهور من المذهب، ولم يحك في كتاب الوصايا في العتق، واختلاف الأحاديث، واختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى- سواه، واختاره المزني، وهو الصحيح؛ فعلى هذا يكون حكمه حكم الأحرار في [شهادته وجميع] الأمور.

وهل نقول: حصلت الحرية فيه دفعة واحدة، أو حصلت في نصيب المعتق، ثم ترتب عليها عتق حصة الشريك؟ فيه وجهان في "الحاوي" هنا، و"الشامل" في كتاب الظهار ونسب الأول إلى شاذ أصحابنا. وحكى الإمام عن الأصحاب: أن الملك ينتقل إلى المعتق، ثم يترتب عليه العتق، وذلك في وقتين وإن كانا لا يدركان بالحس، وحكى عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: يحصل نقل الملك والعتق معاً من غير ترتيب، وأنه لما قيل له: هذا جمع بين النقيضين، قال: لا يبعد هذا في الأحكام، وإنما يمتنع اجتماع المتضادات المحسوسة، وأنه طرد مذهبه في شراء [الرجل] من يعتق عليه. وهذا كلام سخيف متروك عليه [باطل] قطعاً. قال: فإن اختلفا في القيمة، أي: على هذا القول عند تلف المعتق أو غيبته، أو تغيّر القيمة؛ لطول المدة- "فالقول قول المعتق"؛ لأنه [غارم]، والأصل فراغ ذمته مما لم يعترف به. قال: والثاني يعتق بدفع القيمة؛ لأنه جاء في بعض الروايات عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِذَا كَانَ العَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ: فَإِنْ كَانَ مُوسِراً يُقَوَّمْ عَلَيْهِ قِيمة عَدْل، لا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، ثَمَّ يَعْتِقُ"، خرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود. [ولأنه يعتق بعوض ورد الشرع به؛ فلا يسبق وقوع العتق دفع العوض، كالكتابة] ولأنه إزالة ملك لدفع الضرر؛ فلا يتقرر إلَّا بأداء العوض، كالشفيع يملك الأخذ بالشفعة، ولا يتقرر الملك حتى يدفع المال. ولأنه إنما يقوّم عليه نظراً للشريك، ولا نظر له في إزالة ملكه قبل أن يصل إلى عوضه، وهذا ما نص عليه في القديم، وفي الجديد أيضاً.

قال: فإن اختلفا في القيمة، أي: على هذا القول، "فالقول قول الشريك"؛ لأن المعتق يريد نزع ملكه بما يبذله؛ فكان القول في العوض قول الشريك؛ كالمشتري مع الشفيع، وعلى هذا القول فروع أخر. أحدها: قال الماوردي: هذا التقويم هل يجري مجرى البيع أو مجرى قيمة مستهلك؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو قول المزني وبعض المتأخرين-: أنه تقويم مستهلك. والثاني- وهو قول شاذي المتأخرين-: أنه يجري مجرى البيع. الثاني: لو مكن المعتق الشريك من قبض القيمة، فلم يقبضها- لا يحصل العتق، وعن بعض أصحابنا: أنه يحصل، [ويملك ما بذل له، كما صرّح به الماوردي وقال: إنه- على الوجهين معاً- لو أبرأ الشريك من القيمة لم يبرأ بها] المعتق؛ لأن وقوع العتق بدفع القيمة، وليس الإبراء دفعاً، ويفارق عتق المكاتب بالإبراء عن النجوم؛ لأنها تثبت عن تراضٍ فشابهت الديون، وهذا العتق عن إجبار يغلب فيه حكم العتق بالصفة. الثالث: [للشريك مطالبة المعتق بالقيمة] فإن لم يطالبه كان للعبد مطالبته؛ لدفع القيمة [ليحصل له العتق]؛ لما روى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَعْتَقَ مَمْلُوكاً بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ، فَعَلَيْهِ [خَلَاصُهُ] "، فلو سكت العبد [أيضاً]، قال المصنف والماوردي: كان للحاكم المطالبة بذلك؛ لما في العتق من حق الله تعالى. وفي "تعليق" القاضي الحسين بعد حكاية ما "حكيناه" عن المذهب: أن مطالبة الشريك له تحتمل أن تتخرج على أن تصرفاته هل تنفذ أم لا؟ فإن قلنا: [لا]

[ينفذ، خيّره] وإلَّا فلا، وهذا الاحتمال اقتصر عليه الإمام. ولو مات المعتق قبل أداء القيمة، أخذت من تركته، صرّح به الماوردي [في أوائل الكتاب. الرابع: لو كان المعتق أمة، فوضعت قبل دفع القيمة، كان نصف ولدها حرّاً ونصفه رقيقاً، ويعتق مع أمه عند دفع القيمة كما صرّح به الماوردي] ولو ضرب بطنها فأجهضت الجنين، وجب فيه نصف دية جنين [حر ونصف دية جنين] مملوك، ويملك الشريك ما وجب برقّه، ولا يضمن المعتق حصة الشريك من الجنين وجهاً واحدأً. الخامس: لو أعتق الشريك حصته قبل أداء القيمة عتقت عند ابن أبي هريرة؛ لأن عتقه صادف ملكه وهو من أهل العتق، والأصح- وبه قال الجمهور من أصحابنا-: لا؛ لتعلق حق السراية واستحقاق الولاء. وقاسه الماوردي وابن الصباغ على ما إذا عتقت الأمة تحت عبد، ثم طلقها زوجها قبل الفسخ- لم يقع الطلاق في الحال وإن كان مالكاً للبضع؛ لما في وقوع طلاقه من إبطال حق الزوجة من الفسخ. قال ابن الصباغ: وهذا الدليل لا يسلمه المخالف، ويحتاج المستدل به أن يبيّنه بالخبر المروي. قال القاضي الحسين: والخلاف في نفوذ بيعه مرتب على الخلاف في نفوذ عتقه، وأولى بالمنع، وبه جزم الشيخ أبو محمد؛ لأن العتق يحصل مقصود العبد من الحرية، [بخلاف البيع] [ثم] إذا جوزنا البيع، قال القاضي: كان للمعتق أن يختار فسخ البيع؛ لأنه يستحق تملكه بالقيمة، كما قلنا فيما إذا باع المشتري الشقص المشفوع، ولو مات العبد قبل أداء القيمة ففي استحقاق الشريك القيمة وجهان، [أصحهما في "تعليق" القاضي الحسين: لا، فإن قلنا: يستحق القيمة، فهل نحكم

بحصول العتق قبل الموت؟ فيه وجهان] في "الحاوي"، المذكور منهما في "النهاية": الحصول. قال: والثالث: أنه موقوف: فإن دفع القيمة حكمنا بأنه عتق في الحال، وإن لم يدفع حكمنا بأنه لم يعتق؛ لأنا لو قلنا [بالأول لأضررنا بالشريك؛ فإن المعتق قد يعسر أو يغيب فيتعذر على الشريك العوض، ولا مستدرك له، ولو قلنا بالثاني لأضررنا بالعبد؛ لأن أحكامه تكون أحكام الرقيق؛ فقلنا] بالوقف نظراً لهما، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب قولاً مخرجاً، وقال الشيخ أبو حامد وجماعة: إنه منصوص كالقولين الأولين. وقال في "الحاوي": إنه نَصَّ عليه في "البويطي" و"حرملة"، وهو أشبه. فعلى هذا: جميع الأحكام موقوفة أيضاً. ولو مات العبد قبل أداء القيمة- وجب دفعها وجهاً واحداً، قال الماوردي: لأن دفعها يوجب تقدم عتقه باللفظ. [ولو اختلفا في القيمة فالقول قول الشريك، وهذه طريقة الماوردي]، وقد أطلق بعض الأصحاب حكاية القولين فيمن القول قوله في القيمة من غير بناء. وحكى القاضي الحسين: أن القفال بناهما على أنه: إذا اشترى عبدين، وتلف أحدهما في يده، [وأراد أن يرد الباقي بالعيب، وجوزنا تفريق الصفقة في الرد]، فاختلفا، فقال المشتري: كانت قيمة التالف خمسمائة، وقيمة الباقي ألفاً فرد على الثلثين من الثمن، وقال البائع: بل قيمة التالف [ألف]؛ فلا أرد إلَّا الثلث، وفيمن القول قوله قولان: قال الإمام: وهذا البناء ليس كما يؤثره؛ فإن تلك القيمة ليست قيمة معروفة، والقيمة فيما نحن فيه معروفة، والأصل أن يكون القول قول الغارم. وحكى الماوردي أن الربيع قال في "الأم": وفيه قول] آخر: أنهما يتحالفان تحالف املتبايعين. وهو من تخريجه وليس بقول للشافعي- رضي الله عنه-.

فرع: إذا أعسر المعتق بعد يساره كان العتق موقوفاً إلى أن يوسر، فإن أيسر ودفع القيمة تبينا نفوذ العتق، وكانت الأكساب في زمن الوقف [للعبد]، وإن مات على الإعسار تبينا بقاءه على الرق، وسلمت الأكساب للشريك الذي لم يعتق، قاله الماوردي. وحكى في موضع آخر من هذا الكتاب: أنه إذا أعسر بعد العتق كان للشريك رفعه إلى الحاكم وطلبه بالقيمة، أو فسخ الوقف في حصته، ويكشف الحاكم عن حاله، فإن ظهر أنه معسر حكم بفسخ الوقف؛ كما يحكم للزوجة بفسخ النكاح إذا أعسر الزوج، وكان للشريك التصرف بما شاء من بيع وغيره. وحكى الإمام عن الشيخ أبي علي: أنه إذا أعسر بعد يساره حالة العتق انطلق الحجر عن الشريك في حصته، حتى إذا أيسر بعد ذلك فلا أثر له؛ لأن الطلبة قد انقطعت عنه بتخلل إعساره، وارتفع حق العتق عن نصيب صاحبه فلا يعود بعود المال، واستصوب الإمام ما قاله من انطلاق الحجر بطرآن الإعسار مع إبداء احتمال فيه، وإلى احتمال آخر جعله أظهر في عود الحق بعود اليسار. فرع إذا قال الشريك: كان المعتق خياراً وقد تلف، وأنكر المعتق- حكى العراقيون فيه طريقين: أحدهما: فيمن القول قوله قولان. والثاني: القطع بأن القول قول الغارم، وهو ما اختاره أبو إسحاق المروزي. ولو ادعى المعتق أن المعتق كان قد تعيب قبل العتق، وأنكر الشريك ففيمن القول قوله أيضاً طريقان: أحدهما: حكاية قولين. والثاني: القطع بأن القول قول الشريك. ولو قال: إنه كان ناقص الخلق فالذي ذهب إليه الأكثرون: أن المصدق الغارم.

قال الإمام: وقال العراقيون: في هذه الصورة قولان مبنيان [على القولين] فيما إذا اختلفا في مقدار القيمة مطلقاً، أما إذا كان الاختلاف في القيمة، والمعتق باق بحاله لم يتغيّر، رجع فيه إلى قول عدلين من أهل الخبرة، فإن شهدا بما ذكره أحدهما اتبع من غير يمين، وإن شهدا بأزيد مما ادعاه الشريك لم يستحق سوى ما ادعاه، وإن شهدا بأقل مما ادعاه المعتق لم ينقص عما ادعاه، وإن شهدا برُتْبةٍ بين ما ادعياه عُمل بشهادتهما، كذا قاله الماوردي. قال: وإن كان المعتق موسراً ببعض القيمة عتق منه بقدره؛ لأن ما وجب بالاستهلاك إذا عجز عن بعضه وجب ما قدر عليه، كبدل المتلف، وهذا الذي نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- كما حكاه القاضي الحسين وصححه، وهو الأصح عند الإمام، وحكى عن رواية الصيدلاني وجهاً آخر: أنه لا يسري في هذه الحالة؛ لأن السراية تقتضي نقل الملك إلى المعتق، فشابه [ذلك] استحقاق الشقص في الشفعة. ولو أراد الشفيع أن يأخذ بعض الشقص لم يجز، وهذا ما أبداه القاضي الحسين احتمالاً. ثم كيفية عتق الشريك حصته أن يقول: أعتقت نصيبي منك، فلو قال: أعتقت نصيب شريكي منك، لم ينفذ عتقه في شيء من العبد. ولو قال: أعتقت نصفك، وكان يملك من العبد نصفه، فهل وقع العتق [ابتداءً على نصيبه بجملته أو انصرف إلى نصف العبد مشاعاً فيقع العتق] مباشرة على نصف نصفه، ثم يسري إلى الربع الآخر الذي يملكه لا غير إن كان معسراً، وإن كان موسراً فإلى الجميع؟ فيه وجهان. قال الإمام: ولا يظهر لهذا الاختلاف فائدة، إلا أن يفرض تعليق عتاق أو طلاق [على ذلك]، بأن يقول: إن أعتقت نصفي من هذا العبد فامرأتي طالق.

قلت: وقد تظهر له فائدة في هذا الباب، وهو أن شريكه لو وكله في عتق نصيبه: فإن قلنا: إن العتق يقع شائعاً، عتق جميع العبد على الوكيل والموكل. وإن قلنا: يقع على نصيبه، لم تعتق حصة الشريك، وقد حكى ابن الصباغ في هذه الصورة وجهين: أحدهما: أنه يتناول نصيب شريكه لا غير. والثاني: يعتق نصيب نفسه لا غير؛ لأنه لا يحتاج إلى نيّة فيه،

ونصيب شريكه يحتاج أن يقع بالنية عنه، [ولم ينو ذلك]. وقد حكى الجيلي فيما إذا لم يكن وكيلاً، وقلنا: إن النصف يحمل على الإشاعة- أن عتقه لربع الشريك لا ينفذ، وهل ينفذ العتق في ربعه؟ فيه قولاً تفريق الصفقة. فروع: على تعجيل السراية: لو قال أحد الشريكين لصاحبه: أعتقت نصيبك وأنت موسر، فإن أقر الشريك بذلك فلا يخفى حكمه، وإن أنكر فالقول قول فإذا حلف عتقت حصة المدعي دون المنكر، ويكون الولاء عليه موقوفاً، وإن نكل المدعى عليه حلف المدعي، واستحق عليه قيمة نصيبه، وهل يقع الحكم بالعتق في نصيب المدعى عليه؟ قال العراقيون: لا؛ فإن الدعوى إنما توجهت عليه بسبب تغريمه القيمة، وإلَّا فالدعوى على إنسان بإعتاق ملكه مردودة؛ كما لو ادعى على رجل أنه أعتق مملوكه. نعم: لو كان هذا المدعي شاهداً، وانضم إليه آخر، وعدلاً حكم بالعتق، وحكى الإمام وجهاً آخر: أنَّا ننفذ العتق في نصيب المدعى عليه بيمين الرد تبعاً. ولو ادعى كل من الشريكين على صاحبه أنه أعتق حصته وهو موسر، فالعبد محكوم بحريته، واللواء موقوف. ولو فرعنا على القولين [الآخرين فلا] يعتق من العبد شيء في هذه الصورة والصورة الأولى، وهل ينفذ تصرف المقر في حصته بالبيع والعتق وغيرهما؟ فيه وجهان في "الحاوي":

أحدهما: يجوز؛ لاستقرار ملكه عليها بإبطال السراية إليها. والثاني: لا؛ فإن الشريك لو عاد وصدّق المقر، وادعى القيمة- عتق؛ فلا نبطله بالتصرف. ولو قال أحدهما لصاحبه: مهما أعتقت نصيبك فنصبي حرّ، وفرعنا على الصحيح؛ والمقول له موسر- فإذا أعتق عتق عليه الكل، ويلزمه قيمة نصف القائل موسراً كان أو معسراً، قال الإمام: وهذا مما اتفق عليه الأصحاب. ولو فرعنا على أن السراية لا تحصل إلَّا بدفع القيمة: فإن جوزنا عتق الشريك لنصيبه بعد عتق [صاحبه عتق في هذه الحالة لكل واحد منهما نصيبه، وإن منعنا عتق الشريك حصته بعد عتق] شريكه حصته عتقت حصته المنجز، وكان الحكم في حصة المعلق كما لو لم يجر تعليق، وهذا ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- وبقيّة أصحابه كما قال الماوردي، ووجهه: أن عتقه اقتضى حجراً عليه بسبب الولاء، ولم ينفذ عتق محجور عليه. فإن قيل: لم لا خرجتم ذلك على أن الاعتبار بحال التعليق، أو بحال [وجود] الصفة كما قلتم في تعليق عتق المفلس؟ قيل: هو وإن كان غير محجور عليه في الحال، لكنه علق عتقه بصفة يعلم وجودها في حال الحجر؛ فشابه ما إذا قال في صحته: إن دخلت الدار في مرض موتي فأنت حر؛ فإن الاعتبار بحال الصفة قولاً واحداً في اعتبار ذلك من الثلث؛ لما [ذكرناه]. قال الإمام: [فإن] قيل: إذا قلنا بتعجيل السراية فهلا كان العتق المعلق أولى بالنفوذ؛ فإنه وافق وقت السريان، ومما يقويه أن الملك ينتقل إلى المعتق، ثم يترتب عليه السريان، والعتق المعلق يلاقي وقت نقل الملك، ولأجل هذا

السؤال قال المروزي: يحصل العتق متصلاً بإعتاق الشريك من غير ترتيب. قال الإمام: وهذا لا يتجه من السؤال وغائلته؛ فإن الترتيب على نقل الملك إن ارتفع من التبين بقي مصادفة العتق المعلق للعتق بالسراية وهذا كافٍ في إشكال السؤال. ثم الجواب في هذا أن يقال: إن منعنا عتق الشريك بعد عتق شريكه [فالمانع من نفوذ العتق ظاهر، وإن قلنا: بنفوذ عتق الشريك تنفيذاً منجزاً بعد عتق شريكه] كما صار إليه ابن أبي هريرة، فلعله هو القائل: إن الشريك إذا أعتق نصيبه وقع عتق نصيبه في حال وقوعه على [نصيب شريكه] من غير ترتيب، وحينئذ يندفع السؤال. نعم، لو قال الشريك لشريكه: إن أعتقت نصيبك فنصبي حر حال عتقك حصتك، ففي "الشامل" حكاية وجهين: أحدهما- وهو اختيار القاضي أبي الطيب-: أنه يعتق عليهما، وهو يستنبط من كلام القاضي الحسين- أيضاً- حيث قال: إذا قال أحدهما لشريكه: إذا أعتقت نصيبك فنصبي حر معه، فهل يقع العتق عليهما معاً، أو يقع المعلق بعد المنجز؟ فيه وجهان، فإن قلنا بالأول لم يرجع أحدهما على الآخر بشيء، وعتقت حصته عليه. والثاني: أنه يعتق عن المباشر؛ لأنه استحق السراية، وما ذكروه لا يصح؛ لأنه [لا] يجوز أن يقع العتق المشروط قبل وجود الشرط فلا يصح وقوعه معه. ولو قال: إن أعتقت نصيبك فنصبي حر قبل نصيبك، وقلنا بتعجيل السراية، وكان المعلق موسراً- فمقتضى ما ذكرناه من قبل يقتضي أنه يعتق جزماً على المباشر. وقد قال الإمام: إن هذه قد تدور على مذهب الدور الذي صار إليه ابن الحداد في الطلاق، ولاشك في جريان الخلاف في قطع الدور هنا، بل قطعه هنا أولى؛

لأنه يؤدي إلى الحجر على الغير في ملكه، وهو أبعد من تصرف المرء في حقه. ووجهه: أن الشرط في نظم الكلام ووضعه: أن يتحقق، ثم ينظر في الجزاء: فإن امتنع [امتنع، ويلزم] على مذهب الدور امتناع التصرف من الجانبين؛ إذا صدر التعليق من كل [واحد] منهما وهو موسر، قال: ثم يجب طرد هذا [المذهب] في جميع التصرفات، حتى إذا قال كل واحد منهما لصاحبه: مهما بعت نصيبك فنصبي حر قبل بيعك، فلا ينفذ البيع ولا العتق، وبمثل هذا يستبين المُنْصِف بطلان المصير إلى الدور اللفظي. ولو كان المعتق بين ثلاثة: لأحدهم نصفه، ولآخر ثلثه، ولآخر سدسه، فأعتق صاحب الثلث والسدس حصتيهما في وقت واحد وهما موسران- سرى العتق إلى النصف الباقي عليهما، وفي كيفية التقويم قولان: أحدهما: أنه عليهما نصفين. والثاني: [أنه] على قدر الملكين؛ فيغرم صاحب الثلث قيمة الثلث، وصاحب السدس قيمة السدس. وبعض الأصحاب جزم بالأول؛ لأن ذلك شبيه بتغريم الجناة أرش الجراحات، والغرم في الجراحات على عدد الرءوس، وهذا ما أورده في "المهذب"، و"الشامل"، و"الحاوي"، وحكاه الرافعي، وجعله، الأظهر باتفاق طرق الأصحاب، إلَّا الإمام فإنه قال: ليس هذا بذاك؛ لأن الجراحات لها غور وضبطها غير ممكن؛ فلذلك رجعنا إلى عدد الرءوس، بخلاف ما

نحن فيه. وقال القاضي الحسين: يحتمل أن يقال: إن [قلنا: إن] السراية تحصل بنفس العتق، فهي على عدد الرءوس، وإلَّا فقولان كما في الشفعة، ولو كان أحد الشريكين معسراً والآخر موسراً [ففي "تعليق" القاضي الحسين عند الكلام فيما إذا كان المعتق موسراً] ببعض القيمة: أنه يعتق على الموسر بالسراية ما كان يخصه لو كانا موسرين، ثم قال: وقيل: ويحتمل أن يقال: يقوّم جميع نصيب الذي لم يعتق على هذا الموسر. وهذا ما أورده ابن الصباغ والماوردي، وكذلك القاضي الحسين- أيضاً- حكاه في موضع آخر من "تعليقه"، وقال: إنه لا خلاف فيه. ولو ملك نصفين من عبدين قيمتهما متساوية، وله ما يفي بقيمة نصف أحدهما، فأعتق حصته منهما معاً- فعن ابن الحداد: أنه يعتق من كل عبد بالسراية ربعه، لتكملة ثلاثة أرباعه، وبه جزم القاضي الحسين. وعن غيره: أنه يقرع بينهما؛ فمن خرجت عليه القرعة كملت الحرية فيه. والخلاف المذكور يجري فيما لو كان العتق في المرض، وكان [الثلث] لا يفي إلَّا بقيمة أحد العبدين، حكاه القاضي الحسين، والإمام جزم بالقرعة في الأخيرة، وفرق بينه وبين ما إذا قال: إذا مت فأعتقوا من كل عبد نصفه- حيث لا يقرع، بل يقتصر العتق على نصف كل منهما مع خروجهما من الثلث- بأن المالك إذا ذكر العتق في العبد كان كما لو وجه العتق على كمال العبد، ولو

أعتقهما تنجيزاً وزادت قيمتهما على الثلث أقرعنا؛ فكذلك ها هنا، وليس كذلك إذا أوصى بإعتاق نصفي عبدين؛ فإن الإعتاق في الأنصاف مضاف إلى وقت لا يتصور فيه سريان. وهذا كله في سراية العتق من بعض إلى بعض، وأما سراية العتق من شخص إلى شخص فلا شك فيها- أيضاً- وذلك بأن يعتق الأمة الحامل برقيق له؛ فإن الولد يعتق، ولكن اختلف الأصحاب في كيفية عتقه: فمنهم من جعله على جهة السراية؛ لأنه جزء من أجزائها، ومنهم من قال: إنما عتق على [جهة التبع، وعليهما]- يخرج ما لو قال: أعتقت الحمل، فعلى الأول تعتق الأم- أيضاً- وهو قول أبي إسحاق، وعلى الثاني: لا؛ لأن الأم لا تكون تبعاً للولد، وهذا ما عليه الجمهور، وهو المذهب في "تعليق" القاضي الحسين، وعلى الخلاف يخرج- كما قال القاضي الحسين- ما إذا قال: أعتقت الجارية دون حملها، فعلى الأولى يعتقان، وبه جزم المتولي في كتاب الظهار، وعلى الثاني: تعتق الأم خاصة. ولو كانت الجارية لشخص والحمل لآخر- لم يسر العتق من الولد إلى الأم بلا خلاف، وكذلك لا يسري من الأم [إلى الولد] على الأصح. قال القاضي الحسين: ومن أصحابنا من قال: يعتق الولد، ويجب على معتق الأم قيمته وقت الخروج من البطن. واعلم أن محل نفوذ العتق في الحمل إذا أورده عليه خاصة إذا نفخت فيه الروح، أما إذا لم تنفخ فيه قال القاضي في "فتاويه": لم يعتق. قال: وإن قال لغيره: أعتق عبدك عني، فأعتقه عنه- دخل في ملك السائل، وعتق عليه؛ تشوفاً للعتق، كما سرى إلى ملك الغير بغير رضاه لأجل ذلك. ولا فرق في صحة ذلك بين أن يقول: أعتقه عني مجاناً، أو بعوض، أو يطلق، لكنه إذا صرّح بنفي العوض كان الملك الحاصل هبة، وإن صرح بذكر العوض وسماه كان الملك الحاصل فيه بحكم عقد معاوضة؛ فيستحق فيه

المسمى إن كان صحيحاً. قال الأصحاب: وكذا لو ذكر عوضاً فاسداً من خمر أو خنزير، وترتب العتق عليه- وقع العتق عن المستدعى، واستحق عليه البدل، كما سنذكره في "الخلع". وأشار الغزالي إلى اعتراض على إلحاق ذلك بالخلع وجوابٍ عنه: أما الاعتراض فإن الخلع ليس فيه اختلاف ملك، وإنما هو إسقاط حق يستقل به الزوج، والعتق عن المستدعى يتضمن نقل ملك؛ فوجب ألَّا يحتمل فساد العوض، كما في سائر التمليكات. نعم، نظير الخلع ما إذا قال: أعتق عبدك عن نفسك فإنه غير متضمن نقل ملك. وأما الجواب فهو أن الملك الحاصل للمستدعى يحصل في ضمن الإعتاق عنه، والملك الضمني لا تعتبر فيه الشرائط التي تعتبر في التصرفات الأصلية، وكذلك لا يعتبر القبض في الإعتاق عن الغير باستدعائه مجاناً، وإن كان ذلك يتضمن الهبة، والهبة تفتقر إلى القبض، لكن لك أن تقول: قد تقدم في باب الهبة أن الموهوب له لو أعتق الموهوب بإذن الواهب، ناب ذلك مناب القبض، وصح العتق، وإعتاق المالك هنا بإذن المستدعى أقوى من إذن الواهب في الدلالة على الرضا؛ فكذلك لم يعتبر القبض فيه، وإذا كان كذلك فهو موافق للتصرفات الأصلية؛ فلا يحصن به الاستشهاد. نعم، يحسن الاستشهاد بما قاله القفال من أنه: إذا قال: أعتقه عني على ألف، والعبد مستأجر، أو مغصوب، فأعتقه- جاز، وإن كان المعتق عنه ممن لا يقدر على الانتزاع، فلو سلك بالتمليك الضمني مسلك التمليكات المقصودة لما صح في حال كونه مستأجراً على قول، وكونه مغصوباً جزماً، على أن ما ذكره القفال لا يبعد جريان الخلاف فيه مما سنذكره.

ولو أطلق استدعاء العتق عنه ولم يسم عوضاً ولا نفاه، فهل يحمل على الاستدعاء بعوض، أو بغير عوض؟ فيه وجهان عن رواية صاحب "التقريب" شبيهان بوجهين تقدم ذكرهما فيما إذا قال لغيره: اشتر لي [بثوبك هذا كذا] فاشتراه، وصححناه له- أن ذلك يكون هبة أو قرضاً. ووجه جعله هبة يعضد جواب الغزالي ويمنع الاعتراض، وقد بنى بعضهم الوجهين على الخلاف فيما إذا قال لغيره: اقض ديني، ولم يشترط الرجوع، ومقتضاه أن يكون الصحيح ثبوت العوض؛ إذ الصحيح- في مسألة قضاء الدين- الرجوع، وخصص الإمام، وأبو الفرج هذا البناء بما إذا قال: أعتقه عن كفارتي؛ فإن العتق حق ثابت عليه كالدين، فأما إذا قال: أعتقه عني؛ ولا عتق عليه أو لم، يقصد وقوعه عنه- فقد أطلق أبو الفرج أنه: لا شيء عليه، ورأى الإمام تخريجه على أن الهبة هل تقتضي عوضاً أم لا؟ وعلى هذا يكون في قدر الغرم الخلاف المذكور في ثواب الهبة، كذا أشار إليه الإمام، ويظهر ألَّا يجيء قول الثواب إلى الرضا؛ لأن ثم إذا لم يرض كان للموهوب له رد الموهوب، وهنا قد تعذّر الرد بعتقه؛ فيؤدي إلى الإضرار بالمعتق. نعم، قد يقال بجريانه، ويكون عند عدم الرضا للموهوب له فسخ الهبة، ويصير الواجب قيمة العبد؛ كما لو أعتق المشتري العبد المبيع، ثم فسخ العقد بسبب في الثمن، وحينئذ لا يكون أيضاً في المسألة إلَّا قولان. وعلى كل حال، فقد اختلف الأصحاب في وقت نقل الملك للمستدعى على أربعة أوجه، ذكرها ابن الصباغ وغيره في كتاب الظهار: أحدها: أنه يدخل في ملكه بالاستدعاء، ويعتق بالإعتاق، وليس بصحيح؛ لأن الإيجاب شرط فلا يتقدم الملك على شرطه. والثاني: أنه إذا حصل الاستدعاء والإيجاب دخل في ملكه بشروعه في الإيجاب، وعتق بتمامه، وهذا يلزم عليه ما لزم على الأول. والثالث: أن الملك والعتق يقعان في حالة واحدة عقيب الإيجاب، وهذا قول أبي إسحاق المروزي، وهو نظير قوله في كيفية نقل الملك عند سريان العتق

وملك القريب، كما ذكرناه. والرابع: أن الملك يقع عقيب الاستدعاء والإيجاب، ويترتب عليه العتق، وهو اختيار الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب، وهو الصحيح في "الشامل"؛ لأن وقوع عتقه عنه يقتضي إثبات ولاية له، وذلك لا يكون إلا بتقدم الملك؛ فلم يقع العتق بحكم اللفظ، وليس يمتنع أن يوجد لفظ العتق، ولا يعقبه العتق؛ لعدم الشرط؛ ألا ترى أنه لو قال: أعتقه عنك بألف، فقال: قبلت- وقع العتق عقيب القبول متأخراً عن لفظه؟! وقد حكى الإمام عن الشيخ أبي محمد وجهاً خامساً، وقال: إن غالب ظني أنه حكاه عن القفال-: أن الملك يحصل مع آخر اللفظ، ويعتق بعده. قال الإمام: وما يُلوِّحُ به عن اتجاهه؛ لقربه من مذهب أبي حامد، ففساده من وقوعه في مذهب أبي إسحاق، وبالجملة: فقد اختلف أئمتنا في أن من طلّق أو أعتق- فحكم لفظه متى يثبت؟ فمنهم من قال: يثبت من آخر حرف من اللفظ، وهو حسن، ومنهم من قال: يحصل حكم اللفظ بعده على الاتصال، ويعاقبه معاقبة الضد. فإن قلنا: الحكم يحصل مع آخر اللفظ، فيتجه ما حكاه شيخي من حصول الملك مع آخر لفظ، مع استئخار العتق عنه للضرورة؛ فيئول الأمر إلى اختلاف الشيخين في أن أحكام اللفظ متى تحصل؟ فإن قلنا: حكم اللفظ يحصل بعده، فعلى ذلك ينطبق قول الشيخ أبي حامد، وإن قلنا: حكم اللفظ يقع [مع] آخره، فالملك يحصل في أول حصول حكم اللفظ، والعتق استأخر للضرورة، وعلى هذا ينطبق كلام الشيخ أبي محمد لكن الملك على هذا الوجه قد حصل قبل أوانه؛ فلا فرق

بين أن يقع كذلك، وبين أن يقع عند الخوض في اللفظ كما صار إليه صائرون، أو قبل لفظ العتق كما ذهب إليه ذاهبون، وقد تفهم عبارة الرافعي في الحكاية عن الإمام ما يلزم منه أن يكون قول الشيخ أبي حامد كقول أبي إسحاق، لكنك إذا تأملتها وجدتها وافية بما ذكرناه، والله أعلم. تنبيه: محل وقوع العتق عن المستدعى وإلزامه العوض إذا اتصل الجواب بالخطاب، أما إذا طال الفصل فالعتق يقع عن المالك، ولا شيء على المستدعي، ولهذا المعنى قال الشيخ: "فأعتقه عنه"، فأتى بلفظ الفاء التي تقتضي التعقيب، وهذا عند إطلاق اللفظ، أما إذا قال: إذا جاء الغد فأعتق عبدك عني بألف، فصبر حتى جاء الغد فأعتقه عنه- فعن حكاية صاحب "التقريب" عن الأصحاب: أنه ينفذ العتق [عنه]، ويثبت المسمى عليه، ووقوع العتق عنه موافق لما صرّح به ابن الصباغ وغيره: أن العتق عن الميت يجوز من الأجنبي ومن غيره إذا كان قد وصى به، وأما لزوم المسمى فالصورة شبيهة بما إذا قالت المرأة لزوجها: طلقني غداً ولك عليَّ كذا، وقد ذكر في ذلك أن الزوج إذا طلق في الغد أو قبله هل يستحق المسمى أو مهر المثل؟ فيه وجهان: قال الرافعي: فليجيء مثله هنا أيضاً في القيمة أو ثبوت المسمى إذا أعتق في الغد، وهو ما أبداه الإمام بعد حكايته ما ذكرناه عن صاحب "التقريب". وحكى في "الأشراف" عن الزجاجي قولين فيما إذا قال السائل: أعتق عبدك عني غداً على ألف، فقال المسئول: هو حُرٌّ [غداً] على ألف هل يستحق المسمى أو قيمة العبد؟ وأنهما شبيهان بما إذا قال: أعتق عبدك الآبق [عني] على ألف، فأعتقه [عنه]، وفيه جوابان؛ لأن التمليك [في الصورتين ضمني]. ولو قال: المالك لغيره: عبدي عنك حر على ألف إذا جاء الغد، فقال المخاطب: قبلت- حكى صاحب "التقريب": أنه كتعليق الخلع، وصورته: أن

يقول: طلقتك على ألف إذا جاء الغد، فقالت: قبلت، وقد ذكر في وقوع الطلاق وجهان، أظهرهما: الوقوع. ثم إذا وقع فهل الواجب مهر المثل أو المسمى؟ فيه وجهان، أقربهما الثاني، فكذلك يجيء الخلاف ها هنا في وقوع العتق عن المخاطب، وإذا وقع فالخلاف في صحة المسمى وفساده. قال الرافعي: وقد ذكر في الفرق بين الصورتين: أن في الأولى لم يوجد تعليق في العتق المتضمن للتمليك، وفي الثانية العتق معلق، ومن هنا أبديت احتمال جريان وجه على خلاف ما قاله القفال فيما إذا كان العبد المستدعى عتقه مغصوباً أو مستأجراً؛ فإن [من لم يصحح] العتق نظر إلى [كونه متضمناً للمعاوضة]، والمعاوضة المقصودة لا تقبل التعليق، وكذلك إذا كانت ضمنية، وقد يقال: إن منافاة التعليق لعقود المعاوضات أبلغ من غيره من المفسدات؛ فلا يتجه الإلحاق. فروع: لو قال: أعتق مستولدتك عني على ألف، أو: وعليَّ ألف، فقال: أعتقتها عنك- نفذ العتق، ولغا قوله: عنك؛ فإن المستولدة لا تقبل النقل. وفي "التهذيب"- قبيل باب كتابة الكافر- حكاية وجه: أن العتق لا ينفذ كما لو أعتق عبده عن الغير بغير أمره لا ينفذ عن الغير ولا عنه على وجه، وقد حكاه الإمام أيضاً في أثناء فروع العتق عن رواية الشيخ أبي علي. وفيه وجه آخر أنه: يُلْغَى قوله: عني، ويصير كقوله: أعتق [أم ولدك] على ألف؛ فإنه يكون اقتداء جزماً، وقد احتج بالأول على أنه إذا وصف العتق [بمحال] نفذ ولغت الصفة، كما أُلْغِيَ قوله: عنك، من قوله: أعتقت عنك. ثم المذهب في "النهاية": أنه لا يستحق على المستدعى عوضاً، وبه جزم في "التهذيب" في الكتابة. وقد جزم الإمام به فيما إذا قال: طلّق زوجتك عني على

ألف؛ لأنه قد يتخيل في المستولدة الانتقال إليه، بخلاف الطلاق. لو قال: أعتق عبدك عن نفسك وعليَّ ألفُ، ففعل- صح العتق، وهل يلزم المستدعى الغرم؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ كما لو قال: أعتق أم ولدك عنك على ألف، أو: أعتق أم ولدك على ألف، ولم يقل: عنك، أو: طلق زوجتك على كذا. والثاني- وبه قال الخضري وصاحب "التلخيص"-: [لا]؛ لأن عتقه عن المستدعى ممكن، وبذل العوض في الخلاص إنما يثبت للضرورة، فإذا أمكنت جهة في العتق غير التخليص لم يصح بذل العوض على التخليص، فعلى هذا يقع العتق عن المعتق وله الولاء، وهذا ما جزم به المتولي في كتاب الخلع. وعلى الأول العتق يقع عنه، أو عن باذل العوض؟ فيه وجهان عن رواية صاحب "التقريب" والشيخ أبي محمد: أحدهما: أنه يقع عن باذل العوض، وإلَّا فلا معنى لوجوب العوض عليه، وهذا ما حكاه أصحابنا العراقيون، وقال الإمام: إنه في نهاية الفساد والسقوط؛ فإن من صرف العتق إليه حيث يستدعيه عن نفسه على عُلالة، فكيف يصرف العتق إليه وقد نفاه عن نفسه؟! ولأجل ذلك جزم البغوي والمتولي بمقابله كما حكاه الرافعي، وصححه. إذا قال: أعتق عبدك ولك عليَّ كذا، ولم يقل: عني، ولا: عن نفسك- فوجهان: أحدهما: أنه كما لو قال: أعتقه عني. وأشبههما: أنه كما لو قال: أعتقه عن نفسك، وقد نقله في "الزوائد" عن القاضي أبي الطيب حيث قال: إن العتق ينفذ والمال يلزم المستدعي، وفي ولائه وجهان: أحدهما: للسائل. والثاني للمعتق.

إذا قال: أعتق عبدك عني على ألف بشرط أن يكون الولاء لك، قال المتولي في كتاب الخلع: المذهب المشهور: أنه يفسد شرط الولاء، ويقع العتق عن السائل وعليه الألف، وأنه خرّج في المسألة وجه أن العتق يقع عن المالك، والمال مردود، كذا [وقفت] عليه. وفي "الرافعي" حكاية عنه: أنه على المشهور يلزمه القيمة. إذا قال لمن له حصة في عبد: أعتق حصتك عني على ألف، فقبل عتقت، وكان ولاؤها للسائل، ويسري العتق إلى نصيب الشريك، ويجب تقويمه على الشريك المباشر، كذا حكاه في "البحر" وابن الصباغ وغيره في باب الكتابة، وطرده الروياني فيما [إذا] قال أحد الشريكين لشريكه: أعتق نصيبك عني، فأعتقه- سرى إلى نصيب الشريك، وكان الولاء للسائل، والغرم على الشريك المعتق بالسؤال. قال: وإن أعتق أحد عبديه أو إحدى أمتيه، [أي]: على الإبهام- عين العتق فيمن شاء منهما؛ لأن له أن يوقع العتق معيناً، فإذا أبهمه كان له تعيينه كما في الطلاق. ثم التعيين واجب على الفور؛ [لتتميز] الحرية من غيره. فإن قال: هو سالم، لا بل غانم- عتق سالم دون غانم، ونظيره إبهام الطلاق بين [الزوجين]، والفروع المذكورة [ثم بعينها مذكورة] هنا، والجواب فيهما واحد، وقد عبر القاضي الحسين عن الخلاف المذكور عند التعيين في أن العتق يقع من حين اللفظ أولاً يقع إلا بالتعيين؛ فإنا على الأول نقول: العتق واقع ولكن [لم يميز محله] وعلى الثاني نقول: الذي جرى التزام إعتاق في الذمة. قال: فإن مات، أي ولم يعين قام وارثه مقامه؛ [لأنه خيار ثابت يتعلق به

الملك فقام الوارث فيه مقامه] كخيار الشفعة، والرد بالعيب، وقيل: لا يقوم؛ قياساً على تعيين الطلاق المبهم في أحد الزوجين. وحكى المراوزة عن بعضهم القطع به، فعلى هذا يقرع بينهما. قال: وليس بشيء؛ لأن امتناع التعيين في الطلاق كان لأجل أنه يتضمن إسقاط وارث في الظاهر، والوارث لا يملك إسقاط من يشاركه في الميراث، وهذا المعنى مفقود [هنا، ولأن امتناع التعيين في الطلاق لأجل أنه فيما لم ينتقل إليه، و [هو] ها هنا في المال، وهو منتقل إليه، وقد جعل القاضي الحسين هذا الخلاف مخرجاً على الخلاف فيما إذا عيّن الوارث هل يكون إيقاعاً منجزاً [عما التزمه] في الذمة، [أو يتبيّن محل العتق السابق]؟ فعلى الأول [يكون] للورثة التعيين، وعلى الثاني لا. قال: وإن وطئ إحدى الأمتين كان ذلك تعييناً للعتق في الأخرى؛ لأنه تعيين شهوة واختيار فصح بالوطء كفسخ البيع بوطء البائع الجارية المبيعة في زمن الخيار، وهذا هو الصحيح في "البحر"، وبه قال أكثر الأصحاب كما قاله ابن الصباغ وقيل: لا يكون تعييناً؛ لأن العتق لا يقع بالفعل، فكذلك تعيينه. وحكى القاضي الحسين الخلاف المذكور قولين، وبناهما على أن الذي [جرى عتق ناجز أو التزام] عتق فعلى الأول يكون تعييناً، وعلى الثاني لا يكون تعييناً. قال الإمام: وهذا عندنا بالعكس، ثم إذا قلنا: إنه ليس بتعيين، فإن عيّن غير الموطوءة للحرية فلا إشكال في أنه لا يجب عليه المهر، وإن عيّن الموطوءة للحرية، قال القاضي الحسين: لا نوجب المهر؛ لأنّا إنما لا نجعل الوطء تعييناً على قولنا: إنه التزام عتق في الذمة فيكون قد وطء مملوكته، والعتق يقع بعد ذلك، ولو قبّل واحدة منهما.

فإن قلنا: إن الوطء يكون تعييناً، فها هنا وجهان؛ لأن حكم الوطء أعظم من حكم القبلة؛ فلا يقدم عليه المسلم في الغالب، قاله القاضي الحسين. وقال: إن الاستخدام مرتب على القبلة وأولى بألّا يكون تعييناً. قال الإمام: وهذا يوجب لا محالة طرد الخلاف في أن الاستخدام هل يكون فسخاً أو إجازة [في زمن الخيار، وكأنه قرع سمعي هذا من الخلافيين. فرع: إذا ماتت] إحداهما قبل البيان، قال القاضي الحسين: إن قلنا: إن الواقع التزام [عتق] في الذمة، فقد بطل النذر؛ كما لو قال: لله عليّ أن أعتق أحد هذين العبدين، فمات واحد منهما؛ فإن النذر يبطل، فإن قلنا: إنه إعتاق منجز في الحال، لكن محله غير معيّن- فيؤمر بالتعيين: فإن عين الميتة تعينت الأ×رى للرق، وإن [عيّن الحية تبيّن] موت الأخرى [على الرق]. وجزم الإمام بأنا إذا قلنا: إن العتق يقع على التعيين، فإن الباقية تتعيّن للحريّة. ولو قتل أجنبي إحداهما فعلى الأول بطل النذر، وعلى القاتل القيمة، وعلى الثاني لا، فإن عين المقتولة للحرية وجبت دية حرة، وإن عيّن الباقية وجبت القيمة على الجاني، وعتقت الحيّة. فرع: إذا باع إحداهما، أو وهبها، أو أجرها فهل يكون اختيار أمته للملك [في ذلك] أم لا؟ حكمه حكم الاستخدام، فإن قلنا: يكون اختياراً، صحَّ البيع، قاله القاضي الحسين وكان يتجه أن يتخرج على الخلاف في نظير المسألة من بيع الأب ما وهبه لولده.

ولو أعتق إحداهما، قال: لا يكون تعييناً، ويقال له: عيّن، فإن عيَّن المعتقة رقَّت الأخرى، وإن عيّن الأخرى عتقتا. قال: و [إن] أعتق أحدهما بعينه ثم أشكل ترك حتى يتذكر، فإن تورع في ذلك، أو عيّن وتورع [في] العتق، فالحكم فيه كما في نظير المسألة من الطلاق. وحكى الإمام هنا عن الأصحاب أنه يحبس عند دعواه النسيان، وقال: إن غالب ظني أني ذكرته في مسائل الطلاق. فرع: لو قتل حر أحدهما، ثم عيّنه السيد للحرية- قال القاضي الحسين: في وجوب القصاص عليه وجهان؛ كما ذكرنا فيما إذا أعتق عبيداً في مرض موته، فجاء أجنبي وقتل واحداً منهم قبل موت السيّد. قال: وإن مات قام الوارث مقامه؛ لأن له طريقاً إلى معرفته، مع أن ما وقع فيه [من] الإشكال انتقل إليه، وبهذا خالف نظير المسألة من الطلاق حيث جرى في الرجوع [إليه] قولان، وقد أجراهما في "البحر" وبعض المراوزة [هنا] [أيضاً] وبعضهم جزم بالمنع، وقال: إنه يقرع بينهما. ويجيء من مجموع قولهم في هذه المسألة ثلاث طرق: أحدها: طرد القولين في الحالين. والثاني: الجزم بعدم الرجوع إليه في الصورة الأخيرة، وحكايتهما في الصورة [الأولى]. والثالث: الجزم بالمنع في الأولى وحكاية القولين في الأخيرة. وما قاله الشيخ يكون طريقة رابعة. قال: فإن قال الوارث: لا أعرف، أقرع بينهما في أحد القولين، فمن خرجت عليه القرعة عتق؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، [ولا مَرَدَّ] يرجع إليه، وفي البقاء على ذلك إضرار بالوارث والمعتق؛ فرجح أحدهما

بالقرعة، وهو المنصوص في "المختصر"، وفي كتاب العتق والوصايا. قال: ووقف الأمر في القول الآخر؛ لأن القرعة قد تفضي إلى إرقاق الحر فمنع منها، وهذا نسبه بعضهم إلى ابن أبي هريرة، وبعضهم رواه قولاً منصوصاً، واتفق الأصحاب على ضعفه. وقال القاضي الطبري: هذا القول لا أعرفه للشافعي- رضي الله عنه- ولم يحكه القاضي أبو حامد في "جامعه". قال: ومن ملك أحد الوالدين وإن علوا، أو من المولودين وإن سفلوا- عتق عليه. أما في الأولاد؛ فلقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]؛ فدلَّ على أنهم لمّا كانوا عباداً لم يجز أن يكونوا أولاداً؛ فانتفى بذلك استقرار ملك على ولد. وقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً 92 إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً 93} [مريم: 92، 93] يعطي هذا المعنى أيضاً. وأما في الآباء، فلقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ؛ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ فَيَعْتِقَ عَلَيْهِ"، وروى: "فَيعْتِقَهُ"، وهذه الرواية محمولة على الأُولى، ويكون التعبير [عن "العتق" بـ "الإعتاق] كقوله- عليه السلام-: "يَا كَعْبُ، النَّاسُ غَادِيَانِ: بَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا، ومُشْتَرٍ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا". فإن قيل: فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَقَدْ عَتَقَ عَلَيْهِ" كما

خرجه النسائي عن ضمرة بن سفيان الثوري عن عبد الله بن دينار عن ابن

عمر- رضي الله عنهم- وكذلك خرجه ابن ماجه، لكن لفظه: "مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ"، وهذا نص يشمل من ذكرتم، وغيرهم من سائر المحارم، فلم اقتصرتم على بعضهم؟ قيل: هذا الحديث قد ضعفه أصحاب الحديث، وعلى تقدير سلامته عن الطعن- كما صار إليه بعض المتأخرين؛ متمسكاً بأن انفراد ضمرة بهذا الحديث لا يصلح أن يكون علة فيه؛ لأن ضمرة ثقة، والحديث صحيح، وقد أسنده ثقة؛ فلا يضره انفراده، ولا إرسال من أرسله، ولا توقيف من أوقفه- فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن الحديث مقصور على الوالدين والمولودين؛ لأن حقيقة "الرحم" في اللغة مختصة بالولادة، وتطلق على غير هذا مجازاً، والأحكام الشرعية تتعلق بحقائق الأسماء دون مجازها؛ كذا قاله الماوردي. الثاني: على تقدير التسليم بأن الحديث يشمل الجميع فإنَّا نخصصه بالقياس، وهو أن كل قرابة لا ترد الشهادة له لا تعتق بالملك؛ قياساً على بني الأعمام طرداً، وعلى الوالدين عكساً. واعلم أنه لا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون الولد والوالد متفقين في الدين أو مختلفين، ولا بين جهة الأم وجهة الأب، ولا بين الذكور والإناث. وهل يندرج في الأولاد المنفيُّ باللعان؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين. ثم وقت نفوذ العتق عند أبي إسحاق وقت دخوله في الملك؛ كما حكيناه من قبل. وعند الإمام: أنه مرتب على الملك؛ كما حكاه ضمن فرع من الفروع المذكورة في كتاب العتق. فإن قيل: هذا مشكل؛ لأن من القواعد المطردة أن ما منع الدوام منع الابتداء، والقرابة تقطع دوام الملك؛ فينبغي أن تمنع الابتداء.

[قلت: هذا السؤال أغلوطة]؛ لأن القرابة لا يتصور طرآنها على دوام الملك حتى تقطعه فيقال: إن ابتداءه ممنوع، بلا لا يتصور حصول فيمن يعتق عليه إلَّا والقرابة إما سابقة [عليه] أو مقارنة له، كما إذا وطئ الابن جارية أبيه فأحبلها؛ فإن الولد ينعقد رقيقاً على ملك الأب، ثم يعتق عليه، كما حكاه الإمام في الفروع المذكورة في كتاب العتق، وإذا كن كذلك لم تكن هذه المسألة مندرجة في هذه القاعدة. نعم، قد يقال: يوجد الملك والقرابة لا تقطعه لمانع، كما إذا ملك إنسان ابن أخيه ومات ووارثه أخوه لا غير، وهو معسر وعليه دين مستغرق، وقلنا: إن الدين لا يمنع الإرث- كما هو الصحيح- بل تتعلق به التركة تعلق رهن أو جناية؛ فإن ملك ابن الأخ ينتقل إلى أبيه، ولا يعتق عليه؛ كما لو كان الوارث لا يعتق عليه ابن الأخ فأعتقه وهو معسر- والصورة كما ذكرنا- فإنه لا يعتق [عليه] وجهاً واحداً كما حكاه الإمام عن الشيخ أبي علي في كتاب العتق، وحكى عن شيخه قولاً بنفوذه كما في عتق المرهون، وقال: إن ما ذكره الشيخ أبو علي أوجه؛ فإن حق الوثيقة طرأ على ملك تام للراهن ثم دام الملك له، والوارث يتلقى الملك بالخلافة وهي مشروطة بتقديم حق الميت، وحينئذ فإذا زال الدين بإبراء أو قضاء من غير التركة انقطع دوام الملك، وكذا إذا اشترى قريبه وقلنا: بثبوت خيار المجلس للبائع- كما حكيناه في موضعه- وأن القريب لا يعتق في زمن الخيار؛ بناءً على أن عتق المشتري المبيع في زمن الخيار لا ينفذ مع قولنا: إن الملك له؛ فإن الملك يكون للقريب على قريبه، وإذا زال الخيار قطعت القرابة دوام الملك، وحينئذ تندرج [هذه] الصورة تحت هذه القاعدة، وتحتاج إلى الجواب. ولو قيل بأن العقد مثبت للملك والقرابة منافية للملك؛ فلا يمكن [اجتماعهما؛ فترتب] العتق على سبب الملك لا على حقيقة الملك، ويقدر الملك في حكم منقطع لا في حكم مندفع؛ كما قاله الغزالي فيما إذا زوج أمته

من عبده أن المهر لا يجب؛ فإن الرق المقارن للعقد يرفع المهر بعد جريان موجبه، ولم يكن هذا تعرية، للعقد عن المهر؛ بل جرى الموجب واقترن به المانع فاندفع، والاندفاع في معنى الانقطاع، لا في معنى الامتناع- لا ندفع هذا السؤال. قال: وإن ملك بعضه، فإن كان يرضاه أي: كما في البيع، والهبة، وقبول الوصية وهو موسر- قوّم عليه الباقي، وعتق عليه. هذا الكلام ينظم أمرين: أحدهما: صريح، وهو تقويم الباقي. والثاني: مشار إليه، وهو كون ما يملكه يعتق عليه. والأول فرع للثاني؛ فلذلك استغنى الشيخ بالتصريح بذكر الفرع لدلالته على الأصل. ووجه عتق ما ملكه منه: أن كل سبب إذا وجد في الكل عتق به، فإذا وجد في البعض عتق به كالإعتاق. ووجه السراية: أن الضمان يجب بالسبب، وهذا التملك سبب للعتق، ولأن اختياره لملك البعض المفضي للعتق اختيار منه لعتق الجميع؛ حيث كان العتق يسري، كما أن من جرح غيره فمات من سراية الجراحة جعل قاصداً إلى قتل النفس؛ لأن الجرح يسري. ثم العتق متى يسري: هل في الحال أو بدفع القيمة؟ فيه قولان في "الشامل"، ويظهر مجيء القول الثالث. وهذا إذا كان التملك في الصحة، أما إذا كان في المرض، نظر: فإن كان سبب الملك الشراء نظر: فإن خرج قيمة جميعه من الثلث، فالحكم كما تقدم، ولا يرث من الذي عتق عليه؛ لئلا يكون عتقه وصيّة لوارث.

وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه يرث، حكاه في كتاب التدبير، وسنذكره ثم. وإن لم يخرج من الثلث إلَّا قيمة ما اشتراه لم يسر، وإن كان لا ثلث له يفي بقيمة ما اشتراه؛ لكونه عليه دين مستغرق فهل يصح الشراء، ويباع في الدين، أو لا يصح؟ فيه وجهان مذكوران في كتاب الوصية عن ابن سريج، وبناهما القاضي الحسين هنا على خلاف سنذكره [فيما إذا ملكه بإرث] هل يحسب من رأس المال أو من الثلث؟ فإن قلنا بالأول لم يصح، وإلَّا صح، وبيع في الدين. وإن كان سبب الملك هبة أو قبول وصية، فلا شك أن قيمة ما يسري [إليه] معتبرة من الثلث، وهل تعتبر قيمة ما وهب له أو وصى له به من الثلث أيضاً؟ فيه خلاف أصله: ما إذا ملك قريبه بالإرث؛ فإنه يعتق عليه، وهل يحسب من الثلث أو من رأس المال؟ فيه وجهان المذهب منهما في "تعليق" البندنيجي و"التتمة" و"التهذيب" وغيرهما- كما هو مذكور في كتاب الوصية-: أنه محسوب من الثلث؛ فعلى هذا: ما اتهبه أو أوصى له به من طريق الأولى. وعلى مقابله- وهو الأصح في "الشامل"، وبه أجاب الغزالي في كتاب الوصيّة، وإن حكى الخلاف في كتاب العتق- هل يحسب الموصي به أو الموهوب من الثلث أو من رأس المال؟ فيه وجهان ينبنيان على أن المعنى الذي لأجله حسب ما ملكه بالإرث وعتق عليه من رأس المال ماذا؟ وفيه وجهان حكاهما القاضي الحسين: أحدهما: أنه لم يختر تملكه؛ فعلى هذا يحسب ما قبله هبة أو وصيّة من الثلث. والثاني: أنه لم يبذل عوضاً عليه؛ فعلى هذا لا يحسب ما قبله هبة أو وصية من الثلث. فإن قلنا: يعتبر من رأس المال، نظرنا إلى قيمة نصيب الشريك: فإن خرجت

كلها من الثلث أو بعضها سرى العتق إليها، وإلَّا فلا. وإن اعتبرنا قيمة ما وهب له أو أوصى له به من الثلث: فإن خرج من الثلث مع قيمة الباقي سرى العتق، وإلَّا اقتصر على عتق ما يفي به الثلث. واعلم: أن ما ذكرناه من اعتبار قيمة المشتري من الثلث مفروض فيما إذا كان الثمن قدر القيمة، أما إذا كان الثمن خمسمائة مثلاً، والقيمة ألفاً، فإن قلنا: إن الموصي به يحسب من رأس المال، لم يحتسب من الثلث في مسألتنا إلَّا الثمن. وإن قلنا: إن الموهوب يحسب من الثلث، فالمحسوب من الثلث القيمة؛ كذا قاله القاضي الحسين. فرع: إذا أوصى لشخص ببعض من يعتق عليه، ومات الموصى له قبل القبول، فقبل وارثه، وقلنا بحصول الملك تبيناً أو بالموت- عتق على الميت. ثم إن كان للميت تركة تفي بقيمة نصيب الشريك أو بعضها سرى إليها العتق، وإلَّا اقتصر العتق على ما أوصى له به، وأبدى الإمام احتمالاً في سريان العتق عند اتساع المال؛ من جهة أن العتق حصل بغير اختياره، وقد ذكرت في باب الوصية عن الإمام شيئاً يتعلق بهذا الفرع فليطلب منه. فرع: إذا أوصى للمكاتب ببعض من يعتق عليه، أو وهبه منه، وهو [ممن لا تلزمه] نفقته، ثم وَفَّى النجوم وعتق- فإن حصته [من قريبه] تعتق عليه أيضاً، وهل تقوَّم عليه؟ قال القفال: لا؛ لأن ما لا يسري [عليه في الحال لا يسري عليه] من بعد. وقال ابن الحداد: [نعم]، وهو الذي صححه الإمام ثم؛ لأن عتق الحصة يحصل بأداء النجوم وهو وقت السراية. قال: وإن كان بغير رضاه أي: كما لو ورثه، أو كان قد باعه مورثه، فرد عليه بعد موته بالعيب، أو ملكه مكاتبه، فعجز نفسه، كما قاله القاضي الحسين والإمام، ونحو ذلك- لم يقوم عليه؛ لأنه ضرر غير مرتضى به.

فروع: إذا [كان] بعض قريبه في ملك مكاتبه، فعجزه السيد- عتق منه ما دخل في ملكه من جهة المكاتب، وهل يسري؟ فيه وجهان جاريان فيما لو باع مورثه بعض قريبه الذي يعتق عليه، ثم مات، فاطلع على عيب بالثمن؛ فردّه، وعاد بعض القريب إليه، وكذا لو أوصى لمورثه ببعض من يعتق عليه ولم يقبل، ثم مات، فقبل الوصيّة- عتق عليه ما أوصى لمورثه به، وهل يسري؟ فيه الوجهان، اختيار ابن الحداد والقاضي أبي الطيب: السريان. ولو غنم قريبه وهو أحد الشركاء في الغنيمة، فإن لم يكن في الغنيمة غير أبيه فقد تعين حقه فيه: فإن باشر غنيمته عتق عليه سهمه منه، ويقوم عليه باقيه، وإن باشر الغنيمة غيره عتق سهمه خاصة، قاله في "البحر". ولو قبل العبد هبة بعض من يعتق على سيّده بغير إذن السيّد، وجوزنا له القبول- عتق منه ما دخل في ملك السيد، وهل يسري؟ حكى القاضي الحسين في كتاب اللقيط فيه وجهين، وجزم الإمام في كتاب الكتابة بأن القريب إذا كان ممن يلزم السيد نفقته لا يصح قبوله من العبد، وإن كان ممن لا يلزمه نفقته جاز أن يقبل [هبة] كله على هذا القول الذي عليه يفرع، وهل يجوز أن يقبل هبة بعضه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن ملكه يقتضي السريان، وهو لم يرض به. والثاني: يصح، ولا يعتق عليه حصة الشريك. قال: ومن وجد من يعتق عليه مملوكاً وهو موسر استحب له أن يتملكه ليعتق عليه؛ لقوله- عليه السلام-: "لن يجزي ولد والده .. " الحديث. وفصل الماوردي فقال: أما التملك بالشراء فالحكم فيه كذلك، وكذلك بالهبة إذا قلنا: إنها تقتضي الثواب، وإن قلنا: لا تقتضي ثواباً، أو أوصى له به- ففي وجوب القبول [عليه] وجهان:

أحدهما: يجب؛ ليعتق به من هو مأخوذ بحقه، وعلى هذا لو قال لعبده: أنت حر إن شئت، يلزمه أن يشاء. وعلى الوجه [الثاني]: لا يلزمه أن يشاء. قال: وإن أوصى لمولى عليه بمن يعتق عليه، فإن كان معسراً لزم الناظر في أمره أي: من أب أو وصي أو قيم كما صرّح به البندنيجي أن يقبله؛ لأنه يعتق عليه فيحصل له به كمال عاجل وفوات آجل من غير إضرار، وهكذا الحكم في وجوب [قبول الهبة وقبضها في هذه الحالة، ولم أر للأصحاب ما يخالف ذلك إلَّا الإمام؛ فإنه حكى تردداً في وجوب] القبول مع قطعه بالجواب، وهو موافق للوجه الذي حكيناه عن رواية الماوردي في وجوب ذلك على الرشيد. فإن قيل: قد تقدم وجهان في أن من وهب له قريبه في مرض موته أو أوصى له به، هل يحسب من رأس المال أو من [ثلث ماله]؟، فإذا حسب من الثلث فقد أقيم ذلك مقام التبرع، والمولى عليه ليس من أهل التبرع. قلت: إذا لم يقبل الولي ذلك فإن على المولى عليه ما ذكرناه والمالية- أيضاً- فكان الحظ في القبول. فإن قلت: هذا لا يقتضي جواز القبول؛ ألا ترى أنه إذا وجب على الصبي كفار القتل، فأراد الأب أن يكفر عنه بالعتق متبرعاً من ماله لا يجوز، كما حكاه الرافعي في كتاب الصداق؛ لأنه يتضمن دخول المعتق في ملكه، وإذا دخل في ملكه لا يعتق عليه؛ لأنه ليس من أهل التكفير بالعتق؛ فمنع الأصحاب ذلك لمخالفة ما تقرر في أمر المحجور عليه، وإن كان فعله للمحجور عليه أحظ؛ فإنه يفوت بالترك ملك الرقبة وحصول التكفير. قلت: هذا معارض بما حكاه الغزالي من أن [للولي أن] يصدق من ماله عن ابنه زيادة على مهر المثل، ولا نقول: [هذا] يدخل في ملك الطفل،

ويصير متبرعاً من ماله؛ لأنه لا مصلحة للابن في إفساد هذا الصداق إذ يفوت عليه الملك، فإذا كان يحصل ضمناً فلا نبالي بالزيادة، وعلى ذلك ينطبق ما حكاه الرافعي عن القفال في كتاب الظهار، وهو إذا قال لغيره: أعتق عبدك عن ابني الصغير، ففعل؛ فإنه يجوز؛ لأنه اكتساب ولاء من غير ضرر. فإن قلت: لاشك في وجود المعارضة، لكن [يلزم] القائل بالمنع في مسألة التكفير عن الولد بالعتق أن يطرد مذهبه هنا، بل من طريق الأولى؛ لأن الملك في الهبة والوصيّة ورد العقد عليه قصداً، والملك في مسألة التكفير وقع ضمناً؛ وقد بيّنا أنه يغتفر في الملك الضمني ما لا يغتفر في الملك المقصود. قلت: هذا بعينه هو الفرق بين مسألة التكفير وما عداها من الإصداق والإعتاق عن الابن بالسؤال وقبول هبة من يعتق عليه؛ لأن الملك الفائت في مسألة الإصداق، وقوله: أعتق عبدك عن ولدي، وقبول هبة من يعتق عليه لم يقصد تفويته، [وذلك في قبول الهبة ظاهر، وأما فيما عداه؛ فلأنه لم يقصد إثباته، وإنما حصل ضمناً؛ فتفويته بعدم القصد أولى]، والملك الحاصل في مسألة الإعتاق عنه عن الكفارة قصد تفويته، وقد قلت: إنه يغتفر في الأشياء التي تحصل ضمناً ما لا يغتفر فيما يفعل قصداً، والله أعلم. قال: وإن كان موسراً، فإن كان ممن لا تلزمه نفقته، أي: لكون القريب كسوباً يفي [كسبه بنفقته]، أو صحيحاً غير كسوب وقلنا: لا يستحق النفقة- قال وجب قبوله؛ لما تقدم، ولا نظر إلى احتمال توقع وجوب النفقة في المستقبل لزمانة تطرأ عليه؛ لأن المنفعة محققة، والضرر مشكوك فيه، والأصل عدمه. قال: وإن كان ممن تلزمه نفقته [أي: لكونه زمناً، أو صحيحاً غير كسوب، وقلنا بوجوب نفقته]- لم يجز قبوله؛ لأنه يعتق عليه ويطالب بنفقته، وفي

ذلك إضرار بالمولى عليه. وفي الحاوي حكاية وجه أنه يجب القبول، قال في "البحر": وهو غريب. قال: وإن وصَّى له ببعضه وهو معسر لزمه قبوله؛ لانتفاء ضرر التقويم والنفقة، وحصول المنفعة المشار إليها من قبل. قال: وإن كان موسراً، وهو ممن تلزمه نفقته- لم يجز القبول؛ دفعاً للضرر الثاني من لزوم النفقة، وإن كان ممن لا تلزمه نفقته ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز القبول؛ لأن الملك يقتضي التقويم؛ لأن قبول وليّه قائم مقام قبول البالغ، فإن لم نقل به تخلّف العتق عن مقتضاه، وإن قلنا به كان فيه إضرار بالمولى عليه؛ فلذلك امتنع. والثاني: [يلزمه، ولكن لا يقوم عليه، لأنه يعتق عليه بغير اختياره فأشبه الموروث. قال الإمام: "ولم] يصر" [أحد] إلى صحة القبول في حال كون القريب زمناً ويسار المولى عليه، ولا تجب النفقة؛ فإذا دفع النفقة لا سبيل إليه، وعتق بعض الأب قد ينفك عن التقويم في بعض الصور. وفي "الجيلي" حكاية قول ثالث: أنه يقبل، ويسري؛ لأن قبول الناظر كقبول البالغ. وفي "البحر": أن السفيه لو ملك بعض قريبه بهبة أو وصيّة وهو موسر فهل يعتق عليه الباقي؟ فيه وجهان. ولنختم الباب بفروع تتعلق به: [اعلم أنه] كما يجوز العتق محاباة وبعوض [من أجنبي] يجوز بعوض من العبد، بأن يقول: أنت حر على ألف، أو: على أن عليك ألفاً، [أو: بألف]، أو: إن أعطيتني [ألفاً فأنت حر، فإذا وجد القبول عقيب الإيجاب

حصل العتق]، ولزم المال العبد، وإن تراخي عنه بطل الإيجاب، ولم يحصل العتق، وكذا لو قال: أنت حر غداً على ألف، يشترط أن يقول العبد: قبلت. لكن في هذه الصورة هل يستحق السيّد المسمى أو قيمة العبد؟ فيه وجهان حكاهما في "الإشراف" عن القاضي. قال البندنيجي: وكذلك عند التعليق بالعطية يشترط الإعطاء عقيب الإيجاب. وهذا يقتضي أن العتق يحصل بدفع المغصوب؛ إذ العبد لا يملك شيئاً، ويكون العقد فاسداً. وقد حكى الإمام في هذه الصورة التي ذكرناها في كتاب الكتابة عن رواية الشيخ أبي على ثلاثة أوجه: أحدها: أن حكم هذا العقد حكم الكتابة الفاسدة في التراجع ردّاً ورجوعاً إلى القيمة، ثم يتبع الكسب. والثاني: أنه لا يتبعه الكسب والولد، ولكن يغرم قيمته. والثالث: أنه يعتق ولا يرجع عليه بالقيمة، بخلاف [المرأة إذا أتت بالمغصوب، وقلنا بوقوع الطلاق- حيث يغرم؛ لأنها من أهل الالتزام لما خوطبت، بخلاف] القِنِّ؛ فحملت المعاملة مع العبد على التعليق المحض. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إذا قال لعبده: إن أديت إليّ ألفاً فأنت حر، أنه يحتمل وجهين: أحدهما: لا يعتق [العبد]؛ لأنه لم يزل ملكه عن أكسابه حتى يؤدي المال ويعتق، ولا يتصور أن يملك العبد ألفاً حتى يؤدي فيعتق، بخلاف الكتابة؛ فإنه إذا كاتبه فقد أزال ملكه عن أكسابه، والمكاتب أولى بمكاسبه من السيّد. والوجه الثاني- وهو الأصح-: أنه يصح، فعلى هذا إنما سلطه على أن

يكتسب حتى يملك ألفاً فيؤدي فيعتق، وأنه إنما يعتق إذا كان المال المؤدى إلى السيد مالاً مملوكاً، فإذا لم يكن ملكه فلا يعتق؛ لأن قوله: إذا أديت إليَّ ألفاً فأنت حر، معناه: إذا أديت إلَيَّ ألفاً أملكه [فأنت حر]، فإذا كان مغصوباً لم توجد الصفة؛ فلا يعتق، وأنه قال- يعني القفال- في الكرة الثانية: هل يكون إذناً بالاكتساب؟ فيه وجهان، أحدهما: [نعم]، يكون كالعبد إذا أذن له سيّده في النكاح، وإذا قلنا: لا يكون إذناً، فلا يتصوّر عتقه إلَّا في مسألة واحدة، وهي إذا وهب [له مال] أو أوصى له بمال، وقلنا: لا يحتاج إلى إذن السيّد في القبول فيعتق، وإلَّا فلا يعتق، وإذا عتق لا يتراجعان. وإذا قلنا: لا يكون إذناً في الاكتساب، فاكتسب، ودفع إلى السيّد- لا يعتق. وإن احتطب أو احتش، والفرق بينه وبين ما إذا وهب له: أن الحطب مباح لا يكون مملوكاً لأحد؛ فإذا حازه يقع الملك للسيّد، وأما الهبة عين مال مملوك للغير فإذا عاد على العبد بذلك المال، ودفعه العبد إلى السيّد فإنه يعتق. ولو قال لعبده: أنت حر على مائة وخدمة سنة، فقبل العبد العتق، صار حُرّاً، وكان عليه ما شرطه سيّده [عليه]، فإن مات قبل أن يخدم رجع المولى بقيمة العبد في تركته إن كان له مال، حكاه في "البحر" في كتاب العتق، وكان يتجه أن يرجع فيها بقيمة الخدمة إن كانت مضبوطة، ويجوز أن يجعل عوض العتق الخدمة لا غير، ويعتق إذا قبل في الحال، ويعتبر في ذلك تقدير المدة، قاله الماوردي، ولو قال لعبده: أنت حر وعليك ألف، وقع العتق، ولا شيء "على العبد" وإن قبل؛ كما في الطلاق، ولو باع السيد عبده من نفسه بثمن في ذمته صحَّ البيع على المنصوص، سواء كان حالاً أو مؤجلاً، والإطلاق محمول على الحلول. وقال الربيع: فيها قول آخر: [أنه [لا يصح]؛ لأن السيّد لا يملك في ذمة عبده شيئاً، وغلط فيه، لأنه] إنما لم يملك إذا لم يتعلق بعتقه، فإذا تعلق

بعتقه فإنه يملك كالكتابة. وعن ابن أبي هريرة- كما حكاه الأصحاب في كتاب الكتابة-: أنه منع من ذلك بعوض حال؛ كما لا تصح الكتابة بعوض حال. والأصحاب [فرقوا بأنه] إذا باعه [من] نفسه عتق في الحال؛ فحصل مقصود العقد، بخلاف الكتابة؛ فإن العوض إذا كان حالاً تمكن السيّد من المطالبة في الحال، وقد يعجزه فيفوت مقصود العقد. ثم على المذهب في صحة البيع يعتق العبد، ويكون ولاؤه لسيّده كما في المكاتب، وهو ما جزم به البندنيجي. وعن بعض الأصحاب، وربما نسب إلى ابن سريج: أنه لا ولاء عليه للسيّد؛ فإنه عتق على ملك نفسه، ولا يجب على السيّد أن يحط عن العبد من الثمن شيئاً على المذهب. و [قد] حكى الإمام في كتاب الكتابة أن شيخه حكى عن بعض الأصحاب: أنه يجب الإيتاء في كل عقد عتاقةٍ فيها عوض كالكتابة. [و] لو كان عبد بين اثنين، فقال أحدهما: إن كان هذا الطائر غراباً فنصيبي حر، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً فنصيبي حر، وطار ولم يعرف- فإن كانا موسرين وقلنا بتعجيل السراية نفذ عتق العبد على أحدهما، [لكن هو غير متعيّن؛ فلا عزم؛ وولاؤه موقوف]. وإن كان أحدهما معسراً لم يعتق منه شيء في الظاهر، ولو كانا معسرين فكذلك؛ لأن كلاً منهما يزعم أن الخائب شريكه [دونه]، والأصل بقاء ملكه على حصته؛ فلو اشترى أحدهما نصيب صاحبه نفذ عتق نصفه ظاهراً وباطناً، لكن أي النصفين؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه الثاني؛ لأنا قد حكمنا باستمرار ما كان في يده على الرق.

والثاني: أنه مبهمٌ. ولو اشترى النصفين ثالث حكمنا بنفوذ عتق نصفه في ملكه، ولا يرد ما اشتراه- كما قاله القفال- عليهما ولا على أحدهما. وحكى الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب: أن المشتري إذا لم يعلم ما جرى بينهما من التعليق، ثم تبيّن ذلك فله الرد عليهما جميعاً. قال الإمام: وهذا هوس، ولا ينبغي أن يعد مثله من المذهب، والله أعلم. ***

باب التدبير

باب التدبير التدبير في اللغة: النظر في عواقب الأمور. وفي الشرع: اسم لتعليق عتق يقع على العبد بعد الموت. مأخوذ من "الدبر"؛ لأن السيد أعتقه بعد موته، والموت دبر الحياة. وقيل: لأنه لم يجعل تدبيره إلى غيره، وقيل: لأنه دبر أمر حياته باستخدامه وأمر آخرته بعتقه. ويقال: دابر الرجل-[و] تدابر- مدابرة: إذا مات. ودبر عبده، يدبره تدبيراً: إذا علّق عتقه بوفاته. وقد كان التدبير معروفاً في الجاهلية، فأقره الشرع على كان عليه، كذا حكاه الإمام والقاضي الحسين. وقيل: إنه مبتدأ في الإسلام بنصّ ورد فيه، عمل به المسلمون فاستغنوا عن نقل النص؛ فصار بالنص شرعاً، وصار العمل على النص دليلاً، فدبر المهاجرون والأنصار عبيداً، ودبرت عائشة- رضي الله عنها- أمة. قال الماوردي: وقد أجمع المسلمون على جوازه، وما المغلب عليه؟ فيه قولان في الجديد:

أحدهما: حكم تعليق العتق بالصفات؛ لأن حكم الألفاظ يؤخذ من صيغها، والصيغة صيغة تعليق؛ فشابه ما لو علق عتقه بموت غيره، وهذا هو الأشبه في "تعليق" البندنيجي، واختاره أكثر المتأخرين من أصحاب الشافعي- رضي الله عنه- كما قاله الماوردي، وإليه يرشد نصه في أكثر كتبه الجديدة: أنه لا يجوز الرجوع فيه بالقول. والثاني: تغليب حكم الوصيّة؛ لأنه جعله لنفسه بعد الموت، وهو محسوب من الثلث؛ فكان وصيّة كما لو جعله لغيره بعد الموت، وهذا ما اختاره المزني والقاضي أبو الطيّب وغيره، وعليه نص في القديم. وللقولين فوائد تظهر من بعد. وقد حَدّ بعض الشارحين التدبير: بأنه اسم لتعليق عتق العبد بالموت. وهو غير مانع؛ لأنه يدخل [فيه] ما إذا قال لعبده: إذا مت فأنت حر قبل موتي بشهر مثلاً، وكان موته فجأة؛ فإن هذا تعليق عتق بالموت، وليس بتدبير؛ لأنه يعتق من رأس المال. قال: التدبير قربة؛ لأن القصد به العتق والعتق قربة، وهذه العلة تفهم أن تعليق العتق قربة، وقد حكينا من قبل أنه ليس بقربة. قال: يعتبر من الثلث؛ لأنه تبرع يتنجز بالموت فأشبه الوصية، وقد روى عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنه قال: المدبر من الثلث. فعلى هذا: إن خرج المدبر من الثلث فذاك، و [قد] حصل عتقه بمجرد الموت، وإن لم يخرج كله من الثلث عتق منه بقدر ما يخرج إن لم يجز الورثة، ويتبع ذلك من كسبه قبل الإجازة والرد بقدره، ويكون باقي الكسب للورثة؛ لأنه حصل على ملكهم، ولا يحتاج في هذا إلى معرفة الخبر، بخلاف ما لو نجز عتق عبده في مرض موته، وخرج البعض من

الثلث، واكتسب العبد مالاً قبل موت معتقه ولم يجز الورثة؛ فإنه يحتاج إلى معرفة قدر ما عتق منه إلى معرفة الجبر والمقابلة: فإذا كانت قيمة العبد مائة، ولا مال له غيره، ثم اكتسب مائة: ففي هذه الصورة يعتق من العبد نصفه ويتبعه نصفه كسبه، وطريق معرفة ذلك أن يقال: عتق من العبد شيء بحكم الوصيّة، ولحقه من كسبه بقدر ما عتق منه وهو شيء؛ لأن قدر الكسب قدر القيمة، ويكون للورثة منه شيئان في مقابلة ما عتق منه؛ لأن لهما ثلثي المال، وحينئذٍ يجتمع أربعة أشياء، فاقسم قيمه العبد وكسبه عليها، فينوب كل شيء خمسون، فيعتق منه ما قيمته خمسون وهو نصفه، ويتبعه نصف الكسب؛ فيبقى في يد الورثة مائة، وهي مثلاً ما عتق من العبد. مثال آخر: إذا كان ما اكتسبه العبد ثلاثمائة، فنقول: عتق منه شيء، وتبعه من كسبه ثلاثة أشياء؛ لأن الكسب قدر القيمة ثلاث مرات، وبقى في يد الورثة شيئان وهما مثلاً ما عتق من العبد، وحينئذٍ يجتمع ستة أشياء، فتقسم القيمة والكسب عليها، ينوب كل شيء ستة وستون وثلثان، وذلك ثلثا قيمة العبد، فيعتق منه الثلثان، ويتبعه من كسبه ثلثاه، ويبقى في يد الورثة مائة وثلاثة وثلاثون وثلث، وهي مثلاً ما عتق من العبد. مثال آخر: إذا كان ما اكتسبه العبد خمسين: فنقول: عتق منه شيء وتبعه من كسبه نصف شيء؛ لأن الكسب قدر نصف قيمته، ويبقى في يد الورثة شيئان، وذلك ثلاثة أشياء ونصف، أبسطها بنسبة ما انكسر تبلغ سبعة، والكسب والقيمة مائة وخمسون، وإذا قسمتها على سبعة، ناب كل "سهم أحد" وعشرون وثلاثة أسباع؛ فيعتق من العبد ما قيمته اثنان وأربعون وستة أسباع وهو ثلاثة أسباعه، ويتبعه من كسبه أحد وعشرون وثلاثة أسباع، والباقي للورثة وهو مثلاً ما عتق من العبد، وعلى هذا فقس. فرع: إذا كان المدبر يخرج من الثلث لو لم يكن على المدبر دين، لكنه [كان] عليه دين يستغرق تركته- فلا نحكم بعتق المدبر، لكن لو حصل إبراء

من الدين عتق، وهل نتبين وقوع العتق من حين الموت أو من حين الإبراء؟ أبدى الإمام فيه تردداً وقال: إن الظاهر الثاني. فرع: إذا كانت قيمة المدبر مائة، ولسيده مائتان [لا غير] في بلد آخر أو في ذمة معسر- فلا يختلف المذهب في أن المدبر لا نحكم بعتقه [كله] في الحال، وهل نحكم بعتق ثلثه؟ فيه وجهان؛ اختار القاضي أبو حامد منهما حصول العتق، وهو الذي ذهب إليه الأكثرون كما قال الماوردي. وقال الإمام: الذي نص عليه الشافعي مقابله، وهو المذهب عند البندنيجي، والأصح في "التهذيب". وقال الماوردي: إن الشيخ أبا حامد اختاره. فعلى هذا: إن حضر من الغائب أو الدين نصفه عتق من المدبر نصفه، وإن حضر كله عتق جميع المدبر، وإن تلف كله عتق ثلث المدبر، وعلى الأول قال القفال: للورثة التصرف في الثلثين، فإن تلف المال استقر تصرفهم، وإن حضر المال الغائب نقض تصرفهم، فلو كان تصرفهم عتقاً قال ابن سريج: ولاء الثلثين للوارث؛ لأن عتقه كان نافذاً. وفيه وجه آخر عن الصيدلاني: أن كل الولاء للموروث. قال الإمام: وهذا في نهاية الإشكال، بل ما أرى له وجهاً في الصحة؛ فإن التدبير لا [سبيل إلى] رده بسبب غيبة المال؛ فلا وجه إلَّا التوقف إلى عود المال. قال القفال: وعلى هذا لو أوصى لرجل بعين وما سواها من المال غائب، فهل يسلم ثلث العين [للموصى له] أو لا يسلم له شيء حتى يحضر من المال قدره مرتين؟ فيه الوجهان، ومحلهما: إذا لم يقدر الوارث على التصرف في الحال في حال غيبته، فأما إذا كان قادراً عليه فالمعتبر مُضِّي زمان القدرة. فرع: قال القاضي الحسين: إذا كان لإنسان عبد لا مال له غيره، وأراد ألا يكون لأحد عليه سبيل بعد موته [بيوم] ويحصل له العتق- فطريقه أن يقول:

هذا حُرٌّ قبل مرض موتي بيوم إن مرضت ومت فيه، وإن لم أمرض ومت فجأة أو سقطت من شاهق فهو حر قبله بيوم؛ فإن هذا يصح، ولا يكون لأحد عليه سبيل، ويعتق كله من رأس المال، وعلى هذا ينطبق ما قاله الماوردي فيما إذا قال لأخيه: أنت حر في آخر أجزاء صحتي المتصل بأول أسباب موتي، ثم مات- أنه يعتق من رأس المال، ويرثه؛ لتقدم عتقه في الصحة. وحكى فيما لو قال: أنت حر في آخر أجزاء حياتي المتصل بموتي، ثم مات- أنه يعتق من الثلث، وهل يرثه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنها وصيّة لوارث. والثاني: نعم؛ لأن الوصية ما ملكت عن الموصي، وهو لم يملك نفسه عنه. وذكر القاضي الحسين فيما لو قال: أنت حر قبل مرض موتي بيوم، فمات فجأة- أنه يعتق من الثلث. قلت: وفي عتقه نظر؛ لأن الشرط لم يوجد، ونظيره مسألة الطلاق التي ستأتي. قال: ويصح ممن يجوز تصرفه [في المال]؛ لأنه تصرف في المال. قال: وفي الصبي [المميز] والمبذر قولان تقدم توجيههما في باب الوصيّة. ومن العراقيين من جزم في المبذر بالصحة كما حكيناه طريقة في الوصيّة، وعلى ذلك جرى البندنيجي والمصنف في "المهذب". قال المحاملي: والأول أشبه بكلام الشافعي- رضي الله عنه- وكذلك قاله في "البحر" بعد أن نسب ذلك إلى قول بعض الخراسانيين. والظاهر من القولين في الصبي- كما قال القاضي أبو حامد-: الصحة، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأنه منع من التصرف لحظه، والحظ ها هنا في جوازه؛ لأنه إن عاش لا يلزمه ذلك، وإن مات بقي له الأجر والثواب. وقال القاضي الحسين: إن أصحابنا استرذلوا هذا القول؛ فإنه لو باع ما يساوي درهماً بألف لم يصح وإن كان نفعه يعود إليه. فروع: السكران هل يصح تدبيره؟ قال بعض أصحابنا: فيه قولان كما في طلاقه، وقيل:

إذا لم يكن عاصياً لم يصح تدبيره ولا وصيته، وإن كان عاصياً بالشرب، خرج على الخلاف في وقوع طلاقه. المرتد هل يصح منه أن يدبر عبده؟ فيه ثلاثة أقوال منصوصة في "المختصر"، ثالثها: أنه موقوف، قال في "البحر": ومحلها إذا لم يحجر عليه الحاكم، أما إذا حجر عليه فهو باطلٌ قولاً واحداً، وحكى عن أبي إسحاق أن تصرفه بعد الحجر باطل إلَّا الوصية؛ فإنها تصح من المحجور عليه، والتدبير في أحد القولين كالوصيّة. المفلس يصح تدبيره قولاً واحداً. قال: والتدبير- أي: الصريح- أن يقول: أنت حر بعد موتي"، أو: إن مت من مرضي هذا، أو: في هذا البلد فأنت حر، والأول يسمى: تدبيراً مطلقاً، والثاني والثالث: تدبيراً مقيداً، حتى إذا لم يمت من ذلك المرض أو في ذلك البلد لم يعتق. وفي "البحر" أنه قال في "البويطي": لو قال: "أنت حر إن مت من مرضي هذا، أو: في سفري هذا" فهذه وصيته وليست بتدبير؛ فإن مات من مرضه أو في سفره كان حُرّاً من الثلث. والكناية في التدبير أن يقول: "إذا مت فأنت حر"، أو: "لا ملك لي عليك"، وكنايات العتق كنايات فيه. قال: فإن قال: دبرتك، أو: أنت مدبر- ففيه قولان أي: بالنقل والتخريج؛

لأنه نص فيما إذا قال: "دبرتك"، أنه صريح فيه، ونص فيما إذا قال لعبده: "كاتبتك على كذا"، لم يصح حتى يقول: "فإذا أديت إليّ كذا فأنت حر" [وينوي] ذلك. فمن الأصحاب من قال: لا فصل بينهما، وجعل المسألتين على قولين. أحدهما: أن لفظ "دبرتك" و"كاتبتك" صريحان؛ لأنهما لفظان موضوعان لهذين العقدين، فلا يفتقران إلى أمر آخر؛ كلفظ البيع في البيع. والثاني: يفتقران إلى النية؛ لأنهما لفظان لم يكثر استعمالهما؛ فيفتقران إلى النية كسائر الكنايات. والأكثرون من الأصحاب- كما قال الماوردي، ومنهم ابن أبي هريرة- أقروا النصين، وأجروهما على ظاهرهما، وفرقوا بوجهين: أحدهما: أن التدبير لفظ ظاهر مشهور يعرفه عوام الناس؛ فاستغنى عن النية، والكتابة لا يعرفها إلَّا الخواص؛ فافتقرت إلى النية. والثاني: أن التدبير لا يحتمل العتق بعد الموت، والكتابة لفظ مشترك؛ لأنه يحتمل أن يريد به المخارجة فيقول: كاتبتك كل شهر بكذا، ويحتمل أن يريد به كتابة المراسلة، ويحتمل أن يريد به الكتابة الشرعية التي تتضمن العتق؛ فلا ينصرف إلى إحداهن إلّا بنيّة. والفرقان ضعيفان. ومنهم من قال: التدبير صريح، وفي الكتابة قولان. وحكى الماوردي وابن الصباغ في كتاب الكتابة أن بعض أصحابنا قال: إن كان اللافظ من فقهاء الأمصار [فلا يفتقر] إلى النية [فيهما]، وإن لم يكن فقيهاً احتاج إليها فيهما؛ فتحصلنا على أربع طرق في المسألتين، والصحيح الأول، والذي حكاه المراوزة- كما قال الإمام- الثاني: وهو تقرير النصين. [قال]: ويجوز أن يعلق التدبير على صفة بأن يقول: "إن

دخلت الدار فأنت حر بعد موتي؛ لأنه دائر بين أن يكون وصيّة وهي جائزة التعليق، أو عتقاً بصفة وهو- أيضاً- يقبله، فإنه يجوز أن يقول لعبده: إذا دخلت الدار فإن كلمت زيداً فأنت حر، فإن دخل الدار في حياة السيد انعقد التدبير، وإن دخلها بعد موته لم ينعقد؛ لأن إطلاق الصفة يقتضي وجودها في حال الحياة كما ذكرناه في العتق. ولو قال: إذا مت فأنت حر بعد موتي [بيوم]، لا يحتاج إلى إنشاء العتق؛ كالمدبر سواء. فروع: لو قال: إن شئت فأنت حر متى مت، فالمشيئة فيه كالمشيئة في الطلاق، وستقف على ما قيل فيها. فلو قال: شئت، ثم قال: لست أشاء- انعقد التدبير بالأولى، ولم يبطل بما قاله ثانياً. ولو قال ابتداء: لست أشاء، ثم قال: شئت- بطل التدبير، ولم تؤثر المشيئة الثانية. لو قال: متى شئت فأنت حر بعد موتي، فلا يشترط أن تكون المشيئة في المجلس، ويحتاج إلى وجودها في حال الحياة، فلو قال: لا أشاء، ثم قال: شئت- ثبت التدبير [بهذه المشيئة] المتأخرة، ولم يبطل بقوله المتقدم. لو قال: إذا مت فأنت حر إن شئت، فهذا يحتمل إرادة المشيئة بعد الموت، ويحتمل إرادتها في الحال كما لو قال: دبرتك إن شئت، أو: أنت مدبر إن شئت، فيرجع إليه، فإذا بيّن شيئاً عمل بموجبه، وهل يتعيّن القبول على الفور إذا قال: أردت حصول المشيئة بعد الموت، أو يجوز على التراخي؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين، والمذكور في "النهاية": الثاني.

وإن قال: أطلقت اللفظ، ولم أرد شيئاً- قال الإمام: فحاصل ما قيل فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يحكم بالعتق حتى توجد المشيئة في الحياة وبعد الموت. ومنهم من حمله على مشيئته بعد الموت، وقال: إنه الذي صححه العراقيون. وعلى هذا لا يشترط أن كون المشيئة عقيب الموت، ويجيء فيه ما حكاه القاضي. ومنهم من قال: نحمله على مشيئته في الحال، قال الإمام: وهو متجه لا بُعْدَ فيه. وبهذا جزم القاضي الحسين. إذا قال: إذا مت فشئت فأنت حر، فهذا ليس بتدبير، وإنما هو تعليق عتق بصفة، وهل يشترط فيه المشيئة عقيب الموت؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما لو قال: أنت حر بعد موتي إن شئت، وزعم [أنه أراد] إيقاع المشيئة بعد الموت. والثاني: أنه لابد من اتصال المشيئة بالموت، هكذا حكاه الإمام، وبه جزم القاضي الحسين. وقال في "الزوائد": إن أبا حامد لم يقل بغيره، وظاهره [أن المشيئة على الأول] متى وجدت بعد الموت حصل العتق، وكلام البندنيجي وكذا ابن الصباغ مصرِّح بأنه إذا أخر المشيئة بعد الموت ومفارقة مجلس بلوغ الخبر [فيه-] أنه لا أثر للمشيئة. وإن وقعت المشيئة بعد الموت متراخية عنه، لكنها في المجلس- ففي الاعتداد بها الوجهان المذكوران فيما إذا قال: [أنت حر بعد موتي، وهما مذكوران في الطلاق، وأجرى ما ذكره في هذه الحالة فيما] إذا قال: إذا مت فأنت حر إذا شئت، أو: إن شئت. وإذا جمعت بين ما حكاه [هو و] البندنيجي وبين ما أفهمه كلام الإمام

جاء في المسألة ثلاثة أوجه، قال الإمام: والذي أرى أن الوجهين يجريان فيما لو قال: إن دخلت الدار وكلمت زيداً فأنت طالق، حتى إذا دخلت الدار وانفصل التكليم عنه انفصالاً معتدّاً به وقع على وجه. إذا قال: إذا مت فأنت حر متى شئت، لا يشترط في المشيئة أن تقع في المجلس، بل أي وقت شاء عتق، وتكون نفقته في كسبه إلى أن يشاء، فإن فضل عنها شيء فالفاضل هل يوقف حتى إذا شاء [و] عتق يكون له أو يسلم للورثة. قال القاضي أبو الطيب: فيه قولان؛ كما إذا أوصى بعبد ومات، واكتسب مالاً، وقبل الوصية: فلمن يكون الكسب؟ وفيه قولان كما ذكرنا. قال ابن الصباغ: والفرق بينهما ظاهر، وينبغي أن يكون الكسب ها هنا للورثة وجهاً واحداً؛ لأن العبد قبل مشيئته مملوك قولاً واحداً؛ فلا يثبت له كسبه، والعبد الموصي به إذا قبله تبيناً أنه ملكه بموت الموصي في أحد القولين؛ فلهذا جعل له كسبه في أحد القولين. قلت: ما ذكره ابن الصباغ ظاهر إن كان القاضي قد فرّع القولين في مسألة الوصيّة على القولين في أن الموصى له يملك بالقبول، أو به يتبين أنه ملك بالموت، لكن قد ذكرنا فيما إذا فرعنا على أنه يملك بالقبول: فالكسب الماضي لمن يكون؟ وفيه خلاف كما في نظير المسألة في الزوائد" الحاصلة في زمن الخيار إذا أجيز العقد، وقلنا: الملك للبائع، فيجوز أن يكون القاضي أشار إليه، وإذا كان كذلك فهو نظير مسألة العتق بلا فرق. قال: ويجوز في بعض العبد كالعتق، فإن دبر البعض، أي: وكان ملكه بجملته- لم يسر إلى الباقي؛ لأنه ليس بإتلاف ولا بسبب يوجب الإتلاف؛ بدليل جواز بيعه؛ فلم يقتض السراية، قال في "المهذب" وغيره: ومن أصحابنا من حكى قولاً آخر: أنه يسري. فعلى الأول إذا مات عتق ما دبره بلفظه، وهل يسري إلى الباقي؟ فيه وجهان

ينبنيان على ما إذا أعتق بعض عبده في حال الحياة؛ فإنه يعتق كله لكن بطريق التعبير بالبعض عن الكل، أو بالسراية؟ فإن قلنا بالأول عتق الجميع هنا، وإلَّا فلا، وهو الذي حكاه الماوردي عن النص، وقد ذكرت هذا الفرع في الباب قبله. فرع: لو قال: دبرت يدك أو رجلك، وجعلناه صريحاً، أو نوى به التدبير- فهل يصح؟ فيه قولان. قال القاضي الحسين: ينبنيان على ما لو قال لامرأته: زنت يدك ورجلك، هل يكون قاذفاً؟ فإن جعلناه قاذفاً صح التدبير، وإلَّا فلا، والفرق بينه وبين العتق: أن [للعتق غلبة وسراية] والتدبير [لا سراية له]. قال: وإن دبر شركا له في عبد لم يقوّم عليه على ظاهر المذهب؛ لما ذكرناه؛ لأنه لا يمنع جواز البيع فلا يسري؛ كتعليق العتق بصفة. قال ابن الصباغ: وهذا لا يجيء على المذهب سواه. فعلى هذا إذا مات السيّد وعتقت الحصة لم يقوم عليه؛ لأنه معسر. وقيل: يقوم عليه [أي] إذا كان موسراً وهو قول ثان في المسألة؛ لأنه أثبت له سبباً يستحق به العتق بموته فسرى؛ كالاستيلاد. وفعلى هذا: إذا قوّم عليه صار الجميع مدبراً وعتق بموت سيّده، وقد نسب هذا القول إلى اختيار الشيخ أبي حامد. وقال: ابن أبي هريرة، إذا قلنا به، وقوم [عليه] فلا يصير نصيب شريكه مدبراً حتى يتلفظ بتدبيره، فإن لم يتلفظ ومات [فهل يسري] العتق من حصته إلى الحصة المقومة عليه؟ فيه وجهان، والمشهور الأول. قال: وإن كان عبد بين اثنين، فدبراه، ثم أعتق أحدهما نصيبه- لم يقوم

عليه نصيب شريكه في أصح القولين؛ لما فيه من إبطال الولاء على الشريك الذي انعقد سببه بالتدبير؛ كما لا يملك الشريك عتق حصته من العبد الذي أعتق شريكه حصته منه قبله وهو موسر، وقلنا: لا يسري إلّا بدفع القيمة. قال في "البحر": فعلى هذا إذا رجع المدبر في التدبير ولو بعد زمان سرى العتق قولاً واحداً؛ لزوال المانع. وهذا ما حكاه الإمام عن رواية الشيخ أبي محمد بعد أن قال: قال الأصحاب: لا يسري؛ فإنه قد امتنع السريان حالة العق فلا يسري بعده؛ كما لو أعتق وهو معسر ثم أيسر. فإن قلنا بما حكاه في "البحر" فهل يتبين السريان من حين العتق، أو نقول: يسري عند الرجوع في التدبير؟ حكى الإمام عن شيخه فيه وجهين. قال: [ويقوم في الآخر؛ لأن المدبر يجوز بيعه، فإذا أعتق أحد الشريكين حصته سرى إلى الأخرى كالقن]، وهذا ما نص عليه في "البويطي"، وهو الصحيح في "البحر". قال ابن الصباغ: وما ذكره الأول، يبطل بالعبد المعلق عتقه [على صفة]. قلت: ويمكن أن يحترز عن هذا النقض؛ بأن يضيف لما ذكرناه: مع كون العقد قربة، والخلاف جارٍ فيما إذا دبر أحدهما نصيبه، وقلنا بعدم السراية، فأعتق الآخر حصته وهو موسر. قال: ويجوز الرجوع في التدبير بالتصرف بالبيع وغيره، أي: من الأمور الناقلة للملك، كالإصداق، وجعله عوضاً في خلع، أو عفو عن قصاص، أو أجرة في إجارة، أو رأس المال في السَّلم، أو هبة، أو تصدق به وأقبضه، أو وقفه، ونحو ذلك. ووجهه في البيع: ما روى أبو داود عن عطاء- وهو ابن أبي رباح- عن جابر بن عبد الله أن رجلاً أعتق غلاماً عن دبر منه، ولم يكن له مال غيره، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فبيع بسبعمائة أو بتسعمائة. وأخرجه البخاري [ومسلم]

والنسائي وابن ماجة بنحوه مختصراً ومطولاً. وفي رواية لأبي داود: قال- يعني النبي صلى الله عليه وسلم-: "أَنْتَ أَحَقُّ بِثَمَنِهِ، وَاللهُ أَغْنَى مِنْهُ". وقد روى أبو داود عن أبي الزبير: [أن رجلاً من الأنصار، يقال له أبو مذكور، أعتق غلاماً له يقال له يعقوب، عن دبر، لم يكن له مال] غيره، [فدعا به] النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مَنْ يَشْتَرِيهِ؟ "، فاشتراه نعيم بن [عبد الله النَّحَّام]، بثمانمائة درهم، فدفعها إليه، [ثم] قال: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فَقِيراً فَلْيَبْدَا بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ فَعَلَى عِيَالِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ، فَعَلَى ذِي قَرَابَتِهِ- أَوْ قَالَ: عَلَى ذِي رَحِمِهِ- فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ، فَهَا هُنَا وَهَا هُنَا" وأخرجه مسلم والنسائي، فثبت في البيع بالنص، وقيس باقي ما ذكرناه عليه؛ لأنه في معناه. قال في "التهذيب": ولا فرق في البيع بين أن يكون بشرط خيار أو دونه، في أنه رجوع على قولنا: إن التدبير وصية أو عتق بصفة. نعم، لو فسخ العقد هل يعود التدبير؟ سنذكر عن الإمام فيه تردداً. قال: وهل يجوز بالقول؟، أي: كقوله: فسخت التدبير، أو نقضته، أو أبطلته، أو رجعت فيه؟ فيه قولان [أي]: في الجديد: أصحهما: أنه لا يجوز، قال البندنيجي وغيره: هما مبنيان على قولين، في أنالتدبير عتق بصفة أو وصية؟ فالأول مبني على الأول، والثاني على الثاني.

وعن القديم: أنه يجوز الرجوع بالقول، وخص بعض الأصحاب هذا الخلاف بالتدبير المطلق، وقال في التدبير المقيد: لا يجوز الرجوع فيه بالقول قولاً واحداً؛ لأنه لم يعلق بمطلق الموت، فكان بالتعليق أشبه. والأول أصح، كذا قاله في "التهذيب". وفي "الجيلي": أن بعضهم قال: محلهما في المقيد، أما المطلق، فلا يصح الرجوع فيه بالقول، قولاً واحداً. فرعان: إذا صححنا تدبير الصبي، وأراد الرجوع فيه، فإن قلنا: يجوز الرجوع فيه بالقول، كان له ذلك، وأبدى القاضي الحسين احتمال وجهٍ في منعه؛ لأن جواز التدبير كان لأجل حظه، ولا حظ له في الرجوع. وإن لم نجوز [الرجوع بالقول فلا يجوز منه الرجوع، ويقوم وليّهُ فيه مقامه، إذا رأى في] بيعه حظّاً، كما قاله الشافعي- رضي الله عنه- فيبيعه، ويبطل إذ ذاك التدبير، ولو أراد الولي بيعه لا لأجل الحظ، بل لأجل إبطال التدبير- لم يجز؛ لأنه لا حجر فيه عليه؛ كما لا يجوز أن يرجع فيه بالقول، إذا جوزناه، قولاً واحداً. نعم، لو أذن [له] الصبي في البيع، كان بيع الولي عن إذنه رجوعاً بكل حال، ذكره الماوردي. لو دبر عبداً، ثم خرس: فإن كان له إشارة معقولة كان له الرجوع بالإشارة [بالبيع ونحوه أو بها، وإن لم تكن له إشارة معقولة ولا كناية مفهومة، لم يصح رجوعه]، ولا يجوز أن يولى عليه، فيبقى العبد مدبراً حتى تحصل له إشارة مفهمة فرجع فيه؛ لأنه مكلف رشيد، فلا يولى عليه. قال: وإن وهبه ولم يقبضه بطل التدبير، وقيل: لا يبطل. هذا الخلاف بناه

بعض الأصحاب على القولين- أيضاً-[فقال]: إن قلنا: [إن] التدبير وصيّة، فالرجوع يجوز فيها بالهبة وإن لم يقبض، وإن قلنا: تعليق عتق بصفة، فالرجوع إنما يكون بنقل الملك ولم يوجد. وحكى الإمام عن رواية الشيخ أبي علي: أنا إن جعلنا التدبير وصية، كانت الهبة من غير قبض رجوعاً، وإن قلنا: إنه عتق بصفة، فهل يكون رجوعاً أم لا؟ فيه وجهان. [ثم قال]: ولست أعرف لهذا وجهاً. وقال في "البحر": إن بعض الأصحاب، جزم بكون ذلك رجوعاً على القولين معاً؛ لأن الهبة قبل القبض، إن لم تُزل الملك في الحال، فهي تفضي إلى زوال الملك. وإن هذا اختيار القاضي أبي حامد؛ حيث قال في "الجامع": ولا يصح الرجوع عن التدبير إلَّا بإخراجه من ملكه، في أظهر قوليه في الجديد، وينتقض التدبير على هذا القول بكل عقد يؤدي [إلى] خروجه من ملكه، وإن لم يتم، فإذا وهبه هبة يثاب، قبضه الموهوب أو لم يقبضه، رجع في الهبة أو لم يرجع، أوصى به لرجلٍ أو تصدق به عليه، أو قال: إن أدى بعد موتى كذا فهو حر، فهذا كله رجوع في التدبير. قال: وهذا [ما] نقله بعينه من كتاب التدبير من "الأم"؛ فبطل بذلك، القول [ببناء الخلاف على القولين]. فروع: إذا وهبه، ثم أقبضه، وقلنا: مجرد الهبة لا يقطع التدبير- فانقطاع التدبير يكون حالة الإقباض، إن جعلناه الملك فيها يحصل [إذ ذاك]، وإن قلنا: يثبت الملك بالهبة، فهل نتبيّن انقطاع التدبير؟ قال الإمام: [هذا] فيه تردد، وأثره يظهر فيما إذا زال الملك [فيه] على

الجواز ثم عاد، فهل يحكم بانقطاع التدبير؟ فيه تردد بين: يجوز أن يقال: ينقطع؛ لزوال الملك؛ كما لو زال الملك لازماً، ويجوز أن يقال: لا ينقطع؛ كالطلاق الرجعي إذا تداركته الرجعة. وهذا منه يشعر بأنا إذا حكمنا بأن القبض في الهبة مبين للملك من حين العقد، يكون الملك فيه جائزاً؛ إذ لو لم يكن كذلك، لما حسن التخريج الذي ذكره، والله أعلم. العرض على البيع هل يكون كالتصريح بالرجوع؟ فيه وجهان، وقيل: [إن] ذلك ينبني على أن التدبير وصيّة فيكون رجوعاً، أو عتق بصفة، فلا يكون رجوعاً. إذا قال: رجعت في تدبير رأسك، ففي قيامه مقام التصريح بالرجوع في كله وجهان، أحدهما: نعم؛ لأنه يعبر عن الجملة بالرأس؛ يقال: له رأس [من] الرقيق. إذا قلنا: لا يحصل الرجوع إلَّا بزوال الملك، فرهنه، فهل يصح ويكون رجوعاً أم لا؟ [قد] تقدم الكلام فيه في الرهن. قال: وإن دبر جارية، ثم أحبلها، بطل التدبير؛ لأن العتق بالسببين يقع في زمن واحد، ولم يظهر للعتق بأحدهما فائدة لا تحصل في العتق بالآخر، والاستيلاد أقوى؛ لكونه لا سبيل إلى إلغائه بعد ثبوته، فَقُدِّم، وإن لم يكن بين التدبير والاستيلاد منافاة؛ كي لا يعلل الحكم الواحد بعلتين. وبقولنا: "إن العتق بهما يحصل في زمن واحد ... " إلى آخره، يخرج ما إذا كانت أمته، ثم استولدها؛ فإن الكتابة لا تبطل، كما سنذكره. وفي "تعليق" القاضي الحسين: الجزم في هذا الكتاب بأن الاستيلاد لا يبطل التدبير، حتى لو قال السيد: مدَبَّرِيَّ أحرار، تعتق هي. تنبيه: قول الشيخ: إن التدبير يبطل بالإحبال، فيه إشارة إلى أن الوطء لو وجد دون الإحبال لا يكون رجوعاً فيه، وهو ما صرّح به القاضي الحسين، سواء عزل أو لم يعزل؛ لأنه إذا لم يعزل فقد قصد تأكيد الحرية بالاستيلاد، وهذا بناء على ما ذكره من أن الاستيلاد لا يبطل التدبير، ووافقه الإمام على ذلك.

قال: وإن كاتب عبداً، ثم دبره، صح التدبير، كما يصح أن يعلق عتقه بعد تدبيره على صفة، فإن أدى المال عتق أي: بالكتابة وبطل التدبير، وإن لم يؤد حتى مات السيد عتق أي: بالتدبير وبطلت الكتابة، فإن لم يحتمل الثلث جميعه، عتق الثلث، أي: عتق منه بقدر الثلث "بسبب التدبير، وبقي ما زاد على الكتابة؛ لأن كلاً منهما سبب للعتق، فيعلق العتق بالسابق، ويسقط عنه من النجوم بقدر ما عتق منه: إن كان النصف، فنصف النجوم، [وإن كان] النصف والربع، فالنصف والربع، وهكذا. واعلم: أن قول الشيخ: وإن لم يؤد حتى مات السيد عتق وبطلت الكتابة، اتبع فيه الشيخ أبا حامد؛ فإن هذه عبارته، وهي تفهم [أن] أكساب العبد وولده يعود رقّاً للسيد؛ لأن هذا شأن الكتابة إذا بطلت، ويقوي هذا الإفهام ما ذكره الشيخ في باب الكتابة: أن السيد إذا أحبل المكاتبة صارت أم ولد، فإذا مات عتقت بالاستيلاد، وعاد الكسب إلى السيد. وقد قال ابن الصباغ في مسألتنا: إنه ينبغي أن يعتق المدبر ويتبعه ولده وكسبه؛ كما إذا أعتق السيد مكاتبه قبل الأداء؛ لأن السيد لا يملك إبطال الكتابة بالعتق المباشر فلا يملكه بالتدبير. ثم قال: ويحتمل أن يريد- يعني الشيخ أبا حامد- بالبطلان زوال العقد، دون سقوط أحكامه، وعلى ذلك جرى في البحر، وينطبق [على] ما أبداه ابن الصباغ احتمالاً لنفسه ما أورده هو والبندنيجي [والإمام هنا] في مسألة إحبال المكاتبة بأن السيد إذا مات عتقت بموته عن الكتابة وتبعها كسبها؛ لأن العتق إذا وقع في الكتابة لا يبطل حكمها كما لو باشرها به، وغذا كان الاستيلاد القوى لا يبطل أحكام الكتابة إذا حصل العتق بسببه فالتدبير الذي هو ضعيف بذلك أولى. قال: وإن دبر عبداً ثم كاتبه بطل التدبير في أحد القولين، ولم يبطل في الآخر، ويكون مدبراً مكاتباً. أي: فيكون حكمه ما ذكرناه من قبل، ومأخذ القولين: البناء على أن التدبير وصية أم عتق بصفة؟

فإن قلنا: إنه وصية، بطل؛ كما تبطل الوصية بالكتابة على الصحيح، وبه جزم بعضهم كما ذكرناه. وإن قلنا: إنه عتق بصفة، فالكتابة لا تزيل الملك عن الرقبة؛ فلا يكون رجوعاً؛ كالعتق المعلق بصفة، وهذه طريقة الشيخ أبي حامد. وحكى الإمام القولين عن رواية صاحب "التقريب" فيما إذا قلنا: إن التدبير وصية، فهل تكون الكتابة رجوعاً أم لا؟ وكان على قياس ما حكاه القاضي أبو حامد في "الجامع" أن تكون رجوعاً قولاً واحداً، وإن قلنا: إنه [تعليق بصفة]؛ لأنها عقد يفضي إلى زوال الملك، كالهبة قبل القبض. وقد حكي عنه أنه قال: يسأل عن قصده بالكتابة، فإن أراد بها رجوعاً في التدبير كان راجعاً في أحد قوليه دون الآخر، وإن قال: أردت إثباته على التدبير، فهو مدبر مُكاتب في القولين معاً، وكان الفرق بين ما ذكره في الهبة ونحوها وبين الكتابة: أن الهبة إذا تمت بالقبض فات التدبير؛ فلذلك جعلت مبطلة له، وإن لم تتصل بالقبض؛ نظراً إلى آخر الأمر، والكتابة في ابتدائها لا تزيل الملك، وإذا تمت بأداء النجوم حصَّلت مقصود التدبير وهو العتق؛ فلم تكن منافية له حالاً ومآلاً، بل مناسبة له، والرجوع إنما يكون بالمنافي لا بالمناسب والمماثل، وبهذا رد القاضي الماوردي على الشيخ أبي حامد تخريج المسألة على قولين، وإن جرى مجرى الوصية. فرع: إذا علق عتق عبده بصفة مطلقة، ثم دبَّره- صح التدبير. فإن وجدت الصفة قبل الموت، عتق وبطل التدبير، وإن لم توجد حتى مات السيد، عتق بالتدبير. ولو دبره ثم علق عتقه على صفة، قال في "التهذيب": صح، وكان التدبير باقياً بحاله، وأبدى الإمام في كونه رجوعاً تردداً، مأخوذاً من الخلاف الذي رواه عن صاحب "التقريب" من قبل. فرع: إذا دبر حمل الجارية دونها صح. فإذا قلنا: لا يصح الرجوع في التدبير بالقول، فالحمل لا يمكن بيعه على الانفراد، فطريقه: أن يبيع الأم بقصد الرجوع، فلو باعها من غير قصد الرجوع

فهل يصح البيع ويكون رجوعاً في التدبير، أو يبطل البيع؟ فيه قولان، الذي حكاه [المسعودي: الثاني، وهو ظاهر النص، كما حكاه] البندنيجي و [قال: إن] الشيخ أبا حامد اختار مقابله، وحمل ما قاله الشافعي- رضي الله عنه- على ما إذا استثنى حملها في البيع. فرع: لو دبر عبده ثم ارتد، فهل يبطل التدبير؟ قال بعضهم: بطلانه مخرج على الأقوال في تصرف المرتد. وقال بعضهم: بل يبطل مطلقاً؛ لأن المدبر إنما يعتق إذا حصل للورثة مِثْلاه وها هنا لا يحصل للورثة شيء؛ فلم يعتق. وقال أبو إسحاق: لا يبطل قولاً واحداً على الأقوال كلها؛ كما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- هنا. قال ابن الصباغ: وهو الأصح. وفي "الحاوي": أنا إن حكمنا ببقاء ملكه فالتدبير بحاله، فإن مات أو قتل مرتدّاً عتق بموته إن كان يخرج من الثلث، وإن لم يكن له مال سواه ففيما يعتق منه وجهان: أحدهما: ثلثه، ويرق ثلثاه، وهو قول البصريين. والثاني- وهو قول البغداديين-: يعتق جميعه. قال الماوردي: وهو الأظهر عندي، وإن لم يصل إلى المسلمين مثلاه؛ لأن باقي المرتد ينتقل إليهم فيئاً لا إرثاً، والثلث معتبر في الميراث دون الفيء. وإن قلنا بزوال ملكه ففي تدبيره وجهان: فإن قلنا: يبطل، فإن قتل في الردة لم يعتق منه شيء، وإن عاد إلى الإسلام عاد المدبر إلى ملكه. وهل يعود إلى التدبير؟ إن قلنا: إنه وصية، لم يعد، وإن قلنا: تعليق عتق بصفة، خرج على الخلاف في عود الحنث.

وإن قلنا: لا يبطل، فإن مات أو قتل على ردته عتق بجملته إن خرج من الثلث، وإلا فالحكم كما تقدم. قال: وإن أتت المدبرة بولد من نكاح أو زنى لم يتبعها [الولد] في أصح القولين؛ لأن عتقها معلق بصفة ثبتت بقول المعتق وحده؛ فلا يتبع فيه الولد؛ كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت حر. وهذا ما صححه [المزني] أيضاً، وقال البندنيجي: إنه أضعف القولين. قال: ويتبعها في الآخر، أي: في التدبير؛ حتى إذا ماتت وبقي الولد عتق بموت السيد؛ لأنها أمة تعتق بموت سيدها؛ فوجب أن يتبعها ولدها في صفتها، كولد أم الولد. ولا فرق في جريان القولين عند بعضهم بين أن نقول: إن التدبير وصية أو عتق بصفة، وهذا الطريق يدل عليه نص الشافعي- رضي الله عنه- وبعضهم بنى القولين على أن التدبير وصية أو عتق بصفة؟ فالأول مبني على أنه وصية، والثاني مبني على أنه عتق بصفة. وبعضهم قال: إن قلنا: إنه وصية، لم يتبعها، وإن قلنا: إنه عتق بصفة، فهو محل القولين. ثم محل جريان الخلاف فيما إذا حصل العُلوق بالولد بعد التدبير، أما إذا كان الحمل موجوداً حالة التدبير؛ بأن وضعته لدون ستة أشهر من وقت التدبير- فالولد يكون مدبراً قولاً واحداً؛ لأنه كالجزء منها، صرح به ابن الصباغ وغيره، وفي "تعليق" القاضي الحسين و"التهذيب": أن ذلك بناءً على قولنا: إن الحمل يعرف، أما إذا قلنا: لا يعرف، فيكون على القولين في الحمل الحادث بعد التدبير. فروع: قال العراقيون وصاحب "التهذيب": لو قال: أنت حرة بعد موتي بعشر سنين، فأتت بولد في حياة السيد- فهو على الخلاف السابق، وإن أتت به بعد موته وقبل انقضاء العشر سنين ففيه طريقان:

أحدهما: القطع بأنه مدبر. والثاني: أنه على القولين. إذا دبَّر عبده، ثم وهب له جارية فوطئها، وأتت منه بولد، فإن قلنا: العبد لا يملك، فالولد قِنٌّ للمولى، ولا حد على العبد؛ للشبهة، وإن قلنا: يملك، فالولد ملك للعبد؛ لأنه من أمته، ولا يعتق عليه؛ لأن ملكه غير تام، كالمكاتب، لكن هل يتبعه الولد في التدبير؟ فيه وجهان عن ابن سريج: أحدهما: لا؛ لأن الولد يتبع الأم في الرق والحرية دون أبيه. والثاني: يتبعه؛ لأن الأم إذا كانت مملوكة للواطئ كان الولد تابعاً لأبيه دون أمه؛ كالحر إذا وطئ أمته واستولدها؛ فإن الولد يتبعه في الحرية دون أمه. [ثم] إذا قلنا: إن الولد يتبع أمه في التدبير، فقالت بعد موت سيدها: ولدته بعد التدبير وقد عتق معي، وقال الورثة: بل قبل التدبير- فالقول قولهم؛ لأن الأصل بقاء ملكهم، ويد المدبرة لا تحتوي على ولدها حتى يكون القول قولها، بخلاف ما لو وجد في يدها مال بعد موت السيد، فقال الوارث: إنه من كسبها قبل موت السيد، وقالت: بل بعده- فإن القول قولها؛ لأن اليد تثبت على المال، ولا فرق بين أن يكون الاختلاف وقد مضى زمن يمكن فيه اكتساب ذلك عادة، أو زمن يسير، كما قاله البندنيجي. وكذلك القول قولها فيما لو أقام الوارث بينة على أن ذلك المال كان في يدها قبل موت سيدها، وادعت أنه كان في يدها لغيرها، وأنها ملكته بعد موته من جهة مالكه، كما صرح به البندنيجي عن نص الشافعي- رضي الله عنه-. وفي "الحاوي" حكاية قولين في هذه الصورة. ثم إذا جعلنا القول قول الورثة في الولد فلابد من اليمين، فلو نكلوا عنها، قال في "الحلية": حلفت الأم وعتق ولدها معها إذا خرجا من الثلث، وإن نكلت فهل يحكم برق الولد أو يوقف أمره حتى يبلغ فيحلف؟ فيه وجهان. إذا ادعت المدبرة أنها ولدت بعد موت سيدها- وقلنا: الولد لا يتبع أمه في التدبير-

وقال الورثة: بل قبل موته- قال الإمام: فالقول قول الورثة أيضاً؛ جرياً على الأصل الذي ذكرناه. وفي "حلية" الشاشي: أن القول قولها، فإن نكلت عن اليمين فهل ترد اليمين على الوارث أم يوقف [الأمر] على ما ذكرناه؟ فيه وجهان. وفي "الحاوي": أنها إن اعترفت بأنها علقت به في حياة السيد؛ لكونها أتت به لدون ستة أشهر من حين وفاته- فالقول قول الورثة. وإن ادعت أنها علقت به بعد موت السيد فالقول قولها مع اليمين، فإن حلفت حكم بحرية الولد، وإن نكلت فهل ترد اليمين على الوارث، أو يوقف الأمر إلى بلوغ الولد ليحلف؟ فيه وجهان. وهذا الذي قاله حسن، ويتعين حمل كلام الإمام على الحالة الأولى، وحمل كلام الشاشي على الثانية. إذا لم يف الثلث بعتق المدبرة وولدها، قال ابن الحداد: يقرع بينهما، كما لو دبر عبدين، وحكى الإمام عن بعض الأصحاب: أن العتق يقسم بينهما؛ فإنا إذا أقرعنا فقد تخرج القرعة على الولد فترق الأم، ومنها يُعدَّى التدبير إليه، وهذا ليس بشيء. إذا ادعى على سيده أنه دبره، فالنص أن الدعوى مسموعة، قال الإمام: وهذا مشكل؛ لأن المدبر لا يستحق في الحال شيئاً، وعماد الدعوى: أن يستحق المدعي [على المدعى] عليه حقّاً يملك المطالبة به في الحال، وليس يملك المدبر على مولاه شيئاً في الحال، وقد نص على أن الدعوى بالدين المؤجل لا تسمع، والتدبير كالدين المؤجل؛ فاتفق الأصحاب على إجراء خلاف في المسألتين، فإن سمعنا الدعوى بالتدبير، فأقر به السيد- ثبت، وإن أنكر، فإن قلنا: إنه عتق بصفة، لم تسقط عنه المطالبة باليمين، وإن قلنا: إنه وصية، فهل يكون الإنكار رجوعاً؟ فيه وجهان، المذهب منهما في "تعليق" البندنيجي و"المهذب" والمنصوص عليه للشافعي- كما قاله الماوردي-: أنه ليس برجوع؛ فيقال له: إن شئت فارجع، وأسقط اليمين عن نفسك، وحكى الإمام عن الأصحاب: أنا إذا جعلنا الإنكار رجوعاً فلا تسمع الدعوى، وقال: [إن] فيه نظراً.

قال: وإن دبر الكافر عبده الكافر صح؛ كما يصح عتقه، وسواء في ذلك الذمي والمعاهد والحربي. فإن أسلم العبد، فإن رجع في التدبير بيع عليه بالقول وجوزناه، بيع عليه؛ لأنه قد رجع فيئاً، والكافر مأمور بإزالة ملكه عن العبد المسلم. قال: وإن لم يرجع لم يقر في يده؛ لما في ذلك من الإذلال [له]. قال: فإن خارجه جاز، وإن لم يخارجه سلم إلى عدل؛ لأن ذلك ينفي الذل عنه، وأنفق عليه، أي: من كسبه إن كان له كسب، وإلا فمن ماله؛ لبقاء ملكه عليه. قال: إلى أن يرجع عن التدبير فيباع، أو يموت فيعتق، أي: إن خرج من الثلث، وإن خرج بعضه بيع الباقي، ولا يكلف المدبر بيعه قبل الرجوع في التدبير؛ لأن في ذلك إبطالاً لحق العبد من العتق، وهذا هو الأصح. وقيل: يكلف البيع؛ لأن المدبر باق على ملكه؛ فكان كغيره، وهذا ما اختاره المزني، كما حكاه المصنف. [و] قال الإمام في باب كتابة النصراني: إنه الأصح في القياس، والخلاف جار- كما قاله الماوردي- فيما إذا علق عتق عبده بصفة ثم أسلم. وجزم في "الشامل" في هذه الصورة بالإجبار على البيع. ولو أوصى بعتقه بعد الموت، ثم أسلم ففي "البحر" طريقان: أحدهما: حكاية قولين، كما في المدبر. والثاني: يباع قولاً واحداً. قال القاضي الحسين: ولا خلاف أنه لو أسلم عبد الكافر فدبره، أو اشترى عبداً مسلماً فدبره- أنه يباع عليه. وحكى مجلِّي أن في الاكتفاء بالتدبير وجهين، وأنه لو علق عتقه بصفة فطريقان: أحدهما: طرد القولين المذكورين في التدبير [فيه].

والثاني: القطع بعدم بالاكتفاء به. وهذا الفرع إن لم يوجد في "الذخائر" في باب التدبير، فليطلب في كتاب البيع، وهو في أواخر كتاب الجزية من "النهاية" هكذا، ونسبه إلى رواية صاحب "التقريب". تنبيه: المخارجة: أن يشارطه على خراج معلوم يؤديه إلى السيد كل يوم، ويكون باقي الكسب للعبد، ويستقل بالتكسب، ولهما الفسخ كل وقت، ولا يختص جوازها بهذه الحالة، بل تجوز لكل سيد مع رقيقه إذا تراضيا عليها. وهل تجوز بدون رضا العبد؟ حكى الأصحاب في كتاب الكتابة فيها قولين، ووجه الإجبار مخصوص بما إذا كان [العبد] مُطِيقاً للكسب، وكان ذا صنعة، وبعضهم جزم بهذا القول، ذكره القاضي الطبري. فرع: لو كان عبد بين اثنين، فقالا [له]: متى متنا فأنت حر- لم تعتق حصة واحد منهما إلا بموتهما، سواء اتفقا على القول في حال واحد أو تقدم قول أحدهما على الآخر، فإن اتفق موتهما في حالة واحدة عتق عليهما، وفي حكم عتقه عليهما وجهان: أحدهما: عتق بحكم التدبير. والثاني: عتق عليهما وصيةً لا تدبيراً؛ لأن التدبير ما نفذ عتقه بموته، ولم يقرن بغيره. وإن مات أحدهما قبل الآخر [لم] تعتق منه حصته بالوصية، وكان عتقها موقوفاً على موت شريكه، وتعين العتق في حصة [الباقي منهما] بالتدبير؛ لوقوع العتق بموته، وليس [لورثته المتقدم] التصرف في حصته بالبيع، وإن كانت باقية على ملكهم وأكسابهم لهم، ولو أراد الشريك الباقي [بيع] حصته قبل موته، جاز، وتعتق بموته حصة الشريك المتقدم. والله أعلم.

باب الكتابة

باب الكتابة "الكتابة" لفظة وضعت لعتق معلّق على مال، منجَّم إلى وقتين معلومين فأكثر، يحل كل نجم لوقته المعلوم. وقيل: إنها تعليق عتق بصفة ضمنت معاوضة، أو معاوضة ضمنت تعليق عتق بصفة. وقال القاضي الحسين: هي تعليق عتق بصفةٍ ضمنت معاوضة معدولة عن القياس؛ لأنها بيع ماله بماله. وعلى ذلك جرى في "التهذيب". وقيل: إنها معاقدة لعقد السيَّد مع عبده؛ ليحصل له الكسب عاجلاً، ويحصل له العتق [آجلاً]. وسميت كتابة؛ للعرف الجاري بكتابة ذلك في كتاب يقع فيه الإشهاد لما اشتملت عليه من تأجيل. ويقال: كاتب يكاتب، مكاتبة وكتاباً، والمكاتب- مفتوح التاء-: العبد، [ومكسور التاء]: السيَّد. وقيل: اشتقاقها من "الكَتْب"، وهو الضم، يقال: كتبت البغلة، إذا جمعت بين شُفْرَيها بحلقة أو سَيْرٍ، فلما اجتمع نجم مع نجم فيها سميت بذلك. والنجم: الوقت، سواء القريب فيه والبعيد، والنجوم: الأوقات التي يحل [فيها] مال الكتابة. وسميت بذلك؛ لأن العرب كانت لا تعرف الحساب والكتابة، وإنما تعرف الأوقات بالنجوم، وهي ثمانية وعشرون نجماً، كلما طلع منها طالع سقط قرينه، وهي التي جعلت منازل القمر، قال الله تعالى-: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39]، فكانوا يقولون: أعطيك إذا طلع نجم كذا، أو: سقط نجم كذا، أو في نجم كذا؛ فسميت باسمها مجازاً، وقد يطلق النجم على المال الذي يحل في الوقت.

قال: الكتابة قربة؛ لقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33]. قال الشافعي- رضي الله عنه-: "المراد بالخير: الاكتساب والأمانة؛ [فإنه] ورد "ألخير" في الكتاب العزيز بمعنى "المال" في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، وفي قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] وغيرهما. وورد بمعنى "العمل الصالح" في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه 7} [الزلزلة: 7]؛ فحمل عليهما ها هنا لجواز إرادتهما بالقصد، وتوقف المقصود عليهما؛ فإنه إذا لم يكن كسوباً لا يقدر على الأداء، وإذا لم يكن أميناً لا يوثق بوفائه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعَانَ غَازِياً أَوْ غَارِماً أَوْ مُكَاتَباً في كِتَابَتِهِ، أَظَلَّهُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ"، وغير ذلك من الأخبار. ولا تجب الكتابة، وإن كان ظاهر الأمر الوجوب؛ لأنه عتق بعوض فلا يجب على السيد؛ كالاستسعاء، والآية محمولة على بيان الرخصة؛ فإن بيع الرجل ماله بماله محظورٌ، [أو على] الندب؛ بدليل ما ذكرناه. وقد حكى الإمام عن رواية صاحب "التقريب" قولاً عن الشافعي بوجوبها، واستغربه، وقال: لم أره لغيره، ولست أعده من المذهب. قال: تعتبر في الصحة من رأس المال، ومن الثلث في المرض؛ لأن ما يكسبه العبد لسيده فكأنه أخرج ماله متبرعاً، فأعطى حكم التبرعات، ثم المعتبر من الثلث قيمة الرقبة، كما ذكرناه في الوصية. قال: ولا يجوز إلّا من جائز التصرف في ماله كالهبة. قال: ولا يجوز أن يكاتب إلا عبداً بالغاً عاقلاً: أمَّا اعتبار العقل فبالإجماع.

وأما اعتبار البلوغ؛ فلأن الصبي غير مكلف؛ فلا يصح منه عقد الكتابة كالمجنون، وقد استدل بعضهم لذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ ...} الآية [النور: 33] والابتغاء: الطلب، وهو إنما يعتبر من المكلف؛ فاختص بها ما دل عليه الشرع؛ لكونها على خلاف القياس. و"الأيمان" في الآية جمع "يمين"، وأضاف الله تعالى الملك إلى اليمين؛ لأنه سبب الملك غالباً. ثم إذا كاتب الصبي أو المجنون لم يثبت لهذا العقد حكم الكتابة الفاسدة أيضاً؛ لأن قبولهما لغو. نعم، إذا أدَّيا المال عتقا بحكم وجود الصفة دون العقد، ولا يرجع [السَّيِّد عليهما بشيء، بخلاف الكتابة الفاسدة مع المكلف؛ لأنه قد تلف المعقود] عليه في يده بحكم المعاوضة؛ فاقتضى ذلك ضمانه، والسيد هنا هو الذي سلط الصبي والمجنون على الإتلاف؛ فلم يرجع عليهما؛ كما لو باع منهما شيئاً فأتلفاه، وهذه رواية المزني. وروى الربيع أنه يثبت التراجع عند كتابة المجنون، ويتبعه ما فضل من كسبه، ووافقه عليه ابن سريج. وأبو إسحاق صحح رواية المزني، وبعض الأصحاب أثبت اختلاف الروايتين على قولين. ومنهم من حمل رواية الربيع على ما إذا وقع عقد الكتابة في حال غفلة بمرض، ورواية المزني على ما إذا وقع في حال الجنون، ولاشك أنَّ الخلاف يجري فيما إذا كاتب الصغير أيضاً؛ لأن المجنون أسوأ حالاً منه. العبد الموصي بمنفعته لا يجوز كتابته على الأصح، وهل يجوز كتابة العبد المستأجر؟ قال ابن القطان: "تجوز"؛ كما حكاه الرافعي عنه في كتاب "الإجارة". وعن القاضي ابن كج: أنه لا تجوز، وبه جزم البندنيجي هنا، وكذلك الماوردي؛ لأجل أن عقد الكتابة يتضمن ملك العبد منافعه بحكم العقد، وهي

مملوكة بعقد الإجارة؛ فيتنافيان. قال الماوردي: والعبد المرهون لا تجوز كتابته، وإن لم تملك منافعه؛ لكونه بعقد الرهن. معرضاً للبيع الذي تمنع منه الكتابة؛ فصارا متنافيين لهذه العلة. قال: ولا تستحب إلَّا لمن عرف كسبه وأمانته؛ لما ذكرناه من معنى الآية. وفي "البحر" وغيره: أن من أصحابنا من قال: إذا كان له دين وأمانة تستحب كتابته، وإن لم يكن كسوباً؛ لأنه يدفع إليه من الصدقات. وهذا مشهور في "المهذب" وغيره وأنَّ منهم من قال: تستحب كتابة الكسوب وإن لم يكن أميناً. والأول أصح، ولا نزاع في أن ذلك لا يكره. قالك ولا تجوز إلا على عوض في الذمة؛ إذ لا قدرة للعبد على الأعيان. قال: معلوم الصفة كالمُسْلَم فيه، وإطلاق الشيخ يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون المال ممَّا يعم وجوده أو ممَّا يندر. وقدم حكى القاضي الحسين فيما إذا لم يكن عام الوجود وجهين كالوجهين الآتيين فيما إذا كاتبه على مالٍ عظيمٍ في نجمين يسيرين. [وتظهر فائدة الوجهين أيضاً فيما إذا أسلم في مال عامِّ الوجود فانقطع]، فإن قلنا: يجوز [في هذه المسألة]، لم ينفسخ العقد، وإن قلنا بمقابله فكالمسلم فيه.

قال: ولا تجوز على أقل من نجمين؛ لما روي عن عليِّ- كرّم الله وجهه- أنَّه قال: "الكِتَابَةُ عَلَى نَجْمَيْنِ، والإتيانُ مِنَ الثَّانِي"، وهذا يقتضي أنَّه أقلّ ما تجوز عليه الكتابة؛ لأنَّ أكثر من نجمين يجوز بالإجماع. وقد روى عن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- أنه غضب على عبد له، فقال: "لَأُعَاقِبَنَّكَ ولَأُكَاتِبَنَّكَ عَلَى نَجْمَيْنِ"، فلو جاز لما دونها لفعله؛ لكونه أشد في العقوبة. ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنَّه كاتب على أقل من نجمين، ولو جاز ذلك لابتدروه؛ لكونه فيه تعجيل القربة. وقد روى أبو علي بن أبي هريرة [في "تعليقه"] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكِتَابَةُ عَلَى نَجْمَيْنِ" وهذا نص إن صح. ولأن اشتقاقها من الضم والجمع، وأقل ما يكون به الضم والجمع اثنان. ثم إذا لم تجز على أقلّ من نجمين كان امتناع جوازها حالة من طريق الأولى. وقد استدل على منع الحلول فيها بأنها عقد معاوضة يلحقه الفسخ، ومن شرطه ذكرُ العوض، فإذا عقد على وجه يتحقق فيه العجز عن العوض لم يصح؛ كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند محله، ويفارق البيع؛ لأنه لا يتحقق فيه العجز عن العوض، وإن كان المشتري معسراً؛ لأنه يملك المبيع، والعبد لا يملك شيئاً، [وإنما] ما في يده لسيده. وقد حكى الإمام عن رواية شيخه وجهاً: أن البيع من المفلس لا يصحُّ إذا كان الثمن زائداً على قيمة [المبيع، واستبعده، وكلام الغزالي في "الوسيط" يوهم جريانه وإن لم يكن الثمن زائداً على قيمة] العين. قال: [يعلم] ما يؤدي في كل نجم أي: سواءٌ التساوي [فيه] والتفاضل؛

صوناً للعقد عن غرر الجهالة، ومن أصحابنا من صححه عند الإطلاق، وجعل العوض مقسوماً عليهما بالسَّويَّة، حكاه الماوردي، وقال: لا يشترط على الصحيح من مذهب الشافعي- رضي الله عنه- تعيين ابتداء النجوم، بل يكفي الإطلاق فيها، ويكون الابتداء من حين العقد. وإن كان دليل كلامه هنا يقتضيه. ولا يجوز أن يكاتبه على مائة في عشر نجوم على أن يؤدي قسط كل نجم في أوَّله؛ لأنَّ النجم الأوَّل يكون حالّاً، ولو جعل قسط كل نجم في وسطه ففي الصحة وجهان: وجه المنع: أن وسط السنة ما بين طرفيها، وهو مجهول. والقائل بالصحة يحمله على مضيّ ستة أشهر منها. ولا فرق في جوازها على نجمين بين أن يكون المال قليلاً يمكن تحصيله فيهما عادة أو كثيراً [بحيث] لا يمكن تحصيله [عادة] فيهما؛ كما إذا كاتبه على أجل ساعتين بمال عظيم. وقيل: في الحالة الثانية وجهان، وهما جاريان فيما لو قال: كاتبتك على خمسين ديناراً تؤديها إليَّ: في هذا اليوم [أربعين]، وعشرة بعد سنة- كما قال القاضي الحسين- وهما مبنيان على أنَّ المنع في الكتابة الحالة لأجل تحقُّق العجز، أو لكون الغالب عدم قدرته على المال في الحال. وكذا لا فرق في امتناعها على نجم [واحد] أو حالَّةً بين ألا يمكن تحصيل ذلك كما شرط، أو يمكن تحصيله بأن يكاتب نصف عبد باقيه حرّ، [أو له] مال؛ كما هو ظاهر المذهب في "البحر"، واختاره الإمام. وقال في "البحر": الأقيس الجواز في الحالة الثانية، وهو وجه حكاه المراوزة. فرع: لو جعل محل النجم الأول [في] آخره، ومحل [النجم] الثاني

[في] أو له- ففي صحة ذلك وجهان، وجه المنع: أن الاتصال يصيرهما كالنجم الواحد. قال: وإن كاتبه على عمل ومال أي: كخدمة شهر ودينار قدم العمل على المال، وجعل المال في نجم بعده أي: [بأن يقول:] كاتبتك على أن تخدمني شهراً أوّله من الآن، [ودينار] تؤديه بعد يوم من الشهر الثاني مثلاً. وإنما اشترط تقديم العمل؛ كي لا يكون إجارة الشهر القابل، وقد تقدم أنَّ من شرط إجارة العين اتصال الشروع في الاستيفاء بالعقد. وحكى القاضي الحسين عن ابن سريج أن هذا العقد لا يصح أيضاً؛ لأن الخدمة تكون حالة، والكتابة على عوض حالٍّ [أو بعضه] لا تجوز. وأجاب الأصحاب عنه بجوابين: أحدهما: أنَّ [علة] المنع من الكتابة على عوض حال عدم القدرة عليه، والعمل هو قادر عليه في الحال؛ فكان كالمال المنجم، بل أولى. الثاني: أن الخدمة ليست حالة، وإن كان ابتداؤها من حين العقد فإنها منتظرة تنقضي حالاً بعد حال، وهذا قاله أبو إسحاق المروزي. وعلى هذا الجواب ينطبق ما حكاه البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين والروياني في "البحر" عن ابي إسحاق أنه قال: لو جعل محل الدينار في مسألة الكتاب عقيب شهر العمل من غير فصل لم يجز؛ كي لا يصير ذلك أجلاً واحداً، وهو اختيار [القاضي] أبي حامد. وحكى الماوردي جواز ذلك عند أبي إسحاق وابن أبي هريرة؛ لأن النجمين [ما] تغاير وقت استحقاقهما، واستحقاق الدينار في غير الوقت الذي تستحق فيه الخدمة؛ فكانا نجمين بهذا الاعتبار، وأن أبا إسحاق حكى عن بعض المتقدمين من أصحابنا أن الكتابة باطلة؛ لأن اتصال أحد النجمين بالآخر

يجعلهما نجماً واحداً فلابد بينهما من زمان لا تستحق فيه مطالبة. ثم تعليل الوجهين يقتضي أنهما لو جعلا محل استحقاق الدينار في وسط شهر الخدمة لا يجوز. قال الماوردي: وقد وجد ذلك منصوصاً للشافعي، وحكاه البندنيجي عن أبي إسحاق. ثم قال: ومن أصحابنا من قال بجواز ذلك، وأنه ظاهر المذهب؛ لأن له في "الأم" كلاماً يدل على جواز هذا، وهو الذي جزم به القاضي الحسين، وحكاه الإمام عن كافة الأصحاب سوى أبي إسحاق. ولو قدم نجم المال وأخر نجم العمل بأن قال: كاتبتك على دينار تؤديه بعد شهر من الآن، وعلى أن تخدمني الشهر الذي يليه- لم يجز؛ لما ذكرناه. نعم، لو كان العمل في الذمَّة بأن قال: كاتبتك على دينار في ذمتك، وعلى خياطة ثوب في ذمتك صفته كذا وكذا؛ لتؤدي الدينار بعد شهر، والخياطة بعد شهرين- جاز؛ إذ لا مانع. ويكفي في جعل الخدمة عوضاً في الكتابة [الإطلاق عند] [ابن الصباغ]؛ لأنها معلومة بالعرف. وقال في "التهذيب": [إنه يجب] بيان جهة العمل. وهو ظاهر النص، كما حكيناه في باب الإجارة. فإذا قلنا بالصحة، فمرض العبد في أثناء الشهر، [فمن الأصحاب] من خرَّجه على أن المبيع إذا تلف بعضه قبل القبض هل ينفسخ في الباقي؟ وفيه طريقان، وهذا ما حكاه البندنيجي والبغوي. وقال القاضي أبو الطيب والقاضي الحسين: ينفسخ ها هنا قولاً واحداً. وهو ما نص عليه الشافعي في "الأم"، حيث قال-[كما حكاه البندنيجي]-: إذا انتقضت الكتابة [في النصف] انتقضت في الكل. ووجهه بعض الأصحاب بأن

عقد الكتابة لا يقع على بعض العبد؛ فإذا انفسخ في بعضه انفسخ في كله. ولا نزاع [في] أنه لو قال: "كاتبتك على منفعة" شهر، لم يجز؛ لأنها تختلف. قال: وإن كاتبه على عملين أي: يعملهما في نفسه في شهرين، مثل أن يقول: لتخدمني هذا الشهر، ثم [الشهر] الذي يليه، ولم يذكر مالاً- لم يجز؛ لأن ذلك نجم واحد. ووجهه ابن الصباغ والمصنف بأنه شرط تأخير التسليم في الشهر الثاني؛ لأنه أفرده عن الأول، ومقتضى هذا التعليل: أنه لو ذكر مالاً لم يجز أيضاً؛ ولأجله صور بعضهم مسألة الكتاب بما إذا قال: كاتبتك على خدمة شهرين، والصواب ما ذكرته؛ لأن خدمة الشهرين نجم واحد وعمل واحد، والشهران كالوقتين من الساعة الواحدة، ولم يعُدَّ أحد ذلك نجمين، ويكون تعليل ابن الصباغ والمصنف إذا انضاف إليه [شيء] حصل منه دليل، وهو أن يقال: لنا فيما إذا أجر الدار شهراً، ثم أجرها من المستأجر شهراً آخر في أثناء المدة- خلاف في الصحة: فمن جوزه جعل ذلك كما لو وجد في عقدٍ واحد، [وقضيته أن يكون هنا كنجم واحد فيمتنع، ومن منع في الإجارة نظر إلى أنَّ هذا عقد على منفعة زمن مستقبل]، وقضيته المنع ها هنا-[أيضاً]- فتحرّر أن المنع واقع ها هنا بكل حالٍ، والله أعلم. وقد أبدى الإمام هنا وجهاً في صحة العقد في الصورة التي فرضناها، وضعفه لكونه جعل أصله ما إذا قال: أجرتك دارى سنة، ثم قال: إذا انقضت المدة [الأولى] فقد أجرتك شهراً آخر؛ فإنه يصح على وجه. فرعان: لو قال: كاتبتك لتخدمني هذا الشهر، ولتحصل لي خياطة ثوب من صفته كذا

وكذا عقيب الشهر أجاز، نصَّ عليه "الأم". قال البندنيجي وغيره: لأنه بمنزلة قوله: كاتبك على خدمة شهرٍ ودينار بعده. ولو قال: كاتبتك على تحصيل بناء حائط صفته كذا في رأس الشهر، وتحصيل خياطة ثوب في [رأس] الشهر الذي يليه جاز. وكذا لو كاتبه على ضمان بناء دارينك إحداهما في وقت، والأخرى [في] وقت آخر- جاز كما نصَّ عليه في "الأم". [قال: ولا يصح حتى يقول: كاتبتك على كذا، فإذا أدَّيت فأنت حرُّ، أي: أو ينوي بقوله: كاتبتك، الكتابة الشرعية، ويقبل العبد، وهذا نصه، وقد تقدم الكلام فيه في باب التدبير]. قال: ولا تصح إلا بالقبول، [ولا يجوز] عقدها على صفةٍ مستقبلة أي: سواء كانت معلومة كما إذا قال: إذا جاء رأس الشهر فقد كاتبتك، أو مجهولة كقوله: إذا قدم زيدٌ فقد كاتبتك؛ لأنه عقدي بطل بالجهالة فلم ينعقد بغير لفظ، ولم يصح تعليقه على شرط مستقبل؛ كالبيع. قال: ولا على شرط خيار أي: ولا يصح اشتراط خيار فيها؛ لأن الخيار لدفع الغبن عن المال، والسيد يعلم أنَّه مغبون من جهة المال، والمكاتب مُخَيَّر بين أن يدفع المال أو لا يدفعه؛ فلا معنى للخيار في حقه. قال: ولا يجوز على بعض عبدٍ إلا أن يكون باقيه حرّاً، هذا لفظ المزني، ووجهه: أنه مع بقاء الرّق [في نصفه] لا يتمكن من تحصيل النجوم؛ لأن لسيد النصف أن يمنعه من الاكتساب والسفر والغيبة لأجله كما هو ظاهر النص ها هنا، والصدقات [لا] تصرف إليه؛ كي لا يأخذ السيد نصفها بحق الملك، وذلك لا يجوز، وحينئذ يصير كما لو قال: كاتبتك على ألا تكتسب، ولا تأخذ من الصدقات. وإذا كان باقية حرّاً [صح]؛ لأنه يتمكن من الاكتساب، وتصرف الصدقات

إليه، فيحصل مقصود العقد؛ ولأنه عقد الكتابة على جميع [ما فيه] من الرق؛ فأشبه ما إذا عقدها على جميعه وهو رقيق. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون مملوكاً لغير المكاتب كما سنذكره مصرحاً [به] في المسألة الثانية، أو يكون العبد مملوكاً فيكاتب بعضه، وهي المقصودة بالذكر هنا. ومن أصحابنا من قال: في الأخيرة قول مخرّج: أنه يجوز؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه- قال في العبد المشترك إذا كاتبه أحدهما بإذن شريكه: "فيه قولان؛ لأن شريكه وهو قد رضيا" كذا حكاه في "الشامل"، وقال في "البحر": "إن من قال بالأول فرّق بأن العبد إذا كان كاملاً له فقد تمكن من الكتابة على جميعه، بخلاف ما إذا كان مشتركاً. وحكى الإمام أن بعض أصحابنا خرّج هذا وجهاً؛ قياساً على التعليق والتدبير، وفي تعليق القاضي الحسين أنه خرّجه من نصين للشافعي- رضي الله عنه-: أحدهما: أنه نصَّ على أنَّه لو كاتب عبداً في مرض موته ولا مال له سواه صحت الكتابة في الثلث. والثاني: أنه قال: لو أوصى بأن يكاتب عبده بعد موته، ولا مال له سواه فتصح الكتابة [في] ثلث العبد إن رضي العبد، [فيكاتب ثلثه]. وأنه خُرِّج من النص هنا إلى مسألة الوصية والكتابة في المرض قولٌ: أن ذلك لا يصح أيضاً، وأن بعض الأصحاب أقر النصين على ظاهرهما، وفرق بأن حالة الحياة مع الصحة تقبل من التكميل والسراية ما لا تقبله حالة الوفاة والمرض، فلو جوزنا في حال الصحة لأدَّى إلى أن تكون الكتابة على بعضه مقتضية لعتق كله، بخلاف المرض والوصية. نعم، لو كاتب في المرض بعض عبده، وكان في الثلث اتساع- كان كالكتابة في الصحة؛ فلا تصح على الأصح. التفريع: إن قلنا بالصحيح، فأدى المال عتق نصفه بالكتابة، ونصفه بالسراية، ثم

المكاتب يرجع [على السيد] بما دفع؛ والسيد يرجع على العبد بنصف قيمته كما قاله في "البحر"، والقياس: ألَّا يرجع عليه إلَّا بقيمة نصفه، وبينهما فرق ستعرفه في الصداق، والنصف الذي سرى إليه العتق لا يرجع السيد بقيمته على العبد؛ لأن سبب العتق جرى من سيده، فأشبه [ما لو] قال لعبده: إن دخلت الدار فنصفك حرُّ، فدخل- عتق جميعه على السيد. وفي "الحاوي" وجه: أنَّه يرجع بجميع قيمته عليه؛ لأنه عتق في كتابة فاسدة. قال ابن سريج: ومحل قولنا بعتق [إذا سمى] ما أدى بعد أداء حق سيده من كسبه، مثل أن يكون قد كاتبه على نصفه بعشرة، فأدى إليه من جميع كسبه عشرين، أمَّا إذا أدّى ما كوتب عليه قبل أداء حق سيده ففيه وجهان: أحدهما: لا يعتق كما في الكتابة الصحيحة؛ لاستحقاقه بعضه بحكم الملك فلم تكمل الصفة. والثاني: يعتقه؛ لأن في الفاسد يغلب حكم العتق بالصفة، وقد وجدت وإن لم يملك؛ كما لو قال: إن أعطيتني هذا الثوب فأنت حرُّ، فأعطاه، [وكان] مغصوباً. وإن قلنا بالقول المخرَّج: فإن كان [بين العبد و] سيده مهايأة، فأدى النجوم من كسبه في نوبته- عتق النصف بالكتابة والنصف بالسراية، وإن لم تكن بينهما مهايأة، لكنه اكتسب، ووفر [على السيد] نصف كسبه، وأدّى من النصف الآخر النجوم- عتق، وإن دفع [إلى السيد] النجوم من جميع الكسب ففي عتقه وجهان في "البحر"، والسيد مخير بين أن يهايئه أو لا. قال: وإن كان [عبداً بين] اثنين، فكاتبه أحدهما في نصيبه بغير إذن شريكه- لم يجز؛ لعلتين: إحداهما: ما ذكرناه في مكاتبة بعض عبده. والثانية: أن كتابة البعض تنقص قيمة الباقي؛ فيؤدي إلى الإضرار بالشريك.

قال البندنيجي: ولأبي العباس ما يدلُّ على الصحة. وسنذكر عن الإمام ما يوافقه. ثم على الأول يكون الحكم في العتق عند أداء النجوم من نصف كسبه، أو من جميع كسبه، والتراجع كما ذكرناه من قبل، فإذا أدَّى المشروط من نصف كسبه، ودفع للذي لم يكاتب [النصف الآخر]-[عتق]، فإن كان قدر نصف الكسب قدر نصف قيمته فلا كلام، وإن كان أكثر قال البندنيجي: فالفاضل يكون بين المكاتب وبين سيده الذي لم يكاتبه وإن أدّى المشروط من جميع كسبه، ففي عتقه الوجهان السابقان، وهما محكيان هنا عن ابن سريج، وأضعفهما في "الشامل": حصول العتق، وقد حكاهما المراوزة قولين، ونسبوا قول المنع إلى رواية الربيع، وقول الحصول إلى نصه في كتاب ابن أبي ليلى، وأجراهما فيما لو قال: إن أعطيتني عبداً فأنت حرٌّ، فأعطاه مغصوباً، ثم إذا عتق سرى العتق إلى حصة الشريك إن كان سيد المكاتب موسراً، ولا يرجع على العبد بشيء. قال: وإن كان بإذنه ففيه قولان: أحدهما: لا يصح؛ لما ذكرناه من العلة الأولى، وهي امتناع صرف الصدقات إليه، وعدم قدرة العبد على الاكتساب بالمسافرة؛ فإنَّ إذن الشريك إنما يفيد رضاه بالضرر اللاحق به دون استقلاله بالتصرف والمسافرة، وهذا نصّ عليه في "الأم" واختاره المزني، فعلى هذا يكون الحكم كما لو كاتب بغير إذن شريكه. والثاني: يصح؛ نظراً للعلة الثانية، وهي أن المنع من ذلك كان لأجل حقّ الشريك؛ فإذا رضى به فقد رضى بإسقاط حقه وإدخال الضرر على نفسه؛ فصح. وهذا ما نصَّ عليه في "الإملاء" على مسائل محمد بن الحسن، ونقله المزني مع الأول، فعلى هذا: يكون نصف العبد مكاتباً، والنصف مملوكاً للشريك، والكسب بينهما، والنفقة عليهما. قال في "البحر": وهل يجوز صرف الزكاة إليه؟ فيه وجهان.

ولو طلب أحدهما المهايأة فهل تجب؟ فيه وجهان في "الحاوي": أحدهما: نعم؛ كالقسمة. وأصل هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم بين نسائه، وهذا: مهايأة قد أوجبها لنفسه وعليها. والثاني: لا؛ لأنها تفضي إلى تأخير حقٍّ معجَّلٍ وتعجيل حقٍّ مؤخّرٍ، بخلاف القسمة، وفي قسمة الزوجات لا يمكن الجمع بينهن، ولابد من إفراد كل واحدة بحقها؛ فلزمت المهايأة. ثم إذا وقعت المهايأة: إمَّا لزوماً أو جوازاً، وأدى النجوم من الكسب الحاصل في يومه- عتق، وإن أدّاها من نصف كسبه، ودفع إلى الشريك الذي لم يكاتبه النصف الآخر- عتق، وسرى العتق كما ذكرنا. وإن دفع النجوم من جميع كسبه فمن الأصحاب من قال: في العتق وجهان أو قولان كما في الصورة السابقة، ومنهم من قال: لا يعتق وجهاً واحداً. والفرق: أن الكتابة الصحيحة المغلب عليها حكم المعاوضة، بخلاف الفاسدة؛ فإن المغلب عليها حكم الصفة. وقد حكى البندنيجي الطريقين وقال: إن الثاني هو المذهب، وبه جزم ابن الصَّبَّاغ. وقد حكى الإمام عن بعض المحققين طرد القولين في نفوذ الكتابة بإذن الشريك، [في نفوذها بغير إذنٍ] وقال: إنه متجه منقح؛ لأن إذن الشريك لا يثبت للعبد حكم الاستقلال وجواز أخذ الصدقة؛ فإذن لا يبقى [إلا] تخيل تضرر الشريك إذا فُرِضَ نفوذ العتق. وقد يُفرق بأن العتق المجرد له سلطان، وللكتابة يعرض الفساد والصحة، ثم الاستمرار والنقض، لكن الأول أرجح. فرع: إذا صححنا الكتابة بإذن الشريك، فكاتبه أحدهما، ثم أراد الآخر مكاتبته- جاز من غير إذن المكاتب؛ لأنه لم يبق له حق يخشى فواته. قال: وإن كاتباه لم يجز إلَّا على مال بينهما على قدر الملكين، فلو كان العبد

بينها نصفين، وشرطا أن يكون مال الكتابة بينهما أثلاثاً، أو كان بينهما أثلاثاً فشرطا أن يكون [المال] بينهما نصفين لم يجز؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن ينتفع [أحدهما] بمال الآخر؛ فإنه إذا عجز اقتضى العقد أن يرجع أحدهما على من أخذ زائداً عن حقه بالقدر الزائد، وحينئذ يكون لانتفاع به قبل العجز بغير حق، ولا سبيل إلى ذلك، ولا فرق فيما ذكرناه بين أن [تجوز كتابة بعض العبد بإذن الشريك أو لا، كما قاله القاضي أبو الطيب وغيره. ومن أصحابنا من قال: إن المنع مبنيُّ على قولنا: لا يجوز أن يكاتب بعض عبده بإذن شريكه، أمَّا إذا قلنا: يجوز] لأحدهما أن يكاتب حصته بإذن شريكه، جاز ذلك؛ لأنَّ العقد يتعدد بتعدد البائع، وصار كما لو أفرد كل واحد منهما كتابة نصفه. وهذه الطريق اختارها القفال. وقال الرُّويّانِي: إنها أشبه بكلام الشافعي- رضي الله عنه- لأنه ذكر هذه المسألة في "الأم"، وذكر أنَّه لا يجوز، ثم قال: ولو أجزت هذا لأجزت أن ينفرد بكتابة حصته. وذهب بعض أصحابنا [إلى] أنَّه إذا كان لأحدهما الثلث، وللآخر الثلثان فكاتباه على مال بينهما على قدر الملكين-[لم يجز؛ أخذاً بظاهر قول الشافعي- رضي الله عن-: ولا يجوز] أن يكاتباه حتى يكونا فيه سواء. وقال: إذا كان في ملكه سواء جاز أن يكاتباه على مال متفاضل بينهما. ومنهم من قال: إذا تساويا في ملكه، وتساويا في المال، وكاتباه معاً- فهل يصح؟ فيه طريقان: أحدهما: أن فيه قولين؛ لأن العقد إذا اجتمع في أحد طرفيه عاقدان جرى عليه حكم العقدين فصار كأنَّ كلَّ واحد منهما انفرد [به]، وفيه قولان. والثاني: القطع بالصحة- وهو الصحيح- كما ذكره الشيخ؛ لأنه يكمل تصرفه إذا اجتمعا على الكتابة، ويجوز له الأخذ من الصدقات، بخلاف ما لو كاتبه أحدهما.

قال: وعلى نجوم واحدة؛ لأن أحدهما لو جعل نجمه الأول شهراً، والثاني شهرين مثلاً، وجعل الثاني نجمه الأول شهرين والثاني أربعة- لم يجز؛ لما ذكرناه من المعنى في الصورة قبلها، قال في "البحر": وهكذا لا يجوز أن يختلف جنس ما شرطاه من المال- وهذا بناه على الصحيح في منع التفاضل في المال [مع التساوي في العبد، أمّا إذا قلنا: يجوز التفاضل، جاز الاختلاف في النجوم وجنس المال] من طريق الأولى. قال: وللمكاتب أن يفسخ العقد متى شاء؛ لأنه عقد لحظه فكان له فسخه متى شاء كالمرتهن، وهذا ما جزم به الماوردي، وقيل: ليس له؛ لأنه لا ضرر عليه في البقاء، وله الامتناع من الأداء؛ لأن الكتابة تعليق عتق بصفة- كما ذكرنا- والمعلق عتقه بصفة من جهته لا يكلف الإتيان بها ليترتب العتق عليها؛ فكذلك ها هنا، وهذا ما جزم به في "البحر" في موضع منه. قال الإمام: وهذا في الحقيقة عكس الصواب؛ فإن التزام الكتابة وتجويز الامتناع من الوفاء كلام متناقض. والعراقيون وافقوه على تضعيفه، لكن برد علته، وقالوا: ما ادعاه قائله من أنَّه لا ضرر عليه في البقاء ممنوع؛ فإنه يتضرر بكون نفقته عليه، ويستفيد بالفسخ رفعها عنه، وإذا جاز له الفسخ كان له الامتناع [من [أداء المال] من طريق الأولى. وحكى المراوزة وجهاً: أنَّه ليس له الامتناع] عند القدرة، وهو يشابه وجهاً حكيناه عن الماوردي في [أواخر] باب العتق فيما إذا علق عتق عبده على [مشيئته: أنه يجب عليه أن يشاء]. قال: وليس للسيِّد أن يفسخ إلَّا أن يعجز المكاتب عن الأداء أي: عند المحل، وإنما لم يجز له الفسخ قبل العجز؛ لأنها عقدت لحظ العبد دون

حظ السيد، وما كان هذا شأنه كان لازماً من جهة من لا حظ له كما قلنا في الرهن، بالنسبة إلى الراهن، ولأن الفسخ لو جاز له لم يبق العبد ببقائه على الكتابة، فيتكاسل في تحصيل النجوم؛ فيتعذر مقصود العقد، وإنما جاز له بعد العجز؛ قياساً على فسخ البائع بعجز المشتري عن الثمن. وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب بيع المكاتب: أنَّا إذا صححنا بيعه انفسخت الكتابة على رأي، [بناءً] على أنَّ المغلب في الكتابة حكم التعليق بالصفة، [وكذا إذا أعتقه وقلنا: إن المغلب فيها حكم التعليق بالصفة]، انفسخت الكتابة، وعادت الأكساب للسيد وجاز على هذا عتقه عن الكفارة. وعلى المشهور: إذا أراد السيد أني فسخ الكتابة عند عجزه فالمعتبر أن يقول العبد: [قد] عجزت- كما قال الماوردي- فيترتب فسخ السيد بعده، وكما يجوز الفسخ عند عدم القدرة على أداء النجوم كذلك يجوز عند القدرة عليه، وامتناع المكاتب من الأداء، ويخالف البيع؛ لأن [العقد ثَمَّ لازم من جهة المشتري] فأمكن إجباره على الأداء، فاندفع الضرر، وها هنا العقد جائز من جهة المكاتب؛ فلا يمكن إلزامه الوفاء كما قلنا في عدم مطالبة المشتري بالثمن في زمن الخيار؛ فتعين الفسخ طريقاً لدفع الضرر. قال الماوردي: ويشترط إذا أراد الفسخ أن يقول المكاتب: قد عجزت نفسي، ثم يقع فسخ السيد بعده، وهل يكون رضا المكاتب بأن يبيعه السيد فسخاً للكتابة؟ قال القاضي الحسين: نعم، وعليه ينطبق جواز بيع بريرة مع أنها كانت مكاتبة؛ لأنها كانت ساعية في البيع بين عائشة- رضي الله عنها- ومواليها، والخيار في هذا الفسخ على التراخي، ولو صرّح بالإمهال، ثُمَّ عَنَّ له الفسخ عند حضور المكاتب، جاز، وعند غيبته سنذكره. ولا فرق في جواز الفسخ بالعجز أو الامتناع عن الأداء بين أن يكون في النجم الأخير أو الأول، [أو يتعين] أحدهما، كما صرّح به الروياني وغيره.

فروع: إذا حلَّ النجم ومال الكتابة عرض، فسأل الإنظار إلى بيعه وجب إمهاله، وليس للسيد الفسخ، ولا يمهل أكثر من ثلاثة أيام، وكذا إذا كان ماله على مسافة لا تُقصر فيها الصلاة، وسأل الإمهال إلى إحضاره أُمهل، وكذا لو كان له مال على مَلِيءٍ وجب إمهاله ليستوفيه. ولو كان ماله على مسافة القصر، أو مؤجلاً، أو على معسر، أو لم يتمكن من بيع العروض في ثلاثة أيام- كما صرّح به القاضي الحسين والماوردي وغيرهما- لم يجب إمهاله، وللسيّد الفسخ والإنظار. وقال الإمام: إن ظاهر ما ذكره الصَّيْدَلَانِيُّ فيما إذا لم يمكن بيع العروض لكسادها إلَّا بعد زمان: أن السيد لا يفسخ، ولست أرى الأمر كذلك. ولو كان له في ذمة السيد قدر مال الكتابة، قال القاضي الحسين: فإن كان من نوع النجوم تقاصا، وإن كان من غير جنسها فلا تقاصَّ، ولكن ليس للسيّد تعجيزه، بخلاف ما لو حلَّ النجم وعنده عروض. ولو حلَّ النجم في غيبة المكاتب، [وأراد] الفسخ فالذي حكاه البندنيجي، وابن الصباغ، والقاضي الحسين، وبه قال البغداديون من أصحابنا وأبو إسحاق: أنه يرفع الأمر إلى الحاكم، وثبت عنده أنَّ له على المكاتب مال الكتابة، وأنه قد تعذّر عليه الأداء، فإذا فعل ذلك استحلفه الحاكم؛ لأنه قضاء على غائب، وهذه اليمين استظهار عند أكثر أصحابنا كما قال الماوردي. ومنهم من قال: "إنها واجبة في فسخ الحاكم، وهو ظاهر كلام البندنيجي وابن الصباغ. وقال البصريون من أصحابنا: للسيد أن ينفرد في حال الغيبة بالفسخ من غير حاكم كما يفعل ذلك في وجه المكاتب"، وهذا ظاهر نصه في "الأم" و"المختصر"، والمذهب في "النهاية"، وقال: إن العراقيين صححوه. قال الأصحاب: وينبغي للسيّد أن يشهد على الفسخ في هذه الحالة حتى يأمن

عند حضور المكاتب جحوده؛ فإنه لو حضر ومعه المال، وأنكر فسخ السيد كان القول قوله، ولو كان للمكاتب في هذه الحالة مال حاضر لم يكن للحاكم أن يوفى النجوم عنه، بخلاف ما لو جُنَّ المكاتب، وله مال يفي بالنجوم وقد حلت، قال الإمام: وقلنا بعدم انفساخ الكتابة على الرأي الظاهر- وهو ما حكاه العراقيون- فإن السيد لا يفسخ الكتابة، والحاكم يوفى عنه النجوم ويعتق. والفرق: أنه في هذه الحالة مولى عليه، وللمولى أن يفعل في مال المولى عليه ما فيه المصلحة، ومن مصلحة المكاتب العتق، بخلاف ما إذا كان غائباً؛ فإنه [لا ولاية] عليه، والحاكم إنما يقضى من حقوقه ما يجب عليه، وهو لو كان حاضراً لم يجب عليه القضاء؛ [فكذا في غيبته]، قال الإمام: وما ذكر من الوفاء عن المجنون فيه تأمّلٌ؛ لأنه في حكم ولاية على مملوك، ولو كان مفيقاً ربما [كان] يفسخ ولا يؤثر الأداء. وقال في "الوسيط": إن المكاتب إذا جُنَّ وسلم المال إلى السيّد عتق؛ لأن فعل العبد ليس بشرط، بل إذا تعذر فعله فللسيّد أخذه. ثم قال: هكذا أطلقه الأصحاب. واستشكل استقلال السَّيِّد بالأخذ عند إمكان مراجعة القاضي، والإشكال على مقتضى ذلك صحيح، وهو مطرد في حصول العتق بدفع المجنون؛ لأن فعله كلا فعلٍ، وما في الذمة يشترط في مُقْبِضه أن يكون ممن هو من أهله كما تقدم في البيع.

قال في "البحر" وغيره: ولا يجوز للسيّد في حال جنون المكاتب وادعائه عجزه أن يفسخ ما لم يأت الحاكم ويفعل ما ذكرناه من قبل؛ لأنَّ الحاكم قيم المجانين، ولو أن السيد لم يفسخ عند غيبة مال المكاتب في مسافة القصر، أو عند عجزه عن الأداء مطلقاً، ثم سافر العبد، [فعن للسيد] الفسخُ: فإن كان السفر بغير إذن السيّد كان له الفسخ في الحال، وإن كان عن إذن السيد قال البندنيجي: لم يكن له الفسخ في الحال إلَّا أن يحضر عند الحاكم، ويثبت عنده [الكتابة] والتبرع بالتأخير والرجوع، فإذا قامت البينة بذلك [حلف؛ لأنَّه قضاء على الغائب، فإذا قضى بما ثبت عنده كتب إلى حاكم البلد الذي [به المكاتب] بما حكم به عليه، فإذا ثبت [ذلك] عند الحاكم المكتوب إليه لم يخل المكاتب إمَّا أن يكون إذ ذاك عاجزاً عن الأداء، أو قادراً: فإن كان عاجزاً أرسل المكتوب إليه إلى المكاتب] ليعرفه بذلك، ويسلط السيد على الفسخ، وإن كان قادراً فإن كان للسيد وكيل بتلك البلدة فسلم المال إليه عتق، وإن امتنع من التسليم إليه فقد حكى الربيع أن للسيّد فسخ الكتابة قبل تمكن المكاتب من المسير إليه، وكذا إن كان الوكيل مأذوناً له في الفسخ [كان له الفسخ]، وحكى المزني أنَّه لا يتمكن السيّد من الفسخ قبل إمكان المسير إليه، وهو غلط عند الأصحاب. وقالوا: المذهب ما حكاه الربيع. وإن لم يكن له وكيل كلفه الحاكم المسير لقضاء دينه في الأوقات التي جرت العادة فيها بالسير، [أو إنفاذه] مع غيره، فإن لم يسر، ولم ينفذ مع غيره النجوم، ومضت مدة يمكن فيها السير- كان للسيد الفسخ، ولم يكن له قبل ذلك. ثم إذا فسخ بشرطه، فحضر المكاتب، وأقام ببينة بأنه [كان] قد أدّى النجوم، أو أن السيد أبرأه- تبيناً عدم الفسخ، ويكفيه في البينة: شاهدان، ورجل وامرأتان، وشاهد ويمين؛ لأنها بينة على قضاء الدَّيْنِ أو إبراء منه، كذا

حكاه العراقيون والقاضي الحسين. وحكى الغزالي في النجم الأخير وجهاً: أنه لا يثبت إلَّا بشاهدين لترتب العتق عليه، والقاضي الحسين حكاه فيما إذا أقام بينة على أنه أعتقه مع وجه آخر أنّه يكفي في هذه الصورة أيضاً؛ لأن العتق في هذه الحالة أيضاً بمنزلة الإبراء عن النجوم، ولو أقام بينة أنه كان له مال ظاهر تبين فسخ الفسخ. [نعم]، لو كان مالاً خفيّاً [لا يعرفه] السيد، قال الإمام: فالفسخ نافذ. قال: وإن مات العبد انفسخت الكتابة، أي: وإن خلف وفاء؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أَوْقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشْرَ أَوَاٍق فَهُوَ عَبْدٌ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا إِلا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ". خرّجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: "إنه غريب". ولأنه فات المعقود عليه قبل التسليم فبطل العقد؛ كالمبيع إذا تلف قبل القبض. وحكم قتل المكاتب حكم موته، سواء كان القاتل أجنبيّاً أو السيد. قال: وإن مات السيد لم تنفسخ؛ لأنه لازم من جهته فأشبه موت الراهن والبائع، وينتقل الملك فيه [إلى الوارث] إن قلنا بأن الملك في الرقبة للسيد- كما سنذكره- وهو الصحيح. ولو كان الوارث زوّج المكاتب انفسخ النكاح على هذا، وإن قلنا بأن ملك الرقبة ليس للسيد، قال القاضي الحسين: فلا ينفسخ. قال: وعلى السيد أن يحط عن المكاتب بعض ما عليه؛ لقوله تعالى:

{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] وهذا أمرُ وظاهره الوجوب. وقد روى عن علي- كرم الله وجهه- موقوفاً [ومرفوعاً] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: "يُتْرَكُ لِلْمُكَاتَبِ، وَيُحَطُّ عَنْهُ رُبُعُ الْكِتَابَةِ" روي عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنَّه كاتب عبداً بخمسة وثلاثين ألفاً، فوضع عنه خمسة آلافٍ قال الشافعي- رضي الله عنه-: أحسبه قال: "من آخر نجومه". وروى عن ابن عمر أنَّه قال: في هذه الآية: يقول الله تعالى: ضعوا عنهم من مكاتبتهم. وعن فضالة قال: كاتبني عمر- رضي الله عنه- فاستقرض من حفصة مائتي درهم، فأعانني بها، فذكرت ذلك لعكرمة، فقال: هو قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]. فإذا ثبت هذا فلا خلاف أنَّه لا يجب عقيب العقد، ولو فعله لوقع الموقع، ويجب عند بعضهم وجوباً مضيّقاً بعد العتق، قياساً على المتعة؛ فإنها لا تجب إلَّا بعد الطلاق، وعند هذا القائل يكون وقت الوجوب الموسع من وقت وجوب الأداء إلى العتق، وما قبله وقت جواز له.

ومنهم من قال: إن وقت وجوبه المضيق بعد أداء معظم المال، وإشرافه على العتق في النجم الأخير. وهو المذهب في "تعليق" البندنيجي، وبه قال أبو إسحاق وغيره، ورجحه في "البحر" أيضاً. وعبارة بعضهم: أنَّه يجب إذا بقى عليه من مال الكتابة قدر ما يلزمه أن يدفعه إليه. والفرق بين [ما نحن فيه] وبين المتعة: أن القصد بالدفع الإعانة على العتق، ومحلها قبل العتق؛ كما أنَّ الزكاة لمَّا كان القصد من صرفها إليه الإعانة على العتق كان محلها قبله، والقصد بالمتعة جبر كسرها بالطلاق، ومحله بعده. وعلى هذا يكون الوجوب الموسع من [دخول] وقت وجوب الأداء إلى ذلك الوقت. وقيل: إنما يدخل وقت الوجوب الموسع إذا استأدى منه شيئاً بعد العقد، ويكون وقت تضييقه عند آخر النجوم؛ لأن الله- تعالى- قال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]؛ فلابد أن يحصل من جهة المكاتب شيء حتى يتناوله الأمر، وعلى هذا: وقت جواز الإيتاء من وقت العقد إلى حين الأداء، والقائل بخلاف هذا يقول: معنى قوله تعالى: {آتَاكُمْ} أي: أوجبه لكم على نفسه بالعقد، أو نعيد الضمير إلى الله تعالى. وحكى القفال عن بعض أصحابنا أنه قال: إذا حط أو آتاه مالاً قبل آخر النجوم لا يجوز، بل يجب أن يحصل العتق بحطه [أو بإيتائه] قدر الواجب أن يؤتيه بعد العتق؛ ليحصل له كمال التمليك؛ فإن لم يحصل العتق به لا يكون قد قام بالواجب. وفي قدر الواجب وجهان: أحدهما- حكاه البندنيجي عن أبي إسحاق-: أنَّه يعتبر قدره بقدر مال الكتابة، فيؤتيه بحسب ذلك.

وفي "الشامل" حكاية عن أبي إسحاق في "الشرح": أنَّه يختلف باختلاف الكتابة من الكثير بقدره، ومن القليل بقدره؛ كما نقول في المتعة تكون بحسب يساره وإعساره. وهذا يفهم أن ما نحن فيه يختلف بيسار المكاتب وإعساره عند أبي إسحاق، وقد صرح بذلك الماوردي حيث حكى عنه أنه قال: إن ذلك يتقدّر بالاجتهاد من مال الكتابة كالمتعة. ثم قال: وإذا كان كذلك اعتبرت ثلاثة أمور: أحدها: كثرة مال الكتابة وقلته؛ فيكون ما يعطى من الكثير كثيراً، ومن القليل قليلاً. والثاني: قوة المكاتب وضعفه؛ فيعطى الضعيف الكسب أكثر، والقوي الكسب أقلّ. والثالث: يسار السيد وإعساره؛ فيعطيه الموسر أكثر، والمعسر أقلّ. ولو اتفقا على [أكثر من] ذلك أو أقل جاز، وإن لم يتفقا فالمرجع إلى الحاكم؛ كالمتعة. و [الوجه] الثاني- وهو المنصوص عليه في "الأم"، والصحيح، وبه جزم القاضي الحسين-: أنّ للسيد أن يدفع إليه ما شاء مما يقع عليه اسم "المال" وإن كان حبَّة، لأنَّ الله- تعالى- لم يقدره بشيء؛ فاقتضى ذلك ما ذكرناه، بخلاف المتعة؛ فإن الله تعالى قدرها بحسب الموسر والمقتر؛ فلذلك اختلفت باليسار والإعسار. والمستحب أن يضع ربع الكتابة؛ للخبر، وقيل: بل يستحب الثلث. وليس بشيء. قال: فإن لم يفعل حتى قبض المال، ردّ عليه بعضه؛ لظاهر الآية. قال بعضهم: ولأن "الإيتاء" يقع على الحط والدفع، إلَّا أنّ الحط أولى؛ لأنه أنفع له؛ لأنه لا يتكلف المشقة في تحصيله، ولأن الصحابة فسروه بالحط.

فلو لم يرد عليه بعض ما أخذ، ولكن ردّ عليه غيره، فهل [يجزئه ذلك؟] ينظر: إن كان من غير الجنس، كما إذا كاتبه على دراهم فأعطاه دنانير، لم يلزم العبد القبول، وكذا لو أعطاه دراهم من غير التي أدَّاها إليه على رأيٍ لأصحابنا. نعم، لو رضى بذلك جاز في الصورتين. ومن أصحابنا من قال: إذا دفع إليه من نوع ما قبض منه جاز، وإن لم يرض؛ لأنّ ذلك ليس بآكد من الزكاة، ولو عدل فيها من العين إلى جنسها جاز. والقاضي الحسين أجاب بهذا الوجه؛ بناءً على أنَّ الإيتاء هو الأصل كما هو وجه، وقضيته: أن يكون الراجح خلافه؛ لأنّ القول بأن الإيتاء هو الأصل مرجوح- كما سنذكره- وعلى ذلك جرى البندنيجي وابن الصباغ والماوردي، وجعلوه ظاهر المذهب. وحكى في "البحر" عن بعضهم أنَّ من قال بإجزاء الإعطاء من غير المدفوع فقد غلط؛ لأنه مخالف لظاهر الآية. ثم حكى أنّ القاضي الطبري قال: إن المشهور الإجزاء، وإن من قال بأنه لا يجزئ؛ أخذاً من قول الشافعي- رضي الله عنه-: "ويعطيه ما أخذ"- فقد غلط؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه- أراد: من جنسه لا من عينه، قال الروياني: وهذا أصح عندي. وقال الإمام فيما إذا أعطى من غير الجنس: إني وجدت في بعض كلام الأئمة ما يدل على أنَّه يجزئ؛ لأن هذا يلحق بالمعاملات. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الحط هو الواجب؛ فإذا لم يفعله وجب الإيتاء، وهذا ظاهر نصَّ الشافعي- رضي الله عنه- في "الأم" حيث قال: "ويجبر [سيد] العبد على أن يضع عنه مما عقد عليه الكتابة شيئاً"، وعلى ذلك جرى بعض الأصحاب؛ فإنه لا فائدة في الأخذ منه، ثم الدفع إليه. وبعضهم قال: الأصل في الوجوب الإيتاء، ومعناه: أنَّه إذا أدّى جميع النجوم يؤتيه السيد مالاً [يتجر فيه] أياماً، ليهيئ أمر نفسه، والحط يقوم مقامه.

وحكى القاضي الحسين وجهاً ثالثاً عن بعضهم: أنَّه يتخير: إن شاء آتى، وإن شاء حط. وهذا ما أورده البندنيجي، وكذلك الماوردي، لكنه قال: إذا أراد السيد أن يعطيه نقداً، وأراد المكاتب الحط- فقول المكاتب أولى؛ لأنه يريد تعجيل ما عليه. قال القاضي الحسين: وفائدة الخلاف إنما تتبين في الكتابة الفاسدة؛ فإنّا إذا قلنا: إن الأصل هو الإيتاء، فهل يجب الإيتاء فيها؟ فيه وجهان. وإن قلنا: إن الأصل هو الحط، فلا خلاف أنَّه لا يجب. فروع: إذا أبرأ السيد المكاتب من جميع النجوم، فهل يجب أن يؤتيه شيئاً؟ فيه خلاف مأخوذ من إبراء المرأةِ الزوجَ من جملة الصداق قبل الطلاق الواقع قبل الدخول كما حكاه الرافعي [ثَمَّ؛ "وهو" إنما] يتجه إذا قلنا: إن وقت الجواز لا يدخل إلَّا بعد أداء شيء من النجوم؛ تمسكاً بظاهر الآية. أمَّا إذا قلنا: يدخل وقته بالعقد، فالإبراء حصل في أوانه؛ فلا يتجه تغريمه شيئاً أصلاً. إذا بقى في ذمة المكاتب أقلُّ ما يتمول، قال القاضي الحسين [في "تعليقه"]: فلا ينحط عنه من غير حطٍّ من جهة السيد، لكن إذا قلنا: إن الحط أصل والإيتاء بدل، فليس للسيد تعجيزه، وللعبد أن يرافعه إلى الحاكم حتى يحط عنه، فإن لم يحط فالقاضي يحط عنه نائباً عنه. وإن قلنا: الإيتاء [أصل، أو قلنا] بالتخيير بين الإيتاء والحط، فإذا بقي في ذمته أقل ما يتموَّلُ فللسيد تعجيزه، فإذا عجزه صار قِنّاً؛ فلا يجب الإيتاء. وقال الإمام: هذا عندي غير صحيح، فإن المكاتب [إن] وجب عليه ما بقي، فله على السيد مثله، ونحن قد نقول في مثل هذا بالتقاص.

وأيضاً: فإن الإيتاء إنما شُرع؛ حتى لا يعجز العبد بهذه البقية، وإذا شهد أخص مقاصد الحكم في أمر لم يسع مخالفته. إذا مات السيد بعد القبض وقبل الإيتاء، قضى ذلك من تركته، فإن كان ورثته صغاراً دفع الحاكم [أو الوصي] إليه أقل ما يقع عليه الاسم. فإن كان على الميت دين زاحم المكاتب الغرماء، وقيل: إن ذلك كالوصايا؛ فيؤخر عن الديون، حكاه البندنيجي عن بعضهم؛ أخذاً من قول الشافعي: فإن مات السيد بعد قبض جميع الكتابة حاص بالذي له أهل الدين والوصايا. وحكى أبو إسحاق المروزي [عن بعضهم] أنَّه قال: وإنما أجراه مجرى الوصايا، لأنه ليس بشيء محدود فيضرب به مع الغرماء، وإنما يمكن أن يضرب به مع الغرماء إذا كان له حد معلوم قال أبو إسحاق: والأول أشبه بمذهب الشافعي، رضي الله عنه. ثم هذا إذا كان المال الذي آتاه المكاتب قد فُقِدَ، أما إذا كان موجوداً، أو قدر الإيتاء منه موجوداً تعين حقُّه فيه، وقُدّم على سائر الغرماء؛ كالبائع إذا وجد عين ماله قبل قبضه الثمن. قال: ولا يعتق المكاتب ولا شيء منه ما بقي عليه درهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "المُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ" خرجه أبو داود. ولأن أحكامه إمَّا أن يغلب عليها [حكم] المعاوضات؛ فتجري مجرى البيع، أو حكم الصفات؛ فتجري مجرى العتق بالصفة. فإن كان الأول، فالبيع لا يلزم فيه تسليم المبيع قبل تسليم جميع ثمنه، والعتق

في هذا المقام تسليم المعقود عليه. وإن جرى مجرى العتق بالصفة لم يقع إلا بوجود جميع الصفة. فرع: لو كاتبه على دينارين: دينار يؤديه بعدش هرٍ، ودينار يؤديه بعد شهرين، على أنَّه إذا أدَّى الدينار الأول عتق، وأدَّى الدينار الآخر وهو حرُّ- قال ابن سريج: كان فيه قولان: أحدهما: يفسد العقد؛ لأنه شرط ما ينافي مقتضاه، والثاني: يصح؛ لأنه لو كاتبه مطلقاً، وأدّى بعض المال، وأعتقه على أن يؤدي الباقي بعد عتقه- جاز، فإذا شرطه في الابتداء وجب أن يصح، قاله في "الشامل" و"البحر" وغيرهما. قال: وإن كان [عبد بين] اثنين، فكاتباه [أي: معاً]، وأبرأه أحدهما عن حقّه أو مات أي: السيد المكاتب، وأبرأه أحد الوارثين عن حقّه- عتق نصيبه؛ لأنه أبرأه عن جميع ما يستحقه عليه؛ فعتق؛ كما لو كان هو المكاتب لجميعه فأبرأه عن النجوم". قال وقوّم نصيب شريكه أي: في الحال، إن كان موسراً في أحدا لقولين؛ لأن المبرئ كان يمكنه ترك البراءة حتى يعتق الجميع أو يعجز الجميع، فلمّا عجل العتق بالإبراء قبل الأداء إلى شريكه، كان ذلك منه جناية أدّت إلى تبعيض حريّته؛ فوجب التقويم عليه، كما لو لم يكن مكاتباً. ولأن العتق إذا تعلق بشيئين روعي أعجلهما، وهذا ما رجحه المزني في الصورة الأولى في باب من أبواب هذا الكتاب، وجزم به بعضهم في الصورة الثانية، كما حكاه في "البحر". وقال في "الإبانة": إنَّه مخرج. فعلى هذا يكون في وقت السراية الأقوال الثلاثة التي تقدّمت في كتاب العتق، كما صرّح به البندنيجي، وقال: إن قلنا: يسري بنفس اللفظ، قوَّمنا حصة الشريك وهو حرٌّ، وإن قلنا: لا يسري إلَّا بدفع القيمة، قوَّمناها مكاتباً. قال دون الآخر؛ لما في التنفيذ في الحال من إبطال حقِّ الشريك

والمكاتب، كما ستعرفه. وقد حكى البندنيجي عن بعضهم القطع به في المسألة الثانية، قال في "البحر": والصحيح طريقة القولين. ثم على القول الثاني: لو أدَّى للشريك ما وجب عليه عتق، وكان اللواء عليه بينهما، وإذا لم يؤد وعجز وفسخت الكتابة، فقد جزم الشيخ أبو حامد وغيره في الأولى بأنه يقوم على الشريك المبرئ الآن، وهو ما نصَّ عليه في "الإملاء على مسائل مالك". قال البندنيجي: ويكون العتق هنا يحصل بدفع القيمة قولاً واحداً، ولا يمكن أن نقول: إنه حصل باللفظ؛ لأنا قد أخّرناه عنه. وحكى القاضي الحسين أنّا إذا قلنا: يقوم عليه بعد العجز، فهل نقول: يسري العتق في ذلك الوقت أوْ لا يسري إلَّا بدفع القيمة؟ فيه جوابان. وما قاله أبو حامد وحكيناه عن النصِّ موافق لما حكيناه عن الروياني فيما إذا كان عبد بين اثنين، فدبراه، ثم أعتق أحدهما نصيبه، وقلنا: إنه لا سري العتق عليه؛ فبطل التدبير في حصة شريكه- أنَّه "يسري"، وعلى هذا التقدير يكون ما أبداه الشيخ في "المهذب" [في هذه المسألة] احتمالاً لنفسه، وهو عين المنقول عن الأصحاب، وقد حكينا في التدبير عن رواية الإمام عن معظم الأصحاب: أنه لا يسري العتق المنجزم في الحصة [بعد بطلان التدبير في الحصة] الأخرى إذا لم نقل بسريانه في الحال؛ لأن السراية إذا لم تعمل في الحال لم تعمل في المآل؛ كما لو أعتق الشريك وهو معسر، وهذا يظهر جريانه هنا من طريق الأولى؛ لأن التدبير لا يمنع نقل الملك [في المدبر]، والكتابة تمنعه؛ فهي أقوى، وإذا منع الأضعف السراية حالاً ومآلاً، فالأقوى بذلك أوْلى. وقد حكى الإمام أن صاحب "التقريب" حكى قول عدم السريان ها هنا مطلقاً

قولاً مخرّجاً لما ذكرناه، وقال: إنه متجه في القياس، ولكنه ليس بالمذهب؛ فلا اعتبار به، وسأذكر عن الماوردي حكاية قول مثله في نظير المسألة. وأمَّا في الصورة الثانية فقد حكى الأصحاب في السريان قولين: أحدهما: المنع؛ لأن العتق في هذه الحالة وقع عن الميت بدليل أن الولاء له، وإذا وقع عن الميت لم يقوم على غيره، وهذا ما نقله المزني في "الجامع الكبير"، واختاره ونقله إلى "المختصر" في آخر باب كتابة بعض عبد، ونصره. وقال أبو إسحاق: لا يختلف قول الشافعي- رضي الله عنه- أن الولاء لأبيهما؛ فوجب ألا يقوم عليه. والثاني- وهو الذي صححه الشيخ أبو حامد-: أنه يقوّم عليه كما قلنا في المسألة الأولى؛ لما ذكرناه من التعليل، وما ذكر من كون الولاء لأبيهما لا يدلُّ على عدم السريان والقويم؛ لأنه قد يقع [العتق] والولاء لشخص، وتكون القيمة على غيره؛ فإن أحد الشريكين لو قال لصاحبه: أعتق نصيبك عني على ألف، فأعتقه [فإنه يسري على المباشر للعتق، وكذلك لو قال أجنبي لأحدهما: أعتق نصيبك عني على ألف، فأعتقه] فإنه يسري إلى نصيب شريكه، ويكون العتق عن السائل والولاء له، والتقويم على المباشر، كذا حكاه في "البحر" وكذا ابن الصباغ في الصورة الثانية. ثم مقتضى ما ذكره أبو إسحاق من كون الولاء لأبيهما؛ تفريعاً على عدم التقويم- أن يكون ثمرة الولاء بين الذي أبرأ وبين الذي لم يبرئ؛ لأن ثمرة ولاء أبيهما لهما، وقد حكى في "البحر" أن صاحب "التلخيص" قال في "المفتاح": "في الولاء قولان: أحدهما: هذا. والثاني: يكون لمن أعتق على حكم الكتابة، يعني الابن المبرئ خاصة. وابن الصباغ والبندنيجي والقاضي الحسين حكوا هذا الخلاف وهجين، ورجح الإمام الوجه الأول، وقال عن الوجه الثاني: إنه لا وجه له وإن كان مشهوراً.

ثم قضية ما سلمه الشيخ أبو حامد من كون الولاء يثبت لشخص وتكون السراية على غيره مع قوله بالسريان، يفهم أن جميع الولاء في جميع العبد يكون بين المشتري والذي لم يبرئ، وقد جزم ابن الصباغ والبندنيجي بأنَّ ولاء ما قوم عليه [له]، وولاء النصف الذي عتق بالإبراء فيه الوجهان السابقان، وطردا ذلك فيما إذا قلنا: إنه يقوم عليه في الحال، وفرعه الإمام على خلاف سيأتي في أنا في هذه الحالة هل نحكم بانفساخ الكتابة [أم لا؟] فإن حكمنا بانفساخها فالأمر كذلك، وإن قلنا بعدم الانفساخ فالحكم الذي يحب القطع به صرف الولاء إلى الميت، ثم اشتراك الابنين في فائدته، ولا يجوز إجراء خلاف؛ فإن الكتابة لم تتبعض بقيا وارتفاعاً، بل حصل العتق في الجميع على حكمها، وهذا منه بناءً على [أن] الخلاف السابق [في الاشتراك] في فائدة ولاء النصف الذي حصل عتقه بإبراء أحد الابنين، وقد رق النصف الآخر، لعدم الوفاء، وتفريعنا على عدم السراية مأخذه خلاف حكاه البندنيجي وغيره في أن الكتابة قد انفسخت في البعض الذي رق، والكتابة إذا انفسخت في البعض مع بقاء الرق في الجميع هل تنفسخ في الباقي؟ وفيه قولان، والجمهور لم يبنوهما على هذا؛ فإن هذا البناء يقتضي عدم نفوذ العتق في نصيب الابن المبرئ، وقد اتفقوا على نفوذه فيه، كما حكاه [هو] أيضاً، وبناهما القاضي الحسين على أصل، وهو أن رق المكاتب هل يورث أم لا؟ وفيه قولان: أحدهما: يورث؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه- قال: لو زوج ابنته من مكاتبه برضاها، ومات السيد ينفسخ النكاح. والثاني: أن رق المكاتب لا يورث. وهذان القولان مبنيان على أصل، وهو أن الدين هل يمنع الإرث أملا؟ وفيه قولان: أحدهما: نعم؛ لأن حق الغرماء يقدم على حق الورثة فيمنع.

والثاني: لا يمنع؛ لأن تعلق [حق] الغرماء بماله لا بعين ملكه، كما نقول في حق المجني عليه: إن تعلق حقه برقبة الجاني، لا بعدم ملك السيد في عبده، ووجه الشبه: أن الدين لما استقر في ذمته فتقدم حق الغرماء منع من جريان الميراث في المال الموروث، كذلك هنا تقدم استحقاق الموروث يمنع من جريان الملك فيه، وإذا قلنا: رق الكاتب لا يورث، فلا يسري على المبرئ العتق. واستحسن الإمام هذا البناء، وأيده باتفاق الطرق على أن أحد الشريكين الكاتبين إذا أعتق نصيبه سرى، فلو لم يكن الخلاف في أن الورثة هل يملكون رقبة المكاتب، لما كان لترديد القول بالسراية إذا أعتق الوارث محلٌّ، والعتق في [هذا المقام] متضمن للإبراء كما صرح به الإمام وغيره، فإذا صرح بالإبراء كان من طريق الأولى أن يثبت هذا الحكم. ثم مقتضى بناء القاضي: أن الصحيح الجديد عدم السريان، كما أن الصحيح الجديد: أن الدين لا يمنع انتقال الإرث. فرع: لا يجوز للمكاتب أن يدفع لأحد الشريكين شيئاً لم يدفع مثله للآخر في حالة دفعه إليه؛ لأنه قد يعجز فيؤدي إلى انفراد أحدهما بمال الآخر، فلو أذن أحدهما في دفع شيء للآخر يختص به فهل يجوز؟ فيه قولان منصوصان: أحدهما- وهو اختيار المزني-: لا. والثاني: نعم. وحكى القفال أن بعض أصحابنا بنى القولين على جواز كتابة أحد الشريكين بإذن صاحبه، ومنهم من بناهما على جواز تبرع المكاتب بإذن سيده، وأصح القولين في "الحاوي" "والبحر": الجواز. وعلى هذا: إذا كان المدفوع قدر نصيبه من مال الكتابة عتقت حصته [إذا

قبضها]، ولو امتنع من القبض أجبر عليه للقدرة على تحصيل العتق، ثم إذا حصل العتق عند القبض نظر: إن كان معه وفاء بنصيب الآخر دفعه وعتق، وإن لم يكن معه وفاء- قال أبو إسحاق: فلا يختلف المذهب أنه يقوم على شريكه. وقال في "الحاوي": هل يقوم على شريكه إذا كان موسراً؟ فيه قولان. وعلى قول التقويم هل يقوم في الحال أو بعد عجزه عن الكتابة؟ فيه الخلاف السابق، وإذا نظمت ذلك جاءك في حال التقويم ثلاثة أوجه، ثالثها: أنه لا يقوم في الحال، ويقوم بعد زوال الكتابة، وقول عدم التقويم مطلقاً في هذه المسألة هو عين الذي رواه صاحب "التقريب" فيما تقدم مخرجاً؛ إذ لا فرق بين حصول البراءة بالقبض أو بالإبراء، وعلى هذا لك أن تجري كلام الشيخ على ظاهره وتقول: إذا كاتباه، فأبرأه أحدهما عن حقه، أو مات فأبرأه أحد الوارثين عن حقه- عتق نصيبه، وقوَّم عليه نصيب شريكه في أحد القولين، ولا يقوَّم في الآخر، أي مطلقاً. [ثم على] قول التقويم [فهل هو] في الحال أو بعد العجز عن الكتابة؟ فيه قولان. ولو حصل القبض بالإجبار فكذلك الحكم؛ لأنه مختار في عقد الكتابة. قلت: وكان يتجه أن يتخرج على خلافٍ ذكرناه فيما إذا ورث عيناً فاطلع بها على عيب، وكان عوضها بعض من يعتق عليه، فرد المعيب، فعاد إليه القريب هل يسري؟ وهذا لا يتقاعد عن أن يكون مثل ذلك؟

نعم، لو كان المجبر على القبول الوارث، فلا يسري العتق إليه اتفاقاً، صرح به الأصحاب. فرع: إذا قلنا بالتقويم في الحال؛ ففي "البحر" في الأولى أن الكتابة تنفسخ، والمال الذي في يد المكاتب يسلم نصفه إلى الذي لم يعتق حصته، والنصف الآخر للمكاتب؛ لأن حصة ما عتق منه على الكتابة، وفي "الوسيط" حكاية وجهين: أحدهما: هذا. والثاني- وهو الذي [يقتضي] إيراده ترجيحه-: أنا على هذا القول نقدر انتقاله إلى المعتق من غير انفساخ في الكتابة، بل يعتق من جهة الكتابة عن المعتق؛ حتى لا يكون الولاء للشريك، ولا يؤدي إلى بطلان الكتابة. قال الإمام: وهذا فيه نظر؛ لأن السراية تتضمن انتقال الملك، و [ملك] المكاتب لا يقبل النقل على الصحيح. قال: ويملك المكاتب بالعقد منافعه وأكسابه؛ لأن عقد الكتابة أثبت للسيد عوضاً في ذمة العبد، ومقتضاه: أن يملك في مقابلته ما وقع العقد عليه، وهو الرقبة؛ كي لا يبقى العوض والمعوض لواحدٍ، فملا تعذر ذلك؛ لكونه لو ملكها لعتق- كان تأثير العقد فيما هو أقرب إليها، وهي المنافع والأكساب؛ لكونه محجوراً عليه في استهلاكها في غير حق.

قال الماوردي: ثم هذا الملك مراعى يستقر بالأداء، ويزول بالعجز؛ كالمبيع في زمن الخيار. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنَّا لا نقول: إن المكاتب ملك أكسابه؛ بدليل أنه لا يمكنه أن يتبرع بها، وعلى ذلك جرى في "التهذيب" حيث قال: الكتابة معاقدة يتسلط بها العبد على أكسابه، فيجمعها ويؤديها إلى المولى فيعتق، ولا يملك مكاسبه ولا رقبته. وفي "تعليق" البندنيجي في كتاب "الأيمان" إيماء إلى ذلك؛ حيث قال: إذا حلف لا يركب دابة المكاتب، فركب دابة له، فإن قلنا: يملك، حنث، وإن قلنا: لا يملك، لم يحنث، وظاهر المذهب: أنه يحنث؛ لأنها في حكم ملكه، بدليل أنه يتصرف فيها دون [إذن] سيده. [انتهى]. لكن الذي دل عليه ظاهر النص الأول؛ حيث قال: إن المكاتب ممنوع من استهلاك ماله. وقد حكيت في ابن الصباغ عن كتاب "الأيمان" حكاية عن بعض الأصحاب: أن المكاتب يملك بالعقد رقبته، وإنما لا يعتق؛ لضعف الملك، وحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ دِرْهَمٌ" على ذلك، والمذهب خلافه. قال: وله أن يبيعه ويشتري، ويستأجر، ويكري؛ لأنه عقد الكتابة ليحصل العتق بأداء النجوم، والأداء إنما يكون بالاكتساب، فمكن منه بجميع جهاته تحصيلاً للمقصود، واقتصر الشيخ على التمثيل بما ذكره؛ لدلالته على ما عداه من احتطاب واحتشاش [وغير ذلك] من طريق الأولى. قال: وهو مع السيد كالأجنبي مع الأجنبي في البيع والشراء، والأخذ بالشفعة، وبذل المنافع؛ لأنه صار بعقد الكتابة كالخارج عن ملكه، وإنما له في ذمته مال. قال: وله أن يسافر في أحد القولين، وهو الذي نص عليه في "المختصر"، وهو الأصح؛ لأمرين:

أحدهما: أن المكاتب مالك لتصرف نفسه؛ فلم يكن للسيد أن يحجر عليه بمنعه. والثاني: أن للسيد عليه ديناً إلى أجل، وليس لصاحب الدين أن يمنع من عليه الدين المؤجل من السفر. وليس له ذلك في الآخر، أي: من غير إذن السيد، وهو الذي نص عليه في "الإملاء" لأن فيه تعزيراً بالمال وتأخيراً لحقٍّ. وقال أكثر الأصحاب- كما حكاه الماوردي-: إن كان السفر مما لا تقصر فيه الصلاة جاز، وإن كان مما تقصر فيه الصلاة لم يجز، وحملوا القولين على هذين الحالين. قال: ولا يتزوج إلا بإذن المولى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ" أي: زَانٍ، و"الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ"، والكلام في ذلك مستوفىً في كتاب النكاح؛ فليطلب منه. وليس له أن يطأ أمته بملك اليمين؛ لأمرين: أحدهما: ضعف ملكه. والثاني: خشية العلوق فتنقص قيمتها. وقد ذكرنا [في أن] السيد [إذا ملَّك] عبده أمة أنه يجوز له أن يتسرى بها وإن لم يأذن له السيد على وجه، وملك المكاتب أقوى منه؛ فيتجه أن يجيء مثله هنا من طريق الأولى إذا نظرنا إلى المعنى الأول، وإن نظرنا إلى المعنى الثاني فينبغي أن ننظر إن كانت ممن تحبل فيمتنع عليه الوطء بدون الإذن، وبالإذن

قولان، وإن كانت ممن لا تحبل فيجيء [فيها] الخلاف المذكور في وطء الراهن، وقد حكاه الإمام عن شيخه تفريعاً على مسألة الرهن، ثم قال: وهو غير مرضي؛ من جهة أن المكاتب عبد، وهو ما لو وطئ يتصرف في نفسه بما يوهي القوة ويضعف البنية، ولا ضبط يُرْجَعُ إليه فيما يجوز من ذلك ويمنع؛ فالوجه حسم الباب. قال: ولا يحابي ولا يهب ولا يعتق أي: ولو بثواب [ولا يكاتب ولا يضارب] أي: بماله، ولا يرهن أي: من غير ضرورة، ولا يكفر بالطعام والكسوة؛ لجريان أحكام الرق [عليه]، ولأن السيد إذا ملكه مالاً لم يكفر به، فكذلك هنا، ولأنه في ماله كالمعسر؛ بدليل عدم نفوذ تبرعاته. قال: ولا ينفق على أقاربه غير ولده من أمته؛ لأنه مملوك [له] فنفقته عليه بحكم الملك [كغيره من] الأرقاء. قال: ولا يشتري من يعتق عليه؛ لما في ذلك من تضرره بوجوب الإنفاق عليه، ومنعه من التصرف فيه وفي ثمنه، وضابط التبرعات المردودة: كل ما يحسب من الثلث إذا تبرع به في مرض الموت، أما إذا دعت حاجته إلى الرهن، فيجوز أن يرهن [كما يرهن] ولي اليتيم، صرح به الماوردي في كتاب الرهن، وقد ذكرناه في كتاب الحجر. ولو أراد أن يرتهن بدين له نظر: فإن كان مستقرّاً جاز، وإن أراد أن يرتهن بدين مستحدث: فإن كان قرضاً كان كولي المحجور عليه على ما مضى، وإن كان بيعاً: فإن كان قد نُقِدَ لم يجز، وكان المبيع نفسه مرهوناً، وإن كان نسيئةً فهل يجوز أن يبيعه نسيئة أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز؛ فعلى هذا يكون كولي المحجور [عليه] في أخذ الرهن فيه.

والثاني: لا يجوز، كذا قاله الماوردي في الرهن. وقال البندنيجي: ثم إن المذهب جواز البيع بثمن مؤجل. وحكى ها هنا عن الشافعي- رضي الله عنه- أنه لا يجوز البيع بدين، وإن كان الربح أضعاف الثمن، وسواء كان بالدين رهن أو ضمين أو لا، وكذلك حكاه الماوردي عن نصه في "الأم"، وأنه علله بأن الرهني هلك، والحميل يهلك، والغريم يفلس. قال البندنيجي: قال الأصحاب: بلى، يجوز أن يبيع ما يساوي مائة حالة بمائة وعشرين: [مائة] حالة مقبوضة، وتبقى العشرون إلى مدة. قال الروياني: وللمكاتب أن يشتري بمؤجل إذا كان المبيع يساوي ذلك مؤجلاً. وقال القاضي الحسين: إنما يجوز [بشرط أن يشتريه بما يساويه حالّاً، وإنه يجوز] أن يبيع ما يساوي عشرة بعشرين إلى أجل، ويأخذ على ذلك رهناً، ويجوز أن يكون مقارضاً عن غيره. وله أن يبيع بشرط الخيار إذا قبض الثمن. ويجوز أن يقر بالبيع والشراء والقرض ما دام مكاتباً؛ لأنه قادر على الإنشاء، صرح به البندنيجي وغيره. وإذا جنى جناية توجب المال فسيأتي الكلام فيها، وإذا اشترى وباع لا يجوز [له تسليم] ما يبذله قبل [قبض مقابله] إلا أن يكون في المجلس؛ لأن ذلك مما يعسر ضبطه. قال في "البحر": "ولهذا قال بعض أصحابنا: يصح منه السلم الحال ويتسلم المعوض في المجلس". وحكى الإمام جواز السلم نسيئةً على وجه، ثم قال: "وهو هوس مع منع البيع نسيئة، وكنا نود لو وجدنا مذهباً في جواز البيع نسيئة؛ لما قررناه فيه من الغبطة، كما يجوز لولي اليتيم، فإذا لم نجده وجب طرد الباب. وما ودَّه هو [ما] حكيناه عن الماوردي والبندنيجي من قبل.

قال: وإن أذن له السيد في شيء من ذلك؛ ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن المكاتب ناقص الملك، والسيد لا يملك ما بيده؛ فلا يصح ذلك باجتماعهما؛ كالأخ إذا زوج أخته الصغيرة بإذنها، ولأن الله- تعالى- له في ذلك حق فلا يفوت، وإن رضي به السيد. وهذا [ما رواه] الربيع في مسألة الهبة. والثاني: يصح؛ لأن المنع كان لحقه، فزال بإذنه كالمرتهن إذا رضي بسقوط حقه. وهذا ما نص عليه في "الأم"، ورواه المزني في مسألة الهبة، وهو الأصح في جميع الصور. وحكى الإمام عن الصيدلاني طريقة أخرى، فقال: إن قلنا: إن العبد لا يملك، فلا يصح شيء من تبرعات المكاتب وإن أذن له السيد، وإن قلنا: إن العبد يملك، فهل يصح بالإذن؟ فيه القولان، قال الإمام: وهذا ضعيف؛ فإن القولين في نفوذ تبرعاته بالإذن منصوصان في الجديد. وهذه الطريقة تقتضي أن يكونا في القديم، ثم القولان جاريان؛ سواء قلنا: إن العبد يملك، أو لا. وحكى الروياني عن أبي إسحاق الجزم بصحة شراء القريب بالإذن؛ لأنه حصل له في مقابلته شيء، وضعف بأن هذا لو كان مقصوداً لجاز بدون الإذن، ومحل الخلاف في الهبة إذا أذن فيها وفي القبض، والقولان جاريان فيما إذا وهب من سيده شيئاً وأقبضه. وحكى الإمام عن شيخه والعراقيين طريقة أخرى جازمة، بأنها تصح قولاً واحداً، كما لو عجل له النجم الأول؛ فإنه ينفذ ولا يعد ذلك تبرعاً، وإن كان

فعل مثله مع الأجنبي معدوداً من التبرعات. ثم إذا قبض السيد الهبة: فإن كانت تقتضي الثواب، قال الماوردي: وجبت المكافأة فيها على السيد يدفعها إلى مكاتبه، أو يحتسب بها من مال كتابته. وإن قبل بسقوط الثواب فيها؛ رُوعي حال المكاتب: فإن أدى مال الكتابة من غيرها استقر ملك السيد على الهبة، وإن [عجز و] كان في الهبة وفاءٌ بما عليه؛ ففي رجوع المكاتب بها – ليؤديها في كتابته، ويعتق بها وجهان، ووجه الرجوع: أن مال الكتابة مستحق للسيد في كتابته، فبأي وجه صار إليه استحق به العتق، والقولان جاريان عند بعضهم فيما [إذا] أذن السيد في التكفير بالعتق، ومنهم من منع؛ لما فيه من ترتب الولاء، كما حكاه القاضي الحسين، وممن جزم بالمنع البندنيجي، مع أنه حكى القولين فيما إذا أعتق بإذن السيد عبداً لا عن الكفارة. وفي "الشامل" أن الشيخ أبا حامد قال: إذا أعتق عن سيده [أو عن غيره متبرعاً بإذن سيده] كان فيه قولان، والصحيح: الصحة، وإذا أعتق عن نفسه بإذن سيده، فالصحيح من القولين عدم النفوذ؛ لأجل الولاء. والقولان جاريان فيما إذا أذن له في وطء أمته كما ذكرناه، وبناهما الماوردي على قوليه: أن العبد هل يملك إذا مُلِّك؟ ومقتضى هذا البناء: أن يكون الصحيح المنع، وعلى هذا إذا وطئها وأحبلها لا حد عليه ولا مهر، وسيأتي بقية الأحكام. وإذا جوزنا شراء القريب بالإذن، فهل يجوز للمكاتب قبل عتقه بيعه؟ فيه وجهان: اختيار الشيخ أبي إسحاق: لا. واختيار ابن أبي هريرة: نعم.

قال: وإن وصى له بمن يعتق عليه – أي: عند حريته – وله كسب يفي بنفقته – جاز أن يقبل؛ لأنه يحصل له بذلك كمال ومنفعة من غير ضرر. قال: ويقف عتقه على عتقه؛ كولده من أمته؛ لا يجوز له بيعه، نص عليه في "الإملاء"، وبه قال أبو إسحاق، كما حكاه البندنيجي؛ لأن بيع الآباء ممنوع. وقال ابن أبي هريرة: إنه يجوز؛ لأنه عبد قن فهو كالأخ والعم. وحكاه الإمام عن حكاية الشيخ أبي علي في "شرح الفروع"، وأنه [طرده] في بيع الولد، ثم قال: ولم أر من حكاه إلا الشيخ، وأنه لا يجوز إلا عند إذنه؛ فإنه لو صح للزم قياسه تجويز بيع الولد الذي تأتي به جاريته منه، فإن طرده كان خارقاً للإجماع، وإن لم يطرده كان ناقضاً لمذهبه، ومقتضى تفريعه: أنه يجوز شراؤهما. فرع: إذا صار القريب الذي تملكه بالوصية زمناً أنفق عليه؛ لأنه من مصالح ماله، ولو كان زمناً في الابتداء، لم يجز أن يقبل الوصية بغير إذن السيد، وبالإذن قولان، وحكى الماوردي وجهاً: أنه يجوز من غير إذن السيد؛ لاحتمال زوال المانع من الكسب. ولا خلاف أن هذا القريب إذا جنى، ليس للسيد فداؤه كالشراء حرفاً بحرف، وله بيع جميعه في الجناية، أو بقدر ما يفي بأرشها. قال: وإن أحبل جاريته، فالولد مملوك يعتق بعتقه أي: وإن كان الوطء بغير الإذن؛ لأنه ولد [بين] مملوكين، والملك فيه لأبيه؛ لأنه ولد أمته وإنما عتق بعتقه؛ لما ذكرناه في باب العتق، وقد تقدم أنه لا يجوز له بيعه، ولا فرق [فيه] بين أن يخشى العجز لو لم يبعه أو لا يخشى.

وعن الإصطخري: الجواز فيما إذا خشي العجز، والمذهب في "الحاوي" قبيل باب الاستبراء: الأول. ولو جنى جناية، تعلق الأرش برقبته، وجاز بيعه. قال الإمام حاكياً عن العراقيين: إنه يباع جميعه وإن كان [الثمن] زائداً عن الجناية. وحكى عن المراوزة: أنه لا يباع منه إلا بقدر أرش الجناية، وهذا ما حكاه في الزوائد عن النص في "الجامع الكبير". وحكى عن الشيخ أبي حامد وجهين: أحدهما: هذا. والثاني: أن الأرش لا يتعلق برقبته ولا يباع؛ لأن الشرع قد منع من بيع الآباء والأبناء، وفي "الشامل": أنا إنما نبيع الجميع عند تعذر بيع البعض. قال: وفي الجارية قولان، قال أبو العباس: كما لو وطئ أمة الغير بشبهة، ثم ملكها، وسيأتي توجيههما. وقال الشيخ أبو حامد: إن هذين القولين أصلان بأنفسهما، وليسا من غيرهما؛ لأنها علقت بمملوك في ملكه؛ [فلا تشابه] بينهما، ويجوز بيع هذه الجارية قبل العتق كما قاله في "البحر" في باب عتق أم الولد. وحكى عن ابن أبي أحمد: أن أم الولد لا تباع إلا في ثلاث مسائل، هذه إحداها، والثانية: المرهونة، والثالثة: الجانية إذا أحبلها. قال: وإن أنت المكاتبة بولد من نكاح أو زنى ففيه قولان: أحدهما: أنه مملوك للمولى يتصرف فيه؛ أي: بالبيع وغيره؛ لأن الكتابة عقد يلحقه الفسخ مع بقاء الملك للسيد؛ فلا يثبت حكمه في الولد كالرهن. والثاني: أنه موقوف على عتق الأم؛ لأن الولد يتبع الأم في سبب الحرية كما يتبعها في الحرية كولد أم الولد، ولأن الولد من كسبها فيقف على عتقها

كمالها، وهذا هو الأصح. وقال الشافعي – رضي الله عنه -: إنه أحب إليَّ. وعلى هذا فروع. منها: إذا قتل الولد، فإن كان القتل خطأ أو من حر، [في قيمته] قولان: أحدهما: أنها لأمه؛ لأنه من كسبها، فكان [بدله لها]؛ كما لو قتل عبدها. والثاني: أنه للمولى، وهو الأصح؛ لأنه تابع لأمه، والأم لو قتلت كانت قيمتها للسيد؛ فكذلك قيمة الولد. وعلله أبو إسحاق بأن الولد لم يَجْرِ عليه عتق ولا هو ملك للأم، وإنما هو ملك لسيده، وإنما هو وقف على الحرية والرق، ولأن السيد لو أعتقه عتق، فلو كان كسباً لأمه تستعين به في كتابتها لما جاز أن يعتقه [السيد]. ولو كانت الجناية عمداً توجب القصاص، فعلى الأول: لها القصاص، وهل لها العفو؟ إن قلنا: الواجب القصاص عينا، فنعم، وإن لم يأذن فيه السيد، وإن قلنا: الواجب أحد الأمرين، فلا يجوز بدون إذن السيد، وبإذنه قولان. الثاني: لو كانت الجناية على الطرف فقولان: أحدهما: أنه لأمه. والثاني: أنه موقوف على عتقها. الثالث: لو اكتسب مالاً فقولان منصوصان: أحدهما: أنه لأمه. والثاني: أنه موقوف. وقيل: إنه [يكون] للسيد؛ [بناءً] على أن القيمة له، قال في "البحر": وليس بشيء. وقال أبو إسحاق: "إن قول الشافعي لا يختلف إذا كان الولد حيًّا: أن الأم

[لا] تأخذ ما في يده، [ويكون موقوفاً]، وزعم بعض أصحابنا أنه في حياته فيه قولان: أحدهما: للأم. والثاني: موقوف، ولا نص فيه للشافعي –رضي الله عنه – نعلمه. الرابع: نفقة الولد إن كان كسوبا فمن كسبه، وألا فهي متفرعة على الأقوال في كسبه لمن يكون؟ فإن قلنا: لأمه، فعليها، وإن قلنا: للسيد، فعليه، وإن قلنا: يكون موقوفاً، فوجهان: أحدهما: على سيده؛ لأنه على ملكه. والثاني: في بيت المال من سهم المصالح؛ لأنه محتاج إليه. الخامس: إذا أشرفت المكاتبة على العجز، فإن لم يكن في سكب الولد وفاء بأداء مال الكتابة، وقلنا: إنه موقوف – لم يدفع إليها، وإن كان فيه وفاء فقولان. ولو أراد السيد عتقه، فإن قلنا: كسبه له، أو موقوف، والمكاتبة إذا أشرفت على العجز لا تنتفع بكسبه – نفذ عتقه، وإن قلنا: كسبه للمكاتبة، أو قلنا: إنه موقوف، وإذا أشرفت على العجز يدفع إليها – لم ينفذ؛ لان فيه إضراراً بها وتعطيلاً لكسبها، وهذه طريقة الماوردي والبندنيجي. قال أبو إسحاق: يعتق الولد قولاً واحداً، نص عليه في "الأم"، وقال بعض أصحابنا: لا ينفذ عتقه فيه إذا قلنا: ما في يد الولد للام. وليس بشيء. قال في "البحر": وهذه [الطريقة] أصح، وكتابة السيد له كعتقهن وولد ولد المكاتبة حكمه حكم أمه. قال: ولا يجوز للمولى بيع المكاتب في أصح القولين، وهو الجديد، وقد ذكرناه في البيع بفروعه، وبنى القاضي الحسين القولين على أن المغلب في الكتابة حكم الصفة أو المعاوضة؟ فإن قلنا بالثاني منعنا، وإن قلنا بالأول جوزنا. والوصية بالرقبة مع صحة الكتابة، أطلق الأصحاب القول بفسادها، حتى لو

عجز [أو أدى] المال لم يسلم للموصي له شيء، وهذا تفريع على منع البيع، أما إذا جوزناه فالوصية أولى، صرح به القاضي الحسين، وقد تقدم فيما إذا أوصى بعبد إنسان أن الوصية تصح على رأي، ومقتضى هذا: إذا عجز المكاتب قبل موت الموصي أن تصح الوصية، وتدفع للموصى له، ويجوز أن يقول: أو صيت له برقبة المكاتب إذا عجز كما حكاه البندنيجي وصاحب "البحر" عن "الأم"، وجزم القاضي الحسين بالمنع في هذه الصورة، وذكر البندنيجي والإمام الوجهين فيما لو قال: أوصيت بهذا العبد لفلان إن ملكته يوماً. وحكى الإمام وجهاً ثالثاً: أن الوصية تصح في المكاتب، ولا تصح في [الوصية بعبد] الغير إذا ملكه. قال: ولا يبعُ ما في ذمته أي: من النجوم في أصح القولين؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وذلك غرر، ولأنه غير مستقر؛ لقدرة العبد على إسقاطه، فإذا لم يجز بيع المسلم فيه مع لزومه فهذا أولى، ولأن مال الكتابة غير لازم؛ فلا يجوز أن يعقد عليه بيع لازم لتنافيهما. والقول الثاني- قال أبو إسحاق: أومأ إليه في القديم -: أنه يجوز؛ لأنه يملك ما في ذمة المكاتب؛ فصار كسائر أمواله، وعلى هذا: فالفرق بينه وبين المسلم فيه: أن هذا ثمن، والمسلم فيه مبيع، والثمن يسامح فيه، بخلاف المبيع. والجمهور لم يثبتوا هذا قولاً، وقالوا: لا نعرف له غير الأول، وإنما نص في القديم على جواز بيع الرقبة. التفريع: إن قلنا بالصحة، فإذا قبض المشتري النجوم عتق المكاتب، وكان الولاء للبائع جزماً، وإن قلنا بمقابله فقبضها فهل يعتق المكاتب؟ قال في هذا الباب: إنه يعتق، وقال في باب آخر: إنه لا يعتق. فقال أبو العباس: فيه قولان:

أحدهما: أن ذمة العبد تبرأ ويعتق؛ لأن السيد سلطه على القبض، وأطلق الإذن للمكاتب بالدفع؛ فكان بمنزلة الوكيل. وهذا ما قال الماوردي: إنه مذهبنا. والثاني: أنه لا يبرأ ولا يحصل العتق. ولا فرق على هذا بين أن يصرح السيد للمكاتب بالدفع أو لم يصرح كما حكاه البندنيجي. وقال أبو إسحاق: القول الأول محمول على ما إذا صرح بالإقباض، والثاني محمول على ما إذا لم يصرح. ثم إذا عتق العبد بذلك وجب على المشتري رداً ما أخذ – إن كان باقياً – على البائع، وبدله إن كان تالاً، فإن كان بدله من جنس الثمن، وقد أتلف البائع [الثمن] – جاءت أقوال التقاص الآتية، وإن قلنا بعدم البراءة وجب عليه رده – إن كان باقياً – على المكاتب، وبدله إن كان تالفاً، والبائع لا يطالب غير المكاتب بالنجوم. وحكى القاضي الحسين القولين في حصول العتق بقبض النجوم عند بيعها فيما إذا باع رقبة المكاتب وقبض النجوم، وأفسد القول بحصول العتق في هذه الصورة بأنه ثم سلطه على قبضها. فرع: إذا جوزنا بيع النجوم فالاعتياض عنها من طريق الأولى، وإن منعنا البيع فهل يجوز الاعتياض عنها؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين وغيره. قال: ويجوز أن يوصي بما في ذمته؛ لأنه إذا جازت الوصية بما لا يملكه في الحال: كثمرة النخلة، وحمل الجارية [الذي سيحدث] [فَلأَنْ يجو هنا والملك ثابت له من طريق الأولى. [قال]: فإن عجز المكاتب عن أداء المال على الموصى له كان للورثة فسخ الكتابة؛ لأن حقهم متعلق بالعين، وحق الموصى له متعلق بالذمة]، فكان

حقهم آكد. قال في "الأم": وهكذا الحكم فيما لو أوصى برقبة المكاتب لشخص إذا عجز عن أداء النجوم، وبالنجوم لأخر - كان للموصى [له] بالرقبة عند العجز الفسخ، وليس للموصى له بالنجوم المنع. قال الإمام: والمتعاطي لتعجيزه في هذه الحالة الحاكم إذا [تحققت الواقعة عنده]. وقال ابن الصباغ: في هذا نظر؛ لأن الحق للموصى له؛ بدليل أنه إذا ابره عتق، ولا حق لصاحب الرقبة فيه؛ [فكيف يقدر بتعذره] على الفسخ؟! وفي "التهذيب" وجه: أنه لا يصح إبراء الموصى له، وهو من تخريج القاضي الحسين. فرع: إذا دفع بعض النجوم، ثم عجز عن الباقي - كان للورثة تعجيزه، وما قبضه الموصى له يسلم له. قاله الماوردي وغيره. قال: وإن كاتب أمة لم يملك تزويجها إلا بإذنها؛ لما ستقف عليه في كتاب النكاح، ولا يجوز له وطؤها، لأن الوطء إنما يستباح في زوجيَّة أو ملك تام، وليس هاهنا واحد منهما، ولأنه عقد عليها عقداً لا يعود إليه بسببه ارش الجناية عليها؛ فلم يكن له بعد ذلك وطؤها كما لو باعها. قال: فإن وطئها، لزمه المهر أي: للمكاتبة؛ لأنه وطء، لا حد فيه؛ لشبهة الملك، فوجب به المهر لمستحق المنافع وهو المكاتبة، كما لو وطئ الموصى له بالرقبة دون منفعتها الجارية [المذكورة]. ولا فرق في ذلك بين [أن تكون] مكرهة أو مطاوعة. [نعم، إن كانت مكرهة لا تعزير عليها، ويجب عليه إن كان عالماً بالتحريم، ويجب عليها إن كانت مطاوعة] وعَلِما.

ومن الأصحاب من خرج قولاً في حالة الطواعية: أن المهر يسقط، وهو الذي صححه صاحب "المنهاج"، وهو مخالف لنص الشافعي – رضي الله عنه-: في "الأم"، كما حكاه ابن الصباغ. والطواعية مع الشبهة لا تقدح في وجوب المهر؛ كما في النكاح الفاسد، وهذا ما صححه المعظم. وبنى الماوردي الخلاف على أن المرتهن إذا وطئ المرهونة بإذن الراهن، هل يجب عليه مهر؟ وفيه قولان، وقال القاضي الحسين: إن قلنا هناك: يجب، فهاهنا [أولى، وإن قلنا هناك: لا يجب]، فهاهنا قولان؛ بناءً على تبرعات المكاتب. وقال القاضي: إن قول المنع لا يعرف للشافعي – رضي الله عنه – في شيء من كتبه، والقائل به خرجه من قول الشافعي – رضي الله عنه – في "المختصر": إن أكرهها فلا مهر لها؛ فدل على [أنه إذا وطئها مطاوعة] لا مهر لها. وفرق بينها وبين المنكوحة نكاحاً فاسداً بأنها لم تمكن إلا على أن لها مهراً، وهذه مكنت غير طامعة في مهر: ثم على الصحيح: لا يجب لها إذا تكرر الوطء [منه] سوى مهر واحد، نص عليه في "الأم". نعم، لو دفعه إليها، ثم طرأ [بعده] وطء آخر وجب، وستقف على ما ذكرته في شيء يتعلق بذلك في كتاب الصداق. ثم إذا وجب المهر، فإن كان من جنس النجوم جرت أقوال التقاص. قال: وإن أحبلها صارت أم ولد له؛ لأنها مملوكة علقت بولد حر من مالكها، والاستيلاد فيها لا يبطل حق أحد؛ فكانت أم ولد له كما لو لم تكن مكاتبة. واحترزنا بما ذكرناه عن وطء الجارية المرهونة والجانية بدون إذن المرتهن والمجني عليه؛ حيث لا تكون أم ولد على قولٍ. ولا يجب عليه في هذه الحالة قيمة الولد إلا على قولنا: إن ولدها موقوف عتقه على عتقها، وإنه إذا قتل لا تكون قيمته للسيد.

قال: فإن أدت المال عتقت، وصحبها كسبها؛ لأنها عتقت بحكم الكتابة. وإن مات السيد قبل أن تؤدي عتقت بالاستيلاد، وعاد الكسب إلى السيد"؛ لأنها عتقت [بحكم الاستيلاد]. وجزم البندنيجي وابن الصباغ والروياني بأن السيد إذا مات عتقت، وكانت الأكساب لها، وتبعها الولد؛ كما لو أعتقها في حياته، وكذا جزم به في "التهذيب" بعد أن حكى وجهين عن الأصحاب في أنها في هذه الحالة عتقت عن الاستيلاد أو عن الكتابة؟ وصحح الثاني. وقال القاضي الحسين: إنا إذا قلنا بعتقها عن الاستيلاد عاد الكب للورثة –كما حكاه الشيخ – وبنى على الوجهين في أنها عتقت عن الكتابة أو عن الاستيلاد. أما إذا علق عتق عبده بدخول الدار، ثم كاتبه، ثم دخل الدار – عتق. ثم إذا قلنا بمذهب القفال، وهو أن المكاتبة إنما عتقت عند موت السيد بالكتابة، فهاهنا يعتق العبد عن الكتابة. وإن قلنا: إن المكاتبة عتقت بالاستيلاد، إما لكونه حصل العتق بسببه، أو لكونه متقدماً – كما راعاه بعضهم – فهاهنا لا يقع العتق عن الكتابة؛ لأن من أوقعه ثم عن الاستيلاد نظر إلى كونه السبب، فهاهنا السبب التعليق، ومن [أوقعه ثم عن الاستيلاد]؛ لكونه متقدماً فالتعليق هنا متقدم [عليها]، وجزم بأنه إذا كاتبه ثم علق عتقه بدخوله الدار، فدخل – أنه يقع العتق عن الكتابة؛ كما لو نجز عتقه أو أبرأه. فرع: لو أتت هذه المكاتبة بولد بعد الاستيلاد من نكاح أو زنَى فهو ولد أم ولد وولد مكابتة، فيتبعها [في] الاستيلاد قولاً واحداً، وهل يتبعها في العتق بالكتابة؟ فيه قولان، إن قلنا: لا يتبعها، فلا يعتق إذا أدت مال الكتابة، ويعتق بموت السيد. آخر: إذا وطئ السيد أمة المكاتبة وجب عليه المهر جزماً، وصارت الجارية

أم ولد له، ووجب عليه قيمة الجارية للمكاتبة قال في "البحر": ولا يجب عليه قيمة الولد؛ لأنه قد ملك الأم بالتقويم، فإذا أتت بولد بعدما صارت أم ولد لم تلزمه قيمته. قال: وإن حبس السيد المكاتب مدة، لزمه أجرة المثل في أصح القولين؛ لأن المنافع تضمن بالأجرة لا بالمثل، وتخليته مثل تلك المدة في القول الآخر"؛ لأنه دخل معه في العقد على أن يمكنه من التصرف في مدة فلزمه الوفاء بها. والقولان جاريان فيما لو باعه السيد، وقلنا: لا يصح بيعه، واستولى عليه المشتري، [أو غصبه] واستخدمه حتى مضت مدة، كما حكاه البندنيجي والطبري عند الكلام في منع بيع المكاتب. وكذا هما جاريان فيما إذا حبسه سلطان، أو ظالم، أو مرض، أو سبي. وحكى الإمام عن العراقيين: أنا إذا قلنا عند حبس السيد له: يمهل، فلو حبسه غاصب، فهل يمهل على هذا القول؟ فيه وجهان. وقد حكى البندنيجي في موضع آخر فيما إذا سبى المكاتب طريقين: أحدهما: جريان الخلاف. والثاني: القطع بالقول الثاني؛ إذ لا تقصير. وحكى القاضي الحسين أن السيد إذا قهر المكاتب مدة، ثم ظفر المكاتب بالحاكم ورفع إليه القضية –كان للحاكم أن يوجب على السيد أجرة المثل:

فإن كان فيها وفاء بعتقه عتق، وإن لم يكن فيها وفاء فما حكمه؟ فيه قولان: أحدهما: للسيد أن يعجزه. والثاني: يضرب له مدة بقدر ما كان في يده. ثم قال: وهذا قول غريب. ثم شبه الخلاف بالخلاف المذكور فيما إذا اشترى شيئاً بشرط الخيار الثلاث، ثم مات قبل انقضائها، ولم يطلع الوارث على ذلك حتى انقضت: هل يضرب له قدر تلك المدة أم لا؟ [ثم] إذا قلنا: يضرب للعبد مدة، فالأجرة في هذه الحالة إذا كان الحبس من أجنبي تكون للسيد. قال: وإن جنى عليه [أي]: بأن قطع طرفه مثلاً لزمه أرش الجناية؛ لأنه معه كالأجنبي، لكن هل يلزمه الأرش في الحال أو بعد الاندمال؟ فيه قولان في "الشامل" يأتي مثلهما في الكتاب – إن شاء الله تعالى – فإن قلنا: يجب في الحال، فإن كان من جنس النجوم ومال الكتابة حالٌّ جرت أقوال التقاصّ، ثم إن اندملت الجراحة [فلا كلام، وإن سرت إلى النفس فقد صار الجرح قتلاً، فإن كان الموت قبل أداء النجوم] انفسخت الكتابة؛ لان السيد لو قتله لانفسخت [الكتابة]؛ فكذلك هنا، وإن كان بعد أداء النجوم وعتقه لزم السيد كمال الدية: فإن كان [له] وارث سلمت له، وإلاَّ فهي لبيت المال، ولا يرثه السيد؛ لأنه قاتل، بخلاف ما إذا كان الموت قبل العتق؛ فإن عود المال إلى السيد ليس بطريق الإرث وإن كان لا يجب [الأداء في] الحال، فإن اندملت الجراحة وجب الأرش، وإن سرت بعد العتق وجبت الدية، وإن سرت بعد العتق وجبت الدية، وإن سرت قبل العتق انفسخت الكتابة. فإن قيل: الرقبة ملك السيد، فإذا جنى عليها فقد جنى على ملكه؛ فوجب ألاَّ يجب [عليه] الأرش. قيل: وجب؛ لأن ذلك عوض ما تعطل من منافعه بقطع يده، ولأن السيد يأخذ

مال الكتابة بدلاً من نفس المكاتب؛ فلا يجوز أن يجمع له [بين البدل والمبدل. فرع: إذا جنى أجنبي على المكاتب جناية خطأ كان] الأرش له دون السيد، وإن كانت توجب القاص كان للمكاتب أن يقتص على الصحيح من المذهب. وحكى عن الربيع: أنَّه خرج قولاً: أن للسيد منعه [؛ لأنه ربما عجز فعاد إلى السيد ناقصاً. قال أبو إسحاق: وهذا لا يعرف للشافعي – رضي الله عنه – وإنما خرّجه من عنده، وليس بصحيح؛ لأن القصاص حق المكاتب؛ فلا يجوز للسيد منعه]، وإن جاز أن يتعلق به حق كما لو جنى على عبد المفلس؛ فإن له أن يقتص من غير إذن الغرماء. قال: وإن جنى المكاتب عليه جناية خطأ فدى نفسه؛ لأنه يتعلق بمصلحته، فكان له ذلك كما يبذله في طعامه وشرابه. قال: بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية في أحد القولين؛ لأن الأرش إن كان أقلّ فقد أخذ تمام حقه، وإن كانت القيمة أقل فهو في هذا المقام كالقِن، والقن إذا جنى كانت جنايته معلقة برقبته؛ فإذا منع [من] بيعها بسبب عقد الكتابة لم يلزمه أكثر من قيمتها، وبأرش الجناية بالغاص ما بلغ في [القول] الآخر؛ لأن حق السيد يتعلق بذمته؛ لامتناع تعلقه بالرقبة لكونها ملكه، وإذا كان في الذمة وجب وفاء جميعه مما في يده كدين المعاملة، وليس للسيد في هذه الحالة أن يمتنع من قبول الفداء إذا كان الأرش زائداً على قيمته، كما حكاه الشيخ أبو حامد، وهو ظاهر كلام الشيخ، وتوجيهه ما ذكرناه. وقال القاضي أبو الطيب: إن ذلك ينبني على القولين فيما إذا وهب لسيده شيئاً هل تصح الهبة أم لا؟ فإن قلنا: لا تصح، لم يكن له أن يفدي نفسه بما زاد على القيمة، وللسيد الامتناع من قبض الزائد، واختار ابن الصباغ الأول؛ لعدم إمكان فداء نفسه إلا ببذل ذلك. قال في "الإبانة": ولو لم يَفِد نفسه حتى عتق كان للسيد أن يبيعه بأرش

الجناية بالغاً ما بلغ، ولا يقتصر على قدر قيمته؛ لأنه وجب له في ذمته دون رقبته فأشبه مال المداينة. قال: وإن لم يفْدِ نفسه كان للمولى أن يعجزه، أي: ويفسخ الكتابة دفعاً للضرر عنه، وهكذا الحكم فيما لو كانت الجناية عمداً، وعفا السيد على مالٍ، أمَّا إذا لم يعف وأراد القصاص فله ذلك، وكذا للورثة إن كانت الجناية على النفس خطأ أو عمداً، فإذا استوفاه بطلت الكتابة. وجزم في "الإبانة" بأن السيد ليس له أن يعجزه لأجل الجناية؛ فإنه لو عجزه لسقط أرشها؛ إذ يصير عبداً قنًّا، والسيد لا يثبت له على عبده شيء، وهذا ما جعله القاضي الحسين المذهب، وحكى عن العراقيين: أن للسيد أن يعجزه حتى يصير قِنًّا، وتنفسخ الكتابة، وأنَ نَصَّ الشافعي – رضي الله عنه – يدلُّ عليه، وحكم الوارث في ذلك حكم الموروث إذا قلنا: إن الديّة تثبت لهم ابتداءً، وإن قلنا: ثبتت تلقياً، فقد حكى القاضي على قول المراوزة فيه وجهين. فرع: إذا كان مع المكاتب ما يوفي به الأرش، ونجوم الكتابة أدَّى [ذلك] وعتق، وإن لم يكن معه ما يفي بأحدهما فلا يخفى حكمه: أن للمولى تعجزيه، لكن التعجيز يكون بالنجوم دون الأرش، صرح به في "الإبانة" وقال: إنَّه إذا عجز ثم عتق هل يتبعه بالأرش؟ فيه وجهان، ويظهر أن وجه التتبع لا يجيء فيما إذا عجزه لأجل امتناعه عن غرامة الأرش مع قدرته عليه؛ لأن العجز ثَمَّ كان لأجله، وإن كان معه ما يفي بأحدهما فللسيد أن يقول: لا أقبضه إلا عن الأرش دون النجم، ثم أعجزه، فإن أخذه عن آخر النجوم عتق وبقي الأرش في ذمته، وليس للسيد تعجيزه به، ولو أخذ السيد المال مطلقاً، واختلفا في أن المقبوض عن مَّاذا – فالقول قول المكاتب في تعيينه كما في سائر المواضع، ذكره القفال. وقيل: يحتمل أن يكون القول قول السيد؛ قاله بعض الخراسانيين.

قال: وإن جنى على أجنبي – فدى نفسه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية؛ لأنه منع نفسه من البيع بالكتابة، فلزمه أقل الأمرين؛ كما أن السيد لما أن منع [من بيع] أم الولد بالاستيلاد ضمن جنايتها بأقل الأمرين، وظاهر كلام الشيخ أن القول الآخر في المسألة السابقة لا يأتي كما صرح به البندنيجي، [وكذا] صاحب "البحر" حيث قالا: فدى نفسه بأقل الأمرين قولاً واحداً: [وكان الفرق ما ذكرناه من علة القول الثاني في المسألة السابقة، بخلاف الأجنبي]؛ فإن الموجود في حقه إنما هو منع البيع، ومنع البيع لا يمنع من تعلق الحق بالرقبة، وتكون فائدته تغريم البائع قيمتها إذا كانت قدر أرشه أو دونه كما في أم الولد، لكن الروياني وغيره عللوا جريان قول الفداء عند جنايته على الأجنبي بأن المكاتب في التقدير يبتاع نفسه فلا يجوز بأكثر مما تساوي، ويفارق هذا إذا كانت الجناية على السيد؛ حيث أجزنا له أن يفدي نفسه بأرش [الجناية] إذا كان زائداً على القيمة على قول؛ لأن الزيادة تكون هبة من السيد، وهو يملك ذلك بموافقته، وهاهنا تكون هبة من الأجنبي، ولا يملك ذلك إلا بإذن السيد، فإن أذن [له] جاز. وكلام البندنيجي في الفرق بمعناه، وهذا يقتضي التسوية بين المسألتين؛ لأن قبول السيد الهبة قد ذكرنا أنه بمنزلة إذنه في الهبة من غيره، وهو ما حكاه ابن الصباغ حيث قال: إن القولين السابقين في المسألة قبلها يجريان في هذه المسألة، وإن الأرش إن كان زائداً على القيمة؛ فإن دفعه السيد من ماله فذاك، وإن أذن في دفعه من مال المكاتب خرج على القولين في تبرعاته. وسكت عما عداه. ويظهر أن يقال بعد ذلك: إن جوزناه فلا إشكال، وإن لم نجوزه فيكون كما لو امتنع المكاتب من الفداء.

قال: فإن لم يفد نفسه، بيع في الجناية أي: إن كانت قيمته بقدر أرشها [أو أنقص]، وانفسخت الكتابة؛ لأن الكتابة تمنع البيع لحق المالك، وتقبل الفسخ؛ فجاز لفسخ بالبيع لأجل [حق] المجني عليه عند تعينه طريقاً لوفاء حقه؛ كعقد الرهن. ثم كلام الشيخ يفهم أنَّه لا حاجة إلى التعجيز، بل يتبين بالبيع انفساخ الكتابة قبله كما نقول في بيع الرهن في أرش الجناية: لا يحتاج إلى فك الرهن. وقال القاضي الحسين: للسيد أن يعجزه ويباع في الجناية، أو يفديه. وهذا لا ينافي ما ذكرناه، ثم إذا بعنا بعضه وعتق ما بقي منه بالأداء فهل يسري على السيد إذا كان موسراً؟ فيه وجهان. وقال في "البحر" قبيل باب كتابة بعض عبد [:إنه] لا يسري قولاً واحداً. فرع: لو أعتق السيد المكاتب قبل أداء الأرش والنجوم، وله مال يفي بذلك هل يستحق [عليه] الأرش؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كما لو لم يكن للمكاتب مال؛ فإن الأرش يسقط. والثاني: له أن ستوفيه من المال الذي في يده؛ كما له ذلك قبل العتق، قاله البندنيجي. فرع: إذا جنى المكاتب جنايات، ثم أدّى مال الكتابة وعتق، فبكم يفدي نفسه؟ فيه قولان: أحدهما: يفديها بالنسبة إلى كل مجني عليه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية؛ لأن كل جناية اقتضت ذلك، وقد منع منها بأدائه وعتقه؛ فضمن ذلك كما لو انفردت. والثاني- وهو الأصح في "الشامل"، واختاره المزني -: أنه يفديها بالنسبة إلى الجميع بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جميع الجنايات؛ لأن الجنايات متعلقة بالرقبة، فإذا أتلفها لم يضمن إلا الرقبة؛ كما لو كانت الجناية واحدة، فعلى هذا نَقْص القيمة على قدر الجنايات.

ولو لم يعتق والحالة هذه فبكم [يفدي نفسه؟] قال الشيخ أبو حامد حكاية عن النص: إنه يفديها بما ذكره صاحب القول الأول في المسألة قبلها. وحكى القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق أنَّه قال: لا يعرف للشافعي – رضي الله عنه – إلا أنه قال: "يفدي نسه بأقل الأمرين"، ثم قال أبو إسحاق: والأشبه عندي أن يكون في ذلك القولان كما [ذكرناه] في المسألة السابقة؛ لأنه منع نفسه من البيع بعدم العجز، كما منع من العتق. ومن أصحابنا من قال: يتعين هنا ما حكاه أبو حامد. والفرق: أن الرقبة باقية، وفي الصورة السابقة قد تلفت بالعتق؛ فوجبت قيمتها. قال ابن الصباغ: وهذا الفرق يبطل بما إذا عجَّزه، وفسخ الكتابة، واختار السيد الفداء؛ فإنه مانع من البيع مع قيام الرقبة، ومع هذا لا يضمن لكل منهم إلا أقل الأمرين. فرع: لو أعتق السيد المكاتب إمَّا بالإبراء عن نجوم الكتابة، أو بصريح العتق، وقد جنى جنايات – قال الفوراني: فهو كما لو اختار الفداء، لكن فيما يلزمه في هذه الحالة طريقان: أحدهما: لا يلزمه إلا الأقل من قيمته مرة واحدة وأرش جميع الجنايات؛ إذ لا سبيل إلى تسليمه للبيع، فهو كمما لو قتل العبد الجاني. والثاني: أن فيه قولين كما في اختياره الفداء، [وهذا ما حكاه البندنيجي]. وهكذا لو كانت الجناية من أبي المكاتب، ثم أبرأ السيد المكاتب أو أعتقه؛ فإن أباه يعتق بعتقه، وفيما يلزم السيد الخلاف، ولا نزاع في أن الكاتب إذا عتق بأداء النجوم لا يلزم السيد الفداء؛ لأنه مقهور [على القبض] شرعاً. فرع: إذا أقرّ المكاتب بجناية الخطأ قبلت على الأصح في "الإبانة"، وفيه وجه: أنَّه لا تقبل. فعلى الأول: إذا رقَّ، وكان قد قال: إن أرش الجناية ألْف، فقال السيد: بل خمسمائة – فقولان فيمن القول قوله.

قال: وإن كاتب على عوض محرم أو شرط فاسد، فسدت الكتابة، وبقيت الصفة. صُورَةُ المسألة الأولى: أن يقول: كاتبتك على خمرٍ، أو خنزير، أو ميتةٍ، أو على هذا الحر، فإذا أديت فأنت حرٌّ. وصورة الثانية أن يقولك كاتبتك على عشرين ديناراً – مثلاً – تؤدي في رأس هذا الشهر نصفها، وفي رأس الشهر الذي يليه النصف الآخر، بشرط أن يثبت لي الخيار في الفسخ، أو: بشرط أنَّك إذا أدّيت النجوم يتأخر عتقك. وإنما فسدت الكتابة، وهي قوله: كاتبتك على كذا، وبقيت الصفة وهي قوله: فإذا أدّيت فأنت حرٌّ؛ لأنَّ هذا عقد اشتمل على معنى المعاوضة ومعنى تعليق العتق بالصفة، والمعاوضة ينافيها ما ذكرناه؛ فبطلت، والصفة لا ينافيها فبقيت. والمكاتب يملك بهذا العقد أكسابه، قال البندنيجي: وليس على أصلنا: يملك بعقد فاسد كما يملك بالصحيح إلا هذا. قال: وللسيد فسخها؛ لأنه لم يرض بالصفة إلا ليسلم له العوض، [ولم يسلم له]؛ فكان له الفسخ دفعاً للضرر. ويجوز فسخ هذه الصفة بالفعل كالبيع وغيره، وبالقول مثل أن يقول: أبطلت كتابة عبدي، أو: فسختها، ونحو ذلك؛ لأنها تثبُت في ضمن عقد، فغلب حكمه عليها، بخلاف الصفة المجردة؛ حيث لم يجز الرجوع فيها بالقول، ولا يفتقر هذا الفسخ إلى الحاكم، والأولى أن يشهد عليه. فرع: إذا وقع عقد الكتابة في الشرك على خمرٍ أو خنزيرٍ، فقبض بعضه، ثم أسلما – وقع العتق بقبض الباقي، ورجع السيد عليه بجميع قيمته، بخلاف نظير المسألة في الصداق، والفرق بينهما مذكور ثَمَّ.

ولو كان العقد قد جرى على خمرٍ وعلى نقدٍ، فقبض الخمر جميعه في الشرك – فوجهان: أحدهما: [أنَّه] إذا قبض النقد حصل العتق، ولا تَرَادَّ، ويجعل المقبوض في الشرك كأنّه لم يذكر. والثاني: يحكم بالفساد؛ فإذا أدى النقد عتق وترادَّا، حكاه الماوردي. فرع: لو قال للمكاتب كتابة صحيحة: إن أعطيتني ديناراً فأنت حرٌّ، فأعطاه ديناراً – عتق بدفعه، ويغلب حكم الكتابة فيه، ويصير العتق فيها على عوضٍ فاسدٍ؛ فيلزم المكاتب قيمته، ويرجع بما أداه من قبل مع الدينار الذي عتق به. قال: فإن دفع المال قبل الفسخ إلى الوكيل أو الوارث لم يعتق؛ لأن العتق في هذه الكتابة إنما يحصل بالصفة، ولم توجد، بخلاف الكتابة الصحيحة؛ فإن المغلب فيها حكم المعاوضة. ولأن في مسألة الوارث الصفة المجردة تبطل بالموت مع قوتها، فهذه مع ضعفها من طريق الأولى. قال: وإن دفعه إلى المالك أي: في محله، عتق؛ لوجود الصفة، ويتبعه ما فضل من كسبه؛ لأن للفاسد حكم الصحيح، وصحيح هذا [العقد] يتبع الأكساب؛ فكذلك فاسده، وإن كانت جارية تبعها ولدها؛ إذا قلنا: إنه في الصحيحة يتبعها، وهذا ما جزم به العراقيون. وقيل: إن هذه الكتابة لا تستتبع فاضل الأولاد والأكساب، أمَّا إذا دفع النجوم قبل محلها، فهل يعتق؟ فيه وجهان: أصحهما: المنع؛ لأنَّ الصفة لم توجد. قال: ويرجع إلى المولي عليه بالقيمة؛ لأنه أزال ملكه عنه بعوض، ولم يسلم له، وقد تعذر الرجوع إلى ملكه؛ فرجع إلى بدله وهو القيمة، كما في البيع الفاسد، وتعتبر القيمة وقت وجود الصفة؛ لأنها حالة الإتلاف. قال: ويرجع هو على المولى بما دفع؛ لأنه دفعه عما عليه؛ فثبت له الرجوع،

وبه قال القاضي الحسين وغيره. وهذا [العقد] يوافق الكتابة الصحيحة في أربعة أشياء، ويخالفها في عشرة أِياء، ويوافق تعليق العتق بالصفة في ثلاثة أشياء، ويخالفه في أربعة أشياء: أمَّا موافقته للكتابة الصحيحة: ففي العتق بالأداء. وفي استتباع الكسب والولد على المذهب في "تعليق" القاضي الحسين، وبه جزم الإمام وقال: لم أر أحداً من الأصحاب [تشبث بمنع] ذلك، وكلام القاضي الحسين – كما ذكرت لك – متشبث به. وفيما لو وطئت بشبهة وجنى عليها، فلها المهر والأرش؛ لأنَّ ذلك من الكسب. وفي وجوب نفقته على نفسه كما صرح به الإمام وغيره. وفي عدم انفساخها بجنون المكاتب عند العراقيين، وكذا عند المراوزة على الأصح. وحكى القاضي الحسين وجهاً: أنها تنفسخ بجنونه؛ لجوازها كالوكالة والمضاربة. وأما مخالفته الصحيحة: ففي أن السيد لو مات انفسخت. وكذا لو جن أو حجر عليه انفسخت [على الأصح]، وبه جزم العراقيون؛ لكونها جائزة؛ كالوكالة. [ومقابله]: - حكاه القاضي الحسين -: أنها لا تنفسخ. وفي أن للسيد فسخها متى شاء. وفي عدم عتقه بإبرائه عن النجوم وقبض الوكيل. وفي التراجع. وفي عدم وجوب الإيتاء فيها على الصحيح، وفيه وجه حكاه المراوزة.

وفي كونه لا يعتق بما أداه من سهم المكاتبين على قولٍ رواه الربيع في "الأم"، ورواية المزني تخالفه، وهي التي اختارها الماوردي. وفي كون الوطء لا يحرم على السيد إذا كانت أمة على رأيٍ. وفي منع معاملة السيد له على أحد الوجهين. وفي عدم وجوب الاستبراء عند فسخها على أحد الوجهين. وأمَّا موافقته تعليق العتق بالصفة: ففي [حصول] العتق عند وجوها. وفي بطلانها بموت السيد. وفي كون الإبراء لا يؤثر في تحصيل العتق. وأمَّا مخالفته لها: ففي استتباع الأكساب والأولاد. وفي التراجع. وفي القدرة على فسخها بالقول، وبطلانها [بموت] السيد [وطرآن] سفهه. قال: فإن كانا من جنس واحد" – أي: وعلى صفة واحدة – سقط أحدهما بالآخر في أحد الأقوال؛ لأن الحقين إذا تساويا فلا فائدة في قبض كل واحد منهما ماله؛ فسقط، ألا ترى أنّه إذا كان لرجل على وارثه دين، ومات فإنه يقاص به من حقه، ولا يكلف قبضاً وإقباضاً؟! فكذلك هاهنا، فعلى هذا إن بي لأحدهما على صاحبه فضل رجع به. ولا يسقط في الثاني، أي: سواء تراضيا بذلك أم لا؛ لأنه في معنى بيع الدين بالدين، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. ولا يسقط في الثالث إلا برضا أحدهما؛ لأن من عليه الدين له أن يقبضه من حيث شاء، فإذا رضي أحدهما فقد وجد القضاء منه.

ولا يسقط في الرابع إلاَّ برضاهما؛ لأنه إبدال ذمة بذمة؛ فلم يصح إلاَّ برضاهما كالحوالة. ومحل الخلاف كما قال في "الشامل" و"البحر" - إذا كان ما في الذمتين من الدراهم والدنانير، فلو كان من غيرهما لم يجر الخلاف. قال البندنيجي: وأصحابنا لا يختلفون في ذلك، ولا فرق في ذلك بين أن يكون مما له مثل أو مِمَّا لا مثل له، وهم في ذلك يخالفون منصوص الشافعي - رضي الله عنه - في ذلك لا عن قصد، ولكن لقلة نظرهم في كتابه؛ فقد نصَّ في باب الجناية على المكاتب ورقيقه من "الأم": أن القصاص يقع في الطعام، فقال: لو حرق السيد للمكاتب مائة صاع من حنطة مثل حنطته، والحنطة التي على المكاتب حالة - كان قصاصاً، وإن كره المكاتب، [فإن كانت خيراً] لم يكن قصاصاً؛ إلاَّ أن يرضى من له الجود أن يكون قصاصاً، فقد نصَّ على الأقوال في كل ما له مثل إذا ثبت في الذمة. وحكى في "رفع التمويه على التنبيه" وجهاً آخر: أن الأقوال تأتي في كل ما يثبت في الذمة من مثليِّ ومتقوم. والأقوال تجري في سائر الديون المتساوية في الصفة والحلول والتأجيل. فرع: نصَّ في "الأم" على أنه إذا كان ما على المكاتب حالا من آخر نجومه؛ فوجب [له] على السيد مثله بسبب جناية، ثم عاد السيد فجنى على المكاتب جناية أخرى - كانت الجناية جناية على حرٍّ، فإن كان في مثلها القصاص اقتصّ [من السيد]، فإن قال: لم أعلم أنه عتق لما صار له على مثل الذي بقي لي عليه؛ لم يقبل منه؛ كما لو قتل رجلاً كان عبداً فعتق، ثم قال: لم أعلم بعتقه. قال الربيع: وفيه قول آخر: أنّه يؤخذ منه دية حرٍّ، ولا قود للشبهة. قال: وإن أوصى بالمكاتب أي: كتابة فاسدة، وهو لا يعلم بفساد الكتابة - ففيه قولان: أحدهما: يصح؛ لأن الظن لا يغير موجب الحقيقة، والكتابة الفاسدة لا تمنع

التصرف. والثاني: لا يصح؛ لأنه إذا لم يعتق أنَّه ملكه كان متلاعباً بالوصية، والخلاف جارٍ فيما لو باعه وهو لا يعلم بفساد الكتابة – أيضاً – كما صرح به الإمام، وحكى أن منهم من صحح الوصية ومنع البيع، أمَّا إذا كان عالماً بالفساد صح ذلك وجهاً واحداً. وقيل: على القولين، وهو ظاهر نصه في "المختصر". ووجه المنع: أنّ الكتابة الفاسدة كالصحيحة في فروع العتق بالأداء؛ فكانت كهي في امتناع التصرف، والصحيح – وهو الذي نصّ عليه في "الأم" -: الأول. قال: وإن أسلم عبدٌ لكافر أمرناه بإزالة الملك فيه؛ دفعاً للذل عن المسلم، وإن كاتبه ففيه قولان: أحدهما: يجوز؛ لأنه بالكتابة يصير كالخارج عن ملكه، فاكتفى بذلك في دفع الذل، كما لو كان مكاتباً ثم أسلم فإنه لا يؤمر بإزالة ملكه جزماً. والثاني: لا يجوز؛ لأن الكتابة لا تزيل الملك فلم تكف كالتزويج. وقد طرد بعض الأصحاب هذا [القول] فيما إذا كاتبه وهو كافر ثم أسلم، كما حكاه الإمام، وعلى هذا: هل نحكم بفساد الكتابة؟ قال في "الذخائر": "قد اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: تفسد الكتابة ويباع العبد. ومنهم من قال: تصح ثم تفسد من بعد، وهذا إذا قلنا بمنع بيع المكاتب، وإن قلنا بصحة بيعه صححنا الكتابة، وبعناه مكاتباً، وقد ذكرنا في باب التدبير شيئاً يتعلق بذلك. فرع: إذا دفع العبد النجوم إلى سيده، فقال له حين الدفع: اذهب فأنت حرٌّ، ثم ظهرت النجوم مستحقة أخذها مالكها، ولم يحصل العتق إن قصد السيد بذلك

الإخبار عن حاله بعد أداء النجوم، وإن قصد إنشاء العتق برئ المكاتب وعتق، فلو ادّعى السيد أنّه أراد الأول، وادّعى المكاتب أنّه أراد الثاني – فالقول قول السيد مع يمينه، جزم به العراقيون والبغوي. وأبدى الغَزالي وجهاً خرّجه من وجهٍ محكيٍّ فيما إذا خوصم المشتري في المبيع، فقال: هو ملكي وملك من اشتريت منه، ثم ثبت بالبينة أنه مستحق فإنه لا يرجع على بائعه بالثمن، وقد أقامه الرافعي وجهاً في المذهب، ولو كان هذا القول قبل أداء النجوم نفذ العتق، ولم يقبل قول السيد؛ إذ لا ظاهر يصدقه. إذا جاء المكاتب بنجم إلى السيد، فقال له: هذا حرام، نظر: فإن كان مع السيد بينة لم يجبر على أخذه، وإن لم يكن ثمَّ بينة فله تحليف المكاتب، فإن لم يحلف ردّت اليمين على السيَّد، فإذا حلف لم يكلف أخذه، وإذا حلف المكاتب قيل للسيد: إمَّا أن تقبض أو تبرئ، فإن ابرأه عتق، وإن لم يفعل قبضه الحاكم وبرئ المكاتب وعتق، ولو قبض السيد النجوم، وحكمنا بعتق المكاتب بناءً على ذلك، ثم ظهرت مستحقة أو معيبة؛ فردها السيد – ارتدّ العتق؛ لأنَّا تبَينَّا أن المعقود عليه لم يقبض، لكن في مسألة العيب هل نقول: عتق ثم ارتفع العتق بالرد حتى لو رضي كان العتق واقعاً من حين القبض، أو نقول: بالرد نتبين أنه لم يعتق أصلاً حتى إذا أجاز يكون العتق حاصلاً بالقبول؟ فيه وجهان ينبنيان على أن الدَّين الناقص متى يملك هل بالقبض مع الرضا أم بمجرد القبض؟ وفيه وجهان، والأول منهما اختيار أبي إسحاق، والثاني اختيار الماسرجسي وبعض الأصحاب، وعلى قول أبي إسحاق إذا كان المقبوض تالفاً عاد الرِّق من يوم تلف المعيب، ويتنجز بأداء الأرش. وفي كيفية اعتبار الأرش وجهان: أحدهما: يُقَوّم العوض سليماً ثم معيباً، ويجب ما بينهما. والثاني: يُقَوّم سليماً، فإذا قيل: مائة، قوم معيباً، فإذا قيل: تسعون، علم أن الفائت العشر فيرجع بعشر قيمة العبد.

ولو عجَّل المكاتب النجوم قبل محلها نظر: فإن لم يكن على السيد ضرر لكونها لا يخشى هلاكها ولا نهبها، ولا أجرة تلحقه بسببها إلى أوان محلها- أجبر على ذلك، وإلا فلا يجبر، وهكذا الحكم فيما لو أتى المكاتب بالنجوم قبل المحل للحاكم والسيد غائب: فإن كان لا ضرر على السيد قبلها، وإلا فلا. ولو كان على رجل دين، وصاحبه غائب، فأتى به [الحاكم، ولا ضرر على مالكه] في قبضه – فهل يجوز له قبضه؟ فيه وجهان في "البحر"، ووجه المنع: أنه ليس للمؤدي غرض إلا سقوط الدين عنه، والنظر للغائب [بترك] الدين في ذمة المليء وفي الكتابة له غرض تحصيل العتق. ولو لقي المكاتب سيده في غير البلد المشروط فيها الأداء، وأحضر إليه النجوم: فهل يجبر على قبولها؟ نظر: إن كان عليه ضرر ومؤنة في النقل لم يجبر، وإن لم يكن ضرر أُجبر، وبعض الأصحاب قال: إن كان بين البلدين دون مسافة القصر، ولا ضرر عليه في القبض ولا مؤنة كالدراهم والدنانير – أُجبر، وإن كان البلد بعيداً ففيه وجهان، قال في "الأم": "ولا يكلف المكاتب أن يؤدي النجوم في غير البلد الذي كاتبه فيه". إذا اختلف السيد والمكاتب في مقدار النجوم، أو مقدار الكتابة، أو مقدار الأجل، أو جنس النجوم – تحالفاً كالمتبايعين، فإذا تحالفا: فإن كان قبل العتق عاد العبد رقيقاً كما كان؛ إن قلنا: ينفسخ العقد بنفس التحالف، وإلاَّ فلا يعود الرق إلا بالفسخ، وإن كان بعد الأداء وحصول العتق لم يرتد العتق، ولكنهما يتراجعان بالقيمة؛ لأنَّ العقد ينفسخ ويسقط المسمَّى؛ فيكون بمنزلة الأداء في الكتابة الفاسدة، والله أعلم.

باب عتق أم الولد

باب عتق أم الولد إذا وطئ [أي:] [الحر]، جاريته أو جارية يملك بعضها، أي: وهو موسر بقيمة باقيها، [فأولدها] فالولد حُرٌّ. لا شك في جواز وطء السادة الأحرار إماءهم، دلت على ذلك آي الكتاب، والسنة، والإجماع: أمَّا الكتاب فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5، 6]، وقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [البقرة: 229]، وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]. وأمَّا السنة فما روي أنه صلى الله عليه وسلم استولد جاريته مارية القبطية، وَوُلِدَ [له] منها إبراهيم. ولم يختلف أحد من الأئمة في جواز ذلك. [نعم، إذا قلنا: إن العبد يملك، وكان في ملكه أمة - فهل يحل له وطؤها؟ وكذا مَنْ نصفه حُرٌّ ونصفه رقيق؟ فيه كلام نذكره في باب ما يحرم من النكاح]. فإذا ثبت ذلك، فأتت أمته الكاملة له بولد من وطئه، أو باستدخال مائة، فهو حرٌّ، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من أشراط الساعة أن تلد الأمةُ رَبَتَها" أي: سيِّدتها، فأقام الولد مقام أبيه والأب حرٌّ؛ فكذلك هو، ولا يثبت عليه ولاءٌ لأحد؛ لأن مانع

الرِّقِّ قارن سبب الملك فدفعه، بخلاف ما لو اشترى زوجته الحامل منه؛ فإن الولد يعتق عليهن ويثبت له عليه الولاء، وفائدته – كما قال القاضي الحسين – تظهر في شيئين: أحدهما: إذا أوصى لموالي فلان دخل فيهم. والثاني: [في] تحمل العقل عنه؛ فإن المولي يتحمل العقل والأب لا يتحمله، وهذا منه بناء على أنَّ البنوة عند وجود غيرها [مما] يقتضي التحمل لا تمنعه، كما سنذكره في بابه، إن شاء الله تعالى. ولا فرق في ذلك بين أن تكون قد علقت به من وطءٍ مباح – كما ذكرنا – أو من وطءٍ حرام: كما إذا كانت مرهونة، أو مزوجة، أو مسلمة وهو كافر، أو محرماً له، ونحو ذلك، ووطئها وهو عالم بالتحريم. وكذا لا فرق في كونه [حرًّا] عند وجود التحريم بسبب المحرميِّة، [أو كونه كافراً وهي مسلمة]، [أو كونها] مزوجة – بين أن نوجب عليه الحد كما حكاه البندنيجي قولاً، وحكاه الإمام عن القديم، [أوْ لا نوجبه] على الجديد الصحيح عند الطبري وغيره. وحكى الرافعي والإمام عند الكلام في وطء جارية الابن: أنَّا إذا أوجبنا الحد في مملوكته المحرمة عليه برضاع أو غيره لا تصير أم ولد؛ لأنه وطء زنى، وفي كلام الإمام ما يفهم إفهاماً ظاهراً أن السبب لا يثبت في هذه الحالة؛ تفريعاً على هذا، وقد صرَّح [به] في "البحر". ثم حكى الإمام أنَّ من الأصحاب من ارتاع؛ فلم يستجز للإنسان أن يطأ [مملوكته وتأتي منه بولد، ولا تكون أمَّ ولد [له]، فحكم بثبوت النسب والاستيلاد.

وأما إذا وطئ] جارية يملك بعضها فالحكم كذلك عند العراقيين؛ لأنه وطء شبهةٍ بسبب الملك، وإن كان حراماً فانعقد الولد فيه حرًّا كوطء أخته المملوكة. قال الإمام: ويجب طرد القول القديم الذي ذكرناه في وجوب الحد على السيِّد إذا وطئ محرمة عليه مع العلم في هذه الصورة أيضاً، ومع هذا فلا يقدح في الاستيلاد والحرية على الجملة، وإن قدح فيما ذكرناه من قبل. وحكى القاضي الحسين في المسألة تفصيلاً آخر فقال: إن كان الواطئ موسراً كما ذكرناه، وقلنا بنفوذ الاستيلاد قبل أداء القيمة- فقد انعقد الولد كلُّه حرًّا؛ لأنَّا نقدر انتقال الملك في حصة الشريك إلى المستولد قبل الاستيلاد؛ فتكون قد علقت به، وجميعها ملكه، ولا يجب عليه قيمة شيءٍ من ولده، وإن قلنا: لا ينفذ إلاَّ بأداء القيمة، فهل نقول: انعقد جميع الولد حرًّا، أو انعقد منه قدر حصة الشريك من أمه رقيقاً، ثم يعتق بأداء القيمة؟ فيه قولان. وكذا [فيما] لو كان المستولد معسراً هل ينعقد جميع ولده حرًّا، أو قدر حصة المستولد من أمه لا غير؟ فيه قولان، [و] حكاهما البندنيجي وجهين فيما إذا وطئ أحد الشريكين وأحبل وهو معسر، ووطئ الآخر وأحبل وهو معسر، وهما مطردان فيما إذا رأى الإمام المصلحة في استرقاق بعض حربي هل يجوز؟ وفيما إذا أتت من بعضها رقيق بولد من نكاح أو زنى، هل ينعقد جميعه حرًّا، أو ينعقد كأمِّه في الحرية والرق؟ وأصل [هذا] المأخذ؛ أن تبعض الرق والحرية في الابتداء هل يمكن؟ فمن أثبته قال: كما يجوز أن يتبعض الرق والحرية بإعتاق المعسر، كذلك يجوز فيما نحن فيه، ومن منع قال: أحكام الرق والحرية متناقضان؛ فينبغي ألاَّ يختار التبعيض فيها، ويفارق إعتاق المعسر؛ فإنه لا سبيل إلى ردِّه، ولا سبيل إلى تنفيذه في نصيب شريكه؛ فكان محل ضرورة، وقياس بناء القاضي يقتضي

أنَّه يلزم المستولد قيمة حصة الشريك من الولد عند الوضع وإن أدَّى المال قبله إذا قلنا: إن الولد انعقد [جميعه حرًّا، أَمَّا] إذا قلنا بانعقاد قدر حصة الشريك من الأم رقيقاً فلا تجب؛ [لأنها تندرج] في قيمة الأم كما في البيع، وقد صرَّح البندنيجي بأنها إذا وضعت بعد الحكم بأنها أم ولد لكونه موسراً، وقد أدَّى القيمة؛ فلا قيمة له، وإن وضعته قبل الحكم بأنها أم ولد لتأخير دفع القيمة، وقلنا: لا تصير أم ولد إلاَّ عند دفعها- لزمته القيمة، وهذا هو الحق، وما ذكرناه من قضية كلام القاضي ممنوع؛ لأن المفوت رقه لا يضمن إلا حين وضعه لمن له الأم، وهي إذ ذاك للمستولد، وإذا حكمنا بانعقاد جميع الولد حرًّا عند اعتبار الوطئ ثبت في ذمته للشريك قيمة قدر حصته من الأم من الولد. قال: والجارية أم ولد [له] أي: يثبت لها حكم الاستيلاد، وهو العتق بعد موت السيد، وامتناع التصرف فيها بما ينقل الملك. ووجهه في الأولى: ما روي الإمام في آخر النهاية بسنده عن خواتِ بن جبير أنَّ رجلاً أوصى إليه، وكان فيما ترك أم ولد له وامرأة حُرَّة، فوقع بين المرأة وبين أم الولد بعض الشيء؛ فأرسلت إليها الحرة: "لتُبَاعَنَّ رَقَبَتُكِ يا لَكَاعِ"، فرفع ذلك خوات بن جبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إِنَّهَا لاَ تُبَاعُ"، وَأَمَرَ بِهَا فَأُعْتِقَتْ. وهذا السند فيه "الدارقطني". وروى أيضاً بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَلَدَتْ مِنْهُ أَمَتُهُ فَهِيَ حُرَّةٌ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ"، وهذا السند فيه أيضاً الدارقطني.

وقد روى عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أُمُّ الْوَلَدِ لاَ تُبَاعُ، وَلاَ تُوهَبُ، وَلاَ تُوَرَّثُ، مُسْتَمْتِعٌ بِهَا مُدَّةَ حَيَاتِهِ، فَإِذَا مَاتَ عَتَقَتْ"، لكن هذا الحديث قال البيهقي فيه: إنه روى عن [ابن] عمرن وغلط من رفعه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمَّا في الثانية؛ فلأنها علقت منه بولد حرن وله فيها ملك؛ فأشبه ما لو علقت به وكلها له، وهذا الذي ذكره الشيخ هو الذي نصَّ عليه الشافعي حيث قال: "لو أحبل أحد الشريكين الجارية المشتركة وهو موسر، صارت أم ولد له"، [وهو] مفرع على أن السراية تحصل قبل أداء القيمة كما هو الصحيح في تنجيز العتق. ومنهم من رتبه هنا على الخلاف في العتق وقال: الأولى التعجيل لكونه فعلاً، وهو أقوى من القول؛ بدليل نفوذ [استيلاد المجنون] دون عتقه. ومنهم من قال: العتق أولى بالتنجيز، والفرق أنه عتق ناجز، والاستيلاد [سبب] عتق؛ فشابه التدبير، أمَّا إذا قلنا: لا يحصل إلا بدفع القيمة"، فنصيبه من الجارية يثبت فيه حكم أمهات الأولاد، ونصيب الشريك حكم الاستيلاد عليه موقوف على أداء القيمة: فإن أدَّاها حكمنا [بنفوذه في] وقت الداء على قولن وتبيَّنا نفوذه [من] حين العلوق على قول، وعلى هذا لا تجب قيمة الولد أيضاً - ولو كان معسراً لم يسر الاستيلاد إلى نصيب الشريك جزماً، فإذا أحبلها الشريك الآخر جرى على نصيبه حكم أم الولد، ولا يسري إلى نصيب المستولد أولاً، وإن كان الثاني موسراً، وهل ينعقد حمله ولد الثاني حرًّا عند إعساره، أو

يكون بعضه حرًّا وبعضه ولد أم ولد؟ فيه الخلاف السابق. ولو أيسر أحدهما، فنجَّز عتق حصته عتق نصيبه، وهل يسري إلى نصيب الآخر؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لما في السراية من تقدير نقل الملك، والملك في المستولدة لا يقبل النقل، ولأن في السراية إبطال حقِّ الأول ووارثه من الولاء. وهذا يشابه قولنا: إن أحد المكاتبين لعبدٍ واحدٍ إذا أعتق حصته إنما يسري عليه العتق بعد تعجيز المكاتب. والثاني: نعم، وهو الذي حكاه القاضي الحسين عن الأصحاب، ثم قال: وهو مشكل. وأبدي ما ذكرناه من علة القول [الأول ثم قال: وهو لا يخلو أن يقال: هو خطأ، أو جواز من يجوز بيع أم الولد، أو] بناء على أن أحد المكاتبين إذا أعتق العبد المكاتب هل يقوم عليه في الحال، أو بعد العجز؟ وفيه قولان، أو يقال: هو بناء على أن السراية تحصل بنفس اللفظ؛ فتكون كالإتلاف، ولو أتلفها ضمن قيمة [حصة الشريك]. ثم إذا نفذنا العتق فما حكم الولاء في هذا النصف؟ قال: إن قلنا: عن بيع أمهات الأولاد جائز، فالولاء فيه للمعتق، وإن قلنا: لا يجوز، فهل يكون الولاء له [أو للمستولد]؟ فيه وجهان ينبنيان على أن التقويم يفسخ الاستيلاد أَمْ لا؟ وفيه وجهان ينبنيان على أن أحد الابنين إذا أعتق نصيبه من عبدٍ [كاتبه أبوهما]، وقلنا: يعتق عليه نصيب أخيه في الحال – هل يكون فسخاً للكتابة أم لا؟ وفيه وجهان ذكرناهما من قبل، كذا حكاه في آخر باب التدبير. ولو كان الثاني موسراً حال استيلادها، ففي السراية إلى نصيب الشريك الكلام السابق فيما إذا أنجز أحدهما عتق حصته عند يساره ولو كان الذي

استولد أولاً موسراً، وقلنا: سريان الاستيلاد يتوقف على دفع القيمة – فهل ينفذ استيلاد الثاني؟ [ذلك ينبني] على أنَّه إذا أعتق أحدهما حصته وهو موسر، وقلنا: لا يسري العتق إلاَّ بدفع القيمة، فأعتق الآخر حصته قبل دفعها – هل ينفذ؟ والمذهب: لان فإن قلنا به لم ينفذ استيلاد الثاني إلا أن يموت الأول عاجزاً أو يعسر، على تفصيل حكيناه في كتاب العتق. وإن قلنا: ينفذ عتقه – كما صار إليه ابن أبي هريرة – نفذ استيلاد الثاني، وكانت مستولدة لهما. وهذا كله جمعته من كلام [القاضي] في مواضع من كتاب العتق وغيره، وكتاب "مختصر الكتابة". قال: وإن أولد جارية ابنه أي: وهو حرٌّ؛ لأنه وطء لا يجب فيه الحد لأجل الشبهة؛ فانعقد الولد فيه حرًّا؛ كوطء جارية الغير [بشبهة]، والشبهة الثابتة له شبهة ملك، قال صلى الله عليه وسلم: "أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ"؛ وأيضاً: فإن الأب يستحق

....................................................................................................

على الابن جنس ما استوفاه؛ إذ يجب على الولد إعفافه؛ فكان شبهة، كمن سرق مال بيت المال، أو مال ابنه، وقد خرج الإمام وأبو سعيد الإصطخري

قبله قولاً في وجوب الحد مما إذا وطئ الإنسان أخته المملوكة؛ لأجل أن الوطء في الصورتين حرام بالاتفاق، ووجوبه فيما إذا كانت الأمة موطوءة للابن لقوة المشابهة، وهو ما حكاه الإمام فيها نصًّا عن القديم، وقد حكى الروياني في "البحر" عن الأصحاب القطع به فيما إذا كان الابن قد استولد الجارية، وخصَّ محل الخلاف بما إذا لم تكن مستولدة، وكانت موطوءة الابن، وعلى هذا فمفهوم التخريج أن ذلك لا يقدح في الحكم بحرية الولد كما ذكرنا في المسألة المخرج منها. وقد حكى الإمام تفريعاً على القول بوجوب الحد: أن الولد ينعقد رقيقاً، وعلى قولنا بعدم وجوب الحد هل يثبت على الولد ولاءٌ؟ قال صاحب "التهذيب": إن قلنا بأنَّ أمَّه تصير أمَّ ولد - كما سنذكره - فلا، وإلاَّ فوجهان، وكأنهما دالاَّن على أنَّا في هذه الحالة هل نقول: انعقد حرًّا، وعلى وجه حكاه الشيخ أبو عليٍّ: أن الولد ينعقد رقيقاً، ثم يعتق بسبب الغرور، وهو غريبٌ جدًّا. ذكره في فروع العتق. قال: وفي الجارية قولان: أصحهما: أنها أم ولد [له]؛ لأنها علقت منه بحرٌّ بحق الملك، فأشبه ما لو علقت به في ملكه، وهذا ما نصَّ عليه هنا كما حكاه ابن كج وابن الصباغ. والقول الثاني: أنها لا تصير أم ولد؛ لأنها ليست ملكاً له وقت الإحبال؛ فصار كما لو استولد جارية بالنكاح. قال المزني: ولأن الأب لو وطئ جارية ابنه بنكاح وأحبلها لم تَصِرْ أمَّ ولد له، فإذا وطئها حراماً كان أولى ألا تصير. وهذا ما نصَّ عليه في الدعاوى والبينات، [قيل]: وربما نسب إلى القديم.

وحكى ابن كَجٍّ أنَّه مخرج من نصه فيما إذا أحبل [أحد] الغانمين جارية من المغنم: أنها لا تصير أم ولد، كما خرج من نصه في وطء جارية الابن إلى هذه المسألة [قولاً]: أنها تصير أمَّ ولد. وحكى العمراني عن الطبري: أن الشافعي –رضي الله عنه – نصَّ فيما إذا وقع على جارية من المغنم أنها تصير أم ولد [له]، وأنَّه يجب عليه قيمتها ومهرها؟ وفي [قيمة] الولد قولان، والقولان في مسألة الكتاب جاريان بالاتفاق على قولنا: إن الأب لا يجب عليه الحدُّ. أما إذا قلنا بوجوبه لأجل كونها مستولدة لم تصر أمَّ ولد له؛ لان المستولدة لا تقبل النقل، وإن أوجبنا مع كونها غر مستولدة للابن، فالحكم كذلك على الظاهر عند الإمام والمعظم؛ لما قررناه من أن الولد ينعقد رقيقاً. وفيه وجه: أنها تصير أمَّ ولد في هذه الحالة، كما قيل بمثله في وطء الأمة المحرمة بسبب رضاع أو غيره. فإن قيل: هل القولان يجريان في حالة يسار الأب وإعساره؟ قلنا: قد حكى الحناطي في محل القولين ثلاثة طرق: أحدها: [أن محلهما إذا كان الأب] معسراً، [أما إذا كان موسراً] فتصير أم ولد له قولاً واحداً. [والثاني: أن محلهما إذا كان موسراً، [فإن كان معسراً] لم تصر أم ولد له قولاً واحداً]. والثالث – وهو الأظهر -: طرد الخلاف مطلقاً، وإذا كان كذلك خرج من الطرق قول فارق بين الموسر والمعسر، كما يحكي عن صاحب "التقريب"؛ قياساً على ما لو استولد أحد الشريكين الجارية المشتركة؛ فإنه فرق في استيلاد حصة الشريك بين الموسر والمعسر، لكن الأئمة ضعفوا الفرق من جهة أن

الاستيلاد هنا إنما ثبت لحرمة الأبوة وشبهة الملك، ولا يختلف هذا المعنى بالإعسار واليسار، وهناك ثبت الاستيلاد في نصيب الشريك لدفع الضرر عنه؛ فلو فقدناه في حالة الإعسار لعلقنا حقه بذمة خراب، وهو أضر من الأول. التفريع: إن قلنا بأنها لا تصير أم ولد وجب على الأب المهر كما لو لم يحبلها، ولا فرق فيه بين أن تكون الأمَة مطاوعةً أو مكرهةً إذا لم نوجب الحد [به]. وحكى الإمام فيما إذا كانت مطاوعة في وجوبه وجهين عن العراقيين، وغلطهم فيه؛ فإنهم قطعوا بنفي الحد، وهذا [يشابه ما حكيته] عنهم في وطء السيد المكاتبة. ولا فرق في وجوب المهر بين أن يكون الأب موسراً أو معسراً. نعم، الموسر يؤخذ منه، والمعسر يثبت في ذمته إلى يساره. وعن أبي الحسين حكاية وجه ضعيف: أنَّه إذا كان معسراً لا يتبع به، ويجب عليه قيمة الولد باعتبار يوم انفصاله إن انفصل حيًّان وإن انفصل ميتاً فلا شيء عليه. ولا يجوز للابن بيع الجارية ما لم تضع؛ بناءً على منع بيع الحامل بحرٍّ، وهل تؤخذ قيمة الجارية من الأب في الحال للحيلولة؟ [فيه] وجهان: المذكور منهما في "الشامل" حكاية عن الأصحاب: نعم؛ كما في العبد الآبق. وأصحهما في "التهذيب" وغيره – كما قال الرافعي [وغيره]-: لا؛ لأن يده محرمة عليها، وهو منتفع بها بالاستخدام وغيره، بخلاف ما إذا أبق العبد. وهكذا الحكم في الجارية المغرور بحريتها، والموطوءة بالشبهة إذا أحبلها الواطئ. ولو ملك الأب هذه الجارية يوماً من الدهر، فهل تصير أم ولده له؟ فيه

القولان الآتيان. وإن قلنا بالصحيح في أنها تصير أمَّ ولد، فلابد من نقل الملك فيها للوالد، وفي أي وقت ينتقل أوجه: أحدها: قبيل العلوق؛ ليكون مسقط مائة [ملكاً له] [صيانة] لحرمته، وهو ما أورده في "التهذيب". والثاني: مع العلوق؛ لأن العلوق هو علة نقل الملك، والمعلول يساوق العلة، وهذا ما ارتضاه الإمام. والثالث: عند الولادة. [والرابع: عند أداء القيمة بعد الولادة]. وهذا [والذي] قبله أوردهما الحناطي، وغيره حكى بدلهما وجهاً: أنها تنتقل إليه بعد العلوق. وقضية كلام من فرق في الحكم بالاستيلاد بين الموسر والمعسر: أن يجيء في وقت الحكم بالاستيلاد الأقوال المذكورة في العتق، وهوا لذي قال الإمام: إنه يجب؛ تخريجاً على هذا القول، [ولا شك في وجوب قيمة الأم على هذا القول]، وكذا المهر عند الجمهور. وأمَّا قيمة الولد فقد أطلق ابن الصباغ القول بأنها لا تجب، ووجهه: بأنها وضعته في ملكه. وبسطه: أن الولد إذا انعقد حرًّا إنما تضمن قيمته حالة وضعه، فإذا كانت الأم في تلك الحالة مملوكة للواطئ فلا شيء عليه؛ كما لو علقت به في ملكه. وحكى الإمام وجهين في وجوب قيمة الولد، وجزم آخِراً بأنَّا إذا حكمنا بثبوت الاستيلاد فلا تجب قيمة الولد، وبنى الرافعي الوجهين على وقت الحكم باتنقال الملك في الأم إلى الأب، [فقال: إن قلنا]: قبيل العلوق، فلا تجب، وإن قلنا: بعد العلوق، وجبت، وإن قلنا: مع العلوق، فالأصحاب على الوجوب.

وقال الإمام: العلوق على هذا القول مصادف للملك، فكيف يقتضي إيجاب القيمة؟ وبنى على ذلك ما إذا فرض إنزال الماء مع تغييب الحشفة، فقد اقترن موجب المهر بالعلوق، فقال: ينبغي أن ننزل المهر منزلة قيمة الولد، ويكون إطلاق الأصحاب لزوم المهر محمولاً على ما إذا تأخر الإنزال عن موجب المهر كما هوا لغالب، ولا شك في أن الجارية إذا لم تكن موطوءة للابن، وفرعنا على هذا القول تنقلب حلالاً للأب. فرع: إذا كان ولده يملك بعض جارية، فاستولدها الأب، وقلنا بأنها لو كانت بجملتها للابن كانت أم ولد له – فالجمهور على أنه إذا كان الأب موسراً سرى إلى نصيب الشريك والولد حرٌّن وإن كان معسراً لم يثبت الاستيلاد في نصيب الشريك، [والولد] نصفه حرٌّ ونصفه رقيق في أصح القولين. وحكى أبو سعد الهروي وجهاً: أن الاستيلاد لا يثبت في نصيب الشريك [بحالٍ]. ولو كانت الموطوءة مكاتبة الابن: فمنهم من جزم بعدم نفوذ استيلاد الأب فيها؛ لأنها لا تقبل النقل؛ كأم الولد، ومنهم من أجرى الخلاف السابق فيها؛ لأنها تقبل الفسخ، بخلاف الاستيلاد، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب"، والأول هو الذي أورده أبو سعد الهروي. أمَّا إذا كان الأب رقيقاً ففي ولده وجهان: أحدهما: أنه رقيق لرق أبويه. والثاني- وبه أفتى القفال -: أنه حرٌّ كولد المغرور، وعلى هذا فتثبت قيمته في ذمّة الأب يتبع بها إذا عتق، وأمَّا الجارية فلا تصير أمّ ولد له، والمهر واجب عليه لأجل عدم وجوب الحد، ويتعلق برقبته. قال: وإن أولد جارية أجنبيٍّ بنكاحٍ أو زنى فالولد مملوك لصاحب الجارية؛ لأن الولد يتبع الأم وهي مملوكة. قال: ولا تصير الجارية أمّ ولد [له] أي: وإن ملكها؛ لأنها تثبت لها تبعاً

لحرية الولد، والولد في هذه الحالة رقيق، ويدلّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين موته: "مَا خَلَّقْتُ دِينَاراً، وَلا دِرْهَماً، وَلا عَبْداًن وَلا أَمَةً"، فقالت له عائشة –رضي الله عنها-: فمارية؟ قال: "تِلْكَ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا" وعني به صلى الله عليه وسلم إبراهيمَ الذي أتَتْ به منه. وهكذا الحكم فيما لو ملكها في حال الحمل كما صرح به القاضي الحسين. قال البندنيجي وغيره: ولا يتصور عندنا أن تعلق الأمة بولد مملوك، ثم تصير أمّ ولد إلا في مسألة واحدة على أحد القولين، وهي إذا وطئ المكاتب أمته فأحبلها. فرع: إذا أتت أمته التي اشتراها بولد لأقل من ستة أشهر من حين الشراء فالحكم أنَّه حرٌّن ولا تصير [الجارية] أمّ ولد كما ذكرنا، وإن كان لأكثر من ستة أشهر وهو يطؤها صارت أم ولدٍ، قال القاضي الحسين: قولاً واحداً، ولو لم يطأها وادّعى الاستبراء فلا تصير أم ولد، والولد لاحقٌ به على أربع سنين، وإن لم يدع الاستبراء فهل تصير أمّ ولد [له]؟ فيه وجهان. [قال:] [وإن كان] بشبهة أي: شبهة أنها زوجته الحرة، أو أمته، أو أم ولده –فالولد حرٌّ؛ نظراً إلى ظن أبيه. وحكى البندنيجي عن أبي إسحاق: أن أحد الشريكين إذا وطئ الجارية المشتركة بعد أن أحبلها شريكه، وحكمنا بسريان الاستيلاد على جميعها، وكان الثاني جاهلاً بالتحريم – أن الولد ينعقد رقيقاً، إذا كان الواطئ معسراً، ثم قال: وفيه نظرٌ. قلت: وقياس قول أبي إسحاق أن يطرده في كل وطء بشبهة، [ويحكم

برقه الولد إذا كان أبوه] معسراً، إلا أن يكون القائل لهذا يلاحظ كون الموطوءة لا تقبل النقل؛ [فيختص جريانه بمملوكة لا تقبل النقل] كالموقوفة، لكن لو كان هذا المأخذ لَمَا فرَّق بين الموسر والمعسر. قال: والجارية ليست بأم ولد [له] في الحال؛ لأنها ليست مملوكة [له]، فإن نملكها ففيه قولان: أحدهما: أنها تصير أمّ ولد له؛ لأن العلوق بالولد الحر في الملك سبب [في] الحرية بعد الموت؛ كما أنَّ القرابة عند وجود الملك سبب للعتق في الحال، ثم لَمَّا كان الملك إذا طرأ على القرابة حصل العتق في الحال كذلك الملك إذا طرأ [على الأمة] بعد انعقاد الولد حرًّا ثبت العتق بعد الموت، وهذا ما اختاره في "المرشد" والإمام في كتاب "السير"، وبه جزم البغوي ثم، وهو المحكي عن نصه في "حرملة" و"المختصر". والثاني: لا تصير؛ لأنها علقت منه في غير ملكه، فأشبه ما لو علقت منه في نكاح. قال الإمام: "ولأن هذا العلوق لو كان يثبت أمية الولد لما بعد أن [يقبضها على الفور] إذا كان الواطئ موسراً، [وكنا ننقل] الملك إليه كصنعنا في تسرية العتاقة على القول الأصح، فإذا لم نفعل ذلك فلا اثر للعلوق في الثاني؛ كما لا أثر [له] في الحال. وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب وغيره [في كتاب "السير"] عن نصه في "الأم"، وهذا الخلاف جارٍ فيما لو غر بنكاح أمة؛ فإن ولده منها ينعقد حرًّا، وهل تصير أمَّ ولد إذا ملكها؟

ورجح الإمام القول بعدم النفوذ هنا، أمَّا إذا ظنَّ الواطئ أنها زوجته الأمة فالولد ينعقد رقيقاً لظنه. وهذا ما حكاه الإمام عن شيخه عند الكلام في وطء جارية من المغنمه، ثم قال: ورأيت لغير شيخي ما يدل على أنَّه حر، كما لو وطئ المغرور زوجته التي حسبها حرة، [ووطئها جاريةً]، وقدَّر نفسه جاريته زانياً –فإن الولد [ينعقد حرًّا]، وإن كان الواطئ [غيرَ بانٍ] أمره على وطء حرة، وهو عندي غلطٌ. قال: وإن وطئ جارية، فوضعت ما لم يتصور فيه خلق آدمي، وشهد أربع من القوابل أنه لو ترك لكان آدميًّا-ففيه قولان، ستقف على شرحهما في باب "العدد". و"القوابل" جمع "قابلة": وهي التي تتلقى الولد عند الولادة، يقال: قَبِلَتِ القَابِلَةُ المرأَةَ – بكسرِ البَاءِ – تَقْبَلُهَا [-بفتحها-] قِبَالَةً، بكسر القاف. قال الجَوْهَرِيُّ: "ويقال للقابلة أيضاً: قَبِيل، وقَبُول". قال: ولا يجوز بيع أم الولد لما ذكرناه في أول [كتاب] "البيع". قال أبو إسحاق: وليس للشافعيّ – رضي الله عنه – فيها إلا هذا القول. وقال المزني: إنه قطع في خمسة عشر كتاباً بعتق [أم الولد]، ووقف في غيرها. وهذا إنما هو قول حكاه الشافعي عن الغير، وليس بتوقفٍ منه فيه. قال: ولا هبتها، ولا الوصية بها؛ لأن ذلك ينقل الملك فيها إلى الغير؛ فلم يجز كالبيع، وكما لا تجوز هذه التصرفات فيها لا تجوز في ولدها الحادث بعد ثبوت الاستيلاد من نكاح أو زنى قولاً واحداً، ويعتق [ولدها] بموت السيد [كما تعتق هي، ولا يبطل سبب العتق في حقه بموت الأم قبل السيد].

ولو وطئ أمة الغير بشبهة، ثم حدث لها أولاد من غيره من نكاح أو زنى، ثم ملكها مع أولادها –لا يثبت حكم الاستيلاد [لهذه الأولاد]. ولو اشتراه وهي حامل بولد رقيق، قال الإمام: فهذا موضع النظر، يجوز أن يقال: يتعدى الاستيلاد إليه؛ كما في تعدي حرية التدبير إلى الولد، وإن في كلام الصَّيْدَلاَنِيّ رمزاً إليه. قال: يجوز استخدامها وإجارتها، ويجوز وطؤها؛ لخبر ابن عمر –رضي الله عنهما – وكذا يجوز أن يكاتبها؛ لأنه يملك كسبها، فإذا أعتقها على بعضه جاز، وهذا أخذ من نصّ الشافعيّ على أنه إذا استولد المكاتبة صارت أمّ ولد والكتابة بحالها. وقال ابن القاص: لا تجوز كتابتها؛ لأنها عقد على رقبتها فأشبه البيع والهبة والرهن، وقال: قول الشافعي إنما دل على الاستدامة، فأمّا في الابتداء فلا؛ كما لا تنافي العدة والردة استدامة النكاح وتنافي ابتداءه. فرع: إذا جوَّزنا كتابة أم الولد، فأدّت المال عتقت بحكم الكتابة، وتبعها أولادها الحادثون بعد الكتابة في العتق إن قلنا: المكاتبة يتبعها ولدها، وإن قلنا: لا يتبعها، تأخر عتقهم إلى موت السيد. ولو مات السيد قبل الأداء [أو العجز] عتقت بحكم الاستيلاد، وكذا أولادها، وحكى القاضي الحسين عن القفال: أنها تعتق بحكم الكتابة، وكذا أولادها إن قلنا: إن الولد يتبع أمه في العتق بالكتابة وإلا عتقوا بحكم الاستيلاد، كذا حكاه في كتاب الكتابة. قال: وفي تزويجها ثلاثة أقوال: أصحها: أنه يجوز؛ لأنه يملك رقبتها ومنافعها حتى الاستمتاع، فملك تزويجها برضاها وبدونه كالمدبرة. وهذا هو الجديد. والثاني: لا يجوز؛ [أي]: وإن رضيت؛ لأنها ناقصة في نفسها، وولاية

الولي عليها ناقصة؛ فأشبهت الصغيرة إذا زوجها الأخ برضاها. وهذا منصوص في القديم، واختاره القفال. فعلى هذا: هل يملك الحاكم تزويجها [بإذنها وإّن] السيد كما قاله الإمام؟ فيه وجهان: اختيار أبي إسحاق والإصطخري: المنع، كما حكاه في "البحر"، وحكاه البندنيجي وابن الصباغ والمصنف عن [ابن] أبي هريرة، ونسبوا الجواز إلى الإصطخري. والثالث: يجوز له برضاها؛ لأنه ثبت لها حق الحرية بسبب لا يملك [السيد] إبطاله، فلا يملك تزويجها بدون إذنها؛ لما فيه من الإضرار بها بعد العتق، وملكه بإذنها كالمكاتبة. وهذا ما اختاره في "المرشد"، وهو القديم. وحكم تزويج [بنت أمّ] الولد التابعة لها في الاستيلاد حكم الأم، وولدها لا يجبره السيد على النكاح، وهل يجوز تزويجه بإذن السيد؟ فيه وجهان في "البحر". قال: وتعتق أم الولد بموت السيد من رأس المال: أمَّا عتقها؛ فلما ذكرناه من خبر ابن عباس وابن عمر، ولأنَّا قد حكمنا بانعقاد الولد حرًّا، وهو من المستولِد ومنها، فقد انعقد [جزء منها] على الحرية فاستتبع الباقي؛ كالعتق، لكن العتق فيه قوة فأثر في الحال، وهذا فيه ضعف فأثر بعد الموت. وأمَّا كونه من رأس المال؛ فلأنه إتلاف حصل بالاستمتاع فأشبه الإتلاف

بالأكل والشرب واللباس، وبالقياس على مهر مثل من تزوجها في مرض موته، وقد حكينا في كتاب "البيع" أن من أصحابنا من حكى عن القديم: أنها لا تعتق بموت السيد، ويكون الاستيلاد كالاستخدام، وهو – كما قال القاضي الحسين – مستنبطٌ من نصين للشافعي –رضي الله عنه-: أحدهما: في كتاب الرهن حيث قال: "أمْ الولد تعتق بموته في قول من [قال] بعتقها فمفهوم هذا أن له قولاً آخر: أنها لا تعتق بموته. والثاني: قال في كتاب الظهار: "ولا تجزئ أمُّ الولد عن الكفارة في قول من لا يبيعها"؛ فدل على [أنّ له] قولاً آخر: أنها تباع، والأصح الأول، وإنما حكى الشافعي –رضي الله عنه- ذلك عن مذهب الغير؛ فإن الإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – خطب على المنبر بـ"الكوفة" فقال:"أجْمَعَ [رأيي] ورأيُ أمير المؤمنين عمر ألا تباع أمهات الأولاد، وأنا الآن أرى بيعهن"، فقال له عبيدة السَّلْمَانيّ: "رأيك مع أمير المؤمنين أحبُّ إلينا من رأيك وحدك"، وفي رواية: " [رأيك] مع الجماعة أحبُّ إلينا من رأيك في الفرقة" فأطرق رأسه ثم قال: "اقضوا فيه ما أنتم تقضون؛ فإني أكره أن أخالف أصحابي". ومن هذا قال بعض أصحابنا: إنه رجع عنه، وبعضهم قال: إنه لم يرجع [عنه]. قال: وإن جنت أمُّ الولد أي خطأ أو عمداً، وعفي عنها على مال فداها السيد بأقل الأمرين من قيمتها أو أرش الجناية؛ لأنه منع بيعها بالإحبال، ولم يبلغ إلى حالة يتعلق الأرش بذمتها؛ فلزمه ضمان جنايتها، كما لو جنى الرقيق وامتنع مولاه من بيعهن وهذا ما جزم به العراقيون، ولم يجروا فيه القول المذكور فيما إذا جنى العبد وأراد السيد أن يفديه من أنه يفديه بأرش الجناية بالغاً ما بلغ، بل نفوه؛ لأن ثَمَّ البيع ممكن فربما يرغب [زبون في شرائه]

بزيادة توفي أرش الجناية، وهاهنا البيع غير ممكن؛ فانتفى الاحتمال الذي لأجله أثبتنا الفداء بأرش الجناية بالغاً ما بلغ، وقد أجرى المراوزةُ هذا القول هاهنا أيضاً. فرع: لو ماتت أمّ الولد عقيب الجناية من غير فصل، فهل يجب على السيد الأرش أم يسق؟ فيه وجهان، أصحهما – وهو اختيار ابن الحداد-: أنّه لا يسقط، بخلاف العبد القن. ذكره الرافعي عند الكلام في جناية العبد الموقوف. [قال]: فإن فداها بقيمتها ثم جنت جناية أخرى ففيه قولان: أحدهما: يفديها في الثانية أيضاً بأقل الأمرين؛ لأنه مانع من بيعها عند الجناية الثانية، كما كان مانعاً من بيعها عند [الجناية] الأولى. وهذا ما اختاره المزني وأبو إسحاق وقال: إنه أشبه بالحق. ورجحه [صاحب "التهذيب"]، وبه قطع بعضهم. والثاني أنه: لا يلزمه شيء آخر: لأن استيلاده إتلاف، ولم يوجد [منه] سوى مرة واحدة؛ فلم يلزمه سوى فدية واحدة، كما لو جنى العبد جنايات عدة، ثم قبله سيده، وهذا هو الصحيح، والمختار في "المرشد" وغيره، وبه جزم بعضهم. قال: يشارك المجني عليه ثانياً المجني عليه أولاً فيما أخذ، ويشتركان [فيه] على قدر الجنايتين أي: على هذا القول؛ لتعين ذلك طريقاً لدفع الضرر، ولأن تسليم قيمتها كتسليم رقبة العبد، [ولو سلم رقبة العبد] فلم يبع [حتى] جنى جنايات – اشترك الجميع في ثمنه؛ فكذلك هاهنا، ولو جنت الجناية الثانية قبل أن يفديها سيدها عن الجناية الأولى، [وإن كان أرش الجناية الأولى] قدر قيمتها [أو أكثر]، فإن قلنا: إن المجني عليه ثانياً لا يشارك، قال القاضي الحسين: فهاهنا وجهان:

أحدهما: أن الحكم كذلك كما هو مفهوم كلام الشيخ، [وبه جزم الإمام حيث جعل جميع الجنايات قبل الفداء كالجناية الواحدة]. والثاني: لا. والفرق –كما قال -: إنه بالأخذ [قد] استقر ملكه على الأرش، ولو قلنا: يشاركه، أدّى إلى أن ينقض حكمنا السابق، بخلاف ما إذا لم يكن قد قبض. وعن "شرح مختصر الجويني" للموفق بن طاهر حكاية طريقين في موضع الخلاف عند تخلل الفداء، فعن بعضهم: أنَّه إذا دفع الفداء بنفسه إلى المجني عليه [أولاً]، أمَّا إذا دفعه بقضاء القاضي، فنقطع بأنه لا يلزمه شيء آخر. وعن ابن أبي هريرة أنه [قال]: لا فرق بين الحالتين. قال: وإن أسلمت أم ولد النصراني حيل بينه وبينها أي: بأن توضع على يد امرأة عَدْلٍ أو محرم لها؛ لان البيع فيها متعذرٌ، إلزامه [إعتاقها] تخسير؛ فتعين ذلك طريقاً لدفع إذلال الكافر لها. قال: وأنفق عليها إلى أن يموت؛ لأنها باقية على ملكه، ونفقة الرقيق على مالكه. قال: فتعتق كأم ولد المسلم. وفي طريقة المراوزة وجه: أنه يجبر على إعتاقها، وإيراده في "الوسيط" في أول كتاب البيع يفهم أنه تعتق بنفسها، وعلى المذهب أكسابها [قبل موت السيد] ملكه، وتكلف الاكتساب؛ كي لا يفوت حقه فيها. ولو أرادت التزويج، [وجوّزنا تزويجها] برضاها زَوَّجَها الحاكم، وكان للسيد مهرها، وكذلك إذا قلنا: [له تزويجها] كرهاً، يزوجها [الحاكم] بإذنه.

وقال بعض الخراسانيين: لا يجوز للحاكم أن يزوجها، وهو الأظهر عند الروياني واختاره القفال. وروى وجهاً آخر: أنه يزوجها الكافر؛ لأنه تصرف بالملك. فلا يمنعه اختلاف الدين، ونسبه الرافعي في كتاب "النكاح" إلى ابن الحداد. فروع: إذا أحبل جارية الغير بنكاح، ثم أوصى له بالولد فهل يجوز أن يشتري الأم [أم لا]؟ الأصح في "تعليق" القاضي الحسين: أنه لا يجوز؛ كما لو باعها من غيره. إذا كانت له جارية، فقال: هذه [أم] ولدي، ومات قبل البيان – فهل تصير أم ولد [له]؟ فيه وجهان، قال القاضي الحسين: ينبنيان على ما لو قال رجل: هذه الجيرة ابنة أَمَتَي، وأقام بينة على ذلك، ولم يقل: إنها [ولدتها في ملكه، فهل يحكم له بالملك؟ فيه قولان: الجديد: لا، وعلى القديم: نعم، فعلى الأول: لا يحكم بأنها] أم ولده، وعلى الثاني: يحكم، قال: وهو الأصح هنا. إذا شهد شاهدان على شخص بأنه استولد جاريته في ملكه، ثم رجعا – قال الشيخ أبو علي: لا يغرمان شيئاً؛ فإنهما لم يفوتا الماليَّة، ولم يحققا العتق في الحال، وإنما امتنع البيع بشهادتهما. قال الإمام: وليت شعري ماذا يقول إذا مات المولى، وفات الملك؛ فإن [الملك فات] بسبب الشهادة، والذي نراه: أن الغرم يجب في هذه الحالة للذين كانت الرقبة تصرف إليهم لولا [وجود الحكم بالاستيلاد]، والله أعلم.

باب الولاء

باب الولاء الوَلاَءُ -[بفتح الواو وبالمد]- مصدر: مَوْلى، والمولى: مَفْعَل من "الولاء"، و"الولاء" مشتق من "الموالاة"، وهي المقاربة، فسُمّى الولاءُ ولاءً؛ لأنه لمعتقه موالٍ كأحد قرابته، أو لأنه ينتسب بالإعتاق إلى سيده الذي أعتقه، كما ينتسب القريب لقريبه، ولهذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: "مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْهُمْ". وقيل: إنما سُمّي الولاءُ ولاءً؛ لأن بين الموالي اختلاطاً وامتشاجاً كما أن بين الأنساب اختلاطاً. وهو في الشرع عبارة عن: عصوبة متراخية عن عصوبة النسب يرث بها المعتق، ويلي أمر النكاح والصلاة [عليه، ويعقل، والذكور] من عصبته من بعده. وقيل: إنه أثر نعمة أنعمها المعتق على المعتَق، وحقيقته ترجع إلى انتساب المنعَم [عليه إلى المنعم]. ثم ذلك الانتساب يثبت أحكاماً، ويقال لكل من المعتق والمعتق: مولى، وكذا يطلق على العم وابن العم وجميع الأقرباء: مولى. والأصل فيه قبل الإجماع من الكتاب قوله - تعالى-: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]. ومن السنة ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لاَ يُبَاعُ ولاَ يُوهَبُ"، ومعناه: [امتشاج كامتشاج] النسب، [واختلاط كاختلاطِه]،

و"لحمة": بفتح الَّلام وضمها. وقوله صلى الله عليه وسلم في خبر بَرِيرَةَ الذي ذكرناه في أوائل البيع: "إِنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". ثم الأحكام الثابتة بسب الولاء- كما قال الروياني وغيره -: ثلاثة: الميراث، والولاية في النكاح والصلاة على الميت، والعقل، وهو لا يورث، وإلاَّ لاشترك فيه الرجال والنساء. قال: ومن عتق عليه مملوك بملك: يعني: قريبه إذا ورثه أو تملكه ببيع [أو اتهاب] أو وصية. قال: أو بإعتاقه أو بإعتاق غيره عنه: بإذنه، أو بتدبيره، أو بكتابته، أو باستيلاده – فولاؤه له: أمّا إذا باشر عتقه أو تسبب فيه؛ فلقوله صلى الله عليه:"إِنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". وأمَّا في الباقي؛ فلأنه عتق عليه فكان ولاؤه له؛ كما لو باشر عتقه أو

[تسبب فيه]. ولو باع عبده من نفسه وصححناه، فقد ذكرنا في باب العتق أن الولاء عليه لسيده على الأصح. وقيل: لا ولاء عليه، وهو ما اختاره في "المرشد". واحترز الشيخ بقوله: "بملك" عما إذا شهد بحرية عبدٍ، ثم اشتراه؛ فإنه يعتق عليه لإقراره بحريته، لا يملك، ولا يكون ولاؤه له، بل هو موقوف. وقال المزني: إنه يسلم له من ميراثه أقل الأمرين من الذي بذله وجملة ميراثه. وهو ما قال الغزالي: إنّه أقوم. [والإمام: إنه حسن بالغ]. وصححه في "التهذيب"، وحكاه عن ابن سريج وأبي إسحاق أيضاً، وأن الشيخ قال: يمكن بناؤه على أنه شراء أو فداء، فإن قلنا: فداء، فلا يأخذ؛ لأنه متطوع ببذل الثمن، وإن قلنا: شراء، أخذ. وعلى ذلك جرى المتولي في كتاب "الصلح"، فجزم بأنه بيع، وأن الولاء [فيه] للمشتري، وإن حكى الخلاف في موضع آخر، [والإمام بناه على أن اختلاف الجهة هل يمنع المطالبة، كما إذا قال: له عليَّ ألف هو قيمة عين أتلفتها وقال المالك: بل من جهة ضمان، وفيه خلاف، والأصح: أنَّه لا يمنع، واطراح النزاع في الجهة]. وقوله: ["بملك"، يقال] بكسر الميم وفتحها، [قال أهل اللغة: ملكت الشيء، أملكه مِلكاً - بكسر الميم - وهو مِلك بفتح الميم وكسرها]، والفتح أفصح كما قاله ابن قتيبة والجوهري وغيرهما.

ولا فرق في ثبوت الولاء لمن ذكرناه بين أن يكون مسلماً والمعتق كافراً أو بالعكس. نعم، لا يرث منه؛ كما نقول: القرابة بين المسلم والكافر ثابتة، ولا يرث منه، صرح به في "البحر" وغيره. قال: وإن عتق على المكاتب عبد أي: أعتقه بإذن سيده، أو كاتبه وجوزناه، فأدى النجوم إلى المكاتب الأول – ففي ولائه قولان: أحدهما: أنه لمولاه؛ لأن العتق [لا] ينفك عن الولاء، والمكاتب ليس من أهله؛ [فتعين للمولى]. على هذا قال القفال: ينبغي أن يجزئ عن كفارة السيد إذا نوى وأعتقه المكاتب بإذنه. ولو عتق المكاتب [بعدُ] فهل ينجرُّ الولاء إليه؟ فيه وجهان في "الحاوي" عن رواية ابن أبي هريرة، وحكاهما الإمام عن رواية صاحب "التقريب"، والصحيح وبه جزم البندنيجي: [لا]. قال: والثاني: أنه موقوف على عتقه، فإن عتق أي: بسبب الكتابة – كما حكاه القاضي الحسين عن ظاهر النص – فهو له، وإن عجز فالولاء لمولاه؛ لأن حكم المكاتب في نفسه وماله موقوف، ولأن الكاتب باشر العتق؛ فيستحيل أن يكون الولاء للسيد الذي لم يباشر؛ للخبر؛ فيوقف [عليه]، وهذا ما اختاره في "المرشد"، فعلى هذا: لو مات العبد الذي أعتقه المكاتب، فميراثه يكون موقوفاً، نصّ عليه الشافعي – كما نقله في "البحر" – واختاره في "المرشد". وقال الشيخ أبو حامد والقاضي الحسين: فيه قولان: أحدهما: هذا.

والثاني: يكون ميراثاً للسيد؛ لأن الولاء يجوز أن يتوقف فيثبت لشخصٍ، ثم ينجر إلى غيره، والميراث لا يجوز أن يوقف قط، وذكر القفال – كما نقله في "البحر" – وصاحب "التقريب" كما حكاه الإمام وجهاً [آخر]: أنه يصرف ماله إلى بيت المال، والصحيح الأول. فرع: لو مات المكاتب الثاني أو المعتق، وقلنا: [يكون ميراثه موقوفاً، ثم مات المكاتب الأول أو عجز، ثم مات السيد – فإن المال] يكون لجميع الورثة الذكور والإناث. قال القاضي الحسين: لأن هذا ميراث يتلقونه من جهة أبيهم، ليس سبيله سبيل الولاء. قال: وإن تزوج عبد لرجل بمعتقة لرجل، فأتت [منه] بولد –كان ولاء الولد لمعتق الأمة؛ لأنه المنعم عليه؛ لأنه عتق بإعتاق الأم؛ فكان ولاؤه لمولاها. قال: فإن أعتق الأب بعد ذلك انجر الولاء من مولى الأم إلى مولى الأب؛ لما روي أن الزبير بن العوام رأى فتية ظرافاً، فأعجبه ظرفهم، فسأل عنهم، فقالوا: رافع بن خديج زوّج أمته من غلام فلان الأعرابي، ثم أعتق رافع أمهم، فهؤلاء منها، فمضى الزبير، واشترى الغلام من الأعرابي وأعتقه، ووجّه إلى رافع: أن ولاءهم لي؛ فتحاكما إلى عثمان – رضي الله عنه – فحكم بالولاء للزبير، ولا يعرف لهم مخالف. ولأن الولاء فرع النسب، والنسب معتبر بالأب، وإنما يثبت لموالي الأم، لعدم الولاء من جهة الأب، فإذا ثبت الولاء من جهة الأب، عاد الولاء إلى موضعه: كولد الملاعنة ينسب إلى الأم؛ لعدم الأب، فإذا اعترف به الأب ثبت نسبه [منه]. وقال القاضي أبو الطيب: قولنا ينجر [الولاء]، مجاز؛ فإن الولاء لا ينجر،

وإنما يبطل ولاء موالي الأم، ويثبت ولاء موالي الأب. قال: وإن أعتق جده والأب مملوك، فقد قيل: لا ينجر من مولى الأم إلى مولى الجد؛ لأنه ينجر إليه بواسطة؛ فلا ينجر ولاؤه كالأخ والعم. وقيل: ينجر؛ لأنه كالأب في الانتساب إليه والتصعيب [فجرَّ ولاءه] كالأب، [وهذا أصح في النهاية]؛ وعلى هذا [قال]: فإن أعتق الأب بعد ذلك انجر [الولاء] من موالي الجد إلى موالي الأب؛ لأنه أقوى من الجد في النسب وأحكامه. فلو انقرض بعد ذلك موالي الأب، لم يرجع الولاء إلى موالي الأم، بل يخله المسلمون، وينتقل إلى بيت المال. ثم ظاهر كلام الشيخ يفهم أن محل الوجهين إذا كان الأب حيًّا، وهو قول الشيخ أبي حامد، وقال: إن الأب إذا كان ميتاً انجر [الولاء] قولاً واحداً، وعلى ذلك جرى الإمام. وقال ابن الصباغ: إن عليه أكثر الأصحاب. وقال القاضي: إن محلهما إذا كان ميتاً، فإن كان حيًّا لم ينجر قولاً واحداً. ويجيء من مجموع الطريقين ثلاثة أوجه، كما حكاها في "المهذب"، ثالثها: الفرق بين أن يكون حيًّا فلا ينجر، وبين أن يكون ميتاً فينجر، وهو ما اختاره في "المرشد". ثم محل انجرار الولاء من مولى الأم إلى مولى الأب إذا عتق، مفروض فيما إذا لم يكن الولد قد باشره العتق، أمَّا إذا كان الولد قد باشره العتق، كما إذا اشترى أباه وجده بعبد رقيق؛ فإنه يعتق عليه، ويكون ولاؤه له،

وولاء موالي الأم باق عليه؛ لأنه لا يجوز أن يكون الرجل مولى نفسه، وقد حكى الإمام عن ابن سريج: أنه [يجر ولاءه] لنفسه ويسقطن واستبعده الإمام، والشيخ في "المهذب" حكى هذا الوجه، ولم ينسبه لابن سريج. وعلى المذهب: لو أعتق الذميّ عبداً، ثم لحق السيد بدار الحرب وأسلم العبد المعتق، واسترقّ سيده إمَّا بسبي أو شراءٍ، ثم أعتقه – كان لكل منهما على صاحبه الولاء، لكن من شرط الإرث اجتماعهما في الإسلام، وقد صرح بذلك أيضاً الأصحاب. ولو كان للمملوك ولدان حرَّان أمهما معتقة، فاشتريا أباهما دفعة واحدة- انجر ولاء نصف كل واحد منهما إلى صاحبه، وترك النصف الآخر لموالي الأم، صرح به الرُّوياني في كتاب الإقراع بين العبيد. فرع: لو تزوج عبد لرجل بأمة لآخر، ثم أعتقها سيدها وهي حامل – فولاء الولد لمعتق الم لا يجره إلى موالي الأب [عِتْقُ الأب]؛ لأن العتق هنا قد باشر الولد. والقاعدة: أن كل من باشره العتق لا ينجر الولاء عليه إلى موالي أبيه ولا أمه، كما صرح بها القاضي الحسين وغيره. فلو أعتقها، ثم أتت بولد، وكان لها زوج، واحتمل أن يكون الولد موجوداً حاله العتق، واحتمل خلافه –انجر ولاؤه. ولو احتمل أن يكون [قد] حدث بعد عتق الأم، واحتمل أن يكون [حدث] بعده وبعد عتق الأب – فالولاء لموالي الأب ابتداءً، قاله القاضي الحسين، وقال: إنها لو كانت خليّة من زوج، وأتت بولد لستة أشهر فما فوقها ولدون أربع سنين من حين العتق – فهل يكون ولاؤه لمعتق الأم غير منتقل

أم لا؟ إن هذا ينبني على أنه لو أوصى بحمل عَمْرَةَ من زيد، وكانت بائنة منه، فأتت بولد لدون أربع سنين وستة أشهر فما فوقها من حين الطلاق – هل يعطي الوصية له؟ وفيه قولان، ووجه المنع: أنْ النسب يحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره. فإن قلنا بهذا كان الولاء لموالي الأب إن احتمل حدوثه بعد عتقهم، وإن لم يحتمل فهو لموالي الأم وانجر، وعلى الأول يكون لموالي الأم غير منجر. قال: ومن ثبت له الولاء فمات انتقل ذلك إلى عصباته دون سائر الورثة، أي: أصحاب الفروض ومن يعصبهم العاصب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولاءُ [لُحْمَةٌ] كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لا يُبَاعُ، وَلا يُوهَبُ، وَلاَ يُوَرَّثُ"، والنسب إلى العصبات دون غيرهم، فلو انتقل إلى غيرهم لكان موروثاً. قال القاضي الحسين: ولأن الولاء يكون متراخياً عن النسب، والنسب إذا تباعد إنما يورث بالعصوبة [مثل ابن العم، وابن الأخ، والنسب يكون أقرب من باب الولاء؛ فيكون الولاء فيه من التراخي أكثر؛ فيتعين له العصوبة قياساً على النسب، وما ادعاه من أن النسب إذا تباعد إنما يورث بالعصوبة] ينتقض بنسب بنت ابن ابن ابن [وأسفل من ذلك]، اللهم إلا أن يكون مراده البعد في الجهات لا في الدرجة أو الوارث المستغرق؛ فحينئذٍ يسلم من النقض. قال: فإن كان له ابن [وابن ابن] فالولاء للابن؛ لأن تعصيبه أقوى، وإن كان له أب وأخ فالولاء للأب؛ [لأنه أقرب] لكونه يدلي بنفسه، والأخ يدلي به. [قال]: وإن كان له أخ من أب وأم، وأخ من أب، فالولاء للأخ من الأب والأم كالميراث، وهذا أصح في "النهاية"، وفي "المهذب" طريقة جازمة به.

وقيل: فيه قول آخر: أنهما سواء؛ لأن الأم لا ترث بالولاء فلا يرجح بها، بخلافها في الميراث. فرع: حكى القاضي الحسين عن القاضي أبي حامد نصاًّ عن الشافعي رضي الله عنه فيما إذا كان له ابنا عم أحدهما أخ لأم: أنه يقدم بها هاهنا، بخلاف الميراث؛ فإنه يكون للأخ من الأم السدس، والباقي بينهما، كذا قال في موضع، وقال: يحتمل أن يسوى بينهما. وهوا لذي صوبه الإمام وقال: إن خلافه غلط عند المحققين. وقال القاضي في موضع آخر: إن علة أبي حامد أنه في الميراث يمكن أن يفرض له؛ فلم يرجح به، وهاهنا لمَّا تعذّر الفرض له ترجحت قرابته فقدم بها. قال: وإن كان [له] أخ وجدٌّ ففيه قولان: أحدهما: الولاء للأخ؛ لأن تعصيبه يشبه تعصيب [الابن]، وتعصيب الجد يشبه تعصيب الأب، والأب والابن لو اجتمعا قدم الابن كما ذكرنا؛ فكذلك المشبه به، وكان قياس ذلك أن يقدم عليه في الميراث- أيضاً – لكن الإجماع قام على عدم التقدمة فصرفنا عنه، وفي الولاء لا إجماع، وهذا ما قال القاضي أبو الطيب: إنه المشهور من المذهب. واختاره الشيخ أبو حامد والأكثرون، كما حكاه الرافعي في الفرائض، وعلى هذا يقدم ابن الأخ على الجد. والقول الثاني: [أنه] بينهما كالميراث، وهذا أصح في "التهذيب"، ومقتضى هذا التوجيه: أن يكون للجد الأوفر من المقاسمة أو ثلث المال، وقد قال [به] بعض أصحابنا، والنقل المشهور –وهو الأصح – المقاسمة أبداً. وقال القاضي الحسين: لأن الجد في باب الميراث تارةً يأخذ بالفرض وتارة بالعصوبة، فأخذ [ثَمَّ] ما هو خير له، وهنا لا يتصور أخذ بفرض، وهما في العصوبة سواء، فسوي بينهما، ويجري الخلاف فيما إذا اجتمع مع الجد أخٌ من الأبوين، وأخ من أب في جريان المعاددة، والذي أجاب به ابن سريج

والأكثرون ومنهم القاضي الحسين: أنه لا معاددة، وقال: لأنّ هذا على خلاف القياس اتبع فيه ما ورد من الخبر؛ فلا يقاس عليه غيره، وعلى القول الثاني يتفرع ما إذا خلف جدًّا وابن أخٍ، فالجدُّ أولى، وقيل: هما سواء. قال: وإن كان [له] ابن أخ وعم فالولاء لابن الأخ، وإن كان له عم وابن عم فالولاء للعم كالميراث، وحكى الشيخ في "المهذب" والقاضي الحسين في الصورة الأولى قولاً: أنهما سواء؛ بناءً على [قولنا:] إن الجد مع الأخ يستويان، وجعلا ما ذكر في هذا الكتاب مفرعاً على قولنا: إن الأخ أولى من الجد، وكذا حكى القاضي القولين فيما إذا كان له عم [وأب جدٌّ]: أحدهما: أن العم أولى. والثاني: أنهما سيّان. وحكى فيما إذا [كان] له عم وابن ابن أخٍ: وجهين: أحدهما: [أن] ابن ابن الأخ أولى. والثاني: أنهما سواء. وإذا تأملت ما ذكرنا فهمت أن الولاء خالف الإرث في سبع مسائل، بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه، وقد عدها القاضي الحسين: أحداهما: يقدم الأخ على الجد على قولٍ. والثانية: مقاسمة الجد الإخوةَ أبداً على الصحيح. والثالثة: عدم معاددة الجد الإخوة للأب، وأن الفائدة ترجع إلى الأخ للأب والأم على الصحيح. والرابعة: يُقَدَّم ابن الأخ على الجد على قولٍ. والخامسة: يُقدم ابن العم الشقيق على ابن العم للأب على النص. والسادسة: عدم تعصيب ابن الابن أخته. والسابعة: عدم تعصيب الأخ للأب أخته.

قال: وإن لم تكن له عصبة انتقل ذلك إلى مواليهم؛ لأنهم كالعصبة ثم [إلى] عصبتهم على ما ذكرت، ودليله ما تقدم، فإن لم يكن له عصبة مولى، وهناك مولى لعصبة المولى: فإن كان مولى أخيه أو ولده لم يرث؛ لأن إنعامه على أخيه وولده لا يتعدى إليه، وإن كان مولى أبيه أو جدّه ورث؛ لأنَّ إنعامه عليه إنعام على نسله. قال: وإن أعتق عبداً، ثم مات وترك ابنين، ثم مات أحدهما وترك ابناً، ثم مات العبد المعتق – فماله للكبير من العصبة، وه وابن المولى دون ابن [ابن] المولى أي: إذا لم يكن للميت قريبٌ وارثٌ، ووجهه: أن الولاء لا يورث، وإنما يورث به بالقرب، والكبير من العصبة أقرب من العصوبة ممن معه. وحكى ابن اللبان عن ابن سريج أنه يكون بينهما نصفين. وليس بشيءٍ؛ لقوله – عليه السلام -:"الوَلاءُ لِلْكُبْرِ"، وهو بضم الكاف، وسكون الباء، أي: الأقرب، أمَّا إذا كان للميت قريب، فهو مقدّم في الميراث كما سيأتي. قال: وإن مات ابناه بعده، وخلف أحدهما ابناً، والآخر تسعة، ثم مات العبد المعتق – كان ماله [بينهم [على عددهم]]، لكل ابن عشر؛ لأنهم في القرب سواء. قال: ولا ترث النساء بالولاء إلا من أعتقن: أمَّا ثبوته لهن بالعتق؛ فلقوله – صلى الله عليه وسلم-:"إِنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"، وروي أن بنت حمزة بن عبد المطلب أعتقت غلاماً، ثم مات وترك ابنته والمعتقة، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل للبنت النصف، وللمعتقة النصف. وأمَّا نفيه عنهن إذا لم [يكن] معِتقات ولا معِتقات المعتِقات، ولا مجروراً إليهما الولاء؛ فلظاهر الخبر المذكور مع قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَه لا يُوَرَّثُ".

قال: أو [أعتق من أعتقن] أو جرّ الولاء إليهن من أعتقن، كما لو كان المعتق رجلاً. وصورة جرّ الولاء: أن يتزوج عندها بمعتقة رجل فتأتي منه بولد، فإنه يكون حرًّا تبعاً لأمه، والولاء عليه لمولى الأم، ثم تعتق المرأة العبد فينجر الولاء على الولد إليها من موالي الأم، [- على ما تقدم-] ومن طريق الأوْلَى يكون لها الولاء على الولد إذا أتت امرأة العبد به [بعد] عتق الأب. تنبيه: قول الشيخ: "ولا ترث النساء بالولاء .... " إلى آخره، يخرج ما إذا عتق عليها قريبها بإرث [أو غيره] عن أن يكن لها عليه ولاء؛ لأنه فصّل في أول الباب [العتق]: إلى عتق يحصل بسبب الملك، وإلى عتق يحصل بالإعتاق كما بيناه، وليس كذلك، بل الولاء يثبت لها عليه اتفاقاً. ومنها غلط الأربعمائة قاضٍ في المسألة المشهورة. [قال]: فإذا ماتت المرأة المعتقة انتقل حقها من الولاء إلى أقرب الناس [إليها] من عصباتها على ما ذكرت؛ لما تقدم بيانه. فروع: إذا تزوج معتق بحرة أصليّة لا وَلاَءَ عليها لأحدٍ، فأتت بولد فإطلاق القاضي الحسين يقتضي ثبوت الولاء عليه لموالي الأب؛ فإنه قال: إذا [تزوج عبد] بامرأةٍ، فأعتقته سيدته وله أولاد- كان لها الولاء عليهم. وقال أيضاً فيما إذا تزوج عبد بامرأة، ثم أعتق وأتت بأولاد: فإن الولاء لموالي الأب على الأولاد، ذكوراً كانوا أو إناثاً، وعلى أولاد أولاد البنين، وأمَّا أولاد البنات فلمن يكون الولاء عليهم؟ ينظر: فإن كان على آبائهم ولاءٌ لأحدٍ فالولاء عليهم له، وإن لم يكن عليهم ولاء لأحد ففيهم وجهانك أحدهما: أن الولاء عليهم لموالي الأم.

والثاني: لا ولاء عليهم لأحدٍ؛ لأنه - عليه السلام - قال: "الولاء لُحْمَة كلُحْمَةِ النَّسَب"، وهؤلاء لا [ينسبون] [لأحد]؛ فلا يكون عليهم ولاءٌ لأحد، [ثم لا] فرق بين أن يكون أبوهم عجميًّا أو عربيًّا. وذهب طوائف من أصحابنا [إلى] أنه إذا كان أبوهم عربيًّا فلا ولاء عليهم لأحدٍ، وإن لم يكن عربيًّا يَكُنْ لموالي أبي الأم. وقال في موضع آخر: إذا تزوج بحرّة فلا ولاء على ولده أصلاً. وهذا ما حكاه الإمام عن رواية شيخه عن بعض الأصحاب، ورجح الأول، وقال: إنه المذهب الذي يجب القطع به، وهو الذي حكاه في "التهذيب". [ولو تزوج حرٌّ لا ولاء عليه بمعتقةٍ لرجل، فهل يثبت على ولده الولاء؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها:] لا ولاء عليه، وهو الصحيح في "التهذيب". والثاني: يثبت لموالي الأم. والثالث: عن كان الأب حرًّا ظاهراً وباطناً فلا ولاء عليه، وإن كان حرًّا ظاهراً لا غير - كالمحكوم بحريته بالدار - ثبت عليه الولاء لموالي الأم. إذا كان رجل حرّ الأصل وأبواه حرّين، وأبوا أبيه مملوكين، وأبو أمه مملوكاً، وأم أمه معتقة - فإذا مات هذا الرجل، قال القاضي الحسين: كان ولاؤه لموالي أم الأم على أحد الوجهين، فإذا أُعتق أبو الأم انجر الولاء إلى موالي أبي الأم، فإذا عتقت بعد ذلك أم الأب انجرّ الولاء من ذلك الجانب إلى [هذا الجانب] إلى موالي أم الأب، فإذا أُعتق كلا منهما مالكه، ثم مات المعتق أولاً بعد موت أبيه وابنه، ولا قريب له- قال القاضي

الحسين: فولاؤه إنما يكون لمعتق أبيه دون معتق ابنه؛ لأن معتق الأب أنعم عليه بعتق أبيه. وهذا فيه نظر؛ لأنَّا قد حكينا من قبل عنه وعن غيره أن من باشر عتق شخصٍ لا نيجر ولاؤه على غيره، والمعتق أولاً قد باشر مالكه عتقه؛ فينبغي أن يكون ولاؤه له إن كان حيًّا ولورثته من بعده، فإن لم يكن له وارث خاص فلبيت المال. [وجوابه: أن الضمير في قوله: "وأبوه وابنه رقيقان" يعود على المباشر للعتق لا إلى العتيق، والسؤال إنما توجه لاعتقاد عوده إلى العتيق]. إذا أعتق الكافر عبداً مسلماً وله ابنٌ مسلمٌ وابن كافر، ثم مات المعتق بعد موت معتقه – فولاؤه لابن معتقه المسلم. ولو مات بعد موت معتقه وإسلام ابنه الآخر فالولاء للابنين عليه. ولو مات المعتق في حياة معتقه وابنه مسلم فميراثه لبيت المال، ولا يكون لابنه المسلم، وكذلك لو أن المعتق المسلم قتل العبد المعتق وللسيد ابن، قال القاضي الحسين: لا يرثه المعتق؛ لأنه قاتل ولاء أبيه، بخلاف النسب؛ فإنه لو قتل رجل ولده، وللقاتل ولد، فإن القاتل لا يرث، ويرثه ابنه. قال: والفرق بينهما: أن في باب النسب الأخوة ثابتة بين الأخ والمقتول؛ فلهذا قلنا بأنَّه يرثه، فأمَّا في الولاء فالابن إنما يثبت له الولاء بموت أبيه. وحكى الرافعي في [آخر رءوس] الوصايا عند الكلام في ختم الباب: أن المعتق إذا قتل معتقه، فإن كان للعبد من هو أقرب من المعتق ورثه، وألا ورثه أقرب عصبات السيد المعتق، وألحق القاضي الحسين بما ذكره ما إذا كان المعتق وأولاده والعبد المعتق كفاراً، فالتحق المعتق بدار الحرب واسترقّ، ثم مات العبد المعتق – فإن ميراثه لبيت المال.

قال: وهكذا نقول في التزويج، نصّ الشافعيّ على أن المرأة إذا أعتقت أمَةً: زوجها أبوها بسبب عصوبة الولاء، ونصّ فيما إذا أعتق رجل أمته، فمات [المعتق] وخلف ابناً صغيراً، وللابن الصغير [جدٌّ]: أنه ليس للجد أن يزوِّج الأمة المعتقة، فما الفرق؟ قال القاضي الحسين حكاية عن القفال: الفرق بينهما: أن في مسألة المعتقة قد وقع الإياس من ثبوت الولاء لها؛ فجعلت كالمعدومة، فانتقلت الولاية إلى أبيها، وفي تلك المسألة لم يقع الإياس بثبوت الولاية للابن الصغير، [بل هي

منتظرة في حقه؛ فافترقا]، [والله أعلم].

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض الفرائض: جمع فريضة: وهي: فعيلة، من الفرض، والفرض: التقدير، قال الله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237]، أي: قدرتم، وقال تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1]، أي: قدرناها وبيناها. وقولهم: فرض [القاضي] النفقة أي: قدرها، وفرض الزوج مهر المثل أي: قدره. ويسمى علم المواريث: [فرائض]؛ لاشتماله على أنصباء مقدرة، أو لكثرة دور الفرض في الكلام فيها، مثل قولهم: فرض الأم كذا، وفرض البنت كذا، وفرض الزوج كذا. وقيل: أصل الفرائض: الحدود، من: فرَضت القوس وفرَّضتها: إذا حززت فيها حزًّا يؤثر فيها، فسميت قسمة المواريث: فرائض؛ لكونها حدوداً وأحكاماً مبينة. وقيل: سمي فرائض؛ لأن الله تعالى قطع الأقارب بعضهم عن بعض، وبين لهم قدر استحقاقهم. وقيل: لأن الله تعالى قال في آخر الآية: {فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ} [النساء: 11]. وقيل: سميت فرائض من الوجوب واللزوم؛ لأن الفرض بمعنى الإيجاب والإلزام. قال أهل اللغة: العالم بها يسمى: فَرَضِيًّا، وفارضاً، وفريضاً أيضاً، كعالم وعليم. وقد كانت المواريث على تسعة أوجه: أربعة منها كانت الجاهلية عليها فورد

الإسلام بإبطالها، وأربعة وجوه كان عليها أهل الإسلام فنسخها الله عز وجل، والوجه التاسع هو الذي عليه الإسلام إلى يومنا هذا كما سنذكر، وبه نسخ ما سواه: فالأربعة الأولى: وراثة الرجال دون النساء، والكبار دون الصغار، ووراثة النساء كرهاً، وميراث الحليف، وكانت العرب تتوارث بالحلف والتناصر؛ طلباً للتواصل به، وصورته أن يقول: "هدمي هدمك، ودمي دمك، وسلمي سلمك، وحربي حربك، ترثني وأرثك، وتنصرني وأنصرك، وتعقل عني وأعقل عنك". وأحد الوجوه الأربعة الثانية: التوارث بالحلف والتناصر، والثاني: بالإسلام والهجرة، والثالث: [التبني]، والرابع: على الوصايا، وقد نسخت الفرائض في الإسلام [ثلاث مرات]: نسخ التوارث بالحلف والنصرة الدال عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33]- بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الآية [الأنفال: 72]، وقوله عليه السلام: [لا حلف في الإسلام]، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" أخرجه مسلم. فكان الرجل [إذا آمن وهاجر إلى المدينة، وكان له بمكة ولد مؤمن، ولم يهاجر معه لم يرثه]، إذا مات، ويرثه جماعة المهاجرين [بالمدينة]، ثم نسخ ذلك بالقرابة والرحم بقوله تعالى: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب: 6]، فنقل التوارث إلى الرحم، ولم يذكر مقاديره، فكان الرجل يجب عليه أن يوصي لوالديه وأقاربه؛ لقوله

تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180]. قال ابن سريج: فكان يجب على المحتضر أن يوصي لكل واحد من الورثة بما في علم الله تعالى [من الفرائض]، فكان من وفق لذلك مصيباً، ومن يتعداه مخطئاً. قال الإمام: وهذا زلل، ولا يجوز ثبوت مثله في الشرائع؛ لأنه تكليف على عماية. ثم نسخ وجوب الوصية بالآيات المذكورة في سورة النساء، قال صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11]، "عجز الموصى أن يوصي كما أمر الله – تعالى – فتولى الله قسمتها بنفسه، إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث". [ثم اعلم] أن تعلم الفرائض محثوث عليه، ومندوب إليه، قال صلى الله عليه وسلم: "الْعِلْمُ ثَلاَثَةٌ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ" أخرجه أبو داود وابن ماجه. وروي أنه عليه السلام قال: "تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ؛ فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وَإِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبضُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، حَتَّى يَخْتَلِفَ الاِثْنَانِ فِي الْفَرِيضَةِ فَلاَ يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا" وغير ذلك من الأخبار، وقد روي عن عمر – رضي

الله عنه – أنه قال: "إِذَا تَحَدَّثْتُمْ فَتَحَدَّثُوا فِي الْفَرَائِضِ، وَإِذَا لَهَوْتُمْ فَالْهَوْا بِالرَّمْي". ولم يترك أحد من [أكابر] الصحابة إلا وله الكلام في الفرائض؛ إلا [أن] الذين اشتهروا بعلمها أربعة: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت [رضي الله عنهم]، قال علماؤنا: ولم يتفق هؤلاء الأربعة قط على مسألة إلا وافقتهم الأمة، وما اختلفوا إلا وقعوا فرادى، أو ثلاثة في جانب وواحد في جانب. واختار الشافعي من مذاهبهم مذهب زيد؛ لأنه اقرب إلى القياس، ولقوله عليه السلام: "أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ"، وعن القفال أن زيداً لم يهجر له قول، بل أقواله معمول بها، بخلاف أقوال غيره، ومعنى اختياره له: أنه نظر في أدلته فوجدها مستقيمة فاتبعها، لا أنه قلده؛ إذ المجتهد لا يقلد المجتهد. قال: من مات وله مال ورث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَمَنْ تَرَكَ دَيْناً أَوْ ضَيْعَةً فَإِلَىَّ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَأَنَّا مَوْلَى مَنْ لا مَوْلى لَهُ، أَرِثُ مَالَهُ وَأَحُلُّ عَانِيَهُ" يعني: أفك عانيه، والعاني: الأسير، ومعنى

الأسير هنا: ما تتعلق به ذمته ويلزمه بسبب الجنايات التي سبيلها أن تتحملها العاقلة. وقد جاء في رواية: "أَفُكُّ عُنيَّه". بضم العين وتشديد الياء. ويفسر ذلك ما روى مسلم والبخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلاًّ فَإِلَيْنَا"، وفي رواية لأبي داود [عن جابر] أنه قال: "أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً، فَلأِهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْناً أَوْ ضَيَاعاً، فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ". والضياع – بفتح الضاد المعجمة -: العيال، وقال الخطابي: الضياع: اسم لكل ما هو معرَّض أن يضيع إن لم يتعهد، والكل – بفتح الكاف والتشديد اللام -: العيال والدين، وقال بعضهم: إنه ينطلق على الواحد والجمع، والذكر والأنثى، وجمعه: كلول، ومعناه: الثقل ثم استعمل في كل ضائع وأمر مثقل. ثم الوراثة تارة تكون بسبب عام وهو الإسلام، وتارة تكون بسبب خاص وهو النكاح، والولاء، والقرابة، ومنع بعض أصحابنا – كما قاله القاضي [الحسين] في باب الوصية وغيره – هنا أن بيت المال ليس بوارث لمن لا وارث له خاص، وأن سبيله سبيل المال الضائع؛ لأنا نعلم أن له عصبة، لكنا لا نعرف عينه، وقد حكاه الروياني قولاً عن رواية ابن اللبان، قال: إلا المرتد فإنه لا يورث أي: سواء كان ما معه من المال اكتسبه في حال الإسلام أو حال الردة، وسواء

كانت الردة في الصحة أو في المرض، وقصد منع وارثه، والدليل على [أن] ذلك في بعض الصور، وهي ما اكتسبه في حال الردة و [في] الصحة: الإجماعُ، وفيما عداهما: القياسُ عليهما. واستدل لذلك ابن الصباغ بما روى أبو بردة بن نيار قال: "بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَجُلٍ عَرَّسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنْقَهُ، وَأُخَمِّسَ مَالَهُ"، وهذا كان مرتداً؛ لأنه استحل ذلك، وقد أبدى الإمام احتمالاً في توريث المرتد بمن المرتد] على قولنا: إن ملك المرتد لا يزول إلا بالموت، تخريجاً من قولنا: إن ولد المرتد من المرتدة مرتد. قال: ومن بعضه [رقيق وبعضه حر] ففيه قولان: أحدهما: يورث عنه ما جمعه بحريته؛ لأن ملكه تام على [ما ملكه] بالحرية؛ فورث كمالِ من كله حر، وهذا هو الجديد. والثاني: أنه لا يورث كما أنه لا يرث، وهذا هو القديم. وللقائل بالجديد أن يقول: منع توريثه من أن يأخذ مالك بعضه الرقيق بعض ما ينتقل إليه، وهذا المعنى مفقود في الإرث منه. تفريع: إن قلنا بالأول ورثه أقاربه، ثم معتقه، وروى ابن اللبان وجهاً: أنه يكون بين الوارث ومالك بعضه [و] الرقيق على نسبة الرق والحرية، وحكاه المراوزة

أيضاً؛ لأن سبب الإرث الموت، وهو حال بجميع بدنه، وبدنه ينقسم إلى الرق والحرية؛ فيقسم ما خلفه كأكسابه. وإن قلنا بالثاني، قال الشافعي – رضي الله عنه – يكون لسيده، وهو الأظهر عند الأكثرين؛ لأنه نقصه منع الإرث، فصار كمال وكان كله رقيقاً. وقال الإصطخري [وابن سريج]: يكون لبيت المال؛ لأن السيد لا حق له في حريته، فلا يكون ميراثه له، ولا يرثه عنه قريبه؛ لبقاء أحكام الرق، فكان أولى الجهات به بيت المال. قال الماوردي: "ولهذا عندي وجه أراه" وعلى ذلك جرى الفرضيون كما قال الرافعي وصححوه، وحكى في "البحر" في كتاب العتق أن أبا إسحاق المروزي حكى فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن ما تركه يكون لسيده. والثاني: أنه لوارثه. والثالث: أنه بينهما. [وأن] ابن أبي هريرة قال: نصوص الشافعي محمولة على اختلاف أحوال: فالذي نص [عليه] أنه لسيده: أراد إذا كان بينهما مهايأة، ومات في [زمان سيده]، وقد استهلك ما كان يملكه بحريته. والذي نص أنه يكون [للوارث أراد: إذا كان موته في زمان العبد. والذي نص] أنه يكون بينهما [أراد:] إذا لم يكن [بينهما] مهايأة، وفي ماله وفاء بالحقين، والعبد إذا ملك مالاً وقلنا: إنه يملك، فإنه لا يورث اتفاقاً من أصحابناً. قال: وإذا مات من يورث بُدِئ من مالهن بمؤنة تجهيزه ودفنه، أي: من كفن وحفر قبر وغير ذلك؛ لما روي عن خباب بن الأرت قال: توفي [مصعب] بن عمير قُتِل يوم أحد، ولم يكن له إلا نمرة كنا إذا غطينا رأسه خرجت رجلاه،

وإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غَطُّوا بِهَا رَاسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإِذْخِر" خرجه البخاري ومسلم وغيرهما. والنمرة- بفتح النون وكسر الميم -: هي شملة مخططة من صوف، وقيل: فيها أمثال الأهلة، وكأنها أخذت من لون النمر؛ لما فيها من السواد والبياض، وهي من مآزر الأعراب، ولأنه يقدم في حياته بما يضطر إليه، فكذلك بعد مماته، وهذا إذا لم يتعلق بماله حق سابق على الوفاة، فإن تعلق مثل أن يكون مرهوناً أو جانياً، أو حجر عليه لفلس، وبائعو أمواله باقون، فإن مؤنة تجهيزه لا تصرف من ذلك. وحكى الجويني في "الجمع والفرق" عن بعض مشايخنا أنه يقدم الميت على حق المجني عليه وحق المرتهن، وإن لم يخلف مالاً سواه. قال: ثم تقضي ديونه، ثم تنفذ وصاياه، لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]، قال علي بن أبي طالب: إنكم تقرءون في كتاب الله تعالى، الوصية قبل الدين، وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدين قبل الوصية، وقد ذكرنا ذلك عن ابن عباس في كتاب الوصية، لكنه لم يسند ذلك إلى قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمنع الدين انتقال الملك في التركة إلى الورثة على الجديد؛ لأنه لو كان باقياً على [الملك للميت] لوجب أن يرثه من أسلم أو عتق من أقاربه قبل قضاء الدين، وألا يرثه من مات قبل قضاء الدين من الورثة، فعلى هذا ما يحدث من زوائد وفوائد قبل قضاء الدين يسلم للورثة، وإن لم توف أعيان

التركة بالديون، ولا شك على هذا في أن الدين يتعلق بالتركة، لكن كتعلق [الرهن أو] الجناية؟ فيه قولان، ويقال وجهان: أحدهما: [أنه] كتعلق الدين بالمرهون، لأن الشارع إنما أثبت التعلق نظراً للميت لتبرأ ذمته، فاللائق به ألا يسلط الوارث عليه. وهذا أظهر فيما ذكره الإمام وغيره. والثاني: أنه كتعلق الأرش [برقبة العبد الجاني] لأن كلاًّ منهما ثبت شرعاً من غير اختيار المالك، وسيكون لنا عودة إلى ذلك في القسمة [إن شاء الله تعالى. وقد حكى الإمام في باب "صدقة الفطر" أن بعض أصحابنا ذكر قولاً بعيداً: "أن الدين يمنع حصول الملك للورثة"، وأن هذا القول ذكره شيخه والصيدلاني وغيرهما، وقال في كتاب "الشفعة": "إنه القديم، والمشهور نستبه إلى الإصطخري" وجهه: أنه لو بيع كانت العهدة على الميت دون الورثة؛ فدل على بقاء ملكه. قال الإمام في زكاة الفطر: "وقد تردد المفرِّعون على هذا، فالذي صغا إليه معظمهم أن الأمر موقوف، فإن صرفت أعيان التركة في الديون تبينّا أن الورثة لم يملكوها، وإن أبرأ أصحاب الديون الميت، أو أدى الورثة الدين من خوالص أموالهم – تبينّا أنهم ملكوها بموت المورث، وما نقله الربيع من أن على الورثة إخراج الزكاة عن عبيد التركة إن بقوا لهم – يشعر بذلك. وقال آخرون: "إن الملك يثبت للورثة عند زوال الدين من غير تبين"، قال: "وهذا في نهاية الضعف"]. وعلى هذا هل يمنع نقل كل التركة أم قدر الدين؟ فيه وجهان مذكوران في "النهاية"، والرافعي في آخر كتاب الشفعة، وقد حكى القاضي الحسين والفوراني في كتاب الوصية وجهاً: أن الوصية تمنع الإرث كما يمنعه الدين على رأي،

وهذا يظهر فيما إذا كانت الوصية بقدر من الثلث لا بشيء معين ولا بالثلث، ويكون مادته من قولنا: إن يسير الدين يمنع الإرث. قال: ثم تقسم تركته بين ورثته لآيات النساء. قال: والوارثون من الرجال،- أي: في الجملة – خمسة عشر: الابن، وابن الابن وإن سفل، والأب، والجد – أي: أبو الأب – وإن علا، والأخ للأب والأم، [والأخ للأب]، والأخ للأمن وابن الخ للب والمن وابن الخ للأب، والعم للأب والأم، والعم للأب، وابن العم للأب والأم، وابن العم للأب والأم، وابن العم للأب، والزوج، والمولى المعتق. وقد عدهم الغزالي [وغيره] عشرة: اثنان من السبب وهما: المعتق والزوج، واثنان من أعلى النسب وهما: الأب والجد أبو الأب، واثنان من الأسفل وهما: الابن وابن الابن، وأربعة على الطرف وهم: الإخوة وبنوهم إلا بني الإخوة للأم، والأعمام وبنوهم إلا الأعمام من جهة الأمن وهم إخوة الأب لأمه خاصة، وإذا اجتمع هؤلاء المذكورون لم يرث منهم إلا ثلاثة: الأب، والابن، والزوج. قال: والوارثات من النساء – [أي] على الجملة- إحدى عشرة: البنت، وبنت الابن وإن سفلت، والأم، [والجدة من قبل الأم]، والجدة من قبل الأب، والأخت للأب والأم، والأخت للأب، والأخت للأمن والزوجة، والمولاة المعتقة، ومولاة المولاة. ومنهم من عدهن عشرة واكتفى بذكر المولاة عن مولاة المولاة، كما اكتفى بالمولى في جانب الرجال عن مولى المولى، وعدهن الغزالي، وغيره سبعة: اثنان من السبب، وهما: الزوجة، والمعتقة، واثنتان من أعلى النسب، وهما: الأم والجدة، واثنتان من أسفل، وهما: البنت وبنت الابن، وواحدة من الطرف وهي الأخت، وإذا اجتمعت المذكورات لم يرث منهن إلا خمسة: الزوجة، والبنت، وبنت الابن، والأم، والأخت من الأبوين، وإذا اجتمع من يمكن اجتماعهم من

الذكور والإناث ورث الأبوان، والابن والبنت، ومن يوجد من الزوجين. والدليل على أن من ذكر وارث – الإجماع والنصوص التي ستعرفها، وعلى عدم وراثة غيرهم التمسك بالأصل. واعلم أن من انفرد من الرجال حاز جميع التركة إلا الزوج والأخ للأم، ومن انفرد من النساء لم يحز جميع التركة إلا من لها الولاء. قال: ومن قتل مورثه لم يرثه، أي: سواءٌ كان بمباشرة أو سبب، مضموناً بقصاص أو دية أو كفارة، أو غير مضمون لوقوعه عن حدٍّ أو قصاص، صدر من مكلف أو غير مكلف، [ووجهه: عموم قوله] صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِيرَاثٌ"، كما رواه عمر – رضي الله عنه – وقوله عليه السلام: "لاَ يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئاً" كما رواه ابن عباس، ويروي: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَإِنَّهُ لا يَرِثُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ".

ولأنا لو ورثناه لم نأمن من مستعجل الإرث أن يقتل مورثه؛ فاقتضت المصلحة حرمانه. قال: وقيل: إن كان متهماً في القتل، أي كالمخطئ، والحاكم إذا قتله في الزنى بالبينة، لم يرثه؛ [للتهمة باستعجال] الإرث، وإن لم يكن متهماً أي: كالحاكم إذا قتله في الزنى بإقراره ورثه؛ لأن [الإمام] مأمور بذلك، محمول عليه، ولاتهمة في حقه، ويحكي هذا عن تخريج ابن سريج وابن خيران، وطرد فيما إذا حفر بئراً في محل عدوان، أو وضع فيه حجراً فتعثر مورثه به فمات، قال الماوردي: وهو ينكسر بالخاطئ. قال: وقيل: إن كان القتل يوجب ضماناً أي: ولو الكفارة لا غير، كما إذا رمى إلى صف الكفار في القتال، ولم يعلم أن فيهم مسلماً، وكان فيهم مورثه فقتله – لم يرث، لأنه قتل بغير حق، وإن لم نوجب ضماناً لقتله حدًّا أو قصاصاً، أو دفعاً لصياله، أو دفعه إذا كان باغياً – ورث؛ لأنه قتل بحق فأشبه قتل الإمام له في الحد، وهذا ما قال القاضي الروياني: إنه الاختيار، و [لا يبعد] تخصيص الأخبار بالقياس. وقد تحصَّل مما ذكرناه أن الموجب للضمان مطلقاً يقتضي الحرمان، سواء كان بالقصاص أو الدية أو الكفارة، وفي القتل الذي لا يوجب ضماناً خلاف، وهو في بعض الصور مرتب على بعض عند بعضهم: فقتل الإمام المعترف بالزنى يترتب عليه قتله بالبينة، وأولى بأن يحرم، وقتله قصاصاً يترتب على قتله عمداً، وأولى بالحرمان، [لكونه مخيراً بين الفعل والترك، وقتله لدفع صياله، وبغية مرتب على قتله قصاصاً، وأولى بالحرمان]؛ لاحتمال إمكان

الدفع بدونه وقتله إذا كان عادلاً من الباغي، إذا قلنا بعدم وجوب الضمان على الباغي مرتب على المسالة قبلها وأولى بالحرمان؛ لكونه بغير حق. وقد حكى الحناطي قولاً: أن القاتل خطأ يرث مطلقاً، وحكى عن صاحب التقريب وجه في مطلق القتل بالسبب: أنه لا يوجب الحرمان، وحكى [عن] ابن اللبان وغيره رواية وجه فيما إذا سقى الوارث الموروث دواءً، أو بط جرحه لكونه وليًّا عليه أنه لا يحرم، والصحيح الأول؛ لعموم الأخبار. فرعان: أحدهما: المكره على قتل مورثه لا يرثه، وإن قلنا: لا ضمان عليه؛ لأنه آثم، وقيل: يرثه. الثاني: لو شهد على مورثه بما يوجب القتل قصاصاً أو حدًّا، وقتل بشهادته، ففي إرثه الخلاف المذكور فيما إذا قتله قصاصاً، ولو شهد على إحصانه، وشهد غيره بالزنى فهل يحرم شاهد الإحصان؟ قال ابن اللبان وآخرون: فيه مثل هذا الخلاف. قال الرافعي: ويشبه أن يجيء فيه طريقة قاطعة بأنه لا يحرم، ولو زكى [الوارث] شهود الزنى ففيه الخلاف. قال: ولا يرث أهل ملة من [غير] أهل ملتهم – أي كالمسلمين من الكفار – لما روي عن أسامة بن زيد [أن النبي] صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ" خرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، ولا فرق في ذلك بين

القريب والمعتق، ولا بين أن يسلم قبل القسمة أو يستمر على كفره. قال الشيخ أبو محمد: "والفرق بين الميراث حيث لا يرث المسلم من الكافر، وبين النكاح حيث يجوز له نكاح بعض الكفار – وأن التوارث مبني على الموالاة والمناصرة، ولا موالاة بين المسلم والكافر بحال، ومواصلتنا لهم نوع تشريف لهم؛ فاختص بمن له أصل في الإحرام وهم أهل الكتاب. قال: وإلا الكفار؛ فإنه يرث بعضهم من بعض مع اختلاف الملل؛ لأن جميع [الملل] في البطلان كالملة الواحدة، قال الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، وقال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} [يونس: 32]، فأشعر بأن الكفر كله ملة واحدة، ولأن حقن دمهم بسبب واحد فورث بعضهم بعضاً كالمسلمين. وقد حكى عن ابن خيران وغيره تخريج وجه: أن اختلاف الملل يمنع التوارث؛ بناءً على أن الكافر إذا انتقل من دين إلى دين لا يقر عليه، واختاره الأستاذ أبو منصور، ويدل عليه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى" والصحيح الأول، والحديث محمول على الإسلام والكفر، ويؤيده أنه جاء في بعض الروايات: "لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ: لاَ يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ"، فجعل الثاني بياناً للأول.

قال: ولا يرث حربي من ذمي، ولا ذمي من حربي؛ لأن الموالاة انقطعت بينهما؛ فلم يتوارثا كالمسلم مع الكافر. وهذا ما أورده الأكثرون، وهو الصحيح. قال الرافعي: وربما نقل إجماع العلماء عليه، وحكى الإمام وغيره قولاً: أنهما يتوارثان، وبعضهم قال: ولنا قول: أن الذمي يرث من الحربي. والمعاهد والمستأمن كالذمي، أو كالحربي؟ فيه وجهان: أصحهما الأول، والثاني محكي عن ابن سريج. قال: ولا يرث العبد والمرتد من أحدٍ، أما امتناع [إرث] العبد؛ فلأنه لو ورث لكان الملك لسيده، والسيد أجنبي من الميت، فلا يمكن توريثه منه، والمدبر وأم الولد والمكاتب في هذا المعنى كالقن، ومن نصفه حر ونصفه رقيق لا يرث على الصحيح، وقد روي عن ابن سريج أنه ورثه بقدر ما فيه من الحرية، وبعضهم حكى عن المزني أنه خرجه قولاً للشافعي [- رضي الله عنه -] وبعضهم أثبته مذهباً للمزني، وعلى ذلك جرى الفرضيون، وبعضهم لم يثبت ذلك تخريجاً منه ولا مذهباً له، وما قاله بعد نقله عن الشافعي [- رضي الله عنه-] أننصف العبد إذا كان حرًّا يرث أباه إذا مات، والقياس على قوله: إنه يرث إنما قصد بهذا الكلام الاحتجاج على انه لا يورثن أي: لو ورث لورث، ثم على قول التوريث لو مات الحر وخلف ابناً نصفه حر وأخاً حرًّا، كان لابنه النصف ولأخيه النصف، ولو خلف اثنين نصفهما حر ففي مالهما قولان حكاهما الماوردي لأصحابنا تخريجاً على مذهبه: أحدهما: النصف أيضاً. والثاني: الكل. وأما امتناع إرث المرتد؛ فلأنه لا سبيل إلى أن يرثه مرتد مثله لما ذكرناه، ولا مسلم؛ لخبر أسامة، وانقطاع الموالاة بينهما، ولا كافر أصليٍّ؛ لأنه لا يقر

على دينه، وذلك مقر عليه، فكانت المنافاة بينهما ثابتة؛ فبطل إرثه، وقد ذكرنا عن الإمام من قبل احتمالاً في إرثه من مثله. قال: وإذا مات [متوارثان بالغرق أو الهدم] ولم يعرف السابق منهما، لم يورث أحدهما من الآخر، لأنه لا يعلم حياته عند موت صاحبه فلم يرثه، كالجنين إذا خرج ميتاً، ومن طريق الأولى لا يرث أحدهما من الآخر إذا احتمل موتهما معاً، وعلل الشيخ أبو حامد ذلك بأن لو ورثنا كل واحد من الآخر لحكمنا بالخطأ قطعاً؛ لأنهما إن ماتا معاً فقد ورثنا ميتاً عن ميت، وإن ماتا على الترتيب ففيه توريث من تقدم موته عمن تأخر. تنبيه: كلام الشيخ صريح في عدم توريث أحدهما من الآخر، ومنه يفهم أنه لا يوقف بسبب الآخر شيء كان يستحقه لو تحقق موت صاحبه قبله، [بل يصرف مال كل منهما إلى من يرثه لو تحقق موت صاحبه قبله] لأنا إنما نوقف لمن يجوز أن يحكم له بالتوريث، والشيخ قد جزم هاهنا بأنه لا يورث أحدهما من الآخر، وهذا ما صرح به الأصحاب. نعم قالوا: لو عرفنا موت السابق منهما ثم نسيناه وقف ميراثهما على الصحيح من المذهب حتى نتذكر؛ لإمكان ذلك، بخلاف التوقف في الحالة السابقة، فإن ذلك لا غاية له [تنتظر]، وليس كما إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة ومات ولم يبين، حيث يوقف إلى أن يصطلح؛ لأن معنا ثم أصلاً في حق كل [واحدة] منهن لا يعارضه أصل آخر، فلأجله أوقفنا إلى الاصطلاح وجوزناه، وليس كذلك هاهنا؛ لأنا إذا جردنا النظر إلى أحدهما وقلنا: الأصل بقاء حياته إلى موت صاحبه فيرثه، أدى إلى ألا يرث؛ لأن الأصل في الآخر بقاء الحياة؛ فلا يورث، فيكون ما جعلناه سبباً للتوريث مانعاً منه، ونظير المسألة: ما إذا وقع في أحد الإنائين نجاسة، ولم تعرف عينها لا يمكن الأخذ بالأصل في كل واحد منهما؛ لما ذكرناه. وقد ذكر وجه فيما إذا عرف السابق، ثم نسي: كما [لو] لم تعرف عينه أصلاً، وإليه مال

الإمام، وحكى [أن] ابن اللبان [حكى] عن بعض [أصحابنا] المتأخرين فيما إذا [تلاحق] الموتان ولم يعلم السابق: أنه يعطي كل وارث ما يتيقن أنه له، ويوقف المشكوك فيه، وحكاه أبو حاتم القزويني عن ابن سريج وقال: إن شيخه أبا الحسن – يعني ابن اللبان – قال به. ثم جميع ما ذكرناه فيما إذا تحققت القرابة والموت اللذان يترتب عليهما [الميراث]، أما إذا انتفت القرابة باللعان فلا توارث بين المنفي والنافي، لكن ليس لتحقُّق وهو القرابة، وثبوت مانع كما ذكره بعضهم؛ بل لانتفاء السبب؛ فإن المانع إنما يكون بعد وجود السبب، وفي سلسلة [الشيخ] أبي محمد وجه مخرج: أن اللعان لا يقطع النسب بني النافي والمنفي؛ بناء على أن الملاعن لا يحل له أن ينكح المنفية باللعان إذا لم يكن قد دخل بأمها، وإذا انتفى التوارث بين المنفي [باللعان وبين] النافي، فهل ينتفي بينه وبين التوءم المنفي منه باللعان؟ فيه وجهان: أصحهما، وبه قال أبو إسحاق: الانتفاء. والثاني: يتوارثان بأخوة الأب، وهذا الوجه جار في التوءمين من الزنى، كما حكاه ابن الصباغ في باب اللعان والماوردي والحناطي وغيرهم. وإذا شككنا في الموت كما إذا غاب شخص وانقطع خبره، أو جهل حالة بعد دخوله في حرب، أو انكسرت سفينة وهو فيها فلم يعرف حاله – لم يورث ماله إلا أن تقوم بينة على موته، أو تمضي مدة يحكم الحاكم فيها بأن مثله لا يعيش فيها؛ فحينئذ يحكم بميراثه لقاربه والوارثين حالة موته إذا ثبت بالبينة وحاله الحكمُ بموته إذا طالت مدته، كما صرح [به] المصنف وابن الصباغ والغزالي وابن اللبان، وأبو الحسن العبادي. وعن الأستاذ أبي منصور انه قال في الحالة الثانية: إن الصحيح انه لا يقسم

ماله، ولا مدة ينتهي إليها؛ لاختلاف أعمار الناس في جميع الأعصار، وقد نص الشافعي – [رضي الله عنه] – [علي] أن زوجة المفقود تصبر إلى أن يعرف حاله؛ فكذلك هاهنا، ثم على الأول ما المدة المعتبرة في توريث ماله؟ مجموع ما ذكره أصحابنا أوجه: أضعفها: أنه يكمل عمره بسبعين سنة. والثاني: أنها ليست مقدرة، بل المعتبرة مدة يتيقن فيها بأنه لا يعيش [أكثر منها]. والثالث – وهو أرجحها -: أن المعتبر مدة يغلب على الظن أنه لا يعيش أكثر منها. وقد نقل عن ابن اللبان أنه لا يعتبر حكم الحاكم بعد مضي [مدة يعلم فيها موته، وقريب منه ما حكي عن إشارة العبادي في الرقم إلى أنه لا يشترط أن يقع حكم الحاكم بعد مضي] المدة، إذا كان قد ضرب له مدة لا يعيش في الأغلب أكثر من تلك المدة، فإذا انتهت فكأنه ذلك اليوم قد مات. وأما ميراث المفقود من قريبه الذي مات في حال فقده قبل الحكم بموته – فموقوف أيضاً إلى أن يحكم بموته، ثم إن كان المفقود يستوعب ميراث القريب – وقف جميع ميراثه، وإن لم يستوعب: بأن كان في ورثة الميت من لا يختلف حاله بوجود المفقود أو عدمه- أعطى [الحاضر نصيبه، وإن كان يختلف نصيب الحاضر بوجود المفقود أو عدمه أعطي] الحاضر ما يتيقن أنه حقه، ووقف ما يشك فيه. مثاله: [ما] إذا كان المفقود أختاً لأب، والميت امرأة، والوارث: زوج، وأم، وأخ لأب- فإن كان المفقود حيًّا كانت المسألة من ستة: للزوج ثلاثة، وللأم سهم، وللأخوين سهم، لا يصح عليهما؛ فتضرب المسالة في أصل الكسر – وهو ثلاثة – تبلغ ثمانية عشر، ومنها يصح للزوج تسعة، وللأم ثلاثة، وللأخ

أربعة، ويوقف للمفقود سهمان. وإن كان ميتاً، فالمسألة من ستة: للزوج ثلاثة، وللام سهمان، وللأخ سهم، وبين المسألتين موافقة بالثلث، فتضرب ستة في ستة، أو ثمانية عشر في اثنين؛ تبلغ ستة وثلاثين؛ فالزوج لا يختلف حاله في الصورتين؛ فيعطى النصف – ثمانية عشر – والأم لها من مسألة الحياة: ثلاثة مضروبة في وفق مسألة الموت – وهو سهمان – بستة، وللأخ من مسألة الموت سهم مضروب في وفق مسألة الحياة – وهو ستة بستة، والباقي – وهو ستة – موقوف بين [الزوج] والأم والأخ والمفقود، فإن ظهر موته سلمت للأم، وبها يكمل لها الثلث، وإن ظهر حيًّا سلم للمفقود أربعة، وللأخ سهمان؛ يكمل له بهما ثمانية، وهي مثلا ما أخذت الأخت، وعلى هذا فقس. ومسائل هذا الباب كثيرة؛ لا يسع هذا [الكتاب] استيعابها، والله [عز وجل] أعلم.

باب ميراث أهل الفرض

باب ميراث أهل الفرض الإرث والميراث أصله: العاقبة؛ كما قاله المبرد، ومعناه هاهنا: الانتقال من واحد إلى واحد. قال: وأهل الفرض: هم الذين يرثون الفروض المذكورة في كتاب الله تعالىن وغير الشيخ قال: [هو] كل من له سهم مقدر شرعاً؛ لا يزيد عليه ولا ينقص [عنه]. قال: وهي النصف، والربع، [والثمن]، والثلثان، والثلث، والسدس، وهم عشرة: الزوج، والزوجة، والأم، والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت، وولد الأم، والأب مع الابن، أو ابن الابن، والجد مع الابن أو ابن الابن: فأما الزوج فله النصف مع عدم الولد وولد الابن، وله الربع مع الولد وولد الابن؛ لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الآية [النساء:12]. قال: وأما الزوجة فلها الربع؛ مع عدم الولد وولد الابن، ولها الثمن مع الولد [وولد الابن]؛ لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} الآية [النساء:12]. فثبت هذا [الحكم] بالنص عند فقد الولد، وعند وجوده، وقيس [عليه] ولد الولد؛ لإجماعهم على أنه بمنزلته في الإرث والتعصيب؛ فكذلك في حجب الزوجين وغيرهم.

ومنهم من قال: إن اسم "الولد" يقع على ولد الابن أيضاً؛ فهما مرادان باللفظ؛ ويشهد لذلك قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 31]، وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]، وقوله عليه السلام: "أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ"، وقول الشاعر: بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد تنبيه: الزوجة: - بالهاء- لغة قليلة، والأفصح الأشهر أن [يقال للمرأة]: زوج بلا هاء، وبه جاء القرآن، وقد جاءت بالهاء في الأحاديث الصحيحة [المشهورة]. وتحسن هذه اللغة في كتاب الفرائض؛ للفرق. قال: وللزوجتين والثلاث والأربع ما للواحدة من الربع والثمن؛ لأنا لو جعلنا ذلك لكل واحدة لاستغرق المال، ولزاد نصيبهن على نصيب الزوج. قال الرافعي: وهذا توجيه إقناعي، وكفى بالإجماع حجة، وبعضهم استدل على ذلك بعموم الآية. قال: وأما الأم فلها الثلث مع عدم الولد وولد الابن، أو اثنين من الإخوة والأخوات-أي- سواء كانا من الأبوين أو من أحدهما- ولها السدس مع الولد، وولد الابن، والاثنين من الإخوة والأخوات؛ لقوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} الآية [النساء: 11]، فنصت الآية على أن للأم الثلث؛ إذا لم يكن للميت ولد ولا إخوة، وعلى أن لها السدس إذا كان له ولد أو إخوة.

وقد ذكرنا أن ولد الابن قائم مقامه في ذلك، وأما اكتفاؤنا بالأخوين مع أن الآية وردت بصيغة الجمع [لا التثنية؛ [فذلك] أن الجمع] قد يعبر به عن الاثنين، وقد روي أن ابن عباس احتج على عثمان، وقال: لا كيف تردها إلى السدس بالأخوين وليسا بإخوة، فقال عثمان: لا أستطيع رد شيء كان قبلي، ومضى في البلدان، وتوارث الناس به". فأشار إلى إجماعهم عليه قبل أن أظهر ابن عباس الخلاف، وروي انه قال [له]: حجبها قومك يا غلام. وأيضاً فإنه حجب يتعلق بعدد، فكان الاثنان أقله: كحجب البنات بنات الابن. ولا يقوم أولاد الإخوة مقام الإخوة في حجبها من الثلث إلى السدس؛ لأنهم لا يسمون إخوة، والآية دلت على أن الحاجب لها الإخوة. قال: ولها ثلث ما يبقى بعد فرض الزوج أو الزوجة في فريضتين، وهما: زوج وأبوان، أو زوجة وأبوان. صورة الفريضة الأولى: إذا ماتت المرأة وخلفت زوجها وأبويها: فللزوج النصف، والباقي وهو النصف – [للأم ثلثه – وهو سدس الأصل – والباقي للأب. وصورة الثانية: [إذا] مات الرجل وخلف زوجة وأبوين: للزوجة الربع، والباقي – وهو النصف] والربع-: للأم [ثلثه] وبقيته للأب. ووجه الأصحاب ذلك بأنه شارك الأبوين ذوا فرض، فكان للأم ثلث ما فضل عن الفرض، كما لو شاركتها بنت؛ وبأن كل ذكر وأنثى لو انفرد لقسم المال بينهما أثلاثاً، فإذا اجتمعا مع الزوج أو الزوجة وجب أن يكون الفاضل

عن فرضهما بينهما أثلاثاً؛ كالأب والأخت، وذهب ابن سريج إلى أن لها في المسألتين الثلث كاملاً؛ عملاً بظاهر الآية، وعن أبي الحسن بن اللبان – كما أشار إليه الشيخ أبو حاتم القزويني – أن لها [الثلث كاملاً في الأولى]. قال الأصحاب: وذلك ليس بشيء؛ لما ذكرناه، مع أن فيه مخالفة لقاعدة الفرائض؛ فإن القاعدة فيها أنه إذا اجتمع ذكر وأنثى في درجة واحدة – كان للذكر ضعف الأنثى أو مساواتها، وهذا يؤدي إلى [تفضيل الأنثى] على الذكر، وعدل الأصحاب عن قولهم: إن للأم في [الصورة] الأولى السدس، وفي الثانية: الربع إلى ثلث ما يبقى؛ لموافقة [لفظ] الكتاب العزيز في بعض ذلك. قال: وأما الجدة فإن كانت أم الأم أي: وإن علت، أو أم الأب، أي: وإن علت، [فلها السدس]. الأصل فيها: ما [روي] عن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها فقال: "مالك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم [شيئاً]؛ فارجعي حتى أسأل الناس"، فسأل الناس، فقال [له] المغيرة بن شعبة: "شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهَا السُّدُسَ"، فقال:

"هلْ مَعَكَ غَيْرُكَ؟ " فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة؛ فأنفذ لها أبو بكر [-رضي الله عنه-] السدس، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر؛ تسأله ميراثها، فقال: "ما لك في كتاب الله تعالى شيء، وما كان القضاء الذي قضى به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض شيئاً، ولكن هو ذلك السدس، فإن اجتمعتما فهو بينكما، وأيتكما خلت فهو لها". وعن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ؛ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أُمّ. قال: "فإن كانت أم أب الأب" – أي: وإن علا – ففيها قولان: أصحهما: أن لها السدس؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى السدس ثلاث جدات: جدتين من قِبَل الأب، وواحدة من قبل الأم؛ ولأنها جدة تدلي بوارث، فأشبهت أم الأب. والثاني: لا ترث؛ لأنها جدة تدلي بجد؛ فلم ترث كأم أب [الأم]، وهذا

نقله أبو ثور عن الشافعي رضي الله عنه، والقولان روايتان عن زيد – [رضي الله عنه]. وضابط الوارثات – على القول الأول – أن يقال: كل جدة تدلي بمحض الإناث أو بمحض الذكور، أو بمحض الإناث إلى محض الذكور، وعلى القول الثاني: كل جدة تدلي بمحض الإناث، دون من تدلي بمحض الذكور، إلا أم الأب. قال الماوردي: والحدة الأولى تسمى: جدة مطلقاً، والثانية – وهي أم الأب – هل تسمى جدة مطلقاً، أو مع التقييد؟ فيه خلاف للأصحاب، وعليه اختلفوا فيمن سئل عن ميراث جدة: هل يسأل عن أي الجدتين هي، أم لا؟ فمن جعلها مطلقة كأم الأم – قال: لابد من أن نسأله: عن أي جدة هي؛ قبل أن نجيبهن ومن جعلها جدة مع التقييد – [قال: له] إجابته قبل سؤاله. ثم قال: والأصح أنه ينظر: فإن كان ميراثها يختلف في الفريضة؛ بوجود الأب الذي يحجب أمه – لم يُجِب عن سؤاله حتى يسأله: عن أي الجدتين سأل، وإن كان ميراثها لا يختلف – أجاب. قال: وإن اجتمعت جدتان متحاذيتان – فالسدس بينهما؛ للحديث السابق، ولما روي عن القاسم بن محمد قال: جاءت الجدتان إلى أبي بكر – رضي الله عنه – فأعطى أم الأم الميراث دون أم الأب، فقال له بعض الأنصار: "أعطيت التي لو ماتت لم يرثها، ومنعت التي لو ماتت ورثها"، فجعل أبو بكر [-رضي الله عنه-] السدسَ بينهما. ولأثر عمر السابق، ولم ينكر عليهما أحد. وقيل: إن كانت أحداهما تدلي بجهتين – كالمرأة يتزوج ابنُ بنتها [بنتَ

بنتها] الأخرى، أو بنت ابنها؛ فيأتي لهما ولد، والأخرى بجهة واحدة: [كأم أبي أبيه – كان للتي تدلي بجهتين ثلثا السدس، وللتي تدلي بجهة]؛ ثلث السدس؛ قياساً على ابن العم إذا كان أخاً لأم؛ فإنه يرث بالقرابتين، وهذا ما ينسب إلى ابن سريج، ونسبه الرافعي إليه، وإلى أبي عبيد بن حربويه، [وحكى الماوردي أن الشيخ أبا حامد اختاره مذهباً لنفسه، وفي "الشامل" أنه حكى عن أبي عبيد بن حربويه] من أصحابنا – أن السدس يكون لها، يعني [لذات] القرابتين؛ ويدلي عليه ما حكيناه عنه في الوصايا أنه إذا أوصى لأقرب الناس إليه، وكانت له جدتان؛: أحداهما تدلي بجهة، والأخرى بجهتين – [أنها] هل تقدم؟ فيه وجهان، قد حكينا مثلهما في الميراث، لكن تعليله هنا يرشد إلى ما حكاه الرافعي عن ابي عبيدن [بن حربويه]. والمذهب: الأول؛ لأن القرابتين إنما تؤثران عند اختلاف الجهة، والجدودة قرابة واحدة. قال: وإن كانت أحداهما أقرب من الأخرى، فإن كانت القربى من جهة الأم: كأم الأم – أسقطت البعدي [أي] من جهة الأم: كأم أم الأم، وجهة الأب: كأم [أب] الأب؛ وإنما أسقطت البعدي من جهة الأم؛ لأنها تدلي بها، فسقطت كأم الأم [مع الأم]، وهذه قاعدة: كل من أدلى بشخص – لا يرث مع وجوده وهو وارث، إلا ولد الأم مع الأم. وإنما أسقطت البعدى من جهة الأب لأنهما جدتان: إحداهما أقرب من الأخرى، فسقطت البعدي بالقربى؛ كما لو كانتا من جهة واحدة. قال: وإن كانت من [جهة] الأب، أي: القربى [من جهة الأب]: كأم الأب مع أم [أم] الأم – ففيه قولان:

أصحهما: أنها تسقط البعدي – أي: [التي] من جهة الأم – كما لو كانت القربى من جهة الأم، [والبعدي من جهة الأب]. والثاني: لا تسقط، بل تشتركان في السدس؛ لأن الأب لا يحجب الجدة من جهة الأم، فلئلا تحجبها الجدة التي تدلي به- كان أولى. وتخالف القربى من جهة الأم؛ فإن الأم تحجب الجدة من قبل الأب، ولا ترث مع الأم جدة فحجبتها أمها. وهذا القول هو أصح الطرق. وأما إذا كانت البعدى من جهة الأب – فإنها تسقط قولاً واحداً، صرح به البغوي وغيره. ثم لا تتم لك معرفة ما ذكرناه إلا [بمعرفة] تنزيل الجدات، فنقول: الواقعات في الدرجة الأولى منك أصولك، وهما الأب والأم، ثم لأبيك [أب وأم]، وكذلك لأمك، فالأربعة هم الواقعون في الدرجة الثانية من درجات أصولك، وهذه هي الدرجة الأولى من درجات الأجداد والجدات، ثم أصولك في الدرجة الثالثة: ثمانية؛ [لأن] لكل جد أباً وأمًّا. وفي الدرجة الرابعة: ستة عشر، وفي الخامسة: اثنان وثلاثون، وهكذا. النصف [من الأصول]، في كل [درجةٍ] ذكورٌ والنصف إناثٌ – وهن الجدات – فإذن في الدرجة الثانية من الأصول: جدتان، وفي الثالثة: أربعة، وفي الرابعة: ثمانية، وفي الخامسة: ستة عشر، وهكذا. ثم منهن وارثات وغير وارثات، فإذا سألت عن عدد من الجدات الوارثات على أقرب ما يمكن من المنازل – فاجعل درجتهن بالعدد الذي سالت عنه، ومَحِّضُ نسبة الأولى إلى أمهات الميت، ثم أبدل من آخر نسبة الثانية أمًّا بأبٍ، وفي آخر النسبة الثالثة أمين بأبوين، وهكذا تنقص من الأمهات، وتزيد في الآباء حتى تُمَحِّض نسبة الأخيرة [أباً. مثاله]: سئلت عن أربع جدات وارثات – فقل: هن أم أم أم أم،

وأم أم أم أب، [وأم أم [أبي] أب]، وأم أبي أبي أب، فالأولى من جهة أمه، والثانية من جهة أبيه، والثالثة من جهة جده، والرابعة من جهة جد أبيه، وهكذا إذا زدت لكل واحدة أباً. ثم الوارثات في كل درجة من درجات الأصول بعدد تلك الدرجة؛ ففي الثانية ثنتان، وفي الثالثة ثلاث، وفي الرابعة أربع وهكذا، وسببه: أن الجدات ما بلغن نصفين نصفاً من قبل الأم، ونصفاً من قبل الأب، ولا يرث من قبل الأم إلا واحدة، والباقيات من قبل الأب، فإذا صعدنا درجة تبدلت كل واحدة منهن بأمها، وزادت أم الجد الذي صعدنا إليه، وهذا كله بناء على الصحيح في أن أم أبي الأب ترث، أما إذا قلنا بمقابله، فلا يكون لنا من الجدات [وارث إلا اثنتان]. قال: وأما البنت فلها النصف إذا انفردت؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]، وللابنتين فصاعداً الثلثان؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11]، وهذا ظاهر الدلالة على ما زاد على الابنتين، فوجه الدلالة فيه أن هذه الآية وردت على سبب خاص؛ وهو أن امرأة من الأنصار أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنتان، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك يوم أحد، [وأخذ] عمهما ماله، ولا تنكحان، ولا مال لهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَقْضِي اللهُ فِي ذَلِكَ"، فنزلت هذه الآية؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم – المرأة وصاحبها فقال: "أَعْطِ الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، وَالْمَرْأَةَ الثُّمُنَ، وَخُذِ الْبَاقِيَ".

وقد قال بعض العلماء: إن كلمة "فوق" هنا زائدة؛ لقوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال:12]. وقيل: المعنى: اثنتين فما فوقهما. ولأن الأخوات في الإرث أضعف من البنات، وقد جعل الله للاثنتين منهن الثلثين؛ فالبنات [بهما] أولى. قال: وأما بنت الابن فلها النصف، وللاثنتين فصاعداً الثلثان. قال ابن يونس: والإجماع على قيام بنات الابن مقام بنات الصلب عند عدمهن، ولا فرق في بنات الابن بين أن تكون بنات ولد واحد، أو بنات عم؛ فإنهن يشتركن في الثلثين، وكذلك في السدس الفاضل عن نصيب البنت. قال: ولها مع بنت الصلب السدس تكملة الثلثين؛ لما روي عن هزيل بن شرحبيل أنه قال: سئل أبو موسى عن بنت وبنت ابن وأخت، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف. واتِ ابن مسعود فسيتابعني فسأل ابن مسعود، وأخبره بقول أبي موسى، فقال: "لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، لأقضين فيها بما قضى [به] رسول الله صلى الله عليه وسلم: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وما بقي للأخت". فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود، قال: "لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم". ولو كانت بنات الابن أكثر من واحدة كان [السدس] بينهن بالسوية. ثم من قول الشيخ: تكملة الثلثين – يفهم أن بنات الصلب إذا استكملن الثلثين لا حق لبنات الابن بالفرض كما سيأتي؛ وإنما قدمت بنات الصلب على بنات الابن لقربهن. قال: وأما الأخت فإن كانت من الأب والأم فلها النصف، وللاثنتين فصاعداً الثلثان؛ لقوله تعالى: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176]. وقد روى جابر قال: اشتكيت وعندي أربع أخوات، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما أصنع بمالي، وليس من يرثني إلا كلالة؟ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم

رجع فقال: "قَدْ أَنْزَلَ اللهُ فِي أَخَوَاتِكَ فَبَيَّنَ، وَجَعَلَ لَهُنَّ الثُّلُثَيْنِ" قال جابر: ففِيَ نزلت آيةُ الكلالة؛ فدل على أن المراد بالآية الاثنتان فما فوقهما. قال: وإن كانت من الأب فلها النصف، وللاثنتين فصاعداً الثلثان؛ لظاهر الآية، ولها مع الأخت من الأب [والأم] السدس تكملة الثلثين؛ [لأنه يتساوين] في الدرجة، وفضل الأخوات [للأب] والأم على الأخوات للأب بقرابة [الأم]؛ فكان حكمهن معهن كبنات الابن مع بنات الصلب؛ لامتياز بنات الصلب بالقرب. قال: والأخوات من الأب والأم مع البنات عصبة، فإن لم يكنَّ فالأخوات من الأب؛ للخبر [المروي عن] ابن مسعود، وتستوي الأخت من الأب فما فوقها في السدس؛ عند وجود الأخت للأبوين، ولا فرق في ذلك بين أن يكون مع البنات غيرهن: كزوج وجدة، أو لم يكن. قال: وأما ولد الأم فللواحد السدس، وللاثنين فصاعداً الثلث، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء؛ لقوله تعالى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]. وهذه الآية نزلت في ولد الأم؛ بدليل ما روي أن سعد بن أبي وقاص وابن مسعود كانا يقرآنها: "وله أخ أو أخت من أم"، والقراءة الشاذة تحل محل الإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ يجب العمل بها. قال الأصحاب: وأولاد الأم يخالفون غيرهم من الورثة في خمسة أشياء: أنثاهم عند الانفراد كالذكر، [و] مقاسمة الأنثى [منها] الذكر بالسوية، إرثه مع من يدلي به، وحجبهم من يدلون به حجب تنقيص، ذكرهم يدلي

بأنثى [ويرث] ولا يساويه في هذا أحد. [قال: وأما الأب فله السدس مع الابن وابن الابن؛ لقوله تعالى: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11]، والمراد بالولد هنا الابن [وابن الابن] وألحقنا به ابنه، لما ذكرناه من قبل]. قال: وأما الجد فله السدس مع الابن وابن الابن بإجماع الأمة، وهذا تمام من يرث بالفرض. وإذا تأملت ما ذكرناه عرفت أن النصف فرض خمسة: البنت، وبنت الابن مع عدم البنت، والأخت من الأبوين، والأخت من الأب عند عدم الأولى، والزوج إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن. [وأن الربع فرض اثنين: الزوج إذا كان للميت ولد أو ولد ابن، والزوجة إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن]. وأن الثمن [فرض الزوجة] أو الزوجات خاصة؛ إذا كان للميت ولد أو ولد ابن. وأن الثلثين فرض أربعة: بنتا الصلب فصاعداً، وبنتا الابن فصاعداً عند فقد بنات الصلب، والأختان من الأبوين فما فوقهما، والأختان من الأب فما فوقهما عند فقد بنات الأب والأم. وأن الثلث فرض الأم؛ إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن، ولا اثنان من الإخوة والأخوات. وأن السدس فرض سبعة: لكل واحد من الأبوين عند وجود الابن أو [ابن الابن]، [وللأم عند وجود الولد]، [أو اثنين] من الإخوة والأخوات، وللجدة، ولبنات الابن عند وجود بنت الصلب، وللأخت من الأب مع الأخت من الأبوين، وللواحد من ولد الأم. قال: ولا ترث بنت الابن مع الابن، ولا الجدات مع الأم، [ولا الجد

مع الأب]؛ للإجماع، [وقد] قيل في توجيه حرمان الجدات بالأم [: إنهن من قبلها] يدلين بها، فلا يرثن مع وجودها؛ كالجد مع الأب، وأمهات الأب إنما يأخذن سدس الأم؛ ولهذا إذا اجتمعت الجدات اشتركن فيه، فإذا أخذته الأم لم يبق لها نصيب يؤخذ. قال: ولا الجدة أم الأب [مع الأب]؛ كما لا ترث الجدة أم الأم مع الأم، ولأنها تدلي بعصبته؛ فوجب أن يحجبها كأولاد الإخوة مع الإخوة. فرع: جدتان متحاذيتان: أحداهما أم الأم، والأخرى أم الأب، ومعهما الأب، فلأم الأم السدس، ولا يقال: إن أم الأب تشارك أم الأم لولا الأب، فترجع فائدتها إليه، كما نقول في الأب، إذا وجد معه أخوان [من أب وأم]؛ فإن الأخوين يردان الأم من الثلث إلى السدس ولا يرثن؛ فرجعت فائدتهما إليه. قال الغزالي: لأن استحقاق الجدة بالفريضة؛ فلا يناسب استحقاق العصوبة، وأما الأب والأخ في الصورة الأخرى فكلاهما يرث بالعصوبة؛ فأمكن رد الفائدة إليه. قيل: وما ذكره يبطل بما لو كان بدل الأخوين الشقيقين أخوين لأم؛ فإنهما يحجبان الأم من الثلث إلى السدس ولا يرثان، وترجع فائدتهما إلى الأب، وإن كانا يرثان بالفرض، والأب يرث بالتعصيب. ولأجل عسر الفرق طَرَدَ بعض أصحابنا القياس وقال: ليس لأم الأم سوى نصف السدس، والله أعلم. قال: ولا يرث ولد الأم مع أربعة: الولد، أي: ذكراً كان أو أنثى، ولد الابن، والأب، والجد؛ لأن الله – تعالى – جعل إرث ولد الأم في الكلالة، والكلالة: اسم للورثة ممن عدا الوالدين والمولدين. قال الفرزدق: وَرِثْتُمْ قناةَ المجدِ لا عَنْ كلالةٍ [عنِ] ابْنَي منافٍ شمسٍ وهاشمِ

وقد روى ذلك عن أبي بكر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم. وقيل: إن الكلالة اسم للذي لا ولد له ولا والد. وقال الأزهري: يسمى الميت الذي لا ولد له ولا والد: كلالة، ويسمى وارثه: كلالة أيضاً. [والآيتان في سورة النساء]. فثبت بهذا أن إخوة الأم إنما يرثون ميتاً لا ولد له ولا والد. وقد اختلف في اشتقاق الكلالة؛ فقيل: من الإكليل؛ لأنه يكون حول الرأس دون أعلاه وأسفله، كذلك الإخوة. وقيل: من كل يكل، كأنه [قد] كل طرفاه، وهؤلاء الإخوة يسمون: بني الأخياف، والأخياف: الأخلاط؛ لأنهم من أخلاط الرجال، وليس هم من رجل واحد؛ ولذلك سمي الخيف من منى؛ لاجتماع أخلاط الناس فيه، وقيل: لاختلاط ألوان الحصى فيه. قال: ولا يرث ولد الأب والأم مع ثلاثة: الابن، وابن الابن، والأب؛ لأن الله تعالى جعل إرثهم في الكلالة، والكلالة هو: من لا والد له ولا ولد كما ذكرنا، وهؤلاء الإخوة يسمون: بني الأعيان؛ لأنهم من عين واحدة، أي: من أب واحد [وأم واحدة]، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "أَعْيَانُ بَنِي آَدَمَ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلاَّتِ".

قال: ولا يرث ولد الأب مع أربعة: الابن، وابن الابن، والأب، والأخ للأب والأم. أما عدم إرثه مع الثلاثة الأول؛ فلما تقدم، وأما عدم إرثه مع الأخ من الأب والأم؛ فلترجيح جهة الأمومة مع الخبر السابق، [و] هؤلاء الإخوة يسمون بني العلات؛ لأن [أم] كل واحد منهم لم تَعُلَّ الآخر، أي: لم تَسْقِه لبن رضاعها، والعلل: الشرب الثاني، والنهل: الأول. قال: وإذا استكمل البنات الثلثين لم ترث بنات الابن؛ لأنه ليس للبنات بالبنوة أكثر من الثلثين؛ للآية، فلو أشركنا فيه [بيني بنات الصلب وبنات الابن لسوينا بين القريب والبعيد، وذلك ممتنع، قال: إلا أن يكون في درجتهن أو أسفل منهن ذكر فيعصبهن؛ للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لان كل ذكر وأنثى لو انفردا كان المال بينهما ثلثاً وثلثين – وجب إذا كان معهما ذو فرض أن يكون الباقي بينهما كذلك، كما لو كان معهما زوج. قال: وإذا استكمل الأخوات [للأب والأم الثلثين – لم ترث الأخوات]، من الأب إلا أن يكون معهن أخ فيعصبهن؛ للمعنى الذي ذكرناه في البنات وبنات الابن. ولو كان معهن ابن أخ لهن – لم يعصبهن، بل يسقطن، ويأخذ [هو] ما بقي وهو الثلث؛ لأنه لا يعصب أخواته، فلا يعصب عماته، بخلاف ابن الابن؛ فإنه يعصب أخواته، فعصب عماته. قال: ومن لا يرث – أي: بحال – كالعبد ونحوه – لا يحجب أحداً عن فرضه، أي حجب حرمان – وهو أن يسقطه بالكلية – أو حجب تنقيص – وهو أن ينقله من فرضه إلى فرض أنقص منه – لأنه لا يحجب حجب حرمان بالاتفاق، فلا يحجب حجب تنقيص كالميت والأجنبي، ولأن كل من ضعف بوضعه عن حجب الإسقاط، ضعف بوضعه عن حجب التنقيص [كذوي الأرحام.

أما من لا يرث لوجود من يحجبه – فلا يؤثر حجب الحرمان، وقد يؤثر حجب التنقيص:] كالأخوين لا يرثان مع الأب، ويردان الأم من الثلث إلى السدس. قال: وإذا اجتمع أصحاب الفروض، ولم يحب بعضهم بعضاً- فرض لكل واحد منهم فرضه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ فَلأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ". قال: فإن زادت الفروض على السهام أعيلت بالسهم الزائد. اعلم: أن أصول مسائل الفرائض التي اصطلح عليها الفَرَضِيُّونَ؛ حتى تخرج سهاما لفريضة صحيحة لا كسر فيها، إن كانت الورثة عصبة – أخذت من عدد رءوسهم إن كان الجميع ذكوراً، وإن كانوا [ذكوراً] وإناثاً عددت كل ذكر بأنثيين، وجَمَلْتَ العدد، فما انتهى إليه فهو أصل المسألة. مثاله: خلف أخوين لأب وأختين لأب فعُدَّ الأخوين بأربعة وضُمَّها إلى الأختين تبلغ ستة، فهي أصل مسألتهم؛ يكون لكل أخت سهم، ولكل أخ سهمان، وهكذا. وإن كان الورثة كلهم أصحاب فروض، [أو فيهم صاحب فرض] وعاصب – فالأصول في هذا النوع – عند المتقدمين – سبعة: اثنان، وثلاثة، وأربعة، وستة، وثمانية. وهذه لا تحتاج إلى تركيب، واثنا عشر، وأربعة وعشرون وهما مركبان من فرضين كما ستعرفه. وسبب ذلك أن الفروض الستة وهي: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، [والثلث]، والسدس كسور مضافة إلى الشيء المعدود واحداً وهو التركة، ولا

يخلو إما أن يقع في المسألة واحد منها أو اثنان فصاعداً، فإن لم يقع فيها إلا واحد فالمخرج المأخوذ من ذلك الكسر هو أصل المسألة؛ فالنصف من اثنين، [والثلث] والثلثان من ثلاثة، والربع من أربعة، وعلى هذا فإن وقع فيها اثنان فصاعداً، فإن [كانا من] مخرج واحد فهو أصل المسألة، وإن كانا مختلفي المخرج أخذنا المخرجين، ونظرنا فيهما: فإن كانا متداخلين – كما إذا اجتمع السدس والثلث – فأكثر المخرجين أصل المسالة، وإن كانا متوافقين – [كما] إذا اجتمع السدس والثمن – ضربنا وفق أحد المخرجين في جميع الآخر؛ يحصل أربعة وعشرون؛ فهو أصل المسالة، وإن [كانا متباينين] كما – إذا اجتمع الثلث والربع- ضربنا أحد المخرجين في الآخر، وجعلنا أصل المسألة ما انتهى إليه الضرب، [وهو اثنا عشر]، وسأذكر بعد باب الجد والإخوة ما يعرف به [المداخل، والموافق، والمباين] ونحوه إن شاء الله تعالى. ثم إذا فصلت ما نحن فيه قلت: كل مسألة فيها نصف وما بقي كزوج وأخ، أو بنت وعم، أو أخت وابن أخ؛ أو نصفان: كزوج وأخت – فهي من اثنين. وكل مسألة فيها ثلثان وما بقي كأختين وبنتين، أو بنتي ابن وعم، أو ثلثان وثلث كأختين من أبوين وأخوين لأم – فهي من ثلاثة. وكل مسألة فيها ربع وما بقي: كزوج وابن، أو زوجة وأخ، أو ربع ونصف. [وما بقي: كبنت وزوج وعم، أو أخ – فهي من أربعة. وكل مسألة فيها سدس، [وما بقي كأم وابن، أو سدس ونصف]. وما بقي: كأم وبنت وأخ، أو سدس وثلث وما بقي: كأم وزوج وعم – فهي من ستة.

وكل مسألة فيها ربع وسدس] وما بقي: كزوجة وأخ لأم وعم، أو ربع وثلث وما بقي: كزوجة وابني أم وعم، أو ربع وثلثان وما بقي: كزوجة وأختين وعم – فهي من اثني عشر، ولا تكون هذه المسألة إلا وفيها زوجة. وزاد زائدون على الأصول السبعة ثمانية عشر وستة وثلاثين، وهذا يحتاج إليه في مسائل الجد إذا افتقر إلى مقدر وثلث ما بقي بعد المقدر كما سنذكره [ثم] إن شاء الله تعالى. فإذا تقررت هذه الأصول التي يخرج منها السهام نظرت في السهام: فإن استوعبتها الفرائض من غير زيادة فلا شيء للعاصب، وإن لم تستوعب فما بقي للعصبات؛ عملاً بالخبر المشهور. وإن زادت الفروض على السهام – قال الشيخ: وأعيلت بالسهم الزائد أي: رفعت الفريضة وزيد في سهامها السهم الذي زاد؛ لأن العول هو الرفع، ومنه: عالت الناقة [بذنبها]: إذا رفعته، وعال الميزان؛ فهو عائل: إذا مال وارتفع. قال: مثل مسألة المباهلة، وهي زوج وأم وأخت لأب، فيجعل للزوج النصف، وللأخت النصف، وللأم الثلث، فتعال الفريضة بفرض الأم، وهو سهمان؛ تصير من ثمانية: للزوج نصف عائل، وللأخت نصف عائل، وللأم ثلث عائل، أصل هذه المسألة من ستة؛ لأن فيها نصفاً وثلثاً، وقد تقرر أن النصف والثلث من ستة، وعالت بثلثها إلى ثمانية؛ فيقسم المال على ثمانية، [ويدفع للزوج ثلاثة من ثمانية، والأخت كذلكن وللأم سهمان تتمة الثمانية]. وإنما كان كذلك؛ لان الحقوق مقدرة متفقة في الوجوب، [وقد] ضاقت التركة عن جميعها، فقسمت على قدرها: كالديون والوصايا؛ ويشهد لذلك قضاء عمر – رضي الله عنه- روي أن امرأة ماتت في عهده عن زوج وأختين، فكانت أول فريضة عالت في الإسلام، فجمع الصحابة – رضي الله عنهم – فقال لهم:

"فرض الله – تعالى- النصف للزوج، وللأختين الثلثين، إن بدأت بالزوج لم يبق للأختين حقهما، وإن بدأت بالأختين لم يبق للزوج حقه؛ فأشيروا علي. فأشار عليه ابن عباس –رضي الله عنه – بالعول، وقال: أرأيت لو مات رجل وترك ستة دراهم، ولرجل عليه ثلاثة دراهم، ولآخر أربعة، أليس يجعل المال سبعة أجزاء؟. فأخذت الصحابة – رضوان الله عليهم – بقوله، ثم اظهر ابن عباس الخلاف بعد ذلك وقال: إن الذي أحصى رمل عالج عدداً [لم يجعل] في مال واحد نصفاً ونصفاً وثلثاً. وروي عنه أنه قال: من شاء باهلته، [و] إن الذي أحصى رمل عالج عدداً ... وذكر بقية الخبر. ومن هنا سميت مسألة المباهلة، والمباهلة: الملاعنة، والبهلة: اللعنة؛ يقال: بهله الله أي: لعنه الله، وهو الدعاء على الظالم من الفريقين، وقيل: هو التضرع إلى الله تعالى. ثم العول في الفرائض يدخل في ثلاثة أصول، وهي التي إذا جمعت أجزاؤها الصحيحة ساوتها أو زادت عليها، وهي: الستة، وضعفها وهو اثنا عشر، وضعف ضعفها وهو أربعة وعشرون. ولا يدخل العول فيما عداها من الأصول؛ لأن إذا جمعت أجزاءها الصحيحة نقصت عنها. ثم الستة تعول أربع مرات: بسدسها إلى سبعة: كالمسألة التي وقعت في زمن عمر- رضي الله عنه – وبثلثها إلى ثمانية: كمسألة المباهلة، وبنصفها إلى تسعة: كما إذا خلف الميت أختين لأب وأمن واثنين من ولد الأم وزوج، وبثلثيها إلى عشرة: كما إذا خلف من ذكرناه وأمّاًن وتسمى هذه المسألة "أم الفروخ"؛ لكثرة السهام العائلة فيهان والشريحية لوقوعها في زمن شريح وقضائه فيها. ومتى عالت إلى ثمانية أو تسعة أو عشرة فلا يكون الميت فيها غلا امرأة؛ لأنها لا تعول إلى ذلك إلا بزوج.

والاثنا عشر تعول ثلاث مرات: بنصف سدسها إلى ثلاثة عش: كما إذا خلف الميت زوجة، وأمًّا، وأختين لأب، وبربعها إلى خمسة عشر: كزوجة وأخت لأب وأختين لأم، وبربعها وسدسها إلى سبعة عشر: كهؤلاء، وأم، أو جدة. ومن صور هذا العول: مسألة الأرامل، وهي: ثلاث زوجات، وجدتان، وأربع أخوات لأم، وثماني أخوات لأب، وهن سبع عشرة امرأة، وهي متساوية، ولا يكون العول إلى تسعة عشر إلا والميت رجل. والأربعة والعشرون تعول مرة واحدة بالثمن إلى سبعة وعشرين: كزوجة وبنتين وأبوين. وهذه المسألة تلقب بـ"المنبرية"؛ سئل عنها [علي - رضي الله عنه]- وهو على المنبر، فقال على الأَثِر: عاد ثمنها تسعاً، وهذا العول لا يكون [إلا] والميت رجل. قال: وإن اجتمع في شخص جهتا فرض: كالأم إذا كانت أختاً - ورثت بالقرابة التي لا تسقط وهي الأمومة، ولا ترث بالأخرى - يعني: بالجهة الأخرى - مع الأولى؛ لأنه شخص اجتمع فيه سببان يورث بكل واحد منهما الأرض عند الانفراد، فورث بأقواهما، ولم يرث بهما: كالأخت من الأب والأم، لا ترث النصف بأخوة الأب والسدس بأخوة الأم، وذهب ابن سريج إلى التوريث بهما، [كما] حكاه ابن الصباغ. وقال الشيخ أبو علي: إنه ذهب إلى ذلك في بعض المسائل، ولم يطلق. ثم هذه المسألة ونظائرها إنما تتصور في نكاح المجوس ووطء الشبهة، وكما تظهر القوة بعدم السقوط تظهر أيضاً بأن يكون حجابها أقل من حجاب الأخرى. ومثال الأقل: أم أم هي أخت لأب، ويتصور بأن يطأها ابنه؛ فتلد بنتاً فيطؤها فتلد ولداً - فالأولى أم أم وأخته لأبيه؛ فأم الأم لا تحجبها إلا الأم، والأخت للأب [تحجب] بجماعة كما سبق. أما لو كانت الأم [التي] هي أخت هي الميتة، فللبنت النصف بكونها

بنتاً، وهل ترث الباقي بكونها أختاً؟ فيه وجهان، وهذه الصورة [هي] التي أشار إليها الشيخ أبو علي، كما حكاها الإمام في آخر "النهاية"، وصور المسالة بما إذا لم تخلف الميتة غيرها، والله أعلم.

باب ميراث العصبة

باب ميراث العصبة العصبة في اللغة: مشتقة من العصب وهو المنع؛ سميت بذلك لتقوى بعضهم بعض، ونصرة بعضهم بعضاً، ومنه سميت العصابة: عصابة؛ لأنه يشد بها الرأس، والعصب: العروق، سميت بذلك؛ لصلابتها وتقوي البدن بها. قال بعضهم: "العين والصاد والباء إذا اجتمعت تكون للشدة والقوة". وقيل: سميت بذلك؛ لإحاطتها بالنسب من كل جانب: من فوقه، ومن أسفله، ومن حوله، كما تحيط العصابة بالرأس من كل جانب. وقريب من هذا قول من قال: إنما سموا عصبة؛ لالتفافهم عليه في نسبه؛ كالتفاف العصائب على يده. وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تجمع المال، وتحوزه، كالعصابة تجمع الرأس وتحوزه. والشيخ - رضي الله عنه - أدرج ذلك كله في لفظه حيث قال: " [و] العصبة: كل ذكر ليس بينه وبين الميت أنثى، فخص الاسم بالذَّكَرِ؛ لأن به تحصل التقوية دون الإناث، واعتبر ألا يكون بينه وبين الميت أنثى؛ لأن من بينه وبينه أنثى: كابن البنت، وأبي الأم، وابن الأم - ليس من حواشي النسب، وبعضهم صاحب فرض، وبعضهم، لا ميراث له، والذي ذكره الشيخ: يحوز جميع المال إذا انفرد أيضاً، فكان لفظه جامعاً لما اشتق منه لغة، وجامعاً لحده في الشرع أيضاً؛ لأن مراده: العصبة من الأقارب؛ يدل عليه قوله من بعد: فإن لم يكن أحد من العصبات ورث المولى المعتق. ومن أراد إدخال المعتق في لفظ "العصبة" قال: العصبة: من حاز المال إذا

انفرد [و] أخذ ما بقي بعد ذوي الفرائض. وهو يخرج الأخت للأب مع البنت عن العصبة، وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم "عَصَبَةً"، ولكن هذه التسمية على سبيل المجاز؛ من حيث كونها تأخذ ما فضل عن فرض البنات، ومن يوجد معهن خاصة. ثم واحد العصبة: عاصب؛ كخازن وخزنة، وظالم وظلمة، وكافر وكفرة، وفاجر وفجرة، وبارً وَبرَرَة، [وطالب وطلبة]. وقال ابن قتيبة: العصبة: جمع لم يسمع [له] بواحد، وبالقياس: إنه عاصب، وجمع العصبة: عصبات. قال: وأقرب العصبات الابن؛ لقوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فبدأ بذكر الأولاد، والعرب تبدأ بالأهم فالأهم، ولأن الله – تعالى- أسقط تعصيب الأب بالولد بقوله: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:11]، وإذا أسقط تعصيب [الأب] به فمن عداه أولى؛ لأنه إما [أن] يدلي بالأب أو به. قال: ثم ابن الابن، [أي]: وإن سفل؛ لأن حكمه حكم الابن مع الأب في سائر الأحكام؛ فكذلك في التعصيب. قال: ثم الأب؛ لأن الميت بعض منه، وتثبت له الولاية عليه بنفسه، ولأن من عداه يدلي به؛ فكان مقدماً عليه لقربه. قال: ثم الجد، أي: أبو الأب وإن علا، ما لم يكن إخوة؛ لأنه يقوم مقام الأب، كما يقوم ابن الابن مقام أبيه، أما إذا كان ثم إخوة فسيأتي الكلام فيهم. قال: ثم ابن الأب، وهو الأخ، ثم ابنه وإن سفل؛ لأنهم بنون، ولهذا المعنى أشار الشيخ بقوله: "ثم ابن الأب". قال: ثم ابن الجد وهو العم، ثم ابنه وإن سفل، ثم ابن جد الأب وهو عم

الأب، ثم ابنه وإن سفل، ثم ابن جد الجد، ثم ابنه وإن سفل، وعلى هذا. أي: كلما عدم بنو أب عدلنا إلى بني أب أعلى منه، ووجهه: ما ذكرناه. قال: فإن انفرد واحد منهم أخذ جميع المال؛ لقوله تعالى: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176]، فورث الأخ جميع مال الأخت [إذا لم يكن لها ولد]، وقيس [باقي الصور] عليه، وهو في الابن يكون من طريق الأولى؛ لقوة البنوة على الأخوة، وقد استدل بعضهم على حيازة الابن المال عند انفراده بقوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11] ثم قال: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]، فالبنت لها عند الانفراد النصف؛ فوجب أن يكون للابن عند الانفراد الجميع؛ لأنه يأخذ قدرها مرتين. قال: وإن اجتمع مع ذي فرض أخذ ما بقي بعد الفرض؛ لما روى ابن عباس-رضي الله عنه –قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: اقْسِمْ الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللهِ – تَعَالَى – فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلأَوْلَى ذَكَرٍ" خرجه أبو داود، والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه بمعناهن ولفظ البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه: "فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" وأولى هاهنا بمعنى: [أقرب؛ لأنه لو كان بمعنى "أحق" لبقي الكلام مبهماً لا يستفاد منه بيان الحكم؛ فإنه لا يدري من هو] الأحق؛ فعلم أن معناه ما ذكرناه. وقوله: رجل ذكر قيل: [ذكر] ذلك تأكيداً، وقيل: [قد] يكون احترازاً على الخنثى؛ فقد يطلق عليه الاسمان، وقيل: نبه به على معنى اختصاص الرجال بالتعصيب؛ للذكورة التي لها القيام على الإناث، وقد روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم [ورث أخا سعد بن الربيع ما بقي من فرض البنات والزوجة، كما ذكرناه في

الباب قبله؛ فدل على أن هذا حكم العصبة. قال: ولا يرث أحد منهم بالتعصيب، وهناك من هو أقرب منه؛ لحديث ابن عباس الذي تقدم. قال: فإن استوى اثنان [منهم] في درجة فأولاهما من انتسب إلى الميت بأبٍ وأم؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَعْيَانُ بَنِي آدَمَ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلاَتِ" [يعني: يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه، وقد تقدم تفسير "بَنِي الْعَلاَّتِ"]، ومعنى "أعيان": الإخوة. ولأنه انفرد بقرابة الأم، والانفراد بالقرابة بمنزلة التقدم بدرجةٍ، [وقد ثبت أن المقدم بدرجة] هو المستحق، فكذلك الممتاز [بقرابة]. وقول الشيخ: استوى اثنان في درجة – احترز به عما إذا اختلفت الدرج، وأحدهما [يدلي] إلى الميت بأبٍ وأم، وهو أبعد درجة، والآخر يدلي بالأب وهو أقرب: كأخٍ من أبٍ مع ابن أخٍ [من أبٍ] وأمٍ – فإن الأخ أولى. فإن قيل: إذا خلف ابني عم أحدهما أخ لأم، كان له السدس بالفرض، والباقي بينه وبين ابن العم الآخر نصفين، ومقتضى ما ذكرتم أن يفوز الأخ بكل المال. قيل: قد قيل بذلك أيضاً فيما ذكرت كما ستعرفه من بعد، وعلى تقدير تسليم الحكم – كما هو المنصوص، وبه جزم القاضي أبو الطيب وابن الصباغ – فالفرق أن أخوة الأم لما امتنع التوريث بها لكونها مع أخوة الأب جنساً واحداً، والجنس الواحد لا يتعدد الإرث به [امتزجت] فأوجبت ترجيحاً، وهاهنا أخوة الأم أمكن التوريث بها مع بنوة العم؛ لاختلاف الجنس؛ فامتنع أن يكون ترجيحه لغيرها. قال: ولا يعصب أحد [منهم] أخته إلا الابن، وابن الابن، والأخ؛

فإنهم يعصبون أخواتهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، أما جواز تعصيب الأولاد فلقوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} الآية. [النساء: 11]، فثبت في أولاد الصلب بالنص، وأولاد الابن: فإما أن يطلق عليهم اسم الأولاد حقيقة كما قال بعضهم احتجاجاً بما ذكرناه، وإما بالقياس عليهم؛ لأن حكمهم مع الأب حكم أولاد الصلب في [سائر الأحكام]؛ فوجب أن يكون [حكمهم] في التعصيب كذلك. وأما [في] الإخوة فلقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176]. وأما امتناع تعصيب من عداها ولا أخته؛ فلأنها لا يفرض لها عند الانفراد، [أو] لكونها من ذوي الأرحام، وسيأتي الدليل على أن ذوي الأرحام لا ميراث لهم. قال: ويعصب ابن الابن [من تحاذيه من بنات عمه؛ لأنهن في درجته، فأشبهن أخواته، ويعصب ابن الابن] من فوقه من عماته وبنات عم أبيه إذا لم يكن لهن فرض. صورة المسألة في تعصيب عماته: أن يموت شخص ويخلف بنتين وبنت ابن، وابن ابن ذلك [الابن]. وصورة تعصيبه بنت عم أبيه: أن يموت شخص ويخلف بنتين وبنت ابن يسمى أبوها زيداً، وابن ابن [ابن] يسمى أبوه عمراً؛ وإنما عصبهن لأنه لا يمكن إسقاطه؛ لأنه عصبة ذكر، وإذا لم يسقط فلا يمكن إسقاطه لعمته وبنت عم أبيه؛ لأنه لا يسقط من في درجته – وهن أخواته وبنات عمه – فمن فوقه أولى؛ فتعين مشاركته لهما [في الفرضية]. أما إذا كان لهن فرض: كما إذا

كان للميت بنت واحدة، [و] بنت ابن – فإن ابني أخيها وابن ابن عمها لا يعصبها؛ لأنها من أصحاب الفرائض، ومن ورث بالفرض بقرابة لا يرث بالتعصيب بتلك القرابة، فينفرد ابن الابن [بالباقي]، كذا أطلقه [الأصحاب]، ويظهر نقضه بما ذكره من أن الجد يرث بالفرض والتعصيب، فيما إذا كان للميت بنت وجد، فيأخذ السدس بالفرض، وللبنت النصف، والباقي للجد بالتعصيب. وحكم أولاد ابن [ابن ابن] الابن مع بنات ابن ابن الابن كما ذكرناه. قال: ولا يشارك أحد منهم أهل الفرض في فرضه؛ لما فيه من الإضرار بصاحب الفرض، إلا في [مسألة] المشرّكة، وهي: زوج وأم أو جدة وابنان من ولد الأم، وولد الأب والأم: فيجعل للزوج النصف، وللأم أو الجدة السدس، ولولد الأم الثلث يشاركهم فيه ولد الأب والأم؛ لاشتراكهم في الرحم الذي ورثوا به الفرض، فأشبه ما لو كان أولاد الأم بعضهم ابن عم؛ فإنه

يشارك بقرابة الأم، وإن سقطت عصوبته. وقيل للشافعي قول بعدم المشاركة، وبعضهم يحكيه عن ابن اللبان، وقيل: إنه اختيار الأستاذ أبي منصور البغدادي؛ لأن الإخوة من الأبوين عصبة، فإذا استغرق الفرض سقطوا، واختلاف القولين من اختلاف الرواية عن زيد، وقد روي عن عمر – رضي الله عنه- اختلاف في ذلك أيضاً، فروي عن الحكم بن مسعود أنه قال: رأيت عمر بن الخطاب يسقط ولد الأب والأم في المشركة، ثم رأيته بعد عام سوَّى بينهم، فقلت [له]: كيف تعطيهم والأب [ليس] يشركهم؟ فقال: ذلك كما قضينا، وهذا [على ما] نقضي، [وفي "النهاية" – في فصل أوله: إذا تحاكم [إليه] أعجمي، من كتاب الأقضية – أن عمر – رضي الله عنه – قضى في مسالة المشركة بإسقاط الأخ من الأب والأم بعد أن كان يشرك في العام الأول، فقيل له في ذلك، فقال: ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي]. وفي "البحر"؛ هنا أنه روي أن عمر شرك بين الأخ من الأب والأم، وبين أولاد الأم في الابتداء، ثم رجع في الانتهاء؛ فقال الإخوة من الأب والأم: هب أن أبانا كانا حماراً ألسنا من أم واحدة؛ فشرك، ومن هاهنا سميت [هذه المسألة] بـ["الحمارية"، كما سميت: مشركة] بفتح الراء؛ لكونها مشتركاً فيها، أو لكون ولد الأب والأم شارك ولد الأم. ثم اعلم أن من تمام [صورة] مسألة المشركة: أن يكون ولد الأب والأم ذكراً، أو ذكراً وأنثى فأكثر، ويجمع العبارتين أن يكون عصبة، فلو كان أختاً واحدة أو أختين فأكثر – لم تكن مشركة؛ لأن الأخت يفرض لها في هذه الحالة لعدم من يحجبها، وتكون المسألة [عائلة] بنصفها إلى تسعة، ولو

كان ولد الأم واحداً وولد الأب والأم عصبة – لم تكن مشركة أيضاً؛ لأن ولد الأب والأم يأخذ السدس الفاضل عن أصحاب الفروض؛ فلو كان بدل الإخوة من الأب والأم إخوة [من الأب] سقطوا اتفاقاً؛ لانتفاء المعنى الذي لأجله شركنا. ثم إذا أخذ أولاد الأب والأم ما خصهم من مسألة المشركة اقتسموه بالسوية؛ لأن استحقاقهم [لذلك بجهة الفرضية]، لا [بجهة] بالعصوبة [حتى يكون] الذكر منهم كالأنثى. قال الرافعي: وكان يجوز أن يقال: إذا تقاسموا في الثلث بالسوية أخذ ما يخصهم، ويجعل [بينهم] للذكر مثل حظ الأنثيين، كما في مسألة الأكدرية. فرع: لو كان ولد الأب والأم خنثى مشكلاً فقد عرفت أنه لو كان ذكراً كانت مسألة المشركة، ولو كان أنثى [لم تكن] مشركة، بل يعطي كل منهم فرضه عائلاً، فطريقك في هذا ونظائره: أن تصحح المسألة على تقدير الذكورة، ثم على تقدير الأنوثة بعول وبغير عول، ثم ينظر بين المسألتين، فإن كانتا متباينتين، أو متوافقتين [بجزء] [ما] ضربت أحداهما في كامل الأخرى عند التباين أو [جزء الوفق] [من أحداهما] في كامل الأخرى [إن كان بينهما وفق]، فإذا انتهت إلى عدد فانظر على حال كل وارث: فإن كان الأضر [به كون الخنثى] أنثى أعطيته نصيبه من مسألة الأنوثة مضروباً في مسالة الذكورة، أو وفقها إن [كان] بينهما وفق، وإن كان الأضر به كونه ذكراً أعطيته نصيبه من مسألة الذكورة مضروباً في مسألة الأنوثة أو وفقها إن كان بينهما وفق، ويوقف الباقي. إذا تقرر ذلك فنقول: المسألة التي نحن فيها على تقدير أن يكون ذكراً من ستة ولا عول فيها، لكن نصيب أولاد الأم منها سهمان، وهم ثلاثة؛ لا ينقسم

عليهم [السهمان] ولا وفق بينهما، فيضرب مخرج الكسر - وهو ثلاثة - في أصل المسألة؛ تبلغ ثمانية عشر. وعلى تقدير كونه أنثى [تكون] من ستة أيضاً وتعول إلى تسعة، ثم [بين المسألتين] موافقة بالثلث، فاضرب جزء الوفق من إحداهما في كامل الأخرى تبلغ أربعة وخمسين، فالزوج والأم الأضر في حقهما كونه أنثى: فللزوج من مسألة الأنوثة مضروبة في ستة بثمانية عشر، وللأم منها سهم مضروب في ستة بستة. وولدا الأم [لهما]- على تقدير كونه أنثى - سهمان مضروبان في ستة باثني عشر لكل منهما ستة، وعلى تقدير كونه ذكراً ستة مضروبة في ثلاثة تبلغ ثمانية عشر، فيعطي لكل منهما ستة، وللخنثى ستة، [فقد استوى حالهما في حال الذكورة والأنوثة، فيعطي لكل منهما ستة، وللخنثى ستة]؛ لأنه على [تقدر] الذكورة يكون له لا غير، وعلى تقدير الأنوثة يكون له ثمانية عشر، فيفضل اثنا عشر تكون موقوفة بين الخنثى والزوج والأم، فإن ظهرت أنوثة الخنثى سلمت إليه، وإن ظهرت ذكورته كان للزوج منها تسعة وللأم ثلاثة. قال: وإن وجد في شخص جهتا فرضٍ وتعصيبك كابن عم هو زوج، أو ابن عم هو أخ من أم - ورث بالفرض والتعصيب، أي: فيكون للذي هو زوج النصفُ بالفرض، والباقي بينه وبين الآخر نصفين، ويكون للذي هو أخ من أم السدسُ بالفرض، والباقي بينه وبين الآخر، ووجهه: أنهما إرثان بسببين مختلفين؛ فأشبه ما لو كانت القرابتان في شخصين. وهذا ما جزم به الأصحاب في الأولى، ونص عليه في الأخيرة، وحكى أنه نص فيما إذا مات وخلف ابني عم المعتقة، وأحدهما أخو المعتقة لأمها: أن جميع المال للذي هو لأمٍّ. فمن الأصحاب من خرج من كل [نص إلى آخر] قولاً، وجعل المسألتين على قولين:

أحدهما: أنه يترجح الأخ للأم، ويأخذ جميع المال في الصورتين؛ لأنهما استويا في جهة العصوبة، واختص أحدهما بقرابة الأم؛ فأشبها الأخ من الأبوين مع الأخ من الأب، والعم من الأبوين مع العم من الأب. والثاني: [أنه] لا يترجح؛ لأنه اختص بجهة يفرض فيها، فلا يسقط من يشاركه من جهة العصوب كابني عم أحدهما زوج، فعلى هذا يكون الحكم كما ذكرنا؛ [فلا يسقط من يشاركه من جهة العصوبة]. والطريقة الثانية – وهي الصحيحة -: القطع بالمنصوص في الموضعين، والفرق: أن الأخ من الأم يرث بالنسب، فأمكن أن يعطي فرضه، ويجعل الباقي بينهما؛ لاستوائهما في العصوبة، وفي الولاء لا إرث بالفريضة؛ فترجح عصوبة من يدلي بقرابة الأم، كما أن الأخ من الأبوين لما لم يأخذ بقرابة الأم شيئاً – ترجحت عصوبته حتى قدم على الأخ من الأب، وهذا على قولنا: إن الأخ الشقيق في الولاء مقدم على الأخ للأب. ولو [خلفت المرأة] ابني عم أحدهما أخ لأمن والثاني زوج – فعلى الصحيح: للزوج النصف، [وللأخ للأم] السدس، والباقي بينهما بالسوية، وعلى القول المخرج: للزوج النصف، والباقي كله [للأخ للأم]. ثم محل ما ذكرناه إذا لم يكن في الورثة من يسقط أخو الأم، أما إذا كان: كما إذا خلفت المرأة بنتاً وابني عم أحدهما أخ لام – ففيها وجهان: أظهرهما – وبه جزم بعضهم -: أن للبنت النصف، والباقي بينهما؛ لأن أخوة الأم سقطت بالبنت، فكأنها لم تكن؛ فيرثان ببنوة العم على السواء. وأقواهما – عند الشيخ أبي علي، وهو جواب ابن الحداد-: أن الباقي للذي هو أخ للأم أيضاً؛ لأن البنتية منعته [من الأخذ] بقرابة الأم، وإذا لم يأخذ

بها ترجحت عصوبته كالأخ من الأبوين مع الأخ من الأب. واحتج ابن الحداد لجوابه بنص الشافعي [-رضي الله عنه-] في صورة الولاء كما ذكرناه، وبأن الأخ من الأبوين يقدم في ولاية النكاح [على الأخ من الأب ترجيحاً بقرابة الأمومة وإن كانت لا تفيد ولاية النكاح]. قال: وإن كان في الورثة خنثى مشكل دفع إليه ما يتيقن أنه حقه، ووقف ما يشك فيه؛ أخذاً بالأحوط، [وقد قدمْتُ] طريق ذلك، وروى الأستاذ أبو منصور وجهاً: أن للخنثى ما يتيقن أنه حقه، والباقي [يكون] للورثة. ونسبه ابن اللبان إلى تخريج ابن سريج، وحكى وجهين في أنه: هل يؤخذ من سائر الورثة ضمين أم لا؟ والطريق [في] معرفة الخنثى المشكل مذكورة في هذا الكتاب في باب: ما يحرم من النكاح، فليطلب منه. فرع: لو كان في الورثة حمل: إما لكون أمه فراشاً للميت أو فراشاً لأبيه، وأبوه رقيق، وهو وأم الحمل حُرَّانِ – فلا يصرف إليه شيء في حال الحمل، بل يوقف الميراث كله – على وجه- إلى حين وضعه. كذا رواه الفوراني عن بعض أصحابنا، ورواه الشيخ أبو حامد قولاً عن رواية الربيع، والظاهر من المذهب: أنه لا يوقف الجميع، لكن ينظر في الورثة: فمن يحجبه الحمل إذا انفصل حيًّا – [إما] مطلقاً: كأولاد الأم إذا كان الحمل من الميت، أو على تقدير كونه ذكراً: كأولاد الأب والأم – لا يدفع إليه شيء، ومن لا يحجبه الحمل – وله مقدار لا ينقص – دفع إليه، فإن أمكن العول دفع إليه ذلك المقدار عائلاً. مثاله: زوجة حامل وأبوان، يدفع إلى الزوج ثمن عائل، وإلى الأبوين سدسان عائلان؛ لاحتمال أن يكون الحمل أنثى، وإن لم يكن له نصيب مقدر كالأولاد – فهل يصرف إليهم أم لا؟ [ذلك ينبني] على أن لأقصى الحمل ضبطاً أم لا، والأصحاب مختلفون فيه: فعن شيخي المذهب أبي حامد والقفال:

أنه لا ضبط لذلك، وبه قال أصحابنا العراقيون، والصيدلاني، والقاضي الحسين؛ لأن الشافعي [-رضي الله عنه-] قال: أخبرني شيخ باليمن أنه ولد [له] خمسة أولاد في بطن واحدة، وعن ابن المرزبان أن امرأة بالأنبار ألقت كيساً فيه اثنا عشر ولداً. وذكر صاحب "التهذيب" أن هذا أصح. وقال آخرون: [إن] أقصى الحمل أربعة، وهو ما ذكره الغزالي والقاضي ابن كج. قيل: وهو قياس قول الشافعي؛ لأنه يتبع في [مثل] ذلك الوجود، وأكثر العدد الذي وجد أربعة، لكنه مشكل بما نقله الأولون. فعلى الأول: إذا خلف ابناً وأم ولد حاملاً – لم يصرف للابن شيء في الحال، وكذا إذا خلف ابناً وزوجة حاملاً، لكان للزوجة الثمن. وعلى الثاني: للابن في الصورة الأولى الخمس، وفي الثانية خمس الباقي، وعلى هذا: هل يمكن من التصرف [فيه] أم لا؟ فيه خلاف عن القفال؛ لأنه قد يهلك الموقوف للحمل فيحتاج إلى الاسترداد، والحاكم وإن كان يلي أمر [الأطفال، لكنه لا يلي أمر] الأَجِنَّةَ، والظاهر الأول، وهذا كله قبل انفصاله، فإذا انفصل وفيه حياة مستقرة، مثل أن صرخ عقيب الولادة [أو بكى] أو عطسن أو تثاءب أو امتص الثدي، أو تحرك حركة ظاهرة. [ولو تحرك حركة] بين تلك وبين [الحركة التي كالاختلاج] الذي يحصل مثله لانضغاط وتقلص [عصب – ففيه] خلاف حكاه الإمام، فإذا وجد أحدها وقد تحقق وجوده حالة الموت: بأنتى وضعته لدون ستة أشهر من حين الموت، أو لستة أشهر فما فوقها من حين الموت إلى أربع سنين، وقد انقطع الفراش، ولم يتجدد فراش غيره – ورث. قال الرافعي: ولم يجروا في الصورة الأخيرة الوجهين المذكورين فيما إذا

أوصى لحمل فلانة من زيد، فأتت بولد لستة أشهر فما فوقها إلى أربع سنين، وليست فراشاً فيها لأحد – في أنه هل يستحق؟ وسببه: أن النسب ثابت، والميراث يتبعه، والوصية بخلافه. ولو كان لها زوج يطؤها لم يعط؛ لاحتمال حدوثه، إلا أن يتطابقوا على وجوده حين الموت، وينبغي أن يمسك الزوج عن وطئها بعد الموت حتى يظهر الحال. قال الإمام: ولا نقول بتحريمه. فرع: إذا مات عن ابن وزوجة حامل، فولدت ابناً وبنتاً، فاستهل أحدهما، ووجدا ميتين، ولم يدر أن المستهل أيهما – أعطى كل وارث أقل ما يصيبه، ويوقف الباقي حتى يصطلحوا أو تقوم بينة. قال: وإن لم يكن أحد من العصبات ورث المولى المعتق، رجلاً كان أو امرأة؛ لما روي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقال: إني اشتريته وأعتقته، فما أمر ميراثه؟ قال صلى الله عليه وسلم: "إِنْ تَرَكَ عَصَبَةً فَالْعَصَبَةُ أَحَقُّ، وَإِلاَّ فَالْوَلاَءُ". قال: فإن لم يكن فعصبته؛ على ما ذكرته في باب الولاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ". قال: فإن لم يكن له وارث – أي: من العصبة أو النسب – انتقل ماله إلى بيت المال ميراثاً للمسلمين؛ لما ذكرناه من رواية أبي داود من قوله عليه السلام: "أَنَا وَارِثُ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ" وهو – عليه السلام – لا يرث لنفسه، وإنما هو يصرف ذلك في مصالح المسلمين؛ فهم الوارثون، ولأنهم يعقلونه إذا

قتل؛ فانتقل ماله إليهم بالموت ميراثاً كالعصبة، وقد حكينا من قبل وجهاً عن بعض الأصحاب: أن انتقاله إلى بيت المال لا يكون إرثاً، وإنما يكون كمالٍ ضائع؛ لأنه لا يخلو من قريب وارث، وإن لم يعرفن وهذا إذا كان الميت مسلماً فإن كان كافراً انتقل ماله فيئاً، كما سيأتي في قسمة الفيء والغنيمة. فرع: قال في "البحر": إذا صرف المال إلى بيت مال المسلمين ميراثاً – يرثه [كل] من كان موجوداً عند وفاته دون من يولد من بعد، ويصرفه الإمام إلى الموجودين على ما يراه من المصلحة، ويكون الذكر والأنثى فيه سواء؛ لأنهما تساويا في جهة الاستحقاق وهي [الموالاة في الدين، كما قلنا في ولد الأم؛ لأنهما في جهة الاستحقاق – وهي] الرحم – سواء، ذكره [بعض] أصحابنا. قال: فإن لم يكن سلطان عادل، كان لمن في يده المال أن يصرفه في المصالح، وأن يحفظه إلى أن يلي سلطان عادل؛ لأن الإمام نائب عن المسلمين ووكيل لهم؛ فجاز لدفع إلى الموكل بالصرف في مصالحهم، وجاز الصبر حتى يدفع [إلى نائبهم]. وهذا اصح في تعليق القاضي أبي الطيب، وعند الشيخ في "المهذب". [والسلطان] يذكر ويؤنث لغتان مشهورتان، ولم يذكر ابن السكيت سوى التأنيث. قال: وقيل: يرد إلى ذوي الفروض غير الزوجين على قدر فروضهم، إن كان [هناك] أهل الفرض. مثاله: إذا مات وخلف بنتاً وأُمًّا، [فرض للأم] السدس، وللبنت النصف، ثم يرد الثلث الباقي عليهما بالنسبة؛ فيكمل للأم الربع، وللبنت النصف والربع.

ولو كان الورثة أمًّا وأختاً، فللأم الثلث، وللأخت النصف، والباقي يقسم على خمسة، فيكمل للأم خمسا المال، وللأخت ثلاثة أخماسه. قال: وإن لم يكن صرف إلى ذوي الأرحام، وهم: ولد البنات، وولد الأخوات، وبنات الإخوة، وبنات الأعمام، وولد الأخ من الأم، والعم [من] الأم والعمة، وأب الأم، والخال والخالة، ومن أدلى [بهم] [أي]: من الأولاد، وأم [أبي] الأم، وبهم يكمل عددهم خمسة عشر نفساً، كما قال القاضي أبو الطيب. قال: يورثون على مذهب أهل التنزيل، فيقام كل واحد منهم مقام الذي يدلي به، فيجعل ولد البنات [وولد] الأخوات بمنزلة [أمهاتهم، وبنات الإخوة، وبنات الأعمام بمنزلة آبائهم، [وأبو] الأم والخال والخالة بمنزلة] الأم، والعم للأم والعمة بمنزلة الأب. وهذا ما اختاره ابن كج، وأفتى به أكابر المتأخرين، وادعى الماوردي أنه أجمع عليه المحصلون من أصحابنا، وأن الشيخ أبا حامد ومن تابعه تفرد بمنع ذوي الأرحام [و] الرد، واحتج بأن جهة بيت المال باقية، فلا يبطل [استحقاق] الجهة بعدمه؛ كالزكاة؛: لا تسقط بعدم بيت المال. ثم قال الماوردي: وهذا فاسد؛ لأن ما يستحق صرفه من بيت المال عن جهات غير متعينة، وإنما يتعين باجتهاد الإمام، فإذا بطل التعيين سقط الاستحقاق، وإن علم أن الجهة لا تعدم، كالعربي إذا مات – علمنا أن له عصبة [أو بنين]، ولكنهم [إذا] لم يتعينوا [صرف حقهم، وانصرف إلى غير جهتهم؛ فكذلك] جهة بيت المال إذا لم تتعين سقط حقها، وانصرف إلى غيرها، وليس كالزكاة؛ لتعين جهاتها وقطع الاجتهاد فيها، فلا تسقط بعدم من كان

يقوم بمصرفها، ولأن في الزكاة من يقوم مقام السلطان، وهو رب المال، بخلاف هذا، ولأن بيت المال كان أولى؛ لأنه يعقل عنه، بخلاف ذوي الأرحام، وعدمه أسقط العقل؛ فأسقط الميراث. قال الروياني: ومن اختار قول أبي حامد- وهو المشهور – أجاب عن هذا بأن جهة الإرث لم تعدم هنا، وإنما الناظر والمستوفي عدم، [و] هذا لا يوجب سقوط الحق، كما لو مات لصبي قريبٌ مناسب، ول يكن له ولي ينظر في أمره – لا يسقط إرثه. وعلى هذا إذا كان في البلد قاض مأذون له في قبض المال، وصرف في المصالح – [كان] كالإمام العادل، وإن لم يكن مأذوناً له في الصرف، فيدفعه إليه الأمين أو يصرفه بنفسه؟ فيه وجهان، وعلى قول [توريث] ذوي الأرحام: هل يختص به فقراؤهم، أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء؟ فيه وجهان: الأول منهما: رواه ابن كج، وقال: إنه يبدأ بالأحوج فالأحوج منهم، والمشهور: أنه يصرف إلى جميعهم، وهل هو إرث أو شيء مصلحي؟ فيه وجهان: أشبههما بأصل المذهب – كما قال الرافعي -: الثاني وهو ما اختاره الروياني، وقد اختار الشيخ في توريث ذوي الأرحام مذهب أهل التنزيل، وهم الذين ينزلون كل قريب منزلة قريبه [كما ذكره]، وعلى ذلك جرى القاضي ابن كج والإمام، وذهب صاحب "التهذيب" والمتولي إلى توريث ذوي القرابة، وهم إن اختلفت درجاتهم قدم الأقرب فالأقرب، كما إذا كان للميت [بنت بنت وبنت بنت بنت، فإنهم يقدمون بنت البنت على] بنت بنت البنت، وعلى ابن بنت البنت. وإن لم تختلف فإن كان [فيهم من] يدلي بوارث فهو أولى، فتقدم بنت بنت الابن على بنت بنت البنت؛ لأنها تدلي بوارثه، [وهذا أدلى بنفسه بالوارث].

وبالمثال يظهر الفرق بين المذهبين، فإذا مات وخلف بنتَ بنتٍ وبنت بنت ابن: المنزلون يجعلون المال بينهما أرباعاً بالفرض والرد، كما لو كان في المسألة بنت وبنت ابن، وأهل القرابة يجعلون الكل لبنت البنت؛ لقربها. مثال ثانٍ: بنت ابن بنت، وبنت بنت ابن: المال للثانية بالاتفاق؛ أما على مذهب أهل التنزيل فلأن السبق إلى الوارث هو المعتبر، وأما على الثاني فلأن المعتبر عندهم الأسبق درجة. مثال ثالث: بنت بنت، وابن بنت، وأخت له من بنت أخرى: المنزلون يقولون: لو كانت البنت حَيَّة لكان المال لها بالفرض والرد، فيجعل نصف المال لبنت البنت الفردة، ونصفه الآخر لبنت البنت الأخرى ولأخيها للذكر مثل حظ الأنثيين. [وأهل القرابة يجعلون المال بين الثلاثة: للذكر مثل حظ الأنثيين]. وإذا تأملت ذلك عرفت أن هذا الخلاف في مذهبنا، وقد يفهم منه أن ذلك خلاف أبي حنيفة، وليس كذلك، بل محل الخلاف بيننا وبينه في التوريث بالرد وذوي الأرحام قبل بيت المال، وبمثل مذهبه قال المزني وابن سريج؛ كما حكاه في "التهذيب"؛ واستدلوا له بقوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب: 6]، ولم يفصل. وقد روى أبو داود عن المقدام – وهو ابن معد يكرب الكندي – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لا وَارِثَ لَهُ، يَعْقِلُ عَنْهُ، وَيَرِثُهُ". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الْخَالَةُ أُمٌّ"، وروي أنه – عليه

السلام – وَرَّثَ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ مِنْ ثَابِتٍ بَنِ الدَّحْدَاحَةِ. وروي أن رجلاً من "خُزَاعَةَ" مات، فأتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بميراثه فقال: "الْتَمِسُوا ذَا رَحِمٍ"؛ فدل على أن كل [من كان ذا رحم فإنه يرث]، ولأن الأمة أجمعت على أن الإرث بإحدى الجهتين، فإذا عدمت أحداهما بقيت الأخرى؛ ودليلنا عليهم: ما روى [ابن عمر] أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب إلى "قباء"؛ يستخير الله في ميراث العمة والخالة؛ فأنزل الله – تعالى – أن لا ميراث لهما.

وروى أسامة بن زيد أنه – عليه السلام – قال: "إِنَّ اللهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" وليس و"لا حق" مذكور في الكتاب. ومن جهة المعنى: أن بنت الأخ وبنت العم والعمة لا يرثن مع أخيهن المساوي لهن في القرابة؛ [فلا يرثن عند الانفراد]؛ كبنت المولى المعتق لما لم ترث مع أخيها لم ترث مع فقده. واحترزنا بلفظ "المساواة" عن ولد الأب مع ولد الأب والأم؛ فإنه لا يرث عند وجوده، ويرث عند فقده، ولأنهم لا يرثون مع المولى المعتق؛ فلم يكن لهم مدخل في الميراث؛ كالقاتل والمرتد. والجواب عن قولهم: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب: 6]: أن المراد بهم أولو الأرحام المذكورون في الكتاب الذين يرثون بالإجماع؛ [لان] هذه الآية ناسخة للإرث بالإيمان والهجرة كما تقدمن وإنما وقع النسخ [بهم] دون غيرهم. وأما – قوله عليه السلام -: "الْخَالُ وَارِثَ مَنْ لاَ وَارِثَ لَه" فهو لنا؛ لأنه أخرجه عن كونه وارثاً؛ [لأنه] أثبته وارثاً حين نفى الوارث، وهذا كما يقال: الصبر حيلة من لا حيلة له، والجوع زاد من لا زاد له. أو يحمل على كون الخال عصبة؛ ويدل على ذلك كونه جعله يعقل عنه، وهو لا يعقل – باتفاق الخصم – إلا أن يكون عصبة، أو على أنه السلطان، لأن العرب تسمى السلطان خالاً. وأما الجواب عن قصة أبي لبابة، و [ابن] عمر: فذاك حين كان التوارث بالإيمان والهجرة. والله أعلم.

باب الجد والإخوة

باب الجد والإخوة مسائل الجد [والإخوة] كَثرُ الاختلاف فيها بين الصحابة -[رضوان الله عليهم]- وكانوا يحذرون الكلام فيها. وروى سعيد بن المسيب [في ذلك] حديثاً؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَجْرَؤُكُمْ عَلَى قَسْمِ الْجَدِّ أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ" وقال علي - كرم الله وجهه -:"مَن سَرَّهُ أن يقتحم جَرَاثيم جَهَنَّمَ فليقضِ بين الجَدِّ والإخوة". وقال عبد الله بن مسعود: "سَلُونا عن عَصَباتِكم، ودَعُونا من الجد، لا حَيَّاهُ ولا بَيَّاهُ". وبالجملة فلابد من الكلام في أمره. قال: إذا اجتمع الجد -[أي]: من قِبَل الأب وإن علا - مع الإخوة [من الأب] والأم، أو الإخوة للأب - جعل كواحد منهم؛ يقاسمهم ويعصب إناثهم مالم ينقص حقه [بالمقاسمة] عن الثلث؛ لأن الجد لا يسقط بالإخوة بإجماع الصحابة، كما سنذكره؛ [لأنهم] لا يسقطون بالابن، فبالأخ أولى، بل بعضهم ذهب إلى أنه يسقط الإخوة كالأب، ومنهم أبو بكر - رضي الله عنه - وقد استدل لذلك بأدلة، منها: أنه يسمى أباً؛ قال الله - تعالى-: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]، فسماه أباً، وإذا كان أباً لم يرث الإخوة مع وجوده؛ لقوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، فَوَرث الأبوين مع الإخوة، وجعل للأم السدس، والباقي للأب. ومنها: أنه إما أن يكون كالأخ من الأب أو من الأب والأم، أو فوقهما، أو دونهما، فلو جعل كالأخ من الأب، لوجب أن يسقط بالأخ من [الأب

والأم]، ولو جعل كالأخ من الأبوين وجب ألا يرث معه الأخ من الأب، وإن كان دونهما وجب ألا يرث معهما؛ فتعين أنه أقوى منهما؛ فوجب أن يحجبهما، ولأنه كالأب في استحقاقه السدس مع [وجود] الابن أو ابنه؛ فوجب أن يكون كهو مع وجود الإخوة والأخوات، ولأنه كهو في إرثه بالفرض والتعصيب عند وجود البنت الواحدة، فكان كهو مع الإخوة والأخوات، وقد صار إلى هذا المذهب من أصحابنا المزني، و [كذلك] أبو ثور، وابن سريج، كما حكاه الماوردي، وحكاه الرافعي [عنهم] وعن محمد بن نصر من أصحابنا وابن اللبان وأبي منصور البغدادي. وظاهر المذهب: عدم سقوطهم به، ويقاسمونه، وبه قال من الصحابة عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت، وعمران بن الحصين - رضي الله عنهم - حتى روي أن علي بن أبي طالب شبه الجد بالبحر أو النهر الكبير، والأبَ بالخليج المأخوذ [منه]، والميتَ وأخاه بالساقيتين الممتدتين من الخليج، والساقيةُ إلى الساقية أقرب منها إلى البحر؛ ألا ترى أنه إذا سدت أحداهما أخذت الأخرى ماءها ولم يجرع إلى البحر؟! وعن زيد أنه شبه الجد بساق الشجرة وأصلها، والأبَ بغصن منها، والإخوةَ بغصنين تَفَرَّعَا من ذلك الغصن، فأحد الغصنين إلى الآخر أقرب منه إلى اصل الشجرة؛ ألا ترى أنه إذا قطع أحدهما امتص الآخر ما كان يمتصه المقطوع، ولم يرجع إلى الساق؟! وهذا التشبيه جعله زيد لما كثر ترداد عمر إليه؛ يسأله عن رأيه في ميراثه من ابن ابنه عاصم، ولم يجب في أمر الجد بشيء، فلما بلغ عمر خطب الناس، ثم قرأ ما كتب إليه زيد من التشبيه وقال: إن زيد بن ثابت قد قال في

الجد قولاً، وقد أمضيته. قال القاضي أبو الطيب: وكان عمرُ أولَ جدٍّ قاسَمَ الإخوة، وقد وجه ظاهر المذهب بقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7]، والأخ من الرجال؛ فوجب أن يكون له نصيب مما ترك أخوه، ولأنه ذكر يعصب أخته؛ فوجب ألا يسقط بالجد؛ قياساً على الابن، ولأن كل امرأة تستحق نصف المال إذا انفردت فلا يحجبها الجد، أصله: البنت. قال الشافعي – [رضي الله عنه]-: ولأن الأخ أقوى من الجد؛ لأنه يقول: [أنا] ابن أبي الميتِ، والجد يقول: أنا أبو أبي الميت، والأب لو كان هو الميت لكان الجد يأخذ سدس المال، والأخ خمسة أسداسه؛ فدل على أن الأخ أقوى من الجد، وكنا يجب تقديمه، لكن إجماع الصحابة على خلاف ذلك مَنَعَ منه. قال القاضي أبو الطيب: وهذا ينتقض بشيئين: أحدهما: ابن الأخ مع الجد؛ فإن الأب لو كان هو الميت لأخذ ابن الأخ خمسة أسداس المال، والجد السدس، ومع هذا: الجد مقدم عليه في مسألتنا. والثاني: العم يقول: أنا ابن جده، وأبو الجد يقول: أنا أبو جده، ولو كان الجد هو الميت لكان العم يأخذ خمسة أسداس المال، وأبو الجد يأخذ السدس، وليس العم مقدماً [عليه]؛ فبطل ما قاله الشافعي رضي الله عنه. ثم قال: والطريق الصحيح أن يقال: إنهما شخصان يدليان بشخص، الواسطة بينه وبين الميت: أحدهما بالأبوة والآخر بالبنوة، والله أعلم. فإذا تقرر أن أحد الصنفين لا يسقط الآخر، وهم في درجة واحدة – وجب أن يجعل المال بينهم، كما لو كان الجد أخاً، وإنما اعتبر ذلك عند عدم نقص نصيب الجد عن الثلث، ولم يعتبر عند نقصه، كما صار إليه زيد بن ثابت،

وعمر وعثمان – في رواية مشهورة – وعلي لَمَّا كان بالمدينة؛ لأنه لا خلاف أنهم لا يقاسمونه أبداً، فكان التقدير باثنين أشبه بالأصول؛ لأن الحجب إذا اختلف فيه الواحد والجماعة قدر باثنين، كحجب الإخوة للأم عن الثلث، وحجب البنات لبنات الابن، والأخواتِ للأب والأم الأخواتِ للأب، وعلى هذا فالمسائل التي تحصل فيها المقاسمة ثلاثة: إذا كان معه أخوان، أو أخ وأختان، أو أربع أخوات. وإنما قلنا: يقاسم الأخوات للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنها فريضة جمعت أبا أب وولد أب؛ فوجب ألا يأخذ ولد الأب بالفرض، كما لو كان مع الجد إخوة، ولا ينتقض بالأكدرية؛ لأنه وإن فرض لها [لكن] لا يأخذ بالفرض. فإن قيل: الله – تعالى- جعل للأخت النصف مع عدم الولد، وللأختين الثلثين، ولم يذكر للجد فرضاً؛ فلا يسقط به ما ثبت بنص القرآن. قيل: الآية محمولة على حالة الانفراد؛ لأن إرثها بالكلالة، وقد تقدم أن الذي يورث كلالة مَن لا ولد له ولا والدن والجد والد كما تقدم. قال: فإن نقص حقه بالمقاسمة عن الثلث – فرض له الثلث، وجعل الباقي للإخوة والأخوات كما ذكرنا، وقد تمسك بعضهم بكون الجد يفرض له الثلث؛ لأنه يسقط أولاد الأم، وفرضهم الثلث، فكان أقل درجاته أن يكون كَهُمْ، ولو اجتمع الإخوة للأم مع الإخوة من الأبوين، أو من الأب – لفرض لهم الثلث. وبعضهم قال: إن الجد لو اجتمع مع الأم لورث الثلثين والأم الثلث، فإذا وجد الإخوة ردوها من إرثها إلى نصفه، ولا تنقص عنه؛ فكذلك إذا وجدوا مع الجد لا ينقصونه من إرثه غير نصفه، ثم الحالة التي يفرض له فيها- إذا كان الإخوة أكثر من اثنين، والأخوات أكثر من أربع. قال: وإن اجتمع مع الأخ من الأب والأم والأخ من الأب، قاسمهما المال أثلاثاً، ثم ما حصل للأخ [من الأب] يرده على الأخ من الأب والأم؛ لأن الجد له ولادة، إذا حجبه أخوان وارثان جاز أن يحجبه أخ وارث وأخ غير

وارث؛ لوجود من هو أولى منه، ويعود النفع إلى الوارث كالأم. قال ابن الصباغ: وقد شبهت هذه المسألةَ بمسألة في الوصايا، وهي ما إذا أوصى لواحد بمائة ولآخر بما يبقى من ثلثه بعدها، ولآخر بثلث ماله – فإن الموصى له بالمائة والموصى له بما بقي يقاسمان الموصى له بالثلث؛ فيأخذان نصفه، ثم يأخذه الموصى له إذا كان مائة فما دونها، ولا يأخذ الموصى له بما بقي شيئاً. وقد ذكر ابن كج أن من الأصحاب من منع المسألة المستشهد بها، وسوى بين زيد وعمرو في المائة. فإن قيل: قد تقدم فيما إذا ماتت امرأة، وخلفت بنتاً وابني عم أحدهما: أخ للأم، وقلنا: إن الأخ للأم يفوز بجميع المال لو لم يكن في المسألة بنت – أنه لا يفوز بجميع المال الباقي بعد فرض البنت، ولا يفرض له السدس أيضاً على اظهر الوجهين، بل يقسم بينهما؛ لأن الإخوة للأم سقطت بالبنت، فكأنها لم تكن، وهذا المعنى موجود هاهنا، فلم لا؟ قيل: بمقاسمة الأخ للأب الأخَ للأبوين والجد، ولا يسترد منه الأخ من الأبوين شيئاً؛ لأن الجدودة أسقطت أخوة الأم، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين حجب الأم بالأخوين اللذين ليسا بوارثين. قال: فإن كان ولد الأب والأم أختاً واحدة، رد عليها الأخ من الأب تمام النصف، والباقي له؛ لأن ولد الأب إنما يأخذ ما فضل عن حق ولد الأب والأمن وطريق تصحيح المسألة أن يقول: المسألة من خمسة على عدد الرءوس: للجد منها سهمان، وللأخت سهم، وللأخ سهمان، يرد منهما على الأخت تمام النصف، وهو سهم ونصف، يبقى في يده نصف، وذلك منكسر على مخرج النصف، فنضربه في أصل المسألة؛ تبلغ عشرة، ومنها تصح للجد أربعة، وللأخت خمسة، [ولأخ الأب سهم] وعلى هذا فقس. قال: وإن اجتمع معهن مَن له فرض – أي: وهم ستة: البنت، وبنت الابن، والأم أو الجدة، والزوج أو الزوجة – قال: جعل للجد الأوفر من المقاسمة؛

لمساواته إيَّاهم ونزوله منزلة الأخ أو ثلث ما يبقى بعد الفرض؛ لأن ما يبقى بعد الفرض بمنزلة جميع المال؛ لان الفرض كالمستحق من المال، وقد بَيَّنَّا أن له من جميع المال الأوفر من المقاسمة أو الثلث؛ فكذلك هاهنا، أو سدس جميع المال؛ لأن البنتين لا ينقصونه عن السدس، فالإخوة أولى. ثم الصورة التي تكون فيها المقاسمة خيراً: ما إذا كان معه زوجة وأخ؛ لأن المسألة من ثمانية: تأخذ الزوجة سهمين، يبقى ستة؛ للجد منها: ثلاثة، وهي أكثر من ثلث الباقي، ومن سدس الجملة؛ فتعينت المقاسمة. ومثال الصورة التي يكون فيها ثلث ما يبقى خيراً: ما إذا كان الورثة: أمًّا، وجدًّا، وإخوة؛ فالمسألة – على رأي المتقدمين من أصحابنا – من ستة: للأم سهم، يبقى خمسة؛ للجد منها: ثلاثة؛ لأنه خير من المقاسمة، وسدس جميع المال، وقد انكسرت على مخرج الثلث؛ فيضرب ثلاثة في أصل المسألة تبلغ ثمانية عشر: للأم ثلاثة، وللجد خمسة، والباقي للإخوة، فإن انقسم عليهم، وإلا ضَرَبْتَ العدد الذي انكسر عليهم في أصل المسألة، [وهي ثمانية عشر إذا لم يكن بين سهامهم وعددهم وَفْقٌ، فإن كان ثَمَّ وفْقٌ ضَرَبْتَ جزء الوفق في أصل المسألة]، ومنها تصح. وطريق بعض المتأخرين أن أصل المسألة من ثمانية عشر، وطرد ذلك في كل صورة [من مسائل الجد] فيها سدس، وثلث ما يبقى بعده أحظ للجد، وهو أحد الأصلين اللذين تقدم الوعد بهما. والأصل الثاني: إذا كان في المسألة زوجة وأم، وجد، وإخوة، فعلى رأي المتقدمين المسالة من اثني عشر: للزوجة والأم خمسة أسهم، تبقى سبعة: ثلثها خير من المقاسمة وسدس الجملة، وقد انكسرت المسألة على مخرج الثلث وهو ثلاثة، فتضربها في أصل المسألة، تبلغ ستة وثلاثين: للزوج والأم خمسة [عشر] وللجد ستة، والباقي للإخوة، فإن انقسم عليهم وألا فاضرب عدد رءوسهم في

أصل المسالة؛ إذا لم يكن [بين] عددهم وعدد سهامهم وفق، وإلا فاضرب جزء الوفق فيها، ومنها تصح. ورأى بعض المتأخرين أن يجعل أصل المسألة ستة وثلاثين، وطرد ذلك في كل مسألة فيها ربع وسدس من مسائل الجد، وثلث الباقي بعد ذلك خير له. ومثال الصورة التي يكون فيها سدس الجملة خيراً له: ما إذا كان في المسألة زوجة، وبنت، وإخوة؛ فالمسألة من ثمانية، وسدس الجملة – وهو سهم وثلث – خير من المقاسمة وثلث ما يبقى، وقد انكسرت على مخرج الثلث، فتضربه في أصل المسألة، تبلغ أربعة وعشرين: للبنت اثنا عشر، وللزوجة ثلاثة، وللجد أربعة، والباقي بين الإخوة. قالك فإن بقي شيء أخذه الإخوة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ [الْفَرَائِضُ] فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ". قال: وإن لم يبق شيء سقطوا؛ لأنهم عصبات، ومثال ذلك: أن يخلف الميت من الورثة زوجاً وأمًّا وجدًّا، فللزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس. قال: ولا يفرض للأخت مع الجد [إلا] في الأكدرية، وهي: زوج وأم وجد وأخت- أي من أب وأم، أو من أب – يجعل للزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس، وللأخت النصف، فتعول إلى تسعة، ثم يجمع نصف الأخت وسدس الجد، فيجعل بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين؛ فتصبح من سبعة وعشرين: للزوج تسعة، وللأم ستة، وللجد ثمانية، وللأخت أربعة، وإنما أعطي الزوج النصف، والأم الثلث؛ لأنه ليس في المسالة من يحجبها، وإنما أعطي الجد السدس ولم ينقص عنه؛ لما ذكرناه من قبل، وإنما فرضنا للأخت النصف؛ لأنه ليس هنا من يسقطها ولا من يعصبها؛ فإن الجد لو عصبها لنقص حقه عن السدس؛ فتعين أن يفرض لها، ولا يمكن أن تأخذ جميع ما فرض لها؛ لأنه لا يجوز تفضيلها على الجد؛ فوجب أن يجمع بينهما في النصف ويقتسمانه للذكر مثل حظ الأنثيين، كما لو كان

ما حصل لهما كل التركة وإنما صحت من سبعة وعشرين؛ لأن أصلها من ستة، وعالت بنصفها إلى تسعة: نصيب الأخت والجد منها أربعة، وهي لا تنقسم ثُلُثاً وثلثين، فقد انكسرت على مخرج الثلث، فتضربه في تسعة تبلغ سبعة وعشرين. وسميت هذه المسألة بـ"الأكدرية"؛ لان عبد الملك بن مروان سأل عنها رجلاً يقال له: الأكدر. وقيل: لأن امرأة من الكدر ماتت وخلفتهم، فنسبت إليها. وقيل: لأنها كدرت على زيد أصله؛ لأنه لا يفرض للأخوات مع الجد، وهذه المسألة يُعَايَا بها، فيقال: فريضة عدد الوارثين فيها أربعة، يأخذ أحدهم ثلث جميع المال، والثاني ثلث الباقي، والثالث ثلث الباقي؛ لأن الزوج يأخذ تسعة من سبعة وعشرين، [وهي ثلثها]، والأم ستة وهي ثلث الباقي، والأخت أربعة، وهي ثلث الباقي، والجد الباقي. قال الرافعي: وقياس كون الأخت عصبة بالجد [أن تسقط] وإن رجع الجد إلى الفرض؛ ألا ترى أنا نقول في بنتين، وأم، وجد، وأخت: للبنتين الثلثان، وللأم السدس، وللجد السدس، وتسقط الأخت؛ لأنها عصبة مع البنات، ومعلوم أن البنات لا يأخذن إلا بالفرض، ولو كان بدل الأخت أختين لم تعل المسألة، وكان للزوج النصف، وللأم السدس، والباقي بين الجد والأختين؛ لأنه لم ينقص حقه عن السدس، وقد استوى في هذه الحالة سدس الجملة والمقاسمة. وقد نجز شرح المسائل المذكورة في الكتاب من كتاب الفرائض، ونختمها بذكر ما يحتاج إليه في معرفة تصحيح المسائل على اصطلاح القوم، وذلك يتوقف على أمرين: أحدهما: معرفة الأصول التي نستخرج منها نصيب كل واحد، وقد تقدم. والثاني: معرفة ما هو موافق من الأعدد للآخر، وما هو مباين ومتداخل ومتماثل. فنقول: كل عددين فأكثر إذا اجتمعا فلا يخلو: إما أن يكونا متماثلين كثلاثة

[وثلاثة]، وخمسة وخمسة، أو غير متماثلين. ثم إذا كانا غير متماثلين: فإما أن يفنى الأكثر بالأقل إذا أسقط منه [مرتين] فصاعداً: كالخمسة مع العشرة والثلاثة مع التسعة، أو لا يفنى به، إن كان الأول سميا متداخلين، والمعنى أن أحدهما داخل في الآخر مدخول فيه، وإن كان الثاني فإما أن يفنيهما جميعاً عدد ثالث: كالستة مع العشرة يفنيهما الاثنان، وكالتسعة مع الاثني عشر تفنيهما الثلاثة، أو لا يفنيهما عدد آخر، وإنما يفنيان بالواحد، فإن كان الأول سميا متوافقين، وإن كان الثاني سميا "متباينين"، فإذن كل عددين إما متداخلان، أو متماثلان، أو متوافقان، أو متباينان، وكل متداخلين فيهما متوافقان؛ لأن الأول إذا أفنى الأكثر كانا متوافقين بأجزاء ما في العدد الأقل من الآحاد. مثاله: الخمسة تفنى العشرة، فهما متوافقان بالأخماس، فإذا أردت أن تعلم أن أحد العددين هل يدخل في الآخر؛ فاسْقِطِ الأقل من الأكثر مرتين فصاعداً، أو زد على الأقل مثله مرتين فصاعداًن فإن فني الأكثر بالأقل، أو ساوى الأقل الأكثر بزيادة المثل أو المثلين فصاعداً – فهما متداخلان، وإلا فلا، وإن أردت أن تعلم أنهما متوافقان فأسقط الأقل من الأكثر ما أمكن، فما بقي فأسقط، فأسقطه من الأقل، فإن بقي منه شيء، فأسقطه مما بقي من الأكثر، ولا تزال تفعل ذلك حتى يفنى العدد المنقوص [منه] أجزاء، فإن فني بواحد فمتباين، وإن فني بعدد فهما متوافقان بالجزء المأخوذ من ذلك العدد، فإن فني باثنين فهما متوافقان بالنصف، وإن فني بثلاثة فبالثلث، وإن فني بعشرة فبالعشر، وإن فني بأحد عشر [فبأجزاء أحد] عشر، وعلى هذا القياس. مثاله: واحد وعشرون، وتسعة وأربعون، تسقط الأقل من الأكثر تبقى سبعة، تسقط السبعة من واحد وعشرين ثلاث مرات يفنى بها؛ فهما متوافقان بالأسباع. مائة وعشرون، ومائة وخمسة وستون، تسقط الأول من الثاني، يبقى خمسة وأربعون فأسقطها من المائة وعشرين مرتين، يبقى ثلاثون، أسقطها من الخمسة

والأربعين، تبقى خمسة عشر، أسقطه من الثلاثين مرتين، تفنى به الثلاثون، فهما متوافقان بأجزاء خمسة عشرة. ومهما حصل التداخل انقسم الأكثر على الأقل قسمة صحيحة، وكان الأقل غير زائد على النصف، وإذا أفنى عددين أكثر من عدد واحد فهما متوافقان بأجزاء تلك الأعداد من الآحاد. مثاله: اثنا عشر وثمانية عشر تفنيهما الستة والثلاثة والاثنان؛ فهما متوافقان بالأسداس، والأثلاث، والأنصاف. والعمل والاعتبار في مثل ذلك بالجزء الأقل، فيعتبر في هذا المثال السدس، وفي المتوافقين بالأخماس: الخمس، والأعشار: العشر، وعلى هذا القياس. فإذا عرف ذلك جئنا إلى الصحيح، فإن كان الورثة كلهم عصبات – فَأَمْرُ القسمة سهل، وقد بيناه، وإن كان الورثة أصحاب فروض، أو كان فيهم صاحب فرضن وعرفت أصل المسألة بعولها إن كانت عائلة، فانظر في السهام وأصحابها: إن انقسمت عليهم جميعاً فذاك. مثاله: زوج وأم، وأخوان من أم؛ فهي من ستة: للزوج ثلاثة، وللأم سهم، ولكل من ولد الأم سهم. زوج وثلاثة بنين، المسألة من أربعة: للزوج سهم، ولكل ابن سهم. زوجة وبنت، وثلاثة بني ابن، المسألة من ثمانية، للزوجة الثمن سهم، وللبنت النصف أربعة، تبقى ثلاثة لكل ابن ابن سهم. وإن لم تنقسم، فإما أن تنكسر على صنف واحد أو أكثر، فإن كان الأول نظر في سهامه وعدد رءوسهم: إن [كانا متباينين] ضربت عدد رءوسهم في أصل المسألة بعولها، إن كانت عائلة، وإن كانا متوافقين ضربت جزء الوفق من عدد رءوسهم في أصل المسالة بعولها إن كانت عائلة. مثال التباين: زوج وأخوان، هي من اثنين: للزوج سهم، يبقى سهم لا يصح عليهما ولا موافقة، فاضرب عددهما في أصل المسألة تبلغ أربعة: للزوج سهمان، ولكل أخ سهم.

مثال التوافق: أم وأربعة أعمام، هي من ثلاثة: للأم واحد، يبقى اثنان لا يصح على الأعمام الأربعة، لكنَّ العددين متوافقان بالنصف، فيضرب نصف عدد الأعمام – وهو اثنان – في أصل المسألة، تبلغ ستة ومنها تصح، وإذا اتفق التوافق في جزأين فصاعداً – ضربت أقل أجزاء الوفق من عدد الرءوس في أصل المسالة بعولها، فما بلغ فمنه تصح المسألة. مثاله: زوج وأم وستة عشر بنتاً، هي من اثني عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر: للبنات منها ثمانية لا تصح عليهن، لكن الثمانية مع عددهن يتوافقان بالنصف، والربع، والثمن، فتأخذ أقل هذه الأجزاء – وهو الثمن – من عدد الرءوس وهو سهمان، وتضربهما في أصل المسالة بعولها، تبلغ ستة وعشرين. وإن وقع الكسر على أكثر من صنف، فإما أن يقع على اثنين أو ثلاثة، أو أربعة ولا مزيد؛ لأن الوارثين في الفريضة الواحدة لا يزيدون على خمسة أصناف؛ كما بينا عند اجتماع من يرث من الرجال والنساء، أو أحد الصنفين، ولابد من صحة نصيب أحد الأصناف عليه؛ لأن أحد الأصناف الخمسة: الزوج والأبوان، والواحد يصح عليه ما يصيبه؛ فلزم الحصر. فإن وقع الكسر على صنفين نظرنا في سهام كل صنف، وعدد رءوسهم، فإن لم يكن بينهما موافقة في واحد من الصنفين – تركت رءوس الصنفين بحالها، فإن كان بين السهام وعدد الرءوس موافقة [فيهما] – فترد عدد كل صنف على جزء الوفق، وإن كان بين أحد الصنفين وسهامه موافقة، ولا موافقة بين الآخر وعدد سهامه، فرد عدد ما يوافق رءوسهم وسهامهم إلى جزء الوفق، واترك عدد الآخر بحاله. ثم عدد رءوس الصنفين في الأحوال الثلاثة التي ذكرناها: إما أن يتماثلا؛ فتكتفي بأحدهما، وتضربه في أصل المسألة بعولها، [وإما أن يتداخلا، فتضرب الأكثر منهما في أصل المسألة بعولها] أو يتوافقا فتضرب جزء الوفق من أحدهما – أو أقل جزء الوفق إن توافقا بجزأين في جميع الآخر، فما حصل

تضربه في أصل المسألة بعولها. وكذا إن تباينا ضربت أحدهما في الآخر، فما حصل تضربه في اصل المسالة بعولها، فما بلغ فمنه تصح المسألة، وتخرج من [هذه الأحوال] اثنتا عشرة مسألة؟ ولنوضح ذلك بالمثال: ففي الحالة الأولى أربع مسائل: ثلاث بنات وثلاثة إخوة، الأعداد متماثلة، فتكتفي بأحدهما وتضربه في أصل المسألة [-وهو ثلاثة-] تبلغ تسعة، ومنها تصح. ثلاث بنات وستة إخوة، العدد الأول داخل في الثاني؛ فتكتفي به وتضربه في أصل المسألة، ومنها تصح. تسع بنات وست أخوات، العددان متوافقان بالثلث، تضرب ثلث أحدهما في كامل الآخر تبلغ ثمانية عشر، ثم اضرب ذلك في أصل المسألة تبلغ أربعة وخمسين، ومنها تصح. ثلاث بنات وأخوان، واثنتا عشرة أختاً لأب: أصل المسألة من ستة، وتعول إلى سبعة، فللإخوة سهمان يوافقان عددهم بالنصف، [فرد عددهم إلى ثلاثة. وللأخوات أربعة توافق عددهن بالنصف] والربع، فرد عددهن إلى ثلاثة؛ رداً إلى أقل الوفقين؛ فيتماثل العددان المردودان؛ فتكتفي بأحدهما وتضربه في أصل المسألة، ومنها تصح. أم وثمانية إخوة لأم، وثماني أخوات لأب، يرجع عدد الإخوة إلى أربعة، وعدد الأخوات إلى اثنين؛ ردًّا إلى أقل الوفقين، وهما متداخلان، فتكتفي بالأربعة، وتضربها في أصل المسألة، ومنها تصح. أم واثنا عشر أخاً لأم، وست عشرة أختاً لأب: ترجع الإخوة إلى ستة، والأخوات إلى أربعة، وهما متوافقان بالنصف، فاضرب نصف الستة في كامل

الأربعة تبلغ اثني عشر، ثم اضربها في أصل المسألة بعولها – وهو سبعة – تبلغ أربعة وثمانين، ومنها تصح. أم وستة إخوة لأم وثماني أخوات [لأب]: ترجع الإخوة إلى ثلاثة، والأخوات إلى اثنين، وهما متباينان، فاضرب الاثنين في الثلاثة تبلغ ستة، ثم اضربها في سبعة تبلغ اثنين وأربعين، ومنها تصح. وفي الحالة الثالثة أربع مسائل: ست بنات وثلاثة إخوة، المسألة من ثلاثة: سهمان للبنات، وبينهما موافقة بالنصف، فرجع عددهم إلى ثلاثة، وهي تماثل عدد الإخوة، فتكتفي بأحدهما. أربع بنات وأربعة إخوة، يرجع [عدد] البنات إلى اثنين، والاثنان يدخلان في الأربعة، فتكتفي بها. ثماني بنات وستة إخوة، يرجع عدد البنات إلى أربعة، ويتوافق بعد ذلك عددهن وعدد الإخوة بالنصف. أربع بنات وثلاثة إخوة يرجع [عدد] البنات إلى اثنين، واثنان مباينان لثلاثة، فتضرب أحدهما في الآخر، ثم ما انتهى إليه تضربه في أصل المسألة. وإن وقع الكسر على ثلاثة أصناف أو أربعة – نظرت أولاً في سهام كل صنف وعدد رءوسهم، فحيث وجدنا الموافقة رددنا عدد الرءوس إلى جزء الوفق، وحيث لم نجدها أبقيناه بحاله. ثم يجيء في عدد الأصناف الأحوال الأربعة: فكل عددين متماثلين نقتصر على أحدهما، وإن تماثل الكل اكتفينا بواحد، وضربناه في أصل المسألة بعولها. وكل عددين متداخلين نقتصر منهما على الأكثر، وإن اتفق التداخل بين الكل اكتفينا بأكثرهما، وضربناه في اصل المسألة بعولها. وكل عددين متوافقين تضرب وفق أحدهما في الآخر، وإن توافق الكل فتوقف أحدهما، وترد ما عداه إلى جزء الوفق، ثم تنظر في أجزاء الوفق: فتكتفي عند التماثل بواحد منها، وعند التداخل بالأكثر، وعند التوافق تضرب جزء الوفق من

البعض في البعض، فما انتهى إليه الضرب تضربه في أصل المسألة بعولها. [وعند التباين تضرب البعض [في البعض]، فما انتهى إليه الضرب تضربه في أصل المسألة بعولها]. وإن كانت الأعداد متباينة ضربنا عدداً منها في الآخر، ثم ما حصل ضربناه في [العدد] الثالث، ثم ما حصل ضربناه في العدد الرابع، ثم ما حصل ضربناه في أصل المسألة بعولها، ومن ذلك تصح المسألة، وإن شئت ضربت أحد الأعداد في أصل المسألة بعولها، [ثم ما حصل تضربه في العدد الثاني]، ثم ما حصل تضربه في الثالث، ثم ما حصل تضربه في الرابع. وإذا لم يكن بين السهام وعدد الرءوس ولا بين أعداد الرءوس موافقةٌ سميت المسألة صَمَّاء. وإذا فهمت هذه الضوابط، لم يَخْفَ على الفطن تخريج المسائل عليها؛ فإنا لو استوعبنا هذه [الصور بالأمثلة] لطال الكلام ومُلَّن مع أنها مستوعبة في التصانيف المفردة في هذا الشأن. ثم ما ذكرناه مفروض فيما إذا لم يمت أحد من الورثة حتى قسمت التركة، فإن مات أحد منهم قبل قسمة تركه الأول – فالكلام في هذه الحالة يعرف به "المناسخات"، ولهذه الصورة حالتان أحداهما: أن تكون ورثة الثاني هم ورثة الأول بعينهم، وميراثهم منه كميراثهم من الأول، فيقدر في هذه الحالة كأن الميت الثاني لم يكن، وتقسم التركة على الباقين، وتتصور المسألة فيما إذا كان الكل عصبة: كإخوته أو بنين وبنات، فمات أحدهم وورثه الباقون لا غير، وفيما إذا كان الإرث عن الميتين بالفرض: كما إذا مات الأول عن زوج وأم وأخوات لأم مختلفات الآباء، ثم نكح الزوج إحداهن، فماتت عن الباقين، وفيما إذا كان بعضهم يرث بالفرضية وبعضهم بالعصوبة: كما إذا مات عن أم وإخوة لام ومعتق، ثم مات أحد الإخوة

عن الباقين. الحالة الثانية: ألا ينحصر ورثة الثاني في باقي ورثة الأول؛ إما لأن الوارث غيرهم، أو لأنا غرهم يشركهم، أو ينحصر في ورثة الأول، إلا أن مقادير استحقاقهم من الثاني مخالفة لمقادير استحقاقهم من الأول، فالطريق في هذا أن تصحح مسألة الأول، ثم مسألة الثاني، وتنظر في نصيب الثاني من مسألة الأول: فإن انقسم نصيبه على مسألته فذاك، وإلا فيقابل نصيبه بمسألته الصحيحة: إن كان بينهما موافقة ضربت أقل جزء الوفق من مسألته في مسألة الأول، فما بلغ فمنه تصح المسألتان، [وإن لم تكن بينهما موافقة تضرب جميع مسألته في مسألة الأول، فما بلغ فمنه تصح المسألتان]، ومن له شيء من المسألة الأولى يأخذه مضروباً في تمام المسألة الثانية إن لم يكن بينهما موافقة، [وإن كان فيأخذه مضروباً في وفق الثانية]. ومن له شيء من مسألة الميت الثاني يأخذه مضروباً في نصيب الميت الثاني من الميت الأول، أو في وفق النصيب إن كان بين نصيبه ومسألته موافقة. الأمثلة: زوج وأختان لأب، ماتت أحداهما عن الأخرى وعن بنت، الأولى من ستة، وعالت إلى سبعة، نصيب كل أخت منها سهمان، والمسألة الثانية من اثنين؛ فنصيبها من الأولى موافق لسهامها؛ فلا حاجة إلى ضرب. زوجة وثلاثة بنين وبنت، ثم ماتت الأم عن أم وثلاثة إخوة، وهم الباقون من ورثة الأولى، المسألة الأولى من ثمانية، ونصيب الميتة ثانياً منها سهم، ومسألتها من ستة، وتصح من ثمانية عشر، وسهم لا ينقسم على ثمانية عشر، ولا وفق فيه؛ فتضرب المسألة الثانية في الأولى تبلغ مائة وأربعة وأربعين: للزوجة من الأولى سهم مضروب في الثمانية عشر بثمانية عشر، ولكل ابن سهمان مضروبان في ثمانية عشر بستة وثلاثين، وللبنت الميتة منها ثمانية عشر، للأم منها ثلاثة؛ لأن

نصيبها من المسألة الثانية ثلاثة أسهام تأخذها مضروبة في نصيب البنت من الأولى، وهو سهم، [تبلغ ثلاثة]، ونصيب كل أخ من المسألة الثانية خمسة، يأخذها مضروبة في نصيب أخته من المسألة الأولى، وهو سهم، فيكمل [للأم] أحد وعشرون، ولكل أخ أحد وأربعون. جدتان وثلاث أخوات متفرقات، ثم ماتت الأخت من الأم عن أخت لأم، وهي الأخت [من الأبوين في الأولى]، وعن أختين لأب وأم، وعن أم أم، وهي إحدى الجدتين – المسألة الأولى من اثني عشر، والثانية من ستة. ونصيب الأخت الميتة من المسألة الأولى سهمان، ونصيبها ومسألتها يتوافقان بالنصف، فيضرب نصف مسألتها في الأولى تبلغ ستة وثلاثين، كان للجدتين سهمان تأخذ أيهما مضروبين في ثلاثة [تكون ستة]، وكذا الأخت من الأب، وكان للأخت من الأبوين ستة تأخذها مضروبة في ثلاثة]، تبلغ ثمانية عشر، وكان لها من المسألة الثانية سهم واحد، [تأخذه] مضروباً في وفق نصيب الميت من الأولى، وهو سهم، وللأختين من الأبوين أربعة مضروبة في سهم، ولأم الأم سهم مضروب في سهم؛ فيحصل للأخت [للأب] الوارثة في المسألتين تسعة عشر، وللجدة الوارثة فيها أربعة. ولو مات ثالث قبل قسمة التركة، فلك أن تصحح المسائل الثلاث، وتأخذ نصيب الميت الثالث منها، وتقابله بما تصح منه مسألته، فإن انقسم نصيبه على مسألته فذاك، وإلا فإن توافقا ضربت وفق مسألته فيما صحت منه الأوليان، وإن تباينا ضربت مسألته فيه، وعلى هذا القياس تعمل [ما] إذا مات رابع وخامس قبل القسمة. ثم من كان له شيء من المسألتين الأوليين، أو من إحديهما أخذه مضروباً في الثالثة، أو في وفقها، ومن كان له شيء من الثانية خاصة، أخذه مضروباً في

نصيب الثالث من المسألتين الأوليين، أو في وفقه. المثال: زوج، وأم، وثلاث أخوات متفرقات، مات الزوج عن خمسة بنين وخمس بنات، ثم مات أحد البنين عن أربعة بنين وأربع بنات، المسألة الأولى من تسعة، والثانية تصح من خمس عشر، ونصيب [الميت] الثاني من الأولى ثلاثة، وبينهما موافقة بالثلث، تضرب ثلث الخمسة عشر في الأولى تبلغ خمسة [وأربعين، كان للأخت من الأبوين من المسألة الأولى ثلاثةٌ، تأخذها مضروبة في خمسة، تكون خمسة عشر، [وكان للأخت من الأب سهم تأخذه مضروباً في خمسة، تكون خمسة للأخت للام كذلك، وللأم كذلك، وكان للزوج ثلاثة تضرب في خمسة] تكون خمسة عشر] تنقسم على مسألته، ونصيب كل ابن سهمان؛ فإذاً نصيب الميت الثالث سهمان، وتصح مسألته من اثني عشر، وبينهما موافقة بالنصف، فتضرب نصف الاثني عشر فيما صحت منه المسألتان، وهو خمسة وأربعون، تبلغ مائتين وسبعين: للزوج منها خمسة عشر مضروبة فيما ضربناه في الخمسة والأربعين، وهو ستة؛ تكون تسعين، و [كان] للأخت من الأبوين خمسة عشر [تأخذها]، مضروبة في ستة [تبلغ تسعين]، وللأخت [من الأب] خمسة، [تأخذها] مضروبة في ستة [تكون ثلاثين]، وكذلك للأخت من الأم، وللأم، فكان لكل ابن من الميت الثاني سهمان؛ فيحصل لكل واحد منهم اثنا عشر؛ لأن كتضرب السهمين في ستة، فينقسم نصيب الميت الثالث على ورثته، [كان] لكل ابن من مسألته سهمان، فيضربان في وفق نصيبه من الخمسة والأربعين وهو واحد، فيكون سهمين، ولكل بنت سهم. مثال [ذلك]: زوج وخمسة إخوة، ثم مات الزوج عن بنت وابنين – الأولى تصح من عشرة، والثانية من خمسة، ونصيب الميت الثاني من الأولى

خمسة، ينقسم نصيبه على مسألته، ثم مات أحد الابنين عن أخ وأخت: مسألته من ثلاثة، ونصيبه اثنان ولا موافقة بينهما، تضرب ثلاثة في المسألة الأولى تبلغ ثلاثين، كان للزوج من الأولى خمسة يأخذها مضروبة فيما ضربنا فيه الأولى تبلغ خمسة عشر، ولكل أخ ثلاثة، ثم تقسم ما أصاب الميت الثاني، وهو خمسة عشر، وكان لكل [واحد من ابنيه] من مسألته سهمان، تضربهما في الثلاثة، تكون ستة، وللبنت سهم مضروب في ثلاثة بثلاثة، ثم الستة التي أصابت الميت الثالث تنقسم على ورثته؛ [و] كان للأخ سهمان، فتضربهما في نصيب الميت الثالث من المسألة الأولى، وهو سهمان، تكون أربعة، وكان للأخت سهم فتضربه في نصيب الميت، وهو سهمان؛ يكون سهمين. قال الفَرَضِيُّون: وقد يمكن اختصار الحساب بعد الفراغ من عمل التصحيح؛ وذلك إذا كانت [أنصباء] الورثة كلها متماثلة، فترد القسمة إلى عدد رءوسهم، وكذلك إذا كانت متوافقة بجزء صحيح، فيؤخذ ذلك الوفق من نصيب كل واحد منهم، ويقسم المال بينهم على ذلك العدد: كزوجة وبنت وثلاثة بنين منها، ثم مات أحد البنين عن الباقي – فالأولى من ثمانية، والثانية من ستة، ونصيب الميت الثاني سهمان يوافقان مسألته بالنصف، فتضرب نصف مسألته في الأولى تكون أربعة وعشرين: للزوجة منها ثلاثة، وللبنت ثلاثة، ولكل ابن ستة، ومن نصيب الميت الثاني: للأم سهم، وللأخت سهم، ولكل أخ سهمان، فمجموع ما للأم أربعة، وللأخت كذلك، ولكل أخٍ ثمانية، والأنصباء متوافقة بالربع، فيأخذ ربع كل نصيب، يبلغ ستة، فيقسم المال عليها اختصاراً، أما إذا لم يكن بين الأنصباء موافقة، أولم يكن إلا في بعضها – لم يمكن الاختصار، والله – تعالى –أعلم. ويتلوه – إن يسر الله وأعان – كتاب النكاح، وصلى الله على سيدنا محمد.

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء الثالث عشر كتاب النكاح- كتاب الصداق- كتاب الطلاق

كتاب النكاح

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب النكاح قال الواحدي: قال الأزهري: أصل النكاح في كلام العرب: الوطء. وقيل للتزويج: نكاح؛ لأنه سبب الوطء. يقال: نكح المطر الأرض، ونكح النعاس عينه. وقال أبو القاسم الزجاجي: النكاح في كلام العرب [بمعنى] الوطء والعقد جميعاً، وموضع (ن ك ح) على هذا الترتيب في كلامهم: للزوم الشيء الشيء راكباً عليه، فإذا قالوا: نكح فلان فلانة، ينكحها، نكْحاً ونكاحاً- أرادوا: تزوَّجها. قال ابن جني: سألت أبا عليِّ الفارسي عن قولهم: نكحها، فقال: فرقت العرب فرقاً لطيفاً يعرف [به] موضع العقد من الوطء، فإذا [قالوا: نكح] فلان فلانة أو بنت فلان أو أخته، أرادوا: تزوَّجها، وعقد عليها، وإذا قالوا: نكح

امرأته أو زوجته، لم يريدوا إلا المجامعة؛ لأن بذكر [امرأته وزوجته] يستغني عن العقد. واختلف أصحابنا في حقيقته على ثلاثة أوجه، حكاها القاضي الحسين في "تعليقه": أصحها: أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء، وهذا الذي صححه القاضي [أبو الطيب]، وأطنب في الاستدلال له، وبه قطع المتولي، وهو الذي جاء به القرآن الكريم والأحاديث. والثاني: أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد. والثالث: أنه حقيقة فيهما بالاشتراك، والله أعلم. والأصل في مشروعيته- قبل الإجماع-[من الكتاب] قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وقوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى} [النور: 32]، وغيرهما من الآيات. ومن السنة قوله- عليه السلام-: "تَنَاكَحُوا، تَكْثُرُوا"، وقوله: "النِّكَاحُ سُنَّتِي؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي" وغيرهما من الأخبار. قال: من جاز له النكاح من الرجال، وهو جائز التصرف: فإن كان غير محتاج إليه- أي: لعلةٍ قامت به من مرضٍ أو عجز، أو لم تكن به علة إلا أنه

غير تائق، وغير قادر على مُؤَنِهِ- كره له أن يتزوج؛ لقوله- عليه السلام-: "خَيْرُكُمْ بَعْدَ المِائَتَيْنِ: الْخَفِيفُ الحَاذِ" [قِيلَ: وَمَا الخَفِيفُ الحَاذِ؟ قال: "الَّذِي لا أَهْلَ لَهُ، وَلا وَلَدَ"، يقال: رجل خفيف الحاذ]؛ إذا كان خفيف لحم الفخذين، وكأنه [على] وِزَان قوله القائل: فلان خفيف الظهر، ولأنه يلزم ذمته مغارم قد لا يقوم بها من غير حاجة. أمَّا إذا كان غير تائق، وهو قادر على مُؤَنه- فال يكره في حقه، ولكن الأفضل [في حقه] التخلِّي لعبادة الله تعالى. قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: هو مستحب في الجملة تاقت النفس إليه أو لم تَتُقْ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "تَنَاكَحُوا، تَكْثُرُوا"، ونقل الرافعي عن أبي سعد الهروي أنه نقل وجهاً عن الأصحاب مثل مذهب أبي حنيفة- رحمه الله-: أن النكاح أفضل من التخلي لعبادة الله تعالى. ولو لم يكن مشتغلاً [بالعبادة] فوجهان: أصحهما: أن الأفضل أن ينكح. وقيل: تركه أفضل. قال: وإن كان محتاجاً إليه، أي: ووجد أُهْبَتَهُ- استحب له أن يتزوج، أي: سواء كان مقبلاً على العبادة أو لا؛ لقوله- عليه السلام-: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، [عَلَيْكُمْ بِالْبَاءَةِ]؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"، أي: قاطع لشهوته.

وروى [مسلم]: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ .. " إلى آخره، والوجاء- بالمد-: ترضيض الخصية، والباءة- بالمد- هي: القدرة على مؤن النكاح، وبالقصر: هي الوطء. قال الجيلي عن "شرح السنن": وأصله الموضع الذي يأوي إليه [المتزوج]، [ومنه اشتق مباءة الغنم، وهو الموضع الذي تأوي إليه]. وفي "المستغرب": أن أصله المنزلن وسُمِّي به النكاح؛ لأن من تزوج امرأة بوّأها منزلاً، وأَنَّ الوطء سمي به على طريق التوسُّع. قال: ولا يجب عليه أن يتزوج؛ لقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فعلقه على اختيار المرء واستطابته، والواجب ليس كذلك، وقال تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، وذلك لا يجب أيضاً، وفي "شرح مختصر" الجويني أن بعض الأصحاب، قال: إن خاف الزنى وجب عليه النكاح. وهو ما حكاه الجرجاني في "المعاياة" في كتاب الحج. قلت: ويتجه بعضَ اتجاهٍ إذا لم يقدر على التسرِّي، أمَّا إذا قدر على التسري [فلا يتعين] النكاح دافعاً لمفسدة الزنى، ونقل القاضي أبو سعد أن بعض أصحابنا بالعراق ذهب إلى أن النكاح فرض على الكفاية، وأنَّه لو امتنع منه أهل قُطْرٍ أجبروا عليه. أمَّا إذا لم يجد أهبة النكاح فلا يستحب له أن يتزوج، بل يكسر شهوته بالصوم؛ [للحديث السابق]، فإن لم تنكسر بالصوم لم يكسرها بالكافور وغيره، [ولكن يتزوج]. ثم اعلم أن قول الشيخ: "وهو جائز التصرف"، يخرج من ليس بجائز التصرف من الحَكَمَيْنِ عند الحاجة وعدمها، وهو عند عدم الحاجة ظاهر؛ لأنه لا

يكون مكروهاً في حقه، بل غير جائزٍ؛ لأن الولي إنما يتصرف على وجه النظر والمصلحة، ولا مصلحة [له] في ذلك. وأمَّا عند الحاجة فلا يطَّرد في كل محجور عليه؛ لأن السفيه يستحب في حقه النكاح في الصور التي يستحب فيها للرشيد، ويجب على الولي إجابته إذا طلب، كذلك العبد إذا خشي على نفسه، ولم تندفع شهوته بالصوم يستحب في حقه، ويجب على المولى إجابته على [رأيٍ]، على ما سيأتي. قال: "والأولى ألّا يزيد على امرأة واحدة"؛ لقوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]، ولأنه يحصل المقصود بها غالباً، وفي "الحاوي" في كتاب النفقات إبداء احتمالٍ لنفسه في أن هذا فيما إذا كانت تكفيه الواحدة، أمَّا من لا يقنع بالواحدة- لقوة شهوته- فالأولى به الزيادة؛ ليكون أغض لطَرْفه. قال: "وهو مخير"- أي: غير المحجور عليه- بين أن يعقد بنفسه وبين أن يوكِّل من يعقد له؛ لأنه- صلى الله عليه وسلم-[قَبِلَ النكاح بنفسه، ووكّل عمرو بن أمية الضَّمْري في قبول نكاح أم حَبِيبة] ووكل في [قبول] نكاح ميمونة.

أمَّا لو وكل العبد أو السفيه من يقبل له النكاح، وجوزنا قبول السفيه بنفسه بإذن وليه-: فإن كان بعد إذن المولى والولي جاز، وإن كان قبل إذنهما لم يجز، قاله في "التهذيب". وقال ابن كجٍّ: الإذن للسفيه في النكاح [لا يفيد] جواز التوكيل؛ لأنه لم يرفع الحجر إلا عن مباشرته. تنبيه: يحتاج الموجِب للنكاح إذا كان القابل وكيلاً أن يعين الزوج في الإيجاب، فيقول: زوجت من فلان، ويحتاج الوكيل إلى تعيينه في القبول فيقول: قبلت النكاح لفلان أوله، فلو لم يقل: له، فعلى الوجهين فيما إذا قال الزوج: قبلت، ولم يقل: نكاحها. قال مجلي: وها هنا أولى بالبطلان؛ لأنه ليس مخاطباً حتى ينعطف قوله: قبلت، على الخطاب، ويكون جواباً، بخلاف الزوج، ولا يحتاج إلى ذكر الوكالة في العقد، لكن الشرط- على ما حكاه المتولي- علم الولي [بها]. فرع: لو قال: زوجت ابنتي منك، فقال: قبلت نكاحها لفلان- لم ينعقد. وإن قال: قبلت نكاحها، ونوى أن يقبله لموكِّله- وقع العقد للوكيل، ولم ينصرف للموكِّل بالنية. وفي البيع لو قال: بعت منك، فقال: ابتعت لفلان- لم يصح، على أحد الوجهين في "التهذيب" و"التتمة" كما حكيناه ها هنا. ولو قال: بعت منك، فقال: اشتريت، ونوى موكِّله- صح، ووقع العقد له.

ولو قال: بعت من فلان، فقال الوكيل: قبلت [له]- لم يصح، على ما حكاه في "التهذيب" هاهنا، وهو ما حكيته في كتاب الوكالة عن الشيخ أبي بكر، وأنه الذي اختاره الإمام، وأن الشيخ أبا محمد حكى فيه وجهين، وأيَّد وجه [الصحة بالنكاح] وفرّق الأصحاب بينه وبين النكاح بوجهين: أحدهما: أن الزوجين في النكاح بمثابة الثمن والمثمَّن في البيع، بدليل أنَّه يشترط [بقاؤهما لبقاء] العقد، ولابد من تسمية الثمن والمثمن في البيع؛ فلابد من [تسمية الزوجين] في النكاح. والثاني: أن البيع يَرِدُ على المال، وأنه يقبل النقل من شخصٍ إلى شخصٍ؛ فيجوز [أن يقع] العقد للوكيل، ثم ينتقل إلى الموكِّل، والنكاح يَرِدُ على البُضْع، و [أنه لا] يقبل النقل؛ ولهذا لو قبل النكاحَ وكالةً عن غيره، وأنكر ذلك الغيرُ الوكالةَ- لا يصح النكاح. ولو اشترى بالوكالة، وأنكر [الموكل] الوكالة- وقع العقد للوكيل. وهذا كله؛ لأن التزويج يقع من الموكِّل لا من المخاطِب، والبيع يتعلق بالمخاطِب دون من له العقد؛ ولهذا لو قال لوكيله: زوِّجْها من زيد، فقبل النكاح لزيد وكيله [صحّ]، ولو قال: بع من زيد، فباع من وكيل زيد لا يصح. واعترض الشيخ مجلي على ذلك، فقال: وهذا على إطلاقه لا يصح، بل كان صورة صحّ فيها البيع لزيد- إمَّا بأن نسميه، أو [نقصده]- فإنه يصح، وكل موضع يئول [الأمر] إلى أن يجعل العقد للمشتري ينبغي ألا يصح. قلت: والوجه حمل ما قاله الأصحاب على ما إذا بدأ وكيل البائع بالإيجاب، فقال: بعت منك، وقال وكيل المشتري: اشتريت لموكلي، وجوزناه، أو قال: اشتريت، ونوى موكله؛ لأن إيجاب وكيل البائع فاسد؛ لأنه لم يأذن [له] في البيع من غير زيدٍ، وقبول وكيل زيد مترتب على إيجاب فاسد؛ [فيكون فاسداً]، وحمل ما قاله مجلي على ما إذا بدأ وكيل المشتري بشِقِّ القبول،

فقال: اشتريت لزيدٍ، فقال وكيل البائع: بعتك؛ إذ لا مانع من الصحة. قال: "ولا يجوز أن يوكل إلا من يجوز أن يقبل العقد لنفسه؛ لأنه إذا لم يملكه لنفسه ففي حقّ غيره أولى. تنبيه: قول الشيخ: "يجوز أن يقبل العقد لنفسه": إن أراد به جواز نكاحه للتي وكل في قبول نكاحها، ورد عليه جواز توكيل أخي المرأة في قبول نكاحها إذا كان الولي الأب، وتوكيل الموسر في قبول نكاح الأمة، كما حكاه الرافعي قبيل كتاب الصداق. وإن أراد ممن يصح منه أن يتزوج؛ ليحترز به عمن لا يجوز نكاحه كالمحرم وغيره- وَرَدَ عليه أن الكافر الذي يصح منه أن يتزوج لا يصح توكيله في قبول نكاح المسلمة، على ما حكاه ابن الصباغ في كتاب الوكالة، والرافعي قبل كتاب الصداق، على أن الإمام في كتاب الخلع حكى أن المسلم يجوز له أن يوكل الذمي في تزويج المسلمة من مسلم على المذهب الظاهر، وإذا جاز ذلك في الإيجاب ففي القبول أولى. [وإن أراد] به نوع من وكل في قبول نكاحها [ورد عليه جواز توكيل الموسر في قبول نكاح الأمة]. قال: وإن وكل عبداً فقد قيل: يجوز؛ لأنه صحيح العبارة بدليل صحة قبوله لنفسه بإذن سيده، وإنما الحجر عليه لحق السيد؛ فوجب أن يصح تصرفه فيما لا ضرر على السيد فيه، وقبول النكاح لا ضرر على السيد فيه. قال: "وقيل: لا يجوز؛ لأنه لا يصح أن يكون وكيلاً في الإيجاب؛ فلا يكون وكيلاً في القبول كالصبي"، واختلف الأصحاب في محل القولين: فمنهم من قال: محلهما إذا كان بغير إذن السيد، أمَّا إذا أذن السيد فيجوز قولاً واحداً، وإليه أشار في "التهذيب". ومنهم من قال: محلهما إذا كان بإذن السيد، أمَّا إذا كان بغير إذن السيد فلا يجوز قولاً واحداً، وهو ما حكاه ابن الصباغ في كتاب الوكالة. ومنهم من أجراهما مع وجود الإذن وعدمه.

وفي "الجيلي": أن منهم من أجراهما في جانب الولي، أمَّا في جانب الزوج فيجوز قولاً واحداً، وأنَّ الأصح الجواز مطلقاً، وكذلك حكاه النووي. فروع: يجوز توكيل السفيه بقبول النكاح، وهل يفتقر إلى إذن الولي؟ فيه وجهان، قاله البغوي. وهذا منه تفريع على أن السفيه يصح أن يقبل لنفسه بإذن وليه. الفاسق يجوز أن يقبل النكاح لنفسه على الأصح، وفيه وجه حكاه الرافعي عند الكلام في ولاية الفاسق: أنّه لا يجوز أن يقبل لنفسه؛ بناءً على أنّه لا يكون وليّاً، والمشهور الأول، وهل يجوز أن يقبل لغيره؟ قال في "التهذيب": يجوز. وقد حكيت في باب الوكالة عن المحاملي وغيره أنه لا يجوز، وهو ما حكاه ابن يونس. ثم لو قال للوكيل: اقبل لي نكاح أي امرأة شئت، ففي صحة ذلك وجهان حكيتهما في باب الوكالة. قال: "والمستحب ألا يتزوج إلا من يجمع الدين والعقل": أمَّا اعتبار الدين؛ فلما روى [مسلم] أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: "تنكح المرأة لأربع: لِمَالِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، وَلِحَسَبِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ" أي: افتقرت إن خالفت أمري في ذلك؛ لأن "ترب" بمعنى: افتقر، و"أترب" بمعنى: استغنى. وقيل: إنه- عليه السلام- تكلم به على عادة العرب على طريق الدعاء. ونقل الجيلي عن بعضهم أن "تربت يداك" أي: استغنت يداك، وأنه جعل "ترب" و"أترب" بمعنىً واحدٍ.

وأمَّا اعتبار العقل؛ فلأن القصد بالنكاح طول العشرة وطيب العيش، ولا يكمل ذلك إلا مع العاقلة؛ ولهذا المعنى استحب- أيضاً- أن تكون جميلة، وليس استحباب ذلك مأخوذاً من الحديث السابق؛ لأنه- عليه السلام- أخبر أن الواقع في الوجود جريان النكاح للأمور الأربعة، وحثّ على مراعاة وصف الدين؛ فلا يكون ذِكْره لما عداه دليلاً على استحباب ذلك. ويستحب مع ما ذكرناه أن تكون [حسيبة، وأن تكون] بكراً إذا لم يكن به عذر؛ لأن الأبكار أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير، ومعنى: "أنتق أرحاماً" أي: أكثر أولاداً. قاله القتبي. وأن تكون ولوداً، وأن تكون غير قريبةٍ؛ كي لا يخلق الولد ضاوياً، أي: ضعيفاً؛ لأن شهوته لا تتم على قريبته. وقال ابن الصباغ قبل باب الاختلاف في المهر من كتاب الصداق: لأن الولد يكون الغالب عليه الحمق. وقد وردت الأخبار دالَّة على جميع ما ذكرناه. فائدة: يستحب لمن رغب في نكاح امرأة أن ينظر إليها [مكرّراً؛ ليتأملها، بإذنها وبغير إذنها]؛ لما روى عن المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة، فقال له- عليه السلام-: "انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا"، أي: يجعل بينكما المودة والألفة.

وحكى الإمام وجهاً: أنه مباح مجرد، فإن لم يتيسر النظر إليها بعث إليها امرأة تتأملها وتصفها له، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم الذي يباح النظر إليه منها الوجه والكفان ظهراً وبطناً (أ) مع خوف الفتنة ودونها. وحكى الحناطي في جواز النظر إلى المفصل الذي بين الكف والمعصم وجهين. وفي "شرح" الجويني وجه: أنهي نظر إليها نظر الرجل إلى الرجل. وأمَّا وقت النظر فبعد العزم على نكاحها وقبل الخطبة، وفيه وجهان آخران: أحدهما: ينظر إليها حين تأذن في عقد النكاح. والثاني: عند ركون أحدهما إلى صاحبه، وذلك حين تحرم الخِطْبة على الخطبة. قال: "فإن لم يكن جائز التصرف، فإن كان صغيراً، ورأى الأب أو الجد"- أي: أب الأب- عند عدم الأب تزويجَهُ، زوجه؛ لأن ابن عمر- رضي الله عنه- زوج ابناً له صغيراً، ولأنّ فيه حظّاً له، وهو أن يألف حفظ الفرج حين بلوغه، ولأنه لمَّا كان لهما ولاية تزويج الصغيرة، مع أنها تبقى في قهر الزوج أبداً- فَلَأَنْ يكون لهما تزويج الصغير مع تمكنه من الخلاص بالطلاق عند البلوغ أولى، وهل يجب [ذلك؟ أبدى] الإمام فيه تردداً، وكذلك في وجوب تزويج الصغيرة عند ظهور الغبطة، وهو في الصغير أظهر. وهل له أن يزوجه بأكثر من امرأة [واحدة]؟ فيه طريقان:

أحدهما: أنه على قولين، وقيل: وجهين. والطريق الثاني: أنه يجوز قولاً واحداً، وهو المنصوص، هكذا حكاه مجلي. ثم كيفية القبول له والإيجاب كما ذكرناه في الوكيل. فرع: لو كان الصغير ممسوحاً، حكى الرافعي عن الشيخ أبي محمد: أنه خرّج جواز إنكاحه على وجهين. قال: "وإن كان مجنوناً"، [أي: كبيراً]، فإن كان يفيق في وقت لم يزوج إلا بإذنه؛ لأن له حالة استئذان، فلا يجوز تفويتها عليه؛ كالعاقل، وفي قول الشيخ: "لم يزوج [إلا بإذنه"، فائدتان: إحداهما: عدم ثبوت الولاية عليه في التزويج. والثانية: أنه لو أذن، ثم جُنَّ قبل التزويج- بطل الإذن؛ فلا يزوج] إلا بإذن جديد؛ لأن الإذن يبطل بالجنون كما تقدّم في الوكالة، وقد صرح بذلك صاحب "التهذيب"، وحكى في "الذخائر" وجهين آخرين: أحدهما: أنه يزوجه وليه عند الحاجة في زمن جنونه وفي زمن إفاقته بغير إذنه، ويجعل كالمُطْبِق. والثاني: إن كان زمن إفاقته أقل زوَّجه، وإن كان أكثر لم يزوجه. ثم على هذا: لو كانا متساويين فمنهم من يقول: يجوز، ومنهم من يقول: لا. قال: وإن كان لا يفيق- أي: وقد بلغ مجنوناً- وهو محتاج إلى النكاح- زوَّجه الأب أو الجد، أو الحاكم- أي: عند عدمهما- وجوباً عليهم عند مسيس الحاجة؛ لأن [في] ذلك رعاية لمصلحته، وحفظاً لدينه، وهل يحتاج الحاكم إلى مشورة الأقارب؟ فيه وجهان حكاهما البغوي. وقيل: لا يزوجه إلا الحاكم؛ كما في البنت البالغة المجنونة، حكاه مجلي. ثم الحاجة تقع من وجهين: أحدهما: أن تظهر رغبته في النساء؛ بأن يحوم حولهن، ويتعلق بهن، وما أشبه ذلك. والثاني: أن يحتاج إلى امرأة تتعهَّدُه وتخدمه، ولا يوجد في محارمه من تقوم

بهذا الشغل، وتكون مؤنة النكاح أخفّ من مؤنة شراء أمة ومؤنتها، كذا حكاه البغوي وآخرون. قال الرافعي: ولك أن تقول: إذا لم يجب على الزوجة خدمة الزوجة وتعهُّدُه، فكيف تزوج منه بهذا الغرض؟! وربما تمتنع [المرأة] وإن تَخَلفَ، ولا تفي إن وعدت، وربما يلتحق بالوجهين ما إذا تُوُقِّعَ شفاؤه. أمَّا إذا بلغ عاقلاً ثم جُنّ، فهل يزوجه الأب أو الجد، أو الحاكم؟ ينبني على عود الولاية إلى الأب، إن قلنا: تعود، زوجه الأب أو الجد، وإلا زوّجه الحاكم، كذا حكاه مجلي والمتولي. وأمَّا المجنون الصغير ففي وجهٍ: يُزَوَّج منه كما يزوج من البالغ، وعلى هذا فلا يتولاه [إلا] الأب والجد، والمذهب الظاهر منع التزويج منه؛ لأنه لا حاجة إليه في الحال، وبعد البلوغ لا يُدْرَى كيف يكون الأمر، بخلاف الصغير العاقل؛ فإن الظاهر حاجته إلى النكاح بعد البلوغ، ولا مجال لحاجة التعهد والخدمة؛ فإن الأجنبيات يجوز أن يقدمْنَ [على خدمته]، وفي "الذخائر" طريقان آخران: أحدهما: ذكر وجهين. والثاني: أنه يجوز قولاً واحداً. ومتى جاز التزويج من المجنون فلا يُزَوَّجُ إلا امرأةً واحدة. قال: وإن كان سفيهاً- أي: محجوراً عليه- وهو محتاج إلى النكاح، زوجه الأب أو الجد، أو الحاكم، كما سبق في المجنون، وهذا إذا بلغ سفيهاً، أمَّا إذا بلغ رشيداً، ثم أُعيد الحجر عليه- فأمر نكاحه متعلق بالسلطان. وذكر أبو الفرج الزَّارُ فيما إذا بلغ سفيهاً هل يزوجه الأب والجد أو السلطان- وجهين. وأطلق ابن كجٍّ: أنه يزوجه الحاكم، وأنه إن جعله في حجر إنسان زوجه الذي في حجره. وقالا لإمام: إن فوض إلى القيِّم التزويج زوج، وإلا فلا. وهل يعتبر إذن السفيه؟ قال العراقيون: لا يعتبر عند ظهور حاجته، كما في شراء الطعام له.

وقال الخراسانيون: الصحيح أنه يعتبر؛ لأنه حرٌّ مكلف، والعبد لا يملك السيد إجباره على الصحيح، فكيف الحر المكلف؟! قاله المتولي. ومعنى الحاجة: أن تكون به شهوة أو يحتاج إلى من يخدمه، ولم توجد ذات رحم محرم، وكانت [مؤنة] الزوجة اخف من ثمن جارية ومؤنتها، وقد تقدّم السؤال على ذلك. قال المتولي والبغوي: ولا نكتفي بقوله: إنه محتاج، حتى يعرف ذلك بطبعه؛ لأنه قدي ريد [به] إفساد المال. واكتفى الإمام والغزالي بقوله؛ لأنه أعرف بدواعيه. ولو لم يكن به حاجة لم يزوج للمصلحة، وروى الإمام وجهاً: أنه يجوز التزويج منه بالمصلحة كالصبي؛ لأن العاقل لا يبعد أن تحنِّكه التجارب، بخلاف المجنون. وهل يزوج بأكثر من [امرأة] واحدة؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه لا يجوز قولاً واحداً، وهو ما حكاه صاحب "التهذيب" و ["التتمة"]. والثاني- قال في "الذخائر": وهو الصحيح-: أنه على قولين كالصبي، والله أعلم. قال: "فإن أذنوا له، فعقد بنفسه جاز"؛ لأنه مكلف صحيح العبارة، والنكاح غير مقصود بالحجر عليه، وإنما منع من التزويج [بغير الإذن] صيانة لماله؛ لأنه يفتقر إلى مُؤَن مالية، فلا يؤمن الإسهاب فيها، فإذا أذن له الولي زال المانع، كالعبد إذا أذن له السيد، وفيه وجه: أنَّه لا يجوز كالصبي. وعلى المذهب فلابد أن يُعيّن له امرأة بعينها، أو نوعاً بأن يقول: تزوج من بني فلان، أو إحدى بنات زيدٍ، أو يقدر المهر. وفي "الحلية" للشاشي حكاية وجهٍ: أن تعيين المرأة لابدّ منه، فلو أطلق الإذن فطريقان:

أحدهما: القطع بأنه يلغو. والطريق الثاني: أن فيه وجهين، اصحهما- وبه قال ابن القطان-: أنه يكفي، ولا حاجة إلى التقييد؛ كما لو أذن السيد لعبده في النكاح، فإنه يكفي الإطلاق. وفرق القائل الأول بينه وبين العبد: أن الشريفة تمتنع من نكاح العبد؛ فيؤمن المحذور، وهو كثرة المهر، بخلاف السفيه. فرع: لو قال: انكِح من شئت بما شئت، قال بعضهم: إنه يبطل الإذن؛ لأنه رفع [للحجر] بالكلية، وإذا عين له امرأة لم يجز له نكاح غيرها، ولينكحها بمهر مثلها أو دونه، فإن زاد ففيه كلام يأتي في كتاب الصداق. وفيه وجه: أنه يجوز [له] أن ينكح غيرها بمهر مثل المعينة أو دونه، إذا جوّزنا الإذن المطلق. ولو قال: أنكِح [واحدة] من بني فلان، كان له أن ينكح واحدة منهن بمهر المثل. ولو قدّر المهر، فقال: أنكح بألفٍ، ولم يعين امرأةً، فنكح امرأة بألفٍ، وهو مهر مثلها أو أقل- صح بالمسمّى، وإن كان أكثر صحب مهر المثل، وسقطت الزيادة. وإن نكح بألفين: فإن كان مهر مثلها أكثر من ألف لم يصح النكاح، وإن كان ألفاً أو أقل صح على المذهب بمهر المثل، وسقطت الزيادة. ولو قال: تزوج بألف ولا تزد، فنكح بألفين- قال مجلي: حكى الغزالي عن أبي المعالي: أنه لا يصح النكاح، وقال الغزالي: هذا لا يخلو عن إشكالٍ. ولو جمع بين تعيين المرأة وتقدير المهر، فقال: أنكِح فلانة بألفٍ-: فإن كان مهر مثلها دون الألف فالإذن باطل، وإن كان ألفاً: فإن نكحها بألف أو بأقل صح النكاح بالمسمى، وإن زاد صح على المذهب بمهر المثل، وسقطت الزيادة، وإن كان مهر مثلها أكثر من ألف: فإن نكح بألف صح المسمّى، وإن زاد لم يصح النكاح، قاله في "التهذيب". ولو أطلق الإذن، وجوزناه، فتزوج بأكثر من مهر المثل- صح النكاح، وسقطت الزيادة. وإذا تزوج بمهر المثل أو أقلّ صح بالمسمّى. نعم، لو نكح شريفة يستغرق

مهرها ماله فوجهان، اختيار الإمام منهما: المنع، وانه لا يصح نكاحه إلا إذا وافق المصلحة. فروع: إذا التمس السفيه النكاح مع ظهور أمارة الحاجة إن اعتبرناه، أو دونه إن لم نعتبره- فعلى الولي الإجابة كشراء الطعام والشراب. قال مجلي: وقد ذكر الغزالي أنه نقل عن الشافعي- رضي الله عنه- أنه قال: "إذا دعا للنكاح لا يزوجه الولي"، ثم قال: "وهذا محمول على ما إذا كان الولي غير الأب والجد"، [أي]: من وصي أو قيم، ثم قال: وهذا فيه نظرٌ؛ لأن الولاية على السفيه- إذا بلغ سفيهاً- تكون للأب والجد والوصي من جهتهما، [والحاكم]، وكل واحد من هؤلاء إذا ثبتت ولايته، له التزويج، لا نعلم فيه خلافاً على المذهب؛ فالوجه- إن صح النقل- حمله على ما إذا لم يكن به حاجة إلى النكاح، وعلى المذهب لو امتنع من تزويجه]، فتزوج بنفسه- أطلق الأصحاب فيه وجهين: أصحهما عند المتولي: أنه لا يصح، واستدرك الإمام وتابعه الغزالي فقالا: إذا امتنع فيراجع السلطان، فإن خفت الحاجة وتعذرت مراجعة السلطان، فحينئذ في استقلال السفيه الوجهان، ولو تزوج من غير مراجعة الولي لم يصح. وقال الجيلي: [على الأصح]. وذلك يدل على ذكر خلاف فيه، ولم أره في غيره. فلو دخل بها فلا حدّ، ولا يجب المهر على الأصح، سواء كانت عالمة أو لم تكن؛ لأنها مفرِّطة بعدم البحث؛ كمن باع من مفلس.

وقيل: يجب؛ لأنه أتلف البضع. قال مجلي: والوجهان مبنيان [على القولين فيما إذا أذن الراهن للمرتهن في وطء الجارية المرهونة، فوطئ] على ظن الحلّ. قال المتولي: هما مبنيان على العبد إذا نكح بغير إذن سيده ووطئ، وفيه قولان: فإن قلنا: يتعلق برقبة العبد، فقد جعلناه جنايةً؛ فيلزم في مال السفيه، وإن قلنا: يتعلق بذمة العبد، فالمذهب: أنه لا يلزمه شيء؛ لأنّا جعلناه دَيْناً بالرضا، ودين الرضا لا يثبت في حقّ السفيه. فإن قلنا: لا يجب المهر في الحال، قال مجلي: "فهل يجب إذا فك الحجر عنه؟ فيه وجهان، فإن قلنا: يجب، فماذا يجب"؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب مهر المثل. والثاني: يجب أقل ما يستباح به البضع؛ ليقع التمييز بينه وبين السفاح، قاله في "التهذيب". وقال مجلي بدل هذا الوجه: [يجب] أقل ما يُتموَّل في العادة. [قال الغزالي: وفيه إشكال، ولكن أقرب ضابط: [ما له نفع] محسوس في العادة]، ولا يعد مشتريه سفيهاً. ووجه إشكاله: أن الحبة الواحدة لا تتمول في العادة، ولا يصح إفرادها بالعقد، ويعد مشتريها سفيهاً، ولكن لو أتلفها متلف ضمنها، على المشهور من المذهب. ولو اشترى صخرةً على رأس جبلٍ، أو جرّة من ماء على بحر- صح العقد، وإن كان سفيهاً. هذا آخر كلامه، وما قاله من أنه لو أتلفها متلف ضمنها على الشهور، غير مسلَّم؛ فإن المشهور: أنه لا يضمنها.

ولو أقرّ السفيه بالنكاح لم يقبل؛ لأنه ليس ممن [يباشر] بنفسه، قاله البغوي. وهذا يشكل بإقرار المرأة، وما فيه من التفصيل والخلاف، وسنذكره إن شاء الله تعالى. قال: وإن [كان يكثر] الطلاق سُرى بجاريةٍ، هكذا يوجد في أكثر النسخ، وحكى النووي: أن الذي ضبطه عن نسخة المصنف: [سُرِّي جاريةً، وهو الصواب، وأنه ضبط عن نسخةٍ للمصنف]: كثير الطلاق، وأن ما ذكرناه مع ما ذكره صحيحان. و"سُرِّي": بضم السين، وهي مشتقة مِمَّاذا؟ سيأتي الكلام فيه في كتاب الأيمان. وإنما قلنا: إنه يُسَرَّى جاريةً؛ لأنه أصلح له؛ إذ لا ينفذ إعتاقه، فلو تبرم بها أبدلت [له]. قاله الرافعي في كتاب الحجر. ومعنى كثرة الطلاق: أن يزوجه ثلاث نسوةٍ على التدريج فيطلقهن، كذا حكاه القاضي الحسين في "التعليق" في باب ما يجوز للوصي أن يفعله في مال اليتيم من كتاب الوصية. وحكى البندنيجي وصاحب "البحر" في هذا الموضع ما يخالف ذلك: أمَّا البندنيجي فإنه قال: إذا زوجه واحدة فطلقها، ثم أخرى فطلقها- سرَّاه جاريةً. وأمَّا صاحب "البحر" فإنه حكى وجهين: أحدهما: أن يطلق ثلاث مرات. والثاني: أن يطلق مرتين. فإن أراد بذلك نفس الطلاق كان مخالفاً لما قالاه، وإن أراد به المطلقات، فهو راجع إلى ما حكيناه، والله أعلم. قال: "وإن كان [عبداً] صغيراً زوجه المولى"؛ لأنه ليس أهلاً للتصرف فقام مقامه، كما يقوم مقام ولده الصغير. وقيل: فيه قولان؛ كالبائع، وهذا ما رجحه النووي، وحكم المجنون حكم

الصغير، ذكره المتولي والبغوي. فرع: لو كان للمرة عبد صغير، فأذنت في تزويجه، فيزوجه من يزوجها، أو من أذنت له [في التزويج]؟ فيه وجهان منقولان في "الذخائر". قال: "وإن كان كبيراً تزوج بإذن المولى" أي: سواء كان المولى رجلاً أو امرأة، مسلماً أو كافراً، على ما حكاه الإمام؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّمَا مَمْلُوكٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلَاهُ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ"، ويروي: "فَهُوَ عَاهِرٌ"، قال الترمذي وهو حسنٌ. و"المولى" ينظم: الرجل والمرأة، والمسلم والكافر؛ فدلّ الحديث بمنطوقه على عدم الصحة عند عدم الإذن، وبمفهومه على الصحة عند وجود الإذن. [و] لأن عبارته صحيحة، وإنما الغرض تحصيل رضا السيد؛ لأن حقوق النكاح تتعلق بمنفعته ورقبته، ومنفعته ملك للسيد؛ ولذلك يصح إذن المرأة لعبدها في التزويج، وإن لم يكن لها عبارة في النكاح. وقيل: إذا كان لامرأة لا يصح نكاحه إلا بإذن وليها. ويجوز أن يكون الإذن مقيّداً [بامرأة] بعينها، أو بواحدة من القبيلة أو البلد، ويجوز أن يكون مطلقاً، وإذا قيد فعدل العبد عن النكاح المأذون فيه لم يصح. وحكى الحنطي وجهاً: أنّه لو كان قد نصّ على المهر، فنكح غير المعينة بذلك المهر أو أقل- صحّ النكاح. وهذا الوجه مثل الوجه المحكى عن ابن كجّ في الإذن للسفيه، وقد تقدم، وإذا أطلق الإذن فله نكاح حرّة أو أمة في تلك البلد أو غيرها، لكن للسيد منعه

من الخروج إلى تلك البلد. فرعان: أحدهما: لو رجع عن الإذن، ولم يعلم العبد به حتى نكح فهو على الخلاف في عزل الوكيل. الثاني: لو طلق العبد [بعد] ما نكح بإذن السيّد، لم ينكح أخرى إلا بإذنٍ جديد، ولو نكح نكاحاً فاسداً فهل له أن ينكح أخرى؟ فيه خلاف مبني على أن الإذن [هل] يتناول الفاسد أم [لا، و] يختص بالصحيح؟ وهذا أصل سيأتي في الصداق إن شاء الله تعالى. قال: وهل للمولى- أي: الموافق له في الدين- أن يجبره على النكاح؟ فيه قولان: أحدهما- وهو القديم-: نعم؛ لأنه مملوك له يملك بيعه وإجارته، فملك تزويجه بغير رضاه كالأمة. والجديد: المنع؛ لأنه يملك رفع النكاح بالطلاق، فكيف يجبر على ما يملك رفعه؟! وأيضاً: فإن النكاح يُلزِم ذمّة العبد مالاً فلا يجبر عليه كالكتابة، ويخالف الأمة؛ فإنه يملك منفعة بضعها، فيورد العقد على ما يملكه، وهاهنا [مُسْتَمْتَعُهُ] ليس ملكاً له. أمَّا إذا كان العبد مسلماً والمولى كافراً، فهل له إجباره؛ إذا رأينا للمسلم إجبار العبد [المسلم]؟ فيه الوجهان الآتي ذكرهما فيما لو كان السيد مسلماً، وله أمة كافرة، هل يملك تزويجها على ما حكاه الإمام؟ ومعنى الإجبار: أن يقبل لعبده البالغ النكاح بغير إذنه، أو يكرهه على القبول، ويصح؛ لأنه غير مبطل [في الإكراه]، قاله في "التهذيب"، وقال في "التتمة": قبول بالقهر لا يصح. فرع: حيث قلنا: للسيد إجبار العبد، فلو أقر على العبد بالنكاح قبل منه، كما

في [حق] ابنته، قاله المتولي والبغوي. قال: "وإن طلب العبد النكاح، فهل يجبر المولى عليه؟ فيه قولان:" أصحهما: أنّه لا يجبر؛ لأنه يشوِّش عليه مقاصد الملك وفوائده، فلا يجبر عليه كنكاح الأمة. والثاني: يجبر على إنكاحه؛ لأنه مكلف دَعَا إلى نكاحه لحاجته، فكان على وليه إنكاحه كالمحجور عليه بالسفه، ولأن المنع من ذلك يوقعه في الفجور. فعلى هذا: الحكمُ فيما إذا امتنع السيد كالحكم في السفيه إذا دعا إلى النكاح وامتنع الولي، وحكى الوزير ابن هبيرة في كتابه الذي حكى فيه ما أجمع عليه الأئمة الأربعة، وما اختلفوا [فيه]: أن على قول الإجبار يجبر على أن يزوجه أو يبيعه. وهو حسنٌ. وقد بنى بعضهم الخلاف في وجوب إجبار [السيد على الخلاف في وجوب إجبار] العبد: إن أجبر العبد لم تجب الإجابة، وإلَّا وجبت، [وعكس ذلك أبو الفرج السرخسي فقال: إن أوجبنا على السيد الإجابة إذا طلب العبد لم يجبر العبد، وإلا أُجبر كالأمة. وأشار بعضهم إلى تخصيص الخلاف في وجوب الإجابة على السيد، [بقولنا: إن السيد] لا يجبر عبده على النكاح، أمَّا إذا أجبره فيبعد أن يقال: إن العبد أيضاً يجبر السيد. قال الرافعي: والأصح ترك البناء من الطرفين. وحكم المدبَّر والمعلق عتقه بصفةٍ حكم القن، ومن بعضه حرٌّ وبعضه رقيق لا يجبر على النكاح، ولا يستقل به، وهل يجاب إذا طلب؟ فيه الخلاف المذكور في القن. والمكاتب لا يستقل بالنكاح، ولا يجبره السيد، لخروجه عن تصرفه، [ولو نكح بإذن السيد فطريقان: أحدهما: أنّه على الخلاف في تبرعاته بإذن السيد. وأصحهما: القطع بالصحة، وهو ما حكاه الشيخ في باب الكتابة؛ لأن حقوق النكاح وإن تعلقت بكسبه فلها عوض ينتفع به؛ فصار كالطعام يشتريه

فيأكله]، وعلى هذا: فلو طلب من السيد، فوجوب الإجابة مخرَّج على الخلاف في القن، وأولى بأن يجب؛ لأنه لا يتضرر بنكاحه؛ لانقطاع حقه عن أكسابه في الحال، والعبد المشترك هل لسيده إجباره؟ وهل على سيده إجابته؟ فيه الخلاف المذكور في الطرفين. ولو دعاه أحدهما إلى النكاح، وامتنع الآخر والعبد، فلا إجبار، ولو طلب أحدهما مع العبد وامتنع الآخر، فمن قال: يجبر- إذا كان كاملاً له- فها هنا أولى، ومن قال: لا يجبر، ثمَّ، فها هنا وجهان كالمكاتب. هكذا ذكره صاحب "العُدَّة"، وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامدٍ، ثم قال: وهذا بعيد؛ لأنه يملك نصفه ملكاً تامّاً، بخلاف المكاتب، وأيضاً يبطل بمن نصفه حرٌّ إذا طلب النكاح؛ فإن الحرية فيه أكثر من موافقة الآخر. فرع: عبد الصبي والمجنون والسفيه [لا] يجبره وليه، وفيه وجه: أنه يجوز؛ لأن المصلحة قد تقتضيه، ولو طلب العبد التزويج فحكمه مع الولي كالحكم مع السيد. واعلم أن من جملة المحجور عليهم المفلس، ونكاحه صحيح؛ لأنه ليس عليه في النكاح حجرٌ، ولكن لا تعطى الزوجةُ مُؤَنَ النكاح مما في يده؛ لأن حقّ الغرماء قد تعلق به فصار كالمرهون في يد المرتهن، وإنما لم يذكره الشيخ؛ لأنه تكلم [ها هنا] في المحجور عليه الذي [لا] يستقل بالنكاح، لا في مطلق المحجور عليهم، وبهذا يقع الجواب عمن عداه من المحجور عليهم، [والله أعلم]. فصل: ومن جاز لها النكاح من النساء، فإن كانت لا تحتاج [إليه] كره لها أن تتزوج؛ لما ذكرناه في حق الرجل؛ لأنها تتقيد بالزوج، وتشتغل عن العبادة. قال: "وإن كانت محتاجة إليه"- استحب لها أن تتزوج؛ لما ذكرناه من حيث إن فيه تحصين الدين، وصيانة [الفرج]، والترفُّه عن النفقة وغيرها. قال: "وإن كانت حرَّةً"- أي: وهي مكلفة- ودعت إلى كفءٍ- وجب على

الولي تزويجها، أي: سواء كانت بكراً أو ثيباً، بمهر المثل أو دونه؛ لقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، والعضل هو المنع، وهو يزول بالتزويج، ولقوله صلى الله عليه وسلم لعلي- كرم الله وجهه-: "ثَلَاثٌ لَا تُؤَخِّرْهَا: الصَّلَاة إِذَا دَخَلَ وَقْتُهَا، وَالْجِنَازَة إِذَا حَضَرَتْ، وَالأَيِّم إِذَا وَجَدَتْ كُفْئاً"، وفيه وجه: أنها إذا كانت بكراً لا يجب على الولي الإجابة، ولا يأثم بالامتناع؛ لأن الغرض يحصل بتزويج السلطان، ولأنها [مجبرة] من جهة الأب والجد، فكيف [نجبرهما] [على النكاح]؟! هكذا حكاه الرافعي، وحكاه الجيلي على الإطلاق من غير فرق بين البكر والثيب. فرعان: أحدهما: البكر إذا عيَّنت كفئاً، وأراد الأب تزويجها من كفءٍ آخر- فأظهر الوجهين: أنه لا يجب تزويجها ممن عينته، وهو ما حكاه في "التهذيب"، وفي كلام الشيخ إشارة إليه حيث قال: "وجب على الولي تزويجها"، [ولم يقل: تزويجها] منه. الثاني: لو التمست الصغيرة التزويج في أوان إمكان الشهوة، ففي وجوبه وجهان. قال: "وإن كانت بكراً جاز للأب والجد تزويجها" أي: من كفءٍ بغير إذنها، صغيرة كانت أو كبيرة، بمهر المثل؛ لما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا، وَالْبِكْرُ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا"، والبكر هي العذراء الباقية على حالتها الأولى، وصاحبة

البكارة، والجمع: أبكار، والمصدر: البَكَارة، بالفتح. ثم ما ذكرناه فيما إذا لم يكن بين الأب وبينها عداوة ظاهرة، أمَّا إذا كانت فقد قال ابن كجّ في كتابه: ليس له إجبارها على النكاح. هكذا نقله الحناطي عن ابن المرزبان، ثم قال: ويحتمل جوازه. وحكى الحناطي فيه وجهين. وحكى قولاً: أن الجد لا يجبر البكر البالغة كالأخ. ووجه ظاهر المذهب: أنَّ له ولاية [عصوبة]؛ فأشبه الأب، وأيضاً: فإنه كالأب في ولاية المال، ووجوب النفقة، وحصول العتق؛ فكذلك هاهنا. فروع: إذا طلب البكرَ كفئان أحدهما أكفأ، فهل [يجوز] له تزويجها من الآخر؟ الذي حكاه الإمام في أوائل كتاب الصداق: أنه لو زوجها منه صحّ، وهذا يدل على جوازه. إذا طلب البكرَ كفء غلب على الظن أن تزويجها منه موافق لأقصى

الغِبْطة، [فهل يجب؟] قال الإمام في كتاب الصداق: لا يبعد أن يجب، ولا يبعد [ألا يجب] إن رأى الأب تأخير التزويج لتعلُّقه بالجِبِلَّة، ولكن الأظهر فيه الإعفاف والإتباع. إذا أقرّ الأب أو الجد بالنكاح حيث يملك الإجبار، فإقراره مقبول؛ لقدرته على الإنشاء. وحكى أبو عبد الله الحناطي وجهاً: أنه لا يقبل حتى تساعده البالغة، وهذا بعيدٌ؛ فإن [من] القواعد المطردة المنعكسة على ما حكاه الإمام في كتاب الإقرار، وفي باب ما على الأولياء، من كتاب النكاح-: "أنَّ مَنْ قدر على الإنشاء، قدر على الإقرار، ومن لا فلا"، ولا يستثنى من هذه القاعدة إلا مسائل: إحداها: الوكيل بالبيع وقبض الثمن إذا أقرّ بذلك، وكذَّبه الموكِّل- لا يقبل قول الوكيل، وإن كان قادراً على الإنشاء. الثانية: إذا أقرّ الزوج بالرجعة في زمن العدة، لا يقبل منه على وجهٍ، وإن كان قادراً على الإنشاء. الثالثة: الشخص يقر على نفسه بالرق فيقبل، ولا يقدر على أن يرق نفسه، قالها الإمام في كتاب الإقرار. الرابعة- قالها أيضاً فيه-: العبد المأذون إذا أقرّ بعد الحجر عليه يقبل على وجهٍ، وإن لم يقدر على الإنشاء. الخامسة: المرأة إذا أقرت بالنكاح، وصدقها الزوج- قبل منها على الجديد، وإن كانت لا تملك الإنشاء، وعلى القديم: يقبل إذا كانا غريبين، وإلا فيطالبان بالبينة. ثم حيث تكلمنا في هذا الفرع فلنتعرض لما قاله الأصحاب فيه؛ تفريعاً على الجديد، فنقول: هل يكفي إطلاق الإقرار أم لابد من التفصيل كما في الدعوى على رأي؟ فيه وجهان، والأصح: الثاني. ثم إذا كذبها الولي فهل يعمل بإقرارها؟ فيه وجهان:]. أحدهما- ويحكى عن القفال-: لا. وأظهرهما- وبه أجاب [الشيخ في "المهذب"] وابن الحداد والشيخ أبو عليِّ-: نعم. ويعضده ما قاله الإمام في [آخر] "النهاية" فيما إذا [حلف الأب] على

عدم التزويج [بعد الدعوى عليه]: أنها إذا أقرّت قُبِل إقرارها على الصحيح. وعن القاضي الحسين [الفرق] بين العفيفة والفاسقة. ويجرى هذا الخلاف فيما إذا عينت شهوداً وكذبوها. وعلى الأول: لو كان الأب غائباً حين الإقرار لم ينتظر حضوره، بل تسلم للزوج في الحال للضرورة، فإن عاد وكذب فيحال بينهما، أو يستدام ما سبق؟ فيه وجهان: [فرجح] في "الوسيط" الأول، و [رجح] غيره الثاني، وإذا فرعنا على القديم، فأقرّا في الغربة، ثم رجعا إلى الوطن، فهل يحال بينهما؟ فيه هذا الخلاف. فرع: على القول بقبول إقرارها وإن كذبها الولي، إذا أقرّ الولي المجبر لشخص، وأقرّت هي لآخر؟ فالمقبول [إقراره أو] إقرارها؟ حكى [أبو العباس] العبادي فيه وجهين عن الحليمي عن القفال الشاي والأودي. وحكى الإمام قبل كتاب الصداق بست في ضمن فرع [أوله]: "إذا زوج الرجل إحدى بنتيه [ومات] ... "- تردداً ظاهراً عن الأصحاب في قبول إقرار البكر، ومعها من يجبرها. قال: ويظهر في وجه القياس ألّا يقبل إقرارها، ومن أصحابنا من قال: يقبل إقرارها إذا استقلت بالنكاح، وفي تفريع هذا عُسْرٌ؛ فإنها لو أقرّت بأنها زوجة فلانٍ، [و] أقرّ الأب بأنه زوّجها من غيره، فإذا فرعنا على قبول إقرارها فكيف نقول؟! وما الوجه؟! يجوز أن يقال: الحكم للإقرار السابق، ويجوز أن يحكم ببطلان الإقرارين إذا اجتمعا، ولو رددنا إقرارها، لتخلصنا من هذا الخبط؛ فتحصلنا على أربعة احتمالات. قال: والمستحب أن يستأذنها إن كانت بالغة، وإذنها السكوت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَالْبِكْرُ تُسْتَامَرُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا] صُمَاتُهَا"، ولا يجعل إذناً فيما يرجع إلى

التزويج بدون مهر المثل، وهل يصح العقد به إذا كان الزوج غير كفءٍ؟ قال ابن يونس: لا يصح. وحكى المتولي فيه وجهين، وأن الصحيح من المذهب: الصحة؛ للحديث. وإن زوجها غير الأب والجد فلابدّ من رضاها وإذنها بعد البلوغ [؛لقوله- عليه السلام-: "لَا تَنْكِحُوا الْيَتَامَى حَتَّى تَسْتَامِرُوهُنَّ"، والأمر إنما يكون بعد البلوغ،] وهل يشترط صريح النطق، أم نكتفي بالسكوت؟ فيه وجهان: أصحهما: أنه يكفي السكوت؛ للحديث [السابق]، [و] جعله الإمام أظهر على ما حكاه في باب الإحصان من كتاب النكاح. وفيه وجهٌ: أنه لا حاجة إلى الاستئذان، بل لو جرى التزويج بين يديها ولم تنكر [كان ذلك] رضاً، كما إذا جرى [فِعْلٌ] بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره، وإذا اكتفينا بالسكوت فيحصل الغرض، ضحكت أو بكت، إلا إذا بكت مع الصياح وضرب الخد؛ فلا يكون ذلك رضاً. فرع: لو قالت: وكلته بتزويجي. قال الرافعي: فالذين لقيناهم من الأئمة لا يعتدون به إذناً؛ لأن توكيل المرأة في النكاح باطل، ويجوز أن يعتد به إذناً؛ لما ذكرنا في باب الوكالة: أنها إذا

فسدت فالأصح أنه ينفذ التصرف بحكم الإذن. قال: وإن كانت ثيّباً" [أي] عاقلةً] لم يجز لأحد تزويجها إلا بإذنها بعد البلوغ، [وإذنها بالنطق؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "الثَّيِّبُ تُسْتَنْطَقُ"، ولا استنطاق إلا بعد البلوغ] بالإجماع. ولا فرق بين أن تحصل الثيابة بوطءٍ حلال أو بوطء شبهة أو بزنى.

وفي "شرح مختصر" الجويني: أن أبا إسحاق حكى عن القديم: أن المصابة بالفجور حكمها حكم الأبكار، واختاره. ولو زالت البكارة بالسقطة أو الإصبع، أو حدّة الطمث، أو [طول] التعنيس- فظاهر المذهب: أنها كالأبكار، وعن ابن خيران وابن أبي هريرة: أنها كالثيب. وحكى عن القاضي أبي حامد سماعاً: أن التي وطئت مجنونةً [أو مكرهة] أو نائمة حكمها حكم الأبكار؛ [لبقاء الحياء، وهذا خلاف ظاهر المذهب. وفي المصابة في غير المَاتَى وجهان، أصحهما: أن حكمها حكم الأبكار]. فرع: لو ذكرت المرأة للولى أنّها ثيبٌ قبل قولها، فإن لم يُعْلم لها زوج فهل يسألها عن سبب الثيوبة؟ قال الماوردي: لا يسألها. وقال الشاشي: عندي أنه يسألها: هل وُطِئت أم لا؟ فإن ذكرت أنها وطئت فاتهمها حلّفها. قال مجلي: والذي اختاره الشاشي إنما يجيء على قولنا: [لا تأثير] لذهاب البكارة بغير الوطء. قال: "وإن كانت مجنونة: فإن كانت صغيرة جاز للأب والجد تزويجها"؛ لأن الجنون إذا انضم إلى [الصِّغَر تأكدت] الولاية، وهي ليس لها حال تستأذن فيه، ولهما ولاية الإجبار على الجملة؛ فاقتضت المصلحة تزويجها. وقال بعض الخراسانيين: لا [تزوّج] الثيب الصغيرة المجنونة. وقال بعض البصريين: لا تزوج الصغيرة المجنونة، [و] حيث تزوج فلا يشترط في حقها وجود الحاجة؛ بل يكفي ظهور المصلحة. قال الإمام: اتفق عليه الأصحاب، بخلاف المجنون؛ لأن النكاح يفيدها المهر والنفقة، ويغرم المجنون، ولا خلاف أنه لا يزوجها غير الأب والجد. قال: "وإن كانت كبيرة"- أي: المجنونة- جاز للأب والجد؛ لما سبق، وللحاكم- أي: عند عدمهما- مع وجود القريب؛ لأن له الولاية العامة، ويرجى

أن يكون شفاؤها فيه، مع تضمنه مصلحة المهر والنفقة، وثبوت الولاية على مالها، وبهذا فارق باقي العصبات، وفارق ما لو كانت صغيرة. وإذا زوج الحاكم راجع أقاربها، وهذه المراجعة، واجبة أو مستحبة؟ فيه وجهان: أحدهما: أنها واجبة، فعلى هذا: لا يراجع إلا من تكون له الولاية عليها لو كانت عاقلة؛ قاله المتولي، فإن شاورهم فلم يشيروا بشيء استقل الحاكم، وهذا الوجه استضعفه الإمام، وذكر في "التهذيب" أنّه الأصح. وإذا قلنا: إنها مستحبة، شاور عصباتها، فإن لم تكن شاور أقاربها؛ كالأخ والعم من الأم والخال، قاله المتولي. وقيل: يزوجها القريب من الأخ والعم؛ لأن النسيب أشفق وأولى من الحاكم، فعلى هذا لا ينفرد القريب، ولكنه يحتاج إلى مراجعة الحاكم؛ فيقوم إذن الحاكم مقام إذنها، فإن امتنع القريب زوج الحاكمُ كما في العضل. ثم الحاكم أو القريب إنما يزوج عند ظهور الحاجة، وذلك بأن تَبِين مَخَايِلُ الشهوة، أو يشير أرباب الطب بأن في تزويجها توقع الشفاء، ويكون إذ ذاك واجباً عليه. وقال ابن الصباغ: لا يزوجها الحاكم إلا إذا قال أهل الطب: إن شفاءها في ذلك، فلو انتفى ذلك، وأراد التزويج لكفاية النفقة أو لمصلحة أخرى، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز؛ كما أن [الأب يزوج بمجرد المصلحة. وأصحهما: المنع؛ لأن تزويجها يقع إجباراً، وغير] الأب والجد لا يملك الإجبار، وإنما يصار إليه للحاجة النازلة منزلة الضرورة. وإذا جمعت ما ذكرناه واختصرت قلت: في تفسير الحاجة ثلاثة أوجه: أحدها: توقع الشفاء ليس إلا. الثاني: ذلك، أو تبين مخايل الشهوة. الثالث: ذلك، أو كفاية النفقة. ثم هذا كله فيما إذا بلغت مجنونة، فلو بلغت عاقلة ثم جُنَّت فهل يزوجها الأب [و] الجد؟

قال مجلي-[وهو في "الوسيط"]-: فيه وجهان مرتبان على قولنا: إن ولاية المال لا تعود: منهم من قال: لا تعود ولاية النكاح كولاية المال. ومنهم من قال: [إنها] تعود، وهو الأظهر؛ لأنهما كاملا الشفقةِ فكانا أولى من غيرهما. وقال في "التتمة": يزوجها الأب بلا خلاف، ولكن إذا قلنا بعدم ولاية المال، فهل ينفرد أو يحتاج إلى إذن السلطان؟ فيه وجهان. فرع: قال في "التهذيب": لو كانت تجن يوماً وتفيق يوماً، لا تزوج حتى تفيق وتأذن، [وتبقى على الإفاقة حتى يفرغ الولي من التزويج. وقيل: هو كالجنون المُطْبِق] حتى لو زوجها في يوم جنونها جاز. قلت: وينبغي أن [يجيء] فيه ما حكيناه في الرجل. قال: وإن كانت أمة وأراد المولى- أي: المطلق [التصرف- تزويجها] بغير إذنها جاز، أي: سواء كانت كبيرة أو صغيرة، بكراً كانت أو ثيباً، مجنونةً كانت أو عاقلة، قِنّةً أو مدبَّرةً أو معلقاً عِتْقُها على صفةٍ؛ لأن النكاح يَرِدُ على منافع البضع، وهي مملوكة [له]، وبهذا [فارق] العبد. وأيضاً: فإنه ينتفع بنكاح الأمة باكتساب المهر والنفقة.

فإن قيل: إذا قلتم: إن السيد يزوج بحكم الولاية، فكيف يزوج الثيب بغير إذنها، وولاية الأب أقوى الولايات، وهو لا [يملك تزويج] الثيب بدون الإذن؟ فالجواب: أن ولاية المال أقوى؛ بدليل أنه يزوج مع [حضور] الأب، والأب لمَّا كانت ولايته أقوى من ولاية غيره انفرد بتزويج البكر بغير إذنها؛ فكذلك [ولاية] السيد لما كانت أقوى ظهر له مزية على الأب، حتى يجبر البنت دون غيره، كذا أشار إليه المتولي. قال: وإن دعت [المولى] إلى تزويجها، [لم يلزمه تزويجها]؛ لأنه يشوِّش عليه مقاصد الملك، وينقص قيمتها. قال: وقيل: إن كانت محرمة عليه- أي: تحريماً مؤبداً- لزمه تزويجها؛ لقوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]، ولأنها لا تتوقع منه قضاء الشهوة؛ فلابد من [إعفافها]، وهذا هو الأصح في "المعاياة" للجرجاني، وحكى في "الوسيط" الوجهين من غير تقييد بكونها محرمة عليه. والمعتق بعضها [لا يجب تزويجها]، [قاله] مجلي. وقال ابن الصباغ: يحتمل أن يخرج [على الوجهين] فيما إذا كانت محرمة عليه. فرع: إذا كان لعبده المأذون [له] في التجارة أمة: إن لم يكن عليه دين جاز للسيد تزويجها بغير إذن العبد على أصح الوجهين. والثاني: لا، إلا أن يأذن [العبد]، أو يعيد السيد الحجر عليه. وإن كان عليه دين: فإن زوجها بإذن العبد والغرماء صحّ، وإن زوجها بإذن العبد دون الغرماء أو بالعكس لم يصح، على أصح الوجهين.

قال: "وإن كانت مكاتبة لم يجز للمولى تزويجها بغير إذنها"؛ لأنها كالخارجة عن ملكه. وقيل: لا تزوج أصلاً؛ لأن ملك المولى مُخْتَلٌّ، وهي غير مالكة لأمرها. قال: وإن دعت هي إلى تزويجها؛ فقد قيل: "يجب"؛ لأنها تنتفع بذلك، وتستعين به في أداء مال الكتابة. وقيل: "لا يجب"؛ لأنها ربما عَجَّزت نَفْسَها، فتعود إليه ناقصة، والأول أصح، ورجح النووي مقابله، وقد ذكر الشيخ- رضي الله عنه-[حكم] تزويج الموقوفة وأم الولد في موضعه، [وذلك يغني عن الإعادة]. فصل: ولا يصح النكاح إلا بولي ذكر، أي: ليس بخنثى مشكل؛ لقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، نزلت في شأن معقل بن يسارٍ حين حلف ألّا يزوج أخته من مطلِقها، فلو كانت تستقل [بعقد النكاح] لما نهى عن عضلها، ولقوله- عليه السلام-: "لا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ"، وقوله: "لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا نَفْسَهَا؛ إِنَّمَا الزَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا".

وقال أبو ثور: إن عقدت بإذن الولي صحّ. وحجتنا عليه: ما تقدم. ولو رفع النكاح بلا ولي إلى حاكم يرى صحته، فحكم به- لم يُنقض حكمه فيه، خلافاً للإصطخري، ولو طلق ثلاثاً لم يقع طلاقه، ولا يحتاج إلى المحلِّل، خلافاً لأبي إسحاق. قال في "الحلية": كان الشيخ أبو نصرٍ يعلل ذلك بأن الزوج عقد النكاح على رأي من التزم مذهبه فيه، فأوجب عليه حكم اعتقاده، وهو وقوع الطلاق، وهذا فيه نظر؛ فإن الزوج قد لا يعرف مذهباً، وهل للولي أن يزوجها قبل تفريق القاضي بينهما؟ فيه وجهان، اختيار القفال الشاشي منهما: المنع، وهو تخريج ابن سريج. [فروع]: [إذا زال إشكال الخنثى، فهل يملك التزويج؟ قال في "البحر": ينظر: إن زال بقوله: أنا أميل إلى النساء، فلا؛ لأنه وإن قُبِلَ في حق نفسه حتى يتزوج امرأة لا يقبل على غيره. وإن زال الإشكال بأمارات لا يرتاب فهيا، فله الولاية]. نكاح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هل كان ينعقد بغير ولي وشهود؟ [وفيه] وجهان: أصحهما في "البحر": نعم؛ لأن اعتبار الولي لأجل الكفاءة، وهو أكفأ الناس، واعتبار الشهود خشية الجحود، وهو مأمون منه، صلى الله عليه وسلم.

[الثاني] حكى في "الذخائر": أن المرأة إذا لم يكن لها ولي، وكانت في موضع لا حاكم فيه- ففيه وجهان: أحدهما: تزوج نفسها؛ للضرورة. والثاني: يرد أمرها على رجل يزوجها. [وفي "البحر": حكاية وجه: أنها تصبر إلى أن تجد وليّاً كما لو فقدت الشهود]. قال الشاشي: وكان الشيخ أبو إسحاق- يعني الشيرازي- يختار في مثل هذا أن يحكِّم فقيهاً من أهل الاجتهاد في ذلك؛ بناءً على التحكيم في النكاح، وقد كان شيخنا يرى ذلك ويفتى به. وقال الشيخ أبو المعالي الجويني: هذا البناء لا يصح؛ لأن هناك جعلاه حكماً فيما يتنازعان فيه من أمر النكاح وغيره، فيصير النظر إليه فيما حكاه فيه خاصة، وهذه ولاية ممن لا يستحقها؛ فافترقا. قال: "وإن كانت أمة زوَّجها السيد"؛ لما سبق، وهل ذلك بالملك أو بالولاية؟

فيه وجهان؟ أظهرهما: أنه بالملك، وعليه فروع ستأتي. فرع: لا يزوج السيد أمة مكاتبه، ولا يزوجها المكاتب بغير إذن السيد، فإن توافقا، فقولان؛ كما في تبرعاته. وقال في "التتمة": المكاتب يزوجها إن قلنا: إنه تصرُّفٌ بالملك، وإن قلنا بالولاية فلا؛ لأن الرق يمنع الولاية. قال: إن كانت لامرأة- أي رشيدة- زوَّجها من يزوج المرأة- لأن المرأة ليست من أهل الولاية على البُضْع كما [قررنا] في حقّ نفسها؛ فكان التزويج إلى وليها لنفسها. ونقل الإمام عن صاحب "التلخيص": أنه لا يزوجها إلا السلطان؛ لأن من عداه من الأولياء ليس بينه وبينها سبب ولا نسب، وحكاه في البسيط أيضاً، ثم قال: و [هذا] غلَّطه كل الأصحاب، وإن كان ما قاله لا يخلو عن احتمالٍ ظاهرٍ. [ثم] قال الرافعي: وهذا غير مشهور عنه، ولا مذكور في "التلخيص"، وإنما المذكور والمشهور: أن معتقة المرأة يزوجها السلطان. وقيل: لابد من اجتماع الحاكم والولي، حكاه ابن يونس، والله أعلم. قال: "بإذنها- أي: بالنطق- سواء كانت بكراً أو ثيباً؛ لأنه تصرف في مالها، فلم يجز من غير إذنها". قال مجلي: وحكى الغزالي وجهاً: أنه لا يحتاج إلى إذنها في تزويج أمتهان وهو خطأ. قال: فإن كانت المرأة، [أي: السيدة]، غير رشيدة، أي: لصغر أو جنون أو سفهٍ- فقد قيل: لا تزوج، [لفقد إذن] السيدة شرعاً، ولا حظ فيه لها حتى يزوجها الولي؛ لأنه ينقص القيمة، وقد تحبل؛ فتهلك. قال: وقيل: يزوجها أبو المرأة أو وجدها أي: إذا ظهرت الغبطة؛ لأن لهما ولاية الإجبار في الجملة، ويحصل به اكتساب المهر والنفقة، وتسقط عنها

النفقة، وهذا هو الأظهر، واختيار أبي إسحاق. تنبيه: حكم أمة الصبي والمجنون والسفيه كذلك، وفي بعض الشروح وجه: أن أمة الصبية تزوج، وأمة الصبي لا تزوج؛ لأنه قد يحتاج إليها بعد البلوغ. فإن جوزنا، قال الإمام: يجوز تزويج [أمة] البنت الصغيرة، وإن [لم] يجز تزويجها، ويجوز للسلطان تزويج أمة الصغير إذا ولى ماله. قال الرافعي: وهذا يوافق وجهاً للأصحاب في أن ولي المال يزوج أمة الصغير [والمجنون]، نسيباً كان أو وصيّاً كسائر التصرفات المالية، والأظهر وجه آخر، وهو أن الذي يزوجها ولي النكاح الذي يلي المال، وعلى هذا غير الأب والجد لا يزوجها؛ لأنه لا يزوج الصغيرة والصغير، والأب [والجد] لا يزوج أمة البنت الصغيرة، فإن كانت مجنونة تزوج، وإن كانت لسفيه فلابد من إذنه. فرع: من بعضها حرٌّ وبعضها رقيق، قيل: لا تزوج أصلاً؛ لضعف المالك والولاية؛ بسبب تبعُّض الرق والحرية، وهذا ما قال القاضي الحسين في كتاب العتق: إنه ظاهر المذهب. وقيل: تزوج، وهو الصحيح. وعلى هذا: فمن يزوجها؟ فيه أربعة أوجه: أحدها: يزوجها [مالك] البعض استقلالاً، وهو مفرَّع على أنه لا يورث، وأن ما خلفه يكون لمالك بعضه الرقيق. والثاني: يوافقه القريب، وهو الأصح، واختيار ابن الحداد؛ بناءً على أنه يورث، فإن عدم القريب فالمعتق، فإن عدم فالسلطان، كما سيأتي. والثالث: يوافقه معتق البعض؛ لأن القرابة لا يجوز أن تثبت مع بعض الشخص دون بعض؛ فكذلك الولاية المرتبة عليها، والولاء قد ثبت على بعض الشخص؛ فجاز أن تتبعض الولاية الثابتة [به]، وهذا أظهر عند الإمام.

والرابع: يوافقه السلطان؛ لأن القريب يمنع المعتق من التزويج، كما يحجبه عن الميراث، والسلطان يزوج بالولاية العامة إذا تعذرت الأسباب الخاصة. فرع: إذا صححنا نكاحها، فأتت بولدٍ: ما حكمه؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين في كتاب العتق: أحدهما: أن جميع الولد يكون حرّاً. والثاني: أن حكمه حكم أمه. وقد ذكرتهما في [باب] عتق أم الولد. قال: "وإن كانت حرّة زوجها عصباتها"؛ لأن الولاية تثبت لدفع العار عن النسب، وهو إلى العصبات. قال: "وأولاهم الأب؛ لأن من عداه يدلى به، ثم الجد"، [أي]: وإن علا؛ لأن له ولادة وعصوبة، فقدم على من ليس له إلا عصوبة، ثم الأخ؛ لأنه يدلى بالأب؛ فكان أقرب، ثم ابن الأخ، ثم العم، ثم ابن العم. واعلم أن الترتيب في التزويج كالترتيب في الميراث، إلا في ثلاث مسائل: إحداها: الأخ والجد يستويان في استحقاق الإرث، وها هنا يقدم الجد؛ لاختصاصه بولاية المال. والثانية: الأخ من الأبوين يقدم في الإرث على الأخ من الأب، وهاهنا قولان، كما سيأتي. والثالثة: الابن في الميراث أولى العصبات، وفي التزويج لا ولاية [له] بالبنوة؛ لأنه لا مشاركة بين الابن والأم في النسب؛ فلا يعتني بدفع العار عن النسب؛ ولهذا لم تثبت الولاية للأخ من الأم. قال: "ثم المولى"-[أي:] إذا كان رجلاً- ثم عصبة المولى- أي: رجلاً كان المولى أو امرأة- ثم مولى المولى، ثم عصبته، أي: وهكذا على ترتيبهم في الميراث؛ لقوله- عليه السلام-: "الْوَلاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ".

أمَّا إذا كان المعتق امرأة فعن صاحب "التلخيص": أن السلطان يزوجها؛ لأن

من له الولاء ليس له التزويج، فكيف يزوج من يدلى به؟! والمذهب المشهور: أنه يزوجها في حياة المعتقة من يزوج [المعتقة] برضا المعتقة، وفي رضا المعتقة وجهان: أصحهما: أنه لا حاجة إليه. والثاني: يشترط، فعلى هذا: لو عُضِلَتْ ناب السلطان عنها في الإذن، والتزويج إلى أوليائها، وفيه وجه حكاه الإمام عن رواية الشيخ أبي علي: أنه يزوجها ابن المعتقة. وأمَّا بعد موت المعتقة فيزوجها من له الولاء على العتيقة كما ذكرناه، ويقدم الابن على الأب عند الاجتماع، وقيل باستمرار ولاية الأب، [وهو بعيد]. فروع: لو كن المعتق خنثى مشكلاً، قال في "التهذيب" في فصل الخناثى، من [كتاب] النكاح: لا تثبت [له] ولاية التزويج. وقال الرافعي: ينبغي أن يزوجها أبوه بإذنه؛ ليكون قد زوجها وكيله بتقدير الذكورة، ووليها بتقدير الأنوثة. الثاني: لو مات المعتق، وخلف ابنين زوَّجها كل [واحد] منهما على الانفراد كما في النسب. حكاه في "الزوائد" عن ابن الحداد. الثالث: المعتق إذا تزوج بحرّة الأصل، وأتت بابنةٍ- زوَّجها بعد العصبات الحاكم. وقال الأستاذ أبو طاهر: التزويج إلى موالي الأب، حكاه صاحب "الإشراف". قال: "ثم الحاكم؛ لقوله- عليه السلام-: "السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لا وَلِيَّ لَهُ".

[تنبيه]: المراد بالحاكم هاهنا: حاكم الموضع الذي [هو] فيه، فلو كانت ببلدٍ، وأذنت لحاكم بلدٍ آخر في تزويجها- لم يصح، قاله الغزالي في [آخر] كتاب الأقضية. قال: ولا يزوج أحد منهم، وهناك من هو أقرب منه؛ لأنه حقٌّ مستحق بالتعصيب، فقدم فيه الأقرب فالأقرب؛ كالميراث. قال: إن استوى اثنان في الدرجة، وأحدهما يدلي بجهة والآخر يدلي بجهتين أي: كالأخ من الأب والأخ من الأبوين، وابني الأخ والعمين، [وابني] العم إذا كان أحدهما من الأب والآخر من الأبوين، وابني العم إذا كان أحدهما ابنها أو أخاها لأمها، وامتنع الإمام من إلحاق الصورتين الأخيرتين بما تقدم. قال: فالولي [من يدلي بجهتين] في أصح القولين، وهو الجديد كما في الميراث. قال: "وفيه قول آخر: أنهما سواء"، وهو القديم؛ لأنه لا مدخل للنساء في ولاية النكاح بحال، فلا يرجح بهن؛ كما لو كان لهما عَمَّان أحدهما خال. [ولمن نصر] الأول أن يقول: ليس كل ما [لا] يفيد لا يرجح؛ ألاَ ترى أن العم من الأبوين [يقدم] على العم من الأب في الميراث، وإن كان العم من الأم لا يرث أصلاً. [فروع] على الجديد: لو كان [لها] ابنا عم أحدهما من الأبوين، والآخر من الأب، لكنه أخوها من

الأم- فالثاني أولى؛ لأنه يدلي بالجد [والأم، والأول يدلي بالجد والجدة]. ولو كان لها ابنا عمٍّ: أحدهما ابنها، والآخر أخوها من الأم- فالابن أولى؛ لأنه أقرب من الأخ، ولو كان لها ابنا [عَمٍّ] معتِق: أحدهما ابنها، [فيقدم على] الآخر، وبه أجابه ابن الحداد، لكنه ذكر في التفريع: أنه لو أراد المعتق نكاح عتيقته، وله ابن منها وابن من غيرها- يزوجها منه ابنه منها دون ابنه من غيرها، وهذا غلط عند معظم الأصحاب؛ من جهة أن ابن المعتِق لا يزوج المعتَقة في حياة المعتِق؛ لأنه يدلي به؛ كما لا يزوج ابن الأخ مع الأخ؛ فإذن يزوجها منه السلطان. قال: فإن استوى اثنان في الدرجة والإدلاء فالأولى أن يقدم أسنهما وأعلمهما وأفضلهما- أي: في الديانة؛ لأن الأسن أكثر تجربة، فهو أخير. والأعلم أعرف بشروط العقد، والأفضل أحرص على طلب الحظ. واعلم أن تقدير الكلام: فإن استويا [في الدرجة والإدلاء فالأولى أن يقدم أسنهما، فإن استويا] في ذلك قدم أعلمهما، فإن استويا في ذلك قدم أفضلهما. وقال الرافعي: إذا تعارضت هذه الخصال فيقدم الأفقه، ثم الأورع، ثم الأسن. قال: فإن سبق [أحدهما] صحّ [العقد]؛ لأن ولايته ثابتة، ولو أوجب كل واحد منهما النكاح معاً والخاطب واحد، فأظهر الوجهين الصحة". قال: إفن تشاحا أُقرع بينهما؛ لتساويهما في الحق، فإن خرجت القرعة لأحدهما، فزوج الآخر- فقد قيل: يصح، وهو الأصح؛ لأن القرعة لا تسلب الولاية، [وإنما شرعت لقطع المشاجرة، وجعل من خرجت له القرعة [أولى]، فإذا زوجها غيره، فقد زوجها وليها؛ فوجب أن يصح. قال: "وقيل: لا يصح"؛ لأنّا لو صححنا النكاح لأبطلنا فائدة القرعة. ثم

هذا الوجه يختص بما إذا أخرجوا القرعة [من أنفسهم] أم يختص بقرعة يُنشِئها السلطان؟ فيه تردد للإمام، وهذا الخلاف فيما إذا أذنت لكلٍ واحد منهما [في التزويج]، أمَّ إذا أذنت لأحدهما، فزوَّج الآخر لم يصح قولاً واحداً. تنبيه: الإذن للأولياء تارة يكون بأن تقول: أذنت لكل منكم أن يزوجني من فلان، أو تُطلِق على ما سنذكره، وتارة تقول: [أذنت] من فلان، فمن شاء من أَوْليائي زوجني [منه]، ولو قالت: رضيت أن أزوج، أو رضيت بفلانٍ زوجاً- فأحد الوجهين: أنه ليس لأحد تزويجها، وأظهرهما: أنه يكتفي به، ولكل واحدٍ منهم تزويجها كالقسمين الأولين. وعلى هذا: لو عينت واحداً هل ينعزل الآخر؟ فيه وجهان: أصحهما في "الحلية": أنه عَزْلٌ. قال: "ولا يجوز أن يكون الولي عبداً ولا صغيراً ولا سفيهاً"، أي: محجوراً عليه بسبب تبذيره؛ لأنه ممنوع من التصرف لنفسه، فكذلك لغيره، وفي السفيه وجهٌ: أنه يلي؛ لأن الحجر عليه للخوف على المال، وقد أمن ذلك في تزويج ابنته. أمَّا إذا لم يكن السفيه محجوراً عليه، ففي "الحاوي" وجهان: أصحهما على ما حكاه مجلي: أنه لا يكون وليّاً أيضاً. وقال الرافعي: ينبغي ألا تزول الولاية. والمحجور عليه بالإفلاس فيه طريقان: أصحهما: أنه يزوج كالمريض. والثاني: فيه وجهان، أصحهما: أن له التزويج، قاله مجلي. قال: "ولا ضعيفاً": الضعيف- هنا- ضعيف العقل: إمّا لِهرم، أو لِخبل جِبِلِّي أو عارض، وإنما منع الولاية؛ لعجزه عن اختيار الأزواج، وعدم العلم بمواضع الحظ، ويلتحق به من ألهاه السقم والألم الشديد عن النظر ومعرفة المصلحة في منع الولاية، ومع ذلك ينقلها إلى الأبعد. قال الرافعي: لكن سكون الألم ليس بأبعد من إفاقة المغمى عليه؛ فوجب أن

ينتظر حيث ينتظر المغمى عليه، وبتقدير عدم الانتظار يجوز أن يقال: يزوجها السلطان، لا الأبعد كما في صورة الغيبة؛ لأن الأهليّة باقية، وشدة الألم مانعة من النظر كالغيبة. ثم إذا مُنِعَ من ذكرناه من الولاية عُلم أن المجنون المطبق بذلك أولى، وقد صرح به الأصحاب، وأمَّا المجنون المنقطع ففي سلبه الولاية وجهان: أصحهما عند الإمام وابن كجٍّ: أنه سالبٌ، وهو ما حكاه في "البحر" عن القاضي أبي الطيب حيث قال: لو كان يُجنّ يوماً ويفيق يوماً، زوَّج المرأة في يوم جنونه مَنْ دونه. والثاني- وهو الأصح في "التهذيب"-: أنه غير سالب؛ لأنه يطرأ ويزول فهو كالإغماء؛ فعلى هذا ينتظر حتى يفيق. وحكى الحناطي وغيره وجهاً: أنه يزوجها الحاكم في حال جنونه كما في الغيبة، ثم هذا فيما إذا طال زمن إفاقته، أما لو قصر جدّاً لم يكن حال تقطُّعِ الجنون. والمغمى عليه بسبب لا يدوم غالباً: كهيجان المِرَّة الصفراء أو الصرع، ينتظر إفاقته كالنائم. وإن كان بسبب يدوم يوماً أو يومين فأكثر، ففيه وجهان: أحدهما: أنه كالمجنون؛ فتنتقل الولاية إلى الأبعد. والأظهر: أن الولاية لا تنتقل؛ لأن ذلك قريب الزوال، وعلى هذا ففي "التهذيب" وغيره: أنه ينتظر إفاقته كالنائم. وقال الإمام: ينبغي أن تعتبر مدة السفر، فإن كانت مدته مدة ينتظر فيها مراجعة الولي الغائب ذهاباً وإياباً فينتظر إفاقته، وإن كانت مدة لا يؤخر التزويج فيها لمراجعة الغائب، بل يزوجها السلطان، فكذلك هاهنا، والرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة، فإن قالوا: إنه من القسم الثاني، جاز تزويجها في الحال. والسكران إن حصل سكره بسبب يفسق [به]، وقلنا: إن الفسق غير سالب للولاية، أو كان بسبب لا يفسق به؛ بأن كان مُكرهاً أو غالطاً-: فإن لم ينفذ

تصرف السكران فهو كالمغمى عليه، وإن جعلنا تصرفه كتصرف الصاحي فمنهم من صحح تزويجه، ومنهم من منع؛ لاختلال نظره، والظاهر أنه لا يزوج، وأنه ينتظر إفاقته، وبه أجاب في "التهذيب". ثم الخلاف فيما إذا بقي له تمييزٌ ونظرٌ، أمَّا الطافح الذي سقط تمييزه بالكلية فكلامه لغو. قال: "ولا يجوز أن يكون الولي فاسقاً"؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ"، [و"مرشد" هنا] بمعنى "رشيد]، [و] بالقياس على ولاية المال، [و] لأنه يقدح في الشهادة؛ فمنع الولاية كالرق. قال: إلا السيد في الأمة؛ بناءً على أنه يزوج بحكم الملك. وقال الإمام: إنّه أصح، أمَّا إذا قلنا: يزوج بالولاية، فلا. قال: "وقيل: إن كان غير الأب والجد"- أي: ولي الحرة- جاز أن يكون فاسقاً، والفرق: انهما مُجْبِران، فربما وضعاها تحت فاسقٍ مثلهما، وغيرهما يزوِّج بالإذن، فإن لم ينظر لها نظرت هي لنفسها، فعلى هذا: إن كانت المرأة ثيّباً يجوز للأب والجد أيضاً تزويجها؛ لأنهما لا يقدران على الإجبار [فهما] كغيرهما من الأولياء. وإذا كانت بكراً قال الإمام: قياس ذلك أن يزوجاها برضاها، ولا يجبراها. ووراء ما ذكره الشيخ- رضي الله عنه- طرق أخر: أحدها: أن غير الأب والجد لا يزوج، والأب والجد يزوج؛ لكمال شفقتهما، وقوة ولايتهما. الثاني: أن فسقه إن كان بشرب الخمر فلا يلي، وإن كان بسبب آخر فيلي.

الثالث: إن كان مُعْلِناً بالفسق فلا يلي، وغيره يلي. الرابع: إن كان غيوراً فيلي، وإن لم يكن غيوراً فلا يلي، وهذا منقول في "الهادي". الخامس: أنه يلي قولاً واحداً، وهو اختيار القفال والروياني؛ لأن الفَسَقة لم يُمْنَعوا من التزويج في عصر الأولين مع وجود الاحتياط منهم في الأبضاع. والمشهور من الطرق إثبات قولين، وقيل: الخلاف في غير الإمام الأعظم، أما الإمام الأعظم فيجوز أن يكون وليّاً للأَيَامَى من المسلمين، ولكن لا يزوج ابنته إذا قلنا: [إن] الفسق سالبٌ للولاية، قاله المتولي، وفي "التهذيب": أنه يجوز أن يزوج بناته وبنات غيره. وقد اختلف الناقلون في محل الخلاف في أصل المسألة: فقيده في "التتمة" بما إذا كان الفاسق غير محجور عليه، أمَّا إذا كان محجوراً عليه فلا، وأطلق بعضهم الخلاف ثم قال: وقيل: إن كان محجوراً عليه [فلا، وإن لم يكن محجوراً عليه] زوَّج، حكاه مجلي وابن الصباغ. فرعان: أحدهما: إذا تاب الفاسق، ذكر صاحب "التهذيب": أن له التزويج في الحال. وقال الرافعي: [القياس الظاهرُ]، وهو المذكور في الشهادات: أنه يعتبر الاستبراء لعود الولاية، حيث يعتبر لقبول الشهادة. الثاني: ذكر أبو الحسن العبادي وصاحبا "التتمة" و"التهذيب" وجهين في أنَّا هل نثبت الولاية لذوي الحرف [الدنيَّة] إذا لم نثبتها للفاسق؟ قال في "التهذيب": والمذهب أنه يكون وليّاً وجهاً واحداً. قال: "وهل يجوز أن يكون [الولي] أعمى؟ قيل: يجوز"، وهو الصحيح؛ لأن شعيباً- عليه السلام- زوّج ابنته من موسى- صلى الله عليه وعلى نبينا- وكان أعمى، وأيضاً: فإن طريق العلم في باب "النكاح" الوصفُ

والخبر؛ ولذلك لا يشترط رؤية المنكوحة، والأعمى يملك أن يعرف ما فيه الحظ والمصلحة بالوصف والخبر. فعلى هذا: إن كان الصداق عيناً لم يثبت المسمّى إن منعنا شراء الغائب. قال: "وقيل: لا يجوز"؛ لأنه لا يتم نظره من حيث إن من المقاصد ما يدرك بالمشاهدة، ولأنه نَقْصٌ يؤثِّر في الشهادة؛ فأشبه الصِّغَر. قال الجيلي: وعلى هذا فتنتقل الولاية إلى الأبعد؛ قاله الإمام. وقال في "البحر": للأعمى أن يوكِّل على وجهٍ، وإن لم يوكل فالقاضي يزوج عنه. وهذه الزيادة حكاها الجيلي عنه. والأخرس إذا كانت له كتابة أو إشارة مُفْهِمة فيه مثل هذين الوجهين، ومنهم من قطع بأنه يلي، وفي "تعليق" القاضي الحسين في كتاب اللعان: أن الخلاف في ولاية النكاح هو الخلاف في قبول شهادته، ومقتضى ذلك أن يكون الظاهر منه: أنه لا يلي؛ كما أن الظاهر أن شهادته لا تُسْمَع. قال: "ولا يجوز أن يكون ولي المسلمة كافراً"؛ لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. قال: "ولا ولي الكافرة مسلماً"؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]، فقطع الموالاة بين المسلمين والكفار. وحكى مجلي أن الشيخ أبا حامد حكى في "التعليق" وجهاً: أنه يجوز للمسلم تزويج الكافرة بالولاية الخاصة. قال: إلا السيد في تزويج الأمة أي: المخالفة له في الدين بأن كانت مسلمة وهو كافر، أو كتابية، أو مجوسية، [وقلنا بجواز] نكاح الأمة الكتابية والمجوسية، وهو مسلم. وهذا بناءً على أنَّه يزوج بالملك، أمَّا إذا قلنا بالولاية فلا. وفي تزويج الكافر الأمةَ المسلمةَ وجه: أنه لا يجوز، وإن قلنا: تُزَوَّج بالملك، نقله في "التتمة"، وكذلك في تزويج المسلم الأمة المجوسية وجه: أنه

لا يجوز، وإن قلنا: يُزَوَّج الأمةَ الكتابية. قال الإمام: وعللوه بأن السيد لا يستحل وطأها، ولا حاصل للتعليل بتحريمها عليه؛ فإن شيخي كان يقول: من ملك أخته من الرضاع أو النسب، ملك تزويجها وجهاً واحداً، وإن كان لا يستحل وطأها. وهذا حسنٌ، وقد رأيت لبعض الأصحاب تشبثاً بمنع ذلك. [قال]: وهذا لا يعتد به. قال: والسلطان في نساء أهل الذمة أي: الذين لا مناسب لهم؛ لعموم ولايته، أمَّا إذا كان لهم مناسب فيزوج كل امرأة [وليها] إذا كان خاطبها ذمّيّاً بلا خلاف. قاله في "التتمة"، وإن كان مسلماً، فالذي ذهب إليه الجمهور أن الحكم كذلك. وقال الحليمي: يزوجها الحاكم منه، ولا يزوجها وليها الكافر إذا قلنا: إن الفاسق لا يلي، وقال ابن يونس: إنه أصح الوجهين. فرع: إذا أراد المسلم نكاح ذميَّة، ولا ولي لها، ولا حاكم للمسلمين في ذلك الموضع- فلا يقبل نكاحها من قاضي الكفار، وحكى الإمام عن إشارة صاحب "التقريب" أنه يجوز قبول نكاحها من قاضيهم، والظاهر المنع. ومن موانع الولاية: الإحرامُ، وهو مذكور في بابه. قال: فإن خرج الولي عن أن يكون وليّاً- أي: بما ذكره- انتقلت الولاية إلى من بعده من الأولياء؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- بعث عمرو بن أمية الضَّمْري إلى الحبشة، فَزَوَّج له أم حبيبةَ بنت [أبي] سفيان، زوَّجها الوليد بن سعيد بن العاص، وكان ابن عمها؛ لأن أباها كان كافراً حيّاً. قاله البغوي.

وإذا ثبت ذلك في الكفر قسنا عليه الباقي، وبالقياس على ما لو مات، فلو عاد إلى صفة الولاية عاد وليّاً، وحكى الحناطي وجهاً: أن الفسق ينقل الولاية إلى السلطان. قال: وإن عضلها- أي: منعها- وقد دعت إلى كفءٍ [أي]: ولو بدون مهر المثل، أو غاب [عنها]، أي: سواء كانت الغيبة بعيدة أو قريبة- كما ذكر في المختصر- زوجها الحاكم؛ لأن التزويج حقٌّ عليه، فإذا امتنع من وفائه، أو غاب وفّاه الحاكم كما لو كان عليه دين [، وهل هذا التزويج من الحاكم بطريق الولاية أو النيابة؟ فيه خلاف حكاه الإمام، ولم يتعرض أحد من الأصحاب لذكر ثمرة هذا الخلاف فيما وقفت عليه، وقد تظهر ثمرته: عند العضل في أن المرأة لو كانت ببلدٍ، فاذنت لحاكمِ بلدٍ آخر في تزويجها، [والولي فيه]: فهل يجوز [له] ذلك؟ إن قلنا: إنه يزوج بالولاية، فلا يزوجها؛ كما لو لم يكن لها ولي [حاضر]. وإن قلنا: [إنه] يزوج بالنيابة، فسببها وفاء ما عليه من حقٍّ؛ كما لو كان عليه دينٌ فامتنع من وفائه أو غاب [عند العضل]، ووفاء الحقوق المتوجهة على الغائب، [أو الممتنعَ] من أدائها لا يختص بحاكم بلد [صاحب] الحق؛ فيشبه أني كون التزويج هنا كذلك. وعند الغيبة في أن الولاية هل تنتقل إلى الأبعد إذا كان موجوداً؟ فإن قلنا: إنه إذا لم يكن لها إلا ولي واحد، إن الحاكم يزوج عند غيبته بطريق

الولاية، فإذا غاب وكان لها ولي أبعد منه انتقلت إليه- كما سنذكره- لأن ولاية الحاكم تكون بعد ولاية القريب. وإن قلنا فيما إذا لم يكن إلا ولي واحد وغاب: إن الحاكم يزوج بالنيابة- فلا تنقل عند غيبة القريب إلى الأبعد [لو كان له] وكيل، والله أعلم. وحكى في أصل المسألة عن القاضي أبي حامدٍ أنه يفرق في الغيبة بين الملوك وأكابر الناس فتعتبر مراجعتهم، وبين أوساط الناس والتجار فلا تعتبر. وظاهر المذهب الأول. قال: ولم تنتقل الولاية إلى من [بعده من الأولياء]؛ لأن ولايته باقية بدليل أنه لو زوجها حيث هو صحّ، ولو كان له وكيل لم ينعزل، وفيه وجه عن ابن سريج: أن الغيبة تنقل الولاية إلى الأبعد كالجنون، وعلى الأول يستحب للحاكم أن يحضر عصباتها ويستأذنهم، أو يرد العقد إليهم؛ ليخرج عن الخلاف. فائدة: العاضل هل يفسّق؟ أطلق الأصحاب القول بالعصيان، وهو ما يقتضيه قول الشيخ حيث قال: "وإن كانت حرّة، ودعت إلى كفءٍ، وجب على الولي تزويجها"؛ إذ ترك الواجب يقتضي العصيان. وقال الإمام: إن كان في الخِطَّة حاكم فلا إثم، وإلا فيعصي. ثم على القول بالعصيان إذا عضل مرّةً واحدةً لا يفسق، وإنما يفسق [إذا عضل] مرات أقلها ثلاث، كذا حكى عن بعضهم، [على ما حكاه الرافعي عند الكلام في أن الفسق هل يسلب الولاية؟]. قال: "وقيل: إن كانت الغيبة إلى مسافة [لا] تقصر فيها الصلاة، لم يزوِّج حتى يُستأذن؛ لأنه كالحاضر". قال الرافعي والنووي: وهو الأظهر، ويحكى عن نصّه في "الإملاء". ولفظ "المختصر" محمول على بُعْد الغيبة وقربها دون المسافة. هكذا ذكر العراقيون من أصحابنا الوجهين وآخرون، وفصّل مفصِّلون

فقالوا: إن كانت الغيبة إلى مسافةٍ تقصر فيها الصلاة فيزوجها السلطان، وإن كانت بحيث يتمكن المبكِّر [إليه] من الرجوع إلى [منزله] قبل مجيء الليل، فلابدّ من مراجعته قطعاً، وفيما بين ذلك وجهان. ثم هذا كله إذا عُرِفَ مكانه، وأمكن الوصول إليه، فإن كان مفقوداً لا تعرف حياته ولا موته- فيزوجها السلطان؛ لأن [نكاحها] قد تعذر من جهته، فأشبه ما إذا عضل، وإذا انتهى الأمر إلى غايةٍ، فحكم فيها بالموت، وقسم ماله على ورثته- فلابدّ من نقل الولاية إلى الأبعد، فإن عرف مكانه، وتعذر الوصول إليه للفتنة والخوف في الطريق، ففي "الجيلي" عن "الحلية": أنه يجوز له التزويج بدون المراجعة في أصح الوجهين، وهذا يعضده ما حكيته عن الأصحاب في باب الوديعة: أن تعذُّرَ الوصول إلى مالك الوديعة بمثل هذا التسبب عند إرادة المودَع السفر بمنزلة ما لو كان مالك الوديعة مسافراً. فرع: هل يجب على الحاكم طلب البينة بعدم حضور الولي، وخلوها عن النكاح والعدة، أم يستحب؟ فيه وجهان في "الجيلي": [الأصح منهما:] الأول، ويكون حكم ذلك حكم الشهادة في الإفلاس في جواز الشهادة على النفي، وكونه لا يسمع إلا من أهل الخبرة الباطنة [بذلك]. وهذا إذا كان الولي الغائب ممن يزوج بغير الإذن، أمَّا إذا كان لا يزوج إلا بالإذن، فقالت: ما أذنت، فللقاضي تحليفها على نفي الإذن، وفي الحالة الأولى [على] عدم التزويج في الغيبة إن رأى ذلك، كذا حكاه الإمام. قال الغزالي: ومثل هذه اليمين التي لا تتعلق بدعوى، استحبابٌ أو إيجاب؟ فيه خلاف. وعلى القول بعدم وجوب البيِّنة: [لو ألحت] في المطالبة، ورأى السلطان [التأخير، هل له ذلك]؟

[حكى الإمام] فيه وجهين عن الأصوليين، والله أعلم. فرع آخر: إذا زوج الحاكم في حال غيبة الولي، ثم قدم الولي وقال: كنت زوجتها في الغيبة- قال أصحابنا: نكاح [الحاكم] مقدّم. وهذا بخلاف ما لو غاب مالك العبد فباعه السلطان في وفاء دين الغائب، فعاد وادّعى أنه كان قد باعه في الغيبة؛ فإنّ الشافعي- رضي الله عنه- نصّ على أن بيع المالك أولى. وقال الربيع: فيه قول: أن بيع السلطان أولى كالتزويج. والفرق على الأول: أن السلطان في النكاح قائم مقام ولي آخر في غيبة الولي الأقرب. ولو كان لها وليّان، فزوجها أحدهما في غيبة الآخر، ثم قدم وقال: كنت زوجتها قبل ذلك- لم يقبل إلا بيّنة، فكذلك هنا، بخلاف السلطان في البيع؛ فإنه نائبٌ عن المالك؛ فأشبه الوكيل مع الموكل، ولو أن الوكيل باع، وجاء الموكل، وقال: قد كنت بعت- القول قول الموكل مع يمينه، كذا حكاه ابن أبي الدم في كتابه الملقب بـ "أدب القضاء". وفي "النهاية" في ضمن فرع بعد باب الإحصان، حكاية القولين في مسألة البيع، وحكاية أن أظهرهما: أنه لا يقبل قوله، [والخلاف] [يجري] فيما إذا

ادّعى أنه أعتقه أو حبسه، لكن الأظهر في دعوى العتق قبول قوله، على ما حكاه الرافعي في اللقطة. تنبيه: العضل لا يحصل إلا إذا دعت البالغة العاقلة إلى تزويجها من كفءٍ [وامتنع]، ولابدّ من ثبوته عند الحاكم ليزوجها. وفي "التهذيب": أنّه لا يتحقق حتى يمتنع بين يدي القاضي، وذلك بأن يحضر الخاطب، والمرأة، والولي، ويأمره الحاكم بالتزويج فيقول: لا أفعل، أو يسكت، فحينئذٍ يزوجها القاضي. قال الرافعي: وهذا فيما إذا تيسّر إحضاره عند القاضي، فأمّا إذا [تعذّر بتعزُّز] أو توارٍ، وجب أن يكون الإثبات بالبينة كما في سائر الحقوق. وفي "تعليق" الشيخ أبي حامدٍ ما يدلُّ عليه، ونقل- أيضاً- مثل هذا البحث في آخر كتاب "الإيلاء" عن فتاوى صاحب "التهذيب"، ثم قال عنه: ومحتمل أن يحكم بالعضل بشهادة الشهود مع إمكان الإحضار. قال: "ويجوز للولي أن يوكل من يزوج"- أي: سواءً كان مجبِراً أو غير مجبِر، بإذنها وبدونه؛ لأنه حقٌّ إليه، فجاز له الاستنابة فيه، كتوكيل الزوج في قبول النكاح. قال: وقيل: لا يجوز لغير الأب والجد- أي: المجبِر إلا بإذنها- لأنه متصرف بالإذن، فلا يوكل إلا بالإذن كالوكيل. والمذهب الأول؛ لأنه متصرف بالولاية، فأشبه الوصي والقيم، وهما يتمكنان من التوكيل من غير إذنٍ. أمَّا إذا كنا الأب غير مجبِرٍ فهو كغيره من الأولياء، وفي المجبِر وجهٌ: أنه لابدّ من إذنها أيضاً، فلو كانت صغيرة امتنع التوكيل بتزويجها. ثم اعلم أن صورة الإذن في التوكيل أن تقول: أذنت لك في التزويج، وفي التوكيل في التزويج، فلو قالت: وكِّل بتزويجي ولا تزوجني بنفسك، قال الإمام: الذي ذهب إليه الأئمة: أنه لا يصح الإذن على هذا الوجه؛ لأنها منعت الولي، وردت التزويج إلى الوكيل الأجنبي؛ فأشبه التفويض إليه ابتداءً.

ولو قالت: وكّل بتزويجي، واقتصرت عليه، فله التوكيل، وهل يزوج بنفسه؟ فيه وجهان في "التهذيب". ووجه الجواز: أنه يبعد منعه مما له التوكيل فيه. ولا خلاف أنّها إذا نهت غير المجبِر عن التوكيل، لم يكن له التوكيل؛ لأنه إنما يُزوج بالإذن، ولم تأذن في تزويج الوكيل، قاله البغوي، رحمه الله. فرع: على المذهب: لو وكّل الولي قبل إذن المرأة له في التزويج، هل يصح؟ فيه وجهان، أصحهما: أنه لا يصح، ووجه الصحة: أن له التزويج بشرط الإذن؛ فله تفويض ما له إلى غيره. وعلى هذا فيستأذن الولي أو الوكيلُ للولي، ثم يزوج، ولا يجوز أن يستأذن الوكيل لنفسه. قال: "ويجب أن يعين الزوج في التوكيل في أحد القولين" أي: إذا أطلقت الإذن للولي، أو كان الولي مجبِراً؛ لاختلاف الأغراض باختلاف الأزواج، وليس للوكيل شفقة داعية إلى حسن الاختيار. قال: "ولا يجب في الآخر"، وهو الأصح [عند] النووي؛ لأنه يملك التعيين في التوكيل، فيملك الإطلاق كما في البيع وسائر التصرفات، وشفقته تدعوه إلى ألا يوكل إلا من يثق بنظره واختياره، وقد أجرى هذا الخلاف في إذن غير المُجْبَرة لوليها في التزويج، وقطع بعضهم بعدم اشتراطه؛ لأنه يصادف من يعتني بدفع العار عن النسب، والوكيل بخلافه. قال الإمام: وظاهر كلام الأصحاب يقتضي طرد الخلاف، وإن رضيت المرأة بترك الكفاءة، لكن القياس تخصيص الخلاف بما إذا لم تَرْضَ، أمَّا إذا أسقطت الكفاءة، ولم تطلب الحظّ، فلا معنى لاعتبار التعيين، وأمَّا إذا كانت قد عينت الزوج لغير المجبِر، فليعينه الولي للوكيل، فإن لم يفعل، وزوج من غيره- لم يصح، وإن اتفق التزويج منه فالأظهر: أنه لا يصح أيضاً. ثم اعلم أنَّا إذا جوّزنا التوكيل المطلق، فعلى الوكيل رعاية النظر في الأزواج، فلو زوج من غير كفءٍ، لم يصح على الأصح. وقيل: يصح ولها الخيار، فإن كانت صغيرة، خُيِّرت عند البلوغ.

ولو خطب كفئان وأحدهما أشرف، فزوج من الآخر- لم يصح، وهذا بخلاف الولي كما حكيناه من قبل، ولو قالت: زوجني ممن شئت، فهل له تزويجها من غير كفءٍ؟ فيه وجهان. فرع: إذا أراد الوكيل أن يزوج. فيكفي أن يقول: زوجت بنت فلان منك، ولا يحتاج أن يصرح في العقد بالوكالة ولا الشهادة عليها، ولكن يشترط- على ما حكاه [المتولي]- علم الزوج بالوكالة. قال: ولا يجوز أن يوكل- أي: من يزوج- إلا من يجوز أن يكون وليّاً؛ لأنه موجب للنكاح فأشبه الولي. وفي "النهاية" في فصل التوكيل في الخلع: أنه يجوز أن يوكل الذمي في تزويج المسلمة من مسلم على المذهب الظاهر. قال: وقيل: يجوز أن يوكل الفاسق- أي: وإن قلنا: إن الفاسق لا يلي- لأنه موكل من جهة الولي، والولي عدلٌ، وهذا ما ادعى الإمام في ضمن توكيل المرأة بالطلاق أنّه الرأي الأصح، وطرده في توكيل العبد، وبنى الجيلي الخلاف على وجوب تعيين الزوج في التوكيل، فإن قلنا: يجب، فيجوز أن يوكل الفاسق لدفع التهمة، وإلا فلا. ومقتضى ذلك: أنه لو عين الزوج على القول بأنه لا يجب، يصح التوكيل؛ لأنه لا [يجوز] مع التعيين أن يزوج من غيره. ولو وكّل وكيلاً في أن يوكِّل في التزويج، فيجوز أن يكون امرأةً، خلافاً للمزني على ما حكاه المتولي، ويجوز أن يكون مُحْرِماً على الأصح كما حكاه الرافعي. وفي "التهذيب": أنه إذا وكل امرأة، إن قال: وكلي عن نفسك، لم يصح، وإن قال: [وكلي] عني، [أو أطلق]- فوجهان. قال: "وليس للولي ولا للوكيل"-[أي]: إذا كان الولي ممن يحل له نكاحها: كابن العم، والمعتِق، والقاضي، والإمام الأعظم- أن يوجب النكاح لنفسه، أي: سواء أطلقت الإذن و [عينته] فيه؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "لَا نِكَاحَ إِلَّا

بِأَرْبَعَةٍ: خَاطِبٍ، وَوَلِيٍّ [مرشد]، وَشَاهِدَيْنِ"، ولأن خطاب الإنسان مع نفسه لا [ينتظم]. نعم، يزوجها منه [من في درجته، كما إذا كان هناك ابن عم آخر، وإن لم يكن في درجته غيره، زوجها منه] القاضي، وإذا كان الراغب القاضي زوجها منه مَنْ فوقه من الولاة، أو يخرج إلى قاضي بلد آخر ليزوجها منه، أو يستخلف خليفة إن كان له الاستخلاف، كذا قاله الغزالي. وفي "الشامل" في جواز قبوله من خليفته وجهان، والمذهب منهما: أنه لا يجوز. قال: وقيل: يجوز للسلطان أي: الإمام الأعظم ممن هو في ولايته؛ لأنه ليس فوقه من يزوجها منه، ولو فوض إلى غيره كان وكيلاً له؛ فكان إيجابه كإيجابه. وفي القاضي أيضاً وجه بعيدٌ، ويقال: إنّ أبا يحيى البلخي ذهب إليه، وإِنَّه كان- حين كان قاضياً بـ "دمشق"- تزوج امرأة ولي أمرها من نفسه. وفي ابن العم وجه ذكره الغزالي في كتاب "الوكالة": أنه يزوج من نفسه.

قال الرافعي: ويجيء مثله في المعتِق. تنبيه: حيث يجوز لأحد هؤلاء التزويج من نفسه، فذاك إذا سمّته في إذنها، أمَّا إذا أطلقت الإذن وجوزناه ففيه وجهان حكاهما الحناطي. فرع: لو أراد أحد هؤلاء أن يزوجها من ابنه الصغير، فهو كما لو أراد تزويجها من نفسه، ولو أراد أن يزوجها من ابنه البالغ عند إطلاق الإذن- إذا جوزناه- فهل يجوز؟ فيه وجهان، ومنهم من قطع بالجواز. قال: "ولا يجوز لأحدٍ أن يتولى الإيجاب والقبول" [، أي:] لغيره كالولي [أو الوكيل] في الإيجاب إذا توكل عن الزوج في القبول، أو كان له ولاية التزويج عليه كالجد- أب الأب- في نكاح واحدٍ؛ لما تقدم. قال: "وقيل: يجوز [للجد] أن يوجب [ويقبل] في تزويج بنت ابنه بابن ابنه"، أي: إذا كان له ولاية الإجبار عليهما؛ لأنه يتولى طرفي العقد بغير توليةٍ، فتولاه بنفسه كبيع [مال] ابنه من نفسه، وهذا هو الصحيح، واختاره ابن الحداد والقفال وابن الصباغ، والأول اختاره صاحب "التلخيص" وجماعة من المتأخرين. فإن قلنا: يتولى الطرفين، فهل يحتاج إلى القبول لفظاً؟ فيه خلاف مرتب على الخلاف في البيع، وأولى باعتباره في النكاح؛ لما خصّ به من التعبدات، وإن قلنا: لا يتولاهما، فإن كانت بالغة فيزوجها السلطان بإذنها، ويقبل الجد النكاح، وإن كانت صغيرة، وجب الصبر إلى أن تبلغ، فتأذن، أو يبلغ الصغير فيقبل، كذلك حكاه الشيخ أبو علي وغيره، وفي الوكيل [من الجانبين] أيضاً وجه: أنه يصح. فرعان: أحدهما: السيد إذا قلنا: له إجبار عبده الصغير، فأراد تزويجه من أمته- فهو كتولي الجد الطرفين. الثاني: من منعناه من تولي الطرفين، لو وكل في أحد الطرفين، أو وكل شخصين بالطرفين حيث يسوغ التوكيل- فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن المقصود رعاية التعبُّد في صورة العقد، وقد حصل. وأصحهما: المنع؛ لأن فعل الوكيل فعلُ الموكِّل، وليس ذلك كتزويج القاضي

من القاضي عند من رآه، والقاضي من الإمام الأعظم؛ فإنهما يتصرفان بالولاية لا بالوكالة. ومنهم من جوّز للجد التوكيل، ولم يجوزه لابن العم [ومن في معناه]؛ لأن الجد ولي تام الولاية من الطرفين، وابن العم ولي من طرف وخاطب من طرف. قال: "ولا يزوج أحد من الأولياء المرأة من غير كفءٍ إلا برضاها ورِضَا سائر الأولياء"، أي: باقي الأولياء الذين لهم ولاية حال العقد؛ لما فيه من لحوق العار، فإن رضوا جاز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "انْكِحِي أُسَامَةَ" وهو مَوْلى. وقيل: إن البكر لا يجوز تزويجها من غير كفءٍ وإن رضيت. قال: وإن دعت إلى غير كفءٍ- لم يلزم الولي تزويجها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ لَا تُؤَخَّرُ ... " وعدّ منها: "الْأَيِّمُ إِذَا وَجَدَتْ كُفْئاً"، وقوله: "إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَأَمَانَتَهُ فَأَنْكِحُوهُ"، فأوجب التزويج عند وجود الكفاءة؛ فوجب ألا يجب

عند عدمها؛ عملاً بالأصل. تنبيه: حيث قلنا: يجوز التزويج من غير كفءٍ، فذاك إذا كان الولي خاصّاً، أمَّا إذا كان [الولي] حاكماً فهل يجوز؟ فيه وجهان: اختيار الإمام والغزالي: الجواز؛ إذ لا حظ [للمسلمين] في طلب الكفاءة. واختيار البغوي والمتولي: المنع؛ لأنه نائبٌ عن المسلمين، وتصرف النائب إنما يصح بشرط النظر، وليس في التزويج من غير الكفءِ نظرٌ. قالا لمتولي: وأصل المسألة: أن السلطان هل يُجعل كالوارث المعين، حتى إذا [قُتِل] من لا وارث له [، له] العفو عن القصاص؟ وفيه خلاف سنذكره، فإن جعلناه كالوارث المعين صح، وإلا فلا. فصل: والكفاءة في: النسب، والدين، والصنعة، والحرية؛ فلا تزوج عربيةٌ بأعجمي. الكفء: المثل، والعجمي: كل من لم يكن [أبوه عربيّاً]، سواء فيه [جميع] الطوائف، [وإنما] لم يكن العجمي كفئاً للعربية؛ لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "الْعَرَبُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهَا لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ"، واستدل بعضهم

على ذلك بمفهوم ما روى أنه- عليه السلام- قال: "الَعَرَبُ [أَكْفَاءٌ] بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَبِيلَةٌ لِقَبِيلَةٍ، وَحَيٌّ لِحَيٍّ، وَرَجُلٌ لِرَجُلٍ، إِلَّا حَائِك أَوْ حَجَّام".

وقال عبد الحق في "أحكامه الكبرى": إنه حديث منكر موضوع. قال: "ولا قرشيّة بغير قرشي، ولا هاشميّة" [أي]: ولا مطَّلِبِيَّة بغير هاشميٍّ، و [من] في معناه كالمطلبي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ اخْتَارَ الْعَرَبَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَاخْتَارَ مِنَ الْعَرَبِ قُرَيْشاً، وَاخْتَارَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ"، وقال- عليه السلام-: "نَحْنُ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ هَكَذَا" وشَبَّكَ بين أصابعه. وقيل: قريش بعضهم لبعض أكفاء، كما أنهم يستوون في الأهلية للإمامة. واعلم أن الاعتبار في النسب بالأب؛ فالذي أبوه أعجمي وأمه عربيّة ليس بكفءٍ للتي أبوها عربي وأمها أعجمية، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.

فرع: موالي قريش، قال مجلي: اختلف أصحابنا في أنهم: هل يكونون أكفاءً لقريش؟ على وجهين. تنبيه: كما يعتبر النسب في العرب يعتبر في العجم أيضاً، وعن القفال والشيخ أبي عاصم: أنه لا يعتبر [النسب] في العجم؛ لأنهم لا يعتنون بحفظ الأنساب. [قال]: "ولا عفيفة بفاجرٍ". العفيفة هنا: المصونة عن الفواحش، والفاجر: مرتكبها، ومعناه: أن الفاسق ليس كفئاً للمرأة العَدْلِ؛ لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَأَمَانَتَهُ فَأَنْكِحُوهُ"، ولا اعتبار بالشهرة، بل الذي [لم] يشتهر بالصّلاح كفءٌ للمشهورة به، ومن هذا القبيل: [من أسلم بنفسه ليس بكفءٍ] لمن لها أبوان أو ثلاثة في الإسلام، كما جزم به [في "التهذيب". وعن القاضي أبي الطيب وغيره رواية وجهٍ: أنه] كفء لها. واختاره القاضي الروياني، ولم يَحْكِ في "الذخائر" سواه، وعلله بأن الولد لا يكون عند الاستقلال كافراً بكفر أجداده، بخلاف النسب. وذكر بعض المتأخرين أنه لا ينظر إلا إلى إسلام الأب الأول والثاني؛ فمن له أبوان في الإسلام كفء للتي لها عشرة آباء في الإسلام؛ لأن الثالث لا يذكر في التعريف. والظاهر الأول، وهو المحكي عن الشافعي، كما حكاه الغزالي؛ حيث قال: كيف كان [على كفءَ فاطمة] [وأبوه كافر] وأبوها سيد البشر؟! ولو يكفي النسب في الكفاءة فالناس كلهم أولاد آدم. قال: "ولا حرّة بعبد"؛ لقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} إلى قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوُونَ} [النحل: 75]، [أي: لا يستوون]، ولأنها تتعيَّر بكونها فراشاً للعبد، وكذلك عشيرتها، وتتضرر بأنه لا ينفق [عليها] إلا نفقة المعسرين؛ ولهذا أثبت لها الشرع الخيار إذا عتقت تحت عبد.

ومن مسَّه الرق ثم عتق ليس بكفء [للحرّة [الأصلية]. ومن مسَّ الرق [أحد آبائه، ووُلِدَ هو في زمان الحرية ليس بكفءٍ] للتي لم يمس الرق] أحداً من آبائها، وفيه وجه حكاه مجلي: أنه كفءٌ لها. وكذلك من مس الرق أباً أقرب في نسبه ليس بكفءٍ للتي مسّ الرق أباً أبعد في نسبها. ومن بعضها حرٌّ، هل يكون العبد كفئاً لها؟ فيه وجهان، أصحهما- على ما حكاه مجلي-: لا. وجريان الرق في الأمهات، قال الرافعي: يشبه أن يكون- أيضاً- مؤثراً؛ ولذلك تعلق به الولاء، والله أعلم. قال: "ولا بنت تاجر أو تانئٍ بحائك أو حجام". التانئ، قيل: هو الدِّهقان. وقيل: هو رئيس البلد وساكنه، قاله الجيلي. وقال النووي: إنه صاحب العقار، وهو مهموز، وهو مأخوذ-[على ما قاله ابن فارس والجوهري- من]: تنأت [بالبلد]، بالهمز: إذا قطنته [قاله ابن فارس والجوهري]. قال الجوهري: [وجمع] "التانئ": تُنّاء؛ [كفاجرٍ وفُجَّار]، والاسم منه: التناءة. قال النووي: وقد وقع في نسخ التنبيه: [بنت] تاجر أو تانٍ- بالنون المنونة- كقاضٍ، وهو لحن بلا خلاف، وصوابه: [تانئ]، بالهمز، ويكتب بالياء. وإنما لم يكن الحائك والحجام كفئاً لبنت التاجر والتانئ؛ لأنهما يُسْتَرْذلان عرفاً بالنسبة إليهما.

والكناس [والحجام] وقيِّم الحمام والحارس والراعي لا يكافئون ابنة الخياط، والخياط لا يكافئ ابنة التاجر والبزاز، والمحترفُ [لا يكافئ] ابنةَ القاضي والعالم. وذكر في "الحلية": أنه تراعى العادة في الحرف والصناعات؛ لأن في بعض البلاد التجارة أولى من الزراعة، وفي بعضها الأمر بالعكس. قال الرافعي: واعلم أن الحرف الدنيّة في الآباء، والاشتهار بالفسق مما يتعيَّر به الولد؛ فيشبه أن يون حال الذي كان أبوه صاحب حرفة دنيَّة أو مشهوراً بالفسق مع التي أبوها عدل، كما ذكرنا في حق من أسلم بنفسه مع التي أبوها مسلم، والحق: أن يجعل النظر في حال الآباء ديناً وسيرةً وحرفة من حيز النسب؛ لأن مفاخر الآباء في حالهم [هي] التي يدور عليها أمر [الكفاءة]. هذا هو المشهور، ووراءه أمور أُخر: أحدها: حكى ابن الصباغ عن البويطي قولاً [أن] الكفاءة في الدين وحده، وليس بشيء؛ لما ذكرناه. والثاني: اليسار، [وهل هو] من خصال الكفاءة؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختار الفقر. والثاني: نعم؛ لأنه إذا كان معسراً لم ينفق على الولد، وينفق [على الزوجة] نفقة المعسرين؛ فتتضرر به، وعلى هذا فوجهان: أحدهما: أن المعتبر اليسار بقدر النفقة والمهر؛ فإذا أيسر بهما فهو كفء لصاحب الألوف.

وأظهرها: أنه لا يكفي ذلك، ولكن الناس أصناف: غني، وفقير، ومتوسط، وكل صنف أكفاءٌ وإن اختلفت المراتب. وقيل: [إن اليسار يعتبر] في أهل الأمصار وجهاً واحداً، وأمَّا أهل البوادي والقرى ففيهم الوجهان، حكاه مجلي. الثالث: الشيخ هل يكون كفئاً للشابة؟ ذكر القاضي الروياني أنه لا يكون كفئاً على المختار من الوجهين، وذكر أيضاً أن الجاهل لا يكون كفئاً للعالمة، وفي "الحلية" ترجيح القول بأن الشيخ كفء للشابة. الرابع: التنقِّي من العيوب، عدّه الجمهور من خصال الكفاءة، وقد حصر البغوي العيوب في أربعة: الجنون، والجذام، والبرص، [والجب، أو العُنَّة]. وصاحب "التتمة" وابن يونس قالا: العيب الذي يعتبر التنقي منه هو الجنون، وكذلك الجذام والبرص على أحد الوجهين. وقيّده الرافعي بالعيوب المثبتة للخيار، ثم قال: واستثنى صاحب التهذيب" من العيوب: العنة، وقال: إنها لا تتحقق؛ فلا نظر إليها في الكفاءة. وفي "تعليق" الشيخ أبي حامد وغيره التسوية بين العنة وغيرها صريحاً، وإطلاق الأكثرين يوافقه، ثم قال: وزاد القاضي على العيوب المثبتة للخيار، فقال: والعيوب التي تنفر النفس عنها: كالعمى، والقطع، وتشوُّه الصورة- تمنع الكفاءة عندي، وبه قال بعض أصحابنا، واختاره الصيمري. هذا آخر كلامه. واعلم أن ما قالوه غير مُجْرىً على ظاهره؛ لما تقرر أن الكفاءة حقٌّ للمرأة، وحقٌّ للأولياء، ولما سنوضحه، بل الوجه أن يقال: إن كانت الكفاءة مطلوبة رعاية [لحق] المرأة؛ بأن تكون مُجْبَرة، وأراد الولي تزويجها، أو أطلقت الإذن لغير المجبِر، وجوزناه- فالمعتبر: التنقِّي من كل عيب يثبت [لها] الخيار من جنون، أو جذام، أوب رص، [أو جب] أو عُنة، وغير ذلك من العيوب إن أثبتنا لها به

الخيار، وعليه يحمل قول البغوي والرافعي. وإن كانت مطلوبةً رعاية لحق الأولياء؛ بأن تكون المرأة طالبةً للتزويج، راضية بالزوج المعيب، وامتنع الأولياء أو بعضهم- فالمعتبر: التنقي من كل عيب يثبت لهم الخيار، وهو عند العراقيين: الجنون- بلا خلاف- وكذلك الجذام والبرص على أحد الوجهين، لا الجب والعنة وغيرهما. وألحق الشيخ أبو حامدٍ الجذام بالجنون، وعلى ذلك يحمل ما قاله المتولي وابن يونس، وكلام الغزالي وافٍ بالمقصود في الطرفين؛ لأنه قال: العيوب المثبتة للخيار. ومراده من ذلك: إن كانت الكفاءة لحق المرأة فالعيوب التي تثبت الخيار لها، وإن كانت [مطلوبة] لحق الأولياء فالعيوب المثبتة لهم الخيار. وقد ذكر الشيخ هذا الشرط في باب الخيار في النكاح، وله مناسبة ثّمَّ؛ لأنه [لما] اشتمل على أمر زائدٍ أفرده بالذكر في موضع الزيادة. ووجه الزيادة: أن الأصحاب أطبقوا على أن المرأة لو أذنت لوليها في أن يزوجها من معين فزوجها منه، ثم ظهر أنه غير كفء، فلا خيار لهما، ولو خرج مَعِيباً ثبت الخيار، وقد حكى ذلك الإمام قبل باب الأمة تعتق وزوجها مملوك. فائدة: [هذه] الخصال [هل] ينجبر بعضها ببعضٍ؟ قضية كلام الأكثرين: المنع، وقد صرح به صاحب "التهذيب" و"التتمة"، وأبو الفرج السرخسي، حتى لا تزوج سليمة من العيوب دنيِّة من معيب [شريف]، ولا حرةٌ فاسقة من عبدٍ عفيف، [ولا عربية فاسقة من عجمي عفيف]، ولا رقيقة عفيفة من فاسق حرٍّ، وتبقى صفة [النقص] مانعة من الكفاءة. وفصل الإمام فقال: السّلامة عن العيوب لا تقابل بسائر فضائل الزوج؛ ولذلك

ثبت بها حقُّ الفسخ، وإن كانت في المعيب فضائل جمة، وكذا الحرية لا تقابل بفضيلة أخرى، وكذا النسب. نعم، العفة الظاهرة في الزوج هل تَجْبُرُ دناءة [نسبه]؟ فيه وجهان. أظهرهما: المنع، وبَقْىُ الحرفة الدنيّة يعارضه الصلاح وفاقاً، واليسار [إن] اعتبرناه يعارض بكل خصلةٍ من خصال الكفاءة. قال: فإن زوجها من غير كفء، أي: الأب أو الجد إذا كان مجبِراً، [أو غيرُ] المُجْبِر إذا أذنت له من غير تعيين الزوج، وجوزناه. قال: بغير رضاها، أي: بترك الكفاءة، أو بغير رضا بقية الأولياء- أي: برضاها- فالنكاح باطلٌ. أمَّا إذا [كانت مجبَرة]؛ فلأنه تصرف على خلاف الغِبطة، وإذا لم يصح التصرف في المال على خلاف الغبطة، فالتصرف في البُضع أولى. وأمَّا إذا كانت غير مجبَرة؛ فلأنه عقد في حق الغير بغير إذنه فلم يصح كبيع مال الغير [بغير] بإذنه. قال: وقيل: فيه قولان: أحدهما: [أنَّ النكاح] باطل؛ لما ذكرناه. والثاني: أنه صحيح، ويثبت ولها الخيار، أي: في المسألة الأولى، [وللأولياء] في الثانية؛ لأن النقصان يقتضي الخيار لا البطلان؛ كما لو اشترى معيباً. وروى القاضي ابن كجٍّ طريقة ً أخرى فيما إذا كانت مجبرةً، وهي تنزيل القولين على حالين: إن علم الولي عدم الكفاءة فالنكاح باطل، وإلا فصحيح. فرع: لو كانت صغيرة عند العقد تخيرت إذا بلغت، وحكى الإمام وجهاً: أنها لا تتخير، وعليها أن ترضى بعقد الأب، وهل للولي الخيار [في صغرها]؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ كما لو اشترى للصغير معيباً. والثاني: لا؛ لأنه يتعلق بالشهوة والطبع، فلا تجري فيه النيابة.

وهذا الخلاف مخصوص بما إذا جهل الولي حال الزوج، فإن علم فلا خيار له. كذا قاله الحناطي وصاحب "التهذيب" والإمام، وطرده القاضي ابن كجٍّ وآخرون في حالتي الجهل والعلم، وقالوا: إنه ليس عاقداً لنفسه حتى يلزم حكم علمه. وذكر مجلي عند العراقيين القولين في أن الولي هل يختار في حال الصغر أم لا؟ أحدهما: أنّ له ذلك، ولم يفرقوا بين العلم والجهل. والثاني: التفرقة بين حالتي العلم والجهل؛ فيثبت في حال الجهل دون حال العلم. قال: ولا يصح النكاح إلا بحضرة شاهدين، أي: مكلفين ذكرين، حرين [عدلين] مسلمين، أي: وإن كانت الزوجة ذميّة، عدلين، أي: في الظاهر، ويكونان ممن تقبل شهادتهما لكل واحدٍ من الزوجين وعليه. وإنما اعتبرنا حضور الشاهدين؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "لا نِكَاحَ إِلا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ"، والمعنى فيه: الاحتياط للأبضاع، وصيانة للنكاح عن الجحود، ولأن القصد من النكاح الاستمتاع وطلب النسل؛ فشرع فيه الإشهاد وجوباً؛ لحفظ النسب وزوال التهمة. وإنما اعتبرنا الذكورة؛ لظاهر الخبر؛ لأن لفظ "الشاهدين" يقع على ذكرين، وعلى ذكر وأنثى، والثاني غير مراد؛ لأن الخصم يوافق عليه؛ فتعين الأول. ولأنه ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال؛ فلا يستقل به النساء، ولا يستتبع الرجال فيه النساء؛ قياساً على القصاص. وإنما اعتبرنا الحرية [والتكليف] والإسلام؛ لأن المقصود بحضور الشاهدين لا يحصل بدون ذلك. وإنما اعتبرنا العدالة، وهي ترك الفسق؛ لظاهر الخبر، ولأن النكاح لا يثبت بشهادة الفاسقَيْنِ؛ [فلا ينعقد بحضورهما كالعبدين. ونقل الجيلي قولاً: [أنه ينعقد بشهادة الفاسقين]. فإن قيل: ما الفرق بين تحمل الشهادة في النكاح وبين سائر التحملات؛ حيث لا تعتبر فيها الصفة المعتبرة حال أداء الشهادة؟

فالجواب: أن سائر التحملات ليست بواجبة، بخلاف التحمل هنا؛ فإنه واجبٌ، فأشبه حالة الأداء في غيره. ويشترط في كل من الشاهدين: أن يكون سميعاً ولو كان بعد مشقةً. وفي الأصم وجه: أنه ينعقد بحضوره، حكاه الجيلي. وهل يشترط أن يكون ناطقاً وبصيراً، وغير ملابسٍ لحرفة دنيَّة كالصّبّاغ والصائغ وغيره؟ فيه وجهان، والأصح في الأعمى: عدم الانعقاد [وعليه ينطبق قول الشيخ، فإن كان عقداً أو إقراراً فلابد من مشاهدة العاقد]، وقيل في "التتمة": الخلاف في الأخرس بما إذا كانت [له إشارة] مفهمة، وقلنا: لا تقبل [شهادته]. وهل ينعقد بحضور ابني الزوجين أو أحدهما؟ فيه أربعة أوجه: أحدها: ينعقد؛ لأنهما من أهل الشهادة في النكاح على الجملة. والثاني: لا يصح؛ إذ لا يحصل المقصود منهما من إثبات النكاح عند التناكر. والثالث: إن كانا ابني أحدهما صحّ؛ لأن إثباته ممكن من الجانب [الآخر، وإن كان] أحدهما للزوج، والآخر للزوجة، [أو كانا ابنيهما]- لم يصح؛ لأنه لا يمكن إثباته من كل جانب. والرابع: إن كانا ابني الزوج لم يصح؛ لأنه لا يقدر على إثبات النكاح بشهادتهما عند إنكارها، وإن كانا ابني الزوجة صح؛ لأن الزوج يقدر على الإثبات بشهادتهما عند إنكارها، والمرأة لا تحتاج إلى الشهادة؛ لإثبات الحِلِّ؛ فإنه يندفع بإنكار الزوج، ثم إن احتاجت إلى إثبات المهر والنفقة، فالمقصود الأصلي من النكاح الحِلُّ، والشهادة شرط لإثباته. والوجه الأول والثالث حكاهما العراقيون لا غير، ولا خلاف بين الأصحاب أنه لو حضر أربعة: [ابنان للزوج، وابنان للزوجة] صح.

ويجري الخلاف فيما لو حضر الزوج وجد الزوجة، [أو أبوه] وجدها. ولو حضر أخو المرأة والمزوِّج أخ ثالث، فهل يصح النكاح؟ فيه جوابان حكاهما الرافعي عن "فتاوى" الفراء قبل كتاب الصداق، ووجه المنع: أن الشرع جعل المباشر نائباً عن الباقين فيما توجه عليهم. ويعتبر- أيضاً- أن يكون الشاهد خالصاً من العداوة بينه وبين الزوجين، والتفصيل في العداوة كالتفصيل في البنوة حرفاً بحرفٍ، ومنهم من قطع بالانعقاد؛ لأن العداوة قد تزول. فرع: العجمي الذي لا يعرف لسان المتعاقدين، إذا كان لا يضبط اللفظ لا ينعقد بحضوره، وكذلك المُغَفَّل، وإن كنا العجمي يضبطه فوجهان. ولو كان الشاهد يحفظ ثم ينسى عن قريب انعقد بحضوره. قال: فإن عقد بشهادة مجهولين- أي: جهل حالهما في الفسق والعدالة الباطنة دون العدالة الظاهرة- جاز على المنصوص، وهو الصحيح من المذهب، ولم يحك ابن الصباغ سواه، وادعى البغوي فيه الوفاء؛ لأن النكاح يجري فيما بين أوساط الناس والعوام، ولو كلفوا بمعرفة العدالة الباطنة لطال الأمر وشقّ. وقيل: لا يجوز؛ لظاهر الخبر، ولأن الفسق يؤثر، والعدالة شرط في صحة النكاح؛ فالجهل به يقتضي التوقف كالإثبات عند الحاكم، وكذلك الخلاف جارٍ فيمن جُهلت حريته أو رقه، لكن على العكس من ذلك. هذا قول الجمهور. [وحكى] المتولي عن القاضي الحسين: أنه كان يقول: مثل هذين المستورين لا ينعقد النكاح بشهادتهما؛ إذ ليس الأصل اجتماع الشرائط، بل الأصل عدمها، ولكن صورة المستورين أن يكون قد عُرفت عدالتهما مرة وخُبِرَ حالهما، ومضى على ذلك مدة، ولا يعلم هل هما على ما كانا عليه، أو قد تغير حالهما، فالعقد ينعقد بشهادتهما؛ لأن الأصل بقاؤهما على العدالة. فروع: لو أراد الحاكم أن يزوج امرأة، قال الرافعي: من أصحابنا من قال: ليس له أن

يعقد إلا بشهادة شاهدين باطنهما العدالة؛ لأن الحاكم من أهل الاجتهاد؛ فلا يشق عليه البحث عن العدالة الباطنة. وفي "التتمة": أن الصحيح انعقاد العقد بشهادة المستورين؛ لأن الحاكم فيما طريقه المعاملة مثل غيره: لو بان أنهما كانا فاسقين عند العقد ببينة، أو بإقرار الزوجين- حكم ببطلان النكاح، كما لو بانا أنهما [كانا] رقيقين، أو كافرين. وقيل: على قولين، ووجه الصحة: الاكتفاء بالستر يومئذٍ، والأصح: البطلان، ولو اعترف الشاهدان بالفسق، وأنكره الزوجان، فلا [تأثير لإقرارهما]. لو أخبر عدل واحد عن فسق المستور، فهل يزيل إخباره الستر حتى لا ينعقد النكاح بحضوره؟ وإن زال فيُنْحَى بإخباره نحو الرواية، أو نقول: هو شهادة فلا نعتبر إلا قول من تحرَّج عند القاضي؟ تردد في ذلك الإمام. قال: ولا يصح إلا على زوجين معينين؛ لأن أعيانهما مقصودة بالنكاح، فوجب تعيينهما؛ كالثمن والمثمَّن في البيع. والتعيين في الزوجة: تارة يكون بالإشارة: كهذه، وهي مسفرة عن وجهها. وتارة بذكر النسب فقط: [كبنتي]، ولا ابنة له سواها. وتارة بالاسم والنسب: كفاطمة بنت زيدٍ، ويرفع في نسبها، [أو: ابنتي]. وتارة بالنسبة والصفة: كابنتي الصغرى، أو: الكبرى، أو: الوسطى، إن كنّ ثلاثاً. وتارة بالنسبة والنية؛ كما حكاه العراقيون وصاحب "التهذيب": كابنتي، وله بنتان فأكثر، مع نيتهما واحدةً بعينها. واعترض الشيخ مجلي على ذلك، فقال: النكاح عقد يفتقر إلى الشهادة، ولا مُطَّلَع للشهود على النية؛ [ولذلك] حكمنا بأن النكاح لا ينعقد بالكناية مع النية. أمَّا لو قال: زوجتك هذه، واقتصر عليه، وهي منقبة- قال في "التتمة": لا يصح

العقد؛ لأنها مجهولة؛ كما لا يتحمل الشهادة عليها إلا بعد مشاهدتها، أو معرفته لاسمها ونسبها. وقال في "الشامل": يصح، لكنه لم يفرض الصورة فيما إذا كانت منقبة، بل أطلق [الصورة]، وهكذا الرافعي، ثم قال: وفي معناه ما إذا كانت في الدار، فقال: زوجتك [التي في الدار، وليس فيها غيرها. ولو كانت له ابنة اسمها فاطمة، ولا ابنة له سواها، فقال: زوجتك] فاطمة- لم يصح إلا أن ينوياها، واعترض ابن الصباغ على ذلك بمثل ما اعترض به مجلي [من قبل. قال مجلي]: وهذا إنما يتجه فيما ذكرناه؛ لأن اللفظ مجمل، أمَّا في هذه المسألة فلا إجمال مع التسمية، وقد قصد من له العقد عليها. ولو قال قائلٌ: لا يفتقر إلى القصد من جهتها، لكان محتملاً؛ إذ القرينة تحمل العقد عند الإطلاق على من يصح العقد عليها وهي ابنته؛ فإن العادة أن الإنسان لا يتصرف إلا في محل [يملك التصرف] فيه. قلت: ويؤيده ما إذا قال: زينب طالق، وكان اسم زوجته زينب؛ فإنه ينصرف الطلاق إليها على المذهب. ولو قال: زوجتك ابنتي فلانة- وسمّاها [بغير اسمها]- فالأصح الصحة؛ لأن البنتيَّة صفة لازمة. حكاه المتولي والبغوي، وهذا الخلاف مبني على الخلاف فيما إذا قال: بعتك هذا الفرس، وإذا هو بغل. قال مجلي: والبناء لا يصح؛ لأن الأوصاف في البيوع مقصودة؛ ولهذا تختلف الأيمان بها فهي المقصودة بالبيع، [ويثبت] بالحلف فيها الخيار للمشتري، والنكاح بخلافه. ولو قال: زوجتك هذه فلانة- وسمَّاها بغير اسمها- فالأصح في "التتمة": الصحة، والمحكي في "الإبانة" عن المذهب خلافه، وهو الذي جزم به في "التهذيب" و"الشامل".

وفي "المهذب" جزم بالصحة فيما إذا قال: زوجتك هذه فلانة. ولو قال: زوجتك هذا الغلام، وأشار إلى ابنته- حكى القاضي الروياني عن الأصحاب: أنه يصح النكاح؛ تعويلاً على الإشارة. والتعيين في [الزوج] أن يشافهه، أو يقول: زوجت هذا- إن كان حاضراً- أو يسميه ويرفع في نسبه إن كان غائباً. قال: "والمستحب أن يخطُب قبل العقد" [أي: عند الخِطبة]؛ لما روى أبو هريرة- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "كُلُّ كَلَامٍ لَمْ يُبْدَا فِيهِ بِالْحَمْدِ فَهُوَ أَجْذَمُ"، ويستحب أن يأتي بالخطبة التي رواها ابن مسعود عن

النبي صلى الله عليه وسلم وهي:

"الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]، {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب: 70] إلى قوله: {فَوْزاً عَظِيماً} " [الأحزاب: 73]، هكذا قال ابن الصباغ والمتولي عن ابن مسعود، ثم قالا: ويستحب أن يقول في آخرها: والنكاح مما أمر الله به، وندب إليه. ويقرأ ما يناسب ذلك من الآيات، ويذكر ما في ذلك من الأخبار، ويستحب أيضاً أن يخطب خطبةً ثانية عند عقد النكاح، فيقول الولي: بسم الله، والحمد لله، وصلى الله على رسول الله، أوصيكم بتقوى الله: زوجتك فلانة، [ويقول] الزوج: قبلت هذا النكاح. أو يخطب الزوج ابتداءً، ثم يقول: تزوجت منك فلانة، فيقول الولي: زوجتك. ولو خطب الزوج والولي فهل يصح النكاح؟ فيه وجهان، أصحهما الصحة؛ لأنها من مقدمات القبول، فلا تقطع الموالاة بين الإيجاب [والقبول] كالإقامة بين صلاتي الجَمْع. قال [الإمام]: وهذا تكلف عندنا؛ فإنه لو تخلل بين صلاتي الجمع بمقدار الإقامة- ما لم يكن لمصلحة الصلاة- لم يضر أصلاً، [وموضع]

الوجهين ما إذا لم يَطُلِ الذكر بينهما، فإن طال قطعنا ببطلان العقد، قاله الإمام والبغوي والمتولي. قال الرافعي: وكان يجوز أن يقال: إذا كان الذكر مقدمة القبول وجب ألَّا تضر إطالته؛ لأنها لا تشعر بالإعراض. قال: وأن يقول قبل العقد: أزوجك على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، روى ذلك عن [ابن] عمر، رضي الله عنهما. ومعناه: أن كل زوج مؤاخذ في أدب الدين بأن يمسك حليلته بمعروف أو [يسرِّح] بإحسان، وإنما استحب ذلك قبل العقد؛ حتى لا يقع شرطاً في العقد، ولو قيد الولي كلامه بذلك فقال: زوجتكها على أن تمسكها بمعروف أو تسرحها بإحسان، فقبل الزوج النكاح مطلقاً، أو صرح بالتزام ما شرط عليه- قال الإمام: فلأصحابنا وجهان في صحة النكاح، والذي أراه أنهما إن أجرياه شرطاً مُلتزَماً فالوجه البطلان، وإن قصدا الوعظ دون الالتزام لم يضر، وإن أطلقا احتمل أن يحمل على الشرط، و [إن] احتمل أن يحمل على [الوعد]. قال: ولا يصح إلا بلفظ "التزويج" أو "الإنكاح"؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم- في خطبة الحج: "اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاستَحْلَلْتُمْ فُزُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ"، وليس في القرآن والسنة كلمة مستعملة في العقد إلا هاتين الكلمتين. ولأن من شرط صحته الإشهاد، والشهود لا مُطَّلَعَ لهم على أكثر من الألفاظ الصادرة من المتعاقدين، وغير هذين اللفظين لا يشعر بمقصودهما بمجرده، وانضمام النية إلى اللفظ لا يطلع الشهود عليها؛ فلم يصح. ولأنه لفظ ينعقد به غير النكاح؛ فلا ينعقد به النكاح؛ كلفظ الإباحة والتحليل.

ولأن النكاح ينزع إلى العبادات؛ لورود الندب فيه، والأذكار في العبادات تتلقى من الشرع، والوارد من الشرع هذان اللفظان، ولا يشترط توافق اللفظين حتى لو قال: زوجتك فقال الزوج: قبلت نكاحها- صح العقد. ولو قال: أنكحتك، فقال: رضيت نكاحها- حكى الوزير ابن هبيرة أنه يصح. ولم أره لغيره. فرع: نكاح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هل كان ينعقد بلفظ الهبة؟ فيه وجهان محكيان في "الشامل": أحدهما: لا ينعقد كنكاح غيره. والثاني: نعم؛ لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} [الأحزاب: 50] إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]. وفي هذا دليل على الخصم في كونه يُجَوِّز النكاح بلفظ الهبة لغيره، عليه السلام. والقائل الأول حمل الهبة في الآية على هبة المهر. وعلى هذا فقد اختلف الأصحاب في كيفية العقد على وجهين في "البحر": أصحهما: [أن تقول: وهبت نفسي،] فيقول- صلى الله عليه وسلم-: اتهبت، أو: قبلت.

والثاني: لابد في جانبه من لفظ النكاح. وعلى الوجهين لا مهر. تنبيه: قول الشيخ: إلا بلفظ "الإنكاح" أو "التزويج"، يعرفك أنه لا ينعقد بكتابة ذلك، وقد حكى الهروي فيه وجهين في حق النائب، وقطع بالمنع فيما إذا كانا حاضرين. وفي "الوسيط" في كتاب الطلاق حكاية الخلاف فيه. ويشترط على قول الصحة: أن يقبل الزوج في مجلس بلوغ الخبر. قال الغزالي: أو يكتب على الفور، [وأن يقع] القبول بمحضر شاهدي الإيجاب، فلو حضر غيرهما فوجهان، [وأنه] لو كان الزوج غائباً، فخاطبه الولي [بالنكاح] بلسانه، فقال: زوجتك ابنتي فبلغه الخبر، فقال: قبلت نكاحها- أنه يصح؛ لوجود لفظ "التزويج". وفي "التهذيب" حكاية وجهين فيه، وان الأصح عدم الصحة. قال الرافعي: وقد يستبعد خطاب الغائب بقوله: زوجتك ابنتي؛ لأن مكالمة الغائب بخطاب الحاضر ضربُ سَفَهٍ، وبهذا يُعْتَذَرُ عن الشيخ لمن ادعى تناول كلام الشيخ لهذه الصورة، والله أعلم. قال: "فإن قال: زوجتك [أو أنكحتك]، فقال: قبلت- ولم يقل: نكاحها، ولا: تزويجها- فقد قيل: يصح"، وهو المحكي في "الإملاء"؛ لأن الخطاب يصير معاداً في كلامه، فانعقد به كما في البيع وسائر العقود؛ بجامع ما اشتركا فيه من افتقار كل منهما إلى إيجاب وقبول. قال: وقيل: لا يصح، وهو الأصح والمنصوص في "الأم"، وظاهر كلامه في "المختصر"؛ لأنه لم يوجد منه التصريح بواحدٍ من لفظي النكاح والتزويج فلم ينعقد؛ كما لو قال رجلٌ للولي: زوجتها من هذا، فقل: نعم. ويخالف البيع؛ فإنه يراعى فيه اللفظ الصريح؛ لأن الشهادة على التحمل فيه شرط، وما يقدَّر من كون الخطاب معاداً في الجواب فكأنه كناية، والنكاح لا ينعقد بالكنايات.

ولو قال: قبلت النكاح، ولم يضف "النكاح" إليها، أو قال: قبلتها، ولم يذكر النكاح- ففيه خلاف مرتبٌ على الخلاف في المسألة قبلها، وها هنا أولى بالصحة؛ للتصريح بالنكاح في الصورة الأولى، والإضافة إلى المنكوحة في الثانية. وأجرى مُجرون الخلاف فيما إذا قال: [زوجني، أو: أنكحني، فقال الولي: قد فعلت ذلك، أو: نعم، وفيما إذا قال] الولي: زوجتكها، أو: أنكحتها أفقبلت؟ قال: نعم، وكذا لو قال: نعم، من غير قول الولي: أفقبلت؟ ومنهم من قطع بالمنع. وفي نظائر هذه الصور من البيع ينعقد على الأصح كما حكيناه ثَمَّ. ولو قال الزوج: زوجت نفسي من بنتك، فقال الولي: قبلت النكاح [أو قال: أبو الطفل: زوجت ابني من بنتك، فقال الولي: قبلت النكاح]- فهل ينعقد؟ قال في "التتمة": ذلك ينبني على أن الزوج في النكاح: هل [هو] معقود عليه أم لا؟ وفيه طريقان: فإن قلنا: إنه غير معقود عليه، فالعقد باطل، وإن قلنا: إنه معقود عليه، فعن الشيخ [أبي] سهل الأبيوردي: أن العقد صحيح، وساعده عليه الشيخ أبو عاصم. وذكر القاضي الحسين: أن العقد لا يصح. ويشترط في الصور كلها: أن يصر العاقد على الإيجاب حتى [يوجد] القبول؛ فلو رجع قبله لغا. وكذا لو أوجب، ثم زال عقله بجنون [أو إغماء- لغا]، وامتنع القبول. وأن يقع القبول عقيب الإيجاب على وجه الجزم؛ فلو كان هازلاً أو الموجبَ ففي انعقاده خلاف، والراجح عند الغزالي: عدم الانعقاد، وإن كان الحديث يقتضي إلحاقه بالطلاق، وطلاقه واقع. ولو تخلل بينهما [كلام كثير]، أو سكوت طويل بحيث يعد القائل مُعْرِضاً عن الإيجاب- لم يصح. وحكى القاضي أبو سعد الهروي: أن العراقيين من أصحابنا اكتفوا بوقوع

القبول في مجلس الإيجاب، وقالوا: حكم نهاية المجلس [حكم] بدايته، كذا حكاه الرافعي. فإن كان السكوت [يسيراً] بحيث لا يعد معرضاً عن الإيجاب، لم [يضر]. وإن كان الكلام يسيراً أجنبيّاً عن العقد، فهل يمنع ذلك صحة العقد؟ فيه وجهان منقولان في "النهاية" عند الكلام في الخطبة. وقال الرافعي عند الكلام في الاستثناء [في الطلاق]: إن الأصح أنه لا يقطع الاتصال. قال: فإن عقد بالعجمية- أي: بلفظ ليس بعربيٍّ- وأتى بالمعنى الخاص من التزويج أو الإنكاح- لم يصح؛ لأنه [ترك] اللفظ المشروع مع القدرة عليه؛ فصار كما لو عدل إلى لفظ "التمليك" [أو "الإباحة"]. قال: وإن لم يحسن صحّ على ظاهر المذهب؛ لأنه لفظٌ لا إعجاز فيه، فصح بالعجميّة عند العجز كتكبيرة الإحرام. قال: "وقيل لا يصح"، وهذا قول أبي سعيد الإصطخري؛ لأن ما كانت العربية شرطاً فيه عند القدرة لا يصح بغيرها عند العجز كالقراءة، فعلى هذا: يصبر إلى أن يتعلم، أو يوكِّل. هذه طريقة الشيخ أبي حامدٍ وآخرين، وهي التي نقلها الإمام عن العراقيين. وطريقة القاضي أبي الطيب المنقولة عن ابن أبي هريرة: أنه إن كان [لا] يحسن العربية انعقد وجهاً واحداً، ولا يُكلَّف التعلم والعقدَ بغير لغته، كما في سائر العقود، وإن كان يحسنها فوجهان، أصحهما: الانعقاد- أيضاً- اعتباراً بالمعنى،

وليس كلفظ "التمليك" و"الإباحة"، وهذه الطريقة أصح عند ابن الصباغ وغيره. وإذا أطلقت الكلام واختصرت قلت: في المسألة ثلاثة أوجه، كما ذكر في "المهذب". ثالثها: الفرق بين أن يحسن فلا يصح، أو لا يحسن فيصح، ونسب هذا إلى الإصطخري، ونقل الإمام عنه المنع مطلقاً. وأصح الوجوه: الصحة مطلقاً، وحكم من يقدر على التعلم حكم من يحسن. وقال الشيخ أبو حامدٍ: لا يجب التعلم وإن كان [له مهلة]. فرع: إذا [جوزناه بالعجمية]، فكان أحدهما يحسن العربية، والآخر لا يحسنها، فتكلم كل منهما بما يحسنه-[صح] إذا فهم كل منهما كلام الآخر، فإن لم يفهم ولكن أخبره ثقة عن معنى لفظ الآخر: فإن تعلمه صح، وإن لم يتعلمه لكنه صار بحيث لو سمعه مرة أخرى عرف معناه، ففيه وجهان. وقيل: يشترط أن يكون الإيجاب والقبول بلغة واحدة. ويشترط- أيضاً- فهم الشهود معنى اللفظين، والله تعالى أعلم. فصل: ويجب تسلمي المرأة في منزل الزوج إن كانت ممن يمكن الاستمتاع بها- أي: إذا طلب- وكان الصداق مؤجلاً أو حالّاً مقبوضاً؛ لأنه ملك الاستمتاع بها بالعقد، فوجب تمكينه من استيفائه حيث شاء كما في العين المستأجرة. وفي الأمة وجهٌ: أنه لا يجب تسليمها إلى الزوج في منزله إذا بوأها السيد بيتاً في داره. والمخاطب بالتسليم الزوجة إن كانت حرّةً مكلفة، والسيد إن كانت أمة، والولي إن كانت غير مكلفة، أمَّا إذا لم يمكن الاستمتاع بها لصغرها أو مرضها، أو نِضْو خَلْقها، بحيث يُضِرُّ بها الوطء [إضراراً بيّناً] ولا تطيقه- فلا يجب تسليمها، ويكره لولي الصغيرة أني سلمها إليه في هذه الحالة. ولو قال: سلّموها إلي لأستمتع بها فيما عدا الفرج، قال مجلي: لا تسلم إليه؛ لأنه لا يؤمن من تَوَقان النفس. وقال في "التهذيب": تسلم إليه المريضة دون الصغيرة. [وقال في "التتمة": تسلم إليه نضوة الخلق دون المريضة والصغيرة]؛ لأن

للصِّغَر غاية، [وليس لنضو الخلق غاية]. ووافقه صاحب "الشامل" في الحكم في المريضة ونضوة الخلق. ولا خلاف في الحائض والنفساء: أنه يجب تسليمها؛ لأنها لا تخاف على نفسها ضرراً، كما في الرتقاء والقرناء، ويكتفي في منعه عن الوطء في الفرج بوازع الشرع، ونفرة الطبع. نعم، لو علمت الحائض أنها إذا ضاجعته لم تمن على نفسها فلها الامتناع؛ إذ يجب عليها ذلك. ومن أصحابنا من تردد فيه. ولو كانت محرَّمة عليه بسبب إحرامه أو ظهاره، فهل يحرم عليها تمكينه؟ فيه وجهان محكيان في كتب العراقيين في كتاب الإيلاء. فروع: مؤنة التسليم على الزوجة إذا دعاها إلى البلد الذي وقع فيه العقد، بخلاف تسليم المبيع المنقول؛ فإن فيه كلاماً ذكرته في البيع، ولو دعاها إلى غير بلد العقد: فإن كانت فوقها، كما إذا تزوجها ببغداد، وهي بالكوفة، واستدعاها إلى البصرة- فالنفقة عليها من الكوفة إلى بغداد، ومن بغداد إلى البصرة على الزوج. وإذا اختلف الزوج والولي في بقاء الزوجة حيث يجب عليه التسليم، فقال الولي: ماتت، وقال الزوج: بل هي باقية- فالقول قول الزوج. ولو اختلفا في صلاحيتها للتسليم، فقال أحدهما: لا تحتمله، وقال الآخر: بل تحتمله- فالقول قول من ينكر الاحتمال. وفيه وجه: أنها [تُرى] لأربع نسوةٍ، أو رجلين من المحارم، ونقل في "الذخائر" في كتاب النفقات: أنه يكتفي بامرأةٍ واحدة، وأصل الاختلاف أن ذلك يسلك به مسلك الرواية أو الشهادة؟ قال: "فإن سألت إنظار ثلاثة أيام أُنظرت" أي: واجباً، وهذا هو المنقول في "المختصر"؛ [لما روى عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فلمَّا ذهبنا لندخل قال: "أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلاً لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ"

[وخرجه] البخاري ومسلم بمعناه. فإذا منعَ الزوج أن يطرق [زوجته] مغافصة، وأمره بإمهالها مع تقدم صحبته لها- فها هنا أولى. وأمَّا اعتبار الثلاث؛ فلأنها مدة قريبة، قال الله تعالى: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَاخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ* فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 64، 65]، [ولها] اعتبار في الشرع في [الانتظارات]: في انتظارات المُولِي إذا طولب بالوطء بعد المدة، [وفيما] إذا ادعى أن له بينة قريبة بالقضاء أو الإبراء، وفي خيار الفسخ بسبب الإعسار بالنفقة، وغير ذلك. وحكى القاضي أبو حامد عن "الإملاء" قولاً: أنها لا تمهل؛ لأنه قد سلَّم العِوضَ، فوجب تسليم المعوَّض كالمتبايعين، فعلى هذا يكون مستحقّاً، والأول أصح، ومنهم من قطع به؛ لأن تسليم المعقود عليه يرجع فيه إلى العرف والعادة، والعادة لا تقتضي ذلك، ويخالف البيع؛ فإنه ليس للبائع في تأخير تسلم المبيع غرض صحيح، وقضية لفظ "الوسيط" إثبات خلاف في أنها تمهل [بقدر ما تتهيأ، أو ثلاثة أيام. قال الرافعي: والأشبه خلافه. ولا خلاف أنها لا تمهل]؛ لتجهيز الشّوار وحصول السِّمَنِ. قال: "وإن كانت أمةً لم يجب تسليمها إلا بالليل"؛ لأن السيد يملك منفعتين من أمته: منفعة الاستمتاع، ومنفعة الاستخدام، فإذا زوجها عقد على إحدى المنفعتين وبقيت الأخرى، فيستوفيها في وقتها وهو النهار؛ كما أنه إذا أجّر أمته يسلمها للمستأجر نهاراً، ويمسكها لاستيفاء المنفعة الأخرى في وقتها وهو الليل. ويتبين من هذا: أنه لو أراد السيد أن يسلمها نهاراً بدلاً من الليل لا يجوز؛ لأن الليل وقت الاستمتاع والاستراحة، وعليه التعويل في القَسْم في الغالب.

وفيه وجهٌ: أنها إذا كانت محترفةً بحرفة يمكن الإتيان بها في يد الزوج وجب تسليمها إليه ليلاً ونهاراً، وبه قال أبو إسحاق المروزي. والأول أظهر؛ لأن السيد قد يبدو له في الحرفة ويريد أن يستخدمها. وللسيد أن يسافر بها، وللزوج أن يسافر معها، ويستمتع بها. والمكاتبة هل يجب عليها أن تسلم نفسها نهاراً مع الليل؟ فيه وجهان عبّر عنهما القاضي الحسين في كتاب النفقات بأنها هل تتبوأ مع الزوج بيتاً: أحدهما: نعم؛ لأنها مالكة لمنافعها، فأشبهت الحرة، وهذا ما جزم به الماوردي عند الكلام فيما إذا كان زوجها عبداً. [والذي ذكره الغزالي في كتاب الكتابة]: [أنه لا يجب تسليمها نهاراً؛ كالأمة]. قال: "والمستحب إذا سُلِّمت إلى الزوج أن يأخذ بناصيتها أولَ ما يلقاها، ويقول: بارك الله لكل منّا في صاحبه". [والناصية]: مقدم الرأس، وإنما استحب ذلك؛ لما روى أبو داود عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمُ [امْرَأَةً] أَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً، فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَلْيَاخُذْ بِنَاصِيَتِهَا، وَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ". قاله عبد الحق، والجبْل: هو الخلق، ولأن هذا ابتداء الوُصْلة؛ فاستحب أن يدعو بالبركة. قال: "ويملك الاستمتاع بها من غير إضرار"؛ لأنه المعقود عليه، وفي "التتمة" في كتاب الأيمان رمز إلى أن النكاح لا يفيد ملكاً على رأي، وإنما هو عقدٌ على الحل؛ فإنه قال: لو حلف: لا ملك له، وله حقٌّ في منفعة ملك إنسان- حنث، وإن كان له زوجة فلنا أصل: وهو أنّ النكاح فيه ملك [أو هو عقد] على

الحل؟ فإن أثبتنا فيه ملكاً حنث في يمينه. وفي "المحيط" عند الكلام فيما إذا وطئت في الدبر هل يتقرر المهر به؟ حكاية وجهين في أن المعقود عليه منافع البضع أم ذات المرأة؟ ويلزم من قال بأن المعقود عليه منافع البضع [ألا] يملك الاستمتاع بغيره، إلا أن يقول بحصول ذلك بطريق التبع، ولو أضرّ بها الاستمتاع في الفرج ضرراً لا تطيقه فلها منعه؛ كما إذا كان كبير الآلة، أو كانت مريضة، أو نِضْوة الخَلْق؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ". قال: "وله أن يسافر بها إن شاء"- أي: إذا كانت حرّةً- لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يسافر بنسائه، ولأنه يملك الاستمتاع بها من غير تعلق حقٍّ بها؛ فوجب تمكينه من استيفائه حيث شاء كما في العين المستأجرة. أمَّا لو كانت أمة فليس له السفر بها إلا بإذن السيد. قال: "وله أن ينظر إلى جميع بدنها؛ لأنه محل استمتاعه، والنظر مما يستمتع به". قال: وقيل: لا [يجوز النظر] إلى الفرج؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ يُوَرِّثُ الطَّمْسَ"، وهو العمى. قال في "العُدَّة": يريد أن الولد يولد أعمى، وفي بعض الطرق الفصل بين ظاهر الفرج وباطنه. قال الإمام: ولست أرى لهذا معنى، والأول أصح؛ لأن [له] الاستمتاع به؛

فجاز [له] النظر إليه كالفخذ، والخبر- إن صح- محمول على الكراهة كاستعمال الماء المُشَمَّس. والنظر إلى باطن الفرج أشد، وكذلك يكره للإنسان أن ينظر إلى فرج نفسه من غير حاجةٍ. ونظر السيد إلى أمته التي يجوز له الاستمتاع بها كنظره إلى زوجته، ونظر الزوجة إلى الزوج كنظره إليها، وقطع بعضهم بجواز نظرها إلى ذكر الزوج وقال: الخبر ورد في الفرج وهو الشَّقُّ. قال: ولا يجوز [له] وطؤها في الحيض؛ لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعَ"، وللإجماع: قال الإمام: ومما يجب التَّفَطُّنُ له أن [تحريم] وطء الحائض ليس لملابسة الأذى القائم بالفرج؛ فإن التضمُّخ بذلك الأذى بعد الانفصال غير محرم، وتحريم وقاع الحائض- وإن طهرت عن الأذى وغسلت المنفذ- قائم؛ فليفهم. قلت: وما قاله يعارض ما [قاله] الشافعي؛ حيث قال في الوطء في الدبر: "إذا كان يحرم إتيان الحائض؛ لما بها من الأذى، فيجب أن يحرم الإتيان في غير المَاتَى؛ لأن الأذى دائم". [ثم قوله]: "إن التضمخ به جائز"، قد يمنع؛ فإن الغزالي في "البسيط" في آخر صلاة الخوف حكى عن الصيدلاني أن التضمخ بالنجاسة من غير حاجة- ممتنعٌ، وفي استعمال جلد الميتة وجهان مشهوران، ووجه المنع: وجود النجاسة، فإذا كان الجلد لا يجوز لبسه مع وجود الانتفاع؛ للنجاسة، فدم الحيض أولى بالاجتناب، وفي "الرافعي" أن ابن كجٍّ نقل وجهاً: أنه يتجنب الحائض في جميع بدنها؛ لظاهر الآية. قال: [ولا يجوز وطؤها] في الدبر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم وقد سُئِلَ عن ذلك وأيهم

السائل: "إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ؛ لَا تَاتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ"، وقوله: "لَا يَسْتَحْيِي [مِنَ الْحَقِّ] " أي: لا يترك شيئاً منه؛ لأن من استحيا من شيء تركه. وقيل: لا يستبقى؛ مأخوذ من قوله: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49]، أي: يستبقونهن، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا"، [ولما] تقدم من قول الشافعي. وقال صاحب "التقريب": من الناس من يضيف على الشافعي قولاً في القديم: أنه لم يقطع بتحريمه، وتوقف فيه، وقال: "ليس عندي دلالة في تحريمه". وقال محمد بن عبد الحكم: قال الشافعي: في تحريم ذلك حديث غير صحيح، والقياس عندي أنه حلال. فحُكِيَ ذلك للربيع فقال: كذب، والذي لا إله إلا هو، وقد نصّ على تحريمه في ستة مواضع من كتبه. وفي شرح "مختصر الجويني" أن بعضهم أقام ما رواه قولاً، فلو وطئها في الدبر تعلقت به أحكام الوطء في القُبل إلا في الإحصان والتحليل، وأبدى الإمام في التحليل [احتمالاً]، والفيئة وزوال العنة، وتعتبر صفة الإذن على الصحيح فيها، واستقرار المهر وثبوت العدة والرجعة والنسب إذا جرى في النكاح الفاسد،

أو في أمته، وحرمة المصاهرة على وجهٍ في الجميع. وإن كان في غير الزوجة لا يبطل به إحصان المفعول به رجلاً كان أو امرأةً. وقيل: إن كانت امرأة يبطل إحصانها، قاله في "التهذيب"، وأبدى فيه احتمالاً لنفسه، وهو موافق لما أطلقه الأصحاب من أنَّ قول الرجل لزوجته: وطئك فلان في دبرك، يوجب الحد عليه؛ فألحقوه بالوطء في القبل، وقد قال المزني لمَّا حكى ذلك: "لا أدري على ماذا أقيسه؟! " وكأنه أنكر هذا المذهب. ويجوز التلذذ فيما بين الإليتين. قال: "وإن كانت أمةً"- أي: الزوجة- فله أن يعزل عنها. العزل: أن يجامع، فإذا قارب الإنزال نزع ولا يُنزل في الفرج. وإنما قلنا [له] ذلك في الأمة؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم- حين سئل عن العزل في غزوة بني المصطلق: "مَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا [ذَلِكَ]، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ" رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري. وعن جابر قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَ لي جاريةً قد أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل؟ قال: "اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ؛ فَإِنَّهُ سَيَاتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا" [قال]: فلَبِثَ الرجلُ ثم أتاه وقال: إن الجارية [قد] حملت، فقال- عليه السلام-: "قَدْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّهُ سَيَاتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا" أخرجه مسلم. فالأول دلّ بعمومه، والثاني بخصوصه، ولأن له غرضاً في ألا يَرُقَّ ولده، وفيه وجهٌ: أنها كالحرة. قال: "والأولى ألّا يعزل"، أراد بعدم الأولوية ثبوت الكراهة كما أطلقه في "المهذب"؛ لما روت جدامة بنت وهب أخت عكاشة قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن العزل، فقال: "هو الوَادُ الْخَفِيُّ، {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ

سُئِلَتْ} [التكوير: 8] "، أخرجه مسلم. وقطع الخراسانيون بنفي الكراهة، ولم يحكِ الشاشي سواه. قال: وإن كانت حرّة لم يجز إلا بإذنها؛ لما روى عن ابن عباس وابن مسعود- رضي الله عنهما- أنهما قالا: "تستأذن الحرة في العزل"، ولما يلحقها من الضرر بتبعيض الاستمتاع، وتهييج دواعيها، ولا غرض صحيح له. قال في "التتمة": وهو ظاهر المذهب. وقال الرافعي: إنه أظهر الطريقين. وقال في "الذخائر": قال أصحابنا [وغيرهم]: وهذا غير صحيح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين حالتيها، وحقها ساقط عن الزوج في هذا المعنى، بدليل أنه لو غيب الحشفة في الفرج فأنزل على قرب. قال: وقيل: يجوز من غير إذنها، وهو الأشبه عند مجلي، والأصح في "النواوي"، لظاهر الخبر، [ولأن] حقَّها في الوطء لا في الإنزال، بدليل

انقطاع طلبها في الإيلاء والعنة بتغييب الحشفة، فعلى هذا: هل يكره؟ فيه وجهان. وقيل: [لا] يجوز وإن رضيت؛ لظاهر خبر جدامة. وإذا اختصرت في الحرة والأمة قلت: فيه أربعة أوجه: الجواز المطلق، وهو الأصح في "الوسيط". المنع المطلق. الجواز [في الأمة]. تخصيص الجواز بالرضا. ولا خلاف- على المشهور- في جوازه في أمته، والأولى تركه، والمستولدة رتبها مرتبون على الأمة المنكوحة، وهذه أولى بالمنع، وآخرون على الحرة، [وهي] أولى بالجواز؛ لأنها ليست رأساً في الفراش؛ ولهذا لا تستحق القسم، وهذا أظهر. ثم حيث قلنا بتحريم العزل، فذاك إذا نزع على قصد أن يقع الإنزال خارجاً خشية من الولد، أمَّا إذا عنَّ له أن ينزل لا على هذا القصد، فيجب القطع بأنه لا يحرم، كذا قاله الإمام. قال: وله أن يجبرها على ما يقف عليه الاستمتاع، كالغسل [من الحيض] وترك السُّكر أي: وإن كانت ذميّة. أمَّا الغسل؛ فلأن التمكين من الوطء واجبٌ عليها، وهو لا يحل بدونه، فإن لم

تفعل غسلها الزوج، واستفاد الحل، وإن لم يوجد منها النية؛ للضرورة، كما تجبر المجنونة المسلمة، وحكى الجيلي وجهاً: أنه ينوي عنها، ويمكن أن تخرج نيته على الوجهين فيما إذا امتنع رب المال من إخراج الزكاة فأخذها الإمام قهراً، هل ينوي عنه؟ وعن الحليمي- تخريجاً على الإجبار على الغسل- أن للسيد إجبار أمته المجوسيّة أو الوثنية على الإسلام؛ لتحلّ له، [وهو ما حكاه القاضي الحسين في باب كفارة يمين العبد بعد أن يعتق]، والمذهب خلافه؛ لأن الرق أفادها الأمان من القتل؛ فلا تجبر كالمستأمنة، ولأن غسلها غسل تنظيف لا غسل عبادة، والتنظيف حقٌّ للزوج، فجاز أن يجبرها عليه، والإسلام ليس حقّاً له. وأمَّا السّكر؛ فلأنها لا ترد يد لامس، وتلتحق بالمجنونة، فلا يأمن أن تجني عليه، فيختل الاستمتاع، وهل له منع الذميّة من القدر الذي لا يسكر؟ فيه قولان، وأطلق المراوزة قولين في أنه: هل يمنعها من الشرب من غير تفصيل بين القليل والكثير؟ ويجري الوجهان في منع المسلمة من القدر الذي لا يُسكر من النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته. ومنهم من قطع في أصل المسألة بجواز المنع مطلقاً؛ لأن القدر الذي [لا] يسكر لا ينضبط. قال: وأمَّا ما يكمل به الاستمتاع كالغسل من الجنابة- أي: إذا كانت ذميّةً، أمَّا المسلمة فقد جزم في "المهذب" بالإجبار عليه. قال: واجتناب النجاسة، وإزالة الوسخ، والاستحداد، وهو إزالة شعر العانة، وهو الذي حول الفرج، مأخوذ من الحديد، وهو الموسى التي يحلق بها. قال: فيه قولان [أي]: في المسلمة والكتابيّة. أحدهما- وهو الأصح-: أن له إجبارها؛ لتوقف كمال الاستمتاع- الذي هو حقّه-[عليه].

والثاني: لا؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع، ولا يتعدى، وهذا كما قلنا فيما يكمل به انتفاع المستأجر: إنه لا يجب على المؤجر. وحمل بعضهم الإجبار في الغسل على ما إذا طالت المدة، وكانت النفس تعافها، والمنعَ: على قِصَرِها، وعدم العيافة، ولم يثبت فيه قولين. ولو تفاحش طول الأظفار وشعر العانة والإبط والأوساخ حتى خرج ذلك عن العادة، ونفرت منه النفس- أجبرها على إزالته قولاً واحداً، وأطلق في "التتمة" جواز الإجبار له من غير فرق بين حالةٍ وحالةٍ. ويخرج على الخلاف ما إذا أكلت ما يتأذّى بريحه أو لُبْسه كالجلود الطاهرة، أمَّا جلود الميتات قبل الدبغ فله المنع. وهذا يوافق ما حكيناه عن البغوي في إجبار المسلمة على الغسل [من الجنابة] لوجوبه عليها. ومنهم من قطع بجواز المنع. وفي منع الكتابية من أكل لحم الخنزير طرق: أحدها: ليس له المنع قولاً واحداً. والثاني: له قولاً واحداً. والثالث: إثبات قولين. والرابع: إن كانت نفسه تعافه كان له منعها، وإلا فلا. قيل: وهذا ظاهر النص، ومهما تنجَّس فمها أو عضو آخر، قال الرافعي: فلا خلاف أنه يجبرها على غسله؛ لتمكنه من الاستمتاع، والله أعلم. ***

باب ما يحرم من النكاح

باب ما يحرم من النكاح المراد بالتحريم هنا: عدم الصحة. قال: لا يصح نكاح المُحْرِم؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "المُحْرِمُ لَا يَنْكِحُ ولا يُنْكِحُ". فرع: نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كان يجوز في حال إحرامه؟ فيه وجهان؟ أصحهما في "البحر": نعم؛ لأن المنع خشية إفضاء الأمر إلى الوطء المفسد للحج، وهو مأمون منه، صلى الله عليه وسلم. قال: والمرتد؛ لقوله تعالى: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]، ولأن طرآن الردة يقطع دوام النكاح؛ فَمَنَعَ ابتداءه من طريق الأولى، وعلله بعضهم بأن النكاح يراد للدوام، والمرتد مقتول عن قربٍ، ويَرِدُ عليه صحة نكاح الزاني المحصن، مع وجود ما ذكره من العلة فيه. قال: "والخنثى المشكل"؛ لأنه لو تزوج امرأة احتمل أن يكون امرأة، ولو تزوج رجلاً احتمل أن يكون رجلاً، وإن تزوج خنثى احتمل أن يكونا رجلين أو امرأتين، والشرط في النكاح تحقق الشرائط حالة العقد، حتى لو ظهر بعد العقد أنه امرأة، وكان العاقد عليه رجلاً، أو بالعكس- لم يصح، كما لو قال الولي لرجلٍ: زوجتك ابنتي هذه، وكان له ابنتان: إحداهما محرمة عليه، ولم يعرف أن المعقود عليها هي الحلال أم لا، فقبل- لم يصح. وقد [ذكر] في "الوسيط" فيما لو اقتدى رجل بخنثى، ثم ظهر بعد الصلاة: أنه رجلٌ- في صحة الصلاة وجهين، وإن كانت النية معتبرة فيها فما الفرق؟ ولو

قيل بالعكس لكان الفرق ظاهراً؛ من حيث إن النكاح عقد، فهو إلى الوقف أقرب؛ ألا ترى أنه لو باع مال أبيه على ظن أنه حي، فإذا هو ميت، كان في صحته وجهان، ولا كذلك في الصلاة! وقد يفرق بينهما بأن الحظر في النكاح في نظر الشرع آكد من الحظر في أمر الصلاة؛ من حيث إن أثر النكاح غير قاصر على الزوجين، وأثر الصلاة قاصر على المصلى؛ فاحتاط الشرع في النكاح بما لم يحتط به في الصلاة؛ ألا ترى أنه لم يجوز الإقدام على النكاح [بالاجتهاد] عند اشتباه من يحل له نكاحها بمن لا يحل، [له نكاحها] وجوّز ذلك فيما يتعلق بالصلاة من طهارة، [وستارة]، واستقبال القبلة! قال: "وهو الذي له فرج الرجل وفرج المرأة، ويبول منهما دفعةً واحدةً"- أي: [وكذلك [الانقطاع منهما، ويميل [طبعه] إلى الرجال والنساء ميلاً واحداً]، أي: ولم يوجد مع ذلك ما يرجح أحد] الجانبين. وسُمِّي بهذا الاسم؛ لاشتراك الشبهين فيه، مأخوذ من قولهم: تخنث الطعام [والشراب]، إذا اشتبه أمره فمل يخلص طعمه المقصود وشارك طعم غيره. قال الماوردي في باب رضاع الخنثى. أمّا لو سبق بوله من أحدهما، اعتبرنا الأسبق على الصحيح من المذهب، وكذا لو استويا في الابتداء، وانقطع من أحدهما قبل الآخر- اعتبرنا المتأخر على الأصح. فعلى هذا: لو كان أحدهما أسبق خروجاً، والآخر أبطأ انقطاعاً- فالحكم للأسبق خروجاً، وقيل: هو مشكل. ولو كان يبول من هذا تارةً، ومن الآخر أخرى، أو كان يسبق [من]

أحدهما تارة، [والآخر يسبق تارة]- اعتبر [أكثر] الحالين منهما، فإن استويا فهو مشكل، حكاه الماوردي في كتاب الرضاع، ولا ترجيح بالكثرة مع الاستواء في الخروج والانقطاع [ولا بالترشيش والتزريق]، ولا بزيادة عدد الأضلاع، ولا نبات اللحية ونهود الثدى الأصح. ويرجح بالمني والحيض إذا تكرر في زمن إمكانه، وفي "الحاوي" حكاية وجهٍ: أنه لا يرجح بالحيض. فإن أمنى منهما فقد قيل: هو مشكل، والأصح: أنه يعتبر صفة المني: فإن كان بصفة مني الرجال فرجل، أو بصفة مني النساء فامرأة، وإن كان بصفتهما فهو مشكل. وإن أمنى بفرج الرجال، وحاض بفرج النساء على الوجه المعتبر- ففيه [ثلاثة] أوجه: قيل: امرأة. وقيل: رجل. وقيل: [وهو] مشكل، وهو أعدلها. ولو تعارض البول مع المني أو الحيض، فوجهان محكيان في "الرافعي" في كتاب الطهارة: أحدهما: أنه يحكم بمقتضى البول. وأصحهما: أنه يستمر الإشكال. ورؤية اللبن هل يرجح بها؟ قال أبو إسحاق: يعرض على القوابل، فإن قلن: إنه لا يكون هذا اللبن إلا لامرأة، حكم بأنوثته. وعن ابن أبي هريرة: أنه يستدل باللبن على الأنوثة عند فقد سائر الأمارات. وظاهر المذهب: أن اللبن لا يقتضي الأنوثة، ذكر ذلك الرافعي في كتاب الرضاع.

ولو كان له آلة لا تشبه آلة الرجال ولا [آلة] النساء، بل مجرد ثقبة- فهو مشكل أيضاً. ولا حكم لاختياره الذكورة و [لا] الأنوثة مع وجود الدلائل الظاهرة، كالمولود إذا تنازع فيه رجلان، فألحقه القائف بأحدهما- فلا حكم لانتسابه بعد قول القائف. ويزول باختياره الإشكالُ عند فقد العلامات على المشهور. وفي "الحاوي" في باب الحضانة: أنه لو أخبر عن اختياره بأنه رجل أو امرأة، عمل على قوله في سقوط الحضانة، وهل يعمل على قوله في استحقاقها؟ فيه وجهان. [ووجه] عدم القبول: التهمة. قلت: ومقتضى هذا الوجه: أن يجري هذا الوجه في جميع ما يترتب له على اختيار الذكورة أو الأنوثة، إلا أن يختار ذلك، ثم يطرأ سبب الاستحقاق؛ لانتفاء علة عدم القبول. ثم الاختيار يناط بميل الطبع. وإذا اختار أحدهما ترتب عليه جميع الأحكام المنوطة به، ولا رجوع عنه إلا أن يختار الرجولة، فيحبل، هذا قول الرافعي هنا. وقال في كتاب الطهارة: إنه لو اختار شيئاً، ثم ظهرت الأمارات من بعد-

يجوز أن يقال: لا يبالي بها، ويستصحب الحكم الأول، ويجوز أن يقال: يعدل إلى الأمارات الظاهرة. وهذا الاحتمال الثاني هو ما حكاه الماوردي في باب رضاع الخنثى. ووقت الاختيار: بعد الحكم ببلوغه؛ لأنه لازم كما في لحوق النسب، بخلاف الحضانة؛ لأنه ليس بلازم. ومن الأصحاب من قال: يكفي وقوعه في سن التمييز؛ كالحضانة يخيّر فيها الصبي بين الأبوين. وإذا أخر الاختيار بعد البلوغ وميل الطبع، أثم، والله أعلم. قال: "ويحرم على الرجل نكاح الأم والجدات" أي: من قبل الأب [أو الأم]، والبنات، وبنات الأولاد وإن سفلوا، [والأخوات] أي: من الأبوين أو من أحدهما، وبنات الأخوات وبنات أولاد الأخوات وإن سفلوا، وبنات الإخوة، أي: من الأبوين أو من أحدهما، وبنات أولاد الإخوة وإن سفلوا، والعمات والخالات وإن علون، أي: كأخت الجد للأب أو الأم، وأخت الجدة للأم أو للأب؛ لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23]. وأمك: كل أنثى انتهيت إليها بالولادة بواسطةٍ أو غير واسطةٍ، سواء كانت الواسطة ذكراً أو أنثى. وبنتك: كل أنثى تنتهي إليك بالولادة، بواسطةٍ أو غير واسطةٍ. وأختك: كل أنثى ولدها أبواك الأدنيان أو أحدهما. وبنات الأخ وبنات الأخت كبناتك منك. والعمة: كل أنثى [هي] أخت ذكرٍ ولدك بواسطةٍ أو بغير واسطةٍ، وقد تكون من جهة الأم كأخت أبي الأم. وخالتك: كل أنثى هي أخت أنثى ولدتك بواسطة أو بغير واسطة، وقد تكون من جهة الأب] كأخت أم الأب، وقد ضبط ذلك بعبارتين:

أحدهما- ما قاله الأستاذ أبو منصور البغدادي-: أن نساء القرابات محرمات إلا ما دخل في اسم ولد العمومة، وكذا الخئولة. والثانية- قالها الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني-: أنه يحرم على الرجل أصوله وفصوله، وفصول أول أصوله، وول فصل من كل أصل بعده، أي: بعد أول الأصول [، والأصول: الآباء والأمهات، والفصول: البنات، وفصول أول الأصول]: الأخوات وبنات الأخ وبنات الأخت، وأول فصلٍ من كل أصل بعده: العمات والخالات. وأبدى الرافعي في هذا الموضع فائدةً، فقال: ذكرنا في الوقف [خلافاً] في دخول بنات الأولاد في اسم البنات، وفي الوصيّة خلافاً في دخول جميع الجدات في اسم الأمهات، فإن قلنا بالدخول فالذي ذكرناه الآن في تفسير الأمهات والبنات حقيقة اللفظين، وإن لم نقل بالدخول، وهو الذي جرى عليه العراقيون، فقالوا: تحرم البنات بالحقيقة والمجاز، وكذلك سائر المذكورات إلا الأخت فلا مجاز فيها- فيمكن أن يقال: المراد بالآية التقييد المذكور، ويمكن أن يقال: المراد الحقيقة، وصور المجاز مقيسة بها؛ لأن الجد حكمه حكم الأب، وابن الابن حكمه حكم الابن في الميراث والولاية والعتق بالملك ورد الشهادة؛ فَلَأَنْ يكون كالأب والابن في التحريم- ومبناه على التغليظ- أولى، وقد ادعى ابن يونس أن دليل التحريم في ذلك الإجماع. فروع: أحدها: إذا زنى بامرأة، فأتت بابنةٍ- كره له نكاحها، فإن تحقق أنها منه فهل تحرم عليه؟ فيه وجهان، أصحهما: لا، وعن ابن القاصِّ وجهٌ مطلق: أنه لا يجوز للزاني نكاحها. قال في "الشامل": [وادعى] أنه مذهب الشافعي، وإنما كره للزاني نكاح من

أرضعته المزني بها، والأول هو المشهور. الثاني: المنفية باللعان لا يجوز للملاعن نكاحها، إن كان قد دخل بالملاعنة. وإن لم يدخل بها فوجهان، أصحهما: المنع. قال في "التتمة": وعلى هذا، ففي وجوب القصاص بقتلها، والحد بقذفها، والقطع بسرقة مالها، وقبول شهادته [لها]- وجهان. والفرق: أن سقوط العقوبة عن الأب إنما كان لأن العقوبة مشروعة للزجر، وفي طبع الآباء شفقة تمنع الجناية على الأولاد؛ فلا تقع الحاجة إلى الزجر [بالعقوبة]، وعلة الولاية والشهادة: الشفقةُ، ولا شفقة بين النافي والمنفي، بل العداوة، والعتق بالملك؛ للمنع من الاستذلال حتى لا يؤدي إلى قطيعة الرحم، والرحم بينهما مقطوعة، فنفينا هذه الأحكام. وأمَّا النكاح فيراد للنسب؛ ولهذا اختص بالذكر والأنثى؛ لأن الاستمتاع بينهما سبب التناسل، واكتساب سبب النسب في محل النسب لا يجوز، وفي المنفية شبهة النسب قائمة؛ فمنعنا العقد الذي يقصد به اكتساب النسب. الثالث: إذا أقرّ أحد الابنين بنسب أخت، [وكذبه الآخر]- فهل يحرم عليه نكاحها؟ قال القاضي: إن كانت مجهولة النسب ثبتت الحرمة، وإن كانت مشهورة النسب لغير من نسبها إليه هذا المُقِر، ففي ثبوت الحرمة وجهان حكاهما الإمام في كتاب الإقرار. قال: "ويحرم عليه أم المرأة وجداتها"- أي: بمجرد العقد، [سواء] كانت من جهة الأب أو الأم؛ لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23]، [وفيه وجه: أنها لا تحرم إلا بالدخول كالربيبة، واستدل هذا القائل بقوله تعالى: {اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وأعاده على النساء في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23]، وهو قول الكوفيين، وهذا لا يصح؛ لاختلاف

العوامل، ذكره [مكي] في [شرح] الهداية، ولما روى عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ نَكَحَ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا، وَلَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِ بِنْتُهَا". ولما روي عن زيد بن ثابتٍ أنه سئل عن رجلٍ تزوج امرأة، ففارقها قبل أن يصيبها: هل تحل له أمها؟ فقال: لا الأم مبهم ليس فيها شرط، إنما الشرط في الربيبات. وروى عن ابن عباس أنه قال: "الأم مبهم؛ فأَبهِموا من أبهم الله"، وليس المراد إبهام الأم، وإنما المراد: تحريمها مطلقاً؛ فإنها لا تحل بوجه كالبهم من الخيل الذي لا يخالط لونَه لونٌ آخر. هكذا قاله المتولي؛ فتكون هذه الرواية كالمفسرة للآية. قال: "وبنت المرأة وبنات أولادها"- أي: تحريم جمع؛ لأنه إذا حرم الجمع بين المرأة وأختها، مع جواز نكاحهما على الترتيب-[فَلَأَنْ تحرم بينها وبين بنتها [ولا يجوز نكاحهما] على الترتيب] كان أولى. قال: "فإن بانت الأم منه قبل الدخول بها حَلَلَن له، فإن دخل بها حَرُمْن على التأبيد"؛ لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23]. قال الجوهري: الربيب: ابن امرأة الرجل من غيره، وهو بمعنى: مربوب،

والأنثى: ربيبة، والرابُّ: زوج الأم، والرابة: امرأة الأب. وذكر "الحجور" جرياً على الغالب [وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له]، كقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، ولما تقدم من الحديث، والفرق بين الأم والبنت ما قاله المتولي أن الرجل يبتلى في العادة بمكالمة أم الزوجة عقيب النكاح؛ لأنها هي التي ترتب الأمور، فحرمها الشرع بنفس العقد؛ حتى يتمكن من الخلوة بها، ويسهل عليها ترتيب أمرها، وما لابدّ لها في أمر الزفاف منه، بخلاف البنت؛ فإنها لا تسعى في مصالح الأم؛ فانتفى هذا الغرض. ولا يحرم على الرجل بنت زوج الأم ولا أمه، ولا بنت زوج البنت [ولا أمه، ولا أم زوجة الأب ولا بنتها، ولا أم زوجة الابن ولا بنتها، ولا زوجة الربيب]، ولا زوجة الراب. قال: ويحرم عليه أم من وطئها بملك أو شبهة وأمهاتها، [وبنت من وطئها بملك أو شبهة]، وبنات أولادها؛ لأنه معنى تصير به المرأة فراشاً يثبت النسب، ويوجب العدة، فيتعلق به تحريم المصاهرة كالنكاح. وفي "شرح فروع" ابن الحداد وغيره حكاية قول ضعيف: أن الوطء بالشبهة لا يثبت حرمة المصاهرة كالزنى. والمذهب الأول؛ لأن الله تعالى قرن به النسب فقال- عزّ من قائل-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان: 54]، والنسب يثبت به؛ فكذلك حرمة المصاهرة. ثم ذلك إذا شملت الشبهة الواطئ والموطوءة، فإن اختصت الشبهة بأحدهما والآخر زانٍ، مثل: أن يأتي الرجل فراش غير زوجته غالطاً، فيظن أنها زوجته، وهي عالمة، أو: أتت غير زوجها غالطة، وهو عالم، أو كانت جاهلة أو نائمة أو مكرهة، وهو عالم، أو مكنت العاقلة البالغة مجنوناً أو مراهقاً- فثلاثة أوجه:

أصحها: أن الاعتبار بالرجل. والثاني: بهما. والثالث: أن الشبهة بأيّهما كانت تُثبت حرمةَ المصاهرة، وعلى هذا فوجهان: أحدهما: أنها تختص بمن اختص به الشبهة، حتى لو كان الاشتباه عليه حرم عليه أمها وبنتها، ولا يحرم عليها أبوه وابنه، وكذلك العكس. والثاني: أنها تعمهما. واعلم أن وطء الشبهة من ثلاثة أوجه [كما حكاها الإمام عن شيخه في باب حد الزنى:]. أحدها: أن تكون في الفاعل بأن يجد على فراشه امرأة فيظنها زوجته أو أمته. الثاني: أن تكون الشبهة في المحل بأن يكون له [في الموطوءة] ملك، أو شبهة ملك كالجارية المشتركة يطؤها أحد الشريكين، أو وطئ جارية أبيه، أو مكاتبته. الثالث: الشبهة في الطريق بأن يكون حلالاً له عند بعض أهل الاجتهاد، مثل: النكاح بلا ولي، ونكاح المتعة، ونظائرهما. ومتى وجدت إحدى هذه الشبهة أسقطت الحد، وقال الصيرفي: الوطء في النكاح المختلف فيه يوجب الحد على من يعتقد تحريمه، [كما سنذكره إن شاء الله تعالى]. وأمَّا الزنى على صورة الجهل إذا كان الزاني قريب عهد بالإسلام فلا حدّ فيه، وهل يثبت النسب ويوجب المهر، ويكون الولد به حرّاً إن كان الفعل بأمةٍ؟ فيه وجهان، أصحهما: الثبوت. والمجنون إذا وطئ هل يثبت النسب؟ فيه وجهان، الأصح الثبوت. هكذا نقله

البغوي في المتعة، ونقله الإمام والغزالي [في غير المجنون] في كتاب الرهن، ونقلا الكلام في المجنون، وأن حكمه حكم الجاهل من تخريج القاضي: [والظاهر من كلام الأصحاب فيه: عدم تعلق الأحكام وإن انتفى فيه الحد؛ لأنهم جعلوا وطأه زنى في باب حد الزنى، واحترزوا عن إدخال المجنون فيمن يجب عليه حد الزنى بقولهم: العاقل]. ثم الأحكام التي تتعلق بالوطء وتختلف بالشبهة وعدمها خمسة: النسب، والعدة، وهما معتبران بالرجل، فإن ثبتت الشبهة في حقه [ثبتا، وإلا لم يثبتا. والمهر يعتبر بالمرأة، وسقوط الحد يعتبر بمن وجدت الشبهة في حقه،] وحرمة المصاهرة، وفيها ما ذكرناه من الخلاف. ثم لتعلم أن الوطء في النكاح وملك اليمين كما يوجب الحرمة يوجب المحرميَّة حتى يجوز للواطئ المسافرة بأم الموطوءة وابنتها، ولابنه الخلوة والمسافرة بها. وفي وطء الشبهة وجهان- ويقال: قولان-: أحدهما: أن الحكم كذلك، وهو الأصح عند الإمام. والثاني: المنع، وهو الأصح عند عامة الأصحاب. وحكوه عن نصه في "الإملاء"؛ لأنه لا يجوِّز الخلوة بالموطوءة والمسافرة بها فبأمها وابنتها أولى، وليس كالوطء في النكاح وملك اليمين؛ [لأن أم الموطوءة وابنتها يدخلان عليها، ويشق عليهما الاحتجاب عن زوجها،] ومثل هذه الحاجة مفقودة هنا، والله أعلم. فائدة: أطلق الشيخ في "المهذب" قوله بأن وطء الشبهة [حرام، وحمله بعض مشايخنا على الشبهة في الموطوءة كما ذكرناه، وجزم القول بأن الشبهة] في الفاعل لا تحرم الوطء؛ فإن التحريم يلازمه الإثم، ولا إثم على من وطئ امرأةً وجدها في فراشه على ظن أنها زوجته، والذي دلّ عليه كلام الأئمة: أن هذا النوع حرام، وقد صرح به القاضي الحسين في "التعليق" عند الكلام فيما إذا قال

لزوجته: أنت طالق للسُّنَّة، ثم قال: ولا يأثم به؛ لأنه لم يقصد ذلك. وصرح به أيضاً [كذلك البندنيجي عند الكلام في قتل الخطأ، وكذا] المحاملي في "المجموع" في كتاب "اللعان" عند الكلام فيما يسقط الحضانة، وإيراد ابن الصباغ في ذلك الموضع يدلُّ عليه؛ حيث قال: الثالث: أن يطأ في غير ملكٍ وطأً حراماً ليس بزنى، مثل: أن يطأ بشبهة، أو عقد فاسد، أو جارية ولده. وحكى أيضاً في ضمن مسألة من كتاب اللعان، وهي إذا قال: هذا الحمل ليس مني، عن القاضي أبي الطيب: أنه حكى عن أبي إسحاق وأبي علي الطبري أنهما قالا: إذا قذفها بالزنى، أو بوطء شبهةٍ، أو إكراه تلاعنا، ويجوز أن يسمى ذلك قذفاً؛ لأنه وطء حرام. وفي "النهاية" في فصل أوّله: "اللعان لا يجري إلا بعد أن تُنسب المرأة إلى وطءٍ محرم في النكاح"-: وإن أحببنا قلنا: إلى وطءٍ لا يحكم بتحليله، حتى لا يمنع وطء الشبهة عن الدخول، والله أعلم. قال: "فإن لمسها بشهوةٍ فيما دون الفرج ففيه قولان:" أحدهما: أنه لا يحرم؛ لمفهوم قوله تعالى: {دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] فشرط الدخول في التحريم، ولأنه لا يوجب العدة؛ فلذلك لا يثبت تحريم المصاهرة، وهذا هو الأصح عند الإمام واختيار ابن أبي هريرة وابن القطان وغيرهما. والثاني: أنه يحرم، وهو اختيار صاحب "التهذيب" والقاضي الروياني؛ لأنها مباشرة [لا تستباح إلا بالملك، فثبتت حرمة المصاهرة كالوطء، ولأنه تلذذ بمباشرة] فأشبه الوطء، ولأنه استمتاع يوجب الفدية على المُحْرِم فكان كالوطء. واعلم أن محل القولين عند معظم الأصحاب ما إذا كان ذلك [بشهوةٍ]، كما ذكره الشيخ، فأمَّا اللمس بغير شهوة فلا أثر له في التحريم. قال الإمام: ومنهم من أرسل ذكر الملامسة ولم يقيده بالشهوة؛ فيجوز أن يقال: تكفي صورة الملامسة [كما تكفي في نقض الطهارة. وحكم المفاخذة والتقبيل حكم الملامسة]، والوطء في الدبر [حكمه]

حكم الوطء في القبل، قاله في "الذخائر". وقال في "التتمة": إن وطئها في الدبر ظانّاً أنه القبل فيوجب التحريم، وإن كان عالماً به فوجهان، وقد تقدم حكاية وجهٍ فيه فيحمل على هذه الصورة، وأمَّا النظر بشهوة فلا يقتضي حرمة المصاهرة، ونهم من حكى فيه قولاً ضعيفاً عن العراقيين، ثم خصصه بعضهم بالنظر إلى الفرج، [وهو ذكر الرجل] وقبل المرأة، ومنهم من لم يفرق بين الفرج وغيره، ومنهم من خصصه بما يحرم النظر إليه من الرجل والمرأة على ما حكاه في "الذخائر". وتثبت حرمة المصاهرة [بما] إذا استدخلت المرأة ماء زوجها، أو ماء أجنبي بالشبهة، كما يثبت [به] النسب وتجب [به] العدة، وإن كان في تقرير المهر ووجوبه للمفوّضة وثبوت الرجعة ووجوب الغسل ووجوب المهر في صورة الشبهة- وجهان، أصحهما: المنع. وإن أنزل الأجنبي بزنى لم يثبت النسب باستدخاله، [ولا حرمة للمصاهرة كالوطء، وإن أنزل الزوج بالزنى حكى صاحب "التهذيب": أنه لا يثبت النسب]، ولا حرمة المصاهرة ولا تجب [به] العدّة وقال من عند نفسه: وجب أن تثبت هذه الأحكام؛ كما لو وطئ زوجته على ظن أنه زنى. قال: "ويحرم عليه زوجة أبيه وأزواج آبائه" أي: من قِبَل الأب أو الأم؛ لقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 22] على ما ذهب إليه أكثر المفسرين. قال: وزوجة ابنه وأزواج أبنائه؛ لقوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23]، وقوله: {مِنْ أَصْلابِكُمْ} بيان لعدم تحريم زوجة [ولد] التبنِّي. وكذلك يحرم عليه نكاح زوجات أولاد البنات، وهذا التحريم

يحصل بالعقد، وفي "تعليق" القاضي الحسين في كتاب الرجعة: أن الرجل إذا طلق زوجته، ثم اختلفا، فقالت الزوجة: دخل بي، وأنكر الزوج أنها تحرم على أبيه وابنه، وإن ادعى الزوج الدخول وأنكرت المرأة فلا تحرم على أبيه وابنه. ولم أَرَ ذلك في غير هذا الكتاب، فلعله سهوٌ من الناسخ. قال: ومن دخل بها الأب بملكٍ أو شبهةٍ، أو دخل بها آباؤه، أو دخل بها الابن بملك أو شبهةٍ، أو دخل بها أولاده؛ لما سبق". قال: فإن تزوج امرأةً [ووطئها] أبوه أو ابنه بشبهة، أو وطئ هو أمَّها أو بنتها بشبهة- انفسخ نكاحها"؛ لأنه معنى يوجب تحريماً مؤبداً، فإذا طرأ على النكاح أبطله كالرضاع. ويجب للموطوءة على الواطئ مهر مثلها، وهل يجب لها على زوجها شيء مع ذلك؟ قال ابن الحداد: لا يجب، وعلله ابن الصباغ بأنّ الفسخ جاء من قِبَلها دونه، وهي مطاوعة على الوطء. وقال آخرون: يجب عليه نصف ما سمّى لها. وتوسط الشيخ أبو علي، فقال: إن كانت نائمة أو مكرهةً، أو صغيرةً لا تعقل فلها نصف المسمّى على الزوج. وإن كانت عاقلةً وطاوعت؛ ظانَّةً أن الواطئ زوجها فلا مهر لها. نعم، لو اشتبه الحال في هذه الصورة فيتجه التردد هنا على ما قاله ابن الحداد والأصحاب. وإذا أوجبنا على الزوج نصف المسمّى، فهل يطالب الواطئ بشيء؟ قال الرافعي وغيره هنا: نعم؛ لأنه قد أفسد عليه النكاح. وفي قدر ما يرجع به ثلاثة أقوال كما في الرضاع: أحدها: مهر المثل. والثاني: نصفه.

والثالث: ما غرمه. وقال ابن الصباغ في كتاب الرضاع حكاية عن المذهب: إنه لا يجب عليه مهرٌ [للزوج]. والفرق بينه وبين الرضاع: أن الأب إذا وطئ وجب لها عليه المهر؛ فلا يجب عليه شيء آخر، بخلاف الرضاع. وقال أبو حامدٍ: إنه يجب كما في الرضاع. وفي "التتمة" حكاية وجهين في هذه المسألة، وصحح وجه الوجوب. ثم هذا كله إذا لم يكن الزوج قد دخل بها، فإن [كان قد] دخل بها، فهل يجب على الواطئ للزوج شيء؟ يتجه تخريجه على نظير المسألة في الرضاع، والمذهب فيها: أنه يجب على المفسد للزوج مهر المثل. وقيل: لا يجب عليه [شيء]. قال: "ويحرم عليه أن يجمع بين المرأة وأختها" أي: من الأبوين أو من أحدهما، ابتداءً أو دواماً؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "مَلْعُونٌ مَنْ جَمَعَ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ". قال: "وبين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها"، أي: ابتداءً أو دواماً؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَجْمَعُ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ [وَعَمَّتِهَا]، وَلا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا".

وكذا لا يجمع الرجل بين المرأة وخالة أحد أبويها، أو عمة أحد أبويها، والمعنى فيه: أن ذلك يؤدي إلى قطع الرحم؛ لما في الطباع في التباين والغَيْرة من الضرات. وجملة من يحرم الجمع بينهما: كل شخصين لا يجوز لأحدهما أن يتزوج بالآخر لو كان ذكراً لأجل القرابة، [وقولنا: "لأجل القرابة"]، يحترز به عن المرأة وأم زوجها، وإن شئت قلت: وزوجة ابنها. [وعن المرأة وابنة زوجها]؛ فإنه يجوز أن يجمع بينهما، وإن كان لا يجوز لأحدهما أن ينكح الأخرى [لو كان ذكراً]. قال الرافعي: [ولو] قلت يحرم الجمع بين امرأتين أيتهما قُدِّرت ذكراً حرمت الأخرى عليه، لاكتفيت به؛ لأن الصورتين المحترز عنهما لا يطرد التحريم في كل واحدة لو قدرناها ذكراً. إذا تقرر ذلك، فلو نكح من يحرم الجمع بينهما [معاً] بطل نكاحهما، وإن نكح واحدة، ثم نكح الأخرى قبل أن أبان الأولى- فنكاح الثانية باطل، فإن وطئ الثانية بشبهة لم ينفسخ نكاح الأولى، لكن يستحب ألا [يطأ الأولى] حتى تنقضي عدة الموطوءة، فإن أبان الأولى صح نكاح الثانية. فرع: لو ادعى الزوج أن الأولى أخبرته بانقضاء عدتها في زمن الإمكان، وأراد نكح الأخرى، فكذبته الأولى وقالت: لم تنقضِ عدتي بعدُ- فله نكاح أختها؛ لزعمه انقضاء عدتها، ومؤاخذته بمقتضى قوله في تحريمها عليه، ولو طلقها لا يقع طلاقه، ولو وطئها وجب عليه الحد. وقال القفال والحليمي: ليس له نكاح أختها، ولو طلقها وقع، ولو وطئها لا يحدُّ. والأول أظهر، وهو المحكي عن نصه في "الإملاء"، وتجب لها النفقة.

قال: "وما حرم من ذلك بالنسب حرم بالرضاع"؛ لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، فنصّ على الأم والأخت، وقسنا الباقي عليه، ولقوله- صلى الله عليه وسلم-: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الوِلَادَةِ"، وَيُرْوَى: "مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ". قال في "التهذيب": أربع من النسوان يُتَصَوَّرْنَ حلالاً في الرضاع، ولا يتصور وجود ذلك في النسب: أم أختك، وأم نافلتك، وجدّة ولدك، وأخت ولدك. فهؤلاء في النسب حرام؛ لأن أم أختك: إمّا أمك أو زوجة أبيك، وأم نافلتك إمَّا بنتك أو زوجة ابنك، وجدة ولدك: إما أمك أو أم زوجتك، وأخت ولدك إما [بنتك أو ربيبة]. وفي الرضاع يتصور أن يكنَّ حلالاً إذا كانت المرضعة لهن أجنبية، وزاد غيره: أم العم والعمة، وأم الخال والخالة. وهذه الصور غير واردة على من أطلق ولم يستثنها؛ لأن التحريم فيها جاء من قبل المصاهرة، لا من قبل النسب، وقد ذكر الرافعي هذا في كتاب الرضاع، وإن كان قد قال في هذا الباب- كما قاله البغوي-: لكن يلزم على ذلك ألا يكون في كلام الشيخ ما يدل على [تحريم] المصاهرة عند فقد النسب وثبوت الرضاع، [وقد قال الأئمة: إن ما يحرم بسبب المصاهرة عند ثبوت النسب، يحرم عند ثبوت الرضاع]، ولا يستثنى من ذلك إلا ما ذكرناه. وأمَّا قوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23]، فقد ذكرنا أن ذلك [ذكر]؛ ليخرج ولد التبنِّي، وإلا فالوالد من الرضاع تحرم موطوءته كما تحرم موطوءة الابن من النسب، والله أعلم.

فرع: إذا اختلطت من لا يحل له نكاحها بسبب الرضاع بعددٍ من النساء، هل يحل له أن ينكح واحدة منهن؟ ينظر: إن كان العدد لا ينحصر لآحاد الناس: كنسوةِ بلدٍ أو قريةٍ كبيرة، فله نكاح واحدة منهن، قال الإمام: وهذا ظاهر إذا عم الالتباس، أمَّا إذا أمكنه نكاح امرأةٍ لا يرتاب فيها، فيحتمل أن يقال: لا ينكح اللواتي يرتاب فيهن، والظاهر: أنه لا حجر [عليه]. وإن كان الاختلاط بنسوةٍ معدودات يتمكن آحاد الناس من عددهن، فيتجنبهن. وحكى في "الوسيط" وجهاً: أن له أن ينكح واحدة منهن بالهجوم، وهو ضعيفٌ، وهذا يؤخذ من كتاب "التنبيه" من كتاب الرضاع حيث قال: وإن وطئ رجلان امرأة فأتت بولدِ، فارتضع طفل بلبنه .. إلى آخره، فعلى المذهب: لو خالف ونكح إحداهن، حكى الشيخ أبو عليه فيه وجهين، والأصح منهما: المنع. آخر: إذا نكحت المرأة، ثم ادعت أن بينها وبين الزوج رضاعاً محرماً. قال: ومن حرم نكاحها [ممن ذكرناهن] حرم بالرضاع ومن حرم نكاحها ممن ذكرناه حرم وطؤها بملك اليمين؛ لأنه إذا حرم النكاح فَلَأَنْ يحرم الوطء- وهو المقصود- بطريق الأولى. وإذا ملك أختين أو جارية وعمتها أو خالتها، كان له أن يطأ أيتهما شاء، فإذا وطئها لم يحل له وطء الأخرى حتى يحرم على نفسه الموطوءة ببيع كلها أو بعضها وينقضي بالخيار، أو بالهبة مع الإقباض، أو العتق، أو التزويج، أو الكتابة، وإلا كان جامعاً بين الأختين، فلو خالف ووطئها قبل ذلك لم يعد إلى وطئها حتى يحرم الأولى بأحد ما ذكرناه. ولا يكفي الحيض والإحرام والعدة عن وطء الشبهة وعروض الردة. وفي الرهن وجهان، أصحهما المنع. ولو باع بشرط الخيار بحيث يجوز للبائع الوطء لا تحل به الثانية، وحيث لا يجوز فوجهان، قال الإمام: والوجه عندي القطع بحل الأخرى؛ لثبوت الملك للمشتري ونفوذ تصرفاته؛ ولذلك لا يكفي لحل وطء الثانية استبراء الأولى. وعن القاضي الحسين: أن القياس يقتضي الاكتفاء به. وذكر القاضي ابن كجٍّ أن القاضي أبا حامدٍ قال: غلط بعض أصحابنا فقال: إذا

قال: حرّمتها على نفسي، حرمت عليه، وحلت له الأخرى. فرع: لو ملك أمة، فادّعت أنها أخته من الرضاع، نظر: إن كان ذلك قبل أن يملكها حرمت عليه، ولا تحل له، وإن ادعت ذلك بعد أن مكنته من الوطء فلا تحرم. وإن كان بعد [أن ملكها] وقبل أن تمكنه، فهل تحرم؟ فيه وجهان، وهما يجريان فيما لو ادعت أنها موطوءة الأب، بخلاف ما لو ادعت أنها أخته من النسب، وهي مجهولة النسب؛ فإنها لا تحرم. وفُرِّق بينهما بأن التحريم بالنسب إنما يثبت إذا ثبت النسب، والنسب لا يثبت بقول النساء، وأمَّا الرضاع فيثبت بقولهن؛ فكذلك التحريم مثله، قاله القاضي الحسين في "التعليق" في كتاب الطلاق. آخر: الوطء في الموضع المكروه كالوطء في الفرج في تحريم الأخرى، وفي اللمس، والقبلة، [والنظر] بشهوة مثل الخلاف المذكور في حرمة المصاهرة. تنبيه: قول الشيخ: ممن ذكرناهن، فيه فائدة حسنة؛ فإنه لو قال: ومن حرم نكاحها حرم وطؤها بملك اليمين، اندرج فيه الأمة الكتابية؛ فإنه لا يحل للمسلم نكاحها، ويحل له وطؤها بملك اليمين. قال: "وإن وطئ أمته بملك اليمين، ثم تزوج أختها أو عمتها أو خالتها- حلت المنكوحة، وحرمت المملوكة"؛ لأن فراش النكاح أقوى في استباحة الوطء؛ لأنه يملك به حقوقاً لا تملك بفراش المملوكة: كالطلاق، والظهار، والإيلاء، واللعان، وسائر الأحكام، ولأن ولد المنكوحة لا ينتفي إلا باللعان ويلحق بالإمكان، وولد المملوكة ينتفي بدعوى الاستبراء، ولا يلحق بالإمكان، وذلك دليل القوة والضعف، وإذا كان فراش النكاح أقوى لم يندفع بالأضعف؛ كما أن ملك اليمين لمَّا كان أقوى في ملك الرقبة؛ من حيث إنه يملك به الرقبة

والمنفعة إذا طرأ على النكاح- ثبت، وسقط [به] به النكاح، وكذلك لو كان في نكاحه إحدى الأختين مثلاً، فملك الأخرى فالمنكوحة حلال كما كانت، والتي ملكها حرام عليه. قال: "ويحرم على المسلم نكاح المجوسية"؛ لأن الأصل في الكفار تحريمهن؛ لقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، ثم خصص الله- سبحانه وتعالى- منهن أهل الكتاب بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، ولم يثبت للمجوس كتاب، وإذا كان الأصل التحريم فلا يباح بالشك. وقال أبو ثور: إنه يجوز نكاحها؛ لأنها تُقَرُّ على دينها بالجزية، فيجوز نكاحها كاليهودية. وقد نُقِلَ عن الشافعي قولٌ مثله. وقال أبو إسحاق وأبو عبيد بن حربويه: جواز نكاحها مبني على أن المجوس هل كان لهم كتاب أم لا؟ وفيه قولان، أشبههما: نعم، فعلى هذا يجوز نكاحها، [على القولين] وعلى مقابله لا يجوز، والمذهب: أنه لا يجوز نكاحها على القولين جميعاً؛ لما روى عن عبد الرحمن بن عوف أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ"، وأمّا

[حقن الدم]؛ فلأن لهم شبهة كتاب، والشبهة في الدم تقتضي الحقن، وفي البضع تقتضي الحظر، والكتاب إنما يفيد الحل إذا قال من أثبته: إنه كان متلوّاً [ومتضمناً] للأحكام، فإن قنع من قال [به] بأصل الكتاب لزمه مثله في صحف إبراهيم- عليه السلام- وما في معناه، والله أعلم. قال: والوثنيّة؛ لقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وكذلك الحكم في عَبَدَة الأصنام، والبقر، والشمس، والقمر، والمُعَطِّلة، والدهرية. وهل تحل الوثنية لمن هو من أهل الكتاب؟ فيه وجهان. قال: "والمرتدة"؛ للآية؛ ولأنها أسوأ حالاً من الوثنيّة؛ لأن الوثنية تقر على دينها بالرق، بخلاف المرتدة، كذا علله المتولي، وكذلك الحكم في الزنديقة. قال: "والمتولدة [بين] المجوسي والكتابيَّة"؛ لأن الولد ينسب إلى الأب، ويشرف بشرفه؛ فأُعطى حكمه. قال: "وهل تحرم المتولدة بين الكتابي والمجوسيّة؟ فيه قولان:" أحدهما: لا؛ لما مرَّ أن الولد ينسب إلى أبيه، والأب كتابي فيحلّ؛ لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. والثاني: المنع، وهو الأصح في "التهذيب"، والمذهب في "التتمة"؛ تغليباً للتحريم؛ كما أن المتولد بين المأكول وغير المأكول حرام، وليس كما لو كان أحد الأبوين مسلماً؛ فإنه يجعل مسلماً؛ لأن الإسلام لا يَشْرَكُ الشركَ؛ فغلب لعلوه، والشرك يَشْرَكُ الشرك؛ فاستويا. وعلى هذا: إذا بلغت المتولدة بين الكتابي والمجوسية، وتدينت بدين الكتابي- فالمهذب أنها لا تحل [كالمجوسيّة إذا دانت اليهوديَّةَ بعد البلوغ. وقيل: تحل]؛ لأن فيها شهبة من كل واحد منهما، إلا أنَّا غلبنا جانب

الحظر ما دامت محكوماً عليها بحكم الأبوين، فإذا بلغت فلها حكم نفسها، [ولها أن تدين بدين أي الأبوين شاءت]، هكذا قاله في "التهذيب"، [ومثله حكاه عن رواية الإمام في باب الصيد والذبائح]. ولو تدينت بدين المجوس، فالحكاية عن القفال: أنها تمكن منه، ويجري عليها حكم المجوس. وقال الإمام: لا يمتنع أن يقال: إذا أثبتا لها حكم اليهودية بالمناكحة فنمنعها من التمجُّس إذا منعنا الكافر [من] الانتقال من دينٍ إلى دين. وتحل مناكحة اليهود والنصارى إن كان آباؤهم من بني إسرائيل وقوم عيسى؛ لأنه [اجتمع لهم] شرف النسب والتعلُّق بالكتب، أمَّا من لم تكن منهم، ودخل [أول آبائها] في دينهم فله خمس أحوال: إحداها: أن يدخل بعد بعثته- عليه السلام- ونسخ شريعتهم، فلا تحل مناكحتهم. والثانية: أن يدخل قبل بعثته- عليه السلام- وقبل التحريف أو بعده، ولكن عرف المحرّف فاجتنبه- فقد قال العراقيون: تحل مناكحتهم، وحكى الخراسانيون قولاً: أنها لا تحل؛ رعاية لشرف النسب. والثالثة: أن يدخل بعد التبديل، وآمن بالمبدَّل، فقد قطع بعضهم بالبطلان، وهو اختيار العراقيين، وقيل: فيه قولان. والرابعة: أشكل: هل دخل قبل التبديل أو بعده؟ جزم العراقيون بالتحريم، وحكى المراوزة فيه قولين. والخامسة: أشكل: [هل دخل قبل] النسخ أو بعده؟ فلا تحلُّ [مناكحتهم]. وقال في "التتمة": حكمه حكم اليهوديّة إذا تنصرت في زماننا، والحكم فيها ينبني

على أنَّها هل تُقَرُّ على النصرانية أم لا؟ إن قلنا: تقرُّ، جاز، وإلا فلا، ومن دان بدين اليهود بعد مبعث عيسى- عليه السلام- كمن دان به بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: كمن دان بعد التحريف. وأمَّا السامرة فهل هم من اليهود، والصابئة من النصارى؟ فيهم أربعة طرق: القطع بأنهم منهم. القطع بأنهم ليسوا منهم، وهو اختيار الإصطخري. طَرْدُ القولين، نقلهما أبو علي عن الخراسانيين. والمذهب الذي ذهب إليه [جمهور الأصحاب]: أنهم إن كانوا يخالفون اليهود والنصارى في أصول الأديان فليسوا منهم، وإن وافقوهم في أصول الدين وخالفوهم في فروعهم، فهم منهم. وقطع العراقيون بحل مناكحتهم إذا قلنا: إنهم منهم، وكذلك القاضي الحسين في باب [عقد الذمة]، وتردد فيه الخراسانيون. ووجه المنع: أنهم كالمبتدعة في ديننا، ومبتدعة ديننا تحل مناكحتهم؛ لأمور سمعيّة [منعتنا من] ذلك وهي مفقودة في حقهم. وأمَّا غير اليهود والنصارى من أهل الكتب: كمن يؤمن بصحف إبراهيم وشيث، وزَبُور داود، فلا يحلُّ للمسلم مناكحتهم؛ لأن ما فيه مواعظُ، وليس بحُكْم. وقال في "التتمة": "حكمهم حكم المجوس". [وحكى القاضي أبو الطيب في "تعليقه" في باب "عقد الذمة" عن أبي إسحاق: أنه تحل مناكحتهم، وتحل ذبائحهم]. إذا تقرر ذلك فيكره نكاح من قلنا: يحل نكاحها، حربيّة كانت أو ذميّة، والكراهة في الحربيّة أشد؛ خشية من أن تسبى فيُسترَق ولده ولا يصدَّق بأنه مسلم. وقيل في الذمية: إنه لا يكره نكاحها، وهو ما حكاه الغزالي.

وحكى الإمام تردداً في [كراهة] نكاح الحربيّة عن الأصحاب، ونقل في "الحلية" للشاشي وجهاً عن بعض العراقيين: أنه لا يصح نكاح المسلم الحربية. وحكم حل ذبيحةِ من ذكر، ووطئه بملك اليمين إذا كان امرأة- حُكْمُ نكاحِهِ، والله أعلم. قال: "ويحرم على المسلم نكاح الأمة الكتابيّة"، أي: حرّاً كان أو عبداً؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]. ولأنه اجتمع فيها نقصانان لكل منهما أثر في المنع من النكاح، فلا يجوز للحرّ المسلم نكاحها كالمجوسية الحرة، والنقصان في الفرع: الكفر والرق، وفي الأصل: الكفر؛ ولأنها إن كانت لكافرٍ استُرِقَّ ولده، وإن كانت لمسلم لا يأمن أن ينقلها لكافر فيسترق ولده. ونقل في "الذخائر": أن بعض الأصحاب خرّج وجهاً في جواز نكاح الأمة الكتابية إذا كانت مملوكة لمسلم، وضعفه. وقيل: إن كان عبداً هل له نكاحها، وهل يحرم على الحرّ الذمي؟ فيه وجهان، أصحهما: الجواز، والصحيح: حلها للعبد الذمي. والمجوسيّة والوثنيّة هل تحل لأهل دينها؟ فيه وجهان محكيان في "الشامل". فرع: لو تزوج مسلم بحربيّة، فاسترقت وجوزناه على أحد الوجهين- فهل ينفسخ النكاح؟ [المذهب: أنّه ينفسخ،] وذُكر وجه غريب: أن النكاح لا ينقطع؛ [فإن] ذلك محتمل في الدوام. قال الغزالي في كتاب "السير": وهذا إن أُريد به أن يتوقف إلى إسلامها [قبل انقضاء] العدة فله وجه [ما]، وإلا فلا وجه له.

قال: "ولا يحرم وطؤها بملك اليمين"؛ لأنه يباح له وطء حرائرهن بملك اليمين، فيباح له وطء الإماء بملك اليمين، وللأمن [من] المحذور المانع من نكاحها، ولأن الاستباحة به أوسع؛ فإنه غير محصور. نعم، لو كانت الأمة مجوسية انبنى حلُّ وطئها على جواز نكاحها، وهل يملك السيّد إجبار [أمته] المجوسيّة والوثنية على الإسلام؟ فيه خلاف تقدّم ذكره عند الكلام في إجبار الذميّة على الغسل. قال: ويحرم على الحرّ نكاح الأمة المسلمة إلا أن يخاف العنت- أي: الزنى- ولا يجد، [أي] في الموضع الذي هو [فيه]، صداق حرّة، أي: مسلمة يمكنه وطؤها؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} [النساء: 25] إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25]، ولما روى عن جابر أنّه قال: من وجد صداق حرةٍ لا ينكح الأمة. وروي مثل ذلك عن ابن عباس، رضي الله عنهما. [والطَّوْل: السَّعة في الفضل، قاله ابن عباس]. والعنت: المشقة [الشديدة. ويقال: إنه الهلاك، والمراد به في الآية: الزنى، وسمي به؛ لأنه سبب المشقة] والهلاك بالحد في الدنيا، والهلاك في الآخرة بالعقوبة. وليس المراد بخوف الزنى: أن يغلب على ظنه الوقوع فيه، بل المراد: الذي يتوقعه لا على سبيل الندور. وليس غير الخائف: هو الذي يعلم الاجتناب عنه، لكن غلبة الظن بالتقوى والاجتناب تنافي الخوف؛ فمن غلبت شهوته ورقّ تقواه فهو خائف، [ومن ضعفت شهوته، وهو يستبعد الوقوع في الزنى لدينٍ أو مروءةٍ أو حياءٍ- فهو غير

خائفٍ]. وإن غلبت شهوته وتقواه، ففيه احتمالان للإمام: أظهرهما: أنه لا يجوز له نكاح الأمة. [والثاني: إن كان ترك الوقاع يجر ضرراً عظيماً أو مرضاً، فله نكاح الأمة]، وإلا فلا. قال مجلي حكاية عن الغزالي: وفي هذا التفصيل نظرٌ؛ إذ فرّق فيه بين الفاجر والتقي، [وسلط] الفاجر على الرخصة؛ [لسبب فجوره]، وقد ساواه التقي في الحاجة، وذلك بعيد. قال مجلي: ويمكن أن يجاب عنه بأن سبب الرخصة موجود في الفاجر، مأمون في التقى؛ فاختصّ الفاجر بها؛ فإن المعنى إذا عُقِلَ، ووقف الحكم عليه، تبعه في الثبوت والانتفاء. تنبيه: القيد الأول من كلام الشيخ يخرج المجبوب عن أن يجوز له نكاح الأمة؛ إذ لا يتصور منه الوطء مباحاً ولا حراماً، قاله الإمام والمتولي، وفي البحريّة للقاضي الروياني: [أنّ] للخصى والمجبوب نكاح الأمة عند خوف الوقوع في الفعل المأثوم به. ومن في ملكه أمة تحل له فلا يحل له نكاح الأمَة؛ لأنه مستغنٍ عن إرقاق ولده. وفي كتاب الحناطي [ذكر] خلاف فيه، ويمكن أن يكون مخرجاً [على] ما إذا قدر على شراء أمةٍ: هل يحل له نكاح الأمة؟ وفيه خلاف، والأصح- ولم يذكر في "التهذيب" سواه-: أنه لا يجوز. ومن تحته منكوحة يمكنه الاستمتاع بها فلا يحل له نكاح الأمة، وسواء كانت المنكوحة مسلمة أو كتابية، حرّة أو رقيقة؛ لأنه غير خائف للعنت، وحكى ابن كجٍّ وجهين في أن وجود الحرة الكتابيّة هل يمنع نكاح الأمة، [كالوجهين الآتي

ذكرهما في أن القدرة على نكاحها هل تمنع [نكاح] الأمة، أمَّا إذا لم يتيسر الاستمتاع بها كما إذا كانت: صغيرة، أو غائبة، [أو مجنونة]، أو مجذومة، أوب رصاء، أو رتقاء، أو قرناء، أو مفضاة لا تحتمل الجماع، فهل يجوز له نكاح الأمة؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو الأصح في "المهذب"، وبه أجاب ابن الصباغ وطائفة من العراقيين، واختاره القاضي الحسين على ما حكاه الرافعيّ-: أن له نكاح الأمة؛ [لأنه] لا غَنَاء في الحرة التي تحته ولا استغناء. والثاني- وهو الذي ذكره الإمام والغزالي والبغوي، واختاره القاضي الحسين على ما حكاه المتولي-: المنع؛ لأن نكاح الصغيرة والغائبة كنكاح البالغة والحاضرة في منع نكاح الأخت، فكذلك في منع نكاح الأمة، فعلى هذا: لا تُنْكح الأمة حتى تبين الحرة، وعلى الأول ليس له أن ينكح [أمة] مثل هذه الحرة. فرع: المجنون هل يجوز لوليه أن يزوجه أمةً؟ قال في "التهذيب": إن كان معسراً، ويخاف العنت جاز. وقال في "التتمة": فيه وجهان. ووجه المنع: أن فعل المجنون ليس بزنى، فهو لا يخاف العنت. ذكر ذلك عند الكلام في تزويج المجنون. قلت: ويتجه أن يكون مادة الخلاف: أن وطأه كوطء الشبهة حتى يلتحق به [النسب] أو لا؟ وفيه خلاف قدّمناه، والأصح الأول، ومقتضاه: عدم الجواز هنا. والقيد الثاني إن أجرى على عمومه دخل فيه: ما لو قدر على صداق حرّة كتابية، فلا يجوز له نكاح الأمة. وهو أصح

الوجهين، وقائله قال: لفظ "الإسلام" في الآية جرى على الأعم؛ فإن الغالب أن المؤمن إنما يرغب في المؤمنات، كما [جاء] في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى آخرها [الأحزاب: 49]؛ فإن المسلمة والكتابية في حكمهم سواء، ولأن الكتابية لا ترغب في نكاح المسلم إلا بأكثر من مهر المسلمة؛ فيكون من لا يقدر على مهر المسلمة لا يقدر على مهر الكتابية. وعن أبي الطيب: أن أبا إسحاق قطع به، وجعل في "الوسيط" الوجه المقابل له [أحسن أو] أظهر على حسب اختلاف النسخ. وما إذا قدر على مهر حرة قرناء أو رتقاء، وفيه وجهان بناهما المتولي. على أن وجودها في نكاحه هل يمنع من نكاح الأمة؟ فإن قلنا: يمنع، منع، وإلا فلا، وجزم الغزالي والبغوي بأن ذلك لا يمنع، وإن كان جوابهما المنع عند الوجود في النكاح. ويجري الخلاف في الرضيعة، وأولى بجواز نكاح الأمة، ويجري في المجنونة والمجذومة وأولى بالمنع؛ لإمكان الاستمتاع. وما إذا وجد صداق حرة، ولم يجد من ترضى به أصلاً؛ لنقصه، أو لم يكن في البلد من هي خالية من زوج، ولا نزاع بين الأئمة في أنه يجوز له نكاح الأمة. نعم: لو كانت توجد في بلد أخرى، أطلق بعضهم جوابه بجواز نكاح الأمة، وفصل أكثر الأصحاب فقالوا: إن كان يخاف العنت في مدة قطع المسافة، أو تلحقه مشقة ظاهرة بالخروج إليها- فله نكاح الأمة، وإلا فلا، وضبط الإمام المشقة المحتملة بأن ينسب محتملها في طلب الزوجة إلى الإسراف ومجاوزة الحد. ويخرج ما إذا كان يقدر على صداق حرة في بلد، وهو فاقد له في موضع إقامته؛ فإنه يجوز له نكاح الأمة؛ لأنه يصدق عليه أنه غير واجد كما في

التيمم، وكما يجوز صرف سهم ابن السبيل إليه ويخالف ما لو كان له زوجة غائبة؛ حيث لا يجوز له نكاح الأمة على أحد الوجهين؛ لأن فراق الزوجة الغائبة ممكن، ووصول المال الغائب في الحال غير ممكن؛ فشابهت غيبة ماله غيبة الرقبة المعروفة الوجود؛ فإنه لا يعدل إلى الصوم في الكفارة، بل يعتقها؛ [لأنه متمكن] منه. [وما لو] وجد حرة ترضى بدون مهر المثل، وهو واجد لذلك لا غير، أو بمهر مؤجل يغلب على ظنه قدرته عليه عند المحل، أو بيع منه بنسيئة ما يفي بصداقها، أو وجد من يستأجره بأجرة حالة، وقد حكى غيره في ذلك وجهين، أظهرهما: جواز نكاح الأمة كما اقتضاه لفظ الشيخ، إلا في الأولى؛ فإن الأصح [فيها] عدم الجواز؛ كما لو بذل له الماء بدون ثمن المثل، وقد أجرى مجرون الخلاف فيما [لو وجد من يقرضه] المهر، وقطع في التتمة بجواز نكاح الأمة؛ لأن القرض لا يلحقه الأجل، وما إذا رضيت بأن ينكحها بلا مهر؛ لأنها تطالبه بالقرض، وفي "شرح" أبي علي وجه: أنه يمتنع عليه نكاح الأمة، والله أعلم. فروع: القدرة بمال الابن- عند وجوب الإعفاف عليه- كقدرته بماله على أصح الوجهين. ولو كان في ملكه مسكن وخادم يحتاج غليهما، هل يجوز له نكاح الأمة أو عليه بيعهما، وصرفهما إلى طَوْل حرة إن كان يفي به؟ فيه وجهان حكاهما ابن كج، وإطلاق المتولي والبغوي يقتضي بيع الخادم؛ حيث قالا: ولو كان في ملكه محرمة عليه، وجب عليه بيعها. ولم يفصلا بين أن يحتاج إليها للخدمة أو لا. ولو وجد من بعضها حر وبعضها رقيق: فهل لو نكاح الأمة فيه احتمالان للإمام: ولا يجوز له نكاحها إلا حيث يجوز له نكاح الأمة.

ولو لم ترض الحرة التي وجدها إلا بأكثر من مهر المثل وهو يجده. قال في "الإبانة" حكاية عن القفال، وفي "الزوائد" حكاية عن الطبري، وفي ["الرافعي" عن] "التهذيب"-: إنه لا ينكح الأمة، وطردوا ذلك عنهم فيما إذا وجد الرقبة في الكفارة بثمن غالٍ؛ فإنه لا يجوز [له] أن يكفر بالصوم. وقال في "التتمة": له أن ينكح الأمة كما في المتيمم إذا لم يجد الماء إلا بأكثر من ثمن المثل؛ فإنه يجوز له أن يتيمم. وتوسط الإمام والغزالي فقالا: إن كانت المغالاة بقدر كبير [يعد] بذله إسرافاً، فله نكاح الأمة، وإلا فلا. والفرق بينه وبين مسألة التيمم: أن الحاجة إلى الماء تتكرر؛ فيحصل الضرر، بخلاف النكاح، ولأن النكاح يتعلق به أغراض كلية؛ فلا يعد باذل المال في مثلها مغبوناً. قال الغزالي في "البسيط": وهذا منشؤه أمر، وهو: أن نقصان الولي من مهر المثل في حق الطفلة والزيادة في حق الطفل مهما كان إلى حد يقدر غرض خاص في المواصلة، ويجعله الولي وسيلة إليها- فهو محتمل، وما انتهى إلى حد الإسراف فهو ممنوع. واعلم أن ما ذكره الرافعي عن صاحب "التهذيب" لم أَرَ كلامه في "التهذيب" مصرحاً به ولا مشيراً إليه؛ لأنه فرض المسألة فيما إذا كان في بلد وصداق الحرائر ببلد أخرى أرخص، وهو واجد لذلك، فإن لم تلحقه مشقة في الخروج، ولا يجوز له نكاح الأمة، وكذلك رقبة الكفارة إذا بيعت بثمنٍ غالٍ وهو واجد لا ينتقل إلى الصوم، فيحمل- أيضاً- على ما إذا كان ببلد آخر [أرخص]؛ لسياق ما تقدم من كلامه. وإذا كانت الصورة كذلك فليست الزيادة على بلد آخر زيادة على مهر المثل

وثمن المثل؛ فإن المعتبر في المتقومات ببلد التقويم لا غيره. ثم كلام الرافعي يدل على أنه نقل ذلك عن "التهذيب" في هذا الموضع؛ لأنه قال ها هنا: لا يعدل؛ و [قالي في الكفارات: يعدل. وذكر ما أورده هنا ذكر من ينقل وجهاً بعيداً أو تخريجاً غريباً، وأفهم أن بين الكلامين تناقضاً، [ولا تناقض] بينهما.

تنبيه: عدول الشيخ عن قوله: لا يقدر على نكاح حرة، إلى قوله: "ألا يجد صداق حرة"، وإن كان لا يشمل الصور [كلها]؛ لأن القدرة على نكاح [الحرة] تارة يكون في صورة لا يجوز له نكاح الأمة: كما إذا رضيت بمهر مؤجل، أو بغير مهر، ونظائر ذلك؛ فلذلك لم يذكره؛ حتى لا يشمل غير المقصود. واعلم أن بعض الأصحاب شرط شرطاً آخر: وهو أن تكون الأمة مملوكة لمسلم؛ خشية من أن يرق ولده المسلم للكافر، ولم يذكر الشيخ- رضي الله عنه- هذا: لأمرين: أحدهما: أن الأصح خلافه. والثاني: أن ذلك ليس لكونها أمته؛ بل لأمر خارج عن ذلك، ولو عد ذلك من شرائط نكاح الأمة للزم أن يُعد ألا تكون مملوكة لولده إذا جوزنا للأب نكاح الأمة، ولم يعد ذلك من جملة الشروط. وقد أبدى الشيخ مجلي في صورة المسألة إذا كانت الأمة مملوكة لكافر- نظيراً؛ فإن الكافر لا يجوز إقرار يده على المسلمة، والتزويج لا يغني في إزالة يده عنها؛ فكيف يتصور تزويجها من مسلم؟! ثم لو قدرنا التزويج فإنه يبيعها

بعد ذلك من مسلم؛ إذ لا يجوز بيعها إلا منه، أو عِتْقها فلا يسترق ولدها كافر. وهذه الشروط إنما تعتبر في ابتداء النكاح، أما في دوامه فلا، خلافاً للمزني في طرآن اليسار، وإذا نكح حرة بعد ما نكح أمة خاصة. فإن قيل: فما الفرق بين ذلك وبين إباحة أكل الميتة للمضطر؛ فإنه إذا وجد الحلال في أثناء الأكل حرمت الاستدامة؟ قلنا: لأن الأكل في كل وقت مبتدأ للأكل فلا يجوز مع وجود الحلال [في أثناء الأكل]، بخلاف النكاح؛ فإنه مستدام وصار هذا كالعدة، والردة، والإحرام تمنع الابتداء، ولا تمنع الدوام. فائدة: إذا جوزنا نكاح الأمة، فأتت بولد فهو رقيق، سواء كان الناكِح عربيّاً أو غير عربي. وفي "التهذيب" حكاية قول عن القديم: أن ولد العربي لا ينعقد رقيقاً، فعلى هذا: هل يغرم الناكح قيمته لسيد الأمة أم لا؟ فيه وجهان. قال: وإن جمع بين حرة، وأمة- أي: الحر- في عقد واحد، وهو ممن [يحل] له نكاح الأمة ففيه قولان: أحدهما: [أنه] يبطل العقد فيهما. والثاني: [لا يصح وهو الأصح في الحرة]، ويبطل في الأمة؛ لما عرف من قاعدة تفريق الصفقة.

وحكى الخراسانيون طريقة قاطعة: أن نكاح الحرة لا يبطل قولاً واحداً؛ لأن النكاح لا يفسد بفساد الصداق، وهو أحد جزأي العقد، فكيف [فسادٍ في] قرينِهِ؟! أما إذا كان ممن يحل له نكاح الأمة؛ بأن وجد حرة تسمح بمهر مؤجل أو بما دون مهر المثل وغيره، وقلنا: إن ذلك لا يمنع نكاح الأمة- فلا يصح أيضاً نكاح الأمة؛ لأنه لو صح لصح نكاح الحرة، والأمة لا تقارن الحرة كما لا تدخل عليها، وفي نكاح الحرة طرقان: أظهرهما عند الإمام- وبه قال صاحب "التلخيص"-: أنه على قولين، كما في الصورة الأولى. والطريق الثاني- وبه قال ابن الحداد، وأبو زيد، وآخرون-: يبطل جزماً؛ لأنه [لو] جمع بين امرأتين لا يجوز الجمع بينهما، ويجوز له نكاح كل واحدة منهما على الانفراد- بطل النكاحان؛ كما لو جمع بين أختين. قال الغزالي: وهو بعيد؛ لأن إحدى الأختين ليست أولى بالدفع، وها هنا الأمة أولى بالدفع؛ لأن نكاح الحرة يجوز أن يتقدم ويتأخر، ونكاح الأمة لا يجوز مع التأخر؛ فدل على ضعفه. وحكى في "الذخائر" طريقة ثالثة: أنه لا يبطل قولاً واحداً، وجزم الجرجاني بصحة نكاح الحرة والأمة في "المعاياة"، ولم أَرَهُ لغيره.

ولو جمع بين مسلمة ووثنية، أو أجنبية ومحرم، أو خَلِيَّة ومعتدة [أو منكوحة]- فهو كما لو جمع بين حرة وأمة، وإذا صححنا نكاح من تحل له فهل تستحق جميع المسمى، [أو مهر] المثل، أو ما يخص مهر مثلها من المسمى؟ فيه ثلاثة أوجه، أضعفها: الأول. فإن قلنا: إنها تستحق المسمى، فللزوج الخيار في فسخ النكاح والرجوع إلى مهر المثل؛ دفعاً للضرر عنه. قال الإمام: وهذا لا يخلص من إشكال؛ فإن مهر المثل قد يكون مثل المسمى أو أكثر منه، حكاه في باب تفريق الصفقة، فإن قلنا: مهر المثل، فلا خيار له. وإن قلنا: تستحق حصة مهر المثل من المسمى. فعن الشيخ أبي علي: أنه إن كان المسمى مما يمكن قسمته كالحبوب، فلا خيار له، وإن كان مما لا يمكن قسمته- كالعبد- فله الخيار؛ لتضرره بالتشقيص، فإن فسخ فعليه مهر المثل. تنبيه: محل القولين فيما إذا زوج منه ابنته وأمته، ووليه موكل في التزويج، فقال: زوجتك بنتي هذه وأمتي هذه بكذا، فقال: قبلت نكاحهما، أما لو قال: زوجتك هذه، فقال: قبلت نكاح هذه، وقبلت نكاح هذه، أو اقتصر على نكاح البنت- فنكاح البنت صحيح [لا محالة]، ونكاح الأمة صحيح في المسألة الأولى إن تقدم، فإن تأخر [فلا]، وفي المسألة الثانية لا يصح؛ لعدم القبول. ولو فصل المزوِّج، فقال الخاطب: قبلت نكاحهما- فالحكم كما لو

فصلا جميعاً، أو [كما لو] جمَعَا جميعاً. فيه خلاف، والأولى عند الإمام: الأول، وكذا الخلاف فيما لو جمع الموجب وفصل القابل. ولو جمع بين أختين وأمة، وهو ممن يحل له نكاح الأمة- فنكاح الأختين باطل، وفي نكاح الأمة الخلاف. ولو كان الناكح عبداً فلا يشترط في حقه شيء من الشرائط المذكورة، ويجوز له الجمع بين الحرة والأمة، ونكاح الأمة على الحرة؛ لأنه لا يتضرر برق ولده. ومن بعضه حر وبعضه رقيق، كالقن. قال: ويحرم على الرجل- أي: الحر- نكاح جارية ابنه؛ لأن له فيها شبهة يسقط الحد بوطئها، فلم يحل له نكاحها؛ كالأمة المشتركة بينه وبين غيره، وهذا سواء قلنا بعدم وجوب الإعفاف على الابن، أو قلنا به، وكان الأب لا يجب إعفافه في تلك الحالة؛ لقدرته على الشراء، وجوزنا له نكاح الأمة، أو [لو كان الابن] معسراً وله جارية [وهو] محتاج إليها للخدمة، أو كان يجب على الابن إعفافه. [ونقل] المزني في "المختصر" جوازه، قال بعض الأصحاب: ذلك مبني على عدم [وجوب] الإعفاف، وحمله بعضهم على ما إذا لم يجب الإعفاف؛ لإعسار الابن وغيره. قال الرافعي: والصحيح في هاتين المسألتين: أن ينبني جواز النكاح على أنه إذا أولد جارية ابنِه: هل تصير مستولدة [له]؟ إن قلنا: نعم، لم يجز له نكاحها؛ كما لا يجوز أن ينكح جارية نفسه، وإن قلنا: لا تصير أمَّ ولد جاز. [فتحرر بذلك] في المسألة ثلاثة أقوال: المذهب منها: عدم الجواز المطلق. والثاني: الجواز المطلق.

والثالث: إن كان الأب لا يجب إعفافه، ولم يجعلها أم ولد [له] جاز، وإلا فلا. أما الأب الرقيق فيجوز له نكاحها قولاً واحداً؛ ولذلك يجوز للولد نكاح جارية [أبيه] إذا وجدت بقية الشرائط. فرع: إذا جوزنا له نكاح جارية ابنه، فأولدها- قال الشيخ أبو حامد والعراقيون، وتابعهم [الشيخ] أبو علي، وصاحب "التهذيب" وغيرهما: إنها لا تصير أم ولد [له]؛ لأنه رضي برق ولده حين نكحها، ولأن النكاح حاصل محقق؛ فيكون واطئاً بالنكاح لا بشبهة الملك، بخلاف ما إذا لم يكن نكاح. وعن الشيخ أبي محمد- وإليه ميل الإمام-: أنه يثبت الاستيلاد وينفسخ النكاح. ويحرم عليه نكاح جارية مكاتبه؛ لما له في ماله من شبهة الملك، وكذلك لو أحبلها صارت أم ولد له. قال: ونكاح جاريته، أي: وجارية يملك بعضها؛ لتناقض أحكام الملك، [والنكاح والملك لا يوجب القَسْم، ولا يصح فيه حكم من أحكام النكاح] من طلاق ولا ظهار ولا إيلاء ولا غير ذلك، والنكاح يقتضي ذلك؛ ولأن نفقة الزوجة تقتضي التمليك، فلو ملكها النفقة لملك نفسه؛ إذ الأمَةُ لا تملك، وإذا تناقضت الأحكام [لم يمكن الجمع بينهما؛ فيثبت] الأقوى، ويسقط الأضعف، وملك اليمين أقوى؛ لأنه يملك [به] الرقبة والمنفعة، والنكاح لا يُمْلك به إلا ضرب من المنفعة. قال: ويحرم على العبد نكاح مولاته؛ لتضاد الأحكام أيضاً؛ لأن النكاح يوجب للمرأة على الزوج المهر والنفقة والكسوة، والملك يدفع ذلك ويوجبه للعبد، ولأنه يطالبها بالسفر معه إلى المشرق؛ لأنها زوجته، وهي تطالبه بالسفر إلى

المغرب؛ لأنه عبدها، وإذا دعاها إلى فراشه بحق النكاح [بعثته في أشغالها] بحق الملك، وإذا تعذر الجمع بينهما بطل الأضعف، وثبت الأقوى. قال: وإن تزوج جارية أجنبي، ثم اشتراها، [أي: أو بعضها]- انفسخ النكاح؛ لما تقرر أن ملك اليمين والنكاح لا يجتمعان، ويقدم ملك اليمين؛ لقوته، وهذا بخلاف ما إذا استأجر عيناً ثم اشتراها؛ فإنه لا تنفسخ الإجارة على الأصح؛ لأنه لا مناقضة بين ملك العين والمنفعة. فرع: لو فسخ البيع في زمن الخيار، قال في "الحاوي" في كتاب البيع: إن قلنا: إنّ الملك للبائع، أو موقوف- فالنكاح بحاله، وإن قلنا: إنّ الملك للمشتري، فوجهان، أحدهما: أنه لا ينفسخ، وهو ظاهر النص، وإذا قلنا: لا ينفسخ، فهل يحل له وطؤها في زمن الخيار؟ فيه وجهان، ظاهر النص: أنه لا يجوز، وفي "الوسيط" في كتاب الإقرار: أنا إن قلنا: إن الملك للبائع، حل له الوطء، وإن قلنا: إنه للمشتري، فلا؛ لأنه ملك ضعيف، فيمنع من الوطء لبقاء خيار البائع، وإن قلنا: إنه موقوف، فلا يحل [له]؛ لأنه لا يدري أيطأ زوجته فيحل، أو مملوكته بملك ضعيف فلا يحل. وقد ظهر بمجموع ما ذكرناه أن النكاح لا ينفسخ بمجرد الشراء، على الظاهر من النص عند الماوردي؛ إذ المبيع ينتقل إلى المشتري بنفس العقد على الصحيح، وعند الغزالي ينفسخ بنفس العقد؛ [تفريعاً على أن المبيع ينتقل بنفس العقد] وهو ما ادعى الإمام أنه المشهور؛ تفريعاً على هذا القول في الفروع المسلة في كتاب الطلاق. وحكم العبد إذا مَلَّكه السيدُ مالاً، وقلنا: إنه يملك، وأذن له في ابتياع زوجته، فابتاعها- في انفساخ النكاح- حكم الحر، صرح به ابن الصباغ عند الكلام في تزويج العبد.

قال: وإن اشتراها ابنه، [أي]: والأب لا يجوز له نكاح الأمة ابتداءً- فقد قيل: ينفسخ؛ لأن ملكه كملكه في [إسقاط الحد، وثبوت الاستيلاد، والمنع من الابتداء، وكان كملكه في] إبطال النكاح إذا طرأ. وقيل: لا ينفسخ، وهو الأصح، واختيار ابن الحداد، وبه أجاب الغزالي؛ لأنَّ الأصل في النكاح الثابت الدوام، وللدوام من القوة ما ليس للابتداء، وصار هذا كالعدة تمنع الابتداء ولا تقطع الدوام، وليس كطرآن الملك على الزوجة؛ لأنه [لا] تناقض في الأحكام ها هنا. والوجهان جاريان فيما لو نكح جارية ابنه وهو رقيق، ثم عتق: هل ينفسخ النكاح؟ فإن قلنا: لا ينفسخ، فأتت بولد، فحكمه حكم ما إذا جوزنا النكاح في الابتداء. ويجري الوجهان فيما لو ملك الأمة مكاتب الزوج، قاله في "التتمة"، وقضية هذا الإطلاق ترجيح عدم الانفساخ، [وبه قال أبو سعد الهروي، ومنهم من رجح الانفساخ] هنا، وهو الأشبه؛ لأن المال الذي في يد المكاتب إما ملك للسيد- كما سنذكره عن بعضهم في كتاب الأيمان- أو مملوك للمكاتب، وتعلقه به فوق تعلق الأب بمال الابن. قال: وإن تزوجت الحرة بعبد، ثم اشترته- انفسخ النكاح؛ [لما تقدم]. وذكر الشراء في هذه [المسائل جرى] على الأعم الغالب، وإن كان حصول الملك في المنكوحة بأي سبب كان، كالشراء في انفساخ النكاح. قال: وتحرم الملاعنة على من لاعنها، أي: سواء كانت صادقة أو كاذبة في الظاهر والباطن؛ لما روى [عن] ابن عباس- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَداً"، وحكى أبو الفرج: أن الفرقة لا

تحصل باطناً إذا كانت هي صادقة. قال: والمطلقة ثلاثاً على من طلقها، أي: قبل أن تنكح زوجاً غيره سواء كان الطلاق في نكاح واحد أو أكثر، بلفظ واحد أو أكثر، قبل الدخول أو بعده؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، والمراد: الطلقة الثالثة، على ما سنذكره من بعد إن شاء الله تعالى. والعبد إذا طلق زوجته طلقتين، كالحر إذا طلق ثلاثاً؛ لأنه استوفى ما ملكه من الطلاق، فلو عرضت الحرية بعد ذلك لم تؤثر على الأصح، وفي "الوسيط" وغيره حكاية وجه: أن له أن ينكحها. قال: ويحرم على الرجل نكاح المُحْرِمة، أي: وإن كان هو والمزوِّج حلالَيْن؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "الْمُحْرِمُ لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكِحُ"، وكل من الزوجين يسمى ناكحاً. قال في الذخائر: فإن قيل: فهلا جوزتموه كتزويج الحائض؛ لأن أكثر ما فيه أنه ممنوع من وطئها، وذلك لا يمنع صحة العقد. قلنا: لم نمنعه في حق المحرمة لكونها ممنوعة الوطء بل للإحرام، [والإحرام] اقتضى المنع من الوطء؛ لكونه مفسداً له، والنكاح لمّا كان سبباً [إليه] منع منه؛ [إذ لا يتم] الوطء المفسد إلا به، بخلاف الحائض؛ فإن وطْأَها غيرُ مفسد للحيض، وإنما مُنِعَ للأذى؛ فلم ينتصب مانعاً من سبب الوطء. قال: والمعتدة من غيره؛ لقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]، ولأن العدة وجبت لحفظ النسب؛ فلو جوزنا فيها النكاح لأعقبه حِلُّ الوطء؛ إذ لا يتأخر عنه؛ فيؤدي إلى اختلاط النسب، ويبطل المقصود، ثمّ إذا كان نكاح من هي في عدة الغير حراماً، فنكاح من هي زوجة الغير أولى، ولم يذكر الشيخ ذلك؛ لاستغنائه بمسألة العدة. [فرع: حكاه الإمام في كتاب الإقرار: إذا ادعت المرأة أنها زوجة فلان، فقال

الزوج: ما نكحتك قط، ففي حرمة النكاح لها وجهان، حتى يجوز لها- في وجه- أن تنكح]. قال: ويكره له نكاح المرتابة بالحمل، أي: التي اعتدت بالأقراء أو الأشهر، ثم رأت أماراتِ الحمل، مثل: ارتفاع البطن، أو حركته مع وجود الدم، وشككنا هل هو حمل أم لا؟ وكانت الريبة حاصلة بعد الحكم بانقضاء العدة ظاهراً؛ لأنه لا يؤمن أن يكون حملاً؛ فيكون النكاح باطلاً. قال: فإن نكحها فقد قيل: يصح، وهو قول الإصطخري وأبي إسحاق، والصحيح في "المهذب"؛ لأنا حكمنا بانقضاء العدة فلا ننقضه بالشك؛ كما لو حصلت الريبة بعد النكاح، فعلى هذا: لو أتت بولد لدون ستة أشهر من حين العقد، تبين بطلان النكاح، وقيل: لا يصح وهو قول ابن سريج؛ لأنها لا تدري أَعِدَّتُها بالأقراء أو الأشهر، وقد حلت بمضيِّهما، أو بوضع الحمل ولم تحل بعد؛ فلا تنكح إلا بيقين، كما لو كان ذلك في أثناء العدة. ومن الأصحاب من نقل في المسألة قولين، فاختلف الصائرون إلى ذلك: فمنهم من قال: هما مبنيان على القولين في وقف العقود، فإن قلنا: لا توقف، فالنكاح باطل، وإلا [كان] العقد موقوفاً. قال الشيخ أبو علي: وهذا فاسد؛ لأن العقود لا توقف على الجديد، والقول بالوقف هنا منقول عن الجديد. ومنهم من بناهما على الخلاف فيما إذا باع مال أبيه على ظن حياته، فبان موته، أو على القولين فيمن شك في عدد الركعات بعد الفراغ من الصلاة: هل يؤمر بالتدارك؟ ويحكي هذا عن القفال. قال الفوراني: فعلى هذا: لا فرق بين أن يرتاب بعد الأقراء أو في خلالها. فيحصل في المسألة ثلاثة طرق: القطع بالجواز، القطع بالمنع، طرد قولين. قال: ويحرم على الحر أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة؛ لما روى عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أن غيلانَ أسلم على عشر نسوة، فقال له

النبي- صلى الله عليه وسلم-: "أَمْسِكْ أَرْبَعاً، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ"، وروى أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة، فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم-: " أَمْسِكْ أَرْبَعاً، وَفَارِقِ الْأُخْرَى". ويجوز أن يجمع بين امرأتين أو ثلاث أو أربع من الحرائر؛ لقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، ولم يُرِدِ الجمع، بل التخيير؛ ألا ترى قوله تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1]؟! فلو جمع بين خمس فصاعداً نظر: فإن جمع بينهن في عقد واحد بطل الكل، وقال في "الذخائر": بطل نكاح الخامسة، وفي نكاح الأربع قولان؛ بناءً على القولين في تفريق الصفقة، فإن قلنا بالصحة فإن الخامسة لا تتعين؛ فيكون له أن يعين الفسخ في واحدة منهن، فإذا عين في واحدة بقي من سواها على الزوجية؛ كما لو طلق إحدى نسائه، والحكم قبل التعيين على ما يذكر في المطلقة المبهمة. وهذا الذي ذكره في غاية الضعف؛ فإن الشهادة في النكاح شرط، ومع الإبهام لا تُتصور، ولأن الرجعة أسهل من ابتداء النكاح، وهي لا تقبل الإبهام على الأصح؛ فالنكاح أولى، والخلاف الذي في تفريق الصفقة مفروض فيما إذا تميز ما يجوز العقد عليه من غيره، وهنا بخلافه. وإن نكحهن على الترتيب بطل نكاح الزائدات على الأربع الأوليات. ولو نكح واحدة في عقد، واثنتين في عقد، وثلاثاً في عقد- قال ابن الحداد: يصح نكاح الواحدة، ويبطل [نكاح] الباقيات. وقال الشيخ أبو علي [في "الشرح"]: ما ذكره ابن الحداد غلط عند عامة الأصحاب؛ بل يصح مع نكاح الواحدة نكاح الاثنتين أو الثلاث، لكن لا يعرف الصحيح [منهما]؛ فيوقف الأمر ويسأل

الزوج: فإن ادعى سبق الاثنتين وصدَّقَتاه، ثبت نكاحهما مع الواحدة، وإن ادعى سبق الثلاث وصدقْنَهُ، فكذلك، ولو قال الزوج: لا أدري- ولم يبين- فلهن طلب الفسخ، وإن رضين بالصبر لم ينفسخ، وعلى الزوج نفقة جميعهن في مدة التوقف. وقال مجلي: هذه المسألة تنبني على المسألة قبلها: فإن قلنا في المسألة الأولى: يبطل نكاح الخامسة دون الأربع، فلا نستيقن في هذه الصورة أيضاً نكاح الواحدة؛ لاحتمال سبق نكاح الخمس قبلها؛ فيبطل في واحدة منهن، ويصح نكاح الأربع. وإن قلنا: لا يصح في الخمس، فقد تحقق صحة نكاح المفردة. ولو نكح خمساً في عقد، وفيهن أختان بطل نكاحهما، وفي [نكاح] الثلاث قولاً تفريقِ الصفقة. وإذا أبان الأربع جاز له أن ينكح بدلهن إن كن في العدة، وكذلك الواحدة، أما إذا كان [الطلاق] رجعيّاً لم يَجزْ حتى تنقضي عدة الرجعية، فلو ادعى انقضاء عدتها، وأنكرت [هي] فعلى ما تقدم في نكاح الأخت على الأخت. قال: وله أن يطأ بملك اليمين ما شاء؛ لأن الله تعالى أطلق فقال: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ولم يحصره في عدد، ويفارق الزوجات؛ لأن مقصود النكاح الاستمتاع والألفة والمؤانسة، بدليل أنها لو وجدته مجبوباً أو مجنوناً ثبت لها الخيار. وإذا بات عند واحدة من الزوجات ليلة وجب قضاؤها للبواقي، والزيادة على أربع زوجات تفوِّت الألفة والمؤانسة المقصودة؛ فلذلك منع منها، وجوز له الشرع [نكاح] الأربع؛ لأنه إذا بات عند واحدة ليلة غاب عنها ثلاث ليالٍ، والثلاث مدة قريبة. قال: ويحرم على العبد أن يجمع بين أكثر من امرأتين؛ لما روى أنه- صلى الله عليه وسلم-

قال: "لَا يَتَزَوَّجِ الْعَبْدُ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ"، رواه عبد الحق، ولما روى الحكم بن عتيبة قال: أجمع أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-[على] ألا ينكح العبد أكثر من امرأتين. وأما الآية [فإنها] تدل على إرادة الأحرار، وأيد ذلك قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]، وقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] وكل ذلك يليق بالأحرار. فإن قيل: [هذا طريقه] الشهوة واللذة؛ فيجب أن يستوي فيه الحر والعبد كالمأكول. قيل: المأكول لم يبن على التفضيل؛ فاستوى فيه الحر والعبد، والنكاح مبني على التفضيل؛ ولهذا فارق النبي صلى الله عليه وسلم أُمَّتَه؛ فأشبه الطلاق. فرع: هل [يجوز] له أن يطأ بملك اليمين إذا ملَّكه السيد جارية، وقلنا: إنه يملكها؟ الذي حكاه ابن الصباغ في كتاب البيع: أنه يجوز، وحكى [في كتاب النكاح: جوازه بإذن السيد؛ لأنه وإن كان العبد قد ملكها، فقد تعلق بها حق السيد، ولأن له أن ينتزعها من يده لا بفسخ عقد، وحكى] الإمام ثَمَّ: أنه إن أذن له السيد في التسرِّي [فالذي ذهب إليه الجمهور أنه يجوز، وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أنه لا يتسرى]، أما إذا لم يأذن له في التسري فلا يتسري، وفيه وجه [ضعيف]: أنه يجوز.

ثم إذا وطئها فأتت بولد، فالولد ملك له، ولا يعتق عليه؛ لضعف ملكه، فإن عتق عتق الولد. وهذا في الرقيق كله، أما من بعضه حر وبعضه رقيق إذا اشترى بما يملكه ببعضه الحر جاريةً، فهل له أن يطأها؟ [قال في "التتمة": ظاهر المذهب- كما نص عليه- أنه لا يجوز؛ فإنه قال: ولا يشتري العبد، ولا من لم تكمل فيه الحرية. وفيه قول آخر: أنه يباح له أن يطأ؛ وذلك مبني على أصلٍ، وهو أنه إذا مات: هل يورث عنه ما ملكه أم لا؟ إن قلنا: لا ينصرف إلى سيده، أو بعضه لسيده وبعضه لورثته- فقد علقنا حقَّ السيد بماله، وذلك علامة نقصان ملكه؛ فلا يباح له الوطء. وإن قلنا: يصرف ماله إلى ورثته أو إلى بيت المال- فلا نجعل للسيد في ماله حقّاً، فيباح له الوطء. إلا أن من أصحابنا من قال: لابد من إذن السيد. قلت: وكذلك قال غيره]: [إنه ينظر: فإن] لم يأذن له مالك بعضِهِ الرقيقِ- لم يجز؛ لأن الوطء يقع بجميع بدنه، ولا يختص ببعض الحر، وقال ابن الصباغ: إلا أنه لا حاجة إلى إذن السيد، كما أنه يأكل كسبه ويتصرف فيه، فإن أذن السيد وفرعنا على أنه لابد من إذنه: فعلى القديم يجوز، وعلى الجديد لا يجوز؛ لأن ما فيه من الملك يمنع [من] التسري، والمكاتب لا يتسري بغير إذن السيد، وبإذنه قولان؛ بناءً على الخلاف في تبرعاته، حكاه الرافعي في آخر الفصل الخامس من الفصول بعد النكاح. قال: ولا يصح نكاح الشغار، وهو أن يزوج الرجل وليته من رجل على أن يزوجه ذلك وليته، ويكون بضع كل واحدة منهما صداقاً للأخرى، أي: وقَبِلَ الآخر، أو قال مثله. الشِّغار- بكسر الشين- مأخوذ من قولهم: شَغَرَ البلدُ عن السلطان؛ إذا خلا؛

فسمى هذا النكاح به؛ لخلوه عن المهر؛ أو لخلوه عن بعض الشرائط. وقيل: من قولهم: شغر الكلب برِجْله، إذا رفعها ليبول، وسمي هذا النكاح به؛ لأنه رفع عن المهر، أو لأن كل واحد منهما رفع رجله للآخر عما أراد. وفي بعض الشروح: أن الكلب إذا كان يبول حيث يصلُ من غير مبالاة، قيل: شغر الكلب برجله؛ فسمى هذا شغاراً؛ لعدم المبالاة فيه بالمهر، وقيل: سمي شغاراً لقبحه؛ تشبيهاً له برفع الكلب رجله. والأصل فيه ما روى عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى عن الشغار، وفسره بأن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، وليس بينهما صداق. ويروي: "وَبُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقُ الْأُخْرَى"، ويروى عن [ابن] أبي هريرة مثل الأول، وأنه ذكر التفصيل موصولاً بالحديث. قال الأئمة: وهذا التفسير يجوز أن يكون مرفوعاً، ويجوز أن يكون من تفسير الراوي، وهو أعلم بتفسير الخبر من غيره. وذكر في [طريق] المعنى أن قوله: زوجتك ابنتي، يقتضي تمليك الزوج بُضعها، فإذا قال: وبضع كل واحدة [منهما] صداق الأخرى، تضمن تمليك المرأة بضعها، وليس يملك تمليكها إلا بعد الاسترجاع من الأول؛ فكأنه رجع عما أوجب قبل القبول، وهو يملك ذلك؛ فبطل العقد، ولأن فيه تشريكاً في البضع، لأن كل واحد منهما جعل بضع مُوَلِّيَتَهُ مَوْرِداً للنكاح، وصداقاً للأخرى؛ فأشبه ما لو زوج امرأة من رجلين.

وربما شبه ذلك بما إذا نكحت الحرة عبداً؛ على أن تكون رقبته صداقها؛ فإنه لا يصح النكاح، وكما لا يجوز أن يكون الرجل ناكحاً وصداقاً، لا يجوز أن تكون المرأة منكوحة وصداقاً. وقد يعترض على ذلك، فيقال: المفسد هو التشريك من جهة واحدة، إذا زوجها من رجلين، وهذا التشريك بجهتين مختلفتين؛ فيشبه أن يلتحق بما إذا زوج أمته ثم باعها، أو أصدقها امرأة. وأما المسألة الأخرى، فسبب البطلان فيها: ملكُ الزوجةِ الزوجَ، وهذا المعنى لو عَرَضَ رُفع النكاح؛ فإذا قارن ابتداءه منع الانعقاد. وقال القفال: إن سبب البطلان التعليق والتوقيف؛ فلا يبطل ما لم يضم إليه: ومهما انعقد نكاح [ابنتي، فقد انعقد لي نكاح] ابنتك؛ إذ هو المراد من الشغار، مأخوذ من قولهم: شغر الكلب رجله، أي: لا ترفع رجل ابنتي حتى أرفع رجل ابنتك، وكان ذلك [من] عادة العرب؛ لأَنَفَتها من التزويج. هكذا حكاه ابن يونس عنه، وفي كلام الغزالي في "الوسيط" [ما يدل] عليه، ثم قال: لو اقتصر على شرط التزويج في العقد وعلى إصداق البضع صح العقد؛ لأن عقد النكاح لا يفسد بالشرائط الفاسدة، وما ذكره القفال أقيس، وما ذكره الجمهور إلى الخبر أقرب، وظاهر كلام الرافعي أن القفال استنبط ذلك من قوله: على أن تزوجني ابنتك؛ إذ من عادة العرب ذلك؛ لأجل أنفتها، وإلا فتفسير الشغار في الخبر ليس فيه تعليق. وقال في "التتمة": إِنْ قَصَدَ بذلك تعليق الانعقاد بالانعقاد، ووجد ما يدل صريحاً أو كناية- فالعقد باطل، وإن قصد به المواصلة، أو قصد [به] إخلاء النكاح من الصداق؛ حتى لا يُلْزَم بَذْلَ مَالٍ- فالنكاح صحيح، ولكل واحدة مهر المثل، فلو قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني [ابنتك]، وقَبِلَ الآخر، ولم يجعل البضع صداقاً- فأصح الوجهين: الصحة؛ إذ لم يوجد تفسير الشغار في

الخبر، ولم يتحقق التشريك؛ فعلى هذا: لكل واحدة مهر المثل. قال في "التتمة": وقال القفال: إن قصد تعليق العقد بالعقد لا يصح، وإن لم يقصد ذلك صح. وخصص الإمام الوجهين الأولين بما إذا كانت الصيغة هذه، ولم يذكر مهراً. وقطع بالصحة فيما إذا قال: زوجتك ابنتي بألف على أن تزوجني ابنتك، وقال: ليس الفرق لذكر المهر، لكنه جاء في بعض الروايات أنه- عليه السلام- نهى عن نكاح الشغار، وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه صاحبه ابنته؛ ففسر بهذا القدر من غير مزيد. قال الرافعي: ولك أن تقول: هذا التفسير حاصل، سواء ذكر المهر أو لم يذكره؛ إذ ليس فيه تعرض [لترك المهر، كما ليس فيه تعرض] لذكره، فلا يصلح مستنَداً للفرق. ولو قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، وبضعُ ابنتك صداقُ ابنتي، فَقَبِلَ- صح الأول، وبطل الثاني. ولو قال: وبضع ابنتي صداق ابنتك، صح الثاني، وبطل الأول؛ نظراً لمعنى التشريك. ولو قال: زوجتك ابنتي بألف على أن تزوجني ابنتك بألف، وبضع كل واحدة منهما صداق للأخرى وألف درهم- فوجهان: [أحدهما]- وهو ظاهر [لفظ] "المختصر"-: أنه صحيح؛ لأنه ليس على تفسير لفظ "الشغار". وأصحهما: البطلان؛ لقيام معنى التشريك والتوقيف، ويحكى هذا عن نصه في "الإملاء". ولو قال: زوجتك جاريتي على أن تزوجني ابنتك، وتكون رقبة جاريتي صداقاً لابنتك- قال في "الشامل": صح النكاحان؛ لأنه لا تشريك فيما يَرِدُ عليه عقد النكاح، ويفسد الصداق، ولكل واحدة مهر مثلها.

وقال في "التتمة": تملك البنت رقبة الجارية عن صداقها، ويجب على الأب مهر الجارية لسيد الجارية؛ لأنه هو العاقد عليها في حال قيام الملك في الرقبة. وفرّع [على] ذلك فقال: لو قال: تزوجت ابنتك على رقبة جاريتي، وزوَّجتك جاريتي، فقال في الجواب: زوجتك بنتي وتزوجت جاريتك- فنكاح الجارية لا يصح؛ لأن الملك في الجارية بالتزويج انتقل إلى البنت؛ فلا يجوز أن يقبل نكاح الجارية؛ لأن الإيجاب بطل فيها بنقل الملك، قال الرافعي: ويجيء على معنى التعليق والتوقيف أن يحكم ببطلان النكاحين. ولو طلق امرأته على أن يزوجه صاحبه ابنته، ويكون بضع امرأته صداقاً لها، وزوجه صاحبه على ذلك- حكى ابن كج فيه وجهين: أحدهما: يفسد النكاح؛ لخلوه عن الصداق. والثاني: أنه يقتصر الفساد على الصداق. ولو قال: زوجتك ابنتي على أن [يكون] بضعك صداقها- يعني: بضع الزوج- قال [في "التتمة"]: من أصحابنا من قال: يصح النكاح؛ لأنه ليس فيه تشريك ولا رجوع عما أوجب للزوج قبل قبوله، ومنهم من قال: العقد باطل؛ لأنه يتضمن حجراً عليه في الاستمتاع لو ملكته؛ إذ لا يجوز الانتفاع بملك الغير إلا بإذنه. قال: ولا يصح نكاح العبد- أي: لحرة- على أن تكون رقبته صداقاً للمرأة؛ لأنه لا طريق لإبطال التسمية وحدها؛ لأن السيد من أهل التمليك، والرقبة قابلة لنقل الملك، وهي من أهل التمليك، وسبب التمليك قد صح؛ فلا وجه لبطلان الملك، ولو صححنا التسمية لصارت مالكة لزوجها، وملك رقبة الزوج في الدوام يقطع النكاح؛ فملك الابتداء أولى. وقال في "النهاية" في فصل الضيافة في ضمن فرع: وكنت أود لو ذهب ذاهب

إلى صحة النكاح وفساد الصداق، ثم إن كان فالرجوع إلى مهر المثل أو إلى القيمة، [ولكن] لم يَصِرْ إلى هذا صائر، والتعويل في المذهب على النقل. وقال في "التتمة]: وعن بعض أصحابنا بالعراق- وهو ما ذكره ابن الصباغ بدليل الشغار-: أنه يصح النكاح، ويفسد الصداق، ويجب مهر المثل كما لو أصدقها خمراً، أما إذا كانت الزوجة امة فالنكاح والصداق صحيحان؛ إذ لا تضادَّ. [وقول] الشيخ: "للمرأة"، يخرج ذلك؛ إذ الصداق في هذه الصورة للسيد. قال: ولا نكاح المتعة، وهو أن يتزوجها إلى مدة، أي: سواء كانت المدة معلومة بأن ينكحها إلى شهر، أو مجهولة بأن ينكحها إلى قدوم زيد، وإذا انقضت المدة بانت منه، وسمي بذلك؛ لانتفاعها بما يعطيها وانتفاعه بها بقضاء شهوته [دون قصد التوالد وسائر أغراض النكاح]، وكل ما انتفع به فهو متاع ومتعة. وقد كان هذا العقد جائزاً في ابتداء [الإسلام] ثم نسخ، وروى عن ابن عباس جوازه، وتابعه السبعةُ وابن جريج، وقيل: إن ابن عباس رجع عنه، ودليلنا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5، 6]، وهذه خارجة عن القسمين؛ فوجب حفظ الفرج [عنها]، وما روى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه أنه- عليه السلام- قام بين الركن والباب في حجة الوداع، فقال في كلام: "كُنْتُ [قَدْ] أَذِنْتُ [لَكُمْ] فِي الاسْتِمْتَاعِ مِنْ هَذِهِ النِّسْوةِ، أَلَا وَإِنَّ اللهَ [قَدْ] حَرَّمَ ذَلِكّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَةِ؛ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَاخُذُوا مِمَّا آتيْتُمُوهُنَّ

شَيْئاً" رواه البخاري ومسلم، قاله في "التتمة". وقد روي عن علي- كرم الله وجهه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى عَامَ خَيْبَرَ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ". وإذا وطئ في نكاح المتعة جاهلاً بفساده فلا حد، وإن كان عالماً انبنى على أنه لو اختلف أهل عصر في مسألة، ثم اتفق من بعدهم على أحد القولين فيها- هل يصير ذلك مجمعاً عليه؟ وفيه خلاف في الأصول: إن قلنا: نعم، وجب، وإلا فلا يجب على الأصح، كما في سائر الأنكحة المختلَفِ فيها، وحيث لا يجب الحد يجب المهر والعدة، ويثبت النسب. فرع: لو قال: نكحتها متعة، ولم يزد على هذا- حكى الحناطي [في صحته] وجهين. قال: ولا نكاح المحلِّل، وهو أن ينكحها ليُحِلَّها للزوج الأول، أي: مع شرط ذلك في العقد، وكذا لو شرط أنه إذا وطئها فلا نكاح بينهما؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "لَعَنَ اللهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ"، وروي أنه قال: "هُوَ التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ"، ولا يقول هذا لمن

صح نكاحه، ولأنه نكاحٌ شُرِطَ قَطْعُهُ دون غايته، فبطل كنكاح المتعة. وإن وجد الشرط قبل العقد، فالأصح الصحة. ومأخذ الخلاف في مهر السر والعلانية، وسنذكره إن شاء الله تعالى. فإن عقد لذلك، ولم يشترط في العقد، ولا قبله- كره ولم يفسد العقد. فائدة: تشبيه المحلل بالتيس المستعار دون غيره من الحيوانات؛ لأن التيس فيه منفعة سوى منفعة الإنزاء، بخلاف غيره. قال: وإن تزوجها على أنه إذا حللها طلقها، ففيه قولان: أحدهما: أنه يبطل؛ لأنه شَرْطٌ يمنع صحة دوام النكاح؛ فأشبه التأقيت، وهذا

هو الأصح في "الرافعي"، وظاهرُ المذهب في "النهاية"، والجديد في "التهذيب"، وقال في "التتمة" و"الشامل" و"الذخائر": إنه القديم، ومقابله هو المنصوص عليه في عامة كتبه. قال: والثاني: لا يبطل؛ لأنه شرط فاسد قارن العقد؛ فلا يبطل به، كما لو نكحها بشرط ألا يتزوج عليها أو لا يسافر بها، وعلى الأول [هل] يحصل به التحليل؟ فيه قولان، وموضع استقصاء ذلك باب الرجعة. قال: وإن تزوج بشرط الخيار، أي: في النكاح- فالعقد باطل؛ لأنه عقد معاوضة لا يثبت فيه خيار الشرط فيفسد بشرطه كالصرف، وإنما قلنا: إنه لا يثبت فيه الخيار؛ لأن الأصل في عقود المعاملات اللزوم، وإنما جوز في البيع؛ رخصة للحديث المشهور؛ لأنه يقع في الغالب بغتةً؛ فاحتيج فيه لإثبات الخيار حتى ينظر هل يصلح له أم لا؟ فيدفع عن نفسه الغَبِينة، والغالب في الأنكحة أنها تقع بعد تَرَوٍّ وتأمل؛ فاستغنى عن اشتراط الخيار فيها، وقد صرح الإمام بهذه العلة قبل باب: الأمة تعتق بورقتين. أما إذا شرط الخيار في الصداق دون النكاح فهل يصحان ويثبت في الصداقِ الخيارُ، أو لا يصحان، أو يصح النكاح دون الصداق؟ فيه خلاف، والأصح الأخير، ووجهه: أن الصداق لا يتمحض عوضاً، بل فيه معنى النِّحْلة؛ فلا يليق به الخيار، والمرأة لم تَرْضَ بالمسمى إلا بشرط الخيار؛ فبطل الصداق، والنكاح لا يفسد بعدم الصداق؛ فبشرطٍ فاسد [فيه] أولى، وإذا قلنا بثبوت الخيار فهل يثبت فيه خيار المجلس؟ فيه وجهان نقلهما الشيخ أبو الفرج. قال: وإن تزوج وشرط عليه ألا يطأها، بطل العقد، هذا نصه، وكذلك لو شرط ألا يطأها في السنة إلا مرة، أو على ألا يطأها بالنهار؛ لأنه شرط يخل بمقصود العقد؛ فأبطله؛ كما لو باع بشرط ألا يسلم المبيع. وفيه قول آخر منصوص عليه: أنه لا يبطل، ويلغو الشرط؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم-:

"الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطاً أَحَلَّ حَرَاماً، أَوْ حَرَّمَ حَلَالاً"، وكما إذا شرط ألا يتزوج عليها، [أو لا] يسافر بها. وقال الربيع: إن النصين محمولان على حالين: فحيث قال: يبطل، أراد: ما إذا شرطت الزوجة ألا يطأها، وحيث قال: يصح، أراد: ما إذا شرط الزوج ألا يطأها، والفرق: أن الوطء حق له فله تركه، والتمكين حق عليها فليس لها تركه، وصار هذا كما لو كان على فقير دَيْنٌ، فقال الفقير لرب المال: ادفع لي من الزكاة ديناراً لأؤدي دينك منه، فدفع إليه- أجزأه عن الزكاة، والفقير مخير في الأداء منه ومن غيره، ولو قال رب الدين: خذ هذا الدينار من الزكاة؛ بشرط أن ترد على من دَيْني- لا يجزئ عن الزكاة، وهو ما جزم به في "الشامل" و"المهذب"، وصححه الرافعي، وهو معنى قول الشيخ من بعدُ: "وقيل: إن شرط ترك الوطء أهلُ الزوجة بطل العقد"، وعدول الشيخ عن "الزوجة" إلى "أهل الزوجة"- ومراده: الولي- لأن الشرط إنما يؤثِّر في حالة العقد من العاقد كما تقدم، والعاقد هو الولي. قال الرافعي: ولك أن تقول: إذا شرط أحد المتعاقدين شرطاً، فإن لم يساعده صاحبه لم يتم العقد، وإن ساعده فالزوج بالمساعدة تارك لحقه، فهلا كانت مساعدته كاشتراطه؟! وهي بالمساعدة مانعة حقه، فهلا كانت مساعدتها كاشتراطها؟! ولو تزوج امرأة على ألا تحل له، ففي "النهاية": أنه يجب أن يلتحق ذلك بالخلاف في شرط الامتناع عن الوطء. وقال في "الوسيط": ينبغي أن يفسد؛ لما فيه من التناقض. قال: وإن تزوج على ألا ينفق عليها، أو: لا يبيت عندها، أو: لا يقسم لها، أو: لا يتسَّرى عليها [أو: لا يسافر بها، وكذا لو شرط: ألا يتزوج عليها، أو: لا يطلقها، أو: تخرج متى شاءت]، أو: يطلق ضرائرها- بطل الشرط؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ"، وللحديث السابق.

قال: والمسمى؛ لبطلان ما شرطه مما يقتضي زيادة في المهر، أو ما شرط لها مما يقتضي تنقيصاً في المهر، وبطلان ذلك يقتضي سقوط ما يقابله، وهو مجهول، والمجهول إذا سقط من المعلوم صَيَّر الباقي مجهولاً، وفيه وجه: أن الشرط لا يؤثر فيه كما لا يؤثر في النكاح. قال: وصح العقد؛ لأنه لا يمنع مقصود النكاح وهو الوطء، والنكاح لا يفسد بفساد العوض؛ فأولى ألا يفسد بفساد الشرط. وحكى الجيلي قولاً أو وجهاً: أنه يبطل. قال: ووجب مهر المثل؛ لفساد الصداق، ولا فرق بين أن يزيد على ما شرط في العقد أو ينقص، أو لا يزيد ولا ينقص. وعن ابن خيران: أنه إن زاد والشرط لها فالواجب المسمى، وكذا إن نقص والشرط عليها، ومنهم من جعل ذلك قولاً مخرجاً. وقيل: الواجب أقل الأمرين من مهر المثل أو المسمى. واعلم أن حكم المهر في صورة شرط ترك الوطء والطلاق بعد التحليل، حكم ما ذكرناه. قال: وقيل: إن شرط ترك الوطء أهلُ الزوجة بطل العقد، [وقد] مضى تقريره. قال ابن يونس: وذِكْر هذا القول هنا سهو من الناسخ. ولو نكحها على ألا [يرث منها، أو: على ألا] يتوارثا، أو: على [أن]

النفقة على غير الزوج- بطل العقد. وقيل: يصح، ويبطل الشرط. ولو زوج أمته من عبد غيره، بشرط أن يكون الأولاد بين السَّيِّدَيْنِ، يصح النكاح، ويبطل الشرط، ذكره في "الإملاء"، وقيل: يبطل النكاح. قال: وإذا طلقت المرأة ثلاثاً، أو توفي عنها زوجها، فاعتدت منه- حرم التصريح بخِطْبتها- أي: في العدة- للإجماع، على ما نقله ابن عطية في تفسيره، ولمفهوم الآية. ولا يحرم التعريض؛ لقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235]، ولما روى أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها وبَتَّ طلاقها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا حَلَلْتِ، فَآذِنِينِي". وفُرِّق بين التصريح والتعريض بأنه إذا صرح بخِطبتها تحققت رغبته فيها؛ فربما تكذب في انقضاء العدة؛ لغلبة شهوةٍ أو غيرها، وإذا عرّض لم تتحقق الرغبة. وحكى الخراسانيون قولاً: أن المطلقة ثلاثاً لا يجوز التعريض بخطبتها، وفي بعض الشروح حكاية وجه: أن المتوفى عنها زوجها، إن كانت تعتد بالحمل لم تخطب؛ خوفاً من أن تتكلف إلقاء ولدها. وحكم المفارقة باللعان والرضاع حكم المطلقة ثلاثاً، وحكم زوجة العبد بعد الطلقتين كحكم زوجة الحر بعد الثلاث. ولا فرق على المشهور بين أن تكون معتدة بالأقراء أو الشهور، وقيل بتخصيص الخلاف بذوات الأشهر، وبالقطع بالمنع في ذوات الأقراء؛ لأنها قد تكذب في انقضاء العدة.

والتصريح في الخطبة- بكسر الخاء-: كل نص صريح في تزويجها كقوله: أريد أن أنكحك، و: إذا انقضت عدتك نكحتك. والتعريض ما يحتمل الرغبة في النكاح وغيره كقوله: ربّ راغب فيك أو في نكاحك- كما حكاه ابن الصباغ- و: أنت جميلة، و: إذا حللت فآذنيني، وما أشبه ذلك. قال: "وإن خالعها زوجها فاعتدت منه لم يحرم على زوجها التصريح بخطبتها"؛ لانتفاء التهمة في حقه؛ إذ له نكاحها في العدة. ويحرم على غيره، أي: التصريح؛ لأنه إذا حرم في عدة الوفاة رعايةً لحقه، فَلَأَنْ يحرم [عليه] لحق الحي أولى. قال: وفي التعريض قولان: أحدهما: يحرم؛ لأنها مستوحشة بالطلاق، وربما كذبت في انقضاء العدة؛ مسارعةً إلى مكافأة الزوج، ولأن لصاحب العدة أن يستنكحها؛ فأشبهت الرجعيّة. والثاني- وهو نصه في "البويطي"، والأصح-: أنه لا يحرم؛ لانقطاع سلطنة الزوج عنها، فأشبهت المطلقة ثلاثاً. والمفسوخ نكاحُها كالمختلعة، وقيل: إن فسخ الزوج فعلى الخلاف، وإن فسخت هي لم يجز التعريض بخطبتها قولاً واحداً، وهذا ما أجاب به في "التتمة". [والموطوءة بالشبهة كالمختلعة، وقيل: كالمتوفى عنها، وهو الأصح في "التهذيب"]، والجواب من جهة المرأة-[تصريحاً أو تعريضاً]- حكمه حكم الخطبة. واعلم أن قول الشيخ: "وإن خالعها زوجها فاعتدت منه"، لفظة "فاعتدت [منه] " يحترز بها عمَّا إذا جرى الخلع قبل الدخول؛ فإن التصريح بخطبتها لغيره جائز كما بعد انقضاء العدة، وذكر هذه اللفظة في المسألة الأولى يشمل المتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثاً، ولا فائدة [لها] في المتوفى عنها؛ إذ لا نقل عن العدة.

قال: "ويحرم على الرجل أن يخطُب على خِطبة أخيه [إذا صرّح له؛ بالإجابة" أي: ولم يأذن الخاطب ولم يترك]؛ لما روى عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ"، وروى: "حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَاذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ"، ولأن فيه إفساداً لما تقرر بينهما؛ فيورث [ذلك] إيغار الصدور؛ فحرم، كما في البيع على بيع أخيه. والمعتبر إجابة الولي إن كانت مجبرة دون إجابتها. قلت: ويمكن أن تكون إجابتها معتبرة إذا قلنا: إن من عينته من الأكفاء أولى ممن عينه الولي. وإجابة المرأة إن لم تكن مجبرة دون الولي، وفي المجنونة إجابة السلطان، وفي الأمة إجابة السيد. والتصريح أن تقول: أجبتك إلى ذلك، أو تأذن لوليها في التزويج منه إن كان إذنها معتبراً. قال: "فإن خالف وتزوج صحّ العقد"؛ لأن المنع من ذلك لمعنى في غير العقد؛ فلا يمنع صحته، كما لو عقد في وقت تضيَّقت [عليه] فيه الصلاة. قال: "وإن عرَّض له بالإجابة" أي: مثل أن يقول: ما أنت إلا رِضاً؛ وما بك من عيب، و: لا رغبة عنك- ففيه قولان: أصحهما: أنه لا يحرم خطبتها؛ لما روى أن فاطمة بنت قيس [لما] انقضت عدتها قالت: يا رسول الله، خطبني معاوية وأبو جهم؟ فقال: "أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلا يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِهِ، انْكِحِي أُسَامَةَ"، والظاهر من كلامها: أنها كانت ركنت إلى نكاح أحدهما؛ ولهذا ذكرتهما، ولأنه

ليس فيه [إبطال شيء] تقرر بينهما؛ فأشبه ما لو سكتت. ومعاوية المذكور في الحديث: ابن أبي سفيان على المشهور، وقيل: بل غيره. وقوله: "لا يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِهِ"، قيل: كني به عن كثرة الضرب وسوء الخلق، وقيل: عن كثرة السفر، وقيل: عن كثرة الجماع، وهو بعيدٌ. والقول الثاني-[وهو القديم]-: أنها تحرم؛ لإطلاق خبر ابن عمر. ولو قالت: حتى أتدبر في نفسي أو أراجع غيري، فعلى وجهين [محكيين] في "التتمة". ولا يمنع السكوت الخطبة عند العراقيين، وطرد الخراسانيون فيه القولين. وقال الرافعي: ويمكن [ألا يجعل] هذا اختلافاً، ويحمل الأول على سكوت لم يقترن به ما يشعر بالرضا. واعلم أن السابق إلى الفهم من إطلاق الأكثرين: أن سكوت الولي عن الجواب، على الجواب الذي مرّ، وذكر بعضهم أن سكوت الولي لا يمنع الخطبة قطعاً؛ كما أن السكوت لا يمنع السَّوْمَ على السوم، بخلاف سكوت المرأة؛ لأنها مجبولة على الحياء، فلولا الرضا عند السكوت لبادرت إلى الرد. وعن الداركي: أن الخلاف في سكوت البكر، [وأمَّا] الثيب فإن سكوتها لا يمنع الخطبة بحالٍ. ولاشك أنه لو وجد الرد ممن له الإجابة لم تحرم الخطبة. ولا فرق في جميع ما ذكرناه بين أن تكون المخطوبة ذميّة، [أو الخاطبان] مسلمين، أو مسلماً وذمياً. وعن أبي عبيد بن حربويه: أن المنع مخصوص بما إذا كان الخاطب الأول مسلماً، أما الذمي فتجوز الخطبة على خِطْبته. فرع: يجوز الهجوم على الخِطْبة للذي لم يّدْرِ أنها خُطِبَتْ أم لا، ولمن لم

يَدْرِ أن الخاطب أُجيب أم لا. آخر: يجوز الصِّدْقُ في ذكر مَساوي الخاطب؛ ليُحذَرَ؛ لخبر فاطمة بنت قيس، وليس هذا من الغِيبة المحرَّمة، وإنما الغِيبة المحرمة: التفكُّه بذكر مَثَالِمَ لناسٍ، وإضحاك الناس بها، وهتك أسرارهم بين يدي أعدائهم؛ تقرُّباً إليهم، والله- عز وجل- أعلم. ***

باب الخيار في النكاح والرد بالعيب

باب الخيار في النكاح والرد بالعيب إذا وجد [أحد] الزوجين بالآخر جنوناً، أو جذاماً، أو برصاً ثبت له الخيار؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج بامرأة من بني غفار، فلما دخلت عليه، رأى بكشحها بياضاً، فقال لها: "البَسِي ثِيَابَكِ، والحَقِي بأهلِكِ"، وقال لأهلها: "دَلَّسْتُمْ عليَّ". والكشح: الجنب. فثبت الرد في المرض بالخبر، وقيس الباقي عليه؛ [لأنه في معناه في المنع من الاستمتاع، ولما روي عن عمر- رضي الله عنه-] أنه قال: "أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِهَا جُنُونٌ، أَوْ جُذَامٌ، أَوْ بَرَصٌ، فَمَسَّهَا، فَلَهَا صَدَاقُهَا، وَذَلِكَ لِزَوْجِهَا عَلَى وَلِيِّهَا". ولأن النكاح عقد معاوضة، قابل للرفع، فجاز رفعه بسبب العيوب المؤثرة في المقصود؛ كالبيع، والإجارة. ولا فرق في الجنون بين المطبق والمنقطع، ولا [فرق] بين أن يقبل العلاج أو لا.

وحكى في "البيان" عن الصيمري: أنه إذا كان زمن الإفاقة أكثر، هل يثبت الخيار [به]؟ فيه وجهان. وأبدى الإمام في الذي لم يستحكم، وهو مرجو- احتمالاً من الجذام المستحكم، وهو علة صعبة يحمر منها العضو، ثم يسود، ثم ينقطع، نسأل الله العافية. وقال الإمام: [يجوز أن] يكتفي باسوداد العضو، وحكم أهل البصائر باستحكام العلة، [وأنه] من المرض المستحكم الذي لا يقبل العلاج دون أوائل الوَضَح، وعلامته أن يعصر فلا يحمر. قال: وإن وجد أحدهما الآخر خنثى- أي: غير مشكل- ففيه قولان: أحدهما: أنه يثبت الخيار، وهو القديم؛ لتغيره بالمقام معه، ولنفرة الطبع منه، فأشبه البرص. والثاني- وهو الأصح عند المحاملي وغيره-: لا؛ لأنه لا يفوت مقصود النكاح، وذلك ثقبة زائدة أو سلعة. وفي محل القولين طرق: أصحها: أن القولين فيما إذا اختار الذكورة أو الأنوثة، فنكح؛ لأنه قد يتبين خلاف الاختيار، أما إذا اتضح الحال بالعلامات الدالة على الذكورة أو الأنوثة، فلا خيار. والثاني: أن القولين جاريان فيما إذا اتضح الحال بعلامة مظنونة كالولادة فلا خيار. [فإن كان مقطوعاً بها. والثالث: طرد القولين] وإن كانت [العلامات] مقطوعاً بها؛ لمعنى النفرة.

قال: وإن وجد الزوج بالمرأة رتقاً، أو قرناً، ثبت له الخيار. وإن وجدت المرأة زوجها عنيناً، أو مجبوباً، ثبت لها الخيار، وكذا لو وجدت به مرضاً مزمناً، لا يتوقع زواله، ولا يمكن الجماع معه؛ لأن ذلك يخل بمقصود النكاح؛ فأشبه البرص بل أولى؛ لأن البرص لا يمنعه بالكلية، بل ينفر منه، وهذا لا يتصور معه. والرتق- بفتح الراء والتاء-: ارتتاق محل الجماع باللحم، ويخرج البول من ثقبة ضيقة كإحليل الرجل. والقرن: بفتح الراء وإسكانها، وهو بالإسكان: العفلة: بالعين المهملة والفاء المفتوحة، وهي لحمة تكون في فم فرج المرأة. وقيل: عظم. والقرن: بفتح الراء، مصدر قرن يقرن قرناً؛ كبرص يبرص برصاً؛ فيجوز أن يقرأ كلام المصنف بالفتح والإسكان: فالفتح على إرادة المصدر، والإسكان على إرادة الاسم، إلا أن الفتح أرجح؛ لكونه موافقاً لباقي العيوب؛ فإنها كلها مصادر، وعطف مصدر على مصدر أحسن من عطف اسم عليه؛ قاله النواوي. وفي "الذخائر": أن ذلك إنما يلحق المرأة الثيب إذا ولدت. والعنة: امتناع الوقاع واحتباسه، وهي في اللغة الحظيرة، ومنه سمي العنان: عناناً؛ لأنه يحبس الدابة عن مرادها. والجب: القطع، وإنما يثبت الخيار إذا لم يبق ما يمكن الجماع به، أما إذا أمكن؛ بأن بقي قدر الحشفة فلا يثبت. وفي كتاب القاضي ابن كج: أن أبا الطيب بن سلمة خرجه على قولين؛ كما في الخصي ولا يثبت الخيار بكونها مفضاة، ولا بضيق المحل بحيث لا يمكنه الوطء إلا بالإفضاء، ولا بكبر آلة الزوج بحيث لا يمكن الجماع به.

وقال الغزالي في الديات عند الكلام في الإفضاء: إن الضيق ينزل منزلة الرتق، والكبر منزلة الجب في إثبات الخيار. فرع: ليس للزوج إجبار المرأة الرتقاء على شق الموضع، ولو فعلت، وأمكن الوطء فلا خيار. ويمكن أن يجيء فيه الخلاف المذكور، فيما إذا اطلع على عيب المبيع بعد زواله. قال: وإن وجدته خصيّاً، أو مسلولاً، ففيه قولان: أصحهما: أنه لا خيار لها، والتعليل ما ذكرناه في الخنثى. نعم: لو كان لا يقوى على الجماع بسبب ذلك، فحكمه حكم العنين. والخصي: من رضت أنثياه [مع بقائهما]. والمسلول: من أخذت أنثياه. وقيل: الخصي الذي قطعت أنثياه. مع وعائهما، [والمسلول من أخرجت أنثياه مع ترك وعائهما]. ولا يثبت الخيار مما لا يقبل العلاج من البخر، والصنان، والعزيوط وهو الذي يتغوط عند الوقاع. وقال السرخسي: إنه يثبت، قولاً بالقطع، والعور، والعمى، وخرم الأنف، وأشكال ذلك [وحكى في "الذخائر" عن "الوجيز" في ذلك قولين، ثم قال: لم أر ذلك لغيره].

وقال القاضي الحسين وغيره: يثبت الخيار بكل عيب منفر يكسر سورة التوقان؛ فيتعذر الاستمتاع: كالاستحاضة، والقروح السائلة إذ لو اعتبر امتناع الاستمتاع، لاقتصر على الرتق والقرن، وروي أن ذلك قول الشافعي. والصحيح: أنه لا يثبت الخيار إلا بالعيوب السبعة: الجنون، والجذام، والبرص- ويشترك فيها الزوجان- والرتق، والقرن- وذلك يختص بالزوجة- والجب، والعنة، وذلك يختص بالزوج. هذا كله إذا كان العيب متقارباً، ولم يعلم به من ليس به، أما إذا علم فلا خيار له [ما لم يزد]، وكذا إن زاد في ذلك الموضع على الأصح، أما إذا حدث في موضع آخر، قال في التتمة: يثبت له الخيار، وكذا إذا كان من جنس آخر. واعلم: أن بعض الفقهاء يستشكل صورة فسخ المرأة بالعيب، ويقرره بأن المرأة إن علمت بالعيب، فلا خيار، وإن لم تعلم به فالتنقي العيوب من شروط الكفاءة، ولا يصح النكاح إذا عدمت الكفاءة؛ على الأصح، وإذا لم يصح انتفى الخيار. وهذه غفلة عن [قسم آخر] وهو ما إذا أذنت له في التزويج من مُعَنٍّ أو من غير كفء، وزوجها الولي منه؛ بناءً على أنه [سليم، فإذا] هو معيب- فإن المذهب صحة النكاح في هذه الصورة؛ كما صرح به الإمام في كتاب الوكالة، وباب المرابحة. فرعان: أحدهما: لو اختلف الزوجان في وجود ما يثبت الخيار، أو اختلفا في العلم بالعيب، فالقول قول من ينفيه إلى أن يقيم المدعي شاهدين ذكرين على ما يدعيه. وفي أمالي أبي الفرج: أنه إذا وقع الاختلاف في العلم بعد الدخول، فالقول قول من يدعي العلم.

الثاني: يثبت للولي الخيار في الجنون المقارن، وإن رضيت به المرأة؛ لأنهم يتعيرون به، ولا يثبت في الجب، والعنة. وفي الجذام والبرص وجهان: أصحهما: الثبوت؛ كما في الجنون؛ لأنهم يعيرون به، ولأن العلة قد تتعدى إليها وإلى نسلها. ومن الأصحاب من حكم بثبوت الخيار في الجميع. وحكى عن القفال أن هذا أظهر الطريقين. وقال الإمام: إن الأول أحسن وهو طريق العراق. وحكى وجهاً مطلقاً: أنه لا خيار له. ووجهاً: أن له الخيار فيما عدا الجب والعنة. وعلى هذا يخرج منع المرأة من ابتداء التزويج إذا طلبت، وقد تقدم ذكر شيء من ذلك، [وسيأتي طرف منه في الباب، إن شاء الله تعالى]. قال: وإن حدث العيب بالزوج- أي: قبل الدخول- كان لها أن تفسخ؛ دفعاً للضرر؛ إذ تعين ذلك طريقاً. أما إذا حدث بعد الدخول، فإن كان الحادث الجنون، أو الجذام، أو البرص، فقد حكى صاحب الكتاب فيه وجهين. قال الرافعي: ولم يُرَ لغيره نقل الوجهين في المسألة، لكن أطلقوا الجواب بثبوت الخيار.

وقالوا: حق الاستمتاع يشبه حق الانتفاع في الإجارة، والعيب الحادث في العين المستأجرة يثبت الخيار، فكذلك ها هنا. وإن حدثت العنة، فلا خيار؛ إذ قد عرفت [قدرته] ووصلت إلى حظها. وخالف فيه أبو ثور. فإن حدث الجب، فوجهان، ويقال: قولان: أحدهما: أنه كالعنة. [وأصحهما: أنه يثبت؛ لأن الجب يؤيس الإنسان عن الوطء، والعنة] يرجى زوالها. وحدوث الخصي بعد الوطء [كالجب]؛ إن قلنا: إنه يثبت الخيار. فرع: لو جبت المرأة ذكر زوجها [ثبت لها الخيار]؛ على أصح الوجهين، بخلاف المشتري إذا عيب المبيع؛ لأنها بالجب لا تصير قابضة لحقها؛ كالمستأجر، والمشتري بالعيب قابض لحقه. قال: وإن حدث بالزوجة- أي: قبل الدخول أو بعده- ففيه قولان: أصحهما: أنه يثبت- وهو الجديد- كالزوجة. والقديم: المنع؛ لأنه لا تدليس منها، والعقد سلم من العيب أولاً، وهو قادر على الطلاق؛ فلا يحتاج إلى إثبات الخيار؛ ولهذا لو أعتق العبد، وتحته أمة، لا خيار له على المذهب، بخلاف الزوجة. قال: وإن وجد أحدهما بالآخر عيباً من هذه العيوب، وبه مثله، فقد قيل: يفسخ، وهو الأصح؛ لأن الإنسان يعاف من غيره ما لا يعاف من نفسه؛ فيمنعه ذلك من الاستمتاع، وكما لو باع عبداً بعبد، ووجدا بالعبدين عيباً؛ فإن لكل منهما الخيار.

وقيل: لا يفسخ؛ لتساويهما في القبض. والفرق على هذا بينه وبين [مسألة] العبدين: أن أحد العيبين قد يكون أرشه أكبر من عيب الآخر وإن تساويا [في أنفسهما]؛ لأن النظر في ذلك إلى قيمة المبيع قد تتفاوت قيمتها؛ فثبت [الخيار] لذلك التفاوت. وعلى تقدير تساوي القيم، فذاك حدس وتخمين، وقد يظن التساوي، ولا تساوي، ولا كذلك هنا؛ فإن التساوي معلوم؛ إذ هو فرض المسألة. قال الرافعي: وما ذكر من صورة المسألة في غير الجنون أما إذا كانا مجنونين، فلا يمكن إثبات الخيار لواحد منهما، ثم [قال:] لكن الوجهان فيما إذا تساوى العيبان في القدر والجنس، فإن كان في أحدهما أكثر وأفحش، وجب أن يثبت للآخر من غير خلاف. قلت: وما قاله من عدم الإمكان ممنوع؛ فإنه قد تقدم أن الجنون المتقطع يثبت الخيار كالمطبق؛ فيثبت له في خلال إفاقته الخيار، فقد أمكن. أما إذا كان العيب من جنس آخر، فلكل واحد منهما الخيار، إلا إذا كان الرجل مجبوباً والمرأة رتقاء فهما كالجنس الواحد؛ كذا ذكره الإمام، وغيره. وحكى في التهذيب طريقة قاطعة بأنه لا خيار؛ لأنه وإن فسخ لا يصل إلى مقصود الوطء، وقضية إيراده ترجيح هذه الطريقة؛ وهو يشابه إذا أحصر بالمرض. قال: ولا يصح الفسخ بهذه العيوب إلا على الفور؛ لأنه خيار عيب، فكان على الفور؛ كما في المبيع، ولا ينافي كونه على الفور ضرب المدة في العنة؛

فإنها حينئذ تتحقق، وإنما يؤمر بالمبادرة إلى الفسخ بعد تحقق العيب. والمعنى بكونه على الفور: أن المطالبة والرفع إلى الحاكم يكون على الفور؛ هذا هو المشهور من المذهب. وعن الشيخ أبي علي: أن من الأصحاب من أجرى فيه قولين آخرين؛ كما في خيار العتق، وهو الذي اختاره الإمام عند الكلام في خيار العتق. والفرق على المشهور: أن الأمة تحتاج إلى النظر والتروي، وهنا تحقق النقصان بالإطلاع على العيب؛ فلا تحتاج إلى مهلة النظر. فرع: لو قال: علمت عيب صاحبي، ولكني لم أعلم أن العيب يثبت الخيار، ففيه طريقان: أشبههما: أنه على القولين في نظيره من خيار العتق. والثاني: القطع بأنه لا يعذر. والفرق: أن الخيار بالعيب مشهور في جنس العقود، وخيار العتق بخلافه. [فرع] آخر: إذا عرف الرجل حالة العقد بالعيب، ورضي به، فهل له المخاصمة أم لا؟ خرجه في التتمة على القولين فيما إذا رضيت المرأة بعنة الزوج، ثم أبانها، ثم جدد نكاحها: القديم: أنه ليس لها المخاصمة. والجديد: خلافه، والله أعلم. قال: ولا يجوز إلا بالحاكم؛ لأنه مجتهد فيه، فأشبه الفسخ بالإعسار وفي غير العنة وجه: أنه يجوز لكل واحد منهما الانفراد بالفسخ، إذا اتفقا على العيب؛ كفسخ المبيع بالعيب؛ وهذا ما رجحه الإمام. فعلى الأول: الحاكم بالخيار بين أن يفسخ بنفسه، وبين أن يأمرها بالفسخ؛ هكذا قاله ابن الصباغ. وقال القفال: المرأة بعد الرفع إلى الحاكم بالخيار بين أن تفسخ بنفسها وبين أن تفسخ بإذنها.

وفي الذخائر: أن من أصحابنا من قال: لا يتولى ذلك إلا الحاكم. قال في التهذيب: وعلى الوجهين لو أخر إلى أن يأتي الحاكم، ويفسخ بحضرته، يجوز. قال: ومتى وقع الفسخ، فإن كان قبل الدخول، سقط المهر، أي: سواء كان العيب مقارناً، أو حادثاً، وسواء كان الزوج هو الفاسخ بعيبها أو الزوجة بعيبه؛ إذ مقتضى الفسخ ترادُّ العوضين. وفي النهاية في آخر باب العنة: أن صاحب التقريب نقل عن الإصطخري قولين في أن الفسخ بالعنة هل يشطر المهر، أو لا يسقط منه شيئاً؟ قال: وهو مزيف، ولولا أنه نقل ذلك عن إتقان وثبت، لما استجزت حكايته. فإن قيل: لمَ جعلتم العيب فيها منزلة فسخها؛ لكونها سبب الفسخ، ولم تجعلوا العيب فيه بمنزلة فسخه؟ فالجواب: أنه بذل العوض في مقابلة منافعها، فإذا كانت معيبة، كان الفسخ من مقتضى العقد، إذ لم يسلم له حقه؛ فكان كالبيع، والمرأة لم تبذل شيئاً في مقابلة منافعه، والعوض الذي ملكته سليم؛ فكان مقتضاه أن لا فسخ، لكن الشرع أثبته؛ لأجل ما يلحقها من الضرر بصحبته، فإذا اختارت الفسخ لذلك، لزمها رد البدل؛ إذ ليس هو من مقتضى العقد؛ فأشبه ما إذا ارتدت. قال: وإن كان بعده، نظرت: فإن كان بعيب حدث بعد الوطء، وجب المسمى؛ لأنه قد استقر [به]؛ فلا نغيره، وإن كان بعيب حدث قبل الوطء سقط المسمى، ووجب مهر المثل؛ لأنه قد استمتع بمعيبة، وهو إنما بذل المسمى على ظن السلامة، ولم تحصل؛ فكأن العقد جرى بلا تسمية، وهذا هو الأصح. وقيل: يجب المسمى مطلقاً. وقيل: يجب مهر المثل مطلقاً.

[قال مجلي: وهو الأشبه عندي، ونقل وجهاً رابعاً: أنه لا يجب شيء أصلاً، ثم قال]: وفيه نظر من حيث إنه يخلو الوطء عن بدل. قلت: وما قاله له وجه إذا كان العيب حادثاً قبل الوطء؛ على قول الرجوع عليها بكمال المهر إذا غرته بنكاحها، وكان عيبها مقروناً بالعقد، فكأنه جعل التمكين من الوطء مع وجود العيب- غروراً، أما إذا كان العيب [حادثاً بعد الوطء فلا وجه له، ثم هذه الوجوه مفرعة على أنه إذا كان العيب] مقارناً للعقد يجب مهر المثل، وهو المنصوص. أما إذا قلنا في المقارن: إن الواجب المسمى، وهو القول المخرج في الردة، فهنا أولى. قال الأئمة: والقول المخرج قريب من القياس؛ فإن الفسخ [عندنا] يستند إلى أصل العقد. وفي التتمة وجه: أنه إن فسخ الزوج بعيبها، فعليه مهر المثل، وإن فسخت هي بعيبه فالواجب المسمى. والفرق: أنه إذا كان العيب بها، فالزوج يقول: إنما بذلت العوض، ليسلم إلى المعوض على الدوام سليماً، فإذا لم يسلم لا أبذله، وأغرم ما فوت، وإذا كان العيب به، فقد سلمت ما يقابل العوض سليماً، فيسلم لها العوض. فرعان: أحدهما: إذا فسخ النكاح بالعيب، ثم بان أنه لم يكن هناك عيب، هل يحكم ببطلان الفسخ، واستمرار النكاح؟ حكى الحناطي فيه وجهين. الثاني: إذا اطلع أحد الزوجين على عيب الآخر، ومات الآخر قبل الفسخ، حكى الحناطي وجهين في أنه هل يفسخ بعد الموت؟ والظاهر: أنه لا يفسخ، ويتقرر المسمى بالموت، ولو طلق زوجته قبل الدخول،

ثم اطلع على عيب بها، لم يسقط حقها من نصف المهر. قال: وهل يرجع به- أي: بمهر المثل الذي غرمه- على من غَرَّمَهُ؟ فيه قولان: أحدهما- وهو القديم-: نعم؛ لما رويناه من قول عمر- رضي الله عنه- وكما يرجع بقيمة الولد المغرور بحرية أمه. والثاني- وهو الجديد-: المنع؛ لأنه شرع في النكاح على أن يتقوم عليه البضع، فإذا استوفى منفعته، تقرر عليه عوضه؛ كما لو كان المبيع معيباً، فأتلفه، ثم فسخ العقد، ورأى الإمام ترتيب القولين [ها هنا على القولين في] الرجوع عند التغرير بالحرية [على ما] سنذكرهما. فإن قلنا: لا [رجوع] [ثَمَّ]، فها هنا أولى. وإن قلنا بالرجوع هناك، فها هنا قولان. ووجه الترتيب: أن التغرير هناك بالاشتراط، وها هنا لا اشتراط، بل غاية ما يعرض السكوت، والاشتراط أبلغ في التغرير. أما إذا كان المغروم المسمى، قال في التتمة: لا رجوع به؛ لأن المسمى بدل ما ملك بالعقد، وسلم له، وهو الوطأة الأولى؛ فإن المسمى تقرر بها. قال الرافعي: والأشبه ما في التهذيب- وهو التسوية بين أن يكون المغروم مهر المثل أو المسمى. فإن قلنا بالرجوع، فإن كان التغرير والتدليس منها دون الولي، فالرجوع عليها دون الولي، وفيما يرجع به وجهان، أو قولان: أحدهما: جميع ما يغرم. والثاني: أنه يبقى لها أقل ما يصلح صداقاً؛ كي لا يخلو الوطء عن المهر؛ وهذا إذا دفع إليها، أما إذا لم يدفع إليها فلا معنى للأخذ منها، ثم الدفع إليها، لكن [بناء عليه] هل نقول: وجب، ثم سقط؟ أو نقول: ما وجب أصلاً؟ فيه

تردد للأصحاب؛ بناءً على التردد في تزويج [السيد أمته] من عبده، وفيه وجهان؛ هكذا حكاه في الذخائر. وصور في التتمة التغرير منها بأن خطب الزوج إليها، فلم يتعرض لما بها من العيب والتمست من الولي تزويجها منه، وأظهرت أن الزوج عرف حالها. وصوره أبو الفرج الزاز بما إذا عقدت بنفسها، وحكم حاكم بصحته. وإن كان التغرير من الولي، بأن خطب إليه، فأجابه إلى التزويج، وهو مجبر، أو غير مجبر، فاستأذنها، ولم يظهر للخاطب ما بها، فإن كان عالماً بالعيب، رجع عليه بجميع ما غرمه. ومنهم من قال: فيه قولان، كالرجوع على المرأة، حكاه في الذخائر. وإن كان جاهلاً، نظر: فإن كان محرماً لها، رجع عليه؛ لتقصيره بترك البحث. وإن كان لها غير محرم: كابن العم، والمعتوق، والحاكم- فلا رجوع عليه عند العراقيين، وعند الخراسانيين في الرجوع وجهان. فإن قلنا: لا رجوع عند الجهل، فحينئذٍ يكون الرجوع على المرأة. وفيه وجه: أنه لا رجوع على الولي إلا إذا كان مجبراً. وإن غره جماعة من الأولياء، فالرجوع عليهم، فإن جهل بعضهم، وقلنا: لا رجوع على من جهل، رجع على من علم. وإن وجد التغرير منها ومن الولي فهل يرجع عليها دونه، أو عليهما نصفين؟ فيه وجهان في التتمة. وإن غرت المرأة الولي، والولي الزوج، رجع كل منهما على من غره. قال الرافعي: ولم يتعرضوا لما إذا كانت جاهلة بعيب نفسها، ولا يبعد أن يجري الخلاف [فيه]. واعلم أن محل القولين في أصل المسألة ما إذا كان العيب مقارناً للعقد، أما إذا حدث بعد العقد، فلا رجوع [بالمهر] على الولي بحال؛ لأنه [ليس منه

تدليس]، وأما على المرأة، فقد تقدم الكلام فيه [وإطلاق الشيخ] يفهم خلاف ذلك، من حيث إنه لم يذكر العيب المقارن في التفصيل، فليتأمل. قال: وليس لولي الحرة، ولا لسيد الأمة، ولا لولي الطفل [أن يزوج] المولى عليه ممن به هذه العيوب؛ لأن النفس تعاف صحبته، ويختل بها مقصود النكاح. واستثنى صاحب التهذيب من العيوب العنة؛ لأنها لا تتحقق. وهذا إذا لم يكن بالمولى عليه مثلها أو كان به، وقلنا: له الخيار. أما إذا قلنا: لا خيار [له]، فله التزويج منه. وفي النهاية: أن بعض أئمة الخلاف قال: الأمة مجبرة على التزويج ممن به هذه العيوب، ولا خيار لها، ثم قال: وهذا لا يعتد به من المذهب. وحيث قلنا: لا يجوز، فلو خالف وزوج منه، كان الحكم [فيه] كما لو زوج المرأة من غير كفءٍ بغير إذنها، وفي صحته خلاف. وإذا صح، فالكلام في الخيار كالكلام فيه [ثم]. ولو قبل له نكاح امرأة عمياء، ففي كتاب ابن كج إثبات الخلاف فيه. ونقل في التهذيب إجراءه فيما لو قبل له نكاح عجوزٍ أو مفقودة بعض الأطراف. قال الرافعي: ويجب أن يكون في تزويج الصغيرة من الأعمى، والأقطع، والشيخ الهِمِّ مثل هذا الخلاف. قلت: قد حكى عند الكلام في الكفاءة [عن القاضي]: أن العمى، والقطع، وتشوه الصورة يمنع الكفاءة، وأن بعض الأصحاب قال به، واختاره الصيمري، وإذا كان كذلك فهي عين المسألة؛ إذ الولي ليس له أن يزوج من غير كفء. فرع: يجوز بيع الأمة ممن به هذه العيوب؛ لأنه لا حق لها في الاستمتاع

بالملك، بخلاف النكاح. نعم، لها منعه من وطئها على أحد الوجهين. قال: فإن أرادت الحرة أن تتزوج بمجنون، كان للولي منعها؛ لما فيه من العار. وإن أرادت أن تتزوج بمجبوب أو عنين، لم يكن له منعها؛ إذ لا ضرر في ذلك يلحق الأولياء. فإن قيل: العنة لا تثبت إلا بعد العقد، فكيف تكون صورتها؟ قيل: يمكن أن تكون صورتها: ما إذا تزوجها، وعنَّ عنها، ثم طلقها، وأراد تجديد نكاحها. قال: وإن أرادت أن تتزوج بمجذوم، أو أبرص، فقد قيل: له منعها؛ لأن هذا يتعدى إلى النسل، فيلحقه العار. وقيل: ليس له منعها؛ كما لو أرادت أن تتزوج بمجنون، وقد تقدم [ذكر ما قيل] في ذلك. قال: وإن حدث العيب بالزوج، ورضيت به المرأة، لم يجبرها الولي على الفسخ؛ لأن حقه في الكفاءة إنما يراعى في الابتداء دون الدوام، ألا ترى أن المرأة لو رغبت في نكاح عبد، كان للولي [منعها، ولو عتقت تحت عبد، ورضيت بالمقام معه، لم يكن للولي] الفسخ؟! وفي المحيط: أن للولي حق الاعتراض في مسألة الاستشهاد، ومقتضاه: أن يطرد في المسألة الأخرى. قال: وإن اختلف الزوجان في التعنين، فادعته المرأة، وأنكر الزوج، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الظاهر سلامته، وسلامة العقد، فإن حلف لم يطالب بتحقيق ما يقول بالوطء، وامتنع الفسخ إلا أن تقيم بينة على إقراره بالعنة، وهل لها أن تطالبه بوطأة واحدة؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأن الاستمتاع حقه؛ فلا يجبر على استيفائه.

والثاني: نعم. وفي مجموع ابن القطان: أن أبا سعيد ذهب إليه، وذُكر في توجيهه معنيان: أحدهما: استقرار المهر. والثاني: حصول الاستمتاع؛ لأن النكاح شرع؛ لإعفاف الزوجين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]. وفي سلسلة الشيخ أبي محمد: أن الوجهين مبنيان على القولين فيما إذا تزوج امرأة بشرط ألا يطأها، هل يصح النكاح؟ إن قلنا: لا يصح، وجبت وطأة واحدة. وإن قلنا: يصح، لم يجب. وعلى المعنيين يخرج طلب سيد الأمة وطأها وبعد البراءة من الصداق وإذا قلنا بالوجوب فلا إرهاق إلى الوطء، بل يمهل حتى يستعد له على العادة. قال الإمام: وكان يليق أن يمهل مدة الإيلاء، إذا قلنا: إن الطلب للاستمتاع، [وإن أصر على الامتناع] من غير عذر، حبس، ولم يستبعد الإمام أن يخرج من الإيلاء: أن القاضي يطلق عليه، ولكن لم يخرجوه. وإن نكل عن اليمين، ردت اليمين على المرأة، ولها أن تحلف إذا بانت لها عنته بقرائن الأحوال، وطول الممارسة، كما إذا ادعت: أنه نوى الطلاق ببعض الكنايات، أو نوى القذف عند وجود الكناية، وأنكر، ونكل. [فلو لم تحلف]، قال ابن يونس: فيه وجهان: أحدهما: أن القول قوله. والثاني: يجعل القول قولها. وفيما قاله نظر؛ فليتأمل. وقال أبو إسحاق: لا ترد اليمين عليها، لأن الامتناع قد يكون لعجزه، وقد يكون لغيره، ولا إطلاع لها عليه؛ ولذلك لا تسمع الشهادة على نفس العنة.

وعلى هذا فعن الإصطخري: أنه يقضى عليه بالنكول، وتضرب المدة. وقيل: لا تثبت العنة إلا بإقراره فحسب. وحكى أبو الفرج: أن تحليف الزوج لا يشرع أصلاً؛ بناءً على أن اليمين لا ترد عليها. قال: فإن أقر بالتعنين أجل سنة؛ لما روي أن ابن عمر- رضي الله عنه- أجل العنين سنة. قال الإمام: وأجمع المسلمون على إتباع قضائه في قاعدة العنة. [ولأن] تعذر الجماع قد يكون لعارض حرارة؛ فتزول في الشتاء، أو برودة؛ فتزول في الصيف، أو يبوسة؛ فتزول في الربيع، أو رطوبة، فتزول في الخريف، فإذا مضت السنة، ولا إصابة، علمنا أنه عجز خلقي. قلت: وهذا التعليل يتخذ شبه ما إذا عنَّ عن امرأة دون أخرى، أو [عنَّ عن الثاني دون غيره]، فإن الحكم ثابت، فلو كان للفصل أثر، لأثر مطلقاً. قال: من يوم المرافعة، وضرب القاضي؛ لأنه مختلف فيه، فافتقر إلى حكم الحاكم، بخلاف مدة الإيلاء؛ لأنها منصوص عليها. وضرب القاضي المدة يكون بعد طلبها، فلو سكتت فلا تُضرَب. نعم، إن حمل القاضي سكوتها على دهش أو جهل، فلا بأس بتنبيهها. ولا فرق في المدة بين الحر والعبد؛ لأنها مشروعة لأمر يتعلق بالطبع والجبلة، فأشبهت مدة الحيض والرضاع. قال: فإن جامعها، وأدناه أن يغيب الحشفة في الفرج، أي: سواء كان ذلك بنفسه، أو بيدها، أو بيده- كما حكاه الفوراني- سقطت المدة؛ لأن أحكام الوطء تتعلق بذلك، ولا تتعلق بما دونه: كالتحليل، والتحصين، والحد في محله، ووجوب الكفارة، والغسل، وتحريم المصاهرة، وسقوط المطالبة بالفيئة [في

الإيلاء]، وكذا فساد العبادة؛ على الأصح، أعني: فيما دونه. قال الإمام: وهذا [أصل لا استثناء] فيه، والأصل فيه بعد الإتباع: أنها الآلة الحساسة، وبها الالتذاذ؛ ولهذا سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: العسيلة في الحديث. ومعنى التغييب: أن يشتمل الشفران وملتقاهما على الحشفة. ولو انعكس الشفران، وانقلبا إلى الباطن، وكانت الحشفة لا [تلقى إلا ما] انعكس من البشرة الظاهرة- فهذا فيه تردد. وقال في التهذيب: إن أقل ما يزول به حكم العنة إن كانت بكراً: أن يفتضها بآلة الافتضاض، وإن كانت ثيباً: أن يغيب الحشفة.

قال الرافعي: وهذا يدل على أن الافتضاض لا يحصل بتغييب الحشفة. ومن جب بعض ذكره، فغيب من الباقي قدر الحشفة، فهو كتغييب السليم الحشفة. ومنهم من اعتبر تغييب الكل، وهو ظاهر لفظ المختصر، وقال في المهذب: إنه المهذب. قال الرافعي: والأول أظهر. وإن مضت السنة، ولم يصبها، لم ينفسخ النكاح، ولم يكن لها أن تفسخه، بل ترفعه ثانياً إلى القاضي. وعن الإصطخري: أن لها الفسخ بعد مضي المدة، ويكفي ضرب المدة من جهة القاضي، والمشهور الأول. وادعى الإمام فيه عدم الاختلاف. فإذا رفعت الأمر إلى القاضي، وتبين بإقرار الزوج: أنه لم يصبها في المدة المضروبة، فقد جاز الفسخ، فإن استمهل ثلاثاً، هل يمهل؟ فيه الخلاف المذكور في الإيلاء. وفي استقلالها بالفسخ وجهان: أقربهما- وذكر في التتمة أنه المذهب-: الاستقلال؛ كما يستقل بفسخ [المبيع بالعيب] إذا تنازعا فيه وثبت عند الحاكم. والثاني- وهو مذهب العراقيين-: أن الفسخ على الحاكم؛ لأنه محل النظر والاجتهاد؛ فيفسخ بنفسه أو يأمرها [بالفسخ]. وإذا قلنا: [لها أن] تفسخ بنفسها، فهل يكفي لنفوذ الفسخ إقرار الزوج، أم لابد من قول القاضي: ثبتت العنة؛ أو ثبت حق الفسخ، فاختاري؟ فيه وجهان، أشبههما: الثاني، وهو الحكاية عن القاضي الحسين. فرع: إذا اختارت الفسخ، [ولم] يقل الحاكم: نفذته، ثم رجعت، هل يصح

الرجوع، ويبطل الفسخ؟ فيه وجهان منقولان في "المجموع" لأبي الحسين بن القطان، والأشبه: المنع. واعلم: أن المدة إنما تحسب إذا لم تنعزل عنه، فإن انعزلت لم تحسب، وكذا لو مرضت. وحبسها يمنع الاحتساب أيضاً، ومرضه وحبسه لا يمنع، وفي سفره وجهان: أظهرهما: أنه لا يمنع، وأبداهما الإمام تردداً. وإذا عرض ما يمنع الاحتساب وزال، قال الرافعي: القياس أن تستأنف السنة، أو ينتظر مضي ذلك الفصل من السنة الأخرى. وقد تأخر من المباحث التي تتعلق بتغييب الحشفة نبذة، لم نذكرها هنا؛ خشية الإطالة، فلتطلب من باب الرجعة والإيلاء. قال: فإن ادعى أنه وطئها- أي: [إما بعد المدة]، أو فيها [وهي ثيّب]- فالقول قوله مع يمينه- أي: وإن كان الأصل عدمه- لأنه يتعذر إقامة البينة عليه، والأصل سلامة الشخص، ودوام النكاح، فإن نكل عن اليمين، ردت على المرأة. قال الرافعي: وفيه الخلاف الذي سبق. قلت: لا وجه له هنا؛ لأن من قال بعدم الرد ثَمَّ علله بعدم الإطلاع على العنة وخفائها، وهي هنا تعلم عدم الوطء؛ فانتفت علة المنع. قال: وإن كانت بكراً- أي: بعد دعواه الوطء، بأن شهد بذلك أربع من القوابل- فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الظاهر معها. وقال الجيلي في معرفة البكارة: إنها تدخل بيضة فيها وإحراق الكمون تحتها؛ إذ يتقاطر الماء إن كانت بكراً، ولا يتقاطر إذا كانت ثيباً، وإنما حلفناها؛ لاحتمال الزوال والعود؛ لعدم المبالغة في الوطء، وهذا ما ذهب إليه أبو علي في "الإفصاح"، وأبو الحسين في "المجموع"، والقاضي ابن كج في "شرحه"، والإمام ومن تابعه. وذهب جماعة من الأصحاب- تعريضاً وتصرحياً-: إلى أنه إذا شهد أربع من

القوابل على أنها بكر يحكم بعدم الإصابة، ولا حاجة إلى تحليفها، وتكفي البكارة دليلاً على تصديقها. نعم: إن طلب تحليفها لدعواه: أنه لم يبالغ وأن البكارة عادت، فله ذلك. وهذا ما دل عليه كلام الشيخ في "المهذب". وإذا حلفت بعد دعواه أو دونها، فتحلف على أنه لم يصبها، أو على أن بكارتها هي البكارة الأصلية [ولها حق الفسخ]. وإن نكلت، حلف الزوج، وبطل الخيار. فإن نكل- أيضاً- ففيه وجهان: أصحهما: أن لها الفسخ ويكون نكوله كحلفها؛ لأن الظاهر أن بكارتها هي البكارة الأصلية. والثاني: المنع؛ لأن مقالها محتمل، والأصل دوام النكاح. قلت: وعلى ما قاله في "التهذيب" ينبغي أن يبقى طلبها وإن اعترفت بالوطء إذا لم يحصل الافتضاض. قال: وإن اختارت المقام معه قبل انقضاء الأجل، وكذا قبل ضرب المدة، لم يسقط خيارها على المنصوص؛ لأنها رضيت بإسقاط حقها قبل ثبوته، فلم يسقط، كالعفو عن الشفعة قبل البيع. وفيه قول آخر- وينسب إلى القديم-: أنه يسقط؛ لأنها تزعم العلم بالعيب. والمقام: مضموم الميم. ولو فسخت النكاح، أو طلقها طلاقاً بائناً، ثم جدد نكاحها، ثبت لها حق الفسخ على أصح القولين؛ لأنه نكاح جديد؛ فتوفر عليه حكمه، وتضرب المدة ثانياً. وبنى [جماعة] القولين على قولي عود الحنث، وضعفه الإمام؛ بأنه لا خلاف أنه لابد من ضرب المدة، ولو كانت مبنية على [عود] الحنث،

لاكتفى بالمدة المضروبة في النكاح الأول. وأجرى صاحب "الشامل" وغيره القولين فيما إذا نكح امرأة ابتداء، وأعلمها أنه عنين. وفي "التهذيب" حكاية طريقين فيما إذا نكح امرأة ابتداء، وهي تعلم أنه حكم بعنته في حق امرأة أخرى: أحدهما: إجراء القولين. والثاني: القطع بثبوت الخيار؛ لأنه قد يعجز عن امرأة، ويقدر على أخرى، وهذا ما حكاه الماوردي في النفقات عن الشافعي لا غير. أما إذا اختارت المقام بعد انقضاء المدة والتخيير، سقط حقها، ولا رجوع لها [إليه]، بخلاف الإيلاء، [والإعسار بالنفقة]؛ لأن [الضرر] يتجدد، والعنة عيب واحد، لا يتوقع إزالتها إذا تحققت. قال: وإن جب بعض ذكره، وبقي ما يمكن الجماع به، فادَّعى أنه يمكنه الجماع، وأنكرت المرأة-[أي]: قالت: به ضعف يمنعه من الوطء- فقد قيل: القول قوله، وهو الذي ذهب إليه أكثر الأصحاب؛ كما لو كان ذكره قصيراً. وقيل: القول قولها، وهو قول أبي إسحاق المروزي، أي: مع يمينها؛ لأن الذكر إذا جب بعضه ضعف؛ فكان الظاهر معها. قال الإمام: وهذا ليس بشيء، ولعل المروزي يقول هذا عند استئصال الحشفة، فإذا قطعت قطعة منها فما أراه يقول ما حكى عنه. والخلاف في الخصي إذا قلنا: [إنه] لا يثبت الخيار [أو قلنا به، ورضيت، ثم ادعت عجزه عن الوطء- كالخلاف في المجبوب. وإذا ثبت عجزه باعترافه أو بيمينها مع نكوله، فهو كالسليم إذا عجز، تضرب له المدة.

وعن الشيخ أبي حامد: أنه يثبت الخيار في الحال؛ لأن العيب متحقق، والظاهر دوام العجز. قال: وإن اختلفا في القدر الباقي، هل يمكن الجماع به [أو لا]؟ فالقول قول المرأة، وهو الذي ذكره الأكثرون؛ لزوال أصل السلامة. وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يرى أهل الخبرة؛ ليعرفوا قدره، ويخبروا عن الحال، كما لو ادعت أنه مجبوب، وأنكر. وقال الرافعي- حكاية عن المتولي-: إنه الصحيح. فروع: [الأول:] امرأة الصبي والمجنون إذا ادعت العنة، لم تسمع، ولم تضرب المدة؛ لأن الصبي لا يجامع؛ لصغره غالباً، ولأن [بيان] الفسخ يعتمد إقرار الزوج بالعنة، أو نكوله على الأصح مع يمينها، ولا اعتبار بقولها. ولأن الصبي ربما يدعي الإصابة بعد البلوغ، والمجنون بعد الإفاقة. وحكى الحناطي وجهاً: أن المراهق الذي يتأتى منه الجماع تسمع دعوى العنة عليه، وتضرب له المدة، وبه قال المزني، وهو ضعيف. ولو جن الزوج في أثناء السنة، ومضت السنة وهو مجنون، فطلبت الفرقة- لم تجب إليها؛ لأنه لا يصح منه الإقرار. قلت: وعلى ما قاله الإصطخري: إنها تفسخ بعد مضي المدة من غير مراجعة الحاكم وإقراره، ينبغي أن تفسخ، اللهم إلا أن يقال: العاقل بصدد أن يبادر إلى دعوى الوطء في المدة، فإذا لم يبادر غلب على الظن عدم وطئه، وهذا المعنى مفقود في المجنون. الثاني: إذا مضت السنة فقالت: أجلته شهراً، أو سنة أخرى- ذكر بعض الأصحاب، منهم أبو الحسين بن القطان-: أن لها ذلك، ولها أن تعود إلى الفسخ متى شاءت.

والصحيح: أنه يبطل حقها بهذا التأخير؛ لأنه على الفور. الثالث: لو ادعت عجزه بعد مضي السنة، وادعى الزوج أنها امتنعت ولم تطاوعه، فإن كان لأحدهما بينة قضى بها، وإلا فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل دوام النكاح. فإذا حلف ضرب القاضي المدة ثانياً، وأسكنها في جوار قوم [ثقات] يتفقدون حالها، فإذا مضت السنة، اعتبر القاضي قول الثقات. قال: وإن تزوج امرأة، وشرط أنه حر، فخرج عبداً- أي: وكان السيد قد أذن له في النكاح-[فهل يصح النكاح]؟ فيه قولان: أحدهما: أنه باطل؛ لأن النكاح ليس بعقد مشاهدة، وإنما يعتمد على الأسماء والصفات؛ فيكون اختلاف الصفة فيه كاختلاف العين. ولو اختلفت العين؛ بأن قالت: زوجني من زيد، فزوجها من عمرو- لم يصح، فكذلك ها هنا. والثاني- وهو الصحيح، واختيار المزني-: يصح؛ لأن الخلف في الشرط لا يوجب فساد [البيع، مع أنه عرضة للفساد، فأولى ألا يوجب فساد] النكاح، وهذا لأن المعقود عليه فيهما جميعاً عين معينة، وأنها لا تبدل بالخلف في الصفة. قال الإمام: وقد يقال لموجه القول الأول: إنما كان يستقيم التعويل على الصفات لو كان يشترط ذكرها في النكاح، فإذا لم يشترط ذكرها، وكفى التعيين، فيبعد أن يؤثر الخلف في الإفساد. وغاية الممكن في ذلك: أنا قد لا نشترط في [النكاح] ذكر شيء، وإذا عرض ذكره اشترطناه، وهذا كما أنا لا نشترط في المبيع المشار إليه اسم جنسه، بل يكفي أن يقول: بعتك هذا، ولو وقع التعرُّض لذكر جنسه، فلابد من الإصابة فيه عند بعض الأصحاب.

قلت: ومن هنا أخذ الغزالي وغيره تقريب الخلاف من الخلاف فيما إذا قال: بعتك هذه الرَّمَكة فإذا هي نعجة، وإن كان الإمام قبل أن قال ذلك ذكره، وبعَّده بأن الرمكة لفظ يشعر بموصوف وصفات، وليس تعرضاً لصفة فحسب، فإذا خالف اللفظ بالكلية محل الإشارة، اتجه فيه خلاف على بُعْدٍ. ويجري القولان في كل وصف شرط، ثم يتبين خلافه، سواء كان المشروط صفة كمالٍ: كالنسب، والطول، والجمال، والبكارة، والشباب؛ أو صفة نقص: كأضداد ذلك، أو كان مما لا يتعلق به كمال ولا نقص؛ هذا هو الظاهر. وفي "شرح مختصر" الجويني: أنهما لا يجريان إلا في النسب، والحرية، وما يؤثر في الكفاءة، والله أعلم. قال: ولها [الخيار، أي]: إن كانت حرة، وكذا لوليها؛ لعدم الكفاءة، وإن كانت أمة فوجهان: أحدهما: ثبوت الخيار؛ للغرور. والثاني: المنع؛ لأنهما متكافئان. وحكي عن أبي إسحاق والقاضي أبي الطيب طريقة قاطعة بثبوت الخيار. ثم ذكر الإمام والمتولي ومجلي: أن الخيار إن ثبت، ثبت للسيد دون الأمة؛ لأن الضرر يرجع إليه في النفقة، بخلاف ما إذا خرج معيباً؛ فإن الخيار لها؛ إذ الضرر يختص بها، ولأن [السيد له] إجبارها على نكاح العبد؛ فثبوت الخيار لها ينافيه. هذا إذا كان المشروط الحرية، فإن شرط غيرها، نظر: فإن كان [نسباً، فخرج خيراً مما شرط فلا خيار، وإن بان دون المشروط: فإن كان دون] نسبها يثبت لها الخيار، ولأوليائها إن رضيت؛ لعدم الكفاءة. وإن كان مثل نسبها أو فوقه، فقولان: أصحهما- على ما ذكر في "التهذيب"-: أنه لا خيار لها؛ لأنها لا تتعير به.

والثاني: يثبت؛ للغرور، [ولأنها] طمعت في زيادة شرفه، وإن رضيت فلا خيار للأولياء؛ لأن الكفاءة حاصلة، والشرط لا يؤثر في حقهم. وإن كان المشروط غير النسب، مثل: شرط الملاءة، والملاحة، والشباب، والطول، وأجناس ذلك، فخرج بخلاف ما شرط: فإن كان فوق ما شرط فلا خيار، وإن كان دونه فلها الخيار، وكذا ذكره في "التتمة". فرع: إذا اختارت الفسخ بعد الدخول، وجب مهر المثل، فإن كان الزوج عبداً، فهل يجب في كسبه، أو يتعلق برقبته، أو بذمته يتبع به إذا عَتَقَ؟ فيه ثلاثة أقوال. قال: وإن شرط أنها حرة، فخرجت أمة- أي: والمزوج [وكيل] السيد، وهو ممن يحل له نكاح الأمة- ففيه قولان: أحدهما: أنه باطل. والثاني: [أنه صحيح. وتعليلهما ما ذكرنا، وهل له الخيار أم لا؟ فيه قولان: أصحهما]: أن له الخيار؛ لتضرره برقِّ أولاده ونقصان الاستمتاع؛ لأن السيد يستخدمها، ويسافر بها، وعدم التوارث بتقدير ألا يكون حرّاً. والثاني: لا خيار له، أي: وإن قلنا: إن المرأة يثبت لها خيار الخلف؛ لإمكان الطلاق، وهذا ضعيف؛ لأنه يستفيد بالفسخ سقوط جميع الصداق إذا كان قبل الدخول. ولأن هذا المعنى موجود فيها إذا كان بالزوجة عيب مقارن للعقد، ومع ذلك الخيار ثابت له. وكذا الحكم فيما لو خرجت مكاتبة، أو أم ولد، أو بعضها رقيق. ويجري القولان في صحة النكاح، والخلاف في ثبوت الخيار بتقدير الصحة- فيما إذا شرط نسبها، فخرجت دون ما شرط، ودون نسبه، وكذا إن كانت فوق نسبه، ودون ما شرط بالترتيب، وفيما إذا شرط أنها بيضاء، فكانت سوداء، أو أنها

مليحة، فكانت قبيحة، أو أنها طويلة، فخرجت قصيرة، أو أنها بكر، فخرجت ثيباً، أو أنها مسلمة، فخرجت كتابية. قال: وقيل: إن كان الزوج عبداً، فلا خيار له [قولاً واحداً]، وهو قول أبي إسحاق، والصحيح في "التهذيب"؛ [على ما نقله] قبل باب: "الكلام الذي ينعقد به النكاح"؛ لتكافئهما. قال: والأول أصح- أي: من الطريقين- لما تقدم. واعلم أن التغرير بالحرية [لا يتصور] من سيد الأمة؛ لأنه متى وجد منه، عتقت، وصح النكاح قولاً واحداً، ويتصور من وكيله- كما فرضناه- ومنها، ولا عبرة بقول من ليس بعاقد ولا معقود عليه. وما قاله الجيلي من كونه يتصور من الولي بأن يقول: هي أختي- في غاية البعد؛ من حيث إن هذا القدر لا يدل على الحرية [قطعاً]؛ [لجواز كونها رقيقة مع كونها أخته؛ فلا يكون ذلك من قبيل شرط الحرية]. نعم هذا القول إذا وجد، غلب على الظن أنها حرة؛ فيكون من قبيل ما إذا ظن حريتها من غير شرط، وسيأتي الكلام فيه، إن شاء الله تعالى. فرع: خيار الغرور، هل هو على الفور؟ فيه طريقان: أشبههما: نعم، كخيار العيب.

والثاني: أنه [على الأقوال في خيار] العتق. فرع آخر: إذا أثبتنا الخيار، ينفرد بالفسخ من له الخيار، ولا يحتاج إلى الحاكم؛ قاله في "التهذيب". قال الرافعي: لكن هذا الخيار مختلف فيه مع الاختلاف في فساد العقد، فهو يشبه فسخ النكاح بالعيب، والله- عز وجل- أعلم. قال: وإن كان قد دخل بها- أي: قبل العلم- وقلنا: إن النكاح باطل، أو قلنا: إنه صحيح، وله الخيار، فاختار الفسخ، [لزمه] مهر المثل؛ لأن العقد قد ارتفع بالفسخ، ومقتضى انفساخ العقود ترادّ العوضين، وهو قد استوفى منفعة البضع؛ فوجب بدلها، وهو مهر المثل؛ وهذا هو الأظهر والمنصوص. وفيه قول مخرج: أن الواجب: المسمى، إذا فرعنا على الصحة. ووجه نقله أبو الفرج في آماليه: أن الواجب أقل الأمرين من المسمى ومهر المثل. فرع: إذا كان المغرور عبداً، فحيث يجب المسمى يتعلق بكسبه، ولوجوب المسمى تقديران: أحدهما: أن يفرع على أن العقد صحيح، ولم يفسخ. والثاني: أن يفسخ، ونقول بالمخرج، أو بالوجه الآخر إذا كان أقل. وحيث يجب مهر المثل، فيتعلق بذمته أو بكسبه أو برقبته؟ فيه ثلاثة أقوال. ولوجوب مهر المثل تقديران: أحدهما: أن يحكم بفساد العقد، والأقوال- والحالة هذه- مبنية على أن إذن السيد في النكاح يتناول الصحيح والفاسد [منه]، أو يختص بالصحيح؟ إن قلنا بالأول، فالمهر في كسبه، وإن قلنا بالثاني- وهو الأصح- فهذا نكاح جرى بغير إذن [السيد]، جرى فيه دخول، ومهر المثل في هذا النكاح يكون في ذمة

العبد أو يتعلق برقبته؟ فيه قولان: أظهرهما: [هو] أولهما. والثاني: أن يحكم بصحة العقد، وثبوت الخيار، ووجوب مهر المثل عند الفسخ؛ لأنا إذا أوجبنا مهر المثل، ألحقنا النكاح المفسوخ [بسبب] مقارن للعقد بالنكاح الفاسد. وكان الشيخ أبو محمد يقوي في هذا التصوير قول التعلق بالكسب؛ لأنه مهر واجب في نكاح صحيح مأذون فيه. قال: وهل يرجع به على من غره؟ فيه قولان، توجيههما قد تقدم في العيب، والتفصيل المذكور هناك جارٍ ها هنا؛ كذا قاله الرافعي. أما إذا قلنا بالصحة، ولم يفسخ العقد، فالواجب المسمى، ولا رجوع فيه. هذا كله إذا كان الزوج حرّاً، فإن كان عبداً، فإن قلنا: يتعلق بكسبه أو برقبته، كان للسيد الرجوع على الغارِّ. وإن قلنا: يتعلق بذمته إلى أن يعتق، فالرجوع للعبد. قال في "الذخائر": كذا ذكره الشيخ أبو حامد الأسفراييني في "التعليق"، ولم يذكر في رجوعه بالمهر خلافاً، وينبغي أن يكون إذا قلنا: يثبت في ذمته، يكون في رجوعه القولان في الحر. وإن قلنا: برقبته أو بكسبه، فإن قلنا: إذن السيد يتناول الصحيح والفاسد، كان في رجوعه القولان في الحر، وإن قلنا: لا يتعلق بالفاسد، رجع قولاً واحداً. هذا آخر كلامه. وما قاله الشيخ مجلي من البناء يحتاج إلى تأمل؛ وذلك لأن قول التعلق بالرقبة أو بالذمة مبني على عدم تناول الإذن للنكاح الفاسد، وقول التعلق بالكسب مبني على [عدم] تناوله الفاسد مع الصحيح؛ كما تقدم في الفرع قبله، وإذا كان كذلك لم يحسن البناء.

قال: وإن أتت بولد- أي: لدون ستة أشهر من حين العلم- لزمه قيمته يوم الوضع، أما لزوم قيمته فلأن رق الأم يقتضي رق الأولاد؛ وهذا الولد انعقد حرّاً؛ لظنه الحرية؛ كما لو وطئ الحر أمة الغير ظانّاً أنها أمته، أو زوجته الحرة، فقد فوت رقَه بظنه، وهذا يناظر إيجاب الغرة على الجاني. وحكى الحناطي قولاً: أنه لا يجب قيمة الولد، وحكاه الإمام في فروع العتق احتمالاً للشيخ أبي علي؛ لأن الولد خلق حرّاً؛ فلم يثبت فيه [رق]، ثم لم ينسب إلى إزالة الرق، وإنما يجب الغرم لمالك الرق إذا فرضت جناية [فيما يثبت] ملكه فيه. ثم قال الإمام: وهذا لا وقع له، والإجماع بخلافه. وحكي عن الشيخ أبي علي أيضاً: [أن] من أصحابنا من ذهب إلى أن الولد يمسه الرق، ثم يعتق بسبب الغرور، وأنه غريب جدّاً لم يره لغيره. وحكي عن الشيخ أبي علي أيضاً: أن الجارية لو كانت لأب المغرور لا يجب على المغرور قيمة الولد؛ فإن تقدير الرق في الولد لا ينتفع به الأب؛ فإنه يعتق عليه لا محالة، فإذا لم يفت نسب المغرور فينتفع به، وأما اعتبار القيمة يوم الوضع فلأنه أول إمكان التقويم. وقول الشيخ: يوم الوضع يفهم أنها لو وضعته ميتاً، لا يلزمه شيء؛ إذ لا قيمة له، كما صرح بمثله في البيع. وهذا مفروض فيما إذا كان الوضع بغير جناية جانٍ. وقد حُكِي فيما إذا وطئ الغاصب أو المشترى منه الجارية المغصوبة عن جهل بالتحريم في مثل هذه الصورة- وجهٌ: أنه تجب قيمته لو كان حيّاً، قال الرافعي: فليجر هنا. أما إذا انفصل بجناية جان، فإن كان أجنبيّاً، يجب على عاقلة الجاني غرة الجنين، ويغرم المغرور عشر قيمة الأم للسيد، وإن زادت على قيمة الغرة؛ على الأظهر من الوجهين، وهو المنسوب إلى العراقيين في التهذيب، لأنه لو انفصل

رقيقاً، والحالة هذه، لوجب على الجاني عشر قيمة الأم، فإذا فوت على السيد ذلك، فعليه غرمه؛ وهذا كما أنه يستحق قيمته عند انفصاله حيّاً وإن زادت على قدر الدية. ويغرم على الوجه الثاني أقل الأمرين من عشر قيمة الأم، وما يسلم له بالوراثة من غرة الجنين؛ لأن الغرم إنما ترتب عليه بسبب ما يحصل له من الغرة؛ فلا يزاد عليه. وفيه وجه: أنه لا يغرم له شيئاً؛ لأنه لا قيمة للميت. وأي وقت تعتبر فيه قيمة الأم؟ فيه وجهان: أحدهما: يوم الجناية. والثاني: يوم الانفصال، حكاهما الرافعي في التفويض. وإذا قلنا: يغرم [أقل] الأمرين، فإنما يغرم إذا أخذ ما سلم له بالوراثة. وإن كان الجاني هو المغرور، فعلى عاقلته الغرة، ويجب على المغرور عشر قيمة الأم، إن قلنا: بوجوبه في المسالة الأولى، وإن قلنا: الواجب أقل الأمرين؛ فيتعلق حق السيد بالغرة؛ فيؤدي منها، وما فضل يكون للورثة. وعلى التقديرين لا يرث المغرور شيئاً منها؛ لأنه قاتل. وإن كان المغرور عبداً، فالغرة تتعلق برقبته، ثم إن قلنا بالأول، سلمت الغرة للورثة، وحق السيد يتعلق بذمة المغرور. وإن قلنا بالثاني قبض منها عشر قيمة الأم، فإن فضل شيء، سلم للورثة؛ هكذا قاله الرافعي. قلت: وهو مفرع على أحد الأقوال في أن قيمة الولد تتعلق بالرقبة، وينبغي أن يكون الحكم كذلك، وإن قلنا: إنها تتعلق بالذمة أو بالكسب، كما سنذكره. ولا فرق في حرية الولد بين أن يكون المغرور حرّاً أو عبداً. نعم: إن كان حرّاً، فالقيمة في ذمته، وإن كان عبداً، ففي ذلك ثلاثة أقوال، ذكرها ابن الصباغ وغيره؛ كما قلنا في مهر المثل، والأصح منها التعلق بالذمة.

قال: ويرجع بها على من غره، قال الإمام: إجماعاً، وقد نطق بذلك عمر- رضي الله عنه- ولأنه لم يدخل في العقد على أن يضمنها، بخلاف المهر على أحد القولين. وعن ابن خيران، وابن الوكيل: أن في المسألة قولاً آخر أنه لا يرجع بقيمته؛ كما لا يرجع بالمهر. وإذا قلنا بالرجوع بالمهر وقيمة الولد، فإن كان التغرير من الوكيل، فالرجوع عليه في الحال، وإن كان من الأمة، فعليها بعد العتق، ولا يتعلق الغرم بالكسب والرقبة. وفيه وجه: أنه يتعلق بالرقبة. وإن كان منهما؛ بأن ذكرا الحرية معاً، قال الرافعي: فالرجوع عليها. فإن قلت: ولم لا يخرج على الوجهين فيما إذا كان الغرور بالعيب من الزوجة والولي، فإن الغرم يختص بها على وجه. قلت: لأن في مسألة العيب هي مستحقة للمهر؛ فناسب أن يحال الغرور عليها؛ لقوة جانبها؛ بخلاف مسألتنا؛ فإن مستحق [المهر السيد]؛ فهي والوكيل سيان. ثم في كيفية الرجوع وجهان: أحدهما- وبه قال أبو إسحاق، وهو الأقرب-: أنه يرجع بالنصف على الوكيل، وبالنصف عليها. والثاني: أن له أن يرجع [بالكل على من شاء منهما، ويرجع] المأخوذ منه بالنصف على الآخر؛ كذا قاله في التهذيب. وقال الحناطي وغيره: لا يرجع واحد منهما على الآخر؛ لأن التغرير كامل من كل واحد منهما. قلت: وينبغي أن يكون ما قيل ها هنا مذكوراً في مسألة الغرور بالعيب. ولو ذكرت للزوج حريتها، ثم ذكرها الوكيل، فالرجوع عليها.

وإن ذكرت للوكيل حريتها، فذكرها للزوج، رجع الزوج على الوكيل، والوكيل عليها، وفي [الصور كلها يكون] الرجوع بكمال المهر؛ لأنه للسيد وقد أخذه، وخرج الوطء عن صورة الإباحة؛ هذا كله إذا كان التغرير بالحرية. فإن كان بالنسب، أو الإسلام، أو الملاحة، وغير ذلك مما ذكرناه، والزوجة هي الغارة، فلا مهر لها؛ إذ لا معنى [للدفع] إليها والاسترداد منها، وهل يجب لها أقل ما يصلح مهراً؟ فيه الخلاف المذكور في العيوب. وإن كان من وليها، فحكمه حكم الوكيل، ولا فرق بين علمه وجهله إن كان التغرير بالنسب. وحكم غرور المكاتبة بالحرية حكم الحرة في المهر، وأما قيمة الولد منها، فإن قلت: إن ولد المكاتبة قن للسيد، فالقيمة له، ويرجع عليها بما في يدها، فإن عجزت، ثبت في ذمتها. وإن قلنا: إن حكمه حكمها، فيبنى على أنه إذا قتل، فلمن تكون قيمته؟ وفيه قولان: أحدهما: للسيد؛ فعلى هذا تكون للسيد. والثاني: لها؛ تستعين بها في أداء النجوم؛ فعلى هذا لا رجوع لها بقيمة الولد؛ إذ لا معنى للدفع إليها ثم الاسترجاع منها. ثم الرجوع على الغار في الصور المذكورة مشروط بغرم المغرور؛ كما قلنا في الضامن. قال الإمام: وقد ذكر في الضمان وجه: [أن له] أن يغرِّمه قبل أن يغرم، فيجيء مثله هنا. والظاهر: المنع، ويبنى على الغار بعد العتق. أما إذا علقناه برقبته، أو بكسبه، وغرم، فيرجع السيد في الحال. ولو أبرأته من الصداق أو بعضه، لم يرجع إلا بما غرم؛ على ما حكاه

البغوي، وللمغرور مطالبة الغار بتخليصه؛ كما في الضمان. واعلم أن الشرط إنما يؤثر إذا كان مقترناً بالعقد، فلو تقدم على العقد، فالأصح أنه لاغ، وقد ذكر مثل [ذلك] في فصل التحليل. قال الرافعي: وهذا الخلاف في فساد النكاح وثبوت الخيار، فأما في الرجوع على الغار بالمهر إذا قضينا به، فالتغرير السابق كالمقارن؛ هذا نقل صاحب الكتاب، وحققه الإمام، فقال: لا يشترط في تصوير التغرير دخول الشرط بين الإيجاب والقبول، ولا صدوره من العاقد؛ ألا ترى أنا نضمّن المكاتبة والأمة إذا كان التغرير منهما وليستا بعاقدين، ولكن بشرط اتصاله بالعقد من الغرور فهذا تغرير. ولو لم يقصد بما قاله تغرير السامع، واتفق بعد أيام أنه زوجها ممن سمع، فليس ما جرى بتغرير. وإن ذكره لا في معرض التحريض، وجرى العقد على الاتصال، أو ذكره في معرض التحريض، ولكن جرى العقد بعد زمان فاصل- ففي كونه تغريراً تردد. وقال الرافعي: ويشبه ألا يعتبر الاتصال بالعقد؛ على ما يقتضيه إطلاق صاحب الكتاب، وكان سبب الفرق بين التأثير في الفساد، وفي إثبات الخيار وبين التأثير في الرجوع- أن تعلق الضمان بالتغرير أوسع باباً؛ ولذلك يثبت الرجوع على قولٍ بمجرد السكوت عن عيب المنكوحة، وإذا قدم الطعام إلى المالك، فأكله وجب الضمان على المقدم في قول. هذا آخر كلامه، وما قاله نقلاً وتفقُّهاً يحتاج إلى تأمل، والذي نبه عليه [قولٌ للإمام] [رحمه الله] وقد نبهت لينظر في ذلك كل فطن، فمن عثر على مزيد، فليلحقه بحاشية كتابنا مأجوراً، إن شاء الله تعالى. ووجه التأمل: أن قول الرجوع بالمهر على الغار مفروض فيما إذا قلنا بعدم صحة النكاح، أو قلنا بالصحة، وثبوت الخيار، ففسخ العقد، أما إذا قلنا بالصحة، ولم

يفسخ، فالواجب المسمى، ولا رجوع به على أحد؛ كما تقدم ذكر ذلك، وقد دل عليه كلام الشيخ- رضي الله عنه- في المهذب، وصاحب التهذيب، والرافعي، وغيرهم. وإذا كان التصوير كذلك، لزم أن نقول- إذا وجد الشرط قبل العقد، وقلنا بأنه غير مؤثر-: إن النكاح صحيح ولا خيار، والواجب المسمى، ولا رجوع على أحد، فلا وجه [إذن] للتفرقة بين [فسخ النكاح وبين] الرجوع بالمهر وغيره كما ذكر، والله أعلم. قال: وإن تزوج امرأة، وشرط أنها أمة، فخرجت حرة، أو على أنها كتابية، فخرجت مسلمة- ففيه قولان: أحدهما: أن النكاح باطل. والثاني: أنه صحيح، وتعليلهما ما تقدم. قال: ولا خيار؛ لأنه ثبت لأجل النقص، ولا نقص. وفيه قول محكي في الجيلي: أنه يثبت الخيار؛ لفوات غرض مقصود. والأول هو المشهور، وادعى الإمام أنه لا خلاف في عدم ثبوته في مسألة الكتابية وإن ثبت في البيع فيما إذا شرط: أنه كافر، فخرج مسلماً؛ لأن كل غرض يستباح في النكاح من الكتابية يستباح من المسلمة، والمقصود في الشراء راجع إلى المالية، وقد يكون الكفر في المملوك من الأغراض المالية، ولأن الكافر يطلبه [المسلم] والكافر، والمسلم لا يطلبه غير المسلم، ولو طلبه غيره، لم يستعقب، ولم يبع منه، ورواج الشيء بكثرة الراغبين؛ كما أن وقوفه بقلة الراغبين. قال: وإن تزوج امرأة- أي: من غير شرط- ثم بان أنها أمة، وهو ممن يحل له نكاح الأمة، أو بان أنها كتابية- فقد قيل: فيها قولان: أحدهما: أن له الخيار؛ لأن ظاهر الدار الحرية والإسلام، فإذا خالف ذلك، يثبت الخيار. والثاني: لا خيار له؛ لبعد النكاح عن الخيار، وضعف تأثير الظن؛ ولهذا لو

اشترى عبداً، وظنه كاتباً، فإذا هو غير كاتب- لا خيار. وقيل: مأخذ القولين: أن الكفر والرق هل يلحقان بالعيوب الخمسة، أو لا؟ وجه الإلحاق أن الكفر يورث النفرة عن الاستمتاع، كما أن البرص والجذام يورثانها، والرق يتعدى إلى الولد تحقيقاً وإن كان البرص والجذام يخاف منهما. وقيل: مأخذهما أن التغرير بالفعل هل ينزل منزلة التغرير بالقول؛ لأن هذا الظن يثبت غالباً عن فعل وإيهام صادر من الولي، أو من الزوجة؟ ووجه تنزيله منزلته: أن الخيار يثبت بالتصرية، كما يثبت بالخلف في الشرط. قال: وقيل: في الأمة لا خيار، وفي الكتابية يثبت الخيار؛ وهذا هو النص في الموضعين. والفرق بينهما من وجهين: أشهرهما: أن ولي الكافرة يكون كافراً، وللكافر علامات يتميز بها من الخيار وغيره، فخفاء الحال عن الزوج إنما يكون بتلبيس الولي وتغريره؛ فأثبت الخيار لذلك. وولي الرقيقة لا يتميز عن ولي الحرة؛ فلا تغرير، بل الزوج هو المقصر؛ حيث لم يبحث عن الحال. قال الإمام الغزالي: إن أمكن أن يجعل هذا تغريراً مثبتاً للخيار، فلو نكحها، وظن بكارتها، فإذا هي ثيب، لم يبعد إثبات الخيار؛ لأن النفرة ها هنا أعظم [هذا لفظه]. قال الرافعي: لكن تغير الهيئة في الكتابية أورث ظن الإسلام، ولم [يوجد] هنا ما يورث ظن البكارة. نعم: قد يجعل السكوت عن بيان حالها تغريراً؛ كما جعل السكوت عن بيان العيب تغريراً. والوجه الثاني: أن الكفر منفر للمسلم، فألحق بالعيوب، والرق لا ينفر؛ فلا يمنع من الاستمتاع.

والأشبه طرد القولين. والأصح ما ذكره البغوي وغيره: أنه لا خيار. ولو ظنت الحرة كفاءة الزوج؛ فأذنت في التزويج منه، فإذا هو غير كفء، فلا خيار لها؛ لأن التقصير منها ومن الولي حيث لم يبحثا، وليس هذا كظن السلامة عن العيب؛ إذ الغالب السلامة، وها هنا لا يمكن أن يقال: الغالب الكفاءة. قال الرافعي: وينبغي أن يفصل، فيقال: إن كان فوات الكفاءة؛ لدناءة نسبه، أو حرفته، وفسقه- فالجواب كذلك. [وإن كان فوتها؛ لعيب به، ثبت الخيار]. وإن كان فواتها؛ [لرقه، فليكن الحكم] كما لو نكح امرأة على ظن أنها حرة، فكانت أمة، بل كانت المرأة أولى بإثبات الخيار من جانب الرجل. وما قاله الرافعي من التفرقة بين العيب والرق وغيرهما ليس من عنده، بل قد صرح به الإمام نقلاً، وقد أشرنا إلى موضع ذكره من قبل. وفي فتاوى البغوي: أنه إن كان فاسقاً، ثبت لها الخيار كالعيب. وفي الشامل والتتمة: أن المرأة إذا تزوجت بمن ظنته حرّاً، فخرج عبداً، لها الخيار؛ بخلاف الزوج؛ ذكراه في خيار العتق. قال: وإن تزوج بأمة، ثم أعتقت الأمة- أي: وبقي الزوج رقيقاً- ثبت لها الخيار؛ لما روي أن بريرة أُعتقت، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان زوجها- على ما روي عن عائشة وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم- عبداً، وللإجماع. ولأن عليها عاراً، وضرراً في كونها تحت عبد؛ بسبب النفقة لها ولولدها وغير ذلك. وحكم المكاتبة إذا عتقت حكم الأمة. وإن كانت قد تزوجت برضاها وإذنها؛ فإن إذنها محمول على رضاها بالعبد ما دامت مكاتبة.

ومن بعضها حر وبعضها رقيق حكمها حكم الأمة؛ لبقاء الرق. وفي الزوائد للعمراني حكاية وجه عن صاحب الفروع فيما إذا تبعضت الحرية فيها: أنه ينظر: إن زادت أجزاء حريتها على أجزاء حريته، ثبت لها الخيار، وإلا فلا؛ وذلك الوجه يجب طرده هنا بطريق الأولى. ولو دبرت، أو كوتبت، أو علق عتقها بصفة، فلا خيار لها. ولو عتقت تحت من بعضه رقيق، ثبت لها الخيار، أما إذا أعتق الزوج معها، فلا خيار، ولو أعتق بعدها، فسيأتي الكلام فيه. واعلم أن [صورة] المسألة فيما إذا كان العتق في الصحة، أو في المرض بعد الدخول أو قبله، وخرجت من ثلث مال المعتق سوى الصداق، أما إذا لم تخرج من ثلث المال إلا بضم الصداق إلى المال، فلا خيار لها؛ إذ لو ثبت، وترتب عليه الفسخ، لسقط الصداق، فيعود بعضها رقيقاً بسبب سقوطه، ومن عاد الرق في بعضها، امتنع الخيار؛ فثبوته يؤدي إلى نفيه؛ فمنع من أصله. ولو أعتق الزوج وتحته أمة فلا خيار له على المذهب؛ إذ لا عار في استفراش الناقصة، ويمكنه التخلص بالطلاق، وهو الفارق بينه وبين المحل المنصوص عليه. فرع: لو كانت صغيرة، أو مجنونة، ثبت لها الخيار عند البلوغ والإفاقة، وهل هو على الفور إذ ذاك أو لا؟ فيه الأقوال التي نذكرها من بعد؛ على ما صرَّح به ابن الصباغ. ولا يمنع الزوج من وطء المجنونة قبل الإفاقة، وهل يمنع من وطء الصغيرة قبل البلوغ؟ فيه وجهان محكيان في ابن يونس. والمذهب في الذخائر: أنه لا يمنع، ثم قال: ومن أصحابنا من قال: إن قلنا: إن الطلاق لا يقع على المعتقة قبل الفسخ- يُمنع من الوطء؛ لأنها كالخارجة عن ملكه، ثم قال: وكذلك الحكم في المجنونة. قال: وفي وقته ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه على الفور، وهو الأظهر، كخيار العيب في المبيع، بل أولى؛ لبعد النكاح عن الخيار؛ وعلى هذا يكون الحكم فيه كما في البيع. والثاني: إلى ثلاثة أيام؛ لما روى ابن عباس أن بريرة قضى لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيار ثلاثاً. ولأن الخيار بسبب العتق إنما يثبت لتفعل ما فيه المصلحة لها، وذلك يحتاج إلى النظر والتأمل، ومدة الثلاث قريبة، وهي مدة التروي في الشرع. قال الإمام: ويكون ابتداء الثلاث من وقت علمها بالعتق وتأثيره في الخيار. والثالث: إلى أن يطأها- أيك باختيارها- أو تصرح بما يبطله؛ لما روت عائشة- رضي الله عنها- أن بريرة خيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إِنْ كَانَ قَرَبَكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ". وعن حفصة مثل ذلك. فعلى هذا إن مكنت ولم يطأها، لم يبطل حقها، قاله الإمام. وقال في الذخائر: نكتفي به. ولو طلبها، فامتنعت من تمكينه، فالحاكم يأمرها بعد سؤاله، إما أن تختار فراقه، أو تمكنه من وطئها. ولو اختلفا في حصول الوطء، فمن المصدق منهما؟ فيه وجهان. وفي البيان: أن المحاملي نقل قولاً رابعاً: أنها بالخيار إلى أن تسقط حقها، أو تمكن من الوطء، أو يوجد منها ما يدل على الرضا، مثل أني ُقَبِّلَها فتسكت. وفي الشامل: أن بعض الأصحاب ذهب إلى أن رضاها يتقدر بالمجلس الذي علمت فيه.

أما إذا أصابها الزوج قهراً، ففي سقوط الخيار تردد؛ لأنها كانت متمكنة من الفسخ عند الوطء، وهذا له التفات على ما إذا وطئ امرأته قهراً، هل يبقى لها حق الحبس حتى تقبض المهر؟ وفيه خلاف؛ وهذا مفروض فيما إذا لم يقبض على فيها، أما إذا قبض علي فيها، فلا تردد في بقاء حقه؛ وهذا يناظر تفصيل الأصحاب فيما إذا أخرج أحد المتبايعين من مجلس العقد قهراً. قال: وإن عَتَقَتْ وهي في عدة من طلاق رجعي، فلم تفسخ، أو اختارت المقام معه- لم يسقط خيارها؛ لأنها جارية إلى البينونة؛ فمل يصح [معها اختيار] ما ينافيها. قال الإمام: ولم يخرجوا اختيارها المقام على وقف العقود؛ لأن شرط الوقف أن يكون مورد العقد قابلاً لمقصود العقد؛ ألا ترى أن بيع الخمر لا يوقف إلى أن تتخلل وهي على حالتها غير مستحيلة؟ وحكى أنه سمع من شيخه عن طوائف من الأئمة نفوذ إجازتها، وقال: إنه متجه غير بعيد؛ فإن إجازتها إن لم تتضمن إحلالها فهي متضمنة قطع خيارها. والغزالي نقل عن بعضهم تخريجه على وقف العقود؛ فإن راجعها نفذت، وإلا لغت، ولو فسخت نفذ؛ [لتقطع سلطة] الرجعة وتدفع [مقابل] الانتظار؛ فإنها لو أخرت الفسخ [إلى أن يراجع] كانت العدة من يومئذٍ. وعن صاحب التقريب: أن الفسخ موقوف؛ فإن راجعها نفذ، وغلا فلا. وعلى الأول إذا فسخت، هل تستأنف العدة، أو تكتفي ببقية الأولى؟ فيه قولان؛ كما لو طلق الرجعية.

وإذا قلنا بالبناء، فتكمل عدة الحرائر، أو عدة الإماء؟ فيه خلاف يذكر في موضعه. واعلم أن الشيخ- رضي الله عنه- لو اقتصر على ذكر المسألة الثانية، لأغنته عن ذكر الأولى. قال: فإن ادعت الجهل بالعتق- أي: بعد الوطء، أو مضي الثلاث، أو الفورية- ومثلها يجوز أن يخفي عليها، مثل: إن كانت في بلدة، ومحلة أخرى، قبل قولها؛ إذ الأصل عدم العلم. قلت: ويتجه أن يكون القول قوله؛ استبقاء للنكاح وإن كان الأصل العدم؛ وكذا في الإيلاء. أما إذا [كان مثلها] لا يخفي عليها؛ كما إذا كانت مع السيد في دار واحدة، أو محلة واحدة- لم يقبل قولها؛ لأن ما تدعيه خلاف الظاهر؛ إذ العادة جارية: أن من أعتق رقيقه يعلمه إذا كان معه. ومنهم من أطلق في المسألة قولين، ويحكى ذلك عن أبي إسحاق. قال الشيخ أبو حامد الأسفراييني في التعليق: سئل الشيخ أبو إسحاق في هذه المسألة، فظن أن القولين فيها، وليس كذلك، بل القولان فيما إذا ادعت الجهل بالخيار. قلت: ويظهر أن يكون مأخذ القولين تقابل الأصل والظاهر؛ إذ الأصل عدم العلم، والظاهر وجوده إذا كانت معه في بيت أو محلة. قال: وإن ادعت الجهل بالخيار، ففيه قولان: أحدهما: يقبل، وهو الأصح؛ لأن الأصل عدم العلم، والظاهر معها؛ إذ لا يعرف ذلك إلا الخواص من الناس. والثاني: لا يقبل، ويكون القول قول الزوج في علمها؛ كما إذا قال المشتري: لم أعلم بأن العيب يثبت الخيار. وحكى أبو الفرج الزاز طريقة قاطعة بالقول الثاني؛ وهذا يناظر ما إذا ادعى

الزوج الوطء في مدة العنة؛ فإنه يصدق وإن كان الأصل عدم الوطء؛ محافظة على تبقية النكاح. فرع: إذا فرعنا على أن الخيار على الفور، فادعت الجهل بأنه على الفور، لم تعذر؛ إذ الغالب أن من علم أصل ثبوت الخيار، يعلم كونه- أيضاً- على الفور. وقال في الرق: إن كانت قديمة العهد بالإسلام، وخالطت أهله لم تعذر، وإن كانت حديثة العهد به، أو لم تخالط أهله، فقولان، والله أعلم. قال: وإن أعتقت، فلم تفسخ حتى أعتق الزوج، ففيه قولان: أحدهما: يبطل خيارها؛ لزوال النقص؛ وهذا هو الأظهر في الرافعي، والمذهب في النهاية، والمنصوص في المختصر. والثاني: لا يبطل؛ عملاً بالأصل. وهذا الخلاف كالخلاف في رد المبيع بعد زوال العيب، وفي الأخذ بالشفعة بعد بيع ما يستحق به الشفعة. قال: ويجوز لها الفسخ بالعتق من غير حاكم؛ لأنه ثابت بالنص والإجماع؛ فأشبه الرد بالعيب والشفعة. قال: فإن فسخت قبل الدخول، سقط المهر، أي: وإن كان حقّاً للسيد؛ كما لو ارتدت، وليس للسيد منعها من الفسخ؛ لما يلحقها من الضرر مع البقاء. قال: وإن فسخت بعد الدخول بعتق بعده، وجب المسمى؛ [إذ المهر يستقر] بالدخول، والفسخ يستند إلى حالة العتق [والعتق بعده، ويجب] إذ هو سببه وهو بعد الدخول؛ فلا يؤثر فيما استقر. قال: وإن فسخت بعد الدخول بعتق قبله، سقط المسمى، ووجب مهر المثل؛ لأن الفسخ يستند إلى حالة العتق، فصار الوطء كأنه في نكاح فاسد؛ كذا علله ابن الصباغ. وفي التهذيب حكاية وجه: أنه يجب المسمى، وهو المذهب في التتمة. وقال الإمام: "قطع الأئمة بأن المسمى لا يسقط، ولم يخرجوا فيه القول المنصوص في العيوب؛ وهو أن المسمى يسقط، ويجب مهر المثل؛ والسبب فيه:

أن هذا الفسخ سببٌ ظاهر، وليست هي مستحقة المهر، وإنما المهر لغيرها؛ فيبعد سقوطه؛ فالقطع باستقرار المسمى إذا جرى فسخ العقد بعد المسيس موثوق به نقلاً وتعليلاً"، هذا آخر كلامه، ووافقه الغزالي عليه. وقال الرافعي: وسواء قلنا: إن الواجب مهر المثل، أو المسمى، فهو للسيد؛ إذا لم تكن مفوضة. قلت: وفي وجوب مهر المثل له مباحثة؛ لأن من يوجب مهر المثل يوجهه بأن الفسخ يستند إلى وقت وجود سببه، وهو العتق، فالوطء بعده كأنه في نكاح فاسد، ومقتضى هذا التوجيه أن يكون المهر للأمة؛ لأن الوطء الموجب له جرى وهي حرة. وعلى تقدير: أن يحكم له به ويعلله بأنه محسن؛ فلا يليق حرمانه؛ فينبغي أن يجب له أقل الأمرين من مهر المثل والمسمى؛ لأنه إن كان المهر أقل؛ لم نوجب على الزوج سواه، وإن كان المسمى أقل فالقدر الزائد حصل بسبب الحرية؛ فيكون لها؛ كما قلنا فيما إذا قطعت يد عبد، ثم أعتق، ثم مات- فإنه يجب للسيد أقل الأمرين من كل الدية [وكل القيمة]. ووجه الشبه: أن السراية صيرت القطع قتلاً وهي حاصلة بعد العتق، والقطع سببه، وهو موجود في الرق. وقال في الذخائر: إذا قلنا بوجوب مهر المثل ينبغي أن يخرج على الوجهين فيما إذا كانت مفوضة، ولم يفوض لها، ولم يدخل بها، وقلنا: إن المهر يجب بالوطء في أنه هل يجب للسيد أو لها؟ قال: فإن طلقها الزوج قبل أن تختار الفسخ- أي: طلاقاً بائناً- ففيه قولان: أحدهما- وهو الصحيح، والمنقول في الإملاء-: أنه يقع؛ لأنه صادف النكاح. والثاني- وهو المنصوص في الأم-: أنه موقوف، فإن فسخت، لم يقع؛ لأن إيقاعه يبطل حقها من الفسخ، وإن لم تفسخ، تبينا أنه قد وقع؛ لأنه لا يبطل حقها من الفسخ. وأيضاً: فإنه إذا طلق في الردة يكون الطلاق موقوفاً، فكذلك ها هنا. والقائل الأول يفرق بأن الانفساخ بالردة يستند إلى حالة الردة؛ فتبين أن

الطلاق لم يصادف النكاح، والفسخ بالعتق لا يستند إلى ما قبله. ومنهم من لم يثبت القول الثاني. أما إذا كان الطلاق رجعيّاً؛ فإنه يقع قولاً واحداً؛ لأنه لا يبطل حقها من الفسخ، ويبقى الحكم كما إذا عتقت في العدة. وقال في الذخائر: وأطلق العراقيون القولين، ولم يفصلوا، وفصل المراوزة، فذكروا نحواً مما ذكرناه من التفرقة بين الطلاق الرجعي والبائن. ولو طلق المعيب قبل فسخ الزوجة، ففي نفوذ الطلاق أو وقفه هذا الخلاف؛ كذا حكاه الإمام، والرافعي. وفي البيان: أن الشيخ أبا حامد قال: لا خلاف أنه ينفذ طلاقه، والله أعلم.

باب نكاح المشرك

باب نكاح المشرك المشرك: الكافر على أي ملة كان. قال: إذا أسلم أحد الزوجين الوثنيين، أو المجوسيين، أو أسلمت المرأة والزوج نصراني أو يهودي، فإن كان ذلك قبل الدخول، تعجلت الفرقة، وإن كان بعد الدخول وقفت الفرقة على انقضاء العدة؛ فإن أسلم الآخر قبل انقضائها فهما على النكاح، وإن لم يسلم حتى انقضت العدة، يحكم بالفرقة من حين أسلم الأول منهما. وقال أبو ثور: إن أسلم الرجل قبل [المرأة بعد الدخول، انفسخ النكاح]، وإن أسلمت المرأة، لم ينفسخ حتى تنقضي العدة. ودليلنا على المسألتين: ما روى عبد الله بن سمرة: أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم الرجل قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة، فهي امرأته، وإن أسلم بعد انقضاء العدة، فلا نكاح بينهما. وأما وجه الدلالة من هذا الخبر على الإسلام بعد الدخول، فظاهر، ويضاف إليه القياس على الطلاق؛ لأن كلّاً منهما موضوع لقطع النكاح، ثم الطلقة الواحدة لا تقطع النكاح قبل انقضاء العدة، فكذلك اختلاف الدين. وأما على الإسلام قبل الدخول؛ فلأن الشرع جعل الإسلام في العدة مقرراً للنكاح؛ لكونها من توابعه، وغير مقرر بعد انقضائها؛ لزوال النكاح وآثاره، والإسلام قبل الدخول لا يوجب العدة؛ فكان كما بعد الانقضاء. ولأن النكاح قبل الدخول غير متأكد، ولهذا يرتفع بالطلقة الواحدة؛ وهذا الاختلاف بين الدينين مضاد للنكاح؛ لأنه لا يجوز تقريرهما عليه بعد انقضاء العدة؛ فعلقنا به الفرقة؛ كالطلاق. ولو أسلما معاً، أقرا على النكاح، والاعتبار بآخر كلمة الإسلام.

وهذه الفرقة فرقة فسخ، لا فرقة طلاق. فروع: أحدها: لو قبل الكافر لابنه الصغير نكاح بالغة، وأسلم أبو الطفل والمرأة معاً، قال في التهذيب: بطل النكاح؛ لأن إسلام الولد يحصل عقيب إسلام الأب فيتقدم إسلامها إسلام الزوج. وكذلك إذا أسلمت عقيب إسلام الأب يبطل- أيضاً-؛ لأن إسلام الولد يحصل حكماً، وإسلامها يحصل بالقول، والحكمي يكون سابقاً على القولي؛ فلا يتحقق إسلامهما معاً. الثاني: حيث توقفنا في النكاح إلى انقضاء العدة، فلو طلقها قبل تمام العدة، فالطلاق موقوف أيضاً. وحكى الإمام أن من الأصحاب من جعل الطلاق على قولي وقف العقود، وقال: لا يقع في قول، وإن اجتمعا على الإسلام، وأجراهما فيما إذا أعتق عبد [أبيه] على ظن أنه حي، فبان ميتاً، والمذهب الأول؛ لأن الطلاق والعتاق يقبلان صريح التعليق، فأولى أن يقبلا تقدير التعليق. الثالث: إذا أسلمت المرأة، وتخلف الزوج، ثم أسلم، فادعى الإسلام قبل انقضاء العدة، وأنكرت، فإن اتفقا على أن العدة انقضت يوم الجمعة مثلاً، وادعى الزوج أنه أسلم يوم الخميس، وقالت: بل يوم السبت، فالقول قول [المرأة، وإن اتفقا على أنه أسلم يوم الجمعة [مثلاً]، وقالت: انقضت عدتي يوم الخميس، وقال: بل يوم السبت، فالقول قول] الزوج. وإن اختلفا مطلقاً، فثلاثة أقوال؛ الثالث: أن القول قول من سبق إلى الدعوى، وسيأتي مثل ذلك في باب الرجعة. قال: وإن وطئها في العدة، ولم يسلم الثاني منهما، وجب المهر؛ لأنه وطئ أجنبية بشبهة؛ فوجب عليه مهر المثل؛ كما لو وجد امرأة في فراشه، وظنها زوجته؛ فوطئها.

قال: وإن أسلم- أي: في العدة- فالمنصوص: أنه لا يجب المهر؛ وكذا نصه فيما إذا ارتد أحد الزوجين، ووطئها في العدة، ثم أسلم المرتد: أنه لا يجب المهر، والمنصوص فيما إذا وطئ الرجعية، ثم راجعها أنه يجب المهر. وفي "التتمة" أنه نص في الرجعية على قولين، وللأصحاب طريقان: أحدهما: أن ذلك على قولين بالنقل والتخريج: أحدهما: وجوب المهر؛ لوقوع الوطء في حال ظهور الخلل. والثاني: المنع؛ لارتفاع الخلل آخراً، وعودها إلى صلب النكاح. وحكى ابن كج أن أبا الحسين قال: وجدت القولين منصوصين. والطريق الثاني: القطع بتقرير النصين. والفرق: أن الطلاق لا يرتفع بالرجعة، بل يبقى نقصان العدد؛ فيكون ما بعد الرجعة وما قبل الطلاق بمنزلة نكاحين مختلفين، والخلل الحاصل بتبديل الدين ارتفع بالاجتماع في الإسلام، ولم يبق له أثر؛ فيكون العقد الأول باقياً بحاله. قال: وإن أسلم الحر، وتحته أكثر من أربع نسوة، وأسلمن معه- أي: إما معاً قبل الدخول، وإما في العدة بعد الدخول- اختار أربعاً منهن، وكذا لو أسلم الرجل وهن كتابيات، أو أسلم أربع أولاً، ثم أسلم في عدتهن، ثم أسلمت الباقيات قبل انقضاء عدتهن من حين أسلم الزوج؛ لما روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ أَرْبَعاً، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ"، ولا فرق بين أن ينكحهن معاً أو على الترتيب؛ فإن له أن يختار الأخيرات؛ لتركه الاستفصال في الحديث. وإذا اختار أربعاً منهن، انفسخ نكاح البواقي، وهل يجب لهن مهر؟ قال ابن الصباغ في ضمن مسألة- وهي ما إذا أسلم على أم وبنت-: إنه لا يجب لهن مهر؛ إذا لم يكن [قد] دخل بهن، ولا متعة، ولا نفقة.

وقال في النهاية في ضمن المسألة المذكورة: في وجوب المهر قولان مأخوذان من تصحيح أنكحة الكفار أو الوقف، فإن حكمنا بالصحة، أوجبنا نصف المهر؛ للمفارقة، وإن قلنا بالوقف، وهو قول الإعراض، فالمفارقة لا مهر لها. وقال في "التتمة": الخلاف مبني على قولي الصحة والفساد، وقال: إذا كان قد دخل بهن، فلهن المسمى على قول [الصحة]، ومهر المثل على قول الفساد. فرع: عدة المفارقات في أي وقت تحسب؟ قال ابن الصباغ فيما إذا أسلم وتحته إماء وأسلمن معه، وهو ممن يحل له نكاح الإماء، فاختار واحدة منهن-: انفسخ نكاح الباقيات حين الاختيار، والعدة من حين الاختيار. وهذه المسألة تناظر الحر؛ ذلك لأن الزيادة على الأربع ممتنعة؛ كما أن [الزيادة على] الأمة في حق الحر الذي يجوز له نكاح الأمة ممتنعة؛ فوجب أن يكون الحكم كذلك. وقال- أيضاً- فيما لو أسلم خمس إماء، ثم أعتقن قبل أن يسلم، ثم أسلم- كان له أن يختار أربعاً منهن، وانقطعت عصمة الخامسة، وبانت باختيار الأربع. وقال في "التتمة": المذهب: أنها تعتبر من وقت اختلاف الدين بين الزوجين، وخرج فيه قولاً: أنها تعتبر من وقت الاختيار. وقرَّب صاحب "التهذيب" الخلاف من الخلاف فيما إذا طلق إحدى امرأتيه لا بعينها، ثم عينها، تكون عدتها من وقت التعيين أو من وقت التلفظ بالطلاق؟ وذكر أن الأصح أن الاعتبار من وقت الاختيار. قال الرافعي: لكن الراجح عند عامة الأصحاب: أن الاعتبار من وقت الإسلام. قلت: وما قاله صاحب الشامل هو ما صححه في التهذيب. أما لو أسلم أربع قبل الدخول، أو في العدة بعد الدخول، وتخلفت الباقيات- ارتفع نكاح المتخلفات، وكذا لو أسلم أربع من ثماني نسوة- مثلاً- ثم مُتْنَ، [ثم أسلم الزوج]، ثم أسلمت الباقيات في عدتهن- تعينت الأخيرات. قال: فإن لم يفعل- أي: الاختيار- أجبر عليه، أي: عند الاجتماع في

الإسلام؛ لأنه حق وجب عليه، لا يدخله النيابة؛ فأشبه ما إذا امتنع من قضاء الدين، وأخفى ماله. وإنما قلنا بالوجوب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لغيلانَ الثقفيِّ: "اخْتَرْ أَرْبَعاً، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ"، والأمر على الوجوب. ولا يختار الحاكم عليه، بخلاف المُولِي؛ حيث يطلّق عليه- على الصحيح-؛ لأنه اختيار شهوة؛ ولذلك لا يجوز فيه التوكيل، ولو مات لا يقوم وارثه مقامه، بخلاف الطلاق. والإجبار يكون بالحبس، فإن لم يغن الحبس عزر بما يراه الحاكم من الضرب وغيره، فإن أصر كرر عليه إلى أن يختار. وحكي عن ابن أبي هريرة: أنه لا يضم إلى [الضرب الحبس]، ولكن يشدد عليه الحبس. قال الإمام: وإذا حبس فلا يعزّر على الفور، وأقرب معتبر فيه مدة الاستتابة. واعتبر القاضي الروياني في الإمهال الاستنظار، فقال: ولو استنظر أنظره الحاكم إلى ثلاثة أيام ولا يزيد، وما قاله مؤيد بما سيأتي في الإيلاء. قال: وأخذ بنفقتهن إلى أن يختار؛ لأنهن محبوسات بحكم النكاح، ولأن ما من واحدة منهن إلَّا ويحتمل أنها المنكوحة، ويحتمل أنها المفارقة، وهو المفرط بترك التعيين؛ هكذا علله في "التتمة". وعلى ما قاله ابن الصباغ من أن الفسخ يكون من حين الاختيار، تكون النفقة واجبة عليه لكل واحدة منهن [بحكم أن الأصل بقاء الزوجية في كل واحدة منهن]. فرعان: أحدهما: لو جن في الحبس، أو أغمي عليه [في الحبس، خلي] إلى أن يفيق.

الثاني: الكافر إذا قبل لابنه الصغير نكاح أختين، أو فوق الأربع، ثم أسلم الأب، وأسلمت النسوة بعد الدخول في العدة- يوقف الأمر إلى أن يبلغ. ولو أسلم، ثم جن قبل أن يختار، وقف إلى أن يفيق، والنفقة عليه إلى التعيين، وهذا الفرع يعكر على ما علل به صاحب "التتمة" وجوب النفقة. قال: وإن طلق واحدة منهن، كان ذلك اختياراً لها؛ لتوقف وقوع الطلاق على ثبوت النكاح. ولو طلق أربعاً، انقطع نكاحهن بالطلاق، ويندفع نكاح الباقيات بالشرع. ولو خاطب الجميع بالطلاق، قال الرافعي: وقع الطلاق على الأربع المنكوحات، وتبقى الحاجة إلى التعيين. قلت: وينبغي أن يفصل، فيقال: إن أوقع الطلاق على الترتيب، تعينت الأولى، وإن خاطبهن بلفظ واحد، وقع على أربع منهن لا على التعيين، ويؤمر بالتعيين؛ كما قاله في "الشامل"، فإذا اختار أربعاً [منهن]، وقع بهن الطلاق، ويكون الحكم كما ذكرناه. وفي "التتمة" وجه: أن الطلاق لا يكون تعييناً للنكاح؛ لأنه روي في قصة فيروز الديلمي- وقد أسلم على أختين-: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ" ولو كان الطلاق تعييناً للنكاح في المطلقة، لكان ذلك تفويتاً لنكاحها عليه. والرواية المشهورة: "فَارق". وقيل: يطرد الخلاف في لفظ الفراق- أيضاً- لكن الأظهر [فيه:] أنه اختيار. فرعان: أحدهما: لو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، فقد ذكر وجه: أنه لا يجوز؛ لأن الطلاق اختيار للنكاح، وتعليق الاختيار ممتنع، والصحيح جوازه؛ تغليباً لحكم الطلاق، والاختيار يحصل ضمناً، وقد يحتمل في العقود الضمنية ما لا يحتمل عند الانفراد والاستقلال؛ وهذا كما أن تعليق التمليك لا يجوز، ولو قال: أعتق عبد إذا جاء الغد على كذا، ففعل، صح، وإن كان ذلك متضمناً للتمليك.

وفي تعليق اختيار الفسخ وجه: أنه يجوز؛ تشبيهاً له بالطلاق. الثاني: لو قال: فسخت نكاح هذه، وأراد الطلاق، فهو اختيار للنكاح، وإن أراد الفراق، [وأطلق]، حمل على الاختيار للفراق، والحق بما إذا قال: اخترت هذه للفسخ؛ هكذا قاله الرافعي، ولم يحك سواه في هذا الباب. وحكى في كتاب الخلع: أنه إذا قال لزوجته: فسخت نكاحك، ونوى الطلاق، وهو متمكن من الفسخ بعيب فيها-[خلافاً في] أنه يكون طلاقاً أو لا؟ ووجه عدم نفوذه طلاقاً: أنه أمكن تنفيذه في حقيقته، بخلاف ما إذا لم يوجد سبب الفسخ. قلت: ويتجه أن يجيء مثل هذا الخلاف ها هنا، فيما إذا نوى به الطلاق؛ إذ هو عند الإطلاق منصرف إلى حقيقته، وما يؤيد ذلك أن الإمام في النهاية حكى أن العراقيين حكوا وجهاً فيما إذا قال: من أسلمت فقد فسخت نكاحها، وزعم أنه أراد بذلك الطلاق-: أن تفسير الفسخ بالطلاق مردود، وقال: إنه لا وجه له. وإن تكلف متكلف، وقال: [إن] الفسخ في نكاح المشركات صريح في الفراق الذي هو من خصائص الباب، وما كان صريحاً في موضوعه لا يجوز أن يعدل به عن موضوعه بالنية؛ فهذا بعيد؛ فإن الفسخ قبل الإسلام لا نفاذ له على صيغة التعليق، والطلاق ينفذ؛ فكان استعمال الفسخ في وقت لا يجد نفاذاً في موضوعه. هذا آخر كلامه. وإذا كان هذا الوجه جرى في هذه الصورة مع ما ذكره الإمام من إفساده- يتجه جريانه فيما إذا انتفى المعنى المذكور من طريق الأولى. قال: وإن ظاهر منها، أو آلى، لم يكن ذلك اختياراً لها؛ لأن الظهار وصف بالتحريم، والإيلاء حلف على الامتناع من الوطء، وكل واحد من المعنيين بالأجنبية أليق منه بالمنكوحة. وقيل: يكون اختياراً؛ لأنهما تصرفان يختصان بالنكاح؛ فأشبها الطلاق.

والأول أصح. فإذا اختار التي ظاهر منها أو آلى للنكاح، صح الظهار والإيلاء، ويكون ابتداء مدة الإيلاء في وقت الاختيار، وحينئذ يصير عائداً في الظهار؛ إن لم يفارقها. قال: وإن وطئها، فقد قيل: هو اختيار، كوطء البائع الجارية المبيعة في مدة الخيار. وقيل: ليس باختيار، وهو الصحيح؛ اعتباراً بالرجعة. وهذان القولان كالقولين فيما لو طلق إحدى امرأتيه لا بعينها، أو أبهم إعتاق إحدى الأمتين. وقيل: في المسألة طريقة قاطعة بأنه لا يكون اختياراً. والفرق: أن الاختيار في نكاح المشركات حكمه حكم الابتداء [أو الاستدامة]، ولا يصح ابتداء النكاح واستدامته [بالوطء]، لما سيأتي في الرجعة. فرع: لو وطئ الجميع، إن جعلنا الوطء اختياراً، كان مختاراً للأوليات، وإن لم نجعله اختياراً اختار منهن أربعاً. واعلم: أن الشيخ تكلم فيما يحصل به الاختيار ضمناً، ولم يتكلم في صريح الاختيار؛ لوضوحه، وصريحه [مثل] أن يقول: اخترت نكاحك، [أو: تقرير نكاحك]، أو: عقدك، أو: اخترتك، أو: أمسكتك، أو ثبتُّ نكاحك، أو: ثبتك، أو: حبستك على النكاح. قال الرافعي: وإيراد الأئمة يشعر بأن جميع ذلك صريح، لكن الأقرب أن يجعل قوله: اخترتك، أو: أمسكتك في غير التعريض للنكاح كناية. وإذا أسلم على ثماني نسوة مثلاً، وأسلمن معه، فاختار أربعاً منهن للفسخ، وهو يريد حله بالطلاق- لزم نكاح الأربع البواقي، وإن لم يتلفظ في حقهن بشيء.

ولو قال لأربع: أريدكن، ولأربع: لا أريدكن، قال في التتمة: يحصل التعيين بذلك. قال الرافعي: وقياس ما سبق حصول التعيين بمجرد قوله: أريدكن. ولو قال: اخترت الجميع للنكاح وللفسخ، فهو لغوٌ. ولو قال: حصرت المختارات في هؤلاء الخمس، انحصرن، ويندفع نكاح الباقيات. هذا كله فيما يحصل به الاختيار. أما وقت الاختيار: فوقت اختيار الإجازة، يدخل بإسلامه وإسلام بعض الزوجات؛ حتى لو أسلم وأسلمت معه واحدة أو اثنتان أو ثلاث أو أربع، فاختارهن للنكاح- صح؛ إذ غاية الأمر أن يسلم الباقيات؛ فله أن يختار الأُوَل للنكاح. ووقت اختيار الفسخ يدخل بإسلام الزوج، واجتماع الزوجات معه في الإسلام؛ حتى لو أسلم وأسلم معه أربعة فما دونهن- لم يصح اختيارهن للفسخ ولا واحدة منهن؛ لاحتمال إصرار الباقيات على الكفر حتى تنقضي العدة، وبقاء العدد الشرعي لابد منه. وفي النهاية حكاية وجه حكاه العراقيون: أن اختيارهن- أو واحدة منهن- موقوف: فإن أسلم بعد ذلك أربع، بان صحة الفسخ، وإن لم يسلمن، لم يصح. ولو أسلم معه فوق الأربع، فله أن يختار للفراق منهن ما زاد على الأربع. قال: وإن مات قبل أن يختار، وقف ميراث أربع منهن إلى أن يصطلحن؛ لأنا نعلم أن فيهن أربع زوجات، وقد جهلنا عينهن؛ فوجب التوقف. وقال ابن سريج: لا يوقف، ويوزع عليهن؛ لأن البيان غير متوقع، وهن جميعهن معروفات بشمول الزوجية، وبأنه لا مزية لبعض على بعض، وليس كما إذا قال: إن كان هذا الطائر غراباً فعمرة طالق، وإن لم يكن غراباً فزينب طالق، وأشكل الحال؛ فإن هناك الالتباس علينا، والله تعالى يعلم حال الطائر، ويعلم الطالق منهما، وها هنا لا يمكن أن يقال: إنه يعلم المختارات، مع أنه لم يوجد منه اختيار.

وإلى هذا مال الإمام، والمشهور: الأول. فإن كان تحته ثماني نسوة مثلاً، وفيهن صغيرة، أو مجنونة، صالح الولي عنها، ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يصالح على ما دون الثمن؛ لأنها صاحبة يد في ثمن الموقوف؛ وهذا إذا اصطلحن جميعاً. أما إذا طالب أربعٌ منهن فما دونهن، لم يُعْطَ لهن شيء؛ لاحتمال أن الباقيات الزوجات. وإن جاء خمس دفع إليهن الربع، وللست النصف، وللسبع النصف والرعب؛ إذ فيهن واحدة أو اثنتان أو ثلاث. وهل يشترط في الدفع أن يبرئن عن الباقي؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ فعلى هذا يدفع ما بقي [لمن بقي]، وكأنهن اصطلحن على القسمة هكذا. وأصحهما: أنه لا يشترط هذا كله إذا كن مسلمات، وهو المفهوم من كلام الشيخ في أول المسألة؛ ولذلك استغنى عن ذكره. فإن كن كتابيات، لم يوقف لهن شيء. وإن كان أربع منهن كتابيات وأربع مسلمات، فوجهان: الأصح منهما: أنه لا يوقف، وهو ما حكاه الغزالي؛ إذ كان يحتمل أن يختار الكتابيات؛ فلا يرث الجميع؛ فمل يحصل حق الزوجة بيقين. والثاني: أنه يوقف، وهو ما ارتضاه في الشامل؛ لأن استحقاق نصيب الزوجات غير معلوم، والشك في أصل الاستحقاق لا يمنع الوقف؛ بدليل مسائل الحمل ونحوها. وعلى هذا إذا أردن الصلح اصطلحن مع بقية الورثة الذين يكون لهم نصيب

[الزوجات] لو كن غير وارثات؛ لأنه متردد بينهنَّ بخلاف المسألة الأولى؛ هذا حكم الإرث. وأما العدة: فإن كان ذلك قبل الدخول، اعتدت كل [واحدة] منهن بأربعة أشهر وعشر. وإن كان بعد الدخول، اعتدت الحامل بوضع الحمل، وغير الحامل إن كانت من ذوات الشهور، اعتدت بأربعة أشهر وعشر وإن كانت من ذوات الأقراء، اعتدت بأقصى الأجلين من أربعة أشهر وعشر أو ثلاثة أقراء. والأشهر تعتبر من وقت الموت، وفي الأقراء وجهان، ويقال: قولان: أحدهما: من وقت الموت. والثاني- وهو الأصح-: من وقت دخول أحدهما في الإسلام، أو دخولهما. والذي جزم به ابن الصباغ الأول، وقد حكيناه عنه من قبل عند الكلام في أن عدة المفارقات من أي وقت تحسب؟ والذي يظهر أن يكون هذا الخلاف مبنيّاً على أن الفرقة في أي وقت تقع؟ وقد تقدم. فرع: لو تزوج رجلان امرأة، ثم أسلموا، واعتقادهم جواز ذلك، فلا خلاف أنه ليس للزوجين الاختيار، وهل يثبت للمرأة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ كما لو أسلم الرجل وتحته أختان. والصحيح: المنع، ولكن يفرق بينهما؛ لأنه لو ثبت لها الخيار، فلابد أن تختار واحداً منهما لتقرير النكاح، وآخر للفرقة، وقول المرأة لا يعتبر في تقرير النكاح؛ ولهذا لا يصح منها الرجعة بإذن الزوج. وإن كان اعتقادهم عدم الجواز، فإن عقدا عليها في دفعة واحدة، فلا تقر مع واحد منهما. وإن وقع أحد العقدين بعد الآخر، فنكاح الأول [صحيح دون غيره].

قال: وإن أسلم وتحته أمٌّ وبنت. اعلم: أنه لابد من تقديم قاعدة يبنى عليها حكم هذه المسألة، وهي أن أنكحة الكفار الذين يعتقدون صحتها ما حكمها؟ وفيها ثلاثة أقاويل، نقلها بعضهم أقوالاً، وبعضهم وجوهاً: أصحها: أنها محكوم لها بالصحة، ولم يذكر في الشامل سواها في بابها، وإن حكى غيرها في التفريع؛ لقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4]، وقوله تعالى: {وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9]، ولما روي أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: "وُلِدتُ مِن نِكَاحٍ لَا مِن سِفَاحٍ". وأيضاً: أنهم يقرون عليها بعد الإسلام، والفاسد لا ينقلب صحيحاً بالإسلام، والتقرير على الفاسد محال، ولو ترافعوا إلينا لم يفرق بينهم. ثم هذا القائل يقول: إن اتصلت بالإسلام، وكانت تفارق الشرع؛ لأمر يئول إلى العدد والجمع، مثل أن يسلم على عشر نسوة، أو على أختين- فقد صحت الأنكحة على العشر، والأختين في الشرك، ثم الإسلام يدفع إحدى الأختين

والنسوة الزائدات على الأربع على الإبهام. والثاني: أنها فاسدة؛ لأنهم لا يراعون حدّ الشرع وشروطه، وتصحيحه بعد الإسلام رخصة، وعدم التفريق؛ رعاية للعهد أو الذمة. وضعف الإمام هذا القول ووجهه في الذخائر-[أي]: التضعيف- بأن التحليل يحصل بوطء الذمي مع أن الصحيح من المذهب: أن النكاح الفاسد لا يحصل به الإحلال. وأيضاً: فإن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا، وجعلهما محصنين، والإحصان لا يحصل بالنكاح الفاسد. والثالث: أنا نتوقف فيها إلى الإسلام، فما يقرون عليه إذا أسلموا تبين لنا صحته، وما لا، فلا. ثم هذا الخلاف مخصوص بالعقود التي يحكم بفساد مثلها في الإسلام، أو يجري في مطلق عقودهم؟ قال الرافعي: قضية كلام أبي سعيد وغيره. الأول.

وفي النهاية: أن من حكم بفساد أنكحتهم يلزمه ألَّا يفصل بين ما يقع منها على شرط الشرع وبين ما يخالفه، والمصير إلى [أن] نكاحاً يعتقدونه على شرط الشرائع كلها فاسد- مذهب لا نعتقده. وفي الحاوي: أن الذي عليه الجمهور: أنها ليست على ثلاثة أقوال، بل على ثلاثة أحوال: أحدها: أن يوجد النكاح بالشرائط مع انتفاء الموانع؛ فهذا النكاح صحيح. الثانية: أن يوجد مع المانع وفقد الشرائط، فهو باطل، لا يقر عليه. الثالثة: أن يوجد مع الخلو عن الموانع، ولكن مع اختلال الشرائط: كفقد الولي، أو الشهود، أو اللفظ الخاص، وهي معفو عنها؛ فيقر عليه [بعد] الإسلام. فعلى الأول: إن قلنا بالفساد، أو بالوقف، لا مهر لكل امرأة غير مدخول بها، اندفع نكاحها بإسلام الرجل، ولا متعة. وإن قلنا بالصحة، وجب نصف المهر المسمى إن كان صحيحاً، ونصف مهر المثل إن كان فاسداً، والمتعة إن لم يسم شيئاً. وقال الشيخ أبو حامد الأسفراييني: لا مهر للمندفعة، ولم يحك فيه خلافاً، ولم ينبه على الخلاف في صحة أنكحتهم. أما إذا كان الاندفاع بإسلامها، فلا شيء لها في المهر، وكذلك المتعة؛ لأن الفراق جاء من جهتها؛ كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى. وقد روي فيه قول: أنه يجب لها نصف المهر؛ لأنها محسنة بالإسلام؛ فكان من حقه أن يوافقها، فإذا امتنع نسب الفراق إلى تخلفه. والظاهر الأول: ثم عن القفال [أنه عد] من صور الاندفاع: ما إذا نكح المشرك محرماً له، ثم أسلم، وجعل وجوب نصف المهر على القولين.

ورأى الإمام القطع بأنه لا شيء للمحرم من المهر، وقال: لا نقول بأن العقد انعقد عليها، ثم اندفع وانفسخ بالإسلام. قال الرافعي: والمطلق في إطلاق الغزالي وغيره- الأول. رجعنا إلى مسألة الكتاب، وهي ما إذا أسلم وتحته أم وبنت، وأسلمتا معه- أي: في حالة واحدة- فإن كان قد دخل بهما، انفسخ نكاحهما، أي: وحرمتا على التأبيد: أما نكاح البنت؛ فبالدخول بالأم. [وأما] نكاح الأم؛ فبالدخول بالبنت، وبالعقد عليها؛ إن قلنا بصحة أنكحتهم، ولكل واحدة منهما المسمى الصحيح إن قلنا بصحة أنكحتهم، وإلا فمهر المثل. [قال:] وإن لم يدخل بواحدة منهما، ففيه قولان: أحدهما- وهو اختيار المزني-: أنه يثبت نكاح البنت، ويبطل نكاح الأم. والثاني: وهو الأصح-: أنه يختار أيتهما شاء، وينفسخ نكاح الأخرى، وهما مبنيان عند جماهير الأصحاب على الخلاف في صحة أنكحتهم وفسادها؛ إن صححناها تعينت البنت، وإلا تخير. وقضية هذا البناء ترجيح [هذا] القول الذي اختاره المزني، وهو تعين البنت، وإليه ذهب الشيخ أبو علي والصيدلاني [والإمام ومن تابعه وصاحب التهذيب، لكن الذي رجحه الشيخ قول التخيير]، وهو اختيار الشيخ أبي حامد ومن تابعه. وضعف الإمام البناء على قول الفساد، وقال: لم يصر محقق إلى أن نكاح المشرك [لا] حكم له وكيف- يستجيز المستجيز هذا مع المصير إلى إيجاب الإمساك إلا أن يطلق، بل الوجه البناء على قول الصحة والوقف:

فإن قلنا بالصحة: فسخنا نكاح الأم، وأثبتنا نكاح البنت. وإن قلنا بالوقف؛ فحقيقته أنا عند الاتصال بالإسلام، نتبين تصحيح ما يقع عليه الاختيار؛ فيسند إلى حالة النكاح في الشرك. فعلى هذا: لا يثبت القول بصحة [النكاح للبنت]؛ كما لا يقطع به نكاح الأم، فإذا أسلموا أجزناه. وإلى هذا البناء ميل ابن الصباغ والشيخ في المهذب. ومن أصحابنا من قال: القولان مبنيان على القولين في أن الاختيار ابتداء نكاح أو استدامة؟ وقال الصيدلاني: إنه تتعين البنت للإمساك، ويبطل نكاح الأم قولاً واحداً. وفرّع ابن الحداد حكم المهر على القولين، [فقال]: إن قلنا بالتخيير، فللمفارقة نصف المهر؛ لأنه رفع نكاحها بإمساك الأخرى. فإن قلنا بتعين البنت، فلا مهر للأم؛ لأن نكاحها اندفع بغير اختياره؛ لأن التخيير مبني على أن أنكحتهم فاسدة، فالتي فارقها كأنه لم ينكحها قط حتى يجوز لابنه أن ينكحها، وإذا لم يكن نكاح ولا دخول، فلا مهر. وإن عين البنت فللأم نصف المهر؛ لصحة نكاحها واندفاعه بالإسلام. ومال الإمام إلى أنه لا يجب المهر على هذا- أيضاً- لأنه صح نكاح البنت؛ فتصير الأم محرماً، وإيجاب المهر للمحرم بعيد؛ وهذا بناءً على أصله في أن المحرم لا يستحق المهر كما تقدم. قال: وإن دخل بالبنت دون الأم، ثبت نكاح البنت؛ لأنه لم يدخل بالأم، والعقد عليها لا يحرم البنت، وانفسخ نكاح الأم؛ لأنها حرمت بالدخول بالبنت وبالعقد عليها- أيضاً- إن قلنا بصحة أنكحتهم، [ولا مهر للأم] على قول ابن الحداد. وعلى طريقة القفال يجب نصف المهر إذا صححنا أنكحتهم. قال: وإن دخل بالأم دون البنت، ففيه قولان:

أحدهما: ينفسخ نكاحهما، وحرمتا [عليه] على التأبيد؛ وهذا تفريع على [القول بصحة] أنكحتهم. أما تحريم الأم؛ فبالعقد على البنت. وتحريم البنت بالدخول بالأم. والثاني- وهو الصحيح-: أنه يثبت نكاح الأم؛ إذ لا مفسد له، وينفسخ نكاح البنت بالدخول بالأم؛ وهذا تفريع على قول الوقف أو الفساد على ما تقدم. قال: وإن أسلم [الحر] وتحته أربع إماء، فأسلمن معه- أي: في حالة واحدة، [قبل الدخول] أو في العدة بعد الدخول- فإن كان ممن يحل له نكاح الإماء اختار واحدة منهن؛ لأنه يجوز أن يبتدئ نكاحها؛ فجاز اختيارها؛ كالحرة، وينفسخ نكاح البواقي. وحكى في "التتمة" قولاً: أنه يثبت نكاح الأربع إماء؛ [بناء] على أن الاختيار يلحق بالاستدامة اعتباراً بالرجعة. قال الشيخ في المهذب: الفرق بينه وبين الرجعة أن الرجعة [سد] ثلمة في النكاح، والاختيار إثبات نكاح في المرأة؛ فصار كابتداء العقد. وإن كان ممن لا يحل له نكاح الإماء انفسخ نكاحهن؛ لأنه لا يجوز له ابتداء نكاح واحدة منهن؛ فلا يجوز له اختيارها؛ كالمعتدة من غيره، وذوات المحارم. ويجري فيه الوجه المحكي في "التتمة"، وهو مذهب أبي ثور. أما إذا لم يسلمن، فإنه لا يختار واحدة منهن، سواء كن وثنيات أو كتابيات؛ إذ نكاح [الأمة] الكتابية غير جائز. قال: [فإن] نكح حرة وإماء وأسلمت الحرة معه، ثبت نكاحها، وانفسخ نكاح الإماء؛ لأنه لا يجوز أن يبتدئ نكاح أمة مع وجود حرة؛ فلا يجوز أن يختارها.

وفيه الوجه المحكي في "التتمة". وإن لم تسلم الحرة وأسلم الإماء وقف أمرهن على إسلام الحرة، فإن أسلمت قبل انقضاء العدة، لزم نكاحها- أي: على المذهب- وانفسخ نكاح الإماء؛ لأن الإسلام في العدة بمنزلة المقارن. وهكذا الحكم فيما لو أسلم على إماء، فتخلفت واحدة منهن، ثم أعتقت، وأسلمت في العدة؛ فإنه يثبت نكاحها ويندفع نكاح الإماء. قال: وإن لم تسلم حتى انقضت العدة، كان له أن يختار واحدة من الإماء؛ إذ ظهر أنها بانت باختلاف الدين فأشبهت ما إذا تمحضت الإماء. [وهكذا الحكم فيما لو ماتت قبل الإسلام]. فرع: لو اختار واحدة من الإماء قبل إسلام الحرة، ثم ماتت الحرة، أو لم تسلم حتى انقضت العدة، نقل المزني في المختصر: أنها تثبت. قال الإمام: فمن الأصحاب من غلطه، والصحيح صحة النقل، وحكمه على القولين في وقف العقود. قال: وإن أسلم وتحته إماء، وهو موسر، فلم يسلمن حتى أعسر، ثم أسلمن- كان له أن يختار واحدة منهن، هذا نصه؛ لأنه لما عسر اعتبار الشرائط حالة العقد، كان أولى الأوقات باعتبارها حالة الاختيار، وذلك حالة الاجتماع في الإسلام، فإن الأمة لو تخلفت، وأسلم الزوج، فاختيارها غير ممكن وإن كانت كتابية؛ فإن الأمة الكتابية لا تكون منكوحة لمسلم؛ وإن أسلمت الأمة، وتخلف الزوج، فاختيار الكافر المسلمة محال؛ فتعين اعتبار أول حالة الاجتماع في الإسلام؛ فإنه أول الإمكان. فإن قيل: أليس قلتم: لو كان تحته حرة وإماء، فتأخر الإماء، وماتت الحرة بعد أن أسلمت، ثم أسلم الإماء- لم يكن له أن يختار واحدة منهن، وإن كان- وقت الاختيار- ليس تحته حرة، وكل من عدم اليسار وفقد الحرة من شرائط صحة نكاح الأمة؟ فالجواب: أن من الأصحاب من نقل جواب كل مسألة إلى الأخرى، وجعلهما على قولين.

ومنهم من فرق بوجوه: أحدها: أن حكم نكاح الحرة بعد موتها باق؛ بدليل الإرث، وجواز تغسيلها ووجوب الكفن عليه على رأي، وليس لليسار الفائت حكم حتى يقام الأثر مقام المؤثر. والثاني: أن المرأة إذا أسلمت وتعينت حُسِبَتْ على الزوج ولم يؤثر موتها، ألا ترى أنه لو أسلم وتحته خمس نسوة، ثم أسلمت واحدة، فاختارها، ثم أسلمت البواقي، لم يكن له إمساكهن، وإنما يمسك ثلاثاً منهن. والثالث قاله الإمام: أن الأمر في الحرة أعظم وأظهر من اليسار؛ فلا ينزل منزلتها، ألا ترى أنه لو كان في نكاحه حرة رتقاء أو غائبة- لم ينكح الأمة، ولو كان ماله غائباً لا يصل إليه إلا بعد زمان طويل يجوز له نكاح الأمة؛ هذا آخر كلامه في الفرق. ونقل عن أبي يحيى البلخي: أن المعتبر في اليسار والإعسار وجوب العنت حالة إسلام أحدهما، ولا يعتبر حالة الاجتماع، حتى لو نكح أمة في الشرك- مثلاً- ثم أسلم وهي متخلفة، ولما أسلم كان معسرً خائفاً من العنت، ثم أسلمت وهو موسر وذلك في العدة- فله إمساك الأمة. قال الإمام: وهذا الذي ذكره سخيف لا يساوي الذكر، ولو أسلم وأسلمت معه واحدة، ثم أسلمت الباقيات، وهو معسر، كان له أن يختار واحدة من الباقيات. وقال ابن الصباغ: ليس له أن يختار واحدة منهن؛ لأن بإسلام الأولة دخل وقت الاختيار؛ ألا ترى أنه لو كان معسراً- كان له أن يختارها، فإذا كان موسراً، فقد بطل اختياره. ولو أسلم وتحته ثلاث إماء، فأسلمت واحدة معه وهو معسر، ثم أسلمت ثانية وهو موسر، ثم أسلمت الثالثة وهو معسر، فيندفع نكاح الثانية، ويتخير بين الأولى والثالثة؛ وهذا مبني على ظاهر المذهب. فرع: لو أسلم معه واحدة من الإماء، فله أن يختارها للبقاء دون الفسخ. قلت: وكان يحتمل ألَّا يصح اختيارها للبقاء- أيضاً- لاحتمال أن تُفيق

واحدةٌ من الباقيات، ثم تسلم قبل انقضاء عدتها، فإنه يندفع بذلك نكاح الإماء ويصير ذلك كما لو أسلم وتحته حرة وأمة، وأسلمت الحرة، وتخلفت الأمة. قال: لو أسلم عبد وعنده أربع نسوة، وأسلمن معه، اختار منهن اثنتين، سواء كن حرائر أو إماء؛ إذ لا يجمع بين أكثر منهما؛ كما تقدم ذكره؛ فالزيادة عليهما في حقه كالزيادة على الأربع في حق الحر، وقد تقدم حكم ذلك. فرع: إذا كن حرائر، هل يثبت الخيار لمن اختارها بعد الإسلام؟ فيه وجهان: أظهرهما:- على ما ذكره الإمام والمتولي- المنع؛ لأنها رضيت برقِه أولاً ولم يحدث فيها عتق. والثاني: يثبت؛ لأن الرق نقص في الإسلام؛ من حيث إن الحر لا يساوي الرقيق في الأحكام، وفي الشرك لا يتميز الحر عن الرقيق؛ وهذا ظاهر النص. قال الداركي: وهذا الخلاف في أهل الحرب، فأما الذمية مع الذمي، فلا خيار لها؛ لأنها رضيت بأحكامنا. قال: فإن أسلم، وأعتق ثم أسلمن؛ أو أسلمن ثم عتق، ثم أسلم- ثبت نكاح الأربع- أي: إذا كن حرائر- لأن الاعتبار بوقت الاختيار، وهو فيه ممن يحل له الجمع بين أربع نسوة، وهكذا الحكم فيما لو أسلم معه واحدة، ثم أعتق ثم أسلمت الباقيات. وعن القاضي ابن كج أن أبا الحسين حكى وجهاً: أنه لا يثبت نكاح الأربع، ويختار منهن اثنتين. أما لو أسلم معه اثنتان، ثم عتق، ثم أسلمت الباقيات، فليس له إلا اختيار اثنتين، إما الأوليين أو الباقيتين، أو واحدة من الأوليين وواحدة من الباقيتين. والفرق بين هذه الصورة وبين الصورة الأولى على المذهب: أنه إذا لم تسلم إلا واحدة، لم تكمل عدة العبيد، فإذا أسلمت اثنتان، ثم عتقن، فقد كمل عدد العبيد قبل العتق، فحدوث الحرية من بعد لا يفيد زيادة عليه. وشبه الأصحاب الصورتين بما إذا طلق العبد امرأته طلقتين، ثم عتق، لم يملك بالعتق طلقة ثالثة، ولم يكن له نكاحها إلا بمحلل. ولو طلقها طلقة، ثم

عتق، ونكحها أو راجعها، ملك الطلقتين. أما إذا كن الأربع إماء أسلمن، ولم يعتق، فلا يختار إلا واحدة بشرائط نكاح الأمة. ولو أسلم معه اثنتان- والصورة هذه- ثم عتق، ثم أسلمت المتخلفات- لم يكن له إمساك الأربع، بل له اختيار اثنتين، ولا يجوز اختيار المتخلفتين، ويجوز اختيار الأوليين، وهل يجوز أن يختار واحدة من الأوليين وواحدة من الأخريين؟ فيه وجهان: أصحهما: المنع. وعن القاضي الحسين: أنه يجوز اختيار الأخريين. ولو أسلمت معه واحدة، ثم عتق، ثم أسلمت الباقيات، ولم يعتقن- قال في التتمة: لا يختار إلا واحدة على ظاهر المذهب، وهذا هو الجواب في التهذيب. قال الرافعي: لكن قياس الأصل الذي سبق أن يجوز له اختيار اثنتين؛ لأنه لم يستوف عدد العبيد قبل العتق. وإذا قلنا: إنه لا يختار إلا واحدة، تتعين التي سبق إسلامها؛ كذا ذكره في التهذيب والتتمة. وقال في التتمة: وعلى طريقة القاضي يختار واحدة من الجملة. وعكس الإمام؛ فحكى عن القاضي: أن الأولى تتعين، وعده هفوة منه. وعن سائر الأصحاب: أنه يختار من الجملة واحدة. أما إذا عتقت البواقي في صورة إسلام الواحدة، ثم أسلمن- قال في التهذيب: له إمساك الكل. قال: وإن أسلم الزوجان، وبينهما نكاح متعة، أو نكاح شرط فيه خيار الفسخ متى شاءا أو شاء أحدهما، لم يقرا عليه. أما في المسألة الأولى، فلأنه إن كان بعد انقضاء المدة، لم يبق نكاح حتى يقرا عليه، وإن كان قبل انقضائها، فلم يعتقدا تأبيده، والنكاح عقد مؤبد.

أما إذا اعتقداه مؤبداً، فيقرا عليه. وأما في المسألة الثانية؛ [فلأنهما لا يعتقدان] لزوم النكاح، والنكاح عقد لازم. ولو طلق المشرك امرأته ثلاثاً، ثم تزوجها قبل أن تنكح زوجاً غيره، ثم أسلما، لم يقرا عليه؛ لأنها لا تحل له قبل [أن يتزوجها زوج آخر] فلم يقرا عليه، كما لو أسلم وتحته ذات محرم. قلت: لو خرج ذلك على القولين في أن نكاحهم صحيح أو فاسد؟ لم يبعد. قال: وإن أسلما وقد تزوجها في العدة، أو بشرط خيار الثلاث، فإن أسلما قبل انقضاء العدة، أو قبل انقضاء مدة الثلاث، أقرا عليه: أما في المسألة الأولى؛ فلأنها إذا لم تكن منقضية، لم يجز ابتداء النكاح عليها؛ فلم يجز التقرير؛ لأنا نعتبر حالة الاجتماع في الإسلام، ونقدر أن العقد إذ ذاك وجد. وإذا كانت منقضية، جاز ابتداء العقد عليها؛ فجاز التقرير. وخصص في "الرقم" هذا التفصيل بعدة النكاح [وأما إذا نكح معتدة عن الشبهة، ثم أسلما والعدة باقية، قال: يقران على النكاح]؛ لأن الإسلام لا ينفي دوام النكاح مع عدة الشبهة؛ فلا يعترض عليه إذا لاقاه. قال الرافعي: ولم يتعرض لهذا الفرق أكثرهم، والإطلاق يوافق اعتبار التقرير بالابتداء. وأما في المسألة الثانية؛ فلأنهما في المدة، لم يعتقداه على صفة اللزوم فيها، ونحن وإن لم نراع في عقودهم الجارية في الشرك- شرائطَ الإسلام، فلا نثبت

ما لم يثبتوه بعد [انقضاء مدة الخيار] يعتقدان لزومه، فانتفى المانع. تنبيه: حكم مقارنة الخيار- والعدة إسلام أحدهما- حكم مقارنة إسلامهما؛ حتى لو أسلم أحدهما والعدة باقية، أو مدة الخيار باقية، ثم أسلم الآخر وقد انقضت- فلا يقران، هكذا حكاه الإمام عن الصيدلاني، ووافقه عليه، [وبه أجاب] الغزالي، وصاحب التهذيب. وعن القاضي الحسين: أنه لا يندفع النكاح بمقارنة العدة أو مدة الخيار؛ لإسلام أحدهما؛ لأن وقت الاختيار والإمساك هو وقت الاجتماع على الإسلام، فليكن النظر إليه. فرع: لو وطئت بشبهة، ثم أسلما وهي معتدة عن وطء [الشبهة]، أو سبق الزوج بالإسلام، ثم أحرم، ثم أسلمت المرأة- أقرا على النكاح، على أصح الوجهين. والوجهان بناهما جماعة من الأئمة على أن الاختيار والإمساك [لعقد] جرى في الشرك- جارٍ مجرى استدامة النكاح أو مجرى ابتدائه؟ وفيه قولان مستنبطان. قال صاحب التتمة: وهذه القاعدة في التحقيق مبنية على أن أنكحتهم في الشرك صحيحة أم لا؟ فإن قلنا: إنها صحيحة، فالاختيار استدامة، وإلا فهو جار مجرى الابتداء. لكن هذا البناء يقتضي أن يكون جريانها مجرى الاستدامة أظهر؛ لأن الصحيح صحة أنكحتهم، والمشهور في كلام الأصحاب ترجيح جريانه مجرى الابتداء، ونسبوا قول الاستدامة إلى أبي ثور. قال: وإن قهر حربي حربية على الوطء، أو طاوعته، ثم أسلما، فإن اعتقدا ذلك نكاحاً، أقرا عليه؛ لأنه نكاح لهم فيمن يجوز ابتداء نكاحها؛ فأقرا عليه؛ كالنكاح بلا ولي ولا شهود. وقال القفال: لا [يقران عليه؛ إذ لا أقل من صورة العقد. وإن لم يعتقداه نكاحاً، لم] يقرا عليه؛ لأنه ليس بنكاح في معتقدنا ولا معتقدهم.

وتخصيص الشيخ المسألة بالحربي؛ ليخرج ما لو قهر ذمي ذمية، ثم أسلما؛ فإنهما لا يقران عليه وإن اعتقداه نكاحاً؛ لأن على الإمام أن يدفع بعضهم عن بعض، بخلاف أهل الحرب. والمستأمنون ليسوا كأهل الذمة في ذلك؛ إذ ليس على الإمام منع بعضهم من بعض، وإنما يلزمه بحكم الأمان أن يمنع عنهم من عليهم أحكام الإسلام. فرع: لو أسلما على عقد نكاح يعتقدان فساده، قال الإمام: تردد فيه شيخي، والذي أراه: أنه، لا يقران على ما اعترفا بفساده؛ إذا كان فاسداً في ديننا أيضاً، أما إذا كان صحيحاً في ديننا؛ فيتجه تقريرهما عليه إذا أسلما. قال: وإن ارتد الزوجان المسلمان- أي: إما معاً، أو على التعاقب- فإن كان ذلك قبل الدخول، تعجلت الفرقة، وإن كان بعد الدخول، وقفت الفرقة على انقضاء العدة، فإن اجتمعا على الإسلام قبل انقضائها، فهما على النكاح، وإن لم يجتمعا حتى انقضت العدة، حكم بالفرقة؛ لأنه انتقال من دين إلى دين يمنع ابتداء النكاح؛ فكان حكمه ما ذكرناه؛ كما لو أسلم أحد الزوجين الوثنيين. فرعان: أحدهما: لو ارتد الرجل بعد الدخول، ثم أسلم، واختلفا؛ فقال الرجل: عدت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة؛ فالنكاح قائم، وقالت المرأة: [بل] بعدها- فالحكم كما إذا اختلف الزوجان في إسلامه بعد إسلامها، وقد مرَّ. الثاني: لو طلقها في زمن التوقف، أو ظاهر عنها أو آلى، توقفنا، [فإن] جمعهما الإسلام قبل انقضاء العدة- تبينَّا صحتها، وإلا فلا. قلت: والوجه الذي حكاه الإمام عن بعض الأصحاب فيما إذا أسلم أحد الزوجين بعد الدخول، وطلق في زمن التوقف: أن الطلاق يخرج على وقف العقود- يتجه جريانه هنا. وليس للزوج في مدة التوقف بسبب الردة أو الإسلام أن ينكح أختها، ولا عمتها، ولا خالتها، ولا أربعاً سواها، ولا أمة، وإن كان ممن يجوز له نكاح الأمة؛ لاحتمال إسلامها، واستقرار النكاح به.

نعم: لو طلقها ثلاثاً في زمن التوقف، أو خالعها، جاز له ذلك. قال: وإن انتقل المشرك من دين إلى دين يقرّ أهله عليه- أي: والأول كذلك- كما إذا تهود النصراني، [أو تنصر اليهودي]- ففيه قولان: أحدهما: يقرّ عليه؛ لأنه دين يقرّ أهله عليه؛ فإذا انتقل إليه أقر عليه؛ كالإسلام؛ [وهذا هو المنصوص في المختصر، والأصح عند القاضي أبي حامد والبغوي]. والثاني: لا يقر عليه؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]؛ ولأنه أحدث ديناً باطلاً بعد اعترافه ببطلانه؛ فلا يقر عليه؛ كما إذا ارتد المسلم، [وهذا أظهر في الحاوي في كتاب الجزية]. وأجاب الأولون عن الآية بأنها محمولة على المسلم إذا ارتد، وفرقوا بينه وبين المرتد بأن المرتد بدل الدين الحق، وهنا هما متساويان [في البطلان] وفي التتمة: أن القولين مبنيان على أن الكفر ملة واحدة، أو ملل مختلفة؟ إن قلنا: ملل، لم يقر. وإلا أقر، كما يقر المسلم إذا انتقل من مذهب إلى مذهب. قال الرافعي: [ولك] أن تقول: لو كان هذا أصلاً لنا يبنى عليه هذان القولان، لأثبتنا مثلهما قولين في التوارث بين اليهودي والنصراني، وليس كذلك، نعم: قد حكينا أن بعضهم خرج وجهاً في منع التوارث من قولنا: إنه لا يقرّ [عليه]، واستدل به على أن الكفر ملل مختلفة، وفرق بين أن يستدل بقولنا: لا يقر على الاختلاف، وبين أن يقر على الاختلاف. التفريع: إن قلنا: يقر، فحكمه حكم المتأصل في جميع الأحكام؛ [إن كان الدينان متساويين، أو الثاني دون الأول: كالنصراني إذا تمجس. وإن كان الثاني أعلى: كالمجوسي إذا تنصر أو تهود- قيل: يجرى عليه حكم

الأول أو الثاني؟ فيه وجهان في الحاوي في كتاب الجزية. وإن قلنا: لا يقر، فكذلك في جميع الأحكام]. قال: وما الذي يقبل منه؟ فيه قولان: أحدهما: الإسلام- أي: فقط- وهو الأظهر عند الإمام، والأصح في الذخائر؛ للآية، ولأنه أقر ببطلان المنتقل منه، وكان يقر ببطلان المنتقل إليه. والثاني: الإسلام؛ لأنه الدين الحق، أو الدين الذي كان عليه؛ لأنه كان مقراً عليه. فلو أبى الإسلام على القول الأول، أو الإسلام والعود إلى ما كان عليه جميعاً على القول الثاني- فقولان [في تعليق القاضي أبي الطيب،] ويقال: وجهان: أحدهما: أن يقتل كالمرتد، وهو الأصح في الذخائر، [وبه جزم في الحاوي في كتاب السرقة، قال: لأن الإبلاغ إلى المأمن يلزم بانتقاض العهد، وليس هذا منه نقضاً لذمته]. وأشبههما على ما قاله الرافعي: لا، بل يلحق بالمأمن. ولو انتقل يهودي أو نصراني إلى المجوسية، فهل يقر بالجزية؟ فيه القولان، وحكى طريقة قاطعة بالمنع؛ لكون المنتقل إليه دون الأول. فإن قلنا: لا يقر؛ فالحكم كما تقدم. وإن قلنا: يقر، فلا تحل ذبيحته، ولا النكاح إن كان الانتقال من امرأة، ولو كانت في نكاح مسلم تنجزت الفرقة؛ إن كان قبل الدخول، وإلا فإن أسلمت قبل انقضاء العدة، أو عادت إلى ما كانت عليه [وقنعنا به- دام] النكاح بينهما، وإلا بان حصول الفرقة من حيث الانتقال. ولو انتقل من دين يقر عليه إلى دين لا يقرّ عليه؛ كما إذا توثَّن اليهودي- لم يقرّ عليه؛ لأنه لو كان على هذا الدين في الأصل لم يقر عليه، فأولى إذا انتقل إليه، وهل لا يقبل منه إلا الإسلام، أو يقنع منه بالدين الذي كان عليه، أو بدين يساوي المنتقل عنه؟ فيه ثلاثة أقوال:

أصحها في المهذب: الأول؛ لأنه اعترف ببطلان كل دين سوى دينه، ثم بالانتقال عنه اعترف ببطلانه؛ فلم يبق إلا الإسلام. وقال القاضي أبو حامد: الأخير أظهر. وإذا وجد هذا الانتقال من كتابية تحت مسلم، ينفسخ النكاح؛ إن كان قبل الدخول، وإن كان بعده: فإن رجعت في العدة إلى الدين الذي تقر عليه، استمر النكاح، وإلا تبين ارتفاعه من وقت الانتقال. ولو انتقل من دين لا يقر عليه إلى دين يقر عليه؛ كالوثني إذا تهود، أو تنصر، أو تمجس- لم يقر عليه [؛ إن كان ذلك بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم] ولم يقبل منه إلا الإسلام؛ كالمرتد. وإذا تأملت ما ذكره الشيخ علمت أن الانتقال من دين باطل إلى دين باطل يبطل الفضيلة التي كانت في الأول، ولا يُفيد فضيلة لم تكن في الأول. تنبيه: حيث [قلنا: لا يجوز أن يقر على الدين المنتقل إليه، ويقنع منه بالعود إلى الدين الذي كان عليه] لا يؤمر بالعود إليه، بل يقال له: لا يقبل منك إلا الإسلام، فإن عاد إلى دينه الأول، لم يتعرض له بعد؛ وهذا كما قلنا فيمن حكم بإسلامه تبعاً للدار؛ [وهذه طريقة أبي إسحاق. وحكى الماوردي في كتاب الجزية: أن ابن أبي هريرة قال]: إنه يجوز أن يدعى إلى الإسلام وإلى دينه الأول، ولا يكون ذلك أمراً بالعود إلى الكفر، بل يكون إخباراً عن حكم الله تعالى؛ كما ندعوه إلى الجزية، ولا يقال: عرض الجزية أمر بالمقام على الكفر، والله أعلم. ***

كتاب الصداق

كتاب الصداق الصَّداق: بفتح الصاد وكسرها. ويقال: صَدُقة: بفتح الصاد، وضم الدال، وصُدْقة: بضم الصاد وإسكان الدال؛ أربع لغات. وأصدقتُ المرأة: سميتُ لها صداقاً. ومهرتها أَمهُرها- بضم الهاء- وأمهرتها لغتان. وهو اسم للمال الواجب للمرأة على الرجل بالنكاح أو الوطء. ومجموع أسمائه سبعة، نطق بها الكتاب والسنة: فأما ما ورد به الكتاب، فأربعة: الصداق، والنحلة، والفريضة، والأجر. والذي وردت به السنة ثلاثة: المهر، والعقد، والعليقة. والصداق: مأخوذ من الصدق، وهو الشديد القلب، فكأنه أشد الأعواض ثبوتاً؛ من حيث إنه لا يسقط بالتراضي. والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع: قال الله- تعالى- {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، والنحلة: الهبة، وإنما سمي: نحلة؛ لأن كل واحد من الزوجين يستمتع بالآخر؛ فيحصل [للمرأة] [مثل] ما يحصل للرجل من الاستمتاع والألفة، ولعل حظها من الاستمتاع أوفر، لوفرة شهوتها، فجعل الصداق لهن كأنه عطية من غير عوض. وقيل نحلة، أي: عطية من الله تعالى.

وقيل: المراد بها الدين، يقال: فلان ينتحل بكذا، والمعنى: وآتوا النساء صدقاتهن تَدَيُّناً. وروي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- جاءته امرأة، فقالت: يا رسول الله، أني وهبت نفسي لك، فقام قياماً طويلاً، فقام رجلٌ، فقال: يا رسول الله، زوجينها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال- صلى الله عليه وسلم-: "هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إِيَّاهُ؟ " فقال: ما عندي إلا إزاري، فقال: "إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ، جَلَسْتَ فَلَا إِزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ"، فالْتَمَسَ فلم يَجِدْهُ، فقال: "هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ؟ "، فقال: نعم، سورة كذا، وسورة كذا، فقال- صلى الله عليه وسلم-: "زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ"، وفي رواية: "زَوَّجْتُكَهَا؛ فَعَلِّمْهَا"، وانعقد الإجماع على ما يصح [جعله] صداقاً: أنه يثبت بالتسمية الصحيحة. قال: والمستحب ألَّا يعقد النكاح إلا بصداق، اقتداء برسول الله- صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه لم يعقد نكاحاً إلا وسمي فيه صداقاً؛ على ما حكاه ابن الصباغ والمتولي، وحتى لا يشبه نكاح الواهبة نفسها للنبي- صلى الله عليه وسلم- وليكون أدفع للخصومة والمنازعة. وإنما لم يكن [ذلك] واجباً؛ لأن الغرض الأعظم من النكاح- الاستمتاع ولواحقه، وأنه يقوم بالزوجين؛ [فهما الركنان]؛ فيجوز إخلاء النكاح عن الصداق، وقد دل على ذلك- أيضاً- قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، وقوله- صلى الله عليه وسلم- لرجل: "أَتَرْضَى أَنْ أُزَوِّجَكَ فُلَانَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: أَتَرْضَيْنَ أَنْ أُزَوِّجَكِ فُلَاناً؟ " قالت: نعم؛ فزوج أحدهما صاحبه، فدخل بها، ولم يفرض لها صداقاً، ولم يُعْطِها شيئاً، وكان له سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- زوجني فلانةَ، ولم يفرض لها صداقاً، ولم أُعْطِها شيئاً، وإني أشهدكم أني قد

أعطيتها عن صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهماً، فباعته بمائة ألف درهم"، أخرجه أبو داود. واعلم: أن هذا الاستحباب ثابت وإن كان الصداق لا يثبت بالتسمية؛ كما إذا زوج عبده من أمته، وقلنا بجوازه، وهو المذهب؛ على ما حكاه البغوي والمتولي في كتاب الصداق. وقال ابن الصباغ في فصل تزويج العبد: [القديم:] أنه يستحب ذكره. وفي الجديد: إن شاء ذكره، وإن شاء ترك. قال: وهذا أصح. أما إذا قلنا بعدم جوازه؛ كما حكاه الرافعي في كتاب الرضاع وجهاً، أو قلنا يجب، ويسقط على أحد الوجهين، فقد امتنع التصوير. قال: وما جاز أن يكون ثمناً [في البيع]، جاز أن يكون صداقاً- أي: قل أو كثر- فلا يتقدر بشيء. وقال أبو ثور: إنه يتقدر بنصاب السرقة، وهو عنده خمسة دراهم. لنا قوله- صلى الله عليه وسلم-: "أَدُّوا الْعَلَائِقَ"، قيل: وما العلائق؟ قال: "مَا تَرَاضَى بِهِ الأَهْلُونَ". وما رُوِي أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال- صلى الله عليه وسلم-: "رَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِكِ بِنَعْلَيْنِ؟! "، فقالت: نعم، فأجازه. أخرجه الترمذي، وقال فيه:

حديث حسن صحيح. ولأنه بدل منفعتها؛ فكان تقدير العوض إليها؛ كأجرة منافعها. نعم: يستحب ألَّا ينقص عن عشرة دراهم، ولا يزيد على صداق زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وبناته- رضي الله عنهن- وهو اثنتا عشرة أوقية ونش على ما روته عائشة. والنش: نصف أوقية، والأوقية: أربعون درهماً، مجموع ذلك خمسمائة درهم. وهذا الاستحباب تخاطب به المرأة المالكة لأمر نفسها، والسيد في تزويج أمته، فأما المولى إذا زوج موليته المحجور عليها، فليس له أن ينزل عن مهر مثلها على ما سيأتي بيانه. قال: فإن ذكر صداقاً في السر، وصداقاً في العلانية، فالصداق ما عقد به العقد، وهذا نصه في الإملاء، واختيار المزني؛ لأن الصداق يجب بالعقد؛ فوجب ما عقد به. وروى عن الشافعي: أنه قال: المهر مهر السر؛ اعتباراً بما تواضعُوا عليه، واصطلحوا، والألفاظ لا تعني لأعيانها، وإنما يقصد إلى معانيها. وللأصحاب طريقان: أحدهما- وهو مذهب العراقيين، والأصح- تنزيل النصين على حالين: فحيث قال: المهر [مهر] السر، أراد: ما إذا جرى العقد بألف في السر، ثم أتوا بلفظ العقد بألفين في العلانية مع اتفاقهم على بقاء العقد الأول.

وحيث قال: المهر مهر العلانية، أراد: ما إذا تواعدوا [سرّاً،] ولم يعقوا، وعقدوا في العلانية؛ لأن ما سبق وعد. والطريق الثاني: إثبات قولين [في] المسألة، وقال المزني: وهو مذهب المراوزة؛ وفي موضعها طريقان مذكوران في النهاية: أحدهما: أن موضعها ما إذا اتفقوا على ألف، واصطلحوا على أن يعبروا عن الألف في العلانية بألفين. والثاني: إثبات قولين، سواء اتفقوا على ألف، وجرى العقد بألفين، ولم يتعرضوا لتغيير اللغة، أو التعبير بالألفين عن الألف. قال الإمام: وعلى هذه القاعدة تجري الأحكام المتلقاة من الألفاظ. ثم ما المعنى بما أطلقناه من الاتفاق في السر، هل هو مجرد الرضا والتواعد؟ أم المراد ما إذا جرى العقد بألف في السر، ثم عقد بألفين في العلانية؟ قال الرافعي: منهم من يفسره بالأول، وقضية لفظ التهذيب وغيره- إثبات القولين وإن جرى العقدان. ونقل عن الحناطي طريقاً ثالثاً في المسألة: أن الواجب مهر المثل، ونقد المسمى، وحمل [على] ما إذا جرى العقد بألفين على شرط ألا يلزمه إلا أداء ألف. وقال الجيلي: إن الخلاف في المسألة يمكن بناؤه على أن الشرط السابق هل هو كالمقارن أم لا؟ وهذا الذي ذكره فيه نظر؛ إذ الخلاف في أن الشرط السابق، هل هو كالمقارن؟ مأخوذ من هنا. قال: ولا يزوج ابنته الصغيرة- أي: البكر- بأقل من مهر المثل، ولا ابنه الصغير بأكثر من مهر المثل- أي: من مال الطفل- لأن في ذلك إضراراً بالمولى عليه؛ فلا يجوز بيع ماله بدون ثمن المثل.

وحكم البكر البالغ إذا زوجت بغير إذنها، والمجنونة، والمجنون- حكم الصغيرة في ذلك. قال: فإن نقص ذلك- أي: مهر البنت- وزاد هذا- أي: مهر زوجة الابن- وجب مهر المثل- أي: لها؛ لصحة النكاح، وبطلان التسمية، وبطلت الزيادة- أي: في المسألة الثانية؛ لأن تصرف الغير للغير منوط بالحظ والمصلحة، ولا حظ، ولا مصلحة في ذلك. ونقل بعض الخراسانيين قولاً أن النكاح لا يصح، وإليه أشار القاضي؛ لأن النكاح على هذه الصورة لا يكون معقوداً على حكم الغبطة، والعقود المتعلقة بالغير إذا لم تتصف بالغبطة مردودة؛ كما لو زوجها من غير كفء. وعلله الغزالي بأن الرضا لم يوجد إلا بالمسمى، ولم يثبت، فكيف يصح العقد بدون الرضا؟! وفي النهاية حكاية قول: أنه إذا زوج ابنته بدون مهر المثل، أن المسمى يثبت، وإن كان قد ادعى إجماع الأصحاب على وجوب مهر المثل، وإن لم يصر أحد إلى انعقاد النكاح بالمقدار الذي سماه في باب التفويض. وفي الحاوي في كتاب الرضاع عند الكلام في الغرم: أن ذلك مبني على أن الذي بيده عقدة النكاح من هو؟ فإن قلنا: إنه الزوج، لم يصح، وإن قلنا: إنه الولي، ففي جواز تزوجها بأقل من مهر المثل وجهان، والأصح المنع. وفي الجيلي حكاية وجه عن بحر المذهب: أنه لا يجوز أن [يتزوج الصغير على الصغر]، أما إذا كان المهر من مال الأب، ففيه احتمالان للإمام: أحدهما: أنه يفسد المسمّى أيضاً؛ إذ ما نجعله صداقاً يدخل في ملك الابن. والثاني: يصح، وتستحقه المرأة؛ لأن ملكه يحصل ضمناً، فلو لم نصححه، لفات على الابن جميع المهر، ولزم مهر المثل من ماله؛ وهذا ما أورده الغزالي، وصاحب التهذيب.

وفي [التتمة، و] أمالي أبي الفرج ترجيح الاحتمال الأول. قلت: وما علل به الاحتمال الثاني من كونه يسقط الكل ممنوع، بل نقول: وجب أن يسقط الزائد على مهر المثل من المسمى؛ كما يسقط إذا كان الصداق من مال الابن- على ما سنذكره-؛ إذ هو الذي يلزم فيه المحظور، وتفريق الصفة جائز على الصحيح. واعلم أن قول الشيخ- رضي الله عنه-: بطلت الزيادة، يريد ما إذا زوج ابنه، وسمي لزوجته صداقاً، إما في الذمة، وإما معيناً، فكان الصداق زائداً على مهر المثل، فإن الزوجة تستحق [قدر] مهر المثل من المسمى، وتبطل الزيادة؛ وهذا ما حكاه الرافعي وجهاً ها هنا، وحكى فيما إذا أذن الولي للسيد في التزويج بامرأة معينة، فزوجها، وزاد على مهر المثل: أن الزيادة تسقط، ويجب مهر المثل. وقال ابن الصباغ: القياس بطلان المسمى، والرجوع إلى مهر المثل. والفرق: أن على التقدير الأول تستحق الزوجة قدر مهر المثل من المعين، وعلى الثاني يجب مهر المثل في الذمة؛ هذا آخر كلامه، وظاهره التناقض، بل الوجه التسوية بين الصورتين؛ كما ذكره في التهذيب؛ إذ لا فرق بينهما والله أعلم. فرعان: أحدهما: لو طلبت ابنته الصغيرة كفء بأكثر في مهر المثل، فزوجها من كفء آخر بمهر المثل، صح، ولا معترض عليه؛ قاله الإمام في أول كتاب الصداق. الثاني: لو زوج ابنته البكر على صداق، وهو مهر مثلها من معسرٍ من غير رضاها، فالمذهب أنه لا يصح النكاح؛ لأنه بخس لحقها؛ كما لو زوجها من غير كفء، ذكره القاضي الحسين في الفتاوى. قال: ولا يتزوج السفيه بأكثر من مهر المثل- أي: إذا عين له الولي المرأة أو القبيلة- لأن إذن الولي لا يتناول الزيادة عليه.

قال: فإن زاد بطلت الزيادة؛ لأنها تبرع، وهو ليس من أهله. وفي "النهاية" أبدى احتمالاً فيما إذا لم يجد إلا امرأة واحدة، ولم ترض إلا بأكثر من مهر المثل والحاجة حاجة على ما ذكره [وقد فهم مما تقدم معنى قوله: "بطلت الزيادة". وحكى في "التتمة" طريقة توافق ما أبداه ابن الصباغ: أن المسمى يبطل ويجب] مهر المثل. قال: وهو القياس، والأول هو ظاهر النص. وحكى ابن القطان أن بعض الأصحاب خرج وجهاً في بطلان النكاح. قال: ولا يتزوج العبد بأكثر من مهر المثل، أي: إذا أذن السيد في التزويج، إما من معينة وإما على الإطلاق، ولم يعين له المهر؛ لأن مطلق الإذن لا يتناول إلا مهر المثل فما دونه؛ كما في الإذن في الشراء. قال: ومهر امرأته في كسبه، وكذا نفقتها إن كان مكتسباً؛ لأنه لا يمكن إيجاب ذلك على السيد؛ لأنه لم يلتزمه، ولم يستوف منفعته. ولا [يمكن إيجابه] في رقبة العبد؛ لأنه وجب برضا من له الحق. ولا [يمكن] إيجابه في ذمته إلى أن يعتق؛ لأنه في مقابلة الاستمتاع؛ فلا يجوز تأخيره عنه؛ لما فيه في الإضرار بالمرأة؛ فلم يبق إلا الكسب؛ فتعلق به. وفي "التهذيب": أن النفقة والمهر على المولى في القديم؛ فلا يطالب به العبد، وإن أعتق أو أفلس السيد، وإن أبرأ السيد برئا [جميعاً]. وفي النهاية: أن السيد يكون ضامناً في القديم، والجديد: أنه ليس بضامن، وأن للعراقيين ثلاثة اقوال: أحدها: أن السيد لا يصير ملتزماً بالإذن. والثاني: أنه يصير ملتزماً. والثالث: [أن يكون العبد] كسوباً فلا يصير [السيد] ملتزماً، [وإن لم

يكن كسوباً صار] ملتزماً؛ وهذا هو المنقول في "الكتاب"، و"الشامل"، وغيرهما من كتب العراقيين، والمذهب الأول. وحكى أبو الفرج الزاز على القديم وجهين: أن ذلك وجب على السيد ابتداء، أو يلاقي العبد، ويتحمل عنه السيد. فعلى الأول: يكون الحكم كما ذكرناه عن التهذيب. وعلى الثاني: تتوجه المطالبة عليهما جميعاً. قال الرافعي: وهو الأصح. قلت: وهو الذي جزم به الإمام [جوابه] عند كلامه في الأب: هل يكون ضامناً لصداق زوجة ابنه الصغير؟ وعلى المذهب: لا فرق في الكسب بين النادر والمعتاد، وفي النادر وجه: أنه لا يتعلق به. والكسب الذي [يتعلق] به المهر ما يتجدد بعد التزوج؛ [إن كان] المهر حالّاً، وبعد الحلول، إن كان مؤجلاً. وكيفية صرف الكسب: أن يبدأ منه بالنفقة، ومهما فضل صرف في المهر. [ويجب على السيد تخلية العبد بالليل؛ ليستمتع بزوجته، وفي النهار؛ ليكتسب المهر] والنفقة، إلا إذا تكفل بذلك. فإن استخدمه، ولم يلتزم شيئاً، فعليه الغرم، وفيما يغرمه وجهان: أصحهما: أقل الأمرين من أجرة المثل، وكمال المهر والنفقة. والثاني: كمال المهر والنفقة. وهما مبنيان على القولين في قتل العبد الجاني. وهل الاعتبار بنفقة زمن الاستخدام، أو على الأبد؟ فيه خلاف. وحكم مسافرته بالعبد حكم استخدامه. وحكى الإمام عن العراقيين: أنه ليس له أن يسافر به، ولا أن يستخدمه في

الحضر ما بقيت عليه مؤنة من مؤن النكاح. قال الرافعي: وجعل المسألة مختلفاً فيها بين الأصحاب، ولا يكاد يتحقق فيها خلاف. فرع: هل يجوز للعبد أن يؤاجر نفسه للمهر والنفقة؟ فيه وجهان بناهما في "التتمة" على القولين في بيع المستأجر: إن جوزناه جاز الإيجار، وإلا فلا. قال: وهذا في إجارة العبد، أما إذا التزم عملاً في الذمة، فالمذهب جوازه. فرع آخر: لو أذن [له] السيد في النكاح على أن ينفق على زوجته من الاكتساب، ففي صحة الإذن وجهان في تعليق القاضي الحسين في باب مداينة العبد. قال: أو [فيما في يده]؛ إن كان مأذوناً له في التجارة- أي: من رأس المال والربح الحاصل قبل التزويج وبعده- لأنه دين لزمه بعقد أذن فيه؛ فقضى مما في يده، كدين التجارة. وفيه وجه: أنه لا يتعلق إلا بما يتجدد من الربح بعد التزويج ككسب غير المأذون؛ فعلى هذا لو لم يكن ثم ربح يفي به؛ فعلى السيد؛ لأنه مشغول بعمله، وماذا يجب عليه؟ فيه الخلاف السابق. قال: فإن لم يكن مكتسباً ولا مأذوناً له في التجارة، ففي ذمته- أي: إن رضيت بالمقام معه- ولم تملك مطالبته به إلى أن يعتق- أي: ويوسر- في أحد القولين؛ لأنه دين لزمه برضا من له الحق؛ فتعلق بذمته، كبدل القرض. قال: أو تفسخ النكاح- أي: إن لم ترض بالمقام معه- لتضررها بذلك؛ وهذا تفريع على الصحيح في ثبوت الخيار بالإعسار به؛ وذلك إذا لم تعلم بعجزه قبل العقد، فإن علمت بعجزه، فقد حكى العمراني في "الزوائد" في باب ما يحرم من النكاح: أن الجديد ثبوت الخيار للزوجة إذا علمت بإعسار الزوج بالمهر.

وفي القديم: أنه لا يصح لها. وحكى الرافعي الخلاف وجهين، [وأن أشبههما]: المنع، إذ ذلك بعينه يجري ها هنا. قال: وفي ذمة السيد في [القول] الآخر؛ لأن الإذن لمن هذا حاله التزام للمؤنات. وفي "التهذيب": أن القولين على الجديد. وفي "التتمة": هما مبنيان على الجديد والقديم. وفيه قول ثالث: أنه يتعلق برقبته، وطرده الشيخ أبو حامد في الكسوب، ومن كسبه لا يفي بما عليه من مؤن النكاح في القدر الزائد كغير الكسوب فهو على القولين؛ كما قاله الإمام. وفي "التهذيب" و"الذخائر": أنه لا يتعلق بالسيد، ولها أن تفسخ إن شاءت. قال في "الشامل": قال أصحابنا: ويجري القولان في الأب إذا زوج ابنه الصغير الفقير، هل يلزمه المهر والنفقة؟ وسوّى الإمام بينه وبين العبد؛ فلا يختص الخلاف بالفقر. ونقل عن القاضي تفريعاً على قول الضمان: أنه إذا غرم الأب لا يجد رجعاً على مال الطفل، ويكون هذا كضمان العاقلة دية الخطأ، وأن الأب لو شرط ألَّا يكون ضامناً، بطل. قال: وهذا وهم من الآخذين عنه، ولعله قال: بطل الشرط، ولزم الضمان، وصح النكاح. وما قاله القاضي في أن الأب لا يرجع إذا غرم لا سبيل إلى القول به؛ فإن الشرع أثبت للأب نظراً في [طلب غبطة الابن]، فإذا نظر له واشتد نظره

فانتصاب ذلك سبباً لالتزامه المغارم محال؛ وهذا ما أجاب به في التهذيب؛ إذا قصد الرجوع عند الأداء. قال الإمام: ولاشك أن الابن مطالب بالنفقات، والمهر، وسائر مؤن النكاح إذا بلغ، وليس كالقاتل خطأ؛ فإنه لا يطالب بالعقد مع إمكان مطالبته للعاقلة؛ لخروج ذلك عن القياس. ونقل في "الذخائر" عن "الحاوي" على قول الوجوب على الأب: أنه يجب عليه ابتداء، والابن بريء منه، وهو يوافق ما قاله في "التهذيب" في الإذن للعبد؛ فإنه كان قد وافق الإمام في هذه المسألة. وحكم الولد المجنون على ما حكاه في "التهذيب" حكم الصغير. قال: فإن زاد على مهر المثل، وجبت الزيادة في ذمته، يتبع بها إذا أعتق؛ دفعاً للضرر عن الزوجة بقدر الإمكان؛ [إذ لا يمكن أن يجب] في كسبه؛ لأن إذن السيد لا يتناوله، ولم يستوف العبد في مقابلته شيئاً. فإن قيل: هذه الزيادة تثبت في ذمة العبد بغير إذن السيد، فهلاَّ كان في ثبوتها خلاف؛ كما في ضمان العبد بغير إذن السيد. قلنا: الالتزام ها هنا جرى في ضمن عقد مأذون فيه؛ فكان أقرب، وقد يمتنع الشيء مقصوداً، وإذا حصل في ضمن عقد لم يمتنع؛ ألا ترى أن العبد [يمتنع من] تمليك السيد بعقد الهبة على أحد الوجهين، ولو خالع صح قولاً واحداً، ودخل المال في ملك السيد؟ قال الإمام: وهذا هو الممكن فيما ذكرناه. ويحتمل من طريق القياس: ألَّا تلزم الزيادة في المهر أصلاً؛ كما لا يصح الضمان، وما ذكرناه تكلف، وإلا فلا فرق بين هذه الزيادة والضمان. فرع: لو قدر له مهراً، فنكح به امرأة مهرُ مثلها دونه، فقد حكى الرافعي عن

الحناطي فيه ثلاثة احتمالات: أظهرها: صحة النكاح، ووجوب المسمى في الحال. والثاني: أن الزيادة على مهر المثل يتبع بها إذا عتق. والثالث: بطلان النكاح. قال: وإن تزوج بغير إذنه، ووطئ، ففي المهر ثلاثة أقوال: صورة المسألة ما إذا أذن في النكاح مطلقاً، فنكح العبد نكاحاً فاسداً- مثل أن قرن به شرطاً فاسداً يخل بمقصوده: كشرط الخيار، وعدم الوطء- ووطئ فيه [ففيه أقوال:]. أحدها: يجب حيث يجب في النكاح الصحيح؛ لأنه لما كان النكاح الفاسد كالصحيح في وجوب العدة والنسب والمهر، جعل كالصحيح في المحل المستوفى منه المهر. والثاني: أنه يتعلق بذمته، وهو الجديد؛ لأنه حصل برضا المستحق؛ فصار كما إذا اشترى، أو استقرض بغير إذن السيد، [وأتلفه]؛ هكذا علله الأصحاب. ومقتضى هذا التعليل: أنه لو تزوج حرة بغير إذنها في التزويج منه، ثم وطئها وهي نائمة- حتى لا يجعل التمكين من الوطء رضا- أنه [لا] يتعلق بالرقبة، ويؤيد ذلك ما سنذكره في الفرع بعده. والثالث: أنه يتعلق برقبته؛ لأن المهر ينزل منزلة أرش الجناية من حيث إنه لا يتطرق إلى موجبه الإباحة. وهذا القول، منهم مَن نَسَبَه إلى القديم، ومنهم من يقول: هو مخرج من قولنا: إن السفيه إذا نكح بغير إذن الولي، ووطئ، يلزمه المهر، كذا قاله الرافعي. وقد تقدم في كتاب النكاح عن صاحب "التتمة": أن الخلاف في لزوم المهر للسفيه مخرج على الخلاف في هذه المسألة، والجمع بين التقليد غير ممكن.

وفي "النهاية": أن من الأصحاب من لم يثبت هذا القول إلى الشافعي، وقال: إنه حكاه عن مذهب الغير. أما إذا لم يأذن السيد له في النكاح أصلاً، فلا يجيء في المهر القول الأول، ويجيء القولان الآخران، ويجريان في كل وطء شبهة صدر منه، وقد صرح بذلك الإمام في كتاب اللقيط. فرع: لو نكح العبد بغير إذن مولاه أمة بغير إذن سيدها، [ووطئ]، ففي المهر طريقتان: منهم من جزم بتعلقه بالرقبة. ومن من [خرجه] على القولين، ووجهه بأن المهر وإن كان حقّاً للسيد إلا أنها بسبيل في إسقاطه في الجملة؛ بدليل الردة والرضاع، فإذا [جاز] أن يسقط [بفعلها جاز أن يسقط برضاها]. قال: ويجوز أن يكون الصداق عيناً تباع، وديناً يسلم فيه، ومنفعة تكري، ويجوز حالّاً ومؤجلاً؛ لأنه عقد على منفعة معينة، فجاز بما ذكرناه؛ كالإجارة. واعلم أن قول الشيخ: عيناً تباع، يريد به: أن تكون العين مستجمعة لشرائط البيع، وليس على إطلاقه، بل يستثنى منه جعل رقبة العبد صداقاً للمرأة، وجعل الأب والدة ابنه صداقاً لابنه؛ وجعل أحد أبوي الزوجة الصغيرة صداقاً لها؛ فإن ذلك لا يثبت صداقاً مع وجود شرائط البيع في كل واحدة من الصور المذكورة. وقوله: وديناً يسلم فيه يريد: استجماعه لشرائط السلم، ومنطوقه على عمومه، ومفهومه: أن ما لا يجوز السلم فيه لا يجوز جعله صداقاً، يستثنى منه الأثمان؛ فإنه يجوز جعلها صداقاً، وإن قلنا: لا يجوز السلم فيها على أحد القولين. لكن الشيخ لا يحتاج أن يستثني ذلك؛ فإنه جزم بجواز السلم فيها.

وقد حكى القاضي الحسين في كتاب الكتابة وجهاً: أنه يجوز جعل المال النادر الوجود صداقاً في الذمة؛ على أنه مضمون ضمان اليد، وكذا إذا قلنا: إنه مضمون ضمان العقد وجوزنا الاستبدال عن الثمن، أو منعناه وقلنا: عن المسلم فيه إذا انقطع لدى المحل: أنه يثبت الخيار؛ فعلى هذا تستثنى هذه الحالة من المفهوم- أيضاً- لكن إذا قلنا بأنه مضمون ضمان العقود، [فقدم يجب عليه قيمته. وإن قلنا يجوز الاستبدال أخذ بدله إذا قلنا: إنه مضمون ضمان عقد] وإن قلنا: لا يجوز الاستبدال ثبت لها الخيار في الصبر، وفسخ الصداق. وحكى وجهاً ثانياً: أنه لا يصح إصداق نادر الوجود في الذمة؛ بناءً على أن الصداق مضمون ضمان عقد، ولا يصح الاستبدال وأن انقطاع المسلم فيه يفسخ العقد. وقوله: ومنفعة تكرى، يريد المنفعة التي يجوز استيفاؤها بعقد الإجارة، سواء كانت الإجارة واردة على الذمة أو العين وهو يحسن تلك المنفعة فإن كان لا يحسنها لم يحسن على الأصح. قال الإمام: ومحل الوجهين فيما إذا كان يحسن مقدار يشتغل بتعليمه في الحال، أو كانت الإجارة مع تعلقها بالغير واردة على مدة تتسع للتعليم والتعلم، فأما إذا [لم تكن] مدة، وكان لا يحمل شيئاً البتة، فلا وجه إلا القطع بالفساد. وفي "التتمة"- تفريعاً على وجه الجواز-: أنها إن أمهلته على أن يتعلم فذاك، وإلا فهو معسر بالصداق. ويدخل تحت ما ذكره الشيخ إذا أصدقها تعليم غلامها، أو ولدها الذي يجب عليها تعليمه، ويخرج تعليم ولدها الذي لا يجب تعليمه.

أما المنفعة التي لا يجوز استيفاؤها بعقد الإجارة ويجوز بغيره: كمنفعة البضع، ورد الآبق من الموضع المجهول، فلا يجوز جعلها صداقاً. وفي الآبق حكاية قول عن رواية أبي الطيب ابن سلمة وأبي حفص بن الوكيل: أنه يجوز. وفي الذخائر: إن كان الموضع مجهولاً، لم يجز قولاً واحداً، وإن كان معلوماً، فطريقان: منهم من خرجه على قولين: ومنهم من قطع بالصحة. فإن قيل: المنفعلة لا تكرى، وإنما يكرى العين؛ لأجل استيفاء المنفعة؛ لذلك قال الغزالي: وشرطه الإضافة إلى العين، يعني: في لفظ الإجارة. فالجواب أن العراقيين [يجوزون للآجر] أن يقول: آجرتك المنفعة، وقد صرح بذلك في "الشامل" عند الكلام في أن عقد الإجارة يرد على ماذا؟ فلا اعتراض عليهم إذن. فرع: يجوز أن يجعل النزول عن القصاص الواجب له على المرأة، أو على عبدها- صداقاً لها، ولا كذلك النزول عن الشفعة وحد القذف؛ لأن ذلك مما لا يقابل بالعوض. ثم إن جوزنا المصالحة عن حد القذف على مال- على رأي- اتجه أن يلحق بالقصاص. [ثم إذا طلقها الزوج قبل الدخول، وكان الصداق العفو عن القصاص، فبماذا ترجع؟ فيه قولان حكاهما الرافعي قبل كتاب الديات: أحدهما: بنصف مهر المثل. وأصحهما في "التهذيب": بنصف أرش الجناية].

ولا يجوز أن يجعل طلاق امرأة صداقاً لأخرى، وإن كان بذل المال يجوز في مقابلة الطلاق؛ لأن ذلك لا يجلب إليها نفعاً فلو فعل ذلك، قيل: يبطل النكاح، أو يصح ويفسد الصداق؟ فيه كلام قدمناه في نكاح الشغار. ولو أصدقها تعليم الفاتحة، وهو متعين للتعليم، ففي صحة الصداق وجهان كنظيرهما في الإجارة، والأصح: الصحة. ولو نكحها على أداء شهادة لها عليه، أو نكح كتابية على أن يلقنها كلمة الشهادة-[لم يجز]؛ قاله في التهذيب. ولو نكح ذمية على أن يعلمها شيئاً من القرآن؛ جاز إذا كان معلوماً. وقال الشيخ أبو حامد: إن كان قصدها المباهاة؛ لم يصح. قال ابن الصباغ: وهذا ضعيف؛ لأنها قد تريد ذلك، فإذا تعلمته، انتفعت به، وكان سبباً لإسلامها. قال: وما لا يجوز في البيع والإجارة من المحرم والمجهول- أي: وغيرهما- لا يجوز [في الصداق]؛ قياساً عليهما. قال: وتملك المرأة المهر بالتسمية، أي: سواء كانت التسمية صحيحة، أو فاسدة. أما إذا كانت صحيحة؛ فتملك المسمى، وأما إذا كانت فاسدة؛ فتملك مهر المثل؛ لأنه عقد يملك فيه المعوض بالعقد فملك العوض فيه بالعقد؛ كالبيع. قال: وتملك التصرف فيه بالقبض؛ لأنه مملوك بعقد معاوضة؛ فجاز التصرف فيه بعد القبض [وإن كان بصدد السقوط؛ كالمبيع بعد القبض وقبل قبض ثمنه. وأما التصرف فيه قبل القبض] فيبنى على أن الصداق [مضمون في يد

الزوج] ضمان عقد، أو ضمان يد؟ وفيه قولان عند الخراسانيين: الجديد: أنه مضمون ضمان عقد؛ فعلى هذا لا يجوز التصرف فيه؛ إن كان عيناً أو منفعة، وإن كان ديناً، فقولان؛ كالثمن؛ وهذا ما حكاه الشيخ في البيع. والقديم: أنه مضمون ضمان يد؛ كالمستعار؛ لأن النكاح لا ينفسخ بتلف الصداق، وما لا ينفسخ العقد بتلفه [في يد العاقد]، يكون مضموناً ضمان اليد؛ كما لو غصب البائع المبيع من المشتري بعد القبض؛ فعلى هذا يجوز التصرف فيه بالبيع والهبة والوقف والعتق والحوالة؛ كذا قاله الرافعي [وغيره]. قلت: وينبغي أن يفرع- أيضاً- على أن الزوجين إذا تشاحا في البداية بالتسليم، هل يجبران أو لا؟ أو الزوج. فإن قلنا: لا يجبران، ينبغي ألا ينفذ تصرف المرأة في الصداق؛ لأنها غير قادرة على التسليم حالة التصرف وإن كانت قادرة عليه من بعد بالتمكين؛ كما في الرهن، اللهم إلا أن يقولوا: إن قول عدم الإجبار، إنما يجري إذا لم يتعلق به حق ثالث، أما إذا تعلق به حق ثالث، فيجبران، أو يكون بإذن الزوج؛ فحينئذ يكون هذا الإطلاق صحيحاً، ويحتاج إلى التقييد [ثم]، ولم أره، والقولان مبنيان على أن الصداق؛ نحلة أو عوض. وتوجيه النحلة: الآية، وأن النكاح لا يفسد بفساده، ولا ينفسخ برده. وتوجيه العوض: أن لها حبس نفسها؛ لتستوفيه، ويؤخذ بالشفعة؛ وهذا أصح. قال: ويستقر بالموت- أي: قبل الدخول- من غير قتل، سواء كانت الزوجة حرة أو أمة؛ لأنه لا يبطل النكاح؛ بدليل التوارث؛ فكأنه انتهاء، وانتهاء العقد كاستيفاء المعقود عليه؛ بدليل الإجارة. وفي التتمة حكاية خلاف في أنا هل نطلق القول بأن المهر تقرر بالموت؟ فمن قائل: لا؛ لأن المقرر إنما يحسن إطلاقه؛ إذا كان يتوقع وجود المسقط [ولا

يتأثر الموت به، وبعد الموت لا يتوقع وجود المسقط] وهو الطلاق والردة. ومن قائل: نعم؛ إلحاقاً لإنهاء العقد باستيفاء المعقود عليه، ولمن قال به أن يقول: ليس المسقط مطلق الطلاق والردة، بل يشترط وقوع ذلك قبل الدخول، وإنه لا يتصور حصوله بعد الدخول؛ كما لا يتصور بعد الموت. ثم ذكر أن فائدة الخلاف تظهر فيما إذا مات زوج الصغيرة، وأراد الأب أن يعفو عن صداقها إذا جوزناه، فإن قلنا: يتقرر بالموت، فقد جعلناه كالدخول؛ فلا يصح عفوه؛ كما لا يصح بعد الدخول. وإن قلنا: إنه لا يتقرر؛ فيصح العفو. وفي المفوضة إذا مات زوجها، إن قلنا: الموت يقرر المسمى؛ فتستحق مهر المثل، وإلا فلا. قال الرافعي: وليس لهذا البناء مسوغ؛ لأن التقرير إنما يطلق عند سبق الواجب؛ فلا يلزم من كون الموت مقرراً وجوب المهر في صورة التفويض، وفي الأمة وجه: أنه يسقط جميع مهرها بموتها؛ بناءً على أن السيد يزوج بحكم الملك؛ حكاه المتولي. قال: أو الدخول؛ لقوله تعالى: {وَكَيْفَ تَاخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21]، وفسر الإفضاء بالجماع. ولأن الوطء بالشبهة يوجب المهر ابتداء، فالوطء في النكاح أولى أن يقرر المهر الواجب. ولا فرق بين أن يكون الوطء حلالاً أو حراماً: كوطء الحائض، والمحرمة، أو في الفرج أو الدبر. وفي الوطء في الدبر وجه: أنه لا يقرر مع الاتفاق على وجوب مهر المثل به في غير الزوجة. ويكتفي في التقرير بوطأة واحدة وإن كان المهر في مقابلة جميع الوطآت على رأي؛ كما نقله الرافعي في النفقات.

قال: وهل يستقر بالخلوة حتى لو طلقها قبل الدخول وبعد الخلوة، لا يسقط منه شيء؟ فيه قولان: أصحهما- وهو الجديد: أنه لا يستقر؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، ولا مسيس. والثاني- وهو القديم-: أنه يستقر؛ لما روي [عن] عمر وعلي- رضي الله عنهما- أنهما قالا: إذا أغلق باباً، وأرخى ستراً، فلها الصداق كاملاً، وعليها العدة. ولأنه وجد التمكين من استيفاء المنفعة؛ فاستقر به البدل؛ كما في الإجارة، فعلى هذا هل تكون الخلوة موجبة للعدة ومثبتة للرجعة؟ فيه وجهان: المذكور منهما في التتمة والوسيط: الثبوت. قال الإمام في كتاب العدد: كنت أود أن يحال تقرير المهر على التمكين؛ فإن التمكين من المنافع في عقود المنافع تسليم، وأما العدة فكان لا يبعد في القياس ألَّا تجب وإن تقرر المهر؛ فإن تقرير المهر مأخوذ من قياس في المعاوضات، ولا يؤخذ في العدة مثله. وما قاله إن صح فيكون وجهاً ثالثاً فارقاً بين الرجعة والعدة، ويشترط على هذا القول ألَّا يكون ثم مانع حسي: كالرتق، أو القرن، أو الجب أو العنة؛ ولا مادي: كما إذا كان معهما ثالث، وفي المانع الشرعي: كالحيض، والإحرام، والصوم خلاف، والذي ذهب إليه المحققون- على ما حكاه الغزالي-[أنه يشترط عدمه. والمذكور في التتمة: أنه لا يشترط عدمه]، وكذلك في تعليق البندنيجي في كتاب العدد.

وفي النهاية فيها أيضاً. ثم قال الإمام في الموانع الطبيعية: إن الوجه عندنا: الحكم بالتقرير مع هذه الموانع؛ فإن المصير إلى [أن] النكاح لا يتصور فيه تقرير، فيه بُعْدٌ، والذي جرى نهاية الأمر، ولو فصل فاصل بين الجب والرتق صائراً إلى أن تمكين المجبوب [يرد] العجز إليه، وهي في نفسها فعلت ما هو ممكن على أقصى الإمكان، والرتقاء عاجزة عن التمكين، فقد جاء العجز من جهتها عن الوفاء بالتمكين. ويعترض على ذلك بأنها تستحق النفقة وإن لم يكن الوقاع ممكناً، والمرضية التي لا يرجى زوال مرضها قد لا تستحق النفقة؛ هذا آخر كلامه. وقال بعض الأصحاب: الخلوة لا تقرر المهر قولاً واحداً، وإنما الخلاف في ترجيح جانبها حتى يكون القول قولها في دعوى الإصابة. فرع: إذا قلنا: الخلوة لا تقرر المهر، أو كان هناك مانع، ففي الوطء فيما دون الفرج وجهان؛ بناءً على القولين في أنه هل يثبت حرمة المصاهرة؟ ولو استدخلت ماءه، مل يتقرر به المهر على الصحيح. وفيه وجه حكيناه في باب ما يحرم من النكاح: إنه يقرر. قال: ولها أن تمتنع من تسليم نفسها حتى تقبض، أي: إذا كان الصداق حالّاً [في العقد] أو عيناً، وسواء كان التأخير بعذر أو بغير عذر؛ دفعاً لضرر فوات البضع. أما إذا حل قبل الدخول، قال الشيخ أبو حامد: ليس لها الامتناع. [و] قال القاضي أبو الطيب: هذا غلط. وقد ذكر المزني في المنثور: أنه لو باع سلعة بثمن مؤجل، ولم يقبض السلعة حتى حل الأجل، كان للبائع الامتناع من تسليم السلعة حتى يقبض الثمن.

ولو كان بعضه حالّاً، وبعضه مؤجلاً، فلها الامتناع حتى تقبض الحال منه. فرع: إذا كانت المرأة صغيرة، أو مجنونة، فلوليها حبسها حتى تقبض الصداق، ولو رأى المصلحة في التسليم، فله التسليم. قال: فإن تشاحا، فقالت المرأة: لا أسلم نفسي حتى أقبض الصداق، وقال: لا أسلم حتى تسلمي نفسك- أجبر الزوج على تسليمه إلى عدل، وأجبرت المرأة على التسليم، فإذا دخل بها، سلم المهر إليها؛ لأن كل واحد منهما قد استحق التسليم، فأجبر كل واحد منهما على إيفاء صاحبه [حقه]؛ وهذا نصه ها هنا. قال الإمام: ولو سلمت نفسها، فلم يأتها، فالذي أراه [أن] على العدل تسليم الصداق إليها، فلو سلم إليها، فَهَمَّ الزوج بالوطء، فامتنعت، فالوجه استرداد الصداق منها. قال: فإن لم يسلم، لزمه نفقتها؛ لأنها ممتنعة بحق. قال: وفيه قول آخر: أنه لا يجبر واحد منهما، بل أيهما بدأ بالتسليم أجبر الآخر عليه؛ لأن كل واحد منهما قد وجب عليه حق بإزاء حق له؛ فلم يجبر على إيفاء ما عليه دون ما له. قال: وإن تمانعا، مل تجب نفقتها عليه؛ لأنها ممتنعة بغير حق. واعلم أن عدم وجوب النفقة مرتب على منعها فقط، فتقييده بما يعمها لا وجه له. وفيه وجه ثالث: أنه [لا يجبر] الزوج. ولا يجيء القول الرابع في البيع هنا، وهو إجبار الزوجة؛ [على] وزان إجبار البائع- وإن كانت بائعة للبضع- لأن منفعة البضع تفوت بالتسليم، ولا يمكن استدراكها، والمال يمكن استرداده. وعن ابن الوكيل، وابن سلمة، والقاضي أبي حامد، وغيرهم: الاقتصار على

القولين [الأولين]؛ كما ذكره الشيخ، وإنكار قول البداية. قلت: وهذا صحيح، لا يتجه خلافه؛ إذا كان الصداق عيناً، وقلنا: إنه مضمون في يد الزوج ضمان عقد؛ [كما قلنا في البيع إذا كان الثمن عيناً، أما إذا كان ديناً، أو قلنا: إنه مضمون ضمان يد]، اتجه جريان القول الثالث، وهو إجبار الزوج: أما في الدين؛ فلأن حقه متعين، وحق المرأة لا يتعين إلا بالقبض؛ كما قلنا: يجبر المشتري إذا كان الثمن في الذمة على قول؛ نظراً لهذه العلة. وأما إذا قلنا: إنه [مضمون ضمان يد، فكما إذا بان بطلان البيع بعد قبض المبيع والثمن، فإن المبيع] مضمون في يد المشتري بحكم اليد، ويجبر على تسليمه وإن لم يقبض الثمن على الأصح، وذلك مذكور في البيع، والله أعلم. وحيث قلنا: يجبر الزوج، فذاك إذا كنت مهيأة للاستمتاع، فلو كانت محبوسة، أو ممنوعة بعذر آخر، لم يجبر، وإن كانت صغيرة، فقولان. وكذا لو سلمت الصغيرة إلى الزوج، فهل عليه [تسليم] المهر؟ فيه قولان؛ كما في النفقة. وقيل: لا يجب تسليم الصداق قولاً واحداً؛ لأن النفقة تجب لكونها محبوسة له، ممكنة له بحسب الإمكان، وقد تحقق هذا المعنى، والمهر عوض الاستمتاع، وهو متعذر. وقيل: يجب تسليم الصداق قولاً واحداً؛ لأنه يجب في مقابلة البضع، وقد ملكه بالعقد، والنفقة [في] مقابلة التمكين من الاستمتاع، والتمكين يستدعي إمكان الاستمتاع، وهو متعذر. والأمة إذا سلمت ليلاً ونهاراً، وجب تسليم مهرها، [وإن سلمت ليلاً، ولم تسلم نهاراً]، فعن الشيخ أبي حامد: أنه لا يجب تسليمه؛ كالنفقة. وذكر القاضي أبو الطيب: أنه يجب. قال ابن الصباغ: وهذا أصح؛ لأن التسليم الذي يتمكن معه من الوطء قد

حصل، وليس كالنفقة، فإنها لا تجب بتسليم واحد. واعلم أن هذه المسألة فيها بحثان: أحدهما: أن القول الأول عبر عنه الأصحاب بأنهما يجبران، وصوروا الإجبار بما ذكره الشيخ، وفي ذلك نظر؛ لأن العدل إما أن يكون نائباً عن المرأة في القبض شرعاً، أو لا يكون، فإن كان نائباً عنها شرعاً- كما قاله الجيلي- فقد رجع حقيقة هذا القول إلى أن الزوج يجبر أولاً، فإذا أسلم أجبرت ثانياً، وهذا حقيقة القول الثالث؛ [إذ لا] فرق بين التسليم إلى المرأة أو [إلى] نائبها. وإن لم يكن نائباً عنها، فقد أجبرت المرأة على التسليم أولاً، وهو وزان القول الرابع في البيع الذي لم يجر هنا. الثاني: أن قول الشيخ: ولها أن تمتنع من تسليم نفسها حتى تقبض يوافقه القول الثالث، وهو البداية بالزوج، ويخالفه القولان الآخران: أما وجه المخالفة على قول إجبارها، فظاهر. وأما على قول عدم الإجبار: أن مقتضى الكلام الأول: أن امتناعها يكون بحق؛ فتستحق النفقة؛ لأن الامتناع بالحق لا يسقطها؛ كما تقدم على قول [إجبارها] ومقتضى الكلام الثاني- على ما صرح به الشيخ وغيره- أنها لا تستحق ما لم [تسلم نفسها]؛ وهذا يدل على أن الامتناع بغير حق؛ فالجمع بين الكلامين متعذر، وكلام الرافعي- رضي الله عنه- موافق لكلام الشيخ أولاً وآخراً. ويمكن أن يجاب عن الأول بأن نقول: هو نائب عنها- كما صرح به الجيلي- إذ هو مقتضى ما قاله الأصحاب فيما إذا أخذ السلطان الدين من الممتنع، فإن المأخوذ يملكه الغريم بمجرد الأخذ، وتبرأ ذمة المأخوذ منه، وقد صرح بذلك [الرافعي] في [أواخر] كتاب الطلاق؛ نقلاً عن كتب العراقيين. ووجه الإلحاق أن العدل إنما يسلم إليه بإذن السلطان، فهو نائب عنه في

ذلك، والنائب كالمستنيب في هذا المعنى، وإذا كان نائباً عنها فهو ممنوع من التسليم إليها، وهي ممنوعة من التصرف فيه قبل التمكن، فكان ذلك فائدة الإجبار، بخلاف القول الثالث؛ فإنا إذا أجبرنا الزوج، أطلقنا تصرفها فيما تقبضه بمجرد القبض، والله أعلم. قال: فإن تبرعت، وسلمت نفسها حتى وطئها، سقط حقها من الامتناع؛ لأنه تسليم استقر به المسمى، فأسقط حق المنع؛ كالبائع إذا سلم المبيع قبل قبض الثمن. وحكى أبو حامد وجهاً: أن لها العود على الامتناع. قلت: ويمكن بناء الخلاف على أن المهر في مقابلة أول وطأة، أو في مقابلة جميع الوطآت؟ كما بنى الأصحاب جواز الفسخ بالإعسار بالمهر بعد الدخول عليه. فإن قلنا: إنه في مقابلة أول وطأة واحدة- وهو الصحيح-[لم يكن] لها الامتناع. [وإن قلنا: إنه في مقابلة جميع الوطآت فلها الامتناع]؛ لأنه لم يستوف بقية المعقود عليه؛ فأشبه ما إذا سلم بعض المبيع، فإنه لا يسقط حق الحبس في الباقي. ولو تبرعت، وسلمت نفسها، ولم يطأها، فلها طلب المهر على الأقوال كلها، ولها العود إلى الامتناع، وحبس النفس؛ [لاستيفاء الصداق]. ولو وطئها مكرهة، فهل يبقى لها حق الامتناع؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ كما لو غصب المشتري المبيع قبل تسليم الثمن؛ فإنه يجوز للبائع رده إلى حبسه. ويجري الوجهان فيما لو سلم الولي الصبية، أو المجنونة قبل قبض الصداق، فبلغت، أو أفاقت، ولم تقبض بعد، هل لها حبس نفسها؟ هكذا حكاه الرافعي،

ومقتضاه: أن الصحيح أن لها ذلك؛ وهذا الإطلاق فيه نظر، بل ينبغي أن ينظر: إما أن يكون الولي سلمها لمصلحة اقتضاها نظره، أو لا: فإن كان الثاني، فالحكم [كما ذكره]. وإن كان الأول، فينبغي أن يكون الصحيح: أنه ليس لها ذلك؛ كما لو ترك الولي طلب الشفعة؛ لمصلحة اقتضاها نظره، ثم بلغ المولى عليه؛ فإنه لا يثبت له الأخذ بها على الأصح. ولو بادر الزوج، وسلم الصداق، فعليها التمكين، وتسليم النفس بشرطه؛ كما تقدم في كتاب النكاح، فإن امتنعت من غير عذر، فهل له الاسترداد؟ ينبني ذلك على أن الزوج هل يجبر أم لا؟ إن قلنا: نعم، فله الاسترداد، وإن قلنا: لا، فوجهان: اظهرهما: أنه لا يسترد. وعن القاضي: إن كانت المرأة معذورة حين سلم، فزال العذر، وامتنعت- يسترد. فرع: لو سلم مهر الصغيرة التي لا تصلح للجماع: إما عالماً، أو جاهلاً، وقلنا بالصحيح، وهو أنه لا يجب تسليم مهرها، هل له الاسترداد؟ فيه وجهان في "التهذيب". قال: وإن هلك الصداق قبل القبض، أو خرج مستحقّاً، أو كان عبداً فخرج حرّاً، أو وجدت به عيباً- أي: مقارناً أو حادثاً- فردته، رجعت إلى مهر المثل في أصح القولين؛ لأن تلف العوض قبل القبض، ورده بالعيب، وخروجه مستحقّاً يقتضي رد المعوض، فإذا تعذر، وجب رد بدله؛ كما لو باع عبداً بثوب، وتلف الثوب بعد قبضه، فإنه يرجع عليه بقيمة الثوب. قال: وإلى قيمة العين- أي: إن كانت من ذوات القيم- في القول الآخر، وهو القديم، وادعى ابن الصباغ أنه الصحيح فيما إذا هلك؛ [لأن هلاك] العوض إذا لم يوجب فسخ العقد يوجب الرجوع إلى القيمة؛ كالبائع إذا غصب

المبيع من يد المشتري بعد التسليم، وتلف في يده. ولأنهما إذا ذكرا عوضاً كان مقصدهما ذلك العوض دون قيمة البضع، ولذلك المذكور خصوص: وهو عينه، وعموم: وهو ماليته، فإذا لم يمكن اعتبار عينه يعتبر الذكر في المالية؛ فلا يلغي التقدير، وإن لغا التعيين. والقولان مبنيان على أن الصداق مضمون [في يد الزوج] ضمان عقد أو ضمان يد؟ وفيه قولان تقدما بتوجيههما: فإن قلنا: ضمان عقد، كان الرجوع إلى مهر المثل، وإن قلنا: ضمان يد، فالرجوع إلى القيمة أو المثل، وأي قيمة تعتبر عند الهلاك؟ فيه قولان: أصحهما: أقصى القيم من يوم الإصداق إلى يوم التلف. والثاني: قيمة يوم التلف. وفي التتمة وجه: أن المعتبر قيمة يوم الإصداق. وروي وجه آخر: أن الواجب أقل القيم من يوم الإصداق إلى يوم التلف. فرع: لو أصدقها تعليم سورة، فتعلمتها من غيره، أو لم تتعلمها؛ لسوء فهمها- فالحكم كما لو تلف الصداق. واعلم أن قول الشيخ: فردته دال على أن لها الخيار في الرد والإمساك، وذلك ظاهر على قول ضمان العقد، وأما على قول ضمان اليد، فيتجه ألا يثبت لها الخيار، بل ترجع بالأرش كما لو تعيب المستعار في يد المستعير، وقد ذهب إلى ذلك أبو حفص بن الوكيل في العيب الحادث. قال الإمام: وهذا وإن كان متجهاً في القياس، فهو بعيد في الحكاية، وإن صح هذا مذهباً، فهو في العيب المتجدد في يد الزوج، فأما إذا فرض إطلاع على عيب قديم، فتغريم الزوج أرش العيب بعيد، وإلزام المرأة الرضا بالظلامة بعيد أيضاً، ولا اعتداد على الجملة كما ذكره. ولو ذكرا خمراً، أو خنزيراً، أو ميتة، فطريقان: أحدهما: القطع بوجوب مهر المثل، وهو ما حكاه في الشامل. والثاني: أنه على القولين في الحر، واختلف الأصحاب في محل القولين في الحر:

فعن الشيخ أبي حامد، والصيدلاني، والقاضي الحسين: أن محلهما ما إذا قال: أصدقتك هذا العبد إما على ظن أنه عبد، وإما مع العلم بأنه حر، أما إذا قال: أصدقتك [هذا] الحر، فالعبارة فاسدة، ويجب مهر المثل قولاً واحداً؛ وعلى هذا جرى صاحب التهذيب، والشيخ في آخر الباب؛ حيث قال: وإن تزوجها على مهر فاسد، فإنه جزم بوجوب مهر المثل، وإن حكى الخلاف هنا. وفي التتمة طريقة أخرى: أنه لا فرق بين اللفظين في جريان القولين ويتجه جريان هذا الخلاف فيما لو خرج مستحقّاً. وإذا قلنا بالرجوع [لها ببدل] العين، فالحر يقدر عبداً وتجب قيمته، والخمر عصيراً، ويجب مثله. قال الرافعي: وقد حكي فيما إذا أسلم الزوجان، وقد جرى القبض في بعض المهر الفاسد- وجهاً: أنه يقدر الخمر خلاًّ، والوجه: التسوية. وذكرنا وجهاً: أنه تعتبر قيمة الخمر عند من يرى لها قيمة، ولا يبعد مجيئه هنا. وأما الخنزير، فيقدر شاة؛ قاله الغزالي. والمذكور في نكاح المشركات: أنه يقدر بقرة، وهو الذي أورده الإمام، وصاحب التهذيب. وفي الميتة تقدر مذكاة، ثم الواجب فيها وفي الخنزير القيمة. فروع: أحدها: إذا تلف الصداق، فإن كان أتلفته الزوجة، فهو كما لو قبضته على الأصح. وفيه وجه: أنه يجب عليها قيمته، وترجع عليه بمهر المثل، وهذا الوجه إنما يتجه على قول ضمان العقد، أما [على] قول ضمان اليد، فلا. وإن كان المتلف أجنبيّاً، فإن قلنا: إتلاف الأجنبي المبيع قبل القبض كتلفه بنفسه، فالحكم كما تقدم. وإن قلنا بوجوب الخيار للمشتري- وهو الأصح- فللمرأة الخيار في

الصداق، سواء قلنا: هو مضمون ضمان عقد، أو يد، فإن فسخت [فماذا ترجع] به على الزوج؟ فيه القولان. وإن لم يفسخ، أخذت من المتلف البدل، ولها أن تطالب به الزوج؛ إن قلنا بضمان اليد، وإلا فلا. قال الرافعي: وكان يجوز أن يقال: لا يثبت الخيار على قول ضمان اليد، وليس لها [إلا طلب] البدل؛ كما إذا أتلف أجنبي المستعار في يد المستعير. وإن كان المتلف الزوج، فذلك ينبني على أن إتلاف البائع كالآفة السماوية، أو كإتلاف الأجنبي، وقد تبين حكم الصداق على التقديرين. فإذا ثبت الخيار، وقلنا بضمان اليد، وان الزوج يضمن ضمان الغصوب؛ فلا فائدة للفسخ، وكذلك إن قلنا: يضمن يوم الإصداق، وجعلنا إتلافه كالآفة السماوية. وإن جعلناه كالأجنبي؛ فإن كانت قيمته يوم الإصداق أكثر؛ فلها في الفسخ فائدة، وإن كانت أقل فلا. وإذا طالبت المرأة بالصداق، وامتنع الزوج متعدياً، ثم تلف في يده؛ فهذا التلف نازل منزلة إتلاف البائع؛ فيجيء فيه الخلاف. [الفرع] الثاني: إذا أجازت عند إطلاعها على عيب في الصداق، إن قلنا: يضمن ضمان العقود، فلا أرش لها، وإن قلنا: ضمان يد، فلها أرش النقصان في الحادث، وفي المقارن تردد القاضي الحسين من حيث إن يد الزوج لم تشتمل يوم الإصداق إلا على معيب، والظاهر: أن لها الأرش. [الفرع] الثالث: إذا انتفع الزوج بالصداق في الخدمة وغيرها قبل القبض؛ فعليه الأجرة على قول ضمان اليد، وإلا فوجهان؛ كالبائع إذا انتفع بالمبيع قبل القبض.

والزوائد الحاصلة في يد الزوج قبل القبض والتلف أو الرد؛ إن قلنا بضمان اليد فلها، وإن قلنا بضمان العقود فكما في البيع. قال: وإن وردت فرقة من جهتها قبل الدخول؛ بأن أسلمت أو ارتدت، سقط مهرها؛ وكذا لو أرضعت من ينفسخ النكاح برضاعه؛ لأنها أتلفت العوض قبل التسليم؛ فسقط بدله؛ كالبائع إذا أتلف المبيع قبل القبض. وعن الشافعي في سنن الواقدي ما يشعر بوجوب نصف المهر إذا أسلمت، وأقامه بعض الأصحاب قولاً، ووجهه بأنها محسنة بالإسلام؛ فكان من حقه أن يوافقها، فإذا امتنع، انتسب الفراق إلى تخلفه؛ كذا ذكره الرافعي في نكاح المشركات، وقد حكيناه ثم. ولو زوج الكتابي ابنته الصغيرة من كتابي، ثم أسلم أحد أبويها قبل الدخول، صارت مسلمة، ووقعت الفرقة. [و] هل يسقط المهر؟ قال ابن الحداد: يسقط، وخالفه بعض الأصحاب، وقال: يجب [لها] نصف المهر؛ لأنه لم يكن من جهتها صنع فهو كما لو أرضعت، حكاه العمراني في الزوائد، والإمام في الفروع المذكورة قبل كتاب الصداق. فرع: فسخ النكاح بسبب إعسار الزوج بالصداق [هل يشطر الصداق؟ قال في الجيلي في كتاب النفقات]: إن قلنا: إنه فسخ، سقط جميعه. وقال في التتمة في ضمن فرع، وهو إذا كانت الزوجة صغيرة، فأعسر زوجها بصداقها لا يفسخ الولي؛ لأنه إنْ كان قبل الدخول يُشطر المهر، [وإن كان بعده- فهو باق في ذمته، فلا فائدة في الفسخ؛ وهذا يشعر بأن الفسخ بالإعسار يشطر المهر؛] فإن فسخ الولي ينزل منزلة [فسخ] المولى عليه؛ بدليل ما تقدم.

ويمكن أن يقال في هذه الصورة: يتشطر؛ إذ لا منع من جهتها؛ بخلاف ما إذا فسخت هي، ويمكن أن يكون بناءً على أنه طلاق. قال: وإن قتلت نفسها، فقد قيل: فيها قولان، أي: بالنقل والتخريج؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه- نص على أن السيد إذا قتل الأمة، أو قتلت نفسها: أنه يسقط المهر، وعلى أن الحرة إذا قتلت نفسها، لا يسقط؛ فقيل قولان بالنقل والتخريج: أحدهما: أنه يسقط مهرها؛ لحصول الفرقة من جهتها؛ كما لو ارتدت. والثاني: لا يسقط، وهو الأصح؛ لأنها فرقة حصلت بانتهاء النكاح؛ فأشبهت الموت. قال: وقيل: إن كانت حرة، لم يسقط، وإن كانت أمة، سقط؛ لأن الحرة كالمسلمة إلى الزوج بالعقد؛ ولهذا يملك منعها مِن السفر، بخلاف الأمة؛ فإن للسيد أن يسافر بها. ولأن المقصود الأصلي من نكاح الأمة الاستمتاع؛ ولهذا لا يجوز إلا عند الحاجة، وفي نكاح الحرة الوصلةُ وتناسل العشائر؛ ولهذا يجوز عقده على من لا يمكن وطؤها من الرتقاء والقرناء. وأيضاً: فإن الحرة إذا قتلت نفسها، غنم زوجها ميراثها؛ فجاز أن يغرم

مهرها، وفي الأمة لا ميراث له، والطريق الأول أصح؛ لضعف الفروق؛ قال أبو إسحاق لا يتبين الفرق بينهما، ويجب أن يسقط مهر الحرة والأمة جميعاً بالقتل؛ هذه طريقة العراق. والخراسانيون حكوا الطريقين فيما إذا قتل السيد الأمة، والحرةُ نفسَها، والأصح عندهم: الثاني، وهو تقرير النصين. وأما إذا قتلت الأمة نفسها، فهو مبني على أن علة السقوط فيما إذا قتلها السيد ماذا؟ فمِنْ قائلٍ: العلة: أن المقصود بالعقد الوارد على المال، قد فات قبل التسليم؛ فأشبه فوات المبيع قبل القبض. قال الرافعي: وهذا أظهر؛ إن قلنا: السيد يزوج بحكم الملك؛ وعلى هذا التعليل يسقط أيضاً. ومِنْ قائلٍ: إن المستحق هو الذي فوت المقصود عليه، فكان تفويته رضاً منه بالسقوط؛ فعلى هذا لا يسقط؛ وهذا هو الأظهر. ويخرج على العلتين موتها قبل الدخول، وقتل الأجنبي. ولو قتل الزوج زوجته الأمة، فالحكم ببقاء المهر أظهر وفيه وجه: أنه يسقط أيضاً. وقيل: الزوج لا يتضمن القبض؛ كالمستأجر إذا قتل العبد المستأجر. فرعان: [أحدهما:] قال في التهذيب: إذا قلنا: إن السيد إذا قتل أمته، سقط المهر، فلو تزوج رجل أمة أبيه، فوطئها الأب قبل أن يدخل بها الابن، وجب أن يسقط المهر. الثاني: إذا قلنا باستقرار المهر بقتل الأجنبي، هل يرجع به الزوج عليه؟ حكى الحناطي أن عبد الجبار المصري حكى في شرح المزني: أنه يرجع عليه؛ كالرضاع. قال: وهو بعيد، لم يذكره غيره.

قال: وإن وردت الفرقة من جهته بأن أسلم، أو ارتد، أو طلق؛ وجب نصف المهر: أما في الطلاق فللآية، ولأنا لو أسقطنا صداقها احتجنا إلى أن نوجب لها المتعة- فكان إبقاء بعض ما وجب أقرب من إسقاط الجميع، وإيجاب مال آخر. وأيضاً: فإن المرأة كالمسلمة إلى الزوج بنفس العقد؛ لأن التصرفات التي يملكها الزوج تنتقل من وقت النكاح، وطلاقه ليس فسخاً للنكاح، فنظر الشرع إلى تصرفه والقدرة عليه، ثم إلى عود البضع إليها قبل استيفاء المعقود عليه منه، فانقسم النظر إلى شعبتين؛ فأوجب تشطر المهر. وأما في الباقي؛ فبالقياس عليه. وكذا الحكم فيما لو فوض إليها الطلاق، فطلقت نفسها، أو علق طلاقها على [دخول دار]، فدخلت، أو طلقها بعد انقضاء مدة الإيلاء بطلبها. ولو حكم بإسلامه تبعاً [لأحد] أبويه، فهل يتشطر المهر، أم يسقط؟ فيه وجهان في النهاية عن الشيخ أبي علي، والأولى التشطر؛ حكاه في الفروع المذكورة قبل كتاب الصداق. ولو ارتدا معاً، ففيه- أيضاً- وجهان. والخلع مع الزوجة حكمه حكم الطلاق في التشطر؛ لأنه وإن كان تم بالزوجة، فالمغلب فيه جانب الزوج؛ لأن المقصود منه الأصلي الفراق، وهو مستقل به؛ [ولذلك يتمكن] من الخلع مع الأجنبي. وقال الجيلي في كتاب الخلع: إذا خالع قبل الدخول على غير المهر، إن كان مع غيرها؛ لم يسقط الجميع، بل يتشطر، وإن كان معها، فقولان؛ بناءً على أن المغلب جانبها؛ حتى يسقط الكل، أو جانبه؛ حتى يتشطر. وفي النهاية عند الكلام في المتعة: أنا إذا جعلنا الخلع فسخاً، فمن أصحابنا

من يتمارى في التشطر. وفرقة اللعان هل تشطر الصداق؟ فيها خلاف ذكره [في] الوسيط في كتاب النفقات. وكل فرقة حصلت قبل الدخول [بلا سبب] من جهة المرأة تشطر المهر. واعلم أن القول بأن إسلامه يشطر المهر مفرع على القول بصحة أنكحة الكفار. قال: وإن اشترت زوجها- أي: بغير الصداق- وهي حرة، فقد قيل: يسقط النصف- أي: الذي يسلم لها لو كانت الفرقة من جهة الزوج- لأن الفرقة حصلت بالزوجة والسيد، ولا اختيار للزوج فيها. ولأن الزوجة هي المتملكة، والملك هو الذي ينافي الزوجية ويقطعها؛ فصار كما لو ارتدت؛ وهذا هو الأصح، ولم يحك في التتمة سواه. قال: وقيل: لا يسقط لأن الانفساخ حصل بالعقد الجاري بين البائع والزوجة، والبائع قائم مقام الزوج من حيث إنه سيده، والفراق إذا حصل بصنع الزوجين، غلب جانب الزوج؛ كالخلع. واعلم أن بعض الشارحين أضاف لقول الشيخ: وقيل: لا يسقط: أي: النصف، بل [يسقط] الكل، واعتقد بأن الشيخ أراد بالقول الأول سقوط نصف الصداق، وبقاء النصف لها، وليس كذلك؛ فإن الفرقة الحاصلة قبل الدخول تسقط نصف الصداق قولاً واحداً بأي جهة كان الفراق، إلا ما ذكرته في العنة؛ فلا يحتاج إلى دليل عليه، وإنما الكلام في النصف الآخر، هل يسقط؟ ومثار الخلاف: أن الفرقة الحاصلة بالبيع- والصورة هذه- تحال على جانبه أو جانبها؟ ثم على الوجه الثاني: إذا كان الصداق ديناً، ولم تقبضه، فقد ملكت عبداً [لها] في ذمته دين وفيه وجهان:

أحدهما: يسقط؛ كمالا يثبت لها عليه دين ابتداء. وأصحهما: أنه يبقى كما كان. أما إذا اشترته بعين الصداق؛ بأن يكون السيد قد ضمنه في ذمته، أو قلنا بالقول القديم، أو دفع إليه السيد عيناً؛ ليصدقها لزوجته، فأصدقها إياها، ثم اشترته بها، فإن قلنا: يسقط الجميع، لم يصح البيع، ويستمر النكاح؛ لأنه لو صح لملكته، وانفسخ النكاح، وإذا انفسخ سقط المهر، وعرى البيع عن العوض، وإذا عرى البيع عن العوض- بطل، فتصحيحه يجر إلى بطلانه. وقال الشيخ أبو عليك عندي أنه يصح [البيع] ويبطل النكاح؛ لأن البيع وفسخ النكاح لا يقعان معاً، بل يقع الفسخ بعد البيع وحصول الملك؛ حتى لا يحكم بانفساخ النكاح ما داما في المجلس إن قلنا: إن الخيار يمنع حصول الملك، وإذا كان الانفساخ عقيب الملك؛ فيكون ملكها عين الصداق زائلاً مع حصول ملكها للرقبة، فلا يبطل بالانفساخ، بل أثر الانفساخ الرجوع إلى بدل الصداق؛ وهذا الذي ذكره الشيخ أقامه صاحب التتمة وجهاً. وإن فرعنا على التشطير، وكان ديناً؛ فينبني على أن من ملك عبداً وله عليه دين، هل يسقط؟ فإن قلنا: يسقط، لم يصح البيع أيضاً؛ لما قررناه. وإن قلنا: لا يسقط، بطل البيع في النصف وفي الباقي [قولاً] تفريق الصفقة؛ كذا قاله الغزالي. والذي أجاب به الشيخ أبو حامد، وهو الأظهر: أنه يصح البيع؛ لأنا إذا حكمنا بانتقال الملك في رقبة العبد إلى الزوجة، لزمن منه الحكم ببراءة ذمة العبد عن الصداق حالة الحكم بانتقال الملك إليها، وإذا كان كذلك، فما ملكت عبداً لها عليه دين؛ فيتجه صحة البيع قطعاً. ويؤيد ذلك أن العبد الجاني إذا اشتراه المجني عليه بالأرش؛ فإنه يصح الشراء، وقد صرح بذلك الغزالي في كتاب الجنايات، وكان مقتضى ما ذكره هنا

من البيان: ألا يصح، والله أعلم. والأمة إذا اشترت زوجها بإذن سيدها، أو كانت مأذوناً لها في التجارة، فيصح البيع، ويتم النكاح؛ لأن الملك للسيد. قال: وإن اشترى زوجته سقط كله؛ لأن السيد هو المختار للفرقة؛ حيث عين الزوج للبيع منه [مع] إمكان جواز البيع من غيره، وهو كما غلبنا جانب الزوج في المخالعة. لإمكانها مع غير الزوجة. وقيل: يسقط النصف، وهو المنصوص؛ على ما حكاه أبو الفرج السرخسي، والمذهب في النهاية على ما حكاه في المتعة؛ لأن الفرقة إنما تحصل بالملك، وحصول الملك يعتمد قبوله، ويخالف الخلع؛ فإن الخلع مع غيرها يوجب الفرقة، وهنا البيع من غير الزوج لا يوجب الفرقة. وعلل في المهذب هذا الوجه في كتاب المتعة بأنه لا مزية لأحدهما على الآخر في العقد؛ فسقط حكمهما، وصار كما لو حصلت الفرقة من جهة أجنبي. قال: وقيل: إن استدعى الزوج بيعها، وجب النصف، وإن استدعى السيد لم يجب؛ لأنهما استويا في أن الموجود من كل واحد [منهما] شق العقد؛ فرجح بالاستدعاء، وإنما لم يجيء هذا القول في المسألة الأولى؛ لأن الزوج لا صنع له، ولا فعل من جهته حتى نقول: عارض فعله فعلها؛ حتى رجح بالاستدعاء، وهنا الزوج ومن يستحق الصداق صدر منهما العقد، ولا مزية لأحدهما على الآخر؛ فرجح بما ذكرناه. فرع: لو وَرِثَ زوجته، أو ورثت زوجها، قبل الدخول، فهل ينشطر الصداق، أو يسقط جميعه؟ مذهب ابن الحداد: السقوط؛ لأنه لا صنع منه، [وهو ما أورده الإمام في كتاب الإجارة في ضمن فصل، أوله: لا تنفسخ الإجارة بموت أحدهما]، والأصح خلافه؛ إذ لا صنع منها أيضاً، وهذا يكفي لبقاء

التشطير كما لو أرضعت، وانفسخ النكاح به. ومن الأصحاب من رأي السقوط فيما إذا ورثت زوجها أولى؛ لأن سببه منها؛ قاله في الذخائر في نكاح الأمة. قال: ومتى ثبت له الرجوع بالنصف، فإن كان باقياً على جهته، رجع في نصفه؛ للآية، وهل يفتقر إلى اختيار التمليك، أو يرجع إليه بنفس الطلاق؟ فيه وجهان: أصحهما: الثاني، ويروي أنه المنصوص. والأول اختيار أبي إسحاق وفي بعض الشروح نسبته إلى ابن سريج. ولو كان الصداق ديناً، سقط نصفه من ذمة الزوج بالطلاق على الأصح، وعند الاختيار على الوجه الثاني. فإن كانت قبضته، فهل يتعين حقه في المقبوض، أو لها أن تؤدي حقه من موضع آخر؟ فيه وجهان، أقربهما: الأول. ولا يشترط لرجوع النصف قضاء القاضي بأنه له على ظاهر المذهب. وحكي قول على القديم: أنه يشترط. ومنهم من حكى الاشتراط وجهاً، وامتنع المعظم من إثباته قولاً أو وجهاً. فرع: على قولنا: لا يعود الشطر إلا باختيار التملك، لو طلقها على أن يسلم لها كل الصداق، فيسلم لها جميعه. ولو طلق، ثم قال: أسقطت خياري، أشار الغزالي فيه إلى احتمالين: أرجحهما: أنه لا يسقط؛ كما لو أسقط الواهب خيار الرجوع. ثم قال الرافعي: ويجوز أن يسوي بين هذه الصورة والتي قبلها. ولو حصلت زيادة منفصلة، فهي للمرأة، وإن كانت متصلة، فهل يمنع الزوج إلا برضا المرأة؛ كالزيادة الحادثة قبل الطلاق؟ فيه وجهان:

أشبههما أن له أن يرجع [من غير] رضاها؛ لأنها حصلت بعد تعلق الحق، فصار ككبر الأشجار في الشقص المشفوع بعد البيع، وقبل علم الشفيع. وهل تملك المرأة التصرف فيه قبل الاختيار؟ فيه وجهان: قال الإمام: القياس أنها تملكه؛ كما قبل الطلاق. فرع: وإذا قلنا: تملكه بنفس الطلاق، فهل هو في يدها مضمون أو أمانة؟ مذهب العراقيين: الأول. وقال المراوزة: إنه أمانة، وتظهر فائدة الخلاف في أن الواجب عليها التسليم أو التمكين؟ وفيما إذا تلف قبل الطلب من غير تعدٍّ تعيب. ولو اختلفا على قول الضمان، هل حصل العيب بعد الطلاق أو قبله، فمن المصدق؟ فيه وجهان في التتمة. قال: وإن كان فائتاً- أي: إما بتلفه، أو لخروجه عن ملكه- أو مستحقّاً بدين- أي: مرهوناً به- أو أفلست، وحجر عليها قبل الطلاق أو بشفعة، رجع [إلى] نصف قيمته أقل ما كانت من يوم العقد إلى يوم القبض، أي: إذا كان من ذوات القيم، وإلا فالمثل؛ لأنها إن كانت يوم العقد أقل، فالزيادة حصلت في ملكها؛ فلم يرجع في نصفها، وإن كانت يوم [العقد] أكثر، ثم نقصت، كان النقصان في يده؛ فلا يرجع به. وفيه وجه: أنه يقدم الزوج عند مزاحمة الشفيع إياه، فلو أخذ الزوج الشطر، ثم جاء الشفيع طالباً، فهل يستقر أخذه؟ فيه وجهان على قولنا: إن الشفيع يقدم عند التزاحم. وفي [تقديم] الزوج بالشطر على الغرماء عند الفلس [وجه] محكي في النهاية [عند الكلام] فيما إذا كان الصداق زائداً.

ولو طلقها وقد كاتبت [عبد] الصداق، ففي التهذيب وغيره: أنه لا يرجع فيه. ويتجه أن يكون في رجوعه قولان؛ كما في رجوع الأب فيه إذا كاتبه الابن الموهوب له، وهما في الهبة مبنيان على جواز بيعه، وإذا جوزنا الرجوع، فالكتابة لا تبطل على الأصح؛ كما في البيع. ويمكن أن يفرق بينهما بأن الواهب لو لم يجز له الرجوع فيه، لبطل حقه من الرجوع، ولا بدل يجبره، وهنا إذا تعذر عليه الرجوع، رجع إلى القيمة، وهي جابرة لحقه؛ فلا يبطل تعلق حقها السابق، وحكم التعلق بكل حق لازم حكم الرهن، أما إذا تعلق به حق غير لازم: كالوصية، والهبة، والرهن قبل القبض، فللزوج أن يرجع في نصفه. وفي الشامل والتتمة حكاية قول: أنه يرجع في نصف الموهوب. ولو باعته بشرط الخيار، وطلقها في مدة الخيار، فإن جعلنا الملك للبائع، فهو كالهبة قبل القبض، وإن قلنا: للمشتري، فلا رجوع له إلى العين؛ كذا قاله ابن الصباغ، والمتولي. ولو كان الصداق عبداً، فدبرته، فهل يمتنع الرجوع؟ فيه ثلاثة طرق: أحدها: أن في تمكينه من الرجوع قولين؛ بناءً على أنه وصية أو تعليق عتق بصفة. فإن قلنا بالأول، فله الرجوع، وإلا فلا. والطريق الثاني- وهو قضية نصه في الأم-: القطع بأنه لا يرجع، وإن قلنا: إنه وصية؛ لأن التدبير قربة؛ فليس للزوج تفويتها؛ كالزيادة المتصلة. والثالث: القطع بأنه يرجع: أما إذا قلنا: [بأنه وصية] فظاهر، [وأما إذا قلنا:

تعليق عتق بصفة]؛ فلأنه يرتفع بإزالة الملك، والطلاق يتضمن إزالة الملك، وأيضاً: فهو لا يمنع إزالة [الملك] اختياراً، فأولى ألَّا يمنع الرجوع القهري. قال في الشامل: وهذا أقيس، ومتى قال بهذه الطريقة، حمل قوله: لا يرجع على أنه لا يتعين الرجوع إلى نصف العبد بل له أن يعدل إلى نصف القيمة؛ لأن التدبير يبقى في النصف الآخر؛ وذلك مما يوجب نقصان القيمة؛ وبهذا أجاب في التتمة. وحكى أبو عبد الله الحناطي وجهاً: أنه يرجع في النصف وينتقص التدبير في الكل. وسواء ثبت الخلاف، أو لم يثبت، فالظاهر أن التدبير يمنع الرجوع. ثم الحكاية عن شرح أبي إسحاق: أن الخلاف فيما إذا كانت المرأة موسرة، فإن لم تكن، فله الرجوع إلى نصف العبد لا محالة. ولو علقت عتق العبد على صفة، ففيه [خلاف مرتب على التدبير، وأولى بأن يمنع الرجوع. وقيل: أولى بألا يمنع. ولو أوصت بعتقه فهو كالتدبير في منع الرجوع، فيه] وجهان، أظهرهما- وبه أجاب الشيخ أبو حامد-: أنه لا يمنع؛ لأن الإيصاء ليس عقد قربة. فرع: إذا كان الصداق حين الطلاق مرهوناً، فقال: أصبر إلى انفكاك الرهن، فإن قال: أتسلم ثم أسلم إلى المرتهن، فليس لها الامتناع منه. وإن قال: لا أتسلم وأصبر فلها ألَّا ترضى به، وتدفع إليه نصف القيمة؛ لما عليها من خطر الضمان. فلو أبرأها عن الضمان، وصححنا الإبراء، أو قلنا: إنه غير مضمون عليها؛ كما ذهب إليه المراوزة- فوجهان: أحدهما: أنه لا يجب عليها الإجابة- أيضاً- لأنه قد يبدو له؛ فيطالبها

بالقيمة، وقد تخلو يدها عن القيمة يومئذ. والثاني هو مذهب العراقيين: أنه ليس [لها الامتناع]. فإن لم نوجب الإجابة، ولم يطالبها إلى أن انفك الرهن، فهل يتعلق حقه بالعين أو القيمة؟ فيه وجهان: أصحهما في التهذيب: الثاني. فرع: ولو زال ملكها عن الصداق، ثم عاد قبل الطلاق، فهل يتعلق حقه بالعين أو القيمة؟ فيه وجهان: [الأصح منهما] وهو المذهب في التهذيب، وما أجاب به في الشامل، والمهذب: التعلق بالعين، بخلاف الهبة؛ لأن الرجوع في الهبة يختص بالعين دون بدلها، ورجوع الزوج لا يختص بالعين، بل يتعلق بالبدل، فالعين العائدة أولى بالرجوع من بدل الفائت. ولو كاتبت عبد الصداق، وعجز نفسه، ثم طلقها، فعن القاضي الحسين إجراؤه مجرى الزوال اللازم. وقال الإمام: ينبغي ألّا يترتب هذا على زوال الملك؛ لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. قال الرافعي: ولاشك أن عروض الرهن وزواله قبل الطلاق لا يؤثر. قلت: ويتجه أني خرج فيه وجه من زوال الرهن في العين الموهوبة؛ فإنه لا يثبت للأب الرجوع على وجه يحكي في الذخائر. ويمكن أني فرق بينهما بالفرق المذكور من قبل. قال: وإن كان زائداً زيادة منفصلة: كالولد، والثمرة، رجع في نصفه دون الزيادة- أي: سواء حصلت في يده، أو في يدها- لأنها غير مفروضة، ولأنها زيادة متميزة، حدثت في ملكها؛ فلم تتبع الأصل في الرد؛ كما لو

رد المبيع بالعيب. واعلم: أن قولنا: إنه يرجع في نصف الأم دون الولد مفروض في غير الجواري، فأما في الجواري، فليس له الرجوع في نصف الأم، على ما قاله ابن الصباغ والمتولي؛ لأنه يتضمن التفرقة بين الأم والولد في بعض الزمان، لكنه يرجع إلى القيمة. فإن قيل: قد حكيتهم أن الصحيح جواز الرد بالعيب وإن لزم منه التفريق؛ لأنه يقع بطريق التبع، فهلا كان هذا مثله. قيل: لو منع ذلك في البيع، لزم أن يبقى المعيب في ملكه، وذلك ضرر لا يجبره الأرش من كل وجه، وهنا المأخوذ جابر [للضرر] من كل وجه؛ فلا ضرورة في التفريق. ثم ما ذكرناه في غير الجواري مفرع على المذهب في أن التفرقة لا تحرم، أما إذا فرعنا على مذهب الصيمري في أن التفرقة محرمة في سائر الحيوانات فيتجه أن [يكون] الحكم كما في الآدميات. قال: [ولو كانت زيادة] متصلة، كالسمن والتعليم- أي: وما في معناه، من طول الشجرة، وكبرها- فالمرأة بالخيار بين أن ترد النصف زائداً- أي: ويجبر الزوج على قبوله؛ لأنه نصف المفروض مع زيادة لا تتميز، وفي المجرد للحناطي وجه: أنه لا يجبر على القبول؛ لما فيه من المنة. والظاهر الأول؛ لأن هذه الزيادة لا تنفرد بالتصرف، بل هي تابعة؛ فلا تعظم فيها المنة. قال: وبين أن تدفع إليه قيمة النصف؛ لأن الزيادة غير مفروضة، ولا يمكن الرد دونها؛ فجعل المفروض كالهالك. ثم المعتبر في القيمة أقل قيمة من يوم الإصداق إلى يوم التسليم إلى المرأة؛

كما ذكرناه من قبل. وقال الإمام: كنت أود لو قيل إذا لم يطرأ عيب، وإنما وجد تفاوت القيم بارتفاع الأسواق: أن يكون الاعتبار بقيمة يوم الطلاق؛ فإن الشطر إنما يرتد إلى الزوج يومئذ والعين قائمة، ولكنها لا تردها لمكان الزيادة؛ فالوجه أن نقول: ما قيمة هذه العين لو لم تكن زيادة، فنعتبرها؟ وأجاب عنه الغزالي بأن الزيادة المفروضة للرجوع؛ فكان كفوات العين. ثم قال الأصحاب: ولا تمنع الزيادة المتصلة الاستقلال بالرجوع إلا في هذا الموضع، وأما في غيرها فلا تمنع؛ كما إذا أفلس المشتري بالثمن [والعين زائدة، ورجوع] الأب فيما وهبه لولده، وهو زائد، ورد المبيع بالعيب، والثمن زائد، أو رد الثمن بالعيب، والمبيع زائد. وفرقوا بأن الملك في هذه المسائل رجع بطريق الفسخ، والفسخ محمول على العقد ومشبه به، والزيادة تتبع الأصل في العقود فكذلك [في] الفسوخ، وعود الملك في الشطر بالطلاق ليس على سبيل الفسخ؛ ألا ترى أنه لو سلم العبد الصداق من كسبه، ثم عتق، وطلق، كان الشطر له لا للسيد، ولو كان سبيله سبيل الفسوخ، لعاد على الذي خرج عن ملكه، وإنما هو ابتداء ملك ثبت فيما فرض صداقاً لها، وليست الزيادة فيما فرض. وفرق أبو إسحاق بين الصداق وبين إفلاس المشتري بأن في الفلس لو منعناه [من الرجوع إلى] العين، لم يتم له الثمن؛ لمزاحمة الغرماء، وهنا إذا لم يرجع إلى العين تسلم له القيمة بتمامها؛ فلا يلحقه كثير ضرر؛ حتى لو كانت مفلسة محجوراً عليها عند الطلاق فلو ترك العين، لاحتاج إلى المضاربة؛ فإنه يرجع في العين [مع الزيادة]، ولا يحتاج إلى رضاها. قال في الشامل: وما قاله يلزم عليه إذا وجد بالثمن عيباً، وقد زاد المبيع زيادة

متصلة، فإنه يمكنه الرجوع إلى الأرش، ومع هذا يرجع في العين. وعوَّل الأكثرون على الفرق الأول وأبوا استقلاله [بالرجوع] وإن كانت محجوراً عليها. وحكم الزوائد المتصلة والمنفصلة فيما سوى الطلاق في الأسباب المشطرة حكمها في الطلاق. وما يوجب عود جميع الصداق على الزوج ينظر فيه: إن كان سببه عارضاً كالرضاع، وردتها، فكذلك. وفي ردتها [وجه: أن] الزوج يستقل بالرجوع بالزيادة المتصلة. وإن كان سببه الفسخ بالعيب المقارن، فالزيادة لا تمنع الرجوع. وفي التتمة بناه على أن الفسخ إذا اتفق بعد الدخول، هل يسلم لها المسمى؟ إن قلنا: نعم، فهو كما لو كان السبب عارضاً، وإن قلنا بوجوب مهر المثل، بني على أن الفسخ يستند إلى وقت العقد، ونقول [بارتفاع العقد في أصله] أو لا؟ وفيه خلاف. وإن قلنا: لا؛ فالحكم كذلك. وإن قلنا: نعم؛ فيعود غليه بزوائده المتصلة والمنفصلة. تنبيه: هذا الخيار ليس على الفور، لكنه إذا توجهت طلبة الزوج لا تتمكن المرأة من التأخير، بل تكلف اختيار أحدهما، والزوج لا يجزم دعواه في القيمة ولا في العين؛ فإن إثبات الخبرة إليها، يمنع الجزم، ولكن يطالبها بحقه عندها، فإن امتنعت، قال الإمام: فالقاضي لا يقتضي منها على أن يحبسها؛ لتبذل القيمة أو العين، بل يحبس عين الصداق عنها إذا كانت حاضرة؛ فإن تعلق حق الزوج بالصداق فوق حق المرتهن، فإذا أصرت على الامتناع، فإن كان نصف القيمة أقل من نصف العين للزيادة، يبيع ما يفي بالواجب، فإن لم يرغب في

شراء البعض، باع الكل، وصرف الفاضل عن القيمة الواجبة إليها. وإن كانت نصف القيمة مثل نصف العين، ففيه احتمالان للإمام: أظهرهما- وهو ما ذكره الغزالي-: أنه يسلم نصف العين إليه، ولكن لا يملكه ما لم يقضِ القاضي به؛ لأنه يدرك بالاجتهاد، ومن نصِّ الشافعي وعلى هذا غلط من اعتبر القضاء في أصل التشطير. والثاني: لا يستلم، بل تباع؛ رجاء أن يجد زبوناً. قلت: وهذا [شبيه] ما إذا فسخ عقد القراض، ورأس المال عروض قيمتها قدر رأس المال، فرضي رب المال بها، وأبى العامل إلى البيع؛ لاحتمال وجود زبون، فمن المجاب منهما؟ فيه وجهان في النهاية. والأصح: إجابة المالك؛ إذ الزيادة بارتفاع الأسواق لا أثر لها في منع الرجوع. فرع: لو كان الصداق نخلاً، وعليها طلع مؤبر حين الطلاق خاصته؛ فبذلت المرأة نصفها مع الطلع، أجبر على أخذ ذلك على المنصوص؛ كالسمن. وإن بذلتها دون الطلع فلا؛ خلافاً للمزني. وإن طلب الزوج نصف النخل، وترك الثمرة إلى أوان الجذاذ، فهل تجبر؟ فيه وجهان. قال: وإن كان ناقصاً- أي: نقصان صفة- مثل أن كان عبداً، فعمي، [أو مرض]، أو نسي الحرفة في يدها، أو كان أمة فزوجها- فالزوج بالخيار بين أن يرجع فيه ناقصاً- أي: ولا أرش له- كما إذا تعيب المبيع في يد البائع، وبين أن يأخذ نصف قيمته؛ دفعاً للضرر عنه، وليس [هذا] كما إذا نقص

الصداق في يد الزوج، وأجازت؛ فإنها تغرمه الأرش على قل ضمان اليد؛ لأن الصداق في يده ملك لهان وهو مضمون عليه؛ فجاز تضمينه الأرش، وهنا الصداق ملكها في يدها، فكيف تضمن أرش النقصان؟ قال الإمام: ويحتمل أن يقال: عليها الأرش؛ لأنه لو تلف في يدها، لرجع الزوج إلى نصف قيمته، ومن يغرم القيمة عند التلف لا يبعد أن يغرم الأرش عند النقصان؛ ألا ترى أنه لو اشترى عبداً بجارية، وتقابضا، ثم وجد مشتري العبد به عيباً فرده وبالجارية عيب حادث، فإنه يستردها مع الأرش، وإن كان العيب قد وجد في دوام ملك قابض الجارية كما جرى العيب في الصداق. قلت: ويؤيد ذلك أن المبيع إذا تعيب في يد المشتري، ثم تحالفا، فإنه يضم إليه أرش العيب، وإن كان قد حدث في ملكه؛ كما حكاه الغزالي. وقد أقام الغزالي هذا الاحتمال وجهاً مخرجاً مع ظاهر المذهب مع أن [الإمام أبدى احتمالاً في التشبيه، وقد حكى الغزالي في آخر كتاب الغصب في المسألة] المستشهد بها أنه لا يرجع بالأرش، وجزم به. وحكى الإمام فيها في آخر النهاية وجهين، وهما كالوجهين في الشاة المعجلة إذا تعيبت في يد الفقير، ثم هلك المال، هل يرجع بالأرش على الفقير؟ والأصح فيها عدم الرجوع على ما حكاه ابن يونس. ولو حصل النقصان في يده قبل أن تقبضه المرأة وأجازت، فله عند الطلاق نصفه ناقصاً، و [ليس] له الخيار، ولا طلب الأرش. نعم، لو حدث بجناية جان وأخذت منه الأرش، ففي الرافعي وجهان: أصحهما: أنه يرجع إلى نصف الأرش مع نصف العين. وفي النهاية أبدى ذلك تردداً للقاضي. وقال الروياني: الظاهر أن الزوج يرجع بنصف ذلك الأرش. وأما نقصان الجزء كما إذا أصدقها عبدين، وقبضتهما وتلف أحدهما في يدها، ثم طلقها قبل الدخول- ففيه ثلاثة أقوال: أصحها: على ما حكاه في التهذيب-: أن الزوج يرجع إلى نصف الباقي، ونصف قيمة التالف.

والثاني: أنه يأخذ الباقي بحقه إن استوت قيمتهما. والثالث: أنه يتخير بين أن يأخذ نصف الباقي ونصف قيمة التالف، وبين أن يأخذ نصف قيمة العبدين، ويترك الباقي. فرع: لو طلقها وقد أجرت الصداق، فالزوج بالخيار إن شاء رجع إلى نصف القيمة في الحال؛ لما حصل من النقصان بسبب استحقاق الغير المنفعة، وإن شاء رجع إلى نصف العين مسلوبة المنفعة إلى انقضاء مدة الإجارة. وفي النهاية: أن الشيخ أبا محمد أجاب بمنع الرجوع إلى العين إذا منعنا بيع العين المستأجرة على الأول لا يرجع عليها [إذ لا يرجع عليها] إذا رجع في العين بأجرة مثل ما بقي من مدة الإجارة، بخلاف ما إذا جرى التحالف وقد اجر المشتري العين المبيعة، وجوزنا الرجوع في العين على قول؛ بناءً على صحة [بيع] المستأجر، فإن أجرة المدة الباقية تكون للمشتري، وعليه للبائع أجرة مثل ما بقي من المدة؛ لأن التحالف [يرفع العقد] الأول، إما من أصله، أو حينه؛ فبه يتبين أن منفعة المدة الباقية للبائع، وقد أحال بينه وبينها، وهنا الطلاق لا يرفع العقد الأول، وإنما يحصل الملك حين وقوعه، وهي في تلك الحالة غير مالكة للمنفعة، [وهو] إنما يرجع بنصف ما تملكه. ولو قال الزوج: أصبر إلى انقضاء مدة الإجارة، فالحكم كما لو قال: أصبر إلى فكاك الرهن، وقد تقدم. ولو كان الصداق زائداً من وجه، وناقصاً من وجه: كما إذا أصدقها عبداً صغيراً فكبر، فإنه نقصان من جهة نقص القيمة، ومن جهة أن الصغير يصلح للقرب من الحرم والبعد عن الغوائل، وزيادة من جهة أنه أقوى على الشدائد والأسفار؛ وكما إذا تعلم حرفة ومرض- فلكل واحد منهما الخيار على معنى: أن للزوج ألَّا يقبل العين؛ للنقصن، ويعدل إلى نصف القيمة، وللزوجة ألَّا تبذل

العين، وتعدل إلى نصف القيمة. وإن اتفقا على الرجوع جاز، ولا شيء لأحدهما على الآخر، ولا اعتبار بزيادة القيمة، بل كل ما يحدث فيه منفعة وفائدة مقصودة فهو زيادة من ذلك الوجه وإن أنقصت القيمة؛ كما ذكرنا في العبد. والحمل زيادة من وجه؛ لتوقع الولد، ونقصان من وجه؛ للضعف في الحال، ولخطر الولادة؛ فلا يجبر واحد منهما. وحكى أبو عبد الله الحناطي وجهاً: أنه يجبر إذا رضيت برجوعه إلى نصف الجارية وهي حامل؛ بناءً على أن الحمل لا يعلم، وقضية هذا أن تجبر- أيضاً- إذا رغب الزوج في الرجوع إلى نصفها. وأما الحمل في البهيمة، ففيه وجهان: أحدهما: أنه زيادة محضة. وأظهرهما: أنه [كما في الجواري]: أما إذا كانت مأكولة؛ فلأن لحمها [لا يطيب، وأما إذا كانت غير مأكولة؛ فلأنها لا تحمل] [ما كان] يحمل عليها قبل الحمل. فائدتان: إحداهما: مباحثة قالها الإمام، وهي إذا طلق الرجل امرأته، وصادف الصداق معيباً في يدها، فقد ذكرنا أنه إن أراد رجع [إلى نصف] القيمة، وكذلك لو تلف الصداق في يدها، ثم طلقها؛ وهذا كلام أطلقه الفقهاء، وتساهلوا في إطلاقه والغرض منه [تبيين سؤال]، فإن قال قائل: يرجع الزوج بنصف قيمة الكل، أو بقيمة نصف الكل، وبينهما تفاوت. قلنا: يرجع بقيمة نصف الكل؛ فإنه لم يفته إلا نصف الكل. قلت: ومما يؤيد ذلك أنه من أعتق نصف عبد يملكه وهو موسر، وسرى إلى

نصف شريكه، يجب عليه قيمة نصفه، لا نصف قيمته، وقد صرح بذلك- أيضاً- الشيخ في المهذب. الثانية: حيث أثبتنا الخيار للمرأة بسبب زيادة في الصداق، أو للزوج بسبب نقصان فيه، أو لهما؛ لاجتماع المعنيين- فلا يملك الزوج [قبل التشطير، لكن] يختار من له الخيار العين إذا كان الخيار لأحدهما وقبل أن يتفقا عليها إذا كان لهما، وإن قلنا: [إن] الطلاق يشطر الصداق، وإلا لما كان للتخيير واعتبار التوافق معنى، والله أعلم. قال: وإن كانت قد وهبت منه الصداق قبل الطلاق- أي: وبعد قبضه- ففيه قولان: أصحهما: أنه يرجع عليها بنصف بدله؛ لأنه ملك جديد حصل له قبل الطلاق؛ فلا يمنع الرجوع عند الطلاق؛ كما لو انتقل إليه من أجنبي أو بالشراء. والثاني: لا يرجع، وهو القديم، واختاره المزني، وهو الأصح في التهذيب؛ لأنها عجلت له ما يستحقه بالطلاق؛ فلا تبقى المطالبة عند الطلاق؛ وهذا كما أن من عجل الزكاة قبل الحول، لا يطالب بها عند المحل. أما إذا وهبته منه قبل القبض، ففي صحة الهبة وجهان؛ [بناء] على قولنا: إنه مضمون ضمان عقد؛ كما في هبة المبيع من البائع، فإن صححنا الهبة، ففي الرجوع طريقان:

أحدهما: طرد القولين. والثاني- حكاه الحناطي-: القطع بعدم الرجوع، والظاهر التسوية؛ كما حكاه في الشامل والتتمة، والله أعلم. قال: وإن كان ديناً، فأبرأته منه، ففيه قولان- أي: إذا قلنا بأنه يرجع في المسألة الأولى-: أصحهما: أنه لا يرجع عليها؛ كما لو شهد شاهدان بدين على إنسان، وحكم به الحاكم، ثم أبرأ المحكوم [له المحكوم] عليه [عن الدين، ثم رجع الشاهدان عن الشهادة- لم يغرما للمحكوم عليه] شيئاً. والثاني: يرجع؛ لما سبق. أما إذا قلنا: لا يرجع في الأولى، فهنا أولى. وحكى الخراسانيون في هذه المسألة طريقين: أحدهما: طرد القولين؛ كما في الهبة، من غير بناء. والثاني: القطع بعدم الرجوع. وفي التتمة بناء ذلك على أن الإبراء تمليك، أو إسقاط؟ فإن قلنا: تمليك، فهو كهبة العين. وإن قلنا: إسقاط، فلا يرجع؛ لما قدمناه. وفي النهاية: أن شيخه قربها من الخلاف في أن الإبراء هل يفتقر إلى القبول أم لا؟ وهو راجع لما في التتمة؛ لأن من شرطه القبول قال: إنه تمليك وإلا فإسقاط؛ وهذا إذا صدر الإبراء بلفظه، أو بلفظ العفو، أو الإحلال، أو الحط، أو الوضع، أو الإسقاط، أو بلفظ الترك مع النية؛ إن جعلناه كتابة، أو بدونها؛ إن جعلناه صريحاً. أما إذا كان بلفظ الهبة، أو التمليك وصححناه على الظاهر في المذهب: إما بالقبول، أو بدونه على أصح الوجهين، ففي الرجوع [ها هنا] خلاف مرتب على

الصورة السابقة، وأولى بالرجوع؛ نظراً إلى لفظ الهبة. والظاهر: اعتبار الحقيقة، وأن الحكم كما في لفظ الإبراء. ويجري مثل هذا الخلاف فيما لو وهب البائع المشتري الثمن، أو أبرأه منه، ثم وجد المشتري بالمبيع عيباً، فرده- في أنه هل يرجع عليه بالثمن؟ فإن قلنا: لا يرجع، فهل يتمكن من الرد؟ فيه تردد محكي في النهاية عن الأصحاب. وفي التتمة إجراء الخلاف في التمكين من الرد من غير ترتيب، وكذلك يجري في طلب الأرش إذا اطلع على عيب [في] المبيع بعد هلاكه، أو كان به عيب حادث مانع من الرد، ويجري في صور أخر مذكورة في مواضعها، ولو كان الصداق ديناً فقبضته، ثم [وهبته منه، ثم طلقها] قبل الدخول، ففي النهاية حكاية طريقين: أحدهما: طرد القولين، [كما في هبة العين]. والثاني: القطع بالرجوع. وفي التتمة: أن محل القولين إذا قلنا: إنه لو طلقها والمقبوض في ملكها ويدها، تعين حقه فيه، أما إذا قلنا: إنه لو طلقها لا يتعين حقه في المقبوض، فله الرجوع قولاً واحداً. فروع: أحدها: لو وهبت منه الصداق، ثم ارتدت قبل الدخول، [أو فسخ النكاح بالعيب قبل الدخول،] ففي الرجوع [في الكل] مثل الخلاف في الرجوع [في النصف] عند الطلاق؛ كذا قاله الرافعي ومجلي وغيرهما. قلت: وينبغي أن ينبني الرجوع عند الفسخ بالعيب المقارن على أن الفسخ إذا جرى بعد الدخول، وأوجبنا مهر المثل يرفع العقد من أصله أو من حينه؟ وفيه خلاف سبقت حكايته في هذا الباب عن صاحب التتمة. فإن قلنا: إنه يرفعه من أصله، فيتجه ألا يرجع عليها قولاً واحداً؛ لتبين بطلان

التصرفات فيه؛ كما قلنا في التحالف، في التصرف في الثمن، تفريعاً على أنه يرفع العقد من أصله. وإن قلنا: إنه يرفعه في حينه، فيتجه أن يكون محل الخلاف ومأخذه ما سبق. الثاني: لو وهبت الصداق من الزوج على أنه إذا طلقها كان ذلك [عما] يستحقه عليها بعد الطلاق، فهل تصح الهبة [ولا يرجع عليها بشيء بعد الطلاق، أو تفسد] الهبة، وله الرجوع؟ فيه خلاف محكي في التتمة. الثالث: لو وهبت منه نصف الصداق، ثم طلقها قبل الدخول، فإن قلنا: إن هبة الكل لا تمنع الرجوع بالنصف، فهبة البعض أولى، وإلام يرجع؟ فيه ثلاثة أقوال؛ كما ذكرنا فيما إذا أصدقها عبدين، وتلف أحدهما عندها، ثم طلقها قبل الدخول. وإن قلنا: إن هبة الكل تمنع الرجوع، فهنا ثلاثة أقوال: أصحها عند صاحب التهذيب، وهو المنصوص في المختصر: أنه لا يرجع بشيء. والثاني: أن الهبة تنزل على خالص حقها، فيرجع الزوج بجمع النصف الباقي. والثالث، ويحكى عن الإملاء، وبه قال المزني: أنه يرجع عليها بنصف الباقي؛ فكأنها عجلت نصف حقه، ووهبته نصف حقها الخالص لها. وإن كان الصدق دَيناً، فأبرأته عن نصفه، ثم طلقها، ففي التتمة: أنا إن قلنا: لو أبرأته عن الجميع يرجع عليها، فهنا يسقط عنه النصف الباقي. وإن قلنا: لا يرجع بشيء، فهنا وجهان: أحدهما: أنه لا يسقط عنه شيء؛ فيكون ما أبرأته منه محسوباً عن حقه. والثاني: يبرأ عن نصف الثاني. قال: وإن حصلت الفرقة والصداق لم يقبض، فعفا الولي عن حقها، لم يصح العفو- أي: سواء كانت صغيرة أو كبيرة، رشيدة أو سفيهة، عاقلة أو مجنونة، وسواء كان الصداق ديناً أو عيناً- لأنه مال من جملة أموالها؛ [فلا

يملك الأب إسقاطه؛ كسائر أموالها]. قال: [وقيل]: وفيه قول آخر: أنه إن كانت بكراً صغيرة، أو مجنونة- أي: في حال العفو- فعفا الأب أو الجد عن حقها، صح العفو؛ أخذاً من قوله- تعالى-: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237]. ومعنى الآية: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}، [أي: لكم] {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ}، أي: الزوجات، فيسلم لكم الكل، {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}، قال ابن عباس: أراد به الولي، والمعنى: إلا أن تعفو المرأة إن كانت من أهل العفو، أو وليها إذا لم تكن من أهل العفو. ورجح الشافعي هذا في القديم من أوجه: أحدها: أن قول ابن عباس مقدم في التفسير؛ لأنه ترجمان القرآن. والثاني: أنه ذكر الأزواج في الآية بصيغة المخاطبة، فقال: فنصف ما فرضتم، وذكر هذا بصيغة الغيبة، [فأشعر بأنه] أراد غير الأزواج. والثالث: أنه تعالى قال: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ}، وكان ذلك راجعاً إلى عفو يخلص به كل الصداق [للزوج]، ثم قال: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}، فعطف عليه؛ فوجب أن يحمل على عفو يخلص به كل الصداق للزوج؛ فيكون] العفو واحداً. والرابع: أنه وصفه بأن بيده عقدة النكاح، وأجرى ذلك بعد الطلاق، والولي هو الذي بيده عقدة النكاح الآن، فأما الزوج، فليس إليه شيء. ولأنهما لا يتهمان في حق الصغيرة، ويملكان التصرف في مالها بما تقتضيه المصلحة؛ ولهذا يملكان أن يصوغا الذهب والفضة حلياً وإن نقصت بذلك قيمته، وتلف جزء منه؛ لمصلحة المولى عليها ومنفعتها، والعفو منفعة لها؛ ليكثر

خطابها؛ وهذا التوجيه ذكره ابن الخلان. والقول المنصوص عليه في الجديد: أنه لا يصح عفوه، وأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، ويروي ذلك عن علي وغيره- رضي الله عنهم- لأنه- تعالى- ذكر خلوص الصداق له بعفوها، ثم عطف هذا عليه؛ فظهر أن المراد عفو يخلص به الصداق لها؛ لتشتمل الآية على ذكر الخلوص من الجانبين، وقد قال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، والأقرب للتقوى عفو الزوج، فأما عفو الأب عن حق ضعيفة؛ فلا يتصف بهذه الصفة. وقوله: {وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] خطاب لهما؛ كما كان أول الكلام خطاباً للأزواج على أنه لا يمتنع أن يكون الخطاب للحاضرين وبعده للغيبة، والمراد به المخاطب؛ كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22]. وإنما اشترطنا على القديم أن تكون بكراً؛ لأنها لو كانت ثيباً بوطء شبهة بعد النكاح، لم تستقل بالتزويج بعد، فليست بيده عقدة النكاح. وفيه وجه. و [اشترطنا] أن تكون صغيرة أو مجنونة؛ ليكون له ولاية على مالها، وفي معنى الصغيرة السفيهة؛ صرح بذلك الإمام وغيره، وفي البالغة وجه: أنه يجوز بناءً على أن مأخذ الجواز في الصغيرة: أنه الذي اكتسبه، فإذا أسقطه؛ فكأنه لم يكتسبه، [لا أن] المأخذ كون مالها تحت يده وتصرفه. وقال في التتمة والتهذيب: الجنون مانع من العفو، وحكاه في النهاية عن المراوزة بعد أن قال: حكم المجنونة حكم الصغيرة العاقلة؛ لأنه يرجى في العفو عن صداق العاقلة ترغيب الخاطبين فيها، والمجنونة لا يكاد يرغب فيها؛ فلا معنى لإسقاط حقها الثابت؛ لأمر لا يكاد يحصل. قال في التتمة: وكذا العاقلة المحجور عليها بالسفه. ولو تقدم عفو الولي على الفراق، لم يصح؛ لأن الزوج مالك لبضعها

بإزاء المهر، وقد يدخل بها بعد العفو؛ فتفوت منفعة البضع عليها، بخلاف ما إذا طلقها؛ لأنه عاد البضع إليها سليماً؛ فلا يعظم الضرر في إسقاط المال. وفيما علق عن الإمام أن أبا محمد جوز العفو قبل الطلاق إذا رأى الولي المصلحة فيه. وعلى الأول لو وقع العفو مع الفراق؛ كما إذا اختلعها به، فوجهان: الذي أجاب به في التهذيب والتتمة منهما: الجواز. وفي الوسيط: أن أظهرهما: المنع، وهو ما يدل عليه كلام ابن الصباغ. ووجهه: أن هذا القول [معتمده] ظاهر الآية، وهي مخصوصة بما بعد الطلاق. وحيث جوزنا العفو للأب أو الجد، فلا يقوم غيرهما فيه مقامهما، وإن كان له التصرف في مالها بوصاية أو تولية؛ للتهمة، ولقصور شفقته، ولأنه لا يستقل بإثباته فأولى ألَّا يستقل بإسقاطه. وقد فهم من التقييد بأن شرط العفو أن يوجد في حال البكارة- الاستغناء عن [ذكر اشتراط] أن يكون العفو قبل الدخول وإن كان شرطاً؛ لظاهر الآية. واشترط المراوزة وراء ما ذكرناه: أن يكون الصداق ديناً حالة العفو. وقال الشيخ أبو محمد: لا يشترط ذلك. ويمكن أن يكون مأخذ الخلاف أن لفظ العفو، هل يحصل الملك في شطر

الصداق إذا كان عيناً؟ وفيه وجهان: والأصح منهما عند [الفراق للمتولي]: أنه يجوز استعماله؛ لظاهر الكتاب، لكن مقتضى ذلك أن يكون الصحيح عند المتولي جوازاً عن العين، وهو لم يحك خلافاً في أنه لا يصح، وفرق بين العين والدين بأن الملك في الأعيان كامل، والدين في المذهب القديم ليس بملك كامل، وإنما هو حق مطالبة يصير ملكاً في الثاني. فرع: لو زوجها الأب، ومات، فهل للجد [العفو]؟ فيه وجهان منقولان في التتمة. قال: وإذا فوضت المرأة بضعها من غير بدل، لم يجب لها المهر [بالعقد]؛ لأنه حقها، فإذا رضيت بألَّا يثبت، وجب ألَّا يثبت؛ كما أنها إذا رضيت ألَّا يبقى لا يبقى. ولأنه لو وجب بالعقد، لتنصف بالطلاق؛ فعلى هذا: هل ملكت بالعقد أن تملك مهر المثل، أو ملكت أن تملك مهراً؟ فيه قولان. وقيل: يجب بالعقد؛ [لأنا نحكم] لها بالمهر عند الوطء، ولو لم يجب بالعقد، لما وجب بالوطء؛ إذ هو تصرف فيما ملكه بغير بدل، والتصرف فيما يملك بغير بدل لا يوجب ضماناً؛ كما إذا وهب منه الطعام، فأكله. وقيل: لا يجب قولاً واحداً. قال الإمام: وهو مذهب العراقيين، ولم يعرفوا غيره. وفي المهذب، والشامل حكاية قول الوجوب. واختلف الأصحاب في قول الوجوب، هل هو منصوص عليه أم مخرج [أشار الشيخ أبو محمد إلى أنه منصوص، والأظهر أنه مخرج، ثم هو مخرج] مِمَّاذا؟

قيل: من القول بوجوب المهر عند موت أحد الزوجين في صورة التفويض. وقيل: من قولنا: إنه لابد في الفرض من العلم بمهر المثل، وذلك يدل على أن المفروض بدل ينتقل إليه عن المهر الواجب. وعلى هذا فما الواجب؟ قال في القديم: هو مطلق، لا يتقيد بمهر المثل. وقال في الجديد: يتقدر بمهر المثل، [وحكاهما] في الذخائر. وأصل التفويض: أن يجعل الأمر إلى غيره ويكله إليه. ويقال: إنه الإهمال، ومنه: لا يصلح الناس فوضى أي: لا رئيس لهم، وتسمى المرأة: المفوضة؛ لتفويضها أمرها إلى الزوج أو الولي بلا مهر، أو لأن الأمر في المهر مفوض إليها، إن شاءت أبقته وإلا فلا. والتفويض ضربان: تفويض بضع، وتفويض مهر: فتفويض البضع- وهو المعقود له هذا الفصل- أن تقول البالغة، الرشيدة، المالكة لأمرها، ثيباً كانت أو بكراً لوليها-: زوجني بلا مهر، فزوجها [ونفى] المهر أو سكت. وقيل: إذا سكت عن ذكر المهر، فليست مفوضة. ولو قالت: زوجني، وسكتت عن المهر، فالذي ذكره الإمام وغيره: أن ذلك ليس بتفويض، وادعى الإمام فيه الوفاق. وفي المهذب ما يقتضي كونه تفويضاً؛ لأن اللفظ لا يتعرض إلا للنكاح، وإنه ينعقد بغير مهر؛ هذا في الحرة.

أما في الأمة فيكون من السيد صغيرة كانت أو كبيرة، وصورته أن يقول: زوجتكها بلا مهر، وألحقوا به ما إذا سكت عن ذكر المهر. ولو أذنت في التزويج على أن لا مهر في الحال، ولا عند الدخول وغيره، وزوجها الولي [على ذلك]، وقلنا بظاهر المذهب، وهو وجوب مهر المثل [عند الدخول]؛ على ما سيتضح- ففي صحة النكاح وجهان: أشبههما: الصحة؛ وعلى هذا فهو تفويض فاسد؛ فيوجب [مهر المثل، أو يلغى النفي] في المستقبل، [ويقال]: إنه تفويض صحيح؟ فيه وجهان. ولو أنكحها الولي ونفى المهر من غير إذنها في التفويض فهو كما لو نقص عن مهر المثل؛ فإن كان مجبراً؛ فيصح النكاح، ويجب مهر المثل، أو يبطل؟ فيه قولان. وإن كان غير مجبر، فيجري القولان، أو يجزم بالبطلان؟ فيه طريقان: والذي أجاب به ابن الصباغ في المجبر وغيره: صحة النكاح وفساد التفويض. وعن ابن أبي هريرة: أنه يصح تفويض الولي المجبر إذا صححنا عفوه. وقال أبو إسحاق وغيره: لا يصح على القولين جميعاً من حيث إن العفو إذا جوزناه يشترط أن يكون بعد الفراق، أو معه، أما قبله فلا. ولا يصح تفويض المحجور عليها وهو كعدمه [وإلا] في جواز التزويج إذا كان [إذنها] معتبراً. فرع: لو فوضت بضعها، فزوجها الولي بالمهر، نظر: إن زوجها بمهر المثل من نقد البلد [صح المسمى، وإن زوجها بدون مهر المثل، أو بغير نقد البلد] لم يلزم المسمى، وهو كما لو نكحها على صورة التفويض. قلت: وفي هذا نظر من حيث إن العقد اقترنت به تسمية فاسدة، [والعقد إذا

اقترن به تسمية فاسدة] إذا صح كان الواجب فيه مهر المثل، أو قيمة المسمى إن أمكن تقويمه؛ فينبغي أن يجب مهر المثل. [وأما مفوضة المهر، مثل أن تقول: زوجني على أن يكون المهر] ما شئت، أو ما شاء الخاطب، أو فلان- فإن زوجها على ما ذكرت من الإبهام، فإن لم يعرف المشيئة، فقد زوجها بمجهول؛ فيصح [النكاح] ويجب مهر المثل قولاً واحداً. وإن عرف ما شاء فوجهان، أظهرهما: صحة الصداق. وإن زوجها [بما عين المذكور مشيئته؛ صح المسمى وإن كان دون مهر المثل. وإن زوجها] بلا مهر، فيبطل النكاح أو يصح ويجب مهر المثل؟ فيه خلاف. قال: ولها المطالبة بالفرض- أي: قبل المسيس- لأن إخلاء العقد عن المهر خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتكون على ثبت من تسليم نفسها، وتعرف أنها علام تسلم؟ وهذا تفريع على أنه لا يجب بالعقد مهر، ويجب بالوطء، أما إذا لم نوجبه بالوطء، فليس لها طلبه. وإن أوجبناه بالعقد، فينبني على أنه [هل] يتشطر بالطلاق أم لا؟ فإن قلنا: يتشطر، فليس لها طلب الفَرض، ولكن تطالب بالمهر نفسه. وإن قلنا: لا يتشطر، فلها طلب الصداق؛ ليقرر الشطر؛ فلا يسقط لو طلقها قبل المسيس؛ وهذا هو الأظهر. والفرق بينه وبين طلب المرأة وطأة واحدة؛ حيث قلنا: لا يجب على الصحيح وإن طلبت ما يقرر المهر-: أن الزوج قادر على الفرض متى شاء، والوطء أمر جبلي، [قد لا تساعد] الطبيعة عليه. وما الذي يفرض لها؟ ينظر: إن قلنا: يجب بالعقد، فرض لها قدر مهر المثل على الجديد، ويشترط معرفتها بقدر مهر المثل؛ لأن المفروض بدله، وتراعى

فيه شرائط الاعتياض؛ حتى لا يجوز أن يكون مؤجلاً، ولا ينتقص عن مهر المثل، ولا يزداد إذا كان المفروض من جنسه، ويعتبر رضاها بالمفروض، فإن لم ترض [به] فكأنه لم يفرض. وفيما علق عن الإمام: أنه لا يشترط القبول، بل يكفي طلبها وإسعافه. قال الرافعي: ولكن هذا إذا طلبت عيناً أو ذكرت مقداراً فأجابها، أما إذا أطلقت الطلب، فلا يلزم أن تكون راضية بما يعينه أو يقدره. وعلى القديم يكون المعتبر من الشرائط ما نذكره تفريعاً على القول بعدم الوجوب؛ حتى لا يشترط معرفة واحد منهما بمهر المثل، ورجح القاضي اشتراط المعرفة، والجمهور على خلافه، ومقتضاه أن يكون الصحيح عندهم هنا القول القديم. وأما إذا قلنا: لا يجب مهر [المثل] بالعقد، وهو الصحيح، فالواجب ما يتفقان عليه من نقد أو عرض، سواء كان قدر مهر المثل، أو دونه، أو أزيد [منه] من جنسه أو غير جنسه، حالّاً أو مؤجلاً، ولا يشترط معرفة واحد منهما بمهر المثل. وكان يتجه على القول بأنها ملكت أن تملك مهر المثل، [بأن] يكون الحكم كما تقدم، وهذا كله إذا كان الفرض من الزوج، فإن امتنع الزوج من الفرض، أو لم ترض بما فرضه، فالقاضي يفرض لها مهر المثل من نقد البلد حالّاً [ولا يزيد] عليه ولا ينقص، [ولا يشترط] رضاها به، ولابد من علمه بقدر مهر المثل. وفي بحر المذهب: أن القاضي إذا أراد أن يفرض لها مؤجلاً، وعادة [مهور] نسائها الحلول؛ يزيد، [لمكان] الأجل، والمذهب الأول. ولو تبرع أجنبي، وفرض لها مهراً يعطيه من ماله، ففي صحته وجهان:

أصحهما: المنع. وفي التتمة: تقريبهما من الأب إذا قبل لابنه الصغير نكاح امرأة، وأصدقها عيناً من مال نفسه، وهو زائد على مهر المثل. وعلى وجه الصحة لها مطالبة الأجنبي بالمهر المفروض، ويسقط طلب الفرض عن الزوج. وقال صاحب الذخائر: وهذا فيه نظر؛ لأن تقرير الصداق ليس بالتزام منه لذلك، ولا هو أداء، بل إما تقرير لما وجب بالعقد، أو ابتداء إيجاب سببه العقد، فكيف يكون الأجنبي ملتزماً بذلك، ولم يجر منه التزام. ولو طلقها قبل المسيس، [فنصف الفرض يعود إلى الزوج أو الأجنبي؟ فيه وجهان؛ كما لو تبرع الأجنبي بإذن المسمى] ثم طلق الزوج قبل المسيس. فرع: لو أسقطت المفوضة حق الفرض، لم يسقط، ولو أبرأت عن المهر قبل الفرض والدخول، فإن قلنا: يجب مهر المثل بالعقد، صح الإبراء؛ إن كان معلوماً، وإن كان مجهولاً فلا يصح- على الأصح من القولين- فيما يزيد على القدر المستيقن، وفي المستيقن وجهان مأخوذان من تفريق الصفقة. وإن قلنا: لا يجب المهر بالعقد، قال الغزالي: فهو إبراء عما لم يجب، ولكن جرى سبب جوبه، وفيه قولان؛ كما في الضمان، والأصح: الفساد. قال: فإن فُرِضَ لها مهر صحيح صار ذلك كالمسمى في العقد [في جميع ما ذكرناه؛ لأنه مفروض؛ فصار كالمسمى في العقد]. وفي النهاية حكاية عن الأصحاب وتابعه [عليه] الغزالي: أنه ليس لها حبس نفسها لتتسلم المفروض؛ لأنها قد سامحت بالمهر، فكيف يليق بها المضايقة في التقديم والتأخير، نعم، لها الحبس حتى يفرض لها. أما إذا فرض لها مهراً فاسداً من خمر أو غيره، كان وجوده كعدمه،

بخلاف، ما إذا سمي في العقد. قال: فإن لم يفرض لها حتى دخل بها، وجب لها مهر المثل؛ لأن الوطء في النكاح بلا مهر [خاص برسول] الله صلى الله عليه وسلم، ولأن البضع لا يتمحض حقّاً للمرأة، بل فيهئحق لله تعالى؛ ألا ترى أنه لا يباح بالإباحة؛ فيصان عن التصور بصورة المباحات. وخرج القاضي الحسين وجهاً: أنه لا يجب مما إذا وطئ المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن؛ ظنّاً أنها تباح بالإذن؛ حيث لا يجب المهر على قول. قال الإمام: ولست أعده في المذهب فإن ما قاله مسبوق بالإجماع من نقلة المذهب. وموضع التخريج على ما حكاه في التتمة وغيرها ما إذا جددت الإذن في الوطء، وصرحت بنفي المهر دون ما إذا لم [تجر سوى] أحدهما. قال الإمام: فإن لم يكن ينجرّ هذا التخريج، فلا معنى لاشتراط تجديد الإذن، وقد رأيت في بعض مجموعاته ما يدل على اطراد التخريج، وإن لم يوجب إذناً جديداً. وعلى المذهب فمهر المثل يعتبر بحالة الوطء أو بحالة العقد؟ فيه وجهان: أصحهما- على ما ذكره الروياني، وهو الذي أورده ابن الصباغ-: أنه يعتبر حالة العقد؛ لأن العقد هو الذي اقتضى الوجوب عند الوطء، وقضيته إيجاب مهر ذلك اليوم، سواء كان أقل أو أكثر. لكن ذلك المعتبرون: أنه إن كان أكثر أوجبناه، وإن كان أقل، لم نقتصر عليه؛ لأن البضع دخل بالعقد في ضمانه، وإذا اقترن إتلاف، وجبنا أكثر ما يكون عوضاً. والعبارة المطابقة للغرض أن يقال: يجب أكثر مهر من يوم العقد ويوم الوطء.

فرع: لو نكح الكافر كافرة على صورة التفويض، وهم يعتقدون أن لا مهر للمفوضة بحال، ثم أسلموا، فلا مهر وإن كان الإسلام قبل المسيس؛ لأنه قد سبق استحقاق وطء بلا مهر؛ نقله الرافعي في نكاح المشركات، والإمام في باب التفويض. ونظيره، ما إذا زوج عبده من أمته، ثم أعتقهما، أو أحدهما قبل الدخول- لم يجب لها مهر؛ لما سبق [من] التعليل. ولو نكح الذمي ذمية على أن لا مهر لها، وترافعا إلينا، حكمنا بينهما بحكمنا في المسلمين. وقال أبو حنيفة: إن كان اعتقادهم إخلاء النكاح عن المهر، فإن شرطت أن لا مهر لها، لا يجب المهر؛ لا حالة العقد ولا عند الدخول. قال المتولي: ودليلنا: أن إيجاب المهر في حق المسلمة، ليحصل الفصل بين النكاح والسفاح، وهذه الحاجة موجودة. قلت: وما ذكره موجود في المسألة المتقدمة. قال: وإن مات أحدهما قبل الفرض والدخول، ففيه قولان: أحدهما: يجب لها مهر المثل، وهو ما أجاب به ابن مسعود حين سئل عن المفوضة؛ لما روى معقل بن يسار- وقيل ابن سنان- الأشجعي، وروي رجل من أشجع: أنه صلى الله عليه وسلم قضى في برْوَع بنت واشق وقد نكحت بغير مهر، فمات زوجها- بمهر نسائها.

ولأن الموت نازل منزلة الوطء في تقرير المهر المسمى قبل المسيس؛ فوجب أن يكون كهو في وجوب المهر. والثاني: لا يجب، وبه قال الحليمي؛ لأن الموت فرقة وردت على نكاح تفويض قبل الفرض والوطء؛ فلا يجب به المهر كالطلاق؛ وهذا هو الراجح عند العراقيين، والإمام، وصاحب التهذيب، والروياني. والحديث قد رده علي- رضي الله عنه- وقال: كيف نقبل في ديننا قول أعرابي بوال على عقبه؟! ثم إن صح؛ فمحمول على مفوضة المهر لا مفوضة البضع. فعلى هذا لا تستحق المتعة [أيضاً]. وفي الجيلي حكاية [وجه] أنها تجب، وأبداه في الذخائر احتمالاً عند الكلام في المتعة. والأول هو الصحيح في التتمة، [ويقال]: إنه اختيار صاحب التقريب، وأنه صَحَّحَ الحديث، وقال: الاختلاف في الراوي لا يضر. وإذا قلنا به، فيجب باعتبار يوم العقد، أو يوم الموت، أو أقصى مهر؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الجيلي. قال: وإن طلقها قبل الفرض- أي: والدخول- وجبت لها المتعة؛ لما سيتضح [في موضعه]؛ وهذا تفريع على أنها لا تستحق المهر بالعقد. أما إذا قلنا: تستحق المهر [بالعقد]، فهل يتشطر بالطلاق؟ روى الشيخ أبو محمد- وهو المذكور في التتمة-: أنه يتشطر، كالمسمى الصحيح. قال الإمام: وهو القياس.

والذي عليه كافة الأصحاب: أنه يسقط المهر إلى المتعة، والشاهد له من الكتاب قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، فخصص استحقاق نصف المهر بأن يفرض؛ فدل مفهوم الخطاب دلالة ظاهرة على أنها لا تستحق شيئاً من المهر إذا لم يجر فرض. قال: وإن تزوجها على مهر فاسد، أي: مثل أن قال: أصدقتك هذا الحر، أو هذا الخمر أو مجهولاً، وغير ذلك مما لا يصح إصداقه. قال: [أو على ما] يتفقان عليه في الثاني، وجب لها مهر المثل؛ لأنها لم ترض ببذل البضع مجاناً، وما جعل عوضاً لا يثبت، وقد تعذر رد [البضع؛ فوجب رد بدله، وهو مهر المثل؛ كما إذا رد المبيع بعيب، وقد تعذر رد] الثمن، وفي ذلك شيء قد تقدم. قال: واستقر بالموت، أو الدخول، وسقط نصفه بالطلاق قبل الدخول؛ لأنه مفروض. قال: وإن كانا ذميين فعقدا على مهر فاسد- أي: عندنا- وهو صحيح [عندهم، ثم] أسلما- أي: بعد الدخول- في العدة، أو معاً قبله قبل التقابض، سقط ذلك، ووجب مهر المثل؛ لأنها لم ترض إلا بالمهر، والمطالبة بالخمر في الإسلام ممتنعة، ويرجع إلى مهر المثل. وفيه قول: أنه لا شيء [له]. قلت: ويتجه أن يكون في المسألة قول آخر: أنه يرجع إلى بدل الصداق؛ كما إذا أصدق المسلمة عبداً، فخرج حرّاً، أو عصيراً فظهر خمراً؛ بناءً على قول ضمان اليد. قال: وإن أسلما بعد التقابض، برئت ذمة الزوج؛ كما لو تبايعا بيعاً فاسداً وتقابضاً وفيه قول آخر: أن لها مهر المثل، لفساد القبض في الشرك. ولا فرق بين أن يتقابضا بالتراضي، أو بإجبار قاضيهم.

[وقال الشيخ أبو محمد: إذا تقابضا بإجبار قاضيهم]، فهل يجعل كالتقابض بالرضا؟ فيه خلاف؛ كما لو ترافعوا إلينا وهم على الشرك. قال الإمام: وهو منقاس. والذي حكاه في التهذيب مثل قول الشيخ أبي محمد. واعلم أن هذا فيما إذا كان الصداق خمراً، أو خنزيراً، وما جانس ذلك، أما إذا كان حرّاً مسلماً استرقوه، فإنه لا يقر في يدها، ويجب لها مهر المثل. قال الرافعي: وقياس ما سبق أن يخرج من يدها، ولا ترجع بشيء؛ كما تراق الخمر المقبوضة، ولا ترجع بشيء. قال: وإن أسلما بعد قبض البعض، برئت ذمته من المقبوض، ووجب بقسط ما بقي من مهر المثل؛ لما تقدم؛ وهذا بخلاف ما إذا كاتب الذمي عبده على عوض فاسد، وقبض بعضه، ثم أسلما؛ حيث يسلم للسيد ما بقي؛ ليحصل العتق، ثم يلزمه تمام قيمته، ولا يحط منها قسط المقبوض في الشرك؛ لأن العتق يتعلق بأداء آخر النجوم، وأنه وقع في الإسلام؛ فكان بمثابة ما لو كاتب المسلمة على عوض فاسد؛ بخلاف الصداق؛ فإنه عوض؛ فكل جزء منه يخرج عن عهدته بقبضه [وتبرأ منه] ذمته؛ فلا تبقى مطالبته به بعد الإسلام. وطريق تقسيط مهر المثل على المقبوض وغير المقبوض أن ينظر: إن سميا جنساً واحداً، ولم يكن فيه تعدد: كزق خمر؛ فقبضت نصفه مثلاً؛ فيجب نصف مهر المثل. وإن تعدد المسمى كزقي خمر، قبضت أحدهما، فإن تساويا في القدر فكذلك، وغلا فوجهان: أحدهما: أنه يعتبر العدد. وأقيسهما: النظر إلى القدر؛ وعلى هذا يعتبر الكيل، وهو ما في التتمة. وفيه وجه: أنه يعتبر الوزن.

ولو أصدقها خنزيرين، وقبضت أحدهما، فإن اعتبرنا العدد، لم يخف الحكم، وإن نظرنا في الخمر إلى القدر، فها هنا [تعتبر قيمتهما] بقدر ماليتهما، وتقسط على مهر المثل في القيمتين. وإن كانا قد سميا جنسين فصاعداً: كزقي خمر، وكلبين، وثلاثة خنازير، وقبضت أحد الأجناس، فثلاثة أوجه: أحدها: النظر إلى الأجناس؛ فيقال: قبضت الثلث. والثاني: إلى العدد؛ فإن قبضت الخمر؛ فيقال: قبضت سُبعي المهر. والثالث- وهو الأقرب-: أنها تقدر بتقدير ماليتها، ونقسط مهر المثل على القيمة؛ وعلى هذا فتقدر الخمر خلّاً، والكلب شاة، والخنزير بقرة. وفي المهذب: أنه يقدر شاة. وقيل: يقدر الكلب فهداً؛ لاشتراكهما في الصيد، والخنزير حيواناً مقابله في الصورة والفائدة. وقيل: تعتبر قيمتها عند من يجعل لها قيمة، والله أعلم. قال: وإن أعتق أمته بشرط أن يتزوجها ويكون عتقها صداقها، عتقت- أي: إذا قبلت هذا الشرط على الاتصال- ولا يلزمها أن تتزوج به؛ لنه سلف في عقد فلا يلزمها؛ كما لو أسلم لامرأة أخرى دراهم في نكاحها. وفي شرح مختصر الجويني حكاية وجه عن أبي إسحاق المروزي: أنه يجب عليها الوفاء به. وأما نفوذ العتق؛ فلأنه أعتقها على شرط باطل؛ فلغا الشرط، وثبت العتق؛ كما لو قال لعبده: إن ضمنت لي خمراً، فأنت حر، فضمنه؛ كذا علله الأصحاب. قلت: وفي المسألة المقيس عليها [نظر] فإن ذلك يشابه ما لو حلف لا

يبيع الخمر فإنه لا يحنث إذا وجد منه صورة البيع؛ على المذهب، والمضان كذلك. قال: ويرجع عليها بقيمة رقبتها- أي: يوم العتق- لأنه لا يرضى بعتقها إلا بعوض، ولم يسلم له، وقد تعذر عليه الرجوع إليها، فرجع بقيمتها؛ كما لو باع عبداً بعوض محرم، وتلف العبد في يد المشتري. ولا فرق في لزوم القيمة بين أن تفي بالنكاح أو لا. وفي الرقم للعبادي حكاية وجه: أنه يصح جعل العتق صداقاً، وإذا رغبت في النكاح فللسيد أن يمتنع، ولا تسقط القيمة بذلك. وحكم أم الولد حكم الأمة. وفيه وجه: أنه لا يرجع عليها بقيمة رقبتها. فرع: لو تراضيا على النكاح، وأصدقها القيمة الواجبة عليها، صح النكاح، وأما الصداق: فإن كانا عالمين بقيمتها، صح أيضاً، وإن جهله أحدهما، فوجهان: أصحهما: الفساد؛ كسائر المجاهيل إذا جعلت صداقاً، ولها مهر المثل، وعليها القيمة. ووجه الصحة: أن القيمة لم تثبت مقصودة، وإنما ثبتت ضمناً في مقابلة الحِلِّ

الذي كان ثابتاً له من قبل؛ فصلح أن تجعل عوضاً لجنس ذلك الحل. وأيضاً: فإن القيمة بدل الرقبة، ولو أصدقها عبداً مجهول القيمة، [لصح، فكذلك هنا، وهذا التعليل يحكى عليه ما إذا أتلفت عليه عبداً مجهول القيمة،] وجعل قيمته صداقاً لها؛ فإنه لا يصح، ومقتضاه: أنه يصح؛ لعدم الفرق. قال الإمام: لو طرد طارد هذا الوجه هنا، فهو قياس. قال صاحب التقريب: وإذا أراد أن يعتقها، ويتزوج بها، مع أمته منها، فالوجه أن يقول: إن قدر الله بيننا نكاحاً، فأنت حرة قبله بيوم، ثم يمضي يوم أو أكثر، فينكحها؛ فإذا رضيت، انعقد النكاح، وتبين وقوع العتق مقدماً [عليه]، وإن أبت فتبقى رقيقة. فمن الأصحاب من خالفه، وقال: هذا منه تفريع على وقف العقود، والصحيح فساده، [وهو] الذي عليه أكثر الأصحاب. ومنهم من قال: يتخرج على ما إذا زوج جارية أبيه على ظن أنه حي، فبان ميتاً، وفيه قولان. وقال الشيخ [أبو محمد: الوجه] عندي القطع بالصحة؛ كما ذكره صاحب التقريب، وليست هذه المسألة كتزويج الابن جارية أبيه؛ فإنه أنشأ العقد على غير بصيرة، والأصل بقاء أبيه والنكاح في مسألة صاحب التقريب ينشأ عن علم بأن الحرية تسبقه، وتتقدم عليه. قال: وإن أعتقت المرأة عبدها على أن يتزوج بها، عتق- أي: من غير قبول- على المذهب الصحيح، ولا يلزمه أن يتزوج بها، [فلا ترجع] عليه بالقيمة؛ لأنها لم تشترط عليه عوضاً، وإنما وعدته وعداً جميلاً؛ فصار كما لو قال لعبده: "أعتقتك على أن أعطيك ألفاً".

وفيه وجه: أنه يفتقر إلى قبوله في تحصيل العتق، فإذا قبل عتق، ولزمته قيمته، ولا يلزمه الوفاء بالتزويج؛ بالقياس على المسألة قبلها. والفرق على المذهب: أن بضع الأمة متقوم شرعاً مقابل بالمال، ونكاح الرجل ليس متقوماً على المرأة. قال: وإن تزوجها [أي]: على أن عتقه صداقها، استحقت عليه مهر المثل؛ لفساد الصداق. قال: ويعتبر مهر المثل بمهر من يساويها من نساء العصبات- أي: إذا وجد لحديث معقل بن يسار، وهو يجب في النكاح في تسعة مواضع: المفوضة إذا دخل بها أو مات عنها في أحد القولين، وإذا فوضها بغير إذنها، أو كانت محجوراً عليها، وصححنا النكاح، والمفوضة المهر، والتي سمي لها مهر فاسد: إما لجهالته، أو يكون ملك الغير، أو حراماً أو حرّاً في أحد القولين، وفي نكاح المغرور وإذا أصدقها ثوباً على أنه هروي، [فإذا هو] مروي، وإذا فات المسمى [قبل القبض] على أحد القولين، و [إذا شرط في الصداق شرط فاسد، وإذا تزوج نسوة بمهر واحد في أحد القولين. ويجب في غير] النكاح في صور نذكرها من بعد، إن شاء الله تعالى. ونساء العصبات كالأخوات من الأبوين، أو من الأب، وبنات الإخوة كذلك، والعمات، وبنات العم كذلك، وتقدم الأخت للأبوين على الأخت للأب، وكذا من عداها، ويراعى في ذلك الأقرب فالأقرب، ولا نظر إلى ذوي الأرحام؛ لأن المهر مما يقع به المفاخرة؛ فكان [كالكفاءة في النكاح]، بخلاف ما ذكره في الحيض: أن المبتدأة ترد إلى عادة نساء عشيرتها من الأبوين على أظهر الوجوه؛ تفريعاً على الرد إلى الغالب؛ لأن ذلك أمر يرجع إلى الخلقة والجبلة،

والأب [والأم] يشتركان فيه. قال: في السن، والمال، والجمال، والثيوبة، والبكارة، والبلد، أي: وكذا في العفة، والعقل، وسائر الصفات التي تختلف بها الأغراض؛ لأنه قيمة متلف؛ فاعتبر فيه الصفات التي لا تختلف بها الأغراض؛ وهذه الصفات تختلف بها الأغراض، فإن كانت أكثر منهن جمالاً، أو أصغر سنّاً، زيد في مهرها [بسبب ما فيها من الجمال، وزيادة الأوصاف، وكذلك لو نقصت، نقص من مهرها] والرأي في ذلك منوط بنظر الحاكم. وفيما علق عن الإمام: التسوية بين البكر والثيب؛ إذا كان لها شرف النسب. وفي المال وجه: أنه لا اعتبار به. والمراد باعتبار البلد: أن ينظر إلى مهر نساء عصباتها في تلك البلدة، فإن كان بعضهن في بلدة أخرى؛ فلا عبرة بمن في [ذلك البلد] أما إذا كان جميعهن ببلد آخر، قال الرافعي: فالاعتبار بهن أولى من الاعتبار بالأجنبيات في تلك البلدة. وفي التهذيب: أن الاعتبار بهن، من غير لفظ الأولوية. وفي الشامل: أنه لا اعتبار بقراباتها؛ لأن عادات البلاد في المهر تختلف. قال مجلي: وهذا فيه نظر؛ فإن اعتبار البلد مؤخر عن القرابات في المذهب؛ فكيف تسقط القرابات إذا كن في غيره، ويجعل الاعتبار بالبلد؟! تنبيه: مهر المثل يجب حالّاً من نقد البلد، فلو رضيت المرأة بالتأجيل، لا يثبت، ولو كانت النسوة المعتبر [بهن] ينكحن بمؤجل، أو بصداق بعضه مؤجل- فلا يؤجل أيضاً، ولكن ينقص منه بقدر ما يقابل التأجيل. ولو جرت عادتهن بأن يخففن مع العشيرة دون غيرها خفف في حق العشيرة دون غيره [وكذا لو كن يخففن إذا كان الخاطب شريفاً، خفف في حق الشريف] دون غيره. وقيل: لا يخفف في حق العشيرة والشريف.

وقيل: مهر المثل الواجب بالعقد يختلف حكمه، أما الواجب بالإتلاف فلا ينبغي أن يختلف. قال القاضي الروياني: وبهذا أقول. قال: فإن لم يكن لها نساء عصبات- أي: على تلك الصفات- لا في بلدها، ولا في غيرها، أو كن، ولكن لم ينكحن، أو جهل مقدار مهرهن- اعتبر بأقرب النساء إليها- أي: كالأمهات، والجدات- ويقدم الأقرب فالأقرب؛ لأنهن أولى بالاعتبار. ولو كان لها نساء عصبات ميتات، ففي التهذيب وغيره: أنه لا يعتبر بهن. وفي الذخائر: [أن] في اعتبار نساء عصبة المولى وجهين، فإن قلنا: يعتبرن، قدمن على أقرب النساء غير العصبات. قال: فإن لم يكن لها أقارب من النساء، اعتبر بنساء بلدها؛ لأنهن أقرب إليها، ثم بأقرب النساء شبهاً بها؛ لأنه الممكن. فروع: [أحدها]: من لا نسب لها تعتبر بمهر من لا نسب لها، وكذا العربية [تعتبر] بمثلها، والأمة بمثلها، وننظر إلى شرف السيد وخسته، والمعتقة تعتبر بمثلها، وفيه وجه: أنها تعتبر بنساء الموالي. قال: وإذا أعسر الزوج بالمهر قبل الدخول، ثبت لها الخيار؛ لأنه أعسر عن [تسليم العوض، والمعوض باق بحاله؛ فأشبه ما إذا أفلس المشتري بالثمن. وإن أعسر بعد] الدخول، ففيه قولان: أحدهما: لا يثبت الفسخ؛ لأن البضع بعد الوطء كالمستهلك؛ فأشبه ما لو أفلس المشتري بعد هلاك السلعة.

ولأن تسليمها يشعر برضاها بذمته، وإذا منعناها من الامتناع بعدما سلمت نفسها، فَلِئلَّا نسلطها على الفسخ كان أولى. والثاني: يثبت الفسخ، وهو المحكي عن نصه في الإملاء، والصحيح في المهذب؛ [لأن البضع لا يتلف بوطء مرة واحدة؛ فجاز الفسخ والرجوع إليه، وقد أشير إلى بناء] القولين على تردد في أن المقابل بالمهر الوطأة الأولى؛ [فيكون المعوض تالفاً، ويمنع الفسخ، أو في مقابلة [جميع] الوطآت؛ فيكون المعوض باقياً فيه بقاء بعض المبيع في يد] المفلس؟ وهذه الطريقة هي أصح الطرق عند الشيخ أبي حامد، والقاضي الروياني، وغيرهما. وعند ابن أبي هريرة، والطبري، وابن الوكيل، والقاضي أبي حامد: أنه إن كان الإعسار قبل الدخول فقولان، وإن كان بعده فلا فسخ بلا خلاف. وقيل بطرد القولين قبل الدخول وبعده. وقيل بثبوت الفسخ قبله وبعدمه بعده، وبهذا الطريق قال أبو إسحاق. وقيل: إنه لا يثبت في الحالين، وهو الأصح عند الإمام، والغزالي. ويخرج من مجموع الطرق ثلاثة أقوال- كما ذكر في التهذيب-: الثالث: التفرقة بين ما قبل الدخول؛ فيثبت، أو بعده؛ فلا يثبت؛ وهذا الذي عليه الأكثر. والأصح في التهذيب ثبوت الفسخ في الحالين. فرعان: أحدهما: لو رضيت بالمقام معه بعد أن مكنها القاضي من الفسخ، فهل تمكن من الفسخ بعد ذلك؟ قال الرافعي: لا تتمكن؛ لأن الضرر لا يتجدد والحاصل مرضي به؛ وهذا ما أطلقه جمهور الأصحاب. وعن أقضى القضاة الماوردي: أن هذا فيما إذا كانت المحاكمتان معاً قبل الدخول، أو بعده، أما إذا كانت المحاكمة الأولى قبل الدخول، والأخرى بعده- فوجهان.

وفي التتمة: أن من أصحابنا من قال: لا يثبت لها الفسخ. والصحيح: أن الحكم فيه كالمسلم فيه إذا انقطع، وقلنا: لا ينفسخ، ومقتضى هذا: [أن] الخيار لا يكون على الفور؛ لأنه إذا لم يسقط [مع الرضا] بالمقام، فَلِئَلَّا يسقط بترك الفسخ أولى. وفي الرافعي: أنه على الفور، وهو ما تبين على ما نقله نعم: نقل أنها لو علمت بإعساره، وأمسكت عن المرافعة والمحاكمة، [نظر: إن] كان ذلك بعدما طالبته بالصداق، سقط خيارها، وإن كان قبل المطالبة، لم يسقط، وقد تؤخر المطالبة على توقع اليسار. الثاني: لو نكحته، وهي تعلم إعساره، فهل لها الفسخ؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ، ونقلهما الرافعي عن القاضي الروياني، وأن أشبههما المنع؛ كما لو رضيت به في النكاح، ثم بدا لها. وفي الزوائد للعمراني، في باب الخيار في النكاح ضمن مسألة [منه]: أن في المسألة قولين: الجديد: ثبوت الخيار، ولم يحك الماوردي غيره، ووجهه: أن الإعسار من العيوب المظنونة، وأنه مما يجوز أن يزول بعد وجوده. والقديم: أنه لا خيار. قال: ولا يجوز الفسخ إلا بالحاكم؛ لأنه مختلف فيه؛ فأشبه العنة. وفي التتمة: أن للمرأة أن تتولى الفسخ بنفسها على وجه، وشبهه بخيار رد المبيع بالعيب، وتمام التفريع على ذلك يأتي إن شاء الله- تعالى- عند الكلام في الإعسار بالنفقة؛ لأنه في التهذيب جعل حكمه حكمه، وكذلك الرافعي. فرع: المفوضة إذا أعسر زوجها بالمهر، وقلنا: تستحقه بالعقد، فهل يتوقف حق الفسخ على أن يفرض لها، أو تملك الفسخ قبل الفرض؟ فيه وجهان في النهاية. قال: وإن اختلفا في قبض الصداق، فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم القبض.

ولو كان الصداق تعليم سورة، فاختلفا في تعليمها، وكانت تحفظها، فهل القول قوله، وقولها؟ فيه وجهان. قال: وإن اختلفا في الوطء فالقول قوله- أي: سواء [كان] خلا بها، أو لا- لأن الأصل عدم الوطء. وفيه قول: إذا وجدت الخلوة كان القول قولها، وقد تقدم ذكره. فإن قيل: [إن] الاختلاف في الوطء بعد الطلاق؛ لأجل رجوع الزوج في [شطر] الصداق، فهلا خرج قبول قولها أو قوله على تقابل الأصلين؛ لأن المرأة تملك الصداق بجملته بالعقد، والزوج يدعي رجوع الشطر إليه بالطلاق؛ لصدوره قبل الدخول، والأصل بقاء ملكها؛ كما أن الأصل عدم الوطء المقتضي [لرجوع الشطر. قلنا: المختلف فيه أصلاً إنما هو الوطء، واستقرار الملك تبعه؛ فلا يجوز أن يجعل الأصل في الملك، وهو بقاؤه، رادّاً على الأصل في الوطء، وهو عدمه؛ إذ هو فرعه، والفرع لا يرجح على أصله، والله أعلم]. فرع: لو أقامت شاهداً واحداً على اعترافه بالدخول، حلفت معه؛ لأن المقصود منه المال، بخلاف ما لو أقام [الزوج] شاهداً واحداً على إقرارها بالدخول؛ فإنه لا يحلف معه؛ لأن مقصوده ثبوت العدة، والرجعة، وذلك ليس بمال؛ قاله البندنيجي في كتاب العدد. قال: فإن أتت بولد يلحقه نسبه- أي: ولم ينفعه باللعان- استقر المهر في أحد القولين- أي: إذا ادعت الوطء- لأن ذلك دليل الوطء، وهذا ما حكاه الرافعي لا غير عند الكلام في العنة. وقال في كتاب الإيلاء: إنه الظاهر، والمنصوص عليه في رواية المزني وغيره. قال: ولم يستقر في الآخر؛ لأن الولد يلحق بالإمكان، واستقرار المهر يتوقف

على حقيقة الوطء، والأصل عدمه؛ وهذا ما نسبه الرافعي في كتاب الإيلاء إلى حكاية الربيع، وأن الشيخ أبا علي حكى طريقاً آخر، وهو تنزيل النصين على حالين: إن اختلفا قبل حدوث الولد، وحكمنا بنصف المهر؛ تصديقاً له، ثم أتت بالولد- لا يغير حكم المهر، ويلحق الولدب الإمكان. وإن اختلفا بعد حدوث الولد، ومات الزوج؛ فلا يقبل قول الورثة، بل نصدقها ونوجب [كل] المهر، وحكاه البندنيجي- أيضاً- في كتاب العدد. فإن قيل: الخلاف المتقدم ينبغي أن يبني على الخلاف في أن استدخال الماء هل يقرر المهر أم لا؟ فإن قلنا: إن استدخال الماء يقرره، وجب أن يستقر هنا؛ إذ لا يخلو العلوق أن يكون من وطء أو استدخال الماء، وأيهما كان فهو مقرر. وإن قلنا: لا يقرره، فقد صار العلوق ممكناً من غير وطء، وهو استدخال الماء؛ فال نجعل لحوق النسب دليلاً على الوطء، وقد أشار إلى ذلك ابن الصباغ قبل باب المتعة. [و] قيل: لا يحسن ذلك؛ لأن مقتضى هذا البناء أن يكون الصحيح هنا عدم الاستقرار؛ لأن الصحيح عدم الاستقرار باستدخال الماء، والصحيح خلافه، وإن كان الجيلي قد قال: إن الصحيح عدم الاستقرار في مسألتنا. [ولأن] الخلاف هنا محكي قولين كما ذكرناه، والخلاف في استدخال الماء محكي وجهين، ولا يمكن بناء قولين على وجهين، وإن كان ابن الصباغ قد حكى [الخلاف] هنا وجهين، والله أعلم. التفريع: إن قلنا بالاستقرار، فلابد من يمينها على الإصابة.

وقال الرافعي: يمكن أن يخرج يمينها على الخلاف فيما إذا أقامت بيّنة على بكارتها عند دعوى الزوج [الوطء] في مدة العنة، [وقد تقدم ذكره]. قلت: [ويمكن] أن يفرق بينهما بأن ثَمَّ دعواها عدم الوطء موافقة للأصل، وإذا أقامت بينة على البكارة، كان ذلك مؤكداً للأصل الذي ادعته؛ فأمكن أن يستغني عن اليمين؛ لوجود مرجحين تضافراً على محل واحد، وهنا دعواها الإصابة مخالفة للأصل، وظهور الحمل مرجح واحد، عارضه الأصل مع احتمال حصول العلوق [باستدخال الماء]، ولا يلزم من ترك اليمين- عند وجود مرجحين لا معارض لهما- تركها عند وجود مرجح واحد له معارض، نعم: [قد] يتجه أن يكون في يمينها خلاف مبني على ما تقدم، من أن استدخال الماء هل يقرره أم لا؟ فإن قلنا: [لا يقرره]، فلابد من اليمين؛ لاحتمال أن يكون العلوق من [استدخال الماء. وإن قلنا: إنه يقرره، فلا فائدة لليمين؛ إذ لا علوق إلا من وطء أو استدخال الماء. ويمكن أن يقال: يحتمل أن يكون العلوق من] غير الزوج، وإنما الشرع ألحق الولد بالزوج، ولم يراعِ هذا الاحتمال؛ لقيام الفراش؛ فتحلف لقيام هذا الاحتمال؛ وهذا- أيضاً- مما يضعف البناء المذكور أَوَّلاً. فائدة: كل من ادعى عدم الوطء، كان القول قوله، إلا في خمس مسائل: إذا ادعى المولى الوطء، والمرأة ثيب، وأنكرت، فالقول قوله. وكذلك العنين إذا ادعى الوطء، وأنكرت. وهاتان المسألتان لم يختلف فيهما. والثالثة: إذا أتت بولد يمكن أن يكون منه وادعت الوطء، هل القول

قولها، أو قوله؟ فيه وجهان. والرابعة: إذا وجدت الخلوة، وادعت الوطء، وأنكره، فهل القول قول من منهما؟ فيه قولان. والخامسة: إذا قلنا: [إن] خيار الأمة في العتق يسقط بالوطء، فادعى الزوج الوطء، وأنكرت، هل القول قوله أو قولها؟ فيه وجهان. قال: وإن اختلفا في القدر المسمى- أي: [ولا بينة- تحالفا]؛ كما في البيع. وكذا الحكم فيما لو اختلفا في صفة المسمى: كالصحة والتكسير، والحلول والتأجيل، وقدر الأجل. ولو قال: أصدقتك هذا العبد، فقالت: بل هذه الجارية، فالمذهب جريان التحالف. وفيه وجه ضعيف: أنهما لا يتحالفان؛ فإن الصداق في حكم عقد مستقل؛ صرح به الإمام قبل كتاب القسم. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون هذا الاختلاف قبل الدخول، أو بعده، مع بقاء النكاح أو انقطاعه؛ لأن [في] الصداق عقداً مستقلّاً بنفسه، وأثر التحالف يظهر فيه، لا في النكاح؛ كما سيأتي. ولو ادعت تسمية شيء، وأنكر الزوج أصل التسمية، ففيه وجهان: أصحهما- وهو اختيار القاضي الحسين-: أنه يجري التحالف. والثاني: أن القول قول الزوج مع يمينه. قال الرافعي: إنما يحسن وضع المسألة إذا كان ما تدعيه أكثر من مهر المثل. قلت: ويحسن إن كان ما تدعيه مساوياً لمهر المثل إذا كان من غير نقد البلد؛

لاختلاف الأغراض بأعيان الأموال. ولو ادعت النكاح ومهر المثل، فاعترف [الزوج] بالنكاح، وأنكر المهر، وسكت عنه، ولم يدع التفويض، ولا إخلاء النكاح عن ذكر المهر- ففيه وجهان، حكاهما الغزالي: أحدهما: [أنه] يثبت لها المهر إذا حلفت، وينسب إلى القاضي الحسين. وأظهرهما عنده: جريان التحالف؛ وهذا لا يكاد يتصور؛ فإن التحالف يقتضي أن يحلف كل واحد منهما على إثبات ما يدعيه، ونفي ما يزعم صاحبه، والزوج لم يصدر منه سوى إنكار مطلق، فأي معنى للتحالف؟! والذي أجاب به مشايخ طبرستان- على ما قاله القاضي الروياني-: أن القول قول الزوج، وعليها البينة. قال: والحق ألا يسمع إنكاره؛ لاعترافه بما يقتضي المهر، ولكن يكلف البيان، فإن ذكر قدراً، وذكرت زيادة عليه، تحالفا، وإن أصر على الإنكار، ردت اليمين عليها، وقضى لها. أما إذا كان لهما بينة، فإن أقامها أحدهما، عمل بها، وإن أقاما بينتين، وهما مختلفتان في قدر الصداق، فعن ابن سريج وجهان: أحدهما: [أن] بينة الزوج أولى؛ لاشتمالها على الزيادة. والثاني: أنهما يتعارضان، فإن قلنا بالتساقط فكأنه لا بينة. وإن قلنا: يقرع، فهل يحتاج من خرجت قرعته إلى يمين؟ فيه وجهان؛ كذا حكاه الرافعي، ومقتضاه أن القرعة تجري على قول الاستعمال، ولم [يحك ذلك] [في التحالف] في البيع، بل حكي أنه يوقف، وإن كان ابن التلمساني في "شرح التنبيه" حكى في جريان القرعة والوقف وجهين. قال: ويبدأ بيمين الزوج؛ هذا نصه هنا؛ لقوة جانبه بعد التحالف ببقاء البضع

له، وهو كالبائع؛ إذ يرجع إليه المبيع بعد التحالف. قال: وقيل: فيه ثلاثة اقوال: أحدها: هذا. والثاني: يبدأ بيمين المرأة؛ [لأنها] في منزلة البائع، والزوج في منزلة المشتري، وقد نص الشافعي على أنه يبدأ بالبائع. والثالث: بأيهما شاء الحاكم؛ لتساويهما. وقيل: يقرع بينهما. وهذا الخلاف في الاستحباب، لا في الاستحقاق؛ نص عليه الشيخ أبو حامد وصاحب التهذيب، والتتمة. وفي ابن يونس حكاية وجه عن الحاوي: [أنه] في الاستحقاق؛ وهذا كله موضع الكلام فيه باب "التحالف"، وإنما [ذكر هنا]؛ لبعد العهد به. قال: فإذا حلف، لم ينفسخ النكاح؛ لأن التحالف يوجب الجهل بالعوض، والنكاح لا يفسد بالجهل بالعوض على الصحيح. قال: ووجب مهر المثل- أي: إذا [قلنا: ينفسخ] عقد الصداق، أو قلنا: إنه ينفسخ بنفس التحالف- لأن المسمى سقط، وتعذر الرجوع إلى المعوضح فوجب رد بدله؛ كما لو تحالفا بعد هلاك المبيع في يد المشتري. وقال ابن خيران: [و] إن زاد مهر المثل على ما ادعته، فليس [لها] إلا ما ادعته، وحكي عن ابن الوكيل أيضاً. قال ابن الصباغ: وهذا مبني على أن الفسخ [هل] يقع في البطن مع الظاهر أم لا؟ وفيه وجهان، فإن قلنا: إنهي نفسخ في الباطن، استحقت مهر المثل، وإلا فالمسمى؛ إذا كان أقل. قلت: وما قاله ابن الصباغ يتجه إذا كان المسمى من نقد البلد، أما إذا كان

عرضاً، فكيف يسلم إليها مع الحكم بانفساخ عقد الصداق في الظاهر، مع اختلاف الأغراض بأعيان الأموال والله أعلم. فرعان: أحدهما: لو مات الزوجان، واختلف الوارثان في الصداق، أو أحدهما ووارث الآخر- تحالفا، ويحلف الوارث في النفي على نفي العلم، وفي الإثبات على البت. وأحسن بعض الشارحين، فقال: عندي يحلف على البت في النفي والإثبات جميعاً؛ لأن القطع بأن النكاح جرى بخمسمائة، قَطْعٌ بأنه ما جرى بألف؛ فلا معنى لقوله: "لا أعلم بأنه نكحها بألف". ولو ادعت على الوارث أن الزوج سمى لها ألفاً، فقال الوارث: لا أعلم كم سمى؟ فلا يتحالفان، ولكن يحلف الوارث على نفي العلم، ويقضي لها بمهر المثل؛ على ما حكاه المتولي. الثاني: لو وقع الاختلاف في قدر المهر، [أو] صفته بين ولي الصغيرة أو المجنونة، وبين الزوج، فوجهان: أظهرهما- وبه قال ابن سريج، وابو إسحاق-: أنهما لا يتحالفان، ولكن يوقف إلى البلوغ، أو الإفاقة، ويجوز أن يحلف الزوج، ويوقف يمينها إلى زمن الإمكان. والثاني: أنهما يتحالفان، وهو الأصح في المهذب، وذلك مصور فيما

إذا ادعى الوَلِيُّ زيادة على مهر المثل، وادعى الزوج قدر مهر المثل، [أما إذا ادعى الزوج أن المسمى أنقص من مهر المثل]، فلا حاجة إلى التحالف، ويجب مهر المثل. ولو ذكر الزوج قدراً زائداً على مهر المثل، وادعى الولي زيادة عليه، فلا يتحالفان؛ كي لا يرجع إلى مهر المثل. وما ذكرناه يجري في اختلاف الزوجة وولي الصغير والمجنون وبين وليَّيْ الزوجين، وفي الوصي، والقيم والوكيل. قال: ومن وطئ امرأة بشبهة، أو في نكاح فاسد، أو أكره امرأة على الزنى- وجب عليه مهر المثل، أي: باعتبار وقت الوطء. أما في النكاح الفاسد؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ مَسَّهَا، فَلَهَا المَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا".

وأما في الباقي؛ فبالقياس عليه؛ بجامع ما اشتركا فيه من استيفاء منفعة البضع. ولا فرق في الشبهة بين شبهة المحل، والطريق، والملك، والاعتبارُ في الاشتباه جانب المرأة بالنسبة إلى المهر؛ كما تقدم في باب: "ما يحرم من النكاح". فروع: [أحدها] إذا وطئ المرتهن الجارية [المرهونة] بإذن الراهن، وهو جاهل [بالتحريم]، ففي وجوب المهر قولان، وفي قيمة الولد طريقان: أحدهما: طرد القولين.

والثاني: القطع بالوجوب. [الفرع الثاني] إذا كانت الموطوءة بكراً، هل يعتبر مهر ثيب، ويجب معه أرش البكارة، أو يجب مهر بكر؟ فيه وجهان: أظهرهما- وهو ما أورده الغزالي في [باب] الديات، وينسب إلى النص-: [الثاني؛ لأن] المهر يجب للاستمتاع واستيفاء منفعة البضع، والأرض يجب لإزالة [تلك] [البكارة، وهي] الجلدة، والجهتان مختلفتان؛ فينفرد [موجب] كل واحد منهما عن موجب الآخر. وفي ابن يونس حكاية وجه [ثالث]: أنه يجب مهر بكر، وأرش البكارة؛ [وهو] محكي في الديات. [الفرع الثالث:] إذا تكرر منه الوطء، فهل يجب بكل وطأة مهر، أم يتحد المهر؟ ينظر: إن كان الوطء في نكاح فاسد، فلا يجب إلا مهر واحد، وادعى الإمام في ذلك الإجماع عند الفروع المذكورة قبل "القسم". وإن كان وطء شبهة، فينظر: إن تعددت الشبهة؛ بأن وطئ بشبهة، ثم زالت، ووطئ بشبهة أخرى- وجب مهران. وإن كانت الشبهة واحدة، نظر: إن كانت شبهة محل أو طريق، لم يجب إلا مهر واحد؛ كما [يجب] في النكاح الفاسد. وفي الإبانة: أن مشتري الجارية المغصوبة من الغاصب إذا تكرر منه وطؤها، مع جهله بكونها مغصوبة: أن في تكرر المهر وجهين، وهذه شبهة محل؛ إذ هو

يظن أنها ملكه، ومقتضى ذلك جريان الوجهين [فيها]. وإن كانت شبهة ملك: كالأب إذا وطئ جارية الابن، وأحد الشريكين إذا وطئ الجارية المشتركة، والسيد مكاتبته- ففي التعدد وجهان: أشبههما: أنه لا يجب إلا مهر واحد؛ لأن الشبهة، وهي وجوب الإعفاف، [وعلقة الملك]- شاملة. وفي التهذيب: أن محل الوجهين ما إذا اتحد المجلس، أما إذا اختلف، تعدد المهر. وقضية هذا: أن يطرد في شبهة المحل أيضاً. [أما إذا] أكرهت على الزنى، وجب بكل وطأة مهر؛ لأن الوجوب هنا؛ لإتلاف منفعة البضع، وقد تعدد. وفي "الوسيط" في كتاب "الغصب" حكاية تردد فيه عن الشيخ أبي محمد، حكاه الرافعي وجهين، الأصح منهما: التعدد؛ كما جزم [به] هنا، وقضية توجيهه الحكم بالتعدد في صورة الجهل أيضاً؛ لأن الإتلاف الذي هو سبب الوجوب حاصل؛ فلا معنى للإحالة على الشبهة؛ أورد هذا الإمام، وقال: هذه لطيفة يقتضي بها العجب. وإذا قلنا بوجوب مهر واحد، فينظر فيه إلى أعلى الأحوال، ويكون الواجب مهر تلك الحالة. قال: وإن طاوعته على الزنى- أي: حرة كانت أو أمة- وهي عالمة بتحريمه، لم يجب لها- أي: ولا لسيد الأمة- المهرُ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ مَهْرِ البَغِيِّ"، ولأ، منافع البضع تقوم بالشرع، وهي محترمة، ولا حرمة مع البغي. أما إذا كانت جاهلة بتحريمه؛ لكونها حديثة عهد بالإسلام، فمنهم من أوجبه؛ كما في الوطء بالشبهة، ومنهم من تردد في وجوبه، وإن قطع بسقوط الحد؛

لضعف هذه الشبهة؛ حكاه الغزالي في كتاب "الرهن"، ونقل عن القاضي أنا إذا اكتفينا بهذا القدر في إثبات الأحكام؛ فينبغي أن نقول: المجنون إذا زنى، فحكمه حكم الوطء بالشبهة. قال: [وقيل]: إن كانت أمة، وجب؛ لأن المهر حق للسيد؛ فلا يؤثر فيه رضاها؛ كما لو أَذِنَت في قطع يدها؛ كذا علله الرافعي وغيره. وفي "التتمة" في كتاب "الجنايات": لو أن عبداً قال لعبد آخر: اقطع يدي، ففعل، هل يجب القصاص أم لا؟ فعلى وجهين: فإن قلنا: لا يجب، ففي وجوب الدية وجهان ينبنيان على أن الأمة إذا طاوعت في الزنى، هل يجب المهر أم لا؟ وفيه قولان. وإذا كان هذا فرعاً لمسألة الباب، كيف يحسن قياس مسألة الباب [عليه]؟ قال: والمذهب أنه لا يجب؛ لعموم الخبر، وكون المهر حقّاً للسيد لا يمنع سقوطهب فعلها؛ كما إذا ارتدت قبل [دخول الزوج] بها، أو أُرضِعت إرضاعاً مفسداً للنكاح. قال الإمام: وفيه لطيفة من جهة المعنى، وهي أنها مشاركة في العمل، وليس الزاني منفرداً بإتلاف المنفعة، ولا [تمييز، ولا تشطير]، والشرع لا يتقاضى إثبات البدل لحق الحرمة؛ ذكره في كتاب "الرهن" في ضمن فصل: "كل تصرف [يمنع نفوذه لحق] المرتهن". فرع: وإذا قلنا بسقوطه، فلو كانت بكراً، فإذا قلنا: إنها إذا كانت مكرهة يجب مهر ثيب وأرش البكارة، [أو مهر بكر وأرش البكارة]- وجب أرش البكارة. وعلى مقتضى ما قاله في "التتمة" ينبغي ألَّا يجب. وإن قلنا: يجب عليه مهر بكر، فهل يجب عليه زيادة على مهر مثلها، وهي ثيب؟ فيه وجهان، حكاهما الرافعي في كتاب "الغصب".

[فرع] آخر: لو اختلفا في الطواعية، فادعاها الواطئ، وادعت الإكراه، فمن القول قوله؟ فيه قولان؛ لتقابل الأصلين؛ حكاهما في الغصب. ومن الصور التي يجب فيها مهر المثل، التي تقدم الوعد بذكرها: الرضاع: إذا أرضعت زوجته الكبيرة الصغيرة، أو أم الكبيرة. وفي الشهادة بالطلاق مع الرجوع؛ على الأصح. والشفعة إذا جعل الشقص المشفوع صداقاً. وإذا جاءت امرأة في أيام الهدنة على ما سيتضح في موضعه، إن شاء الله تعالى. والخلع. وفيه صور تستنبط من الصور المذكورة في النكاح التي قدمناها، والله أعلم.

باب المتعة

باب المتعة المتعة: من التمتع، وهو الانتفاع. والمراد بها هنا: المال الذي يدفعه الرجل إلى امرأته؛ لمفارقته إياها. قال: إذا فوضت المرأة بضعها، وطلقت قبل الفرض والمسيس، وجب لها المتعة؛ لقوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]، وهل هي واجبة بالعقد أو بالطلاق؟ فيه وجهان: أصحهما- وهو الجديد-: الثاني، وادعى الإمام أن من قال بخلافه كان رادّاً للإجماع، وقد صرح بذكر الخلاف مجلي وغيره. والمراد بالمسيس: الوطء. قال: وإن سمَّى لها مهراً صحيحاً أو وجب لها مهر المثل، أي: بأن كان المسمى فاسداً، أو سكت عن ذكر المهر، وطلقت قبل المسيس، وجب لها نصف المهر دون المتعة؛ لمفهوم الآية، ولأنه لم يستوف منفعة بضعها، وتشطير المهر كان لما لحقها من الابتذال؛ فلا حاجة إلى شيء آخر. وعن ابن سريج وغيره من الخراسانيين إثبات قول آخر: أن لها متعة؛ لإطلاق قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]. قال: وإن طلقت بعد المسيس- أي: سواء سمي لها مهر صحيح، أو وجب لها مهر المثل، أو كانت مفوضة، ولم يفرض لها- فهل لها المتعة مع المهر؟ فيه قولان: القديم: أنه لا متعة لها؛ لأنها لا تجب عند وجوب شطر المهر؛ فعند وجوب جميعه أولى.

والجديد الصحيح: أن لها المتعة؛ لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]. وأيضاً: فقد قال تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28] وكان صلى الله عليه وسلم قد دخل بهن. ولأن المهر في مقابلة الوطء؛ فيبقى الابتذال بالعقد خالياً عن البدل؛ فوجبت المتعة؛ كما قبل الفرض والمسيس. وفي التتمة عن بعض الأصحاب [إشارة] إلى فرق بين المفوضة والتي استحقت المهر بالعقد: فالمفوضة تستحق المتعة بعد الدخول؛ لأنها ما استحقت مالاً بالعقد، بخلاف غيرها؛ لأنها ملكت المال بالعقد. ويستوي في المتعة: المسلم والذمي، والحر والعبد، وهي من كسب الزوج الرقيق ولسيد الأمة كالمهر. قال: وكل فرقة وردت من جهة [الزوج بإسلام]، أو ردة، أو لعان، أو خلع- أي: معها أو مع أجنبي- أو من جهة أجنبي: كالرضاع- أي: كرضاع أم الزوجة [الكبيرة الصغيرة]- فحكمه حكم الطلاق في إيجاب المتعة- أي: في الأحوال الثلاثة- كما دل [عليه] كلامه في المهذب؛ كما أن حكمه حكم الطلاق في التشطير. [وفي الوسيط حكاية تردد عن الأصحاب في الخلع معها، وهو مشابه لما حكيناه في التشطير]. ولو فوض الطلاق إليها، فطلقت، أو آلى عنها، وطلقها بعد المدة بطلبها، أو علق طلاقها بفعلها، ففعلت- فحكمه حكم الطلاق. وحكى الحناطي في الأخيرتين وجهاً: [أنها لا تجب]. قال: وكل فرقة وردت من جهة المرأة بإسلام، أو ردة، أو رضاع، أو فسخ بالعيب- أي: إما فيها أو فيه- أو بالإعسار، وكذا بعتقها والزوج رقيق، أو بالغرور- لم يجب لها المتعة؛ لأن المهر يسقط بذلك، ووجوبه [آكد من] وجوب المتعة.

وفي الفسخ بالعنة حكاية قول: أن لها المتعة، وهو مشابه لما حكيناه في باب الخيار في النكاح: أنه [يشطر الصداق] على رأي. وفي الجيلي حكاية عن الماوردي: أن الفسخ إن كان [بعيب] مقارن للعقد، فلا مهر، ولا متعة. وإن كان حادثاً بعد العقد، فلا يسقط به نصف المهر، وتجب المتعة. [قال]: وهو غريب لم يذكره غيره. والمحكوم بإسلامه من الزوجين تبعاً لأحد أبويه، هل تحال الفرقة عليه بالنسبة إلى تشطر الصداق؟ فيه خلاف تقدم، ويتجه جريانه في المتعة. فرع: لو ارتد الزوجان معاً، ففي وجوب المتعة وجهان؛ كما في التشطير. والفرقة الحاصلة بالموت لا توجب المتعة بالإجماع؛ لأن النكاح قد بلغ منتهاه؛ فلم يلحقها الابتذال الذي لأجله وجبت المتعة. قال: وإن كانت [الزوجة] أمة فباعها المولى من الزوج؛ فانفسخ النكاح- فالمذهب أنه لا متعة لها، وهو ما جزم به في التهذيب؛ لأن المتعة تجب بالفرقة، فتكون للمشتري، فلو أوجبناها، لأوجبناها له على نفسه، فلم تجب؛ بخلاف المهر؛ فإنه يجب بالعقد؛ فوجب للبائع. قال: وقيل: يجب، وهو المنقول عن الإملاء؛ لأن سبب الفرقة حصل من الزوج وغيره؛ فأشبه الخلع. قلت: ويمكن بناؤهما على أن المتعة تجب بالعقد، أو بالطلاق؟ فإن قلنا: تجب بالعقد، وجبت للسيد، وإلا فلا. قال: وقيل: إن كان السيد طلب البيع، لم تجب، وإن كان الزوج طلب، وجبت؛ وهو المحكي عن أبي إسحاق؛ لاستوائهما في العقد المقتضي للفراق؛ فيرجح بالاستدعاء. قال في الشامل: [قال أصحابنا]: وهذا يفسد بالخلع.

قال الإمام: والضابط: أن كل ما [لو] جرى قبل المسيس لم يسقط المهر، بل يشطره، فهو موجب للمتعة، وكل ما يتضمن سقوط جميع المهر، فلا يتعلق به المتعة، ولا استثناء إلا في مسألة شراء الزوجة. واعلم أن قول الشيخ: "فانفسخ النكاح" محترز به عما إذا لم ينفسخ، بأن فسخ العقد في زمن الخيار، وفرعنا على أن الملك ما انتقل [أو] موقوف أو قلنا: إنه انتقل على أحد الوجهين، وقد تقدم ذكر ذلك في باب ما يحرم من النكاح. ويحترز [به] أيضاً عما إذا كان الزوج وكيلاً في شرائها. قال: وتقدير المتعة إلى الحاكم-[أي: عند عدم توافقهما على شيء-] يقدرها على حسب ما يراه: على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره؛ للآية. والمقتر: من القتر، والتقتير، والإقتار، ثلاث لغات، وهوض يق العيش. وفيه وجه: أنه يجب لها أقل ما يتمول، ويكون ذلك متعة؛ كما أنه يجوز أن يكون صداقاً. قال: وقيل: يختلف باختلاف حال المرأة؛ لأن المتعة كالبدل عن شطر المهر؛ بدليل انتفائها عند وجوبه، والمهر يعتبر بحالها؛ فعلى هذا تعتبر متعة من هي مثلها في الجمال والشرف. وفيه وجه: أنه يعتبر بحال قماشها وجهازها. وقيل: ننظر إلى حالهما جميعاً. قال في الوسيط: وهو الصحيح، ورجحه غيره، وهو ظاهر لفظ المختصر. ويجوز أن تزيد المتعة على نصف مهر المثل؛ على أظهر الوجوه، وهو ما أورده في التهذيب. ولا تزيد على الثاني، وهو محكي عن صاحب التقريب؛ لأنها بدل عنه. وتنقص عنه في الثالث؛ كما يحط التعزير عن الحد؛ حكاه الحناطي، ونقل الإمام اتفاق المحققين عليه، فإن كان في العقد مسمى فينقص عن نصفه، وإلا فينقص عن نصف مهر المثل.

وإن كان في العقد مسمى، وفرعنا على أن المدخول بها تستحق المتعة، فينظر في المتعة ونصف مهر المثل، أو ينظر في المتعة ونصف المسمى. [و] أبدى الإمام احتمالين، ورجح الأول. أما إذا تراضيا على شيء فذاك. وحكى الحناطي وجهاً: أنه ينبغي أن يُملِّك كل منهما صاحبه، فإن لم يفعلا، لم تبرأ ذمة الزوج، ولها رفع الأمر إلى الحاكم؛ ليقدر متعة، والظاهر الأول، وهذا كله في القدر الواجب. أما المسنون، فأقله ثلاثون درهماً [أو ما قيمته] ذلك؛ كما ذهب إليه ابن عمر، وابن عباس. وفي التتمة: أن المستحب أن يمتعها بخادم، فإن لم يكن فَمِقْنَعة أو ثلاثين درهماً. وفي بعض الشروح حكاية قول: أنه يمتعها بخادم إن كان موسراً، وإن كان معسراً فَمِقْنَعة وإن كان متوسطاً [فبقدر] ثلاثين درهماً والله أعلم.

باب الوليمة والنثر

باب الوليمة والنثر الوليمة: الطعام المتخذ للعرس، مشتقة من الولم، وهو الجمع؛ لأن الزوجين يجتمعان؛ قاله الأزهري وغيره. قال ابن الأعرابي: وأصلها تمام الشيء واجتماعه، والفعل منها: أَوْلَمَ. وقيل: الوليمة كل طعام يتخذ لحادث سرور من إملاك، وعرس وسلامة المرأة عن الطلق، وحلق رأس المولود، وختانه، وقدوم المسافر، والبناء. وتسمى: مأدبة، لكنه غلب استعمال لفظ الوليمة على الطعام المتخذ لأجل العرس؛ لما ذكرناه، وما عداه اشتهر له اسم يختص به، فطعام الإملاك يسمى: الشُّندخي: بشين معجمة تضم وتفتح، ونون بعدها، ودال غير معجمة [تضم وتفتح]، وخاء بعدها، اشتق من قولهم: "فرس شندخ"، وهو الذي يتقدم الخيل، وسمي هذا الطعام بذلك؛ لأنه يتقدم العرس. والطعام المتخذ عند سلامة المرأة من الطلق: الخرس [والخرص] بضم [الخاء] وبالسين وبالصاد. و [الطعام المتخذ] عند حلق رأس المولود في السابع: العقيقة. وعند الختان: الإعذار، بالعين المهملة، والذال المعجمة. والطعام المتخذ عند قدوم المسافر: النقيعة، مأخوذ من النقع، وهو الغبار. ثم قيل: إن المسافر يصنع الطعام، وقيل: يصنعه غيره له. والطعام المتخذ عند البناء: الوكيرة. وعند المصيبة: الوضيمة، بفتح الواو، وكسر الضاد المعجمة. وإذا كان الطعام لغير سبب سمى: مأدبة، بضم الدال وفتحها. قال: الوليمة على العرس [واجبة على] ظاهر النص:

العرس: مؤنثة ومذكرة، والراء ساكنة ومضمونة، والجمع: أعراس. والدليل على ظاهر النص، وهو ما ذهب [إليه] ابن خيران قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف وقد تزوج: "أولم ولو بشاة". ولأنه صلى الله عليه وسلم ما تركها في سفر ولا حضر. قال: وقيل: لا تجب، وهو الأصح، ويحكى عن القفال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِي المَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ". ولأنها لا تختص بالمحتاجين؛ فأشبهت الأضحية، والحديث [الأول] محمول على تأكد الاستحباب. وقيل: هي فرض على الكفاية إذا فعلها واحد أو اثنان في الناحية أو القبيل، وشاع، وظهر، سقط الفرض عن الباقين. أما سائر الولائم غير وليمة العرس، فلا تجب لكي يستحب إظهارها؛ لما في ذلك من إظهار نعمة الله- تعالى- عليه والشكر عليها. وفي التتمة: أن من الأصحاب من خرج وجوبها قولاً. قال: والسنة أن يولم بشاة؛ لأنه صلى الله عليه وسمل أولم على [زينب بنت جحش بشاة، وبأي شيء أولم من الطعام جاز؛ لأنه- عليه السلام- أولم على] صفية بسويق وتمر. وقال في الشامل والتتمة: أقل الوليمة للمتمكن شاة؛ لحديث عبد الرحمن؛ فإن لم يتمكن من ذلك، اقتصر على ما يقدر عليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم [حيث] أولم بالسويق

والتمر، كان في حرب خيبر، وهو مظنة العجز. قال: والنثر مكروه، والنثر: مصدر نثر يَنثُر ويَنثِر نثراً ونثاراً، ومعناه: رماه متفرقاً. وإنما كره كما حكاه الشيخ وابن الصباغ والمتولي؛ لأن التقاطه دناءة ويؤخذ بتزاحم، وقد يؤدي إلى الوحشة والعداوة، وربما أخذه من يكره صاحبه أن يأخذه؛ لقوته، وشدته، والنثر سبب ذلك. وفيه وجه: أنه غير مكروه، وهو ما أجاب به الغزالي، ورجحه الرافعي، لكن الأولى تركه؛ لما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر في إملاك، فأتى بأطباق عليها جوز ولوز وتمر، ونثرت، فقبضنا أيدينا، فقال: "مَا لَكُمْ لَا تَاكُلُونَ؟ " فقالوا: لأنك نهيت عن النهبي، فقال: إنما نهيتكم عن نهبى العساكر، خذوا على اسم الله تعالى؛ فجاذبنا وجاذبناه، ورد في التتمة هذا الحديث، لكنه لم يثبت عند أهل الحديث. وقال الصيمري: النثر سنة؛ لأنه- عليه الصلاة والسلام- نثر لما زوج ابنته فاطمة؛ فتحصل في المسألة ثلاثة أوجه: يستحب، يكره، لا هذا ولا ذاك. أما أخذ النثار من الهواء وتلقيه بالإزار فمكروه، والتقاطه جائز، لكن تركه أولى، إلا إذا عرف أن الناثر لا يُؤْثِرُ بعضهم على بعض، ولم يقدح الالتقاط في المروءة. وقال الصيمري: إنه مكروه من غير تفصيل. ومن التقطه هل يملكه؟ فيه وجهان، أصلهما على ما رواه المتولي الخلاف

في المعاطاة، لكن الأئمة إلى ثبوت الملك هنا أميل. فإن قلنا بعدم الملك، فللناثر الاسترجاع، وبه أجاب ابن كج، ولكن قيده بما [إذا] لم يخرج من الدار، وعليه الغرم إذا كان أتلفه. وإن قلنا بالملك فليس له استرجاعه. ويخرج عن ملك الناثر بالنثر، أو بأخذ الملتقط، أو بإتلافه؟ فيه ثلاثة أوجه. فروع: لو وقع في حجر إنسان من النثار شيء، فإن بسطه لذلك، فهو كالأخذ بالأيدي، فلو سقط كما وقع، فهل يبطل حقه؟ فيه وجهان، وأجراهما الإمام فيما إذا وقع الصيد في الشبكة، وانفلت في الحال، وقال: الظاهر أن حقه يبقى. وإن لم يبسط حجره لذلك، فلا يملكه، ولكنه أولى به من غيره، فإن أخذه غيره، فهل يملكه؟ فيه وجهان: الأظهر: عدم الملك. ولو سقط من حجره قبل أن يأخذه، أو قام فسقط، بطل اختصاصه، وهذه الأولوية إنما تثبت إذا كان من وقع في حجره ممن يأخذ، فأما من يعلم أنه لا يأخذه، ولا يرغب فيه، فلا اختصاص له به. قال: ومن دعي إلى وليمة، لزمته الإجابة، أي: سواء كان المدعو مفطراً، أو صائماً؛ لما روي ابن عمر- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلْيَاتِهَا"، وروى: "مَنْ دُعِيَ [فَلَمْ يُجِبْ، فَقَدْ عَصَى] اللهَ وَرَسُولَهُ".

قال: وقيل: هي فرض على الكفاية؛ لأن المقصود أن يظهر الحال، ويُشتهَر، وذلك حاصل بحضور البعض. قال: وقيل: لا تجب-[أي]: بل تستحب- لأن الحضور للأكل، وهو محصل للملك والإتلاف للمأكول، وذلك لا يجب على الإنسان، والخبر محمول على تأكيد الاستحباب وكراهية الترك. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق بين وليمة النكاح وغيرها، وهو ما أشار إليه [الشيخ] أبو حامد. وفضل بعض الأصحاب فقال: أما وليمة العرس فإن قلنا بوجوبها، وجبت الإجابة إليها، [وهل الإجابة] فرض عين أو فرض كفاية؟ فيه مثل الخلاف السابق. وإن قلنا بعدم وجوبها، ففي الإجابة قولان. وأما غيرها ففي الوجوب طريقان: أحدهما: طرد القولين. والثاني: القطع بعدم الوجوب، ولا خلاف على قول عدم الوجوب: أنه يتأكد الاستحباب؛ إذ عليه يحمل الحديث. فروع: أحدها: لو اعتذر المدعو إلى صاحب الوليمة، فرضي بتخلفه، سقط الوجوب إن قلنا به، وارتفعت [الكراهية في التخلف] على القول الآخر. الثاني: لو علم المدعو بقرينة لاحال أنه لا يعز على الداعي امتناعه، ففي سقوط الوجوب تردد للأصحاب حكاه في الذخائر. الثالث: لو دعاه اثنان فصاعداً، أجاب الأسبق، فإن جاءا معاً، أجاب الأقرب رحماً، ثم الأقرب داراً؛ كما في الصدقة. تنبيه: حيث قلنا بوجوب الإجابة، أو استحبابها فذاك عند وجود شرائط. منها: أن يعم صاحب الدعوة الدعوة بأن يدعو جميع عشيرته، أو إخوانه أو أهل حرفته: أغنياءهم وفقراءهم دون ما إذا خصص الأغنياء بالإحضار. ومنها: أن يخصه بالدعوة بنفسه أو برسوله، فأما إذا فتح باب الدار، ونادى:

ليحضر من يريد، أو بعث رسوله ليحضر من شاء- فلا تجب الإجابة، ولا تستحب. ومنها: ألَّا تكون دعوته لخوف منه، أو لطمع في جاهه، أو تعاونه على باطل، بل تكون للتقرب، وللتودد. ومنها: ألا يكون قد دعا مع السفلة [والأرذال]، والمدعو له شرف وثروة على أظهر الوجهين، وبقية الشروط مذكورة في الباب. قال: ومن دعي في اليوم الثاني، استحب له [ألَّا يجيب]، أي: ولا يكون كالاستحباب في [اليوم] الأول إذا قلنا به، ومن دعي في [اليوم] الثالث فالأولى ألا يجيب. وجعله بعضهم مكروهاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الوَلِيمَةُ فِي اليَوْمِ الْأَوَّلِ حَقٌّ، وَفِي الثَّانِي مَعْرُوفٌ، وَفِي الثَّالِثِ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ". قال: وإن دعي مسلم إلى وليمة كافر- أي: ذمي لم يلزمه الإجابة، [أي]: ولا يكون الاستحباب في إجابة دعوته كالاستحباب في إجابة المسلم؛ لأن ذلك على طريق الكرامة والموالاة؛ فلم يلزم المسلم للكافر؛ كرد السلام. ولأنه قد يعاف طعامه، ولا يأمن فيه النجاسة كذا علله ابن الصباغ. قال: وقيل: يلزمه؛ لعموم الخبر. وقيل: إنه مكروه، والخبر محمول على المسلم. ولو دعا مسلم ذميّاً، فلا يلزمه الإجابة قولاً واحداً؛ قاله الجيلي. قال: ومن دعي وهو صائم صوم تطوع، استحب له أن يفطر؛ لما روي

أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر دار بعضهم، فلما قدم الطعام أمسك بعضُ القوم، وقال: إني صائم، فقال صلى الله عليه وسلم: "يَتَكَلَّفُ أَخُوكَ الْمُسْلِمُ، وَتَقُولُ: إِنِّي صَائِمٌ؟! أَفْطِرْ، ثُمَّ اقْضِ يَوْماً مَكَانَهُ". ولأنه يدخل السرور على من دعاه، ولا يجب ذلك، والحديث محمول على الاستحباب، ويدل عليه [ما روي] أنه صلى الله عليه سولم قال: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيَطْعَمْ وَإِنْ كَانَ صَائِماً فَلْيُصَلِّ"، أي: فَلْيَدَعْ. وقال مجلي: يحتمل أن تبنى هذه المسألة على أنه لو كان مفطراً، هل يجب الأكل أم لا؟ فإن قلنا بعدم وجوبه، [فكذلك ها هنا،] وإن قلنا بالوجوب، وجب عليه الإفطار، ويحمل قوله صلى الله عليه وسلم: " [وَإِنْ] كَانَ صَائِماً فَلْيُصَلِّ" على الصوم المفروض، ولا فرق بين أن يكون عدم الأكل يشق على الداعي أو لا. وقال الخراسانيون: إن كان يثقل على الداعي ترك الأكل، أو ألح عليه في الإفطار، استحب له ذلك، وإلا لم يستحب.

أما إذا كان صائماً عن فرض، فإن كان الوقت ضيقاً، فلا يجوز له الفطر، وإن لم يكن: كالنذر المطلق وقضاء رمضان، فإن لم نجوّز له الخروج منه- وهو المذهب في التتمة- فهو كالمضيق. وإن جوزنا الخروج منه، فقد قيل: هو كصوم النفل. وعن القاضي الحسين: أنه يكره الخروج منه. قال: وإن كان مفطراً، لزمه الأكل، وأقله لقمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فَلْيَطْعَمْ"، ولأن المقصود من الدعوة التناول، وترك الأكل يورث الوحشة. وقيل: لا يلزمه، وهو الأصح؛ لما روى [جابر] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ"، وعلى هذا يكون مستحبّاً؛ وهذا في وليمة العرس. ولفظ صاحب التتمة يقتضي تعميم الوجهين في جميع الضيافات، وهو منقاس على أصل من يوجب الإجابة فيها. فرع: هل يملك المضيف ما يأكله؟ قال القفال: لا، بل هو إتلاف بإباحة المالك، وللمالك أن يرجع ما لم يأكل؛ وهذا ما اختاره ابن الصباغ عند الكلام في كفارة الظهار، وضعف ما عداه، وقال الإمام في كتاب الغصب: إنه ظاهر المذهب، وقبيل [كتاب] الإجارة: إنه الأصح. وقال أكثرهم: يملك، وبم يملك؟ فيه وجوه: قيل: بالوضع بين يديه. وقيل: بالأخذ. وقيل: بوضعه في الفم. وقيل: [عند المضغ]. وقيل: بالازدراد يتبين حصول الملك قبيله.

وزيف المتولي ما سوى الوجه الأخير. والمذكور في الشامل ما عدا الأول والرابع؛ كما حكاه في الظهار. وعلى الوجوه ينبني التمكن من الرجوع، وليس له أن يعطيه غيره، ولا أن ينقله وإن قلنا: [يملك]. [وحكى ابن الصباغ في الظهار عن القاضي أبي الطيب: أنا إذا قلنا: إنه] يملكه بالتناول، كان له التصرف فيه بغير الأكل؛ لأنه قد ملكه بالإذن والقبض، وكذلك عن الشيخ أبي حامد. ولا يحتاج الضيف في الأكل بعد تقديم الطعام إلى لفظ إلا إذا كان ينتظر حضور غيره؛ فلا يأكل إلى أن يحضر، أو يأذن المضيف لفظاً. وفي الوسيط وجه: أنه لابد من لفظ. وفي التتمة: أن تقديم الطعام إنما يكفي إذا كان قد دعاه إلى بيته، فأما إذا لم تسبق الدعوة، فلابد من الإذن لفظاً إلا إذا جعلنا المعاطاة بيعاً. قال: وإن دعي إلى موضع فيه معاصٍ من زمر، أو خمر، ولم يقدر على إزالتها، فالأولى ألَّا يحضر، فإن حضر، فالأولى أن ينصرف؛ كي لا يشاهد المنكر، وربما تدعوه نفسه إلى تعاطي ذلك. قال: فإن [قعد واشتغل] بالحديث والأكل جاز- أي: مع إنكاره بقلبه- كما لو كان يضرب المنكر في جواره، فإنه لا يلزمه التحول، وإن كان يبلغه الضرب؛ وهذا ما أشار إليه الشيخ أبو حامد حكاية عن المذهب، ولم يحكِ سواه على ما حكاه مجلي عن تعليق البندنيجي. وفي طريقة المراوزة: أنه لا يجوز الحضور فضلاً عن القعود، [وهو الصحيح]، وإليه ذهب القاضيان: ابن كج، والروياني، وجزم به في التتمة. ووجهه [ما روي] أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الْآخِرِ فَلَا

يَقْعُدْ عَلَى مَائِدَةٍ تُدَارُ عَلَيْهَا الخَمْرُ". ولأنه كالراضي بالمنكر، والمقر له. نعم: إن لم يعلم بذلك، فدخل؛ فلينههم، فإن لم ينتهوا؛ فليخرج إن أمكنه، فإن لم يمكنه كما في الليل مع الخوف؛ فليقعد كارهاً، ولا يستمع. أما إذا كان حضوره يدفع المنكر، فليحضر؛ إجابة للدعوة، وإزالة للمنكر. فرع: لو كان في الموضع نبيذ فلا ينكر، قال: [القاضي] ابن كج: لأنه في موضع الاجتهاد، والأولى أن يكون الحضور في حق من يعتقد التحريم؛ كما في المنكر المجمع على تحريمه. وقيل بخلافه؛ كذا قاله الرافعي. قال: وإن حضر في موضع فيه صورة حيوان، فإن كان على بساط يداس أو مخاد توطأ- أي: صغار يُتَّكأ [عليها]- جلس. قال الرافعي: وليكن في معناها الخوان والقصعة، وإن كانت على الحائط أو ستر معلق، لم يجلس؛ وكذا على السقوف، والثياب الملبوسة، والوسائد الكبار المنصوبة؛ لما روي عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم من سفر، وقد سترت على صفة لها ستراً فيه الخيل ذوات الأجنحة، فأمر بنزعها، وقطعنا منها وسادة أو وسادتين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتفق بهما".

ولا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك للزينة أو للانتفاع. وحكي عن الشيخ أبي حامد: أنها إن استعملت للزينة، حرم، وإن كان للانتفاع لم يحرم. وقال بعض الأصحاب: التحريم مخصوص [بصورة الحيوان المألوفة]، أما إذا لم يشاهد مثله: كصورة إنسان له جناح طائر، فلا يحرم. وقال بعضهم: إن التحريم ثابت إذا كانت صورة الحيوان بارزة، أما إذا لم تكن بارزة، فلا يحرم؛ حكاه الجيلي. ولو كانت صورة الحيوانات مقطوعة الرءوس، فلا بأس على الظاهر. وفي التتمة التسوية بينها وبين غيرها. وقال الإصطخري: تحريم اتخاذ صورة الحيوان كان في ابتداء الإسلام؛ قطعاً لهم عن عبادتها. وفيما علق عن الإمام الإشارة إلى تخصيص المنع بالسقوف والجدر، ويرخص فيما على الستور والوسائط المنصوبة. والظاهر الأول. والمعنى: أن ما يوطأ ويطرح مهان مبتذل، والمنصوب يشابه الأصنام. ولو كانت الصور في الممر دون موضع الجلوس، فلا بأس بالدخول والجلوس، وهل المنع من الجلوس- حيث قلنا به- منعُ تحريمٍ أو كراهةٍ؟ فيه وجهان: أحدهما- وبه كان يجيب الشيخ أبو محمد-: الأول، ونظم الغزالي في الوجيز يقتضي ترجيحه، وادعى في الذخائر: أنه الذي عليه الأكثرون، وهو ظاهر النص. والثاني: الكراهة، ويحكي عن صاحب التقريب والصيدلاني، ورجحه الإمام والغزالي في الوسيط، وهو ما جزم به في التتمة، وبه قال ابن الصباغ؛ لأنه ليس

بأكثر من المنكر: كالخمر، والملاهي. أما إذا كان المتخذ صور أشجار، أو الشمس، أو القمر- فلا بأس بالحضور. وفي شرح الجويني وجه: أن [صور] الأشجار مكروهة؛ لأن منهم من يعبد الأشجار. فروع: إذا دعاه من أكثر ماله حرام، كرهت إجابته، والمرأة إذا دعت النساء، فالحكم كما ذكرنا في الرجال، وإن دعت رجالاً أو رجلاً فتجاب إذا لم تكن خلوة محرمة. وتصوير الحيوان على الأرض والفرش هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: التحريم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لعن المصور؛ كما رواه البخاري في حديث جحيفة، وبالقياس على التصوير على السقوف. والثاني: الجواز؛ لأنه ينتفع بها. فعلى الأول: لو استؤجر على ذلك، لم يستحق الأجرة. وفي الجيلي عن الحاوي: أن للمرأة [خيار] فسخ النكاح؛ إذا كان كسب زوجها من الصور، والله أعلم.

باب عشرة النساء والقسم والنشوز

باب عشرة النساء والقسم والنشوز المعاشرة، والتعاشر: المخالطة، والعشرة: الاسم منه، والعشير: المخالط. والقَسم: بفتح القاف، [وسكون السين، مصدر: قسمت الشيء أقسمه قسماً، والقِسم: بكسر القاف]: النصيب، وبفتح القاف والسين معاً: اليمين، والمراد هنا الأول؛ لأن الزوج يقسم الزمن الذي جرت العادة فيه بالسكون إلى الزوجة بين سائر نسائه. والنشوز، [والنشز: من] الارتفاع، ونشزت المرأة، ونشصت، ونشز الرجل ونشص؛ إذا ارتفع على صاحبه، وخرج عن حسن المعاشرة؛ ذكره الأزهري، وقال: هو مأخوذ من النشز، وهو المرتفع من الأرض، يقال بفتح الشين وإسكانها. قال: يجب على كل واحد من الزوجين معاشرة صاحبه بالمعروف، وبذل ما يجب عليه من غير مطل ولا إظهار كراهة، أي: بل يؤديه وهو طلق الوجه. والمطل: مدافعة الحق مع القدرة على التأدية. والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وأراد تماثلهما في وجوب الأداء، [لا أن] الحقين متماثلان في الكيفية والصفة. وقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وفسره الشافعي، فقال: وجماع المعروف بين الزوجين: الكف عن المكروه، وإعفاء صاحب الحق عن المؤنة في طلبه، من غير إظهار كراهية في تأديته؛ فإنها مطل، ومطل الغني ظلم. ولتعلم أن عقد النكاح عقد معاوضة، تملك به المرأة المهر، وتستحق بسببه النفقة والكسوة، وغير ذلك مما يذكر في هذا الباب، وفي "النفقات": وللزوج استباحة البضع على التأبيد واللزوم- ما لم يطرأ عليه قاطع- ولزوم مسكنه، وغير ذلك [مما ذكر] بعضه في كتاب "النفقات"، وبعضه في هذا الباب، وإلى

ذلك وقعت الإشارة بقول الشيخ: "وبذل ما يجب عليه من غير مطل ولا إظهار كراهة". قال: ولا يجوز أن يجمع بين امرأتين في مسكن واحد؛ لأن اجتماعهن في مسكن واحد مع تأكد الوحشة بينهن يولد كثرة المخاصمة والخروج عن الطاعة، وليس ذلك بالمعاشرة بالمعروف. ولأن كل واحدة منهما قد استحقت السكنى؛ فلا يلزمها الاشتراك فيها، كما لا يلزمها في كسوة واحدة يتناوبانها، وهذا إذا لم تنفصل المرافق، أما إذا انفصلت المرافق، وكان ذلك يليق بالحال فيجوز؛ لأنه كالمسكنين. قال: إلا برضاهما؛ لأن الحق لهما، ولا يعدوهما. قال: ويكره أن يطأ إحداهما بحضرة الأخرى-[أي]: إذا رضيتا بالبيت الواحد- لأنه دناءة، وسوء عشرة. وأيضاً: فإنها ربما تنكشف، فتظهر عورتها لصاحبتها. فلو طلب الزوج ذلك، وامتنعت لا يلزمها الإجابة، ولا تصير ناشزة بالامتناع. قال: وله أن يمنع زوجته من الخروج من منزله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ: أَلَّا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ"، وادعى الإمام فيه الإجماع؛ وهذا إذا كانت مواصلة بالنفقة، فلو كان الزوج معسراً بالنفقة، فإن لم نثبت لها حق الفسخ، فليس له منعها من الخروج؛ للتكسب، وكذا لو كانت مستغنية عن التكسب على الأصح. وإن أثبتنا لها حق الفسخ، قال في المهذب: فإذا لم تفسخ، واختارت [المقام]؛ فلها أن تخرج من منزله. وقال غيره: لها الخروج في مدة الإمهال؛ لتحصيل النفقة، وليس له منعها على الأصح. فلو كانت تقدر على التكسب في المنزل، أو مستغنية عنه، فهل له منعها؟ فيه وجهان:

والأصح: أنه ليس له [منعها]، نعم عليها أن ترجع بالليل إلى منزل الزوج؛ لأنه وقت الدعة؛ كذا قاله الروياني في "البحر". وله- أيضاً- أن يمنع أبويها من الدخول إليها، لكن الأولى ألَّا يفعل؛ نص عليه الغزالي وغيره في كتاب النفقات، والحق بالوالد الولد في ذلك. قال: فإن مات لها قريب، استحب له أن يأذن لها في الخروج؛ لأن منعها يؤدي إلى النفور. قال: ولا يجب عليه أن يقسم لنسائه- أي: ابتداء؛ لأن المبيت حقه، فجاز له تركه؛ كسكنى الدار المستأجرة. ولأن في داعية الطبع ما يغني عن إيجابه، نعم: يتسحب له القسم وألا يعطلهن؛ لأن فيه إضراراً بهن، وقد يفضي إلى الجور. وقال الإمام: ولست أبعد [إطلاق] لفظ كراهة في التعطيل. وفي الرافعي حكاية وجه: أنه ليس له الإعراض عنهن. أما إذا أراد أن [يبيت عند واحدة]، وجب عليه القسم. ولو لم يكن له إلَّا زوجة واحدة، فيستحب [له] أن يبيت عندها؛ لما ذكرناه÷، وأدناه ألا يخلي كل أربع ليال عن ليلة. قال: فإن أراد القسم، لم يبدأ بواحدة منهن إلا بالقرعة أو بإذن الباقيات؛ لأنه أعدل وأسلم عن الميل المنهي عنه. وفيه وجه: أن له أن يبدأ بمن شاء [منهن]. وقال في التتمة: إنه مكروه، وإنه لو أراد أن يقدم غير من خرجت عليها القرعة، لم يجز. وعلى الأول- وهو الأصح-: إذا بدأ بواحدة بالقرعة، وهن أربع، فإذا وفَّى نوبتها، أقرع بين الباقيات، ثم يقرع [بين] الأخريين، فإذا تمت النوبة،

ورغب الزوج في استمرار القسم يراعي الترتيب، ولا حاجة إلى إعادة القرعة. ولو بدأ بواحدة بغير قرعة، فقد ظلم، ويقرع بين الثلاث الباقيات، فإذا تمت النوبة لا يعود إلى التي بدأ بها ظلماً، بل يقرع، وكأنه ابتداء القسم. قال: ويقسم للحائض والنفساء والمريضة والرتقاء، وكذا المجنونة التي [لا] يخاف منها، والمحرمة، والتي آلى عنها، أو ظاهر. قال الغزالي: وكل من بها عذر طبعي أو شرعي؛ لأن هذه المعاني إنما تمنع الوطء، والمقصود من القسم الأنس والسكن، والتحرز عن التخصيص الموحش، وذلك يحصل لهؤلاء. أما إذا خيف من المجنونة، فلا قسم لها. وفي التتمة: أن المعتدة عن وطء الشبهة لا قسم لها؛ لأنه لا يجوز له الخلوة [معها]؛ وهذا يقع مستثنى من كلام الغزالي. فرع: لو كان له امرأتان ببلدين، كان عليه أن يقسم لهما، إما بأن يحضرهما إليه، أو يمشي إليهما. قال: ويقسم للحرة ليلتين [وللأمة ليلة]- أي: مسلمة كانت أو كتابية- وللأمة ليلة- أي: سواء كان الزوج عبداً أو حرّاً- ويتصور فيما إذا نكح أمة عند وجود شرائطه، ثم نكح حرة، أو كان عبداً، ثم عتق، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ، وَلِلْحُرَّةِ ثُلُثَا القَسْمِ"، وهذا الحديث وإن كان مرسلاً فيؤيده ما روي عن علي- كرم الله وجهه- أنه قال: "إِذَا نُكِحَتِ الْحُرَّةُ عَلَى الأَمَةِ، [فَلِهَذِهِ الثُّلُثَانِ، وَلِهَذِهِ الثُّلُثُ"، وهذا إذا استحقت الأَمَةُ النفقةَ؛ إما بأن] يسلمها السيد ليلاً ونهاراً، أو يسلمها ليلاً، وقلنا باستحقاقها النفقة. أما إذا قلنا بعدم الاستحقاق عند وجود التسليم في الليل خاصة، فلا [قسم لها على ما ذكره القاضي ابن كج، والشيخ أبو حامد، وغيرهما. قال الرافعي:] وفي نص الشافعي إشارة إليه. واعلم أن أقل القسم أن يقسم ليلة ليلة، فلا يجوز تبعيض الليلة.

وفيه وجه: أنه يجوز. وحكى الإمام وجهاً فارقاً بين أن يقسم لكل واحدة بعض ليلة فلا يجوز، وبين أن يقسم ليلة وبعض ليلة فيجوز؛ لحصول الأنس إذا انضم البعض إلى الليلة الكاملة. والظاهر الأول. والأولى ألَّا يزيد على ليلة واحدة؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو قسم ليلتين ليلتين، أو ثلاثاً ثلاثاً، جاز. وفيه وجه: أنه لا تجوز الزيادة على الليلة إلا برضاهن، وهل تجوز الزيادة على الثلاث؟ فيه قولان: أصحهما: أنه لا يجوز. والثاني: يجوز إذا رضين. وإذا قلنا بالجواز فكم يجوز؟ قال صاحب التقريب: يجوز أن يقسم سبعاً [سبعاً]، وقال الشيخ أبو محمد وغيره: يجوز أن يزيد ما لم يبلغ مدة التربص في الإيلاء. وإذا فهم مجموع ذلك، علم أن قول الشيخ- رضيا لله عنه-: "ويقسم للحرة ليلتين، وللأمة ليلة" للحصر على الصحيح؛ إذ الزيادة على ذلك تفضي إلى الزيادة على الثلاث أو تبعيض الليلة، وذلك لا يجوز على الصحيح، والنقصان [عنه يفضي إلى تبعيض الليلة]، وذلك لا يجوز على الصحيح. قال: ولا يجب عليه إذا قسم أن يطأ؛ لأنه يتعلق بالنشاط والشهوة، وهي لا تتأتى في كل وقت. ولأنها غير داخلة تحت القدرة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ".

نعم: لو لم يكن قد دخل بهن، فهل يطالب لكل واحدة بوطأة؟ فيه الخلاف السابق. قال: غير أن المستحب أن يسوي بينهن في ذلك، أي: إذا أمكنه؛ وكذا في سائر الاستمتاعات؛ لأنه أكمل في العدل. قال: وإن سافرت المرأة بغير إذنه- أي: في حاجتها، أو في حاجته- سقط حقها من القسم؛ لنشوزها؛ كما تسقط نفقتها، وكذلك إذا خرجت إلى دار قومها بغير إذنه، ويستثنى من ذلك ما إذا كانت الزوجة أمة، فسافر بها السيد بعد أن بات عند الحرة ليلتين، فإنه لا يسقط حق الأمة من القسم، بل على الزوج قضاء ما فات عند التمكن؛ لأن الفوات حصل بغير اختيارها؛ كذا حكاه في التتمة. قال: وإن سافرت بإذنه- أي: في حاجتها- سقط حقها من القسم في أحد القولين، وهو الجديد؛ لأن القسم للأنس، وقد عدم؛ فسقط ما يتعلق به، وإن لم تكن مَاثُومة؛ [كالثمن] لما وجب في مقابلة المبيع، سقط بعدمه وإن كان معذوراً في العدم. ولا يسقط في الآخر؛ لأنها سافرت بإذنه، فأشبه ما إذا سافرت معه، وما إذا سافرت بإذنه في حاجته، وحكم النفقة حكم القسم. قال: وإن متنعت من السفر مع الزوج، سقط حقها من القسم؛ لنشوزها. قال: وإن أراد أن يسافر بامرأة، لم يجز إلا بقرعة؛ لما روت عائشة- رضي الله عنها-: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَراً أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا [خَرَجَ بِهَا] ". وأشار الحناطي إلى خلاف في [أن] ذلك

مخصوص بما إذا كان يقسم لهن أو مطلق، والظاهر الإطلاق. قال: فإن سافر بواحدة بغير فرعه، قضى؛ لأنه خص بعض نسائه بمدة على وجه تلحقه فيه التهمة؛ فلزمه القضاء؛ كما لو كان حاضراً. [ثم في المدة الواجب] قضاؤها وجهان: أظهرهما: أنه يقضي ما بين إنشاء السفر إلى أن يرجع إليهن. والثاني: أنه يستثني مدة الرجوع؛ لأنه خروج عن المعصية. وفيه وجه: أنه لا يقضي من وقت العزم على الرجوع، وإن لم ينهض بعد. والوجهان الأخيران حكاهما الرافعي. ولا فرق [بين] أن يبيت عندها أو لا يبيت، إلا إذا تركها في بلدة، وفارقها؛ قاله البغوي في فتاويه. قال الرافعي: ويحتمل أن يقال: لا يقضي إلا ما بات عندها. ويحتمل أن يقال: يقضي وإن خلفها في بلدة. قال: وإن سافر بالقرعة- أي: غير سفر النُّقْلة- لم يقض، [أي:] مدة الذهاب والرجوع والمقام في البلد الذي سافر [بها] إليها إذا لم ينو المقام بها مدة تزيد على مدة المسافرين، ولا امتد مقامه، وسواء كان السفر مما تقصر فيه الصلاة أو لا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سافر بعائشة، ولم ينقل عنه أنه كان إذا عاد يقضي، بل ظهر أنه كان إذا عاد يدور على النوبة. وحكى أبو الفرج الزاز: أنه روي عن عائشة أنه ما كان يقضي. ولأن المصاحبة في السفر قد تحملت مشاق بإزاء [ما] حصل لها من مقام الزوج، والمقيمة لم تتحمل مثل ذلك، ولم يوجد من الرجل قصد الميل إليها حتى يصير مفرطاً، فلو أوجبنا القضاء للباقيات، كان حظهن أوفر، وفي ذلك إثبات تفاوت بينهن، [والشرع أمر بالتسوية]. أما إذا وصل إلى مقصده، فعزم على المقام، وأقام مدة، أو أقام أربعة أيام من

غير عزم على الإقامة- قضى مدة مقامه. ومن أصحابنا من قال: لا يقضي، [وجعله الفوراني المذهب، والآخر وجهاً. فإن قلنا: يقضي] فلو أقام يوماً واحداً، فظاهر النص: أنه يقضي. وقال الغزالي: [إنه] لا قضاء عليه؛ لأن هذا تابع للسفر، فلو زادت [مدة] إقامته على يوم واحد، ففي كلام الإمام ما يفهم وجوب القضاء. قال الرافعي: والأقرب ما أورده صاحب التهذيب. قال: ولو حمل بعضهن بالقرعة، وزاد مقامه على مقام المسافرين، يجب عليه أن يقضي ما زاد على مقام المسافرين؛ هذا آخر كلامه. ولو أقام في البلد مدة على تنجيز حاجة، ولم يعزم على الإقامة، ففي [وجوب] القضاء خلاف كما في الترخص. قال المتولي: فإن قلنا: لا يترخص، قضى ما زاد على مدة المسافرين، وإذا عاد إلى أهله، فهل يقضي مدة العود؟ فيه وجهان: أشبههما عند الرافعي: أنه لا يقضي. وفي "التتمة": أنه إن كان مقيماً على عزم السفر، إلا أنه لم ينجز حاجته، فلا يلزمه القضاء، وإن عزم على مقام مدة فوجهان. قال: وقيل: إن كان إلى مسافة لا تقصر فيها الصلاة، قضى؛ لأنه في حكم الحضر، وليس للمقيم أن [يخص] بعضهن بالصحبة؛ ولأن المشقة فيه لا تعظم؛ وهذا ما أجاب به الغزالي. والأول أصح عند صاحب التهذيب، والمتولي، وغيرهما، وجعله الغزالي احتمالاً للشيخ أبي محمد. وعلله في التتمة بأن السفر الطويل والقصير سواء في تعذر القسم بين النساء بسببه؛ فسوينا بينهن في سقوط القضاء. فرع: إذا سافر بامرأة بقرعة إلى بلد، ثم عنَّ له السفر إلى بلد أبعد منه، لم يلزمه القضاء؛ لأنه سفر واحد، وقد أقرع. فرع: لو استصحب واحدة بالقرعة، ثم عزم على الإقامة في بلد، وكتب إلى

الباقيات؛ يستحضرهن- ففي وجوب القضاء من وقت ما كتب إليهن وجهان محكيان في التهذيب. قال: وإن أراد الانتقال من بلد إلى بلد، فسافر بواحدة، وبعث البواقي مع غيره، فقد قيل: يقضي لهن، وهو الأظهر، وبه قال أبو إسحاق؛ لأنه لابد من المسافرة بهن؛ فيكون تخصيص واحدة منهن، بأن تكون معه، كتخصيص واحدة بالمقام عندها في الحضر. قال: وقيل: لا يقضي إذا كان السفر بالقرعة لغير سفر النقلة. ولو سافر بواحدة، وأخذ في الرجوع إلى الباقيات، ففي قضاء مدة الرجوع الوجهان السابقان. فرع: لا يجوز للرجل أن يسافر سفر نقلة، ويخلف نساءه، بل ينقلهن بنفسه، أو بوكيله، أو يطلقهن؛ لما في التخلف من الإضرار. وفيما علق عن الإمام أن ذلك أدب، وليس بأمر لازم. قال: ومن وهبت حقها من القسم لبعض ضرائرها برضا الزوج، جاز. الضرة: امرأة زوجها؛ لأنها تتضرر بها، [و] قيل: من المضارة؛ لأنهما يتضاران. وإنما صحت هذه الهبة؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "هَمَّ بِطَلَاقِ سَوْدَةَ؛ فَقَالَتْ: لا تُطَلِّقْنِي، وَدَعْنِي حَتَّى يَحْشُرَنِي اللهُ فِي نِسَائِكَ، وَقَدْ وَهَبْتُ يَوْمِي وَلَيْلَتِي لِعَائِشَةَ"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت ليلتها عند عائشة؛ وهذا مما اتفق عليه العلماء. وفي النهاية أنه صلى الله عليه سولم طلق سودة، فقالت: راجعني؛ وقد وهبت ليلتي لعائشة؛ فراجعها. ولا يشترط في هذه الهبة رضا الموهوب لها وقبولها، بل يكفي قبول الزوج،

فلو أبت، كان للزوج أن يبيت عندها رغماً. وحكى الحناطي وجهاً في اشتراط رضاها، وهو ما جزم به في التتمة. ولا يجوز للزوج [أن يجعل الليلة] لغير الموهوب لها، ويقول: أنت أسقطت حقك، فأنا أصرف الليلة إلى من شئت؛ لأن هذه هبة بشرط؛ فيجب فيه الإتباع، وكذلك فعلت سودة. فإن قيل: هذه الهبة ليست هبة على الحقيقة، وإنما هي إسقاط حق لها على الزوج، تركته لمعينة؛ فكان يتجه ألَّا يختص بها، ويكون لجميع الزوجات؛ كما لو أسقط أحد الشركاء شفعته وجعلها لشريك آخر؛ فإنها تسقط، وتثبت لجميع الشركاء؛ هكذا أورده مجلي. قلت: وحديث سودة واقعة حال يتطرق إليها احتمال: أن بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم رضين بذلك، فيسقط الاستدلال [به. وأجيب: بأن ضرر الشفعة لا يتبعض؛ فلذلك ثبت حق الأخذ] [للباقين]، وهنا كل واحدة منهن متميزة عن الأخرى؛ فصح التخصيص بها؛ إذ لا ضرر على الباقيات؛ وهذا كما نقول في المتحجر إذا نقل ما تحجره إلى غيره: كان أحق به ممن سواه؛ لما ذكرناه من عدم الضرر، بخلاف الشفعة. أما إذا لم يرض الزوج، وأراد أن يبيت عند الواهبة، فله ذلك؛ لأنها لا تملك إسقاط حق مُسْتَمْتَعِهِ. ولا فرق بين أن تكون الواهبة حرة، أو أمة، أذن لها السيد، أو لم يأذن؛ لأن الحق لها دون السيد. وإذا تمت الهبة فإن كانت ليلة الواهبة تلي ليلة الموهوبة، بات عندها ليلتين متواليتين، وإن لم تكن تليها، فوجهان: أحدهما: أنه يضم ليلة الواهبة إلى ليلة الموهوب لها، ولا يفرق بينهما؛ لأنه أسهل عليه، والمقدار لا يختلف. قال الرافعي: وقياس هذا: أنه إذا كانت ليلة [الواهبة] أسبق، وبات فيها عند

الموهوبة، يجوز أن يقدم ليلتها، ويبيت عندها الليلة الثانية أيضاً. وأصحهما- وهو المذكور في التهذيب-: أنه يبيت عند الموهوبة الليلة التي كانت للواهبة. قلت: وهذا إنما يتجه إذا كانت نوبة الواهبة متأخرة، أما إذا كانت متقدمة، وأراد أن يؤخرها؛ ليجمع بين الليلتين؛ فيتجه القطع بالجواز، وإليه يرشد ما علل به صاحب الشامل والتتمة؛ حيث قالا في الرد على صاحب الوجه الأول: لأن ذلك يتضمن تأخير حق غيرها. قال: وإن وهبت للزوج، جعله لمن شاء منهن؛ لأنها جعلت الحق له؛ فيجعله لمن شاء، فإذا جعله لواحدة؛ نظر: هل كانت ليلتها تلي ليلة الواهبة [أم لا تليها]؟، ويكون الحكم كما تقدم. وقيل: ليس له التخصيص، وهو ما أجاب به أبو الحسن العبادي، وبه قطع الصيدلاني جوابه؛ نقلاً عن القفال؛ لما في ذلك من إظهار الميل المورث للوحشة، والحقد؛ فيجعل الواهبة كالمعدومة، ويسوي بين الباقيات، فإن كن أربعاً، فوهبت واحدة حقهامنه- قسم بين الثلاث، وأخرجت الواهبة عن الاعتبار. وفي التتمة على هذا الوجه: أنه يقسم الليلة عليهن، فيبيت عند كل واحدة منهن ساعة، أو لا يبيت عند واحدة [منهن] أصلاً، أو يختص بها في كل دور واحدة منهن. وأشار الإمام والغزالي إلى أن محل الخلاف فيما إذا قالت: وهبت [منك؛ فخصص من شئت، وأن الظاهر أنه ليس له التخصيص. أما إذا قالت: وهبت منك] مطلقاً، فقد صارت كالمعدومة؛ فيسوي بين الباقيات. قال: فإن رجعت في الهبة؛ عادت إلى الدور من يوم الرجوع- أي: إذا علم الزوج برجوعها- ولا ترجع فيما مضى؛ لأن ما مضى قد اتصل به القبض، وما يتجدد لم يتصل به القبض. أما إذا لم يعلم الزوج بالرجوع، ومضت نوبٌ، فلا تستحق قضاء ما فات

من نوبها قبل العلم؛ كما لو أباح إنسان ثمار بستانه لإنسان، ثم رجع، فما أتلفه بعد الرجوع، وقبل العلم، لا ضمان عليه فيه؛ فكذلك ها هنا. وقال الشيخ أبو محمد: يخرج على القولين في عزل الوكيل قبل أن يبلغه العزل. قال الإمام: واشتراط ظهور الخبر أغوص وأفقه. واعلم: أن المراد من قول الشيخ: "يوم الرجوع"، أي: وقت الرجوع، ليلاً كان أو نهاراً. قال: وعماد القسم الليل لمن معيشته بالنهار؛ لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} [النبأ: 10] قيل في تفسيرها: الإيواء إلى المساكن، ويكون النهار تابعاً لليل؛ لأن سودة وهبت يومها لعائشة، واليوم اسم للنهار، ويتبع الليلة الماضية، فإن جعل النهار مضافاً إلى الليل الذي يتعقبه، جاز. وأما من معيشته بالليل: كالأَتُونِيِّ والحارس، فإن عماد القسم في حقه النهار، ويكون الليل تابعاً له؛ لأن نهار كَليْل غيره. وهذا كله في المقيم. أما المسافر الذي معه زوجاته: فعماد القسم في حقه وقت النزول ليلاً كان أو نهاراً، قليلاً كان أو كثيراً؛ لأن الخلوة حينئذ تتأتى؛ قاله في التهذيب. فرع: لو كان الرجل يعمل تارة بالليل، ويستريح بالنهار، ويعمل أخرى بالنهار، ويستريح بالليل، فقد حكى الحناطي فيه وجهين في أنه هل يجوز أن يبدل الليل بالنهار؛ بأن يكون لواحدة ليلة تابعة ونهار متبوع، ولأخرى ليلة متبوعة ونهار تابع؟ قال: فإن دخل بالنهار- أي: من عمادُ القسمِ في حقه الليلُ- إلى غير المقسوم لها؛ لحاجة- جاز؛ لما روى عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: "مَا كَانَ يَوْمٌ أَوْ أَقَلُّ إِلَّا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعاً، فَيُقَبِّلُ وَيَلْمِسُ، فَإِذَا جَاءَ إِلَى الَّتِي هِيَ نَوْبَتُهَا أَقَامَ عِنْدَهَا".

والحاجة مثل الزيارة، وتعهد الخبر، وتسليم النفقة، ووضع المتاع وأخذه. وينبغي ألَّا يطيل المقام، ولا يعتاد الدخول على واحدة في نوبة الأخريات؛ هكذا حكاه الرافعي، ومقتضاه: أنه إذا فعله لا إثم عليه فيه، ولا قضاء. وفي المهذب: أنه يجب [عليه] القضاء إذا أطال؛ لأنه يزيل الإيواء المقصود. وفي الذخائر: أن من أصحابنا من قال: حكم النهار حمك الليل؛ فلا يجوز الدخول إلا لضرورة؛ لأنها استحقته بالقسم. والأول هو الظاهر من لفظ الشافعي؛ للحديث. ولا يجوز في أوقات الدخول للحاجة أن يجامع، وفي سائر الاستمتاع وجهان: أظهرهما- وهو ما جزم به في المهذب-: أنه يجوز؛ للحديث. وفي كتاب ابن كج وجه: أنه يجوز الجماع أيضاً. والمذهب الأول. فلو وطئ، فهل يجب عليه القضاء؟ فيه وجهان: أحدهما: [أنه] يجب عليه أن يخرج في نهار الموطوءة، ويطأها؛ [لأنه العدل]. قال: وإن دخل لغير حاجة، لم يجز؛ لما فيه من إبطال حق صاحبة القسم من غير حاجة. وفي الذخائر: أن من أصحابنا من قال: إنه يجوز، والحرج مرفوع، إلا أنه لا يطيل القعود، واستدل بحديث عائشة. قال: فإن خالف، وأقام عندها يوماً، أو بعض يوم، لزمه قضاؤه للمقسوم لها؛ لأنه ترك الإيواء المقصود. وقيل: لا يقضي؛ لأن النهار تابع. قال: وإن دخل بالليل، لم يجز إلا لضرورة؛ لأن ذلك هو حق صاحبة القسم. ومن الأصحاب من جوز الدخول [للحاجة]، والظاهر الأول. والضرورة مثل أن تكون منزولاً بها؛ فتحتاج إلى أن يحضرها، أو توصي إليه، أو تموت فتحتاج [إلى تجهيزها]؛ كذا حكاه ابن الصباغ.

ومثَّل الشيخ أبو حامد [الضرورة] بالمرض الشديد، ويقرب منه ما نقله الغزالي في "الوجيز" أنه لا يدخل على الضرة إلا لمرض مخوف. وقال في "الوسيط": "أما المرض الذي يمكن أن يكون مخوفاً، فيدخل؛ ليتبين الحال". وفي وجه: لا يدخل إلا إذا تحقق أنه مخوف. وفي ابن يونس: "أن الضرورة: كما إذا أكرهه السلطان، أو مرض، وخاف أن يموت بغير وصية". وكل ذلك متقارب. قال: فإن دخل- أي: لغير ضرورة- وأطال، قضى؛ لما بيناه. وهل يقضي إذا كان الدخول طويلاً؛ لضرورة؟ فيه وجهان: المذكور منهما في المهذب والشامل والتتمة: [وجوب] القضاء من نوبة المدخول إليها. أما إذا لم يطل، فلا قضاء؛ لأنه لا فائدة لصاحبة القسم في دخوله الزمان اليسير، لكنه يعصي. وقدر القاضي الحسين تقدير القدر المقضي بثلث الليل، والصحيح أنه لا يتقدر. قال: وإن دخل، وجامعها، وخرج- أي: في لحظة يسيرة- فقد قيل: لا يقضي؛ لأن الوطء غير مستحق، وقدره من الزمان لا يضبط؛ فسقط، وإن ضبط فيسير. قال: وقيل: يقضي بليلة؛ لأن الجماع معظم المقصود، وقد أفسده؛ لأنه يلحقه بعده فتور؛ فلم يكمل السكن والاستمتاع المقصود [بالقسم]. قال: وقيل: يقضي، بأن يدخل في نوبة الموطوءة فيجامع كما جامعها؛ تسوية بينهما. فرع: إذا مرضت واحدة من النسوة، أو ضربها الطلق، فإن كان لها متعهد لم يبت عندها إلا في نوبتها، ويراعى القسم، وإن لم يكن لها متعهد، فله أن يبيت عندها، ويمرضها، وله أن يديم البيتوتة عندها [ليالي]، بحسب الحاجة،

ثم يقضي للباقيات إن برأت، وإن ماتت، تعذر القضاء، وفي القضاء لا يبيت عند كل واحدة من الأخريات جميع تلك الليالي ولاء، بل لا يزيد على ثلاث ليال؛ وهكذا يدور حتى يتم القضاء؛ كذا نقله صاحب التهذيب. وفي الذخائر حكاية وجه: أنه لا قضاء؛ لأنها إقامة بعذر؛ فهي كالسفر، وأنه إذا كان المرض مخوفاً، [ووجدت ممرضاً، أو غير مخوف] ولم تجد ممرضاً، فهل يجوز الخروج إليها بسبب ذلك؟ فيه وجهان. وقد تقدم الكلام في [زمن القسم] أما مكانه، فإن لم ينفرد الزوج بمسكن واحد، ودار عليهن [في مساكنهن] فذاك، وإن انفرد بمسكن، فيتخير بين المضي وبين أن يدعوهن إلى مسكنه في بيوتهن، وعليهن الإجابة، فمن امتنعت منهن فهي ناشزة، والأول أولى؛ كي لا يحوجهن إلى الخروج. وهل له أن يدعو بعضهن إلى مسكنه، ويمضي إلى مسكن بعضهن؟ فيه وجهان، وقيل: قولان: أحدهما: [نعم، وبه أجاب] الشيخ أبو حامد وغيره من العراقيين. وأقواهما- وبه أجاب في التهذيب، وأبو الفرج-: المنع؛ لما فيه من التخصيص والتفضيل. ثم الوجهان فيما إذا لم يكن للتخصيص عذر، فإن كان؛ كما إذا كان مسكن إحداهما أقرب إليه؛ [فيمضي إليها] ويدعو الأخرى؛ ليخفف عن نفسه مؤنة السير، فعليها الإجابة؛ وكذا لو كانت تحته عجوز وشابة، فخص بيت الشابة؛ لكراهة خروجها، ودعا العجوز- يلزمها [الإجابة، وإن أبت، بطل حقها. ولو أقام عند واحدة، ودعا الباقيات إلى بيتها، لم يلزمهن الإجابة]. وأما من يستحق عليه القسم، فهو كل زوج عاقل، مراهقاً [كان] أو بالغاً، رشيداً كان أو سفيهاً، فإن وقع جور من المراهق أو السفيه، فالإثم في المراهق على الولي، وفي السفيه عليه.

وأما المجنون، فإن كان لا يؤمن منه، فلا قسم، وإن أمن منه، فإن كان قد قسم لبعض نسائه، ثم جن، فعلى الولي أن يطوف به على الباقيات. قال في "التتمة": وذلك [إذا] طلبن، فإن أردن التأخير إلى أن يفيق، فلهن ذلك. وإن لم يكن عليه شيءمن القسم؛ بأن كان مُعْرِضاً عنهن، أو جُنَّ بعد النوبة، فإن رُئي منه الميل إلى النساء، أو قال أهل الخبرة: إن غشيان النساء ينفعه؛ [فعلى الولي] أني طوف [به عليهن، أو يدعوهن إلى منزله]، أو يطوف على بعضهن، ويدعو [بعضهن] كما يرى. وإن لم ير منه ميلاً؛ فليس عليه أن يطوف [به]. وفي "الإبانة" وجه: أن حق القسم يبطل بالجنون؛ هذا كله في المجنون المطبق. فإن كان يجن ويفيق؛ فإن انضبط، فَيُسرَّح أيام الجنون، ويقسم في أيام الإفاقة. ولو أقام في مدة الجنون عند واحدة، فلا قضاء، ولا اعتداد به؛ هكذا ذكره في التهذيب. وحكى أبو الفرج وجهاً: أنه إن أقام في الجنون عند بعضهن، قضى للباقيات. وفي التتمة: أنه يراعى القسم في أيام الإفاقة، والولي يراعيه في أيام الجنون، ويكون لكل واحدة نوبة من هذه، ونوبة من هذه، فإن لم ينضبط وقسم الولي لواحدة في الجنون، وأفاق في نوبة الأخرى، قال الإمام والغزاليك يقضي ما جرى في الجنون؛ لما كان فيه من النقصان. قال الإمام: ويجوز أن يقال: إن لم ترض بإقامته عندها، وانتظرت الإفاقة، فلها ذلك، وإن أقامت عنده فهو بمثابة الرضا بالعيب. قال: وإن تزوج امرأة، وعنده امرأتان قد قسم لهما، قطع الدور للجديدة؛ إذ لا يمكن تخصيص القديمتين بالمعاشرة، فإن كانت بكراً أقام عندها سبعاً، ولا يقضي؛ لما روي عن أنس أنه قال: "مِنَ السُّنَّةِ: أَنْ يَقْسِمَ عِنْدَ الْبِكْرِ، إِذَا تَزَوَّجَهَا

عَلَى الثَّيِّبِ سَبْعاً، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَرْفَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَرَفَعْتُهُ". وفي "التتمة": أنه مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وإن كانت ثيباً، فهو بالخيار بين أن يقيم عندها سبعاً [ويقضي، وبين أن يقيم عندها ثلاثاً] ولا يقضي؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة: "إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ، وسَبَّعْتُ عِنْدَهُنَّ، وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ عِنْدَكِ، وَدُرْتُ [عَلَيْهِنَّ] ". ولا فرق في ذلك بين الحرة والأمة، وفي الأمة وجه إذا نكحها العبد على حرة: أنها تستحق شطر القسم، ويكمل الكسر. وقيل: لا يكمل، وهو المذكور في "التهذيب"، و"النهاية". والاعتبار بحالة الزفاف، حتى لو عتقت قبل الزفاف، وبعد العقد، فلها حق الحرائر، وإن عتقت بعد الزفاف، فحق الإماء. وفي "التهذيب": أنه يحتمل أنه يقال: إذا عتقت في المدة، فلها حق الحرائر. وهل إقامة الزوج السبع عند البكر، والثلاث عند الثيب واجب؟ حكى الحناطي فيه قولين، [الموفاق] لإيراد الجمهور منهما: الوجوب. ويوالي بين الثلاث أو السبع؛ لأن المقصود بذلك الإلف والأنس وزوال الحشمة، وذلك لا يحصل عند التفريق. فلو فرق؛ ففي الاحتساب به وجهان، والظاهر من كلام الأكثرين المنع؛ فيوفيها حقها على التوالي، ويقضي ما فرق للأخريات. ولو خرج بعذر، أو أُخْرِجَ، فيقضي عند التمكُّن. ولا فرق بين أن تكون ثيابة الجديدة بالنكاح أو [بالزنى أو بالشبهة]، ولو حصلت بمرض، فعلى الوجهين في اشتراط استنطاقها؛ كذا قاله الرافعي،

ومقتضاه: أن التي ثابت بالزنى، يكون حكمها حكم البكر على الصحيح، كما تقدم في الاستنطاق. وإذا أقام عند الثيب سبعاً؛ ففيما يقضيه وجهان، في "المهذب": أحدهما: السبع؛ للحديث. والثاني: ما زاد على الثلاث. وفي الوسيط وغيره: أنه إن أقام باختياره من غير سؤالها، فلا خلاف أنه لا يبطل حقها من الثلاث، وإن كان بسؤالها؛ قضى السبع، وعليه يدل حديث أم سلمة. ولو التمست منه إقامة ما فوق الثلاث، ودون السبع، لم يقض إلا ما زاد على الثلاث؛ لأنها لم تطمع في الحق المشروع لغيرها، وهو المعلل به وجوب قضاء السبع مع الحديث. وقال الغزالي: يحتمل أن يقضي، وليس ببعيد عندي أن يكون قضاء السبع معللاً بحسم باب التحكم والاقتراح عليه، وحكم البكر إذا طلبت زيادة على السبع كذلك. فرعان: أحدهما: إذا كان قد قسم لإحدى القديمتين يوماً، ثم دخل بالجديدة، قضاها حقها، ويقسم للتي لم يقضها حقها ليلة: نصفها من حق الضرة القديمة، والنصف من حق الجديدة، فيقضي للجديدة نصف ليلة، ثم بعد ذلك يستأنف القسم بينهن على السوية؛ قاله ابن الصباغ والمتولي.

الثاني: إذا كان له ثلاث نسوة، فطلق واحدة منهن، ثم راجعها؛ فلا حق لها إن كان قد قضاها حق العقد، وإلا فيقضيه، أو ما بقي منه، وإن جدد نكاحها بعد البينونة؛ فهل يجب لها حق العقد؟ فيه قولان، أو وجهان؛ أصحهما: أنه يجب. ويجري الخلاف فيما لو أعتق مستولدته، أو أمته التي هي فراشه، ثم نكحها. ولا خلاف في أنه لو أبانها [قبل أن يوفيها حقها، ثم جدد نكاحها، يلزمه التوفية. ولو أقام عند البكر ثلاثاً وافتضَّها، ثم أبانها] ثم جدد نكاحها، فإن قلنا: يتجدد حق الزفاف، فيبيت عندها [ثلاث ليال؛ فإنه حق الزفاف. وإن قلنا: لا يتجدد حق الزفاف، فيبيت عندها] أربعاً؛ لأنها بقيت من [حق] العقد [الأول]. قال: ويجوز أن يخرج بالنهار، لقضاء الحاجات، وقضاء الحقوق؛ للحاجة إلى ذلك، ولأن العماد في القسم المستدام الليل دون النهار، فكذلك في القسم المشروع للجديدة، ويكون النهار تبعاً لليل. قال: وإن تزوج امرأتين، وزفتا إليه في مكان واحد؛ أقرع بينهما لحق العقد. الزفاف، والزفيف: حمل العروس إلى زوجها، يقال: زف العروس يزفها- بضم الزاي- زفافاً، وزفّاً، وأزفها، وازدفها: بمعنى واحد. وإنما أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى؛ فرجح بالقرعة، فإذا خرجت [القرعة] لإحداهما قدمها بجميع السبع، أو الثلاث، وحكى القاضي ابن كج [وجهاً]: أنه يقدمها بليلة، ثم يبيت عند الأخرى ليلة، وهكذا يفعل إلى تمام المدة. وفي الجيلي حكاية عن البحر: أن هذا إذا تزوجهما بعقد واحد، أما إذا تقدم عقد إحداهما، قدمها في القسم، وادعى أنه الأصح؛ لأن العقد سبب الاستحقاق، وقد تقدم. قلت: ويتجه مع أتحاد العقد والزفاف أن يقدم واحدة بغير قرعة؛ كما تقدم ذكره في ابتداء القسم. واعلم أن لفظة زمان واحد أولى من مكان واحد؛ إذ [به الاعتبار].

فرع: لو نكح امرأتين، وليس عنده امرأة أخرى؛ ففي ثبوت حق الزفاف وجهان: أظهرهما: أنه يثبت. والثاني: أنهما إن كانتا بكرين أو ثيبين؛ لم يثبت، فإن أراد أن يبيت عند واحدة منهما، فعليه التسوية. [وإن كانت إحداهما بكراً، والأخرى ثيباً؛ فيخص البكر بأربع ليال، ثم يسوي]. قال: فإن أراد سفراً- أي: قبل القسم- فأقرع بينهن، فخرج السهم لإحدى الجديدتين، سافر بها؛ لما تقدم. ويدخل حق العقد في قسم السفر؛ لأن المقصود بزيادة المقام مع الجديدة زوال الحشمة، وحصول الأنس، وقد حصل ذلك في السفر. وفي الجيلي حكاية وجه: أنه إذا حضر يقضي لها حقها، ومقتضاه: أنه لا يدخل في قسم السفر. قال: فإن رجع قضى حق العقد للأخرى، ويحكي ذلك عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة، وهو الأظهر؛ لأنه حق ثبت قبل المسافرة؛ فلا يسقط بالسفر؛ كما لو قسم لبعض نسائه دون بعض، وسافر؛ فإنه يقضي بعد الرجوع لمن لم يقسم لها. قال: وقيلك لا يقضي، ويحكى عن ابن سريج؛ كما لو سافر بإحدى القديمتين لا يقضي للأخرى. ولأن حق الجديدة يتعلق بأول الزفاف، وقد مضى؛ كذا ذكره الرافعي؛ وهذه العلة موجودة في المسألة الأولى، ولم يخالف ابن سريج فيها. فرعان: أحدهما: لو كانتا بكرين، فرجع بعد ثلاثة أيام، قال القاضي ابن كج: على الوجه الأول يتم لها السبع، [ثم يوفي للأخرى سبعاً. وعلى المنسوب لابن سريج: يتم لها السبع] ويبيت عند الأخرى أربعاً، ويبطل ما جرى في السفر.

الثاني: لو خرج السهم لإحدى القديمتين، وسافر بها؛ وفَّى عند الرجوع حق الجديتين، نص عليه. قال الرافعي: ويجيء فيه الوجه الآخر. قال: وإن كان له امرأتان، فقسم لإحداهما، ثم طلق الأخرى- أي: طلاقاً بائناً- قبل أن يقضي لها- أثم- لمنعه حقها. قلت: ويتجه هذا أن يكون فيما إذا طلقها بغير سؤالها، أما إذا كان الطلاق بسؤالها، فيتجه ألَّا يحكم بالإثم، كما قيل في الطلاق في زمن الحيض على رأي. قال: وإن تزوجها- أي: وتلك في نكاحه- لزمه أن يقضي لها حقها؛ لتمكنه من إيفائه كما لو كان الطلاق رجعيّاً. وقيل: لا يلزمه القضاء؛ لأن سبب الاستحقاق قد زال. أما إذا لم تكن تلك في نكاحه؛ فقد تعذر القضاء؛ لأنه إنما يكون من نوبة التي ظلم بسببها. ولو لم يفارق المظلومة، وفارق التي ظلم بسببها، ثم عادت إلى نكاحه، أو فارقهما، ثم عادتا إلى نكاحه- اشتغل بالقضاء. ويجيء في عودهما بالنكاح الجديد الخلاف السابق. فرع: لو فارق [المظلوم بسببها، وأبقى المظلومة فردة، قال الغزالي: يتجه أن يقضي لها الليالي] التي ظلمها بهن، وإن كنا لا نوجب الإقامة عند الفردة؛ لأنه حق استقر لها؛ فلا يسقط ببينونة غيرها. قال: ولم أر المسألة مسطورة. قال: ومن ملك إماء، لم يلزمه أن يقسم لهن- أي: ابتداء- وإذا وطئ واحدة منهن، لا يلزمه القسم للباقيات. أما في الأولى؛ فلأنه إذا لم يجب للزوجات، ولهن حق [في مستمتع الزوج؛ بدليل الإيلاء، وثبوت الخيار بالجب والعنة؛ فَلِئَلَّا يثبت للإماء، ولا حق لهن] في مستمتعه؛ كان أولى. وأما في الثانية؛ فلقوله تعالى [: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فأشعر ذلك بأنه لا يجب العدل في ملك اليمين.

قال: والمستحب ألا يعطلهن؛ [حذراً من وقوعهن] في الفجور، وأني سوي بينهن؛ حذراً من إيغار صدورهن. وحكم المستولدة حكم الأمة. فرع: لو كان تحته زوجات وإماء، وأقام عند الإماء؛ لم يلزمه [القضاء] للزوجات، وهل له أن يسافر بواحدة من الإماء- والصور هذه- من غير قرعة؟ فيه وجهان، حكاهما الحناطي، ونسب المنع إلى ابن أبي هريرة، والجواز إلى أبي إسحاق، وهو قياس أصل القسم. قال: وإذا ظهر [له] من المرأة أمارات النشوز: إما بالقول، مثل: أن كانت عادتها إذا دعاها إلى فراشه إجابته بالتلبية، ثم صارت لا تلبيه، أو تجيبه بالكلام الخشن والقبيح بعدما عهد منها خلاف ذلك. وإما بالفعل، مثل أن يجد منها إعراضاً، وكراهة، وعبوسة بعدما عهد التلطف [و] طلاقة الوجه. قال: وعظها بالكلام، مثل: أن يقول لها: ما الذي منعك عما ألفته منك؟ اتق الله؛ فإن حقي واجب عليك، وطاعتي عليك فرض، فاحذري العقوبة. ويبين لها أن النشوز يسقط النفقة، والكسوة، والقسم، والمسكن؛ لقوله تعالى: [{وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] ولا يهجرها، ولا يضربها؛ لجواز ألَّا يكون نشوزاً، فلعلها تبدي عذراً، أو تتوب، وحَسَنٌ أن يبرها، ويستميل قلبها ما تيسر له. قال: وإن ظهر منها النشوز، مثل: أن دعاها إلى الفراش فامتنعت عليه؛ بحيث يحتاج في ردها إلى الطاعة إلى تعب، لا امتناع دلال، أو خرجت

من منزله، أو ما جانس ذلك، وليس من النشوز الشتم، وبذاءة اللسان، لكنها تستحق التأديب، وهل يؤدبها [الزوج] أو يرفع الأمر إلى القاضي؟ فيه خلاف، [والذي أورده صاحب "الكافي" في باب "حد الخمر" أن للزوج ذلك عند عضل شيء واجب عليها]. قال: وتكرر منها- هجرَها في الفراش دون الكلام، وضربها ضرباً غير مبرح؛ أي: غير شاق وشديد الألم؛ لقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34]، وفي عدد الضرب وجهان: أحدهما: دون الأربعين. والثاني: دون العشرين. وهل هجرانها في الكلام محرم، أو مكروه؟ فيه وجهان منقولان فيما علق عن الإمام، قال: والذي عندي: أنه لا يحرم الامتناع من الكلام أبداً، نعم: إذا كلم فعليه أن يجيب، وهو بمثابة ابتداء السلام، والجواب عنه. وفي الذخائر: أن المذهب: أنه لا يجوز. ومحل الخلاف فيما فوق الثلاث، أما الثلاث فما دونها فلا يحرم قولاً واحداً. قال: وإن ظهر ذلك مرة واحدة؛ ففيه قولان: أحدهما: يهجرها، ولا يضربها، وهو نصه في الأم، ورجحه الشيخ أبو حامد والمحاملي؛ لأن جنايتها لم تتأكد؛ وقد يكون ما جرى لعارض قريب الزوال؛ فلا يحتاج إلى التأديب بالإيلام؛ فعلى هذا يصير معنى الآية: فعظوهن إن رأيتم أمارات النشوز، واهجروهن إن امتنعن، واضربوهن إن أصررن، وتكون صيغة الخطاب- وإن كان ظاهره التخيير- مرتباً على اختلاف الأحوال، [كقوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ...} الآية [المائدة: 33]، والعقوبات فيها ترتيب على اختلاف الأحوال]. قال: والثاني: يهجرها، ويضربها، وهو الأصح عند الشيخ في المهذب، وابن الصباغ؛ لحصول النشوز؛ كما لو أصرَّت عليه، ومن قال بهذا القول قال: الخوف في الآية بمعنى العلم؛ كقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} [البقرة: 82]، فإذا علم النشوز، حل له الوعظ، والمهاجرة، والضرب جميعاً؛ فأوَّل

الخوف، واستغنى عن الامتحان؛ هذه هي الطريقة المقيدة في المراتب الثلاث، وعليها الاعتماد. ونقل ابن كج: أنه إن ظهر النشوز؛ فللزوج الوعظ والهجران، يجمع بينهما ويفرق بحسب اجتهاده، فإن خاف النشوز، فقولان: أحدهما: أن الجواب كذلك. والثاني: أنه لا يزيد على الوعظ. ونقل الحناطي نحواً منه في حالة الخوف، وفي حالة النشوز ثلاثة أقوال: أحدها: أن له الجمع بين الوعظ والهجران والضرب. والثاني: يتخير بينها ولا يجمع. والثالث: [أن] الأمر على الترتيب؛ فيعظ أولاً، فإن لم تتعظ هجرها، فإن لم تنزجر ضربها. وفي الذخائر حكاية عن الحاوي: أنه إذا خاف النشوز وعظها، وهل له أن يهجرها؟ فيه وجهان. وإن ظهر منها النشوز، فله وعظها وهجرها، وهل له ضربها؟ فيه قولان. فإن أقامت على النشوز، فله وعظها وهجرها وضربها. وحكى الغزالي الخلاف في الجمع والترتيب عند حصول النشوز. فرع: قال في الذخائر: قال بعض أصحابنا: وإنما يجوز الأدب إذا علم أن الضرب يصلحها، أو ظنه، فإن [علم من] عادتها إصرارها مع الضرب المبرح المخوف؛ فلا يجوز له الإقدام على الضرب. قلت: هذا ما حكاه الإمام عن المحققين عند الكلام في التقريرات؛ حيث قال: قالوا: إذا كان التأديب لا يحصل إلا بالضرب المبرح؛ فلا يجوز الضرب الذي لا يبرح أيضاً؛ فإنه عرى عن الفائدة. قال: وإن منع الزوج حقها، أسكنها الحاكم إلى جنب ثقة، ينظر إليها، ويلزم- أي: الحاكم- الزوج الخروج من حقها؛ [لأنه لما لم يكن للمرأة سلطان على الزوج وإجباره على الخروج من حقها]؛ لضعفها، شرع ذلك؛ طريقاً للخلاص، بخلاف نشوزها؛ فإن الشرع أثبت للزوج إجبارها على إيفائها حقه؛ لقوته.

ولو كان الزوج سيِّء الخلق عليها، ويضربها بلا سبب؛ ففي التتمة: أن الحاكم ينهاه، فإن عاد عزَّره. وفي الشامل وغيره: أنه يسكنها إلى جنب ثقة يطلع على حالهما، ويمنعه من التعدي. وفي الوسيط: أنه لا سبيل إلى الحيلولة حتى يعود إلى حسن المعاشرة، ولا يعول في ذلك على قوله، وإنما يعول على قولها، وعلى قرائن أحواله، وشهادات تدل عليه. ولو كان الزوج لا يمنعها شيئاً من حقها، ولا يؤذيها بضرب ونحوه، ولكنه يكره صحبتها؛ لمرض أو كبر، ولا يدعوها إلى فراشه، أو يهم بطلاقها- فلا شيء لها، وحسن أن تسترضيه بترك بعض حقها من القسم والنفقة؛ كما فعلت سودة؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً .....} [النساء: 128]. قال: وإن ادعى كل واحد منهما على صاحبه الظلم والعدوان، أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة؛ ينظر في أمرهما، ويمنع الظالم منهما [من] الظلم، أي: ينظر الثقة إليهما، ويعرِّفُ الحاكم، ثم الحاكم يمنع الظالم. قال: فإن بلغا إلى الشتم والضرب، بعث الحاكم حرين عدلين، والأولى أن يكونا من أهلهما؛ [لينظرا] لأنهما أعلم ببواطن أمورهما، ويفعلا ما فيه المصلحة من الإصلاح أو التفريق؛ لقوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا ....} [النساء: 35]. وهل يكون بعث الحكمين واجباً؟ لفظ صاحب التهذيب: أن على الحاكم أن يبعث حكمين، وهو يشعر بالوجوب. وقال الروياني في الحلية: إنه يستحب للحاكم أن يبعث الحكمين.

وإنما لم تشترط القرابة وإن كان ظاهر الآية يدل عليها؛ لأنها لا تشترط في الحاكم ولا في الوكيل. وفيما علق عن الإمام: أنه يشترط أن يكون المبعوثان من أهلهما؛ لظاهر الآية. وفي النهاية أنه لا يشترط إجماعاً، [والله أعلم]. قال: وهما وكيلان لهما في أحد القولين، وهو الأصح في التهذيب، والمنصوص عليه في أكثر الكتب على ما حكاه في الذخائر، والأقيس في النهاية؛ لأن البضع حق الزوج، والمال حق الزوجة، وهما رشيدان؛ فلا يولى عليهما. ولأن الطلاق لا يدخل تحت الولاية، ولا يرد على ذلك المولى؛ فإنه خارج عن القياس؛ فعلى هذا لابد من رضاهما؛ فيوكل الزوج حكماً في الطلاق، وقبول العوض، وتوكل المرأة حكماً في ترك العوض، فلو لم يوكلا، فليس لهما إلا البحث عن محل اللبس؛ حتى يتبين للقاضي الظالمُ منهما من المظلوم، [ثم] يُمضي حكمه في الإنصاف. قال: وهما حكمان من جهة الحاكم في القول الآخر؛ فيجعل الحاكم إليهما الإصلاح أو التفريق من غير رضا الزوجين، وهو الأصح؛ لأن الله- تعالى- سماهما: حكمين، والحكم من يحتكم، ولا امتناع أن يثبت على الرشيد الولاية عند امتناعه من أداء الحقوق؛ كالمفلس، والمولَّى [عليه]. وأيضاً: ما روي عن علي [كرم الله وجهه- أنه] بعث حكمين، وقال: أتدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تفرقا: أن تفرقا، وإن رأيتما أن تجمعا: أن تجمعا، فقال الزوج: وأما الطلاق فلا، فقال علي: كذبت، لا والله، لا نبرح حتى ترضى بكتاب الله لك وعليك، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي). وبنبغي أن يخلو كل واحد من الحكمين بأحد الزوجين، ويأخذ ما عنده، ثم يجتمعان، ويتشاوران، ثم يفعلان ما يؤدي إليه اجتهادهما، فإن رأى حكم الرجل أن يطلق طلق، [واستقل به] ولا يزيد على طلقة، ولكن إن راجع الزوج، ودام الشقاق، زاد إلى أن يستوفي [الطلقات] الثلاث.

وإن رأى الخلع، وساعده حكم المرأة، تخالعا. وإن اختلف رأي الحكمين؛ بعث إليهما آخرين حتى يجتمعا على شيء. وفي كتاب الحناطي: أنه إذا رأى أحدهما الإصلاح، والآخر التفريق، ففرق، نفذ التفريق وإن جوزنا الاقتصار على واحد؛ ذكره الرافعي في آخر الباب. ووراء ما ذكره طريقة حكاها [القاضي] ابن كج عن أبي الطيب بن سلمة وابن سريج، وهي القطع بأن الفرقة لا تنفذ إلا برضا الزوجين. والقولانفي أنه هل يحتاج إلى رضاهما [في بعث الحكمين]. وعن أبي إسحاق طريقة قاطعة بأن بعث الحكمين لا يحتاج إلى إذنهما، [فلعله يؤثر في صلاح حالهما، والخلاف في نفوذ الفرقة بغير إذنهما،] وإيراد المتولي ينطبق على هذه الطريقة، ولو رأى الحكمان أن تترك المرأة بعض حقها من القسم، أو من النفقة؛ لم يلزم ذلك بلا خلاف. قال: فإن غاب الزوجان، أو أحدهما؛ لم ينقطع نظرهما؛ على القول الأول كغيرهما في الوكلاء. وينقطع على القول الثاني؛ لأن كل واحد منهما محكوم له وعليه، والقضاء للغائب لا يجوز. وفي الوسيط حكاية وجه: أن لهما- أيضاً- الحكم، وليس بشيء. ولو غلب على عقل أحدهما لم يُمضِ الحكمان بينهما شيئاً؛ أما على القول الأول؛ فلأن الوكالة تبطل بذلك، وأما على القول الثاني؛ فلأن الحكومة لا تجوز إلا مع بقاء الخصومة، وبالجنون والإغماء زال ذلك، وارتفع الشقاق. وفي شرح القاضي ابن كج: أنه لا يؤثر جنون أحد الزوجين على قولنا: إنهما حكمان. وحكى الحناطي وجهاً على قولنا: إنهما وكيلان- أن الإغماء لا يؤثر فيه؛ كالنوم. ويشترط على القول الثاني أن يكونا فقيهين؛ على الأصح.

وذهب بعض الأصحاب- على ما حكاه في الذخائر-: أنه لا يشترط؛ فإنه يعسر، ولا يشترط على القول الأول؛ كسائر الوكلاء. ولتعلمْ أن إطلاق الشيخ يقتضي أنه يشترط فيهما الحرية، والعدالة؛ على القولين معاً، وهو ما ذهب إليه الأكثرون؛ لأن الوكالة إذا تعلقت بنظر الحاكم؛ فلا بد أن يكون الوكيل [عدلاً]؛ كأمين الحاكم. وفي كتاب [القاضي] ابن كج: أنه لا يشترط العدالة على القول بأنه توكيل؛ كما في سائر الوكلاء، وهو قضية إيراد الغزالي في الوجيز؛ فإنه قال: وعلى هذا يشترط عدالهما؛ فأشعر بتخصيص [الاشتراط بالقول الثاني]. قال الرافعي: ويجري الخلاف في الحرية والإسلام، ولابد من الاهتداء إلى ما هو المقصود من بعثهما، ولابد من الذكورة؛ إن جعلناه تحكيماً، وإن جعلناه توكيلاً قال الحناطي: لا يشترط في حَكَمِ المرأة، وفي حكم الرجل وجهان؛ بناءً على أن المرأة هل توكل في الخلع؟ وهل يجوز الاقتصار على حكم واحد؟ فيه وجهان، أجاب القاضي ابن كج منهما بالمنع. قال الرافعي: ويشبه أن يقال: إن جعلناه تحكيماً؛ فلا يشترط العدد، وإن جعلناه توكيلاً؛ فيكون على الخلاف في تولي الواحد طرفي العقد. وفي النهاية: [أنا] إن جعلناه تحكيماً؛ ففي المسألة احتمال ظاهر، يجوز أن يتبع القرآن، ويجوز أن يحمل العدد على الاستحباب؛ بدليل اتصاله بوصف ليس مشروطاً، وهو قوله: {مِنْ أَهْلِهِ} و [{مِنْ أَهْلِهَا}].

باب الخلع

باب الخلع واشتقاقه من الخلع، وهو النزع. يقال: خلع فلان ثوبه: إذا نزعه. وهو في الشرع: مفارقة الزوجة على مال. وسمي: خلعاً؛ لأنه يخلع لباس المرأة من لباس الزوج؛ قال الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]. ويسمى هذا العقد افتداء- أيضاً- قال الله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. والأصل فيه من الكتاب هذه الآية. ومن السنة [ما روي] أنه صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم لصلاة الصبح، فرأى حبيبة بنت سهل الأنصارية على باب الحجرة، فقال: من هذه؟ فقالت حبيبة: لا أنا ولا ثابت، تريد: زوجها ثابت بن قيس، فلما دخل ثابت المسجد، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذِهِ حَبِيبَةُ تَذْكُرُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَذْكُرَ"، فقالت حبيبةُ: كُلُّ ما أعطانِيهِ عندي، فقال صلى الله عليه وسلم: "خُذْ مِنْهَا؛ فَأَخَذّ مِنْهَا، فَجَلَسَتْ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا". قال الإمام: وليس في حديث حبيبة رضا ثابت بالطلاق، ولا جريان لفظ المخالعة، ولا محمل له إلا ما ذكرناه في الحكمين. وفي التهذيب أنه صلى الله عليه وسلم قال لحبيبة: "أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ " قالت: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: "اقْبَلِ الحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً".

وفي الذخائر [أنه جاء في بعض الألفاظ] أنه صلى الله عليه وسلم قال لثابت: "خُذْ بَعْضَ مَالِهَا وَفَارِقْهَا"، فقال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال: "نَعَمْ"، قال: فإني أصدقتها حديقتين، وهما بيدها، فقال صلى الله عليه وسلم: "خُذْهُمَا، وَفَارِقْهَا؛ فَفَعَلَ"، أخرجه أبو داود. ويقال: إن هذا أول خُلْعٍ جرى في الإسلام. والإجماع منعقد على أصل الخلع. قال: ويصح الخلع من كل [زوج] بالغ عاقل- أي: مختار سواء كان الزوج مطلق التصرف، أو محجوراً عليه بالإذن وبدونه؛ لأنه يستقل بالطلاق مجاناً، فمع العوض أولى. ويقوم مقام الزوج وكيله في الخلع؛ كما يقوم مقامه إذا وكله في الطلاق. فرع: لو وكل [الزوج] وكيلاً في أن يطلق زوجته، فهل له أن يخالعها؟ إن قلنا: إن الخلع فسخ، لم يصح. وإن قلنا: إنه طلاق، أو كان بلفظ الطلاق، قال البوشنجي: إن كان بعد الدخول فيقطع بعدم النفوذ؛ لتفويته الرجعة على موكله، وإن كان قبل الدخول، أو كان المملوك له الطلقة الثالثة- ففيه خلاف. قال الرافعي: وقد يتوقف في بعض ذلك حكماً وتوجيهاً؛ حكاه قبيل الفصل الثاني في نسبة الخلع إلى المعاملات. وحكى قبيل الركن الخامس من الخلع عن فتاوى القفال: أنه لو وكل رجلاً بأن يطلق زوجته ثلاثاً، فطلقها واحدة بألف- تقع رجعية، ولا يثبت المال، وقضية هذا أن يقال: لو طلقها ثلاثاً بألف لا يثبت المال أيضاً، ولا يبعد أن يصار [إلى] ثبوته. قال: ويكره الخلع؛ لما فيه من قطع النكاح الذي هو مطلوب الشرع. وفي الذخائر: أنه غير مكروه، وإن ابتدآه من غير سبب، وأن من أصحابنا من قال: إن قلنا: إن الخلع طلاق، لم يبح إلا بسبب: من دفع ضرر، أو نحوه؛ وإن قلنا: إنه فسخ [أبيح] من غير سبب؛ كسائر الفسوخ، والمذهب الأول.

قال: إلا في حالين: أحدهما: أن يخافا- أو أحدهما- ألا يقيما حدد الله- أي: ما افترضه الله- في النكاح؛ لقوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَاخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. فإن قيل: ظاهر الآية يدل على الجواز عند وجود الخوف، وعلى العدم عند العدم، وقد قلتم بالجواز عند عدم الخوف لكن مع الكراهة. فالجواب: أن ذكر الخوف في الآية خرج مخرج الغالب؛ فإن الأعم [الغالب]: أن المخالعة إنما تقع في [حالة] التشاجر، ولأنه إذا جاز في هذه الحالة وهي مضطرة إلى بذل المال، فلأن يجوز في حالة الرضا كان أولى، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4]. ولأنه حل عقد بالتراضي جعل لدفع الضرر؛ فجاز من غير ضرر؛ كالإقالة في البيع. قال: والثاني: أن يحلف بالطلاق الثالث على فعل شيء لابد منه- أي: كالأكل، والشرب، وقضاء الحاجة، [ونحوها]- فيخالعها، ثم يفعل المحلوف عليه- أي: إذا أمكن فعله- ثم يزوجها؛ فلا يحنث؛ لكونه وسيلة إلى التخلص من وقوع الطلاق الثالث، وإنما لم يحنث إذا فعل في حال البينونة؛ لانحلال اليمين بالدخول؛ إذ لا تتناول إلا الدخلة الأولى، وقد حصلت. وقال الإصطخري- على ما حكاه الحناطي-: إنه يخرج على قولي عود الحنث. واعلم أن الجيلي- رضي الله عنه- ذكر في هذا الموضع كلامين يحتاج على تأملهما: أحدهما: أنه قسم الخلع إلى محظور، ومباح، ومكروه: وصور المحظور بما إذا كان يضربها، ويسقط حقها، ويؤذيها بأنواع الأذية؛ لتخالعه فإذا فعل ذلك، لم يصح بذلها، وإسقاطها. فإن أراد بذلك أن المحظور لا يكون إلا بمجموع الضرب وغيره، فليس

الأمر كذلك؛ فإنه متى وجد الضرب وحده، كان مستقلّاً بثبوت الحكم، وإن أراد أن كل واحدمن ذلك يفيد هذا الحمك، فالمتفق عليه في الطرق أن الضرب بغير حق يكون إكراهاً، وأما منع الحق: ففي الشامل: أن الشيخ أبا حامد ألحقه [بالضرب، وهو ما حكاه الشيخ في المهذب. وفي الرافعي أن الشيخ أبا حامد ألحقه] بما إذا ضربها تأديباً؛ فافتدت، والحكم فيه أنه يصح الخلع، وأنه إذا منعها بعض حقها حتى ضجرت وافتدت، فالخلع مكروه وإن كان نافذاً، والزوج مأثوم بما فعل. وفيه وجه: أن منعه حقها كالإكراه على الاختلاع بالضرب، وما في معناه. وفي الذخائر حكاية عن الحاوي: أنه إن منعها حق القسم مع قيامه بنفقتها؛ لتخالعه؛ فخالعته ففي صحة الخلع قولان، وإن منعها نفقتها، فلا يصح الخلع قولاً واحداً. ثم قال بعد ذلك- أعني: الجيلي-: ويقع طلاقه رجعيّاً إن كان بعد الدخول بها، وكذا قاله في المهذب؛ وفي هذا الإطلاق نظر؛ فإن منقول المذهب-[على] ما صرح به المتولي وغيره-: أن الحكم كما قالا مصور فيما إذا أكرهها حتى ابتدأت، وقالت: طلقني بألف، أو: خالعني، وقال الرجل في الجواب: أنت طالق، ولم يذكر المال. على أن [في] هذه الصورة- أيضاً- وجهاً: أنه لا يقع [الطلاق]. أما إذا قال الرجل: أنت طالق على ألف، فلا يقع الطلاق ما لم يوجد منها قبول؛ لأن قبوله لا حكم له. ثم إطلاق كون الخلع يكون محظوراً غير معقول على قاعدة الشافعي؛ فإن من قاعدته أن إطلاق لفظ العقود يقتضي الصحيح منها، إلا في مسألة الإذن للعبد في النكاح، وإذا كانت مكرهة على القبول، أو على الابتداء، فما وجد الخلع الصحيح، ومتى انتفت الصحة، لم تصدق التسمية؛ ولأجل ذلك لم

يذكر الشيخ هذا القسم. نعم: يتصور أن يكون محظوراً على رأي الشيخ أبي حامد؛ على ما حكاه الرافعي عنه، وعلى أحد الوجهين في منع حق القسم دون النفقة؛ كما تقدم ذكره. الثاني: [أنه] أخذ يناقش الشيخ في قوله: "أن يحلف بالطلاق على فعل شيء)، وقال: الأحسن أن يقول: على ألا يفعل شيئاً ولابد له منه"، وما قاله غير محتاج إليه؛ لأن المراد من الحلف هنا التعليق، وإذا كان كذلك؛ فيكون تقدير الكلام: أن يعلق طلاقها على فعل شيء لابد له منه، وقد استقام الكلام. فرع: لوزنت المرأة، فمنعها الزوج بعض حقها، فافتدت بمال، صح الخلع، وحل له أخذ [المال]، ولا يكون ما فعله حراماً، وعلى ذلك حمل قوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]. وفي المهذب حكاية قول: أنه لا يجوز، ولا يستحق فيه العوض. قال: فإن خالعها، ولم يفعل [الأمر] المحلوف عليه- أي: إما لتعذره؛ كما إذا حلف على الوطء، أو لا لتعذره- ففيه قولان: أصحهما: أنه يتخلص من الحنث، حتى إذا فعل المحلوف عليه بعد النكاح لا يحنث؛ لأنه تعليق سبق هذا النكاح؛ فلا يؤثر فيه؛ كما إذا علق طلاقها قبل أن ينكحها، ثم وجدت الصفة بعد النكاح. والقول الثاني: أنه لا يتخلص من الحنث؛ حتى إذا فعل المحلوف عليه في النكاح الثاني، حنث؛ لأن التعليق والصفة وجدا جميعاً في الملك، وتخلل البينونة لا يؤثر؛ لأنه ليس وقت الإيقاع، ولا وقت الوقوع، وسيأتي في آخر الشرط في الطلاق بقية الكلام في المسألة. قال: وإن كان الزوج سفيهاً، فخالع، صح خلعه- أي: سواء كان بمهر المثل، أو بدونه- لما ذكرناه، ووجب دفع المال إلى وليه؛ كسائر أمواله، فلو سلم إلى السفيه، فإن كان بإذن الولي، فهل يبرأ؟ فيه وجهان: أرجحهما في المجرد للحناطي: الحصول.

وإن كان بغير إذن الولي، فإن كان عيناً، فيأخذها الولي من يده، فإن تركها في يده حتى تلفت بعد العلم بالحال، ففي وجوب الضمان على الولي وجهان. وإن تلفت في يد السفيه، قبل علم الولي، يرجع على المخلع بمهر المثل في أظهر القولين، وبقيمة العين في الثاني. وإن كان ديناً فيرجع الولي على المختلع بالمسمى، ويسترد المختلع ما سلمه إلى السفيه، فإن تلف، فلا ضمان؛ لأنه الذي ضيع ماله؛ فصار كما لو باعه منه، وسلمه إليه، [والله أعلم]. قال: وإن كان عبداً، وجب دفع المال إلى مولاه؛ لأنه المستحق له، فلو سلم إلى العبد؛ فعلى ما ذكرنا في السفيه، إلا أن ما يتلف في يد العبد يطالب به بعد العتق؛ لأن الحجر عليه؛ لحق السيد؛ فيقتضي نفي الضمان ما بقي حق السيد، بخلاف السفيه؛ فإن الحجر عليه؛ لحق نفسه بسبب نقصانه، وذلك يقتضي نفي الضمان حالاً ومآلاً. قال: إلا أن يكون مأذوناً له أي: في قبضه. [وخلع] المدبر والمعلق عتقه بصفة كخلع القن. ومن بعضه حر، وبعضه رقيق، إذا جرت بينه وبين سيده مهايأة، قال الرافعي: فليكن عوض الخلع من الأكساب النادرة؛ وليجيء فيه الخلاف. وأما المكاتب، فيسلم عوض الخلع إليه؛ لصحة يده واستقلاله. قال: ويصح بذل العوض في الخلع من كل زوجة، جائزة التصرف [في المال]؛ لأنه تصرف في المال، فإن كانت سفيهة، لم يجز خلعها؛ لأنها ليست من أهل إلزام المال. فإن خالعها على شيء من مالها بعد الدخول، قال في المهذب وغيره: فله أن يراجعها، وظاهره يقتضي وقوع الطلاق.

وفي التتمة: [أنا إذا] قلنا: إن الخلع فسخ، لم تصح المخالعة، ولا تقع الفرقة؛ كما لو اشترت شيئاً قبل الحجر، وأرادت الإقالة بعد الحجر. وإن قلنا: إن الخلع طلاق، أو كان بلفظ الطلاق، فالطلاق واقع- إذا قبلت- رجعيّاً، وإن لم تقبل لا يقع؛ لأن الصيغة تقتضيه. ولو ابتدأت، فقالت: طلقني على كذا، فأجابها، فكذلك الجواب. والفرق بين قبل السفيهة [وقبول] المكرهة حيث فصلنا في المكرهة، ولم نفصل في السفيهة: أن عبارة المكرهة كالمعدومة؛ ولهذا لم يترتب عليها حكم شرعي في النكاح، فكذلك في [حله ومشيئة] السفيهة صحيحة؛ بدليل مشيئتها في النكاح، وإذا كانت صحيحة وقع الطلاق المعلق عليها. قال: وإن كانت أمة فخالعت بإذن السيد، لزمها المال في كسبها، أو مما في يدها من مال التجارة، أي: إذا لم يكن السيد قد عين لها مالاً تختلع به، وكان ما خالعت به قدر مهر المثل، أو دونه؛ لأن العوض في الخلع كالمهر في النكاح، والمهر في نكاح العبد يجب على هذا الوجه؛ فكذلك ها هنا. أما إذا زادت على مهر المثل، فالخلع- أيضاً- صحيح، ويكون القدر الزائد على مهر المثل في ذمتها، وتتبع به بعد العتق. وفي التتمة: أنا إن قلنا فيما إذا خالعت بغير إذن السيد على مسمى: إنه يثبت المسمى في ذمتها، فهنا تثبت الزيادة في ذمتها. وإن قلنا: إن المسمى لا يثبت، وإنما يثبت مهر المثل، فليس له هنا المطالبة بالزيادة بعد العتق. وهذا منقول المذهب، ولم ار فيما وقفت عليه من الطريقين ما يخالفه، وكان يتجه أن يقال: إذا أذن السيد في المخالعة، ولم يتعرض لذكر المال، فخالعت على مهر المثل أو دونه، يكون في لزوم وفاء المخالع به من الكسب أو من مال التجارة خلاف مبني على أن الخلع إذا جرى بين الزوجين

من غير ذكر المال، هل يقتضي المال؟ وفيه وجهان: فإن قلنا: إنه يقتضيه، فيكون الحكم كما ذكرناه. وإن قلنا: لا يقتضيه؛ فلا يوفي من الكسب، ولا من مال التجارة، وقد صرح الرافعي في الزوجة إذا وكلت في الخلع بمثل ذلك. قال: فإن لم يكن لها كسب، ولا في يدها مال للتجارة، ثبت في ذمتها إلى أن تعتق؛ لأن الطلاق بعد وقوعه لا يرتفع، والزوج لم يوقعه مجاناً، وهي من أهل الالتزام، ولا سبيل إلى إلزام السيد به؛ لأن إذنه لا يقتضيه، فتعين ثبوته في الذمة، وهل يكون السيد ضامناً [له]؟ فيه خلاف؛ كما قلنا في الصداق. فإن قيل: لم لا أثبتم للزوج الخيار بين أن يرضى بذمتها، وبين أن يترك العوض، ويريد الطلاق، أو يترك العوض، ويكون الطلاق رجعيّاً؛ لتعذر وصوله على العوض في الحال؛ كنظيره في صداق العبد، ويكون مستمدّاً من أحد القولين المذكورين فيما إذا خالع الوكيل على أقل من مهر المثل عند الإطلاق؛ على ما سنذكره؟ جوابه: أنا حيث أثبتنا للزوجة الخيار في صداق العبد، عددنا التأخير عيباً، والغالب من حال الأجنبية: أنها لا تعلم حال العبد؛ فلذلك أثبتنا لها الخيار، وها هنا الغالب من حال الزوج معرفة حال زوجته، فإذا لم يعلم يكون مقصراً؛ فلأجله لم يثبت له الخيار. ولأن النكاح بعد الحكم بصحته يمكن رفعه بالفسخ، والطلاق بعد وقوعه لا يرتفع، ولا يقبل الفسخ، ولا يغيره عن صفته التي اتصف بها حالة الوقوع إلا بأمر متجدد، ولم يوجد. قال: وإن خالعت بغير إذنه، ثبت العوض في ذمتها إلى أن تعتق، وتحصل البينونة؛ دفعاً للضرر عن السيد والزوج بقدر الإمكان. وفي أمالي أبي الفرج حكاية قول عن الإملاء: أنه إذا وقع الخلع على عين مال السيد [أنه] يكون الطلاق رجعيّاً.

وفي الجيلي حكاية وجه: أنه يقع رجعيّاً، من غير تفصيل بين أن يقع على العين أو على الذمة. تنبيه: مراد الشيخ- رضي الله عنه- بالعوض: المسمى إذا كان في الذمة، وهو اختيار القفال، والشيخ أبي علي. وفي التهذيب: أن الثابت في ذمتها مهر المثل، وهو ما صدر به الغزالي كلامه، وحكى ما ذهب إليه العراقيون وجهاً، مأخذه صحة شراء العبد وضمانه بغير إذن السيد، أما إذا كان الخلع على عين من أموال السيد، وفرعنا على المذهب، ففي الذخائر حكاية قولين: الجديد [منهما]: وجوب مهر المثل. والقديم: بدل المسمى من المثل، أو القيمة. قلت: وكان يتجه أن تبنى هذه المسألة على المسألة قبلها، فإن قلنا في المسألة قبلها: الواجب مهر المثل، فها هنا أولى، وإن قلنا: الواجب المسمى، فيجيء القولان القديم والجديد. وحكى الحناطي وجهاً فيما إذا اختلعت المكاتبة بعين [من] مال السيد من غير إذنه: أنه يرجع بالأقل من مهر المثل- أو بدل العين. قال الرافعي: ولابد من مجيئه في الأمة. فرع: [إذا] اختلع السيد أمته التي تحت حر أو مكاتب على رقبتها، قال إسماعيل البوشنجي: تَحَصل في المسألة بعد إمعان النظر [على] وجهين: أحدهما: أنه تحصل الفرقة، ويكون الرجوع إلى مهر المثل؛ لأنه خلع على بدل لم يسلم له؛ فإن البدل هو ملك الرقبة، وفرقة الطلاق وملك الرقبة لا يجتمعان، وإذا لم يسلم البدل أشبه ما إذا خلعها على مغصوب. وأفقههما: أنه لا يصح الخلع أصلاً؛ لأنه لو صح حصلت الفرقة وقارنها ملك الرقبة؛ فإن العوضين يتساوقان، والملك في المنكوحة يمنع وقوع الطلاق؛ وهذا كما قال الأصحاب فيمن علق طلاق زوجته المملوكة لأبيه على موت أبيه-: لا يقع الطلاق إذا مات الأب؛ هذا آخر كلامه.

ويتجه على الوجه الأول إذا قلنا بصحة الخلع: أن يكون الرجوع إلى قيمتها على قول سيأتي في نظائرها. قال: وإن كانت مكاتبة، فخالعت بغير إذن السيد، فهي كالأمة؛ لتعلق حق السيد بكسبها وما في يدها، وإن خالعت بإذنه، فقد قيل: هو كهبتها وفيها قولان. ووجه كونه كالهبة: أنها تفوت مالاً لا بعوض مالي. وقيل: لا يصح قولاً واحداً، بخلاف سائر التبرعات؛ لأنه يتعلق بها منة وثواب دنيوي أو أخروي، وليس في الخلع مثل هذه الفائدة، وفيه تفويت لمرافق النكاح عليها. وفي الذخائر: أن الشاشي حكى طريقة ثالثة: أنه يصح قولاً واحداً. قلت: ويؤيده: أنه يصح من المريضة، والطريق الأول أظهر، ولفظ ابن يونس أصح؛ لأنه إذا جازت الهبة مع أنها لا تعود بشيء، فلأن يجوز الخلع مع أن فيه عود البضع إليها، كان أولى. والمراد بعدم الصحة هنا لا يرجع إلى الخلع، وإنما يرجع إلى الإذن؛ فيكون كما لو خالعت بغير الإذن، وإذا صححنا المخالعة والإذن؛ فيكون الحكم كما لو خالعت الأمة بالإذن، نعم: القول الذاهب إلى أن السيد [يكون] ضامناً لعوض الخلع في حق الأمة لا يجيء مثله في اختلاع المكاتبة، على ما حكاه أبو الفرج الزاز، وعلله بأن للمكاتبة يداً ومالاً يطمع فيه الزوج، بخلاف الأمة. قال: وليس للأب والجد ولا لغيرهما من الأولياء أن يخلع امرأة الطفل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ"، والزوج هو الموصوف بهذه الصفة.

ولأن أعيان الزوجين مقصودة، وقد يكون للزوج فيها غرض، فليس للولي تفويته، بخلاف الأموال؛ فإن الأعيان فيها غير مقصودة، وإنما المقصود المالية، وهي حاصلة عند المعاوضة. قال: ولا أن يخلع الطفلة بشيء من مالها، وكذلك السفيهة والمجنونة؛ لأنه يسقط بذلك حقها من المهر والنفقة والاستمتاع، فلا حَظَّ لها فيه، وتصرف الولي منوط بالحظ والمصلحة. وقال بعض أصحابنا: إن قلنا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، فله أن يخالع بالإبراء من نصف مهرها عند وجود الشرائط في العفو على هذا القول، وبه قال الإمام، والغزالي، وأبو الفرج [الزاز]. وقال في المهذب: إنه خطأ، وقد تقدمت حكاية هذا الوجه في الصداق. وإذا خالعها بشيء من مالها، لم تستحق ذلك، فإن كان بعد الدخول، فله أن يراجعها؛ كذا حكاه في المهذب، ومقتضاه وقوع الطلاق، وهو ما حكاه في التتمة. وفي كلام الغزالي والرافعي أنه يفصل: فإن خالعها بشيء من أعيان أموالها، وصرح بأنه يفعل ذلك [بالولاية، لم يقع الطلاق؛ كالوكيل الكاذب، وإن صرح باستقلاله عن نفسه] فهو كخلع الأجنبي بالمال المغصوب. وإن لم يصرح بالولاية، ولا بالاستقلال، وذكر أن ذلك من مالها، فيقع الطلاق رجعيّاً؛ كما في مخالعة السفيه. وقيل: إنه كالأجنبي يخالع بالمغصوب. ولو لم يذكر أنه من مالها، ولم يعلم ذلك، فهو كالخلع بالمغصوب أيضاً، وإن علم فوجهان: أحدهما: أن المعلوم كالمذكور حتى يكون رجعيّاً على الأظهر. وأصحهما- وهو المذكور في التهذيب-: أن الحكم كما لو لم يعلم؛ لأنه لم يبطل التبرع بإضافة المال إلى الزوجة، وقد يظن الزوج أنه مال المختلع.

وإن خالع على صداقها على أن الزوج بريء منه، أو قال للزوج: طلقها، وأنت بريء منه- ففيه وجهان: أصحهما: أنه يقع الطلاق رجعيّاً، ولا يلزم الأب شيء. والثاني: أنه لا يقع الطلاق أصلاً؛ لأن الاختلاع على الصداق يشعر بأنه يتصرف بالولاية، وليست له هذه الولاية؛ فأشبه الوكيل الكاذب. ورأى الغزالي إجراء هذا الوجه فيما إذا اختلع بعبدها، وذكر أنه لها. واعلم أن الشيخ لو اقتصر على قوله: وليس للأب أنيخلع امرأة الطفل، [ولا أن يخلع الطفلة] بشيء من مالها، لعلم أن هذا في حق غيره من طريق الأولى؛ فكان مستغنياً عنه. قال: ويصح مع الزوجة، ومع الأجنبي، أي: إذا قلنا: إن الخلع طلاق، أو كان بلفظ الطلاق؛ أما صحته من الزوجة فلما قدمناه من الحديث. وأما صحته من الأجنبي؛ فلأن الزوج له حق على المرأة يجوز لها أن تسقطه عن نفسها بعوض؛ فجاز ذلك لغيرها؛ كما لو كان [له] عليها دين. وفي الذخائر حكاية وجه عن بعض الأصحاب يوافق مذهب أبي ثور: أنه لا يصح. [وأبدى مجلي احتمالاً فيه، وقال: ينبغي ني فصل؛ فيصح فيما يظهر فيه عوضن ويبطل فيما سواه]. أما إذا قلنا: إن الخلع فسخ، فلا يصح من الأجنبي؛ لأن الفسخ من غير علة لا ينفرد به [الرجل]؛ فلا يصح طلبه منه. فرع: إذا كان الأجنبي سفيهاً، فحكمه حكم الزوجة السفيهة، ولو كان عبداً فحكمه حكم الزوجة الرقيقة، وقد تقدم التفصيل في ذلك. قال: ويصح بلفظ الطلاق، وبلفظ الخلع. أما صحته بلفظ الطلاق، فلقوله صلى الله عليه وسلم لثابتبن قيس: "اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا

تَطْلِيقَةً"، وأما صحته بلفظ الخلع؛ فلأنه اللفظ الموضوع له. وهل ينعقد بلفظ الاستيجاب والإيجاب؟ الذي ذهب إليه الأكثرون الانعقاد. وحكى الشيخ أبو محمد طريقة طاردة للخلاف المذكور في النكاح فيه، واستحسنها الإمام والغزالي من جهة القياس. والظاهر الأول؛ لأن الغرض الأصلي منه الطلاق، وهو يمكن تحصيله بلا عوض، والذي ذكر فهو على سبيل الاقتداء والتبعية؛ ولهذا صح بذل المال على الطلاق من الأجنبي، وأما النكاح فإنه لا يخلو في وضعه عن العوض إلا في غاية الندور؛ فكان أشبه بالبيع. قال: فإن كان بلفظ الطلاق، فهو طلاق؛ لأنه لا يحتمل غيره، وكذا إن كان بكناية من كنايات الطلاق، ونوى به الطلاق؛ لأن الكناية مع النية كالتصريح. قال: وإن كان بلفظ الخلع، والمفاداة، والفسخ، فإن نوى به الطلاق فهو طلاق، وإن لم ينو به الطلاق، ففيه ثلاثة أقوال. واعلم أنه كان من حق المصنف أن يقدم [الكلام في] المسألة الثانية، ثم يذكر الأولى بعدها؛ إذ هي تتفرع عليها؛ كما ذكر في المهذب، وذكره غيره، وهكذا نفعل، فنقول: إذا وقع عقد الخلع بلفظ الخلع من غير نية الطلاق، ففيه ثلاثة أقوال. أحدها: أنه طلاق- أي: صريح- فينقص العدد، وإذا جرى ثلاث مرات [فليس له أن] ينكحها إلا بمحلل، وهو الذي نص عليه في الإملاء، واختاره صاحب التهذيب؛ لأنها تبذل العوض في مقابلة ما يملكه الزوج من الفرقة، والفرقة التي يملك إيقاعها هي الطلاق دون الفسخ؛ فانصرف العوض إليه، كسائر الأعواض. وأما كونه صريحاً في الطلاق، فقد اختلف الأصحاب في مأخذه، [فقيل: مأخذه:] أن ذكر المال [انتهض قرينة في إلحاق الكناية بالصريح؛ فكان ذكر المال] قائماً مقام النية، وهو ما ذكره ابن الصباغ.

وقيل: المأخذ- على ما حكاه الغزالي-: أنه تكرر على لسان حملة الشريعة؛ لإرادة الفراق؛ فالتحق بالمتكرر في القرآن، وإلى هذا ذهب المعظم، وهو الصحيح في النهاية، غير أن عبارتهم: أنه تكرر على لسان العامة. والقول الثاني: أنه فسخ لا ينتقص به العدد، ويجوز تجديد النكاح بعد تكرره من غير حصر، وهو القديم والمنصوص في الخلاف، واختاره القاضي أبو حامد. وذكر في الإبانة أنه الأصح، وكذلك القاضي أبو الطيب في آخر تعليقته. وذكر أبو مخلد البصري: أن الفتوى عليه، وإن كان في النهاية أن الفتوى بأنه طلاق، ووجهه: أن الخلع فرقة بتراضي الزوجين؛ [فوجب أن يكون من القسم الذي يتصور أني كون من كل واحد من الزوجين]، وهي فرقة الفسخ. ولأن الفرقة تحصل بالفسخ كما تحصل بالطلاق، ثم الطلاق ينقسم على ما هو بعوض، وإلى ما هو بغير عوض؛ فليكن الفسخ كذلك. قال الغزالي: وحقيقة الخلاف راجعة إلى أن النكاح هل يقبل الفسخ تراضياً؟ فعلى قول: يقبله؛ قياساً على البيع؛ ومن هذا المأخذ جرى الخلاف فيما إذا شرطت المرأة نسباً، وخرج الزوج دونه مع كونه كفئاً لها في ثبوت الخيار، وقد أشار إلى ذلك الإمام في ضمن فصل يشتمل على الغرور. فإن قيل: لو كان فسخاً لارتد المسمى في العقد إذا كان قبل الدخول؛ كما في سائر الفسوخ. فالجواب: أنه قد قيل به، وعلى تقدير التسليم- وهو الأصح- فإنما كان كذلك؛ لأن [الفسخ بالخلع] لا يستند إلى أصل العقد، وإنما هو عقد مبتدأ، وإنما يجب رد المسمى إذا استند الفسخ إلى أصل العقد؛ كالعيوب؛ هكذا فرق في الذخائر. والقول الثالث: أنه ليس بشيء؛ فلا تحصل به فرقة طلاق ولا فسخ، وهو المنصوص عليه في الأم.

وقال الإمام، والروياني: إنه ظاهر المذهب؛ لأنه كناية في الطلاق، وقد عري عن النية؛ فلم تقع به الفرقة؛ كسائر كنايات الطلاق. وما ذكر من كون العوض فيه قائماً مقام النية، فجوابه: أن ذكرالعوض قرينة، ومذهب الشافعي: أن قرينة السؤال والغضب لا تجعل الكناية صريحة؛ فكذلك قرينة ذكر المال؛ وهذا إذا جرى العقد بلفظ "الخلع". فإن كان بلفظ "المفاداة" أو "الفسخ"، فإن قلنا: إن لفظ الخلع طلاق: إما صريح على القول الأول، أو كناية على القول الثالث- فلفظ "الفسخ" كناية. وفي لفظ "المفاداة" وجهان: الأصح منهما- وهو ما حكاه في التهذيب- أنه كلفظ الخلع؛ فيخرج على القولين. وإن قلنا: إن لفظ الخلع فسخ، ففي لفظ الفسخ وجهان: أصحهما- وهو المذكور في التهذيب-: أنه صريح، وينسب إلى اختيار القاضي الحسين. والثاني: أنه كناية، وفي التتمة: أنه اختيار القفال، وفي النهاية نسبته إلى العراقيين.

وفي لفظ "المفاداة" أيضاً وجهان: أظهرهما: أنه صريح؛ كلفظ الخلع، وهو ما جزم به في المهذب. أما إذا نوى الطلاق بلفظ الخلع، أو المفاداة، أو الفسخ، فقد قال الشيخ- رضي الله عنه-: إنه يكون طلاقاً، ووجهه: أنا إن جعلنا ذلك كناية في الطلاق، فقد اقترنت به النية؛ فكان طلاقاً؛ كسائر الكنايات. وإن قلنا: إنه صريح في الطلاق، فالنية تؤكده. وإن قلنا: إنه فسخ، فالفسخ في الخلع يعتمد التراضي بالفسخ، فإذا لم يقصد الزوج الفسخ، ولم يخطر له ببال، فالتراضي على الفسخ مفقود، وهو سبب الفسخ؛ فلا يثبت، ويثبت الطلاق؛ لأن اللفظ يحتمله، وقد اقترنت به النية، فصار كسائر الكنايات. وفي المهذب حكاية وجه: أنه إذا أتى بصريح الخلع، لا يكون طلاقاً، وينفذ في الفسخ، واختاره القاضي الحسين، وهو المذكور في "التتمة" و"الوجيز"، وفي "الوسيط": أنه الظاهر، وفي "الناية": أن المحققين قطعوا به؛ لأنه وجد نفاذاً في موضعه صريحاً؛ فلا ينصرف إلى غيره بالنية؛ كما لو نوى بلفظ الطلاق الظهار، أو بالعكس. وفي "الذخائر" إلحاق كل ما جعلناه صريحاً في الفسخ من المفاداة، والفسخ بالخلع- في هذا المعنى. قال ابن يونس: والصحيح الأول، وهو الذي يشعر به إيراد صاحب التهذيب؛ حيث قال: وهو فسخ، إلا أن ينوي به الطلاق، وقد قطع به في "الشامل". والفرق: أن الفسخ والطلاق نوعان يدخلان تحت حيز البينونة، ويشتركان في ثبوت العدة، والطلاق والظهار لا يتقاربان مثل هذا التقارب، ولأن الطلاق يختص بالنكاح؛ [فلا يجعل ما هو صريح فيه صريحاً في حكم آخر يتعلق به، والفسخ لا يختص بالنكاح]؛ فجاز أن يكون كناية فيه.

فروع: إذا قلنا: إن الخلع فسخ، فهل يصح بالكناية: [كالمبارأة]، والتحريم، وسائر كنايات الطلاق؛ إذا نوى بذلك الفسخ؟ فيه وجهان محكيان في المهذب وغيره. والأصح في الشامل والرافعي: أنهما يجريان في لفظ المفاداة والفسخ؛ إذا قلنا: إنه كناية على هذا القول، أما إذا نوى الخلع عاد الخلاف في أنه فسخ أو طلاق. ولفظ البيع والشراء كناية في الخلع على القولين؛ وذلك بأن يقول: بعت منك نفسك بكذا: فيقول: اشتريت، أو: قبلت، ولفظ الإقالة كناية [فيه أيضاً]، وبيع الطلاق بالمهر من جهة الزوج، وبيع المهر بالطلاق من جهة المرأة- يعبر بهما عن الخلع. قال الرافعي: فيكونان كنايتين، كما لو قال: بعت منك نفسك. وفي الزيادات لأبي عاصم العبادي: أن بيع الطلاق مع ذكر العوض صريح، وبدون ذكر العوض فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقع ما لم ينو. والثاني: يقع بمهر المثل؛ كذا وقفت عليه، وقد حكاه الرافعي في كتاب الطلاق عنه أيضاً. وينعقد الخلع بالعجمية؛ كما ينعقد بالعربية، [والله أعلم]. تنبيه: إذا تأملت ما ذكرناه، علمت أن أئمة المذهب قد فرقوا بين لفظ الخلع، والمفاداة، والفسخ في بعض المواضع [على خلاف]، وفي بعض بلا خلاف، وكلام الشيخ- رضي الله عنه- يقتضي التسوية بين الألفاظ الثلاثة في جميع الأحكام التي ذكرها، ولم أر ذلك لأحد فيما وقتف عليه إلا ما حكاه الجيلي، وقال: إنه الأصح في الكتب، وموضع المناقشة لا يخفى على متأمل. قال: ولا يصح الخلع إلَّا بذكر العوض؛ لأنه عقد معاوضة؛ فلابد فيه من ذكر العوض كالبيع. والمراد من عدم الصحة هنا: عدم البينونة، وأما حصول الفراق من غير بينونة ناجزة إذا كان بعد الدخول، فهو مبني على أنه فسخ أو طلاق.

فإن قلنا: إنه فسخ، لغا، ويصير وجود ذلك كعدمه؛ لأن الفسخ بالتراضي لا يكون إلا على عوض. وإن قلنا: إنه طلاق صريح، ومأخذ الصراحة ذكر المال، ولم ينو- لغا أيضاً. أما إذا قلنا: مأخذ الصراحة الشيوع، أو ذكر العوض، ونوى، أو قلنا: هو كناية ونوى- وقع رجعيّاً؛ إذ ليس من شرط وقوع الطلاق ذكر المال. وفي التتمة: أنا حيث قلنا: [إن] مأخذ الصراحة الشيوع، فذاك في حالة ذكر العوض، أما عند عدمه فلا؛ لأن استعمال لفظ الخلع من غير ذكر العوض [غير معهود]، فإن نوى الطلاق وقع، وإن لم ينو فلا. وفي النهاية: أن مساق كلام الأصحاب: أنه لو نفى العوض في الخلع، لم يصح الخلع على [قول] الفسخ، والقياس الحق: صحته بلا عوض؛ فإن النكاح إذا نفي فيه الصداق انتفى على الأصح. ومن قال بوجوبه قال: إذا جرى المسيس، وجب لا محالة؛ فليجب بالعقد؛ رعاية لحرمة البضع، ومثل هذا المعنى لا يتحقق في الفسخ، وهو في وضعه مستغنٍ عن العوض، فتلخَّصَ من ذلك: أنا إن قلنا: إن الخلع فسخ [لغا]؛ على الأصح، وإن قلنا: إنه طلاق، ولم ينو به الطلاق [لم يقع إلا على رأي؛ إذا جعلنا مأخذ الصريح الشيوع، وإن نوى] وقع. وحيث حكمنا بالوقوع، فهل من شرطه قبولها؟ فيه وجهان: أشبههما- وهو المذكور في التهذيب، واختيار الإمام-: أنه لا حاجة إليه؛ لاستقلال الزوج بالطلاق الرجعي. والثاني- وهو المذكور في الوجيز-: أنه يفتقر [إلى قبولها]. ثم هذا الخلاف فيما إذا قال: خالعت، وأضمر التماس جوابها، أما إذا لم

يضمر، أو قال: خلعت فلا حاجة إلى القبول؛ هكذا حكاه الرافعي، و [هو] في النهاية احتمال من عند الإمام، ثم هذه التفاريع كلها على قولنا: إن الخلع المطلق لا يقتضي ثبوت المال. وقال بعض أصحابنا: إنه يقتضي ثبوته، وهو اختيار القاضي الحسين، وجعله الإمام الأظهر؛ لأن الخلع يوجب المال إذا جرى على خمر أو خنزير، فإذا جرى مطلقاً أوجبه كالنكاح؛ فعلى هذا إن جعلناه فسخاً، أو كناية، ونوى- وجب مهر المثل، وحصلت البينونة. وإن جعلناه كناية، ولم ينو، لغا. وإن جعلناه صريحاً، فإن قلنا: مأخذه الشيوع، نفذ [الطلاق على مهر المثل، وإن قلنا: مأخذه المال، لم ينفذ الطلاق. فرع: إذا قلنا:] مطلق الخلع لا يقتضي المال، فلو نوى المال، فهل تؤثر النية في ثبوته؟ فيه وجهان: فإن قلنا: تؤثر؛ فلا بد من نيتها أيضاً. وإن قلنا: لا تؤثر؛ فيقع الطلاق، وتلغى نية المال، أو لا يقع؛ لأنه نوى الطلاق على المال لا مطلقاً؟ فيه وجهان: [فرع] آخر: إذا اختلعت نفسها على ما بقي لها من الصداق، فخالعها الزوج عليه، وكان لم يبق لها عليه شيء، ففي [فتاوى] صاحب التهذيب ذكر وجهين في أنه هل تحصل البينونة بمهر المثل؛ تخريجاً على الخلاف فيما إذا تخالعا من غير تسمية مال، ورجح القول بالحصول. وفي فتاوى القفال: أنها إن كانت جاهلة بالحال، فالواجب عليها مهر المثل، أو مثل ذلك القدر، وفيه القولان المعروفان. وإن كانت عالمة بالحال، فإن كان الجاري بينهما لفظ الطلاق، فتبين، ويعود الخلاف في الواجب، أو يقع رجعيّاً؟ فيه وجهان.

وإن كان الجاري لفظ الخلع، فإن قلنا في الطلاق: يجب، فها هنا أولى، وإلا فوجهان، بناءً على أن لفظ الخلع هل يقتضي ثبوت المال؛ كذا حكاه الرافعي في آخر كتاب الخلع. قلت: ويتجه أن يجيء بعض هذا التفصيل فيما إذا خالعها على ما في كفها، ولم يكن فيه شيء، وإن كان الغزالي في الوسيط جزم فيها بوقوع الطلاق رجعيّاً. وفي الشامل والتتمة: أنه يكون بائناً، والرجوع إلى مهر المثل. وفي الرافعي: أنهي شبه أن يكون جواب الغزالي فيما إذا كان عالماً بصورة الحال، والثاني فيما إذا ظن في كفها [شيئاً]، والله أعلم. قال: فإن قال: أنت طالق وعليك ألف، وقع الطلاق رجعيّاً- أي: إذا كان بعد الدخول، ولم يستوف بذلك [عدد الطلاق، ولم يسبق منها طلب، سواء قبلت، أو لم تقبل؛ لأنه أوقع الطلاق] مجاناً، ثم استأنف الإخبار عن إيجاب العوض من غير طلاق؛ فأشبه ما لو قال: وعليك حج وهذا بخلاف [ما لو قالت: طلقني وعلى ألف]، فطلقها حيث قلنا: يقع الطلاق بائناً بالألف [منها]. والفرق: أن الذي يتعلق بالمرأة من هذا العقد التزام المال، فيحمل اللفظ منها على الالتزام، والزوج ينفرد بالطلاق، فإذا لم يأت بصيغة المعاوضةن حمل كلامه على ما ينفرد به. وفي التتمة: أنه إذا شاع في العرف استعمال لفظ المسألة في طلب العوض والتزمه، كان كما لو قال: طلقتك على ألف. أما إذا سبق منها الطلب، فقالت: طلقني بألف، فقال: أنت طالق، وعليك ألف استحق الألف؛ ولكن بقوله: أنت طالق؛ إذ السؤال كالمعاد في الجواب. ولو قالت: طلقني ببدل فقال: أنت طالق بالبدل أو أطلق، فتحصل البينونة بمهر المثل. ولو قال- والصورة هذه-: [أنت طالق، وعليك ألف]، فإن قبلت حصلت البينونة، وإلا لم يقع الطلاق.

قال: وإن ضمنت له الألف، لم يصح الضمان؛ لأنه ضمان ما لم يجب، فإن دفعت إليه الألف، كانت هبة يشترط فيها شرائط الهبة، ولو قال الزوج: أردت بقولي: [وعليك ألف] الإلزام، وعنيت ما يعنيه القائل بقوله: طلقتك على ألف- لم يصدق، فإن وافقته المرأة فوجهان: أصحهما: أنه يؤثر، وتبين منه بالألف، ويكون المعنى: ولي عليك ألف عوضاً عنه. ولو قال: أنت طالق على أن لي عليك ألفاً، فقبلت، صح الخلع، ووجب المال، كذا نقله العراقيون حكاية عن الإمام؛ لأن كلمة "على" كلمة شرط، فجرى مجرى قوله: أنت طالق على ألف، بخلاف: وعليك ألف؛ فإنه استئناف لا شرط. وقال العمراني: ظاهر هذا: أنه شرط، والطلاق لا يقبل الشرط؛ فيلغو، ويقع الطلاق رجعيّاً. ومراده: أن الصيغة صيغة شرط، والشرط في الطلاق يلغو إذا لم يكن من قضاياه، كما لو قال: أنت طالق على ألَّا أتزوج بعدك، أو: على أن لك علي كذا. قال: وإن قال: أنت طالق على ألف، فقبلت، بانت، ووجب المال: أما وجوب المال؛ فلقبولها. وأما البينونة؛ فلأن الطلاق وقع؛ لوجود شرطه، وهي إنما بذلت المال؛ لتملك البضع؛ فلا يملك الزوج ولاية الرجوع إليه؛ كما أن الزوج لما بذل المال صداقاً؛ ليملك البضع، لا يكون للمرأة ولاية الرجوع إلى البضع. ولو استدل مستدل بقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، لدل على الحكمين. والمراد بالمال الواجب: المسمى إن سميا مالاً في العقد، أو ما نوياه؛ لم يسميا، أو مهر المثل عند عدم التسمية والنية؛ هكذا صرح به ابن الصباغ. وفي الوسيط: أنهما إن لم يسميا شيئاً في العقد، وتوافقا على إرادة نوع واحد؛ فلا خلاف أن ذلك لا يحتمل في الخلع، ويكون الخلع على مجهول. وفي الوسيط حكاية ذلك عن العراقيين.

وفرق في الوسيط بين ذلك، وبين ما إذا خالعها على الف درهم، وفي البلد نقود مختلفة، وتوافقا على إرادة نوع واحد منها بالنية؛ فإن الأظهر فيها الصحة، وأن ذلك محتمل، وهو ما نقله الإمام عن العراقيين لا غير؛ لأن اللفظ في إطلاق الألف صريح في الإجمال، ولم يوجد سوى مجرد العدد، وهو لا ينبئ عن ماهية جنسية، ولا نوعية؛ بخلاف الدراهم؛ فإنه لم يبق إلا التفصيل بالصفات. ثم قال: وفي كلام القاضي ما يدل على أن عموم الألف كعموم الدراهم، ونقله الإمام عنه صريحاً. قال الرافعي: وإذا تأملت كتب شيخي العراقيين: أبي حامد، وأبي الطيب، وغيرهما- وجدتها متفقة على ما ذهب إليه القاضي. قلت: ويؤيد ذلك ما تقدمت حكايته في كتاب النكاح، وهو أن الرجل إذا كان له ابنتان، فقال لرجل: "زوجتك بنتي"، ونويا واحدة بعينها: أن النكاح ينعقد على المنوية؛ على ما صار إليه العراقيون، وصاحب التهذيبن مع أن الشهادة شرط فيه، ولا مطلع للشهود على النية، فإذا جوزنا ذلك مع ما ذكرناه، فلأن نُصَحِّحَ الخلع على المنوي أولى. وذكر الشيخ أبو محمد طريقة أخرى في المسألة، فقال: إن لم يتواضعا على [أن] المراد بالألف ماذا؟ فليس إلا القطع بفساد الخلع والرجوع إلى مهر المثل. وإن تواضعا قبل العقد على أن يعنيا بالألف جنساً- ونوعاً، وأحاطا به، فالخلع ينعقد؛ وهذا يلتفت على التردد في مهر السر والعلانية؛ هكذا أطلقه الإمام. وفي [الوسيط] تخصيص ذلك بإرادة نوع من الدراهم. قال: ويجوز على الفور، وعلى التراخي، أي: الخلع منه ما يكون القبول فيه على الفور، ومنه ما يكون على التراخي؛ لأن الزوج إذا بدأ بالطلاق، وذكر العوض، كان معاوضة فيها شائبة التعليق: أما [جهة] المعاوضة؛ فلأنه يأخذ مالاً في مقابلة ما يخرجه عن ملكه.

وأما شائبة التعليق؛ فلأن وقوع الطلاق يترتب على قبول المال وبذله؛ كما يترتب الطلاق المعلق بالشروط عليها، ثم تارة يغلب معنى المعاوضة، فتشترط الفورية؛ كما في عقود المعاوضات، وتارة معنى التعليق؛ فلا تراعى الفورية؛ وتارة يراعى المعنيان، ويختلف ذلك بالصيغ المأتي بها، وقد بين الشيخ ذلك بمثال فقال: فإذا [قال]: خلعتك على ألف أو: أنت طالق على ألف، أو: إن ضمنت لي ألفاً أو: [إن أعطيتني ألفاً]، أو: إذا أعطيتني ألفاً فأنت طالق- لم يصح حتى يوجد القبول، أي: في الصور الثلاث الأول، والعطية، أي: في الصورتين الأخيرتين عقيب الإيجاب. وفي الجيلي: جعل صورة الضمان مثل صورة الإعطاء؛ فلا يقع فيها طلاق ما لم يقع الإعطاء. وتوجيه ما قاله الشيخ: أما في المسألتين الأوليين؛ فلأن الصيغة صيغة معاوضة ليس فيها ما يدل على التعليق؛ فكان جوابها على الفور؛ كما في البيع. وأما في الباقي؛ فلأن "إن" و"إذا" يحتملان الفور والتراخي، فإذا اقترن بهما ذكر العوض، حملاً على الفور؛ لأن المعاوضات تقتضي الجواب على الفور؛ فخصصناهما بحكم المعاوضة، وقصرناهما على أحد محتمليهما. وفي التتمة: أن اشتراط تعجيل الإعطاء مخصوص بما إذا كانت الزوجة حرة، أما إذا كانت أمة، فلا يعتبر الفور في حقها، ويقع الطلاق مهما أعطته؛ لأنها لا تقدر على الإعطاء في المجلس؛ لأنه لا يد لها، ولا ملك، وأنها إذا أعطته الألف من كسبها، حصلت البينونة؛ لوجود الصفة، وعليه رد المال للسيد، ومطالبتها بمهر المثل إذا عتقت. قلت: ويتجه أن يكون في حصول البينونة خلاف؛ كما إذا أعطته الحرة مغصوباً، ويؤيده ما نقله في التهذيب، وهو ما إذا قال لامرأته الأمة: إن أعطيتني ثوباً فأنتِ طالق، فأعطته ثوباً، لم تطلق. وفي الرافعي حكاية وجه: أن الإعطاء إذا وجد قبل التفرق من المجلس يوقع

الطلاق وإن طالت المدة، ويجعل مجلس التخاطب جامعاً؛ كما في العرف. وفي الوسيط حكاية وجه: أنه لا يختص [الإعطاء بمجلس أيضاً]؛ كسائر التعليقات. وقال الرافعي: إنه يحكي عن شرح التلخيص. والشيخ- رضي الله عنه-[في المهذب اختار من عند] نفسه أن "إذا" تلتحق بـ "متى"؛ لأنها تسد مسدها في قول القائل: متى ألقاك؟؛ فإنه يحسن أن يقول: إذا شئت، كما يحسن أن يقول: متى شئت، بخلاف "إن" فإنه لا يحسن أن يقال في جوابه: إن شئت. واعلم أن القبول في المسألة الأولى أن تقول: قبلت الألف، ولا يشترط أن تقول: اختلعت. وفي فتاوى القفال: أن أبا يعقوب غلط، فقال: لابد أن تقول: اختلعت، وفي المسألة الثانية أن تقول: قبلت الألف، والإتيان باللفظ شرط على ما حكاه الرافعي. و [قال] مجلي، وصاحب الشامل، والمتولي: إنها إذا دفعت [له] الألف على الفور، وقع الطلاق؛ لأنه طلقها على الألف، فكيف حصلت له؛ وقع بها الطلاق. وفي المسألة الثالثة أن تقول: ضمنت، ولا يقوم مقامه الإعطاء؛ على ما حكاه في الشامل.

وعلى ما قاله الجيلي: يكفي الإعطاء. والإعطاء الذي يقع به الطلاق في المسألة الرابعة والخامسة: أن يسلم إليه فيقبضه، وإن وضعته بين يديه، وأذنت له في قبضه كفى، وإن امتنع الزوج من القبض. وفي شرح الجويني [حكاية وجه]: أنه لا يكفي الوضع بين يديه، بل لابد من التسليم، والتسلم. وفي الذخائر: أنها إذا مكنته من القبض، ولم يقبض، وقع الطلاق، لكن هل يستحق عين الألف، أو لها الإبدال بغيرها على قول ملك العوض؟ فيه وجهان. فرعان: أحدهما: لو قال: أنت طالق بألف، فقبلت بألفين، ففي الشامل، والتتمة: أنه يصح، ولا يلزمها الألف الزائد. وفي التهذيب وغيره: أنه لا يصح؛ كما في مثله في البيع. نعم: إن قال: إن أعطيتني ألفاً، أو: إن ضمنت لي ألفاً، فأنت طالق، فأعطته ألفين، أو ضمنت، طلقت بالإعطاء في الأولى، وبالضمان في الثانية. وفي ابن يونس حكاية وجه: أنه لا يقع إذا أعطته [ألفين]. الثاني: إذا أعطته ما علق طلاقها عليه، هل يملكه الزوج؟ فيه وجهان: المشهور منهما: أنه يدخل في ملكه. والثاني: المنع، وينقل عن رواية الشيخ أبي علي؛ فيرد العوض، ويرجع إلى مهر المثل. قال الرافعي: وهذا الوجه يجري فيما إذا قال: إن ضمنت لي ألفاً فأنت طالق، فقالت: ضمنت. قال: وله أن يرجع فيه قبل القبول- أي: والعطية- كما ذكره في المهذب: أما في المسألتين الأوليين؛ فلأن الصيغة صيغة معاوضة؛ فجاز الرجوع فيها قبل القبول؛ كما في البيع، وسائر العقود. وأما في الباقي؛ فلأنه يشترط أن يكون الضمان والإعطاء على الفور؛ تغليباً لشائبة المعاوضة؛ فوجب أن يثبت [له] الرجوع- أيضاً- تغليباً لهذه الشائبة؛

إذ هو من أحكام المعاوضة. وفي "الزيادات" لأبي عاصم العبادي: أنه ليس له الرجوع فيما إذا قال: خالعتك على ألف، وطرده في السيد [فيما] إذا قال لعبده: أنت حر على ألف، أو قال ولي الدم لمن عليه القصاص: صالحتك من دم العمد على ألف درهم، وجوزناه: أنه ليس لهما الرجوع قبل القبول؛ لأن ذلك لا يحتمل الانتقاض بعد وقوعه، وفي الطلاق والعتاق معنى اليمين. وقال أبو الطيب بن سلمة: له الرجوع. وفي التهذيب: حكاية خلاف في الصور الثلاث الأخيرات في جواز الرجوع فيهن قبل الضمان والإعطاء، وقدم في إيراده عدم الجواز، وهو المذكور في التتمة والوسيط، فميا إذا كان التعليق بـ "إن". قال الرافعي: ويقرب مما قاله الشيخ في المهذب ما حكاه القاضي ابن كج عن أبي الطيب بن سلمة: [أن] الزوج بالخيار بين أن يقبل الألف التي أحضرته، وبين أن يترك. قلت: وهذه المادة مأخوذة من وجه حكيناه من قبل [في] أن الوضع بين يديه لا يكفي، بل لابد من التسليم والتسلم. أما إذا قلنا: إن الوضع بين يديه كافٍ؛ فلا يجتمع معه القول بالتخيير. فإن قيل: الشيخ- رضي الله عنه- خصص [جواز] الرجوع بما قبل القبول؛ فيجوز أن يكون اختياره عدم الجواز قبل الإعطاء؛ تغليباً لشائبة التعليق؛ كما حكيناه عن غيره؛ إذ لو كان الحكم عنده في الجميع واحداً؛ لعمّم الجواب؛ كما عممه في اشتراط الفورية. قلنا: يمكن أن يجاب عن ذلك بأن من قال بعدم جواز الرجوع، طرده في صورة ما إذا قال: إن ضمنت لي ألفاً؛ لأن المأخذ تغليب شائبة التعليق، والشيخ- رضي الله عنه- كلامه يقتضي أنه يجوز في صورة الضمان؛ لأنه مما يتوقف

وقوع الطلاق فيه على القبول دون الإعطاء؛ كما حكيناه عن الشامل، فلو قال به، لكان قولاً ثالثاً، ولم يصر إليه أحد. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن صورة الضمان مما يعتبر فيها القبول، بل يكفي فيها الإعطاء؛ كما حكيتم ذلك عن الجيلي، وعلى تقدير تسليم ذلك، فممكن أن يفرق بينه وبين صيغة الإعطاء؛ فإنه لما كان القبول فيا متعيناً مع اشتراطا لفورية شابهت عقود المعاوضات؛ فغلبنا شائبة المعاوضة؛ لقوة الشبه، بخلاف صورة الإعطاء؛ فإنها لما خلت عن اعتبار اللفظ، ووجدت صيغة التعليق، لم تشابه عقود المعاوضات؛ فغلبنا فيها شائبة التعليق، ويكون هذا اختيار الشيخ وإن لم يقل به أحد، كما اختار في إذا أن حكمها حكم متى على ما هو في المهذب. واعلم أن ابن يونس قال في هذا الموضع: وأما الصورة الثالثة والرابعة، فالذي ذكره الشيخ- رحمه الله-: أن له الرجوع قبل القبول، وهذا الكلام يفهم أن ذلك يحتاج إلى القبول، [وهو مسلم في الصورة الثالثة، وأما الصورة الرابعة، فلا يعتبر فيها القبول]. فرع: إذا قال لامرأتيه: طلقتكما بألف فقبل قبولهما، هل يجوز للزوج الرجوع؟ فيه وجهان: وجه عدم الجواز: أن كلامه يتضمن تعليق طلاق كل واحدة منهما بقبول صاحبتها؛ إذ لو لم تقبل، لما وقع الطلاق، وتعليق الطلاق لا يقبل الرجوع؛ حكاه في المهذب. قال: وإن قال: متى ضمنت لي ألفاً أو: متى أعطيتني ألفاً فأنت طالق جاز القبول- أي: والعطية- في أي وقت شاءت؛ وكذا لو قال: في أي وقت، أو: في أي زمان، أو: حين، أو: مهما؛ لأن هذا اللفظ صريح في التراخي، ونص عليه، لا يحتمل سواه؛ بدليل ما لو قال: متى أعطيتني الساعة، كان محالاً، وما كان كذلك، فلا يتغير بالقرائن؛ لأ، النص لا يتبدل معناه، ولا ينقسم مقتضاه؛ كذا قاله في الذخائر؛ وهذا بخلاف جانب المرأة؛ فإنها لو قالت: [متى طلقتني، فلك ألف]، اختص الجواب بمجلس التواجب.

وفرق بينهما الغزالي بأن الغالب على جانبه التعليق، وعلى جانبها المعاوضة، ثم قال في الفصل الثالث في استدعائها زماناً مؤقتاً: إنها إذا قالت [له]: خذ مني ألفاً، وأنت مخير في تطليقي من يوم إلى شهر، فطلقها في الشهر على قصد الإجابة- أنه يستحق مهر المثل، بخلاف قولها: متى ما طلقتني فلك الف؛ فإن متى وإن كان ظاهراً في التأخير؛ فلا يستحق العوض إلا بطلاق [في المجلس]؛ لأن قرينة العوض قابلت عممو اللفظ، فخصصته بالمجلس. أما ها هنا [فقد] رفعت الاحتمال بالتصريح والتخيير [في الشهر]. قلت: وما ذكره [معارض بما ذكره في الذخائر، وعلى تقدير التسليم، فهو موجود فيما إذا أتى الزوج] بصيغة متى، ولم تعتبر الفورية في قبولها. ثم قال: ومن الأصحاب من نقل الجواب من كل مسألة إلى الأخرى، وسوى بينهما، يريد: في اشتراط التعجيل وعدمه. أما المسمى، فصحيح في مسألة متى بلا خلاف؛ على ما حكاه الرافعي. وفي المسألة الأخرى لا يثبت. وفيما يجب طريقان: أحدهما: مهر المثل [كما ذكره الغزالي. والثاني: مهر المثل]؛ على قول، وبدل المسمى على قول. فإن قيل: قد قلتم: إن الخلع من جانب المرأة معاوضة محضة نازعة إلى الجعالة، والجعالة لا يشترط في استحقاق عوضها حصول المقصود في المجلس بلا خلاف؛ فهلا كان الأمر ها هنا كذلك؟ فالجواب: أن الجعالة إنما جوزها الشرع؛ للحاجة الماسة إليها، ولا يتأتى فيها حصول المقصود على التعجيل؛ فإنها تفرض في الأمور المجهولة: كرد الآبق، وغيره؛ فاستحال اشتراط التعجيل فيها، والزوج هنا يتمكن من تعجيل المقصود، وهو الطلاق؛ فلا ضرورة في إخراج عقد المعاوضة عن وضعه.

قال: وليس للزوج الرجوع في ذلك؛ لأنه تعليق طلاق بصفة، لم تغلب فيه شائبة المعاوضة؛ فكان كسائر التعليقات. فرع: إذا قال: طلقتك إذا جاء رأس الشهر، أو: إذا دخلت الدار عليَّ ألف، فقبلت، [أو] قالت: علق طلاقي برأس الشهر- أو بدخول الدار- على ألف، فعلق، فظاهر المذهب وقوع الطلاق عند وجود المعلق عليه. وفيه وجه: أنه لا يقع. وعلى المذهب: يشترط القبول على الاتصال. وعن القفال احتمال وجه: أنها بالخيار بين أن تقبل في الحال، أو عند وجود الصفة. ثم الواجب مهر المثل أو المسمى؟ فيه وجهان، ويقال: قولان: الذي رجحه الأكثرون منهما قول وجوب المسمى، وإذا قلنا به؛ ففي التتمة وجهان في أنه متى يلزم تسليمه؟ أحدهما: عند وجود المعلق عليه. والثاني: في الحال، وهو اختيار ابن الصباغ، فإن تعذر تسليم المعوضح لزم رد العوض. والوجهان متفقان على أن المال ثابت في الحال، وكذلك ذكره في التهذيب. وفي مجاميع الإمام، والغزالي: أن المال إنما يجب عند حصول البينونة. قال: وما جاز أن يكون صداقاً من قليل، وكثير، ودين، وعين، ومال، [و] منفعة- يجوز أن يكون عوضاً في الخلع؛ لعموم قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. ولأنه عقد على منفعة البضع؛ فجاز بما ذكرناه؛ كالنكاح. واعلم أن قول الشيخ- رحمه الله تعالى-: ومال يشعر بأن العين يجوز أن تكون غير المال، وليس كذلك، ولعل مراده بالمال: ما يبذل المال في مقابلته وإن لم يكن عيناً؛ كالعفو عن القصاص؛ فإنه يجوز جعله صداقاً. قال: وما لا يجوز أن يكون صداقاً من محرم، أو مجهول، لا يجوز أن

يكون عوضاً في الخلع؛ وكذا الآبق، وما لا يجوز بيعه؛ قياساً على النكاح والبيع. وفي الذخائر: أن بعض أصحابنا صحح الخلع على الآبق، والمذهب الأول. قال: فإن ذكر المسمى صحيحاً، استحقه، وبانت منه المرأة؛ لما قدمناه، وهل يثبت خيار المجلس في البدل؟ فيه وجهان محكيان في الشامل في كتاب البيع، فإن قلنا: يثبت، ففسخ- كان اللطاق رجعيّاً. قال: وإن طلقها على مال، وشرط فيه الرجعة، سقط المال، وثبتت الرجعة في أصح القولين؛ لأن [شرط] المال والرجعة متنافيان؛ فيسقطان، ويبقى مجرد الطلاق، وقضيته ثبوت الرجعة. وفيه قول آخر: أنه لا تثبت الرجعة، بل يسقط المسمى، ويجب مهر المثل، وهو اختيار المزني، ورجحه الإمام والبغوي، ووجّه القياس على ما إذا خالعها وهي حامل على ألَّا ينفق عليها في مدة الحمل. ولأن الخلع لا يبطل بالعوض الفاسد؛ فلا يبطل بالشرط الفاسد؛ كالنكاح. وفي المسألة طريقة قاطعة بالقول الأول، ورجحها بعض النقلة. قال: وإن ذكر بدلاً فاسداً-[أي]: بأن سمى مجهولاً، أو خمراً، أو خنزيراً، [أو حرّاً]، أو مغصوباً، أو ميتة- بانت، ووجب مهر المثل؛ لأنه عقد على منفعة البضع؛ فلا يفسد بفساد العوض، ويكون موجباً لمهر المثل؛ كالنكاح. أما إذا سمي: دماً؛ فيقع الطلاق رجعيّاً؛ لأنه لا يقصد بحال. ولو خالعها على ما [في] هذه الجرة، فإذا هو خمر، أو على هذا العصير، فبان خمراً، أو على عبد، فخرج حرّاً أو مستحقاً- فله مهر المثل في القول الجديد، وعلى قوله القديم: يجب البدل. قال في الشامل: [و] في مسألة العصير نظر؛ لأن الخل مجهول؛ فلا يمكن الرجوع إليه.

وفي الوسيط: أنه إذا خالع على مجهول، وجب مهر المثل، وإن خالع على خمر، أو خنزير، أو مغصوب، ففي الرجوع إلى مهر المثل أو القيمة قولان؛ كما ذكرنا في الصداق، وما ذكره يناظر طريقة حكيناها في الصداق عن التتمة. وعن القاضي الحسين: أنه إذا خالع على خمر، أو مغصوب، أو حر-: أنه يقع الطلاق رجعيّاً؛ لأن المذكور ليس بمال؛ فلا يظهر طمعه في شيء؛ وهذه العلة ترشد إلى أن ذلك فيما إذا صرح بذكر الخمرية وغيرها. وقال في التهذيب في فصل اختلاع الولي: إنه إن كان الخلع مع الأجنبي فيقع [الطلاق] رجعيّاً، وإن كان مع الزوجة فيقع بائناً. والفرق: أن المرأة [تبذل المال]؛ لتصير [منفعة البضع] إليها، والزوج لم يبذل الملك إليها مجاناً، [بل بعوض]؛ فلزمها المال. والأجنبي يبذل ليخلص الزوجة، ولا تصير منفعة البضع له؛ [فهو متبرع]، لا معتاض، فإذا أضاف المال إلى غيره، فقد أبطل تبرعه. وفي التتمة حكاية وجه على قولنا: إن الخلع فسخ-: أنه لا تحصل الفرقة في سائر صور الفساد من أصل، وهو ما إذا خالعها ولم يذكر عوضاً. قال: وإن قال: إن أعطيتني عبداً ولم يصفه، ولم يعينه فأنتِ طالق، فأعطته عبداً- أي: تملكه على الفور، بانت، ولكنه لا يملكه الزوج، بل يرده، ويرجع إلى مهر المثل: أما وقوع الطلاق؛ فلوجود الصفة المعلق عليها. وأما كونه بائناً؛ فلأنه طلاق بعوض، وإنما لم يملكه الزوج، ويرجع إلى مهر المثل؛ لأنه عوض مجهول، والمجهول لا يصلح عوضاً؛ فرجع إلى عوض البضع، وهو مهر المثل.

وحكى القاضي ابن كج والحناطي وجهاً: أنه يقع الطلاق رجعيّاً، ولا يلزمها مهر المثل، وإنما يلزم ذلك إذا ابتدأت، فسألت الطلاق على عوض، فقال في الجواب: إن أعطيتني عبداً فأنتطالق، فأعطته، والمذهب الأول. ولا فرق بين أن يكون العبد صغيراً أو كبيراً، مدبراً أو معلقاً عتقه بصفة، مسلماً أو كافراً، سليماً أو معيباً. قال: وإن أعطته مكاتباً أو مغصوباً [لم تطلق] وكذا لو قال لأجنبي: إن أعطيتني أمة، فزوجتي طالق، فأعطاه أم ولده؛ لأن الإعطاء ينبني [على ما يقدر] على تمليكه. وفي إعطاء المكاتب والمغصوب وجه أنها تطلق. قال الرافعي: وربما جاء مثله في أم الولد، ووجهه: أن الرجوع إلى مهر المثل؛ فلا معنى لاشتراط الملك. قلت: ويمكن أن يكون منشأ الخلاف ما تقدم من أن إعطاء الموصوف على الصفة هل يقتضي الملك، أم لا؟ فإن قلنا: يقتضيه- وهو المذهب- لا يقع، وإلا وقع. ويجري الخلاف فيما لو قال: إن أعطيتني ألف درهم فأنت طالق، فأعطته ألفاً مغصوباً. وحكم المرهون والمستأجر من غيره، والمملوك بعضه- حكم المغصوب، وكان يتجه أن يكون في المستأجر خلاف مبني على جواز بيعه.

فروع: لو قال: إن أعطيتني عبداً مغصوباً فأعطته [فهو كالمخالعة على المغصوب، وقد تقدم. ولو قال: إن أعطيتني خمراً فأعطته] بانت، ووجب مهر المثل، فلو كانت مغصوبة بأن كانت محترمة، فإن قلنا في العبد المغصوب: إنه يقع، [فهنا أولى. وإن قلنا: لا يقع]، فهنا وجهان: أظهرهما: الوقوع. ولو قال: إن أعطيتني حرّاً، فأنت طالق، فأعطته؛ فهو كما لو ذكر الخمر. وفيه وجه: أنه يقع رجعيّاً، وادعى الغزالي [أنه الظاهر]. قال: وإن خالعها على عبد موصوف في ذمتها- أي: بصفات السَّلَم- فأعطته معيباً، بانت- أي: بالقبول- لا بالإعطاء؛ لتمام عقد النكاح، وله أن يرد، ويطالب بعبد سليم؛ كما في السلم. قال: وإن قال: إن أعطيتني عبداً من صفته كذا وكذا أي: وذكر صفات السلم-[فأنتِ طالق] فأعطته- أي: على الفور عبداً على تلك الصفة، بانت؛ لوجود الصفة. قال: وإن كان معيباً، فله أن يرده؛ لأن الإطلاق يقتضي السلامة، ويرجع بمهر المثل في أحد القولين، وهو الأصح، وبقيمة العبد- أي: سليماً- في القول الآخر، وهما مبنيان على أن بدل الخلع في يد الزوجة مضمون ضمان عقد أو ضمان يد، وفيه خلاف تقدم نظيره في الصداق، وليس للزوج المطالبة بعبد سليم- كما في المسألة قبلها- لأن هناك العبد ثبت في الذمة؛ فأشبه المسلم فيه، وهنا لم يلزمه في ذمتها، وإنما هو علق الطلاق بتسليمه؛ فتعين بالتسلم، وصار كالمعين في العقد. وفي كتاب الحناطي حكاية وجه: أنه لا يرد العبد بالعيب، بل يأخذ أرش العيب، والمذهب الأول. فإن قيل: الإطلاق إما أن يقتضي السلامة عن العيب أو لا، فإن لم يقتضه، وجب ألَّا يرد، وإن اقتضاه وجب ألَّا يقع [الطلاق]؛ لأن

المعيب غير المعلق عليه. ويورد السؤال من وجه آخر، وهو أن السيد إذا رد النجوم بالعيب يرتفع العتق، ومقتضاه أن الزوج إذا رد العبد بالعيب أن يرتفع الطلاق؛ لأن كلّاً منهما معلق بالإعطاء. [وجواب هذا]: أن المغلب على الكتابة الصحيحة حكم المعاوضة؛ ولهذا [لو كاتبه على مال فأبرأه منه عتق، والمغلب على الخلع حكم التعليق؛ ولهذا] لو علق الطلاق على مال في ذمتهان ثم أبرأها منه لم تطلق، بل نظير الخلع الكتابة الفاسدة. فرع: لو قال: إن أعطيتني عبداً من صفته كذا، فأنت طالق، ولم يستوعب صفات السلم، فهو كما لو أطلق ذكر العبد في أن الرجوع إلى مهر المثل، لكنها لو أعطته عبداً على غير تلك الصفة؛ لم يقع الطلاق. قال: وإن قال: [إذا] أعطيتني هذا العبد فأنت طالق، فأعطته وهي تملكه- بانت؛ لما تقدم، فإن كان معيباً، فله أن يرده، ويرجع بمهر المثل في أحد القولين، وهو الأصح، وبقيمته- أي: سليماً- في القول الآخر؛ كما في نظيره في الصداق. وحكى ابن الصباغ والمتولي عن [ابن] أبي هريرة: أنه يجيء على القول القديم: [أنه لا] يرده، بل يرجع بالأرش؛ وهذا يناظر ما حكيناه في الصداق عن أبي حفص بن الوكيل، لكنه لم يخصص بما إذا كان العيب حادثاً بعد العقد؛ فيشبه أن يكون هنا كذلك؛ لكن إيراد المتولي يقتضي التعميم. قال: وإن أعطته عبداً وهي لا تملكه، بانت؛ لأنها أعطته ما عينه. وقيل: لا تطلق؛ كما لو خالعها على عبد غير معين، فأعطته عبداً مغصوباً. قال: وليس بشيء؛ لأن هناك أطلق العقد؛ فحمل على ما يقتضيه العقد، وهو دفع عبد يملكه، وهنا عينه صريحاً؛ فتعلق بعينه. وشبه [في الشامل والتتمة الوجهين بالوجهين فيما إذا أذن لوكيله في شراء عبد بعينه، فاشتراه ثم] اطلع على عيب به- في أن الوكيل هل [له] الرد؟ -

قال: وإن خالعها على ثوب- أي: معين- على أنه هروي، فخرج مرويّاً، بانت وله الخيار بين الرد والإمساك. الهروي- بفتح الهاء والراء-: منسوب إلى هراة: مدينة معروفة بخراسان. والمروي- بفتح الميم وإسكان الراء- منسوب إلى مرو: مدينة معروفة بخراسان، ينسب إليها- أيضاً- مروزي. والهروي والمروي نوعان من القطن. والدليل على ما ادعاه الشيخ: أن ذلك اختلاف وصف في العوض، واختلاف الوصف لا يمنع صحة العقد، بل يثبت الخيار، كما في البيع. وفي شرح مختصر الجويني وجه: أنه إذا كانت قيمة المروي أكثر، أو لم يكن تفاوت، فلا يرد؛ لأن الجنس واحد، ولا نقصان، والظاهر الأول. قال أبو الفرج السرخسي: وهذا على قولنا: إن اختلاف الصفة لا ينزل منزلة اختلاف العين، وفيه قولان ذكرناهما في النكاح، فإن نزلناه منزلة ختلاف العين، فالعوض فاسد، وليس له إمساكه، ويرجع إلى مهر المثل، أو بدل الثوب إن كان هرويّاً؛ على اختلاف القولين. قلت: وما قاله من أن اختلاف الصفة كاختلاف العين مذكور في الزوجين؛ لأن الوصف فيهما يقوم مقام الرؤية، فإذا اختلف الوصف، كان بمنزلة ما لو رأى عيناً، وعقد على غيرها. وأما بدل الخلع، فهو بالبيع أشبه، ولم نعلم خلافاً فيما إذا اشترى عبداً، وشرط أنه تركيٌّ، فخرج غير تركي: أنه يبطل البيع، بل المنقول ثبوت الخيار.

فرع: إذا وجد به عيباً بعد تلفه، أو بعد تعيبه في يده، ولم يمكن الرد، فيرجع بقدر النقصان من مهر المثل في أصح القولين، وبقدر ما انتقص من القيمة في الثاني. قال: وإن خرج كتاناً بانت، ويجب رد الثوب. الكتان: بفتح الكاف. ووجه رد الثوب: أن الكتان جنس، والقطن جنس، واختلاف الجنس كاختلاف العين؛ بخلاف الهروي والمروي؛ فإنهما جنس واحد. ولأن الثوب إذا خرج كتاناً، ظهر أن رؤيته لم تحط بالمقاصد؛ فكأن لا رؤية، والرؤية شرط. ووجه حصول البينونة: أن فسادالعوض، لا يوجب فساد الخلع؛ كما إذا خالع على مجهول. قال: ويرجع إلى مهر المثل في أحد القولين، وغلى قيمته- أي: لو كان هرويّاً- في القول الآخر، ولا يخفى توجيههما مما تقدم. وقيل: هو بالخيار بين الإمساك والرد؛ كما لو خرج مرويّاً؛ إذ العين واحدة، وإنما اختلفت الصفة؛ وهذا ما أجاب به في التهذيب. وقال في التتمة: الخلاف في هذه المسألة مبني على ما إذا قال: بعتك هذه البغلة، فإذا هي فرس، هل يصح البيع؟ وفيه خلاف. فإن صححناه فهو كاختلاف الصفة، وإلا فسدت التسمية. ولو قالت: خالعني على هذا الثوب؛ فإنه هروي؛ فخالعها عليه، فخرج مرويّاً- فالحكم كما تقدم؛ لأنها غرته. ولو قال: خالعتك على هذا الثوب، وهو هروي فبان خلافه- فلا رد؛ لأنه لا تغرير من جهتها [ولا اشتراط، وكذلك] لو قال: خالعتك على هذا الثوب الهروي؛ وهذا بخلاف ما لو قال: إن أعطيتني هذا الثوب وهو هروي، فأنت طالق، فأطته، وبان مرويّاً- فإنه لا يقع الطلاق.

ولو قال: إن أعطيتني هذا الثوب الهروي، [فأعطته] وبان مرويّاً، فإن في وقوع الطلاق وجهين عن القاضي الحسين. ولو قالت لزوجها: هذا الثوب هروي، فقال: إن أعطيتني هذا الثوب فأنت طالق، فأعطته، وبان مرويّاً. قال في "التتمة": ينبني ذلك على المتواطأ عليه قبل العقد، هل هو كالمشروط في العقد؟ إن قلنا: نعم؛ لم يقع الطلاق، وإلا وقع، وليس له إلا الثوب؛ وهذا البناء فيه نظر؛ فإن المنقول عن الأصحاب في مسألة تناظر هذه المسألة من الحكم ما يفهم منه: أن هذا ليس من قبيل الشروط، وذلك أنهم قالوا: لو دفع إلى خياط ثوباً، وقال له: إن كان يكفيني هذا قباء فاقطعه، فقطعه، فلم يكفه- وجب عليه الأرش. ولو قال: أيكفيني هذا قباء؟، فقال: نعم، فقال: اقطعه فقطعه، فلم يكفه- فلا شيء عليه، وكان مقتضى ما قاله في التتمة: أن يخرج ذلك على الشرط السابق؛ إذ جرى منه إخبار قبل القطع، [كما جرى منها إخبار قبل العقد]. ولو خالعها على ثوب هروي في الذمة، وقبلت، ثم دفعت إليه مرويّاً، فرضيه، وأراد إمساكه، فينبني على أن الزبيب الأبيض هل يؤخذ في السلم عن الأسود؟ فإن قلنا: يجوز، فكذلك ها هنا، وإن قلنا: لا يجوز؛ فلا يجوز الإمساك ها هنا من

غير معاقدة، فإن تعاقدا، وقالت: جعلته بدلاً عما في ذمتي، فينبني على أن الصداق في اليد مضمون ضمان عقد، أو ضمان يد؟ إن قلنا بضمان اليد؛ فيجوز. وإن قلنا بضمان العقد؛ فعلى القولين في جواز الاستبدال عن الثمن في الذمة، كذا حكاه الرافعي في آخر الباب. قال: وإن قالت: طلقني ثلاثاً على ألف، أي: وهو يملك عليها الثلاث- فطلقها طلقة، استحق ثلث الألف؛ أي: سواء أعاد ذكر المال، أو اقتصر على الطلاق؛ لأن الخلع من جانبها معاوضة مشبهة بالجعالة، ولو قالت: رد عليّ عبيدي الثلاثة ولك ألف، فرد واحداً؛ استحق ثلث الألف؛ فكذلك ها هنا، وليس كما لو قال الزوج ابتداء: طلقتك ثلاثاً على ألف، فقالت: قبلت واحدة بثلث الألف، فإنه لا يقع الطلاق؛ لأن الخلع من جانبه تعليق فيه شائبة المعاوضة، ومن شرط الوقوع بالتعليق حصول الصفة المعلق عليها، ومن شرط المعاوضة أن يوافق الإيجاب القبول، ولم يتحقق واحد من الشرطين. نعم: لو قبلت واحدة بألف، استحق الألف، ووقعت طلقة. وقيل: الثلاث، وهو اختيار القفال، والصحيح في النهاية. وقيل: لا يقع شيء. وحكى أبو الفرج السرخسي في مسألة الكتاب: أنه إذا لم يُعد ذكر المال، يكون الطلاق رجعيّاً. وحكى الشيخ أبو علي وجهاً: أنها إذا سألت الثلاث، فطلق واحدة؛ لم يقع شيء وغلط ناقله. وحكى الحناطي وجهاً: أنه يرجع عليها بمهر المثل، والمذهب الأول. ولو طلقها طلقة ونصفاً، فهل يستحق ثلثي الألف؛ لوقوع طلقتين، أو نصف الألف؛ لأنه أوقع نصف الثلاث والتكميل من الشرع؟ فيه وجهان. ومثل هذا الخلاف ما إذا قالت: طلقني بألف، فقال: طلقت نصفك،

فهل يستحق الألف؟ ينبني على أنه هل يقع على النصف، ثم يسري، أو يقع على جملتها؟ [فإن قلنا بالثاني، استحق الالف]، وإن قلنا بالأول، وجب ألَّا يستحق إلا نصف الألف؛ كما لو قالت: طلقني ثلاثاً، فطلقها واحدة، يستحق بالقسط؛ كذا حكاه الرافعي في آخر الباب. أما إذا لم يملك عليها إلا واحدة، فسألته أن يطلقها ثلاثاً، فطلقها واحدة، استحق جميع الألف، سواء كانت عالمة بما بقي من عدد الطلاق، أو جاهلة؛ لأنه حصل بهذه الطلقة مقصود الثلاث، وهي الحرمة الكبرى؛ هذا نصه في المختصر، وهو الذي ذكره القفال، والشيخ أبو علي، وأكابر الأئمة. وقال المزني: ينبغي ألَّا يستحق إلا ثلث الألأف؛ توزيعاً للمسمى على العدد المسئول؛ كما لو كان يملك الثلاث فطلق واحدة، والحرمة لا تثبت بتلك الطلقة، وإنما تثبت بها وبما قبلها؛ فيكون حكمها حكم الثانية والأولى؛ كما قال الشافعي: [السكر] لا يحصل بالقدح الأخير، بل به وبما قبله؛ فيكون حكمه حكم ما قبله في التحريم، ووافقه على ذلك بعض الأصحاب. وقال أبو إسحاق وابن سريج: إن كانت المرأة عالمة بأنه لم يبق إلا واحدة، استحق تمام الألف، وإن لم تعلم؛ وجب أن يوزع؛ وهذا اختيار الروياني. ونقل الحناطي وجهاً: أن المسمى يبطل، ويرجع الزوج على مهر المثل. ووجهاً: أنه لا شيء له؛ لأنه لم يطلق كما سألت؛ فتحصلنا على خمسة أوجه. ولو سألت الثلاث على ما صورنا، وهو لا يملك إلا طلقتين، فطلقها واحدة، فله ثلث الألف؛ على النص والتخريج الذي ذكره المزني. وعلى الوجه الفارق: إن جهلت فكذلك، وإن علمت فله النصف؛ توزيعاً على الطلقتين. وإن طلقها طلقتين؛ فعلى النص يستحق جميع الألف. وعلى ما قاله المزني يستحق الثلثين.

وعلى الوجه الفارق، يستحق الجميع إن علمت، والثلثين إن جهلت. وزاد الحناطي وجهاً رابعاً، وهو الرجوع إلى مهر المثل. وخامساً: وهو أن لا شيء له. وسادساً: وهو أن له ثلثي مهر المثل. والضابط على النص العدد المسئول: [إن ملك الزوج كله، وأجابها؛ فله المسمى، وإن أجابها إلى بعضه؛ فله قسطه بالتوزيع وإن استحق المسمى. وإن كان يملك بعض المسئول]، فإن تلفظ بالمسئول، أو حصل مقصودها بما أوقع، استحق المسمى، وإلا وزع المسمى على العدد [المسئول] واستحق ما يقتضيه التوزيع. وعلى ما ذكره المزني: التوزيع على المسئول أبداً. وكذا الحكم على الوجه الفارق في حالة الجهلن وفي حالة العلم التوزيع على المملوك من الطلاق دون المسئول، فلوك ان يملك ثلاث تطليقات، فقالت له: طلقني ستّاً، فعلى النص والتخريج يستحق بالواحدة السدس وبالاثنتين الثلث، وإن طلقها ثلاثاً، استحق الجميع على النص، والنصف على تخريج المزني، وأما على الوجه الفارق فله بالواحدة الثلث وبالاثنتين الثلثان، وبالثلاث الجميع وعلى هذا فقس. فرع: لو قالت: طلقني ثلاثاً على ألف، فقال: أنت طالق ثلاثاً: واحدة بألف، وثنتين مجاناً، وقعت الأولى بثلث الألف، ولا تقع الأخيرتان. قال الإمام: والقياس الحق: ألَّا يجعل كلامه جواباً [عن سؤالها]؛ لأنها سألت كل واحدة بثلث الألف، وهو لم يرض إلا بالألف، وإذا لم يوافق كلامه سؤالها كان مبتدئاً بما قال، وإذا لم يقبل، وجب ألَّا يقع، وإذا لم تقع تلك الواحدة، وقعت الأخيرتان رجعيتين، وتابعه الغزالي وغيره على ما ذكره الرافعي، ثم قال: وهو حسن، والأول بعيد، وأبعد منه ما في التهذيب: أنه تقع الواحدة

بالألف، ولا تقع الأخيرتان، والله أعلم. قال: وإن قالت: طلقني طلقة، فطلقها ثلاثاً [يستحق الألف]؛ لأنه فعل ما طلبته وزيادة، فأشبه ما لو قال: رد عبدي فلاناً، ولك كذا)، فرده مع [عبدين آخرين]؛ وهذا بخلاف ما لو قال: بعني هذا العبد بألف، فقال: بعتكه بألف مع هذين العبدين- فإن الظاهر بطلان البيع؛ لأن تمليكه العبدين الآخرين من غير رضاه لا سبيل إليه، وإيقاع الطلقتين الأخيرتين يستقل به الزوج. على أن الحناطي حكى في مسألة البيع وجهين آخرين: أحدهما صحة البيع في الجميع. والثاني: صحته في المسئول خاصة. ثم الألف الذي يستحقه الزوج في مقابلة الثلاث، أو في مقابلة واحدة منها؟ فيه اختلاف للأصحاب، ولا يتعلق به فائدة حكمية؛ وهذا [فيما] إذا لم يُعد ذكر الألف في الجواب، فإن أعاد فقال: طلقتك ثلاثاً بألف؛ ففيه أوجه: أظهرها: أن الحكم كما لو لم يُعِد. والثاني: عن القفال أنه يقع الثلاث، ولكن لا يستحق إلا ثلث الألف؛ لأنه جعل الألف في مقابلة الثلاث، وهي لم تسأل بالعوض إلا واحدة، وحصة الواحدة ثلث الألف. والثالث: أن إعادة الألف تصريح بالتوزيع، ومقابلة كل طلقة بثلث الألف؛ فلا يقع شيء. والرابع: أنه يقع واحدة بثلث الألف، والأخيرتان لا تقعان. قال الرافعي: وحق هذه الوجوه أن تطرد فيما إذا لم يعد ذكر الألف؛ لأن قوله: أنت طالق ثلاثاً: إما أن يكون جواباً عن سؤالها؛ فتقدير الألف عائد فيه، أو لا يكون كذلك. فإن كان الثاني، وجب أن تطلق ثلاثاً، ولا يلزم شيء من المال. وإن كان الأول؛ فأي فرق بين أن يذكره لفظاً، أو لا يذكره، والمعنى واحد.

ولو قالت: طلقني واحدة بألف، فقال: أنت طالق بخمسمائة؛ وقع الطلاق على أصح الوجهين، وفيما يستحقه وجهان: الأصح: [أنه] خمسمائة، وهو ما أجاب به في التتمة. والثاني: جميع الألف. واعلم أن ما ذكرناه فيما إذا خالف إما بالزيادة على ما سألت أو بالنقصان، أما إذا خالف اللفظ، بأن قالت له: طلقني على ألف، فقال: خالعتك أو حرمتك أو أبنتك على ألف، ونوى الطلاق- صح الخلع. وقال أبو علي بن خيران: لا يصح؛ لأنها سألت الطلاق بالصريح، فأجاب بالكناية؛ وهذه المسألة تناظر ما إذا قال لها: طلقي نفسك، فقالت: اخترت، ونوت، وسيأتي. وإن قال: خالعتك، ولم ينو الطلاق، وقلنا: إن الخلع فسخ، لا تقع الفرقة. وأما إن قلنا: إنه طلاق فلا يخفى الحكم. ولو قالت: [اخلعني]، فقال: طلقتك، وقلنا: إن الخلع فسخ؛ ففيه وجهان في المهذب: المذهب منهما: الصحة؛ لأنه حصل لها ما طلبت وزيادة. والثاني: لا يقع؛ لأنه أجابها إلى غير ما طلبت. وإن قلنا: إنه كناية؛ فلابد من نيتها. وفي "التتمة" تخصيص الوجهين بما إذا قال الزوج: طلقتك على ألف، أما إذا قال: طلقتك، ولم يذكر المال، فوجهان ينبنيان على الصورة الأولى، فإن قلنا عند ذكر العوض: تقع الفرقة، فها هنا يجعل مبتدئاً وتقع طلقة رجعية. وإن قلنا عند ذكر العوض: لا يقع الطلاق، فكذلك ها هنا. قال: وإن وكلت المرأة في الخلع- أي: وأطلقت- لم يخالع الوكيل على أكثر من مهر المثل؛ كما لو قال: اشتر لي هذا، وأطلق؛ فإنه ينصرف إلى ثمن المثل. ويجوز أن يخالع على دون نقد البلد، وعلى قدر مهر المثل مؤجلاً، ودون مهر المثل؛ لأن ذلك زيادة خير. ولو زاد على مهر المثل، ففي المهذب والشامل حصول البينونة والرجوع

إلى مهر المثل. وفي تعليق الشيخ أبي حامد حكاية قول أن لها الخيار: إن شاءت فسخت المسمى، وكان عليها مهر المثل، وإن شاءت سلمت ما سمى الوكيل. وفي الرافعي: أن حكمه حكم ما لو قدرت له العوض، فزاد عليه، إلا في استحقاق [أكثر] الأمرين. قال: فإن قدرت له العوضن فزاد عليه- أي: وأضاف الوكيل الخلع إليها- وجب مهر المثل في أحد القولين أي: سواء [زاد [على] ما قدرته، أو نقص؛ لأنه تعذر إيجاب المسمى؛ لعدم الرضا به؛ فصار كما لو تعذر إيجابه؛ لجهله؛ وهذا هو الأصح والمنصوص عليه في الإملاء. قال: ويجب في الثاني أكثر الأمرين من مهر المثل [أو] القدر المأذون فيه- أي: ما لم يزد مهر المثل على ما سماه الوكيل؛ لأن مهر المثل إن كان أكثر فهو الذي يرجع إليه عند فساد التسمية، وإن كان الذي سمته أكثر، فهي قد رضيت به؛ وهذا نصه في الأم. أما إذا كان مهر المثل زائداً على ما سماه الوكيل، لم تجب الزيادة على ما سماه الوكيل؛ لأن الزوج قد رضي به وكما تؤاخذ برضاها يؤاخذ برضاه. مثال ذلك: إذا قدرت مائة، وسمي الوكيل مائتين، ومهر مثلها تسعون- فالواجب على القول الأول: تسعون. وعلى [القول] الثاني: مائة. ولو كان مهر المثل مائة وخمسين؛ فالواجب مائة وخمسون على القولين. ولو كان مهر مثلها ثلاثمائة؛ لم يجب على القول الثاني إلا مائتان. وقد حكي [في المسألة] قول ثالث: أن المرأة بالخيار: إن شاءت أجازت بما سماه الوكيل، وإن شاءت ردت، وعليها مهر المثل، وقد حكيناه من قبل عن رواية أبي حامد. وعلى الأقوال كلها: لا يطالب الوكيل بشيء إلا أن يقول: على أني ضامن؛ فيطالب بما سماه، وإذا أخذه الزوج منه؛ ففي التهذيب: أنه لا يرجع عليها

[إلا] بما سمت. وقال الرافعي: ويجيء فيه قول آخر: أنه يرجع بالواجب عليها، وهو مهر المثل، أو أكثر الأمرين منه ومما سمت، [على اختلاف] القولين السابقين. وفي المجرد للحناطي حكاية قول أنه لا أثر لهذا الضمان. وفي الذخائر: أن أبا العباس بن سريج قال: إنه يضمن الزيادة على مهر المثل عند عدم الضمان. أما إذا أضاف الوكيل الخلع إلى نفسه، فهو خلع أجنبي، والمال عليه. وإن أطلق، فعلى الوكيل ما سماه؛ لأن الظاهر أن العقد وقع على مال نفسه، فهو بمثابة ما لو اشترى لموكله ما لم يأذن له فيه، ولم يسم الموكل؛ هذه طريقة العراق. وقال الخراسانيون: الخلع صحيح، وعلى الوكيل ما سماه، وفيما عليها منه قولان: أصحهما: أن عليها ما سمت، والزيادة على الوكيل، ويرجع الوكيل عليها عند الغرم بما سمت. والثاني: أن عليها أكثر الأمرين من مهر المثل أو ما سمت، فإن بقي من أكثرهما شيء إلى ما سمي الوكيل فهو [عليه]، وإن زاد مهر المثل على ما سماه الوكيل، لم تجب [تلك] الزيادة. وإذا خالف الوكيل في جنس العوض، مثل: أن تقول: اخلعني بالدراهم، فيخالع بالدنانير، أو توكله بالاختلاع على ثوب دفعته إليه، فيخالع على دراهم- فعن القاضي الحسين: أنه ينصرف الاختلاع عنها؛ حتى يلغو إن أضاف إليها، ويقع عن الوكيل إن أطلق؛ بخلاف ما إذا خالف في القدر؛ فإنه إذا زاد على ما قدرته، فقد أتى على ما أمرت به وزيادة. قال الرافعي: والأظهر- وهو المذكور في التهذيب-: أنه تحصل البينونة [لما مر في مخالفة القدر، ثم ينظر: إن أضاف الخلع إلى مالها، ولم يقل: أنا ضامن؛ فالرجوع عليها بمهر المثل

في أصح القولين، وبالأكثر من مهر المثل وقدر ما سمته في القول الثاني. وإن قال: وأنا ضامن، أو لم يضف العقد إليها، فلا رجوع إلا بقدر ما سمت. واعلم أن جميع ما ذكرناه مفرع على حصول البينونة] وهو لانص، ووراءه أمران آخران: أحدهما: قال المزني: لا يقع الطلاق؛ كما لو خالف وكيل الزوج؛ فنقص عن المقدر. وفيما علق عن الإمام: أن ما ذكره [قول] مخرج عن أصل الشافعي. قال: وأرى [أن] كل اختيار له يجري فإنه لا يخالف أصول الشافعي، لا كأبي يوسف ومحمد؛ فإنهما يخالفان أصول صاحبهما. وفرق الأصحاب بين ما قاله المزني وبين المسألة المستشهد بها: بأن الخلع من جانب الزوج نازع إلى التعليق؛ فكأنه علق الطلاق بذلك القدر، فإذا نقص الوكيل، لم تحصل الصفة، وجانب الزوجة بخلافه. الثاني: حكى الحناطي في المجرد [قولاً آخر] أنه يقع الطلاق، ولا يلزمها شيء، ولا الوكيل، ولا يخفى التفريع عليهما. قال: وإن خالع على مهر فاسد- أي: بأن سمي خمراً، أو خنزيراً- وجب مهر المثل- أي: سواء أطلقت التوكيل، أو سمت الفاسد- لأن المسمى سقط؛ فوجب مهر المثل. قلت: ويتجه أن يجري فيه الوجه السابق المحكي فيما إذا خالعت على خمر أو خنزير: أن الواجب بدل ذلك. أما إذا سمت عوضاً صحيحاً، فخالع على غيره، وأضاف الخلع إليها- فإن الفرقة لا تحصل، وقضيته: أن يطرد هنا بطريق الأولى. أما إذا قلنا: تحصل الفرقة عند المخالفة في الجنس؛ فيتجه أن يكون ها هنا كذلك؛ كما عند الإطلاق، وقد أومأ في الذخائر إلى شيء من ذلك.

وعلى المذهب: الفرق بين ذلك، وبين ما إذا خالع وكيل الزوج على خمر أو خنزير؛ حيث لا يقع الطلاق-: أن وكيل الزوج يوقع الطلاق بالخمر والخنزير، وهو [غير] مأذون فيه، ووكيل المرأة لا يوقعه، وإنما يقبله، فإذا فسد العوض يرجع إلى مهر المثل، وصار كما لو فعلت هي وهو [غير] مأذون فيه، ومفهومه: أنه إذا أذن فيه الزوج يقع الطلاق، وقد صرح به الرافعي. وفي التتمة: أن الفرقة [لا تقع] في هذه الصورة- أيضاً- لأن الخلع فيه معنى التعليق والمعاوضة، فإن راعينا جهة التعليق؛ فحكمه حكم اليمين؛ فلا يصح التوكيل فيه. وإن راعينا جهة المعاوضة، فالتوكيل في المعاوضة الفاسدة لا يصح. واعلم أن هذا كله فيما إذا أضاف الوكيل الخلع إليها، أما إذا أضافه إلى نفسه، فالبينونة حاصلة، وعليه مهر المثل. وفي الحاوي: أن في وقوع الطلاق وجهين. وإذا قلنا بالوقوع، فهل يجب مهر المثل؟ فيه وجهان؛ هكذا في الذخائر قيد النقل عنه. وفي ابن يونس حكاية الخلاف عنه من غير تقييد بإضافة الخلع إلى نفسه. ثم حكاية الوجهين في وجوب مهر المثل يجوز أن يكون [الوجه المقابل] للوجوب منهما: أن الواجب بدل الخمر أو الخنزير؛ كما تقدمت حكايته في خلعه عليهما. ويجوز أن يكون لا يجب شيء أصلاً؛ فيكون الطلاق رجعيّاً، وهو ما حكيناه عن صاحب التهذيب عند الكلام في الخلع على البدل الفاسد، بخلاف الزوجة، والفرق بينهما ما حكيناه [ثم] عنه. واعلم أن قول الشيخ: مهر فاسد، صوابه: عوض فاسد؛ إذ لا مدخل للمهر في الخلع. ويجوز أن يجاب عنه بأنه لما قرر أن ما جاز أن يكون صداقاً، جاز أن يكون عوضاً في الخلع، وما لا يجوز [أن يكون] صداقاً لا يجوز أن يكون عوضاً في

الخلع- جرى هنا على ما قرره من قبل. قال: وإن وكل الزوج في الخلع- أي: وأطلق- فنقص عن مهر المثل، [أي: أو ذكر فيما سمي أجلاً، أو عاقد على غير نقد البلد- وجب مهر المثل] في أحد القولين؛ لأن الخلل وقع في العوض؛ فلا يريد به الطلاق، ويجب مهر المثل؛ كما لو خالعها الزوج على عوض فاسد؛ وهذا نصه في الإملاء، وهو الصحيح عند النووي والجيلي. قال: وفي القول الآخر الزوج بالخيار بين أن يقر الخلع على ما عقد وبين أن يترك العوض، ويكون الطلاق رجعيّاً؛ لأن الطلاق مأذون فيه، وقد وقع؛ فلا يمكن رفعه، ولا يمكن إجبار الزوج على المسمى؛ لأنه دون ما يقتضيه الإذن، ولا يمكن إجبارها على مهر المثل؛ لأنه فوق ما رضيت به؛ فخير بين الأمرين؛ لزوال الرر عنهما بقدر الإمكان. وقال في التهذيب والجيلي: وهذا مخرج من وقف العقود، وهو قوله القديم. وهذا فيه نظر من وجهين: أحدهما: أن هذا القول منصوص عليه في الأم، والأم من الجديد. والثاني: أن قضيته: أنه إذا أراد ألا يقع الطلاق؛ كما لو طلق الفضولي، وليس هذا القول كذلك. وحُكي في المسألة قولان آخران. أحدهما: أنه بالخيار بين مهر المثل والمسمى. والثاني: أنه بالخيار بين أن يرضى بالمسمى، أو يرد الطلاق. قال في الذخائر: قال أصحابنا: وكأنه يشير بذلك إلى صاحب البسيط، وقد صرح به الرافعي عنه، [ويكاد] أن يكون هذا مبنيّاً على القول بوقف العقود. ويحتمل أن يكون هذا في الطلاق خاصة؛ لأنه يحتمل التعليق على الأغرار والأخطار، بخلاف البيع، ولكن يلزم على هذا [اتفاق] طلاق الفضولي.

ووجهه: أن الطلاق وقع منوطاً بعوض، فإذا بطل العوض؛ بطل الطلاق المعلق عليه. وفي الوسيط: أنه لا ينبغي أن يؤخذ هذا من وقف العقود، بل مأخذه أن لفظه عام، وله أن يقول: أردت [به] مهر المثل، وعلامة ذلك ألَّا يرضى بالمسمى، فإن رضي بالمسمى، فكأنه أراد ذلك بالعموم. واعلم أن صورة المسألة أن يقول: وكلتك بخلع زوجتي أو يخالعها، ولا يقدر مالاً؛ إن قلنا: إن مطلق الخلع يقتضي المال، وإن قلنا: لا يقتضيه، فيشترط أن يقول: خالعها بمال. قال: وإن قدر البدل، فخالع بأقل منه، أو على عوض فاسد، لم يقع الطلاق، [وكذا] إذا خالع على غير جنس المسمى، أو ذكر فيما سمي أجلاً- لم يقع الطلاق؛ وهذا ما حكاه في التهذيب. ووجهه: أنه طلاق أوقعه على غير الوجه المأذون فيه؛ فلم يقع كما لو وكله في إيقاع الطلاق في يوم، فأوقعه في يوم قبله. والفرق بين هذه الصورة والصورة التي قبلها: أن النقصان عن القدر مخالفة لصريح لفظه، فلا يكون المأتي به مأذوناً فيه، والنقصان عن مهر المثل لا يخالف صريح لفظه، بل اللفظ مطلق يشمل مهر المثل وغيره، وللطلاق قوة وغلبة؛ فعموم اللفظ يقتضي وقوعه، وأثر المخالفة يظهر في العوض. وقيل: ينقل جواب كل مسألة إلى الأخرى، وجعلهما [على] قولين؛ وهذا هو الصحيح في الرافعي، وعند الشيخ في المهذبن والأقيس في الشامل، وأبطل في المهذب الفرق بالوكيل في البيع؛ فإنه لا فرق بين أن يقدر له الثمن فيبيع بأقل منه، وبين أن يطلق فيبيع بما دون ثمن المثل. واتفق الناقلون على أن الأصح من القولين فيما إذا نقص عن المقدر؛ عدم الوقوع، [فأما إذا نقص عن مهر المثل في صورة الإطلاق، فعند البغوي وابن الصباغ ومجلي: الراجح- أيضاً- عدم الوقوع]، وعند باقي العراقيين والقاضي الروياني: الراجح الوقوع، والأول أقوى توجيهاً؛ لما ذكرناه من إلغاء الفارق، ويؤيده أن الزوجة لو

قيدت الإذن في النكاح بقدر، فنقص عنه الوكيل، لم ينعقد النكاح. ولو أطلقت فزوج الوكيل بدون مهر المثل؛ لم ينعقد على الأصح، والزوج في هذا المقام كالزوجة ثم، وقد تحصل بمجموع ما ذكرناه في كل مسألة خمسة أقوال. فائدتان: إحداهما: يجوز أن يوكل [الزوج] في الخلع العبد والمكاتب والسفيه المحجور عليه، ولا يشترط إذن السيد والولي، وهل يجوز أن يوكل [امرأة؟ فيه وجهان: الأصح منهما الجواز، وسيأتي الكلام في أصلهما في الطلاق. ولا يجوز أن يوكل] المحجور عليه بالقبض، فإن فعل، وقبض؛ ففي التتمة: أن المختلع يبرأ، ويكون الموكل هو المضيع لماله. قلت: وكان ينبغي أن يفصل، فيقال: إن كان العوض معيباً في الخلع، فهو كما قال، وإن كان في الذمة فيخرج على أن الحجر على السفيه يتعدى إلى نفسه، وفيه خلاف تقدمت فوائده: فإن قلنا: يتعدى فقد ألحقناه بالصبي، والصبي لا يعتد بقبضه في مثل ذلك. وإن قلنا: لا يتعدى، فيعتد به. ومثل هذا الخلاف قد حكيناه فيما إذا أذن الولي لزوجة السفيه في إيصال عوض الخلع إليه، وأن الراجح الاعتداد به. ولو وكلت الزوجة بالاختلاع سفيهاً محجوراً عليه، قال في التهذيب: لا يجوز، وإن أذن الولي، فإن فعل وقع الطلاق رجعيّاً؛ كما لو اختلعت المحجورة نفسها؛ وهذا على ما ذكره صاحب التتمة فيما إذا أطلق، أما إذا أضاف المال إليها؛ فتحصل البينونة، ويلزمها المال؛ لأن الحجر على السفيه لدفع الضرر عنه، وليس في قبول الخلع عنها إضرار بالسفيه. وعلى [مقتضى] ما حكاه [الشيخ] في كتاب الوكالة يكون جواب

صاحب التهذيب على الإطلاق؛ لأنه قال: ومن لا يجوز تصرفه فيما يوكل فيه، لا يجوز توكيله، ولا وكالته. ولو وكلت الزوجة بالاختلاع عبداً، فيجوز: أذن السيد أو لم يأذن؛ إن كان الاختلاع على عين مالها، وإن كان على مالٍ في الذمة؛ نظر: إن أضافه إليها فهي المطالبة، وإن أطلق، فإن لم يأذن السيد في الوكالة، فيطالب بالمال بعد العتق، وإذا غرم رجع على الزوجة إذا قصد الرجوع. وإن أذن في الوكالة تعلق المال بكسبه؛ كما لو اختلعت الأمة بإذن السيد، وإذا أدى من كسبه؛ ثبت الرجوع على الموكلة؛ كذا حكاه الرافعي. قلت: ويتجه في هذا بحثان: أحدهما: أن الزوج إما أن يصدق المختلع على أنه خالع بالوكالة، أم لا: إن لم يصدقه، فالحكم كما ذكر. وإن صدقه فيتجه أن يتخرج على الخلاف في البيع في مثل هذه الصورة في أن الوكيل هل يطالب؟ والثاني: تعلق المال بالكسب فيه نظر؛ لأن إذن السيد في الوكالة إما أن يكون يفيد التصريح بالسفارة أو لا: إن كان الأول، فإذا لم يصرح ينبغي أن يكون حكمه كما لو خالع بغير الإذن، وإن كان قد أطلق الإذن؛ فالإطلاق يحتمل التصريح بالسفارة، ويحتمل الإطلاق، فينبغي أن يحمل على التصريح؛ إذ لو حمل على الإطلاق لاقتضى الوفاء من الكسب الذي هو حق السيد بمقتضى إذنه، وقد بينا أن الإذن يحتملهما فحمل على التصريح؛ لأن الأصل عدم التعليق، والله أعلم. ويجوز أن يكون وكيل الزوجة [والزوج] كتابيّاً؛ لأن الكتابي قد يخالع المسلمة، ويطلقها؛ ألا ترى أن المرأة لو أسلمت، وتخلف الزوج، فخالعها في العدة، ثم أسلم، يحكم بصحة الخلع؟ الفائدة الثانية: هل يجوز أن يتولى [الوكيل] الواحد طرفي الخلع؟ ينبني على أنه هل يتولى الوكيل الواحد طرفي البيع؟ وفيه خلاف:

فإن قلنا: يجوز في البيع [فهنا، أولى، وإن قلنا: لا يجوز] فها هنا وجهان: وجه الجواز: أن الخلع يكفي فيه اللفظ الواحد من أحد الجانبين؛ ألا ترى أنه لو قال: إن أعطيتني ألفاً، فأنت طالق، فأعطته، وقع الطلاق، وثبت الخلع، ومقصوده؛ وعلى هذا ففي الاكتفاء بأحد شقي العقد خلاف؛ كما في بيع الأب مال نفسه من ولده. قال: وإذا خالع في مرضه- أي: المتصل بالموت- اعتبر ذلك من رأس المال حابي أو لم يحاب؛ لأنه يملك أن يطلق مجاناً، فإذا طلق بعوض، فقد زاد الورثة خيراً. ولأن المحسوب من الثلث هو ما ينقل إلى الورثة بعد الموت إذا تصرف فيه؛ لفواته عليهم، وليس البضع كذلك. قال: وإذا خالعت في مرضها- أي: المتصل بالموت- بمهر المثل، اعتبر ذلك من رأس المال؛ كما لو اشترت شيئاً بثمن المثل. فإن قيل: قد قلتم في خلع المكاتبة: إنه تبرع، وقضيته: أن يعتبر من الثلث وإن كان بمهر المثل أو أقل. فالجواب: أن باب التصرف على المريض أوسع، وملكه أتم؛ ألا ترى أن له أن يصرف ماله في ملاذه وشهوته، وأنه يجوز له نكاح الأبكار وإن لم يقدر على الاستمتاع بهن، والمكاتب لا يتصرف إلا بقدر الحاجة؛ فينزل الخلع في حق المكاتبة منزلة التبرعات؛ لأنه من قبيل قضاء الأوطار الذي منع منه المكاتب دون المريض. قال: وإن زادت على مهر المثل، اعتبرت الزيادة من الثلث؛ إذ لا يقابلها بدل؛ فأشبهت الهبة، فإذا اختلعت بعبد قيمته مائة، ومهر مثلها خمسون، فقد حابته بنصفه، فإن خرج من الثلث ملك العبد بجملته: نصفه عوضاً، ونصفه بالمحاباة. وحكى الشيخ أبو حامد وجهاً آخر: أن له الخيار بين أن يفسخ العقد فيه، ويرجع إلى مهر المثل، وبين أن يأخذ العبد؛ لأنه دخل في العقد على أن يكون العبد كله عوضاً، ولم يكن.

وإن لم يخرج من الثلث، بأن كان عليها دين مستغرق، لم تصح المحاباة، والزوج بالخيار: إن شاء قنع بنصف العبد، وإن شاء فسخ، وضارب بمهر المثل. وإن كان لها وصايا أخر، فإن شاء الزوج أخذ نصف العبد، وضارب أصحاب الوصايا في النصف الآخر؛ لأنه فيه كأحدهم، وإن شاء فسخ المسمى، وتقدم بمهر المثل، ولا حق له في الوصية؛ لأن الوصية كانت في ضمن المعاوضة، وقد ارتفعت بالفسخ؛ كذا قاله الرافعي، وفيه نظر؛ وذلك أن الوصايا إن كانت مضافة إلى ما بعد الموت فالتبرع الناجز في المرض مقدم عليها، والمحاباة في هذه المسألة تبرع ناجز. وإن كانت الوصايا منجزة في المرض، فالمقدم منها الأول فالأول؛ فالمضاربة لا وجه لها إلا على تقدير وقوع التبرعات في المرض والخلع دفعة واحدة، وذلك إما متعذر أو متعسر، وإن قدر إمكان وقوعه؛ فلا يحسن الإطلاق لإرادة هذه الصورة مع بُعدِها. قال: وإن اختلف الزوجان في الخلع، فادعاه الزوج، وأنكرت المرأة- بانت؛ مؤاخذة له بقوله، والقول قولها في العوض؛ إذ الأصل عدم وجوبه عليها، وتجب لها النفقة والسكنى إلى انقضاء العدة؛ حكاه الرافعي. قال: وإن قال: خالعتك على ألف، فقالت: [خالعت غيري،- أي]: خالعت أجنبيّاً- بانت، والقول في العوض قولها؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها، وليس لها في هذه نفقة؛ لاعترافها بالبينونة. قال: ولو قال: خالعتك على ألف، فقالت: على ألف ضمنه زيد- أي: عني- لزمها الألف؛ لإقرارها؛ إذ الضمان يستدعي تقدم الثبوت؛ وهذا الكلام لا ينفعها؛ لأن ضمان الغير لا يقطع المطالبة عنها. قال: وإن قال: خالعتك على ألف في ذمتك، فقال: على ألف في ذمة زيد-[أي]: التي [لي] عليه- بانت بإقراره، وتحالفا على العوض؛ لأنهما اختلفا في عين العوض؛ فتحالفا؛ كما لو قال: خالعتك على هذه

الدراهم التي في هذا الكيس فقالت: بل على هذه الدراهم التي في هذا الكيس الآخر. قال: وقيل: يلزمها مهر المثل-[أي]: من غير تحالف- لأن ما في ذمة الغير لا يصح جعله عوضاً؛ لعدم القدرة على تسليمه، والتحالف إنما يشرع إذا ادعى كل واحد منهما عوضاً صحيحاً؛ وعلى هذا لابد من يمينها. قال الشيخ أبو حامد: الخلاف في هذه المسألة مبني على أن ما في ذمة الغير هل يجوز بيعه [من غيره]؟ فإن قلنا بالجواز، تحالفا؛ لما ذكرناه، وهو الأصح عند الشيخ أبي حامد، والمذهب في الشامل، ولم يحك في المهذب سواه، وإن كان قد حكى في بيع ما في ذمة الغير خلافاً، والظاهر منه الصحة. وإن قلنا: لا يجوز؛ فلا تحالف. قال الرافعي: وفي التتمة إذا قلنا: لا يجوز فهي تدعي فساد التسمية، وهو يدعي صحتها؛ فيجيء فيه الخلاف المذكور في نظائره؛ هذا آخر كلامه. واعلم أن قضية هذا البناء أن يكون الصحيح عند الغزالي والرافعي- إن وافقا على البناء-: عدم جريان التحالف؛ إذ الصحيح عندهما عدم جواز البيع. قال: وليس بشيء؛ لما قدمناه من أن الظاهر صحة بيع ما في الذمة. ولو سلمت المرأة أنها خالعته، ولكن قالت: اختلعت بالوكالة عن زيد، وصرحت بالإضافة إليه؛ فالألف في ذمته، قال المراوزة: يتحالفان، ولم يحك في التهذيب سواه. وحكى العراقيون وجهين: أحدهما: أنهما يتحالفان؛ كما ذكره المراوزة. والثاني: أنهما لا يتحالفان؛ لأنها أنكرت أصل الإلزام، والأصل براءة ذمتها؛ فالوجه أن تحلف. قال الإمام: وهذا الوجه متجه منقاس، غير أنهم أفسدوه بالتفريع، فقالوا: لا تحالف، ولكن يلزمها مهر المثل؛ وهذا على نهاية السقوط؛ لأنها إذا صدقت، فكيف تطالب وأثر التصديق أن يثبت الحكم عند النزاع على صفته إذا لم يكن نزاع، ولو صدق الزوج زوجته فيما ادعته من السفارة، لكان لا يلزمها شيء.

وفي التتمة الجزم بعدم التحالف، وهل القول قولها مع يمينها؛ لأنها تنكر أصل الالتزام؛ فيكون كإنكار أصل العقد فيما يتعلق بها، أو القول قوله مع يمينه؛ لأنها اعترفت بالعقد، وادعت ما يمنع المطالبة وهو بالإضافة إلى غيره، والأصل عدمه؟ فيه وجهان. إذا عرفت ذلك، وتأملت ما نقله الإمام عن العراقيين، أمكنك- أيضاً- أن تجعل صورة الكتاب ما إذا ادعت الخلع بالوكالة، وقد صورها الجيلي بها غير أنه لم يفصح فيما ذكره؛ وحينئذٍ فيستقيم قول الشيخ. وقيل: يلزمها مهر المثل، وليس بشيء؛ لما ذكرناه عن الإمام. ولو سلمت أنها لم تصرح بالإضافة، ولكن قالت: نويت، فإن قلنا: تتوجه المطالبة على الوكيل، لم تنقطع المطالبة بما تقوله؛ وكذا لو أنكر أصل الوكالة. وإن قلنا: إن الوكيل لا يطالب فيتحالفان، أو يصدق الزوج، أو الزوجة؟ فيه الوجوه الثلاثة؛ كذا حكاه الرافعي. قلت: ويتجه جريان الوجه الضعيف المنقول عن العراقيين. قال: وإن اختلفا في قدر العوض، أو في عينه، أو في تعجيله- أي: هل هو حال أو مؤجل- أو في تأجيله- أي: بأن اتفقا على أصل الأجل واختلفا: هل هو شهر أم شهران ثملاً- أو في عدد الطلاق الذي وقع به الخلع- أي: بأن قالت: طلقني ثلاثاً بألف، وقال الزوج: بل واحدة- تحالفا- أي: إذا لم تكن ثَمَّ بينة- لأنهما اختلفا في عوض العقد، ولا بينة لأحدهما؛ فتحالفا كالمتبايعين. قال: ووجب مهر المثل؛ لأنه تعذر رد البضع إليه؛ فرجع إلى بدله [وهو مهر المثل] كما لو وقع التحالف بعد تلف المبيع. وقيل: إن كان ما يدعيه الزوج أقل من مهر المثل لا يجب له مهر المثل، بل الذي يدعيه، وقد تقدم في الصداق مثله، وعليه سؤال وهو جارٍ هنا. وحكى الحناطي وجهاً: أنه يرجع عليها بأكثر الأمرين من مهر المثل والمسمى في العقد، ولا أثر للتحالف في الطلاق، بل الواقع ما أقر به الزوج. ثم القول في أن الفسخ يحصل بالتحالف أو يفسخ إن أصرا على النزاع، وفي كيفية اليمين، ومن يبدأ به؟ على ما تقدم في الصداق والبيع.

أما إذا أقام كل واحد منهما بينة على ما يقوله، فإن [كان] الاختلاف في غير عدد الطلاق [فتتعارض] البينتان أو يقرع بينهما؟ قال الحناطي: فيه قولان. وحكى ابن سريج- أيضاً- أنه يصار إلى أزيد البينتين. وإن كان في الطلاق، فإن أرخت البينتان واتفق الوقت؛ تحالفا. وإن اختلفا فالتي هي أسبق تاريخاً أولى؛ كذا حكاه الرافعي عن الحناطي. فرع: لو اقامت المرأة على ما تدعيه من الطلاق شاهداً واحداً، لم تحلف معه؛ لأن الطلاق لا يثبت بالشاهد واليمين. وإن أقام الرجل شاهداً واحداً، حلف معه؛ لأن قصده إثبات المال دون الطلاق؛ حكاه ابن الصباغ عن ابن الحداد، وفي التتمة لم يعزه. قال: وإن قال: طلقتك بعوض، فقالت: طلقتني [بعد مضي الخيار، بانت بإقراره، والقول قولها في العوض؛ لأن الأصل براءة ذمتها، وعدم] تطليقه على الفور. وصورة المسألة: أن تقول له: طلقني على ألف، ويقول: طلقتك، ثم يختلفان: فيقول الزوج: طلقتك بعوض فادفعيه لي، وتقول هي: لم تطلقني على الفور، بل بعد زمان لا يعد كلامك فيه جواباً لسؤالي؛ فلا تستحقه علي، وهو معنى قوله: بعد مضي الخيار، وسمى الزمان الذي يحصل فيه جواب الخطاب: زمان الخيار؛ لأنه ينسب لكل واحد منهما فيه الخيار من إتمام العقد وعدم إتمامه. وإذا كان الاختلاف على العكس، فقالت: [طلقتني على الفور؛ فلك المال علي، ولا رجعة]، وقال الزوج: لا، بل طلقتك بعد تطاول الفصل، أو: لم أقصد جوابك- فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الطلاق في ذلك الزمان، وهو من أهل إيقاع الطلاق. فرع: لو قال: خالعتك أمس فلم تقبلي، وقالت: بل قبلت، فهل القول قولها، أو قوله؟ فيه خلاف مادته [قولا] تبعيض الإقرار؛ كذا حكاه الرافعي في كتاب الإقرار، والله أعلم [بالصواب].

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق وهو في اللغة [عبارة عن] حل القيد، والإطلاق؛ ومنه يقال: ناقة طالق، أي: مرسلة ترعى حيث شاءت، وطلقت البلاد؛ أي: تركتها. وفي الشرع: اسم لحل عقدة النكاح. وهو لفظ جاهلي ورد الشرع باستعماله وتقريره كما قاله الإمام. ويقال: طلق الرجل امرأته تطليقاً، وطلقت المرأة: بفتح اللام وضمها، والفتح أفصح، تطلق بالضم فيهما طلاقاً، فهي طالق وطالقة، ورجل مطلاق [أي: كثير الطلاق للنساء. والأصل فيه من الكتاب قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وغيرها من الآيات. ومن السنة] ما روي أنه- عليه السلام- طلق حفصة ثم راجعها، وغير ذلك من الأخبار التي تأتي في مواضعها. وأجمع المسلمون على أصل الطلاق. قال: يصح الطلاق من كل زوج بالغ عاقل مختار- أي: قاصد لحروف الطلاق بمعنى الطلاق- لما ذكرناه من الأدلة، وسيأتي أمثلة ما احترز عنه الشيخ، رضي الله عنه. قال: فأما غير الزوج فلا يصح طلاقه- أي: بغير نيابة شرعية، أو قولية- لا بالتنجيز؛ كقوله لأجنبية: أنت طالق، ولا ولا بالتعليق؛ كقوله: إن تزوجت امرأة- وعينها أو لم يعينها- فهي طالق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا طَلاقَ إِلا بَعْدَ

نِكَاحٍ"، ولما روي عن عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه- أنه قال: "دعتني أمي إلى قريب لها فراودني في المهر، فقلت: إن نكحتها فهي طالق ثلاثاً، ثم سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "انْكِحْهَا؛ فَإِنَّهُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ". وبالقياس على ما إذا قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنتِ طالق، ثم تزوجها، فدخلت [الدار]، فإنه لا يقع الطلاق بالاتفاق. وفي أمالي أبي الفرج، وكتاب الحناطي أن منهم من أثبت في وقوع [الطلاق المعلق قولين]، وفي الوسيط جعل قول الوقوع غريباً، رواه صاحب التقريب عن موافقة أبي حنيفة؛ حكاه في الإملاء. واعلم: أن بعض الشارحين للمسألة الأخيرة استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ" مقتصراً على ذلك، وهو غير كاف؛ لأن من قال بوقوع الطلاق يقول

بموجبه؛ فإنه يقول: الطلاق إنما يقع بعد النكاح. [قال: وكذلك الصبي لا يصح طلاقه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ ... " الخبرَ المشهور. قال في التتمة: ومعنى رفع القلم: ألا يلزمه حكم]. قال: ومن زال عقله بسبب يعذر فيه: كالمجنون، والنائم، والمبرسم، لا يصح طلاقه؛ للخبر، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ، إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ، وَالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ" رواه الترمذي. ومنهذا القسم [ما] إذا أُوجِرَ الخمر، أو أكره على شربه، أو شرب ما لم يعلم أنه من جنس ما يسكر. واعلم: أن الشيخ عند النوم من الأمور التي تزيل العقل هنا، وكلامه في باب ما ينقض الوضوء يرشد إليه أيضاً. وفي كتاب الأيمان مصرحاً به، وقد اعترض على ذلك بأن النوم لا يزيل العقل، ولكن يستره، وكذلك الإغماء لا يزيله، بل يغمره، وإنما المزيل [له] الجنون، وقد صرح بذلك الغزالي في [الوسيط] والجواب عنه: أنا إذا حددنا العقل، وجدنا النوم يزيله، والصحيح في حده عند علمائنا- على ما حكاه مجلي عنهم في هذا الباب-: أنه [صفة] يتهيأ للإنسان بها درك النظريات العقلية، وتلك الصفة من قبيل العلوم الضرورية، وإذا كان كذلك فلا اعتراض عليه حينئذ، والله أعلم.

قال: ومن زال عقله بسبب لا يعذر فيه: كالسكران، ومن شرب ما يزيل عقله لغير حاجة، وقع طلاقه. أما وقوع طلاق السكران؛ فلأن الله تعالى كلفه في حالة السكر؛ بقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، ولأن عليّاً- كرم الله وجهه- رأى إيجاب حد المفترى عليه، لهذيانه، ووافقه الصحابة عليه؛ فدل على أن لكلامه حكماً، وأنه مكلف، وإذا كان كذلك وقع طلاقه كالصاحي. ولأنه جعل كالصاحي بالنسبة إلى قضاء الصلوات التي مرت عليه مواقيتها في زمن السكر بلا خلاف على ما حكاه الإمام، فليكن كالصاحي في وقوع طلاقه، [وهل يقع طلاقه] في الباطن كما يقع في الظاهر؟ فيه وجهان. وأما من شرب ما يزيل عقله بغير حاجة؛ فبالقياس عليه؛ لاشتراكهما في التعدي؛ وهذه طريقة [القاضي] أبي حامد. وقيل: إنه كالمجنون، وعليه يدل [ظاهر] ما نقله المزني في المختصر، واختاره الإمام؛ لأن الطبع لا يدعو إلى تناوله، وإنما صرنا إلى الوقوع في السكر؛ تغليظاً عليه، للحاجة إلى الزجر. قال: وقيل: فيه قولان: أشهرهما: أنه يقع طلاقه؛ لما قدمناه. والثاني: أنه لا يقع، وبه قال [المزني، ويحكى عن ابن سريج] وأبي طاهر الزيادي وأبي سهر الصعلوكي، وابنه سهل؛ لأنه لا يفهم، ولا يعقل؛ فليس له قصد صحيح؛ [فأشبه المجنون]، أو لأنه مفقود الإرادة؛ فأشبه المكره؛ وهذا الطريق قال الرافعي: إنه أصح، وبه قال الأكثرون. وفي النهاية: أنه لا يُلفَى للشافعي نص: أنه لا يقع طلاقه، ولكن نص في القديم على قولين في ظهاره؛ فمن الأصحاب من نقل من ظهاره [قولاً] إلى الطلاق، وخرج المسألة على قولين.

وأما سائر تصرفاته، ففيها طرق للأصحاب: منهم من قال: أفعاله: كالقتل، والقطع، وغيرهما، يسلك [به] فيها [مسلك] الصاحي. وفي أقواله: كالعتاق، والإسلام والردة، والبيع، والشراء، وغيرها- قولان. ومنهم من خص من جملة أقواله البيع ولاشراء، وقال: لا يصح بلا خلاف؛ لأنه لا يعلم ما يعقد عليه، والعلم شرط في المعاملات. ومنهم من خص القولين فيما له: كالنكاح، أما ما عليه: كالضمان، والإقرار، فهو نافذ لا محالة؛ تغليظاً عليه. وعلى هذا فلو كان التصرف له من وجه وعليه من وجه: كالبيع، والإجارة، فيحكم بنفوذه؛ تغليباً لطرف التغليظ. وفي التهذيب: أنه تصح إجارته، ولا يصح بيعه؛ لأنه يجمع ما له وعليه؛ فغلب ما له؛ وكذلك لا يصح نكاحه، ولا إنكاحه. ومن الأصحاب من طرد القولين في جميع أقواله وأفعاله كلها فيما له وعليه، قال الإمام: وأشهرها طرد القولين في الجميع، وعلى هذه الطريقة ينطبق ما يقال: إن القول اختلف في أن السكران كالصاحي أو المجنون. وفي حد السكران عبارات: فعن الشافعي: أنه الذي اختلط كلامه المنظوم، وانكشف سره المكتوم. وعن

المزني: أنه الذي لا يفرق بين الأرض والسماء، وبين أمه وامرأته. وقيل: هو الذي يفضح ما كان يحتشم منه. وقيل: هو الذي يتمايل في مشيه، ويهذي في كلامه. وقيل: هو الذي لا يعلم ما يقول. وعن ابن سريج- وهو الأقرب، على ما حكاه الرافعي-: أن الرجوع فيه إلى العادة، فإذا انتهى إلى حالة من التغيير، يقع عليه اسم: السكران؛ فهو موضع الكلام. ولم يرض الإمام هذه العبارات، لكن قال: شارب الخمر يعتريه ثلاثة أحوال: أحدها: أن يعتريه هزة وطربة، وتدب الخمر فيه، ولا تستولي عليه بعد؛ فلا يزول العقل في هذه الحالة، وربما يختل. والثانية: نهاية السكر، وهو أن يصير طافحاً، ويسقط كالمغمى عليه لا يتكلم، ولا يكاد يتحرك. [و] الثالثة: حالة متوسطة بينهما، وهي أن تختلط أحواله؛ فلا تنتظم أقواله، وأفعاله ويبقى تمييز وفهم وكلام، فهذه الحالة في نفوذ الطلاق فيها الخلاف الذي بيناه، وأما الحالة الأولى فينفذ الطلاق فيها لا محالة، وأما الثانية فالأظهر عند الإمام- وهو الذي ذكره الغزالي-: أنه لا ينفذ الطلاق. ومن الأصحاب من جعله على الخلاف. قال الرافعي: وهذا أوفق لإطلاق أكثرهم. وقول الشيخ- رضي الله عنه-: لغير حاجة يحترز به عما إذا شربه لحاجة التداوي؛ فإن حكمه حكم المجنون، وقد صرح بذلك في المهذب، والغزالي في الوجيز. قال الرافعي: ولك أن تقول: في التداوي خلاف، فإن جرى ذلك الخلاف في الدواء المزيل للعقل، [وقد اطرده] في القليل والكثير، فالمذكور [ها هنا]

جواب على جواز التداوي. ويمكن أن يقدر تخصيص الخلاف بالقدر الذي يزيل العقل، وتصور هذه الصورة بما إذا ظن أن القدر الذي تناوله لا يزيل العقل، وكذلك صور بعضهم. وإن لم يجر ذلك الخلاف في الدواء المزيل للعقل، فيشبه أن الطبع يدعو إلى شرب الخمر؛ فيحتاج فيه إلى المبالغة والزجر، بخلاف الأدوية. قال: ومن أكره بغير حق بالتهديد بالقتل، أو القطع، أو الضرب المبرح لا يقع طلاقه. ذكر الشيخ هذا الفصل لبيان أمرين: أحدهما: أن طلاق المكره بغير حق غير واقع. والثاني: ما به الإكراه. والدليل على الأول ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ"، قال

أبو عبيدة، والقتيبي: الإغلاق: الإكراه. ولأنه قول لو قاله بالاختيار بانت زوجته، فإذا حمل عليه بإكراه باطل؛ وجب أن يلغو كالردة. وفي الجيلي: [حكاية قول: أن طلاقه] يقع، وهو محكي- أيضاً- في تعليق القاضي الحسين. والصحيح المشهور الأول، لكن بشروط: أحدها: أن يكون المُكرَه غير قادر على دفع المُكرِه بفرار أو معاونة أو استعانة بآخر. [و] الثاني: أن يغلب على ظنه أن ما توعده به إن لم [يطلق] يوقعه به، لولايته أو شدة بطشه. وعن أبي إسحاق [أنه قال:] لا إكراه إلا بأن ينال بالضرب. والثالث: ألا يقدر على أن يورِّي؛ مثل أن يكون غبيّاً أو لحقته دهشة، فإن قدر على التورية؛ مثل أن ينوي [بالطلاق من الوثاق]، أو طلاق حفصة زوجة غيره، أو يقول في قلبه: إن شاء الله تعالى، [ولو] لم يفعل فوجهان: اختيار القفال منهما: الوقوع. وأصحهما- على ما ذكره البغوي، والقاضي الروياني-: المنع؛ هكذا حكاه الرافعي.

وفي الشامل والنهاية: إطلاق الوجهين من غير تفصيل، لكن الإمام أبدى التفصيل من عند نفسه. وفيما قاله الرافعي من أن يقول في قلبه: إن شاء الله نظر؛ فإن شرط [ما] تعتبر التورية به أن يكون إذا نواه المطلق في حال الاختيار يدين به في الباطن، وقوله: إن شاء الله لا يدين به في الباطن؛ على ما قاله في التهذيب مجملاً، بينه في كتاب التهذيب، ومصرحاً به في المهذب وغيره. نعم: حكي عن القفال: أنه يدين؛ فلعله أراده. [و] الرابع: ألا يظهر منه ما يدل على اختياره؛ فإن ظهر؛ بأن خلف المُكرِه، وأتى بغير ما حمل عليه؛ فيحكم بوقوع الطلاق؛ لأن مخالفته تشعر باختياره. قال مجلي: ويتجه أن يكون هذا مفرعاً على القول بوقوع الطلاق عند نيته، أما إذا قلنا بعدم الوقوع، فلا. ولمخالفته صور: إحداها: أن يقول: طلق طلقة، فيطلق ثلاثاً، [أو بالعكس] فإنه يقع الطلاق. وللإمام احتمال في الأخيرة؛ لأنه قد يقع دفع مكروهه بإجابته إلى بعض مطلوبه، ولا يقصد إيقاع الواحدة. ولو أكره على طلاق حفصة، فقال لها ولعمرة: طلقتكما؛ طلقتا. ولو قال: طلقت حفصة وعمرة، لم تطلق حفصة على ما حكاه في التهذيب والتتمة، ولم يفصل الإمام بين العبارتين. وأطلق عن الأصحاب الحكم بوقوع الطلاق عليهما وأبدى فيه احتمالاً؛ لأنه لا يبعد أن يكون مختاراً في طلاق الثانية. ولو أكره على طلاق إحدى زوجتيه، فطلق واحدة بعينها، وقع الطلاق. وفي التتمة ذكر خلاف فيه.

فروع: أحدها: لو أكره على الطلاق، فأتى به، ونوى الطلاق؛ ففيه وجهان: الأصح: الوقوع. قلت: ويمكن أن يترتب الوجهان على اشتراط التورية، فإن قلنا بالوقوع عند عدم التورية فها هنا أولى، وإن قلنا بعدم الوقوع [ثم] فها هنا وجهان. وفي الذخائر: أنه ينبغي بناء الوجهين في اشتراط عدم التورية على هذا الخلاف، فإن قلنا عند نية الطلاق: لا يقع، فعند عدم التورية أولى، وإن قلنا بالوقوع [ثم] فها هنا وجهان، وما قاله ليس بأولى مما قلناه. الثاني: لو قال: طلق زوجتك وإلا قتلتك، [وطلقها]، طُلِّقت على [هذا] المذهب، حكاه في التتمة، والقاضي الحسين في التعليق. ولو أكره على الإقرار بالطلاق، فلا عبرة بإقرار الوكيل، وهل يكون بإكراهه مقرّاً بالطلاق؟ فيه وجهان. الثالث: إذا أكره الوكيل بالطلاق على الطلاق، أبدى الروياني فيه احتمالين: الأصح منهما: عدم الوقوع. قلت: ويتجه أن يتخرج هذا على الفرع الأول، فإن قلنا: [إنه] لا يقع ثم؛ لأن الإكراه أسقط أثر اللفظ؛ فكذلك هنا. وإن قلنا: إنه يقع ثم؛ لقصده ورضاه، فكذلك ها هنا. وقوله- رضي الله عنه-: [بحق] يحترز به عن المُولي إذا أكره على الطلاق بعد المدة فإنه يقع طلاقه، وقد نبه على ذلك في المهذب، وفيه نظر من وجهين:

أحدهما: أن الحق الواجب على المولي أحد الأمرين: إما الفيئة أو الطلاق، والإكراه يكون على الوفاء بالحق على هذا الوجه، ومن أكره بغير حق على فعل أحد أمرين من غير تعيين، ففعل أحدهما على التعيين، كان كفعله بغير إكراه؛ كما تقدم ذكره فيما إذا أكره على طلاق إحدى زوجتيه؛ فكيف [يحسن] أن يحترز عنه؟ وجوابه أنا لا نسلم أنه [إذا] أكره على فعل أحد الأمرين على الإبهام، ففعله على التعيين: أنه ينتفي الإكراه [ظاهراً] على ما حكاه في التتمة. وعلى تقدير التسليم فالفرق أن ثم يمكنه أن يطلق إحداهما على الإبهام، فحيث عدل عنه إلى التعيين، كان مختاراً فيه، وها هنا لا يمكنه أن يفعل أحدهما على الإبهام، فكان من ضرورة الإكراه التعيين. ولقائل أن يقول: ما ذكرته من الفارق موجود فيما إذا أكره على قتل أحد الرجلين، ومع هذا لا يخرج به عن أن يكون مختاراً في القتل على المذهب، وكذلك فيما [إذا] أكره على طلاق زينب أو عمرة؛ خلافاً للقاضي الحسين [فيهما] على ما حكاه في التعليق، وإذا كان كذلك دل على عدم تأثير الفرق. الثاني: أن الاحتراز إنما يحسن إذا قلنا: إن الإكراه يكون بغير القتل والقطع، أما إذا قلنا: إنه لا يحصل إلا بالقتل أو القطع، فالقاضي لا ينتهي في حق المولي إلى هذا الحد؛ فلا يحسن الاحتراز عنه. وأما الثاني- وهو ما يحصل به الإكراه-: فقد قال الشيخ: إن التهديد بالقتل والقطع- أي: غير المستحق- والضرب المبرح-[أي]: الذي يخاف منه الهلاك- يحصل به الإكراه. ووجهه: أن أهل العرف يعدونه إكراهاً؛ وهذا ما اختاره أبو إسحاق مقتصراً عليه على ما حكاه الرافعي.

وفي الذخائر عزاه إليه وإلى جماعة من المحققين، وقال: ضابطه كل ما يتضمن إرهاقاً إلى الملتمس على وجه لا يبقى للمكره قدرة على المخالفة، ويكون اختياره في فعل الذي أكره عليه مضاهياً لاختيار من يطأ شوكاً؛ للفرار من الأسد، ولا يحس به. وفي كلام الرافعي ما يدل [على أن] هذا الضابط لطريقة أخرى غير طريقة أبي إسحاق. وألحق ابن أبي هريرة وكثير من الأصحاب بالقتل: الضرب الشديد، والحبس، وأخذ المال، وإتلافه. لكن الضرب والحبس يختلف باختلاف طبقات الناس وأحوالهم، والتخويف بالقتل، والقطع، وأخذ المال لا يختلف. [و] قال الماسرجسي: يختلف التخويف بأخذ المال- أيضاً- فلا يكون تخويف الموسر بأخذ خمسة دراهم منه إكراهاً، وعليه يدل كلام الشيخ في المهذب. قال القاضي: وهذا هو الاختيار. وفي المهذب تقييد الحبس [بالحبس الطويل]. أما القتل والقطع المستحق إذا هدد به: كما إذا قال ولي القصاص لمن عليه القصاص: طلق زوجتك، وإلا اقتصصت منك- فلا يكون إكراهاً، والله أعلم. قال: ومن أكره بضرب قليل، أو شتم، وهو من ذوي الأقدار، فالمذهب أنه لا يقع طلاق؛ لأنه يصير بذلك مكرهاً عرفاً، ويلتحق بذلك التهديد بقتل الوالد أو الولد أو إذهاب الجاه. وقد قيل في ضابط ذلك: إن الإكراه يحصل بكل ما لا يؤثره العاقل على ما أكره عليه، ويقتضي الحزم إجابة المُكرِه؛ حذراً منه.

قال الرافعي: غير أن الأظهر على هذه الطريقة أن التهديد بإتلاف المال لا يكون إكراهاً. قال: وقيل: يقع، كما لو لم يكن من ذوي الأقدار، وهذا الوجه جارٍ في [الصور الأخرى]. وفي التهذيب الجزم به في قتل الوالد. وفي النهاية حكاية وجه عن العراقيين: أنه لا إكراه إلا بالقتل. والأرجح عند الشيخ أبي حامد وابن الصباغ وغيرهما: ما حكي عن ابن أبي هريرة. ووراء ما ذكرناه طرق أخر يرجع بعضها عند التحقيق إلى ما ذكرناه. فروع: التهديد بقتل ابن العم لا يكون إكراهاً. وفي التهديد بقتل المحرم وجهان على قولنا بأن التهديد بقتل الوالد [يكون] إكراهاً. والتهديد بالنفي عن البلد إذا كان فيه تفريق بينه وبين أهله، كالحبس الدائم، والأصح أنه إكراه، وهو ما حكاه في المهذب. وإن لم يكن فيه تفريق فوجهان: أشبههما: أنه إكراه أيضاً. والتخويف باللواط كالتخويف بإتلاف المال عند صاحب التهذيب. وحكى القاضي الحسين في التعليق [فيه و] في المرأة إذا هددت بالزنا عن المراوزة: أنه لا يكون إكراهاً. وعلى طريقة العراقيين: إن قصد بذلك تشنيعها، وظهور الزنا عليها، يكون إكراهاً، كإذهاب الحياة. وأمر السلطان ينزل منزلة الإكراه على أحد القولين، حكاهما في التهذيب.

ولا يحصل الإكراه بالتخويف بالعقوبة الآجلة، مثل أن يقول: طلق زوجتك وإلا قتلتك غداً، ولا بأن يقول: وإلا قتلت نفسي أو كفرت، [والله أعلم]. واحترزنا بالقيد الأول من القيد الأخير عمن سبق لسانه إلى كلمة الطلاق في محاورة فكان يريد أن يقول طلبتك، فقال: طلقتك، فإنه لا يقع طلاقه، ولكن لا تقبل دعوى سبق اللسان منه في الظاهر إلا إذا وجدت قرينة تدل عليه؛ فحينئذ يجوز تصديقه، ولمن سمعه ألا يشهد عليه؛ هذا هو الاختيار على ما حكاه الروياني عن الحاوي وغيره. وظاهر كلام الشافعي عدم القبول مطلقاً؛ وهذا بخلاف ما إذا كان اسم امرأته يقارب حروف الطلاق: كالطالع، والطالب، والطارق، فقال: يا طالق، ثم قال: أردت أن أناديها باسمها فالتقت الحروف بلساني؛ فإنه يقبل قوله في الظاهر؛ لقوة القرينة وظهورها. وبالقيد الثاني منه عما إذا كانت زوجته تسمى: طالِقَ فقال: يا طالق وقصد النداء بالاسم، فإنه لا يقع الطلاق. ولو قصد الطلاق وقع. وإن أطلق، ولم ينو شيئاً، فعلى أي المحملين يحمل؟ فيه وجهان: أشبههما في التهذيب: الحمل على النداء. وفي "النهاية": تقريبهما مماإذا قال: أنت طالق، [أنت طالق] ولم ينو بالتكرار التأكيد، والأظهر هناك أنه يقع طلقتان. ولو قال لها: أنت طالق، وقال: أردت به: اسمك: طالق، ففي الباطن يصدق، وفي ظاهر الحكم وجهان في التتمة. أما الهازل فيقع [طلاقه] ظاهراً وباطناً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثَةٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَّلَاقُ، وَالعَتَاقُ، وَالنِّكَاحُ".

وصورته أن تداعبه زوجته، فتقول له: طلقني ثلاثاً، فيقول لها: أنت طالق، وقصده: أنه لا يقع. وطلاق الجاهل والناسي واقع على المذهب المشهور، وذلك مثل أن يخاطب امرأة بالطلاق على ظن أنها زوجة غيره، أو كانت في ظلمة، أو في حجاب، أو نسي أن له زوجة، فطلقها، أو قبل له أبوه في صغره، أو وكيله في كبره نكاح امرأة، وهو لا يدري، فقال: زوجتي طالق، وللإمام فيه احتمال؛ لأنه إذا لم يعرف بالزوجية لا يكون قاصداً لقطعها، وإذا لم يقصد الطلاق وجب ألا يقع. قلت: واحتماله في صورة الجهل يشابه ما حكي عن ابن الحداد فيما إذا نادى زوجته زينب، فأجابته عمرة، فقال لها: أنت طالق، وقال: ظننتها زينب مقتصراً عليه؛ فإنه حكي أن زينب لا تطلق، وهل تطلق عمرة؟ فيه وجهان: فوجه عدم الوقوع يشابه [هذا] الاحتمال، بل هو هو. وإذا قلنا بالوقوع فهو في الظاهر، وهل يقع في الباطن؟ أطلق أبو العباس [الروياني] فيه وجهين. وفي التتمة بناهما على أن الإبراء عن الحقوق المجهولة [هل] يصح؟ إن قلنا: لا [يصح] فلا يقع طلاقه. فرع: العجمي إذا لقن كلمة الطلاق، وهو لا يعرف معناها، لا يقع [طلاقه].

قال المتولي: [وهذا] إذا لم يكن له مع أهلها اختلاط، فإن كان لا يصدق [في الحكم] [و] يدين. ولو قال العجمي: أردت بهذه الكلمة معناها بالعربية، ففي وقوع الطلاق وجهان: أصحهما- وبه قال الشيخ أبو حامد-: أنه لا يقع. وفي النهاية عند الكلام في الطلاق بالحساب: أنه لا يقع بلا خلاف، واتفق عليه الأصحاب. ولو قال: [لم] أعلم أن هذه الكلمة معناها قطع النكاح، ولكن نويت بها الطلاق، وقصدت قطع النكاح- لم يقع. قال: ويملك الحر ثلاث تطليقات- أي: سواء كانت زوجته حرة أو أمة- لما روي أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه سولم فقال: أرأيت قول الله- عز وجل-: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فأين الثالثة؟ قال: "تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ". قال في "الشامل": وهذا ما فسرت به عائشة وابن عباس. وذهب جماعة إلى [أن] قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، المراد به ترك المراجعة حتى تنقضي العدة؛ فتملك نفسها، والثالث قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وهذه الآية نسخت المراجعة بعد الثلاث؛ فإنه كان في صدر الإسلام يطلق الرجل امرأته في العدة، ولو بلغ الطلاق عشراً. ولأنه حق خالص للزوج يختلف بالرق ولاحرية؛ فوجب أن يعتبر فيه رقه وحريته كعدد المنكوحات. قال: ويملك العبد طلقتين؛ لما روت عائشة- رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طَلَاقُ العَبْدِ اثْنَانِ".

ولما روى الشافعي- رضي الله عنه- أن مكاتباً لأم سلمة طلق امرأة حرة طلقتين، وأراد أن يراجعها، فأمره أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي عثمان، فيسأله، فذهب إليه فوجده آخذاً بيد زيد بن ثابت، فسألهما عن ذلك، فابتدراه، وقالا: [حرمت عليك، حرمت عليك]. قال: وله أن يطلق بنفسه؛ لقوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ}، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعُهَا، ثُمَّ ليُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكَهَا". قال: وله أن يوكل؛ لأنه رفع عقد؛ فجاز التوكيل فيه، كالرد بالعيب. ويشترط في طلاق الوكيل أن ينوي أنه يوقع الطلاق عن موكله على أحد الوجهين، وهما منقولان في الرافعي متصلاً بالكلام في النية في الكناية؛ وكذا حكى فيما لو قال الوكيل: طلقت من يقع عليها الطلاق بلفظي، فهل تطلق المرأة التي وكل بطلاقها؟ فيه وجهان. قال: وإن وكل امرأة في طلاق زوجته، فقد قيل: يصح؛ لأنه لو قال لزوجته: طلقي نفسك، فقالت: طلقت- يجوز، ويقع الطلاق، وذلك- على ما سيأتي- إما تمليكٌ، أو توكيل. إن كان توكيلاً فذاك. وإن كان تمليكاً، فمن جاز تمليكه الشيء جاز توكيله فيه؛ وهذا هو الأصح في الرافعي على ما حكاه في كتاب الخلع، وفي النووي أيضاً. قال: وقيل: لا يصح؛ لأنها لا تملك الطلاق شرعاً؛ فلا تكون وكيلة فيه؛ كالنكاح.

وحيث أجيز في حق نفسها فذاك للحاجة، ولم يوجد هذا المعنى في حق غيرها. وفي "التتمة": أن الخلاف مبني على أن قول الرجل لامرأته: [طلقي نفسك] تفويض، أو تمليك؟ إن قلنا: تفويض فيجوز، وإن قلنا: تمليك فلا. قلت: ومقتضى هذا البناء أن يكون الصحيح عنده أنه لا يجوز؛ إذ الصحيح أنه تمليك. قال الرافعي: والأول أصح. قال: وللوكيل أن يطلق متى شاء إلى أن يعزله الموكل، أي: إذا قبل الوكالة عقيب التوكيل- لأنه توكيل مطلق؛ فلم يقتض التصرف على الفور؛ كما لو وكله في البيع. أما إذا لم يقبل، فمذهب العراقيين: أنه لابد من القبول، ولكنه يجوز بالقول والفعل، وعلى الفور، و [على] التراخي؛ فيكون الحكم عندهم كما لو قبل؛ ولأجل ذلك لم يفصل الشيخ. وقال أبو حامد: إنه يجب أن يكون القبول على الفور، فعلى هذا إن أخر التطليق عن الفور يظهر أنه لا يقع إذا أوقعه. وعند المراوزة في اشتراط القبول اللفظي ثلاثة أوجه: الثالث منها- وهو الأعدل [في] الوجيز-: إن كان بصيغة عقد، كقوله: وكلتك، فلابد منه، وإن كان بصيغة الأمر: كقوله: بع، وطلع، فلا يشترط. وهل يشترط أن يكون على الفور؟ ظاهر المذهب: أنه لا يشترط؛ فيجوز على التراخي. وقال القاضي الحسين: يكتفي بوقوعه في المجلس، ولا يخفى بعد ذلك ما يقتضيه التفريع. وليس للوكيل أن يطلق إلا على مقتضى الإذن، فلو قال: طلقها ثلاثاً، فطلق

واحدة، أو قال: طلقها واحدة، فطلق ثلاثاً، فهل تقع طلقة؛ كما لو فوض الطلاق إلى زوجته على هذا الوجه، وأوقعته على [هذا] النعت، أو لا يقع شيء أصلاً؟ فيه وجهان. [ولو قال: طلقها ثلاثاً، فطلق واحدة، ونوى الثلاث، فهل يقع أم لا؟ فيه وجهان]. فروع: أحدها: إذا وكله في طلاق واحدة من نسائه من غير تعيين، فهل يصح، ويطلق من شاء منهن، أو لا يصح حتى يعين؟ فيه وجهان. والثاني: إذا وكله في طلاق امرأته، ثم أبانها الموكل، ثم جدد النكاح، فهل يبقى على الوكالة؟ فيه وجهان منقولان في الذخائر. الثالث: إذا قال للوكيل: طلق [من نسائي] من شئت، لا يطلق الكل في أصح الوجهين. وإذا قال: [طلق من نسائي من شاءت] فله أن يطلق كل من اختارت الطلاق. والفرق: أن التخصيص والمشيئة مضاف إلى واحدة، فإذا اختار واحدة، سقط اختياره. وفي المسألة الثانية الاختيار مضاف إلى جماعة، فكل من اختارت طلقت. نظيره: إذا قال: أي عبد من عبيدي ضربته فهو حر، فضرب عبداً ثم عبداً، لا يعتق الثاني؛ لأن حرف أي وإن كان حرف تعميم، فالمضاف إليه القول واحد. ولو قال: أي عبد ضربك من عبيدي، فهو حر، فضربه عبد، ثم عبد، عتقاً؛ لأن الضرب مضاف إلى جماعة؛ هكذا حكاه القاضي الحسين في التعليق متصلاً بباب الشك في الطلاق. الرابع: إذا قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد جعلت أمرها إليك، فهل يصح هذا التفويض؟ فيه قولان:

فإن قلنا بالفساد، فلو طلق في الحال فهل يقع؟ فيه وجهان حكاهما القاضي [الحسين] أيضاً. الخامس: لو قال الوكيل للزوجة: إن كنت دخلت الدار فأنت طالق وكانت قد دخلت الدار، فهل يقع عليها الطلاق؟ يتجه أن يكون الحكم كما لو قال الوكيل في العتق ذلك للعبد، وقد حكى في بحر المذهب في وقوعه وجهين: وجه المنع: القياس على ما لو علقه على دخول الدار، وصححه في كتاب الوكالة. قال: وإن قال لها: طلقي نفسك، فقالت في الحال: طلقت نفسي- طلقت. قال: الأصحاب: والأصل في جواز التفويض ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خير نساءه بين المقام معه وبين مفارقته، لمَّا نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 28، 29]. قلت: وهذا ظاهر إذا قلنا: إن واحدة منهن لو اختارت الفراق، بانت بنفس الاختيار، أما إذا قلنا: [إنها] لا تبين به، وهو الأصح؛ فلا يظهر كونه دليلاً على المدعي. ولو قالت: طلقت، ولم تقل: نفسي، فهل يقع؟ فيه وجهان: الأصح: [الوقوع]، كما حكاه القاضي الحسين في التعليق. وهل التفويض إليها تمليك للطلاق، أو توكيل؟ فيه قولان: الجديد: أنه تمليك؛ لأنه يتعلق بغرضها وفائدته إليها؛ فكأنه يقول: ملكتك نفسك، فتملكها بالطلاق. والثاني: حكاه الخراسانيون، وينسب إلى القديم، ولا يرى للشافعي منصوصاً، إلا في الأمالي المتفرقة: أنه توكيل؛ كما لو فوض طلاقها إلى أجنبي، وتظهر فائدة القولين في التفريع.

واعلم: أنه يتجه أن يخرج وجه فيما إذا طلقت في الحال من غير قبول: أنه لا يقع من قولنا: إنه توكيل، وأنه لابد من القبول باللفظ وقد جزم الإمام بالوقوع كالشيخ، وإن كان قد حكى فيما إذا طلقت بعد مفارقة المجلس تخريجه على اشتراط القبول. قال: وإن أخرت، أي: بقدر ما ينقطع به القبول عن الإيجاب- ثم طلقت، لم يقع- أي: إذا قلنا إنه تمليك- وهو ما يوجد في كتب العراقيين؛ لأن الطلاق جعل متضمناً للقبول، والقبول يشترط أن يكون في مجلس التواجب، كما في سائر التمليكات. قال: إلا أن يقول: طلقي نفسك متى شئت، أي: فيقع لتصريحه بذلك؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم لما خير عائشة قال [لها]: "وَلَا عَلَيْكِ أَلَّا تَعْجَلِي بِالْجَوَابِ حَتَّى تَسْتَامِرِي أَبَوَيْكِ"؛ فدل على جواز التأخير بالإذن. وقيل: لها أن تطلق ما لم ينقض المجلس، أو يحدث ما يقطع ذلك، وجعله في املهذب المنصوص، وبه قال أبو العباس بن القاص؛ لأنه روي عن عمر وعثمان: أنهما كانا يقولان: إذا خير الرجل امرأته، أو ملكها أمرها، فافترقا من ذلك المجلس، ولم يحدث شيئاً، فأمرها إلى زوجها. وعن جابر وابن مسعود نحو منه، ولا يعرف مخالف لهم؛ وهذا ما حكاه في التتمة تفريعاً على هذا القول، ويؤيده ما حكاه القاضي أبو سعد الهروي من أن العراقيين من أصحابنا اكتفوا بوقوع القبول في النكاح في مجلس التواجب، وأنهم جعلوا حكم نهاية المجلس حكم بدايته على ما حكيناه في النكاح. فإن قيل: قد حكى الشيخ هذا القول عند قوله: وإن قال: اختاري، فهو كناية تفتقر إلى القبول في المجلس؛ على المنصوص، وصدر القول به، وكان ذكره هنا من طريق الأولى؛ لأن الكناية أضعف من الصريح، وقد جاز عندها التأخير عن الفورية.

قلت: لما كان قول الزوج لها: اختاري مشعراً بالتروي، اقتضى الإمهال بوضعه في إيقاع الطلاق، أو تركه؛ إذ التروي [لابد له من زمن] يقع فيه، وأقل شيء يمكن الضبط به المجلس؛ فلذلك صدر الشيخ كلامه بالمنصوص، ورجحه. ولما كان قوله: طلقي نفسك متناولاً لأول زمان الإمكان: إماحتماً دون غيره؛ إذا قلنا: [إن] الأمر يقتضي الفور، أو جوازاً- حملناه عليه؛ لأنه الظاهر من اللفظ؛ فلذلك جزم به، وأعرض عن النص. ولا غرو في أن يختار المصنف خلاف المنصوص لمعنى ظهر له. وقد قال الرافعي: إن الذي عليه الأكثرون، وبه قال أبو إسحاق: الأول؛ كما جزم به الشيخ. وفي النهاية: أن القول الثاني غلط غير معتد به. وعن القفال أنها لو قالت له عقيب قوله: طلقي نفسك-: كيف يكون تطليقي لنفسي؟، ثم قالت: طلقت نفسي، وقع الطلاق، ولم يكن هذا القدر قاطعاً، وهذا ينبني على أن تخلل الكلام اليسير لا يضر. أما إذا قلنا: إنه توكيل؛ فيجيء فيه من البحث ما ذكرناه في اشتراط القبول من الوكيل. وإذا قلنا: إنه توكيل، وجوزنا للوكيل أن يطلق في أي وقت شاء، فهل يجيء مثله ها هنا؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، كما في توكيل الأجنبي. والثاني: عن القاضي الحسين: أن تطليقها [يكون] على الفور أيضاً؛ فإن توكيل المرأة يشعر بتمليكها لفظاً، والتمليك اللفظي يقتضي جواباً عاجلاً؛ ولهذا لو قال لزوجته: أنت طالق إن شئت، اقتضى ذلك قبول المشيئة، بخلاف ما لو قال: أنت طالق إن شاء زيد، فتضمن قوله: طلقي نفسك جواباً عاجلاً، بخلاف

ما لو قال لها: وكلتك في أن تطلقي نفسك. قال الإمام: فعلى الطريقين يكون جوابها على الفور، سواء تلفظ بالتمليك أو لم يتلفظ. والذي رمز إليه المحققون: أنا إن قلنا: [هذا توكيل، فحكمه حكم التوكيل، وإن قلنا:] هذا تمليك، فهل يصح من الزوج توكيلها، أم كل تفويض [منه] إليها تمليك؟ فيه خلاف. وفي الذخائر أن القاضي قال: يحتمل أن يقال: يتقيد بالمجلس، ولعل مراده: مجلس التواجب؛ كما حمل عليه نص الشافعي. وفي [تعليق القاضي] الحسين عند الكلام في الكناية: أنه إذا قال لها: وكلتك بأن تطلقي نفسك، فإذا قلنا: يكون هذا تمليكاً؛ فيختص ذلك بالمجلس على أصح المذهب. ومن أصحابنا من قال: لا يختص ذلك بالمجلس. فأما إذا قلنا: يكون توكيلاً، فلا يختص ذلك بالمجلس، لا خلاف فيه، وهذا ظاهره يخالف ما نقله الإمام عنه. واعلم أن قول الشيخ: إلا أن يقول: طلقي نفسك متى شئت، فيه نظر من حيث إنه فرع على القول بأن التفويض تمليك، ولاقبول في عقود التمليكات لا فرق في اشتراط الفورية فيه بين أن يصرح الموجب للعقد بجواز تأخيره أو لا؛ فوجب أن يكون ها هنا كذلك، وقد رمز الإمام إلى ذلك بقوله: لو قال لها على قول التوكيل: طلقي نفسك متى شئت، فهذا لا يقتضي فوراً أصلاً، وذلك يشعر أنه احترز عما قلناه. وأما الحديث فقد بينا أنه لا حجة فيه- على الأصح- لأنه- عليه السلام- لم يخيرها في إيقاع الطلاق بنفسها، وإنما خيرها [حتى] إذا اختارت الفراق طلقها، ويشهد له ظاهر قوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28].

ويمكن أن يجاب عنه بأن الطلاق يقبل التعليق؛ فجاز أن يسامح في تمليكه، بخلاف سائر التمليكات. والقول في أنه هل [يجوز أن يرجع] في التفويض قبل التطليق يأتي في الكتاب، إن شاء الله تعالى. فرع: لو قال لها: طلقي نفسك إن شئت، فهل يشترط في وقوع الطلاق [أن تقول]: طلقت نفسي [و] شئت او لا يشترط؟ الذي دل عليه كلام الإمام: أنه يشترط؛ لأنه قال: إذا ابتدرت، وقالت: طلقت نفسي [وشئت] فلا غشكال، ولو قالت: طلقت نفسي، فقال الزوج: رجعت قبل أن تقول: شئت، فلا أثر لرجوعه؛ فإنه لم يبق إلا التعليق بالمشيئة، وهو لا يقبل الرجوع. ولو [أراد] أن [يرجع] قبل أن تقول: طلقت نفسي- نفذ رجوعه- والله أعلم. قال: ويكره أن يطلق الرجل امرأته من غير حاجة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: الطَّلَاقُ" [خرجه أبو داود]. واعلم: أن العلماء قسموا الطلاق إلى واجب، ومستحب، ومحظور، ومكروه: فالواجب: طلاق المولي؛ فإن المدة إذا انقضت، وجب عليه الفيئة أو الطلاق، وأيهما فعل وقع واجباً. وكذلك الحكمان في الشقاق إذا قلنا: إنهما حكمان، ورأيا الحظ في الطلاق، وجب. والمستحب: إذا كان الحال بينهما غير [مستقيمة، أو] تكون غير عفيفة. [و] روى أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن امرأتي لا ترد يد لامس، فقال

له- عليه السلام-: "طَلِّقْهَا"، والأمر للاستحباب، يدل عليه قوله- عليه السلام-[له] لما أن قال: إن أحبها، قال: "أَمْسِكْهَا". والمحظور: طلاق البدعة، وسيأتي. والمكروه: ما ذكره الشيخ وأوضحه في الشامل بأن تكون غير مرضية الأخلاق والصفات. وفي الجيلي: أن يكون مباحاً، ولم يصوره، ولعله فيما إذا كان الزوج لا يهواها، ولا تسمح نفسه بالتزام مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع؛ فإنه لا كراهية في الطلاق والحالة هذه؛ صرح بذلك الإمام. قال: فإن أراد الطلاق [أي: في أي حالة كان]- فالأفضل ألا يطلقها أكثر من واحدة؛ لأنه يتمكن من تلافيها. قال: وإن أراد الثلاث، فالأفضل أن يفرقها- أي: إذا كانت مدخولاً بها- فيطلق في كل طهر طلقة- أي: إن كانت من ذوات الأقراء- فإن كانت من ذوات الشهور، ففي كل شهر؛ ليسلم عن الندم، وليخرج عن خلاف أبي حنيفة مالك؛ فإن الجمع عندهما في قرء واحد بدعة محرمة. وعن بعض الشيعة أنه لا يقع إلا واحدة. وعند بعضهم: لا يقع إذ ذاك شيء. وفي التتمة: أنه إذا أراد أن يوقع الطلاق في طهر واحد، فالأولى ألا يجمع في يوم واحد، [فإن أراد أن يجمع في يوم واحد] فلا يجمع في كلمة واحدة. قال: فإن جمعها في طهر واحد، جاز- أي: [و] وقع الثلاث- أما وجه الوقوع؛ فلما روي أن ركانة طلق امرأته البتة، فقال له- عليه السلام-: "مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً؟ "، قال: واللهِ ما أردتُ إلا واحدة؛ فردها [عليه]، ولو كان الثلاث لم تقع لم يحلفه على ذلك. ولما روي في حديث [ابن عمر: أنه] قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتَ لَوْ

طَلَّقْتُهَا ثَلَاثاً، لَكَانَ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا؟ فَقَالَ: بَلَى، كَانَتْ [تَبِينُ مِنْكَ]، وَيَكُونُ مَعْصِيَةً"، رواه الدارقطني. وأما وجه الجواز؛ فلما روي في قصة العجلاني أنه لما لاعن زوجته قال: كذبت عليها إن أمسكتها، فقد طلقتها ثلاثاً، فقال- عليه السلام-: "لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا"، ولم ينكر عليه، ولو كان حراماً، لأنكر عليه وإن لم تقع الثلاث في تلك الحالة، حتى لا يقدم على مثله في الموضع الذي تقع فيه. ولأنه طلاق يجوز تفريقه، فيجوز جمعه؛ كطلاق جميع النساء. وتمسك أبو حنيفة، ومالك بقوله- عليه السلام- في حديث ابن عمر: "وَيَكُونُ مَعْصِيَةً"، ولا دليل لهما فيه؛ لأنها كانت حائضاً، وقد وافقنا على أن طلاق الحائض معصية، والله أعلم. فوائد: متى تقع الثلاث؟ الظاهر أنها تقع عند فراغه من قوله ثلاثاً. وفيه وجه: أنا نتبين بالفراغ وقوع الثلاث بقوله: أنت طالق. قال الإمام: وهذا الخلاف مأخوذ من الخلاف فيما إذا قال: أنت طالق، وماتت قبل أن يقول ثلاثاً إن قلنا هناك: لا يقع شيء فها هنا تقع [الثلاث] بالفراغ من قوله: ثلاثاً، وإن قلنا هناك: تقع الثلاث؛ فنتبين وقوع الثلاث بقوله: أنت طالق. ومن قال إذا ماتت المرأة: وقعت طلقة بقوله: طالق في حياتها؛ فيلزمه على هذا المساق أن يقول: تقع طلقة بقوله: أنت طالق، فيتمم الثلاث بقوله: ثلاثاً، وهذا مسلك لبعض الأصحاب، وهو ساقط عندنا. والوجه: القطع بأن الثلاث تقع مع الفراغ من الكلام؛ إذ لا خلاف أنه لو قال

للتي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثاً، وقعت. انتهى. وقد ظهر بما ذكرناه من البيان أن في مسألة الموت ثلاثة أوجه. ولو طلق زوجته ثلاثاً على التلاحق، فهل يتعلق التحريم بالأخيرة، أو بالمجموع؟ فيه خلاف يأتي حكايته عن المتولي في كتاب الرضاع. تنبيه: تفريق الطلاق هل يقال: هو سنة؟ حكى الشيخ أبو علي في بشرح] التلخيص فيه وجهين. قال الإمام: وكلامه يحتمل أمرين: أحدهما: التردد في استحباب التفريق: وأحد الوجهين: أن ذلك لا يوصف بالاستحباب. وفي كلامه ما يدل على أن اسم السنة هل يتناول التفريق؟ فعلى وجهين. ومقتضى هذا أنه لو قال: أنت طالق ثلاثاً؛ للسنة، وزعم أنه نوى التفريق على الأقراء- يصدق ظاهراً، وهذا بعيد يخالف المذهب. والاحتمال الأخير هو ما حكاه الرافعي، لكن عن شرح المختصر. قال: ويقع الطلاق [على ثلاثة] أوجه: طلاق سنة، وهو أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه- أي: وهي مدخول بها- لما روي أن ابن عمر- رضي الله عنهما- طلق زوجته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ ليُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ"، وفي رواية: "قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا"، والأمر المشار إليه قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، ومعناه: في عدتهن؛ كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، أي: في يوم القيامة، وحينئذ يكون المراد: الطلاق في زمن صالح لأن يكون من العدة. وقيل: المراد: طلقوهن لوقت يسرعن عقيبه في العدة؛ روي أنه- عليه السلام- كان يقرأ: "فَطَلِّقُوهُنَّ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ".

قال الإمام: والظاهر أنه كان يذكره تفسيراً؛ فانتظم في الآية، والحكم أن الطهر الذي لم يجامعها فيه محل لطلاق السنة. فرع: لو وطئها في آخر الحيض، فالطهر الذي [يليه إذا] خلا عن الوطءوطلق فيه لا يكون الطلاق فيه سنيّاً على الأظهر، وهو ما جزم به في "التتمة"، وعلى هذا ينبغي أن يضاف إلى قول الشيخ: ولا في الحيض قبله. قال: وطلاق البدعة هو أن يطلقها في الحيض، أي: مختاراً، وهي ممن تعتد بالأقراء من غير عوض- أي: [من جهتها- ولا رضا، وهي مدخول بها، أو في طهر جامعها فيه من غير عوض- أي:] منها- ولا رضا، وهي ممن يجوز ان تحبل، ولم يتحقق حملها. والدليل على ذلك حديث [ابن] عمر. وادعى الإمام أن ذلك مجمع عليه، وأن مستند الإجماع الخبر. ولأن الطلاق في الحيض يطول عليها العدة؛ فإن بقية الحيض لا تحسب من العدة، وفي ذلك إضرار بها. وادعى الإمام أن في الحديث دلالة على هذا المعنى؛ إذ قال عليه السلام: "فَتِلْكَ الْعِدَّةُ التِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ"، ولا مَزِيدَ على علَّةِ صاحب الشرع. والطلاق في الطهر الذي جامع فيه ربما يعقبه ندم عند ظهور الحمل؛ فإن الإنسان قد يطلق الحائل، ولا يطلق الحامل، وإذا ندم فقد لا يتيسر التدارك؛ فيتضرر الوالد، ويبرأ من الولد. ولأن عدتها لو كانت حاملاً [تكون] بوضع الحمل، ولو كانت حائلاً تكون

بالأقراء، وربما يلتبس الأمر، وتبقى مرتابة؛ فلا يتهيأ لها النكاح. قال الإمام: والتعويل على الندم لأجل الولد ليس بالقوي، وقد أوضحنا فساد ذلك في "الأساليب"، ولولا أن الشارع تعرض للعدة ولانهي عن تطويلها لما عللنا بذلك أيضاً؛ فالوجه التعويل على الحديث. عدنا إلى الكلام في شرح القيود: فالاختيار احترز [به] عن المولي إذا طولب بالطلاق في الحيض، فطلق؛ فإنه لا يكون بدعيّاً، وقد صرح بذلك الإمام، والغزالي، وغيرهما. وفي "الرافعي": أنه كان يجوز أن يقال: هو بدعي؛ لأنه غير ملجأ إلى الطلاق، بل هو متمكن من أن يفيء لها، والمطلوب أحد الأمرين من الفيئة أو الطلاق؛ فلا ضرورة إلى الطلاق في الحيض. ومراده بالفيئة هنا باللسان، وإلا فلا يخفى [على أحد] أن الوطء في حال الحيض حرام؛ فضلاً عن هذا الإمام. واحترز بأن تكون ممن تعتد بالأقراء عن الحامل إذا رأت الدم، وقلنا: إنه حيض، وسيأتي الكلام فيه. واحترز بغير عوض من جهتها عما إذا اختلعت، فإنه لا يكون بدعيّاً، واحتج له بإطلاق قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وبأنه عليه السلام أطلق الإذن لثابت بن قيس في الخلع على ما بيناه في أول كتاب الخلع من غير بحث واستفصال عن حال الزوجة، وليس الحيض بأمر نادر الوجود في النساء، ولا جماع الطاهر غير بعيد، ومن جملة القواعد في الأصول: أن ترك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم [في المقال]. وقد اختلف في المعنى المجوز للخلع في الصورة الأولى على وجهين: أحدهما: أن المنع لأجل تطويل العدة عليها، والخلع دال على رضاها بذلك؛ فعلى هذا يقوم الرضا بالطلاق مقام الخلع في عدم التحريم، ولا يجوز خلع الأجنبي؛ لعدم الرضا.

والثاني: أن بذل المال مشعر بقيام الضرورة أو الحاجة الشديدة إلى الخلاص، وفي مثل هذا لا يحسن الأمر بالتأخير ومراقبة الأوقات؛ فعلى هذا لا يقوم الرضا مقام الخلع؛ لأن ذلك لم يتحقق، ويجوز خلع الأجنبي؛ إذ الغالب أنه إنما يبذل المال عند وجود ذلك؛ وهذا هو الأظهر، والمذكور في التهذيب، واستأنس له في الوسيط بطلاق المولي. وأم الصورة الثانية فالمعنى أن أخذ المال يؤكد داعية الفراق، ويبعد احتمال الندم عند من يرى التعليل به. وفيه وجه: أن الخلع ها هنا حرام كالطلاق مجاناً؛ بخلاف الخلع في الحيض؛ فإن المنع هنا لرعاية أم الولد؛ فلا يؤثر رضاها فيه، وقد فهم من هذا فائدة التقييد بالرضا، والاحتراز بالدخول عن عدمه؛ فإنه لا عدة حينئذ حتى تطول، ولا ندم. واستدخال الماء كالوطء، والإتيان في الدبر كذلك على الأصح. وحكم النفاس حكم الحيض فيما ذكرناه. مباحثة: من القواعد في المذهب أن صاحب الشرع إذا ذكر حكماً، وذكر له علة، أو استنبطت له، ففقدت تلك العلة، هل يبقى ذلك الحكم؟ فيه خلاف، ومن ذلك قوله- عليه السلام-: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ ... " إلى آخره؛ فإنه إذا ربط يده في شيء أو لف عليها خرقة، وتحقق طهارتها، هل يبقى ذلك الحكم؟ فيه خلاف مذكور في موضعه. [ومنه] قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ} [النساء: 43] فإذا لمس ذات رحم محرم، هل ينتقض وضوءه؟ فيه قولان، ينظر في أحدهما إلى عموم اللفظ، وفي الثاني إلى أن ذلك سيق لأجل الشهوة، وهي مفقودة. فإذا تقرر ذلك، فمن مقتضاه أن يجري فيما إذا خالعها خلاف في التحريم؛ نظراً إلى عموم قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، أو إلى زوال المعنى بالرضا؛ كما طردوه فيما إذا طلقها في الحيض في حال الحمل على ما سيأتي بل هنا [أولى]؛ لأن المانع في مسألة الحمل لم يوجد، وهو موجود

هنا، وإنما جعل كالزائل؛ [للرضا]. ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن محل الخلاف المذكور ما إذا لم يوجد في الشرع ما يدل على تخصيص ذلك العموم، وفي مسألتنا قد وجد ما يدل عليه، وهو [ما ذكرناه]. فرع: لو قال لها: أنت طالق مع آخر جزء من حيضك، أو مع آخر حيضك. [أو في آخر حيضك] فهل يقع سنيّاً أو بدعيّاً؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنه سني. وتعليلهما ما أشرنا إليه [في المباحثة]، ويتجه- أيضاً- أن يكون مأخذهما الاختلاف المذكور في قوله تعالى: {لِعِدَّتِهِنَّ}: فإن قلنا [معناه]: لقبل عدتهن، كان هذا سنيّاً؛ لأنه قبل عدتهن. وإن قلنا بالمعنى الثاني؛ فيكون بدعيّاً؛ لأن الزمن الذي وقع فيه الطلاق لا يصلح أن يكون من العدة. ولو قال: أنت طالق مع آخر طهرك، أو: مع آخر جزء من طهرك، أو: [في آخر طهرك] ولم يطأها في ذلك الطهر، فإن قلنا: الانتقال من الطهر إلى الحيض قرء، فهو سني، وإن لم نجعله قرءاً، انعكس الوجهان السابقان: إن وقع بدعيّاً ثَمَّ وقع سنيّاً هنا، وإن وقع سنيّاً ثَمَّ وقع بدعيّاً هنا. وعن ابن سريج أنه يقع في الصورتين بدعيّاً؛ أخذاً بالأغلظ. وفي "التتمة" القطع بأنه إذا قال: في آخر جزء من الحيض يكون بدعيّاً، وإذا قال: في آخر جزء من طهرك، يقع سنيّاً، ولم يفرق الأكثرون بينهما. [فرع] آخر: تعليق الطلاق بالدخول، وسائر الصفات ليس ببدعي وإن اتفق في زمن الحيض، ولكن ينتظر إلى وقت الوقوع، فإن وجدت الصفة وهي طاهر يعد سنيّاً، وإن وجدت وهي حائض يعد بدعيّاً، وفائدته استحباب المراجعة،

وإلا فلا إثم عليه؛ على ما حكاه ابن الصباغ. قال الرافعي: ويمكن أن يقال: إذا تعلقت الصفة باختياره أثم بإيقاعه في حالة الحيض، وإن تعلقت باختيارها فهو كما لو طلقها بسؤالها. قلت: والشاهد لذلك ما سنذكره- إن شاء الله تعالى- من نظيره في طلاق المريض. وعن القفال أن نفس التعليق بدعة. وفي تعليق القاضي الحسين: أن من أصحابنا من قال: إذا وجدت الصفة في حال البدعة يكون الطلاق مكروهاً، ولا يأثم [به]؛ كوطء الشبهة يكون حراماً، ولا يأثم به؛ لأنه لم [يقصد] ذلك؛ كذا هذا مثله. تنبيه: الشيخ- رضي الله عنه- ذكر أن الطلاق البدعي يكون في صورتين، وقد ذكرناهما، [ووراءهما صورتان]: إحداهما: إذا طلق زوجته في طهر لم يجامعها فيه، ثم راجعها، حكى القاضي الحسين وجهاً: أنه إذا طلقها يكون بدعيّاً؛ كي لا تكون الرجعة للطلاق. [قال الرافعي]: وهذا سبب ثالث. والثانية: إذا قسم لواحدة من نسائه، فلما جاءت نوبة الأخرى، طلقها قبل توفية حقها- عصى؛ لأنه منعها حقها؛ قاله المتولي. قال الرافعي في كتاب القسم: وعلى هذا فهو سبب آخر يوجب كون الطلاق بدعيّاً. قال: وطلاق لا سنة فيه ولا بدعة، وهو طلاق الصغيرة، والآيسة، والتي استبان حملها- أي: منه- وقلنا: [إنها] لا تحيض، وغير المدخول بها. أما كونه لا سنة فيه؛ فلأن الذي ورد به الشرع ما ذكرناه. وأما كونه لا بدعة: [أما] في الصغيرة والآيسة؛ فلأن عدتهما بالأشهر؛ فلا يعتريها طول، ولا قصر، وإذا لم يكن لها حيض لم يكن حمل؛ فلا يخشى الندم.

وأما غير المدخول بها؛ فلأنها لا عدة عليها، ولا ولد. وأما التي ظهر حملها، فعدتها بوضعه، ولا تختلف المدة في حقها، ولا يعرض الندم بسبب الولد؛ لأنه وطن نفسه على ذلك. واعلم: أنهم ألحقوا بهذه الصورة طلاق المولي، وطلاق الحكمين، والفرقة بعجزه عن النفقة والمهر؛ إذا قلنا: إنها طلاق، وهو ما حكاه المحاملي في اللباب. أما إذا كان الحمل من غيره؛ بأن نكح حاملاً من الزنا، ووطئها، وطلقها؛ أو وطئت منكوحته بشبهة، وحملت منه، ثم طلقها زوجها وهي طاهر- فإنه يكون بدعيّاً؛ لأن العدة تكون بعد وضع الحمل، والنقاء من النفاس؛ فلا تشرع عقيب الطلاق في العدة؛ وكذا لو لم تحبل من وطء الشبهة، لكن شرعت [في العدة] منه ثم طلقها، وقدمنا عدة الشبهة. وفي الطلاق بعد وطء الشبهة [وجه: أنه لا يكون بدعيّاً؛ لأنه لم توجد صفة إضرار وتعطيل لزمان عليها] وإنما انصرف الزمان إلى حق واجب عليها. ورد صاحب "التتمة" ترجيح هذا الوجه فيما إذا لم تحبل، ورجح الأول فيما إذا حبلت؛ لأن زمان النفاس يتعطل عليها، ولا يحتسب عن واحدة من العدتين. قال: وإن كانت حاملاً، فحاضت على الحمل- أي: وقلنا: إنها تحيض- فطلقها في الحيض، فالمذهب: أنه ليس ببدعة، لأن تحريم الطلاق في الحيض؛ لأجل تطويل العدة، ولا تطويل. وقيل: هو بدعة؛ لأنه طلاق في الحيض، وقد نهي عن الطلاق في الحيض. فعلى هذا يكون للحامل حال سنة وحال بدعة، كما للحائل. ويجري مثل هذا الخلاف فيما إذا طلق الرجعية، وقلنا: إنها تبنى، ولا تستأنف. والذي حكاه القاضي الحسين في العدد: أنه ليس ببدعي. واعلم: أن للأصحاب في معنى السنة والبدعة اصطلاحين: أحدهما: أن السني: طلاق المدخول بها، وليست بحامل، ولا صغيرة، ولا آيسة، وليس هناك حيض، ولا نفاس، ولا حمل.

والبدعي: طلاق المدخول بها في حيض، أو نفاس، أو في طهر جامعها فيه، ولم يتبين حملها. وعلى هذا يستمر إطلاق أن الطلاق يقع على ثلاثة أوجه. [و] الثاني: أن السني: هو الذي لا يحرم إيقاعه، والبدعي: ما يحرم إيقاعه. قال الرافعي في أول الطلاق: وعلى هذا لا قسم إلا السني، والبدعي. وقال في أثنائه: ربما أفهم كلامهم أنهم يعنون بقولهم: لا سنة ولا بدعة في طلاقهن: أنه لا يجتمع في طلاقهن حالتا السنة والبدعة حتى يكون مرة سنيّاً ومرة بدعيّاً، بل لا يكون طلاقهن إلا سنيّاً؛ وعلى هذا [فيستمر هنا التفسير]، ويغني عن التفاسير المقيدة والمطلقة. قال: ولا يأثم فيما ذكرناه إلا في طلاق البدعة؛ بحصول الضرر به دون غيره. قال: ومن طلق للبدعة، استحب له أن يراجعها؛ لما مر من حديث ابن عمر. وحكى الحناطي وجهاً: أنه لا تستحب المراجعة إذا كان الطلاق في طهر جامعها فيه، أو لا يتأكد الاستحباب تأكده في طلاق الحائض، والمذهب الأول. وإذا راجع الحائض، فهل له أن يطلق في الطهر التالي لتلك الحيضة؟ فيه وجهان: أظهرهما- وهو المذكور في التتمة-: المنع؛ للرواية المشهورة. والحكم فيه: أنه إن وطئها بعدما طهرت، كان الطلاق في ذلك الطهر بدعيّاً، وإن لم يطأها أشبه أن يكون المقصد من المراجعة مجرد الطلاق، [وكما ينهى عن النكاح الذي يقصد به الطلاق، نهذي عن المراجعة التي يقصد بها الطلاق]. ووجه الجواز: ما جاء في بعض الروايات: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُر". وعلى الأول: هل يستحب أن يجامعها في ذلك الطهر؟ فيه تردد للأصحاب.

والأظهر الاكتفاء بإمكان الاستمتاع. وإذا راجع الموطوءة في بقية الطهر، ثم حاضت، وطهرت، فله أن يطلقها وإن لم يجامعها فيه. قال الرافعي: ولا ينبغي أن يطلق في الطهر الثاني؛ كي لا تكون الرجعة للطلاق. قال: ويقع الطلاق بالصريح- أي: من غير نية- والكناية- أي: مع النية- على ما سيأتي: أما وقوعه بالصريح؛ فلا خفاء فيه؛ لأنه لأجل ذلك وضع. وأما بالكناية مع النية؛ فبالإجماع [على ما] حكاه الرافعي. وروي "أن رجلاً قال لامرأته: حبلك على غاربك، فلقيه عمر- رضي الله عنه- فقال له: أنشدك برب هذه البرية، هل أردت بقولك: حبلك على غاربك: الطلاق؟ فقال الرجل: أردت الفراق، فقال: هو ما أردت". قال: فالصريح الطلاق، والفراق، [و] السراح: أما الطلاق؛ فلتكرره في القرآن، واشتهاره في معناه في الجاهلية والإسلام، وعليه أطبق معظم الخلق، ولم يختلف فيه أحد من العلماء. وأما الفراق، والسراح؛ فلورودهما في الشرع، وتكررهما في القرآن بمعنى الطلاق؛ قال الله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49] وقال عز من قائل: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28]، وقال تعالى: {فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، وقال عز وجل: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]، والفراق حكم شرعي؛ فجاز أن يكون اللفظ المستعمل فيه [في] خطاب الشرع كافياً؛ كلفظ الطلاق. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم [لما قيل] له: أرأيت الله تعالى يقول: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] فأين الثالثة؟ قال: {تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، فسماه الشرع: طلاقاً.

وفي النهاية في أول هذا الكتاب: أنه قيل: إن الطلاق في الجاهلية على أنحاء: الطلاق، والفراق، والسراح، والظهار، والإيلاء، وأنت على حرام، قالت عائشة- رضي الله عنها-: "جاء الشرع بنسخ البعض وتقرير البعض"؛ فعلى هذا يكون الدال على ذلك اللغة والشرع هذا هو المذهب الجديد. وحكى العراقيون في القديم [قولاً] أن الصريح لفظ الطلاق لا غير، والفراق والسراح يلتحقان بأقسام الكنايات؛ لأنهما يستعملان في الطلاق وغيره؛ فأشبها لفظ البائن. وتكلم الإمام على ما قيل: إن القرآن ورد بهما، بأنه لم يرد مورد بيان اللفظ، وإنما هو [مسوق؛ لبيان] أن الأزواج مخاطبون بإمساك النساء بالمعروف في مقابلة تركهن، وحل وثيقة النكاح، على وزان قول القائل: أكرم الضيف أو سرحه، وليس المراد: أن يقول له: سرحتك، ومثل هذا المعنى حاصل في لفظ [الطلاق- أيضاً- إلا أن يقول فيه على العرف اللغوي، وأصل السراح: التسريح، وهو] الإرسال، وضع موضع المصدر، وهو بفتح السين. واعلم: أن ظاهر كلام الشيخ- رضي الله عنه- يقتضي حصر الصريح في الألفاظ الثلاثة المذكورة، وقد صرح بذلك الإمام، وأن مأخذ الصراحة [عند الشافعي- رضي الله عنه- التكرار في القرآن، وقد تقدم في كتاب الخلع حكاية قولين في أن الخلع صريح أم لا؟ وحكينا أن صاحب "التهذيب" اختار أنه صريح، وأن مأخذ

الصراحة] هل [هو] ذكر المال- كما حكاه في الشامل- أو شيوع استعماله في الناس على قصد الطلاق، وهو الذي ذهب إليه المعظم، والصحيح في النهاية؟ فإن راعينا المعنى الأول: لم يكن ما ذكرناه هنا مخالفاً لما في الخلع؛ لأ، ذكر المال ثَمَّ قام مقام النية؛ فلا صريح غير الألفاظ [الثلاثة كما ذهب إليه بعض أصحابنا. وإن راعينا المعنى الثاني: لم ينحصر صرائح الطلاق في الألفاظ] المذكورة، بل كل لفظ شاع استعماله في قوم، أو قطر لإرادة الفراق شيوع الطلاق فهو صريح. وأيد الإمام هذا الأصل بأن الفقهاء قاطبة أجمعوا على أن المعتبر في الأقارير والمعاملات إشاعة الألفاظ، وما يفهم [منها في] العرف المطرد، والعبارات عن العقود- يعني: لمعانيها- وألفاظ الطلاق عبارة عن مقاصدها فكاتن بمثابتها؛ وعلى هذا الأصل قول القائل لامرأته: أنت على حرام، أو: حلال الله علي حرام- ملتحق في قطرنا وعصرنا بالصرائح. قال الرافعي: وهو الأظهر، والمذكور في "التهذيب"، وعليه ينطبق ما في "فتاوى القفال" والقاضي الحسين والمتأخرين من الصحابة. وفي "النهاية": أن القاضي حكى عن شيخه القفال: أنه كان يقول: إذا قال من يعلم أن الكناية لا تقع إلا بالنية: حلال الله علي حرام، ولم ينو-[لم يقع] [الطلاق]، وإن كان لاقائل عاميّاً سألناه عما سبق إلى فهمه من إطلاق عاميٍّ آخر هذه الكلمة؟ فإن زعم أنه سبق إلى فهمه الطلاق، قيل له: أنت محمول على فهمك. وفي "التتمة" حكاية عن القفال أنه قال: إن نوى عين الزوجة فذاك، وإلا

حكمنا بوقوع الطلاق للعرف، وسيأتي بقية الكلام في هذه المسألة، إن شاء الله تعالى. وإذا جمعت ما ذكرناه واختصرت، قلت: صرائح الطلاق غير محصورة على قول، ومحصورة [على قول] في الألفاظ الثلاثة، وفي لفظ الطلاق على قول. وقد ضبط الإمام الغزالي الصريح المتفق عليه والمختلف فيه في كتاب الخلع، فقال: ما تكرر في القرآن أو [على] لسان حملة الشرع فهو صريح، [وما تكرر] على لسان العامة، أو لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة، فهل هو صريح أم لا؟ فيه خلاف. قال: فإذا قال: أنت طالق، أو: مطلقة، أو: طلقتك، أو: فارقتك، أو: أنت مفارقة، أو: سرحتك، أو: أنت مسرحة- طلقت وإن لم ينو؛ إذ هو معنى الصريح. وكذلك لو قال: يا مطلقة، أو: يا طالق، أو: يا مفارقة، أو: يا مسرحة، أو: أوقعت عليك طلاقي. وفي "شرح مختصر الجويني" حكاية وجه غريب؛ أن قوله: أنت مطلقة، أو يا طالق ليس بصريح. وذكر القفال في شرح التلخيص أن قوله: أنت مسرحة أو: مفارقة أو: يا مسرحة، لا يكون صريحاً؛ لأن الوارد في الكتاب منها الفعل دون الاسم، بخلاف الطلاق؛ قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ}؛ [البقرة: 228] وهذا الوجه مفرع على أن قوله: يا طالق صريح، أما إذا قلنا: إنه ليس بصريح؛ فهذا أولى. فروع: لو قال: يدك طالق فهو صريح، وكذا لو قال: أنت نصف طالق، [أو قال: نصفك طالق]. وفي الرافعي حكاية نقل خلاف عن أبي الحسن العبادي في قوله: أنت طالق نصف طلقة.

قلت: وهذا الخلاف يمكن تخريجه على أن وقوع الطلاق عليها بطريق التعبير بالبعض عن الكل، أو بطريق السراية على ما سيأتي. فإن قلنا: إنه بطريق التعبير بالبعض، كان كناية؛ لأن ذلك من أنواع المجاز، والمجاز لا يستقل بالإفادة. وإن قلنا: إنه بطريق السراية، فهو صريح. ولو قال: أنتمطلقة، أو: يا مطلقة، لا يكون صريحاً؛ لعدم الاشتهار، وإن كان الطلاق والتطليق متقاربين؛ كالإكرام والتكريم. وفي التتمة حكاية وجه: أنه صريح. قال: فإن ادعى أنه أراد طلاقاً من وثاق، أو فراقاً بالقلب، أو تسريحاً من اليد- لم يقبل في الحكم؛ لأنه يدعي خلاف ما يقتضيه اللفظ عرفاً، ويُدَيَّن فيما بينه وبين الله عز وجل؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. نعم، لو كان يحل وثاقها وقال: أردت بالطلاق: حل الوثاق، فهل يقبل في الظاهر؟ فيه وجهان في الوسيط وغيره. وضابط ما يُدَيَّن فيه: كل ما يقبل ظاهراً إذا وصل به اللفظ يُدَيَّن فيه إذا نواه ولم يأت به إلَّا الاستثناء، كقوله: أنتطالق، وينوي إن شاء الله، وسيأتي الكلام في ذلك- إن شاء الله تعالى. ومعنى التدين: أنه لا يقع الطلاق في نفس الأمر؛ إن كان صادقاً فيما يدعيه، ثم إن المرأة إن صدقته، حل لها أن تقيم معه، فلو رآهما الحاكم مجتمعين، هل يفرق بينهما؟ فيه وجهان محكيان في المهذب وغيره. قلت: وقد يظهر ضعف القول بعدم التفريق؛ لأنه لو قيل به: رجع الأمر إلى أنا نقبل قوله في الحكم إذا صدقته؛ إذ لا معنى للقبول في الحكم إلا جواز الوطء وتقريرهما على النكاح وترتيب أحكامه. وإن كذبته المرأة فلا يجوز لها التمكين، وعليها الهرب، ويجب على الحاكم أن يفرق بينهما.

وإن لم تعلم صدقه ولا كذبه، قال الجيلي: يكره لها تمكينه من نفسها، وفي التحريم وجهان. ثم هذا كله فيما إذا لم يصل اللفظ بما نواه، فإن وصله به، بأن قال: أنت طالق من وثاقي، أو: وفارقتك بقلبي، أو: سرحتك من يدي، أو: إلى أهلك- لم يقع الطلاق في ظاهر الحكم، وفيما بينه وبين الله- عز وجل- إن كان على عزم أن يأتي بهذه الزيادة من أول كلامه. أما لو قال: أنت طالق ووصل هذه الزيادة، فالطلاق واقع في الباطن. ولو لم يكن [في] عزمه في الابتداء، ثم عزم على هذه الأمور في أثناء الكلام، فوجهان سيأتي نظيرهما في الاستثناء، كذا قاله في التتمة، ويجري مثله فيما يدين فيه. فروع: أحدها: ترجمة [لفظ] الطلاق بالعجمية، وسائر اللغات، هل هي صريحة؟ فيه وجهان: أصحهما- ولم يورد [أكثرهم] غيرهم-: أنها صريحة. والثاني- وينسب إلى الإصطخري-: أنها ليست صريحة. الثاني: إذا قال لزوجته: أريد أن أطلقك طلاقاً لا يقع عليك، ثم قال: يا فلانة أنت طالق، حكى الشيخ أبو عاصم العبادي عن بعض أصحابنا: أنه لا يقع الطلاق. والصحيح: أنه يقع، حكاه في "التتمة"؛ وهذا مثل ما حكاه الرافعي عنهما في الإقرار فيما لو قال: أريد أن أقر لإنسان بما ليس علي، أو: ما طلقت امرأتي، ولكن أقر بطلاقها، [فأقول: طلقتها]- فإن الشيخ أبا عاصم قال: لا يصح إقراره. وقال صاحب "التتمة": الصحيح أنه كما لو قال: عليَّ ألف لا يلزمني. الثالث: إذا قال: إن قلت لامرأتي: أنت علي حرام، فإني أريد به الطلاق، ثم قال لها بعد مدة: أنت علي حرام- فعن أبي العباس الروياني أنه يحتمل وجهين: أحدهما: الحمل على الطلاق؛ لكلامه السابق.

والثاني: أنه كما لو ابتدأ به؛ لاحتمال أن النية قد تغيرت؛ هكذا حكاه الرافعي قبل فصل اعتبار النية في الكناية. وفي "النهاية" في كتاب الصداق عند الكلام في مهر السر والعلانية: أنه لو قال لزوجته: إذا قلت: أنت طالق ثلاثاً، لم أرد به الطلاق، وإنما غرضي أن تقومي، وتقعدي، أو أريد بالثلاث واحدة- فالمذهب أن ذلك لا عبرة به. وفيه وجه: أن الاعتبار بما تراضيا عليه. قال الإمام: وذلك مبني على قاعدة مهر السر والعلانية، وعليها تجري الأحكام المتلقاة من الألفاظ. الرابع: إذا حرك لسانه بكلمة الطلاق، ولم يرفع صوته بقدر ما يسمع، ففي "التتمة": أن [الكرخي] حكى أن المزني حكى فيه قولين: أحدهما: وقوع الطلاق؛ لأنا نوقع الطلاق بالكناية مع النية، فعند التلفظ أولى. والثاني: المنع؛ لأنه ليس بكلام؛ ولهذا يشترط في قراءة الصلاة أن يسمع نفسه. قال: والكنايات: [أن يقول: أنت] خلية، وبرية، وبتة، وبتلة، وبائن، وحرام، وأنت كالميتة، واعتدي، واستبرئي- أي: رحمك- وتقنعي، واستتري، وتجرعي، وابعدي، واغربي، واذهبي، والحقي بأهلك، وحبلك على غاربك، وأنت واحدة، وما أشبه ذلك؛ أي: كقوله: تجردي، وتزودي، واخرجي، وسافري، وتزوجي، وذوقي، وتحرري، والزمي الطريق، وودعيني، ولا حاجة لي فيك، وأنت حرة، وأعتقتك، ولا أنده سربك، وعفوت عنك، وأبرأتك، وأنت ثلاث فثلاث، وأمرك بيدك، وأنت كأمي، وما في معناه، ولست لي بامرأة؛ على المذهب.

وفي "النهاية" وجه: أنه لا يكون كناية؛ لأنه صريح في الإقرار والإخبار. وفي الإشراف للهروي [حكاية] وجه أن قوله: تزوجي، لا يكون كناية؛ حكاه قبل فصل نسخه السجل. وضابط الكناية: [أن] كل لفظ محتمل للفراق، ولم يسمع استعماله [فيه] شرعاً ولا عرفاً- فهو كناية. وحَدَّها القاضي الحسين في "التعليق": بأن كل لفظ [ينبئ عن] الفرقة بوجه ما، دق أو جل، أو ينبئ عن انطلاق ما يكون محتبساً- فهو كناية. وأصلها الستر، يقال: كنيت الشيء، إذا سترته؛ فكأنه لم يفصح عن الفراق بصريح اللفظ؛ فقد كنه. ثم الكناية منقسمة: إلى جلية: وهي التي يكثر استعمالها في الفراق، وتقوى دلالتها عليه. وإلى خفية: وهي التي تنحط رتبتها عن الوجهين. أما الجلية: فقد حصرها الشيخ أبو حامد في ستة ألفاظ، وهي التي صدر الشيخ بها كلامه. وأضاف إليها أبو الفرج أربعة أخرى، وهي: اعتدى، واستبرئي رحمك، وأنت حرة، وأنت واحدة. وأما الخفية، فعند الشيخ أبي حامد ما عدا الستة. وعند أبي الفرج ما عدا العشرة. ثم قوله: أنت خلية، الخلية: فعيلة بمعنى فاعلة، أي: خالية من الزوج، [وهو خال منها. وقوله: برية، البرية من البراءة، أي: برئت من الزوج]. وقوله: بتة: [البتة]: من بت [يبت]؛ إذا قطع، أي: قطعت الوصلة بيننا. وقوله: بتلة، البتلة: [من] تبتل يتبتل؛ إذا ترك النكاح، وانفرد.

وقوله: بائن، البائن: من البين، وهو الفراق، وهذه اللغة الفصيحة: بائن؛ كطالق، وحائض؛ لأنه مختص بالأنثى، وفي لغةق ليلة تجوز بائنة، وطالقة، وحائضة، وحاملة. وقوله: حرام، أي: حرام عليَّ، ممنوعة مني؛ للفرقة. وقوله: وأنت كالميتة، أي: حرام بالطلاق، كماي حرم أكل الميتة. وقوله: اعتدى، واستبرئي رحمك، أي: طلقتك؛ فاعتدي، واستبرئي [رحمك]. وقوله: وتقنعي، واستتري، أي: حرمتك بالطلاق، فاختفي عني. [وقوله: وتجرعي، أي: الفراق ومرارته وقوله وابعدي وقوله: أجنبية مني]، وقوله: واعزبي هو بعين مهملة، وزاي معجمة، وباء وياء، أي: تباعدي، يقال: عزب يعزب؛ إذا تباعد. وفي غير التنبيه بغين وراء، ومعناه: صيري غريبة مني، أجنبية. ويقال: عزب عني يعزب، إذا غاب، ومنه قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} الآية [يونس: 61]. وقوله: وحبلك على غاربك، أي: خليت سبيلك؛ كما يخلى البعير في الصحراء، ويترك زمامه على غاربه، وهو ما تقدم من الظهر، وارتفع من العنق، ويقال: هو أعلى السنام. وقوله: أنت واحدة هو برفع واحدة، أي: متوحدة بلا زوج، وقيل: ذات تطليقة واحدة. وقول الزوج لها: لا أنده سربك: نده الإبل أي: زجرها، والسرب: الإبل، وما يدعى من المال، أي: فارقتك؛ فلا أهتم بشأنك. قال: فإن نوى به الطلاق وقع؛ للإجماع. وفي "النهاية" حكاية وجه: أن قوله: اعتدي، واستبرئي رحمك، لا يقع به

الطلاق وإن نوى؛ إذا لم تكن مدخولاً بها. ثم النية المؤثرة في ذلك بالاتفاق أن تقترن بجميع اللفظ من قوله: أنت إلى آخر القاف من طالق، كما صرح به المتولي في باب النية في الصلاة، فإن اقترنت بأوله، ثم عزبت في أثنائه، فالمذهب الوقوع. ولو خلا أوله، وهو قوله: أنت عن النية، [ثم] نوى في أثنائه عند قوله: طالق، ففي الوقوع وجهان. قال: وإن لم ينو، لم يقع؛ لما قدمناه من أثر عمر- رضي الله عنه- فإنه لو كان يقع من غير نية، لما كان في التحليف فائدة. وروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى كعب بن مالك قبل نزول توبته أن يعتزل امرأته، ولا يقربها، فقال كعب لامرأته: الحقي بأهلك، وكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، ولما نزلت توبته، لم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما.

ولأن هذه الألفاظ تحتمل الطلاق وغيره؛ فلا يقع بها الطلاق [ما لم] ينوه، كالإمساك عن الشراب والطعام لما احتمل العبادة وغيرها، لم يصرف [إلى العبادة] إلا بالنية. ثم اعلم أن عد الحرام في الكنايات جواب على أنه لا يلتحق بالصرائح، كما صار إليه المتقدمون من الأصحاب، وهو ما دل عليه كلام الشيخ كما تقدم. أو يفرض في البقاع التي لم يشتهر اللفظ فيها، وقلنا: إن لفظ الحرام غير صريح في إيجاب الكفارة. أما إذا قلنا: إنه صريح، فقد حكى الحناطي وجهاً: أنه لا يكون طلاقاً، وهو قضية الضابط المذكور في النهاية وغيرها: أن اللفظ إذا كان صريحاً في باب، ووجد نفاذاً في موضوعه، فلا سبيل إلى رده عن العمل فيما هو صرحي فيه، ويستحيل أن يكون صريحاً نافذاً في أصله ووضعه، ويكون كناية منوية في وجه آخر، وهو ما جزم به في التهذيب؛ تفريعاً على هذا القول عند الكلام فيه. والمذهب أن يكون طلاقاً. قال في "الذخائر": لأنه إنما يكون صرحياً في إيجاب الكفارة عند عدم النية، فأما مع وجود النية فلا يكون صرحياً في الكفارة.

فإن قيل: إذا قلتم بأن لفظ الحرام صريح عند الإطلاق في إيجاب الكفارة، وقلتم: إنه صريح في الطلاق؛ [لشيوعه] فهل تحكمون بوقوع الطلاق، ووجوب الكفارة، أو ماذا تصنعون؟ قلنا: قضية ما في "التهذيب": أنه يتعين الطلاق. وفي "النهاية": أنا إن حكمنا بأن مأخذ الصراحة الشيوع، فلا يتصور كون لفظ التحريم صرحياً في الناس؛ فإن معنى الشيوع ألا يستعمل في اطراد العادة إلا في المعنى المطلوب، وحينئذ لا يتصور أن يشيع لفظ على الحد الذي ذكرناه في المعنيين مع اتحاد الزمان والمكان؛ فإن شاع أحد المعنيين، كان صريحاً فيه، كناية في الثاني؛ ولذا جوزنا أن يكون للصرائح مأخذان: أحدهما: ورود الشرع. والثاني: الشيوع على النعت المتقدم. فلو فرض شيوع التحريم في الطلاق، فلا يتجه إلا أحد أمرين: إما تغليب وقوع الطلاق؛ فإنه يحرم النفس، والتحريم الموجب للكفارة لا يحرمها. وإما خروج اللفظ عن كونه صريحاً في الناس جميعاً؛ لتعارض العرف والشرع، واستحالة الجمع، وامتناع تخصيص أحد الجانبين؛ فلا يعمل اللفظ إذن في أحد المعنيين إلا بقصد، والله أعلم.

قال: وإن قال: اختاري، فهو كناية، أي: [في] تفويض الطلاق إليها؛ لأنه يحتمل الطلاق وغيره. وكذا لو قال: أمرك بيدك. قال: يفتقر إلى القبول- أي: وهو الاختيار وما في معناه- في المجلس على المنصوص. وقيل: يفتقر إلى القبول في الحال. والكلام على ذلك قد تقدم [ذكره] عند تفويض صريح الطلاق، وكان اللائق [أن] يذكر هذا الفرع عقيبه. قال: فإن قالت: اخترت، ونويا الطلاق- وقع، أي: نوى الزوج عند قوله: اختاري التفويض إليها، ونوت هي عند قولها: اخترت الطلاق. قال: وإن لم ينويا، أو أحدهما، لم يقع؛ لأن هذا شأن الكنايات. واعلم أن بعض الناس يورد على الشيخ أن قوله: ينويا لا حاجة إليه مع قوله: أحدهما؛ لأنه لا يقع إذا لم ينو أحدهما. وبيانه: أن الذي لم ينو إن كان هو الزوج، لم يقع؛ لأنه لم يوجد منه التفويض المتسلط على التطليق، وإن كانت المرأة؛ فلأن الطلاق يقع بقبولها، ولم يوجد شرط وقوعه، وهذا بخلاف ما لو قال لها: طلقي نفسك، ونوى ثلاثاً، فقالت: طلقت ولم تنو الثلاث؛ فإنه يقع على أحد الوجهين؛ لأن البناء في العدد أقرب من البناء في أصل الطلاق، وكأنه فوض إليها أصل الطلاق، وتولى بنفسه قصد العدد. فإن قيل: قد قلتم: إنه إذا دفع الزكاة إلى وكيله، ونوى رب المال، ولم ينو الوكيل- إنه يجزئ على قول، مع ان النية شرط فيها؛ كما أنها شرط هنا. فالجواب: أن من قال بالإجزاء في الزكاة، بناه على أن النية السابقة على الدفع

إلى الفقير تجزئ، وقد وجدت، وليس لفعل الوكيل في ذلك أثر حتى لو كانت الزكاة على الأرض، وأمر الفقير بأخذها، فأخذها، كانت مجزئة، وليس ها هنا كذلك، فإن قول الوكيل هو الموقع للطلاق. فرع: لو قال لها: طلقي نفسك ثلاثاً، فقالت: طلقت نفسي، [أو طلقت]، ولم تتلفظ بعدد، ولا نوته، فقد قال القاضي: يقع الثلاث. قال الإمام: وهذا ماش على القول بأن التفويض إليها تمليك. أما إذا جعلنا التفويض توكيلاً، فالوجه أنه لا يقع الثلاث، فإن تصرف الوكيل لا يبني على التوكيل. ولا فرق في وقوع الطلاق عند نيتها بين أن تقول: اخترت، وتقتصر على ذلك، أو تقول: اخترت نفسي. وفي التهذيب: أنه لابد [من] أن تقول: اخترت نفسي، بخلاف ما إذا قال: اختاري نفسك، فقالت: اخترت، فإنه يقع وإن لم تقل: نفسي. وفي تعليق القاضي الحسين في هذه الصورة حكاية وجه [آخر:] أنه يفتقر إلى ذلك كالمسألة الأولى. ولو قالت: اخترت الأزواج، أو أبوي، أو أخي، أو عمي، ونوت اللاق، ففي [وقوع الطلاق] وجهان: أظهرهما في الرافعي الوقوع. ولو اختارت الزوج، قال في المهذب: لم يقع [الطلاق]، وعلله بأن عائشة- رضي الله عنها- لما خيرها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاختارته، لم يكن طلاقاً. وبأن اختيار الزوج اختيار للنكاح، لأنه لا يحتمل غيره؛ فلم يقع به الطلاق. وما قاله قد يعترض عليه فيه، فيقال: إن كان مع كونها نوت الفراق، فلا يحسن الاستدلال بالخبر؛ لأن عائشة- رضي الله عنها- لم تنو الطلاق، بل ظهر منها ما يدل على خلافه.

وإن كانت لم تنو فعدم وقوع الطلاق؛ لعدم النية؛ [إذ قد] تقرر أن لفظ الاختيار كناية، فقوله: اختيار الزوج لا يحتمل غيره، [و] لا وجه له، لأنه لو احتمل غيره كان الحكم كذلك؛ لعدم النية. ولو نوى الزوج بقوله: أمرك بيدك إنجاز الطلاق، ففي وقوعه قبل اخيتارها وجهان. قال: وإن رجع فيه- أي: الإيجاب- قبل القبول، صح الرجوع، أي: سواء قلنا: إنه تمليك، أو توكيل. أما إذا قلنا: إنه توكيل؛ فلأنه عقد جائز في أصله. وأما إذا قلنا: إنه تمليك؛ فلأن التمليكات يجوز الرجوع فيها قبل القبول. قال: وقيل: لا يصح- أي إذا قلنا: إنه تمليك- وهو قول ابن خيران، ووجهه بأنه إذا قال: طلقي نفسك، فكأنه قال: إذا تلفظت بتطليق نفسك فأنت طالق، والطلاق المعلق لا يقبل الرجوع. قال الإمام: وهذا مردود لا أصل له، والعجب أن شيخي كان لا يحكي في التفريع على قول التمليك غيره، وكان يعبر عنه بأنه تمليك متضمن بتعليق. ووجه المذهب: أن الإيجاب يقتضي قبولاً؛ فكان له الرجوع عن الإيجاب قبل القبول، كإيجاب البيع. قال: وإن قال لها: ما اخترت، فقالت: اخترت، فالقول قوله، [أي]: مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء النكاح، وإقامة البينة عليه [غير] ممكنة. قال: [وإن قال لها:] ما نويت، فقالت: نويت فالقول قولها؛ لأنها ادعت ما لا يمكن إقامة البينة عليه، فكان القول قولها [فيه]، كالحيض. قال: وقيل: القول قوله، وهو قول أبي سعيد الإصطخري؛ كما لو ادعت الاختيار.

فرع: لو جعل أمر الزوجة إلى الوكيل، فقال لها الوكيل: أمرك بيدك، وقال: نويت الطلاق، وصدقته المرأة، وكذبه الزوج- فالقول قول الوكيل على المذهب. وفيه وجه: أن القول قول الزوج. وتعليلهما: ما ذكرناه؛ كذا حكاه القاضي ابن كج. قلت: وهذا تفريع منه على أن الزوج إذا قال لها: أمرك بيد:، ونوى تنجيز الطلاق- أنه يقع. أما إذا قلنا: إنه لا يقع من الموكل، فالوكيل أولى. ولو توافق الزوجان على تكذيبه، لم يقبل قول الوكيل عليهما. قال: وإن قال لها: طلقي نفسك، فقالت: اخترت، ونوت، وقع [الطلاق]، وكذا لو قالت: أبنت، وأنا خلية، وغير ذلك من الكنايات؛ كما لو قال: بع، فباع بلفظ التمليك. قال: وقيل: لا يقع حتى يأتي بالصريح-[أي]: إما بلفظ الطلاق أو غيره- وهو قول ابن خيران، ويروي عن أبي عبيد بن حربويه؛ إذ هو المفوض إليها. ويجري الخلاف فيما لو فوض الطلاق ببعض الكنايات، ونوى، فقالت: طلقت نفسي. وعن القاضي الحسين وغيره أن الخلاف يجري فيما إذا قال لأجنبي: طلق زوجتي فقال: أبنتها، ونوى. أو قال: أبن زوجتي، ونوى، فقال الوكيل: طلقتها. ولو قال لزوجته: أبيني نفسك، فقالت: أنا خلية، ونويا، فهل يقع الطلاق تفريعاً على هذا الوجه الثاني؟ حكى الإمام فيه تردداً [مثل هذا التردد فيما إذا قال: طلقي، فقالت: سرحت، ولم أره] قال: والأوجه: ألا يمنع. فروع: لو قال لها: طلقي نفسك، فقالت: أنا طالق، إذا قدم زيد، لم يصح التعليق؛ لأنه لم يملكها إياه.

وكذا الحكم في حق الأجنبي. وفيها وجه حكاه الحناطي. ولو قال لها: علقي طلاقك بكذا، أو قاله لأجنبي ففعل وفعلت، فظاهر المذهب: أنه لا يصح التعليق، وهو ما أجاب به في التهذيب؛ لأن التعليق يجري مجرى الأيمان؛ فلا يدخله التفويض. وفي التتمة حكاية وجهين آخرين عن أبي عاصم العبادي: أحدهما: أنه يجوز تفويض التعليق كتفويض التخيير. والثاني: [أنه] ينظر في الصفة التي أمر بالتعليق بها: إن كانت توجد [لا محالة: كطلوع الشمس، فيجوز؛ لأن مثل هذا التعليق ليس بيمين. وإن كانت قد توجد] وقد لا توجد: كدخول الدار، فهو يمين؛ فلا يجوز. قلت: ولو خرج وجه فارق بين أن يفوض إلى أجنبي؛ فلا يجوز، وبين أن يفوض إلى الزوجة؛ فيجوز؛ بناءً على مذهب ابن خيران: أن التفويض إليها تعليق على تلفظها- لكان له وجه. ولو قال لها: طلقي نفسك إذا جاء رأس الشهر، انبنى على القولين: إن قلنا: إنه تمليك؛ فلا يجوز، وإلا فيجوز. وفي تعليق القاضي الحسين غجراء قولين فيما لو قال ذلك للوكيل؛ وهذا منه يدل على أن الخلاف جارٍ فيها وإن قلنا: إنه توكيل؛ لأنه سوى بينها وبين الوكيل، ثم فرع على ذلك، فقال: إن قلنا: يصح، فإن كان التفويض إلى المرأة، فعليها أن تطلق نفسها إذا جاء رأس الشهر في المجلس، وإن قلنا: إن الوكالة فاسدة، فلو طلق في الحال، فهل يقع أم لا؟ فيه وجهان. والأظهر: أنه لا يقع. قال: وإن قال: أنت الطلاق، فقد قيل: هو صريح؛ لأن لفظ الطلاق لا يطلق- كيف فُرِضَ الأمر فيه- إلا على قصد الفراق، فإذا جرى لفظ على خلاف ما يعرف ويؤلف، فالاعتبار بأصل الكلمة.

قال: وقيل: هو كناية، وهو الأصح، واختيار القفال، لأن هذا اللفظ لم يثبت له شيوع في العرف، ولا تكرار في القرآن، [وليس] جارياً على قياس اللسان؛ فلم يكن صريحاً، وإنما كان كناية؛ لأن المصدر قد يستعمل بمعنى اسم الفاعل؛ قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَاتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30] أي: غائراً؛ فكذلك ها هنا يصير اللفظ بالنية كأنه قال: أنت طالق، وقد استعمل في الشعر بمعنى الطلاق قال الشاعر: وإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن ... وإن تخرقي يا هند فالخرق ألأم فأنت طلاقٌ والطلاق عزيمة ... ثلاثاً، ومن يخرق أعق وأظلم فبيني بها إن كنتِ غير رفيقة ... فما لامرئ بعد الثلاث مقدم فرع: حكى الرافعي: عن التهذيب: أنه لو قال: أنت نصف طلقة فهو كناية كقوله: أنت طلقة. قال: وإن قال: أنا منك طالق، أو فوض الطلاق إليها، فقالت: أنت طالق، فهو كناية؛ لأن مأخذ الصراحة القرآن والإشاعة في الاستعمال، ولم يوجد واحد منهما. قال: لا يقع إلا بالنية؛ إذ هو شأن الكنايات، وإنما وقع بالنية؛ لأن الزوج في حجر النكاح على الجملة؛ من حيث إنه لا يتمكن من نكاح أربع سواها، ولا يتمكن من نكاح أختها ونحوها من الأقارب اللاتي يحرم الجمع بينهن، والطلاق حل لذلك الحجر؛ فيصح إضافته إلى الزوج كالمرأة. والمراد بالنية هنا: أن ينوي إضافة الطلاق إلى الزوجة، لا مجرد الطلاق، وإلا فقد تقدم أن الكناية لا يقع بها طلاق إلا بالنية. ووجه اعتبار ذلك: أن الزوج ليس محلاً في العادة لإضافة الطلاق إليه؛ ولذلك كان اللفظ كناية، وإذا كان كذلك فلابد أن ينوي المحل الذي تصح الإضافة إليه، وهو الزوجة؛ [و] هذا هو الذي عليه الجمهور.

وقال الإمام: وذهب طوائف من المحققين إلى أن قصد الطلاق كاف وإن لم يضفه لفظاً وعقداً بالنية، وهو الذي اختاره القاضي، وهو القياس. نعم: لو نوى الزوج طلاق نفسه، فالوجه عندنا أنه لا يقع. وقد ذكر بعض الخلافيين: أن اللفظ صريح وإن قصد تطليق نفسه، وهذا [لا احتفال] به. وشبه مشبهون هذا بما لو قال لامرأته: أنت طالق؛ من حيث إن لفظ الطلاق جرى على صيغة مستشنعة حائدة [عن جهة العرف في الاستعمال. واعلم أن قول الشيخ: لم يقع إلا بالنية] يفهم أنه متى وجدت النية وقع، وهذا منه تفريع على أنه لو فوض إليها الطلاق بالصريح، فأتت بالكناية مع النية يقع الطلاق. [و] أما إذا قلنا بمذهب ابن خيران، وهو عدم الوقوع [ثم]، فلا يقع ها هنا [- أيضاً-] وقد أشار إلى ذلك الإمام. [فرع]: قال في التتمة: لو فوض الطلاق إليها بلفظ البينونة، فقالت للزوج: أبنتك، ونوت، أو قال الزوج لها: أنا منك بائن، ونوى- فحكمه ما تقدم. وفي النهاية: أنه لابد من تبيين أحدهما نية أصل الطلاق والثانية [نية الإيقاع عليها. قال مجلي: وفي هذه المسألة نظر؛ من حيث إن لفظ الطلاق هنا كناية] لا يقع به الطلاق إلا بالنية، والكناية لا يكون عنها كناية؛ لضعفها، وإنماالكناية تكون عن الصرائح؛ فينبغي ألَّا يقع الطلاق في هذه الصورة بشيء من الكنايات. قلت: وهذه المادة مأخوذة من قول الشيخ أبي حامد فيما إذا قال لزوجته: أنت كالميتة، واراد به: أنت حرام؛ فإنه قال: إن قلنا: إن لفظ الحرام كناية، لم يجب شيء؛ لأن الكناية لا ينوى بها [الكناية؛ كذا حكاه ابن الصباغ عنه، وما قاله قد يمنع]، ويقال: إن المأتى به كناية عن قوله: أنت طالق، وحينئذ

فلا تكون للكناية كناية؛ كما لو نوى بقوله: أنت [كالميتة] الطلاق. قال: وإن قال: كلي واشربي، فقد قيل: هو كناية؛ كقوله: تجرعي، والمعنى: كلي ألم الفراق، واشربي شراب الفرق، وهذا هو الصحيح، واختيار الشيخ أبي حامد. وقيل: ليس بشيء [أي] ولو نوى به الطلاق، وهو اختيار أبي إسحاق، كما لو قال: أطعميني أو اسقيني؛ على أن فيهما- أيضاً- وجهاً، وسيأتي ذكره. وإنما قلنا: إنه لا يقع بقوله أطعميني، وما في معناه؛ لأ، ما أتى به لا دلالة [له] على الطلاق؛ فلم يوجد سوى مجرد النية، وهي لا يقع بها الطلاق، [و] لأنه حل عقد؛ فلا يقع بمجرد النية؛ كالإقالة في البيع، وروي عن الشيخ أبي محمد القطع بأن قوله: كلي ليس بكناية. قال: وأما إذا قال اقعدي، أو بارك الله عليك، وما أشبه ذلك، فليس بشيء؛ نوى أو لم ينو؛ لأن النية إنما تؤثر فيما يحتمله اللفظ؛ وهذا اللفظ لا يدل على الفراق بحال؛ وهذا ما جزم به في التتمة، والتهذيب في قوله اقعدي. وفيه وجه: أنه كناية. وألحق في الإقناع قوله: بارك [الله فيك] بقوله بارك الله عليك، بخلاف قوله: بارك الله [لك]؛ فإنه كناية. قال: وغن قال: أنت عليَّ كظهر أمي، ونوى [به] الطلاق، [لم يقع الطلاق]، أي: وإن كان محتملاً له؛ لما يشتركان فيه من إفادة التحريم- بل يكون ظهاراً؛ لأنه وجد نفاذاً في موضوعه صريحاً؛ فلا ينصرف عنه بمجرد النية، وقد تعذر الجمع بينهما؛ فنفذ في موضوعه، واقتصر عليه. قال: وإن قال لرجل: [أطلقت] امرأتك؟ فقال: نعم، طلقت، أي: وإن

لم ينو؛ لأن قوله: نعم صريح في الجواب؛ ولهذا لو قال الحاكم للمدعى عليه: أعليك ألف؟ فقال: نعم، وجبت عليه؛ وحينئذ يكون تقدير الكلام نعم طلقتها وهذا قول الشيخ أبي حامد. وفي "الشامل" حكاية قول آخر: أنه كناية؛ لأن نعم ليست معدودة من صرائح الطلاق. قال القاضي أبو الطيب: وهذان القولان كالقولين فيما إذا قال: زوجتك، فقال: قبلت، ولم يذكر لفظ النكاح. وفي الرافعي و"النهاية": أنهما مبنيان عليهما، وقضيته ترجيح قول الكناية، لكن ابن الصباغ والروياني رجحا كونه صريحاً. وفي النهاية بعد حكاية القولين عن رواية صاحب التلخيص: أن الشيخ أبا علي- كما صرح به مجلي- لم ييرض هذه الطريقة، وأن قوله: نعم في جواب السؤال ينبغي ألا يكون صريحاً في الطلاق، ولا كناية، بل هو صريح في الإقرار بالطلاق، ثم إن كان كاذباً فلا يقع به الطلاق باطناً، وينفذ الحكم بالإقرار ظاهراً، ثم لا ينبغي أن يكون في ثبوت الإقرار اختلاف قول. قال الرافعي: وفي كلام بعض النقلة إثبات الخلاف [على الإطلاق] حتى لا يكون قوله: نعم في صورة الاستخبار صريحاً على قوله. قلت: وقد أشار إليه الإمام- أيضاً- بقوله: فهو صريح في الإقرار على الظاهر عند الكلام في قبول النكاح. وفي "الوسيط": أنه [إن] قال ذلك جواباً [لمن] التمس منه إنشاء الطلاق، فإن نوى وقع، وإلا فقولان، وإن كان جواباً لمن استخبر منه فهو صريح في الإقرار. فرع: لو قيل له: أطلقت؟ فقال: قد كان بعض ذلك، وفسر كلامه بما سنذكره [لم] يجعل ذلك إقراراً بالطلاق؛ لاحتمال أن يكون قد جرى منه وعد به، أو تعليق، [ومثل ذلك يصحح مثل هذا] اللفظ. [و] قال في "التتمة": إن كان السؤال عن ثلاث طلقات، فيلزمه طلقة، وإن

كان عن طلقة فلا يلزمه شيء. [فرع] آخر: لو قال لرجل: [أطلقت امرأتك؟] فقال: اعلم أن الأمر على ما تقوله. قال الرافعي: حكى جدي في أنه هل يكون إقراراً بالطلاق وجهين: أصحهما: أنه لا يكون إقراراً. ولو قال في جوابه: طلقت، فقد قيل: هو كما لو قال: نعم، فيكون على القولين في أنه صريح أو كناية. وقيل: ليس بصريح لا محالة؛ حكاه الرافعي في الفروع. قال: وإن قال: ألك زوجة؟ فقال: لا، لم يكن شيئاً، أي: وإن نوى، وهذا نصه في "الإملاء"، وهو ما أورده كثير من الأصحاب، على ما حكاه الرافعي، وصرح به المحاملي في "المجموع"، ووجهه: أنه كذب محض؛ فلا يتعلق به حكم. وفي "المهذب": أنه إن نوى [به] الطلاق؛ وقع، وإلا فلا. فإن حمل كلام الشيخ هنا على ما في المهذب؛ كان معنى قوله: لم يكن شيئاً؛ أي: إذا لم ينو. وفي "النهاية" قبل كتاب الصداق في ضمن فرع- وهو إذا ادعت المرأة نكاح رجل، وأنكر-: أن ظاهر النص: أن إنكار الزوج طلاق، وهو مُشْكِل. وقال قبيل [كتاب] الصداق: إن كونه لا يكون قاطعاً للزوجية مسلكاً بعيداً، ومفهومه: أن الراجح عنده أن لا يكون قاطعاً لها. وقال عند الكلام في هذا الفرع: قال أصحابنا: لا يتعلق به حكم، وقال المحققون: هو كناية في الإقرار، وقال القاضي: عندي أن هذا صريح في الإقرار بنفي الزوجية، وهو ما حكاه قبل فصل أوله: أنت طالق من وثاق. وفي "التتمة"- على رأي القاضي-: أنه لو رجع، وادعى الزوجية؛ لم يقبل.

والمذكور في "التهذيب" ما ذكره المحققون، لكنه قال: ولها تحليفه أنه لم يرد طلاقها، وفيما قاله من أن لها تحليفه نظر؛ من حيث إنه فرع على القول بأنه كناية في الإقرار. والدعوى بالإقرار، المذهب أنها لا تسمع، فما ظنك له؟! وقال الرافعي: لو فرق في هذه المسألة بين أن يكون السائل مستخبراً، أو منشئاً؛ كما في الصورة قبلها، لم يكن به بأس؛ لأنه ذكره في كنايات الطلاق: أنه لو قال مبتدئاً: لست بزوجة لي، كان كناية على الأظهر. وفي ابن يونس: أن [المشهور الصحيح]: أنه كناية؛ لأنه يحتمل الطلاق؛ فأشبه سائر الكنايات، وإنما لم نجعله صريحاً؛ لأنه يحتمل أن يريد [به] أن لا زوجة له غير هذه؛ فبهذا فارق المسألة قبلها؛ لأن قوله: نعم لا يحتمل غير الطلاق. انتهى. وفي قوله: أن لا زوجة له غير هذه إشارة إلى أن المسألة مفروضة في نفي زوجية امرأة معينة، وليست مسألة الكتاب كذلك؛ فلم يظهر كون النقل متوجهاً إليها. قال: وإن كتب [الطلاق]- أي: لفظ الطلاق الصريح- ونوى- أي: بكتابته- الطلاق، ففيه قولان: أصحهما: أنه يقع، وهو المنصوص في المختصر، والأم، واختاره المزني، وجزم به بعضهم؛ لأن الكناية أحد الخطابين؛ فجاز أن يقع بها الطلاق كاللفظ. والثاني: لا يقع، وهو نصه في الإملاء، وبه جزم بعضهم- أيضاً- لأنه فعل من قادر على القول؛ فلم يقع به الطلاق، كالإشارة من الناطق. ولناصر القول الأول ألا يسلم الحكم في الإشارة؛ فإنه [قد] حكي عن صاحب التلخيص: أن إشارته ككتابته في كونها كناية، وأنه اختيار القفال، وأن الشيخ أبا علي حكى أن الأستاذ أبا زيد أجاب به فيما إذا قالت المرأة: طلقني، فأشار بيده. وعلى تقدير تسليم الحكم في الأصل- وهو الأظهر- فالفرق: أن الإشارة لم توضع للخطاب ولا لتبيين المراد، وإنما يستدل بها على سبيل الندور؛ لاختلافها

بالأحوال والأشخاص، واختلاف الناس في فهمها، بخلاف الكتابة فإنها حروف موضوعة للإفهام، كالعبارة. فإن قيل: إذا كانت موضوعة لذلك، فلم تشترطون في وقوع الطلاق بها النية؟ فالجواب: أن الشيخ أبا علي قد حكى عنه: أنه أوقع الطلاق بها، وأن الكتابة صريحة كالعبارة. وعلى المذهب وهو عدم الوقوع، فالفرق: أن اللفظ صريح في الخطاب، والكتابة قد يقصد بها الحكاية، وتجربة القلم، والنسخ؛ فلم يقع الطلاق بها من غير [نية]؛ كالألفاظ المحتملة، والله أعلم. ومحل القولين عند بعضهم في حال الغيبة، فأما في حال الحضور فلا يكون كناية قولاً واحداً، وعند بعضهم: أن محلها في حال الحضور، فأما في حال الغيبة فيكون كناية قولاً واحداً، وقيل: القولان في الحالين، وهو الأظهر. ثم القول بأن الكتابة غير مؤثرة مفروض فيما إذا لم يفرض معها قراءة المكتوب ولا بعدها، أما لو وجدت القراءة، فادعى أنه لم ينو بها الطلاق، وإنما قصد [بها] الحكاية- ففي قبول قوله في الظاهر وجهان، كالوجهين فيما لو قال لها: أنت طالق، وهو يحل وثاقها، وقال: أردت حل الوثاق. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكتب على الكاغد، والرق، واللوح، وبين أن ينقشه على الحجر، والخشب. ولا عبرة برسم الحروف على الماء والهواء؛ لأنها لا تثبت. وقال الإمام: لا يمتنع أن يلتحق هذا بالإشارات؛ فإنها حركات يفهم منها شكل الحروف؛ فتنزل منزلة الإشارة المفهمة. ولو كتب كناية من كنايات الطلاق، ونوى، فلا يقع بها طلاق على القولين معاً، قاله في الذخائر، وعلله بأن الكتابة كناية؛ فلا تصح بكناية؛ إذ لا يكون للكناية [كناية].

وفي تعليق القاضي الحسين أنه يقع؛ كما لو قال لامرأته: أنا منك بائن، فإنه كناية من وجهين، وإذا نوى به الطلاق وقع. تنبيه: ما ذكره الشيخ مفروض فيما إذا صدر من ناطق، أما إذا صدر من أخرس، فلم يتعرض له، ونحن نذكره، ونقدم عليه مقدمة نحتاج إلى ذكرها في الباب- أيضاً- فنقول: الإشارة معتبرة من الأخرس في وقوع طلاقه، للضرورة؛ لأنه كذلك يعبر، ويدل على ما في ضميره، ويكتفي بها إذا كانت مفهمة، وإن لم ينو بها الطلاق؛ على ما حكاه في التهذيب من غير تفصيل. وقسم الإمام وغيره الإشارة إلى صريحة تغني عن النية، وهي التي يفهم منها الطلاق كل من وقف عليها، وإلى كناية محتاجة إلى النية، وهي التي يختص بفهم الطلاق منها المخصوصون بالفطنة والذكاء. قال الرافعي: وظني أني سمعت- أو رأيت- لبعضهم: أن الكناية [هي] التي يختص بفهم الطلاق منها من خالطه، واختبر أحواله وإشارته. والصريح: ما يفهمه الخلطاء والأجانب. ولا فرق في اعتبار إشارته بين أن يقدر على الكتابة، أو لا يقدر؛ لحصول الفهم. وفي التتمة: أنها إنما تعتبر إذا لم يقدر على الكتابة المفهمة، أما إذا قدر عليها فالكتابة هي المعتبرة؛ لأنها أضبط وأدل على المراد إلا أنه لابد وأن يكتب مع ذلك: إني قصدت طلاقها. إذا تقرر ذلك عدنا إلى الكلام في وقوع طلاقه بالكتابة، والذي ذهب إليه

الجمهور أنها كناية في حقه وهو الصحيح؛ لأنها تحتمل امتحان القلم، ومحاذاة الخط، ولا يشترط معها الإشارة؛ لأنها قائمة في حقه مقام العبارة. وإن قلنا: يقع بالكتابة مع النية؛ فلا يحتاج إلى الإشارة بالطلاق، ويكفي أني فهمنا أنه نوى الطلاق. ورأى الشيخ أبو محمد: أن الكتابة في حقه صريحة؛ وهذا تفريع منه على أنها ليست في حق الناطق صريحة. أما إذا قلنا: إنها في حق الناطق صريحة؛ فها هنا أولى. قال: وغن قال [لها]: شعرك طالق، أو، بعضك طالق، طلقت؛ لأن الطلاق لا يتبعض، فكان إضافته إلى الجزء، كالإضافة إلى الكل؛ كما في العفو عن القصاص. واستدل الرافعي على وقوعه عند الإضافة إلى الجزء المشاع بالإجماع. وحكم السن، والظفر، وسائر الأجزاء التي تقبل الإزالة والتي لا تقبلها، الظاهرة [منها] والباطنة في هذا المعنى- حكم الشَّعْر، وكذلك الإضافة إلى الجزء الشائع والمعلوم كالثلث، والربع مثلاً كالإضافة إلى الجزء المبهم. وخص الشيخ- رضي الله عنه- الشعر بالذكر؛ لأنه محل الخلاف، [و] إذا ثبت فيه مع كونه جائز الإزالة من غير عذر، فلأن يثبت في غيره مع كونه لا يقبل الإزالة مع بقاء الحياة أو غير جائز- أولى، وفي كتاب القاضي ابن كج [حكاية] قول في الشعر: أنه لا يقع؛ كما أنه لا يبطل الوضوء بلمسه، قال الرافعي: ولاشك في اطراده في السن والظفر. والفرق على المذهب بين نقض الطهارة وما نحن فيه: أن نقض الطهارة يتعلق بمس ما هو محل للذة [المس]، والشعر لا لذة في مسه، وهنا الاعتبار [بأن يكون] متصلاً بها اتصال خلقة أو مباحاً بعقد النكاح، والشعر متصل، ويستباح النظر إليه بعقد النكاح. وحيث حكمنا بوقوع الطلاق فهل وقع على ما سماه، ثم سرى [إلى]

باقيها، أو وقع على [جميع] الجملة ابتداء؟ فيه وجهان، تظره فائدتهما في صور تتعلق بالطلاق وغيره. منها: إذا قال: إن دخلت الدار فيدك طالق، ثم بانت اليد، ودخلت الدار، أو قال لمن لا يمين لها: يمينك طالق- فإن قلنا بالأول، لم يقع. وإن قلنا بالثاني، وقع. وقطع بعضهم في المسألة الثانية بعدم الوقوع؛ لأنه [إن جعل] البعض عبارة عن الكل؛ فلابد من وجود البعض المضاف [إليه]؛ لتنتظم الإضافة، فإذا لم يكن لغت؛ كما لو قال لها: لحيتك أو ذكرك طالق. قال الإمام: ويجب أن يكون هذا متفقاً عليه. ومنها: إذا قال: حسنك أو بياضك طالق إن قلنا بالأول، لم يقع؛ لأنه لا يمكن وقوع الطلاق على الصفات، وإن قلنا بالثاني؛ وقع، وتجعل الصفة عبارة عن الموصوف؛ هكذا حكاه في "التتمة"، وقضيته أن يكون الراجح وجه السراية، وقد رجحه الرافعي؛ لهذا البناء؛ لأن الظاهر أنه لا يقع الطلاق في هذه الصورة. ومنها: إذا قال لوكيله: طلق زوجتي طلقة فقال لها: يدك أو رجلك طالق، فإن قلنا: إنه يقع بطريق التعبير بالبعض عن الكل، فيقع الطلاق. وإن قلنا: يقع ثم يسري فلا يقع؛ هكذا حكاه في التتمة، ولم يحك فيما إذا أضاف الوكيل الطلاق إلى جزء شائع، أو قال لها: أنت طالق نصف طلقة خلافاً في الوقوع، وكان مقتضى ما ذكره أن يجري فيهما؛ لما مضى، ولما سيأتي أنه إذا قال لها: أنت طالق نصف طلقة: أن الطلاق يقع بطريق التعبير بالبعض عن الكل، أو بطريق السراية. ومنها: إذا قال لأمته: يدك أم ولدي، أو قال لصغير مجهول النسب: يدك ابني فإن قلنا بالثاني كان إقراراً بأمية الولد والنسب. وإن قولنا بالأول فلا؛ كذا قاله المتولي.

قلت: وقد يضاف إلى ذلك [ما إذا ضمن إحضار جزء] شائع من إنسان أو غير شائع، لا تبقى الحياة بدونه، فإن قلنا: إنه بطريق السراية، لم يصح الضمان. وإن قلنا بطريق التعبير [بالبعض] عن الكل؛ [لم يصح، لكن لو قيل به للزم أن يكون الصحيح: نه يقع بطريق التعبير بالبعض عن الكل فإن]؛ الصحيح صحة الضمان، وقد حكينا: أن الراجح خلافه. نعم: هو ماش فيما لو أضاف الضمان إلى جزء تبقى الحياة بدونه. قال: وإن قال: [ريقك أو [دمك] طالق]، لم تطلق. أما في الريق، وما في معناه: كالدمع، والمخاط، والعرق، والبول، وما جانس ذلك؛ فلأنها غير متصلة بها اتصال خلقة، ولا يلحقها الحل والتحريم، والطلاق شرع لقطع الحل الثابت بالعقد. وأما في [الدم؛ فلأنه] لا يلحقه حل ولا تحريم؛ فكان كالبول. ومن أصحابنا من قال: [إنه] يقع في الجميع، على ما حكاه الإمام والحناطي. ويجري مثله- على ما ذكره الحناطي- فيما إذا قال: الماء والطعام الذي في جوفك طالق. ومنهم من قطع في الدم بوقوع الطلاق؛ لأنه في معنى الروح؛ إذ به قوام البدن. ومنهم من حكى- أيضاً- في الروح خلافاً مبنياً على أن الروح جسم أو عرض. ولو أضاف الطلاق إلى الأخلاط المشكلة في البدن: كالبلغم والمريء،

فهو كالإضافة إلى الفضلات على ما حكاه الإمام. والإضافة على المني واللبن كالإضافة إلى البول، أو كالإضافة إلى الدم؛ [لأنهما يتولدان منه]؟ وفيه خلاف. والإضافة إلى الجنين لا توقع الطلاق، وادعى الإمام اتفاق الأصحاب عليه. وفي ابن يونس حكاية وجه فيه، وهو مروي في الرافعي [عن حكاية أبي الفرج. وفي الإضافة إلى الشحم تردد للإمام، وسبيله إلى أنه لا يقع. قال الرافعي]: والأقرب وقوعه. ولو قال: سمنك طالق، لم يقع. ولو أضاف [الطلاق] إلى المعاني القائمة بالذات: كالسمع، والبصر، والكلام، والضحك، والبكار، [والغم] [والفرح]، والسكون، والحركة- لم يقع. ونقل الحناطي في الحركة والسكون، والبصر، والكلام- وجهين: أحدهما: الوقوع. والثاني: أنه لا يقع حتى يريده. ولو قال: اسمك طالق، لا يقع إلا أن ينوي بالاسم وجودها وذاتها [فيقع]؛ قاله في "التتمة". ولو قال: حياتك طالق، ففي النهاية: أنه يقع. وفي التهذيب: أنه إن أراد الروح وقع، وإن أراد المعنى القائم بالحي لم يقع.

واعلم: أن ما ذكرناه هو شرح ما هو موجود في النسخ. وفي النووي: أن الذي ضبط عن نسخ المصنف بدل قوله: دمك: دمعك، وهو الأصوب، والله أعلم. ولنختم الباب بذكر الفروع التي تقدمت الإشارة إليها، مقتصرين على ما يغلب على الظن وقوعه. [الفرع الأول:] لو قال لوكيله: إذا أخذت مالي من زوجتي فطلقها أو خالعها، أو: خذ مالي، ثم طلقها- لم يجز تقديم الطلاق على أخذ المال. وكذلك لو قال: خالعها على أن تأخذ مالي منها. ولو قال: خذ مالي منها، وطلقها، فهل يشترط تقديم أخذ المال، أو لا يشترط، ويجوز تقديم الطلاق، كما لو قال: طلقها وخذ مالي؟ فيه وجهان: رجح صاحب التهذيب منهما الأول؛ حكى ذلك الرافعي قبيل كتاب الخلع. [الفرع الثاني:] إذا قال: برئت من نكاحك، ونوى، طلقت، [ولو قال: برئت من طلاقك، لم يقع وإن نوى. ولو قال: طلقك الله، طلقت]. قال الرافعي: وهذا يشعر [بأنه صريح]. ورأى البوشنجي إلحاق ذلك بالكنايات. ولو قال: أنت طال وترك القاف، طلقت؛ حملاً على الترخيم. وقال البوشنجي: لا ينبغي أن يقع وإن نوى. نعم: لو قال: يا طال، ونوى- وقع؛ لأن الترخيم في العربية إنما يعتمد في النداء والشعر. ولو قال: الطلاق لازم لي، أو: واجب علي، تطلق؛ للعرف. ولو قال: فرض علي، لم تطلق؛ لأنه لم يجر العرف به. وكل ذلك مروي عن حكاية الشيخ أبي عاصم [العبادي] في الزيادات.

وفي العدة: لو قال: طلاقك لي لازم، فهو صريح عند أكثر الأصحاب. وفي فتاوى القفال: أنه إذا قال لزوجته: اذهبي إلى بيت أبوي، ونوى الطلاق عند قوله: اذهبي، وقع، وإن نواه بمجموع اللفظين، لم يقع؛ وأنه لو قال لامرأته: يا بنتي، وقعت الفرقة بينهما عند احتمال السن. ولو قال: امرأتي هذه محرمة علي لا تحل لي أبداً، نقل الرافعي عن جده: أنها لا تطلق؛ لأن التحريم قد يكون بغير الطلاق، وقد يظن ما لا يحرم محرماً. وقيل: يحكم عليه بالبينونة بمقتضى لفظه. وعند صاحب التلخيص: أن قوله: أغناك الله كناية. [وفي التهذيب أن قوله]: قومي كناية، والصحيح خلافه. وفي قوله: تزوَّدي، حكاية وجه أنه كناية، والله أعلم.

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء الرابع عشر المحتوى تتمة كتاب الطلاق- كتاب الأيمان

باب عدد الطلاق [والاستثناء فيه]

بسم الله الرحمن الرحيم باب عدد الطلاق [والاستثناء فيه] الاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ بـ "إلا" وأخواتها. وأصله من: ثنيت الشيء: إذا أَمَلْتُه، فكأنه يميل اللفظ إلى خصوصه. قال: إذا خاطبها بلفظ من ألفاظ الطلاق- أي: الصريح منها والكناية- ونوى به طلقتين أو ثلاثاً- أي: إذا كان حرّاً- وقع، ووجهه ما روي أن ركانة ابن عبد يزيد قال: [يا] رسول الله، إني طلقت امرأتي شهيبة البتة، والله ما أردت إلا واحدة، فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. دل هذا الحديث على أنه لو نوى ما زاد على الواحدة، لوقع، وإلا لما كان لاستحلافه فائدة. ولأن اللفظ يحتمل العدد؛ بدليل أنه يجوز أن يفسر به، وهو أن يقول: أنت طالق طلقتين، أو ثلاثاً أو: بائن طلقتين، أو ثلاثاً، وما احتمله اللفظ إذا نواه- وقع؛ كالطلاق بالكناية. قال: إلا قوله: أنت واحدة، فإنه لا يقع به أكثر من طلقة؛ لأن [لفظ الواحدة] لا يحتمل ما زاد عليها، فلو أوقعنا زيادة عليها، لكان إيقاعاً للطلاق بالنية دون اللفظ. وفي الذخائر: أن القاضي الحسين زيف هذا القول. وفي الجيلي: أنه الأصح. قال: وقيل: يقع به ما نوى؛ إذ يحتمل أن يريد: أنت طالق واحدة مع واحدة، أو مع اثنتين. ويحتمل أن يكون معنى قوله: [أنت] واحدة أنك تتوحدين مني بالعدد الذي أوقعته عليك. وفي التهذيب: أنه الأصح. وفي النهاية: [أنه] الذي قطع به الأئمة في طرقهم؛ حملاً للواحدة على التوحد والتفرد. وقال الغزالي: إن خطر بباله معنى التوحيد، فالمنوي يقع وجهاً واحداً وإن لم

يقصد ذلك، ولكن نوى بهذا اللفظ: الثلاث؛ فهذا فيه احتمال، وما ذكره أبداه الإمام من عند نفسه. ولو قال: أنت طالق واحدة، ففيه الوجهان السابقان. ووجه ثالث يحكي عن اختيار القفال: أنه إن قسط منه الاثنتين أو الثلاث على جميع اللفظ، لم يقع ما زاد على الواحدة؛ وإن نوى الطلقتين أو الثلاث بقوله: أنت طالق، وقع ما نواه، ولغا ذكر الواحدة؛ وهذا منه تفريع على أن نية الاستثناء لا تعتبر بعد الفراغ من اللفظ، وهو الصحيح. أما إذا قلنا: إنها تصح بعد الفراغ، لم يبق فرق، بين الحالتين. فرعان: إذا قال: أنت طالق واحدة، وقال: أردت أنها [ملفقة] من ثلاث طلقات- فالصحيح من المذهب وقوع الثلاث. ومن أصحابنا من قال: لا يقع إلا طلقة؛ لأن اللفظ لا ينبئ عما قاله، ولا يحتمله، والنية إنما تؤثر مع اللفظ المحتمل. ولو قال: أنت باثنتين أو بثلاث، ونوى العدد، وقع، ثم إن نوى طلقتين أو ثلاثاً فذاك، وإن لم ينو شيئاً وقع الملفوظ [به]؛ لأن ما أتى به صريح في العدد، كناية في الطلاق، وقد وجدت معه النية. وإن نوى واحدة، فوجهان: أحدهما: يقع ما تلف به، وهو ما حكاه في "التتمة". والثاني: لا يقع إلا واحدة؛ لأنه قد يريد ثلاثة أثلاث طلقة، أو نصفي طلقة. قال: وإن قال: أنت طالق واحدة في اثنتين، ونوى طلقة مقرونة بطلقتين، [أو مع طلقتين]، طلقت ثلاثاً؛ لأن لفظ "في" يستعمل بمعنى "مع"، قال الله تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} أي: مع أمم، وقال تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29]، أي: مع عبادي. واعلم أن هذه المسألة مصورة في النهاية [بما] إذا كانت الزوجة مدخولاً بها.

أما إذا لم تكن مدخولاً بها؛ فيتجه أن يجيء في وقوع ما زاد على الواحدة الخلاف الذي يأتي من بعد، عند قوله: طلقة مع طلقة، وسنبين مأخذه. قال: وإن لم ينو شيئاً، وهو [ممن] لا يعرف الحساب، وقعت طلقة؛ لأن اللفظ المأتي به على سبيل الإيقاع، ليس إلا واحدة. قال: وإن نوى موجبها عند أهل الحساب، لم يقع إلا طلقة. أما وقوع [الطلقة؛ فلقوله]: أنت طالق. وأما [عدم] وقوع الزائد عليها؛ فلأن [ما] لا يفهم من معنى اللفظ والبيان، لا يثبت عند الإبهام، وإنما يثبت عند التحقيق والتفصيل؛ [وهذا] هو الذي عليه الأكثر. قال: وقيل: يقع طلقتان، وإليه ذهب الصيرفي؛ لأنه موجبه في الحساب وقد قصده، ويجري مثل [هذا] الخلاف فيما إذا قال: طلقت امرأتي مثل ما طلق زيد، وهو لا يدري كم طلق زيد؟ وكذا يكون الحكم لو نوى عدد [طلاق زيد، ولم يتلفظ، وشبه الأصحاب الوجهين بما إذا أتى العجمي] بلفظ الطلاق، وقال: أردت بها ما يريده العربي، وهو لا يعرف معناه. قال: وإن كان يعرف [الحساب] ونوى موجبها [عند أهل] الحساب، وقعت طلقتان؛ لأن ذلك موجبها في الحساب. قال: وإن لم تكن له نية، وقعت طلقة على ظاهر النص؛ لأنه يحتمل الحساب، ويحتمل الظرف؛ فلا يزاد على المستيقن، وهو طلقة، وما زاد مشكوك فيه. قال: وقيل: يقع طلقتان؛ لأنه الاستعمال المشهور في الأعداد، والرجل عارف به، واختلف الأصحاب في هذا القول: فمنهم من يثبته للشافعي. ومنهم من ينفيه عنه، ويثبته لأبي إسحاق.

وحكى الشيخ أبو محمد والفوراني قولاً ثالثاً: أنه يقع الثلاث؛ لتلفظه بها. قال الرافعي: ويجيء هذا القول فيمن لا يعرف الحساب إذا لم ينو شيئاً؛ وكذلك الإمام، لكنه [قال]: لست أثق بهذا القول. ولو نوى بقوله: في اثنتين الظرف قبل [ولم يقع] جعله ظرفاً. فإن قيل: كان يتجه أن يكون في قبول ذلك منه ظاهراً قولٌ: أنه لا يقبل، مبني على أنه [إذا] لم يرد شيئاً يقع طلقتان؛ لأن ذلك صرحي في إيقاعهما، وما كان صريحاً في شيء لا ينصرف عنه بالنية. ومثل هذا السؤال يأتي عند قول الشيخ: أنت طالق، أنت طالق وقد مضى التنبيه على مثله في كتاب الخلع فيما إذا نوى بالخلع الطلاق؛ فإن الشيخ جزم بأنه يكون طلاقاً وإن كان قد حكى فيما إذا لم ينو [أنه] يكون صريحاً في الخلع على قول، لكن حكينا ثم: أن بعض الأصحاب التزم موجب هذا السؤال؛ حتى لم يجعل الخلع طلاقاً بالنية؛ إذا قلنا: إنه صريح في الفسخ. ويقرب منه ما إذا قال: أنت طالق نصف طلقتين، وأوقعنا به طلقتين؛ لأجل الإشاعة، فقال أردت بالنصف: طلقة؛ فإنه هل يقبل منه في الظاهر؟ فيه وجهان: فإن لم يقبل منه، أوقعنا طلقتين أيضاً. وإن قبلنا، أوقعنا طلقة، ولم أر لأحد مثله هنا. فالجواب أن من قال هنا وفي الموضع الآتي: إن ذلك صريح، إنما قاله عند عدم النية لا مطلقاً، ويؤيده أن الإمام جعل ذلك وما ناظره قسماً ثالثاً بين الكناية والصريح، وإذا كان كذلك اندفع السؤال. قال: وإن قال: أنت طالق طلقة مع طلقة، طلقت طلقتين: أما إذا كانت مدخولاً بها؛ فلأن الطلاق وجد محلّاً ينفذ فيه، لكن في كيفية وقوعهما وجهان: أظهرهما: أنهما يقعان معاً؛ لأن المعية تقتضي الضم والمقارنة، فصار كما لو قال: أنت طالق طلقتين.

وعلى هذا فوقت وقوعهما تمام الكلام. والثاني: يقعان على الترتيب؛ لِتَرتُّب اللفظين. وأما إذا كانت غير مدخول بها، فإن قلنا بالوجه الأول، وقعت [- أيضاً-] طلقتان؛ لما قدمناه، وإن قلنا بالثاني، لم يقع إلا واحدة كما لو قال: أنت طالق طلقة فطلقة، ويحكى هذا عن المزني في المنثور، وإليه أشار الشيخ بقوله: وقيل: إن كانت غير مدخول بها، لم يقع إلا طلقة، [وفي المدخول بها- أيضاً- وجه أنه لا يقع عليها إلا طلقة] كما لا يلزم به في الإقرار إلا درهم واحد؛ وهذا ما اختاره القاضي ابن كج والحناطي. ولو قال: أنت طالق طلقة فوق طلقة، أو تحت طلقة، فالذي ذكره الإمام والغزالي: أن هذه الصلات تقتضي الجمع كالمعية [فالجواب فيها كالجواب في الطلقة] مع الطلقة. وفي "التتمة" ما يقتضي الجزم بأنه لا يقع في غير المدخول بها إلا طلقة؛ لأن وصف الطلاق بالفوقية والتحتية محال؛ فيلغو اللفظان، ويصير كما لو قال أنت طالق طالق. قال: وإن قال للمدخول بها: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، [وبعدها طلقة، طلقت ثلاثاً؛ لأن الجمع يصادف الزوجية، ولو اقتصر على قوله: قبلها طلقة] وقعت طلقتان. وفي كتاب القاضي ابن كج: أنه لا يقع إلا طلقة واحدة؛ لجواز أن يكون المعنى: قبلها طلقة مملوكة، أو بائنة. والأول هو الصحيح المشهور، لكن في كيفية وقوع الطلقتين وجهان: أحدهما- وبه قال ابن أبي هريرة-: أنه يقع أولاً المنجزة التي بدأ بها في اللفظ، ثم يتعقبها الطلقة المتضمنة، ويلغو قوله: قبلها كما لو قال: أنت طالق أمس. والثاني: أنه يقع أولاً الطلقة المتضمنة، ويتلوها الطلقة المنجزة؛ لأن المعنى يقتضي ذلك، ويحكى هذا عن القاضي أبي الطيب؛ وهذا أرجح عند ابن الصباغ

وغيره، وليس المراد أن الطلقة المتضمنة تتقدم على تمام اللفظ، بل يقعان بعد تمام اللفظ، لكن تقع المتضمنة أولاً، وتقع المنجزة في لحظة عقيبها؛ كذا حكاه الرافعي. [و] في الذخائر نسبة الوجه الأول إلى أبي الطيب، والثاني إلى أبي إسحاق، وحكاية وجه آخر في المهذب نسبه إلى ابن أبي هريرة، وهو أنهما يقعان معاً، وتظهر فائدة الخلاف فيما لو قال ذلك لغير المدخول بها، فإن قلنا بالأول، وقعت طلقة، وإن قلنا بالثاني، فهل تقع طلقة أو لا يقع شيء أصلاً؟ فيه وجهان بناهما القاضي الحسين على الخلاف في مسألة الدور، فإن صححنا الدور، لم يقع الطلاق ها هنا، وإلا وقعت طلقة بقوله: أنت طالق، وألغينا قوله: قبلها، ولم يرتض الإمام هذا البناء، وقال: المعنى المانع من الوقوع هنا: أنه أوقع طلقة مسبوقة بطلقة، ولا يتصور في غير المدخول بها وقوع طلقة مسبوقة بطلقة، وإذا لم يقع طلقة مسبوقة بطلقة، وجب ألَّا يقع شيء، وإلا لكان الوقوع غير ما أوقعه، وهذا المعنى لا يختلف بين أن نصحح الدور، أو لا نصححه. قلت: وهذا المأخذ يشابه ما حكاه البغوي عن فتاوى القاضي: أنه إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة رجعية: أنها لا تقع وفي التهذيب-[على المذهب] وإن كان قد أبدى من عند نفسه احتمالاً في الوقوع. قال الإمام: ووجه وقوع الواحدة ها هنا أن مقصوده توزيع الطلقتين على زمانين لا أن تصير طلقة وصفاً لطلقة؛ فكذلك نحكم بوقوع طلقة فيما إذا قال: أنت طالق طلقة بعدها [طلقة]، ولا نقول: لا يقع؛ لأنه وصف الطلقة الموقعة باستعقاب أخرى، فإذا لم تقع أخرى، لم يحصل الوصف. وربما فرق بين الطريقين بأنه لو قال: أول ولد تلدينه فهو حر، فولدت ولداً عتق، وإن لم تلد غيره. ولو قال: ثاني ولد تلدينه [فهو] حر، لم يكن بد من أول. وعلى الوجه الأول يقع طلقتان؛ حكاه الشيخ أبو علي، ويصير كما لو قال: أنت طالق طلقتين.

فرع: لو قال: أنت طالق طلقة قبلها وبعدها طلقة، طلقت ثلاثاً؛ إذا كانت مدخولاً بها؛ لأن الطلقة الواحدة تتوزع على ما قبلها وبعدها فيكمل النقصان [بها]. وفي "التتمة": أن هذا على طريقة من يقول: يقع الطلاق على الترتيب الذي أوقعه، أما على طريقة من يقول: يلغو قبله يقع عليها طلقتان، ويصير كما لو قال: طلقة بعدها طلقة، وقد حكاه أبو علي في الشرح وجهاً. قال: وإن قال- أي: للمدخول بها-: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، وادعى أنه أراد [قبلها] [طلقة] من نكاح آخر، أو من زوج آخر؛ فإن كان ذلك، قبل [منه]- أي: مع يمينه- لأنه يحتمل ما يدعيه، والأصل عدم وقوع الطلاق. وإن لم يكن، لم يقبل- أي: في الحكم- بل يقع طلقتان، ويُدَيَّن؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر. ولو ادعى أنه أراد طلقة في هذا النكاح؛ فهو كما لو قال لها [ذلك] في تفسير قوله: أنت طالق أمس؛ على ما حكاه الرافعي، وسيأتي الكلام فيه مستفيضاً إن شاء الله تعالى. ولو قال: أنت طالق طلقة بعدها طلقة، وقال: أردت بالبعدية: أن أوقع عليها بعد ذلك طلقة، لم يقبل في الحكم، [و] لكن يدين فيما بينه وبين الله عز وجل. فإن قيل: قد حكى الشيخ في كتاب الأيمان فيما إذا قال الحالف: أقسمت بالله أو: أقسم بالله، وادعى أنه أراد بالأول الخبر عن ماضٍ، وبالثاني الخبر عن مستقبل- خلافاً في قبول ذلك منه في الحكم، وكان يتجه أن يجيء مثله ها هنا. فالجواب عن المسألة الأولى: أن مسألة الأيمان مصورة فيما إذا لم يظهر ما قاله بالبينة، وحيث جرى الخلاف فيه عند عدم البينة، لم يجر ها هنا؛

لأن الأبضاع مما يحتاط فيها، والطلاق يحرمها، والشبهة في المحرم كحقيقة التحريم، واليمين لا تحرم المحلوف عليه. أما إذا ظهر ما قاله بالبينة، فالحكم كما ذكرناه هنا. وعن المسألة الثانية: أن قوله: أقسم بالله، يحتمل الوعد بالقسم، وإنما حمل على الإنشاء في الحال عند العراقيين من غير نية؛ لعرف الشرع، فإذا ادعى أنه أراد الوعد، كان اللفظ مساعداً له؛ فقبل، والصيغة المأتيُّ بها في الطلاق لا تقتضي [الوعد بالتطليق في المستقبل، فإذا ادعى ذلك، كان ما ادعاه] مخالفاً لمقتضى اللفظ؛ فلم يقبل. فرع: لو قال: يا مطلقة أنت طالق، وكان قد طلقها قبل ذلك، فقال: أردت بذلك [تلك] الطلقة [هل] يقبل قوله، أو تقع طلقة أخرى؟ فيه وجهان محكيان في الرافعي عن فتاوى الفراء قبل القسم من كتاب الطلاق. [فائدة]: قال ابن يونس: في هذا الفصل مسألتان، نقلهما صاحب "التلخيص": إحداهما: إذا قال: أنت طالق طلقتين، فماتت قبل أن يقول: طلقتين- لا يقع الطلاق، وكذا لو ماتت قبل قوله: إن شاء الله. وخالفه بعض الأصحاب، وما قاله من الحكم صحيح، لكن قد يظهر أن مأخذ عدم الوقوع في المسألة الأولى مغاير لمأخذ المسألة الثانية؛ لأن من قال بعدم الوقوع في [المسألة] الأولى- اعتبر اللفظ بجملته، وقد خرجت عن أن تكون محلّاً للطلاق في بعضه؛ فبطل بجملته. ومن قال بعدم الوقوع في الثانية، اعتبر صدر الكلام، وجعل ما بعده تابعاً له؛ فأعمل الاستثناء، ولم يوقع الطلاق. وليس الأمر كذلك؛ بل لعدم وقوع الطلاق في المسألة الثانية مأخذان: أحدهما: هذا. والثاني: المأخذ المذكور في المسألة الأولى بعين ما قرر.

وفي المسألة الأولى القول الثالث الذي تقدمت حكايته في الباب الأول: أنه يقع طلقة واحدة. وقال إسماعيل البوشنجي: الذي تقتضيه الفتوى: أنه إن نوى الثلاث أو الطلقتين بقوله: أنت طالق، وكان قصده أن يحقق باللفظ المنوي- وقع المنوي، وإن لم يقصد لم يقع إلا واحدة. واعلم أن حكم إسلام الزوجة وردتها إذا لم تكن مدخولاً بها قبل قوله: طلقتين أو ثلاثاً حكمُ الموت، وكذا لو أخذ واحد على فيه، ومنعه من أن يقول: طلقتين أو ثلاثاً، [والله- عز وجل- أعلم]. قال: وإن قال: أنت طالق هكذا وأشار بأصابعه الثلاث، وقع الثلاث؛ [لأن الإشارة بالأصابع الثلاث في باب العدد بمنزلة النية. فإن قال: أردت بعدد الأصبعين] المقبوضين- قبل [منه]، [أي: مع النية- بيمينه] لأنه يحتمل الإشارة بهما. وقال الشيخ أبو حامد: لا يقبل في الحكم؛ لأن الظاهر خلاف ما يدعيه، نعم: يدين. ولو قال: أردت واحدة، [لم] يقبل منه في الحكم، ويدين؛ لأن الإشارة تصريح في [باب] العدد. وقال صاحب "التقريب": كناية، فيقبل؛ كذا حكاه [عنه] في "التهذيب". قلت: ومقتضى ذلك ألا نوقع بها الثلاث من غير نية عند الإطلاق، ويؤيده ما سنذكره في الفرع بعده. وفي الجيلي حكاية ذلك عن ابن سريج. ولو قال: أنت طالق، وأشار بأصابعه، ولم يقل: هكذا- لم يلزمه العدد؛ لأنه قد يشير ولا يريد العدد. نعم لو قال: أردت العدد، لزمه.

ولو قال: أنت هكذا، وأشار بأصابعه الثلاث، ولم يقل: طالق، ففي التعليق للقاضي الحسين: أنه لا يقع. وفي الجيلي حكاية وجه عن بحر المذهب: أنه يقع طلقة. ووجه آخر: أنه يقع الثلاث وإن لم ينو، وادعى أنه الأصح. وفي فتاوى القفال: أنه إن نوى بقلبه الطلاق، طلقت ثلاثاً، وإن لم ينو أصل الطلاق، لم يقع شيء. ولو قال: أنت، وأشار بأصابعه الثلاث، ونوى الطلاق- لم يقع شيء؛ لأن قوله: أنت ليس من ألفاظ الطلاق، فلو أوقعنا [به] الطلاق لكان بالنية دون اللفظ. [وأيضاً: فلو قال لامرأته: (ثلاث طلقات، ولم يشر إليها، لم يقع؛ فكذا هنا؛ حكاه القاضي الحسين قبيل كتاب اختلاف الحكام والشهادات، وشبه به ما إذا قال لامرأته: أنت طالق طلقة ثلاث طلقات، فإنه يقع عليها طلقة، ولا يقع الثلاث- كما قال الشافعي- لأنه إذا قال: أنت طالق طلقة كان طلاقاً مستقلّاً بنفسه، وقوله: ثلاث طلقات لم يكن معطوفاً على اللفظ الأول؛ فأشبه ما ذكرناه). فرع: إذا قال: أنت طالق، وأشار بأصبعه، ثم قال: أردت به الأصبع دون الزوجة، لم يقبل في الحكم، وهل يدين؟ فيه وجهان: اختيار الشاشي منهما: أنه لا يدين. قال: وإن قال: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث، طلقت طلقتين؛ لأن إلى للغاية، وما كان كذلك فيجوز دخوله فيما قبل، ويجوز ألا يدخل؛ فلم نوقع ما بعد الغاية بالشك، وتقع الأولى والثانية؛ لأنه أوقع ما بين الأولى والثالثة، وهي الثانية، ومن ضرورة وقوع الثانية أن يتقدمها أُولى؛ فوقعت طلقتان. وقيل: يقع طلقة؛ لأن من لابتداء الغاية، وإلى [لانتهاء الغاية]، والابتداء والانتهاء لا يدخلان في الحكم، كما لو قال: بعتك من هذا الحائط إلى هذا الحائط؛ فإنه لا يدخل الحائطان في البيع؛ وهذا الوجه ما صدر به الشيخ كلامه في كتاب الإقرار فيما إذا قال: له عليَّ من درهم إلى عشرة؛ فإنه يلزمه ثمانية،

وإن كان الأصح عند الشيخ أبي حامد والعراقيين: أنه يلزمه تسعة، وهو يشابه الوجه الأول [هنا]. وفي الجيلي حكاية وجه آخر: أنه يلزمه الثلاث، وقاله ابن الصباغ تخريجاً من [عند نفسه، وعلله بأنه قد وجد منه التلفظ بالثلاث؛ فلا سبيل إلى إلغائها، وهو] يشابه الوجه الثالث في الإقرار الذي قال صاحب التهذيب فيه: إنه الأصح. ولو قال: أنت طالق ما بين الواحدة والثلاث، ففي الجيلي: أنه وقع طلقة. وقيل: تعود الأوجه الثلاثة. فرع: لو قال: أنت طالق حتى تتم الثلاث ففيه وجهان: أحدهما: أنه ثلاث. والثاني: يرجع إليه، فإن لم ينو شيئاً، وقعت واحدة. قال الرافعي في كتاب الطلاق قبل القسم الثاني منه: ويقرب منه ما إذا قال: [أنت طالق] حتى أكمل ثلاثاً، أو: أوقع عليك ثلاثاً. قال: وإن قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق [ولم تكن له نية]، وقعت طلقة؛ وكذا لو قال: أنت طالق، وطالق، وطالق؛ لأنه أوقع الأولى قبل الثانية؛ فوجب وقوعها، وإذا وقعت بانت بها، فلم يقع ما بعدها. وفي القديم حكاية قول على ما حكاه في المهذب وغيره: أنه يقع الثلاث. وفي الشامل و"التتمة": أن الطبري حكاه وجهاً؛ لأنه إذا لم ينقطع بعض الكلام عن البعض، كان شبيهاً بقوله: أنت طالق ثلاثاً. والفرق على الجديد: أن قوله: ثلاثاً تفسير لقوله: أنت طالق، وأما العطف والتكرار، فليس متعلقاً بالأولة. وفي الرافعي: أن القول المحكي عن القديم أن حكمها في وقوع الطلاق حكم المدخول بها، حتى يأتي فيه التفصيل الذي يذكر من بعد، وهو الأشبه.

فرع: لو قال: أنت طالق إحدى عشرة طلقة، طلقت ثلاثاً. ولو قال: واحدة ومائة، [طلقت طلقة واحدة]. ولو قال: إحدى وعشرين طلقة، ففيه وجهان: أحدهما: تطلق ثلاثاً: والثاني: واحدة؛ حكاه في التهذيب. قال: وإن قال ذلك للمدخول بها، فإن نوى العدد، وقع؛ لأن اللفظ تأكد بالنية، ولا يفتقر في قبول قوله إلى يمين؛ إذ في ذلك تغليظ عليه، ولكن هل يتعلق التحريم بالأخيرة أو بالمجموع؟ فيه خلاف تقدمت حكايته. قال: وإن نوى التأكيد- أي: تأكيد الأولى بالطلقتين الأخيرتين- لم يقع إلا طلقة؛ لأن التأكيد في الكلام معهود في جميع اللغات، والتكرار أعلى درجات التأكيد، وكثيراً ما وقع ذلك في كلامه، عليه السلام. قال الإمام: ويُبْغَى به شيئان: أحدهما: الاحتياط: إيصال الكلام إلى فهم السامع؛ إن فُرض ذهول وغفلة. والثاني: إيضاح القصد إلى الكلام، والإشعار بأن لسانه لم يسبق إليه. وإذا كان التأكيد معهوداً، والتكرير أقوى درجاته، صح التفسير به، لكن مع اليمين. ولو نوى بالثانية تأكيد الأولى، وبالثالثة الاستئناف، [وقعت طلقتان. وكذا لو نوى بالثانية الاستئناف]، وبالثالثة تأكيد الأولى، فهل يقبل ذلك منه؟ فيه وجهان: أصحهما: أنه لا يقبل. قال في الذخائر: وعلى هذا تقع الثلاث، وكذلك الرافعي أيضاً. قلت: وفي وقوع الثلاث على الجزم نظر؛ من حيث إن هذه النية التي ادعاها إذا لم تكن معتبرة- لما فيها من الفصل بين المُؤَكِّد والمؤكَّد- فينبغي أن يكون الحكم كما لو قال ذلك، ولم ينو به شيئاً، وسيأتي الخلاف فيه، بل بطريق الأولى؛ لأنه عند الإطلاق لم يقصد عدم الإيقاع، وهنا قصده.

ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنا عند الإطلاق إنما لم نوقع عليه الثلاث- على رأي- لأن اللفظ الثاني والثالث صالح للتأكيد، كما هو صالح للإنشاء، فلو أوقعنا عليه الثلاث لكان إيقاعاً بالشك؛ وهنا لما أظهر لنا أنه لم يرد التأكيد المعتبر بنية تأكيد الأولى بالثالثة- بطل أحد الاحتمالين الذي لأجله لم نوقع الطلاق؛ فتعين الآخر، وهو إيقاع الثلاث. قال: وإن لم ينو شيئاً، ففيه قولان: أصحهما: أنه يقع بكل [لفظة] طلقة، وهذا هو المنقول في الأم؛ لأن اللفظ الثاني والثالث مثل الأول، وقد وقع بالأول الطلاق؛ فوجب أن يقع بهما أيضاً. والثاني: لا يقع إلا طلقة واحدة، وهو المنقول عن الإملاء؛ لأن ذلك يحتمل التأكيد ويحتمل الاستئناف، فلا نوقع ما زاد على الواحدة بالشك؛ وهذا كله فيما إذا والى بين الألفاظ الثلاثة، ولم يفصل بينها، أما لو وقع بينها [فصل] بأن ذكرها في مجالس، أو في مجلس واحد، وسكت فوق سكتة التنفس، [ونحوه، وقعت للثلاث]. [وأبدى الرافعي في كتاب الإقرار فيها احتمالاً نذكره ثم، إن شاء الله تعالى] فلو ادعى إرادة التأكيد، لم يقبل في الحكم، ولكن يدين؛ وهذا بخلاف ما إذا أقر في مجلس بألف، [ثم في] مجلس آخر بألف، وقال: أردت إعادة الأول، وليس عليَّ [إلا] ألف واحد؛ حيث يقبل؛ لأن الإقرار إخبار، والمخبر عنه لا يتعدد بتعدد الخبر، والطلاق إيقاع وإنشاء، فإذا تعددت كلمة الإيقاع تعدد الواقع. ويخالف- أيضاً- ما إذا قال لزوجته: والله لا أجامعك مرتين، وأطلق في المرتين، أو قيده بمدة واحدة، وادعى إرادة التأكيد؛ فإنه لا فرق في قبول ذلك بين أن يتحد المجلس أو يختلف، ولا بين أن يطول الفصل [أو لا].

وفي النهاية حكاية وجه فيه: [أنه] إذا طال الفصل لا يقبل، وتكون اللفظة الثانية يميناً أخرى. وأجرى الخلاف فيما إذا كرر تعليق الطلاق ببعض الصفات على ما حكاه في آخر كتاب الإيلاء، وسنذكره [فيه] إن شاء الله تعالى. ولو قال: أنت طالق، طالق، طالق، فعن القاضي الحسين القطع بأنه لا يقع عند الإطلاق غلا طلقة واحدة؛ لأنه لم يوجد كلمة الاستئناف، وهي قوله: أنت؛ فحمل المطلق على التكرار. والجمهور على أنه لا فرق بين اللفظين. ولو قال: أنت طالق واحدة ألف مرة، ولم ينو العدد، لا يقع إلا طلقة؛ لأن ذكر الواحدة يمنع لحوق العدد؛ قاله في "التتمة". قال: وإن أتى بثلاثة ألفاظ، مثل أن قال: أنت طالق، وطالق، فطالق، وقع بكل لفظة طلقة؛ لأن المغايرة بينها بالعطف تسقط حكم التأكيد، فإن ادعى أنه أراد التأكيد، لم يقبل في الحكم؛ لأنه [يخالف الظاهر]، ويدين؛ قاله في المهذب. وقال مجلي: إن الأصحاب خالفوه في ذلك. واعلم أن الحكم بوقوع الثلاث هنا مفرع على النص فيما إذا قال: أنت طالق، فطالق [في] أنها تطلق طلقتين. أما إذا قلنا بالقول المخرج مما إذا قال: له على درهم فدرهم: إنها لا تطلق سوى طلقة واحدة؛ فيتجه ها هنا: ألَّا يقع إلا طلقتان. ثم تمثيل الشيخ الثلاثة ألفاظ بما ذكره فيه نظر؛ لأن ما ذكره [فيه] تغاير بين حروف العطف، وأما تغاير الألفاظ، فمثل قوله: أنت مطلقة، أنت مسرحة، أنت مفارقة، وفي ذلك وجهان: أحدهما: أنه بمنزلة تغاير الحروف.

والثاني: أنه بمنزلة اللفظ الواحد إذا كرره. وأرجحهما على ما يقتضيه كلام الرافعي: الأول. ثم الفرق بين تغاير الألفاظ والحروف على الوجه الثاني: أن الحروف هي العاملة، وبها يعرف الاستئناف والعطف، وليس كذلك تغاير الألفاظ. ولو قال: أنت طالق، وطالق، وطالق، أو: طالق، فطالق، فطالق، [أو طالق] ثم طالق، ثم طالق وقع بالأولى والثانية طلقتان؛ لتغاير اللفظين، ويرجع في الثالثة إليه، فإن أراد الاستئناف، أو التأكيد، قبل. وإن أطلق فعلى القولين السابقين في الفصل قبله. وإن قال: قصدت [بالثانية] تأكيد الأولى، لم يقبل؛ لاختصاص الثاني بالواو المقتضية للعطف، وموجب العطف التغاير. وإن قال: قصدت بالثالثة تأكيد الأولى، لم يقبل؛ [كما لا يقبل] تأكيد الأولى بالثانية، [وبل أولى؛ لتخلل] [الفصل]؛ هكذا حكاه الرافعي هنا، و [حكى] في كتاب الإقرار في نظير المسألة عن النهاية وجهين: أظهرهما: ما ذكره هنا، ثم قال: وهكذا الحكم في الطلاق، [وسنعيد الكلام في هذا في باب الطلاق، إن شاء الله تعالى]. ولو قال: أنت طالق، وطالق، لا بل طالق، وقال: كنت شككت في الطلقة الثانية، واستدركت بقولي: لا بل طالق لأحقق إيقاع الثانية- حكى العراقيون عن نصه في الإملاء: أنه يقبل، ولا يقع إلا طلقتان، ولم يحك في الشامل سواه، وحكاه الإمام عن رواية صاحب التقريب، ونقل أنه قال: جعل الأصحاب المسألة على قولين: أحدهما: هذا، [وهو بعيد]. والثاني- وهو القياس، وظاهر نصه في المختصر-: وقوع الثلاث.

ثم حكى عنه فيما لو قال: بل طالق، من غير كلمة لا طريقين: أحدهما: أنها على القولين. والثاني: القطع بوقوع الثلاث. قلت: ومقتضى قبول قوله: أنه إذا [أطلق يكون في وقوع الثالثة] خلاف؛ كما تقدم في الفصل السابق، وعليه يدل قوة كلام الرافعي. ولو قال: أنت [طالق] طلقة، بل طلقتين، وقع الثلاث. وفي المهذب والحلية حكاية وجه: أنه يقع طلقتان، وأبداه الإمام احتمالاً. ولو قال: أنت طالق طلقة فطلقتين، ثم قال: أردت إعادة تلك الطلقة الأولى في الطلقتين، فالمذهب: أنه لا يقبل منه، ويقع الثلاث. وقيل: تقع طلقتان؛ حكاه القاضي الحسين في آخر كتاب الطلاق. قال: وإن قال: أنت طالق نصف تطليقة، أو: نصفي طلقة، طلقت طلقة: أما في المسألة الثانية؛ فلأن نصفي الطلقة طلقة: وأما في [المسألة] الأولى؛ فلأن الطلاق لا يتبعض؛ لأن العبد على النصف من الحر، وجعل له طلقتان، ولو كان يتبعض، لكان له تطليقة ونصف، وإذا لم يتبعض كان إيقاع بعضه [بمنزلة إيقاع] جميعه، كما لو طلق بعض المرأة. ولأن مقتضى ما أوقعه التحريم، ومقتضى ما لم يوقعه: بقاء الحل، والفرج إذا دار بين التحريم والإباحة، يغلب التحريم. نعم: هل يفتقر وقوعها إلى النية؟ المذهب المشهور: أنه لا يفتقر. وفي الرافعي: حكاية وجهين عن رواية أبي الحسن العبادي، حكاهما عند الكلام في صرائح الطلاق. وإذا وقعت الطلقة، فهل تقع بطريق التعبير بالبعض عن الكل، أو يقع

البعض ثم يسري؟ فيه خلاف منقول في الذخائر، في ضمن المسألة الرابعة في ربط الطلاق بالطلاق، والأول منها هو الذي حكاه الإمام، وقال: لا [تتخيل التسرية] في ذلك، والذي دل عليه كلام الشيخ في مواضع من الكتاب الثاني. وفي ابن يونس حكاية وجه في المسألة الثانية: أنه [يقع] طلقتان، وإليه أشار الغزالي بقوله: الصحيح: أنه يقع واحدة. قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقة، فقد قيل: يقع طلقة؛ لأن الأجزاء المذكورة مضافة إلى طلقة، والواحدة لا تشتمل على تلك الأجزاء؛ فتلغو الزيادة، ويصير كأنه قال: أنت [طالق] نصفي طلقة أو: ثلاثة أثلاث طلقة. وقيل: تقع طلقتان؛ لأن ثلاثة أنصاف طلقة: طلقة ونصف؛ فنكمل النصف. وعلى هذا القياس: [قوله:] خمسة أرباع طلقة، أو نصف وثلثا طلقة. وحكى الحناطي وجهاً ثالثاً: أنه يقع ثلاث طلقات، ويجعل كل نصف من طلقة. وضابط هذا الخلاف: أنا هل ننظر إلى المضاف، أو إلى المضاف إليه؟ وعليه يخرج ما لو قال: ثلاثة أنصاف [طلقتين] فمن نظر إلى المضاف أوقع الثلاث، ومن نظر إلى المضاف إليه أوقع طلقتين. وكذا لو قال: خمسة أنصاف طلقتين، وعلى هذا فقس. قال: وإن قال: [أنت طالق] نصف طلقتين، فقد قيل: [تقع] طلقة، وهو الأصح عند الغزالي والرافعي؛ لأن نصف الطلقتين طلقة، وحمل اللفظ عليه صحيح ظاهر؛ فلا نوقع الزيادة عليها من غير يقين، ولا ظهور. وقيل: [يقع طلقتان]، ويحكى هذا عن اختيار أبي إسحاق؛ لأنه أضاف النصف إلى طلقتين، وقضيته: النصف من هذه، والنصف من هذه؛ ألا ترى أنه لو قال: [لفلان نصف هذين العبدين، كان إقراراً بالنصف من كل واحد منهما؛ وعلى

هذا لو قال]: أردت طلقة واحدة يدين، وهل يقبل [منه] ظاهراً؟ فيه وجهان. والفرق- على الوجه الأول- بينه وبين مسألة العبدين: ما قاله الإمام: أن العبدين شخصان، لا يتماثلان؛ فإضافة النصف غليهما إضافة إلى كل واحد منهما، والطلقتان مضاهيتان العدد المحض، والنصف إذا أضيف إلى اثنين يتوجه حمله على واحد. ولو قال: ثلاثة أنصاف الطلاق، ففي "التتمة": أنه يقع ثلاث طلقات. ونقل الحناطي وجهين في أنه: [هل] يقع واحدة أو ثلاثاً. قال: وإن قال: نصف طلقة، ثلث طلقة، سدس طلقة، طلقت طلقة؛ لأن هذه أجزاء الطلقة، ولم يزد عليها. فلو زادت، بأن قال: نصف طلقة، ثلث طلقة، ربع طلقة، ففي [أمالي] أبي الفرج: أنه على الوجهين فيما إذا قال: ثلاثة أنصاف طلقة. قال: وإن قال: نصف طلقة، وثلث طلقة، وسدس طلقة، طلقت ثلاثاً؛ لأنه أضاف كل جزء [إلى] طلقة، وعطف البعض على البعض؛ فاقتضى ذلك تغاير الطلقات. وفرق الأصحاب بين هذه المسألة والتي قبلها بأنه إذا لم يدخل الواو، لم يكن بعضها معطوفاً على بعض؛ فلم يقصد تغايرها؛ فلم تحتمل طلقات، بل احتملت طلقة واحدة؛ فوقعت. قال ابن الصباغ: وهذا التعليل ليس بصحيح؛ لأن العطف إنما دخل في الألفاظ دون الطلقات؛ لأنه لو كانت الطلقات غير متغايرة، لكان يرد عليها بلام التعريف، فيقول: نصف طلقة، وثلث الطلقة، وسدس الطلقة، وهذه العلة موجودة إذا لم يعطف بعضها على بعض. وينبغي أن يكون الفرق أن الثلث والسدس إذا لم يعطف على النصف، لم يقع؛ لأنه ليس فيه لفظ الإيقاع، ولا عطف على ما فيه لفظ الإيقاع، كما لو قال: أنت طالق طلقة طلقة، لم يقع إلا واحدة.

قال مجلي: وهذا الفرق يئول إلى ما قيل أولاً. وفرق الرافعي: بأنه إذا لم يدخل الواو كان الكل بمنزلة كلمة واحدة، وإذا أدخلها فلكل واحدة حكمها؛ ولهذا لو قال: أنت طالق [طالق] لم يقع إلا واحدة، ولو قال: أنت طالق وطالق، وقعت طلقتان. قلت: وما استشهد به من قوله: أنت طالق طالق قد يظن أنه ذكره [بناءً] على مذهب القاضي فيه، والمذهب خلافه؛ فلا يحسن الاستشهاد به، وليس كذلك، بل مراده: [أنه] لو نوى [بذلك طلقة] واحدة، قبل، ولم يقع سواها؛ بخلاف ما لو قال: طالق وطالق؛ فإنه لا يقبل منه إرادة طلقة واحدة، بل نوقع عليه طلقتين. واعلم أن الإمام حكى في مسألة الفصل أن من أصحابنا من قال: إذا نوى صرف هذه الأجزاء إلى طلقة واحدة، قبل ذلك منه. وقال في "الوسيط": إن منهم من رد جميع ذلك إلى طلقة واحدة، وجعل تكراره للتأكيد، وصدر به في الوجيز كلامه، فإن كان ما حكاه الغزالي محمولاً على ما قاله الإمام، وإلا فهو وجه ثالث في المسألة، وقد رأيت في كلام الإمام- أيضاً- إشارة إليه، عند الكلام فيما إذا أوقع بين نسائه سدس طلقة، وثلث طلقة ونصف طلقة. ولو قال: أنت [طالق] نصف وثلث وسدس طلقة، طلقت طلقة. ولو قال: أنت طالق: نصف ثلث سدس، وقعت [طلقة] بقوله: أنت طالق. ولو قال: أنت طالق نصفاً، وثلثاً، وسدساً [فإن أراد به: نصفاً من طلقة، وثلثاً من طلقة، وسدساً] من طلقة- وقعت ثلاث تطليقات، وإن لم يكن [له] نية وقعت واحدة. فرع: لو قال: أنت نصف طلقة، فهل يكون مثل قوله: أنت طلقة؟ وفيه وجهان:

أحدهما: أنه صريح. والثاني: أنه كناية. قال: وإن قال لأربع نسوة: أوقعت بينكن طلقة، أو طلقتين، أو ثلاثاً، أو أربعاً- أي: وأطلق- وقع على كل واحدة طلقة؛ لأنه إذا وزع ذلك عليهن أصاب كل واحدة منهن طلقة، أو بعض طلقة؛ وتكمل. وفي الذخائر أن أبا علي حكى في الإفصاح: أنه يقسم كل طلقة بين الجميع، والأصح الأول؛ لبُعْد ما قاله عن الفهم؛ ألا ترى أنه لو قال لعبده: اقسم هذين الدرهمين على هؤلاء الأربعة، لم يفهم المأمور منه قسمة كل درهم عليهم. نعم: لو نوى ذلك، عمل به، ووقع بقوله طلقتين: على كل واحدة طلقتان، وبالثلاث ثلاث، وكذلك بالأربع. ولو ادعى أنه أراد إيقاع ذلك على بعضهن دون بعض، فيدين، وهل يقبل في الحكم؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنه لا يقبل؛ لأن ظاهر اللفظ يقتضي الشركة؛ لقوله: عليكن. والثاني: يقبل، وهو الأظهر عند الفوراني؛ لأنه إذا كانت المطلقة فيهن كان الطلاق بينهن. ولأن [مثل] هذا اللفظ يطلق للحصر في الجملة، كما يقول من يتهم واحداً من الجمع بالسرقة: السرقة بين هؤلاء، يريد الحصر فيهم، ولا يريد التشريك بينهم. وفي "الذخائر" بعد حكاية ما ذكرناه عن العراقيين والخراسانيين: أن من العراقيين من قال: الوجهان في التديين، وأما في الحكم فلا يقبل وجهاً واحداً. وفي "التتمة" جزم بعدم القبول في الحكم فيما إذا أوقع طلقة [واحدة]، ثم قال: أردت إشاعتها بين اثنتين. وفي "الشامل" حكاية وجه فيه [أيضاً]: أنه يقبل، وعزاه إلى أبي حفص بن الوكيل. وفي "الرافعي" تخريج وجه في جريان هذا التفصيل [فيما] إذا [قال]:

أوقعت عليكن. ثم ما حكيناه من الخلاف عند المراوزة فيما إذا لم يعطل بعض المطلقات، مثل أن أوقع عليهن أربع طلقات، ثم ادعى أنه أوقع على هذه طلقتين و [على] هذه طلقتين. أما لو قال: [أوقعت] الأربع على هذه، ففي قبوله- أيضاً- وجهان مرتبان. وحيث قلنا بعدم [القبول فذاك] في حق من نفى عنها، أما من أوقع عليها فيقبل. ولو أوقع بين ثلاث منهن ثلاث طلقات، وقال: أردت إيقاع طلقتين على هذه، وقسمة الأخرى على الباقيات، حكى الرافعي في قبول ذلك وجهين: أظهرهما: أنه يقبل، و [به] قطع الشيخ أبو علي، وأطال في توجيهه. والثاني- عن رواية أبي الحسين بن القطان-: أنه لا يقبل، ويجب استواؤهن. قلت: وفي عدم القبول نظر في هذه الصورة؛ بل يتجه أن يقبل ذلك منه قولاً واحداً من غير يمين؛ [لأن فيما ادعاه] تغليظاً عليه، واللفظ يحتمله. ووجه ما قلته: أن عند عدم الإرادة يقع على كل واحدة [منهن] طلقة، فإذا ادعى ما ذكرناه، فقد ادعى أنه أوقع على واحدة منهن طلقتين، [وعلى كل واحدة من الباقيات طلقة. نعم: لو صور المسألة بما إذا أوقع بينهن أربع طلقات] وقال: أردت إيقاع طلقتين على هذه، وطلقتين على الباقين- اتجه جريان الخلاف فيها؛ لأنه يصرف بذلك عن كل واحدة [من الباقيتين طلقة؛ لأن مقتضى الاشتراك أن يقع على كل واحدة] منهن طلقة وربع، ويكمل. وقد صور الإمام محل الخلاف بمثل ذلك، وقال: من قبل منه إخراج بعضهن من قسمة الطلاق، [فلا شك أنه] يقبل ها هنا أيضاً.

ومن لم يقبل إخراج بعضهن، فهل يقبل التفاوت في القسمة؟ هذا محل التردد. فروع: إذا قال: أوقعت بينكن نصف طلقة، وثلث طلقة، وسدس طلقة، إن قلنا عند مخاطبة الواحدة بذلك: تقع واحدة، فكذلك ها هنا؛ وإن قلنا: يقع الثلاث فكذلك [يقع] ها هنا: على كل واحدة ثلاث. قال الإمام: ويحتمل أن يجعل كما لو قال: أوقعت بينكن ثلاث طلقات، والقسمة المستوية في ذلك لا توجب إلا طلقة طلقة إذا قال: أوقعت بينكن طلقة، وطلقة، وطلقة. قال الرافعي: يجوز أن يقال: هو كما لو قال: ثلاث طلقات؛ فتطلق كل واحدة طلقة. ويجوز أن يقال: تطلق كل واحدة ثلاثاً. [و] إذا قال لثلاث منهن: أوقعت عليكن طلقة، فإن كل واحدة تطلق طلقة، ثم قال للرابعة: أشركتك معهن، ونوى الطلاق؛ فينظر: إن أراد طلقة؛ لتكون كواحدة منهن، [طلقت] طلقة؛ وإن أراد أن تشارك كل واحدة منهن في طلقتها، طلقت ثلاثاً؛ وإن أطلق، ولم ينو واحدة، ولا عدداً، فوجهان: أظهرهما: أنها تطلق واحدة. والثاني: طلقتين؛ لأنه جعل الواحدة شريكة الثلاث، وفي مقابلتهن، وقضية ذلك أن يصير ما لحقهن مقسوماً بينهن، وقد لحقهن ثلاثً؛ فيلحقها نصفها، وهو طلقة ونصف، ويكمل. قال الرافعي: لو قيل بناءً [على] هذا التوجيه: يلحقها ثلاث طلقات، لم يكن بأبعد منه. وعلى قياس المسألة: لو طلق اثنتين، ثم قال للأخيرتين: [أشركتكما معهما]

ونوى الطلاق، وأطلق- فتطلق كل واحدة طلقة؛ على قياس الوجهين [معاً]. ولو طلق إحدى امرأتيه ثلاثاً، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، ونوى الطلاق، ولم ينو العدد، أجاب أبو بكر الشاشي بأنها تطلق واحدة، وتوقف البوشنجي فيه، وقال: قد أوقع على الأولى ثلاثاً، والتشريك أن يكون لها مثل ذلك. قال: ولو قال: أوقعت بينكن خمس تطليقات، وقعت على كل واحدة طلقتان؛ [لأن التقسيط على السواء يقتضي أن يقع على كل واحدة طلقة] وربع؛ فيكمل؛ وهكذا الحكم في الست والسبع والثماني. ولو قال: أوقعت بينكن تسع تطليقات، وقع على كل واحدة ثلاث طلقات؛ بطريق التكميل. وقد فهم مما تقدم التفصيل الذي يمكن أن يذكر في هذا الفصل. قال: وإن قال: أنت طالق ملء الدنيا، أو: أطول الطلاق، أو: أعرضه، طلقت طلقة إلا أن يريد به الثلاث. الدنيا: بضم الدال على المشهور، وحكي كسرها، [وجمعها: دنا]، وهي من: دنوت؛ لدنوها وسبقها الدار الآخرة، وينسب إليها: دُنْيَوِيٌّ، ودُنْيِيٌّ ودُنْياوِيٌّ. وفي حقيقة الدنيا قولان للمتكلمين: أحدهما: أنها الهواء، والجو. والثاني: كل المخلوقات: من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدار الآخرة، وهو الأظهر. والدليل على ما ذكره الشيخ: أن ليس فيما ذكره [ما] يقتضي العدد، وقد تتصف الطلقة الواحدة به. وكذا الحكم فيما لو قال: ملء السماء والأرض والبلد، أو مثل الجبل العظيم، أو أعظم من الجبل. ولو قال: ملء السماوات، أو: الأرضين، أو: البيوت الثلاث، طلقت ثلاثاً.

ولو قال: عدد التراب، قيل: تقع طلقة؛ حكاه الإمام وغيره؛ لأن التراب شيء واحد. وقال البغوي: وقيل: تقع الثلاث، وهو الأصح عندي؛ كما لو قال: عدد ذر التراب أو: أنواعه. ولو قال: أنت طالق بعدد كل شعرة على جسد إبليس، قال إسماعيل البوشنجي: قياس مذهبنا: أنه لا يقع شيء؛ لأنا لا ندري هل على جسد إبليس شعر أم لا؟ والأصل العدم. وعن أصحاب أبي حنيفة: أنها تطلق طلقة، كذا حكاه الرافعي عنه في باب الشك في الطلاق، وفيما قاله نظر. ولو قال: أنت طالق وزن درهم، أو درهمين، أو ثلاثة، وكذا سائر الأوزان، [ولم ينو]- لم يقع إلا طلقة؛ صرح به الرافعي وغيره. وفي تعليق القاضي الحسين: أنه إذا قال: أنت طالق مثقالاً، يقع عليها طلقة، ولو قال: مثقالين فكذلك؛ لأنه أراد بذلك الصنج التي يوزن بها الدنانير. ولو قال: ثلاثة مثاقيل يقع طلقتان، ولو قال: خمسة مثاقيل تقع طلقة. ولو قال: ثمانية مثاقيل، طلقت ثلاثاً. ولو قال: عشرة مثاقيل طلقت واحدة؛ حكي ذلك عن اختيار القفال. ومن أصحابنا من قال: الاعتبار بالوزن، فلو قال: أنت طالق مثقالاً، أو درهماً، يقع طلقة، ولو قال: مثقالين، يقع طلقتان، ولو قال: ثلاثة مثاقيل، يقع الثلاث وكذلك خمسة مثاقيل. ولو قال: يا مائة طالق، أو: أنت مائة طالق، طلقت ثلاثاً. ولو قال: أنت طالق كمائة، قال ابن الصباغ: عندي أنها تطلق ثلاثاً. وفي "التتمة" حكاية وجهين: أحدهما: موافق لاختيار ابن الصباغ. والثاني: أنها تطلق طلقة.

قال: وإن قال: أنت طالق كل الطلاق، أو أكثر الطلاق، طلقت ثلاثاً، لأن الثلاث كله وأكثره، والمراد بالأكثر ها هنا أكثر ما يملك الزوج إيقاعه من الطلاق على وزان قولنا: أكثر الحيض، وأكثر النفاس، وأكثر مدة الخيار كذا، والمراد أقصى ما يثبت الشرع له هذا الحكم كذا. واعلم أن بعض المشتغلين بالفقه يستشكل وقوع الثلاث بقوله: أنت طالق أكثر الطلاق؛ فإن لفظة [ففيه] أكثر تستدعي أن يبقى بقية، كما إذا قال: لفلان أكثر هذه الدار؛ فإنه لا يتناول كلها، وإذا كان كذلك فينبغي أن تطلق طلقتين؛ إذ به يتحقق هذا الوصف. وجوابه ما ذكرناه. ويمكن أن يجاب عنه بوجه آخر: وهو أنه لو قال لها: أنت طالق أقل الطلاق طلقت طلقة، ولو قال لها: أوسط الطلاق، وأراد في العدد طُلِّقَتْ طلقتين، وقد صرح بذلك القاضي الحسين [فيما إذا] قال: أكثر الطلاق، [و] لو أوقعنا به طلقتين، لزم أن نسوي بين [قوله: أوسط، وبين قوله: أكثر] والتفاوت بينهما ظاهر. وفي التعليق للقاضي- أيضاً-: أنه إذا قال: أوسط الطلاق، وأراد الأوسط في الطلاق دون الأطول؛ فلا يقع إلا واحدة، وقد أجاب بعضهم [عن هذا] السؤال بأن قوله: أكثر الطلاق، أراد به: الأكثر بالنسبة إلى طلاق العبد؛ فإن العبد يملك طلقتين، والحر ثلاثاً؛ فهو على وِزَان- قولك: هذا أكثر من هذا، وهذا فيه نظر؛ من حيث إنه لو كان ذلك المراد، لزم أن يقع بقوله: أنت طالق أقل الطلاق طلقتان، وليس الأمر كذلك كما نقلناه، والله أعلم. فرع: لو قال: أردت بقولي: أكثر الطلاق: أكثر الثلاث يتجه في هذه الصورة أن يقبل قوله باليمين؛ لأن اللفظ يحتمل ذلك، وتقع طلقتان؛ لأن وصف الأكثر بهذا التفسير يصدق بالزيادة على النصف ولا سبيل إلى إيقاع ما دون الطلقتين؛ لما تقدم [من] أن الطلاق لا يتبعض؛ ولا إلى إيقاع ما زاد عليهما؛ لأنه في محل الشك،

فيقع طلقتان، اللهم إلا أن يريد زيادة على طلقتين، فحينئذٍ يقع الثلاث؛ وهذا أبديته تفقهاً، ولم أره منقولاً، فليتأمل. ولو قال: أنت طالق [أكثر الطلاق، أو أكمله أو أتمه،] أو أشده، أو أغلظه- لم يقع إلا واحدة. قال: وإن قال: أنت طالق أو لا؟ لم يقع شيء؛ لأن ذلك استفهام لا إيقاع. وفي الرافعي في كتاب الإقرار: أنه إن قال ذلك في معرض الإنشاء وقع؛ كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً لا تقع عليك، وإن قاله في معرض الإخبار لم يقع. ولو قال: أنت طالق واحدة؛ أو لا شيء، قال ابن الصباغ: الذي يقتضيه قياس قول أبي العباس: أنه لا يقع شيء؛ لأن قوله: واحدة صفة للطلاق الموقع، وصفة الشيء ترجع إليه؛ فصار كقوله أنت طالق أو لا شيء؟. ولو قال: أنت طالق أوَّلاً بتشديد الواو، وهو يعرف العربية، وقع الطلاق؛ لأن معناه: أنت [طالق] أول في الطلاق وكذلك لو قال: أن طالق لا؛ لأن حرف لا وحده ليس موضوعاً للاستفهام؛ فكان المقصود منه رفع مقتضى الكلام. قال: وإن قال: أنت طالق طلقة لا تقع عليك، طلقت طلقة؛ لأنه أوقع الطلاق، ثم أراد رفعه بالكلية، والطلاق لا يرتفع بعد وقوعه. وقولنا: بالكلية نحترز به عما إذا قال: أنت طالق إن دخلت الدار؛ فإنه رفع للطلاق، ولكن ليس بالكلية، [بل] في الحال. قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً، وقع الثلاث. نقدم على [الكلام في] هذا الفصل مقدمة ينبني عليها أكثر الأحكام التي تأتي، [وهي أن] الاستثناء صحيح في الجملة، وهو في اللسان معهود، وفي الكتاب والسنة موجود، ثم هو على قسمين: استثناء يمنع وقوع العدد. واستثناء يرفع الأصل:

فالأول عبارة عما وراء المستثنى منه، وله ثماني صيغ: [إلا وهي أم الباب- وغير، وسوى، وخلا، وعدا، وحاشا، وليس، ولا يكون، والاستثناء] ضد المستثنى عنه؛ [وإن كان المستثنى عنه] إثباتاً فهو نفي، وإن كان نفياً فهو إثبات؛ وهذا القسم إنما يستعمل، ويصح بشرطين: أحدهما: ألَّا يكون مستغرقاً، فإن كان فهو باطل بالإجماع؛ على ما حكاه الإمام فخر الدين، وإذا بطل بقي المستثنى عنه بحاله. والثاني: أن يكون متصلاً باللفظ، وقد قصد اللافظ الاستثناء من أول كلامه على الأصح- أعني: في الأخير- فلو انفصل، أو خلا عن القصد، لم يؤثر، وسكتة النفس، والعي لا تمنع الاتصال. قال الإمام: والاتصال المعتبر ها هنا أبلغ مما يراعى بين الإيجاب والقبول؛ فإن الإيجاب والقبول صادران من شخصين، والمقصود ألا يتخللهما ما يشعر بإعراضه عن الجواب، والاستثناء والمستثنى منه صادران من شخص واحد، وقد يحتمل بين كلام شخصين ما لا يحتمل بين أبعاض [كلام شخص واحد]؛ ولذلك لا ينقطع الاتصال بين الإيجاب والقبول بالكلام اليسير [على الأصح، وفي الاستثناء ينقطع. وحكى القاضي ابن كج وجهاً آخر: أن الكلام اليسير] الأجنبي بين المستثنى والمستثنى عنه لا يقدح. وفي خلو أول الكلام عن قصد الاستثناء وجه: أنه لا يضر؛ إذا وجد في أثنائه. ولو وجد قصد الاستثناء بعد تمام المستثنى منه، لم يؤثر على الأصح. وادعى أبو بكر الفارسي فيه الإجماع. وحكي عن أبي إسحاق أنه يؤثر. والقسم الثاني من الاستثناء: ما يرفع الأصل: كقوله لزوجته: أنت طالق إن شاء الله، وسيأتي الدليل على اعتباره، إن شاء الله تعالى. قال مجلي: وفي تسمية هذا القسم استثناء تساهل؛ إذ حقيقة الاستثناء ما كان بأحد الصيغ الثمانية المقدم ذكرها، وليس هذا كذلك؛ فإن هذه الصيغة [[صيغة

تعليق] الطلاق على الشروط: كقوله: إن دخلت الدار، ونحو ذلك، وإذا انتظمت هذه الصيغة] تعلق الطلاق بالمشيئة؛ فلا يقع إلا بعد حصول الشرط، وهو المشيئة كالطلاق المعلق على دخول الدار، لا يقع قبل [دخول الدار]. ثم لا سبيل لنا إلى الإطلاع على حصول المشيئة؛ فامتنع وقوع الطلاق؛ لعدم العلم بحصول الشرط؛ وبهذا فارق الاستثناء المستغرق إذا وقع الطلاق ثم رام رفعه بالكلية، فلم يرتفع. وقال الإمام: لا يبعد عن اللغة تسمية كل تعليق استثناء؛ فإن قول القائل: أنت طالق يقتضي وقوع الطلاق من غير تقييد بقصد، فإذا علقه بشرط فقد ثناه عن مقتضى إطلاقه؛ كما أن قول القائل: أنت طالق ثلاثاً [إلا طلقة] يثني اللفظة عن مقتضاها. وفي الحلية حكاية وجهين: أحدهما: أن هذه الصيغة صيغة استثناء تمنع انعقاد [اللفظة، فتصير اللفظة بوجودها] كأن لم تكن. والثاني: حكاه عن أبي إسحاق: أنه شرط، وينعقد منه على الشرط، ولكن يمتنع الوقوع؛ لعدم الشرط، وأسند ذلك إلى الحاوي. قال مجلي: ولم أر هذا الخلاف إلا بعد أن وقع لي ما ذكرته من الاستدراك. ثم هذا القسم يعتبر فيه الاتصال لفظاً، و [اقتران القصد] بأول الكلام كما ذكرناه في القسم الأول؛ قاله الرافعي، وألحق به سائر التعليقات، وهو قضية ما في "التتمة" في كتاب الأيمان. وقال مجلي: لم أر للشيخ أبي حامد الإسفراييني في التعليق اشتراط قصد، وفيما ذكر نظر؛ فإن الأشبه على قولنا: إنه من قبيل التعليق؛ كقوله: إن دخلت الدار، وتعليق الطلاق على الشرط لا يفتقر إلى قصد، ولم يذهب إليه ذاهب، ولو ذهب إليه قائل لكان باطلاً؛ لأن وقوع الطلاق يتبع الصفات، والإيقاع يترتب في صورة التعليق على وجود الشرط؛ فيتبعه، ولم يشترط وجود النية؛ كما يتبع الوقوع وجود اللفظ المنجز

وإن لم تحصل نية في الإيقاع؛ هذا على قولنا: إنه تعليق، وكذلك يجيء على قولنا: إنه استثناء؛ فإن الاستثناء بصيغ الاستثناء من الأعداد، ولا أعلم خلافاً فيها، ولم أر أحداً من الأصحاب ذهب إلى اشتراط ذلك فيه، والمطلوب منهما واحد، لأن هذا يرفع الجميع، والاستثناء بصيغة يرفع البعض؛ فاستويا في المقصود. نعم: يشترط القصد إلى إيجاد اللفظ؛ لينفصل عمن عادته التلفظ به؛ كمن يقول: إن شاء الله تعالى عادة في كل شيء؛ على سبيل التبرك؛ هذا آخر كلامه. [قلت: والجواب عنه: أن مراد الأصحاب في اشتراط النية: أن تكون نية التعليق مقترنة بأول لفظه؛ كما يشترط ذلك في المشيئة، حتى لو لم تكن موجودة عند قوله: أنت طالق، [و] وجدت عند قوله: إن دخلت الدار، وقع الطلاق قبل الدخول على الأصح، وإذا كان كذلك اندفع ما ذكره، والله أعلم]. عدنا إلى مسألة الكتاب: فإذا قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً، طلقت ثلاثاً؛ لما ذكرناه. ووجهه في الذخائر بأن حقيقة الاستثناء إخراج بعض ما تناوله اللفظ: كقوله: جاءني القوم إلا زيداً؛ فإذا كان مستغرقاً خرج عن حقيقته، وصار رفعاً لما أوقعه من الطلاق، ورفع الطلاق بعد إيقاعه لا يجوز. فإن قيل: هذا يقتضي ألا يصح الاستثناء مطلقاً، وإن لم يكن مستغرقاً؛ فإنه إذا قال: أنت طالق ثلاثاً، فقد أوقع الثلاث، فإذا قال: إلا طلقتين، أو: إلا واحدة، فقد رفع باستثنائه ما أوقعه؛ فلا يصح؛ لما ذكرتموه. قال مجلي: وطريق الجواب عنه: أن الاستثناء مع المستثنى منه كالجملة الواحدة، وهو عبارة عما بقي بعد الاستثناء فإذا قال: له علي عشرة إلا درهماً، كان كقوله: له على تسعة، فأفاد مجموع الكلام، وإذا كان مستغرقاً: كقوله: ثلاثاً إلا ثلاثاً، لم يبق للفظ فائدة، وصار تشبيهاً بالعبث؛ كقوله: ثلاثاً لا تقع عليك؛ فافترقا. ولو [قال]: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين وواحدة، فوجهان: أحدهما: تقع ثلاث طلقات.

والثاني: طلقة. وكذا لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة وواحدة وواحدة، فمن جمع أوقع الثلاث؛ لكونه مستغرقاً، ومن فرق أوقع طلقة، وأعمل الاستثناء بين المتقدمتين وصار كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا طلقة وطلقة فإنه يقع طلقة. وفي الرافعي حكاية وجه في هذه المسألة الأخيرة: أنه يقع الثلاث. فرع: لو قال: كل امرأة لي طالق إلا عمرة، ولا امرأة له سواها، وقع عليها الطلاق؛ لاستغراق الاستثناء، بخلاف ما لو قال: النساء طوالق إلا عمرة، ولا زوجة له سواها؛ فإنها لا تطلق؛ لأنه لم يضفهن إلى نفسه، حكاه الرافعي عن القفال بعد الكلام في النية في الكناية. قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثاً إلا نصف طلقة، وقع الثلاث؛ لأنه نفى نصف طلقة؛ فيكمل. وحكى أبو علي من الخراسانيين وجهاً: أنه تقع طلقتان، وجعل استثناء النصف كاستثناء الكل؛ كما أن إيقاع النصف كإيقاع الكل، والظاهر الأول؛ لأن التكميل إنما يكون في طرق الإيقاع؛ تغليباً للتحريم. ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا نصفاً، يراجع: فإن قال: عنيت: إلا نصفها، يقع طلقتان. وإن قال: عنيت نصف طلقة، طلقت ثلاثاً، على الأصح. وإن قال: لم أرد شيئاً، حمل على استثناء النصف من الجميع. ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا طلقتين و [نصفا، فإن جعلنا استثناء النصف كاستثناء الكل، فهو كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا طلقتين وطلقة] وإن قلنا بالأصح، ففيه احتمالان للإمام: أحدهما: يبطل ذكره النصف، ويبقى قوله: ثلاثاً إلا اثنتين. والثاني: أنه يجعل ذكر النصف كذكر الكل؛ لأنه يؤثر في الإيقاع. قال: وإن قال: أنت طالق وطالق وطالق إلا طلقة، طلقت ثلاثاً على المنصوص.

وقيل: تقع طلقتان؛ لأن الواو شركت بين الثلاثة؛ فصار كقوله: أنت طالق ثلاثاً، والأول هو الأصح، واختيار ابن الحداد؛ [لأن الجمل المعطوفة تفرد] بالحكم وإن كان الواو للجمع؛ ألا ترى أنه لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق، لا يقع إلا [طلقة] واحدة، ولا ينزل منزلة ما لو قال: أنت طالق طلقتين؟ وإذا كان كذلك رجع الاستثناء إلى ما يليه، وهو مستغرق؛ فيبطل. وهكذا الحكم فيما لو قال: أنت طالق فطالق ثم طالق؛ حكاه البندنيجي في تعليقه. قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثاً إلا طلقتين، طلقت طلقة؛ عملاً بقضية الاستثناء؛ لأنه أثبت ثلاثاً، ونفى طلقتين؛ فبقيت طلقة. ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، طلقت طلقتين، لما قلناه. قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثاً إلا طلقتين إلا طلقة، طلقت طلقتين؛ لما تقدم أن قاعدة الاستثناء أنه من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي. والمعنى: ثلاثاً تقع، إلا اثنتين لا تقعان، إلا واحدة تقع من الاثنتين؛ فتضم إلى الباقية من الثلاث فتقعان. وأبدى الحناطي وجهاً آخر على سبيل الاحتمال: أن الاستثناء الثاني ينصرف إلى [أول] اللفظ؛ وعلى هذا فيكون الحكم كما لو قال: إلا اثنتين وواحدة. قال: وإن قال: أنت طالق خمساً إلا ثلاثاً، فقد قيل: تطلق ثلاثاً، وبه قال أبو علي الطبري، وابن أبي هريرة؛ لأن الزيادة على الثلاث لغو، لا سبيل إلى إيقاعها؛ فلا عبرة بذكرها. وإذا كان كذلك، كان الاستثناء مستغرقاً، فيلغو. وقيل: طلقتين، وبه قال ابن الحداد، وأكثر الأصحاب، ونص الشافعي في البويطي [يوافقه]؛ حيث [قال: إذا] قال: أنت طالق ستّاً إلا أربعاً، وقع عليها طلقتان، ووجهه: أن الاستثناء لفظي، فيتبع فيه موجب اللفظ، ولا فرق في اللغة بين اثنتين

وبين خمسة إلا ثلاثة. وما ذهب إليه أبو علي جار في المسألة التي ذكرناها عن النص ونظائرها. ولو قال: خمساً إلا اثنتين، فإن قلنا: إن الاستثناء يرجع إلى المجموع، طلقت ثلاثاً. وإن قلنا: يرجع إلى المملوك، طلقت طلقة. قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا اثنتين)، فقد قيل: يقع الثلاث، ويحكى عن [أبي علي] ابن أبي هريرة، لأن الاستثناء الأل مستغرق لاغ، والثاني مرتب على ما هو لغو، فيلغو أيضاً. وقيل: [يقع] طلقتان؛ لأنه [لما] عقب الاستثناء بالاستثناء، خرج الأول عن أن يكون مستغرقاً، وكان ذلك استثناء ثلاث إلا اثنتين من ثلاث، وثلاث إلا اثنتين: واحدة؛ فكأنه قال: ثلاثاً إلا واحدة. وقيل: طلقة؛ لأن الاستثناء الأول فاسد؛ لاستغراقه، فينصرف الاستثناء الثاني إلى أول الكلام، ويصير كأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين. والأصح منهما في الرافعي الثاني؛ حكاية عن الإمام والغزالي. فرع: لو قال لها: أنت إلا واحدة طالق ثلاثاً، حكي في المهذب عن بعض الأصحاب: أنه لا يصح الاستثناء، ويقع الثلاث، ثم قال: ويحتمل عندي: أنه يصح، ولا يقع إلا طلقتان. قلت: وهذا موافق لما حكاه ابن الصباغ في كتاب الأيمان فيما إذا قال: له على [إلا] عشرة دراهم مائة درهم: أنه يلزمه تسعون، وعزاه إلى القاضي. وحكى الرافعي في هذه الصورة وجهاً: أنه لا يصح الاستثناء، وهو موافق للوجه الأول في المسألة الأولى. قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء أبوك واحدة فقال أبوها: شئت واحدة، لم تطلق، كما لو قال: أنت طالق إلا أن يدخل أبوك الدار، فدخل. وعلى هذا لو شاء اثنتين أو ثلاثاً، لم يقع شيء أيضاً؛ لأنه شاء واحدة وزيادة. وقيل: تقع اثنتان، ويكون تقدير الكلام: إلا أن يشاء أبوك واحدة؛ فلا تقع تلك

الواحدة، ويقع ما سواها؛ وهذا محكي في "التتمة". وقيل: تقع واحدة، ويكون تقدير الكلام: إلا أن يشاء أبوك واحدة؛ فلا يقع الثلاث، وتقع الواحدة. ومحل الخلاف عند الإطلاق، فلو قال: أردت المعنى الثاني أو الثالث، قُبِلَ. ولو قال: أردت المعنى الأول، وفرعنا على الوجه الثاني أو الثالث، فهل يقبل منه، حتى لا يقع شيء؟ فيه وجهان: أظهرهما: القبول. ولو قال: أنت طالق واحدة إلا أن يشاء أبوك ثلاثاً؛ فإن شاء ثلاثاً، لم يقع شيء؛ جواباً على الوجه الأول، وهو الصحيح. وإن لم يشأ [شيئاً]، أو شاء واحدة أو اثنتين، وقعت واحدة؛ كذا حكاه الرافعي، ولم يتعرض للتفريع على ما عدا القول الأول. ويظهر أنا إذا فرعنا على القول الثالث: أنها تطلق ثلاثاً. وعلى القول الثاني: أن الحكم مثل الأول.

والحكم فيما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء [زيد أو] تشائي كما لو قال: إلا [أن] يشاء أبوك. قال: ولو قال: أنت طالق إن شاء الله تعالى، أو: أنت طالق إلا أن يشاء الله لم تطلق: أما في] المسألة الأولى؛ فلما روى عن معاذ: أنه- عليه السلام- قال له في حديث طويل: "إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فله استثناؤه، ولا طلاق فيه". ولقوله- عليه السلام-: "مَنْ أَعْتَقَ أَوْ طَلَّقَ، وَاسْتَثْنَى، فَلَهُ ثُنْيَاهُ". ولأنه لما جاز تعليق جميع الأيمان من عتق، وطلاق، وغيره بالشروط، والصفات، كان تعليقها بمشيئة الله تعالى كذلك، وإذا جاز تعليقه بمشيئة الله تعالى، لم يقع. وقد وجهه [بعض] الأصحاب بشيئين: أحدهما- وهو طريقة المتكلمين من أصحابنا-: أنه إنما لم يقع؛ لأن هذا يقتضي مشيئة جديدة، ومشيئة الله- تعالى- قديمة، وإذا [لم] تتصور الصفة،

لا يقع الطلاق؛ كما لو قال لامرأته: إن شاء زيد فأنت طالق؛ فإنه يقتضي مشيئة جديدة من زيد، لا المشيئة الماضية. والثاني- هو طريقة الفقهاء-: أنه لم يقع؛ لأنه علق الطلاق بالمشيئة، ونحن ما تحققنا المشيئة؛ فالطلاق لا يقع؛ لأن الأصل بقاء النكاح؛ كما لو قال [لها]: أنت طالق إن شاء زيد [ثم مات] زيد، ولم تتحقق مشيئته، لا يحكم بوقوع الطلاق؛ كذلك ها هنا. واختار الحليمي التوجيه الثاني، واعترض على الأول بأن قضيته: أن يقع ثلاث طلقات فيما إذا قال: أنت طالق ثلاثاً في الأصل إن شاء الله تعالى، ثم قال: أنت طالق، [فإنا قد عرفنا] مشيئة الله- تعالى- حيث وقع الطلاق. قال الرافعي: ولك أن تقول: إنما يلزم ذلك أن لو كان المعنى إن شاء الله أن تطلقي. أما إذا كان المعنى: إن شاء الله أن تطلقي ثلاثاً؛ فلا يلزم. ثم قال: والظاهر الثاني؛ لانصراف اللفظ إلى جملة المذكور. ثم مشيئة الله تعالى وإن كانت قديمة، لكنها تتعلق بالحادث، ويصير الحادث عند حدوثه مراداً؛ فقوله: إن شاء الله تعليق بذلك التعليق المتجدد؛ هذا هو المشهور، والمنصوص عليه في المختصر وغيره. ومن مقتضى التوجيه الأول: أن يكون في وقوع الطلاق في الحال قول كما في التعليق على صعود السماء، ونظائره على ما سيأتي، وقد حكى عن رواية صاحب التقريب و [رواية] الشيخ أبي علي، لكن أخذه بعضهم من نص مروي في الظهار: أنه لو قال: أنت علي كظهر أمي إن شاء الله: أنه يكون مظاهراً، ووجهه: أنه استثناء رفع الطلاق أصلاً ورأساً؛ فأشبه الاستثناء المستغرق. وفرق الأصحاب بينه وبين الاستثناء المستغرق: بأن الاستثناء المستغرق كلام متناقض غير منتظم، وها هنا التعليق منتظم، والصفة المعلق عليها قد تعلم، وقد

تجهل، وإذا جهلت لم يحكم بنزول الطلاق. و [فرقوا] بينه وبين الظهار بأن الظهار إخبار، والإخبار عن الواقع لا يتعلق بالصفات، بخلاف الإنشاء؛ وهذا القائل ذهب إلى أنه لو قال: على عشرة إن شاء الله تعالى تلزمه العشرة، ولا يعمل الاستثناء. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يقول: أنت طالق إن شاء الله، أو: إن شاء الله فأنت طالق. وألحق في الشامل بهما إذا قال: إن شاء الله أنت طالق وذكر الحناطي في هذه اللفظة وجهاً آخر. ولو قال: أنت طالق متى شاء الله، أو: إذا شاء الله، فهو كقوله: إن شاء الله. فرع: من زيادات العبادي: إذا قال: أنت طالق اليوم طلقة إن شاء الله، [وإن لم يشأ فثنتين]، فلم يطلقها حتى مضى اليوم، طلقت طلقتين؛ لأن الله لو شاء واحدة، لأجراها على لسانه. وأما في المسألة الثانية؛ فلأن عدم المشيئة غير معلوم؛ كما أن المشيئة غير معلومة. ولأن الوقوع بخلاف مشيئة الله- تعالى- محال؛ فأشبه ما إذا قال: أنت طالق إن جمعت بين السواد والبياض؛ فإنه لا يقع. وعن صاحب التقريب: أنه يقع؛ لأنه ربط الوقوع بما يضاده؛ لأن الوقوع بخلاف مشيئة الله تعالى محال؛ فكان كما إذا قال: أنت طالق طلاقاً لا يقع عليك. وقرب الخلاف في المسألة من الخلاف في مسألة دور الطلاق من جهة أنه لو وقع الطلاق، لكان بمشيئة الله تعالى، ولو شاء الله عدم وقوعه لما وقع؛ لأن التعليق بعدم المشيئة قد يعكس، فيقال: إذا لم يقع لم يشأ الله وقوعه، وإذا لم يشأ [وقوعه، فقد] حصلت الصفة؛ فيجب أن يقع، لكن لو وقع لما وقع؛ لما تبين؛ فإن الشرط والجزاء متضادان لا يجتمعان؛ كما [أن] في مسألة الدور وقوع طلقة

في الحال وثلاث قبلها متضادان، وليس هذا كالتعليق باجتماع السواد والبياض؛ فإن التضاد هناك بين السواد والبياض، لا بين الشرط والجزاء. قال: وإن قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فالمذهب أنه يقع، وكذلك حكاه في التهذيب، وهو اختيار ابن سريج، وادعى القاضي الحسين في التعليق: أنه القياس وإن كان قد حكى عند الكلام في تعليق الطلاق بمشيئتها: أنه لا يقع، وأنه لا فرق بين قوله: إن شاء الله، وبين قوله: إلا أن يشاء الله. وحكي عن بعض أهل العلم أنه يقع، ووجهه: أنه أوقع الطلاق، وجعل المخرج عنه المشيئة، وأنها غير معلومة؛ فلا يحصل الخلاص، وصار كما لو قال: أنت طالق إلا أن يشاء زيد، فمات زيد، ولم تعلم مشيئته؛ فإنه يقع الطلاق. وقيل: لا يقع؛ لأن هذه الصيغة- أيضاً- تعليق بعدم المشيئة؛ لأنها توجب حصر الوقوع في حال عدم المشيئة؛ فكان كالمسألة قبلها؛ وهذا ما حكاه القفال عن النص، واختاره، ورجحه الإمام والغزالي. وفرق [بينه] وبين المسألة المستشهد بها- إن سلم الحكم فيها- بأنه إذا أوقع الطلاق عليها، وعلق منع الوقوع بمشيئة زيد، فيتصور وقوع الطلاق عليها من [غير] مشيئة زيد إذا لم يعلم بالتعليق، أو علم وسكت، ولو علم وشاء ألا يقع، لا يقع. فأما إذا علق منع الوقوع بمشيئة الله تعالى؛ فلا يتصور وقوع الطلاق عليها [دون مشيئة من جهة الله تعالى؛ لأنه] ما من شيء في الكون يتصور وجوده إلا بمشيئة الله تعالى. قال: وإن قال: أنت طالق إن شاء زيد، فمات زيد، أو جن-[أي]: قبل المشيئة، وكذا لو غاب- لم تطلق؛ لعدم وجود الشرط. قال: وإن خرس فأشار، لم تطلق؛ لأن مشيئته كانت بالنطق عند التعليق، فتعلق بها، ولم توجد؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين في التعليق، وينسب إلى اختيار الشيخ أبي حامد.

[وقيل: يقع]، وهو الصحيح في المهذب والرافعي؛ لأنه [في] حال بيان المشيئة من أهل الإشارة، والاعتبار بحال البيان؛ ولهذا لو كان عند التعليق أخرس، ثم صار ناطقاً، [كانت] مشيئته بالنطق. ولو سكر وأشار في حال سكره، فعلى الخلاف في أنه [هل] يسلك به مسلك الصاحي أم لا؟ ولو شاء وهو صبي، أو معتوه، فهل يقع؟ فيه وجهان: والأصح في تعليق القاضي الحسين في باب ما يقع به الطلاق: أنه لا يقع. ولو قال: [أنت طالق إن شاءت الملائكة] لم يقع؛ لأن لهم مشيئة، وحصولها غير معلوم؛ فصار كما لو قال: [أنت طالق] إن شاء الله. ولو قال: أنت طالق إن شاء الحمار، فهو كما لو قال: إن طرت. ولو قال: أنت طالق إن شئت أنا، فهو تعليق، فمتى شاء وقع. ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء زيد، فمتى وجدت المشيئة في مدة العمر، لم تطلق، وإن لم توجد حتى مات، وقع الطلاق قبل عجزه عن المشيئة إذا اتصل العجز بالموت. وقال القاضي الحسين في التعليق: عندي أن هذا لا يصح؛ لأنه أوقع الطلاق، وعلق منع الوقوع بمشيئة زيد، فإذا مات زيد [فيحكم بوقوع الطلاق من حين لفظه، وفي الحال يحال بينه وبينها، كما لو قال: إن كنت حاملاً فأنت طالق، وبان أنها حامل. ولو مات زيد] ولم تعلم مشيئته ففي وقوع الطلاق وجهان: الذي ذهب إليه الجمهور منهما، على ما حكاه الإمام، والأكثر، على ما حكاه الرافعي: أنه يقع، وهو ما حكاه القاضي الحسين في التعليق، وهو موافق لقول من قال بالوقوع فيما إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، ويؤيده ما حكاه الغزالي في الأيمان عن نص الشافعي فيما إذا قال: لا أدخل الدار إلا أن يشاء زيد، ثم دخل، ومات [زيد] ولم يعرف أنه شاء أم لا؟ أنه يحنث.

والثاني- وهو الصحيح الذي رجحه الإمام-: أنه لا يقع. تنبيه: حكى الرافعي: أن قول القائل: أنت طالق إلا أن يشاء الله، أو: إلا أن يشاء زيد، معناه: إلا أن يشاء وقوع الطلاق، كما أن قوله: إن شاء الله، معناه: إن شاء وقوع الطلاق؛ وحينئذ فالطلاق تعلق بعدم مشيئة الطلاق، لا [بمشيئة] عدم الطلاق، وعدم مشيئة الطلاق تحصل بأن يشاء عدم الوقوع، وبألَّا يشاء شيئاً أصلاً؛ وعلى التقديرين يقع الطلاق، وإنما لا يقع إذا شاء زيد أن يقع. وذكر بعضهم: أن معناه: أنت طالق إلا أن يشاء زيد ألا تطلقي. وعلى هذا فلو شاء أن تطلق، تطلق؛ وكذلك ذكره في التهذيب، والصحيح الأول إلا أن يقول المعلق: أردت الثاني. فروع: لو قال: أنت طالق إلا أن أشاء، أو [يبدو لي]، قال في التهذيب: يقع في الحال؛ لأنه ليس بتعليق؛ لأنه أوقع الطلاق، وأراد رفعه، إذا بدا له؛ وهذا يوافق أحد الاحتمالين اللذين أبداهما صاحب التقريب فيما إذا قال الناذر: لله علي أن أتصدق بعشرة دراهم إلا أن يبدو لي، ثم بدا له على ما حكاه الإمام عنه في الاعتكاف. وحكى عن شيخه أن الأوجه إبطال هذا الاستثناء، لكن قد نص الشافعي في الإقرار- على ما حكاه في الإشراف-: أنه لو قال: لفلان على ألف درهم إلا أن يبدو لي، فهو استثناء صحيح، ومقتضى ذلك: ألا يقع الطلاق هنا إذا بدا له؛ كما أبداه الرافعي احتمالاً من عند نفسه؛ قياساً على ما لو قال: إلا أن يشاء الله، وهو ما حكاه في "التتمة" في قوله: إلا أن أشاء أنا؛ على أن الشيخ أبا الطيب خالف هذا النص، ولم يصح الاستثناء على ما حكاه في الإشراف [أيضاً]. وإيراد صاحب الإشراف يقتضي ترجيح النص، ويدل عليه- أيضاً- أنه ذكر في الأصول التي ساقها؛ لبيان القواعد كل قول في عقد إيجاب أو إقرار إذا عقب بالاستثناء، أو بالتخصيص، أو بقوله: إلا أن يبدو لي- أثر فيه هذه المعاني، إلا إذا قال: (يا زانية طلقتك إن شاء الله؛ فإنه قاذف، ولا طلاق على ما حكاه ابن سريج، لأن

قوله: يا زانية اسم فيه خبر عن فعل، والاستثناء لا يرفع الاسم. ولو قال: أنت طالق لولا أبوك لطلقتك، لم تطلق في الظاهر، ولا في الباطن؛ [إن] أراد أن عدم التطليق لأجل الأب، وإن لم يرد ذلك، وقع في الباطن، وإذا صرح بذلك وآخذناه [به] في الظاهر أيضاً. ولو قال: أنت طالق لولا [أبوك، فالأصح] أن الحكم كما في المسألة قبلها. وفي "التتمة" حكاية وجه آخر؛ أنه يقع. قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثاً واستثنى بعضها بالنية، لم يقبل في الحكم؛ لأن اللفظ أقوى من النية، بدليل أنه يقع به الطلاق من غير نية، والنية لا يقع بها الطلاق من غير لفظ، فلو أعملنا النية، لرفعنا القوي بالضعيف، وذلك لا يجوز؛ كنسخ الكتاب بالسنة، نعم: هل يدين؟ فيه وجهان. قال: وإن قال: نسائي طوالق، واستثنى بعضهن بالنية، لم يقبل في الحكم؛ لأن اللفظ عام، متناول لجميعهن فلا يمكن صرف مقتضاه بالنية، كما لو قال: أنت طالق، وقال: أردت إذا جاء رأس الشهر، ويدين في البطن بخلاف المسألة قبلها على أحد الوجهين، [وبخلاف ما لو قال: ثلاثتكن طوالق، ونوى: إلا فلانة؛ حيث قلنا: لا يدين على أحد الوجهين]. والفرق أن الثلاث نص في العدد المعلوم، واستعمالها في بعض العدد غير معهود؛ بخلاف استعمال اللفظ العام في الخاص؛ فإنه معهود. وفي "التتمة": أنه لو قال: أربعتكن طوالق إلا فلانة، لم يصح الاستثناء، وكذلك إذا نواه لا يدين. وفي "الوسيط" نسبة ذلك إلى القاضي. وفي "التهذيب": أنه يصح. قال: وقيل: يقبل في [النساء]، وهو ظاهر النص؛ لأن اللفظ يحتمل العموم والخصوص، فإذا ادعى إرادة أحدهما قبل.

قال: وليس بشيء؛ لأنه وإن احتمل الخصوص إلا أن الظاهر العموم؛ فلم يقبل في الحكم دعوى الخصوص، وأيضاً فإن من أخذ من ظاهر كلام الأصوليين أن العموم يخصص، فلابد معه من دليل على الخصوص، ولا دليل يدل عليه؛ فتعين حمله على العموم، وأول النص على أنها لا تطلق في الباطن. ولا فرق في جريان الخلاف بين ألا يكون ثمَّ قرينة تصدقه، وبين أن تكون، كما إذا خاصم إحدى نسائه، فقالت: تزوجت علي؟، فقال في إنكاره: كل امرأة لي طالق، ثم قال: أردت [غير المخاطبة]. لكن الأظهر عند القفال والمعتبرين: أنه لا يقبل في الظاهر إن لم تكن [ثم] قرينة، ويقبل إن وجدت قرينة؛ وهذا اختيار القاضي [الروياني. ومن هؤلاء من حمل النص على ما إذا وجدت القرينة. وفي تعليق القاضي] الحسين أه لو قال: نسائي [طوالق]، وعزل ثلاثاً بالقلب، لم يقبل وجها ًواحداً؛ لأن العموم إنما يصح إرادة الخصوص به بشرط أن يبقى على صيغة العموم، وإذا عزل عن الأربع ثلاثاً، أخرجه عن صيغة العموم. وفي "الرافعي": [أن] في بعض التعاليق: أن القاضي الحسين فرق بين أن يقول: كل امرأة لي طالق، ثم عزل بعضهن بالنية، وبين أن يقول: نسائي [طوالق]، وعزل ثلاثاً منهن بالنية؛ فإنه لا يقبل في المسألة الأخيرة؛ لأن اسم النساء لا يقع على الواحدة، ولو قال: عزلت واحدة، يقبل. وذكر تفريعاً على هذا وجهين فيما لو عزل اثنتين، ومثل هذا الخلاف في القبول ظاهر. أما إذا قال: أنت طالق، وكان يحل وثاقها، وادعى أنه أراد بقوله: أنت طالق من الوثاق- فالظاهر القبول. ولو قال: أنت طالق، ونوى: إن شاء الله، فالمشهور في كتب كبراء المذهب: أنه لا يدين، ويدين في قوله: أردت عن وثاق، أو: إن دخلت الدار، وإن شاء زيد؛ وهذا ما

أورده صاحب التهذيب، وذكر القاضي الروياني أنه ظاهر المذهب. وفرقوا بين قوله: إن شاء الله، وبين سائر الصور بأن التعليق [بمشيئة الله تعالى يرفع حكم الطلاق جملة؛ فلابد فيه من اللفظ، والتعليق] بالدخول لا يرفع جملته ولكن يخصصه بحال دون حال، وقوله: من وثاق تأويل، وصرف اللفظ من معنى إلى معنى؛ فكفت فيه النية وإن كانت ضعيفة، وشبه ذلك بأن الفسخ لما كان رافعاً للحكم، لم يجز إلا باللفظ، والتخصيص يجوز بالقرائن كما يجوز باللفظ. وفي "الوسيط": أن الأقيس: أنه [لا يدين في] قوله: نويت إن دخلت الدار؛ لأنه ليس يحتمله اللفظ، ولا ذكر ما يدل عليه، وليس كما لو قال: أنت طالق، ونوى طلاقاً من وثاق؛ فإن اللفظ كالمجمل من حيث اللغة لولا تخصيص الشرع. وقسم القاضي الحسين ما يبديه الشخص، ويدعيه من النية، مع ما أطلقه من اللفظ إلى أربع مراتب، ويمكن أن يضاف إليها مرتبة [أخرى] خامسة: إحداها: أن يكون ما يبديه رافعاً لما صرح به، كما إذا قال: أنت طالق، ثم قال: أردت طلاقاً لا يقع عليك، أو قال: لم أرد إيقاع الطلاق، أو نوى استثناء مستغرقاً- فلا مبالاة بما يقوله لا ظاهراً ولا باطناً؛ وكذا قوله: إن شاء الله على الأصح. والثانية: أن يكون ما يبديه مقيداً لما تلفظ به مطلقاً؛ كما إذا قال: أنت طالق، ثم قال: أردت عند دخول الدار، ومجيء الشهر- لا يقبل في مثل ذلك قوله ظاهراً، وفي التديين خلاف. والثالثة: أن يرجع ما يدعيه إلى تخصيص عموم، كقوله: نسائي طوالق، ويريد: إلا فلانة؛ فهذا يدين فيه، وفي القبول ظاهراً خلاف. والرابعة: أن يكون اللفظ محتملاً للطلاق من غير شيوع وظهور فيه، وفي هذه الدرجة تقع الكنايات، ويعمل فيها بموجب النية. والمرتبة الخامسة: أن يكون ما يبديه ينقل اللفظ من حال إلى حال، كما إذا نوى الطلاق من الوثاق؛ فإن وجدت قرينة حل الوثاق، قبل في الظاهر على الأظهر، وإن لم تكن قرينة لا يقبل في الحكم ويدين.

قال في التهذيب: وضابط ما يدين [فيه]: أن كل ما لو وصله باللفظ مطلقاً يقبل في الحكم، فإذا نواه بقلبه لا يقبل في الحكم فيما له، ويدين في الباطن إلا في الاستثناء؛ وهذا ما تقدمت الإشارة إليه من قبل. فروع: الاستثناء كما يمنع انعقاد اليمين، يمنع صحة التعليق إذا قال: أنت طالق ثلاثاً وثلاثاً إن شاء الله أو: واحدة [وثلاثاً- أو ثلاثاً وواحدة- إن شاء الله]. قال ابن الصباغ: الذي يقتضيه المذهب أنه لا يقع شيء، وتابعه المتولي. قال الرافعي: وقد ذكرنا الانصراف إلى الأخيرة وحدها، وكأنه يشير إلى ما تقدم في الاستثناء. قال: ويوافق هذا ما ذكره في التهذيب: أنه لو قال: حفصة طالق، وعمرة إن شاء الله، فيرجع الاستثناء إلى عمرة وحدها، أو إليهما جميعاً؟ فيه وجهان، والأصح [منهما] الأول. ولو قال: أنت طالق واحدة واثنتين إن شاء الله، ففي النهاية تخريجه على الوجهين: إن جمعنا المفترق لم يقع شيء، وإن لم نفرق وقعت واحدة. ولو قال: أنت طالق واحدة ثلاثاً إن شاء الله، فعن القفال: أنه لا يقع شيء. ولو قال: أنت طالق ثلاثاً ثلاثاً إن شاء الله، فكذلك الجواب، وفي معناه ما لو قال: أنت طالق أنت طالق [أنت طالق] إن شاء الله وقصد التأكيد. ولو قال: يا طالق إن شاء الله، وقع على الأظهر. وميل الإمام إلى عدم الوقوع. وقد ذكر الرافعي في كتاب الأيمان فروعاً عن القاضي أبي الطيب، أحببت نقلها [هنا]؛ فإنه أمر بها: فمنها: لو قال: إن شاء الله فأنت طالق وعبدي حر لا يقع الطلاق، ولا تحصل الحرية؛ وكذا لو قال: إن شاء الله أنت طالق عبدي حر من غير واو؛ لأن حروف العطف قد تحذف مع إرادة العطف، كقولنا: التحيات المباركات.

قال الرافعي: وليكن هذا فيما إذا نوى صرف الاستثناء إليهما جميعاً، فإن أطلق فيشبه [أن يجيء] خلاف في اختصاصه بالجملة الأولى، أو ينصرف غليهما جميعاً. ولو قال: أنت طالق وعبدي حر إن شاء الله تعالى، [فيجيء خلاف في أنه يختص بالجملة الثانية، أو ينصرف غليهما. ولو قال: عبدي حر إن شاء الله]، وامرأتي طالق، ونوى صرف الاستثناء إليهما جميعاً، قال ابن كج: [يصح، والله أعلم].

باب الشرط في الطلاق

باب الشرط في الطلاق من صح منه الطلاق- أي: بطريق الاستقلال- صح منه أن يعلق الطلاق- أي: الذي يملكه- على شرط، ومن لم يصح منه الطلاق، لم يصح أن يعلق الطلاق على شرط، وإذا علق الطلاق على شرط، وقع عند وجود الشرط- أي: واستمرار الزوجية- ولا يقع قبل وجوده وإن كان الشرط متحقق الوجود، واستأنس الأصحاب في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ"، وقاسوه على العتق؛ فإن الشرع ورد بالتدبير، وهو تعليق العتق بالموت، والطلاق والعتاق متقاربان في كثير من الأحكام. قالوا: والمعنى فيه أن المرأة قد تخالف زوجها في بعض مقاصده؛ فتفعل ما يكرهه، وتمتنع عما يرغب، ويكره الرجل طلاقها من حيث إنه أبغض المباحات، ومن حيث إنه يرجو موافقتها؛ فيحصل غرضه؛ فيحتاج إلى تعليق [الطلاق بفعل ما يكرهه، وترك ما يريده، فإما أن تمتنع، وتفعل فيحصل] غرضه أو تخالف؛ فتكون هي المختارة للطلاق، هكذا قاله الرافعي، وفيما قاله مباحثات: أحدها: أن ما ذكره من المعنى يقتضي جواز التعليق عند وجوده، أما عند عدمه فلا، ولا قائل بالفرق. الثاني: أن كونه يكره طلاقها من حيث إنه أبغض المباحات فيه نظر؛ لأن الطلاق في مثل هذه الصورة ليس بمكروه على ما بيناه من قبل، بل قد يكون ما تفعله وتتركه من حقوق الله تعالى؛ فيكون طلاقها في هذه الصورة مستحباً، اللهم إلا أن يريد بذلك الجنس. الثالث: أن قوله: إذا خالفت تكون هي المختارة للطلاق مبني على ما ذكره أولاً من كونه [مكروهاً]، وقد تقدم الكلام عليه. وعلى تقدير أن يكون مكروهاً، فهو الذي سلطها عليه، فإذا فعلته قد ينسب إليه

الكراهة، ومما يؤيده أنه لو قال لزوجته: إذا قدم زيد فأنت طالق، فقدم في حالة الحيض، فإن الطلاق يكون بدعيّاً؛ لتعليقه. وكذلك التعليق عند القفال. وأما القياس على العتق، ففيه نظر من حيث إن العتق محبوب والطلاق مبغوض [من] الرب؛ وقد دل على ذلك ما أورده إسحاق في [مسند، معاذ] بن جبل أنه- عليه السلام- قال: "يَا مُعَاذُ، مَا خَلَقَ اللهُ- عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَتَاقِ، وَمَا خَلَقَ اللهُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ [أَبْغَضَ إِلَيْهِ] مِنَ الطَّلاقِ"، وإذا كان كذلك، فتعليق العتق تُوسع [فيه] لكونه محبوب الرب، والطلاق ضده، ولا يحسن أن يقاس الشيء على ضده، ومثل هذا السؤال يرد على كل من يبغض الطلاق؛ إن كان مأخذه القياس على العتق. ثم لتعلم أن التقييد بالاستقلال يحترز به عن الوكيل [إذا فوض إليه الزوج أن يطلق زوجته، وأن يعلق طلاقها على شرط، فإن الوكيل] يصح منه الطلاق، وهل يجوز أن يعلقه؟ فيه ثلاثة أوجه، تقدم ذكرها في كتاب الطلاق. و [احترز] بالذي يملكه، عن العبد [إذا علق] الطلاق الثلاث على [صفة، ثم وجدت الصفة بعد عتقه؛ فإن الثلاثة تقع على] أحد الوجهين. وقد يورد الوجه المقابل [له]، وهو عند بعضهم أصح على كلام الشيخ من حيث إنه لا يصح من العبد أن يوقعها في الحال، ويصح تعليقها. وألحق المحاملي بهذه الصورة ما إذا كانت المرأة حائضاً؛ فإنه يقدر أن يعلق طلاقها على وجود السنة، ولا يقدر على إيقاعه في الحال سنياً. و [احترز] باستمرار الزوجية، عما إذا وجد الشرط في حال البينونة؛ فإن الطلاق غير واقع. وعما إذا أبانها، ثم جدد نكاحها، ثم [وجد الشرط] في النكاح الثاني؛

فإن فيه خلافاً سيأتي. و [احترز] بالوقوع عند وجود الشرط [وإن كان متحقق الوجود؛ للتنبيه على مذهب الإمام مالك، فإن عنده أن الطلاق] المعلق [على] متحقق الوجود يقع في الحال. وفي النهاية: أن ما يتحقق وجوده إذا ربط وقوع الطلاق به- تأقيتٌ وليس بشرط؛ فإن الشرط هو الذي [لا] يقطع بوقوعه، كذا حكاه عند الكلام في الطلاق السني والبدعي؛ فإن كان الشيخ يوافقه على هذا الاصطلاح؛ فلا يكون في قوله: عند وجود الشرط ما يفهم الاحتراز عن [مذهب] الإمام مالك، والظاهر خلافه. تنبيه: قال في "التتمة": الشرط في تعليق الطلاق أن تكون الصفة مقرونة بكلمة الطلاق نطقاً لا يتخللهما شيء، فإن تخلل بينهما شيء، لم يتعلق به، ويحكم بوقوعه في الحال؛ ولذلك يشترط أن يكون قد عزم أن يصل كلمة الشرط بكلمة الطلاق قبل أن يتلفظ بهما، فإن لم يوجد ذلك لا يحكم بوقوع الطلاق في الظاهر، ويقع في الباطن. وإن أحدث النية في أثناء الكلمة، فعلى وجهين. انتهى. وقد حكينا في الباب الذي قبل هذا الباب عن مجلي ما يخالف ذلك؛ فليتأمل. قاعدة: قال المحاملي: لا يوجد طلاق معلق بصفة دون وجود الصفة إلا في خمس صور: أن يقول [لها]: إذا رأيت الهلال، فأنت طالق، طلقت برؤية غيرها. وأن يقول لها: أنت طالق أمس، أو الشهر الماضي؛ [فإنها تطلق] في الحال؛ على الأصح. وأن يقول لها: أنت طالق لرضا فلان، [فإنها تطلق] في الحال. وأن يقول لمن لا سنة لها ولا بدعة: أنت طالق للسنة أو للبدعة.

وأن يقول: أنت طالق طلقة حسنة قبيحة فإنه يقع في الحال. وفيما قاله نظر لا يخفى على متأمل. قال: وإن قال لامرأته ولها سنة وبدعة في الطلاق: أنت طالق للسنة، طلقت في حال السنة، فإن كانت في الحال متصفة بذلك طلقت، وإلا فحتى تتصف بها، وحينئذ يقع. وإن قال: أنت طالق للبدعة، أو: طلاق الحرج، طلقت في حال البدعة، فإن كانت في الحال متصفة بذلك طلقت، وإن لم تكن متصفة بذلك فلا تطلق في الحال، ولكن تطلق برؤية الدم، فإن انقطع قبل أن تبلغ أقل الحيض بان أنه لم يقع؛ قاله في "التتمة". قال الرافعي: ويشبه أن يجيء فيه الخلاف المذكور فيما إذا قال: إن حضت فأنت طالق. وتطلق- أيضاً- بالجماع قبل الحيض، ويجب عليه النزع، وسيأتي مثل ذلك والتفريع عليه في كتاب الإيلاء، إن شاء الله تعالى. وإنما انتظرنا حال السنة، وحال البدعة إذا لم تكن متصفة بهما عند صدور اللفظ؛ لأن اللام فيما ينتظر للتأقيت، دليله قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وحالة السنة والبدعة حالتان منتظرتان يتعاقبان على المرأة تعاقب الأيام والليالي، وتتكرران [بتكرار] الأسابيع والشهور؛ فأشبه ما إذا قال: أنت طالق لرمضان، ومعناه ومفهومه: إذا جاء رمضان فأنت طالق. وطلاق الحرج: ما خالف السنة، وأثم به، وذلك هو طلاق البدعة، والحرج: بفتح الحاء والراء. فرع: لو قال: أنت طالق ثلاثاً للسنة، وأراد توزيع الثلاث على ثلاثة أقراء، ففي التهذيب: أنه لا يقبل في الحكم، ويدين. وقد تقدمت حكاية وجهين عن الشيخ أبي علي في أنه هل يقبل في الحكم؟ قال الإمام: وقول القبول بعيد، [و] يخالف المذهب. وقال في هذا الموضع: الظاهر إلحاق هذا بما لو أضمر تأقيتاً، أو تعليقاً.

قلت: والأقيس عنده أنه لا يدين فيهما؛ فيكون ها هنا كذلك؛ فتلخص من مجموع ذلك ثلاثة أوجه: الثالث: يدين، ولا يقبل في الظاهر، وهو الأصح. وفي "التتمة": أنه إذا قال ذلك من يعتقد تحريم جميع الطلقات في قرء واحد، قبل قوله في الظاهر؛ لأن تفسيره يستمر على اعتقاده. قال: وإن قال: أنت طالق أحسن الطلاق، وأعدله، وأتمه، طلقت للسنة، وكذا إذا وصفه بصفات المدح؛ لأنه المتصف بهذه الصفات إلا أن ينوي ما فيه تغليظ عليه؛ بأن تكون في حال البدعة، وأراد به الوقوع في الحال، ووصفه بالحسن، لسوء خلقها وعشرتها، أما لو كانت في حال السنة، وأراد إيقاعه في حال البدعة؛ لما ذكر من التفسير، فلا يقبل في الحكم على الأصح، ويدين. قال: وإن قال: أنت طالق أسمج الطلاق وأقبحه، طلقت للبدعة، وكذا كل صفة من صفات الذم؛ لأنه المتصف بهذه الصفات. وأسمج: بالجيم، وهو القبيح. [قال الجوهري:] سمج- بضم الميم- سماجة فهو سمج؛ كضخم فهو ضخم. قال: إلا أن ينوي ما فيه تغليظ عليه، [أي:] بأن يكون في حال السنة، وأراد به [الوقوع] في الحال، ووصفه بالقبح؛ لأن طلاق مثلها مستقبح؛ لحسن خلقها وعشرتها. ولو قال: أنت طالق لا للسنة، فهو كقوله: للبدعة. ولو قال: لا للبدعة فهو كقوله: للسنة والبدعة، ولو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق للسنة، أو: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق للسنة، فإن وجد الشرط وهي في حالة السنة طلقت، وإلا فحتى تنتهي إليها وحينئذ تطلق. فرع: لو قال لها في زمان البدعة: أنت طالق طلاقاً سنيّاً، أو في زمان السنة: (أنت

طالق طلاقاً بدعيّاً، ونوى الوقوع في الحال- قال الرافعي: [عن التتمة] لا يقع الطلاق؛ لأن النية [إنما تعمل] فيما يحتمله اللفظ لا فيما يخالفه صريحاً، وإذا تنافيا تلغى النية، ويعمل باللفظ؛ لأنه أقوى. قلت: ويظهر من مقتضى هذا أنه لا يقع الطلاق في الحال فيما إذا قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار، وأراد في الحال، والنقل فيها أنه يقع. ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن الشيخ في المهذب والرافعي صورا المسألة الثانية بما إذا قال: أردت الإيقاع في الحال، وسبق لساني إلى ذكر الدخول، وإذا كان كذلك فما قاله محتمل، وفيه تغليظ عليه، فيقبل، وهو وزان ما قرر في المسألة. فرع آخر: لو قال: أنت طالق كالثلج، أو كالنار، فهذه الصفة لغو؛ فيقع الطلاق في الحال، [قاله في التتمة]. قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثاً بعضهن للسنة، وبعضهن للبدعة، طلقت طلقتين في الحال، فإذا حصلت في الحالة الأخرى، وقعت الثالثة؛ لأن الشيء إذا أضيف إلى جهتين بلفظ البعض، لزمت التسوية. قال الرافعي: ألا ترى أنه لو قال: هذه الدار بعضها لزيد، وبعضها [لعمرو، يحمل إقراره على التشطير] إذا لم تكن نية. قلت: وها هنا أولى؛ لأن قوله: هذه الدار بعضها لزيد وبعضها لعمرو يحتمل أن يكون قد بقي منها شيء لخالد مع صدق ما أقر به، فإذا حمل على التشطير مع ما أبديناه من الاحتمال، [فلأن يحمل على التشطير هنا واللفظ ينفي هذا الاحتمال] كان أولى، وإذا حمل على التشطير كمل المبعض؛ فيقع طلقتان. وقال المزني: تقع طلقة في الحال، وتتأخر طلقتان إلى الاستقبال؛ لأن لفظ البعض يقع على القليل والكثير، فالمستيقن وقوع الواحدة. وجعل الحناطي والإمام وغيرهما هذا وجهاً في المذهب. قال الرافعي: ومن صار إليه لا يكاد يسلم مسألة الإقرار، ويقول بأنه مجمل يرجع

فيه إليه، وكذلك أبداه الإمام. ونقل الحناطي وجهاً ثالثاً: أنه يقع الثلاث في الحال؛ حملاً على إيقاع بعض من كل طلقة. قال: فإن ادعى: [أنه] أراد طلقة في الحال، وطلقتين في الثاني، فالمذهب أنه يقبل؛ لأن البعض يقع على القليل والكثير حقيقة. قال ابن يونس: ولهذا لو قال: هذه الدار بعضها لزيد، وبعضها لعمرو، ثم فسر البعض بأقل من النصف قبل. قال: وقيل: لا يقبل في الحكم- أي: ويدين- وينسب هذا إلى ابن أبي هريرة؛ لأنه يؤخر طلقة يقتضي الإطلاق تعجيلها؛ فلا يقبل؛ كما لو قال: أنت طالق، ثم قال: أردت إن دخلت الدار. قال الرافعي: وربما علل بأن تسمية الثنتين بعضاً من الثلاث بعيدٌ؛ لأن معظم الشيء لا يكاد يعبر عنه بالبعض، لكنه موجود فيما إذا قال: أردت طلقتين في الحال، وواحدة في الاستقبال، ومع هذا يقبل قولاً واحداً، إلا أن هناك هو مقر على نفسه بالأغلظ؛ فله يتهم. وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا ندم على ما فعل، وأراد أن يخالعها حتى تصير إلى الأخرى، وهي بائن؛ فتنحل اليمين ثم يعود، ويتزوجها، وقلنا: إن الخلع طلاق، فإن قلنا: الواقع في الحال طلقة أمكنه ذلك، وإلا فلا. فروع: لو قال: أنت طالق ثلاثاً، بعضهن للسنة، واقتصر [على ذلك] وكانت في حال السنة، قال في الشامل: يجيء على الوجه الأصح، وهو القبول فيما إذا قال: أردت طلقة في الحال، وثنتين في الاستقبال [للسنة]- أنه لا يقع في الحال إلا طلقة؛ لأن البعض ليس عبارة عن النصف، وإنما حملناه في المسألة الأولى على الشطر؛ لأنه أضاف البعض إلى الحالتين جميعاً؛ فسوينا بينهما، وها هنا لم يضف إلى الحالتين.

ولو قال: أنت طالق خمساً: بعضهن للسنة، وبعضهن للبدعة، ولم ينو شيئاً؛ فيتخرج على الخلاف [السابق] في أن الزيادة على المملوك من الطلاق تنصرف إلى المملوك، أو لا يتبع اللفظ؟ إن قلنا بالأول يقع في الحال طلقتان، وفي الثاني طلقة؛ تفريعاً على المذهب. وإن قلنا بالثاني- وهو الأصح- يقع الثلاث؛ أخذاً بالتشطير والتكميل. ولو قال: [طلقة للسنة والبدعة، أو طلقة] حسنة قبيحة، وقعت في الحال. ولو قال: أنت طالق طلقتين: طلقة للسنة، وطلقة للبدعة، يقع في الحال طلقة، وأخرى في [الحالة] الثانية. ولو قال: طلقتين للسنة والبدعة، فوجهان: أصحهما [على] ما حكاه في التهذيب: أنه يقع الطلقتان في الحال؛ لأن قوله: للسنة والبدعة وصف للطلقتين في الظاهر، والصفتان متناقضتان؛ فتساقطتا، وبقيت الطلقتان، وهذا كما لو قال: ثلاثاً للسنة والبدعة؛ فإنه يقع الثلاث [في الحال] ولو قال: أنت طالق لا للسنة ولا للبدعة، وقع الطلاق في الحال. قال: [وإن قال لامرأة لا سنة لها ولا بدعة: أنت طالق للسنة، أو: أنت طالق للبدعة، طلقت]، طلقت في الحال؛ لأن اللام وضعها للتعليل، وإنما تستعمل [في] الوقت إذا قرنت بذكر الوقت، أو قرنت بما يمر ويجري جريان الوقت، ولم يوجد واحد منهما، فحملت على التعليل، وسيأتي نظير ذلك، إن شاء الله تعالى. ووجه بعض الأصحاب المسألة الأولى بأن السني هو الذي لا تحريم فيه، وأنه كذلك؛ وهذا مبني على تفسير السني بالجائز، والأول مبني على غيره من التفاسير. وعلى الأول لو قال: أردت التأقيت، قال الرافعي: هو كما لو قال: لرضا فلان، والحكم فيه: أنه يدين، ولا يقبل منه في الظاهر؛ على [الأصح]. وفي النهاية: أنه يدين، ولا يقبل منه في الظاهر، وإن حكى في مسألة رضا فلان الوجهين.

وعن حكاية الشيخ أبي علي في المسألة الثانية: أنه يحمل الأمر على التأقيت، وينتظر مجيء حالة التحريم بأن تحيض الصغيرة، ويدخل بغير الممسوسة. وفي شرح مختصر الجويني، والرقم للعبادي: أن ابن القطان حكى عن ابن الوكيل أن الطلاق لا يقع؛ لتعلقه بصفة لا توجد؛ فأشبه ما لو قال: أنت طالق إن صعدت السماء. قال الرافعي: وهذا يطرد في قوله: للسنة. فرعان: أحدهما: لو صرح بالوقت، فقال: أنت طالق لوقت السنة، أو: لوقت البدعة، قال في البسيط: إن لم ينو شيئاً، فالظاهر وقوع الطلاق في الحال، وإن قال: أردت التأقيت المنتظر، فيحتمل أن يقبل؛ لأن تصريحه بالوقت يكاد يلحقه بالمواقيت؛ فيتأمله الناظر فلا يقبل فيه. قال مجلي: ويحتمل أن يقال: إن كانت ممن لا يتأتى في حقها ذلك كالآيسة، فتصريحه بالوقت كعدمه؛ [إذ لا] يتأتى [في] حقها ذلك؛ فيقع في الحال، وتكون اللام للتعليل. وإن كانت ممن ينتظر ذلك في حقها: كالصغيرة، والحامل، وغير المدخول بها إن كانت ممن تحيض [أو] ينتظر حيضها، فإن قصد التعليل وقع في الحال، وإن قصد التأقيت حمل عليه. ومن أصحابنا من قال: لا يقبل منه حكماً، ويدين فيه؛ حكاه ابن الصباغ. وإن لم يكن له قصد، فيحتمل إجراء قولين؛ كمن كرر لفظ الطلاق من غير قصد. ووجه التردد أن اللفظ يقتضي التأقيت، وحكم المخاطبة بذلك يدفعه، ويقتضي التعليل؛ فلذلك وقع التردد. الثاني: إذا قال لها: أنت طالق للسنة، إن كنت في هذا الحين ممن يقع عليك طلاق السنة، أو: للبدعة إن كنت ممن يقع عليك طلاق البدعة، فقد قال الشافعي في

الأم: وقع عليها الطلاق في الحال؛ لأنه وصفها بصفة محال فلغت. قال القاضي: وفيه نظر. وقال الشيخ أبو حامد: فيما علق عنه: [إنه] لا يقع [الطلاق]؛ لأن الشرط ليس بموجود كقوله: إن كنت علوية فأنت طالق، ولم تكن علوية [وتخالف الصفة؛ لأن الصفة تلغو إذا لم تتصف بها]. قال الشيخ أبو نصر: ولما قاله الشافعي عندي وجه، وهو أن قوله: أنت طالق إن كان يقع طلاق السنة يقتضي طلاقاً مضافاً إلى السنة، وهو يقع عليها، وقوله: وصفها بصفة محال، يريد: أنه إذا قال [لها]: أنت طالق للسنة، فإنه يقع وتلغو الصفة. قال: وإن قال: أنت طالق في كل قرء طلقة- أي: وهي مدخول بها من أهل الأقراء- طلقت في كل طهر طلقة- أي: ولا تطلق في الحيض وإن كان يسمى قرءاً لغة- لأن الأقراء الوارد بها الشرع عندنا هي الأطهار؛ على ما سيأتي بيانه في العدد [إن شاء الله تعالى، وإذا كان كذلك، وجب حمل اليمين عليها؛ وهذا] بخلاف ما لو قال [لها]: إن رأيت عيناً فأنت طالق، فإنها تطلق على رأي بأي عين رأتها؛ لأن الشرع لم يستعمل العين في شيء بعينه وترك ما عداه؛ حتى ينزل اليمين عليه؛ وهذا ما رجحه الإمام في مسألة العين في كتاب التدبير بعد حكاية التردد في الوقوع. ومقابل الوقوع: أنها لا تطلق مالم تر جميع ما يطلق عليه مسمى العين، ومن جملة ذلك أحد الأخوين من أب وأم؛ كما حكاه الإمام ثَمَّ. أما إذا كانت غير مدخول بها؛ فإنه يقع عليها في الحال طلقة، وتبين بها سواء كانت طاهراً أو حائضاً؛ هكذا قاله الشيخ أبو حامد. وقال القاضي أبو الطيب: إن كنت حائضاً، لم تطلق حتى تطهر؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين والإمام ومن تابعه، وفي "التتمة" والرافعي: أنه المشهور. وإذا وقع الطلاق، ولم يتزوجها حتى مضى قرءان آخران، ثم تزوجها، لم يلحقها طلاق على الأصح؛ خلافاً للإصطخري.

وإن تزوجها قبل ذلك، انبنى على عود الحنث، وسيأتي [إن شاء الله تعالى]. وأما إذا كانت صغيرة، أو آيسة لم تحض قط، فينبني حكم الطلاق على أن القرء طهر يحتوشه دمان، أو هو الانتقال من الطهر إلى الحيض؛ وفيه خلاف سيأتي. فإن قلنا بالأول، فلا تطلق حتى تحيض، [ثم تطهر]. وإن قلنا بالثاني، فالذي أطلقه العراقيون، وصاحب التهذيب، وغيرهم: أنه يقع في الحال طلقة. وفي "التتمة": أنه يؤمر الزوج باجتنابها؛ لأن الظاهر أنها ترى الدم، فإن رأته بان وقوع الطلاق، وإن ماتت ولم تره؛ ماتت على النكاح، هذا ما حكاه الرافعي. وفي النهاية: أن الذي عليه الأصحاب: أنه لا يقع في الحال، ولكن إذا حاضت هل يتبين وقوع الطلاق عليها باللفظ السابق؟ فعلى وجهين، فينبني على أن القرء ماذا؟ فإن قلنا: إنه الانتقال من الطهر إلى الحيض، بان وقوع الطلاق، وغلا فلا. وحكى القاضي الحسين في التعليق بعد أن قال: يقع الطلاق في الحال: أنه قال في متن الكتاب: لا يختلف المذهب في أنه لا يقع عليها شيء قبل أن تحيض، وساق ما ذكره الإمام. وإذا قلنا بوقوع الطلاق في الحال، فلو لم تحض، ولم يراجعها حتى مضت ثلاثة أشهر، بانت بطلقة. وعن صاحب التقريب حكاية وجه غريب: أن الأقراء في [حق] الصغيرة محمولة على الأشهر؛ لأنها بدل الأقراء في حقها؛ فعلى هذا تطلق في كل شهر طلقة. وحكم الآيسة حكم الصغيرة في وقوع الطلاق. وإن قلنا: [إن] القرء: عبارة عن الانتقال تقع في الحال طلقة. وإن قلنا: عبارة عن طهر يحتوشه دمان فلا يقع؛ هكذا حكاه الرافعي عن أبي الفرج.

قلت: وفيه نظر؛ لأن من قال: إن القرء: عبارة عن الانتقال، أراد الانتقال من الطهر إلى الحيض [وها هنا لم يوجد ذلك، بل وجد عكسه. نعم: هذا يعضده ما أبداه الرافعي احتمالاً من عند نفسه: أنه يقتضي الاشتقاق وقوع الاسم على الانتقال من الحيض إلى الطهر؛ كوقوعه على الانتقال من الطهر إلى الحيض]؛ على ما حكاه في العدد. ثم الوجه الذي حكاه صاحب التقريب في الصغيرة جار في الآيسة- أيضاً- صرح به في الذخائر. وإذا قلنا بعدم وقوع الطلاق عليها في الحال، وهو ما حكاه في "التتمة"، فلو حاضت من بعد ذلك على ندور، تبين وقوع الطلاق- قال الإمام-: بلا خلاف. قال في "التتمة": [و] على الزوج أن يجتنبها بعد اليمين وقبل رؤية الدم؛ لأن من الجائز أن يعود الدم؛ فيتبين أنها كانت مطلقة من وقت اللفظ. قلت: وما قاله فيه نظر؛ من حيث إن الظاهر عدم العود، والأحكام تناط بالظاهر، وليس كما حكيناه عنه في [حق] الصغيرة؛ لأن الظاهر [ثم]: أنها ترى الدم؛ فرتب الحكم على الظاهر، ولا يقال: الأصل في الأبضاع التحريم، فإذا طرأ ما يتوقع به التحريم، رجع إلى الأصل؛ لما سيأتي- إن شاء الله تعالى- فيما إذا قال: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر؛ فإن الزوج لا يمنع من وطئها وإن مضى شهر من وقت اليمين وإن كان ما من زمن بعد مضي شهر إلا ويحتمل أن يقدم زيد فيه، ويتبين أنها كانت مطلقة في وقت الوطء. ثم لتعلم: أن الظاهر عند الأئمة- على ما حكاه الرافعي- وقوع الطلاق على الصغيرة والآيسة في الحال، لكن يلزم على مقتضى البناء المتقدم أن يكون الظاهر: أن القرء: عبارة عن الانتقال، والأصح خلافه، وقد نبه على ذلك الرافعي في العدد. قال: وإن كانت حاملاً، لم تطلق في حال الحمل أكثر من طلقة حاضت [على الحمل] أو لم تحض. أما إذا رأته، وقلنا: إنه ليس بحيض [أو لم] تره؛ فلأنه لم يوجد سوى

مسمى قرء واحد. وأما إذا رأت الدم، وقلنا: إنه حيض، ووضعت قبل وجود الطهر؛ فلما قدمناه أيضاً. وأما إذا وجد الطهر بعد الحيض؛ فلأن الظاهر من قوله: في كل قروء: أنه يريد الأقراء التي تنقض بها العدة، وليس هذه كذلك. وحكى المراوزة وجهاً: أن الطلاق يتكرر بتكرر الأطهار إذا قلنا: إن الدم الذي تراه [الحامل] حيض، كما لو قال لمن تحيض: أنت طالق في كل شهر طلقة. وفي النهاية: أنه الأقيس، والمذهب الأول، لكن متى تطلق؟ ينظر: إن كانت طاهراً، ولم تحض قط، ففي الحال. وفي "التتمة" حكاية قول في التي لم تحض قط، وكان بلوغها بالحمل: أنها [لا تطلق في حال الحمل، وإنما تطلق عند الطهر من النفاس، وهو مبني على أن القرء: عبارة عن طهر محتوش بدمين. وإن كانت حائضاً فعند الشيخ أبي حامد: أنه يقع الطلاق في الحال- أيضاً- لأن زمان الحمل كالقرء الواحد. وقال القاضي أبو الطيب: لا يقع حتى تطهر من الحيض، وهذا هو الأشبه عند الحناطي والصحيح في "التتمة"، وبه جزم في النهاية. وفي الذخائر: أن أصحابنا قالوا: إنه ليس [بشيء]. وقال ابن الصباغ: إن الأول أقيس، واستدل على فساد كلام القاضي. وحكى الحناطي وجهاً: أنا وإن لم نجعله حيضاً فلا تطلق إذا رأته حتى تطهر منه. فرع: لو قال: أنت طالق في كل طهر طلقة، فإن قلنا: إن الدم الذي تراه الحامل حيضاً، فإن كانت في الحال طاهرة، طلقت طلقة، ثم تتكرر في كل [طهر] طلقة.

وإن قلنا: [إنها] لا تحيض، وقع في الحال طلقة، ولا يقع ما سواها. قال: وإن قال: إن حضت فأنت طالق، طلقت برؤية الدم- أي: في زمن إمكان الحيض- لأن الظاهر أنه دم حيض؛ ولذلك أمرت بترك الصلاة، والصوم، ومنع الزوج من الوطء، لكن إن انقطع قبل أن تبلغ أقل الحيض، ولم يتعد إلى خمسة عشر يوماً، فيتبين أن الطلاق لم يقع. وقيل: لا يحكم بوقوعه بأول رؤية الدم؛ لأنه قد يكون دم فساد، فإذا بلغ أقل الحيض تبين وقوع الطلاق من أول الطروء؛ وهذا ما رجحه الإمام، ولم يحك القاضي الحسين في التعليق سواه، وفرع الإمام عليه فقال: إذا رأت الدم، فهل يجب التحرز عن الاستمتاع بها ناجزاً؟ هو كما لو قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، وسيأتي حكم ذلك- إن شاء الله تعالى. والأول هو الأظهر، ولم يورد الجمهور سواه. فإن قيل: من جملة شرائط الحيض ألا يزيد الدم على خمسة عشر يوماً كما أن من شرطه ألا ينقص عن يوم وليلة، وقد اعتبرتم على قول تحقق الشرط الثاني، بخلاف الأول؟ قلنا: إنما اعتبرنا تحقق [الشرط الثاني] لجواز أن ينقطع لدون اليوم أو اليوم والليلة؛ فلا يكون شيء منه حيضاً، وأما الزيادة على [الخمسة عشر يوماً فهي لا] تخرج الدم بجملته عن أن يكون حيضاً، بل قد تحقق أن لها من جملته حيض، فلا جرم أنا لم نعتبره. نعم، قد يتجه السؤال فيما إذا بدأ بها دم ضعيف، فإنه يحتمل أن يطرأ عليه دم قوي، ويجاوز الخمسة عشر؛ فلا يكون الدم الضعيف حيضاً، وحينئذ فيصير كانقطاعه لدون يوم وليلة، والله أعلم. فرع: لو قال لها في أثناء حيضها: إن حضت فأنت طالق، منقول المذهب أنها لا تطلق حتى تطهر، ثم تحيض كما لو قال لها والثمار مدركة: إذا أدركت الثمار فأنت

طالق، فإن هذا يقتضي تعليق الطلاق بإدراك لاحق. وقال ابن الصباغ: الذي يقتضيه قياس [المذهب] أن الدم إذا استمر بها بعد التعليق ساعة يقع الطلاق، ويكون دوام الحيض حيضاً. وفي الرافعي: أن صاحب "التتمة" حكاه وجهاً، ويؤيده ما سنذكره- إن شاء الله تعالى- في الأيمان: أن استدامة الركوب واللبس ركوب ولبس؛ لأجل [أنه يقال ركبته ولبسته] عشراً، بخلاف الطيب؛ وهذا المعنى موجود ها هنا؛ لأنه يقال: حاضت عشراً والله أعلم. قال: وإن قال: إن حضت حيضة فأنتِ طالق لم تطلق حتى تحيض، وتطهر؛ لأنه علقة بتمام الحيض؛ وهكذا علله الرافعي، وزاد عليه فقال: وحينئذ يقع سنيّاً، فإن صح ما وقفت عليه من النسخ هكذا، ففيه نظر؛ من حيث إن الطلاق إنما يقع بعد وجود الشرط أو معه، والشرط هنا وجود الحيضة بكمالها. فلو وقع بطريق التبين، لوقع قبل وجود شرطه، فلعل هذا من الناسخ، ومما يؤيد ذلك أنه قال من بعد: لو قال: كلما حضت حيضة فأنتِ طالق، طلقت ثلاثاً في انتهاء ثلاث حيض مستقبلة، وتكون الطلقات سنية، فلو كان الطلاق يقع بطريق التبين لم تكن الطلقات سنية.

قال: فإن قالت: حضت، وكذبها- فالقول قولها مع يمينها؛ لأنها أعرف بحيضها، ويتعذر [عليها] إقامة البينة عليه، فإن الدم وإن شوهد لا يعرف أنه حيض، بل يجوز أن يكون استحاضة؛ هكذا قاله الرافعي، وفيه نظر؛ من حيث إن [دم] الحيض له صفات يتميز بها عن غيره كما [هي مذكورة] في كتاب الحيض، وإذا كان كذلك فلا تتعذر إقامة البينة عليه، وقد صرح بذلك ابن الصباغ كما [سيأتي] حكايته في الباب- إن شاء الله-[و] في كلام الإمام في كتاب اللعان عند الكلام في النزاع في بلوغ المقذوفة وصغرها إشارة إلى شيء من ذلك؛ فإنه قال: ليس يبعد إقامة البينة على الحيض؛ فإن نسوة لو رأت نفوذ الدم في أول وقت إمكان البلوغ، [ثم تمادى] الدم إلى انقضاء أقل الحيض- فيمكن اللعان لكن على عسر. والمذكور في "التتمة" من التعليل: أن الزوج لما علق طلاقها بحيضها مع علمه بأنه لا يعرف إلا من جهتها كان راضياً بأمانتها، وقول الأمين إذا عري عن التهمة يقبل وها هنا لا تهمة، لأنها تسقط [بما] تدعيه حقوقها عن الزوج. قال الرافعي: وكذلك الحكم فيما لا يعرف إلا من جهتها كما إذا قال: إن أضمرت بغضي فأنت طالق، فقالت أضمرته، تصدق بيمينها، ويحكم بوقوع الطلاق. قلت: ووراءه أمران: أحدهما: قد تقدم فيما إذا اختلف الزوجان في النية عند تفويض الطلاق إليها بالكناية، فقالت: نويت، وقال الزوج: ما نويت- حكاية قول أن القول قول الزوج، وإن كانت النية لا يطلع عليها؛ استبقاء للنكاح مع أن الأصل عدم النية؛ فكان يتجه أن

يجري مثله هنا. الثاني: سيأتي- إن شاء الله تعالى- في باب الاستبراء أن السيد إذا ادعى استبراء الأمة بالحيض، وأنكرت الأمة وجود الحيض: أن القول قول السيد مع أنه لا يطلع على ذلك إلا من جهتها؛ فكان يتجه أن يكون القول قولها؛ لما ذكرناه أولاً، ولأنه يعتضد بالأصل. أو يكون القول قول الزوج هنا كما هو ثم، والله أعلم. فرع: لو قال لها: إن ولدت فأنت طالق، ثم قالت: [ولدت، فقال:] ما ولدت، وهذا الولد مستعار، ففيه وجهان: أحدهما: يحكي عن أبي حامد أنها تصدق بيمينها كما في الحيض، وبه قال ابن الحداد. وأصحهما: المنع، وتطالب بالبينة؛ كما في سائر الصفات؛ هكذا حكاه الرافعي والإمام في كتاب اللعان [عند الكلام] في إنكار الزوج الولادة. وفي الشامل نسبة الوجه الأول إلى رواية القاضي أبي الطيب عن الأصحاب، ونسبة الثاني إلى الشيخ أبي حامد. وأجرى [الغزالي] الخلاف فيما لو قال لها: إن زنيت فأنت طالق، فقالت: زنيت، لكن الأصح أنه لابد من إقامة البينة على الزنا؛ وإن كان في "الوسيط" أن الظاهر خلافه. قال: وإن قال: إن حضت فضرتك طالق، فقالت: حضت، فكذبها، فالقول قوله، ولا تطلق الضرة؛ لأنه لا سبيل إلى قبول قولها من غير يمين، وإن حلفناها كان التحليف لغيرها؛ فإنه لا تعلق للخصومة بها، والحكم للإنسان بحلف غيره محال. وإن صدقها طلقت الضرة. ولو قال: أنا أجوز أن تكون صادقة، وأجوز أن تكون كاذبة، ويغلب على ظني صدقها- لم يحكم بوقوع الطلاق [ولا مستند لتصديقه إلا إخبارها وغلبه الظن

بصدقها، فهلا] حكمتم بوقوع الطلاق هنا ولم تحكموا بوقوعه عند التصديق. قلنا: قد حكى الإمام في الفروع: أنه سمع أكابر [علماء] العراق يحكون عن القاضي أبي الطيب: أنه حكى عن الشيخ أبي حامد تردداً في الحكم بوقوعه عند التصديق. فإن قلنا بعدم الوقوع، فقد استوت المسألتان. وإن قلنا بالوقوع وهو ما أطبق الأصحاب عليه، وادعى الإمام: أنه تتبع طرقاً منقولة عن الشيخ أبي حامد فلم يجد سواه، فالفرق أن من الأشياء ما يعلم أن المستند في الإخبار به أمين، وإذا أخبر [به] قبل، ولو أخبر بمستنده لم يقبل، ومثاله الشهادة بالملك تسمع من غير بيان السبب، ولو شهد بالمستند دون الملك، لم يسمع [وكذلك] الرضاع: لو شهد بما شاهده من غير تعرض لكون أن [ما] بينهما رضاع محرم لم يثبت، بخلاف ما لو شهد بالرضاع؛ وهذا من هذا القبيل؛ فاندفع السؤال. ولأن الإقرار حجة شرعية كاليمين، واليمين قد تستند إلى قرائن تفيد الظن القوي كما تحلف المرأة على نية الرجل في كنايات الطلاق؛ فكذلك لا يبعد أن يستند الإقرار إليها فيحكم به، والله أعلم. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن تصدقها الضرة أو تكذبها. وكذلك الحكم فيما لو علق طلاق زوجته بحيض أجنبية، فقالت: حضت، وكذبها الزوج في عدم وقوع الطلاق، وقد صرح به مجلي والإمام وغيرهما، وبه يندفع وهم من يعتقد أنا إنما لم نحكم [بوقوع الطلاق] في مسألة الفصل؛ لأن الضرة متهمة. ولو قال: إذا حضت فأنت وضرتك طالقتان، فقالت: حضت، وكذبها [الزوج]

فتصدق بيمينها، ونوقع الطلاق عليها، ولا نوقعه على الضرة؛ كما لو ادعى أحد الوارثين بدين انتقل إليه بالإرث، وحلف مع شاهد أقامه، فإنه يثبت حقه بيمينه، ولا يثبت نصيب الوارث الآخر. وعن صاحب التقريب [رواية وجه]: أنه يقع على الضرة أيضاً. قال: وإن قال لامرأتين: إن حضتما فأنتما طالقتان، لم تطلق واحدة منهما حتى تحيضا؛ لأن طلاق [كل] واحدة منهما معلق بحيضهما جميعاً، ولا فرق في ذلك بين أن تقع الحيضتان معاً، أو إحداهما بعد الأخرى. فإن قالتا: حضنا، فصدقهما، طلقتا؛ لاعترافه بتحقق الشرط، وهذا هو المشهور، وفيه التردد المنقول عن الشيخ أبي حامد. قال: وإن كذبهما، لم تطلق واحدة منهما؛ لأن طلاق كل واحدة [منهما] معلق على وجود شرطين، ولم يوجد أحدهما. قال في الشامل ها هنا: إلا أن تقيم البينة بحيضها فيقع عليهما الطلاق. وقال- أيضاً- في الخلع: إذا كذبهما، فأقامت كل واحدة منهما على حيضها أربع نسوة، ثبت، وطلقتا، وهذا مخالف لما حكيناه عن الرافعي من قبل. وعلى تقدير [تسليم] جواز إثبات الحيض بالنسوة ينبغي ألا يقع الطلاق المعلق [عليه]؛ لأن الطلاق لا يثبت بشهادتهن، [وليس] كما إذا [شهدت النسوة بالولادة؛ فإن النسب والميراث يثبتان وإن لم يثبتا بشهادة النسوة ابتداءً]؛ لأنهما من توابع الولادة وضروراتها بخلاف الطلاق مع الحيض، وقد صرح بمثل ذلك الرافعي والغزالي في كتاب الشهادات فيما إذا قال: إن ولدت فأنت طالق، وثبتت ولادتها بأربع نسوة، فإنه لا يقع الطلاق، وإن ثبت النسب، والفرق ما ذكرناه. نعم: ما ذكره ابن الصباغ يوافق وجهاً حكاه الإمام عند الكلام في الجنايا من كتاب الجنايات فيما إذا قال: إن كنت غصبت فأنت طالق، فأقامت [بينة] على الغصب شاهداً وامرأتين- أنه يقع الطلاق، والأظهر فيها عدم الوقوع.

قال: وإن صدق إحداهما، وكذب الأخرى، طلقت المكذبة [ولم تطلق المصدقة] لثبوت الشرطين في حقها، أما ثبوت حيض ضرتها فبتصديقه، وأما حيضها فبيمينها. قال: ولم تطلق المصدقة إذا لم يثبت حيض صاحبتها في حقها؛ لتكذيبه، ويجيء [على] ما نقل عن صاحب التقريب أنها تطلق أيضاً. قال: وإن قال: إن حضتما حيضة، فأنتما طالقتان، لم يتعلق بهما طلاق- أي: وإن حاضتا- لأنهما إذا حاضتا حصلت حيضتان، ويستحيل أن يحيضا حيضة واحدة. قال: وقيل: إذا حاضتا طلقتا؛ لأن الاستحالة نشأت من قوله: حيضة فيلغى، ويبقى التعليق بمجرد حيضهما؛ فيقع عند وجوده؛ وهذا هو الأظهر في الرافعي، والمذهب في تعليق البندنيجي. ويجيء عليه الخلاف المتقدم في أنهما تطلقان برؤية الدم، أو لابد من [مضي] يوم وليلة. وقال الإمام في تعليل هذا القول: يحتمل أن يراد به إذا حاضت كل واحدة منهما حيضة، وهو السابق إلى الفهم من مثل هذا القول؛ فينزل عليه؛ تصحيحاً للكلام. قال الرافعي: وقضية هذا الكلام وقوع الطلاق عند تمام الحيضتين. وفي ابن يونس أن الشيخ أبا حامد قال في التعليق: يقع الطلاق عليهما في الحال، كما لو قال لمن لا سنة لها ولا بدعة: أنت طالق للسنة، أو للبدعة. ويتلخص من مجموع ما ذكرناه خمسة أوجه: أحدها: عدم وقوع الطلاق حالاً ومآلاً. والثاني: الوقوع في الحال، وهو يشابه وجهاً سيأتي فيما إذا قال [لزوجته]: إن طرت، أو صعدت السماء فأنت طالق.

والثالث: يقع الطلاق عليهما برؤية الدم. والرابع: بعد مضي يوم وليلة [تَبَيُّناً]. والخامس باستكمال الحيضتين، ولو قال لهما: إن ولدتما [ولداً] [فأنتما طالقتان] فعند صاحب التلخيص: أنه يلغو، ولا يقع الطلاق بحال. وعن غيره: أنه كما لو قال: إن ولدتما، [ويحمل قوله: ولداً على ذكر الجنس. قال أبو عبد الله الحناطي: فأما إذا قال: إن ولدتما] ولداً واحداً فأنتما طالقتان، فإنه محال، ولا يقع الطلاق. وعلى الوجه الذي يقول: إذا علق الطلاق بمحال يقع في الحال، يقع ها هنا: وَلَدتا أَوَ لمْ تَلِدَا؛ هكذا حكاه الرافعي. قلت: [ويتجه] أن يجري هذا الوجه فيما إذا قال: إن ولدتما ولداً؛ كما حكيناه عن الشيخ أبي حامد في قوله إن حضتما [حيضة]. قال: وإن قال لأربع نسوة: أيتكن حاضت فصواحباتها طوالق، فقلن: حضن؛ وكذا لو قال: كلما حاضت واحدة منكن فصواحباتها طوالق، فقلن: حِضنا؛ فإن صدقهن، طلقت [كل] واحدة منهن ثلاثاً؛ لأنه جعل حيض كل واحدة منهن صفة لطلاق البواقي، ولكل واحدة ثلاث صواحب، وقد حضن؛ فتطلق ثلاث طلقات. وإن كذبهن لم تطلق واحدة منهن؛ لأن كل واحدة منهن لا يقبل قولها في حق غيرها؛ لما قدمناه. وإن صدق واحدة طلقت المكذبات طلقة [طلقة]؛ لأن لكل واحدة منهن صاحبة ثبت حيضها، ولم تطلق المصدقة؛ لأنه ليس لها صاحبة ثبت حيضها. وإن صدَّق اثنتين طلقت كل واحدة من المكذبتين طلقتين؛ لأن لكل واحدة منهما صاحبتين، ثبت حيضهما، [وطلقت كل واحدة من المصدقتين طلقة؛ لأن

لكل واحدة منهما صاحبة واحدة ثبتت حيضتها] وإن كذب واحدة، طلقت المكذبة ثلاثاً؛ لأن لها ثلاث صواحب ثبت حيضهن، وطلقت كل واحدة من المصدقات طلقتين؛ لأن لكل واحدة منهن صاحبتين ثبت حيضهما. ويجيء على ما نقل عن صاحب التقريب: أن يطلقن ثلاثاً ثلاثاً. ولو قال لأربع نسوة إن حضتن فأنتن طوالق، فقلن: حضنا، فإن صدقهن، طلقن واحدة [واحدة]. وإن كذبهن لم يطلقن. وإن كذب واحدة، طلقت طلقة دون الباقيات. وإن كذب أكثر من واحدة، لم تطلق واحدة منهن. تنبيه: النسخ كلها: [فصواحباتها] بالألف وتاء، وهي لغة، [والجيد صواحبها بحذفهما]: كضاربة، وضوارب. قال: وإن قال: إن كنت حاملاً فأنت طالق، أي: وهي ممن يمكن أن تحمل، ولم يكن استبرأها قبل ذلك، حرم وطؤها حتى يستبرئها؛ لأن الأصل عدم الحمل. ويروي عن القفال: أنه لا يحرم؛ لأن الأصل بقاء النكاح، والطلاق [المحرم] مشكوك فيه. قال: بثلاثة أقراء- أي: إذا كانت حرة- لأنه تربص في حق حرة منكوحة؛ فأشبه العدة. وقيل: يطهر؛ لأن القصد معرفة براءة الرحم؛ فلا يزاد على قرء واحد، واستبراء الحرة لا يجوز إلا بالطهر؛ فوجب أن يكون بطهر. وقيل: بحيضة؛ لأن القصد من هذا الاستبراء معرفة براءة الرحم، والذي يعرف به براءة الرحم هو الحيض، ويخالف العدة؛ لأنه لابد وأن يتخللها الحيض. وفي المهذب [حكاية] طريقة أخرى: أنها لا تستبرأ إلا بثلاثة أقراء، وإن جرى الخلاف في المسألة التي تليها؛ لأنه استبراء حرة؛ لأجل الطلاق؛ فلا يجوز بما

دون ثلاثة أقراء، كالاستبراء في سائر المطلقات، وفي المسألة التي تأتي الاستبراء لاستباحة الوطء؛ فأشبه الأمة. وبعض الأصحاب جعل الخلاف المتقدم ذكره في أنها تستبرأ بطهر أو بحيضة؟ مأخذه الاختلاف في استبراء الأمة. والصحيح فيه عند الإمام أن استبراء الأمة يكون بالحيض، وسيأتي الكلام فيه، وكذلك في أن بقية الطهر أو الحيض هل يكتفي به؟ أما لو كانت الزوجة ممن لا يمكن [أن] تحمل كالصغيرة التي لم تراهق، فلا استبراء في حقها، ولكن يحكم بوقوع الطلاق في الحال؛ لتحقق الحيال. ولو كانت مراهقة؛ فيمكن أن تحمل، ولابد من الاستبراء، ولكن بماذا؟ قال الرافعي: يشبه أن يقال: إن قلنا: إن الاستبراء بثلاثة أقراء، [فالاستبراء بثلاثة] أشهر في حقها. وإن قلنا: بقرء، فاستبراؤها بشهر واحد أو أشهر؟ فيه خلاف؛ كما في استبراء الأمة. والأظهر من الخلاف هناك: أنها تستبرأ بشهر واحد. والموجود في التهذيب ها هنا حكاية عن القفال: أنه ينتظر مضي ثلاثة أشهر: حرة كانت أو أمة؛ لأن الحمل لا يظهر في أقل منها. قال: فإن بان أنها حامل- أي: بالاستبراء بما ذكرناه-[طلقت]؛ لوجود لاشرط. وفي النهاية: أن الذي ذهب إليه المحققون: أنا نحكم بوقوع الطلاق عند مضي ثلاثة أقراء تبيُّناً. وإذا مضى قرء واحد، فهل يحكم بوقوع الطلاق؟ فعلى وجهين. ثم قال: وكان من الممكن أن نأمرها بالتربص إلى انقضاء مدة أكثر الحمل، ولا يقع الطلاق بمضي ثلاثة أقراء؛ لأنه لا يفيد إلا الظن. وقد وجدت لشيخنا ما يدل على ذلك، وعلله بأن الصفات المعلق عليها يعتبر فيها اليقين، ألا ترى أنه [لا فرق] بين أن يقول: إن [قدم زيد فأنت طالق، وبين أن

يقول: إن] استيقنت قدوم [زيد]؟ ولو علق على تحقق براءة الرحم، لم يقع بمض الأقراء؛ فكذلك إذا أطلق. وفي الذخائر: أن الطلاق يقع، وحكاية وجهين عن الحلية في أنها هل تحل للأزواج بمضي الأقراء أو لا تحل حتى تمضي أكثر مدة الحمل؟ وأجاب عما أورده الإمام بأن مطلق الألفاظ يحمل على ما تقرر في الشرع، والمتقرر في الشرع ها هنا: أن السبيل إلى معرفة ذلك وعدم معرفته هو وجود الحيض وعدمه، والمتحصل عن ذلك غلبة الظن لا غير؛ فحمل مطلق اللفظ عليه، يؤكده أنه لا سبيل إلى التحقق في مثل هذا المقام في غالب الأمر؛ فتعين الصرف إلى الوجه الممكن، وصار معنى قوله: إن كنت حائلاً فأنت طالق، كقوله: إن برئت رحمك فأنت طالق، وقد حصل؛ بخلاف قدوم زيد ونحوه؛ فإن اليقين ممكن الوصول إليه، ولا عرف لمثله في الشرع؛ فحمل الحكم على مقتضى اللفظ. قال: واحتسب ما مضى من الأقراء من العدة؛ لأن الطلاق يقع عند التعليق بطريق التبين؛ فكان ما بعده محسوباً من العدة. تنبيه: إطلاق الشيخ- رضي الله عنه- هذا الكلام يعرفك: أنه لا فرق بين مضي ثلاثة أقراء أو دونها في وقوع الطلاق؛ إذ لو كان عنده لا يقع إلا بمضي ثلاثة أقراء، لقال: انقضت العدة، وقد تقدم ما قيل فيه. قال: وإن بان أنها [كانت حاملاً]- أي: بوضع الحمل على النعت الذي سنذكره- حل وطؤها؛ لأنه تحقق أن الطلاق لم يقع؛ لتحقق عدم الشرط، وصورته أن تأتي بولد لدون ستة أشهر من وقت الحلف، ولو أتت به لأكثر من أربع سنين من وقت اليمين، فالطلاق واقع. وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر، وأقل من أربع سنين، فإن لم يكن وطئها فالطلاق غير واقع؛ [لأنا حكمنا بوجود الولد حالة اليمين، وإن كان قد وطئها بعد اليمين: إما بأن استبرأها، وحكمنا بوقوع الطلاق،] ثم راجعها، ووطئها، أو من

غير استبراء، وجوزنا له ذلك، فإن كان بين الوضع والوطء دون ستة أشهر، فهو كما لم يطأها، وإن كان بينهما ستة أشهر فأكثر، ففي وقوع الطلاق وجهان: أظهرهما: الوقوع. ومقابله يروي عن أبي علي الطبري، وفي المهذب روايته [عن ابن] أبي هريرة. أما لو ظهر أنها كانت حاملاً بأن مر بها ثلاثة أشهر، ولم ترد الدم، وهي من ذوات الأقراء، وظهرت أمارات الحمل، وصارت مرتابة- لم يحكم بوقوع الطلاق، وهل يحل له الوطء؟ فيه وجهان. قال: فإن كان قد استبرأها، حل وطؤها في الحال. وقيل: لا يحل حتى يستأنف الاستبراء. اعلم أن النسخ في هذا الموضع مضطربة: فالذي رأيته في نسخة عتيقة ذكر هذه المسألة الثانية التالية لهذه المسألة، [و] توجيه الخلاف فيها يأتي في موضعه، ولا اعتراض على ذلك، ومما يؤيد ذلك أن النووي لم يتعرض للتنبيه على ذلك وإن كان من شأنه أنه لا يهمل مثله. والموجود في أكثر النسخ ذكرها هنا؛ وعلى هذا تكلم ابن يونس، وأورد عليه أنه قد جزم- رضي الله عنه- بعدم حل الوطء قبل الاستبراء، وهذا الحكم بثبوته بعد الاستبراء يكون بطريق الأولى؛ فكيف يجري فيه الخلاف؟ وتقرير كلام الشيخ على هذا التقرير يحتاج إلى مقدمتين: إحداهما: أن أمارات الحمل إذا ظهرت، هل يجوز الوطء؟ فيه الخلاف المتقدم. الثانية: أن الاستبراء [المتقدم] على التعليق هل يكتفي به؟ فيه وجهان: أحدهما- ويحكى عن أبي إسحاق-: أنه لا يكتفي به؛ لأن الاستبراء تقدم سببه؛ فلا يغني؛ كما إذا مضت مدة العدة قبل الطلاق أو الاستبراء قبل حصول الملك في الأمة.

وأصحهما عند صاحب التهذيب وغيره، وبه قال ابن أبي هريرة: أنه يكتفي به؛ بخلاف العدة، فإن الطلاق سببها، وكذلك الملك سبب وجوب الاستبراء؛ فلا يعتد بما تقدم على وقت الوجوب، وها هنا الاستبراء ليس بواجب في نفسه، وإنما علق الطلاق بصفة، والمقصود معرفة أن الصفة حاصلة أو غير حاصلة، ولا يختلف طريق المعرفة بين أن تتقدم أو تتأخر. وفي المجرد للقاضي أبي الطيب نسبة الثاني إلى أبي إسحاق. إذا تقرر ذلك، فنقول: إن لم نجوز الوطء عند ظهور أمارات الحمل بعد الحلف، فلا نجوزه هنا من طريق الأولى؛ وإن جوزناه عند الظهور بعد الحلف فهل يجوز إذا وجد هذا الظهور قبل الحلف؟ فيه وجهان ينبنيان على أن الاستبراء السابق، هل هو معتبر أم لا. وعلى هذا يحمل كلام الشيخ، رضي الله عنه. وأظهر القاضي الحسين في التعليق للخلاف في أن الاستبراء السابق هل يعتبر ثمرة أخرى، وهي أن مدة الأربع سنين [في] أي وقت تعتبر؟ إن قلنا: [إنه] لا يعتد به، اعتبرت من وقت التعليق؛ وإلا فمن وقت الاستبراء. فرع: إذا قال للآيسة: إن كنت حائلاً فأنت طالق، فهل تطلق في الحال؟ قال في الخذائر: الذي ذكره الشيخ أبو نصر: أنه يقع الطلاق عليها من غير استبراء. وقال بعضهم: يحتمل أن يقال: لابد من الاستبراء. ويحتمل أن يقال: يكتفي بما بان من اليأس في حقها؛ بناءً على الخلاف في الاكتفاء بالاستبراء السابق. قال: والذي ذكره الشيخ أبو نصر أصح؛ لأنا تحققنا عدم الحمل في حقها؛ فوجب أن يقع الطلاق، كما لو قال ذلك لصغيرة؛ بخلاف الاستبراء قبل التعليق؛ فإنا لسنا على يقين من عدم الحمل، والله أعلم. قال: وإن قال: إن كنت حاملاً فأنت طالق، حرم وطؤها حتى يستبرئها. قال الرافعي: وهذا ما يوجد للشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب، وحكاه الإمام عن المراوزة.

ووجهه: أنه يجوز أن تكون [حاملاً؛ فيحرم وطؤها، ويجوز أن تكون] حائلاً فلا يحرم؛ فغلب التحريم؛ احتياطاً للأبضاع. وقيل: يكره. قال الرافعي: وهو المحكي عن نصه في الإملاء، وبه أجاب الحناطي، وهو الأظهر. وفي الشامل: أن الشيخ أبا حامد حكى عن الشافعي أنه ذكر في مسألة مثلها في الإملاء: أن الوطء يكره، ولا يحرم. ووجهه: أن الحمل عارض، والأصل عدمه، مع أن الأصل [بقاء] النكاح، والمحرم مشكوك فيه؛ فأشبه ما لو قال: إن كان هذا الطائر غراباً فامرأتي طالق، فطار، ولم يعلم. وعلى هذا فلو أتت بولد لدون ستة أشهر من وقت التعليق، تبين وقوع الطلاق، وكان وطؤه- إن جرى- وطء شبهة، يجب به المهر، ولا يجب به الحد. وإن أتت به لستة أشهر فأكثر، أو لأربع سنين فما دونها، نظر: إن كان الزوج يطؤها وكان بين الوطء والوضع ستة أشهر فأكثر، لم يقع الطلاق- قال في المهذب-: وجهاً واحداً. وإن لم يطأها بعد التعليق، أو كان بين الوطء والوضع دون ستة أشهر، فوجهان: أحدهما- حكاه في الشامل عن رواية الشيخ أبي حامد-: أنه لا يقع [الطلاق]. وأظهرهما: الوقوع، وهو ما حكاه في المهذب. والقول فيما به الاستبراء، وفي أن الاستبراء السابق على التعليق هل يكتفي به؟ على ما مر في المسألة الأولى. وإذا اكتفينا بالاستبراء السابق حل الوطء، وإلا فلا [يحل]. واعلم أن في كلام الغزالي ما يشعر بأن صورة الاستبراء السابق أن يكون قد تقدمه تعليق، واستبرئت لأجله، ثم أعقبه بتعليق آخر؛ حيث قال: إذا استبرأها، ثم قال مرة أخرى قبل [أن يطأها]: إن كنت حاملاً فأنت طالق، وما قاله وإن كان حسناً،

لكني لم أقف عليه لغيره. فرع: لو قالت: أنا حامل، وصدقها الزوج، حكم بوقوع الطلاق في الحال، وإن كذبها، لم تطلق حتى تلد؛ كما ذكرناه. ولو شهد أربع نسوة بأنها حامل، لم تطلق؛ لأن الطلاق لا يقع بقول النسوة، وكان يتجه أن يجيء فيه ما قاله ابن الصباغ: أن يثبت الحمل. قال: وإن قال: إن كان في جوفك ذكر فأنت طالق طلقة، وإن كان أنثى فأنت طالق طلقتين، فولدت ذكراً وأنثى-[أي: وليس بينهما ستة أشهر- طلقت ثلاثاً؛ لاجتماع الصفتين، وذلك بطريق التبين، وتنقضي العدة بولادة الثاني منهما. قال: وإن قال: إن كان ما في جوفك ذكر، فأنت طالق طلقة، وإن كان أنثى فأنت طالق طلقتين، فولدت ذكراً وأنثى] لم تطلق، وكذا إن قال: [حملك، وكذا لو قال:] إن كان حملك؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون جميع ما في جوفها، أو جميع حملها- ذكراً، أو أنثى، فإذا كان البعض ذكراً والبعض أنثى، لم توجد الصفة في الوصفين جميعاً؛ فلم يقع. ولو كانت المسألة بحالها، فأتت بذكرين ولا أنثى معهما، أو أنثيين ولا ذكر معهما، فقد قال القاضي: يقع الطلاق. وقوله: إن كان حملك ذكراً محمول على [جنس الذكور]، وكذا إن كان حملك أنثى محمول على جنس الإناث. قال الإمام: وهذا ليس على وجهه عندنا، وكان شيخنا يقول: لا يقع شيء. فإن [كان] حملها زائداً على ذكر، فهو كما لو أتت بذكر وأنثى. قال: وإن قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها: أنت طالق، وهي مدخول بها- أي: ولم يكن الطلاق بعوض- طلقت طلقتين: إحداهما بالإنشاء، والثانية بوجود الصفة. ولو طلقها وكيله، لم يقع المعلق. ولو قال: لم أرد التعليق، وإنما أردت أني إذا طلقتها تكون مطلقة، لم يقبل في

الظاهر، ولكن يدين. وأبدى القاضي الحسين في القبول احتمال وجهين حكاهما في التعليق. قال: وإن كانت غير مدخول بها، طلقت طلقة- أي: بالإنشاء- ولا تطلق بوقوع الصفة؛ لبينونتها. وحكم المختلعة حكم غير المدخول بها. وفيهما وجه حكاه في المجرد للحناطي: أنه يقع عليها طلقتان، وهو غريب، ويمكن أن تكون مادته [مركبة] من قاعدتين: إحداهما: أن البينونة تحصل عند إجراء اللفظ أو لا؟ والثانية: أن المشروط يقع مع [شرطه أم] لا؟ وعلى الأول إذا جدد النكاح، ودخل بها، ثم طلقها، لم تقع الطلقة المعلقة على التطليق، ولا تتخرج على عود الحنث إلا إذا قلنا: [إن] الخلع ليس بطلاق؛ فحينئذ يكون في وقوعه على المختلعة الخلاف في عود الحنث. قال: وإن قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال: إذا طلقتك فأنت طالق، فدخلت الدار، وقعت طلقة- أي: المعلقة بالدخول- لوجود شرطها ولا تطلق لأجل التعليق الثاني؛ لأن صفته الإيقاع، ولم يوجد بعد التعليق سوى الوقوع. ولو طلقها وكيله، لم يقع- أيضاً- سوى المنجز؛ لأن الشرط قوله: إن طلقتك ولم يطلق. ولو قال: إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت [الدار] وقعت طلقتان: طلقة بالدخول، وأخرى بالتطليق؛ لأن التعليق مع وجود الصفة تطليق، وقد وجدا بعد التعليق الأول. وفي "الوسيط" حكاية وجه عن العراقيين: أن التعليق مع الصفة ليس بتطليق، قال: وهو بعيد. قال: وإن قال: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار، وقعت طلقتان: إحداهما بالدخول، والأخرى بوقوع

الطلاق؛ إذ هو صفة التعليق، وهكذا الحكم فيما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، فدخلت الدار؛ فإنه يقع عليها طلقتان؛ لما ذكرناه. ولو كانت المسألة بحالها، ووكل بعد هذا [العقد] وكيلاً في طلاقها، فطلقها الوكيل، ففيما يقعوجهان: أحدهما: الطلقة المنجزة. والثاني: طلقتان: المنجزة من الوكيل، والمعلقة من الموكل؛ حكاه في المهذب. ولو قال: إن أوقعت عليك طلاقي فأنت طالق، ثم قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، ودخلت- ففي المهذب: أن بعض أصحابنا قال: لا يقع عليها سوى الطلاق المعلق بالدخول. وعندي: أنه يقع طلقتان: إحداهما بالدخول، والأخرى بالصفة. [وفي الرافعي] أنه الصحيح، وأن الأول هو المذكور في تعليق الشيخ أبي حامد. قال: وإن قال: كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال: أنت طالق وقع طلقتان: إحداهما بالإنشاء، والأخرى لوجود الصفة، ولا تقع طلقة ثالثة؛ لوقوع الثانية؛ لأن الصفة هي الإيقاع، ولم يتكرر. وحكى القاضي ابن كج عن القاضي أبي حامد وغيره: أنه يقع طلقة ثالثة؛ لأن الثانية الواقعة بوجود التطليق هو الموقع لها بالتعليق السابق؛ فكأنه طلق مرة أخرى. وجعل الحناطي هذا قولاً؛ ونسبه إلى البويطي، والأول أصح. قال: إن قال: كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم قال [لها] أنت طالق)، طلقت ثلاثاً- أي: واحدة بالإنشاء، واثنتان بالتعليق- أو بالطلقة الأولى توجد صفة الثانية، وبالثانية توجد صفة الثالثة.

قال: وإن قال لأربع نسوة: أيتكن وقع عليها طلاقي فصواحباتها طوالق، ثم قال لإحداهن: أنت طالق، [طلقن ثلاثاً ثلاثاً] أي: إذا كن مدخولاً بهن؛ لأن [طلاق الواحدة يوقع على] كل واحدة منهن [طلقة، ووقوع هذه الطلقة على كل واحدة منهن] يوقع الطلاق على صواحباتها، وهن ثلاث؛ فتطلق كل واحدة منهن ثلاثاً. قال: وإن قال: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال [لها]: إن خرجت من الدار، أو إن لم تخرجي، أو إن لم يكن هذا كما قلت، فأنت طالق، طلقت- أي: الطلقة المعلقة على الحلف- لأنه حلف بطلاقها، ثم إذا وجدت الصفة الثانية، وقعت طلقة أخرى إن بقيت العدة، أو راجعها. قال: إن قال: إذا طلعت الشمس، أو جاء الحاج فأنت طالق- أي: قال ذلك بعد قوله: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق- لم تطلق حتى تطلق الشمس، أو يجيء الحاج- أي: فتقع الطلقة المعلقة على وجود الصفة، لوجود الصفة، ولا تقع الطلقة المعلقة على الحلف؛ لعدم الصفة؛ لأن الحلف بالطلاق فرع [عن] الحلف بالله، والحلف بالله إنما يكون على منع من فعل كقوله: إن خرجت أو حث على فعل كقوله: إن لم تخرجي، أو تصديق كقوله: إن [أو] لم يكن هذا كما قلت، وما عدا ذلك لا يكون حلفاً. قال في الشامل: ألا ترى أنه لا يصح أن يقول: والله لا دخل الشهر، ولا قدم الحاج، وإذا لم يكن حلفاً في الأصل، [لم يكن] حلفاً في الفرع. وحكى الفوراني وجهاً: أنه يكون يميناً. وحكي وجه [آخر] أن كل تعليق [كان] بحرف إن فهو حلف، وكل تعليق كان بحرف إذا فليس بحلف؛ لأنه لا يستعمل في اليمين غالباً؛ فعلى هذا إذا قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق، لم يكن حلفاً، ولو قال: إن [دخلت الدار] فأنت طالق [كان حلفاً].

فروع: [أحدها]: لو قال: إن قدم زيد فأنت طالق وهو يمتنع بمنعه، وقصد منعه [من القدوم]، فهو كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق. وإن كان ممن لا يمتنع بمنعه، أو قصد التأقيت، فهو كما لو قال: إن طلعت الشمس فأنت طالق. [الثاني:] لو قال الزوج: طلعت الشمس، فقالت المرأة: لم تطلع، فقال: إن لم تطلع فأنت طالق، طلقت في الحال؛ لأن غرضه ها هنا التحقيق، وحملها على التصديق، فهو حلف. [الثالث:] لو قال للمدخول بها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم أعاد هذا القول ثانياً، وثالثاً، ورابعاً- وقع بالمرة الثانية طلقة؛ لأنه حلف بطلاقها، وتنحل اليمين الأولى، ويقع بالمرة الثالثة طلقة بحكم اليمين الثانية، وتنحل الثانية، وتقع بالرابعة طلقة بحكم [اليمين] الثالثة وتنحل الثالثة، وتكون الرابعة منعقدة؛ [حتى يقع بها الطلاق إذا حلف بطلاقها في نكاح آخر، إن قلنا بعود الحنث] في الطلقات الثلاث؛ هذا هو المشهور ها هنا. وفي الجيلي: أنه إذا كرر ذلك [في مجلس واحد، وأطلق فقولان: أصحهما: أنه يقع- كما ذكرناه- وإن قال: أردت به التكرار، قبل، وعزاه إلى البحر. وإن قال ذلك] في مجالس مختلفة، فالحكم كما ذكرناه، ولا يقبل قوله: إنه أراد به التكرار؛ على الأصح. انتهى. وقضية ما حكيناه عن الإمام في الباب قبله: أنه حكاه في آخر كتاب الإيلاء: ألا يفصل بين [أن يطول] الفصل أو لا يطول مع تصريحه بإرادة التأكيد على المذهب، بل يقبل قوله مطلقاً. ولو كانت غير مدخول بها فيقع بالمرة الثانية طلقة، وتبين، وتنحل الأولى، والثانية

يمين منعقدة، وفي ظهور أثرها في النكاح المجدد الخلاف في عود الحنث، والثالثة والرابعة واقعتان في [حال البينونة]، [ولا ينعقدان، ولا تنحل منهما شيء]. قال: وإن كان له عبيد ونساء، فقال: كلما طلقت امرأة فعبد حر، وإن طلقت امرأتين فعبدان حران، وإن طلقت ثلاثاً فثلاثة أعبد أحرار، وإن طلقت أربعاً فأربعة أعبد أحرار، فطلق أربع نسوة، عتق خمسة عشر عبداً على ظاهر المذهب. وقيل: عشرة. وقيل: سبعة عشر؛ هذا آخر كلامه. [وما قاله]- رضي الله عنه- إنما يجيء إذا كان المأتي به [صيغة] "كلما" في كل مرة؛ فإنها تقتضي التكرار، وليس لغيرها هذا الوصف إلَّا "متى"، و"مهما"؛ على وجه غريب حكاه الحناطي على ما حكاه الرافعي في التعليق بالتطليق. ووجه من قال: يعتق خمسة عشر عبداً إذا كان المأتي به لفظ "كلما"- وهو ظاهر المذهب-: أنه إذا طلق واحدة، حصلت صفة- وهي تطليق واحدة- فيعتق عبد. وإذا طلق ثانية، حصلت صفتان: طلاق واحدة مرة أخرى، وهي الثانية، وطلاق اثنتين؛ فيعتق بالثانية ثلاثة أعبد. وإذا طلق ثالثة، حصلت صفتان: طلاق واحدة مرة- وهي الثالثة- وطلاق ثلاث؛

فيعتق أربعة أعبد. وإذا طلق الرابعة، حصلت ثلاث صفات: طلاق واحدة، وهي الرابعة، وطلاق اثنتين، هما: الثالثة، والرابعة، وطلاق أربع؛ فيعتق سبعة. والمجموع خمسة عشر. ووجه من قال: عشرة، وهو ما قاله ابن القطان: أن الواحدة والاثنتين والثلاث والأربع- عشرة. ووجه من قال: سبعة عشر: أنه جعل في الثالثة وراء الصفتين المذكورتين صفة أخرى، وهي طلاق اثنتين: الثانية، والثالثة؛ فيعتق بها عبدان- أيضاً- فيكمل عتق سبعة عشر. وضعف هذا بإلزام أن يجعل في الرابعة صفة رابعة، وهي طلاق ثلاث: الثانية، والثالثة، والرابعة؛ فيعتق بها ثلاثة أعبد، تكملة عشرين، ولم يلتزمه هذا القائل. وفي المهذب: أن بعض أصحابنا قال به، والمذهب الأول، وما عداه ضعيف باتفاق الأصحاب. أما الثاني؛ فلأنه إسقاط لمقتضى كلما. وأما الأخيران؛ فلأن الثانية معدودة مع التي قبلها في يمين الاثنتين، والثالثة معدودة مع اللتين قبلها في يمين الاثنتين، والثالثة معدودة مع اللتين قبلها في يمين الثلاث؛ فلا يعدان مع ما بعدهما في اليمين؛ لأن ما عُدَّ في عدد مرة لا يعد فيه مرة أخرى. واستشهد له ابن الصباغ بأنه لو قال: كلما أكلت نصف رمانة فعبد من عبيدي حر، ثم أكل رمانة؛ فإنه يعتق عبدان؛ لأنه أكل نصفي رمانة، ولا يقال: يعتق ثلاثة أعبد؛ لأن الربع الثاني والثالث نصف رمانة؛ لأنه عد مرة مع الأول؛ فلا يعد مرة أخرى. وفي المجرد للقاضي أبي الطيب: أنه يعتق ثلاثة عشر عبداً: واحد بتطليق واحدة، وثلاثة بتطليق الثانية، وأربعة بتطليق الثالثة، وخمسة بتطليق الرابعة، ولم يكرر هذا القائل بالرابعة يمين الاثنتين. هذا كله إذا كان المأتي به صيغة [كلما في كل مرة، فأما إذا كان المأتي به صيغة] إن في كل مرة، فلا يعتق إلا عشرة أعبد قولاً واحداً.

وإذا كان المأتي به صيغة كلما في أول مرة، وصيغة إن فيما بعدها- كما يوجد في نسخ التنبيه- فلا يوجد في المسألة إلا وجهان: المذهب منهما: أنه يعتق ثلاثة عشر عبداً؛ لأنه تكرر طلاق واحدة أربع مرات؛ فيعتق أربعة أعبد، ويعتق بطلاق الثانية عبدان، وبطلاق الثالثة ثلاثة، وبطلاق الرابعة أربعة؛ فيصير المجموع ما ذكرناه. والوجه الآخر: أنه يعتق عشرة أعبد؛ لأن من صار إلى ذلك مع وجود صيغة كلما المقتضية للتكرار، ففي كلمة إن أولى. ولا فرق في جميع ما ذكرناه بين أن يوقع الطلاق على الترتيب، وبين أن يوقعه على الأربع دفعة واحدة؛ وهذا يناظر ما لو قال لزوجته: كلما كلمت رجلاً فأنت طالق، فكلمت رجلين بكلمة واحدة؛ فإنها تطلق طلقتين على المذهب. وفيه وجه حكاه الرافعي في فروع الطلاق: أنها لا تطلق إلا واحدة، وكان يتجه أن يجيء مثله هنا، ويبقى بعد ذلك النظر في أنه هل يعتق عبد واحد أو أربعة أعبد، والله أعلم. فرع: قال القاضي الحسين في التعليق: لو قال: كلما طلقت واحدة منكن فعبد من عبيدي حر، فطلق واحدة مراراً، لم يعتق سوى عبد واحد. [فرع] آخر: دخيل هنا: إذا قال لأربع نسوة حوامل: كلما ولدت واحدة منكن فصواحباتها طوالق، فولد الأربع: واحدة بعد واحدة- وقع على الأولى ثلاث طلقات، وعلى الثانية طلقة، وعلى الثالثة طلقتان، وعلى الرابعة ثلاث طلقات؛ ذكره ابن الحداد، واختاره. وقال ابن القاص: يقع على كل واحدة طلقة إلا الأولة؛ فإنه لا يقع عليها شيء، واختاره [القاضي] أبو الطيب. ولو ولدن دفعة [واحدة]، طلقت كل واحدة منهن ثلاثاً، لا خلاف فيه. وقال الماوردي: الأصح عندي أنه يرجع إلى إرادته؛ فإن أراد الشرط فالصحيح ما قاله ابن القاص، وإن أراد التعريف فالصحيح ما قاله ابن الحداد، وإن لم تكن له

إرادة، أو لم تعرف إرادته؛ حمل على التعريف دون الشرط. ولا يخفى مما ذكرناه إذا ولد بعضهن على الترتيب، وبعضهن معاً. قال: وإن قال: متى وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً، ثم قال لها: أنت طالق، لم تطلق، أي: المنجز، ولا المعلق. أما المنجز؛ فلأنه لو وقع، لوقع ثلاث قبله؛ لوجود الشرط، ولو وقع الثلاث قبله، لما وقع هذا؛ إذ لا يزيد الطلاق على الثلاث؛ فيلزم من وقوعه عدم وقوعه، وما أدى ثبوته إلى نفيه لا يثبت، وهذا كما لو باع العبد من زوجته الحرة قبل الدخول بصداقها الذي ضمنه السيد، فإن الشافعي- رضي الله عنه- نص على أنه لا يصح البيع؛ لأنه لو صح لملكته، ولو ملكته لانفسخ النكاح، وإذا انفسخ النكاح، سقط الصداق، وإذا سقط، بطل البيع؛ لأنه العوض. وأما المعلق؛ فلأنه إذا لم يقع المنجز، لم يحصل الشرط؛ فلا يقع المشروط؛ وهذا ما ذهب إليه ابن الحداد المصري، والقفال، والشيخ أبو حامد [والقاضي أبو الطيب، وابن سريج- على ما حكاه في التهذيب وغيره- والشيخ أبو علي]، والمزني، وبه أجاب في المنثور، وادعى الإمام أن معظم الأصحاب ذهب إليه. وفي "الوسيط": أنه الصحيح، كما حكاه في آخر الفصل. وقال الرافعي: رأيت في بعض التعاليق أن صاحب الإفصاح حكاه عن نص الشافعي. قال: وقيل: تطلق- أي: المنجزة- ولا يقع شيء من المعلق؛ لأنه لو وقع المعلق، لمنع وقوع المنجز، وإذا لم يقع المنجز، بطل شرط المعلق؛ فاستحال وقوع المعلق. أما المنجز فلا استحالة في إيقاعه؛ فيقع، وقد يتخلف الجزاء عن الشرط بأسباب، وشبه هذا بما إذا أقر الأخ بابن للميت، ثبت النسب دون الميراث، وبما إذا قال في مرض موته: إن أعتقت سالماً فغانم حر، ثم أعتق سالماً، ولا يخرج من الثلث إلا أحدهما، [فإنه لا] يقرع بينهما، ويعتق سالم.

وفي "التتمة": إنما لم يقع المعلق؛ لأن التعليق مستحيل لفظاً ومعنى: أما استحالة اللفظ، فهو أن قوله: متى وقع عليك طلاقي شرط، وقوله: فأنت طالق قبله جزاء، والجزاء يجب أن يكون مرتباً على الشرط حتى يصح النظم، فأما إذا كان سابقاً عليه، فلا [يكون الكلام منتظماً]. بيانه: [أنه] لو قال: إن جئتني أكرمتك، [كان صحيحاً]، ولو قال: أكرمتك قبل أن تجيء، لم يكن كلاماً صحيحاً. وأما من حيث المعنى؛ فهو أن المشروط لا يثبت قبل شرطه، فإذا أوقعنا الذي قبله، فقد قدمنا المشروط على الشرط. وأيضاً: فإن ما قبل الزمان الذي يتلفظ فيه بالطلاق زمان ماض، والزوج ليس يملك إيقاع الطلاق في الزمان الماضي حتى لو قال: أنت طالق أمس، يقع في الحال على ظاهر المذهب؛ وهذا ما ذهب إليه أبو العباس بن القاص صاحب التلخيص، وأبو زيد المروزي، ونقل عن ابن سريج مثله في نظير المسألة، وصححه الغزالي في آخر عمره. قال الرافعي: ويشبه أن تكون الفتوى به. [انتهى]. وكان شيخنا الشريف عماد الدين يختار هذا القول، ويوجهه بأن الشرط والجزاء ها هنا لا يجتمعان؛ فيكونان كالمتضادين؛ فلا يوجدان؛ فلا يرتبط أحدهما بالآخر، وإذا انتفى الربط فهو المغني من بطلان التعليق ضرورة أن شرطه ها هنا لا يجامع جزاءه؛ فيصير وجوده كعدمه، وكأنه لم يقع فيقع المنجز. ووجهه أبو الفتح العجلي بأنه لو صح هذا التعليق، لزم منه محال، وهو تمليك أربع طلقات؛ [لأنه علق ثلاث طلقات] على وجود طلقة، والثلاث غير تلك الواحدة؛ فإن الشرط غير الجزاء، ولابد وأن يكون ذلك مملوكاً له؛ ليصح التعليق؛ ألا ترى أنه لا يصح تعليق طلاق امرأة سينكحها؛ لأنه لا يملك طلاقها؛ فظهر أنه يلزم من [تصحيح] هذا التعليل تمليك أربع طلقات، وهو محال؛ فيلغو.

ووجهه ابن الصباغ بأن وقوع المنجز شرط في وقوع الثلاث، ولا يجوز تقديم المشروط على الشرط، ولو كان كذلك لبطل كونه شرطاً [فيه]. وقد ذكر أصحابنا ما يدل على ما قلته، وهو إذا قال لها: أنت طالق اليوم إذا جاء غد؛ فإنه لا يقع عليها الطلاق؛ لأنه أوقعه في اليوم، ولا يصح وقوعه قبل حصول الشرط، وإذا حصل الشرط فقد فات اليوم؛ فلا يصح أن يقع، وفي مسألتنا مثل هذا؛ لأنه إذا وقع عليها طلاقه، وجب أن يقع قبله، وقبله قد فات لوجود زمان وقوع الطلاق. فإن قيل: صورة التعليق في باب الطلاق ليس تعليقاً محققاً، وإنما هو إضافة طلاق إلى زمان، لكن لا يعرف ذلك الزمان إلا بوجود الشرط، فكأنه قال: أنت طالق في زمان، ذلك الزمان هو زمن دخولك الدار، ثم يعرف ذلك الزمان بدخولها الدار. والدليل على أن الأمر كذلك هو قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق قبله بيوم مثلاً، فإذا مضى يوم، ودخلت الدار، وقع الطلاق قبل دخول الدار بيوم، ومن المحال تقدم المشروط على الشرط، لكنه محمول على هذا المعنى، وكأنه قال: أنت طالق في زمان، ذلك الزمان هو الزمان الواقع قبل دخولك الدار بيوم، ونحن لا نعرف ذلك الزمان إلا بدخول الدار. وإذا كان كذلك، لم نوقع الطلاق قبل [وجود شرطه]. قلنا: قال الشريف عماد الدين في جوابه: سلمنا ما [قلتموه من] أن ذلك ليس تعليقاً محققاً، لكن المحال لازم-[أيضاً]- وبيان أنه في مسألتنا يكون مضيفاً للطلاق إلى زمان لا يوجد أصلاً. بيانه: هو أن يكون مضيفاً وقوع الطلاق إلى زمان، ذلك الزمان هو زمان وقوع ثلاث طلقات سابقاً على طلقة، ووقوع ثلاث طلقات سابقة على طلقة لا يوجد، فالزمان الذي يقدر إضافته لتلك الطلقات الثلاثة السابقة على طلاق لا يوجد؛ فكيفما قدر من المأخذين يلزم المحال المستحيل معه هذا التعليق، وهذه

الإضافة إلى مثل ذلك الزمان المخصوص. قال: وقيل: تطلق ثلاثاً- أي: المنجزة، وطلقتين من المعلق- إذا كانت الزوجة مدخولاً بها: أما وقوع المنجز؛ فلما ذكرناه. وأما وقوع الطلقتين من المعلق؛ فلأن المنجزة إذا وقعت، حصل شرط وقوع الثلاث، إلا أن الطلاق لا يزيد على الثلاث؛ فيقع من المعلق تمام الثلاث، ويصير كما لو قال: متى وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثلاثاً، ويطرح قوله: قبله، فإن الاستحالة تجيء منه، وإلى هذا ذهب أبو عبد الله خَتَنُ الإسماعيلي [وغيره من أصحابنا. وفي التهذيب نسبته إلى أبي بكر الإسماعيلي]. وذهب ابن الصباغ إلى أن المنجز يقع، والطلاق المعلق يصير كأنه أوقعه عند وجود الشرط مضافاً إلى حاله [قبل] الإيقاع. وقد قال الشافعي فيما إذا قال: أنت طالق الشهر الماضي: إنه يقع الطلاق في الحال. وذكر الربيع فيه قولاً: أنه لا يقع؛ فيجب أن يبنى على هذا، [ويكون على] القول المنصوص عليه المشهود [أنه] يقع تمام الثلاث، ومن قال: لا يقع ها هنا، لا يقع المعلق بالشرط. وذهب بعض أصحابنا- على ما حكاه الإمام عن رواية الشيخ أبي علي- أن الثلاث الواقعة هي المعلقة، ولا تقع الطلقة التي أنشأها، وكأنه قال: متى تلفظت بإنشاء طلقة، فأنت طالق قبلها ثلاثاً؛ فوقوع الثلاث موقوف على لفظه، وإن كان لا يقع بلفظه طلاق منجز. قال الإمام: وهذا رديء لا خروج له إلا على مذهب من يحمل اللفظ المطلق [على] الفاسد والصحيح جميعاً؛ وهذا بعيد [و] لا تفريع على مثله. أما إذا كانت الزوجة غير مدخول بها فهذا القول لا يجيء إلا على رأي من قال:

إن الواقع الثلاث المعلقة. واعلم أن الشيخ مجلي ممن اختار عدم وقوع الطلاق أصلاً؛ كما اختاره الشيخ في المهذب بعد أن حكى عن ابن الصباغ أن من قال به فقد أخطأ [خطأ] بيناً، وأن ذلك ليس بمذهب [للشافعي، وأجاب] عما أورده ابن الصباغ- أن المشروط لا يقع قبل وجود الشرط-: بأنا نسلم ذلك، ونقول: إن الطلاق لا يقع إلا بعد وقوع الطلقة الواحدة، فإذا وقعت وقع الثلاث بعد وقوعها، وإنما يستند الوقوع إلى الوقت المتقدم على مقتضى شرطه؛ كقوله: إذا قدم زيد فأنت طالق قبل القدوم بشهر، ثم قدم بعد شهر؛ فإن الطلاق يقع حين قدومه؛ لوجود الشرط، ووقت الوقوع بشهر قبل القدوم؛ ومن هذا الوجه فيقع التنافي. وأجاب عن قوله: أنت طالق اليوم إذا جاء غد بأنه حجة لنا؛ فإنه إنما لم يقع؛ لأن الوقت المشروط استناد إيقاعه إليه قد عدم، وفي مسألتنا بخلافه. وأجاب عن قوله: يصير طلاقاً موقعاً في زمان قبل حالة الإيقاع، والبناء على قوله: أنت طالق في الشهر الماضي- بأن وقوع الطلاق هنا إنما كان بعد الإيقاع؛ لأنه عقد الصفة، وعقد الصفة إيقاع للطلاق، فإذا وجدت الصفة، وقع الطلاق بذلك الإيقاع المتقدم؛ بدليل قوله: أنت طالق قبل موتي بشهر؛ بخلاف قوله: أنت طالق [في] الشهر الماضي؛ فإن ذلك إيقاع في زمان متقدم. وأجاب- أيضاً- عن قول من قال: يقع المنجز واثنتان من المعلق بأن الجزاء وقوع الثلاث؛ فلا يتبعض، وقولهم: إن التبعيض هنا لأجل أنه لم يبق من الطلاق ما يوقع [ثلاثاً. قلنا: بل زمن وقوع الطلاق الثلاث جميعاً باق؛ إذ هي تقع قبل وقوع] الطلقة المنجزة على مقتضى الشرط، فكيف لا تقع؟ وما قاله- رضي الله عنه- لا يخلو بعضه عن احتمال. فروع: أحدها: إذا علق الطلاق على صفة، ثم قال: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق

قبله ثلاثاً، ثم وجدت الصفة، فهل يقع الطلاق عند من يرى بصحة الدور؟ فيه وجهان: الصحيح منهما: أنه لا يقع، وبه قال القاضيان: أبو الطيب، والروياني، وهو ما حكاه البندنيجي- في مذهبه؛ لما ذكرناه من معنى الدور. وعلى هذا الوجه يكون هذا طريقاً لدفع الطلاق الثلاث، وهو أسهل من الخلع، وإيقاع الصفة في حال البينونة، ويجيء في موضع لا يفيد فيه الخلع؛ كما إذا حلف بالطلاق الثلاث منها: أنه لا يطأها. الثاني: إذا قال لامرأته: إذا انفسخ نكاحك، فأنت طالق قبله ثلاثاً، ثم ارتدت، أو كانت أمة فملكها، قال ابن الصباغ: التزم من ذهب إلى خلاف ما نصرته أن الفسخ يحصل، وأن إثباته يؤدي إلى نفيه؛ كما لو قال لأمته: إن صليت مكشوفة الرأس فأنت حرة قبل الصلاة، [فإن الصلاة تصح؛ لأنه لا يملك إبطال الفسخ، ولا إبطال الصلاة؛] لعدم ملكه لهما، بخلاف الطلاق؛ فإنه مالك لإيقاعه وترك إيقاعه. الثالث: لو قال: إذا فسخت نكاحك فأنت طالق قبله ثلاثاً، فوجد منه الفسخ بعيبها، ففي نفوذ الطلاق الخلاف السابق، وهذا بخلاف ما لو قال: إن فسخت النكاح بعيب، أو بغرورك فأنت طالق قبله ثلاثاً، أو قال: إن استحققت الفسخ بذلك، أو بالإعسار، أو إن استقر مهرك بالوطء، أو استحققت النفقة، أو القسم، أو طلب الطلاق في الإيلاء، فأنت طالق قبله ثلاثاً، ثم فسخت، أو وجدت الأسباب المثبتة لهذه الاستحقاقات-[فإنه ينفذ الفسخ، ويثبت الاستحقاق]. قال الرافعي: ولا نقول بإلغائها، وإبطالها؛ للتعليق الدائر، وإن [قلنا بإلغاء الطلاق المنجز للدور]. والفرق أن هذه فسوخ وحقوق تثبت عليه قهراً، ولا تتعلق بمباشرته، واختياره؛ [فلا يصلح تصرفه دافعاً لها، ومبطلاً لحق الغير، والطلاق يتعلق بمباشرته

واختياره]، فجاز أن يندفع بالتعليق الذي يتعلق باختياره. وأيضاً: فليس من ضرورة النكاح أن ينفذ فيه الطلاق، ومن ضرورة ثبوت الأحكام المذكورة ثبوت هذه الأحكام. الرابع: إذا قال: [إن] آليت عنك أو ظاهرت، فأنت طالق قبله ثلاثاً، فإذا آلى أو ظاهر؛ لم يقع الثلاث قبله، وإلَّا فتكون مبتوتة ويلغو الإيلاء والظهار، وهل يصح الإيلاء والظهار؟ فيه الوجهان: إن صحَّحنا الدَّور، لم يصحّا. وإن أوقعنا الطلاق المنجز، صحَّا، وكذا الحكم فيما لو قال: إن لاعنت عنك، أو قال للرجعية: إن راجعتك، فأنت طالق قبله طلقتين. وقال الغزالي [في غاية] الدور: الذي أراه أنه إذا قال: إن آليت عنك فأنت طالق قبله ثلاثاً، ثمَّ آلى، يصح الإيلاء، وكذا في اللعان. وإذا قلنا: بأن التعليق الدائر يمنع وقوع الطلاق. والفرق: أن الإيلاء يمين على الامتناع من الوطء، وذلك ينعقد في حق الأجنبية، واللعان يمين على نفي النسب، وقد يؤتى به في الموطوءة بشبهة، وبعد الطلقات الثلاث؛ لنفي النسب؛ فهما مستقلان منعقدان، وإن لم يكن نكاح. [لكن إذا أضيف الإيلاء إلى النكاح، ثبتت المطالبة بالفيئة، أو الطلاق، وإذا صادف اللعان النكاح، أوجب الفرقة، فهما كالشراء المستقل بالانعقاد. وإن لم يكن نكاح]، فكما إذا اشترى زوجته، يحكم بصحته وإفادة الملك، ولا يحكم بوقوع الطلاق، كذلك الإيلاء واللعان ينبغي أن ينعقدا انعقادَهما في حق الأجنبية. ثم إذا تعرض لوجوب الكفارة لو وطئ، سلطها ذلك على المطالبة بالفيئة أو الطلاق كما [تسلطها عنته] على الفسخ، وإذا انعقد اللعان، ترتبت الفرقة عليه

ترتبها [على] الشراء. الخامس: لو قال: إن وطئتك وطئاً مباحاً، فأنت طالق قبله، ثم وطئها، لم تطلق قبله. قال الإمام وغيره: [ولا يجيء] في هذه الصورة خلاف؛ لأن موضع الخلاف ما إذا انحسم بتصحيح اليمين الدائرة، باب الطلاق أو غيره من التصرفات الشرعية، ولم يوجد. السادس: إذا قال: إذا طلقتك طلقة أملك فيها الرجعة، فأنت طالق قبلها طلقتين [ثم طلقها وهي مدخول بها، ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع للدور. ومنهم من قال: لا دور؛ فيقع الثاني. ولو قال: إذا طلقتك فأنت طالق قبله طلقتين]، ثم قال لها: أنت طالق، فالذي يقتضيه إيراد ابن الصَّباغ-[على ما حكيته] عنه في مسألة الدور عند الكلام في القول الثالث-: أن الطلقة المنجزة تقع، وفي وقوع [الطلقتين الأخيرتين] القولان في قوله: أنت طالق أمس، وعليه من الكلام ما أبداه مجلي. والذي يقتضيه إيراد غيره: أن الطلقتين المعلقتين تقعان من غير خلاف قبل الطلقة المنجزة بطريق التبين، كما إذا قال: إذا قدم زيد، فأنت طالق قبل قدومه بشهر، فقدم بعد شهر. قلت: والذي يظهر لي في المسألة: أنه إذا قيل بوقوع الطلقتين المعلقتين قبل المنجزة بطريق التبين، ينبغي أن ينظر: إن كان بين التعليق، وبين الطلاق المنجز زمان لا يسع العدة، فالحكم كذلك. وإن كان بينهما زمان يسع انقضاء العدة، وقد وجدت فيه صورة الأقراء، أو وضع حمل تنقضي بمثله العدة، أو ثلاثة شهور، والزوجة صغيرة، أو آيسة [وتكون] هذه الصورة من صور الدور أيضاً.

وبيانه: أن [نوقع المنجزتين] وقوع المعلق عند التعليق، كما إذا قال: إن قدم زيد، فأنت طالق قبل قدومه، فإنا نتبين بقدومه وقوع الطلاق عند اللفظ؛ كما صرح به الرافعي، وهو مستمد مما إذا قال: "أنت طالق قبل موتي"، فإنها تطلق في الحال؛ كما حكاه القاضي الحسين في التعليق، وغيره مع ما في ذلك من بحث، سأذكره إن شاء الله تعالى في الباب. وإذا كان كذلك، فيلزم من وقوع الطلقتين من حين الطلاق ألا تقع الطلقة المنجزة؛ لكونها بعد انقضاء العدة، وإذا لم تقع، لم تقع الطلقتان، وقد دارت المسألة. ومثل هذا البحث يحسن في القول الثالث من مسألة الكتاب على رأي من أوقع طلقتين قبل المنجز، وجعل الاستحالة في إيقاع الثلاث، فألغى ما يحصل به الاستحالة، وهو الطلقة الزائدة، والله أعلم. قال: وإن قال: أي وقت لم أطلقك فيه فأنت طالق، فمضى زمان يمكنه أن يطلق [فيه] فلم يطلق، طلقت؛ لأن ذلك متناول لكل زمان، فإذا لم يطلق في الزمان الأول، فقد وجدت الصفة فرتب عليها الطلاق. وهكذا الحكم في الحروف السبعة التي يتعلق بها الطلاق إلَّا إن، وإذا على ما سيأتي فيما إذا قال: متى، أو متى ما، أو مهما، أو أي زمان، أو أي حين لم أطلقك فيه فأنت طالق، فمضى زمان يمكنه أن يطلق فيه فلم يطلق؛ طلقت. قال في الشامل: بلا خلاف، وتوجيهه ما ذكرناه. وفي الرافعي أن الحناطي أشار إلى طرد الخلاف الآتي في إن وإذا فيها، وفي كلما أيضاً. ولو قال: كلما لم أطلقك، فأنت طالق، فمضى زمان يمكن أن يطلق فيه ثلاث تطليقات- واحدة بعد واحدة- ولم يطلق، وهي مدخول بها، طلقت ثلاثاً: واحدة بعد واحدة. وهكذا الحكم فيما لو قال: كلما سكت عن طلاقك، فأنت طالق؛ لأن "ما" في

لفظة "كلما" ظرف زمان؛ أجمع على ذلك أهل العربية؛ على ما حكاه الإمام في الفروع آخر الطلاق، فكانت بمنزلة: أي زمان. وإن لم تكن مدخولاً بها، وقعت طلقة. [وإن جدد نكاحها، خرج وقوع الطلاق ثانياً وثالثاً على عود الحنث، وكذا فيما إذا كانت مدخولاً بها] وطلقها عقيب التعليق طلقة بعوض، ثم جدد نكاحها. فرع: لو قال: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها فصاحبتها طالق وله امرأتان، وسكت ساعة يمكنه أن يحلف فيها، فلم يحلف. قال صاحب التلخيص: طلقتا. وقال الشيخ أبو علي: القياس عندي: أنه لا يحكم بوقوع الطلاق على واحدة منهما إلى أن يتحقق اليأس عن الحلف؛ لأن الذي يقتضي الفور هو الذي ينطوي على ذكر وقت مع التعليق بالنفي؛ وهذا ليس فيه تعرض لذكر الأوقات أصلاً. قال الإمام في الفروع آخر الطلاق: ولست أدري لما قاله الأول وجهاً. قال: وإن قال: [إن] لم أطلقك فأنت طالق، فالمنصوص [أنها لا تطلق إلا في آخر العمر. وإن قال: إذا لم أطلقك فأنت طالق]: أنه إذا مضى زمان يمكنه أن يطلق فيه، فلم يطلق طلقت. وقيل: فيهما قولان، أي: بالنقل والتخريج. أحدهما: أنهما يقتضيان الفور؛ اعتباراً بما لو استعملها في تعليق الطلاق بذكر المال. والثاني: أنهما على التراخي؛ لأنه [حرف إذا] يستعمل في الشرط. فيقال: إذا رأيت كذا فافعل [كذا]، وإن- أيضاً- كذلك؛ فاستويا، وإن تقتضي التراخي فكذلك إذا، والصحيح تقرير النصين. والفرق: أن حرف إن يدل على مجرد الاشتراط ولا إشعار له بالزمان، وإذا

ظرف زمان نازل منزلة متى في الدلالة على الأوقات. ألا ترى أن القائل إذا قال: متى ألقاك؟ حسن [منك] أن تقول في الجواب: [إذا شئت]، كما يحسن أن تقول: متى شئت، ولا يحسن أن تقول: إن شئت؟ وإذا كان كذلك، فقوله: إن لم أطلقك معناه: إن فاتني طلاقك، [والفوات لا يتحقق إلا بالموت. وقوله: إذا لم أطلقك، معناه: أي وقت فاتني طلاقك] ومدة ذلك إذا مضى زمان يسع التطليق، ولم يطلق، فإذا مضى زمان هذا حاله، وجب أن يقع طلاقه. والحكم فيما إذا قال: ما لم أطلقك فأنت طالق حكم ما إذا قال: إذا لم أطلقك فأنت طالق، قاله الإمام في فروع الحلف [بالطلاق]. وحكم التعليق بنفي الضرب، والدخول، وسائر الأفعال حكم الطلاق. تنبيه: قول الشيخ: (لا تطلق [إلا] في آخر العمر) يريد به: عمر الزوج أو الزوجة؛ إذ به يتحقق فوات الطلاق، فإن ماتت الزوجة أولاً، حكمنا بوقوع الطلاق قبيل موتها. وإن مات الزوج، أولاً، حكمنا بوقوعه قبل موته. قال الإمام: ولم يصر أحد من الأصحاب إلى استناد الطلاق إلى وقت اللفظ إذا تحقق اليأس، وهو محتمل من جهة أن المذهب الأصح: أن المستطيع للحج إذا لم يحج، وقد تمادت عليه سنون في الاستطاعة، يحكم بأنه يموت عاصياً. ومن الأصحاب من يبسط المعصية على أول وقت الاستطاعة، فليتنبه الناظر لما نُبه له. ولم أذكر هذا ليكون وجهاً؛ فإن الأصحاب مجمعون على أن الطلاق لا يستند إلى وقت اللفظ، والزوج متسلط على الوطء إجماعاً. قلت: ويؤيد ما أبداه الإمام خلاف سيأتي فيما إذا حلف: ليشربن ماء [هذه] الإداوة غداً فمات في يومه، وقلنا بأنه يحنث، هل يحكم بالحنث في آخر الغد، أو بمجيء الغد فمن يقول: إنه يحنث بمجيء الغد، يلزمه أن يقول ها هنا بأنا

نتبين الحنث من حين اليمين؛ لأن العمر جعل ظرفاً للطلاق كما جعل اليوم ظرفاً للشرب. ومن يقول: إنه لا يحنث إلا بمضي اليوم موافق للمذهب هنا. وقال الغزالي: إنه لم يصر إليه؛ لأن قوله: إن لم أفعل كذا فأنت طالق يحتمل أن يريد به [إيقاع الطلاق في الحال، إن لم يتحقق المعلق في العمر. ويحتمل أن يريد به] عند خلو العمر عنه؛ فأخذنا باليقين. واعلم أن قول الإمام: "ولم أذكر هذا ليكون وجهاً" يعرفك أن اختياره أن الاحتمالات التي يذكرها تكون وجوهاً في المذهب، وإلا [لم يكن] لهذا الكلام معنى؛ وحينئذٍ فينبسط عذر الغزالي في عدة احتمالات الإمام وجوهاً. ثم هذا كله فيما إذا لم يطرأ على الزوج ما يمنع نفوذ طلاقه، فإن طرأ عليه جنون، لم يحكم بوقوع الطلاق عليه في الحال؛ لاحتمال أن يفيق ويطلق، فإن مات قبل [حصول] الإفاقة، تبينا أن اليأس حصل من وقت الجنون، وإن كان المعلق الطلاق، فيحكم بوقوعه قبل الجنون. قال الغزالي في البسيط: وفي الاستناد إلى ما قبل الجنون إشكال، وكان يجوز أن يقال: يقع قبل الموت أيضاً ولا يستند إذا لم [تحصل الإفاقة المتوقعة إلى ما قبل زمان التوقف؛ كما لم يستند إذا لم] يقع التطليق المتوقع إلى أول زمان التوقف. وأبدى الرافعي وجهاً حكاه في كتاب الظهار موافقاً لهذا الاحتمال مأخوذاً من وجه حكاه عن رواية الشيخ أبي علي [فيما إذا] قال: إن لم أتزوج عليك فأنت علي كظهر أمي ثم جُنَّ، واتصل جنونه بالموت، فإنا لا نحكم بصيرورته مظاهراً إلَّا قبيل الموت. وإن كان المعلق نفي الضرب، وسائر الأفعال، فالجنون لا يوجب اليأس وإن اتصل بالموت. قال في "الوسيط": لأن ضرب المجنون في تحقيق الصفة ونفيها كضرب

العاقل على الصحيح. فروع: لو قال: إذا لم أطلقك اليوم فأنت طالق، فإذا مضى اليوم، ولم يطلق، قال الرافعي: يحكم تفريعاً على الصحيح- بوقوع الطلاق قبيل غروب الشمس؛ لحصول اليأس حينئذ. قلت: وكأنه يشير إلى أنه لما قيد باليوم، صار اليوم كالعمر، فإذا تحقق اليأس من التطليق؛ [تبين وقوع] الطلاق قبيل الغروب؛ كما في الموت. فإن قيل: في مسألة الموت لا يمكن أن يحكم بوقوع الطلاق بعد وجود الشرط، وهو خلو العمر عن التطليق؛ فلأجل ذلك قدرنا الوقوع قبيل الموت، وها هنا يمكن أن يقع الطلاق بعد وجود الشرط، وهو انقضاء اليوم خالياً عن التطليق؛ لبقاء الزوجية؛ فلا ضرورة في الإيقاع قبيل الغروب. فالجواب: أن [الشرط ليس] مضي اليوم وانقضاء العمر، وإنما الشرط عدم التطليق في اليوم والعمر، [فإذا لم يبق في اليوم والعمر ما يسع التطليق، تحقق الشرط؛ فوقع الطلاق في ذلك الزمن الذي مضى من اليوم والعمر]؛ لأن الزمن المخصوص إنما يعتبر في الإنشاءات، أما في الوقوع فلا؛ لأنه حكم شرعي. ويجري مثل هذا [الحكم] فيما إذا قال: إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم على ما حكاه الشيخ أبو حامد، وخالفه فيه ابن سريج، وقال: لا يقع [الطلاق]؛ لأنه لا يتحقق ما جعله شرطاً للطلاق إلا بمضي اليوم، وإذا مضى اليوم لم يبق وقت للوقوع؛ فلا يقع. قال في "الوسيط": وهذا يرد على قوله: إن لم أطلقك فأنت طالق، فإنا نتبين عند موته وقوع الطلاق في آخر العمر، [والعمر] في هذا المعنى كاليوم؛ إذ فيه يتحقق الطلاق والصفة جميعاً؛ فلا فرق بين المسألتين.

قلت: [ويرجع أصل] مادة الخلاف إلى أن الطلاق إذا علق على فعل شيء في زمن، فهل الشرط في الحنث تحقق اليأس من فعل المحلوف عليه، أو لابد مع ذلك من مضي الزمن الذي قيد الفعل به؟ وهو جارٍ في مسائل: منها: إذا حلف ليشربن ماء هذه الإداوة غداً، فتلف في يومه، فهل يحنث بمجيء الغد، أو لا يحنث حتى يمضي الغد؟ ومنها: ما إذا قال لعبده: إن لم أبعك اليوم فزوجتي طالق، ثم أعتقه، وقع عليها الطلاق، لكن متى يقع؟ فيه وجهان: أحدهما: عقيب الإعتاق. والثاني: [أنها] لا تطلق حتى تغيب الشمس؛ كذا صرح به المتولي، والقاضي الحسين، ولفظه: أنها تطلق على الوجه الثاني بعد مضي المدة. ولو قال: إن تركت طلاقك، فأنت طالق، فإذا مضى زمان يمكنه أن يطلق فيه، فلم يطلق- طلقت، وإن طلقها في الحال، ثم سكت، لا تقع طلقة أخرى. ولو قال: إن سكت عن طلاقك، فأنت طالق، فلم يطلقها في الحال- طلقت، وإن طلقها في الحال، ثم سكت طلقت أخرى بالسكوت، ولا تطلق بعد ذلك؛ لانحلال اليمين. فرع: على قولنا: إنَّ إذا تقتضي الفورية إذا قال: إذا لم أطلقك؛ فأنت طالق، وقال: أردت بذلك: إن فاتني طلاقك، فأنت طالق، فهل يقبل [منه] أم لا؟ ذكر صاحب التقريب فيه وجهين، أصحهما في الرافعي: القبول. قال الإمام: وهذا الذي قاله صاحب التقريب حسن ملتحق بالمذهب. قال: وإن قال: أنت طالق إلى شهر، لم تطلق إلا بعد شهر؛ هذا نصه في البويطي. ووجهه: ما روي عن عبد الله بن عباس أنه قال في الرجل يقول لامرأته: أنت طالق إلى سنة: هي امرأته إلى سنة، ولا مخالف له من الصحابة.

فإن قيل: الزوج أوقع الطلاق بقوله: أنت طالق، وقوله: إلى سنة تأقيت له، والطلاق لا يتأقت؛ فيبطل التأقيت، ويبقى الإيقاع. قلنا: اللفظ يحتمل ذلك، ويحتمل أن يكون تأقيتاً للإيقاع لا للرفع، ومثله ورد في اللسان في قولهم: فلان خرج إلى شهر، أي: بعد شهر، فلا نوقع الطلاق في الحال بالشك. نعم، لو قال: أردت به التأقيت في الوقوع بالشهر؛ وقع في الحال وبانت. ولو قال: أنت طالق إلى رمضان، أو إلى حين أو دهر أو زمان أو حقب- طلقت عند دخول رمضان بأول جزء منه، وبعد مضي لحظة فيما عداه؛ لأن التسمية صدقت. وفي الرافعي: أن البوشنجي أبدى في المسألة الأولى وجهاً احتمالاً أه يقع في الحال. قال: وإن قال: أنت طالق في شهر رمضان، طلقت في أول جزء منه، وهو عقيب غروب شمس اليوم الأخير من شعبان؛ لأن الشهر اسم يتناول من حين طلوع الهلال وإلى آخر جزء من اليوم الأخير من أيامه، وقد جعله ظرفاً للطلاق [فإذا وجد وقع الطلاق بأول جزء منه، كما لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار]، فدخلت جزءاً منها. وحكى الحناطي قولاً: أنها إنما تطلق في [آخر] الشهر. والمشهور نسبة هذا القول إلى أبي ثور. وهكذا الحكم فيما لو قال: أنت طالق في يوم كذا؛ فإنها تطلق عند طلوع فجر ذلك اليوم على الأصح. وفي "التتمة" ما يدل على أنها تطلق في الحال، إلا أن يقول: أردت به تعليق الطلاق بمجيء ذلك الشهر، كما إذا قال: أنت طالق في الدار، وفي بلد كذا، فإنه يقع الطلاق في الحال، وإذا قال: أردت به حصولها في ذلك الموضع، قبل. قال: وإن قال: أردتُ به الجزء الأخير؛ لم يُقبل في الحكم، وكذا لو قال: في وسط الشهر، أو [في] النهار دون الليل؛ لأنه يؤخر الطلاق عن الوقت الذي يقتضيه.

نعم: يدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن اللفظ يحتمل ما قاله. وفي كتاب ابن كج وغيره حكاية وجه: أنه يقبل في الحكم. ولو قال: أنت طالق في غرة شهر رمضان، طلقت في أول جزء منه. فلو قال: أردت الثاني، أو الثالث منه، فعلى ما ذكرناه في الشهر؛ لأن اسم الغرة يقع على الثلاثة. أما لو قال: أردت به النصف، لم يدن. فرع: لو قال: أنت طالق في شهر [قبل ما بعده] رمضان، فقد قيل: تطلق في رجب. وقيل: في شعبان، واختاره القاضي. وقيل: في رمضان؛ حكاه في "التتمة". وقيل: في شوال، وهو الأظهر عند ابن الصباغ؛ لأن ما بعد قبل الشهر هو الشهر نفسه، وما قبله رمضان شوال. ولو قال: أنت طالق قبل ما بعده رمضان، ففي فتاوى القاضي: أنه إن أراد الشهر، طلقت في آخر جزء من رجب، وإن أراد اليوم بليلته، ففي آخر [جزء من] اليوم التاسع والعشرين [من شعبان]، وإن أراد [مجرد] اليوم، فقبل الفجر من اليوم الثلاثين من شعبان. قلت: وما قاله من وقوع الطلاق في آخر جزء من رجب، أو من التاسع والعشرين من شعبان، أو قبل الفجر من اليوم الثلاثين من شعبان- فيه نظر؛ لأنا قد حكينا عنه فيما تقدم: أنه إذا قال: أنت طالق قبل موتي: أن الطلاق يقع في الحال، ومقتضاه هنا: أنه يقع عند التلفظ على كل حال، كما إذا قال: قبل موتي، أو يكون ما ذكر، ثمَّ نقل المذهب، وهذا اختيار له. فينبغي أن يجيء مثله- أيضاً- هناك. وأما الفرع الذي قبل هذا، فلا يرد [عليه] ما قلناه؛ لأنه قيد الوقوع في الشهر بقوله: أنت طالق في شهر وهو وزان: قبل قدوم زيد بشهر.

ولو قال: أنت طالق بعد ما قبله رمضان. قال القاضي: إن أراد الشهود فيقع عند استهلال ذي الحجة، وإن أراد الأيام ففي [اليوم] الثاني من شوال. قال: وإن قال: أنت طالق في أول آخر رمضان، فقد قيل: تطلق في أول [ليلة] السادس عشر [من رمضان]، وهو قول ابن سريج؛ لأن الشهر نصفان: أول، وآخر، [و] هذه أول النصف الأخير. وقيل: في أول اليوم الأخير من الشهر؛ وهو ما ذهب إليه أكثر الأصحاب على ما حكاه ابن الصباغ وغيره؛ لأن آخر الشهر هو اليوم الأخير؛ فوجب أن تطلق في أوله. وحكى ابن كج عن أبي بكر الصيمري [أو غيره]: أنها تطلق في أول اليوم السادس عشر؛ لأنه أول يوم من النصف الأخير. والوجهان الأولان يجريان فيما إذا قال: أنت طالق في آخر الشهر، لكن الثاني منهما منقول عن التهذيب، وإيراده يقتضي ترجيحه، وهو ما جزم به في التهذيب سواء كان الشهر ناقصاً أو تامّاً؛ لأنه متى صدق أن اليوم الأخير آخر الشهر، وقع الطلاق في أول جزء منه؛ لما قررناه في رمضان. وفي المسألة وجه آخر: أنها تطلق مع آخر جزء من الشهر. وعلى هذا القياس لو قال: أنت طالق في آخر طهر، تطلق على الوجه الأول أول النصف الثاني منه. وعلى الوجه الثالث: في آخر جزء منه. ولو قال: أنت طالق [آخر أول] رمضان، حكى الإمام عن العراقيين، [وغيرهم في المسألة] ثلاثة أوجه: أحدها: أنها تطلق مع آخر جزء من [الخامس عشر، وهو ما قاله ابن سريج، على ما صرح به غيره. والثاني: أنه يقع مع آخر جزء من] اليوم الأول.

قال الرافعي: وهو الذي قال به أكثرهم. والثالث: أنه يقع في آخر جزء من الليلة الأولى [من الشهر]، وهو ما حكاه في "التتمة" بدلاً عن الوجه الثاني. ووجهه الإمام بأن هذا أقرب زمان يضاف إليه الأخير إلى الأول. ولو قال: أنت طالق آخر أول آخر رمضان. قال الرافعي: من جعل آخر الشهر اليوم الأخير قال: يقع الطلاق عند غروب الشمس في اليوم الأخير؛ لأن ذلك اليوم هو آخر الشهر، ووله طلوع الفجر، وآخره غروب الشمس. ومن حمل الأخير على النصف الثاني، فأوله ليلة السادس عشر فيقع الطلاق في آخر جزء من هذه الليلة، وكذا قاله القاضي الحسين في التعليق، ثم قال: وعلى قول الأصحاب، يقع قبيلا لغروب من اليوم السادس عشر. ولو قال: أنت طالق في أول آخر أول رمضان، فقد قيل: تطلق بطلوع فجر اليوم الخامس عشر؛ لأن آخر أوله عند غروب الشمس من اليوم الخامس عشر؛ فكان أوله طلوع فجره، هكذا قاله الشيخ في المهذب، وهذا ظاهر في أن الذي قال به هو الذي قال بأن آخر [اليوم] الأول آخر الخامس عشر. وقال الرافعي، والقاضي الحسين في التعليق: إن جعلنا الأول النصف الأول، فآخره غروب شمس اليوم الخامس عشر، وأول هذا الأخير استهلاله؛ فيقع عند الاستهلال. وهذا يظهر أنه مخالف لما نقلاه فيما إذا قال: أنت طالق [في] آخر أول آخر الشهر، فإنهما ذكرا: أن من حمل الأخير على النصف الثاني فأوله السادس عشر؛ فيقع الطلاق في آخر جزء من ليلته. ومقتضى ما ذكراه ها هنا: أنه لا يقع إلا في آخر جزء من الشهر؛ لأنه آخر النصف الأخير؛ فليتأمل، [والله أعلم].

وقيل: تطلق بطلوع فجر أول يوم من الشهر. قال ابن يونس: قال بعضهم: هذا غلط، بل ينبغي أن تطلق [بطلوع فجر أول يوم من الشهر] في أول الليلة، التي رُئي فيها الهلال. قلت: والذي يظهر لي: أنه ليس بغلط، بل هو مقتضى التفريع على الوجه الذي ذهب إليه أكثر الأصحاب في أن آخر أول الشهر هو آخر جزء من اليوم الأول؛ فيكون أوله عند طلوع فجره. وأما كونها تطلق في أول ليلة رُئي فيها الهلال، فذلك صحيح إذا قلنا: إن آخر الأول آخر جزء من الليلة الأولى من الشهر، وحينئذٍ يكون مجموع ما قيل في المسألة ثلاثة أوجه. ولو قال: أنت طالق في سلخ رمضان، ففيه أربعة أوجه: أحدها: أنه يقع في آخر جزء من الشهر، وهذا ما أجاب به الشيخ أبو حامد، وهو المذكور في المهذب والشامل. والثاني- وهو المذكور في "التهذيب" و"التتمة"-: أنه يقع في أول اليوم الأخير من الشهر. والثالث- عن رواية صاحب التقريب-: أنه يقع بمضي أول جزء من الشهر، وهو أبعدها. وقال الإمام: اسم السلخ يقع على الثلاثة الأخيرة من الشهر، كما يقع [اسم]

الغرة على الثلاثة الأول [من الشهر]، فيحتمل أن يقع [في] أول جزء من الأيام الثلاثة؛ وهذا ما ذكره القاضي الحسين في التعليق مصدراً به كلامه، وقال: إنه أصح المذاهب. ولو قال: أنت طالق عند انسلاخ [شهر] رمضان، قال الإمام: لم يتجه إلا القطع بالوقوع، مع آخر جزء من الشهر. ولو قال: (أنت طالق عند انتصاف الشهر، ففي "التتمة": أنه يقع عند غروب الشمس من اليوم الخامس عشر، وإن كان الشهر ناقصاً؛ لأنه المفهوم من إطلاق النصف. قال الرافعي: ولك أن تقول: يحتمل أن يقع في أول اليوم الخامس عشر؛ لأنه يُسمَّى النصف، [والمنتصف]؛ فيتعلق [الإطلاق] بأوله. ويوضحه: أن ليلة [البراءة] تسمى: ليلة النصف من شعبان. ولو قال: أنت طالق نصف النصف الأول من رمضان، وقع الطلاق عند طلوع فجر اليوم الثامن؛ لأن نصف النصف سبع ليالٍ ونصف، وسبعة أيام ونصف، والليل سابق على النهار، فيقابل نصف ليلة بنصف يوم؛ فيجعل ثماني ليال، وسبعة أيام نصفاً، وسبع ليالٍ وثمانية أيام نصفاً. ولو قال: أنت طالق [نصف يوم كذا، طلقت عند الزوال]. فرع: لو قال: أنت طالق بين الليل، والنهار، طلقت بعد الغروب، أو قبل طلوع الفجر، [على ما] حكاه القاضي الحسين في كتاب العدد عند الكلام فيما إذا طلق الرجعية قبل الدخول، وعلله بأن بين الليل، والنهار جزءاً ليس منهما لا من حيث الإشارة، لكن من حيث الحكم. وحكى الرافعي عند الكلام فيما إذا قال: إن ولدت ولداً، فأنت طالق رواية عن الإمام؛ حكاية عن القفال: أن الطلاق يقع لا في جزء من النهار، ولا في جزء من الليل.

قال الإمام: وهذا القول محال، لكن يقع الطلاق في آخر جزء من النهار. وذكر الشيخ أبو علي: أنها تطلق إذا جاء أول الليل، فتحصّل لنا من مجموع كلامهم ثلاثة مذاهب، والله أعلم. قال: وإن قال: إذا مضت سنة فأنت طالق، اعتبرت سنة بالأهلة، أي: إذا انطبق التعليق على أول جزء من الشهر؛ فيعتبر مضي اثني عشر شهراً بالأهلة؛ لأنها المعهودة في الشرع، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. قال: فإن كان في أثناء الشهر، اعتبر شهراً بالعدد، أي ثلاثين يوماً وإن كان الشهر الذي علق فيه ناقصاً، ويكمل من الشهر الأخير، وإنما اعتبرنا ذلك؛ للضرورة، ويعتبر الباقي بالأهلة؛ لما سبق. قال في الشامل: ولا فرق بين أن يكون ما مضى من الشهر- يعني: الذي علق فيه الطلاق- قليلاً أو كثيراً، إلَّا أن يكون جزءاً يسيراً لا يمنع من وقوع اسم الشهر عليه؛ فلا يمنع احتسابه شهراً. وقال الإمام: لا يتصور ألا ينكسر الشهر الأول إلّا بأن يعلق الطلاق، مثل أن يقول: إذا مضت سنة من أول رمضان، فأنت طالق؛ فيتأتى [اعتبار الأشهر]. أما إذا أنشأ وقال: إذا مضت سنة، فأنت طالق، فقد تعسر عدم انكسار الشهر الأول، فإن قوله يقع في شهر. وفي المسألة وجه عن بعض أصحابنا: أنه متى انكسر الشهر [الأول]، انكسر ما بعده؛ فتكون الشهور كلها عددية. قال الإمام: وهو مطرد في العدد، والآجال الشرعية، والأيمان. فروع: [أحدها]: لو شك فيما كان قد بقي من شهر التعليق بعدما انقضى أحد عشر

شهراً؛ لم يقع الطلاق إلا باليقين. وذكر الحناطي وجهين في حل الوطء في حالة التردد. ولو قال: أردت سنة بالعدد، وهي ثلاثمائة وستون يوماً، أو سنة شمسية، وهي ثلاثمائة [وخمسة] وستون يوماً- لم يقبل في الحكم؛ لأنه يدعي ما يتأخر به الطلاق عن الوقت الذي يقتضيه؛ لأن السنة الهلالية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً، وخمس يوم، وسدس يوم. نعم: يدين؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. وحكى الحناطي وجهاً: أنه يقبل منه في الظاهر، وهو الذي أورده القاضي ابن كج، والأول هو المذكور في المهذب بتوجيهه. قال مجلي: ولم يتبين لي وجه زيادة الخمس والسدس، ولا رأيته لغيره من الأصحاب، [ولقد] رأيت) في كتاب وقع لي منسوباً إلى الفرعاني نعته بأصول الحركات السماوية تحرير شهور العرب: شهر تام، وشهر ناقص؛ تكون السنة ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوماً، ولكنها تزيد في كل ثلاثين سنة [أحد عشر يوماً، فإذا قسطت هذه الزيادة على السنين- خص كل سنة] خمس وسدس يوم، ثم قال: وهذا من الحساب المصحح باجتماع الشمس والقمر، وأما برؤية الأهلة؛ فإنه يختلف بزيادته ونقصانه، ويمكن أن تتوالى شهور تامة، وشهور ناقصة. قال مجلي، وهذا يناقض ما حكاه في المهذب. وفي الجيلي: أن الصحيح أن السنة الهلالية ثلاثمائة [و] خمسة وخمسون يوماً. ولو قال: إذا مضت السنة فأنت طالق، [طلقت] إذا انقضت بقية سنة التاريخ، وهو انسلاخ ذي الحجة، قَلَّت المدة أو كثرت؛ لأن التعريف بالألف واللام يقتضي ذلك، فلو قال: [أردت] سنة كاملة، لم يقبل في الحكم، ويدين. وحكم الشهر حكم السنة. الفرع الثاني: لو قال: إذا مضي الشهر فأنت طالق، فوجهان: أصحهما: أنه يحمل على [مضي] شهور تلك السنة التي هو فيها؛ لقوله تعالى:

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: 36]. والثاني: [أنه] إذا مضى ثلاثة أشهر طلقت، [كذا] حكاه القاضي الحسين. وهذا الخلاف يشابه ما حكاه الرافعي في الفروع آخر الطلاق، فيما إذا قال: إن رأيت الدم فأنت طالق، فالظاهر أنه يحمل على دم الحيض. وقيل: يحمل على كل دم. الفرع الثالث: لو قال: إذا مضى يوم فأنت طالق، وكان في الليل، طلقت بغروب شمس اليوم الذي يليه. وإن كان في النهار فحتى يأتي مثل ذلك الوقت [الذي هو فيه] من اليوم الذي يليه. قال: وإن قال: أنت طالق اليوم إذا جاء غد، لم تطلق- أي: لا في اليوم، ولا في الغد- وإليه ذهب ابن سريج، وصاحب التقريب؛ لأنه علق وقوع الطلاق في اليوم [على مجيء] الغد؛ فلا يقع الطلاق قبل مجيء الغد؛ لعدم الشرط، ثم إذا جاء الغد، فقد مضى اليوم، ولا يمكن أن يقع [الطلاق] في الزمان الماضي. قال الإمام: [ولا يبعد أن] يقال: يقع الطلاق إذا جاء الغد، مستنداً إلى اليوم؛ كما لو قال: إذا قدم زيد فأنت طالق قبل قدومه [بيوم]، وفرق المحاملي في المجموع بينهما بأنه لم يجعل قدوم زيد شرطاً في وقوع الطلاق قبله حتى يقع [الطلاق] قبل الشرط، إنما أخبر أنه إذا وجد القدوم طلقت قبل ذلك، فمثاله في مسألتنا أن يقول: أنت طالق اليوم إذا جاء غد، وأنت من أهل الطلاق؛ فلا يخرج ذلك مخرج الشرط، ويطلق اليوم. وقال القاضي الحسين في التعليق: ذكر العراقيون من أصحابنا في هذه المسألة وجهين، وعندي أن الطلاق يقع، ويلغو [قوله: إذا جاء الغد، وكذا إذا قال: أنت

طالق في هذا اليوم إذا جاء الغد، وإنما قلنا: يقع الطلاق] في اليوم؛ تغليباً للإشارة على العبارة، وهذا كما لو قال لامرأته الحائض: أنت طالق في هذا الوقت للسنة- طلقت في ظاهر المذهب في الحال؛ تغليباً للإشارة. قلت: ويمكن أن تكون مادة هذا مادة وقوع الطلاق المعلق بالمستحيل. فروع: لو قال: أنت طالق اليوم غداً، طلقت في الحال، ولا تطلق في الغد، إلّا أن يقول: أردت طلقة في اليوم، وطلقة في الغد، [فتطلق] كذلك إذا لم تبن بالأولى. وفي الذخائر: أن من [أصحابنا من] قال: تطلق في الغد طلقة أخرى. فلو قال: أردت نصف طلقة اليوم، ونصف طلقة غداً [طلقت طلقتين]. ولو قال: [أردت] نصف طلقة اليوم، والنصف الباقي غداً، ففيه وجهان: أحدهما- ما حكاه في "التتمة"-: أنه لا يقع إلا طلقة واحدة في الحال. والثاني: أنه يقع طلقة أخرى في الثاني. ولو قال: أنت طالق اليوم أو غداً، فوجهان: أصحهما في الرافعي: الوقوع في الغد. ولو قال: أنت طالق غداً اليوم، فوجهان: [أصحهما] عند العبادي، وهو اختيار القاضي أبي حامد: أنه لا يقع في الحال [شيء]، وتقع طلقة في الغد. والثاني: أنه يقع في الحال، وهو المذكور في التهذيب. ولو قال: أنت طالق اليوم، وغداً، وبعد غدٍ، [وقعت طلقة] في الحال، ولا يقع بعدها شيء؛ لأن المطلقة في وقت، مطلقة فيما بعده. ويقرب من هذا [الخلاف] ما حكاه العبادي في الزيادات، وهو [ما] إذا قال: أنت طالق أول النهار وآخره؛ فإنها تطلق [طلقة؛ بخلاف ما لو قال: آخر النهار

وأوله؛ فإنها تطلق] طلقتين، ووجهه ما قلناه. ولو قال: أنت طالق اليوم [و] في غدٍ، وفيما بعد غدٍ، فيقع عليها في الحال طلقة، وفي الغد طلقة، وفي اليوم الثالث طلقة؛ قاله في "التتمة". قال: وإن قال: أنت طالق قبل موتي، أو قبل قدوم زيد [بشهر]، فمات أو قدم [زيد] بعد شهر- طلقت قبل ذلك بشهر؛ لوجود الصفة، وهذا ما يوجد في أكثر الكتب. ولو مات أو قدم زيد قبل شهر، لم تطلق. وألحق به في الشامل ما إذا قدم بعد شهر ليس إلّا، وكذلك المحاملي في المجموع والبندنيجي في [مذهبه، وصوروا] المسألة الأولى بأن مضى مع الشهر لحظة بقدر زمان الوقوع، وهو المذكور في المهذب في مسألة الموت، و [إن] لم يذكره في مسألة القدوم، ولا فرق بينهما. وفي مسألة القدوم قبل الشهر وجه حكاه في المهذب: أن ذلك بمنزلة قوله: أنت طالق أمس. والصحيح المعروف: أنه لا يقع وجهاً واحداً. والفرق أن القدوم يمكن أن يتأخر عن شهر، ويمكن أن يتقدم، والطلاق في الحقيقة تعلق بزمان [يكون] بينه وبين القدوم شهر، فوجب اعتبار الصفة، وهناك لا تعليق، وإيقاع الطلاق في الزمان الماضي محال؛ فيلغو وحكم التعليق بالضرب والدخول وغيرهما من الأفعال قبل الشهر- حكم التعليق بالقدوم. وإذا وجد الضرب قبل الشهر، وقلنا بالصحيح [فتنحل اليمين] حتى لو ضربها بعد ذلك، وقد مضى شهر فأكثر؛ لا يقع الطلاق. وأبدى الإمام فيه احتمالاً من مسألة [فعل] المحلوف عليه في حال البينونة، كما ذهب إليه الإصطخري [فيها].

فروع: لو قال: أنت طالق قبل موتي طلقت في الحال؛ لأنه قبل موته، كذا قاله القاضي في التعليق والمتولي، [والقاضي أبو الطيب في آخر تعليق]. وفي الشامل نسبته إلى ابن الحَدّاد، وهذا بخلاف ما لو قال: [قَبِيل] موتي أو قُبَيْل موتي بضم القاف- فإنها لا تطلق إلّا في آخر العمر؛ على ما حكاه الرافعي، [والقاضي أبو الطيب]، ولو قال: بعد قبل موتي، يقع في الحال. قال الرافعي: ويحتمل ألا يقع؛ لأن جميع عمره قبل الموت. ولو قال: أنت طالق قبل أن أضربك، أو: تدخلي الدار، أو ما لا يتحقق وجوده، قال إسماعيل البوشنجي: هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يقع في الحال، كما لو قال: قبل موتي. وأصحهما: أنه لا يقع حتى يوجد ذلك الفعل؛ فحينئذ يقع مستنداً إلى أول اللفظ؛ وهذا لأن قولنا: هذا قبل هذا يستدعي وجودهما، وربما لا يكون لذلك الفعل وجود. ولو قال: أنت طالق قبل أن أطلقك، فعلى وجه يقع الطلاق في الحال، كما لو قال: قبل موتي. وعلى آخر لا يقع؛ لأنه لا حالة بعد هذا الحلف تكون هي قبل الطلاق؛ هكذا حكاه الرافعي في الفروع، وفي الشامل ذكره في مسألة الدور، وقال: إن الكلام فيه كالكلام في مسألة الدور. ومقتضاه مجيء الأوجه الثلاثة، وأنه لا يقع شيء في الحال، وهو مخالف لأحد الوجهين السابقين فيجتمع فيه أربعة أوجه، ويجيء فيه ما أبديناه من التفصيل من قبل. ولو قال: أنت طالق قبل يوم الأضحى، وأراد: الآتي، فلا تطلق حتى ينقضي. وإن أراد الذي مضى، فيقع في الحال. ولو قال: أنت طالق قبل موت فلان، وفلان بشهر، فإن مات أحدهما قبل شهر لم يقع. وإن مات أحدهما بعد مضي شهر فأكثر، فوجهان:

أحدهما: أنه يقع الطلاق قبل موته بشهر. والثاني: لا يقع أصلاً؛ لأن الصفة لا تتحقق؛ لأنه إذا وقع قبل موت الأول بشهر، يكون قبل موت الآخر بأكثر من شهر، وهذا الثاني خرجه البوشنجي، [والله أعلم]. قال: وإن قال: (أنت طالق أمس) طلقت في الحال؛ لأنه وصف الطلاق بما لا يتصف به، فلغت الصفة، ووقع الطلاق، كما لو قال لمن لا سنة لها، ولا بدعة: أنت طالق للسنة. ولا فرق في وقوع الطلاق في الحال بين أن يقول: أردت إيقاع الطلاق أمس، [وأن حكمه يستمر إلى الآن، أو يقول: أردت إيقاعه الآن، وأن حكمه ينعطف إلى أمس،] أو يقول: لم أرد شيئاً. ولا [فرق] بين أن تكون زوجة له بالأمس، أو لا تكون. وحكي عن رواية الرّبيع قول أن الطلاق لا يقع. واختلف نقل المصنفين في محله: ففي الشامل: أنه فيما إذا قال: أردت إيقاعه بالأمس، أو لم تكن لي نية. وفي الرافعي، والتهذيب أنه فيما إذا أراد إيقاعه بالأمس، ولم يرد إيقاعه في الحال، وهذه صورة مسألة الكتاب. وفي النهاية وتعليق القاضي الحسين و"التتمة": أنه فيما إذا أراد الإيقاع الآن، وانعطاف حكمه إلى أمس، وهو ما دل عليه كلام البندنيجي. أما إذا أراد الإيقاع [بالأمس]، ففي النهاية حكاية وجهين عن رواية شيخه، وادعى اشتهارهما. والأقيس منهما في "الوسيط": أنه لا يقع. وأظهرهما في الرافعي: أنه يقع، وذكر أنه الذي ذكره في التهذيب. وفي ابن يونس أنه يقع في هذه الصورة بلا خلاف. وفي الجيلي: أن الخلاف في أصل المسألة يبنى على أن الطلاق يقع بالقول معه أو

عقيبه؟ وفيه خلاف بين الأصحاب: فمنهم من قال: يقع معه؛ فعلى هذا يقع الطلاق هنا، ولا تأثير لقوله: أمس. ومنهم من قال: يقع عقيبه؛ لأن تعليق الطلاق [به]، كتعليق الملك بالبيع، فكما يقع الملك عقيب البيع كذلك الطلاق؛ فعلى هذا يكون لقوله: أمس أثر. ويجري مثل هذا الخلاف فيما إذا نوى التعليق متصلاً باللفظ، أو نية [الكناية] متصلة باللفظ، وجميع الأحكام المشابهة لهذه المسألة؛ هذا آخر كلامه. وفي كلام الغزالي في كتاب الظهار عند قوله: أعتق عبدك عني دليل عليه. وحكمه فيما إذا مات، أو جن، أو خرس، ولم تفهم إشارته حكم ما إذا قال: لم أرد شيئاً. وحكى الحناطي وجهاً آخر: أنا لا نحكم بوقوع الطلاق إذا لم نقف على تفسير. ولو قال: لم أرد بهذا الكلام إنشاءاً في الحال، ولا فيما مضى، وإنما أردت أني طلقتها أمس في هذا النكاح، وهي في عدة الرجعية، أو بائن [الآن] فيصدق بيمينه، وإن كذبته حتى تسقط نفقتها إن كان الطلاق بائناً، ويتنصف الصداق إن كان الطلاق قبل الدخول؛ على ما حكاه في "التتمة" من غير تفصيل. وقال القاضي الحسين: إن كان الزوج غائباً عنها، وعن البلد، أو كان مفارقاً لها عن دارها، ولا يدخل عليها- كان القول قوله في إسقاط النفقة مع يمينه؛ لأن الظاهر معه. وإن كان معها في دارها، فالقول قولها؛ لأن الظاهر معها. وهكذا الحكم عنده فيما لو ادعى الزوج أنه طلق امرأته من سنة، وقالت: إنما طلقني اليوم. وفي الإشراف: أنه لا يقبل قوله في إسقاط النفقة، وكذا في إسقاط الشطر؛ إن كان قد دخل بها قبل الإقرار.

وأما العدة، فتكون من الوقت الذي ذكره إن صدقته، وإن كذبته فالعدة من وقت الإقرار؛ [قاله ابن الصبّاغ والبغوي وغيرهما ها هنا، وأشار إليه المتولي في كتاب الفرائض في طلاق المريض]. وفي البندنيجي وغيره حكاية عن الشافعي في الأم في باب طلاق المريض فيما إذا أقر في المرض: انه طلق في الصحة: أن إقراره يثبت من يوم إيقاع الطلاق، والعدة من يوم إقراره به، ولا ترثه قولاً واحداً؛ لأنه طلاق وقع في حال الصحة. فإن أجري هذا النص على ظاهره، وجب أن تكون العدة في هذه المسألة- أيضاً- من وقت الإقرار. وإن حمل على حالة التكذيب، لم يكن فرق بين الموضعين. وفي النهاية في أصل المسألة عن القاضي الحسين: أنها إن صدقته قبل، ولا يقع سوى طلقة، وإلّا فالقول قولها في إنشاء الطلاق، وحينئذ فيحكم عليه بطلقتين: طلقة بالإقرار، وطلقة بالإنشاء، وهو بعيد. ولو قال: أردت أني طلقتها أمس، وبانت مني، ثم نكحتها أو طلقها غيري ثم نكحتها، فإن صدقته قُبل. وإن أقام على ذلك بينة، وصدقته في إرادته، قبل أيضاً. وإن كذبته، وقالت: لم ترد ذلك، وإنما أردت إنشاء الطلاق الآن، فيحلف [الرجل]، هكذا حكاه في الشامل، ويخالف ما إذا قال: طلقتها في هذا النكاح؛ حيث يصدق، ولا يطالب بالبينة؛ لأنه [ثَمَّ] معترف بطلاق في هذا النكاح، وها هنا يريد صرف الطلاق عن هذا النكاح. فروع: لو قال: أنت طالق الشهر الماضي، أو في الشهر الماضي، فالحكم كما لو قال: أمس.

ولو قال: للشهر الماضي، ففي المجرّد للقاضي أبي الطيب: أنا نحكم بوقوع الطلاق في الحال قولاً واحداً كما لو قال: [أنت طالق] لرضا فلان). قال الرافعي: لكن الكلام في مثل هذا يستعمل للتأريخ، واللفظ محتمل للمعاني المذكورة فيما إذا قال: في الشهر الماضي. ولو قال: أنت طالق غد أمس، أو أمس غد على الإضافة- طلقت في الحال فإنه غد أمس، [وأمس غد]. ولو قال: غداً أمس، أو أمس غداً لا على الإضافة- طلقت للفجر من الغد، ويلغو ذكر الأمس، هكذا أطلقه في التهذيب. ونقل الإمام مثله فيما لو قال: أنت طالق أمس غداً وأبدى فيه توقفاً؛ لأن قوله: أنت طالق أمس، كقوله: أنت طالق الشهر الماضي، ولو أطلق هذا اللفظ لوقع في الحال، فذكر الغد معه لا يغير هذا المعنى، ولا يقتضي تأخير الطلاق. قال: وإن قال: (إن طرت، أو صعدت السماء فأنت طالق)، لم تطلق؛ وهذا ظاهر ما نقله المزني؛ لأنه لم ينجزه حتى يتنجز، [ولكن علقه] ولم توجد الصفة المعلق عليها، وقد يكون الغرض من التعليق بغير الممكن أن يمتنع وقوع الطلاق؛ حيث لا توجد الصفة، كما قال تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. وحكم التعليق بالمستحيل عادة: كحمل الجبل العظيم، وما جانسه حكم التعليق بالصعود. قال: وقيل فيه قول آخر: أنها تطلق؛ لأن التعليق إنما يثبت إذا كان المعلق عليه مما يرتقب حصوله، فأما إذا كان غير ممكن- بطل التعليق، وبقي التطليق من غير تعليق، كما لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق للسنة، وهذا خرجه ابن خيران في المسألة المذكورة في الكتاب قبل هذه المسألة، وخرج ثَمَّ من هذه- أيضاً- قولاً: أنها لا تطلق، وجعلهما على قولين، والصحيح الأول.

والفرق: أن الطيران، وصعود السماء لا يستحيل في قدرة الله- تعالى- وقد جعل الله لجعفر بن أبي طالب جناحين يطير بهما، وإيقاع الطلاق في زمان ماضٍ مستحيل. ولأن إيقاع الطلاق في الزمان الماضي يتضمن وقوعه في الحال، وهو غير محال، فأعملناه فيه، والتعليق بالصفة لا يتضمن وقوع الطلاق [قبل الصفة]؛ فافترقا. وحكم المستحيل عقلاً كإحياء الموتى- حكم التعليق بالمستحيل عادة عند الإمام. وفي النهاية حكاية وجه ثالث: [أنه يقع] عند التعليق بإحياء الموتى، ولا يقع عند التعليق بالصعود والطيران. وفي "التتمة": أن التعليق بالمستحيل عقلاً: كالجمع بين السواد والبياض، وإدخال الجمل في سم الخياط يلغى، ويقع الطلاق في الحال على الظاهر من المذهب، وألحق به المستحيل شرعاً، كما لو قال: إن نسخ وجوب الصلوات الخمس، أو صوم [شهر] رمضان فأنت طالق). فرع: رجل له زوجة [حرة] [وأمة، فاستدعى] الأمة فجاءت الحرة [إليه] في ظلمة، أو كان الرجل أعمى، فاعتقد أنها الأمة، فقال لها: إن لم تكوني أحلى من الحرة، فأنت طالق، قال في "التتمة": الحكم في [وقوع الطلاق عليها على] ما ذكرناه. قال: وإن قال: (إن رأيت الهلال فأنت طالق) فرآه غيرها- أي: [وثبت] بقوله دخول الشهر- طلقت؛ لأن رؤية الهلال في عرف الشرع رؤية الناس له؛ قال صلى الله عليه وسلم "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، [وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ"]. ويقال: رأينا الهلال [ببلد كذا، ويراد رؤية بعض أهل البلد، وإذا كان كذلك، كانت اليمين منزلة عليه؛ كما لو علق الطلاق على صلاتها؛ فإنها تحمل على الصلاة الشرعية، دون الدعاء.

ولو لم ير الهلال] لحائل، طلقت باستكمال الشهر الذي حلف فيه ثلاثين يوماً؛ لأنه قد ثبتت الرؤية بالشرع؛ فصار كما لو ثبتت بالشهادة؛ هكذا حكي عن أبي إسحاق، وهو المذكور في المهذب. ولو قال المعلق: أردت بقولي: إن رأيت: المعاينة، قبل قوله في الباطن، وفي الظاهر وجهان: المذكور منهما في المهذب عدم القبول. وأشبههما عند الرافعي: القبول، وهو الأصح في التهذيب، إلا أن تكون عمياء فلا يقبل في الظاهر. قال في "التتمة" وجهاً واحداً. قال الرافعي: وبالقبول أجاب الحناطي. وحكي فيما إذا طلق، ولم يرد شيئاً قولين في أنه هل يقع الطلاق برؤية الغير. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون التعليق بالعربية أو بالعجمية. وعن القفال أنه إن كان التعليق بالعجمية، فيحمل على المعاينة دون العلم، ويستوي فيه البصير والأعمى؛ لأن العرف المذكور لم يثبت إلا في العربية. ومنع الإمام الفرق. وفي التهذيب حكاية وجه: أنه يحمل في حق الأعمى [على العلم]، وإيراده يقتضي ترجيح قول القفال، وهو ما حكاه في "التتمة" أيضاً. قال: فإن رأته بالنهار- أي: في نهار التاسع [والعشرين من الشهر] الذي حلفت فيه- لم تطلق- أي: [حتى تغرب] الشمس- لأن الهلال لا يسمى: هلالاً إلّا إذا رئي في زمان الليل، هكذا قاله القاضي الحسين في التعليق. وقيل: تطلق؛ حكاه ابن يونس وغيره.

وفي الذخائر حكاية الخلاف فيما إذا قال: أردت رؤية البصير وجهين: أحدهما: أنها تطلق في الحال. والثاني: لا تطلق. أما إذا حمل على العلم، فلا تطلق في الحال، فإذا جاء الليل طلقت. ثم قال: ويحتمل إجراء الوجهين فيها. وجزم في "التتمة" بعدم الوقوع إذا كان التعليق برؤية البصير، وعلله بما ذكرناه عن القاضي. تنبيه: إطلاق التعليق برؤية [الهلال يحمل على هلال أول شهر تستقبله، حتى إذا لم تره في الشهر الأول، وكان التعليق برؤية] البصير: إما مصرحاً به، أو مراداً بالنية- ترتفع اليمين؛ قاله في التهذيب، و"التتمة". وفي الجيلي: أن مسألة الكتاب كلام الشيخ يقتضي تصويرها فيما إذا قال: إن رأيت هلال شهر كذا؛ إذ لو لم يقل كذلك، لطلقت برؤية الهلال، سواء كان قبل الزوال أو بعده، وإلى ثلاثة أيام؛ فإنه هلال، وعزا الحكم إلى البحر. فرعان: أحدهما: لو قال: إن رأيت الهلال ببصرك فأنت طالق، أو أراد ذلك عند إطلاق لفظ الرؤية، فرأته في الليلة الثانية أو الثالثة- طلقت، ولو رأته في الرابعة، لم تطلق، قاله الرافعي. وفي المهذب: أنها إذا رأته بعد أن صار قمراً، لم تطلق. واختلف الناس فيما يصير به قمراً: [فقال بعضهم: يصير قمراً] إذا استدار. وقال بعضهم: إذا بهر ضوءه. وفي الجيلي حكاية وجهين عن الحاوي فيما إذا رأته في الليلة الرابعة، أو بعد أن

صار قمراً. الثاني: إذا قال: إن رأيت زيداً، فأنت طالق، فرأته ملفوفاً، لم تطلق على الأصح من المذهب؛ [كما] حكاه القاضي، وغيره جزم به. وإن رأته أو بعضه غير ملفوف؛ طلقت. وفيه وجه: أن المعتبر رؤية الوجه. وقال القاضي الحسين: إن رأت وجهه، طلقت على ظاهر المذهب، وفي "التتمة" أنها إذا رأت رجله أو يده، وقد أخرجها من كوة، لا يقع الطلاق؛ لأن الاسم [لا يطلق عليه]، وإن كان قد حكي أنها إذا رأت بعضه طلقت، ولو رأته في ماءٍ صافٍ، أو من وراء زجاج؛ طلقت على الأصح. و [لا فرق فيما ذكرناه بين أن تراه حيّاً أو ميتاً، أو مجنوناً، أو عاقلاً، وكذا لو رأته، وهي مجنونة طلقت]. ولو كانت عمياء، فقالا: إن رأيت زيداً فأنت طالق، ففي النهاية: أن الطلاق معلق بمستحيل- على المذهب- فلا يقع. وفيه وجه أنه يحمل على حضوره عندها، واجتماعهما في مجلس واحد؛ لأن الأعمى يقول: رأيت فلاناً [الآن، أو] اليوم، ويريد الحضور عنده. قال: وإن كتب الطلاق، ونوى، وكتب: إذا جاءك كتابي، فأنت طالق، فجاءها وقد انمحى موضع الطلاق- أي: بحيث لا يمكن قراءته- وبقى غيره مما يعتذر به عن الطلاق، ومما يوبخها عليه من الأفعال الملجئة إلى الطلاق- لم يقع الطلاق؛ وهذا ما حكاه الشيخ [أبو علي]، وعلله بأن ذلك مقصود الكتاب، فإذا ذهب، لم ينطلق الاسم على الباقي. وعلله غيره بأن الكتاب عبارة عن جميع الأجزاء، ولم يصل جميعه. ووراء ذلك وجهان آخران حكاهما المراوزة: أحدهما: أنه يقع؛ لوجود الصفة؛ إذ الكتاب قد جاء.

والثاني: إن كان قد كتب: إن أتاك كتابي، وقع، وإن كتب: إن أتاك كتابي هذا، لم يقع، كما سيأتي مثله في المسألة الثانية. [أما] إذا كانت قراءته ممكنة، وقع الطلاق [على المذهب]. ولو انمحى الكتاب بجملته، لم يقع الطلاق على المذهب، كما لو كتبه ثم محاه بنفسه، وعلى هذا تبنى الفروع. وحكى صاحب التقريب وجهاً: أن الطلاق يقع؛ فإن هذا- وإن انمحى- يسمى: كتاباً، واعلم أن اللغة الفصيحة: محا موضع الطلاق. قال الجوهري: يقال: محا لوحه يمحوه محواً، ويمحيه محياً، ومحاه فهو مَمْحُوّ ومَمْحِيٌّ وامَّحى وانمحى لغة فيه ضعيفة. قال: وإن انمحى غير موضع الطلاق- أي: مما ذكرناه- وبقي موضع الطلاق، فقد قيل: يقع؛ لأن المقصود قد أتاها. وقيل: (إن كتب: (إن أتاك كتابي)، [وقع؛ لما سبق. وإن كتب إن أتاك كتابي] هذا- لم تطلق؛ لأن هذا يقتضي جميعه، ولم يأتها. قال ابن الصباغ: ذكر القاضي هذا الوجه، ولم يفصل هذا التفصيل؛ لأنه إذا قال: كتابي أو الكتاب، اقتضى جميعه. وقيل: لا تطلق بحال، وعلته ما ذكرناه عن بعضهم في المسألة الأولى. ولو جاء الكتاب، وقد انمحت البسملة أو الحمدلة ففي الوقوع الأوجه الثلاثة في المسألة قبلها، لكن عند المراوزة، وإطلاق العراقيين يقتضيه أيضاً، حيث لم يفصلوا في المسألة قبلها بين البسملة، وغيرها، وفي هذه المسألة: الوقوع أولى. ولو جاء الكتاب، وقد زال بياضه، وبقيت سطوره، فمن أصحابنا من قال: [هي

على] الأوجه، ووجهه بأن الحواشي من جملة الكتاب؛ بدليل منع المحدث من مس ذلك من المصحف، فصار كمقاصده. ومنهم من قال: [لا] يقع ها هنا وجهاً واحداً، وهو المذكور في المهذب، والشامل، وتعليق القاضي الحسين. قال في الذخائر: وحكى القاضي وجهاً راجعاً إلى هذه الصورة: أنه إن ذهب أكثر الكتاب لم تطلق، وإن كان الباقي أكثر طلقت، وهذا ما أبداه الإمام احتمالاً. ولا يخفى أن ما ذكرناه مفرع على أن الكتابة يقع بها الطلاق مع النية. فروع: أحدها: لو كتب: إن أتاك طلاقي فأنت طالق، فجاءها موضع الطلاق، وقع الطلاق، وإن لم يأتها وأتاها غيره لم يقع. الفرع الثاني: [و] لو كتب: إن أتاك نصف كتابي، فأنت طالق، فجاءها الكتاب بجملته، ففي وقوع الطلاق وجهان عن صاحب التقريب. قلت: ومن قال بعدم الوقوع يلزمه أن يقول به فيما إذا قال لزوجته: إن أكلت نصف رمانة، فأنت طالق، فأكلت رمانة، فإن المنقول فيها فيما وقفت عليه وقوع الطلاق، حتى [إنهم] عقَّبوا ذلك بأنه لو قال: إن أكلت رمانة فأنت طالق، [وكلما] أكلت نصف رمانة، فأنت طالق، فأكلت رمانة- طلقت ثلاثاً، هكذا حكاه الإمام وابن الصباغ وغيرهما. ووجه الإمام عدم الوقوع في مسألة الكتاب بن النصف في هذا المقام إنما يطلق لغرض التبعيض، فإذا لم يتحقق التبعيض، لم تتحقق الصفة، وهذا لا ينجي من السؤال. [الفرع الثالث:] لو كتب: إن قرأت كتابي، فأنت طالق، فإن كانت تحسن القراءة؛ طلقت بقراءة جملته، فإن قرأت بعضه، قال الرافعي: الحكم فيه كما لو وصل بعض الكتاب.

ولو قرئ عليها فوجهان: أحدهما: أنه يقع؛ لأن ذلك يراد للإطلاع على مضمون الكتاب دون القراءة، وقد حصل. قال الإمام: ويؤيده أن علماءنا لم يختلفوا في أنها لو طالعت الكتاب، وفهمت ما فيه، ولم تتلفظ بكلمة- أن الطلاق يقع، وإن لم توجد قراءة. والثاني: أن الطلاق لا يقع، وهو ما حكاه القاضي الحسين في التعليق، ثم قال: وهذا بخلاف ما لو قال: إن رأيت الهلال، فأنت طالق، فرآه غيرها؛ لأن الرؤية عبارة عن العلم؛ كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45] يعني: ألم تعلم؟ والقراءة ليست كذلك. وإن كانت لا تحسن القراءة، وقع عليها الطلاق بقراءة الغير، وادعى الإمام أنه الذي قطع به الأصحاب. وفي الذخائر: أن من أصحابنا من قال: لا تطلق؛ لأنه معلق بقراءتها، ولم توجد. قال: والحكم فيه كالحكم [فيما لو] علق الطلاق على صعود السماء، والطيران، وفيه وجهان: أحدهما: أنه يقع؛ فعلى هذا يقع الطلاق ها هنا ببلوغه إليها، وإن لم تره. قلت: وفي هذا نظر؛ لأن التعليم ممكن عادة [فقراءته بعد ذلك ممكنة عادة]، وليس في الصيغة ما يقتضي الفورية. نعم: لو قيد القراءة بحال وصول الكتاب، أمكن أن يخرج [على ما] قاله. وفيه نظر من وجهٍ آخر؛ [حيث] قال: فيقع عند وصول الكتاب إليها، ومقتضى تخريجه على الأصل الذي ذكره: أن يقع الطلاق حال فراغه من كتابة الطلاق إذا وجدت معه النية، كما يقول فيما إذا حلف على الصعود أو الطيران، وقلنا: إنه يحنث؛ فإنه يقع الطلاق في الحال. والكتابة ها هنا مع النية، كالنطق ثم، والله أعلم. [الفرع الرابع:] لو كتب: أنت طالق، ثم استمر وكتب: إذا جاءك كتابي، نظر:

إن فعل ذلك، لحاجته إلى المداد، لم يقع إلا بوصول الكتاب، وإن فعل ذلك لغير حاجة، وقع في الحال. [الفرع الخامس:] إذا ادعت المرأة أن كتابه وصل إليها بالطلاق، وأنكر الكتابة، فالقول قوله مع يمينه. فإن أحضرت بينة تشهد بأن الكتاب الذي وصل إليها [بالطلاق] خطه- لم تسمع، إلا أن تراه قد كتبه وحفظته إلى وقت الشهادة، فإنه لا يُجوز للشاهد أن يشهد: أن هذا خط فلان إلا أن يراه يكتبه، ولم يغب عنه؛ لأنه قد يزور. قال: وإن قال: إن ضربت فلاناً، فأنت طالق، فضربته وهو ميت؛ لم تطلق؛ لأن القصد بالضرب ما يتألم به المضروب، وهذا ليس كذلك؛ هذا هو الظاهر. قال الرافعي: وأثبت القاضي الروياني: فيه خلافاً. ولو ضربته وهو نائم، أو مغمى عليه، أو مجنون، طلقت؛ قاله القاضي في التعليق. ولو ضربته حيّاً، لكن ضرباً غير مؤلم، لم يقع الطلاق عند معظم الأصحاب. وذهب طوائف من المحققين [إلى] أن الألم ليس بشرط؛ فتطلق. قال ابن الصباغ: وهذا الذي تقتضيه أصولنا؛ لأن اليمين يعتبر [فيها ظاهر اللفظ، ولا يعتبر] فيها المقصود في العادة، كما لو حلف لا يبتاع شيئاً، فوكل في ابتياعه، كذلك أبداه فيما إذا ضربته وهو ميت. [ولو] وضعت عليه حجراً ثقيلاً، فتألم به، فليس بضرب، ولا يحنث، قاله الإمام. وفي الذخائر: [أنه يحنث، وأبدى احتمالاً في أنه لا يحنث؛ لعدم الإثم، وسيأتي الكلام في] بقية الفروع في جامع الأيمان- إن شاء الله تعالى- قال: وإن

قال: إن قدم [زيد فأنت طالق، فقدم به ميتاً، لم تطلق؛ لأنه ما قدم وإنما قدم به] وإن حمل مكرهاً، لم تطلق قال الإمام بلا خلاف، ووجهه ما ذكرناه. قال الرافعي: ويأتي فيه خلاف؛ لأن صاحب المهذب وغيره نقلوا طريقاً فيما إذا حلف لا يدخل الدار، فحمل بغير إذنه واختياره، وأدخل، أنه على القولين فيما إذا أكره حتى دخل بنفسه، ووجهوه بأنا سوينا في حال الاختيار بين دخوله بنفسه ودخوله محمولاً. وإيراد البندنيجي في مذهبه يشير إليه؛ حيث قال: إن المذهب أن الطلاق لا يقع. قال: وإن أكره حتى قدم [بنفسه]، ففيه قولان: أحدهما: تطلق؛ لأنه قدم بنفسه؛ [فأشبه ما] إذا كان مختاراً. والثاني: لا تطلق؛ لأن بالإكراه زال اختياره، وإذا وجدت الصفة بغير اختياره، كان لوجود الطلاق منه بغير اختياره مكرهاً. قال الإمام: والفرق بينهما [على القول الأول]: أنا نبطل اختيار المكره في التخيير بالإكراه المقترن به؛ وهذا لا يتحقق في الصفة؛ فإن قول القائل: إن دخلت الدار متناول لما ينطلق عليه اسم الدخول، سواء كان على صفة الاختيار، أو صفة الإجبار، [وكأن الحكم بوقوع الطلاق- مأخوذ] من تناول العقد بطريق الإكراه، وعقد اليمين على ما وجد من المكره ممكن؛ فإنه لو قال باختياره: إن دخلت الدار مكرهاً، فأنت طالق، فأجبر على الدخول- وقع وفاقاً. ولا فرق في جريان القولين بين أن يعلم المحلوف على قدومه باليمين، أو لا

يعلم؛ على الأظهر من الطريقين عند الأصحاب؛ على ما حكاه الإمام، وإطلاق ابن الصباغ يقتضيه مع قرينة التفصيل في القدوم [من غير إكراه] على ما سنذكره. ولا بين أن يكون ممن يمتنع [من القدوم] لأجل اليمين، [أو لا يمتنع، على اختيار الإمام. والرافعي أثبت طريقة القطع بالوقوع، ثم حكى بعد ذلك طريقة القولين. ولو قدم غير مكره، نظر: إن كان عالماً باليمين؛ طلقت. وإن لم يعلم باليمين، أو علم، ونسي، فإن كان المحلوف على قدومه، ممن لا يمتنع لأجل اليمين: كالسلطان، والأجنبي، طلقت؛ لأن ذلك ليس بيمين، وإنما هو تعليق بصفة؛ فأشبه ما لو قال: إن دخل الحمار الدار، فأنت طالق. وإن كان ممن يمتنع من القدوم؛ لأجل اليمين]: كقرابة المرأة، أو قرابته، [أو غلامة]، وبالجملة كل من يسوءه طلاقها- فإن أراد الحالف أن يجعل قدومه صفة دون اليمين، مثل أن يقصد أن يطلقها إذا حصل معها محرم لها، ولا يطلقها دونه- طلقت أيضاً؛ لما [ذكرناه وإن] قصد [أن يمنعه] من القدوم، فهل يقع الطلاق؟ فيه قولان يأتي بيانهما في الأيمان، إن شاء الله تعالى. [وصور] البندنيجي القولين [في "التتمة" وقدم مكرهاً بصورة القولين] في القدوم ناسياً، أو جاهلاً. وقال القفال: لا أثر للنسيان، والجهل [والإكراه] في الحلف بالطلاق، [بل متى] وجدت الصفة المحلوف عليها، ولو في حالة من هذه الأحوال، وقع الطلاق، بخلاف الحلف بالله عز وجل؛ لأن التعويل في اليمين على تعظيم اسم

الله- تعالى- والحنث هتك لحرمته، وهذه الأحوال تمنع حصول الهتك، والتعويل في تعليق الطلاق على حصول الصفة المعلق عليها، وهي حاصلة، وإن فرضت هذه الأحوال. قال الإمام: وهذا مختص بالقفال، والأصحاب على طرد الخلاف في الباب. فرع: إذا علق الطلاق بدخول طفل، أو بهيمة، أو سنور، ووجد الدخول مكرهاً. قال الحناطي: يحتمل أن يحصل الحنث؛ لأنه ليس لهم قصد، ولا اختيار صحيح؛ فلا أثر للإكراه. ويحتمل ألا يحصل. فرع آخر: لو قدم المحلوف على قدومه، وهو مجنون، قال الطبري: إن كان يوم عقد اليمين عاقلاً، ثم جن بعد ذلك، لم يقع الطلاق؛ لأنه لا حكم لفعله، وإن كان في ذلك اليوم مجنوناً وقع؛ لأنه يجري مجرى الصفات. قال: وإن قال: إن خرجت إلا بإذني، فأنت طالق، فأذن لها وهي لا تعلم، فخرجت؛ لم تطلق؛ لأنها لم تخرج بغير إذنه. وحكى الطبري وجهاً: أنها تطلق؛ بناءً على أن الوكيل لا ينعزل قبل بلوغ خبر العزل إليه. ونقله الفوراني قولاً [عن الشافعي. [ولو أذن لها وهي مجنونة أو صغيرة فخرجت بعده فهل يصح هذا الإذن حتى لا يحنث، أو لا يصح؟ فيه وجهان في البحر في آخر كتاب الأيمان، وأصحهما الأول، وعلى مقابله هل ينبني على أن عمد الصبي والمجنون عمد أو لا؟ فإن قلنا: إنه عمد حنث، وإن قلنا: ليس بعمد، خرج على القولين في حنث الناسي، وهكذا الحكم فيما إذا خرجت بغير الإذن. قال:] وإن أذن لها مرة، فخرجت بالإذن، ثم خرجت بغير الإذن، لم تطلق؛ لأن الإذن لا يقتضي التكرار؛ فصار كما لو قال: إن خرجت مرة

بغير إذني فأنت طالق. ونقل الشيخ أبو محمد قولاً مخرجاً: أنها تطلق. قال الغزالي: وهو حسن إلا أنه غريب، كما لو قال: إن خرجت لابسة ثوب حرير، فأنت طالق، فخرجت من غير حرير، ثم خرجت لابسة [ثوب] حرير؛ فإنه يحنث وفاقاً. قال مجلي: وهذا لا يصح؛ لأن خروجها أولاً، لم تنحل به اليمين؛ لعدم الصفة، فحنث في الثاني؛ بخلاف مسألتنا. ولو أذن لها في الخروج، ثم رجع عنه، فخرجت بعد المنع، لم يحنث؛ لحصول الإذن. قال الشيخ أبو نصر: وفيه نظر؛ لأن رجوعه عن الإذن يبطله؛ فتكون خارجة بغير إذنه؛ ولهذا تأثم، ومجرد الإذن لا يحل اليمين؛ لأن المحلوف عليه الخروج دون الإذن. فرع: لو أخرجها هو هل يكون [الإخراج] إذناً؟ فيه وجهان، قاله الرافعي في وقوع الطلاق، والقياس المنع. قال: وإن قال: كلما خرجت إلا بإذني، فأنت طالق، فأي مرة خرجت بغير الإذن طلقت؛ لأن "كلما" تقتضي التكرار، فإذا أراد الخلاص من اليمين، فليقل لها: أذنت لك أن تخرجي متى شئت. وإن قال: إن خرجت إلى غير الحمام فأنت طالق، فخرجت إلى الحمام، ثم عدلت إلى غير الحمام، لم تطلق، ولو كان بالعكس طلقت. وإن [قصد بهما الخروج]، فوجهان:

المذكور منهما في الشامل، والمجموع للمحاملي: الحنث. فرع: لو حلف: لا يخرج من البلد إلا مع امرأته، فخرج لكنه تقدم [عليها] بخطوات، ففي وجه [لا يحنث؛ للعرف، وفي آخر] يحنث، وإنما يحصل البر بأن يخرجا معاً من غير تقدم؛ حكاه الرافعي في الفروع. قال: وإن قال [لها]: إن خالفت أمري فأنت طالق، ثم قال لها: لا تخرجي، فخرجت- لم تطلق؛ لأنها لم تخالف أمره، وإنما خالفت نهيه. قال الغزالي: وفيه نظر. وإن قال: إن خالفت نهيي، فأنت طالق، ثم قال لها: قومي، فقعدت، قال الإمام: ذهب الفقهاء إلى أن الأمر بالشيء نهي عن أضداد المأمور به، فقد خالفت نهيه إذا قعدت؛ فيقع الطلاق. وقد أوضحنا في مجموعنا في الأصول أن الأمر لا يكون نهياً، ولا يتضمن نهياً، فلا يقع الطلاق؛ [إذ لو] كنا نعتقد اعتقاد الفقهاء؛ لتوقفنا في وقوع الطلاق، فإن الأيمان لا تحمل على معتقدات الناس في الأصول. وفي الذخائر: أن من قال بالوقوع في هذه المسألة؛ لما ذكرناه من التعليل ينبغي أن يقول: [إنها] تطلق في المسألة الأولى؛ لأن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده، وبضده إن لم يكن له سوى ضد واحد، وضد عدم الخروج [الخروج] لا غير؛ فكان نهيه عن الخروج [أمراً] بالسكون، فإذا خرجت؛ فقد خالفت الأمر الذي تضمنه النهي عن الخروج. فرع: إذا قال [لها]: إن أمرتك بأمر فخالفتيه، فأنت طالق [ثم قال لها: إن لم تصعدي السماء، فأنت طالق]، ففيه وجهان.

أحدهما: تطلق؛ لأن اللفظ يقتضي أمرها بالصعود. والثاني: لا تطلق، وهو الصحيح؛ لأنه ليس أمراً محققاً، وإنما هو تعليق الطلاق على عدم الصعود. نعم: لو قال لها: اصعدي السماء، هل يقع الطلاق؛ لعدمه منها؟ قال مجلي: فيه نظر، يتعلق بأن ما لا يطاق هل يصح تكليفه؟ فإن قلنا: لا يصح، خرجت الصيغة عن أن تكون أمراً، وإن قلنا: يصح، كانت أمراً؛ فتطلق بالمخالفة. [فرع] آخر: لو قال لها: إن لم تطيعيني، فأنت طالق، فقالت: لا أطيعك؛ ففي وجهٍ: يقع الطلاق بقولها: لا أطيعك. [والأصح أنه لا يقع؛ حتى يأمرها بشيء، فتمتنع، أو ينهاها عن شيء فتفعله، قاله الرافعي] في آخر كتاب الطلاق. قال: وإن قال: (إن بدأتك بالكلام، فأنت طالق)، فقالت: وإن بدأت بالكلام، فعبدي حر)، فكلمها، لم تطلق المرأة، ولم يعتق العبد- أي: إذا كلمته أيضاً- لأن الزوج خرج عن [أن يكون] مبتدئاً بقولها: (إن بدأتك)، وهي خرجت عن البداءة بكلامه. [ولو كانت المسألة بحالها، فكلمته أولاً؛ عتق العبد؛ لأنها مبتدئة كلامه]. ولو قال لواحد: إن بدأتك بالسلام، فعبدي حر)، وقال [له] الآخر مثل ذلك، فسلم كل [واحدٍ] منهما على صاحبه دفعة واحدة؛ لم يحنث، وانحلت اليمين؛ كذا قاله الإمام. قلت: ويتجه أن يجري فيه ما سبق فيما إذا قال: إن خرجت إلا بإذني، فخرجت بالإذن، ثم خرجت بغير الإذن. قال: وإن قال لها، وهي في ماء جار: (إن خرجت من هذا الماء، فأنت طالق، وإن أقمت فيه، فأنت طالق)، لم تطلق، خرجت، أو أقامت؛ لأن الإشارة وقعت إلى الماء الذي كانت فيه حال اليمين، وقد مضى بجريانه، فلم تخرج منه، ولم تقم فيه.

وفي الذخائر: أن بعض أصحابنا قال: يقع الطلاق؛ بناءً على حمل اللفظ على المفهوم منه عرفاً، والمفهوم منه خلاف هذا؛ إذ المقصود منه اللبث في هذا الماء على الجملة، [أو] الخروج منه، دون [أن] يخطر له [آحاد الجريات] ببال. وفي ابن يونس أن القفَّال قال: يخرج على القولين فيما إذا قال: إن لم تشربي من [ماء] هذا الكوز، فأنت طالق، فانصب ذلك الماء. قال: وإن قال لها: (إن شئت، فأنت طالق)، فقالت في الحال: (شئت) - طلقت؛ لوجود الصفة، وهذا إذا كانت بالغة عاقلة راضية بالطلاق. [أما لو كانت صغيرة، فإن كانت غير مميزة، لم يقع الطلاق] بلا خلاف، كما لو كانت مجنونة. وإن كانت مميزة، ففي وقوع الطلاق وجهان: أظهرهما عند المتولي، وهو الذي ذكره أبو الفرج السرخسي، وقال ابن الصباغ: إنه اختيار ابن الحداد، وذكر الإمام أن ميل الأكثرين إليه- أنه لا يقع؛ لأنه لا اعتبار بمشيئة الصبي في التصرفات. والثاني: يقع. قال في الشامل: وبه قال بعض أصحابنا، كما لو قال: إن قلت: شئت. ولأن مشيئة الصبي معتبرة في اختيار الأبوين. ولو شاءت البالغة في حال سكرها، خرج على القولين في أن السكران: كالمجنون أو كالصاحي؟ ولو كانت غير راضية بوقوع الطلاق، طلقت في الظاهر، وفي الوقوع باطنا الوجهان على قول [ابن الصَّباغ. وفي الرافعي نسبة الأول] إلى أبي يعقوب الأبيوردي، وأن القاضي الحسين مال إليه، وقاسه على ما لو علق الطلاق بحيضها، فقالت: حضت، وهي كاذبة، فإنه لا يقع باطناً، ونسب الثاني إلى القفال، وهو المذهب في التهذيب؛ لأن التعليق في

الحقيقة بلفظ المشيئة، [لا] بما في الباطن؛ ألا ترى أنه لو علق بمشيئة أجنبي، فقال: شئت، صدق، ولو كان التعليق [بما] في الباطن، لما صدق [عليه]، كما لو علق طلاق ضرتها بحيضها، ويخالف ما إذا علق بحيضها، فقالت: حضت، وهي كاذبة؛ لأن دم الحيض محسوس مشاهد، وإنما اعتبرنا قولها فيه؛ لأنها مؤتمنة، والمشيئة لا تحس؛ فلا تعرف إلَّا من جهتها فكان التعليق بقولها: شئت. قال الرافعي: ويجري الخلاف فيما لو علق بمشيئة زيد، فقال زيد: شئت، وهو كاره بقلبه. وفي النهاية [أن] في كلام القاضي ما يدل على أن أبا يعقوب يقول بالوقوع في هذه الصورة، بخلاف المسألة قبلها؛ حيث قال: إن تعليق الطلاق على مشيئتها فيه معنى التمليك، [وهو يعتمد الإرادة، ومحلها القلب، وليس في تعليق الطلاق على مشيئة زيد معنى التمليك]، فهو لفظ مجرد منه ظاهراً وباطناً. قال الإمام: وأبو يعقوب أفقه من أن يسلم الفرق بين المسألتين، [و] لكن المسألة تدور على نكتة، وهي أن المرأة لو أرادت الطلاق [بقلبها]، ولم تنطق بالمشيئة، فإن كان أبو يعقوب يزعم أن الطلاق يقع باطناً؛ لتحقق إرادة القلب، ولكن لا يقع الحكم به؛ لعدم الإطلاع؛ فيستمر كلامه. وإن سلم أن الطلاق لا يقع باطناً؛ فيضعف ما ذكره، ويتبين أن يتعلق الطلاق باللفظ المجرد. والذي يجب القطع به: أنها إذا أرادت بقلبها، ولم تنطق: أن الطلاق لا يقع باطناً ولا ظاهراً، فإن شرط جوابها أن يكون على صفة الأجوبة، والكلام الجاري في النفس لا يكون جواباً. وأبدى الرافعي في الوقوع تردداً. فرع: لو كان في المشيئة فقالت: شئت، وكذبها، إن قلنا: إن المعلق عليه اللفظ، فالقول قوله.

وإن قلنا: ما في النفس، فالقول قولها؛ لأنه لا يعرف إلا من جهتها؛ حكاه في الذخائر. قال: وإن أخرت- أي: بقدر ما ينقطع به القبول عن الإيجاب- ثم [شاءت]، لم تطلق؛ لأن الخطاب يقتضي جواباً في الحال؛ كما في البيع، وغيره. ولأنه كالتمليك للمرأة؛ لقوله: اختاري، والتمليك يفتقر إلى القبول في الحال، كما في سائر التمليكات. وينبني على العلتين فروعٌ تذكر من بعد. وفي الذخائر حكاية وجهين في أن ذلك تمليك للطلاق، أو تعليق له بصفة، وهي المشيئة، وقرينة التماس الجواب من الزوجة تقتضي أن تكون المشيئة على الفور؛ إذ الجواب لابد أن يكون متصلاً. قال: وقيل: إذا وجد [القبول] في المجلس، طلقت؛ لأنه حريم العقد؛ فقام مقامه، كما في القبض في الصرف، والسلم. قال مجلي: وكان ينبغي أن ينبني هذا الحكم على أنه تعليق، أو تمليك؟! فإن جعلناه تمليكاً، اقتضى الفور، والبدار، وهل يتقيد بالمجلس، أو يعتبر عقيب لفظه؟ يحتمل خلافاً، كقوله: ملكتك. وإن رأيناه تعليقاً، لم يقتض البدار، كتعليقه على دخول الدار، [بل] أي وقت شاءت، طلقت. قلت: وجواب هذا ما ذكرناه، وهو أنه، وإن كان تعليقاً، لكن قرينة التماس الجواب اقتضت البدار، كما أن قرينة بذل العوض في قوله: إن أعطيتني، اقتضت البدار، مع أنه تعليق. نعم قد حكينا في الخلع وجهاً: أن الإعطاء لا يتقيد بوقت؛ فيجيء مثله ها هنا، وقد أشار إليه الرافعي، وصرح الإمام بحكايته عن صاحب التقريب، والشيخ أبي علي

في كتاب التدبير، وقال: إنه غريب [و] منقاس. فروع: لو قال لأجنبي: إن شئت فزوجتي [طالق]، إن عللنا اشتراط البدار في مشيئتها بأنه خطاب يستدعي جواباً؛ فكذلك يشترط في مشيئته أيضاً. وإن عللناه بمعنى التمليك، فلا؛ إذ لا تمليك هنا، وهذا أظهر فيما ذكره جماعة. ورأى المتولي الوجه الأول أظهر، وهو ما حكاه في الشامل، ووجهاه بأن الخلع مع الأجنبي صحيح؛ كما يصح مع الزوجة، ويكون الجواب ناجزاً؛ فكذلك إذا كان بغير عوض يجري مجرى الزوجة. ولو قال: "زوجتي طالق إن شاءت"، فإن عللنه بالعلة الأولى، فلا خطاب هنا، ولا يشترط الفورية. وإن عللناه بمعنى التمليك؛ فتشترط: فإن كانت حاضرة فينبغي أن تقول في الحال: شئت؛ ليقع الطلاق. وإن كانت غائبة، فتبادر إليه إذا بلغها الخبر. وتردد القاضي في البدار في الغيبة والحضور. وميل الإمام إلى [أن] الفورية لا تشترط في هذه الصورة، كذا حكاه الرافعي. قال مجلي: وفي هذا الفرع [نظر]؛ فإنه إذا جعل ما صدر منه تمليكاً، كيف يصح مع الغيبة؟ وينبغي أن تتخرج صحته على البيع مع الغيبة بالكتابة. ولو قال: زوجتي طالق إن شاء زيد، فلا يشترط البدار أصلاً؛ لانتفاء العلتين. ولو علق طلاقها بمشيئتها، ومشيئة غيرها من قريب أو أجنبي، كما إذا قال: إن شئت، وشاء زيد، فأنت طالق، فإن شاءا على الفور، طلقت. [وإذا] شاء زيد، وتخلفت مشيئتها عن المجلس، فتطلق.

وإن شاءت على الفور، وتأخرت مشيئة زيد، ثم شاء، ففي وقوع الطلاق وجهان: المذكور منهما في الشامل، والمجموع للمحاملي: أنه لا يقع. وأصحهما في الرافعي: الوقوع؛ كما لو قال: أنت طالق إن شئت، ودخلت الدار؛ فإنه [يوفر] على كل واحد من الموضعين حكمه لو انفرد. وفي تعليق القاضي الحسين [حكاية الخلاف] فيما إذا قال: إن شئت، وشاء أبوك)، وفيما إذا قال: إن شئت، وشاء زيد: [أن مشيئة زيد] لا تختص بالمجلس، والسكوت عما سواه. ولو قال لزوجتيه: إن شئتما فأنتما طالقتان، فإن شاءتا على الفور، طلقتا، وإن شاءت إحداهما على الفور، وشاءت الأخرى بعد فوات وقت المشيئة، فلا يقع عليها الطلاق على ظاهر المذهب، وأما التي شاءت على الفور، فهل يقع عليها الطلاق؟ فيه وجهان، ينبنيان على ما لو علق الطلاق بمشيئة أجنبي، هل يختص الجواب بالمجلس؟ هكذا حكاه في "التتمة". [قال]: ويحتاج مع ذلك إلى البناء على أصل آخر، وهو أنه إذا قرن مشيئتها بمشيئة من لا يعتبر البدار في مشيئته لو انفرد، فهل يعتبر البدار في حقه؟ فيه الخلاف السابق. إن قلنا: إنه يعتبر؛ فلا تطلق. وإن قلنا: لا يعتبر؛ فينبني على أن مشيئة الأجنبي إذا علق الطلاق [عليها] مخاطباً له، وهل تقتضي الفورية؟ إن قلنا: نعم فلا تطلق، وإلا طلقت. ثم قوله في التي شاءت بعد [فوات وقت] المشيئة لا يقع عليها الطلاق على ظاهر المذهب- يشعر [بذكر خلاف]، ويظهر أن يكون إشارة إلى الوجه الذي خرج من الخلع، والله أعلم.

ولو شاءت كل واحدة منهما طلاق نفسها دون ضرتها، قال البوشنجي: القياس وقوع الطلاق. وقضية ما حكيناه عن "التمة" خلافه. قال: فإن قالت: (شئت إن شئت)، لم تطلق-[أي]: وإن شاء الزوج- لأن صفة الوقوع أن تشاء، ولم يوجد ذلك، وإنما وجد منها تعليق للمشيئة، والمشيئة خبر [عما في نفسها من الإرادة، وذلك لا يتعلق بالشرط؛ لأنه خبر] عن ماضٍ، ولأنها أخرت الجواب عن الفور. وفي الذخائر: أن من أصحابنا من قال: إذا قال الزوج: شئت، طلقت، وحكاه الرافعي عن رواية الحناطي. فروع: [أحدها:] لو رجع عما قاله قبل مشيئتها، [لم ينفذ رجوعه؛ لأن المغلب عليه التعليق. [الفرع الثاني:] لو قال: أنت طالق كيف شئت]، قال أبو زيد والقفال: لا يقع، شاءت أو أبت. وقال الشيخ أبو علي: لا يقع، حتى توجد مشيئة في المجلس: إما مشيئة أن تطلق أو مشيئة ألا تطلق. قال صاحب التهذيب: وكذا الحكم لو قال: أنت طالق على أي وجه شئت. ولو قال: أنت طالق شئت، أو أبيت، طلقت في الحال. قال: وإن قال: من بشرتني بكذا فهي طالق فأخبرته امرأته بذلك، [وهي] كاذبة- لم تطلق. البشارة: بكسر الباء وضمها: هي الخبر الذي يغير البشرة سروراً، أو حزناً، لكنها عند الإطلاق للخير، فإن أريد الشر، قيدت؛ قال الله- تعالى- في الأول: {فَبَشِّرْ عِبَادِ}

[الزمر: 17]، وفي الثاني: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]. [وإذا] كانت كاذبة فيما أخبرت به، لم يحصل الغرض بخبرها؛ فلم تكن بشارة. فلو جاءت أخرى، وأخبرته صادقة، طلقت؛ لأن الغرض حصل من خبرها. ولو كانت الأولى صادقة، وقع عليها الطلاق دون الثانية؛ لأن البشارة بأول خبر، وما بعد ذلك لا يكون بشارة. وفي الإبانة حكاية وجه آخر: أن البشارة لا تختص بالخبر الأول، وأن الحكم كما سنذكره فيما إذا قال: من أخبرتني. وعلى المذهب لو بشره أجنبي بما علق عليه الطلاق، ثم بشرته الزوجة، لم يقع عليها الطلاق. وكذا لو رآه الزوج، ثم بشرته به، لم يقع أيضاً. ولو بشرته زوجتان فأكثر دفعة واحدة، وقع عليهن الطلاق. وتحصل البشارة بالكتابة، كما تحصل بالمشافهة. ولو أرسلت إليه رسولاً بالبشارة، فالمبشِّر [هو] الرسول؛ فلا يقع على المرسلة طلاق، كذا قاله القاضي الحسين، وتابعه البغوي. قال: وإن قال: من أخبرتني بقدوم زيد، فهي طالق فأخبرته [امرأته بذلك] وهي كاذبة- طلقت؛ لأن الكذب خبر كالصدق. وفيه وجه آخر: أنه لا يقع الطلاق إذا أخبرته كاذبة، وهو الذي أورده الفوراني. ووجهه في "التتمة": بأن الباء في اللغة لإلصاق الفعل بالمفعول به، وذلك يقتضي حصول القدوم؛ حتى تخبر به، وصيرورته شرطاً في الإخبار، كما لو قال: من أخبرتني عن كذا بالعربية، تشترط العربية في الخبر. قال الرافعي: [و] هذا يقتضي أن يكون قوله: من أخبرتني بأن زيداً قدم، كقوله: [بقدوم زيد؛ لوجود حرف الإلصاق. لكن الفوراني فرَّق بين أن يقول بأن زيداً قدم] فيقع، وبين أن يقول: بقدوم

زيدٍ؛ فلا يقع. قال الإمام: والفرق حسن. [ولو] أخبرته ثانية وثالثة، طلقن، سواء كان [ذلك] دفعة واحدة، أو واحدة بعد واحدة؛ لأن اسم الخبر يتناول ذلك كله. قال: وإن قال: (إن كلمت فلاناً، فأنت طالق، فكلمته مجنوناً، أو نائماً، لم تطلق؛ لأنه لا يكلم عادة؛ فأشبه الميت. وكذلك الحكم فيما لو كلمته مغمى عليه. وفي تعليق القاضي الحسين حكاية وجه: أنها تطلق بكلام المجنون، وهو ما حكاه الغزالي، والفوراني، والمتولي، ومجلي. ووجه ثالث؛ [أنه] إن كان لا يتكلم معه، لم تطلق، وإن كان مجنوناً يتكلم معه، طلقت؛ حكاه في آخر الفصل، وقال الأصح: أنه [لا] يقع، وهو ما حكاه المحاملي في المجموع. ولو كلمته صبيّاً، فإن كان مثله لا يكلم: كابن سنة، لم يقع الطلاق. وإن كان [مثله] يكلم؛ وقع، هكذا حكاه القاضي الحسين. ولو كلمته سكراناً، وقع. قال الرافعي: والشرط [على] ما نبه عليه في الشامل أن يكون السكران بحيث يسمع ويكلم، وكذا قال في الإبانة، وأنه إذا كان مختلط العقل، بحيث لا يميز ولا يسمع- لم يقع. وإيراد صاحب "التتمة" يفهم منه إجراء خلاف في المسألة، وأن [مأخذه: أن الكسران] هل يسلك به مسلك الصاحي أم لا؟ فإنه قال: المذهب: وقوع الطلاق؛ لأن السكران يلحق بالصاحي في الأحكام، وإذا كان كذلك، اتجه أن يجيء فيه التفصيل [المتقدم. ويظهر لي فيما قاله مناقشة؛ من حيث إنه أشار إلى الخلاف في المسألة] واقتضى كلامه أن يكون مأخذه: أن السكران هل يلحق بالصاحي، أو بالمجنون؟

ويقتضي هذا الخلاف أن يقع الطلاق عنده قولاً واحداً. أما إذا قلنا: إنه كالصاحي، فظاهر. وأما إذا قلنا: إنه كالمجنون؛ فلأنه جزم بوقوع الطلاق عليها بكلامه إذا كان مجنوناً، [فكذلك إذا] قلنا: إنه كالمجنون ينبغي أن يقع. ولو هذت في نومها أو إغمائها، لم يقع الطلاق، ولو كانت على صيغة تكليمه؛ لأن هذا لا يسمى تكليماً، وإن سمى: كلاماً. وإن جنت فكلمته، أطلق ابن الصباغ القول بعدم الوقوع. ونقل الإمام عن القاضي: أنه [فعل]، ثم قال، وهذا يتخرج على أنها لو أُكرهت على التكليم، هل يقع الطلاق؟ فإن قصد المجنون أضعف من قصد المكره. وقال القاضي في التعليق: إن كانت حالة الحلف مجنونة، كان هذا محض صفة، فتطلق. وإن كانت عاقلة، ثم جُنَّت، يحتمل وجهين، وذلك قضية ما في "التتمة". ولو كلمته مكرهة، نقل القاضي الحسين عن نص الشافعي: أنه لا يقع. وعن الأصحاب حكاية قولين [لو كلمته سكرانة]: ففي النهاية: [أنه] ينبني على أنها كالمجنونة، أو كالصاحية؟ فإن جعلناها كالصاحية وقع؛ وإلّا فهي كالمجنونة. وجزم القاضي الحسين بالوقوع، وقال: هذا إذا لم تنته إلى السكر الطافح، فإن انتهت فهذيانها كهذيان النائمة. قال القاضي: وهكذا نقول في قضاء الصلوات على أصح المذاهب. قال: وإن كلمته بحيث يسمع، إلّا أنه متشاغل؛ فلم يسمع، طلقت، وكذا لو كان لا يسمع؛ لشغل قلبه؛ لأنه يقال: كلمته فلم يسمع. ولو خفضت صوتها بحيث لا يسمع- وهو الهمس بالكلام- لم يقع، وإن وقع

في سمعه شيء [وفاقاً]، وفهم المقصود؛ لأنه لا يقال: [إنها] كلمته. وكذا الحكم لو كلمته من مسافة بعيدة لا يسمع الصوت منها. ولو اختطف الريح كلامها، [وحمله]، وأوقعه في السمع، قال الإمام: الظاهر أنه لا يقع. قال: وإن كلمته أصمَّ؛ فلم يسمع؛ للصم، أي: [بحيث لو لم يكن أصمَّ لسمع]- فقد قيل: تطلق؛ لأنها كلمته بحيث يسمح كلامها، وإنما تعذّر السماع؛ لأمر به؛ [فهو] كما لو تعذّر؛ لشغل قلبه. وقيل: لا تطلق؛ لأن ما جرى ليس بتكليم؛ للصمم؛ فهو في حقه بمثابة الهمس الذي لا يسمعه السّميع، وهذا هو المذهب في تعليق البندنيجي، والصحيح في الشامل والمهذب في كتاب الأيمان، وبه قال أبو إسحاق. ولو كلمته كلاماً يسمعه مثله، حكى البندنيجي في كتاب الأيمان، أنه يحنث سمع أو لم يسمع. ولو كلمته وكان هنا كعارض من لغطٍ؛ فلم يسمع السّميع- لأجله- كلامها، قال القاضي الحسين: قال أصحابنا: طلقت. وعندي: أنها إنما تطلق إذا كلمته كلاماً مثل ذلك الكلام، يسمع في [مثل] تلك الحالة [مع عارض اللغط]. وكذلك قال في الصمم؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يُكلم رجلاً وهناك عارض لغطٍ أو صمم، فإنه يبالغ في الكلام معه أكثر مما يبالغ في الكلام في حالة السلامة، وهذا [ما] حكاه في التهذيب. وجهاً، وأجراه فيما إذا كان الريح عارضاً أيضاً، وجعله الصحيح. وقال الإمام: إن كان اللغط بحيث [لو فرض] معه الإصغاء، لأمكن السماع- فيجب القطع بالحنث، وقد ينقدح من هذا نظر في تكليم الأصم إذا كان وجهه إليها،

وهو يعلم أنها تُكلمه. والوجه ها هنا: القطع بوقوع الطلاق. وقطع المحاملي بعدم الوقوع، إذا كان الصمم بحيث يمنع السماع أصلاً. فروع: [أحدها:] لو كلمت حائطاً والمحلوف عليه يسمع كلامها، ففي وقوع الطلاق وجهان محكيان في الذخائر. ووجه الوقوع: أنه المقصود بالكلام. [الفرع الثاني:] لو قال: لو كلمت نائماً أو غائباً عن البلد، فأنت طالق، هل يقع الطلاق في الحال؟ فيه قولان ينبنيان على الخلاف في التعليق بالمستحيلات. قال الرافعي: ويحتمل ألا يقع [الطلاق] حتى تخاطبه مخاطبة المتكلمين. وبنحو منه أجاب القاضي أبو الطيب فيما إذا قال: إن كلمت ميتاً أو حماراً، فأنت طالق. [الفرع الثالث:] لو كاتبته، [أو راسلته، أو أرسلت إليه]، [ففيه] خلاف يأتي [إن شاء الله تعالى]. [الفرع الرابع]: لو قال: إن كلمتك، فأنت طالق فاعلمي، فالمذهب: أنها تطلق بقوله: فاعلمي. ومن أصحابنا من قال: إن وصله باليمين لم تطلق؛ لأنه أراد كلاماً غير اليمين، وهذا من [جملة اليمين]. قال: وإن قال: إن كلمت رَجُلاً فأنت طالق، وإن كلمت طويلاً فأنت طالق، [وإن كلمت فقيهاً فأت طالق]، فكلمت رجلاً طويلاً فقيهاً، طلقت ثلاثاً؛

لوجود الصفات الثلاثة فيه. فروع: أحدها: لو قال: إن كلمت رجلاً فأنت طالق، فكلمت زوجها، أو أباها، إن كان قصده مجرد الصفة طلقت؛ لأن الصفة قد حصلت. وإن كان قصده منعها من مكالمة الرجال، فلا يقع الطلاق؛ لأن الرجل لا يقصد منع امرأته من مكالمته ومكالمة أقاربها، وإنما يمنعها [من] مكالمة الأجانب؛ قاله في "التتمة". [الفرع الثاني:] لو قال [لها]: أنت طالق إن كلمت فلاناً وفلاناً، [وفلان مع فلان، إياك عني يا هذه، فكلمت فلاناً وفلاناً]- وقع؛ لأن اليمين انعقدت في الأصل على كلامهما، وقوله: وفلان مع فلان، لا يتعلق به حكم؛ لأنه ابتداء كلام. قال المحاملي: والدليل عليه أن ما أخرجه مخرج الشرط نصبه، والكلام الثاني، حيث كان ابتداء [كلام] أتى به مرفوعاً. ووجهه ابن الصباغ بأنه ليس بمعطوف على الأولين، ثم قال: وفيه نظر؛ لأن قوله: [و] فلان مع فلان) يقتضي أن يكون كلامها لفلان وفلان في حال كون فلان مع فلان، وهو مثل قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]؛ فكانت هذه الجملة حالاً من الأولة، فكذلك ها هنا. وحكى في "التتمة" ما قاله ابن الصباغ وجهاً عن الأصحاب. وفي الرافعي أنه الأظهر. الفرع الثالث: ولو قال: إن كلمت زيداً أو عمراً فأنت طالق، فكلمت أحدهما- طلقت، وارتفعت اليمين؛ حتى لا يقع بكلام الآخر شيء [آخر]. وكذا [لو] قال: إن دخلت الدار أو كلمت زيداً.

ولو قال: إن دخلت الدار، وإن كلمت زيداً، فقد [كرر حرف] الشرط؛ وذلك يوجب تكرير الجزاء؛ [فيقع الطلاق بأية واحدة من الصفتين وجدت، وإذا وجدتا جميعاً، وقعت] طلقتان. ومن هذا القبيل، ما إذا قال: إن دخلت هذه الدار وإن دخلت الدار الأخرى- فأنت طالق. قال ابن الصباغ: معناه: عن دخلت [هذه] الدار فأنت طالق، وإن دخلت الدار الأخرى، وقال: في الجواب عائد في الدخول الثاني، كذا حكاه الرافعي. الفرع الرابع: لو قال: إن كلمت زيداً وعمراً فأنت طالق، لم [تطلق إلا بكلامهما] جميعاً. الفرع الخامس: لو قال: أنت طالق إن كلمت زيداً وعمراً وخالداً، لم تطلق إلا بكلام جميعهم. [ولو قال: أنت طالق إن كلمت زيداً ولا عمراً ولا خالداً، فإن كلمت واحداً منهم، طلقت]. الفرع السادس: لو قال: أنت طالق إن لبست، إن ركبت، لم تطلق إلا باللبس والركوب، لكنه يشترط أن تلبس أولاً، ثم تركب بعده، حتى لو ركبت ثم لبست، لم تطلق. وكذا لو قال: إذا قمت إذا قعدت، لم تطلق حتى يوجد القعود ثم [القيام؛ قاله] في المهذب. ولو قال: أنت طالق إن دخلت الدار إن كلمت زيداً، قال: في التهذيب: لم تطلق إلا بوجودهما، ويشترط تقديم الكلام على الدخول، وهو مماثل لما حكيناه عن المهذب، وضابطه: أنه لا يقع الطلاق ما لم تأتِ بالآخر في اللفظ أولاً، وبالأول آخِراً. وفي النهاية أن الأصحاب قالوا: يشترط ترتيب الكلام على الدخول؛ حتى لو كلمته، ثم دخلت- لم تطلق؛ لأنه في الحقيقة علق وقوع الطلاق عليها، عند الدخول

بكلام زيد، وهذا كما لو قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت مُدَبَّر، فالتدبير يقف على [دخول الدار]، وليس هذا كما لو قال: [إن كلمت] ودخلت)، يشترط وجود الصفتين لا غير؛ لأن الواو للجمع خصوصاً في المعاملات؛ وهذا يوافق ما حكاه الرافعي عما جمع من فتاوى القفّال: أنه يشترط وجود المذكور أولاً [أو لا]؟ وكذلك نقله القاضي الحسين في التعليق، ثم قال: والعراقيون قالوا [على] عكسه. وإيراد الغزالي في الوجيز موافق لذلك، وإن كان الرافعي [نسب ذلك] إلى سبق القلم؛ لأن إيراده في "الوسيط" مخالف له ثم، [قال الإمام: و] هذا ما ذكره الأصحاب والقاضي، وعندي في المسألة الأولى نظر؛ فإنه ذكر صفتين من غير عاطف، فالوجه الحكم بتعليق الطلاق بهما، فأما الترتيب، فلا معنى للحكم به، ولا فرق بين أن يقدم ذكر الطلاق أو يؤخره. وأبدى القاضي في المسألة الثانية احتمالاً في اقتضاء الترتيب؛ على ما حكاه في التعليق. قال: وإن قال [لها]: أنت طالق أن دخلت الدار بفتح الهمزة وهو يعرف النحو، طلقت [في الحال]؛ لأن [أن] المفتوحة وما بعدها تقدر بالمصدر واللام، وكأنه قال: [أنت طالق] لدخولك الدار؛ فصار تعليلاً. ولا فرق في وقوع الطلاق بين أن تكون قد دخلت الدار أو لم تدخل. أما إذا كان لا يعرف النحو، تعلق الطلاق على دخول الدار؛ لأن الجاهل [بذلك] لا يفرق بين المفتوحة والمكسورة؛ وهذا ما قاله الشيخ أبو حامد وأورده الإمام، والغزالي، والبغوي. وقال القاضي أبو الطيب: يقع الطلاق في الحال، سواء كان عالماً [بالنحو] أو جاهلاً؛ لأن هذا مقتضى اللفظ؛ فلا يعتبر فيه جهل اللافظ، بل تحمل الألفاظ على

مقتضاها في اللسان، ولا يعتبر من غير قصدٍ، فإن قال: أردت به التعليق، فإن كان يعرف النحو، لم يُقبل، وإن كان جاهلاً باللسان قُبِل؛ إذ لا فرق بينهما عنده. قال الرافعي: وهذا أظهر، وإلى ترجيحه ذهب ابن الصباغ، وهو الذي صدّر به المتولي كلامه. قال: الشيخ مجلي: وفي ذلك نظر؛ لأن [أن] المفتوحة مع ما بعدها تقدر بالمصدر واللام؛ على ما ذكرناه، فيصير قوله: لرضا فلان؛ فعلى هذا يُدَيَّن فيه إذا قال: أردت التعليق، [وهل] يقبل في الحكم؟ على الوجهين من غير فرق بين العالم والجاهل. وفي الشامل: أن أبا العباس بن القاص قال في المفتاح: إذا قال لزوجته: أنت طالق أن شاء الله بفتح الهمزة، وقع في الحال، ولم يذكر في الشامل عنه سواه. وحكى الرافعي في هذه المسألة ثلاثة أوجه عند الكلام في المشيئة: أحدها: هذا. والثاني: عدم الوقوع مطلقاً، وعزاه إلى الحناطي. والثالث: الفرق بين أن يكون ممن يعرف العربية؛ فتطلق في الحال، أو لا [يعرف]؛ فلا تطلق. قلت: وقد جرى في مسألة الدخول من هذه [الأوجه]، الأول، والثالث، وأما الثاني، وهو عدم الوقوع مطلقاً فوزانه في مسألتنا: ألا تطلق إلا بدخول الدار من غير فصلٍ بين [العارف بالنحو وغيره]، ولم أره، ويتجه جريانه أيضاً إذ لا يظهر بينهما فرق. فروع: أحدها: لو قال: أنت طالق أن طلقتك بفتح الهمزة، يحكم بوقوع طلقتين: واحدة بإقراره، وواحدة بإيقاعه في الحال؛ وذلك لأن المعنى: أنت طالق؛ لأني طلقتك؛ قاله الرافعي. الفرع الثاني: لو قال: [أنت طالق إذ دخلت الدار]، قال الأصحاب: يقع

الطلاق لأن إذْ لما مضى من الزمان، وسواءً كانت قد دخلت الدار، أو لم تدخل؛ لأنه أوقع الطلاق، وجعل دخول الدار الماضي عذراً، لا تعليقاً. قال مجلي: وجعلها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مثل أن بفتح الهمزة على التفصيل المذكور، وهذا أبداه الرافعي احتمالاً من عنده. الفرع الثالث: لو قال: إن دخلت الدار، أنت طالق فهل تطلق في الحال، أو لا تطلق إلا بدخول الدار؟ فيه وجهان محكيان في الذَّخائر، وهما كالوجهين [المحكيين] اللذين حكيناهما فيما إذا قال: إن شاء الله أنت طالق، والمشهور منهما: عدم الوقوع في الحال. [الفرع الرابع:] لو قال: أنت طالق طالقاً، قال في "التتمة": حكى القاضي [و] الإمام فيه وجهين: أحدهما: لا يقع الطلاق أصلاً بهذه الكلمة؛ لأن قوله: طالقاً نصب على الحال؛ فيكون تقديره: أنت طالق حالة ما تكونين طالقاً، والمرأة لا تكون طالقاً، إنما تكون مطلقة، فالصفة لا توجد؛ فلا يقع الطلاق. والثاني: تقع طلقة، ويكون تقديره: أنت طالق؛ فصِرتِ طالقة بما أوقعت عليك من الطلاق. وحكى الشيخ أبو عاصم العبادي: أن في الحال لا يقع شيء، ولكن [إذا طلقها] تقع عليها طلقتان، وتكون طالقاً بمعنى: مطلقة، فيصير تقديره: إذا صرت مطلقة فأنت طالق. ونقل مجلي هذه المسألة عن "الأم"، وأنها تطلق في الحال طلقة. ويسأل عن مراده بقوله: طالقاً، فإن قال: أردت به الحال، طلقت ثانية؛ لأن الحال في معنى الصفة؛ فكأنه قال: أنت طالق بعد تقدم طلقة عليك، وإن قال: أردت [طلقة] ثانية، طلقت ثانية، وإن قال: أردت به التأكيد، قبل منه وحلف، [قال مجلي: وقوله: ["و]

حلف": يدل على أنه إذا طلق وقع طلقتان]؛ لأنه حلفه على إرادة واحدة، فلولا أن مطلقه يقتضي طلقتين، لم يكن لتحليفه وجه. قلت: لا دلالة في ذلك؛ لأن التحليف يجوز أن يكون خشية من إرادته طلقة ثانية، أو إرادته الحال؛ لأن مطلقه يقتضي وقوع طلقتين، وهذا كما [جاء في] قوله صلى الله عليه وسلم لركانة: حين قال: "إني طلقت زوجتي سهيمة ألبتة، والله ما أردت إلا واحدة"، والله أعلم. لو قال: أنت طالق مريضةٌ، لم يقع الطلاق إلا إذا مرضت؛ لأن الحال بمنزلة الظرف للفعل؛ فلا يقع قبلها. ولو قال: مريضة، فإن الطلاق لا يقع أيضاً إلا في حال المرض؛ لأن ذلك لحن لا يغير المعنى. وذكر البندنيجي في "مذهبه": أنه إن كان من أهل الإعراب وقع الطلاق في الحال؛ لأن قوله: مريضة، صفة لها وليست حالاً، وإن لم يكن من أهل الإعراب لم يقع في الحال، ويعلق على مرضها. كذا حكاه في "الشامل" ثم قال: وهذا ليس بصحيح؛ لأن "مريضة" نكرة، ولا تكون صفة لمعرفة، وقد عرفها بالإشارة إليها؛ فلا تكون إلا حالاً، وإنما لحن في إعرابها. قلت: وقد وقفت على هذه المسألة في مذهب البندنيجي، والذي رأيته منقولاً فيه: أنه علق طلاقها بصفة هي المرض، متى مرضت طلقت؛ لأنه إذا نصب كان على الحال، وإن رفع كان معناه: تطلقين وأنت مريضة، وهكذا لو قال: أنت طالق [رجعة، فنصب]، أو: رجعة، فرفع، والله أعلم. قال: وإن قال: أنت طالق لرضا فلان، طلقت في الحال. أي: سواء رضي أم سخط؛ لأن اللام فيما لا ينتظر مجيئه وذهابه للتعليل؛

فكأنه علل وقوع الطلاق برضا فلان، وجعله عذراً له. وعن ابن خيران- فيما علقه الحناطي-: أنه إنما يقع في الحال إذا نوى التعليل، أما إذا أطلق ولم تكن له نية، فإنما يقع إذا رضي فلان كما في قوله: أنت طالق للسنة، والمنصوص الأول، ونزل ذلك منزلة قول القائل: أنت حر لوجه الله. قال: وإن قال: أردت: إن رضي فلان، أي: أردت به التعليق، قبل منه أي: في الظاهر والباطن؛ لأن ذلك يحتمل الشرط وإن كان ظاهره العلة؛ ألا ترى أن قوله: أنت طالق للسنة، معناه: إذا [جاء زمان] السنة، فإذا فسره بما يحتمله قبل منه. و"قيل: لا يقبل"، أي: في الحكم، ولكن يدين؛ لأنه خلاف ظاهر اللفظ؛ فأشبه ما إذا قال: أنت طالق، ثم قال: أردت: إن دخلت الدار. وهذا هو الأصح في الرافعي، والأول أصح عند ابن يونس، وهو الظاهر عند مجلي. ولو قال: أنت طالق برضا فلان أو بقدومه، فهو تعليق؛ كقوله: إن رضي أو قدم، قاله في "التهذيب"، وألحق بهما في "النهاية" ما إذا قال: لقدوم فلان؛ فإنه يحمل على التأقيت؛ لأنه يبعد التعليل بالقدوم، بخلاف الرضا. قال: وإن قال: أنت طالق، ثم قال: أردت: إن دخلت الدار- لم يقبل في الحكم؛ لأنه خلاف الظاهر، ويدين فميا بينه وبين الله عز وجل؛ لاحتماله. قال الغزالي: الأقيس: أنه لا يُدَيَّنُ أيضاً، وقد تقدم الكلام على ذلك؛ والفرق بينه وبين قوله: أنت طالق، ثم يقول: أردت: إن شاء الله- في آخر باب عدد الطلاق. فروع: لو قال: أنت طالق إن، فمنعه غيره من الكلام؛ بأن وضع يده على فيه، ثم قال: أردت أن أعلق بكذا- صدق بيمينه؛ لدلالة [حرف] الشرط على ما يدعيه، وإنما

حلفناه؛ لجواز أن يكون قصده التعليق على شيء حاصل. ولو سكت بنفسه، قال في "التتمة": طلقت. وحكى العبادي في "الزيادات" في هذه الصورة، [و] فيما لو قال: أنت طالق لولا، أو قال: إن، وسكت- خلافاً في وقوع الطلاق. ولو قال: أنت [طالق] إن أكن، فوضع غيره يده على فمه، فلما أطلق، أتم كلامه، وذكر الشرط- قال العبادي: أفتى فقهاء هراة بوقوع الطلاق، فسئلت فأفتيت ألا يقع [الطلاق]، فطلبت، فوجدت السلف قالوا كما قلت؛ فرجعوا. قال: وإن قال: أنت طالق إن دخلت الدار، ثم قال: أردت: في الحال، أي: وإنما سبق لساني إلى الشرط- "قبل منه"؛ لأن فيه تغليظاً عليه، فلو قال: أردت شهراً، معناه: إن دخلت الدار إلى شهر. قال: القاضي الحسين في "التعليق": الصحيح أنه لا يُدَيَّنْ فيما بينه وبين الله- عز وجل- وفيه وجه: أنه يدين. وإيراد صاحب "الشامل" يعضد هذا الوجه؛ حيث قال قبل كتاب الرجعة: إذا حلف حالف بعد مجلس الحكم، ونوى ما يجوز أن يراد باللفظ في مجاز اللغة، تعلقت اليمين في الباطن، وأما في الظاهر: فإن كان في طلاق، لم يقبل منه، وإن كان [في] اليمين بالله تعالى، أو نذر، فالقول قوله؛ لأن ذلك لا يتعلق به حق يطالب به، فلو قال: والله لا أكلت ولا شربت، وأراد به: في مكة، أو على ظهر الكعبة، اختصت يمينه بذلك، وكذلك لو قال: نسائي طوالق، ونوى به أقاربه دون زوجاته، لم تطلق الزوجات، وكذلك لو قال: جواري أحرار، ونوى به سفنه- لم تعتق إماؤه. وفرق القاضي الحسين بين قوله: والله لا أكلم فلاناً، ثم قال: نويت شهراً، حيث يقبل منه قوله فيما بينه وبين الله تعالى، كما نص عليه الشافعي- وبين [تقييد] دخول الدار بالنية، إلى شهر على الصحيح عنده؛ لأنه لم يتعلق به حق آدميين، بل

حق الله تعالى، [حتى لو تعلق به حق الآدميين، لا يقبل قوله فيما بينه وبين الله تعالى، مثل] أن يقول: إن كلمت فلاناً فأنت طالق، ثم قال: نويت شهراً. وما ذكره من الفرق حسن في القبول ظاهراً كما ذكره ابن الصباغ، أما في القبول بطناً فلا. فرع: لو قال لزوجتيه: إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما طالقتان، فدخلت كل واحدة منهما إحدى الدارين، فوجهان: أحدهما: تطلقان؛ لدخولهما الدارين. والثاني: لا؛ لأن قضيته دخول كل واحدة منهما الدارين؛ ألا ترى أنه لو قال لواحدة: إن دخلت الدارين، اعتبر أن تدخلهما، فكذلك إذا ضمها إلى غيرها، وهذا هو الصحيح في "المهذب". ولو قال: إن أكلتما هذين الرغيفين، فأكلت كل واحدة منهما رغيفاً، قالوا: يقع الطلاق؛ لأنه لا مساغ فيه للاحتمال الثاني، وأجرى فيه الشيخ في "المهذب" الوجهين. قلت: ويتجه أن يكون الخلاف في هذه [المسألة] مبنياً على المسألة الأولى، وعلى مسألة تعليق الطلاق بالمستحيل، وبيانه: أنا إن قلنا في المسألة الأولى بوقوع الطلاق، فكذلك ها هنا؛ لوجود الصفة، وإن قلنا: لا يقع؛ لأن الصفة دخول كل واحدة منهما الدارين، فهنا تكون الصفة أكل كل واحدة الغريفين، وذلك مستحيل، فيتخرج وقوع الطلاق على التعليق بالمستحيل، والله أعلم. قال: [قال في "الشامل" عند الكلام في السنة والبدعة: إذا قال لها: إذا قدم أبوك فأنت طالق، فقالت له: عجلها لي، فقال: عجلتها لك- نقل المزني في "المنثور" عن الشافعي: أنها لا تعجل]. وإن قال: إذا جاء رأس الشهر، فأنت طالق، ثم قال: عجلت لك ذلك- لم يتعجل. وصورته- على ما حكاه البندنيجي في مذهبه- أن يقول لها: أنت طالق تلك الطلقة الساعة، وقد عجلت إيقاعها عليك الآن، وإنما كان كذلك؛ لتعلقه بالوقت المستقبل، كما لو نذر صوم يوم معين، وكما أن الجعل في الجعالة لم تعلق استحقاقه بالعمل

لم يتعجل بتعجيل المالك، وكذا حق الفسخ بالعنة لا يتعجل بتعجيل الزوج، وهذا ما حكاه ابن الصباغ والمحاملي والبندنيجي والمتولي. وحكى القاضي الحسين في "التعليق"- والصيغة هذه- أن الطلاق يقع الآن، وإذا جاء رأس الشهر لم يقع غيره، بخلاف ما إذا قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال: عجلت لك ذلك الطلاق الآن- فإنه يقع [الطلاق]، وإذا دخلت الدار وقعت أخرى، ولم يحك في الصورتين غير ذلك. وحكى الإمام ذلك في الصورة الأخيرة، لكن بصيغة أن الطلاق يقع في الحال، وإذا وجدت الصفة وقعت أخرى على أحد الوجهين، ثم قال: وحاصله: أن المعلق هل يقبل التنجيز أم لا؟ ومأخذ الوجهين عند بعضهم: ما إذا علق الطلاق على صفة، ثم بانت منه بالثلاث، ثم تزوجها بشرطه، [ووجدت الصفة في النكاح الثاني- فهل يقع الطلاق المعلق بالصفة؟ وفيه الخلاف الآتي. ومنهم من قال: إنها تقع وإن لم نحكم بعود الصفة في الصورة] التي ذكرناها؛ لأن المعلق ما كان مرتبطاً بطلقة معينة، ولا خلاف [في] أنه لو علق طلقة ثم نجز طلقة مطلقة، فالتعليق لا ينحل بقوله: نجز ما علقت، [لأنه] تصرف منه في فك التعليق، وليس ذلك إلى المعلق. وقد أشار إلى ذلك الإمام عند الكلام في عود الحنث، وذكر الفوراني أن الكلام في هذه المسألة مبني على ما إذا قال: إذا حلفت بطلاقك، فأنت طالق، ثم قال: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق: قال ابن سريج: لا تطلق؛ لأن هذا ليس بيمين، وإنما هو تأجيل للطلاق. وقال غيره: تطلق؛ لأنه يمين. قال: فعلى هذا لو قال: إذا جاء رأس الشهر، فأنت طالق، ثم قال: عجلت تلك

الطلقة- فعند ابن سريج ينحل التعليق، ويقع ذلك الطلاق الآن، وعند غيره: يقع طلقة في الحال بقوله: عجلت، ثم إذا جاء رأس الشهر تقع أخرى. انتهى. قلت: وكأن ابن سريج لما [أن] قال: إنه تأجيل للطلاق، ألحقه بإسقاط الديون، ومن هذه المادة يؤخذ الفرق بين ما قاله القاضي الحسين في الصورة الأولى والثانية، من حيث إن مجيء رأس الشهر يقبل التأجيل [به]، بخلاف دخول الدار. وفرق في "التتمة" بين ما نحن فيه وبين الدين المؤجل، حيث قلنا: بتعجيل إسقاط الأجل على أحد الوجهين- بأن هناك أصل الدين واجب، وإنما تأخرت المطالبة؛ فكان التعجيل موافقاً لمقتضى العقد، وها هنا أصل الطلاق ما ثبت، وإنما ثبت عند الشرط، فهو نظير الجعل في الجعالة؛ لما كان المجعول له لا يملك البذل في الحال، فإذا قال له الجاعل: عجلت لك الجعل المشروط، لم يتعجل استحقاقه. قال: "وإن قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم بانت منه، ثم تزوجها، ثم دخلت الدار- ففيه ثلاثة أقوال"، أي: مجموعة من القديم والجديد؛ لأن [المنقول في] القديم: أنها إن بانت بما دون الثلاث، عادت الصفة، وفي الجديد قولان. وإن بانت بالثلاث ففي الجديد: لا تعود الصفة، وفي القديم قولان؛ فانتظم منهما الأقوال الثلاثة: أحدها: تطلق؛ لأن التعليق والصفة وجدا معاً في الملك، وتخلل البينونة لا يؤثر؛ لأنه ليس وقت الإيقاع ولا وقت الوقوع. والثاني: لا تطلق، وبه قال المزني وأبو إسحاق، واختاره الإمام، والشيخ- رضي الله عنه- في كتاب الخلع حيث قال: ففيه قولان، أصحهما: أنه يتخلص من الحنث، وبه أجاب القاضي الروياني، وإيراد ابن الصباغ يقتضي ترجيحه. ووجهه المزني بأن المراد: إما أن يكون النكاح الأول أو الثاني، ولا يجوز أن يكون الثاني مراداً؛ لأنه يكون تعليق طلاق قبل النكاح؛ فتعين الأول، وقد ارتفع،

ولأنه لو قال لامرأته: إذا بنت مني ونكحتك، ودخلت الدار، فأنت طالق، أو قال: إذا دخلت [الدار] بعد ما بنت مني ونكحتك، فأنت طالق- فالذي صححه المعتبرون من الأصحاب، منهم القفال: أنه لا يقع الطلاق إذا دخلت الدار بعد البينونة والنكاح، ولا يخرج على القولين، وغلطوا من قال بتخريجه. ولو كان الطلاق يقع في النكاح الثاني عند الإطلاق، لما امتنع التصريح بما هو مقتضى الإطلاق. قلت: وقد يمتنع، كما إذا قال الرجل لآخر: بعتك هذا بألف إن شئت، فإن البيع لا يصح على أحد الوجهين، وإن كان عند الإطلاق لا يقبل البيع إلا إذا شاء. وكما إذا قال الشاهد- فيما يعلم أن شهادته فيه بالاستفاضة-: مستند شهادتي الاستفاضة، قبل أن يسأل عن المستند- فإن شهادته لا تسمع على الأصح، كما حكاه ابن أبي الدم في كتابه الملقب بـ "أدب القضاة"؛ فيجوز أن يكون هذا من هذا القبيل. والجواب عن الأول: أن الذي منع من صحة البيع صورة التعليق، وحقيقته هنا لا تعرف، والله أعلم. والثالث: إن عادت بعد الثلاث، لم تطلق؛ لأنه استوفى ما علق من الطلاق، وهذه طلقة جديدة، وإن عادت قبلها، طلقت؛ لأن العائد الباقي من [الطلقات؛ فيعود بصفتها]، وكانت معلقة بذلك الفعل المعلق عليه، فيعود لذلك، وجعل في "التهذيب" هذا القول [أصح] المذهب، وكلام الإمام يقتضيه؛ حيث قال: والمصير إلى وقوع الحنث بعد وقوع الثلاث على نهاية البعد، حتى لا يكاد ينتظم فيه تعبير عن توجيه؛ فإن الرجل إذا علق ثلاث طلقات بوجود

صفة، فإنما علق ما يملك تنجيزه من الطلقات، فإذا نجز ما يملك فقد انحل ملكه المعلق، وكان التنجيز بمثابة الاستيفاء؛ فلا يبقى للتعليق متعلق، ويستحيل بقاء تعليق لا متعلق له. قال: "والأول أصح"، وكذا قال المحاملي، ووجهه في "المهذب" بما ذكرناه، وقد ظهر لك بما ذكرته أن الأصح خلافه. تنبيه: البينونة بما دون الثلاث تحصل بالطلاق قبل الدخول وبعده، بعوض أو بغير عوض، مع انقضاء العدة. وألحق الرافعي ها هنا الردة بما ذكرناه، وحكى في آخر كتاب الإيلاء وجهين في أن فرقة الفسخ: هل هي كالفرقة بالطلاق الثلاث أو بما دونها؟ وقيد الخلاف في كتاب الظهار بفرقة انفساخ النكاح بالملك، وحكاه طريقين، وجزم البندنيجي في مذهبه بأنه كالفرقة بما دون [الثلاث]، فتعود الصفة في القديم قولاً واحداً، وفي الجديد على أحد القولين. والله أعلم. ***

باب الشك في الطلاق، وطلاق المريض

باب الشك في الطلاق، وطلاق المريض الشك في الاصطلاح هو: التردد بين شيئين على السواء، والمراد به ها هنا: مطلق التردد، سواء أكان على السواء أو أحد الطرفين راجحاً، كما هو المراد فيما إذا شك هل أحدث أم لا؟ قال: إذا شك هل طلق أم لا [لم تطلق]. قال المحاملي في "المجموع": وهو إجماع. ولأن الأصل عدمه وبقاء النكاح، وهذا كما أنه يستصحب أصل التحريم عند الشك في النكاح، وأصل الطهارة عند الشك في الحدث وعكسه، وهذا أصل ممهد في الشريعة، لا يعدل عنه إلا أن يعارضه أصل آخر [أو ظاهر]- كما تقدم، وسيأتي، إن شاء الله تعالى- وليس ذلك في كل أصل ولا ظاهر. قال الإمام: وهذا إذا انحسم باب الاجتهاد، وطرأ الشك، فإنه يؤيد أحد الطرفين باليقين السابق، ويستصحب ما كان، فأما إذا أمكن الاجتهاد؛ كمسائل الاختلاف، نحو اختلاف العلماء في بقاء النكاح [وعدمه مثلاً؛ فإنا لا نقول: ترددنا في بقاء النكاح] وعدمه، فنستصحب الأصل الذي كان، بل الطريق فيها الاجتهاد والاعتماد على الدليل. ثم ليعلم أن الشك تارة يكون في صورة التنجيز [ولا يخفى]، وتارة في صورة التعليق، مثل أن يقول: إن كان هذا الطائر غراباً فأنت طالق، [فطار]، ولم يعلم، وسيأتي الكلام فيه، إن شاء الله تعالى. قال: "والورع أن يراجعها" أي: [إن كان] الطلاق المشكوك فيه يمكن معه الرجعة، أما إذا لم يمكن، كما إذا كان قبل الدخول مثلاً، فالورع: أن يجدد النكاح إن

كان له فيه رغبة، وإلا فينجز طلاقها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم-: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ". قال: وإن شك هل طلق طلقة أو أكثر، لزمه الأقل؛ لأنه المستيقن، والأصل [فيه] عدم ما زاد عليه. فإن قيل: التحريم بسبب الطلاق قد تحقق، وقد حصل الشك فيما رفعه من الرجعة، أو إصابة زوج آخر [مع] تجديد النكاح؛ فلا يرتفع التحريم مع الشك فيما يرفعه، كما إذا أصاب الثوب نجاسة ولم يعرف موضعها؛ فإنه يغسل جميعه. قلنا: لا نسلم تحقق مطلق التحريم، بل التحريم المحقق هو ما يزول بالرجعة؛ فالزيادة عليه غير محققة، بل مشكوك فيها؛ فلم يعترض على القدر المحقق. وأما القياس على النجاسة، فليس [وزان مسألتنا]؛ لأنه بغسل بعض الثوب لا يرتقع ما تيقنه من النجاسة؛ لأنه ليس لها قدر معلوم، [حتى] يستصحب أصل العدم فيما سواه؛ فوجب استصحابه إلى أن يتيقن الطهارة، وها هنا قدر الطلاق مرة واحدة أو اثنتين معلوم؛ فيستصحب أصل العدم فيما سواه، ووزان النجاسة من مسألتنا: أن يتحققها في طرف من الثوب، ويشك في إصابتها طرفاً آخر، وحينئذ فلا يجب غسل الموضع المشكوك فيه. فرع: لو قال: أنت طالق طلقة أو طلقتين، طلقت طلقة؛ لأنها محققة، والزائدة مشكوك فيها؛ فلا تقع؛ لأن الأصل عدم وقوعها، قاله في "التتمة".

قال: والورع إن كانت عادته أن يطلق الثلاث؛ لأنه لو تركها من غير طلاق احتمل ألا يكون قد طلقها [فلا تحل لغيره بيقين، ولو راجعها، احتمل أن يكون قد طلقها ثلاثاً؛ فلا تحل له بيقين]، وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ"، وهذا وإن كان فيه إعادة الضمير على الجملة المذكورة أولاً، والظاهر إعادة الضمير على أقرب مذكور- فالحامل عليه القرينة، وقد جاء في الكتاب العزيز في قوله تعالى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ} [البقرة: 249]؛ فإن الاستثناء يعود على الشرب للقرينة، وإن كان الاستثناء يعود إلى أقرب مذكور، أو إليهما جميعاً كما ذهب إليه الشافعي في آية القذف. أما إذا تيقن أنه أوقع الطلاق، وشك هل هو طلقة أو أكثر، وكانت عادته أن يطلق الثلاث- فالورع في حقه أن يبتدئ من الطلاق ما يكمل به الثلاث مع ما تحققه، لا أن يبتدئ [إيقاع] الثلاث؛ لما في ذلك من إيقاع زيادة على العدد الشرعي ظاهراً، وهو ممنوع من ذلك. ولفظ الشيخ في "المهذب" في هذه الصورة: وإن كان الشك في الثلاث فما دونها طلقها ثلاثاً؛ لتحل لغيره بيقين. ونوقش في التعليل؛ لأنها حلال للغير [بيقين] على كل تقدير، وأوله بعضهم على إضمار الخطبة، وقال: تقديره: لتحل لغيره [الخطبة بطريق التعريض] بيقين؛ [لأنها قبل أن يكمل إيقاع الثلاث مشكوك في إباحتها. وقال بعضهم: لفظ الشيخ: لتحل بغيره]- بالباء لا باللام- وهذا فيه نظر؛ لأ، فيه تغيير اللفظ من غير فائدة؛ لأنها تحل لغيره والحالة هذه، وإن لم يطلقها [ثلاثاً بيقين].

نعم، فيه فائدة، وهي أنها إذا عادت إليه بعد أن طلقها ثلاثاً، ملك عليها الثالث بيقين. وحمله بعضهم على ما إذا اتفقت رجعة بعد حالة الشك، ثم أراد أن يفعل الورع، فإن الورع في حقه- والحالة هذه- أن يطلقها الثالثة؛ لتحل للغير بيقين؛ لأنه لو تركها، احتمل أن يكون الواقع ما دون الثلاث، فتكون الرجعة صحيحة فلا تحل، واحتمل أن الواقع الثلاث فتحل، فإذا طلقها الثالثة حلت للغير بيقين. فرع: [لو] شك هل طلق أم لا، ثم راجعها تورعا، ثم طلقها طلقتين- فالورع أن يطلقها ثالثة؛ لما ذكرناه عن التعليل. قال: وإن طلق إحدى المرأتين بعينها، ثم أشكلت عليه، أي: بأن طلقها في ظلمة، أو: وهي مُوَلِّيَةٌ ظهرها [إليه] أو من وراء حجاب، أو شافهها بالطلاق، أو نواها عند قوله: إحداكما طالق، ثم نسيها- وقف عن وطئها حتى يتذكر، أي: على سبيل الوجوب؛ لأن إحداهما حرمت عليه بالطلاق، والأخرى بعلة الاشتباه، كما لو اشتبهت المحرمة عليه بالرضاع مثلاً بغيرها؛ فإنه يمنع من [نكاحهما جميعاً]، هكذا أشار إليه في "الشامل" وغيره. ولو فرق بينهما بأن: ثم الأصل التحريم، وقد شككنا في جواز الإقدام؛ فرجعنا إلى الأصل، وها هنا الأصل في كل واحدة منهما الإباحة، وقد شككنافي المحرم، فيستصحب الأصل- لكان له وجه، ولكن هذا المعنى موجود في مسألة الأواني، ومع هذا فلا يجوز الإقدام على واحد منهما من غير اجتهاد على المذهب، مع أن الاختلاط في الأبضاع محال، ولأنه قد يؤدي إلى إباحة وطء كل واحدة منهما مع تحقق تحريم وطء إحداهما. فإن قيل: قد حكى الشيخ في باب الرضاع: إذا وطئ رجلان امرأة، فأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فارتضع طفل بلبنه، ثم مات الولد قبل أن يتبين نسبه من أحدهما، وأراد المرضع أن يتزوج ببنت أحد الرجلين- أنه ليس له ذلك على وجه، وهو وزان ما ذكره هنا، [وعلى وجه: يجوز أن يتزوج بنت أحدهما،

فإذا تزوجها حرمت عليه بنت الآخر، فهل للأخرى مثل هذا الوجه هنا]، وكأن وطأه لإحداهما يعين الطلاق من الأخرى؟ قلنا: لو قيل به لزم أن يجعل الوطء تعينا للطلاق في الأخرى والنكاح فيها، والوطء لا يكون تعيناً، كما سيأتي بيانه. فرع: هل يطالب بالبيان، والحالة هذه قبل التذكر؟ ينظر: إن صدقناه في النسيان فلا مطالبة، ولا مدخل للقاضي في ذلك. وإن كذبناه، وبادرت واحدة وقالت: أنا المطلقة- لم يقنع منه [في] الجواب بأن يقول: نسيت، أو: لا أدري، وكان ما يقوله محتملاً، ولكن يطالب بيمين جازمة على أنه لم يطلقها، وإذا حلف، تعين الطلاق في الأخرى، وإن أقر، تعينت الأخرى للنكاح، قاله البغوي. وإن نكل، حلفت، وقضي باليمين المردودة، هكذا حكاه الإمام وغيره على ما حكاه الرافعي، وألطق صاحب "التتمة" و"الشامل": أنه يطالب بالبيان، ولم يتعرضا لهذا التفصيل، ولعله محمول عليه. وحيث قلنا: إنه يحلف يميناً جازمة، فذلك إذا وقع الطلاق على إحداهما بإيقاعه، أما إذا قال: من دخلت الدار منكما فهي طالق، ودخلت إحداهما، وقالت كل واحدة: أنا دخلت- فإن ها هنا يحلف على نفي العلم، ثم لا يكون الحلف بذلك إقراراً للثانية [بالدخول]، بل يحلف للثانية- أيضاً- كذلك، قاله [البغوي و] الفوراني في "الإبانة". ثم هذا كله إذا كان الطلاق بائناً، فلو كان رجعياً، فهل يلزمه أن يبين؟ وهكذا فيما إذا كان الطلاق مبهماً هل يلزمه أن يعين؟ فيه وجهان. حكاهما الإمام، وأن الأصح منهما: أنه لا يلزمه؛ لأن الرجعية زوجة. [فرع] آخر: إذا قال: على الطلاق، وله زوجات، ونوى- قال في "الذخائر": يقال له: بين، فإن أراد به واحدة معينة، كان كقوله: زوجتي طالق؛ فإنه يقع على واحدة

منهن، وعليه البيان، وإن أراد: من جميعهن، طلقت كل واحدة طلقة، كقوله: زوجاتي طوالق، ولابد من النية، حكاه قبل باب الاستثناء. قال: فإن قال: هذه، لا بل هذه- طلقتا؛ لأن [هذا البيان] بيان إقرار وإخبار عن التي طلقها، فإذا قال ذلك فقد أقر بطلاق الأولى، ثم رجع عنه، وأقر بطلاق الثانية، فقبل ما أقر به ثانياً، ولم يقبل رجوعه عن طلاق الأولى، وألحق القاضي الحسين بهذه الصورة في الحكم والتعليل، ما إذا قال: هذه وهذه، وكذا إذا قال: هذه بعد هذه، وهو المذكور في "التهذيب"، بخلاف ما إذا قال: هذه بعد هذه، [أو: هذه] ثم هذه، أو: هذه فهذه؛ فإن الأولى تطلق دون الثانية، وفرق في "التهذيب" بينهما بأن هذه الحروف للتعقيب؛ فلا تصلح للإيقاع، وحرف الواو للعطف، و [حكم المعطوف] حكم المعطوف عليه، وبل معناه ما ذكرناه. واعترض الإمام على ذلك، فقال: كيفما قدر موجب الكلام ففي قوله: هذه ثم هذه، اعتراف بالطلق فيهما؛ فليكن الحكم كما في قوله: [أردت] هذه وهذه. قال الرافعي: والحق الاعتراض. وحيث حكمنا بالوقوع عليهما، فذاك فيما يتعلق [بحكم الظاهر]، فأما فيما بينه وبين الله- تعالى- فالمطلقة هي التي نواها، وعينها لا غير، وقد أشار إلى ذلك الشيخ في "المهذب" بقوله في الحكم: وصرح به الإمام، ثم قال: حتى لو قال: إحداكما طالق، ونواهما جميعاً، فالوجه عندنا: أنهما لا تطلقان، ولا يجيء فيه التردد المذكور فيما إذا قال: أنت طالق واحدة، ونوى ثلاثاً؛ لأن حمل إحدى المرأتين عليهما جميعاً لا وجه له، وهناك يتطرق إلى الكلام تأويل بيناه. قلت: وهذا من الإمام بناءً على المذهب الصحيح في أن الإقرار بالطلاق من غير أن يصدر منه في نفس الأمر طلاق، لا يكون إنشاء للطلاق.

أما إذا قلنا: إنه يكون إنشاء للطلاق، كما قاله الشيخ أبو محمد تخريجاً من أن الإقرار بالرجعة في زمن الرجعة [رجعة]- فتطلق [في] الباطن أيضاً. فروع: لو كانت الزوجات ثلاثاً، فقال: هذه بل هذه بل هذه، طلقن؛ لما ذكرناه. ولو قال: هذه [بل هذه أو هذه]، فقد طلق الأولى، وأبهم الطلاق في الثانية والثالثة؛ فيكلف البيان. ولو قال: هذه أو هذه، لا بل هذه، فقد طلق الثالثة وأبهم الطلاق في الأولى والثانية؛ فيكلف البيان. ولو قال: [طلقت] هذه أو هذه وهذه، قال أبو العباس: فقد أبهم الطلاق في الأولى والثانية، وطلق [الثالثة]؛ لأن معنى قوله: وهذه، أي: وطلقت هذه. قال البندنيجي: قال الشيخ- كأنه يشير إلى الشيخ أبي حامد-: ظاهر الكلام غير ذلك، بل أبهم الطلاق بين الأولى، [والثالثة] والثانية؛ لأن قوله: وهذه، معناه: طلقت هذه أو هاتين، ولو قال: عينت هذه أو هذه وهذه، فجعله من جزأين، جعل الأولى جزءاً والثانية والثالثة جزءاً- قال القاضي الحسين في "التعليق": يقال له: بين، فلو بين الأولى، وقع عليها الطلاق، ولا يقع على الباقيتين، ولو بين واحدة من الجزء الثاني، يقع عليها الطلاق، دون الأولى، وهذا إذا أراد بقوله: وهذه، وصلا بالثالثة، فأما إذا قال: أردت بقولي: أو هذه، وصلا بالأولى، يقع الطلاق على الثالثة، ويقال له: بين إحدى الأوليين، فلو قال: هذه، ووقف ساعة مديدة، ثم قال: وهذه أو هذه- يقع الطلاق على الأولى دون الثانية والثالثة. قال: "وإن وطئ إحداهما لم يتعين الطلاق في الأخرى"، علل الأصحاب ذلك بأن الطلاق لا يقع بالفعل؛ فكذلك بيانه، ولأنه لو وطئها لم يكن بياناً للطلاق، ولو

كان بياناً لوقع الطلاق عليها، كما لو قال لكل واحدة [منهما]: هذه المطلقة؛ فإنهما تطلقان. ووجهه البندنيجي: بأن هذا البيان إخبار عن التي طلقها، والفعل لا يقع بالخبر، وإذا بين الطلاق في الموطوءة، وجب [عليه] المهر؛ لجهلها بأنها المطلقة، وأما الحد: فإن كان عالماً بأنها المطلقة، وكان الطلاق بائناً- وجب، وإلا فلا. وإن بينه في غير الموطوءة، قبل؛ فلو ادعت الموطوءة أنه أرادها حلف، فإن نكل حلفت، وحكم بطلاقها، وعليه المهر، ولا حد للشبهة؛ فإن الطلاق يثبت في الظاهر باليمين، هكذا قاله الرافعي. قلت: وفي سماع دعواها على الإطلاق نظر، بل كان ينبغي أن يقال: إن علمت بالطلاق، ثم مكنته من الوطء فلا تسمع دعواها، كما إذا زوجت المرأة برضاها أو بدونه من رجل، ثم مكنته من الوطء، وادعت بعد ذلك أن بينها وبينه رضاعاً محرماً- فإنا لا نسمع دعواها على المذهب، إلا أن تبدي عذراً، فتسمع، على احتمال أبداه الغزالي. وإن لم يعلم بالطلاق، بأن يكون قد نوى المطلقة، ولم يظهر لها بالقرائن أنه نواها، أو عرفت ذلك ولكن وطئت مكرهة- فإنه تسمع دعواها، ولعل الإطلاق محمول على ذلك. قال: وإذا عين وجبت العدة من حين الطلاق؛ لأنه وقت وقوعه. هذا هو الظاهر، وخرج فيه قول آخر أنها تعتد من حين التعيين. قال الإمام: وبنى الأصحاب هذين القولين-[الظاهر، والمخرج: أنه تعتد- على القولين] في المستفرشة بالنكاح الفاسد إذا فرقنا بينهما، فالعدة تعتبر من آخر وطأةٍ، أو من وقت التفريق بينهما؟ ووجه الشبه: أن الأمر ملتبس، واختلف القول في تاريخ ابتداء العدة كذلك إذا لم يبين، والأمر ملتبس في ظاهر الأمر مع كل واحدة، فإذا فرض البيان، كان هذا كالتفريق.

قال الإمام والقاضي: والأصح الفرق بينهما، وذلك أن في تلك المسألة افترشها؛ فالعدة من وقت التفريق، وها هنا لم يفترشها؛ فإنه يمنع عن النساء. وفي "الذخائر" عن "الحاوي" حكاية وجه آخر: أن الطلاق يقع من حين التبين، ونقل عنه: أنه ليس بشيء، فلأجل ذلك لم يفرع عليه. فرع: حيث حكمنا بوقوع الطلاق عليهما فيما إذا قال: هذه بل هذه- وما شابه ذلك- قال الجيلي: تكون عدة الأولى من حين الطلاق، والثانية من حين اللفظ؛ لأنه لما أن قال: هذه، أخبر بأنها مطلقة من قبل، ثم لما [أن] قال: بل هذه، أخبر بطلاقها؛ فتطلق من هذا الوقت. وما قاله لم أره لغيره، وفيه نظر؛ لأنه لما قال: [بل] هذه، أضرب عن [الأولى]، واعترف بأن هذه هي المطلقة باللفظ الأول؛ فينبغي أن تكون عدتها أيضاً من وقت الطلاق؛ لما قلناه. [قال: "والنفقة عليه إلى أن يعين"؛ لأنهما محبوستان بعقد النكاح، وأبدى القاضي الحسين في "النفقات" احتمالاً آخر فيما إذا عين: أنه لا نفقة عليه]. قال: "وإن طلق إحداهما لا بعينها" أي: مثل أن قال: إحداكما طالق، أو إحدى زوجتي طالق، ولم يَنْوِ بقلبه واحدة منهما، ولا أشار إليها- "لزمه أن يعين" أي: على الفور؛ لرفع حبسه عمن زال ملكه عنها، فلو أَخَّرَ، عَصَى وَعُزِّرَ؛ كما إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة وأسلمن [معه].

والتعيين يحصل بأن يقول: هذه المطلقة، أو: هذه [هي] [التي] تبقى في قيد النكاح، ولو كانت النسوة ثلاثاً، وأشار إلى اثنتين منهن، فقال: من أردته بالطلاق في هاتين- انحصر الاختيار فيهما، وعليه أن يعين واحدة منهما، حكاه الإمام والرافعي في "نكاح المشركات". قال: فإن قال: هذه، لا بل هذه، طلقت الأولى دون الثانية؛ لأن التعيين ها هنا ليس إخباراً عما سبق؛ وإنما هو إنشاء اختيار، وليس له إلا اختيار واحدة؛ فيلغو اختيار ما بعدها، ولا فرق في ذلك بين أن يوقع الطلاق عند التعيين، أو يسنده إلى وقت إطلاق اللفظ المبهم- على ما سيأتي- لأنا وإن أسندناه، فلا نجعل التعيين إخباراً، وإنما هو إنشاء تتمة اللفظ، ويخالف الحالة الأولى؛ فإنه يخبر هناك عن أمر سابق، ويجوز أن يكون صادقاً في الخبر الأول، وكذلك في الثاني، فإذا اجتمع الإقراران لم يكن بد من الواحدة بهما. فرع: لو قال: امرأتي طالق، وله امرأتان، وأشار إلى إحداهما، ثم قال: أردت الأخرى- فهل يقبل منه؟ فيه وجهان، حكاهما الرافعي عن أبي العباس الروياني: أحدهما: يقبل ذلك منه؟ والثاني: تطلقان. قال: "وإن وطئ إحداهما، تعين الطلاق في الأخرى على ظاهر المذهب"؛ لأن هذا تعيين شهوة واختيار؛ فصح بالوطء، لدلالته على شهوته واختياره، ولأن الظاهر من حال المسلم أنه إنما يطأ من يحل له وطؤها؛ فصار كوطء الجارية المبيعة في زمن الخيار؛ فإنه يكون فسخاً من البائع، أو إجازة من المشتري، كذا قاله الإمام [، وهذا ما اختاره المزني، وصححه الشيخ في "المهذب"، والبغوي]، والقاضي ابن كج، وقال أبو إسحاق- على ما حاكه عنه البندنيجي-: إنه المذهب. وكذلك

قاله المحاملي في "المجموع"، وأن سائر الأصحاب صاروا إليه. قال: "وقيل: لا يتعين"، وهذا اختيار أبي علي بن أبي هريرة، وادعى ابن الصباغ والمتولي: أنه ظاهر المذهب كما في المسألة قبلها، ولأن ملك النكاح لا يحصل بالفعل ابتداء؛ فلا يتدراك بالفعل، وكذلك لا تحصل الرجعة [بالوطء]، ويخالف وطء الجارية المبيعة بشرط الخيار؛ فإن ملك اليمين يحصل بالفعل ابتداء؛ فجاز أن يتدارك بالفعل. وبنى القفال هذا الخلاف على الخلاف في أن الطلاق بعد التعيين متى يقع، على ما سيأتي: فإن قلنا: إنه يقع عند اللفظ، فالوطء يتعين. وإن قلنا: [يقع] عند التعيين، فالفعل لا يصلح موقعاً، وعلى ذلك جرى الغزالي وصاحب "التتمة". وقضيته: أن يكون الراجح: أن الطلاق يقع [عند] اللفظ، وهو ما ذهب إليه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب، والروياني وآخرون، وعليه يدل كلام الشيخ في المسألة التي تلي هذه [المسألة]، ورجح أبو علي القول الآخر، وقال: إنه ظاهر المذهب. التفريع: إن جعلنا الوطء تعييناً، فلا مهر للموطوءة، وإلا فيطالب بالتعيين، فإن عين الطلاق في الموطوءة، وجب المهر، على ما حكاه في "المهذب" و"التهذيب". وقال الرافعي: هذا إذا قلنا بوقوع الطلاق عند اللفظ، فإن قلنا بالوقوع عند التعيين، فقد حكى الفوراني: أنه لا يجب، وذكر فيه احتمالاً آخر؛ أخذا من

وجوب المهر على من وطئ الرجعية، قال: وهذا البناء على طريقة القفال يظهر أنه غير منتظم؛ لأنا حيث قلنا: إن الوطء تعيين، فذاك بناءً على أن الطلاق يقع حين اللفظ، وحيث قلنا: إنه لا يكون تعييناً، [فذاك بناءً على أن الطلاق يقع عند التعيين، وإذا كان كذلك، لم يحسن القول بأنا إن قلنا: إنه لا يكون تعييناً]، وعين الطلاق بعد ذلك في الموطوءة؛ فإن وجوب المهر ينبني على أن الطلاق يقع حين اللفظ أو حين التعيين، بل يتجه القطع بأنه لا يجب المهر على القولين جميعاً، كما ذكره القاضي الحسين في "التعليق". نعم، إن كان الخلاف في أن الوطء هل يكون تعييناً أم لا، غير مبني على ما قاله القفال- استقام هذا الكلام، والله أعلم. فرعان: أحدهما: هل يقوم سائر الاستمتاعات مقام الوطء [في التعيين]؟ فيه وجهان؛ بناءً على الخلاف في أن المباشرة فيما دون الفرج هل تحرم الربيبة؟ الثاني: هل يمنع من وطء ابنتها؟ قال: البندنيجي في "مذهبه" وابن الصباغ في "شامله" وغيرهما: إن قلنا: إن الوطء تعيين، لم يمنع، وإلا فيمنع، قال البندنيجي [في "التعليق"]: وهو ظاهر كلام الشافعي. وكذلك حكاه القاضي الحسين في "التعليق). وفي "الرافعي": أن الأكثرين أطلقوا القول بالمنع منهما جميعاً، وقضية ما ذكرناه من أن المذهب أن يكون تعييناً [أنه لا يمنع]. هذا ما وقفت عليه في كتب أصحابنا، ورأيت في كتاب الوزير ابن [هبيرة- الذي حكى فيه ما أجمع عليه الأئمة الأربعة وما اختلفوا فيه-: أن] ابن أبي هريرة من أصحابنا قال: إذا طلق واحدة من زوجاته لا بعينها أو بعينها، طلاقاً رجعياً، ثم

نسيها- أنه لا يحال بينه وبين وطئهن، وله أن يطأ أيتهن شاء، وإذا وطئ واحدة، انصرف الطلاق إلى غير الموطوءة، وهذا بخلاف ما حكيته من قبل، والله أعلم. قال: وإذا عين، أي: إما بالقول، أو بالوطء إن رأيناه، وجبت العدة من حين الطلاق، وقيل: من حين التعيين، والأول أصح. وهذا الخلاف مبني على الخلاف في أن الطلاق متى يقع؟ وفيه قولان على ما حكاه القاضي، ووجهان على ما حكاه الرافعي: أحدهما: أنه يقع من حين اللفظ؛ لأنه جزم بالطلاق ونجزه؛ فلا يجوز تأخيره، إلا أن محله غير معين، فيؤمر بالتعيين ولأن التعيين يبين التي اختارها للنكاح؛ فيكون اندفاع الأخرى باللفظ السابق؛ كما أن التعيين فيما إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة لما تبين به من يختارها للنكاح كان اندفاع [نكاح الأخريات] بالإسلام السابق. والثاني: من حين التعيين؛ لأنه لو وقع قبل التعيين لوقع لا في محل، والطلاق شيء معين؛ فلا يقع إلا في محل معين، ولكن قول الزوج: إحداكما طالق، جَزْمٌ منه بالإيقاع؛ فاقتضى إيقاع الحيلولة؛ فإن الطلاق وإن لم يتم قد صدر صدوراً لا يرد؛ فلم يستقل ليقع، ولم يعلق لينتظر متعلَّقه؛ فكان مقتضاه إلزام الزوج إتمامه ولو بعد حين، فإذا أتمه إذ ذاك، وقع؛ فكأنه أوجب الطلاق ولم يوقعه، وقد يعبر عن هذا الخلاف بأن إرسال اللفظ المبهم إيقاع طلاق، أو التزام طلاق في الذمة؟ وقد صرح بذلك القاضي في "التعليق". فإن قلنا: إنه طلاق موقع، فالطلاق يقع من وقت اللفظ، وحكم العدة كذلك. وإن قلنا بالثاني، فالطلاق يقع من وقت التعيين، وتعتد من ذلك الوقت. وقال ابن أبي هريرة: الطلاق يقع من حين اللفظ، والعدة من حين التعيين؛ فإن العدة قد تتأخر عن الطلاق، كما لو وطئت بشبهة بعد الطلاق، كذا حكاه البندنيجي عنه، وهو كالوجه المخرج في المسألة الأولى.

وقال الإمام: هو هو. وحكى عن القاضي الحسين تشبيه الخلاف في وقت وقوع الطلاق، بالخلاف في أن القسمة بيع أو [إفراز حق] وقرره، ثم قال: وقد بالغ القاضي في استنباط ذلك، وأحسن في الإيضاح بأن الدار كانت على الشيوع حسّاً، كما جرى اللفظ على الإبهام فيما نحن فيه، وتمييز الحصة ثم كتعيين المطلقة والزوجة ها هنا، واستناد التبيين ثم أحرى كاستناد وقوع الطلاق ها هنا، والمصير ثم إلى أن القسمة هي المفيدة للتخصيص على الابتداء بمثابة مصيرنا إلى أن التعيين هو الذي يفيد الوقوع متصلاً به غير مستند إلى اللفظ. قال: "والنفقة عليه إلى أن يعين"، أما إذا قلنا بأن الطلاق يقع من حين التعيين؛ فلبقائهما على الزوجية، وأما إذا قلنا بالقول الآخر؛ فلما قدمناه. قال: فإن ماتت المرأتان قبل التعيين، أي: وكان الطلاق بائناً، وقف من مال كل واحدة منهما نصيب الزوج، أي إلى أن يعين في هذه المسألة، ويبين في المسألة الأولى؛ لأنه قد ثبت إرثه من إحداهما بيقين. قال البندنيجي: وهذا يبين فساد قول من ذهب إلى أن الطلاق يقع حين التعيين؛ فإنه لو كان كذلك لما صح التعيين بعد الموت، وفي "الإبانة" حكاية وجه: أنه ليس له التعيين بعد الموت؛ بناءً على أن الطلاق يقع من حين التعيين، ومال إليه [البندنيجي، و] الشيخ أبو محمد، وقال تفريعاً عليه: إنه يرثهما جميعاً. فعلى هذا: لا وقف عند إبهام الطلاق. ولو ماتت إحداهما ففي "الإبانة": أنه إن عين الطلاق في الحية صح، وإن أراد أن يعين [الميتة] بالطلاق فعلى ما ذكرناه. وقال الشيخ أبو محمد: يتعين الطلاق في الأخرى. قال الإمام: وهو لعمري سديد لو صح الأصل، ولكن ما ذكره الشيخ- يعني والده- إظهار مَيْلٍ، وما أجمع عليه الأصحاب أن التعيين لا ينحسم بالموت. [قلت: وهذا بخلاف ما لو قال: إحداكما طالق غداً، فماتت إحداهما، أو طلقها

قبل الغد، فإن الأخرى لا تطلق، ولا يطالب بالتعيين؛ لأنه أوقع طلاقاً، وهو مخير فيه، وقد بطل فيه التخيير بموت إحداهما وطلاقها؛ فلم يصح، كذا قال القاضي أبو الطيب في كتاب "الأيمان"]. نعم، [في مسألتنا] إذا قلنا: إن الطلاق يقع عند التعيين فمتى [يقع] ها هنا؟ المذهب الأصح: أنه يستند إلى وقت اللفظ- أيضاً-[فارتفع الخلاف]. ومن أصحابنا من قال: يستند إلى ما قبل الموت؛ كحكمنا فيما إذا تلف المبيع قبل القبض. وهذا أرجح عند الغزالي. وإذا [عين أو بين] لم يرث من المطلقة شيئاً، سواء قلنا بوقوع الطلاق عند اللفظ أو [عند التعيين]، قال صاحب "التتمة" [وغيره]: لأن الإيقاع سابق وإن كان الوقوع حينئذ، وأما الأخرى [فيرث منها. ثم إن كان قد نوى معينة وبين، فقال ورثة الأخرى]: هي التي أردتها بالطلاق فلا إرث لك- فلهم تحليفه [كما كان لمورثهم تحليفه،] فإذا حلف فذاك، وإن نكل حلفوا، وحرم ميراثها أيضاً. وإن لم ينو معينة وعين، فلا يتوجه عليه لورثة الأخرى [دعوى]؛ كما لا يتوجه لمورثهم. فرع: قال القاضي ابن كج: إذا حلفه ورثة التي عينها للنكاح، أخذوا جميع المهر إن كان بعد الدخول، فإن كان قبله أخذوا نصفه، وفي النصف الثاني وجهان: أحدهما: يأخذونه- أيضاً- إمضاء للحكم على موجب تصديقه. والثاني: المنع؛ لأنها مطلقة قبل الدخول بقولهم. قال: وإن مات الزوج، وقف [لهما] من ماله نصيب زوجة، أي: إلى أن يبين الوارث إن رأينا ذلك، أو يصطلحا إن لم نره- على ما سيأتي- لأنه قد ثبت إرث إحداهما بيقين، وهذا إذا كانت كل واحدة من الزوجتين بصفة

الوارثة منه، أما إذا كانت إحداهما كتابية، والأخرى والزوج مسلمان: فهل يوقف نصيب زوجة أم لا؟ فيه وجهان، تقدم نظيرهما في "نكاح المشركات"، ومختار صاحب "الشامل": الوقف، وبه جزم جوابه في كتاب "الاستبراء". قال: فإن قال الوارث: أنا أعرف الزوجة، فهل يرجع إليه؟ فيه قولان: أحدهما: نعم؛ كما يخلفه في سائر الحقوق من الرد بالعيب وحق الشفعة وغيرهما، ويقوم مقامه في استحقاق النسب. والثاني: [لا]؛ لأن حقوق النكاح لا تورث، ولأنه إسقاط وارث؛ فلا يمكن الوارث منه لنفي النسب باللعان. قال: "وقيل: يرجع إليه في الطلاق المعين"؛ لأن البيان فيه إخبار، وقد يعرف إرادة المورث، ويطلع عليها بخبر أو قرينة. "ولا يرجع [إليه] في الطلاق المبهم"؛ لأنه اختيار يصدر عن شهوة؛ فلا يخلفه الوارث فيه؛ كما لو أسلم [الكافر] على أكثر من أربع نسوة، ومات قبل الاختيار. وهذا القول أخذ من اختلاف الطرق [في محل القولين المتقدم ذكرهما]؛ [إلا أن] من أصحابنا من قال: محلهما الطلاق المعين، أما الطلاق المبهم فلا يقوم الوارث فيه مقام المورث، قولاً واحداً، وهذا أصح عند البندنيجي. ومنهم من قال: محلهما على الإطلاق، سواء كان الطلاق في معينة أو مبهماً، وإلى ذلك ذهب أبو إسحاق، وفي طريقة المراوزة: أن من أصحابنا من قال: محلهما إذا كان الطلاق مبهماً، أما إذا كان في معينة فله التعيين قولاً واحداً. فانتظم من مجموع ذلك الخلاف المذكور، وفي "الجيلي": أن من فصل لم يثبت للشافعي في المسألة [الأولى] قولين، بل جعل جوابه المختلف منزلاً على حالين: فحيث قال: يرجع إليه، أراد: ما إذا كان الطلاق في معينة، وحيث قال: لا يرجع إليه، أراد: ما إذا كان الطلاق مبهماً. وحكى القفال في أصل المسألة طريقة قاطعة- والصورة هذه-: أنه لا يرجع إلى تعيين الوارث قولاً واحداً، سواء كان الطلاق في معينة أو مبهماً؛ لأنه لا غرض له في

ذلك؛ فإن الحال لا يختلف بين أن يخلف زوجة أو أكثر، واستحسنها الإمام، ولم يحك في "الإبانة" غيرها. وحكم موت الزوج بعد موتها حكم موته قبلها، إلا على طريقة القفال؛ فإن الإمام حكى عنه ما يخالفه؛ لأنه قال: قد يظهر غرض الوارث في التعيين أن يكون ميراثه من أحدهما أكثر، وقد يكون له غرض في عين من أعيان التركتين، واستبعده الإمام وَضَعَّفَهُ. وقال: لا ينبغي أن يكون إلى إقرار الوارث التفات أصلاً. قال: وإن ماتت إحداهما، ثم مات الزوج، ثم ماتت الأخرى- رجع إلى وارث الزوج، فإن قال: الأولى مطلقة والثانية زوجة، قبل منه، أي: وإن كذب، من غير يمين؛ [إذ لا تهمة]؛ لأنه أقر بما يضره من وجهين: أحدهما: حرمان الزوج من ميراث الأولى. والثاني: شركة الأخرى في إرثه. قال: وإن قال: الأولى زوجة، والثانية مطلقة: فهل يقبل؟ فيه قولان، أي: الذي سبق ذكرهما، هذه طريقة الشيخ أبي حامد، وقال: إنه إنما يوجد القولان منصوصين في هذه الصورة، ومنهما أخذ الخلاف في سائر الصور. قال الرافعي: وكذلك عبر معبرون عن [هذا] الخلاف بالوجهين. قلت: وإذا كان كذلك ظهر أن الخلاف المذكور أولاً في محل القولين جار ها هنا، بل هو مستنبط من هاهنا، وقد صرح الفوراني بجريانه. وقال القاضي أبو الطيب في هذه المسألة: إنا إن قلنا: لا يقبل بيان الوارث، وقف ميراثه من الأولى، وميراثه الثانية منه حتى يصطلح الورثة جميعهم، وإن قلنا: يقبل، فإن قال: إن الثانية الزوجة، قبل بلا يمين، وإن قال: إن الثانية المطلقة، فالقول قوله مع يمينه. وهذه الطريقة هي المنقولة في "الإبانة". قال الشيخ أبو نصر: والأولى أولى. قال الرافعي: والأظهر حيث اتفقت الطريقان على إثبات الخلاف في قيام الوارث

مقام الموروث، وحيث اختلفت- المنع. واعلم أن التصوير بموت الأخرى بعد موت الزوج لا يظهر له فائدة فيما نحن فيه؛ فإن هذا الحكم ثابت وإن لم تَمُتْ. نعم، يظهر أثره في العدة؛ فإنها إذا كانت حية وجب عليها أن تعتد بأقصى الأجلين: من أربعة أشهر وعشر، ومن ثلاثة أقراء، على ما سنذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى. قال: فإن قلنا: لا يرجع [إليه]، وقف الميراث حتى يصطلحا عليه؛ لتعذر البيان. وهكذا الحكم فيما لو قال الوارث: لا أعلم، وقلنا: يرجع إليه، والمراد بالميراث الموقوف ها هنا: نصيب [الزوج أو الزوجة خاصة، ففي المسألة الأولى، يوقف قدر نصيب] زوجة من ميراث الزوج إلى أن يصطلح عليه الزوجان أو ورثتهما، أو إحدى الزوجتين وورثة الأخرى إن كانت قد ماتت، ويوقف في المسألة الثانية قدر نصيب الزوج من تركة الميتة أولاً حتى يصطلح عليه ورثتها وورثة الزوج، ويوقف قدر نصيب زوجة من تركة الزوج حتى يصطلح عليه ورثة الزوج وورثة الزوجة الثانية. وإن قلنا: يرجع إلى الوارث، فإن صدقوه فلا كلام، وإن كذبوه، قال ابن يونس: إن كان في صورة البيان، حلف لورثة الأولى: إنه لا يعلم أنه طلقها، وأخذ ميراث الزوج، وحلف لورثة الثانية: إنه طلقها، وسقط ميراثها من الزوج، وإن كان في صورة الإبهام لم يحلف كالزوج. وهذا آخر كلامه، ولم يتعرض لحكم اليمين في المسألة الأولى، والذي يقتضيه الفقه: أنه لا يحلف وجهاً [واحداً]، سواء كان في صورة البيان أو [في] صورة الإبهام: أما في صورة الإبهام فظاهر، وأما في صورة البيان؛ فلأنه لا يثبت لنفسه بيمينه حقّاً، ولا يدفع عنها ضرراً، فلو حلف لكانت فائدة يمينه راجعة إلى الزوجة الأخرى، وذلك خلاف قاعدة الأيمان. فرع: لو شهد عدلان من الورثة بأنه طلق فلانة، وكانتا حيتين تقبل شهادتهما، فأما إذا ماتت إحداهما: فإن شهدا أنه طلق الميتة قبلت شهادتهما، وإن شهدا أنه طلق

الحية لم تقبل؛ لأنهما متهمان. قال: وإن قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالق، رجع إليه، فإن قال: أردت الأجنبية، قبل منه، أي: مع اليمين. وهذا نصه في "الإملاء" و"الأم" جميعاً، على ما حكاه البندنيجي؛ لأن الكلمة مترددة بينهما محتملة هذه وهذه، فإذا قال: عينتها، صار كما لو قال لأجنبية: أنت طالق. وقيل: لا يقبل منه، وتطلق زوجته؛ لأنه أرسل الطلاق بين محله وغير محله، فينصرف إلى محله؛ لقوته وسرعة نفوذه، وصار كما لو أوصى بطبل من طبوله، وله طبل حرب وطبل لهو، تنزل الوصية على طبل الحرب؛ تصحيحاً لها، والطلاق أقوى وأولى بالنفوذ من الوصية، والأول هو الصحيح، والذي أورده أكثر الأصحاب، ووجهه ما ذكرناه. وأما القياس على الوصية فغير صحيح؛ لأن الكلام في الوصية عند الإطلاق، ونحن نقول بأنه عند الإطلاق يقع الطلاق هنا- أيضاً- على الزوجة، وقد صرح بذلك الفراء في "فتاويه" أيضاً. فرع: لو كانت زوجته مع أمته، فالحكم كما لو كانت زوجته مع أجنبية، ولو كان معها رجل أو دابة، فقال: عنيت الرجل أو الدابة، لم يقبل؛ لأنه ليس لهما محلية الطلاق. قال: وإن كانت له زوجة اسمها زينب، فقال: زينب طالق، [ثم قال]: أردت أجنبية اسمها زينب- لم يقبل في الحكم، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى. هذا هو المشهور، وفرق الأصحاب بين هذه الصورة والصورة السابقة: بأن قوله: [زينب طالق، صريح في أنه ما طلق إلا واحدة، والمرأة الأخرى التي تسمى] زينب ما شاركتها في هذا الاسم لفظاً، وإنما شاركتها من حيث إن الاسم يصلح لها، والظاهر أن المراد الزوجة في العادة؛ فلا يقبل منه غير ذلك، وليس كذلك إذا قال: إحداكما طالق؛ لأن كل واحدة منهما شاركت [الأخرى] لفظاً؛ فلهذا قبل

قوله [فيما نواه]. وبأن قوله: إحداكما، يتناولهما تناولاً واحداً، ولم يوجد منه تصريح باسم زوجته ولا وصف ولا إشارة بالطلاق إليها، وها هنا صرح باسم زوجته، والظاهر أنه يطلق من الزينبات زوجته لا غير؛ فإن قوله: زينب طالق، ليس بصريح في واحدة منهما، وإنما يتناولهما من جهة الدليل، وهو الاشتراك في الاسم، ثم يقابل هذا الدليل دليل آخر، وهو أنه لا تطلق غير زوجته؛ فصار اللفظ في زوجته أظهر، فلم يقبل خلافه. وقوله: إحداكما، صرحي فيهما، وإنما يصرف إلى زوجته بقرينة الزوجية، فإذا صرف هذا إلى الأجنبية فقد صرفه إلى ما يقتضي تصريحه، فقبل منه. وعن حكاية الشيخ أبي عاصم العبادي واختيار القاضي أبي الطيب وغيرهما: أنه يصدق بيمينه، كما في الصورة السابقة؛ لأن التسمية تحتمله، والأصل بقاء النكاح. وفي "فتاوى" القفال: أن زوجته لو قالت له: طلقني، واسمها فاطمة، [فقال: طالق فاطمة] ثم قال: أردت: فاطمة أخرى- لم يقبل، ويقع الطلاق عليها، بخلاف ما إذا قال ابتداء: طلقت فاطمة، ثم قال: أردت امرأة أخرى. وقال إسماعيل البوشنجي: إن قال: زينب طالق، وقال: أردت الأجنبية- يقبل، وإن قال: طلقت زينب، وقال: أردت الأجنبية- لا يقبل؛ لأن هذا إنشاء للطلاق، والإنسان إنما يطلق امرأة نفسه دون الأجنبية، وقوله: أنت طالق، إخبار محتمل. قال الرافعي: ولا قوة لهذا الفرق. فرعان: لو قال لأم زوجته: ابنتك طالق، ثم قال: أردت: البنت ليست لي بزوجة، صدق، قاله الرافعي في الفروع آخر الطلاق. لو قال: نساء المسلمين طوالق، لم تطلق زوجته، على ما حكي عن القفال، وعن غيره: أنها تطلق، وقد بني على أن: المخاطب هل يدخل تحت الخطاب، حكاه الرافعي عند الكلام في النية في "الكتابة"، وحكى فيه- أيضاً- عن القفال: أنه لو

كانت امرأته في نسوة، فقال: [طلقت هؤلاء] إلا هذه- يشير إلى زوجته- لم تطلق. قال: وإن قال: يا زينب، فأجابته عمرة، فقال: أنت طالق، وقال: ظننتها زينب، أي: وقصدت بالطلاق التي أجابتني- طلقت عمرة؛ لأنه خاطبها بالطلاق وهي زوجته، ولا تطلق زينب؛ لأنه ناداها ولم يخاطبها بالطلاق، وإنما ظن أنه يخاطبها بالطلاق، وظن الخطاب لا يوجب وقوع [الطلاق]؛ ألا ترى أنه لو قال لأجنبية أنت طالق، وهو يظن أنها زوجته- لا يقع الطلاق على زوجته؟! وهكذا الحكم فيما لو قال: حسبت أن المجيبة زينب، وعندي أنها التي أجبتها بالطلاق- فإن زينب لا تطلق وتطلق عمرة، وفيه وجه آخر: أن عمرة لا تطلق أيضاً. ولو اقتصر على قوله: ظننتها زينب، قال ابن يونس: فعند ابن الحداد: لا تطلق زينب، وهل تطلق عمرة؟ فيه وجهان. وفي "النهاية" و"الرافعي": أن كلام ابن الحداد في المسألة قبل هذه، والأظهر من الوجهين عند الإمام: أنها تطلق، ثم قال: ولو قيل: تطلق المخاطبة بالطلاق ظاهراً وهل تطلق التي ناداها؟ فيه وجهان؛ لأنها المقصودة بالطلاق- لكان محتملاً. وهذا ما أورده الغزالي. ولو قال: علمت أن التي أجابتني عمرة، ولكني لم أرد طلاقها، وإنما أردت طلاق زينب- طلقت زينب ظاهراً وباطناً؛ لإقراره، ويكون تقديره: يا زينب أنت طالق، وطلقت عمرة في الظاهر؛ لأنه خاطبها بالطلاق، والظاهر أنه أراده، ويُدَيَّن في الباطن؛ لأن ما قاله محتمل. قال مجلّي: وفي طلاق المنادى بها نظر؛ لأن اللفظ تضمن طلاق واحدة، فإن كان منصرفاً إلى المخاطبة بقي مجرد النية في الأخرى فكيف تطلق؟! وإن انصرف اللفظ بالمقصد إلى المنادى بها فينبغي ألا تطلق المخاطبة، واللفظ متحد لا يصلح لتناولهما. وفي "الشامل": أن الشيخ أبا حامد ذكر أن الطلاق يقع على زينب خاصة، وهكذا

ذكره القاضي في "شرح الفروع"، وقال في "الشرح" أيضاً-: إذا قال: واجهت المجيبة بالخطاب وأردت بالطلاق التي ناديتها، وقع [الطلاق] عليها. قال ابن الصباغ: وهذا كلام متناقض. ورأى الإمام في هذه الحالة تفصيلاً فقال: إن جرى الزوج في كلامه، فبان بالأداء أو الإيراد أنه مسترسل في الكلام غير منتظر جواباً، ثم قال: أردت زينب- فلا تطلق [إلا زينب]، وإن بان بالأداء انتظاره الجواب، فاتصل جواب عمرة، وربط به قوله: أنت طالق- فتطلق عمرة-[ولا يظهر] طلاق زينب والحالة هذه، لكن إذا قال: أردتها، [نؤاخذه بقوله. ولو] كان النداء والجواب كما سبق، وقال بعد جواب عمرة: حفصة طالق- لامرأة له ثالثة- طلقت حفصة [لا محالة]، ولم تطلق عمرة ولا زينب ولو قال: أنت وحفصة طالقتان، فتطلق حفصة لا محالة، ثم يراجع: فإن قال: ظننت أن المجيبة زينب، لم تطلق [زينب]، وتطلق عمرة في أصح الوجهين [وإن قال: علمت أن المجيبة عمرة، وقصدت طلاقها- طلقت هي، ولم تطلق زينب] ولو قال: قصدت زينب، طلقت زينب ظاهراً وباطناً، وعمرة ظاهراً على الجواب الأظهر. قال: وإن قال: إن كان هذا الطائر غراباً فأنت طالق، فطار ولم يعرف- لم تطلق؛ لجواز أن يكون غير غراب، والأصل بقاء النكاح- وهكذا لو قال: إن كان غراباً فأنت طالق، وإن كان حماماً فعبدي حر- لم تطلق، ولم يَعْتِق العبد؛ لاحتمال أن يكون نوعاً آخر. قال: وإن قال: إن كان غراباً فأنت طالق، وإن لم يكن غراباً فعبدي حر، وطار ولم يعرف- وقف عن التصرف فيهما حتى يعلم؛ لأنه علم زوال ملكه عن أحدهما؛ فأشبه ما إذا طلق إحدى زوجتيه. وفيه وجه: أنه يقرع بين العبد والزوجة، كما سنذكره فيما إذا مات الحالف. فعلى هذا: لو أقرعنا، فخرجت القرعة على العبد، ثم قال: تبينت أن الحنث

كان في الطلاق- لم ينقض حكم القرعة، وحكمنا بوقوع الطلاق، والصحيح: أنه لا قرعة ما دام الحالف حيّاً؛ لأن البيان متوقع منه، وقد يطلعه الفحص على كيفية الحال بعد الشك والتردد نعم، عليه نفقتهما إلى البيان. وفي "الرافعي" حكاية وجه: أن العبد يؤجره الحاكم وينفق عليه من أجرته، فإن فضل شيء حفظه إلى أن يتبين الحال. وفي "الذخائر" حكاية الخلاف فيما إذا أراد السيد أن ينفق عليهن، وأراد الإماء أن يكتسبن وينفقن على أنفسهن من كسبهن. فأحد الوجهين: يغلب قول السيد. والثاني: يغلب قول الإماء. وذكرنا الإماء؛ لأنه صور المسألة فيهن. ويجب على الحالف البيان إذا علم، ويطالب به بعد التوقف؛ لأنه يحتمل أن يكون عنده علم من ذلك: فإن بين الحنث في أحدهما، وصدقه الآخر فذاك، [ولا يطالب بيمين] على الأصح، وقيل: يحلف؛ لما في ذلك من حق الله تعالى، وإن كذبه صدق [في حق] الحالف مع اليمين، وسقطت [دعوى المكذب]، إلا أن تكون له بينة.

قال المحاملي في "المجموع": وللعبد أن يقيم البينة أنه لم يكن غراباً. قلت: وفي هذا نظر؛ لأن هذه شهادة على النفي؛ [لكنه نفي] يمكن حصره، وفي سماع البينة بمثل ذلك خلاف، والصحيح المذكور في كتاب الدعاوى والبينات: عدم السماع، وفي "الرافعي" في آخر كتاب الطلاق في ضمن الفروع المذكورة ثم: أنه لو أشار إلى ذهب، وحلف بالطلاق: إنه الذي أخذه من فلان، وشهد شاهدان أنه ليس ذلك الذهب- فظاهر المذهب: وقوع الطلاق، وإن كانت هذه شهادة على النفي؛ [لأنه نفي] يحيط به العلم، وهذا يوافق ما حكاه المحاملي، وإن نكل حلف الآخر، وحكم بالطلاق أو العتق. وقوله: لم أحنث في يمين العبد، في جواب دعواه، [أو] من غير دعوى- كقوله: حنثت في يمين المرأة. وكذا قوله: لم أحنث في يمين المرأة. ولو قال: لم أعلم في أيهما حنثت، ففي "التتمة" حكاية عن القفال: أنه يقال له: قولك: لا أعلم، إنكار منك؛ فتطالب بالبيان ثانياً: فإن بينت، وإلا جعلناك ناكلاً، ويحلف من يدعي الحنث في اليمين المتعلقة، ويحكم بما يدعيه، وفي "الشامل" وغيره: أنهما إن صدقاه بقي الأمر موقوفاً كما سبق، وإن كذباه حلف على نفي العلم: فإن حلف فالأمر موقوف، وإن نكل حلف المدعي منهما، وقضي بما يدعيه. قال الرافعي: واعلم أن ما سبق ذكره من الأمر بالبيان أو التعيين، [والحبس] والتعزير عند الامتناع- أي [في بيان المطلقة- قد أشاروا إلى مثله ها هنا، لكن إذا قلنا: إنه إذا] قال: لا أدري، يقر عليه، ويقنع منه بذلك- فيكون التضييق إلى أن يبين أو يقول: لا أدري، ويحلف عليه، وكذا ينبغي أن يكون الحال في استبهام الطلاق بين الزوجين. قال: فإن لم يعلم حتى مات، فقد قيل: يقوم الوارث مقامه، أي: إذا قلنا: إنه يقوم

مقامه عند إبهام الطلاق؛ لما قلناه ثَمَّ؛ فعلى هذا: إن عين الحنث في يمين العبد عتق، وورثت المرأة، وإن عكس للمرأة تحليفه، ويكون حلفه على البَتِّ، وللعبد أن يدعي العتق ويحلفه، ويكون حلفه على أنه لا يعلم أن مورثه حنث في يمينه. قال: وقيل: لا يقوم، وهو الأصح، أي: وإن قلنا بأنه يقوم ثَمَّ، ووجهه الرافعي وغيره بظهور تهمة الوارث بأن يزعم الحنث في الطلاق؛ فتسقط جهة المرأة في التركة، ويستبقي الملك في العبد- وبأن للقرعة مدخلاً في العتق؛ فكان تحليفهما أولى من الرجوع إلى الوارث؛ ولهذا لو وقع الإبهام في محض الرقاب تعينت القرعة وفي التوجيه الأول نظر؛ من حيث إن ما ذكرها هنا من ظهور التهمة موجود فيما إذا مات الزوج بعد موت إحدى المرأتين اللتين أبهم الطلاق بينهما؛ فإنه قد يخبر بأن الأولى زوجة والثانية مطلقة، ومع هذا جرى فيهما القولان كما قال الشيخ أبو حامد: إن الشافعي، إنما نص على القولين فيهما كما ذكرناه، ووجهه المحاملي وغيره بأن الوارث فرع الموروث ومنه يتبين الحال، فإذا لم يوجد من الموروث بيان فكيف يقوم الوارث مقامه. [وفي "أمالي"] أبي الفرج تخصيص الخلاف بما إذا عين الوارث الحنث في جانب المرأة- أما إذا عكس فيقع الجواب على موجب قوله؛ لأنه مقر على نفسه بما يضر بها، وهذه [الطريقة تشابه] طريقة الشيخ أبي حامد التي حكيت فيما إذا مات الزوج بعد موت إحدى المرأتين اللتين أبهم الطلاق بينهما، وكذلك ما حكاه الشيخ، واستحسنها الرافعي، ونسبها ابن يونس إلى بعض المتأخرين، والكلام الأول أميل إلى طريقة الشيخ القاضي أبي الطيب. قال: ويقرع بين العبد والزوجة؛ رجاء أن تخرج القرعة على العبد؛ فإنها مؤثرة في العتق، وإن لم تؤثر في الطلاق؛ كما يصغى إلى شهادة رجل وامرأتين في السرقة؛

لتأثيرها في الضمان وإن [لم] تؤثر في القطع هكذا حكاه الرافعي وغيره، وفيه نظر؛ من حيث إنا في مسألة الشهادة على نفسه من حصول [المقصود الذي لأجله اقتضيا، وهو ثبوت الضمان، ولسنا على نفسه ها هنا من خروج] القرعة على العبد الذي سيقت القرعة لأجل عتقه، خصوصاً إذا قلنا: إن القرعة إذا خرجت على الزوجة لا يحكم برق العبد نعم، يندفع هذا إذا قلنا برق العبد عند خروج القرعة على الزوجة؛ لأن القرعة قد أثرت حكماً في الجملة، والله أعلم. [هكذا الحكم بالقرعة إذا قلنا: إنه يرجع إلى الوارث، فقال: لا أعلم]، ونقل وجه عن ابن سريج: أنه إذا لم يبين الوارث توقف إلى أن يموتوا ويخلفهم آخرون، وهكذا إلى أن يحصل البيان، والظاهر الأول. ثم كيفية القرعة: أن يكتب رقعة عتاق ورقعة طلاق، ويخرج إحداهما، أو يجعل المرأة جزءاً والعبد جزءاً، ويضرب سهم رءوسهم؛ حيث قال: فإن خرج السهم- أي: سهم العتق- على العبد، عتق، أي: إذا كان التعليق في الصحة أو في المرض، وخرج من الثلث؛ إذ هو فائدة القرعة، وإن خرج على المرأة لم تطلق، خلافاً لأبي ثور؛ لأن القرعة لا مدخل لها في الطلاق؛ بدليل ما لو طلق إحدى نسائه لم تطلق واحدة منهن بالقرعة، بخلاف العتق؛ فإن النص ورد به؛ ولأن للقرعة مدخلاً في أصل ما وقع فيه العتق وهو الملك. ولا يمكن قياس الطلاق عليه؛ لأن الطلاق حَلُّ النكاح، ولا مدخل للقرعة في النكاح بالإجماع. قال: [ولكن] ويملك التصرف في العبد؛ لأن القرعة تعمل في العتق والرق، فكما يعتق إذا خرجت القرعة عليه يرق إذا خرجت القرعة على عديله، وعلى هذا يزول الإشكال. قال: وقيل: لا يملك، وهو الأصح في "الرافعي"؛ لأن القرعة لم تؤثر فيما خرجت عليه؛ فيبعد تأثيرها في غيره؛ فعلى هذا: فوجهان: أحدهما: أن القرعة تعاد إلى أن تخرج عليه.

قال الإمام: وعندي يجب أن يخرج القائل به عن أحزاب الفقهاء، ومن قال به فليقطع بعتق العبد، وليترك تضييع الزمان في إخراج القرعة. قال الرافعي: وهذا قويم، لكن الحناطي حكى [هذا] الوجه عن ابن أبي هريرة وهو زعيم عظيم الفقهاء؛ فلا يتأتى إخراجه عن أحزابهم. وأصحهما: أن الإشكال يبقى بحاله ويوقف عنهما جميعاً كما في الابتداء، وادعى الإمام أنه المذهب المثبوت، وجزم في "الشامل" بجواز التصرف إذا خرجت القرعة على الزوجة، وذكر أن الخلاف في أن الشك هل يزول، أم لا حتى يندب الوارث إلى عتقه؛ بناءً على أنا هل نحكم برقه أم لا؟ وفي كتاب البندنيجي ومجموع المحاملي و"تعليق" القاضي الحسين: حكاية الخلاف في أن هذه القرعة هل يزول بها الشك أم لا؟ وادعى البندنيجي أن زوال الشك هو ظاهر المذهب، ومقابله ليس بشيء، وقال القاضي: الأصح أن يزول الشك، ولم يتعرضوا لجواز التصرف. وإيراد صاحب "التتمة" موافق لما قاله ابن الصباغ في أن الخلاف في زوال الشك، وأما التصرف فيجوز، ثم قال: ويخالف [حكم الوارث] حكم الموروث؛ حيث منعناه من الاستمتاع بالمرأة والتصرف في العبد؛ لأن في حق الموروث تحققنا الحنث وزوال أحد ملكيه؛ فأوقفنا عنه الملكين جميعاً. وأما الورثة إنما يثبت حقهم في العبد دون المرأة؛ فلم يتحقق الحنث في حقهم، فكان نظير المسألة أن لو قال المالك: إن كان الطائر غراباً فعبدي حر، ولم يعلم- لا نمنعه من التصرف فيه. فرع: إذا خرج السهم على العبد، وحكمنا بعتقه- فإن كان قد سبق منها دعوى الحنث في يمين الطلاق، وكان الطلاق بائناً- فلا ميراث [لها]، وإن لم يكن قد سبق [منها] دعوى الحنث بالطلاق نورثها، والورع: ألا ترث؛ لاحتمال أن تكون مطلقة. وهكذا الحكم فيما إذا خرجت القرعة عليها؛ لأن القرعة لو خرجت على العبد

أوجبت حكماً، فإذا خرجت عليها، إن لم توجب حكماً فلا أقل من أن تورث شبهة. وهذا في [باقي] التركة غير العبد، أما العبد إذا قلنا بجواز التصرف فيه؛ فينبغي ألا يرث منه شيئاً البتة؛ لأن الأمر دائر بين أن يكون حرّاً؛ فلا يرث منه شيئاً، أو تكون مطلقة؛ فلا منه ولا من غيره. قال: وإن طلق امرأته ثلاثاً في المرض- أي: المخوف- ومات- أي: منه؛ لم ترثه في أصح القولين، وهو الجديد، واختاره المزني؛ لأن الإرث للزوجية، وقد انقطعت الزوجية بالإجماع، ولأنه لا يرث منها لو ماتت قبله بالاتفاق؛ فكذلك لا ترث هي منه [شيئاً]. قال: وترث في الآخر، وهو القديم؛ لما روى أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت أصبغ [الكلبية] في مرض موته، ومات وهي في العدة؛ فورثها عثمان- رضي الله عنه- ولأن قصده الفرار من الميراث ظاهر في هذا الطلاق؛ فيحسن أن يعاقب بنقيض قصده؛ كما لو قتل مورِّثه استعجالاً للإرث؛ يحرم من الميراث. أما إذا برأ منه، ثم مات في مرض آخر- فلا ترثه، قولاً واحداً. ولو قتل في المرض الذي أوقع فيه الطلاق ورثته على أحد الوجهين. وحكم المطلقة بما دون الثلاث قبل الدخول أو بعده بعوض من أجنبي، حكم المطلقة ثلاثاً فيما ذكرناه، وأما المطلقة طلاقاً رجعيّاً: فإن مات وهي في العدة ورثته كما يرثها إذا ماتت، وإن مات بعد انقضاء العدة لم ترثه، وقال القاضي الحسين في "التعليق": ذلك ينبني على أن الاعتبار بحالة وجود الصفة أو بحالة التعليق. فإن قلنا: الاعتبار بحالة التعليق، لم ترث، وإن قلنا: الاعتبار بحالة وجود الصفة، فإن قلنا: المبتوتة [لا ترث؛ فلم ترث هي- أيضاً- وإن قلنا: ترث، كان حكمها حكم المبتوتة] إذا مات الزوج بعد انقضاء عدتها وحكم الطلاق في كل حالة يعتبر فيها خروج التبرعات من الثلث، كحكمه في حال المرض، كذا صرح به الفوراني في الإبانة.

قال: وإلى متى ترث؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترث [في] أي وقت مات؛ لأن توريثها للفرار وهو محقق أبداً. والثاني: إن مات قبل أن تنقضي العدة ورثته؛ لبقاء بعض [أحكام النكاح، وإن مات بعده لم ترثه؛ إذ لم يبق حكم من أحكام النكاح] وهذا هو المنقول في "الأم" فعلى هذا: إن كان الطلاق قبل الدخول لا ترث؛ إذ لا عدة. والثالث: إن مات قبل أن تتزوج ورثته، وإن تزوجت لم ترثه، وهذا هو المذكور في "الإملاء"؛ لأنه يؤدي إلى أن ترث من زوجين أو أزواج وهو ممتنع. فرع: لو أبان في مرضه أربعاً، ونكح أربعاً، [ثم مات]- فالميراث للمطلقات على وجه، وللزوجات على وجه- وللصنفين على وجه، وهو الأظهر في "الرافعي"، وفي الإبانة: أن الصحيح الثاني. قال: الإمام: وهذه الأوجه إنما تثبت بزيادة العدد على منع الحصر، فلو طلق امرأة ونكح أخرى فلا وجه إلا الاشتراك. ولو [أبان الأربع، وتزوج] واحدة، فعلى الوجه الأول: تحرم الجديدة، وعلى [الوجه] الثاني: يصرف الميراث إلى الجديدة، وعلى الوجه الثالث: يكون الحكم كذلك. قال: وإن سألته الطلاق الثلاث، أي: وطلقها عقيب سؤالها فقد قيل: لا ترث؛ لأنه ليس متهماً في طلاقها فلم ترثه؟ كما لو كان في حال الصحة، وقيل: على قولين، وهو اختيار ابن أبي هريرة، وتمسك فيه بأن ميراث المبتوتة إنما ثبت بقصة عبد الرحمن؛ وقد كانت امرأته سألته الطلاق. وأجاب عن ذلك الشيخ أبو حامد في "التعليق"- على ما حكاه مجلي- بأن طلاق عبد الرحمن لم يكن عقيب سؤالها حتى يكون جوباً لها؛ بل لما [أن]

سألته الطلاق قال [لها]: إذا حضت فأعلميني، فلما حاضت أعلمته، فقال: إذا طهرت أعلميني، فلما طهرت أعلمته، فطلقها بعد ذلك فانقطع الطلاق عن السؤال، وصار مبتدئاً؛ فلحقته التهمة. ولو سألته أن يطلقها طلاقاً رجعيّاً، فطلقها ثلاثاً- فهو كما لو لم تسأل وحكم اختلاعها حكم سؤالها، على ما حكاه الرافعي، وكذا إذا علق طلاقها على مشيئتها، فقالت: شئت، أو جعل أمرها [بيدها]، فطلقت [نفسها] على ما حكاه في "الشامل"، وفي "النهاية": أنا قد ذكرنا في الطلاق [بالسؤال خلافاً، ومن أجرى القولين في الطلاق] بالسؤال لست أدري هل يجريهما في الاختلاع؟ وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه لا خلاف أنها لا ترثه. قال: وإن علق طلاقها على صفة تفوت بالموت؛ بأن قال: إن لم أتزوج عليك فأنت طالق ثلاثاً- فهل ترثه؟ على قولين؛ لتحقق الصفة ولا فرق في ذلك بين أن يكون التعليق في حال الصحة أو في المرض، وكذا لو علق الطلاق على فعل نفسه، وفعله في المرض على الأصح، وفيه وجه [محكي] عن الشيخ أبي محمد أنه لا يكون فارّاً. وحكم التعليق بفعل الأجنبي حكم التعليق بفعله، إذا كان التعليق [في المرض]، كذا حكاه الرافعي، وفي "التعليق" للقاضي الحسين: أنه إن كان لابد للأجنبي منه فهو على القولين، وإن كان له منه بد فهو كما لو قال لها في حال الصحة: إذا قدم فلان فأنت طالق ثلاثاً، فقدم [في المرض وفيه طريقان: منهم من قال: فيه قولان؛ كما لو طلقها في مرض موته]. ومنهم من قال: لا ترثه قولاً واحداً. وهكذا نقول في العتق: إذا قال لعبد: متى قدم فلان، فأنت حر، وكان صحيحاً، ثم قدم فلان في مرض موته- فهل يحسب ذلك من الثلث [أم] لا؟

ولو علق الطلاق على مرض موتها أو على ترديد الزوج في شراء شقة أو قبيل موته- فهذا تصريح بالفرار، ويكون كمن أوقعه في المرض. وقال الفوراني: إن قلنا: الاعتبار بحال التعليق، فلا ترث قولاً واحداً، وإن قلنا: بحال الوقوع، فعلى القولين، [هكذا حكاه مجلي عنه، ولم أره في الإبانة؛ بل الذي رأيته فيها المنقول أولاً، وقد حكي عن الشيخ أبي محمد أن فيه خلافاً، والله أعلم]. قال: وإن علق طلاقها على صفة لابد لها منها كالصوم والصلاة؛ أي: المفروضين- فهي على قولين، أي: إذا كان التعليق في المرض؛ لتحقق التهمة، وفي معنى ذلك ما إذا علق الطلاق على كلام أحد أبويها، على ما حكاه في "الشامل"؛ لأن ترك كلامهما حرام، وكذا إذا كان المعلق عليه الطلاق مما لابد لها منه طبعاً كالنوم واليقظة، والقيام والقعود، والأكل والشرب هكذا أطلقه أكثرهم، وفي "تعليق" القاضي الحسين تقييد الأكل بأكل الخبز. وفي "الذخائر": أنها إن أكلت مما تحتاج إليه ويضرها عدمه، لم تكن مختارة، ويعد فارّاً به؛ فيخرج على القولين، ولا يشترك في حقها الانتهاء إلى حال الضرورة؛ بل تعتبر الحاجة بحيث لو تركته أضر بها، وأما إن أكلت تلذذاً، فقد تردد الأصحاب فيه، ووجه التردد: النظر إلى الجنس أو إلى حال الفعل، والمرجع في [لحوق] الضرر بترك الطعام إليها، ولا يعتبر فيه قول أهل الطب. أما إذا علقه على صفة لها منها بد كصوم التطوع، وصلاة التطوع، ودخول الدار، ونحو ذلك، فإن لم تعلم بالتعليق خرج على القولين، وإن علمت خرج على الطريقين في إيقاع الطلاق بسؤالها، والأصح منهما أنها لا ترث على ما حكاه ابن يونس، والمذكور في "الشامل" ها هنا: عدم الإرث، ولو علمت ثم نسيت ففيه احتمالان للإمام، قال: والأشبه أنه فارٌّ؛ فيخرج على القولين. قال: "وإن لاعنها في القذف لم ترث"، أي: سواء كان القذف في الصحة أو

المرض، على ما صرح به البندنيجي وغيره؛ لأن به [حاجة إليه لدرء] الحد [عنه] فتنتفي التهمة، وهكذا الحكم فيما لو فسخ النكاح بعيبها. وفي الملاعنة وجه محكي في طريقة الخراسانيين: أنها ترث إذا كان القذف في المرض، واختاره القاضي ابن كج. قال: وإن قال: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق، ثم وجدت الصفة وهو مريض- لم ترث؛ لأنه غير متهم؛ لاحتمال وجود الصفة في الصحة، وهذا ما حكاه في "الشامل"، وقيل بطرد القولين؛ نظراً إلى حال وجود الصفة. واعلم أن الشيخ قد أبهم حكاية القولين في هذه المسائل، ولم يعرفها بالألف واللام، وذلك منه إشارة إلى أن هذا الخلاف جار وإن قلنا: إن المطلقة في المرض ترث؛ إذ لو كان هذا الخلاف هو الخلاف في أصل المسألة لقال: فعلى القولين، وقد صرح بذلك الجيلي، والله أعلم. فروع: لو طلق زوجته التي لا ترثه، ثم زال المانع من الإرث في العدة، ثم مات الزوج- فلا إرث؛ لأنها لم تكن وارثة يوم الطلاق؛ فلا تهمة ولو أبان المسلمة، فارتدت، ثم عادت إلى الإسلام في العدة- قال الرافعي: ورثت؛ لأنها بصفة الوارثين يوم الطلاق ويوم الموت. وفي "الشامل" حكاية عن النص: أنها لا ترث. وحكى القاضي الحسين في "التعليق" القولين. ولو ارتد الزوج قبل الدخول أو بعده، و [أصر على ذلك] إلى انقضاء العدة، ثم عاد إلى الإسلام، ومات- لم يكن فارّاً على الأصح؛ إذ لا يقصد من تبديل الدِّين حرمان الزوجة عن الميراث، وفيه وجه ضعيف، وقيل بطرده فيما إذا ارتدت المرأة حتى تجعل فارة، ويرثها الزوج.

ولو أرضعت زوجها الصغير في مرض موتها، فقد قيل: تجعل فارة عن الميراث؛ فيرثها الزوج على القول القديم. وظاهر المذهب خلافه. ولو طلق إحدى زوجتيه على الإبهام، ثم عين في المرض- فهل يكون فارّاً؟ فيه وجهان ينبنيان على أن الطلاق يقع حين التعيين أو حين اللفظ؟ كذا حكاه مجلي عن "الحلية"، وأبدى الرافعي ذلك احتمالاً للبوشنجي. ولو وكل وكيلاً في الطلاق في الصحة، فطلقها الوكيل في مرض الزوج- ففيه وجهان محكيان في "الذخائر" عن "الحلية" أيضاً. ولو أقر في المرض أنه كان في الصحة أبانها، ذكر الشيخ أبو حامد: أنها [لا] ترثه قولاً واحداً، وحكى القاضي أبو الطيب عن الماسرجسي عن بعض أصحابنا أنه قال: في ذلك قولان؛ كما لو طلق في حال المرض والأظهر الأول، قال القاضي أبو الطيب: لأن المريض إذا أقر في [مرض موته] أنه وهب في الصحة وأقبض أن كان من رأس المال وفي "الوسيط": أن القاضي قال: لا يبعد أن يجعل فارّاً؛ لأنه محجور عن إنشاء القطع. قلت: وهذا يخالف ما ذهب إليه القاضي فيما إذا أقر في مرضه بأنه وهب من وارثه عيناً وسلم قبل المرض؛ فإنه رأى أنه يقبل، على ما حكاه في "الوسيط" أيضاً

في كتاب "الإقرار"، وإن كان محجوراً عليه في حق الوارث وإذا قلنا: لا يرث، فلو أوصى لها بمال، حكى القفال عن أبي حنيفة: أنها تعطى أقل الأمرين من الوصية والإرث، ثم قال: وهذا يقارب مذهبنا. قال مجلي: وخالفه الأصحاب وقالوا: لها الوصية زادت أو نقصت، ما لم تجاوز الثلث، والله أعلم. ***

باب الرجعة

باب الرجعة الرَّجعة- بفتح الراء وكسرها-: المرة من الرجوع والرجع. يقال: فلان يقول بالرجعة، أي: بالرجوع إلى الدنيا. والفتح فيها أفصح عند الجمهور، والكسر عند الأزهري. وهي في الشرع: عبارة عن الرد إلى النكاح بعد الطلاق الذي ليس ببائن، على وجه مخصوص. والأصل فيها- بعد الإجماع- من الكتاب قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} [البقرة: 228] قال الإمام: والرد: الرجعة بإجماع المفسرين، والمراد بالإصلاح: إصلاح ما تشعث من النكاح بالرجعة، قاله المحاملي عن الشافعي. وقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، والمراد ببلوغ الأجل في هذه الآية: مقاربة انقضاء العدة؛ على وِزان قول القائل: بلغت البلد، إذا قاربها ودنا منها؛ لأن العدة إذا انقضت لم يكن للزوج سبيل إلى الإمساك، على ما سيتضح؛ فلا ينتظم التخيير بينه وبين المفارقة. وفي قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] انقضاء العدة؛ [فإن النهي عن العضل [لا يتحقق إلا] عند انقضاء العدة]. ومن السنة قوله- صلى الله عليه وسلم- في قصة ابن عمر: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا". قال:- إذا طلق الحر امرأته طلقة أو طلقتين، أو طلق العبد امرأته طلقة بعد الدخول بغير عوض- فله أن يراجعها قبل أن تنقضي العدة؛ لما تقدم. نعم هل يفتقر

العبد في المراجعة إلى إذن السيد؟ فيه خلاف مبني على أن الطلاق [الرجعي] يزيل الملك عن الزوجة أم لا؟ وفيه كلام سنذكره، فإن قلنا: [إنه] يزيل الملك، فلابد من إذن السيد، وإلا فلا. وينبني على هذه القاعدة- أيضاً-: أن الحر إذا كان تحته حرة وامة، فطلق الأمة طلاقاً رجعيّاً، ثم أراد أن يراجعها- فإن قلنا: [إنه] يزيل الملك، لم يملك مراجعتها. قال القاضي: وينبغي أن يضاف إليه: إلا بشرط جواز نكاح الأمة. وإن قلنا: [إنه] لا يزيل الملك، فله ذلك. ولو فقد قيد من القيود المذكورة في الكتاب لم يملك الرجعة: أما إذا كان قد استوفى عد الطلاق؛ فلأنها لا تحل له إلا [من] بعد زوج [آخر] لما سنذكره. وأما إذا كان قبل الدخول؛ فلأن الله- تعالى- حيث أثبت الرجعة أثبتها في العدة، ولا عدة قبل الدخول. نعم، قد حكي عن القديم: أن الخلوة تقرر المهر، وهل توجب العدة. فيه وجهان، فإن أوجبت العدة، أثبتت الرجعة، وحكى الشيخ أبو علي وجهاً: أنها لا تثبت. قال الإمام: وهذا لا اتجاه له في القياس. وكذا أجرى الخلاف فيما إذا أوجبنا العدة على الموطوءة في الدبر في ثبوت الرجعة وهو جار- أيضاً- في استدخال الماء كما مر ذكره. فإن قلنا: إن الرجعة تثبت في هذه الصور، وإن لم يجر دخول، فالعبارة الشاملة [أن نقول]: كل من طلق زوجته طلاقاً مستعقباً للعدة، ولم يكن بعوض، ولم يستوف عدد الطلاق- فإنه يثبت [له] الرجعة، ويندرج تحت ذلك ما لو قال لغير المدخول بها: إن وطئتك فأنت طالق؛ فإن الأصحاب قالوا: إذا وجد الوطء، كان الطلاق رجعيّاً.

ووجهوه: بأن من الأصحاب من يرى [أن] الطلاق المعلق بالصفة يقع [مرتباً عليها متأخراً عنها، وإذا كان كذلك [فالطلاق واجب بعد دخول] العدة؛ ومنهم من يرى أنه يقع مقارناً لها، وهو ما اختاره الإمام. وقال الرافعي في كتاب الطلاق: إنه المنسوب إلى المحققين، وإذا كان كذلك فالوطء الجاري يقتضي العدة؛ فيكون الطلاق [مع العدة، وذلك يقتضي ثبوت الرجعة. قال الرافعي: وربما قيل: الطلاق] والوطء تقارناً، لكن الطلاق مبين، والوطء مقرر، فإذا اجتمعا يغلب جانب تقرير النكاح، و [هذه] المسألة شبيهة بما إذا قال العبد لزوجته: إذا مات سيدي فأنت طالق طلقتين، وقال السيد: إذا مت فأنت حر- فإنه لا يحتاج [في] نكاحها إلى محلل على الأصح، وقد ذكرنا وجهاً آخر أنه يحتاج، ولا يبعد [مجيء مثله ها هنا. انتهى]. وهذه الصورة تندرج في كلام الشيخ إن قلنا: إن الطلاق يقع بعد الصفة، أما إذا قلنا: إنه يقع مقارناً لها، فكلامه ها هنا مفهومه يقتضي أنه لا يكون رجعيّاً، وقوله من بعد: فإن [كان] الطلاق قبل الدخول أو بعده بعوض فلا رجعة له مفهومه يقتضي أن الرجعة تثبت فيما إذا كان الطلاق مع الدخول، وصورة ذلك ما ذكرناه، والله أعلم. وأما إذا كان [الطلاق] بعوض فلما تقدم في الخلع، وأما إذا كان بعد انقضاء العدة، فلآية العضل؛ لأنه لو ملك رجعتها لما نُهي الأولياء عن العضل؛ لعدم إباحة النكاح لهن. قال: "وله أن يطلقها، ويظاهر منها، ويولي منها قبل أن يراجعها؛ لأن الزوجية باقية. وفي "الجيلي" حكاية وجه: أنه لا يلحقها الطلقة الثانية، وعزاه إلى "البسيط".

ووجه آخر: أنه لا يصح الظهار والإيلاء، وبناه على عدم وقوع الطلقة الثانية والثالثة، وعزاه إلى تعليق [أسعد] وإن في "البسيط" إشارة إليه، وقد تتبعت مظانه [فيه] فلم أجده ولا الأول، والله أعلم. نعم، لا يثبت حكم الظهار، وضرب المدة في الإيلاء إلا بعد الرجعة، وهل يقع عليها الطلاق المرسل كما إذا قال: زوجاتي طوالق؟ فيه خلاف، منهم من حكاه وجهين، ومنهم من حكاه قولين- منصوصاً، ومخرجاً- والأصح وقوعه، وبه قطع الشيخ أبو محمد.

قال: "وهل له أن يخالعها؟ فيه قولان، أصحهما: أن له ذلك"؛ لبقاء أحكام الزوجية، وهذا نصه في الأم. والثاني: ليس له، وهو نصه في "الإملاء". قال القاضي الحسين في "التعليق": وهو الأصح؛ لأن الخلع للتحريم، وهي محرمة [عليه]، فعلى هذا ينفذ الطلاق إذا قبلت رجعتها كما في السفيهة، وعن رواية الشيخ أبي علي: أنه يصح مخالعتها بالثالثة دون الثانية؛ لأن الثالثة تفيد الحرمة الكبرى، والثانية لا تزيد شيئاً. قال: "ولو مات أحدهما ورثة الآخر"؛ لبقاء الزوجية إلى الموت. قال: ولا يحل له وطؤها، ولا الاستمتاع بها- أي: ولو باللمس أو النظر "قبل أن يراجعها-. أما الوطء؛ فلأن العدة قد وجبت عليها، وهي مشروعة لبراءة الرحم؛ فلو أبحنا له الوطء، للزمها تمكينه عند الطلب، والوطء سبب لشغل الرحم؛ فتصير في الحالة الواحدة مأمورة بما يوجب براءة رحمها وبما هو [سبب لشغله] وذلك متناقض. ولأنها جارية إلى البينونة بعد اضطراب العقد؛ فتحرم على الزوج، كما إذا أسلم أحد الزوجين الوثنيين بعد الدخول؛ فإنه لا يحل للزوج وطؤها في مدة العدة. وأما الاستمتاع؛ فلأنه طلاق حرم الوطء فحرم مقدماته؛ كالبائن. ثم لتعلم أن تحريم الوطء مفرع على أن الوطء لا يحصل به الرجعة أما إذا قلنا: إنه رجعة- على ما حكاه مجلي [وجهاً]- فيتجه أنه لا يحرم، كما قلنا فيما إذا طلق إحدى زوجتيه على الإبهام، وقلنا: إن الوطء يكون تعييناً؛ فإنه لا يحرم. قال: فإن وطئها قبل أن يراجعها، أي: ولم يراجعها حتى بانت "فعليه المهر" [أي: مهر المثل]؛ لأنها في تحريم الوطء كالبائن؛ فكذلك في المهر.

ووجهه الشيخ أبو حامد بأنه إذا لم يراجعها حتى انقضت العدة بان أنها بانت بالطلاق، وهذا موافق للطريقة الثالثة التي سنذكرها في أن الطلاق الرجعي هل يزيل الملك أم لا؟ واعترض ابن الصباغ على ذلك بأنه لو طلق الرجعية وقع، ولو بان بانقضاء العدة من غير رجعة بينونتها من وقت الطلاق، لبان عدم وقوع الطلاق؛ كما لو أسلم أحد الزوجين بعد الدخول وطلقها في مدة العدة، ومضت، ولم يسلم المتخلف [منهما]؛ فإنه يتبين أن الطلاق لم يقع. قال: "وإن وطئها ثم راجعها لزمه المهر على ظاهر النص، وقيل: فيه قول مخرج: أنه لا يلزمه"، وقد بينا ذلك في نكاح المشركات فليطلب منه. وأورد صاحب "الشامل" هنا أسئلة فقال: فإن قيل: إيجاب المهر يؤدي إلى أنه يجب مهران في عقد واحد؟ قلنا: هذا المهر وجب بوطء شبهة دون عقد كما يجب إذا وطئها بعد البينونة. فإن قيل: الرجعة زوجة؛ ولهذا لا يفتقر إلى رضاها، ويصح معها الظهار وغيره كما ذكرنا؟ فالجواب: أن ملكه زال عن الوطء، وصارت محرمة عليه تحريم المبتوتة، وإنما العقد لم يزل حكمه، وهذه الأحكام متعلقة بالعقد. فإن قيل: لو زال ملكه عن الوطء زال العقد؛ لأن العقد لا يصح على من لا يملك وطأها؟ قيل: إنما يعتبر هذا في الابتداء دون الاستدامة، ولا يمنع ذلك كما لا يزول العقد بالردة والعدة. فإن قيل: الطلقة أفادت التحريم، والتحريم لا يزيل الملك عن الوطء كالمحرمة والمعتدة؟ قيل: الطلاق وضع لإزالة الملك، فإذا تعلق التحريم به كان ذلك كزوال المطلقة دون الإحرام والاعتداد.

تنبيه: قد ظهر لك بما ذكره الشيخ من وجوب المهر، من غير تفصيل بين أن تكون الموطوءة عالمة بالتحريم أو غير عالمة أن الحد لا يجب بهذا الوطء؛ إذ لو وجب لما وجب معه المهر على الإطلاق، ووجهه: اختلاف العلماء في حل هذا الوطء. وحكى الرافعي وجهاً: أنه يجب، وضعفه. وأما التعزير فلا يجب على من اعتقد الحل أو جهل الحل أو جهل التحريم، ويجب على من سواه. فائدة: لما نظر الأصحاب إلى الأحكام المتعلقة بالرجعية وجدوا لها دلالات متعارضة؛ فأنشئوا منها ثلاث طرق في أن الطلاق الرجعي هل يقطع النكاح ويزيل الملك، أم لا؟ إحداها: نعم، ويدل عليه تحريم الوطء، ونصه على وجوب المهر وإن راجع، وأنه لا يصح مخالعتها على قول. [والثانية: أنه لا يزيل الملك، ويدل عليه أنه لا يجب عليه الحد بوطئها، وأنه تصح المخالعة على قول]، وأنه يقع الطلاق، [ويصح] الإيلاء واللعان والظهار، ويثبت الميراث، وأنه لا يجب الإشهاد على قول. واشتهر عن لفظ الشافعي- رضي الله عنه-: أن الرجعية زوجة في خمس، أي: من كتاب الله- تعالى- وأراد: الآيات المشتملة على هذه الأحكام. والثالثة: أنه موقوف، فإن راجعها تبين أن الملك لم يزل، وإلا تبين زواله بالطلاق وأخذ ذلك من قول الأصحاب: إن المهر موقوف: إن راجعها لم يجب، وإلا [وجب]. واختار الإمام الطريق الثاني، واختار الغزالي في "البسيط" الطريق الأول. قال الرافعي: وأنت إذا نظرت في المسائل، وفيما هو الأظهر في الصور المختلف فيها- لم تطلق القول بترجيح زوال الملك ولا ببقائه.

قال: "وإن كان [الطلاق] قبل الدخول أو بعد الدخول بعوض، فلا رجعة له"؛ لما ذكرناه. قال: وإن اختلفا، فقال: قد أصبتك فلي الرجعة، وأنكرت المرأة- فالقول قولها"، أي: مع يمينها؛ لأن الأصل عدم الوطء، ويخالف ما لو ادعى المولي والعنين الوطء [وأنكرت المرأة]؛ فإن القول قوله؛ لأن المرأة تدعي ما يثبت لها حق الفسخ، والأصل صحة النكاح وسلامته، وها هنا الطلاق قد وقع، والزوج يدعي ما يثبت له به الرجعة، والأصل عدمه، وإذا حلفت فلا عدة عليها ولا [رجعة له، ويحرم عليه أن ينكح أختها أو أربعاً سواها إلى أن تنقضي العدة زمان إمكان انقضاء العدة، ولا] يجب لها نفقة ولا كسوة ولا سكنى. وأما المهر: فإن كانت قد قبضته لم يرجع عليها بشيء منه، وإن لم تكن قد قبضته فلا ترجع عليه إلا بنصفه؛ لأنها لا تدعي [عليه] إلا ذلك هكذا أطلقوه، وهو ظاهر فيما إذا قلنا: إن الشطر يعود إليها بالطلاق، أما إذا قلنا: لا يعود إلا باختيار الزوج تملكه، أو بحكم الحاكم- فإن لها التصرف فيه قبل ذلك. وفيه نظر؛ من حيث إن الزوج لم يملكه بعد، وهو باق على ملكها؛ فيتجه أن تملك المطالبة به، ولا يملك الزوج أن يتملكه بعد ذلك؛ لاعترافه باستقرار الملك لها. وجوابه: أن [اتفاق] الأصحاب على عدم ذلك يعرفك ضعف هذين الوجهين. وفي "الرافعي": أنها إذا أخذت النصف، ثم عادت واعترفت بالدخول- فهل لها أخذ النصف الثاني أم لابد من إقرار مستأنف من جهة الزوج؟ نقل إبراهيم المروروذي فيه وجهين. قلت: وهما الوجهان المحكيان في كل من أقر بحق لإنسان، فكذبه، ثم عاد وادعى ذلك- فهل يسلم إليك على ما سيأتي ذلك في موضعه، إن شاء الله- تعالى-. [وهذا إذا لم يراجعها بعد اعترافها بالدخول، أما إذا راجعها ثم وطئها فقد يظن أن

المهر يجب بجملته قولاً واحداً، والذي يظهر: أن الحكم لا يختلف؛ لأنا إذا أخذناها بمقتضى إقرارها السابق بالنسبة إلى عدم الاستحقاق للشطر، فمقتضى الإقرار- أيضاً-: أن هذا الوطء زنى؛ فلا يثبت شيئاً، والله أعلم]. ونقل- أيضاً- أن في "شرح المفتاح": أن الزوجة إذا كانت قبضت المهر، وهو عين، وامتنع الزوج من قبول النصف، أو كانت العين المصدقة في يده، وامتنعت من أخذ الكل- فيأخذها الحاكم، وإن كان ديناً في ذمته، فيقول لها: إما أن تقبليه أو تبرئي عنه. فرع: لو كان الزوج قد آلى منها، أو ادعت عُنَّته، فادعى أنه وطئها، وكذبته، ثم طلقها وهي مصرة على التكذيب- فهل له أن يراجعها؟ المذهب: لا، وحكى الشيخ أبو علي وجهاً: أنه يمكن من الرجعة، ويصدق في الإصابة للرجعة، كما صُدِّق في الإصابة لدفع التفريع، حكاه الرافعي وغيره في أواخر كتاب الإيلاء. ولا فرق فيما ذكرناه- على الجديد- بين أن يكون ثَمَّ خلوة أو لا. وعلى القديم: إن جعلنا الخلوة مرجحة لجانب من ادعى الدخول كان القول قول الزوج مع يمينه، وثبتت الرجعة، وإن جعلناها مقررة فقد تقدم الكلام فيها في صدر الباب. قال: "ولا تصح الرجعة إلا بالقول"، أي: الصريح القادر عليه؛ لأنه استباحة بُضْع مقصود؛ فلم يصح بغير القول مع القدرة عليه؛ كالنكاح. وفي "الذخائر": أن الشاشي حكى عن أبي العباس من أصحابنا وجهاً: أن الرجعة تحصل بالوطء والمباشرة بشهوة والقبلة، سواء نوى بذلك الرجعة أو لم ينو؛ كمذهب أبي حنيفة وأحمد؛ بالقياس على وطء البائع الجارية المبيعة في زمن الخيار؛ فإنه يكون فسخاً مقيداً للملك الأول.

وفرق القاضي الحسين بينهما بأن الوطء يوجب [العدة؛ فاستحال أن يكون قاطعاً لها؛ لأن القطع ضد الوجوب، والشيء الواحد لا يوجب] ضدين، وليس كذلك الوطء في ملك اليمين؛ لأنه لا يثبت الخيار بحال، فجاز أن يكون قاطعاً للخيار. وفرق غيره بما ذكرناه من قبل، وهو أن ملك اليمين يحصل بالفعل على الجملة بطريق الاحتطاب [والاحتشاش] والغنيمة والسبي، ولا كذلك النكاح؛ فإنه لا يحصل بالفعل بحال. قال: "وهو أن يقول: راجعتها، أو: ارتجعتها، أو: رددتها". أما لفظ "الرجعة"، فلقوله- عليه الصلاة والسلام- في قصة ابن عمر: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا"، ولاشتهاره في الاستعمال. وأما لفظ "الرد"؛ فلقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228]، ولقوله- عليه الصلاة والسلام- لركانة: "ارْدُدْهَا"، وفيه وجه: أنه ليس بصريح؛ لأنه لم يشتهر، ولم يتكرر، بخلاف لفظ الرجعة. وإذا جعلناه صريحاً فهل يشترط أن يقول: رددتها إلى، أو: إلى النكاح، أو يستحب؟ فيه وجهان: أشهرهما: الثاني، كما في لفظ الرجعة. وأظهرهما في "الرافعي" و"الوسيط": الأول، والفرق: أن "الرجعة" مشهورة في معناها، والرد المطلق بالمعنى المقابل للقبول [أشد إشعاراً]، وقد يفهم منه الرد إلى الأبوين بسبب الفراق. وعكس القفال الترتيب في "شرح التلخيص"، وجعل قوله: "رددتها إلى النكاح" صريحاً بلا خلاف، وكذلك أورد الإمام في قوله: "رددتها إلي"، وخصص الخلاف بما إذا اقتصر على قوله: "رددتها"، لكن المنقول في كتاب ابن كج: أن القاضي أبا حامد نقل في كتابه قولاً عن الرَّبيع: أن قوله: "رددتها [إليّ]، ليس بصريح. قال: فإن قال: أمسكتها، فقد قيل: يصح؛ لورود القرآن به غير مرة، وهذا هو

الأصح في المجموع" للمحاملي، "وقيل: لا يصح"، لأن "الإمساك" معناه: الاستدامة، والاستصحاب، وقد ورد بذلك الكتاب العزيز في قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]، والرجعة ابتداء استحلال؛ فلا تحصل بما ليس فيه معنى الابتداء. وحكى القاضي أبو الطيب والشيخ أبو حامد وغيرهما: الخلاف في أن ذلك صريح أم لا؟ لكن القاضي حكاه قولين، والشيخ حكاه وجهين، و [الراجح منه] عندهما وعند القاضي الروياني وغيرهم: أنه ليس بصريح، وعند القاضي أبي الطيب ابن سلمة والإصطخري وابن القاص: أنه صريح، وهو الأصح في "التهذيب"، وعليه ينبني الخلاف في المسألة. فإن قلنا: إنه صريح، صحت المراجعة، وإلا فلا تصح وإن نوى؛ لما ذكرناه، وقد صرح بذلك الإمام حكاية عن العراقيين. وفي "تعليق" البندنيجي و"المجموع" للمحاملي: أن القائل بعدم الصحة لا يصحح الرجعة إلا بالكلمتين، ويوجهه بأنه استباحة بُضْع مقصود في عينه؛ فوجب أن يقف على كلمتين كالنكاح. قال البندنيجي: وليس بشيء. والمراد بالكلمتين: كلمة "الرجعة" وما اشتق منها، وكلمة "الرد". وفي "الرافعي": أنا إذا قلنا: إنه صريح، فيشبه أن يجيء في اشتراط الإضافة الخلاف المذكور في الرد، والذي أورده في "التهذيب": أنه يستحب أن يقول: أمستك على زوجيَّتي مع حكايته الخلاف في الاشتراط هناك. وإن قلنا: إنه ليس بصريح، فهل هو كناية؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، وبه قال الشيخ أبو علي والقاضي الحسين. والثاني: المنع. وإن قلنا: بالثاني لم يصح وإن نوى، وإن قلنا بالأول ففي الصحة عند وجود النية عند المراوزة وجهان مبنيان على اشتراط الإشهاد، وفيه قولان: أصحهما: أنه لا يشترط، بل هو مستحب، وهو الجديد على ما حكاه الإمام وغيره. ومقابله هو القديم، والذي ذكره العراقيون. قال الرافعي- وهو الأثبت-: إن قوله

في القديم و"الأم": عدم الاشتراط، ونسبوا قول الاشتراط إلى "الإملاء". [فإن قلنا: لا يشترط، صحت الرجعة بالكناية مع النية، وكذلك بالكناية مع البينة، وإن قلنا: يشترط، فلا]. قال الإمام؛ لأنه لا مطلع للشهود على النيات، وقد يقال: يشهد الشاهد على اللفظ، ويبقى التنازع في النية، وهذا بمثابة قولنا: المقصود من الشهود إثبات النكاح، [وإثبات النكاح] عند فرض الجحود، ثم لا يشترط الشهادة على رضا المرأة، وهو عماد النكاح؛ فإنها إذا جحدت الرضا فالشهادة على عقد النكاح لا تغني شيئاً. والوجه هو الأول؛ فانتظم من مجموع ما ذكرناه في المسألة ثلاثة أوجه. ثالثها: إن نوى صحت، وإلا فلا. قال: وإن قال: تزوجتها، أو: نكحتها- فقد قيل: لا يصح؛ لأن لفظ "العقد" يقتضي عوضاً؛ فلا ينعقد به ما لا يقتضي عوضاً كالهبة بلفظ النكاح، والهبة بلفظ البيع. ووجهه ابن الصباغ: بأن النكاح كناية في "الرجعة"، والرجعة لا تصح بالكناية [كالنكاح]، وهذا هو الأصح في "التهذيب"، و"المذهب" عند البندنيجي. قال: "وقيل: يصح"؛ لأنهما صالحان لابتداء العقد على الأجنبية، فلأن يصلحا للتدارك وتقويم المزلزل أولى. وفي طريقة المراوزة حكاية وجه: أنه إن نوى [مع] ذلك الرجعة صحت، وإلا فلا. ومثل هذا الخلاف جار فيما إذا جرى العقد على صورة الإيجاب والقبول. قال الروياني في التجربة: والأظهر الصحة؛ لأن العقد آكد في الإباحة. فائدتان: إحداهما: صرائح الرجعة هل تنحصر؟ قال العراقيون: هي محصورة في "الرجعة"، و"الارتجاع"، و"المراجعة"، وفي "الرد" و"الإمساك" و"النكاح" الخلاف المتقدم. وقال الشيخ أبو علي: لا تنحصر، بل كل لفظ ينبئ عن المقصود كقوله: "رفعت ما

بيننا من الحرمة"، أو ما [شابهه مما] يجري مجراه مما يفيد الغرض- يكون صريحاً في الرجعة. وسبب الاختلاف في الإمساك تردد المفسرين في قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] وسبب الاختلاف في النكاح: إقامة الأقوى مقام الأدنى. الثانية: هل تصح الرجعة بغير العربية من اللغات؟ قال الرافعي: الصحيح الصحة. وفيه طريقان آخران: أحدهما: إن كان يحسن العربية لا تصح، وإن لم يحسنها فوجهان. [والثاني: إن كان لا يحسنها صح بلا خلاف، وإن كان يحسنها فوجهان]. والأخرس تصح رجعته بإشارته المفهمة؛ كما يصح نكاحه. قال: ولا يصح تعليق الرجعة على شرط، ولا تصح في حال الردة كالنكاح. وقال المزني: إذا راجع في حال الردة تكون الرجعية موقوفة، فإن اجتمعا على الإسلام في العدة تبينا صحتها، وإلا فلا [؛ كما في طلاقه. قال الإمام: وهذا له وجه، ولكن لم أر أحداً من الأصحاب] يجعله قولاً مخرجاً. والفرق بينها وبين الطلاق: أن المقصود من الرجعة الاستباحة، وهي لا تحصل في حال الردة، والمقصود من الطلاق التحريم، والردة محرمة؛ فتناسب وليست الردة كالحيض والنفاس والإحرام، إذا لم يجعل الإحرام مانعاً من الرجعة؛ لأن هذه الأسباب عارضة، ولا أثر لها في زوال النكاح. فروع: أحدها: إذا وطئت الرجعية بشبهة، فهل تصح رجعتها؟ إن كانت في عدة الزوج صحت على المذهب، وإن كانت في عدة الوطء وعلقت منه، وبقيت عدة الزوج متأخرة- فهل تصح؟ على وجهين، وادعى في "التتمة": أن ظاهر المذهب الصحة، وذلك مفرع على جواز الرجعة [في عدتها]، وسنذكر طرفاً من ذلك في باب العدد.

الثاني: تعليق الطلاق على الرجعة صحيح، كما إذا قال: مهما راجعتك فأنت طالق، فإذا وجدت الصفة طلقت. وعن رواية القاضي الحسين: أن هذا التعليق لاغٍ؛ لأن مقصود الرجعة الحل، ولا يجوز تعليق نقيضه به. وفي "التتمة" وجه: أن الرجعة لا تصح؛ لأن مقتضى الرجعة أن يعود إلى صلب النكاح، وهذه الرجعة قد قارنها ما يمنع مقتضاها. الثالث: هل تصح الرجعة على الإبهام؟ فيه وجهان محكيان في "الرافعي" ها هنا، وفي "الوسيط" في القسم الرابع من كتاب الإيلاء في الحلف بالطلاق، وصورتها: ما إذا طلق إحدى امرأتيه على الإبهام، ثم قال: راجعت المطلقة منهما، والأصح: أنها إذا لم تقبل التعليق لا تقبل الإبهام وإطلاق ابن الصباغ في هذا الموضع يقتضي الجواز من غير خلاف. وقد نجز الكلام فيما تحصل به الرجعة، وبقي الكلام في المرتجع، ولم يتعرض له الشيخ، وجعله غيره ركناً في الرجعة، وقال: هو كل زوج مكلف يصح نكاحه قد وجد منه طلاق رجعي كما بيناه، سواء كان حرّاً أو عبداً، مسلماً أو كافراً. فلا يصح رجعة المجنون؛ إذ لا حكم لقوله، وهل تصح من وليه؟ قال الرافعي: ينبغي أن يجوز له ذلك حيث يجوز له ابتداء النكاح، لكن إذا جوّزنا التوكيل بالرجعة- وهو الأظهر- فإنما نفرض ذلك إذا طلق زوجته في حال إفاقته، ثم جن. [قال:] ولا يتصور في حق الصبي. قلت: بل يتصور على رأي، لكنه مبني على قواعد مختلف فيها؛ فلذلك لم نذكره، وهو ما إذا زوجه الولي وهو موسر، ثم أعسر بالنفقة؛ حيث قلنا بوجوبها عليه، وجوزنا الفسخ بمثل ذلك، ففسخ الحاكم النكاح، وقلنا: إن ذلك فرقة طلاق، ثم أيسر الصبي بعد ذلك في زمن العدة فإنه يتجه في هذه الصورة أن يجوز للولي الرجعة؛ حيث يجوز له أن يقبل النكاح وهذا لم أره لأحد، ولكني خرجته على [ما ذكروه] من الأصول، فلم أجدها تأباه. وأما السفيه فحيث يصح نكاحه تصح رجعته، وحيث لا فلا. صرح بذلك مجلي.

وأما العبد فقد تقدم الكلام فيه في أول الباب. قال: وإن قال: راجعتك قبل انقضاء العدة، وقالت: بل انقضت عدتي، [ثم راجعتني]-: فإن كانت المرأة سبقت بدعوى انقضاء العدة، [ثم قال الرجل: كنت راجعتك]. فالقول قولها، [وإن سبق الرجل بدعوى الرجعة، ثم ادعت هي انقضاء العدة- فالقول قوله]. اعلم أن صورة المسألة- على ما حكاه الرافعي والمتولي وغيرهما-: أن يتفقا على مضي ثلاثة أقراء- مثلاً- وجريان صورة الرجعة، وإخبارها [بأن عدتها قد انقضت]، من غير أن يتفقا على وقت الرجعة، وعلى وقت انقضاء العدة إن لم تجر رجعة؛ فإن الشافعي- رضي الله عنه- نص في "الأم" في هذه المسألة على أن القول قول المرأة من غير تفصيل، ونقله المزني وكذلك قال في المرتد: إذا عاد إلى الإسلام واختلف هو والزوجة، فقالت: انقضت عدتي قبل أن تعود إلى الإسلام، [وقال: بل عدت إلى الإسلام قبل أن تنقضي-: إن القول قول المرأة]، وقال في "نكاح المشركات": إذا أسلمت الزوجة، وتخلف في الشرك، ثم أسلم، فقالت: أسلمت بعد انقضاء عدتي، وقال: بل قبل انقضائها- إن القول قول الزوج. وإن الأصحاب اختلفوا في ذلك على ثلاث طرق: إحداها: أن في ذلك قولين بالنقل والتخريج. أحدهما: أن القول [قوله؛ استبقاءً للنكاح، كما جعل القول قوله في دعوى الوطء في الإيلاء والعنة لهذا ولأن الأصل بقاء الرجعة. والثاني: أن القول] قولها؛ لأنها تخبر عما لا مطلع عليه إلا من جهتها، ولابد من ائتمانها وتصديقها فيه، والزوج يخبر عن الرجعة، ولا ضرورة في تصديقه؛ لتمكنه من الإشهاد عليها، وهذه الطريقة اختارها القاضيان أبو حامد والطبري، ولم يحكها الشيخ أبو حامد.

والطريقة الثانية: أن النصين يتنزلان على حالين، وأن الاعتبار بمن سبقت دعواه منهما: فإن كانت المرأة سبقت بدعوى انقضاء العدة، ثم قال الرجل: كنت راجعتك- فالقول قولها؛ لأن الأصل حصول البينونة وعدم الرجعة، وإن كان الرجل قد سبق بدعوى الرجعة، ثم ادعت هي انقضاء العدة- فالقول قوله؛ لأنه يملك الرجعة، وقد صحت في الظاهر؛ فلا يقبل قولها في إبطالها، وهذه الطريقة هي المذكورة في الكتاب، وهي محكية عن أبي العباس وأبي إسحاق، وصححها الرافعي، وقال الشيخ أبو حامد: لا يجيء على المذهب سواها. وفصل القفال فيما إذا سبق الرجل بدعوى الرجعة، فقال: إن كان قول المرأة: قد انقضت عدتي، متراخياً عن قوله، فالحكم كما تقدم، وإن كان متصلاً به، فهي المصدقة بيمينها؛ لأنا نجعل إقراره بالمراجعة في زمان العدة كإنشاء الرجعة في الحال، فقولها عقيبه: انقضت عدتي، إخبار عن أمر كان من قبل؛ فكأن قوله: راجعتك صادف انقضاء العدة؛ فلا يصح. وعلى ذلك جرى صاحب "التهذيب" و"التتمة". قلت: وما قاله القفال من أن الإقرار بالرجعة في زمان العدة يجعل كإنشاء الرجعة في الحال، قد يمنع منه كما سيأتي، بل يمكن أن يكون لما قاله مأخذ غير ذلك، وهو أن من القواعد المؤسسة في المذهب: أن [من] قدر على الإنشاء قدر على الإقرار، ومن لا فلا، ولا يخرج عن هذه القاعدة إلا ما نبهت عليه في كتاب النكاح. وإذا كان كذلك، [فالزوج لو أراد إنشاء الرجعة في الوقت الذي أقر فيه بالرجعة لم يقدر على ذلك؛ لمصادفته انقضاء العدة، وإذا كان كذلك] لم نحكم بصحة إقراره؛ عملاً بالقاعدة المذكورة، والله أعلم.

وفي "النهاية": أن معظم الأصحاب حملوا النص على ما حكيناه عن القفال وغيره- فيما إذا كان [قولها] متصلاً بقوله، لكنه صوَّر ذلك بما إذا قال الزوج: أردت إنشاء الرجعة، وقال فيما إذا قال: أردت الإخبار عن رجعة سابقة-: إن ذلك يخرج على الصور [السابقة] التي تقدمت في كتابه، وسنذكرها إن شاء الله تعالى. والطريقة الثالثة: أن قول كل واحد منهما مقبول فيما يخبر به، فيقال للزوج: أي زمان راجعتها فيه؟ فإذا قال: في يوم كذا، فإن صدقته المرأة ثبت، وإن كذبته كان القول قوله مع يمينه، ويقال لها: أي وقت انقضت عدتك؟ فإذا عينت وقتاً: فإن صدقها [ثبت ذلك]، وإن كذبها فالقول قولها مع يمينها، وإذا ثبت الوقتان نظرنا أيهما أسبق حكمنا به وهذه الطريقة اختيار أبي على الطبري في "الإفصاح". قال: "وإن ادَّعيا معاً" أي: بأن قال: قد ارتجعتك، وقالت في زمان هذا القول [منه]: قد انقضت عدتي [فالمذهب أن القول قول المرأة]، أي: مع يمينها. قال البندنيجي حكاية عن ابن سريج: لأن قولها إخبار عن انقضاء عدتها؛ فيكون إخبارها بعد انقضاء المدة، فيصادف قوله: راجعتك، بعد [انقضاء] العدة؛ فلا يكون رجعة. قال: و"قيل: يقرع بينهما"؛ لاستوائهما في الدعوى، فعلى هذا من خرجت له القرعة قدم، لكن هل يحلف معها؟ فيه وجهان محكيان في الجيلي. وقيل: القول قوله. ثم لتعلم أن هذه المسألة مفرعة على القول بتقديم السابق؛ فإن ظاهر ما حكاه البندنيجي من التعليل يقتضي أن يكون المراد بدعوى الزوج الرجعة [إنشاء المراجعة]، لا الإخبار عنها، لكني رأيت في "المجموع" للمحاملي تصدير المسألة بما إذا أقر الزوج بالرجعة، وأقرت المرأة بانقضاء عدتها في وقت واحد،

وعليه يدل ما حكيته من قبل عن القفال، وهو الذي يظهر أن يكون مراد الشيخ؛ إذ لو كان المراد به إنشاء الرجعة لم يكن للقرعة وجه أصلاً؛ لعدم التساوي نعم، له اتجاه ما إذا كان الصادر عن الزوج إخبار عن الرجعة؛ ليقابل إخبارها بإخباره؛ فتجيء القرعة لعدم المرجح. وفي "النهاية" وغيرها حكاية صور أخر في تصوير المسألة الأولى، فلنذكرها، فإذا اتفقا على وقت انقضاء العدة، وقال الزوج: راجعتك قبله، وقالت: بل بعده، أو اتفقا على وقت الرجعة، وقالت: [كانت عدتي قد انقضت قبله، وقال الزوج: بل بعده- فالقول] قول من ادعى المتفق على وقته على الظاهر، وبه أجاب المراوزة أصحاب القفال وغيرهم، وعليه جرى صاحب "التهذيب" و"التتمة". ووراء الظاهر وجهان آخران حكاهما الإمام وغيره: أحدهما: أن القول قول الآخر، وعزاه إلى رواية صاحب "التقريب" والعراقيين. والثاني: أن النظر إلى السابق في الدعوى كما ذكرناه من قبل، وقال: هذا الوجه ارتضاه صاحب "التقريب"، واختاره العراقيون. ثم قال بعده في الصفحة حكاية عن العراقيين: إن من ابتدر منهما فالحكم لقوله بلا خلاف، وإن أنشآ قوليهما معاً، فحينئذ وجهان: أحدهما: أن القول قول المرأة. والثاني: أن القول قول الزوج، وهذا قد يظهر أنه يحتاج إلى تأمل. ولو اتفقا على وقت انقضاء العدة، وادعى الزوج الرجعة قبله، وأنكرت المرأة أصل الرجعة- قال صاحب "التقريب": القول قول المرأة بلا خلاف. قال الإمام: وهذا عندي خطأ صريح؛ فإنها إذا اعترفت بالرجعة بعد العدة، فذاك الاعتراف لا حكم له؛ فإنها ما أقرت برجعة، وإنما أقرت بالتلفظ بصفة الرجعة لا بحقيقتها؛ فلا فرق وإذا قال الزوجان: نعلم حصول الأمرين: الرجعة، وانقضاء

العدة على الترتيب، ولا ندري أيهما السابق- فالأصل بقاء العدة وولاية الرجعة. ولو اختلفا في حصول الرجعة والعدة باقية، فالقول قول الزوج. وعن صاحب "التقريب" رواية وجه: أن القول قولها، [فإن أراد الرجعة] فعليه إنشاؤها وإذا قبلنا قوله، فقد أطلق جماعة منهم صاحب "التهذيب" والمحاملي، عند الكلام فيما إذا ادعيا معاً- أن إقراره ودعواه يجعل إنشاء للرجعة، وقد حكي ذلك عن القفال أيضاً. وذكر الشيخ أبو محمد أن من قال به يجعل الإقرار بالطلاق إنشاء أيضاً. قال الإمام: وهذا لا وجه له، وتابعه الغزالي، فقال: والصحيح أن إخباره لا يجعل إنشاء. وهذا كله إذا لم تكن المرأة قد نكحت، أما إذا كانت قد نكحت بعد انقضاء العدة، ثم ادعى الزوج الأول أنه راجعها قبل انقضاء العدة- فإن أقام على ذلك بينة سلمت إليه، وإن لم تكن له بينة وصدقاه سلمت إليه، وإن كذباه فالقول قولهما، ولابد من يمين الزوج، وهل يفتقر إلى يمين الزوجة والحالة هذه؟ فيه قولان حكاهما البندنيجي، ووجه عدم الافتقار: أنه لا فائدة في يمينها؛ فإنها لو أقرت لم تسلم إليه؛ لإنكار الزوج الثاني. وإن صدقته، وكذبه الزوج الثاني- فالقول قوله مع يمينه، وهذا بخلاف ما إذا ادعى على امرأة في [حبال] رجل أنها زوجته، فقالت: كنت زوجة لك وطلقتني؛ حيث يكون [ذلك] إقراراً له، وتجعل زوجة له، والقول قوله في أنه لم يطلقها، وقد صرح بذلك القاضي الحسين في "التعليق". قال الرافعي: لأن هناك لم يحصل الاتفاق على الطلاق، وها هنا حصل، والأصل عدم الرجعة، ويلزمها في مسألتنا للزوج الأول مهر مثلها؛ لأنها فوتت البضع عليه بالنكاح الثاني. وقال أبو إسحاق: لا غرم عليها؛ كما لو قتلت نفسها أو ارتدت. وإن نكل لزوج الثاني حيث توجهت عليه اليمين، وحلف الأول- حكم بارتفاع

نكاح الثاني. ثم إن قلنا: إن اليمين المردودة كالبينة، فكأنه لم يكن بينها وبين الثاني نكاح، ولا شيء لها على الثاني إلا إذا كان قد دخل بها؛ فيجب لها مهر المثل. وإن قلنا: إنها كالإقرار، فإقراره عليها غير مقبول، فلها كمال المسمى إن كان بعد الدخول، ونصفه إن كان قبله. قال في "المهذب" وعلى القولين جميعاً لا تسلم إلى الزوج. وفي "الشامل": أنها تسلم إليه؛ كما لو أقام البينة. وقال في "التهذيب": الصحيح عندي [أنها] وإن جعلت كالبينة، فلا تؤثر في سقوط حقها [من المسمى]، بل يختص أثر اليمين المردودة بالمتداعيين. وإذا انقضت الخصومة بينهما: إما بالحلف كما ذكرناه، أو بتصديق الزوج الثاني- فالدعوى على الزوجة: فإن كذبته فالقول قولها، مع يمينها: أنها لا تعلم أنه راجعها، كذا قال في "الشامل"، وهو موافق لما حكاه الإمام عن صاحب "التقريب" فيما إذا أنكرت الزوجة أصل الرجعة؛ إذ زوجية الثاني قد زالت بتصديقه للأول. وهذا كله فيما إذا ادعى على الزوج الثاني، وسمعنا الدعوى عليه، كما ذهب إليه المحاملي وغيره من العراقيين، أما إذا قلنا: الدعوى عليه غير مسموعة، وهو المذهب في "النهاية"- فيتعين- للمرأة الدعوى عليها، وفي سماعها- أيضاً- خلاف ينبني على أنها إذا أقرت، وأنكر الزوج الثاني: هل تغرم [للزوج الأول]؟ وفيه الخلاف السابق. فإن قلنا: إنها لا تغرم، لم تحلف. وإن قلنا: إنها تغرم، حلفت، فلو نكلت حلف الزوج وغرمها المهر. وإذا زال النكاح الثاني عنها وجب عليها تسليم نفسها إلى الأول، وفيه وجه: أنها تسلم إليه الآن؛ بناءً على أن يمين المدعي [مع نكول المدعى] عليه كالبينة،

وعليه ينبني- أيضاً- سماع الدعوى إذا قلنا: إنها لا تغرم. فروع: لو كانت الرجعية أمة، فكل موضع قلنا فيه: القول قول الزوج إذا كانت حرة، فكذلك في الأمة، وكل موضع قلنا فيه: القول قول الحرة، ففي الأمة: القول قول السيد، قاله في "التتمة". وقال ابن الصباغ: إنه الذي يجيء على المذهب. إذا ادعت الزوجة أن الرجعة وقعت بعد انقضاء العدة، وجعلنا القو قولها، وحلفت، ثم رجعت وادعت أنها كانت في العدة- قبل ذلك منها، وسلمت على الزوج هذا هو المشهور، [و] في الإشراف: أن قولها على قولين، وهذا بخلاف ما إذا زوجت المرأة في صورة تفتقر صحة النكاح إلى إذنها، فأنكرت الإذن، وحلفت، ثم عادت واعترفت به- فإنه لا يقبل ذلك منها، نص عليه الشافعي في "الإملاء"- على ما حكاه البندنيجي؛ لأن رجوعها عما حلفت عليه في مسألة الرجعة معتضد بأن الأصل بقاء العدة، وفي مسألة الإذن: الأصل عدم الإذن فعضد قولها الأول. [وفي الإشراف: أن القاضي أبا سعيد الإصطخري استبعد النص في مسألة الإذن]. وحكى الغزالي في "الوجيز" أن الأظهر قبول الرجوع. قال: وإذا طلق الحر امرأته دون الثلاث، أو العبد امرأته طلقة، ثم رجعت إليه برجعة أي: في العدة بشرطها كما تقدم، "أو بنكاح" أي: ولو بعد زوج آخر قد دخل بها- عادت بما بقى من عدد الطلاق، خلافاً لأبي حنيفة فيما إذا عادت إليه بعد دخول الزوج الثاني بها؛ فإنها تعود إليه عنده بثلاث طلقات حيث يكون الزوج يملك ثلاث طلقات، وبطلقتين حيث يكون الزوج يملك طلقتين. واستدل أصحابنا بما روي أن عمر- رضي الله عنه- سئل عن رجل طلق امرأته [تطليقة أو تطليقتين]، ثم انقضت عدتها، وتزوجت غيره، ثم طلقها، ثم

تزوجها زوجها- فقال: هي عنده على ما بقي وروي هذا القول عن أبي بن كعب، وعمران بن الحصين، وعلي، وأبي هريرة، ولم يظهر له مخالف من الصحابة. وبأنها إصابة ليست بشرط في الإباحة؛ فلم تؤثر في الطلاق كإصابة السيد وهذا إذا لم يتغير حاله، أما إذا تغير فسنذكره. فرعان: أحدهما: إذا طلق الحر الذمي زوجته طلقة، ثم جرى منه ما يوجب نقض العهد، فاسترق، ثم نكحها بإذن سيده- لم يملك عليها إلا طلقة. ولو كان قد طلق طلقتين- والصورة هذه- ملك عليها- أيضاً- الطلقة الثالثة على الصحيح. والثاني: إذا طلق العبد امرأته طلقة، [ثم عتق]، ملك عليها طلقتين، ولو كان قد طلق طلقتين، ثم عتق، فالذي ذكره الأصحاب بأجمعهم: أنه لا ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره. وفي "الوسيط" قبل الكلام في طلاق المريض حكاية وجه غريب: أن له أن ينكحها. قال: وإن طلق الحر امرأته ثلاثاً، أو طلق العبد امرأته طلقتين- حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، ويطأها في الفرج، أي: سواء كان الطلاق قبل الدخول أو بعده، في نكاح واحد أو أكثر، دفعة واحدة أو أكثر: أما في الحر؛ فلقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] والمراد بالطلاق: الطلقة الثالثة وبالنكاح الوطء؛ لأنه قد ورد في الكتاب العزيز بمعنى "العقد" في قوله: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ}، وبمعنى الوطء في قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] وإذا احتمل الأمرين ترجح ما ذكرناه؛ لورود السنة به، قالت عائشة- رضي الله عنها-: "جاءت امرأة رفاعة بن رافع القرظي إلى

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني فَبَتَّ طلاقي، فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير وإن [ما] معه مثل هدبة الثوب، فقال عبد الرحمن: كذبت يا رسول الله، و [والله] إني لأعركها عرك الأديم العكاظي؛ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟! لا: حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك"، وأراد بذلك [الوطء] وسماه عسيلة؛ تشبيهاً بالعسل. ورفاعة: بكسر الراء. وابن الزبير: بفتح الزاي وكسر الباء المعجمة بواحدة. وهدبة الثوب- بضم الهاء-: حرفه. وبما ذكرناه عن أبي علي الفارسي في أول كتاب النكاح. قال المحاملي: ولأنا لو لم نجعل الإصابة شرطاً لكان التزويج يكون لأجل الإحلال، لا لأصل الاستمتاع، والنكاح إنما يراد للاستمتاع لا للإحلال، وأما في العبد؛ فلأنه قد استوفى ما يملكه من الطلاق؛ فلم تحل له إلا بما ذكرناه كالحرة. تنبيه: إنما عني الشيخ- رحمه الله- تحريمها عليه بالنكاح والوطء فيه، ولم يذكر طلاق الزوج إياها، وانقضاء عدتها منه؛ لكون ذلك معلوماً مما تقدم، أو لما قاله المحاملي في "المجموع": إن ذلك إنما يراد للتمكين من التزويج بها، وطلاق [الثاني] يراد لزوال الزوجية، وانقضاء العدة يراد حتى لا تكون في عدة من غيره، وكأن المقصود من هذا أنها إذا وطئها الزوج صارت كسائر النساء المزوجات في حقه وحق غيره، وارتفع التحريم الخاص بالمطلق. واعلم أنه لا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون الزوج حرّاً أو عبداً، مسلماً أو كافراً، إذا كانت الزوجة كافرة، وكان وطؤه في وقت لو ترافعا إلينا لأقررناهما على النكاح، ولا بين أن يكون عاقلاً أو مجنوناً، بالغاً أو مراهقاً. قال الشيخ مجلي: وقد حكى الشيخ أبو محمد قولاً غريباً: أن الصبي وإن قارب الحلم، وحصل منه الانتشار، لا يحصل به الإحلال.

قال الإمام: ولم أره لغيره. وفي "التتمة": أن أبا حامد المرْوَرُّوذِي حكى أن الشافعي- رضي الله عنه- قال في كتاب "الإملاء": إن وطء الصبي الذي يجامع مثله كوطء الكبير، إلا في مسألتين: لا يحلها لزوجها، ولا يحصنها. [وكذلك حكاه ابن الصباغ في باب حد الزنى عن نصه في كتاب نكاح "الإملاء"]؛ فلعله أخذه من هذا الإطلاق. وأما غير المراهق إن لم يتأت منه الجماع، كابن أيام معدودة- فالذي حكاه الإمام ها هنا: أن الذي أطلقه الأصحاب أن التحليل لا يحصل به، وهو ما جزم به القاضي الحسين، والبندنيجي في "تعليقه"، والمحاملي في "مجموعه"، وقال الرافعي: إنه الأصح. ووجهه مجلي بأنه لا يلتذ بذلك. وأيضاً: فإن اشتراط الزوج كان لأجل الزجر عن إيقاع الطلاق الثلاث؛ فإنه لابد أن يعقبه ندم- في غالب الحال- ويطلب الرجعة، فشرط فيه إصابة زوج؛ ليكون آكد في الزجر؛ لما فيه من الغيرة التي تلحق مثله، ولا تحصل مثل تلك الغيرة من وطء الصبي؛ فلم يلتحق بما ذكرناه. واختيار القفال: أنه يحلل، وهو ما دل عليه كلام الإمام في باب الشغار، والتحليل؛ حيث حكى اتفاق الطرق على الاكتفاء من غير تفصيل، وعليه يدل كلام الغزالي في مسألة الحيلة للفرار من الغيظ. وكذا لا فرق بين أن تكون الزوجة عاقلة أو مجنونة، حرة أو أمة، كبيرة أو صغيرة، إذا كانت ممن يوطأ مثلها، وإن كانت ممن لا يوطأ مثلها لم يحصل، قاله في "الذخائر"، وفي "الرافعي" حكاية خلاف فيها عن الشيخ أبي الفرج. قال: "وأدناه: أن تغيب الحشفة في الفرج" أي: [من غير حائل] إذا كانت ثيباً؛ إذ به تتعلق أحكام الوطء. أما إذا كانت بكراً فأدناه: أن يفتضها بآلته، قاله في "التهذيب" [وحكاه [الإمام عن

المحاملي] ووجهه بأن التقاء الختانين لا يحصل إلا بعد الافتضاض]. [ولو كان ذلك مع حائل من ثوب ففيه خلاف حكاه الرافعي في "أدب القضاء" له، ومحل استقصائه كتاب الطهارة]. فإن قيل: لم علق الشرع حكم الحل بتغييب الحشفة؟ قال الإمام في أجل العنين: انقدح فيه- بعد الإتباع- أنها الآلة الحساسة، وبها الالتذاذ؛ ولهذا سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم العسيلة في الحديث، وظني أني قدمت هذا الجواب من قبل. ولا فرق في ذلك بين أن يكونا مختونين أو غير مختونين، ولا بين أن يكون ذلك مع قوة انتشار الزوج أو ضعفه، وكان يستعين بإصبعه أو بإصبعها. أما إذا لم يكن له انتشار أصلاً، فإطلاق الشيخ في "المهذب" يقتضي أنها لا تحل باستدخاله. وفي "النهاية" قبل باب نكاح المحرم: أن العراقيين قالوا: إن كان الانتشار ممكناً في العضو، ولكن لم يكن منتشراً في ذلك الوقت الذي حصل فيه الاستدخال- فيثبت حكم الوطء وإن كان العضو بحيث لا يتوقع انتشاره فلا يحصل المقصود [باستدخاله]. وكان شيخي يقطع بحصول الوطء بالاستدخال كيف فرض الأمر، وعلى ذلك جرى الرافعي؛ حيث قال: المشهور في كتب الأصحاب: المنع. لكنه ذكر الصورة بأن يكون العجز لـ "عنة" أو "شلل"، ومنقول الغزالي في "الوجيز" حصول التحليل به. وكذا لا فرق في حصول التحليل [بما] ذكرناه بين أن يكون في حالة يحل له وطؤها أو لا يكون كإحرام أحدهما أو حيضها، أو في نهار رمضان، أو على ظن أنه يطأ أجنبية، أو بعد أن ظاهر منها وعاد. ولو وطئها، وهي في عدة وطء شبهة بعد نكاحه إياها- حلت على الأصح من الوجهين ولو وطئها بعد ارتداد أحدهما في العدة، أو في عدة طلقة رجعية- لم تحل، سواء عاد إلى الإسلام وراجع أو لم يكن ذلك، إلا إذا قلنا: إن وطء الشبهة يحلل؛ فإن

ذلك لا يتقاعد عنه، قاله القاضي الحسين وغيره. وصور الأصحاب ذلك بصور، منها: أن نقول بالقول القديم: إن الخلوة توجب العدة لو استدخلت ماءه أو وطئها فيما دون الفرج، فوصل ماؤه إلى فرجها. قال: "فإن كان مجبوباً، و [قد] بقي من الذكر قدر الحشفة، أي: حشفة ذلك الذكر "أحلها [له] "؛ لحصول الوطء به. وحكى الإمام في أجل العنين [عن العراقيين] وجهاً: أن الحشفة إذا قطعت لا تتعلق الأحكام إلا بإيعاب الباقي، وأن القاضي قال: إنه ظاهر النص ثم قال: والمذهب خلافه. أما إذا لم يبق قدر الحشفة، فلا يحل، والخصي لا يمنع من حصول التحليل؛ كما لا يمنع عدم الإنزال. قال: و"إن وطئها رجل بشبهة، أو كانت أمة، فوطئها المولى- لم تحل؛ لأن الله- تعالى- علق الحل على وطء زوج [غيره] وليس ذلك بوطء زوج. ولا فرق في وطء الشبهة بين أن يظن الواطئ [أنها زوجته أو أمته، وفي طريق المراوزة: أنا إذا قلنا: إن الوطء في النكاح الفاسد يحلل، فهل يكون الوطء] على ظن أنها زوجته محلِّلاً؟ فيه وجهان. وسوى القاضي الحسين في "التعليق" بين أن يكون الوطء بالشبهة والنكاح الفاسد، ولم يرتب. قال: وإن وطئها زوج في نكاح فاسد ففيه قولان: أصحهما: أنها لا تحل؛ كما لا يحصل به التحصين، ولأن إطلاق اسم النكاح ينصرف إلى الصحيح؛ بدليل أنه لو حلف: لا يتزوج، فتزوج نكاحاً فاسداً-[فإنه] لا يحنث. والثاني: أنها تحل، ويحكى عن القديم؛ لأن التحليل حكم من أحكام الوطء، فتعلق بالوطء في النكاح الفاسد كالمهر والعدة والنسب، ولأن إصابة الذمي يحصل

بها التحليل وأنكحتهم فاسدة، في قول. وقرب بعضهم هذا الخلاف من الخلاف في أن السيد إذا أذن لعبده في النكاح، فنكح نكاحاً فاسداً ووطئ فيه- في متعلق المهر. قال القاضي الحسين: والفرق بينه وبين التحصين: أن التحصين من صفات الكمال والخصال الحميدة؛ فاستدعى وطئاً كاملاً على حكم فراش كامل، وأما التحليل فالإصابة شرعت فيه؛ عقوبة للزوج، وإرغاماً له على صنعه المكروه، وهذا المعنى يحصل في الفاسد حصوله في الصحيح؛ فتعلق به التحليل. فرع: إذا نكح امرأة نكاحاً فاسداً، وطلقها ثلاثاً- قال في "التتمة": المذهب: أنه لا يقع، ويباح له تجديد النكاح عليها. قال: وقد حكينا طريقة أن الطلاق يقع، فعلى هذا: لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. قال: وإن كانت أمة، فملكها الزوج قبل أن تنكح زوجاً غيره- لم يحل له وطؤها بملك اليمين؛ لظاهر الآية، وهذا هو المذهب. وقيل: يحل؛ لأن الطلقات الثلاث لا تمنع الملك فلا تمنع الوطء بالملك، بخلاف النكاح، والأول أصح؛ لما ذكرناه، ولأن كل امرأة حرم عليه نكاحها لم يجز له وطؤها بملك اليمين كالملاعنة، ويفارق النكاح الملك؛ لأن ملك أخته من الرضاع والنسب والملاعنة يصح، ولا يجوز وطؤها. فإن قيل: أي فرق بين هذه المسألة وبين مسألة الملاعنة؛ حيث ذكرتم ها هنا خلافاً في حل الوطء بملك اليمين، ولم تجوزوه في الملاعنة؟! قلنا: قد حكى القاضي الحسين في كتاب الظهار الخلاف فيها- أيضاً- وعلى تقدير [تسليم] ما ذكرتموه، وهو الموجود في طريقة العراق، فالفرق- كما حكاه ابن الصباغ في كتاب اللعان- من وجهين: أحدهما: أن تحريم المطلقة ليس بمتأبد لأنه يزول بالزوج والإصابة، وتحريم الملاعنة متأبد. الثاني: أن تحريم الطلاق يختص بالنكاح؛ فلهذا حلت بملك اليمين، وتحريم

اللعان لا يختص به؛ لأنه يصح في النكاح الفاسد. فرع: إذا قلنا بحل الوطء، فهل يجب الاستبراء إذا كان الشراء قبل انقضاء العدة؟ قال الجيلي: فيه وجهان، أصحهما: أنه لا يجب. وفي "النهاية" في هذا الباب: أن الأصحاب قالوا: إذا طلق الزوج زوجته الأمة طلاقاً رجعيّاً، ثم اشتراها في العدة- لا يحل له نكاحها حتى تنقضي بقية العدة بعد الشراء أو ينقضي الاستبراء، على ما سنوضح بقية كلامه في الاستبراء، إن شاء الله تعالى. ووجهه بأنه نقلها من حرمة إلى حرمة، بخلاف ما إذا اشترى زوجته؛ فإنه نقلها من حل إلى حل، وهذا الحكم في مسألتنا من طريق الأولى؛ لشمول العلة، وعدم إمكان إعادة الحل الأول، والخلاف الذي ذكره الجيلي مذكور فيما إذا اشترى زوجته. قال: وإن طلقها ثلاثاً، وغاب عنها، فادعت أنها تزوجت بزوج أحلها [له]، أي: وكان قد مضى زمان يمكن صدقها فيه، ولم يقع في قلبه صدقها- كره له أن يتزوجها؛ أخذاً بالاحتياط، ولا يحرم؛ لأن صدقها محتمل، وتتعذر إقامة البينة على الوطء وانقضاء العدة، وهما من جملة شروطه، وهي مؤتمنة على ذلك، ولأن الوطء يكتم حلاله كما يكتم حرامه، والحيض لا يعرف إلا من جهتها؛ فكان القول قولها. قال الإمام: كيف لا، والأجنبية تنكح، والتعويل على قولها في أنها خلية عن الموانع، وهي في مقام بائع لحم يجوز أن يكون [مذكى و] ميتة، نعم، هل يجب عليه البحث عن الحال؟ قاله أبو إسحاق: إنه يستحب حكاه عنه [ابن الصباغ] وقال القاضي الروياني: أنا أقول: إنه يجب في هذا الزمان، وقد رأيت امرأة ادعت [ذلك] لترجع إلى الأول، وكان الزوج الثاني يحلف بالأيمان المغلظة على أنه ما أصابها، وتبين كذبها، وصدقه. كذا حكاه الرافعي عنه في هذا الباب، وفيما قاله من الاستشهاد نظر؛ فإنه لا يلزم من كذب امرأة واحدة خرم هذه القاعدة. فإن قيل: إذا ادعى المودع تلف الوديعة بسبب ظاهر، كلف إقامة البينة على

[السبب دون التلف]؛ لأن إقامة البينة عليه ممكنة، بخلاف التلف؛ فإن إقامة البينة عليه متعذرة، فهلا قلتم ها هنا كذلك؟ قلنا: قد أبدى هذا مجلي احتمالاً فيما إذا أمكن إقامة البينة على النكاح بأن تدعي التزوج في البلد دون ما إذا لم يمكن إقامة البينة بأن تكون غريبة أو عُدِمَ شهود العقد، ونحو ذلك، وهو ما حكاه الزبيلي في "أدب القضاء" فيما إذا حضرت امرأة، وادعت أن زوجها طلقها، أو مات عنها، وطلبت من الحاكم التزويج؛ حيث قال: إن كانت غريبة والزوج غائب، فالقول قولها بلا بينة ولا يمين، وإن كان الزوج في البلد، وليست غريبة فلا يعقد الحاكم عليها ما لم تثبت [ما ادعته]، ويمكن أن يفرق بينهما على المذهب المشهور- من أنها لا تكلف [إقامة البينة]، وإن أمكنها ذلك، كما حكاه مجلي عن بعض الأصحاب- بأن إثبات النكاح من غير حجة وخصومة تقام متعذر، والخصومة في الوديعة، قائمة؛ فأمكن معها إقامة البينة، والله أعلم. ثم إذا قبلنا قولها فهو بغير يمين، قاله مجلي، ووجهه الإمام بأن الحلف لا يثبت يقيناً، وقد أوضحنا أن النكاح ينعقد مع الريب. ووجهه مجلي: بأنها لا تدعى حقّاً، ولا يُدَّعَى عليها حق، وإنما هي مثبتة، والعاقد يُقْبَل قوله في انتفاء الموانع. فإن قيل: [قد] ذكرتم عن نص الشافعي فيما إذا كان الولي غائباً، فطلبت من الحاكم أن يزوجها-: "فإنه لا يزوجها ما لم يشهد عدلان بأنه ليس لها ولي حاضر، وأنها ليست في زوجيَّة ولا عدة"، وأن الأصحاب اختلفوا في أن ذلك إيجاب أو استحباب، ووجه الوجوب: الاحتياطُ للأبضاع. وذكرتم أن للقاضي أن يحلِّفها بأن وليها لم يزوجها في الغيبة إن رأى ذلك، وأن مثل هذه اليمين التي لا تتعلق

بدعوى إيجابٌ أو استحباب؟ فيه خلاف، فهلَّا جرى مثل ذلك ها هنا؛ لما فيه من الاحتياط في البُضْع؟ قلنا: قد حكى الإمام في فصل غيبة الولي أن للزوج أن يعوِّل على قولها، وأنه لم يصر أحد من أصحابنا إلى إيجاب الاحتياط، وإنما ذلك التردد في [] يتعلق بالولي؛ فإن عماد أمره النظر. قال: ويمكن أن يفرق بينهما بوجه آخر، وهو: أن ثَمَّ الحق في التزويج للولي، وهو يدعي غيبته؛ لينوب الحاكم عنه فيه كما في وفاء الدين، وكُلِّفَتْ إقامة البينة على ذلك اليمين لأجل الغيبة، ولا كذلك ها هنا، لكن هذا لا يدفع الخلاف العام في اليمين. واعلم أن الصحاب ذكروا للمسألة ثلاث صور: إحداها: أن يقع في قلبه صدقها؛ فإن له التعويل على قولها من غير كراهة، ونقل مجلي أن من أصحابنا من قال: الورع ألا يتزوجها إلا عن ثَبَتٍ. الثانية: أن يقع في قلبه كذبها؛ فله أن ينكحها لكن مع كراهة، وهو ما قطع به العراقيون وصاحب "التقريب" وغيرهما، وقال الفوراني: ليس له نكاحها. قال الإمام: وهو غلط. الثالثة: أن يشك في صدقها ولم يترجح عنده ظنٌّ؛ فالورع: الاجتناب أيضاً، وكلام الشيخ على هذه الصورة أقرب؛ لأنه لا يلزم من عدم وقوع الصدق في القلب وقوعُ الكذب. والمنقول فيما وقفت عليه من كتب العراقيين: الصورة الأولى والثانية. فروع: لو قال الزوج: أنا أعلم أن الزوج الثاني لم يدخل بها، ثم قال بعد ذلك: علمت أنه أصابها- قال الشافعي- رضي الله عنه- قُبل ذلك منه، وكان له أن يتزوجها. ولو قال الزوج الثاني: لم أدخل بها، وادعت الزوجة الدخول- حَلَّ للأول نكاحها. وكذلك لو جاء الولي والشهود الذين ادعت انعقاد النكاح بحضورهم، وأنكروا ذلك- لم يقبل منهم.

وقد أشار البغوي إلى شيء من ذلك، وهو مستمدٌّ من إقرار المرأة بالنكاح؛ فإن المذهب أنه يعمل به مع تكذيب الولي والشهود. ولو قال الزوج الثاني: لم أطلق، فالقول قوله. ولو ادعت الزوجة الدخول، ثم ادعت عدمه فيه: فإن كان قبل أن يعقد عليها الأول لم يجز له العقد عليها، وإن كان بعد ما عقد عليها لم يقبل قولها. والله أعلم بالصواب. ***

باب الإيلاء

باب الإيلاء الإيلاء- بالمد في اللغة- مصدر قولهم: آلَى، يُولِي، إيلاء؛ فهو مُولٍ: إذا حلف. والأَلِيَّةُ: بالتشديد، والجمع: أَلايَا؛ كعَطِيَّةٍ وعطايا، ومنه قول الشاعر: قليلُ الألايا حافظٌ ليمينه وإن صَدَرَتْ منه الأَلِيَّةُ بَرَّتِ وفي الشرع: الحلف على الامتناع من وطء الزوجة مطلقاً؛ أو مدة تزيد على أربعة أشهر. وكان طلاقاً في الجاهلية، فغيَّر الشرع حكمه. والأصل فيه من الكتاب قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} الآية [البقرة: 226]. ومن السنة: ما روي عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: "آلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَحَرَّمَ، فَجَعَلَ الْحَرَامَ حِلّاً، وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ كَفَّارَةً" أخرجه الترمذي. قال: كل زوج صح طلاقه، أي: حرٌّ أو عبد، مسلم أو ذمي، وهو قادر على الوطء: صح إيلاؤه؛ للآية. واحترز الشيخ- رضي الله عنه- بذكر الزوج عما لو حلف: لا يطأ فلانة، وهي أجنبية؛ فإنه لا يكون مُولِياً، وإن كانت يمينه موجبة للكفارة؛ لقوله تعالى: {مِنْ نِسَائِهِمْ}، فقيّد بالزوجية، وليست هذه الصورة في معنى المنصوص عليها؛ لأنه لا يتحقق قصد الإيذاء والإضرار وهي أجنبيّة. وفيه وجه حكاه المتولي، وهو مروي عن حكاية صاحب "التقريب": أنه إن تزوجها وقد أطلق اليمين، أو بقي من المدة التي حلف على ترك الوطء فيها أكثر من أربعة أشهر إن كان قد قيَّد بمدة- أنه يكون مُولِياً. ونقل القاضي أبو الطيب الخلاف في المسألة قولين كالقولين فيما لو آلى من

زوجته، ثم أبانها، ثم تزوجها. والذي عليه أكثر الأصحاب هو الأول. ولو قال لها: إن تزوجتك فوالله لا أطؤك، لم يكن مولياً عند تزويجها على الصحيح من المذهب. وبقوله: "صح طلاقه" عمن لا يصح طلاقه: كالصبي، والمجنون، والمكره، والسكران، إن قلنا بعدم وقوع طلاقه؛ لما ذكرناه ثمَّ. وبقوله: هو قادر على الوطء عمن لا يقدر عليه، كما سيأتي. تنبيه: لو اقتصر الشيخ على قوله: "من صح ... " إلى آخره، وترك لفظ "الزوج"- كما فعل في باب الظهار- لكان أولى؛ لأنه يدخل الرجعيَّة، ولفظ "الزوج" يخرجها إذا قلنا: إن الطلاق الرجعي يقطع الزوجيَّة. قال: وإن كان غير قادر بمرض صح إيلاؤه؛ لأن الوطء في حقه غير مأيوس منه، وكان الضرار حاصلاً به. وحكم العِنِّين في صحة الإيلاء حكم من عجز عن الوطء لمرض، قاله في "التتمة". قال: وإن كان لشَلَلٍ أوْ جَب ففيه قولان. الشلل: فساد العضو، وشلل الذكر هنا: سقوط قُوَّته. قال: أحدهما: يصح إيلاؤه. وهو نصه في "الأم"؛ لعموم الآية، وأن عماد الإيلاء: الإيذاء باللسان، وقد تحقق ذلك منه. والثاني: لا يصح. وهو نصه في "الإملاء"، واختاره المزني؛ لأنه يمين على ترك ما لا يقدر عليه بحال؛ فلم يصح كما لو حلف ألا تصعد السماء، ولأنه لا يتحقق منه قصد الإيذاء والإضرار؛ لامتناع الأمر في نفسه. وهذا هو الأصح على ما اختاره

القاضيان أبو الطيب والروياني، والأول هو الأصح في "الجيلي"، ووراء ذلك طريقان آخران: أحدهما: القطع بالمنع كما نص عليه في "الإملاء"، قال القاضي الحسين: وهو الأصح. وحمل ما في "الأم" على أنه أراد ما إذا آلى ثم جبَّ ذكره؛ فإنه لا ينقطع الإيلاء على الأظهر من القولين، وهو الذي أجاب به في "التهذيب"، وإن كان الرافعي قد أجرى الطرق فيها- أيضاً- لكن الأظهر منها. والثاني: حكاه أبو الفرج السرخسي، وهو القطع بالصحة، وحمل ما في "الإملاء" على أنه لا يطالب بالوقاع؛ لعجزه، بخلاف إيلاء القادر. ولو كان العجز عن الوطء بسببٍ فيها من: رَتَقٍ أو قَرَنٍ، خرج إيلاؤها على القولين في إيلاء المجبوب. قال ابن الصباغ: لكن إذا صححنا لا تُضرب مدة الإيلاء؛ لأن الامتناع بسبب من جهتها كما إذا آلى عن الصغيرة؛ فإنه لا تضرب المدة حتى تبلغ، وقضية ما ذكره الغزالي في الباب الثاني: أنها تضرب عقيب اليمين؛ فإنه قال: ولا يملك المطالبة إلا إذا فرَّعنا على قول بعيد في صحة الإيلاء عن الرَّتْقاء؛ فإن لها المطالبة بالعُنَّة باللسان. ثم ما ذكره ابن الصباغ من الاستشهاد بالصغيرة مفرَّعٌ على القول بصحة الإيلاء منها، وهو الجديد. وفي القديم حكاية قول: أنه لا يصح الإيلاء عنها، وهو جارٍ في المريضة المُضْنَاة؛ لامتناع الجماع كما في الرتقاء، وعلى هذا لا يحسن القياس. قال: والإيلاء- أي: المتفق عليه-: أن يحلف الرجل بالله- عز وجل- أي: أو بصفة من صفاته، يميناً تمنع الجماع في الفرج أكثر من أربعة أشهر. ولأيِّ معنىً جُعِلَ مُولِياً في اليمين بالله تعالى؟ قيل: لأنه حلف على منع نفسه من وطئها مدة تتضرَّر بها بشيء يلزمه. وقيل: لأنه حلف على معهود الجاهلية في الإيلاء بأعظم ما يُحْلَفُ به. وعليهما ينبني ما إذا حلف بغيره، وسنذكره.

واحترز الشيخ بالقيود المذكورة عما سيذكره من بعد. ثم المراد بالأكثر ها هنا: زمانٌ ما وإن قَلَّ؛ فلا يعتبر إمكان المطالبة؛ فإن المدة إنما تعتمد زمان الضِّرار، والمرأة تصبر عن زوجها أربعة أشهر فحسب، وإن كان الجِبِلَّات تختلف، وفائدة ذلك: الإثم؛ لأن اليمين تنحل بمضيِّ تلك المدة التي لا يُتصوَّر في مثلها المطالبة؛ لأمر آخر، كذا قاله الإمام. قال: فإن حلف بغير الله- تعالى- بأن قال: إن وطئتك فأنت طالق ثلاثاً، أو: إن وطئتك، فعليَّ صوم أو صلاة أو عَتَاقٌ، أي: وما في معنى ذلك كالحج والصدقة- ففيه قولان: أصحهما: أنه مُولٍ؛ لأن ذلك يسمى يميناً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: عَلَيْكُمْ؛ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ حَالِفاً، فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَسْكُتْ"، فنهى عن الحلف بغير الله؛ فدل على أنه يكون حالفاً، وقد قال الشاعر: وأكذبُ ما يكون أبو المثنى إذا آلى يميناً بالطلاقِ ولأنه لا يقدر على الوطء إلا بالتزام ما يمنعه عن ذلك، وذلك بقطع رجائها من الوطء؛ فيحصل لها به الضرر؛ فكان كاليمين بالله، عز وجل. قال: والثاني: أنه ليس بمُولٍ"، وهو القديم؛ لأن المعهود في الجاهلية الحلف بالإله، والشرع إنما غَيَّر حكمه لا صورته، ولأن الإيلاء المطلق إنما هو بالله- عز وجل- يدل عليه أنه تعالى قال: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]، والعفو إنما يدخل في اليمين بالله- تعالى- والحنث منها.

والخلاف في المسألة عند بعضهم ينبني على الخلاف فيما إذا حلف بالله ثم وطئ: هل يلزمه كفارة أم لا، على ما سيأتي؟ فإن قلنا: نعم، انعقد الإيلاء بهذه الالتزامات؛ لتعلق محذور بالوطء. وإن قلنا: لا، لم نحمك بانعقاد الإيلاء بها؛ إذ ليس مأخذ الحكم بالصحة على هذا القول لزوم شيء بالوطء، وإنما هو الحلف بأعظم ما يحلف به، ولم يوجد. وأجري مثل هذا الخلاف فيما إذا ظاهر من زوجته خمسة أشهر، وقلنا بصحته مؤقتاً، وأن العود فيه يكون بالوطء؛ فإنه يصير مولياً مع كونه مظاهراً- على المذهب- وعند الشيخ أبي محمد: لا يكون مولياً. فإن قيل: إذا لم توجبوا الكفارة بالوطء بعد الحلف بالله- تعالى- لم يطرأ ما يمتنع الزوج بسببه عن الوطء، وكان ينبغي ألا ينعقد الإيلاء بالله تعالى- أيضاً- لأن رجاءها باقٍ بحاله كما قبل الحلف. قلنا: الآية دلت على انعقاد الإيلاء، وذلك يقتضي العدم، ولا سبيل إليه؛ فهو دليل على فساد هذا القول. فروع: لو قال: إن وطئتك فعبدي هذا حر عن ظهاري-: فإن كان قد تظاهر صار مولياً، ثم إذا وطئ عَتَقَ العبد عند الظهار في أصح الوجهين، وإن لم يكن قد ظاهر فلا إيلاء ولا ظهار في الباطن، ولكنه مقر على نفسه بالظهار، مؤاخذ به في الظاهر، ويكون الحكم كما تقدم. الثاني: لو قال: إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري إن تظاهرت، فلا يصير مولياً في الحال، وإذا تظاهر صار مولياً، ومن الأصحاب من جعل كونه مولياً في الحال على قولين؛ لأنه يقرب من الحنث، كما إذا قال لأربع نسوة: والله لا أجامعكن. وعلى القول بأنه لا يكون مولياً في الحال: لو وطئ ثم ظاهر عَتَقَ العبد؛ كما لو ظاهر أولاً ثم وطئ؛ لاجتماع الصفتين. وهذا إذا كانت الصفة كما ذكرنا ولم تزد شيئاً، فلو قال: إن وطئتك إن ظاهرت منك فعبدي حر، قال الرافعي: لك أن تقول: يشترط أن يتقدم الظهار على الوطء، ولو تقدم الوطء على الظهار لا يعتق العبد- كما ذكرنا في الطلاق- وحيث حكمنا

بالعتق فلا يعتق عن الظهار ها هنا باتفاق الأصحاب. وعلله أبو إسحاق بأن تعليق العتق سبق الظهار، ولا يقع عن الظهار إلا بلفظ يوجد بعده. وعلله ابن أبي هريرة بأنه لا يقع خالصاً عن الظهار لتَأَدِّي حق الحنث؛ فأشبه ما إذا اشترى قريبه، ونوى أن يكون عتقه عن الكفارة، والأول أصح. وفي "الوسيط" إبداء احتمال في أن العبد لا يعتق إذا وطئ بعد الظهار؛ لأنه لا يمكن وقوع العتق عن الظهار، وهو إنما أعتق عن الظهار. قلت: وهو مستمد مما إذا قال: أنت طالق أمس، وأراد انعطاف الطلاق إلى أمس؛ فإنه لا يقع على قولٍ تقدمت حكايته. ولو قال: إن وطئتك فلله علي أن أعتق هذا العبد عن ظهاري- وكان قد ظاهر وعاد- فهل يكون مولياً؟ ينبني على أنه إذا كان في ذمته إعتاق رقبة، فقال: لله علي أن أعتق هذا العبد عما هو علي، فهل يتعين ذلك العبد أم لا؟ النص وقول عامة الأصحاب: أنه يتعين. واختار المزني: أنه لا يتعين، وخرَّجه على أصل الشافعي، واستشهد عليه بأنه: لو كان عليه صوم يوم، فقال: لله علي أن أصوم يوم الخميس عن الصوم الذي في ذمتي، لا يتعين ذلك اليوم. وعدّ الإمام ما ذكره قولاً في المذهب. فإن قلنا: إن العبد المعين لا يتعين بالنذر، فلا يكون مولياً في مسألتنا، وإن قلنا: إنه يتعين، فهو كما لو قال: إن وطئتك فلله علي صوم أو صلاة. ولو قال: إن وطئتك فعبدي حر قبل وطئك بشهر، فلا تضرب مدة الإيلاء في الحال إلى أن يمضي شهر؛ لأنه قبل الشهر غير متصف بأن يلزمه أمر بالوطء؛ فإنه لو وطئ لم يحصل العتق؛ إذ لو حصل لتقدم على اللفظ. قال الرافعي: وقد ذكرنا فيما إذا قال لزوجته: إن قدم فلان فأنت طالق قبله بشهر، وقد قبل مضي شهر- ما يخرج منه وجه: أنه يقع الطلاق في الحال؛ فعلى ذلك الوجه: لو وطئها قبل مضي شهر يعتق العبد، ويصير مولياً في الحال، ولا حاجة إلى مضي شهر. قلت: وقد حكاه في "الإبانة"، وحكى في مسألة الطلاق: أنه لابد بعد مضي الشهر من مضي زمان يقع فيه الطلاق؛ فليكن الحكم كذلك إذا فرعنا على المذهب، وعليه

ينبني: ما إذا باع العبد في الشهر الخامس من وقت اليمين؛ فإن الطَّلِبَة تتوجه عليه من أول الشهر السادس إلى مثل ذلك الوقت الذي باع فيه العبد من الشهر الخامس، فإذا جاوز ذلك من الشهر السادس سقطت الطلبة عنه؛ إذ لو وطئ لما وقع العتق؛ لزوال الملك قبله. قال: وإن حلف على ترك الجماع في الدبر أو فيما دون الفرج، لم يكن مولياً؛ لأن الإيلاء هو اليمين التي يمنع نفسه بها عن الوطء الذي ترجوه الزوجة وتتضرر بتركه، ولم يوجد ذلك، ويلتحق بذلك ما إذا حلف على ترك الجماع في الحيض أو النفاس. نعم، لو حلف ألا يجامع إلا في الدبر كان مولياً، ولو قال: إلا في الحيض أو النفاس، لم يكن مولياً، قاله السرخسي. وفي "فتاوى" صاحب "التهذيب": أنه يكون مولياً، وهو المذكور في "الذخائر"، وكذا لو قال: إلا في نهار رمضان، أو: إلا في المسجد، لكنه إذا ما [قال:] في الحيض أو ما في معناه سقطت المطالبة في الحال، وتضرب له المدة ثانياً؛ إذ اليمين لم ترتفع. قلت: وما قاله السرخسي في النفاس يبعد كل البعد إذا لم تكن ذات حمل. قال: والله لا أنيكك، أو: لا أغيب ذكري في فرجك، أو لا أفْتَضُّك- وهي بكر- فهو مُولٍ، أي في الظاهر والباطن؛ لأن هذه الألفاظ لا تحتمل غير الجماع. وفي "المهذب" تقييد "النَّيْك" بالفرج، وحكاية وجهين في مسألة الافتضاض من غير أن يقول: بذكري: أحدهما: ما ذكرناه. والثاني- وهو الأصح في "الشامل"، والأظهر في "الرافعي"، واختاره

القاضيان أبو حامد والطبري-: أنه كالقِسْم الذي يذكره من بعدُ، حتى إذا نوى به الافتضاض بغير الذكر قُبِلَ. قال الإمام والغزالي: ولو نوى به الضم والاعتناق لم يُدَيَّنْ على الأصح، والأول هو المنقول عن الشيخ أبي حامد. قال مجلي: ورأيت الشافعي نص عليه في "الأم". وفي "الجيلي": أن الصواب في مسألة تغييب الذكر أن يقول: لا أغيب حشفتي في فرجك؛ لأنه إن أراد تغييب جميع الذكر لم يكن مولياً؛ لما سيأتي في قوله: لا أستوفي الإيلاج، وإن أراد: لا أغيب شيئاً من ذكري، يقبل مه. لكن لا يكون صريحاً فيما يتعلق بصحة الإيلاء؛ لأن الذكر عند الإطلاق يحمل على جميعه، وأنه يمكن أن يقال: إنه أراد ألا يغيب شيئاً من المسمى؛ بدليل ما يذكره عقيبه وهو قوله: لا أستوفي الإيلاج، ولأن الذكر يطلق على البعض وعلى الكل؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّا"، وإذا كان كذلك فيحمل ما ذكره على الصحيح، وما قاله من الاستدراك

حسن، وإن كان لفظ الأئمة في كتبهم كما ذكره الشيخ، رضي الله عنهم. قال: وإن قال: والله، لا جامعتك، أوْ: لا وطئتك- فهو مُولٍ في الحكم، أي: وفي الباطن- أيضاً- إن لم ينو شيئاً؛ لأن هذا اللفظ أغلب استعماله في إدخال الذكر في الفرج حتى لا يفهم منه عند الإطلاق غيره، وكان كلفظ الطلاق في بابه. قال: فإن نوى غيره دُيِّنَ، أي: بأن قال: أردت بقولي: لا أجامعك، الاجتماع في المكان، وبقولي: لا وطئتك، الوطء بالقدم- دُيِّنَ؛ لأن ذلك يحتمل. نعم، لا يقبل منه في الظاهر؛ كما إذا ادعى أنه أراد بالطلاق الطلاق من الوَثَاق. وفي "التهذيب" حكاية طريقة بإجراء خلاف في أن لفظ الوطء هل هو صرحي أم لا؟ ولم يَحْكِ القاضي الحسين غيرها. وفي كتاب ابن كج: أن ابن سريج طرد الخلاف في الجماع- أيضاً- ومقتضى ذلك: أن يقبل قوله في الظاهر- أيضاً- إذا ادعى أنه لم ينو شيئاً، فضلاً عن أن يدعي أنه نوى ما يقتضي عدم الوقوع. ثم هذا كله فيما إذا اقتصر على ما ذكره الشيخ، أما إذا أضاف إلى ذلك ذكر الذَّكَر فإنه يكون من القِسْم الأول. واعلم أنه يلتحق بهذا القسم قوله: لا أصبتك، حتى يكون صريحاً على المذهب الظاهر، وهو المحكي عن الشيخ أبي حامد وأكثر العراقيين، صرح به المحاملي في "مجموعه"، والبندنيجي في "تعليقه"، ووافقهم على ذلك الشيخ أبو علي، وهو الذي يقتضي إيراد صاحب "التهذيب" ترجيحه، وألحقه القاضي أبو الطيب بالقسم الذي يذكر من بعد، فحكى فيه القولين، قال ابن الصباغ: وذلك أولى، وهو الذي يقتضيه إيراد الغزالي في "الوجيز" حيث قال: والإصابة قريبة من المباشرة. وفي "المهذب" حكاية طريقة بدلاً عن الأولى: أنه يكون كقوله: لا اجتمع رأسي ورأسك. قال: وإن قال: والله، لا باضعتك، أو: لا باشرتك، أو: لا لمستك، أو: لا قربتك- ففيه قولان:

أحدهما: أنه مولٍ في الحكم، وهذا هو القديم، واختيار المزني؛ لأن ظاهر هذا اللفظ يقتضي الوطء في الفرج؛ فكان كلفظ الجماع، وقد ورد في القرآن بعضها لإرادة الوطء؛ قال الله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187]، وقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222]، والباقي في معنى المذكور؛ فكان حكمه كحكمه. قال: والثاني: أنه ليس بمُولٍ إلا أن ينوي الوطء، وهو الأصح؛ لأن لهذه الألفاظ خصائص غير الوطء، ولم تشتهر فيه اشتهارَ الوطء؛ فكانت كناية فيه. ويجري القولان فيما لو قال: لا مسستك، أو: لا أمسُّك، ولا أفضي إليك، ولا أباعلك، ولا أدخل بك، ولا أفترشك، ولا أغشاك، ولا آتيك. وقيلك إن لفظ "المباضعة" و"القُرْبان" و"الغِشْيان" و"الإِتْيان" كناية قولاً واحداً، وفي "التهذيب" حكاية هذه الطريقة في "القربان" و"الإتيان"، وأن في لفظ "الغشيان" القولين، قال الرافعي: ولا يتضح بينهما فرق. قال: وإن قال: والله لا اجتمع رأسي ورأسك، أي: على وسادة، أو: تحت سقف، أو: لتطولَنَّ غيبتي عنك، وما أشبه ذلك كقوله: لا دخلت عليك، ولا دخلتِ عليّ، ولأُغْضِبَنَّكِ، ولأسُوءنَّكِ، ولأبعدنَّ عنك-: فإن نوى الوطء فهو مُولٍ؛ لاحتماله، وإن لم ينو فليس بمُولٍ: أما في قوله: لا اجتمع رأسي ورأسك؛ فلأن ذلك ليس من لوازم الوطء. وأما فيما عداه؛ فلأنه وإن أريد به الوطء فليس صريحاً في مدة الإيلاء؛ لصحة إطلاقه على ما دونه. ثم اعلم أنه يشترط مع نية الوطء في قوله: لتطولن غيبتي عنك، أو: لأبعدن عنك، وما شابهه- أن ينوي المدة أيضاً، ولا يشترط ذلك في قوله: لا اجتمع رأسي ورأسك، ولا في قوله: لا دخلت عليك ولا دخلت عليّ. وكذا في القِسْم قبله إذا قلنا: إنه كناية؛ لأن إطلاق هذا يقتضي التأبيد، بخلاف الأول؛ فإنه يقتضي مدة، وسيأتي أنه إذا قال: لا وطئتك مدة، أنه لا يكون مولياً حتى ينوي أكثر من أربعة أشهر.

قال: وإن حلف: لا يستوفي الإيلاج، فليس بمُولٍ؛ إذ لا ضرر عليها في ذلك؛ لأنه يمكن أن يجامعها ويحصل مقصودها من غير استيفاء إيلاج؛ بأن يغيب الحشفة. نعم، إن نوى ألا يغيب الحشفة كان مولياً؛ لأن ما دون الحشفة لا يتعلق به حكم من أحكام الوطء. ولو قال: لا أجامعك إلا جماع سوء؛ فإن أراد به الجماع في الدبر أو فيما دون الفرج كان مولياً، وإن أرد به ضعف الجماع لم يكن مولياً. ولو قال: لا أغتسل عنك، فإن قال: أردت به الجماع، فهو مُولٍ، وإن قال: أردت الامتناع من الغسل، أو قال: أردت أني لا أمكث إلى أن أنزل، وعندي: أن الجماع من غير إنزال لا يوجب، أو: أني أقدم على وطئها بعد وطء غيرها؛ فيكون الغسل عن الأولى لحصول الجنابة بوطئها- قُبِلَ، ولم يكن مولياً، وكذا لو قال: لم أُرِدْ شيئاً؛ لتردد اللفظ. قال: وإن حلف على ترك الجماع أربعة أشهر لم يكن مولياً؛ لأن المطالبة بالفيئة أو الطلاق تكون بعد أربعة أشهر للآية، فإذا آلى أربعة أشهر لم يبق بعدها يمين، ولا مطالبة بعد انحلال اليمين كما إذا امتنع من غير يمين، وأيضاً: فإن المرأة تصبر عن زوجها مثل هذه المدة، روي أن عمر- رضي الله عنه- كان يطوف ليلة في المدينة، فسمع امرأة تقول: ألا طال هذا الليل وازورَّ جانبُهْ ... وليس إلى جنبي خليل ألاعبهْ فوالله لولا اللهُ لا رب غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه مخافة ربي والحياء يكفني ... وأكرم بعلي أن تنال مراكبه فبحث عمر- رضي الله عنه- عن حالها، فأُخْبِرَ أن زوجها غاب في غزوٍ، فسأل عمر- رضي الله عنه- من النساء: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقيل: شهرين، وفي الثالث يقل الصبر، وفي الرابع ينفد الصبر؛ فكتب إلى أمراء الأجناد: أن لا تحبسوا رجلاً عن امرأته أكثر من أربعة أشهر، ويروى أنه سأل عن ذلك ميمونة، فأجابته بنحو

من ذلك. والازورار: التحول، والتزعزع: التحول. قال: وإن قال: والله لا وطئتك مدة، لم يكن مولياً حتى ينوي أكثر من أربعة أشهر؛ لتردد اللفظ بين القليل والكثير، وكذا لو قال: ليطولن تركي لجماعك، أو: لأسوءنَّك من الجماع- كان صريحاً في الجماع، كناية في المدة. وهذا بخلاف ما لو قال: لا وطئتك؛ لأن إطلاقه يفهم منه التأبيد. قال: وإن قال: والله لا وطئتك أربعة أشهر، فإذا مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر- فقد قيل: هو مُولٍ؛ لتضررها بمنع نفسه ثمانية أشهر كضررها عند الجمع بيمين واحدة، ولأنه لا يمكنه أن يطأ بعد الأربعة أشهر إلا بضرر يلحقه، وذلك يمنعه من الوطء، ويوجب قطع الطمع وحصول الضرر. وقيل: ليس بمُولٍ، وهو الأصح، ولم يحك القاضي الحسين سواه؛ لأن بعد الأربعة الأشهر لا يمكن المطالبة بموجب اليمين الأولى؛ لانحلالها، ولا بموجب اليمين الثانية؛ لأن مدة المُهْلة لم تمض، وذلك يمنع المطالبة أن لو كانت المدة مدة الإيلاء، فضلاً عن ألا تكون، وبعد مضي الثمانية أشهر انحلت اليمين، وأيضاً: فإن كل يمين قد انفردت؛ فوجب أن يعطي حكمها، وشبّه ذلك بما لو اشترى أوسُقاً كثيرة في

صَفَقَات متعددة على صورة العَرَايا؛ فإنه يجوز، وإن كان لا يجوز شراؤها في صفة واحدة. فائدة: هل يأثم الحالف والحالة هذه؟ قال الإمام: يحتمل أن يأثم إثم الإيذاء والإضرار، لا إثم مُولٍ. فروع: لو قال: والله، لا وطئتك خمسة أشهر، فإذا مضت فوالله لا وطئتك سنة- فهما يمينان، ويثبت لكل واحدة منهما حكمها لو انفردت. ولو قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر، وتالله لا وطئتك سنة- فالمذهب: أن المدة الأولى تدخل في الثانية، وتضرب له مدة واحدة، فإن وطئ فقد أوفاها حقها: إن كان الوطء بعد مضي خمسة أشهر لزمته كفارة واحدة إن رأينا إيجاب الكفارة، وإن كان قبلها فكفارتان على القول الصحيح من المذهب على ما حكاه الإمام ومجلي. ومحلُّ هذا الخلاف جارٍ في كل فعل حلف عليه يمينين، كما إذا حلف: لا يأكل الخبز، وحلف: لا يأكل لزيد شيئاً، فأكل خبزة. وإن طلق فحكمه حكم من آلى من زوجته سنة، وسيأتي إن شاء الله تعالى. ومن أصحابنا من قال: الحكم في هذه المسألة كالمسألة قبلها. ولو قال: والله لا وطئتك سنة، والله لا وطئتك- وكرر ذلك مراراً-: فإن زعم أنه أراد التأكيد فهو مصدق بيمينه، وإن قال: أردت تعداد اليمين، قُبل من غير يمين، وفائدة التعداد: أنه إذا وطئ انحلت الأيمان بجملتها، وفي تعدُّد الكفارة الخلاف المتقدم، وسيأتي نظيره فيما إذا كرر لفظ الظهار وأراد الاستئناف. ولو قال: لم أرد شيئاً، فقولان كما في الطلاق. ولا فرق فيما ذكرناه عند المحققين- على ما حكاه الإمام- بين أن تكون الكلمات متواصلة أو متفاصلة. وهكذا الحكم في تعليق الطلاق على دخول الدار ونحوه، وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم. بخلاف تكرار لفظ إنشاء الطلاق؛

فإنه يعتبر فيه التواصل. ومن أصحابنا من اعتبره- أيضاً- في الإيلاء وتعليق الطلاق، ومنهم من اعتبره في تعليق الطلاق دون اليمين بالله تعالى، قال الإمام: وهذا لا بأس به. قال: وإن قال: والله لا وطئتك حتى ينزل عيسى بن مريم، أو: يخرج الدجال، أو: حتى أموت أو تموتي- كان مُولياً. "عيسى"- عليه السلام-: اسم عبراني سرياني، جمعه: عِيسَوْن- بفتح السين- واختار الكوفيون ضم السين قبل الواو، والنسبة إليه: عِيسَوِيّ. والدجال- بفتح الدال-: هو عدو الله المسيح الدجال الكذاب، سمي دجالاً. والدجل: التمويه والتغطية. يقال: دجَّل فلان، إذا مَوَّه، ودجل الحق بباطله. وحكي عن ثعلب: أن الدجال: الكذاب، وجمعه: دجالون. وسمي: المسيح، بفتح الميم وتخفيف السين على المشهور. وقيل: بكسر الميم مع تخفيف السين وتشديدها. وقيل: كذلك، لكن بالخاء المعجمة وتشديد السين. وسمي بذلك؛ لأنه ممسوح العين، وقيل: لأنه أعور، والأعور مسيح. وقيل: لمسحه الأرض حين خروجه. ويقال لعيسى- عليه السلام-: المسيح- بفتح الميم وتخفيف السين- بلا خلاف. وسمي بذلك؛ لأنه لم يمسح ذا عاهة إلا بَرَأَ، قاله ابن عباس. وقيل: هو الصِّدِّيق. وقيل: لأنه ممسوح أسفل القدمين لا أخمص له. وقيل: لمسح زكريا إياه. وقيل: لمسحه الأرض في السياحة. وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن. وقيل: لأنه مسح بالبركة حين ولد.

وقيل: لأن الله مسحه، أي: خلقه خلقاً حسناً. وإنما قلنا: إنه يكون مولياً في المثالين الأوَّلَيْن؛ لأن الغالب على الظن عدم حصول ذلك في أربعة أشهر؛ فالضرار حاصل بسبب قطع الرجاء في الظاهر. وألحق بهما الشيخ في "المهذب" والمحاملي في "المجموع" وغيرهما ما إذا قال: حتى يقدم زيد من خراسان، وكان من عادته: أنه لا يجيء إلا مع الحاج، وقد بقي من ذلك أكثر من أربعة أشهر. والضابط الذي ذكره الرافعي لهذا القسم: هو أن يقيد الامتناع عن الوطء بأمر مستبعد في الاعتقادات حصوله في أربعة أشهر، وإن كان محتملاً، وأما في المثالين الأخيرين؛ فلحصول الإياس مدة العمر، وهو كما لو قال: لا وطئتك أبداً؛ فإنَّ أَبَدَ كُلِّ إنسان عمره، هذا هو المشهور. وفي "شرح مختصر الجويني" للموفق بن طاهر: أن في التعليق بنزول عيسى- عليه السلام- وما في معناه لا يُقطع بكونه مولياً في الحال، ولكن يرتقب، فإذا مضى أربعة أشهر ولم يوجد المعلق به تبيَّنا أنه كان مولياً، ومكنا الزوجة من المطالبة. واعلم أن الشيخ- رضي الله عنه- استغنى بما ذكره عن ذكر قسم آخر ذكره الأصحاب، وهو ما إذا قيد الامتناع عن الوطء بأمر يتحقق عدم وقوعه: إما مطلقاً كالمستحيلات العادية من صعود السماء ونحوه، والعقلية كالجمع بين الضدين وما في معناه، وإما في مدة أربعة أشهر ما إذا قال: حتى تقوم القيامة، أو: حتى يقدم زيدٌ، أو آتي مكة- والمسافة بعيدة لا تقطع في أربعة أشهر- فإنه يكون مولياً؛ لأنه إذا ثبت هذا الحكم عند التقييد بما يمكن وجوده، لكن مع بُعدٍ- فثبُوته عند تحقق العدم بطريق الأَوْلى. نعم، لو قال في مسألة القدوم: ظننت أن زيداً على مسافة قريبة، فهل يصدق؟ أبدى الإمام فيه احتمالين، قال الرافعي: والأقرب: القبول. قال: وإن قال: والله لا وطئتك حتى أمرض، أو يموت فلان- لم يكن مولياً؛ لأن ذلك يحتمل أن يوجد بعدها، والاحتمالان على السواء، ولم يتحقق منه قصد الضِّرار؛ فلا يجعل مولياً بالشك، وهذه طريقة الشيخ أبي حامد. وحكى الخراسانيون قولاً على ما حكاه الإمام، ووجهاً على ما حكاه في

"الوسيط": أنه لا يكون مولياً في الحال، لكنه إذا مضت أربعة اشهر ولم يوجد المعلق به نحكم بأنه كان مولياً، ويثبت لها المطالبة. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يكون مولياً فيما إذا عنى الوطء بالموت كما إذا عناه بموت نفسه، وهو الذي ذهب إليه أصحاب القفال والأكثرون، وصححه في "المهذب"، ووجّهه بأن الظاهر بقاؤه، وبأنه لو قال: إن وطئتك فعبدي حر، كان مولياً على قوله الجديد، وإن احتمل أن يموت العبد قبل أربعة أشهر. واختيار المزني: أن التعليق بموته كالتعليق بقدومه، وادعى الإمام أن العراقيين لم يعرفوا غيره. وفي "الجيلي" حكاية وجه: أنه إن كان في مرض مخوف لا يكون مولياً، وإلا فيكون مولياً. والمنتصر لطريقة الشيخ أبي حامد فرَّق بينه وبين ما إذا عناه بموت نفسه: بأن الإنسان يستبعد موت نفسه؛ ولهذا يطول أمله، بخلاف موت غيره. ويجري الخلاف الذي ذكرناه في التقييد بالمرض، فيما إذا قيد بدخول زيد الدار، أو بخروجه من البلد، أو بقدوم زيد- وهو على مسافة قريبة- والصحيح: أنه لا يكون مولياً، لما ذكرناه. فروع: لو مات زيد قبل القدوم حكمنا بكونه مولياً، لكن إن قلنا فيما إذا قدم بعد أربعة أشهر: إنه يتبين أنه كان مولياً من وقت اليمين، فها هنا كذلك، وإن قلنا: إنه لا يكون مولياً ثَمَّ، فها هنا يكون مولياً من وقت الموت. لو قال: والله لا وطئتك حتى تفطمي ولدك، أجرى بعض الأصحاب في كونه مولياً في الحال قولين؛ لما رواه المزني من اختلاف نص الشافعي فيه، والجمهور قالوا: لا خلاف في المسألة، ولكن ننظر: إن أراد وقت الفطام- وقد بقي إلى تمام الحولين أكثر من أربعة أشهر- فهو مُولٍ؛ لأن الحولين وقتُ الفطام عندنا، وإلا فليس بمول.

وإن أراد فعل الفطام: فإن كان الصبي لا يحتمله إلا بعد أربعة أشهر؛ لصغر، أو ضعف بِنْية- فهو مولٍ، وإن كان يحتمله لأربعة أشهر فما دونها، فهو كالتعليق بدخول الدار. وحملوا النصين على ذلك. لو قال: والله لا وطئتك حتى تحبلي، فإن كانت آيسة، أو صغيرة لم تبلغ سن الحَبَل، أو كانت بنت تسع سنين- فهو مول، وإن كانت من ذوات الأقراء فهو كالتعليق بدخول الدار؛ فيخرج على الوجهين. قال مجلي: وحكى الشاشي في المسالة وجهين مطلقين: أحدهما: أنه يكون مولياً، وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني. الثاني: أنه لا يكون مولياً، وهو قول القاضي أبي الحسن الماوردي. لو قال: والله لا وطئتك حتى أبيع عبدي، صار مولياً في الحال على أحد الوجهين، وفي الوجه الثاني لا يكون مولياً حتى تمضي أربعة أشهر ولا يبيَعُه، قال مجلي: والصحيح: أنه كتعليق الإيلاء على قدوم زيد. لو قال في أول الصيف: والله لا أطؤك حتى يجيء المطر، صار مولياً على أحد الوجهين؛ كما لو قال: حتى يجيء الثلج، وفي "الذخائر": أن الشاشي أجرى الوجهين من غير تقييد بأن يكون القول في أول الصيف. قال: وإن قال: والله لا وطئتك في السنة إلا مرة [واحدة]، لم يكن مولياً في الحال، وهذا هو الجديد، وأحد قولي القديم؛ لأنه لا يلزمه بالوطء في الحال شيء؛ لاستثنائه الوطء مرة. فإن وطئها- وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر- فهو مول، أي: من يومئذ؛ لحصول الحنث ولزوم الكفارة لو وطئ. وإن بقي أربعة أشهر فما دونها فليس بمول، وهو حالف. قال: وهكذا إن قال: إن أصبتك فوالله لا أصبتك، لم يكن مولياً في الحال؛ فإذا أصابها صار مولياً؛ لما قلناه. قال: وفيه قول آخر: يكون مولياً في الحال، أي: في هذه المسألة، وفي المسألة

الأولى إن كان قد بقي من السنة التي حلف عليها مدة الإيلاء؛ إذ "السنة"- بالألف واللام- تنصرف إلى السنة الهلالية التي هو فيها، كما تقدم في كتاب الطلاق، أو كانت الصيغة: لا وطئتك سنة، ووجهه: أما في المسألة الأولى؛ فلأن الوطأة الأولى وإن لم يتعلق بها الحنث فهي مقرِّبة منه، وذلك ضرر، والمولي هو الذي يمنع نفسه من الوطء خوف ضرر يلحقه. وأما في المسألة الثانية؛ فلأنه التزم بالوطء الحلفَ بالله- سبحانه- على الامتناع من الوطء، وكان الوطء مقرِّباً من الحنث أيضاً، وعلى هذا: فيطالب بعد مضي مدة الإيلاء بالفيئة أو الطلاق، فإن وطئ فلا شيء عليه، وتضرب له مدة ثانية في المسألة الثانية، وفي المسألة الأولى إن بقي من السنة مدة الإيلاء، ولا يخفى مما سيأتي الحكم فيما إذا طلق. ثم هذا الخلاف يجري فيما لو استثنى وَطَآت كثيرة؛ لحصول التقريب بكل وطأة منها. قال: والأول أصح؛ لما ذكرناه، وفي "الرافعي" وغيره حكاية طريقة قاطعة بالمنع في الصورة الثانية، وقال: إنها أصح. وفرَّق بينها وبين الأولى: بأن في الصورة المتقدمة عقد اليمين على السنة، واستثنى ما أراد، وها هنا علق ابتداء عقد اليمين بالوطء الأول؛ فلا يمين قبل الوطأة الأولى، ويستحيل أن يحكم بكونه مولياً في وقت لا يكون فيه حالفاً، وادعى القاضي الحسين أن الطريق الأول أصح. ويجري هذا الخلاف فيما لو قال: إن أصبتك فأنت طالق إن دخلت الدار، أو: فعبدي حر بعد سنة. والذي اختاره الإمام، وحكاه عن شيخه منه، وهو الأظهر في "الرافعي" و"التهذيب": أنه يكون مولياً في الحال، وحكى الإمام عن القاضي الحسين القطع به. ولو قال: لا أجامعك في السنة إلا يوماً، فهو كما لو قال: إلا مرة. فرعان: أحدهما: إذا مضت السنة من غير وطء، والصورة كما ذكرنا أولاً: فهل تجب عليه كفارة يمين؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي ها هنا عن ابن كج:

أحدهما: نعم؛ لأن اللفظ يقتضي أن يفعل مرة واحدة. والثاني: لا؛ لأن المقصود باليمين ألا تزيد على واحدة. وهما كالوجهين اللذين حكاهما من قبل في كتاب الطلاق فيما إذا قال: إن كنت أملك إلا مائة فأنت طالق، وكان يملك أقل من مائة، لكنه حكى فيها طريقة أخرى قاطعة بأنه يحنث، وهي ما صدَّر بها ابن الصباغ كلامه عند الكلام في الفروع المذكورة في آخر كتاب الطلاق، ثم قال بعد حكاية الوجهين: والأول: أصح؛ لأنه مستثنىً من نفيٍ؛ فوجب أن يكون إثباتاً. قلت: ومقتضى ما ذكره من التعليل أن تجيء هذه الطريقة في هذه المسألة- أيضاً- وأنه يحنث قولاً واحداً. ثم هذا كله عند الإطلاق، أما إذا نوى فالحكم بما نواه. الثاني: لو وطئ، ثم نزع، ثم أولج ثانياً- لزمته الكفارة بالإيلاج الثاني، وسيأتي وجه فميا إذا علق الطلاق بالوطء، فوطئ، ثم نزع، ثم أولج: أنه لا يجب الحد، ويجعل الإيلاج ثانياً كالاستدامة، وذلك الوجه جارٍ ها هنا، قال الإمام: وهذا أقرب فيما نحن فيه؛ لأن الأيمان يرجع فيها إلى العرف، والإيلاجات المتتابعة في العرف تعدُّ وطأةً واحدة. قال: وإن قال: والله لا أصبتك في هذا البيت، لم يكن مولياً؛ لأن بقاءها في البيت إلى أن تنقضي مدة الإيلاء محتمل كاحتمال الخروج منه؛ فصار كما لو قال: لا وطئتك حتى أمرض، ولأنه يمكنه وطؤها من غير ضرر يلحقه بأن يخرجها منه، ثم يَطَأَها، وكل من لا يلزمه ضرر بالوطء لا يكون مولياً. ويفارق هذا ما إذا قال: إن وطئتك فعبدي حر؛ حيث جعلناه مولياً في الجديد، وإن كان يمكنه بيعُ العبد ووَطؤها؛ لأن في نفس البيع ضرراً يلحقه؛ لأنه ربما لا يشتري بثمن مثله ويحتاج [أن] يشتريه بأكثر من ذلك، وقد لا يبيعه المشتري؛ فيلحقه بذلك الضرر. هذا هو المشهور، وكان يتجه أن يجيء فيه الوجه المذكور فيما إذا قال: لا وطئتك حتى أمرض. وقد حكاه في "التتمة" فيما إذا قال: لا وطئتك حتى أخرجك من البلد.

ويمكن أن يفرق بينهما بأن في الإخراج من البلد كلفة، بخلاف البيت. قال: وإن قال: إن وطئتك فعلي صوم هذا الشهر، لم يكن مولياً، وهكذا لو قال: فعلي صوم شهر كذا، وذلك الشهر ينقضي قبل انقضاء مدة الإيلاء، أو: إن وطئتك فعلي أن أصلي طول هذا الأسبوع؛ لأن ما التزمه بالحلف يفوت قبل مضي أربعة أشهر؛ فلا تتصور المؤاخذة بالوطء الذي يطالب به. قال المتولي: ويخالف هذا ما لو قال: علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم فلان- وهو مفطر- حيث يلزمه القضاء على أحد القولين، وها هنا لا يلزمه القضاء، ويجعل بسببه مولياً؛ لأن هناك: الوفاء يتصور بأن يبلغه خبر القدوم قبل طلوع لافجر، فينوي من الليل، وها هنا: لا يتصور؛ لأن المطالبة إنما تكون بعد أربعة أشهر، ووقت الصوم فائت. ولو قال: إن وطئتك فعلي أن أصوم الشهر الذي أطؤك فيه، فالإيلاء ينعقد. ثم إذا وطئها: إن كان قد بقي من الشهر بقية لزمه صيامها؛ إن قلنا في نذر اللّجاج والغصب بوجوب الوفاء بما نذر، وفي وجوب قضاء اليوم الذي وطئ فيه وجهان مأخوذان من الخلاف في قضاء اليوم الذي قدم فيه فلان. هكذا حكاه الرافعي ومجلي والمتولي وغيرهم، وقد يتخيل بينهما فرق: وهو أن الوفاء بالنذر في مسألة القدوم ممكن، وأما في مسألتنا فلا يتصور [أصلاً؛ فإن سبب الوجوب الوطء وهو مفسد للصوم؛ فلا يتصور] اجتماع سبب الوجوب والصحة. وهذا فاسد؛ لأنه يتصور سبب وجوبه قبل دخوله بأن يطأها في ليلته؛ فهو كنظير مسألة القدوم. نعم، يتجه أن يكون في كونه مولياً في الحال خلاف مبني على أنه: هل يلزمه قضاء يوم الوطء أم لا؛ لأنه يحتمل أن يطأها في آخر يوم من الشهر [كاحتماله في أول الشهر ووسطه؟ فإن قلنا: إنه يلزمه صوم يوم الوطء حكمنا بانعقاد الإيلاء؛ لأن الأمر دائر بين أن يقع الوطء في أول الشهر] أو وسطه أو آخره، وأيّما كان فقد لزمه الصوم؛ فانعقد بسببه الإيلاء.

وإن قلنا: لا يلزمه قضاء يوم الوطء، فلا ينعقد الإيلاء في الحال؛ لاحتمال أن يطأها في آخر يوم من الشهر فلا يلزمه به شيء. ثم إذا مضت أربعة أشهر ولم يطأها فهل يحكم بكونه مولياً بطريق التبيُّن؟ يتجه أن يتخرج على الخلاف المذكور فيما إذا علّق [الوطء] على قدوم زيد، ومضت أربعة أشهر ولم يقدم، والله أعلم. قال: وإن قال: والله لا أصبتك إن شئتِ، أي: ألا أصيبك، كما قدرناه فيما إذا قال: أنت طالق إن شئتِ، فقالت في الحال: شئتُ، أي: ألا تصيبني- صار مولياً، أي: من وقت المشيئة؛ لوجود الشرط. فإن قيل: المطلقة في المرض ترث على القول القديم، ثم لو علق طلاقها بمشيئتها، فشاءت- لم ترث على الأصح؛ لزوال التهمة؛ فهلا قلتم ها هنا: لا يكون مولياً؛ لأنه غير متهم؛ فإنها هي التي اختارت الإيلاء ورضيت بالتزامه، ولأنه لم يتحقق من جهته قصد الإضرار الذي هو ضابط الإيلاء؟ قلنا: الفرق بينهما: أن ثبوت الإرث كان للتهمة، وقد زالت بتعليق الطلاق على مشيئتها، مع أنه لا يقدر على رفعه بعد وقوعه، وها هنا وإن زالت التهمة في قصد الإضرار بتعلُّق الإيلاء على مشيئتها فقد انعقدت اليمين؛ فهو متهم في البقاء عليها؛ إذ يمكنه ألا يقيم عليها، فإذا أقام اتهم. قال مجلي: وهذا الجواب فيه نظر؛ فإن الامتناع من الوطء، والبقاء عليه معلَّق بمشيئتها؛ فحالة الاستدامة فيه كحالة الابتداء. وتمسك القاضي الحسين في تعليل كونه مولياً بظاهر القرآن، وبأنها لو رضيت بعد المدة بترك الطلب لا يسقط بذلك حقها، ولا يتغير هذا المعنى؛ فكذلك في الابتداء. قال: وإن أخرت لم يصر مولياً؛ لأن هذا الخطاب يستدعي جواباً منها وهو المشيئة؛ فصار كلفظ العقود. وقيل: إنه يصير مولياً، ولا تعتبر الفورية؛ كما لو علق الوطء على الدخول. وبنى الرافعي هذا الخلاف على الخلاف في اعتبار مشيئتها على الفور، فيما إذا

قال [لها]: أنت طالق إن شئت؛ [لأن] التعليق بالمشيئة استدعاء رغبة وجواب منها؛ فيكون كالقبول في العقود، أو لأنه يتضمن تمليكها البُضع؛ فيكون كقوله: طلقي نفسك، إن قلنا بالثاني لم تعتبر الفورية، وإن قلنا بالأول فتعتبر، وهو الأظهر. وفي طريقة العراق حكاية [وجه] آخر: أنها إن شاءت قبل التفرق من المجلس صار مولياً، وإلا فلا. التفريع: إن قلنا: إن الفورية معتبرة، فلو قال: والله لا أجامع زوجتي إن شاءت، أو قال لأجنبي: والله لا أجامع زوجتي إن شئت- ففي اعتبار الفورية الخلاف المذكور في مثله في الطلاق. هكذا قاله الرافعي، وفيه نظر؛ لأنه حكي أن من اعتبر الفورية فيما إذا قال لها: لا أصبتك إن شئت، بناه على أن اعتبار الفور في قوله: أنت طالق إن شئت، كان لاستدعائه رغبة وجواباً، وإذا كان كذلك لم يتجه أن تعتبر الفورية فيما إذا قال: لا أجامع زوجتي إن [شاءت] قولاً واحداً؛ إذ لا مشافهة بالخطاب حتى يعتبر جوابها على الفور كالعقود، ويتجه اعتبار القول في مخاطبة الأجنبي قولاً واحداً؛ لوجود المخاطبة، ولا يخرج ذلك على الخلاف المذكور في مثله في الطلاق؛ لأ، الخلاف المذكور في الطلاق مبنيٌّ على ما ذكرته من التعليل كما أنبه عليه في موضعه. ثم لْتعلمْ أن المسألة مصورة بما إذا أراد تعليق الإيلاء بالمشيئة كما ذكرناه، وكأنه قال: إن شئتِ ألا أصيبك فوالله لا أصيبك، أما إذا قصد تعليق فعل الوطء بالمشيئة، وأنها مهما أبت أن يطأها فلا يطؤها- فليس بمُولٍ؛ لأنها مهما شاءت الوطء كان له وطؤها من غير عزم. ولو أطلق، ولم يرد شيئاً- حمل على مشيئة عدم الإصابة؛ فإنه السابق إلى الفهم عند الإطلاق. فروع: لو قال: والله لا أصبتك إن شئت أن أصيبك، فإن شاءت على الفور صار مولياً،

وإن أخرت خرج على الخلاف. ولو قال: لا أصبتك متى شئت، وأراد: إني لا أجامعك متى أردت- فلا يكون بذلك معلِّقاً للإيلاء. وإن أطلق فوجهان. ولو قال: لا أصبتك إلا أن تشائي، أو: ما لم تشائي، وأراد الاستثناء عن اليمين وتعليقها- فهو مولٍ؛ لأنه حلف وعلق [رفع اليمين بالمشيئة]: فإن شاءت أن يجامعها على الفور ارتفع الإيلاء، وكذا بعده إن لم نعتبره، وإلا فهو باقٍ بحاله. ولو قال: لا أصبتك إلا برضاك، لم يكن مولياً؛ لأنه لا يتوجه عليه الطلب إلا برضاها؛ فلا يكون مولياً. قال مجلي: وهذا فيه نظر؛ لأنه لم يعلق الوطء على الطلب، وإنما علقه على الرضا، والطلب لا يدل على الرضا؛ لأنها قد تطلب وهي غير راضية؛ طلباً لِنِكايته، ومقابلة فعله بمثله؛ ليجبر على الفيئة أو الطلاق، وهذا موجود في حق كثير من الناس؛ فإن النفوس مائلة إلى التشفي مهما قدرت. قال: وعلى هذا يكون الحكم كما لو قال: لا أصبتك حتى تشائي. قلت: وفيما قاله نظر؛ فإن ما جرى منه من اليمين ليس بإساءة حتى يقتضي المقابلة بمثله والشتفي منه، بل يظهر أنه إكرام لها؛ لأن في الوطء استهانة لها؛ لكونها تصير مصبّاً للقاذورات، فإذا علق ذلك برضاها فقد رفع من قدرها. قال: وإن قال لأربع نسوة: والله لا أصبتكن، لم يصر مولياً، أي: في الحال؛ لأن الكفارة إنما تجب بوطء الجميع؛ كما لو حلف: لا يكلم زيداً وعمراً وبكراً وخالداً، وإذا كان كذلك فهو يمكنه وطء ثلاث منهن من غير ضرر يلحقه. قال: فإن وطئ ثلاثاً منهن صار مولياً من الرابعة؛ لأنه لا يمكنه وطؤها إلا بالحنث، هذا هو المشهور من الجديد، وأحد قولي القديم، وفي القديم قول آخر: أنه يكون مولياً في الحال [من كل واحدة منهن؛ كما لو قال: والله لا أصبت كل واحدة منكن]. وفي "الشامل": أن من أصحابنا من نسبه إلى الجديد- أيضاً- فعلى هذه الطريقة يكون في الجديد قولان كما في القديم، وظاهر المذهب- وإن ثبت الخلاف-: ما ذكره الشيخ.

ولا فرق في انعقاد الإيلاء بوطء ثلاث منهن بين أن يكون الوطء في نكاح أو بعد البينونة؛ لأن اليمين تشمل الحلال والحرام، ولا بين أن يكون في المَاتَى أو في غيره على [وجه حكاه الغزالي في "فتاويه"، وهو] ما اختاره الإمام، ووجَّهه بأن ذلك وإن كان يبعد فعله فليس خارجاً عن عرف اللسان، ولا يراعى في الأيمان ما يجري العرف به عملاً، وإما يراعى ما يعد مندرجاً تحت عرف اللسان، فكلام الشيخ في "المهذب" يدل على ذلك؛ حيث قيد النَّيْك بالفَرْج-[على ما] حكيناه من قبل- والغزالي رجَّح مقابله. نعم، يشترط أن يكون في حال الحياة على المذهب، حتى لو ماتت واحدة منهن قبل أن يطأها انحل الإيلاء، وروي عن الشيخ أبو علي: أن البِرَّ والحنث يتعلقان بوطء الميتة- أيضاً- وأشار بعضهم على وجه فارقٍ بين ما قبل الدفن وما بعده. ولو أبان واحدة، ثم وطئ الثلاث الباقيات في النكاح، ثم نكح المطلقة- ففي عود الإيلاء قولاً عَوْدِ الحنث، وحكم اليمين باقٍ لا محالة، حتى تلزمه الكفارة إذا وطئها. ولو طلَّق ثلاثاً قبل الوطء لم تتعين الرابعة للإيلاء؛ بل يكون موقوفاً. قال: وإن قال: والله لا أصبت واحدة منكن، صار مولياً من كل واحدة منهن، أي: إذا لم يرد واحدة بعينها، أو أراد جميعهن؛ لأنه لا يمكنه أن يطأ واحدة إلا ويحنث في يمينه. هكذا حكاه في "الشامل" تقييداً وتوجيهاً، والموجود في تعليق البندنيجي والقاضي الحسين ذكر المسألة من غير تقييد كما ذكرها الشيخ، قال الإمام: وليس التعميم [فيما إذا أراد جميعهن، بالتعميم] في قوله: والله لا أجامعكن؛ فإن اللفظ ها هنا يتناول كلهن، ولا يحصل الحنث بجماع بعضهن، وها هنا اليمين تتعلق بإحداهن؛ فتنزل اليمين على كل واحدة منهن على البدل، فيكون مولياً عن جميعهن؛ لتعلق الكفارة بوطء أمة واحدة وطئها. وروي عن الشيخ أبي علي وجهاً فيما إذا أطلق اللفظ ولم ينو التعميم ولا التخصيص بواحدة: أنه يحمل على إرادة واحدة لا بعينها، وعلى الأول: لكل واحدة منهن بعد المدة المطالبة بالفيئة أو الطلاق، فإن طلق واحدة أو أكثر بقي الإيلاء في حق الباقيات، وإن وطئ واحدة حنث في يمينه، وسقط حكم الإيلاء في الباقيات.

قال: وإن قال: أردت واحدة بعينها، قبل منه، أي: في الباطن؛ لاحتماله، ولا يقبل في الحكم؛ لأنه خلاف الظاهر. هكذا قاله الشيخ أبو حامد والمحاملي في "المجموع"، ووجهه المتولي بأن اللفظ يقع على كل واحدة على البدل، وهو يريد إخراج بعضهن عن الحكم، وكان متهماً. وفي "الشامل" أن الأصح أنه يُقبل منه في الظاهر مع يمينه، ويكون مولياً منها دون البواقي، وهو الذي دل، عليه كلام البندنيجي؛ حيث قال: لو قال: نويت بالواحدة فلانة، كان القول قوله مع يمينه، ولو كان المراد القبول في الباطن لما احتيج فيه إلى اليمين، ووجه ابن الصباغ ما ادعاه بأن قوله: "واحدة" يحتمل: بعينها، ويحتمل ألا تكون معينة، ولا ظاهر في واحدة منهن، وإذا قبلنا قوله: في الظاهر، وهو الأظهر في "الرافعي" والتتمة- أيضاً- حكمنا بكونه مولياً عن التي عيَّنها من وقت اليمين، ويطالب بالبيان كما في الطلاق. وفي "النهاية" أن الشيخ أبا علي روى وجهاً فيما إذا قال: أردت واحدة منهن، أنه لا يؤمر بالبيان ولا بالتعيين، بخلاف إبهامه الطلاق؛ لأن المطلقة خارجة عن النكاح، وإمساكها على صورة المنكوحات من غير نكاح منكر، والإيلاء بخلافه. وحكي في "الوسيط" عوض هذا الوجه عن رواية الشيخ أبي علي: أنه لا إيلاء؛ لأن كل واحدة ترجو ألَّا تكون هي المرادة- أي: عند إرادة واحدة مبهمة، كما سنذكره من بعد، أو المعينة بإيلائه- فكيف يساوي هذا اليأس المحقق في معينة، ثم قال: وهذا متجه إن اعترفن بالإشكال. والمشهور: أنه يكون مولياً، ويؤمر بالتبيين، وإذا بيَّن واحدة، وادعت غيرها أنه عناها-[فهو المصدَّق بيمينه إن أنكر، فإن نكل حلفت، وحكم بكونه مولياً عنها أيضاً، فإن أقر في جواب الثانية أنه عناها] كان مولياً عنهما؛ مؤاخذة له، وإذا طالبتاه فوطئهما، وجب عليه كفارة واحدة فيما إذا ثبت إيلاء الثانية بيمينها، وكفارتان إن ثبت بإقراره؛ مؤاخذةً له. ومن تمام الكلام في مسألة الكتاب ما إذا قال: أردت واحدة لا بعينها؛ فإنه يقبل منه، ويحكم بأنه مولٍ عن إحدهن، لا على التعيين.

قال في "التتمة": وأصحابنا قالوا: تضرب المدة في حق الكل، وإذا مضت المدة، نضيق الأمر عليه في حق من طلبت منهن؛ لأنه ليس منهن امرأة إلا ومن الجائز أن تعين فيها، وكان القاضي الحسين يقول: لا تُضرب المدة في الحال، ولكن يؤمر بالتعيين، فإذا عين واحدة، تضرب المدة في حقها، ولو تأخر التعيين حتى مضت أربعة أشهر ثم طالبتاه بالتعيين فعين واحدة، هل تحسب المدة [الماضية عن مدة الإيلاء؟ فيه خلاف تقدم مثله في الطلاق المبهم. وفي "الرافعي"] فيما إذا مضت أربعة أشهر، ولم يعين: أنهم ذكروا أنه يطالب بالفيئة أو الطلاق إذا طلبن، وإنما اعتبر طلبهن؛ ليكون طلب المولى عنها حاصلاً، فإن امتنع طلق السلطان واحدة على الإبهام، وإن فاء إلى ثلاث فما دونهن، أو طلق لم يخرج عن موجب الإيلاء، وإن قال: طلقت المولى عنها، خرج عن موجب الإيلاء، لكن المطلقة مبهمة؛ فعليه التعيين، والذي ذكروه يمكن أن يكون بناءً على أن المدة تحسب من وقت اليمين، ويمكن أن يكون محل الخلاف فيما إذا عين، أمّا إذا امتنع فيحسب من اليمين لا محالة، ولا يمكَّن من الإضرار بهن. قلت: والاحتمال الأول يساعده ما حكيته عن "التتمة". ثُمَّ هذا كله فيما إذا قبلنا منه ما أراده، وهو ظاهر المذهب، ووراءه أمران آخران. أحدهما: حكى الرافعي وغيره أن الشيخ أبا حامد خالف في ذلك، وقال: لا يقبل منه في الظاهر، قال مجلي: والذي رأيته في "تعليقه": أنه يقبل؛ إذ اللفظ يشهد له؛ لأن قوله: لا أقرب واحدة، اللفظ للواحدة، وإن كان يصير مولياً منهن؛ لأن الواحدة لا تتعين، فإذا أراد الواحدة قبل، بخلاف ما إذا قال: أردت واحدة بعينها؛ فإنه لا يقبل في الحكم؛ لما فيه من إسقاط حق الباقيات. والثاني: ما حكيته من قبل عن رواية الشيخ أبي علي، عما حكاه الإمام والغزالي عند الكلام فيما إذا أراد واحدة معينة. فرع: لو قال: والله لا أصبت كل واحدة منكن، فهو كما لو قال: [لا] أصبت

واحدة منكن، وأراد الجميع، حتى إذا وطئ إحداهن انحلَّ الإيلاء في الباقيات. وقال الشيخ أبو حامد: لا ينحل، ويفارق ما إذا قال: لا وطئت واحدة منكن؛ لأنه إنما منع نفسه من وطء واحدة لا بعينها؛ فلهذا كان مولياً من جماعتهن. وحكى القاضي في "المجرد" هذا عن أبي علي الطبري في "الإفصاح". والأول هو الذي عليه عامة الأصحاب على ما حكاه المتولي، وفي "الشامل": أنه الصحيح، وهو ظاهر كلام الشافعي- رضي الله عنه- وفي "النهاية" أن بعض النقلة نقله عن القاضي، وهو خطأ صريح، والخطأ يحال على الناقل؛ فإن القاضي أعلم بالصِّلاتِ، وصِيَغ العبارات. ورجح ما ذهب إليه الشيخ أبو حامد، و [إن] لم ينقله عنه. وإذا تأملت ما ذكرناه. علمت أن كلام الشيخ- رضي الله عنه- موافق لطريقة الشيخ أبي حامد؛ فلا اعتراض عليه، إذ يقال: إن "التنبيه" مختصر منهان والله أعلم. قال: وإن قال: والله لا أصبتك، ثم قال للأخرى: أشركتك معها- لم يصر مولياً من الثانية، أي: وإن نوى بذلك الإيلاء عنها؛ لأن ذلك كناية، واليمين لا تنعقد بالكناية بالمحلوف به- كما سنذكره إن شاء الله- لأن عماد اليمين بالله- تعالى- ذكر الاسم المعظم، ولم يوجد. قال: وإن قال: إن أصبتك- فأنت طالق، ثم قال للأخرى: أشركتك معها- كان مولياً من الثانية، أي: إذا نوى تعليق طلاق الثانية بوطئها نفسها، كما لو علّق طلاق الأولى بوطئها، ووجهه: أن التشريك جائز في تنجيز الطلاق؛ فكذلك في تعليقه. فإن قيل: قد حكيتم خلافاً فيما إذا فوض إلى زوجته تعليق الطلاق، أو إلى أجنبي، وأن الصحيح عدم الجواز، ووجهتموه بأن تعليق الطلاق فيه مشابهة الأيمان، والأيمانُ لا تجوز النيابة فيها، ومقتضى هذا التوجيه: أنه لا يكون- ها هنا- مولياً؛ لما في ذلك من مشابهة اليمين. قلنا: قد قيل به أيضاً هنا، وهو ما حكاه القاضي الحسين في "التعليق"، ولكن

الأول أظهر، وبه أجاب الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب، والمنع في مسألة التوكيل أظهر، وربما جزم به بعضهم؛ فيبقى السؤال بحاله، أما إذا نوى التشريك في الوطء، بمعنى: أن الأولى لا تطلق حتى يطأ الثانية معها، أو في الطلاق، بمعنى أنه إذا وطئ الأولى طلقت الثانية معها- لم يكن مولياً من الثانية، وكلامه في الصورة الأولى لغو، وفي الثانية معمول به. ويجري ما ذكرناه من التفصيل والخلاف فيما إذا علق طلاق امرأته بدخول الدار وبسائر الصفات، ثم قال للأخرى: أشركتك معها. فرع: لو قال لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق، لا بل هذه، وأشار إلى امرأة أخرى-: فإن قصد أن يطلق الثانية إذا دخلت الأولى الدار، طلقتا جميعاً، وإن قال: أردت تعليق طلاق الثانية بدخولها نفسها، ففي قبوله وجهان كما في مسألة الاشتراك، واختيار القفال منهما: أنه لا يقبل ويحمل على تعليق طلاقها بدخول الأولى، بخلاف مسألة الاشتراك، فإنا إذا لم نقبله منه لا نوقع عليه طلاقاً إذا دخلت الأولى الدار، بل نلغي اللفظ؛ لأن قوله: لا بل هذه، يترتب على كلام صريح، والطلاق ينتظم انتظاماً يقتضي الطلاق لا محالة، وقوله: أشركتك معها أو: أنت شريكتها- كلام مبتدأ متردد؛ فإذا لم يكن المحمل صحيحاً بطل اللفظ والمحمل، والله أعلم. قال: وإذا صح الإيلاء ضربت له المدة أربعة أشهر، للآية، ولا فرق في ذلك بين أن يكونا حرَّين أو رقيقين، أو أحدهما حرّاً والآخر رقيقاً؛ لظاهر الآية، ولأن هذه المدة شرعت لأمر جِبِلِّي، وهو قلة الصبر عن الزوج، ما يتعلق بالجِبِلَّة والطبع لا يختلف بالحرية والرق- كما ذكر في العنة- بل المعنى [وبين الحيض والرضاع]. وليس معنى ضرب المدة ها هنا: أنها تتفقر إلى من يضربها، كما في العنة، بل المعنى: أن الزوج يمهل عقيب اليمين أربعة أشهر، من غير حاكم؛ لأنها ثابتة بالنص والإجماع. ثم ما ذكرناه فيما إذا لم تكن المولَى عنها رجعية، أما إذا كانت رجعيّة فإن المدة تضرب من وقت الرجعة.

قال: فإن كان هناك عذر من جهتها كالمرض: أي: الذي يمنع من الوطء، والحبس، أي: في موضع لا يمكنه الوصول إليها فيه، والإحرام، والصوم الواجب، والاعتكاف الواجب، والنفاس- لم تحتسب المدة، أي: من وقت اليمين، وإذا طرأ ذلك في أثناء المدة قطعها؛ لأنه لا يمكنه وطؤها في هذه الأحوال، فلم يوجد الامتناع بحكم اليمين المؤدي إلى الضرب، ويلتحق بهذه الأعذار الصِّغَر الذي يمنع معه الوطء، ونشوزها، والعدة من وطء الشبهة على ما حكاه المتولي، وفي "التهذيب" إلحاق وطء الشبهة بالردة والطلاق الرجعي؛ لأنه يحل بالملك كما تحل به الردة. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن الذي يحل بالملك الردة والعدة، يريد عدة المطلقة طلاقاً رجعيّاً، يدل عليه أنه قال: إذا جرى ذلك في أثناء المدة، تستأنف المدة قولاً واحداً إذا زال. واستدل عليه بأن الشافعي نص على أن الطلاق الرجعي بعد مضي المدة، يوجب استئناف المدة لو عادت إليه برجعة أو بنكاح، فلما أوجب الاستئناف بعد مضي جميع المدة، فبعد مضي البعض أولى. وهذا هو المشهور في كتب الأصحاب، ووراء ما ذكرناه أمور أُخر: حكى الرافعي أن في بعض التعاليق- التي لا يؤمن في مثلها الغلط- أن الموانع الشرعية لا تمنع الاحتساب، ولا تقطع المدة. وفي "الوجيز"- وهو ما حكاه الإمام عن شيخه-: أن الصوم لا يمنع الاحتساب، ولا يقطع المدة. ثم قال: وهذا فيه نظر؛ فإن كانت تصوم تطوعاً فالأمر كذلك؛ لأنه يتمكن من غشيانها وتحليلها، وإن وقع رمضان في الأشهر، فكذلك؛ لأنه لابد لها من الصوم، وفي الليل مَقْنَعٌ للاستمتاع، [وإن أرادت تعجيل قضاء عليها، واراد الزوج أن يؤخره، وطلب الاستمتاع-] ففي تمكينه منه خلاف: فإن مكن منه، فهو كصوم التطوع، وإلا ففي المسألة احتمال، والأظهر: أنه لا أثر له، ويكتفي بالتمكين في الليالي. وفي "التتمة": تقييد الإحرام بالفرض، وفي "تعليق" القاضي الحسين: إلحاق الإحرام بالحيض من غير فرق. قلت: وكان ينبغي أن يفصَّل فيقال: إن كانت قد أحرمت بإذنه، فذلك مانع؛ لعدم

قدرته على التحلل، وإن أحرمت بغير إذنه: فإن كان بفرض الإسلام خرج على القولين في جواز التحلل، [إن لم نجوّز] له التحلل صار كالصوم، وكذا إن كان تطوعاً، لكنَّ نص الشافعي مصرِّحٌ بخلاف ذلك، حيث قال: "ولو كانت حائضاً، أو أحرمت مكانها بإذنه أو بغير إذنه، فلم يأمرها بإحلال- لم يكن عليه سبيل". وفي "النهاية" عن رواية صاحب التقريب: أن البويطي حكى قولاً في الموانع الطارئة: أنها لا تمنع الاحتساب؛ لحصول قصد المضاررة في الابتداء، وزَيَّفَهُ. وفي "المهذب" حكاية وجه في النفاس: أنه كالحيض، وادَّعى في "التهذيب": أنه الأصح. قال: "فإذا زال ذلك استؤنفت المدة"، أي: إذا كان ذلك قد طرأ في أثنائها؛ لأن المطالبة مشروطة بالإضرار والإيذاء في الأشهر الأربعة على التوالي، إذ هو المفهوم من الأربعة، ولأن من شأن هذه المدة أن تكون متوالية، فإذا انقطعت استؤنفت كصوم الشهرين المتتابعين. وحكى الخراسانيون وجهاً ادعى في "الوجيز" أنه أظهر الوجهين: أنها تُبنى على ما مضى، والأول هو الصحيح المنصوص عليه، ولم يورد الجمهور غيره. فرع: لو طرأت هذه الموانع بعد تمام المدة وقبل المطالبة، وزالت- فالمذهب المثبوت أنه: تعود المطالبة، ولا حاجة إلى استئناف المدة، قال الإمام: وأبعد بعضُ الضَّعَفَة، فقال: إذا أوجبنا الاستئناف فيما إذا طرأت في المدة وزالت؛ فكذلك ها هنا. قال: وإن كان حيضاً، حسبت المدة؛ إذ لو منع لامتنع ضرب المدة غالباً، ولم تتخلص عن الضرر، ولأن ذات الأقراء لا تخلو مُدَّةَ الإيلاء عن الحيض غالباً؛ ولهذا لا يقطع التتابع في صوم الشهرين. وفي "الذخائر": أن بعض أصحابنا قال: إن كان الحيض موجوداً في وقت اليمين منع من ابتداء المدة حتى تطهر، وعليه حُمل نص الشافعي- رضي الله عنه- والأول هو الذي عليه عامة الأصحاب. قال: وإن كان العذر من جهته كالحبس، والمرض، والإحرام، والصّوم،

والاعتكاف- حسبت المدة؛ لأن التمكين حاصل من جهتها، والمانع فيه، وهو المقصر بالإيلاء وقصد المضاررة. ونقل المزني في حبسه قولاً: أنه يمنع احتساب المدة، وغلَّطه عامة الأصحاب، وقالوا: إنما ذكر الشافعي ذلك في حبسها، لا في حبسه، وسلم بعضهم صحة النقل، ثم اختلفوا في تنزيله. فمنهم من نزله على ما إذا كانت هي التي حبسته؛ فإنها تقدر على تخليصه، وكان المانع منها. ومنهم من نزله على ما إذا كان محبوساً ظلماً، قال الرافعي: وحق هذا القائل أن يطرد ما ذكره في المرض، وما لا يتعلق باختياره من الموانع. وهذا شيء قد مال إليه الإمام، وقال: كان يحتمل أن يصدق المزني في النقل، ويقال فيه وفي نص المرض: إنهما على قولين بالنص والتخريج؛ وذلك لأنه إذا تحقق المانع في الزوج لم تظهر المضاررة، وهي المعتمد في الإيلاء. قال: وإن طلقها طلقة رجعية، أو ارتد- لم تحسب المدة؛ لاختلال النكاح وجريانها إلى حال البينونة، وإذا كانت في زمان يقتضي مضيُّه البينونة لم يجز احتسابه من مدة يقتضي مضيها المطالبة بالوطء، وفي الردة وجه: أنها لا تقطع كمرضه، والأول هو المشهور، ثم إذا راجعها أو أسلم في العدة استؤنفت المدة على المشهور قولاً واحداً؛ لأن المطالبة منوطة بالإضرار والإيذاء في الأشهر الأربعة على التوالي في النكاح السليم، ولم يوجد. وفي ردته وجه: أنه إذا عاد يبني المدة ولا يستأنف، بخلاف الطلاق؛ لأنه إذا عاد المرتد إلى الإسلام، نتبين أن النكاح لم ينخرم، [و] بالرجعة لا ينهدم الطلاق. وفي "التتمة" حكاية وجه في الرجعة- أيضاً- مخرج أن المدة تبني على ما مضى؛ أخذاً من الخلاف فيما إذا راجع المطلقة، ثم طلقها أخرى قبل أن يدخل بها، يستأنف العدَّة أو يبني؟

قال: فإذا انقضت المدة، أي: والزوج حاضر، وطالبت المرأة بالفيئة، أي: ولا مانع منه- وقف، وطولب بالفيئة وهو الجماع؛ للآية، وسمي الوطء: فيئة، من: فاء، إذا رجع؛ لأنه امتنع ثم رجع. ولا فرق في ذلك بين أن تكون اليمين بالله تعالى، أو بالطلاق أو العَتَاق، أو غير ذلك- كما قررناه- على الأصح. وستأتي حكاية قول فيما إذا كانت اليمين بالطلاق الثلاث: إنه لا يجامع؛ فعلى هذا: يطالب [بعد المدة] بالطلاق على التعيين، ولا يثبت حق المطالبة لسيد الأمة، ولا لولي الصغيرة والمجنونة؛ إذ لا مدخل لذلك تحت الولاية، ولا يسقط حق المرأة بالتأخير، ولو رضيت ثم عادت وطلبت، كان لها ذلك، كما إذا رضيت بإعساره بالنفقة؛ لأن الضرر يتجدد، بخلاف الرضا بالعنة؛ فإن الضرر ثَمَّ في حكم الخصلة الواحدة؛ فأشبه الرضا بالعيب. قال: وإن كان فيها عذر يمنع الوطء لم يطالب، أي: لا بالفعل ولا بالقول؛ لأن المطالبة تكون بالمستَحَق، وهي لا تستحق الوطء في هذه الأحوال، هذا هو المشهور، وقد حكيت عن الغزالي تفريعاً على [صحة] الإيلاء من الرتقاء: أن لها المطالبة بالفيئة باللسان، وقال في "البسيط": إذ لا معنى لصحته إلا ذلك. وعن ابن الصباغ خلافه، قال الرافعي: ومن مال إليه كأنه يقتصر في الصحة على التأثيم. قال: وإن كان العذر به، أي: وهو غير مغلوب على عقله، فاء فيئة معذور، وهو أن يقول: لو قدرت لَفِئْتُ؛ لأن حكم الإيلاء ينبني على الإضرار باللسان، وذلك يدفع الضرر، [وقال أبو ثور: لا يلزمه فيئة المعذور؛ لأن الضرر] يترك بالوطء، وهو لا يزول بالفيئة باللسان. وجوابه ما ذكرناه. ثم لا فرق في ذلك بين أن يكون المانع طَبَعيّاً أو شرعيّاً لا يقدر على زواله، على ما حكاه المحاملي في "المجموع". وقال غيره: إنما يكتفي به إذا كان المانع طَبَعيّاً: كالمرض الذي يمتنع بسببه الجماع، أو يزيد بالوطء والحبس بغير حق، أما إذا كان شرعيّاً: [كصومه في]

فرض، وإحرامه، فللأصحاب في ذلك طريقان: إحداهما- وهي الحسنى، على ما قاله الإمام والرافعي- أن ذلك ينبني على أنه إذا طلب منها الوطء والحالة هذه، هل لها الامتناع؟ وفيه وجهان، أصحهما- على ما حكاه في "الشامل"-: نعم، ويحرم. فإن قلنا: لا يحرم عليها التمكين، لم يُقنع منه إلا بالوطء أو الطلاق، وإن قلنا: إنه يحرم عليها التمكين، فهل يؤمر بالفيئة بالقول أو الطلاق، أو لا يؤمر إلا بالطلاق؟ فيه وجهان، المذكور منهما في "الشامل": الثاني، وعلى الوجهين: إذا وطئ فقد أوفاها حقها وإن كان حراماً عليه. والطريقة الثانية: أنه يقال له: قد ورّطت نفسك بالإيلاء في ورطة؛ إن فِئْتَ إليها عصيت وأفسدت نسكك وصمك، وإن طلقت فاتت عليك زوجك، وإن لم تطلق طلقنا عليك. وشبه ذلك بما إذا غصب لؤلؤة ودجاجة، فابتلعت الدجاجة اللؤلؤة، فإنه يقال له: إن لم تذبح الدجاجة غرمناك اللؤلؤة، وإن ذبحتها غرمناك الدجاجة. وهذه طريقة المراوزة، وهي المذكورة في "التتمة" و"تعليق" القاضي الحسين وغيرهما. ثم محل الخلاف في الصوم [ما] إذا لم يستمهِل وأبدى الضرار، أما إذا استمهل إلى الليل فإجابته متعيِّنة؛ لما سيأتي، وكذا لو كان يتحلل عن غحرامه في ثلاثة أيام، [ورأينا] أن نمهله ثلاثة أيام- على ما سيأتي- فالوجه إسعافه، ولا طريق غيره، صرح بذلك الإمام في المسألة الثانية ومنها يؤخذ الحكم في الأولى. تنبيه: ما ذكره الشيخ- رضي الله عنه- في حدِّ فيئة المعذور لم أره لغيره، إلا فيما [إذا] كان العذر لا يرجى زواله: كالجَبِّ، على ما حكاه الإمام، وقال بعد ذكره: وهذا عندي في حكم العبث الذي لا يليق بمحاسن الشرع مثله، وضرب المدة أقبح من ذلك؛ فإنه مَهل أُثْبِتَ لمن يرجى منه الوطء، فكيف يتخيل هذا في المجبوب؟!

وفي "المجموع" للمحاملي في هذه الصورة- أيضاً-: أنه يقول مع ذلك: ندمت على ما كان مني. وكلام الشيخ لا يقتضي التصوير بما ذكرناه [؛ لأنه قال بعد ذلك: فإذا زال. وذلك يمنع التصوير بما ذكرناه]. أما إذا كان العذر مرجو الزوال، فقد اختلف فيه النقل عن الأصحاب: [فالذي ذهب إليه الشيخ أبو حامد أنه يقال: قد ندمت على ما فعلت، ولو قدرت لكنت وطئت]. والذي ذهب إليه القاضي أبو الطيب أنه يقول: [ندمت على ما فعلت، و] إذا قدرت وطئت. كذا [حكاه ابن الصباغ عنهما، وقال: إن قول القاضي أقيس. والموجود في "تعليق" البندنيجي مثل ما] حكاه ابن الصباغ عن القاضي. وفي "المجموع" للمحاملي اعتبار ثلاثة أشياء: أن يقول: ندمت على ما كان مني، ولو كنت قادراً على الوطء لوطئت، وإذا قدرت وطئت. وفي "النهاية": أن الأصحاب قالوا: لابد من اعتبار شيئين: أحدهما: أن يقول: لولا المرض لأصبتك الآن. والثاني: الوعد بالإصابة عند الزوال. فلو اقتصر على أحدهما لم يَكْفِ، ولو فاء عن أحدهما طلقت عليه. وأبدى من عند نفسه احتمالاً في الاكتفاء بالثاني، وهو ما حكاه في "التتمة"، وقال: إنه لا يكلف أكثر من ذلك. قال: فإذا زال العذر طولب بالوطء، أي من غير احتياج إلى ضرب مدة أخرى؛ لأنه لم يوفِّها حقها بفيئة اللسان، وإنما أخره إلى انتظار القدرة؛ فوجب عليه الوفاء به عند القدرة، كما يجب على المعسر وفاء الدين إذا أيسر. قال: وإن انقضت المدة وهو مظاهر، أي: وطالبت بالفيئة أو الطلاق لم يكن له أن يطأ حتى يكفر؛ لما سيأتي في بابه، ولا يقنع منه بالفيئة باللسان؛ [لأنه قادر] على زوال المانع؛ كما إذا حبس في دين يقدر على وفائه؛ فإنه يطالب بالطلاق أو

الفيئة، ولا يقنع منه بفيئة معذور؛ فعلى هذا: إذا طلب [منها] الوطء وامتنعت، لم تسقط مطالبتها. وقال بعض أصحابنا: إن قلنا: إن لها التمكين إذا طلب منها الوطء والحالة هذه، ولا يحرم عليها- كما ذهب إليه الشيخ أبو حامد، وأجاب به المحاملي في المجموع، ورجحه البغوي- كان لها أن تطالب بالفيئة أو الطلاق، فإن أجاب إلى الوطء وامتنعت من التمكين، سقط حقها. وإن قلنا: ليس لها التمكين- على ما حكاه ابن الصباغ وجهاً، ورجحه وأبداه الشيخ في "المهذب" احتمالاً لنفسه- فهل يقنع منه بالفيئة باللسان؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كالمانع الطَّبعي. والثاني- وهو الأشبه في "الرافعي"-: أنه يطالب بالطلاق؛ إزالة للضرر عنها، بخلاف المانع الطبعي؛ فإن الوطء هناك متعذر في نفسه، وهذا كما تقدم فيما إذا كان محرماً، ويجيء فيه الطريقة الثانية المذكورة ثَمَّ. واعلم أن الشيخ ذكر هذا اللفظ ها هنا، وإن كان محله باب الظهار؛ ليبين به أن حكم تحريم الوطء بعد العود في الظهار لا يزول، وإن كان الوطء واجباً؛ فإنه قد يتوهم متوهم أن الوطء إذا توجهت المطالبة به يجوز قبل التكفير؛ لتأكده، بخلاف ما إذا لم يتأكد، فأراد أن يصرح بما ينفي هذا التوهم. قال: فإن قال: أمهلوني حتى أطلب رقبة؛ فأعتق ثم أطأ، أي: إذا لم يقنع منه بفيئة معذور أُنْظِرَ ثلاثة ايام، وكذا إذا كان يكفر بالإطعام؛ لأنها مدة قريبة، وقد لا يمكنه شراء الرقبة أو تفرقة الطعام بدون ذلك. وما قاله الشيخ هو ما ذهب إليه أبو إسحاق، وادعى ابن الصباغ أن أحداً من أصحابنا لم يخالفه فيه، والمراد بذكر الثلاث: أنه لا تجوز الزيادة عليها، أما النقصان عنها فهو بحسب ما يحتاج إليه، وعليه يدل كلام المحاملي في "المجموع"، حيث نقل عن ابي إسحاق أنه قال: يُنْظَرُ يوماً أو يومين أو ثلاثة. وما حكاه في "التهذيب" من أنه يمهل يوماً أو نصف يوم، وفي "التتمة" تقييد صورة الإمهال بما إذا كان يقدر على العتق والإطعام في الحال، أما إذا

كان لا يقدر في الحال؛ لعدم رقبة يشتريها، أو عدم الفقراء الذين يصرف إليهم- فلا يمهل، ولو قال: أمهلوني حتى أكفر بالصوم، لم يمهل، قال في "التهذيب": لأن الله- تعالى- لم يجعل مدة الإيلاء ستة أشهر. وقد يقال مثل هذا في "ثلاثة أيام"، لكن يمكن أن يجاب عنه بالقرب. فرع: إذا ادعى المُولِي عند المطالبة بالفيئة أنه عاجز عن الوطء، فهل تسمع دعواه؟ ينظر: إن كان قد دخل بها في هذا النكاح لم تسمع، وإن لم يكن قد دخل فالقول قوله مع يمينه، وإذا حلف ضربت له مدة العنة، ويلزمه أن يفيء فيئة معذور؛ فإن، فاء وإلا فهو كما لو امتنع عن الوطء. ثم إذا مضت المدة ولم يطأها كان لها الفسخ، وحكي عن ابن أبي هريرة أنه قال: يتعين عليه الطلاق؛ لأنه كان مخيراً بين أمرين، فإذا عجز عن أحدهما تعين الآخر. والأول هو الأصح وظاهر النص، على ما حكاه في "المهذب"، وبه قال المراوزة. آخر: إذا انقضت مدة الإيلاء، والزوج في بلد آخر، فلوكيلها أن يطالبه بالفيئة بالقول في الحال وبالمسير إليها، أو بحملها إليه، أو بالطلاق إن لم يفعل ذلك، فإن لم يفيء، أو فاء ولم يرجع إليها، ولا حملها إليه حتى مضت مدة الإمكان، ثم قال: أرجع الآن- لم يمكن، و [للقاضي أن] يطلق عليه بطلب وكيلها على القول الأصح، ويحبسه ليطلق على القول الآخر، ويعذر في التأخير ليهيِّئ أهبة السفر، ولخوف الطريق إلى أن يزول. قال: وإن لم يكن عذر يمنع الوطء، فقال: أنظروني- أُنْظِرَ يوماً أو نحوه في أحد القولين، وهو الأصح واختيار المزني؛ لأن الله- تعالى- جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر؛ فلا تجوز الزيادة عليها، وإنما نمهله قدر ما يتمكن فيه من الجماع في العادة: فإن كان جائعاً [أمهلناه حتى يأكل، وإن كان ثقيلاً بالأكل أمهلناه حتى يخف، وإن كان صائماً] فحتى يفطر، وإن كان يغلبه النعاس فحتى يزول ما به، ويحصل التهيؤ والاستعداد في مثل هذه الأحوال في يوم فما دونه. قال: وثلاثة أيام في القول الآخر؛ لأنها مدةق ريبة وقد يَنتظِر فيها نشاطاً وقوة،

وهذا هو الأصح عند الغزالي، وفي "الذخائر" حكاية وجه: أنه لا يمهل شيئاً أصلاً، ولا خلاف أنه لا يمهل في الفيئة باللسان؛ لقدرته عليها في الحال. تنبيه: فائدة الإمهال: أن القاضي لو طلق عليه قبل مضي مدته لم ينفذ إن جامع في مدة المهلة، وإن مضت بلا فيئة ففيه وجه: أنه ينفذ، والظاهر: المنع، ويخالف ما إذا أمهل المرتد ثم قتله القاضي أو غيره؛ فإنه يكون قتله هَدَراً؛ لأنه لا عصمة له، والقتل الواقع لا مدفع له، وأما الطلاق فهو قابل للرد. قال الإمام: وفي التصوير عسر؛ فإن طلاق القاضي قد يستند إلى رأيه في أنه لا إمهال، وإذا كان كذلك فالطلاق ينفذ إتباعاً لرأيه، والله أعلم. قال: فإن جامع- وأدناه: أن يغيب الحشفة في الفرج- فقد أوفاها حقها؛ لأن سائر أحكام الوطء تتعلق بهذا القدر من الجماع، ولا فرق في ذلك بين أن تكون المرأة ثيباً أو بكراً، ومن شرط البكر: إذهاب العُذْرَة كما نص عليه الشافعي؛ وذاك لأن الالتقاء لا يمكن في الغالب إلا به، وقد صرح بما أشرت إليه المحاملي وابن الصباغ وغيرهما. [ولا بين أن يكون الوطء في حالة تباح له، أو في حالة تحرم عليه مع قيام الزوجية]. ولا بين أن يكون مختاراً أو مكرهاً- إن تُصُوِّرَ- وأوجبنا الكفارة به، وإن لم نوجبها ففي انحلال اليمين وجهان جاريان في كل يمين وُجِدَ فيها الفعل المحلوف عليه عن إكراه أو نسيان، أَوْفَقُهُما لكلام الأئمة: المنع، وهو ما قطع به الشيخ أو حامد والقاضي أبو الطيب، وعلى هذا ففي بقاء حكم الإيلاء وجهان، الأصح منهما عند الغزالي: البقاء، وبمقابله أجاب صاحب "التهذيب" وغيره. ولا بين أن يكون الزوج عاقلاً أو مجنوناً على النمصوص، وإن كان لا يحصل بوطئه حنث ولا كفارة، قال ابن الصباغ والبندنيجي: قولاً واحداً؛ لأن وطء المجنون كوطء العاقل في التحليل، وتقرير المهر، وتحريم الرَّبِيبة، وسائر الأحكام؛ فكذلك فيما نحن فيه، ويفارق الحنث ووجوب الكفارة؛ لأن ذلك من حقوق الله- تعالى- فافتقر إلى قصد ولم يوجد.

وحكى الشيخ أبو حامد وجهاً آخر: أنه لا يخرج بذلك عن الإيلاء كما لا يحصل به الحنث، فإن قلنا به فهل تضرب له مدة ثانية إن كانت يمينه مطلقة، أو مقيدة بمدة بقي منها بعد وطئه أكثر من أربعة أشهر، أو يطالب بعد إفاقته في الحال؟ فيه وجهان، أقيسهما- على ما ذكره الإمام-: الأول. وإن قلنا بالأول، قال المحاملي والبندنيجي: يكون حالفاً لا مُولِياً، فمتى أصابها حنث ولزمته الكفارة، ولا تتوجه عليه المطالبة، ولا تضرب له مدة. وفي "النهاية": أن النص انحلال اليمين بالوطء الأول ولا كفارة، قال الرافعي: وحكاية نفي الكفارة عن النص ظاهر، وأما حكاية الانحلال فقد سكت عنه الجمهور، وليس في "المختصر" تعرض لذلك، وفي "التتمة" و"التهذيب" حكاية قولين في وجوب الكفارة كما في الناسي، فإن قلنا بعدم الوجوب ففي الانحلال وجهان، وفرق ابن الصباغ بين الناسي والمجنون: بأن المجنون ليس ممن له قصد بحال، والناسي من أهل القصد، وحكى هو والمتولي وجهاً في ضرب المدة ثانياً، ووجَّها عدم الضرب بأن هذه اليمين قد فاء إليها فيها، ووفّاها حقها، فلا تضرب [له] فيها مدة أخرى. ولو نزلت المرأة عليه وهو نائم، فاستدخلت ذكره لم تنحل يمينه؛ لأن الذي جرى ليس بوطء منه، والمحلوف عليه الوطء. وفي "النهاية" حكاية وجهه: أنه كالوطء في حال الجنون، حتى يجري فيه الخلاف المتقدم في انحلال اليمين، وعدّه غلطاً، وهل تحصل بذلك الفيئة وانحلال الإيلاء؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو ما جزم به الغزالي في كتبه-: أنها لا تحصل. وهذا يوافق إيراد الشيخ؛ فإنه "قال: فإن جامعها، وأدناه: أن يغيب الحشفة في الفرج"، فنسب الفعل إليه، وفي هذه الصورة لم يوجد منه فعل. والثاني-: وهو الأظهر في "الرافعي"، والمجزوم به في "التهذيب" و"التتمة" وغيرهما-: الحصول وارتفاع الإيلاء؛ لوصولها إلى حقها وزوال الضرر، وقد فهم من كلام الشيخ أن إيفاء الحق لا يحصل بالجماع فيما دون الفرج، ولا بالإتيان في غير

المَاتَى، ولا باستدخال الماء، وقد تقدم عند الكلام في العنة فوائد ومباحث تتعلق بتغييب الحشفة، فليطلب من ثَمَّ. ولو اختلفا في الإصابة في مدة التربص فهو كما لو وقع ذلك في زمن العنة. فائدة: حكى المحاملي في "اللباب" أن [حكم] الإيلاء يبطل بأربعة أشياء: الوطء، والطلاق البائن- في أحد القولين- وانقضاء مدة المحلوف عليه، وموت بعض المحلوف عليهم، مثل أن يقول لأربع نسوة: والله لا أصبتكن، فماتت واحدة منهن. قلت: وينبغي أن يضاف إلى ذلك: موتُ المحلوف بعتقِهِ، أو عِتْقُهُ، أو بَيْعُهُ، على أحد القولين في عود الحنث، وما إذا أسلم الكافر مبني على أنه لا تلزمه كفارة اليمين إذا أسلم، كما حكاه الغزالي في الباب الثالث من كتاب السير. قال: [وإذا جامعها]، أي: سواء كان في مدة التربص أو بعدها، بعد التضييق عليه أو قبله، فإن كانت اليمين بالله- عز وجل- لزمته الكفارة في أصح القولين- وهو الجديد- وأحد قولي القديم؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وقوله- عليه السلام-: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، فَلْيَاتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ"، والآية والخبر ليس فيهما تفريق. قال: ولا تلزمه في الآخر، وهو القول الثاني من القديم؛ لقوله- تعالى-: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]، فوعد المُولِيَ بالمغفرة والرحمة إذا كان بعد المدة، فأوجب ذلك سقوط حكم الدنيا، كما أنه لمَّا مَنَّ على المحارب بقبول توبته قبل القدرة عليه، وامتدح نفسه بكونه غفوراً رحيماً- أوجب ذلك سقوط حكم الدنيا؛ ولأن الإيلاء باقتضاء الفيئة أو الطلاق منتزع من حكم الأيمان؛ فكان التضييق عليه بالفيئة أو الطلاق قائماً مقام المؤاخذة. ومن قال بالأول أجاب عن الآية: بأن المغفرة والرحمة إنما تنصرف إلى ما يعصي به المرء، والذي يعصي به المُولِي: تركُ الفيء بعد المدة، والموجب للكفارة فعل الفيء، وهو مندوب إليه مأمور به؛ فلم ينصرف إليه وعد المغفرة.

وعن الثاني: بأن الكفارة تجب لهتك حرمة اللفظ بالمخالفة، وقد تحقق ذلك، والذي جعله الشرع جابراً لذلك التكفير فلا يقوم غيره مقامه؛ إذ ليس في معناه. ومن أصحابنا من قال: محل القول بعدم الوجوب إذا كان الوطء بعد المدة، أما إذا كان فيها فيجب قولاً واحداً؛ لأن بعد المدة الفيئة واجبة بالشرع، فلا تجب بها الكفارة كالحلق عند التحلُّل، وهذا ما أجاب به القاضي الحسين في "التعليق"، ثم قال: ولو وطئها بعد المدة وقبل الطلب، يجب أن يترتب على الفيء بعد الطلب: فإن أوجبنا الكفارة ثَمَّ فها هنا أولى، وإلا فوجهان، والفرق: أنه إذا ضيق الأمر عليه فيخلصه من عهدة اللفظ بالفيء، وإذا لم يطالب صار كما لو فاء في المدة. وهذا قد أشار إليه الشيخ في "المهذب"، وجعل محل القول بالسقوط- على قول- فيما إذا جامع بعد الطلب. والأول هو الصحيح في "المجموع"، ووجَّهه بعضهم: بأن الشافعي إنما حكم بسقوط الكفارة في القديم؛ لأنه راعى معهود الجاهلية في الإيلاء؛ ولهذا لم يحكم بانعقاده بغير الله- تعالى- في القديم، وهم كانوا في الجاهلية لا يرون الكفارة [في الإيلاء؛ بل كان ذلك طلاقاً عندهم؛ فلهذا لم يوجب الكفارة]، والآية لا دليل فيها لما ذكرنا، وإذا كان المعنى المسقط للكفارة هذا وجب التسوية بين الحالين، أعني: ما قبل مضي المدة وما بعدها. وتخالف كفارة الحج؛ فإنها تجب بالمحظور، والحلق المحظور: هو الحلق في حال الإحرام، فأما عند التحلل فهو نسك، وليس كذلك كفارة اليمين؛ فإنها تجب بالحنث، والحنث بالواجب كالحنث بالمحظور في إيجاب الكفارة، ولو حلف ألا يطأها مدة أربعة أشهر فما دونها، ثم وطئ فعليه الكفارة، وفي "الوسيط" أن بعضهم أجرى الخلاف فيه، وهو بعيد. قال: وإن كانت اليمين على صوم أو عتق فله أن يخرج منه بكفارة يمين، وله أن يفي بما نذر، كما في نذر اللجاج والغضب أو هو هو، ويجيء فيه من الخلاف ما هو مذكور ثَمَّ، وهذا إذا كان العتق بصيغة الإلزام، مثل أن قال: إن وطئتك فعليَّ عتق عبد أو عتق عبدي هذا، أما إذا كان بصيغة التعليق مثل أنق ال: إن وطئتك فعبدي هذا

حر، فإنه يعتق بالوطء، كما تطلق زوجته به إذا حلف بطلاقها. قال: وإن كان بالطلاق الثلاث طلقت ثلاثاً؛ لوجود الشرط. وقيل: إن كان اليمين بالطلاق [- أي:] الثلاث- لم يجامع، وهو قول ابن خيران؛ لأن الطلاق يقع بعد تغييب الحشفة، والنزع يقع بعد وقوع الطلاق، وذلك نوع استمتاعٍ، وهو لا يجوز بالمطلقة، وأيضاً: فإنه لا يتأتى وصل النزع بآخر التغييب من غير أن يقع بينهما فصل، وهي في تلك الحالة محرمة عليه، وأيضاً: فإن الصائم إذا أحس بطلوع الفجر ووقوع النزع بعد الطلوع يمنع من الوطء؛ فكذلك ها هنا. قال: والمذهب الأول؛ لأنه إلى [الوصول إلى التغييب] متصرف في محل حقه وحله، وإذا ابتدأ النزع متصلاً بحصول التغييب فهو تارك، ولا معصية على تارك لفعل متردد بين الوقوع في محل الملك وبين الترك، وشبه ذلك بما لو قال لغيره: ادخل داري ولا تقمْ بها، يجوز له الدخول، والقول بأنه يقع بينهما فصل لا حاصل له؛ فإن التكليف بما في الوسع، والفصل الذي لا يحس لا عبرة به، ومسألة الصوم ممنوعة إن تحقق وقوع الإيلاج في الليل؛ فلا فرق بين الصورتين، كذا قاله الرافعي هنا، وإليه أشار المحاملي في "المجموع"، وقال: إنما منع من الصوم؛ لأنه لا يقطع بأن ذلك [الوقت] من الليل، وإنما نحكم به من طريق غلبة الظن، ويجوز أن يكون ذلك من النهار؛ فلهذا منع من الوطء. قلت: وفيما قاله نظر من وجهين: أحدهما: أن ما قاله ابن خيران في مسألة الصوم يوافقه إيراد الإمام في كتاب الصيام؛ حيث قال: إذا خالط بالسحر قريباً من الفجر بحيث يدركه الفجر وهو على حاله، فإذا وجد النزع من الطلوع أفطر؛ لأن ما فضل من النزع بسبب ما ورط نفسه فيه بتفريطه، وإن كان على ظن المهلة، فأدركه الفجر وهو كذلك، ثم نزع- فإنه لا يفطر، وإذا كان كذلك لم يحسن المنع. والثاني: أن تعليل المنع بتعذر التحقُّق غير متجه؛ فإن من قواعدنا: أنه متى شك

في طلوع الفجر جاز له الإقدام على الأكل وغيره؛ لأن الأصل بقاء الليل، بخلاف ما إذا شك في الغروب؛ فإنه لا يجوز له الإقدام على الفطر؛ لأن الأصل بقاء النهار، فكيف بك عند الظن؟! ثم على تقدير تسليم الحكم في مسألة الصوم كما حكيناه، فيمكن ابن خيران أن يفرق بينه وبين مسألتنا بما قاله ابن الصباغ، وهو: أن النزع ليس بوطء وإن كان استمتاعاً، وإنما يقع الفطر بالوطء خاصة، وفي مسألتنا الاستمتاع وإن لم يكن وطئاً فمحرم أيضاً؛ لأنها تصير أجنبية. تنبيه: إنما قلنا: إن مراد الشيخ بالطلاق الثاني: الطلاق الثلاث؛ لأنه ذكر من بعد في التفريع: أنه إذا فعله بعد ما نزع يجب عليه الحد على رأي، ولو كان الطلاق رجعيّاً لم يثبت هذا الخلاف، مع أن غيره صرح بأن محل الخلاف ما إذا كانت اليمين بالطلاق الثلاث. فإن قيل: هل يظهر للتخصيص بالطلاق الثلاث من فائدة؟ قلت: قد تكون فائدته أن هذا الحكم لا يثبت فيما إذا كان رجعيّاً، مع أن وطء الرجعية والاستمتاع بها محرم كوطء البائن؛ من حيث إن المحذور المذكور فيما إذا كانت اليمين بالطلاق الثلاث لا يتصور الانفكاك عنه، [وها هنا يتصور الانفكاك عنه] بأن يراجع كما غيب الحشفة؛ فينتفي المحذور، مع أني لم أقف على ذلك، وقد تكون فائدته- على تقدير أن يكون الخلاف جارياً في الطلاق الرجعي-: أن جميع ما ذكره بعد ذلك من التفاريع لا يثبت في الطلاق الرجعي، ويثبت في الطلاق الثلاث؛ فخصص بالذكر؛ ليستوفي التفريع المذكور، والله أعلم. قال: فإن جامع لزمه النزع، أي: عند تغييب الحشفة؛ لوقوع الطلاق حينئذ، فإن استدام لزمه المهر دون الحد، أي: وإن كان عالماً بالتحريم: أما لزوم المهر؛ فلأن الاستدامة كالابتداء في كفارة الصوم فكذلك في المهر، وقيل: لا يلزمه، وطرد أيضاً في كفارة الصوم؛ لأن أول الفعل لم يتعلق به هذا الغرم فكذلك آخره؛ إذ الوطء الواحد لا يتبعض حكمه، ومن أصحابنا من قال: لا يجب المهر وتجب الكفارة، وفرق بأن المهر في النكاح يقابله جميع الوطئات إلى آخر

العمر، فأول الوطء قابله جزء من المهر، فإذا لم نوجب المهر في آخره لم يؤدِّ ذلك إلى إخلاء الوطء عن المهر، ولو أوجبناه لأدى إلى إيجاب مهرين بإيلاج واحد، بخلاف الكفارة؛ فإن أول الفعل لم يتعلق به جزء من الكفارة، فإذا لم نوجب الكفارة في آخره أدى إلى إخلاء الفعل عن الكفارة، ولو أوجبناها لم يكن في ذلك إيجاب كفارتين بإيلاج واحد، وهذا مع الأول ما يوجد في طريق العراق، وذكر البندنيجي أن الأصحاب لم يختلفوا في إيجاب الكفارة في الصوم، والثالث مذكور في طريق المراوزة، حكاه الإمام والقاضي وغيرهما. ثم ما الأظهر من الخلاف؟ ادعى الرافعي ها هنا أن الظاهر عدم وجوب المهر، وقال في أول كتاب الطلاق: إنه الأصح. وذكر أن صاحب "العدة" ادعى أن ظاهر المذهب الوجوب، وهو موافق لإيراد الشيخ. وأما سقوط الحد؛ فلأن أول الفعل كان مباحاً وانتهض شبهةً لسقوط الحد، قال ابن الصباغ: ولم يصر أحد من أصحابنا إلى وجوب الحد مع العلم بالتحريم، وفي "الرافعي" حكاية وجه فيه عن رواية ابن القطان وغيره، [و] أن القاضي الروياني اختاره؛ تنزيلاً للاستدامة منزلة الابتداء، وزَيَّفَهُ الإمام، وفي تعليق القاضي الحسين: أنا إن أوجبنا المهر لم يجب الحد، وإلا فوجهان، والأظهر منهما: عدم الوجوب. قال: فإن أخرج ثم عاد، أي: وهو عالم بالتحريم، وهي جاهلة أو عالمة، ولم تقدر على دفعه- لزمه المهر؛ لأن الاعتبار في وجوب المهر بجانبها وهي غير زانية. قال: وقيل: يلزمه الحد؛ لأنه وطء مستأنف في أجنبية خال عن الشبهة، فأشبه كما لو ابتدأه بعد الطلاق، وهذا ما اختاره القفال والقاضيان: أبو الطيب والروياني، وجزم به في "التهذيب". قال: وقيل: لا يلزمه؛ لأن الوطء اسم لجميع الإيلاجات، وإنما وقع الطلاق بابتدائه من جهة الاستدلال ووقوع الاسم، وإذا كان كذلك اسماً للكل وأوله كان مباحاً لم يجب الحد به، كما لو استدام، كذا وجهه المحاملي، ويحكى هذا الوجه عن أبي الطيب بن سلمة، وهو الذي رجحه الشيخ أبو حامد ومن تابعه. وفي "النهاية": القطع بوجوب الحد، وحكاية وجهين في وجوب المهر مرتبين

على الوجهين في الاستدامة، عن رواية الشيخ أبي محمد إذا كان العود متواصلاً قبل قضاء الوطر. قال الإمام: ولم أَرَهُ إلا له، وباقي الأصحاب قاطعون بأن الإيلاج بعد النزع وطء مبتدأ في كل حكم، والممكن في توجيه ما ذكره: كونه بعد وطأة واحدة، ويمكن أن يشبه هذا باتحاد الرضعة، والصبي قد يلتقم الثدي ثم يلفظه ويلهو ثم يعود ويلتقم، والكل رضعة. انتهى. ووراء هذه الصورة ثلاث صور أخر تتعلق بهذا الفرع، وأخذ الحكم فيها من هذه الصورة ظاهر؛ فلذلك لم يذكرها الشيخ وغن ذكرها غيره: فالأولى: إذا كانا عالمين بالتحريم جرى الخلاف في وجوب الحد عليهما، فإن أوجبناه لم يجب المهر، وإلا وجب. والثانية: إذا كانا جاهلين بالتحريم بأن اعتقدا أن الطلاق لا يقع إلا باستكمال الوطء، فلا حد، ويجب المهر. والثالثة: إذا كانت المرأة عالمة بالتحريم قادرة على الدفع، والزوج جاهلٌ بالتحريم- لم يجب عليه الحد، وفي وجوبه عليها الوجهان، وعليهما ينبني وجوب المهر. قال: وإن لم يف طولب بالطلاق؛ لما روى سهل بن أبي صالح عن أبيه أنه قال: سألت اثني عشر نفساً من الصحابة عن الرجل يُولِي، فقالوا كلهم: ليس عليه شيء حتىي مضي عليه أربعة اشهر؛ فيوقف: فإن فاء، وإلا طلق. قال: وأدناه طلقة رجعية، أي: وهي رجعية إن وجد شرط الرجعة، أما وجه الاكتفاء بطلقة؛ فلأنه يصير بها مطلقاً، ولأن الطلقة الواحدة يتخلص بها؛ فإنها توجب البينونة بعد انقضاء العدة، وتوجب تحريمها على الزوج في الحال، وقال أبو ثور: إذا وقع الطلاق كان بائناً وليس له الرجعة؛ لأنها فرقة لإزالة الضرر فوجب أن تقع ثانياً كفرقة العنة، وفرق الأصحاب بينهما بأن فرقة العنة فرقة فسخ، والفسخ لا رجعة فيه، بخلاف الطلاق.

تنبيه: كلام الشيخ- رضي الله عنه- يقتضي أن مطالبة المُولِي تكون أولاً بالفيئة، فإن امتنع طولب بالطلاق، وكذلك ذكره الغزالي في "الوجيز" في أول الباب الثاني، وإيراده في "الوسيط" يقرب منه، وزاد المتولي في "البيان" فقال: وليس لها أن تطالب الزوج بالطلاق ابتداء؛ لأنه ليس بحق لها، وإنما حقها في الاستمتاع، فتطالب بما هو حقها، فإذا لم يوفها حقها حينئذ يأمره الحاكم بإزالة الضرر عنها، وإزالة الضرر عنها بالطلاق؛ لتتوصل إلى الاستمتاع من جهة غيره. قال الرافعي: وعلى هذا فحيث قلنا: يأمره القاضي بالفيئة أو الطلاق، فذلك يعتبر عن مجموع ما يؤمر به، وكلام الإمام مباين لذلك؛ فإنه قال: ليس لها توحيد جهة الطلب للفيئة؛ فإن فيه تكليف شطط؛ فإن النفس قد لا تطاوع، ولولا ذلك لثبت للمرأة مطالبة الزوج بحق التمتع، كما يثبت له مطالبتها بالتمكين؛ فإذن لا تصح منها الطَّلِبَةُ إلا بتردد بين الوطء والطلاق، وإذ ذاك تكون مطالبته بممكن، والله أعلم. قال: فإن لم يطلق ففيه قولان: أحدهما: يجبر عليه، أي: بالحبس والتضييق وماي ليق بحاله؛ ليفيء أو يطلق بنفسهن ولا يطلق عنه الحاكم، وهذا أحد قولي القديم؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227]، فأضاف الطلاق إلى الزوج؛ فثبت أنه يتعلق به، ولما روي أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: "الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ"، ولأنه مخيَّر بين الفيئة والطلاق، فإذا امتنع لم يقم القاضي مقامه؛ كما لو أسلم على أكثر من أربع نسوة. قال: والثاني: يطلق الحاكم عليه، وهو الأصح؛ لأنه حق معين تدخله النيابة؛ فإذا تعذر من جهة المستحق عليه ناب الحاكم عنه فيه، كقضاء الدين، ولأن مدة الإيلاء مقيدة بالشرع يقطعها الوطء وتتعلق بها الفرقة؛ فثبت للحاكم التفريق إذا انقضت بلا وطء كمدة العنة، ويفارق اختيار الأربع؛ لأنه لم يتعين حق واحدة منهن، بخلاف مسألتنا. ثم إذا قلنا بهذا أو بالقول الأول، فإنما يطلق الحاكم أو يجبره على طلقة واحدة؛ إذ هي الواجبة عليه، وتكون رجعية إذا طلق عليه، فلو أجبره على أن يطلق ثلاثاً: فإن

قلنا: إن الحاكم ينعزل بالفسق، لم يقع عليه شيء، وإن قلنا: لا ينعزل، وقعت عليه طلقة. تنبيه: حيث قلنا: يطلق الحاكم عليه، فذلك إذا امتنع بحضرته عن الفيئة والطلاق، ولا يشترط بعد ذلك حضوره وقت الطلاق، ولو شهد عليه شاهدان بأنه آلَى من زوجته، وامتنع بعد مضي المدة من الفيئة والطلاق- فلا يُطلق عليه، كذا قاله البغوي في "فتاويه"، وهو قريب مما قيل في تزويج القاضي عند عَضْل الولي. فروع: لو طلق الحاكم عليه، ثم تبين أنه وطئ قبل ذلك- تبين أن الطلاق لم يقع، وكذلك لو ثبت أنه طلق قبل طلاق الحاكم [لم يقع طلاق الحاكم]. ولو وقع طلاق الزوج والحاكم معاً نفذا على الأصح، وقيل: لا ينفذ طلاق الحاكم. ولو سبق طلاق الحاكم طلاق الزوج وقعا- أيضاً- على الأصح [وقيل:]، إن كان الزوج جاهلاً بتطليق القاضي لم يقع. قال: فإن راجعها وقد بقي من المدة أكثر من أربعة أشهر، أي: إن كانت يمينه مقيدة بزمان- ضربت له المدة ثم يطالب بالفيئة أو الطلاق، وهكذا إن كرر الرجعة؛ لأن المانع من الوطء باق والمضاررة حاصلة؛ فكأنه راجَعَ ثم حلف ثانياً. قال الإمام: وكان ينقدح في القياس أن يقال: كما راجعها تعود الطلبة؛ لاتحاد النكاح، لكنه لما طلق فقد أتى بأحد الأمرين اللذين طولب بأحدهما، فأثّر ذلك في سقوط الطلبة. فإن قيل: الفيئة أحد الأمرين اللذين يتوجه عليه الطلبة بالإتيان بأحدهما، وإذا أتى به بطل الإيلاء؛ فهلا قلتم كذلك فيما إذا طلق؟! فالجواب: أن الفيئة ترفع اليمين؛ لحصول الحنث فيها، بخلاف الطلاق.

قال: فإن لم يراجعها حتى انقضت المدة، أو بانت، ثم تزوجها، فهل يعود الإيلاء؟ على الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في كتاب الطلاق، وقد تقدم شرحها، وبينا ثَمَّ أن الراجح: عدم العود. وقال الإمام في كتاب الظهار: لعل الأظهر في الإيلاء العود، وثمرة الخلاف ها هنا في توجُّه المطالبة عليه إن حكمنا بعود الإيلاء، لا في حصول الحنث بالوطء؛ فإنه لا خلاف أنه يحنث وتجب به الكفارة. فرع: زوال ملك النكاح بالفسخ هل هو كالزوال بما دون الثلاث أو بالثلاث؟ فيه خلاف [تقدم، والله أعلم]. ***

باب الظهار

باب الظهار الظهار: مشتق من لفظ "الظهر". يقال: ظاهر الرجل من امرأته وتَظَاهَر وتَظَهَّر، تَظَهُّراً، إذا قال لها: أنتِ عليَّ كظهر أمي. وسمي بذلك؛ لتشبيه الزوجة بظهر الأم، وإنما خص الظهر من أعضاء الأم؛ لأن كل مركوب يسمى ظهراً؛ لحصول الركوب على ظهره؛ فكأنه قال: نكاحك عليَّ حرام كنكاح أمي، فأقام "الظهر" مقام "الركوب"؛ لأنه محله، وأقام "الركوب" مقام "النكاح"، لأن الناكح راكب. وقيل: إنه من العلو، قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] أي: يعلوه؛ فكأنه قال: عُلُوِّي عليكِ حرامٌ كعلوي على أمي. وكان الظهار طلاقاً في الجاهلية كالإيلاء. ويقال: كان أحدهم إذا كره صُحْبةَ امرأته، ولم يرد أن تتزوج بغيره-[آلى منها] أو ظَاهَرَ؛ فتبقى محبوسة: لا ذات زوج يستمتع بها، ولا خَلِيَّة تنكح غيره، وهذا يشعر بأنه كان طلاقاً من وجه دون وجه، وكيف ما كان فقد نقل الشرع حكمه إلى التحريم بعد العود ووجوب الكفارة- على ما سيأتي-[وبقى محله وهي الزوجة. قال مجلي، والغزالي: وهو من تصرفات الشرع البديعة التي لا يعقل لها معنى. واختلف علماؤنا في أنه مع ذلك يُسْلك به مسلك الأيمان أو الطلاق]- على ما سيأتي تفصيله- مع اتفاقهم على أن التلفظ به حرام؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة: 2]، وقول الزور محرم. ويفارق قوله: أنتِ عليَّ حرام؛ فإنه مكروه، وليس بمحرم، وإن كان إخباراً بما لم يكن؛ لأن الظهار عُلِّق به الكفارة [العظمى]، وهي إنما تجب بفعل ما هو محرم في

الأصل: كالفطر في رمضان، والقتل، والمعلق بلفظ التحريم كفارة اليمين، واليمين والحنث ليسا بمحرمين، وأيضاً: فالتحريم مع الزوجيَّة قد يجتمعان، والتحريم الذي هو كتحريم الأم مع الزوجية لا يجتمعان؛ فكان هذا الوصف أبلغ. والأصل في الظهار مُفْتَتَحُ سورة المجادلة، وسبب نزول ذلك ما روى أبو داود بإسناده- في حديث مطول- وغيرُهُ: أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة- على اختلافٍ في اسمها ونسبها- فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكيةً، وأخبرته بذلك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حَرُمْتِ عَلَيْهِ" فقالت: انظر في أمري؛ فإني لا أصبر عنه! فقال- عليه السلام-: "حَرُمْتِ عَلَيْهِ"، وكررت وهو يقول: "حَرُمْتِ عَلَيْهِ"، فلما أَيِسَتْ اشتكت إلى ربها؛ فنزل قوله- تعالى-: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى آخر الآيات [المجادلة: 1 - 4]. قال: من صح طلاقه، صح ظهاره؛ لعموم قوله- تعالى-: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2]، ومن لا يصح طلاقه، أي: إما لعدم الزوجية أو لوجود مانع، لا يصح ظهاره. أما غير الزوج؛ فلأن الله تعالى حيث أثبت حكم الظهار إنما أثبته في النساء، ومطلق اسم النساء ينصرف إلى الزوجات كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226]، ولا زوجيَّة، ولأنا قد ذكرنا أنه كان طلاقاً في الجاهلية، وأن الشرع غير حكمه وبقي محله، ومحل الطلاق الزوجة. وأما الزوج الذي [لا] يصح طلاقه؛ فلما ذكرناه في الطلاق، ويجيء فيه التفصيل المذكور في المكره والسكران. ولا فرق في غير الزوج: بين أن يكون سيداً أو لا؛ لما ذكرناه، ولأنه لفظ يقتضي تحريم الزوجة؛ فاختص [حكمه بالزوجات كالطلاق- ولا بين أن ينجّز الطلاق أو يعلقه] بالزوجية، على الأصح؛ لما ذكرناه في الطلاق، وفي "الذخائر" حكاية قول عن رواية صاحب "التقريب": أنه يصح إذا علقه بالزوجية، وهو القول المحكي في

الطلاق- ولا بين أن يكون المظاهر حرّاً أو عبداً، مسلماً أو ذميّاً، صحيح الذكر أو مجبوباً- ولا بين أن تكون الزوجة سليمة الفرج أو رَتْقاء أو قَرْناء، بخلاف الإيلاء على رأيٍ؛ لأن الإيلاء يختص بالجماع فلا ينعقد حيث لا يفرض الضرر، والظهار يحرِّم الجماع وجملة الاستمتاعات، وبعض الاستمتاعات قائم مع وجود هذه العوارض؛ فأثر فيه الظهار، وإذا تأملت ذلك، فهمت أن كلام الشيخ منعكس مطرد على نسق الحدود. قال: والظهار- أي: الشرعي-: أن يشبه امرأته بظهر أمه، أي: وإن عَلَتْ، أو بعضو من أعضائها، أي: التي لا تذكر للكرامة، فيقول: أنت علي كظهر أمي، أو: كفرجها أو كيدها: أما إذا شبهها بالظهر؛ فلما ذكرناه من قبل. وأما إذا شبهها بما عداه؛ فلأنه شبه الزوجة ببعض أعضاء الأم؛ فكان كالتشبيه بالظهر، وهذا هو الجديد. وهكذا حكم تشبيه بعض المرأة بظهر الأم، أو بعضو من أعضائها. وإنما قلنا: إن الجدات من قبل الأم ومن قبل الأب كالأم؛ لأنهن أمهات والديه، ويشاركن الأم في حصول العتق وسقوط القصاص ووجوب النفقة. ومن أصحابنا من جعلهن على الخلاف الذي نذكره في البنات والأخوات. قال: وخرج فيه قول آخر- أي من قول قديم تأتي حكايته في المسألة بعدها: أنه لا يكون مظاهراً في غير الظهر، وهو في "التهذيب"، و"تعليق" القاضي الحسين منصوصاً في القديم من غير تعرض لكونه مخرجاً. ووجهه: أن الظهار المعهود في الجاهلية التشبيه بالظهر، وقد ذكرنا أن الشرع إنما غير حكمه لا محله، وهذا الخلاف مشبَّه [بالخلاف] في أن الإيلاء هل يختص باليمين بالله تعالى؟ فعلى الجديد: لا يختص، وعلى القديم؛ إتباعاً لما كان في الجاهلية، والمذهب الأول. والفرق: أن غير الأم ليست كالأم في التحريم؛ لأن الفرع دون الأصل، وغير

الظهر كالظهر في التحريم. وفي "النهاية" وغيرها حكاية طريقة قاطعة عن الشيخ أبي علي: أن التشبيه بالفرج يلحق بالتشبيه بالظهر؛ فإنه تصريح بالمقصود من الكلام. أما إذا كان العضو المشبه به يذكر للكرامة كالعين: فإن أراد الكرامة لم يكن ظهاراً، [وإن أراد الظهار، كان ظهاراً] على الجديد، وإن طلق فهل يحمل على الإكرام أو يكون ظهاراً؟ فيه وجهان، اختيار القفال منهما: الأول، والقاضي الحسين: الثاني، وهو الذي يشعر به إيراد البغوي. وحكم التشبيه بالجسد والبدن [والجسم حكم التشبيه بالظهر؛ لدخوله فيه، وحكم التشبيه بالصدر والنظر والشعر]، حكم التشبيه باليد، لأنه في معناه، وكذا التشبيه بالرأس عند العراقيين وهو ما دل عليه كلام [الشيخ] حيث لم يخصصه بعضو دون عضو. وحكى المراوزة فيه وجهين: أحدهما: هذا. والثاني: أنه كالتشبيه بالعين حتى يجيء فيه التفصيل. قال الرافعي: وهو الأقرب، وبه أجاب الشيخ أبو الفرج. [وحكم التشبيه بالرُّوح حكم التشبيه بالعين عند الأكثرين]، وعند ابن أبي هريرة: أنه لا يكون ظهاراً ولا يصلح كناية عنه؛ لأن [الروح ليس] مما يَحُلُّه التحريم. قال الرافعي: وهذا الخلاف ينطبق على خلاف قدمناه فيما إذا قال: روحِك طالق، وقد بينا ثَمَّ أن الأشبه وقوع الطلاق. ويوافقه إيراد الشيخ أبي الفرج الزاز؛ حيث قال: إن كل ما يصح إضافة الطلاق إليه، يصح إضافة الظهار إليه، وما لا فلا.

ومقتضى هذا الإطلاق: [جريان الخلاف فيما إذا قال: شعرك علي كظهر أمي، وكذا فيما إذا قال: رِيقُكِ أو دمك أو ما في جوفك علي كظهر أمي، إن رأينا إيقاع الطلاق بذلك، كما حكيناه في كتاب الطلاق]. وإيراد الشيخ يأباه؛ لأنه حصر الظهار في التشبيه بالظهر أو بالأعضاء، وهذا لا يسمى عضواً. واعلم أن لفظة "علي" في قوله: أنت علي كظهر أمي، وكذا ما في معناها من الصِّلات كقوله: أنت معي أو عندي أو مني أو [لي] كظهر أمي، ليست بشرط على المشهور في صحة الظهار، حتى لو قال: أنت كظهر أمي، كان مظاهراً؛ كما لو قال: أنت طالق، وإن لم يقل: مني. وقال الداركي: إذا ترك الصلة كان كناية؛ لاحتمال أن يريد أنها محرمة على غيره كحرمة ظهر أمه عليه، بخلاف الطلاق؛ فإنه للإطلاق، وهي في حبسه دون حبس غيره، وهذا هو الذي يقتضيه إيراد الشيخ، وهو ما رجحه شيخه الشيخ أبو حامد القزويني. قال: وإن شبهها بغير أمه من ذوات المحارم كالأخت والعمة، ففيه قولان: أصحهما: أنه مظاهر، وهو الجديد، وأحد قولي القديم؛ لأنه شبهها بظهر امرأة محرمة عليه بالقرابة على التأبيد؛ فأشبه التشبيه بظهر الأم. والثاني- وهو الثاني من قولي القديم-: المنع؛ للعدول عن المعهود في الجاهلية. قال: وإن شبهها بامرأة حرمت عليه بمصاهرة أو رضاع فإن كانت ممن حلت له في وقت ثم حرمت عليه، كحليلة الأب بعد ولادته والتي أرضعته، لم يكن مظاهراً؛ لأنهن دون الأم في التحريم، ولأنه يحتمل أن يريد الحالة التي كانت حلالاً له فيها؛ فلم يكن مظاهراً كما لو شبهها بالأجنبية التي لم تحل له، وهذا ما ذهب إليه الربيع والمزني وابن سريج وأبو إسحاق، رحمهم الله تعالى. وقيل: إن ظهاره يكون على قولين؛ إذا قلنا: إنه يكون مظاهراً بالتشبيه بالأخت.

قال: وإن لم تحل له أصلاً- كزوجة أبيه قبل ولادته ومرضعة أحد أبويه- فعلى قولين كذوات المحارم، ولفظ الشيخ في "المهذب": فعلى القولين في ذوات المحارم، وكذلك لفظ البندنيجي، والذي حكاه الرافعي: أنهما مفرعان على القول الجديد، وهو الذي يرشد إليه كلام الشيخ ها هنا حيث ذكرهما، ولو كانا [هما] هما القولان في ذوات المحارم، لقال: فعلى القولين، وكلاهما مستقيم؛ لأن ما قاله ها هنا طريقة، وما قاله في "المهذب" طريقة أخرى حكاها الرافعي أيضاً. ومن الأصحاب من قال: محل القولين في التشبيه بالمحرمات من الرضاع، أما المحرمات من المصاهرة فلا قولاً واحداً. والفرق: أن الرضاع أقرب إلى النسب؛ من حيث إنه يؤثر في إنبات اللحم، وكذلك يتعدى تحريم الرضاع إلى الأمهات والأولاد، وفي المصاهرة لا يتعدى التحريم حليلة الأب والابن إلى أمهاتها وولدها، والصحيح الأول. ويخرج من مجموع ما ذكرناه عند لاختصار سبعة أقوال أو أوجه: الاقتصار على التشبيه بالأم خاصة. إلحاق الجد بها لا غير. إلحاق محارم النسب. إلحاق محارم الرضاع اللاتي لم يُعْهَدْن محلَّلات. إلحاقهن وإن عُهِدْنَ محللات. [إلحاق محارم المصاهرة اللاتي لم يعهدن محللات. إلحاقهن وإن عهدن محللات]. ولا يحصل الظهار بالتشبيه بغيرها، سواء كن محرمات على التأبيد: [كزوجاته صلى الله عليه وسلم، والملاعن عنها، أو غير محرمات على التأبيد]. كالمطلقة ثلاثاً، والمُحْرِمة، والمجوسية، والمرتدة، والمعتدة. وفي حصول الظهار بالتشبيه بزوجاته صلى الله عليه وسلم وجه حكاه القاضي الحسين في

"التعليق". ولا يحصل [أيضاً] بالتشبيه بالأب؛ لأن الرجل ليس محل الاستمتاع ولا في معرض الاستحلال. قال: وإن قال: أنت علي كأمي، أو: مثل أمي- لم يكن مظاهراً إلا بالنية، لا يحتمل أنها كالأم في التحريم أو في الكرامة، واستعماله في الكرامة أكثر؛ فلم يجعل ظهاراً من غير نية كالكنايات في الطلاق، وهذا ما حكاه القاضي حسين وابن الصباغ والبغوي وغيرهم. وفي "الوسيط" حكاية وجه: أنه يكون مظاهراً عند الإطلاق، بخلاف ما إذا نوى الكرامة. قال الرافعي: والوجهان كالوجهين فيما إذا قال: كعين أمي، أو هما هما. قلت: ليس هما هما، ولا كهما؛ لأن القاضي الحسين والبغوي جَزَما في هذه الصورة بأنه لا يكون مظاهراً، واختيار القاضي الحسين في التشبيه بالعين: أنه يكون مظاهراً، وهو الذي يشعر به نظم "التهذيب"، ولو كانا كما قال لم يختلف الحكم عندهما. قال: وإن قال: أنت طالق كظهر أمي، وقال: أردت الطلاق، أي: بقولي: أنت طالق، والظهار، أي بقولي: كظهر أمي- فإن كان الطلاق رجعيّاً صارت مطلقة؛ لوجود لفظه الصريح، ومظاهراً منها؛ لأ، الظهار يصح من الرجعية، وقد أتى به مع النية. قال الرافعي: وفيه وجه حكاه أبو الفرج السرخسي عن القفال: أنه لا يصح الظهار؛ لأنا إذا استعملنا قوله: أنت طالق في إيقاع الطلاق لم يبق إلا قوله: كظهر أمي، وإنه لا يصلح كناية؛ إذ لا خطاب فيه. وفي "النهاية" حكاية هذا الوجه فيما إذا قال: أنت علي حرام كظهر أمي، ونوى بقوله: أنت عليَّ حرام، الطلاق، وبقوله: كظهر أمي، الظهار، كما ذكره الشيخ من بعد، وسكت عن ذكره في هذه الصورة، ولا فرق بينهما. قال: وإن كان بائناً لم يَصِرْ مظاهراً منها؛ لأن البائن لا يصح ظهارها. هذا كله إذا كانت بنيةٍ كما ذكرنا، أما لو قال: أردت بقولي: أنت طالق، الظهار،

وبقولي: كظهر أمي، الطلاق، أو: أردت الطلاق والظهار بمجموع قولي: أنت طالق كظهر أمي- فإنه يقع الطلاق، ولا ظهار. وأبدى الرافعي احتمالاً في الصورة الأولى في وقوع طلقة ثانية، وهو مستمد من وجه ستأتي حكايته عن الشيخ أبي محمد وغيره فيما إذا قال: أنت علي حرام كظهر أمي، ونوى الظهار بقوله: أنت علي حرام، والطلاق بقوله: كظهر أمي- أنه يقع الطلاق بهذه النية؛ لأن قوله: كظهر أمي- لعدم الاستقلال- قد خرج عن كون صريحاً؛ فأمكن أن يجعل كناية عن الطلاق. قال: وإن قال: أردت بقولي: أنت طالق، الظهار، أي: وقولي: كظهر أمي، ثَبَّتُّ به ما أردت باللفظ الأول- وهو الظهار- لم يقبل منه، أي: ويقع الطلاق، ولا يحصل الظهار؛ كما لو نوى بالظهار الطلاق، وهذا الحكم فيما لو قصد الظهار بمجموع كلامه. وحكي عن أبي علي الطبري وأبي الحسين في الصورة الثانية: أنه يلزمه الظهار- أيضاً- بإقراره، ولو أطلق هذا اللفظ ولم يرد شيئاً وقع الطلاق؛ لأنه أتى بلفظه الصريح، ولا يصح الظهار؛ لأن قوله: كظهر أمي، لا استقلال له، وقد انقطع عن قوله: أنتِ، بالفاصل الحاصل بينهما؛ فخرج عن الصراحة ولم يقصد به الظهار. فرع: لو قال: أنتِ علي كظهر أمي طالق، قال القاضي ابن كج: عن أراد الطلاق والظهار حصلا، ولا يكون عائداً، وإن لم يرد شيئاً صح الظهار، وفي وقوع الطلاق وجهان؛ لأنه ليس في لفظ الطلاق مخاطبة. قال: وإن قال: أنت علي حرام كظهر أمي، ولم ينو شيئاً، فهو ظهار، كذا نص عليه في "الأم"؛ لأن لفظ الحرام كناية عن الظهار، وقد خلا عن النية فسقط، وصار كما لو قال: أنت علي كظهر أمي، أو لأن لفظ الحرام يكون ظهاراً بانضمام نية الظهار إليه؛ فَلَأَنْ يكون ظهاراً بانضمام لفظِهِ إليه أولى؛ فإن اللفظ أقوى من النية، أو لأنه إذا قال: أنت علي كظهر [أمي]، كان ظهاراً؛ فإذا أكد ذلك بلفظ التحريم كان أولى، ويصير تقديره: أنت علي حرام كتحريم ظهر أمي.

وفيه وجه محكي عن الشيخ أبي علي: أنه لا يكون ظهاراً، وتجب كفارة يمين؛ بناءً على أن قوله: أنت علي حرام، صريح في إلزام الكفارة؛ فيكون كقوله: أنت طالق كظهر أمي، من غير نية. ومن نصر النص قال: إنما يكون قوله: أنت علي حرام، صريحاً في الكفارة إذا تجرد، فأما مع [قوله]: كظهر أمي، فهو تأكيد لمقصود الظهار. قال: وإن نوى الظهار، أي بقوله: أنت علي حرام، فهو طلاق في أصح الروايتين- أي المنقولتين عن "المختصر"- فإنه جاء في بعض نسخه: أنه يكون ظهاراً، وفي أكثرها: أنه يكون طلاقاً كما نقله الربيع والبويطي، ووجهه أن قوله: أنت علي حرام- مع نية الطلاق- بمنزله صريح الطلاق، وقد ذكرنا أنه لو قال: أنت طالق كظهر أمي، كان طلاقاً؛ فكذلك بالكناية مع النية. والرواية الثانية- وهي التي أثبتها بعضهم قولاً- أنه يكون ظهاراً؛ لأن اللفظ الحرام صالح للظهار، وقد اقترن به لفظ الظهار ونية الطلاق، واللفظ الظاهر أقوى من النية الخفية. وقيل: إنه يكون طلاقاً قولاً واحداً، وحيث قال الشافعي: إنه يكون ظهاراً، أراد: ما إذا نوى الطلاق بقوله: كظهر أمي، [لا بلفظ] "الحرام"، وإليه يرشد التعليل؛ لأنه لو نواه بقوله: أنت علي حرام، لم يحسن أن يقال: قد اقترن لفظ الظهار ونية الطلاق؛ لأن لفظ الظهار متأخر عن نية الطلاق فلا اقتران، وقيل: إنه يكون ظهاراً قولاً واحداً، وإنما الخلاف في أنه هل يقع الطلاق مع الظهار أم لا؟ وفي "الرافعي" استنباط وجه ها هنا: أنه لا يكون طلاقاً ولا ظهاراً من قولنا: إن لفظ الحرام لا يصلح كناية للطلاق- كما ذكرناه في كتاب الطلاق- لكونه صريحاً في إيجاب الكفارة، وقد وجد نفاذاً في موضعه فلا ينصرف عنه بالنية. قال: وإن نوى به الطلاق والظهار، أي: نوى بقوله: أنت علي حرام، الطلاق، وبقوله: كظهر أمي، الظهار- كان طلاقاً وظهاراً، أي: إذا كان الطلاق رجعيّاً، أما إذا كان بائناً، فيكون طلاقاً لا غير.

وقيل: لا يكون ظهاراً، أي: وإن كان الطلاق رجعيّاً، وقد تقدم توجيه ذلك، وهذا الخلاف مفرع على قولنا: إنه إذا [نوى] به الطلاق خاصة يكون طلاقاً، أما إذا قلنا: إنه يكون ظهاراً، فلا يقع الطلاق ها هنا- أيضاً- ويكون ظهاراً. وينتظم من مجموع ذلك ثلاثة أوجه. أما إذا نوى بقوله: أنت علي حرام الظهار، وبقوله: كظهر أمي، الطلاق- صح الظهار، [ولم يقع الطلاق]، وعن الشيخ أبي محمد وغيره: أنه يقع الطلاق، ووجهه ما سبق. ولو نوى الطلاق والظهار بمجموع كلامه أو بقوله: أنت علي حرام، لم يثبتا جميعاً، وفيما يثبت ثلاثة أوجه: أحدها- وبه قال ابن الحداد، ووافقه الجمهور، على ما حكاه الشيخ أبو علي-: أنه يخير، فما اختاره ثبت. والثاني: يقع الطلاق؛ لأنه أقوى. والثالث: أنه يثبت الظهار؛ لأن قوله: أنت علي حرام، يشملهما، جميعاً، فإذ نواهما، تعارضا وتساقطا، وقوله بعد ذلك: كظهر أمي، صريح في الظهار؛ فثبت. فرع: لو قال: أنت علي حرام، ونوى به الظهار والطلاق- لم يحصلا، ويجيء فيما يثبت الوجهان الأولان، وفي "التهذيب" حكاية الوجه الثالث فيه أيضاً، على ما حكاه الرافعي في كتاب الطلاق، ووجَّهه بأن الأصل بقاء النكاح، وهذا إذا نواهما معاً، أما إذا نوى أحدهما بعد الآخر، قال ابن الحداد: عن نوى الظهار أولاً، ثم الطلاق [بعده]- حصلا جميعاً، وإن عكس، وكان الطلاق رجعيّاً، فكذلك الحكم، وإن كان بائناً حصل الطلاق دون الظهار. قال الشيخ أبو علي: وهذا غلط عندي؛ لأن اللفظ الواحد إذا لم يجز أن يراد به التصرفان، فلا فرق بين أن يريدهما معاً أو أحدهما بعد الآخر، والحكم في هذه الصورة كالحكم فيه إذا نواهما معاً. وأبدى الإمام احتمالاً في أنه لا يقع الطلاق ولا الظهار مستنبطاً من وجه حكاه

العراقيون فيما إذا اقترنت نية الطلاق ببعض لفظ الكناية: أنه لا يقع الطلاق؛ لأن كل واحدة من النيتين [لم تنبسط] على جميع اللفظ. قال: وإن نوى به تحريم عينها، أي: ذاتها، بغير ظهار ولا طلاق، بل تحريمها مطلقاً- قُبِلَ؛ لموافقة لفظ الحرام، وعليه كفارة يمين- أي: لا غير- لما سيتضح. وقيل: لا يقبل، ويكون مظاهراً؛ لأنه وصف التحريم بما يوجب الكفارة العظمى فلا يقبل في الرد إلى الصغرى، وهذا الخلاف- على ما حكاه الشيخ في "المهذب"، والمحاملي في "المجموع" والبندنيجي- مبني على الخلاف فيما إذا نوى به الطلاق. فإن جعلناه طلاقاً، قبل منه ها هنا ولزمه كفارة يمين، ولا يكون مظاهراً. ومقتضى هذا البناء: أن يكون الأول هو المذهب، وقد صرح به الإمام وابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد. وفي "ابن يونس": أن الشيخ أبا حامد قال: إن الثاني هو المذهب. ثم هذا- أيضاً- مفرَّعٌ على قولنا: إن لفظ التحريم ليس صريحاً في إيجاب الكفارة. أما إذا قلنا: إنه صريح، فيقبل [قوله] قولاً واحداً؛ كما لو قال: أنت طالق كظهر أمي ولم ينو شيئاً. صرح به الإمام. واعلم أن الضمير في قوله: "به" يعود على جملة الأحكام، فينوي بقوله: أنت علي حرام، تحريم العين، وبقوله: أنت علي كظهر أمي، تأكيد ذلك التحريم، ولو نوى بقوله: أنت علي حرام، تحريم الذات، ولم ينو بقوله: كظهر أمي، شيئاً- كان الحكم كذلك، ولو نوى به الظهار لزمه كفارة يمين، وكان مظاهراً. فرع: لو قال: أنت علي كظهر أمي حرام، ولم ينو شيئاً- كان مظاهراً. وإن نوى بقوله: حرام تحريم عينها، فكذلك. ومقتضى تحريم العين- وهو الكفارة الصغرى- يدخل في مقتضى الظهار وهو الكفارة العظمى. وإن نوى بالحرام الطلاق فقد عقب الظهار بالطلاق؛ فلا عود، كذا قال المتولي.

قال: ويصح الظهار معجلاً؛ [للآية]، ومعلقاً على شرط، أي: مثل أن يقول: إن دخلت الدار، أو: إذا جاء رأس الشهر، أو: إن طلعت الشمس، فأنت علي كظهر أمي، فإذا وجد صار مظاهراً [منها]؛ لأن أصله كان طلاقاً في الجاهلية، والطلاق يصح تعليقه على الشروط، ولأن الظهار دائر بين شَبَهِهِ باليمين وبالطلاق، فهو يشبه الطلاق من حيث إنه لفظ يتعلق به التحريم، واليمين من حيث إنه يتعلق به الكفارة، وكل واحد منهما قابل للتعليق؛ فكذلك الظهار. ومن هذا الشبه أخذ الخلاف المتقدم في أن الظهار المغلَّب فيه شائبةُ الطلاق أو شائبة اليمين؟ وبنى الأصحاب عليه ما إذا ظاهر من إحدى زوجتيه، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، ونوى الظهار: فإن غلبنا شائبة اليمين لم يصح، وإن غلبنا شائبة الطلاق كان مظاهراً [منها]، وهذا ما يوجد في طريقة العراق، واستدل الرافعي على صحة تعليق الظهار بما روى أن سلمة بن صخر جعل امرأته على نفسه كظهر أمه إن غشيها حتى ينصرف رمضان، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أَعْتِقْ رَقَبَةً". والذي رواه أبو داود بسنده وخرجه الترمذي- أيضاً-: أن سلمة بن صخر ظاهر من امرأته حتى ينسلخ رمضان. وهو ظهار مؤقت لا معلق؛ فكان يحسن الاستدلال به على صحة تأقيت الظهار كما سنذكره، ولعل ما ذكره الرافعي رواية أخرى؛ فيحسن بها الاستدلال ها هنا. قال: وإن قال: إذا تظاهرت من فلانة، فأنت عليَّ كظهر أمي، وفلانة أجنبية، فتزوجها، ثم ظاهر منها- صار مظاهراً من الزوجة؛ لتحقُّق الشرط، وإن ظاهر منها قبل أن يتزوجها، لم يَصِرْ مظاهراً من الزوجة؛ لعدم صحة الظهار، اللهم إلا أن يريد بقوله: إن تظاهرت، عين هذا القولِ لا معناه؛ فحينئذ يصير مظاهراً من الزوجة لوجود الشرط. قال: وإن قال: إذا تظاهرتُ من فلانة الأجنبية، فأنت علي كظهر أمي، ثم تزوجها، ثم ظاهر منها- فقد قيل: يصير مظاهراً من الزوجة؛ لأن ظهارها تعلق

بظهار فلانة وقد وُجِدَ، وذكر الأجنبية في مثل ذلك للتعريف دون الشرط؛ كما لو قال: لا أدخل دار زيد هذه، فباعها ثم دخلها، حَنِثَ. قال: وقيل: لا يصير مظاهراً؛ لأنها إذا نكحت خرجت عن كونها أجنبية، وهذا القائل يجعل ذكر الأجنبية شرطاً، وينزله منزلة ما لو قال: إن تظاهرت عنها أجنبيةً، والأول هو الأصح في "الرافعي" و"تعليق" القاضي الحسين، والثاني في "ابن يونس" أصح، قال ابن الصباغ: وهذان الوجهان يذكران في مسائل الأيمان، مثل أن يقول: والله لا أكلت من لحم هذا الحمل، فصار كبشاً، أو: لا كلمت هذا الصبي، فصار شيخاً، أو: لا أكلت هذه البسرة، فصارت رُطَبة، وأكل وكلم. ثم لتعلم أن ذكر الأجنبية في المسألة الأولى ليس من لفظ المظاهر، وإنما هو إخبار عن الواقع، وهو في المسألة الثانية من لفظه؛ فلهذا ثار الخلافُ المذكور في إجرائه مجرى الشرط، أو مجرى التعريف؟ ولا خلاف [في] أنه شَرْطٌ فيما إذا قال: إذا تظاهرت من فلانة الأجنبية، والمذهب فيها: أنه لا يصير مظاهراً من الزوجة؛ لأنه لو تظاهر من الأجنبية بعدما تزوجها لم يوجد الشرط، وإن كان قبله لم يصح؛ فلم تتعلق به اليمين كما لو حلف: لا يبيع الخمر، فباعه؛ فإنه لا يحنث تنزيلاً لألفاظ العقود على الصحيح، وعند المزني أنه ينزل في مثل ذلك على صورة الظهار والبيع، وقد حكى [الإمام أن] من الأصحاب من وافقه. وقال الرافعي في معرض التقوية له: وأيضاً فإن في تعليق الطلاق بالمستحيلات خلافاً قد تقدم في كتاب الطلاق. قلت: وما قاله فيه نظر؛ لأنا حيث قلنا في المستحيلات بوقوع الطلاق، ألغينا التعليق ونجَّزنا الطلاق، والمزني ومن وافقه لم يلغيا التعليق، وإنما حملاه على الصورة؛ فلا يظهر أن بينهما مناسبة. فرع: لو قال: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي، فدخلت [الدار] وهو مجنون أو ناسٍ- فعن أبي الحسين بن القطان في حصول العود ولزوم الكفارة قولان.

قال القاضي ابن كج: وعندي أنها تلزم بلا خلاف؛ كما لو علق طلاقها بالدخول، فدخلت وهو مجنون، وإنما يؤثِّر الإكراه والنسيان في فعل المحلوف عليه. قال الرافعي: وهذا هو الوجه. قلت: الوجه ما قاله ابن القطان في الناسي؛ لأن وِزان الطلاق المعلق وزانُ حصول الظهار؛ إذ هو المعلق، وابن القطان لم يخالِف فيه، وإنما خالف في حصول العود ووجوب الكفارة، وهو أمر يحدث بعد وجود الظهار، وقد حصل في حالة النسيان؛ فكان كالفعل في تلك الحالة. وقد حكى الرافعي بعد الكلام في هذا الفرع بأوراق- رأيَ صاحب "التهذيب" وغيره تخريجَ المسألة على حِنْث الناسي- وأن هذا حسن، وهو الذي أورده صاحب "التتمة" أيضاً. وأما في المجنون: فالوجه القطع بعدم الوجوب؛ لما سيأتي أنه إذا جن عقيب الظهار، لا يكون عائداً؛ لأنه لم يمسكها بعد الظهار زماناً يمكن أن يطلق فيه فلم يطلق، والله أعلم. قال: ويصح الظهار مطلقاً، أي بأن يقول: أنت علي كظهر أمي، أي: من غير تعيين وقت؛ للآية. قال: ومؤقتاً في أصح القولين، وهو أن يقول: أنت علي كظهر أمي شهراً أو يوماً؛ لما روي أن سلمة بن صخر ظاهر من امرأته حتى ينسلخ رمضان، ثم وطئها في المدة؛ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتحرير رقبة، وسنذكر الحديث بقصته- إن شاء الله تعالى- ولأن الحكم إنما يتعلق بالظهار لقول المنكر والزور، وهو موجود في المؤقت. والثاني: لا يصح مؤقتاً؛ لأنه لم يؤبد التحريم فأشبه ما إذا شبهها بامرأة لا تحرم عليه على الأبد، والقولان ينبنيان عند القاضي الحسين على أنه يتبع في الظهار المعنى

أو ينظر إلى معهود الجاهلية؟ فإن اتبعنا المعنى كان ظهاراً، وإلا فلا، ونسب الصحة إلى الجديد، والمنع إلى القديم. قال الإمام: والأولى أن يقول: لا ظهار في القديم والجديد قولان، وهو يقرب من التردد في أن المغلَّب في الظهار مشابهة الطلاق أو مشابهة الأيمان؟ إن غلبنا مشابهة اليمين صح، وإلا لَغَا؛ لأن الطلاق لا يقع مؤقتاً، بل مؤبداً وقته لقوته، وليس للظهار تلك القوة. ثم حيث حكمنا بالصحة، فهل يصح مؤقتاً [أم مؤبداً]؟ فيه قولان- ويقال: وجهان- مأخذهما أن المغلب فيه الطلاق أو اليمين: إن غلبنا الطلاق تأبد، وإلا تأقت، والمذكور منهما في طريقة العراق التأقيت، وهو الاصح، وظاهر نصه في "المختصر"، ومقتضاه [تغليب] شائبة اليمين. وقد حكينا فيما إذا تظاهر من إحدى زوجتيه، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، ونوى الظهار- أنه يكون مظاهراً، وذلك يقتضي تغليب شائبة الطلاق، فليتأمل. وحيث حكمنا بأنه لا يصح، فلو وطئ في المدة، فهل يجب عليه كفارة يمين؟ فيه وجهان، أصحهما في "ابن يونس": عدم الوجوب. قال: ومتى صح الظهار، أي: المطلق، ووجدالعود، وجبت الكفارة؛ للآية، ثم ما هو السبب المقتضي للوجوب منهما؟ اختلفت فيه عبارات الأصحاب: فمنهم من يقول: هو الظهار، والعود شرط، وهو ما حكاه القاضي الحسين في "التعليق". ومنهم من يقول: هو العود، فعلى هذا: ينبغي ألا يجزئ التكفير قبله، وقد حكاه البندنيجي في كتاب الأيمان وجهاً، لكنه جعل مأخذه: أن الوطء بعد الظهار حرام؛ فيكون بمثابة ما إذا حلف على معصية؛ فإن في جواز تقديم الكفارة على الحنث خلافاً يأتي في موضعه.

ثم صورة التكفير بعد الظهار قبل العود: أن يظاهر من رجعية أو من زوجة، ثم يطلقها عقيب الظهار، ثم يكفر، ثم يراجع. ومنهم من يقول: هو مركَّب من العود والظهار، فعلى هذا: لا يجوز تقديمها على الظهار، ويجوز على العود. وحكى الماوردي في كتاب الأيمان: أن أبا علي بن أبي هريرة يقول: إنها تجب بثلاثة أسباب: عقد النكاح، ولفظ الظهار، والعود، ولا يجوز تقديمها بعد النكاح عنده وقبل الظهار؛ لوجود سبب وبقاء سببين. وعلله بعضهم بما ذكرناه عن البندنيجي من قبلُ. ثم الكفارة التي يجوز تقديمها تكون بالعتق لا غير. قال: والعود: هو أن يمسكها بعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق؛ لأن تشبيهها بالأم يقتضي ألا يمسكها زوجة، فإذا أمسكها زوجة فقد عاد فيما قال؛ لأن العود للقول عبارة عن مخالفته، يقال: فلان قال قولاً ثم عاد فيه، وعاد له، أي: خالفه، ونقضه. ويخالف العود إلى القول؛ فإنه قول مثله، وهذا هو [القول] الجديد. وفي القديم [ثم] حكاية قول- على ما حكاه الشيخ أبو حاتم القزويني-: أن العود هو [الوطء]. قال الإمام: وهو إن صح فهو في حكم المرجوع عنه. قال: فإذا وجد ذلك، وجبت الكفارة واستقرت. ذكر الشيخ هذه التتمة؛ ليحترز بها عن مذهب أبي حنيفة، فإن الكفارة عنده لا

تستقر في الذمة، وإنما شرعت لاستباحة الوطء كالرجعة، ودليلنا عليه: أن الله- تعالى- علق وجوبها بوجود أمرين عقوبة له، فإذا وجِدَا وجبت واستقرت ككفارة الجماع، وقوله- تعالى-: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 2]، تغليظٌ ضُمَّ إلى [أصل] العقوبة؛ للمبالغة في الرجوع والزجر، كما ضم التغريب إلى الجلد في الزنى. وفيها- أيضاً- إشارة إلى أن العود لا يسقطها كما أن الجماع في الإيلاء يحُلُّ اليمين، ولا يوجب الكفارة على القديم، ويجوز أن يكون لنفي [قول] من قال: إنه إذا عجز عن جميع الخصال لا يثبت في ذمته؛ بناءً على أن الاعتبار بحال الوجوب؛ فإن الصحيح من المذهب: أنها لا تسقط، بل تثبت في الذمة. قال: فإن مات قبل إمكان الطلاق، أي: لكونه مات عقيبه، أو لكونه جن عقيب الظهار ومات ولم يفق، أو عَقَّب الظهار بالطلاق- لم تجب الكفارة؛ إذ لم يوجد العود الذي هو سبب الوجوب أو شرطه، أما إذا أفاق فلا يكون عائداً ما لم يمض زمان يمكنه أن يطلق فيه، فلم يطلق. وذكر الشيخ أبو علي أن بعض الأصحاب جعل كون الإفاقة في نفسها عوداً، على الخلاف الآتي في الرجعة. ولا فرق في الطلاق بين أن يكون بائناً أو رجعيّاً، لأن بالبائن تزول الزوجيَّة بالكلية، وبالرجعيِّ تصير جارية إلى البينونة؛ فلم يحصل الإمساك على حكم الزوجية. ويقوم مقام الطلاق في هذا الغرض فسخ أحد الزوجين النكاح، وانفساخه بسبب من جهته، وكذا ارتداد أحد الزوجين [وإسلامه] إذا كان مجوسيين، وإسلام المرأة خاصة، إذا كان الزوج كتابيّاً، وكان الإسلام بعد الدخول؛ لما ذكرناه في الطلاق الرجعي. قال: وإن ظاهر من رجعية، لم يصر بترك الطلاق عائداً؛ لما ذكرناه. قال: فإن راجعها، أو بانت [منه] ثم تزوجها، وقلنا بعود الظهار [فهل

تكون الرجعة والنكاح عوداً أم لا؟ فيه قولان: احدهما: لا؛ لأن العود استدامة الإمساك، والرجعة والنكاح ابتداء استباحة. والثاني: نعم؛] لأن العود إذا حصل باستدامة الإمساك فابتداء الاستباحة أولى، ويجري الخلاف المذكور فيما إذا طلقها عقيب الظهار ثم راجعها، والأصح: أنه يكون عوداً في الصورتين، وهو المنصوص عليه في "الأم"، ومقابله مخرج من الرجعة، وقيل: إنه منصوص عليه أيضاً. واعلم أن قول الشيخ: "وقلنا بعود الظهار"، فيه إشارة إلى أن الخلاف المذكور في عود الحنث المذكور في الطلاق يجري ها هنا، كما صرح به غيره. قال: وإن ظاهر الكافر من امرأته، فأسلم عقيب الظهار، أي: وكانت زوجته قد أسلمت عقيب الظهار قبل الدخول- فقد قيل: إسلامه عود، وقيل: ليس بعود؛ بناءً على القولين في الرجعة، والجامع بينهما: أنه بإسلامه [صار] ممسكاً لها في النكاح كما برجعته، وفي طريقة المراوزة حكاية طريقة قاطعة بأنه لا يكون عوداً، بخلاف الرجعة، والفرق: أن الإسلام لا يقصد للإمساك على النكاح، وإنما ذلك يحصل تبعاً، بخلاف الرجعة. واعلم أن المحوج إلى زيادة ما ذكرته من إسلامها- إن لم يكن لفظ الشيخ: "فأسلمها عقيب الظهار"- كما ذكره بعضهم- عدمُ إمكان إجراء الخلاف فيما ذكره الشيخ لو اقتصر عليه؛ لأن الزوجة إن كانت غير كتابية كان إسلام الزوج عقيب الظهار قاطعاً للنكاح إن كان قبل الدخولن ومَصِيرها جارية [إلى البينونة إن كان بعد الدخول؛ ولا يكون عوداً قولاً واحداً] كالطلاق، وإن كانت كتابية فإسلامه عود قولاً واحداً؛ لأن الزوجية دائمة، وقيد ابن يونس [محل] الخلاف بما إذا كان إسلامها بعد الدخول كما ذكره في "المهذب" وغيره من العراقيين والمراوزة، وهو مستغنٍ عنه؛ لما ذكرناه، بل تركه متعين؛ لأنه لو قدر الدخول، لكان قول الشيخ: "فأسلم عقيب الظهار" موهماً أن محل الخلاف ما إذا أسلم عقيب الظهار دون ما إذا

تأخر عنه، وليس الأمر كذلك؛ بل هو [جارٍ]- وإن تأخر عنه- إذا وقع في العدة. وعلى مقتضى ما ذكرناه يكون محله ما إذا أسلم عقيب الظهار؛ فإنه لو تأخر عنه لم يكن عذراً قولاً واحداً؛ لحصول الفرقة، وفيه- أيضاً- تقليل للحذف فكان أولى. وليس لقائل أن يقول: من شرط العود أن يمسكها زماناً يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق، وزمن إسلامه قبل الدخول لا يمكنه فيه أن يطلق؛ لاقترانه بإسلامها، وهو محل للانفساخ وهو مقدم على الطلاق؛ فالاشتغال فيه بالإسلام لا يكون عوداً قولاً واحداً؛ لأنا نقول: ما ذكره موجود في تجديد النكاح، ومع هذا جرى الخلاف فيه. فإن قيل: لو ظاهر من امرأته بعد الدخول، ثم أسلم عقيبه، ثم أسلمت في العدة- لم نجعله عائداً بإسلامها، واستمرار النكاح [كما ذكرتم- كما يضاف إلى إسلام الزوج يضاف إلى إسلام الزوجة؛ لأن أحدهما لو تخلف للنكاح فلم غلبتم جانبه حتى أجريتم الخلاف في كونه عائداً، ولم تخرجوه على الخلاف] فيما إذا ارتدا معاً قبل الدخول بالنسبة إلى سقوط كل المهر أو بعضه؟ قلنا: لأن العود لما لم يمكن حصوله إلا من جهة الزوج غلبنا جانبه فيه؛ كما أحلنا الفرقة في الخلع عليه، وإن كان العقد منهما وجد؛ لأنه لا يمكن الفراق إلا من جهته، وكذلك في مسألة الردة فعلنا لما أن كانت ثمرة الخلاف ترجع إلى سقوط المهر، وهو لا يمكن إلا من جهتها، ورأيت للحموي: أن كلام الشيخ يمكن حمله على ظاهرة، ولا يحتاج إلى تقدير شيء معه، ووجَّه القول بعدم العود: بأنه لما أسلم عقيب الظهار كان بمنزلة طلاقها؛ فلا يكون عائداً، ومقابله بأن الإسلام لا يقصد لقطع الزوجية، بخلاف الطلاق، وأدعى أن في كلام الإمام والغزالي دلالة عليه، والظاهر أنه وهم، والله أعلم. قال: وإن قذفها، ثم ظاهر منها، ثم لاعنها- فقد قيل: إنه صار عائداً، وهو ما ذهب إليه ابن الحداد؛ لأن كلمات الشهادة لا تتعلق بها الفرقة، وقد أمكنه أن يطلق بدلها.

وقيل: لا يصير عائداً وهو ظاهر النص، وبه قال ابن أبي هريرة وابن الوكيل وأبو إسحاق؛ لأن الكلمات بمجموعها موقعة للفراق، فإذا اشتغل بموجب الفراق لم يفترق الحال بين أن يطول أو يقصر؛ كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً، أو يا فلانة بنت فلان، أنت طالق. وشرط صاحب "التهذيب" على هذا الوجه سبق المرافعة إلى الحاكم. ولو قدم الظهار، ثم عقبه بالقذف، ثم باللعان- فالذي ذهب إليه الأكثرون، وادعى المحاملي فيه نفي الخلاف: أنه يصير عائداً. وحكى المزني في "الجامع الكبير": أنه لا يشترط سبق القذف أيضاً، وبه قال ابن سلمة، حتى لو ظاهر وقذف على الاتصال واشتغل بالمرافعة وإثبات اللعان، لم يكن عائداًن وإن بقى أياماً فيه؛ لأن القذف لابد منه إذا كان يريد الفراق باللعان؛ فكان الاشتغال به شروعاً في أسباب الفرقة، كما إذا قال عقيب الظهار: أنت طالق على ألف درهم، فلم تقبل، فقال عقيبه: أنت طالق بلا عوض- لا يكون عائداً؛ لأنه كان مشغولاً بسبب الفراق. فرع: لو قال: أنت علي كظهر أمي يا زانية أنت طالق، فهل يكون عائداً؟ فيه وجهان: أحدهما- وبه قال ابن الحداد-: أنه يصير عائداً. قال الشيخ أبو علي: وهذا صحيح إن لم يلاعن بعده، أو لاعن، وقلنا: تقدم القذف شرط، أما إذا لم يشترط فلا يكون عائداً. والثاني: أنه ليس بعائد؛ كما لو قال: يا زينب أنت طالق. وتردد الإمام في أن ابن الحداد هل يسلم هذه الصورة؟ قال: وإن بقي من اللعان الكلمة الخامسة، [فظاهر منها، ثم أتى بالكلمة الخامسة]- لم يصر عائداً، وهذا متفق عليه؛ لأنه- والحالة هذه- فارقها بكلمة واحدة؛ فكان كما لو طلقها. وفي "الجيلي": أنه قدق يل: يطرد الخلاف فيه أيضاً، وهو بعيد.

[قال:] وإن كانت الزوجة أمة، فابتاعها الزوج عقيب الظهار، فقد قيل: إن ذلك عود؛ لأنه لم يتحقق التحريم، وإنما نقلها من حل إلى حل، وذلك إمساك لها. قال: فلا يطؤها بالملك حتى يكفِّر؛ لعموم قوله- تعالى-: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 2]. وفي طريقة المراوزة حكاية وجه: أنه يحل له وطؤها من غير تكفير، وهو نظير وجه محكي فيما إذا طلقها ثلاثاً ثم ملكها، والفرق بينهما عند العراقيين ما تقدم في باب الرجعة. قال: وقيل: ليس بعود- وهذا هو الأصح- وبه قال أبو إسحاق وابن أبي هريرة؛ لأن العود أن يمسكها زوجة، [وهذا لم يمسكها زوجة]، بل قد شرع في الشراء الذي هو سبب الفسخ؛ فصار كما لو طلقها- وعلى هذا: هل يكون الاشتغال بأسباب الشراء كالمساومة وتقدير الثمن عوداً؟ فيه خلاف قرَّبه الإمام من الخلاف [السابق] في أن الاشتغال بأسباب اللعان بعد الظهار والقذف هل يكون عوداً أم لا؟ ومقتضاه: ترجيح أنه عود، و [هو] الذي رجحه المتولي وغيره، وهو الحكاية عن ابن الحداد، والذي أجاب به في "التهذيب": أنه ليس بعود. قال الإمام: وهذا الخلاف فيما إذا كان الشراء متيسراً، أما إذا كان [الشراء] متعذراً، فالاشتغال بيسيره لا ينافي العود عندي. وفي "الذخائر" حكاية عن ابن الحداد في أصل المسألة: أنه يشترط اتصال القبول بالظهار، وهو أن يقول عقيب الظهار: اشتريت؛ لأنه به يتم العقد ويقع الفسخ. قال مجلي: وعلى قوله يجب تقديم الإيجاب على الظهار، [وكيف يجب تقديم

الإيجاب على الظهار،] وكيف يصح هذا وقد فصل بين الإيجاب والقبول؟! قلت: أما الاعتذار عن هذا فسهل؛ لأنا قد حكينا وجهين في كتاب النكاح في أن الفصل بكلام أجنبي عن العقد هل يكون قاطعاً للقبول أم لا؟ فلعل ابن الحداد- إن صح عنه هذا- يعتقد أنه لا يضر. نعم: ما قاله ابن الحداد إنما يحسن إذا كان يعتقد انتقال الملك إلى المشتري بنفس العقد، وأن النكاح ينفسخ به. أما إذا قلنا: إنه لا ينفسخ به- كما حكيناه في باب ما يجوز من النكاح: أنه ظاهر النص- فلا يحسن منه أن يعتقد أن ذلك ليس بعود؛ لأن ذلك كالإتيان بكلمات الشهادة [في اللعان]، وهو يعتقد أنها عود. قال: وإن ظاهر منها ظهاراً مؤقتاً، أي: وصححناه [مؤقتاً]، فأمسكها زماناً يمكن فيه الطلاق- صار عائداً كما في المطلق، وهذا ما أجاب به المزني. وقيل: لا يصير عائداً إلا بالوطء، أي: في المدة؛ لأن الحل منتظر بعد المدة، فالإمساك يحتمل أن يكون للحل، ويحتمل أن يكون لأجل الوطء في المدة، والأصل فراغ ذمته من [التزام الكفارة]، وإذا وطئ فقد تحقق الإمساك لأجل الوطء، وهذا هو الصحيح وظاهر النص، وعلى هذا [هل] يحصل العود عند الوطء أو بالوطء نتبين أنه صار عائداً من وقت الإمساك عقيب الظهار؟ فيه وجهان: الذي ذهب إليه الصيدلاني والقاضي الحسين وغيرهما: الثاني. وادعى الرافعي أن الأول أشبه. وعلى ذلك ينبني حل الوطء. فإن قلنا بالثاني كان الوطء حراماً، كما لو قال لزوجته: إن وطئتك فأنت طالق قبله؛ فإنه لا يجوز له الإقدام على الوطء. وإن قلنا بالأول كان له الوطء، لكن يجب عليه إذا غَيَّبَ الحشفة أن ينزع، كما ذكرنا فيما إذا قال: إن وطئتك فأنت طالق.

قال الإمام: وقد ذكرنا ثمَّ وجهاً أنه لا يحل له، ولاشك في خروجه ها هنا. قلت: وفي ذلك نظر؛ لأن من قال به ثمَّ صور المسألة بما إذا كانت اليمين بالطلاق الثلاث؛ لأن الوطء يستعقب النزع، وهو حرام، ولا سبيل إلى حصوله في حالة الإباحة؛ فيمنع من الابتداء لأجل ذلك. وها هنا النزع يمكن أن يكون في حالة هي حلال له، بأن يعلق العتق عن كفارته بالجماع، أو ينجزه عقيب تغييب الحشفة في الفرج؛ فينتفي المحذور، وهو يشابه ما أبديته فيما إذا كانت اليمين بطلاق [رجعي] [أي من قدرته على رجعتها عند تمام الإيلاج]. نعم: إن كان عاجزاً عن العتق اتجه جريانه، أما لو تأخر وطؤه إلى انقضاء المدة، زال الظهار، ولا يلزم به شيء. قال: وإن تظاهر من أربع نسوة بكلمة واحدة، أي: مثل أن قال: هن علي كظهر

أمي، ووجد العود في حق الجميع- لزمه لكل واحدة كفارة في أصح القولين وهو الجديد؛ لأنه وجد الظهار والعود في حق كل واحدة منهن؛ فيلزمه أربع كفارات [كما لو أفردهن] بأربع كلمات. قال: ويلزمه كفارة واحدة في القول الآخر وهو القديم؛ لورود الأثر عن عمر رضي الله عنه بذلك، ولأن الظهار [كلمة] يجب بمخالفتها الكفارة، فإذا تعلقت بجماعة لم تجب إلا كفارة واحدة كاليمين، ومثل هذا الخلاف فيما إذا قذف جماعة بكلمة واحدة، أو حنث في يمينين بفعل واحد، ومأخذ التردد النظر إلى تعدد الكلم أو إلى تعدد المحل. قال الإمام وغيره: والخلاف في المسألة مردود إلى أن المغلب في الظهار مشابهة الطلاق أو الأيمان؟ إن قلنا بالأول لزمه أربع كفارات، ولم يختلف الحال بين أن يظاهر بكلمة واحدة أو بكلمات. وإن قلنا بالثاني، لم تجب إلا كفارة واحدة؛ كما لو حلف ألا يكلم جماعة وكلمهم. وعن القاضي الحسين أنه قال: لعل الخلاف في أن المغلب في الظهار شبه الطلاق أو اليمين مستنبطٌ من الخلاف في المسألة المذكورة، ولا يبعد استنباط الخلاف في الأصول من الفروع. ثم إذا فرعنا على القديم، لم يشترط في وجوب الكفارة حصول العود في حق الكل بل يكفي وجوده في حق البعض، حتى لو طلق ثلاثاً منهن عقيب الظهار وجبت الكفارة للرابعة، وفي "التتمة": أنها لا تجب؛ كما لو حلف ألا يكلم جماعة، فإنه لا تلزمه الكفارة بكلام بعضهم، وفرق الإمام بأن كفارة اليمين إنما تجب بالحنث، والحنث لاي حصل إلا بأن يكلم الجميع، وفي الظهار إنما وجبت الكفارة؛ لأنه بالإمساك خالف قوله، والمخالفة تحصل بإمساك واحدة كما تحصل بإمساك الجميع. ولو ظاهر منهن بكلمات على التوالي، وطلق الرابعة: لزمه بظهار الثانية كفارة

للأولى، وبظهار الثالثة كفارة للثانية، وبظهار الرابعة كفارة للثالثة، والله أعلم. قال: وإن كرر لفظ الظهار في امرأة واحدة، واراد الاستئناف، ففيه قولان: أصحهما: أنه يلزمه بكل مرة كفارة، وهذا هو الجديد، وبه جزم القاضي الحسين في "التعليق"؛ لأنه كلام يتعلق به تحريم، فإذا كرره بقصد الاستئناف تكرر حكمه كالطلاق. والثاني: أنه يلزمه للجميع كفارة واحدة، وهذا هو القديم؛ لأن اللفظ الثاني لم يؤثر في التحريم، فلم يتعلق به حكم كالظهار من الأجنبية، وقاسه الرافعي على ما إذا كرر اليمين على الشيء الواحد مرات، ثم قال: وربما أخذ القولان من القولين فيما إذا تظاهر من أربع نسوة بكلمة واحدة. وفي "النهاية" إبداء احتمال في أن مأخذ الخلافِ الخلافُ المذكور فيما إذا كرر لفظ القذف على مقذوف واحد، وأبداه الجيلي جزماً. قال الإمام: وهو غير سديد؛ فإن القذف يوجب الحد، ومن قضايا الحد الاندراج إذا اتحد الجنس ولم يتخلل استيفاء الحد، وهذا المعنى لا يجري في الكفارات. وفي طريقة المراوزة حكاية طريقة جازمة بالتعدد. ولو أراد التأكيد، فالحاصل ظهار واحد، فإن أمسكها عقيب [اللفظ الآخر]، فعليه الكفارة وإن فارقها ففي لزوم الكفارة وجهان: أظهرهما: المنع؛ لأن الكلمات المتكررة للتأكيد حكمها حكم الكلمة الواحدة. وفي المسألة الأولى إذا قلنا بالتعدد: إن فارقها عقيب المرة الأخيرة، لم يجب عليه بها شيء، وهل تلزمه كفارة الظهار التي قبلها؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم. ووجه المنع: أن الظهارين من جنس واحد، فما لم يفرغ من هذا الجنس لا يجعل عائداً. قال الإمام: والوجه: الترتيب على صورة التكرار بإرادة التأكيد، فإن جعل بالتأكيد عائداً، ففي التجديد أولى، وإلا فوجهان، والفرق أن التأكيد كالجزء من الكلام، بخلاف التجديد؛ فإن من ضرورته قطع الكلام الأول واستئناف آخر.

قلت: وهو كذلك في "تعليق" القاضي الحسين؛ فإنه ذكر الخلاف في العود، وجزم بتعدد الظهار، وفي "الذخائر": أن الشاشي حكى عن "الحاوي" فيما إذا كرر لفظ الظهار خمس مرات مثلاً على قصد الاستئناف، أن من أصحابنا من قال: يكون الأول ظهاراً، والثاني عوداً وليس بظهار، والثالث ظهار، والرابع عود فيه، والخامس ظهار، وعلى هذا إذا كرره مرتين كان ظهاراً، ولو أطلق ولم يزد شيئاً؛ فهو كما لو نوى التأكيد عند ابن الصباغ والمحاملي والمتولي. وفي طريقة المراوزة حكاية قولين في أنه إذا أطلق: هل يحمل على التأكيد، أو على الاستئناف، كما في الطلاق؟ لكن الأظهر ها هنا المصير إلى الاتحاد. والفرق: أن الطلاق أقوى؛ فإنه يزيل الملك. وضعفه ابن الصباغ، وقال: الأولى أن يقال: الطلاق له عدد محصور، والزوج مالك له، فإذا كرره، كان الظاهر استيفاء المملوك، والظهار ليس بمتعدد في وضعه ولا هو مملوك للزوج حتى يحمل على التعدد. وهذا كله إذا تواصلت الكلمات، أما إذا تفاصلت، فإن كفر عن الأول قبل الإتيان بالثاني، لزمه أن يكفر عنه أيضاً. وإن لم يكفر، وأطلق، أو قال: أردت الاستئناف- كان في تعدد الكفارة الخلاف السابق، وإن أراد التأكيد فهل يقبل منه؟ اختلف فيه جواب القفال. قال الإمام: وهذا يدل على أن المغلب في الظهار معنى الطلاق أو اليمين؟ إن غلبنا الطلاق لم يقبل، وإن غلبنا مشابهة اليمين فالظاهر قبوله، كما ذكرنا في الإيلاء. قال الرافعي: والأغلب مشابهة الطلاق؛ فيكون الأظهر أنه لا يقبل، وكذلك قاله البغوي وغيره. فروع: [الأول] لو كان له امرأتان، فقال لإحداهما: إن تظاهرت منك فالأخرى علي كظهر أمي، ثم تظاهر من الأولى وأمسكها- لزمه كفارتان قولاً واحداً. الثاني: قال في "التهذيب": لو قال لها: إن دخلت الدار [فأنت علي كظهر أمي

- وكرر هذا اللفظ ثلاثاً- فإذا دخلت الدار] صار مظاهراً عنها، ثم إن قصد التأكيد لم تجب إلا كفارة واحدة، وإن قالها في مجالس، وإن قصد الاستئناف، تعددت الكفارة؛ ويجب الكل بعود واحد بعد الدخول، وإن طلقها عقيب الدخول لم يجب شيء، وإن أطلق فهل يحمل على التأكيد أو على الاستئناف؟ فيه قولان. الثالث: إذا قال: إن لم أتزوج عليك فأنت علي كظهر أمي، فإن تزوج فلا ظهار ولا عود، وإن لم يمكنه أن يتزوج [عليها] بأن مات هو أو ماتت هي عقيب "التعليق" فكذلك، وإنما يصير مظاهراً إذا فات التزويج عليها مع إمكانه، وحصل اليأس منه بأن تموت هي أو [يموت] هو، وحينئذ يحكم بكونه مظاهراً قبيل الموت. وفي لزوم الكفارة وحصول العود وجهان: قال ابن الحداد: تلزمه الكفارة، ويصير عائداً عقيب صيرورته مظاهراً. وقال الجمهور: لا كفارة عليه؛ إذ لا ضرورة بنا إلى تقدير تقديم الظهار وتقدير العود. ولو لم يتزوج عليها مع الإمكان حتى جن: فإن أفاق، ثم مات قبل التزوج- فالحكم ما بيناه. وإن اتصل الموت بالجنون تبين صيرورته مظاهراً قبيل الجنون. وحكى الشيخ أبو علي وجهاً: أنا لا نحكم بصيرورته مظاهراً إلا قبيل الموت. وهذا الوجه لا تظهر له فائدة على الصحيح. وتظهر فائدته- على رأي ابن الحداد- فيما إذا اختلف حاله في اليسار والإعسار، والله أعلم. قال: وإذا وجبت الكفارة، أي: في الظهار المطلق- حرم وطؤها إلى أن يكفر؛ لقوله- تعالى-: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]. ولا فرق في ذلك بين الوطأة الأولى وما بعدها؛ لما روي أنه

- عليه الصلاة والسلام-: قال لمن ظاهر من امرأته ثم وطئها: "لَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ". ويروي: "اعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ". أما إذا وجبت الكفارة في الظهار المقيد بمدة، فإنه يحرم وطؤها إلى أن يكفِّر وتنقضي المدة، فإذا انقضت حل له الوطء بارتفاع الظهار، وبقيت الكفارة في ذمته، كذا حكاه الرافعي. واعلم أن كلام الشيخ يقتضي أن الكفارة إنما تجب بالظهار والعودة؛ [لأنه قيد التحريم بما إذا وجبت الكفارة، والكفارة إنما تجب بالظهار والعودة]- كما تقدم- وهذا ما أبداه الإمام احتمالاً ورجحه وجزم به الغزالي، ونسبه مجلي إلى بعض أصحابنا، وهو إشارة إلى الإمام، ثم قال: ويظهر أثر هذا في لمس يوجد بلذة على قولنا بتحريم ذلك في لحظة عقيب الظهار، وبقولنا: إن التشاغل بأسباب الشراء ونحوه لا يكون عوداً، فيوجد الوطء واللمس في ذلك، ويدل على أنه لا يحرم بنفس الظهار أمران: أحدهما: لو كان كذلك لما ارتفع التحريم بملك اليمين عقيب الظهار أو بالطلاق؛ كما لا ترتفع الكفارة بعد العود. والثاني: لو ثبت التحريم بنفس الظهار، لأوجب الطلاق وحرم الإمساك. ثم قال: وليس الأمر كذلك؛ بل ثبوت التحريم بنفس الظهار؛ لأن تشبيهها بظهر أمه معنىً يقتضي تحريمها عليه، وقد صححه الشرع وأوجب حكمه؛ فوجب أن يكون مقتضياً بنفسه التحريم، والتعليل الأول لا يصح؛ لأن اللفظ اقتضى التحريم في الملك، فإذا زال الملك فلا بقاء للتحريم، والتعليل الثاني لا يلزم؛ لأن الكفارة استقرت فلا تسقط، وقبل ذلك لم تستقر فسقطت لزوال سببها، كما نقول في تلف المال في الزكاة قبل التمكن. قال: وهل تحرم المباشرة بشهوة فيما دون الفرج؟ فيه قولان- وفي "الشامل": أنه قيل: وجهان-: أصحهما: أنها لا تحرم؛ لأن الظهار معنى [لا يخل بالملك] فلم يحرم

ذلك كالصوم، ولأن الوطء حرام لا يتعلق به مال؛ فلا يشاركه في التحريم مقدماته كوطء الحائض. واحترزنا بقولنا: لا يتعلق به مال، عن وطء المحرِم، وكذا قاله الرافعي، وهذا هو الجديد، والذي عليه الأكثرون. ومقابله منسوب إلى القديم، وغلى ترجيحه مال المتولي والإمام والقاضي الحسين في "التعليق"، ووجهه قوله- تعالى-: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، وذلك يشمل الاستمتاعات والوطء، ولأن الظهار سبب يوجب تحريم الوطء؛ فتحرم سائر الاستمتاعات كالطلاق. وفي "الرافعي": أن ابن الصباغ مال إلى ترجيحه أيضاً، ولم أَرَ في "الشامل" ما يدل عليه غير أنه ذكر علة هذا الوجه، وعممها وقال: وما قالوه- يشير إلى من ذهب إلى القول الأول- ينتقض بالمسبيَّة وأمته إذا كانت أخته [من الرضاع]، وذلك منه لا يدل على ترجيحه، وحكى القاضي ابن كج طريقة قاطعة بعدم التحريم، ومن قال بها قال: المس في عرف الشرع ورد بمعنى الوطء في قوله- تعالى-: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237]، فيحمل عليه ها هنا. ثم الخلاف يجري فيما عدا الوطء في الفرج، أو فيما فوق السرة ودون الركبة؟ الذي يقتضيه كلام الشيخ وابن الصباغ الأول، وقد صرح به القاضي الحسين في "التعليق". وإيراد الغزالي يقتضي أنه خاص بالثاني؛ لأنه قال بعده: إن لم نحرم إلا الوطء ففي الاستمتاع بما دون السرة إلى الركبة خلاف مبني على أنا إن حرمنا ذلك في الحائض، عللنا: بانتشار الأذى، أو لخوف الوقوع في الوقاع. قال: والكفارة أن يعتق رقبة؛ لقوله- تعالى-: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، ولما روى أبو داود بسنده عن سلمة بن صخر البَيَاضيِّ أنه ظاهر من امرأته شهر رمضان، ثم نزا عليها، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال له: "حَرِّرْ رَقَبَةً" فقال: والذي بعتك بالحق ما أملك غيرها- وضرب صفحة رقبته-[فقال له: "صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ"، فقال: وهل أصبت إلا من الصيام؟!] فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"أَطْعِمْ وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِيناً"، فقال: والذي بعثك بالحق نبيّاً، لقد بتنا وَحِشَيْنِ ما لنا طعام؛ فأمره أن ينطلق إلى صاحب صقة بني زُرَيْقٍ؛ ليدفعها له، ويطعم منها ستين مسكيناً وسقاً من تمر، ويأكل هو وعائلته بقيتها. وخرجه الترمذي أيضاً. وقوله: وحشين، أي: جائعين، قاله الجوهري في الصحاح. قال: مؤمنة؛ لأنه تكفير بعتق فكان من شرطه الإيمان ككفارة القتل، وقد ورد الشرع باعتبار الإيمان فيها، ولأن كل رقبة لم تجزئ في القتل، لم تجزئ في كفارة الظهار كالمعيبة، وهذه المسألة مما حمل الشافعي- رضي الله عنه- فيها المطلقَ على المقيد، وشبه ذلك بقوله- تعالى-: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]؛ فإنه محمول على المقيد في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. والكلام في [أن] الإيمان بماذا يحصل؟ وفي أي وقت يحصل- مذكور في كتاب اللقيط؛ لأن له تَعَلُّقاً به. فرع: [الصبي] إذا أسلم، وقلنا: إن إسلامه يكون موقوفاً- فإذا أعتقه لا يحل له في الحال، لكن ينظر: إن بلغ ووصف الكفر، بانَ عدمُ إجزائه عن الكفارة، وإن استمر على الإسلام ففي إجزائه وجهان، والله أعلم. قال: سليمة من العيوب التي تضر- أي: بضم التاء- بالعمل، أي: ضرراً بييناً؛ لأن المقصد من العتق تكميل حاله؛ ليتفرغ للعبادات والوظائف المختصة بالأحرار، وإنما يحصل هذا الغرض إذا استقل وقام بكفايته، أما إذا لم يمكن ذلك، لم يتفرغ وصار كَلّاً على نفسه وغيره، وهذا بخلاف العيوب في البيع، فإن المعتبر فيها ما ينقص المالية؛ لأن القصد من الأعيان ثَمَّ الماليةُ. فإن قيل: الآية دلت على إعتاق رقبة مطلقة والمعيبة داخلة تحتها، فلم لا تجزئ كما ذهب إليه داود؟ قلنا: الرقبة إحدى ما يكفر بها؛ فلم يجزئ فيها ما يقع عليه الاسم كالإطعام، كذا قاله ابن الصباغ وغيره. قال: كالعَمَى والزَّمانة، أي: في جميع البدن، أو في البعض الذي يمنع فقدُهُ الإجزاءَ، وقطع اليد والرجل أو الإبهام أو السبابة أو الوسطى؛ لأن هذه الأشياء تضر

بالعمل إضراراً بيناً. قال: [فإن كان مقطوع] الخنصر والبنصر، أي: من يد واحدة، لم يجزئه، لأنه تذهب منفعة نصف الكف، وذلك ضرر بين. والخنصر والبنصر مكسور أولهما وصادهما. قال: وإن قطع إحداهما، أجزأه؛ لأنه لا يُحِل بالعمل ضرراً بيناً، وكذا لو قطعهما من اليدين، وفي "الجيلي" إشارة إلى ذكر خلاف في الإجزاء. قال: وإن [كان مقطوع] الأنملة من الإبهام، لم يجزئه، لأن منفعتها تعطلت فأشبه ما إذا قطعت، وفي الأنملة تسع لغات: فتح الهمزة وضمها وكسرها، مع تثليث الميم، أشهرها وأفصحها: فتح الهمزة مع ضم الميم. قال جمهور أهل اللغة: الأنامل: أطراف الأصابع. وقال الشافعي: في كل إصبع غير الإبهام ثلاث أنامل. وكذا قاله جماعة من كبار أئمة اللغة، والله أعلم. قال: وإن كان من غيرها أجزأه، [أي]: ولو من الأصابع الأربعة؛ لأن منفعة الأصابع باقية فأشبهت الأصابع القصار، ولا تجزئ مقطوعة أنملتين من الأصابع التي يضر عدمها. قال: وتجزئ العوراء والعرجاء عرجاً يسيراً، أي: بحيث لا يمنع متابعة المشي، والأصم والأخرس إذا فهمت إشارته؛ لأن ذلك لا يضر بالعمل ضرراً بيناً، أما إذا لم يفهم بالإشارة فلا يجزئ واحد منهما، حكاه الماوردي، وفي الأصم حكاية قول: أنه لا يجزئ وإن كان يفهم بالإشارة. ومنهم من لم يثبته، وحمله على ما إذا كان لا يسمع مع المبالغة في رفع الصوت. قال الرافعي: وهذا يشعر بالجزم بالمنع في هذه الحالة. وروى عن القديم: أن الأخرس لا يجزئ، فمن الأصحاب من أثبته قولاً، ومنهم من حمله على ما إذا كان لا يفهم بالإشارة، ومنهم من حمله على ما إذا انضم إليه الصمم، وجزم ابن الوكيل بالمنع عند اجتماع الخرس والصمم- كما سنذكره-

وإجراء القولين فيما إذا انفرد. وحكم تعويج الرِّجْل حكم العرج. قال: فإن جمع [بين الصمم] والخرس، لم يجزه؛ لأن الاجتماع يؤثر زيادة في الضرار. قال: ولا يجزئ الجنون المطبِق؛ لعدم حصول المقصود منه، ويجزئ من يجن ويفيق. وهكذا لفظ ابن الصباغ وظاهر نص الشافعي- على ما حكاه الإمام- من غير تفريق بين أن يكون زمن الإفاقة أقل أو أكثر أو مساوياً؛ لأنه يمكنه الاكتساب في حال إفاقته. وفي "الحاوي" أن زمن جنونه إن كان أكثر من زمن إفاقته أو [كانا سواء]، لم يجزه، وإن كان زمن إفاقته أكثر ففي إجزائه وجهان؛ لأن قليل الجنون يصير كثيراً. وفي طريق المراوزة: إن كان زمن الجنون أكثر لا يجزئ، وإن كان أقل أجزأ، وإن كان مساوياً فوجهان، والأظهر الجواز. فرع: إعتاق الأحمق يجزئ، وهو الذي يضع الشيء في غير محله مع العلم بقبحه، والمجنون يضعه مع الجهل. قال: ولا يجزئ المريض المأيوس منه، أي: كمن به مرض السل، ولا النحيف الذي لا عمل فيه، وفي معناهما الشيخ الكبير الذي عجز عن العمل؛ لأن ذلك يخل بالمقصود. وفي التجربة للقاضي الروياني: أن الأصحاب جوزوا إعتاق الشيخ الكبير، وأن القفال منعه إذا كان عاجزاً [عن العمل]، وهو الأصح، وهذا يدل على إجراء خلاف فيه عند العجز. فرعان: أحدهما: لو أعتق المريض الذي لا يرجي برؤه، ثم بريء: فهل يتبين وقوعه الموقع؟ فيه وجهان أبداهما الإمام تردداً، ورجَّح الوقوع. الثاني: لو أعتق غير المأيوس منه، ثم مات قبل البرء- لا يجب عليه إعتاق غيره،

على أصح الوجهين. تنبيه: إطلاق الشيخ رضي الله عنه ذكر "الرقبة" من غير أن يقيد عمرها بسن يعرفك أنه لا فرق فيها بين الصغيرة والكبيرة، وذكره لوصف السلامة يعرفك أن إعتاق الجنين لا يجزئ؛ لأن وجوده حالة [العتق] لم يتحقق فضلاً عن سلامته. نعم، لو انفصل وتحققت حياته حالة العتق كان في وقوعه [الموقع] تردد حكاه الإمام عن العراقيين، ووجه المنع- وهو ما دل عليه فحوى كلام المراوزة، على ما حكاه الإمام: أنه لم ينو كفارة صحيحة، وإنما هو كالمتلاعب. واقتصاره على ذكر العيوب المشروحة [أعلاه] يعرفك أن ما عداها من قطع الأذنين والأنف والذكر والجذام والبرص وقطع أصابع الرجلين وغير ذلك، لا يمنع الإجزاء كما صرح بذلك غيره. وحكى عن ابن أبي هريرة: أنه أجرى الحكم في أصابع الرجلين على التفصيل المذكور في أصابع اليدين. قال: ولا تجزئ أم الولد؛ لأنها استحقت العتق بسبب الاستيلاد، فلا تجزئ عن غيره؛ كما لو باع من فقير طعاماً، ثم سلمه إليه عن الكفارة، وفي طريقة الخراسانيين حكاية قول: أنها تجزئ؛ بناءً على جواز بيعها. قال: ولا المكاتب- أي: كتابة صحيحة- خلافاً لأبي ثور؛ لأن الكتابة سبب للحرية تمنع البيع؛ فمنعت الإجزاء في الكفارة، كأم الولد. ومقتضى هذا التعليل: أنا إذا قلنا بجواز بيعه يجزئ إعتاقه، لكن إذا قلنا بإبطال الكتابة، وقد حكاه الجيلي مطلقاً، وعلل الغزالي المنع بعلتين: إحداهما: أنه ناقص الرق، كأم الولد. والثانية: أن العتق يقع عن جهة الكتابة، بدليل استتباع الأكساب والأولاد. وزاد الإمام علة ثالثة: وهي أن إعتاقه ناقص؛ [فإنه] ليس إعتاقاً محضاً، وإنما هو إبراء؛ إذ لو كان إعتاقاً لبقيت الذمة مشغولة بالعوض المسمى.

وعلى ذلك ينبني إجزاء عتق المكاتب كتابة فاسدة إذا قلنا: إنها تستتبع الأكساب، فتجري على العلة الأولى والثالثة دون الثانية، والظاهر الإجزاء. فرعان: الأول: لو قال للمكاتب: إذا عجزتَ فأنت حر عن ظهاري، [أو قال للكافر: إذا أسلمتَ، فأنت حر عن ظهاري،] أو قال: إن خرج الجنين سليماً فهو حر عن ظهاري- فوجد الشرط، عَتَقَ، ولا يجزئ عن الكفارة؛ لأنه حين علَّق العتق لم يكن بحيث يجزئ عن الكفارة. قال الرافعي: ويحتمل أن يقال: إذا لم يعتق عن الكفارة لم يعتق، على ما مر نظيره في الإيلاء. الثاني: لو علق العتق عن الكفارة بدخول الدار، ثم كاتب العبد، ثم دخل الدار- ففي إجزائه عن الكفارة وجهان. قال: ويجزئ المدبر والمعتق بصفة؛ لأن ملكه عليهما تام، بدليل نفوذ جميع تصرفاته. ثم هذا فيما إذا نجَّز العتق عن الكفارة أو علَّقه بصفة توجد قبل وجود الصفة الأولى. أما لو علقه بوجود الصفة الأولى لم يجزئه، والمرهون إن نفَّذنا عتقه، أجزأ عن الكفارة، وكذلك إذا لم نُنَفِّذْه في الحال ونفَّذناه بعد الانفكاك باللفظ السابق، قال الرافعي: ويكون كما لو علق عتقه عن الكفارة بشرط. قلت: لو كان الأمر كذلك لزم ألا يجزئ- كما تقدم- فيما إذا علق عتق المكاتب على عجزه؛ بجامع ما اشتركا فيه من عدم القدرة على التصرف حالة اللفظ، وإعتاق العبد الجاني ينبني على الخلاف في نفوذ عتقه، ومن الأصحاب من لم يجوِّز إعتاق المرهون والجاني عن الكفارة، [وإن قلنا بنفوذ العتق لنقصان التصرفات]. قال: ولا يجزئ المغصوب، أي: الذي لا يقدر على الخلاص؛ لأنه ممنوع عن التصرفات فأشبه الزَّمِن، وقال القفال: يجزئه. وهو ما جزم به في "الوجيز"، وحكى

الإمام الأول عن رواية بعض المصنفين عن أبي حامد ثم قال: وهذا رديء غير معتد به من المذهب، ولم أطلع عليه في طريقة العراقيين. وفي "الجيلي": أنه يكون عتقه موقوفاً- على رأي- على تخليصه، أما إذا كان العبد يقدر على الخلاص فإنه يجزئ. قال: وفي الغائب الذي انقطع خبره- أي: لا لخوف [في] الطريق- قولان، أي: بالنقل والتخريج؛ لأنه نص ها هنا على عدم الإجزاء، ونص ثَمَّ على أنه يخرج عنه زكاة الفطر، فمن الأصحاب من نقل جوابه من كل مسألة إلى الأخرى وجعلهما على قولين، مأخذهما تقابل الأصلين، ومنهم من أجرى النصين على ظاهرهما؛ عملاً بالاحتياط في المسألتين، وهو الأظهر. وعلى هذا لو تواصل خبره بعد ذلك تبين الإجزاء؛ كما لو أعتق المتواصلَ الخبرِ ابتداءً. فإن قيل: هل يجزئ ها هنا مثل الوجه المحكي فيما إذا أعتق المريض الذي لا يرجى برؤه فبرأ؟ قيل: قد يظهر أنه لا يجزئ. والفرق: أن الإعتاق ها هنا اعتضد بأصل وهو بقاء الحياة؛ فلذلك لم يكن متلاعباً، وثَمَّ الأصل بقاء المرض؛ فهو متلاعب بالإعتاق؛ فلذلك لم يجزئه. أما الذي انقطع خبره لخوف [في] الطريق ففي "الجيلي" حكاية عن "الحاوي": أنه يجزئ قولاً واحداً. قال: وإن اشترى من يعتق عليه بالقرابة ونوى الكفارة لم يجزئه؛ لأن عتقه مستحَق بجهة القرابة فلا تجزئ عن غيرها؛ كما لو استحق عليه الطعام بالنفقة فدفعه إليه عن الكفارة. وعن الأودني: أنه يجزئ إذا كان قد اشتراه بشرط الخيار. والمذهب الأول. وحكم تملك الهبة [وقبول] الوصية إذا قلنا يملك بها، حكم الشراء، وكذا لو ورثه ونوى او اشترى المكاتب من يعتق على سيده، ثم عجَّزه السيد ونوى عتق قريبه عن الكفارة.

قال: وإن اشترى عبداً بشرط العتق، أي: عن غير الكفارة أو عنها، فأعتقه عن الكفارة- لم يجزئه؛ لأنا إن قلنا: يجب عليه عتقه، كان عتقه مستحقّاً [عن غير الكفارة] فلم يجزئه عنها كالقريب، وإن قلنا بعدم الوجوب؛ فلأنه لم يقع خالصاً عن الكفارة، بل لها وللشرط؛ بدليل أنه يسقط حق البائع من الفسخ، وحكى في "الحاوي" وجهاً: أنه يجزئ إذا قلنا: إن البيع جائز والشرط باطل، وقال الخراسانيون: إن قلنا: إن العتق حق للبائع وطالبه به فأعتقه عن الكفارة، لم يجزئه، وإن أسقط الآدمي حقه من الطلب، [وقلنا: يسقط،] فهل يجزئ؟ فيه وجهان، [أصحهما في "النهاية" في باب الشروط الفاسدة في البيع: أنه يجزئ]. وفي "الزوائد" حكاية وجه: أنه إن اشتراه بشرط العتق عن الكفارة وصححنا الشراء، أجزأه. فرع: لو قال: إن وطئتك، فلله علي أن أعتق عبدي هذا عن ظهاري- وكان مظاهراً- ثم وطئها، وأعتقه عن ظهاره: [فهل يجزئ؟] فيه وجهان، المذهب منهما: الإجزاء. قال: وإن أعتق عبداً عن الكفارة بعوضن لم يجزئه. صورة المسألة: ما إذا قال له غيره: أعتق عبدك هذا عن كفارتك على عشرة دراهم في ذمتي مثلاً، فأعتقه على ذلك- فالمذهب المنصوص: أنه لا يجزئ عن الكفارة كما قاله الشيخ، ويقع العتق عن المستدعي كما حكاه ابن الصباغ والبندنيجي في كتاب الأيمان، ويستحق المعتق العشرة؛ لأن النية قد فسدت بسبب العوض، وفساد النية يمنع الإجزاء، ومن أصحابنا من قال: إذا قال: أعتقت عبدي عن كفارتي على أن لي [عليك] العشرة، أجزأه ولم يجب العوض، وإن قال: أعتقته على العشرة عن كفارتي، لم يجزئه وأبداه ابن الصباغ احتمالاً على المذهب في وقوع العتق عن المستدعي من حيث إنه لم يرض بإعتاقه عنه، وينبغي أن تكون التسمية فاسدة؛ لبطلان الشرط، وحكى ابن يونس ذلك وجهاً.

ولا فرق في ذلك بين أن يقول المعتق بعد الاستدعاء: أعتقته عن كفارتي على العشرة، أو [يقول]: أعتقته عن كفارتي؛ لأن الإيجاب مبني على الاستدعاء. نعم، لو قال: لم أرد إجابته، قُبِل. وذكر البندنيجي فرعاً لهذه المسألة فقال: لو قال: أعتق عبدك عن كفارتك، ولم يذكر له جعلاً، فأعتق السيد عبده عن كفارته- لم يجزئه عن كفارته؛ لأن الظاهر أن العتق وقع على جعل؛ لأن الإعتاق وقع جواباً لكلامه، وما قاله فيه نظر. هذا قاله العراقيون فيما وقفت عليه في [هذه] المسألة، وقدم بعض المراوزة على الكلام في هذه المسألة مقدمة فقال: إذا قال لغيره: أعتق عبدك عن نفسك على عشرة دراهم في ذمتي فأعتقه على ذلك- نفذ العتق، وفي استحقاق العشرة وجهان: [فإن قلنا: إنه يستحقها، فهل يقع العتق عنه أو عن المستدعي؟ فيه وجهان]، أصحهما: أنه يقع عن المعتق؛ لأنه لم يعتقه عن باذل العوض ولا هو استدعاه، وهذا ما أورده المتولي والبغوي. رجعنا إلى مسألتنا، فإن قلنا: إن العتق يقع عن المستدعي، كان عدم الإجزاء لوقوع العتق عن غيره، وإن قلنا: بأنه يقع عن المعتق ويستحق العوض فعدم الإجزاء لكون العتق لم يقع خالصاً عن الكفارة، وإن قلنا بأنه لا يستحق العوض فلفساد نيته. ويمكن أن يكون من صور المسألة ما إذا قال لعبده: أعتقتك عن كفارتي على عشرة دراهم في ذمتك؛ فإنه لا يصح عن الكفارة، على ما حكاه الغزالي وغيره. وحكى أبو الحسين وجهاً: أنه يجزئه؛ لأن العتق حاصل والعوض ساقط فأشبه ما إذا [قيل له]: صلِّ الظهر لنفسك ولك كذا، فصلى تجزئه صلاته. قال الرافعي: ويمكن أن يخرج من وجوب العوض على غير العبد في الصورة السابقة وجه في وجوبه على العبد. [قلت: وينبغي] أن يجيء في الإجزاء عن الكفارة في الصورة السابقة- إذا قلنا:

لا يستحق العوض- الوجه المنسوب لأبي الحسين في هذه الصورة، ولم يذكره. فرعان: العبد الموصي بمنفعته إذا أعتقه الوارث عن الكفارة، لا يجزئه في أصح الوجهين، والعبد المستأجر يجزئ [عتقه] عن الكفارة إن قلنا: إنه يرجع بأجرة منافعه، وإن قلنا: لا يرجع، فلا يجزئ. قال: وإن أعتق شِرْكاً له في عبد، وهو موسر، ونوى، أي: عند التلفظ بالعتق، عِتْقَ جميعه- أجزأه، وقوم عليه نصيب شريكه: أما تقويم نصيب الشريك فمحل الكلام فيه كتاب العتق، وأما الإجزاء؛ فلأنه أعتق بالمباشرة والسراية، والسراية كالمباشرة بدليل القصاص. وفي "تعليق" القاضي الحسين وجهان آخران: أحدهما- عن القفال-: أن ذلك لا يجزئ إذا وجَّه العتق على نصيبه خاصة، [ووجهه- على ما حكاه الإمام- بأنه معتد بالإعتاق، وهذا لا يسمى معتقاً] للرقبة؛ إذ العتق في البعض يقع شرعاً من غير إيقاعه، ويحسن منه أن يقول: ما أعتقت العبد بكماله، وإنما أعتقت نصفه وعتق الباقي عليّ. ونقلاً عنه بناء الوجهين على ما إذا نوى استباحة صلاة بعينها وفيه أوجه: أحدها: أن الطهارة لا تصح. والثاني: أنها انعقدت لتلك الصلاة بعينها دون غيرها. قال الإمام: وهذا على نهاية الضعف، وما كنت أظن أن القفال يذكر هذا الوجه؛ فإنه فاحش بالغ في الفساد. والوجه الثالث: أن الطهارة تصح وتصلح لجميع الصلوات، ووجه التخريج: أنه في مسألتنا خص نصيبه بتوجيه العتق عليه وإن حصل العتق في الباقي، وفي الطهارة: خصص النية تخصيصاً لا يقف الشرع عنده، والأصح في المسألتين: أن التخصيص لا أثر له، والطهارة تصلح للصلوات، والعتق بجملته يقع عن الكفارة؛ لأنه وإن وجه العتق على نصيبه فيسري ذلك إلى نصيب شريكه كما لو أطلق فلم يكن

للتخصيص معنى يتغير به الحكم. هذا آخر كلامهما، وفيما نقل عن القفال من البناء نظر من حيث إن الخلاف في مسألة الوضوء مفروض- على ما حكاه الإمام والرافعي في موضعه- فيما إذا نوى صلاة بعينها ونفى غيرها، فإن كانت الصورة ها هنا كذلك بأن قال: أعتقت نصيبي منك دون نصيب شريكي، لم يتجه إلا الجزم بعدم إجزاء نصيب الشريك، وإن كانت صورة المسألة ما إذا أعتق نصيبه وسكت عن نصيب شريكه، فوزانه في مسألة الوضوء: أن ينوي استباحة صلاة الظهر من غير تعرض لنفي ما عداها، وو في هذه الحالة يرتفع حدثه بالنسبة إلى جميع الصلوات؛ فإن ذلك لا يتقاعد عن نية استباحة مس المصحف، وإذا كان كذلك اتجه الإجزاء قولاً واحداً على مقتضى ما ذكره مع عدم نية العتق في نصيب الشريك، فضلاً عنه مع وجودها. نعم، قد تظهر صحة البناء إن كان الخلاف يجري في الوضوء فيما إذا نوى استباحة صلاة الظهر من غير تعرض لنفي غيرها ولا لإثباته، وهو الظاهر من الكلام ها هنا، ويكون الفساد جاء من ضعف المبني عليه، وفي "الوسيط": أنه إذا وجه العتق على جملة العبد، وقال: أعتقتك عن الكفارة- نفذ وأجزأه. وقال القفال: لا يجزئ. وهذا يدل على أنه يخالف فيه، وإن وجه العتق على جميعه، والمفهوم من كلام القاضي والإمام خلافه، على ما حكاه في أول الفصل وآخره. الوجه الثاني: أنه لابد وأن ينوي عند أداء المال إلى الشريك عتق نصيب الشريك إذا قلنا: إن السراية تحصل إذ ذاك، ما إذا نوى عند التلفظ عتق نصيب نفسه، ففي "الشامل": أن نصيب الشريك لا يجزئ على الأصح إن قلنا: إن العتق يسري باللفظ، أو قلنا: إنه مراعي؛ لأن العتق يسري دون وقوعه عن الكفارة. وإن في التعليق وجهاً: أنه يجزئ؛ لأنه يسري إليه العتق الواقع عن الكفارة. وإن قلنا: إنه يسري بأداء القيمة- ولم ينو- لم يجزئه، وسأذكر وجهاً عن الفوراني فيما إذا أعتق نصيبه وهو معسر، ثم اشترى باقيه وأعتقه ولم ينو الكفارة: أنه يجزئه ويتجه جريانه ها هنا أيضاً، وإن نوى فوجهان: أحدهما- وهو اختيار الشيخ أبي حامد

والقاضي أبي الطيب-: أنه لا يجزئ؛ لأن سبب استحقاق العتق إنما هو عتق النصف الأول، فإذا لم تقارن النية سبب الاستحقاق لم يجزئه. والثاني: أنه يجزئه، وهو الذي حكاه الغزالي في "الوجيز" ورجحه الرافعي، وقائله في الحقيقة يجعله مخيراً على هذا القول بين أن ينوي عند التلفظ أو عند الأداء. فإن قيل: كيف قلتم بإجزاء حصة الشريك وهي مستحقة للعتق عن غير الكفارة، وعندكم إذا استحق العتق بغير الكفارة لا يجزئ عنها كأم الولد؟ فالجواب أن سبب استحقاق العتق في الباقي إعتاق نصيبه وقد اقترن به نية الكفارة، والعتق في الباقي تَبَعٌ للعتق في نصيبه، وكما يتبعه في أصل العتق، جاز أن يتبعه في الوقوع عن الكفارة، وهناك لم تقترن النية بسبب العتق، وليس نفوذ العتق في المستولدة على سبيل التبعيَّة. ولو كان المعتق معسراً نفذ العتق في نصيبه، وإذا ملك باقيه وأعتقه عن الكفارة- أجزأه، ولو لم ينو الكفارة عند إعتاق الباقي لم يجزئه، وفيه وجه حكاه الفوراني إلحاقاً بما إذا فرق الوضوء وجوزناه؛ فإنه لا يجب تجديد النية، والله أعلم. قال: وإن أعتق نصف عبدين، أي: وهو معسر- فقد قيل: يجزئه، وهو الذي ذهب إليه أكثر الأصحاب على ما دل عليه كلام ابن الصباغ؛ لأن الأشقاص تنزل منزلة الأشخاص في الزكاة كما إذا ملك نصف ثمانين شاة ونصفها الآخر لذمي- فإنه يلزمه ما يلزمه لو ملك أربعين شاة، وكذا لو ملك نصف عبدين، لزمه صاع في الفِطرة كما لو ملك عبداً. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن الشافعي رضي الله عنه نص على إجزاء أنصاف الرقاب عن الكفارة فقال: ولو أعتق رقبتين عن كفارتي ظهار، أو ظهار وقتل، أجزأه، ويقع نصفه عن كفارة هذا، ونصف عن [كفارة] ذاك، وإنما كان كذلك؛ لأن الجملة إذا قوبلت بالجملة، تتوزع آحادها على آحادها. فإن قيل: ما ذكرتم موجود في الأضحية وقد جزمتم بعدم الإجزاء. قلنا: فرق الأصحاب بينهما بأن التشقيص عيب، ومطلق العيب يمنع الإجزاء في

الأضحية، ولا كذلك ها هنا، وهذا الفرق قد يمنع؛ فإن الأضحية- أيضاً- لا يمنع من الإجزاء فيها إلا ما ينقص اللحم، والتشقيص لا ينقص اللحم. قال: وقيل: لا يجزئه، وبه قال ابن سريج وابن خيران؛ لأنه مأمور بإعتاق رقبة، ونصفا رقبة ليس برقبة في برٍّ ولا حِنْث؛ فكذلك ها هنا. ولأن ما أمر بصرفه إلى شخص واحد في الكفارات لا يجوز صرفه إلى اثنين كالمد في الطعام، والقائل به قال: مراد الشافعي بما ذكر من التوزيع أن إعتاقه وقع كذلك، [لا أن] العتق وقع كذلك، والجملة إذا قوبلت بالجملة [تتقابل الجملة بالجملة، ولا] تتقابل الآحاد بالآحاد؛ كما لو وجب [عليه] في زكاة الفطر صاع حنطة عن عبد وصاع شعير عن آخر، فأخرج صاع حنطة وصاع شعير إلى المستحقين

دفعة واحدة عنهما- فإنه يجزئ، وتقع الحنطة عن أحدهما والشعير عن الآخر. وأجاب عن القياس على الزكاة بأن الحكم فيها- إذا كانت الصورة موافقة للصورة التي نحن فيها- موافق لما ذكرناه؛ فإنه لا يجزئ إخراج نصف شاتين عن شاة واحدة. قال: وقيل: إن كان الباقي حرّاً أجزأه وإن كان عبداً، لم يجزئه، وهذا هو الأظهر في "الرافعي" و"النووي"، لأن المقصود إفادة الاستقلال بالتصرف، وإذا كان الباقي حرّاً حصل، ولاقائل به جرى على موجب النص؛ فإن المسألة التي وجد فيها النص وجد فيها التكميل في الحرية. وفي "الشامل": أن القائل بالوجه الأول أجاب عن ذلك بأن التكميل لم يحصل بما أعتقه عن الكفارة، وإنما حصل بانضمام عتق النصف الآخر إليه؛ فلم يجزئه. وقد ظهر لك بما ذكرناه: أن المسألة التي وجد فيها النص لم يختلف أحد من أصحابنا في حصول الإجزاء فيها، وقد صرح بذلك ابن الصباغ. وفي "الرافعي": أن الإمام ذكر أن منهم من أثبت خلافاً فيها. والذي رأيته في "النهاية" في هذا الموضع: إجراء الخلاف فيما إذا أعتق نصف عبدين خالصين له عن كفارة واحدة، وجعله بمنزلة ما إذا أعتق نصفين من عبدين باقيهما حر دون ما عداه.

قال: وإن كان عادماً للرقبة وثمنها، أو واجداً وهو محتاج إليها للخدمة أو إلى ثمنها للنفقة- كفَّر بالصوم: أما إذا كان عادماً؛ فلقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، وما ذكرناه من الحديث. وأما إذا كان محتاجاً؛ فلأن الحاجة تستغرق ما معه فصار كالعادم في جواز الانتقال إلى البدل كمن وجد الماء وهو محتاج إليه. واستشكل الإمام ذلك وقال: ظاهر الآية يشعر بالإمكان، ومقتضاه العتق حتى إذا كان للوجدان وجه؛ فلا سبيل إلى الحيد عن الرقبة والتعليق بالصيام، والممكن في دفع ذلك- والله أعلم- الالتفات إلى محل الإجماع؛ فإن الذين كفَّروا بالصيام كانوا أصحاب مساكن يأوون إليها [وهم] يصومون عن الكفارة، ومن ادعى أن أحداً لم يصم عن الكفارة إلا وهو خَلِيٌّ عن مال المسكن، فقد ادعى بعيداً. واعلم أن المراد بالحاجة إلى الخدمة: أن يكون ذلك بسبب مرض أو كِبَرٍ أو زمانة أو ضخامة لا يقدر معها على خدمة نفسه، أو كان ممن لا يخدم نفسه في العادة مع الصحة، أما لو كان ممن يخدم نفسه كالتجار وأوساط الناس، ففي "الشامل" وغيره وجهان، أصحهما في "الرافعي": أن يلزمه الإعتاق، والمراد بالنفقة: ما يصرفه في قوته أو قوت عائلته أو كسوتهم وما لابد منه من الأثاث، وكذا شراء عبد يحتاج إليه للخدمة، وهل تتقدر النفقة والكسوة بمدة؟ قال الرافعي: لم يقدر الأصحاب ذلك، ويجوز أن تعتبر بكفاية العمر، ويجوز أن

[تعتبر بسنة]؛ لأن المؤنات تتكرر فيها، ويؤيده أن صاحب "التهذيب" قال: يترك له ثوب الشتاء وثوب الصيف. قلت: قد تعرض الأصحاب لذلك في كفارة اليمين وقالوا- على ما حكاه المحاملي وغيره-: إن الرجل إذا لم يكن له كفاية على الدوام ومن تلزمه نفقته، فإنه تحل له الصدقة والكفارة بسهم الفقر، ولا يلزمه التكفير بالمال، بل فرضه الصيام. وفي "الحاوي" كلام سأذكره ثمَّ [مخالف] لذلك. وحكم المسكن حكم العبد في حق من لا يخدم نفسه؛ فلا يجب صرفه في ثمن رقبة، إلا أن يكون واسعاً فيجب بيع الفاضل عن حاجته [وصرف في ثمن رقبةٍ، ولفظ المحاملي في "المجموع": أنه يلزمه أن يبيع ذلك]، ويشتري منه قدر حاجته، ويصرف الفضل في الكفارة. ولو كان المسكن ضيقاً نفيساً، يمكن بيعه وشراء مسكن يليق بحاله ورقبة من ثمنه، وجب ذلك إن لم يكن قد ألفه، وإن كان قد ألفه فوجهان: الأظهر منهما في "الذخائر"، وهو ما ذكره ابن الصباغ: أن الحكم كذلك. والثاني- وهو الأظهر في "الرافعي" وغيره-: أنه لا يجب بيعه. وهكذا الحمك فيما لو كان العبد الذي يخدمه نفيساً أو عليه ثوب نفيس. فروع: لو كان له ضيعة أو رأس مال يتجر فيه، وكان يحصل منهما كفاية بلا مزيد، ولو باعهما لتحصيل عبد ارتَّد إلى حد المساكين- لم يكلف ذلك، ولفظ الغزالي يشعر بإثبات خلاف فيه. قال الرافعي: وهو صحيح؛ فإنا قد ذكرنا في كتاب الحج وجهين في أنه هل يلزمه بيعهما وصرفهما إلى الحج. وفي "تعليق" إبراهيم المرْوَرُّوذِي ترتيب ما نحن فيه على الحج: إن قلنا: لا يباع في الحج، فها هنا أولى، وإن قلنا: يباع هناك فها هنا، وجهان، وكذلك هو محكي في

"تعليق" القاضي [الحسين] أيضاً. والفرق: أن الكفارة لها بدل، ولأجل هذا الفرق كان المسكن والخادم يبيعها في الحج على المشهور، ولا يباعان ها هنا. وفي "المجرد" للقاضي أبي الطيب ذكر وجهين فيما إذا ملك بضاعة لا يكفيه ما يحصل منها وتحل له الزكاة: هل يلزمه الإعتاق؟ أو يجوز له العدول إلى الصيام؟ قال الرافعي: وإذا [كان الخلاف جارياً] في المسكين ففي الذي يخاف المسكنة أولى. قلت: قد يظهر عدم الأولوية؛ فإن المسكين قد ألف أخذ الصدقة فلا يلحقه بعد العتق كبير مشقة، ومن لم يألف أخذ الصدقات كانت المشقة عليه بأخذها أعظم. قال: وإن كان واجداً لما يصرفه في العتق في بلده عادماً له في موضعه، فقد قيل: يكفر بالصوم. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لتوقف حل الوطء في الحال عليه، وفي التأخير إضرار به؛ فصار كالمحَصر إذا وجد ثمن الهدي ولم يجد الهدي فإنه ينتقل إلى البدل ويتحلل. قال: وقيل: لا يكفر، أي: بل يصبر [إلى أن] يجد المال كما في كفارة القتل واليمين والجماع، وهذا ما اختاره المراوزة، [وسياق] كلام المتولي يشعر بترجيحه، وادعى الجيلي والنووي أنه الأصح، والفرق- على الأول-: ما ذكرناه من لحوق الضرر، بخلاف غيرها من الكفارات؛ فإنه لا ضرر فيها لأنها على التراخي، وبتقدير أن يموت لا تفوت، بل تقضي من تركته، ويخالف ما إذا لم يكن عنده ثمن

الماء حيث يتيمم للقضاء غير الواجب على الفور؛ لأنه لا يمكن تداركه بعد الموت، كذا قاله الرافعي. وظاهر إطلاقه القول بأن الكفارات على التراخي، وأنه لا فرق بين أن يكون وجوبها بسبب هو [عاصٍ فيه أو لا. وفي "الوسيط" في كتاب الحج أن الكفارة إذا وجبت بسبب هو] عاص فيه، فهل تكون واجبة على الفور؟ فيه خلاف كقضاء الحج الفاسد بالجماع، وإذا قلنا بالوجوب فقد يظهر أنه يجب عليه التكفير بالصوم حتماً كما في كفارة الظهار وغيرها؛ للخروج عن الواجب، أو يقال: عدم المال يقتضي تأخير الوجوب. واعلم أن الحكم فيما إذا وجد المال ولم يجد الرقبة، كالحكم فيما إذا وجد الرقبة والمال غائب. فروع: لو وجد الرقبة ثمن غالٍ وهو قادر عليه، لم يلزمه الشراء؛ كما لو بيع الماء بثمن غال، كذا حكاه الرافعي ها هنا، وفي "التهذيب"- أيضاً- ثم قال: ورأي الشيخ أنه يجب أن يشتريها. وهو موافق لما حكيته عن القفال والطبري عند الكلام في نكاح الأمة، ويخالف المتيمم؛ فإنه لا يجب عليه أن يشتري الماء بالثمن الغالي؛ لأن الحاجة إليه تتكرر فيتكرر الضرر، بخلاف غيره، ولو وهبت له الرقبة أو ثمنها لم يجب عليه القبول، ولو بيعت له بثمن مؤجل وهو يقدر عليه في بلده، قال الطبري: يجب عليه شراؤها، وأحال الرافعي الحكم فيه على نظيره في التيمم، والذي حكاه فيه: أن الأظهر من الوجهين الوجوب، وفي التيمم فروع أخر تناسب ما نحن فيه؛ فلتطلب منه. قال: وإن اختلف حاله ما بين أن يجب إلى حال الأداء، وكان موسراً [في إحدى الحالتين] ومعسراً في الأخرى- اعتبر حاله عند الوجوب في أصح الأقوال؛ لأنه حق مستوفى على جهة التطهُّر فاعتبر فيه حال الوجوب كالحد، وهذا نصه في الأيمان.

قال: ويعتبر حاله عند الأداء في الثاني؛ لأنها عبادة لها بدل من غير جنسها فاعتبر فيها حالة الأداء كالوضوء والتيمم والقيام والقعود في الصلاة، وهذا نصه ها هنا، واختاره المزني، وهو الأصح في "التهذيب" والرافعي وغيرهما، وقال القاضي: هذان القولان مأخوذان من أن المغلَّب في الكفارة شوائبُ العقوبات أو شوائب العبادات؟ إن قلنا بالأول اعتبرنا حال الوجوب، وإن قلنا بالثاني فحال الأداء. قال الإمام: وهذا فيه نظر مع إيجابنا الكفارة على من لا نُؤَثِّمه، وقطعنا بانقطاع العقوبة عمن هو في مثل حاله. قال: ويعتبر أغلظ الحالين [عليه] في الثالث؛ لأنه حق في الذمة بوجود المال، فيراعى أغلظ الأحوال كالحج؛ فإنه يجب متى تحقق اليسار. والقائلون بالقول الثاني فرقوا بين ما نحن فيه وبين الحد؛ فإنه لا تجوز الزيادة عليه، وفي مسألتنا لو أخرج العتق مع وجوب الصيام أجزأه، فجاز أن يزيد بتغيُّر الحال. وأجابوا عن الحج بأنه يعتبر فيه حالة الأداء؛ ولهذا لو وجب عليه وهو صحيح، ثم زمن جازت له الاستنابة فيه. واعلم أن ذكر الشيخ القول الثالث فيما إذا كان موسراً في إحدى الحالين معسراً في الأخرى، مع تصديره الكلام بما إذا اختلف حاله فيما بين أن يجب إلى حال الأداء- مشعر بأنه إذا تخلل اليسار بين الحالين لا عبرة به، وهو يوافق ما صرح به الإمام [وأشار إلى اتفاق الاصحاب عليه، والذي دلَّ عليه كلامه] في "المهذب"، وهو الذي ذهب إليه الأكثرون- منهم القاضي أبو الطيب والمحاملي والبندنيجي وصاحب "التهذيب"-: أنه يعتبر أغلظ حالَيْهِ من وقت الوجوب إلى الأداء، حتى لو كان معسراً من وقت الوجوب إلى الأداء وأيسر في وقتٍ ما، كان

واجبه الإعتاق؛ أخذاً بالاحتياط. التفريع: إن قلنا: الاعتبار بحال الوجوب، وكان موسراً فيه- ففرضه الإعتاق، وإن أعسر من بعد فلا يجزئه الصوم، ولكن يستحب له أن يأتي به؛ ليكون ببعض أنواع الكفارة إن اخترمته المنية. وإن كان معسراً ففرضه الصيام، ولا يلزمه الإعتاق وإن أيسر بعد، لكنه يجزئه. وفي "النهاية": أن صاحب "التقريب" حكى وجهاً: أنه لا يجزئه إلا الصوم؛ لتعينه في ذمته، وهو جارٍ فيما إذا كان فرضه الصيام على الأقوال كلها، ويكلف الإعتاق باستقراض على ما حكاه الرافعي، وإن كان غيره قد جعل الجواز دليلاً. على الجواز هنا. وإن قلنا: الاعتبار بحالة الأداء، فإن كان موسراً يومئذ ففرضه الإعتاق وإن كان معسراً [من قبل، وإن كان معسراً] ففرضه الصوم وإن كان موسراً من قبل. ولو شرع في الصوم ثم أيسر، كان له المضي في الصيام، ولم يلزمه الإعتاق. وقال المزني: يلزمه الانتقال إلى [العتق، وعن] رواية الشيخ أبي محمد مثله. والمشهور الأول. نعم، هل يجوز له الخروج منه؟ فيه وجهان كالوجهين في المتيمم إذا رأي الماء في الصلاة التي لا يسقط فرضها بالتيمم. وإن اعتبرنا أغلظ الحالين. فإن كان موسراً عند الوجوب أو الأداء فعليه الإعتاق، ولو كان معسراً في الحالين وأيسر بينهما، فعلى ما حكاه الإمام فرضه الصوم على الأقوال كلها، وعلى ما ذهب إليه الأكثرون يكون على القولين الأولين فرضه الصوم، وعلى القول الثالث فرضه الإعتاق، ولو كان موسراً في الحالين وتخلل بينهما إعسار، ففرضه الإعتاق على جميع الأقوال. ولو كان حال الوجوب عاجزاً عن العتق والصوم، وأيسر قبل التكفير: فإن اعتبرنا

حال الوجوب، ففرضه الإطعام، فلو أعتق أو صام أجزأه، ويتجه أن يجري [فيه] الوجه المذكور فيما إذا أعتق وكان واجبه الصوم. وإن اعتبرنا حال الأداء أو أغلظ الحالين، وجب العتق. ثم هذا كله في الحر، أما العبد إذا وجبت عليه الكفارة، ثم عَتَقَ وأيسر قبل التكفير: إن قلنا: الاعتبار في الحر بحالة الوجوب، ففرضه الصوم، وهل يجزئه الإعتاق؛ تفريعاً على المذهب في أنه يجزئ الحر؟ فيه وجهان- ويقال: قولان-: أحدهما: لا؛ لأنه لم يكن أهلاً للإعتاق يوم وجوب الكفارة؛ بناءً على أن العبد لا يملك. وأصحهما: نعم، وهو المذكور في "التتمة"؛ لأن الإعتاق في المرتبة العليا. وأما إذا اعتبرنا حالة الأداء، فهل يلزمه الإعتاق؟ فيه وجهان أو قولان: أظهرهما- وبه أجاب إبراهيم المروروذي، وصاحب "التهذيب"-: نعم؛ كما لو كان معسراً، وأيسر حينئذ. والثاني- وهو المذكور في "الشامل"-: أنه لا يلزمه؛ لأنه لم يكن من أهل الإعتاق يومئذ. فائدة: قال الإمام: إذا قلنا: الاعتبار بحال الأداء، ففي التعبير عن الواجب قبل الأداء غموض، ولا يتجه إلا أن يقال: الواجب أصل الكفارة، ولا توصف خصلة على التعيين بالوجوب، أو يقال: يجب ما يقتضيه حال الوجوب، ثم [إذا تبدل] الحال تبدل الواجب. كما أنه يجب على القادر صلاة القادرين، ثم إذا عجزت تبدلت صفة الصلاة، والله أعلم. قال: وكفارة الصوم أن يصوم شهرين متتابعين؛ للآية، والخبر، ومعنى التتابع: أن يوالي بين صوم أيامها فلا يفطر فيها ولا يصوم عن غير كفارة. قال: بالأهلة، أي إن ابتداء الصيام في أول الشهر؛ لأن الأشهر في الشرع بالأهلة، قال الله- تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 188]. قال: فإن دخل في أثناء الشهر، لزمه شهر تام بالعدد، لأنه قد تعذر الرجوع إلى

اعتبار الهلال فاعتبرنا العدد الذي يعم فيه. قال: وشهر بالهلال تم، أو نقص؛ لإمكان اعتباره بالهلال، وفيه وجه حكيت مثله في كتاب الطلاق عن رواية الإمام: أنه إذا انكسر الشهر الأول انكسر ما بعده، واعتبرناه بالعدد، فعلى المذهب: إن كان صومه في الخامس من الشهر وكان ذلك الشهر تامّاً، كان انقضاء الشهرين بصوم الرابع من الشهر الثالث، فإن كان ناقصاً فيصوم الخامس. قال: وإن خرج منه، أي: ولو في اليوم الأخير مما يمكن التحرز منه كالعيد، أي: عيد النحر؛ إذ الفطر لا يتصور الخروج به؛ لأنه مسبوق [بشهر] رمضان، وبشهر رمضان يبطل التتابع؛ لأنه ترك صومه عن الكفارة لأمر يمكنه التحرز منه فأشبه ما لو تركه لغير ذلك. ولو كان المكفر أسيراً، فاجتهد ووافق آخر صومه ذلك، ففي كتاب القاضي ابن كج: أن في انقطاع تتابعه الخلاف الآتي في الإفطار بالمرض. واعلم أن العبارة الصحيحة فيما إذا شرع في الصوم في وقت يعلم دخول ما يقطع التتابع قبل فراغه منه، أن يقال: لا ينعقد صومه ابتداء عن الكفارة؛ لتحقق عدم الشرط. نعم، هل ينعقد نفلاً أوي فسد؟ فيه القولان المذكوران فيما إذا تحرَّم بالظهر قبل الزوال فيما حكاه الإمام. ثم لا فرق في انقطاع التتابع برمضان بين أن ينوي صومه عن الكفارة أو عن رمضان أو عنهما. وفي "الشامل" وغيره: أن القاضي أبا الطيب حكى في "المجرد" عن أبي عبيد ابن حربويه: أنه إذا نوى صومه عنهما أجزأه عنهما. وغلط فيه. قلت: حكى الغزالي وجهاً في أن المسافر في رمضان إذا نوى بصومه التطوع أنه يصح، ويتجه جريان مثهل ها هنا أيضاً. قال: وإن أفطر بما لا يمكن التحرز منه كالمرض، أي: المسوغ للفطر، ففيه قولان:

أصحهما- وهو الجديد-: أنه يبطل؛ لأن المرض لا ينافي الصوم، وقد أفطر باختياره؛ فبطل كما لو أجهده الصوم فأفطر، ولأن التدارك ممكن فليفطر ثم ليتدارك. والثاني- وهو القديم واختاره المزني-: أنه لا يبطل؛ لأن التتابع لا يزيد في الرتبة على أصل الوجوب في شهر رمضان. ثم المرض يسقط الوجوب عنه؛ فكذلك التتابع. والإغماء إذا قلنا: إنه يفطر به، قال المحاملي: هل يقطع التتابع كالمرض؟ على قولين. وهذا يشعر بأنه مرتب على المرض وهو ما صرح به الماوردي، وكذلك في المجنون، وفي "المهذب": الإغماء كالمرض. وفي "الرافعي": أن في المجنون طريقين: أحدهما: طرد القولين. والثانيك القطع بأنه لا يقطع التتابع؛ لعدم الاختيار، ولمنافاته الصوم كالحيض. وذكر مجلي فيه تفصيلاً من عند نفسه، فقال: إن أطبق، ولم يُرْجَ زواله إلى الموت، سقط عنه الفرض إن لم يكن تمكن من أدائه قبل الجنون، وإن كان قد تمكن كان بمثابة من يكون عليه صوم فيموت. وإن كان غير مُطْبِق، وكان وقت الإفاقة متسعاً للشهرين- كان الحكم في الاستئناف كالحكم في المرض، بل آكد. وإن كان لا يتسع لذلك، وكان لا يرجي برؤه، فلا ينقطع التتابع كالحيض، وإن كان يرجي برؤه، انتظر. والمكره على الفطر بنفسه، إن قلنا: إنه يفطر، بطل التتابع لندوره، على ما حكاه ابن الصباغ وغيره. وحكى ابن كج في انقطاعه الخلاف المذكور في المريض، وذكر- أيضاً- فيما إذا استنشق فوصل الماء إلى دماغه، وقلنا: إنه يفطر- أن في انقطاع تتابعه الخلاف في المريض. قال: وإن أفطر بالسفر فقد قيل: يبطل؛ لأن السبب حصل باختياره، وقيل: على قولين- إن قلنا: [إن] الفطر بالمرض لا يقطعه، على ما حكاه الحاملي

وغيره-: أحدهما: لا ينقطع أيضاً؛ لأن السفر يبيح الفطر فأشبه المرض. والثاني: أنه ينقطع، والفرق بينهما: أن المرض الذي هو السبب في الفطر ليس باختياره، بخلاف السفر. فرع: لو وطئ المظاهر منها ليلاً قبل تمام الشهرين عصى، ولم ينقطع التتابع؛ لأن الجماع لم يؤثر في الصوم، فلم يقطع التتابع كالأكل. واستدل له الشافعي بأنا لو أوجبنا الاستئناف، لوقع صوم الشهرين بعد التَّمَاسِّ، ولو لم نوجبه لكان بعض الشهرين قبل التماس، وهذا أقرب إلى ما هو مأمور به من الأول. فائدة: جرت عادة الأئمة- رحمهم الله تعالى- في هذا الموضع بذكر ما يتعلق بإبطال التتابع في كفارة القتل والجماع في رمضان- إذا قيل بوجوبها على المرأة- وما لا يبطله، فلنقتد بهم، ونقول: الحيض لا يقطع التتابع، بل تبني عليه إذا طهُرت؛ لأن ذات الأقراء لا تخلو عن الحيض في الشهرين غالباً، والتأخير إلى سن اليأس يحظر، وهذا إذا لم تجر عاتها بانقطاع الحيض مدة يدخل فيها الشهران، أما لو كانت عادتها أن تحيض كل ثلاثة أشهر حيضة، لزمها أن توقع الصيام في زمان لا يتخلله الحيض، ويقطعها الحيض، على ما حكاه ابن الصباغ في كتاب الأيمان عن الأصحاب. والنفاس ملحق بالحيض- على ما حكاه البغوي وغيره- وفيه وجه: أنه يقطع التتابع؛ لندوره. والحامل والمرضع إذا أفطرتا: إن كان لخوفهما على أنفسهما فهو كالمرض، وإن كان للخوف على الولد: فمنهم من ألحقه بالمرض أيضاً، ومنهم من قطع بانقطاع التتابع؛ لأنهما تفطران لغيرهما، بخلاف المرض؛ ولهذا فارقتا المريض في لزوم الفدية في رمضان، كذا حكاه في "المهذب" وغيره، وقال مجلي: يتخرج ها هنا طريق آخر وهو التفرقة بين الحامل والمرضع كما في الفدية في رمضان. فرع: هل يجوز الخروج من الكفارة بنية الاستئناف؟ قال الإمام: يجوز أن يقال: له

أن يخرج بألا ينوي صوم الغد، أما إذا خاض في صوم يوم، فيبعد أن يتسلط على إبطاله. أما ترك الصوم في بقية لاشهرين، فليس فيه تعرُّض لإفساد العبادة، ويتجه أن يقال: ليس له؛ فإن بإقدامه يخرج عن الفريضة، ويقوى هذا على قولنا ببطلان الصوم تبيُّناً. والأظهر من الاحتمالين عند الغزالي: جواز الترك واستئناف الشهرين. وقال الروياني: الذي يقتضيه قياس المذهب: أنه لا يجوز؛ لأن صوم الشهرين عبادة واحدة كصوم يوم واحد فيكون قطعه كقطع فريضة شرع فيها، وإنه غير جائز. قال الرافعي: وهذا أحسن. قلت: وما اختاره الغزالي ها هنا موافق لما اختاره في التيمم؛ حيث قال: إن الوقت إذا كان متسعاً في الشروع ليس بملزم إذا لم يكن ثم خلل. ولذلك نص الشافعي على أن المنفرد إذا أدرك جماعة يقطع الصلاة فكيف يقطع الفرض لأجل الفضيلة لولا جوازه؟! وما ذكره الروياني قد نص عليه الشافعي في "الأم" في كتاب فرض الصوم حيث قال: إذا شرع في صوم رمضان أو قضاء رمضان أو نذر أو كفارة أو صلاة مفروضة أو منذورة، لا يجوز له الخروج منها بوجه إلا لعذر، فإن خرج أثم لذلك، وأفسده، وصححه الشيخ أبو حامد الإسفراييني في "تعليقه"، وهو المفهوم من قول الشيخ في باب صوم التطوع: ومن دخل في صوم تطوع. قال: [ومن لم] يستطع الصوم؛ لكبر أو مرض لا يرجى برؤه- كفَّر بالإطعام؛ للآية ولم يعتبر الإمام والغزالي في المرض ألا يرجى زواله؛ بل قالا: لو كان يدوم شهرين في الغالب على الظن المستفاد من اطراد العادة في مثله، أو من مراجعة الأطباء، كان له أن يعدل إلى الإطعام، ولا ينتظر زواله ليصوم، بخلاف ما إذا كان له مال غائب؛ حيث قلنا: لا يجوز له الصيام على رأيٍ، بل ينتظر.

والفرق [بينهما]: أن هذا منوط بالاستطاعة، وهي غير موجودة مع المرض، والانتقال إلى الصوم منوط بالعدم، ومن له مال غئاب واجد. وأيضاً: فحصول المال يتعلق باختياره، والاختيار في مقدمات الشيء والتسبُّب إليه كالاختيار فيه نفسه، وزوال المرض لا يتعلق بالاختيار. وحكى الإمام عن القاضي: أنه جوز الانتقال إلى الإطعام بكل ما يجوز الإفطار به في رمضان. واستشكله من حيث إنه يقتضي جواز الانتقال إلى الإطعام بالمرض وإن لم يغلب على الظن استمراره شهرين، كما ذكراه. وقضية كلام الأكثرين: الأول، على ما حكاه الرافعي، ومنهم صاحب "التهذيب". وقد صرح المتولي بتنزيل المرض عند رجاء الزوال منزلة المال الغائب حتى لا يعدل بسببه إلى الإطعام في غير كفارة الظهار، ويجيء في كفارة الظهار الخلاف المتقدم. فعلى هذا: لو كان المرض [لا] يرجي زواله، فأطعم، ثم برئ على ندور- قال الرافعي: يشبه أن يلحق بما إذا أعتق عبداً لا يرجى زوال مرضه، ثم اتفق الزوال. قلت: وشَبَهُهُ بالمعضوب إذا استناب في الحج ثم برئ أقربُ. والمشقة الشديدة الحاصلة من الصوم أو خوف زيادة المرض، تلحق بعدم الاستطاعة فميا ذكرناه، ولا يلتحق به السفر على الظاهر؛ لأن المسافر مستطيع للصوم. وفي جواز العدول إلى الإطعام بعذر الشَّبَق وغلبة الشهوة وجهان، أظهرهما عند الإمام والغزالي: أنه لا يجوز، والأكثرون مالوا إلى الجواز، وبه أجاب أبو إسحاق، ولم يورد القاضي الحسين غيره؛ للحديث. قالوا: ويخالف هذا صوم رمضان حيث لا يترك بهذا العذر؛ لأنه لا بدل له، ولصوم الكفارة بدل. قال: فيطعم ستين مسكيناً؛ لقوله- تعالى-: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 3].

[فقوله]: فإطعام مصدر معناه: فعليه أن يطعم ستين مسكيناً؛ لأن المصادر تقدر بـ "أن" والفعل، وللخبر السابق، والله أعلم. قال: كل مسكين مدّاً من قوت البلد، أي: إذا كان مما تجب فيه الزكاة: أما اعتبار المد فاستدل له الأصحاب بما جاء في حديث الأعرابي الذي جامع في نهار رمضان أنه أتى بعَرَقٍ من تمر خمسة عشر صاعاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُذْ هَذَا، وَأَطْعِمْ عَنْكَ سِتِّينَ مِسْكِيناً"، وهذا المبلغ إذا قُسم على ستين، حصل لكل منهم مد لا صاع، وكفارة الظهار ككفارة الجماع. وأجابوا عما جاء في الحديث الذي حكيناه عن رواية أبي داود عن سلمة بن صخر البياضي من كونه أمره أن يدفع إلى ستين مسكيناً وَسْقاً- وهو ستون صاعاً- بأن ذلك محمول على الجواز، وحديث الأعرابي محمول على الإجزاء؛ لأجل الجمع بينهما، كذا قاله ابن الصباغ، وفيه [نظر؛ من حيث إن الواقعة غير الواقعة، وقوله- عليه الصلاة والسلام- لسلمة: "أَطْعِمْ"، كان في معرض] بيان الواجب؛ لأنه جاء في الحديث بالسند المذكور أن سلمة قال: أنا صابر لأمر الله؛ فاحكم بما أنزل الله. وأما اعتبار قوت البلد فقاسه الأصحاب على كفارة اليمين، وقال أبو عبيد بن حربويه: يعتبر فيه أن يكون من غالب قوته، كما قال في زكاة الفطر؛ اعتباراً بزكاة المال. قال ابن يونس: وليس بشيء، لقوله- تعالى-: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، والأوسط: الأعدل، وأعدل ما يطعم أهله من قوت البلد. وفي "الرافعي" حكاية وجه نقله السرخسي: أن الأرز لا يجزئ، وأن ابن كج حكى أنه لا يجزئ إذا نُحِّيت عنه القشرة العليا، وأن الظاهر الإجزاء. ثم إن كان في القشرة العليا، فيخرج قدر ما يعلم اشتماله على [مدٍّ من] الحب. ولم يجر في الفطرة ذكر هذا الخلاف في الأرز، وجرى بذكر قولين في العدس

والحمص. قال: ويشبه أن يجيء في كل باب ما نقل في الآخر. قال: وهو رطْلٌ وثلث، أي: بالبغدادي، إذ ذلك زنة مده صلى الله عليه وسلم، وقد قال: "الْمِيزَانُ مِيزَانُ [أَهْلِ] مَكَّةَ، وَالْمِكْيَالُ مِكْيَالُ الْمَدِينَةِ"، ومعناه الاعتبار بكيل المدينة وبوزن الحجاز، ومراد الشيخ بالتنبيه ها هنا على ذكر قدر المد: الاحتراز عن مذهب مالك؛ فإنه قال: الاعتبار في كفارة الظهار بمد هشام بن عبد الملك بن رموان، وهو أزيد من مد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل: هو مدان بمده صلى الله عليه وسلم، وقيل: مد ونصف، وقيل: مد وثلث، ورد أصحابنا ذلك بأن ذلك لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أُحْدِثَ بعده، ولا يجوز أن يعتبر بمد لم يكن على عهده وحدث من بعده صلى الله عليه وسلم. ثم اعتبار الرطل والثلث فيما إذا كان المُخْرَج يستوي كيلُه ووزنه، بأن يكون إذا وزن رطل وثلث جاء ملء مدٍّ، وإذا كِيلَ مدٌّ كان وزنه رطلاً وثلثاً. قال البندنيجي في كتاب الأيمان: وقد قال بعض أهل العلم: إن الذي يستوي كيله ووزنه: العدس والماش، أما إذا اختلف الكيل والوزن، فالمعتبر الكيل لا الوزن. وقد ذكر في باب زكاة الفطر كلام يتعلق بذلك؛ فليطلب منه. قال: فإن أخرج من دون قوت البلد من حبٍّ تجب فيه الزكاة، ففيه قولان تقدم مثلهما في زكاة الفطر: أحدهما: يجزئه؛ لأنه قوت تجب فيه الزكاة فأشبه قوت البلد. والثاني: لا يجزئ- وهو الأصح- لأنه أخرج غير الواجب. قال الرافعي: وحقيقة القول بالإجزاء ترجع إلى أنه يتخير بين الأجناس المجزئة، وهو مشابه لوجه أو قول حكيناه في زكاة الفطر كذلك. قلت: وقد صرح به الماوردي في كفارة اليمين، وحكى- أيضاً- أنا إذا اعتبرنا

غالب قوت البلد، فأخرج الأجود كالقمح عن الشعير: فهل يجزئ؟ فيه وجهان، وجه المنع: أن العدول عنه يصير كالقيمة. قال: وإن كان قوت البلد مما لا زكاة فيه، فإن كان أَقِطاً فعلى قولين: أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه [طعام] لا تجب فيه الزكاة فلا يجزئ كالفاكهة. والثاني:- وهو الأصح في "النووي"، وظاهر ما نقله المزني ها هنا، على ما حكاه الماوردي-: أنه يجزئ؛ لأنه مكيل مقتات فأشبه ما تجب فيه الزكاة. وفي "الحاوي" في كفارة اليمين: أن أبا علي بن أبي هريرة جعل هذين القولني مبنيين على [اختلاف قولي] الشافعي في أن قول الصحابي إذا لم يعضده قياس: هل يؤخذ به، أو يعدل إلى القياس؟ فعلى قوله القديم: يؤخذ بقول الصحابي؛ فعلى هذا يجوز إخراج الأقط في الزكاة والكفارة؛ أخذاً بقول أبي سعيد. وعلى قوله الجديد: يعدل عنه إلى القياس؛ فعلى هذا لا يجوز إخراج الأقط. فافهم هذا الاختلاف. ثم هذا يختص بأهل البادية أم يعم الحاضر والبادي؟ فيه وجهان عن رواية ابن كج. قال: وإن كان لحماً أو لبناً- وفي معنى ذلك السمك والجراد- فقد قيل: لا يجزئه، وهو الأصح، والذي حكاه ابن الصباغ؛ لأنه لا يدخله الكيل، ولا تجب فيه الزكاة؛ فأشبه الخضراوات. وقيل: على قولين، كالأقط. وفي "الرافعي" ترتيب الخلاف على الخلاف في الأقط، [وأولى] بعدم الإجزاء. قال: وإن كان في موضع لا قوت فيه، أي: مجزئاً إخراجه- أخرج من قوت أقرب المواضع إليه [أي: الغالب فيه؛ لأنه الممكن، فلو كان أقربَ المواضع إليه] بلدان مختلفا القوت: فإن كان أحدهما أغلب، أخرجه، وإن تساويا نظر: فإن لم تكن

قيمة أحدهما أرفع، فهو [مخير بينهما]، وإن كانت أرفع، قال أبو إسحاق: يجزئ أن يخرج الأعلى منهما، وإن أخرج الأَدْوَنَ جاز، كذا حكاه المحاملي في كتاب الأيمان والبندنيجي- أيضاً- وقال: كما هو في البلد [الواحد]. وحكى الماوردي في أصل المسألة قولاً: أنه لا يتعين [قوت] أقرب البلاد إليه، بل يكون مخيراً بين جميعها. قال: ولا يجزئ فيه الدقيق ولا السَّوِيق ولا الخبز؛ لأن ذلك ناقص المنفعة فأشبه المعيب. وروى عن الإصطخري أنه قال بالإجزاء، وساعده على إجزاء الخبز ابنُ أبي هريرة والصيمري، وهو الذي اختاره القاضي الروياني لنفسه. وروى عن ابن خيران أنه يعطي كل [مسكين] رطلين خبزاً وقليل أُدْمٍ. والظاهر الأول، وادعى في "المهذب" فساد خلافه. قال: ولا القيمة؛ لأنه أَحَدُ ما يكفر به؛ فلا تجزئ فيه القيمة كالعتق. قال: فإن غدَّاهم وَعَشَّاهم بذلك، أي: مما يجزئ كالتمر والزبيب- لم يجزئه، أي: بل لابد من التمليك التام؛ لأن ما وجب للفقراء بالشرع، وجب فيه التمليك كالزكاة، ولأنهم يختلفون في الأكل؛ فلا يتحقق أن كل واحد منهم تناول القدر المجزئ. نعم، لو وضع بين أيديهم ستين مدا وقال: ملكتكم هذا بالسوية، أو أطلق، فقبلوه- جاز. وقال الإصطخري: لا يجوز؛ لأن عليهم مؤنة القسمة. والمذهب: الأول؛ لأن هذه مؤنة خفيفة. ولو قال: خذوا، ونوى الكفارة، أجزأه إذا أخذوا بالسوية، وإن أخذوا متفاضلين، لم يجزئه إلا واحد؛ لأنا نتيقن أن أحدهم أخذ مدّاً، فإن تيقن أن عشرة منهم مثلاً أخذ كل واحد منهم مدّاً، أجزأه ذلك القدر ويتدارك الباقي. ولو دفع إلى ثلاثين مسكيناً ستين مدّاً أجزأه منها ثلاثون، ويصرف إلى ثلاثين غيرهم ثلاثين مدّاً. وإن صرف الستين إلى مائة وعشرين دفع إلى ستين منهم تكملة الستين [مدّاً]، ويسترد الزائد في الصورتين إن شرط كونه كفارة، وإلا لم يسترد.

قال: ولا يجوز دفعه إلى مكاتب؛ لأن المسكين [من] هو محتاج إلى تتمة الكفاية، والمكاتب غني بما تحت يده أو بما في يد السيد لقدرته على تعجيز نفسه، ويخالف الزكاة؛ فإن الغني يأخذ منها وهو العامل والغازي والمؤلفة والغارم، وإذا لم يجز الصرف إلى المكاتب لقدرته على الاستغناء بما في يده سيده فالعبد بذلك أولى. نعم، لو كان السيد ممن يجوز الصرف إليه، فدفع إلى العبد بإذن السيد- جاز، وبغير إذنه ينبني على قبوله الهبة بغير الإذن. وكذلك لا يجوز دفعه إلى هاشمي ولا مُطَّلبي؛ لاستغنائه بخُمُس الخمس. [قال: ولا إلى كافر، أي: ذميّاً كان أو غير ذمي؛ لأنها كفارة فلا يجوز صرفها إليه كالعتق]. قال: ولا إلى من تلزمه نفقته، أي: من ولد ووالد وزوجة؛ لأنه غني بالنفقة، ولأنه يسقط بذلك في القريب واجبَيْنِ؛ فلم يجز كالزكاة. ويجوز للزوجة أن تدفع للزوجها في كفارة القتل وغيرها؛ لعدم ما ذكرناه. والضابط فيمن يجوز الصرف إليه-[على ما] حكاه الغزالي-: وغيره كل مسكين يجوز صرف زكاته إليه، ويجوز الصرف للفقراء من طريق الأولى. فائدة: قال النووي: كان ينبغي أن يقول الشيخ: [إلى] من تلزم نفقته، بغير هاء الضمير؛ لأن الصحيح: أنه لا يجوز دفعها إلى أجنبي [تجب] نفقته على قريب أو زوج. وفيما قاله بحث ننبه عليه في كتاب [النفقات]، إن شاء الله تعالى. فرع: لو دفع الكفارة إلى غير من يستحقها، ولم يعلم ثم علم، نظر: إن كان الدافع إليه من عليه الكفارة فلا يجزئه إذا ظهر كافراً أو عبداً أو من ذوي القربى وإن بان أنه غني، ففي وجوب الإعادة قولان؛ من حيث إن الغني لا علامة عليه.

وإن كان الدافع الإمام، وبان أنه دفعها إلى كافر أو عبد أو قريب ففي وجوب ضمانها عليه قولان: أحدهما: أنه يضمنها، ويعيدها؛ كما يلزم رب المال أن يعيدها. والقول الثاني: لا يضمنها، وتقع موقع الإجزاء. وإن بان أنه غني، أجزأه قولاً واحداً، [كما] حكاه الماوردي والمحاملي في كتاب الأيمان. قال: ولا يجوز أن يدفع إلى أقل من ستين مسكيناً، أي: ما يدفعه للستين؛ لأن الآية اشتملت على وصفٍ وهو المسكنة، وعلى عدد وهو الستون؛ فكما لا يجوز الإخلال بالوصف لا يجوز الإخلال بالعدد كما في قوله- تعالى-: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]؛ فإن فيه تعرضاً لوصفٍ وعددٍ. وكما لا يجوز الإخلال بالوصف لا يجوز الإخلال بالعدد حتى لا تكون شهادة الواحد كشهادة الاثنين. ولا فرق فيمن يجوز الدفع إليه بين أن يكون كبيراً أو صغيراً عاقلاً أو مجنوناً. نعم، يشترط أن يدفع على ولي [الصغير والمجنون]. وفي "الرافعي" حكاية وجه: أن الرضيع لا [يصح الصرف] إليه؛ لأن طعامه اللبنُ دون الحَبِّ. فرع: دفع الطعام إلى الإمام، هل يبرئ؟ حكى القاضي الروياني في التجربة أنه إذا دفعه إليه، فتلف في يده قبل التفريق على المساكين- أن ظاهر المذهب أن الفرض لا يسقط عن المكفِّر، بخلاف الزكاة؛ لأن الإمام لا يَدَ لَهُ في الكفارة، وهذا يدل على أنه لا يبرئ. قال: ولا يجزئ شيء من الكفارات إلا بالنية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"، ولأن الكفارة حق مالي وجب تطهيراً؛ فلم يجزئ من غير نية كالزكاة. قال: ويكفيه في النية أن ينوي العتق، أي: عند التلفظ به، أو الصوم، [أي]: كما

بينه في كتاب الصيام، أو الإطعام، أي: عند الصرف إلى المساكين، عن الكفارة، أي: ولا يحتاج إلى نية الوجوب؛ لأن الكفارة لا تكون إلا واجبة، ولا إلى تعيين سببها من صوم أو ظهار أو يمين أو قتل؛ كما لا يجب تعيين المال الذي يخرج الزكاة عنه، [وفي تقدم النية وجه: أنه يجوز كما هو في الزكاة]، وهذا هو ظاهر نصه في كتاب الأيمان؛ ولذلك جعله البندنيجي ثَمَّ المذهبَ، وجعل الماوردي محل الخلاف ما إذا نوى عند عزلها، وجزم القول بعدم الإجزاء فيما إذا نوى قبل عزلها، ووجَّهَهُ بأنها تجردت عن الفعل فكانت قصداً ولم تكن نية، وإذا اجتمعت عليه كفارة جماع ويمين- مثلاً- فأعتق رقبة بنية الكفارة، وقع محسوباً عن واحدة منهما، وكذا لو صام أو أطعم. وفرق بينه وبين الصلاة حيث يعتبر فيها التعيين: بأن الأمر في العبادات البدنية أضيق؛ ولذلك لا يجزئ فيها التوكيل، بخلاف المالية، وبأن المالية نازعة إلى الغرامات؛ فاكتفي فيها بأصل النية، وبأن العبادات البدنية مراتب متفاوتة، وما يتعلق بها من النصب والتعب يختلف موقعه، ووجَّهوه بالمشقة في صلاة الصبح من وجه وفي صلاة الظهر من وجه آخر؛ لاختلاف الوقت وأعداد الركعات، والعتق في الظهار واليمين واحد لا اختلاف فيه؛ فلم يحتج إلى تعيين. ثم إذا عيَّنَ بعد ذلك ما أتى به عن كفارة تَعيَّنَ، ولا يتمكن من صرفه إلى غيرها كما لو عين في الابتداء، ولو عين في الابتداء كفارة الظهار- مثلاً- وكانت عليه كفارة يمين، لم يجزئه عن اليمين، سواء كان عمداً أو خطأ؛ لأنه نوى غير ما [وجب] عليه فلا ينصرف إلى ما عليه؛ كما لو نوى عند إخراج الزكاة مالاً معيناً وكان تالفاً لا ينصرف إلى غيره، وكما لو نوى الاقتداء بمعين وكان الحاضرُ غَيْرَهُ، لا ينصرف الاقتداء إليه. وهذا بخلاف ما لو [كان] عين رفع حدث من الأحداث وبان خلافه؛ فإنه يرتفع على المذهب، والفرق: أن رفع الحدث المنويِّ يتضمن رفع باقي الأحداث على المذهب، وقد تضمنت نيته رفع الموجود، وعتق رقبة عن كفارةٍ لا يتضنم

إجزاءها عن كفارة أخرى؛ فلذلك لم يجزئه. ثم ما ذكرناه من أن نية العتق تعتبر عند التلفظ به يشمل العتق المنجَّز كما إذا قال لعبده: أنت حر، والمعلَّق كما إذا قال: إن دخلت الدار فأنت حر، ويجيء فيه الوجه الآخر، ولا خلاف أنه لا يجوز تقديم التكفير على الظهار فضلاً عن نيته، وقد تقدم الكلام فيه. نعم، لو قال: إن دخلتِ الدار فأنت علي كظهر أمي إن كلمتك، فهل يجوز أن يكفر بعد الدخول وقبل الكلام بالعتق؟ فيه خلاف، والأصح: أنه لا يجوز، ويجري الخلاف فيما لو كفر بالإطعام وهو من أهله- على ما حكاه الرافعي- وفيه نظر يظهر لك من علة عدم جواز التكفير بالصوم في كفارة اليمين قبل الحنث، وأما الصوم فلا يجوز تقديمه؛ لأنه عبادة بدنية. قال: وقيل: يلزمه أن ينوي في الصوم [التتابع] في كل ليلة؛ ليكون [متعرضاً لخاصَّة] هذا الصوم، وشبّه ذلك بالجمع بين الصلاتين؛ لما فيه من ضم بعض العبادات إلى بعض. قال: وقيل: في أول الصوم؛ لأن التمييز يحصل بذلك. قال: والصحيح: أنه لا يلزمه ذلك، أي: ويكفي التتابع من حيث الفعل؛ لأن التتابع شرط في العبادة فلم تشترط نيتُهُ في أداء العبادة؛ كستر العورة في الصلاة. فرع: لو نوى الصوم بالليل قبل طلب الرقبة، ثم طلبها بالليل فلم يجدها-[لم يجزئه] صومه إلا أن يجدد النية بعد الفقد؛ لأن تلك النية تقدمت على وقت جواز الصوم، حكاه الروياني في البحر. قال: وإن كان المظاهر عبداً، كفر بالصوم؛ لعجزه عن غيره، وليس للسيد منعه منه، وإن كان له منعه في كفارة اليمين- على ما سيأتي- لما فيه من الإضرار

بالعبد باستمرار التحريم. ثم هذا تفريع على الجديد في أن العبد لا يملك بتمليك السيد، أما إذا فرعنا على القديم فملَّكه سيده طعاماً ليكفر به، وكان عاجزاً عن الصيام- جاز، وعليه أن يكفر به. وإن ملكه عبداً ليعتقه، لم يجزئ؛ لأن العتق يستعقب الولاء، ولا يمكن إثبات الولاء للعبد، وهذا قد صرح به الشيخ في كفارة اليمين. وعن القفال تخريج قول: أن إعتاقه يجزئ عن الكفارة، والولاء موقوف: إن عَتَقَ فهو له، وإن رَقَّ فلسيده. ورأى الصيدلاني: أنا إذا أوقفنا الولاء هل يكون الوقوع عن الكفارة تبعاً للولاء، وهذا ما قطع به القاضي الحسين- على ما حكاه الإمام في [الأيمان- ويظهر أثر ذلك في المنع من الوطء حتى يتبين الأمر، وسنذكر طرفاً من ذلك] في باب كفارة اليمين. فرع: هل للعبد أن يكفر بالصوم عند إذن السيد له في التكفير بالعتق وقلنا بصحته؟ فيه تردد أبداه الإمام [في كتاب الأيمان] من عند نفسه. ومَنْ بعضُهُ حر وبعضه رقيق كالحر في التكفير بالمال على ظاهر المذهب. قال: وإن كان كافراً، أي أصليّاً، كفَّر بالمال، أي: من عتق أو إطعام- كما سنذكره- لأنه قادر على العتق والإطعام في غير الكفارة؛ فكذلك في الكفارة، ويخالف الزكاة حيث لا تجب عليه بلا خلاف وإن كان مصرفها للآدميين؛ لأنها أثبتت وظيفة عبادة على المسلم وليس فيها معنى التغليظ، والكفارة مضاهية للحدود؛ فلذلك اعتبرت فيها النية. قال: دون الصوم؛ كما لا يصوم عن غير الكفارة، والمعنى فيه: أن الكفارة المالية المغلَّب فيها جانب المدفوع إليه؛ لشبهها بالغرامات؛ فلذلك روعي فيها جانبه، بخلاف البدنية التي لا يتعلق بها حق دمي؛ لعدم [ما ذكرناه]. ثم التكفير بالعتق يتصور منه إذا كان في ملكه أو ملك مورِّثه عبد كافر، فأسلم، أو

جوزنا له شراء العبد المسلم، أو لم نجوزه وجوزنا له أن يقول لغيره: أعتق عبدك [عني]- وهو الصحيح- كما هو مذكور في البيع. أما إذا لم نجوز [له] ذلك، فلا يتصور في حقه العتق في حال الكفر؛ فما دام موسراً [لا يجوز] له الوطء، ويقال له: إن أردت الوطء فأسلم وأعتق، لأن الرقبة موجودة، والتعذر لمعنى فيه. وكذا لو كان معسراً عن الرقبة، وهو قادر على الصوم، لا يجوز له العدول إلى الإطعام؛ لأنه يمكنه أن يسلم فيصوم، فإن كان عاجزاً عنه لمرض أو هَرَمٍ فحينئذ [يطعم في كفره]، هكذا أورده البغوي، وحكاه الإمام عن القاضي الحسين، ثم قال: وفيه نظر؛ فإن الخطاب بالعبادة البدنية لا يجب على الكافر [الأصلي]؛ فكأنا لصوم مخرج من كفارة الذمي، وهي آيِلةٌ- في حقه- إلى الإعتاق والإطعام. قال الرافعي: وقد يجاب عن ذلك بأنا لا نحمل الذمي على الإسلام ولا نخاطبه بالصوم، ولكن نقول: لا نمكِّنك من الوطء إلا هكذا، فإما أن تتركه أو تسلك طريق الحِلِّ. وأيضاً: فالإطعام بدل عن الصيام، وتقرير البدل في حق من لا يتحقق في حقه المُبْدَل مستبعدٌ، وهذا أبداه الإمام في تردده، وأقام الغزالي ما ذكره الإمام المذهب، واستبعد ما حكي عن القاضي.

فروع: العاجز عن جميع خصال الكفارة: هل تستقر الكفارة في ذمته؟ فيه خلاف ذكر مثله في كتاب الصيام، والظاهر الاستقرار، وهذا ما أشار إليه الشيخ [الإمام] بقوله: "وإذا وجد ذلك، وجبت الكفارة واستقرت". قال الرافعيك وقد بني الخلاف على أن الاعتبار في الكفارة بحال الوجوب أم بحال الأداء؟ إن اعتبرنا حال الوجوب لم يستقر عليه شيء وكان للمظاهر أن يطأ [و] يستحب أن يأتي بما يقدر عليه من الخصال [من بعد. وإن اعتبرنا حال الأداء لزمه أن يأتي بما يقدر عليه من الخصال]، ولا يطأ المظاهر حتى يكفر. ومن لم يجد إلا بعض الرقبة كمن لم يجد شيئاً؛ فيصوم، فإن لم يقدر- والحالة هذه- على الصيام ولا الإطعام فعن أبي الحسين بن القطان تخريج أوجه فيه: أحدها: أنه يخرج المقدور عليه، ولا شيء عليه غيره. والثاني: يخرجه، وباقي الكفارة في ذمته. والثالث: لا يخرجه أصلاً. ولا يجوز تفريق الكفارة الواحدة بأن يعتق نصف عبد ويصوم شهراً، أو يصوم شهراً ويطعم ثلاثين مسكيناً، والله أعلم. ***

باب اللعان

باب اللعان "اللعان": مصدر: لاعن يلاعن لعاناً. ويقال: تَلاعَنَا، والتعنا، وهو مشتق من اللعن، واللعن: هو الإبعاد والطرد. يقال: لعنه الله، أي: أبعده وطرده، والتعن الرجل: إذا لعن نفسه، ورجل لُعَنة- بفتح العين- إذا كان يلعن الناس، ولُعْنَة- بسكون العين- إذا لعنه الناس. وسمي المتلاعنان بذلك؛ لما يعقب اللعان من المآثم والطرد والإبعاد؛ فإنه لابد وأن يكون أحدهما كاذباً في لعانه. فيأثم ويكون ملعوناً مطروداً. وقيل: لأن كلّاً منهما يبعد عن صاحبه بتحريم النكاح بينهما أبداً. وهو في الشرع: عبارة عن كلمات معلومة جعلت حجة للمضطر إلى قذف من لطخ فراشه وألحق العار به. واختير لفظ "اللعان" على "العضب" والشهادة- وإن [كان] ذلك موجوداً في لعانهما-: قال الإمام: لأن اللعن كلمة غريبة في مقام الحجج من الشهادات والأيمان، والشيء يشتهر بما يقع فيه من الغريب، وعلى ذلك جرى معظم مسميات سور القرآن. وقال غيره: لأن اللعنة متقدمة في الآية وفي صورة اللعان، ولأن جانب الزوج فيه أقوى من جانبها؛ لأنه قادر على الابتداء دونها، ولفظة "اللعنة" من جانبه، ولأنه قد ينفك لعانه عن لعانها، ولا ينعكس. وأطلق على ما تأتي به المرأة من الألفاظ: لعان؛ من باب التغليب، قاله القاضي الحسين. وهو عند الجمهور يمين.

وقيل: شهادة. وقيل: يمين فيه شبهة من شهادة. وقيل عكسه، قاله النووي. واستدل ابن الصباغ على أنه يمين بقوله- عليه السلام- لامرأة هلال بن أمية- وقد أتت بولد على النعت المكروه-: "لَوْلا الأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَانٌ". والأصل فيه الكتاب قوله- تعالى-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6 - 9] الآيات. وسبب نزولها: ما روي عن ابن عباس، أن هلال بن أمية، قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشَرِيك بن السحماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ"، قال يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ". قال هلال: والذي بعثك بالحق، إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الجلد. فنزلت هذه الآيات. قال: يصح اللعان من كل زوج بالغ عاقل؛ للآية، ولما روى سهل بن سعد الساعدي أن عُوَيْمِراً العجلاني قال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً وجد مع امرأه رجلاً؛ فقتله، فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَنْزَلَ اللهُ- تَعَالَى- فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَاتِ بِهَا" قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: رويتم أن سبب نزولها قصة هلال، وهذا يدل على أن هذا السبب. قلنا: من العلماء من قال به- على ما حكاه القاضي- ومن قال بالأول، حمل قوله- عليه السلام- ها هنا على أن المراد أنه بين حكم الواقعة بما أنزل في حق

هلال، والحكم على الواحد حكم على الجماعة. أما غير الزوج فلا يصح لعانه؛ لأجل القذف؛ لأن الله- تعالى- لم يجعل لغير الأزواج مخرجاً من القذف إلا بالبينة؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 3] الآية. ويفارق الزوج من حيث إنه لا حاجة به إلى القذف واللعان؛ لأنه لا ضرر عليه في زنى الأجنبية ولا مَعَرَّة، وهو مندوب إلى الستر؛ فإذا أظهر ذلك غلظ عليه، ولم يجعل له الخروج إلا بالبينة، فحيث إن الزوج عليه ضرر في زنى زوجته من لحوق النسب الفاسد والمعرة، فهو محتاج إلى قذفها وإظهار زناها، فإذا فعل خُفِّف عنه بأن جعل له الخروج بالبينة واللعان. وأما الصبي والمجنون، فلا يصح لعانهما- أيضاً- للخبر المشهور، [ولأنه قول] يقتضي الفراق؛ فاعتبر في مصدره البلوغ والعقل كالطلاق. واعلم أن اقتصار الشيخ في صفة الزوج على ذكر البلوغ والعقل مع لفظة "كل" يعرفك أنه لا فرق فيه بين أن يكون من أهل الشهادة أو لا، وهو جار على عمموه؛ لظاهر الآية، إلا إذا كان الزوج أخرس، وكان الخرس ممكن الزوال؛ فإنه لا يصح لعانه بالإشارة ولا بالكتابة على وجه ما لم يُؤْيَسْ من نطقه، وفيه وجه: أنه ينتظر ثلاثة أيام، ولا يزيد عليها، وهذا أحسن، وذكر الإمام أن الأئمة صححوه. قال الرافعي: وعلى هذا فالوجه أن يقال: لو كان يتوقع زواله إلى ثلاثة أيام فينتظر، وإلا فلا ينتظر أصلاً، وإذا كان أعجميّاً وهو يحسن العربية، فإنه لا يصح لعانه بغير العربية، على وجه، وهو ما حكاه ابن الصباغ. ثم حيث صححنا اللعان بغير العربية وكان القاضي لا يعرف ذلك- أحضر مترجماً، وفي اعتبار العدد في المترجم خلاف يأتي بيانه في كتاب الأقضية إن شاء الله تعالى. قال: وإذا قذف زوجته من يصح لعانه، وأبي: حيث يجوز له القذف، فوجب عليه الحد أو التعزير، وطولب به، أي: من جهة المرأة- فله أن يسقطه باللعان، أي: مع قدرته على إقامة البينة: أما عند وجوب الحد؛ فللآية، وأما عند وجوب التعزير،

فبالقياس على الحد من طريق الأولى، وفي [التعزير] وجه نقله الإمام وغيره: أنه لا يسقط باللعان، أما إذا طولب بالحد من جهة الرجل المرمي معها، ولم تطالب هي ولم تَعْفُ- فهل له أن يلاعن لإسقاطه؟ فيه وجهان حكاهما أبو الفرج السرخسي. قال الرافعي: وقد ينبنيان على أن حقه يثبت أصلاً أو تبعاً، وسيأتي الكلام في ذلك. أما إذا عفت المرأة عن حدها، وطولب بحد الرجل- كان له إسقاطه باللعان، قاله ابن الصباغ وغيره. وكذا لو أقيم عليه الحد للمرأة، وقلنا: إنه يجب عليه [حدان لكل منهما حد، أما إذا قلنا: إنه يجب عليه] حد واحد، وهو ما قطع به بعضهم ها هنا، وإن أجري في قذف شخصين بكلمة واحدة قولين [فيه]، فليس للأجنبي المطالبة أصلاً. فائدة: الحالة التي يجوز للزوج فيها القذف إذا لم يكن ثم ولد: أن يشاهدها وقد زنت، أو شاع في الناس أن رجلاً قد زنى بها، ورأى ذلك الرجل يخرج من عندها في أوقات الريبة، أو أقرت عنده بالزنى ووقع في قلبه صدقها، أو أخبره بذلك ثقة. ولو شاع في الناس أنه زنى بها ولم يره، أو رآه ولم يشع في الناس- ففي جواز القذف وجهان. وفي "الرافعي" أن الإمام قال: إنه لو رآها معه تحت شِعَارٍ على هيئة منكرة، أو رآها [معه] مرات كثيرة في محل الريبة- كان ذلك كالاستفاضة مع لارؤية، وتابعه عليه الغزالي وغيره. ولا يجوز القذف عند عدم ما ذكرناه ولا اللعان، وإذا كان ثَمَّ ولد فسيأتي الكلام في وجوبه وجوازه في الباب الثاني، إن شاء الله تعالى. فإن قيل: لم قيدتم المسألة بما إذا كان يمكنه إقامة البينة؟ قلنا: لأنه حينئذ يكون مخيراً: إن شاء لاعن، وإن شاء أقام البينة، أما إذا لم تكن بينة فقد يظهر أن اللعان- والحالة هذه- يكون واجباً؛ لأنه يدفع به أمراً محرماً لا يمكن إباحته وهو الجلد،

ودفع الحرام واجب عند القدرة. ومما يدل عليه مفهوم ما سنذكره من لفظ الشافعي: أنه ليس عليه أني لتعن حتى تطلب المرأة حقها، وفي "الحاوي" إطلاق القول بعدم وجوبه، وأنه بالخيار، وفيما ذكره أيضاً فائدة نفي توهم أن اللعان لا يجوز مع القدرة على البينة؛ أخذاً من ظاهر قوله- تعالى-: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 5]، لأن معنى الآية: إن لم يتفق شهادة وشهود إقامة الشهود، فشهادة أحدهم؛ كما في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 281]، ومعناه إن لم يتفق إقامة رجلين، فرجل وامرأتان. تنبيه: مراد الشيخ بالتعزير الذي يسقط باللعان: التعزير الذي سببه القذف، كما إذا كانت صغيرة يمكن جماعها أو مجنونة أو أمة أو كتابية، يدل عليه أنه أتى بالفاء في قوله: فوجب عليه الحد، وهي فاء السببية، "أو" عاطفة لـ "التعزير" على "الحد"، وذلك يقتضي التشريك في الحكم. أما التعزير الواجب لأجل الأذى: كنسبة الصغيرة التي لا يوطأ مثلها إلى الزنى، وقذف من ثبت زناها، ونظير ذلك- فسيأتي الكلام فيه. وبناء الشيخ فعل الطلب لما لم يُسَمَّ فاعله، فيه إشارة إلى أن الطلب لا يختص بها، بل تارة [يكون] من الزوجة، وتارة يكون من وكيلها، وتارة من وارثها أن الحكم فيها واحد. وقذف من لا يصح لعانه كالصبي المميز، يوجب التعزير في حال الصبا، فإن بلغ قبل أن يستوفي لم يلاعن لأجله. وعنه احترز الشيخ بقوله: "لا يصح لعانه"، وقد حكي عن القفال في هذه الصورة: أنه يسقط. فرع: إذا وجب عليه الحد، فادعى أنه كان في حال القذف مجنوناً، وعرفت له حال جنون: فهل يقبل قوله في ذلك؟ فيه قولان: المنصوص منهما- وهو الأصح في

"المحاملي"-: أن القول قول القاذف، ومقابهل مخرج، وممَّ خُرِّجَ؟ قال الشيخ أبو حامد: من مسألة الملفوف. وقال ابن سراقة: من اختلاف قولَيْه في اللقيط إذا قذف وادعى أنه عبد. قاله الماوردي. وفي "النهاية" حكاية طريقة أخرى: أنه إن عُرِفَ له حال جنون، فالقول قوله، وإن لم يعرف فقولان. فتحصلنا على ثلاثة أقوال في المسألة. قال الإمام: ومثل هذا الخلاف يجري فيما لو أقرَّ ببيع أو غيره من عقود المعاملات، ثم قال: أردت أني بعت في حال جنوني [أو صباي]، لكن دعوى الصِّبا مثل حال الجنون إذا عرف، وفي "الحاوي": الجزم بقبول قوله إذا عرف له حال جنون، وكان ثبوت القذف عليه بإقراره، واتصل به: [إنه صدر مني في حالة الجنون]، وحكاية القولين فيما إذا ثبت [القذف] بالبينة، فقال عند ثبوته: كنت عند قذفي مجنوناً، ولم يتعرض لنية بحاله [.....]. قال: فإن عَفَا عن ذلك، أي: ولم يكن هناك ولد- لم يلاعن؛ لأن اللعان حجة ضرورية؛ إنما يستعمل لغرض مهم: وهو قطع النسب، ودرء العقوبة، وقد انتفى ذلك. قال: وقيل: له أن يلاعن لغرض قطع النكاح، ولدفع عار الكذب، والانتقام منها بإيجاب حد الزنى عليها، وإلصاق العار بها. قال: وليس بشيء؛ لأن هذه الأغراض ضعيفة، وقطع النكاح ودفع العار عن نفسه متيسر بالطلاق. ويجري الخلاف فيما لو أقام البينة على زناها، أو صَدَّقته، أو حُدَّ وأراد أن يلاعن لأجل الفرقة، كذا قاله المتولي. ووجَّه القاضي الحسين قول الجواز بأن اللعان يفيد وقوع الفرقة، وتأبُّدَ التحريم،

ونفي الولد، ودرء الحدّ، [وإيجاب الحدّ عليها]؛ فبأن يفيد أحدها [أولى]؛ لأن ما قدر على الكثير كان على القليل أقدر. قال: وإن لم يطالب ولم يعفُ، فقد قيل: له أن يلاعن، وهو ظاهر كلام الشافعي على ما حكاه المتولي، وبه قال أبو إسحاق، ورجحه الإمام. وقال: إنه المذهب الصحيح؛ لأن الحدّ واجب عليه [في ظاهر الحكم]، ولها المطالبة متى أرادت؛ فكان له إسقاطه؛ كرجل ثبت عليه دين، وله حجة على الإبراء، له أن يقيمها وإن كان صاحب الدين لا يطالبه، كذا قاله المتولي، وفيه نظر. قال: وقيل: ليس له أن يلاعن، وهو ما رواه المزني عن الشافعي؛ فإنه قال: ليس عليه أن يلتعن حتى تطلب المرأة حدّها. ورجَّحه الجمهور على ما حكاه الرافعي؛ لأنه لا نسب، والحدّ غير مطلوب، وإنما يصار إلى اللعان إذا أرهقته الضرورة إليه. والقائل الأول قال: النص دال على عدم الوجوب، ولا يمنع الجواز، وهو ما ادعيناه. ثم لا فرق في جريان الخلاف بين أن يكون الطلب ممكناً في الحال كما إذا كانت الزوجة مكلفة، أو لا: كما إذا كانت صغيرة أو مجنونة، وادعى البندنيجي أن المذهب جواز لعانه في حال الصبا، وادعى ابن الصباغ أن الأصح جواز اللعان فيما إذا كانت مجنونة، وأنه ظاهر كلام الشافعي؛ موجّهاً ذلك بأنه حجة [له] يسقط بها حقّاً؛ فكان له ذلك كقضاء الدين. وقال الرافعي: إن رُتب الوجهان في الصغيرة والمجنونة على الوجهين في السكوت كانت هذه أولى بالمنع؛ لأنه لا يتوقع الطلب إلا بعد البلوغ والعقل، وهناك يتوقع لحظة فلحظة. وإن رُتبا على الوجهين في صورة العفو كانت هذه أولى بالجواز؛ لأن الطلب يُتوقَّع في الجملة. [فرع: إذا لاعن عند قذف الصغيرة التي يمكن جماعها، فبلغت- فهل لها أن تلاعن؟ فيه وجهان في "الحاوي"].

قال: وإن قذفها بالزنى، ومثلها لا يوطأ: كابنة سَبْعٍ، عُزِّر؛ للمنع من الإيذاء، والسبِّ، وزجراً عن الخوض في الباطل. قال: ولم يلاعن، أي: وإن بلغت وطلبت؛ لأن اللعان لإظهار الصدق، وإثبات الزنى، وكذبه مقطوع به، وفيه وجه حكاه الإمام وغيره: أنه يلاعن. وقد أُجْرِيَ مثل هذا الخلاف فيما إذا قال للبالغة: زنى بك ممسوحٌ أو صبيٌّ ابن شهرٍ، أو قال للرتقاء [أو] القرناء: زنيت. قال: وإن قذفها وهي زانية، أي: ثبت زناها بإقرارها أو بالبينة- عُزِّر؛ لأنه آذاها بما تكره؛ فعُزِّر كما إذا قذف صغيرة. قال: ولم يلاعن على المذهب، أي: الذي رواه المزني؛ فإنه قال: [عُزِّر] إن طلبت ذلك، ولم يلتعن؛ لأن اللعان لإظهار الصدق، وإثبات الزنى، والصدق ظاهرن والزنى ثابت؛ فلا معنى للعان. وقيل: يلاعن؛ دفعاً للعقوبة كما في تعزير التكذيب، وأيضاً؛ فلقطع النكاح، ودفعاً للعار، ومستند قائله ما رواه الربيع؛ فإنه قال: يعزر إن طلبت ذلك؛ إن لم يلتعن. فجعل عدم الالتهعان شرطً التعزير، وذلك يشعر بأن له أن يلاعن. وقد أُبت القولين ابن القطان، وابن سلمة، والداركي، والأصح منهما: الأول، وبه قطع أبو إسحاق والقاضي أبو حامد، وجعلا ما رواه الربيع من كيسِهِ. قال الرافعي: وهذا الطريق أظهر، وقطع بعض الأصحاب بالقول الثاني، والقائلون به اختلفوا في تأويل رواية المزني: فمنهم من جعل قوله: ولم يلتعن، معطوفاً على قوله: إن طلبت، لا على قوله: عُزِّر، وكأنه قال: عزر إن طلبت التعزير، وامتنع هو من اللعان. ومنهم من حمله على ما إذا قذفها بزنى أضافه إلى ما قبل الزوجية، وأقام عليه البينة، ثم أعاد القذف بذلك الزنى. فائدة: ظاهر النص أن اللعان مشروط بطلبها، وفيه وجه حكاه الإمام وغيره: أن

للقاضي أن يطلبه ويستوفيه، وهو جارٍ في هذا النوع من التعزير. قال: وإن قذف امرأته ولم يلاعن؛ فحُدَّ، ثم قذفها ثانياً- أي بذلك الزنى- عُزّر؛ لما في ذلك من الإيذاء، ولا يجب عليه الحد؛ لأن الحد إنما يجب بالقذف، والقذف: ما احتمل الصدق والكذب، وهذا قد ظهر كذبه في هذا القذف؛ لعجزه عن إقامة البينة واللعان عليه. قال: ولم يلاعن؛ لأنه تعزير أدبٍ وسبّ، وفيه الوجه المذكور في نظائره، أما لو قذفها بغير ذلك الزنى فهل يجب الحدُّ أو التعزير؟ فيه وجهان: أصحهما عند البغوي الاثني، وعند أبي الفرج الزاز الأول، وهل له أن يلاعن لإسقاط العقوبة؟ فيه وجهان، أصحهما: لا؛ لظهور كذبه بالحدّ، ولو قذف زوجته ولاعن، ثم قذفها ثانياً بذلك الزنى، أو أطلق- لم يجب عليه إلا التعزير للأذيَّة. ولا فرق بين أن تكون قد لاعنت لإسقاط الحدّ عنها أو لا. وإن قذفها بزنى آخر فهل يجب عليه الحدّ؟ فيه وجهان: أصحهما، فيما إذا لم تكن لاعنت باتفاق الأصحاب: أنه لا يجب إلا التعزير. وأصحهما: فيما إذا كانت لاعنت عند الغزالي والشيخ أبي علي والمتولي: وجوب الحدِّ، وهو الذي أورده ابن الصباغ، وقال الرافعي: إنه أقرب. وعند القاضي أبي الطيب والبغوي والروياني وجوب التعزير. وفي "الرافعي": أن القفال وأبا علي والصيدلاني حكوا الخلاف في هذه الصورة قولين، وأن القول بوجوب الحدّ هو القديم. وحكى- أيضاً- طريقة قاطعة بوجوب الحدّ عن ابن سريج. ثم الخلاف- على ما حكاه المتولي- جارٍ فيما إذا قذفها بزنى أضافه إلى ما قبل اللعان، سواء كان في حال الزوجيَّة أو سابقاً عليها، وليس له على كل حال أن يسقط هذه العقوبة باللعان؛ لارتفاع النكاح. فرع: لو قذفها أجنبي بعد لعان الزوج نظر: إن كان بغير الزنى الذي قذفها به الزوج، حُدَّ، وإن كان به ولم تلاعن هي فوجهان، وإن لاعنت وجب، وقيل: على الخلاف، والأظهر: الوجوب. قال: وإن قذفها وانتفى عن ولدها، لاعن: أما إذا عيّن الزاني؛ فلقصة هلال بن

أمية، وأما إذا لم يعينه؛ فلقصة عويمر العجلاني. قال: وإن قذفها وانتفى عن حملها، فله أن يلاعن؛ لحديث هلال بن أُميَّة، فإنه لاعن عن الحمل قبل وضعه، وله أن يؤخر إلى أن تضع؛ ليلاعن على يقين. وفي طريقة المراوزة حكاية طريقة أخرى: أن لعانه في حال الحمل يخرج على قولين تأتي حكايتهما من بعد، وسنذكر الفرق بينهما ثَمَّ. ثُمَّ هذا إذا لم يقم البينة على زناها، [أما إذا أقام البينة على زناها] فقد نص الشافعي على أنه لا يلاعن حتى تضع. واختلف الأصحاب على طريقين: فمنهم من جزم بما نص عليه، ومنهم من خرجه على قولين. قال: وإن انتفى عن ولدها، وقال: وطئك فلان بشبهة، أي: وصدقه فلان، وادعى الولد- عرض على القائف، ولم يلاعن لنفيه؛ لأن له طريقاً آخر ينقطع به النسب، وهو العرض على القائف وإلحاقه بفلان، وإنما يُصار إلى نفي النسب باللعان إذا لم يكن للإسقاط طريق آخر؛ ألا ترى أن ولد الأمة لا ينتفي باللعان على الأصح؛ لإمكان نفيه بدعوى الاستبراء؟! وهذه طريقة الشيخ أبي حامد، وادّعى الرافعي أن عليها الأكثرين. فإن ألحقه القائف بفلان لحقه، وإن ألحقه بالزوج فله إذ ذاك أن يلاعن، وكذا إن لم يكن قائفٌ فإنه ينتظر بلوغ الولد: فإن بلغ وانتسب إلى فلان لحقه، وإن انتسب إلى الزوج كان له أن يلاعن، وإن لم يصدقه فلان على الوطء أو لم يدّع الولد، فالولد ملحقٌ بالنكاح، وللزوج نفيه باللعان.

هكذا دلَّ عليه كلام الرافعي، وفي كلام الإمام ما يدل على أن العراقيين لم يشترطوا تصديق الواطئ بالشبهة، ونقل القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق وأبي علي الطبري- على ما حكاه ابن الصباغ- أنه يلاعن لنفيه ابتداء من غيره عرض على قائف. وحكى- أيضاً- أن من الأصحاب من جعل في المسألة قولين، وحكاهما الرافعي وجهين، وأظهرهما: أنه يلاعن، وفي "النهاية" تضعيف غيره ها هنا. وحكى مجلي في كتاب "الدعاوى والبنيات": إذا ولد مولود على فراش نكاح، فادّعاه مدّعٍ، وزعم أنه وطئها بشبهة- لم يقبل، ولم يعرض على القائف؛ لأن هذا يجرُّ فساداً، وسواء اعترف الزوج والزوجة بوطء الشبهة أو لم يعترفا؛ لأن الحق للولد، فإن أقام بينة على وطء الشبهة، قال أبو حامد الغزالي: عرض على القافة. وقد بيّنا أن المذهب خلافه. قلت: وما قاله من أن المذهب خلافه سيأتي الكلام عليه، وما حكاه [عن] الغزالي هو ما أبداه الإمام في ترديد كلامه في باب القافة؛ فإنه قال: إن قلنا: الرجوع إلى قول صاحب الدَّعْوى، فهذا يحرم نسب الفراش، وإن لم نقل ذلك أحوجنا الواطئ إلى إثبات الوطء بالشبهة؛ فإن اعتراف الزوج لا يؤثر فيما نراه، ولا أثر [لاعترافها بالمدعي، والمرعيُّ حقُّ الولد، وهذا أمر مشتبه، وعندي أن الذي أجراه الأصحاب] من غير تعرض لما ذكرناه في وطء ثبت بطريقه، وشهدت به عليه البينة. انتهى. وإذا تأملت ذلك فقد يظهر أنه مناقض للمحكي ها هنا، وسنعيد في أواخر باب ماي لحق به النسب طرفاً من الكلام المتعلق بهذه المسألة. واعلم أن كلام الشيخ- رضي الله عنه- يتضمن صورتين. إحداهما: أن ينسبها إلى وطء الشبهة. والثانية: أن ينسبها إلى الزنى، والواطئ إلى الشبهة.

وقد تقدم الكلام في الصورة الأولى، وفي الثانية هو قاذف لها، وله أن يلاعن لدرء الحدّ، والحكم في اللعان لنفي الولد كما ذكرناه. قال: وإن قال: هو من فلان وقد زنى بك وأنت مكرهة، ففيه قولان: أصحهما: أنه يلاعن لنفيه؛ لتعذّر نفي الولد بغير اللعان. والثاني: [لا] يلاعن؛ لأن آية اللعان وردت في الرمي بالزنى، وهناك يحتاج إلى الانتقام من المرأة وإشهار حالها، وقد انتفى ذلك. وفي المسألة طريقان آخران: أحدهما: ذهب أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة [والطبري] إلى القطع بالقول الأول. والثاني: القطع بالقول الثاني، ونسبه القاضي ابن كج إلى ابن سريج، وهو ما اختاره البغوي. ثم هذا الخلاف يجري فيما لو قال: وطئك وأنت نائمة أو جاهلة. وأما اللعان لغير نفي الولد فينبني على أن التعزير هل يجب لها عليه؟ وفيه خلاف مذكور في الكتاب في باب حدِّ القذف، والمنصوص- على ما حكاه المتولي ها هنا-: أنه يجب، وفي "الشامل" و"التهذيب": أن القول بالوجوب أصح الوجهين؛ لأن فيه عاراً يلحقها كما إذا قذف مجنونة. فإن قلنا يجب عليه التعزير، فله أن يسقطه باللعان على ما حكاه المتولي والبغوي- ويتجه أن يجري فيه الوجه المذكور في نظائره. وفي "الشامل": أنه ليس له إسقاطه باللعان، وهو قضية كلام ابن يونس؛ لاعتقاده أنه تعزير تأديب. وإن قلنا: لا يجب التعزير، فهل له أن يلاعن لدرء حدّ فلان؟ فيه خلاف حكاه المتولي، والذي جزم به البغوي: أن له أن يالعن، ووجهه المتولي بأنه إذا قذف زوجته بأجنبي، ثم لاعنها ولم يسمّ الزاني في اللعان، وقلنا: لا يسقط حق الأجنبي- كان له أن يلاعن لإسقاط حد الأجنبي، وهذا ابتداء لعان، لإسقاط حد المرمي به

في حال ليس لها عليه مطالبة. قال البغوي: ويخالف ما إذا قذف امرأته وأجنبية بكلمة واحدة؛ حيث لا يتمكن من إسقاط حد الأجنبية باللعان؛ لأن فعلها ينفك عن فعل الأجنبية، و [فعلها] لا ينفك عن فعل المرمي به. فرع: لو اقتصر على قوله: ليس هذا [با] بن لي، حكى صاحب "التقريب" في جواز لعانه تردداً، وهذه الصورة أولى بجواز اللعان مما إذا أضاف إلى وطء شبهة؛ لأنه كان يحتمل الجهة التي يثبت فيها النسب، يحتمل جهة الزنى. قال الرافعي: والذي أجاب به المُعْظَم: أنه لا يلتفت إلى ذلك، ويلحق الولد بالفراش، إلا أن يسند النفي إلى سبب معين ويلاعن. قال: وإن قذف زوجته بزنى أضافه إلى ما قبل النكاح، ولم يكن هناك ولد- لم يلاعن، أي: ويجب عليه الحدّ؛ لأنه قذف غير محتاج إليه فلم يلاعن لأجله كما في قذف الأجنبية. قال: وإن كان هناك ولدٌ، أي: يمكن أن يكون من المرمي بالزنى، كما إذا نسبها إلى الزنى قبل النكاح بساعة أو بيومين- فقد قيل: لا يلاعن، وبه قال أبو إسحاق المروزي، ورجحه الشيخ أبو حامد ومن تابعه كالمحاملي والبندنيجي؛ لأنه مقصّر بذكر التاريخ، وكان من حقه أن يقذف مطلقاً، وعلى هذا: له أن ينشئ قذفاً ويلاعن لنفي النسب، فإن لم يفعل فيحدّ، كذا قاله الرافعي، ومفهومه: أنه إذا أنشأ قذفاً ولاعن أنه لا يحد، وقضية كلام القاضي الحسين في "التعليق": أنه يحد؛ فإنه قال: فإن قلنا: ليس له اللعان، فعليه الحدُّ، وله أن ينشئ قذفاً ويلاعن لنفي النسب. قال: وقيل: يلاعن، وبه قال أبو علي بن أبي هريرة والطبري كما لو قذف مطلقاً، وهذا أصح عند القاضي أبي الطيب، وإلى ترجيحه مال الإمام والقاضي الروياني وغيرهما. فعلى هذا: يندفع الحدُّ عنه إذا لاعن، [وهل يجب عليها حد الزنى؟ فيه

وجهان]. وهل لها معارضته باللعان؟ فيه وجهان يجريان في كل لعان لمجرد نفي الولد؛ كما لو أقام البينة على الزنى أو صَدَّقته، كذا حكاه الرافعي، وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنا إن أوجبنا عليها الحدَّ فلها معارضته، وإلا فوجهان، وكذلك قال في "التهذيب": إن أصحهما: أنها لا تلاعن. ورَدَّ المتولي الخلاف المنقول عن أبي إسحاق وغيره إلى وجوب الحد وعدمه، وجزم بأنه يجوز اللعان لنفي النسب، وأجري الخلاف في وجوب الحد- أيضاً- فيما إذا قذفها بعد البينونة بزنىً مطلقاً من غير إضافة إلى حال النكاح، وجعل الحكم في هذه الحالة كالحكم فيما إذا أضافه إلى ما قبل النكاح. قال: وإن أبانها وقذفها بزنى أضافه إلى حال النكاح، فإن لم يكن هناك ولد، حُدَّ ولم يلاعن؛ لأنه قذف أجنبية من غير حاجة [إلى القذف]، وفي "شرح" أبي علي: أن له اللعان؛ لكونها لطخت فراشه بزعمه. قال الغزالي: وهو بعيد. قال: وإن كان هناك ولد منفصل، لاعن، لنفيه؛ لأنه محتاج إلى ذلك لنفي الولد، وإن كان هناك حملٌ، لم ينفصل، فقد قيل: لا يلاعن حتى ينفصل، وهو ما روي عنه في "الجامع الكبير"، وبه قطع أبو إسحاق؛ لأن هذا لعان لنفي الولد، فيعتبر تحققه، وقد يكون الذي تجده ريحاً. قال: وقيل: فيه قولان، وهذا هو الأصح من الطريقين: أحدهما: أنه لا يلاعن حتى ينفصل؛ لما ذكرناه، وهذا أظهر عند الشيخ أبي حامد وجماعة. والثاني: أن له ذلك؛ خشيةً من اخترام المنيَّة كما له ذلك في صُلْب النكاح، ولأن حكم اللحوق يثبت في الحمل كما يثبت في الولد المنفصل؛ فأشبه الحملُ الولدَ المنفصل، وهذا ما أورده المزني في "المختصر"، وهو أظهر عند الشيخ في "المهذب" والبغوي وغيرهما. وبنى بعضهم القولين على أن الحمل هل يلحق بالمعلوم؟ وفيه قولان، وهي

طريقة من أجراهما في اللعان بسبب الحمل في صلب النكاح، والقائل الأول فرق بينهما بأن في صلب النكاح يتصور جريان اللعان دون النسب المتعرض للثبوت، ولا يمتنع أن يجري اللعان على أصله، ثم الولد ينتفي مبيعاً تبعاً، والتبعية ليست منكرة في الحمل؛ فإن الحمل قد يثبت مبيعاً تبعاً للأم وإن كان لا ينفرد بالبيع، فكذلك لا يمتنع أن ينفي بيعاً، بخلاف ما بعد البينونة. فرع: لو لاعن، ثم تبين أنه لم يكن حملٌ، وأن ذلك ريح وقد تَنَفَّسَ- حُدَّ، بخلاف ما إذا لاعن في صلب النكاح؛ فإنه لا يُحدُّ. قال القاضي الحسين في "التعليق": لأن اللعان في صلب النكاح يفرد لدرء الحد وانقطاع الفرقة إن لم يكن نسب، ولا يلاعن بعد البينونة إلا لنفي النسب. قال: وإن قذف أربع نسوة، لاعن أربع مرات، أي: سواء قلنا- يجب لكل واحدة حدٌّ- وهو الجديد- أو لا يجب لجميعهن إلا حدٌّ واحدٌ إذا كان القذف بكلمة واحدة- وهو القديم- لأن اللعان يمين، والأيمان لجماعةٍ لا تتداخل في الأموال؛ ففي اللعان أولى. فعلى هذا: لو أتى بلعانٍ واحدٍ، لم يعتد به إلا في حق التي سماها أولاً، ولو لم يسمّ، وأشار إليهن، واكتفينا بذلك- لم يعتد به في حق واحدة منهن. ولو رضين بلعانٍ واحد، لم يقنع به؛ كما لو رضي المدَّعون بيمين واحدة، ويشبه أن يجيء فيه الوجه المحكي في الكتاب في باب اليمين في الدعاوى، وقد يفرق بينهما بأن الاحتياط في أمر الأبضاع آكد. وقيل: إن كان القذف بكلمة واحدة، وقلنا: يلزمه حدٌّ واحد- كفاه لعان واحد، وينسب إلى أبي إسحاق وابن القطان؛ لأن هذه اليمين حجة تثبت الحد فأشبهت البينة؛ ولذلك لو أقام على رجل شاهداً بحق وعلى آخر بحق آخر، يجوز أن يحلف معه يميناً واحدة يذكر فيها الحقين. فعلى هذا: إذا توافقوا في الطلب، أو لم يشترط الطلب، حصل المقصود باللعان

الواحد، أما إذا اشترطنا الطلب وانفرد بعضهن بالطلب، فلاعن، ثم طلب الباقيات- فيحتاج إلى اللعان، كذا قاله الرافعي، وفيه نظر؛ لأن هذا الوجه مفرّع على القول باتحاد الحدّ، وقد حكى تفريعاً على القول باتحاد الحد: أن واحدةً منهن لو حضرت وطلبت الحدَّ، حدَّ لها، وسقط حق الباقيات؛ فكان لا يبعد أن يكون هذا مثله، وأيضاً: فإنا سنذكر فيما إذا قذف الزوجة بمعين وسماه في اللعان: أنه يسقط ما وجب عليه من حدّه، وإن لم يسمِّه فقولان؛ بناءً على اتحاد الحدّ؛ فكان ينبغي أن يجيء مثله ها هنا. قال: فإن كان بكلمة واحدة وتشاحَحْن في البداية أقرع بينهن؛ إذ لا مزية، فإن بدأ بلعان واحدة من غير قرعة جاز؛ لأنْ الباقياتي صلن إلى حقهن من غير نقصان، وهذا معنى قول الشافعي: إن بدأ بواحدة من غير قرعة رجوتُ ألا يأثم. وحمله الأصحاب- على ما حكاه القاضي أبو الطيب- على ما إذا لم يقصد تفضيل بعضهن على بعض وتجنب الميل. قال: وإن وطئ امرأة في نكاح فاسد، فأتت بولد، فانتفى عنه- لاعن، وكذا لو كان حملاً على أحد الوجهين؛ لأنه يلحقه بحكم الفراش، ولا يمكنه نفيه بغير اللعان، فكان له نفيه باللعان؛ كما في النكاح الصحيح، ويسقط عنه الحد إذا لاعن لنفي الولد إن كان ثم قذف؛ كما انتفى به النسب، وحكى الرافعي أن في "أمالي" أبي الفرج السرخسي في نظير المسألة وجهاً: أنه لا يسقط ولا يجب بلعانه عليها حَدُّ في أحد الوجهين، وبه جزم القاضي الحسين. وعلى هذا: هل لها معارضته باللعان؟ فيه الخلاف السابق. وفي "الرافعي": أنه ربما بنى الخلاف في وجوب الحدّ عليها على أن المرأة تعارض لعانه بلعانها؟ فإن قلنا: تعارضه، وجب عليها حَدُّ الزنى، وإلَّا فلا يجب، وهو الأصح. ولو قذفها، ولم يكن ثَمَّ ولد، وعلم فساد النكاح- فعليه الحدّ، وليس له إسقاطه باللعان، وكذا لو جهل على أحد الوجهين، وهما جاريان في سقوط الحد باللعان في حالة الجهل، كذا هو محكي في "تعليق" القاضي الحسين، والأصح منهما

- وبه أجاب ابن الحداد [في] الصورة الثانية- أنه لا يندفع، على ما حكاه الرافعي، ووجَّهه بأنا تبيّنا فساد النكاح؛ فيلغو كما لو علمنا الحال في الابتداء لا نمكنه من اللعان. قال: واللعان، أي: المعتدُّ به، أن يأمره الحاكم، أي: أو نائبه فيه، فيقول أربع مرات: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به، أي: من الزنى إن كان [ذلك أما اعتبار أمر الحاكم في الاعتداد به؛ فلأنه يمين فلم يعتد به] قبل عرض الحاكم؛ كاليمين في جملة الخصومات، وأما اعتبار العدد في لفظ الشهادة؛ فللآية، وأما اعتبار تسمية ما رماها به؛ فلأنه المحلوف عليه. قال: ويسميها إن كانت غائبة، أي: عن البلد، أو عن المجلس؛ لحيض أو كفر، ولم يرضَ الزوج بلعانها في المسجد، أو كان ذلك في المسجد الحرام، فيقول: زوجتي فلانة، ويرفع في نسبها حتى تتميز عن غيرها، وفي "تعليق" الشيخ أبي حامد: حتى يميزها عن سائر زوجاته إن كان في نكاحه غيرها، قال الرافعي: وقد تشعرُ هذه اللفظة بالاستغناء بقوله: فيما رميت به زوجتي، عن الاسم والنسب إذا لم يكن تحته غيرها. قلت: إن صح ذلك فيكون شرطه معرفة الحاكم بها. قال: ويشير إليها إن كانت حاضرة، أي فيقول: زوجتي هذه، ولا يحتاج مع ذلك إلى ذكر اسمها ونسبها؛ لأن المقصود تمييزها، وذلك يحصل بما ذكرناه كما في سائر الأحكام. واعلم أن تفسير الإشارة بما ذكرناه نقله البندنيجي والمتولي وغيرهما، ولم يتعرّض القاضي الحسين [في "التعليق"] في تفسيرها إلى ذكر الزوجيَّة؛ بل قال: يقول: هذه وكذلك البغوي، ولم يحك غير هذا القول. قال: وقيل: يجمع بين الاسم والإشارة، أي: فيقول: زوجتي هذه فلانة، ويرفع في نسبها؛ لأن اللعان مبني على التغليظ والاحتياط، فيؤكد الإشارة بالتسمية ورفعِ النسب. قال الرافعي: وقد يقال على قضية هذا التوجيه: لا يكفي في الحاضرة التسمية

ورفع النسب حتى يضم إليه إشارة، بل أولى؛ لأن الإعراض عن الإشارة والعدول إلى التسمية في الحاضرة قد يجر لَبْساً. وفي "التتمة": أنه يكفي الإتيان بأحدهما: الاسم، أو الإشارة؛ اعتباراً بالنكاح. قال: ويقول في الخامسة: وعليّ لعنة الله إن كنت من الكاذبين؛ للآية، فإن كان هناك نسب ذكره في كل مرة؛ لأن كل مرة بمنزلة شاهد، فيقول: وإن هذا الولد أو الحمل- إن كان بها حملٌ- من زنى وليس منَّي، وإن كان الولد غائباً، قال: وإن الولد الذي ولَدَتْهُ على فراشي من زنىً [وليس مني، ولو اقتصر على ذكر الزنى لم يكفِ] عند الأكثرين، فلا ينتفي به الولد؛ لأنه قد يعتقد أن الوطء بالشبهة أو في النكاح الفاسد زنى، وفي "التهذيب": أن أصح الوجهين الاكتفاء به؛ حملاً للّفظ على حقيقته. وعلى الأول: له أن يعيد اللعان لنفيه قولاً واحداً، وإن كان حملاً، وقلنا: لا يلاعن للحمل بعد البينونة إلَّا بعد الانفصال؛ لأن هذا اللعان بموجب القذف الأول، وقد كان يمكنه نفيه؛ فاستديم ذلك الحكم. ولو اقتصر على قوله: ليس مني، فالمشهور: أنه لا يكفي؛ لاحتمال أن يريد به عدم المشابهة خَلْقاً وخُلُقاًن وفيه وجه. قلت: يشبه أن يكون قائله هو الصائر إلى جعله قاذفاً [لأمَّهِ] بمثل هذا القول، ووجهَّه المتولي بأن عليه أن ينفي النسب عن نفسه، وليس ليه أن يبيَّن الجهة التي حصَل منها الولد. ولو أغفل نفي الولد في بعض الكلمات الخمس احتاج إلى إعادة اللعان [لنفيه، دون لعان المرأة على الأصح. وفيه وجه: أنها تحتاج إلى إعادة اللعان]-[أيضاً-] حكاه الشيخ أبو علي، وطرده، فيما إذا أتت بولد ونفاه، [ثم أتت بآخر لدون ستة أشهر ونفاه] ولاعن، فهل يحتاج إلى إعادة اللعان إن كانت قد لاعنت؟ والوجه في الصورة الأولى مستمدٌّ [مما سنذكره عن القفال وغيره: أنها تحتاج في

لعانها إلى ذكر الولد، وفي الثانية مستمد] من ذلك ومن وجه سنحكيه في الفرع بعده، والأصح: المنع. ثم ظاهر كلام الرافعي يقتضي أن يعيد جملة كلمات اللعان؛ لأنه قال: ولو أغفل نفي الولد في بعض الكلمات الخمس احتاج إلى إعادة اللعان. قلت: وكان يحتمل أن يقال: إن قصر الزمان أعاد الكلمات التي لم يذكر فيها الولد، وإن طال فينبني على أن كلمات اللعان لو تقطعت بفصول متخللة هل يجب إعادتها، أم يجوز البناء فيها والاعتداد بما مضى؟ وفيه تردد للأصحاب، والأشبه: اشتراط الموالاة عند الرَّافعي، والمذكور في "التهذيب" جواز التفريق، فإن قلنا: تجب الإعادة، فكذلك ها هنا، وإلَّا فلا، وهذه الإعادة ذكرها الإمام فيما إذا ماتت المرأة في أثناء لعانه. فرع: لو لاعن لنفي ولدٍ، ثم أتت امرأته بولدٍ آخر لدون ستة أشهر من ولادة الأول، ولاعن لنفيه- هل يحتاج إلى ذكر [الولد] الأول في اللعان الثاني؟ فيه وجهان، الأصح منهما في "جمع الجوامع" للروياني: أنه لا يحتاج. قال: وإن قذفها بزنَاءَيْن، أي: واكتفينا بلعان واحد- وهو الأصح- ذكرهما في اللّعان، أي: في كل مرة؛ لأنه قد يكون صادقاً في أحدهما دون الآخر، فيقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزناءَيْنِ. وفيه وجه: أنه يلاعن مرتين؛ بناءً على أنه يجب لكل قذف حدٌّ. قال: فإذا لاعن، أي وأكمل اللعان- سقط عنه الحد؛ للآية فإنها تدل على إقامة اللعان في حق الزوج مَقامَ الشهادة في حق غيره. قال: وانتفى عنه النسب؛ لما روى مالك عن نافع عن ابن عمر- رضي الله عنهم- أن رجلاً لاعن امرأته في زمن- رسول الله- صلى الله عليه وسلم وانتفى عن ولدها؛ ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وألحق الولد بالمرأة.

قال: ووجب عليها حد الزنا، أي: إذا كان القذف بزنى أضافه إلى حال الزوجية وكانت مسلمةً؛ لقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] إلى آخرها، وهذا يدل على وجوبه عليها بلعانه، ولأن اللعان بمنزلة البيّنة في إسقاط الحدّ عنه؛ فكان كالبينة في وجوب الحدّ عليها، ويخالف الزاني حيث لم يوجب عليه الحدّ بلعان الزوج؛ لأنه لو وجب لما تمكَّن من إسقاطه باللعان، وفي ذلك ضرر، بخلاف [الزوجة]. أما إذا قذفها بزنى أضافه إلى ما قبل الزوجية، ولاعن لأجل نفي النسب- فقد ذكرنا في وجوب الحدّ عليها وفي معارضتها لعانه بلعانها وجهين. وأما إذا كانت ذمية، فقد نص الشافعي على أنها لا تجبر على اللعان، ولا تحد إذا امتنعت حتى ترضى بحكمنا، فإذا رضيت حكمنا في حقها بما نحكم به في حق المسلمة. وللأصحاب طريقان: أحدهما: تخريج المسألة على القولين في أنهم إذا ترافعوا إلى حاكمنا هل يجب عليه الحكم بينهم؟ فيه خلاف يأتي: إن قلنا: يجب، فإذا لم تلاعن أقام عليها الحد رضيت أو لم ترضَ، وإن قلنا: لا يجب، فإنما نحدّها إذا رضيت بحكمنا، والنص محمول على هذا القول. والطريق الثاني- حكاه الإمام مع الأول-: القطع بأنها لا تجبر، ولا يجري عليها الحكم إلّا إذا رضيت؛ لأنه إذا لاعن الزوج انقطعت خصومته معها، وكان الباقي بعده حَد الزنى، وهو محض حق الله- تعالى- ونحن لا نجبر أهل الذمة على حقوق الله- تعالى- لأنها مَبْنِيّة على المسامحة. [وقد حكى القاضي الحسين في "تعليقه" الطريقين في إقامة الحدّ على الكافر إذا أقرَّ بالزنى أو قامت عليه البيّنة: منهم من قال: في إقامة الحدّ عليه قهراً قولان. ومنهم من قال: لا يقام عليه قولاً واحداً، إلَّا أن يرضى بحكمنا؛ لأنه من حقوق الله تعالى، وهي مبنيّة على المسامحة]. وعن القفال؛ بناءً على انقطاع خصومة الزوج باللعان: أنه إذا لاعن الزوج المسلم عن الزوجة المسلمة لم يتوقف عرض اللعان عليها على طلبه؛ بل يقوم به الحاكم

ويقول لها: إن لاعنتِ سلمتِ، وإلا أقمتُ عليكِ الحدّ. قال الرافعي: ويقرب من هذا الكلام أن الذين جعلوا المسألة على قولين ذكروا أنه لا فرق بين أن يكون الزوج الملاعن مسلماً أو ذميّاً؛ وإن قطعنا بوجوب الحكم فيما إذا كان أحد الخصمين مسلماً والآخر ذميّاً، لأن الزوج إذا لاعن خرج عن أن يكون خصماً لها، وما بعد لعانه يتعلق بها على الخصوص؛ فتخرج الصورة عن أن تكون خصومة مسلم وذمّي. واعلم: أن الرافعي- ها هنا- قد أطلق القول بأنها إذا لم تلاعن نحدّها إذا رضيت؛ على القول بأنه لا يجب الحكم. ومقتضى ما حكاه ابن يونس في باب "عقد الذمة" عن الأصحاب: أنها لا تحدّ ما لم يحكم الحاكم بالحد، وترضى به بعد الحكم؛ فإنه قال على القول بعدم وجوب الحكم- إذا تراضوا- حكم بينهم، ويشترط إلزامهم بعد الحكم للزومه. نعم حكى الإمام ثَمَّ إذا حكم حاكمنا- عند رضاهم- نفذَ حكمه، ولا خِيَرَةَ لهم بعد نفوذ الحكم، وهذا يوافق إطلاق الرافعي ها هنا. قال: وبانت منه؛ لحديث ابن عمر- رضي الله عنهما- وهي تحصل ظاهراً وباطناً، وإن كان الزوج كاذباً. وحكى أبو الفرج وجهاً [آخر]: أنها لا تحصل باطناً إذا كان الزوج كماذباً. والمذهب الأول، والفرقة الحاصلة به فرقة فسخ عندنا؛ لأنها تحصل بغير لفظ فأشبهت الردة. قال: وحرمت عليه على التأبيد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال للعجلاني- لما قال لامرأته بعد اللعان-: "كَذَبْتَ عَلَيْهَا إِنْ أَمْسَكْتَهَا؛ هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثاً، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا"، فنفى السبيل على الإطلاق من غير تقييد؛ فلو لم يكن مؤبداً، لبيّن الغاية، كما بينها- سبحانه وتعالى- في تحريم المطلقة ثلاثاً، ولما روى ابن عباس وابن عمر- رضي الله عنهم- أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَداً". وفيه- أيضاً- دلالة على حصول البينونة؛ إذ لو لم تحصل لكان الاجتماع حاصلاً، ولكان له عليها سبيل. وهذه خمسة أحكام كلها تتعلق بلعانه، ولا تحصل قبل تمامه، ولا شيءٌ منها، ومن

الأصحاب من رَدَّ أحكام اللعان إلى ثلاثة، وأدخل البينونة في لفظ التحريم المؤبد، وقال: انتفاء النسب يختص بما إذا كان ثَمَّ ولدٌ ونَفَاهُ، وليس ذلك حكماً لمطلق اللعان. وهذا ليس باختلاف في الحقيقة، والأولى المذكور أولاً؛ فإن التحريم المؤبد المتفق عليه يحصل عند وجود البينونة باللعان، أما إذا كانت البينونة حاصلة [قبل اللعان كان في التحريم المؤبد] وجهان حكاهما المتولي. ثم كان من حق هذا القائل أن يقول في وجوب الحدّ عليها مثل ما قاله في النسب؛ فإن ذلك يختص بما إذا كان ثَمَّ قذفٌ، [أما إذا لم يكن ثم قذف]: بأن نسبها إلى وطء شبهة أو استكراه على الزنى- حيث يجوز اللعان- فإن لعانه لا يثبت عليها حَدّاً، فليس ذلك حكماً لمطلق اللعان. فرع: لو كانت الملاعنة أمة، فملكها الزوج فقد ذكرنا في حل وطئها له طريقين: أحدهما: طرد الخلاف المذكور في المطلقة ثلاثاً إذا ملكها قبل أن تنكح. والثاني: القطع بعدم الحل. وذكرنا الفرق. تنبيه: قد ظهر لك أن اللعان يترتب عليه من الأحكام ما لا يترتب على إقامة البيّنة على زناها؛ فإنه لا يثبت من هذه الأحكام سوى حَدّ الزنى عليها، وأن إقامة البينة يترتب عليها وجوب الحدّ على الزاني [ولا يجب عليه] باللعان؛ فلذلك يُمَكَّن من الإثبات كل واحد منهما. قال: فإن كان قد سمَّى الزاني في القذف وذكره في اللعان، أي: مثل أن قال: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى بفلان- ويرفع في نسبه- أربع مرات، وكذلك في الخامسة. قال: سقط عنه ما وجب عليه من حَدّه؛ لقوله- تعالى-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ...} [النور: 6] إلى آخرها، فجعل للزوج الخروج باللعان، ولم يفصل بين أن يرمي رمياً مطلقاً أو مضافاً إلى رجلٍ بعينه، قاله المحاملي، وهو على اعتقاد من ذهب

إلى أن سبب نزول الآيات قصّة عويمر، وأن عويمراً لم يقذفها بمعيّن. أما من اعتقد أن سبب النزول قصة هلال، فالآية دالة على خصوص المدَّعَى؛ لأن من قال: [إن] العبرة بعموم اللفظ، قطع بدخول السبب في الحكم، ولأن اللعان معنىً يتخلّص به عن قذفها؛ فتخلص به عن قذفه كالبيّنة. قال: وإن لم يسمِّه- أي: في اللعان- ففيه قولان: أحدهما: يسقط عنه، ويروي عن "الإملاء" و"أحكام القرآن"، واختاره المزني. وقال الجيلي: إنه الأصح؛ لأنه أحد الزانيين فسقط حَدُّه باللعان كالمرأة، قال القاضي الحسين: ولأن العجلاني رمى امرأته بِشَرِيك بن السَّحماء، ولم يسمِّه في اللعان، ولم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه: هل يطلب حقه أم لا؟ ولو كان له حق ثابت على العجلاني لأخبره به؛ لأن الإمام إذا عرف حقّاً ثابتاً لواحد وهو لا يشعر به، وجب عليه أن يبعث إليه فيه ويخبره به. وما قاله من أن الإمام يجب عليه أن يخبر بما عرفه من الحق صاحبَهُ قد يُمْنَعُ؛ فإن الإمام حكى في ذلك وجهين. وبعدم الوجوب قال الشيخ أبو حامد- على ما حكاه البندنيجي- معبراً عن ذلك بأنه: يستحب أن يبعث إليه ويعرفه. وعلى تقدير التسليم- وهو الذي عليه الأكثرون- فذاك مفروض فيما إذا لم يعلم من له الحق به، وهذه الواقعة قد اشتهرت ويبعد خفاؤها عن شريك؛ فلعل ترك الإرسال كان لعلم شريك بذلك. وقد حكى هو- أيضاً- عن رواية الشافعي في "الإملاء": أنه- عليه السلام- سأل شريكاً، فأنكر. قال: والثاني: لا يسقط، وهو المحكي في الجديد والقديم، على ما حكاه المحاملي وقال: إنه [الأصح]، وعلى ذلك جرى القاضي الروياني والنووي؛ لأنه حَدٌّ يسقط باللعان فكان من شرط سقوطه ذكره كما في جانب المرأة. وبنى بعضهم القولين على أن وجوب الحدي ثبت أصلاً أو تبعاً لقذف الزوجة؟ فإن قلنا: يثبت تبعاً، سقط عنه تبعاً، وإن جعلناه أصلاً فلا بد من تسميته، ويشهد

للتبعية أنه يكفي طلبها اللعان، ولا تشترط موافقته. وعلى الأصح: إذا أراد إسقاط الحد أعاد اللعان ويَذكره فيه، قال الإمام: وكذلك الزوجة. تنبيه: الألف واللام في "الزاني" لبيان الجنس، حتى إن حكم الاثنين فما فوقهما كذلك. قال: وقيل: إن كان اللعان في نكاح فاسد، لم يحرم على التأبيد؛ لأنه لعان لا يؤثر في التحريم وقطع النكاح، فلا يؤثر في تأبيد الحرمة الذي هو كالفرع والوصف له، وبهذا قال ابن الحداد، وهو يجري فيما إذا لاعنها بعد البينونة بقذف بزنى أضافه إلى حال الزوجية، سواء كان الحِلُّ ثابتاً له في الحال: كما إذا كانت أمة فاشتراها، أو غير ثابت، وفيما إذا لاعن لنفي النسب خاصّة ولو في صلب النكاح، على ما حكاه في "التتمة". ولو لاعن لدرء حدّ المرمي [بالزنى خاصة]: كما إذا رماها برجل بعينه، وأقرت بالزنى، أو عَفَتْ- ففي "التهذيب" أنه قيل: يتأبد، ويحتمل غيره. هذا لفظه. قال: وليس بشيء؛ لعموم الخبر، ولأن اللعان معنىً لو وجد في صلب النكاح أوجب التحريم المؤبد؛ فكذلك إذا وجد خارجه كالرضا،. ومحل هذا القول ما إذا كان اللعان لأجل النسب، أما إذا قذفها في النكاح الفاسد، ولاعن لنفي الحدّ، ثم بان أن النكاح كان فاسداً- قال ابن الصباغ: فلا يحرم وجهاً واحداً. ولم يحكِ في "التهذيب" سواه، وفي كلام الرافعي إشارة إلى جريانه- أيضاً- إذا أسقطنا به الحدّ؛ لأنه قال عقيب القول بعدم سقوط الحدّ: وعلى هذا لا يتأبّد التحريم، ولا يثبت شيء من أحكام اللعان. [قال في "الحاوي": وإذا قلنا بعدم التحريم المؤبد عند الملاعنة في المبتوتة، فهل يجري عليها حكم الطلاق الثلاث حتى لا تحل له إلَّا بعد زوج؟ فيه وجهان]. قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ

تَشْهَدَ} الآية [النور: 8]. قال: فيأمرها الحاكم أن تقول أربع مرات: أشهد بالله [إنه]، أي: إن زوجي، وتسمِّيه أو تشير إليه، والكلام فيه كالكلام المتقدم فيها. قال: لمن الكاذبين فيما رماني به، أي: من الزنى؛ لأنه المنفيُّ، وتذكر ما رماها به من زنى أو أكبر منه، ولا تحتاج إلى ذكر النسب في اللعان عند الأكثرين؛ غذ لا يتعلق بلعانها، وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنها تقول: وإن الولد ولده. ولم يحك سواه، وه وما حكاه الروياني في "جمع الجوامع" عن حكاية القفال وجهاً. قال: وفي الخامسة: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ}؛ للآية [النور: 9]، ويقوم مقام أمر الحاكم فيما إذا كان الزوجان رقيقين لرجل أَمَره به؛ لأنه يملك إقامة الحدّ عليهما فأشبه الحاكم، كذا قاله في "المهذب" [و"الشامل"] وغيرهما. وفي "التتمة": أن ذلك ينبني على أن السيد هل له سماع البينة على زنى رقيقه؟ وفيه خلاف: فإن قلنا: يسمع البيّنة، فيتولى اللعان، وإلَّا فلا، وهكذا زوج الأمة إذا قذفها ولاعن وأوجبنا الحدَّ عليها، فهل للسيد أن يتولى اللعان في حقها أم لا؟ فعلى هذين الوجهين. قال: فإذا لاعنت سقط عنها الحدُّ؛ للآية. قال: وإن أُبْدِل- أي: بضم الهمزة- لفظ الشهادة بالحلف أو القسم، فقد قيل: يجوز؛ لأن اللعان [عندنا يمين، ولفظ الحلف والقسم صريح في اليمين، ولفظ الشهادة] كناية؛ فكان الصريح أولى. قال: وقيل: لا يجوز، وهو الأصح في "الرافعي"؛ لأن الله- تعالى- أمره بلفظٍ، فإذا أخلَّ به لم يعتقد به؛ كالشاهد إذا أخل بلفظ الشهادة. وأجرى في "التهذيب" الوجهين فيما إذا قال: بالله إني لمن الصادقين، من غير زيادة، وقطع صاحب "التتمة" بالمنع فيه. ويجريان أيضاً فيما لو أبدل لفظ اللعن بالإبعاد، ولفظ الغضب بالسخط. قال: وإن أبْدَلَتْ لفظ الغضب باللعنة؛ لم يجز. قال الشيخ أبو حامد

والمحاملي والبندنيجي: بلا خلاف؛ لأن المنصوص عليه الغضب، وهو أعظم من اللعن؛ لأن اللعن: الإبعادُ، والغضب يتضمنه وزيادة؛ ولذلك خُصَّ بجانب المرأة؛ لأن جريمة الزنى منها أقبح، من جناية القذف منه؛ ولذلك تفاوت الحدَّانِ. وحكى المسعودي وجهاً: أنه يجوز، وكذلك الغزالي أيضاً. قال: وإن أبدل الزوج لفظ اللعنة بالغضب، فقد قيل: يجوز؛ لأنه أغلظ، وقيل: لا يجوز- وهو الأصح في "التهذيب"- لأنه عدل عن المنصوص عليه. قال: وإن قدّم لفظ الغضب أو اللعنة على الشهادة، [لم يجز]، أي: سواء كان [على] جملة كلماتها أو على بعضها؛ لقوله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [النور: 7]، {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور: 9] فشرط اللعن والغضب في الخامسة؛ فإذا أتى بهما قبل ذلك لم يعتد به. قال: وقيل: يجوز؛ لأن المقصود من اللعان التغليظ، وقد حصل. قال: والأول أصح. وادّعى البندنيجي أنه المذهب؛ لأن اللعن والغضب لكونه من الكاذبين فيما شهد به، وذلك يتأخر عن الشهادة. قال القاضي الحسين في "التعليق": وأصل هذه المسائل كلها أن المراعي في اللعان اللفظ، ونظم التنزيل، أو المراعى فيه المعنى؟ فعلى وجهين: إن راعينا نظم التنزيل فلا يجوز أن يأتي بغيره، وإلَّا فيجوز. قال: وإذا لاعنت المرأة قبل الرجل لم يعتد به؛ لأن لعانها لدرء الحدّ عنها، وذلك يجب بلعان الزوج؛ فلم يصح لعانها قبله، ولأ، اللعنا إما يمين وإما شهادة، وكلٌّ منهما إذا تقدّم على وقته، لم يعتد به. وهذا كله في كيفية لعان الناطق، أما الأخرس فيلاعن بالإشارة، فإن لاعن بالكتابة فيكتب كلمة "الشهادة" وكلمة "اللعن" أو "الغضب"، ويشير إلى كلمة "الشهادة" أربع مرات، وإلى الكلمة الأخرى مرة، ولا يكلّف أن يكتب [كلمة] "الشهادة" أربع مرات، وهذا الطريق الأخير فيه جمع بين الكتابة والإشارة، وهو جائز، لكن قضية التصحيح بالكتابة المجردة أن يكرر كتابة

كلمة "الشهادة" أربع مرات، هكذا حكاه الرافعي، وحكى [عن] الإمام بعد نقل المذهب في صحة لعان الأخرس أنه قال: ويختلج إشكال في الصدر في تأدية كلمات اللعان، لاسيما إذا عينا لفظ "الشهادة"؛ لأن الإشارات لا ترشد إلى تفصيل الصيغ. قال: والذي ينقدح في وجه القياس: أن كل مقصود لا يختص بصيغة فلا يمنع إقامة الإشارة مقام العبارة، وما يختص بصيغة مخصوصة فيغمض إعراب الإشارة عنها، ولو كان في الأصحاب من يشترط في الأخرس الكتابة إن كان يحسنها، أو يشترط من ناطق أن ينطق بها ويشير إلى الأخرس ويقول: يشهد كذا، ويقرره الأخرس بالإجابة- لَقَرُبَ بَعْضَ القُرْبِ، فأما الإشارة المجردة فلا يهتدي إلى دلالتها على صيغة [مخصوصة]. وما تمنى أن يكون في الأصحاب من يقول به، حكاه في "البسيط" عن بعض الأصحاب، وهو كالمنفرد بالقول وينقله عن غيره. قال: والمستحب أن يتلاعنا من قيام، أيك يقوم الرجل عند لعانه والمرأة جالسة، ثم تقوم المرأة عند لعانها ويجلس الرجل، والدليل على اعتبار ذلك: ما روى ابن عباس- رضي الله عنهما- في قِصّة هلال بن أمية أنه قام فشهد، ثم قامت فشهدت. ولأن المقصود من اللعان الردعُ والزجر عن اليمين الفاجرة؛ فإذا لاعن قائماً كان أبلغ في الردع والزجر، ولا يجب ذلك؛ لأن اللعان إما يمين أو شهادة، وليس القيام واجباً في واحد منهما. وفي "التتمة": أنه إذا لاعن وهو قاعد، لا يعتد به إلَّا أن يكون عاجزاً، واستدل عليه بقوله- عليه السلام- لهلال: "قُمْ وَاشْهَدْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ". وفي "تعليق" القاضي الحسين ما يرشد إليه أيضاً؛ فإنه قال: يؤمر أن يلاعن قائماً، فإن عجز فقاعداً كما في الصلاة. قال: فإذا بلغ الرجل إلى [لفظ] اللعنة أو المرأة الغضب، استحب [للحاكم أن يقول]: إنها- أي: اللفظة الخامسة- موجبة للعذاب، أي: في الدنيا، وعذاب

الدنيا أهون من عذاب الآخرة، أي: فاتَّق الله، و [إني] أخشى إن لم تكن صادقاً أن تبوء بلعنة الله. ويقرأ عليه: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} الآية [آل عمران: 77]. قال: ويأمر رجلاً أن يضع اليد على فيه، ويأمر امرأة أن تضع اليد على فمها، أي: [إن لم ينزجر] بالوعظ، ثم يعيد الوعظ عند وضع اليد على الفم. قال: فإن أبَيَا، أي: إلا إتمام اللعان، تركهما، روى نحواً من ذلك ابن عباس في قصة هلال. ويستحب أيضاً أن يعظمها قبل اللعان؛ لما روى ابن عباس- رضي الله عنهما أنه- عليه السلام- في قضية هلال فعل ذلك. وأن يذكر لهما عند اللعان لنفي النسب قوله- عليه السلام-: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَلَيْسَتْ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللهُ الْجَنَّةَ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، احْتَجَبَ اللهُ مِنْهُ وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ"، والمعنى في قوله: "وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ" لأنه في حالة النظر إليه يكون أرق وأشفق عليه، فإذا جحده ونفاه كان أبلغ في هتك الحرمة وارتكاب الجريمة، وما روى في حديث المعراج أنه صلى الله عليه وسلم: "رَأَى نِسْوَةً مُعَلَّقَاٍ بِثُدِيهِنَّ، فَسأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ حَالِهِنَّ، فَقَالَ: إِنَّهُنَّ اللاتِي أَلْحَقْنَ أَزْوَاجَهُنَّ مَن لَيْسَ [مِنْهُنَّ"، وقال- عليه السلام-: "اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ] مِنْهُمْ؛ فَأَكَلَ جَرَائِبَهُمْ، وَنَظَرَ إِلَى عَوْرَاتِهِمْ".

والجرائب: جمع "الجريبة"، وهي الحمال النفيس الذي يقصد بنفاسته، وعني به المواريث والنفقات. قال: ويلاعن بينهما بحضرة جماعة، أي: من أعيان البلد وصلحائه؛ لأن ذلك [تعظيم للأمر]. وقد حضر اللعان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد- رضي الله عنهم- مع حداثة سنهم، والصبيان لا يحضرون المجالس إلَّا تابعين للرجال؛ فيدل على أنه قد حضر جماعة من الرجال فتبعهم الصبيان، ولأن اللعان مبني على التغليظ للرّدع، وجعله في جماعة أبلغ في الردع. قال: أقلهم أربعة؛ لأن اللعان سبب للحدّ، ولا يثبت الحدّ إلَّا بأربعة؛ فاستحب أن يحضر ذلك العدد، [ومن هذا يظهر لك اعتبار كونهم من أهل الشهادة عُدُولاً؛ كما قاله الماوردي]. واستدل بعضهم على ذلك بقوله- تعالى-: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، ولا دلالة فيها؛ فإن الإمام حكى في هذا الباب عند الكلام في اللعان في الحدّ أن معظم المفسرين قالوا: المراد بهم شهود الزنى؛ فلعل الغرض أن يعاينوا ذلك، فإن كان ثم ريب رجعوا إذا عاينوه. قال: ويلاعن بينهما بعد العصر؛ لأن القصد من اللعان الزجر والردع؛ فاعتبر فيه الوقت الذي تكون اليمين فيه أغلظ؛ وهو بعد العصر، قال الله- تعالى-: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106]، ولقد أجمع المفسرون- على ما حكاه ابن يونس- أن المراد بالصلاة: صلاة العصر. وروى أبو هريرة

أنه- عليه السلام- قال: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]- وَعَدَّ مِنْهُمْ-: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بَعْدَ الْعَصْرِ: لَقَدْ أُعْطِيَ بِسِلْعَتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ". وحكى الإمام أن عمر كُتِبَ إليه في جارية ادّعِيَ عليها القذف، فأنكرت، فكتب في الجواب: أخِّروها إلى بعد صلاة العصر، ثم حَلِّفوها، ففعل فاعترفت. وهذا إذا كان ثم طلبٌ حاثٌّ، فإن لم يكن قال القفال وغيره: تؤخّر إلى يوم الجمعة؛ فإنه أعظم في النفوس لأجل الساعة التي فيه. قال: فإن كان بمكة، لاعن بين الركن والمقام؛ لأن شرف المكان الذي يقع فيه اللعان مطلوب؛ لأن اليمين تكون فيه أغلظ؛ فيحصل مقصود اللعان: وهو الزجر والرَّدْع، وذلك يختلف باختلاف الأماكن؛ فإن كان بمكة لاعن بين الركن والمقام- كما قال الشيخ-[وهو المسمى بالحطيم]؛ لأنه أشرف البقاع فكان اللعان فيه أغلظ، والدليل عليه: ما روى أن عبد الرحمن بن عوف رأى قوماً يحلفون بين الركن والمقام، فقال: على دمٍ؟ فقالوا: لا، قال: فعلى عظيم من المال؟ قالوا: لا، قال: لقد خشيت أن يَبْهَأَ الناس بهذا المقام. وروى عن القفال: أنه يلاعن في الحِجْر. قال: وإن كان بالمدينة، فعند منبر النبي صلى الله عليه وسلم- وهذا قول الشافعي في [غير] "المختصر"، وبه قال أبو علي بن أبي هريرة، وهو الصحيح في "التتمة"، ووجهه: ما روى عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ حَلَفَ عِنْدَ مِنْبَرِي عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ [وَلَوْ بِسِوَاكٍ، وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ". فإن قيل: فقد روى جابر أنه- عليه السلام- قالك "مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ]، تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"، وهذا يدل على شرف المنبر، فهلا قلتم

باللعان عليه؟ وقد روى أن الشافعي- رَضي الله عنه- قال في موضع آخر: يلاعن على المنبر، ويعضده ما روى أنه- عليه السلام- لاعن بين العجلاني وامرأته على المنبر. فالجواب: ما قاله أبو علي بن أبي هريرة-: أن الصعود على المنبر علوٌّ وشرف، والملاعن ليس في موضع العلو والشرف، وما روى أنه صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته على المنبر- محمولٌ على أنه- عليه السلام- كان على المنبر دونهما، ويؤيده: ما روى المتولي عن عبد الله بن جعفر أنه- عليه السلام- لاعن بين العجلاني وامرأته عند المنبر. وقوله- عليه السلام-: "عَلَى مِنْبَرِي" محمول على معنى: عند منبري، كما رواه أبو هريرة؛ لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، وعلى ذلك حمل نص الشافعي. ووراء هذا القول وجوه أُخَر: أحدها: أنه يلاعن بينهما على المنبر كما حكى عن نص الشافعي في موضع آخر؛ لحديث جابر والعجلاني وإجرائهما على ظاهرهما، وهو الذي صحّحه صاحب "التهذيب"، وفي كتاب القاضي ابن كج [حكاية] طريقة قاطعة به. والثاني-[حكاه الماوردي-: أن الحاكم مخيّر بين أن يلاعن بينهما عند المنبر أو عليه. والثالث-] قاله أبو إسحاق-: إن كان الخلق كثيراً لاعن على المنبر، وإلَّا فعند المنبر، وحمل اختلاف نص الشافعي في ذلك على هذين الحالين، ونفى أن يكون في المسألة خلاف، وحكى البندنيجي أنه المذهب، وقال المحاملي: إنه الأصح. قال: وإن كان ببيت المقدس، فعند الصخرة؛ لأنه أشرف البقاع به، [وهذا قول أبي القاسم الصيمري وابن القطان، وحكى الماوردي عن الشيخ أبي حامد وطائفة: أنه

يكون على المنبر أو عنده؛ لأنه أخص بالشهرة] قال: وإن كان في غيرها من البلاد، ففي الجوامع؛ لأنها أشرف البقاع. قال: عند المنبر أو على المنبر، كما قلنا في المدينة، وقد حكى ذلك- أيضاً- القاضي الحسين في "التعليق"، وقال ابن الصباغ: لا يختص بالمنبر؛ لأنه لا مزية لبعض الجامع على بعض، ويخالف المدينة؛ فإنه- عليه السلام- قال: "بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ"، وهو قضيّة ما حكاه في "المهذب" و"المجموع" للمحاملي "وتعليق" البندنيجي. وفي "التتمة": أنّا إذا قلنا في المدينة: إنه يصعد على المنبرن فكذلك في غيرها، وإن قلنا: يلاعن عند المنبر، ففي غيرها وجهان. فإن قيل: جزم الشيخ فيما إذا كان بالمدينة أنه يلاعن عند المنبر، وها هنا قال: "عند المنبر أو على المنبر"، وذلك يقتضي إما التخيير وإما التنويع باعتبار حالة الكثرة والقلة، والحكم في الصعود على المنبر في المسألتين واحد عند الأصحاب؟ فالجواب: أن ما ذكره الشيخ ها هنا يجوز أن يريد به التنبيه على أن الحكم في مسألة المدينة كذلك [كما حكيناه وجهاً، وأشار إليه الماورديب قوله: ويكون عند المنبر وعليه- على ما مضى]. على أني رأيت في بعض نسخ "الشرح" لابن يونس حكاية لفظ الشيخ فيه كلفظه في غير المدينة، ويجوز أن يكون ترجح عنده قول أبي علي بن أبي هريرة في المدينة؛ لأن منبر النبي صلى الله عليه وسلم موضع شريف، وأحد المتلاعنين كاذب في يمينه قطعاً؛ فنزه عن صعود الكاذب إليه، وليس لغيره من المنابر مثل هذا الشرف، ومما يعضد اعتبار ذلك: أن أبا بكر الصديق- رضي الله عنه- كان لا يقف في الموضع الذي [كان] يقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم، [وعمر- رضي الله عنه- كان لا يقف في الموضع الذي كان يقف فيه أبو بكر]، بل نزل كل منهما عن موقف الآخر درجة؛ لما ذكرناه من الشرف، مع إمكان تحصيل المقصود، وعثمان- رضي الله عنه- لما لم يمكنه تحصيل المقصود مع مراعاة هذا الشرف- لم يفعله، والله أعلم. قال: وإن كان أحدهما جنباً لاعن على باب المسجد؛ لأنه أقرب إلى الموضع

الشريف، والحائض بذلك أولى، وهذا إذا رأى الإمام تعجيل اللعان، فلو رأى تأخيره إلى انقطاع الدَّم والاغتسال جاز، قاله المتولي. وهو في الجنب من طريق الأولى، بل [لو] قيل بوجوبه على القول بأن التغليظ [بالمكان واجب، لم يبعد؛ لقرب مدته. قال: وإن كانا ذميين، لاعن بينهما في المواضع التي يعظمونها، وهي: الكنيسة لليهود، والبِيعة للنصارى، وبيت النار للمجوس؛ لأن ذلك عندهم كالمساجد عندنا، ولأن القصد تعظيم الواقعة وزجر الكاذب عن الكذب، وذلك في الموضع الذي يعظمه الحالف أبلغ. وقيل: لا يأتي الحاكم بيت النار، وبه قال القفال، وهو الأصح في "تعليق" القاضي الحسين؛ لأنه لم يكن له حرمة في شريعة قط، بخلاف البِيعة والكنيسة. وعلى هذا: فيلاعن بينهما في المسجد أو في مجلس الحكم، والأول أظهر في "الرافعي"، ودخول الحاكم هذه المواضع ليس للتعظيم؛ فلا جَرَمَ لم يحرم. ولو كان الزوج مسلماً والزوجة ذميّة، لاعن كل واحد منهما في الموضع الذي يلاعن فيه لو كانا من ملة واحدة، فإن قالت: ألاعن في المسجد، ولم يرضَ الزوج بذلك- لم تُجَب إليه، وإن رضي به جاز. وكذلك يجوز أن يتلاعن الذميان في المسجد إلّا المسجد الحرام، وإن كانا جُنُبَيْنِ، أو كانت المرأة قد انقطع حيضها، أو لم ينقطع وتحفظت- على أحد الوجهين في الجميع، كما حكاه البندنيجي، وفي "الرافعي": أنه أظهر في الجنب، وهو ما جزم به الغزالي في ["الوجيز"]. تنبيه: تقييد الشيخ هذا النوع من التغليظ بالذميين يعرفك أن من لا تعقد له الذمة من الكفار الذين لا يقتلون- كالوثنيين- إذا دخل علينا بأمان أو هدنة، مخالفٌ

لأهل الذمة فيه، وقد صرّح الأصحاب بأنه يلاعن بينهما في مجلس الحكم، ولا يأتي بيت الأصنام؛ لأنه لا أصل له في الحرمة، واعتقادهم غير مَرْعِيّ، [وفيه نظر]. [وبعضهم صرّح في باب "موضع اليمين" من كتاب "الأقضية" بأن دخول بيت الأصنام معصية، وعلى ذلك جرى الماوردي ثَمَّ. وقد صرحوا] بأن ما عدا هذا النوع [من التغليظ] حكمُ أهل الذمة فيه كالمسلمين، [كما صرح به البندنيجي وغيره]. [وقال الماوردي: إنه يلاعن بين أهل الذمة، بعد الصلوات التي يُعَظِّمونها]. فرع: الزنديق هل يغلظ عليه بالوجوه المذكورة؟ فيه وجهان: يوجه أحدهما: بأنه لا يعظِّم بقعة ولا زماناً؛ فلا يؤثر التخصيص في زجره. والثاني: يغلظ عليه؛ لتناله عقوبة اليمين الفاجرة بصفة التغليظ؛ كما أنه يغلظ عليه في أصل التحليف بالله- تعالى- وإن كان لا يعظم اسم الله- تعالى- ولا يعرفه. وهذا أظهر عند الغزالي. والذي ذكره الأكثرون: أنه لا يغلظ عليه المكان ويلاعن في مجلس الحكم، وهو المنصوص. وإذا لم يغلظ بالمكان ففي الزمان والجمع أولى، ويخالف التغليظ بأصل اليمين؛ فإن الأحكام المتعلقة باللعان موقوفة على ذلك، وحكم الدَّهْري حكم الزنديق. قال: فإن ترك التغليظ بالزمان والجماعة جاز، قال الشيخ أبو حامد: كما لو ترك التأكيد في سائر الأيمان. وقال الجيلي: لعدم وجوب ذلك بالإجماع. وفيه نظر؛ لأن بعض المراوزة حكى في ذلك قولين؛ فكيف يمكن دعوى الإجماع مع ذلك؟! قال: وإن ترك التغليظ بالمكان ففيه قولان:

أحدهما: أنه يستحب، وهو الأصح، وعن [ابن القاص] القطع به كالزمان والجماعة. والثاني: أنه واجب؛ لأن اللعان في عصره صلى الله عليه وسلم كذا جرى؛ فأشبه العدد. وفي "النهاية" حكاية طريقة في أن القولين في التغليظ بالزمان والمكان دون الجماعة، وهي التي صدَّر بها كلامه، وبها جزم القاضي الحسين في "التعليق". وقال الرافعي: إنها أظهر، وإن القطع-[أي: طريقة القطع باستحباب الجماعة]- أظهر. قال: وإن تلاعنا، ثم قذفها أجنبي، حُدَّ، أي: سواء كان بتلك الزنية التي قذفها الزوج بها أو غيرها؛ لما روى الترمذي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه- عليه السلام- لاعن بين هلال وامرأته، وقضى "أَلَّا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ، وَلَا تُرْمَى، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا؛ فَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ". ولأن اللعان لا يسقط عن الأجنبي حد القذف به؛ فلا يسقط إحصانها في حقه به، وقيل: إذا قذفها بتلك الزنية ففيه خلاف، والظاهر وجوبه. أما إذا لاعن الزوج دونها، ثم قذفها الأجنبي- ففيه وجهان: أحدهما- حكاه الداركي-: أنه لا يحدّ؛ لأنه قد ثبت زناها بلعان الزوج فكان كما لو قامت البينة على زناها. والثاني: أنه يجب؛ لما ذكرناه. [وهذا ما قال به عامة الأصحاب كما هو في "شرح الفروع"]، وقد يحكي هذا عن ابن سلمة، ونسبه الشيخ في "المهذب" إلى

ابن سريج، والأول إلى أبي إسحاق كما حكاه القاضي أبو الطيب، ووافقهما على ذلك القاضي الروياني. ونسب الشيخ أبو حامد- على ما حكاه الرافعي- الأول إلى ابن سريج، والثاني إلى أبي إسحاق، وكذلك البغوي، وخص محل الخلاف بما إذا قذفها بالزنية التي قذفها بها الزوج، أما إذا كان بغيرها فيجب، ولم يحك سواه، وكذلك الرافعي وقال: إن وجه الوجوب أصح، وإن نسبة الشيخ أبي حامد أثبت. قال: وإن قذفها الزوج- أي: بعد تلاعنهما بزنىً آخر- عُزِّر، ولم يلاعن على المذهب، أي: عزر على المذهب ولم يلاعن؛ لما سنذكره، وقد جاء مثل ذلك في قوله تعالى: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 5] وتقديره: أحوى غثاء. وفي "الجيلي" و"الخلاصة" و"مختصر" الجويني ما يدل على أن الخلاف في التعزير [أو] اللعان؛ إذ قالا: فهل يلاعن أو يحد؟ فيه خلاف. والمشهور ما ذكرناه، ووجه المذهب: أن اللعان في حقه كالبينة في حقها وحق الأجنبي، ولو أقام البينة ثم قذفها لم يحد؛ لأن حصانتها سقطت؛ فكذلك في اللعان مثله. ويجب عليه التعزير للأذى والسب. ووجه مقابله- وهو جوب الحدّ-: أن اللعنا وإن كان حجة للزوج فإنما تسقط به حصانتها في الحالة التي يوجد فيها اللعان وما بعدها، فأما قبل ذلك فحصانتها باقية، فإذا رماها بزنىً في تلك الحالة، لزمه الحدُّ، ويفارق البينة؛ لأنها تسقط الحصانة سقوطاً عامّاً، واللعان يسقطها سقوطاً خاصّاً، كذا قاله المحاملي، ومقتضاه: أنه إذا أضاف الزنى إلى ما بعد اللعان لا يحد، وأن محل الخلاف ما إذا أضافه إلى ما قبل اللعان، وقد صرّح به في أصل المسألة، وكذلك البندنيجي، وزاد: وأن يكون في حالة الزوجية. وفي "التتمة": أن الخلاف مطرد في القذف بزنىً متأخر عن اللعان، وفي الزنى المتقدم على النكاح. قال الرافعي: ووجوب الحدّ في الزنى المتقدم على اللعان أظهر؛ لمصادفته حال

الحصانة. وهذه طريقة القاضي أبي الطيب، وعليها جرى [القاضي الروياني والبغوي، وجزم ابن الصباغ بوجوب الحد، وهو الذي رجحه] أبو علي والمتولي مع القول بإثبات الخلاف، وقال الرافعي: كأنه أقرب. وعن القفال وأبي علي والصيدلاني من أصحابه: أن وجب الحَدّ هو القديم. أما إذا لاعن الزوج دونها ففي "المهذب" و"الشامل" و"التهذيب": أنه لا يجب الحد، ولم يذكروا سواه، ويجب التعزير للسب والأذى. وحكى الغزالي وغيره خلافاً فيه، والظاهر وجوب التعزير دون الحَدّ. [ثم] هذا كله فيما إذا قذفها بغير ما رماها به أولاً، أما إذا كان القذف بالأول فلا يجب إلَّا التعزير، وأما كونه لا يلاعن، سواء قلنا بوجوب الحدّ أو التعزير؛ لأن القذف لم يكن به حاجة إليه؛ لأنه لا نسب فينفيه ولا زوجيَّة فيقطعها؛ فلم يكن له تحقيق ذلك باللعان، كما لو قذفها بعد البينونة ولا نسب. قال: وإن أكذب الزوج نفسه، أي: في أيمانه- حُدَّ إن كانت محصنة، وعُزّر [إن كانت غير محصنة، ولحقه النسب؛ لأنه حق عليه فلزمه] بتكذيبه نفسه، بخلاف عودالفراش وزوال التحريم، فإنه حق له وقد بطل؛ فلا يتمكن من إعادته بتكذيبه نفسه، وهكذا الحكم في الأخرس إذا لاعن بالإشارة، ثم انطلق لسانه وقال: لم أرد اللعان بإشارتي، فيقبل قوله فيما عليه من لحوق النسب ووجوب الحدّ، ولا يقبل قوله فيما له حتى ترتفع الفرقة والتحريم المؤبد، ولكن له أن يلاعن في الحال؛ لإسقاط الحد ولنفي النسب- أيضاً- إذا لم يمض من الزمان ما يسقط فيه حق النفي. ولو قال: لم أرد القذف أصلاً، لم يقبل قوله. فرع: الناطق إذا أكذب [نفسه] هل يسقط عن المرأة حدّ الزنى؟ لم أَرَ فيما وقفت عليه من كتب الأصحاب تصريحاً به، غير أن الإمام ذكر في تعليل القول بأنها لا ترجم في الحرّ والبرد إذا ثبت ذلك باللعان- أن الملاعن قد يكون كاذباً، ثم

يشاهد المرجومة؛ فيرثى لها، ويرى تعرُّض نفسه [لحد الزنى] أهون؛ لما يتداخله من الرقة عليها. وهذا يدل على أن الحدّ يسقط، وإلَّا لم يكن للتعليل بذلك معنىً. قال: وإن أكذبت المرأة نفسها، أي: في يمينها. حُدَّت حد الزنى؛ لأنه لا يتعلق بلعانها أكثر من سقوطه، وهو حق عليها؛ فعاد بتكذيبها نفسها، والله أعلم. فروع: لو ادعت المرأة على زوجها القذف، فأنكر، ثم قامت البينة عليه بالقذف- فله أن يلاعن لإسقاط الحدّ إن أبدى تأويلاً، وإلّا فوجهان، الذي حكاه العراقيون منهما- على ما قاله ابن الصباغ-: أنه يلاعن، وادعى المحاملي نفي الخلاف فيه، وكيفية لعانه أن يقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما أتيت على من رميت إيّاها بالزنى، وإن كذبته البينة، فيه وجهان. قال ابن الصباغ: ولا معنى لهذين الوجهين؛ فإنه لا يتغير الحكم بذلك. وفي "المجموع" للمحاملي: أنا إذا قلنا: إنه أكذب نفسه، فإنما يلاعن لقذف مجدد وهو فائدة. وقد اختلف الأصحاب في التأويل المراد: فمنهم من قال: المراد به أن يقول: القذف هو القول المحرَّم، وأنا قد صدَقْتُ عليها ولم أقل محرماً. وقال آخرون: بل المراد أن يقول الزوج: ما قذفتها، ولكن بعد أن أقامت البينة عليّ وطالبتني بالحد ألاعنها؛ لأنها زانية. ولا يلزم من إنكار قذفها ألَّا تكون زانية. وقيل: المراد به أن يقول: أنا ألاعن وأحقق بلعانها ما قامت على البينة بأني [قد] نسبتها إليه؛ لأن قوله: ما قذفتها، لا ينافي لعانه ولا تكذيب نفسه؛ لأنها قد

تكون زانية مع إنكاره قذفه إياها. ولو لم يقل شيئاً من ذلك، لكن ادّعت عليه أنه [قال لها: يا زانية، فقال: ما قلت لها، وما هي بزانية- لم يكن له أن يلاعن؛ لأنه] قد اعترف أنها غير زانية فال يمكنه أن يلاعن على ضدّ ذلك، اللهم إلّا أن يمضي بعد الإقرار بأنها لم تَزْنِ زمانٌ يمكن تقدير الزنى فيه، وعليه يحمل ما روى عن القاضي من جواز اللعان. وإذا لاعن فهل يسقط عنه الحدُّ الذي قامت عليه البينة؟ حكى الإمام فيه خلافاً. ولو أقيم [عليه] بعض الحدّ؛ فقال: أنا ألاعن- فله ذلك، وإن كان قد امتنع من اللعان لشائبة الشهادة، وإلَّا فاليمين لا يمكن العود إليها بعد النكول، وكذلك إذا أقيم على المرأة بعض الحدّ؛ فقالت: ألاعن- مكنت منه، والله أعلم. ***

باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق

باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق قال: ومن تزوج بامرأة، فأتت بولدٍ يمكن أن يكون منه- لحقه نسبه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم-: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ" خرجه مسلم. قال: ولا ينتفي عنه إلّا باللعان. أما انتفاؤه باللعان؛ فلما ذكرناه من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما. وأما عدم انتفائه بغيره- وهو دعوى الاستبراء والحلف عليه- فلأن الشرع لم يرد به، وقياسه على فراش الموطوءة بملك اليمين لا يمكن، لقوته وضعف فراش الملك؛ [فتعين ما ذكرناه. وهذا إذا كان التزويج صحيحاً، أما لو كان فاسداً فهل يلحقه بمجرد العقد كما في الصحيح، أو يتوقف لحوقه له على إقراره بالوطء كما في] ملك اليمين؟ فيه خلاف، المذكور منه في "التتمة"، وإليه يرشد كلام الشيخ في الباب قبله- الثاني. وإذا احتجنا إلى الإقرار بالوطء فهل ينتفي الولد بدعوى الاستبراء كما في ملك اليمين، أو لا ينتفي إلا باللعان؟ فيه خلاف، والظاهر: الثاني، وهو الذي حكاه الشيخ في الباب قبله، وقد حكى ذلك الرافعي قبل الباب الثاني من العِدَد. تنبيه: يندرج تحت كلام الشيخ ما إذا كانت الزوجة أمة، ثم استبرأها الزوج، وأتت بولدٍ يمكن أن يكون من النكاح ومن ملك اليمين. وقد حكى الفوراني: أنه إن ادّعى الاستبراء بعد الوطء فالقول قوله، والولد منفيٌّ عنه، وإن لم يَدَّعِهِ بعد الوطء ونفى الولد فهل له اللعان؟ فيه قولان. وفي "الرافعي": أنهما جاريان مع كون الولد ملحقاً بملك اليمين، والذي جزم به في "الوسيط" منهما: أنه لا يلاعن، وحكى الشيخ أبو علي وجهاً فيما إذا ادّعى الاستبراء بعد الوطء: أنه يلحقه بحكم النكاح، ولا ينتفي إلّا

باللعان؛ لقيام الإمكان وامتناع الإلحاق بالملك. فائدة: زمن الإمكان تستفاد معرفته من كلام الشيخ في تصوير عدم الإمكان؛ لأن أحد النقيضين إذا عُلِمَ لزم منه معرفة النقيض الآخر. قال: وإن لم يمكن أن يكون منه بأن يكون له دون عشر سنين، أو كان مقطوع الذكر والأنثيين جميعاً، أو أتت به امرأته لدون ستة أشهر من حين العقد، أو أتت به مع العلم بأنه لم يجتمع معها، أي: كما إذا طلقت [عقيب] النكاح، أو كان بينهما مسافة لا يمكن معها الاجتماع من حين العقد إلى إمكان العلوق بذلك الولد، أو أتت به لأكثر من أربع سنين من حيث اجتمع معها، أي: من آخر اجتماعه معها، مع وجود الغيبة التي لا يمكن معها الاجتماع، كما ذكرنا. قال: انتفى عنه من غير لعان؛ لأن اللعان إما يمين وإما شهادة، وكل منهما جعل لتحقق ما يجوز أن يكون، و [يجوز] ألا يكون، فتحقق أحد الجائزين، وها هنا لا يجوز أن يكون الولد له؛ فلا يحتاج في نفيه إلى اللعان، وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون منه؛ لأنه في بعض الصور المذكورة معلوم، وفي بعضها دَلَّ الاستقراء عليه. ووراء ما ذكره الشيخ أمور أخر لا غنى عن ذكرها؛ لتعلقها بما نحن فيه: حكى الإمام الرافعي في كتاب "العِدَد" خلافاً عن "بحر الذهب" في أن المرأة إذا أتت بولدٍ لأكثر من أربع سنين من حين اجتمع معها هل ينتفي عنه من غير لعان؟ ونقل الإمام عن العراقيين أنهم حكوا عن الإصطخري أنه قال فيما إذا كان مقطوع الذكر والأنثيين جميعاً: إنه يلحقه، ولا ينتفي عنه إلَّا باللعان. وكذلك حكاه عنه وعن الصيرفي وعن أبي عبيد بن حربويه، والماوردي وقال: حكى أن أبا عبيد قلد قضاء مصر، فقضى في مثل هذا بلحوق الولد؛ فحمله الخصيُّ على كتفه وطاف به في الأسواق وقال: انظروا هذا القاضي يلحق أولاد الزنى بالخدم، هكذا حكاه في كتاب العدد، وإلى ما ذهب إليه هؤلاء ذهب القاضي أبو الطيّب والصيدلاني- أيضاً- على ما حكاه الإمام.

وقال القاضي الحسين: إنه المذهب، وعليه نص في كتاب العدد، وكأنهم تمسكوا بما رواه المزني في "المختصر"؛ حيث قال: ولو كان بالغاً مجبوباً كان له أن ينفيه باللعان. وأعرضوا عن روايته في "الكبير": أنه لا يلحقه. وهي رواية الربيع. وقال القاضي أبو حامد: إن استدَّت ثقبه المنى، انتفى عنه من غير لعان، وإن لم تستدَّ لم ينتفِ إلّا باللعان؛ لأنه يمكنه الإنزال. وحمل الروايتين على هذين الحالين، والصحيح ما قاله أبو إسحاق، وهو حمل رواية المزني على ما إذا قطع أحدهما- كما حكاه عنه البندنيجي والمحاملي- وعلى ما حكاه الرافعي عنه فيما إذا كان مجبوب الذكر باقي الخصيتين، وحمل رواية الربيع على ما إذا قطعتا- كما ذكره الشيخ- لأنه يستحيل أن يُنْزِل مع قطعهما، وإن أنزل فهو ماء رقيق لا ينعقد منه الولد. وفي "التتمة" حكاية وجه فيما إذا كان مقطوع الخصيتين: أنه لا يلحقه أيضاً. وقال الفوراني فيه: يُرى لأهل الخبرة والأطباء ويعمل بقولهم. وفي "الزوائد": أن القاضي أبا الطيب حكى عن بعض أصحابنا: أنه إذا كان مسلول البيضة اليمنى لا يلحقه؛ لأن من ليست له لا يُنْزِل. وحكاه عنه الرافعي- أيضاً- عند الكلام في عدّة الحمل، وقال: إن البيضة اليسرى للشعر. وإن الروياني نقل في "جمع الجوامع" أن ابن الحداد كان كذلك وكان له لحية طويلة وكان لا ينزل. واعلم أن قول الشيخ: "بأن يكون له دون عشر سنين"، موافقٌ للفظ الشافعي- رضي الله عنه- وقد اختلفت عبارات النقلة فيه: فالذي حكاه ابن الصباغ إجراء اللفظ على ظاهره، وأنها إذا أتت بولدٍ وله دون عشر سنين، لا يلحقه، وإن أتت به وله عشر سنين يلحق به، ويشهد لذلك ما حكاه الماوردي: أن عمرو بن العاص وُلِدَ له ابنه عبد الله وهو ابن عشر سنين. والذي حكاه راوياً الشيخ أبي حامد المحاملي والبندنيجي-: أن مراد الشافعي بدون العشر: أن يأتي به لدون تسع سنين وستة أشهر، أما إذا أتت به لذلك أو فوقه لحقه، ولا ينتفي إلَّا باللعان. وحكى الشيخ في "المهذب" الوجهين، وضعف ابن يونس الثاني بأن النبي صلى الله عليه وسلم

علق الضرب بترك الصلاة والتفريق في المضاجع بالعشر؛ فدل على أن البلوغ لا يتحقق بما دون ذلك، وصححه البغوي والقاضي الروياني. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنها إن أتت به وكان ابن دون عشر سنين، فهو منتفٍ عنه بغير لعان. وإن كان ابن عشر سنين وستة أشهر وساعة لحقه. وإن كان ابن عشر سنين، فوجهان: أحدهما: لا يلحقه حتى يكون قد مضى من الحادية عشرة ستة أشهر وساعة، وهذا الخلاف عنده ينبني على خلاف حكاه في أنه لو احتلم في العشر قبل استكمالها: هل نحكم ببلوغه كما لو احتلم بعد استكمالها أم لا؟ وكذلك بناء الإمام، لكنه لم يذكر الساعة بعد الأشهر. وحكى عن الفوراني وجهاً: أن البلوغ يحصل بالاحتلام في أثناء السنة التاسعة، وبنى عليه- أيضاً- لحوق النسب، وهو محمول على مضي ستة أشهر منها، كما صرّح به في "الإبانة"، وحكاه المسعودي- أيضاً- مع وجه آخر: أنه يعتبر [مضى] تسع سنين وستة أشهر وساعة الوطء. وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه في قدر المدة التي إذا انتقص عمر الزوج عنها لا يلحقه النسب ستة أوجه: عشر سنين وستة أشهر وساعة، عشر سنين وستة أشهر، عشر سنين، تسع سنين وستة أشهر وساعة، تسع سنين وستة أشهر، تسع سنين. ثم على الوجوه كلها لا يحكم ببلوغ إلَّا أن يدعيه، فلو أراد أن يلاعن مع إصراره على دعوى عدم البلوغ، لم يُمَكَّنْ. فإن قيل: لعانه إن كان بالغاً يفيد نفى النسب، وإن لم يكن بالغاً فالنسب منفي؛ فهلا يمكن من اللعان لهذا الغرض؟ فالجواب: أن فيه إقداماً على تحليف صبي، وذلك ممتنع. ولو رجع بعد دعواه الصبي، وادّعى البلوغ ورام اللعان، مُكِّن منه، وقال الإمام: في كلام الأصحاب ما يدل على أنه لا يقبل قوله: أنا بالغ؛ للتهمة. ويقرب من هذا ما أورده صاحب "التتمة"، وهو أنه إن لم يتهمه الحاكم،

حكم ببلوغه، ومكّنه من اللعان، وإن اتهمه ترك الأمر موقوفاً إلى أن يتحقق بلوغه. تنبيه: ذكر النواوي في هذا الفصل على الشيخ مؤاخذتين: إحداهما: أن الحريري في "درّة الغواص"، قال: لا يقال: اجتمع فلان مع فلان، وإنما يقال: اجتمع فلان وفلان. وقد قال الجوهري: جامعه على، أي: اجتمع معه عليه. الثانية: أنه لو قال بدل قوله: "من حين اجتمع معها": من حين فارقها- كان أصوب. قال: وإن وطئها، ثم طلقها طلاقاً رجعياً، ثم أتت بولدٍ لأكثر من أربع سنين من حين الطلاق- ففيه قولان: أحدهما: لا يلحقه؛ لأنها حرمت عليه بالطلاق تحريم المبتوتة؛ فأشبه ما لو كان الطلاق بائناً فإنه لا يلحقه، وعلى هذا تنقضي به العدة. وقال بعض البصريين: إنها تنقضي بالأقراء أو بالأشهر قبله، وهو ما أبداه الماوردي من عند نفسه في كتاب العِدَد. قال: والثاني: يلحقه، ولا ينتفي عنه إلَّا باللعان؛ لأن الرجعيَّة زوجة بدليل: أنه يصح طلاقها والإيلاء عنها والظهار منها واللعان، وتحب لها النفقة. فعلى هذا: إلى متى يلحقه؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة: يلحقه متى أتت به من غير تقدير مُدَّة؛ لأن الفراش على هذا القول إنما يزول بانقضاء العدة. والأصح في "المهذب" وعند ابن الصباغ والشيخ أبي حامد، والراجح عند الأكثرين- كما حكاه الرافعي-: أنه إذا مضت العدة بالأقراء أو الأشهر، ثم ولدت لأكثر من أربع سنين من انقضائها- لم يلحقه؛ لأنا نتحقق أن الحمل لم يكن موجوداً في الأقراء والأشهر فَتَبِين بانقضائها، وتكون كما لو بانت بالطلاق ثم أتت بولدٍ لأكثر من أربع سنين. قال الرافعي: ولك أن تقول: هذا إن استمر في الأقراء لا يستمر في الأشهر؛ فإن

التي تحمل من النساء لا تعتد بالأشهر، فإذا حملت بان أن عدتها لم تنقض بالأشهر. قلت: إطلاق هذا السؤال فيه نظر؛ لأن المعتدات بالأشهر عن الطلاق: إما من لم تحض قَطُّ، وإما آيسة، وما ذكره من الحكم ممنوع في القسم الأول؛ لأن من هذا حالها لو أكملت العدة بالأشهر ثم رأت الحيض، لا تعتد به ثانياً عمّن اعتدت عنه بالأشهر؛ فكذلك الحمل إذا ظهر بعد انقضاء العدة بالأشهر من طريق الأولى؛ لأنه دليل على الحيض، ومسلّم في القسم الثاني إذا رأت دم النفاس؛ لأنا نتبيّن أنها لم تيأس، وأما إذا لم تر الدم فقد حكى وجهين في أن التي لم تحض إذا حملت ولم تر دم النفاس هل تكون عدتها [عدة] من تعتد بالأشهر؛ لظاهر الآية، وهو ما حكاه عن "فتاوى" صاحب "التهذيب" في آخر العدد؟ أو يكون حكمها حمك من انقطع دمها بلا سبب؛ لأن الحمل لا يكون إلَّا لذوات الأقراء؟ وهذا الوجه يتعيّن في مسألتنا؛ لأنها قد حاضت. وعلى هذا التقدير فقد يقال: إن ذلك لا يمنع الاحتساب بالأشهر؛ فلا فائدة في الإعادة ولا غاية تنتظر، وإذا كان كذلك كان هذا كالقسم الأول؛ فانتفى السؤال وإن لم يكن كذلك، بل نوجب استئناف العدة، كما إذا بلغت سن اليأس، وشرعت في العدة وأكملتها، ثم رأت الدّم- على رأي سنذكره من بعد- فلعل إطلاق الأئمة محمول على القسم الأولح فلا يحسن تعميم السؤال. ثم الخلاف في أصل المسألة بناه بعضهم على أن السنين الأربع في الطلاق الرجعي تعتبر من حين الطلاق أو من حين انقضاء العدة؟ وفيه قولان، أصحهما في "التهذيب" وغيره: الأول، وبناه بعضهم على أن الرجعية فراش الزوجية باق فيها [أو لا]؟ وفيه خلاف مذكور في باب الرجعة، وذلك متقارب. ويظهر من مقتضى البناء أن يكون الصحيح من القولين: أنه لا يلحقه الولدُ، وقد صرّح به النووي والماوردي في كتاب العدد، وفي الجيلي: أن الأصح خلافه. والخلاف المفرع على القول باللحوق، مفروض- على ما ذكره القاضي الروياني في "البحر" وغيره- فيما إذا أخبرت بانقضاء العدة، أما إذا لم تقر فالولد الذي تأتي به- وإن طال الزمان- يلحقه؛ لأن العدة قد تمتد بتباعد الطُّهر. وإن القفال نقل وجهاً

ضعيفاً: أنه إذا مضت ثلاثة أشهر، ثم أتت بولدٍ لأكثر من أربع سنين- لم يلحقه؛ لأن العادة انقضاء العدة في ثلاثة أشهر، وهذا ما رجحه في "التهذيب" وقال عن الأول: إنه ليس بصحيح. ثم حيث حكمنا بلحوق النسب دامت المرأة معتدة إلى الوضع حتى يثبت للزوج الرجعة، ولها النفقة والسكنى، أما لو أتت به لأربع سنين، فقد أطلق الأصحاب في البائن أنه يلحقه؛ ففي الرَّجعيِّ أولى، واعترض منصور اليمني في "المستعمل" على الأصحاب، فقال: إذا لحقه الولد الذي أتت به لأربع سنين من وقت الطلاق لزم أن تكون مدة الحمل أكثر من أربع سنين؛ لتقدم العلوق على الطلاق؛ فينبغي أن يقال: لأربع سنين من وقت إمكان العلوق قبل الطلاق. قال الرافعي: وهذا قويمٌ، وفي الإطلاق تساهُلٌ. ولا فرق في ذلك بين أن تقرّ بانقضاء عدتها أو لا تقر؛ لأن النسب حق الولد فلا ينقطع بإقرارها، وقد يبنى إقرارها على الغالب ثم يظهر خلافه. وقال ابن سريج: إذا أقرت بانقضاء العدة ثم ولدت؛ لم يلحقه إلَّا أن تأتي به لما دون ستة أشهر من وقت الإقرار. وسنذكر في الباب من أين خرَّجه. فرع: لو علّق طلاق زوجته بولادتها، فولدت ولدين بينهما دون ستة أشهر-[لحقاه وطَلَقَتْ بوضع الأول، وانقضت عدتها بوضع الثاني. وإن كان بينهما ستة أشهر] فأكثر طلقت بولادة الأول، ولا يلحقه الثاني إن كان الطلاق بائناً؛ للعلم بأن العلوق به لم يكن في النكاح، بخلاف ما إذا لم يعلّق بالولادة بحيث يلحقه الولد إلى أربع سنين؛ لاحتمال العلوق في النكاح. وإن كان الطلاق رجعيّاً، فكذلك الحكم إن قلنا: إن الأربع سنين تعتبر من حين الطلاق، وإن قلنا بمقابله لحقه إن أتت به لأربع سنين من ولادة الأول، وتنقضي العدةب وضعه- لحقه أو لم يلحقه- لاحتمال وطءٍ بشبهة بعد البينونة، قاله ابن الصباغ. وفي "النهاية" في كتاب الطلاق: أنا إذا ألحقنا الولد به انقضت به العدة، وإن لم نلحقه به لا تنقضي [به] العدة، وهو مثل الوجه الذي اختار مثله الماوردي كما

حكيناه من قبلُ. ولو أتت بثلاثة أولاد، وكان بين الولد الأول والثاني أقل من ستة أشهر، وبين الثاني والثالث أقل من ستة اشهر، وكان ما بين الأول والثالث أكثر من ستة أشهر فالأولان لاحقان به دون الثالث، قاله الرافعي في باب اللعان. وفي "النهاية" في كتاب الطلاق في ضمن فصل أوله: لو قال: كلما ولدت ولداً فأنت طالق- أن هذه مغالطة؛ فإن ذلك لا يتصوّر وجوده؛ فإن الرحم إذا اشتمل على أولاد كانت المدة بين وضع الأول وبين وضع الأخير أقل من ستة أشهر؛ فإن الرَّحم ينتفض عما فيه ويبرأ عما حواه في أقل من ستة أشهر، والله أعلم. قال: وإن أبانها، وانقضت عدتها، ثم تزوجت بآخر، ثم أتت بولدٍ لستة أشهر من حين النكاح الثاني- فهو للزوج الثاني، أي: وإن أمكن أن يكون من الأول ولم ينسبه الزوج إليه؛ لأن فراشه حاضر قائم؛ فالإلحاق به أولى من الإلحاق بفراش قد انقطع وانقضى. وأيضاً: فإن النكاح جرى على الصحة ظاهراً، وعلى تقدير أن يكون من الأول يكون في العدة ويبطل النكاح، ولا سبيل إلى إبطال الصحيح بالاحتمال، وهكذا الحكم فيما لو كان الطلاق رجعيّاً. أما لو قال الزوج الثاني: هو من الزوج الأول، وأمكن أن يكون منه، أطلق العراقيون- على ما حكاه في "التهذيب" وغيره- أنه يعرض على القائف ولا يلاعن؛ للاحتمال. وهذه المسألة قريبة الشبه مما إذا قال الزوج: وطئك فلان بشبهة، وصدقه فلان؛ من حيث إن فراش النكاح قائم في الموضعين، وفراش النكاح الأول، والواطئ قد زال [ظاهراً]، فقد يظن أنه يجيء فيها الكلام المذكور ثَمَّ فيما إذا ثبت الوطء في أن له اللعان من غير عرض على القائف، أو ليس له ذلك إلَّا بعد أن يُلحِقه القائف به، وسيأتي في أواخر الباب كلام في ذلك وفرقٌ بين المسألتين إن شاء الله تعالى. وإن كان لا يمكن أن يكون منه: بأن أتت به لأكثر من أربع سنين من حين الطلاق

البائن، أو من حين انقضاء العدة في الطلاق الرجعي- على أحد القولين- فلا أثر لقوله. ولو انعكس الحال؛ فكان لا يمكن أن يكون من الزوج الثاني، وأمكن أن يكون من الأول- فالحكم فيه كالحكم فيما لو لم ينكح، وقد سبق. ولو لم نعرف وقت طلاق الأول ونكاح الثاني، وأنكر الزوج أنه ولد على فراشه- فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الولادة، [وينتفي عنه] من غير لعان؛ لأنه لم تثبت ولادته على فراشه. فلو نكل عن اليمين رددنا اليمين عليها، فإن حلفت لحق نسبه بالزوج، ولا ينتفي إلَّا باللّعان. وفي "الرافعي" حكاية قولٍ عن رواية أبيا لفرج الزاز فيما إذا ادعت المرأة أن الزوج راجعها أو جدد نكاحها أو وطئها بشبهة في العدة، وقد ولدت ولداً لأكثر من أربع سنين، وأنكر الزوج استحداث الفراش، ونكل عن اليمين- أن اليمين لا ترد عليها؛ لأنها لو حلفت لثبت نسب الولد، ويبعد أن يحلف الإنسان لفائدة غيره، وقد حكاه الإمام- في باب إنكار الزوج الولادة من كتاب اللعان- عن نص الشافعي، وأجراه فيما لو وقع الاختلاف في مثل ذلك في صلب النكاح. وإن من الأصحاب من أوّل النص ولم يطرده. قلت: ويشبه أن يجيء مثله ها هنا. وإذا قلنا: لها أن تحلف، فلو نكلت فهل يحلف الصبي إذا بلغ ويثبت نسبه؟ فيه وجهان؛ بناءً على القولين في رَدَّ اليمين على الجارية المرهونة إذا أحبلها الراهن، وادّعى أن المرتهن أذن له في وطئها، ونكلا جميعاً، ونظائر ذلك. وهذا كله إذا كان النكاح صحيحاً، أما لو كان فاسداً فسيأتي حكمه، إن شاء الله تعالى. قال: وإن وطئ امرأة بشبهة، أي: مثل أن وجدها في فراشه، فظنها زوجته، أو زُفّت إليه غلطاً، فأتت بولدٍ يمكن أن يكون منه- لحقه ولا ينتفي عنه إلا باللعان؛ [لأنه وطء له حرمة في غير ملك فألحق الولد به، وتعين اللعان] لنفيه كالوطء في النكاح الصحيح، ويشبه أن يجيء فيه ما ذكر في النكاح الفاسد. قال: ومن لحقه نسب يعلم أنه من زنى، لزمه نفيه باللعان؛ لأن ترك النفي يتضمن

الاستلحاق، وهو لا يجوز؛ كمالا يجوز أن ينفي من هو منه، قال- عليه السلام-: " [اشْتَدَّ] غَضَبُ اللهِ عَلَى امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، يَاكُلُ جَرَائِبَهُمْ، وَيَنْظُرُ إِلَى عَوْرَاتِهِمْ"، فنص على المرأة، وبيّن العلة، ومعلوم أن الرجل في معناها، وقد تقدّم في الباب قبله تفسير الجرائب. قال الإمام: وفي القلب من اللزوم شيء. ويجوز أن يقال: المحرم التصريح بالاستلحاق كذباً دون السكوت عن النفي؛ وذلك لأن اللعنا شهرة وفضيحة يصعب احتمالها على ذوي المروءات؛ فبعد إيجابه. وفي "الرافعي": أن القاضي الروياني حكى عدم وجوب النفي عن جماعة من الأصحاب. تنبيه: المراد بالعلم في لفظ الشيخ غلبة الظن؛ لأن غاية الأمر أن يعلم أنه لم يطأها وقد زنت بحضوره وأتت بولدٍ يمكن أن يكون من وطء الزاني، وذلك لا يحصِّل إلَّا غلبة الظن؛ لأنه يجوز مع ذلك أن يكون الولد من وطء شبهة، وقد عبّر ابن الصباغ عن ذلك، فقال: لأن ذلك يجري مجرى اليقين في أن الولد من الزنى، ومثل هذا يكتفي به في نسبة الولد إلى هذا الوطء؛ ألا ترى أن الإنسان إذا وطئ امرأة بشبهة ثم أتت بولدٍ يمكن [أن يكون] منه يلحق! وإن كان يجوز أن يكون من غيره؟! ثم الحكم في وجوب نفي الولد لا يختص بهذه الصورة؛ بل يجري فيما إذا علم أن الولد ليس منه وإن لم يعلم بأنها زنت، [كما إذا أتت] به ولم يكن قد وطئها، أو وطئها [وأتت به] بعد أربع سنين من حين الوطء أو قبل ستة أشهر منه؛ لأنه دائر بين أن يكون من زنىً- والحكم فيه كما تقدم- أو يكون من وطء شبهة، وهو وإن كان لا يوجب النفي باللعان- كما تقدّمت حكايته عن العراقيين- فذاك عند إمكان نفيه بالعرض على القائف لنسبته إلى واطئ بعينه، وها هنا قد تعذّر؛ فتعين نفيه باللعان. على أن الرافعي عند الكلام في عدة الحمل حكى عن الروياني أنه نقل في "جمع

الجوامع": أن الحمل إذا كان مجهول الحال حمل على أنه من زنىَ. ولو لم يحصل العلم بأن الولد ليس منه، بل غلب على ظنه ذلك، كما إذا أتت به بعد الوطء والاستبراء بستة أشهر أو أكثر إلى أربع سنين- فقد حكى الإمام في هذه المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يباح له النفي. والثاني- حكاه عن العراقيين-: أنه إن رأى بعد الاستبراء مَخِيلَة الزنى التي تسلط على القذف، أو تيقن الزنى جاز، بل وجب، وهذا ما قاله في "التتمة"، وإن لم يَرَ شيئاً فلا يجوز له. والثالث: يجوز النفي سواء وجدت مخيلة الزنى، أو لم توجد، ولا يجب بحال؛ لمكان التردد. والأول هو المذكور في "تعليق" القاضي الحسين و"التهذيب". قال الرافعي: وكلام أصحابنا العراقيين يوافقه. قلت: كلام البندنيجي والمحاملي وابن الصباغ يوافق الوجه الثاني- كما حكاه الإمام عنهم- حيث قالوا: إذا شاهدها وقد زنت في طهرٍ لم يجامعها فيه، وأتت

بولدٍ يمكن أن يكون من ذلك الزنى- فعليه أن يقذف ويلاعن وينفي النسب. ولو زنت في طهر جامعها فيه، وأتت بولدٍ، وغلب على ظنه أنه ليس منه؛ بأن علم أنه كان يعزل عنها، أو رأى فيه شبه الزاني- لزمه نفيه باللعان. وإن لم يغلب على ظنه أنه ليس منه، لم ينفه، قال في "المهذب": ولو كان الزوج يطؤها ويعزل وأتت بولدٍ، فالصحيح- وهو الجواب في "التهذيب" [وغيره]-: أنه لا يجوز له النفي بذلك؛ فإن الماء قد يسبق [من غير أن يحس به الواطئ، وعدَّه الغزالي من الأسباب المجوِّزة للنفي]، والله أعلم. قال: وإن رأى به شبهاً بغيره، أي: [بأن] كانا أبيضين، فجاءت به أسود- أو على العكس- فقد قيل: له نفيه باللعان؛ لأن للشبه تأثيراً في النسب، فجاز أن يقذف ويلاعن اعتباراً به، وقيل: ليس له نفيه؛ لما روي مسلم عن أبي هريرة أن أعرابيّاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [يا رسول الله، إني امرأتي ولدت غلاماً أسود، وإني أنكرته؛ فقال] رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: هَلْ فِيهَا مِن أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَأنَّى هُوَ؟ قال: لَعَلَّهُ يَكُونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ لَهُ، وزاد البخاري: ولَمْ يُرَخِّصْ لهُ فِي

الانْتِفَاءِ مِنْهُ". هكذا صوّر الشيخ في "المهذب" والمحاملي وابن الصباغ محل الوجهين. وفي البندنيجي زيادةً على ذلك: ولم يُعْرف للمرأة زنى ولا فجور. وعلى ذلك جرى ابن يونس فقال: ولم يرها تزني ولا سمع بذلك. وفي "التهذيب": أنها إذا أتت به كما ذكرنا، ولم يضف إلى ذلك تهمتها بالزنى- فليس له نفيه، واستدل بالحديث. وإن كان يتهمها برجلٍ، فأتت بولدٍ يشبهه: هل يباح له نفيه؟ فيه الوجهان. وعلى ذلك تنطبق حكاية الإمام الخلاف عن القاضي، وإيرادُ المتولي والرافعي وإيراد الشيخ يقتضي ذلك. وأما السُّمرة والأُدْمة والشُّقْرة القريبة من البياض فلا أثر لها، وأما الصحيح من الوجهين حكى الرافعي أن الظاهر [- مع ذكره من التصور عند القاضي أبي الطيب والشيخ أبي حامد أ] الثاني، وهو ما حكاه النووي مشيراً إلى محل الخلاف كما ذكره الرافعي، وأن الأول أظهر عند البندنيجي والقاضي الروياني وغيرهما، ولم أره في "تعليق" البندنيجي في هذا الموضع. وقد استدل ابن يونس للوجه الأول بقوله- عليه السلام- في قصّة هلال: "إِنْ جَاءَتْ بِهِ أُصَيْهِبَ أُرَيْسِحَ أُثَيْبِجَ حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْداً جُمَالِيّاً خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ- فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ" فجاءت به على النعت المكروه؛ فقال- عليه السلام-: "لَوْلَا الأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَانٌ"، [وهذا] يدل على أن للشبه حكماً. وما قاله لا دلالة فيه؛ لأن اللعان والقذف الصادر من هلال كان بعد اعترافه بأنه

رآها تزني، وكان ذلك قبل الوضع، والوجهان المذكوران فيما ذكره ليسا مفروضين في مثل هذه الصورة. تنبيه: الشبه: بفتح الشين والباء، وهو المشابهة، وجمعه: مشابه، على غير قياس؛ كما قالوا: مَحَاسنُ. وأما الشِّبهُ- بكسر الشين وإسكان الباء، وبفتحهما جميعاً- فهو المِثْلُ. وأصيهب: تصغير "أصْهَب"، والصُّهْبة: بين البياض والشُّقرة. وأُرَيْسح تصغير "أرْسَح"، وهو ممسوح الأليتين. وحَمش الساقين، أي: دقيقهما. وأثيبج: تصغير "أثبج"، وهو الذي يكون لحمه بين المنكبين ناتئاً. والثبج: ما بين الكاهل ووسط الظهر. والأورق: بين السواد والغبرة، ويطلق على الأسمر من بني آدم. والجُمَالِيّ: العظيم الخلق. وخَدَلَّج الساقين: غليظهما. وسابغ الأَلْيتين: عظيمهما. وأصل السابغ: الطويل. فرع- حكاه الرافعي قبل الفصل الثاني في كتاب اللعان-: إذا أتت بولدٍ، يمكن أن يكون منه، وقد رآها تزني، واحتمل أن يكون من الزاني أيضاً- فلا يباح له نفي الولد، وهل له القذف واللعان من غير نفي الولد؟ حكى الإمام عن العراقيين والقاضي الحسين أنه ليس له ذلك. قال: والقياس جوازه؛ لجواز القذف إذا تيقن الزنى- ولا ولد- انتقاماً منها، ويعرضها للحَدِّ. قال الرافعي: والمشهور: أنه ليس له القذف واللعان، ووجهه بأن اللعان حجة ضرورية، وإنما يصار إليها للحاجة إلى قطع النسب، أو إلى قطع النكاح حيث لا ولد؛

خوفاً من أن يحدث ولد على الفراش الملطخ، [ولم يوجد ها هنا حاجةُ قطع النسبن ومحظور حدوث الولد على الفراش الملطخ] قد وقع؛ فلا يصار إلى اللعان. وحكى الرافعي- أيضاً- قبيل الكلام في الفروع المتفرقة من كتاب اللعان أن الأصحاب ذكروا أنه لو أقر بوطئها في الطهر الذي قذفها فيه بالزنى، يجوز له أن يلاعن وينفي النسب، وأن الغزالي في "البسيط" قال: ولعل هذا في الحكم ظاهراً، فأما بينه وبين الله- تعالى- فلا يحل له النفي مع تعارض الاحتمال. فرع آخر: المجامعة فيما دون الفرج هل تمنع جواز النفي؟ فيه وجهان، أظهرهما: لا، وهما جاريان في الإتيان في غير المَاتَى. قال: ومَن لَحِقَهُ نسبٌ، فأخَّر نفيه من غير عذر- سقط نفيه؛ لأنه خيار يثبت لدفع ضرر متحقق، فإذا لم يتأبَّد كان على الفور كخيار الرد بالعيب، وهذا هو الجديد، وأحد قَوْلَيِ القديم. قال: وفيه قولٌ آخر: أن له نفيه إلى ثلاثة أيّام، وهذا هو الثاني في القديم؛ لأن [أمر] النسب خطير، وقد ورد الوعيد في نفي من هو منه وفي استلحاق من ليس منه، وقد يحتاج إلى تأمل ونظر؛ فوجب أن يكون له مهلة فيه، والثلاثة أيّام مدة قريبة، وقد ورد الشرع بها لمهلة النظر. وحكى الشيخ أبو علي قولاً ثالثاً: أن له نفيه متى شاء، ولا يسقط إلا بالإسقاط. وعن ابن سلمة حكاية قول: أنه يتقدّر بيومين. والصحيح الأول، والمراد بالنفي ها هنا: أن يحضر عند الحاكم ويذكر أن: هذا الولد أو الحمل ليس مني، مع الشرائط المعتبرة، ثم يلاعن بعد ذلك إذا أمره الحاكم به. وليس المراد: أن يوجد النفي باللعان عقيب العلم بلحوق النسب، ويدل عليه: اتفاق الأصحاب على أن له أن يؤخر اللعان على الحمل- كما ذكره الشيخ أولاً- وإن اختلفوا في جواز تأجيل اللعان كما سنذكره، والله أعلم. قال: وإن ادّعى أنه لم يعلم بالولادة، ومثلُهُ يجوز أن يخفى عليه- قُبِلَ قوله؛ لأن الظاهر ما يدعيه. ثم الحالة التي تخفى عليه فيها الولادة: أن يكون غائباً ولم

تَسْتَفِض الولادة ولم تنتشر، أو كان حاضراً وهو في طرف البلد وهي في الطرف الآخر والبلد عظيم، وكذلك إذا كانا في مجلس ولم يمض مع ذلك من المدة ما يمكن علمه بالولادة فيها، أما إذا كانا في دارٍ واحدةٍ أو بيت واحد، ولم يكن أمر يقتضي الإخفاء- لا يقبل قوله؛ لأن ما يدعيه خلاف الظاهر. ولو بلغه الخبر في الغيبة، ولم ينته إلى التواتر، بل بلغه من آحادٍ- ففي "تعليق" البندنيجي "والمجموع" للمحاملي: أنه لا يسقط حقه. وأشار ابن الصباغ إلى ذلك بقوله: ولم تستفض. وفي "النهاية": أن حكمه حكم الشفيع، وإليه أشار الرافعي، وقد تقدم ذكر ذلك فليطلب من موضعه. قال: وغن قال: لم أعلم أن لي النفي، أو: لم أعلم أن النفي على الفور- فإن كان قريب العهد بالإسلام، قبل منه؛ لأن الظاهر صدقه، وإن كان يجالس العلماء، لم يقبل منه؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر. وإن كان من العامة فقد قيل: يقبل؛ لأن هذا لا يعرفه إلَّا الخوَاصُّ من الناس فكان الظاهر معه. وقيل: لا يقبل؛ كما لو ادّعى الجهل بخيار العيب. والأول أصح، والوجهان ينبنيان على القولين في أن الأمة إذا عَتَقَتْ وادّعت الجهل بثبوت الخيار، هل يسقط خيارها أو يثبت؟ قال: وإن أخر النفي لعذ رمرض أو حبس أو حفظ مال، أو كان غائباً ولم يمكنه أن يسير، وبعث إلى الحاكم وأعلمه أنه على النفي- كان له نفيه؛ لأنه لا يُعدُّ مقصراً، وهذا إذا أشهد، وعليه يدل كلام البندنيجي حيث قال: فإن قدر على المراسلة فعل، وإن لم يقدر وقدر على الإشهاد فَعَل، وإن قدر عليهما أو على أحدهما، فلم يفعل سقط خياره. ولم يتعرّض الشيخ في "المهذب" لاعتبار الإرسال، بل اقتصر على ذكر الإشهاد، وكذلك الرافعي صدّر به كلامه، ثم قال بعده ما سنذكره عن الشيخ أبي حامد وابن الصباغ. وإذا لم يتمكن من الإرسال ولا الإشهاد، فهل يشترط أن يقول بلسانه: نفيت؟ فيه وجهان في "التهذيب". والمراد بالمرض: الذي يمنع من النهوض في حوائجه، والممرّض ملحق

بالمرض. والمراد بالحبس: أن يكون بحق، قاله البندنيجي، وهو محمول على ما إذا لم يتمكن المحبوس من الخلاص منه: كما إذا وجب عليه القصاص لصبيٍّ أو معتوه؛ فحبس لبلوغ الصبي وإفاقة المعتوه ونظير ذلك. أما إذا كان يمكنه الخلاص فيظهر أنه يُعَدُّ مقصراً، وملازمة الغريم كالحبس. والمراد بحفظ المال: أن يحفظه عن الحريق والنهب، أو يلازم غريماً له عنده مال يخشى ضياعه، أو أَبَقَ له عبدٌ، أو نَدَّ له بعيرٌ يخاف ضياعه إن لم يتشاغل به، ونحو ذلك. وعدم إمكان السير عند انتفاء ما ذكرنا يكون لخوف في الطريق، أو لعدم الرفقة، والبعث إلى الحاكم اعتبره الشيخ أبو حامد في الأعذار المذكورة كلها. وقال ابن الصباغ والمتولي: إن المريض إذا قدر على أن يستدعي من الحاكم أن يبعث إليه نائباً ليلاعن عنده، فلم يفعل بَطَلَ حقه. قال الرافعي: وليطرد هذا في المحبوس ومن يطول عذره، ويمكن أن يجمع بينه وبين ما قاله الشيخ أبو حامد، فيقال: يبعث إلى الحاكم ويطلعه على ما هو عليه؛ ليبعث نائباً أو ليكون عالماً بالحال إن أخر بعث النائب؛ فإن ذلك أقوى من الإشهاد. وهل المراد بالغيبة: الغيبة في موضع لا حاكم فيه، أو في موضع فيه حاكم، لكنه أراد التأخير إلى بلدها؛ لينتقم منها بإشهار أمرها في بلدها وقومها؟ المذكور في "التتمة" و"التهذيب": الثاني، وهو المفهوم من إطلاق العراقيين، والموجودُ في "أمالي" أبي الفرج: الأول، حتى لو أراد أن يؤخر إلى بلده في موضع فيه حاكم مُنِعَ. ومن جملة الأعذار: حضور الصلاة، والجوع، ودخول الليل والعُري، وتعذر الوصول إلى الحاكم، فإذا أخّر حتى يصلي ويأكل ويصبح ويكتسي، وأشهد عند التمكُّن أو لم يشهد عند عدم التمكُّن لم يسقط حقه، وفي "التتمة" تقييد الصلاة بأن يضيق وقتها. قال البندنيجي: وقد ذكرنا الأعذار التي يسقط معها السعي إلى الجمعة، وكل ذلك عذر.

قال: وإن لم ينفه؛ لقيام ما ذكر من الأعذار، ولم يشهد، أي: مع القدرة على الإشهاد- لم يكن له نفيه؛ لتقصيره. واعلم أن قول الشيخ: "ولم يشهد"، يجوز أن يكون بياناً لاعتبار الإشهاد- كما ذكرناه عن البندنيجي وغيره- واكتفى الشيخ بهذا عن التصريح باشتراط الإشهاد كما في قوله- تعالى-: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43]، فإنه دالٌّ على اعتبار الطلب، كذلك هذا اللفظ يكون دالّاً على اشتراط الإشهاد، لكن سكوته عن البعث إلى الحاكم يشعر بأنه ليس بواجب كما دَلَّ عليه كلامه في "المهذب". ويجوز أن يكون مراده [بقوله: "ولم يشهد": لم يبعث إلى الحاكم، ويكون فيه تنبيه على أن المبعوث يشترط فيه أن يكون] من أهل الشهادة، والله أعلم. فرع: الغائب إذا كان يمكنه أن يسير فليأخذ في السير عقيب بلوغ الخبر إليه، ويشهد أنه على النفي، فإن أخر السير بطل حقه، أشهد أو لم يشهد، وكذلك لو أخذ في السير ولم يشهد، بطل على أحد الوجهين، وهو ما جزم به القاضي الحسين في "التعليق"، وهذا الخلاف يشابه الخلاف المذكور في مثله في الشفعة، وقد صرّح الإمام بذلك حيث قال: وأمَّا الفور ومعناه فقد ذكرناه في كتاب الشفعة، وذكرنا فيه الإشهاد وبلوغ الخبر في الغيبة، ولسنا نعيد شيئاً مما مضى؛ إذ لا فرق بين البابين. قال: وإن كان الولد حملاً، فترك نفيه، أي: إلى أن وضعته، وقال: لم أتحقق، أي الحمل، بل رجوت أن يكون ريحاً يتنفس فلذلك لم أنفِهِ- قبل قوله، أي: مع يمينه؛ لأنه عذر محتمل. قال: وإن قال: علمت، ولكني قلت: لعله يموت فأكفى اللعان- لحقه، أي: وسقط حقه، كذا نص عليه في "المختصر"؛ لأنه ترك النفي من غير عذر؛ فأشبه ما لو أخر نفي المنفصل رجاء أن يموت فيكفي اللعان. وحكى المتولي وغيره وجهاً: أنه لا يسقط حقه؛ بناءً على أن الحمل لا يعلم. واعلم أن إطلاق الأئمة القول بأن الحمل هل يعلم أم لا؟ قد تكرّر اعتراض الإمام فيه في هذا الباب وفي كتاب النفقات، وقال: الحمل لا سبيل إلى العلم به؛ لأن ما

يوجد من كبر البطن والحركة يجوز أن يكون ريحاً، بل العبارة السديدة: أن الحمل هل الحكم فيه يجري مجرى المعلوم أم لا؟ وقد ظهر لك من مجموع ما ذكرناه ها هنا وفي كتاب اللعان أن قول الشيخ في باب اللعان: "وإن قذفها وانتفى عن حملها، فله أن يلاعن وله أن يؤخر إلى أن تضع"- محمول على وجود النفي دون اللعان، وقوله ها هنا: "وإن قال: علمت، ولكني قلت: لعله يموت فأُكْفَى اللعان، لحقه"- محمول على تأخير النفي واللعان، وهذا هو الظاهر من كلام الشيخ. وفي "النهاية" في باب "إذا ثبت للرجل حق نفي الولد": أنا وإن جوزنا نفي الحمل باللعان فلا نثبته على الفور؛ لأنه ليس مستيقيناً، فلو قال: أؤخّر اللعان فلعله ريح يتنفس، لم يبطل حقه، ولو قال: أعلم أنها حامل، ولكن أؤخر اللعان فعساها تجهض وتلقى جنينها- قال الأصحاب: التأخير على هذا الوجه مع الاعتراف بالعلم [بالحمل] يبطل حقه من اللعان على الفور، وإنما يكون معذوراً في التأخير إذا حمل الأمر فيه على ألَّا يكون حملاً أصلاً، أو يكون ريحاً غليظاً يتنفس، وهذا منه يدل على خلاف ما ذكرناه، وظاهر كلام الشيخ يقتضي ما أشرت إليه، والله أعلم. قال: وإن هُنِّئ- أي: بالهمز- بالولد، فقيل له: بارك الله لك فيه، أو: جعله لك خلفاً مباركاً، فأجاب بما يتضمن الإقرار: بأن أَمَّنَ على الدعاء وما أشبهه، أي: مثل أن قال: استجاب الله دعاءك- لزمه؛ لإقراره من حيث إنه أضافه إلى نفسه ورضي به، وهو إذا رضي به- ولو في لحظة- لم يتمكن من نفيه. قال: وإن كان بما لا يتضمن الإقرار بأن قال: بارك الله عليك، أو رزقك الله مثله، أو: أحسن الله جزاءك- لم يلزمه؛ لأنه يحتمل أنه قال ذلك ليقابل التحية، ويحتمل أني كون لرضاه به؛ فلا يجعل متضمناً للإقرار بالشك. واعلم أن هذه المسألة يمكن تصويرها بأن يقال له ذلك في وقت العذر؛ أو يكون المهنِّئ له من لا يسقط حقه من النفي بإخباره.

قال: وإن أتت امرأته بولدين بينهما دون ستة أشهر، فأقرّ بأحدهما أو أخر نفيه، أي: ونفى الآخر- لحقه الولدان: لأن الله- تعالى- لم يُجْر العادة بأن يجتمع في الرحم ولد من ماء رجل وولد من ماء رجلٍ آخر. قال الإمام: لأن الرحم إذا اشتمل على المنى انسدَّ فم الرحم، واشتغل بتقدير الإله بتدبيره؛ فلا يتأتى منه قبول مَنِيّ آخر. وصورة ثبوت ولدين: أن تكثر مادة الزرع، فيخلق منها ولدان أو أكثر، وإذا كان كذلك فلا يتبعض التوءمان لحوقاً وانتفاء، وإذا تعذّر التبعيض فيُرَجح الأقوى وهو اللحوق، والدليل على قوته شيئان: أحدهما: أن الولد يلحق من غير استلحاق عند إمكان كونه منه، ولا ينتفي عند إمكان كونه من غيره إلَّا بالنفي. والثاني: أن اللحوق بعد النفي مؤثر، والنفي بعد الاستلحاق لا يؤثر. واعلم أن كلام الشيخ يتضمن صوراً: إحداها: أن تأتي زوجته بولدٍ، فيقرَّ بِهِ أو يسكت عنه، ثم تأتي بآخر فينفيه ويريد اللعان لنفيه. [الثانية: أن تأتي بولد، فينفيه باللعان، ثم تأتي بالآخر، فيقر به أو يسكت عنه]. الثالثة: أن ينفيهما معاً باللعان، ثم يقرّ بأحدهما. فالحكم الذي ذكره شامل لها؛ لما ذكرناه. وهل يلزمه الحدُّ في الصورة الثانية إن كان قد قذفها؟ نظر: إن ألحقناه به لإقراره لزمه؛ كما لو أكذب نفسه، وإن ألحقناه به لسكوته لم يلزمه؛ لأن اللحوق حُكْمٌ للشرع ولم يأت هو بما يناقض قوله الأول. ويخالف هذا ما لو كان اللعان بعد البينونة-[والصورة كما ذكرنا- فإنه يلزمه الحد على كل حال، سواء لحقه بإقراره أو بسكوته؛ لأن اللعان بعد البينونة] لا يكون إلَّا لنفي النسب، فإذا لحق النسب لم يبق للعان حكم؛ فحُدَّ، واللعان في صلب النكاح يتعلق به مقاصد: من درء الحدّ، ووقوع الفرقة، ونفي النسب، فإذا ارتفع

نفي النسب نفي سائر المقاصد التي يفردها باللعان، كذا قال الحكم البغوي والقاضي الحسين مع التوجيه. قال الرافعي: وقد حكي هذا عن القفال، واستحسنه القاضي الروياني، وقال: لم أره لغيره، وقد يقال: اللعان وإن كان بعد البينونة يؤثر تأبيد التحريم على أظهر الوجهين، والتأبيد لا يرتفع بلحوق النسب؛ فجاز أن يبقى أثر اللعان في سقوط الحدّ أيضاً. قلت: والتعليل الذي ذكرناه عن القاضي يأباه؛ لأن تأبيد الحرمة لا يفرد باللعان، بخلاف غيره من المقاصد المذكورة. ولو كان بين الولدين ستة أشهر فصاعدا، لم يلحقه أحدهما بإقراره بالآخر، لكن ينظر: إن نفي الأول [باللعان] كان له نفي الثاني- أيضاً- باللعان، ولا ينتفي بدونه؛ لأنها وإن بانت باللعان الأول كان احتمال وطئه لها بعد وضع الأول ممكناً؛ فيجوز أن تكون قد عَلِقَتْ قبل اللعان وتكون حائلاً حال حصول البينونة؛ ففي "المهذب": أن الثاني ينتفي من غير لعان؛ لأنها علقت به بعد زوال الفراش. قال الرافعي: وليس هذا وجهاً آخر؛ بل الأشبه أنه سهو، والتوجيه الذي ذكره ممنوع. فرع: لو نفى الحمل حيث يجوز نفيه باللعان، فأتت بولدٍ بعد ذلك- انتفى عنه، لكنه إن كان لدون ستة أشهر كان نفيه باللعان الأول، وإن كان بعد ستة أشهر أو فوقها فمن غير لعان؛ لتحقق حدوث الولد الثاني بعد البينونة وزوال الفراش. وعن القفال: أنه إذا لم يلاعن لنفي الثاني- يلحقه الثاني، كما ذكرنا فيما إذا لاعن عن الولد

المنفصل ثم أتت بالثاني. قال الروياني: وهذا غلط، ولم يذكره غيره. [فرع] آخر: التوءمان المنفيان باللعان يتوارثان بأخوة الأم، وهل يتوارثان بأخوة الأب؟ فيه وجهان، الأصح منهما عند البندنيجي وغيره: المنع. وحكمُ التوءمين من الزنى عند البندنيجي والمحاملي حكم المنفيَّيْنِ باللعان، وعن أبَوَيْ علي: الطبريّ، وابن أبي هريرة: أن المنفيين باللعان يتوارثان بأخوة الأب دون المخلوقَيْن من ماء الزاني، و [عدمُ توريث المخلوقَيْن من ماء الزاني] هو ما جزم به الإمام في كتاب الفرائض والغزالي أيضاً. وفي "الرافعي": أن الحكم في المنفيين باللعان لا يختص بالتوءمين، بل يجري في غير التوءمين المنفيين بلعانٍ واحد أو بلعانين. قال: وإن مات الولد قبل النفي جاز له نفيه بعد الموت، أي: سواء كان الميت كل الحمل أو بعضه، وسواء كان للميت ولد أو لم يكن؛ لأن نسبه لا ينقطع بالموت، بل هو ثابت يتعلق به أحكام من إرث الولد وغيره؛ فكانت الحاجة إلى نفيه بعد الموت كالحاجة إليه في حال الحياة، وكما يجوز النفي بعد الموت يجوز الاستلحاق بعد الموت؛ لأنه أقرَّ بنسبٍ انتفى عنه؛ فوجب أني لحقه كما لو كان الولد حيّاً. فإن قيل: هو متهم في الإلحاق بعد الموت؛ لأن غرضه حصول الميراث؛ فلا يقبل قوله. قلنا: الظاهر أن الإنسان لا يلزم نفسه الحد، ولا يلحق به غيره- مع ما ورد فيه من الوعيد- طمعاً في المال، وأيضاً: فالنسب لا يندفع بالتهمة؛ ألا ترى أنه لو كان له أخ يعاديه فأقر بابن له، ثبت نسبه وورثه وسقط الأخ؟! وكذلك إذا كان الأب فقيراً والابن غنيّاً فاستلحقه، ثبت نسبه، وكانت النفقة عليه وإن كان متهماً؟! وفي "النهاية": أن النسب يثبت، وفي ثبوت الإرث تردد أبداه من عند نفسه. ثم هذا إذا كان النفي في حال الحياة، أما لو كان النفي بعد الموت، ثم عاد واستلحقه: فهل يلحقه؟ فيه وجهان، ووجه المنع: أنه أسقط الإرث بعد ثبوته؛ فلا

يرجع إليه، والأصح: اللحوق، ويثبت الإرث تبعاً. فروع- حكاها المتولي-: [الأول] ليس لغير النافي أن يستلحق الولد المنفي باللعان إذا كان اللحوق بسبب النكاح الصحيح، وإن كان اللحوق بسبب وطء شبهة أو نكاح فاسد فلغيره استلحاقه. الثاني: إذا قتل النافي الولد المنفي باللعان، وقلنا: يجب عليه القصاص، كما حكيناه عن المتولي في باب ما يحرم من النكاح، فاستلحقه- سقط عنه القصاص. الثالث: إذا أسلم النافي بعد النفي وقبل الاستلحاق، ثم استلحق الولد- حكمنا بإسلام الولد، وسلّم إليه ما تركه من الميراث. قال: وإن أتت أمته بولد يجوز أن يكون منه، فإن لم يطأها لم يلحقه؛ للإجماع كما حكي عن الشيخ أبي حامد، ولأن ملك اليمين قد يقصد به الاستخدام والتجارة، [وقد يقصد به الاستمتاع، وإذا احتمل هذا وهذا فليس أحدهما بأولى من الآخر]، ويخالف النكاح؛ فإن مقصوده الاستمتاع والولد؛ ولهذا له أني ملك بملك اليمين من لا يحل له وطؤها، وليس له أن ينكح من لا يحل له وطؤها. فإن قيل: الاحتياط في الأنساب مطلوب، فلم لا رجحتم به؟ قلنا: في كلام الإمام ما يتضمن الجواب عن ذلك؛ فإنه قال: ولعل المعنى الفاصل بعد قول المصطفى- عليه السلام-: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ":- أن النسب إنما يعتني الشرع بإلحاقه وتغليب أسبابه في الجهات التي تُعْنى وتطلب لأجل النسب في المناكح، فأما المملوكة فالنسبُ الغالب لا يطلب فيها، وكان المعتبرون في الأعصار يتعيَّرون بأولاد الإماء، ويذكرون في أوائل مفاخراتهم أنهم من الحرائر؛ ولهذا لم [يقم للإماء وزن] في القَسْم، ولم [يثبت لهن حقُّ] في الوطء. قال: وإن وطئها لحقه، والدليل عليه: ما روى مسلم عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام، فقال سعد: هذا- يا رسول الله- ابن أخي عتبة، عهد إليّ أنه ابنه، انظر إلى شبهه. وقال عبدٌ: هذا

أخي، ولد على فراش أبي من وليدته. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبهاً بيِّناً بعتبة، وقال: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ؛ فلم يَرَ سودة قطُّ". وجاء في رواية أخرى أن سعداً قال: إن أخي ذكر أنه ألمَّ بها في الجاهلية. وجه الاستدلال منه: أنه- عليه السلام- ألحق الولد بالفراش. والوليدة: الجارية، وهي يمانية. والولد يسمى عبد الرحمن. ومعنى قوله- عليه السلام- "ولِلْعَاهِرِ"، أي: الزاني، "الحجر" أي: لاحظ له في نسب الولد؛ كما نقول: له التراب، أي: لا شيء له، كذا قاله القلعي في "المستغرب على ألفاظ المهذب". واستدل أصحابنا على ذلك أيضاً- بما روي أن عمر- رضي الله عنه- قال: ما بال أقوام يطئون ولائدهم ثم يعزلون؟! لا تأتيني وليدة يعترف سيّدها أنه ألمّ بها إِلَّا ألحقتُ به ولدها؛ فاعزلوا بعد ذلك أو أنزلوا! وفي رواية: فأرسلوهن بعدُ أو أمسكوهن. فاعتبر الاعتراف بالإلمام لا الاعتراف بالولد، ولم يخالفه أحد من الصحابة، ولأنه معنى يثبت به تحريم المصاهرة؛ فجاز أن يثبت به الفراش كعقد النكاح. قال: ولا ينتفي عنه إلَّا أن يدّعى الاستبراء ويحلف عليه: أما عدم انتفائه باللعان وكونه غير مشروع له؛ فلأن نص القرآن في الزوجات والأزواج، ولا مجال للقياس فيه. وحيث أثبت الشافعي اللعان في النكاح الفاسد، وإن كان فيه حَيْد عن النص؛ فذاك لكونه وجد مُسْتَمْسَكاً قريباً من الشبه مأخوذاً في مثل مسلكه في إلحاق الشيء بالشيء لكونه في معناه، وملك اليمين ناب عن النكاح [بعيد]؛ فضعف تقدير اللعان، كذا قاله الإمام. ووجهه القاضي وغيره بأن اللعان من خصائص النكاح؛ فلا يثبت في ملك اليمين كالطلاق والظهار والإيلاء، وفي ذلك نظر؛ لأنه يجري في وطء الشبهة مع انتفاء النكاح وشبهه. نعم، لو فصل في

وطء الشبهة بين أن يظنها زوجته؛ فيكون له اللعان بظنه الزوجيَّةَ، وبين أن يظنها أمته؛ فينتفي الولد اللاحق به بدعوى الاستبراء؛ لأن الظن لا يزيد على المحقق- لكان له وجه مستمَدٌّ من حرية الولد عند ظن حرية الموطوءة، ورِقِّهِ عند ظن أنها زوجته الرقيقة، واختلاف العدة على ما سنذكره- إن شاء الله تعالى- واستقام ما ذكره من الدليل. وأما انتفاؤه دعوى الاستبراء؛ فلتعينه طريقاً. وأما اعتبار الحلف؛ فلأن ما ادّعاه ممكن فيؤكد باليمين؛ كما في غيره من الدعاوى. وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه لا يحتاج إلى اليمين عند إنكارها الاستبراء مع الأول. قال الرافعي: وربما ينبني الخلاف على أن الانتفاء معلّق بدعوى الاستبراء أو بفعل الاستبراء. قلت: ومقتضى تقييد الخلاف يشعر بأنها إذا لم تنكر [أنه منه] لا يحتاج إلى الحلف، وفيه نظر؛ لما في ذلك من حق الولد، والأول: الذي عليه الجمهور، وفي كيفية يمينه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يحلف على الاستبراء، ويكفي ذلك نافياً للنسب، وهو ظاهر كلام الشيخ. والثاني- وهو اختيار الداركي والماوردي- أنه لابد وأن يضم إليه: وإن الولد ليس مني. والثالث- وبه قال أبو إسحاق-: أنه لا يحتاج إلى التعرض للاستبراء، ويحلف على أن الولد ليس منه، وهذا كما أن في نفي ولد الحرة لا يحتاج إلى التعرض للاستبراء. وقد ذكر القاضي أبو الطيب وغيره أن هذا أصح. قال الرافعي: وفيه ما يفهم أنه لو عرف أن الولد من جغيره ولم يستبرئها، يجوز له نفيه والحلف عليه. وإذا قلنا: إنه يتعرض للاستبراء، ففي كيفيته وجهان:

أحدهما: يقول: استبرأتها قبل ستة أشهر من ولادة هذا الولد. والثاني: يقول: ولدَتْهُ لستة أشهر بعد استبرائي. ولو نكل عن اليمين حلفت الأمة على وجهٍ حكاه الماوردي، فإن نكلت توقفنا إلى البلوغ، فإذا حلف الولد بعد البلوغ لحقه، وفي أصل المسألة قول آخر رواه الماوردي وغيره عن رواية أحمد بن حنبل: أن له أن ينفيه باللعان، وبه قال ابن سريج وأبو علي الطبري، ثم قال: وله عندي وجه إن لم يدفعه نص. فعلى هذا: هل يحتاج في لعانه إلى القذف أو يكتفي بإنكاره؟ فيه وجهان، فإن قلنا بالأول فلاعن ولم تلتعن وجب عليها الحد، وإن قلنا بالثاني فلاعن ولم تلتعن لا يجب عليها الحد، كذا قاله الماوردي. مباحثة: إذا كان دعوى السيد الاستبراء بالحيض، فكيف جعلتم القول قوله مع أن الحيض لا يطلع عليه إلَّا من جهتها؟! وأيضاً: فإنه لو علق طلاقها على حيضها كان المرجع في ذلك إليها؛ لما ذكرناه من المعنى. قلت: قال الإمام: إن تفصيل المسألة يوضح الغرض، فإن كانت لا تنكر جريان الحيض، والسيد اعترف بالوطء، فإذا قالت: لم أحض بعد الوطء، فكأنها تدّعى وطئاً بعد آخر حيض، والسيد ينكر ذلك، والأصل عدمه. أما إذا اعترف بوطء في وقت عيَّنَهُ، وادّعى الاستبراء بعد ذلك بالحيض، فإذا أنكرت الأمة فهذا محل النظر، والظاهر أنه يرجع إلى قولها، وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن الرجوع إلى قول المولى في هذا المقام. فروع: لو ادّعت الوطء وأُمِّيَّة الولد، وأنكر السيد أصل الوطء- فالمشهور وهو اختيار القفال، [وبه جزم في "التهذيب" قبل كتاب العدة]: أنه لا يحلف، وإنما حلف في الصورة السابقة؛ لأنه سبق منه الإقرار بما يقتضي ثبوت النسب وهو الوطء وفيه وجه: أنه يحلف، وهو اختيار القاضي الحسين. وإذا لم يكن ولد فلا يحلف بلا خلاف. ولو

أقرَّ بالوطء، وأتت بولدٍ لأكثر من أربع سنين من وقت الوطء: هل يلحقه؟ فيه وجهان، وهما يقربان من الخلاف فيما إذا أتت بولد بعد الولد الذي ألحقناه بالسيّد لستة أشهر فصاعداً، هل يلحقه الثاني؟ ولو ادعى الاستبراء ونفى حملها، ثم [أتت بولد] لما دون ستة أشهر من وقت الاستبراء- فالاستبراء لَغْوٌ، فلو أراد نفيه باللعان فقد مَرَّ أن الصحيح: أن نسب الملك لا ينتفي باللعان. وادّعى أبو سعيد المتولي أن الصحيح في هذه الصورة: أن له نفيه باللعان؛ لأن من وطئ زوجته في طهرٍ، ورماها بالزنى في ذلك الطهر، وأتت بولدٍ- كان له نفيه باللعان؛ فيبعد أن يلزمه ولد الأمة في هذه الحالة، ولا يلزمه نسب المنكوحة. وإن ولدت لستة أشهر إلى أربع سنين، فسنذكر حكه في ضِمْنِ فصلٍ بعده. قال: وإن قال: كنت أطأ وأعزل، لحقه؛ لما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين سئل عن العزل: "لَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا، مَا كُتِبَ خَلْقُ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا سَتَكُونُ". ولأن أحكام الوطء كلها تتعلق بالإيلاج لا بالإنزال؛ فكذلك هذا الحكم، ولأنه قد يسبق من الماء شيء لا يحس به فيحصل منه العلوق، وفيه وجه عن رواية الشيخ أبي محمد: أن النسب لا يلحقه. قال الإمام: وهذا لم أَرَهُ إلا له، وعلى الأول: له أن ينفيه بدعوى الاستبراء أو الحلف. قال: وإن قال: كنت أطأ فيما دون الفرج، فقد قيل: يلحقه؛ لإمكان أن يسبق الماء إلى الفرج وهو لا يعلم به، وقيل: لا يلحقه؛ لأن لحوق النسب من أحكام الوطء فلا يتعلق بغير الإيلاج كالتحليل والتحصين، وهذا هو الأصح، ويجري الخلاف فيما لو ادّعى الوطء في الدبر. قال: وإن وطئ أمته ثم أعتقها واستبرأت، ثم أتت بولدٍ لستة أشهر من حين

العتق- لم يلحقه؛ للحمك ببراءة الرحم بعد الاستبراء، وقيل: يلحقه؛ لأنه تَبيَّن أنه لم يكن استبرأ، كذا قاله الجيلي، وقال: إنه الأصح، وإن الوجهين ينبنيان على أن الحامل تحيض أم لا، والأصح: أنها تحيض؛ فلا يمنع الولد الحيض. والمشهور في "الرافعي" وغيره: أن الذي نصَّ عليه الشافعي، وهو ظاهر المذهب فيما إذا استبرأها قبل العتق، ثم أتت بولدٍ يمكن أن يكون منه: أنه لا يلحقه، وأنَّ نصه في الحرة إذا بانت بالطلاق، ثم أقرَّت بانقضاء العدة بالأقراء، ثم أتت بولدٍ يمكن أن يكون منه: أنه يلحقه. وقد اختلف الأصحاب في المسألتين على قولين بالنقل والتخريج في الطرفين، وفرقوا بأن الوطء سبب ظاهر [والاستبراء ظاهر] يعارضه، وغذا تعارضا سقط الظهور وبقي مجرد الإمكان، والإمكان لا يكتفي به في الأمة، وهو في الحرة يكتفي به، وإذا ثبت ما ذكرناه قبل العتق، فكذلك الحكم بعد العتق؛ إذ لا فارق بينهما. قال: وإن اشترك اثنان في وطء امرأة، فأتت بولدٍ لو انفرد كل واحد منهما لحقه- عُرِض على القائف: فإن ألحقه بأحدهما لحقه. القائف: هو متَّبع الآثار والأشباه، والجمع: قافَةٌ. والأصل في اعتبار القافة: ما روى مسلم عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسروراً، فقال: "يَا عَائِشَةُ، أَلَمْ تَرَيْ مُجَزِّزاً الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ عَلَيَّ، فَرَأَى أُسَامَةَ وَزَيْداً وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا؛ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ؟! ". قال الشافعي: ولو لم يكن في القيافة إلَّا هذا أقنع. ووجه الدلالة من الخبر: أنها لو لم تكن علماً، ولو لم يكن بها اعتبار وعليها اعتماد، لمنعه- عليه السلام- من المجازفة وقال: لا تفعل هذا؛ فإنك إن تُصِبْ في شيء أخطأت في غيره، وكان خطؤك قذفَ محصنة ونَفْيَ نسب، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقرُّ

إلَّا على الحقّ، ولا يُسَرُّ إلَّا بالحق. قال الأئمة: وسبب سروره: أن المشركين كانوا يطعنون في نسب أسامة؛ لأنه كان طويلاً أقنى الأنف أسود، وكان زيد قصيراً أخنس الأنف بين السواد والبياض، كذا قاله الرافعي. وقال أبو داود- على ما حكاه عبد الحق في "الأحكام"-: إن زيداً كان شديد البياض. وروي أن عمر- رضي الله عنه- دعا قائفاً في رجلين ادعيا مولوداً. وشك أنس بن مالك في ابنٍ له؛ فدعا له القائف. وإذا ثبت اعتبار قول القائف، وجب الرجوع إليه فيما ذكرناه؛ لأنه لا يمكن إلحاق الولد بهما كما صار إليه أبو حنيفة؛ لأن الوطء لابد وأن يكون على التعاقب، وإذا اجتمع ماء الأول مع ماء المرأة وانعقد الولد منه، حصلت عليه غشاوة تمنع من اختلاط ماء الثاني بماء الأول ومائها. وأيضاً: فلو تداعيا الولدَ: مسلمٌ وكافر، أو حرٌّ وعبد، أو والد وابنه- لا يلحق الولد بهما بالاتفاق؛ فكذلك إذا تداعاه غيرهما. ثم الاشتراك في الوطء على الوجه المذكور يفرض من وجوه: أحدها: أن يطأها كل واحد منهما [بالشبهة؛ بأن يجدها على فراشه فيظنها زوجته أو أمته. والثاني: أن يطأها كلٌّ منهما] في نكاحٍ فاسدٍ. [والثالث: أن يطأ زوجته، ثم يطلقها، فيطأها غيره بالشبهة أو في نكاح فاسد]، أما لو لم يطلقها الزوج، ووطئت بالشبهة في النكاح، فعن القاضي أبي الطيب- وهو الذي أورده ابن الصباغ-: أن الولد يلحق بالزوج؛ لأن الفراش له، والفراش أقوى من الشبهة؛ كما أنه لو طلقها زوجها، وانقضت عدتها، ونكحها زوج آخر، فأتت بولدٍ- يُلحقُ بالثاني، وإن أمكن أن يكون من الأول. قال الرافعي: والأظهر ما ذكره القاضي الروياني وغيره- وهو الذي أورده الإمام-: أنه لا يتعين الزوج للإلحاق، بل الموضع موضع الاشتباه والعرض على القائف، وليس كالصورة المستشهد بها؛ لأن العدة ظاهرة في حصول البراءة عن

الأول، وها هنا بخلافه. قلت: وما حكي [عن] القاضي أبي الطيب موافق لما رواه في باب اللعان عند نسبته المرأة إلى غير الزنى عن أبي إسحاق وأبي علي الطبري، من أن [له أن] يلاعن لنفي الولد [عند نسبتها] إلى وطء الشبهة. والمحكي عن ابن الصباغ في المسألة المستشهد بها يناقضه ما حكاه في كتاب اللعان في باب ما يكون قذفاً؛ فإنه قال: إذا أتت بولدٍ فقال: هو من زوج قبلي، وعرف لها زوج، وكان يمكن أن يكون [منهما] أنه يُرَى القائفَ. وهذه المسألة قد تقدم بعض الكلام فيها في باب اللعان، وفي أول هذا الباب. وقد يظهر عن بعض الناقلين فيه مناقضة فليتأمل. والرابع: أن يطأ الشريكان الجارية المشتركة بينهما. والخامس: أن يطأ أمته، ثم يبيعها فيطأها المشتري. تنبيه: العرض على القائف في الصور التي ذكرناها منوط بأمرين: أحدهما: أن يدّعي كل من الواطئيْنِ أن الولد منه، أو يقيم بينة على أنه ولد على فراشه. وقال [بعض] أصحابنا: يقرع بين البينتين في النسب. وعلى المذهبك إذا ألحقه القائف بأحدهما، فهل يلحقه بالقافة، أو بها مع البينة؟ فيه وجهان في "زوائد" العمراني. أما إذا ادّعى أحدهما ذلك، وأنكر الآخر أو سكت ففيه قولان: أحدهما: يحكم به للمدعي. والثاني- وهو الأظهر والذي حكاه ابن كج-: أنه يعرض على القائف لحقِّ الولد؛ كما لو نفياه. وقال الإمام في كتاب اللعان عند نسبة الزوج الولدَ إلى الواطئ بالشبهة: إن القافة إنما تجري إذا اعترف الواطئ بالوطء ووجد التداعي بين الزوج والواطئ

بالشبهة، فإذ ذاك يُرَى القائف. الثاني: ألا يتخلل بين الوطأين حيضة؛ فلو تخللت فهي أمارة ظاهرة في حصول البراءة عن الأول؛ فينقطع تعلقه، إلَّا أن يكون الأول زوجاً في نكاح صحيح، والثاني واطئاً بالشبهة، أو في نكاح فاسد- فلا ينقطع تعلق الأول؛ لأن أحكام الوطء مع فراش النكاح قائم مقام نفس الوطء، والإمكان حاصل بعد الحيضة، ومقتضى هذا: ألا يُرَى الولد للقائف فيما إذا انقضت عدتها ثم تزوجت بآخر، وأتت بولدٍ يمكن أن يكون من كل واحد منهما. وقد حكينا من قبل أنه يعرض على القائف إذا قال الزوج الثاني: هو من الأول. اللهم إلا أن يحمل ذلك على ما إذا انقضت العدة بالأشهر لا بالأقراء. ولو كان الأول زوجاً في نكاح فاسد، ففي انقطاع تعلقه بتخلل الحيضة قولان: أحدهما: أنه كالنكاح الصحيح. وأظهرهما- على ما حكاه الرافعي-: خلافه؛ لأن المرأة في النكاح الفاسد لا تصير فراشاً ما لم توجد حقيقة الوطء. وهذا فيه نظر يظهر لك- إن شاء الله [تعالى- في كتاب العدد في أن فراش النكاح الفاسد متى يحصل؟ وهل يشترط] في العرض على القائف حياة الولد؟ أطلق الطبري الحكاية عن أبي إسحاق: أنه لا يشترط، ويعرض بعد الموت، وأن غيره قال: لا يعرض. وفي "التهذيب" وغيره: أنه إن تغيّر أو دفن فلا يعرض، وإن لم يتغيّر ولم يدفن فوجهان. وقال ابن اللبان: إن كان له ولد يُرَى القائفُ [ولدَهُ. وهذا ما ذكره القاضي الحسين في "التعليق". وكذا إن عُدِمَ الولد فولد الولد، على ما حكاه في "العدة". وإن مات الأبوان قبل ثبوت النسب من أحدهما فإنه يُرَى القائف] مع عصبة الأب الميت من أبيه وابنه و [من] إخوته وأخواته وأعمامه وعماته؛ لقوله- عليه السلام-: "لَعَلَّ عِرْقاً نَزَعَهُ".

وفي "الحاوي" في كتاب الرضاع: أنه يعرض مع الأب دون الأخ والولد على وجهٍ، فإن لم يكن له من يعرض معه فهل ينقطع العرض على القائف بموته قبل الدفن؟ فيه الوجهان المذكوران في الأب. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون الواطئان مسلميْنِ أو أحدهما، ولا بين أن يكونا حرّين أو أحدهما، ولا بين أن يكون الولد بالغاً أو صغيراً؛ لأن استدلال القائف ممكن في الحالين، قاله الطبري في "العدة"، وحكى القاضي ابن كج عن تخريج أبي الحسين وجهاً: أنه لا رجوع إلى القائف بعد بلوغ المولود. والظاهر الأول. فائدة: اختلف أصحابنا في كيفية العرض على القائف على وجهين ذكرهما العمراني في "الزوائد" عن ابن اللبان: أحدهما: يرى مع أحد الأبوين: فإن نفوه عنه ثبت نسبه من الآخر، وإن ألحقوه به عرض مع الآخر، فإن ألحقوه به- أيضاً- علمنا خطأ القائف، وبرئ الآخر. والثاني: يرى معهما جميعاً. ثم الشبه الذي يلحق القائفُ الولد به ضربان: ظاهر، وخفي: فالظاهر: أن يكون الشبه بالسّواد والبياض. والخفي: ما يعلم بالنظر إلى الأيدي والأرجل ونحوها. قال: فإن لم يكن [قافة، أو كانت] وأشكل عليها، أو ألحقته بهما، أو نفته عنهما- ترك حتى يبلغ فينتسب إلى من يقوى في نفسه أنه أبوه: أما إذا لم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها؛ فلأنه موضع ضرورة، والولد يجد من نفسه ميلاً إلى والده دون غيره؛ فرُجِعَ إلى ذلك في محل الضرورة. وأما إذا ألحقته بهما؛ فلأن الولد لا يجوز أن يكون من اثنين لما ذكرناه؛ فإذا ألحقته بهما دَلَّ على الاشتباه عليها، ولا يقبل قولها بعد ذلك، إلَّا أن يمضي زمان يمكن التعلم فيه ويمتحن.

وأما إذا نفته عنهما؛ فلأن الأصل عدم غيرهما فيظن أنه من أحدهما، ولما نفته عنهما دَلَّ على أنه أشكل عليها. هذا هو المشهور في الجميع، [وفي "المهذب"] في باب اللقيط حكاية وجه: أن وقت الاختيار يدخل إذا صار مميزاً كالتخيير بين الأبوين في الحضانة. وحكاه في "العدة" عن القديم. وفي "الزوائد" أن ابن سريج حكى عن بعض أصحابنا أن القائف إذا ألحقه بهما ثبت نسبه منهما، وأنه غلط. واعلم أن الانتساب منوط بما إذا كانا حَيَّيْنِ عند الانتساب، وعرف الصبي حالهما وشاهدهما قبل البلوغ، وكان مَرْضِيّ الفطنة صحيح الذكاء، أما إذا انتفى ذلك فلا يثبت، قاله الماوردي [وغيره]. تنبيه: ليس المراد بعدم القائف: ألا يوجد في الدنيا، بل المراد ألَّا يوجد في موضع الولد، وما قرب منه، وهي المسافة التي تقطع في أقل من يوم وليلة، كذا قاله القاضي الروياني، على ما حكاه الرافعي في الباب الثاني من كتاب العدد، وحكاه الجيلي أيضاً، وفي "الإبانة" تقييد انتساب الولد بألّا يوجد قائف في الدنيا. والانتساب بعد البلوغ واجب على الولد، حتى إذا امتنع منه حبس، وإذا اختار كان كإلحاق القائف، [فلو وجد القائف] بعد ذلك وألحقه بغير من انتسب إليه ألحِقَ [به]، وخرّج ابن اللبان وجهاً: أنه لا يلحقه، ولا ينقض الحكم حكاه في "الزوائد". ولو قال: لا أجد ميلاً إلى أحدهما، بقي الأمر موقوفاً. فروع: إذا مات الولد قبل ذلك، قام ولده مقامه في الانتساب، وكذا لو كان الولد معتوهاً، قاله ابن اللبان. وفي "تعليق" القاضي الحسين في الرضاع: أنه إن كان مجنوناً لا يقوم ولده مقامه؛

لأنه بالجنون لا يَخْلُفُه، كما لا يَخْلُفُ في سائر الحقوق. ولو كانا ولدين، فانتسب أحدهما إلى أحدهما، والآخر إلى الآخر- دام الإشكال، فإن رجع أحدهما إلى قول الآخر، قُبِلَ، وهذا يخالف ما لو ألحقه قائف بأحدهما، وألحقه آخر بآخر؛ فإنه يقدّم الأول. وقال ابن كج: إنهما يتعارضان، ويصير كأن لا قائف. ثم هذا إذا لم يكن سبب اختلاف القائفيْنِ الاختلاف في الشبه، أما إذا كان سببه الاختلاف في الشبه بأن اعتبر أحدهما الشبه الخفي، والآخرُ الشبهَ الظاهر- فأيهما يقدم؟ فيه وجهان في "الشامل"، والظاهر في "الرافعي": الأول. ولو ألحقه القائف بأحدهما، ثم رجع وألحقه بالآخر- لم يقبل، وذكر ابن كج: أنه إن رجع بعد تنفيذ الحمك بقوله لم يلتفت إلى رجوعه، وإن رجع قبل ذلك، قبل رجوعه، ولا يقبل في حق الآخر؛ لسقوط الثقة بقوله. ونفقة الولد إلى أن يعرض على القائف عليهما، فإن ألحق بأحدهما رجع الآخر عليه، كذا قاله الرافعي في باب القافة، وحكى في الباب الثاني من "العدة": أن له الرجوع إذا أنفق بإذن الحاكم؛ فلو أنفق بغير إذنه فلا رجوع. قال: ولا يقبل قول القائف إلَّا أن يكون ذكراً حُرّاً عدلاً مجرّباً في معرفة النسب: أما اعتبار التجربة؛ [فليعرف كونه] من أهل الاجتهاد، فإنه لا يجوز الرجوع لمن لا يُعْرف علمه بهذا النوع؛ كما أن من لا يعرف علمه بالأحكام لا يقلّد الحكم. وأما اعتبار باقي القيود؛ فبالقياس على الحاكم. وفي الذكورة وجه: أنها لا تعتبر، ووُجِّه بأن قول المرأة يجوز في النسب، وهو في الشهادة في الولادة. قال ابن الصباغ: وهذا ضعيف؛ لأن شهادتها لا تقبل في النسب، وإنما تقبل في الولادة، والولادة مما لا يطلع عليها الرجال، وأجرى هذا الوجه في العبد أيضاً. وبناه الفوراني مع الأول فيهما على أن القيافة كالحكم أو كالقسمة، ووجْهُ مشابهتها للقسمة: اشتمالها على التمييز بين النفي والإثبات.

ويشترط أن يكون القائف بصيراً ناطقاً مسلماً، وهل يشترط أن يكون من بني مُدْلِج؟ فيه وجهان. أصحهما عند العراقيين: أنه لا يشترط. ومقابلُهُ عند الإمام والغزالي. ولو كان القائف ولدَ أحد المدعيَيْنِ أو عدوّاً له: فإن أَلءحَق الولد بغير أبيه أو بعدوه، قُبِل، وإن ألحقه بأبيه أو بغير عدوه، لم يقبل. واعلم أن التجربة تكون تارةً بأن يعرض الولد في نسوة ليس فيهن أمه، [ثم في نسوة ليس فيهن أمه]، [ثم في نسوة فيهن أمه]، ثم في نسوة فيهن أمه، فإذا أصاب في الكل قبل قوله بعد ذلك، وتارة يكون بأن يعرض مع الأب كذلك. وكلاهما يحصل به الغرض عند العراقيين، لكن الأول أولى، ويحكى عن نصه في "الأم". وذهب القفال وصاحب "التقريب" إلى تعينه وامتناع التجربة بالأب؛ لأن لحوق الولد بالأب مظنون. ثم التكرار في التجربة هل هو شرط؟ اختلف فيه الناقلون: فمنهم من لم يشترطه. ومنهم من قال: لا يكفي العرض مرة واحدة؛ فإنه قد يصيب فيها اتفاقاً، ولكن يعرض عليه ثلاث مرات، وإليه ذهب الشيخ أبو حامد وأصحابه. وذكر الإمام أنه لا معنى لاعتبار التكرار ثلاثاً؛ بل المعتبر غلبة الظن بأن ما يقوله عن خبرة وبصيرة، لا عن وفاقٍ، والظن قد يحصل بما دون الثلاث، وإذا حصلت التجربة اعتمد على قوله، ولا تجدد التجربة لكل إلحاق. قال: ويجوز أن يكون [القائف] واحداً؛ كما في القضاء والفتوى، وهذا هو الأصح، ويحكى عن نصه في "الأم". قال: وقيل: لابد من اثنين؛ كما في التزكية والتقويم. فروع: [الأول] من الرعاة من يلتقط السِّخال في ظلمة الليل ويلقيها في وعاء معه، فإذا

أصبح ألقى كل سَخْلة بين يدي أمها، ولا يخطئ؛ لمعرفته بها وبأمهاتها، فعن الإصطخري: أنه يعمل بقول مثل هذا الراعي، إذا تنازع اثنان في سخلة، والظاهر خلافه. [آخر: إذا لم يكن للقائف أجرة من بيت المال، فطلب أجرة- كانت أجرته على المتنازعين، فإن ألحق الولد بأحدهما، استحق الأجرة، وعلى من يستحقها؟ فيه وجهان: أحدهما: على من ألحق الولد به. والثاني: عليهما؛ لأن العمل مشترك بينهما في: النفي عن أحدهما، والإلحاق بالآخر. وإن لم يلحقه بأحدهما، فإن كان لإشكاله عليه، لم يلحقه، يستحق الأجرة، وإن كان لتكافؤ الأشباه، ففيه وجهان: أحدهما: يستحق، إذا قلنا: إن الأجرة عليهما عند إلحاقه بأحدهما. والثاني: لا يستحق، إذا قلنا بالآخر، قاله الشاشي في "الحلية" في كتاب اللقيط]. ***

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان "اليمين" و"الحلف" و"الإيلاء" و"القَسَم": ألفاظ مترادفة على معنى واحد، ورد بها الكتاب العزيز. وأصل "اليمين" في اللغة: اليد اليمنى، وأطلق على الحلف يميناً؛ لأن العرب كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد منهم بيمينه يمينَ صاحبه. وقيل: لأنها تحفظ الشيء على الحالف كما تحفظ اليد اليمنى الشيء. وهي في الشرع: عبارة عن تحقيق ما يحتمل المخالفة، أو تأكيده، بذكر اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته. وزاد بعضهم: لا في معرض اللغو والمناشدة. قال الرافعي: ولا حاجة إلى ذلك: أما اللغو؛ فلأنه يشبه أن يقال: لغو اليمين يمين، لكن لا [تتعلق به الكفارة]، ويدل عليه قوله تعالى: {بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] أثبت اليمين مع اللغو. وأما المناشدة فلا تتحقق المناشدة بذكر الله تعالى، وإنما يسأل من غير التحقيق؛ فقوله: "المخالفة أو تأكيده" يخرج بقوله: "تحقيق ما". باب من تصح يمينه، وما تصح به اليمين ذكر الشيخ- رحمه الله- في هذا الباب ركنين من أركان اليمين، وهما: الحالف، والمحلوف به، وأفرد للركن الثالث، وهو: المحلوف عليه- الباب الثاني؛ لطوله كما فعل في أركان البيع. قال: تصح اليمين من كل بالغ، عاقل، مختار، قاصد إلى اليمين، أي: سواء كان مسلماً أو كافراً؛ لعموم قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} إلى آخرها [البقرة: 225]، أخبر الله- تعالى- أنه يؤاخِذ باليمين،

وأوجب فيه الكفارة؛ فثبت أن لها حكماً في الشرع. قال: فأما الصبي فلا تصح يمينه؛ للخبر المشهور، ولأنه قول يتعلق به وجوب حق؛ فلا يصح من الصبي كالبيع. قال: ومن زال عقله بنوم أو مرض لا تصح يمينه: أما النائم؛ فللحديث المشهور، وأما المريض؛ فبالقياس عليه، وفي معناهما: من شرب دواء له إليه حاجة، فزال عقله. واعلم أن كلام الشيخ ها هنا يدل على أن النوم والإغماء يزيلان العقل، وقد تقدم الكلام على ذلك في كتاب الطلاق، ونَبَّه- رضي الله عنه- بما ذكره من عدم صحة يمين النائم على عدم صحة يمين المجنون من طريق الأَوْلى؛ من حيث إن النائم قد اختُلِفَ في أنه مكلف أم لا، ولم يختلف في المجنون. قال: ومن زال [عقله] بمحرم صحت يمينه، وقيل فيه قولان، وتوجيههما قد سبق في كتاب الطلاق. قال: ومن أكره على اليمين لم تصح يمينه؛ لما روى واثلة بن الأسقع وأبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [لَيْسَ عَلَى مَقْهُورٍ يَمِينٌ". ولأنه قول حمل عليه بغير حق؛ فلم يصح منه كالمسلم إذا أكره على كلمة الكفر. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب حكاية قول: إن يمينه تنعقد، وإليه ذهب أبو حنيفة. قال: ومن لم يقصد اليمين، فسبق لسانه إليها، أي: على العادة: كقول الإنسان: لا والله، وبلى والله، أو قصد اليمين على شيء، فسبق لسانه إلى غيره- لم تصح يمينه؛ لقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225].

قال: وذلك لغو اليمين الذي لا يؤاخذ به؛ لأن اللغو في كلام العرب غير المعقود عليه؛ كما حكاه الشافعي، ويؤيده ما رواه بإسناده عن عائشة- رضي الله عنها- أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لَغْوُ الْيَمِيْنِ قَوْلُ الْإِنْسَانِ: لَا وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ". ولأن ما سبق إليه اللسان من غير قصد لا يؤاخذ به؛ كما لو سبق لسانه إلى كلمة الكفر. وفي الرافعي أن ابن كج حكى عن ابن سريج أنه أبدى احتمالاً في لغو اليمين أن يحلف على حق يعتقد أنه صادق فيه فيتبين أنه كاذب: فلا مؤاخذة فيه بإثم ولا كفارة. وما قاله مستمد مما حكاه ابن الصباغ عن الشافعي: أن جماع اللغو هو الخطأ. ثم لتعلم أن مجمل الكلام في لغو اليمين ما إذا كانت اليمين بالله تعالى، أما إذا كانت بالطلاق أو العتاق، وادعى أنه لم يقصد اليمين- فلا يقبل قوله في الحكم؛ لتعلق حق الآدمي بهما؛ بخلاف اليمين بالله تعالى فإنه لا يتعلق بها حق آدمي. قال ابن الصباغ: وينبغي إذا كان الحلف على ترك وطء زوجته ألا يصدق إيضاً، وهذا ما حكاه المتولي والرافعي. ووجه الإمام عدم القبول في الطلاق والعتاق بأن الظاهر يكذبه ومن كذبه الظاهر لا يصدق، واللفظ صريح في وضعه. قال: وتصح اليمين على الماضي والمستقبل، أي: إذا كان ممكناً. أما صحتها على المستقبل إذا كان ثابتاً، فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم [قال:] "وَاللهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً، وَاللهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً"، وقال في الثالثة: "إِنْ

شَاءَ اللهُ تَعَالَى"، فلما حلف واستثنى ثبت أن للحالف حكماً في الشرع. وأما إذا كان نفياً؛ فلقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]. وأما صحتها على الماضي- نفياً كان أو إثباتاً- فلقوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا} [التوبة: 74]، ولقوله: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14]. وأما إذا كان المحلوف عليه غير ممكن، كما إذا حلف: ليصعدن السماء، أو ليقلبن هذا الحجر ذهباً، وما جانس ذلك- فهل ينعقد يمينه؟ فيه وجهان، وهما جاريان فيما لو حلف: لا يصعد السماء، ولا يقتل ميتاً، كذا حكاه المتولي. والأصح في "التهذيب" فيما إذا حلف ألا يفعل عدمُ الانعقاد، والمذكور منهما في "الحاوي": انعقاد اليمين كما في اليمين الغموس. وعلى هذا: فهل تجب الكفارة في الحال أو قبيل الموت؟ فيه وجهان، أشبههما، وبه أجاب الغزالي والروياني: الأول. وهذا فيما إذا لم يقيد الفعل بزمان، أما إذا قيده فقال: لأصعدن السماء غداً، فتجب الكفارة في الحال، أو عند مجيء الغد؟ الحكم فيه كما لو حلف: ليأكلن هذا الرغيف غداً، فأكله في يومه، وسنذكره. قال: فإن حلف على ماضٍ وهو صادق فلا شيء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل اليمين في جَنبة المدعَى عليه، ولا يجوز أن تجعل عليه إلا مع صدقه. وروي عن عمر- رضي الله عنه- أنه طلع المنبر، وفي يده عصا، وقال: "يأيها الناس، لا يمنعنَّكم الأيمان [من حقوقكم]؛ فوالذي نفسي بيده إن في يدي عصا". قال: وإن كان كاذباً، أي: عالماً بكذبه حالة اليمين- أثم؛ لكذبه وتجرئه على

عظمة الله تعالى. قال: وعليه الكفارة؛ لعموم قوله- تعالى-: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وهذا حالف؛ فلزمته الكفارة. ولأنه قد وجد اليمين بالله والمخالفة مع القصد والاختيار [؛ فلزمته الكفارة] كاليمين على المستقبل. ولأنها يمين تتعلق بالحنث المستقبل؛ فوجب أن تتعلق بالحنث الماضي؛ كاليمين بالطلاق والعتاق؛ [فإنه لو حلف: لقد دخل الدار، ولم يدخلها- لزمه الطلاق والعتاق]، وهذا وفاق؛ قاله الماوردي. أما إذا كان جاهلاً بكذبه مثل أن حلف: ما زيد في الدار، وكان في الدار، لكنه نسي، ثم ذكر، أنه حلف على مبلغ علمه أن الذي في الدار زيد، فإذا هو عمرو- فلا إثم عليه، وفي وجوب الكفارة خلاف يأتي مثله من بعد، إن شاء الله تعالى. قال: وهذه اليمين هي اليمين الغموس، أي: التي تغمس صاحبها في الإثم، أو يستحق بسببها الغمس في النار، وهي بفتح الغين. واستدل الأصحاب على ذلك بما روى [عن] عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْكَبَائِرُ؟، قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟، قَالَ: ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟، قَالَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ" [قال الشعبي: واليمين الغموس]: التي يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو فيها كاذب. وفي الاستدلال بذلك نظر؛ من حيث إن الدعوى تشمل ما إذا حلف على مال أو غير مال، وما إذا حلفه الحاكم أو غيره، كما صرح به البندنيجي. والحديث دالٌّ على اليمين التي يقتطع بها مال امرئ مسلم، وعند عدم المال ليست الجريمة كالجريمة؛ فلا يقاس عليها ما هو دونها.

تنبيه: المراد بكونه صادقاً فيما ذكرناه: أن تكون يمينه موافقة لما قصده [وإن كان مخالفاً لظاهر لفظه؛ إذا كان ما قصده] من مجاز اللفظ، ولم يكن المستحلف له حاكماً، فمن ذلك ما إذا حلف: ما [أكل ولا شرب] في يومه، وأراد: بمكة، أو: على ظهر الكعبة- لا حنث عليه. وكذا لو حلف: ما كاتبت فلاناً، ولا عرفته، ولا أعلمته، ولا سألته حاجة، ونوى بالمكاتبة: مكاتبة العبد، وبالتعريف: ما جعله عريفاً، وبالإعلام: ما شق شفتيه، وبالحاجة: الشجرة الصغيرة التي تسمى حاجة- لا حنث عليه، وإن كان قد فعل ما دل عليه اللفظ ظاهراً. وكذا لو حلف: ما أكلت دجاجة، ونوى الكُبَّة من الغزل، ولا فروجة، ونوى الدراعة، ولا شربت ماء، ونوى منيّاً- لا حنث عليه. وكذا لو حلف: ما في بيته حصير، ونوى الحبس أو اللبد، ولا فرش، ونوى صغار الإبل، ولا بارية، ونوى المدية التي يبري بها، أي: يقطع- لا حنث عليه، ونظائر ذلك. ولو قال: نسائي طوالق، ونوى أقاربه دون زوجاته، أو: جواريَّ أحرار، ونوى سفنه- لم تطلق زوجاته، ولم تعتق جواريه في الباطن، ويؤاخذ بذلك في الظاهر؛ لتعلق حق الآدمي. أما إذا كان المستحلف له الحاكم، فتعتبر موافقة يمينه؛ لما دل عليه ظاهر اللفظ الصادر من الحاكم؛ إذا كان اعتقاد الحاكم والحالف واحداً فيما وقع فيه التحليف. أما إذا اختلف اعتقادهما: بأن كان الحاكم حنفيّاً يرى شفعة الجوار، فحلف الشافعي على عدم استحقاق الشفعة عليه، وكان المدعي جاراً، وقد اشترى المحلف ما ثبتت فيه الشفعة له على مذهب أبي حنيفة-[فله أن] يحلف على عدم

استحقاق الشفعة عليه؛ لأنه لا يعتقد وجوبها عليه؛ فإذا حلف كان صادقاً. وعن بعضهم: أنه إذا حلف كان حانثاً في يمينه؛ كذا قاله ابن الصباغ قبل كتاب الرجعة، وسنعود إلى ذلك- إن شاء الله تعالى- في باب اليمين في الدعاوى. قال: وإن حلف على مستقبل؛ فإن كان على أمر مباح، أي: كدخول دار، وأكل طعام، ولبس ثوب، وغير ذلك- فقد قيل: الأولى: ألا يحنث؛ لقوله- تعالى-: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، وقوله- عليه السلام-: "وَإِنِّ وَاللهِ، إِنْ شَاءَ الله لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ"؛ فخصص رسول الله صلى الله عليه وسلم الحل بما إذا كان الفعل خيراً من الترك، ومفهومه يدل على أنه إذا لم يكن خيراً لا ينبغي أن يحلها، وهذا ما قال به أبو علي الطبري، ومال إلى ترجيحه ابن الصباغ. قال: و [قيل]: الأولى: أن يحنث؛ ليبين أنه بيمينه لم يغير حكم الله- تعالى- ولينتفع المساكين بإخراج الكفارة. وفيه وجه ثالث: أنه يتخير بين الوفاء والحنث، ولا ترجيح كما كان قبل اليمين. ولو حلف ألا يفعل مباحاً، كما إذا حلف لا يلبس الناعم، ولا يأكل الطيب من الطعام، وما في معنى ذلك- فالمذهب، على ما حكاه البندنيجي واختاره الشيخ أبو حامد والشيخ أبو محمد: أن حلها أفضل؛ لقوله- تعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، قال: ويشهد له صدر سورة "التحريم"؛ فإنه- تعالى- قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، ثم استحثه على الفعل بقوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]. وفيه وجه آخر محكي عن صاحب "التقريب" وغيره، واختاره القاضي أبو الطيب والصيدلاني: أن المقام عليها أفضل؛ لما روي عن عمر- رضي الله عنه- أنه قيل له: لو ألنت طعامك وشرابك؟ فقال: "إني أعلمكم بدقيق العيش، ولباب البر، وصغار المعز، ولكني سمعت الله- تبارك وتعالى- يقول لأقوام: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ

الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]. وقال ابن الصباغ بعد حكاية الخلاف: إن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس؛ فمنهم من يكون له ذلك أعون على نفسه، وأمكن له في طاعته، وأقطع للدنيا عنه؛ فيكون في حقه طاعة. وفي "الحاوي" حكاية وجه: أن الحل مباح. وفي "التهذيب" حكاية وجه: أنه إن حلف على التأبيد، الأولى: أن يحنث نفسه، وإن كان مؤقتاً [فلا يحنث نفسه]، ولو حلف على الامتناع مما يقتضي الشرع الامتناع عنه؛ لعارض بعد أن كان مباحاً، كما إذا حلف لا يدخل بلداً فيه بدع وأهواء- فقد حكى الإمام عن العراقيين حكاية خلاف فيه: فمنهم من يقول: يؤثر له في وجه ألا يدخل. ومنهم من يقول: اليمين تستحب على الهجوم. ثم قال: والوجه القطع أنا لا نحمله على أن يدخلها، ويبقى المكروه مكروهاً كما كان، والتردد الذي حكاه العراقيون في غاية الفساد. والمذكور في "تعليق" البندنيجي حكاية الخلاف فيما إذا حلف لا يسلك طريقاً مخوفاً، ولا يدخل بلداً فيه الجور والظلم- في أن الحل مباح، أو الأفضل المقام

على اليمين؟ وهو قريب مما حكاه الإمام. قال: وإن حلف على فعل مكروه، أي: كالالتفات في الصلاة ونظائره، أو ترك مستحب: كترك التطوعات، ونظائر ذلك- فالأولى: أن يحنث؛ لقوله- عليه السلام- لعبد الرحمن بن سمرة: "إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا- فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثم ائت بالذي هو خير". فإن قيل: فقد روي في خبر الأعرابي أنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلوات، فقال له: "خمس صلوات في اليوم والليلة"، فقال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ"، ولم ينكر عليه حلفه؛ فلو كان مكروهاً لأنكر عليه. والجواب: حمل ما جرى من الأعرابي على لغو اليمين، أو على أن مراده: لا يزيد في عدد الفرائض، ولا ينقص منها، وذلك لا يقتضي الإنكار. فرع: المدعى عليه إذا أنكر ما ادعى عليه به؛ أو كان المدعى كاذباً- فله أن يحلفه، وله ألا يحلف، وهو الأفضل؛ قاله ابن الصباغ وغيره، واستدل له بأن عثمنا امتنع من الحلف حين رد عليه المقداد اليمين بين يدي عمر- رضي الله عنهم- وعلل عدم الحلف بخشية أن يوافق قدر بلاء؛ فيقال: بيمين عثمان. قال مجلي: وحديث عمر يدفع هذا؛ لأنه لو كان الأفضل تركه لما حث على فعله. تنبيه: حيث قلنا: الأولى ألا يحنث، تكون اليمين طاعة، والخروج عنها مكروهاً، وحيث قلنا: الأولى أن يحنث تكون اليمين مكروهة، والمقام عليها مكروهاً، ولا يستثنى من ذلك إلا الحلف على المباح.

فائدة: اليمين عندنا لا تأثير لها في تغيير الأحكام، صرح بذلك الإمام وغيره. فإن قيل: وطء الزوجة ليس بواجب على الزوج فيما عدا الوطأة الأولى إن قيل به، ومع هذا لو حلف: [أن] لا يطأها أكثر من أربعة أشهر، صار الوطء واجباً؛ فقد غيرت اليمين حكم المحلوف عليه؟ قلنا: مراد الأئمة بما أطلقوه من أن اليمين لا تغير حال المحلوف عليه: أن اليمين لا تجعل المباح حراماً، ولا توجب فعل المحرم؛ كما صار إليه أبو حنيفة فيهما، ويمين المولى كذلك. قال: ويكره أن يحلف الرجل بغير الله- عز وجل- لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللهِ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ"، ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكِمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفَاً فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ فَلْيَصْمُتْ". فإن قيل: لم لا حملتم النهي على التحريم، وقد ورد في الحديث ما يدل عليه؛ قال- عليه السلام-: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ"، [وفي رواية]: "فَقَدْ أَشْرَكَ".

قلنا: [لأجل ذلك ذهب بعض الأصحاب- على ما حكاه الإمام- إلى أنه معصية، والجمهور على خلافهن وحملوا قوله- عليه السلام-: "فقد كفر" أو "أشرك"] على من حلف واعتقد فيما حلف به من التعظيم ما يعتقده في الله، سبحانه وتعالى. ومنهم من حمل لفظ "الشرك" على أنه أشرك بين الله وبين غيره في التعظيم. فإن قيل: قد أقسم الله- تعالى- في كتابه العزيز بالنجم وبالسماء وبالليل وبالتين والزيتون، وغير ذلك، وأقسم النبي صلى الله عليه وسلم بـ "أبيه"؛ حيث قال في قصة الأعرابي: "أَفْلَحَ- وَأَبِيهِ- إِنْ صَدَقَ"، وقال لأبي القيس الدارمي: "وَأَبِيكَ، لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخْذِهَا لَأَجْزَأَكَ"، وهذا يدل على جواز الحلف بالمخلوقات. قلنا: أما ما ورد في الكتاب العزيز فذكر "الرب" فيه مضمر، ومعناه: ورب السماء، ورب النجم؛ كما جاء في آية أخرى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23]، ولأنه ليس فوق الله تعالى أحد يعظم تعظيمه، فأقسم ببعض مخلوقاته الدالة على قدرته وحكمته؛ تعظيماً لذاته- سبحانه وتعالى- بخلافنا. وأما ما ورد منه- عليه السلام- فيجوز أن يكون قبل ورود النهي؛ فيكون النهي ناسخاً، ويجوز أن يكون بعده فيكون ناسخاً للنهي، والظاهر: الأول؛ لأنه أخبر أن الله- تعالى- ينهانا أن نحلف بآبائنا، وذلك يدل على أنه كان مباحاً، ثم طرأ النهي عليه. ويؤيد ذلك: أنه روي أن عمر- رضي الله عنه- قال: "والله، ما حلفت بها بعدُ ذاكراً ولا آثراً" يعني: حاكياً عن غيره، وقيل: ناسياً. ومنهم من حمل ما جرى منه- عليه السلام- على أنه لم يقصد به اليمين كما يقول الواحد منا: لا والله، وبلى والله؛ فيكون من لغو اليمين. وكما يكره أن يحلف الرجل بغير الله- عز وجل- يكره لغيره تحليفه به. وقال في "الحاوي" في باب موضع اليمين، من كتاب الأقضية: ولا يجوز أن يحلف أحد بطلاق ولا عتاق ولا نذر؛ لأنها تخرج عن حكم اليمين إلى إيقاع فرقة،

وإلزام غرم، وهو مستبدع، فلو بلغ الإمام أن حاكماً يستحلف المسلمين بالطلاق والعتاق عزله عن الحكم؛ لأنه جاهل. قال: فإن حلف بغيره كـ "النبي" صلى الله عليه وسلم و"الكعبة"، أي: وغير ذلك من سائر المخلوقات- لم تنعقد يمينه. أما في "الكعبة" فبالإجماع، وأما في غيرها فبالقياس عليها؛ بجامع ما اشتركوا فيه من الخلق. واعلم أن الشيخ إنما ذكر هذين المثالين، ولم يقتصر على أحدهما، ولم يذكر ما سواهما؛ لما سأذكره، وهو أن الإمام أحمد- رضي الله عنه- ذهب إلى أنه إذا حلف بالنبي، أن يمينه تنعقد؛ مستدّلاً بأنه أحد ركني الشهادة؛ فهو كاسم الله تعالى. فذكر الشيخ- رحمه الله- "الكعبة" مع "النبي"؛ ليقاس عدم انعقاد اليمين بـ "النبي" على "الكعبة" التي سلم عدم الانعقاد بها؛ بجامع ما اشتركا فيه من تعلقهما بأركان الإسلام، وإذا ثبت أن ذلك لا تنعقد به اليمين فغيره من طريق الأولى. فرع: يكره الاستكثار من اليمين بالله- تعالى- من غير حاجة؛ قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] أي: لا يحلف به في حق ولا باطل فيبتذل اسمه. وعلى هذا التأويل يحسن الاستدلال بالآية على المدعي. وفي "الحاوي": أن معنى قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ}: أن يجعل يمينه علة يَعْتَلُّ بها في برِّه، وعلى هذا لا يحسن التمسك بها. قال: وإن قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني، لم تنعقد يمينه؛ أي: وكذا ما في معناه، كما لو قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من الله تعالى ورسوله، أو: من القرآن، أو: من الكعبة، أو: من الإسلام، أو: مستحل الخمر والميتة؛ لما روى بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حَلَفَ إِنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ كَاذِباً، فَهُوَ كَمَا قَالَ

- وفي رواية: فَقَدْ قَالَ- وَإِنْ كَانَ صَادِقاً فَلَنْ يَرْجِعَ إِلَى الإِسْلَامِ [سَالِماً] " ووجه الدلالة منه: أنه- عليه السلام- ذكر حكم قوله، ولم يذكر أن الكفارة من موجباته، ولو كانت تجب به لذكرها، [ولأنه قول] عري عن اسم الله- تعالى- وصفته؛ فلا تنعقد به اليمين؛ كما لو حلف [بسائر المخلوقات، ولأن الكفارة في مواقع الإجماع إنما وجبت على من حلف] بلفظ معظم له حرمة، وخالفه وهتك حرمته، وهذا اللفظ غير معظم ولا حرمة له؛ فلم يكن يميناً. وفي "الجيلي" حكاية عن "فتاوي" القفال والروياني: أنه إذا قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من الله تعالى ورسوله، أو: برئت من القرآن، أو: آياته آية آية، أو: حرفاً حرفاً- فهو يمين يلزمه به الكفارة. قال: ويستغفر الله- تعالى- ليجبر الخلل الحاصل. واستدل له الجيلي بما روى البخاري ومسلم أنه- عليه السلام- قال: "مَنْ حَلَفَ، وَقَالَ فِي حَلِفِهِ: اللَّاتِ والعُزَّى- فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله". واعلم أن قوله- عليه السلام-: "فَهُوَ كَمَا قَالَ" إنما ذكره في معرض تعظيم ذلك؛ لأنه يصير به كافراً. قال الأصحاب: إلا أن يقصد الرضا باليهودية وما في معناها إذا فعل ذلك الفعل؛ فإنه يكون كافراً في الحال. وقوله: "فلن يرجع إلى الإسلام سالماً" أي: إنه يكون حانثاً بهذا القول. وقيل: أراد به: إن كان كاذباً في الاعتقاد فقد قال لغواً، وإن كان صادقاً في

الاعتقاد فقد كفر. قال: وإن حلف باسم لله- تعالى- لا يسمى به غيره؛ كقوله: والله، والرحمن، والقدوس، والمهيمن، وعلام الغيوب، وخالق الخلق، والواحد الذي ليس كمثله شيء، وما أشبه ذلك، أي: كقوله: والأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والقيوم- انعقدت يمينه، أي: سواء أطلق أو قصد الله- سبحانه وتعالى- أو قصد غيره. أما إذا قال: والله؛ فلما روى ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وَاللهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً". وأما إذا حلف بغيره؛ فلأن هذه الأسماء لا يسمى بها غير الله تعالى فانصرفت إليه، وانعقدت اليمين كقوله: والله، وفيه وجه: أنه إذا نوى غير الله- تعالى- يُدَيَّن في الباطن. وضعف في "الحاوي" الجزم به في "المهيمن" و"القيوم". وفي "الرافعي": أن الأشبه: أن قوله: والله، كقوله: بالله، وقد يقول المتلفظ به: أردت: والله المستعان، ثم ابتدأت: لأفعلن. وليس في ذلك إلا لحن في الإعراب، وسيأتي له نظائر. واعلم أنه يلتحق بأسماء الله تعالى الحلف بما هو عبارة عن الله- سبحانه وتعالى- كقوله: ومقلب القلوب، والذي نفس محمد بيده، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة وتردَّى بالعظمة، ورب العالمين، والذي أصلي له وأصوم؛ لأنه لا يعبر بذلك عن غير الله تعالى. وفي كتاب القاضي ابن كج: أن الحلف بالأسماء ليس بصريح إلا باسم واحد، وهو: والله. وهو غريب. ثم لا فرق في انعقاد اليمين بين أن يقول: "واللهِ" بالجر، أو: "واللهَ" بالنصب، أو: "واللهُ" بالرفع، ولا بين أن يتعمد أو لا يتعمد؛ لأن الخطأ في الإعراب لا يمنع انعقاد اليمين. وحكي عن القفال فيما إذا رفع أنه لا يكون يميناً إلا أن ينوي به اليمين.

فائدة: قال المحاملي في "المجموع": الاسم الأعظم، قيل: إنه "الله". وقال البندنيجي: إن أكثر أهل العلم قال به. تنبيه: [القدوس: الطاهر] عما لا يليق به، وهو صفات الحدوث. والمهيمن، قيل: الشهيد، وقيل: الشاهد المصدق، وقيل: الرقيب الحافظ، وقيل: الأمين. قال: وإن حلف باسم له يسمى به غيره مع التقييد: كالرب، والرحيم، والقادر، والقاهر، ولم ينو غيره- انعقدت يمينه، أي: سواء نوى به اليمين أو أطلق، وكذلك قوله: والناصر، والملك، والعظيم، والعزيز؛ لأن إطلاق اللفظ يدل عليه. وقيل: إن لم يكن له نية لا تنعقد يمينه. وليس بشيء. ولو قال: وربي، فإن كان من قوم يسمون السيد في عرفهم ربّاً، لم يكن حالفاً في الظاهر، ويكون حالفاً في الباطن؛ إذا أراد به الله، سبحانه وتعالى. وإن كان من قوم لا يسمون "الرب" في عرفهم إلا الله- تعالى- كان حالفاً في الظاهر؛ اعتباراً بالعرف [في الحالين]، قال الله- تعالى-: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} [يوسف: 41] يعني: سيده، وقال حكاية عن إبراهيم: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99] يعني الله- تعالى- فكان الرب في إبراهيم ويوسف مختلفاً في المراد؛ لاختلافهم في عرفهم، قاله في "الحاوي". قال: وإن نوى به غيره لم تنعقد يمينه؛ لأنه قد يستعمل في حق غيره؛ فيقال: رب الدار، ورحيم القلب، وقادر على المشي، وقاهر العدو، وإذا احتمل إذا عملت فيه النية. واعلم أنه يلتحق بهذا النوع لفظ: الجبار، والبارئ، والحق، والمتكبر، وكذا "الخالق"، و"الرازق" عند الأكثرين؛ لأنهما قد يستعملان في [حق] غيره؛ كما ورد به الكتاب العزيز؛ قال الله- تعالى-: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [العنكبوت: 17]، وقال تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء: 5] وألحقهما الإمام والغزالي بالنوع الأول.

وكذا ألحق الغزالي بهذا النوع قوله: [و] العليم، والحكيم. [وصاحب "التهذيب" ألحق به "السميع" و"البصير"]. قال الرافعي: ويشبه أن يعدَّا من النوع الذي يليه، ويدل عليه أن "العالم" في "التهذيب" مندرج فيه. وألحق القاضي أبو الطيب الطبري "الرحيم" بـ "الرحمن"، وغلط فيه. وروى ابن كج عن بعض التصانيف أن الحلف بأي اسم كان من الأسماء التسعة والتسعين الذي ورد [به] الخبر صريح، ولا فرق بين بعضها وبعض. قال: وإن حلف بما يشترك فيه هو وغيره: كالحي، والموجود، والغني، والسميع، والبصير، أي: وما أشبه ذلك كالمؤمن، والكريم، والعالم- لم ينعقد يمينه، إلا أن ينوي به الله تعالى؛ لأنها تستعمل في حقه- سبحانه- وفي حق غيره استعمالاً واحداً؛ فأشبه كنايات الطلاق، وهذا ما حكى الموفق بن طاهر أن صاحب "التقريب" وأبا يعقوب حكياه عن شيوخ الأصحاب وقطعوا به، وإليه صار صاحب "التهذيب" فيما عدا "السميع" و"البصير"؛ فإنه ألحقهما بالنوع قبله. والذي أجاب به الشيخ أبو حامد ومن تابعه وابن الصباغ، وبقية العراقيين، وتابعهم الإمام: [أنه لا] يكون يميناً؛ لأن [اليمين] إنما تنعقد إذا حلف باسم معظم، والأسامي التي تطلق في حق الخالق والمخلوق إطلاقاً واحداً ليس فيها تعظيم ولا لها حرمة؛ فلا تنعقد بها اليمين، واستثنى الماوردي من ذلك ما يكثر استعماله في الله- تعالى- وقل استعماله في المخلوقين، وقال: إنه يكون حالفاً به في الظاهر دون الباطن. قال: وإن قال: الله لأفعلن كذا، لم يكن يميناً، أي: إذا نوى به غير اليمين أو

أطلق؛ لأن العادة لم تستقر بالحلف كذلك، ولا يعرفه إلا الخواص من الناس، ووجهه ابن الصباغ بأن اليمين تتعلق بحرف القسم، وليس في هذه حرف قسم، ولا فرق في ذلك بين النصب والخفض والرفع. وجزم في "الوسيط" فيما إذا خفض وأطلق أنه يكون يميناً، وهو ما حكاه في "التهذيب" عن صاحب "التلخيص"، وحكاه ابن الصباغ عن أبي جعفر الأستراباذي، وطرده فيما إذا نصب. وفي "البيان" حكاية مثله فيما إذا رفع. وأبو جعفر، قال مجلي: قد حكى الشيخ أبو إسحاق أنه من أصحابنا، وقال أبو نصر: هو المعري من أهل الظاهر. واعلم أن جريان القول بأنه يمين في حالة الخفض أولى عند الرافعي؛ لإشعاره بالعلة الخافضة، ويليه النصب، ثم الرفع. وفي "النهاية": أنا إذا قلنا: إنه لا يكون يميناً في حال الخفض، فها هنا وجهان، والأول أرجح عند المعظم. قال: إلا أن ينوي به اليمين، أي: فيكون يميناً، ولا فرق بين أن ينصب أو يخفض أو يرفع. واستدل للنصب [بما روي أنه- عليه السلام- قال لعبد الله بن مسعود: "اللهَ قَتَلْتَ أَبَا جَهْلٍ؟ "، وللخفض] بما روي أنه- عليه السلام- قال: "اللهِ، مَا أَرَدْتُ إِلّا وَاحِدَةً؟ " على ما حكاه القاضي الروياني، وحكاه العمراني [بالرفع].

وللرفع بقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: 87] قيل: الضمة فيه [هي] اليمين، ولحديث ركانة على ما حكاه العمراني. وفي "العدة": أن الفوراني حكى أنه إذا قال: اللهُ، لأفعلن كذا، بالرفع، لا يكون يميناً، وإن قال بالنصب ففيه وجهان. قال: وإن قال: بالله، لأفعلن كذا، وأراد: بالله أستعين لأفعلن كذا- لم يكن يميناً؛ لأن ما قاله محتمل، أما إذا نوى اليمين أو أطلق فإنه يكون يميناً؛ لأن الباء هي الأصل في القسم؛ كما حكاه أهل اللغة، وقد ثبت لها عرف الشرع فحملت على القسم؛ قال الله- تعالى-: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} [التوبة: 74] وعلى ما حكاه الشيخ جرى صاحب "التهذيب" والقاضي الروياني وغيرهم، واستبعده الإمام وقال: إن ذلك عظيم لا يعتد بمثله أصلاً، ولا آمن أن يكون الخلل في نقله من ناسخ. وادعى أنه لو زعم أنه نوى غير اليمين لا يقبل منه فيما يتعلق بحق الآدمي من إيلاء وغيره، وهل يُدَيَّن؟ قطع القاضي بأنه لا يدين. وفي بعض التصانيف ذكر وجهين فيه، وحكاهما الشيخ أبو محمد أيضاً، هذا هو المشهور، وحكى القاضي ابن كج أن من الأصحاب من لم يفرق بين قوله: بالله، بواحدة من أسفل، وبين قوله: تالله، باثنتين من فوق. قال الرافعي: وهذا يقتضي إثبات خلاف في كونه يميناً عند الإطلاق؛ كما هو مذكور في قوله: "تالله". قلت: النص في قوله: "تالله" ها هنا وفي الإيلاء: أن يكون يميناً، والنص في القسامة: ألا يكون يميناً، وقد اختلف الأصحاب في ذلك على ثلاثة طرق: أحدها: طرد القولين في المسألة، وأصحهما على ما حكاه الإمام: أنه يمين. والثاني: تقرير النصين، والفرق: أنه يثبت في القسامة حقّاً لنفسه من قصاص أو دية؛ فلا يقنع منه إلا بلفظ قوي مشهور في اليمين، وفي الإيلاء وغيره: الامتناع من الفعل، والإقدام عليه يدل على قصد اليمين.

والثالث- وهو الأظهر، وبه قال أبو الطيب وأبو حفص وأبو إسحاق-: القطع بأنه يمين، وحملوا نصه في الإيلاء على تصحيف الياء المنقوطة باثنتين من أسفل إلى المنقوطة باثنتين من فوق. ومنهم من حمله على ما إذا قال له الحاكم: قل: والله، فقال: تالله. وفي "الحاوي": أن أبا إسحاق المروزي قال: إنما تكون يميناً في خواص الناس الذين يعرفون أن التاء من حروف القسم، ولا تكون يميناً في العامة الذين لا يعرفون ذلك، وإذا عرف ذلك فلعل القائل بأنه لا فرق بين الباء والتاء يقول بأنه في التاء المنقوطة باثنتين يكون حالفاً، وألحقه بالباء المنقوطة بواحدة من تحت، وذلك لا يدل على إجراء خلاف في الباء. واعلم أن محل الخلاف في المنقوطة باثنتين من فوق عند الإطلاق، أما إذا قصد غير اليمين فلا يكون يميناً قولاً واحداً. قال: وإن حلف بصفة من صفات الذات لا تحتمل غيره، وهي: وعظمة الله، وجلال الله، وعزة الله، وكبرياء الله، وبقاء الله، وكلام الله، والقرآن- انعقدت يمينه؛ وكذا قوله: ومشيئة الله، وإرادة الله، وسمع الله، وبصر الله؛ لأن هذه الصفات لم يزل موصوفاً بها، ولا يجوز وصفه بغيرها؛ فصار كاليمين بأسمائه. وألحق القاضي الحسين في باب موضع اليمين حلف المسلم بالتوراة والإنجيل أو بآية منسوخة من القرآن- بالحلف بالقرآن، وقال بانعقاد اليمين؛ لأنه كلام الله ومن صفات الذات. وألحق في "التتمة" قوله: "والقرآن" بالنوع الثاني، وقال: لأنه [قد] يستعمل في الصلاة، قال الله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 79] وقد يستعمل في الخطبة، قال الله- تعالى-: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204] وهو به أشبه. وحكى فيما إذا قال: والمصحف، [فهو يمين، وكذا لو قال: وحرمة هذا المصحف؛ لأن احترامه لما هو مكتوب فيه] وإن أراد: الورق والجلود، لم يكن يميناً.

تنبيه: جلال الله: عظمته، وكبرياؤه: استحقاقه صفات المدح، ويقال: جل الشيء، أي: عظم، وأجللته: عظمته، والجلال: اسم، و"الجلالة": مصدر. قال الأصمعي: لا يقال "الجلال" إلا لله تعالى. قال الواحدي: معناه: لا يقال ذلك بعد الإسلام، أي: لا يستحقه إلا الله تعالى. قال: وإن كان يستعمل في مخلوق، وهو قوله: وعلم الله، وقدرة الله، وحق الله، ونوى بالعلم: المعلوم، وبالقدرة: المقدور، وبالحق: العبادات- لم تنعقد يمينه؛ لأن ذلك محتمل؛ فأثرت فيه النية؛ ألا ترى أنه يقال في الدعاء: اغفر لنا علمك فينا، أي: معلومك، ويقال: انظر إلى قدرة الله، أي: مقدوراته، ويقال: الصلاة والزكاة والعبادات من حقوق الله- تعالى- على العباد، وإذا كان كذلك لم تنعقد اليمين بما نواه؛ لأنه مخلوق كسائر المخلوقات. وفي "الحلية" للشاشي حكاية ثلاثة أوجه فيما إذا قال: وحق الله، وقدرة الله، وأراد غير اليمين: أحدها- وهو ظاهر كلام الشافعي: أنه لا يكون يميناً. والثاني- وهو قول أبي إسحاق-: أنه لا يكون يميناً في حقوق الله- تعالى- ويكون يميناً في حقوق الآدميين. والثالث- وهو قول ابن أبي هريرة-: أنه لا يكون يميناً بالإرادة إلا إذا عزاه إلى أمر، ويحتمل أن يكون يميناً إذا لم يعزه إلى أمر. وفي "النهاية": أنه إذا قال: وقدرة الله، وعلم الله، وكبرياء الله، وعزة الله، وكلامه، وما في معنى ذلك مما يدل على الذات، أو على صفة أزلية من صفات الذات- كان في كونه حالفاً عند إرادة غير اليمين طريقان: إحداهما: أنه يقبل منه في الباطن، وهل يقبل في [الظاهر؟] فيه وجهان. وقال: إن هذه [هي الطريقة] المشهورة. والثانية: أنه لا يقبل في الظاهر، وهل يدين؟ فيه وجهان. وحكى في قوله: وعظمة الله، أن الأصح: أنه بمثابة الحلف بصفات الله، وأن من

الأصحاب من نزله منزلة قوله: وحق الله، وأنه لا اتجاه له. وفي "الوسيط": أن قوله: وحق الله، كناية، وهو ما حكاه المزني في "المنثور". ويروي عن أبي إسحاق، على ما حكاه الرافعي. وقال الإمام: إنه الذي صار إليه أئمة المذهب، وأبعد بعض الأصحاب فألحق ذلك بالصفات. وفي "الرافعي": أن الذي حكاه الشيخ فيه هو المنصوص والذي يوجد للجمهور. قال: وإن لم ينو شيئاً انعقدت يمينه؛ لأن الله تعالى لم يزل موصوفاً بها، ولا يجوز وصفه بضدها؛ فكان كالحلف بالكبرياء والعظمة. فرع: إذا قال: "وحقُّ الله" بالرفع، أو "قدرةُ الله"- قال في "التتمة": إن نوى اليمين فهو يمين، وإن أطلق فلا. وإن قال بالنصب، وأطلق، فوجهان، المذكور منهما في "التهذيب": المنع؛ كما لو كان بالرفع. قال: وإن قال: "لعمر الله"، فهو يمين إلا أن ينوي به غير اليمين على ظاهر المذهب. اعلم أن تقدير الكلام: فهو يمين عند الإطلاق على ظاهر المذهب إلا أن ينوي به غير اليمين؛ فلا يكون يميناً وجهاً واحداً. ووجه كونه يميناً أنه قيل: معناه: بقاء الله، وقيل: حياته، وقيل: حقه، وقيل: علمه، والكل من صفات الذات؛ فكان يميناً عند الإطلاق؛ كما لو صرح بذلك. ولأن عرف الشرع والاستعمال قد ثبت له؛ قال الله- تعالى-: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، وقال الشاعر: وكل أخٍ مفارقُهُ أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان وإذا كان كذلك التحق بالحلف بالله- تعالى- وهذا ما ذهب إليه ابن سريج وأبو الطيب بن سلمة، واختاره صاحب "الإفصاح"، وصدر به الإمام كلامه. وأما كونه لا يكون يميناً عند إرادة غير اليمين؛ كما إذا قصد به العبادات

والمفروضات؛ فلأنه قد يستعمل بمعنى ذلك وقد اقترنت به النية، فقبل قوله، [و] لم تنعقد يمينه كسائر المخلوقات. قال: وقيل: ليس بيمين إلا أن ينوى به اليمين، هذا مقابل ظاهر المذهب في الكتاب، والمنقول في "المجموع" للمحاملي و"التعليق" للبندنيجي: أن هذا ظاهر المذهب، وهو ما حكاه البغوي، وفي "المهذب" و"الشامل": أنه ظاهر النص. ووجهه: أنه لم يأت بحرف القسم، وإنما يكون ما أتى به يميناً بتقدير حرف محذوف، وكأنه قال: "لعمر الله ما أقسم به"؛ فكان مجازاً، والمجاز لا ينصرف إليه الإطلاق وتؤثر فيه النية، ولأنه لم يَرِد بها يمين في حقنا، وإنما أقسم الله- تعالى- بها كما أقسم بيوم القيامة والشفق وغير ذلك، وذلك لا يكون يميناً؛ فكذلك هذا، واستعمال العرب في الشعر لا يثبت به العرف، وإنما يثبت به الجواز، وذلك لا يحصل المطلوب. وقد ظهر لك أنه إن نوى اليمين كان يميناً وجهاً واحداً، وإن نوى غير اليمين فلا يكون يميناً وجهاً واحداً، وإن أطلق فوجهان، والنقل مختلف في ظاهر المذهب منهما. وفي "النهاية" حكاية عن شيخه: أنه فرق بين أن يقول: لعمر الله؛ فيكون كناية، وبين أن يقول: وعمر الله؛ فيلتحق بالإقسام بالصفات؛ موجهاً ذلك بأن [اللام] ليست من حروف القسم، بخلاف الواو. قال الإمام: وهو حسن، وهو قضية ما ذكرناه من التوجيه بعدم حرف القسم. واعلم أن من جملة ماي قسم به قول الإنسان: وإيم الله، وايمن الله، لأفعلن كذا، والحكم فيه- كما صرح به مجلي وغيره- كالحكم في قوله: لعمر الله، وقد ذكرناه؛ لأنه جاء في "البخاري" أنه- عليه السلام- قال في أسامة: "وَايْمُ اللهِ إِنَّهُ لَخَلِيقٌ بِالإِمَارَةِ"، وقد اختلف في اشتقاق ذلك:

فقيل: مشتق من "اليمن" والبركة، وهو قول سيبويه، وألفهما ألف وصل. وقيل: من "اليمين"؛ لأن أصله: أَيْمُن، و"أيمن" جمع "يمين"، وإلى هذا ذهب الفراء. وقد ذكر الجوهري في "الصحاح" أن "ايمن الله"- بضم الميم والنون، وفتح الألف- وضع للقسم، والله عز وجل أعلم. قال: وإن قال: أقسمت بالله، أو: أقسم بالله- انعقدت يمينه، أي إذا نوى اليمين، أو أطلق؛ لأنه قد ثبت له عرف الشرع؛ قال الله- تعالى- {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} [الأنعام: 109] وقال- عز من قائل-: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] وهو في الاستعمال كثير، وما ثبت له عرف الشرع والاستعمال كان يميناً بإطلاقه؛ كقوله: "والله". وذكر المسعودي وجهاً: أنه ليس بيمين عند الإطلاق. وذكر القاضي ابن كج وأبو بكر الطوسي وغيرهما: أنه ظاهر النص في كتاب الأيمان، [وأنه] نص في الإيلاء [على أنه يمين، فتصرف متصرفون في النصين بالنقل والتخريج، وفرق فارقون بين الإيلاء] وغيره من الأيمان بما سنذكره من بعدُ، والأصح عند الإمام، وبه أجاب الصيدلاني: أنه ليس بيمين، واستغرب ما حكاه العراقيون. والأكثرون ذهبوا إلى أنه يمين؛ لأنه لو قال: بالله لأفعلن، كان يميناً عند الإطلاق، وفيه إضمار معناه: أقسم بالله، فإذا صرح بالإضمار كان أولى. وأجاب "من" قال بخلافه عن ذلك: بأن مجرد قوله: بالله، صريح في عقد اليمين لغة به؛ فإذا أتى بالإضمار كان متردداً؛ لأن قوله: أقسمت، يصلح للماضي وهو موضوع له، ويصلح للحال، وقوله: أُقسم، يصلح للحال والاستقبال وهو موضوع له؛ فإذا فسر اللفظ بالماضي والاستقبال قبل؛ لموافقته موضوع اللفظ، وكم من مضمر يقدره النحوي واللفظ دونه أوقع! وهذا بمثابة قولهم: ما أحسن زيداً، صريح في التعجب، [وتقديره: شيء حسن زيداً، وهذا التقدير لو صرح به لأفسد معنى

التعجب] أصلاً، وقد تحصلنا في المسألة على ثلاثة أقوال عند الإطلاق. وحكى صاحب "التقريب" عن بعض الأصحاب: أنه فرق بين قوله: أقسمت، فلم يجعله صرحياً، وبين قوله: أقسم، فجعله صريحاً، وضعفه الغزالي [وغيره]. قال: ون قال: أردت بالأول، أي بقوله: أقسمت، الخبر عن ماض، وبالثاني، أي بقوله: أقسم، الخبر عن مستقبل-[قبل] فيما بينه وبين الله- تعالى- أي: إن كان صادقاً؛ للاحتمال. قال: وهل يصدق في الحكم؟ قيل: لا يصدق؛ لأن ما يدعيه خلاف ما يقتضيه اللفظ في عرف الشرع وفي عرف العادة، اللهم إلا أن يعلم تقدُّم القسم منه، فيقبل منه في قوله: أقسمت، بلا خلاف؛ كما قلنا في نظيره من الطلاق، ولا يجيء في قوله: أقسم. قال: وقيل: إن كان في الإيلاء لا يصدق، وهو ما نص عليه في "الإملاء". لأنه تعلق به حق آدمي؛ فلم يقبل منه خلاف الظاهر. قال: وإن كان في غيره صدق، وهو ما نص عليه مطلقاً في الأيمان والنذور من "الأم"، ونقله المزني؛ لأن حق الله- تعالى- مبني على المسامحة والمساهلة، واللفظ يحتمله. والقائل الأول حمل هذا النص على القبول في الباطن. قال: وقيل: فيه قولان، أي: بالنقل والتخريج: أحدهما: لا يصدق؛ لأن هذا اللفظ قد ثبت له عرف اليمين في الشرع والاستعمال؛ فلا يصدق في دعوى خلافه؛ كصريح الطلاق. والثاني: يصدق؛ لأن "أقسمت" يصلح للماضي حقيقة، و"أُقسم" يصلح للمستقبل حقيقة. وهذه الطريقة هي أشهر الطرق على ما حكاه الرافعي، وقال: إن الأصح من القولين: أنه يصدق؛ وكذلك قاله في "التهذيب"، وهو ما حكاه المراوزة. وفي "الشامل": أن الطريقة الثانية أولى، وأنه لا معنى لذكرهم أنه لا يقبل في

الحكم؛ لأنه ليس للحاكم ولا لغيره المطالبة بموجب اليمين. واعلم: أن الحكم في قوله: حلفت بالله، أو: آليت بالله، أو: أحلف بالله، أو أُولِي بالله- كالحكم في القسم، صرح به البندنيجي وغيره. وأنه لو قال: أقسمت، أو: أقسم، مقتصراً على ذلك- لا يكون يميناً، سواء نوى اليمين أو لم ينو. قال: وإن قال: أشهد بالله، فقد قيل: هو يمين، أي: عند قصد اليمين أو الإطلاق؛ لأنه قد ثبت له عرف الشرع، قال الله [-تعالى-: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] أي: نحلف؛ ولذلك قال] تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2]، وقال تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6]، واللعان يمين، وإذا ثبت له عرف الشرع حمل عند الإطلاق والقصد عليه؛ كقوله: بالله. قال: إلا أن ينوي بالشهادة غير القسم، أي: بأن أراد: الإيمان بالله- تعالى- والشهادة بوحدانيته، فلا يكون يميناً؛ لاحتمال ما ادعاه، وهذا ما ذهب إليه أبو إسحاق. قال: وقيل: ليس بيمين إلا أن ينوي به القسم. ووجهه: أن اللفظ متردد؛ فإنه ورد في الشرع بمعنى "اليمين"، وبمعنى "الشهادة"؛ فلا يتخلص لأحدهما إلا بالنية، وهذا ما ذهب إليه أبو الطيب بن سلمة، وهو ما حكاه الإمام عن العراقيين، ونفى أن يكون غيره، واستحسنه. والحكم فيما لو قال: شهدت بالله، كالحكم فيما لو قال: أشهد، عند العراقيين. والحكم فيهما عند المراوزة كالحكم فيما لو قال: أقسمت، أو: أقسم؛ كما حكاه الإمام. فرع: الملاعن إذا كان [كاذباً]، وقد أتى بلفظ الشهادة- هل تلزمه الكفارة؟ فيه وجهان عن رواية صاحب "التقريب". قال الرافعي: والأظهر الوجوب، وقرب الإمام الخلاف من الخلاف في أن المولي هل تلزمه الكفارة إذا وطئ، ووجه الشبه: أن الإيلاء لاقتضائه الفراق جعل في قولٍ خارجاً عن الأيمان المحضة؛ فكذلك اللعان لاقتضائه الفراق.

وذكر أن التصوير- فيما زعم- أنه نوى اليمين، أو أطلق وقلنا: المطلق يمين. ثم قال: ويمكن ان يقال: الوجهان جاريان في الكفارة وإن رَوَّى؛ فإن الألفاظ المعروضة في مجلس الحكم [والتورية لا أصل لها في الأيمان الجارية في مجلس الحكم، قال الرافعي: ولك أن تقول: إنما لا تؤثر التورية في الأيمان المعروضة في مجلس الحكم] في الأحكام الظاهرة، والكفارة حكم بينه وبين الله- تعالى- ويشبه أن يقال: لا تلزمه إذا لم يقصد اليمين. قال: وإن قال: أعزم بالله، لم يكن يميناً، أي: عند قصد غير اليمين أو الإطلاق؛ لأن العرف لم يطرد بجعله يميناً، ولا ورد به الشرع. قال: إلا أن ينوي به اليمين، أي: فيكون يميناً؛ لاحتمال أن يريد الإخبار عن عزمه؛ بقوله: أعزم، ويحلف بقوله: بالله. قال: وإن قال: على عهد الله وميثاقه وذمته وأمانته وكفالته، لا فعلت كذا، فليس بيمين. عهد الله: وصيته لعباده بالمفروضات. وميثاقه: الكتاب الذي تكتبه الملائكة عليهم. وذمته: إلزام المفروض في ذممهم. وأمانته هي: الفروض؛ فإنها أمانة له على العباد، وقد فسر بذلك قوله- تعالى-: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية [الأحزاب: 72]. وكفالته: تقبلهم هذه الآيات بنفوسهم، وذلك محدث، وظاهر اللفظ منصرف إليه؛ فلا ينعقد به اليمين عند الإطلاق؛ كالقسم بسائر المخلوقات. قال: إلا أن ينوى به اليمين، أي: بأن ينوي بالعهد: استحقاقه لإيجاب ما أوجبه علينا وتعبدنا به؛ فيكون يميناً لاحتماله. وقال أبو إسحاق: إنه يكون يميناً عند الإطلاق؛ لأنه ثبت لها عرف العادة بعد الشافعي، كذا حكاه البندنيجي. قال ابن يونس: وليس بشيء.

تنبيه: كل لفظ من هذه الألفاظ إذا انفرد كان الحكم فيه كما ذكرناه، صرح به البندنيجي، وإن اجتمع مع غيره- كما يقتضيه ظاهر كلام الشيخ- ونوى اليمين؛ فالمنعقد يمين واحدة، والجمع بين الألفاظ تأكيد. قال المحاملي: لأن هذه الألفاظ ليست بأكثر من ألفاظ اليمين الصريحة، ولو كرر تلك الألفاظ، فقال: والله الطالب الغالب الضار النافع المدرك المهلك، لا فعلت كذا؛ لم تلزمه إلا كفارة واحدة؛ فهذه الألفاظ بذلك أولى. قلت: قد يظهر أنها ليست أولى؛ لأن قوله: الطالب الغالب، ليس معه أداة من أدوات اليمين، وإنما ذاك صفة للمقسم به أولاً، وهو الله- تعالى- وفي مسألتنا قد وجد في كل لفظة أداة اليمين؛ ولذلك قال الرافعي: ولك أن تقول: إن قصد بكل لفظ يميناً، فليكن كما لو حلف على الفعل الواحد مراراً. ثم العم أن كلام المحاملي يقتضي أن حلفه بـ "الطالب الغالب" يمين صرحية، وهو قضية كلام ابن الصباغ في هذا الموضع أيضاً، وسماعي من أقضى القضاة جمال الدين أبي الحسين يحيى، خليفة الحكم بمصر- رحمه الله تعالى- أن الحلف بـ "الطالب الغالب" لا يَسُوغ، وكان يذكر أن ينقله عن أئمة المذهبن ويوجهه بأن الله- تعالى- وإن كان طالباً غالباً فأسماؤه توقيفية، ولم ترد تسميته بذلك. قال: وإن قال: أسألك بالله، أو أقسمت عليك بالله، لتفعلن كذا- فليس بيمين، أي: في حق المتكلم إذا أطلق؛ لأن ظاهر اللفظ ينصرف إلى الشفاعة، ولم يرد الشرع باستعماله في اليمين. قال: إلا أن ينوى به اليمين؛ أي: فيكون يميناً؛ لأنه يحتمل الاستفتاح؛ فكأنه قال: [أسألك، ثم ابتدأ؛ فقال: بالله لتفعلن كذا، وذلك ينعقد به اليمين؛ كما لو قال:] والله لتفعلن كذا. وروي عن ابن أبي هريرة وجه: أنه ليس بيمين وإن قصد به اليمين، وضعف. فرع على المذهب: يستحب للمخاطب أن يبر قسم الحالف؛ لما روى البراء بن عازب "أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَر بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ،

وَرَدِّ السَّلَامِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ". قال: وإن حلف رجل بالله- تعالى- فقال آخر: يميني في يمينك، أو: يلزمني [مثل] ما يلزمك- لم يلزمه شيء، أي: سواء نوى اليمين أو أطلق؛ لأن عماد اليمين بالله- سبحانه وتعالى- ذكر اسم معظم مفخم، ولم يوجد. قال: وإن كان ذلك بالطلاق والعتاق ونوى، لزمه ما لزم الحالف؛ لأن ذلك كناية، والطلاق والعتاق ينعقدان بالكنايات مع النية، [أي]: بخلاف اليمين بالله- تعالى- فإنها لا تنعقد بالكناية مع النية؛ ألا ترى أنه لو قال: لأفعلن كذا، ثم قال: أردت: بالله- لم تنعقد يمينه؟! واعلم أن معنى قول القائل: يميني في يمينك- على ما حكاه ابن الصباغ-: أنه يلزمني من اليمين ما يلزمك. فإن كان الشيخ قد قصد بقوله: "أو يلزمني ما يلزمك" ذلك، كان ذكره له ليعرفك أنه لا فرق فيما سنذكره بين أن يأتي بهذا اللفظ أو بمعناه. وإن كان قصده: أنه يلزمه من الكفارة أو الطلاق أو العتاق، فهما صورتان متباينتان، لكن في كلام الشيخ المتولي ما يقتضي وقوع الطلاق في الصورة الثانية دون الأولى؛ فإنه قال: إذا قال: يميني في يمين فلان، وكان فلان قد حلف بالطلاق والعتاق- لا يتعلق به حكم؛ لأن لفظ التعليق وجد من غيره، وذلك الغير عبر عن نفسه، لا عنه؛ فلا يمكن جعله كناية عنه. وعلى هذا: لو قال لامرأته: أشركتك مع امرأة فلان، وكان فلان قد علق الطلاق، وأراد المشاركة في تعليق الطلاق بتلك الصفة- لم يكن له حكم؛ لأن الخطاب كان من ذلك الرجل لامرأته؛ فلا يمكن إثبات حكمه في حق الغير. فأما إذا أراد المشاركة في الطلاق، يعني: إن وقع الطلاق على امرأة فلان فأنت شريكتها في الطلاق- صح. انتهى.

والذي حكاه صاحب "التهذيب" في كتاب الطلاق يوافق إيراد المتولي في الصورة الثانية؛ فإنه قال: إذا كان رجل قد طلق زوجته، أو حلف بالطلاق وحنث، فقال له رجل: يميني في يمينك، وأراد: أن امرأته تطلق كامرأة الآخر- طلقت، وكذا إن أراد به: متى طلق الآخر امرأته طلقت امرأته؛ فإن المخاطب متى طلق طلقت هذه. وفي "الذخائر" في هذه الصورة حكاية وجه: أنه إذا طلق لا تطلق امرأة المخاطب. أما الصورة الأولى فلم يتعرض الرافعي للحكم فيها، وقضية كلام ابن الصباغ توافق ما حكاه الشيخ، وقد حكاه الفوراني وجهاً ذكره متصلاً بكتاب الرجعة. فرع: لو قال لرجل: يميني في يمينك، ولم يكن ذلك الرجل قد حلف، وأراد: أنه إذا حلف صرت حالفاً مثله- لم يصر حالفاً إذا حلف الآخر، سواء فرض ذلك في الحلف بالله- تعالى- أو في الحلف بالطلاق والعتاق. قال: وإن قال: أيمان البيعة [- أي بفتح الباء- لازمة لي]، لم يلزمه شيء، أي: سواء نوى أو لم ينو، إلا أن ينوي الطلاق أو العتاق، فيلزمه. اعلم أن البيعة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمصافحة باليد، فلما ولي الحجاج رتَّبها أيماناً تشتمل على اسم الله- تعالى- وعلى الطلاق والعتاق والج وصدقة المال. ومراد الشيخ بالبيعة ها هنا: بيعة الحجاج؛ فإنها المشتملة على الأيمان. وإنما لم يلزمه شيء عند الإطلاق وعند نية غير الطلاق والعتاق؛ لأن الصريح لم يوجد والكناية تتعلق بما يتضمن إيقاعاً، فأما في الإلزام فلا، وإنما لزمه الطلاق والعتاق بالنية؛ لأن للنية مع الكناية مدخلاً فيهما. فرع: لو قال: إن فعلت كذا، فأيمان البيعة لازمة لي بطلاقها وعتاقها وحجها وصدقتها- ففي "التتمة": أن الطلاق لا حكم له؛ لأنه لا يصح إلزامه، وفي الصوم والحج والصدقة [يتعلق به الحكم، إلا أن في الحج والصدقة] حكمه حكم اللجاج والغضب، وهذا ما حكاه ابن يونس، لكن من غير ذكر: إن فعلت كذا. وفي "الشامل"، وغيره: أنه تنعقد يمينه بالطلاق والعتاق من غير حاجة إلى نية؛

لأنه قد نطق به، ويشبه أن يكون ما قاله المتولي أظهر؛ لما سنذكره. فإن قيل: ينقضه القول بلزومهما فيما إذا نواهما، فيمكن أن يجاب عن ذلك: بأن المراد بنيته الطلاق والعتاق: نية وقوعهما، أما نية إلزامهما فقد يمنع أنها تلزمهما، والله أعلم. قال: وإن قال: اليمين لازمة لي، لم يلزمه شيء؛ لأن ذلك ليس بلفظ مفخم، ولا معظم؛ فلا تنعقد به اليمين وإن نوى؛ كالحلف بالمخلوقات. ولو قال: إن فعلت كذا فعليَّ يمين، أو: فلله علي يمين- فكذلك الحكم؛ لأنه لم يأت بنذر ولا بصيغة اليمين، وليست اليمين مما يلزم في الذمة. وفيه وجه: أنه يلزمه كفارة يمين إذا فعله، وتجعل اليمين التي هي سبب الكفارة عبارة عن المسبب. قال الإمام: وعلى هذا: فالوجه أن تجعل كناية، ويرجع إلى نيته، ونسب الطبري هذا الخلاف إلى رواية شيخه عن الشيخ سهل. قال: وإن قال: الطلاق والعتاق لازم لي، ونوى- أي: وقوعهما- لزمه؛ لأنهما يقعان بالكناية مع النية، وهذا اللفظ يحتملهما؛ فكان من جملة كناياتهما، وحكى عن "فتاوى" القفال: أنه لا يقع؛ لأن الطلاق لابد فيه من الإضافة على المرأة، ولم تتحقق. أما إذا لم ينو فمفهوم كلام الشيخ يدل على عدم الوقوع، وهو في الطلاق موافق لما حكاه الرافعي في الفروع التي ذكرها بعد الكلام في كنايات الطلاق عن البوشنجي. والمذكور في "فتاوى" العبادي: أن الطلاق يقع، وكذا لو قال: الطلاق واجب علي. ووجَّهه بالعرف، بخلاف ما لو قال: الطلاق فرض علي؛ فإنه لا يقع لأن العرف لم يجر به. وحكى صاحب "العدة" الخلاف، فقال: لو قال: طلاقك لازم لي، فوجهان، قال أكثر أصحابنا: هو صريح، وبه أجاب القاضي الروياني.

قال: وإن قال: الحلال علي حرام، ولم تكن له زوجة ولا جايرة- لم يلزمه شيء؛ لأن التحريم ليس بيمين، ولا هو مستعمل في تحريم الطعام؛ فلا يجب به كفارة يمين. والأصل: عدم لزوم شيء آخر، ويخالف ما إذا كان له زوجة أو جارية؛ لأن الأبضاع مختصة بالحظر والاحتياط، وللتحريم فيها تأثير بالطلاق والظهار والعتق إذا نوى؛ فجاز أن يؤثر فيها حكماً آخر. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن ينوي مع ذلك أو لا، وفيه شيء سأذكره من بعد. قال فإن كان له زوجة، فنوى طلاقها، أو جارية، فنوى عتقها- وقع الطلاق والعتق؛ لأن الطلاق والعتق سبب تحرم به المرأة والأمة؛ فصح أن يكنى بالحرام عنهما، وهذا هو المذهب، وقد تقدم في كتاب الطلاق حكاية مذهب القفال في لفظ "الحرام" في الطلاق، وحكاية وجه آخر: أنه إذا قلنا: إن لفظ "الحرام" صرحي في إيجاب الكفارة، ونوى به الطلاق لا يقع؛ لأنه وجد نفاذاً في موضعه، ويتجه جريانه في العتق أيضاً؛ لوجود ما ذكر من العلة، والكلام في ذلك محال على ما هو مذكور في كتاب الطلاق. فرع: ذكر القاضي الحسين في "الفتاوى": إذا كان تحته امرأتان، فقال: حلال الله علي حرام إن خطتُ في هذه الدار، فخاط- يقع على كل واحدة منهما طلقة. ويوافقه ما ذكر الشيخ الحسين في "فتاويه": أنه إذا قال: حلال الله علي حرام، وله أربع [نوسة] زوجات- يطلقن جميعاً، إلا أن يريد بعضهن، لكنه ذكر بعد ذلك أنه لو قال: إن فعلت كذا فحلال الله علي حرام، وله امرأتان، ففعل ذلك الفعل- تطلق واحدة منهما؛ لأنه اليقين، ويؤمر بالتعيين. قال: ويحتمل غيره. فحصل تردد، حكى ذلك الرافعي في كتاب الطلاق. قال: وإن نوى الظهار، صح الظهار في الزوجة؛ لأن الظهار يقتضي التحريم إلى التكفير؛ فجاز أن يكنى عنه بـ "الحرام". قال: دون الأمة؛ لأن الظهار من خواص النكاح؛ فكانت نيته لغواً. [و] قال ابن الصباغ: عندي أن نية الظهار كنية الحريم؛ [لأن] معنى نية

الظهار أن ينوي أنها كظهر أمه في التحريم، وهذه نية التحريم بصفة مؤكدة. قال: وإن نوى تحريمها، لزمه بنفس اللفظ لكل واحدة منهما كفارة يمين: أما إذا كانت أمة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم: "أتى منزل حفصة؛ فلم يجدها وكانت قد خرجت إلى بيت أبيها، فدعا أمته مارية إليه؛ فأتت حفصة، فعرفت الحال؛ فغضبت، وقالت: يا رسول الله، في بيتي، وفي يومي، وعلى فراشي؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم يسترضيها: "إِنِّي أُسِرّ إِلَيْكِ سراً فَاكْتُمِيهِ: هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ"؛ فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]: قدر لكم وأوجب عليكم كفارة أيمانكم. وأما إذا كانت زوجة فبالقياس على الأمة؛ بجامع ما اشتركا فيه من تحريم فرج حلال بما لم يشرع تحريمه به. وعن رواية صاحب "التقريب" وأبي يعقوب الأَبِيوَرْدِي وغيرهما حكاية وجه: أن الكفارة إنما تجب في الزوجة إذا أصابها، وتكون هذه اللفظة مع نية التحريم بمثابة الحلف على ترك الإصابة. ولو حلف ألا يصيبها، فإنما يلزمه الكفارة إذا أصاب، وعلى هذا: يصير مُولياً بقوله: أنت علي حرام؛ لوجوب الكفارة لو وطئها، وعلى الأول- وهو المذهب- لا يحرم الوطء إلى التكفير، بخلاف الظهار. ثم لا فرق فيما ذكرناه بين أن تكون نية التحريم مطلقة، أو مقيدة بيوم أو شهر مثلاً. وفي "النهاية" وغيرها حكاية وجه فيما إذا نوى تحريماً مؤقتاً: أن [نيته تلغى] أصلاً ورأساً، على ما حكاه في كتاب الظهار. فرع: لو قال: أردت بقولي: أنت علي حرام، الحلف على الامتناع من الوطء، ففي قبول ذلك وجهان حكاهما الإمام وغيره:

أحدهما: أن اليمين لا تنعقد، وهو الذي صححه أئمة المذهب؛ فإن عماد اليمين- كما ذكرنا- اسم معظم، ولم يوجد. والثاني: أنها تنعقد، وعلى هذا: ففي جعله يميناً في غير الزوجات والإماء من المطاعم والملابس تردد. قال: وإن لم ينو شيئاً، ففيه قولان: أحدهما: لا يلزمه شيء؛ لأنه لو كان صريحاً في إلزام الكفارة لما جاز نقله عما هو صريح فيه: كالطلاق، إذا نوى الزوج به الظهار، أو نوى بالظهار الطلاق. والثاني: يلزمه كفارة يمين، وهو الأصح، ورجحه ابن الصباغ؛ لما روي عن ابن عباس أنه- عليه السلام-: "حرم مارية على نفسه؛ فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} الآيات [التحريم: 1]؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من حرم على نفسه حلالاً أَنْ يَعْتِقَ رَقَبَةً، أَوْ يُطْعِمَ عَشْرَةَ مَسَاكِيْنَ، أَو يَكْسُوَهُمْ"، وهذا عام يشمل الحرة والأمة. والقائلون بها أجابوا عما قاله الأولون: بأنا وإن جعلنا التحريم صريحاً في إلزام الكفارة فليس على طريق القطع، بل يحتمل الطلاق وغيره؛ لأنه مجتهد فيه، والطلاق والظهار صريحان في أنهما على طريق القطع؛ فلا يلتحق الحرام بهما. ومن هذا القبيل ما لو قال لزوجته المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق؛ فإنا نجعل قوله: أنت طالق، ثانياً- صريحاً في وقوع طلقة ثانية عند عدم النية على الصحيح. ولو قال: أردت به التأكيد، قبلناه قولاً واحداً؛ لكون اللفظ محتملاً له. ومن أصحابنا من جعل قوله للأمة: أنت علي حرام، صريحاً في إيجاب الكفارة قولاً واحداً؛ لأن النص ورد فيها. واعلم أن محل الكلام في الأمة إذا كانت حلالاً له، فلو كانت محرمة عليه: كأخته من الرضاع أو النسب، ونوى تحريم عينها، أو أطلق- لم تلزمه الكفارة؛ لأنه صدق في وصفها، وكذا لو قال مثل ذلك للرجعية ولو كانت الأمة معتدة أو مرتدة أو

محرمة أو مجوسية فوجهان: أحدهما: أن الجواب كذلك؛ لأنها محرمة عليه في الحال. والثاني: تجب الكفارة؛ لأنها محل الاستباحة، بخلاف الأخت؛ فصارت كما لو كانت حائضاً أو نفساء أو صائمة، وطرد الحناطي الخلاف في هؤلاء. والظاهر الأول. ويجري الخلاف المذكور في الأمة إذا كانت محرمة أو معتدة، في الزوجة، إذا كانت كذلك. فروع: الأول: لو قال: كل ما أملكه حرام عليَّ، وله زوجات وإماء، ونوى التحريم فيهن، أو أطلق، وجعلناه صرحياً- فيكفيه كفارة يمين واحدة، أو تجب لكل واحدة كفارة؟ فيه طريقان: أحدهما- وبه قال أبو إسحاق، وأبو علي الطبري-: أنه على القولين؛ كما لو ظاهر عن نسوة بكلمة واحدة. والثاني: القطع بكفارة واحدة؛ كما لو حلف لا يكلم جماعة، فكلمهم، وهذا هو الأصح. وحكى الصيدلاني وغيره قولاً- أو وجهاً- آخر: [أنه] تجب للزوجات كفارة وللإماء كفارة. وحكى الحناطي وجهاً ضعيفاً: أنه يلزمه للمال أيضاً إذا كان له مال. قال الرافعي: وربما جاء على ضعفه فيما إذا وصف المال وحده بالتحريم. الثاني: لو قال: أنت حرام، ولم يقل: علي- قال في "التهذيب": هو كناية قولاً واحداً. الثالث: لو قال: أنت علي كالميتة أو الدم أو الخنزير أو الخمر، وقال: أردت الطلاق أو الظهار- فهو كما لو نوى. وإن قال: أردت التحريم، فعليه الكفارة، وحكى الحناطي قولاً: أنه لا تجب الكفارة.

وقال الشيخ أبو حامد: إن قلنا: إن لفظ "التحريم" صريح في إيجاب الكفارة، وجبت، وغن قلنا: إنه كناية، فلا يجب شيء؛ لأن الكناية لا ينوى بها الكناية. وإن أطلق فظاهر النص: أنه كالحرام، وعلى ذلك جرى الإمام. ثم قال: ويجوز الا تجعل هذه الألفاظ صرائح، ويختص "الحرام" بكونه صريحاً؛ لورود القرآن به، والذي ذكره على سبيل الاحتمال هو الذي أورده صاحب "التهذيب" وغيره. وفي "المهذب": أنا إن قلنا: إن لفظ "التحريم" صريح في إيجاب الكفارة، لزمته؛ لأن ذلك كناية عنه، وإن قلنا: إنه كناية، لم يلزمه شيء، لأن الكناية لا يكون لها كناية. ولو قال: أردت أنها كالميتة في [النفرة والاستقذار،] قبل ولم يلزمه شيء، وكرهه أبو الفرج السرخسي. ***

باب جامع الأيمان

باب جامع الأيمان أورد الشيخ- رحمه الله- في هذا الباب ما يتعلق به الحنث، وما يحصل به انحلال اليمين، وهو الركن الثالث، كما ذكرناه. والحنث في أصل اللغة: الإثم والحرج، ويطلق- أيضاً- بمعنى "الميل"، والمراد به ها هنا: نقض اليمين والرجوع عنها. قال- رحمه الله- إذا قال: والله لا سكنت داراً، وهو فيها، وأمكنه الخروج منها، فلم يخرج- حنث؛ لأن اسم "السكنى" [يقع] على الابتداء والاستدامة؛ ألا ترى أن القائل يقول: سكنت الدار شهراً؟! وإذا كان الاسم يتناول الجميع حنث؛ لوجود المخالفة. ولا فرق في ذلك بين أن يطول مكثه بعد اليمين أو لا، ولا بين أن يخرج أهله وأثاثه ويبقى وحده أو لا. واستدل الماوردي في كتاب العدد على أنه إذا نقل قماشه وأقام، يسمى ساكناً بقوله- تعالى- حكاية عن إبراهيم: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ} الآية [إبراهيم: 37]؛ فأخبر بإقامتهم مع خلوهم من مالهم ورحلهم؛ فثبت أن الاعتبار بالبدن دون الرحل والمال. ولو لم يتمكن من الخروج؛ لقيد أو حبس أو زمانة، ولم يجد من يحمله- لم يحنث، وكذا لو خاف على نفسه أو ماله. وخرج أبو علي بن أبي هريرة قولاً في الصور الأول: أنه يحنث من الناسي، قال الماوردي: وليس بصحيح. وحكى الرافعي الخلاف فيما إذا مرض، وعجز بعد الحلف، وجعله كالمكره، وكذلك البغوي. ولو وجد الزمن من يخرجه، فلم يأمره بإخراجه- حنث. والمقام لجمع القماش، ونقل الأهل، ولبس ثياب الخروج يحصل به الحنث عند العراقيين، وحكى الإمام عنهم القطع به.

وفي "الحاوي" الجزم بأنه لا يحنث بلبس ثياب الخروج. والذي ذكره المراوزة: أنه لا يحنث بالجمع؛ لأن المشتغل بأسباب الخروج لا يعد ساكناً في الدار. ولو احتاج إلى أن يبيت في الدار ليلة لحفظ المتاع ففيه احتمالان للقاضي ابن كج، والأصح عنده: أنه لا يحنث. وهذا التردد يناظر ما حكاه الماوردي فيما لو أقام لغلق أبوابه وإحراز ما يخاف على تلفه من أمواله، وكان لا يقدر على استنابة أمين فيه؛ فإنه لا يحنث على الصحيح من المذهب، ويحتمل وجهاً آخر: أنه يحنث، أما إذا قدر على الاستنابة فإنه يحنث. هذا آخر كلامه. وقال مجلي: الذي ذكره الأصحاب إجراء الخلاف من غير تقييد. وحكم المقام لأجل الصلاة إذا ضاق الوقت، وعلم أنه إذا خرج قبل الصلاة فاتته- حكم ما لو مُنِع من الخروج؛ إقامة للمنع الشرعي مقام الحسي، حكاه الماوردي. قال: وإن خرج منها بنية التحول لم يحنث، أي: وإن بقي أهله وقماشه؛ لأنه خرج بنية الانتقال فليس بساكن في الموضع، وبقاء رحله وأهله لا يمنع من ذلك، واستدل له الماوردي في كتاب العدد بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] فأخبر أن بيوت المتاع غير مسكونة، ولأنه يجوز أن يريد السكنى وحده دون أهله وماله، وإذا جاز أن يريده، فإذا نواه فقد [حصل] معه الانتقال. قال: وإن رجع إليها لنقل القماش، لم يحنث، أي: وإن قدر على الاستنابة؛ لأنه لا يعد سكنى. وحكم الرجوع لعيادة مريض أو زيارة أو عمارة- حكم الرجوع لنقل القماش، لكن إذا لم يقعد، بل فعل ذلك مارّاً، وإن قعد عند المريض حنث، قاله في "التهذيب"، ويجيء مثله في غيره. ولو خرج في الحال، ثم اجتاز بها؛ بأن دخل من باب وخرج من باب- فالصحيح:

أنه لا يحنث؛ لأن الذي وجد عبور لا سكنى. ولو تردد فيها ساعة بلا غرض حنث. قال الرافعي: ولك أن تقول: قوله: لا أسكن، إن كان المراد: لا أمكث، فهذا ظاهر، وإن كان المراد: لا أتخذها مسكناً، فإذا دخلها مجتازاً، أو دخل فيها ساعة- فينبغي ألا يحنث؛ لأنها لا تصير مسكناً بذلك. واعلم أن تقييد الشيخ الخروج بنية التحول، وكذلك ابن الصباغ- يشعر بأنه إذا خرج لا بنية التحول، وترك أهله وقماشه نه يحنث، ومما يؤيده أن مجلياً وابن الصباغ رداً على من ألزمنا أنه لا يقال: سكن، إلا أن يكون معه أهله وماله؛ ولهذا إذا نزل بأهله وماله في بلدٍ يقال: سكنه، ولا يقال له ذلك دونهم؛ فإنه إنما يقال له ذلك؛ لأن الظاهر من حاله أنه إذا ترك أهله وماله في بلد آخر، لا يقصد السكنى، والأمر في مسألتنا محمول على قصد التحول. لكني لم أر لأحد تصريحاً بذلك، والذي ذكره غيرهما مجرد الخروج من غير تقييد بما ذكراه. قال: وإن حلف لا يساكن فلاناً، فسكن كل واحد منهما في بيت من دار كبيرة، أو خان، أي: صغيراً كان أو كبيراً، وانفرد كل واحد منهما بباب وغلق- لم يحنث، أي: سواء كان البيتان متلاصقين أو مفترقين؛ لأنه لا يعد مساكناً له، وجزم المراوزة بأنه في الدار يحنث، وفي الخان وجهان. أما إذا كانت الدار صغيرة، حنث، وإن كان لكل واحد منهما باب وغلق؛ لمقاربتهما، وكونهما في الأصل مسكناً واحداً. وحكى الرافعي أن منهم من أطلق وجهين في [سكنى] الدار من غير نظر إلى الصغر والكبر، ورأى الأصح: حصول المساكنة. وإذا قيل به، فلو كان أحدهما في الدار والآخر في حجر مفردة المرافق وبابها في الدار- فالذي حكاه الماوردي: أنه يحنث، وطرد ذلك فيما لو كان لها باب خارج الدار، وبابها إلى الدار مفتوحاً، دون ما إذا كان مسدوداً.

وقال الرافعي في الصورة الأولى: الأصح: أنه لا مساكنة. وهو الذي أورده البغوي في حجرتين مفردتي المرافق في الدار. ولو كانت الحجرة في الفندق ومجازها من الفندق، فلا مساكنة. ولو عدمت الأبواب في الدار الكبيرة والخان حنث، قال الرافعي: ويشبه ألا يشترط في الخان أن يكون على كل بيت منهما بابٌ وغَلَقٌ؛ كالدُّورِ في الدرب. ثم هذا كله إذا لم يقيد المساكنة بموضع، لا بلفظه ولا بنيته. أما إذا قيدها ببيتٍ، أو دار ونحوه، فيحنث بمساكنته في ذلك الموضع دون غيره. وفي طريقة الصيدلاني: أنه إذا [قيدها بنية]، وكانا يسكنان بيتاً واحداً من دار متحدة المرافق، فأراد أنه لا يساكنه في ذلك البيت- حملت اليمين عليه. أما إذا لم يكن كذلك، ولا جرى ذكر تلك المساكنة فلا يقبل قوله، وتحمل اليمين على الدار. ولو نوى ألا يساكنه في البلد؛ فهل لنيته أثر، حتى إذا سكن هو وإياه في البلد يحنث؟ فيه وجهان: أحدهما: أن لها أثراً، ولم يحك ابن الصباغ والمتولي والماوردي سواه. والثاني: لا؛ لأن اللفظ لا ينبئ عنه، ومجرد النية لا أثر [لها]. فإن قلنا بهذا: فلو نوى ألا يساكنه في المحلة، وهي مفتوحة السكة، ففيه تردد، وإن كانت مسدودة السكة قال الإمام: فيظهر القطع بإتباع نيته. فروع: لو حلف لا يساكنه، وأطلق، وكانا في موضعين؛ بحيث لا يعد أحدهما مساكناً للآخر، وأقاما على ذلك- لم يحنث. وفي "التتمة" رواية قول ضعيف: أنه لابد من مفارقة أحدهما المكان الذي هو فيه، سواء كان داراً أو حجرة أو درباً أو محلة. ولا خلاف أنه لا يجري في البلد. صرح به الإمام.

ولو حلف: لا يساكنه في بيت واحد، وكانا فيه، فتحولا، أو أحدهما في أول حال الإمكان- لم يحنث. وقال أبو الفياض البصري: اليمين تنعقد على فعل الحالف وحده؛ فإن خرج المحلوف عليه لا يبر الحالف، حكاه عنه مجلي، وحكاه عنه الماوردي فيما إذا قال: لا سكنت، وأجراه فيما لو قال: لا سكن معي؛ فإنه إذا خرج الحالف لا يبر، وأنه فرق بينه وبين المساكنة، ثم قال: وهذا وإن كان له وجه فهو ضعيف. ولو لم يتحولا، ولكن شرع في بناية حائل بينهما من طين أو غيره، وكان لكل من الجانبين مدخل، أو اتحد المدخل- فلا يحنث على وجهٍ؛ لاشتغاله برفع المساكنة، وهذا ما رجحه في "التهذيب". والأصح عند الجمهور، وبه جزم الماوردي: الحنث؛ لحصول المساكنة- إلى أن يتم البنيان- من غير ضرورة. نعم، لو خرج أحدهما، فبنى الحائط، ثم عاد وسكن- لم يحنث الحالف، هكذا أطلقوه، ولم يجعلوا ذلك كالبيتين من الدار، وكان الفرق أن البيتين من الدار وإن افرد كل واحد منهما بباب وغَلَقٍ، فساحة الدار مشتركة بينهما في الاستطراق، وها هنا لا مشاركة في شيء أصلاً، وبهذا يظهر أن البيتين من الدار لو لم يشتركا في الاستطراق كان الحكم كذلك. ولو حلف: لا يساكن زيداً وعمراً، بر بخروج واحد منهما. ولو قال لا ساكنت زيداً ولا عمراً، لم يبر بخروج واحد منهما، قاله الماوردي. ولو حلف: لا يساكن فلاناً شهر رمضان، فالحنث يتعلق بالمساكنة معه في جميع الشهر، ولا يحنث بالمساكنة ساعة، وهذا ما أجاب به إمام العراقيين أبو بكر الشاشي، حكاه الرافعي في فروع الطلاق. فائدة: إذا قال: والله، لا آويت عند فلان، أو: في داري، فمتى مكث في الموضع المحلوف عليه زماناً، حنث؛ فإن الإيواء هو السكون في المكان، حكاه البندنيجي، ثم قال: وأما البيتوتة فليس لأصحابنا فيها نص، والذي يجيء على المذهب: أنها عبارة عن السكون في المكان أكثر من نصف الليل، وهو قول العراقيين.

قال: وإن حلف: لا يدخل هذه الدار، وهو فيها، فلم يخرج- ففيه قولان: أصحهما: [أنه لا] يحنث؛ لأن الدخول هو الانفصال من خارج إلى داخل، وهو لا يوجد في الاستدامة؛ [ولهذا لا يقال]: دخلت [الدار] شهراً، وإنما يقال: دخلها منذ شهر، وهذا ما حكاه في "التهذيب". والثاني: يحنث؛ لأن الاستدامة بمنزلة الابتداء في التحريم بالنسبة إلى ملك الغير؛ الا ترى أنه لو دخل داراً مغصوبة لا يعلمها، ثم علم، فاستدام، أثم؟! كذلك استدامة الدخول تنزل منزلة ابتدائه. وعلى هذا: لو خرج عقيب اليمين لم يحنث، ولو خرج، ثم رجع لنقل القماش، حنث؛ لأنه دخل، بخلاف ما ذكرناه في السكنى؛ لأن السَّكن لا يحصل بمجرد الدخول. ويجري مثل هذا الخلاف فيما لو حلف: لا يخرج من هذه الدار، وهو خارج عنها. واعلم أن من الأصحاب من لم يثبت للشافعي في هذه المسألة قولاً سوى الأول، وحكى الخلاف وجهين، وأول ما حكي عن الشافعي من الحنث على حكاية مذهب الغير. فرع: لو نوى بالدخول الاجتياز، وأقام- حنث على الأصح. قال الإمام: ومن أصحابنا من قال: لا يحنث؛ لأن اللفظ إذا لم يصادف المقصود تجردت النية، والنية المجردة لا تلزم شيئاً. قال: وإن حلف: لا يلبس ثوباً، وهو لابسه، فاستدام، أو: لا يركب دابَّة، وهو راكبها، فاستدام- حنث؛ أي: إذا تمكن من نزع الثوب والنزول عن الدابة؛ لأن استدامته الركوب واللبس يسمى به: راكباً ولابساً؛ ولهذا يقال: لبست الثوب شهراً، وركبت الدابة يوماً. ويلتحق بهذا القسم ما إذا حلف: لا يقعد، وهو قاعد، فلم يقم، أو: لا يقوم، وهو

قائم، فلم يجلس، أو: لا يستقبل القبلة، وهو مستقبلها، فلم يتحول عنها؛ على ما حكاه في "التهذيب". قال: إن حلف: لا يتزوج، وهو متزوج، أو: لا يتطيب، وهو متطيب، أو: لا يتطهر، وهو متطهر؛ فاستدام- لم يحنث؛ لأن الاستدامة في هذه الأشياء لا تجري مجرى ابتدائها في الاسم؛ ولهذا لا يقال: تزوجت شهراً، بل: منذ شهر، ولا: تطيبت- ولا: تطهرت- شهراً. قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من حكى في الطيب وجهاً آخر، وليس بشيء. وحكى في "الحاوي" الوجهين، ووجهاً ثالثاً عن أبي الفياض: أنه إن بقي أثر الطيب، فاستدامه- حنث؛ وإن بقيت الرائحة، لم يحنث. فروع: لو حلف: لا يجامع، وهو مجامع؛ فلم ينزع، أو: لا يصوم، وهو صائم؛ فلم يفطر، أو: لا يصلي، وهو في الصلاة، وكان ناسياً، ولم يبطلها- ففي حنثه وجهان، حكاهما البغوي، وبناهما على أنه إذا حلف: لا يصلي، هل يحنث بمجرد الصلاة أم لا؟ ولو حلف: لا يغصب، لم يحنث باستدامة المغصوب في يده. ولو حلف: لا يسافر، وهو في السفر، فوقف، أو أخذ في العَوْدِ في الحال- لم يحنث، وإن سافر على وجهه حنث، قاله في "المهذب" و"التهذيب". قال الرافعي: وهو محمول على ما إذا قصد السفر لجهة، وإلا فنفس العود سفر. والمذكور في "الحاوي": أن استدامة الجماع واستدامة الغصب، كاستدامة اللبس، وأن في حنثه إذا توقف في السفر وأقام بمكانه وجهين. قال: وإن حلف: لا يدخل داراً، فصعد سطحها- أي: من خارج- لم يحنث، أي: سواء كان محجوراً عليه أو غير محجور عليه، وهو ظاهر نصه في "المختصر"؛ لأن السطح حاجز يقي الدار من الحر والبرد، ويحرزها؛ فهو كحيطانها، ولو وقف على عتبة الدار في سمك الحائط لم يحنث، كذلك إذا وقف على السطح. وقال أبو ثور: إنه يحنث. قال مجلي: وبه قال بعض أصحابنا، وهو خطأ؛ لما ذكرناه، ولأن

الدار حرز لما فيها يقطع سارقه، وما فوق السطح ليس بمحرز، ولا قطع على سارقه؛ فلما خرج السطح عن حكم الحرز في القطع، وجب أن يخرج عن حكم الدار في الحنث. قال: وقيل: إن كان محجراً حنث؛ لأنه يحيط به سور الدار؛ ولهذا لو صلى على ظهر الكعبة وهو على هذه الهيئة تصح صلاته، وإذا كان كذلك أشبه ما لو حصل في الدار، وهذا أظهر؛ على ما حكاه القاضي الحسين في "الفتاوى" في ضمن مسألة، وهي ما إذا قال: من كانت من نسائي في الدار فهي طالق. وحكى الماوردي عن أبي الفياض: أن السترة إن كانت عالية بحيث يحجر مثلها لو كان في العرصة حنث، وغلا فلا. ثم محل الخلاف فيما إذا كان التحجير من جميع الجوانب، أما إذا كان من جانب واحد، فلا يحنث، وإن كان من جانبين أو ثلاثة، ففيه خلاف مرتب. تنبيه: عدول الشيخ عن لفظ "التحصير" إلى "التحجير" يعرفك أن الحكم خاص بالتحجير، دون ما إذا كان محصراً بالقصب أو الخشب الضعيف، كما حكاه الماوردي. على أن القاضي أبا الطيب في أول كتاب الحجر قال: إنه يقال للدار المحوطة: محجرة؛ لأن بناءها يمنع من الاستطراق إليها. فإن كان الشيخ قصد ذلك لم [يكن احترز] به عن شيء؛ لأن ذلك حقيقة في المتخذ من الخشب وغيره. فرع: لو حلف: لا يخرج من الدار، فصعد السطح- حنث، قاله ابن الصباغ وقال البغوي: إن لم يكن محوطاً حنث، وإن كان محوطاً فوجهان. ولو حلف على الخروج، فصعد السطح، فهل يبر؟ فيه وجهان. حكاهما أبو الحسن العبادي وغيره: اختيار الشيخ أبي محمد منهما: أنه لا يبر. وأشبههما- وهو اختيار القاضي الحسين-: أنه يبر. قال: وإن كان فيها نهر، فحصل في النهر الذي فيها- أي: بسباحة أو في سفينة- أو صعد شجرة تحيط بها حيطان الدار- حنث؛ لتحقق الدخول.

ولو حصل في موضع من الشجرة، وهو أعلى من حيطان الدار- لم يحنث، ولو كان يحيط به سترة السطح فحكمه حكم ما لو كان على السطح، حكاه البندنيجي وغيره، وهكذا [الحكم فيما لو كانت الشجرة خارج الدار وأغصانها في الدار وفوقها على ما حكاه] الماوردي. فروع: لو حصل في الطاق المعقود خارج الباب، فهل يحنث؟ فيه وجهان، أصحهما، وهو الذي أورده الغزالي: المنع، ولو دخل الدهليز خلف [الباب] وبين البابين حنث؛ لأنه من الدار. وحكى [الفوراني نصّاً] للشافعي: أنه لا يحنث، وأوله بعضهم على الطاق، ونزل المتولي الدرب المختص بالدار أمام الباب إذا كان داخلاً في حد الدار، ولم يكن في أوله باب- منزلة الطاق؛ فإن كان عليه باب فهو من الدار، مسقفاً كان أو غير مسقف. ولو حلف: لا يخرج من الدار، وفي الدار شجرة، فرقى غصناً منها، والغصن خارج عنها- ففي حنثه وجهان، أصحهما: نعم، حكاه الرافعي في فروع الطلاق. والله أعلم. قال: وإن حلف: لا يدخل دار فلان هذه، فباعها، فدخلها- حنث؛ لأنه عقد اليمين على [عين] تلك الدار، ووصفها بإضافة تطرأ وتزول؛ فغلب الأقوى، وهو التعيين، ولأنه قد اجتمع في اليمين الإضافة والتعيين؛ فكان الحكم للتعيين؛ كما لو قال: والله لا كلمت زوجة فلان هذه، و: صديقه هذا، وزالت الزوجية والصداقة، ثم كلمه؛ فإنه يحنث. وفي "النهاية" وغيرها حكاية قول مخرج: [أنه لا] يحنث، وكأن قائله اعتمد الإشارة والإضافة، وربط اليمين بهما؛ فلا يحصل الحنث بأحدهما. وناصر المذهب يغلب الإشارة، ويجعل الإضافة معها كالتأكيد الذي لا يعتني به؛ لتعرضها للزوال، كما ذكرناه. ثم هذا عند الإطلاق، فلو نوى الحالف اعتبار الملك والإشارة، قال الإمام: فلفظه منزل على نيته.

واعلم أن ضابط هذا النوع أن يعلق اليمين بشيء بعينه مضافاً إلى غيره. ولو حلف: لا يدخل دار فلان، فباعها، ثم دخلها- لم يحنث، وكذا لو حلف: لا كلمت عبد فلان، أو زوجته. وضابط هذا النوع ان يعلق اليمين بشيء [غير] معين، مضافاً إلى غيره؛ إضافة ملك لا إضافة تعريف. ويتفرع على ذلك فروع: أحدها: لو دخل داراً موقوفة عليه، إن قلنا: إن الملك له، حنث، وإلا فلا، وكذلك الحكم فيما لو دخل داراً وقفها. الثاني: لو كان فلان مكاتباً، فدخل داراً له- قال البندنيجي: إن قلنا: إنه يملك، حنث، وإن قلنا: لا يملك، لم يحنث. وظاهر المذهب: أنه يحنث؛ لأنها في حكم ملكه؛ بدليل أنه يتصرف فيها دون سيده. الثالث: لو كانت له دار حالة اليمين، فباعها، ثم اشترى أخرى فدخلها- حكى الرافعي عن الصيدلاني: أنه عن قال: أردت الدار الأولى، لم يحنث، وإن قال: أردت أي دار تكون في ملكه، حنث. وسكت عن حالة الإطلاق. وقد حكى العبادي في "الزيادات": أنه لا يحنث على أظهر الوجهين، والمذكور في "التهذيب": مقابله. قال: وإن حلف: لا يدخل دار فلان، فدخل ما يسكنه بكراء أو عارية- لم يحنث؛ لأن الإضافة إلى من يملك تقتضي الملك حقيقة؛ بدليل أنه لو قال: هذه الدار لفلان، ثم قال: أردت أنه يسكنها- لم يقبل، وكان إقراراً له بالملك، وإذا اقتضى الإقرار الملك حقيقة تعلقت به اليمين المطلقة. ويروي عن القاضي الحسين: أنه إن حلف على ذلك بالفارسية حمل على المسكن. قال الرافعي: ولا يكاد يظهر فرق بين [اللغتين]، وفي "الجيلي": أن في

زماننا الفتوى على الحنث وإن لم يكن مالكاً؛ إذ لو قيل للحالف: أي دار أردت؟ لا يشير إلا إلى الدار التي يسكنها. وما قاله مستمد من جعل لفظ "الحرام" صريحاً في الطلاق، كما صار إليه متأخرو الأصحاب، ومن أن المعتبر في الأيمان عرف اللافظ، لا عرف اللفظ، على ما سنذكره فيما إذا حلف: لا يدخل بيتاً. وقد حكى الرافعي في آخر هذا الباب عن الروياني: أن الفتوى على ذلك، لكن قاله فيما إذا حلف: لا يدخل حانوت فلان. قال: إلا أن ينوي ما يسكنها، أي: فحينئذٍ يعمل بقوله؛ لأن الشرع ورد باستعماله في ذلك على سبيل المجاز؛ فأثرت فيه النية، قال الله- تعالى-: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] والمراد: بيوت الأزواج. وإنما قلنا: إن ذلك على طريق المجاز؛ لأنه يجوز ان يقال بعد قول القائل: هذه دار فلان: لا، وإنما يسكنها. ولو كانت حقيقة لما صح مثل ذلك. واعلم أن كلام [ابن] يونس في هذا الموضع يقتضي أنا إنما نعمل مبا نواه إذا كان الحلف بالله- تعالى- أما إذا كان بالطلاق والعتاق، فيدين. وهذا فيه نظر؛ لأن الحالف إنما يدين فيما ينفعه إذا كان على خلاف الظاهر، أما ما فيه تغليظ عليه فيقبل منه في الظاهر، وهذا مما فيه تغليظ عليه. قال: وإن حلف: لا يدخل مسكن فلان، فدخل ما يسكنه بكراء أو عارية- حنث؛ لأنه قد وجد السكون حقيقة، ولهذا لا يصح نفيه عنه. ولو دخل مسكنه المغصوب، ففي "المهذب": أنه يحنث. وحكى الغزالي في الحنث وجهين. ولو دخل ملكاً له: فإن كان يسكنه حنث، وإلا فثلاثة أوجه، حكاها الإمام ومن تابعه، ثالثها: إن كان قد سكنه ساعة ما، حنث، وإلا فلا. وهذا كله [إذا أطلق، أما لو أراد بيمينه مسكنه المملوك لم يحنث بغيره بحال، هكذاي حكاه الرافعي، وكان يتجه أن يجيء فيه ما حكيته عن ابن يونس في المسألة قبلها.

قال: وإن حلف: لا يدخل هذه الدار، فصارت عرصة، فدخلها، لم يحنث؛ لزوال اسم الدار. وفي "النهاية" عند الكلام فيما إذا حلف: لا يأكل هذه الحنطة حكاية وجهين في حصول احلنث، كما قلنا فيما إذا حلف: لا يأكل هذه الحنطة بغير اسمها، وجزم القول بالحنث فيما إذا حلف: لا يدخل هذه الدار، فصارت عرصة، فدخلها، ثم قال بعدذ لك: إنه يخرج على ما لو قال: لا ألبس هذا الثوب، وكان قميصاً، ثم تخرق، وسوى منه رداءً أو إزاراً، وسنذكره من بعد، إن شاء الله تعالى. ولو جعلت الدار حانوتاً أو بستاناً أو غير ذلك، لم يحنث بدخوله. ولو انهدم بعضها، فإن كانت مع ذلك تسمى داراً خربة، حنث بدخولها، وإن بقيت [بحيث] يقال: هذه رسوم دار فلان، فلا يحنث، كذا قاله الإمام في "التهذيب": إنه إذا كان الأساس باقياً، فدخلها حنث. قال: وإن أعيدت بنقضها فدخلها، فقد قيل: يحنث؛ لأنها عادت كما كانت، وهذا هو الأصح، وقيل: لا يحنث؛ لأنها غير تلك الدار، فلم يحنث؛ كما لو أعيدت بغير تلك الآلة. ويتجه من حيث القياس أن يكون الحكم فيما لو حلف: لا يستند إلى هذا الجدار، فهدم، ثم أعيد واستند إليه- كما ذكرناه، لكن القاضي أبا الطيب في كتاب الصلح جزم بالحنث فيما إذا أعيد بنقضه، وبعدمه فيما إذا أعيد بغيره، وحكى بعده: أنه لو حلف: لا يكتب بهذا القلم، وهو مبري، فانكسر؛ فبراه، فكتبه به- أنه لا يحنث؛ لأنه لا يسمى قلماً إلا إذا كان مبريّاً، وتسميته قلماً قبل البراية مجاز. تنبيه: النقض- بكسر النون-: البناء المنقوض والمهدوم، قاله الجوهري. قال النواوي: والمشهور- ولم يذكر الليث والأزهري وصاحب "المحكم" غيره-: أنه بضم النون. قال: وإن قال: والله لا دخلت هذه الدار من بابها، فحول بابها إلى موضع آخر- أي: ودخل منه- فقد قيل: لا يحنث، وهو ظاهر النص، أي: في "المختصر"، وهو

المحكي عن الإمام أيضاً، وبه قال ابن أبي هريرة؛ لأن الإضافة اقتضت تعريف الباب الموجود وقت اليمين؛ فأشبه ما لو حلف: لا يدخل دار زيد، فباعها، ثم دخلها. وقيل: يحنث، وهو الأظهر، وبه قال أكثر الأصحاب؛ لأن المفتوح ينطلق عليه الاسم، واليمين تتعلق بتلك الصفة حال دخوله، لا حال اليمين؛ بدليل ما لو حلف: لا يدخل دار فلان، فدخل داراً ملكها بعد اليمين؛ فإنه يحنث. ثم محل الخلاف في "المهذب" و"التهذيب" ما إذا سد الباب الأول، وغيرهما أطلق، وهو البندنيجي، والمحاملي كلامه يدل على جريانه مع فتح الأول. ثم الخلاف يجري فميا لو قال: والله لا ادخل من باب هذه الدار، ولو قال: والله لا أدخل من هذا الباب، فدخل من الباب الجديد- لم يحنث، سواء كان عليه الباب الخشب، أو لم يكن، وإن دخل من القديم حنث، ومن أصحابنا من قال: إنه لا يحنث إذا دخل من القديم بعد نقل الباب من عليه. وليس بشيء؛ لأن الخشب لا يدخل فيه، وهذا ما حكاه العراقيون. واعلم أن من قال بعدم الحنث بالدخول من الباب القديم بعد نقل الباب الخشب يجوز أن يكون مأخذه: أنه راعى الخشب دون الممر، ويجوز أن يكون راعاهما جميعاً. فإن كان مأخذه الأول لزمه أن يقول بأنه إذا دخل من الباب الذي عليه الباب الخشب- أن يحنث، كما حكاه المراوزة وجهاً. [وإن كان الثاني لم يحنث بالدخول من الباب الثاني، وإن كان الباب الخشب عليه، كما حكاه المراوزة وجهاً] آخر، والله أعلم. وقد انتظم من مجموع ما ذكرناه عن الطريقين ثلاثة أوجه. فرع: إذا قلنا: الاعتبار بالباب الخشب، فلو قال: والله لا أدخل من هذا الباب، فنقل الباب إلى دار أخرى، فدخلها منه- قال في "التتمة": حنث. قال الرافعي: والظاهر خلافه، إلا أن يريد الحالف: أنه لا يدخل منه حيث نصب. آخر: لو حلف: لا يدخل هذه الدار، فنزل إليها من سطح غير محوط- فهل

يحنث؟ فيه وجهان، حكاهما الغزالي وغيره. قال: وإن حلف: لا يدخل بيتاً- أي: وأطلق- فدخل بيتاً من شعر أو أدم، حنث على ظاهر النص، أي: في "المختصر"- سواء كان الحالف بدويّاً أو حضرياً، قريباً من البادية أو بعيداً عنها، وهذا ما ذهب إليه أكثر المتأخرين على ما حكاه الماوردي، ووجهه- على ما قال أبو إسحاق-: أن بيت الشعر والخيمة يسمى بيتاً في البادية، وإذا ثبت للشيء [اسم عرف] في موضع ثبت له في جميع المواضع؛ كما لو حلف: لا يأكل الخبز، فأكل خبز الأرز؛ فإنه يحنث، وإن كان لا يتعارفه؛ لأنه ثبت له عرف في طبرستان. قال البندنيجي: وهذا أصل لأبي إسحاق يستعمله في كثير من المواضع. وقال غيره: إنما يحنث؛ لأن عرف الشرع قد ثبت بتسمية بيوت الشعر بيوتاً؛ قال الله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً} [النحل: 80]. واعترض على ما قاله أبو إسحاق: بأن من حلف ببغداد أنه لا يركب دابة لا يحنث بركوب الحمار، وإن كان أهل مصر يسمونه دابة، ولو كان ثبوت العرف عند قوم يقتضي التعميم لحنث. وأما مسألة الخبز فلم يكن الحنث فيها بهذا السبب، [بل] لأن المتخذ من الأرز يسمى خبزاً في جميع البلاد؛ لأن كل بلد يطلقون اسم الخبز على ما يخبزونه عندهم. واعترض على ما قاله غيره بأنه لا يحنث بدخول المساجد- على ما سنذكره- مع أن الله- تعالى- سماها بيوتاً. والتعليل الصحيح- على ما قاله أبو الطيب-: أن اسم "البيت" يقع على بيت الشعر والأدم حقيقة في اللغة؛ لأنه موضوع لكل ما جعل ليسكن فيه، وذلك جعل ليسكن فيه، وتسميته خيمة أو مِضْرَباً، إنما هو اسم نوع، وإذا كان كذلك حنث بدخوله؛ لأن اليمين تحمل على الحقائق. فإن قيل: قد تركتم الحقيقة للعرف فيما إذا حلف: لا يأكل البيض، فأكل بيض السمك؛ فإنه لا يحنث، وفيما إذا حلف لا يأكل الرءوس، فأكل رءوس العصافير

والسمك- فإنه لا يحنث، فهلا كان هذا مثله؟! فالجواب: أن هناك عرفاً مستمراً على خلاف اللغة؛ فإنهم لا يطلقون اسم "البيض" علىب يض السمك وإن كثر عندهم، ولا اسم "الرءوس المشوية" على رءوس الطير والسمك مع كثرتها، واسم البيت المتخذ من الشعر والجلود ونحوهما لا يفهم من اللفظ عند الاستعمال؛ لفقدها وقلتها عند أهل القرى؛ فلم يتحقق عرف على خلاف اللغة، وكان ذلك كمسألة خبز الأرز، والله أعلم. قال: وقيل: إن كان حضريّاً لم يحنث- أي: إذا كان لا يعرف بيوت البادية، كما صرح به البندنيجي، ووجهه: أن المتعارف عند أهل الحضر والمفهوم من اسم "البيت" هو المبني؛ فنزلت اليمين عليه، وهذا ما ينسب إلى ابن سريج. ومقتضى ما ذكره البندنيجي من التصوير- مع ما ذكرناه من التوجيه-: أن البدوي إذا كان لا يعرف بيوت الحاضرة؛ فدخل البيت المبني- أنه لا يحنث، وقد جزم فيه بالحنث. وروى المراوزة وجهاً آخر: أن الحضري القريب من البادية يحنث بدخول بيت الشعر والأدم، دون البعيد عنها. وفي كلام ابن الصباغ إشارة إليه؛ حيث قال: الذي نص عليه الشافعي: أنه يحنث، سواءً كان بدويّاً أو قرويّاً قريباً من أهل البادية. فائدة: قال الإمام: البدوي إذا وطن البلد، وصار يناطق أهله بما يتعارفون- فحكمه حكم القروي. والقروي إذا تبدَّى وصار يناطق أهل البادية بلغتها، فهو كالبدوي. فروع: لو حلف على ذلك بالفارسية، فقال: أندر خاناه بشومْ، فالذي حكي عن القفال: أنه لا يحنث ببيت الشعر والأدم والخيام؛ لأن العجم لا يطلقون الاسم عليها، بل المبني، وإن اعتبر اللفظ فاللفظ أعجمي لا يراد به الخيام، وعلى ذلك جرى الإمام والروياني وغيرهما. وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه لا فرق فيه بين العربية والفارسية، ويكون

الحكم كما سبق. ولو دخل الحالف دهليز دار أو صحنها أو صفتها، لم يحنث على الأظهر. وعن القاضي أبي الطيب: الميل إلى أنه يحنث، ولو [دخل] غرفة فوق البيت لم يحنث، حكاه البندنيجي. قال: وإن حلف: لا يدخل بيتاً، فدخل مسجداً- لم يحنث؛ لأن البيت موضوع لما جعل للإيواء والسكنى، والمسجد لم يجعل لذلك، ولأنه لا ينطلق عليه اسم البيت إلا بنوع من التقييد؛ فلم تنصرف اليمين المطلقة إليه. وحكى المتولي وجهاً: أنه يحنث؛ لقوله- تعالى- {وَطَهِّرْ بَيْتِي} [الحج: 26] وقوله- تعالى-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] ووجهه الإمام بأنه كان يحنث بدخوله قبل أن يجعل مسجداً، والتحبيس والصرف إلى جهة الخير لا يغير الاسم. ويجري مثل هذا الخلاف فيما إذا دخل الكعبة. ولو دخل البيع والكنائ، وبيت الحمام، والغار في الجبل- لم يحنث؛ لما ذكرناه. وفي "الرقم" للعبادي: أن ابن سريج خرج في الجميع لنفسه قولين. وفي "النهاية": أبدى ذلك من عند نفسه [قولين] فيما إذا دخل الحمام، واليبت الذي فيه الرحى. واعلم أن الحنث بدخول الدار والبيت وغير ذلك مما حلف عليه، لا يحصل بإدخال يده أو رجله أو رأسه، ولا بإدخال رجليه وهو قاعد خارجها، وإنما يحصل إذا وضعهما في الدار، واعتمد عليهما، أو حصل في الدار متعلقاً بشيء، وكذلك في اليمين على الخروج. قال: وإن حلف: لا يأكل هذه الحنطة، فجعلها دقيقاً أو سويقاً، أي: قلاها وطحنها، أو خبزاً، فأكله- لم يحنث؛ لأن اسم الحنطة قد زال، وكذلك صورتها؛ فزال تعلق الاسم بها؛ كما لو قال: لا أكلت من هذه الحنطة، فزرعها وأكل حشيشها، أو: لا آكل هذه البيضة، فصارت فرخاً، فأكله- فإنه لا يحنث، وهذا بخلاف ما لو حلف: لا يأكل لحماً، فشواه؛ فإنه يحنث؛ فلأن اسم اللحم وصورته لم يزولا؛ كما أنه يحنث إذا أكل الحنطة المسلوقة.

وقال أبو العباس بن سريج: يحنث في مسألة الحنطة؛ كما لو حلف: لا يأكل هذا الحمل، فذبحه وأكله. وفرق الأصحاب بأن الحمل لا يؤكل، [و] القمح يمكن أكله، وبأن الحمل ممنوع من أكله في حال الحياة من غير يمين، فلم يدخل تحت اليمين، والحنطة غير ممنوع من أكلها؛ فتعلق بها اليمين. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يقول: لا آكل هذه الحنطة، أو: منها. وقال الصيدلاني: إذا قال: لا ىكل منها، حنث بأكل كل ما يتخذ منها، ولو حلف: لا يأكل هذه الحنطة، فجعلها دقيقاً أو سويقاً أو خبزاً، فأكله- حنث. قال الإمام: وفاقاً. ولو قال: والله لا آكل حنطة، ولم يشر إلى شيء، فإذا اتخذ من الحنطة دقيقاً أو شيئاً غيره، وأكله- لم يحنث. هكذا وقفت عليه في "الرافعي" وغيره. وفي "النهاية" فيما إذا حلف: لا يلبس قميصاً، ولم يعين شيئاً، فأخذ قميصاً وفتقه، وخاط من فتوقه رداءً- حكاية وجهين في حنثه بلبسه، وقد يظهر أن المسألة مشابهة لمسألة الحنطة، ويطلب الفرق بينهما. فرع: لو حلف: لا يأكل من لحم هذا الحمل، فصار كبشاً، أو: لا يأكل هذه البسرة، فصارت رطبة، و: هذه الرطبة، فصارت تمرة، فأكلها، أو: لا يكلم هذا الصبي، فصار شابّاً، أو: هذا الشاب، فصار شيخاً، فكلمه- لم يحنث؛ كما في مسألة الحنطة. وقال ابن أبي هريرة بحنثه، بخلاف مسألة الحنطة؛ لأن الانتقال في الحنطة بصنعه، وفيما ذكرناه بلا صنعة؛ فلا يمتنع الحنث به. وأبطل ما ذكرناه في البيضة إذا صارت فرخاً. قال: وإن حلف: لا يأكل الخبز، فشرب الفتيت- لم يحنث؛ لأنه ليس بأكل، ولو أكل ما يسمى خبزاً حنث، سواء كان من بر أو شعير أو ذرة أو أرز أو باقلاء، وسواء كان ذلك معروفاً في بلده أو لم يكن.

وكذلك يحنث بأكل خبز البلوط على ما حكاه في "التتمة"، ويحنث بأكل الأقراص والزعفران وخبز المَلَّة، وسواء ابتلعه بعد المضغ أو بلعه على هيئته. ولو أكله حرشاً ففي حنثه وجهان في "التهذيب"، وهذا ما يوجد لعامة الأصحاب على طبقاتهم، على ما حكاه الرافعي. وحكى الغزالي عن الصيدلاني: أه لا يحنث بأكل خبز الأرز إلا بـ "طبرستان"، وهو موافق لأحد وجهين نقلهما أبو الفرج. قال الرافعي: وينبغي أن يكون جيلان كطبرستان. وفي "تعليق" البندنيجي أن للآكل: أن يلوك الشيء بفيه ويزدرده. ومقتضى ذلك: أنه إذا لم يلكه وبلعه لا يحنث عند الحلف على الأكل؛ فقد تحصلنا في حنثه على خلاف، وقد حكاه الرافعي في فروع الطلاق؛ حيث قال: لو علق الطلاق على الأكل ففي الحنث بالابتلاع وجهان أوردهما المتولي، والأظهر: المنع؛ لأنه يصح أن يقال: ابتلع، وما أكل. واعلم أن قول الشيخ: فشرب الفتيت لم يحنث، يوهم أنه إذا أكل الفتيت حنث؛ إذ لو لم يكن كذلك لم يكن لتخصيص شربه فائدة. والذي يظهر: أنه لا يحنث بأكل ما يعهده من الفتيت، وهو الخبز اليابس الذي يدق؛ فإنه استجد له اسم آخر كالدقيق. نعم، يحمل ما قاله على الخبز إذا فت فشربه بالماء؛ فإنه لا يحنث بشربه، ولو أكله لحنث، وعليه يدل إيراد لامحاملي، وهو موافق لما قيل في اللغة: عن الفتيت والفتوت- بفتح الفاء فيهما- هو: الخبز المفتوت؛ فإن الفت: الكسر. فرع: لو حلف: لا يأكل العنب أو الرمان، واحتوى فوه على المحلوف عليه ومصه، ولم يزدرد من الثفل شيئاً- لم يحنث. وأبدى الإمام فيه احتمالاً فيما إذا [حلف]: لا آكل السكر أو الفانيذ، فوضعه في فيه، ولم يمصه حتى ذاب وابتلع الذائب- فإنه لا يحنث عند الأكثرين. ومن الأصحاب من قال: هو أكل. وهو متجه؛ فإن الذي فعل ما وصفناه لا يقال: شرب السكر، وإنما يقال: وضع وازدرد الرضاض؛ فهو أكل. قال: وغن حلف: لا يشرب السويق، فاستفه- لم يحنث؛ لأنه ليس بشرب؛ فلو

كان خاثراً بحيث يتناوله بالملعقة، فحساه. قال الرافعي: فيه خلاف، والأشبه: أنه لا يحنث، وهو ما قطع به الشيخ أبو نصر. وهذا الخلاف أبداه الإمام احتمالاً. وإن حلف: لا يأكله، فاستفه، أو بله وتناوله بإصبعه أو ملعقة- حنث. قال: وإن حلف: لا يأكل سويقاً، أو: لا يشربه، فذاقه- لم يحنث؛ لأنه ليس بأكل ولا شرب.

واستدل ابن الصباغ والشيخ في "المهذب" على المسائل الثلاث بأن الأفعال أجناس كالأعيان، ولو حلف على جنس [من] الأعيان لا يحنث بجنس آخر، كذلك إذا حلف على جنس من الأفعال لا يحنث بجنس آخر. واعلم أن الذوق المتفق عليه: أن يدرك الطعم، ويزدرد من المذوق المقدار الذي يزدرده الذائق، والمختلف فيه ما سنذكره. وقد حكم الشيخ بأنه لا يحنث بالذوق عند حلفه على الأكل أو الشرب على الإطلاق، وهذا يدل على [أن ما يزدرده الذائق] لا يحنث به، وقد صرح به الإمام حكاية عن القاضي والأصحاب، ثم قال: وقد قال الأصحاب فيمن حلف: لا يأكل-: إن الحنث يحصل بالقليل والكثير، ثم قال: فينتظم من مجموع ذلك مسلكان: أحدهما: أن المقدار الذي هو على حد الذوق ليس أكلاً ولا شرباً، وإنما يحصل الأكل والشرب بعد ذلك. والثاني: أن يقال: الزائد على حد الذوق لا يعتبر فيه القصد، وهو أكل أو شرب، والقدر الذي يحصل الذوق به يختلف الأمر فيه بالقصد: فإن قصد به الأكل ولم يقع درك طعمه فهو أكل أو شرب، وإن قصد به درك الطعم فهو ذائق، وليس بآكل ولا شارب. وفي "التهذيب": أنه متى ذاق ووصل الطعام إلى حلقه، حنث عند الحلف على الأكل، وكذلك في الشرب، والله أعلم. قال: وإن حلف: لا يذوق شيئاً، فمضغه ولفظه- فقد قيل: يحنث، وهو الأصح؛ لأن الذوق معرفة الطعم، وقد حصل. قال: وقيل: لا يحنث؛ لأنه لا توجد حقيقة الذوق ما لم يزدرده؛ ولهذا لا يفطر به الصائم. تنبيه: لفظه: رماه من فيه، وفاؤه مفتوحة، والمرمي يسمى: لفاظة، بضم اللام. قال: ولو أكله أو شربه، حنث. وفيه وجه حكاه الرافعي: أنه لا يحنث بهما، وأبداه المحاملي احتمالاً في الشرب.

ولو أوجره في حلقه، لم يحنث، وكذا لو كان الحلف على الأكل والشرب. قال الشيخ في "المهذب": لأنه لم يأكل ولم يشرب ولم يذق، بخلاف ما لو قال: لا طعمت هذا الطعام، [فأوجر] في حلقه؛ فإنه يحنث؛ لأن معناه: لا جعلته لي طعاماً، وقد جعله طعاماً له. قال: وإن حلف: لا يأكل سمناً، فأكله في عصيدة وهو ظاهر فيها- حنث؛ لأنه فعل المحلوف، وزاد عليه؛ فأشبه ما لو حلف: لا يدخل على زيد، فدخل عليه وعلى عمرو؛ فإنه يحنث. تنبيه: العصيدة: معروفة، وسميت بذلك؛ لأنها تعصد، أي: تُلْوَى، ومنه يقال للاوي عنقه: عاصد. والمراد بالظهور ها هنا: أن يكون ممتازاً في الحس، على ما صرح به الإمام. ولو لم يكن ظاهراً فيها لم يحنث، وكذا لو شربه لم يحنث، وفيه وجه: أنه يحنث بالشرب، وهو ضعيف. قال: وإن أكله مع الخبز حنث، على ظاهر المذهب- أي: سواء كان جامداً أو مائعاً- لما ذكرناه. وقيل: لا يحنث- وهو قول الإصطخري- لأنه لم يفرده بالأكل؛ فاشبه ما لو حلف: لا يأكل ما اشتراه [زيد، فأكل ما اشتراه] زيد وعمرو. ثم هذا الوجه يجري في المسألة الأولى، وقد حكى ابن يونس أن قول الشيخ: وقيل: لا يحنث، عائد إلى المسألتين، وهو موافق لما نقله القاضي والعراقيون عن الإصطخري على ما حكاه الإمام. قال البندنيجي: وهذا الخلاف يجري في كل ما حلف: لا يأكله، فأكله مع غيره؛ كما إذا حلف: لا يأكل الخبز، فأكله مع اللحم، أو لا يأكل اللحم، فأكله مع الخبز. واستبعد الإمام مذهب الإصطخري فيما إذا أكله مع الخبز؛ فإنه لا يؤكل إلا كذلك، ولا يتعاطى وحده فيبلع. وحكى مجلي أن أبا إسحاق قال: إن كان السمن جامداً، فأكله مع غيره- لم يحنث، وإن كان ذائباً، فأكله مع غيره، حنث. وقد تحصل

بهذا ثلاثة أوجه. فرع: لو استعمل السمن في الدقيق، وعصد على النار، وبقى أثره: كالطعم واللون، واستجد ذلك المختلط اسماً، وكان لا يفرد إرادة المختلط بالاسم- ففي حصول الحنث بأكله وجهان حكاهما الإمام. آخر: إذا حلف: [لا يأكل] الخل، فإن شربه لم يحنث، وإن أكله مع الخبز حنث؛ لأنه يؤكل كذلك، ولو اتخذ منه سكباجاً: فإن كان الخل فيها ظاهراً حنث، وإن لم يكن ظاهراً، لم يحنث. قال ابن الصباغ: ويتصور ذلك بأن يأكل من لحم السكباج دون مرقها. وسوى المسعودي في الظهور بين طعمه ولونه. هذا هو المشهور، وحكى صاحب "التقريب": أن من أصحابنا من قال: لا يحنث، وإن كان الخل ظاهراً؛ لأن الاسم قد تغير باتخاذ المرقة، ولا يقال لمن أكل سكباجاً: أكل الخل، بخلاف السمن المتميز الجاري على العصيدة. قال: وإن حلف: لا يشرب من هذا الكوز، فجعل ماءه في غيره، فشربه- لم يحنث؛ لأن الشرب يكون من الكوز عرفاً؛ فتعلقت اليمين به، ولم يوجد. قال: وإن حلف: لا يشرب من هذا النهر، فشرب ماءه في كوز- حنث؛ لأن الشرب من النهر عرفاً يكون بشرب شيء من مائه؛ فتعلقت اليمين بمائه. وفي "الرافعي" حكاية وجه فيما إذا شرب من ساقية تأخذ الماء منه: أنه لا يحنث. قال: وإن حلف: لا يأكل لحماً، فأكل شحماً أو كلية أو ثرباً أو كرشاً أو كبداً، أو طحالاً أو قلباً- لم يحنث؛ لأن هذه الأشياء مخالفة للحم في الاسم والصفة، ويجوز نفى الحقائق عنها، واسم الحقائق لا ينتفي عن مسمياتها، ولأنه صلى الله عليه وسلم سمى الكبد والطحال: دمين. وقيل: إنه يحنث بذلك، إلا في الشحم، حكاه ابن يونس؛ لأنها في حكم اللحم، وقد تقام مقامه. وفي "النهاية" رواية قول عن ابن سريج: أنه يحنث بالكرش والأمعاء والكبد

والطحال والرئة، واستغربه، وحكى في القلب وجهين: أحدهما: كمذهب العراقيين. والثاني- وهو اختيار الصيدلاني-: أنه يحنث. ثم قال: والكلية عندي في معنى القلب. وهل يحنث بأكل لحم الرأس والخد واللسان والأكارع؟ فيه طريقان: أصحهما: أنه يحنث، على ما حكاه البغوي والرافعي. والثاني: طرد الوجهين. ويجريان- أيضاً- في المخ والعين. وفي "المهذب" و"التهذيب": أنه لا يحنث بأكل العين إذا حلف على اللحم، وفي حنثه إذا حلف على الشحم وجهان]. ويحنث بأكل كل لحم يحل أكله من النعم أو الوحش أو الطير؛ لأن اسم "اللحم" ينطلق على الجميع، وهل يحنث بأكل ما يحرم أكله من اللحوم؟ فيه وجهان عن ابن سريج: أحدهما- وهو الذي رجحه الشيخ أبو حامد والروياني-: أنه لا يحنث؛ لأن الحالف يقصد بيمينه الامتناع عما يعتاد أكله. والذي رجحه القفال والمتولي وغيرهما: مقابله؛ كما يحنث باللحم المغصوب. وهذا الخلاف [قريب] من الخلاف فيما لو حلف: لا يشرب ماء، فشرب ماء البحر المالح، أو: لا يأكل طعاماً، فأكل دواء؛ لكونه غير معتاد. تنبيه: الكلية والكلوة- بضم الكاف- لغتان، ولا يقال بكسرها، والجمع: كليات، وكلي. الثرب- بفتح المثلثة وإسكان الراء-: شحم رقيق يغشى الأمعاء والكرش، حكاه النواوي. وفي "الجيلي": أنه المبعد وبه يندفع سؤال التكرار، وعلى الأول يكون المراد: بيان أنه لا فرق بين ثخين الشحم ورقيقه. الكرش: بكسر الراء، ويجوز إسكانها مع فتح الكاف وكسرها، وهي للمجتر من

الحيوانات كالمعدة للإنسان. الطحال: بكسر الطاء. قال: وإن أكل من الشحم الذي على الظهر- أي: الأبيض الذي لا يخالطه حمرة- حنث؛ لأنه لحم سمين؛ ولهذا يكون أحمر عند الهزال. وقال القفال: هو شحم؛ فلا يحنث به كشحم البطن، واستدل له بقوله تعالى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146]. وقال أبو زيد: إن كان الحالف عربيّاً فهو شحم، وإن كان عجميّاً فهو لحم؛ لأنهم يتعارفونه كذلك. ويجري الخلاف فيما لو أكل سمين الجنب، وما تعلق اللحم به وتخلله من البياض. قال: وإن أكل الألية، لم يحنث؛ لأنها في معنى الشحم في البياض والذوبان؛ فألحقت به، وهذا هو الأصح في "المحاملي". قال: وقيل: يحنث؛ لأنها في معنى اللحم في الصلابة، ونباتها في اللحم؛ فألحقت به. وقيل: ليست بلحم ولا شحم؛ لأنها مخالفة لهما في الاسم والصفة؛ فصارت كالكبد والطحال، وهذا هو الأصح في "التهذيب"، وعليه بنى الشيخ جوابه فيما بعد. ويجري هذا الخلاف في سنام الإبل، مع أنه لو حلف: لا يأكل الألية، لم يحنث بالسنام، وكذلك على العكس. قال: وإن أكل السمك، لم يحنث؛ لأنه لم يفهم من إطلاق اسم "اللحم"، ولا يستعمل في العرف مع عموم وجوده؛ فلا تتعلق اليمين به، وإن سماه الله- تعالى- لحماً؛ كما لا يحنث بالجلوس في الشمس إذا حلف: لا يجلس في ضوء سراج، وإن سماها الله- تعالى-: سراجاً، ولا يحنث إذا علق على جبل شيئاً وقد حلف: إنه لا يعلقه على وتد، وإن سمى الله- تعالى- الجبال: أوتاداً. ولأن ذلك ليس بلحم [في] الحقيقة؛ ولهذا يقال: ما أكلت لحماً، وأكلت

سمكاً، والحقيقة لا تنتفي، وإذا كان كذلك فاليمين إنما تنزل على الحقائق. وفي "البيان": أن بعض أصحابنا الخراسانيين قال: إنه يحنث. وقد حكاه ابن يونس، ولم يعزه لهم. قال: وإن حلف على الشحم، فأكل سمين الظهر أو الألية- لم يحنث، أي: على الأصح؛ لما ذكرناه، ويجيء فيه الخلاف المتقدم. فرعان ذكرهما البغوي وغيره: أحدهما: لو حلف: لا يأكل ميتة، لم يحنث بأكل ما ذكي، وهل يحنث [بأكل السمك والجراد؟ فيه وجهان: أصحهما: أنه لا يحنث؛] كما لو حلف: لا يأكل دماً، فأكل الكبد والطحال. الثاني: لو حلف: لا يأكل لحم البقر، فأكل لحم الجاموس، حنث، وفي حنثه بأكل لحم بقر الوحش وجهان، وهما جاريان فيما لو حلف: لا يركب حماراً، فركب حمار وحش. قال: وإن حلف: لا يأكل الرءوس، لم يحنث إلا بما يباع منفرداً- أي: عن الأبدان، وهي رءوس الإبل والبقر والغنم؛ لأن اسم "الرءوس" يقع على كل الرءوس حقيقة، إلا أن الذي يتعارف الناس بأكله هذه الثلاثة؛ فإنها التي تميز عن الأبدان وتقصد بالأكل، فيحنث بأكلها دون غيرها من رءوس الطير والحيتان؛ لاختصاص هذا الاسم لها عرفاً، وتناول الإطلاق لها دون غيرها. وروى صاحب "التقريب" قولاً: أن اسم "الرأس" يحمل على رأس الطير والحوت؛ تمسكاً بحقيقة اللغة. قال الإمام: ولم أره لغيره. وفي "ابن يونس" حكاية وجه: أنه يحنث بأكل كل ما يسمى رأساً. وروى عن ابن سريج قولاً: أنه لا يحنث برأس الإبل. وروى [أن] ابن أبي هريرة ذهب إلى أنه لا يحنث [إلا] برأسالغنم. ومن الأصحاب من قال: إن كان في بلد لا يباع فيه [إلا رءوس] الغنم فلا

يحنث إلا بها. فتحصلنا على ست مقالات، والظاهر منها الأول. قال: فإن كان في بلد تباع فيه رءوس الصيد منفردة، أي: لكثرتها واعتياد أكلها- حنث بأكلها؛ لأنها كرءوس الأنعام في حق غيرهم. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الحالف من أهل تلك البلد أو غيره. وقيل: لا يحنث ما لم يكن من أهل تلك الناحية. قال: وإن كان في بلد لا تباع فيه، فقد قيل: يحنث؛ كما لو حلف: لا يأكل الخبز، فأكل خبز الأرز، وهو ممن لا يعتاد أكله، وهذا أقرب إلى ظاهر النص، ويؤيده: أن رأس [الإبل] لا يعتاد أكله إلا في بعض المواضع، والحنث يحصل به. قال: وقيل: [لا] يحنث؛ لأنه لا يطلق عليه اسم "الرءوس" فيه. قال الرافعي: وهذا أرجح عند الشيخ أبي حامد والروياني. وفي "تعليق" البندنيجي: أن الخلاف كالخلاف في الحضري إذا حلف: لا يدخل بيتاً، فدخل بيتاً من بيوت البادية، ومقتضى هذا أن يكون الصحيح الحنث. وفي "الجيلي" حكاية وجه آخر: أنه إن كان بـ "بغداد" وأمثالها حنث، وإلا فلا، وأن ذلك يجري في رأس الأفراس، وحكم رءوس الحيتان حكم رءوس الصيد. ثم هذا كله عند الإطلاق، أما لو كان قد قصد ألا يأكل ما يسمى رأساً، حنث بأكل ما يسمى رأساً، وإن قصد نوعاً خاصّاً لم يحنث بغيره؛ على ما حكاه المتولي. قال: وإن حلف: لا يأكل البيض؛ لم يحنث إلا بما يفارق بائضه، أي في حال حياته: كبيض الطير والنعام والدجاج؛ لأنه الذي يفهم من لفظ "البيض" عند الإطلاق. وروى المحاملي وجهاً- على ما حكاه الرافعي عنه-: أنه لا يحنث إلا ببيض الدجاج. وعن أبي إسحاق وجه: تخصيص الحنث بالدجاج والأوز. وروى الجيلي وجهاً: أنه لا يحنث ببيض النعام أهل الأمصار، ويحنث به أهل البادية.

قال الإمام: والطريقة المرضية: أنه لا يحنث إلا بما يفرد بالأكل في العادة، دون بيض العصافير والحمام وغيرهما. فتحصلنا على خمس مقالات، والظاهر من المذهب الأول. قال: فإن أكل بيض السمك والجراد، لم يحنث؛ لأنه لا يؤكل منفرداً؛ فلم تنزل اليمين عليه. قال الجيلي: وهذا لا يستقيم؛ فإن أهل بلادنا جيلان، وأهل بغداد وواسط وغيرهم يأكلون بيض السمك منفرداً؛ فيحنث بأكله، كما سبق. وألحق البندنيجي بيض السمك والجراد بالبيض الموجود في جوف الدجاجة يطبخ ويشوى معها. وفي "الرافعي" وغيره حكاية وجه في الحنث به. فرع: لو حلف: لا يأكل بيضاً، وحلف: ليأكلن مما في كم فلان، فإذا هو بيض- فالطريق في خلاصه: أن يستعمل البيض الذي في الكم في ناطف، ويأكل منه. وقد سئل القفال عن ذلك، فلم يظهر له هذا الطريق، وظهر للمسعودي طالبه، وعرضه عليه؛ فاستحسنه. قال: وإن حلف لا يأكل أدماً، حنث بأكل الملح واللحم؛ لأنه يؤتدم به، وقد روي أنه- عليه السلام- قال: "سَيِّدُ الإِدَامِ المِلْحُ، وَسَيِّدُ إِدَامِ الدُّنْيَا وَالآخِرَة ِاللَّحْمُ".

وفي "التتمة": أنه إنما يحنث بالملح إذا كان بدويّاً؛ لأنهم يسمون الملح: أدماً، أما إذا كان من غيرهم ففي حنثه وجهان. وقد حكى الرافعي فيه وجهاً من غير تفصيل. تنبيه: الأدم- بضم الهمزة وإسكان الدال- والإدام، بكسر الهمزة وزيادة ألف: لغتان بمعنى واحد، وهو: ما [يؤتدم به]. قال: وإن أكل التمر، لم يحنث؛ لأنه لا يؤتدم به في العادة؛ [وإن أكل] فقوت أو حلاوة. قال: وقيل: يحتمل أن يحنث، وقد جزم به غيره، وهو ما حكاه في "التهذيب" وطرده في سائر الثمار؛ لما روي أنه- عليه السلام- أعطى سائلاً خبزاً وتمراً، وقال: "هَذَا أُدُمُ هَذَا". وضابط ما يحنث به: كل ما يؤتدم به، سواء كان مما يصطبغ به: [كالخل والدبس والشيرج والسمن والمُرِّيِّ]، وما جانس ذلك. وإنما ذكر الشيخ- رحمه الله- الملح واللحم دون ما عداهما؛ لأن أبا حنيفة خالف في اللحم وما في معناه مما لا يصطبغ به؛ فأراد أن يذكر ما يقيم الدليل على الحنث بأكله ليقيس ما عداه عليه؛ بجامع ما اشتركا فيه، من كونهما لا يصطبغ بهما. فرع: لو حلف: لا يأكل قوتاً، حنث بأكل ما يقتات من الحبوب، ويحنث بأكل الزبيب والتمر واللحم إن كان ممن يقتاتها، وفي غيرهم وجهان. قال: وإن حلف [لا يأكل] رُطَباً أو بُسْراً، فأكل منصِّفاً- حنث؛ لاشتماله على كل واحد منهما. وقال أبو سعيد الإصطخري وأبو علي الطبري: إنه لا يحنث؛ لأنه لا يسمى رطباً ولا بُسْراً.

وقيل: إن كان أكثره رطباً حنث في يمين الرطب، وإن كان كثره بُسْراً حنث في يمينه على البسر دون الرطب؛ نظراً إلى الأغلب، كذا حكاه ابن يونس، وحكاه الجيلي بعد ذكره المسألة الثانية في الكتاب. وهذا [إذا] أكل جميع المنصِّفة، أما إذا أكل الرطب دون البسر؛ حنث به الحالف على الرطب، وإن أكل البسر دون الرطب، حنث به الحالف على البسر، ولم أر حكاية مذهب الإصطخري وأبي علي فيه. تنبيه: المنصف- بضم الميم، وفتح النون، وكسر الصاد المشددة- قال أهل اللغة: أول ثمر النخل: طلع وكافور، ثم خلال- بفتح الخاء المعجمة، واللام المخففة- ثم بلح، ثم بسر، ثم رطب، ثم تمر؛ فإذا بلغ الإرطاب نصف البسرة قيل: منصفة؛ فإن بدا من ذنبها ولم يبلغ النصف قيل: مذنبة، بكسر النون. ويقال في الواحدة: بسرة، بإسكان السين، وضمها، والكثير: بسر- بضم السين- وبُسُرات وبُسَرات، وأبسر النخل: صار ثمره بسراً، والله أعلم. قال: وإن حلف: لا يأكل لبناً، فأكل شيرازاً أو دُوغاً حنث؛ لأنه يسمى: لبناً. قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من توقف في الشيراز؛ لأن له اسماً يختص به. وقال الروياني: يحتمل ألا يحنث إلا بالحليب؛ لأن الاسم في العرف يقع عليه، والمنقول: أنه يحنث بالرائب والمجمد والمخيض، وفي المخيض وجه. تنبيه: الشيراز- بكسر الشين المعجمة-: لبن يغلى؛ فيثخن جداً، ويصير فيه حموضة وينقب. [والدوغ- بضم الدال]، وإسكان الواو، وبالغين المعجمة-: لبن نزع زبده، وذهب مائيَّته فثخن. قال: وإن أكل جبناً، أو لوراً، أو مصلاً، أو كشكاً، أو أقطاً- لم يحنث؛ لأنها لا تسمى لبناً، وكذا لا يحنث بالسمن، وهل يحنث بالزبد؟ قال ابن الصباغ وغيره: إن كان اللبن ظاهراً فيه حنث، وإن كان مستهلكاً فلا.

وحكي وجه: أنه لا يحنث من غير تفصيل. وذهب أبو علي بن أبي هريرة والطبري إلى أنه يحنث بكل ما يتخذ من اللبن. تنبيه: اللور- بضم اللام، وإسكان الواو-: [بين] الجبن [و] اللبن الجامد، وفيه نقب. والمصل- بفتح الميم-: ماء اللبن النيء. وقيل: هو الذي أخرج منه الزبد. وقيل: ماء الأقط حين يطبخ ويعصر، فعصارته هي المصل، كذا حكاه الجيلي، والذي حكاه النواوي الأخير. والكشك: معروف، وفي "ابن يونس": أنه قد يتخذ من الشعير، وأنه يعجن [في الأكثر بالماء، وقد يعجن] باللبن الحليب، وهذا ما نعرفه. والأقط: مذكور في باب زكاة الفطر. فروع: لو حلف على الزبد لم يحنث بأكل السمن، وكذا لو حلف على السمن فأكل الزبد، على الأصح. ولو حلف على السمن أو الزبد، فأكل اللبن- لم يحنث على الأصح في "التهذيب". ولو حلف على السمن لم يحنث بأكل الدهن، وكذا لو حلف على الدهن فأكل السمن، على الأصح. قال: وإن حلف لا يأكل فاكهة، فأكل الرطب أو العنب أو الرمان- حنث؛ لأنه يسمى فاكهة؛ بدليل أنه يسمى الذي يبيعه فاكهانيّاً، وموضع بيعه: دار الفاكهة؛ فوجب أن يحنث به كسائر الفواكه من المشمش والتفاح والتين والموز والخوخ والسفرجل والنبق والتوت والأترج والنارنج والليمون، وغير ذلك. فإن قيل: قد عطف الله- تبارك وتعالى- "النخل" و"الرمان" على "الفاكهة" في

قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] ولو كان "النخل" و"الرمان" من جملة "الفاكهة" لما عطفهما عليها؛ لأن العطف يقتضي المغايرة. فالجواب: أن العطف لا يقتضي المغايرة؛ بدليل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وهما من الملائكة، وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] ومعلوم أنهم من النبيين. وإذا جاز العطف على ما اندرج المعطوف فيه؛ لعمومه، فالعطف على ما لا يندرج فيه المعطوف من طريق الأولى، وإنما قلنا: إن "النخل" و"الرمان" لم يندرجا فيما ذكره الله- تعالى- أولاً؛ لأن لفظة "فاكهة" نكرة، وهي في سياق الثبوت؛ فلا تعم. ثم لا فرق في حصول الحنث بأكل الفاكهة بين رطبها ويابسها؛ فيحنث بأكل التمر والزبيب والتين والمشمش والخوخ اليابس كالحنث بالرطب، على [ما] دل عليه كلام الغزالي، [وهو مصرح به] في "التهذيب". وفي "التتمة": أن إطلاق اسم "الفاكهة" للرطب دون اليابس. وفي "الجيلي": أن الماوردي فصل فقال: إن تغير الاسم بعد اليبس: كالتمر في يبيس الرطب، والزبيب في يبيس العنب- لا يحنث، وإلا فيحنث، وهذا آخره يوافق ما حكيناه عن الغزالي، وأوله لا اختصاص له بهذا المحل. فروع: هل يحنث بأكل البطيخ؟ فيه وجهان، أصحهما- وهو المذكور في "الشامل"-: أنه يحنث؛ لأن له نضجاً وإدراكاً كالفواكه، ولا يحنث بالقثاء والخيار؛ لأنهما من الخضروات، وأبدى بعضهم في القثاء تردداً. وهل يحنث باللبوب: كلب الفستق والبندق؟ فيه وجهان، أصحهما: الحنث؛ لأنهما يعدان من يابس الفواكه. قال: وإن حلف: لا يشم الريحان، فشم الصيمران- حنث؛ لانطلاق الاسم عليه حقيقة. تنبيه: لا يشم: شينه مفتوحة على المشهور، وحكى الجوهري وغيره ضمها،

ويقال على الأول: شممت- بكسر الميم الأولى- أشم: بفتح الشين، وعلى الثاني: شممت- بفتح الميم- أشم، بضم الشين. الريحان: بفتح الراء. الصيمران: بفتح الضاد المعجمة، وإسكان الياء المعجمة بنقطتين من تحت، وضم الميم، وفتح الراء غير المعجمة، وهو: الريحان الفارسي. قال: وإن شم الورد والياسمين لم يحنث؛ لأنه لا يسمى ريحاناً، بل مشموماً، وكذا لا يحنث بشم البنفسج والنرجس والزعفران؛ لما ذكرناه؛ فلو حلف على المشموم، حنث بذلك، ولا يحنث بالمسك والكافور والعنبر؛ لأنه لا يسمى: مشموماً، بل طيباً. وهل يحنث بشم البنفسج والورد بعد الجفاف؟ فيه وجهان، ولا يحنث بشم دهنهما وجهاً واحداً. قال: وإن حلف: لا يلبس شيئاً، فلبس درعاً، أو جوشناً، أو خفّاً، أو نعلاً، أو خاتماً- حنث؛ لتحقق مسمى اللبس. ولا يحنث بالنوم على شيء من الفرش، ولا بطرح الثوب على رأسه. وفي التدثير وجهان، أظهرهما: المنع. ووجه الحنث: أن التلفيف في الدثار قريب من الارتداء. تنبيه: الدرع من الحديد: مؤنثة عند الجمهور، وحكى الجوهري وغيره فيها التأنيث والتذكير. وأما درع المرأة فمذكر بالاتفاق. الجوشن: بفتح الجيم والشين. والنعل: مؤنثة. والخاتم: بفتح التاء وكسرها، والخاتام، والخيتام، أربع لغات. قال: وقيل: لا يحنث؛ لأن إطلاق اللبس ينصرف إلى الثياب عرفاً؛ فكأنه حلف: لا يلبس ثوباً؛ فعلى هذا: لا يحنث إلا بما يحنث به عند الحلف على لبس الثوب [، والذي يحنث به عند الحلف على لبس الثوب] القميص، والسراويل، والإزار، والرداء، والقباء، والعمامة، والجبة، ونحوها. ولا فرق فيه بين المخيط وغيره، ولا بين أن يكون من قطن، أو كتان، أو صوف، أو إبريسم، ولا بين أن يلبس الثوب على الهيئة المعتادة أو على خلافها؛ كما لو

ارتدى أو ائتزر بالقميص، أو تعمم بالسراويل؛ لتحقق اسم اللبس. والحكم فيما لو حلف: لا يكتسي، كالحكم فيما لو حلف: لا يلبس، قاله الجيلي. قال: وإن حلف على رداء: إنه لا يلبسه، ولم يذكر الرداء في يمينه، أي: بل قال: لا ألبس هذا الثوب، كما صوره في "المهذب"، والبندنيجي، والماوردي، وغيرهم، فقطعه قميصاً، ولبسه، أي: على أي هيئة كان- حنث؛ لأن اليمين على لبسه ثوباً؛ فحمل على العموم؛ كما لو قال: والله لا لبست ثوباً. قال الماوردي: وهذا قول الجمهور من أصحابنا، وجعله البندنيجي المذهب. قال: وقيل: لا يحنث؛ لأنه حلف على لبسه وهو على صفة؛ فلم يحنث بلبسه وهو على غيرها؛ كما لو حلف: لا يلبسه وهو رداء، وهذا ما ذهب إليه المزني والمتقدمون من الأصحاب؛ على ما حكاه الماوردي، وطردوه فيما إذا لبسه رداءً لكن على خلاف العادة. ومثل هذا الخلاف يجري فيما لو قال: لا لبست هذا الثوب، وكان قميصاً أو سراويل، فغير صفته أو لبسه على خلافالعادة. أو: لا ألبس هذا القميص، أو هذا السراويل، فغيره عن صفته ولبسه، أو لبسه على غير عادة لبسه. وادعى الرافعي: أن الخلاف فيما إذا لبسه على غير عادته أظهر وأولى؛ لتعلق اليمين بعين ذلك القميص. وقال أبو إسحاق المروزي: إن كانت يمينه على الثوب حنث بلبسه على جميع الأحوال، فإن اشتمل به [أو] ارتدى، أو تعمم، أو قطعه قميصاً أو سراويل- حنث، وإن كان يمينه على قميص لم يحنث إذا غيره فجعله سراويل، أو ارتدى به ولم يتقمص. وفرق بأن اسم "الثوب" عام ينطلق على كل ملبوس؛ [فلا] يزول عنه اسم "الثوب" وإن تغيرت أوصافه، واسم "القميص" خاص يزول إذا غير سراويل. قال الماوردي: ومن حكى عن أبي إسحاق غير هذا حرف عليه. أما إذا ذكر "الرداء" في يمينه؛ بأن قال: لا ألبس هذا الرداء، ففي حنثه- أيضاً- الخلاف.

قال الرافعي: لكن يشبه أن يكون الراجح الوجه الذاهب إلى أنه لا يحنث، وما قاله مستمد مما إذا حلف: لا يأكل هذه الحنطة، فجعلها دقيقاً. وإن قال: لا ألبسه وهو رداء، فقطعه قميصاً ولبسه، لم يحنث. قال الماوردي: وهذا مما اتفق عليه أصحابنا. ولو قال: لا ألبس هذا، من غير تعرض لصفته ولا لصفة لبسه- فهذا يحنث على أي حال لبسه، وعلى أي صفة لبسه مع تغير أحواله وأوصافه؛ اعتباراً بعقد اليمين على عينه دون صفته. قال الماوردي: وهذا مما اتفق أصحابنا عليه. وفي ابن يونس تصوير مسألة الكتاب بهذه الصورة. وما قاله الماوردي يوافق ما أورده الأصحاب فيما لو أشار إلى حنطة، وقال: والله لا أكلت هذه؛ فإنه يحنث بأكلها على أي صفة كانت. فرع: لو جعل القميص المحلوف عليه رداءً، وقلنا: إنه لا يحنث بلبسه- فلو أعاده كما كان ففي حنثه بلبسه وجهان تقدما في مسألة الدار إذا أعيدت بنقضها. قال: وإن حلف: لا يلبس حلياً، فلبس خاتماً، أي: من فضة أو ذهب، أو مخنقة [من] لؤلؤ، [أي]: ولبس معه غيره- حنث؛ لأنه يسمى حلياً؛ قال الله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [الحج: 23]، ولأنه لو لبس المنطقة والطوق والسوار حنث؛ فكذلك الخاتم. وفي "التهذيب" حكاية وجه في المنطقة. وكما يحنث بالمخنقة اللؤلؤ يحنث بمثلها من الجواهر النفيسة: كالياقوت، والزبرجد، و [العقيق] ونحو ذلك؛ على ما حكاه البندنيجي. وهل يحنث إذا لبس الخرز والسُّنُح؟ ينظر: إن كان ممن عادته التحلي به كأهل السواد، حنث، وإن كان من غيرهم ففي حنثه خلاف ذكر مثله في مسألة الرءوس. تنبيه: المخنقة، بكسر الميم: مأخوذة من الخناق، بضم الخاء وتخفيف النون، والمخنق- بفتح الخاء والنون المشددة-: موضع "المخنقة" من العتق.

اللؤلؤ: معروف، وفيه أربع لغات قرئ بهن في السبع: بهمزتين، بغير همز، بهمز أوله دون ثانيه، وعكسه. [قال جمهور أهل اللغة: اللؤلؤ: الكبار، والمرجان الصغار. وقيل عكسه]. فرع: إذا حلف: لا يلبس خاتماً، فلبسه في غير الخنصر- لمي حنث إذا كان رجلاً؛ كما إذا حلف: لا يلبس قلنسوة، فجعلها في رجله، وهذا ما نص عليه في "الجامع الكبير". وإن كان امرأة حنثت؛ لاقتضاء العرف ذلك. والذي حكاه الروياني: أنه يحنث من غير تفصيل. وقال مجلي في مسألة القلنسوة: ينبغي أن تتخرج على وجهين؛ كما [ذكرنا] فيما إذا حلف: لا يلبس قميصاً فارتدى به. قال: وإن من عليه رجل، فحلف: لا يشرب له ماء من عطش، فأكل له خبزاً، أو لبس له ثوباً، أو شرب له ماء من غير عطش- لم يحنث؛ لأنه لم يتحقق مدلول اللفظ، ويمين الحالف تنعقد على مدلول لفظه، دون ما في معناه؛ بدليل ما لو حلف: لا يتزوج، فتسري؛ فإنه لا يحنث، ولا فرق في ذلك بين ألا يقصد الحالف شيئاً، أو يقصد ألا ينتفع بشيء من ماله؛ كذا قاله المحاملي في "المجموع"، ووجهه بأن يمينه إنما تناولت الامتناع من شرب الماء، ولم تتناول غير الشرب لا حقيقة ولا مجازاً؛ فلو حنَّثناه بذلك لحنثناه بما لا يتضمنه اللفظ، لا حقيقة ولا مجازاً، ولا سبيل إلى ذلك. تنبيه: المن، والمنة، والامتنان: تعديد الصنيعة على جهة الإيذاء والتبجح الذي يكدرها. قال أهل اللغة: وذلك مشتق من "المن"، وهو: القطع والنقص، ومنه سمى الموت: منوناً؛ لأنه يقطع الأعمار، وينقص الأعداد، فسميت المنة؛ لأنها تنقص النعمة وتكدرها.

فرع: لو حلف: لا يلبس ثوباً من به عليه، فوهبه ثوباً، فباعه بثوب آخر، ولبسه- لم يحنث، ولو باعه ثوباً بمحاباة فلبسه، لم يحنث. وإن حلف: لا يلبس له ثوباً، فوهبه منه، أو اشتراه، أو لبس ما اشتراه له- أي: بطريق الوكالة- لم يحنث؛ لأنه لبس ثوباً له حالة اليمين. قال: وإن حلف: لا يضربها، فنتف شعرها، أو عضها- لم يحنث؛ لأن اسم "الضرب" لا يتناول ذلك؛ بدليل صحة نفي الضرب عنه، وإذا لم يتناوله الاسم حقيقة لم يحنث؛ لأن الأيمان تنزل على الحقائق. وعن المزني توقف في العض؛ لحصول الصدمة والإيلام، وكأنه ضرب بالسن، حكاه الرافعي في كتاب الطلاق. ولو لكمها، أو لطمها، أو رفسها؛ فوجهان، [أصحهما في "الرافعي": أنه يحنث. ولو ضربها ضرباً غير مبرح، حنث عند العراقيين. وفي "النهاية" في كتاب الطلاق في ضمن فصل أوله: "إذا قال لامرأته: أنت طالق إذا قدم فلان": أن الذي ذهب إليه معظم الأصحاب: أنا نشترط في الضرب الإيلام، وإن لم يكن ضرباً مبرحاً شديداً. وذهب طوائف من المحققين إلى أن الألم ليس بشرط، ولو ضربها ميتة لم يحنث. قال الرافعي [في كتاب الطلاق: وأثبت الروياني خلافاً فيه؛ فإنه بعد أن ذكر المسألة وحكمها قال: وغلط من قال غيره. ولو ضربها مجنونة أو نائمة، حنث. قال:] وإن حلف: لا يهب له، فتصدق عليه- حنث؛ لأن الهبة عبارة عن تمليك في حال الحياة بغير عوض، وقد تحقق منه؛ فحنث. وفي "التتمة" حكاية وجه: [أنه] لا يحنث. ووجهه بأن الهبة والصدقة تختلفان اسماً ومقصوداً وحكماً:

أما الاسم؛ فلأن من تصدق على فقير لا يقال: وهب منه. وأما المقصود؛ فلأن الصدقة المراد منها: التقرب إلى الله- تعالى- والقصد من الهبة اجتلاب المودة. وأما الحكم؛ فلأن الصدقة عليه صلى الله عليه وسلم حرام على أحد القولين؛ كما حكاه ابن الصباغ ها هنا، والهدية ليست بحرام قولاً واحداً. ولو وهب لولده رجع فيما وهبه، وإن تصدق عليه كان في رجوعه خلاف، واختيار القاضي الحسين: أنه يحنث بالتصدق على الغني دون الفقير. وهذا كله في الصدقة المتطوع بها، أما الصدقة الواجبة فلا يحنث بها، وعن القفال: أنه يحنث. وكما يحنث بالصدقة يحنث بالهدية والنحلة والعمري والرُّقْبَى؛ لما ذكرنا [من أن] الهبة اسم لجنس ما يملكه من غيره في حال الحياة بغير عوض، وذلك مشتمل على أنواع: فالهدية لنظيره، والهبة لكل أحد، والنحلة لولده، والعمرى في حال حياته، وكذا الرقبى. وفي "الرافعي" حكاية وجه عن ابن كج: أنه لا يحنث بذلك، وهو ضعيف. ولو وقف عليه، وقلنا: [إنه] لا يملك، لم يحنث، وإن قلنا: إنه يملك، [حنث، قال المتولي: على الظاهر. وفي هذا إشارة إلى خلاف فيه. ولو قدم إليه طعاماً، فأكله: فإن قلنا: إنه لا يملكه، لم يحنث، وإن قلنا إنه يملكه،] ففيه تردد. وقد حكى المتولي في الحنث وجهاً. وقال الغزالي: الوجه القطع بأنه لا يحنث؛ لأنه لم يجر لفظ "التمليك"، وبعده عن اسم الهبة. قال: وإن أعاره أو وصى له، لم يحنث. أما عدم حنثه بالإعارة؛ فلخروجها عن حد الهبة، وكذلك الوصية، ولأن التمليك فيها يحصل بعد الموت، والميت لا يحنث. وعن أبي الحسين بن القطان: أنه يحنث بالوصية. قال: وإن وهب له، فلم يقبل- لم يحنث؛ لأن العقود الفاسدة لا تدخل تحت

مطلق الأيمان؛ فكيف ما لم يتم من العقود؟! وهذا ما ذهب إليه الشيخ أبو حامد. وروى عن ابن سريج: أنه يحنث؛ لأن المحلوف عليه ما في وسعه، وهو الإيجاب، وذلك يمسى في العرف: هبة؛ بدليل أنه يقال: وهبه له فلم يقبل. قال الغزالي: ويلزم أبا العباس أن يطرده في كل عقد؛ لأنه يقال: باع فلمي قبل، ونحو ذلك، ثم قال: ولا شك أنه يطرده. قال المتولي: وهذا الخلاف يجري فيما إذا أعمره أو أرقبه. ولم يصححه، وعلى ذلك جرى الرافعي. قلت: ومقتضى ما قالا أن يجري في الهبة الفاسدة، ولم أره. [قال: وإن قبل ولم يقبض، لم يحنث، لأن المقصود من الهبة نقل الملك، ولم يتحقق، وهذا هو المذهب في "التهذيب"]. قال: وقيل: يحنث؛ لأن العقد قد وجد، وصدق اسم "الهبة" عليه، وهذا ما حكاه البندنيجي، وقال فيه قولاً واحداً، وفي "التتمة": أنه الأظهر. فرع: لو حلف: لا يتصدق، فتصدق فرضاً أو تطوعاً- حنث، ولا فرق بين أن يتصدق على غني أو فقير. ولو وقف، ففي "التتمة" إطلاق القول بأنه يحنث؛ لأن الوقف صدقة، وبناه غيره على أقوال الملك: فإن قلنا: إنه لله- تعالى- حنث، وإن قلنا: إنه للواقف، لم يحنث، وإن قلنا: إنه للموقوف عليه، ففيه وجهان، وهما جاريان فيما إذا وهب، والأصح في "التهذيب" في الهبة: عدم الحنث. قال: وإن حلف: لا يتكلم، فقرا القرآن – لم يحنث، أي: سواء كان في الصلاة أو خارجاً عنها؛ لأن الكلام في العرف ينصرف إلى كلام الآدميين. وكذا لا يحنث بالتكبير والتسبيح؛ لأن اسم الكلام عند الإطلاق ينصرف إلى كلام الآدميين في محاوراتهم. وفيه وجه: أنه يحنث؛ [لأن الجنب] غير ممنوع منها؛ فهي كسائر الكلام، وهذا

ما ادعى ابن الصباغ أنه القياس. والدعاء في معنى التسبيح. وترديد الشعر وإنشاده، أطلق البندنيجي القول بأنه لا يحنث به، وجزم الرافعي القول بأنه يحنث به. فرع: لو حلف: لا يسمع كلام زيد، فسمعه يقرأ القرآن- لم يحنث، قاله الجيلي. قال: وإن حلف: لا يكلمه، فكاتبه، أو راسله، أو أشار إليه، أي: إما برأسه، أو بعينه، أو بيده- لم يحنث في أصح القولين. أما عدم الحنث بالإشارة؛ فلقوله- تعالى-: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} إلى قوله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29]، فلو كانت الإشارة كلاماً لما كانت تفعلها وقد نذرت ألا تتكلم. وأما عدم الحنث بغيرها؛ [فلأنه يصح] نفي اسم الكلام عنه؛ فإنه إذا قيل: كلم فلان فلاناً، يقال: لا، بل كاتبه، أو راسله؛ فثبت أن الاسم لا يتناوله حقيقة، والأيمان تنزل على الحقائق، وهذا الدليل يستدل به- أيضاً- على عدم الحنث بالإشارة. ولا فرق على هذا بين إشارة الناطق والأخرس، وحيث أقيمت إشارة الأخرس مقام النطق في المعاملات، فذلك للضرورة. والقول الثاني- وهو القديم-: أنه يحنث، واستدل له بقوله- تعالى: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً} [آل عمران: 41] وبقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} [الشورى: 51]، فاستثنى الرسالة والرمز من التكليم، وذلك يدل على أنهما منه. ومن الأصحاب من قطع بالقول الأول، وحمل ما نقل عن القديم على ما إذا نوى في يمينه المكاتبة والمراسلة والإشارة. ومنهم من خصص الخلاف في الكتابة بحال الغيبة، وقال: إذا كان معه في المجلس لا يحنث إذا كتب إليه رقعة، ويظهر جريانه في الرسالة أيضاً.

فروع: أحدها: إذا قال عقيب حلفه على الكلام: تنح عني، حنث؛ على الأصح، وفيه وجه: أنه لا يحنث. قال صاحب "البيان": وهو كالوجه المحكي فيما إذا قال لزوجته: إن كلمتك فأنت طالق، فاعلمي ذلك، وقد حكيناه أيضاً. الثاني: يحرم على الْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ للحديث، وإذا كتب إليه أو أرسل فهل يخرج من مأثم الهجران؟ فيه وجهان، ووجه الخروج: أن القصد بالتكليم: إزالة ما بينهما من الوحشة، وذلك يزول بالمكاتبة والمراسلة، وهذا الخلاف فيما إذا كاتبه أو راسله فيما ليس بشر، أما إذا كاتبه في شر فإنه لا يخرج عن مأثم الهجران وجهاً واحداً؛ لأن ذلك يزيده. الثالث: إذا قيل له: كلم فلاناً اليوم، فقال: والله لا كلمته- كانت يمينه على الأبد، إلا أن ينوى اليوم، ولو كان ذلك بالطلاق والعتاق لم يقبل في الحكم، قاله ابن الصباغ وغيره. وفي "التمة": أن اليمين المطلقة محمولة على ذلك اليوم؛ على الصحيح؛ كما لو حلف: لا يدخل الدار، فدخل أول دهليزها؛ ولهذا قال الشافعي: لو قال رجل لآخر: تعالَ تغد معي؛ فقال: والله، لا أتغدى- انعقدت يمينه بالأكل معه في تلك الحالة؛ حتى لو أكل بعده أو مع غيره في يوم آخر- لم يحنث. وما قاله ابن الصباغ يناظر ما أجاب به القاضي الحسين؛ حيث سئل عن امرأة صعدت السطح بالمفتاح، فقال الزوج: إن لم تلق المفتاح من السطح فأنت طالق، فلم تلقه ونزلت- من أنه لا يقع الطلاق، ويحمل قوله: إن لم تلقه، على التأبيد، واستدل له بأن الأصحاب قالوا فيمن دخل على صديقه، فقال: تغد معي، فامتنع، فقال: إن لم تتغد معي فامرأتي طالق، فلم يفعل- لم يقع الطلاق، ولو [تغدى] بعد ذلك يوماً

من الدهر انحلت اليمين. قال الرافعي في الفروع المذكورة آخر الطلاق: ورأى صاحب "التهذيب" حمل الطلاق على الحال في المسألة الأخيرة؛ للعادة. قال: وإن قال: لا صليت، فأحرم بها؛ حنث؛ لأنه يسمى مصلياً. وقيل: لا يحنث حتى [يأتي بالركوع]؛ لأنه إذا ركع فقد أتى بمعظم الركعة؛ فيقوم مقام الجميع، وهذا ما حكي عن ابن سريج، ومن الأصحاب من قال: لا يحكم بالحنث حتى يفرغ من الصلاة؛ لأنها قد تفسد قبل التمام؛ فيخرج عن أن يكون مصلياً. وعلى هذا: إذا فرغ من الصلاة: هل يحكم بالحنث حينئذ، أو نسنده إلى أول الصلاة؟ فيه وجهان، ثم ما الأصح من هذا الخلاف؟ الذي اختاره الشيخ أبو حامد الأول؛ لأنه بمجرد الدخول في الصلاة يحصل الاسم؛ قال صلى الله عليه وسلم في حديث المواقيت المروي عن جبريل: "صلَّى بِيَ الظُّهْرَ حِيْنَ زَالَتِ الشَّمْسُ" وأراد: [أحرم بالصلاة، وإذا] تناول ذلك الاسم وجب أن يحنث به. وعلى هذا: لو أفسد الصلاة بعد الشروع حنث، وكذلك إذا أفسدها بعد الركوع على الوجه الثاني، وليس ذلك لأن اللفظ يقع على الصحيح والفاسد، ولكن لوجود مسمى الصلاة قبل الإفساد. وقد يتوهم أن كلام القاضي الحسين في "الفتاوى" يقتضي أن الوجه الثالث هو ظاهر المذهب؛ لأنه قال فيما إذا قال لزوجته: إن قرأت سورة البقرة في صلاة الصبح فأنت طالق، فقرأها، ثم فسدت الصلاة في الركعة الثانية- لم يقع الطلاق على ظاهر المذهب؛ لأن الصلاة عبادة واحدة؛ فبفساد آخرها فساد أولها، وذلك يدل على اعتبار التحلل، وليس كذلك؛ فإن قوله: صلاة الصبح، ينزل منزلة قوله: لا اصلي صلاة، وهو لو قال ذلك لم يحنث إلا بالتحلل؛ فكذلك ها هنا.

فروع: إذا صلى على جنازة لم يحنث على الوجه الثاني. ولو لم يجد ماء ولا تراباً، وصلى، حنث، إلا أن يريد الصلاة المجزئة. ولو قال: لا أصلي صلاة، لم يحنث حتى يفرغ، هكذا حكاه الرافعي. وفي "الجيلي": أنه لا يحنث- على أصح الوجهين- حتى يصلي صلاة هي ركعتان، وعزى ذلك إلى حكاية الروياني في "الحلية". وهذا الوجه مذكور في "تعليق" أبي الطيب مع حكاية وجه آخر: أنه يحنث في هذه الصورة بركعة واحدة. ولو حلف: لا يصوم، أطلقالعراقيون القول بأنه يحنث بالشروع فيه، وحكى المراوزة فيه الوجهين: الأول والأخير. قال: وإن حلف: لا مال له، وله دين- أي: مؤجل- فقد قيل: يحنث؛ لأنه ينفذ تصرفه فيه بالاعتياض والحوالة والإبراء، [ويعد غنيّاً] به عرفاً، وهذا ما حكاه الغزالي، وهو الأصح، وبه قال أبو إسحاق. قال: وقيل: لا يحنث؛ لأن المالية صفة الموجود، ولا موجود ها هنا، وهذا ما ينسب إلى [ابن] أبي هريرة. وقال في "الحاوي" في كتاب الزكاة: إنه صرح بأنه غير مملوك له. وادعى الإمام أن هذا هوس لا يعتد به، وكيف لا يكون مملوكاً وقد ثبت عوضاً في البيع مع استحالة تعريته عن العوض المملوك؟! وقال في كتاب الفلس: الدين وإن سميناه ملكاً فليس شيئاً محصلاً، لكنه استحقاق التوصل إلى محصل الملك في عينٍ. أما لو كان حالّاً، حنث. وفي "التتمة" حكاية وجه مخرج من قوله القديم: لا زكاة في الدين: أنه لا يحنث. واعلم: أن إطلاق الشيخ الخلاف فيه من غير أن يقيده بأن يكون الدين على موسر- يدل على أنه لا فرق في جريان الخلاف بين الموسر والمعسر.

وقد أجراه المتولي، لكنه حكى أن الصحيح من المذهب: أنه لا يحنث، وكذلك فيما إذا كان جاحداً، ولا يخفى أن ذلك فيما إذا لم يكن له بينة، وجزم الغزالي في المعسر بالحنث أيضاً، والوجهان المذكوران في الكتاب جاريان- كما قال الماوردي في كتاب الزكاة- فيما إذا حلف من عليه دين: أن لا شيء عليه لأحد، هل يحنث؟ فأبو إسحاق يقول: يحنث، وابن أبي هريرة يقول: لا يحنث. فروع: هل يحنث إذا كان له عبد آبق، أو ضال، أو مسروق قد انقطع خبره، أو مكاتب، أو وقف عليه، وقلنا: إنه ملكه، أو منفعة ملكها بإجارة أو وصية؟ فيه خلاف، وبالحنث أجاب الغزالي في الآبق، وبعدمه في ملك المنفعة، وادعى الإمام إجماع الأصحاب عليه. والأصح- في المكاتب-: [عدم الحنث، والوقف ملحق به، ومنهم من قطع في المكاتب] بعدم الحنث. ولو كان قد جنى عليه جناية عمد، ولم يعف ولم يقتص، قال في "البيان": يحتمل أن ينبني على أن موجب العمد ماذا؟ إن قلنا: القود، لم يحنث، وإن قلنا: القود أو المال، حنث. قلت: وعلى هذا القول لا ينبغي أن يتخرج فيه خلاف مرتب على الخلاف في الدين، وأولى بألا يحنث؛ لأن الدية في جناية العمد تجب حالة، والدين الحال يحنث به وجهاً واحداً. نعم، إن صححنا ما حكاه المتولي اتجه ذلك، ويحنث بالأجرة قبل استيفاء المنفعة. وعن أبي الحسن: أنه لا يحنث. وغلطه القاضي ابن كج. ولو حلف: لا ملك له، حنث بالآبق والمغصوب، وكذا بالدين على الصحيح في "التتمة". ولو كان له زوجة فهل يحنث؟ قال في "التمة": لنا أصل، وهو: أن النكاح فيه

ملك أو هو عقد على الحل؟ إن أثبتنا فيه ملكاً حنث. ولا خلاف أنه يحنث بكل مال زكاتيّاً كان وغير زكاتي؛ لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]. ومعلوم أن هذا يتناول النبات والمواشي والعقار والنقود. قال: وإن حلف: ما له رقيق، أو: ما له عبد، وله مكاتب- لم يحنث في أظهر القولين؛ لأنه كالخارج عن ملكه؛ بدليل أنه يملك أكسابه ومنافعه، دون السيد، بخلاف أم الولد، وسوى الجيلي بينها وبين المكاتب. وحكى في "التهذيب" الخلاف فيها وجهين، وبناهما على الوجهين في أن من سرقها هل يقطع. قال: ويحنث في الآخر؛ لقوله- عليه السلام-: "المُكَاتَبُ قِنٌّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ". قال الجيلي ويمكن بناء القولين على جواز بيع المكاتب. وقال أبو علي الطبري: لا يحنث؛ قولاً واحداً، وما ذكر عن الشافعي فذلك قول ألزمه نفسه وانفصل عنه؛ فلا يجعل قولاً له. وأما الحديث فمن أصحابنا من قال بموجبه، وجعله مملوكاً لا مالك له كستارة الكعبة. ومنهم من يقول: هو مملوك لنفسه ولا يعتق؛ لأنه لم يكمل ملكه؛ كما إذا اشترى عبداً فإنه يملكه، ولا ينفذ عتقه فيه. فإن قيل: أليس لو أعتقه نفذ عتقه فيه، وذلك يدل على أنه ملك للسيد؟ فالجواب: أن عتق السيد ينزل منزلة الإبراء عن نجوم الكتابة؛ ولذلك تبعه أولاده وأكسابه؛ فلا دلالة على الملك، وهذا الخلاف الأخير وحكاية الخلاف في أنه مملوك لمن، محكي في "الشامل". واعلم: أن ما ذكرناه من الخلاف يجري فيما إذا قال: رقيقي أحرار، وله مكاتب، وغير مكاتب، والمذكور منه في "التهذيب" في كتاب النفقات: أنه لا يعتق.

أما إذا لم يكن له إلا مكاتب عتق وجهاً واحداً، حكاه في "التهذيب" أيضاً في كتاب الطلاق. فروع: أحدها: لو كانت له أمة، وحلف: لا عبد له – لم يحنث على المذهب. قال مجلي: وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يحنث؛ لأنهن يدخلن تحت الاسم كما يدخلن تحت اسم "الرقيق". الثاني: حكى البندنيجي، عند الكلام فيما إذا قال: من يُسَرِّيني بكذا، من كتاب الأيمان-أنه لو قال: عبدي حر، وله أمة أو خنثى مشكل – لم يحنث؛ فلو زال الإشكال وحكم بأنه ذكر فعلى وجهين. قلت: ويتجه أن يجيء مثلهما في مسألة الكتاب. الثالث: حكى البندنيجي في الموضع: لو قال: رقيقي أحرار، وله خنثى قد زال الإشكال فيه، وحكم بأنه أنثى أو ذكر – عتق، وإن كان على الإشكال فقد قال المزني: يحنث. ونقل الربيع: أنه لا يحنث، فمن الأصحاب من غلط الربيع، ومنهم من غلط المزني. قلت: ويتجه أن يجيء مثل ذلك في مسألة الكتاب أيضاً. قال: وإن حلف: لا تسربت، فقد قيل: لا يحنث حتى يحصِّن الجارية، ويطأها وينزل. وقيل: يحنث بالتحصين والوطء، أي: من غير إنزال. وقيل: يحنث بالوطء وحده. السرية- بضم السين – "فُعْلِيَّة" من "السر"، وهو الجماع، سمي: سرًّا؛ لأنه يفعل سرًّا، وقالوا: سرية –بالضم – ولم يقولوها بالكسر؛ ليفرقوا بين الزوجة والأمة؛ كما قالوا للشيخ الذي أتت عليه دهور: دهري –بالضم – وللملحد: دهري- بالفتح وكلاهما نسبة إلى "الدهر". وقال أبو الهيثم: هي مشتقة من"السر"، وهو السرور؛ لأن صاحبها يسر بها. [قال

الزهري: وهذا القول أكثر، وبه] قال الأزهري. وقال الجوهري: هي مشتقة من "السِّر" وهو: الجماع، أو من "السر" وهو الإخفاء؛ لأنه يخفيها من زوجته، ويسرها – أيضاً- من ابتذال غيرها من الإماء. وقيل: هي مشتقة من" السَّراة" وهو: الظهر. وقيل من السري، وهو الرفيع النفيس. ويقال: تسررت جارية، وتسريت؛ كما قالوا: تظننت وتظنيت من "الظن". والتحصين: أن يمنعها من الخروج والتبذل والانكشاف الذي تفعله غير السرية. إذا فهم ذلك فالخلاف المذكور مأخذه الاختلاف في أن ذلك مشتق من ماذا؟ فالقول الأول، وهو الذي نص عليه الشافعي في "الإملاء": مأخذه قول من قال: إن ذلك مشتق من "السرور"، وهو لا يحصل إلا بما ذكرناه، واستدل له ابن الصباغ بأنها تسمى: سرية بما ذكرناه بالإجماع؛ فمن ادعى ثبوت الاسم لها قبل ذلك احتاج إلى الدليل. والوجه الثاني مأخذه قول من قال: إنه مشتق من "السَّريِّ"؛ فكأنه حلف: ألا يجعلها أسرى الجواري، وهذا لا يحصل إلا بالتحصين والوطء. والوجه الثالث مأخذه قول من قال: إنه مشتق من "السر" أو من "السراة"؛ فكأنه حلف لا يتخذها ظهراً، والجارية لا تتخذ ظهراً إلا بالوطء. ومن الأصحاب من حكى وجهاً آخر في أنه يحنث بالوطء والإنزال؛ لأن التسري في العرف اتخذا الجارية؛ لابتغاء الولد، وذلك موقوف على الوطء والإنزال. ويشبه أن يكون مأخذه قول القائل بأنه مشتق من "السرور"؛ لأن السرور يحصل بذلك، وقد قيل: إن هذا الوجه هو المنصوص. قال: وإن قال: لا رأيت منكراً إلا رفعته إلى القاضي فلان، ولم ينو أنه يرفع إليه وهو قاض، فعزل – أي بعد التمكن من الرفع إليه، ثم رفع إليه، أي: ومات ولم يولَّ، فقد قيل: يحنث؛ لأنه علق اليمين بعين موصوفة بصفة وتمكن من الإتيان بالمحلوف عليه، فلم يفعله حتى زالت الصفة؛ فيحنث؛ كما لو حلف: ليأكلن هذه

الحنطة، فأكلها بعد طحنها. قال: وقيل: لايحنث؛ لأنه علق اليمين على العين، وذكر "القاضي" [تعرضاً] لاشرطاً؛ فأشبه ما لو قال: لا دخلت دار زيد هذه، فدخلها بعدما باعها؛ فإن يمينه تنحل؛ فكذلك هاهنا. وشبه ابن الصباغ والمتولي هذا الخلاف بالخلاف فيما إذا حلف: لا يكلم هذا الصبي، فصار شاباً. لكن الراجح هاهنا – على ما اختاره القاضي الروياني والعمراني – القول الثاني، والراجح في مسألة الصبى عدم الحنث؛ على ما دل عليه كلام الأصحاب، ومقتضاه عدم حصول البر في مسألتنا. أما إذا لم يتمكن في حال ولايته من الرفع إليه؛ بأن حبس أو مرض، ولم يقدر على الإرسال إليه، أو جاء إلى باب القاضي، فحجب عنه – فإن قلنا: عند التمكن [لا يحنث، فهاهنا أولى، وإن قلنا بحنثه عند التمكن] فالعزل قائم مقام الموت في هذا الغرض. ولو مات القاضي، والحالة هذه، كان في الحنث القولان في حنث المكره. ولو لم يرفع إليه، لكنه بادر عند الرؤية إلى الرفع إليه، فمات القاضي قبل الوصول إليه – ففي الحنث طريقان: أحدهما عن الشيخ أبي حامد: طرد القولين، وطردهما المحاملي – أيضاً – فيما إذا مات الحالف [قبل الوصول إليه. والمذكور في "التتمة" و"التهذيب": الجزم] بعد الحنث. ولو نوى أنه يرفع إليه وهو قاض؛ فالحكم كما ذكرناه تفريعاً على الوجه الأول. قال: وإن قال: لا رأيت منكراً إلا رفعته إلى القاضي، حمل على قاضي ذلك البلد من كان؛ لان التعريف بالألف واللام يرجع إليه.

ومن الأصحاب من جعل الألف واللام للجنس، ولم يخص يمينه بقاضي البلد. وعلى الأول هل يتعين قاضي البلد في الحال فإنه المعهود، أو من ينصب بعده في البلد يقوم مقامه؟ فيه وجهان، ويقال: قولان، أشبههما – وينسب إلى أبي حامد، وهو الذي أورده البغوي، ويقتضيه إيراد الشيخ -: الثاني، حتى لو عزل من كان قاضياً وولى غيره بر بالرفع إليه، ولا يبر بالرفع إلى الأول. وعلى الأول: هل الاعتبار بحال اليمين أو بحال رؤية المنكر؟ فيه وجهان محكيان في "التتمة". ولو قال: لا رأيت منكراً إلا رفعته إلى قاضٍ، بر برفعه إلى أي قاض كان. فروع: لو كان في البلد قاضيان، وجوزناه، فرفع إلى أحدهما – بر. ولو رأى المنكر بحضرة القاضي المرفوع إليه، قال في "الوسيط": لا معنى للرفع إليه. ولو رآه بعد اطلاع القاضي عليه ففيه وجهان: أحدهما: أنه كان البر بغير اختياره كما لو رآه معه؛ فيكون على القولين. والثاني: أنه يبر بالإخبار وصورة الرفع، وهذا أظهرن وبه أجاب صاحب "التهذيب"، وهو الذي أورده المتولي فيما إذا رأى المنكر والقاضي يشاهده. تنبيه: لا يشترط في الرفع إلى القاضي المبادرة عند الرؤية، بل له مهلة مدة عمره وعمر القاضي. ولا يشترط فيه أن يذهب إليه مع صاحب المنكر، بل يكفي أن يحضر عند القاضي وحده ويخبره، أو يكتب إليه بذلك، أو يرسل رسولاً فيخبره. قال: وإن حلف: لا يكلم فلاناً حيناً أو دهراً أو حقباً أو زماناً، بر بأدنى زمان؛ لأن "الحين" مبهم ينطلق على القليل والكثير، عند الشافعي، وأقل ما قاله غيره: أنه يوم، على ما حكاه صاحب "التهذيب". واستدل الشافعي بقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} إلى آخرها [الروم: 17، 18] وأراد: أقل من يوم، وقال

تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] يعني: يوم القيامة، وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1] يعني: تسعة أشهر من مدة الحمل. وقيل: هي أربعون سنة، إشارة إلى آدم – عليه السلام – أنه صور من حمأ مسنون وطين لازب، ثم نفخ فيه الروح بعد أربعين سنة. وإذا اختلف المراد في هذه المواضع نزل على القدر المشترك وهو مطلق الزمان. وإنما بر فيما عدا الحين مما ذكرناه بأدنى زمان. وكذلك إذا قال: أحقاباً؛ لأنها أسماء مبهمة تطلق على قليل الزمان وكثيره، ولم يرد فيها نص فيتبع، والقياس لا مجال له فيها؛ فبر بما ينطلق عليه الاسم. ولو حلف: لا يكلمه مدة قريبة أو بعيدة بر بأدنى زمان. ولو حلف: ليقضين حقه إلى أيام، قال جماعة من جملتهم المحاملي: إن ذلك بمنزلة ما لو حلف: ليقضين حقه إلى حين؛ فيبسط على مدة العمر. وفي "المجرد" للقاضي أبي الطيب: أن في مسألة الأيام يحمل على ثلاثة أيام؛ لأنه لفظ جمع، وعلى هذا جرى الصيدلاني وصاحب "التهذيب". تنبيه: الحقب – بضم الحاء، وضم القاف وسكونها -: هو الدهر، وجمعه: أحقاب؛ كذا قاله أهل اللغة.

قال: وإن حلف: لا يستخدم فلاناً، فخدمه وهو ساكت – لم يحنث؛ لأن الاستخدام: طلب الخدمة، ولم يوجد. قال: وإن حلف لا يتزوج، أو لا يطلق، فوكل فيه غيره حتى فعله- لم يحنث؛ لأنه حلف على نفسه، ولم يتحقق. ولا فرق في ذلك بين أن يكون ممن جرت عادته بالتوكيل في ذلك أو لا. ويلتحق بهاتين الصورتين ما لو حلف: لا يعتق؛ فوكل غيره فيه، ففعله. وحكى المتولي في مسألة التزويج وجهين في الحنث، والمذكور منهما في "التهذيب" الحنث. وفي "الحاوي": أنه إن كان ممن جرت عادته بالتوكيل كالسلطان، فإذا حلف: ألا ينكح أو لا يطلق، أو لا يعتق، فوكل به – فهل يعتبر حكم عادته؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يعتبر؛ لأنه إذا باشر ذلك لم تستنكره النفوس ولا تستقبحه له. والثاني: أنه يعتبر؛ لما سنذكره في البيع. فعلى هذا: لا يحنث قولاً واحداً، وعلى الأول: في حنثه ما سنذكره من الخلاف في البيع. فرع: لو حلف: لا يتزوج، فتوكل من غيره في التزويج – قال الرافعي: قضية الوجه الصائر [إلى حنثه فيما إذا حلف لا يتزوج، فوكل من قبل له: ألا يحنث، وقضية الوجه الصائر إلى] عدم الحنث: أن يحنث، والأول هو الذي أجاب به الإمام، وحكى قطع الأصحاب به في الطرق، ثم قال: وذكر الصيدلاني ما يخالف هذا صريحاً، وهو أنه قال: لو قال: لا أكلم امرأة تزوجها زيد، فقبل له زيد نكاح امرأة، فكلمها الحالف – حنث. ثم خطأه فيه. قال: وإن حلف: لا يبيع، أو: لا يصرف، فوكل فيه غيره حتى فعل – لم يحنث في أظهر القولين، وهو المنصوص عليه في "المختصر"،وعليه الأكثر؛ لما قلناه في التزويج. قال: وفيه قول آخر: أنه إن كان ممن لا يتولى ذلك بنفسه، أي: كالسلطان ومن

قاربه في رتبته، حنث؛ حملاً لليمين على العرف؛ كما حملت على العرف في الحلف على أكل الرءوس. وهذا ما رواه الربيع، وهو مطرد – على ما حكاه المتولي – فيما إذا حلف: لا يزوج ابنته، وهو من ذوي المروءات. ومن قال بالأول أجاب عن مسألة الرءوس بأن العرف فيها عام؛ فكان حقيقة عرفية نزلت اليمين عليها، والعرف في مسألتنا خاص بالحالف، ومثل ذلك لا تنصرف اليمين إليه؛ ألا ترى أن الملك لو حلف؛ لا يأكل الخبز، لا يلبس الثوب، فأكل خبز الذرة، ولبس عباءة –حنث، وإن لم يكن ذلك عادته؟! فروع: قال في "التهذيب": لو حلف: ألا يبيع ولا يشتري، فاشترى لغيره شيئاً بالوكالة- حنث. ووافقه المتولي فيما إذا حلف [لا يبيع] شيئاً، فباع للغير بالوكالة أو الولاية أنه يحنث. وقال الغزالي: إن أضاف العقد إلى موكله، لم يحنث، وإن لم يضفه ونوى – حنث؛ على أظهر الوجهين. ولو حلف: لا يحلق رأسه، فأمر غيره فحلقه – فقد قيل: في حنثه القولان، وقيل: يحنث قولاً واحداً، وبه أجاب الماوردي، وطرده في كل ما جرت العادة فيه بالأمر، دون المباشرة من جميع الناس: كقوله: والله لا احتجمت، أو: افتصدت، أو: لا بنيت داري. وفي "الرافعي": إلحاق الحلف على البناء بالحلف على الضرب، وهو الأشبه؛ لأن ذلك [لا] يختلف باختلاف الناس. ولو حلف: لا يحلق عانته، فأمر من يحلقها – لم يحنث؛ لأنه لم تجر العادة بأن يفعله الغير. ولو حلف: لا يبيع، فباع بيعاً فاسداً، لم يحنث، وكذا لو حلف: لا يبيع بيعاً فاسداً، لم يحنث، حكاه الفوراني في كتاب العتق، وحكى خلاف المزني فيه، وعزي الرافعي عدم الحنث إلى الصيدلاني والروياني.

وفي "النهاية" هاهنا: أنه لا وجه عندنا إلا القطع بأنه يحنث كصورة البيع. وحكى فيما إذا حلف: لا يبيع الخمر، وجهاً: أنه يحنث، وكذلك فيما إذا حلف: لا يبيع مال فلان بغير إذنه، أو: لا يبيع مال زوجته، فباع بغير الإذن، والمذهب: أنه لا يحنث فيهما. فائدة: قال في "التتمة": إذا حلف: لا يشتري، فأسلم في شيء أو قبل التولية أو التشريك – حنث، بخلاف ما لو صالح من الدين على عين؛ لأن لفظ "الصلح" غير موضوع للتمليك، وإنما هو موضوع للإسقاط والرضا بترك الحق، والتولية والتشريك موضوعان لنقل الملك؛ فأشبها البيع، والذي اختاره –في الصلح – حكاه الإمام عن الصيدلاني واختار خلافه، وقال: لو أخذ طعاماً عن أجرة دار فلست أراه مشترياً، وحكى إن الإقالة وإن قلنا: إنها بيع، لا تندرج تحت اسم "البيع"؛ لأن ذلك من طريق الحكم، وكذلك في القسمة إذا قلنا: إنها بيع. قال: وإن حلف: ليضربن عبده مائة سوط، فشد مائة سوط، وضربه بها ضربة واحدة، وتحقق أن الجميع أصابه-بر؛ لأن الله تعالى – قال لأيوب – على نبينا وعليه السلام – وقد حلف: ليضربن امرأته مائة خشبة: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44]، ولأن الضرب بالمائة قد حصل؛ فوجب أن يبر في يمينه؛ كما لو فرقه. ثم المراد بتحقق إصابة الجميع: أن يتحقق وصول ألم الجميع إليه، وإن كان البعض حائلاً بين بدنه وبين البعض الآخر؛ كما لو حال بين بدنه وبين السياط الثوب، ويدل عليه قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} [ص: 44] والغالب أن قضبان الضغث لا تنبسط، وذلك يدل دلالة ظاهرة على أن المماسة بالجميع ليست بشرط. وفيه وجه: أنه لابد من ملاقاة الجميع بدنه أو ملبوسه، ولا يكفي التحامل ووصول الألم. فرع: لو ضربه بعثكال فيه مائة شمراخ، ظاهر كلام البندنيجي والمحاملي وابن الصباغ والبغوي: أنه يبر.

وفي "الوسيط" وغيره: أن ذلك لا يكفي على الصحيح؛ لأنها من جنس الأخشاب، لا من جس السياط. قال: وإن لم يتحقق – بر؛ لقوله – تعالى-: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] فأثبت الضرب ونفي الحنث من غير اشتراط [أمر آخر]، ولأن عدم الإصابة وعدم حصول البر أصلان متقابلان، لا مزية لأحدهما على الآخر؛ فترجح حصول البر بأن الظاهر الإصابة. وحكى المراوزة قولاً مخرجاً من نصه فيما إذا حلف: لا يدخل الدار إلا أن يشاء زيد، فمات زيد، ولم يدر هل شاء أم لا، ودخل؛ فإنه يحنث، وهذا ما صار إليه المزني على ما حكاه في "المهذب" وغيره، وقال الجيلي: إن الروياني اختاره. واعلم أن عدم التحقق يصدق مع وجود الظن بالإصابة ومع الشك فيها، وقد حكى ابن يونس: أن كلام الشيخ شامل لهما، وجعل محل خلاف المزني حالة الشك، وحكى البندنيجي وابن الصباغ النص بعدم الحنث فيما إذا غلب على ظنه حصول الإصابة. وألحق البندنيجي حالة الشك بما إذا تحقق عدم الإصابة، والحكم فيها: أنه لا يبر. وصور في "المهذب" و"التهذيب" والرافعي والغزالي المسألة بحالة الشك، وسكتوا عن حالة الظن، ولعل مرادهم: الاصطلاح المتقدم من أن الشك هو التردد، لا على السوية. واعلم أن النواوي تكلم في هذه المسألة، وقال: إنها مما اضطربت فيها النسخ، والصواب فيها: أن قول الشيخ: "وإن لم يتحقق لم يبر"، وهو الذي ضبطناه عن نسخة المصنف، وحققناه على المتقنين، وكونه لا يبر هو مذهب المزني، ونص الشافعي: أنه يبر، ولا يضر كون المصنف اختار القول المخرج، وترك المنصوص؛ فقد يفعل الأصحاب مثل هذا. وأما قوله: والورع أن يكفر، فمعناه: الأولى ألا يضربه ليبر، بل يكفر عن يمينه. هذا آخر كلامه.

قلت: إن صح ما ذكره عن نسخة المصنف فالوجه أن يحمل قوله: "وإن لم يتحقق"، على حالة الشك؛ فإنه لا يبر فيها عند العراقيين كما حكيناه عنهم، وهو أهون من مخالفة المذهب. وأيضاً: فإن محل خلاف المزني – على ما حكاه ابن يونس، والشيخ في "المهذب"، والرافعي، والغزالي – حالة الشك، وإن كان ابن الصباغ حكاه في حالة غلبة الظن بالإصابة، والله أعلم. قال: والورع أن يكفر؛ لاحتمال عدم الإصابة. قال الجيلي: وهذا لم يتعرض له الشيخ في كتاب "المهذب"، ولا أحد سوى صاحب "الحلية"، ولعل وجهه أن يقال: إن إعادة الضرب زيادة في التعذيب. وفي "التهذيب" حكاية عن النص: أن الورع أن يحنث نفسه. قال: وإن حلف: ليضربنه مائة ضربة، فضربه بالمائة المشدودة دفعة واحدة، أي: وتحقق أن الجميع أصابه – فقد قيل: يبر؛ لأنه حصل بكل سوط ضربة؛ بدليل أنه يجزئ في حد الزنى، وإذا كان كذلك فقد تحقق البر. قال: وقيل: لا يبر؛ لأن الكل يسمى ضربة واحدة؛ بدليل ما لو رمى في الجمار سبع حصيات دفعة واحدة؛ فإنه لا يحتسب له سبع حصيات، وصار هذا كما لو قال: مائة مرة؛ فإنه لا يبر ما لم يضربه مائة ضربة، وهذا هو الأظهر، وهو الذي أورده الصيدلاني، والفرق عند قائله بين هذه وبين المسألة الأولى: أنه ثم جعل العدد للأسواط وهي متعددة، وهاهنا جعل العدد للضربات؛ فلابد من تعددها. وعنده – أيضاً -: أنه لابد من تواليها حتى تقع الضربة بعد الضربة حتى تتنجز الضربات المذكورة، قاله الإمام وغيره.

قال: وإن حلف: لا يأكل هذه التمرة، فاختلطت بتمر كثير، فأكله إلا تمرة – ولم يعرف أنها المحلوف عليها – لم يحنث؛ لاحتمال أنها غير المحلوف عليها والأصل فراغ ذمته من الكفارة. قال: والورع أن يكفر؛ لاحتمال أنها المحلوف عليها. وهذا الحكم ثابت فيما لو ضاع من الجميع تمرة، ولم يعرف أنها المحلوف عليها. قال: وإن حلف: لا أكلت رغيفين، فأكلهما إلا لقمة – لم يحنث؛ لأن اليمين تعلقت بالجميع؛ فلم يحنث بالبعض. وهكذا الحكم فيما لو حلف: لا يأكل خبز الكوفة، فأكل بعضه، لم يحنث؛ على ما حكاه القاضي أبو الطيب في "المجرد". واعلم أن تقييد الشيخ الترك بلقمة يحترز به عن الفتات الذي لا يمكن جمعه؛ فإنه يحنث به. وقد أطلق القاضي الحسين القول بأنه إذا أكل الرغيف إلا فتاتاً: فإنه لا يحنث، وحمله الإمام على ما إذا تفتت قطعة تُحَس ويحصل لها موضع. قال: وربما ضبط ذلك بأن تسمى قطعة خبز، فأما ما يَدِقُّ مدركه فلا نظر له في بر ولا حنث. وهذا مقوع به عندي في حكم العرف، وقد حكى ذلك الرافعي في فروع الطلاق. فرع: لو قال: لا آكل اليوم إلا رغيفاً، ثم فاكهة-حنث. وكذا لو قال: لا أكلت أكثر من رغيف، فأكل خبزاً بأدم – حنث، حكاه الرافعي في الفروع أيضاً. قال: وإن حلف: [لا أكلت] هذه الرمانة، فأكلها إلا حبة- لم يحنث؛ لما ذكرناه.

قال الإمام: وقد يقول القائل في العرف: أكلت رمانة، وإن فاتته حبة، لكن من قال: إنه لم يأكل رمانة، لا يعد حائداً عن ظاهر الكلام، فإذن العرف متردد والوضع يقتضي عدم الحنث؛ فلا وجه للحكم بالحنث. قال: وإن حلف: لا يشرب ماء الكوز، فشربه إلا جرعة- لم يحنث؛ لما ذكرناه. والحكم في الحلف على شرب ماء الصهريج الكبير وما في معناه مما يمكن شربه مع طول الزمان، كالحكم في الحلف على شرب ماء الكوز. فإن قيل: لو حلف: لا يأكل طعاماً اشتراه زيد، فأكل بعضه- حنث] على أحد الوجهين؛ فهلا جرى مثله هاهنا؟ قلنا: الفرق بينهما ما حكاه الماوردي: أن الماء في الكوز أو الحب مقدار ينطلق على جميعه، ولا ينطلق على بعضه [؛ فلذلك لم يحنث بشرب بعضه]، وشراء زيد الطعام صفة تنطلق على بعضه كما تنطلق على جميعه؛ فلذلك حنث بأكل بعضه. ثم تصوير الشيخ المسألة بترك الجرعة يحترز به عن البلل الباقي الذي لا يمكن شربه؛ فإنه يحنث وإن بقي. تنبيه: الجرعة: بكسر الجيم وفتحها؛ قاله ابن السكيت. ويقال: جرعت الماء، بكسر الراء على المشهور. وحكى الجوهري أيضاً فتحها. فرع حكاه الماوردي: لو شك: هل ذهب من الكوز قطرة ماء بعد حلفه أم لا، وشرب الموجود – فهل يحكم بحنثه؟ فيه وجهان.

قال: وإن حلف: لا يشرب ماء النهر، لم يحنث، أي: وإن شرب منه، وهو قول أكثر الأصحاب، ومنهم أبو إسحاق؛ لأن يمينه توجهت إلى شرب جميعه؛ لأنه عقدها على ماء النهر، ولم يطلق؛ فصار النهر مقداراً له كالإداوة. قال القاضي أبو الطيب: وعلى هذا ينبغي أن يقال: لا تنعقد يمينه؛ كما لو حلف: لا يصعد السماء. وقد حكى ابن يونس هذه المقالة عن القاضي الحسين، وفي هذا القياس نظر؛ لأنا قد حكينا أنها تنعقد على الأصح. قال: وقيل: يحنث بشرب بعضه، وهو ما ذهب إليه ابن سريج وابن أبي هريرة؛ لأنه لما استحال شرب جميعه صارت اليمين معقودة على ما لا يستحيل؛ لأن تغير اليمين بعد العقد لا نراه؛ ألا تراه لو قال: والله لا شربت الماء، حنث بشرب ما قل منه، وإن كان دخول الألف واللام يقتضي استيعاب جميعه؛ لأنه لما كان شرب جميعه؛ لأنه لما كان شرب جميعه من المستحيل حمل على شرب ما لا يستحيل، كذلك ماء النهر. وهذا أصل مطرد عبر عنه الإمام في كتاب الطلاق عند الكلام في الحيض بأن اللفظ إذا تردد على وجه يحتمل الاستحالة ويحتمل إمكاناً، فمن الأصحاب من لا يبعد الحمل على الاستحالة، ومنهم من يوجب الحمل على الإمكان، فمن الأصحاب من لا يبعد الحمل على الاستحالة، ومنهم من يوجب الحمل على الإمكان؛ حتى لا يلغو اللفظ؛ فإن التعرض للاستحالات يكاد أن يكون كالهزل. ومن هذا الأصل ما إذا قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالق. وأجاب من خالفهما عن ذلك بأن الألف واللام تستعمل لاستيعاب الجنس تارة، وللمعهود أخرى، وهو حقيقة فيهما، فإذا استحال استيعاب الجنس حمل على المعهود، وهو حقيقة فيه، [وفارق] "ماء النهر": [لأن] الاسم حقيقة في جميعه ومجاز في بعضه، ولا يصار إلى المجاز في الأيمان عند استحالة الحقيقة؛ ألا تراه لو حلف: لأصعدن السماء، وهو مستحيل – لم يحمل على صعود السقف، وقد يسمى: سماء؛ لأنه غير مستحيل، ووجب حمل اليمين في الصعود على الحقيقة دون المجاز؟!

كذلك في شرب ماء النهر. فروع: لو قال: لأشربن ماء هذا النهر، فشرب منه – بر عند ابن سريج وابن أبي هريرة، وعلى الأظهر: لا يبر، وهو حانث؛ لعجزه عن شرب الجميع، وعلى هذا: فيلزمه الكفارة على الأصح، لكن في الحال أو قبل الموت؟ فيه وجهان، أشبههما، وبه أجاب الغزالي والروياني: الأول. لو حلف: لا يكلم الناس، حكى ابن الصباغ وغيره: أنه يحنث بكلام الواحد، [ولو حلف: لا يكلم بني آدم، فقياس ما حكاه ابن الصباغ: أنه يحنث بكلام الاوحد] منهم، وقد صرح به ابن يونس فيما إذا حلف: لا يكلم بني فلان. وحكى الرافعي في فروع الطلاق: أن القياس أنه لا يحنث بكلام الواحد والاثنين إلا إذا أعطيناهما حكم الجمع. ولو قال لرجلين: والله لا أكلم أحدكما، هل يحنث بكلام أحدهما؟ فيه وجهان في "الرافعي" في الإيلاء. ولو حلف: لا يأكل هذا الرغيف وهذا الرغيف – لم يحنث إلا بأكلهما؛ كما لو قال: لا كلمت زيداً وعمراً لا يحنث إلا بكلامهما. وفي "التتمة" فيما إذا قال: لا ألبس هذا الثوب وهذا الثوب – أنهما يمينان؛ لوجود حرف العطف؛ فلكل واحدة حكمها، ومقتضى ذلك أن يحنث إذا أكل احد الرغيفين. وأبدى الرافعي في مسألة الثوبين توقاً، وقال: لو أوب العطف كونهما يمينين لأوجب في قوله: لا أكلم زيداً وعمراً، ولا آكل اللحم والعنب – كونهما يمينين. قال: وإن حلف: لا يأكل ما اشتراه زيد، فأكل مما اشتراه زيد وعمرو، أي على الإشاعة، لم يحنث؛ لأنه ما من جزء يشار إليه فيقال: إنه اشتراه زيد دون عمرو، إلا ويقال في مقابله: لا، بل اشتراه عمرو؛ فلم يوجد في شيء منه المحلوف عليه، كذا وجهه المحاملي في "المجموع" ووجهه الماوردي بأن كل جزء من الطعام لم يختص الحالف بشرائه وإن قل، فوجب ألا يقع به الحنث؛ كما لو حلف: لا دخل دار

زيد، فدخل داراً بين زيد وعمرو- لم يحنث، بوفاق أبي حنيفة. وفي "الإبانة" حكاية وجهين آخرين: أحدهما: أنه يحنث. قال الإمام: ولست أنكر دخوله تحت الإمكان في مسائل البر والحنث في الأيمان، ولكنه ليس مذهباً للشافعي. وفي "الرافعي": أن القاضي أبا الطيب اختار هذا الوجه، ويقاربه ما حكاه في فروع الطلاق فيما إذا حلف: لا سرق ذهباً، فسرق ذهباً مغشوشاً – فإنه يحنث على المذهب. والثاني: إن أكل أكثر من النصف حنث، وإلا فلا. قال الإمام: وهو سخيف. وحكى في "التهذيب" الوجوه الثلاثة لكن فيما إذا حلف: لا يأكل ما اشتراه زيد، إلا أن ينوي أنه لا يأكل طعام زيد أو من طعامه. واعلم أن قضية كلام الماوردي [أن] المسألة مصورة بما إذا عقدا على طعامٍ صفقة واحدة، أما إذا عقدا عليه في صفقتين على الإشاعة، فأكل منه – حنث؛ فإنه أجاب عن [استدلال] أبي حنيفة بالشِّرَى في صفقتين مشاعاً: بأن كل جزء من أجزاء الطعام قد اشترى زيد نصفه بعقد تام؛ فوجد شرط الحنث [، وإذا كان بعقد واحد فهو مشترك؛ فلم يكمل شرط الحنث] فافترقا. وهذا منه يدل على تسليم الحكم فيما استدل به أبو حنيفة. قال: وإن اشترى كل واحد منهما شيئاً، فخلطاه فأكل منه –فقد قيل: لا يحنث حتى يأكل أكثر من النصف، أي: إن كان ما اشترياه متساوياً؛ لأن بما دونه لا يتحقق أنه أكل ما اشتراه زيد؛ فإذا أكل أكثر من النصف فقد تحقق أنه أكل ما اشتراه، وهذا ما ذهب إليه أبو سعيد الإصطخري؛ على ما حكاه ابن الصباغ والمحاملي والبندنيجي والرافعي وغيرهم، ولم يذكر البغوي سواه، وحكى ابن الصباغ أن القاضي أبا الطيب اختاره، وقال الإمام: هذا إشارة إلى أن الاستيقان يحصل عند ذلك، ولا ينبغي أن تستجيز عدَّ هذا من المذهب مع تحقق اليقين دونه.

أما إذا كان متفاضلاً فيعتبر على هذا الوجه أن يزيد ما أكله على المقدار الذي لغير المحلوف عليه، [ثلثاً كان أو ربعاً]، أو غير ذلك من الأجزاء. قال: وقيل: إن أكل حبة أو عشرين حبة لم يحنث؛ لأن ما من حبة يأكلها إلا ويجوز أن تكون مما اشتراه، كما يجوز أن تكون مما لم يشتره، والأصل فراغ ذمته من الكفارة. قال: وإن أكل كفاًّ، أي: وكان المشتري من حنطة أو نحوها- حنث؛ لأنا نتحقق أنه أكل من الطعامين؛ فإنه إذا خلط لم يتميز منه الكف، وهذا ما ذهب إليه أبو إسحاق، وهو الأصح عند ابن الصباغ والرافعي. وقد يؤخذ مما ذكرناه من التقييد [بجريان هذا الوجه] الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة التمر. وحكى عن ابن أبي هريرة أنه قال: لا يحنث وإن أكل الجميع؛ لأنه [لا] يمكن أن يشار إلى شيء منه أنه مما اشتراه زيد؛ فأشبه ما إذا اشترياه مشاعاً. قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأنا نتحقق أنه قد أكل ما انفرد المحلوف عليه بشرائه متميزاً، وإنما لم نعرفه، بخلاف المسألة قبلها. وفي "ابن يونس": أن القاضي أبا الطيب اختاره، وفي "الوسيط": أنه إن أكل من المختلط حنث، ولم يحك سواه؛ فإن حمل على ظاهره كان وجهاً رابعاً. والذي يظهر: أنه محمول على ما إذا أكل منه ما يتيقن به أنه أكل مما اشتراه زيد. وقال البصريون من أصحابنا: إن كان المأكول مائعاً حنث بأكل القليل منه، وكذا إن كان دقيقاً، وإن كان متميزاً كالتمر، فأكل أكثر من النصف حنث، وإلا فلا. قلت: وقد يتجه جيران خلاف في المائع أيضاً؛ كما أجرى فيما إذا خلط ما لا يكفيه لوضوئه بمائع؛ فإنا لا نجوز له على رأي أن يستعمل الجميع، بل يبقى قدر المائع، وسيأتي قريب من ذلك في كتاب الرضاع. تنبيه: قد يظهر لك من كلام الشيخ أنه لو حلف: لا يأكل طعاماً اشتراه زيد، فأكل بعضه-حنث؛ لأنه على القول الأول يحنث إذا أكل أكثر من النصف، ومعلوم

أنا لا نتحقق بذلك أكل جميع ما اشتراه زيد؛ وكذلك على الوجه الثاني، وهذا ما حكاه الماوردي عن ابن أبي هريرة. وقد حكيت في هذه المسألة من قبل وجهاً عن رواية الماوردي: أنه لا يحنث بأكله، فعلى هذا: لا يجيء الوجه الأول والثاني، وإنما يحنث بأكل الجميع، وقد تحصَّلَ بذلك في المسألة خمس مقالات. فائدة: تقدم فيما إذا حلف: لا يأكل سمناً، فأكله مع الخبز - أنه لا يحنث عند الإصطخري، وقاسه على ما إذا حلف: لا يأكل ما اشتراه زيد، فأكل ما شاتراه زيد وعمرو؛ فكيف يحسن منه الحكم بالحنث عند أكله أكثر من النصف في مسألتنا؟! وفي ذلك مخالفة لما ذكره ثَمَّ من وجهين: أحدهما: أنه لم يحنثه في مسألة السمن؛ لأجل أنه لم يأكله منفرداً، ومقتضاه: ألا يحنثه هاهنا؛ للاشتراك. الثاني: أنه جعل هذه المسألة أصلاً لما ذكره في مسألة السمن، وخالف فيه. ويمكن أن يجاب عن الثاني على مقتضى هذا النقل: بأن ما قاله ثَمَّ محمول على ما إذا اشتريا على الإشاعة، ولم ينقل عن الإصطخري فيها خلاف، لكن إلحاق مسألة السمن بالمسألة الثانية أشبه؛ من حيث إن السمن متميز عن الخبز، كما أن ما اشتراه زيد متميز عما اشتراه عمرو في نفس الأمر؛ فالقياس عليها أمَسُّ، والذي يظهر أن يكون الصحيح في النقل عن الإصطخري في هذه المسألة ما حكاه الماوردي عنه: أنه لا يحنث وإن أكل الجميع؛ لموافقة ما ذكره ثَمَّ، وقد نسب ما نسب إلى الإصطخري إلى أبي إسحاق، ولم يحك القول الذاهب إلى أنه: إن أكل حبة أو كفًّا، وحكى بدله ما حكيناه عن البصريين، ثم قال: ويشبه أن يكون قول أبي علي بن أبي هريرة، والله أعلم. فرع: لو اشترى زيد طعاماً، ثم باع بعضه وخلط؛ فأكل منه - حنث، وكذا لو باع بعضه مشاعاً، فأكل منه. قال: وإن حلف: لا يدخل [هذه] الدار، فدخلها ناسياً، أي: لليمين، أو جاهلاً، أي: بأنها المحلوف عليها - ففيه قولان:

أحدهما- وهو المذهب في "تعليق" البندنيجي، والأصح في "المهذب" و"المجموع" للمحاملي و"تعليق" القاضي أبي الطيب، وكلام ابن الصباغ يدل على ترجيحه -: أنه لا يحنث؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]؛ فكان رفع الخطأ موجباً لإسقاط الكفارة عن الخاطئ، ولما روى ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأمتي عن الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"؛ فكان حكم الأيمان داخلاً في عموم هذا التجاوز. والثاني: أنه يحنث، وبه كان يفتي بعض علماء عصرنا في الناسي؛ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89]؛ فكان عقدها موجباً للمؤاخذة بالكفارة على عموم الأحوال: من عمد وخطا، وعلم وجهل. ولأن الكفارة تطهير؛ فأشبهت طهارة الحدث؛ فإذا استوى حكم الحدث في العمد والخطأ والنسيان والذكر وجب أن يستوي حكم الحنث في ذلك. والقائلون بالأول قالوا: في الآية إضمار، وهو: إذا عقدتم الأيمان وحنثتم، ولا يسلم الحنث. وفي "الرافعي" حكاية طريقة في الناسي: أنه يحنث، وأن الجاهل قد يرتب على الناسي عند إجراء الخلاف فيه، وأولى بأن يحنث؛ لأن الجاهل الغالط في غروب الشمس يفطر، والناسي لا يفطرن وهذا ما ذهب إليه الإمام. وحكى الماوردي أن شيخه أبا القاسم الصيمري قال له: ما أفتيت في يمين الناسي بشيء قط. وحكى عن شيخه أبي الفياض أنه لم يفت فيها بشيء قط، وأنه اقتدى بها، ولا السلف، ولم يفت بها بشيء، لأن استعمال التوقي أحوط من فرطات الإقدام. ولا فرق في جريان القولين بين اليمين بالله – تعالى – وبين اليمين بالطلاق وغيرهن وقد حكينا في كتاب الطلاق خلاف القفال في ذلك. قال: وإن أُدخل على ظهر إنسان باختياره حنث؛ كما لو دخل على دابة.

فإن قيل: لو حلف: لا باع، ولا ضرب؛ فأمر غيره بالبيع والضرب – لم يحنث، فهلا كان في الأمر بالدخول كذلك؟ قيل: لأن البيع والضرب وإن كان عن أمره فالفعل موجود من غيره؛ فكان مثال من حلف على دخول الدار، فأمر غيره بالدخول؛ فإنه لا يحنث. قال: وإن أكره حتى دخل بنفسه، ففيه قولان: أحدهما: أنه يحنث؛ لأن ما تعلقت الكفارة به [إذا وجد بالاختيار تعلقت به] إذا وجد لا بالاختيار؛ كقتل الصيد. وأصحهما-على ما اختاره أبو حامد القاضي والشيخ وابن كج والروياني وغيرهم -: أنه لا يحنث، ولا تلزمه الكفارة؛ للحديث السابق، وأيضاً: فإنه لو حلف مكرهاً لا تنعقد يمينه؛ فكذلك المعنى الذي يتعلق به الحنث إذا وجد على وجه الإكراه ينبغي أن يلغو، والجامع: أنه أحد سببي وجوب الكفارة، وعن أبي الطيب بن سلمة: القطع به. قال: وإن حمل مكرهاً لم يحنث؛ لأنه لم يوجد الفعل منه، ولا الاختيار القائم مقام الفعل. قال: وقيل: على قولين؛ لأنه لما كان دخوله بنفسه ودخوله باختياره واحداً، وجب أن يكون دخوله مكرهاً بنفسه ومحمولاً واحداً. ولو حمل بغير إذنه، لكنه كان قادراً على الامتناع، ولم يمتنع – قال الرافعي: فالظاهر: أنه لا يحنث، وهو قضية كلام الماوردي؛ فإنه قال فيما إذا حلف وأدخل بغير أمره: إنه لا يحنث، استصعب أو تراخَى. ومنهم من جعل سكوته بمثابة الإذن في الدخول، وهذا ما حكاه الإمام عن الأكثرين. فروع: إذا قلنا بعدم الحنث فهل تنحل اليمين؟ ينظر: إن كان في صورة لم يتعاطَ الفعل بنفسه؟ لا تنحل وجهاً واحداً، وإن كان في صورة تعاطاه بنفسه، فالأشبه – وعليه يدل

كلام الماوردي -: أنها لا تنحل، وهو ما أجاب به الصيدلاني. إذا نام، وتدحرج، فدخل الدار – لم يحنث، قاله البغوي، وكذا لو كان المحلوف عليه القراءة، فقرأ وهو نائم، قاله البندنيجي، وحكى أنه لو دخل مجنوناً لم يحنث. إذا حلف: لا يبيع زيد له متاعاً، فوكَّل في بيعه، وأذن له في أن يوكل، فوكل الوكيل زيداً، فباعه – حنث، سواء علم زيد أنه متاع الحالف أو لم يعلم حكاه العمراني في "الزوائد" عن الطبري. والظاهر: أن ما قاله محمول على ما إذا قصد التعليق، لا المنع من المخالفة، ويرشد إليه كلام الإمام، وقد تقدم نظيره في كتاب الطلاق، وسنذكر عن صاحب "التهذيب" – وغيره حكاية طريقة تدل على إجراء الكلام على ظاهره. ولو حلف: ليطؤها الليلة، فوجدها حائضاً أو مُحْرِمة – فعن المزني أنه حكى في التعاور عن مالك: أنه لا حنث عليه، وأن النعمان والشافعي ساعداه. واعترض بأنه ليس التحليل والتحريم من الأيمان في شيء، ومن حلف على أن يعصي، فلم يعص – حنث وإن عصى. وقيل: إن المذهب ما قاله المزني، وهو اختيار القفال. وقيل: هو على الخلاف في فوات البر بالإكراه، حكاه الرافعي في الفروع آخر كتاب الطلاق. قال: وإن حلف: ليأكلن هذا الرغيف غداً، فأكله، أي: أو بعضه في يومه، حنث؛ لأن البر مقيد بزمان؛ فوجب أن يكون شرطاً فيه كالمقيد بالمكان، وإذا كان شرطاً، وقد فوته باختياره، حنث، ومتى يحنث؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو ما جعله الإمام المذهب -: بأكل شيء من الرغيف. والثاني: في الغد، وهو ما حكاه الماوردي. فعلى هذا: في أي وقت يحكم بحنثه؟ فيه وجهان: أحدهما: إذا مضى منه وقت إمكان الأكل، وهو الأصح في "التهذيب". والثاني: قبيل الغروب. وتظهر ثمرة الخلاف – على ما حكاه الإمام – في أن الاعتبار بحالة الحنث في

صفة الكفارة، أو بحالة الأداء؟ ولو صام وقد حكمنا بالحنث أجزأه، ولو لم نحكم بالحنث لم يجزئه؛ فإن الصوم لا يقدَّم على وجوبه. فإن قيل: إذا أخرتم الحنث إلى الغد فلا يعتبر، والأكل في اليوم وإن كان اختياراً فإنه اختيار في غير الوقت المعتبر، ونظير هذا ما لو صب الماء قبل دخول وقت الصلاة، لا يتعلق بصبه حكم، بخلاف بعد الوقت. قال الإمام: حق هذا السؤال أن يستمسك به في تضعيف ذلك الوجه. ولو أخر أكله إلى بعد الغد: فإن كان عامداً حنث، وإن كان ناسياً أو مكرهاً ففي حنثه القولان في نظائرها. فإن قلنا: لا يحنث، قال في "الحاوي": لا يلزمه فعل المحلوف عليه بعد فوات وقته. قال: وإن تلف في يومه، أي: أو في بعضه، فعلى القولين في المكره؛ لأنه [فات] بغير اختياره. المنصوص من القولين هاهنا – على ما حكاه في "التهذيب" – والأصح في "النهاية": أنه لا يحنث. وإذا قلنا بالحنث فمتى يحنث؟ فيه الخلاف السابق. ولو أتلفه أجنبي فحكمه كما لو تلف. وألحق الغزالي بذلك موت الحالف قبل الغد، وهو موافق لما حكيناه عن المحاملي فيما إذا حلف: لا يرى منكراً إلا رفعه إلى القاضي فلان، ومات الحالف قبل وصوله إليه، ولإيراد البندنيجي فيما إذا حلف ليقضينه حقه غداً، فماتا أو أحدهما في اليوم، في الحنث قولين، والذي يقتضيه إيراد الماوردي والبغوي وابن كج وغيرهم: القطع بأنه لا يحنث؛ لأنه لم يبلغ زمان البر والحنث. قال الرافعي: وقضية هذا أن يفرق بين موته وبين تلف الطعام بعد مجيء الغد وقبلا لتمكن من الأكل، ووفى بهذه القضية صاحب "التتمة". لكن في "التهذيب" وغيره إلحاق موت الحالف بعد مجيء الغد بتلف الطعام. قال: وإن تلف من الغد أي: بعد تمكنه من أكله، [فقد قيل: يحنث؛ كما لو قال:

لآكلن هذا الرغيف، ولم يقيِّده بمدة، فتلف بعد تمكنه من أكله؛] فإنه يحنث. قال: وقيل: على قولين، وهو الأشبه، هذا ما ذهب إليه ابن سريج؛ لأن جميع اليوم وقت للأكل، ولم يكن التفويت بفعله، ويفارق المطلق؛ لأنه لم يتعين وقته. قال الغزالي: وهذا الخلاف يلتفت على أن من مات في أثناء وقت الصلاة، هل يعصي بترك المبادرة؟ والصحيح: أنه لا يعصي؛ لأن الوقت فُسْحة للتأخير. وهذا يوافق قول الشيخ: إن الطريقة الثانية أشبه؛ كما ذهب إليه المحاملي والروياني أيضاً. لكن الأظهر وإن ثبت الخلاف: أنه يحنث، وإليه مال الأكثرون، وهو الجواب في "التهذيب". وإذا قلنا بالحنث، فهل هو في الحال أو قبل الغروب؟ فيه الخلاف السابق. قال: وإن قال: لا فارقت غريمي؛ أي: حتى يوفيني حقي، فهرب منه، أي: قبل وفاء الحق – لم يحنث؛ لأنه حل على فعل نفسه، ولم يوجد منه. قال في "الحاوي": ووهم ابن أبي هريرة؛ فخرج حنثه بفراق الغريم على قولين من حنث المكره والناسي، وهو خطأ، وهذا يقتضي أن يكون التخريج من ابن أبي هريرة. وحكى الرافعي عن أبوي علي بن أبي هريرة والطبري: أن بعض الأصحاب خرجه على قولي الإكراه، وهذا مخالف لذلك، ولا فرق على المذهب بين أن يتمكن الحالف من التعليق به فلم يفعل، أو لم يتمكن؛ لما ذكرناه من العلة؛ ولأجلها جزم ابن الصباغ بأنه لا يحنث إذا فارقه بإذنه. وخالف ابن كج في ذلك وقال: إذا فارقه بالإذن كان حانثاً، وعليه يدل كلام الشيخ والماوردي؛ حيث قيدا المسألة بالهرب، ويمكن أن يجاب عن ذلك بما ذكره الإمام: أن الشافعي إنما صور المسألة بالفرار؛ بناء على العادة؛ فإن من يبغي ملازمة غريمه إنما تقع المفارقة منه على هيئة الفرار. وزاد الصيدلاني فقال: إن أمكنه منعه من الذهاب فلم يفعل حنث. ويقرب منه ما حكاه في "التهذيب" عن شيخه، والإمام عن صاحب "التقريب"،

وبعض المصنفين: أنه إن أمكنه متابعته حنث؛ [لأنه بالمقام] مفارق. وهذا كله إذا كانا واقفين، فلو كانا يتماشيان، فمشى الغريم، ووقف الحالف لم يحنث؛ على الأصح، وقال القاضي الحسين: إنه يحنث. ثم المفارقة المعتبرة هاهنا هي المفارقة التي ينقطع بها خيار المجلس مع بقاء الروح، وهي المذكورة في البيع. ومما يتعلق بهذه المسألة ما إذا حلف: لا فارقني غريمي حتى يوفيني حقي، فإن فارقه الغريم باختياره حنث، سواء أذن في ذلك أو هرب منه. وعن صاحب "التقريب": أنه إن فر منه خرج على القولين [في المكره، وإن كان ناسياً أو مكرهاً خرج على القولين فيهما]. وحكى صاحب "التهذيب" طريقة؛ قاطعة بأنه يحنث، والاختيار يعتبر في فعل الحالف، لا في فعل غيره. ونسب الماوردي هذه الطريقة إلى قول البصريين، وهي الطريقة التي وعدنا بذكرها من قبل. وإن فارقه الحالف لم يحنث؛ على ما حكاه ابن الصباغ، وينبغي أن يجيء فيه ما ذكرناه من قبل، وقد أشار إليه الرافعي. ولو قال: والله لا افترقت أنا وأنت حتى توفيني حقي، فأيهما فارق صاحبه باختياره حنث الحالف، ولو فر من عليه الحق حنث الحالف قولاً واحداً، قاله البندنيجي وغيره. ولو قال: لا افترقنا حتى استوفى حقي، أو: لا نفترق، فوجهان: أحدهما: أنه لا يحنث حتى يفارق كل واحد منهما صاحبه؛ فيذهب هذا إلى كذا، ويذهب هذا إلى كذا. والثاني- وهو الأظهر-: أن الحكم كالحكم في المسألة قبلها. فرع على أصل المسألة: لو أعطاه عن حقه عوضاً، أو أبرأه عنه، أو أحاله على

غيره، ثم فارقه - حنث، وفي "الإبانة" حكاية وجه في الحوالة: أنه لا يحنث؛ بناء على أنها استيفاء. ولو استوفى حقه في الظاهر، ثم وجده من غير جنسه، أو وجد به عيباً يخرج به من انطلاق الاسم عليه، كما إذا كان حقه دنانير مغربية، فأعطاه دنانير مشرقية، أو لم يخرج به من انطلاق اسم الحق عليه، لكن كان أرش العيب كثيراً لا يسمح بمثله - فإن علم بذلك قبل التفرق حنث، وإن علمه بعد التفرق خرج على القولين في المكره، ولو كان الأرش مما يتسامح به لقلته بَرَّ. فإن قيل: نقصان القدر موجب للحنث فيما قل وكثر؛ فهلا كان نقصان الأرش بمثابته في وقوع الحنث بما قل وكثر؟ قيل: لأن نقصان القدر متحقق يمنع من التماثل في الربا، ونقصان الأرش مظنون لا يمنع من التماثل في الربا؛ فلذلك لم يحنث. فإن قيل: قد قلتم بالحنث فيما إذا كان أرش العيب كثيراً، وإن كان ما ذكرتموه موجوداً. قيل: لأن الظن في كثيره أقوى، وفي قليله أضعف فافترقا في بر اليمين وإن استويا في تماثل الربا، كذا قاله الماوردي. آخر: لو أفلس قبل أن يفارقه، ثم فارقه؛ لأجل الفلس: فإن كان قبل أن يحكم الحاكم عليه بالمفارقة حنث، وإن كانت المفارقة واجبة؛ لأن أحكام الشرع إذا خالفت عقد اليمين لم تمنع من الحنث؛ كمن غصب مالاً، وحلف: لا يرده على صاحبه، حنث برده عليه، وإن كان رده بالشرع واجباً؛ لأنه رده عليه مختاراً. وإن كان بعد حكم الحاكم عليه بالمفارقة فهو مكره؛ فيكون في حنثه قولان، كذا حكاه الماوردي. وفي البندنيجي: أنه إن فارقه قبل ثبوت فلسه، وحجر الحاكم عليه - حنث، وإن كان بعده فقد لزم الحالف أن يفارقه شرعاً، فإذا فارقه فهل يحنث أم لا؟ على قولين: لأنه مكره على فراقه.

قال: وإن حلف – أي: على أمر مستقبل، نفياً كان أو إثباتاً – فقال: إن شاء الله، متصلاً باليمين، أي: ونوى رفع اليمين بها من أول لفظه – لم يحنث؛ لما روى طاوس عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حَلَفَ علََى يَمِينٍ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ – لَمْ يَحْنَثْ"، ولأنه علق الفعل على مشيئة الله – تعالى – وهي غير معلومة. وهكذا الحكم فيما لو قال: إن أراد الله، أو: إن أحب الله، او: إن اختاره الله، أو: بمشيئة الله تعالى، أو: بإرادة الله، أو: باختيار الله، على ما حكاه الماوردي. وهل نقول: انعقدت اليمين مع الاستثناء؟ منهم من قال: نعم، لكن المشيئة غير معلومة؛ فلا يحكم بالحنث، وهذا ما نقله المحاملي والروياني. ومنهم من يطلق القول بأنها غير منعقدة، وهكذا فعل صاحب "التهذيب". ومعنى الاتصال وما يمنعه مذكور في كتاب الطلاق. واعلم أن قول الشيخ: فقال: إن شاء الله – فيه إشارة إلى أنه لو لم يقل ذلك ولكن نواه بقلبه، لا يحصل المقصود من الاستثناء، وقد صرح بذلك المحاملي والبندنيجي والماوردي وغيرهم. ووجهه البندنيجي: بان الاستثناء كالنسخ؛ فلهذا لم يصح بالنية، بخلاف ما لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار، ثم قال: نويت شهراً، أو قال لعبده: أنت حر، ثم قال: أردت: إن دخلت الدار – فإنه يُدَيَّن؛ لأنه تخصيص، والتخصيص يجوز بالنية.

ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يؤخر الاستثناء كما ذكره الشيخ، أو يقدمه فيقول: إن شاء الله، والله لأفعلن كذا، أو: لا فعلت كذا، [أو يوسطه فيقول: والله – إن شاء الله – لا فعلت كذا] أو: لأفعلنه، صرح به الماوردي وغيره. ولو قال: والله لا فعلت كذا، إلا [إن شاء الله أو: إلا] أن يشاء الله – ففيه خلاف قدمناه في كتاب الطلاق، والأصح عند ابن كج في الأولى: أنه استثناء. قال: وإن جرى الاستثناء على لسانه – على عادته – ولم يقصد به رفع اليمين، لم يصح الاستثناء؛ لأن ذلك لغو الاستثناء، ولما لم ينعقد لغو اليمين لم ينعقد لغو الاستثناء قياساً عليه. فإن قيل: حكى صاحب "البيان" فيما إذا نوى صوم غد من شهر رمضان، وقال: إن شاء الله – خلافاً في انعقاد نيته عند عدم قصد التعليق؛ فهلا جرى مثله هاهنا؟ فالجواب: أنا أخذنا بالأحوط في الموضعين. واعلم أن قول الشيخ: ولم يقصد به رفع اليمين، يفهم أنه إذا قصد به رفع اليمين أنها لا تنعقد. وفي "الشامل" والصورة هذه: أنها تنعقد، وفي ذلك نظر.

قال: فإن عقد اليمين، ثم عَنَّ له الاستثناء، أي: عرض له بعد استكمال اليمين؛ فأتى به – لم يصح الاستثناء؛ لأن عقد اليمين بعد تمامه يثبت حكمه؛ فلا يرفع بعد ثبوته؛ كما لو عَنَّ له ذلك بعد طول الزمان. وفي "الحاوي" وغيره حكاية وجه: أنه يصح، وقضية كلام ابن الصباغ ترجيحه؛ فإنه قال: حكى عن أبي الحسين بن القطان أنه قال: لا يصح الاستثناء حتى يقصده مع ابتداء اليمين. وأكثر أصحابنا قالوا: لا يحتاج على ذلك. ووجهه بأن لفظ الاستثناء أقوى، نيته، ثم يكون عقيب اليمين، كذلك نيته. قال: وإن عن له الاستثناء في أثناء اليمين، فقد قيل: يصح؛ لأنه تحققت النية متصلة باللفظ قبل الاستثناء؛ فأشبه ما لو كانت النية من ابتداء اليمين، وهذا ما يقتضي كلام ابن الصباغ: أنه ظاهر المذهب، وأنه الصحيح، وإليه ذهب الداركي، والقاضيان أبو الطيب والروياني. قال: وقيل: لا يصح؛ لأن الموجب جميع اللفظ؛ فاشترط اقتران النية بجميعه. ونقل ابن الصباغ عن ابن القطان توجيهه بأنه قاسه على نية الجمع بين الصلاتين، وفرق بأن النية تجعل الصلاتين كالصلاة الواحدة، والاستثناء يخالف اليمين، وهذا ما صححه القاضي ابن كج وابن المرزبان. قال: وإن قال: لا سلمت على فلان، فسلم على قوم هو فيهم، واستثناه بقلبه – لم يحنث؛ لأنه سلم بلفظ عام يحتمل أن يريد به [الكل، ويحتمل أن يردي به] البعض؛ فإذا نوى أحد محتمليه وقع بحسبه. وفي "الشامل" عند الكلام فيما إذا حلف: لا يدخل على فلان بيتاً، حكاية قولين في الحنث، وكذلك حكاهما البندنيجي، وهما في طريق الخراسانيين أيضاً. قال: وإن لم ينو شيئاً، أي: لم ينو السلام على فلان، ولا استثناه من السلام – ففيه قولان:

أحدهما – وهو رواية المزني، والأصح في "الجيلي" -: لا يحنث؛ لأن اللف يصح للجميع وللبعض؛ فلا يحنث بالشك، وقد يوَجَّه بأنه لم يسلم عليه خاصة، وهو المفهوم من مطلق لفظه، وهذه مادة ما حكيناه عن الإصطخري في مسألة السمن، وقضية ذلك: ألا يحنث وإن قصد السلام عليه، وقد أبداه صاحب "البيان" احتمالاً. والثاني: أنه يحنث، وهو رواية الربيع، والأظهر عند الشيخ أبي حامد والرافعي؛ نظراً إلى عموم اللفظ. ومحل الخلاف إذا علم أنه فيهم، أما لو لم يعلم، أو سلم عليه في ظلمة، وقلنا: إنه يحنث – عند العلم – ففي حنثه القولان في الجاهل. فرع: لو كان الحالف إماماً في الصلاة، والمحلوف عليه من جملة المأمومين، وسلم عليهم – قال ابن الصباغ: الذي يقتضيه المذهب: أن الحكم ما لو سلم على جماعة وهو فيهم، وصرح به الرافعي نقلاً. قال: وإن قال: لا دخلت على فلان، فدخل على قوم هو فيهم، واستثناه بقلبه – فقد قيل: يحنث؛ لوجود صورة الدخول، وهذا هو الأصح. قال: وقيل: لا يحنث؛ كالمسألة قبلها، وهذا ما ذكره البغوي، وعلى هذه الطريقة: يجيء في الحنث القول الآخر، وقد صرح به البندنيجي وابن الصباغ. والفرق على الطريقة الأولى بين هذه المسألة والتي قبلها: أن الاستثناء لا يصح في الأفعال؛ ألا ترى أنه لو دخل على جماعة فيهم زيد، فقال: دخلت عليكم إلا زيداً – لم يكن صحيحاً، والاستثناء في السلام صحيح؛ ألا ترى أنه لو سلم على قوم، فقال: سلمت عليكم إلا زيداً، صح، وهذا إذا كان الداخل عالماً بأنه في الموضع، أما لو دخل الموضع الذي فيه فلان ولم يعلم، ففيه قولا الجاهلِ دخل لحاجة، ولم يعلم بأنه فيه، فهذه الصورة أولى بعدم الحنث؛ [لانضمام قصد الشغل إلى الجهل، ونقل الإمام أن الشافعي نص في هذه الصورة على عدم الحنث]. ولو كان الحالف في بيت، فدخل عليه فلان: فإن خرج الحالف في الحال لم

يحنث، وإن أقام فطريقان: أحدهما: أن في حنثه قولين ينبنيان على أن الإقامة تنزل منزلة الدخول أم لا؟ فإن قلنا: نعم، حنث، وإلا فلا. والطريق الثاني: القطع بأنه لا يحنث. ووجهه ابن الصباغ بأنا إذا جعلنا استدامة الدخول كابتدائه كانا داخلين معاً؛ فلا يكون أحدهما داخلاً على الآخر. فروع: لو حلف: لا يلبس ثوباً من غزلها، فرقع برقعة كرباس من غزلها - حنث، وعن أبي عاصم العبادي: أنه لا يحنث، وتلك الرقعة تتبع الثوب. ولو تكوَّر بعمامة من غزلها حنث، إن حلف بالعربية، وإن حلف بالفارسية فلا. لو حلف: لا يأكل المطبوخ، يحنث بما يطبخ بالنار، أو يغلى، ولا يحنث بالمشوي، والطَّبَاهِجَةِ مشوية. قال الرافعي: ويحتمل غيره. لو حلف: لا يأكل المرق حنث بأكل مرق أيِّ لحم كان، وهل يحنث بما يطبخ بالكرش والبطن والشحم؟ فيه وجهان. لو حلف: لا يأكل من طبيخ زيد، فأكل مما أوقد عليه إلى الإدراك، أو وضع القدر في التنور بعد التسخين -حنث، سواء وجد نصب القدر في الأولى، وتقطيع اللحم، وصب الماء عليه وجميع التوابل، وتسخين التنور في الثانية منه أو من غيره. ولو أوقد فلان تحت القدر، أو وضعه في التنور مع آخر- لم يحنث؛ لأنه لم ينفرد بالطبخ. وكذا لو أوقد هذا ساعة وهذا ساعة. ولو جلس الحاذق بالطبخ على القرب، وكان يستخدم صبيًّا في الإيقاد، ويستقل ويستكثر - فهذا فيه تردد؛ إذ يعزى الطبخ والحالة هذه إلى الأستاذ. ولو قال: لا آكل مما خبزه فلان، فالاعتبار فيه بالإلصاق بالتنور، دون العجن، وتسخين التنور، وتقطيع الرغفان وبسطها، والله أعلم.

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء الخامس عشر المحتوى: تتمة كتاب الأيمان - كتاب النفقات - كتاب الجنايات

باب كفارة اليمين

بسم الله الرحمن الرحيم باب كفارة اليمين سميت الكفارة: كفارة؛ لأنها تكفر الذنب، أي تستره، ومنه قيل للأكار: كافر؛ لأنه يكفر البذر، أي: يغطيه، وسمى الكافر: كافراً؛ لأنه يغطي نعم الله تعالى. وما الذنب الذي تكفره؟ قال في "الحاوي": إن كان عقد اليمين طاعة وحلها معصية، كقوله: والله لا أشرب الخمر، فإذا حنث وشرب الخمر- كانت الكفارة تكفر مأثم الحنث. وإن كان عقدها معصية وحلها طاعة: كقوله: والله لا صليت- فإذا صلى كانت الكفارة لتكفير مأثم اليمين بعد الحنث. وإن كان عقدها مباحاً وحلها مباحاً، كقوله: والله لا لبست هذا الثوب- فالكفارة تتعلق بهما، وهي بالحنث أحق؛ [لاستقرار وجوبها به]. قال- رحمه الله:- إذا حلف وحنث، لزمته الكفارة؛ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] أي: وحنثتم؛ كما جاء في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أي: فأفطرتم. وسبب وجوبها عند الأكثرين: اليمين والحنث جميعاً. وحكى الروياني والطبري وجهاً أن سبب وجوبها: اليمين، إلا أنها لا تجب إلا بالحنث؛ كما يوجب ملك النصاب الزكاة، عند حولان الحول، وكأن من قال به جعل الحنث شرطاً، واحتج له بأن الكفارة منسوبة إلى اليمين، وهذا ما حكاه الغزالي. وقال في "الحاوي": إن الظاهر من مذهب الشافعي: أنها تجب بالحنث وحده.

وحكى الوجه الأول أيضاً. ثم قال: والأصح عندي من إطلاق هذين المذهبين: أن يعتبر حال اليمين: فإن كان عقدها طاعة وحلها معصية، وجبت الكفارة بالحنث وحده، وإن كان عقدها معصية وحلها طاعة وجبت باليمين والحنث؛ لأن التكفير بالمعصية أخص. ثم هذا التردد في اليمين على المستقبل، أما اليمين على الماضي، فقد قال الماوردي: إن سبب الكفارة فيها عند الكذب الحلف وحده. وقال المحاملي: والبندنيجي: إنما تجب باليمين والحنث، وهما متعاقبان فيها، بخلاف المستقبل؛ فإنهما متراخيان، والله أعلم. وهل تتعدد الكفارة عند تعدد اليمين واتحاد المحلوف عليه؟ ينظر: إن قصد التأكيد لم تتعدد، وإن قصد الاستئناف فوجهان والأصح: عدم التعدد. وإن أطلق فعلى أيهما يحمل؟ فيه وجهان. وسوى ابن كج بين حالة الإطلاق وحالة إرادة الاستئناف في جريان الخلاف، وقد يستدل لقول بالتعدد بقوله – تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] أي: كررتموها على شيء واحد، وإن كان الماوردي في أول هذا الكتاب قد استدل به على عدم التعدد. وهل إذا حلف يميناً واحدة منع نفسه بها من فعلين أو أكثر، كما إذا قال لجماعة: والله لا كملت واحداً منكم، وكلم واحداً- تبقى اليمين منعقدة في حق من بقي، حتى إذا كلمه تب عليه كفارة أخرى، أم لا؟ فيه خلاف تقدم مثله في كتاب الإيلاء؛ فليطلب منه. والظاهر من كلام الشافعي- على ما حكاه ابن الصباغ، وهو الصحيح عنده: أنها لا تبقى. فرع: إذا حلف: لا يأكل الخبز، وحلف: لا يأكل لزيد طعاماً، فأكل خبزه- وجبت عليه كفارة واحدة على أحد الوجهين؛ قاله الرافعي في كتاب الإيلاء. آخر: هل يجب إخراج الكفارة على الفور؟

قال: في "التتمة": ينظر: إن كان عاصياً بالحنث فلا يباح له تأخير التكفير وإن كان الحنث طاعة أو مباحاً، فالأولى أن تبرأ الذمة؛ فلو أخر لا حرج عليه. وقال الغزالي عند الكلام في قضاء الحج: الكارة إذا لزمت بسبب محظور كان في وجوبها على الفور خلاف، أما ما لا عدوان في سببه فلا تضييق في واجبه. وهل يجوز للإمام المطالبة بها؟ حكى الرافعي في كتاب الإيلاء عن المتولي فيه وجهين، وحكاهما ابن التلمساني في "شرح التنبيه" في قسم الصدقات، وأجراهما في النذر، وعلل وجه عدم المطالبة بأن ذلك لا يجب على الفور، وقرر ما ذكرناه، وهذا هو المذكور في "الشامل" عند الكلام فيما إذا قال: أقسم بالله، أو: أقسمت بالله. قتال: فإن كان يكفر بالصوم لم يجز حتى يحنث؛ لأنها عبادة بدنية لا حاجة له إلى تقديمها [على وقت الوجوب؛ فلم يجز تقديمها] كصوم رمضان. وفي قولنا: لا حاجة إلى تقديمها، الاحتراز عن الجمع بين الصلاتين. وأيضاً فإن الصوم إنما يجوز التكفير به عند العجز عن جميع الخصال المالية، وإنما يتحقق العجز بعد الوجوب. وفيه وجه: أنه يجوز التكفير به قبل الحنث أيضاً؛ كسائر الخصال. وفي "شرح مختصر الجويني": أن أبا زيد حكاه قولاً عن القديم. قال: وإن كان يكفر بالمال فالأولى ألا يكفر [حتى يحنث؛ ليخرج من خلاف] أبي حنيفة. قال: فإن كفر قبل الحنث؛ أي: وبعد اليمين- جاز؛ لما روي عن عبد الرحمن بن سمرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، فَكَفِّرْ، ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ" خرجه أبو داود. ولما روى مسلم والبخاري والترمذي والنسائي: أنه- عليه السلام- قال في حديث طويل: "وأنا- إِنْ شَاءَ اللهُ- لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، ثم أرى خَيْراً

مِنْهَا- إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيتُ الذِي هُوَ خَيْرُ". فإن قيل: فقد روي أنه- عليه السلام- قال: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً منها، فَلْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ". قلنا: قد ورد فيه تقديم الكفارة على الفعل، وأيضاً: فما ذهبنا إليه فيه استعمال للروايتين معاً؛ فإنا نحمل الأول على الوجوب، والثاني على الجواز؛ فكان أولى. ولأنه حق مالي يجب بسببين يختصان به؛ فجاز تقديمه على أحدهما كتعجيل الزكاة. فإن قيل: لا نسلم أن لوجوبها سببين، بل له سبب واحد، وهو الحنث؛ لأن الحنث ضد اليمين؛ لأن اليمين تمنع من الحنث، والضدان لا يشتركان في معنى الوجوب؛ لتنافيهما. قيل في الجواب عنه: إن اليمين [عقد والحنث حل، والحل] لا يكون إلا بعد عقد؛ فلم يتضادا وإن اختلفا؛ كما أن قوله: لا إله، كفر، وقوله: إلا الله إيمان، والإيمان بهما منعقد، ولم يتنافيا بالمضادة. ولو أراد أن يكفر قبل انعقاد اليمين لم يجز وجهاً واحداً. نعم، لو علق انعقاد اليمين على فعل، ولم يوجد بعد: فهل يجوز له أن يكفر قبل انعقاد اليمين وبعد التعليق؟ فيه وجهان مذكوران في "التتمة" وغيرها في كتاب الإيلاء، وصورة ذلك: أن يقول: إن دخلت الدار، فوالله لا كلمتك. قال: وقي: إن كان الحلف بمعصية لم يجز أن يكفر قبل الحنث؛ كي لا يتوصل به إلى المعصية، ولأن تقديم الكفارة رخصة، والرخص لا تستباح بها

المعاصي، وهذا ما رجحه البغوي، وهو اختيار ابن القاص. قال: وليس بشيء؛ لأن الكفارة لا يتعلق بها تحريم ولا تحليل؛ فإن المحلوف عليه على حاله، وهذا ما [صار] إليه معظم الأصحاب. فرعان: أحدهما: لو قال: أعتقت هذا العبد عن كفارة يميني إذا حنثت، عتق العبد عن الكفارة إذا حنث، بخلاف ما إذا قال: أعتقته عن الكفارة إذا حلفت، لا يجزئه عن الكفارة؛ لأنه قدم التعليق على الحلف. الثاني: لو قال: أعتقته عن كفارة يميني إن كنت قد حنثت، فإن بان أنه حنث عتتق، وأجزأ، وإلا فلا يعتق، بخلاف ما لو قال: أعتقته عن كفارة يميني إن كنت حلفت، فبان أنه حلف؛ فإن صاحب "التهذيب" قال: وجب ألا يجوز؛ لأنه شاك في اليمين، وفي الصورة الأولى هو شاك في الحنث، والتكفير قبل الحنث جائز. تنبيه: يشترط في إجزاء العتق المعجل عن الكفارة أن يبقى العبد حياً إلى الحنث، وكذا على الإسلام؛ فلو مات قبل الحنث أو ارتد لم يجزئه؛ كما في الزكاة المعجلة، كذا صرح به الرافعي. ومقتضاه: أن يعتبر بقاء سائر الأوصاف، وكذا بقاء من صرف إليه الطعام أو الكسوة على صفة الاستحقاق إلى الحنث. وأبدى صاحب "التهذيب" احتمالاً فيما إذا مات العبد [أو ارتد] في أنه يجزئ؛ كما لو ماتت الشاة المعجلة. قال: والكفارة: أن يعتق رقبة، أو يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم، والخيار

في ذلك إليه؛ لقوله- تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]. ولا يجوز أن يطعم خمسة ويكسو خمسة، قال ابن الصباغ: كما لا يجوز أن يعتق نصف رقبة ويطعم خمسة؛ لأن الله تعالى خيره بين ثلاثة أشياء، ولو جوزنا إخراج جنسين لأثبتنا تخييراً رابعاً؛ فلا يجوز لذلك. قال: فإن أراد العتق أعتق رقبة؛ كما ذكرنا في الظهار، وإن أراد الإطعام أطعم كل مسكين رطلاً وثلثاً؛ كما ذكرنا في الظهار؛ بجامع ما اشتركا فيه من التكفير. وذكر الماوردي أن في قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} دليلاً على اعتبار المد؛ لأن الأوسط محمول على الجنس والقدر، وأوسط القدر فيما يأكله إنسان رطلان من الخبز، والمد: رطل وثلث من حب إذا خبز كان رطلين من خبز، وذلك أوسط الكفارة. وقد جمع الشيخ بقوله: كما ذكرنا في الظهار، ما يجزئ من الأجناس وما لا يجزئ، وكيفية النية ووقتها، وما يتعلق بذلك، وقد ذكر في "الحاوي" هاهنا وجهاً: أن الاعتبار في جنس الطعام بقوت المكفر؛ لظاهر الآية. ولم يحك مثله في كفارة الظهار. قال: وإن أراد الكسوة دفع إلى كل مسكين ما يقع عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو منديل أو مئزر، أي: وغير ذلك كالعمامة، والجبة، والقباء، والطيلسان، والمقنعة، والخمار، والإزار؛ لأن الشرع ورد بالكسوة مطلقاً، ولا عرف له فيها. ولم يختلف العلماء في أنا لا نوجب لكل مسكين دست ثوب؛ فحمل على ما ينطلق عليه الاسم، ويخالف واجب الطعام؛ حيث قدر بالمد؛ فإن، فيه سداد الرغيب، وكفاية المقتصد، ونهاية الزهيد، والكسوة لا سبيل إلى ضبطها، هذا هو الجديد. وقد حكى عن القديم قولاً موافقاً لمذهب مالك، وحكاه البويطي أيضاً: أنه

يشترط أن يكون المعطى ساتراً للعورة، بحيث تصح الصلاة فيه؛ فيختلف بذكورة الآخذ وأنوثته، حتى يجزئ الإزار الواحد إن كان الآخذ ذكراً، ولا يجزئ إن كان أنثى. وضعف الأصحاب ذلك بوجهين: أحدهما: خروجه عن اعتبار الاسم وهو أصل، وعن اعتبار الكفاية وهي عرف. الثاني: أنه لو أعطي من رقيق الثياب ما يعم العورة ولا يسترها لرقته أجزأه، وإن لم يجز فيه الصلاة؛ كذا قاله الماوردي. وعلى الجديد: هل يشترط أن يكون المدفوع يتمكن المدفوع إليه من لبسه، أو لا يشترط ذلك كما إذا دفع ثوب صغير إلى كبير؟ فيه وجهان: اختيار الشيخ أبي محمد: الاشتراط؛ لقوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} فأضاف الكسوة إلى من يكسى. وأظهرهما: عدم الاشتراط، وإجزاء ذلك، وبه قال القاضي الحسين، وهو الذي دل عليه كلام الشيخ هاهنا؛ حيث قال: "ما يقع عليه اسم الكسوة" ولم يقل: كسوة المدفوع إليه. ويؤيده: أنه يجوز أن يدفع للرجل من الكسوة ما يصلح للمرأة، وكذلك يجوز أن يدفع للمرأة ما يصلح للرجل، ولا يشترط أن تكون الكسوة مخيطة. فرع: لو أعطى عشرة مساكين ثوباً طويلاً، قال الماوردي: إن دفعه إليهم بعد قطعه أجزأه؛ لأنه قد صار كل قطعة منه كسوة، وإن دفعه إليهم صحيحاً، لم يجزئه؛ لأنه ثوب واحد. تنبيه: الكسوة: بكسر الكاف وضمها. والمنديل: مشتق- على ما حكاه ابن الأعرابي وابن فارس- من الندل، وهو النقل؛ لأنه ينقل من واحد إلى واحد. وقيل: من الندل؛ وهو: الوسخ؛ لأنه يندل به. ويقال: تندلت بالمنديل، وتمندلت، وتمدلت: وهو أنكرها. والمئزر: بكسر الميم، مهموز، ويجوز ترك همزه، وهو الإزار؛ كقولهم: ملحف

ولحاف، ومقرم وقرام. قال: فإن أعطاهم قلنسوة قلنسوة، فقد قيل: يجوز؛ لما روي أن عمران بن الحصين سئل عن قوله- تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} فقال: إذا قدم وفد على الأمير، فأعطاهم قلنسوة قلنسوة- يقال: قد كساهم. قال: وقيل: لا يجوز؛ لأنه لا يقع عليها اسم الكسوة، وحكى الماوردي عن أبي الفياض البصري: أنها إن كانت صغيرة تغطي قحف الرأس لم تجزئ، وإن كانت كبيرة تعم الرأس، وتغطي الأذنين والقفا-[أجزأت، والمشهور الخلاف الأول، وهو جار في إجزاء الخف على ما حكاه البندنيجي]، وأجراه غيره في الشمشق، وهو المكعب، وفي النعل، وفي الدرع، وفي التبان: وهو سراويل صغير لا يبلغ الركبة، والظاهر في الجميع المنع. وجعل المحاملي قول المنع في القلنسوة المذهب، وقطع في الخف والنعل بعدم الإجزاء، ووافقه الماوردي على ذلك؛ كما لا تجزئ المنطقة والكمران والتكة، وفي "جمع الجوامع" أجراه في التكة. ولا يجزئ دفع الغزل قبل النسج، وكذا لا تجزئ البسط والأنطاع؛ لخروجها عن اسم "الكسوة"، وتجزئ الأكسية؛ لأنها تلبس دثاراً وإن لم [تلبس شعاراً، وهل يجزئ ما يلبس من الجلود واللبود والفراء؟ ينظر: إن كان في بلد] يلبس أهله ذلك أجزأه، وإن كان [في بلد لا يلبسه] أهله فوجهان حكاهما الماوردي، وأنهما مخرجان من اختلاف قوليه في أجناس الحبوب في الإطعام: هل يكون مخيراً، أو يعتبر بالغالب منها؟ وفي "الجيلي": أن محلهما ما إذا كانا في بلد يلبس فيه ولو نادراً. تنبيه: القلنسوة: بفتح القاف واللام، وضم السين، وفي جمعها لغات: قلانس، وقلاس، وقلاسي مشتقة من "قلس": إذا غطى، والنون زائدة. قال: [ولا يجزئ] الخلق؛ لأنه يشبه الطعام المسوس والعبد الزمن، وكذا لا

يجوز المرقع؛ لأجل البلى، ويجوز المرقع في الابتداء، وما عدا ذلك مما يعد عيباً في البيع لا يمنع من الإجزاء؛ كما قلنا في عيب الرقبة. ولو كان الثوب رقيقاً مهلهل النسج، غير بال في جنسه، لكن يبليه أدنى لبس، ولا يدومم إلا بقدر ما يدوم الثوب البالي- فقد قال الإمام في ذلك: الذي يظهر أنه لا يجزئ. تنبيه: الخلق- بفتح الخاء واللام- الثوب البالي، وجمعه: خلقان، وقد خلق الثوب، بضم اللام وفتحها وكسرها، وأخلق: أربع لغات. قال: ويجزئ ما غسل دفعة أو دفعتين كالطعام العتيق، والعبد المعيب بعيب لا يضر بالعمل. واعلم أن سكوت الشيخ- رحمه الله- عن ذكر الجنس يعرفك أنه لا فرق في ذلك بين جنس وجنس، فيجزئ الثوب من القز والإبريسم أو القطن أو الكتان أو الصوف أو الشعر، لكن يشترط أن يكون طاهر العين، فإن كان نجس العين لم يجزئه، وإن كان متنجساً أجزأه، وعليه أن يعلمهم بنجاسته. وفي الحرير وجه: أنه يجزئ إذا دفعه إلى [امرأة أو صبي]، ولا يجزئ إذا دفعه إلى رجل، وهو يناظر ما حكيناه من أنه لا يجزئ الثوب الصغير إذا دفعه للكبير؛ اعتباراً بحال المدفوع إليه، وأنه لا فرق بين الجيد من النوع والمتوسط منه والرديء في الإجزاء، ومأخذه اتباع الاسم. وعن القاضي الحسين: أنه لو قيل باعتبار الكسوة الغالبة في أهل البلد كالطعام لم يبعد. قال الإمام: وهو متجه، وهو قريب- أيضاً- مما حكيناه عن رواية "الحاوي" في الفراء والجلود. قال: وإن كان معسراً لا يقد على المال، أي: الذي يصرفه في الكفارة، أي: بأن كان كسوباً وكسبه قدر كفايته، أو له من المال قدر كفايته بغير زائد عليه. قال: كفر بالصوم؛ للآية.

ثم ما المراد بقدر الكفاية؟ هل كفاية وقته، أو على الأبد؟ الذي صرح به من العراقيين البندنيجي والمحاملي الثاني، وعليه ينطبق إيراد ابن الصباغ؛ حيث قال: إن من له أن يأخذ من الزكاة من سهم الفقراء والمساكين أو من الكفارة، جاز له أن يكفر بالصوم، ولا يلزمه التكفير بالمال، وأورد عليه أن من يملك نصاباً لا يحصل به الكفاية تجب عليه زكاة المال، وإن كان ممن يجوز له أخذها. وأجاب: بأنا لو أسقطنا الزكاة لخلا لانصاب عنها، وهاهنا لا يسقط، وإنما ينتقل إلى بدلها وهو الصيام، وهذا ما حكاه الرافعي، ودل عليه ظاهر كلام الشافعي؛ حيث قال: ومن له أن يأخذ من الكفارة والزكاة، فله أن يصوم. وفي "الحاوي": أن التكفير بالمال قد يجب على من تحل له الزكاة والكفارة، وهو من وجدها فاضلة عن قوته وقوت عياله، ولا يصير بفضلها غنياً؛ فيجب عليه التكفير بالمال دون الصيام؛ لوجودها في ملكه، فاضلة عن كفاية وقته، ويحل له أن يأخذ من الزكوات والكفاراة؛ لدخوله في حكم الفقر والمسكنة. وأجاب عن نص الشافعي بأنه أشار إلى الأغلب من أحوال الناس، والأغلب ما قاله. قلت: وقد انتظم من مجموع النقلين خلاف، وهو مشابه للوجهين اللذين حكاهما ابن الصباغ في الحج في أن المعتبر أن يفضل ما يحتاج إليه في الحج عن الكفاية على الدوام. ويتجه أن يجيء فيما نحن فيه مذهب ثالث، أبداه الرافعي احتمالاً في كتاب الظهار: أن المعتبر أن يكون فاضلاً عن كفاية سنة. قال: وإن كان له مال غائب لم يجز أن يكفر بالصوم؛ لأنه قادر على التكفير بالمال من غير ضرر؛ فلم يتحقق الشرط.

فإن قيل: قد حل له أن يأخذ من الزكوات والكفارات؛ فوجب أن يجوز له أن يكفر بالصوم؛ كالقسم قبله. فالجواب: أنه يأخذ لحاجة مختصة بمكانه، والكفارة معتبرة بإمكانه. فإن قيل: أليس المتمتع في الحج إذا كان معسراً بمكة، موسراً ببلده، يكفر بالصوم؛ فهلا كان هذا مثله؟ فجوابه: أن مكان الدم مستحق بمكة، فاعتبر يساره وإعساره بها، ومكان الكفارة مطلق؛ فاعتبر يساره وإعساره على الإطلاق. قال: والصوم ثلاثة أيام [للآية. قال:] والأولى: أن تكون متتابعة؛ ليخرج من خلاف أبي حنيفة وأحد القولين عندنا. قال: فإن فرقها، ففيه قولان: أصحهما: أنه يجوز؛ عملاً بإطلاق الآية، وهذا هو المنصوص عليه في هذا الموضع وقال الإمام: إنه الجديد. والقول الثاني: أنه لا يجوز، وهو ما نص عليه في كتاب الصيام، واختاره المزني، وهو الأصح في "التهذيب"؛ استدلالاً بقراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" وقراءة أبي: "فصيام ثلاثة أيام متتابعة"، والقراءة الشاذة تقوم مقام خبر الواحد في وجوب العمل، ولأنه صوم تكفير فيه عتق؛ فوجب أن يكون التتابع من شرطه ككفارة القتل والظهار، ولأن من أصل الشافعي حمل المطلق على ما قيد من جنسه؛ كما حمل العتق في كفارة اليمين على المقيد في كفارة القتل، وذلك يقتضي حمل إطلاق هذا الصيام على ما قيد من تتابعه في القتل والظهار. وأجاب من قال بالأول عن القراءة الشاذة: بأنها إنما تجري مجرى خبر الواحد في وجوب العمل بها إذا أضيفت إلى التنزيل، أو إلى سماعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما إذا أطلقت جرت مجرى التأويل.

ثم لو سلمت حملت على الاستحباب، وإطلاقها على الجواز. وذهب بعض مشايخنا إلى أنها لا حجة فيها وإن أضيفت إلى التنزيل وغيره؛ لأنها ذكرت لكونها قرآناً، ولم يثبت كونها قرآناً؛ فلا يجب العمل بها. وعن القياس على كفارة الظهار والقتل بأنها لما غلط صومها بزيادة العدد تغلظ بالتتابع، ولما خفف هذا الصوم بنقصان العدد تخفف بالتفرقة. وعما ألزموه من قاعدة الشافعي في حمل المطلق على المقيد: بأن الإطلاق هاهنا متردد بين أصلين يجب التتابع في أحدهما وهو كفارة الظهار، ولا يجب في الآخر وهو قضاء رمضان؛ فلم يكن أحد الصلين في التتابع بأولى من الآخر. التفريع: على القول باعتبار التتابع إذا أفطر الحالف في اليوم الثاني أو الثالث بعذر المرض أو السفر، كان حكمه كما ذكرنا في الظهار. ولو أفطرت المرأة بعذر الحيض، فقد قيل: لا يقطع التتابع؛ كما في صوم الشهرين. وقيل: يقطع بالانقطاع؛ لأن خلو الأيام الثلاثة عن الحيض ممكن، بخلاف الشهرين، وقيل: الحيض هاهنا كالمرض هناك. وإذا كانت المرأة ممن لم تحض، فشرعت في الصوم وابتدأها الحيض- قال الرافعي: اتجه التسوية بينه وبين المرض. قال: وإن كان الحالف كافراً لم يكفر بالصوم؛ لأنه ليس من أهله، وكذا لو كان مسلماً ثم ارتد، ليس له أن يكفر به في حال ردته، ويجوز للكافر أن يكفر بالمال؛ لما ذكرناه في كتاب الظهار. وهل يجوز للمرتد أن يكفر به؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على الخلاف في ملكه: إن قلنا بزواله لم يكفر به أيضاً، وإن قلنا ببقائه كفر به، وإن وقفناه: فإن عاد إلى الإسلام تبين وقوعه عنه، وإن مات أو قتل على الردة فلا. والثاني: القطع بإجزائه لأنه مستحق عليه قبل الردة؛ فكان كالديون، على أن في الديون وجهاً عن الإصطخري حكاه صاحب "التقريب": أنها لا تقضي؛ على قول زوال الملك، ويجعل كأنه تلف. والظاهر: أنه يكفر، وإن ثبت الخلاف.

وهذا الحكم جار هاهنا، وفي سائر الكفارات، وعن صاحب "التقريب" حكاية وجه في هذه الكفارة: أنه لا يخرج من ماله إلا أدنى الدرجات؛ هكذا حكاه الرافعي. وحكى البندنيجي أن إجزاء الكفارة عنه ينبني على تصرفه، وفيه ثلاثة أقوال [مشهورة، فإن قلنا بجوازه أجزأه، وإن قلنا بعدم جوازه ففي ماله- على هذا القول- قولان:]. أحدهما: أنه زال عنه. والثاني: أنه باق عليه. وعلى القولين تكفيره وتصرفه باطل؛ فإن كان عليه دين، فقضاه عن نفسه، لم يصح، وإن قضاه الإمام من ماله جاز. قال: وإن كان عبداً، فأذن له المولى في التكفير بالمال، أي: الذي ملكه إياه، لم يجز في أصح القولين؛ بناء على أنه لا يملكه، وهو الجديد. وفي "الشامل" و"الذخائر" حكاية عن ابن القاص تفريعاً على هذاك أنه يصح منه التكفير بالمال حتى بالعتق، ويثبت له الولاء، وأنكره أصحابنا. قال: ويجوز في الآخر بالطعام والكسوة؛ بناء على أنه يملك، وهو القديم. قال: دون العتق؛ لأن العتق يستعقب الولاء، ولا يمكن إثبات الولاء للعبد. وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه يجوز؛ كالطعام والكسوة. وعلى هذا: فلمن يكون الولاء؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه للسيد. والثاني: أنه موقوف على ما يفضي إليه الحال: من عتق؛ فيصير الولاء له، أو يموت على رقه؛ فيكون لسيده، هذه طريقة "الحاوي". وأما الإمام فقدم على الكلام في ذلك مقدمة، وهو أن السيد لو ملك رقيقه عبداً، وأذن له في عتقه، فلا شك في نفوذ العتق، و [لكن] لمن يكون الولاء؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يكون للعبد؛ فعلى هذا يجزئ عتقه عن الكفارة.

والثاني: أنه يكون للسيد؛ فعلى هذا يقع العتق عمن؟ قال الإمام: ينقدح فيه وجهان للأصحاب: أظهرهما: أنه للسيد، وكأن الملك ينقلب إليه؛ لانصراف الولاء إليه؛ فعلى هذا لا يجزئ عن الكفارة. والثاني: أنه للعبد؛ فعلى هذا يجوز عتقه عن الكفارة، وهو ما صار إليه الشيخ أبو محمد. والثالث: أنه يكون موقوفاً؛ فعلى هذا هل يقع العتق عن الكفارة ناجزاً في الحال، أو يكون موقوفاً كالولاء؟ الذي حكاه الصيدلاني عن الأصحاب: الأول. والذي اختاره: الثاني، وبه قطع القاضي، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في كفارة الظهار مختصراً. وحكم المدبر والمعتق بصفة وأم الولد، حكم العبد. وأما المكاتب: فإن قيل: إن العبد لا يملك إذا ملك، لم يكن له أن يكفر إلا بالصوم. وإن قلنا: إنه يملك بتمليك السيد وأذن له، ففي جواز تكفيره بالمال قولان: أحدهما: يجوز كالعبد. والثاني: لا يجوز أن يكفر إلا بالصوم، وإن كان للعبد أن يكفر بالمال؛ لأن تملك السيد لمال مكاتبه ضعيف، فضعف إذنه فيه، وتملكه لمال عبده قوي؛ فقوى إذنه فيه، كذا حكاه الماوردي. وحكى الإمام عن الصيدلاني أنه قال: إن أعتق المكاتب عن كفارته بإذن السيد – على قولنا بنفوذ تبرعاته بإذن السيد- فالذي ذكره الأصحاب: أن ذمته برئت عن الكفارة. والذي عندي فيه: أن الأمر موقوف؛ فإن المكاتب ربما يعجز فيرق، ثم إذا عاد رقيقاً فيكون الولاء موقوفاً، وإذا كان موقوفاً يجب وقف الكفارة. واعلم أن كل موضع قلنا فيه: يجوز للعبد أن يكفر بالمال بإذن المولى، يجوز للمولى أن يكفر عنه بإذنه به. وكل موضع قلنا: لا يجوز [له] أن يكفر به بإذن

المولى، لا يجوز للمولى أن يكفر به عنه بإذنه. نعم، لو مات العبد والمكاتب جاز للمولى أن يكفر عنه بالإطعام والكسوة، وإن قلنا: إن العبد لا يملك بالتمليك؛ لأن التكفير عنه في الحياة يتضمن دخوله في ملكه، والتكفير بعد الموت لا يستدعى ذلك؛ فليس للسيد ملك محقق. وأيضاً فإن الرق لا يبقى بعد الموت؛ فهو والحر سواء. قال الإمام: ويتطرق إليه احتمال وجه مذكور في الكفارات- فيما إذا أعتق العبد وعليه كفارة، وأراد أن يكفر بالمال، وقلنا: إن الاعتبار بحال الوجوب-: أنه لا يجوز؛ لأنه لم يكن أهلاً للتكفير بالمال حينئذ. وإذا قلنا بالظاهر فهل يجزئ إعتاقه عنه؟ فيه وجهان، أصحهما- وهو المذكور في "التهذيب" المنع؛ لما ذكرناه من إشكال الولاء. فرع: إذا قلنا: يجوز للعبد أن يكفر بالمال، فهل له العدول عنه إلى الصيام؟ الذي أبداه الإمام والرافعي في كتاب الظهار: الوجوب، والذي يقتضيه إيراد الشيخ هاهنا: عدمه. آخر: إذا أعتق العبد بعد اليمين، ثم حنث؛ فحكمه في الكفارة حكم الأحرار، وإن حنث في حال الرق، ثم أعتق، فإن كان معسراً كفر بالصوم. وإن حصل له مال، فإن قلنا: الاعتبار بحال الأداء، أو بأعلى الحالين، كفر بالمال، ولم يجزئه الصوم. وإن قلنا: الاعتبار بحال الوجوب، أجزأه الصوم. وإن أراد أن يكفر بالمال، فإن قيل: إن العبد يجوز أن يكفر بالمال على قوله القديم: إنه يملك إذا ملكه سيده، كان بعد عتقه أولى بالجواز. وإن قيل: إنه لا يجوز للعبد أن يكفر بالمال على قوله في الجديد: إنه لا يملك، فهل يجوز له بعد عتقه أن يكفر بالمال؟ على وجهين: أحدهما: يجوز؛ لأنه عند تكفيره حر؛ فأشبه الحر المعسر. والوجه الثاني: لا يجوز؛ لأنه لو أراد التكفير بالمال عند الوجوب لم يجزئه، بخلاف الحر المعسر الذي لو كفر بالمال أجزأه؛ فلزمه استصحاب هذا الحكم بعد عتقه؛ لاستقرار وجوبه في حال رقه؛ فصار في حصول تكفيره ثلاثة أوجه: أحدها: لا يكفر إلا بالمال. والثاني: لا يكفر إلا بالصوم.

والثالث: أنه مخير بين التكفير بالمال أو الصيام، كذا حكاه الماوردي. والذي حكاه ابن الصباغ- على القول باعتبار حال الوجوب- أن المذهب: أن له أن يكفر بالعتق والإطعام والكسوة. ومن أصحابنا من قال: لا يكفر بالعتق قولاً واحداً، وفي الإطعام والكسوة القولان في ملك العبد؛ لأن الاعتبار بحال الوجوب، وحال الوجوب كان عبداً. قال: وإن أراد أن يكفر بالصوم في وقت لا ضرر على مولاه فيه، أي: مثل أن كان في الشتاء أو ما قاربه من الزمان القصير المعتدل، جاز، أي: من غير إذن المولى، سواء حلف بإذنه وحنث بإذنه، أو بغير إذنه، لأنه لا ضرر عليه في ذلك؛ فلم يكن له منعه منه؛ كما لو أراد أن يتطوع بالصلاة في غير زمان الخدمة، أو يقرأ القرآن. وحكى الماوردي وغيره وجهاً: أنه لا يجوز من غير إذنه؛ لأنه ينقض نشاطه. وحكم التطوع بالصوم في مثل هذا الوقت حكم الصوم عن الكفارة. وفي "النهاية": أن ما ذكر من جواز الصوم تبرعاً أو فرضاً حيث لا يؤثر في الرقبة والقوة في العبد، أما الأمة فللسيد أن يفطرها في صوم التطوع، وصوم الفرض إن لم يكن سبب وجوبه بإذنه. قال: وإن كان عليه ضرر فيه؛ بأن كان في حر شديد، أو في طول النهار، أو كان يضر به ويضعفه عن العمل- نظر: فإن كان حلف بغير إذنه وحنث بغير إذنه لم يجز؛ لأن السيد لم يأذن له فيما ألزم نفسه مما يتعلق به ضرر على السيد؛ فكان له منعه وتحليله منه؛ كما لو أحرم بالحج بغير إذنه. قال: وإن كان حلف بإذنه، وحنث بغير إذنه- فقد قيل: يجوز؛ لأن الإذن في الحلف إذن فيما يتعلق به ويترتب عليه؛ كما أن الإذن في النكاح إذن فيما يتعلق به من اكتساب المهر والنفقة، وهذا ما رجحه في "التهذيب". قال: وقيل: لا يجوز، وهو الأصح؛ لأن اليمين مانعة من الحنث، ولا يعقبها وجوب الكفارة؛ فلم يكن إذنه فيها إذناً في إلزام الكفارة.

ولأنه إذا حلف وحنث بغير إذنه، لم يجز له أن يصوم بغير إذنه، مع أنه لم ينهه عن المخالفة بالإذن في اليمين؛ فلئلا يجوز- وقد نهاه عن المخالفة وأكدها بإذنه في اليمين- كان أولى. وقد بقى من القسمة الرباعية أمران: أحدهما: قسيم الأول، وهو: إذا حلف بإذنه وحنث بإذنه، جاز من غير إذنه، ولم يكن للسيد منعه، وإن كانت الكفارة على التراخي؛ لما صدر عنه من الإذن، وحكى الإمام أن من أصحابنا من قال: لا يجوز. الثاني: إذا حلف بغير الإذن، وحنث بالإذن، فطريقان: أحدهما- وهو الذي جزم به الماوردي والمحامللي-: أنه يجوز، وهو قضية كلام ابن الصباغ؛ حيث علل وجه الجواز- فيما إذا حلف بالإذن، وحنث بغير الإذن- بأنه أذن في أحد سببي الكفارة؛ فلم يكن له المنع من التكفير؛ كما لو أذن في الحنث دون اليمين. والطريق الثاني- وهو الذي ذكره الغزالي-: [أن] فيه وجهين، والأظهر- وإن ثبت الخلاف- جوازه بغير الإذن. قال: فإن خالف، أي: [حنث، و] قلنا: لا يجوز من غير إذن، وصام، أجزأه؛ لأنها عبادة لا يقف انعقادها على إذنه؛ فصحت وإن جاز للسيد منعه؛ كالحج. ولأن المنع لا يعود إلى نفس الصوم؛ فأشبه ما لو صلى الجمعة من غير إذنه. قال: وإن كان نصفه حراً، ونصفه عبداً، وله مال- أي: ملكه بنصفه الحر- كفر بالطعام والكسوة، أي: ولا يجوز له أن يكفر بالصوم؛ العاجز عنه، وهذا كما أنه إذا وجد ثمن الماء لا يجوز أن يصلي بالتيمم، وإذا وجد ثمن الثوب لا يجوز له أن يصلي عارياً كالحر. قال: دون العتق؛ لأنه إذا لم تكمل فيه الحرية لم يكن من أهل الولاء؛ فلم يصح منه الإعتاق كالعبد القن.

وذكر الصيدلاني في تكفيره بالعتق قولين كالقولين في المكاتب إذا أعتق بإذن سيده، والذي يظهر أن يجيء فيه ما ذكرناه من الخلاف في العبد من طريق الأولى. قال: وقيل: هو كالعبد القن، أي: فيكفر بالصوم، وهذا ما خرجه المزني، ويقال: إن ابن سريج صوبه فيه. وفي "الحاوي": أن عدة من أصحابنا وافقوه عليه، ووجهوه بأنه ناقص بالرق، وبأن الأداء بحسب اللزوم، واللزوم يلغي جملته؛ فكذا الأداء؛ فلو أخرج المال لكان مخرجاً عن بعضه الرقيق. والمذهب: الأول؛ لأن تكفير الحر الموسر بالمال، وتكفير العبد القن بالصوم، ولم يخل حال من نصفه حر ونصفه عبد من ثلاثة أحوال: تبعيض الكفارة على الرق والحرية، أو تغليب الرق على الحرية، أو على العكس، وقد أجمعوا على بطلان الأول؛ فلم يبق إلا تغليب أحدهما؛ فكان تغليب الحرية في التكفير بالمال أولى من تغليب الرق في التكفير بالصوم من وجهين: أحدهما: أنه لما تغلبت حرية بعضه في السراية إلى عتق جميعه تغلب حكمها في تكفيره. والثاني: أن التكفير بالمال أصل، وبالصيام بدل؛ فكان تغليب ما أوجب الأصل من المال أولى من تغليب ما أوجب البدل من الصيام. وقد نجز – بحمد الله- شرح مسائل الكتاب، ولنختمه بذكر فوائد وفروع متعلقة به، فنقول: الكفارات ثلاثة أنواع: نوع مرتب لا تخيير فيه، وهو كفارة القتل والجماع والظهار. ونوع مخير لا ترتيب فيه، وهو جزاء الصيد وفدية الأذى. ونوع فيه تخيير وترتيب، وهو كفارة اليمين وما في معناها من كفارة النذر، وقوله: أنت علي حرام.

فالتخيير في الأنواع الثلاثة، والترتيب بينها وبين الصوم، وعلى كل حال: فإذا أتى بها في [أي] وقت كانت أداء إلا كفارة الظهار؛ فإن لها وقت أداء وهو إذا فعلت بعد العود وقبل الجماع، ووقت قضاء وهو إذا فعلت بعد العود والجماع، صرح به البندنيجي. ويجوز لكل من وجبت عليه الكفارة إذا كان أهلاً لأدائها: أن يخرج المال منها بنفسه، ويجوز أن يأمر غيره بإخراجه، وإذا أمر غيره بالإخراج: فإن كان من مال المأمور صح، سواء كان بجعل أو بغير جعل، ويقدر بيعاً أو هبة، وموضع الكلام في ذلك عند الكلام فيما إذا قال لغيره: أعتق [عبدك عني]. وإن كان من مال نفسه فالمأمور وكيل، ولا شك في جواز ذلك؛ لأن مقصودها المال، [والعمل] تبع؛ فأجريت مجرى حقوق الآدميين، لكن النية في إخراجها مستحقة لما يتضمنها من العبادة، وللآمر والمأمور أربعة أحوال: أحدها: أن ينوي الآمر عند الأمر والمأمور عند دفعه، فهو أكمل أحوال الجواز. والثاني: ألا ينوي واحد منهما؛ فلا يجزئ، ولا يضمنه المأمور. والثالث: أن ينوي الآمر عند دفعه، [ولا ينوي المأمور عند دفعه] فهذا يجزئ لاقتران النية بالدفع. والرابع: أن ينوي الآمر عند الأمر، ولا ينوي المأمور عند دفعه؛ ففي إجزائه وجهان، حكى ذلك الماوردي. والثالث على الضد مما حكى في كتاب الزكاة. ثم الآمر إما أن يعين ما يخرجه في الكفارة، أو لا يعينه ويطلق؛ فإن عين شيئاً، فأخرج غيره ضمنه، سواء عدل من الأدنى إلى الأعلى، كعدوله من الإطعام إلى العتق، أو بالعكس، كذا أطلقه الماوردي. قلت: وفي ضمان المعتق نظر؛ لأن العتق غير نافذ [فكيف يضمنه]؟

وإن أطلق الإذن، ولم يعين له جنساً، فإن كانت الكفارة مرتبة حمل إطلاقه على ما يقتضيه حاله من عتق أو إطعام، فإن أخرج غيره لم يجزئه. وإن كانت كفارة تخيير مثل: كفارة الأيمان، فإن كفر بأقل الأشياء ثمناً جاز، سواء كان ذلك موجوداً في ماله أو غير موجود، وإن كفر بأكثر الأجناس ثمناً: فإن لم يوجد في ملكه إلا هو أجزأه، وإن لم يوجد في ملكه إلا الأقل لم يجزئه، ويكون ذلك على المأذون دون الآمر، والكفارة باقية، وكذا إن لم يكن في ملكه واحد منهما. وإن كانا في ملكه فوجهان: أحدهما: أن الحكم كذلك. والثاني: أنه يجوز. وهذا كله في حال الحياة، أما إذا مات من وجبت عليه الكفارة، ولم يخرجها – نظر: إن خلف تركة، كانت الكفارة في ماله، أوصى بها أو لم يوص، وسبيلها سبيل الديون، هذا هو المذهب. وذكر في باب الوصية وجه: أنه إن أوصى بها أخرجت من الثلث، وإلا لم تخرج. وعلى المذهب: للوصي أو الوارث أن يعتق عنه في الكفارة المرتبة، ويكون الولاء للميت؛ فإن تعذر العتق أطعم من التركة؛ لأن ذلك الواجب. وأما إذا كانت الكفارة غير مرتبة، مثل: كفارة اليمين وما في معناها، فالواجب – على ما حكاه البندنيجي والمحاملي-: [الإطعام لأنه أقل ما يكفر به في حال الحياة، وقال صاحب التهذيب: الواجب: أنقص الأشياء قيمة من] الإطعام والكسوة والعتق، واتفقوا أن الوارث إذا كفر بأعلاها قيمة جاز. وانفرد البندنيجي والمحاملي بحكاية وجه في الإعتاق: أنه لا يجزئ، وقد حكاه غيرهما. وبنى في "الحاوي" الوجهين في جواز الإعتاق على خلاف بين أصحابنا في أن الواجب بالنص في كفارة التخيير أحد الخصال على وجه التخيير، أو

الواجب جميعها بالنص، وله إسقاط جميعها بفعل أحدها؟ فإن قلنا الأول لا يجزئ، وإن قلنا بالثاني أجزأه، وهو الأصح في الطريقين، وعليه ينبني ما لو أوصى بالعتق وهو أزيد قيمة؛ فإنه يعتبر من الثلث، لكن هل المعتبر جملة الرقبة، أو القدر الزائد من ثمنها على قدر الواجب؟ فيه وجهان يجريان- على ما حكاه في "التهذيب"- فيما إذا أوصى بالكسوة أو الإطعام، وذلك أزيد قيمة: فعلى الأول- وهو الأصح عند الرافعي، وظاهر النص، ولم يحك البندنيجي سواه- إن وفي الثلث بها فذاك، وإن لم يوف، أطلق الرافعي القول ببطلان الوصية، وقال البندنيجي والمحاملي: إنما يفرد من التركة قدر الطعام وثلث ما تبقى: فإن لم يف بقيمة رقبة بطلت الوصية، وإن وفى فوجهان: قال ابن سريج وأبو إسحاق وغيرهما: يعتق بذلك رقبة، وظاهر المذهب: أن الوصية تسقط. وعلى الثاني: إن لم يوف الثلث بما زاد بطلت الوصية. وحكي في أصل المسألة وجه ثالث ضعيف في العتق: أن جملة الرقبة تعتبر من رأس المال، ويتجه جريانه في الكسوة والإطعام أيضاً. وإن كان الميت معسراً فقد حكى الماوردي: أن الأصحاب اختلفوا في أن التكفير يعتبر بالواجب؛ فيكون على ما مضى، أو معتبر بالتطوع؛ فيكون- على ما سيأتي- على وجهين، والذي حكاه في التطوع: أنه جائز إذا أوصى به، سواء كان عتقاً أو صدقة. وإن لم يوص به: فإن كان صدقة جاز من الوارث وغيره، وإن كان عتقاً: فإن تطوع به غير الوارث لم يجز؛ لأنه يتضمن الولاء، وهو يجري مجرى النسب؛ للحديث المشهور: "وليس لأحد إلحاق نسب بغيره"؛ فكذلك الولاء. وإن تطوع به بعض الورثة لم يجز؛ لما ذكرناه في الأجنبي، وإن تطوع به جميع الورثة فوجهان؛ هذا آخر كلامه، ومقتضاه- إذا فرعنا على الوجه الثاني- أن التكفير إن جرى بوصية من الميت يجوز من الوارث والأجنبي بالعتق وغيره، وقد صرح به ابن الصباغ وغيره، وجعله كما لو جرى في حال الحياة بإذنه، وإن جرى بغير وصية؛ يجوز من الوارث ومن الأجنبي التكفير بالطعام والكسوة، ولا يجوز من الأجنبي وبعض الورثة بالعتق، وهل يجوز به من جميع الورثة؟ فيه وجهان، وهذا يفهم أنه لا فرق بين الكفارة المرتبة والمخيرة، والذي حكاه ابن الصباغ والبندنيجي والمحاملي وغيرهم: أن الوارث يجوز له في الكفارة المرتبة أن يعتق وأن يطعم، وإن لم تكن مرتبة يجوز له الإطعام، وهل يجوز له العتق؟ فيه وجهان.

قال الإمام: والأولى ترتيب الخلاف على الخلاف فيما إذا خلف تركة؛ فإن التركة علقة قائمة حتى كأنها بقية من حياته. وأما الأجنبي فلا يقع عتقه عن الميت، وهل يجزئ إخراجه الإطعام والكسوة؟ سكت ابن الصباغ عن ذلك، وحكى الإمام ومن تابعه فيه وجهين، ووجه الأصحاب عدم إجزاء العتق منه بأمرين: أحدهما: أن التكفير بغير الإعتاق متيسر؛ فلا يعدل إلى الإعتاق؛ لما فيه من عسر إثبات الولاء، ومقتضى هذا: أن يجوز في الكفارة المرتبة. والثاني: أن فيه إضراراً بأقارب الميت من حيث إنهم يؤاخذون بجناية معتقه، وفي طريقة المراوزة حكاية وجه في إجزاء عتق الأجنبي، ووجه في عدم إجزاء الطعام من الوارث والكسوة، وضعفهما الغزالي. وأما الصوم فالجديد: أنه لا يجوز للوارث ولا لغيره أن يصوم عنه، وفي القديم: جوازه للولي، والأجنبي المأذون له في الصوم كالولي، وغير المأذون له فيه خلاف مرتب على الإطعام، وأولى بالمنع.

باب العدد

باب العدد العدة- بالكسر-: الاسم من "الاعتداد"، وقد تجعل مصدراً لإحصاء العدد؛ فيقال: عددت الشيء عداً، واعتدت المرأة اعتداداً. ويقال: عده فاعتد، أي: صار معدوداً. وهي في الشرع: اسم لمدة معدودة تربص فيها المرأة؛ لتعرف براءة الرحم. وذلك يحصل بأحد ثلاثة أمور: بوضع الحمل. أو: الأقراء. أو: الأشهر؛ على ما سنذكره. والأصل فيها- قبل الإجماع- آيات الكتاب؛ كقوله- تعالى- في سورة البقرة: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [وقوله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234]. ومن السنة: ما سنذكره في موضعه. قال أبي بن كعب: أول ما أنزل من العدد: الآية [الأولى]؛ فارتاب ناس بالمدينة في عدة الصغار والمؤيسات وذوات الحمل؛ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك؛ فأنزل الله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ ....} إلى آخرها. قال- رحمه الله-: إذا طلق امرأته بعد الدخول، وجبت عليها العدة، أي: سواء كان الدخول في حال الصبا، أو بعد البلوغ، وسواء كان الواطئ مقطوع الأنثيين أو لا؛ لعموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}،

ويعضده مفهوم قوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} [الأحزاب: 49]. فإن قيل: القصد من العدة- في الغالب- معرفة براءة الرحم، وهي متحققة؛ فيما إذا لم يحصل ثم إنزال؛ فلماذا وجبت والحالة هذه؟ فالجواب: أن الإنزال خفي يختلف في حق الأشخاص وفي الشخص الواحد باعتبار ما يعرض له من الأشغال؛ فيعسر تتبعه ويقبح؛ فأعرض الشرع عنه، واكتفى بسبب الشغل وهو الوطء، والوطء بتغييب الحشفة. وهذا صنيعه في تعليق الأحكام بالمعاني الخفية: كالإسلام، والبيع، وغيرهما. ثم الأصحاب لما رأوا اكتفاء الشرع في وجوب العدة- بما ذكرناه- ألحقوا به استدخال المرأة ماء الزوج من طريق الأولى، لأنه أقرب إلى العلوق من تغييب الحشفة، وألحقوا بذلك النسب أيضاً، وقالوا: لا اعتبار بقول الأطباء: إن الماء إذا ضربه الهواء لم ينعقد منه الولد؛ لأنه شيء مقول بالظن لا يتأتى فيه الإمكان. وفي "التتمة" حكاية وجه: أن الاستدخال لا يوجب العدة؛ إعراضاً عن النظر إلى شغل الرحم، [وإدارة للحكم] على الإيلاج. ثم على الأول: هل يشترط أن يكون ماء الزوج صدر عن وطء شبهة، أو لا فرق فيه بين ذلك وبين أن يكون صدر عن زنى؟ الذي ذكره صاحب "التهذيب"- على ما حكيناه في باب ما يحرم من النكاح- عن المذهب: الأول، وأبدى من عند نفسه الثاني؛ كما لو وطئ زوجته على ظن أنه زنى بها. وأطلق الرافعي الجواب هاهنا بوجوب العدة من غير تفصيل؛ فلعله محمول على ما حكاه في "التهذيب". فرع: لو أقرت المرأة بالدخول، وأنكر الزوج، وحلف عليه- ففي وجوب العدة عليها وجهان محكيان في "النهاية" في باب الإقرار بالنسب. قال: وإن طلقها بعد الخلوة، ففيه قولان: أصحهما: أنه لا عدة عليها؛ لقوله -تعالى- {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، ولأن القصد بالعدة:

معرفة البراءة، وهي محققة مع انتفاء مظنتها. والقول الثاني- وهو القديم-: أن عليها العدة؛ لما ذكرناه في كتاب الصداق: أن عمر وعلياً- رضي الله عنهما- قالا: "إذا أغلق باباً وأرخى ستراً فلها الصداق كاملاً، وعليها العدة". ولا فرق في جريان القولين بين أن تجري مباشرة فيما دون الفرج أو لاز والمطلقة قبل الدخول والخلوة لا عدة عليها اتفاقاً. وزوجة المجبوب الذكر، الباقي له الأنثيان، لا يتصور منه الدخول، ولا عدة على زوجته إذا طلقها وهي حائل، وإن طلقها وقد ظهر بها حمل فقد ذكرنا أنه يلحقه، وعليها أن تعتد بوضعه. وامرأة الممسوح لا تجب عليها عدة الطلاق؛ بناء على الصحيح- في [أن] الولد [غير] لاحق به. قال: ومن وجبت عليها [العدة]، أي: بسبب الطلاق، وهي حامل، أي: بحمل يجوز أن يكون من المطلق حتى المنفي باللعان- اعتدت بوضع الحمل، أي: ولو كان ميتاً؛ لعموم قوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، وإنما قيدنا صورة المسألة بالطلاق؛ لأن عدة المتوفى عنها والموطوءة بالشبهة ستأتي في الباب، إن شاء الله تعالى. وإنما قلنا: إن وضع الحمل المنفي باللعان يحصل به الاعتداد؛ لأنه يحتمل أن يكون منه. والقول في العدة قول المرأة؛ لقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]. ثم المعتبر في انقضاء العدة بالحمل أن ينفصل بجملته، فإن كان أكثر من ولد فلا بد من خروج الجميع، وإن كان ولداً واحداً فلا بد من انفصال جميعه وجهاً واحداً، حتى لو لم تنفصل رجله، لم تنقض العدة؛ فلو ماتت ورثها إذا كان الطلاق رجعياً؛ وكذلك هي، وإن كان في وجوب الدية بقتله وغيرها من

الأحكام خلاف يأتي في موضعه. أما إذا لم يمكن أن يكون من المطلق؛ بأن وضعته لدون ستة أشهر من يوم النكاح أو لأكثر، وبين الزوجين مسافة [لا] تقطع في تلك المدة- فلا تنقضي به العدة، كما سنذكره في زوجة الصبي؛ لأنه ليس منه، هذا هو المشهور. وفي "الوجيز" وراءه وجهان آخران جاريان فيما لو مات: أحدهما: انقضاء العدة به؛ لاحتمال أنه جرى وطء شبهة قبل النكاح. والثاني: أنها إن ادعت وطء شبهة حكمنا بانقضاء العدة؛ لأن القول في العدة قولها إذا حصل الإمكان. ولم يذكر في "النهاية" ولا في "البسيط" الوجهين في هذه الصورة، وإنما ذكراهما مع الوجه الأول فيما إذا قال لامرأته: إذا ولدت فأنت طالق، فولدت وشرعت في العدة، ثم ولدت بعد ستة أشهر ولداً آخر. والثالث منهما: الفرق بين أن يدعى وطئاً [محترماً من] الزوج بعد الولادة الأولى؛ فتنقضي العدة، أو لا يدعي؛ فلا نحكم بانقضائها. ثم إذا فرعنا على المذهب فمتى تشرع في الأقراء؟ ينظر: إن كان الحمل من وطء شبهة أو نكاح فاسد، فمن حين الوضع، وكذلك إن كان من زنى، ولم تر الدم على الحمل، أو رأته، وقلنا: إنه ليس بحيض، أما إذا قلنا: إنه حيض، فهل تنقضي عدتها بثلاثة أطهار في حال الحمل؟ وجهان، أظهرهما عند الرافعي: الانقضاء، وعلى هذا: لو زنت في عدة الطلاق، وحبلت من الزنى، لم يمنع ذلك انقضاء العدة، ولو كان الحمل مجهول الحال، فقد حكينا من قبل عن الروياني أنه يحمل على أنه من زنى. وفي "النهاية" في فصل أوله: "إذا نكحت في العدة"- أن المعتدة لو أتت بولد لا يمكن أن يكون من واحد منهما لا نقضي بأنه ولد زنى، ولكن لا اب له، وطريق تحسين الظن حمل العلوق به على وطء شبهة. فرع: امرأة المسلول الأنثيين، الباقي الذكر، إذا وضعت حملاً انقضت عدتها

بوضعه؛ بناء على الصحيح في لحوق الحمل به. وفيه وجه: أنه لا يلحقه؛ فعلى هذا لا تنقضي العدة بوضعه. قال: وأكثره أربع سنين، وقال المزني- على ما حكاه الماوردي وغيره-: أكثره سنتان. والدليل على المذهب في اعتبار مدة السنين الأربع: الاستقراء؛ قال مالك – رحمه الله-: هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدق، وزوجها رجل صدق، وحملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين. وروى المبارك عن مجاهد قال: مشهور عندنا: كانت امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين. وروى الشافعي عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد القرشي: أن سعيد بن المسيب أراه رجلاً، فقال: إن أبا هذا غاب عن أمه أربع سنين، فوضعت هذا وله ثنايا. ورأى هشام بن يحيى المجاشعي قال: بينما مالك بن دينار يوماً جالس إذ قام رجل، فقال: يا أبا يحيى، ادع لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد؛ فغضب مالك وأطبق المصحف، وقال: ما ترى هؤلاء القوم؟ ثم قرأ ودعا؛ فجاء الرسول إلى الرجل، فقال: أدرك امرأتك؛ فذهب الرجل، فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط ابن أربع سنين، قد استوت أسنانه، ما قطعت سراره. وفي أن هذه المدة [هي] أكثر مدده؛ بأن الأصل فيما زاد العدم. وحيث تكلمنا في الدليل على أكثر الحمل، فلنذكر الدليل على أقل مدته وهي ستة أشهر. ونقول: الدليل على ذلك: ما روي أنه أتي إلى عثمان- رضي الله عنه- بامرأة ولدت لستة أشهر؛ فشاور القوم في رجمها؛ فقال ابن عباس- رضي الله عنهما-: أنزل الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وأنزل: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، فالفصل في عامين، والحمل في ستة أشهر. قال الماوردي: فرجع عثمان ومن حضر إلى قوله؛ فصار إجماعاً.

قلت: وفي هذه الواقعة دليل على ما ادعاه الروياني أن الحمل المجهول الحال يحمل على أنه من زنى، وقد روي أن الحسن بن علي- رضي الله عنهما- ولد بعد ستة أشهر من ولادة أخيه الحسين. وقال القتبي: إن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر. قال: [فإن] وضعت ما لم يتصور فيه خلق آدمي، وشهد القوابل أن ذلك خلق آدمي- فقد قيل: تنقضي به العدة، وهذا نصه هاهنا، قال الماوردي: في القديم؛ لأن القصد من العدة معرفة براءة الرحم، وهي تحصل برؤية الدم؛ فمثل هذا أولى. قال: وقيل: فيه قولان: أحدهما: أنها تنقضي؛ لما ذكرناه. والثاني: أنها لا تنقضي، وهو مخرج من نصه في الجنايات؛ فيما إذا جنى على امرأة فألقت مثل ذلك-: أنه لا يجب على الجاني الغرة، ومن نصه في أمهات الأولاد: أن الاستيلاد لا يحصل به. ووجهه: أن هذه الأحكام منوطة بالولد، واسم "الولد" لا يقع عليه؛ فصار كما لو ألقت علقة. والقائل الأول فرق بأن الغرة الأصل براءة الذمة منها؛ فلا تجب بالشك، وأمومة الولد منوطة باسم الولد، وهذا لا يسمى ولداً، والعدة منوطة باسم الحمل، وهذا يسمى حملاً، بخلاف العلقة؛ فإنها لا تسمى حملاً. وفي المسألة طريقة قاطعة، وصححها صاحب "التهذيب": أن العدة لا تنقضي بذلك. وقائلها حمل النص على ما إذا كانت فيه صورة خفيت عنا وعرفها

القوابل؛ فإن العدة تنقضي بها وجهاً واحداً؛ كما لو كانت الصورة ظاهرة لنا. وفي "الرافعي": أنه يشبه أن يكون الراجح طريقة القولين، وأن يقال: الأظهر انقضاء العدة؛ ولذلك ذكره الشيخ أبو الحسين ابن خيران في "اللطييف"، والقاضي الروياني وإبراهيم المرورذي. فرع: لو شك القوابل فيما وضعته في أنه مبتدأ خلق آدمي أم لا، فلا خلاف في أنه لا يترتب عليه حكم من أحكام الحمل. قال: وإن كانت من ذوات الأقراء اعتدت بثلاثة أطهار. الأقراء: جمع قرء، بضم القاف وفتحها. يجمع "القرء" على "أقراء" و"قروء"، وهو اسم مشترك بين الحيض والطهر يقع على كل منهما حقيقة عند الأكثرين من أهل اللغة، وقيل: إنه حقيقة في الطهر، مجاز في الحيض، وقيل عكسه، وقيل: إنه حقيقة في الانتقال من معتاد إلى معتاد؛ فتناول الانتقال من الحيض إلى الطهر وعكسه. وقيل: إن القرء- بالفتح-: الطهر، وهو الذي يجمع على "فعول"؛ كحرب وحروب، وضرب وضروب. والقرء- بالضم- يجمع على "أقراء"؛ كقفل وأقفال، والصحيح أنه لا فرق. إذا تقرر ذلك فنقول: الدليل على ما ادعاه الشيخ من أن الاعتداد في حق ذوات الأقراء يكون بالأطهار، قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] والمراد بالقروء في الآية: الأطهار عند الشافعي؛ كما ذهب إليه زيد بن ثابت، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، رضي الله عنهم. واستدل أصحابنا لذلك بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي: في وقت عدتهن؛ كما في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] أي: في يوم القيامة. والطلاق المأمور به في الطهر، قال- عليه السلام- لعمر- رضي الله عنه- وقد طلق ابنه زوجته في الحيض: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا؛ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ" فجعل الطهر زمان العدة. وروي أنه- عليه السلام-[كان] يقرأ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِقُبُلِ

عدتهن}، وقبل الشيء: ما اتصل بأوله؛ فكان القبل والاستقبال سواء. وتمسك الماوردي في ذلك بأن الله- تعالى- أثبت الهاء فيها، والهاء إنما تثبت في جمع المذكر دون المؤنث، و"الأطهار" جمع "طهر"، و"الطهر" مذكر، و"الحيض" لو قدرت جمع "حيضة". ولأن "القرء" مشتق من الجمع؛ يقال: قرأت الطعام في فيه، وقرأت الماء في جوفه؛ إذا جمعته، ومن ذلك سمي القرآن قرآنا؛ لاجتماعه؛ قال تعالى: {فَإِذَا قَرَانَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] يعني: إذا جمعناه فاتبع اجتماعه. وسميت القرية: قرية؛ لاجتماع الناس فيها، وإذا كان "القرء" هو الجمع كان بالطهر أحق من الحيض؛ لأن الطهر اجتماع الدم في الرحم، والحيض خروج الدم من الرحم، وما وافق الاشتقاق كان أولى بالمراد من مخالفه، والله أعلم. وفي "تعليق" القاضي الحسين والرافعي: أنه يروي أن الشافعي [وأبا عبيد القاسم ابن سلام تناظرا في "القرء"، وكان الشافعي يقول: إنه الحيض] وأبو عبيد يقول: إنه الطهر؛ فلم يزل كل واحد منهما يقرر قوله حتى تفرقا وقد انتحل كل واحد منهما مذهب صاحبه، وتأثر بما أورده من الحجج والشواهد. ثم قال الرافعي: وهذه الحكاية تقتضي أن يكون للشافعي قول قديم أو حديث يوافق مذهب أبي حنيفة. ثم ما المراد من الطهر المفسر به القرء؟ فيه قولان: المذكور منهما في "الرسالة": أنه الانتقال إلى الحيض، [وهذا] أخذاً من قولهم: قرأ النجم، إذا طلع، وقرأ: إذا غاب، وقد يقال: قرأ، إذا انتقل من برج إلى برج. قال الرافعي: وقد يقتضي الاشتقاق وقوع الاسم على الانتقال من الحيض إلى الطهر، كوقوعه على الانتقال من الطهر إلى الحيض، وهذا قد حكيناه من قبل. قال المتولي: الانتقال من الحيض إلى الطهر لا يدل على براءة الرحم؛ فإنها قد تحمل من الوطء في زمان الحيض، ثم ينقطع فيه، والانتقال من الطهر إلى الحيض يدل على البراءة؛ لأن الغالب أن الحامل لا ترى الدم؛ فاعتبر الشرع هذا الانتقال، ولم يعتبر ذلك الانتقال.

الثاني- وهو المذكور في "الأم"- أنه المحتوش بدمين، لا مجرد الانتقال، وهو الجديد، والأصح في "التهذيب" وعند القاضي الروياني وغيره. قال الرافعي: لكنه يخالف ما حكيناه في كتاب الطلاق [أن أكثرهم حكموا بوقوع الطلاق] في الحالف إذا قال للتي لم تحض قط: أنت طالق في كل قرء طلقة. وأظهر المراوزة ثمرة هذا الخلاف فيما إذا اعتدت الصغيرة بالشهور، ثم حاضت في أثنائها، وفيما إذا قال لها: أنت طالق في آخر طهرك، أو وقع ذلك اتفاقاً، وعند العراقيين في ذلك كلام سنذكره. قال: ومتى يحكم بانقضاء العدة؟ فيه قولان: أحدهما: إن كان الطلاق في طهر- أي: قبل جماع فيه أو بعده- انقضت العدة بالطعن في الحيضة [الثالثة، وإن كان في حيض انقضت العدة بالطعن في الحيضة] الرابعة؛ لأن الظاهر أن الذي ظهر دم حيض؛ فيكون الطهر قبله قد كمل؛ فانقضت العدة بثلاثة أقراء، وقد روي عن عائشة وزيد بن ثابت- رضي الله عنهما- أنهما قالا: إذا طعنت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة، فقد برئت منه. وعن عثمان وابن عمر- رضي الله عنهم- أنهما قالا: إذا طعنت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له. وهذا القول هو الذي رواه الربيع والمزني، وهو الأصح. فإن قيل: فإاذ كان الطلاق في الطهر لم يكمل بذلك ثلاثة أقراء، وإنما حصل قرءان وبعض الثالث، والله- تعالى- أوجب الاعتداد بثلاثة أقراء. فالجواب: أنه قد يطلق اسم "الثلاث" على الاثنين وبعض الثالث؛ قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وهو شهران وبعض الثالث، وتقول: كتبت لثلاث خلون، وإن كان قد مضى اثنان وبعض الثالث؛ فكذلك في "الأقراء". فإن قيل: ذلك مجاز، والأصل في الإطلاق الحقيقة. قيل: الحمل [على] المجاز هاهنا متعين؛ لأمرين:

أحدهما: أنها لو لم تعتد به عن الطلاق لكانت عدتها بأكثر من ثلاثة أقراء، والله- تعالى- أمرها أن تعتد بثلاثة أقراء. والثاني: أنه منع من الطلاق في الحيض؛ لئلا تطول عدتها؛ لفوات الاعتداد بحيضها، وترك الاعتداد بما ذكرناه أبعد لعدتها، وأسوأ حالاً من الطلاق في الحيض؛ فلو لم تعتد به لكان المنع من الطلاق فيه أولى. واعلم أنا إنما نبهنا على أنه لا فرق في بقية الطهر بين أن يكون قبل الجماع أو لا؛ لأنا رأينا الجيلي قد جزم القول بأنه إذا كان الطلاق بعد جماع فيه: أن عدتها لا تنقضي إلا بالطعن في الحيضة الرابعة، وهذا خلاف ما نص عليه الشافعي في "المختصر"، وصرح به أصحابنا كالماوردي، وابن الصباغ والإمام وغيرهم، ولم أر ما قاله لأحد من أصحابنا. نعم، حكوه عن أبي عبيد القاسم بن سلام؛ فلعله اعتقد أنه من أصحابنا؛ فاقتصر على حكاية مذهبه. قال: والثاني: لا تنقضي حتى تحيض يوماً وليلة، أي: من الحيضة الثالثة أو الرابعة؛ لجواز أن يكون ذلك دم فساد؛ فلا نحكم بانقضاء العدة بالشك، وهذا ما رواه البويطي [وحرملة]. قال: وقيل: إن حاضت للعادة انقضت العدة بالطعن في الحيض، لأنه يعلم من العادة أنه حيض، وإن حاضت لغير العادة لم تنقض حتى تحيض يوماً وليلة؛ لأنه لا يعلم أنه حيض بيقين. والقائل بهذه الطريقية حمل النصين على هذين الحالين، والقائل الأول يقول: إن لم يوجد شرط الحيض بعد ذلك تبين أن العدة لم تنقض. وهل لحظة رؤية الدم، أو اليوم والليلة- إن اعتبرنا وجودهما- من نفس العدة، أو يتبين بها انقضاء العدة وليست منها؟ فيه وجهان محكيان في الطريقين، وأصحهما- على ما حكاه الرافعي وغيره-: الثاني، وتظهر فائدة الخلاف فيما لو راجعها في هذا الزمن، أو مات واحد منهما، أو تزوجها غيره. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون الدم الذي رأته في زمن الإمكان أسود أو أصفر أو كدراً.

وقال أبو سعيد الإصطخري: الصفرة والكدرة في غير أيام العادة ليست بحيض؛ لأنه إذا تجرد من صفة الحيض، وخرج عن زمانه؛ كان قاصراً. قال أبو إسحاق المروزي: وقد كنت أذهب إلى هذا حتى رأيت للشافعي نصاً يسوي في الصفرة والكدرة بين أيام العادة وغيرها. تنبيه: قول الشيخ: "إن كان الطلاق في طهر انقضت العدة بالطعن في الحيضة الثالثة"، محمول على ما إذا بقي من الطهر بعد وقوع الطلاق بقية، أما إذا لم يبق، بل انطبق آخر لفظ لطلاق على [آخر] [أجزاء] الطهر، ويتصور ذلك بأن يقول: أنت طالق في آخر أجزاء طهرك، أو يقع ذلك اتفاقاً- فالمذهب المشهور: أنه لا يعتد بذلك قرءاً، وإن كان كلام الشيخ يصدق عليه. وفيه وجه محكي في "المهذب" وغيره عن تخريج ابنس ريج أنه يعتد به قرءا. ومحله عند البندنيجي وابن الصباغ إذا تكمل لفظ الطلاق في زمن الطهر، وتخلل بينه وبين الحيض زمن وقوع الطلاق، وجزما القول بعدم الاعتداد فيما إذا انطبق آخر اللفظ على آخر الطهر، وغيرهما لم يعتبر ذلك، وما قالوه يمكن أن يخرج على قاعدة قررها الغزالي في كتاب الظهار: أن كل حكم مرتب على لفظ: فيكون مع آخر جزء منه، أو متأخراً مترتباً عليه ترتب الضد على زوال الضد؟ والأصح عند الغزالي وإمامه: الأول، ومقتضاه جريان الخلاف في الصورة التي حكيناها أولاً، ومقتضى مقابله: يكون الطلاق واقعاً في الحيض؛ فلا يعتد به قرءاً وجهاً واحداً، ويكون محل الخلاف ما حكاه البندنيجي. فائدة: إذا كانت المطلقة مستحاضة فلها أربعة أحوال: الحالة الأولى: أن تكون معتادة. الثانية: أن تكون مميزة، ولا يخفى الحكم فيها. الحالة الثالثة: أن تكون معتادة مميزة؛ فالجمع بينهما مع اختلاف حكمهما غير ممكن، وفيما يعتبر منهما وجهان: أحدهما- وهو ظاهر المذهب- حكم التمييز على العادة. والثاني: عكسه. ولا يخفي التفريع على كل قول.

الحالة الرابعة: أن تعدما، ولذلك صورتان: إحداهما: أن تكون مبتدأة، وفيما نحيضها قولان مذكوران في الحيض. والحكم في انقضاء عدتها: أنا ننظر: إن كان الطلاق في الدم في أول الشهر انقضت عدتها بثلاثة أشهر كاملة؛ لأن الأغلب من عادة النساء أن يحضن في كل شهر حيضة، قال الرافعي: وشهرها ثلاثون يوماً. ثم قال: ويمكن أن تعتبر الأهلة؛ كما سنذكره في الناسية، وقد أشار إليه مشيرون. وإن كان في أثناء الشهر فهل تعتد بباقيه قرءاً أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لجواز أن يكون حيضاً. والثاني: نعم، وهو اختيار ابن أبي هريرة؛ لأن اعتبار الأغلب في الشهر أن يجمع حيضاً وطهراً، يقتضي تغليب الحيض في أوله والطهر في آخره؛ فيصير الطلاق في آخره طلاقاً في الطهر، كذا حكاه الماوردي، وفيما علل به إشعار بأن محل الوجهين فيما إذا بقي من الشهر القدر الذي نحيضها فيه أو أقل، أما إذا بقي أكثر من الزمن الذي نحيضها فيه، فالذي يظهر أنه يجب القطع بالاعتداد به، وسنذكر من بعد عنه ما يعضده. ويظهر من طريق النظر أمر آخر: أن يقال: إن كان الطلاق في أثناء الشهر، وكان ذلك الوقت [مثل الوقت الذي ابتدأ بها فيه الدم أولاً- تعتد بثلاثة أشهر من ذلك الوقت] وجهاً واحداً؛ بناء على أنا [لا] نحيضها في الشهر أكثر من مرة واحدة إما لأنا نحيضها أقل الحيض ونجعل باقي الشهر طهراً، أو لأنا نحيضها أغلب الحيض، ونجعل طهرها غالب الطهر؛ لأن ذلك الوقت يكون أول كل حيضة على هذا التقدير، أما إذا حيضناها أقل الحيض، وجعلنا طهرها أقل الطهر، فيظهر أن عدتها تنقضي بأقل من ذلك. وإن كان الطلاق قبل رؤية الدم، ثم أت الدم في شهرها- فسيأتي بالاعتداد

[بما مضى] قرءاً حكاية خلاف: فإن اعتددنا به قرءاً انقضت عدتها إذا استكملت شهرين بعده مع اتصال [الدم]، وإن لم نعتد به اعتدت بثلاثة أشهر بعد رؤية الدم، سواء كان الدم في أول شهر أو في تضاعيفه؛ لأن أول الدم هو الحيض يقيناً. الثانية: أن تكون ناسية للوقت والعدد؛ فلا تعلم هل كان حيضها يوماً أو عشرة، وهل كان في كل شهر أو شهور، أو في كل سنة أو سنين، وهي المتحيرة- ففي حكم عدتها قولان: أحدهما: أنها كالمبتدأة؛ فتحيض في كل شهر حيضة؛ فإن طلقت في شهر قد بقي منه أكثر من القدر الذي نحيضها إياه، اعتدت به قرءاً، وإن بقي قدر ما نحيضها أو أقل لم تعتد به قرءاً، كذا حكاه الماوردي. وحكى البندنيجي: أنا على هذا القول نجعل حيضها من أول كل شهر. ولا يخفى تفريع الحكم على ذلك. وحكى القاضي الحسين وغيره وجهين: أحدهما: أنه إن طلقها وقد بقي من الشهر خمسة عشر يوماً [أو أقل فلا يحسب ذلك طهراً؛ لاحتمال أنه كله حيض، وإن بقي أكثر من خمسة عشر يوماً] حسب ذلك قرءاً؛ لأنا نقطع بأن فيه جزءاً من [طهر]. والثاني: يوافق ما يقتضيه التفريع على ما حكاه البندنيجي. والقول الثاني: أن أمرها مشكل؛ فتنقضي عدتها بثلاثة أشهر كاملة من وقت طلاقها، سواء كان في أول الشهر أو تضاعيفه؛ لقوله- تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] وهذه مرتابة؛ فتكون عدتها ثلاثة أشهر. والذي حكاه البندنيجي على هذا القول: أنها تصبر إلى سن الإياس، وحكي عن صاحب "التقريب" رواية وجه: أنا نأخذ بالاحتياط، ويكون حكمها حكم التي تباعد حيضها لعارض، ولا نقول- على هذا- بامتداد الرجعة

وحق السكنى، والذي عليه الجمهور خلافه، ولو كانت ناسية لعدد حيضها ذاكرة لوقته، وهي أن تقول: أعلم أن لي في أول كل شهر حيضة أنا ناسية لقدرها- ففيما ترد إليه قولان كالمبتدأة: فإن طلقت في أول الشهر اعتدت بثلاثة أشهر كوامل. ولو كانت ناسية للوقت ذاكرة للعدد، وهي أن تقول: أعلم أن حيضي في كل شهر عشرة أيام، [ونسيت وقتها من الشهر- فينظر: إن بقي من الشهر بعد الطلاق أكثر من عشرة أيام] اعتدت به قرءاً، فإذا مضى بعد مضي ذلك الشهر شهران انقضت العدة، وإن كان الباقي عشرة أو أقل استقبلت ثلاثة أشهر كاملات بعد انقضاء ذلك الشهر. قال: وإن كانت ممن لا تحيض؛ لصغر أو إياس اعتدت بثلاثة أشهر؛ لقوله – تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} الآية [الطلاق: 4]، ومعنى قوله: {إِنْ ارْتَبْتُمْ} أي: لم تعرفوا ما تعتد به التي أيست من ذوات الأقراء؛ فدل على ما ذكرناه عن أبي في أول الباب. وحكم من بلغت بالسن ولم تحض حكم من ذكرناه؛ لعموم الآية. ولو ولدت المرأة، ولم تر حيضاً قبل الولادة ولا نفاساً بعدها فتعتد بالشهور؛ لظاهر الآية، أو هي كمن انقطع دمها بلا سبب ظاهر؛ لأن الحمل لا يكون إلا لذوات الأقراء؟ فيه وجهان، والأول اختيار الشيخ أبي حامد. ثم الأشهر تعتبر بالأهلة أو بالعدد؟ ينظر: إن انطبق آخر الطلاق على آخر شهر- إما بالتعليق أو اتفاقاً- اعتبرت بالأهلة، وإن وقع الطلاق في أثناء شهر اعتبر الأول بالعدد- وأوله بعد الطلاق- والشهران الباقيان بالأهلة. وذهب أبو عبد الرحمن محمد ابن بنت الشافعي إلى أنا نعتبر الأشهر الثلاثة بالعدد والحالة هذه. وقد ذكرت في باب السلم عن الإمام وغيره كلاماً فيما إذا وقع العقد في آخر

لحظة من الشهر، وجاء بعده شهران ناقصان ومثله يجيء هنا. قال: فإن انقطع دمها لغير عارض، أي: معروف، وهي ممن تحيض- ففيه قولان أحدهما، أي وهو الجديد: تقعد إلى الإياس إن لم يعاودها الحيض، ثم تعتد بالشهور- أي: ولا تعتد بها قبل ذلك- لأن الله تعالى لم يجعل الاعتداد بالشهور إلا للتي لم تحض وللآيسة، وهذه ليست بواحدة منهما. ولأنها مطلقة ترجو عود الدم؛ فلم تعتد بالشهور، قبل [تبين الإياس] كما لو انقطع لعارض معروف من مرض أو رضاع. وقد استفتي عثمان وعنده علي وزيد- رضي الله عنهم- في امرأة حبان بن منقذ، وكان قد طلقها طلقة واحدة، وكانت لها منه بنية صغيرة ترضعها؛ فتباعد حيضها، وأقامت تسعة عشر شهراً لا تحيض- أترثه إذا مات؟ فقال لعلي وزيد: ما تريان؟ فقالا: نرى أنها إن [ماتت ورثها، وإن] مات ورثته؛ لأنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض، ولا من اللائي لم يحضن، وانتزع حبان البنت منها؛ فعاد إليها اللبن؛ فحاضت حيضتين، ومات حبان قبل انقضاء الثالثة، فورثها عثمان، رضي الله عنه. قال: وفي الإياس قولان: أحدهما: إياس أقاربها، أي: من أحد الأبوين، كما نص عليه في "الأم"؛ لتقاربهن في الطبع والخلق والخلق ونزوع بعضهن إلى بعض. وقيل: الاعتبار بنساء العصبات؛ كمهر المثل، وهو بعيد. وعلى الأول: لو اختلفت عادة أقاربها اعتبرنا أقل عادة امرأة منهن، وقيل: تعتبر أكثرهن عادة. وهذا القول إيراد صاحب "التهذيب" يقتضي ترجيحه. قال: والثاني: إياس جميع النساء [أي: أقصى إياس جميع النساء]؛ لأنه لا يتحقق الإياس فيما دون ذلك.

قال الإمام: ولا يمكن طوف العالم والتفحص، وإنما المراد ما يبلغ خبره ويعرف. وقيل: المعتبر سن اليأس غالباً، ولا نظر إلى الأقصى؛ كما يعتبر في المستحاضة [و] المبتدأة الرد إلى الغالب في قول. وعلى كلا الوجهين: هل المعتبر نساء زمانها أو نساء أي زمان كان؟ الذي رأيته في "الإبانة" الأول، وكذلك في "تعليق" القاضي الحسين و"التتمة"، وغيرهم لم يتعرض لذلك. واعلم أن القول باعتبار إياس جميع النساء هو الراجح على ما يقتضيه إيراد أكثرهم، خلا صاحب "التهذيب" كما حكيناه عنه، وقد حكى الروياني في "جمع الجوامع"، أن أبا إسحاق قال: لعله أصح القولين. وقد اختلف أئمتنا في سنه – تفريعاً على هذا القول- على ستة مذاهب: أشهرها: أنه اثنتان وستون سنة. وقيل: ستون سنة، وهو ما ذهب إليه ابن القاص والشيخ أبو حامد، ويعضده ما رواه ثابت [بن] قرة الحراني في كتاب "الذخيرة في الطب": أن أقل سن [الإياس] وانقطاع الحيض خمس وثلاثون سنة، وأكثره ستون سنة. وقيل: خمسون سنة، وينسب هذا إلى رواية أبي الحسين بن خيران في "اللطيف". وذكر أبو الفرج السرخسي: أن المرأة إنما تبلغ سن الإياس إذا جاوزت سبعين سنة، وحكى أن امرأة حاضت لسبعين سنة. ويقرب منه ما حكاه الماوردي: أن امرأة من بني تميم [ذات] خفر وخشوع أخبرته بجامع البصرة أن الدم عاودها بعد الإياس كما كان يعتادها في زمان الشباب منذ سنة، وكان سنها نحو سبعين سنة. وفي "الجيلي" حكاية وجه: أنه خمس وثمانون سنة. وفي "البيان": أن بعضهم قال: إن غير العربية لا تحيض بعد خمسين سنة، والعربية تحيض بعدها، ولا تحيض بعد ستين سنة إلا قرشية.

قال الماوردي: وهذا قول لا يتحقق. ووراء ما ذكرناه في اعتبار سن الإياس وجه آخر: أن المرجع فيه إلى سن نساء البلد الذي هي فيه؛ لأن للأهوية تأثيراً في الأمزجة؛ فعلى هذا: لو اختلفت عادة أهل البلد فما المعتبر؟ الذي رواه الإمام عن حكاية بعض المصنفين: أنا نعتبر أقصى عادة امرأة منهن. قال: والقول الثاني- أي في أصل المسألة-: أنها تقعد إلى أن تعلم براءة الرحم، ثم تعتد بالشهور؛ لأن الصغيرة لما عرفت براءة رحمها، وتعذر في حقها الرجوع إلى الأقراء في الحال- اعتدت بالشهور؛ كذلك هذه إذا مضت عليها مدة تعرف براءة الرحم، وجب أن تعتد بالشهور؛ احتياطاً كالصغيرة. ولأن في الزيادة على ذلك حصول ضرر عظيم؛ فلم يكلف به؛ لقوله- تعليه السلام-: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الإِسْلَامِ"، ووجه الضرار: أما بها؛ فلأنها [تبقى لا أيما ولا ذات زوج في قعر البيت، وإذا بلغت سن اليأس لا يرغب فيها. وأما بالزوج؛ فلأنه] تبقى نفقتها عليه إن كانت رجعية، وسكناها بكل حال ونحن نفسخ النكاح بدون هذه الضرورة الظاهرة، وهذا هو القول القديم. قال: وفي قدر ذلك، أي في قدر ما يحصل به العلم ببراءة الرحم قبل الاعتداد بالأشهر قولان: أحدهما: تسعة أشهر؛ لأن الحمل لا يكون في البطن أكثر من ذلك- غالباً- والمرأة تنقضي عدتها بثلاثة أشهر- غالباً- فأخذنا بما هو الظاهر والغالب. واستدل له الشافعي في القديم بأن أمير المؤمنين عمر- رضي الله عنه- قضى به بين المهاجرين والأنصار، ولم ينكر عليه أحد، فكيف يجوز لنا أن نخالفه؟ قال: والثاني: أربع سنين؛ لأنه لو جاز الاقتصار على براءة الرحم في الظاهر

لجاز الاقتصار على حيضة واحدة؛ لأنه يعلم بها براءة الرحم في الظاهر؛ فوجب أن نعتبر أكثر مدة الحمل لنعلم براءة الرحم بيقين. وفي المسألة قول آخر مخرج من القديم- على ما حكاه أبو الفرج [الزاز-: أن] مدة التربص قبل الاعتداد بالأشهر أقل مدة الحمل، وهي ستة أشهر؛ لأنه تظهر أمارات الحمل في هذه المدة وإن لم تلد، وإذا لم تظهر اعتدت بالأشهر. ثم على الأقوال كلها: لو كان انقطاع دمها بعد مضي قرء من العدة، لم تعتد به من المدة، والصحيح من القولين في أصل المسألة: الأول. وفي "جمع الجوامع" للقاضي الروياني وغيره: أن بعض الأصحاب حكى أنه رجع عما قاله في القديم صريحاً. وأجيب عن أثر عمر: بأنه محمول على امرأة بقي بينها وبين [سن الإياس] تسعة أشهر. وعن حصول الضرر: بأن امرأة المفقود تتضرر أكثر ما تتضرره هذه، وقد كلفت الصبر حتى [يأتيها بيقين] طلاقه أو وفاته؛ كذا قاله القاضي الحسين. ويمكن أن يفرق بينهما بأمرين: أحدهما: أن الضرر هاهنا شامل للزوجين من غير تقصير من أحدهما، وفي المفقود الضرر خاص بالزوجة أو بهما، لكن الضرر اللاحق بالزوج من تقصيره، ولا يلزم من اعتقاد ضرر واحد اعتقاد ضررين. الثاني: أن المفقود في كل وقت يمكن حضوره، وأطماع المرأة تمتد إليه؛ فلا يلحقها كبير ضرر، وهاهنا أطماعها منقطعة؛ فالضرر أشد، ويشهد لذلك ما ذكر في الإيلاء. تنبيه: قول الشيخ: "إنها تقعد إلى أن تعلم براءة الرحم"، جار على حقيقته إذا قلنا: إنها تصبر أربع سنين، أما إذا قلنا: تسعة أشهر، فيكون قد أطلق "العلم" وأراد به "الظن"، وذلك جائز من طريق المجاز؛ قال الله تعالى-: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] أطلق "العلم" وأراد به "الظن".

فرعان: أحدهما: إذا رأت الحيض في أثناء مدة التربص انتقلت إليه، فلو انقطع ولم يعد استأنفت مدة التربص؛ لتعتد بالشهود. وفي "التتمة": أنها لا تحتاج إلى استئنافها؛ لأنا على هذا القول لا نعتبر الإياس، وإنما نعتبر ظهور براءة الرحم، وقد ظهرت البراءة، ورؤية الدم تؤكد ظن البراءة، والمشهور الأول. ولو رأت الحيض في أثناء الأشهر انتقلت إليه، فلو انقطع ولم يعد استأنفت مدة التربص والأشهر عند العراقيين، وفي طريقة المراوزة حكاية وجه: أنها تبنى على ما مضى من الأشهر. ولو رأته بعد انقضاء الشهر، وقبل أن تنكح، ولم تعتد- فوجهان: أحدهما: أنها لا يلزمها شيء والثاني: أنها تستأنف مدة التربص والأشهر. وهذا ما حكاه في "الزوائد" المنصوص. ولو رأته بعد ما تزوجت فلا أثر لذلك. قال الرافعي: ويخرج مما في "أمالي" أبي الفرج السرخسي وجه: أنه يتبين بطلان النكاح؛ لأنها إذا حاضت تبين أنها لم تكن من ذوات الشهور. قلت: وهو قريب مما سنذكره عن القاضي الحسين في الفرع بعده. [الفرع] الثاني: الآيسة إذا رأت الحيض بعد سن الإياس فالحكم على ما ذكرناه، غير أنه لا يجيء فيه ما حكيناه عن المتولي، والوجه الذي حكيناه عن المراوزة- على ما قاله القاضي الحسين- وفرق بين الصورتين بأن هناك مضت قبل الأشهر مدة تدل على براءة الرحم بعد انقطاع الدم. وحكي أيضاً [في] أنها إذا رأت الدم بعدما نكحت خلافاً مرتباً على الخلاف فيما إذا رأت الدم بعد انقضاء الشهور وقبل النكاح، وهاهنا أولى بألا يبطل، وقرب الأصحاب هذا الخلاف من الخلاف في المعضوب إذا استأجر من يحج عنه، فحج، ثم برئ؛ فإن في إجزائه خلافاً مذكوراً في موضعه.

قال: وإن اعتدت الصغيرة بالشهور فحاضت في أثنائها، انتقلت إلى الأطهار؛ لأنها قدرت على الأصل قبل الفراغ من البدل؛ فانتقلت إليه؛ كالمتيمم إذا وجد الماء في خلال التيمم. ولأن الله- تعالى- جعل لها الاعتداد بالأشهر إذا كانت من اللائي لم يحضن، ولم تكن كذلك في جميع الأشهر؛ فلم تنقض عدتها بالأشهر، وذلك إجماع، قاله ابن الصباغ. قال: ويحتسب بما مضى طهراً؛ لأنه انتقال من [طهر إلى حيض]؛ فأشبه ما إذا طلقها وهي طاهر ثم حاضت، وهذا قول ابن سريج. قال: وقيل: لا يحتسب؛ لأنه طهر لم يتصل أحد طرفيه بحيض؛ فلم يعتد به قرءاً؛ كما لو لم يتصل الطرف الأخير به عند الإياس، ولأنها لو اعتدت بقرء، ثم طرأ عليها الإياس- لم يحتسب بزمان القرء شهراً، وتستقبل الأشهر، كي لا تكون عدة من جنسين، كذلك حيض الصغيرة لا يوجب احتساب ما مضى من الشهور قرءاً؛ كي لا تجمع في عدة واحدة بين جنسين. وهذا هو ظاهر النص في "المختصر"؛ لأنه قال: واستأنفت الأقراء. وإليه ذهب أبو سعيد الإصطخري وأبو إسحاق. قال: والأول أصح؛ لما ذكرناه، والآيسة لم يمنع من احتساب زمن قرئها من الأشهر ما ذكرتم، وإنما منع منه كونها تجعل الأصل بدلاً عن الفرع؛ فإن الأصل هو الأقراء، والأشهر بدل عنها، وهذا المعنى مفقود هاهنا. وبنى المراوزة هذا الخلاف على الخلاف في حد القرء: هل هو الانتقال من الطهر إلى الحيض، أو هو الطهر المحتوش بدمين؟ ومقتضى هذا البناء أن يكون الصحيح القول الثاني، كما هو ظاهر النص. فرع: لو اعتدت الصغيرة بالشهور، ثم حاضت بعد فراغها- لم يجب الانتقال إلى الأقراء؛ لأنه لو وجب لم يحصل الاعتداد بالأشهر في حقها؛ لأن الغالب في كل صغيرة الانتهاء إلى الأقراء، وبهذا فارقت [الآيسة] إذا رأت

الحيض بعد الاعتداد بالأشهر على رأي حيث قلنا: إنها تستأنف العدة؛ لندور ذلك. قال: وإن كانت أمة- فإن كانت حاملاً فعدتها بالحمل؛ لعموم قوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، ولقوله- عليه السلام-: "عِدَّةُ كُلِّ ذَاتِ حَمْلٍ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا"، ولأن الحمل لا يتبعض؛ فكان كالقطع في السرقة. قال: وإن كانت من ذوات الأقراء اعتدت بقرأين؛ لأن الآية وإن وردت في الطلاق عامة فقد خصصتها السنة؛ روى عطية عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تَطْلِيقُ الْعَبْدِ بِطَلْقَتَيْنِ، وتَعْتَدُّ الأَمَةُ حَيضَتَينِ".

وذكر الحيض؛ لأنه لا يعرف استكمال الطهر إلا به. وروى مظاهر بن أسلم عن القاسم بن محمد، عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طَلَاقُ الأَمَةِ طَلْقَتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ". قال الماوردي: وحديث ابن عمر أثبت؛ لأن في مظاهر التواء. ولأن الأمة على النصف من الحرة في القسم والحد؛ فكذلك هاهنا، إلا أنه لا يمكن أن يجعل قرءاً ونصفاً؛ فكمل النصف قرءاً؛ كما كملنا طلاق العبد كذلك. ولأن الاستبراء موضوع فيما يجري بحسب التفاضل في المستبرأة؛ ألا ترى أن الأمة في الملك تستبرأ بحيضة واحدة؛ لنقصانها بالرق، وعدم العقد؟ واستبراء الحرة بثلاثة أقراء؛ لكمالها بالحرية والعقد؟ ونكاح الأمة منزل بينهما؛ لأنها قد ساوت الحرة في العقد وساوت الأمة في الرق؟ فوجب أن تكون بين منزلتيهما. قال: وإن كانت من ذوات الشهور- أي: كما ذكرنا- ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: ثلاثة أشهر؛ لعموم قوله- تعالى-: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4]، ولأنه أقل زمان يظهر فيه استبراء الرحم؛ قال- عليه السلام-: "يَكُونُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِيْنَ يَوْماً نُطْفَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْماً عَلَقَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْماً مُضْغَةً"، [وهو في حال المضغة] يتخلق ويتصور وتظهر أماراته في الحركة وغلظ الجوف، وذلك عند انقضاء الشهر الثالث. وهذا القول هو الصحيح عند المحاملي، واختاره الروياني، وقال القاضي الحسين: ربما يخرج من أحد قولي الشافعي في المستولدة إذا عتقت: أنها تعتد بثلاثة أشهر، وعلى ذلك جرى الإمام وصاحب "التهذيب" تصريحاً بالتخريج.

قال: والثاني: شهران، بدلاً عن قرأين؛ كما كانت الأشهر الثلاثة في حق الحرة بدلاً عن ثلاثة أقراء وقد روي عن عمر أنه قال: "تعتد الأمة بحيضتين؛ فإن لم تحض فبشهرين، أو شهر ونصف"، فمنهم من قال: هو شك من الراوي، ومنهم من قال: هو ترديد قول من عمر، وهو ظاهر الرواية. قال الإمام وغيره: وهو شاهد بين في أن ترديد القول ليس بدعاً. قال: والثالث: شهر ونصف؛ ليجري ذلك على الصحة؛ كالعدة من الموت، وهذا هو الأقيس عند الماوردي والروياني، وظاهر المذهب على ما حكاه الروياني، وقال: إن عليه جمهور أهل خراسان من أصحابنا. وحكم المكاتبة وأم الولد فيما ذكرناه حكم القنة، وكذا من بعضها حر وبعضها رقيق، والله أعلم. قال: وإن أعتقت في أثناء العدة، أي: وكان الزوج حراً أو عبداً، ولم يفسخ النكاح: فإن كانت رجعية أتمت عدة حرة، وهذا هو الجديد، وأحد قولي القديم، ومقابله: أنها تتم عدة أمة. وإن كانت بائنة ففيه قولان، أي: مذكوران في الجديد- والمذكور منهما في القديم: أنها تتم عدة أمة. وقد تحصل من مجموعهما ثلاثة أقوال: أحدها- وهو اختيار المزني، والأصح عند المحاملي وصاحب "الحلية"، وغيرهما-: أنها تتم عدة حرة؛ لأن ما اختلفت به العدة، المعتبر فيه [الانتهاء دون الابتداء؛ كالشهور والأقراء، ولأن الاحتياط للعدة] أولى من الاحتياط للمعتدة المستريبة. الثاني: أنها تعتد عدة الإماء؛ لأن الاستبراء في الرق لا يتغير بحدوث

العتق؛ كأم الولد؛ فكذلك هنا. ولأن ما يتبعض المعتبر فيه حال الوجوب؛ بدليل الحدوث. الثالث- وهو الأصح عند القاضي الحسين، والبغوي وجماعة-: أنها تتم عدة حرة في الطلاق الرجعي، وعدة أمة في الطلاق البائن؛ لأن البائن كالأجنبية، لقطع الميراث، وسقوط النفقة؛ والرجعية كالزوجة، لاستحقاق التوارث، ووجوب النفقة؛ فافترقتا في العدة لافتراقهما في الزوجية، ولأن الرجعية لما انتقلت من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة، ولم تنتقل إليها البائن- وجب أن تنتقل الرجعية من عدة الإماء إلى عدة الحرائر، ولا تنتقل إليها البائن. أما إذا [اختارت الفسخ، فهذا ينبني على أنها هل تبني على العدة أو تستأنف؟ وفيه وجهان، وعن أبي إسحاق القطع بأنها تبني. ويجري الخلاف فيما إذا] أخرت الفسخ حتى راجعها الزوج، ثم فسخت قبل الدخول، قال في "التتمة": والمذهب: أنها تستأنف؛ لأنها فسخت وهي زوجة، وهذا ما حكاه البندنيجي طريقة قاطعة، ووجهها بأن الفسخ من غير جنس الطلاق. وهو جار في المسألة الأولى، وسنذكره من بعد. فإن قلنا: تستأنف، فتستأنف عدة الحرائر، وإن قلنا: تبني، فتكمل عدة الحرائر، أو تقتصر على عدة الإماء؟ فيه الخلاف السابق، وعن أبي إسحاق القطع بأنها تكمل عدة الحرائر. واعلم أن الذي يوجد في النسخ: "وإن كانت بائنة"، كما ذكرناه، وهو المضبوط عن نسخة المصنف، وهي لغة، والأفصح بائن. فرع: لو حصل العتق والطلاق معاً، اعتدت عدة الحرائر وجهاً واحداً، وذلك يتصور بأن يعلق السيد عتقها والزوج طلاقها على شيء واحد، وبأن يقول

الزوج: إذا عتقت فأنت طالق، بأن يقول السيد: إذا طلقت فأنت حرة، كذا قاله الموردي. قلت: وفي المثالين الأخيرين نظر إذا فرعنا على أن المعلق يترتب في الوقوع على وجود الصفة؛ كما اقتضاه تفريع الشيخ أبي حامد فيما حكيناه من قبل؛ لأنه يلزم تقدم الطلاق على العتق؛ [والعتق على الطلاق، وإذا كان كذلك يظهر أن يكون الحكم فيما إذا تقدم الطلاق على العتق] كما تقدم، والله أعلم. قال: ومن وطئت بشبهة- أي: شبهة نكاح – وجب عليها عدة المطلقة، أي: فإن كانت حرة وظنها الواطئ زوجته الحرة اعتدت بثلاثة أقراء، وإن كانت أمة فظنها الواطئ زوجته الأمة اعتدت بقرأين؛ لأن الوطء بالشبهة كالوطء في النكاح الصحيح بالنسبة إلى النسب؛ فكان مثله في إيجاب العدة، وفيه وجه: أنه إذا وطئ الأمة ظاناً [أنها زوجته الأمة لا يلزمها إلا قرء واحد؛ نظراً إلى حالها، حكاه المتولي والماوردي، ولو وطئ حرة ظاناً أنها زوجته الأمة أو أمة ظاناً] أنها زوجته الحرة، فهل تعتد كل واحدة منهما بقرأين أو بثلاثة أقراء؟ فيه وجهان وفي "التتمة" و"الحاوي" حكاية وجه ثالث في الأخيرة: أنها تعتد بقرء واحد. [أما لو كانت الشبهة شبهة ملك يمين بأن وطئ حرة أو أمة ظاناً أنها أمته- ففي "التتمة" في الصورة الثانية: يلزمها أن تعتد بقرء واحد]، وفي الأولى وجهان: أحدهما: تعتد بثلاثة أقراء، وهو ما قطع به قاطعون. والثاني: تعتد بقرء واحد. وحاصل ما ذكره المتولي في المسائل كلها من الخلاف يرجع إلى أن الاعتبار بحالها أو بظنه، والله أعلم.

فرع: المعتدة عن وطء الشبهة إذا أراد الواطئ نكاحها في عدته جاز. وحكى الجيلي عن بعض أصحابنا: أنه لا يجوز. وهو موافق لما سنذكره من مذهب المزني في المختلعة. قال: ومن مات زوجها وهي حامل، اعتدت بوضع الحمل، أي حرة كانت أو أمة؛ لما روى سعيد بن المسيب عن أبي بن كعب قال: قلت: يا رسول الله، هذه الآية مشتركة؟ قال: "أي آية"؟ قلت {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] المطلقة والمتوفى عنها زوجها؟ قال: "نعم" وقد روى الشافعي: أن سبيعة الأسلمية وضعت حملها بعد قتل زوجها بنحو من نصف شهر؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ حَلَلْتِ؛ فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ". قيل: وكانت هذه القصة بعد حجة الوداع التي لم يعش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها إلا شهوراً، على ما رواه الماوردي. ولفظ مسلم في حديث سبيعة: "أَنَّهَا وَلَدَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ"، وقال البخاري: "بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً". ثم المعتبر في انفصال الحمل وصفته ما ذكرناه من قبل. قال: وإن كانت حائلاً، أو حاملاً بحمل لا يجوز أن يكون منه، أي: بأن يكون الزوج عمره دون عشر سنين، ومن في معناه على النعت المذكور في باب ما يلحق من النسب. قال: اعتدت بأربعة أشهر وعشر، أي: إذا كانت حرة؛ لعموم قوله- تعالى-:

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234]، ولا يرد علينا ما إذا كانت حاملاً بحمل يجوز أن يكون منه؛ لأن ذلك خرج بدليل؛ فبقينا فيما عداه على مقتضى الدليل الأول. وقد استدل الشيخ في "المهذب" على عدة الحائل بالأربعة أشهر والعشر بالآية، وعلى عدة الحامل بحمل لا يجوز أن يكون من المتوفى: بأنه حمل لا يجوز أن يكون منه [فلم تعتد] به؛ كامرأة الكبير إذا طلقها، وأتت بولد لدون ستة أشهر من حين العقد. وما قاله فيه نظر من حيث إن المنقول عن أصحاب أبي حنيفة- على ما حكاه الإمام والقاضي الحسين-: أن العدة تنقضي عندهم في الصورة المقيس عليها بوضع الحمل، وأبو حنيفة هو المخالف في انقضاء عدة الوفاة به؛ فكيف يحسن القياس عليه؟ نعم، حكى الماوردي عنه: أنه وافقنا على أن الحمل لو ظهر بعد وفاة الصبي لا تعتد به عنه، بخلاف ما إذا ظهر قبل وفاته، فنقول: ولد لا يمكن أن يكون منه؛ فلم يقع الاعتداد به؛ كما لو ظهر بعد موته. واعلم أن إطلاق الشيخ القول بأن الحائل تعتد بأربعة أشهر وعشر، يعرفك أنه لا فرق في ذلك بين أن تكون من ذوات الأشهر أو من ذوات الأقراء، ولا بين أن تكون الوفاة بعد الدخول أو قبله؛ كما دل عليه إطلاق الآية، مع العلم بأن حال الزوجات في ذلك مختلف، وعدم التفصيل بين المدخول بها وغيرها، بخلاف الطلاق؛ فإن الله -تعالى- فصل فيه بين أن تكون المطلقة مدخولاً بها أو غير مدخول بها، ولا يمكن إلحاق عدة الوفاة بعدة الطلاق؛ لأمور: منها: أن عدة الوفاة لو شرط فيها الدخول لم يؤمن أن تنكره؛ حرصاً على الأزواج مع عدم المنازع، وفي الطلاق صاحب الحق ينازع؛ فلا تتجاسر على الإنكار. ومنها: أن فرقة الموت لا اختيار فيها؛ فأمرت بالتفجع وإظهار الحزن لفراق

الزوج؛ ولذلك وجب فيه الإحداد، وفرقة الطلاق تتعلق باختيار المطلق؛ فلم يكن عليها إظهار التفجع والحزن. ومنها: أن المقصود الأعظم في عدة الطلاق: تعرف براءة الرحم؛ فلذلك اعتبرت الأقراء، وفي عدة الوفاة المقصود الأعظم: حق الزوج ورعاية حرمة النكاح؛ ولذلك اعتدت بالشهور التي لا تقوى دلالتها على البراءة، وأبدى القاضي الحسين في ذلك معنى آخر، وهو: أن الشرع جعل الموت في تقدير المهر بمنزلة الدخول؛ لكون النكاح يقصد به الدوام مدة العمر، والوطء في الحياة يدل عليه تقرر المهر بكل واحد منهما من الوطء أو الموت؛ فإذا مات قبل الدخول فقد اتصل بالمقصود لما استغرق مدة العمر، واستعقب الأثر وهو العدة، وإذا طلقها قبل الدخول لم يفض إلى مقصود ما؛ فلم يعقب أثراً، نظيره: لما دخل بها ثم طلقها، لما اتصل بالمقصود أعقب الأثر. تنبيه: المراد بالعشر في الآية، وفي الكتاب: عشر ليال بأيامها، وغلب التأنيث؛ من حيث إنه لم يأت فيها بالهاء الدالة على التذكير؛ لأن العرب تغلب التأنيث في اسم العدد إذا أرادت الليالي والأيام؛ فتقول: سرت عشراً، وهي تريد الليالي والأيام، وقد نطق الشافعي بمثل ذلك في أشهر الحج؛ حيث قال: أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وتسع من ذي الحجة وليلة. [تنبيه] آخر: الحامل بحمل لا يجوز أن يكون منه متى يعتبر ابتداء المدة في حقها؟ ينظر: إن كان الحمل من وطء شبهة أو نكاح فاسد، اعتبرت من حين الوضع وإن كان من زنى، اعتبرت أربعة من حين الوفاة كالحائل. ثم ينظر: إن كانت الوفاة مع آخر جزء من شهر، اعتبرنا أربعة أشهر بالأهلة، وعشرة أيام بعدها. وإن كانت في أثناء الشهر: فإن كان قد بقي منه عشرة أيام بلياليها لا غير، اعتبرنا بعد العشر أربعة أشهر بالأهلة أيضاً، وكذلك إن كان قد بقي من الشهر أقل من عشرة أيام اعتبرنا بعده أربعة أشهر بالأهلة، ثم تكمل العشر من الشهر السادس. فإن كان الباقي من شهر الوفاة أكثر من العشر، اعتبرنا بعده ثلاثة أشهر بالأهلة، ثم تكمل الشهر الرابع من الخامس، وتلي ذلك بالعشر، هكذا قاله

الرافعي، ولم يعتبر الماوردي وابن الصباغ أربعة أشهر بالأهلة إلا في الصورة الأولى، وفيما عداها اعتبر ثلاثة أشهر بالأهلة وشهراً بالعدد. وحكى بعض أصحابنا وجهاً: أنه متى انكسر شهر منها واعتبرنا بالعدد، اعتبرنا الجميع بالعدد، وقد تقدم له نظائر. ولو كانت المرأة محبوسة لا تعرف الهلال اعتبرت بمائة وثلاثين يوماً. قال: وإن كانت أمة اعتدت بشهرين وخمس ليال. أطلق الشيخ- رحمه الله- "الليالي" هاهنا وفي "المهذب"، وأراد: الليالي بأيامها، وكذلك الماوردي والقاضي الحسين والمسعودي؛ اتباعاً لعادة العرب؛ فإنها تطلق "الأيام" وتريد: بلياليها، وتطلق "الليالي" وتريد: بأيامها، وقد حكى ذلك عنهم الماوردي عند الكلام في المسألة قبل هذه، وبهذا يندفع كلام من قال: إن قول الشيخ: "وخمس ليال" غلط، وإن صوابه: خمسة أيام بلياليها. على أن ما ذكرناه يظهر مما قررناه في عدة الحرة. وإنما قلنا: إن الأمة تعتد بشهرين وخمس ليال؛ لأن العدة أمر ذو عدد ينبني على المفاضلة؛ فوجب ألا تساوي الحرة فيه الأمة، وتكون على النصف منها مع إمكان تنصيفه؛ كالحدود، وهذا هو المشهور في أكثر الكتب. وفي "الزوائد" للعمراني حكاية قول آخر عن أبي حامد: أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر؛ لأن الولد يكون نطفة أربعين يوماً، وعلقة أربعين يوماً، ومضغة أربعين يوماً، ثم ينفخ فيه الروح ويتحرك؛ فاعتبر أن تعتد المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر؛ ليتبين الحمل بذلك، ويتحرك، وهذا لا تختلف فيه الحرة والأمة. وما حكاه كلام البندنيجي يدل عليه أيضاً؛ فإنه قال: "عدة الوفاة واجبة بوفاة الزوج، صغيرة كانت أو كبيرة، عاقلة أو مجنونة، حرة أو أمة، مسلمة أو مشركة، مدخولاً بها أو غير مدخول بها، ثم لا تخلو من أمرين: إما أن تكون حاملاً أو حائلاً [فإن كانت حاملاً فعدتها أن تضع حملها، وإن كانت حائلاً] فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام". قال: وإن طلق امرأته طلقة رجعية، ثم توفي عنها، انتقلت إلى عدة الوفاة؛

لما روى جابر أن حبان بن منقذ طلق امرأته، ومات قبل أن تحيض الثالثة؛ فورثها عثمان، واعتدت عدة الوفاة من زوجها. ولأن النكاح في الرجعية قائم؛ لما ذكرناه في الرجعة، وإنما حصلت البينونة بالموت، والطلاق المتقدم موجود؛ فاجتمع ما يوجب عدة الطلاق وما يوجب عدة الوفاة، وهو: حصول ابينونة بالموت، ولا سبيل إلى وجوبهما؛ إذ لا يجوز أن تكون معتدة من واحد عدتين، فقدمنا عدة الوفاة لتأكدها؛ فإنها تجب قبل الدخول وبعده، وعدة الطلاق لا تجب قبل الدخول. ثم بقية عدة الطلاق هل تسقط، أو نقول: دخلت في عدة الوفاة؟ قال الرافعي قبل القسم الثاني من كتاب العدة: إنها تسقط بلا خلاف. وحكى مجلي فيها خلافاً عن الأصحاب، وأن منشأة تباين جنس العدتين، وتظهر فائدة الانتقال في سقوط النفقة، وفي وجوب الإحداد، وقصر المدة وطولها، والمطلقة طلاقاً بائناً لا تنتقل إلى عدة الوفاة وإن كان في المرض، وقلنا: إنها ترثه؛ لأن البينونة حاصلة قبل الموت. قال: وإن طلق إحدى امرأتيه، أي: ثلاثاً بعد الدخول، ومات قبل أن يبين- وجب على كل واحدة منهما أطول العدتين من الأقراء أو الأشهر، أي: إذا كانتا من ذوات الأقراء؛ لأن لك واحدة قد وجبت عليها عدة، واشتبهت عليها بعدة أخرى؛ فوجب أن تأتي بهما؛ لتخرج عما عليها بيقين؛ كمن أشكلت عليه صلاة من صلاتين، يجب عليه أن يقضيهما؛ ليخرج عما عليه بيقين. ثم ابتداء الأشهر يكون من وقت الموت، وابتداء الأقراء يكون من حين الطلاق على الأصح؛ بناء على أنها تعتد من حين [الطلاق. أما إذا قلنا: إنها تعتد من حين البيان، فهاهنا تعتبر الأقراء من حين] الموت، وقد صرح بهذا الوجه في "البحر" [لكن] من غير بناء. أما إذا كان الطلاق رجعياً وجب على كل واحدة منهما عدة الوفاة، لا غير، وكذلك لو كان الطلاق قبل الدخول، أو كانتا من ذوات الأشهر، أو من ذوات الأقراء، وقد مضت ثلاثة أقراء قبل الموت.

ولو كانتا من ذوات الحمل اعتدتا بوضعه، وإن كانت إحداهما مخالفة للأخرى، اعتدت كل واحدة منهما بما يلزمها لو كانتا متفقتين. واعلم أن قول الشيخ: "ومات قبل أن يبين" يعرفك أن المسألة مفروضة فيما إذا كان الطلاق معيناً في نفس الأمر، كما صرح به الماوردي وغيره؛ لأن البيان يكون لما وقع في نفس الأمر معيناً، والتعيين يكون لما وقع في نفس الأمر مبهماً. أما إذا كان الطلاق مبهماً، فإنه ينبني على أن الطلاق يقع من حين الطلاق أو من حين التعيين؛ فإن قلنا: من حين الطلاق، فالحكم كما تقدم، وإن قلنا: من حين التعيين، فيعتبر ابتداء الأقراء والأشهر من حين الموت. وحكي عن تعليق الشيخ أبي حامد أن كل واحدة منهما تعتد عدة الوفاة لا غير؛ لأنا نفرع على أن الطلاق يقع بالتعيين، فإذا لم يعين فكأنه لم يطلق، وهذا مشابه لما حكيته عن الفوراني ثم. فرع: لو أسلم وثنى ومعه ثمان نسوة، فمات قبل أن يختار- وجب على كل واحدة منهن الاعتداد بأكثر الأمرين، وفي ابتداء الأقراء وجهان: أحدهما: من حين الموت. والثاني: من حين أسلم الأول منهم. واعلم أن الأصحاب تكلموا في هذه المسألة، ولم يتعرضوا لبنائها على أن الوارث هل يقوم مقام الموروث في البيان أم لا، وكان لا يبعد بناؤها عليه. قال: ومن فقدت زوجها، وانقطع عنها خبره- أي: حتى تتوهم، أو تظن أنه قد مات مثل: أن غاب وعادت رفقته، ولم يعرفوا حاله، أو كان في حرب الكفار، وانقضت الحرب، ولم يعرفوا حاله، أو غاب، ومضت مدة يعرف فيها في مجرى العادة خبر من سافر هذا السفر، ولم يعرف خبره- ففيه قولان: أحدهما: أنها تكون على الزوجية إلى أن يتحقق الموت؛ لما روى عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَاتِيَهَا يَقِينُ مَوتِهِ أَوْ

طَلَاقِهِ" وروي عن علي- كرم الله وجهه- أنه قال: "امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ لَا تَتَزَوَّجُ". ولأنه إذا لم يجز الحكم بموته في قسمة ماله وعتق أم ولده، فكذلك في زوجته، وهذا هو الجديد. والثاني: أنها تصبر أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة، وهذا هو القديم؛ اتباعاً لعمر- رضي الله عنه – فإنه قضى به، واشتهر من غير إنكار من الصحابة. ولأن للمرأة الخروج من النكاح بالجب والعنة؛ لفوات الاستمتاع، وبالإعسار بالنفقة؛ لفوات المال؛ فلأن يجوز هاهنا، وقد اجتمع الضرران، كان أولى. هكذا علل به الأصحاب، ومقتضاه: أن المرأة إذا لم تكن عادمة للنفقة لا يأتي هذا القول، وقد صرح به بعضهم، وبعضهم طرده وإن كانت واجدة للنفقة. فإن قيل: أجريتم على الطريقة الأولى الخلاف وإن كانت عادمة للنفعة، والصحيح منه القول الأول، وربما ادعى بعضهم أن القول الثاني مرجوع عنه، وعليه جرى الغزالي في "الوسيط"، وعندكم أن للمرأة الفسخ بتعذر النفقة على الصحيح؛ فكيف يكون انقطاع الخبر مانعاً من الفسخ، مع أن فيه زيادة ضرر تقتضي التسليط على الفسخ؟ فالجواب: أن الفسخ بسبب تعذر النفقة شرطه الإعسار، وإذا كان مفقوداً لم يتحقق، وعلى تقدير ألا يكون الإعسار شرطاً على أحد الوجهين فهو فسخ

للنكاح تتعاطاه المرأة أو القاضي- على ما سيأتي بيانه- ولا شك أنها لو رامت ذلك هاهنا تفريعاً على ذلك لقدرت عليه، والخلاف في مسألة المفقود في أنا هل نحكم بالفرقة بانتهاء النكاح أم لا؟ والمأخذان مختلفان؛ فلا إشكال إذن. وما ذكره الشيخ في "المهذب" من أن لها أن تفسخ النكاح على القديم محمول على تعاطي أسبابه، وكلامه- من بعد- يعرفك أنه ليس على ظاهره، والله أعلم. ثم مدة الصبر يكون ابتداؤها من حين ضرب القاضي، أو يكون ابتداؤها من حين انقطاع خبره؟ فيه وجهان، ويقال: قولان، قال الرافعي: وإيراد كثير من الأئمة يشعر بترجيح الأول، وادعى البندنيجي أنه ظاهر قوله في القديم، ومنهم من رجح الثاني، ومنهم صاحب "التهذيب"، وهو اختيار القفال. فإن اعتبرنا القول الثاني فلا بد بعد انقضاء المدة من قضاء القاضي بوفاته، وحصول الفرقة. وإن اعتبرنا القول الأول فهل نحتاج إلى ذلك، أو يكون حكم الحاكم بضرب المدة حكماً بالوفاة بعد انقضائها؟ فيه وجهان: أظهرهما الأول، واستدل له مجلي بأنها لو رضيت بالصبر بعد انقضاء العدة لجاز ذلك. قال: ثم تحل للأزواج في الظاهر؛ لأن ذلك ثمرة الفسخ، وهل تحل في الباطن؟ فيه قولان، أي ينبنيان على [أن الفسخ يحصل باطناً كما يحصل في الظاهر، أم لا؟ وفيه قولان: أحدهما] أنه لا ينفسخ في الباطن؛ لأن عمر لما عاد المفقود مكنه من أن يأخذ زوجته، ولو وقع الفسخ باطناً لم يمكنه منها إلا بتجديد عقد. فعلى [هذا]: لو عاد المفقود سلمت إليه كما فعل عمر. والثاني: نعم؛ لأنه فسخ مجتهد فيه، فانفسخ في الباطن والظاهر؛ كالفسخ بالعنة والإعسار، وهذا ما ادعى الجيلي أنه الأصح؛ فعلى هذا: لو عاد المفقود لم تسلم إليه، وكأن الشافعي- على هذا القول- أخذ بأصل قول عمر، وخالفه في

التفاصيل؛ لبعد مذهبه فيها عن القياس. وقد جزم أبوا علي؛ ابن أبي هريرة والطبري بهذا، [ولم] يبنياه على القولين، بل قالا: إن الحاكم إنما حكم بوفاته بالاجتهاد، وإذا بان حياً تيقن الخطأ في اجتهاده فينقضه؛ كما لو حكم باجتهاده، ثم وجد نصاً بخلافه، وهذا أصح عند القاضي الروياني. وحكي عن أبي إسحاق أنه إن رجع بعدما نكحت لم ترد إليه [وإن كان قبل أن تنكح ردت إليه]، وحكاه القاضي الحسين وجهاً، ولم يعزه إليه، وكذلك ابن الصباغ، وزاد فقال: إن قائله لم يبنه على القولين. وحكى عن نص الشافعي طريقة أخرى: أن المفقود بالخيار بين أن ينتزعها من الثاني، وبين أن يتركها ويأخذ مهر المثل منه، وهذا ما حكاه في "التهذيب"، ومستنده: أن عمر كذلك قضى. وعن القاضي الحسين زيادة فيها، وهو أنه إن فسخ غرم للثاني مهر مثلها. وحكى الرافعي طريقة أخرى، وهي أن ذلك النكاح ارتفع بما جرى قولاً واحداً، ولكن إذا ظهر المفقود هل يحكم ببطلان الثاني؟ فيه وجهان، أظهرهما: المنع، وللمفقود الخيار؛ كما ذكرنا. فإذا قلنا ببطلان النكاح الثاني فكيف نقول: وقع صحيحاً، ثم إذا ظهر المفقود، بطل، أو نقول: يتبين بظهور المفقود أنه وقع باطلاً؟ فيه وجهان: فعلى الثاني: يجب مهر المثل إن جرى دخول، وإلا لم يجب. وعلى الأول: الواجب: المسمى، أو نصفه. وإذا ماتت المرأة، ثم ظهر المفقود بعد ما نكحت- ورثها الأول أو الثاني؟ يخرج على هذه الطرق. واعلم أنه يتفرع على القولين مسائل: منها: لو حكم حاكم بالفرقة؛ بناءً على القديم: فهل ينقض حكمه عند المفرع على الجديد؟ فيه وجهان، أظهرهما- وهو الذي نسبه القاضي الحسين هنا

والغزالي في أدب القضاء إلى النص-: أنه ينقض. ومنها: إذا نكحت، ثم بان أن المفقود كان ميتاً وقت الحكم بالفرقة: فإن فرعنا على القديم فنكاح الجديد صحيح؛ إذ الفرقة- والحالة هذه- تحصل باطناً وجهاً واحداً، وإلا فوجهان؛ بناء على وقف العقود. وأصل الوجهين في وقف العقود القولان فيما إذا كاتب عبده كتابة فاسدة، ثم أوصى به وهو يعتقد صحة الكتابة- ففي صحة الوصية قولان، كذا حكاه البندنيجي. ولو بان أنه مات بعدما نكحت: فإن قلنا بحصول الفرقة باطناً فهي زوجة الثاني، وإن قلنا بالجديد، أو أنها لا تحصل باطناً، فعليها عدة الوفاة عن الأول، ولكن لا تشرع فيها حتى يموت الثاني، أو يفرق بينهما؛ فحينئذ تعتد عن الأول، ثم تعتد عن الثاني بثلاثة أقراء أو أشهر. ومنها: لو طلق المفقود، أو ألى، أو ظاهر عنها، أو قذفها فإن فرعنا على القديم، وكان بعد الحكم بالفرقة- لم ينفذ إن قلنا بحصول الفرقة في الباطن. وإن كان قبل الحكم، أو قلنا: إن الفسخ لا يحصل في الباطن، أو فرعنا على الجديد- ثبت حكم ذلك. قال الرافعي: وليكن الحكم بنفوذها على الجديد مفرعاً على أنه ينقض حكم من حكم على موجب القديم. ومنها: نفقة امرأة المفقود عليه إلى أن يحكم الحاكم بالفرقة، وبعد ذلك لا تجب على القديم، وفي استحقاق السكنى قولان، قال في "البسيط": إلا إذا عاد المفقود، وقلنا: لا ينفسخ في الباطن؛ فيحتمل أن يقال: لا نفقة لها إذا كانت ناشزة بقصد الاعتداد، ويجوز ألا تجعل ناشزة بمجرد القصد حتى يتصل به نكاح. قال مجلي: وأما بعد انقضاء العدة فلم أر للأصحاب فيه شيئاً، ويحتمل على قول منع الفسخ في الباطن إجراء هذين الاحتمالين أيضاً؛ إذ المعنى واحد. وإن قلنا بالجديد فالنفقة عليه إلى أن تنكح، وإن كان فاسداً. وعن القاضي أبي الطيب القطع بأن نفقة مدة العدة عليه؛ على القولين جميعاً؛ كما في مدة التربص، والأظهر الأول. وإذا فرق بينهما وعاد المفقود، فسلمت إليه- عادت نفقتها، وإن كان الثاني

دخل بها لم يلزم المفقود نفقة زمان العدة. وإن لم يعد وعادت هي بعد التفريق إلى بيته، ففيه طريقان: أشهرهما: أن في عود النفقة قولين. والثاني: تنزيل القولين على حالين: فحيث قال: تعود النفقة، فهو محمول على ما إذا نكحت من غير حكم حاكم؛ لأنها سقطت بفعلها؛ فتعود بفعلها، وحيث قال: لا تعود، فهو محمول على ما إذا نكحت بحكم الحاكم. والأصح عند الروياني: أنها لا تعود، قال: وينبغي أن يقطع به إذا لم يعلم الزوج عودها إلى الطاعة. وأما النفقة على الزوج الثاني فلا يخفى حكمها على القديم، وعلى الجديد: لا نفقة لها في زمان الاستفراش إذ لا زوجية، وإن أنفق لم يرجع إلا أن يلزمه الحاكم الإنفاق؛ فيرجع، وفيه وجه: أنه إذا ألزمه رجع على الأول. وإذا شرعت في عدته فلا نفقة لها أيضاً، إلا أن تكون حاملاً على أحد القولين. ومنها: لو نكحت على الصورة المجوزة على القديم، وأتت بولد يمكن أن يكون [من الثاني]، وجاء المفقود، ولم يدع الولد- فهو للثاني، وإن ادعاه فوجهان: أحدهما: يعرض على القائف. والثاني- وهو الأظهر-: أنه يسأل عن جهة ادعائه، فإن قال: قدمت عليها في خلال المدة وأصبتها، وكان ما يقوله ممكناً- عرض على القائف. وإن قال: لأن زوجتي ولدته على فراشي، قلنا له: هذه الجهة باطلة. وفي "البحر": أن هذين الوجهين أخذا من وجهين قيلا في [أن] هذه المرأة لو أتت بولد من غير أن تتزوج هل يلحق بالمفقود؟ إن قلنا: نعم، فلا حاجة إلى الاستفصال، وإلا فلا بد منه. وجزم في "التهذيب" بأنه يلحق بالثاني من غير تفصيل. فرع: عن القفال: أن زوجة الغائب إذا أخبرها عدل بأن زوجها مات، جاز لها أن تنكح فيما بينها وبين الله تعالى.

قال: ويجب الإحداد في عدة الوفاة. "الإحداد" و"الحداد": مأخوذ من "الحد" وهو: المنع؛ لأنها تمنع من الزينة، وما يدعو إلى المباشرة كالطيب ونحوه. ويقال: أحدت المرأة، تحد إحداداً، وحدت: بضم الحاء، وكسرها، وحدت تحد حداداً، وهي حاد، ولا يقال: حادة. والأصل في وجوب الإحداد: ما روى مسلم عن كل من زينب بنت جحش و [أم] حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ [الْآخِرِ أَنْ] تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً" هكذا استدل به بعضهم. وقال مجلي: هذا الحديث لست أرى فيه دلالة على الوجوب؛ لأنه حرم الإحداد على الإطلاق، ثم [استثنى منه أربعة أشهر وعشراً، والاستثناء من التحريم إباحة؛ كما أن] استثناء الثلاث من التحريم إباحة. قال الرافعي: لكن أجمع الأئمة على أنه أراد الوجوب، وأنه استثنى الواجب من الحرام. قال القاضي الحسين: ويستدل بهذا الحديث على جواز الاستثناء من غير الجنس، وما قاله الأصحاب يعتضد بما سنذكره من حديث أم سلمة، وبما روى مسلم: أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفتكحلها؟ فقال: "لا"، مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يقول: "لا"، ثم قال: "إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرُ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَاسِ الْحَوْلِ" انتهى. ومعنى ترمي بالبعرة: أن المرأة كانت إذا توفي زوجها دخلت حفشاً- وهو البيت الصغير- ولبست خشن ثيابها، ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى

بدابة حمار أو شاة أو طير؛ فتفتض [به]، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة، فترمي بها، ثم تراجع ما شاءت من طيب أو غيره. ولا فرق في وجوب الإحداد بين المسلمة، والذمية إذا كان زوجها مسلماً أو ذمياً، ولا بين الحرة والأمة، ولا بين المكلفة والصبية والمجنونة، وولي الصبية والمجنونة يمنعها مما تمتنع منه المكلفة. فإن قيل: فقد خصص رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوب الإحداد بالمؤمنة بقوله: "لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ". قيل: قد ورد من غير هذه الزيادة؛ فالاعتماد عليه. وأيضاً: فإن هذا تعلق بدليل الخطاب، والمخالف لنا في الذمية أبو حنيفة، وهو لا يقول به. قال: ولا يجب في عدة الرجعية؛ لبقاء أحكام النكاح فيها، وتوقع الرجعة، وهل يستحب؟ الذي رواه أبو ثور عن الشافعي: أنه يستحب، ومن الأصحاب من قال: الأولى أن تتجمل وتتزين بما يدعو الزوج إلى رجعتها. قال: الموطوءة بشبهة؛ لأن الإحداد لإظهار الحزن على الزوج، وما فات من عصمة النكاح وقد تقدم ذلك في حقها. وحكم أم الولد إذا توفي سيها في هذا المعنى حكم الموطوءة بشبهة، وكذلك المعتدة عن نكاح فاسد. قال الرافعي: وقد يستدل لتحريم الحداد على الموطوءة بشبهة وأم الولد؛ بقوله- عليه السلام-: "لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ... " الحديث. قلت: وفي الاستدلال به على تحريمه على الموطوءة بالشبهة نظر؛ فإن الحديث لا تعرض فيه لغير الميت. قال: وفي المطلقة البائن- أي: بالخلع، أو باستيفاء العدد- قولان: أصحهما: أنه لا يجب فيه الإحداد، وهذا هو الجديد؛ لأنها معتدة عن طلاق؛ فأشبهت الرجعية.

وأيضاً: فهي مجفوة بالطلاق؛ فلا يليق بها تكلف التفجع، بخلا المتوفى عنها. فعلى هذا: يستحب لها الإحداد، وهل يحرم عليها الطيب؟ فيه وجهان؛ لاختصاصه بتحريك الشهوة. والقول الثاني: [أنه] يجب، وهو القديم؛ لأنها بائن، معتدة عن نكاح؛ فأشبهت المتوفى عنها. والمفسوخ نكاحها بعيب أو نحوه، في وجوبه عليها طريقان: أشبههما- وهو ما حكاه أبو حامد: أنه على القولين. والثاني: القطع بأنه [لا] حداد عليها؛ لأن الفسخ لمعنى فيها، أو هي المباشرة له؛ فلا يليق إظهار التفجع بحالها، وهذا ما صححه القاضي الحسين. قال: والإحداد، أي: الذي تقدم ذكره: أن تترك الزينة؛ فلا تلبس الحلي لإطلاق الخبر، وهو ما روى أبو داود عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَابِ وَلَا الْمُمَشَّقَةَ، وَلَا الْحُلِيَّ، وَلَا تَكْتَحِلُ". قال [في] المستغرب: الممشق: المصبوغ بالمشق، وهو: المغرة. والحلي – بفتح الحاء وإسكان اللام-: لكل ما تتزين به من ذهب أو فضة أو جوهر، ولا شك في أن المتخذ من الذهب أو الفضة يحرم، كما قال. وقال الإمام: يجوز لها التختم بالخاتم الذي يحل للرجال، وهل يجوز لها التحلي بغير الذهب والفضة؟ ينظر:

إن كان من اللآلئ فقد أبدى الإمام فيه تردداً؛ من حيث إنها ليست كالذهب والفضة؛ ولذلك لم تحرم على الرجال، لكن الزينة ظاهرة فيها. قال الرافعي: وهذا أظهر وهو ما جزم به [في] "الوجيز". وإن كان [من] الصفر والنحاس، فإن كان ذلك مموهاً بالذهب أو الفضة، أو مشابهاً لهما، بحيث لا يعرف إلا بعد التأمل- لم يجز، وإلا فإن كانت المعتدة من قوم يتزينون بمثل ذلك لم يجز أيضاً، وإن كانت من قوم لا يتزينون، ولا يتحلون به، لكنهم يستعملونه لمنفعة يتوهمونها- جاز، هكذا حكى عن "البحر"، وكلام الشيخ لا يأباه. فرع: حكي عن بعض الأصحاب أنها لو كانت تلبس الحلي ليلاً، وتنزعه نهاراً، جاز، لكنه يكره لغير حاجة، ولو فعلته لإحراز المال لم يكره. قال: ولا تتطيب، أي: في جميع بدنها، إلا في حال طهرها من الحيض؛ لما روى مسلم، عن أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تُحِدُّ امْرَأَةُ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسُّ طِيباً، إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ"، وزاد النسائي: "ولا تمشط". والذي يحرم من الطيب هو الذي يحرم على المحرم، حتى يحرم عليها أكل ما فيه طيب ظاهر. وقد استوعب ذكر ذلك في الحج. قال: ولا تختضب؛ لحديث أم سلمة. ولا فرق فيه بين أن يكون بالحناء أو الزعفران أو الورس، ويستوي فيه جميع بدنها على ما حكاه ابن يونس. وفي "الرافعي": أن القاضي الروياني قال: لا يمنع منه فيما تحت الثياب. وكما يحرم عليها الاختضاب يحرم عليها طلاء الوجه بما يقتضي التحسين من الإسفيداج والحمرة وغيرها، وكذا الصبر إذا طلت به البيضاء وجهها، وهذا بخلاف الإثمد؛ فإنه يجوز أن تستعمله في غير الحاجب؛ [فإنه لا تزيين فيه، وفي

الحاجب] هو زينة كالعين. قال: ولا ترجل الشعر، أي: شعر الرأس؛ وكذا شعر اللحية إن كانت لها لحية؛ لحديث النسائي. ترجيل الشعر: تسريحه بالمشط بدهن أو ماء، والمراد به هاهنا بالدهن؛ لأن به تحصل الزينة. ولا يجوز لها أيضاً [أن] تحفف حاجبيها؛ لأنه نوع زينة. وأبدى الغزالي في تصفي الشعر وتجعيده بغير الدهن تردداً. ويجوز لها أن تغسل رأسها بالسدر؛ إذ لا زينة فيهز وكذا لا يحرم عليها قلم الأظفار، وحلق العانة، بخلاف المحرم؛ فإنه ممنوع من الترفه، وهذه ممنوعة من التزين. قال: ولا تكتحل بالإثمد والصبر، أي: وإن لم يكن فيه طيب؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم عطية وأم سلمة: "ولا تكتحل"، ولأن فيه زينة. وعن الماسرجسي حكاية وجه: أنه يجوز الاكتحال بالإثمد [للمرأة السوداء إذا لم يكن فيه طيب؛ لأنه لا يفيدها جمالاً. وروى ما يقرب من هذا عن القفال. وفي "النهاية": أن الشافعي نص في بعض المواضع على جواز الاكتحال بالإثمد] وأن الأصحاب حملوه على العربيات؛ لأنهن إلى السواد؛ فلا يزينهن الإثمد، وأما البيض فلا يكتحلن به. وفي "التتمة": أنه يحرم الاكتحال بالصبر على السوداء دون البيضاء، وهو ما حكاه القاضي الحسين في "التعليق". والظاهر عند الأكثرين: أنه لا فرق بين البيضاء والسوداء. تنبيه: الإثمد: هو الكحل الأصفهاني، وهو مكسور الهمزة والميم. الصبر: بفتح الصاد، وكسر الباء، ويجوز إسكان الباء مع فتح الصاد وكسرها. وتقييد الشيخ منع الاكتحال بالإثمد والصبر يعرفك أنها لا تمنع من الاكتحال بغيرهما كالتوتياء ونحوها؛ فإنه لا زينة فيه.

وفي "البحر" وجه: أن البيضاء تمنع منه حين تتزين به. قال: فإن احتاجت إليه اكتحلت بالليل، وغسلته بالنهار، أي: إذا لم تدع الضرورة إليه نهاراً. ووجهه: ما روي عن أم سلمة قالت: "دَخَلَ النبي صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ، وَقَدْ جَعَلْتُ في عَيْنَيَّ صَبِراً، فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟ " فَقُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ صَبِرُ يَا رَسُولَ اللِه لَيْسَ فِيهِ طِيبُ، فَقَالَ: "إِنَّهُ يَشُبُّ الْوَجْهَ، فَلا تَجْعَلِيهِ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وانتزعيه بِالنَّهَارِ، وَلا تَمْتَشِطيِ بِالطِّيبِ، وَلا بِالْحِنَّاءِ؛ فَإِنَّهُ خِضَابُ". قُلْتُ: بِأَيِّ [شَيْءٍ] أَمْتَشِطُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَاسَكِ". انتهى. ومعنى "يشب الوجه": يحسنه، وهو بشين معجمة، وباء معجمة بواحدة من أسفل. أما إذا دعت الضرورة إليه بالنهار عذرت، قاله الرافعي: ولفظ الغزالي: احتاجت. واعلم أن في الاستدلال بما ذكر من الحديث نظراً؛ من حيث إن أبا قاسم بن أصبغ ذكر أن زينب بنت أم سلمة ابنة النحام توفي عنها زوجها، فأتت أمها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "إِنَّ ابْنَتِي تَشْتَكِي عَيْنَهَا أَفَأَكْحِلُهَا؟ قَالَ: "لَا". قَالَتْ: إِنِي أَخْشَى أَنْ [تَنْفَقِئَ]. قَالَ: "لَا، وَإِنِ انْفَقَأَتْ". وقد قال عبد الحق في "أحكامه الكبرى": ذكره أبو محمد، وإسناده [صحيح]، وهو يدل على عدم الجواز مطلقاً.

والحديث الأول قال عبد الحق: ليس له إسناد يعرف؛ فلا [يمكن] التخصيص به. قال: ولا تلبس الأحمر ولا الأزرق الصافي، ولا الأخضر الصافي، ولا الأصفر؛ لعموم قوله- عليه السلام- في حديث أم عطية: "وَلَا تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ"، وقوله- عليه السلام- في حديث أم سلمة الذي رويناه: أولاً: [لَا] تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنَ الثَّيَابِ وَلَا الُمَمشَّقَةَ"، ولأن في ذلك زينة؛ فمنع منه كالاكتحال. ولا فرق في ذلك بين ما صبغ غزله ثم نسج، أو صبغ بعد النسج. وقيل: يجوز الأول، ومنه الديباج المنقش، وتمسك قائله بقوله- عليه السلام- في حديث أم عطية: "إلا ثوب عصب"، والعصب هو: الثوب المصبوغ غزله ثم نسج. وأجيب عنه: بأنه قد جاء في الحديث: "إلا ثوباً مغسولاً"؛ فتعارضا، وسقطت الدلالة به. أو يحمل على ما يجوز لبسه من المصبوغ. ولا فرق في المصبوغ المحرم بين أن يكون ليناً أو خشناً على النص. وعن صاحب "التقريب" حكاية قول: أنه إذا تفاحشت خشونته لا يحرم. ويجوز لها لبس السواد، وهل يجب عليها؟ فيه وجهان، وكذا يجوز لها لبس الأزرق الكدر والمشبع، وكذلك الأخضر؛ لأن المشبع من الأخضر يقارب السواد، ومن الأزرق يقارب الكحلي. ولا يحرم عليها لبس الثياب التي لم تدخل عليها الزينة، وإن كانت في نفسها زينة من الأصل: كالدبيقي والبندقي، وما يتخذ من القز والخز والحرير.

وذهب القفال إلى أنه يحرم عليها لبس الإبريسم، وتابعه عليه الإمام ومن تابعه، والمتولي والبغوي، ووجهه بأنه إنما حل لها للزينة؛ فالتحقت في حال الإحداد بالرجال. فعلى هذا: حكمها في لبس المختلط حكم الرجال. وأما الثوب المطرز فهل يحرم عليها؟ ينظر: [إن كان الطراز كثيراً] حرم، وإلا فثلاثة أوجه، ثالثها: إن ركب بعد النسج حرم، وإن رقم مع النسج لم يحرم، حكاها الشاشي وغيره. قال: ولا يجوز للمبتوتة ولا للمتوفى عنها زوجها أن تخرج من المنزل لغير حاجة أي: حافة؛ لقوله- تعالى-: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]، قال ابن عباس: [الفاحشة]: هي أن تبذو على أهل زوجها. وأضاف "البيوت" إليهن؛ لأنها سكناهن، وليس المراد به ملكهن؛ لأنه خص المطلقة بذلك، ولو كان البيت لها لم تختص المطلقة بالتحريم، ولأن البذاءة لا توجب ذلك، وروي أنه- عليه السلام- قال لفريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري- بعدما أخبرته أن زوجها قتل، وسألته أن ترجع إلى أهلها؛ فإنه لم يتركها في مسكن يملكه، ولا نفقة – فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث طويل: "امْكُثِي فِي بَيْتِكِ، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ"، قالت: فَاعْتَدَدْتُ فيه أربعة أشهر وعشراً، ذكره الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. ثم ما ذكرناه في المتوفى عنها إذا قلنا: إن السكنى تجب لها، أما إذا قلنا: إنها لا تجب؛ فلا يجب عليها ذلك، بل تعتد حيث شاءت، إلا أن يلتزم الوارث أجرة

منزل يعينونه، سواء فيه منزل النكاح أو غيره؛ فيجب، أو يكون البلد الذي هي فيه مثل المدينة يتطوع أهله بالمساكن؛ فيجب أن تسكن في مكانها؛ كما لو تطوع الوارث، قاله البندنيجي. وبعض المراوزة فصل فقال: إن كان بعد المسيس فالحكم كذلك، وإن كان قبله فليس للوارث أن يلزمها ذلك، ولها أن تسكن حيث شاءت سكنى المعتدات؛ فلو لم يلزمها الوارث هل يلزمها السلطان ذلك؟ فيه وجهان. ولا فرق فيما ذكر في المتوفى عنها بين أن تكون حاملاً والحمل غير لاحق بالزوج أو لا في مدة الأربعة أشهر والعشر، صرح به الماوردي عند الكلام في زوجة الصبي، وأما المبتوتة فلا يتصور ذلك في حقها؛ إذ لا عدة عليها. قال: وإن أرادت، أي: المعتدة عن الوفاة أو المبتوتة الخروج لحاجة: كشراء القطن وبيع الغزل- لم يجز ذلك بالليل، أي: مع تمكنها من الخروج نهاراً؛ لأنه يبعد الغوث عنها لو قصدت، وكانت متصدية للآفات؛ فإن الليل مظنة الفساد، أما إذا لم يمكنها الخروج نهاراً فلسنا نمنعها من الخروج ليلاً. وقال البندنيجي: إن ذلك في المتوفى عنها؛ إذا قلنا: لها السكنى أو تطوع الوارث، أما إذا قلنا: لا سكنى لها، تصرفت كيف شاءت، ليلاً ونهاراً. قال: ويجوز للمتوفى [عنها] زوجها أن تخرج لقضاء الحاجة بالنهار؛ دفعاً لحاجتها، وكذا يجوز لها أن تخرج بالليل إلى بيت بعض الجيران؛ للغزل والحديث، ولكن لا تبيت معهم، وتعود للنوم إلى مسكنها. قال: وتمسك الأصحاب في ذلك بحديث رواه مجاهد وهو مرسل. وحكم الموطوءة بالشبهة وفي النكاح الفاسد في عدتها- حكم المتوفى عنها. قال في "التتمة": إلا أن تكون حاملاً، وقلنا: إنها تستحق النفقة؛ فلا يباح لها الخروج. قال: وفي المطلقة البائن قولان: أصحهما: أنه يجوز؛ لما روي عن جابر أنه قال: طلقت خالتي ثلاثاً، فأرادت أن تجد نخلها، فزجرها رجل أن تخرج؛ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " [بَلَى،

فَجُدِّي] نَخْلَكِ؛ فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصْدُقِي أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفاً" رواه مسلم. ولأن عدة المتوفى عنها زوجها أغلظ؛ فإذا جاز لها الخروج فالمطلقة أولى، لكن لا يستحب لها الخروج. وهذا في الحائل، أما الحامل فهكذا حكمها أيضاً إن قلنا: لا نفقة لها في الحال، أما إذا قلنا نفقتها تعجل، فهي مكفية بها؛ فلا تخرج إلا أن يضيعها المطلق، ومست الحاجة إلى الخروج، وكيف لا والزوجة لو ضيعها الزوج لخرجت؟ صرح بذلك الإمام والمتولي. والقول الثاني: لا يجوز، وهو القديم؛ لعموم الآية. قال القاضي الحسين بعد حكاية حال المتوفى عنها والمبتوتة: [ونظير ذلك الإحداد والتعرض بالخطبة، وحكم المفسوخ نكاحها في هذا المعنى حكم المبتوتة، والفرق على القديم بين المتوفى عنها والمبتوتة] أن المتوفى عنها متفجعة؛ فيؤمن منها الوقوع في الآفات، بخلاف المبتتوتة؛ فإنها موغرة الصدر؛ فلا يؤمن منها الفساد. فرع: الرجعية في حكم الزوجات، لا يجوز لها الخروج إلا بإذنه. قال في "التتمة": وكذا الجارية المشتراة والمسبية في زمان الاستبراء، وكذا هو محكي في "تعليق" القاضي الحسين، وزاد: أم الولد. تنبيه: ما ذكر مفروض فيما إذا لم يكن لها أحد يقضي حاجتها، أما إذا كان لها من يقضي حاجتها فلا يجوز لها الخروج إلا للضرورة في ذلك، قاله الإمام وغيره، وقد حكاه الجيلي أيضاً. قال: وإن وجب عليها حق يختص بها، وهي برزة- أي: لها عادة أن تلقى الرجال في حوائجها، وهي بفتح الباء- خرجت؛ فإذا وفت، أي الحق، رجعت- أي: إن بقي من العدة شيء، وبنت، لأن ذلك محل ضرورة. أما إذا كان يمكن استيفاؤه في بيتها: كالدين والوديعة، لم تخرج. وإن كانت مخدرة بعث الحاكم إليها نائبه، أو حضر بنفسه.

واستدل للفرق بين البرزة والخفرة بأن الغامدية لما أتت النبي صلى الله عليه وسلم واعترفت بالزنى رجمها بعد وضع الحمل، وقال في قصة العسيف: "وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا؛ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ} فَارْجُمْهَا"، ولم يأمر بإحضارها. تنبيه: ذكر الشيخ هذه المسالة وإن كان الحكم فيها مستفاداً مما تقدم، بل بطريق الأولى؛ لينبه على أمور: أحدها: أن هذا الحكم يشمل المتوفى عنها وغيرها، وإن كان في خروج البائن قولان فيما تقدم. والثاني: أن المخدرة لا يجب عليها الخروج، وفيه دليل على أن المعتدة إذا أمكنها تحصيل شراء القطن وبيع الغزل من غير أن تخرج- لا يجوز لها الخروج، كما ذكرناه؛ لأن المخدرة لما أمكن استيفاء الحق منها في بيتها لم تخرج. والثالث: لئلا يعتقد معتقد أنه يجب تأخير الحق إذا كان حداً إلا بعد انقضاء العدة؛ كما يفعل في الحر والبرد، وتكون العدة مانعة منه. فرع: لو كان الحق الذي عليها الرجم، وكانت من ذوات الشهور أو الأقراء رجمت، ولم ينتظر بها انقضاء العدة؛ لأن الأصل براءة الرحم، والعدة موضوعة لمنعها من الأزواج، ورجمها أمنع. ولو كانت من ذوات الحمل أخرت حتى تضع أو يتبين عدم حملها. وإن كان الحق جلداً في الزنى جلدت إن كانت حائلاً، وفي تغريبها قبل انقضاء العدة وجهان: أحدهما: لا تغرب إلا بعد انقضاء العدة. والثاني: تغرب حولاًإلى أحصن المواضع، ويراعى تحصينها في التغريب

في بقية العدة؛ فإن استكملت حق التغريب قبل انقضاء العدة وجب ردها إلى منزلها؛ لتقضي فيه بقية العدة، حكاه الماوردي. قال: وتجب العدة [في المنزل الذي وجبت فيه العدة]، أي: إذا كان يليق بها حال الطلاق، وأمكن بقاؤها فيه؛ لكونه ملكاً للزوج أو مستأجراً معه، أو مستعاراً؛ لقوله- تعالى-: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]، مع حديث فريعة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم "أَمَرَهَا أَنْ تَمْكُثَ فِي بَيْتِهَا حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ" كما ذكرناه، ثم هذا الحق لله- تعالى- لا يسقط بالتراضي. أما إذا كان لا يليق بها: فإن كان لشرفه عليها فللزوج أن ينقلها منه إلى منزل يليق بها، [أو يفرد لها منه ما يليق بها]. وإن كان لشرفها عليه، وقد رضيت به في صلب النكاح: فإن قنعت به أقرت فيه، ولم تخرج منه، وإن لم تقنع، وجب [على] الزوج أن يكمل حقها في مسكن مثلها، فإن قدر على دار تلاصقها تضاف إليها فعل، وإن لم يقدر نقلها إلى منزل مثلها في أقرب المواضع كما سنذكره، هذا كلام العراقيين. وأبدى المراوزة- على ما حكاه مجلي عنهم- في المسألتين احتمالاً. وهذا كله تفريع على أن الاعتبار [في المسكن في حال الزوجية بحالها، أما إذا قلنا: الاعتبار] بحاله- كما سنذكره- فينبغي أن يكون هاهنا كذلك. ولا فرق فيما ذكرناه بين الحرة والأمة إذا قلنا: إن الزوج يستحق تعيين المسكن في صلب النكاح. [فإن] قلناك السيد يبوئها بيتاً، فطلقت فيه- فالظاهر: أنه لا يلزمها ملازمة المسكن، وقيل: إنه يجب. ثم هذا كله إذا كانت المعتدة عن وفاة أو طلاق بائن، أما إذا كانت عن طلاق رجعي ففي "المهذب" و"الحاوي"، وغيرهما من كتب العراقيين: أن للزوج أن يسكنها حيث شاء؛ لأنها في حكم الزوجات. وقفي "النهاية": أن الزوج إذا كان يساكن امرأة في مسكن مملوك له، ثم طلقها ألبتة، أو طلقة رجعية، أو مات عنها، والتفريع على الاستحقاق للسكنى- فيتعين عليها ملازمة مسكن النكاح؛ فلو زايلته عن اختيار عصت ربها، ويجب على

الزوج ألا يخرجها، ولا يزعجها، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. قال: وإن وجبت وهي في مسكن لها، وجبت لها الأجرة؛ لأن سكناها في العدة عليه؛ لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]، وهذا إذا طلبت، أما إذا سكتت ولم تطلب، فمضت مدة-[فقد] نص الشافعي على أن حقها يسقط بالسكوت، وقال في الزوجة إذا زفت إلى زوجها، فأنفقت على نفسها من مالها، ولم تطالبه بالنفقة: استقرت نفقتها. واختلفت أصحابنا في هذا على طريقين: منهم من ضاق عليه الفرق؛ فنقل جوابه في كل واحدة إلى الأخرى، وقال: فيهما معاً قولان: أحدهما: تسقط بالسكوت نفقة الزوجة وسكنى المعتدة. والثاني: لا تسقطان معاً. ومنهم من حمل الكلام على ظاهره، هكذا حكاه ابن الصباغ والبندنيجي، واللفظ للبندنيجي. وذكر ابن الصباغ عن الأكثر أنهم فرقوا بفرقين: أحدهما: أن نفقة الزوجة تجب بالتمكين وقد حصل، والمسكن يجب على الزوج؛ لتحصن ماءه وتحفظه، فإذا سكنت حيث شاءت لم يجب عليه أجرة المسكن؛ لأنه لم يوجد سبب وجوبه. والثاني: أن نفقة الزوجة تجب على سبيل المعاوضة؛ فلم تسقط بمضي الزمان، وهذا لا يجب لا على سبيل المعاوضة، وإنما يثبت لحق الله تعالى. وظاهر هذا الكلام يدل على أن الخلاف في النفقة في حال الزوجية. ويؤيده أن البندنيجي فرق بأن الزوجة [ممكنة من] الاستمتاع، ثم قال: قالوا: فعلى هذا يجب ألا يكون للرجعية نفقة؛ لأنها غير ممكنة. قلنا: هي ممكنة، وإنما الزوج لا يستوفي؛ فهو كما لو أحرم.

[هذا] على هذه الطريقة- يعني: طريقة الفرق- فأما من قال على قولين فالرجعية والزوجة سواء. وصور في "الحاوي" مسألة الخلاف في النفقة بما إذا كانت المطلقة البائن حاملاً، والله أعلم. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه يجب عليها أن تعتد فيه، وكذلك كلام الماوردي، وهو ما صرح به في "المهذب" وصاحب "التهذيب". وفي "الشامل" و"التتمة": أن ذلك يجوز ولا يجب، حتى لو طلبت أن يسكنها غيره، وجب عليه ذلك. قال: وإن وجبت، وهي [في] مسكن للزوج لم يجز أن يسكن معها؛ لقوله تعالى: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] وأراد بذلك: في المسكن، وفي سكناه معها إضرار بها. ولأن في ذلك خلوة بمن يحرم عليه النظر إليها، وهي حرام؛ قال صلى الله عليه وسلم: "لا يَخْلُوَنَّ رَجُلُ بِامْرَأَةٍ؛ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ". قال: إلا أن تكون في دار فيها ذو رحم محرم لها، أي: رجل على ما حكاه الرافعي، أو له، أي: امرأة، على ما حكاه أيضاً، ولها موضع تنفرد به، أي: من غير اشتراك في المرافق: كالمطبخ والسقاية والبئر، وهو صالح مع ذلك لسكنى مثلها؛ لأنه إذا وجد ذلك زالت الخلوة، وانتفى الضرر؛ لكنه مكروه؛ لاحتمال أن تقع عينه عليها. ولو كانت الدار ذات حجرتين، فسد المنفذ بينهما أو أغلقه، أو كان لها علو فقطع بين العلو والسفل بغلق باب أو سده- فيجب أن يسكنها ما يليق بها من ذلك، وله أن يسكن ما عداه، وإن لم يكن معهما محرم. واشترط صاحب "التهذيب" و"التتمة": ألا يكون ممر أحدهما على الآخر. ولو كانت الدار كبيرة يكتفي كل منهما بجانب منها، وقطع بين الجانبين بحاجز من بناء مكين أو خشب وثيق فهي كالدارين. أما إذا كانت المرافق

مشتركة، أو لم يكن لها موضع تنفرد به؛ بحيث لا يمكن ألا تقع عينه عليها- فلا يجوز وإن كان معهما محرم، صرح بالأولى القاضي الروياني، وبالثانية الماوردي، وقريب منها ما حكاه ابن الصباغ: أنه لو لم يكن في الدار إلا بيت واحد، والباقي صفات- لم يجز أن يسكن معها، وإن كان معهما محرم؛ لأنه لا يتميز في السكنى عنها بموضع. وفي كلام الرافعي تصريح بجوازه في الأولى؛ كما يجوز في البيتين من الخان. وفي "النهاية": أن الاشتراك في الممر والمخرج إلى خارج لا يراعى. ثم اشترط الشافعي- رضي الله عنه- في المحرم أن يكون بالغاً؛ قال القاضي أبو الطيب: لأن من لم يبلغ لا تكليف عليه؛ فلا يلزمه إنكار الفاحشة. وقال الشيخ أبو حامد: يكفي حضور المراهق، ويقوم مقام المحرم زوجته الأخرى أو جاريتهن أو من هي محرمة عليه برضاع أو مصاهرة، صرح بذلك القاضي الحسين في "تعليقه" وغيره. والنسوة الثقات يقمن مقامه، وكذلك المرأة الواحدة عند ابن الصباغ وغيره. وحكى الإمام عن الأصحاب تردداً، فيما إذا خلا بأختين أو معتدتين أو بجمع من النسوة: هل هو خلوة أم لا؟ والذي جزم به في كتاب الحج: أن الرجل كما يحرم عليه أن يخلو [بامرأة واحدة يحرم عليه أن يخلو] بنسوة إلا أن يكون مع واحدة منهن محرم. وقال هنا: لا تزول الخلوة عند اجتماع رجلين بامرأة على ظاهر ما ذكره الأصحاب، وليس كخلوة رجل بامرأتين؛ لأنا لا نوجب على المرأة الفردة أن تخرج حاجة مع جمع من الرجال. انتهى. وقد ضبط ما تندفع الخلوة به بما إذا كان هناك من يحتشم منه جانبه، أو يخاف بأن يمنع ما يكاد يجري: إما بنفسه، وإما بالاستعانة بغيره، وحينئذ لا يحرم. ولا فرق في ذلك بين المطلقة البائن أو الرجعية؛ فإن الرجعية في حكم التحريم كالبائن.

قال: ولا يجوز نقلها من المسكن الذي وجبت فيه العدة؛ للآية، إلا لضرورة. ومثالها: إشراف الدار على الانهدام، أو الحريق، أو الغرق، وكذا لو كانت الدار [غير] حصينة، وكانت تخاف من اللصوص، أو كانت بين قوم فسقة تخاف منهم على نفسها، أو كانت تتأذى من الجيران، أو كانت الدار مستعارة فرجع المعير فيها، أو مستأجرة فانقضت مدة الإجارة، وامتنع مالك المنفعة من أن يؤجره إلا بأكثر من أجرة المثل، أو كانت في دار الحرب، فإن عليها أن تهاجر وتخرج إلى دار الإسلام. وقال المتولي: إلا أن تكون في موضع لا تخاف على دينها، ولا على نفسها؛ فلا تخرج حتى تعتد. قال: أو بذاءة على أحمائها؛ فتنتقل إلى أقرب المواضع إليها: أما نقلها عند وجود الضرورة؛ فللضرورة. وأما عند البذاءة؛ فلقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]، وقد قال ابن عباس وغيره: إن الفاحشة المبينة: أن تبذو على أهل زوجها. [وما روي أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها] فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت الزوج، فاستطالت على أحمائها باللسان فبذت عليهن؛ فأخرجها النبي صلى الله عليه وسلم من بَيْتِ الزَّوجِ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومِ، كذا قاله القاضي الحسين. وأما كونها تنتقل إلى أقرب المواضع إليها؛ فلأن المكان إذا تعين لإيفاء الحق، ثم تعذر- رجع إلى أقرب المواضع إليه. وقال الإمام في "فصل: إذا كان المنزل الذي طلقت فيه أضيق من منزل النكاح": الذي أرى القطع به أن رعاية القرب من مسكن النكاح لا يجب أصلاً، بل لا أرى له أصلاً في الاستحباب. نعم، لا سبيل إلى الخروج من البلد، وجزم البغوي بسقوط حق السكنى، وأن عليها أن تعتد في بيت أهلها. وكأنه تمسك في ذلك بما روي أن فاطمة روت مطلقاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها النفقة والسكنى.

وقد كره منها ذلك جماعة- ابن المسيب وغيره- مخافة أن [تقرع السامع] روايتها على الإطلاق من غير بيان سبب، وهو يجهل سبب الحكم وحقيقة الحال؛ فيظن أن المطلقة لا سكنى لها، وأنها تعتد حيث شاءت. ولو بذا أحماؤها عليها فينقل الأحماء دونها. فرع: لو كان المسكن مستعاراً، فأراد أن ينقلهاإلى منزل مكرى: فإن، كان في بلد عرف أهله بالعارية فيه لم يكن له نقلها، وإن كان في بلد عرف أهله بالكرى، ففيه وجهان. فلو نقلهان ثم بذل المنزل الأول مالكه: فإن كان بالإعارة لم يلزمه ردها إليه، وإن بذل بالإجارة: فإن كان المنقول إليه مستعاراً وجب ردها إلى الأول وإن كان مستأجراً فوجهان. تنبيه: البذاءة- بفتح الباء، وبالذال المعجمة، والمد- هي: الفحش، وفلان بذي اللسان- بتشديد الياء- والمرأة بذية، بالتشديد أيضاً. والأحماء: أقارب زوجها. وقيل: محارم زوجها من الرجال والنساء؛ كما يقال: أختان الرجل: محارم زوجته من الرجال والنساء. و"الأصهار" يقع على أقارب الرجل والمرأة. وحماة المرأة: أم زوجها. قال الجوهري: لا لغة فيها غيرها، وفي واحد "الأحماء" من الرجال أربع لغات: "حما" كـ"قفا"، و"حمو" مثل "أبو"، و"حم" مثل "أب"، وحمء- بإسكان الميم، مهموز- وأصله: حمو، بفتح الحاء والميم. [تنبيه] آخر: المحل الذي تنقل منه المرأة بسبب البذاءة على الأحماء، إذا كانوا في دار واحدة تسع جميعهم، أما إذا كانت صغيرة لا تسع إلا المرأة نقل الأحماء، ولو كان الأحماء في دار أخرى لم تنقل المعتدة بالبذاءة؛ إذا لم تكن الداران متجاورتين. ولو كانت في دار أبويها؛ لأن الزوج كان يسكن دارهما، فبذت على الأبوين، أو بذا الأبوان عليها- لم ينقل واحد منهما. ولو كانت أحماؤها في دار أبويها أيضاً، فبذت عليهن؛ فينقلن دونها.

واعلم أن ما ذكرناه مفروض في أهل القرى، فأما أهل البادية فيجب على من طلقت في البادية أن تقيم في البيت الذي هو مسكنها من [خيام النقلة]، وتقيم فيه ما أقام قومها؛ فإن انتقلوا بجملتهم، أو النساء، وبقي الرجال؛ للخوف من عدو، أو بعض أهل الحي، وفيهم أهلها وأهل الزوج، أو أهلها- فليس عليها أن تقيم. وإن انتقل الرجال دون النساء، أو غير أهلها وغير أهل الزوج، أو أهلها وبقي أهل زوجها- وجب عليها أن تقيم. وإن انتقل أهل زوجها وبقي أهلها، فهي بالخيار بين الانتقال مع أهل الزوج، وبين أن تقيم مع أهلها، قاله الماوردي. وأما إذا طلقت المرأة، وهي في سفينة ولا منزل لها سواها؛ لكون زوجها [ملاحاً: فإن] كانت كبيرة، وفيها بيوت متميزة المرافق- اعتدت في بيت منها؛ كما في الدار التي [فيها] حجر مفردة المرافق. وإن كانت صغيرة، ومعها محرم لها يمكنه أن يعالج السفينة- خرج الزوج، واعتدت هي فيها، وإلا فتخرج وتعتد في أقرب المواضع إلى الشط. وإذا تعذر خروج واحد منهما، فعليها أن تستتر، وتبعد عنه بحسب الإمكان، هذا ما أورده ابن الصباغ وغيره. قال الرافعي: وفيه إشعار بأنه لا يجوز لها الخروج من السفينة إذا أمكن الاعتداد فيها، وقد نص ناصون عليه. ونقل القاضي الروياني أنها تتخير بين أن تعتد في السفينة وبين أن تخرج، وحكاه مجلي- أيضاً- لكن عن بعض الأصحاب: فإن اختارت الاعتداد في السفينة؛ فحينئذ ينظر: أهي كبيرة أم صغيرة؟ ويراعى التفصيل المذكور. وإن اختارت الخروج فوجهان: أحدهما: أنها تعتد في أي موضع شاءتن وينسب إلى أبي إسحاق. وأظهرهما- وبه قال الماسرجسي-: أنها تعتد في أقرب القرى إلى الشط.

وقد حكى هذين الوجهين، وجوز الخروج من السفينة مع إمكان الاعتداد الشاشي- أيضاً – وقال: إن الأصح من الوجهين: الوجه الآخر، كما ذكر. قال: وإن أمرها بالانتقال إلى موضع آخر، فانتقلت، أي: خرجت بنية الانتقال، ثم طلقها، أي أو مات عنها، قبل أن تصير إلى الثاني- فقد قيل: تمضي؛ لأنهقد صار هو المسكن؛ فإنها ممنوعة من المقام في الأول، مأذون لها في الثاني. وهذا هو الصحيح، ويحكى عن نصه في "الأم"، ونسبه الماوردي إلى أبي إسحاق. قال: وقيل: هي بالخيار بين المضي وبين العود؛ لأنها بينهما، [والأول خرج عن أن يكون سكناً بالخروج منه، والثاين لم يصر مسكناً؛ فخيرت بينهما]، وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه يعتبر القرب فيرجح به. قال: ويشبه أن يكون قول أبي الفياض. وفي "الرافعي" حكاية وجه: أن المسكن الأول يتعين؛ فتحصلنا على أربعة أوجه. ولو أمرها بالانتقال، فلم تنتقل بنفسها- وجب عليها أن تعتد في الأول، وإن انتقلت بنفسها وجب عليها أن تعتد في الثاني، ولو رجعت لنقل القماش، ثم طلقها، أو مات وهي في الأول- اعتدت في الثاني. قال الإمام: وهذا إذا دخلت الثاني دخول قرار، أما إذا لم تدخله كذلك، وكانت تتردد بينهما: فإن طلقت في الثاني تعين، وإن طلقت في الأول ففيه احتمالان. ولو طلقها في الأول طلقة، ثم كمل الثلاث في الثاني- عادت إلى الأول، وأكملت فيه العدة. قال الماوردي لأن أول عدتها في الطلاق المبتوت في الثاني من وقت الطلاق الرجعي في الأول، فكذلك انتهاء العدة فيه آخراً، وينبغي أن يجيء فيه وجه: أنها تعتد في الثاني؛ بناء على أنها تستأنف العدة. وحكمها إذا انتقلت بغير الإذن، ثم أقرها الزوج- حكم ما إذا انتقلت بالإذن. ولو خرجت لا للنقلة، ثم لحقها الطلاق- فحق عليها أن ترجع إلى مسكن النكاح وإن كان عليها في تلك الدار شغل يضاهي التجارة في حق المسافرة. قال: وإن أذن لها في السفر، فخرجت، أي: من المنزل، ووجبت العدة، أي: عد الطلاق أو الوفاة، قبل أن تفارق البلد- فقد قيل: عليها أن تعود؛ لأنه لم

يثبت لها حكم السفر؛ بدليل أنها لا تستبيح قصر الصلاة، وإذا كان كذلك لم يوجد المأذون فيه؛ فأشبه ما لو طلقها قبل أن تخرج من البيت، وهذا نسبه الماوردي إلى أبي إسحاق، وقال الإمام: إنه الذي ذهب إليه الأكثرون، وإنه الأظهر. قال: وقيل: لها أن تمضي ولها أن تعود؛ لأن مزايلتها المنزل بإذن الزوج أسقط عنها وجوب الإقامة فيه، وهذا قول أبي سعيد الإصطخري، وهو ظاهر المذهب. وحكي وجه غريب فارق بين أن يكون سفر حج؛ فلا يلزمها، وبين أن يكون غيره؛ فيلزمها، وقيده في "الذخائر" بحج الفرض. قال: وإن فارقت البلد، ثم وجبت العدة- فلها أن تمضي، ولها أن تعود؛ لأن في قطعها عن السفر مشقة، لا سيما إذا بعدت عن البلد، وخافت الانقطاع عن الرفقة. وفي "الحاوي" حكاية وجه عن ابن أبي هريرة: أنه لا يستقر دخولها في حكم السفر، إلا أن تنتهي على مسافة يوم وليلة؛ اعتباراً بالسفر الذي يستباح فيه الترخص؛ فما لم تبلغ إليه فعليها إذا مات أو طلق أن تعود إلى منزلها؛ فإن بلغت يوماً وليلة لم يلزمها العود. ثم هذا في السفر للحاجة، أما سفر النقلة: فإن لم تخرج من البلد عادت إلى المنزل، وإن خرجت فعلى الوجوه الأربعة فيمن طلقت وهي بين الدارين. وفي "الحاوي" عن ابن أبي هريرة: أنه إذا [كان] السفر لنزهة أو زيارة، فطلق أو مات بعد استقرار سفرها، وقبل وصولها- يلزمها العود، وعليه حمل قول الشافعي: إنه لو أذن لها في زيارة أو نزهة، فعليها أن ترجع. والمذكور في "الشامل": أن سفر النزهة كسفر الحاجة. وفي "تعيلق" القاضي الحسين: أنها ترجع في سفر النزهة، على قولنا: إنه إذا أذن لها في المقام مدة، ثم طلقها: إنها لا تقيمها، ولا ترجع في سفر الزيارة على هذا القول؛ لأنها غرض صحيح، وظاهر النص: أنه لا فرق بين سفر الزيارة والنزهة. قال: وإن وصلت إلى المقصد، أي: سواء وجبت العدة في الطريق، ولم تعلمه، أو فيه؛ على ما صرح به الماوردي- فإن كان السفر لقضاء حاجة، أي

مثل: حج يؤدى، أو دار تبنى- لم تقم بعد قضائها؛ لأنه لم يأذن في القدر الزائد على ذلك، اللهم إلا أن تكون الحاجة مما ينقضي في دون الثلاثة أيام؛ فإن لها أن تقيم مدة المسافرين ثلاثة أيام، كذا حكاه القاضي الحسين والبغوي والغزالي. وحكاه الروياني عن بعضهم، وغلط قائله، وقال: نهاية سفرها قضاء الحاجة لا غير. وما قاله هو ما يقتضيه كلام الشيخ، وهذا إذا لم يقدر لها مدة، أما إذا قدر ففيها الخلاف الآتي. والمقصد: بكسر الصاد. قال: وإن كان لنزهة أو زيارة، لم تقم أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن ما زاد في حكم الإقامة. وألحق الماوردي بذلك ما إذا كان لأداء رسالة، واستدل له بما روي أنه- عليه السلام-: "أَذِنَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ". ثم هذا إذا أمكنها الخروج في اليوم الرابع فإن لم يكن لمرض أو خوف؛ فلا حرج عليها في المقام ما كان عذرها قائماً. قال: وإن قدر لها مقام مدة ففيه قولان: أحدهما: أنها لا تقيم أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن الإذن في المدة المقدرة قد بطل؛ لاستحقاق العدة في الوطن؛ فليس لها أن تقيم إلا مدة المسافرين ثلاثة أيام، إلا أن يقطعها عذر. والثاني: أنها تقيم المدة التي أذن لها فيها؛ كما لو أذن في قضاء الحاجة، وكما أنه إذا أذن في سفر النقلة، يجب عليها أن تعتد في البلد الثاني، وهذا هو الأصح، واختيار المزني، وقد أجرى هذا الخلاف فيما لو أذن لها في الانتقال إلى

منزل آخر في البلد مدة قدرها، كما حكاه الروياني عن نصه في "الأم". وقال الغزالي: إن الطلاق يبطل تلك المدة، ولم يجعله على الخلاف. وأجرى- أيضاً- فيما لو أذن لها أن تعتكف عشرة أيام، ثم وجبت العدة في أثنائها: هل تتمهما، أو تقطعها وتود إلى المنزل؟ فإن لم نوجب الخروج فخرجت بطل، واستأنفت إن كان الاعتكاف منذوراً. وإن أوجبناه، فهل تستأنف أو تبني؟ فيه خلاف، والظاهر الثاني. ومنهم من قال: إن قلنا: تبني، فعليها الخروج، وإلا فإبطال [العبادة عليها كإبطال] أهبة السفر. والمقيم: بضم الميم. فرعان: أحدهما: لو أذن لها في السفر مطلقاًروعي شواهد الحال فيه: فإن دلت على المقام أقامت، وإن دلت على العود عادت، وإن لم تدل على شيء اقتضى مطلق الإذن أن يكون سفر مقام؛ لأن العود سفر آخر يحتاج إلى إذن فيه؛ فيلزمها قضاء العدة في البلد الذي سافرت إليه، حكاه الماوردي. الثاني: لو كان الزوج معها في السفر، وكان سفرها لغرضه، فطلقها أو مات- لم تقم إلا مدة المسافرين، إلا لضرورة، وإن كان لغرضها فالحكم كما لو لم يكن معها. قال: فإن قضت الحاجة في المسألة الأولى لتنزه أو زيارة، وبقي من المدة ما تعلم أنه ينقضي قبل أن تعود إلى البلد- فقد قيل: لا يلزمها العود؛ لأنها لا تقدر على العدة في ذلك البلد؛ فالسكون أولى وأليق، وهو أيسر لها من السفر، وهذا قول أبي إسحاق، واختيار القفال، وهو أظهر في "تعليق" القاضي الحسين. وقيل: يلزمها؛ لأن إقامتها غير مأذون فيها، وعودها مأذون فيه من جهته، ولأن المكان الذي تعود إليه أقرب إلى مسكنها من الموضع الذي تقيم فيه، والقرب من موضع العدة مطلوب؛ دليله ما سبق، وهذا نصه في "الأم"، وهو الأظهر في "الرافعي" وغيره، وقال: البندنيجي: إنه المذهب، ونسبه الإمام إلى بعض الأصحاب، وقال: لا أعرف له وجهاً؛ فإنها إذا قطعت بأنها لا تنتهي إلى مسكن النكاح، فقصدها المسكن قصد لا مقصود له. نعم، إذا جوزت أن تنتهي إلى المسكن قبل انقضائها،

وجوزت خلاف ذلك- فيجوز تقدير الخلاف هاهنا. انتهى. ولو علمت أن العدة لا تنقضي في الطريق، وبقي بقية تقضيها في البلد- وجب عليها العود وجهاً واحداً. قال: وإن أذن لها في الخروج إلى منزل أو [إلى بلد] لحاجة، أي: ادعى ذلك، ثم اختلفا، أي: وهي في المنزل الثاني، فقالت: نقلتني إلى الثاني؛ ففيه أعتد، وقال: ما نقلتك [أي: وأصر على ما ادعاه أنه لحاجة]، فالقول قول الزوج؛ لأنهما لو اختلفا في أصل الإذن كان القول قوله؛ فكذلك إذا اختلفا في صفته؛ لأنه أعرف به، ولأن الأصل عدم الإذن في النقلة. قال: وإن مات الزوج، واختلفت هي والورثة في ذلك- فالقول قولها؛ لأنهما استويا في الجهل بقصد الزوج، ومع الزوجة ظاهر: وهو أن الأمر بالخروج يقتضي خروجها من غير عود، وهذا ما حكاه القفال عن نص الشافعي في الصورتين على ما حكاه الفوراني، وهو الأصح بالاتفاق. ونقل نص: أن القول قول الوارث أيضاً، ونص أن القول قولها، سواء كان الاختلاف مع الزوج أو وارثه.

وهذا ما جزم به الماوردي والحالة هذه؛ موجهاً ذلك بأنها تدعي سفراً، وهو يدعي سفرين؛ فكان القول قول من ينكر الثاني. وكذا جعل القول قوله إذا ادعت العكس لهذه العلة، وخرج مخرجون هذا الخلاف على تقابل الأصل والظاهر؛ [فإن الظاهر] سفر النقلة، والأصل عدمها. ومن الأصحاب من نفي الخلاف في المسألة، ثم هؤلاء اختلفوا: فمنهم من قال: حيث جعل القول قوله أو قول الوارث فذاك إذا كان الاختلاف في اللفظ، وحيث جعل القول قولها مع الزوج أو وارثه فذاك فيما إذا كان الإذن في الخروج مطلقاً، واختلفا في الإرادة. ومنهم من قال: حيث جعل القول قولها، فذاك إذا انتقل الزوج معها إلى المنزل الثاني، وحيث جعل القول قوله أو قول الوارث فذاك إذا انتقلت بنفسها. وقيل: إن اتفقا على جريان لفظ الانتقال أو الإقامة، وقال الزوج: ضممت إليه النزهة أو شهراً أو نحوهما، فالقول قولها. وإن كان الإذن المتفق عليه الإذن في الخروج، لا غير، فالظاهر أن القول قوله، وفيه وجه. وإن كان الاختلاف مع الوارث، فالقول قولها في الحالين، وقد يفهم من هذه الطريقة أن الخلاف يجري فيما إذا اتفقا على النقلة أو الإقامة، وليس فيها خلاف. نعم، أبدى الرافعي في قبول قوله فيها احتمالاً لنفسه. فروع: لو قال الزوج أو الوارث: لم يحصل الانتقال بالإذن، فالقول قوله. قال الإمام: ويحتمل أن يجعل القول قولها؛ لوجه ذكر فيما لو قال صاحب اليد: أعرتني هذه الدار، فقال المالك: ما أعرتك-: أنه يجعل القول قول صاحب اليد.

لو قالت: أمرتني بالانتقال عشرة أيام، وقال: بل أمرتك بالنزهة من غير ذكره مدة، وقلنا: إنها تقيم المدة المأذون فيها- فإن كان الاختلاف مع الزوج فالقول قوله، وإن كان مع الوارث فالقول قولها، وهكذا الحكم فيما لو ادعت سفر النزهة، وادعى الزوج أنه قدر لها مقام مدة، وقلنا: إنها تقيم فيها، قالهما الماوردي. قال: وإن أحرمت بإذنه، ثم طلقها، أي: أو مات عنها. فإن كان الوقت ضيقاً، أي: تخاف فوت الحج إن أقامت لأجل العدة- مضت في الحج؛ لقوله -تعالى-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وصفة الإتمام: إكمال ما دخل فيه، ولأنه قد تقابل عبادتان، [وأحدهما سابق]، وهو الحج؛ فكان تقديمه أولى كما لو تقدمت العدة. قال: وإن كان واسعاً- أي للأمرين- أتمت العدة، أي: ثم أتمت الحج، وهكذا حكاه- أيضاً- في "المهذب"، ووافقه صاحب "التهذيب"؛ ولأنه أكمل للجمع بينهما؛ فلم يجز إسقاط أحدهما. والذي ذهب إليه الشيخ أبو حامد والأكثرون، وهو الأصح: أنها بالخيار بين أن تمضي في إحرامها، وبين أن تقيم حتى تنقضي العدة، ثم تخرج لقضاء النسك، وهكذا الحكم فيما لو أحرمت بالعمرة؛ لأن [مصابرة الإحرام عسير] والأولى أن تتم العدة. ومحل الخلاف ما إذا لم تخرج بعد، أما إذا خرجت ومشت في الطريق، أتمت العدة؛ قاله مجلي، وإن كان الشيخ في "المهذب" وهاهنا لم يقيده. وفي "الرافعي" و"التتمة" إلحاق ما إذا أحرمت قبل وجوب العدة بغير إذنه بما إذا أحرمت بإذنه. قال: وإن وجبت العدة، ثم أحرمت، أتمت العدة بكل حال؛ لأنها أسبق؛ فلو فاتها الحج بإتمامها العدة تحللت بعمرة، وقضته. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنها تقضيه من قابل، وكذلك في "ابن يونس"؛ فلعل تفريع على وجوب القضاء على الفور. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنها تقضيه من قابل، وكذلك في "ابن يونس"؛ فلعله تفريع على وجوب القضاء على الفور. وفي "الجيلي": أنه إذا لم يمكن التحلل بأفعال عمرة؛ بأن تكون في بلدها

تصبر إلى السنة الثانية؛ لأنها ليست في معنى المحصر، هكذا ذكره في "التجربة النظامية" و"الحاوي". ولو أحرمت بالحج أو العمرة، ثم تحللت، ثم وجبت العدة- فحكمها حكم ما لو سافرت بإذنه. قال: وإن تزوجت في العدة، ووطئها الزوج، أي: الثاني على ظن الإباحة، وهي حائل، انقطعت العدة؛ لأنها صارت فراشاً للثاني، ولا يجوز أن تكون فراشاً لواحد ومعتدة من آخر؛ غذ الفراش ينافي المقصود من العدة، ويجب أن يفرق بينهما؛ لفساد النكاح. قال: فإذا فرق بينهما، أتمت العدة من الأول، ثم استأنفت العدة من الثاني أي: بعد انقضاء عدة الأول، أو قطعها بالرجعة إن كان الطلاق رجعياً؛ لما روي عن عمر أنه قال: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا: فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا الذِي تَزَوَّجَ بِهَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا- اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ زَوْجِهَا الأَوَّلِ، وَكَانَ خَاطِباً مِنَ الخُطَّابِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَاعتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنَ الأَوَّلِ، ثُمَّ اعتَدَّتْ مِنَ الثَّانِي، وَلَمْ يَنْكِحْهَا أَبَداً". ولأنهما حقان مقصودان من جنس واحد لثابتي الحرمة؛ فلا يتداخلان؛ كالدينين، ويقدم الألو منهما؛ لتقدمه وقوته؛ فإنه يستند إلى عقد جائز وسبب مسوغ. ومعنى قولنا: مقصودان، أن العدة تجب عليها، أرادت النكاح أو لم ترده، بخلاف الأجل. وقولنا: لثابتي الحرمة، احترزنا به عن العدتين من شخص واحد، وعما إذا طلق حربي امرأته، فنكحت في خلال العدة، وأسلم أحدهما؛ فإن عليها عدة واحدة عن النص. وقد نقل الفوراني: أن بعضهم خرج قولاً من هذا النص إلى المسألة قبلها [ومن المسألة قبلها] إلى هذه، وجعلهما على قولين، وهما ما حكاهما العمراني في "الزوائد" عن طريقة الشيخ أبي حامد.

وبعضهم أقر النصين، وفرق بأن عرض الحربي وماله عرضة الإبطال والنهب، بخلاف المسلم. والصحيح هو الأول عند الإمام والقاضي الروياني، وعليه جرى الأودني وعند البندنيجي والبغوي: أن التداخل في حق الحربيين أصح؛ جرياً على ظاهر النص. ومعنى التداخل: أنها تكتفي بعدة واحدة من يوم إصابة الثاني، وتدخل بقية الأولى فيها. وفيه وجه: أنها تسقط بالكلية، وهذا ما حكاه القاضي الحسين. فرع: لو أسلمت المرأة ولم يسلم الثاني؛ فلا بد من أن تكمل العدة الأولى، ثم تعتد عن الثاني. ولو أسلمت مع الثاني، ثم أسلم الأول، وأراد الرجعة: فإن قلنا بسقوطها فلا، وإن قلنا بدخولها فنعم، كذا حكاه الرافعي. ولو أراد الثاني أن ينكحها: فإن قلنا بدخولها فلا حتى تنقضي تلك البقية، وإن قلنا بسقوطها فنعم. أما لو وطئها الثاني وهو عالم بأنها في العدة، وأن العقد عليها حرام- فهو زنى لا يوجب العدة ولا يقطعها؛ لأنها لم تصر فراشاً. فرع آخر: لو وطئها المطلق بعد أن وطئها الثاني، وفرق بينهما؛ فتكمل العدة الأولى، ويدخل فيها من عدة الوطء الثاني مثل ما بقي من العدة الأولى، ثم تعتد عن الثاني، ثم تأتي بما بقي من عدة الوطء، قاله القفال في "فتاويه". تنبيه: قول الشيخ: ووطئها الزوج انقطعت العدة، يعرفك أن اختياره: أن انقطاعها يكون بالوطء، وهو الصحيح، ونسبه الإمام إلى القفال. وقيل: بالعقد، ونسبه الإمام إلى الشاشي- أي: المروزي- وهذا يدل على أنه غير القفال، وقيده من عند نفسه بما إذا اتصل به الدخول، أما إذا لم يتصل فلا أثر له، وكلام غيره يقتضي إطلاقه.

وقيل: ينقطع بالزفاف بعد العقد والخلوة وإن لم يوجد وطء، وأبدى الإمام في هذه تردداً. وقوله: فإذا فرق بينهما أتمت العدة، يعرفك أن البناء يكون من حيث التفريق، وهو الأصح. قال الإمام: وإليه نظر القفال. ومنهم من قال: من آخر وطئه. قال الإمام: وهو قول الشاشي. فرع: للزوج أن يراجعها بعد التفريق في عدته إن كان الطلاق رجعياً، وفي جواز تجديد النكاح إذا كان بائناً وجهان حكاهما المراوزة، والأصح منهما عند القفال: لا، وبه أجاب صاحب "التهذيب" والقاضي الروياني وغيرهما. ومقابله هو المحكي عن الشيخ أبي حامد. قال: وإن كانت حاملاً، أي: من الأول، مثل: أن أتت به لدون ستة أشهر من حين وطء الثاني، ولدون أربع سنين من وقت الطلاق- لم تنقطع العدة؛ لأن الحمل لا يتبعض، وهو لا يجوز أن يكون من الثاني؛ فتعين أن تعتد به عن الأول. قال: فإذا وضعت استقبلت العدة من الثاني- أي: بالأقراء- بعد مضي النفاس؛ [لتعين] ذلك لوفاء الحق. ويجوز للزوج الأول أن يراجعها في مدة الحمل إن كان الطلاق رجعياً، لكن قال الروياني فيما لو كان الوطء وطء شبهة من غير نكاح: لا يجوز له ذلك في زمن اجتماع الثاني معها؛ لأنها حينئذ خارجة عن عدة الأول وفراش لغيره، وهذا في مسألتنا أولى؛ لأن النكاح الفاسد له فراش، بخلاف وطء الشبهة، ومقتضى

ذلك في مسألتنا: أن تنقطع العدة أيضاً، لكن لا كالانقطاع السابق. وإن كان الطلاق بائناً فهل يجوز تجديد النكاح؟ فيه الوجهان السابقان، وهما يجريان- أيضاً- فيما لو كانت حاملاً من الثاني، وأراد الثاني نكاحها فيه، صرح به الإمام. والفرق بين النكاح والرجعة: أن الرجعة في حكم الاستصحاب؛ ولهذا تجوز للمحرم، بخلاف النكاح، ولأنا لو لم نجوز له الرجعة لأدى إلى إبطال حقه. ثم إذا راجع أو جدد النكاح فهل له وطؤها في زمن الحمل؟ فيه وجهان، وميل المتولي إلى أنه لا يحل، ومنهم من رجح مقابله. ويجري الوجهان فيما لو وطئت المرأة بشبهة في صلب النكاح وهي حامل من الزوج. ويجوز للزوج الثاني أن يتزوجها في عدته وبعد انقضائها، وفيه قول محكي عن القديم: أنها تحرم عليه على التأبيد؛ تقليداً لقضاء عمر، ولأنه استعجل الشيء قبل أوانه؛ فعوقب بحرمانه؛ كما لو قتل مورثه. ثم هذا القول يجري وإن تفرقا بأنفسهما، أو يختص بما إذا فرق الحاكم بينهما كما في فرقة اللعان؟ فيه وجهان، وقد نقل الروياني إجراء هذا القول في كل وطء شبهة أفسد الفراش. وأنكر البصريون من أصحابنا هذا القول أعلى ما حكاه الشاشي وغيره- وقالوا: إنما حكاه عن مالك، ويؤيده أن عمر- رضي الله عنه- رجع إلى قول علي أنه إذا انقضت عدتها كان خاطباً من الخطاب؛ كما حكاه في "المهذب" عنهما. قال: وإن وطئها الثاني، وظهر بها حمل، يمكن أن يكون من كل واحد منهما- أي: بأن أتت به لستة أشهر من وطء الثاني، ولأربع سنين فما دونها من وقت الطلاق- اعتدت به عمن يلحقه- أي: بإلحاق القائف بشرطه الذي تقدم في بابه- ثم تستقبل العدة من الآخر؛ لأنه إذا ألحق بالزوج كان انقضاء العدة به؛ لأمرين: أحدهما: أنه ولده. والثاني: سبق حقه. وأما إذا لحق بالثاني؛ فلأنه لا يجوز أن يلحق الولد بشخص، وتنقضي به عدة غيره؛ فلأجل ذلك قدمت عدة الثاني على عدة الأول، وإنما تستقبل العدة عن الآخر؛ لتعين ذلك لوفاء الحق، وهذا هو المذهب.

وعن القاضي الحسين: أنها إذا كانت ترى الدم على الحمل، وقلنا: إنه حيض- تنقضي به عدة الآخر، وضعفه الإمام والغزالي. تنبيه: المراد من الاستقبال: ابتداء العدة إن كان الحمل ملحقاً بالأول، والبناء على العدة السابقة إن كان الحمل من الثاني. فرع: هل يجوز للزوج أن يراجعها إن كان الطلاق رجعياً، أو يجدد النكاح إن كان بائناً؟ يحتاج الكلام في ذلك إلى مقدمة، وهي أن الحمل إذا كان من الثاني كان للزوج الرجعة في بقية عدته إن كان الطلاق رجعياً، ولا فرق في ذلك بين مدة النفاس وغيرها؛ لأنها من جملة العدة؛ كالحيض الذي يقع فيه الطلاق، وفي مدة النفاس وجه: أنه لا رجعة فيها. وإذا ثبتت الرجعة؛ فلو طلقها لحقها الطلاق، ولو مات أحدهما ورثه الآخر، وتنتقل بوفاته إلى عدة الوفاة، وهل له الرجعة قبل الوضع وتجديد النكاح إن كان بائناً؟ فيه وجهان: أحدهما- محكي عن أبي إسحاق، وذكر أنه الصحيح-: نعم. والثاني- وهو الصحيح في "التهذيب"-: لا، ويروى مثله عن الماوردي. وفي "التهذيب": أنه إذا طلقها قبل الوضع يلحقها الطلاق، وإذا مات أحدهما ورثه الآخر، وإذا مات تنتقل إلى عدة الوفاة بعد الوضع، وإن كان لا تصح رجعته؛ لأنا نجعل زمان الرجعة كزمان صلب النكاح. هكذا لفظه. رجعنا إلى المقصود: فإن فرعنا على الوجه الذي قال به أبو إسحاق، فإذا راجعها في زمن الحمل صحت رجعته. وإن فرعنا على الثاني لا نحكم بصحتها؛ لجواز أن يكون الحمل من الثاني، فلو بان بعد الوضع أن الحمل منه بإلحاق القائف، فهل نحكم الآن بأن الرجعة صحت وحلت محلها؟ فيه وجهان مأخوذان من الخلاف فيما إذا باع مال مورثه

على ظن أنه حي، فبان ميتاً، والأظهر الحكم بالصحة، قاله الرافعي. ولو راجع بعد الوضع فيما يمكن أن يكون من عدة غيره، لا نحكم بصحتها؛ لجواز أن يكون الحمل منه؛ فإن ألحقه القائف بالثاني ففي الحكم بصحة الرجعة الوجهان. ولو راجع في حال الحمل وفيما يمكن أن يكون من عدته، ففي صحة الرجعة وجهان، أصحهما- وبه قال القفال-: الصحة. ولو أراد أن يجدد النكاح: فإن قلنا: إن ثبوت عدة الغير في ذمتها يمنعه من تجديد النكاح في عدته لم يصح. وإن قلنا: إنه لا يمنع، فالحكم فيه كما في الرجعة سواء؛ إلا أن الوجه الذي ذهب إليه القفال وصحح قال الإمام: الصحيح هاهنا: مقابله. فرع آخر: إذا ألحقه القائف بهما، أو نفاه عنهما، أو أشكل عليه، أو لم تكن قافة- لزمها أن تعتد بعد وضع الحمل بثلاثة أقراء؛ إذ بذلك تخرج عما عليها بيقين، وهذا إذا لم تحض على الحمل، أو حاضت على الصحيح. تنبيه: ذكر الشيخ- رحمه الله- في الحمل حالتين: إحداهما: أن يكون من الزوج الأول. والثانية: أن يمكن أن يكون من كل واحد منهما، وهي تشتمل على صورتين: إحداهما: أن يلحقه القائف بالأول. والثانية: أن يلحقه بالثاني، وبهذه يظهر الحكم في حالة أخرى، وهو إذا أمكن أن يكون من الثاني دون الأول؛ بأن تأتي به لستة أشهر فما فوقها إلى أربع سنين، ولأكثر من أربع سنين من طلاق الأول إن كان بائناً، وكذا إن كان رجعياً- على أحد الوجهين- بناء على أن الولد لا يلحقه، فإن الحكم فيها ما تقدم. وأما إذا قلنا: إنه يلحقه؛ فهو كما لو أمكن أن يكون من كل منهما. ووراء ذلك حالة أخرى، وهي إذا لم يمكن أن يكون من واحد منهما؛ بأن أتت به لدون ستة أشهر من نكاح الأول، أو من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين من حين الطلاق. وقد قال الماوردي فيها: إن الطلاق إن كان بائناً لم يلحق بواحد منهما، ولم

تنقض به عدة واحد منهما باتفاق أصحابنا. وإن كان الطلاق رجعياً، فعلى قولين: أحدهما: أن الحكم كذلك؛ فعليها بعد الوضع أن تتم عدة الأول، ثم تستأنف عدة الثاني. والقول الثاني: أن الولد يلحق بالأول، وتنقضي به عدته، ثم تستأنف عدة الثاني. وحكى الشيخ في "المهذب" وغيره في أصل المسألة وجهين، وكذلك الماوردي في باب اجتماع العدتين، وإن كان حكى في موضع آخر ما حكيناه عنه أولاً: أحدهما- وهو الأشبه-: أنها لا تعتد به عن واحد منهما، وهو ما حكاه القاضي الحسين، ويحكى عن الشيخ أبي حامد- على ما حكاه ابن الصباغ. فعلى هذا: يكون الحكم- كما ذكره الماوردي في الوجه الأول. والثاني: أنها تعتد به عن واحد لا بعينه، ثم إذا وضعت اعتدت عن الآخر بثلاثة أقراء؛ لإمكان كونه من أحدهما بوطء شبهة يفرض بعد الطلاق [أو يفرض] من وطء قبل وطئه الظاهر، والإمكان كاف في انقضاء العدة، وهذا ما أبداه ابن الصباغ احتمالاً؛ قياساً على ما لو علق طلاقها بالولادة، فولدت، ثم أتت بولد آخر بعد ستة أشهر من ولادة الأول؛ فإنه منفي عنه، وتنقضي عدتها به، وهذا قد حكيناه في باب ما يلحق من النسب، وعزاه الرافعي والماوردي، والإمام إلى الشيخ أبي حامد، وقال الإمام: إنه الصحيح عند أئمة المذهب؛ فإن المعتمد في انقضاء العدة الإحبال، وهو [مستحق] في حق كل واحد منهما. ووجهه الشيخ في "المهذب": بأن أحدهما لو أقر به للحقه؛ فانقضت به العدة؛ كالمنفي باللعان، وفيما قاله نظر من وجهين: أحدهما: أن الماوردي حكى عند الكلام فيما إذا طلقها طلاقاً بائناً ثم أتت بولد لأكثر من أربع سنين: أن العدة عنده تنقضي بالشهور، أو الأقراء التي كانت

قد اعتدت بها؛ لأن ما انتفى عنه لعدم الإمكان امتنع أن تنقضي به العدة؛ كزوجة الصغير إذا ولدت بعد موته عنها تعتد بالشهور. فإن قالوا: ولد الصغير لا يلحق به [إذا ادعاه. قيل: كذلك هذا الولد لا يلحق به] لو ادعاه؛ كما لا يلحق بالزاني ما لم يدع نكاحاً أو شبهة، وهذا يخالف ما حكاه الشيخ مطلقاً. الثاني: أن ولد الملاعنة قد نفاه باللعان مع إمكانه، وهذا نفاه الشرع؛ لاستحالته؛ فافتقرقا. فرعان: أحدهما: إذا لم تعتد بالحمل عن واحد منهما، وكانت ترى الدم، وقلنا: إنه حيض- فهل يحتسب بأقرائها؟ فيه وجهان، أشبههما: الاحتساب، وهو ما أورده ابن الصباغ، وللزوج الرجعة بعد الوضع في بقية عدته، وهل له الرجعة في حال الحمل؟ فيه الوجهان السابقان. الثاني: إذا قلنا: تنقضي بوضع الحمل إحدى العدتين، فراجعها الأول في مدة الحمل، أو في الأقراء بعد الوضع- لم يحصل، وإن راجعها مرة في الحمل ومرة في الأقراء، ففي صحة الرجعة وجهان محكيان عن "الحاوي"، وهما كالوجهين السابقين. فرع: إذا وطئت المنكوحة بالشبهة فإنها تعتد عن [هذا] الوطء، فلو طلقها الزوج ولم تكن حاملاً من وطء الشبهة، فهل تستمر على عدة الشبهة، أو تستقبل عدة الطلاق، ثم تبني على عدة الشبهة؟ فيه وجهان، أظهرهما في "تعليق" القاضي الحسين: الثاني. ولم لم يطلقها الزوج، لكن وطئها وهي في عدة الشبهة- فهو حرام، ولا يقطع وطؤه عدة الشبهة؛ لأن وطء الزوج لا يوجب العدة؛ فلا يقطع العدة؛ كما لو زنت المعتدة، قاله القفال في "فتاويه". وهل يحرم عليه التلذذ بها؟ فيه وجهان محكيان في الاستبراء. وما حكاه الرافعي في باب القسم والنشوز- قبل الفرع الأول-: من أنه لا يجوز له الخلوة معها، يجوز أن يكون إذا كانت حائلاً، أو بناء على أنه لا يحل له التلذذ بها.

قال: وإن وطئها الزوج في العدة بشبهة- أي: وكانت بالأشهر أو الأقراء- دخلت فيها البقية؛ لأنهما من جنس واحد ومن شخص واحد؛ فلا معنى للتعدد. وقيد الشيخ الوطء هاهنا بالشبهة؛ وكذلك الغزالي في "الوسيط"؛ لأمرين: أحدهما: أن تصور المسألة بوطء لا إثم فيهز الثاني: أن الوطء إذا كان بشبهة شمل المعتدة عن طلاق بائن أو رجعي، ولو لم يذكر الشبهة لكان مختصاً بالطلاق الرجعي؛ إذ لا فرق فيه بين العلم بتحريم الوطء أو الجهل به؛ لأنه وجد في نكاح متشعث؛ فالعدة في نفسها شبهة. وأما إذا كان بائناً وهو عالم بالتحريم، فيكون الوطء زنى لا أثر له، والله أعلمز قال: وله الرجعة فيما بقي من العدة الأولى، أي: إن كان الطلاق رجعياً؛ لأنها من عدة الطلاق الرجعي. وسكت الشيخ عن تجديد النكاح؛ لظهور جوازه فيه وفي غيره إذا لم يكن قد استوفى عدد الطلاق. وحكى عن الحليمي أن بقية عدة الطلاق تسقط، وتتمحض العدة الواجبة عن الوطء. قال الرافعي: وقياسه ألا تثبت الرجعة في البقية، لكن الإجماع صد عنه، وقد ينقطع أثر النكاح في حكم دون حكم. قلت: قد حكيت عنه من قبل فيما إذا وجب عليها عدتان لشخصين؛ وقلنا: تكتفي بعد واحدة، وإن بقية العدة الأولى تسقط – أنه لا رجعة له؛ وكذا سيأتي مثله فيما إذا حملت من وطئه في العدة؛ فكيف يحسن ادعاء الإجماع بعدم جريانه. وقيل: الواجب عليها الاعتداد ببقية عدة الطلاق، ولا يوجب الوطء إلا ما وراء ذلك إلى تمام ثلاثة أقراء، أو ثلاثة شهور. وفي "ابن يونس" حكاية وجه عن الخراسانيين: أنه يكتفي ببقية العدة الأولى. قال: وإن حبلت من الوطء الثاني، فقد قيل: تدخل فيها البقية؛ لأنهما من واحد، فأشبه المتجانستين، وهذا هو الأشبه والأصح في "الجيلي". قال: وله الرجعة إلى أن تضع؛ لأنها في عدة الطلاق الرجعي، والحمل لا يتبعض.

وفيه وجه حكاه البغوي والرافعي: أنه لا رجعة له؛ بناء على أن عدة الطلاق قد سقطت، وهي الآن معتدة عن الوطء، وهذا ما أشرت إليه من قبل. فإن قلنا بثبوت الرجعة ثبتت جميع الأحكام المتعلقة بها، وإلا فلا تثبت. قال: وقيل: لا تدخل؛ لأنها جنسان فلا يتداخلان، كما لو زنى وهو بكر، ثم زنى وهو ثيب. قال: فتعتد بالحمل عن الوطء؛ لأنه منه، فإذا وضعت أكملت عدة الطلاق بالأقراء؛ إذ هو الممكن، وله الرجعة في الأقراء، وكذا في زمن النفاس؛ لأنها في عدة الطلاق. قال: وهل له الرجعة في الحمل؟ قيل: له الرجعة؛ لأنه زمان لم تكم فيه عدة الطلاق بالأقراء، وهذا هو الأصح في "الجيلي". وقيل: ليس له؛ لأنها في عدة وطء الشبهة، وكذا الخلاف في النفقة. وقيل: يجب وجهاً واحداً. ولو وطئت بالشبهة وهي حامل من النكاح فهل تدخل عدة الشبهة في العدة الأولى؟ فيه الوجهان. فإن قلنا بعدم الدخول فتعتد بعد الوضع بثلاثة أقراء، وله الرجعة في الحمل دون الأقراء. ولو لم يدر أن الحمل من النكاح أو من الوطء في العدة، وقلنا بعدم التداخل- لزمها أن تعتد بعد وضعه بثلاثة أقراء، ولا يخفى حكم الرجعة مما تقدم في الفروع. وهذا كله إذا لم تر الدم على الحمل، أو رأته وقلنا: إنه ليس بحيض، أما إذا قلنا: إنه حيض فهل يحسب من العدة؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، وبه قال الشيخ أبو حامد، وهو الذي حكاه في "المهذب" و"الشامل" و"التهذيب" موافقاً فيه القاضي الحسين؛ لأن البراءة معلومة، والحكم بعدم التداخل مع اتحاد الشخص ليس إلا للتعبد، رعاية لصورة العدتين، وقد حصل. [و] مقابله: هو قول الشيخ أبي محمد، وإليه مال الإمام. فإن قلنا: تنقضي، فلو كان الحمل حادثاً من الوطء، ومضت الأقراء قبل الوضع- فقد انقضت عدة الطلاق، [وليس للزوج الرجعة قبل ذلك؛ فلو وضعت

الحمل قبل تمام الأقراء فقد انقضت عدة الوطء] وعليها بقية عدة الطلاق، قال في "التهذيب": وللزوج الرجعة قبل الوضع وبعده إلى تمام البقية بلا خلاف. واعلم أن ما ذكرناه مصور بما إذا لم يستمر منه هذا الأمر، ولم يعاشرها معاشرة الأزواج، [أما إذا كان يعاشرها معاشرة الأزواج] بعد الطلاق، مثل: أن يخلو بها ليلاً ويؤاكلها ويفاخذها ويقبلها، ولم يطل زمن المفارقة: فإن انضم إلى ذلك الوطء، وكان الطلاق بائناً، وهو عالم بالتحريم- لم يمنع ذلك من انقضاء العدة. وإن كان رجعياً. قال في "التتمة" و"تعليق" القاضي الحسين: لا تشرع في العدة ما دام يطؤها، قال القاضي: قولاً واحداً. وإن لم يوجد منه وطء ففي انقضاء العدة وجهان أطلقهما المتولي من غير فصل بين الطلاق البائن والرجعي، وكذلك الغزالي في "الوسيط"، وحكى عن المحققين: أن القياس الاحتساب، ثم حكى عن القاضي الفرق بين أن يكون الطلاق رجعياً فيمتنع، أو بائناً فلا يمتنع، وبهذا الوجه أخذ القفال، وأجاب البغوي، والقاضي الروياني في "الحلية".

وأجرى هذا الخلاف فيما إذا طلق زوجته الأمة، وأخذ السيد في معاشرتها، هل يمنع ذلك من الاحتساب بالعدة؟ أما إذا طال زمان المفارقة، ثم جرت خلوة- ففيه احتمالان: أحدهما: تنقطع العدة. وأشبههما: البناء على ما مضى. ثم على القول بعدم انقضاء العدة فذاك بالنسبة إلى لحوق الطلقة الثانية والثالثة. أما بالنسبة إلى ثبوت الرجعة فلا تثبت بعد مضي ثلاثة أقراء بعد الطلاق، كذا قاله الفراء في "الفتاوى"، وفي "فتاوى" القفال ما يوافقه، وصرح به الروياني في "حليته". فرع محكي عن "فتاوى" البغوي: إذا طلق زوجته ثلاثاً، ثم تزوجها في عدته، ظاناً أنها تزوجت بغيره بعد انقضاء عدتها- فينبغي أن يقال: زمان استفراشه إياها كزمان استفراش الرجعية. ولتعلم أن ما ذكرناه فيما إذا كانت المطلقة حائلاً، أما إذا كانت حاملاً فلا أثر لذلك. قال: وإذا راجع المعتدة، أيك بغير الحمل في أثناء العدة، ثم طلقها قبل الدخول- استأنفت العدة في أصح القولين، وهو اختيار المزني على المشهور؛ لقوله – تعالى-: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وهذه مطلقة، ولأن الرجعة رفعت تحريم الطلاق؛ فارتفع بها حكم الطلاق، وصار الطلاق الثاني هو المختص بالتحريم؛ فوجب أن يكون مختصاً بوجوب العدة بعد التحريم؛ كما لو ارتدت بعد المسيس ثم أسلمت، ثم طلقها؛ فإنها تستأنف العدة. وحكى الشاشي عن المزني: أنه لا عدة عليها. قال: وبنت في القول الثاني- وهو القديم- لأنه لما ملك الرجعة في الطلاق الثاني بسبب الإصابة في النكاح الأول وجب أن تبني عدة الطلاق الثاني على عدة الطلاق الأول؛ فعلى هذا لا يحسب زمن الرجعة من العدة. وإذا كانت الرجعة في خلال طهر، مثل: أن راجعها في الطهر الثلاث فهل يحسب ما مضى قرءاً؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو الذي نسبه الغزالي إلى القفال-: نعم. فعلى هذا: لا شيء عليها والصورة هذه.

والثاني: لا، وعليها قرء ثالث، وهذا ما نسبه الغزالي إلى الشيخ أبي محمد. والروياني عكس النسبة. والظاهر من الخلاف: الثاني، وهو الذي أورده المتولي. أما إذا كانت العدة بالحمل انقضت العدة بوضعه، فلو كان الطلاق بعد الوضع: فإن مسها- إما قبل الوضع، أو بعده- فعليها استئناف العدة بالأقراء. وإن لم يمسها، فإن قلنا: الحائل تستأنف، فكذلك هذه، وإلا فوجهان: أظهرهما: أنها تستأنف. والثاني: لا عدة عليها، ولا يجري هذا الوجه في الأقراء والأشهر. فرع: لو راجعها، ثم خالعها: فإن قلنا: إن الخلع طلاق، فهو كما تقدم، وإن قلنا: فسخ، فوجهان: أحدهما: أن الحكم كذلك. والثاني: أنها تستأنف، كذا حكاه الماوردي والبندنيجي، وفي "المهذب" و"الشامل". وحكى الإمام عن العراقيين القطع بأنها تبني، وهي طريقة حكاها ابن الصباغ فيما إذا فسخت الأمة بسبب العتق، وهذا الخلاف يجري في سائر الفسوخ. ولو طلق الرجعية في العدة بنت، على إحدى الطريقين، وهي التي قال بها أبو إسحاق، ورجحها غير واحد من الأصحاب. والطريق الثانية: أنها على القولين كما لو تخللت الرجعة، وبها قال الإصطخري وابن خيران، ورجحها القفال، والظاهر البناء وإن ثبت الخلاف. قال: وإن تزوج المختلعة في أثناء العدة، ثم طلقها قبل الدخول، أي: في النكاح الثاني فقد قيل: تبنى على العدة. قال الإمام: بلا خلاف، والماوردي: قولاً واحداً؛ لأن الطلاق الثاني لا يوجب العدة؛ لكونه قبل الدخول، وعليها بقية العدة الأولى؛ فوجب عليها أن تأتي بها خشية من اختلاط المياه واشتباه الأنساب. قال: وقيل: فيه قولان. أحدهما: تبني، ووجهه ما ذكرناه. والثاني: تستأنف، وهذا لم نره إلا في هذا الكتاب، وهو مذهب أبي حنيفة- رحمه الله- وقد يوجه بأنها لما كانت في العدة أمكن أن يكون ذلك سبباً في تأثير الطلاق

زيادة في العدة، كما قيل فيما إذا عتقت الأمة في عدة من طلاق بائن؛ فإنها تتم عدة حرة على قول، لما ذكرناه. ولو خالعها- والحالة هذه- قال البندنيجي: فإن قلنا: إنه طلاق، بنت أيضاً، وإن قلنا: فسخ، فعلى طريقين، منهم من قال: تستأنف هاهنا؛ لأنهما جنسان. هذا آخر كلامه، فيما وقفت عليه، فإن صحت النسخة فهو مقارب لما ذكره الشيخ، ومشكل أيضاً. ولو طلقها بعد الدخول في الثاني استأنفت بلا خلاف، وتدخل فيها البقية. ولو مات فهل تدخل البقية في عدة الوفاة؟ فيه وجهان. وفي "التهذيب" وغيره: أنها تسقط؛ كما لو مات عن رجعية. ثم هذا كله إذا صححنا نكاح المختلعة لمطلقها، وهو المذهب، وإذا قلنا: إن النكاح يقطع العدة الأولى، وهو الصحيح، أما إذا قلنا بمذهب المزني، وهو أن نكاح المختلعة لا يصح له كما لا يصح من غيره، أو بمذهب ابن سريج: أن العدة لا تنقطع بالنكاح ما لم يوجد الوطء؛ كما لو تزوجها أجنبي- فلا تتصور المسألة. وقد أفسد الأصحاب مذهب المزني؛ بأن نكاح غيره يؤدي إلى اختلاط الأنساب، وذلك لا يوجد فيه. ومذهب ابن سريج؛ بأن الزوجية مع العدة منه لا تجتمعان، ولا كذلك الأجنبي؛ فإن نكاحه ليس بصحيح حتى يثبت له فراش قبل الوطء. ثم خلاف ابن سريج يجري يما لو طلق زوجته الأمة، ثم اشتراها؛ فإن المذهب أن العدة تنقطع بالشراء، وعند ابن سريج لا تنقطع ما لم يوجد الوطء، كذا حكاه في "التتمة"، وسنذكر بقية الكلام فيه في باب الاستبراء، إن شاء الله تعالى. فرع: لو وطئ امرأة بشبهة، فحملت منه، ثم تزوجها في العدة، ثم طلقها بعد الدخول- فهل تنقضي عدة الطلاق بوضع الحمل؟ فيه الوجهان المحكيان عن ابن سريج فيما لو مات قبل الوضع والحالة هذه، هل تنقضي بالوضع عدة الوفاة؟ أحدهما: لا تنقضي حتى يمضي أقصى الأجلين من وضع الحمل ومن عدة الوفاة. قال: وإذا اختلفا في انقضاء العدة بالأقراء، فادعت انقضاءها في زمن يمكن

انقضاء العدة فيه- فالقول قولها، أي: مع يمينها؛ لقوله- تعالى-: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] حرج عليهن في الكتمان كما حرج على الشهود في كتمان الشهادة بقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ....} [البقرة: 283] إلى آخرها، ثم الشاهد يجب قبول قوله؛ فكذلك قبول قول النساء. ولأن ذلك لا يطلع عليه إلا من جهتها؛ فوجب قبول قولها فيه عند إمكان صدقها، كما يجب على التابعي قبول ما يخبر به الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم [يكن له سبيل إلى الاطلاع عليه إلا من جهته. وأقل زمان] يمكن انقضاء عدة الحرة فيه بالأقراء إذا كان الطلاق في طهر: اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان: لحظة بعد الطلاق طهراً، ثم يوم وليلة حيض، ثم خمسة عشر يوماً طهراً، ثم يوم وليلة حيض، ثم خمسة عشر يوماً طهراً، ثم لحظة الطعن في الحيض. وهذا على المذهب، ويجيء من تفريع ما حكيناه من قبل وجهان آخران: أحدهما: اثنان وثلاثون يوماً ولحظة؛ بناء على ما خرجه ابن سريج، وهو: إسقاط الأولى، وقد صرح به الإمام. والثاني: ثلاثة وثلاثون يوماً ولحظة؛ بناء على اعتبار مضي يوم وليلة من الحيضة الثالثة. وإن جمعنا بين ما خرجه ابن سريج وبين هذا كان أقل المدة ثلاثة وثلاثين يوماً لا غير. وإن جعلنا أقل الحيض يوماً بغير ليلة، نقصت المدة في كل تقدير ليلة. وإن كان الطلاق في حيض فأقل الزمان سبعة وأربعون يوماً ولحظة على الصحيح؛ لأنه يقدر وقوع الطلاق [في آخر الحيض، ثم تطهر خمسة عشر يوماً، ثم تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوماً]، ثم تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوماً، ثم ترى الدم، وعلى ما عداه لا يخفى التفريع. وهذا إذا لم تكن مبتدأة، أما إذا كانت مبتدأة، وطلقت قبل أن تحيض، ثم ظهر حيضها، فيبنى أمرها على أن القرء هو المحتوش أم لا؟ فإن لم نشترط الاحتواش فحكمها في مدة الإمكان حكم غيرها، وإن اشترطناه فأقل مدة الإمكان في حقها

- على الصحيح- ثمانية وأربعون يوماً ولحظة، وذلك بأن تطلق في آخر جزء من طهرها. وأما الأمة فأقل زمان يمكن انقضاء عدتها فيه بالأقراء إذا كانت طاهرة ستة عشر يوماً ولحظتان: لحظة بعد الطلاق، ثم يوم وليلة حيض، ثم خمسة عشر يوماً طهر، ثم لحظة الطعن في الحيض. وهذا على المذهب، ولا يخفى خلافه في الوجوه فيما تقدم. وإن طلقت في الحيض [فأحد وثلاثون] يوماً ولحظة، على الصحيح. وإن طلقت ولم تحض قط، ثم ظهر بها الدم بعد الطلاق، وقلنا: القرء: الطهر المحتوش بدمين- فأقل مدة الإمكان في حقها اثنان وثلاثون يوماً ولحظة. وإن طلقت في الحيض فالأقل أحد وثلاثون يوماً ولحظة. وهذا كله إذا لم يكن ثم نفاس، أما إذا كان مثل أن علق طلاق الحرة بولادتها، فإن قلنا: إن الدم الذي تراه المرأة في الستين يجعل حيضاً، وهو الأظهر، فأقل مدة تصدق فيها سبعة وأربعون يوماً ولحظة كما لو طلقت في الحيض، وإن لم يجعل حيضاً فلا تصدق فيما دون اثنين وتسعين يوماً ولحظة ستون منها مدة النفاس، ويحسب ذلك قرءاً، وبعدها حيضتان وطهران، واللحظة للطعن في الحيضة الثالثة، هكذا ذكره في "التهذيب". ولم يعتد صاحب "التتمة" بالنفاس قرءاً، واعتبر مضي مائة وسبعة أيام ولحظة، وهي مدة النفاس ومدة ثلاثة أطهار وحيضتين، واللحظة للطعن [في الحيضة]. وأما الأمة فلا يخفى عليك- بعد تأمل ما ذكرناه- أقل مدتها والحالة هذه. إذا تقرر ذلك، فلو ادعت انقضاء العدة قبل ذلك فقولها مردود؛ لاستحالته، ثم فيه وجهان حكاهما الماوردي: أحدهما: إذا استكملت أقل الممكن انقضت عدتها، ولم تستأنف الدعوى؛ لدخول ذلك في دعوى الأول، وهذا ما قاله الشيخ أبو حامد، على ما حكاه ابن الصباغ وغيره، وأبداه القاضي الحسين احتمالاً، وقطع به الشيخ أبو محمد. والثاني: لا تنقضي العدة ما لم تستأنف الدعوى، وهذا ما رجحه الإمام.

وحكى القاضي أبو الطيب: أنها إن كانت مقيمة على ما أخبرت به أولاً لم تنقض عدتها. وإن قالت: ذهلت في الإخبار، والآن انقضت عدتي، قبل قولها، وهذا ما صححه ابن الصباغ. ولو أشكل الحال، فلم يدر هل كان الطلاق في طهر أو حيض، فالقول قولها فيه. فإن ادعت وقوعه في الحيض فهو أغلظ؛ فيقبل قولها فيه، ولا يمين إن أكذبها الزوج. وإن ادعت وقوعه في الطهر، فيقبل قولها- أيضاً- وللزوج إحلافها إن أكذبها، كذا قاله الماوردي. ثم ما ذكرناه فيما إذا ادعت أن ذلك عادتها، أما لو ادعت أن عادتها أن تحيض خمسة أيام مثلاً من الشهر وتطهر عشرين يوماً، فلا يخلو حالها من أن تدعي تغير العادة أو لا، فإن [لم] تدع تغير العادة، فإن كان طلاقها في طهر فأقل ما تنقضي به العدة خمسون يوماً وساعة، وإن كان في حيض فتسعون يوماً وساعة. فلو ادعت في أحد الطلاقين أقل من ذلك لم يقبل منها إن كانت باقية على عادتها، وإن ادعت انتقال عادتها في الحيض إلى أقله وكذلك في الطهر، ففي قبول قولها وجهان: أحدهما- وهو قول أكثر الأصحاب-: القبول؛ لإمكانه. والثاني- وهو قول أبي سعيد الإصطخري-: أنه لا يقبل قولها في الانتقال عن العادة، هكذا حكاه الماوردي. وفي "تعليق القاضي الحسين": أن الوجه الثاني أظهر، وعليه يدل النص في "الكبير"، أي: "الأم". وعن الشيخ أبي محمد: أنه المذهب. قال القاضي الروياني: "وهو الاختيار في هذا الزمان، وإذا قالت لنا امرأة: انقضت عدتي، فالواجب أن نسألها عن حالها: كيف الطهر؟ وكيف الحيض؟ ونحلفها عند التهمة؛ لكثرة الفساد"، وهذا لفظه. فإن ادعت المرأة انقضاء العدة بالشهور، وأنكر الزوج، فالقول قوله؛ لأنه اختلاف في وقت الطلاق.

ولو قال: طلقتك في رمضان، فقالت: بل في شوال- آخذناها بذلك، وقد تقدم طرف من الكلام في الاختلاف في العدة في باب الشرط في الطلاق، فليطلب منه. قال: وإن اختلفا في إسقاط جنين تنقضي به العدة، فادعت ما يمكن انقضاء العدة به- أي: مع كونها تحيض- فالقول قولها؛ لما سبق، ولا تكلف إحضار السقط؛ لأنها لو أحضرته لم يعلم أنه منها إلا بقولها، قاله الماوردي. فأما إذا كانت ممن لا تحيض، فظاهر كلام الرافعي: أنه لا يقبل قولها؛ لأنه جعل كونها تحيض شرطاً في قبول قولها، وعلله بأن من لا تحيض لا تحبل. واعلم أن كلام الشيخ يقتضي أمرين: أحدهما: أن تكون صورة المسألة ما إذا اتفقا على وضع شيء، واختلفا في أنه مما تنقضي به العدة أم لا، وبهذا صور الجيلي مسألة الكتاب. والثاني: أن تكون صورتها ما إذا اختلفا في أصل الوضع، فادعته المرأة، وأنكره الرجل. والقول في الصورتين قولها، غير أن القاضي الحسين في "التعليق" قيد قبول قولها في الصورة الثانية بما إذا كانت غائبة وحكى الشيخ أبو محمد فيها وجهاً: أنه لا يقبل قولها. ثم أقل زمان تصدق فيه إذا اعتبرنا التخطيط، وادعت أنها وضعته مخططاً- مائة وعشرون ولحظتان من يوم النكاح؛ لحظة لإمكان الوطء، والثانية لإسقاطه فيها، ومائة وعشرون يوماً لوقت المقام في البطن؛ فإنه روي عن ابن مسعود أنه- عليه السلام- قال: "بدْءُ خَلْقِ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ [يَوْماً] نُطْفَةً، وَأَرْبَعِينَ يَوْماً عَلَقَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْماً مُضْغَةً، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكاً، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيَكْتُبُ أَجَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَشَقِيُّ أَمْ سَعِيدُ". وإن لم نعتبر التخطيط، وادعت أنها وضعته غير مخطط- فأقل زمان تصدق فيه ثمانون يوماً ولحظتان من يوم العقد، كذا قاله القاضي الحسين.

وذكر الماوردي: أن [إمكانه] أن يكون بعد ثمانين يوماً من وطئه، أي: من حين إمكان وطئه. ولو ادعت أنها ولدت ولداً كاملاً، ففي [قبول قولها] وجهان: أحدهما: يقبل؛ كما في السقط والحيض، وهذا أظهر عند الرافعي وغيره، كما حكاه في كتاب الرجعة. فعلى هذا: يعتبر أن يمضي بعد النكاح ستة أشهر ولحظتان: لحظة لإمكان الوطء، ولحظة للولادة، وستة أشهر أقل مدة الحمل. والثاني- ذكره أبو إسحاق، وادعى الإمام أنه المشهور-: أنه لا يقبل، لأن الولادة مما يمكن الإشهاد عليها؛ فإن الغالب أن المرأة إذا طلقت شهدها القوابل، وليس كونها مشهودة مما يندر، بخلاف إسقاط الجنين؛ فإن ذلك يفجؤها؛ فتصير دعواها فيه بمثابة دعواها الحيض. وفي "الذخائر": أن أصحابنا قالوا: هو متروك على أبي إسحاق. وفي "الرافعي" في كتاب الرجعة حكاية وجه فيما إذا ادعت وضع ولد ميت، ولم تظهره: أنها لا تصدق. ثم هذا كله بالنسبة إلى انقضاء العدة، وأما بالنسبة إلى ثبوت النسب والاستيلاد إذا ادعت الأمة الولادة فلا بد من البينة. وحكى المحاملي والرافعي في كتاب اللعان أنه: هل يعرض على القائف معها؟ فيه وجهان، فإذا ألحقه القائف بها لحق الزوج أيضاً. وفي "النهاية" في كتاب اللعان- أيضاً-: أن القائف لو ألحقه به هل ينزل منزلة البينة على ثبوت الولادة؟ على وجهين ذكرهما بعض المصنفين، وأصحهما: أن الولادة لا تثبت. وحكى بعده: أنه لو علق الطلاق بولادتها، فادعت أنها ولدت- لا يقبل قولها إلا على رأي ابن الحداد. قال: وإن اختلفا: هل طلق قبل الولادة أو بعدها، أي: مثل أن اتفقا على

الوضع في يوم الجمعة مثلاً، وتدعي هي الطلاق يوم الخميس، ويدعيه الزوج يوم السبت- فالقول قوله؛ لأن الطلاق من فعله، فرجع إليه في وقته كما يرجع إليه في أصل ووقعه، مع أن الأصل عدم وقوع الطلاق قبل يوم السبت. قال: وإن اختلفا: هل ولدت قبل الطلاق أو بعده، أي: مثل أن يتفقا [على] أن الطلاق وقع في يوم الجمعة مثلاً، وادعت أنها ولدت في يوم السبت، وادعى الزوج أنها ولدت في يوم الخميس- فالقول قولها؛ لأنها أعرف بحالها، والأصل عدم الولادة قبل يوم السبت. قال: وإن اختلفا: هل انقضت عدتها [بوضع] الحمل أم لا، فقال الزوج: لم تنقض عدتك بوضع الحمل فعليك أن تعتدي بالأقراء، وقالت: بل انقضت- وصورة ذلك: أن يتفقا على وجود الوضع والطلاق، وتدعي المرأة الوضع بعد الطلاق، ويدعي الزوج الطلاق بعد الوضع- فالقول قوله، أي: مع يمينه؛ لأن الأصل ثبوت الرجعة وقت العدة. وحكى الماوردي في هذه الصورة أنهما يتحالفان والبادئ باليمين السابق بالدعوى، ثم في كيفية اليمين وجهان: أحدهما: يحلف الزوج بالله ما طلقها إلا بعد ولادتها، وتحلف الزوجة بالله ما ولدت إلا بعد طلاقه. والثاني: أن الزوج يحلف بالله: لقد ولدت يوم الجمعة مثلاً، وما طلقها إلا في يوم السبت، وتقول الزوجة: والله ما طلقني إلا في يوم الجمعة، ولقد ولدت يوم السبت. فإن حلفا حكمنا بسقوط الرجعة وثبوت العدة؛ لأن ذلك أغلظ في حقها وأنفى للتهمة، وإن نكلا حكمنا بقول أسبقهما في الدعوى، وإن نكل أحدهما حكم للحالف وإن كان السابق بالدعوى غيره. [ووراء ما] ذكره الشيخ صدور خمس: إحداهما: أن يتفقا على وقت الولادة ويشكا في الطلاق هل تقدم أو تأخر- فعليها لاعدة، وللزوج الرجعة، والورع ألا يفعل.

الثانية: أن يتفقا على وقت الطلاق، ويشكا في الولادة هل تقدمت أو تأخرت- فيحكم بسقوط العدة والرجعة. الثالثة: لو قال الزوج: علمت أني طلقت بعد الولادة، وقالت: لم أعلم- قال الماوردي: القول قول الزوج، ولها إحلافه على الرجعة دون العدة. وحكى الإمام عن القفال: أنه ليس لها المطالبة؛ فإنها ما أتت بدعوى صحيحة؛ فلا تلزمه الإجابة. وفي "الشامل" و"التتمة": أنه يقال لها: ليس هذا بجواب، فإما أن تصدقيه أو تكذيبه، فإن لم تفعل جعلناها ناكلة، وحلفناه. الرابعة: لو قالت للزوج: علمت أنك طلقت قبل الولادة، وقال الزوج: لست أعلم- قال الماوردي: القول قول الزوجة، ولا عدة عليها ولا رجعة، وله إحلافها في سقوط العدة دون الرجعة. وفي "تعليق" القاضي الحسين و"النهاية": أنا نقول له: قد ادعت المرأة بأمر فأجبها، ولا نقنع بهذا، فإن لم تجب جعلناك منكراً، ثم نعرض عليك اليمين، فإن نكلت حلفت هي، واستحقت دعواها. الخامسة: أن يعترف كل منهما بالإشكال، ففي "المهذب": أنا لا نحكم بينهما بشيء، لأنهما لم يدعيا حقاً. وفي "الحاوي" وغيره: أن عليها العدة بالأقراء، وله أن يراجعها، والورع ألا يراجعها، والله أعلم. فائدة: قال الإمام: [ومما تجب] الإحاطة به: أنا ذكرنا طرقاً مختلفة في تداعى الزوجين في انقضاء العدة ووقوع الرجعة، والذي ذكرناه من التقسيم في هذه المسالة اتفق عليه الأصحاب في طرقهم، ومساقه [ما أوردناه] لا غير، والسبب فيه: أن الخلاف إذا آل إلى إنشاء الرجعة وانقضاء العدة، فيتعارض في الحكم تصديق المرأة لصور دقيقة المدرك. ويعترض- أيضاً- بتنزيل الدعوى رجعة، وعطف قول الزوجة: انقضت عدتي، على زمان منقض، وشيء من تلك المعاني لا يجري في هذه المسألة، ومن تأمل ما ذكرناه [ثم]، وتأمل هذه المسألة، استبان الفرق بينهما.

باب الاستبراء

باب الاستبراء الاستبراء - بالمد-: عبارة عن التربص الواجب لسبب ملك اليمين حدوثاً وزوالاً. وخص بهذا الاسم؛ لأن هذا التربص مقدر بأقل ما يدل على البراءة من غير تكرر وتعدد فيه، وخص التربص بسبب النكاح باسم "العدة" اشتقاقاً من "العدد"؛ لما يقع فيه من التعدد. قال: من ملك أمة، أي: بأي سبب كان من سبي أو بيع أو إرث أو هبة أو وصية أو فسخ عقد أو رجوع في هبة أو غير ذلك، وسواء كانت الأمة كبيرة أو صغيرة، حائلاً أو حاملاً، آيسة أو غير آيسة، بكراً أو ثيباً، ملكها من رجل أو صبي لا يجامع مثله أو امرأة. قال: لم يطأها حتى يستبرئها، أي: سواء استبرئت قبل ملكه، أو بعده وقبل قبضه، [أو لم] تستبرأ. أما في المسبية؛ فلعموم قوله صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس: "لَا تُوطَأُ حَامِلُ حَتَّى تَضَعَ، وَلا غَيْرُ حَامِلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً". خرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري. وأما في الباقي فبالقياس على المسبية. ثم ما العلة في وجوبه؟ خرجه القاضي الحسين على جوابين من نصين للشافعي سنذكرهما: أحدهما: حدوث ملك الرقبة مع فراغ محل الاستمتاع. والثاني: حدوث ملك حل الفرج: وستظهر لك فائدتهما. وفي البكر وجه خرجه ابن سريج: أنها لا تستبرأ، حكاه الرافعي هكذا.

وفي "النهاية" حكايته عن صاحب "التقريب"، ثم قال: لكنه خصصه بالمسبية، وهو مطرح مزيف لا اعتداد به. وعن المزني في "المختصر": أنه إنما يجب إذا كانت الجارية موطوءة أو حاملاً. قال الروياني: وأنا أميل إلى هذا، والمذهب الأول. واحتج له بإطلاق الخبر، مع حصول العلم بأنهن كان فيهن أبكار وعجائز. وملك الحصة الباقية من الأمة، يوجب الاستبراء عند إرادة الوطء، كما يوجبه ملك جميعها. قال: فإن كانت حاملاً استبرأها بوضع الحمل؛ لعموم الحديث، وظاهر هذا اللفظ يقتضي أنه لا فرق في الحمل بين أن يكون من نكاح أو وطء شبهة أو زنى وهو موافق لما حكاه المتولي. وقال الرافعي في الموطوءة بالشبهة، والنكاح: الأقوم أن يفصل فيقال: إن ملك الأمة بالسبي حصل استبراؤها بالوضع، وإن ملك بالشراء فهي كالحرة، فإن كانت حاملاً من زوج، وهي في نكاحه أو عدته، أو من وطء شبهة- فهي معتدة في ذلك الوقت، والمشهور: أنه لا استبراء في الحال، وفي وجوبه بعد انقضاء العدة وجهان، وإذا كان كذلك لم يكن الاستبراء حاصلاً بالوضع. وقال في "التهذيب": هل تخرج من الاستبراء بوضع الحمل؟ فيه قولان: أحدهما: نعم؛ كالمسبية. والثاني: لا؛ كما أن العدة لا تنقضي بالوضع؛ إذ الحمل من غير صاحب العدة، بخلاف المسبية؛ فإن حملها من كافر؛ فلا يكون له من الحرمة ما يمنع انقضاء الاستبراء. وأما الحمل من الزنى ففي حصول الاستبراء بوضعه حيث يحصل بوضع ثابت النسب، وجهان، أصحهما عند المتولي وغيره: الحصول. وبنى القاضي الحسين هذا الخلاف على الخلاف في أن استبراء ذات الأقراء بالحيض أو الطهر؟ فإن اعتبرنا الطهر لم يحصل الاستبراء به، وأن اعتبرنا الحيض فالنظر إلى ما تعرف براءة الرحم به، والحمل من الزنى تعرف براءة الرحم

بوضعه، فإن قلنا: لا تعتد به، وكانت ترى الدم عليه، وقلنا: إنه حيض- حصل الاستبراء به في أصح الوجهين. ولو ارتابت بالحمل- إما في مدة الاستبراء أو بعده- فالحكم كما ذكرناه في العدة. قال: وإن كانت حائلاً تحيض استبرأها بحيضة في أصح القولين، وهو الجديد؛ للحديث، ويخالف العدة؛ فإنها لإباحة العقد، والعقد يستباح في الحيض والطهر، وخصصناها بالطهر؛ لأنها وجبت قضاء لحق الزوج، فاختصت بأزمان حقه وهي الأطهار، كما في صلب النكاح. وأما الاستبراء فشرع لاستباحة الوطء؛ فاختص بالحيض ليفضي إلى إباحة الوطء إذا انقضى؛ إذ لو جعل بالطهر لما استبيح الوطء بعده لعارض الحيض. والقول الآخر: أنها تستبرأ بطهر كما في العدة. وفيه وجه ثالث حكاه الماوردي عن البصريين: أن كلا الأمرين من الحيض والطهر معتبر مقصود. التفريع: إن قلنا بالقول الأول نظر: إن وجد سبب وجوب الاستبراء في الطهر لم يحصل الاستبراء حتى تحيض ثم تطعن في الطهر. وإن وجد في الحيض فلا يعتد به؛ بل لابد من الطعن في الطهر الثاني؛ إذ به تحصل حيضة كاملة للحديث، ويفارق بقية الطهر حيث [يعتد ببقيته طهراً] – كما سنذكره على رأي- لأن بقية الطهر يستعقبها الحيض الدال على البراءة، وبقية الحيض يستعقبها الطهر الذي لا دلالة فيه على البراءة. وإن قلنا بالقول الثاني، فإن وجد سبب وجوب الاستبراء في آخر الحيض، كان الطهر الكامل بعده استبراء، لكن يكفي ظهور الدم أو يعتبر مضي يوم وليلة؟ فيه ما سبق في العدة. وقد حكي وجه آخر: أنه لا بد من مضي حيضة كاملة بعد ذلك الطهر، وهذا بعيد عند الغزالي وغيره. وذكر القاضي الروياني [أنه] الأظهر والأقيس، وهو في الحقيقة راجع

إلى ما حكاه الماوردي عن البصريين، كما سنذكره. وإن وجد وهي طاهر، فهل يكتفي ببقية الطهر؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، وهو ما رجحه في "البسيط" والقاضي في "التعليق"، وحكاه في "المهذب"، وعزاه الماوردي إلى البغداديين من الأصحاب، ولكن يضم إليه حيضة كاملة؛ لتعرف بها براءة الرحم ببقية الطهر. والثاني- وهو المذكور في "التهذيب" ونسبه الماوردي إلى البصريين-: أنه لا يكتفي بها، ولا ينقضي الاستبراء حتى تحيض ثم تطهر، ثم ترى دم الحيضة الثانية، وتخالف العدة؛ فإن فيها عدداً؛ فجاز أن يعبر بلفظ الجمع عن [اثنين وبعض] الثالث. وإن قلنا بالوجه الثالث: فإن وجد سبب الاستبراء وهي حائض، انقضى الاستبراء باستكمالها [الحيضة الثانية، وإن وجد وهي طاهر، ولم يعتبر بقية الطهر قرءاً- فينقضي الاستبراء باستكمالها الطهر الثاني. وإن اعتبرناه قرءاً فينقضي الاستبراء باستكمالها] الحيض، والاستكمال يظهر بالدخول في الضد. قال: وإن كانت ممن لا تحيض [لصغر أو إياس] استبرأها بثلاثة أشهر في أصح القولين؛ لأنها أقل مدة تدل على براءة الرحم، وهذا حكاه الماوردي عن القديم. قال: وبشهر في الثاني؛ لأن كل شهر في مقابلة قرء في حق الحرة؛ فكذلك في حق الأمة، وهذا هو الأصح في "التهذيب" وعند النواوي. أما إذا كانت تحيض ثم ارتفع حيضها بغير ما ذكرناه، فحكمها حكم المعتدة إذا ارتفع حيضها. فرع: لو وطئها قبل الاستبراء، أثم، ولا ينقطع الاستبراء. قال في "التتمة": لأن قيام الملك لا يمنع الاحتساب؛ فكذلك المعاشرة، بخلاف العدة.

ولو أحبلها بالوطء الواقع في الحيض، فانقطع الدم، حلت بتمام الحيض، وإن كانت طاهراً عند الوطء لم ينقض الاستبراء حتى تضع الحمل. قال: وإن كانت مجوسية أو مرتدة- أي: حالة الملك- لم يصح استبراؤها حتى تسلم؛ لأن الاستبراء يراد لاستباحة الاستمتاع، ولا استباحة في هذين الحالين. وفي طريقة المراوزة حكاية وجه: أنه إذا وجد وضع الحمل أو الحيض بكماله، أو الأشهر قبل الإسلام- لا يجب عليها استبراء آخر، ورواه مع الأول الفوراني عن الشيخ أبي حامد فيما إذا حاضت المحرمة، والوثنية قبل الإسلام، ورواه المتولي عنه فيما إذا وضعت الحمل أيضاً. وبنى القاضي الحسين هذا الوجه على أن علة وجوب الاستبراء حدوث ملك الرقبة، مع فراغ محل الاستمتاع، وجعل الأول مبنياً على أن العلة حدوث ملك حل الفرج. أما إذا وجد الإسلام قبل استكمال الاستبراء في الكفر، فلا بد من تجديد الاستبراء، والمحرمة- فيما ذكرناه- ملحقة بها على ما حكاه القاضي وغيره. قال: وإن كانت مزوجة أو معتدة، [أي] حالة الملك لم يصح استبراؤها حتى يزول النكاح، وتنقضي العدة؛ لما ذكرناه من التعليل. وهذا الكلام يدل على وجوب الاستبراء بعد زوال ذلك، وهو موافق لنص الشافعي- رضي الله عنه- في "الإملاء"، ومخالف لنصه في "الأم"؛ فإنه صرح بأنه لا استبراء عليها. وفي طريقة المراوزة حكاية وجه: أنه يعتد به في حال النكاح والعدة. ووجه حكاه القاضي الحسين في أن المزوجة إذا طلقت بعد الشراء قبل الدخول لا استبراء عليها؛ بناء على العلة الأولى، وهذه المسألة هي الملقبة بالهارونية التي أجاب فيها أبو يوسف بمثل هذا الوجه. قال: فإن ملكها بمعاوضة، لم يصح استبراؤها حتى يقبضها، وهذا ما ذهب إليه أكثر أصحابنا البغداديين؛ لأن الملك فيها قبل القبض غير مستقر بسبب تعرضه للفسخ.

فعلى هذا: لو وجد بعض الاستبراء في يد البائع، [ثم كمل في يد المشتري- نظر: فإن كان الأكثر في يد البائع] لم يعتد به، وإن كان في يد المشتري اعتد به، قاله الماوردي. وفيه وجه صححه الماوردي والرافعي، واختاره القاضيان أبو الطيب والروياني، وجعله البغوي المذهب: أنه يعتد به؛ لأن الملك تام لازم فأشبه ما بعد القبض. قال في "المهذب": وأصل المسألة: أن المبيع إذا تلف قبل القبض، يرتفع العقد من أصله أم لا؟ وفيه خلاف. تنبيه: ذكر الشيخ المعاوضة في هذا المقام يظهر به أن اختياره: أن الملك إذا حصل بغير معاوضة تعتد بالاستبراء فيه قبل القبض، وهو الذي ذهب إليه أكثرهم. وقال البندنيجي: كل من استبرئت قبل قبضها لم يقع الاستبراء موقعه في جميع جهات الملك، إلا إذا ورثها ابنها وبعضهم فصل فقال: إن ملكها بالإرث فلا حاجة إلى القبض؛ لأن الملك به نازل منزلة المقبوض، بدليل جواز بيعه. وإن ملكها بالوصية والقبول، ففيه الخلاف المذكور في المعاوضة، وهذا ما حكاه في "المهذب" والبغوي. وأما الهبة والمغنم قبل القبض، والوصية قبل القبول، فعدم الاعتداد بالاستبراء في هذه الأحوال ليس لعدم القبض؛ بل لعدم الملك الذي هو سبب الاستبراء؛ فإن الملك لا يحصل إلا به، وإذا لم يحصل السبب لم يوجد المسبب، خصوصاً إذا لم يكن له إلا سبب واحد، وإذا كان كذلك لم يكن كلام الشيخ متضمناً إخراجهما بالقيد المذكور. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن تكون الجارية مستحسنة أو غير مستحسنة؛ لأن الشرع ائتمن المشتري على ذلك، بدليل أنه لم يمنع سبايا أوطاس من الذين وقعن في سهامهم، ويجوز للمشتري استخدامها، وهذا بخلاف الجارية المرهونة: إذا لم نجوز للراهن وطأها ولا يجوز استخدامها؛ لأن الحق فيها للمرتهن، فغلظ فيه. فرع: لو وقع الحيض أو وضع الحمل في مدة الخيار بعد القبض- فحصول الاستبراء مبني على أقوال الملك:

فإن قلنا: إنه للبائع، لم يحصل، فإذا طهرت من النفاس وطعنت في الحيض انقضى الاستبراء، إن كان ذلك بعد انقضاء الخيار- أيضاً- وقلنا: إن الاستبراء بالطهر، وإن قلنا: إنه بالحيض، فإنما ينقضي إذا تمت الحيضة. وإن قلنا: إن الملك للمشتري أو موقوف، فوجهان، أظهرهما: المنع؛ لأن الملك في زمان الخيار غير لازم، بخلاف ما قبل القبض. وخصص الماوردي الخلاف بما إذا حاضت في زمن الخيار، وجعل الصحيح حصوله، وقطع بحصول الاستبراء إذا وضعت؛ لأن الاستبراء بالوضع أقوى من الاستبراء بالأقراء. وإن وجد الاستبراء في مدة الخيار قبل القبض، [وقبل اللزوم، فهاهنا أولى. و [إن] قلنا: إنه لا يعتد به، فهاهنا وجهان حكاهما القاضي الحسين. [فرع] آخر: إذا اشترى العبد المأذون جارية، فللسيد وطؤها بعد الاستبراء إن لم يكن هناك دين، فإن كان هناك دين للغرماء لم يكن له وطؤها، فإذا انفكت الديون بقضاء أو إبراء، فهل يكتفي بما حصل من الاستبراء قبل ذلك أم لا؟ فيه وجهان كما في المجوسية، وبالثاني: أجاب العراقيون، وطرده ابن الصباغ فيما إذا اشترى أمة، ثم رهنها، ثم انفك الرهن بعد وجود الاستبراء في حالة الرهن، وغلطه القاضي الروياني فيه. قال: وإن ملكها وهي زوجته حلت له من غير استبراء؛ لأنا إن قلنا: إن علة وجوبه حدوث ملك حل الفرج، فهي كانت حلالاً له قبل ذلك، وقد انتقلت من حل إلى حل. وإن قلنا: العلة حدوث ملك الرقبة مع فراغ محل الاستمتاع، فليس محل الاستمتاع هاهنا فارغاً؛ فإنها في حال الشراء منكوحة، وبعد تحقق الشراء معتدة، بدليل أنه لو أراد تزويجها، لم يجز إلا بعد انقضاء تمام عدتها، ولو كانت معتدة عن الغير، فاشتراها- لم يجب الاستبراء بناءً على هذه العلة؛ فكذلك إذا كانت معتدة منه، لكن له هاهنا أن يطأها، [وإن لم نوجب الاستبراء؛ لأن الماءين له، وثم لا يطؤها] وإن لم نوجبه؛ خشية من اختلاط الماءين، وهذا إذا [كان] المشتري حراً.

أما إذا كان مكاتباً، فإن النكاح ينفسخ على ما حكاه الماوردي، ولا يحل له وطؤها إن لم يأذن له السيد، وإن أذن له ففي جوازه قولان، فإن قلنا: [يحل، فيتجه] وجوب الاستبراء. قال: والأولى ألا يطأها حتى يستبرئها؛ ليتميز الحر من ولده الذي تصير به الأمة أم ولد عن الرقيق الذي يعتق عليه، ويثبت عليه الولاء. وحكى الغزالي وغيره وجهاً: أنه واجب؛ لما ذكرناه من المعنى. وبنى الماوردي الخلاف على الخلاف في حل وطئها له في زمان الخيار، فقال: إن قلنا يحل الوطء لم يجب، وإلا وجب، كذا حكاه في البيع. وبناه القاضي الحسين على العلتين في وجوب الاستبراء، فقال: إن قلنا: إن العلة حدوث ملك [حل] الفرج، فلا، وإن اعتبرنا حدوث ملك الرقبة فيجب، وقد ذكرنا شيئاً على ذلك. فرع: لو أراد أن يزوجها بعد الشراء، نظر: إن وطئها بعد الشراء، فلا بد من أن يستبرئها بقرء واحد استبراء الإماء. وإن لم يكن قد وطئها، قال الماوردي: فلا بد من أن يستبرئها بقرأين عدة أمة؛ لأنه عن وطء في زوجية. فرع آخر: لو اشتراها بعدما طلقها وهي في عدته، وجب الاستبراء؛ لأنها حرمت بالطلاق، وليس الملك كالرجعة؛ لأنه يقطع النكاح فلا يصلح استدراكاً لما وقع فيه من الخل، وبم يستبرئها؟ ملخص ما ذكره الإمام في باب الرجعة: أنه إن بقيت من العدة حيضة كاملة اكتفى بها، وإن بقيت بقية من الطهر فكذلك عند بعضهم. ومنهم من يشترط حيضة كاملة، وهي القياس. [و] هذا إذا قلنا: إن الاستبراء بالحيض، أما إذا قلنا: إن الاستبراء بالطهر، وقلنا: إن الطهر كاف للاستبراء حصل الغرض بها، والله أعلم. قال: فإن كاتب أمة، ثم رجعت بالفسخ، لم يطأها حتى يستبرئها؛

لأنه استحداث استباحة بملك بعد عموم التحريم؛ فوجب عليه الاستبراء كالتي استحدث ملكها، أو لأنه عقد عليها عقداً صار غيره أحق بمهرها بسببه؛ فأشبه ما إذا باعها أو وهبها. فإن قيل: الملك في الرقبة باق، والتحريم طارئ؛ فوجب ألا يجب بزواله الاستبراء؛ كما لا يجب بزوال الصوم، والصلاة، والاعتكاف، والحيض، والنفاس، والرهن، والتكفير عن الظهار؛ بجامع اشتراك ذلك في التحريم مع بقاء الملك. قلنا: لا نسلم أن الملك باق له في رقبة المكاتب؛ فإنا قد حكينا في باب جامع الأيمان أن المكاتب مملوك لنفسه على رأي، لا للسيد. وعلى تقدير التسليم، فالفرق: أن هذه اشياء لم تؤثر التحريم؛ لخلل في الملك، بدليل: أنه يجوز له أن يستمتع بالنظر إليها- مع وجود ما ذكر- بالقبلة- واللمس بشهوة في بعض الصور، وتحريم المكاتبة عام يحرم سائر الاستمتاعات؛ فدل على خلل في الملك فافترقا. فرع: لو أحرمت الأمة، ثم تحللت، لم يجب الاستبراء عند الجمهور، وهو الذي صححه الإمام. وعند الغزالي والمتولي في وجوبه خلاف، كما سيأتي في المرتدة. فرع آخر: لو باع جارية بشرط الخيار، ثم عادت إليه بالفسخ فيه أو في خيار المجلس- فهل يجب الاستبراء عليه؟ إن قلنا: إن الملك للبائع، لم يجب. وإن قلنا: إنه للمشتري، أطلق الأصحاب القول بالوجوب، وهو ما أجاب به في "التهذيب"، وقضية ما ذكرته في أول الباب. وقال الإمام: هذا عندي مخرج على أصل، وهو أنه هل يحل له وطؤها مع بقاء الخيار له؛ تفريعاً على القول بزوال ملكه؟ فإن قلنا: لا يحل له، لم يمتنع وجوب الاستبراء. وإن قلنا: يحل- وهو الأصح- فيبنى على أن الزوج إذا اشترى زوجته، هل

يجب عليه الاستبراء أم لا؟ فإن قلنا: لا يجب، فكذلك هاهنا، وإلا فوجهان. وقال الرافعي: قد حكينا وجهاً فيما إذا قلنا: إن الملك للبائع: أن الوطء لا يحل، فيجيء على هذا الوجه أن يقال بوجوب الاستبراء. فرع آخر: إذا أسلم في جارية، فسلمت إليه، ثم اطلع بها على عيب لو رضي به للزم الأخذ، لكنه فسخ- فهل يجب عليه استبراؤها؟ فيه وجهان. قال: وإن ارتد السيد أو ارتدت الأمة، ثم عاد أي: المرتد منهما، إلى الإسلام لم يطأها حتى يستبرئها؛ لأنه زال ملكه عن استمتاعها بالردة، وعاد بالإسلام؛ فأشبه المسألة قبلها. وقيل: إن السيد إذا ارتد، [ثم عاد، وقلنا بأن ملكه لم يزل- لا يجب الاستبراء. وادعي في الأمة- أيضاً- إذا ارتدت]، ثم أسلمت. وادعى الإمام: أنه الأصح فيها. وبنى في "التهذيب" الخلاف فيها على الوجهين فيما إذا اشترى مرتدة ثم أسلمت، هل يعتد باستبرائها في زمن الردة أم لا؟ فإن قلنا: يعتد به، لم يجب هاهنا، وإلا وجب. قال: وإن زوجها، ثم طلقها الزوج قبل الدخول، لم يطأها حتى يستبرئها؛ لما ذكرناه من العلة. وقيل: لا يجب، وادعى مجلي أن ظاهر النص يقتضيه. قال بعضهم: وهذا الخلاف ينبني على العلتين اللتين ذكرهما القاضي الحسين: فالألو مبني على الثانية، والثاني مبني على الأولى. وعلى الوجهين: لو كان السيد قد وطئها قبل التزويج لا تعود فراشاً بالطلاق، بخلاف أم الولد كما سنذكره، صرح به الماوردي وغيره. قال: وإن طلقت بعد الدخول، فاعتدت من الزوج، فقد قيل: يدخل الاستبراء في العدة؛ لحصول المقصود، وهو براءة الرحم، وهذا نصه في "الإملاء". وقيل: لا يدخل، بل يلزمه أن يستبرئها؛ لتجدد ملك الاستمتاع عليها، وهذا نصه في "الأم". ومن هذين النصين استنبط القاضي الحسين العلتين في وجوب الاستبراء. قال: ومن لا يحل وطؤها قبل الاستبراء- أي بسبب تجدد ملك الرقبة-

لم يحل التلذذ بها قبل الاستبراء- أي: مثل القبلة، واللمس، والنظر بشهوة- لاحتمال أن تكون حاملاً من سيدها؛ فتكون أم ولد له، ويتبين أنه لم يملكها، ولأن هذه الاستمتاعات تدعو إلى الوطء المحرم؛ فحرمت. قال: إلا المسبية؛ فإنه يحل التلذذ بها في غير الجماع؛ لما روي أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى بأمره في سبايا أوطاس: "ألا لا تُوطَأُ حَامِلُ حَتَّى تَضَعَ، وَلا حَائِلُ حَتَّى تَحِيضَ"؛ فاقتضى النداء الاقتصار على تحريم الوطء، وكانت السبايا مختلطات بالمسلمين، ويغلب على الظن امتداد الأيدي إليهن، فلما لم يحرم الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الوطء مع الحال التي وصفت، اقتضى ذلك تخصيص الوطء بالمحظورات. وقد روى ابن عمر أنه قال: "وقعت في سهمي جارية منس بي جلولاء فنظرت إليها فإذا عنقها مثل إبريق الفضة، فلم أتمالك أن وثبت عليها فقبلتها والناس ينظرون"؛ فلو كان حراماً لامتنع منه، ولأنكره الناس عليه. قال: وقيل: لا يحل كما في غيرها، وللعلة الثانية، وهذا أصح في "النهاية".\

قال: والأول أظهر؛ لما ذكرناه، ونظراً إلى العلة الأولى؛ فإن ملكه عليها قد تحقق حائلاً كانت أو حاملاً، وإنما حرم وطؤها صيانة لمائه؛ كي لا يختلط بماء حربي، لا لحرمة الحربي، بخلاف غيرها. ومثل هذا الخلاف يجري في التلذذ في الحامل من الزنى، لما ذكرناه من التعليل، صرح به الماوردي، وجعل ضابط من يحرم التلذذ بها جزماً: أن تكون بحيث لو ظهر بها حمل صارت به أم ولد لمن كان مالكها، مثل: أن تكون من مالك كانت له فراشاً، أو موروثة عنه، أو مستوهبة منه. تنبيه: إذا قلنا بجواز التلذذ، فذاك فيما فوق الإزار، أما ما تحت الإزار ففيه تردد أبداه الإمام كما في حق الحائض، والذي يقتضيه إيراد الشيخ [جوازه]- أيضاً- حيث قال: "فإنه يحل التلذذ بها في غير الجماع"، وكذلك إيراد البندنيجي؛ فإنه قال: هل يحل له وطؤها فيما دون الفرج، ودواعي الجماع كالقبلة؟ وهذا التردد يظهر أثره فيما إذا كان استبراؤها بوضع الحمل أو بالأشهر، أما إذا كان بالحيض فلا يظهر له أثر. وإذا قلنا بتحريم التلذذ، فهل ينقطع بانقطاع الحيض، أم يبقى إلى الاغتسال كما يبقى تحريم الوطء؟ المذهب الأول، والثاني منقول في "تعليق" القاضي الحسين، وطرده فيما إذا قلنا بتحريم التلذذ بالحائض أيضاً. قال الإمام: وقد بحثت عن الطرق، فلم أجد ما نسب إلى القاضي في شيء منها. قال: ويصح بيع الأمة قبل الاستبراء- أي: وإن كان قد وطئها المالك- لأن الاستبراء يجب على المتملك عند إرادة الوطء؛ للخبر؛ فتحصل به براءة الرحم؛ فلا حاجة إلى استبراء البائع. ولا نقول على هذا: يتداخل استبراءان، بل نقول: الواجب استبراء واحد من غير تداخل على المشتري.

وأيضاً: فإن استبراء البائع استبراء مع بقاء الحل؛ فلا يعتد به كاستبراء الزوجة قبل الطلاق. قال: وأما تزويجها، فينظر: فإن كان قد وطئها المالك، أي: في الحال، أو من ملكها من جهته، ولم يكن قد استبرأها- لم يجز تزويجها قبل الاستبراء؛ لأنه لو جاز لاستعقب الحل؛ فإنه المقصود من العقد، بدليل أنه لا يصح أن يعقد على من لا يجوز له وطؤها، وذلك يؤدي إلى اختلاط المياه، وهذا بخلاف البيع؛ فإن المقصود منه ليس الوطء، بدليل صحة شراء من يحرم عليه وطؤها، فإذا أوجبنا الاستبراء على من يحل له وطؤها، لم يكن مقصود العقد قد تخلف عنه، وبه يحصل الأمن من اختلاط المياه. ثم هذا إذا كان الراغب في تزويجها من لم يجب الاستبراء بسبب وطئه [أما إذا كان الرغب في من وجب الاستبراء بسبب وطئه]، فإنه يصح أن يتزوجها قبل الاستبراء، صرح به صاحب "التهذيب". قال: وإن لم يكن قد وطئها جاز؛ لأن الظاهر فراغ رحمها عن الحمل؛ فجاز الإقدام على العقد عليها كما في المطلقة قبل الدخول. وفيه وجه: أنه لا يجوز، وهو جار فيما إذا وطئها من ملكها من جهته، ثم استبرأها قبل نقلها عنه، وادعى القفال أنه الذي عليه أكثر الأصحاب، ونوقش فيه. وهذا الخلاف فيما لو كان الانتقال من امرأة أو صبي. وعلى المذهب: فالفرق بين التزويج ووطء المشتري أن الزوج إذا لحقه منها ولد أمكنه نفيه باللعان؛ فيندفه عنه الضرر، والسيد لو أبيح له الوطء قبل الاستبراء لم يتمكن من نفيه؛ إذ نفيه يكون بدعوى الاستبراء، ولم يوجد الاستبراء، والله أعلم. قال: وإن أعتق أم ولده في حياته أو مات عنها، لزمها الاستبراء؛ لأنها كانت فراشاً للسيد، وزوال الفراش بعد الدخول يقتضي التربص؛ كما في زوال الفراش عن الحرة، وهذا الاستبراء يكون كاستبراء الأمة، وقد تقدم، ووجهه: أنه استبراء عن ملك.

ولا يجب عليها أن تعتد عدة الحرائر، ولا عدة الإماء؛ لأن الله- تعالى- خصص الاعتداد بالأقراء بالمطلقات، وبالأشهر والعشر بالزوجات، وهذه ليست بزوجة ولا مطلقة. ولأن هذا استبراء عن ملك؛ فوجب أن يقتصر فيه على قرء كالأمة المشتراة. فإن قيل: هذا استبراء وجب في حال الحرية؛ فوجب أن يكون كاستبراء الحرة. فجوابه ما ذكرناه. ولا فرق [فيما ذكرناه] بين أن تكون قد استبرأت قبل العتق والموت أو لا؛ كما لا فرق في وجوب استبراء الحرة بين أن يكون قد وجد قبل الطلاق أو لا. وفي "التتمة" حكاية وجه حكاه في "التهذيب" قولاً: أنه إذا وجد قبل العتق والموت كفى. وبنى بعضهم الخلاف على أن فراش أم الولد هل يزول بالاستبراء، وهل تعود فراشاً للسيد إذا مات زوجها أو طلقها وانقضت عدتها، أو لا تعود ولا تحل إلا بعد استبراء؟ وفيه خلاف. قال القاضي الحسين: فإن قيل: أم الولد يجوز تزويجها ولو كان الفراش [لا] يزول عنها بالاستبراء، لم يجز تزويجها. ثم قال: قد قيل: إنها لا تزوج لأجل ذلك. وحكم الأمة الموطوءة إذا أعتقها سيدها- إما في حياته، وإما بعد موته بالتدبير- حكم أم الولد، إلا فيما إذا وجد الاستبراء قبل العتق؛ فإنه لا يحتاج إلى تجديده بعده حتى يحل لها أن تتزوج، كذا حكاه الرافعي عن الأئمة، [وأنهم لم يطردوا] الخلاف المذكور في المستولدة فيها؛ لأن المستولدة ثبت لها حق الحرية، وفراشها شبيه بفراش النكاح. والإمام والغزالي حكيا الخلاف فيها- أيضاً- وجهين مع ثالث: أنه لا استبراء على القنة بعد العتق، ويجب على المستولدة.

وإذا مات عن الأمة ولم تعتق بموته، لم يكن عليها استبراء عنه، لكن على من انتقلت إليه إذا أراد الوطء، كما تقدم. ولو أعتق الأمة غير المستفرشة، لم يلزمها استبراء بلا خلاف، وإن أفهم كلام الغزالي [أنه وجه]، صرح به الرافعي. فرع: حيث قلنا: يجب استبراء المستولدة أو المعتقة بعد العتق؛ لأجل التزويج، فلو أراد السيد أن يتزوجها ففيه وجهان: أصحهما: الجواز؛ كما يجوز أن ينكح المعتدة منه، وهذا ما جزم به الماوردي فيما إذا كان بائع الأمة قد استبرأها قبل بيعها للمعتق. قال: وإن مات عنها [وهي مزوجة أو معتدة لم يلزمها الاستبراء؛ لأنها ليست فراشاً للسيد] والحالة هذه؛ فلم يلزمها الاستبراء كما لو لم تكن موطوءة. وأيضاً: فإن الاستبراء لطلب حل أو لاستباحة نكاح، وهي مشغولة بحق الزوج؛ فلا يطلب منها حل، ولا تنكح غيره. وخرج [ابن سريج] قولاً: أنه يلزمها الاستبراء؛ كما لو وطئت منكوحة إنسان بشبهة، فشرعت في عدة وطء الشبهة، ثم مات الزوج أو طلقها- فإنه يلزمها العدة عنهز وأضاف المتولي هذا القول إلى الإصطخري. وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسي: أنه منصوص عليه في القديم. فعلى الأول: لو أعتقها أو مات عنها وهي في عدة وطء شبهة، فهل يلزمها الاستبراء؟ فيه وجهان: أشهرهما: الوجوب. وميل البغوي إلى مقابله. ولو مات السيد أو أعتقها بعد انقضاء عدتها عن طلاق الزوج أو موته، لم يلزمها الاستبراء على وجه؛ لأن براءة الرحم قد عرفت بالعدة.

والمنصوص وظاهر المذهب: أنه يجب، إلا أن من الأصحاب من يشترط لوجوبه أن يقع إعتاق السيد أو موته بعد انقضاء العدة بلحظة؛ لتعود فيها فراشاً للسيد، وهذا ما يقتضيه كلام الشيخ في مسألة "موت السيد والزوج" الآتية من بعد. ومنهم من لم يشترط ذلك. وقد بني الخلاف في وجوب الاستبراء هاهنا على ما إذا انقضت عدة الزوج والسيد حي، هل تعود فراشاً؟ ومذهبا لشافعي وما ظهر من منصوصاته في كتبه- على ما حكاه الماوردي-: أنها تعود فراشاً للسيد، وتحل له من غير استبراء، كما إذا رهنها ثم زال الرهن. فعلى هذا: يلزمها الاستبراء بموت السيد. وحكى ابن خيران قولاً ثانياً تفرد بنقله عن الشافعي في القديم: أنها لا تعود فراشاً، ويجب عليه الاستبراء إذا أراد وطأها. فعلى هذا: هل يلزمها الاستبراء بموت السيد؟ فيه الخلاف المذكور فيما إذا مات وليست فراشاًله، وبناهما الماوردي على أصل، وهو أن استبراء [أم الولد] هل وجب لحرمة الولد؟ أو [لرفع] الفراش؟ وفيه وجهان، أحدهما- وهو قول أبي سعيد الإصطخري-: الأول؛ فعلى هذا يجب الاستبراء، وعلى الثاني: لا يجب، وهو الذي جزم به ابن الصباغ. قال: ولو مات السيد والزوج، أحدهما قبل الآخر، ولم يعلم السابق منهما – فإن كان بين موتهما شهران وخمس ليال فما دونها لم يلزمها الاستبراء، وهذا لفظ الشافعي، كما حكاه ابن الصباغ؛ لأنها تكون عند موت السيد الذي يجب الاستبراء بسببه: إما مزوجة إن كان السيد قد مات أولاً، أو معتدة إن كان الزوج قد مات أولاً، وقد بينا أنه لا استبراء عليها في الحالين، ويلزمها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من موت الثاني، لاحتمال أن يكون السيد هو الذي مات أولاً؛ فتكون حرة عند موت الثاني. وما ذكرناه مبني على أنه إذا مات وهي في العدة لا يجب عليها استبراء، أما إذا قلنا بأنه يجب فالحكم كما في المسألة بعدها. واعلم أن النووي قال: قول الشيخ في هذه المسألة: "شهران وخمس ليال"، صوابه: "شهران وخمسة أيام بلياليها".

قلت: وما قاله الشيخ إن أجري على ظاهره لم يكن فيه مؤاخذة من جهة الحكم؛ لأن غايته أن يكون بين موتهما دون عدة الأمة عن الوفاة، فإنها شهران وخمسة أيام وخمس ليال، والحكم لا يتغير بذلك. وإن حمل على أن المراد أن يكون بين موتهما عدة الأمة للوفاة- وهو الظاهر، كما حكاه في "التهذيب"- فقد سبق في كتاب العدد، الجواب عنه، لكن يكون ما ذكره الشيخ فيما إذا كان بين موتهما شهران وخمس ليال مفرعاً على أنه لو تحقق موت السيد آخراً والحالة هذه لا يلزمها الاستبراء [كما أشرنا إليه من قبل، أما إذا قلنا: إنه يلزمها الاستبراء] فيكون الحكم كما هو في الحالة الثانية. قال: وإن كان أكثر لزمها الأكثر من عدة الوفاة، وهي أربعة أشهر وعشر وحيضة؛ لأنه يحتمل أن يكون الزوج مات أولاً؛ فتكون وقت موت السيد قد عادت إلى فراشه؛ فيلزمها الاستبراء. ويحتمل أن يكون السيد مات أولاً، فتكون عند وفاة الزوج حرة؛ فيلزمها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر. فيلزمها أكثرهما؛ لأنها تخرج به عما عليها بيقين. قال: والاستبراء، أي: بالحيضة، والأشهر المعتبرة في عدة الوفاة تعتبر من موت الثاني منهما. أما اعتبار الحيضة؛ فلأنا إنما أوجبناها لاحتمال أن يكون الثاني هو السيد، وإلا لم تجب. وأما اعتبار الأشهر؛ فلما ذكرناه من قبل. فعلى هذا: إذا حاضت حيضة كاملة بعد موت الثاني منهما، وقبل استكمال أربعة أشهر وعشر من موت الثاني- يلزمها أن تصبر إلى انقضائها. وإن انقضت أربعة أشهر وعشر من موت الثاني قبل أن تحيض حيضة، لزمها أن تصبر إلى أن تحيض حيضة. وعبارة الأصحاب في ذلك: لزمها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من موت الثاني منهما، فيها حيضة. وعبارة الشيخ أحسن.

ولا فرق بين أن تأتي الحيضة في أول الشهور أو آخرها. وحكى أبو إسحاق المروزي وجهاً: أنه يشترط أن تكون الحيضة بعد مضي شهرين وخمس ليال؛ كي لا يجتمع الاستبراء وعدة الزوج. وغلط قائله؛ لأن الاستبراء إنما وجب لاحتمال أن يكون الزوج مات أولاً، وإذا كان كذلك فعدة الزوج انقضت قبل موت السيد؛ فلم يجتمعا. ثم اعلم أن ما ذكرناه مفرع على أن أم الولد تعود فراشاً للسيد بموت الزوج، ومصور بما إذا كانت من ذوات الأقراء. أما إذا قلنا: إنها لا تعود فراشاً، أو كانت من ذوات الشهور- كفاها مضي أربعة أشهر وعشر من موت الثاني منهما. تنبيه: اعتبار وجود الحيضة الكاملة في الأشهر والعشر أو بعدها، قد يظن أنه إنما يكون إذا قلنا: إن الاستبراء يكون بالحيض، أما إذا قلنا: إن الاستبراء بالحيض، أما إذا قلنا: إنه بالطهر، فينظر: إن كان موت الثاني في الطهر فكذلك الحكم؛ لأنه لا بد من وجود الحيضة، سواء اكتفينا ببقية الطهر أو لم نكتف كما حكيناه من قبل، وقال الماوردي: إنه لم يقل أحد بخلافه. وإن كان في الحيض فقد تقدم في اعتبار الحيضة [الكاملة- والحالة هذه؛ تفريعاً على هذا القول- وجهان، وأن الأظهر منهما والأقيس عند القاضي الروياني: أنه لا بد منها؛ فعلى هذا يكون اعتبار وجود الحيضة] لا بد منها على القولين جميعاً. واعلم أن ما شرحته هو ما وجدته في أكثر ما وقفت عليه من النسخ، وفي بعض الشروح ما يقتضي أن كلام الشيخ: لزمها الأكثر من عدة الوفاة، وهي أربعة أشهر وعشر، والاستبراء، [أو الاستبراء] يعتبر- أي الأكثر- من موت الثاني منهما. وهذا كلام صحيح حسن، وهو راجع لما ذكرناه. قال: ولا ترث من الزوج شيئاً؛ لأن الميراث لا يستحق إلا بالتيقن ولم يوجد، مع أن الأصل عدم استحقاق الإرث، ويخالف وجوب العدة حيث أوجبنا

عليها عدة الحرائر؛ لأن العدة واجبة عليها بيقين، فلا تخرج منها بالشك. فإن قيل: لم لا أوقفتم لها نصيب زوجة؛ لاحتمال أن يكون السيد مات أولاً؛ كما لو طلق إحدى امرأتيه ولم يبين حتى مات؟ قيل: لأن ميراث أم الولد متردد بين استحقاقه وإسقاطه؛ فلم يجز وقفه مع الشك، وميراث إحدى الزوجتين متحقق قطعاً؛ فجاز أن يوقف على بيان مستحقه. فإن قيل: هذا الفرق يفسد بما إذا كانت إحدى الزوجتين ذمية؛ فإنه يوقف، ولو احتمل أن تكون المسلمة هي المطلقة فلا إرث لواحدة منهما. قيل: لا نسلم أنه يوقف لهما شيء والحالة هذه؛ تمسكاً بما حكي عن الغزالي من قبل. وعلى تقدير التسليم- وهو ما حكاه الماوردي وابن الصباغ هنا- فالفرق: أن الأصل في المسلمة: أنها تستحق الميراث؛ فلم يسقط ميراثها بالشك، والأصل في أم الولد أنها غير وارثة؛ فلم يوقف لها الميراث. فرع: لو شككنا هل بين موتهما شهران وخمس ليال أو أكثر، كان الحكم كما لو تحققنا أن بين موتهما أكثر من شهرين وخمس ليال. ووراء الصور التي ذكرناها ثلاث صور: إحداها: أن يموت السيد أولاً؛ فلا يجب عليها استبراء على الصحيح، ويجب عليها أن تعتد عن الزوج أربعة أشهر وعشراً. الثانية: أن يموت الزوج أولاً؛ فعليها أن تعتد عنه عدة الوفاة، لكن ينظر: إن مات السيد قبل استكمال شهرين وخمس ليال فقد عتقت في أثناء العدة، وفي وجوب استكمال عدة الحرائر عليها قولان، ولا يجب عليها استبراء على الصحيح، وعلى قول الوجوب تأتي به بعد فراغ عدة الوفاة [إن كانت ممن لا تحيض، أو لم تر الحيض فيما بقي من مدة عدة الوفاة] وإن رأته، قال الرافعي: كفى. وإن مات بعد مضي ذلك فقد انقضت عدة الوفاة، ووجب عليها الاستبراء على الصحيح؛ بناء على أنها تعود فراشاً. الثالثة: أن يموتا معاً؛ فلا استبراء على الصحيح، ويجب عليها عدة الحرائر على الصححيح عند البغوي، وهو موافق لما حكيته عن الماوردي فيما إذا وقع الطلاق والعتق معاً: أنها تعتد عدة الحرائر وجهاً واحداً، وعند الغزالي: عدة

الإماء؛ تفريعاً على أنها إذا عتقت في أثناء العدة تتم عدة أمة، أما إذا قلنا: عدة حرة، فهاهنا أولى. قال: وإن اشترك اثنان في وطء أمة- أي: لهما أو لغيرهما- بشبهة، لزمها عن كل واحد منهما استبراء؛ لأن الاستبراء لحقهما فلا يتداخلان، كالعدتين. ومن أصحابنا من قال: يكفيها استبراء واحد. ثم محل وجوب الاستبراء في الوطء في الشبهة إذا لم يظن الواطئ أنها زوجته، أما إذا ظن أنها زوجته فهل يجب عليها الاستبراء والعدة؟ فيه تفصيل مذكور في العدد. فرع: إذا أتت الأمة المشتراة بولد، فقال البائع: هو مني- نظر: إن صدقه المشتري قبل منه، وبطل البيع، وحكم بحرية الولد، وبأن أمه أم ولد. وإن كذبه المشتري، وكان البائع قد أقر بالوطء عند البيع أو قبله، ولم يكن استبرأها قبل البيع- فالحكم كذلك، سواء أتت به لدون ستة أشهر أو أكثر، ولا يمين على البائع، قال الماوردي: لأن البائع لو رجع عن إقراره لم يقبل. وهكذا الحكم لو ادعى الاستبراء، ثم أتت بولد لدون ستة أشهر من وقت البيع، وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت البيع لم يلحقه، والبيع بحاله. وإن لم يكن قد أقر بالوطء حال البيع، ولا قبله- لم يقبل قوله، وفي ثبوت نسب الولد منه فيما إذا أتت به لزمان يمكن أن يكون منه، قولان. ثم حيث نفينا الولد عنه هل يلحق بالمشتري؟ ينظر: إن لم يطأها لم يلحقه، وكذا إن وطئها وأتت به لدون ستة أشهر من وقت وطئه. وإن أتت به لستة أشهر فأكثر لحقه. وحيث حكمنا بلحوقه بالبائع فيما إذا أتت به لستة أشهر من وقت الوطء ولم يكن استبرأها، وكان المشتري قد وطئها، وبين وطئه وولادتها ستة أشهر- عرض على القائف.

فرع آخر: إذا أخبرت الأمة المشتراة سيدها بالحيض اعتمد على قولها، ولا تحلف، ولو امتنعت على السيد، فقال: قد أخبرتني بتمام الاستبراء، فالمصدق السيد، ووجهوه بأن الاستبراء باب من التقوى مفوض إلى السيد، وليس ذلك بحال الخصومات، ولو لم يكن كذلك، لحلنا بين السيد وبينها كما نحول بين الزوج والمعتدة عن وطء الشبهة، لكن هل لها أن تحلفه؟ فيه وجهان يقربان من الوجهين فيما إذا ورث جارية من أبيه أو ابنه، فامتنعت وادعت أن مورثه أصابها، وأنها حرمت عليه بالإصابة، في جواز تحليفها له؛ فإنه لا يلزمه تصديقها، لكن الورع لا يخفى. هذا ما حكوه هاهنا في هذه المسألة المستشهد بها، ورأيت في "تعيق" القاضي الحسين بعد فصل أوله: "إذا قال لزوجته: أنت طالق في الشهر الماضي، أو قالت أمة لغير سيدها: أنا أختك من الرضاع، ثم ملكها ذلك الرجل يوماً ما- لا يحل له الاستمتاع بها. ولو قالت ذلك لسيدها: فإن كان بعدما مكنته، لا يقبل قولها. وإن كان قبل التمكين، فوجهان، وجعل ظاهر المذهب القبول في نظير المسألة في النكاح إذا كانت بكراً، وزوجت بغير إذنها، ومقتضى هذا الخلاف أن يجري في هذه المسألة أيضاً، فليتأمل. وفي أصل المسألة وجه: أن القول قولها؛ فإن الأصل عدم انقضاء الاستبراء، وهذا الوجه كنت قد [أبديته] احتمالاً.

باب الرضاع

باب الرضاع الرضاع- بفتح الراء وبكسرها-: اسم لمص الثدي، وشرب اللبن. يقال: رضع الصبي أمه- بكسر الضاد- يرضعها رضاعاً، وأهل نجد يقولون: رضع يرضع، بكسر الضاد في المضارع، كـ"ضرب يضرب ضرباً"، وأرضعته أمه. وامرأة مرضع، أي: لها ولد ترضعه، فإن وصفتها بإرضاعه قلت: مرضعة. والأصل في إثبات حكمه- قبل الإجماع- على الجملة ما سنذكره من الكتاب والسنة. قال: إذا ثار للمرأة لبن، أي: ظهر، على ولد، فارتضع منها طفل له دون الحولين خمس رضعات متفرقات- صار ولداً لها، وأولاده أولادها، وصارت المرأة أماً له، وأمهاتها جداته، وآباؤها أجداده، وأولادها إخوته وأخواته، [وإخوتها] وأخواتها أخواله وخالاته. والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] نص الله- تعالى- على هاتين؛ للتنبيه، لا لاختصاص الحكم بهما؛ فإن الأصل في النسب هاتان؛ لأن النسب مشتمل على قطب وجوانب، فالأمهات أصل القطب، فنص عليها، ونبه بها على من هو [قطب النسب، والأخوات أصل الجوانب؛ لأنها أول فصل، فنص عليها، ونبه بها على من هو] في جوانب النسب، وإلا فيحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لعلي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- وقد قال له: يا رسول الله، هل لك في بنت عمك حمزة؛ فإنها أجمل فتاة في قريش؟: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ حَمْزَةَ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَأَنَّ اللهَ حَرَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا حَرَّمَ مِنَ

النسب؟ " كما رواه الشافعي مسنداً عن علي بن أبي طالب. وقد وردت أخبار في ذلك تدل على هذا المعنى، ونذكرها في الباب، إن شاء الله تعالى. ولا فرق- فيمن ذكرناهم- بين أن تكون نسبتهم إلى الأم المرضعة من جهة الأبوين أو أحدهما، ولا بين النسب والرضاع، وحكم إخوة أمها وأخواتها، وإخوة جدتها وجداتها من الطرفين- كما ذكرنا ضابط ذلك في النسب في باب ما يحرم من النكاح- حكم الأخوال والخالات. واعلم أن الشيخ- رحمه الله- نبه بما ذكره في صدر الباب على أركان الرضاع وبعض شرائطه، ويحتاج إلى بيان ما يخرج بذلك، وما يدل على المدعى؛ فإن مدار الباب على ذلك، وما ذكره من بعد فهو في معرض البيان والتتمة له، وقد يطول الكلام فيه، لكن الضرورة تدعو إليه: فاعتبار لبن المرأة في ثبوت ما ذكرناه يخرج ثلاثة ألبان: أحدها: لبن الرجل المنفصل عن ثديه، لا يثبت مثل ذلك؛ لأن اللبن من أثر الولادة، والولادة تختص بالنساء. وأيضاً: فإنه لم يخلق [لغذاء الولد] فلم يتعلق به التحريم كسائر المائعات. وعن الكرابيسي من أصحابنا: أنه يثبت ذلك. الثاني: لبن الخنثى المشكل إذا لم نجعل رؤيته مزيلة للإشكال على الرأي الظاهر، كما فصلناه في باب ما يحرم من النكاح، ولم تظهر أنوثته [لا يثبت ذلك؛ لعدم تحقق الشرط، أما إذا ظهرت أنوثته]، فإنه يثبته وإن وجد الإرضاع في حال الإشكال. الثالث: لبن البهيمة لا يثبت الأخوة بين من ارتضعا منه ولا ما يترتب عليها؛ لأن الأخوة فرع الأمومة، ومنها ينتشر التحريم؛ فإذا لم تثبت الأمومة- التي هي

الأصل- لا يثبت فرعها. وأيضاً: فلبن البهيمة لا يصلح غذاء للطفل صلاحية لبن الآدميات؛ فلا يشاركها في التحريم. واعتبار ثوران اللبن على ولد؛ ليخرج اللبن الثائر من غير ولد، وسيأتي الكلام فيه. واعتبار ارتضاع الطفل؛ ليحترز به عما إذا أوجر اللبن؛ فإن فيه تفصيلاً نذكره من بعد. واعتبار أن يكون له دون الحولين؛ ليحترز به عما فوق الحولين، فإنه لا يحرم عندنا؛ لقوله- تعالى-: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، فجعل إتمام الرضاع في حولين، فأشعر بأن الحكم بعد الحولين بخلافه، ويعضده ما روى أبو داود عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ"، والكتاب دل على أن الفصال في عامين. وروي – أيضاً- عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ". وروي عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ" أخرجه الترمذي، وقال: إنه حديث حسن صحيح.

وما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسهلة بنت سهيل، لما قالت: كنا نرى سالماً ولداً، وكان يدخل علي وأنا فضل، وقد نزل من التبني والحجاب ما قد علمت؟ - وفي رواية: وليس إلا بيت واحد فماذا تأمرني؟ - قال: "أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَيَحْرُمُ بِلَبَنِهَا"، وفي رواية: [أَرْضِعِيهِ] خَمْساً يَحْرُمْ بِهِنَّ عَلَيكِ"، وأنها فعلت ذلك، فكانت تراه ابناً؛ فقد روى الشافعي أن أم سلمة قالت في الحديث: "هو خاصة"، وهو يوافق ما ذهب إليه نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى عائشة- من أن ذلك رخصة في سالم وحده. ثم الحولان معتبران بالأهلة؛ فلو انكسر شهر منها اعتبرنا ثلاثة وعشرين شهراً بالأهلة، وكملنا الشهر الأول من الشهر الخامس والعشرين. قال الرافعي: [والقياس أن] ابتداءهما يكون من وقت استكمال خروج الولد. وقال في "البحر": "لو خرج نصف الولد، ثم بعد مدة خرج الباقي، فابتداء الحولين في الرضاع عند ابتداء خروجه". هذا لفظه. وحكى القاضي ابن كج فيه وجهين، وحكى وجهين- أيضاً- فيما لو ارتضع قبل أن ينفصل جميعه هل تتعلق به الحرمة. وحكى ابن يونس عن الصيمري: أن الاعتبار بخروج بعض الولد، لا خروج جميعه، فإن أراد بالبعض: النصف، كان موافقاً لما ذهب إليه صاحب "البحر"،

وإن أراد غيره تحصل في ابتداء المدة ثلاثة أوجه: خروج الكل، خروج النصف، خروج البعض كيف قدر. فرع: لو ارتضع أربع رضعات في استكمال الحولين، ثم استكملهما قبل فراغ الرضعة الخامسة- قال في "التهذيب": المذهب حصول الحرمة؛ لأن ما يعتد به من الرضاع غير مقدر، وقيل: لا تثبت. قال: وليس بصحيح. واعتبار الخمس رضعات؛ ليحترز بها عما صار إليه أبو ثور من أن ذلك يثبت بثلاث رضعات، وعما صار إليه أبو حنيفة؛ فإنه أثبت ذلك برضعة واحدة. ودليلنا: ما رواه مسلم عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُنَّ مِمَّا نَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ"، فلما أخبرت أن التحريم بالعشر منسوخ بخمس دل على ثبوت التحريم بالخمس؛ لأنها دونها، ولو وقع التحريم بأقل منها بطل أن يكون الخمس ناسخاً، وصار منسوخاً كالعشر. وقول عائشة: "وهن فيما يقرأ من القرآن"- محمول على قراءة حكمها، أو العمل بها. وقال الماوردي: إنما أضافت عائشة ذلك إلى القرآن- مع أن العشر نسخن بالخمس إنما كان بالسنة- لما في القرآن من وجوب العمل بالسنة، كالذي روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: [إن الله- سبحانه وتعالى- لعن الواصلة والمستوصلة في كتابه العزيز، فقالت امرأة] ما وجدت هذا [في] الكتاب، فقال أنس: أليس الله- تعالى- يقول في كتابه العزيز: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وأيضاً: فإن حديث سهلة بنت سهيل يدل على اعتبار الخمس من وجهين: أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "يَحْرُم بِهِنَّ عَلَيْكِ"، فلم يجز أن يحرم بما دونها؛ لما فيه من من إبطال حكمه في وقوع التحريم [بالخمس. والثاني: أن رضاع سالم حال ضرورة يوجب الاقتصار على ما تدعو إليه

الضرورة؛ فلو وقع التحريم] بأقل منها لاقتصر عليه. فإن قيل: هذا ورد في رضاع الكبير، ورضاعه منسوخ بزعمكم؛ فلم يجز التعلق به؟ ففيه جوابان: أحدهما: أنه يشتمل على حكمين: أحدهما: رضاع الكبير. والثاني: عدد ما يقع به التحريم. ونسخ أحد الحكمين لا يوجب سقوط الآخر؛ كما قال تعالى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15]؛ فإن ذلك يشتمل على حكمين: أحدهما: عدد البينة في الزنى. والثاني: إمساكهن في البيوت إلى الموت حداً في الزنى، ثم نسخ هذا الحد، ولم يوجب ذلك سقوط عدد البينة. والجواب الثاني: أن رضاع الكبير حرم عند جواز التبني؛ لأن سهلة وأبا حذيفة تبنيا سالماً، وكان التبني مباحاً، وكانا يريان سالماً ولداً، فلما حرم التبني ونزل الحجاب حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرضاع عن تبنيه المباح؛ ليعود به إلى التبني ألأول، فلما نسخ الله- سبحانه وتعالى- بقوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ .....} الآية [الأحزاب: 5]، سقط ما تعلق به من رضاع الكبير؛ لأن الحكم إذا تعلق بسبب ثبت بوجوده وسقط بعدمه؛ فصار رضاع الكبير غير محرم؛ لعدم سببه، لا لنسخه. وروى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ الْمَصَّةُ وَلا الْمَصَّتَانِ، وَلا يُحَرِّمُ إِلا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ مِنَ اللَّبَنِ". وروى غيره أنه- عليه السلام- قال: "لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ وَلَا الرَّضْعَةُ

وَلَا الرَّضْعَتَانِ"، والمراد بالمصة: الجرعة يجرعها، وبالرضعة: الرضعة التامة في العادة. والدليل عليه- من جهة المعنى-: أن كل سبب يقع به التحريم المؤبد إذا عري عن جنس الاستباحة افتقر إلى [العدد كاللعان، وما لم يعر عن جنس الاستباحة لم يفتقر إلى] العدد كالنكاح والوطء. ووراء ما ذكرناه من المذهب وجهان آخران: أحدهما: كمذهب أبي حنيفة. والثاني: كمذهب أبي ثور، قال ابن المنذر: واختاره مشايخنا. فلو حكم حاكم بالتحريم برضعة لم ينقض حكمه، وإن كنا نفرع على ظاهر المذهب، وعن الإصطخري: أنه ينقض. واعتبار التفريق؛ كي لا يكون الجميع رضعة واحدة، وسيأتي الكلام فيما تتم به الرضعة الواحدة عن أكثر منها. قال: وإن كان الحمل ثابت النسب من رجل، أي: بنكاح، أو ملك يمين، أو شبهة- صار الطفل ولداً له، وأولاده أولاده، وصار الرجل أبا له، وأمهاته جداته، وآباؤه أجداده، وأولاده إخوته وأخواته، وإخوته وأخواته أعمامه وعماته. الأصل في ذلك ما روى مسلم عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "جاء عمي من الرضاعة يستأذن علي، فأبيت أن آذن له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فليلج عليك عمك". قلت: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل. قال: "إِنَّهُ عَمُّكِ؛ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ". وعنها في هذا الحديث: "أن الرضاع يحرم ما يحرم من النسب".

وما رويناه من حديث علي، كرم الله وجهه! ولأن الولد مخلوق من مائهما؛ فكان الولد لهما وإن باشرت الأم ولادته؛ فاقتضى أن يكون اللبن الحادث عنه لهما وإن باشرت الأم رضاعه، وإذا كان اللبن لهما وجب أن تنتشر حرمته إليهما. ولا فرق فيمن ذكرناهم بين أن تكون نسبتهم إلى الأب الذي له اللبن من جهة الأبوين أو من أحدهما، ولا بين النسب والرضاع [وحكم إخوة الجد وإن علا، وأخواته من الطرفين من النسب والرضاع-] حكم إخوة الأب وأخواته [هذا] هو المذهب. وفي "الذخائر": أن بعض أصحابنا حكى عن الشافعي أنه قال: نشر الحرمة إلى الفحل خارج عن القياس؛ فإن اللبن لا ينفصل عنه، وإنما ينفصل عنها. وذهب ابن بنت الشافعي إلى أن الحرمة لا تثبت معه. وعن صاحبي "التقريب" و"التلخيص"، و"الجامع الكبير" للمزني رواية قول: أن اللبن من وطء الشبهة لا يثبت الحرمة من جهة الفحل؛ لأنه لا ضرورة إلى إثبات حرمة الرضاع، بخلاف النسب والعدة. وفي "الجيلي" في آخر الباب حكاية وجه: أن لبن أم الولد لا يحرم المرضعة على السيد؛ بناء على أصلين: أحدهما: أنه لا يجوز له أن يزوجها. والثاني: أنه لا يجوز إجبار المملوك على النكاح. واحترز الشيخ بقوله: ثابت النسب، عما إذا كان الحمل من وطء زنى؛ فإنه لا تثبت به الحرمة من جهة الواطئ، والأحكام من جهة الأم ثابتة. قال الرافعي: وقد حكينا في النكاح وجهاً: أن الزاني لا يجوز له أن ينكح بنت الزنى؛ فيشبه أن يجيء ذلك الوجه هنا. وعن المنفي باللعان إذا ارتضع طفل بلبنه؛ فإن الحكم فيه كولد الزنى. نعم، إذا استلحقه ثبتت حرمة الرضاع- أيضاً- كما إذا نفاه بعد الرضاع انتفت حرمة الرضاع تبعاً، وإن لم يتعرض لنفيه في اللعان.

قال الرافعي: ولم يذكروا هاهنا الوجهين المذكورين في نكاح المنفية باللعان، ولا يبعد أن يسوى بينهما. تنبيه: قول الشيخ- في أول الباب-: "صار ولداً لها"، ثم قال: "وصارت المرأة أماً له .. " إلى آخره، مع أن العلم حاصل بأنه إذا صار ولداً لها، صارت أماً له، وكذلك قال في هذا الفصل: "صار الطفل ولداً له .. " إلى آخره، "وصار الرجل أباً له"، مع أن العلم حاصل بأنه إذا كان ولداً له كان ذاك أباً له؛ فأي فائدة في ذكر ذلك"؟ فجوابه: أن الشيخ لما ذكر في "باب ما يحرم من النكاح" المحرمات بسبب النسب، وعدها، ثم ذكر بعد إعراض محرمات أخر، وما حرم من ذلك بالنسب حرم- أي: مثله- بالرضاع، فأراد أن يبين في هذا الباب الأمومة والأبوة وما عداها؛ لينطبق الكلامان على معنى واحد، وعلى ذلك جرى الأئمة. ويجوز أن يقال: لم يذكر الشيخ ذلك ليبين الأمومة والأبوة؛ فإنها ظاهرة- كما ذكرتم- ولكن ذكر ذلك؛ لأن [أصول] الرضاع التي ينتشر منها التحريم ثلاثة: المرضعة ومن حملها منسوب إليه، والمرضع؛ فذكرهما ليبين أن منهما ينتشر التحريم إلى من هو منسوب إليهما، كما ذكر أن التحريم من الولد ينتشر إلى ولده، وإن كان ذلك غير قاصر عليهم، والله أعلم. قال: ويحرم النكاح بينهما بالرضاع كما يحرم بالنسب؛ للخبر، وقد تقدم الكلام في ذلك في باب ما يحرم من النكاح. قال: ويحل لهما الخلوة والنظر كما يحل بالنسب؛ لحديث عائشة. وتخصيص الشيخ هذين الحكمين بالذكر مع إثبات الأمومة وما يتفرع عنها، وكذلك الأبوة- يعرفك أنه لا يثبت بسبب الرضاع غيرهما من الأحكام: كالولاية في النكاح، والمال، والميراث، والنفقة، والعتق، وسقوط القصاص، ورد الشهادة، ومنع صرف الزكاة إليه، وغير ذلك، وهذا متفق عليه بين الأصحاب. فائدة: قال الماوردي: قد سمى الله- تعالى- بالأم ثلاثة أصناف من النساء: الوالدة، والمرضعة، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

فالوالدة: مستوجبة لجميع أحكام النسب. والمرضعة: مقصورة على ما ذكرناه. وفي أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهان: أحدهما: يشاركن المرضعة في التحريم والمحرمية. والثاني: ينفردن بالتحريم دون المحرمية. قال: وإن ارتضع، ثم قطع باختياره، من غير عارض- أي: ولم يعد إليه على قرب- كان ذلك رضعة. لما ورد الشرع باعتبار خمس رضعات وجب تحديد الرضعة وتقديرها، والمقادير تؤخذ من أحد ثلاثة أشياء: من شرع، أو لغة، أو عرف، وليس في الشرع واللغة لذلك حد؛ فوجب أن يؤخذ من العرف كالحرز والإحياء والقبض، والعرف ما ذكره. أما إذا قطع لعارض: كانقطاع النفس، [أو اللعب]، أو لازدراد ما اجتمع في فمه، وما جانس ذلك، ثم عاود- فالمجموع رضعة واحدة؛ لأن [العرف] قاض بذلك: كمن حلف لا يأكل إلا مرة، ففتن في أكله بسبب ما ذكرناه، ثم عاود الأكل؛ فإنه لا يحنث. وألحق الشيخ إبراهيم المروزي بذلك ما لو قامت المرضعة فاشتغلت بشغل خفيف، ثم عادت للإرضاع، وكذا تنقله من أحد الثديين بعد إنفاذ ما فيه إلى الآخر؛ فإن ذلك رضعة، كذا حكاه الماوردي عن النص، ولم يتعرض في "شرحه" لإنفاد ما في المنتقل عنه، ولو قل زمان الفترة بين الانقطاع والعود كان الجميع رضعة. ولا فرق فيما جعلناه رضعة بين أن يصل إلى الجوف منها قطرة أو أكثر. قال: وإن قطعت المرأة عليه لم يعتد بذلك رضعة لعدم كمالها؛ كما لو حلف لا يأكل إلا مرة، فقطع عليه الأكل بغير اختياره، ثم عاود الأكل بعد تمكنه- لم يحنث.

قال الإمام- بعد حكاية هذا عن العراقيين وتضعيفه-: وهذا فيما إذا دام تشوف الصبي إلى الرضاع في الزمان المنقطع، فأما إذا انقطع تشوفه فهو ملحق بإضرابه. قال: وقيل: يعتد به؛ لأن الرضاع يعتبر فيه فعل المرضعة والمرتضع على الانفراد، ولا يعتبر جتماعهما عليه، لأنه لو ارتضع منها [وهي نائمة كان رضاعاً، وإن لم يكن لها فعل، ولو أوجرته لبناً] وهو نائم كان رضاعاً، وإن لم يكن له فعل، وغذا كان كذلك وجب أن يحتسب بقطعها كما يحتسب بقطعه، وهذا هو الأصح في "الرافعي" وغيره. قال: وإن ارتضع من ثدي امرأة، ثم انتقل إلى ثدي امرأة أخرى، أي: مع قرب الزمان- فقد [قيل]: لا يعتد بواحدة منهما لأنه انتقل من إحداهما إلى الأخرى قبل تمام الرضعة؛ فلا يحتسب بكل منهما رضعة؛ كما لوانتقل من أحد الثديين إلى الآخر، وكما لو حلف: لا يأكل إلا مرة، فانتقل من زبدية إلى زبدية، أو من مائدة إلى مائدة، وهذا هو الأصح في "الجيلي"، وقال الإمام: إنه مزيف. وقيل: يحتسب من كل واحدة منهما رضعة؛ لأن من شرط الرضعة أن يقع امتصاص الثدي، ولا يعود إليه إلا بعد مدة طويلة، وقد وجد، وهذا هو الأصح في "تعليق" القاضي الحسين و"التهذيب". تنبيه: الثدي: بفتح الثاء، يذكر ويؤنث، والتذكير أكثر، واستعمله الشيخ مؤنثاً في قوله: "جنى على الثدي فشلت"، ويكون الثدي للمرأة وللرجل، وأكثر استعماله في المرأة، ومنهم من خصه بها. قال: وإن أوجر من لبنها، أو أسعط خمس دفعات- ثبت التحريم. أما في الوجور- وهو صب اللبن في حلقه- فلقوله صلى الله عليه وسلم: "الرضاع ما شد العظم وأنبت اللحم" رواه أبو داود، والوجور يحصل ذلك. وقوله- عليه السلام- في قصة سالم لسهلة بنت سهيل: "أَرْضِعِيهِ خَمْساً

يَحْرُمْ بِهِنَّ عَلَيكِ"، ومعلوم أنه لم [يرد] ارتضاعه من الثدي لتحرم عليه؛ فثبت أنه أراد الوجور. وأما في السعوط- وهو صب اللبن في أنفه- فلأنه سبيل يحصل بالواصل منه الفطر؛ فتعلق به التحريم كالفم، ولأن الدماغ جوف التغذي كالمعدة. قال: وإن حقن، ففيه قولان: أحدهما: أنه يثبت التحريم؛ لما ذكرناه في السعوط، وهذا ما اختاره المزني. والثاني: لا يثبته؛ لأن الرضاع يراد لإنبات اللحم وإنشاز العظم، وهذا معدوم في الحقنة؛ لأنها لا تصل إلى محل الغذاء، وتراد للإسهال وإخراج ما في الجوف، فخالفت حكم ما يصل إلى الجوف، وهذا هو الأصح، ويقال: إنه الجديد. وقد أجرى بعض الخراسانيين في السعوط مثل هذين القولين، وضعف ذلك بأن في الدماغ منافذ إلى المعدة؛ فلا يصل شيء إلى الدماغ إلا انحدر منه إلى المعدة؛ فيحصل به التغذين بخلاف الحقنة. وحكم تقطير اللبن في الإحليل إذا وصل إلى المثانة، حكم الحقنة. وإن لم يصل، وقلنا: لا يفطر- فلا أثر له، وإلا فعلى القولين في الحقنة. وكذا لو كان في جوفه جرح، فصب فيه اللبن حتى وصل [إلى الجوف. وفي "التهذيب": أنه لو وصل إلى المعدة بخرق في الأمعاء، أو وصل] إلى الدماغ بالصب في مامومة- ثبت التحريم قولاً واحداً. وصب اللبن في العين لا يثبت الحرمة وجهاً واحداً. وصبه في الأذن، أطلق الروياني في "البحر": أنه يحرم. وفي "التهذيب": أنه لا يحرم. وفي "زوائد العمراني" عن "شرح التلخيص": أنه إذا علم الوصول إلى جوف الرأس كان رضاعاً، وإلا فلا. وفي "النهاية": أنا قد ذكرنا تردداً في أن الصائم إذا قطر في أذنه شيئاً هل يفطر؟ فإن قلنا: لا يفطر، لم تتعلق به حرمة المصاهرة، وإن قلنا: يفطر، فالوجه

تخريجه على قولي الحقنة. وقد حكى الشيخ أبو علي- عن نص الشافعي- أنه لا تتعلق به حرمة الرضاع. قال: وإن حلبت لبناً كثيراً في دفعة واحدة، وفرق في خمس أوان، وأوجر الصبي في خمس دفعات- ففيه قولان: أحدهما: أنه رضعة؛ لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23]، فأضاف الفعل إليهن؛ فاقتضى أن يكون فعلهن فيه أغلب، وهو المعتبر في الحكم. ولأن الوجور فرع الرضاع. ثم العدد لا يحصل في الرضاع إلا بما ينفصل خمس مرات؛ فكذلك في الوجور، وهذا ما نقله المزني في "المختصر" و"جامعه"، وهو الأصح عند الأكثرين. والثاني: خمس رضعات؛ تنزيلاً للإناء المنتقل إليه منه منزلة الثدي. وأيضاً: فإن الرضعات كالأكل، ولو حلف لا يأكل خمس دفعات، فوضع الطعام دفعة واحدة، وأكله في خمس دفعات- كانت خمس أكلات، وهذا ما رواه الربيع. وكان أبو حامد المرورزي وجميع البصريين يجعلونه قولاً ثانياً مخرجاً. وفي "الجيلي" أنه الأصح في "البسيط"، وكان أبو إسحاق المروزي وابن أبي هريرة يجعلانه وجهاً قاله مذهباً لنفسه. تنبيه: قوله: "خمس أوان"، كان الأجود: "خمسة آنية"؛ لأن "الآنية" جمع "إناء"، و"الأواني" جمع الجمع؛ فيقتضي أن يكون أكثر من خمسة، ويصح كلامه على قولنا: أقل الجمع اثنان؛ فيكون أقل جمع الجمع أربعة، والله أعلم. قال: وإن حلبت خمس دفعات، وخلطت، وأوجر الصبي في دفعة، فهو رضعة، أي: وإن قلنا في المسألة الأولى: إن اللبن خمس رضعات؛ لأنه لم

يحصل اللبن في جوفه إلا دفعة واحدة، بخلاف المسألة قبلها؛ فإنه يحصل في خمس دفعات. قال: وقيل: فيه قولان مأخذهما النظر إلى حال الانفصال من الضرع أو حال الاتصال بالصبي، وبهذا الطريق قال صاحب "الإفصاح" وأبو إسحاق. قال: وإن حلبت خمس دفعات، وخلط، وفرق في خمس أوان، وأوجر في خمس دفعات- فهو خمس رضعات؛ لأن حال الانفصال والاتصال متعدد، وهذا أصح الطريقين وعليه أكثر الأصحاب. قال: وقيل: على قولين؛ لأن التفريق الذي حصل من جهة المرضعة قد بطل بالخلط؛ فأشبه ما لو حلب دفعة وفرق. ووراء هذه الصور صورتان لا يخفى حكمهما، وهما: إذا حلب في دفعة، وأوجر في دفعة؛ فإنه رضعة. وإذا حلب في خمس دفعات، وأوجر في خمس دفعات من غير خلط- فذلك خمس رضعات، لا خلاف فيه. فرع: لو حلب خمس نسوة في إناء واحد، وأوجر الصبي دفعة واحدة- حصلت من كل واحدة منهن رضعة. وإن أوجر في خمس دفعات، فقد حكي فيه وجهان، والذي أورده القاضي الروياني منهما: ثبوت التحريم. هذا لفظ الرافعي. وفي "الحاوي": أنه إذا أوجر لبن امرأتين في دفعة واحدة، فهل يعتد بذلك عن كل واحدة رضعة، أو لا يعتد به عن واحدة منهما؟ ينبني على أنه إذا ارتضع من ثدي امرأة، ثم انتقل إلى ثدي امرأة أخرى- فإن اعتددنا بذلك عن كل واحدة منهما رضعة فكذلك هاهنا، وإن لم نعتد به ثم عن واحدة منهما هاهنا فكذلك هاهنا. فرع آخر: لو شك هل ارتضع خمساً أو دونها لم يثبت التحريم. ولو شك هل ارتضع الخمس في مدة الححولين أو فوقها فكذلك على الأصح،

وبعضهم أشار إلى خلاف مأخذه تقابل الأصلين، وربما نسب قول ثبوت الحرمة إلى الصيمري. قال: وإن جبن اللبن، أو جعل في خبز أو ماء، أي: ولم يستهلك فيه، وأطعم الصبي- حرم؛ لقوله عليه السلام-: "الرَّضَاعُ مِنَ المَجَاعَةِ"، وهذا أبلغ في دفع المجاعة من اللبن المنفرد، ولأنه يحصل به التغذية. وقيل: يشترط أن تكون الغلبة للبن، وبه قال المزني، وهو بعيد. وحكم اختلاطه بالدواء، والخمر حكم اختلاطه بالخبز والماء، كما ذكرناه. وحكم الأقط والزبد والمخيض حكم الجبن، ولا يندفع التحريم بحموضة اللبن ولا بغليه، وكذا لا يندفع بفت الطعام فيه، وبعجن الدقيق به وخبزه- على الأصح- خلافاً لما يحكى عن القاضي الحسين. ولا فرق في ذلك بين أن يطعم الجميع، أو البعض والباقي دون قدر المختلط باللبن. نعم، هل يشترط أن يكون اللبن قدراً يمكن أن يسقى منه خمس دفعات لو انفرد عن المخالط، فيه وجهان: أظهرهما: الاشتراط. والذي يظهر: "أن محل الخلاف فيما إذا أطعم من المختلط خمس دفعات. تنبيه: "حرم" و"لم يحرم" كله بتشديد الراء. قال: وإن وقعت قطرة في حب ماء، فأسقي الصبي بعضه- لم يحرم؛ لأنا نشك هل وصل اللبن إلى البعض الذي شربه أم لا؛ فلا نحكم بالتحريم بالشك. ولا فرق في ذلك بين أن يكون قد ارتضع من صاحبة اللبن قبل ذلك أربع رضعات، أو أسقي من الحب خمس دفعات، وإن شرب الجميع ثبتت الحرمة، كذا قاله القاضي الحسين؛ لأنا تحققنا وصول اللبن إلى الجوف. وعن صاحب "الإفصاح" و"تعليق" القاضي الحسين وغيرهما حكايةو جه بثبوت الحرمة بشرب البعض في الصورتين؛ لأن المائع إذا خالط المائع، فما من

قدر يؤجد إلا وفيه شيء من هذا وشيء من ذلك. ويحكى هذا عن اختيار الصيمري والقاضي أبي الطيب، والأظهر الأول. ووراء ما ذكرناه طريقة حكاها الإمام، واقتصر الغزالي على ذكرها، وهي أن المخالط للبن: إن كان غير ماء فالحكم كما ذكرنا، وإن كان ماء فإن كان مغلوباً فيه، والماء دون القلتين، فشرب جميعه- ففي ثبوت [الحرمة] قولان، الذي حكاه القاضي الحسين منهما في "التعليق": الثبوت. قال الإمام: وهذان القولان يقربان من أصل ذكرناه في أحكام المياه، وهو أن المقدار الذي لا يسع وضوءاً من الماء لو كمل بماء ورد، وهو مغلوب بالماء – ففي جواز التوضؤ به خلاف، وإن شرب بعضه فوجهان أو قولان مرتبان، وأولى بعدم التحريم. وإن [مزج بقلتين] فصاعداً، فإن قلنا: لا تتعلق الحرمة بما دون القلتين، فهاهنا أولى، [وإلا فإن] شرب بعضه لم يحرم، وإن شرب كله فقولان. تنبيه: الحب: بالحاء المهملة، وهو الحابية، وهو فارسي معرب، والحابية: عربية صريحة، جمعه: حباب- بكسر الحاء- وحببة بفتح الحاء والباء. والمراد بكون الماء مغلوباً عند الغزالي: خروجه عن كونه مغلوباً، وهذا يحكى عن الشيخ ابي علي. والظاهر الذي أورده الأكثرون: أن الاعتبار بصفات اللبن من الطعم واللون والرائحة، فإن ظهر منها شيء في المخلوط فاللبن غالب، وإلا فهو مغلوب. ونقل عن ابن سريج- تفريعاً على هذا- أن الأوصاف الثلاثة لو زايلته، فيعتبر قدر اللبن بما له لون قوي يستولي على الخليط، فإن كان القدر منه يظهر ثبتت الحرمة، وإلا فلا، وهذا ما استنبطه الحليمي قبل الوقوف على ما قاله ابن سريج، كما حكاه أبو الحسن العبادي، وقال: إنه عرضه على القفال الشاشي وولده القاسم، فارتضياه.

فرعان: أحدهما: إذا وقعت قطرة لبن في فم صبي، واختلطت بريقه، ثم وصل ذلك إلى جوفه- فطريقان: أحدهما: ينظر إلى كونه غالباً أو مغلوباً، كما ذكرناه. والثاني: القطع بثبوت التحريم. الثاني: إذا اختلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى، وغلب أحدهما- جزم الماوردي بثبوت الحرمة من كل واحدة منهما على ما ذكرناه من قبل. وقال الرافعي: إن علقنا الحرمة بالمغلوب ثبتت الحرمة فيهما، وإلا اختصت بالتي غلب لبنها، والله أعلم. قال: وإن شرب، وتقيأ، أي: بالهمز، قبل أن يحصل في جوفه- لم يحرم؛ لقوله- عليه السلام-: "الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ، وَأَنْشَزَ العَظْمَ"، وقد سقط ذلك برده، ولو وصل إلى جوفه، فتقيأه في الحال- حرم. وحكى القاضي الروياني عن جده رواية وجه آخر. وفيه وجه: أنه إن تقيأ بعد أن تغير اللبن حرم، وإن لم يتغير فلا. قال: وإن ارتضع من ثدي امرأة ميتة، لم يحرم؛ لقوله- عليه السلام-: "الحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الحَلَالَ"، وهذا اللبن محرم؛ لنجاسة عينه، فلم يثبت به تحريم ما كان حلالاً من قبله. ولأن ما يثبت به التحريم إذا اتصل بحياتها زال عنه التحريم إذا اتصل بموتها؛ كالوطء. ولأن لبن الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم، ولبن الميتة لا يثبت ذلك؛ فلم يثبت به التحريم. قال: وإن حلب منها في حياتها، ثم أسقى الصبي بعد موتها- حرم، أي: إذا كان ذلك الرضعة الخامسة- كما نص عليه الشافعي- أو كان كبيراً فسقى منه

خمس دفعات، على التفصيل الذي تقدم؛ لعموم الخبر، ولأن موتها بعد حلب اللبن في الإناء كموتها بعد اجتماع اللبن في فمه؛ لأن فمه كالإناء. وفيه وجه: أنه لا يحرم. قال الإمام: رأيته في طرق أهل العراق، وقد نسب إلى القاضي الحسين، وهو مخرج- على ما حكاه في "التعليق"- مما إذا علق العتق في حال الصحة، فوجدت الصفة المعلق عليها في المرض، وفي احسابه من الثلث قولان. ولا خلاف في أن الرجل إذا مات، فأرضعت المرأة بلبنه طفلاً- ثبتت الحرمة بين الطفل والميت، ومن ينتسب إليه، [على] المذهب. ولا فرق بين أن يكون الرضاع في العدة أو بعدها، وإن كان بأكثر من حولين. قال: وإن ثار لها لبن من وطء من غير حمل- أي: وهي في سن من تحمل، كابنة عشر مثلاً- ففيه قولان: أحدهما: يحرم؛ لأن لبن النساء غذاء للأطفال، وهذا ما رأيته فيما وقفت عليه من كتب الأصحاب، وهكذا الحكم عندهم في لبن من [لا] ولد لها من بكر أو ثيب. قال: والثاني: لا يحرم؛ لأن ولد الرضاع تابع لولد النسب، ولا ولد؛ فانتفت التبعية. وهذا القول حكاه مجلي وجهاً في البكر وفي التي لا ولد لها، ونسبه إلى الخراسانيين، والرافعي اقتصر على حكايته في البكر؛ إلحاقاً للبنها بلبن الرجل.

أما إذا كانت في سن من لا تحمل، كبنت ثمان مثلاً- فلبنها نجس، ولا يثبت الحرمة به. قال ابن يونس: ولا خلاف أنه لا يثبت التحريم بالنسبة إلى زوجها. فرع: حيث حكمنا بأن لبن البكر إذا كانت في سن من تحمل يحرم، فلا نحكم ببلوغها، حكاه في "التهذيب"، وهو يشابه ما قاله الأصحاب في زوجة الصبي إذا أتت بولد في زمان احتمال بلوغه؛ فإنا نلحقه به، ولا نحكم ببلوغه. وفي "الإبانة": أنا نحكم بأنها حاضت، وبلغت بالحيض. قال: وإن كان لها لبن من زوج، فتزوجت بآخر، أي: بشرطه، وحبلت منه، وزاد اللبن، أي: في مدة الحمل في زمان ثورانه لأجل الحمل، فأرضعت صبياً، أي: خمس رضعات- ففيه قولان: أحدهما: أنه ابن الأول؛ لأن الأصل بقاء لبنه، والزيادة تحتمل أن تكون بسبب [الحمل؛ فتثبت الأبوة، ويحتمل أن تكون بسبب] إصلاح الغذاء فلا تثبتها، فحكمنا باليقين، وألغينا الشك، وهذا هو الجديد والصحيح. قال والثاني: أنه ابنهما؛ لأنا لظاهر أن الزيادة بسبب الحمل، وإذا كان كذلك كان اللبن لهما؛ فجعل الرضيع ابناً لهما. وفي "الإبانة" ما يقتضي على هذا القول ألا يلحق بالأول؛ فإنه قال- والصورة كما ذكرناه-: فاللبن لأيهما؟ فعلى قولين؛ لتعارض الأصل والظاهر. وفي "النهاية" دعوى نفي ذلك. أما إذا كانت زيادة اللبن بعد وضع الحمل فهو لبن الثاني ليس إلا. وإن كان قبل جود زمان يحدث فيه اللبن للحمل، أو لم يزد اللبن- فهو

لبن الأول ليس إلا. وقد حكى الرافعي أن منهم من أجرى القولين المذكورين في أصل المسألة وإن لم يزد اللبن، ومقتضى هذا أن يجريا في هذه الصورة الأخرى أيضاً. ثم الزمان الذي يثور فيه اللبن بسبب الحمل أقله- على ما قاله ابن الصباغ والبندنيجي-: أربعون يوماً، وعلى ما قاله الماوردي: زمان استكمال الروح، وجواز أن يولد فيه حياً، ومقتضاه أن يكون بعد أربعة أشهر. وقال الشيخ أبو حامد: يرجع فيه إلى قول القوابل، وعلى ذلك جرى الإمام. ولا فرق- فيما ذكرناه- بين أن يكون لبن [الأول قد انقطع ثم عاد قبل نكاح الثاني، أو هو مستمر، ولا بين أن يكون] له أربع سنين أو فوقها من حين حصول الفراق. وفيه وجه: أنه إذا انقطع، ثم عاد بعدما مضى أربع سنين من وقت الطلاق- لا يكون منسوباً إليه، وإن لم تتزوج، كما لو أتت بولد بعد هذه المدة، فإنه لا يلحقه، كذا خصصه في "التهذيب" بما إذا نقطع ثم عاد. قال الرافعي: ومنهم [من] يشعر إيراده باطراده في صورة استمرار اللبن. قلت: ومنهم الإمام في الحكاية عن رواية أبي علي، وزيفه. وحكم من وطئت بشبهة أو ملك يمين حكم من نكحت فيما ذكرناه. قال: وإن انقطع اللبن من الأول، أي: مدة طويلة إلى [أكثر من] الذي يحدث فيه اللبن بسبب الحمل، ثم حملت من الثاني، وزاد اللبن، أي: في المدة التي ذكرناها، وأرضعت صبياً- ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ابن الأول؛ لأن اللبن تبع للولد وغذاؤه، لا غذاء للحمل؛ فتبع الولد المنفصل دون الحمل، وعوده بعد انقطاعه؛ لأن الوطء لقاح هاج به اللبن، فثار وظهر بعد كمونه، وهذا أصحها. والثاني: أنه ابن الثاني- أي: دون الأول- لأن الأول قد انقطع، وقرب وقت الولادة سبب لظهور اللبن؛ فأشبه اللبن الثائر بعد الولادة. قال الرافعي: وقد يبنى هذان القولان على تقابل الأصل والظاهر.

والثالث: أنه ابنهما؛ لتقابل المعنيين. أما إذا كان الانقطاع يسيراً، أو كان طويلاً قبل زمان إمكان حدوث اللبن للحمل- فهو كما لو لم ينقطع، صرح بالأول الرافعي، وبالثاني الإمام. ويتفرع على هذه الأقوال فروع: أحدها: لو نزل لبن البكر، ونكحت، وهي ذات لبن، ثم حبلت- فحيث قلنا في المسألة قبلها: إن الولد للثاني أو لهما، فهاهنا يكون للزوج، وحيث قلنا: إنه للأول، فهو للمرأة وحدها، ولا أب للرضيع. الثاني: لو حبلت من الزنى، وهي ذات لبنمن زوج- فحيث قلنا هناك: اللبن للأول أو لهما، فهو للزوج، وحيث قلنا: إنه للثاني، فلا أب للرضيع. الثالث: لو نكحت ولا لبن لها، فحبلت، ونزل لها لبن- قال في "التتمة": ففي ثبوت المحرمية بين الرضيع والزوج وجهان؛ بناء على الخلاف المذكور. قال: وإن وطئ رجلان امرأة، أي: وطءاً يلحق به النسب، فأتت بولد، وأرضعت طفلاً بلبنه- فمن ثبت منهما نسب المولود منه، أي: إما بالفراش، أو بالقيافة، أو بالانتساب- كما ذكرناه بشرطه- صار الرضيع ولداً له؛ لأن اللبن تابع للولد. وفي "النهاية" حكاية قول: أن المرضع يكون ابناً لهما وإن ألحق القائف الولد بأحدهما أو انتسب. وهذا إذا قلنا: إن أبوة الرضاع تثبت بالوطء بالشبهة، [أما إذا قلنا: إن وطء الشبهة] لا يثبت أبوة الرضاع، فلا يخفى التفريع عليه. ولو كان الولد لا يمكن أن يكون من واحد منهما فالمرضع تابع له، منتف عنهما. قال الماوردي: وذكر بعض أصحابنا: أنا نلحق المرضع بالأول، لثبوت لبنه؛ كما لو لم تلد المرضعة. ثم قال: إنه ليس بصحيح؛ لأن لبن الولد قاطع لحكم ما تقدم؛ فإذا انتفت الولادة عن كل واحدة منهما فأولى أن ينتفي الرضاع عنهما. واعلم أن هذا الكلام قد يوهم أن الوطء إذا ثار به اللبن يثبت أبوة الرضاع،

وليس كذلك، بل هو محمول على ما إذا كان له لبن بسبب حمل متقدم انفصل، وسيأتي في كلام الماوردي ما يوضح ذلك. قال: فإن مات المولود، ولم يثبت نسبه، أي: لفقد ما يحصل به الانتساب من فراش وقائف وانتساب- ففي الرضيع قولان: أحدهما- وهو الأصح في "الجيلي"-: أنه ابنهما؛ لأن اللبن قد يحدث بالوطء تارة، وبالحمل أخرى، وقد اجتمعا، ولا مرجح؛ فأثر حكمهما، ويخالف النسب؛ فإنه يتصور أن يكون للإنسان أبوان من الرضاع، ولا يتصور من النسب؛ لما قدمناه. فعلى هذا: هل يحتاج إلى عشر رضعات أم يكفي خمس؟ قال الداركي: يحتمل وجهين. قال القاضي أبو الطيب: هما ينبنيان على ما إذا ارتضعت من امرأتين على التواصل، هل يكون رضعة في حق كل واحدة منهما، وهل هذا الحكم في الظاهر والباطن، أو في الظاهر فقط؟ الذي ذكره في "البسيط": إثبات ذلك في الظاهر، وهو ما أبداه الإمام عند حكاية القول الأول الذي حكيناه عنه. قال الرافعي: والذي ذكره الأصحاب توجيهاً وتفريعاً يخالف ذلك. وهل تثبت المحرمية من الجانبين؟ قال الإمام: الوجه عندنا: ألا تثبت [المحرمية]؛ فإن الغالب التحريم، والذي يغلب الحرمة هو بعينه يقتضي ألا تثبت المحرمية؛ لأنا نتحقق أن المحرمية تقتضي مداخلة واستجلاب خلوة، وهذا محذور إذا التبس الحلال بالمحذور. وهذا منه يظهر أنه بناء على ما ذكره من أن هذا الحكم إنما يثبت في الظاهر فقط. قال: والثاني: لا يكون ابن واحد منهما- أي: على التعيين- بل ابن أحدهما على الإبهام، كما صرح به البندنيجي؛ لأن اللبن فرع الولد، فإذا كان الولد من أحدهما كان اللبن من أحدهما، وهذا هو الأصح. وضعف الأول بأن نزول اللبن إنما يضاف إلى الواطئ بالولادة لا بالوطء؛ لأنه

لو نزل لها بوطئه لبن، فأرضعت به ولداً- لم يصر ابناً للزوج حتى تلد منه فيصير اللبن له، كذا قاله الماوردي. قال: وهل للرضيع أن ينتسب إلى أحدهما، أي: على القول الثاني؟ فيه قولان منقولان في "الأم": أحدهما: ينتسب كالمولود؛ فإن الرضاع يؤثر في الطباع والأخلاق، قال- عليه السلام-: "لَا تَسْتَرْضِعُوا الحَمْقَاءَ؛ فَإِنَّ اللَّبَنَ يُعْدِي"، وقال صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَفْصَحُ العَرَبِ، بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ، وأَخْوَالِي بَنُو زُهْرَةَ، وَارْتَضَعْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ" قاله الماوردي. وقال الرافعي وغيره: إنه- عليه السلام- قال: "أنا سيد ولد آدم، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد، وارتضعت في بني زهرة"، وهذا القول هو الأصح. وعلى هذا: هل يخير؟ فيه وجهان، وفي "المهذب" قولان، المذهب منهما في

"التهذيب": أنه لا يخير، وعليه: هل يحرم عليه بنات الآخر؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وعلى وجه الجواز: الأولى ألا يفعل. ولو كان معتوهاً لم يلتحق بواحد منهما؛ لأنه لا حكم لكلامه، قاله الجيلي. وإنه لو انتسب كان له أن يرجع بعد ذلك، ويختار الآخر، فلا يزال بينهما على تناوب، وهو ضعيف. قال: والثاني: لا ينتسب، وهو الأصح في "الجيلي"؛ كما لا يعرض على القائف، ويخالف النسب؛ لأنه لا يقع فيه الاشتراك؛ فجاز أن يكون فيه على الطبع الحادث، والرضاع يقع فيه؛ فعدم فيه الطبع الحادث. ولأن امتزاج النسب موجود مع أصل الخلقة، والرضاع حادث بعد استكمال الخلق واستقراره. والقائل الأول فرق بين الانتساب والعرض على القائف بأن القائف تعويله على الأشباه الظاهرة في الخلقة، دون الأخلاق. على أن القاضي ابن كج نقل وجهين عن أبي الحسين وأبي حامد في عرضه على القائف. قال الرافعي: وهو غريب. وروى الخراسانيون في المسألة قولاً ثالثاً: أنه موقوف. قال الجيلي: وأثره عموم التحريم؛ لأن التحريم غالب. قال: وإن أراد أن يتزوج بنت أحدهما- أي: على قولنا: لا ينتسب، أو على قولنا: لا يخير، كما قيده في "المهذب" و"الحلية"، أو قبل الانتساب، كما قاله الفوراني- فقد قيل: لا يحل؛ لأن إحداهما أخته بيقين، فلا يحل له الإقدام على نكاح واحدة منهما، كما لو اختلطت أخته بأجنبية، وهذا هو الأصح عند الشيخ أبي حامد وغيره. قال: وقيل: يحل أن يتزوج بنت من شاء منهما، أي: من غير اجتهاد؛ لأن الأصلا لحل، والحرمة في التي ينكحها غير معلومة.

والفرق بينه وبين الأخت: أن الأصل فيها التحريم؛ فغلب، كما لو اشتبه عليه ماء وبول؛ فإنه يعرض عنهما، وهاهنا الأصل في كل واحدة منهما الإباحة؛ فيجوز؛ كما إذا اختلط ماء طاهر بنجس، وهذا هو ظاهر النص. وذكر الفوراني في "الإبانة": أنه يجتهد في الرجلين أيهما الأب، ثم ينكح بنت من لا يراه أباً. وبنى الوجهين في أصل المسألة على أن من معه إناء طاهر بيقين هل له أن يجتهد في الإناءين؟ وفيه وجهان، والجمهور لم يشترطوا الاجتهاد، كما ذكرناه، والله أعلم. قال: فإذا تزوج بنت أحدهما حرمت عليه بنت الآخر؛ لأنه إذا نكح إحداهما تعينت الأخوة في الأخرى؛ فكان نكاح الواحدة اعترافاً بأخوة الأخرى. وشبه ذلك بما إذا اشتبهت ثلاث أوان: طاهران ونجس، واختلف فيها اجتهاد ثلاثة واستعملوها، واقتدى أحدهما بأحد صاحبيه- لا يجوز له الاقتداء بالثاني؛ لتعينه للنجاسة في زعمه. فعلى هذا: يحرمن على التأبيد، وهذا قول أبي علي بن أبي هريرة، واختاره القاضي أبو الطيب. قال: وقيل: يحل أن يتزوج بنت كل واحد منهما على الانفراط؛ لأن التحريم غير متعين في واحدة منهما. وشبه ذلك بما إذا صلى إلى جهة بالاجتهاد يجوز أن يصلي إلى جهة أخرى باجتهاد آخر، وهذا قول أبي إسحاق. فعلى هذا: يجوز له أن يتزوج بنت أحدهماويطلقها، ثم يتزوج [الأخرى ويطلقها، ثم يتزوج] الأولى. قال: ولا يجمع بينهما؛ إذ به يحصل يقين التحريم. وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه يجوز، ويحكم بارتفاع الأبوة عنهما، وقال: إنه الظاهر من كلام الشافعي، وهو الذي يقتضيه [إطلاق] الشيخ، رحمه الله. قال: وإن كان لرجل خمس أمهات أولاد، فارتضع صبي من كل واحدة منهن رضعة- صار ابناً له في ظاهر المذهب؛ لأنه ارتضع من لبنه خمس رضعات، فأثبت ذلك البنوة كما لو كانت من امرأة واحدة، وبهذا قال أبو إسحاق

وابن القاص، وهو الأصح. وقيل: لا يصير؛ لأن الأبوة تابعة للأمومة؛ لأن انفصال الولد عنها مشاهد محسوس؛ فإذا لم تثبت الأمومة التي هي الأصل لا تثبت الأبوة، وهذا ما ذهب إليه الأنماطي وابن سريج وابن الحداد. وهذا الخلاف يجري فيما لو كان له أربع زوجات ومستولدة، أو ثلاث مستولدات: أرضعته اثنتان رضعتين رضعتين، والأخرى رضعة. ولا خلاف أن الأمومة لا تثبت بهذا. نعم، يحرم عليه المرضعات؛ لأنهن موطوءات أبيه، إن قلنا: إن الأبوة تثبت. وهذا الخلاف فيما إذا وقع الرضاع منهن في أوقات متفرقة، أما لو أرضعنه على التوالي والتواصل، وقلنا بثبوت الحرمة عند التفريق- فهاهنا وجهان، ووجه المنع: أنا نزلنا لبنهن في حقه منزلة لبن المرأة الواحدة، والمرأة الواحدة إنما يثبت رضاعها الحرمة إذا تفرق، فعلى هذا: لو أرضعته كل واحدة منهن أربع رضعات، فهل تصير أماً له؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم؛ لأنه ارتضع منها خمس رضعات متفرقات. والثاني: المنع؛ لأن تلك الرضعة لم تكن تامة. والظاهر في الأصل الأول. ووراء ما ذكره الشيخ صور نذكر منها ما تيسر: إذا كان لشخص خمس بنات أو أخوات، فأرضعن صغيراً- لم تثبت الأمومة ولا الأبوة، وهل تثبت الجدودة والخئولة؟ فيه خلاف مرتب على الصورة الأولى، وأولى بعدم الثبوت، والأصح العدم، والفرق: أن الجدودة والخئولة إنما تثبت بواسطة الأم، فإذا انتفت الواسطة لم يوجد ما يترتب عليها، وهناك اللبن مشترك بين الرجل والمرضعات، ولا استحالة في ثبوت الأبوة دون الأمومة، [ولا العكس]. فإن قلنا بثبوت ذلك حرمت المرضعات لا لكونهن أمهات، بل لكونهن أخوات أو خالات. ولو كان له أم، وبنت، وأخت، وبنت أخ، وبنت أخت، فأرضعن طفلاً- ففي

ثبوت الحرمة بينه وبين الرضيع خلاف مرتب على الصورة قبلها، وأولى بالمنع، والأصح: العدم، وةالفرق: أن الرضاع من جهات مختلفة لا يمكن أن ينسب إليها بواحدة منها، بخلاف الجدة، كذا قاله ابن الصباغ وغيره. وإذا قلنا بالثبوت حرمت المرضعات بالأمومة. فرع: لو كان للمرأة بنت ابن، وبنت ابن ابن، وبنت ابن ابن ابن، فأرضعن خمس رضعات- كان في ثبوت الحرمة بينها وبين الرضيع الخلاف السابق. فإن قلنا بثبوتها، قال في "الرقم": فهل تحرم المرضعات على الرضيع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن العدد لم يتم في إرضاع واحدة منهن. والثاني: أن المرضعات من الجهات المختلفة إذا كانت كل واحدة منهن بحيث لو تم العدد فيها ثبتت الحرمة، فعلى هذا: ينظر: إن كانت الوسطى بنت أخ العليا [والسفلى بنت أخ الوسطى حرمت العليا] عليه؛ لأن إرضاعها لو تم لكان الرضيع ابنها، وإرضاع الوسطى لو تم؛ لكان الرضيع ابن بنت أخ العليا، وإرضاع السفلى لو تم لكان ابن بنت ابن أخ، وهذه الجهات كلها محرمة؛ فيجمع ما فيها من عدد الرضعات. وإن كانت الوسطى بنت ابن عم العليا، والسفلى بنت ابن [ابن] عمها- لم تحرم عليه العليا؛ لأن إرضاع الوسطى لو تم لم تحرم، وكذلك إرضاع السفلى، [و] لا تحرم الوسطى والسفلى بحال؛ لأن إرضاع العليا يجعل الوسطى بنت عم، والسفلى ابنة عمة الأب. نعم، يحرم عليه أن يجمع بينهن في المثال الأول؛ لأن العليا عمة الوسطى، والوسطى عمة السفلى، ولا يجوز الجمع بين المرأة وعمتها. قال: وإن كان له امرأتان صغيرتان، فأرضعت امرأة- أي: ليست بزوج له-

إحداهما بعد الأخرى، أي: الرضعة الخامسة- ففيه قولان: أحدهما: ينفسخ نكاحهما؛ لأنهما صارتا أختين معاً؛ فأشبه ما إذا أرضعتهما الخامسة دفعة واحدة. وأيضاً: فلو أرضعت زوجته الكبيرة زوجته الصغيرة انفسخ نكاحهما؛ لصيرورتهما أماً وبنتاً معاً؛ فكذلك هاهنا، وهذا ما نسبه الماوردي إلى القديم، وهو الصحيح عند أكثر الأصحاب، واختاره المزني. والثاني: أنه ينفسخ نكاح الثانية؛ لأن الجمع حصل بإرضاعها، فاختص الفساد بها؛ كما لو نكح أختاً على أخت يختص الفساد بنكاح الثانية، وهذا ما نسبه الماوردي إلى الجديد، وفي "تعليق" الشيخ أبي حامد ترجيحه. ولا خلاف- على القولين- أن المرضعة حرمت عليه على التأبيد؛ لأنها صارت من أمهات زوجاته. أما إذا كانت المرضعة زوجة، فإن كان اللبن له أو من غيره، وهي مدخول بها- انفسخ نكاح الجميع، وحرمن على التأبيد، سواء كان الرضاع معاً أو متعاقباً. وإن لم يكن اللبن منه، وهي غير مدخول بها: فإن أرضعتهما معاً انفسخ نكاح الجميع، وحرمت الكبيرة على التأبيد دونهما، وإن أرضعتهما على التعاقب فينفسخ نكاح المرضعة، والأولى؛ لاجتماعها مع الأم في النكاح، ولا ينفسخ نكاح الثانية؛ لانفرادها ووقوع إرضاعها بعد اندفاع نكاح أمها وأختها. ولو كانت المسألة بحالها، والصغار ثلاث، فلا يختلف الحال- فيما ذكرناه- إلا في ثلاث صور تفرض فيما إذا وقع الرضاع على التعاقب: فإحداها: أن ترضع اثنتين معاً، وأخرى بعدهما، فينفسخ نكاحهما مع الكبيرة، ويبقى نكاح الثالثة. والثانية: أن ترضع واحدة أولاً، ثم اثنتين معاً- انفسخ نكاح الجميع، أما الأولى؛ فلاجتماعهما مع الأم، وأما الأخريان؛ فلاجتماع الأخوة. والثالثة: أن ترضع واحدة بعد واحدة، فبرضاع الأولى انفسخ نكاحها مع الكبيرة، ولا ينفسخ نكاح الثانية برضاعها، ثم إذا أرضعت الثالثة انفسخ نكاحها؛

لاجتماعها مع الأخت، وهل ينفسخ نكاح الثانية؟ فيه القولان المذكوران في الكتاب. وفي الصور الثلاث: الكبرية حرام على التأبيد. فرعان: أحدهما: لو كان الصغار أربعاً، فأرضعتهن أجنبية، فإن كان ذلك دفعة واحدة انفسخ نكاحهن، وإن كان على الترتيب. فإن فرعنا على القول الأول في الكتاب، لم ينفسخ برضاع الأولى شيء، وينفسخ برضاع الثانية نكاحها مع الأولى، ولا ينفسخ برضاع الثالثة شيء، وينفسخ برضاع الرابعة نكاحها مع الثالثة. وإن قلنا بالقول الثاني فالمرضعة الأولى نكاحها مستمر، وبرضاع الثانية ينفسخ نكاحها خاصة، وكذلك برضاع الثالثة ينفسخ نكاحها، وكذلك برضاع الرابعة ينفسخ نكاحها. الثاني: لو كان له ثلاث زوجات كبار، وصغيرة أرضعتها كل واحدة من الكبار خمس رضعات- فينفسخ نكاحهن جميعاً: أما التي أرضعت أولاً فينفسخ نكاحها مع الصغيرة؛ لاجتماع الأم والبنت في النكاح، وأيضاً: فقد صارت أم الزوجة. وأما الأخيرتان فينفسخ نكاحهما؛ للمعنى الثاني. وتحرم الكبار لذلك على التأبيد، وتحرم الصغيرة- أيضاً- إن كانت الكبار مدخولاً بهن، وإلا فلا. قال: ومن أفسد على الزوج نكاح امرأة بالرضاع، أي: قبل الدخول بغير إذنه، وكان ممن يثبت للزوج عليه دين ابتداء، سواء أثر ذلك تحريماً مؤبداً أو لا – لزمه نصف مهر مثلها على المنصوص. أما نفس الغرم؛ فلأن البضع مضمون بالعقد في الخلع؛ فلذلك يضمن بالإتلاف كالأموال. وأما كونه نصف مهر المثل؛ فلأن الفرقة إذا حصلت قبل الدخول جعل كأن

الزوج لا يملك إلا نصف المعقود عليه؛ ولهذا [إنه] لا يلزمه إلا نصف المسمى، وإذا لم يملك إلا النصف لم يغرم له إلا قيمته وهو نصف مهر المثل، وهذا هو الصحيح. قال: وفيه قول آخر: أنه يلزمه مهر مثلها؛ لأنه أتلف عليه بضعها، ومن أتلف على إنسان شيئاً وجب عليه قيمته، وقيمة البضع مهر المثل. وهذا مخرج من نص الشافعي فيما إذا رجع شهود الطلاق قبل الدخول: أنه يجب عليهم جميع مهر المثل، وبه قال أبو سعيد الإصطخري، وخرج في مسألة الطلاق من هاهنا- أيضاً- وجهاً، وبعضهم يرويه منصوصاً. وهذا القول الثاني في الكتاب صححه أبو علي والإمام وجماعة، وقطع أبو إسحاق بتقرير [النصين]، وفرق بأن الرضاع يوجب الفرقة حقيقة، وحقيقة المفارقة قبل الدخول لا توجب إلا النصف كالمفارقة بالطلاق. وفي الشهادة النكاح باق في الحقيقة بزعم الزوج والشاهدين، إلا أنهما بالشهادة حالا بينه وبين البضع؛ فيغرمان قيمته؛ كالغاصب يحول بين المالك والمغصوب. وحكى الشيخ أبو علي وآخرون على طريقة إثبات الخلاف قولين: أحدهما: أنه يرجع بنصف المسمى؛ لأنه الذي فوت على الزوج، وينسب إلى رواية القفال. فعلى هذا: لو كانت التي انفسخ نكاحها أمة مفوضة فالواجب المتعة؛ لأنها الواجبة على الزوج، كما صرح به ابن الحداد، لكن من غير بناء على هذا الأصل. والثاني: أنه يرجع بتمام المسمى؛ لأنه قد التزمه، والتشطير أمر ثبت على خلاف القياس، فيختص بالزوجين؛ فتحصلنا على أربع مقالات. أما إذا كان ذلك بعد الدخول، كما لو أرضعت أم الكبيرة المدخول بها أو جدتها زوجته الصغيرة، فإنه ينفسخ نكاحهما، وما تغرمه للزوج بسبب انفساخ نكاح الصغيرة قد تقدم.

وهل تغرم بسبب انفساخ نكاح الكبيرة له شيئاً؟ فيه قولان. الذي ذهب إليه أكثر الأصحاب منهما: أنها تغرم له تمام مهر المثل؛ كشهود الطلاق. والثاني- وينسب إلى رواية المزني- في "المنثور"، وبه قال ابن الحداد-: أنها لا تغرم شيئاً لأجل ذلك؛ لأنه استوفى منفعة البضع، فلم يجب له شيء؛ كما لو ارتدت. ولأنه لو أخذ المهر لصارت في معنى الموهوبة. ولو كانت الزوجة الكبيرة هي المرضعة فلا يرجع الزوج عليها بسبب انفساخ نكاحها بشيء. وفي "الإبانة": أنه يسقط مهرها المسمى، ويجب لها مهر المثل. ثم اعلم أنه لا فرق- فيما ذكرناه-: بين أن تقصد بالإرضاع فسخ النكاح أو لا. [ولا] بين أن يجب عليها- بألا يكون [ثم غيرها]- أو لا يجب. وعن الشيخ ابي حامد احتمال في أنه لا غرم عليها إذا أرضعته وجوباً، وقد حكاه العمراني في "الزوائد" في النكاح، عند الكلام في مسائل شتى وجهاً عن بعض الأصحاب، والماوردي هاهنا، ثم قال: وهذا لا وجه له في سقوط الغرم، وإنما هو وجه في سقوط المأثم، كمن خاف تلف نفسه؛ فأحياها بمال غيره- ضمن، ولا يأثم. ولا بين ألا يكون من المرتضع فعل أو وجد منه الفعل مع تمكينها، قال في "البسيط": لأن الإرضاع منها بحكم الطبع فلا وقع له، ولم ينزل هذا منزلة انفلات الطائر عند فتح باب القفص، والفرق غامض. وقال في "الحاوي": فيه وجهان محتملان: أحدهما: يغلب فيه فعل الكبيرة. والوجه الثاني: أنه يحال التحريم عليها، فيسقط من نصف المهر ما يقابل

فعلها وهو نصف النصف، ويبقى نصفه وهو الربع. ولا بين أن تكون مخوفة على ذلك أو غير مخوفة، وفيه وجه: أن الغرم يجب على المخوف. ولا بين أن يكون ذلك من امرأة أو رجل، وصورته: أن تحلب المرأة التي يفسد رضاعها النكاح خمس دفعات في خمس أوان، فيوجره الرجل ذلك في خمس دفعات. ولا فرق بين أن يكون ذلك من شخص واحد- كما صورناه- أو من أشخاص. نعم، لو سقى كل شخص الرضيع دفعة من إناء، وجب عليه خمس الغرم. ولو تفاوتوا في السقي فهل يجب الغرم عليهم بالسوية، أو بالتوزيع على السقيات؟ فيه وجهان، أصحهما: الثاني. ولو أرضع الصغيرة أماً ولديه، وثلاث زوجات له، وقلنا: بأن ذلك يحرمها عليه انفسخ نكاحها دون نكاح الزوجات. قال الشيخ أبو علي: وأما غرامة مهر الصغيرة: فإن أرضعن على الترتيب فالانفساخ يتعلق بإرضاع الأخيرة. فإن كانت الأخيرة إحدى المستولدتين فلا شيء عليها؛ لأن الإنسان لا يثبت له على مملوكه شيء، وإن كانت إحدى النسوة فعليها الغرم. وإن أرضعن معاً، بأن جعلت كل واحدة لبنها في مسعط، وأوجرنه معاً، فلا شيء على المستولدتين، وعلى النسوة ثلاثة أخماس الغرم. ولو أرضع الصغيرة أم الزوج، وبنته، وأخته، وبنت أخيه، وبنت أخته، وقلنا بتحريم الصغيرة، فإن أرضعنها على التعاقب فالغرم على الأخيرة. وقد حكى الماوردي وجهاً في نظير المسألة، وهو إذا كان له زوجتان صغيرتان، فأرضعت أجنبية إحداهما، ثم أرضعت [أم] الأجنبية الأخرى- بطل نكاح الثانية، وفيمن يرجع عليه بالغرم وجهان:

أحدهما: على المرضعة الثانية؛ لأن برضاعها انفسخ النكاح. والثاني: يرجع على المرضعتين؛ فيتجه جريانه هاهنا. وإن وقع ذلك معاً فعليهن بالسوية. فروع: لو دبت الصغيرة بنفسها، فارتضعت من زوجته الكبيرة وهي نائمة- انفسخ نكاحها، وسقط جميع مهر الصغيرة على الأصح، ولا يجب على الكبيرة بسبب فساد نكاح الصغيرة شيء، على الأصح. وقال الداركي: إنه يجب عليها الغرم؛ لتقصيرها. وإذا قلنا بالأصح وجب في مال الصغيرة- بسبب فساد نكاح الكبيرة- الغرم. ولو وقعت قطرة من لبن المرضعة أربع مرات في فم الرضيع بطيران الهواء، لم يجب عليها الغرم. قال الرافعي: ويجيء في وجوب الغرم عليها الوجه المنقول عن الداركي. ولو ارتضعت الصغيرة من أم الزوج مثلاً رضعتين وهي نائمة، ثم أرضعتها الأم ثلاثاً- فعلى الوجهين السابقين في أن الغرم يوزع على عدد المرضعات، أو على عدد الرضعات: إن قلنا بالأول فيسقط من نصف المسمى نصفه، ويجب على الزوج نصفه. وإن قلنا بالثاني فيسقط من نصف المسمى خمساه، ويجب على الزوج ثلاثة أخماسه. ولو أرضعتها الأم أربع رضعات، ثم ارتضعت الصغيرة منها الخامسة وهي نائمة- فقد قال في "التتمة": في نظيره لأصحابنا اختلاف، وهو أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثاً على التلاحق، يتعلق التحريم بالطلقة الثالثة وحدها [أو بالطلقات الثلاث؟ إن قلنا: يتعلق بالثالثة وحدها] فكذلك هاهنا: يحال التحريم على الرضعة الأخيرة، ويكون الحكم كما إذا ارتضعت وصاحبة اللبن نائمة، ويسقط مهر الصغيرة.

وإن علقنا التحريم بالطلقات الثلاث فهاهنا يتلعق التحريم بالرضعات، فيسقط من نصف المسمى خمسه، ويجب على الزوج أربعة أخماسه، ويجب على المرأة أربعة أخماس مهر المثل؛ تفريعاً على أن الواجب مهر المثل، وادعى أنه أظهر. وقد أبدى الماوردي ما قاله المتولي وجهين محتملين، لكن غير مبنيين على ما ذكره المتولي. تنبيه: الغرم الواجب يكون للزوج إن كان حراً، وإن كان عبداً فلسيده. وقوله: بالرضاع، يحترز به عما إذا أفسده عليه بوطئه كالأب والابن إذا وطئ زوجته بشبهة؛ فإنه لا يجب عليه الغرم على رأي قدمته، مع ما قيل فيه في باب: ما يحرم من النكاح. وقال الجيلي: إنه احترز به عما إذا أفسده بالقتل، وقد حكينا فيه خلافاً عن بعض المصنفين هذا آخر كلامه، والله عز وجل أعلم.

كتاب النفقات

كتاب النفقات النفقة: من "الإنفاق"، وهو الإخراج. ولوجوبها ثلاثة أسباب: ملك النكاح، وملك اليمين، وقرابة التعصيب. والأول والثاني يوجبان النفقة للمملوك على المالك، دون العكس؛ لاشتغال المملوك، وكونه محبوساً برقه؛ ليتفرغ لمالكه. والثالث يوجب النفقة لكل واحد من الفريقين على الآخر؛ لشمول معنى التعصيب والشفقة.

باب نفقة الزوجات

باب نفقة الزوجات بدأ الشيخ- رحمه الله- بنفقة الزوجات؛ تبعاً للشافعي- رضي الله عنه- لأنها تجب بطريق المعاوضة في مقابلة التمكين من الاستمتاع، ولا تسقط بمضي الزمان؛ فهي أقوى من غيرها؛ فلهذا بدأ بها. قال: يجب على الزوج نفقة؛ زوجته للكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]. والدليل فيها من وجهين: الأول: قوله: {قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} والقيم على غيره هو المتكفل بأمره. والثاني: قوله: {وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}. وقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] فنص على وجوبها بالولادة في الحال التي تتشاغل بولدها عن استمتاع الزوج؛ ليكون أدل على وجوبها عليه في حال استمتاعه بها. وقوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] فدل على وجوب النفقة؛ لأنها من جملة الفروض. ومن السنة: ما روى الشافعي- رضي الله عنه- بإسناده عن أبي هريرة: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، معي دينار؟ قال: "أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ". قال: معي آخر؟ قال: "أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ". قال: معي آخر؟ قال: "أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ". قال: معي آخر؟ قال: "أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ". قال: معي آخر؟ قال: "أَنْتَ أَعْلمُ".

وروى البخاري عن أبي هريرة أنه- عليه السلام- قال: "وَابْدَا بِمَنْ تَعُولُ؛ تَقُولُ المَرْأَةُ: إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي، وَيَقُولُ المَمْلُوكُ: أَطْعِمْني وَاسْتَعْمِلنِي، وَيَقُولُ الابْنُ: أَطْعِمْنِي، إِلَي مَنْ تَدَعُنِي؟ " قَال: يَا أَبَا هُرَيرَةَ، هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعْتُ؟ قَالَ: مَا هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيرَةَ. وأجمعت الأمة على وجوب نفقة الزوجات على الجملة. قال: فإن كان موسراً لزمه مدان من الحب المقتات في البلد، أي: غالباً، وإن كان معسراً لزمه مد، وإن كان متوسطاً لزمه مد ونصف. أما اعتبار التفاوت بين الموسر وغيره فالدليل عليه قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي: ضيق {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]. وأما اعتبار المدين في حق الموسر، والمد في حق المعسر- فقد تمسك الأصحاب فيه بأن الشرع قدر النفقة بالاجتهاد، ولا يجوز اعتبارها بقدر الحاجة؛ لأنه لو كان كذلك لسقطت نفقة المريضة ومن هي مستغنية بالشبع في بعض الأيام، وإذا بطل هذا المأخذ، وجب أن تلحق بما هو شبيه بها، وأشبه شيء بها الكفارات؛ لأن كل واحدة منهما طعام واجب بالشرع؛ لسد الجوعة؛ فيستقر في الذمة. وأيضاً: فقد اعتبر الله- تعالى- جنس الإطعام في الكفارة بنفقة الأهل بقوله- تعالى-: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]؛ وذلك يدل على المشابهة والمقاربة، وأكثر ما أوجبه الشرع في الكفارة مدان للمسكين الواحد في كفارة الأذى، وأقل ما أوجبه للواحد فيها مد في كفارة اليمين والظهار والوقاع؛ فوجب أن يكون هاهنا كذلك. وأما اعتبار المد والنصف في حق المتوسط؛ فلأنا لو أوجبنا عليه المدين، لأضررنا به، ولو أوجبنا لها المد لأضررنا بها، وهو متردد بينهما؛ فوجب عليه من نفقة كل واحد منهما نصفها؛ دفعاً للضرر. وأما اعتبار الحب المقتات في البلد؛ فلأن الله- تعالى- أوجب النفقة

بالمعروف، ومن المعروف أن يطعمها ما يطعم أهل البلد. وأما اعتبار الحب، دون الدقيق والخبز؛ فبالقياس على الكفارات. ولا فرق في ذلك بين القمح والأرز والشعير والتمر والأقط في حق أهل البوادي الذين يقتاتونه. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن بعض أصحابنا قال: إن كان الأغلب في بعض البلاد أنهم لا يطحنون الأطعمة بأيديهم، لم يفرض لها إلا الدقيق، وإن كانت العادة أن المرأة تطحنه برحى يد فلا بأس أن يفرض لها الحنطة. وعلى المذهب: هل يجب عليه أجرة طحن الحب وخبزه؟ ينظر: إن لم تكن ممن جرت عادتها بتعاطي ذلك بنفسها وجبت، وإن كانت ممن جرت عادتها بذلك- كأهل البوادي- كان عليها دون الزوج، صرح به الماوردي. وفيه وجه: أنها تجب مطلقاً. ووجه: أنها لا تجب مطلقاً. ولو نذرت الطعام أو باعته، فهل يسقط حقها من مؤنة إصلاحه؟ فيه تردد للإمام. هذا هو المشهور من المذهب، ووراء ما ذكرناه في قدر الطعام قولان آخران: أحدهما- عن رواية الشيخ ابي حامد: أنه يعتبر بقدر الكفاية كنفقة القريب، وقد يحتج له بقوله- عليه السلام- لهند، وقد قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح، ما يعطيني من النفقة ما يكفين ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك" كما رواه مسلم، فسوى بينها وبين الولد، وفي هذا الحديث فوائد نذكرها من بعد، إن شاء الله تعالى. وبأن النفقة تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع، والتمين يعتبر بكفاية الزوج؛ فوجب أن يكون ما يقابله من النفقة مقدراً بكفاية المرأة كالمقاتلة، لما لزمهم كفاية المسلمين في جهاد عدوهم استحقوا على المسلمين في بيت مالهم قدر كفايتهم.

والثاني- عن رواية صاحب "التقريب"-: أن الاعتماد فيه على فرض القاضي، وعليه أن يجتهد في ذلك. وروي عن ابن خيران وغيره: أن النفقة لا تتقدر بالمقادير المذكورة، ولكن يتبع فيه عرف الناس في البلد. وزفي صفة الطعام- تخريجاً عن ابن سريج- وجه: أنه لا ينظر إلى الغالب، وإنما يعتبر ما يليق بحال الزوج إلحاقاً للجنس بالقدر، وهذا ما أبداه الإمام تردداً فيما إذا كان الغالب قوتاً، ولكن الفقراء يعتادون اقتيات غيره. وعلى المذهب: لو لم يكن في البلد قوت غالب، ففي "الرافعي": أن الواجب ما يليق بحال الزوج إن كان يأكل ما يليق به؛ فإن كان قوته أقل من الحال اللائق به كالمتزهدين فإنا نعتبر الائق به، قاله مجلي. وفي "الحاوي": أنه إذا اختلف قوت بلدهما، وجب لها الغالب من قوت مثلها، فإن كان مختلفاً كان الزوج مخيراً دونها. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون للمرأة منصب أو لا، ولا بين المسلمة

والذمية، والحرة والرقيقة: [والصحيحة والمريضة والصغيرة والكبيرة]؛ بل إنما يختلف باليسار وغيره- كما ذكرناه- وقد اختلفت عبارات الأصحاب في ضبط ذلك: فالذي ذكره الماوردي: أن الموسر من يقدر على نفقة الموسرين في حقنفسه وحق كل من يلزمه نفقته من كسبه، لا من أصل ماله. والمعسر من لا يقدر على أن ينفق من كسبه على نفسه وعلى من تلزمه [نفقته، إلا] نفقة المعسرين، وإن زاد عليها كانت من أصل ماله، لا من كسبه. والمتوسط هو: أن يقدر على أن ينفق من كسبه على نفسه، وعلى من تلزمه [نفقته] نفقة المتوسطين، فإن زاد عليها كان من أصل ماله، وإن نقص عنها فضل عن كسبه. والذي ذكره القاضي الحسين: أن الموسر من يزيد دخله على خرجه، والمعسر من يزيد خرجه على دخله، والمتوسط من يستوي دخله مع خرجه. وقد أورده صاحب "التهذيب" مع وجه آخر: أنه يرجع في ذلك إلى العادة، والعادة تختلف باختلاف البلاد، وهذا ما حكاه المتولي. قال الرافعي: وأحسن قيل فيه ما أورده الإمام والغزالي: أن من لا يملك شيئاً أصلاً، أو يملك من المال ما [لا] يخرجه عن استحقاق سهم المساكين فهو معسر، فإن ملك ما يخرجه عن استحقاق سهم المساكين: فإن كان لا يتأثر بتكليف المدين فهو موسر، وإن كان يتأثر بأن يرجع إلى صفة المسكنة لو كلف مدين فهو متوسط، أي: ولم يتأثر بالمد والنصف، كما صرح به الإمام، ولا بد مع ذلك من النظر إلى الرخص والغلاء. والقدرة على الكسب الواسع لا تخرجه عن حد الإعسار في النفقة، كذا حكاه الغزالي. وفي "المهذب": أن القدرة بالكسب كالقدرة بالمال. قال مجلي: ومضمونه: أنه إذا كان يقدر على التكسب، كلفه؛ كما لو كان يقدر بالمال.

وأراد مجلي بذلك: نفقة المتوسط [أو الموسر] عن كان كسبه يفي بها، وسنذكر في الباب الثاني خلافاً في وجوب الاكتساب لأجل النفقة. فإن كان الزوج عبداً فليس عليه إلا نفقة المعسرين، وكذا المكاتب، وكذا من بعضه حر وبعضه رقيق، على أصح الوجهين في "البندنيجي" وغيره. وفي الثاني: يوزع على الحصتين إن كان موسراً بنصفه [الحر، أو متوسطاً. والنظر في اعتبار اليسار وما عداه إلى وقت طلوع الفجر، وهو الوقت] الذي يجب فيه تسليم النفقة، ولا نظر إلى ما يطرأ بعده من يسار أو إعسار؛ صرح به في "التهذيب". ويجيء- على ما سنذكره عن "المهذب"-: أن يعتبر ذلك وقت طلوع الشمس. فرع: لو اختلفا في يساره وإعساره، فإن لم يعرف له مال فالقول قوله، وإن عرف له مال أيسر به، فالقول قولها. وهذا يظهر على قول من اعتبر وجود المال في اليسار، وأما على طريقة القاضي والماوردي فالذي يظهر أنه لا أثر لوجود المال أو عدمه. تنبيه المد يجمع على: أمداد، ومداد، بكسر الميم.

قال: فإن رضيت بأخذ العوض، [أي]: من ذهب أو فضة- جاز على ظاهر المذهب؛ لأنه طعام مستقر في الذمة لمعين؛ فجاز أخذ العوض عنه، كالقرض. وقيل: لا يجوز، وهو الأصح في "تعليق" القاضي الحسين؛ لأنه طعام واجب في الذمة بالشرع، فلم يجز أخذ العوض عنه كطعام الكفارة. ولأنه طعام يثبت في الذمة ببدل؛ فلا يجوز العدول إلى بدله قبل القبض كالسلم. وفيما ذكرناه من علة ظاهر المذهب- وهو قول أبي إسحاق- ما ينفي ذلك. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجه ثالث فارق بين النفقة المستقرة الثابتة في الذمة؛ فيجوز الاعتياض عنها، وبين النفقة المستقبلة؛ فلا يجوز. وكأنه يشير- والله أعلم- إلى نفقة اليوم قبل مضيه؛ فإنها متعرضة للسقوط بالنشوز. وحكم أخذ الخبز والدقيق عند بعضهم حكم أخذ الذهب والنقرة؛ فيخرج على الخلاف، وهو ما حكاه ابن يونس والفوراني. وفي "الشامل": أن الذي يجري على قول أصحابنا: أنه لا يجوز؛ لما فيه من الربا. وفي "الرافعي": أن القاضي الروياني وغيره تابع العراقيين عليه، يعني: على عدم الجواز. وفي "التهذيب": الجزم بأنها إذا رضيت بأخذ الدقيق والسوييق والخبز جاز. ولعل وجهه ما ذكره مجلي: أنها بذلك قابضة لحقها، وليس من باب المعاوضات، وإنما أسقطت مؤنة الإصلاح. وعلى هذا التعليل ينبغي أن تكون من جنس حقها. وفي "الذخائر" حكاية الخلاف، لكنه مرتب على الخلاف في الفضة، وأولى بالمنع.

وعلى كل حال: فلا يجوز الاعتياض عن النفقة المستقبلة، ولا بيعها من الغير بحال. ولو كانت تأكل مع الزوج على العادة، ففي سقوط نفقتها بذلك خلاف مبني على جواز بيع المعاطاة. قال الغزالي: والأحسن السقوط، والقياس عدم الإجزاء، وهو الذي اختاره الروياني والمحكي في "تعليق" البندنيجي. قال البندنيجي: وهذا إذا لم ترض بذلك عوضاً، فإن رضيت به عوضاً سقطت وجهاً واحداً. وفي "تعليق" البندنيجي: أنها ترجع عليه بالنفقة، ويرجع عليها ببدل ما أنفق. قال: ويجب لها من الأدم ما تحتاج إليه من أدم البلد، أي: من زيت، أو سمن، أو شيرج، أو جبن، أو خل، أو لبن. أما أصل وجوب الأدم؛ فلأن الله – تعالى- قال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وليس من المعروف أن يدفع إليها القوت بلا أدم؛ فإن الطعام لا ينساغ أكله في الغالب إلا به. وأما كونه يرجع فيه إلى أدم البلد؛ فلأن الشرع لم يضبطه بشيء، ولا له نظير في الشرع يقاس عليه؛ فتعين حمله على العرف كالحرز والإحياء، والعرف يختلف. وقد قال الأئمة: [إن كان بالعراق فالأدم فيه الشيرج والزيت، و] إن كان بخراسان أو بالحجاز فالأدم فيه السمن، وإنكان بالشام – قال القاضي الحسين: أو مصر- فالأدم فيه الزيت. وإنما خص بذلك؛ لأنه أصلح للبدن، وأخف مؤنة؛ فإنه لا يحتاج في التأدم به إلى طبخ ولا كلفة، هذا كلام ابن الصباغ، وظاهره يقتضي حصر الأدم في الأدهان. قال مجلي: وكذلك كلام الشيخ أبي حامد؛ فإنه ذكر هذه العلة، وزاد فيها: أنه

قل طعام يطبخ إلا وفيه الدهن؛ فلهذا خص الدهن من سائر الآدام بالإيجاب، ثم قال: وهذا الذي قالاه ظاهر قول الشافعي في "الأم" رأيته. وقال بعض أصحابنا: لا يختص بجنس الدهن. انتهى. وهو ما حكاه الرافعي، وإليه أشار الماوردي، كما ذكرناه أولاً. ثم ذلك يختلف- أيضاً- باختلاف الفصول، فقد تغلب الفاكهة في أوقاتها؛ فتجب. قال القاضي الحسين: الرطب في وقته [واليابس في وقته]. قال الرافعي: والوجه المذكور في جنس القوت- أنه ينظر إلى عادة الزوج دون الغالب- يعود في الأدم أيضاً. وأما قدر ما يؤتدم به فالمرجع فيه اجتهاد القاضي وفرضه، فإذا قيل: إنه يكفي في إدام كل مد من الطعام أوقية من الدهن مثلاً- أوجبنا لامرأة الموسر أوقيتين، ولامرأة المعسر أوقية، ولامرأة المتوسط أوقية ونصف. وما نقل عن الشافعي من أنه قال: "مكيلة زيت أو سمن"، فقد قال الأئمة: إنه تقريب، لا تقدير. وفي "الجيلي": أن بعض أصحابنا قال: المراد بمكيلة الزيت والسمن: أربعون درهماً. قال: ومن اللحم على حسب عادة [أهل] البلد، أي: فإن كان أهل البلد يأكلون اللحم في كل أسبوع مرة وجب [لها] كذلك، والأولى أن يكون في يوم الجمعة، وإن كانوا يأكلونه في كل أسبوع مرتين وجب كذلك، والأولى أن يكون في يوم الجمعة، وفي يوم الثلاثاء أخرى. وإن كانوا يتأدمون باللحم كان تأدمها اللحم. قال الماوردي: وكذلك إن كانت عادتهم أن يتأدموا بالسمك كان أدمها السمك. والمرجع في قدر ذلك إلى العرف- أيضاً- حتى لو كان الواحد منهم يتأدم بأكثر من رطل من لحم فقدره معتبر بعرفهم، صرح به الماوردي.

وما قاله الشافعي من أنه يطعمها في كل أسبوع رطل لحم، فهو محمول عند الأكثرين على عادة أهل مصر؛ لعزة اللحم عندهم يومئذ. وفي "الرافعي": أن الرطل محمول على المعسر، وعلى الموسر رطلان، وعلى المتوسط رطل ونصف. وفي "التهذيب": أنه يجب في وقت [الرخص] على الموسر في كل يوم رطل، وعلى المتوسط في كل يومين أو ثلاثة، وعلى المعسر في كل أسبوع. وفي وقت الغلاء يجب في أيام مرة، على ما يراه الحاكم. وقال قائلون: وحكاه الشيخ أبو محمد عن القفال-: إنه لا يزيد على [ما] ذكره الشافعي في جميع البلاد، ويجب عليه مع اللحم الملح والحطب وأجرة الطبخ إن لم تجر عادتها بالطبخ. فرع: هل يجب لها في اليوم الذي يعطيها فيه اللحم أدم؟ أبدى الرافعي فيه تردداً لنفسه. فرع آخر: إذا تبرمت بالجنس الواحد من الأدم، لا يلزم [الزوج] إبداله على الأظهر. وعلى هذا لو أبدلته بجنس آخر فلا اعتراض له. وكذا لو صرفت ما أخذته من الطعام في الأدم، وبالعكس. ومن الأصحاب من جوز له المنع من إبدال الأشرف بالأخس، وله على هذا منعها من بدل أكل الأدم من طريق الأولى. وفي "تعليق" البندنيجي: أنها لو أرادت أن تصرف ما أخذته فيما يهزل بدنها، ويذهب حسنها- كان له منعها على أحد الوجهين. قال: ويجب لها ما تحتاج إليه من الدهن للرأس والسدر، أي: أو ما في معناه من الخطمي والطين والمشط؛ لأنها تحتاج إلى ذلك لإصلاح شعرها؛ فوجب عليه كنفقة بدنها. ويلتحق بما ذكرناه الأشنان والصابون والقلي للثياب؛ صرح به في "التهذيب".

والمراد بالمشط- على ما حكاه الماوردي- آلة المشط من الأفاويه والغسلة؛ إذا كان ذلك من عرف بلادهم. والذي يظهر أن مراد الشيخ به: الآلة المعروفة، وفيه لغات: مشط، ومشط-[بضم الميم وإسكان الشين وضمها] – ومشط بكسر الميم، وممشط، ويقال له: مشقأ ومشقا، مهموز وغير مهموز، ومشقاء، ممدود. ثم المرجع في جنس الدهن وغيره إلى العرف، حتى لو كانت ممن لا يعتادون الادهان إلا بما طيب بالورد والياسمين وجب. و [المرجع] في قدره إلى كفاية مثلها ووقته في كل أسبوع مرة. قاله الماوردي. وفي "ابن يونس" أنه قيل: إن ذلك [لا] يجب- وأبداه الإمام وغيره احتمالاً في الدهن- فيما إذا قال الزوج: هذا للتجمل والتزين، وأنا لا أريده. ويجب لى الزوج أجرة الحمام إن كانت عادتها بدخوله. قال الماوردي: وذلك في كل شهر مرة. وأشار بعض أصحاب الإمام إلى خلاف في وجوب الحمام، وبالمنع أجاب البندنيجي، وألحقه بالطيب. وكذلك أطلق القاضي الحسين جوابه بالمنع. والذي أورده الغزالي: أنها لا تجب إلا إذا اشتد البرد. ويجب عليه ثمن ماء الاغتسال، إن كان سببه جماعاً أو نفاساً، على أصح الوجهين؛ لأن الحاجة إليه جاءت من قبله، بخلاف ما إذا كان سببه جنابة؛ فإنه لا يجب إذ لا صنع منه؛ وكذا لو كان حيضاً على أصح الوجهين. قال الرافعي: وينظر على هذا القياس في ماء الوضوء إلى أن السبب من جهته كاللمس، أو لا من جهته؟ واعلم أن تقييد الشيخ الدهن للرأس يفهم أنه لا يجب عليه الدهن للجسد؛ لأجل

أنه لا يراد للزينة، بخلاف الرأس؛ فإنه من الزينة التي تدعو إلى الاستمتاع بها. وفي "الحاوي": إلحاق الدهن للجسد بالدهن للرأس في الوجوب. قال: ولا يجب عليه ثمن الطيب، أي: الذي يقصد للزينة؛ لأن ذلك يراد للتلذذ والاستمتاع، وذلك حق له. نعم: يجب عليها استعماله إذا أحضره لها، وكذا الخضاب في اليدين والرجلين. وكذا الكحل لا يجب على الزوج، صرح به الرافعي، وقرنه بالخضاب. وفي "الحاوي": أن الكحل الذي يراد للزينة كالإثمد يجب على الزوج الإتيان به. أما الطيب الذي يقصد لقطع [الزهوكة]- إذا لم تنقطع بالماء والتراب- فيجب؛ لأنه من جملة آلة التنظيف؛ فأشبه المشط. وكذا يجب المرتك وما في معناه؛ لقطع الصنان إذا لم ينقطع بالماء والتراب، وحكى فيه بعض أصحاب الإمام وجهاً. فرع: يجب على الزوج أن يحضر لها ما تنتفع به من آلة الطبخ والشرب والاستعمال كالإبريق والمدية، ولا يتعين في ذلك نوع، بل يجري فيه الخزف والخشب والحجر. وأبدى الرافعي احتمالاً فيما إذا كانت شريفة: أن يجب له الظروف النحاسية، وهو مستمد من قول الغزالي: "وأما النحاس فطلبه ترفه، وقد يليق بالشريفة؛ فهو كالزيادة على لبس الكرباس". قال: ولا أجرة الطبيب- أي: والفاصد- ولا شراء الأدوية؛ لأنا لزوج بمنزلة [المستأجر، والزوجة بمنزلة] الدار المستأجرة والدواء وما في معناه لحفظ البدن؛ فلا يجب على الزوج كما لا يجب على المستأجر عمارة الدار، بخلاف الدهن وما في معناه؛ فإن ذلك في معنى غسل الدار وكنسها، وذلك على المكتري؛ فلا جرم وجب على الزوج.

[وفي "التتمة" في قسم الصدقات، عند الكلام في أنه هل يجوز أن يصرف لزوجة الغير من سهم الفقير شيء أم لا؟ إشارة إلى وجه في أن مداواتها تجب على الزوج]، ولعله [مفرع] على القول بأن نفقتها مقدرة بالكفاية؛ فإنها حينئذ تكون كالقريب، والله أعلم. قال: ويجب من الكسوة ما جرت العادة به. أما وجوب أصل الكسوة؛ فلقوله تعالى: {وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، ولما روى الترمذي عن أبي هريرة في حديث مطول: "أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ، أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ"، وقال: إنه حديث حسن صحيح. ولأن الكسوة كالقوت في كون البدن لا يقوم إلا بها. وأما كون الواجب ما جرت العادة به؛ فلقوله تعالى: {وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] رد ذلك إلى العرف، ولأن الإجماع على أنه لا يكفي ما ينطلق عليه الاسم، كما حكاه الرافعي؛ فامتنع إلحاقها بالكسوة في الكفارة؛ فتعين العرف. قال: فيجب لامرأة الموسر من مرتفع، أي: بكسر الفاء- ما يلبس نساء [أهل] البلد، أي: من قطن، أو غزل، أو خز، أو حرير؛ لأن الشرع أوجب التفاوت بين الموسر والمقتر، والكسوة مقدرة بالكفاية في حق امرأة الموسر والمقتر؛ فلم يمكن الزيادة عليها؛ فيرجع بالتفضيل إلى انوعها؛ إذ العرف يقتضيه، بخلاف النفقة؛ فإنها لما لم يكن القصد منها الكفاية جاز اعتبار التفاوت بين الموسر والمقتر بالزيادة. وفيما عدا القطن وجه: أنه لا يجب، وهو محكي عن الشيخ أبي محمد؛ متمسكاً بظاهر ما روي عن الشافعي: أن الموسر يعطي من لين البصرة أو الكوفة أو واسط، والمعسر من غليظها، والمتوسط ما بينهما. وأراد: المتخذ من القطن؛ لأن هذا لباس أهل الدين، وما زاد عليه رعونة.

والجمهور حملوه على أن ذلك كان عادة ذلك الوقت. نعم، لو كانت العادة لبس الثياب الرقيقة- كالقصب الذي لا يصلح ساتراً- فلا يعطيها منه؛ لأنه لا يعطيها إلا ثوباً واحداً؛ فلا تصح الصلاة فيه، ولكن يعطيها من الصفيق الذي يقرب منه في الجودة، كالدبيقي والكتان المرتفع. قال: ولامرأة المعسر دون ذلك، أي: من غليظ القطن والكتان، ويجب لامرأة المتوسط ما بينهما، كما قلنا في النفقة، وفيهما الوجه الجاري على ظاهر النص، هذا هو المشهور. قال الرافعي: وفي كلام أبي الفرج وإبراهيم المرورذي: أنه ينظر في الكسوة إلى حال الزوجين جميعاً، فيجب عليه ما يلبس مثله مثلها في العادة. وفي "الذخائر": أن بعض أصحابنا قال: يعتبر حال الموجة، وأن يكون بحيث إذا فرض لها ذلك، لا يجاوز حد مثلها، [وإلا اقتصر] بها على ما يجب لمثلها. ثم قال: وينبغي أن يفصل؛ فيقال: إن قلنا: إن الكسوة تمليك، فيعتبر العرف في جنس الواجب كالنفقة. وإن قلنا: إنها إمتاع، فوجهان: أحدهما: يعتبر بالزوجة. والثاني: يعتبر بالزوج – كالوجهين في المسكن. قال: وأقل ما يجب، أي: لامرأة الموسر وغيرها- قميص وسراويل ومقنعة ومداس للرجل، وإن كان في الشتاء- ضم إليه جبة- أي: محشوة بالقطن- وهذا أكثر الواجب؛ لأجل حصول الكفاية به، وذلك يختلف بطولها وقصرها، وهزالها وسمنها. ويجب أن يكسوها في السنة مرتين: كسوة في الشتاء، وكسوة في الصيف إذا بليت عند انتهاء أمدها، وهو ستة أشهر الفصل، فإن بقيت بعده أو بليت قبله، فسيأتي الكلام فيه، إن شاء الله تعالى. فإن قيل: لم اعتبرتم في الكسوة الكفاية، ولم تعتبروها في القوت؟

قيل: لأن الكفاية في الكسوة متحققة بالمشاهدة؛ فاعتبرناها لضبطها، وكفاية القوت غير متحققة ولا مشاهدة؛ فلم نعتبرها للجهل بها، مع كونها وجدت بطريق المعاوضة المقتضية الصون عن الغرر بقدر الإمكان. ويقوم مقام المداس المكعب والنعل، ومقام السراويل الإزار، ومقام الجبة الفرو إن كانت عادتهن بلبس ذلك. وعن "المنهاج" للجويني: أن السراويل لا تلزم في الصيف، وإنما تلزم في الشتاء مع البرد. وفي "الحاوي" خلافه، وإن كانت عادتهن ترك لباسه، بخلاف ما إذا كانت عادتهن ترك [لباس] شيء في أرجلهن كأهل القرى في البيوت؛ لأن في ترك السراويل هتك عورة، ويؤخذ بها في حق الله- تعالى- جميع النساء. وقال أبو الفجر السرخسي: إذا لم تستغن بالثياب في البلاد الباردة عن الوقود؛ فيجب من الحطب والفحم بقدر الحاجة. ولا فرق في وجوب ما ذكرناه على المذهب بين الحضرية والبدوية، كما صرح به البندنيجي. وفي "الحاوي": أن الاعتبار في الكسوة والطعام بموضع مقامها حتى لو كانت الزوجة بدوية، وهو حضري، وأقام بها في البادية- وجب عرفهم، وإن أقام في الحاضرة فعرف الحاضرة. وكذلك لو كان بدوياً، وهي حضرية: فإن أقام بالبادية اعتبر عرف البادية، وإن أقام في الحضر اعبتر عرف الحاضرة، وإيراد القاضي الحسين قريب من ذلك. تنبيه: المقنعة والمقنع- بكسر الميم- من "التقنيع". قال الجوهري: والقناع أوسع من المقنعة. المداس: بفتح الميم، وحكى كسرها. قال: ويجب لامرأة الموسر ملحقة، أي: إن كان صيفاً، وكساء تتغطى به- أي:

إن كان شتاء- ووسادة ومضربة محشوة بقطن لليل، وزلية أو لبد تجلس عليه بالنهار، أي: إذا كان شتاءً، ونطعاً إن صيفاً، وكانت عادتهم ذلك؛ لما ذكرناه. وإيراد الغزالي ربما يفهم أنه يجب زلية غير اللبد تحت المضربة. قال الرافعي: والمفهوم من كلام الجمهور: أن المفروش على الأرض من الزلية أو اللبد أو الحصير واحد ليلاً ونهاراً. وفي المضربة وجه: أنها لا تجب، بل تنام على ما تفرشه نهاراً، حكاه العراقيون. وفي "النهاية" حكاية عنهم: أن المضربة تجب في الليل، وهل تجب لها زلية تفرشها بالنهار؟ فعلى قولين. أما لو كانت ممن عادتهن الغطاء باللحاف في الشتاء، وجب. ولو كانوا لا يعتادون في الصيف لنومهم غطاء غير لباسهم، لم يلزمه شيء آخر، حكاه الماوردي وغيره. قال: ولامرأة المعسر كساء أو قطيفة؛ بحسب العرف. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يدل على أنه لا يجب لامرأة المعسر ما يجب لامرأة الموسر من آلة النوم وما تجلس عليه. قال ابن يونس: وقد ذهب إليه بعض العراقيين، والجمهور على أن امرأة المعسر يجب لها النازل مما ذكرناه، ولامرأة المتوسط ما بينهما، وهو ما حكاه في "المهذب". وفي "الحاوي": أن ذوي الإقتار وسكان القرى يكتفون في نومهم بالبسط المستعملة لجلوسهم؛ فلا يفرض لها فراش. وفي "التتمة": أنه يجب لامرأة المعسر حصير في الصيف، ولبد في الشتاء. تنبيه: الملحفة- بكسر الميم-: من الالتحاف. الوسادة- بكسر الواو- والإسادة: [لغتان. الزلية: بكسر الزاي، وتشديد اللام والياء، وجمعها: الزلالي. اللبد: بكسر اللام، جمعه:] لبود.

القطيفة- بفتح القاف-: دثار مخمل، وجمعه: قطائف وقطف؛ كصحائف وصحف. [و] في "الجيلي": أنه كساء كبير عريض أبيض. قال: وإن أعطاها كسوة مدة، وبليت قبلها، أي: [لا لسخافتها، بل لزيادة] في الاستعمال، كما صرح به الماوردي وابن الصباغ وغيرهما- لم يلزمه إبدالها؛ كما لا يجب بدل طعام اليوم إذا نفد قبل انقضاء اليوم. [أما] إذا تلف لسخافته فيجب إبداله. قال: وإن بقيت بعد المدة لزمه التجديد؛ كما لو بقي قوت يومها إلى غد؛ فإنها تستحق فيه قوتها، وهذا هو الأصح عند الجمهور، والمذهب في "تعليق" البندنيجي. قال: وقيل: لا يلزمه، أي: حتى تبلى، بخلاف القوت. والفرق: أن الكسوة معتبرة بالكفاية، وهي مكفية، والقوت معتبر بالشرع. ولا فرق- على هذا القول- بين أن تكون قد لبستها في المدة أو لا، صرح به القاضي الحسين في "التعليق". وقال الماوردي، وتابعه ابن الصباغ: إن الأصح عندي من إطلاق هذين الوجهين أن ينظر في الكسوة: فإن بقيت لجودتها لم تستحق بدلها؛ لأن الجودة زيادة، وإن بقيت لصيانتها عن اللبس، استحقت بدلها كما لو لم تلبسها. وهذا كله فيما عدا الجبة، فأما الجبة: فإن كانت من القطن فتجدد في كل سنة، وإن كانت من الديباج ففي سنتين، والعرف في ذلك متبع. وأما الدثار من اللحف والقطيفة والأكسية فهو أبقى من الكسوة، فيتبع فيه- أيضاً- العرف، هذا ما حكاه العراقيون. وبنى المراوزة ذلك على أن الكسوة هل يجب تمليكها للزوجة كما يجب تمليك الطعام والإدام، أو لا يجب، وتكون إمتاعاً كما في المسكن والخادم؟ وفيه خلاف عندهم، والذي ذهب إليه ابن الحداد منهما، ويقال: إنه قضية نصه في "الإملاء"، واختيار القفال-: [الثاني].

قال ابن الصباغ: وقد وافق ابن الحداد بعض أصحابنا، وإيراد الفوراني والمسعودي يقتضيه. وأصحهما عند الأكثرين، وينسب إلى النص: الأول. وفي "التهذيب" طرد هذا الخلاف في كل ما ينتفع به مع بقاء عينه كالفرش وظروف الطعام والشراب والمشط، وكلام الفوراني في المشط يوافقه. وكلام القاضي في "التعليق" يقتضي إلحاق الفرش ونحوه مما يخرج عن كسوة البدن بالمسكن؛ فإنه قال: لا يجب إبداله ما لم يبل ويتخرف ولا يتهيأ الانتفاع به. وألحق في "البسيط" الفرش والظروف بالمسكن. رجعنا إلى المقصود: فإن قلنا بالأول، وبليت قبل المدة من غير تقصير- لم يجب التجديد، وفيه وجه ضعيف. وإن قلنا بالثاني وجب، وإن كان بتقصير منها، كما إذا كثر تردادها وتحاملها عليها؛ فهو كما لو أتلفتها، وإتلافها مبني على الخلاف- أيضاً-: إن قلنا بالأول لم يجب لها ولا عليها، وإلا فتجب عليها القيمة، وعليه الإبدال. وأبدى الإمام احتمالاً في وجوب البداءة بأيهما. ولو بقيت بعد المدة: إن قلنا بالأول وجب الإبدال، وإن قلنا بالثاني فلا. ويتفرع على هذا المأخذ عندهم مسائل يأتي بعضها في الباب، منها: لو استأجر لها كسوة، أو استعارها، إن قلنا بالثاني جاز، وكانت العارية مضمونة على الزوج دونها، وإن قلنا بالأول فلا. قال: ويجب تسليم النفقة إليها في أول النهار؛ لأن الواجب حب؛ فتحتاج إلى طحنه وخبزه، فلو لم يسلم لها في أول النهار لم تنله عند الحاجة؛ فيلحقها الضرر. ومراده بأول النهار: طلوع الشمس، كما صرح به في "المهذب"، وهو ما حكاه الرافعي في كتاب الضمان، وقضية كلام الماوردي في باب الإعسار بالنفقة؛ حيث قال: "الوقت الذي تستحق فيه نفقة يومها هو أول أوقات التصرف فيه؛ لأنها إن طالبته مع طلوع فجره خرجت عن العرف، وإن أخرها إلى غروب شمسه أضر بها.

والجمهور على أنه تجب بطلوع الفجر. قال في "البسيط" عند الكلام في وقت الفسخ: فإن قيل: ما معنى قول الأصحاب: إن النفقة تجب بطلوع الفجر؟ قلنا: معناه: أنه تجب وجوباً موسعاً كما في الصلاة، أو معناه: أنه إن قدر وجب عليه التسليم، وإن ترك عصى ربه، ولكن لا يحبس ولا يخاصم، ومن هذا يظهر أنه لا تلزم من طريق الأولى، كما صرح به الإمام. قال: فإن سلفها نفقة مدة، فماتت قبل انقضائها- رجع فيما بقي؛ لأنه دفع عما يلزمه ويستقر عليه في المستقبل، فإاذ تبين خلافه استرد؛ كالزكاة المعجلة. وهذا الحكم فيما لو بانت منه. وفيه وجه: أنه لا يسترد؛ بناء على أنها ملكت ما سلفه لها كما ذهب إليه ابن الحداد، وصححه الرافعي، أما إذا قلنا: إنها لا تملك بالتسليف- وهو الأظهر في "النهاية"- فلا نزاع في أنه يسترد. ثم هذا فيما عدا اليوم الذي حصل فيه الموت أو البينونة، أما ذلك اليوم فلا يسترد ما يقابله، وادعى الإمام اتفاق الأصحاب عليه. وفي "الرافعي": حكاية وجه فيه، ولم يطرده فيما إذا مات، بل سكت عنه. فرع: حيث قلنا: لا تملك، فكلما شرعت في يوم ملكت ما يقابله في وقت وجوب التسليم. قال: ويجب تسليم الكسوة في أول الفصل، يعني: فصل الشتاء أو الصيف، كما ذكرناه؛ لأنه وقت الحاجة إليها. قال: فإن أعطاها الكسوة، [ثم ماتت] قبل انقضاء الفصل؛ أي: الذي قبضت الكسوة له- لم يرجع؛ لأنه دفعها، وهي واجبة عليه؛ [فلم يرجع]؛ كما في نفقة اليوم، فإن الكسوة بالنسبة إلى الفصل كالنفقة بالنسبة إلى اليوم. قال: وقيل: يرجع؛ لأن الكسوة لمدة لم تأت؛ فكان له الرجوع فيها؛ كما لو عجل نفقة أيام. قال: والأول [أصح]؛ لما ذكرناه.

والمراوزة قالوا: إن قلنا: إنها إمتاع، استرد، وإلا فلا. وفي الرافعي: حكاية وجه: أنه يسترد وإن قلنا: إنها تمليك، ثم قال: ويمكن تنزيل وجه الاسترداد على الوجه الغريب الذي حكاه القاضي ابن كج في نفقة اليوم الواحد مع تسليم: أن كسوة الفصل كنفقة اليوم. واعلم أنا حيث قلنا: يسترد، فذاك إذا كانت العين باقية، فإن كانت تالفة فالواجب [رد بدلها]. قال: وإن تصرفت فيما أخذت من الكسوة ببيع أو غيره- أي: مثل الهبة والإجارة- جاز؛ لأنه عوض مستحق بسبب النكاح؛ فجاز التصرف فيه؛ كالمهر، وهذا هو الصحيح. وقيل: لا يجوز؛ لأن له غرضاً في جمالها، وعليه ضرر نقصانه، وهذا قول ابن الحداد، وقد وافقه عليه بعض أصحابنا كما حكاه ابن الصباغ، وهو مبني على أن الكسوة إمتاع، والأول على القول بأنها تمليك. فإذا قلنا بمذهب ابن الحداد فقد قال أبو إسحاق: إن لها أن تلبس ما دون المأخوذ كما في النفقة، [والظاهر المنع؛ لما للزوج من غرض التزين، وهل يجوز لها أن تتعوض عن الكسوة شيئاً إن قلنا: إنها تمليك؟ فيه وجهان كما في النفقة] قاله المتولي. قال: ويجب لها سكنى مثلها؛ لأن المعتدة تستحقها؛ فالزوجة أولى. وظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الاعتبار فيها بما يليق بها، وهو ما حكاه المراوزة، وطردوه في كل ما الغرض منه الإمتاع حتى يجري في الكسوة على

رأي، بخلاف ما الغرض منه التمليك؛ فإنه يعتبر فيهجانبه لعظم الضرر فيه. فعلى هذا: من لم تكن عادتها بسكنى الخان لابد من سكناها في دار أو حجرة، وينظر- أيضاً- إلى سعتها وضيقها. والذي حكاه الشيخ في "المهذب"، وقال الجيلي: إنه في "الخلاصة"، وإنه خلاف المذهب- أن الاعتبار في المسكن بحاله في اليسار والإعسار والتوسط؛ كما في النفقة. ومن أراد الجمع بين الكلامين سلك طريق المتولي، وقال: إنا نعتبر مسكناً يليق بها [متفاوتاً بين] الغني والفقير والمتوسط؛ كما في النفقة، وهو يتضمن النظر إلى الجانبين معاً. وعلى كل حال: فلا يشترط في المسكن أن يكون ملكاً له، بل يجوز أن [يكون] مستعاراً أو مستأجراً. قال: وإن كانت المرأة ممن تخدم، أي: في بيت أبيها، لمنصبها وشرفها، دون ما إذا طرأ لها ذلك في بيت زوجها؛ كما صرح به أبو حامد، أو من سكان الأمصار دون أهل البوادي؛ كما قاله الماوردي. قال: وجب لها خادم واحد، أي: سواء كان الزوج موسراً أو معسراً، حراً أو عبداً؛ لأنه من المعاشرة بالمعروف، وقال- عليه السلام- لهند: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ" وهذا من جملة الكفاية. ولأنه يجب عليه نفقتها؛ فوجب عليه إخدامها إذا كانت ممن تخدم؛ كالأب لما وجب عليه نفقة ولده وجب عليه نفقة من يخدمه، وهو الحضانة. وأشار المزني إلى اختلاف قوله في وجوب الإخدام، وقد أثبته بعضهم، والجمهور قطعوا بالوجوب، وحملوا النصوص المشعرة بخلافه على ما إذا لم تكن ممن تخدم. وفي "التتمة"- عند الكلام في دليل وجوب الخدمة-: أن اليسار شرط في

وجوب الخدمة، وإنما اكتفينا بخادم واحد؛ لأن الذي يجب على الزوج كفايته في حق المخدومة الشريفة- على ما قاله أبو الفرج السرخسي- الطبخ والغسل ونحوهما، دون حمل الماء إليها للشرب، وحمله إلى المستخدم؛ فإن الترفع عن ذلك محض رعونة لا عبرة بها. وعلى ما حكاه في "التهذيب": بحمل الماء إلى المستخدم، وصبه على يدها، وغسل خروق الحيض ونحوها، وذلك كله يحصل بالواحد. ولا يشترط في الخادم أن يكون مملوكاً له، بل يجوز ذلك، ويجوز أن يكون مستعاراً، أو حراً يسمح بالخدمة أو مستأجراً. ولا يجب عليه أن يستأجره بأكثر من قدر نفقة الخادم، سواء كان المستأجر حراً، أو رقيقاً، قاله مجلي. وفي كلام الماوردي ما يدل على خلافه، وسنذكره في الباب. نعم، يشترط أن يكون امرأة أو صبياً أو محرماً. وقيل: يكفي الشيخ الهم ومملوكها، وهل يجوز أن يكون ذمياً؟ فيه وجهان. والمرجع في تعيين الخادم إليه ابتداء، جزم به الماوردي، وهو الأظهر في الرافعي. وفيه وجه حكاه القاضي أبو الطيب: أنه يرجع فيه إليها. وأما في الدوام إذا توافقا على خادم في الابتداء فإليها، أو كانت قد حملت معها خادماً، فأراد إبداله- لم يجز إلا إذا ظهرت ريبة وخيانة. ولا خلاف أن له [أن] يمنع ما زاد على الخادم الواحد من دخول منزله؛ وكذلك إذا استخدمت من لا تخدم خادماً فله منعه؛ كما له إخراج مالها من داره. ولو كانت الزوجة أمة، واقتضى منصبها وجمالها أن تخدم- ففي وجوبه وجهان: أظهرهما- واقتصر الأكثرون عليه-: المنع. وفي "الوجيز": مقابله أصح.

ومن نصفها حر ونصفها رقيق في معنى الأمة، صرح به القاضي الحسين. ولو كانت الزوجة ممن لا تخدم، لكن مرضت وعجزت عن خدمة نفسها- أطلق الأكثرون وجوب إخدامها، وهو مقتضى إطلاق الشافعي، رضي الله عنه. ولا فرق فيه بين الحرة والأمة. وإذا لم تحصل الكفاية بواحد فيزاد بحسب الحاجة. وفصل بعضهم فقال: إن [كان] المرض دائماً وجب الإخدام؛ لأن [العذر] الدائم لا ينقص عن مراعاة الحشمة. وإن لم يكن دائماً لم يجب؛ كأسباب المعالجة، وعلى ذلك [جرى] المبلغون عن الإمام. وفرق الماوردي بينه وبين المعالجة بأن الخدمة من جنس ما يجب على الزوج بخلاف المعالجة. قال: فإن قال الزوج: أنا أخدمها بنفسي، لم يلزمها الرضا به؛ لأنها تستحيي منه، وذلك يمنعها من استيفاء خدمتها، ولأن فيه عاراً عليها. وقال أبو إسحاق، وأبو علي بن أبي هريرة: له ذلك. واختاره الشيخ أبو حامد. وعن القفال، أو غيره: أن له ذلك، فيما لا تستحيي منه: كغسل الثوب، واستقاء الماء، وكنس البيت، وطبخ الطعام، دون ما يرجع إلى خدمة نفسها: كصب الماء على يدها، وحمله إلى المستخدم، ونحو ذلك، وهذا ما حكاه الغزالي. والأظهر ما في الكتاب، وإن كان البندنيجي قد قال: إنه ليس بشيء. قال: وإن قالت: أنا أخدم نفسي، وآخذ أجرة الخادم- لم يلزمه الرضا به؛ لأن القصد به ترفيهها، وذلك لا يحصل بخدمة نفسها. وأشار الغزالي إلى خلاف فيه بقوله: فالظاهر: أنه لا يلزم. وإذا قلنا بالظاهر، فلو توافقا على ذلك ففي "التتمة": أنه على الخلاف في الاعتياض عن النفقة. ولو تبرع أجنبي عنها أو عنه، سقطت خدمتها؛ قاله الماوردي.

قال: ويجب عليه نفقة الخادم وفطرته. أما وجوب النفقة؛ فقد وجه بأنه من المعاشرة بالمعروف. ووجهه ابن الخل: بأن الواجب يقف على ذلك. وأما وجوب الفطرة، فمحله كتاب زكاة الفطر. وقد قال الإمام: ثم إن الأصح: أن فطرته لا تجب. ثم المسألة مصورة في "الحاوي" وغيره بما إذا كان لها [خادم]، واتفقا على أن يخدمها بكفاية المؤنة وغيرها. وألحق الرافعي والبندنيجي بذلك الحرة إذا رضيت بمثل ذلك. أما لو كان الخادم له، فنفقته واجبة عليه بحكم الملك. وإذا كان مستأجراً أو مستعاراً، فنفقته عليه؛ إن كان حراً، أو على سيده؛ إن كان رقيقاً. والخادم يطلق على الذكر والأنثى، [بغير الهاء]، وجاء لغة قليلة في الأنثى: خادمة. قال: فإن كان موسراً لزمه للخادم مد وثلث من قوت البلد، وإن كان معسراً أو متوسطاً لزمه للخادم مد. وتمسك الماوردي- في اعتبار تقدير نفقة خادم امرأة الموسر بالمد والثلث- بأن نفقة المخدومة مدان، وهذه تابعة لها؛ فلا تساويها، ولا يمكن إيجاب مد ونصف؛ لئلا نساوي بينها وبين نفقة المتوسط؛ فاقتصر فيه على مد وثلث، وهو ثلثا نفقة المخدومة. وتمسك في اعتبار المد في حق المتوسط بأنه ثلثا نفقة المخدومة على وزان ما سبق في المعسر، وإن كان مقتضى ما ذكرناه من القياس أن يكون الواجب له ثلثي مد كي لا تحصل التسوية بينهما وبين نفقة المعسر وأجيب [بأن المد لا يقوم بدن- في الغالب- إلا به؛ فسوينا بينهما فيه للضرورة الداعية للتسوية] كالعدد والحدود [تنقص بالرق] عن حال الحرية فيما يتبعض من الأقراء

والأشهر والجلد، ويسوي بينهما فيما لا يتبعض من الحمل وقطع السرقة. وعن القفال الشاشي- في اعتبار المد والثلث-: أن للخادمة والمخدومة في النفقة [حالة] كمال وحالة نقص، وهما في حالة النقصان يستويان وفي حالة الكمال يزاد للمفضولة ثلث ما يزاد للفاضلة؛ كما أن للأبوين في الميراث حالتي كمال ونقصان، وهما في حالة النقصان- وهو أن يكون للميت ابن- يستويان، ويكون لكل منهما السدس، وفي حالة الكمال- وهي إذا انفردا- يكون المال بينهما أثلاثاً [يزاد للأم] ثلث ما يزاد للأب. وقال غيره في ذلك: إن نفقة الخادم على المتوسط ثلثا نفقة المخدومة؛ لأن نفقة المخدومة مد ونصف، ونفقة الخادم مد؛ فلذلك ينبغي أن تكون فقة الخادم على الموسر ثلثي نفقة المخدومة عليه، وذلك مد وثلث. قال في "البسيط": وهذه المدارك بأصول أبي حنيفة أشبه بها من أصولنا، لكن لما بطلت الكفاية اكتفوا بمثل هذه التقديرات. ووراء ما ذكرناه وجوه أخر: أحدها: أن نفقة الخادم [مد لا] تختلف باختلاف الأزواج. والثاني: أنه يجب على المتوسط للخادم مد وثلث؛ كالموسر، وهو ما حكاه البندنيجي، وفي "البحر" نسبه قائله إلى الغلط. والثالث: [أنه يجب] على المتوسط مد وسدس. وفي "الوسيط": أن اعتبار المد والثلث تقريب، لا تقدير؛ إذ لا تقدير للشرع فيه. وأما اعتبار قوت البلد؛ فلأنه من المعاشرة بالمعروف، وقد حكي فيه وجه: أنه يجعل دون ذلك؛ كما يأتي في الإدام. واعلم أن المد والثلث، وكذا المد إنما يجب للخادم إذا قام بجميع ما يستحق من الخدمة الواجبة على مثله، أما إذا تعاطى الزوج بعضها- كما حكيناه- فهل يستحق الخادم- والحالة هذه- ما قدر له؟ فيه خلاف مبني على أن الأمة إذا

سلمت إلى الزوج ليلاً، دون النهار- هل تستحق تمام النفقة؟ وفيه كلام سيأتي، فإن قلنأ: لا تستحق التمام، وهو ما حكاه الغزالي- فقد قيل: يحتمل أن تشطر، ويحتمل أن توزع على الأفعال، كما حكاه أيضاً. قال: ويجب عليه أدمه من دون جنس أدم المرأة- على المنصوص- وهو الأصح للعرف. فعلى هذا: يكون أدم المرأة من الزيت الجيد، والخادم من الزيت الدون. وقيل: من جنس أدمها؛ كما لزمه من جنس طعامها، وهذا ما حكاه الماوردي. وقيل: لا يلزمه للخادم أدم أصلاً، بل يكتفي بما يفضل عن المخدومة. وهل يجب للخادم اللحم؟ فيه خلاف بناه البندنيجي وغيره على أن الأدم يجب من أدم المخدومة أم لا؟ فإن قلنا: يجب منه وجب، وإلا فلا. وأما قدر الأدم، فهو بحسب الطعام. قال: ولا يجب للخادم الدهن والسدر والمشط؛ لأن ذلك يراد للزينة، والخادم لا تتزين له، بل اللائق بحال الخادم [أن تكون شعثة؛ كي لا تمتد إليها الأعين بخلاف الزوجة]. نعم، لو كثر الوسخ وتأذت بسبب الهوام، فعليه أن يعطيها ما تترفه به. وهذا ما استدركه القفال، واستحسنوه، وقريب منه ما حكي عن الصيدلاني: أنها إن احتاجت إليه عند تلبد شعرها وجب. وأطلق صاحب "العدة" وجهين في أنه هل يعطي الخادم المشط والدهن؟ قال: ويجب لخادم امرأة الموسر قميص ومقنعة. أما وجوب أصل الكسوة فبالقياس على النفقة؛ لأنها من المعاشرة بالمعروف. وأما القميص والمقنعة؛ فلأن ذلك أقل ما يحصل به الستر، وتقتضيه العادة. وفي "التتمة": أن المقنعة تجب في الشتاء، وفي الصيف للحرة، وإن كانت أمة فلا إذا كانت عادة الإماء في البلد كشف الرأس. وهذا منه يدل على ما حكيناه عن الرافعي في إلحاق الحرة المتبرعة بخادمها. ويجب لها مع ما ذكرناه في الشتاء: جبة صوف، [أو] محشوة قطناً، أو فرو،

على حسب العادة؛ ليدفع عنها البرد. قال: وخف، أي: إذا كانت تخرج إلى الطريق في الحوائج؛ لأنها محتاجة إلى الخروج لقضاء حاجتها، والمعهود في حق النساء لبس الخف عند الخروج. وكذلك يجب لها إذا كانت تخرج ما تلتحف به؛ لما ذكرناه. قال: ولا يجب لها سراويل؛ لأن المقصود منه الزينة وكمال الستر، والخادمة لا تحتاج إلى الزينة ولا إلى كمال الستر، إذا كانت أمة؛ فإن ساقها ليس بعورة، كذا علل به الرافعي. ومقتضاه: أن يجب إذا كان الخادم حرة- إن لم يكن ما ذكره علة واحدة- كما حكيناه عن المتولي في المقنعة. وفي "التهذيب" حكاية وجه: أنه يجب مطلقاً، وصححه ووافقه القاضي الروياني على تصحيحه. قال: ويجب لها كساء غليظ أو قطيفة؛ أي: تتغطى بذلك، ووسادة، أي: تنام عليها. وفي "التتمة": أنه لا بد لها من شيء تجلس عليه: كباريه في الصيف، وقطعة لبد في الشتاء. وفي "البحر": أنه لا يجب لها فراش، ويظهر أن يكون اختيار الشيخ هاهنا؛ لأنه لم يتعرض له، وإن كان قد ذكر في "المهذب" وجوبه، كما سنذكره. قال: ولخادم امرأة المعسر عباءة، أو فروة، والمرجع في ذلك كله إلى العرف. وقال الغزالي: الغرض أن الكسوة تجب للخادم، إلا أنه [لا] تكون أحسن جنساً من كسوة المخدوم. ويختلف ذلك باختلاف البقاع، ومقتضى هذا: أن يساوي المخدوم في القدر والجنس، وإنما الاختلاف في النوع، كما قلنا في الأدم، وهو قضية كلام الشيخ في "المهذب"؛ فإنه قال: يجب لخادم كل زوجة من الكسوة والفراش والدثار، دون ما يجب للزوجة، ويستثنى منه السراويل.

وقد سكت الشيخ والأصحاب عن التعرض لكسوة خادم امرأة المتوسط، ويحتمل- على ما قاله الشيخ هاهنا في امرأة المعسر- أن تلتحق بها في القدر كما في النفقة. ويحتمل أن يجب لها ما بين كسوة امرأة الموسر والمتوسط، خصوصاً إذا قلنا بما حكاه في "المهذب". تنبيه: العباءة: بفتح العين والمد، والعباية: بالياء- لغتان. الفرو- بغير هاء-: هذا الملبوس المعروف، وجمعه: فراء. وقد استعمله الشيخ بالهاء، وهي لغة، وقيل: "الفرو" واحد "الفراء"؛ فإن كان كالجبة فاسمها: فروة. قال: وتجب النفقة إذا سلمت نفسها إلى الزوج- أي: في الموضع الذي عينه- أو عرضت نفسها عليه- أي: وإن لم ينقلها إلى موضع، ولا استمتع بها- لأنها سلمت ما ملك عليها، فملكت واستحقت ما بإزائه؛ كالأجير إذا سلم الدار المكراة إلى المكتري، أو عرضها عليه- يستحق عليه الكرا. وصورة العرض أن تقول: سلمت نفسي إليك، فإن اخترت أن تصير إلى، وتأخذني وتستمتع بي- فذاك إليك، وإن اخترت جئت إليك في أي مكان شئت. أو ما يؤدى هذا المعنى. قال: وإن كانت صغيرة- أي: لا يوطأ مثلها- ففيه قولان: أصحهما: أنها لا تجب؛ لأمرين: أحدهما: أن فقد الاستمتاع بالصغر أغلظ من فقده بالنشوز [في الكبر؛ لإمكانه في حال النشوز، وتعذره في الصغر فكان إلحاقه بالنشوز] في سقوط النفقة أولى. والثاني: أن النفقة في مقابلة التمكين والاستمتاع؛ فصارت بدلاً في مقابلة مبدل، وفوات المبدل موجب لسقوط البدل، وإن كان فواته بعذر كسقوط الثمن بتلف المبيع، وهذا القول هو المنصوص عليه في "الأم" وهو مع الثاني في "الإملاء". والقول الثاني: أنها تجب؛ لأنها محبوسة عليه، وفوات الاستمتاع بسبب هي معذورة فيه، فأشبهت المريضة والرتقاء.

وبنى المراوزة القولين على القولين في أن النفقة تجب بالتمكين أو بالعقد. واعلم أن المسألة مصورة في "المهذب"، "وتعليق" القاضي الحسين، و"الرافعي" بما إذا سلمت إليه، أو عرضت عليه، حتى قال الرافعي: لو لم تسلم إليه كانت كالكبيرة. وفي "النهاية": أنه لا حاجة في الصغر في تقدير النفقة إلى وعد الزفاف، عند إمكان الاستمتاع، بل تستقر النفقة في الصغر مع السكوت وترك التعريض وفاقاً، وإذا جاز الإمكان كان الحكم كالكبيرة، وهذا قد يؤخذ من ظاهر كلام الشيخ هاهنا من حيث إنه جعله في مقابلة تسليمها نفسها. أما إذا كانت الصغيرة يمكن وطؤها فيجب لها النفقة وجهاً واحداً إذا سلمت إلى الزوج، أو عرضت [عليه، والمخاطب بذلك هو الولي. فلو سلمت هي] نفسها، [فتسلمها الزوج- وجبت، ولو عرضت نفسها] ولم يتسلمها الزوج، قال ابن الصباغ: ينبغي ألا تجب حتى يتسلمها؛ لأن بذلها لا حكم له. وهذا ما حكاه الرافعي عن المذهب، وأبداه مجلي عن بعض الأصحاب جزماً، وذكر لنفسه احتمالاً في وجوبها. قال: وإن كان الزوج صغيراً، أي: لا يتأتى منه النكاح، وهي كبيرة- أي: وعرضت نفسها على وليه، لا عليه؛ كما صرح به الرافعي- ففيه قولان: أصحهما: أنها تجب؛ لأن الاستمتاع مستحق عليها دونه، وقد وجد التمكين من جهتها؛ فوجبت النفقة، ولم تسقط بعذر من جهته؛ كما لو هرب. وكما لو تعذر على المستأجر استيفاء المنفعة يعذر فيه بعد تسليم العين، وهذا هو المنصوص عليه في "الأم"، وهو مع الثاني في "الإملاء". والقول الثاني: أنها لا تجب؛ لأن التسليم أو التمكين لا معنى له إلا بتسليم أحد أو تمكينه منه، ولم يوجد. ومن الأصحاب من جزم بالأول، وأجرى الخلاف [في الصورة الأولى. قال

القاضي الحسين: وهو سديد، وذكر ما عللنا به] القول الثاني. قال الرافعي: ولك أن تقول: إن قضية القولين معاً في أن النفقة تجب بالعقد أو بالتمكين. ومن الأصحاب من قال: إن كانت جاهلة بصغره، وجبت وجهاً واحداً، [وإلا فلا كذا قاله الغزالي. وذكر الرافعي: وإلا فقولان. وهو موافق لرواية الإمام عن بعض المصنفين، فيحصل من ذلك مع إجراء كلام الغزالي على ظاهره أربعة طرق. أما إذا كان الزوج يمكن جماعه كالمراهق فتجب النفقة وجهاً واحداً] بالعرض على وليه والتسليم إليه، وإن كان بغير إذن الولي، كما صرح به البغوي. ولو كان الزوجان صغيرين لا يتأتى منهما الجماع، ففي وجوب النفقة- أيضاً- قولان في "الإملاء" و"الأم"، أصحهما- عند الماوردي: الوجوب، وفي "الشامل": أن المنصوص عدمه. وقال القاضي الحسين: إن قلنا في المسألة قبلها: لا تستحق، فهاهنا أولى، وإن قلنا تستحق، فهاهنا قولان. قال: وإن كانت مريضة، أو رتقاء، أو كان الزوج عنيناً- وجبت النفقة. أما إذا كانت مريضة أو رتقاء؛ فإنه وجد منها التسليم الممكن، ويمكن الاستمتاع بها من بعض الوجوه، مع أنها [معذورة بما يدوم فترك الإنفاق عليها مما يضر بها وتخالف الصغيرة من حيث إنها] في قبضته؛ لما يلزمها من تسليم نفسها إليه، والصغيرة ممنوعة منه؛ لأنه لا يجب تسليمها إليه، كذا فرق به الماوردي. وقال القاضي الحسين: لأن المرض عارض بعد التسليم، فلا يكون حكمه حكم العارض الموجود في أصل العقد؛ ألا ترى أن العيب الحادث بعد التسليم لا يجعل له الخيار كالعيب الموجود في أصل العقد؟ ويظهر من الفرق الأول: أن تكون الصورة في الصغيرة كما حكيناه عن الإمام،

وأن محل الكلام في المريضة إذا سلمت إلى الزوج، وهو على طريقة من يوجب تسليمها إليه، أما على طريقة من لا يوجب تسليمها- كما حكيناه في موضعه- فنفقتها تجب، وإن لم يوجد عرض، ولا تسليم، وقد صرح به مجلي وغيره. ويظهر من الفرق الثاني أن محل الكلام في المريضة إذا حدث المرض بعد التسليم، وكلام الأئمة يشعر بأنه لا فرق بين أن يحدث بعده أو قبله، وقد صور في "التهذيب" المسألة بما إذا سلمت نفسها وهي مريضة أو رتقاء، وألحق المفضاة بهما. ثم هذا إذا لم يكن لها سبب في المرض، أما إذا تسببت فيه، ثم استمر- ففيه التردد المذكور في إحرامها؛ صرح به الإمام عند الكلام في نفقة المطلقات. وأما إذا كان الزوج عنيناً؛ فلما ذكرناه من قبل، والفرق بينه وبين الصغير على رأي: أنه يحصل له بها الأنس، وبعض الاستمتاع، بخلاف الصغير. ولأن العلة التي اقتضت عدم إيجاب النفقة على الصغير مفقودة هاهنا. وحكم من يلحقها بالجماع شدة ضرر: إما لصلوبة جسدها وضيق فرجها، وإما لعظم خلقة الزوج وغلظ ذكره- حكم الرتق في وجوب النفقة، ولا يجب عليها تمكينه. ولو اختلفا فيما يمنع من الوطء، فادعته [المرأة]، وأنكره الزوج- فلها أن تبينه بشهادة النسوة، وهل يكفي فيه شهادة امرأة واحدة أو لا بد من أربع نسوة؟ فيه وجهان، أظهرهما: الثاني. قال: ولا تجب النفقة إلا بالتمكين التام؛ لأنها لا تعد مسلمة بدونه، ومعناه ما ذكرناه أولاً. وقال الإمام: والتمكين أن تقول المستقلة، أو أهلها إن كانت محجوراً عليها: مهما أسقطت الصداق رفعنا إليك.

وهل التمكين سبب أو شرط؟ فيه خلاف يأتي. واحترز الشيخ بلفظ "التمام" عما إذا قالت: أنا أسلم نفسي إليك [ليلاً دون النهار أو نهاراً دون الليل، أو: في البلد الفلاني دون غيره، أو في المنزل الفلاني- فإن النفقة لا تجب؛ بدليل أنه لم يحصل التمكين المقابل بالنفقة. قال: فإن كانت أمة فسلمها السيد] ليلاً ونهاراً، أي إما في بيت الزوج، أو في البيت الذي بوأها إياها- إن قلنا بوجوبه- وجبت نفقتها؛ [لوجود التمكين التام كالحرة. قال: وإن سلمها ليلاً ولم يسلمها نهاراً لم يلزمه نفقتها]؛ لقصور استمتاعه عن حالة الكمال؛ فالتحقت بالحرة إذا سلمت نفسها ليلاً دون النهار، وهذا قول أبي إسحاق وجمهور الأصحاب. قال: وقيل: يلزمه نصف النفقة؛ اعتباراً بما تسلمه، وهذا قول ابن أبي هريرة. وقال الماوردي: هو أظهر عندي، وعبر عنه بأنه يجب على الزوج عشاؤها؛ لأنه يراد لزمان الليل، وعلى السيد غداؤها، لأنه يراد لزمان النهار، وعليه من الكسوة ما تتدثر به ليلاً، وعلى السيد منه ما تلبسه نهاراً. وهذا الوجه قد حكي في الحرة مثله إذا سلمت نفسها في وقت دون وقت: أنها تستحق من النفقة بقدر ما سلمت، وهو ما أجاب به [أبو الفرج]. وقيل: يلزمه جميع النفقة، لوجود كمال التسليم المستحق عليها بالعقد، وهذا لا يجري فيالحرة؛ لأنه لم يكمل التسليم المستحق عليها. نعم: لو كانت مستأجرة قبل العقد فقد حكى الماوردي أن الزوج لا يستحق تسليمها إلا ليلاً، ويثبت له الخيار في فسخ النكاح، إن كان جاهلاً بإجارتها، ولا يسقط برضا المستأجر من التمكين من الاستمتاع. وإن كان عالماً فلا خيار له، فإذا لم يفسخ فالذي يظهر مما ذكرناه: أن يكون حكمها حكم الأمة في جريان الوجه الثالث، ولم أره، بل المصرح به في

"التتمة" عدم الاستحقاق؛ تفريعاً على القول بأنها إذا سافرت بإذنه في حاجتها تسقط نفقتها. وفي "تعليق" إبراهيم المروزي حكاية وجهين فيما إذا تزوجها وهي صائمة، في استحقاق النفقة، وهو [نظير] المسألة، لكنه لم يبين؛ فيجوز أن يكون أحدهما: أنها تسقط. والآخر: استحقاق الشطر. ويجوز أن يكون غيره؛ فلا يتحصل من ذلك المطلوب. قال: وإن كان الزوج غائباً، فعرضت نفسها عليه، ومضى زمان، أي: بعد العرض، لو أراد المسير فيه لكان قد وصل، أي: ولا عذر في الطريق- وجبت النفقة من حينئذ؛ لأن التقصير من جهته؛ فأشبه ما لو عرضت نفسها عليه وهو حاضر. قال الماوردي: وهذا قول البغداديين من أصحابنا. وصورة العرض: أن تمضي إلى الحاكم، وتبذل التسليم بعد ثبوت الزوجية عنده، ويكتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج، ليعلمه بذلك، فإذا أعلمه فقد حصل الغرض. وفي "الرافعي": أن من الأصحاب من لم يتعرض للرفع إلى القاضي ولا للمكاتبة، وقال: تجب النفقة من وقت وصول الخبر إليه، وبمضي زمان إمكان القدوم عليها. وهكذا أورد صاحب "التهذيب". ثم هذا إذا عرف مكانه، فلو غاب ولم يعرف مكانه، قال في "التتمة": فإذا جاءت المرأة إلى الحاكم، وأظهرت الطاعة له- فالحاكم يكتب إلى حكام البلاد التي تتردد إليها القوافل من تلك البلدة في العرف والعادة حتى ينادي في تلك

البلاد باسمه: فإن ظهر في بعض البلاد فالحكم كما سبق، ولو لم يظهر فرض الحاكم لها النفقة في [ماله، ولو كان له مال حاضر، وأراد الحاكم أن يصرف إليها النفقة في] حال غيبته- أخذ منها كفيلاً بما يصرفه؛ لأنه لا يؤمن أن يظهر وفاته أو طلاقه. قال: ولا تجب النفقة إلا يوماً بيوم؛ إذ التمكين سببها مع تقدم العقد؛ لكونها تدور معه وجوداً وعدماً عند النشوز، والتمكين كذل كيحصل وهذا قول البغداديين من أصحابنا. وقال البصريون: تجب بالعقد والتمكين، فجعلوا الوجوب معلقاً بالعقد وحدوث التمكين معاً. وهذا يحتمل معنيين: أحدهما: أن كل واحد منهما جزء السبب، وهو الظاهر. والثاني: أن السبب: العقد، والتمكين شرط، على عكس الوجه الأول، وبه صرح الماوردي عنهم وستظهر لك ثمرة هذا الاختلاف من بعد كما ظهرت من قبل. قال: وقال في القديم: تجب، أي: نفقة مدة النكاح جميعاً بالعقد؛ كما يجب المهر به؛ ولأنها لو كانت تجب بالتمكين لما استحقتها الرتقاء والمريضة، لكنها لو نشزت سقطت؛ فيكون ضدها- وهو التمكين- شرطاً في استقرار الوجوب، وهو معنى قول الشيخ، إلا أنه لا يجب التسليم إلا بالتمكين [يوماً بيوم]؛ كما أن الأجرة الحالة تجب بالعقد، ولا يستقر وجوبها إلا بالتسليم، لكن الأجرة يجب تسليمها بالعقد جملة؛ للعلم بها، وجملة النفقة غير معلومة. وقد صرح بالمعنى الذي ذكرناه الماوردي في كتاب الرهن، حيث قال: وفي القديم تجب النفقة بالعقد جملة، وتستحق قبضها بالتمكين، والجديد هو الأول، وهو الصحيح. واستدلله بأن النبي صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ عَائِشَةَ [وَدَخَلَ] بِهَا بَعدَ سَنَتَينِ، وما نقل أنه أنفق عليها قبل أن يدخل بها، ولو كان النقل، ولو

كان حقاً لساقه إليها، [ولما استحل أن يقيم على الامتناع من حق واجب عليه، ولكان إن أعوزه الحال يسوقه إليها] من بعد، أو يعلمها بحقها ثم يستحلها؛ لبراءة ذمته؛ وذلك يدل على عدم الوجوب بالعقد. ولأن النفقة مجهولة، والعقد لا يوجب مالاً مجهولاً، وإذا لم تجب بالعقد فتجب بالتمكين يوماً فيوماً. وهذان القولان ادعى ابو الفرج السرخسي أنهما منقولان في "الإملاء"، وادعى الإمام وغيره أنهما مستخرجان من معاني كلام الشافعي- رضي الله عنه- وادعى الرافعي أن من جملة ما يدل على ذلك ما حكيناه عن الماوردي أولاً. وفيه نظر؛ لأن الماوردي صدر كلامه بأنها لا تجب بالعقد، وأن على قول البصريين تجب بالعقد والتمكين شرط، ومحال أن يجب الشيء قبل وجود شرطه. نعم، يمكن رده إليه؛ بأن يجعل التمكين- على قول البصريين- شرطاً في التسليم، لا في نفس الإيجاب؛ كما حكاه عن القديم. واعلم أن في هذه العبارة: "أن النفقة تجب بالتمكين [أو بالعقد] "- تساهلاً؛ فإن الإمام قال: إن النفقة الدارة لا تجري مجرى الأعواض- على التحقيق- وإنما هي كفاية في مقابلة ارتباط المرأة بحالة الزوجية؛ فإن للزوج سلطان منعها عن التسليط، فقابل الشرع ما أثبت له من الأحكام عليها بإيجاب كفاية وظييفتها عليه، والصداق هو المذكور على صيغة الأعواض في مقابلة البضع، ثم صح عند المحققين أنه خارج عن حقائق الأعواض، وإذا كان لا ينتصب الصداق عوضاً محققاً فالنفقات لا يتحمل ثبوتها عوضاً في العقد، ولكن انقدح معنيان: أحدهما: احتباسها بالعقد على الزوج. والآخر: تمكن الزوج من الاستمتاع. ولم يختلف العلماء أنها لو نشزت فلا نفقة لها في زمان النشوز؛ فلما لم

تكن النفقة عوضاً لمنافع البضع حتى يتوقف استقرارها على توفية المنافع المقابلة مقابلة الأعواض على التحقيق- قال قائلون: تجب بالعقد النفقة، ومعناه أنها تجب بالاحتباس الذي أوجبه العقد. وقال آخرون: تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع، والله أعلم. قال: فلو ضمن عنه نفقة مدة معلومة، أي: في المستقبل- جاز، أي: تفريعاً على القول القديم؛ لأن في القديم يصح ضمان الدين الذي لم يجب، ولم يوجد سبب وجوبه؛ فكيف وقد وجد الوجوب؟ وعلى هذا: فلا يضمن إلا نفقة المعسرين، وإن كان الزوج موسراً أو متوسطاً؛ لأنها المنتفية. وفي "التتمة" وجه آخر: أنه يصح ضمان نفقة المعسرين والمتوسطين؛ لأن الظاهر استمرار حاله. ولو ضمن النفقة مطلقاً، ولم يقيد بمدة- قال الرافعي: لم يصح ضمان ما بعد الغد، وفي ضمان الغد وجهان؛ أخذاً من الخلاف فيما إذا قال: أجرتك كل شهر بدرهم. قلت: وهذا لا يحسن إذا كان التفريع على القديم؛ لأن ضمان المجهول فيه جائز، كما تقدم. وقد حكى الشيخ أبو حامد أن الشافعي قال: لو قال الأب لولده: ضمنت لك النفقة أبداً- فهذا ضمان مجهول. وقد أجازه كذا حكاه مجلي في الضمان. وعلى القول الجديد: لا يصح ضمان نفقة الزمان المستقبل؛ لأنه ضمان ما لم يجب. وأشار الإمام إلى أنه على قولين، مع تفريعنا على أن ضمان ما لم يجب باطل؛ لأن سبب وجوب النفقة على تعاقب الأيام ناجز. وهذا ما أورده الغزالي حيث قال: وفي ضمان نفقة المرأة الغد- وكذا كل ما لم يجب ولكن جرى سبب وجوبه- قولان في الجديد. قال الرافعي: "وفيه إشكال، لأن سبب النفقة إما النكاح أو التمكين في النكاح: إن كان الأول فالنفقة واجبة؛ فكيف قال: ولم تجب؟ وإن كان الثاني فالسبب غير موجود.

ويجوز أن يقال في الجواب: ليس المراد من سبب الوجوب هاهنا ما [يقترن به] الوجوب؛ بل المراد منه الأمر الذي إذا وجد، استعقب الوجوب ظاهراً عند وجود أمر آخر، ويتأيد ذلك بأنهم نقلوا قولين فيما إذا ضمن أرش الجناية وما يتولد منها، ومعلوم أن الجناية ليست سبباً لما يتولد منها إلا على هذا التفسير. وأما عند قولنا: سبب الوجوب النكاح أو التمكين، فنعني به: ما يقترن به الوجوب، هذا آخر كلامه في كتاب الضمان. قلت: [و] قد يظهر أن الخلاف الذي حكاه الإمام في الجديد يستنبط مما حكيناه عن البغداديين والبصريين في أن النفقة بماذا تجب؟ ويتفرع على القولين- الجديد والقديم- أيضاً [فوائد] عند المراوزة: منها: لو اختلفا في التمكين، فقالت المرأة: مكنت وسلمت نفسي من وقت كذا، وأنكر الزوج- فإن قلنا بالقول الجديد فالقول قوله، وعليها البينة، وإلا فقولها، وهو ما نسبه البغوي إلى "الإملاء". وقد أشار الروياني إلى القطع بأن القول قوله، وهو الذي يقتضيه إيراد الشيخ على القول القديم- أيضاً- فإنه جعل التسليم شرطاً في وجوب التسليم، والقاعدة: أنه متى وجد الشك في الشرط لا يترتب الحكم، ويكون الشيخ نبه بقوله: "إلا أنه لا يجب التسليم إلا بالتمكين يوماً فيوماً" إلى هذا الحكم. ومحل الخلاف مصور في "الوجيز" و"الوسيط" بما إذا تنازعا في النشوز. قال الرافعي: ولفظ الأكثرين كما صورناه فيه، ويجب أن يكون ما ذكره محمولاً عليه. أما إذا توافقا على حصول التمكين، واختلفا في أنها نشزت وخرجت عن الطاعة أم لا- قال: فينبغي أن يقطع بتصديقها؛ فإن الأصل عدم النشوز، واستمرار الواجب، وهكذا ذكره القاضي ابن كج بعدما أجاب فيما إذا اختلفا في أصل التمكين بأن القول قوله. وحكى مع ذلك وجهاً ضعيفاً: أن القول- أيضاً- قوله؛ لأن الأصل براءة الذمة. هذا آخر كلامه، وما أبداه احتمالاً ونقلاً عن

القاضي هو ما حكاه الإمام، [و] هو- أيضاً- في نكاح المشركات. ومنها: إذا لم يطالبها بالزفاف، ولم تمتنع هي منه، ولا عرضت نفسها عليه، ومضت مدة- فتجب النفقة على القديم، وأما على الجديد، فلا، وهو ما حكى الإمام عن العراقيين القطع به، وهو قضية ما ذكرناه من قبل، وبه يظهر تقوية الاحتمال، ثم قال: وليس من الممكن القطع به. قال: وإن نشزت، أي: منعته من الاستمتاع بها في الموضع الذي أراده من غير عذر، أو سافرت بغير إذنه، أي: ولم تكن معه، أو أحرمت، أو صامت تطوعاً، أو عن نذر [في الذمة أو نذر] معلق بزمان بعينه نذرته بعد النكاح بغير إذنه- سقطت نفقتها؛ لأنها تجب بالتسليم، أو تستقر به؛ فسقطت بالمنع؛ كالأجرة إذا امتنع الآجر من تسليم العين حتى مضت مدة؛ فإنه يسقط ما بإزائها. ولأنها وجبت؛ لكونها معطلة المنافع بسبب الزوج، محبوسة عنده؛ ولهذا لو امتنع من الإنفاق عليها كان لها أن تمتنع من التمكين؛ فإذا نشزت، سقط ما يقابل التمكين.

ولا فرق في النشوز بين أن يكون من مكلفة أو غير مكلفة، ولا بين أن تكون حائلاً أو حاملاً. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن من أصحابنا من قال: إن قلنا: إن النفقة للحمل، وجبت. والأصح خلافه؛ لأن ذلك بعد البينونة. ولا فرق بين أن يكون في جملة اليوم، أو بعضه على الأصح. وفي وجه: إذا وجد في أثنائه توزع نفقته على زمن التمكين والنشوز فيه، كما تقدم. فعلى هذا: لو نشزت بالليل دون النهار، أو بالعكس- استحقت الشطر، ولا نظر إلى طول أحدهما وقصر الآخر. ولا فرق في السفر بغير الإذن بين أن يكون في حاجتها أو حاجته. نعم، لو سافرت معه من غير إذنه، عصت، واستحقت النفقة؛ قاله الرافعي في قسم الصدقات. وألحق في "التهذيب" عصيها بسفرها بغير الإذن، ولو خرجت من منزله بغير إذنه سقطت النفقة وإن لم يوجد السفر، اللهم إلا أن يكون لزيارة أبيها أو عيادته؛ فلا تسقط، كما صرح به البغوي. وكذا لو خرجت لإشراف المنزل على الانهدام، أو كان لغير الزوج؛ فأزعجت. ولو عادت إلى المنزل بعد غيبة الزوج فلا تعود نفقتها- على الأصح- ما لم تعرض نفسها عليه، كما تقدم. وفيه وجه: أنها تعود بالعود، وقيده في كتاب "التهذيب" بما إذا كان الخروج في غيبته، وجزم بعدم العود فيما إذا كان الخروج في حضوره والعود في غيبته. وقال الإمام: الذي أرى نظمه أن نشوزها إن ظهر وانتشر كان في عود النفقة بعودها إلى الطاعة الخلاف السابق، وإن جرى نشوز خفي من غير إظهار ثم فرض العود، ففي المسألة طريقان:

من أصحابنا من قطع بأنا لا نشترط الإعلام. ومنهم من أجرى الخلاف. وهذه المسألة شبيهة بما إذا تزوجت امرأة المفقود، ثم عادت إلى منزل الزوج الأول بعد فسخ نكاح الثاني، تفريعاً على الجديد، وقد حكيت فيها طريقين. ولا فرق [في سقوط النفقة بالإحرام بغير الإذن بين أن يكون الزوج محرماً أو غير محرم كما لا فرق] في نشوزها بخروجها من المنزل بين أن يكون الزوج حاضراً أو مسافراً، ولا بين أن يكون ما أحرمت به فرضاً- وقلنا: له أن يحللها منه- أو تطوعاً؛ كما تسقط نفقتها بالهروب، وإن كان قادراً على الرد. ثم المسألة مصورة في "الشامل" بما إذا خرجت مسافرة. وفي كلام الماوردي إشارة إليه أيضاً، والمراوزة قالوا: إن أحرمت بفرض، وقلنا: له أن يحللها على الأصح، أو كان تطوعاً- فإن له أن يحللها وجهاً واحداً، فإذا لم يحللها فلها النفقة: ما لم تخرج- على الأصح- فإذا خرجت: فإن كان- أيضاً- بغير إذنه فلا نفقة، وإن كان بإذنه: فإن سافر معها لم تسقط- على الأصح- وإن لم يكن معها فقولان. واشترط القفال في وجوب النفقة ألا ينهاها عن الخروج. وإن قلنا: إنه ليس له أن يحللها، سقطت نفقتها [بمجرد الإحرام على الأصح بخلاف ما إذا أحرمت بإذنه فإنها لا تسقط] بمجرده- على الأصح- ولا إذا خرجت على وجه، وفيه وجه: أنها لا تسقط ما لم تخرج. قال الرافعي: وقد حكي وجه أو قول مطلق: أن الإحرام لا يؤثر في النفقة؛ لأنها تسقط فرضاً عن نفسها. وفي صوم التطوع وجه محكي في "المهذب" وغيره: أنه لا يستقط النفقة. وقال الماوردي: إن لم يدعها إلى الخروج منه بالاستمتاع فهي على حقها، وإن دعاها، فأبت، كانت ناشزة وسقطت نفقتها؛ إن كان ذلك في أول النهار، وإن كان في آخره فلا؛ لقرب الزمان والتحاقه بزمان الأكل والشرب.

ويفهم من كلامه: أنه لو دعاها إلى الخروج لغير الاستمتاع، فلم تفعل- كانت على حقها؛ وهذا وجه حكاه في "العدة" ثالثاً. قال الرافعي: وقد استحسن الروياني هذا التفصيل، والأكثرون سكتوا عنه. ولا فرق في الصوم عن نذر في الذمة بين أن تكون نذرته قبل النكاح، أو بعده؛ لكونه غير واجب على الفور، وحق الزوج واجب على الفور؛ فأشبه الحج. وألحقه الماوردي بصوم الكفارة، والحكم فيه عنده: أنها إن دخلت فيه بعد أن نهاها سقطت نفقتها، وإن لم يمنعها منه حتى دخلت فيه- ففي [إجبارها على الخروج منه] وجهان: أحدهما: [له] ذلك، فإن أقامت سقطت نفقتها. والثاني: لا. فعلى هذا ينظر: إذا كان التتابع فيه مستحقاً سقطت نفقتها، وإلا ففي سقوط النفقة وجهان: أحدهما: لا تجب كالتتابع. والثاني: تجب. وهما مأخوذان من اختلاف وجهي أصحابنا في وجوب نفقة الأمة إذا سلمت ليلاً ومنعت نهاراً: تجب نفقتها أو لا؟ على وجهين. هذا آخر كلامه، ومقتضى هذا التخريج أن يجيء وجه آخر: أنها تستحق شطر النفقة

كما حكيناه في الأمة، وطرده في "التهذيب" في كل صوم قلنا: إنه يسقط النفقة. والصوم عن نذر تعلق بزمان بعينه بعد النكاح، له منعها منه؛ لأنه استحق الاستمتاع بها في وقته قبل لزومه، فقدم؛ لسبقه، فإن دخلت فيه سقطت نفقتها، وإن كان بإذنه، فليس له ذلك، وعليه النفقة. ونقل إبراهيم المرورذي فيه وجهين، سواء نذرته قبل النكاح أو بعده. [ولو] كان الصوم الذي شرعت فيه قضاء شيء من شهر رمضان، فإن لم يبق من شعبان إلا قدر ما عليها [لم يكن له منعها، وكانت على حقها من النفقة كصومها في رمضان، وإن كان أكثر من ذلك] ولم تكن متعدية في الإفطار- فله منعها. وإن دخلت فيه ففي جواز إجبارها على الفطر وجهان مخرجان من اختلاف قوليه في إجبارها على إحلالها من الحج، فإن قلنا: له التحليل- فامتنعت- سقطت نفقتها. وفي "الشامل" حكاية وجه في كل صوم قلنا: إن له أن يمنعها منه، فلم تفطر – أن نفقتها لا تسقط، كما هو محكي في صوم التطوع. وإن قلنا: ليس له، ففي وجوب النفقة [وجهان: أحدهما:] لا كالحج. والثاني: نعم. والفرق من وجهين: أحدهما: قرب زمان الصوم، وقدرته على الاستمتاع بها في ليله. والثاني: أنها مقيمة في منزله، بخلاف الحج؛ فإنها خارجة منه. وحكى الغزالي وغيره الخلاف في جواز المنع من المبادرة. وإن كانت متعدية بالإفطار فالقضاء يجب على الفور، وهل تسقط نفقتها؟ فيه وجهان، المذكور منهما في "التهذيب": عدم السقوط، وفي "التتمة": السقوط. فرعان: [أحدهما]: لو اعتكفت تطوعاًن أو عن نذر في الذمة، أو زماناً [عينته بنذرها] بعد النكاح بغير إذنه: فإن كان في مسجد بيتها، وجوزناه- لم تسقط

نفقتها، وإن كان في المسجد سقطت. وإن كان عن نذر متقدم على النكاح، فلا منع منه، ولا تسقط النفقة، ولو كان بإذنه: فإن كان معها فنفقتها مستمرة، وإلا فقولان [يأتي] مثلهما في السفر في حاجتها. وفي كتاب ابن كج [وجه]: أنه إن قصرت مدته بأن لم يزد على يوم، لم يؤثر، وإذا قلنا بسقوط النفقة فالساقط جميعها؛ كما في الإحرام، قاله الجيلي. الثاني: إذا شرعت في الصلاة، فإن كانت صلاة فرض فليس له أن يحللها، وإن كانت قضاء، أو في أول الوقت، وإن جاز تأخيرها بخلاف فرض الحج. والفرق: أن تعجيل الصلاة لأول وقتها فضيلة تتعلق بالوقت؛ فلم يكن له تفويتها عليها، وتعجيل الحج احتياطاً لا يختص بفضيلة تفوت؛ فافترقا. وهل له منعها من الدخول فيها في أول الوقت؟ فيه وجهان، والأصح لا. وليس له منعها من الشروع في قضاء الصلاة مطلقاً، ولكن لو أرادت أن تحرم بها، وأراد الاستمتاع، فمن المقدم منهما؟ فيه وجهان. اختيار الشيخ أبي حامد منهما: الزوج. واختيار الماوردي: الزوجة. ولو كانت الصلاة نفلاً؛ نظر: فإن كانت من الرواتب التابعة للفرائض والضحى فليس له منعها ولا تحليلها. وفيه وجه: أن له المنع من الاستدامة. وصوم يوم عرفة وعاشوراء في الصيام ملحق بهذه الرواتب في الصلوات. وإن كانت من الرواتب التي شرع لها الجماعة: كالعيدين والكسوفين والاستسقاء- فله منعها من الخروج من منزله، وليس له منعها [من فعل ذلك في البيت، وإن كانت لا سبب لها فله منعها] إذا دعاها إلى الاستمتاع، وله قطعها بعد الدخول، فإن امتنعت، فهل تسقط نفقتها؟ يتجه أن يخرج على الوجهين في صوم التطوع. ويمكن أن يفرق بينهما بقصر المدة، كما تقدم.

وصوم يوم الاثنين والخميس في الصيام ملحق بالنوافل غير الراتبة من الصلوات. قال: وإن سافرت بإذنه، أي: في حاجتها من حج أو غيره، ولم يكن معها- ففيه قولان: أحدهما: أنها لا تسقط، لأنها سافرت بالإذن؛ فأشبه ما إذا سافرت في حاجته، فإنه لا نزاع في وجوب النفقة، وهذا أظهر عند الماوردي- على ما حكاه- فيما إذا أحرمت بإذنه، ولم يسافر معها، وذكر هو وغيره أنه ظاهر النص هنا. وأظهرهما عند أكثر الأصحاب: أنها تسقط؛ لأنها غير ممكنة، وبه قطع بعضهم، وحمل النص على ما إذا سافر معها، وهو متفق فيه على الوجوب. قال الرافعي: وقد يبنى القولان على أن النفقة تجب بالعقد أو التمكين؟ إن قلنا بالأول وجبت؛ لأنه لا نشوز، وإن قلنا بالثاني لم تجب. قلت: وما قاله متجه على طريقة المراوزة، أما على طريقة الشيخ، فلا. ويجري القولان، على ما حكاه المتولي فيما إذا أجرت نفسها بإذن. قال: وإن أسلم الزوج وهي في العدة، أي: شرعت فيها بإسلامه؛ لكونها غير كتابية ومدخولاً بها- لم تجب لها النفقة؛ لأنها ناشزة بالتخلف ممتنعة من التمكين. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجه في الوجوب؛ وهذا إذا أخرت إلى انقضاء العدة. قال: وإن أسلمت أي: في العدة؛ ففيه قولان: أصحهما: [أنها] لا تستحق لما مضى، وهو الجديد؛ كما لو سافر الزوج، وأراد مسافرتها، فتخلفت، ثم عادت إلى الطاعة؛ فإنها لا تستحق لما مضى شيئاً. والثاني- وهو القديم-: أنها تستحق؛ لأنها ما أحدثت شيئاً، والزوج هو الذي بدل الدين؛ فحصل بإسلامه تشعث في العقد وخلل، وقد زال بإسلامها، واستقرت له الزوجية؛ فاستحقت النفقة.

فعلى الجديد: لو اختلفا: فقال الزوج: أسلمت من عشرة أيام، وقالت: بل من شهر- فالقول قوله مع يمينه. وكذا على القديم لو قالت أسلمت في العدة، وقال بل بعدها فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم الاستحقاق. ولو أسلمت المرأة أولاً، وتخلف الزوج- وجبت النفقة، سواء أخر إلى انقضاء العدة أو أسلم فيها؛ لأنها أدت فرضاً مضيقاً؛ فلم تسقط نفقتها به كصوم رمضان. ولأنه متمكن من رفع هذا المانع بإسلامه؛ فكان عليه النفقة كما في الطلاق الرجعي. وحكى ابن خيران وصاحب "الإفصاح" وغيرهما وجهاً: أنه لا نفقة لها في مدة التخلف إذا أسلم في العدة، لأنه استمر على دينه، وهي التي أحدثت المانع من الاستمتاع. وإذا جرى هذا الوجه، وقد عاد إلى الإسلام في العدة- فلأن يجري إذا لم يعد كان أولى؛ لأنا نتبين- إذن- أن النكاح قد زال من حين الإسلام. وإطلاق الشيخ في "المهذب" يقتضي جريانه فيها، وقد صرح به الإمام ورجحه، وضعف مقابله، وهو الذي رجحه الأكثرون، والمنصوص في "المختصر". قال في "التتمة": ويخالف ما إذا سبقت إلى الإسلام قبل الدخول؛ حيث يسقط المهر، وإن أحسنت؛ لأن المهر عوض العقد، والعوض يسقط بتفويت [العاقد] مدة المعقود عليه، وإن كان معذوراً؛ كما لو باع طعاماً، ثم أكله وهو مضطر إليه، والنفقة في مقابلة التمكين، وإنما تسقط عند التعدي ولا تعدي. واعلم أن الشيخ لم يتعرض لذكر هذه المسألة؛ لأنه في معرض بيان ما يسقط النفقة بعد وجود سبب وجوبها، والنفقة لا تسقط فيها؛ فلذلك لم يذكرها. فرع: على المذهب: لو اختلفا في سبق الإسلام؛ فقال الزوج: أسلمت أولاً؛ فلا نفقة لك، وقالت: بل بعدي؛ فلي النفقة- فمن القول قوله؟ فيه وجهان: أشبههما وهو المذكور في "التهذيب"، والمحكي عن ابن أبي هريرة: أنه الزوجة مع يمينها؛ لأن النفقة كانت واجبة عليه وهو يدعي السقوط؛ فأشبه ما لو ادعى عليها أنها نشزت وأنكرت.

قال: وإن ارتدت- أي: بعد الدخول- سقطت نفقتها- أي: في زمن العدة- لإساءتها ونشوزها، فإن أسلمت قبل انقضاء العدة، فقد قيل: لا تستحق؛ كما لو نشزت ثم عادت إلى الطاعة، وهذا ما أجاب به القاضي الحسين. وقيل: على قولين- كالمسألة قبلها- لأنها على شرك تحرم به، وهو مسلم؛ فهو كما لو أسلم وتحته وثنية؛ هكذا عللها البندنيجي، وادعى ابن الصباغ أن هذه الطريقة أقيس. والفرق على الطريق الأول، وهو الذي أجاب به الماوردي أيضاً، ونفيا مجيء خلافه: أنها ثم أقامت على دينها، ولم تحدث شيئاً يقتضي المنع، وهاهنا أحدثت الردة، وهي تقتضي المنع؛ فغلظ عليها. ولا نزاع في أنها تستحق النفقة من حين عودها إلى الإسلام وإن كان الزوج غائباً، [وكذا إن كانت وثنية وأسلمت والزوج غائب] ويخالف ما إذا نشزت، ثم غاب الزوج، ثم عادت؛ فإن النفقة لا تعود حتى تعود إلى يده أو يد وكيله، أو يرسل إليه الحاكم- كما ذكرنا- لأن النفقة هاهنا سقطت بالكفر، وقد زال بالإسلام، وثم سقطت بالامتناع والخروج عن اليد؛ فلم تعد إلا بالتسليم، هذا مذهب العراقيين. وفي "النهاية": أن أئمة المراوزة لم يفصلوا بين أن يكون سقوط النفقة بالخروج من مسكن النكاح أو غيره. ولو ارتد الزوج فعليه النفقة في مدة العدة. وإن ارتدا [معاً]، قال في "التهذيب": هو كما لو ارتدت المرأة. قال الرافعي: ويشبه أن يجيء فيه خلاف؛ كما لو ارتدا معاً قبل الدخول: ففي وجه: يسقط نصف المهر. وفي وجه: لا يجب؛ كما لو ارتدت هي. وإن طلقها طلقة رجعية وجبت لها النفقة والسكنى؛ لما روى الدارقطني عن فاطمة بنت قيس في حديث طويل، وقد طلقها زوجها ثلاثاً أنها قالت: فأتيت

رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لي سكنى، ولا نفقة، وقال: "إِنَّمَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لِمَنْ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ" وخرجه النسائي أيضاً. ولأن الزوجية باقية، والتمكين من جهتها مستمر، وإنما المنع من جهته، وهو قادر على الإزالة. قال الماوردي: وهذا إجماع. قال الرافعي: ويجب لها مع النفقة والسكنى سائر المؤنات المختصة بالزوجات، إلا آلة التنظيف؛ فإن الزوج ممتنع عنها. قاله في "البسيط" وغيره. فروع: لو ظهر بها بعد انقضاء الأقراء أمارات الحمل، فعلى الزوج الإنفاق عليها، قال الماوردي: يوماً بيوم وجهاً واحداً. فإذا أنفق، ثم بان أنه لم يكن حملا؛ فله استرداد ما زاد على مدة الأقراء، ويرجع إليها في الأقراء إذا ادعت جريانها على مقتضى عادتها، وكذا إن ادعت نقصاناً عن عادتها، وإن ادعت تباعد حيضها فكذلك على المذهب. ونقل القاضيان أبو الطيب وابن كج أنها لا نفقة لها، وله الرجعة وعليها العدة على وجه، ولا يختص بهذه الصورة، بل يجري فيما لو ادعت ذلك ولا حمل أصلاً. فإن قالت: لا أعلم متى انقضت الأقراء، رجعنا إلى عادتها المضبوطة في الطهر والحيض، فإن ادعت اختلافها رجعنا إلى أقل عادة، ورجع الزوج فيما زاد. وإن قالت: نسيت عادتي، رجع بنفقة ما زاد على ثلاثة أشهر على النص، وقال الشيخ أبو حامد: يبنى الأمر على أقل ما يمكن انقضاء العدة به، وهذا ما أورده أبو الفرج السرخسي والماوردي. قال الرافعي: وهو قريب من الخلاف في مدة المبتدأة. ولو وضعت ولداً لا يلحق الزوج، فإن ادعت أنه من زوج يلحقه بعد انقضاء العدة، أو من وطء شبهة فعليها رد ما زاد على مدة الأقراء، وإن ادعت أنه جرى

في أثناء الأقراء فعليها بعد الوضع أن تتم عدة المطلق، وعليه النفقة فيها، وأما ما في مدة الحمل فقد جزم الماوردي بأنه يسترجع ما زاد على مدة [الأقراء]. وغيره بنى ذلك على أن هل له الرجعة فيها أم لا؟ فإن قلنا: لا رجعة له، فلا نفقة، وإن قلنا: له، فوجهان، وهذا أظهر. وقيل: إن قلنا له الرجعة، وجبت، وإلا فوجهان، والظاهر أنه لا نفقة لها؛ فيسترجع ما أخذته بإزاء ذلك. والحكم فيما ادعت أن وطء الزوج الثاني أو الأجنبي عقيب طلاق الأول كذلك؛ فتعتد عن الزوج بعد الوضع بثلاثة أقراء، ويجب عليه نفقتها فيها، وله الرجعة فيها إن صدقها، وإلا فلا رجعة له. وأما نفقة مدة الحمل فيسترجعها على رأي الماوردي وعلى رأي غيره يظهر أن يجيء فيه ما ذكر في الصورة قبلها. ولو أشكل الحال في وقت وطء الثاني، فالحكم كما في المسألة قبلها إلا في ثبوت الرجعة، صرح به الماوردي. وإن قالت: وطئني الزوج الأول، فإن صدقها، لحق به الولد، وانقضت به العدة، وأما النفقة فتستحقها في مدة الأقراء، وفي مدة الحمل قولان؛ لأنه من وطء شبهة. وإن أكذبها فهو المصدق بيمينه، ولا يلحق به الولد، ولا تنقضي به العدة على الظاهر من المذهب، وهو قول جمهور أصحابنا، خلافاً للشيخ أبي حامد في انقضاء العدة. وعلى القولين تسأل عن وطئه: فإن قالت: بعد مضي الأقراء، استرد ما أنفقه بعد اقنضائها، وإن قالت: عقيب الطلاق، وأمكن أن يكون الولد من ذلك الوطء- فقد بان أنها ما مضت عدتها؛ فترد ما أخذت، وتعتد بعد الوضع بثلاثة أقراء، ولها النفقة فيها، كذا ذكره ابن الصباغ وغيره. قال الرافعي: وإنما يستمر ذلك على قولنا: إن العدتين المختلفتين من شخص واحد لا تتداخلان.

وفي "الحاوي": أنها لا تستحق النفقة- أيضاً- في زمن الأقراء بعد الوضع؛ لإقرارها بانقضاء العدة بالولادة، والرجعة له فيها أيضاً؛ لإكذابها فيما ادعته. [فرع] آخر: إذا وطئت المطلقة طلاقاً رجعياً بشبهة، وظهر بها حمل يمكن أن يكون منهما- وجب [الإنفاق] عليهما إن قلنا: إن النفقة للحمل، ويجب التعجيل. وإن قلنا: للحامل، فلا تجب على الزوج؛ لاحتمال أن يكون من الواطئ؛ [فلا تكون في عدته]، ولا على الواطئ؛ لأنه لا يجب عليه النفقة لو تحقق أنه منه، فكيف مع الشك؟ وإذا وضعته وأتمت الأقراء، قال الماوردي وابن الصباغ: يؤاخذ الزوج بنفقة أقصر المدتين؛ لاستحقاقها يقيناً، فإن كانت مدة الحمل أقصر أخذ بنفقتها في مدة حملها، وإن كانت مدة الأقراء أقصر أخذ بنفقة الباقي منها، ثم يراعى حال الحمل بعد الولادة كما سنذكره من بعد. وإن قلنا: للحمل ولا يجب التعجيل، فيكون الحكم في الحال كما إذا قلنا: إنها للحامل. ولايخفى ما يترتب على ذلك من بعد. فإذا وضعت: فإن ألحق بالزوج وجب عليه نفقة ما مضى. وإن ألحقوه بالواطئ لزمه نفقة ما مضى، وتعتد عن الزوج بالأقراء، ويجب عليه نفقتها في الأقراء، وهل تجب في مدة النفاس؟ فيه وجهان. وإذا لم يلحقه القائف بواحد منهما فيجب لها على الزوج أقل الأمرين من نفقة الحمل أو نفقة الأقراء، ونفقة الولد عليهما نصفين، فإذا انتسب إلى الزوج، وكانت نفقة مدة الحمل أكثر-[رجعت عليه] بما بقي منها، وإلا فلا شيء لها. وأما رجوع أحدهما على الآخر: فإن كان الذي لم يلحقه نسبه يدعي نسبه، لم يرجع على الآخر. وإن كان لا يدعي ذلك، فإن أنفق بقول الحاكم رجع وإلا لم يرجع. وهكذا الحكم فيما إذا أنفقا في حال الحمل. كذا قاله ابن الصباغ في العدد. وقال الماوردي: إذا أنفق بغير إذن الحاكم: إن شرط الرجوع في حال الإنفاق

رجع وإن لم يشترط لم يرجع. وحكى عن ابن أبي هريرة وجهاً: أنه يرجع بها؛ لأن بحملها من الاشتباه قد كان واجباً عليه؛ فاستوى في الرجوع بها حكم الحاكم وعدمه. أما لو لم يظهر بها حمل فلا نفقة على الزوج إن تأخر اعتدادها عنه، وقلنا: لا رجعة له. وإن قلنا: له الرجعة، فوجهان، [كذا قال في كتاب التهذيب]. [فرع] آخر: لو اختلفا: فقالت: وضعت قبل الطلاق؛ فلي النفقة، وقال: بل بعده؛ فلا نفقة لك- فالقول قولها، وليس له الرجعة. ولو قالت: وضعت بعد الطلاق، وقال: بل قبله- فله الرجعة، ولا نفقة لها في العدة. قال: وإن طلقها طلاقاً بائناً- أي: بعد الدخول- إما على عوض، أو تمام ما يملكه من العدد- وجبت لها السكنى، أي: حائلاً كانت [أو] حاملاً؛ لما تقدم في باب العدد، وأما كون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لفاطمة سكنى، فقد أجاب عنه سعيد بن المسيب حين قال له ميمون بن مهران: فاطمة بنت قيس طلقت؛ فخرجت من بيتها-: تلك امرأة فتنت الناس؛ إنها كانت لسنة؛ فوضعت في بيت ابن أم مكتوم الأعمى" على ما رواه أبو داود. قال: وأما النفقة: فإن كانت حائلاً لم تجب؛ لأن الله- تعالى- لما جعلها لها إذا كانت حاملاً دل على سقوطها بعدم الحمل، ولحديث فاطمة. وقد روى مسلم- أيضاً- "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةً". ولأن زوجتيها زالت؛ فلا تستحق النفقة بعد زوالها كالمتوفى عنها. فرع: لو ادعت المرأة أن الزوج أبانها وأنكر- فالقول قوله- ولا تستحق عليه

نفقة قاله الرافعي في القسم والنشوز أصلاً مقيساً عليه. قال: وإن كانت حاملاً وجبت؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، ولما روى أبو داود، عن فاطمة أنها قالت: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا نَفَقَةَ لَكِ إِلَّا أَنْ تَكُوني حَامِلاً". ثم محل وجوبها عند توافقهما على الحمل، أو شهادة أربع نسوة- عند إنكاره- فإن لم يكن ثم من يشهد فالقول قوله مع يمينه. وتجوز الشهادة بالحمل وإن كان لدون ستة أشهر إذا عرفنا ذلك، وفيه وجه: أنه لا يعتمد على قوله إلا بعد مضي ستة أشهر، ووجه حكاه القاضي الحسين: أنها تعتبر بعد مضي أربعة أشهر. قال: ولمن تجب؟ فيه قولان: أحدهما: لها- أي: بسبب الحمل- لأنها تجب على المعسر، وتختلف بيسار الزوج وإعساره، ومقدرة لا بالكفاية، وذلك من شأن نفقات الزوجات، دون الأقارب. ولأنها لو كانت للحمل لما وجبت على الأب إذا ملك الحمل مالاً من وصية أو ميراث، وفي إجماعهم على أنها على الأب دليل على أنها تجب للحامل دون الحمل. ولأنها لو كانت للحمل، لوجبت على الجد، عند إعسار الأب، وهي لا تجب، كذا ذكر الماوردي التوجيه الثاني والثالث، وفيهما شيء سأذكره من بعد- إن شاء الله تعالى.

وهذا القول هو الصحيح، والمنصوص عليه في "الأم" واختاره المزني. قال: والثاني: للحمل- أي: وصرفت لها- لأن غذاءه بغذائها، وإنما قلنا ذلك؛ لأنها لما وجبت بوجوده وسقطت بعدمه دلت على وجوبها له دون أمه. ولأن النفقة لما وجبت له بعد انفصاله، وجبت في حال اتصاله؛ لتحفظ بها حياته في الحالين، بل هو في حال الاتصال أضعف. ولأن نفقة المرضعة لما وجب للمرضع دونها، وإن تقدرت بكفايتها- كانت نفقة الحامل بمثابتها تجب للحمل دونها، وتتقدر بكفايتها دونه، كذا قاله الماوردي. وهذا القول منقول في "الإملاء"، وربما نسب إلى التقديم. ويتفرع على القولين مسائل نذكرها، إن شاء الله تعالى. قال: ولا تجب إلا على من تجب عليه نفقة الولد، أي: على القول الثاني، لأنه ولده. فإن [كان] المطلق عبداً أو حراً- والولد رقيق- فلا تجب عليه. وتجب عليه على القول الأول؛ لأن نفقة القريب مواساة، وليس من أهل المواساة، ونفقة الزوجة معاوضة في الأصل، والعبد من أهل المعاوضات. وقد استشكل الإمام قول الوجوب؛ لأنا وإن قلنا: إنها لها، فهي بسبب الحمل؛ فكان ينبغي ألا تجب كما في اللعان. ثم أجاب عن ذلك باتباع ظاهر نص الكتاب في المطلقات؛ لأنه لا تفرقة [فيهن بين أن يكون الزوج حراً أو عبداً، ولا] بين أن تكون الزوجة حرة أو أمة. قال: وهل يدفع إليها يوماً بيوم، أو لا يجب شيء منها حتى تضع؟ فيه قولان- أي: سواء قلنا: إنها لها أو للحمل كما صرح به في "المهذب" والبندنيجي وغيرهما: أحدهما- وهو الصحيح: الأول؛ لقوله تعالى: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]. ووجه الثاني: أن الأصل براءة الذمة عن النفقة، وقد انقطع عصام النفقة، ولم نستيقن سبباً متجدداً.

وبعضهم بناه على أن الحمل هل يعرف أم لا؟ والصحيح أنه يعرف؛ بدليل رد الجارية المبيعة به، وتحريم وطء المسبية حتى تضع، ولا تؤخذ الحامل في الزكاة، وتجب الخلفة في الدية، ولا يقام الحد على حامل. ومن الأصحاب من قال: القولان على اختلاف حالين: فالأول محمول على ما إذا تبين الظهور، والثاني: على ما إذا لم يتبين، بل ظهر أدنى ظهور؛ قاله الجيلي. التفريع: إن قلنا بالأول، فدفع، ثم بان أن لا حمل- رجع. وعلى الثاني إن كان الإنفاق بإذن الحاكم، أو صرح عند الدفع بأنها نفقتها إن كانت حاملاً، وأنه يرجع عليها إن لم تكن حاملاً- رجع، وإن فقد ذلك لم يرجع. وإن صرح بأنها نفقة، ولم يشترط الرجوع عند ظهور أن لا حمل- فوجهان، أصحهما في "الحاوي" وغيره: أنه يرجع. ولو لم ينفق عليها حتى وضعت الحمل، أو لم ينفق في بعض المدة: فإن قلنا بالثاني لم تسقط نفقة ما مضى، وإن قلنا بالأول فمنهم من قال: إن قلنا: إن النفقة للحامل فكذلك، وإن قلنا: للحمل، فتسقط؛ لأن نفقة القريب تسقط بمضي الزمان؛ وهذا ما أورده المتولي، والغزالي. ومنهم من قطع بعدم السقوط وإن قلنا: إنها للحمل، وعلى ذلك جرى البندنيجي، لأن المرأة مستحقة لها، وانتفاعها بها أكثر من انتفاع الحمل؛ فكانت كنفقة الزوجة، وهذا هو الظاهر، والذي عليه الجمهور. وحكى الإمام الوجهين عند الكلام في سقوط نفقة القريب بمضي الزمان. قال: وإن لاعنها ونفى حملها، وجب لها السكنى، لأنها معتدة عن فرقة نكاح في حال الحياة؛ فأشبهت المطلقة. وحكى القاضي أبو الطيب وجهاً: أنها لا تجب؛ لأنها إنما تجب [لتحصين] الماء، والولد منتف عنه. قال: دون النفقة؛ [لأن النفقة في حال] البينونة إنما تجب بسبب الحمل أو

له، وهو منتف عنه؛ فأشبهت الحائل. وفي تعليق القاضي الحسين حكاية وجه: أنها تجب إذا قلنا: إنها للحامل. ولا فرق في ذلك بين أن يكون اللعان في حال الزوجية [أو بعد البينونة إلا في استحقاق السكنى فإن القاضي أبا الطيب قال: إن قلنا: إنها حال الزوجية]، ففي حال البينونة يحتمل وجهين، فإذا لم نجوزه إلا بعد الوضع، فحكمها كما تقدم إلى الوضع، فإذا لاعن استرد النفقة، ولو أكذب نفسه بعد اللعان، رجعت عليه بالنفقة في زمن العدة، كذا صرح به الماوردي وغيره. وبعضهم قال: إن هذا بناء على أن النفقة للحامل، أما إذا قلنا: إنها للحمل، فلا ترجع. ولو أكذب نفسه [بعد] ما أرضعته، رجعت عليه بأجرة الرضاع، نص عليه في "الأم" وفيه وجه. وإن أنفقت عليه مدة، ثم رجع، رجعت عليه بما أنفقت؛ لأنها أنفقت عليه على ظن أنه واجب عليها، لا على سبيل التبرع، فإذا بان خلافه ثبت الرجوع، وشبه ذلك بما إذا ظن أن عليه ديناً، فقضاه، ثم تبين خلافه رجع. أما إذا لاعنها ولم ينف حملها، فهي كالمطلقة ثلاثاً في استحقاق السكنى والنفقة، وهذا هو الصحيح. وقد حكى الغزالي: أن فرقة اللعان تنسب إليها- على رأي- فتكون في استحقاقها السكنى والنفقة كما سنذكره فيما إذا انفسخ النكاح بسبب من جهتهاز ولا يخفى على الطريقة [المرجحة] أن اللعان من قبيل العوارض، والفراق به ليس مستنداً إلى حالة العقد. قال: ومن وطئ امرأة بشبهة، أي: سواء كانت شبهة نكاح فاسد أو غيره، وحملت منه- لم تجب لها السكنى؛ لأنها لا تستحقها في حال الاجتماع؛ فأولى ألا تستحقها بعد التفريق. وحكى الماوردي أنه قيل: [إن] لها السكنى أيضاً، إذا [قلنا]

[إنها] تستحق النفقة، وذكره فيما إذا كانت الشبهة في نكاح فاسد. قال: وفي النفقة قولان، أي: ينبنيان على أن النفقة للحامل أو للحمل؟ فإن قلنا: لها، لم تجب؛ [لأنها] لا تستحقها في حال التمكن فأولى ألا تستحقها بعده. وإن قلنا: إنها للحمل، وجبت؛ إذ الحمل تابع له، وهذا ما علل به الجمهور، ولم يرتض الإمام ذلك، وقال: إنما وجبت لها من جهة قيامها بتربية الولد وتنزيلها منزلة الحاضنة، وطرده في كل موضع قلنا: إنها تستحق النفقة، وهذا المعنى يقتضي القطع بإيجاب النفقة. ثم قال: وحاصل هذا الخلاف- عندي- يرجع إلى أن الولد إذا كان مجتناً هل تجب مؤنته؟ فعلى قول: نعم كالمنفصل، وعلى قول: لا؛ لأنه جزء من الأم ما دام مجتناً لا استقلال له. قال الرافعي: وتنزيل نفقة الحالم منزلة مؤنة الحاضنة بعد الانفصال لا اتجاه له وإن ردده الإمام مراراً؛ لأن الواجب هناك كفاية أمر من تحضنه، إما تبرعاً وإما بأجرة، من غير تقدير، وهذه النفقة مقدرة كنفقة الزوجات. قلت: إن كان المراد بمن تحضنه: غير المرضعة فالاعتراض صحيح، وإن كان المراد به: المرضعة، فقد تقدم عن الماوردي- عند الكلام: في أن النفقة لمن؟ ما يدل على أنها مقدرة [فدفع الاعتراض] على أنه- أيضاً- مشكل. ثم هذا كله فيما إذا كانت الموطوءة بالشبهة غير منكوحة، فإن كانت منكوحة، وحملت من وطء الشبهة، فإن أوجبنا النفقة على الواطئ بالشبهة، سقطت عن الزوج، وإن لم نوجبها عليه ففي سقوطها عن الزوج وجهان: أفقههما: السقوط؛ لفوات الاستمتاع عليه، وهذا ما جزم به في "التهذيب". والثاني: لا تسقط؛ لأنها معذورة فيه، وهذا ما أورده في "البسيط". قلت: ويجوز أن يكون مأخذ هذا الخلاف أنه هل يحل له التلذذ بها، أم لا؟ وفيه خلاف تقدم في باب العدد.

فإن قلنا: يحل، لم يفته جميع [وجوه] الاستمتاعات، [فتجب؛ كالمريضة. وإن قلنا: لا يحل فقد فاته جميع وجوه الاستمتاع]، فلا تجب؛ كالمحرمة. واستحسن الإمام توسطاً، وهو أنها إن كانت نائمة أو مكرهة فلها النفقة. وإن مكنت على ظن أنه زوجها، فهذا فيه التردد الذي حكاه الأصحاب. وما قاله قريب مما قاله الشيخ أبو علي فيما إذا وطئ زوجة أبيه؛ [كما ذكرناه في باب: ما يحرم من النكاح. وحكم أم الولد، إذا أعتقها سيدها]، وهي حامل- حكم الموطوءة بالشبهة، صرح به القاضي الحسين. قال: وإن توفي عنها لم تجب لها النفقة في العدة- أي: وإن كانت حاملاً-[لأنها إذا كانت حائلاً بانت بالموت؛ فأشبهت البائن بالطلاق، وإن كانت حاملاً]، فهي إنما تجب إذا كانت الفرقة بالطلاق، إما للحمل وإما بسببه، ونفقة القريب تنقطع بالموت. قال: وفي السكنى قولان: أحدهما: أنها لا تستحقها؛ لأنها تجب يوماً بيوم؛ فلم تجب كالنفقة، وهذا ما اختاره المزني، وصححه منصور اليمنى في "المستعمل" والغزالي في "الخلاصة". وروي "أَنَّ عَلِيًّا-[رَضِي اللهُ عَنْهُ]- نَقَلَ أَمَّ كُلْثُوم بَعْدَمَا اسْتُشْهِدَ عُمَرُ- رَضِيَ اللهُ عنه- بِسَبْعِ لَيَالٍ". والثاني: أنها تستحقها، وهو الأصح عند العراقيين، وتابعهم الروياني وغيره. ووجهه: ما روى أبو داود أن فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري قتل زوجها؛ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترجع إلى أهلها، فإنه لم يتركها في مسكن

يملكه، ولا نفقة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم"، فخرجت حتى صارت إلى الحجرة أو في المسجد، فدعاها وقال: "كَيْفَ قُلْتِ"؟ فأعادت عليه القصة، فقال: "امْكُثِي فِي بِيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ" قال: فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشراً، فلما كان عثمان أرسل إلي، فأخبرته القصة؛ فقضى به واتبعه. قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. ومن قال بالأول، قال: قوله: "امكثي في بيتك" ندب لها إلى الاعتداد في ذلك البيت، والمذكور أولاً بيان أنه لا سكنى لها. وقد ذهب كثير من الأصحاب إلى بناء القولين على التردد في أن حديث فريعة منزل على هذا الترتيب، أو الأول حكم بأنه لا سكنى لها، والذي ذكره آخراً ينسخ الأول. وفي "الجيلي": أن صاحب "الحلية" قال: تجب لها السكنى إن كانت حاملاً، على الأظهر. ولم يذكر أحد من المصنفين هذا التقييد سواه. ومحل الكلام في المسألة إذا لم يتقدم الموت طلاق، أما إذا تقدمه طلاق بائن فلا نزاع في وجوب السكنى لها، ولا نفقة لها إن قلنا: إنها للحمل، وإن قلنا: إنها للحامل، فوجهان: اختيار ابن الحداد- وهو الأصح عند الإمام-: أنها تسقط أيضاً؛ لأنها كالحاضنة، ولا تجب نفقة الحاضنة للولد بعد الموت. وعن الشيخ أبي علي: أنها لا تسقط؛ لأنها لا تنتقل إلى عدة الوفا’، بخلاف الرجعية، بل تعتد عن الطلاق، والطلاق كان يوجب هذه النفقة دفعة واحدة؛ فتصير كدين عليه، وهذا أقيس عند الغزالي. واعلم أن الشيخ – رحمه الله- سكت عن نوع آخر من المعتدات، وهن المفسوخ نكاحهن بعد الحكم بصحته، وللأصحاب في استحقاقهن السكنى طرق: أحدها: أنها تستحق وجهاً واحداً، وهو ما حكاه في "المهذب"، قال في "التتمة": وهو الصحيح.

والثاني: إطلاق قولين: في قول: تستحق، كالمطلقة؛ تحصيناً لمائه. وفي قول: لا؛ لأن إيجاب السكنى بعد زوال النكاح كالمستبعد، وهي إنما وجبت بالنص في المطلقة؛ فيبقى حكم غيرها على الأصل. والثالث: إن كان لها مدخل في ارتفاع النكاح؛ بأن فسخت بالعتق، أو بالعيب، أو فسخ بعيبها- فلا سكنى. وإن لم يكن لها مدخل [كما إذا انفسخ بإسلام الزوج، أو ردته، أو رضاع من أجنبي- فقولان. والرابع: إن كان لها مدخل] – كما ذكرناه-[لم تجب وإن لم يكن] وجبت. والخامس: أن الفرقة إن كانت بعيب أو غرور فلا سكنى لها، وإن كانت بسبب رضاع أو مصاهرة أو خيار عتق، فوجهان، المذهب منهما: أنها كالمطلقة، وهذه طريقة صاحب "التهذيب". وفرق بأن الفرقة بالرضاع والصهارة وخيار العتق لم تكن بسبب موجود يوم العقد، ولا بسبب يستند إليه الفسخ حتى يجعل مفسوخاً من أصله، بدليل وجوب المسمى، وفي العيب والغرور كانت بسبب في العقد؛ ولذلك نوجب مهر المثل. وأما النفقة ففيها- أيضاً- طرق: أحدها: حكاية قولين مبنيين على أن النفقة للحامل أو للحمل: إن قلنا بالأول لم تجب. وإن قلنا بالثاني؛ وجبت. وهذا ما أورده ابن الصباغ، والشيخ في "المهذب"، والقاضي في "التعليق". والثاني: إن كان لا بسبب من جهتها، كردة وما في معناها، فهي كالمطلقة، وإن كان بسبب من جهتها، كالفسخ بخيار العتق، وما ذكرناه معه- فقولان ينبنيان على أن النفقة للحامل أو للحمل؟ والثالث: نسبه أبو علي إلى عامة الأصحاب، وهو المحكي في "التهذيب"- إن كان بسبب عارض، فهو كالطلاق، وإن كان بسبب قارن العقد كالعيب والغرور، فقولان.

قال الإمام: وهذا فيه غموض من جهة أن المفسوخ نكاحها؛ كما لا تستحق النفقة في حال الحيال؛ كذلك المطلقة لا تستحقها، إذا كانت بائناً، وهذا مما يعسر الفرق فيه، والذي أراه في المسائل إذا غمضت الرجوع إلى ما اقتضاه القرآن [العزيز]؛ فإنه أوجب النفقة للمطلقات، والمفسوخ نكاحها ليست مطلقة. وقد ينقدح وجه آخر، وهو أنها كالمتسببة إلى رفع النكاح، فأثر ذلك في سقوط النفقة، كما أثر في سقوط المهر قبل الدخول. والرابع: أنها تستحق النفقة حيث تجب السكنى، وحيث [لا تجب] السكنى ففي نفقتها قولان. والخامس: أنها تستحق النفقة وجهاً واحداً؛ كالمطلقة، وهذا ما أبداه الماوردي من عند نفسه. ثم ما أطلقناه في المفسوخ نكاحها بسبب اختلاف الدين هو المذكور هاهنا. وفي "النهاية"- في نكاح المشرك- حكاية خلاف عن الأصحاب: فمنهم من يقول: سبيلها سبيل الرجعيات؛ فلا يخفى حكمها مما تقدم. ومنهم من يقول: سبيل البائن. تنبيه: ما أطلقه الشيخ من استحقاق النفقة [يشمل الطعام والإدام والكسوة، وما أطلقه من استحقاق النفقة] والسكنى محمول على من تستحق ذلك في حال الزوجية، أما إذا كانت ممن لا يستحق ذلك: إما وفاقاً كالناشز أو على راي كالصغيرة، والأمة إذا سلمت ليلاً دون النهار- فحكهما في استحقاق السكنى كذلك. وزاد المتولي فقال: إن المعتدة لو نشزت في العدة سقط سكناها، ولو عادت إلى الطاعة عاد حق السكنى. وقال الإمام شيئاً عبر عنه بعضهم بأنها إن نشزت على الزوج وهي في بيته، فلها السكنى في العدة، وإن خرجت من بيته واستعصت عليه مطلقاً، فلا سكنى لها، وأما النفقة فلم أر للأصحاب فيها [نقلاً] هاهنا.

وحكى الإمام في فرع سأذكره في باب الحضانة عن الشافعي أن الرجعية تسقط نفقتها بما تسقط به نفقة الزوجات. فائدة تقدم الوعد بها: وهي ذكر المسائل التي تتفرع على القولين بأن النفقة للحامل، أو للحمل؟ فمنها: أن الحمل لو كان موسراً فهل تجب النفقة على الأب؟ قال في "الزوائد": إن قلنا بالأول لم تسقط، وإن قلنا بالثاني، قال أبو يعقوب: لا تسقط أيضاً. وقال الشاشي: تسقط وهو ما حكاه القاضي في "التعليق"؛ تفريعاً على هذا القول. وقال ابن كج: إن قلنا: إنها للحمل، وإنها تؤخر إلى الوضع، فإذا وضعت سلمت إليها النفقة من مال الصبي. وإن قلنا: يجب التعجيل، فلا تؤخذ من مال الحمل؛ كما لا نوجب فيه الزكاة والمؤنات، ولكن ينفق الأب عليها، فإذا وضعت ففي رجوعه في مال الصبي وجهان. ومنها: لو كان الأب ميتاً وله أب غني، فعلى الأول: لا تجب عليه، وهو ما قطع به في "التهذيب" على القولين معاً، وعلى الثاني تجب. وبهاتين المسألتين يظهر الاعتراض على الماوردي، فيما ذكره من الدليل على القول بأنها للحامل. ومنها: لو نشزت، فإن قلنا بالأول سقطت، وإن قلنا بالثاني فلا؛ قاله ابن كج. والصحيح السقوط، وكذا لو ارتدت أو أسلمت، ومنهم من قطع بالسقوط. ومنها: لو أبرأته من النفقة، قال المتولي: إن قلنا بالأول سقطت، وإن قلنا بالثاني فلا. وجزم في "الزوائد" بأنها تسقط على القولين معاً، ويظهر أن تكون صورتها إذا أبرأته من نفقة اليوم، بعد طلوع الفجر، أو الشمس، وبهذا يندفع ما أورد على ذلك من سؤال، ولا نزاع في أنها تملك المطالبة بها على القولين معاً. ومنها: هل تتقدر بالكفاية، أم هي؟ كنفقة الزوجة؟ الذي أجاب به الأكثرون الثاني. وحكى الإمام ومن تابعه طريقين:

أحدهما: إن قلنا بأنها للحامل فهي كنفقة الزوجة، وإن قلنا: للحمل فوجهان. والثاني: إن قلنا: إنها للحمل، تقدرت بالكفاية، وإن قلنا: للحامل فوجهان. ومنها: لو كانت ممن تخدم هل تستحق الخادم؟ قال الروياني: إن قلنا: إنها للحامل، فنعم، وإلا فلا. قال: وإن اختلف الزوجان في قبض النفقة فالقول قولها؛ لأن شغل ذمته متحقق، والأصل عدم القبض. ولا فرق في ذلك بين أن تكون الزوجة حرة أو أمة. قال ابن الصباغ: لأن النفقة حق لها يتعلق بالنكاح، فكان الرجوع فيه إليها، كالمطالبة بالإيلاء والعنة. فلو اختلفا في نفقة ماضية، وادعى أنه سلمها، وأنكرت هي وصدقه المولى- قال أصحابنا: لا تثبت دعواه بتصديق المولى، وإنما يكون شاهداً له بذلك. قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأن النفقة حق يتعلق بالنكاح لا حق للأمة فيها، وإنما حقها في النفقة بالمستقبل، وإذا ثبتت النفقة كان للسيد قبضها؛ فينبغي أن يقبل إقراره فيها. قال: وإن اختلفا في تسليمها نفسها فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم التسليم، وقد تقدم الكلام فيما يتعلق بذلك. قال: وإن ترك الإنفاق عليها مدة، صار- أي: الذي تنفقه- دينا في ذمته؛ أي: سواء طالبته بذلك أو سكتت؛ لأنه مال يجب بطريق البدل في عقد معاوضة؛ فلم يسقط بمضي الزمان؛ كالثمن والأجرة والمهر، واستدل له الماوردي بما روي أن عمر- رضي الله عنه- كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم: "إِمَّا أَنْ تُنْفِقُوا، أَوْ تُطْلِقُوا وَتَبْعَثُوا بِنَفَقَةِ مَا حَبَسْتُمْ"، ولم يخالفه في الصحابة أحد؛ فكان إجماعاً. ولا فرق فيما تنفقه بين أن يكون طعاماً أو كسوة، ولا بين أن تكون نفقتها

أو نفقة خادمها، هذا هو المشهور. وفي "الرافعي" في كتاب العدد: أن الشافعي نص على أن مدة العدة إذا مضت، أو بعضها، ولم تطلب حق السكنى- سقطت، ولم تصر ديناً، ونص في نفقة الزوجة على أنها لا تسقط بمضي الزمان، [وتصير ديناً] وللأصحاب فيهما طريقان: أحدهما: أن فيهما قولين نقلاً وتخريجاً. والثاني: المنع؛ كنفقة الأقارب. وأظهرهما: تقرير النصين، وفرقوا بأن النفقة في مقابلة التمكين، وقد وجد. ولا تسقط بترك الطلب، والسكنى؛ لتحصين مائه، على موجب نظره واحتياطه، ولم يتحقق. وعن القفال الفرق بأن السكنى كفاية الوقت، وقد مضى، والمرأة لا تملك المسكن، والنفقة عين تملك وتثبت في الذمة. وذكر أن حكم الكسوة حكم السكنى، وظاهر هذا يقتضي إثبات خلاف في المسألة، وقد ذكرت في العدد شيئاً يتعلق بذلك؛ فليطلب منه. وما قاله القفال في الكسوة هو ما صححه المتولي، وهو بناء على اعتقاده أنها إمتاع. قال: وإن تزوجت بمعسر، أو بموسر فأعسر بالنفقة- أي: نفقة المعسر- فلها الخيار: إن شاءت أقامت على النكاح، وتجعل النفقة-: [أي: إذا مكنته]- ديناً عليه، وإن شاءت فسخت النكاح. والدليل على أن لها حق الفسخ من الكتاب قوله تعالى: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] خيره بين أحد الأمرين؛ فإذا عجز عن الإمساك بالمعروف تعين التسريح بالإحسان. ومن السنة: ما روى حماد بن سلمة، عن عاصم بن أبي النجود عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن أعسر بنفقة امرأته، فقال: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا". خرجه الدارقطني.

وسئل سعيد بن المسيب عن رجل أعسر بنفقة زوجته، فقال: "يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا" قيل: سنة؟ فقال: سنة. قال الشافعي: وقول الراوي: "سنة" يقتضي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار كروايته عنه، وقد ذهب إلى ذلك عمر وعلي وأبو هريرة. وكتب عمر إلى أمراء الأجناد في رجال غابو عن نسائهم: "أن ينفقوا، أو يطلقوا، وليس لهم مع انتشار قولهم في الصحابة مخالف؛ فكان إجماعاً؛ كذا قاله الماوردي. ولأنه حق مقصود بكل نكاح؛ فوجب أن يستحق الفسخ بإعوازه؛ كالاستمتاع من [المجبوب والعنين]، بل من طريق الأولى؛ لأن البدن يقوم بدون الجماع، ولا يقوم بترك الغذاء. ولأن الحق مشترك في الجماع، وفي النفقة خاص بها، ولا يقال: الجماع لا تقدر على تحصيله من غيره؛ فيلحقها الضرر، والنفقة تقدر على تحصيلها من غيره؛ فلم يلحقها كبير ضرر؛ لأنا نقول: نفقة الزوجة لا تحصل بها أيضاً من غيره. وقولنا: مقصود بكل نكاح؛ ليخرج القدر الزوائد على نفقة المعسر، ونفقة الخادم، هذه طريقة أهل العراق. وفي طريقة المراوزة حكاية قول: أنه لا خيار لها، [ووجهه قوله] تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فكان على عمومه في وجوب إنظار كل معسر بحق. ولأنه مال وجب بحق الزوجية؛ فوجب ألا تملك به الفسخ؛ كالصداق بعد الدخول. ولأن النفقة في مقابلة التمكين، ولو أعوزه التمكين منها بنشوزها لم يستحق الزوج به خيار الفسخ، [كذلك إذا أعوزت النفقة من جهته بالإعسار لم تستحق

الزوجة به خيار الفسخ]. قال الروياني: قال [جدي]: وبهذا أفتى. وجزم بعض الأصحاب بالقول الأول، وحمل الثاني على حكاية مذهب الغير. قال ابن كج والروياني: وهذه أظهر. [و] أجيب عن الآية: بأن ذلك عائد إلى ما استقر ثبوته في الذمة من ماضي نفقتها، ونحن نقول به، ولا خلاف فيه- عندنا- في أكثر الكتب إلا ما حكاه في "التتمة": أن الحكم فيها حكم الصداق بعد الدخول على رأي. وعن القياس على الصداق بأنا نقول به. وعن النشوز: بأن ذلك دليل عليكم؛ لأن النشوذ لما أسقط ما في مقابلته [من النفقة، وجب أن يكون إعواز النفقة يسقط ما في مقابلته] من الاستمتاع، والله أعلم. وحكم غيبة المال في مسافة القصر، أو مرض مرضاً يزيد مدته على ثلاثة أيام في حق المكتسب- حكم الإعسار. قال القاضي الحسين: وهذا بخلاف ما إذا كان الزوج غائباً وهو موسر؛ فلا فسخ لها- على الأصح- لأن الزوج هناك قادر على الأداء، وتعذر الوصول إليه من جهة المرأة، وإذا كان المال غائباً فالعجز عن الإنفاق من جهة الزوج؛ فكان لها أن تفسخ. وقد اختار القاضي أبو الطيب في الغيبة مع اليسار أن لها الفسخ أيضاً، وإليه ميل ابن الصباغ. وذكر القاضي الروياني وابن أخيه صاحب "العدة"- أن المصلحة الفتوى به. وحكم امتناعه ظلماً، مع إخفاء ماله، وعسر تحصيله منه بالقاضي- حكم غيبته مع اليسار. وكذا لو كان كسوباً، فامتنع من الاكتساب؛ لأجل النفقة، وقلنا بوجوبه على أحد الوجهين.

وكذا لو غاب، ولم يعلم إعساره، لم يثبت لها الاختيار، على الأصح في "المهذب" وغيره، وهو قول الأكثرين على ما حكاه الماوردي؛ لأن سبب ثبوت الفسخ- وهو الإعسار- لم يتحقق. ولو كان لا مال له إلا ديناً: فإن كان على مليء حاضر فلا خيار لها، وإن كان غائباً فوجهان؛ بناء على ما لو كان الزوج موسراً غائباً، قاله الماوردي. ولو كان معسراً، ثبت. وكذلك لو كان عليها وهي معسرة. ولو كان عليه ديون وله مال قدرها يقبل الوفاء، لا خيار لها، وبعده يثبت. ولو كان معسراً، فتبرع عنه أجنبي بأدائها- ثبت الخيار على الأصح، خلافاً لما أفتى به الغزالي، رحمه الله. وكذا لو ضمن بإ ذنه على وجه محكي في كتاب "التهذيب". والمجزوم به في "تعليق" القاضي الحسين: أنه لا خيار، إن كان الضامن مليئاً، وكذلك في "التتمة". وإن كان بغير إذنه فوجهان. التفريع: إن قلنا: لا فسخ لها، سقط عنها حق الحبس بسبب الزوجية، سواء كانت موسرة أو معسرة. وكذا لو أثبتنا لها حق الفسخ، فلم تفسخ، لكن يجب عليها أن تأوي إلى المنزل ليلاً، وله أن يستمتع بها في الليل؛ لأنه زمن الفرغة، دون النهار؛ لأنه زمان الاكتساب، فلو امتنعت [عليه في النهار دون الليل لم تكن ناشزاً، وكانت على حقها في النفقة؛ وإن امتنعت] بالليل كانت ناشزاً. فإن قيل: هلا إذا سقط حقه من الاستمتاع بها نهاراً أسقط عنه نفقتها؛ كما يسقط نفقتها لو كانت أمة فاستخدمها بالنهار سيدها؟ قيل: لأن منع الأمة من جهتها، فجاز أن تسقط به نفقتها، ومنع المعسر من

جهته؛ فلم تسقط به نفقتها، كذا حكاه الماوردي. وفي "المهذب": أنه لا يلزمها التمكين من الاستمتاع، فلعله أراد: بالنهار؛ [لأنه قال: ولها أن تخرج من منزله، والخروج بالنهار]. وإن قلنا: لها حق الفسخ، فلا فرق في ذلك- أيضاً- بين أن [يكون معسراً أو موسراً]، ولا بين أن يعجز عن كل المد أو عن عشره. وفي طريقة المراوزة حكاية وجه: أنه إذا قدر على نصف مد لا خيار لها. وفي "التهذيب": أنه إذا كان يجد في يوم نصف مد، وفي يوم يقتصر عليه، وفي يوم يجد قدر الكفاية- فلا خيار. وأجرى الرافعي فيه الوجه السابق، وأجراهما فيما إذا كان يجد في يوم مداً، وفي يوم لا يجد شيئاً. ولو كان يجد في أول النهار ما يغديها، وفي آخره ما يعشيها- فوجهان في الطريقين، والأصح في "التهذيب": أنه لا خيار. ولو كان يكتسب في يوم قدر ما يكفيه ثلاثة أيام، ويبقى بعده يومين أو ثلاثة لا يكتسب، [ثم يكتسب] ما يكفي الأيام الماضية، أو كان نساجاً ينسج في كل أسبوع يوماً تكفيه أجرته الأسبوع- فلا خيار؛ لأنه ليس بإعسار، بل هو تأخير حق من وقت إلى وقت. ولو تعطل عليه العمل في بعض الأسابيع، ففي ثبوت الخيار وجهان في "التتمة"، وقال: الصحيح الثبوت. ولو كان بيده صنعة، [ولم يجد من يستعمله في صنعته]: فإن كان يعد ذلك نادراً فلا خيار، وإن كان غالباً؛ فلها الخيار؛ قاله الماوردي. وكذا لو كانت صنعته محرمة؛ كعمل آلة الملاهي- فهو لا يستحق ما سمي من الأجرة [ولا بد] أن يستحق لتفويت عمله أجراً؛ فيصير به موسراً. قال: ولا يكون لزوجته خيار. وكذا المنجم والكاهن قد يوصل إليه شيء بسبب محظور، لكنه قد أعطي عن طيب نفس المعطي؛ فأجري مجرى الهبة، وإن

كان محظوراً لسبب؛ فساغ له إنفاقه. ولو قدر على مد من شعير دون غيره: فإن كان في بلد يقتات فيه فقراؤه الشعير لم يفسخ، سواء جرت عادتها [باقتيات الشعير أم لا وإن كان في بلد لا] يقتات الشعير كان لها الخيار، وهل هذا الرفع طلاق أو فسخ؟ حكى الطبري: أن الذي قاله الشيخ أبو حامد، ولم يذكر غيره: أنها لا تفسخ بنفسها، بل ترفع الأمر إلى الحاكم حتى يأمره بالطلاق، أو يطلق عليه. وفي "الشامل": أن الحاكم يفسخ بينهما النكاح. وحكى المراوزة فيه وجهين: أصحهما في "التهذيب": أنه فسخ، وهو ما جزم به القاضي الحسين في "التعليق"، وضعف الإمام مقابله؛ بأنه إذا طلق أو طلق عليه إنما يكون رجعياً، وذلك لا يسقط النفقة، ثم أجاب بأن ذلك محل ضرورة؛ فإن العدة لا بد منها. وقد يستدل له بما روي أنه- عليه السلام- قال: "ابْدَأ بمَنْ تَعُولُ" فقيل: من أعول يا رسول الله؟ قال: "امْرَأتُكَ تَقُولُ: أَطْعِمْني وإلَّا فَارِقْنِي" كما خرجه النسائي. واستدلله أبو يعقوب الأبيوردي بما كتبه عمر إلى أمراء الأجناد. وبنى في "التتمة" الوجهين على القولين في أن المولي يطلق الحاكم عليه، أو يحبسه ليطلق؟ إن قلنا: يطلق، فيطلق هاهنا، وإن قلنا: يحبسه، فهاهنا لا يمكن الحبس؛ لأنه عاجز؛ فلا يبقى للخلاص طريق إلا الفسخ. قال الرافعي: ولك أن تقول: العاجز عن الإنفاق لا يجوز حبسه لينفق، ولكن لا يبعد أن يحبس؛ ليكلف الإنفاق، أو يطلق كما ذكر في الكتاب- يعني: "الوجيز"-: حتى يحسبه؛ لينفق، أو يطلق. وعلى كلا الوجهين لا بد فيه من الرفع إلى القاضي. أما إذا قلنا: إنه طلاق، فليعرض عليه أن ينفق بالإقراض أو غيره، أو يطلق، فإن أبى ذلك طلق عليه طلقة رجعية؛ كما في المولي- على الأصح- أو يحبسه ليطلق، فإن راجعها طلق عليه ثانية إلى أن يتم الثلاث، إلا أن ينفق عليها.

وأما إذا قلنا: إنه فسخ، فليثبت إعساره عنده، وليسلطها على الفسخ فإنه مجتهد فيه، وفي كلام الإمام ما يدل على أنه إذا ثبت إعساره لا حاجة إلى تسليط الحاكم، وعزاه إلى المحققين. وجزم في "الحاوي" قبيل باب شهادة النساء بأنه لا بد أن يحكم الحاكم بجواز الفسخ، وإذا حكم به فوجهان: أحدهما: لا يصح إلا أن يتولاه. والثاني: يجوز أن تتولاه الزوجة. وهل يحتاج إذا كان الزوج غائباً أن يبعث إليه ليحضر أو ينفق، أو لا يحتاج؟ فيه وجهان، أظهرهما الثاني، وهو المذكور في "التتمة". وفي "التهذيب": أنه قيل: لها أن تفسخ بنفسها، وحكاه في "التتمة" أيضاً. وقال الغزالي: لو فسخت؛ لعلمها بإعساره، لم ينفذ ظاهراً، وهل ينفذ باطناً، حتى إن اعترف الزوج أو قامت بينة- تبين نفوذه واحتساب العدة من ذلك الوقت؟ فيه تردد، ولا خلاف أنه ينفذ ظاهراً إذا لم يكن في الناحية حاكم، أو عجزت عن الرفع إليه، هذا لفظه. ولا يثبت هذا الخيار لولي الصغيرة والمجنونة، وكذا لسيد الأمة- في الأصح- لكن لا يجب عليه أن ينفق عليها. وفي "تعليق البندنيجي": أن الخيار إلى سيدها، وليس كالعنة، وهذا يشعر بأنه لا يثبت لها، وهذا إذا لم تكن معتوهة أما إذا كانت معتوهة فقد حكى ابن الصباغ عن ابن الحداد أنه لا خيار، وينفق المولى عليها، وتكون النفقة في ذمة الزوج، فإذا أيسر وعقلت، قال القاضي أبو الطيب: تطالبه بها وإذا قبضتها كان للسيد أخذها. قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأن الأمة إذاك انت لا تملك العين فكذلك الدين؛ فيجب أن يكون ما يثبت من الدين للسيد، وله المطالبة به. قلت: وما قاله القاضي قريب مما ذكرناه عن الأصحاب عند اختلاف في قبض النفقة. قال: وإن اختارت المقام، ثم عن لها أن تفسخ- أي: بدا لها- جاز، أي:

بعد يوم الاختيار؛ لأن وجوب النفقة يتجدد كل يوم، فرضاها بما يتعلق بالآتي إسقاط شيء قبل ثبوته؛ فلا يسقط. أما اليوم الذي اختارت المقام فيه فلا خيار لها فيه، صرح به البندنيجي. وبهذا يظهر لك أنها إذا كانت عالمة بإعساره حالة العقد ثبت لها الخيار على هذا النحو. قال: وإن اختارت الفسخ، ففيه قولان: أحدهما: تفسخ في الحال، وهو القديم؛ لأنه فسخ لتعذر العوض؛ فثبت في الحال؛ كفسخ البيع بالإفلاس بالثمن. والثاني- وهو الأصح-: أنها تفسخ بعد ثلاثة أيام؛ لتحقق العجز؛ فإن الإنسان قد يتعسر عليه وجه الإنفاق لعوارض، ثم تزول، وهذه مدة قريبة لا يصعب تزجيتها باستقراض وغيره. وقد نقل عن "الإملاء": أنه يمهل يوماً، وجعله أبو الفرج السرخسي قولاً ثالثاً، والأكثرون امتنعوا منه، وقالوا: المراد منه: أنه لو أمهله يوماً- جاز، لا أنه [لا] يزيد عليه. وفي "الوسيط" – تفريعاً على القول بعدم إمهال الثلاث-: أنه لا خلاف أنها لا تبادر إلى الفسخ صبيحة اليوم؛ فإن أكثر الناس يكتسبون قوت اليوم في اليوم، ولكن إلى متى التأخير؟ يحتمل أن يقال: إلى وسط النهار، ويحتمل أن يقال: إلى الليل، ويحتمل أن يقال: حتى يمضي يوم وليلة، وأراد: التي تليه؛ كما صرح به الرافعي، وقال: إن النفقة لهما، وبمضيهما تستقر. قال الغزالي: فرجع هذا إلى أنه يمهل يوماً واحداً، وهذا ما رجحه الإمام على هذا التقدير، بعد أن قال: إن هذا يدل على فساد المفرع عليه. وفي كتاب "التهذيب" تفريعاً على هذا القول- حكاية وجهين في أنها تفسخ في أول النهار أو آخره؟ قال الغزالي: [نعم]، لو أقر صبيحة اليوم بأني عاجز، ولست أتوقع شيئاً،

فيحتمل أن يقال: [لها المبادرة، ويحتمل أن يقال] يمهل إلى تحقق العجز بانقضاء اليوم. ولو كان يعتاد الإتيان بالطعام لها ليلاً فلها الفسخ؛ لأن هذا صيام الدهر. وفي "العدة" فيه وجه، ولو وجد ذلك مرة أو مرتين لم يثبت لها حق الفسخ. ويتفرع على القول بإمهال الثلاث مسائل: إحداها: يجوز لها في مدة الإمهال أن تخرج لتحصيل النفقة، وليس له منعها، وإن قدرت على الإنفاق من مالها، أو كانت تكتسب بما لا يحوجها إلى الخروج كالغزل والخياطة، وفيه ذه الحالة وجه، وهو قضية ما في كتاب "التهذيب" فإنه قيد ذلك بما إذا كانت معسرة. وذكر وجه مطلق: أنه يدام حق الحبس في المدة، وعليها أن ترجع إلى المنزل ليلاً، والحكم في الاستمتاع كما تقدم. وذكر في "التهذيب":أن لها المنع، لكن إذا منعت لا تستحق النفقة لمدة الامتناع، ولم تصر ديناً. الثانية: إذا اختارت المقام بعد [مضي] الثلاث، ثم عن لها أن تفسخ- فلا بد من تجديد الإمهال. وفيه احتمال للإمام، وللقاضي الروياني، والظاهر الأول، بخلاف امرأة المولي إذا رضيت، ثم عادت إلى المطالبة، لا تستأنف مدة الإيلاء؛ لأن المدة هناك منصوص عليها، غير موقوفة على طلبها وهاهنا مدة الإمهال تقع بعد طلبها، وإذا تعلقت بطلبها، سقط أثرها برضاها. الثالثة: إذامضت الأيام الثلاثة، فلها الفسخ صبيحة اليوم الرابع، إن لم يسلم نفقته، وإن سلمها لم يجز الفسخ بما مضى، وليس لها أن تقول: آخذه عن نفقة بعض الأيام الثلاثة؛ لأن الاعتبار في الأداء بقصد المؤدي.

ولو توافقا على جعلها عما مضى، قال الرافعي: يمكن أن يقال: لها الفسخ، ويمكن أن تجعل القدرة عليها مبطلة للمهلة؛ وهذا بناء على أن الزوجة لا تفسخ بنفقة المدة الماضية، وهو الصحيح، كما حكيناه من قبل. الرابعة: لو مضى يومان بلا نفقة، ووجد نفقة اليوم الثالث، وسلمها، وعجز في الرابع- فتستأنف المدة أو تبني؟ فيه وجهان، أظهرهما: البناء؛ فعلى هذا تصبر يوماً آخر، وتفسخ في اليوم الذي يليه. الخامسة: لو لم يجد نفقة يوم، ثم وجد في اليوم الثاني، ولم يجد في الثالث، ووجد في الرابع- فيلينف أيام العجز، فإذا تمت أيام المهلة كان لها الفسخ. السادسة: لو مضت ثلاثة أيام على العجز [ثم] أيسر في الرابع، وأعسر في الخامس- فالأظهر- وبه قال الداركي-: أن لها الفسخ، ويكتفي بالإمهال السابق، وهو ما أبداه ابن الصباغ احتمالاً. وذكر الروياني وجهاً: أنه يمهل مرة أخرى، قال: وهذا إذا لم يتكرر، فإن تكرر لم يمهل؛ [لأنها لا تعد إمهالاً]. قال: ولو أعسر بنفقة الموسر أو المتوسط- لم تفسخ، قال الماوردي: وهذا

مجمع عليه، ولم يصر ديناً في ذمته؛ لأن ما زاد على المد غير مستحق مع الإعسار. وكذا لو منعها من القدر الزائد على المد، وهو واجب عليه- لم يثبت لها حق الفسخ، لكن يصير ديناً في ذمته. قال: وإن أعسر بنفقة الخادم لم تفسخ؛ لأن الخدمة مستحقة للدعة والترفه، ويمكن تحمله، ويقوم البدن بدونه؛ فجرى مجرى المد الثاني من المستحق باليسار؛ بخلاف نفقتها. وقيل: لها الفسخ؛ لأنها نفقة مستحقة بالنكاح؛ فأشبهت نفقة المخدومة. قال ابن يونس: وليس بشيء. قال: ويصير ذلك ديناً في ذمته؛ لأنه مستحق عليه، مع الإعسار. وفرق البندنيجي بينه وبين القدر الزائد على المد بأن ذلك معتبر به، واعتبار نفقة الخادم بها. وفي "التتمة": أنها لا تصير ديناً في ذمته. ولا فرق- على المذهب- بين أن تخدم نفسها أو تستأجر من يخدمها أو تنفق على خادمها، لكن إذا كان الخادم مملوكاً، رجعت عليه عند اليسار بنفقته، وإن كان حراً، فبأجرته؛ وإن باشرت هي الخدمة، فبأقل الأمرين؛ كذا قاله الماوردي. قال: وإن أعسر بالكسوة ثبت لها الفسخ؛ [لأنه لا يقوم بدنها إلا بأمر يقيها الحر والبرد؛ فثبت لها الفسخ كالنفقة. وفيه وجه. قال: وإن أعسر بالأدم لم تفسخ؛ لأنه تابع، والنفس تقوم بدونه. وفيه وجه لمعسر: الصبر على الخبز البحت دائماً، وبه قال الداركي، ورجحه الروياني، والأول أصح عند الإمامين أبي حامد والقفال وغيرهما، وتابعهما الإمام والغزالي والفراء. وقال الماوردي: إن كان قوتها ينساغ للفقراء أكله على الدوام بغير أدم لم تفسخ، وغن كان لا ينساغ أكله على الدوام إلا بأدم؛ فسخت، وإذا لم تفسخ؛ بقي ذلك في ذمته.

قال: وإن أعسر بالسكنى احتمل أن تفسخ] لتضررها بعدمه، واحتمل ألا تفسخ؛ لأن النفس تقوم بدونه، فإنها لا تعدم مسجداً، أو موضعاً مباحاً؛ وهذا ما حكاه الشيخ أبو علي [عن الشيخ أبي حامد سماعاً، ورجحه صاحب "التهذيب". فعلى هذا: هل يبقى في ذمته؟ فيه وجهان في "التتمة" وأصحهما: أنه لا يبقى، والأول هو الأصح عند الرافعي والقاضي الروياني واختاره الشيخ أبو علي] ولم يحك ابن الصباغ غيره؛ لأن الإنسان لا بد له من كن يئويه ومن الحر والبر يقيه، والحوالة على المسجد كالحوالة في النفقة على السؤال [والتقاط السابل]. قال: وإن كان الزوج عبداً، وجبت النفقة [في كسبه] إن كان مكتسباً، أو فيما في يده إن كان مأذوناً [له] في التجارة، فإن لم يكن مكتسباً ولا مأذوناً له في التجارة- ففيه قولان: أحدهما: في ذمة السيد، وهذا هو القديم. والثاني: في ذمة العبد يتبع بها إذا أعتق، وتعليل ذلك، وما يترتب عليه ويتفرع مذكور في كتاب الصداق، فيطلب منه. وحكى الماوردي- عوضاً عما حكيناه عن القديم-: أنها تتعلق برقبته، فيباع فيها إلا أن يفديه السيد. قال: ولها أن تفسخ إذا شاءت- أي: على القول الثاني- لتضررها؛ كزوجة الحر. ويجيء فيه القول المحكي عن المراوزة في أنه لا فسخ بسببها، والله- عز وجل- أعلم.

باب نفقة الأقارب والرقيق والبهائم

باب نفقة الأقارب والرقيق والبهائم يجب على الأولاد نفقة الوالدين- أي: بكسر الدال- وإن علوا، ذكوراً كانوا أو إناثاً؛ أي إذا [كانوا] أحراراً. الأصل في وجوب نفقة الأبوين من الكتاب آيات: منها قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15]، ومن المعورف القيام بكفايتهما. وقوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [العنكبوت: 8]، ومن الإحسان إليهما النفقة. وقوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] مبالغة في برهما. ومن السنة: ما روى [الأعمش]، عن إبراهيم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَطْيَبُ مَا يَاكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَوَلدُهُ من كَسْبِه" يدل عليه قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2]، يعني: ولده.

ويعضده [أنه] روى ذلك في متن الحديث، وفيه: "فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ". وروى حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ أَوْلَادَكُم هِبة مِنَ اللهِ لَكُمْ، يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ، وَأَمْوَالُهُمْ لَكُمْ إِذَا احْتَجْتُمْ إِلَيْها". فإذا ثبت وجوب نفقة الوالدين، ألحقنا بهما آباءهما وأمهاتهما، إن لم يدخلوا في عموم ما ذكر، كما ألحقوا بهما في عتقهم بالملك، وسقوط القود عنهم بالقتل، ورد الشهادة، لوجود البعضية. قال: وعلى الوالدين نفقة الأولاد وإن سفلوا؛ ذكوراً كانوا أو إناثاً، أي: إذا كانوا أحراراً. والأصل في وجوب نفقة الأولاد على الآباء من الكتاب آيات، منها: قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]. وقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] يعني: المطلقات، فلما لزمت أجرة الرضاع؛ كان لزوم النفقة أحق. وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31] فلولا وجوب النفقة عليه ما قتله خشية إملاق من النفقة.

ومن السنة: ما روى الشافعي بإسناده، عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إِنَّ مَعِيَ دِينَاراً؟ فقال: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ". قال: معي آخر؟ قال: "أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ". وما روى مسلم عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: دخلت هند بنت عتبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح ما يعطيني ما يكفيني ويكفي بني، إلا ما أخذت من ماله بغير إذنه؛ فهل علي في ذلك [من] جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُذِي مِنْ مَالِهِ [بِالْمَعْرُوفِ] مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ". وما روى النسائي في حديث طويل: "وابدأ بمن تعول"، فقيل: من أعول يا رسول الله؟ قال: "امْرَاتُكَ تَقُولُ: أَطْعِمنِي وَإِلَّا فَارِقْنِي، خَادِمُكَ يَقُولُ: أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْني، وَلَدُكَ يَقُولُ: إِلَى مَنْ تَتْرُكْنِي". فإذا ثبت وجوب نفقة الولد على الوالد ألحقنا به أباه وإن علا، إن لم يتناوله إطلاق ما ذكرناه؛ لأنه لما قام مقام الأب في الولاية وما ذكر من الأحكام، وجب أن يقوم مقامه في التزام النفقة. وأما وجوبها على الأم؛ فلأن البعضية فيها محققة، وفي الأب مظنونة، فلما تحملت بالبعضية المظنونة كان تحملها بالمتيقنة أولى. وأما وجوبها على أبيها وأمها؛ فلأنه حق واجب بالقرابة المحضة، لا يعتبر فيه التعصيب؛ فاستوى فيه القريب والبعيد، والوارث وغير الوارث، والعصبة وغير العصبة؛ كالعتق بالملك، ورد الشهادة. وفي الأم وجه: أنه لا تجب عليها النفقة بحال. والمشهور الأول. ولا فرق في ذلك بين الوارث وغير الوارث، ولا بين الموافق له في الدين والمخالف. وقيل: لا تجب على المسلم نفقة الكافر. والفرق- على المذهب- بين النفقة والميراث: أن الميراث يجب؛ لأجل

الموالاة والمناصرة، وهي منقطعة باختلاف الدين. وأما النفقة [فتجب] بالقرابة والملك والزوجية؛ فإنها محققة، مع اختلاف الدين. فائدة تقدم الوعد بها: استنبط الأصحاب من حديث هند [غير] وجوب نفقة الزوجة والولد- ثلاثة عشر حكماً: أن صوتها ليس بعورة. وأنه يجوز لمن منع حقه أن يشكو، أو يتظلم. وأنه يجوز ذكر الغائب بما يسوءه عند الحاجة؛ فإنها وصفته بالشح. وأنه يجوز لمن له حق على غيره- وهو ممتنع- أن يأخذ من ماله بغير إذنه. وأنه لا فرق بين أن يكون من جنس حقه، أو من غيره. وأنه يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه، وعلى الغائب. وأجيب عنهما: بأنه أفتى، ولم يقض. وأن للأم [طلب] نفقة الولد [قاله القاضي الحسين. وأنها تأخذ نفقة الولد] من مال الوالد، إذا كانت [يدها تمتد] إليه. وأبعد بعض الأصحاب، فلم يثبت لها ذلك إلا أن يفوض القاضي ذلك إليها، ورأى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليطاً منه لها على الأخذ بمثابة تسليط القاضي. فعلى هذا: ليس لها أن تقترض عليه، وعلى الأول هل يجوز؟ فيه وجهان. وأنها تكون قيمة بالولد؛ فإنه جوز لها الأخذ والإنفاق في حياة الأب لامتناعه؛ فكذلك بعد موته. وأنه يجوز أن يذكر المرء بالكنية عند العظيم من الناس. وأنه يجوز للإمام أن يستمع إلى أحد الخصمين، دون الآخر. قالهما القاض الحسين. وأنه يجوز [للمرأة] أن تخرج من بيتها؛ لتستفتي؛ قاله الرافعي، وفيه نظر؛ فإن هنداً خرجت عام الفتح متقدمة على سائر النساء؛ لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا

النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أُبَايِعُكُنَّ عَلَى أَلَّا تُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً"، فقالت هند: لو أشركنا بالله شيئاً ما دخلنا في دين الإسلام، فقال: "أُبَايعُكُنَّ عَلَى أَلَّا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ"، فقالت هند: هل تركتم لنا من ولد؟ ربيناهم صغاراً فقتلتموهم كباراً، فقال: "أُبَايِعُكُنَّ عَلَى أَلَّا تَزْنِينَ"، فقالت هند: أف أو تزني الحرة؟ فقال: "أُبَايِعُكُنَّ عَلَى أَلَّا تَسْرِقْنَ شَيْئاً"، فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح .. " الحديث. وظاهر الحال يدل على أنها لم تخرج لتستفتي؛ فكيف يحسن الاستدلال به على ذلك؟ قال: فأما الوالدون فلا تجب نفقتهم إلا أن يكونوا فقراء زمني أو فقراء مجانين؛ لتحقق الحاجة حينئذ، فلو كان لهم مال لم تجب؛ لأنها مواساة؛ فتجب مع الحاجة، وتسقط مع القدرة على الكفاية، وكذا لو كان مكتسباً بيده. وحكم العجز بالمرض والعمى- عند صاحب "التهذيب"- حكم العجز بالزمانة. قال: فإن كانوا فقراء أصحاء، أي: ولم يكونوا ممن يكتسبون بأيديهم، والفرع بهذه المثابة- ففيه قولان: أصحهما: أنها لا تجب، للقدرة على الكسب؛ إذ هو نازل منزلة المال بدليل الزكاة. والثاني: أنها تجب؛ لقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] وليس من الصحبة بالمعروف أن يكلفهما الكسب ما لم تجر به عادتهما، مع كبر السن. وفي "النهاية": أن المذهب المعتد به: القطع بأن عدم الكسب ليس بشرط،

وحكاية طريقة قاطعة [بالوجوب]. فرع: قدرة الأم على النكاح مع كثرة الطلاب، لا تسقط عن الابن نفقتها. نعم لو تزوجت، سقطت نفقتها بالعقد ولو كان الزوج معسراً إلى أن تفسخ النكاح؛ [كي لا] تجمع بين نفقتين. ولو نشزت، وهي في عصمة زوج، لا تستحق النفقة على الولد؛ لقدرتها على النفقة؛ بطاعة الزوج حكى ذلك الماوردي. والأب الرقيق لا تجب نفقته على ولده، بل على السيد؛ وكذلك المكاتب، بل في كسبه. وفي المكاتب احتمال وجه- أبداه الماوردي-: أن نفقته تجب على الولد؛ لسقوط نفقته بالكتابة عن سيده. ومن نصفه حر ونصفه رقيق فيه وجهان: أحدهما: تجب عليه نصف نفقته. والثاني: لا تجب. حكاهما القاضي الحسين وغيره. فرع: إذا كان الابن معتوهاً، هل للأب أن يأخذ قدر نفقته من ماله، أو لابد من أن يأذن الحاكم لغيره ليدفعها إليه؟ فيه وجهان، والأصح في "تعليق" القاضي الحسين: أنه لا يحتاج إلى غيره؛ كما في الولد الصغير. قلت: والذي يظهر: أن ذلك محمول على ما إذا بلغ عاقلاً، ثم حصل له العته، فإن في عود ولاية الأب على ماله خلافاً مذكوراً في موضعه. أما إذا اتصل عتهه بصباه، فالذي يظهر: أنه يجوز وجهاً واحداً؛ لأن ولايته مستمرة؛ كما في حال الصبا.

تنبيه: زمني- مقصور، يكتب بالياء-: جمع "زمن". قال: وأما الأولاد فلا تجب نفقتهم إلا أن يكونوا فقراء زمني، أو فقراء مجانين، أو قراء أطفالاً؛ أي لا يتهيأ منهم العمل؛ لأن الله- تعالى- نص على وجوب كفاية الأطفال بقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] إلى آخرها؛ وذلك لعدم القدرة على الاكتساب، والمجانين والزمنى كذلك؛ فألحقوا بهم. وأوجب أبو ثور النفقة مع اليسار. قال: فإن كانوا [أصحاء بالغين]، أي: غير مكتسبين بأيديهم والأصل بهذه المثابة لم تجب نفقتهم، لأن الأصل في وجوب نفقة القرابات الصبا، وألحق به الزمانة والجنون؛ لمشابتهتهما حالة الصبا [وإذا] كانوا أصحاء متمكنين من الحيلة والتكسب- خرجوا عن أن يكونوا ملحقين بالصبيان. قال: وقيل: فيه قولان كالأب، وهذا الطريق أظهر عند الرافعي. وقد أجريت الطريقة الأولى في الأب أيضاً، لكن الفرق- على ما حكاه الشيخ وجماعة- أن حرمة الوالد [آكد] من حرمة الولد، بدليل: وجوب إعفافه، وعدم وجوب القصاص عليه بقتله، فتأكد وجوب نفقته؛ لقبح تكليفه اكتساب النفقة مع قدرته عليها، والطفل إذا بلغ إلى حد يقدر على الاكتساب فيه، حكمه في هذا المعنى حكم البالغ، حتى يفصل فيه بين أن يكون [ممن يليق به الاكتساب بيده أم لا، هكذا قاله الرافعي. وفي "النهاية": أنه لا يشترط أن يكون] الولد عاجزاً عن الكسب، بل اتفق الأصحاب على أن استكسابه وإن كان يرد مقدار نفقته، فعلى الأب الإنفاق عليه، مع أنه لا خلاف أن الأب لو أراد أن يعلمه بعض الحرف؛ لاستصلاح معاشه، والنظر في عاقبة أمره- فله ذلك، وإذا علم حرفة، فكيف ينتظم في النظر تعطيلها، وقد ينساها إذا تركها؟ وإذا كان يتجه لهذا الرأي إعماله، فأي معنى لإحباط منفعته؟ وقد رأيت لبعض الأصحاب أنه ليس للأب أن يجشم ولده الكسب، وهذا ثلمة عظيمة.

نعم: إن كان ذلك يحط من منصبه، فليس له ذلك. وعلى الجملة: ما اتفق عليه الأصحاب من وجوب نفقته على الأب، مع كونه كسوباً تأثيره يظهر فيما إذا ترك الاكتساب بالهروب، أو لم يطعه، مع تكليفه، فلما جاع- عاد طالباً للنفقة؛ فإنه تجب نفقته؛ بخلاف البالغ. وما ذكرناه من الطرق هو المشهور للأصحاب، ولم يفرقوا بين اكتساب واكتساب. ومنهم من وضع الخلاف [أولاً] في اشتراط العجز عن الكسب اللائق به، ثم قال: إن شرط ذلك ففي اشتراط العجز عن كل كسب بالزمانة وجهان، ورأوا الأعدل والأقرب: الاكتفاء بعجزه عما يليق به من الاكتساب، وإجراء النفقة، مع القدرة على الكنس وحمل القاذورات وعلى ذلك جرى الإمام والغزالي. قال الرافعي: وهذا حسن. فرع: لو كان مال الولد غائباً، فعلى الوالد أن ينفق عليه قرضاً موقوفاً: فإن قدم ماله سالماً- رجع الأب بما أنفق عليه، سواء أنفق بإذن الحاكم أو بغير إذنه، إذا قصد الرجوع؛ لأن أمر الوالد في حق ولده أنفذ من حكم الحاكم. وإن هلك مال الولد قبل قدومه، لم يرجع عليه بما أنفق من حين تلف المال؛ لأنه بان أن نفقته واجبة عليه، حكاه الماوردي. تنبيه: اقتصار الشيخ من الأقارب على ذكر الأصول والفروع، مع شمول الاسم لغيرهما- يعرفك أن [هذا] الحكم مختص بهما، ولا يتعداهما إلى غيرهما. وقد خالف أبو ثور في وجوب نفقة الولد على الوارث؛ استدلالاً بقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]، وأشار الشافعي إلى الجواب عن ذلك بأنها لو كانت على الوراثة لوجب على الأب ثلثا نفقة الولد، وعلى الأم الثلث، وقد قال الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233]. وأما قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فقد قال ابن عباس: ألا تضار الأم بانتزاع الولد منها.

ثم النفقة الواجبة بالقرابة قدر الكفاية؛ لحديث هند، فيعطى من الطعام ما يستقل به، ويتمكن من التردد والتصرف به، ولا يقتصر معه على ما يسد الرمق، ولا ينتهي بما يعطى إلى [حد الشبع. وقال ابن خيران: إنها تتقدر بما تتقدر به نفقة الزوجة]. والظاهر المشهور: الأول؛ لأنها تجب على سبيل المواساة؛ لتزجية الوقت، ودفع حاجته الناجزة، فيعتبر أصل الحاجة وقدرها. ولا يشترط انتهاؤه إلى حد الضرورة. وهل المعتبر كفاية مثله أو كفايته في نفسه؟ وفيه شيء سأذكره في آخر الباب. ويجب لها مع الطعام الإدام؛ كي لا تختل القوى. وفي "التهذيب" ما ينازع في وجوب الإدام. وتجب له الكسوة والسكنى على ما يليق بالحال، وإذا احتاج إلى الخدمة، وجب مؤنة الخادم- أيضاً- وكذا لو احتاج إلى الدواء وأجرة الطبيب وجب، قاله الرافعي في قسم الصدقات. قال: ومن وجبت نفقته وجبت نفقة زوجته- أي: أباً كان أو ابناً- لأن ذلك من تمام الكفاية، وهذا ما حكاه القاضي أبو حامد [وغيره وجهاً، ونسبه صاحب "الإكمال" إلى الشيخ أبي حامد]، واستبعده القاضي الروياني، والأظهر في نفقة زوجة الابن: أنها لا تجب، وادعى صاحب "الإجمال": أن عليه معظم الأصحاب. والفرق أن الابن يجب عليه أن يعف أباه؛ فوجب عليه أن ينفق على زوجته؛ إذ لو لم يجب ذلك- لاختارت الفسخ، ووجب عليه أن يزوجه بامرأة أخرى، وهكذا فلا يحصل القيام بالواجب، والابن لا يجب إعفافه؛ فانتفى هذا المعنى. وما ذكره في الأب مفروض في الزوجة الواحدة، أما لو كان له زوجتان فأكثر فالأصح: أنه تجب نفقة واحدة منهما يدفعها إلى الأب. وفي "البسيط" وجه: أن نفقتهما تسقط. وكما تجب نفقة زوجة القريب تجب كسوتها. قال في "التهذيب": ولا يجب الإدام، ولا نفقة الخادم؛ لأن فقدهما لا يثبت الخيار.

قال الرافعي: وقياس ما ذكر من أن الابن يتحمل ما وجب على الأب وجوبهما؛ لأنهما واجبان على الأب مع إعساره. وحكم أم ولد القريب حكم زوجته. ولو كان للوالد أولاد ففي "التتمة": أنه يجب على الابن الإنفاق عليهم من جهة أن نفقتهم واجبة على الأب، فيتحملها عنه كنفقة الزوجة، والظاهر: عدم الوجوب، والفرق: أن نفقة الأولاد لا تجب مع الإعسار؛ بخلاف نفقة الزوجة، ولأنه لو لم ينفق على زوجته لفسخت النكاح؛ فيتضرر الأب. قال: ولا تجب نفقة الأقارب على العبد؛ لأنه أسوأ حالاً من المعسر، وهي لا تجب عليه. والفرق بينها وبين نفقة الزوجة من وجهين: أحدهما: أنها تجب بطريق المعاوضة، والعبد من أهل المعاوضة، ونفقة القريب [تجب] مواساة، والعبد ليس من أهل المواساة، والثاني: أن نفقة الزوجة تجب مع اليسار والإعسار؛ فوجبت على العبد مع إعساره، ونفقة القريب تجب في حال اليسار؛ فسقطت عن العبد بإعساره. قال: ولا تجب على المكاتب؛ لأنها مواساة، وليس من أهلها؛ لأن ما في يده إما غير مملوك له- كما حكيناه من قبل- أو مملوك مستحق في كتابته؛ فصار باستحقاقه فقيراً. قال: إلا أن يكون له ولد من أمته؛ فتجب نفقته-[أي] سواء أولدها بإذن السيد أو بغير إذنه- لأنه تابع له إن عتق وعائد إلى سيده إن رق؛ فالنفع عائد إلى من له الملك. ويلتحق بذلك ولد المكاتبة من النكاح إذا قلنا: إنه تابع لها، وتجب قيمته إذا قتل لها، أما إذا قلنا: إنه مملوك للسيد، أو تكون قيمته للسيد إذا قتل، مع القول بأنه تابع لها- فلا ينفق عليه؛ [لأنها واجبة على السيد. ولو كان أبو الولد مكاتباً، فإن كان من غير سيدها- لم يجز أن ينفق

عليه]، وإن كان من سيدها، وقلنا: إنه مملوك للسيد- أطلق الأصحاب القول بجواز [الإنفاق] عليه. قال الرافعي: ولا يصح [القول] بتجويز [الإنفاق] من ماله على ملكه بغير إذنه. وإن قلنا: إنه يتبعها، فلا؛ لاحتمال أن يعتق أحدهما دون الآخر. ومن نصفه حر ونصفه رقيق إذا كان يقدر [على النفقة] بما اكتسبه بنصفه الحر: هل تلزمه نفقة القريب؟ فيه قولان محكيان في "تعليق" القاضي الحسين. وقال في "البسيط" الظاهر أنها تلزمه. وهو ما جزم به في "الوسيط"؛ لأنها كالغرامات. وهل تلزمه نفقة تامة، أو نصف القيمة؟ حكى ابن كج والقاضي الحسين في ذلك وجهين. قال: ولا تجب إلا [على] من فضل عن نفقته ونفقة زوجته- أي: في يومه وليلته- لما روى عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ابدأ بنفسك تصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك" خرجه مسلم. والمعنى في تقديم نفقة الزوجة على القريب: أنها تجب لحاجته؛ فقدمت كنفقة نفسه. ولأنها تجب بطريق [المعاوضة] فقدمت على ما يجب بطريق المواساة. واعترض الإمام بأنها إذا كانت كذلك كانت نفقتها كالديون، ونفقة القريب في مال المفلس تقدم على الديون، وخرج لذلك احتمالاً في المسألة، وأيده بما روي أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، معي دينار. فقال: "أنفقه على نفسك". فقال: معي آخر؟ فقال: "أنفقه على ولدك". فقال: معي آخر؟ فقال: [أنفقه على أهلك"]، فقدم نفقة الولد على نفقة الأهل كما قدم نفقته على نفقة الولد.

ويقرب من هذا ما حكاه القاضي الحسين في "التعليق" وجهاً: أن نفقة الأب مقدمة على نفقة الزوجة؛ لأن له سبيلاً إلى إسقاطها بالطلاق. وفي "التتمة" وجه: أن نفقة الولد الصغير مقدمة على نفقة الزوجة، وإنما لم تجب عند انتفاء الفضل؛ للحديث، وفي "التهذيب" وغيره حكاية وجه: أن نفقة الولد الصغير تجب مع الإعسار، فيقترض، أو يقترض عليه إلى اليسار. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه الصحيح من المذهب كنفقة الزوجة؛ لأن ذلك من توابع النكاح وحقوقه، والأظهر الأول. ويباع في نفقة القريب ما يباع في الدين من المسكن والخادم وغيرهما. وفي المسكن والخادم وجه كما في الدين. وإيراد القاضي الحسين في "التعليق" قد يقال: إنه يشعر به؛ فإنه قال: ولا يلزم أحد بنفقة أحد من الأقرباء حتى يفضل عن مؤنته من طعامه ومسكنه وملبسه وما ينام عليه، وما يستعمله في وضوئه وأكله وشربه مما لا غنى لمثله عنه. وليس كذلك؛ لأنه صرح- قبل ذكر ذلك- بأنه يباع؛ فتعين حمل ذلك على كراء المسكن. وكيف يباع عقاره؟ فيه وجهان: أحدهما: يباع منه كل يوم بقدر الحاجة. والثاني: يستقرض عليه إلى أن يجتمع ما يستكمل بيع العقار له. وحكم القدرة على الإنفاق عليه بالاكتساب حكم القدرة بالمال، عند الجمهور. وفيه وجه: أنه لا يجب كما في قضاء الدين. وفي "ابن يونس" حكاية الخلاف فيمن لم تجر عادته بالاكتساب، والجزم بالوجوب فيمن جرت عادته به. وفي "التتمة": حكاية الاختلاف في الاكتساب لأجل نفقة الولد، والقطع بعدم وجوبه [كنفقة الوالد] وفرق بأن نفقة الوالد سبيلها سبيل المواساة، ولا يكلف أن يكتسب ليصير من أهل المواساة، وأما الولد فسبب حصوله الاستمتاع؛ فألحقت نفقته بالنفقة الواجبة للاستمتاع، وهي [نفقة] الزوجة، وهذا يدل على

اعتباره جريان الخلاف في الاكتساب لنفقة الزوجة، وقياس نفقة القريب عليها. لكن في كلام الإمام وغيره: أن في وجوب الاكتساب لنفقتها وجهين مرتبين على وجوب الاكتساب لنفقة القريب، وهي أولى بالمنع؛ لالتحاق نفقتها بالديون. قال الإمام: وينتظم بحسب ذلك: أنا إذا أوجبنا الاكتساب لنفقة القريب لا نوجب النفقة للقريب الكسوب، وإنما يجري ما قدمناه من الخلاف فيه إذا كان من له النفقة غير كسوب، ومن فيه الكلام كسوباً. فرع: إذا كان الولد صغيراً أو مجنوناً مكتسباً، والأب أو الجد ممن تجب نفقته لو كان للابن مال- فلهما أن يؤجراه، أو يأخذا من أجرته نفقتهما. ويجيء في جواز أخذهما النفقة بأنفسهما من مال المجنون الوجه الذي تقدمت حكايته، وفي وجوب استكسابه إشكال الإمام في وجوب نفقته على الأب. ولا يجب عليه قبول الهبة والوصية؛ صرح بذلك القاضي الحسين. قال: وإن كان له ما ينفق على واحد- أي: أو بعض نفقته- وله أم وأب، فقد قيل: الأم أحق لزيادة ضعفها وامتيازها عن الأب بالحمل والوضع والرضاع والتربية، وقد روي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أبر؟ قال "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أباك"، وهذا هو الأصح. قال: وقيل: الأب أحق؛ مكافأة لتقدمه في وجوب النفقة عليه، مع امتيازه بالعصوبة. قال: وقيل: يجعل بينهما؛ لاستوائهما في القرابة الموجبة للنفقة. قال: وإن كان له أب وابن، فقد قيل: الابن أحق؛ لثبوت نفقته بنص القرآن. وقيل: اأآب أحق؛ لزيادة حرمته وهذا هو الأصح عند النووي وفي "الجيلي".

قال الشيخ أبو حامد: والوجهان إذا كان الابن بالغاً أو مراهقاً، أما لو كان صغيراً، كان أولى وجهاً واحداً. قال ابن الصباغ: والقاضي ذكر ثلاثة أوجه، الثالث: أنهما سواء. ولم يفصل بين الصغير والكبير والطفل. ونسب الرافعي الثالث إلى اختيار القفال. وتجري الأوجه في الأب والبنت والأم والابن، وفي الجد وابن الابن، وكذا في الجد والابن على أحد الطريقين، وفي الثاني: يقدم الابن. قال: وإن كان له ابن، وابن ابن، فقد قيل: الابن أحق؛ لابتداء وجوبها عليه، دون نفقة ابن الابن التي انتقلت إليه عن أبيه ولأنه أقرب. وهذا هو الأصح، ولم يحك الماوردي سواه. قال: وقيل: يجعل بينهما؛ لأن الابن لا يمنع [نفقة ابن الابن بدليل حال القدرة؛ فصارا كالابنين أو البنتين، والحكم فيهما الاستواء]، اللهم إلا أن يختص أحدهما بمزيد عجز؛ بأن كان مريضاً أو رضيعاً، فيقدم على ما حكاه في "البحر". وهذا الخلاف يجري فيما لو اجتمع أب وجد. ولو كان الأبعد زمناً ففي "التهذيب": أنه أولى. فروع: أحدها: ابن وبنت، الصحيح أنهما كالابنين. وفيه وجه: أن البنت أولى؛ لضعفها، وهذا إذا استويا أما لو كان أحدهما صغيراً لا يقوم بنفسه، والآخر يقوم بها أو أحدهما صحيحاً، والآخر مريضاً- فالصغير والمريض أولى؛ حكاه الماوردي. الفرع الثاني: ابن بنت، وبنت ابن، حكى الروياني أن بنت الابن أولى؛ لضعفها [وعصوبة] أبيها. الفرع الثالث: أب أب، وأب أم، الأول أولى؛ لاجتماعهما في الدرجة، وانفراده بالتعصيب، فلو اختلفت الدرجة، واستويا في العصوبة، أو عدماها، فالأقرب أولى، وإن كان الأبعد عصبة تعارض القرب والعصوبة؛ فاستويا.

الفرع الرابع: جدتان لإحداهما ولادتان، وللأخرى ولادة واحدة- فإن كانا في درجة واحدة فذات الولادتين أولى، وإن كانت أبعد فالأخرى أولى. ومثل هذا يجري فيما إذا اجتمع في بنت البنت قرابتان، دون بنت [بنت] أخرى من غير عصوبة. تنبيه: حيث قلنا: يوزع الفاضل، فذاك إذا كان يسد مسداً، أما إذا لم يسد فالقرعة، وإذا لم يكن ثم من تجب عليه نفقة الموجودين لولا العجز عن تمام نفقتهما، أما إذا كان مثل أن يكون الأب هو العاجز عن نفقة أحدهما [وله أب موسر، وجب على الأب نفقة أحدهما] وعلى أبيه نفقة الثاني، ثم لهما الإنفاق عليهما بالشركة، أو يختص كل واحد منهما بواحد، فإن اختلفوا عمل بقول من يدعو إلى الاشتراك. وهكذا الحكم فيما لو كان للأبوين المحتاجين ابن لا يقدر إلا على نفقة أحدهما، وللابن ابن موسر، لكن عند الاختلاف يرجع إلى اخيتار الأبوين في النفغقة إن استوت نفقتهما. وإن اختلفت اختص أكثرهما نفقة بمن هو أكثر يساراً، كذا قالهما في "البحر". قال الرافعي: والقياس أن يسوي بين الصورتين، بل ينبغي في الصورة الثانية أن يقال: تختص الأم بالابن؛ تفريعاً على الأصح، وهو تقديم الأم على الأب، وإذا اختصت به تعين الأب لإنفاق ابن الابن. قال: وإن احتاج، وله أب وجد موسران، فالنفقة على الأب؛ لأنه أحق بالمواساة من الأبعد. قال: وإن كان له أم وأم أم فالنفقة على الأم؛ لما ذكرناه. وذكر الشيخ هاتين المسألتين؛ ليعرف بهما ما في معناهما، وضابطه: أن كل من أدلى بشخص لا يلاقيه الوجوب دونه ولا يساويه، وهذا مما لا خلاف فيه، فجد الأب مع الجد كالجد مع الأب، وأم أم الأم مع الأم؛ كأم الأم مع الأم فيما ذكرناه .... وهكذا. قال: وإن كان له أب وأم أو جد وأم، فالنفقة على الأب والجد:

أما وجوبها على الأب؛ فلقصة هند. وأما وجوبها على الجد؛ فلأنه مشارك للأب في الولادة والتعصيب، وقد يقع عليه اسم الأب، قال الله تعالى- {يَا بَنِي آدَمَ} وقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]؟ وفي طريقة المراوزة حكاية وجه منسوب إلى القفال: أن الابن البالغ توزع نفقته على أبيه وأمه، دون الصغير؛ لأن وجوب نفقته عليه من أثر الولاية عليه. وعلى هذا: فهل يستويان، أو تجب عليهما أثلاثاً؟ فيه وجهان، والراجح الثاني. وحكاية وجهين في الجد مع الأم؛ تفريعاً على أن الأب ينفرد بالوجوب: أحدهما: أنها على الأم دونه. والثاني: أنها توزع عليهما، وفي كيفية التوزيع الوجهان، والظاهر الأول، وبه يظهر لك أن الأب إذا اجتمع مع الجدة أم الأب كان الوجوب عليه من طريق الأولى، وكذلك إذا اجتمع أب أب، وإن علا مع أم الأم وإن علت. قال: وإن كان له أم أب، وأم أم، فقد قيل: هما سواء؛ لاستوائهما في الدرجة والأنوثة، وهذا هو الأصح، وادعى القاضي الحسين أنه الذي عليه أكثر الأصحاب. قال: وقيل: النفقة على أم الأب؛ لإدلائها بعصبة. هذا ما يوجد في طريق العراق، وهو كذلك في طريق المراوزة- أيضاً- لكن مأخذ العراقيين في الاختلاف النظر إلى التساوي في الدرجة أو إلى الإدلاء بالعصبة، أو القرب بالإدلاء بالعصبة، وهو مطرد عندهم فيما إذا وجدت الجدتان من جهة الأب خاصة، وإذا اجتمع معهما جد في درجتهما، غير جد الأب وإن علا، ومثال ذلك أم أم الأب، وأبو أم أب، وأم أب اب- فعلى الأول: يشتركون في الوجوب، وعلى الثاني: تختص به أم أب الأب. وقال الماوردي: وأرى وجهاً ثالثاً، وهو عندي أصح: أنه إذا اجتمع فيه مع تساوي الدرجة وارث [وغير وارث]- فإن الوارث أحق بتحملها من غير الوارث، فإن اشتركا في الميراث، تحملها منهم من كان أقرب إدلاء بعصبة، وإن اختلفت رحمهم تحملها الأقرب فالأقرب، وارثاً كان أو غير وارث.

فعلى هذا: يشترك في تحملها أم أب الأب وأم أم الأب؛ لاشتراكهما في الميراث، ويسقط عن أب أم [الأب]؛ لسقوط ميراثه. قال الماوردي: وعلى هذه الوجوه الثلاثة يكون التفريع. [وأجراه] في الحالة الأولى مع جزمه بتقديم الإرث من أي جهة كان. ولا يجري ما قاله العراقيون فيما إذا كانت الجدتان من جهة الأم؛ إذ لا يتصور أن يكون فيها عصبة، والمتبع فيها- عند التساوي- القسمة، وعند التفاوت في الدرجة الأقرب. ويجيء على طريقة الماوردي فيما إذا اجتمع أب الأم وأم الأم: أن النفقة تجب على [أم] الأم، دون أب الأم. وإذا اجتمع أم أم الأم، [وأبو أم الأم]، وأبو أب الأم، وأم أب الأم- فعلى طريق العراقيين يكون عليهم بالسوية، وعلى طريق الماوردي يكون على أم أم الأم؛ لأنها الوارثة من جميعهم، فإن عدمت، وجبت بعدها على أب أم الأم؛ لأنه أقرب [إدلاءً بوارث]، فإن عدم وجبت على أب أب الأم، دون أم أب الأم. والمراوزة لهم طرق في مناط الترجيح عند اجتماع جدتين وجدين من قبل الأب، ومن قبل الأم يتفرع عليها هذه المسألة وغيرها، وجملتها خمس طرق: إحداها: اعتبار القرب، وإن استويا في القرب، ففي التقديم [بالإرث] وجهان [فإن استويا في أصل الإرث فيستويان أو تكون النفقة بحسب الإرث؟ فيه وجهان]. والثانية: اعتبار الإرث، فإن استويا في الإرث، وأحدهما أقرب، فالنفقة عليه؛ فإن تساويا في القرب، فالنفقة عليهما، ثم يسوي، أو يراعى قدر الإرث؟ فيه وجهان. والثانية: اعتبار الإرث؛ فإن استويا في الإرث، وأحدهما أقرب، فالنفقة عليه؛ فإن تساويا في القرب، فالنفقة عليهما، ثم يسوي، أو يراعى قدر الإرث؟ فيه وجهان. وإن كانا غير وارثين، فالنظر إلى الإدلاء بالوارث. والثالثة: اعتبار ولاية المال في حالة ما، أو الإدلاء بمن له ولاية المال إن عدم ذلك، أو القرب ممن له ولاية المال، إن عدم الإدلاء به. والرابعة: اعتبار الذكورة، فإن كانا ذكرين، أو أنثيين فالاعتبار بالإدلاء

بالذكر، فإن استويا في الإدلاء فالاعتبار بالقرب. والخامسة: الاعتبار بالإرث والذكورة جميعاً، فإن اختص أحدهما بالمعنيين فالنفقة عليه. وإن وجدا فيهما، أو لم يوجدا، أو وجد أحدهما في أحدهما، والثاني في الثاني- فيعتبر القرب. فالقول الأول من مسألة الكتاب قال به من ذهب إلى الطريقة الأولى والثانية والخامسة؛ لانتفاء المرجح. والقول الثاني قال به من ذهب إلى الطريقة الثالثة والرابعة. ومما يتفرع على هذه الطرق: إذا كان له أب أب، وأب أم- فعلى الأول: النفقة [عليهما. وعلى أب الأب على الباقي. وإذا كان له أب أم، وأم أب- فعلى الأول والخامس: النفقة عليهما] وعلى أم الأب في الباقي. فرع: إذا كان له جدتان متحاذيتان، ولإحداهما ولادتان فهي أولى، وإن كان لإحداهما ولادتان، والأخرى أم عصبة – فهما سواء. تنبيه: سكت الشيخ عن جانب الفروع؛ لاستغنائه بما ذكره في جانب الأصول؛ فإن الابن وولده، والبنت وولدها بمنزلة الأب مع الجد والأم مع الجدة، والابن والبنت إذا اجتمعا بمنزلة الأب والأم؛ فالنفقة واجبة على الابن. وفي طريقة المراوزة حكاية وجه في البنت مثل الذي حكيناه في الأم. والبنت مع ابن الابن بمنزلة الأم مع الجد؛ فتكون النفقة على ابن الابن. وفي طريقة المراوزة حكاية وجه: أنها عليهما بالسوية، ولا يجيء فيهما ما قيل في الأم: أنه يجب عليها الثلث- على رأي- لأن البنت وابن الابن ميراثهما مستو؛ بخلاف الأم والجد. وبنت الابن وبنت البنت بمنزلة أم الأم وأم الأب، وفيهما قولان: أحدهما: التساوي؛ لاستوائهما في الدرجة والأنوثة.

والثاني: النفقة على بنت الابن؛ لأنها تدلي بعصبة. والضابط الذي يتخرج عليه مسائل هذا القسم: أن الموجودين متى استويا في الدرجة والوراثة أو عدمها، والذكورة والأنوثة- فالنفقة عليهما، فإن كان أحدهما غائباً أخذت حصته من ماله، وإن لم يكن له مال حاضر استقرض عليه. قال ابن الصباغ: وينبغي إذا لم يجد من يقرض أن يلزم الحاضر أن يقرضه؛ لأن نفقته عليه، إذا انفرد، وهذا ما أبداه القاضي الحسين في "التعليق". وإن اختلفا، فمن الأًحاب من ينظر إلى القرب أولاً، ومنهم من ينظر إلى الذكورة أولاً. كل ذلك على ما ذكرناه من قبل، والأظهر- عند الإمام والبغوي وغيرهما-: الطريق الأول، ويدل على قوة القرب أن من اعتبر الإرث أو الذكورة قطع عند استوائهما فيهما بالاعتماد على القرب، والمعتبرون للقرب ترددوا عند استوائهما في الدرجة في أنه هل يعتبر الإرث أو الذكورة؟ واختيار العراقيين من ذلك ما أشرنا إليه، ولنذكر من المسائل ما يظهر لك فائدة الاختلاف في المأخذ: فمنها: إذا كان له ابن ابن، وابن بنت النفقة [عليهما- إن اكتفينا بالقرب، وعلى ابن الابن على ما عداه. ومنها: بنت ابن، وابن بنت] النفقة على بنت الابن إن اعتبرنا الإرث، وعلى ابن البنت إن اعتبرنا الذكورة، وهما مذكوران في "الحاوي"، وعليهما إن اكتفينا بالاستواء في الدرجة، والأوجه الثلاثة مذكورة في "الشامل". ومنها: بنت، وابن بنت، إن راعينا الذكورة فهي على ابن البنت، وإن راعينا القرب أو الوراثة، فهي على البنت، وقد حكاهما في "المهذب". فرع: لو كان له ابن وولد خنثى مشكل، فإن قلنا عند اجتماع الابن والبنت: النفقة عليهما؛ فكذلك هاهنا، وإن قلنا: النفقة على الابن فوجهان: أحدهما: النصف على الابن، والنصف الآخر يستقرضه الحاكم، فإن بان أنه ذكر، وجب عليه، وإلا فالرجوع على الابن، كذا قاله الرافعي. والأولى أن ييقال: وإن بان أنه أنثى رجع به على الابن؛ لأنه قد لا يظهر أنه ذكر ولا أنثى، ويستمر إشكاله.

وأظهرهما- وهو ما حكاه ابن الصباغ-: أنه يؤخذ الجميع من الابن؛ لأنه بصدد أن يكون الجميع عليه، فهو أولى بالمطالبة. وحكى الماوردي- بدل الوجه الأول- أنها عليهما نصفين بالسوية، فإن بان أنه أنثى رجعت عليه بما أنفقت. فرع آخر: لو كان له بنت وولد خنثى، إن قلنا لو اجتمع الابن والبنت- تكون النفقة عليهما، فكذلك هاهنا، وإن خصصناها بالابن فوجهان: أحدهما: الإنفاق على الخنثى؛ لاحتمال كونه ذكراً، فإن بان أنه أنثى رجعت على أختها بالنصف. والثاني: لا يؤخذ منه إلا النصف؛ لأنه المستيقن، ويؤخذ من البنت النصف، فإن ثبتت ذكورته رجعت بما أنفقت عليه. قال ابن الصباغ: وهذا أقيس، والله أعلم. وقد بقي قسم ثالث، وهو اجتماع واحد من الأصول وواحد من الفروع، قال الأئمة: يجيء فيه الطرق؛ فيقدم الأقرب في طريق، والوارث في طريق، والولي في طريق، والذكر في طريق. وإذا وجبت النفقة على وارثين، فيجيء الخلاف في أن التوزيع يكون بالسوية أو بحسب الإرث، وتفصيل هذه الجملة بذكر صور: أب وابن، فيه ثلاثة أوجه، حكاها ابن الصباغ: أحدها: أن النفقة على الأب؛ لأنها ثابتة بالنص، ويحكى هذا عن اختيار أبي عبد الله الحسين.

والثاني: [على] الابن؛ لأن عصوبته أقوى، ولأنه أولى بالقيام بشأن أبيه؛ لعظم حرمته، وهذا أظهر في "الحاوي"، وأصح عند البغوي والروياني، واختيار صاحب "التلخيص". والثالث: أنها عليهما؛ لاستوائهما في القرب، وهذا والذي يليه هما المذكوران [في "الحاوي"، وهو والأول هما المذكوران] في تعليق البندنيجي. وعلى هذه الوجوه ما إذا اجتمع أب وبنت، وما إذا اجتمع جد وابن ابن. وفي أم وبنت طريقان: أظهرهما: مجيء الأوجه. والثاني: القطع بأنها على البنت، ويحكى هذا عن القاضي أبي حامد وغيره، وكأنهم اعتمدوا في الإيجاب على الأب معنى الولاية، واستصحاب ما كان في الصغر والذكورة؛ وكذا الخلاف فيما لو اجتمع الابن والأم. ويجري الطريقان في جد وابن، وطريق الجزم بالوجوب على الابن هو المذكور في "الحاوي". ويجريان- أيضاً- في أب وابن ابن. قال في "التهذيب": والأصح: أنه لا نفقة على الأصول ما دام يوجد واحد من الفروع، قريباً كان أو بعيداً، ذكراً كان أو أنثى. قال: وإن مضت مدة، ولم ينفق فيها على من تلزمه نفقته من الأقارب- أي: الصغير منهم والكبير- لم تصر ديناً عليه- أي: وإن كان متعدياً بذلك- ولم يفرضها القاضي؛ لأنها وجبت، لدفع الحاجة الناجزة، وقد زالت. ولأن التمليك فيها غير واجب، بدليل الاكتفاء بالغداء والعشاء مع القريب، وما لا يجب فيه التمليك، وانبنى على الكفاية يستحيل مصيره ديناً في الذمة. وهذا بخلاف نفقة الزوجة التي احترز الشيخ عنها بقوله: "من الأقارب"، فإنه يجب فيها التمليك، وتستحق معاوضة في مقابلة الاستمتاع، والأعواض لا تسقط بمضي الزمان.

وفي الصغير وجه حكاه الشيخ أبو علي: أنها تصير دينًا في الذمة. قال الإمام: ولا ينبغي أن يعتد به, ولولا علو ذلك الحاكي؛ لما استجزت حكايته. أما إذا فرضها القاضي, ففي "الجيلي": أنه لا أثر لذلك, وفي "الرافعي": أنها تثبت قي ذمته. وكذا لو أذن في الاستقراض؛ لغيبته أو امتناعه, أو استقرض البالغ عند تعذر مراجعة القاضي [وأشهد, أو لم يشهد] على أحد الوجهين, أو الأم إذا جعلنا لها الأخذ من ماله عند الامتناع من الدفع, على أحد الوجهين – عند عدم الإشهاد أيضًا, أو الجد عند عدم الأب على أضعف الوجهين في "النهاية". ولو أنفق الجد من ماله بإذن الحاكم, يرجع على الأصح, وفي "البحر" وجه: أنه لا يرجع. ولو أنفقت الأم من مالها على الطفل في غيبة الزوج وعدم القدرة على ماله, فهل ترجع؟ ينظر: إن أشهدت رجعت, وإلا فإن لم نجوز لها الاقتراض فلا يثبت لها الرجوع, [من طريق الأولى, وإن جوزناه ففي الرجوع وجهان. ثم إذا أثبتنا لها الرجوع] فذاك فيه إذا لم تقصد التبرع, فأما إذا قصدته فلا ترجع. قال الإمام: ويجب أن يقال: إنما ترجع على أحد الوجهين إذا قصدت الرجوع. فرع: لو تلفت النفقة في يد القريب وجب إعطاء غيرها, وكذا إن أتلفها, لكن يجب عليه إذا أتلفها غرم بدلها يطالب به عند اليسار. قال: وإن احتاج الوالد – أي: وإن علا من قبل الأبوين – إلى النكاح, وجب على الولد إعفافه, أي: إذا لم يقدر الوالد عليه – على المنصوص – أي: في كتاب الدعاوى والبينات – لأنه تدعو حاجته إليه, ويستضر بفقده؛ بسبب تعرضه للزنى؛ فوجب على الولد؛ كالنفقة. وقيل: فيه قول مخرج: أنه لا يجب؛ لأنه قريب مستحق النفقة؛ فلم يستحق الإعفاف كالابن, وهذا خرجه ابن خيران, قال الجيلي: من إعفاف الأم؛ فإنه لا يجب – على الأصح, وعزاه إلى الشافعي. وقيل: خرجه مما إذا استحق النفقة في بيت المال؛ فإنه لا يستحق الإعفاف على الأصح, وعزاه إلى شرح "التلخيص".

وقيل: خرجه مما إذا وجبت نفقة الولد على الأب؛ فإنه لا يجب إعفافه. وحكى – أيضًا – في "البحر" وجهًا: أنه يجب على الأب والجد. والمذهب الأول؛ لأن فوات نفس الابن محتمل لإبقاء نفس الوالد؛ فأولى أن يحتمل فوات ماله, بخلاف الابن. والأم تأخذ من الزوج ما نوجبه على الابن؛ بسبب أبيه؛ فلا يمكن الإلحاق بها. فعلى هذا: في محل الوجوب ثلاثة طرق: أشبهها – عند الرافعي -: أنه يجب حيث تجب النفقة, فيجب في حال الزمانة, وكذا مع الصحة, على أحد القولين. وهل يجب للأب الكافر؟ على الوجهين. الثاني: أنا إن أوجبنا النفقة للصحيح فهاهنا أولى, وإلا فوجهان, الذي عليه أكثر الأصحاب منهما – على ما حكاه في "الشامل" -: عدم الوجوب. وهذه [هي] المذكورة في "المهذب" و"الحاوي", ويتخرج منها: أنه لو كان قادرًا على النفقة, عاجزًا عن مؤنة التزويج – ففي وجوب إعفافه الخلاف, وقد صرح به وجهين, والأظهر الوجوب. والثالث: أن النفقة إذا لم تجب, فكذلك الإعفاف؛ وإن وجبت, ففي وجوب الإعفاف قولان. والفرق: أن الحاجة إلى النفقة أهم؛ ولذلك يجوز للمضطر أكل طعام الغير, ولا يجوز مثل ذلك في الجماع. والمراد بالحاجة إلى النكاح: أن يخاف [العنت أو] يضر به التعزب, ويشق عليه. وأبدى الإمام احتمالًا في الثاني: أنه لا يكفي, وقد حكاه مجلي وجها إذا لم يكن فاسقًا, أما إذا كان فاسقًا فإنه يعتبر في حقه زيادة الشهوة وجهًا واحدًا, ويقبل قوله في الحاجة من غير يمين, لكن لا يحل له الطلب إلا عند وجود الحاجة. والمراد بالإعفاف: أن يهيئ له مستمتعًا يعفه عن الفاحشة؛ بأن يعطيه مهر حرة مسلمة, أو كتابية.

وفي الكتابية وجه: أنها لا تكفي. وفي الأمة وجه: أنها تكفي. أو يقول له: انكح وأنا أعطى المهر. أو يباشر النكاح عن إذن الأب, ويعطي المهر أو يملكه جارية تحل له, أو ثمنها. وبهذا يظهر لك أن الأب إذا قدر على شراء جارية لا يجب على الابن إعفافه. وليس للأب أن يعين النكاح, ولا يرضى بالشراء, ولا أن يعين امرأة رفيعة المهر؛ لفضيلة جمال أو شرف. وإذا اتفقا على تعيين المهر, فتعيين المرأة بعد ذلك إلى الأب. ولا يجوز أن يزوجه أو يملكه عجوزًا شوهاء كما لا يجوز أن يطعمه في النفقة طعامًا فاسدًا. ولو أيسر الأب بعد أن ملكه جارية, [أو ثمنها] – لم يكن له الرجوع؛ كما لو دفع إليه النفقة, فلم يأكلها حتى أيسر؛ كذا قاله في "المهذب" وغيره, وفيما قاله في النفقة نظر؛ من حيث إنه لا يجب فيها التمليك, وقد زالت الحاجة, وهي باقية على ملك الولد. ولو ماتت الأمة, أو الزوجة التي حصلها له الابن, [أو فسخ نكاح الزوجة بعيب أو ردة, أو بأن أرضعت من كانت زوجة له – فيجب على الابن] تجديد الإعفاف. وحكى الشيخ أبو حامد وجهًا: أنه لا يجب, وهو في "المهذب" محكي في الموت. وعلى المذهب: لو طلقها, أو خالعها, أو أعتق الأمة – نظر: إن كان بعذر من شقاق, أو نشوز وغيرهما, ففيه وجهان: أظهرهما – وهو المذكور في "التهذيب" -: أنه يجب التجديد, كما في الموت, إن كان بغير عذر فلا. وأطلق في "المهذب" الجواب بالمنع من غير تفصيل. وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه إذا طلق عليه فعليه أن يزوجه مرة اخرى, أو يسريه,

[فإن طلق الثانية, لم يزوجه بعد ذلك, ولكن يسريه] , ويسأل الحاكم أن يحجر عليه؛ حتى لا ينفذ إعتاقه. وإذا وجب التجديد: فإن كان الطلاق بائنًا فذلك في الحال, وإن كان رجعيًا فبعد انقضاء العدة. فرع: إذا اجتمع أصلان محتاجان, فإن وفي مال الابن بإعفائهما وجب, وإلا قدم الأقرب إذا استويا في العصوبة, أو عدمها, فإن كان الأبعد عصبة, دون الأقرب: كجد الأب, وأب الأم – فالعصبة أولى. قال الشيخ أبو حامد: الذي يجيء على المذهب: أنهما سواء, حكاه في "العدة" عنه, على ما نقله العمراني. وفي "الرافعي": أن الشيخ أبا عليّ حكاه وجهًا, وإذا استويا خصص أحدهما بالقرعة. قال: وإن احتاج الطفل إلى الرضاع وجب إرضاعه – أي: على من تجب عليه النفقة – إن لم يكن له مال؛ وكذا مؤنة خدمته؛ لأن ذلك في حق الصغير بمنزلة النفقة في حق الكبير. قال: وإن [كان أبواه] على الزوجية, وأرادت أمه أن ترضعه – أي: متطوعة – لم يمنعها الزوج؛ لأنها أشفق على الولد من الأجنبية, ولبنها أصلح له وأوفق, وهل هذا على سبيل الوجوب [أو الاستحباب؟ فيه وجهان: أحدهما – وهو اختيار القاضي أبي الطيب -: أنه على سبيل الوجوب] وهو نازع إلى أن الأب إذا وجد متبرعة, وطلبت الأم إرضاعه بأجرة: أنه يجب عليه الأجرة؛ لما سنذكره, وإلى هذا المأخذ أشار الإمام, ونسب هذا الوجه إلى رواية صاحب "التقريب" وطرده فيما إذا كانت تنقطع عن توفية حق الزوج؛ لزمان اشتغالها. والثاني: أنه على سبيل الاستحباب؛ فله منعها من إرضاعه, وهو الذي عليه جماهير الأصحاب, وجزم به في "المهذب" وقال: إن المنع مكروه, وكذلك

البندنيجي؛ لأنه يستحق الاستمتاع بها في الأوقات المصروفة إلى الرضاع, وهذا نازع إلى القول المقابل؛ لما أشرنا إليه, وسيأتي أنه الذي صححه بعضهم. وقال الماوردي: الصحيح: أنه ينظر في سبب المنع: فإن كان لأجل الاستمتاع وفي أوقاته كان له المنع, [وإن كان لغير الاستمتاع وفي غير أوقاته لم يكن له المنع] فإن قلنا: ليس له المنع, أو توافقا عليه – فهل تزاد نفقتها [للإرضاع]؟! فيه وجهان: أحدهما – وبه قال أبو إسحاق والإصطخري -: نعم, وهو الذي حكاه القاضي الحسين. والأصح – وبه قال عامة أصحابنا, كما حكاه البندنيجي -: المنع؛ لأن النفقة لا يختلف بحال المرأة وحاجتها. قال الرافعي: والأولى أن نقول: هذه الزيادة تحتاج إليها لتربية الولد, وعلى أبيه القيام بالكفاية. قال: وإن امتنعت من إرضاعه, أي غير اللبأ – لم [تجبر عليه]؛ أي: إذا وجد غيرها؛ لقوله تعالى: (وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) [الطلاق: 6] وإذا امتنعت فقد حصل التعاسر. ولأنه في حق الصغير بمنزلة النفقة في حق الكبير, وهي لا تجب على الأم مع يسار الأب؛ فكذلك هاهنا. وقال المزني [و] أبو ثور: [و] يجب عليها إرضاعه حولين, أما إرضاع اللبأ الذي لا يعيش [الولد] بدونه فواجب عليها؛ لإبقاء النفس. قال الرافعي: والمراد من إطلاقهم: أنه لا [يعيش إلا به, أي: لا يستوي ولا تشتد بنيته إلا به, وإلا فشاهدنا من] يعيش بلا لبأ. وقال الإمام: ما ذكره الأصحاب هو المذهب, وعليه التعويل, وتمام البيان في ذلك: أنا لا نشترط فيما يلزمه من ذلك القطع بهلاك المولود, ولكن إذا ظننا هلاكًا, او وقوعه في سبب يفضي إلى الهلاك بدرجة – فيجب السعي في دفعه؛

فحينئذ وقوع السلامة من ذلك لا يمنع من هذا الاحتمال. ثم لها أن تأخذ الأجرة على ذلك إن كان لمثله أجرة. وقال الماوردي – فيما لو احتيج إلى ذلك بعد البينونة -: ولو قيل: لا أجرة لها؛ لأنه حق واجب قد تعين عليها, وعجز الأب عنه؛ فجرى مجرى نفقته إذا أعسر الأب وأيسرت – لكان له وجه. وهذا يجيء في مسألتنا من طريق الأولى؛ لما ستعرفه؛ وهو ما حكاه ابن يونس. وأما إذا لم توجد مرضعة غيرها وجب عليها أيضًا, ولا يختص هذا بالأم, بل لو لم توجد إلا مرضعة أجنبية وجب عليها. قال: وإن طلبت الأجرة, فقد قيل: يجوز استئجارها, واحتج له بقوله تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) [الطلاق: 6] , ولو لم يجز استئجارها لم يكن لها أجر وهذا [هو] الأصح في "الرافعي", والذي حكاه القاضي الحسين, وقاسه على جواز استئجارها على الخياطة وغيرها. قال: وقيل: لا يجوز؛ لأنه يحق الاستمتاع بها في تلك الحالة؛ فلا يجوز أن يعقد عليها عقدًا آخر؛ وهذا ما حكاه الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ, وطرده الماوردي فيما لو استأجرها لخياطة ثوب, وقال: إذا خاطته, لا تستحق الأجرة, وصارت متطوعة به. وإلى ذلك أشار الرافعي بقوله: وربما طرد ذلك في استئجارها للخدمة وغيرها. وطرد ابن يونس الوجهين فيما إذا أجرت نفسها لإرضاع طفل آخر. فعلى الأول: إذا استأجرها: فإن الإرضاع لا يمنع من الاستمتاع, ولا

ينقصه – فلها مع الأجرة النفقة, وإن كان يمنع أو ينقص فلا نفقة لها, على ما حكاه في "التهذيب". وقال في كتاب العدد: إذا كان الولد من غيره, واحتاجت إلى الخروج, أو حصل إخلال في التمكين -: فإن وجب عليها الإرضاع حتى لا يجوز للزوج منعها لعدم مرضعة, فأذن: فهل تسقط نفقتها؟ فيه وجهان؛ كما لو سافرت بإذنه في حاجتها, وهذا بعينه يتجه جريانه هاهنا. وفي "الذخائر" حكاية وجهين – من غير تفصيل – فيما إذا أرضعت ولد غيره بإذنه. وعلى الثاني: إذا أرضعت على طمع الأجرة ففي استحقاقها أجرة المثل وجهان: قال ابن خيران: تستحق؛ لأنها لم تبذل منفعتها مجانًا. وقال أكثرهم: لا تستحق, ولو استحقت لجاز استئجارها. فرع: هل يجوز لها أن ترضع ولد غيره بأجرة؟ الذي ذكره الماوردي: أنه لا يجوز. وكذلك لو أرادت التطوع برضاع غير ولدها, وخدمة غير زوجها. وفي "الشامل" في كتاب الإجارة حكاية وجه: أنه يجوز بغير إذنه, ويثبت له الخيار في فسخه, وجزم بالجواز فيما إذا كان بإذنه. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه قيل: لها أن ترضع ولد غيره بالأجرة؛ كما لها أن تغزل. ثم قال: وهذا فاسد؛ لأن الشافعي نص في امرأة المفقود: إذا حضر الزوج الأول فله أن يمنعها من أن ترضع ولد الثاني إلا اللبأ؛ فكذلك له أن يمنعها من أن تشتغل بإرضاع ولد الغير. وإذا قلنا بجواز ذلك, قال في "البيان": كل موضع لزمت فيه إجارة الزوجة نفسها, ولم يكن للزوج فسخها, فهل يمنع الزوج من وطئها؟ فيه وجهان, المذكور منهما في "التهذيب": أنه يمنع, لكن لا تستحق عليه النفقة. قال: وإن كانت بائنة جاز استئجارها؛ لانتفاء المانع المذكور, فإن طلبت أجرة

المثل قدمت على الأجنبية, أي: إذا طلبت – أيضًا – أجرة المثل, لأن الله تعالى إنما جعل للأب أن يرضع ولده غيرها إذا تعاسرت, [وهي لم تتعاسر] , ولأن المؤنة عليه فيها مثل المؤنة في غيرها, ولها فضل الحنو والشفقة, وحق الحضانة؛ فلا يفوت [عليها] , وتكون أولى به. قال: وقيل: إن كان للأب من يرضعه [من غير] أجرة ففيه قولان: أصحهما: أن الأم أحق؛ لقوله تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) [الطلاق: 6] ولما ذكرناه. ولأن الرضاع وجب لحق الولد, ولبن الأم أصلح له, وقد رضيت بعوض المثل؛ فكانت أحق به, وهذا ما نقله المزني عن نصه في بعض المواضع, وقال: إنه أحب إليّ. والقول الثاني – وهو المنقول في عامة الكتب, وصححه الرافعي -: أن للأب الانتزاع, وإرضاعه للأجنبية؛ لقوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) [البقرة: 233]. وبالقياس على ما لو طلبت أكثر من أجرة المثل. وقد قطع بهذا القول قاطعون, منهم: أبو إسحاق, والإصطخري, وابن سريج, وابن أبي هريرة. وقال أبو إسحاق: لا يُعرف للشافعي إلا هذا القول, وما حكاه المزني ليس فيه ما يدل على خلافه. وهذا الخلاف [يشابه ما إذا تبرع] أجنبي بحفظ مال الطفل, وأبى الأب إلا بأجرة – فأصح الوجهين: أن الأب لا يجاب. ويجري الخلاف فيما لو طلبت أجرة المثل, ووجد من ترضى بدونها, على ما حكاه أكثرهم. وفي "الحاوي": أنه ينظر في قدر نقصان الأجرة: فإن كان بقدر زيادة الإدرار و [فضل] الاستمراء [كانت الأم أحق؛ لأن نقصان الأجرة يصير في مقابلة اللبن, وترجح الأم بفضل حنوها.

وإن كان النقصان من أجرة المثل أكثر من فضل الإدرار والاستمراء] كان على القولين؛ كما لو وجد متطوعًا. فعلى الأول: لو اختلفا: فقال الأب: وجدت متبرعة وأنكرت – فهو المصدق بيمينه, وكان يتجه أن يخرج وجه: أنه لا يحلف, كما سيأتي فيما إذا ادعى إرادة سفر النقلة. وعلى الثاني: للأب انتزاعه منها كما ذكرناه, ولا يكلف أن يأتي المرضعة [وترضعه في بيتها, ولا تمنع الأم من زيارته, قاله ابن الصباغ, وسيأتي في باب الحضانة] ذكر خلاف فيه. قال: ولا تجب أجرة الرضاع لما زاد على حولين؛ لأن الله – تعالى – جعلهما تمام مدة الرضاع, ولا يجوز أن يفصل عن أمه قبل تمامهما من غير رضا الأبوين. وفيه احتمال للإمام إذا لم يتضرر به الولد. وإن اتفقا على فطامه قبل تمام الحولين جاز إذا لم يتضرر الولد. ويجوز لكل منهما فصاله بعد الحولين, على ما حكاه البغوي وغيره. فصل: ومن ملك عبدًا أو أمة, لزمه نفقتهما وكسوتهما؛ أي: سواء كان العبد صغيرًا أو كبيرًا, عاقلًا أو مجنونًا, مكتسبًا أو غير مكتسب, صحيحًا أو زمنًا؛ لما روى الشافعي بإسناده عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف, ولا يكلف من العمل ما لا يطيق", وفي رواية: "إلا ما يطيق". وروى مسلم عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملكه قوته".

ولأن السيد مالك لتصرف عبده وكسبه؛ فوجب أن يكون ملتزمًا لنفقته وكسوته؛ لما يلزمه من حراسة نفسه. وقد اتفق العلماء على إيجاب النفقة للملوك, والمرا بالنفقة: الطعام والإدام, وذلك غير مقدر, بل الواجب فيه قدر الكفاية؛ كنفقة القريب, وفي قدر الكفاية وجهان: أحدهما: كفاية مثله في الغالب, [و] لا يعتبر حاله في نفسه. والثاني: يعتبر حاله في نفسه؛ فتراعى رغبته وزهادته, فإن لم يكفه ما يكفي مثله غالبًا فعلى السيد الزيادة, وهذا ما اختاره ابن الصباغ. وقال الماوردي: إن كان يؤثر فقد الزيادة في قوته وبدنه لزمت السيد, وإلا فلا. قال الرافعي: وينبغي أن تجيء هذه الوجوه [قويها وضعيفها] في نفقة القريب. وجنس النفقة: غالب القوت الذي يطعم منه المماليك في البلد. فإن كان دون قوت السادة لم يجب عليهم أن يطعموهم إلا منه. وما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إخوانكم خولكم, جعلهم الله تحت أيديكم, فمن [كان] أخوه تحت يده – فليطعمه مما يأكل, ويكسوه مما يلبس" – فهو محمول على مكارم الأخلاق, أو في حق من قوته من جنس قوت العبيد, وكسوته متقاربة؛ للجمع بينه وبين حديث أبي هريرة. والمرجع في الأدم والكسوة – أيضًا – إلى العرف. ويجري على حال السيد في اليسار والإعسار؛ فيجب من رقيق الجنس وخشنه, ولا يجوز الاقتصار في الكسوة على ستر العورة, وإن لم يتأذ بالحر والبرد. فرع: لو كان السيد يطعم ويلبس دون المعتاد غالبا, إما بخلا أو رياضة – فيلزمه رعاية الغالب للرقيق, أو له الاقتصار على ما اقتصر عليه السيد؟ فيه وجهان, أشبههما الأول.

قال: فإن كانت الأمة للتسري فضلت على أمة الخدمة في الكسوة؛ للعرف, [وهذا هو الأصح. وقيل: لا تفضل؛ لتساويهما في المقتضى للوجوب] وهو الملك, وكالعبد إذا كان شريفًا. وهذا الخلاف يجري في الطعام – أيضًا – وفي ذات الجمال وإن لم تكن سرية. ومنهم من أجراه في العبد الشريف, والظاهر التسوية. واعلم أن ظاهر إطلاق الأئمة يدل على أن هذا الخلاف في الوجوب؛ لأنهم عللوه بأنه من المعروف, ولفظ الإمام: يجب التفاوت. وفي "المهذب" أن ذلك استحباب. قال: والمستحب أن يجلس – أي: بضم الياء – الغلام الذي يلي طعامه معه, فإن لم يفعل – أي: المالك, ويحتمل أن يريد المملوك – أطعمه منه؛ لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه قد كفاه حره ودخانه فليقعده ليأكل معه, وإلا فليناوله أكله من طعامه", وروى: "إذا كفى أحدكم خادمه طعامه ودخانه فليجلسه معه, فإن أبى فليروغ له اللقمة واللقمتين". والأكلة بالضم: اللقمة, وروغها, أي: رواها دسمًا. وقيل: إنهما سواء في الاستحباب. وقيل: يجب عليه الترويغ والمناولة, فإن أجلسه معه فهو أفضل. وقيل: الواجب أحدهما, لا بعينه. والظاهر الأول. وأصل الاستحباب في إطعام الطعام اللذيذ يشمل الذي يليه وغيره.

والمراد بالطعمة: ما يسد مسدًّا، دون الذي يهيج الشهوة ولا يقضي النهمة. فائدة: لو دفع الطعام إلى العبد، ثم أراد إبداله – ذكر القاضي الروياني: أنه لا يجوز له ذلك عند الأكل، ويجوز قبله. وقال الماوردي: إن تضمن الإبدال تأخير الكل لم يجز، والله أعلم. قال: ولا يكلفه من الخدمة ما يضر به؟ للخبر، ولقوله – عليه السلام-: ["لا ضَرَرَ ولا إِضْرَارَ". قال الشافعي: ومعنى قوله- عليه السلام-:] "وَلاَ يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لاَ يُطِيقُ"، يعني – والله أعلم -: إلا ما يطيق [الدوام عليه، لا ما يطيق] يوماً أو يومين أو نحو ذلك ثم يعجز. ومعنى كلام الشافعي: أنه لا يجوز أن يكلفه ما يطيقه يومين أو ثلاثة، ولا يطيقه على الدوام. قال: ويريحه في وقت القيلولة- وهي النوم نصف النهار – دفعاً للضرر، وكذا إذا عمل بالنهار أراحه بالليل، وبالعكس. ويستعمله في الشتاء النهار، مع طرفي الليل، ويتبع في ذلك العادة الغالبة. قال: وفي وقت الاستمتاع عن كانت له زوجة؛ لأن إذنه في النكاح يتضمنه، وقد تقدم الكلام فيه في كتاب النكاح. قال: وإن سافر به أركبه عقبة، أي: وقتاً مؤقتاً؛ حتى لا يكلفه ما لا يقدر على المداومة عليه عادة. والعقبة: بضم العين. قال: ولا يسترضع الجارية إلا ما فضل عن ولدها، أي: المملوك له، أو ولده؛ لأنه لو استرضعها أكثر من ذلك، لأضر بها بسبب ولدهان وقد قال تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233]. ولأن نفقته عليه، وطعامه اللبن، وكما لا يجوز أن ينقص من طعامه غير اللبن عن كفايته، كذلك [من] طعامه اللبن. وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه إذا أراد أن ينتزعه منها، ويرضعه من غيرها –

جاز؛ لأنها ملكه، والاستمتاع بها حقه. والصحيح: الأول؛ لأن فيه إحالة بينه وبينها، وليس له ذلك؛ لإفضائه إلى الوله، صرح به الإمام. أما إذا كان مملوكاً لغيره، أو حرًّا، فله أن يسترضعها من شاء؛ لأن الولد إرضاعه واجب على مالكه، أو والده؛ كذا قاله الماوردي. ولو رضي السيد بأن ترضعه مجاناً لم يكن لها الامتناع؛ لأن ذلك محض حقه. ويجوز له في أوقات الاستمتاع أن يضم ولدها منه أو المملوك له إلى غيرها. وأبدى الإمام فيه تخريج الوجه الذي حكاه عن صاحب "التقريب" في الزوجة. وله إجبارها على الفطام قبل الحولين إذا اجتزأ الولد باللبن، وعلى الإرضاع بعد الحولين وإن كان يجتزئ بغير اللبن، إلا إذا تضررت به، وليس لها الاستقلال بالفطام ولا الإرضاع. قال: وإن مرضا أنفق عليهما؛ لأن نفقتهما مقدرة بالكفاية؛ فأشبها الأقارب. فرع: تجوز المخارجة، وهي ضرب خراج معلوم على الرقيق يؤديه كل يوم أو أسبوع، مما يكتسبه. وقد صرح بذلك الشيخ في باب التدبير، وليس للعبد أن يجبر سيده عليها، ولا للسيد إجبار العبد عليها؛ كعقد الكتابة. وعن القاضي أبي حامد تخريج قول: أن للسيد ذلك. وإذا تراضيا، فليكن له كسب [دائم يفي] بذلك الخراج، فاضلاً عن نفقته وكسوته إن جعلهما في كسبه، وإذا ما يكسبه، فالزيادة مِيرة من السيد إلى عبده. وإن ضرب عليه خراجاً أكثر مما يليق بحاله، وألزمه به منعه السلطان منه، ويجبر نقصان بعض الأيام بالزيادة في بعضها. ولا يخفى أن ذلك عقد جائز، فإن فسخ وفي يد العبد فاضل من كسبه فهو للسيد. فصل: وإن ملك بهيمة وجب عليه القيام بعلفها؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَيلَةَ أُسْرِيَ بِي اطَّلَعْتُ في النَّارِ، فَرَأَيْتُ امْرأَةٌ تُعَذَّب، فَسَأَلْتُ عَنْهَا، فَقِيلَ: إِنَّهَا رَبَطَتْ هِرَّةً، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَسْقِهَا، وَلَمْ تَاكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ

حَتَّى مَاتَتْ؛ فَعَذَّبَها اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى". ولأنها ذات روح تتضرر بترك الأكل؛ فوجب عليه القيام به كما في العبد. ثم للبهيمة ثلاث أحوال: إحداها: أن تكون معلوفة، لا ترعى، فعليه [ان يعلفها، ويسقيها حتى ينتهي إلى أول شبعها وريها، دون غايتها، وليس له أن يعدل بها إلى المرعي إذا لم تألفه. الثانية: أن تكون راعية، لا تعلف، فعليه] إرسالها في المراعي حتى تشبع من الكلأ وتروى من الماء، ويعتبر في هذه الحالة أمران: أحدهما: أن يكون في الموضع الذي ترعى فيه [ماء] مشروب. والثاني: ألا يكون فيه سباع، فإن لم يتهيأ له ذلك كانت القسم الأول. والثالثة: أن تكون جامعة بين الأمرين، فإن كانت مكتفية بكل منهما كان مخيراً؛ وإن لم تكتف إلا بهما فعليه الجمع بينهما. تنبيه: العلف بفتح اللام: ما تطعمه البهيمة من شعير وتبن وحشيش وغيرهما، وبإسكان اللام: مصدر علفها علفاً، ويجوز هاهنا الوجهان. قال: ولا يحمل ما يضر بها بالقياس على العبد. قال: ولا يحلب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها؛ لأنه خلق غذاء للولد؛ فلا يجوز منعه منه كما في ولد الأمة. والمراد: أن يفضل عما يقيمه؛ حتى لا يموت، كذا قاله الروياني. وذكر في "التتمة": أنه لا يجوز الحلب إذا كان يضر بالبهيمة لقلة العلف، وأنه يكره [تركه] إذا لم يكن في الحلب إضرار بها؛ لما فيه من تضييع المال، والإضرار بالبهيمة. وان المستحب ألا يستقصي في الحلب، ويبقى في الضرع شيئاً. وأن يقص الحالب أظفاره؛ كي لا يؤذيها بالقرص. والنحل يبقى له في الكوارة شيء من العسل إلا أن يكون الانتشار في الشتاء،

ويتعذر الخروج؛ فيبقى له أكثر، وإن قام مقام العسل شيء آخر لم يتعين إبقاء العسل، وقد قيل: تشوى دجاجة وتعلق على باب الكوارة؛ فيأكل منها. وديدان القز تعيش بورق الفرصاد، فعلى مالكها تخليتها لتأكل منه، وإذا جاء وقت استكمالها الغزل جاز تجفيفها بالشمس وإن كانت تهلك؛ لتحصيل فائدتها. قال: وإن امتنع من الإنفاق على رقيقه أو بهيمته – أجبر على ذلك، أي: إذا كان له مال ولكنا لم نصل إليه؛ لأنه حق وجب عليه القيام به، فإذا امتنع من أدائه، أجبر عليه؛ كنفقات الزوجات. وكيفية إجباره: أن يؤمر بالإنفاق عليه، [أو بان] يبيعه، أو يؤجره إن أمكن إيجاره، أو يعتقه إن كان يمكن أو يذبح ما يحل أكله. أما إذا كان له مال ظاهر فيباع عليه، وفي كيفية بيعه وجهان: أحدهما: شيئاً فشيئاً. والثاني: يستقرض عليه على أن يجتمع شيء صالح؛ فيباع منه بقدره، فإن لم يمكن بيع بعضه، باع جميعه، صرح به الماوردي. قال: فإن لم يكن له مال، أي: وأصر على الامتناع – أكري عليه إن أمكن إكراؤه؛ لأن بذلك يحصل المقصود. قال: فإن لم يمكن بيع عليه، أي: منه بقدر الحاجة كما تقدم؛ لأنه الممكن، وللحاكم أن يجبره على البيع، فإن تعذر بيع البعض، بيع الكل؛ فإن تعذر بيع الكل، أنفق عليه من بيت المال؛ فإن لم يكن فيه مال، فهو من محاويج المسلمين، يقومون بكفايته. وقد أبدى الشيخ أبو محمد في بيع بعض اللقطة لأجل النفقة احتمالاً: أنه لا يجو كي لا تأكل نفسها، وهو ما أبداها أبو الفرج الزاز، وقد يتجه جريان مثله هاهنا. قال: فإن كان له أم ولدن ولم يمكن إكراؤها ولا تزويجها، فيحتمل أن تعتق عليه- أي: بضم التاء الأولى- كما للزوجة فسخ النكاح، إذا تعذرت عليها

النفقة الفائتة عليها، وهذا موافق لما حكاه في "التتمة" عن الأودني: أن السيد يؤمر بعتقها. ويحتمل ألا تعتق؛ لأن الزوجة بالفسخ يمكنها أن تتوصل إلى تحصيل النفقة الفائتة عليها، وهذه لا تتمكن من ذلك، بل نفقتها في بيت المال بعد العتق، وكذلك هي في حال الرق إذا عجز السيد عنها، كما ذكرناه. وفرق القاضي الحسين بينهما: بأن الأمة لما لم يكن لها رفع ملك اليمين بالعجز عن الاستمتاع، فكذلك بالعجز عن النفقة، بخلاف الزوجة. وبأنها لا تصل إلى النفقة بمثل السبب الذي استحقت على سيدها برفع الملك؛ بخلاف المرأة؛ فإنها تصل إلى النفقة بمثل السبب الذي استحقت به على زوجها النفقة؛ وهو النكاح. وهذا الخلاف كالخلاف المحكي في الكافر إذا أسلمت أم ولده. والله عز وجل أعلم.

باب الحضانة

باب الحضانة الحضانة - بفتح الحاء -: تربية الطفل، والقيام بأمره ورعايته، واعتماد ما يصلحه؛ وهي ولاية وسلطنة، لكنها بالنساء أشبه. مأخوذة من الحضن - بكسر الحاء - وجمعه: أحضان، وهو: الجنب؛ فإنها تضمه إلى حضنها. يقال: احتضنت الشيء: جعلته في حضني، وحضنت الصبي. وانتهاء مدتها: سن التمييز، وما بعده، يسمى كفالة إلى البلوغ، فإذا بلغن انتهى إلى حد الكفاية؛ كذا رتبه الماوردي. قال- رحمه الله تعالى-: إذا تنازع النساء في حضانة الطفل قدمت الأم؛ لما روى ابن خديج بسنده عن عبد الله بن عمر أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ابني هذا كانت بطني له وعاء وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، ويريد [أن] ينتزعه مني؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنْتِ أَحقُّ بِهِ مَا لَم تَنْكِحِي"، فانطلقت به. ولأنها بتربية ولدها أخبرها، وعليه أصبر؛ لما جبلت عليه من فضل الميل إلى الأولاد، وكثرة الحنو والإشفاق. [قال: ثم أمهاتها، الأقرب فالأقرب، أي: من الوارثات؛ لمشاركتهن الأم في تحقق الولادة والإرث]. قال: ثم [أم الأب]؛ لمساواتها للأم في المعنى الذي ذكرناه، [وإنما قدمت

عليها أمهات الأم وإن علون لأن الولادة فيهن محققة، وفي أمهات الأب – لأجل الأب – مظنونة. ولأنهن أقوى ميراثاً من أمهات الأب؛ لأنهن لا يسقطن بالأب، وتسقط أمهات الأب بالأم. قال: ثم أمهاتها؛ لما ذكرناه في أمهات الأم. قال: ثم أم الجد، ثم أمهاتها، أي: المدليات بالإناث دون ذكور. وهكذا؛ لأن لهن ولادة ووراثة كالأم وأمهاتها، ولأنهن أكثر شفقة، وأقوى قرابة؛ ولذلك يعتقن على الولد. قال: ولا حق لأم أب الأم؛ لما سنذكره من بعد. قال: ثم الأخت من الأب والأم؛ لأنها راكضت المولود في بطن واحد، وشاركته في النسب؛ فهي أشفق عليه. ثم الأخت للأب، ثم الأخت للأم، قدمتا على غيرهما؛ لاشتراك الأولى معه في النسب، ومراكضة الثانية معه في البطن، وقدمت الأولى على الثانية؛ لأنهما استويا في الشفقة والقرب، واختصت هي بقوة الإرث وزيادته. ولأنهما أختان من أهل الحضانة؛ فقدم أقواهما ميراثاً على الأخرى؛ كالأخت من الأبوين مع الأخت [من الأب]. و [لأن اجتماع الأخت من الأب مع الطفل كان في صلب الأب، وهو ابتداء النشوء واجتماعه مع الأخت من الأم في الرحم بعد ذلك؛ فكان السابق من السببين أولى بالتقديم. قال: وقيل تقدم الأخت للأم على الأخت للأبي؛ لأنها تدلي بالأم؛ فقدمت على من يدلي بالأب مع المساواة في الدرجة؛ كأم الأم مع أم الأب؛ وهذا تخريج ابن سريج، وبه قال المزني في "الكبير". ونقل عن أبي إسحاق أنه قال به برهة من الزمان ثم رجع عنه. وظاهر كلام الشيخ وكذلك كلام الماوردي وغيرهما يقتضي أن هذا [في]

الجديد، وفي "النهاية": أنه مخرج من القول القديم. قال: والأول هو المنصوص، ووجهه ما ذكرناه. والفرق بين الأخت من الأمن وبين الجدة من الأم: أن الجدة من الأم مساوية للجدة من الأب في الميراث، وامتازت بزيادة الإدلاء بالأم التي هي أصل في الحضانة. وفي الأخت من الأب زيادة في الإرث، وقوة؛ بسبب كونها تعصب في وقت، وذلك مقابل لإدلاء الأخت من الأم بالأمومة التي هي أصل؛ فيتعارضان، ورجح جانب الأخت من الأب بأن القوة فيها – وهي الميراث – صفة في نفسها؛ فكانت أولى بالترجيح من اعتبار صفة في غيرها. قال: ثم الخالة؛ لإدلائها بالأم، مع مساواتها لها؛ فقدمت الخالة للأب والأم، ثم الخالة للأب، ثم الخالة للأم. قال الماوردي: وعلى قول ابن سريج والمزني تقدم الخالة للأم على الخالة للأب، ومن الأصحاب من اسقط حضانة الخالة للأب؛ لإدلائها بأب الأم؛ كأمه، قال: وهذا ليس بصحيح؛ لمساواتها للأم في درجتها؛ فصارت مدلية بنفسها، وخالفت أم أب الأم المدلية بغيرها. قال: ثم العمة؛ أي: على ما ذكرناه؛ لان إدلاءها بإخوة الأب كإدلاء الخالات بإخوة الأم؛ فتقدم العمة للأبوين، ثم العمة للأب، ثم العمة للأم. قال الشيخ في "المهذب": وعلى قياس قول المزني، وابن سريج: تقدم العمة من الأم على العمة من الأب؛ وهذا وجه حكاه القاضي الحسين، مع القول بأن الأخت للأب مقدمة على الأخت من الأم، [وكذلك حكاه في الخالة من الأب مع الخالة من الأم]، ووجهه بأن الجهة التي قدمت الأخت للأب بها هو التعصيب، وكثرة الإرث، ولم يوجد معنى الإرث في العمات والخالات بحال؛ فلم يبق إلا مجرد الحضانة، ومن كان إدلاؤها بأنثى في هذا الباب كانت أولى؛ لأنهن الأصل فيه. وبعد هؤلاء تقدم بنات الأخوات، ثم بنات الإخوة، ثم بنات سائر العصبات، قرباً فقرباً، ثم بنات الخالات، ثم بنات العمات – على القول: بأن لهن حقًّا في الحضانة، وهو الراجح الذي يقتضيه إيراد الأكثرين إلا الغزالي؛ فإنه جعل الأظهر

خلافه- ثم خالات الأم، ثم خالات الأب، ثم عماته – كما ذكرناه – ويجيء فيه خلاف ابن سريج، وهذا هو الصحيح عند الروياني. وفي وجه تقدم بعد العمات: خالات الأم، ثم خالات الأب، ثم عماته، ثم خالات أم الأم، ثم خالات أم الأب، ثم خالات الجد، ثم عماته، وهكذا تستعلي درجة بعد درجة. ولا يستوعب عمود الأمهات كما استوعبت أمهات الأمهات؛ لأن البعدي من أمهات الأم وارثة كالقربى، والعمات والخالات بخلافهن؛ فاعتبر فيهن قرب الدرج. فإن عدمن جميعاً، فالحضانة لبنات الأخوات، ثم بنات الإخوة، ثم إلى بنات العصبة، ثم إلى بنات الخالات، ثم إلى بنات العمات. وفي وجه: بنات الأخوات والإخوة يقدمن على العمة، وهو ما حكاه الإمام والغزالي والبغوي. قال: وقال في القديم: تقدم الأم، ثم أمهاتها – أي: المدليات بالإناث، ثم الأخوات؛ لأنهن ركضن مع الطفل في صلب واحد وبطن واحد. ثم الخالة؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم في قصة بنت حمزة قال: "الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ"، ويؤيده ما حكاه ابن عطية عن السدي في قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100] [أنه رفع] أباه وخالته؛ لأن أمه كانت قد ماتت. قال: ثم أمهات الأب، ثم أمهات الجد، ثم العمة؛ لما ذكرناه. ولا فرق في الأخوات بين أن يكن من الأبوين أو من أحدهما؛ كما صرح به ابن الصباغ والبندنيجي والقاضي الحسين، والرافعي في آخر الفصل، وقال قبله: القولان متفقان على تقديم جنس الأخوات على الخالات؛ لقرب الأخوات، وهذا ما يقتضيه إطلاق الشيخ. فعلى هذا: تقدم الأم، ثم أمهاتها، ثم الأخت من الأب والأم، ثم الأخت من الأب، ثم الأخت من الأم، ثم الخالة للأب والأم، ثم الخالة للأب – على أن لها حقًّا – ثم الخالة للأم، ثم أمهات الأب، ثم أمهات الجد، ثم العمة، وهكذا صور الإمام. وعلى مقتضى تخريج ابن سريج: تقدم الأم، ثم أمهاتها، ثم الأخت من

الأبوين، ثم الأخت من الأم، ثم [الأخت] من الأب، ثم الخالة من الأبوين، ثم الخالة [من الأمن ثم الخالة من الأب] ثم أمهات الأب، ثم أمهات الجد، ثم العمة. وحكى ابن يونس وغيره: أنه أخر الأخت [من] الأب عن الخالة أيضاً، وأن على هذا تقدم الأم، ثم أمهاتها، ثم الأخت للأبوين، ثم الأخت للأم، ثم الخالة، ثم أمهات الأب، ثم أمهات الجد، ثم الأخت للأب، ثم العمة، وهذا ما حكاه في "المهذب" عن القديم. وما حكاه عن ابن سريج في تقديم الخالة على الأخت من الأب [ضعيف جدًّا؛ لأنه في تقديم الأخت للأم على الأخت من الأب-] نظر لاستوائهما في الميراث، وكون الأخت من الأم امتازت بالإدلاء بالأم؛ فرجحت، وهاهنا الأخت وارثة، والخالة غير وارثة؛ فلا استواء حتى تترجح بالإدلاء بالأم، بل وجد في الأخت للأب مرجحان: الإرث، وكون القوة في نفسها، وذلك أولى من مرجح واحد. وفي "الحاوي": تخصيص القديم بتقديم الأخت من الأبوين على أمهات الأب؛ موجهاً ذلك بأنها تدلي بالأبوين؛ فكانت أولى ممن تدلي بأحدهما، وأفسده بأن الولادة والبعضية أقوى، ولثبوت ميراثهن مع الأبناء. وهذا الخلاف يعرفك اضطراب هذا القول، وعلى كلا القولين فالعمة مؤخرة عن الخالة. قال: والأول أصح؛ لأن النظر إلى الشفقة وشفقة الجدات من قبل الأب؛ كما قاله الإمام – في الغالب – تزيد [على شفقة الأخوات والخالات؛ فقدمن. قال الإمام: وهذا – على ظهوره – قد لا ينتهي] إلى القطع، والوجه الذي يفسد به القديم: أنه قدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، ولا إدلاء للأخت من الأم إلا بالأم؛ فاضطرب بهذا تقديم الاتصال بجانب الأم، ثم الأخت من الأب بنت أبي المولود أصله، وتقع الثانية بالنسبة إليه حاشية في نسبه؛

فلاح بمجموع ذلك إيضاح وجه القول الجديد، واضطراب القول القديم. وفي "تعليق" القاضي الحسين بعد ذكر توجيه القول القديم: وهذا صحيح، إلا أن فيه شيئاً واحداً، وهو أنه قدم الأخت للأب على الجدة للأب، ولو كان القياس على هذا كان تقديم الجدة عليها أولى، ولعله إنما فعل هذا؛ لأن لها قوة التعصيب في بعض الحالات، وليست للجدة هذه القوة بحال. قال: وإن اجتمع مع النساء رجال، قدمت الأم، أي: على الأب ومن عداه؛ للخبر المذكور في أول الباب. والمعنى فيه: أنها تساوي الأب في القرب والشفقة، وتختص بالولادة المحققة، ولصلاحية الحضانة بسبب الأنوثة. وأيضاً: فالأب لا يتسغني في الحضانة عن النساء، أو لا يكاد يباشرها، وهي تباشرها. قال: ثم أمهاتها، أي: اللاتي ذكرناهن؛ لأنهن يشاركن الأم في الشفقة والأنوثة والولادة المحققة، فألحقن بها. قال: ثم الأب؛ لأن من عداه إن أدلى به فهو مقدم عليه [كما في الإرث، وإن لم يدل به فمن يدلي به مقدم عليه]، والمقدم مقدم. قال: ثم أمهاته، أي من جهة الإناث؛ لأن لهن ولادة ووراثة؛ فأشبهن أمهات الأم. وفيه وجه- ويقال: [قول مخرج]: أنهن يقدمن على الأب؛ لولادتهن، وزيادة صلاحيتهن للحضانة، وهو جار في الأخت من الأب، مع الأب، وإن كانت فرعاً له، ومدلية به. قال: ثم الجد، ثم أمهاته؛ لما ذكرناه، وقدم الجد على الأخت وإن قاسمها في الميراث؛ لعدم إمكان التبعيض؛ كما في ولاية النكاح. قال: ثم الأخوات – أي: على الترتيب المتقدم – لأنهن راكضن معه في الصلب والبطن، وأخرن عن الجد، لعدم ولادتهن، وقدمن على الخالات والعمات؛ لإدلائهن بالأبوين والعمات والخالات يدلين بالجدين.

وفي أمهات الجد والأخوات مع الجد ما ذكرناه في أمهات الأب والأخوات معه. قال: ثم الخالة، ثم العمة؛ على ظاهر النص، أي: الذي حكاه المزني؛ لأنه لما عدم من له الولادة والمساوي للمولود في الدرجة؛ كان الانتقال إلى المساوي للأصل في الحضانة- وهما الأبوان – أولى، وقدمنا الخالة على العمة؛ لإدلائها بالأم المقدمة على الأب، وهذا هو الذي عليه الأكثرون، ونص رواية الربيع. قال: وقيل: تقدم الأخت للأب والأم والأخت للأم والخالة على الأب، وهو الأظهر؛ لأن كلاًّ منهن ذات حضانة تدلي بالأم؛ فسقط الأب معها؛ كالجدة أم الأم. فإن قيل: أم الأب – وإن علا- والأخت للأب مقدمة على الأخت للأم والخالة- على الأصح- والأب مقدم على أمه وابنته- على الأصح، والمقدم على المقدم مقدم. قيل: لا يلزم ماذكرتموه؛ ألا ترى أن الأب لا يحجب الجدة عن السدس، [وأمه تحجبها] عن نصفه، وإن كان يحجب أمه، وهذا القول خرجه ابن سريج، والإصطخري، وأبو إسحاق، لكن في الأخت من الأم والخالة، إذا لم يكن معهم أخت لأب، ولا أم أب، وافترقوا فيما إذا وجد معهم أخت للأب، أو أم الأب- على ما حكاه البندنيجي وغيره: فذهب الإصطخري إلى أن الأب أولى؛ لأن الأخت للأب تسقط الخالة والأخت للأم، وكذلك أم الأب تسقطهما، والأب يسقط أمه وبنته؛ فيسقط الكل، وترجع الفائدة إليه؛ كما قيل في الأخوين، إذا اجتمعا مع الأب والأم؛ فإنهما يردان الأم من الثلث إلى السدس، ويفوز الأب بما سقط من نصيب الأم. وقال غيره: تقدم الخالة والأخت من الأم؛ لأن الأب يسقط أمه وبنته، وإذا سقطتا بقي مع [الأخت للأم والخالة] فهو كالخالة [الأولى]، وبهذا أخذ الشيخ، فإنه جعل الأخت من الأب والأم ملحقة بالأخت من الأم، وأسقط ما اتصفت به من أخوة الأب بهذا المعنى. وهذا كله تفريع على الجديد، أما إذا فرعنا على القديم، وقلنا: إنهن يقدمن

على أمهات الأب؛ فكذلك يقدمن على الأب، لا سيما إذا قدمنا أمهات الأب على الأب، فلما تظافر القديم، وأحد قولي الجديد المخرج على ذلك، جعله الشيخ الأظهر، وإن كان الماوردي جعله من زلة أبي سعيد الإصطخري لما في الأب من الولادة والاختصاص بالنسب، وفضل الحنو والشفقة التي يدور عليها حق الحضانة. فرع: إذا كان بدل الأب أباه: فإن قدمناهن على الأب – فكذلك على أبيه، وإن قدمنا الأب، فكذلك الجد يقدم على الخالة والأخت للأم، وهل يقدم على الأخت للأب؟ فيه وجهان؛ الظاهر منهما في "تعليق" البندنيجي: أنها أولى منه؛ لأن لها حضانة، والمذكور في "الشامل" ان الجد أولى. قال: وإما الإخوة –أي: العصبات وبنوهم [والأعمام وبنوهم] فإنهم كالأب والجد في الحضانة يقدم القرب منهم فالأقرب، على ترتيب الميراث على ظاهر النص؛ لوفور شفقتهم، وقوة قرابتهم بالإرث والولاية. ويثبت للأخ من الأم- أيضاً – الحضانة؛ لمراكضة الطفل في البطن، ووجود شفقته عليه؛ فيقدم بعد الآباء الإخوة من الأبوين، ثم من الأب ثم من الأم. وعلى ما ذكره المزني وابن سريج يقدم الأخ من الأم على الأخ من الأب. وفي "الشامل" حكاية وجه: أنه لا يقدم عليه أيضاً؛ لأنه ليس من أهل الحضانة بنفسه، وإنما يستحق بقرابته، والأخ للأب أقوى. [فإذا انقرض الإخوة، قدم أولاد الإخوة من الأبوين، أو من الأب، ولا حق لأولاد الأخ من الأم؛ لما ستعرفه. فإذا انقرض أولاد الإخوة قدم العم من الأبوين، ثم من الأب، ثم بنوهم، ولا حق للعم من الأم. فإذا انقرض الأعمام وبنوهم قدم عم الأب، ثم عم الجد، وعلى هذا الترتيب. وفي "الحاوي" وغيره حكاية وجه: أن الأعمام يقدمون على بني الإخوة، فإذا انقرض الأعمام قدم بنو الإخوة وإن سفلوا، فإذا انقرضوا فمن يقدم على هذا الوجه؟ فيه وجهان: أحدهما: أولاد الأعمام وإن سفلوا.

والثاني: يقدم عم الأب على أولاد العم، فإذا انقرض أعمام الأب، قدم أولاد العم، وإن سفلوا، وهكذا. وفي الأخ من الأم – أيضاً- وجه: أنه يتأخر عن الأعمام. قال: وقيل: لا حق لهم في الحضانة؛ لأن الذكورة بعيدة عن الحضانة؛ لافتقارها إلى الاستنابة فيها، وإنما أثبتت للأب والجد؛ لما لهما من الولادة، ووفور شفقتهما، واعتنائهما بأمر الولد؛ ولذلك ثبتت لهما الولاية، وهذا المعنى مفقود في هؤلاء؛ فلا يتعدى الحكم إليهم، والقائل بهذا حمل قول الشافعي –رضي الله عنه-: وكذلك العصبة يقومون مقام الأب، إذا لم يكن أقرب منهم من الأم وغيرها" على أن لهم تأديبه وتعليمه نهاراً. وهذا الوجه يجري في الأخ من الأم – أيضاً – ومنهم من حكى وجهاً فيه دونهم؛ لأنه لا عصوبة له ولا ولاية. فرع: إذا أثبتنا الحضانة لأولاد العم، ففي ثبوتها للمعتق عند فقد الأقارب وجهان، أحدهما: المنع، وهو ما أجاب به الماوردي؛ لعدم القرابة التي هي مظنة الشفقة. فعلى هذا: لو كانت له قرابة، وهناك من هو أقرب منه، فهل ترجح؛ لانضمام عصوبة الولاء إلى عصوبة القرابة؟ فيه وجهان محكيان في "الحاوي" وغيره، ومثاله: ابن عم وعم. واعلم أن قول الشيخ: "وأما الإخوة وبنوهم والأعمام وبنوهم، فإنهم كالأب والجد في "الحضانة"، إن أجرى على ظاهره لزم منه عند اجتماع الرجال والنساء أن يقدموا بعد الآباء والأمهات على جميع النساء من الأخوات والخالات والعمات ومن يدلي بهن من بناتهن؛ لاختصاصهم بالنسب، واستحقاقهم القيام بتأديب المولود ونقله إلى وطنهم، وهو وجه حكاه الماوردي وابن الصباغ، والشيخ في "المهذب" وغيرهم. وإن حمل على أهل الحضانة دون المنزلة كان ذلك مع ظاهر ما قدمه من قوله: "ثم الأخوات، ثم الخالة، ثم العمة على ظاهر النص"، يقتضي ألا يتقدم أحد بعد الآباء والأمهات من الذكور على الأخوات والخالات والعمات [و] لا يتقدم بعد الأخوات على الخالة، وهو وجه

حكاه في "المهذب"، والماوردي معبراً عنه بأنه جميع النساء من الأقارب، بعد فقد الآباء والأمهات أحق بالحضانة من جميع العصبات؛ فتقدم الأخوات والخالات والعمات ومن أدلى بهن من النساء على جميع العصبات من الإخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم؛ إذا أثبتنا لهم حق الحضانة لما فيهم من الأنوثة. وحكينا – أيضاً – وجهاً ثالثاً، وصححه الماوردي، وتابعه على تصحيحه القاضي الروياني: أنه لا يترجح أحد الفريقين على العموم، مع تفاضل الدرج، ويترتبون ترتب العصبات في استحقاق الأقرب فالأقرب، فإن كان الرجال أقرب قدموا، وكذلك النساء. وإن استوى الرجال والنساء في الدرج قدم النساء. فعلى هذا: يقدم بعد الآباء والأمهات الأخوات، ثم الإخوة، فإذا عدموا انتقل حق الحضانة إلى بنات الأخوات، ثم إلى بني الإخوة، فإن اجتمع ابن أخت وبنت أخ كانت بنت الأخ أولى. فإذا عدمت درجة الإخوة انتقلت إلى الدرجة التي تليها، وهي خالات الأم، ثم خالات الأب، ثم عماته، ثم أعمامه، ثم إلى أولادهم، وتكون بعدهم لأولادهم على ترتيبهم، ثم تستعلي على هذا القياس درجة بعد درجة. قلت: وهذا الوجه فيه نظر من وجهين: أحدهما: أن فيه تقديم بنات الأخوات والإخوة على الخالات والعمات. وقد حكى الرافعي أن القولين – يعني: الجديد والقديم – متفقان عند انفراد النسوة على تقديم جنس الأخوات على الخالات، وعلى أن الخالات يتقدمن على بنات الأخوات والإخوة- كما حكيناه من قبل – فكيف يمكن أن يجعل هذا أصح مع مخالفته للجديد والقديم؟ الثاني: أن الروياني صحح – عند انفراد النسوة – تقديم الخالات والعمات

على بنات الأخوات وبنات الإخوة – كما حكيناه عن القولين – وهنا صحح هذا، وهو مناقض له، فكيف يجمع بينهما؟! وفيه – أيضاً – ما يوهم أن ابن الأخت له حق في الحضانة على الجملة، فإنه قال: إذا اجتمع ابن أخت وبنت أخت وبنت أخ، كانت بنت الأخ أولى، وهذا يدل على ما ادعيناه، مع أنه حق له في الحضانة؛ لأنه ذكر غير وارث، وقد قال الماوردي: إنه لا حضانة لذكر غير وارث أصلاً. على أن في هذا وجهاً، سنذكره من بعد، والله اعلم. فرعان: أحدهما: إذا استوى اثنان في درجة من كل وجه- كأختين مثلاً – وتنازعا، أقرع بينهما. قال الرافعي: وكان يجوز أن يقدم بما يقدم به المتزاحمان على اللقيط. الثاني: إذا كان في أهل الحضانة خنثى، نظر: إن كان مستحقها رجلاً، لم [يساو به] الخنثى، وهل يقدم بذلك على المرأة، عند عدم الرجل؟ فيه وجهان. ومثل ذلك يجري فيما إذا كان مستحقها امرأة، لكن على العكس. فائدة: حكم المجنون، ومن به خبل وقلة تمييز، أو فقده –حكم الصبي فيما ذكرناه. قال: وإذا بلغ الصبي سبع سنين وهو يعقل، خير بين الأبوين، أي: عند تساويهما في اجتماع شروط الكفالة، وطلب كل منهما الكفالة. قال: فإن اختار أحدهما سلم إليه. والأصل في ذلك ما روى الشافعي بإسناده عن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم "خَيَّرَ غُلاَماً بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ". وروى عنه أبو داود عن طريق آخر

أنه قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة، فقالت: يا رسول الله، إن هذا ولدي، وإن أباه يريد أن يذهب به، وإنه سقاني من بئر أبي عنية ونفعني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استهما عليه"؛ فقال زوجها: من يجاقني في ولدي؟! فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم] للغلام: "هَذَاَ أَبُوكَ، وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ، فَأَخَذَ الْغُلامُ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ". وإنما يدعى بالغلام الصبين وعنبة: بنون وباء، قاله الدارقطني. ولأن القصد بالكفالة طلب الحظ للولد، وهو بظهور تمييزه أعرف بحظه؛ فوجب أن يرجع إليه؛ لأنه قد عرف من برهما ما يدعوه إلى اختيار أبرهما. ولا نظر إلى كون أحدهما أكثر مالاً، أو أزيد في الدين، أو المحبة على الأظهر من الوجهين، بل يجري التخيير. وخص التخيير بالسبع؛ لأنه سن التمييز – غالباً – ولِهَذَا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأَولِيَاء بِأَمْرِ الصِّبْيَانِ بِالصَّلاَةِ فِيهِ، ويعتبر مَعَ الوُصُولِ إلِي هَذِهِ السِّنِّ وَالعَقْلِ أَنْ يَكُونَ عَارِفاً بأسباب الاختيار وضابطاً، فإن لم يكن كذلك أخر إلى حصول ذلك، وهو موكول إلى نظر القاضي واجتهاده.

وعلى هذه الحالة حمل الأصحاب ما حكى عن الشافعي في القديم: إذا بلغ سبعاً أو ثماني سنين، خير ولم يثبتوا ذلك قولاً. وراعى المراوزة هذا المعنى فأثبتوا التخيير عند وجود التمييز، ولو قبل السبع. والمراد من قول الشيخ: "الأبوين": الأب وإن علا؛ يدل عليه قوله من بعد: فإن لم يكن له أب ولا جد. وحكم أم الأم مع الأب أو الجد حكم الأم. أما إذا لم يتشاحا في طلب الكفالة، بل رضي احدهما بتسليمه إلى الآخر – فهو أحق به، ما لم يرجع ويطلبه، صرح به الماوردي وغيره. ولو تدافعاه، فإن كان بعدهما من يستحق الكفالة: كأب الأب، وأم الأم – انتقل الحق إليهما. وإن لم يكن بعدهما من يستحقها؛ لتفرد الأبوين – فوجهان حكاهما صاحب الحاوي: أحدهما: أن المولود على خيرته؛ فمن اختاره منهما أجبر عليها. ولو كان هذا التمانع في وقت الحضانة أقرع بينهما، وأجبر على الحضانة من قرع. والثاني- وهو المحكي في "النهاية"-: أن الحضانة ينحي بها نحو النفقة: فمن تجب عليه النفقة يجب عليه القيام بالحضانة؛ فإنها من المؤن المتعلقة بالكفالة؛ وكذلك حكم الكفالة. قال الإمام: ولو طلبت الأم الحضانة وطلبت الجرة فهي بمثابة طلبها الرضاع، وأبدى فيه احتمالاً؛ من حيث إنها فيها وغيرها على وتيرة واحدة [ويمكنه من أن يحضن بنفسه وهل ينزل منزلة متبرعة؟ فيه تردد بين الأصحاب. قال الإمام: ولعل الظاهر أن ما يناله من التعب بمثابة الأجرة التي تطلبها الأجنبية فلا يكون هذا كوجدان متبرعة. وهذا من الإمام تفريع على أنها تستحق الأجرة] بعد فصال الرضاع. أما إذا قلنا: إنها لا تستحق- وهو وجه حكاه القاضي الحسين – لأن حفظ الولد واجب عليها، في حال كونه عندها، فلا تأخذ الأجرة على شيء واجب عليها؛ فلا تفريع. فرع: إذا احتاج الولد إلى خدمة في الحضانة والكفالة، ومثله من يخدم – [قام الأب] بمؤنة خدمته، إما باستئجار خادم، أو ابتياعه، على حسب عادة أهل البلد وعرف أمثاله.

ولا يلزم الأم مع استحقاقها لحضانتها الأجرة أن تقوم بخدمته، إذا كان مثلها لا يخدم؛ لأن الحضانة هي الحفظ والمراعاة، وتربية الولد، والنظر في مصالحه، وذلك لا يوجب مباشرة الخدمة، ويستوي في ذلك الغلام والجارية؛ قاله الماوردي. قال: فإن كان ابناً واختار الأم، كان عندها بالليل، وعند أبيه بالنهار، أي: يؤدبه، ويعلمه أمور الدين والمعايش، ويسلمه غلى المكتب إن كان من أهل التعلم، أو الحرفة؛ إن لم يكن من أهل التعلم، والمرجع في ذلك إلى عرف أهله، كما صرح به الماوردي؛ لأن المقصود من الكفالة حظه، وبهذا يحصل له الحظ. وهكذا الحكم فيما إذا كان عندها قبل انتهائه إلى سن التخيير، وكان ذكيًّا فطناً، والمرد فيه خمس سنين أو ست سنين، وإن لم يكن فطناً فيؤخر إلى سن الكفالة. قال: وإن اختار الأب كان عنده بالليل؛ أي: بحكم التخيير، والنهار، أي: بحكم رعاية مصالحه. قال: ولا يمنع من زيارة أمه؛ كي لا يكون ساعياً في العقوق وقطيعة الرحم، وهل ذلك على طريق الوجوب أو الاستحباب؟ الذي صرح به البندنيجي ودل عليه كلام الماوردي: الأول؛ فإنه قال: وعليه أن ينفذه إلى زيارة أمه في كل يومين أو ثلاثة، وإن كان منزلها قريباً فلا بأس أن يدخل عليها [في كل يوم ليألف برها، ولو أرادت الأم زيارته لم يمنعها الأب من الدخول عليه،] لكن لاتطيل المكث. ولفظ البندنيجي: لا يحل له منعها منه. قال: ولا تمنع من تمريضه إن احتاج؛ لأن المريض كالصغير في الحاجة؛ فكانت أحق به؛ لوفور شفقتها عليه؛ ولأن النساء بتعليل المريض أقوم من الرجال، فإن رضي الأب بأن تمرضه في بيته فذاك، ويجب الاحتراز عن الخلوة، وإلا فينقل الولد إلى بيت الأم. وإذا مات الولد في بيت الأب لم تمنع من حضور غسله وتجهيزه إلى أن يدفن، وله منعها من زيارة قبره إن دفن في ملكه؛ لحق نفسه، وإن كان في غير

ملكه فكذلك، لكن لحق الله تعالى. قال: وإن كانت بنتاً، فاختارت الأب أو الأم – كانت عنده، أي: عند من اختارته منهما بالليل، والنهار؛ لتساوي الزمانين في حقها، وحصول المقصود منها في بيتها، ولا يمنع الآخر من زيارتها، أي: في حال الصحة، وعيادتها، أي: في حال المرض؛ لما ذكرناه، ولكل منهما منع البنت من الخروج إلى زيارة الآخر، بخلاف الغلام؛ حيث قلنا: لا يمنع من زيارة أمه؛ لأن الجارية من الحرم؛ فتمنع من [البروز؛ لتألف الصيانة] وعدم التبرج. فإن قيل: الأم إذا أرادت زيارتها، احتاجت إلى الخروج – أيضاً- فلم رجحت البنت عليها؟ قيل: لأن الحذر على البنت أكثر، وحالها في الصغر أخطر، ولا تمنع من الخروج؛ للعيادة، وللأم إخراجها إلى بيتها؛ لأجل المرض، عند امتناع الأب من تمريضها في بيته؛ لأنها حالة ضرورة؛ فاتسع حكمها؛ كذا حكاه الماوردي، وابن الصباغ وغيرهما. وفي "المهذب": أنها إذا مرضت كانت الأم أحق بتمريضها في بيتها، مقتصراً على ذلك. قال: فإن اختار أحدهما، ثم اختار الآخر- حول إليه، فإن عاد واختار الأول أعيد إليه؛ لأن ذلك حق للولد، لا عليه، وهو يقف على شهوته؛ فاتبع فيه إرادته كما يتبع إرادته بشراء الطعام، ولأنه قد [يبدو له الأمر على خلاف ما ظنه]، وقد يقصد مراقبة الجانبين. ولا فرق في ذلك بين أن يتكرر منه أو لا، على ما يقتضيه إيراد الماوردي؛

حيث قال: وعلى هذا أبداً كلما اختار واحداً بعد واحد حول إليه. وقال الإمام: إذا تردد الصبي تردداً كثيراً، قال الأصحاب: كان ذلك دالاًّ على خرقه؛ فيتبين أنه ليس مميزاً، ويقر في حضانة الأم، ثم قال: وهذا فيه نظر؛ فإنه لا ينكر في حالة الصبي وإن كان على كيس تام، وتمييز ولو تكرر ذلك ما أراه شاهداً، ولا وجه عندي في ذلك إلا اتباعه، على شرط ألا تتعطل أركان الحضانة بالتردد. واعلم أن الشيخ – رحمه الله – ذكر عند تخيير الصبي في حالة الصبي في حالة التنازع حالة من ثلاث أحوال، ولم يتعرض لما سواها، ولا غنى عن ذكرهما: فالأولى: أن يختارهما؛ فلا يجتمعان فيه مع التنازع، ويقرع بينهما، فأيهما خرجت القرعة له، كان أحق بكفالته. والثانية: ألا يختار واحداً منهما، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقرع بينهما – أيضاً – وهو ما حكاه في "المهذب". والثاني- وهو الأشبه عند الرافعي، والمذكور في "البسيط": أن الأم أحق؛ لأنه لم يختر غيرها، وكانت الحضانة لها؛ فتستصحب ما كان [لها]. قال: فإن لم يكن له أب ولا جد، وله عصبة غيرهما – خير بين الأم وبينهم، على ظاهر المذهب، أي: في أن لهم حقًّا في الحضانة، كما تقدم. ووجهه ما روي عن عمار الجرمي قال: خَيَّرَنِي عَلِي – كرم الله وجهه – بَينَ أُمِّي وَعَمِّي، وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنيِنَ أَو ثَمَانٍ، وَقَالَ لأخٍ لِي هُوَ أَصْغَرُ مِنِّي: وَهَذَا – أيضاً لَو – قَدْ بَلَغَ لخيرته. ولأنهم عصبة مناسبون كالأب. وفيه وجه – على ظاهر المذهب – حكاه الماوردي والرافعي وغيرهما: أنه لا يخير، وتكون الأم أحق بكفالته من غير تخيير؛ لاختصاصها بالولادة. قال: فإن كان العصبة ابن عم، أي: تحل له – لم تسلم البنت إليه؛ لأنه ليس بمحرم؛ فتحصل الخلوة المحرمة.

وظاهر هذا الكلام يدل على أنها تخير بينه وبين الأم، لكن لا تسلم إليه، بل إلى غيره، وهو قضية ما في "الشامل"؛ فإنه قال: إذا كانت له بنت سلمت إليها. وقريب مما حكاه الرافعي فيما إذا أثبتنا له حق الحضانة، وبلغت حدًّا يشتهي مثلها، لم تسلم إليه، ولكن له أن يطلب تسليمها إلى امرأة ثقة، ويعطي أجرتها. وإن كانت له بنت، سلمت إليها، والموجود في "المهذب" وتعليق البندنيجي وغيرهما: أنها لا تخير بينهما، وتكون الأم أحق بها. وبنات الخالات وبنات العمات، إذا أثبتنا لهن حق الحضانة، وكان المحضون صغيراً فإذا بلغ إلى سن يشتهي سقط حقهن، صرح به الرافعي، والله أعلم. قال: وقيل: لا حق لغير الآباء والأجداد في الحضانة- أي: كما ذكره من قبل؛ فلا يخير بينهم وبين أمه ولو كان للصبي أب وأخوات من أم، أو الخالات، وقدمناهن عليه في الحضانة – ففي تخييره بين الأب وبينهن وجهان، ولو كان له عصبات من الرجال [ومن له حق الحضانة من النساء دون الأمهات، فهل يخير بينهن؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها:] لا يخير، وتكون العصبات أحق. والثاني: لا يخير، وتكون نساء القرابات أحق. والثالث: يخير بين عصباته وبين قراباته إذا تساوت درجتهم، فإن تساوي اثنان من عصبته كالأخوين، أو اثنتان من قراباته كالأختين – ففيه وجهان: أحدهما: يخير بينهما أيضاً. والثاني: يقرع [بينهما] ولا يخير، ويستحقه من قرع منهما، كذا قاله الماوردي. واعلم أن ما ذكرناه من التخيير بين الأبوين ومن عداهما مفروض فيما إذا لم يكن [للمكفول] زوج إن كان أنثى، أو زوجة إن كان ذكراً، أما إن كان له زوج كبير، وأمكنه الاستمتاع بها، أو زوجة كبيرة وأمكنه الاستمتاع بها – فالزوج والزوجة أحق بكفالته وإن كانا أجنبيين من جميع قراباته؛ لما جعل الله بين الزوجين من المودة؛ فكان أسكن إليهما، وهما أعطف عليه.

وإن لم يمكن الاستمتاع فهو كما لو لم يكن له زوج ولا زوجة. نعم، لو كان الزوج أو الزوجة من أقاربه، فهل يرجح بعقد النكاح على غيره من الأقارب، أم لا؟ فيه وجهان. حكاهما الماوردي وغيره. قال: وإن وجبت للأم الحضانة، فامتنعت – لم يجبر؛ لأنها تركت حقًّا لها، ومن ترك حقًّا له، لا يجبر على استيفائه. أما إذا وجبت عليها، إما بأن لم يكن له أب وإن علا، ولا مال له، أو تمانعا، وفرعنا على ما حكاه الماوردي من خروج القرعة، وإجبار من خرجت القرعة عليه، كما حكيناه من قبل فتجبر؛ كما يجبر كل من امتنع من حق وجب عليه. قال: وتنتقل إلى أمها، وكذا لو غابت بالقياس على ما لو ماتت [أو جنت]. قال: وقيل: تنتقل [إلى الأب، وهو قول أبي سعيد الإصطخري على ما حكاه ابن الصباغ]، وبه قال ابن الحداد، على ما حكاه الرافعي؛ لأن أهليتها باقية، وإنما تركت حقها، فلم ينتقل [منها] إلى من يدلي بها؛ بخلاف ما إذا ماتت [أو جنت]، ينتقل إلى الأب؛ لأنه أولى من الحاكم؛ ألا ترى أن ولاية النكاح إذا مات الأقرب أو جن، انتقلت إلى الأبعد، وإذا غاب أو عضل ينوب عنه السلطان [ولا يزوج الأبعد؟! قال الرافعي: وقد قال ابن الحداد- على ما حكاه المتولي-: إنها تنتقل إلى من يوليه السلطان]. والذي رأيته في "التتمة" في هذا الموضع ما حكيته عن الإصطخري لا غير. [نعم]، حكى فيما إذا وجبت الحضانة للأب فغاب، عن ابن الحداد: أن الحضانة تنتقل إلى السلطان؛ اعتباراً بولاية النكاح؛ لأنها حق عليه، ويفارق جانب الأم؛ لأنها تركت حقا لها، وما استشهد به كما يمنع نقل الولاية إلى من يدلي بالممتنع يمنع نقلها على من يدلي بغيره، فلا يحسن التمسك به. وحكى الإمام هذا الوجه عن الخلافيين في القريب إذا غاب، ثم قال: ولست

أحكي مثل ذلك ليلتحق بالمذهب، ولكن أذكره؛ ليتبين أنه له يذكره المعتمدون؛ فيقطع عن المذهب، مع أن الفرق بين ولاية النكاح وهذه أن الغائب يمكنه التزويج في الغيبة، فإذا لم يفعل، ناب السلطان عنه، والحضانة في الغيبة ليست بممكنة؛ فصار كما إذا نكحت مستحقة الحضانة، لما لم يمكنها القيام بها سقط حقها، وانتقل إلى من بعدها؛ وهكذا الحكم في كل من امتنع من الحضانة؛ فإنها تنتقل إلى من يليه. قال: ولا حق في الحضانة لأب الأم؛ لضعف قرابته؛ ألا ترى تقاعده عن إفادة الولاية والإرث، وتحمل العقل؟! فكذلك يتقاعد عن إفادة الحضانة. وفيه وجه: أن له حقًّا؛ لأن له قرابة تدعو إلى الشفقة والتربية. وهذا الخلاف يجري في كل ذكر أدلى بأنثى، غير الأخ: كالخال والعم للأم، وابن الأخت وابن الخال وابن العمة. وأجرى – أيضاً – في ابن الأخ للأم وابن الخال. وإذا قلنا به، فيتأخرون عن المحارم الوارثين وعن الوارثين الذين لا محرمية لهم. وإذا تنازعوا في أنفسهم، فمن له ولادة مقدم على من لا ولادة له؛ [فأبوا الأم يقدم] على الخال، فإن انتفت الولادة عنهم كالخال والعم للأم ففيه وجهان: أحدهما: أنهما سواء؛ فيقرع بينهما. والثاني- وهو الأشبه-: أنه يستحقها من قوي سبب إدلائه؛ فيكون الخال مقدماً على العم للأم وهكذا. قال: ولا لأمهاته – أي: إذا قلنا: لا حق لهم؛ لأنها تدلي بمن لا حق له في الحضانة بحال ولا عصوبة؛ فأشبهت الأجانب، واحترزنا بقولنا: بحال عن [أم] الأم إذا كانت الأم فاسقة، أو مزوجة؛ لأن لها حقًّا على الجملة. وبقولنا: ولا عصوبة، عن بنت الأخ إذا قلنا: لا حق له في الحضانة؛ فإن الحضانة لها، وإن كانت مدلية به؛ لكونه عصبة ولكون له نوع منها، وهو تأديبه وتعليمه، كما صرح به ابن الصباغ.

وفي المسألة وجهان آخران: أحدهما: أن لها حقًّا، ولكن تؤخر عن جميع النساء. والثاني: لها حق، وتقدم على الأخوات اولخالات؛ وهذا حكاه الشيخ أبو علي، واستحسنه الإمام، واستشكل المذهب من حيث إنها على عمود النسب، وهي أصل المولود، وذلك حكم يناط بالبعضية، فهو متعلق بها؛ كاستحقاق النفقة، والعتق عند جريان الملك، وإن نظر إلى عدم استحقاق الإرث فالخالات ساقطات عند من لا يورث بالرحم، ولا خلاف [أنهم مستحقون] للحضانة. وهذا الخلاف يجري في كل جدة ساقطة، وكل محرم يدلي بذكر لا يرث، وإن شئت قلت: يدلي بأنثى، كما قال الإمام، وذلك مثل بنت ابن البنت، وبنت العم للأم، وعمات الأم، وبنات ابن الأخ للأم وبنت الخال، وبنت ابن الأخت. فرع: إذا انفردن، وتنازع منهن اثنتان: فإن كان في إحداهما ولادة ليست في الأخرى: كأم أبي الأم، مع بنت الخال- كانت الأولى أحق. ولو لم يكن فيهما ولادة: كبنت الخال وبنت العم- ففيه وجهان: أحدهما: يستويان، ويقرع بينهما. والثاني: يقدم من قوى سبب إدلائها. وهو الأشبه. [فرع] آخر: إذا تنازع ذكر ممن يدلي بالإناث المذكورات، وواحدة ممن ذكرناهن – نظر: إن لم يدل واحد منهما بالآخر كانت الأنثى أحق، ما لم يكن في الذكر ولادة، سواء قربت، أو بعدت. وإن كانت من جهته: كأب الأم، وأمه، فمن أحق بها؟ فيه وجهان: أحدهما: الذكور: لأنهم أقرب ممن أدلى بهم. والثاني: الإناث، مع بعدهن ممن أدلين به من الذكور؛ لأنوثتهن؛ فتكون أم أب الأم أحق من أب الأم، وبنت الخال أحق من الخال، حكاه الماوردي. قال: ولا لرقيق.

شرع الشيخ – رحمه الله – من هاهنا في بيان ما يمنع من ثبوت حق الحضانة، مع وجود سببها- وهو القرابة – هو بعينه مانع من الكفالة، وجملة ما قيل فيه سبعة مواضع، أربعة ذكرها الشيخ: فمنها: الرق، والدليل على أنه لا حضانة للرقيق أن منفعته للسيد، وهو مشغول به غير متفرغ للحضانة، وكذا لو أذن له السيد؛ لأنها نوع ولاية، والرقيق لا ولاية له. ولا فرق في ذلك بين الرجال النساء إذا كان الولد حرًّا، وتكون حضانته لمن ينتقل إليه بعد الرقيق من الأقارب، فإن لم يكن كانت في بيت المال. أما إذا كان الولد رقيقاً، فحضانته على سيده – أيضاً – لكن هل للسيد إذا كان مالكاً لأمه نزعه منها في سن الحضانة والكفالة، وتسليمه إلى غيرها؟ فيه وجهان حكاهما البندنيجي، وجزم المارودي بالمنع في سن الحضانة، وحكى قولين في سن الكفالة، وهو بعد السبع إلى البلوغ كما ذكرناه. وحكى فيما إذا كان أبوه مِلْكاً لسيده في جراين حكم الأم عليه في المنع من التفرقة وجهين. ولو كانت الأم حرة والولد رقيقاًن فكذلك حضانته لسيده، والانتزاع منها الخلاف. وحكم المدبر والمعتق بصفة – حكم القن، وكذا المكاتب. نعم: إذا قلنا: إن ولد المكاتبة تستعين به في الكتابة يسلم إليها، لا لأن لها حق الحضانة؛ بل لأنه لها، وأم الولد بالنسبة إلى ولدها [من نكاح أو زنى حكمها حكم الرقيقة، وكذا بالنسبة إلى ولدها من] سيدها، على الصحيح. وعن الشيخ أبي حامد: أن لها الحضانة، دون الكفالة. قال الروياني: والمصلحة الفتوى [به]. والمعتق نصفه ملحق بالرقيق. ولو كان بعض الولد حرًّا، وبعضه رقيقاً – فنصف حضانته للسيد، ونصفها لمن تكون حضانته له من أقربائه الأحرار، فإن اتفقوا على المهايأة، أو على استئجار من يحضنه، أو رضي أحدهما بالآخر- فذاك، وإلا استأجر الحاكم من

يحضنه، وأوجب المؤنة على السيد، وعلى من يقتضي الحال الإيجاب عليه. قال: ولا فاسق؛ لأنها ولاية، ليس فيها شائبة الاكتساب، والفاسق ليس من أهل الولايات. ولأنه لا يؤمن من أن يخون في حفظه، وينشأ على طريقته. وفي عدول الشيخ عن اشتراط العدالة إلى اعتبار نفي الفسق، دلالة على أنا لا نشترط تحقق العدالة الباطنة، بل يكفينا نفي الفسق، وذلك يحصل بالعدالة الظاهرة، ما في شهود النكاح، كما صرح به الماوردي. وعلى هذا: لو اختلف الأبوان، فادعى أحدهما فسق الآخر؛ ليفوز بالكفالة من غير تخيير، لم يقبل قوله فيه، ولم يكن له إحلافه عليه، وكان على ظاهر العدالة، حتى يقيم مدعي الفسق عليه ببينة. حكاه الماوردي. قال: ولا كافر على [مسلم]؛ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141]. ولأن في ذلك خشية أن يفتنه عن دينه؛ فلا حظ له فيه. ولأنه لا ولاية للكافر على المسلم. قال: وقيل: للكافر حق، وهذا قول أبي سعيد الإصطخري، وحكاه الرافعي في آخر الفصل عن ابن أبي هريرة أيضاً، وتمسك قائله بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاماً بين أبيه المسلم وأمه الكافرة، فمال إلى الأم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اهْدِهِ"؛ فعدل على أبيه. وعن بعض الأصحاب: أن الأم الذمية احق بالحضانة من الأب المسلم، بخلاف الكفالة؛ فإن الأب أحق بها. والمذهب: الأول، وأما الخبر فقد قال ابن الصباغ والماوردي: إنه ضعيف عند

أهل الحديث، وإن صح، فهو منسوخ، على ما حكاه في "المهذب"؛ لأن الأمة أجمعت على أنه لا يسلم إلى الكافر. قال مجلي: ولعل نسخه وقع بقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141]. أو يحمل على أنه – عليه السلام – عرف أنه يستجاب دعاؤه، وأنه يختار الأب المسلم، وقصد بالتخيير استمالة قلب الأمز قال الماوردي: ولأنه – عليه السلام – دعا بهدايته على مستحق كفالته، لا إلى الإسلام؛ لثبوت إسلامه بإسلام أبيه، فلو كان لأمه حق لأقرها عليه، ولما دعا بهدايته إلى مستحقه. وولد الذميين في الحضانة كولد المسلمين؛ فالأم أحق بها، قاله الرافعي. وفي البندينيجي: أنهما إذا ترافعا إلينا حكمنا بينهما بحكم المسلمين. وهو قريب من الأول، وقد يوهم خلافه. فرع: لو وصف صبي من أهل الذمة الإسلام، نزع منهم، ولم يمكنوا من كفالته، صححنا إسلامه أو لم نصححه. والطفل الكافر: هل يثبت لقريبه المسلم حق حضانته؟ قال في "التتمة": الصحيح من المذهب ثبوته، وفيه وجه آخر؛ بناء على أن القريب الذي ليس بوارث لا حضانة له. قال: ويجري هذا الخلاف فيما نحن فيه إذا جن الذمي وله قريب مسلم، هل يثبت له حق الحضانة؟ قال: ولا حق للمرأة إذا نكحت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أَنتِ أَحَقُّ مَا لَمْ تَنْكِحِي"، وروي أنه – عليه السلام –قال: "الأَيِّمُ أَحَقُّ بوَلَدِهَا مَا لَم تَتَزَوجْ".

ولأن النكاح يشغلها بحق الزوج ويمنعها من الكفالة، ويتعير به، ولا أثر لرضا الزوج؛ كما لا اثر لرضا السيد بحضانة الأمة. نعم، لو رضي معه الأب بذلك سقط حق الجدة من الحضانة - على الأصح - فيكون عند الأم. وقيل: لا يسقط حق الجدة برضا الأب، قاله في "التهذيب". وبهذا يظهر لك أن المراد بالجدة: [أم الأم]، لا أم الأب. قال: حتى تطلق- أي: وإن كان رجعيًّا -[لأن به] يزول المانع، وهو اشتغالها بحق الزوج. وهكذا الحكم في كل مانع، إذا زال، فإنه يعود حق الحضانة كما كان وإذا راجع المطلقة، سقط حقها أيضاً. وخرج ابن سريج قولاً: أن الطلاق الرجعي [لا] يكفي حتى تنقضي العدة؛ لبقاء أحكام الزوجية، وهو اختيار المزني. والمسألة مصورة في الطلاق الرجعي والبائن فيما إذا رضي المطلق بدخوله منزل العدة إن كان له، أو لم يرض، وكان لها. أما إذا كان له ولم يرض، ولم يكن لها أن تدخله فيه. وقد فهم من كلام الشيخ: أن حقها من الحضانة لا يعود بما عدا الطلاق وإن كان مُحرَّماً كالظهار قبل التكفير وغيره. فرع: تقدم أن الرجعية تستحق النفقة في زمن العدة، فإذا أخذت في حضانة ولدها من غير رضا المطلق، وكان المسكن لها - فالمذهب: أن نفقتها [لا تسقط. وحكى عن الشيخ أبي علي أنها تسقط؛ كما لو كانت في صلب النكاح؛ فإن الرجعية تستحق] نفقة الزوجة؛ فتسقط نفقتها بما تسقط به نفقة الزوجات. قال الإمام: وهذا عندي هفوة؛ فإن الزوجة في غيبة الزوج لو حضنت الولد، [وأخذت] تحترف على وجه لو اشتغلت بمثله في حضور الزوج،

وزاحمت به حقه لكانت ناشزة – فلست أراها ناشزة في الغيبة. قال: إلا أن يكون زوجها جد الطفل، [أي: أب أبيه؛ لأن له حقًّا في الحضانة؛ فلا يسقط نكاحه حقها؛ كما لو كانت في نكاح الأب، وصورة المسألة إذا كانت الحاضنة جدة: أن يتزوج رجل بامرأة ويتزوج ابنه بابنتها من غيره، ثم يجيء لابنه ولد، ثم تموت الأم؛ [فتنتقل الحضانة إلى أم الأم، وهي زوجة الجد. أما الجد أبو الأم] فالذي يظهر من كلام الأئمة – حيث صوروا المسألة بما ذكرناه: أنه كالأجنبي، إذا قلنا: لا حق له في الحضانة، وإلى ذلك يرشد – أيضاً – كلام البغوي؛ حيث قال: الحق للأب إذا نكحت، إلا أن تنكح الجدة جد الطفل: إما أبا الأب، أو أبا الأم إن ثبتت له الحضانة. وفي "الجيلي" حكاية عن "الحلية" و"البحر": أنه لا فرق بينه وبين أب الأب، وأن الفتوى الآن عليه؛ لأنه ليس بأجنبي، وإن لم يكن له حق الحضانة. وفي كلام القاضي الحسين إشارة إليه؛ فإنه قال: قال الشافعي: إذا نكحت الأم، بطل حقها، وأمها – وهي الجدة- أولى بحضانته ما لم تتزوج هي، إلا أن يكون زوجها جد الطفل – فالجد والد – إذا رضي أن يكون عنده؛ لأن له ألا يدخل منزله ابن ابنته. واعلم أن كلام الشيخ يقتضي أنها لو تزوجت بمن له حق في الحضانة، غير الجد – لا تكون لها الحضانة، وهو وجه حكاه الماوردي وغيره؛ لظاهر الخبر، ولما يجذبها الطبع إليه من التوفر على الزوج، ومراعاة أولادها منه، وليس كالجد؛ فإن الجد تام الشفقة، قوى القرابة. والأشبه عند الرافعي – وبه قال القفال، وهو المذكور في "التتمة"، وقال البغوي: إن صاحب "التلخيص" خرجه من الجد -: أنه لا يبطل حقها. ووجهه: ما روى أبو داود – رضي الله عنه- أنه "لما قتل حمزة، وتنازع في حضانة ابنته علي بن أبي طالب، وقال: بنت عمي، وعندي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعفر بن أبي طالب –أيضاً- وقال: بنت عمي وعندي خالتها – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْخَالَةُ أُمٌّ"، وسلمها إلى جعفر". والقائل الأول حمل ذلك على أنه – عليه السلام –رجح جعفراً، مع مساواته

لعلي في القرابة – بالخالة، لا على ترجيح الخالة على غيرها. وفي "ابن يونس": أنه قيل: [إنه] إذا كان المنازع للأم في الحضانة أعلى درجة من زوجها أسقط حق الحضانة وليس بشيء، وهذا أخذه من قول مجلي: إن الشيخ ابا علي ذكر أن العم إذا نكح أم الطفل، مع وجود الأب – بطل [حق الأم]؛ لأن الأب أولى من العم؛ فصار بالإضافة إلى الأب في الحضانة كالأجنبي. ثم قال: وهذا الوجه الذي ذكره لا يجري إذا كان منازعها في الكفالة في درجة الزوج، ويجري إذا كان مقدماً عليه. وهذا كله فيما إذا رضي الزوج بأن تحضنه الزوجة، أما إذا منعها من ذلك فإنه يسقط حقها، صرح به الماوردي وغيره. والثلاثة الباقية من الموانع: الجنون، فلا يثبت للمجنون حضانة؛ لأنه لا يتأتى منه الحفظ والتعهد، بل هو في نفسه محتاج إلى من يحضنه، ولما كان هذا المانع معلوماً بالبديهة لم يحتج الشيخ إلى ذكره. ولا فرق فيه بين الجنون المطبق والمتقطع؛ لأنه بعد الإفاقة يبقى في خبل الجنون، ولا يؤمن أن يطرأ الجنون في غفلةٍ؛ فلا يؤمن على الصبين اللهم إلا أن يقل جنونه في الأحيان الكثيرة، ولا تطول مدته: كيوم في ستين – مثلاً – فلا يكون إذ ذاك مانعاً، بل هو كمرض يطرأ ويزول. نعم، لو كان تأثيره في نفس الحركة والتصرف، فينظر: إن كان ممن يباشر الكفالة بنفسه فالحكم كذلك؛ لما يدخل على الولد من النقص فيها، وإن كان ممن يدبر الأمور ويباشرها غيره، فلا يكون مانعاً. والعمى هل يمنع؟ لم أر للأصحاب فيه شيئاً، [غير أن] في كلام الإمام ما يستنبط منه [أنه] مانع؛ فإنه قال: إن حفظ الأم للولد الذي لا يستقل ليس

مما يقبل الفترات؛ فإن المولود في حركاته وسكناته، لو لم يكن ملحوظاً من مراقب لا يسهو ولا يغفل – لأوشك أن يهلك. ومقتضى هذا: أن العمى يمنع؛ فإن الملاحظة معه – كما وصف – لا تتأتى. وقد يقال فيه ما قيل في الفال؛ إذا كان لا يُلْهِي عن الحضانة، بل يمنع الحركة. وثالثها: فقد الرضاع منها إذا كان الولد رضيعاً؛ إما بامتناعها، أو لعدم اللبن، وهو ما أجاب به الأكثرون؛ لعسر استئجار مرضعة تُخْلي بيتها وتُنْقَل إلى سكن الأم. وفيه وجه: أنه ليس بمانع، وهو ما صححه في "التهذيب". واعلم: أن الحضانة متى سقطت في حق شخص بشيء مما ذكرناه انتقلت إلى من كانت تنتقل إليه لو مات ذلك الشخص. قال: وإن أراد الأب أو الجد الخروج على بلد تقصر فيه الصلاة بنية الإقامة، والطريق آمن وأرادت الأم الإقامة- كان الأب والجد أحق به، أي: إذا كان من أهل الحضانة كما ذكرناه، وإلا فالأم أحق به. قال: والعصبة من بعده – أي: الذين لهم حق الحضانة إذا ثبتت لهم وأرادوا السفر؛ لأن في كونه عندها حضانة، وفي كونه مع الأب أو العصبة حفظ نسبه وحصول تأديبه مع الحضانة؛ فكان أولى. وإنما قلنا: إن فيه حفظ نسبه؛ لأنه إذا طالت المفارقة بين الولد وبين أبيه، أو عصبته، لا يؤمن اندراس نسبه وخفائه؛ فيتضرر به الولد والوالد أيضاً. واحترز الشيخ بالقيد الأول عما إذا أراد الانتقال من البلد إلى البادية؛ فإن الأم أحق به، صرح به القاضي الحسين في "التعليق" في أثناء كلامه؛ إلحاقاً له باللقيط. وبالثاني: عما دون مسافة القصر؛ فإن ذلك لا يسلط الأب على الانتقال به إذا كان الحق للأم، وهو ما جزم به البغوي، والماوردي، وهو في "المهذب". ويقال: إنه اختيار الشيخ أبي حامد. وفي "الرافعي" حكاية وجه: أنه كمسافة القصر، وهو الأصح عند ابن الصباغ والقاضي الروياني؛ لفوات التأديب.

وبالثالث: عما إذا أراد السفر لحاجة: كحج أو تجارة، أو نحو ذلك – فإنه لا يسافر بالولد؛ لما في السفر من الخطر والضرر، ولا فرق في ذلك بين طويل السفر وقصيره. وعن الشيخ أبي محمد وجه: أن للأب السفر به؛ إذا كانت تطول مدة السفر. وبالرابع: عما إذا كان الطريق مخوفاً؛ فإنه لا تجوز المسافرة به، [ومن طريق الأولى إذا كان البلد الذي يقصد الإقامة به كذلك. ويلتحق بهذا السفر في الحر الشديد والبرد الشديد. وبالخامس: عما إذا أرادت الأم السفر معهما؛ فإنها باقية على حقها؛ لإمكان تحصيل المقصود منهما. ولا يلتحق بالعصبة المحرم الذي لا عصوبة له: كالخال، والعم للأم؛ إذا أثبتنا لهم حق الحضانة؛ لأن النقل لحفظ النسب، ولا نسب لهم، والأم إذا أرادت النقلة، وأراد الأب الإقامة، كان أحق به – أيضاً – إلا إذا كان سفرها دون مسافة القصر؛ فإنه على الخلاف السابق، وحكم من علا من الأبوين حكم الأبوين. فروع: أحدها: قال في "التتمة": لو كان للولد جد مقيم وأراد الأب الانتقال، كان له أن ينتقل بالولد، وكذا حكم الجد عند عدم الأب لا يمنعه من نقله الأخ والعم. لكن لو لم يكن له أب ولا جد، وأراد الأخ الانتقال، وهناك ابن أخ أو عم مقيم – فليس له أن ينتزع الولد من الأم وينقله. [وفرق] بأن كلاًّ من الأب والجد أصل في النسب؛ فلا يعتني به غيرهما كعنايتهما، و [غيرهما] ومن الحواشي يقرب بعضهم من بعض، والمقيم منهم يعتني بحفظه؛ كالغائب]. الثاني: لو اختلفا في نية الإقامة فالقول قول المسافر؛ لأنه أخبر بقصده. لكن مع اليمين أو بغير يمين؟ فيه وجهان، أصحهما: الأول؛ لما فيه من إبطال حق الحضانة، ومقابله محكي عن القفال. الثالث: [قال الرافعي: إذا كان كل واحد من الأبوين يسافر سفر حاجة،

واختلف بهما القصد والطريق- يشبه أن يدام حق الأم. ويجوز أن يقال: يكون مع الذي مقصده أقربن أو مدة سفره أقصر. قال: وإذا بلغ الغلام ولي أمر نفسه - أي: إذا كان رشيداً - لاستغنائه عمن يكفله، ومخاطبته بالأحكام؛ فلا يجبر على أن يكون عند أحد الأبوين، ولكن الأولى ألا يفارقهما؛ ليخدمهما، ويصل إليهما بره. قال الماوردي: ومقامه عند الأب أولى من مقامه عند الأم؛ للمجانسة، واتفاقهما على التصرف. وهذا إذا لم يكن ثم ريبة، أما إذا كان أمرد، وثم ريبة وخيف من انفراده فتنة- فقد حكى في "العدة" عن الأصحاب: أنه يمنع من مفارقة الأبوين. ولو بلغ عاقلاً غير رشيد، فقد أطلق مطلقون: أنه كالصبي تدام حضانته. وقال ابن كج: إن لم يكن مصلحاً لماله، ولم يحسن تدبير نفسه - كان الحكم كذلك، وإن كان عدم رشده بسبب دينه فالمذهب: أنه يسكن حيث شاء. وعن أبي الحسين: أن بعض الأصحاب قال: تدام حضانته إلى ارتفاع الحجر عنه. قال: وإن بلغت الجارية كانت عند أحدهما، حتى تزوج - أي: وتزف كما قيد في "التهذيب"؛ لأنها قبل ذلك متعرضة للآفات؛ فالتحقت بما قبل البلوغ. وظاهر كلام الشيخ يقتضي أن ذلك على سبيل الوجوب، وقد حكاه ابن كج عن ظاهر المذهب، ورجحه الإمام والغزالي؛ لأن للأب والجد إجبارها على النكاح، وهو أعظم حبساً؛ فلأن يجوز لهما الحبس في البيت كان أولى. لكن حكى الماوردي عن الشافعي - رضي الله عنه-: أنه قال: وأكره للجارية أن تعتزل أبويها حتى تزوج؛ لئلا تسبق إليها ظنة، ولا يتوجه إليها تهمة وإن لم تجبر على المقام معهما. قال الرافعي: وهذا هو الذي يوجد في كتب أصحابنا العراقيين. وعلى هذا: مقامها عند الأم أولى. وهل يقوم الأخ والعم مقام الأب والجد في هذه الولاية؛ إذا قلنا بالوجوب؟ فيه وجهان في "التهذيب"، المذكور منهما في "الوسيط" و"البسيط": لا، بل تختص بالأب والجد؛ كولاية الإجبار.

وهذا كله في البكر إذا لم يكن ثم [تهمة ولا] ريبة، أما الثيب، فلا تجبر على ذلك بالاتفاق، بل هو مستحب في حقها. وإذا كان ثم تهمة فلأب والجد ومن يلي من العصبات تزويجها منعها من الانفراد، وإن كانت ثيباً. ثم المحرم منهم يضمها إلى نفسه –إن رضي الله ذلك – أو يضمها إلى أحد من أهلها. قال الماوردي: والنساء بذلك أشبه. وغير المحرم يسكنها في موضع يليق بها، ويلاحظها؛ صيانة لها، ودفعاً للعار عن النسب. وألحق في "الحاوي"، وفي "التهذيب" الأم بالأب في ذلك. فرع: إذا ادعى الولي أن ثمة ريبة، ذكر الأصحاب في ذلك احتمالين: أحدهما: أن الاحتكام على العاقلة بمجرد الدعوى بعيد. والثاني- وهو الأقرب -: أنه يؤخذ بقوله، ويحتاط بلا بينة، فإن إسكانها في موضع [أكرم لهم] من الافتضاح. فرع آخر: حكى الجيلي: أن الصغيرة التي لا تشتهي إذا كانت في حضانة الأم أو الجدة، وأراد من له الحضانة من المحارم نقلها إلى مسكن له؛ للخوف عليها أو ريبة، وامتنعت الأم أو الجدة من الانتقال معها – فله أخذها منها. فلو امتنعت حيث يجب، أو هربت مع الولد، أو سرقت الولد – لم تجب على الأب النفقة والحالة هذه، وعزاه إلى "فتاوى" الغزالي. قال: ومن بلغ منهما معتوهاً كان عند الأم؛ لأنه لا يهتدي إلى مصلحة نفسه؛ فكانت الأم أحق به؛ لقربها، ومعرفتها، ووفور حنوها وشفقتها عليه كالصغير. وهذا إذا لم يكن له زوج أو زوجة، فإن كان فالزوج أو الزوجة أحق بكفالته من الأب والأم على ما حكاه الماوردي؛ لأنه لا عورة بينهما، ولوفور السكون إلى كل واحد منهما، بخلاف ما لو كان له أم ولد؛ فإن الأم أحق به؛ لأن ثبوت الرق يمنع من استيلائها، لكن تقوم بخدمته، وتقوم الأم بكفالته. ولو كان له عند عدم الأبوين بنت كان لها حضانته؛ قاله القاضي ابن كج.

كتاب الجنايات

كتاب الجنايات الجنايات: جمع "جناية"، وجمعت وإن كانت مصدراً؛ لتنوعها إلى: عمد، وخطأ، وعمد خطأ. وأصل الجناية: صدور ما يؤثر في الشيء، مقترناً [بالأذى، حتى من شتم إنسان يقال: جنى عليه، والمراد بها هاهنا: الجراحة وما في معناها]، مما سيتضح [لك] إن شاء الله.

باب من يجب عليه القصاص

باب من يجب عليه القصاص [قال]: باب من يجب عليه القصاص، ومن لا يجب القصاص - بكسر القاف، كما قال الأزهري-: المماثلة، وهو مأخوذ من "القص"، وهو القطع. وقال الواحدي وغيره من المحققين: هو من اقتصاص الأثر، وهو تتبعه؛ لأن المقتص يتتبع جناية الجاني؛ فيأخذ مثلها، ويقال: اقتص من غريمه، واقتص السلطان فلاناً، أي: أخذ له قصاصه، واستقص فلان فلاناً: طلب قصاصه منه. والأصل في وجوب القصاص: قبل الإجماع: من الكتاب: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178]، وقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء:33] وهو القصاص بالاتفاق. وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] أي: فإن الإنسان إذا علم أنه إذا قَتَلَ كف عن القتل، وقد كانت العرب تقول: القتل أنفى للقتل. وقيل: المخاطب في الآية أولياء المقتول؛ فإن القاتل انشأ بينه وبينهم عداوة بسبب القتل؛ فيكون حريصاً على قتلهم [أيضاً]، فإذا قتلوه حيوان قاله المتولي. وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى آخرها [المائدة:45]. وجه الدلالة منها- على قراءة النصب - أنها وإن كانت حكاية عن شَرْع من قبلنا فهي شرع لنا؛ لأن شرع من قبلنا شرع لنا في أصح الطريقين - كما قاله الماوردي عند الكلام في قلع العين بالإصبع- إذا لم يَرِد في شرعنا ما ينسخه، ولم رد. وفي طريقة أخرى يكون شرعاً لنا إذا قام عليه الدليل، وقد قام عليه

الدليل؛ روى البخاري في "صحيحه" عن أنس: "أَنَّ [عَمَّتَهُ] الرُّبَيِّعَ – وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ – كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ؛ فَطَلَبُوا الأَرْشَ، وَطَلَبُوا الْعَفُوَ، فأَبَوْا، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ؛ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرث ثَنِيَّةُ [الرُّبَيِّع يَا] رَسُولَ اللهِ؟! لاَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا قَالَ: "يَا أَنَس، [كِتَابُ اللهِ الْقِصَاصُ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَعَفَوْا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ". وروى مسلم، عن أنس: "أَنَّ أُخْتَ الرَّبِيعِ أُمَّ حَارِثَةَ، جَرَحَتْ إِنْسَاناً، فَاخْتَصمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "الْقِصَاصً"! فَقَالَتْ أُمُّ الرَّبِيعِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَقْتَصُّ مِنْ فُلانَةَ؟! [لا]، وَاللهِ لا تَقْتَصُّ [منها] [أبداً]؛ [فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "سُبْحَانَ اللهِ يَا أُمَّ الرَّبِيعِ، [الْقِصَاصُ] كِتَابُ اللهِ"! قَالَتْ: لا وَاللهِ لا تَقْتَصُّ مِنْهَا أَبَداً، قَالَ]: فَمَا زَالَتْ حَتَّى قَبِلُوا الدِّيَةَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ". وموضع الدليل منهما: أنه أخبر بأن كتاب الله موجب للقصاص في السن والجراحة، وليس لهما في الكتاب ذكر، إلا في هذه الآية. وأما على قراءة الكسائي بالرفع في "العين" وما بعدها فظاهر؛ لأن ذلك يكون خارجاً عن الخبر إلى الأمر. ومن السنة – [مع] ما ذكرناه – ما روى أبو داود في حديث طويل عن طاوس، وأبي عبيد مؤدبه – وهو محمد – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَتَلَ عَمْداً فَهُوَ قَوَدٌ". زاد أبو [عبيد]: "قود يد"، ثم اتفقا: "وَمَنْ حَالَ دُونَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَغَضَبُهُ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ".

وروى أبو داود – أيضاً - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع: "أَلا إِنَّكُمْ مَعْشَرَ خُزَاعَةَ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلِ، وأنا عَاقِلُهُ، فَمَنْ قُتِلَ لَهُ بَعْدَ مَقَالَتِي هَذِهِ قَتِيلٌ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: أَنْ يَاخُذُوا الْعَقْلَ، أَوْ يَقْتُلُوا" وقال الترمذي: إنه حسن صحيح. والعقل: الدية، وأصله: أن القاتل كان إذا قتل قتيلاً جمع الدية من الإبل بعقلها بفناء أولياء المقتول؛ ليسلمها إليهم؛ فسميت الدية: عقلاً بالمصدر، يقال: عقل البعير بعقِله عَقْلاً، وكثر استعمال هذا الحرف حتى قالوا: عقلت المقتول: إذا أعطيت ديته دراهم أو دنانير. قال: "لا يجب القصاص على صبي ولا معتوه"؛ لقوله – عليه السلام-:"رُفِعَ

القلمُ عن ثلاث ... " الخبر المشهور، ولأنهما غير مكلفين؛ فلم يجب عليهما القصاص كالبهيمة، ولأنه عقوبة؛ فلم تجب عليهما كالحدود. قال: "ولا مُبَرْسم"؛ بالقياس على المعتوه. قال: "ويجب على من زال عقله بمحرَّم"؛ لان زوال عقله به لا أمارة عليه، ولا يعرف حد ذلك، [و] لأنه لو لم يجب لأدى إلى ترك القصاص؛ فإنه لا يشاء يقتل إلا سكر حتى لا يقتص منه؛ وهذا ما جزم به القاضي أبو الطيب. [قال]: قيل: فيه قولان: وجه الوجوب – وهو الصحيح-: ما ذكرناه. ووجه المنع: أنه زائل العقل؛ فكان كالمعتوه، وقد تقدم الكلام في أفعاله وأقواله في كتاب الطلاق. والزائل العقل بسبب يعذر فيه: كمن شرب دواء فسكر منه، ثم قتل، أو أكره على شرب الخمر فسكر، ثم قتل- كالمعتوه. فروع: لو قال القاتل: كنت يوم القتل صغيراً، وكذبه ولي المقتول- فالمصدر باليمين القائل؛ بشرط الإمكان، ولو قال: أنا الآن صغير، فلا قصاص، ولا يحلف، قاله الرافعي. وفي "الذخائر" نسبة ذلك إلى قول أبي الطيب، وأن أبا نصر وصاحب "الحاوي" حكيا عن المذهب: أن عليه اليمين، وأن الشاشي قال: إن الأول أصح. وقال أبو إسحاق: تؤخر اليمين إلى أن يبلغ إذا أوجبناها، قال: وفيه نظر. ولو قال: كنت مجنوناً عند القتل، وكان عُهِدَ له جنون – فهو المصدق. وحكى الروياني وجهاً: أن المصدق الوارث إن [كان] الجنون الذي عهد له متقطعاً. وفي "الحاوي" و"الشامل" و"الإبانة" وجه مطلق: [أنه] المصدق؛ لأن الأصل السلامة.

وحكى القاضي أبو الطيب عن بعضهم القطع به، ثم قال: وليس بشيء، وقد تقدم [في باب: اللعان] مثل هذه الأوجه أقوالاً [فيما إذا] ادعى القاذف أنه قذفه وهو مجنون، وكذب فيه. قال: "ولا يجب القصاص على المسلم بقتل الكافر"؛ لما روى البخاري، عن عليّ – كرم الله وجهه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ". وفي رواية أبي داود والنسائي: "أَلا لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ". قال أبو إسحاق: والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذه الزيادة؛ لأجل أن قوله: "لا يقتل مسلم بكافر" إغراء بقتل الكافرين؛ فاستثنى بها حقن دماء أهل الذمة. ثم لا فرق في الكافر بين أن يكون حربيًّا أو مستأمناً أو معاهداً أو ذميًّا، أو ممن تمسك بدين بعض الأنبياء ولم تبلغه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لعموم الخبر. وفي "الوسيط" حكاية وجه: أن المسلم يقاد بمن لم تبلغه الدعوة إذا كان متمسكاً بدين بعض الأنبياء. قال في "التتمة": وهو اختيار القفال. وفي "الحلية": أنه روى عن الشافعي في "الإملاء": أن المسلم يقتل بالمستأمن. فرع: إذا قتل ولي الكافر المسلم بغير [حكم حاكم]، قال الروياني عن والده: إن عليه القصاص، وإن كان خلاف العلماء فيه – بخلاف الوطء في النكاح بلا ولي- لا يوجب الحد؛ لأن القصاص لا يستوفي إلا بإذن الحاكم وإن كان متفقاً على وجوبه، ومن يبيح الوطء في النكاح لا يعتبر إذناً فيه. وفي "الحاوي"، في كتاب حد الخمر: أن الإمام والجلاد إذا كانا يعتقدان عدم

الجواز فالضمان واجب، لكن اختلف أصحابنا في وجوب القصاص على وجهين: أحدهما- وهو قول ابن أبي هريرة -: أنه واجب؛ للنص. والثاني: لا قود؛ لشبهة الاختلاف، ولأنه لو قتله بشهادة الزوايا، أو جلده في حد القذف بالتعريض، وهو لا يعتقد ذلك، فمات – فلا قود، والدية تجب. قال: "ولا [على] الحر بقتل العبد"؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]؛ فاقتضى هذا الظاهر ألا يقتل حر بعبد، ويعضده ما رواه أبو داود، عن قتادة، عن الحسن قال: "لا يُقَادُ الْحُرُّ بِالعَبْدِ"، [وما رواه الدارقطني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ]، يعني: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الحر لا يقطع طرفه بطرف العبد قصاصاً، وحرمة النفس أعظم؛ فالقصاص فيها أولى بالمنع.

وحكم المدبر، والمعلق عتقه بصفة، والمكاتب، وأم الولد، ومن بعضه حر وبعضه رقيق – حكم الكامل الرق. نعم، لو قتل من بعضه حر وبعضه رقيق من هو مثله – وجب عليه القصاص عند العراقيين من أصحابنا، وبه جزم الماوردي. وعند الخراسانيين والقاضي أبي الطيب، كما حكاه ابن الصباغ عن قوله في "المجرد": لا قصاص، واختاره القفال والمتأخرون؛ لأن كل جزء من القتيل يقابله جزء شائع من القاتل، من الحرية والرق؛ فيؤدي إلى استيفاء جزء من الحر بجزء من الرقيق، وهو مقتضى التوزيع المذكور في "مُدّ عَجُوَة"، ومما يدل على الشيوع: أن من نصفه حر ونصفه عبد لو قتل مثله، وآل الأمر إلى المال – كان الواجب على القاتل ربع دية المقتول وربع قيمته، [وتعلق بالنصف الرقيق منه ربع دية المقتول وربع قيمته]، ولا نقول: مقدار القيمة [من الجزء الرقيق يتعلق بمقدار الرقيق من الجاني ومقدار الدية] يتعلق بقدر الحر من الجاني, قال: "فإن جرح الكافر كافراً"، أي: غير حربي، "ثم أسلم الجارح ومات المجروح، أو جرح العبد عبداً، ثم أعتق الجارح"، أي: ومات المجروح- "وجب عليه القود"؛ لأنه وجد التكافؤ حالة الجرح المفضي إلى الهلاك؛ فكان الاعتبار بها فإنها حالة الفعل الداخل تحت الاختيار؛ ولهذا نقول: لو جن الجارح، ثم مات المجروح – يجب [عليه] القصاص، وقد جزم بهذا بعضهم كالشيخ، ورجحه آخرون، ووراءه قول حكاه القاضي الحسين في الصورتين، وادعى ابن يونس أنه غير معروف في الأولى، وأثبته الإمام والمتولي وجماعة وجهاً، وادعوا أنه الصحيح؛ لأن القصاص إنما يجب وقت زهوق الروح؛ بدليل ما لو جرح مسلم مسلماً، ثم ارتد المجروح، ومات – فإنه لا يجب القصاص، [و] إذا كان كذلك فالجارح في تلك الحالة مسلم [أو حر]. ثم محل الخلاف في المسألة الثانية – عند المراوزة – إذا كان العبدان مسلمين، وسيد المجروح مسلماً حالة موته، أما لو كان ذميًّا: فإن قلنا في المسلم

بعدم القصاص فهاهنا أولى، وإلا فوجهان: وجه المنع: أن المستحق القصاص كافر، وقد طرده بعض الأصحاب فيما إذا قتل الذمي ذميًّا، ثم أسلم القاتل، ومستحق القصاص ذمي، كما حكاه مجلي عن "تعليق" إلكيا، وإن كان شيخه أبو المعالي الجويني جزم باستحقاق القصاص في هذه الصورة. وعلى وجه الجواز – وهو الصحيح – ليس للكافر استيفاء القصاص بنفسه، بل الحاكم يستوفيه له؛ وكذا عند إسلام القاتل الذميّ. فرع: إذا قتل الذمي ذميًّا، ثم أسلم القاتل، وقلنا بوجوب القصاص، فمات المستحق للقصاص، ووارثه كافر – فهل ينتقل حق القصاص إليه؟ فيه وجهان عند المراوزة، وأصحهما: الانتقال [إليه]. تنبيه: القود: بفتح القاف والواو، مأخوذ من [قود] المستقيد الجاني بحبل وغيره؛ ليقتصّ منه، و"والقود" و"القصاص": بمعنّى. الجرح – [بفتح الجيم – مصدر جرحه يجرحه جرحاً، والجرح – بضمها-: الاسم، وجمعه: جروح، و"الجراحة" بمعنى: الجرح] وجمعها: جراح-[بالكسر – ورجل جريح وامرأة جريح،] ورجال ونسوة جرحى. قال: "وإن قتل حر عبداً، أو مسلم ذميًّا، ثم قامت البينة انه كان قد أسلم، أو أعتق – ففي القود قولان". وجه الوجوب: وجود القتل [العمد] المحض العدوان [من] المكافئ حالة القتل، وهذا هو الأصح، قال الرافعي: وفي كلام بعضهم ما يشير إلى القطع به. ووجه المنع: أنه لم يقصد قتل من يكافئه، والقصاص يسقط بالشبهة الممكنة والظن، وهذا ما نص عليه في "المختصر". [والأول مخرج من نص الشافعي في "المختصر"] و"الأم" على وجوب القصاص فيما إذا قتل من عهده مرتداً، وظن أنه لم يسلم، وكان قد أسلم؛ كما

خُرِّج من نصه هنا إلى ثَمَّ قولٌ بعدم وجوب القصاص. وقال الماوردي: إنه نص عليه في بعض كتبه، أعني: في المرتد، كما سنذكره في بابه، وقد أقر بعض الأصحاب النصين، وفرق بأن المرتد يحبس في دار الإسلام ولا يخلي، فقاتله في حالة تخليته مقصر، بخلاف العبد والذميّ. ثم على القول بسقوط القصاص: لو ادعى الجاني ذلك، وقال له الولي: بل عرفت الحال – فالقول قول الجاني. فرعان: إذا قتل من عهده حربيًّا، وظن أنه لم يسلم، وقد كان أسلم – فمن الأصحاب من جعله كالمرتد، ومنهم من قطع بأنه لا قصاص، وفرق بأن المرتد لا يخلي، والحربي قد يخلي بالمهادنة، وفرق بينه وبين الذميّ والعبد: بأن الظن هناك لا يقتضي الحد والإهدار، وهنا بخلافه، والقول بسقوط القصاص موافق لما جزم به البندنيجي فيما إذا أتانا جماعة من البغاة تائبين، فأمنهم السلطان، [فقتل رجل من أهل العدل رجلاً منهم، وادعى جهالته بأمان السلطان] ورجوعهم عن رأيه – فالقول قوله مع يمينه، ولا قود عليه، وعليه الدية. وقد حكى الإمام القولين في وجوب القصاص فيما إذا قتل الرجل إنساناً على زِيّ الكفار [رآه] في دار الإسلام، وقال: إذا لم نوجب القصاص فهل تجب الدية عليه، أم على العاقلة؟ فيه قولان، [فإن] ضربناها عليهم، فلا شك في تأجيلها، والرأي الظاهر: أنها مغلظة كدية شبه العمد، ومن أصحابنا من ألحقها بالخطأ المحض، قال ذلك في باب قتال أهل البغي. [الثاني]: إذا ظنه قاتل أبيه؛ فقتله، وبان خلافه – ففي وجوب

القصاص قولان، أظهرهما: الوجوب، ومحلهما – عند قوم – إذا تنازعا، أما إذا صدقه ولي الدم فلا قصاص بلا خلاف وعند آخرين طردهما في الحالين؛ لانه ظن من غير مستند شرعي. قال:"وإن جنى حر على رجل لا يعرف رقُّه وحريته، فقال الجاني: هو عبد، وقال المجني عليه: [بل أنا] حر – فالقول قول المجني عليه"؛ لأن الأصل في الآدمي الحرية، "وقيل: فيه قولان": وجه قبول قول المجني [عليه]: ما ذكرناه. ووجه قبول قول الجاني: أن الأصل براءة ذمته، وهذه المسألة قد تقدم الكلام فيها في اللقيط؛ فليطلب منه. قال: "ولا يجب القصاص على الأب والجد"، أي: [من الجهتين]، "ولا على الأم والجدة"، أي: من الجهتين "بقتل الولد، وولد الولد"، ووجهه في [الأب]: ما روى الترمذي، عن سراقة بن مالك قال: "حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقِيدُ الأَبَ مِنَ ابْنِهِ، وَلا يُقِيدُ الابْن مِنْ أَبِيهِ". وروى – أيضاً – عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ"، وأخرجه الدارقطني.

وروي عن عمرو بن العاص:"أن رجلاً من بني مدلج أولد جارية له ابناً، وكان يستخدمها، فلما شب الغلام قال: إلى [متى] تستأمي أمي – أي: تستخدمها خدمة الإماء – فغضب؛ فحذفه بسيفٍ فأصاب رجله؛ فقطعها ومات؛ فانطلق في رهط إلى عمر فقال: يا عدو نفسه، أنت الذي قتلت ابنك؟! لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لاَ يُقَادُ الأَبُ مِنَ ابْنِهِ لَقَتَلْتُكَ"، ولأن الوالد سبب [في] وجوده؛ فلا يحسن أن يصير الولد سبباً في إعدامه. ووجهه – فيمن عدا الأب – القياس على الأب؛ لأنهم في معناه [في] العتق [عليه، ووجوب] النفقة، ورد الشهادة؛ فكذلك هنا.

وعن رواية صاحب "التلخيص" وأبي الطيب بن سلمة قول بوجوب القصاص على الأجداد والجدات. قال الإمام: وهو غريب، رده الأصحاب، ولم يقبلوه منصوصاً ولا مخرجاً، ولعله أخذ من قول الشافعي في الرجوع في الهبة أنه يختص بالأبوين، وليس هذا على وجهه؛ فإن اللائق بالهبة: منع الرجوع، والاقتصار على مورد الخبر، واللائق بالقصاص – إذا تمهد ما يدرأ العقوبة- أن لا تخصيص. وحكى الإمام عن بعض أئمة المذهب: أن القصاص يجب على الأب ويسقط؛ لزعمهم أن سبب الوجوب التساوي، مع كون القتل موجباً للقصاص، ولكن يتعذر استيفاؤه، وهذا من حشو الكلام؛ فإن المانع من الاستيفاء مانع من الوجوب، ولا فرق – فيما ذكرناه – بين أن يتساوى الولد والوالد في الحرية والرق والإسلام والكفر، أو يختلفا. فرعان: أحدهما: لو حكم حاكم بقتل الوالد بالولد نقض حكمه. الثاني: لو تنازع رجلان في نسب لقيط، فادعى كل منهما أنه ابنه – فإنه يرى القائف، فإذا اشتبه عليه، ثم قتله أحدهما قبل بلوغه – لم يقتل به؛ لأن الشبهة قائمة. [نعم]، لو قال بعد ذلك: ليس هذا ابني، وبقي الآخر على دعواه البنوة – قتل به جزماً عند العراقيين والماوردي والبغوي، وبناه الفوراني على أن نسبه يلتحق بالآخر بمجرد إنكار المنازع، كما هو قول الشافعي، [أما إذا] قلنا: لا يلتحق بالآخر بمجرد الإنكار، فلا يجب القصاص؛ كما لو وطئ رجلان امرأة، فأتت بولد يمكن أن يكون منهما، وأشكل على القائف أمره، فقتله أحدهما قبل بلوغه، وادعى أنه ليس بابن له؛ فإنه لا يجب [عليه] القصاص؛ لأن إنكاره لا يلحق نسبه بالآخر، على أن صاحب "التهذيب" حكى وجهاً في هذه الحالة بوجوب القصاص؛ كما في اللقيط.

ولو رجع المقران بنسب اللقيط عن دعواهما، ثم قتلاه، أو أحدهما- لم يجب قصاص. قال الماوردي: لأنه قد صار بدعواهما مستحقًّا لأبوة أحدهما، فإذا رجعا عنها صارا متفقين على إسقاط أبوته؛ فلم يقبل منهما، وإذا لم يقبل [منهما] رجوعهما بقيت الشبهة. ولو اشترك المدعيان النسب المجهول في القتل، وكان قد ألحقه القائف بأحدهما- قُتِل شريكه على الأصح. وعن القاضي ابن كج رواية وجه: أنه لا يقتص منه؛ لأن إلحاق القائف مبني على المارات والأشباه؛ فهو ضعيف، فلا يناط به القصاص؛ إذ هو يسقط بالشبهات؛ بخلاف اللحوق بالفراش. قال:"وإن وجب القصاص على رجل، فورث القصاص ولده- لم يستوف"؛ لأنه إذا لم يستوف منه بجنايته على الولد، كان أولى ألا يستوفيه الولد. ثم صورة المسألة: أن يقتل [ولد] عتيق ولده؛ بكما صوره] الفوراني، أو عتيق زوجته، وله منها ولد، ثم يموت العتيق، أو الزوجة بعد بينونتها منه وقبل استيفاء القصاص، وكما لا يجب عليه إذا ورثه القاتل، وصورته: أن يقتل ابن زوجته، ثم يموت؛ فينتقل [إليه منه] النصف أو الربع، أو أقل من ذلك، ويسقط القصاص؛ لعدم إمكان تحريه. تنبيه: كلام الشيخ مصرح بأن الابن يرث القصاص الواجب على أبيه، لكنه يسقط، والقياس يقتضي عدم إرثه؛ لأن المسقط له – وهو البنوة – قارن سبب الملك، والشيء إذا قطع الدوام منع الابتداء، لكن [لو] صير

إلى هذا لاقتضى إيجاب القصاص على الأب؛ فإن الابن إذا لم يرثه على أبيه خرج عن أن يكون وارثاً له، وإذا لم يرثه ورثه غيره؛ فيستوفيه، والمصير إلى هذا، مع ان الابن بصفة الوارثة مستنكر، وقد اغتفر مثل ذلك في جريان ملك الرجل ابنه، ما لم يتصور العتق إلا في ملك، وقدر الملك؛ ليترتب عليه العتق. وحكى الإمام عن شيخه – بعد تقرير هذه المباحثة- أنه كان يميل إلى أن من قتل من وارثه الابن لم يجب القصاص؛ لامتناع الوراثة، مع استجماع الابن شرائط الوراثة. قال: "وإن قتل المرتد ذميًّا – ففيه قولان"، أي: منصوصان، كما قاله المحاملي. وجه وجوب القصاص، وهو الصحيح، والذي قال الشافعي فيه: إنه أولى القولين – أنهما كافران؛ فجرى القصاص بينهما كالوثنيين، ولأن المرتد أسوأ حالاً من الذميّ؛ لأنه مهدر الدمن ولا تحل ذبيحته، ولا يقر بالجزية؛ فأولى أن يقتل بالذميّ الثابت له ذلك، ولا فرق – على هذا – بين أن يعود إلى الإسلام أو لأن ويجيء مما تقدم فيما إذا عاد إلى الإسلام وجه: أنه يسقط. ووجه عدم الوجوب: بقاء حرمة الإسلام في المرتد؛ [بدليل] وجوب قضاء الصلوات والصوم عليه، وأخذ الزكاة من ماله، وتحريم استرقاقه، وتحريم

نكاح الذمي المرتدة، فعلى هذا تجب الدية: فإن رجع إلى الإسلام تعلقت [بذمته، وإن مات أو قتل على الردة تعلقت] بماله، وقد بنى الإمام الخلاف في المسألة على الخلاف الآتي في المسألة الثانية؛ فقال: إن قلنا: إن الذميّ لا يقتل بالمرتد، فالمرتد مقتول بالذميّ، وإن قلنا: الذميّ مقتول بالمرتد، فهل يقتل المرتد بالذميّ؟ فعلى قولين. وهذا فيه نظر؛ لأن الخلاف الآتي – كما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب والمحاملي وغيرهم – محكي عن الأصحاب وجهين، ولا يمكن بناء قولين على وجهين. نعم لو عكس البناء – كما سنذكره عن القاضي الحسين – لكان أنسب. وطريق الجواب عن هذا: أن الإمام حكى أن العراقيين حكوا الخلاف الآتي قولين، وحينئذ إن صح هذا فلا اعتراض. قال:"وإن قتل ذميّ مرتدًّا فقد قيل: يجب القولد"؛ لأن الذميّ يقتله عناداً، لا تديناً؛ فأشبه ما لو قتل مسلماً، وهذا ما اختاره ابن أبي هريرة، وعلى هذا فيستوفي القصاص الإمام أو من ينوب عنه؛ كما قاله الشيخ أبو عليّ، وحكى قولاً بعيداً أن حق الاستيفاء يثبت لورثته أن لو مات مسلماً. [قال الإمام: وهذا يمكن تخريجه من مسألة ستأتي وهي أن المسلم إذا قطع يد مسلم]، ثم ارتد المجروح، ومات مرتدًّا – فإن الشافعي قال: لأوليائه القصاص في الطرف، ولو عفا مستحق القصاص وجبت الدية، وفي قدرها وجهان: أحدهما: دية مسلم؛ لبقاء علقة الإسلام عليه. والثاني – وبه جزم في "التهذيب"، والبندنيجي -: أخس الديات، وهي دية المجوسي؛ لأنه لا دين له. قال: "وقيل: لا يجب"؛ لأن المرتد مهدر الدم كالحربي، وإيجاب القصاص على القاتل المعصوم بقتل المهدر بعيد، وكما هذا لا تجب الدية، وهذا قول أبي إسحاق المروزي، وهو الذي صححه المحاملي

والقاضي أبو الطيب والبغوي وغيرهم، وقد بنى القاضي الحسين هذا الخلاف على العلتين؛ لإيجاب القصاص في المسألة السابقة؛ فقال: إن قلنا: العلة ثم استواؤهما في الكفر، وجب القصاص هنا، وإن قلنا: العلة ثم كون القاتل مهدر الدم والمقتول معصوم الدم، فلا يجب هاهنا. وقيل: إن قتله عمداً وجب القصاص، وإن قتله خطأ فلا دية، وهذا ما نسبه الإمام وأبو الطيب والشيخ في "المهذب" والبغوي إلى تخريج الإصطخري، والبندنيجي والماوردي إلى أبي الطيب بن سلمة، وقال: إنه لو عفا عن القود لا تجب له الدية، ثم قال: ولو عكس ما قاله ابن سلمة لكان أشبه، [و] لأن وجوب القود أغلظ من وجوب الدية؛ لأن عمد الخطأ يوجبها ولا يوجبه؛ فلو قال: إن الدية واجبة لبيت المال، دون القود – لكان أشبه بالأصول. فروع: [لو قتل المرتد مرتدًّا]، فظاهر المذهب: أنه مقتول به؛ لاستوائهما في كل معنى، وأبعد بعض أصحابنا؛ فقال: لا قصاص عليه؛ لأن المقتول هدر. قال الإمام: وهذا له اتجاه، وإن كان بعيداً. إذا قتل الذميّ مسلماً زانياً محصناً وجب عليه القصاص جزماً، وكذا لو قتله مرتد، صرح به في "التتمة". وقال القاضي الحسين: فيه جوابان [جاريان] فيما لو قتل تارك الصلاة مثله. واعلم أن ممن لا يجب عليه القصاص: الحربي، ولم يذكره الشيخ، بل كلامه يقتضي وجوبه عليه؛ لأنه لما حضر من لا يجب عليه القصاص تبين به من يجب عليه، وهو من عداه، على أن أبا الحسن العبادي حكى أن الأستاذ أبا إسحاق الأسفراييني ذهب إلى أنه يجب على الحربي ضمان النفس والمال؛ تخريجاً على أن الكفار مخاطبون بالشرائع، قال: ويعزى إلى المزني في "المنثور"، [وقد حكاه عن رواية المزني في "المنثور"] – أيضاً- في المال،

القاضي الحسين في كتاب السير، وخصه بما إذا عقدنا له الذمة، فلعل الشيخ اختاره – والله أعلم. قال:"ولو قطع مسلم يد مسلم، ثم ارتد المجني عليه، ورجع إلى الإسلام، ومات"؛ أي: من القطع، "ولم يمض عليه [في] الردة زمان يسري فيه الجرح، [ففيه قولان، أصحهما: أنه يجب القود"؛ لأن زمان الردة لم يسر فيه الجرح]؛ فكان وجوده كعدمه، وعلى هذا من يستوفيه؟ سنذكره. ووجه المنع: أنه أتت عليه حالة لو مات فيها لم يجب القصاص؛ فسقط، ولم يعد وجوبه بعد ذلك؛ كما لو ارتدت المبتوتة في المرض، ثم أسلمت قبل موت زوجها – لم ترثه؛ لأنها لو ماتت في ردتها لم ترثه، وهذا ما رجحه الشيخ أبو حامد والإمام وغيرهما؛ كما حكاه الرافعي، وقد وافق الشيخ على تصحيح الأول: المحاملي، والقاضي أبو الطيب، وصاحب "المرشد". ثم هذان القولان كالقولين اللذين ذكرهما الشافعي في "الأم" – كما حكاه الأكثرون – فيما إذا قطع ذميّ يد مستأمن؛ فلحق المجني عليه بدار الحرب، ثم عاد إلى الإسلام، ثم مات من قطع اليد – في أن القصاص هل يجب عليه، أم لا؟ أما إذا مضى عليه في الردة زمان يسري فيه الجرح فلا قصاص عند الجمهور؛ لأنه اجتمع موجب ومسقط، فغلب حكم المسقط؛ كما لو جرحه جرحين: أحدهما عمد، والآخر خطأ. وعن ابن سريج وابن سلمة وابن الوكيل طرد القولين السابقين في هذه الحالة – أيضاً – وهو قضية كلام الإمام والقاضي ابن كج؛ فإنهما حكيا أن الشافعي – أيضاً – وهو قضية كلام الإمام والقاضي ابن كج؛ فإنهما حكيا أن الشافعي نص في مسألة الكتاب على أن لا قصاص، وأن الصيدلاني وغيره حكوا نصه في مسالة الذميّ والمستأمن على وجوب [القصاص]، وأن من الأصحاب من جعل – لأجل ذلك – في المسألتين طريقين: أحدهما: حكاية قولين في المسألتين.

قال الإمام: وأقيسهما تقرير النصين، وحملهما على حالين: فحيث قال: لا يجب، فذاك إذا طالت مدة الإهدار؛ بحيث يظهر أثر السراية، ويجعل له وقع واعتبار. وحيث قال: يجب، فذاك إذا قصرت المدة؛ بحيث لا يجعل للسراية فيها اعتبار ووقع، وقد حكى الصيدلاني أن القفال قال: القولان مبنيان على ما إذا اذهب الروح بجناية مضمونة واقعة عمداً، وجناية عمد غير مضمونة، كما إذا قتله حربي ومسلم، أو مسلم وسبع. ووجه التقريب: أن السراية في حال الهدر لها حكم العمد، ولكن لا ضمان فيها والجراحة والسراية في الطرفين لهما حكم العمد والضمان. قال الإمام: وهذه هفوة عظيمة؛ فإنا إذا قدرنا السراية في حال الهدر بمنزلة العمد الذي لا ضمان فيه، فهي مضافة إلى الجاني العامد الضامن. ولو صدرت من واحد جناية عمداً مضمونة، وجناية عمداً غير مضمونة، ومات منهما – لم يجب عليه القصاص اتفاقاً، فقياس هذا البناء: ألا يجب [القصاص] جزماً، وهذا حكم القصاص، [أما حكم] الدية – فتجب في الصورتين إذا آل الأمر إلى المال، وإذا وجبت وجبت الكفارة [أيضاً] وهذا القول لم يحكه الفوراني. وقيل في الصورة الثانية قول آخر، [وادعى الإمام أنه ظاهر النص]: إن الواجب نصف الدية، وصححه في "التهذيب"، وعلى هذا تجب الكفارة أيضاً، والذي صححه المحاملي الأول. وقيل: يجب ثلثا الدية، وهذا ما نسبه الإمام وغيره إلى تخريج ابن سريج. وحكى الماوردي قولاً: أنه يجب أرش الجراح، ويسقط ضمان السراية؛ لأن سراية الإسلام حادثة عن سراية الردة؛ فصارت تبعاً لها في سقوط الضمان. قال: وعلى هذا لا كفارة عليه؛ لأنه – على هذا القول – جارح، وليس بقاتل. وعن الطبري أنه [يجب] أقل الأمرين من أرش الجناية، وجميع الدية، وقد

حكاه الفوراني أيضاً، والأقل في صورة الكتاب نصف الدية، وقد يكون الأقل كل الدية؛ كما إذا قطع يديه ورجليه، وعلى هذا يظهر إن كان الأقل أرش الجناية فلا كفارة، وإن كان دية النفس وجبت، وقد حكى الإمام طريقة طاردة للأوجه الثلاثة الأول في الصورة الأولى أيضاً، والأكثرون على الطريقة الأولى، ثم كلام الإمام والبغوي والفوراني مصرح بأن الخلاف المذكور إنما يجري إذا قلنا بعدم وجود القصاص، [أما إذا أوجبنا القصاص] فعفا وجب كمال الدية، ولفظ الإمام: ولا شك فيه. وفي "الرافعي": أن الإمام قال: إذا أوجبنا القصاص، فآل الأمر إلى المال – تضرب على العاقلة؟ ذكر العراقيون [فيه] وجهين: أحدهما: لا يضرب عليها إلا نصف الدية؛ فإنه قد جرى [ارتداد في الأثناء. وهذا زلل غير معتد به؛ فإن الردة لو اعتبرناها لما أوجبنا الدية] بكمالها. والثاني: أنا نضرب الدية بكمالها على العاقلة. فرع: لو رمى إلى مسلم، فارتد وعاد إلى الإسلام، ثم أصابه السهم – فالمشهور: أنه لا قصاص. قال الإمام: ويجيء فيه قول آخر: أنه يجب؛ لأنا ذكرنا فيما إذا تخلل المهدر بين الجرح والموت قولاً: أنه يجب القصاص، مع أن الجراحة تؤثر [وتؤلم] حالة الإهدار؛ فصورة الرمي أولى بإثبات الخلاف. وأيضاً: فإن الشيخ أبا عليّ حكى قولاً، فيما إذا رمى سهماً إلى صيد، وارتد

وعاد إلى الإسلام، ثم أصاب السهم إنساناً - أن الدية تضرب على عاقلته للمسلمين، ويكتفي بإسلامه في الطرفين، والحكم عند الأصحاب في تحمل العقل والقصاص [واحد]. قال:"وإن مات من الجرح في الردة وجب القصاص في الطرف في أصح القولين"؛ [لأن] القصاص في الطرف يجب حالة قطعه وجوباً مستقرًّا، فلا يؤثر فيه ما يطرأ عليه؛ ألا ترى أنه إذا قطع يده، ثم قتله من لا يقاد به؛ فإنه لا يسقط القصاص في الطرف، وإن سقط في النفس؟! وهذا هو المنصوص في "المختصر" و"الأم" [كما حكاه الماوردي، وبه جزم الفوراني. ووجه مقابله]- وهو [المحكي عن نص له في "الأم"]-: أن الطرف تبع للنفس إذا صارت الجناية قتلاً، فإذا لم يجب قصاص النفس لم يجب قصاص الطرف؛ ولذلك لو قطع طرف إنسان؛ فمات منه، فعفا وليه عن قصاص النفس - لم يكن له أن يقتص في الطرف، وقصاص النفس في مسألتنا ساقط اتفاقاً؛ فكذلك قصاص الطرف، وهذا ما يحكي عن اختيار ابن سريج، ومنهم من لم يجعل هذا القول منصوصاً، وإنما جعله مخرجاً من نصه فيما إذا قطع ذميّ يد مستأمن، ثم لحق المستأمن بدار الحرب؛ فإنه [قال]: لا قصاص عليه في المقطوع، وعلى ذلك جرى المحاملي والقاضي أبو الطيب والمتولي، ثم قال: وأصل هذا الاختلاف قاعدة سنذكرها، وهي أن الرجل إذا قطع يد رجل؛ فمات - يجوز لولي المقتول عندنا أن يقطع يده، فإن مات، [وإلا حز] رقبته، وهل يكون قطع اليد مقصوداً في الاستيفاء، أو يكون القطع طريقاً في الاستيفاء؟ وفيه اختلاف بين أصحابنا: فعلى الأول لا يسقط القصاص في الطرف، وعلى الثاني يسقط، ثم على الصحيح من يستوفي القصاص؟ قال الشافعي في المختصر: يستوفيه وليه المسلم. واختلف الأصحاب فيه:

فمنهم من قال: هو الإمام؛ لأن القريب لا يرثه؛ فلا يستوفي قصاصه. قال الفوراني: وعلى هذا يجيء قول: إنه ليس له [أن] يقتص منه؛ بناء على [أن] اللقيط إذا قُتِلَ، هل للسلطان أن يقتص من قاتله، أم لا؟ وفيه قولان. ومنهم من قال: هو القريب الذي يرثه لو مات مسلماً؛ لأن القصاص يراد للتشفي ودرك الغيظ، وذلك يتعلق بالقريب دون الإمام. واستدل القائل به بقول الشافعي: "المسلم"، ولو كان المراد الإمام لم يكن لقوله:"المسلم" معنى، وقد نقل أنه قال في "الأم": "يقتص منه أولياؤه": بلفظ الجمع، و"الإمام" واحد. قال الرافعي: وربما حكى ورثته صريحاً، وهذا أظهر في المذهب، وبه قال عامة أصحابنا؛ كما حكاه في "المهذب" في باب استيفاء القصاص، وبه قطع في ["التهذيب"]، واختاره في "المرشد"، لكن الإمام استبعده من جهة المعنى، وقال القاضي أبو الطيب: إنه ليس بشيء. وادعى القاضي ابن كج أن الأكثرين على أن يستوفيه الإمام، وأن أبا سعيد وحده ذهب إلى أنه يستوفيه القريب، وكذلك الماوردي ادعى أن المزني قال به وابن أبي هريرة وأكثر أصحابنا. فرع: إذا قلنا: لا يجب القصاص، أو يجب، فعفا عنه على مال – فهل يجب ويكون فيئاً، أم لا؟ فيه وجهان أو قولان حكاهما العراقيون كالمحاملي والشيخ وغيرهما: أحدهما: لا، وبه قال أبو الطيب بن سلمة. وأصحهما: نعم؛ فعلى هذا – فيما يجب – وجهان: أصحهما في "المجموع" وغيره، ويحكي عن النص أنه يجب أقل الأمرين من الأرش الذي تقتضيه الجراحة ودية النفس. والثاني- وبه قال الإصطخري -: أن الواجب أرش الجراحة بالغة ما بلغت، وفي مسألتنا: لا يظهر لهذا الاختلاف أثر. نعم، يظهر فيما لو قطع يديه ورجليه.

فرع: لو قطع يده، ثم ارتد المقطوع، واندمل الجرح - فله قصاص اليد، فإن مات أو قتل قبل أن يقتص - اقتص وليه، ومن هو؟ فيه الخلاف السابق. قال: "ومن قتل من لا يقاد به في المحاربة"؛ أي: كالمسلم إذا قتل الذميّ، والحر [و] العبد، والأب ولده - "ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه القود"؛ لأن القتل تأكد بالمحاربة؛ ولهذا لا يجري فيه عفو الولي فلم يعتبر فيه التكافؤ كحد الزنى، وهذا هو الأصح في "الجيلي". والثاني:"لا يجب"، وهو الصحيح عند الجمهور؛ لعموم الأخبار، ولأن من لا يُقْتل بقتل [من] قتله في [غير المحاربة، لا يقتل به إذا قتله في] المحاربة؛ كالمخطئ. قال مجلي: وقد استخرج الخراسانيون من هذين القولين [قولين] للشافعي [في] أن القتل في المحاربة يقع لحق الله - تعالى- أو لحق الآدمي، [وكأنه - والله اعلم - يشير على ما ذكره الرافعي، وصححه، وهو في "التهذيب": أن القتل في المحاربة فيه معنى القصاص؛ لأنه قتل في مقابله قتل، وفيه معنى الحدود؛ لأنه لا يصح العفو عنه، ويتعلق استيفاؤه بالسلطان، لا بالولي، فما المغلب من المعنيين؟ فيه قولان]. وفي "الوسيط" و"النهاية": أن القتل في المحاربة إذا تمحضت فيه العمدية، يتعلق به حق الله - تعالى- قطعاً، ولكن هل يثبت للقتيل حق مع الله تعالى، أم لا؟ للشافعي فيه قولان، فإن قلنا: إنه حق لله - تعالى - قتل بقتل من لا يكافئه، وإلا فلا يجب. ثم قال الغزالي: ولعل الأصح الجمع بين الحقين ما أمكن، وهوا لذي جزم الإمام بترجيحه، ولم يحك العراقيون غيره، كما حكاه مجملي عنهم، وهو قضية قول ابن الصباغ: إنه [إذا وقع وقع] قصاصاً؛ كما صرح به قبيل كتاب الأشربة في موضعين؛ ولأجل ذلك كانت عبارة الشيخ: أنه هل يجب عليه القود

إذا قتل من [لا] يقاد به في المحاربة، أم لا؟ ولو [كان] قتله بمحض حق الله – تعالى- لما حسن إطلاق القول بوجوب القود على من قتل من لا يكافئه؛ لأن القتل حينئذ يكون حدًّا لا قوداً، [وقد وجه هذا بان القتل لو وقع في غير المحاربة لثبت القصاص للآدمي؛ فيبعد أن يحيط حقه بوقوع القتل في المحاربة، ولنا اختلاف قول فيما إذا اجتمع حق الله – تعالى – وحق الآدمي: أنه يغلب حق الآدمي، أم لا؟ فكيف ينتظم منا إبطاله بالكلية؟!]. ثم كلام [الغزالي وأمامه] ظاهره التناقض؛ فإنهما جزما القول في مسألة الكتاب بعد القتل، إذا قلنا: إن القتل في المحاربة يتعلق به حق الله – تعالى – وحق الآدمي، وكأنهما جعلا كلاًّ من الحقين جزء علة في قتل المحارب، لا على مستقلة، وفي قتل من لا يقاد به لم يوجد أحد جزئي العلة، وهو حق الآدمي؛ فلا جرم لم يجب القتل، وكلامُهما بعد ذلك مصرح بأن كلا من الحقين علة مستقلة بنفسها، لا جزء علة؛ فإنهما قالا: إذا عفا ولي القتل عن القصاص على الدية، فإن قلنا: القتل محض حق الله – تعالى – فلا أثر لعفوه في سقوط القتل، ولا دية، وإن قلنا: حق الآدمي ثابت في الدم، فله الدية، وهو كمرتد استوجب القصاص، وعفا عنه، وقضية هذا أن يقولا بوجوب القتل في مسألة الكتاب، مع قولنا: إن القتل في المحاربة يتعلق به حق الله- تعالى- وحق الآدمي؛ لوجود العلة الكاملة في استحقاق قتله. وحاصل ما ذكرته من التقرير يرجع إلى أنهما يلزمهما أحد أمرين: إما القطع بوجوب القتل في مسألة الكتاب، أو القطع بعدم إيجاب القصاص عند عفو الولي؛ تفريعاً على قولنا: إن للآدمي فيه حقًّا، ولم يقولا بواحد منهما، والله اعلم.

باب ما يجب به القصاص من الجنايات

باب ما يجب به القصاص من الجنايات والجنايات، أي: على النفس والطرف "ثلاثة: خطأ، وعمد، وعمد خطأ"، أي: ثلاثة أنواع؛ لأنه أثبت الهاء في الجمع. ودليل حصرها: أن الذي حصلت منه الجناية إما [أن] يقصد بها عين المجني عليه أو لا: فإن لم يقصد فهو الخطأ، وإن قصده فإن كان بما يقتل غالباً فهو العمد، وإلا فعمد الخطأ. قال:"فالخطأ: أن يرمي إلى هدف، فيصيب إنساناً"، وهكذا ذكره القاضيان أبو الطيب والحسين في باب الديات، وقد قيل: إن هذا ليس حد الخطأ؛ بل حده: ما لا يقصد فيه الشخص، ومثاله ما ذكره الشيخ، أو ما لا قصد فيه إلى الفعل، ومثاله: إذا زلق، فوقع [على] إنسان فاتلفه. وما ذكره هذا القائل: من أن ما ذكره الشيخ ليس بحد الخطأ - صحيح؛ لأن الحد إما كامل وهو المشتمل على ذكر الجنس والفصل، أو ناقص وهو المقتصر فيه على ذكر الفصل، ولا جنس ولا فصل - فيما ذكره الشيخ - لكنا نقول: لم يذكره الشيخ حدًّا، وإنما ذكره تعريفاً، واقتصر عليه؛ لدلالته على ما عداه من طريق الأولى؛ لأن فيما ذكره وجد منه قصد الفعل، ولم يؤثر في إيجاب قصاص ولا تغليظ؛ فعدم قصد بذلك أولى، على أني أقول: من زلق، فوقع على إنسان، فتلف به - لا أعد ذلك جناية منه، فضلاً عن كونه خطأ؛ لأن الجناية مصدر: جنى يجني جناية، والخطأ بالهمز مصدر: أخطأ يخطئ إخطاء وخطأ، ومن زلق لا اختيار له؛ فلا فعل منه حقيقة حتى يقال: جنى، أو: أخطأ، لكنا نجعل حكم فعله حكم الخطأ؛ لقربه منه، وبعده عن غيره.

تنبيه: الخِطء - بكسر الخاء، وإسكان الطاء بعدها همزة-: هو الإثم، يقال: خَطِيء يَخْطَأ خِطئاً؛ فهو خاطئ، مهموز كله، كعلم يعلم علماً [فهو عالم]، قال الله - تعالى-: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [الإسراء: 31]، وقال الله تعالى: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97] وقد يطلق "الخاطئ" على "المخطئ" في لغة قليلة، وأكثر الغزالي استعمالها. الهدف، بفتح الدال: سبق بيانه في المسابقة. قال: والعمد: أن يقصد الجناية [بما يقتل غالباً، وعمد الخطأ: أن يقصد الجناية بما] [لا] يقتل - غالباً - أي: كالسوط والعصا الخفيفة. اعلم أن الحد الأول قد وافق عليه صاحب "التهذيب" وغيره، و [قد] قال القاضي الحسين: إنه مستنبط من قول الشافعي إذا ضربه بما الأغلب أنه يموت منه، فمات منه؛ فعليه القود، وقد اعترض على الشيخ فيه؛ فقيل: إنه ليس بجامع، ولا مانع: أما الأول؛ فلأن من قطع أنملة إنسان، فسرت جراحته إلى النفس - يقاد به، وإن كان القتل بذلك لا يحصل إلا نادراً. وأما الثاني؛ فلأن من قصد جماعة بسهم، ولم يقصد واحداً بعينه؛ فقتل واحداً منهم - لا يجب عليه القصاص، وإن وجد منه قصد الجناية [بما يقتل] غالباً. واعترض على حد عمد الخطأ، فقيل: إنه ليس بجامع؛ لأنه يدخل قطع الأنملة فيه، مع أنه عمد. وما ذكره هذا القائل: من أن الحد الأول غير جامع؛ لإخراجه مسألة [قطع] الأنملة، فهو [غير صحيح]؛ لأن "ما" في قول الشيخ: "أن يقصد الجناية بما يقتل غالباً" نكرة موصوفة، وتقديره أن يقصد الجناية بشيء يقتل غالباً، وإذا كان كذلك [فالغلبة معتبرة] في ذلك الشيء الذي حصلت به الجناية، وهي

حاصلة في مسألة قطع الأنملة؛ لأن الذي حصلت به الجناية فيها آلة الجراحة، وهي تقتل غالباً. وبهذا يندفع قوله أيضاً: إن الحد الثاني غير مانع. نعم، هذا التسير يخرج مسائل القتل بالإبرة؛ وكذلك صرح الشيخ بها؛ لخروجها عن الضبط. وقوله: إن الحد الأول غير مانع؛ استدلالاً بمسألة السهم – ممنوع؛ لأنا نقول له: الموجود – فيما ذكرته – ليس إلا امتناع القصاص، وامتناع القصاص لا يدل على عدم العمدية؛ ألا ترى أن العمدية ثبتت، ويتخلف القصاص عنها؛ لاعتبار شيء آخر؟! فجاز أن يكون قصد عين الشخص شرطاً لوجوب القصاص، وإن صدق وصف العمدية بدونه، على أن المتولي حكى وجهاً في مسالة رمي السهم إلى قوم من غير قصد واحد بعينه: انه يجب به القصاص، وأشار إليه الغزالي في باب الصيد والذبائح. وقد تكلم الأصحاب في حد العمد وعمد الخطأ بعبارات أخر: فقال بعضهم: ما علم حصول الموت به بعد وجود قصد الفعل والشخص فهو عمد، سواء قصد الفاعل إزهاق الروح أو لم يقصد، وسواء حصل الموت به غالباً، أو نادراً كقطع الأنملة. وإن وجد القصدان معاً، وترددنا في أن الموت حصل به – فهو عمد خطأ. وهذا منه حد للمذهب الصحيح، وإلا فقد قال مجلي: إن بعض علمائنا قال: لابد من قصد إزهاق الروح. وبعضهم قال: يشترط قصد عين الشخص، كما ذكرناه. وقد [اعترض] على هذا القائل فيما ذكره من حد العمد؛ فقيل: إنه غير مانع؛ فإنه لو ضرب كوعه بعصا؛ فتورم الموضع، ودام الألم حتى مات – فإنا نعلم حصول الموت به، ولا قصاص فيه؛ ولأجل ذلك قال بعضهم: إن حد العمد ما يقصد به القتل غالباً في المثقلات، فأما في الجراحات فكل جرح سارٍ ذي غور.

قال الغزالي: وهذا ضعيف؛ لأن معنى العمد لا يختلف بالجرح والمثقل؛ فإن الجارح كما يؤثر في الظاهر بالشقِّ والتخريب يؤثر المثقل في الباطن بالهد والترضيض، واختار – بعد ذلك – ترك الضبط، وأن يقال: حصول الموت بالسبب إما أن يكون نادراً، أو كثيراً، أو غالباً، [وليس كل كثير غالباً]؛ فإن المرض كثير، وليس بغالب، ولا نادر، بل الغالب الصحة، والجذام نادر لا كثير ولا غالب؛ فكل ما كان حصول الموت به غالباً فيلتحق بما يكون حصول الموت به ضرورياًّ، وإن كان يهلك كثيراً، فإن كان الفعل بجارح ألحق بالغالب، وإن كان بغير [مثقل كالسوط] والعصا لم يتعلق به قصاص. قال:"ولا يجب القود غلا في العمد". أما وجه وجوبه فيه عند اجتماع شرائطه وهي صفته بكونه عدواناً من حيث كونه مزهقاً للروح، والمكافأة في القتيل، وغير ذلك على ما سنبينه؛ فلما ذكرناه في أول الكتاب. وأما عدم وجوبه في الخطأ؛ فلقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]، فأوجب الدية، ولم يتعرض للقصاص، وللخبر المشهور. وأما عدم وجوبه في عمد الخطأ؛ فلما روى أبو داود، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهم – في حديث طويل، أن رسول الله صلى الله لعيه وسلم قال: ["أَلاَ] إِنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ – مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا – مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا"، وأخرجه

النسائي، وابن ماجه والبخاري في "التاريخ الكبير" والدارقطني في "سننه". وجه الدليل منه: أنه – عليه السلام – سماه خطأ؛ فاندرج في الخبر المشهور، ويؤيده أنه جاء في حديث آخر: "أَلاَ إِنَّ قَتِيلَ عَمْدِ الْخَطَإِ قَتِيلَ السَّوْطِ، وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ"، فبين أن ذلك واجبه، ولأنه لم يقصد القتل فلا يجب عليه عقوبته؛ كما أن من لم يقصد الزنى؛ بأن وطئ بشبهة – لا يجب عليه الحد. قال:"فإن جرحه بما له مَوْر من حديد"، أي: كالسيف، والسكين والخنجر "أو غيره"، كالنحاس والصفر والرصاص والذهب والفضة [والزجاج، والخشب، والقصب]، إذا اتخذ منه آلة تجرح "فمات منه – وجب عليه القود"؛ لن هذا الفعل يفضي إلى الموت غالباً فهو عمد؛ وهكذا الحكم فيما إذا أصابه بما ليس له حد يجرح، ولكن يثقب برأسه الدقيق؛ كالرمح والسهم والمسلة؛ لأن لذلك نكاية، كالجرح، ولا فرق فيه بين أن يخرج بعده دم أم لا، قال الماوردي: كما لا يعتبر ذلك في وجوب الدية. تنبيه: المور – بإسكان الواو-: والغور والنفوذ والسَّراية. وأصله: الحركة؛ ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} [الطور: 9] أي: تموج. وفي "الجيلي": أن أصل المور: الطريق. قال: "وإن غرز إبرة في غير مقتل"؛ أي: كالالية والفخذ والعقب؛ كما ذكر القاضي الحسين، "فإن بقي منها ضَمِنا؛ [أي: متألماً، وهو بفتح الضاد وكسر

الميم] حتى مات – وجب عليه القود"؛ للعلم بحصول الهلاك بذلك، واعتبر الغزالي في ذلك أن يكون مع اللم ورم، حتى لو وجد الألم دون الورم- كان في وجوب القصاص وجهان. قال:"وإن مات في الحال قد قيل: يجب" كما لو طعنه بمسلة فمات في الحال، ولأن في البدن مقاتل خافية في عروق ضارية، وربما صادفها، وهذا قول أبي غسحاق المروزي، وأبي الطيب بن سلمة. وذكر القفال أنه الأصح. وقيل: لا يجب؛ لأنه لا يقتل مثله في العادة؛ فاشبه لسع العقرب والزنبور، وأشبه ما لو مات بعد مدة، ولم يعقب للغرز ألم ولا ورم، وهذا قول ابن سريج والإصطخري، وهو الذي صححه المتولي، واختاره القاضيان الطبري والروياني، وصاحب "المرشد"، وقال في "العدة": إنه المذهب. وقد حكى القاضي أبو الطيب: أنهما طردا مذهبهما في إسقاط الضمان أيضاً. وحكى الشيخ في "المهذب" في باب الديات، والماوردي ذلك وجهاً تفريعاً على مذهبهما، مع وجه آخر: أن الدية تجب مغلظة؛ لتردده بين احتمالين: قتل، وسلامة، والأخير هو الذي جزم به الفوراني والبغوي؛ تفريعاً على قولهما. ثم محل ما ذكرناه: إذا لم يبالغ في إدخال الإبرة، فأما إذا بالغ وجب القود وجهاً واحداً، وهذا ما حكاه الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب والماوردي والفوراني. وقال ابن الصباغ: لا وجه عندي لما ذكر من التفصيل؛ [لأن القائل] بهذه الطريقة: إن كانت العلة عنده أنه لا يقتل غالباً فلا فصل بين أن يبقى ضمناً منه أو يموت في الحال، وإن كان يقول: إنه إذا لم يزل ضمناً منه، فقد مات منه، وإذا مات في الحال فلا يعلم أنه مات منه؛ فكان ينبغي أن يكون الوجهان في وجوب الضمان دون القود. وعن القاضي ابن كج وغيره: أنهم طردوا الوجهين فيما إذا تورم الموضع،

ودام الألم إلى الموت؛ لأن الفعل في نفسه ليس مما يقصد [به الإهلاك] في نفسه، وأنه دون الفصد والحجامة اللذين يقدم عليهما الناس بالاختيار، ولا يعدونهما قتلاً. وفي "الرقم" للعبادي: أن الغرز في بدن الصغير والشيخ الهم ونضوا الخلق، يوجب القصاص بكل حال، وسلك القاضي الحسين طريقاً آخر، فقال: إن كان غرز الإبرة في اللحم، فإن دمي فعليه القصاص، وإن لم يدم فعلى وجهين. وإن غرز في الجلد، فإن لم [يدم] فلا قصاص، وإن دمي فوجهان. وإن أعقب الغرز ألماً حتى مات وجب القود، أما إذا غرز الإبرة في مقتل كأصول الأذنين والعين والقلب والصدر والخاصرة والخصية، وجب القود جزماً. قال: "وإن ضربه بمثقل كبير" أي: بشيء يقتل كالعمود من الحديد، والدبوس، وحجر الرحا ونحوه، "أو بمثقل صغير"، [أي: كالحجر الصغير] والعصا الخفيفة "في مقتل، أو في رجل ضعيف"؛ أي: لصغر، أو كبر، "أو في حر شديد، أو برد شديد"؛ أي: يقتل مثل ذلك الضرب بتلك الآلة فيه غالباً أو والي بين الضرب؛ فمات منه – وجب عليه القود"؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] والسلطان هو القود، وهذا قد قتل مظلوماً؛ فوجب أن يكون لوليه القود؛ ولما روى أبو داود بسنده في حديث طويل:"أَنَّ [حَمَلَ بْنَ مَالِكِ] بْنِ النَّابِغَةِ قَالَ لِعُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: كُنْتُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِمِسْطَحٍ، فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنِينِهَا بِغُرَّةٍ، وَأَنْ تُقْتَل" وخرجه النسائي، وابن ماجه. وقال أبو داود: والمسطح: هو الصوبج. وقال أبو عبيد: إنه عود من أعواد الخباء. وحمل بحاء [مهملة مفتوحة وبعدها ميم مفتوحة ولام].

وروى أبو داود أيضاً عن أنس – وهو ابن مالك-: "أَنْ جَارِيَةً وُجِدَتْ قَدْ رُضَّ رَاسُهَا بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا: أَفُلاَنٌ؟ أَفُلانٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَتْ بِرَاسِهَا، فَأَخِذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَضِّ رَاسِهِ بِالحِجَارَةِ" وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما؛ فثبت القصاص في هاتين الصورتين بالنص، وقيس ما عداهما عليهما؛ لأنه في معناهما. وأيضاً فإن الخصم وهو أبو حنيفة – وافقنا – كما حكاه الماوردي – على أن القتل بالعمود الحديد موجب للقود؛ فقيس عليه غيره بجامع ما اشتركا فيه من إزهاق الروح. وأيضاً: فإن إيجاب القصاص شرع؛ صيانة للنفوس بقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فلو سقط بالمثقل لما انخرست النفوس، وفي ذلك إبطال معنى النص؛ فبطل. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في وجوب القصاص على من قتل الضعيف بالمثقل الصغير بين أن يعلم ضعفه أو لا يعلم، وهو الصحيح في الطرق. وحكى الرافعي وغيره وجهاً فيما إذا ظنه صحيحاً، [و] كان ذلك الضرب لا يقتل الصحيح غالباً – أنه لا يجب؛ [لأن ما] أتى به ليس بمهلك عنده، وذكر أن هذا الوجه مأخوذ من الخلاف فيما إذا شهد اثنان على إنسان بما يوجب القتل، ثم رجعا، وقالا: تعمدنا، ولم نعلم أنه يقتل بشهادتنا – في أنهما هل يقادان، أم لا؟ قال:"وإن رماه من شاهق"؛ أي: مكان عالٍ، وأصله الجبل المرتفع، أو عصر خُصييه عصراً شديداً، أو خنقهُ خنقاً شديداً، أي: يموت من مثله غالباً "أو

طرحه في ماء، أو نار لا يمكنه التخلص منه"؛ أي: لكثرته؛ أو لضعف المطروح، أو لكونه مكتوفاً. قال:"وجب عليه القود"، أي: إذا مات منه؛ لان ذلك يقتل غالباً فوجب فيه القود؛ كالجارح. ولا فرق في وجوب القود [به] بين أن يموت في الحال أو بعد خروجه من الماء والنار، وزوال الخنق والعصر، وبقائه ضمناً إلى الموت. وحكم شد يديه ورجليه، وطرحه في ساحل يعلم وصول الماء إليه بالزيادة؛ كالمد بالبصرة؛ كما قال في "المهذب" في باب الديات، و"الحاوي" في باب التقاء الفارسين – حكم الإلقاء في الماء المهلك، وكذا حكم وضع مخدة على وجهه، وجلوسه عليها، أو سَدّ فيه بشيء ومَسْكِ أنفاسه إلى الموت – حكم الخنق، أما إذا أمسك نفسه، أو خنقه مدة لا يقتل مثلها غالباً – فلا قود، وتجب دية مغلظة، قاله المحاملي وابن الصباغ. تنبيهان: أحدهما: قوله:"خصييه" بياء آخر الحروف مكررة، وليس هي مثناة من فوق، هذا هو المشهور في اللغة، ونقل الجوهري وغيره عن أبي عمرو أنه قال: الخصيتيان: البيضتان، والخصيان – بحذف التاء -: الجلدتان اللتان فيهما البيضتان. قال الجوهري: يقال: خُصية، بضم الخاء وكسرها، والمشهور الضم. الخنق – بفتح الخاء، وكسر النون -: مصدر "خنقه، يخنقه"، بضم النون، خنقاً، ويجوز إسكان النون مع فتح الخاء وكسرها. وحكى عن صاحب "المطالع": فتح النون [و] قيل: هو شاذ أو غلظ.

الثاني: تقييد الشيخ إيجاب القود في الصورتين الخيرتين بعدم القدرة على التخليص، يشعر بأمرين: أحدهما: أنه إذا قدر عليه لا يجب القود. الثاني: أنه لا يتوقف وجوب القود فيما عدا الصورتين على عدم القدرة على الخلاص، بل يجب وإن قدر المجني عليه عليه. والإشعار الأول صحيح على ما حكاه الماوردي والمحاملي والبندنيجي وغيرهم من العراقيين، إلا القاضي أبا الطيب؛ فإنه حكى في "تعليقه" فيما إذا قدر على التخلص من النار ظاهراً؛ كما قاله الفوراني، أو قال: يمكنني أن أخرج منها، ولم أفعل؛ كما صوره ابن الصباغ في وجوب القود – قولين: أحدهما: نعم؛ كما لو جرحه، فترك التداوي، ولم يزل متألماً ضمناً إلى أن مات، وهذا ما جزم به الفوراني، وحكاه القاضي الحسين، ونسبه ابن كج إلى القاضي الحسين، وجماعة إلى القفال، وبه أجاب العبادي في "الرقم". وحكى الإمام مثله وجهاً في مسألة الماء أيضاً إذا قلنا بأنه يوجب الدية. وقال الرافعي: إن صاحب "الرقم" حكى عن بعض البغداديين من الأصحاب أنهم صاروا إليه؛ تخريجاً من مسألة النار. والقول الثاني في مسألة النار: أنه لا يجب، وهو الذي أبداه القاضي الحسين احتمالاً، واختاره الشاشي لنفسه، وحكاه المحاملي عن النص؛ حيث قال: قال الشافعي: لا قود فيه ولا عقل. قال الأصحاب: والفرق بين هذا وبين المجروح؛ إذا تمكن من مداواته، فلم يفعل حتى مات – من وجهين: أحدهما: أن موته بالجرح حصل من السراية، وهي من فعل الجارح، وموته هنا حصل من إقامته؛ وهي من فعل المطروح. والثاني: أن برءه بالتداوي مظنون؛ فلا يسقط لأجله حكم الجناية المتحقق، وليس كذلك في مسألتنا؛ فإن سلامته بخروجه من النار متحققة، فإذا لم يفعل سقط [القود]؛ ولهذا نقول: إذا فتح عرقه؛ فلم يعصبه حتى مات – لم يجب ضمان بقود ولا دية.

والإشعار الثاني يؤيده ما حكاه ابن يونس من إطلاق القاضي أبي الطيب القول بالقود مطلقاً، وأنه الأصح، وأن صاحب "المستظهري" قال: وعندي: أنه لا اعتبار بقدرته على الدفع، والقود واجب؛ لا سيما إذا قلنا: لا يجب عليه الدفع عن نفسه، وقد حكى الماوردي خلاف ذلك جزماً فيما إذا قدر المخنوق على خلاص نفسه؛ لفضل قوته على قوة الخانق، ولم يفعل، وقال: إنه لا قود على الجاني؛ لأنه قاتل نفسه، وفي وجوب الدية قولان ممن أمر غيره بقتله، قال المحاملي: والصحيح: أنها لا تجب. قال الماوردي: ويخالف من أريدت نفسه، فلم يدفع عنها حتى قتل؛ فإنه لا يسقط عن قاتله القود؛ فإن سبب القتل في المخنوق موجود [فكان تركه إبراء، وسببه في الطالب نفسه غير موجود]، فلم يكن [في] الإمساك قبل حدوث السبب إبراء. فروع: إذا حبسه في بيت؛ فمات جوعاً أو عطشاً – نظر: إن أمكنه الأكل والشرب؛ بأن كان ما يتناوله عندهن وهو يهتدي إليه، أو لا، وكان يمكنه أن يستدعيه؛ فيأتيه، فلم يفعل – فهو قاتل نفسه. وإن [كان] منعه الحابس الطعام والشراب، وطلبه في مدة يموت مثله فيها غالباً من الجوع والعطش – فعليه القصاص، وكذا إذا كان عنده، وكان صغيراً لا يهتدي إليهما؛ فمات – يجب عليه القصاص وألحق الغزالي في "الفتاوى" بهذه الحالة ما إذا منع من افتصد من شد الفصاد حتى مات، فإن لم يمض عليه مثل تلك المدة؛ فمات: فإن لم ينك به جوع أو عطش سابق فهو شبه عمدن وإن كان به جوع سابق أو عطش ففيه طريقان في "التهذيب": [أظهرهما في "الرافعي"، وهو المذكور في "الوجيز": أنه إن علم جوعه السابق أو عطشه لزمه القصاص، وإلا فقولان، أصحهما: المنع.

والثاني: إن كان جاهلاً بحاله فلا قصاص] قطعاً، وإن كان عالماً فقولان، أصحهما في "التهذيب": عدم الوجوب، فإن لم نوجب القصاص ففيما يجب من الدية قولان: أحدهما: جميعها. والثاني: نصف دية شبه العمد، وهو ما أورده المتولي والأكثرون. [وفي "النهاية" – في كتاب الوديعة – حكاية وجهين في إيجاب الضمان، أحدهما: لا يجب؛ لأن الحابس لو حبس في مثل هذا الزمانا من لم يكن به جوع سابق لم يمت، ولم يوجد منه هنا إلا الحبس في هذا الزمن؛ فلا يؤاخذ بتلف ترتب على الجوع السابق]. ولو منعه الشراب دون الطعام، فلم يأكل؛ خوفاً من العطش، فمات – فلا قصاص. وفي وجوب ضمانه وجهان، المذكور [منهما] في "التهذيب": المنع. إذا حبسه، وعراه حتى مات برداً – فهو كما لو حبسه ومنعه الطعام والشراب، وهذا بخلاف ما لو خلاه في طريق، ونزع ثيابه؛ فمات من البرد، أو اخذ زاده وماءه؛ فمات جوعاً وعطشاً؛ فإنه لا قصاص. قال المتولي: لأنه ما قصد بالذي فعل قتله، وإنما قصد تحصيل شيء لنفسه، وكما لا يجب القصاص لا تجب الدية؛ فإنه لما لم تتصل جنايته به صار كمال لو وجد مضطرًّا وله طعام، فمنعه منه حتى مات، أو كان يغرق في الماء، وهو يقدر على تخليصه، فلم يفعله؛ فإنه آثم، ولا ضمان. وأشار القاضي الحسين إلى خلاف في وجوب الضمان فيما إذا عراه في مفازة [فمات برداً، وفيما إذا منع منه الطعام والماء وهو في مفازة]؛ حيث قال: لا ضمان على الصحيح. [وفي "الحاوي" في باب الأطعمة فيما إذا منع المضطر الطعام، فمات، أو قتل – أنه يتضمن ديته – كان مذهباً؛ كما لو منعه من طعام نفسه؛ فإنه يضمن ديته؛

كذلك هاهنا]. قال:"وإن طرحه في لجة، أي: لا يقدر على الخلاص منها، فالتقمه حوت قبل أن يصل إلى الماء – ففيه قولان: أحدهما: يجب [عليه] القود؛ لأنه رماه في مهلكة، وقد هلك بسبب رميه، ولا نظر إلى الجهة التي يهلك بها؛ كما لو ألقاه في بئر مهلك، فكان أسفلها سكاكين منصوبة لم يعلم بها الملقي؛ فهلك بها، أو جرحه بسكين مسمومة لم يعلم الجارح بسمها؛ فمات بالسم. وأيضاً: فإن لجة البحر، وهي معظم الماء –كما نبهنا عليها في الغصب- معدن الحوت، فالإلقاء فيها إلقاء إلى الحوت؛ فصار كما لو كتفه وعرضه للسبع، وهذا القول هو المنصوص للشافعي، والأصح في "الرافعي" وغيره. والثاني: لا يجب؛ لأن الهلاك حصل بغير ما قصد به الملقى الإهلاك، وإذا لم يكن سبب الهلاك متعلق قصده صار ذلك شبهة دارئة للقصاص. قال القاضي أبو الطيب: بالقياس على ما لو دفعه من حائط، فاستقبله إنسان بسيف فقده نصفين؛ فإنه يكون خطأ من الدافع؛ كذلك هاهنا، وهذا منه يدل على أن الملقى في مسألتنا إذا لم نوجب عليه القصاص يجب عليه دية الخطأ، وقد صرح الرافعي وابن الصباغ بأنها دية عمد الخطأ، وهذا القول رواه الماوردي عن حكاية الربيع. وقال الإمام: إن الربيع خرجه مما إذا رمى [رجلاً] من شاهق، واعترض له واحد فقده بنصفين – فإنه لا قود على الرامي، وكذلك حكاه القاضي الحسين، لكنه قال: إن محله مع القول الأول إذا التقمه الحوت، أو اختطف رأسه بعد وصوله إلى الماء، أما إذا التقمه، أو اختطف رأسه قبل أن يصل إلى الماء – فلا يجب القود وجهاً واحداً، وهذه طريقة القفال؛ كما حكاها أبو الحسن العبادي عنه.

وفي "التهذيب" وغيره: أنه لا فرق بين الحالتين، وقد ادعى الجيلي أن القول المخرج هو الصحيح. قال الإمام: إن معظم الأصحاب لم يرتضوا التخريج، وفرقوا بين الصورتين بان القتل في مسألة تلقي القاد صدر من فاعل مختار يفعل برأي وترو؛ فقطع أثر السبب الأول، والحوت يلتقم بطبعه كالسبع الضاري؛ فجاز ألا يقطع السبب الأول؛ ألا ترى أنه لو أمسك إنساناً فقتله إنسان آخر – فلا قصاص على الممسك، [ولو هدفه لوثبة أسد ضار، فافترسه – فالقصاص على الممسك؟!]. وغيره فرق: بأن الإلقاء من الشاهق قد لا يهلك؛ فإن الريح ربما رفعت الملقي وعطفته؛ فيصيب الأرض بلا شدة ولا صدمة؛ فيسلم، فإذا طرأ عليه القد بطل أثره، والإلقاء في الماء المغرق مهلك لا محالة؛ فلا ينظر إلى ما يحدث بعده. قال الرافعي: وهذا يفهم القطع بوجوب القصاص إذا كان التقام الحوت بعد وصوله إلى الماء، وفي إيراد الشيخ أبي حامد وغيره من الأئمة العراقيين ما يشعر به. وحكى الماوردي عن بعض الأصحاب أنه نفي الخلاف في المسألة، وحمل القولين على اختلاف حالين، وقال: الأول محمول على نيل مصر الذي يغلب عليه التماسيح؛ فلا يسلم منها أحد. والثاني: محمول على غيره من البحار والأنهار التي تخلو – غالباً – عن مثله. وحكى في باب القصاص بغير السيف، في مسألة التلقي بالسيف وجهان: أن القاتل هو الملقي دون القادّ؛ لأنه بإلقائه كالموحي، وكذلك حكاه الإمام في "باب وضع الحجر" عن بعض التصانيف، وضعفه ونسبه البغوي إلى الشيخ أبي حامد، وقال: إنه ليس بصحيح. وحكى البندنيجي وابن الصباغ- قبيل باب التقاء الفارسين، والشيخ في "المهذب" في باب الديات، مع الوجه الأول فيها وجهاً آخر: أنهما شريكان في الضمان، وادعى الإمام في باب وضع الحجر: أن أحداً من الأصحاب لم يحكه،

وبه يجتمع في المسألة ثلاثة أوجه؛ كما صرح به الماوردي قبيل باب اصطدام الفارسين، وحكاه ابن يونس: أحدها: أن الضمان على القاد؛ فيضمنه بالقود أو الدية. والثاني: أنه على الملقى؛ فيضمنه بالقود والدية. والثالث: أنهما يضمنانه [جميعاً] بالقود والدية، والله أعلم. قال:"وإن طرحه في زُبية فيها سبع؛ فقتله، أو امسك كلباً؛ فأنهشه؛ [فمات]، أو السعه حية أو عقرباً يقتل مثلها غالباً، فقتله – وجب عليه القود: أما في الأولى؛ فلأنه ألجأ السبع إلى قتله؛ لأنه يثب بطبعه في المضيق، ويقصد؛ فوجب عليه القود؛ كالمكره، وأما في الباقي؛ فلأن ما ذكره آلة له في القتل؛ فهو كالسيف. والزبية – بضم الزاي، وإسكان الباء ثانية الحروف -: حفرة تحفر للأسد؛ ليصاد فيها، وجمعه: زبي، بضم الزاي، و [في] معناها كل مضيق. وألحق بذلك ما إذا عرضه لافتراس السبع، وهدفه له، حتى صار السبع كالمضطر إليه؛ [كما حكاه ابن كج عن النص، وجزم به أبو الطيب، أما إذا لم يلقه على السبع] في مضيق، ولا هدفه له – فقد أطلق معظم الأصحاب القول بأنه لا قصاص، وحكوه عن النص. ووجهوه بأن السبع لا يقصد الآدمي في الموضع الواسع إلا قصد الدافعين، ويمكن التحرز عنه والفرار عنه. وعن القاضي الحسين وغيره: أن السُبع إذا كان ضارياً شديد العدو، وكان لا يتأتى الهرب منه في الصحراء، أو كان الشخص قصير الخطوة عن وثبة السبع – أنه يجب عليه القود، وهو ما أجاب به الماوردي، وقال: إنه يكون بمثابة من أرسل سهماً قاتلاً. والإمام جعل هذا كالبيان والاستدراك لما أطلقه الأصحاب وأرسلوه، وحكى عن صاحب "التقريب" رواية قولين في وجوب القصاص على من حبس شخصاً مع سبع؛ فقتله، واستبعد ذلك، وقد حكاهما الرافعي عن رواية

[القاضي] ابن كج بالنقل والتخريج، واتفق النقلة على أنه لو كتفه وألقاه في أرض مسبعة؛ فافترسه السبع – أنه لا قود عليه؛ لأنه لم يلجئه إلى قتله، وكذا لا دية؛ كما في الممسك مع القاتل، صرح به الماوردي، وغيره، وحكى وجه: أنه يجب الضمان إذا كان المطروح صغيراً لا يقدر على الانتقال. وفي "المهذب": الجزم بوجوب الدية مغلظة إذا كان المطروح رجلاً؛ لأن ذلك شبه عمد، وبوجوبها مخففة إذا كانت الأرض غير مسبعة، فافترسه السبع؛ لأنه قتل هخطأ. ولا فرق في السبع الذي ذكرناه بين أن يكون أسداً، أو نمراً، أو كلباً عقوراً. والحيات التي تقتل – غالباً – حيات الطائف، وكذا أفاعي مكة، وثعابين مصر، والعقارب التي تقتل – غالباً – عقارب نصيبين. قال:"وإن لم يقتل غالباً" أي: كالذئب كما قاله البندنيجي، وحيات الماء، والحجاز، وعقارب مصر "ففيه قولان: أصحهما: أنه لا يجب"؛ لأنه لم يظهر منه قصد القتل، وهذا وافق الشيخ على تصحيحه البغوي والروياني والقاضي أبو الطيب. والثاني: يجب؛ لأنه نهشه ذلك يشق الجلد، ويرتقب منه الغور والنكاية؛ فكان كالجرح، وقد وافق الشيخ على حكاية القولين [هكذا الماوردي]. وحكى الإمام أن الأصحاب قالوا: الحكم في هذه المسألة كالحكم فيما لو غرز إبرة. وقد سبق تفصيله، وأن هذا حسن بالغ. فرع: إذا حبسه مع حية في مكان ضيق؛ فقتله – لا قصاص عليه ولا دية. وحكى القاضي ابن كج قولاًك أن ذلك كالجمع بينه وبين السبع في بيت. قال:"وإن أكره رجلاً على قتله"، أي: بغير حق؛ فقتله –"وجب عليه القود"؛ لأنه أهلكه بما يقصد به الهلاك- غالباً – فأشبه ما إذا رماه بسهم فقتله. قال القاضي أبو الطيب: ولأن المكره على الفعل بمنزلة المباشر له؛ بدليل أن المطلوب نفسه يحل له أن يدفع عن نفسه، وهو مخير بين أن يقتل الآمر، أو المأمور أو هما معاً، وإذا كان كذلك فهو لو باشر القتل على وجه العمد وجب عليه القصاص؛ كذلك هاهنا.

وقد حكى القاضيان أبو الطيب والحسين أن المذهب لا يختلف في ذلك. وحكى الرافعي: أن الشيخ أبا عاصم العبادي [حكى عن] شيخه الأستاذ أبي طاهر، عن شيخه الأستاذ أبي الوليد، عن شيخه ابن سريج: أنه لا قصاص عليه؛ لانه متسبب، والمكره مباشر مأثوم بفعله، والمباشرة تقدم على السبب. وفي "ابن يونس" حكاية ذلك قولاً، وكذلك في "الجيلي"، ونسبه إلى "البسيط" و"تعليق" الشريف، وقد رأيت فيه إشارة إليه. قال:"وفي المكره"؛ أي: بفتح الراء – قولان: أصحهما: أنه يجب؛ لأنه قتله عمداً عدواناً؛ لاستيفاء نفسه؛ فوجب عليه القود؛ كما لو قتل المضطر إنساناً ليأكله، بل أولى؛ لأن المضطر على يقين من التلف؛ عن لم يأكل، وليس المكره على يقين من القتل إن لم يقتل. ولأن القصاص حكم يتعلق بالقتل؛ فوجب ألا يسقط بالإكراه؛ كالمأثم. والقول الثاني: أنه لا يجب؛ لأنه قتله دفعاً عن نفسه؛ فأشبه [قتل الصائل]، وأيضاً فإن المكرَه آلة المكرِه؛ ولذلك وجب القصاص على المكره؛ فصار كما لو ضرب به المكره على قتله فقتله، قال البغداديون: ولأن الإكراه شبهة تدرا بها الحدود. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في جريان القولين بين أن يكون المكره هو الإمام، أو نائبه، أو إمام أهل البغي، أو المتغلب باللصوصية، وذلك هو الطريقة الصحيحة في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"مجموع" المحاملي و"الشامل" وغيرها. ومقابلها: أن محلهما إذا كان المكره هو الإمام، أو نائبه، أو من في معناه: كأمير طائفة خرجوا على الإمام بتأويل سائغ، وتغلبوا على بلده؛ كما صرح به المحاملي. أما إذا أكرهه خلاف ذلك كإمام أهل البغي، وجب عليه القود جزماً. والفرق: أن الإمام واجب الطاعة في الجملة؛ فأمره وإكراهه يوجب الشبهة في القصاص.

وفي "الحاوي" على هذه الطريقة: أن المكره إن كان إمام أهل البغي، وكان المكره ممن يعتقد صحة ما صار إليه – [فهو في حقه كإمام أهل العدل في حقهم، وإن كان لا يعتقد صحة ما صار إليه] فوجهان، وإن كان المكره متغلباً باللصوصية فهو محل الجزم بوجوب القود. [وفي "الإبانة" و"العدة" حكاه عن بعض الأصحاب: أنه جزم بعدم وجوب القود] على مكره السلطان، وبوجوبه على مكره غيره، وقال: إن ذلك نص عليه الشافعي، وإن الفرق: أن مكره غير السلطان يجد مخلصاً. من المتغلب عليه بأن يستعين بالسلطان، ولا كذلك مكره السلطان؛ فإنه لا يجد [منه] مخلصاً، ثم السلطان هل يخرج بالإكراه على القتل عن الإمامة؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي عن [ابن] أبي هريرة، وأنه أجراهما في ارتكابه [الكبائر التي] يفسق بها، وقد تقدم في كتاب الطلاق الكلام فيما يحصل به الإكراه في الطلاق، وقد قال بعض أصحابنا: إنه يحصل به الإكراه على القتل أيضاً. وقال القاضي الحسين: الذي يحصل به الإكراه هنا هو أن يخوفه بعقوبة لو نالها من يديه مبتدئاً – وجب فيها القصاص، والصحيح الذي مال إليه المعتبرون هاهنا ورجحوه ما حكاه القاضي الحسين عن أصحابنا العراقيين، وهو في "الشامل": أن الإكراه في القتل لا يحصل إلا بالتخويف بالقتل، أو ما يخاف منه التلف كالقطع، بخلاف الطلاق، وألحق الرافعي بالقطع الضرب الشديد. التفريع: إن أوجبنا القصاص: فإذا آل الأمر إلى الدية بالعفو فهي موزعة عليهما، وهما كالشريكين، وإن لم نوجبه على المكره ففي وجوب الدية عليه وجهان حكاهما المراوزة – وكذا الماوردي، عن البغداديين والبصريين -:

أحدهما: لا؛ تنزيلاً له منزلة الآلة، وهذا ما صححه في "التهذيب". والثاني: يجب نصف الدية، والقصاص [إنما] يثبت للشبهة، وهذا هو المنصوص، والذي أورده المحاملي، وابن الصباغ، والقاضي أبو الطيب والأكثرون. [وعبارة البندنيجي – في كتاب: الصيام -: أن الشافعي لم يُجْرِ الإكراه على القتل مجرى غيره؛ لأنه لم يسقط حكمه بكل حال على أحد القولين؛ لأنه أوجب نصف الدية قولاً واحداً،] فعلى هذا: إذا غرم رجع به على المكره، صرح به الغزالي، ولم أره لغيره، وتجب عليه الكفارة أيضاً، ويتعلق بقتله حرمان الميراث. ثم من يغرم: هل الجاني، أم عاقلته؟ تردد فيه الإمام، وحكى الجيلي ذلك قولين، وعلى القول بعدم وجوب شيء من الدية هل تجب الكفارة؟ فيه وجهان، [أصحهما: الوجوب؛ لحصول الإثم المحوج إلى التكفير، فإن أوجبناها تعلق بها حرمان الميراث، وإلا فوجهان]، أظهرهما: ثبوته. تنبيهان: أحدهما: احترز الشيخ بقوله:"رجلاً" عما إذا كان المكره صبيًّا مراهقاً؛ فإن القصاص لا يجب على المكره؛ لصباه، ووجوبه على المكره ينبني على أن عمد الصبي عمد أو خطأ: إن قلنا: عمد – وهو الأصح – فعليه القصاص، وإلا فلا؛ لأنه شريك خاطئ، وبهذا جزم القاضي الحسين. قال الإمام: وهذا إذا فرعنا على انه يجب القصاص على المكره – بفتح الراء – وتنزيل المكرِه والمكرَه منزلة الشريكين، أما إذا قلنا: لا قصاص على المكرَه – ففي وجوب القصاص على المكره – بكسر الراء – [مع] الحكم بأن عمد الصبي خطأ، وجهان. وقال: إن القاضي الحسين أشار إليهما، يعني به: [في] المسألة التي سأذكرها تلو هذه.

ووجه الوجوب: أن إكراهه هو الذي ولد هذا الخطأ، وهذا الوجه هو الذي رأى صاحب "التهذيب" الجواب به إذا لم نوجب الدية على المكره، ونزلناه منزلة الآلة، وقد طرد الإمام الوجه فيما لو أكرهه أن يرمي إلى طللٍ عهده المكره إنساناًن وظنه الرامي جرثومة أو صيداً، أو على أن يرمي إلى ستر وراءه إنسان عرفه المكره دون الرامي؛ كما حكاه القاضي الحسين عن المذهب، وأبدى تخريج الوجهين احتمالاً لنفسه من خلاف سبق في الوكالة فيما إذا اقتص الوكيل بعد عفو الولي، وهو جاهل بالعفو – فإن الدية هل تجب أم لا؟ فيه قولان: فإن قلنا: تجب، [فهل] في مال الوكيل [أو لا؟] فيه وجهان. قال: فإن قلنا: تجب في مال الوكيل، فهاهنا يجب القود على المكره، ومال صاحب التهذيب إلى القطع بالوجوب هاهنا. ولو انعكس الحال، فكان المكره مراهقاً، والقاتل بالغاً – فلا ضمان على المكره، وفي المكره القولان: إن جعلنا عمد الصبي عمداً [وجب القصاص]، وإن جعلناه خطأ فلا قصاص؛ لأنه شريك خاطئ. الثاني: في قول الشيخ:"وإن أكره رجلاً على قتله وجب عليه القود ... " إلى آخر المسألة، ما يعرفك أن صورة المسألة إذا كان الإكراه على قتل رجل غير المكرِه والمكرَه، أما إذا كان المكرَه على قتله هو المكرَه؛ بأن قال: إن لم تقتل نفسك وإلا قتلتك، فلا يجب على المكره شيء، جزم به القاضي الحسين، وهو المشهور، وفي "التهذيب" حكاية قول آخر: أنه يجب عليه القود، وعلى هذا: إذا آل الأمر إلى الدية وجبت. وفي "الرافعي": أنا إذا قلنا بعدم إيجاب القصاص: فإن قلنا: المكره – بفتح الراء – لا شيء عليه من الدية، وجب جميع الدية على المكره، وإلا فنصفها. وفيما قاله [نظر]؛ لأنا إنما أسقطنا القصاص لانتفاء الإكراه، وإذا انتفى كان قضيته ألا يجب على فاعله شيء أصلاً، كما ذكرناه. ثم إن صح ذلك فقياس

ما حكيناه عن "الوسيط" من أن المكره إذا غرم يرجع [به] على المكره – [بكسر الراء] – ألا يسقط من الدية في هذه الحالة – شيء، وإن قلنا: إن المكره – [بفتح الراء – مطالب] بالنصف؛ لأنه طريق في ذلك، لا أصل، والله أعلم. ولو كان المكره هو المقتول؛ بان قال: إن [لم] تقتلني وإلا قتلتك، لا يجب على المكره قصاص على ظاهر المذهب؛ لإذنه، وبعضهم قطع به، [و] في وجوب الدية قولان حكاهما القاضي الحسين، وحكى عن الشيخ أبي سهل أنه خرج وجها في وجوب القصاص، وهو جار فيما لو أمره بقتله فقتله من غير إكراه، والمتولي حكى عن الصعلوكي أنه حكاه- في هذه الصورة- قولاً [عن الشافعي]. وفي "الرافعي": أنا على قول إيجاب المال يكون الواجب نصف الدية، وهذا الذي يظهر من جهة القياس، ولا يخفى أن محل الخلاف بوجوب الدية على القاتل – في هذه المسألة، أو بعضها – مفرع على القول بوجوبها على المكره؛ كما قدمنا أنه المنصوص، أما إذا قلنا بعدم وجوبها ثم، فهاهنا أولى، ومصور بما إذا أمكن دفع المكره – بكسر الراء – بغير القتل، أما إذا لم يمكن دفعه إلا بالقتل – فقد حكى الأصحاب أن للمكره دفع المكره بالقتل إذا لم يندفع إلا به، وإذا كان كذلك فلا دية عليه؛ كما في الصائل. فإن قلت: إذا كانت الصورة كما ذكرت فقد انتفى الإكراه؛ لأن المكره هو الذي لا يقدر المكره على دفعه، وإذا كان كذلك فينبغي أن يجب القصاص جزماً. قلت: الإكراه الذي فرضناه وتضمن الإذن بالقتل، [لو تجرد] الإذن وحده لجرى الخلاف الذي ذكرناه؛ فلذلك جرى هاهنا. قال:"وإن أمر من لا يميز"؛ [أي]: لصغر، أو جنون، أو عجمة، مثل: أن

يأمر صغيراً أو مجنوناً أو أعجمياً لا يميز في طاعة آمره بين المحظور والمباح، وسواء في ذلك عبده وعبد غيره والحر، كما صرح به المحاملي وغيره. قال:"فقتله – وجب [القود على] الآمر، ولا شيء على المأمور؛ لأن القاتل لا تمييز له ولا قصد؛ ففعله كفعل البهيمة؛ فهو كالآلة التي يستعملها الآمر، وكالبهيمة التي يسلبها، وهذا بخلاف ما لو أمر من لا يميز بالسرقة فسرق؛ فإنه لا قطع على الآمر؛ لأن القطع في السرقة لا يجب إلا بالمباشرة؛ بدليل: ما لو أكره إنساناً على السرقة؛ فإنه لا يجب على واحد منها القطع، وحكاه القاضي الحسين، بخلاف القود؛ فإنه كما يجب بالمباشرة – يجب بالسبب، ثم إذا أفضى الأمر إلى وجوب المال في مسألتنا وجب على الآمر، دون المأمور، كما ذكره الشيخ. قال الماوردي هنا: ولو كان المأمور عبداً للآمر لا تكون رقبته مرتهنة بالمال، بل يكون كسائر أموال السيد، وحكى في كتاب الرهن في ذلك [وجهين: أحدهما:] يتعلق برقبته عند إعسار السيد، والثاني: لا، وقال: إن ثمرة الخلاف تظهر فيما لو كان مرهوناً. وحكى الوجهين فيما لو كان المأمور حرًّا، وكان الآمر معسراً، في أن المأمور هل [يطالب]: أحدهما- وهو قول أبي إسحاق-: نعم، ويكون ديناً له على الآمر. والثاني- وهو قول ابن أبي هريرة -: لا، ويكون ديناً لولي القتيل على الآمر، وقد ذكرت طرفاً من ذلك في كتاب الرهن. والغزالي هاهنا حكى الوجهين في تعلق المال برقبة العبد من غير تقييد بإعسار السيد، وصحح الرافعي وجه المنع، وحينئذ يجتمع في المسألة ثلاثة أوجه. قال الإمام: وعلى قول التعليق: إذا بيع وفضل من الأرش [شيء] فهو متعلق بذمة السيد دون العبد.

قال: "وإن أمر السلطان رجلاً بقتل رجل بغير حق، والمأمور لا يعلم – وجب القود على السلطان"؛ لأنه ألجأه إليه شرعاً بأمره إياه بالقتل؛ لكون طاعته إما مستحبة أو واجبة؛ لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وإذا كان كذلك وجب عليه القود، كالمكره؛ [و] لأن السلطان لا يقتل بيده في العادة، بل يأمر به غيره؛ فأشبه ما لو قتله بيده، وهذا معنى قول الشافعي:"وكذلك قتل الأئمة"، ولا يجب على المأمور – والحالة هذه – قود ولا دية ولا كفارة، ولا يأثم؛ لأنه معذور؛ فإن الظاهر أن الإمام إنما يأمر بحق، لكن الأولى له أن يكفر، وهذا بخلاف ما لو أمره متغلب باللصوصية بقتل رجل بغير حق، ولم يعلم به المأمور فقتله فإنه يجب عليه القود؛ كما صرح به الماوردي، والقاضي أبو الطيب؛ لأن الظاهر أنه لا يأمر بحق. وحكم أمر إمام أهل البغي حكم أمر إمام أهل العدل فيما ذكرناه، صرح به أبو الطيب وغيره. قال:"وإن علمن وجب القود على المأمور"؛ لأنه لا تجوز طاعته في معصية الله تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَمَرَكُمْ مِنَ الْولاةِ بِغَيْرِ طَاعَةِ اللهِ فَلا تُطِيعُوهُ" كذا رواه الشافعي، [وروى البخاري ومسلم وغيرهما، عن علي – كرم الله وجهه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ" ورويا وغيرهما عن عبد الله – وهو ابن عمر – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ"]، وعن أبي بكر – رضي الله عنه – أنه

قال: "أَطِيعُوني مَا أَطَعْتُ اللهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَصَيتُ فَلاَ طَاعَةَ لِي عَلَيكُمْ". وإذا كان الأمر كذلك صار كما لو قتله بغير أمره، ولا يجب على السلطان شيء، وإن كان آثماً؛ لإذنه في المعصية. وحكى الماوردي عن بعض أصحابنا: أنه صار إلى وجوب القود عليه وعلى المأمور، [ويوافقه قول الشافعي: "وليس على الجلاد شيء". هذا إذا لم يعلم أن الإمام ظالم، فأما إذا أخبره الإمام بأنه ظالم ضمن هو والإمام معاً. قال القاضي الحسين ثم: فمن الأصحاب من قال: صورة ذلك إذا كان غير مكره؛ لأنه متعد بأمره بقتله ظلماً؛ وكذلك الجلاد؛ فكان النصف عليه؛ لأن الجرائم لا تحل له بأمر السلطان]. وقال المراوزة: أمر السلطان هل ينزل منزلة الإكراه؟ فيه وجهان. وادعى القاضي الحسين في "التعليق" أن المنصوص عليه منهما أنه إكراه، وقضية هذه العبارة: أن يكون في وجوب القود على المكره – بفتح الراء – إذا فرعنا على المنصوص، قولان، وقد صرح بهما في "التهذيب"، وكذلك القاضي الحسين؛ حيث [حكى أن الشافعي] قال:"لو أمر السلطان الجلاد حتى قتل واحداً، وعند الجلاد أنه يقتله ظلماً – لا شيء عليه"، و [أن] من أصحابنا من قال: إنه أجاب بذلك على قوله: إنَّ أَمْرَ السلطان إكراه، وان المكره لا قود عليه، و [أن] منهم من قال: إن هذا الجواب صحيح، وإن قلنا: إنه ليس بإكراه؛ لأن الجلاد لا يقطع بكون السلطان مبطلاً في قتله، ولابد أن يخطر بباله أنه محق، وقد يرى كونه مبطلاً فيما هو محق فيه؛ امتحاناً لخدمه وحشمه، وهل يطيعونه أم لا؛ فانتصب ذلك شبهة في سقوط القصاص، حكى ذلك في موضعين من "التعليق":

أحدهما: في باب قتل العمد. والثاني: قبيل باب: الحكم في الساحر. وحكى المحاملي عن النص في "الأم" أن المأمور بالقتل لو كان يعلم أن الإمام أمر بقتله ظلماً، كان عليهما القود، وأن من الأصحاب من قال: أراد بذلك إذا اكرهه، وأجاب عن أحد القولين في المكره، وليس بصحيح؛ فإن الشافعي ذكر مسالة القولين في المكره، وذكر هذه المسألة مفردة عنها؛ فثبت أنها غيرها، وتأول أبو إسحاق المروزي وغيره ذلك تأويلاً حسناً؛ فقال: أراد بذلك ما إذا أمر بقتل المسلم بالكافر، أو الحر بالعبد، واعتقد المأمور أن الإمام رأى في ذلك رأي بعض العلماء – فالقود عليهما: أما المأمور؛ فلأنه قتل من لا يجوز قتله في زعمه، وأما الإمام؛ فلأن المأمور لما اعتقد أنه يرجع إلى تأويل صار مكرهاً من حيث الشرع، وإذا صار مكرهاً صار الإمام مكرهاً؛ فلزمه القود، وقد عكس الرافعي الحكاية عن أبي إسحاق، ونسب إليه الأول، ونسب الثاني إلى رواية أبي عليّ الطبري، وإذا تأملت ما ذكرناه ظهر لك في المسألة أوجه: أحدها – وهو المشهور-: أن القصاص على المأمور، دون الآمر. الثاني: أنه عليهما. الثالث: أنه على الآمر، دون المأمور. الرابع: [أنه] لا قود على واحد منهما: أما السلطان؛ فلكونه غير مكره، وأما المأمور؛ فلكونه معذوراً، وقد تعرض الإمام لتصوير محل الخلاف؛ فقال: إن كان الإمام بحيث لو لم يمتثل أمره لظهر الخوف في إهلاك مخالفة، فهذا إكراه في الحقيقة وإن لم يظهر ذلك في الظن؛ فلست أرى للخلاف في الأمر يكون إكراهاً وجهاً أصلاً، إلا من جهة واحدة، وهي: أنه إن كان يظن به أنه يسطو بمن خالفه؛ فاعتقد ذلك منه، ولا يبلغ توقع ذلك مبلغ توقع الخوف، لو

صرح بالتوعد؛ فليقع تنزيل الخلاف على هذا. فرع: لو كان الجلاد يعتقد أن الحر لا يقتل بالعبد، والإمام يعتقد جوازه؛ فأمره الإمام بقتله، ولم يكرهه- فهل يجب عليه القصاص؟ فيه وجهان حكاهما الإمام عن العراقيين في باب: حد الخمر، [وهما في "الحاوي"]، والمذكور منهما في "الشامل" و"تعليق" القاضي أبي الطيب ثم: الوجوب، [والذي حكاه القاضي الحسين في كتاب الحدود: أنه لا ضمان على الجلاد؛ لأن الشافعي قال في القسامة: لو قالك اقتل، فقتل – [وجب] القود على الإمام، وعلى المأمور التعزير، وهذا ما حكاه الماوردي في باب: الشهادة بالجناية، أما إذا أكره الإمام الجلاد، قال الماوردي: فلا ضمان على واحد منهما]. ثم حكى الإمام عنهم فيما لو كان [الإمام لا يرى قتل الحر بالعبد، والجلاد يراه، فأمره بقتله من غير فحص عن الحال، ولو كان] قد فحص لم يأمره به – فعلى القول بعدم الوجوب في الصورة الأولى يجب هاهنا، وعلى القول بالوجوب فيها لا يجب هنا؛ تعويلاً على عقده، وقد وجد الأمر من الإمام على الجملة، وضعفه، [وفي "الحاوي": أنه لا ضمان على الجلاد، سواء كان مكرهاً أو غير مكره؛ لأنه استوفى بإذن مطاع ما يراه مسوغاً في الاجتهاد، فأما الإمام – فإن لم يكره الجلاد- فلا ضمان عليه، وإن أكرهه، وهو عالم بالحال ضمن؛ لأنه ألجأه إلى ما لا يسوغ في اجتهاده]. قال:"وإن أمسك رجلاً حتى قتله آخر وجب القود على القاتل"؛ لما تقدم من الأدلة، ولا يجب على الممسك؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]؛ فلو وجب عليه القصاص لكنا [قد] فعلنا به غير ما فعل؛ ولقوله -عليه السلام- "إِذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، حَتَّى جَاءَ آخَرُ وَقَتَلَهُ – يُحْبَسُ المُمْسِكُ، وَيُقْتَلُ القَاتِلُ"، خرجه الدارقطني. وروى أبو عبيد

في كتابه بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُقْتَلُ الْقَاتِلُ، وَيُصْبَرُ الصَّابِرُ" ومعناه: [و] يحبس الحابس؛ للتأديب؛ ولأن هذا السبب غير ملجئ، وقد اجتمع مع المباشرة؛ فلم يتعلق به القصاص؛ كما لو حفر بئراً، فدفع رجل فيها رجلاً – فإن القصاص يجب على الدافع، دون الحافر؛ ولأنه لا يضمن خطأ بالدية؛ فلا يضمن عمداً بالقود؛ كما لو ضربه بما لا يقتل [غالباً]، وكما لا يجب القصاص لا تجب الدية والكفارة. نعمن لو كان المقتول عبداً فلمالكه مطالبة الممسك – أيضاً – والقرار على القاتل. قال:"وإن شهد على رجل"، أي: بقتل، أو ردة، أو زنى بعد إحصان، مع غيره – فقتل بشهادته، ثم رجع، أي: ونقص برجوعه نصاب الشهادة، وقال: "تعمدت ذلك"؛ أي: تعمدت الشهادة؛ ليقتل بها، [وكذلك من شهد معي تعمد ذلك] – "وجب عليه القود"؛ لما روي: "أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ – كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ – عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ؛ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا؛ فَقَالَ: لَو أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا. وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ يَدِهِ"، ولأنه توصل إلى قتله بسبب يقتل غالباً؛ فوجب عليه القود؛ كما لو جرحه فمات.

قلت: ويظهر مجيء وجه آخر: أنه لا قود عليه إذا لم يرجع من شهد معه؛ لأن الأصحاب قالوا: فيما إذا شهد أربعة بالزنى فرجم، ثم رجعوا، وقال أحدهم: تعمدت قتله بالشهادة، وتعمد أصحابي؛ فقالوا: بل أخطأنا – مع وجوب القود عليه – وجهان: وجه المنع: أن أصحابه أعرف بأنفسهم منه؛ فهو شريك خاطئ، وهذا الوجه الذي أردت مجيئه في مسألة الكتاب؛ لأن رفقته يزعمون أنهم على حق، فهو أولى من اعترافهم بالخطأ، وقد حكوا في مسألة الزنى أن الراجع لو قال: تعمدت، ولا أدري حال أصحابي، وقالوا هم: تعمدنا – ففي وجوب القود عليه – وجهين حكاهما القاضي الحسين في كتاب حد الزنى، والمنقول [في "المختصر" في كتاب حد الزنى] في مسألة الكتاب ما ذكره الشيخ، وعليه اقتصر في "الكافي"، والقاضي الحسين وأبو الطيب [والبندنيجي]. وهكذا الحكم فيما لو شهد على رجل مع غيره بما يوجب القطع، فقطع، ثم رجع – فعليه القطع، وإن سرى إلى النفس فالقصاص فيها. ولا فرق في ذلك على المذهب – كما حكاه المتولي، [وكذا صاحب "الكافي" في باب حد الزنى، والقاضي الحسين والبغوي في باب الرجوع عن الشهادة] – بين ألا يرجع سوى الشاهد، أو يرجع معه الحاكم والولي ويقولا: تعمدنا. وفي هذه الصورة وجه حكاه أبو يعقوب الأبيوردي: أن القصاص يجب على الولي خاصة، وبه جزم في "الوسيط" [هنا]؛ لأن الشهود في هذه الحالة لم يلجئوه حسًّا ولا شرعاً؛ فصار قولهم شرطاً محضاً كالإمساك، وعلى هذا: الدية – أيضاً – على الولي، [وعلى الأول: على] الجميع، [قال في "الكافي": على الشهود ثلثها، [وعلى القاضي ثلثها]، وعلى الولي ثلثها. وقد حكى الإمام وغيره الوجهين – أيضاً – في باب الرجوع عن الشهادة،

وكذلك الغزالي، [و] رجح الإمام الثاني]، أما إذا لم ينقص برجوعه نصاب الشهادة فسيأتي الكلام فيه في كتاب الشهادات؛ لأن الشيخ تكلم فيه [ثم، وسيعيد ذكر المسألة ثم مع زيادة فيها، عن شاء الله تعالى]. فرعان: أحدهما: المزكِّي لشاهد القتل إذا رجع، وقال: تعمدت التزكية مع علمي بالفسق؛ ليقتل المشهود عليه – فهل عليه القصاص؟ فيه وجهان في "التتمة"، [وفي "الكافي" في باب: حد الزنى، وصحح المنع؛ لأنه لم يتعرض للمشهود عليه، وإنما أثبت صفة في الشاهد، لكنه حكى عن القفال أنه قال: محل الوجهين فيما إذا قال: كنت علمت كذب الشهود، أما إذا قال: كانوا فاسقين فعدلتهم، فلا شيء عليه؛ لاحتمال أن يكونوا صادقين، فإن كانوا فاسقين] [ففي "الرافعي" في باب الرجوع عن الشهادة، بعد حكاية مثل ذلك عن البغوي: أن الأوفق لكلام أكثرهم الوجوب عليه، وهو الذي أورده أبو الحسن العبادي]. قال مجلي: ويحتمل وجهاً ثالثاً، وهو التفرقة بين أن تكون التزكية وجدت قبل الشهادة فلا ضمان، أو [بعدها فعليه الضمان]، كما قلنا في مزكي شهود الزنى، [وهذان الوجهان في "النهاية" وغيرها، في باب الرجوع عن الشهادة، مفرعان على أحد الوجهين في وجوب الغرم، أما إذا قلنا: لا يجب الغرم، فلا قصاص قولاً واحداً، وحينئذ يجتمع في المسالة – بقول مجلي – أربعة أوجه]. الثاني: إذا أشكلت الحادثة على الحاكم، وكان متوقفاً، فروى إنسان خبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم وقتل الحاكم به الرجل، ثم رجع الراوي، وقال: كذبت وتعمدت ففي فتاوى صاحب "التهذيب": أنه ينبغي أن يجب القصاص؛ كالشاهد إذا رجع. قال الرافعي: والذي ذكره الإمام والقفال في "الفتاوى": أنه لا يتعلق به القصاص، بخلاف الشهادة؛ فإنها تتعلق بالواقعة، والخبر لا يتعلق بها خاصة. قال: وإن أكره رجلاً على أكل سم، [أي:] والآكل لا يعلم أنه سم، أو

فتح فاه وأوجره فيه، كما صوره العراقيون والمراوزة. قال: "فمات [منه]- وجب عليه القود"؛ لنه قصده بآلة تقتل غالباً؛ فكان كما لو ضربه بالسيف. قال: "وإن قال: لم أعلم أنه سم قاتل"، أي: وكذبه الولي، "ففيه قولان": وجه الوجوب، وهو الأظهر عند القاضي الروياني والنووي: القياس على ما [لو] جرحه، وقال: لم أعلم أنه يموت [من هذه] الجراحة. ووجه المنع- وهو الأصح في "الجيلي" -: أنه مما يشتبه ويخفى؛ فجعل شبهة، بخلاف الجراحة، وعلى هذا تجب الدية، أما إذا لم يوجره السم القاتل، ولكن أكرهه عليه حتى أكله بنفسه، وهو عالم بأنه سم قاتل – ففي "النهاية" و"تعليق" القاضي الحسين و"التتمة": الجزم بأنه لا قصاص؛ كما لو أكرهه على قتل نفسه، وهذا منهم؛ بناء على انه لا قصاص إذا أكرهه على قتل نفسه، كما قلنا: إنه المشهور، وقد حكينا من قبل قولاً: أنه يجب عليه القصاص، ومقتضاه: أنه يجيء هاهنا أيضاً، وقد حكاه الداركي وغيره، وصححه في "العدة". فرع: لو كان السم لا يقتل غالباً إلا الضعيف، [وفي] فصل – اعتبر فيما ذكرناه ضعف المكره، ووجود ذلك الفصل، وإذا لم يوجد ذلك فلا قصاص على الظاهر المشهور، وفي كتاب ابن كج و"تعليق" القاضي الحسين قول: أن السم وإن كان مما [لا] يقتل غالباً، ومات الموجر به: أنه يجب القصاص؛ لأن السموم لها نكايات في الباطن كالجراحات؛ فالموت به [كالجراحة الخفية] التي لا تقتل غالباً. وهذا شبيه بما حكاه الشيخ، فيما إذا ألسعه حية أو عقرباً لا يقتل مثلها غالباً، وعلى ذلك جرى الإمام فجعله كغرز الإبرة، كما جعل مسألة إنهاش الحية التي لا تقتل غالباً كغرز الإبرة، والفرق – على المشهور- ما

ذكرناه من علة قول الوجوب ثم، وهو أن نهشة ذلك تشق الجلد؛ فكانت شبيهة بالجراحة، وذلك مفقود هنا. ثم على المشهور لو ادعى المكره [أن السم لا يقتل غالباً، وقال الولي بل هو مما يقتل، ولا بينة – فالقول قول] المكره، فإن كان ثم بينة عمل بها، وأثرها في جانب المكره إذا أقامها: سقوط اليمين عنه. قال:"وإن خلط السم بطعام"؛ أي: له [أو] لغيره، "وأطعم رجلاً"، أي: له تمييز، "أو خلطه بطعام لرجل"، أي: والطعام لا يكسر حدة السم، "فأكله فمات [منه] – ففيه قولان". وجه المنع – وهو الذي قال الإمام: إنه الأقيس، وصححه النووي في المسألتين – أنه فعل ما هلك به باختياره، من غير إلجاء حسي ولا شرعي. ووجه الوجوب – وهو الراجح عند الروياني وغيره في الأولى، واختاره في "المرشد" – ما روى أبو داود في حديث طويل عن أبي سلمة- وهو ابن عبد الرحمن بن عوف – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيَّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيَّةً، وَقَدْ سَمَّتْهَا، فَأَكَلَ مِنْهَا وَأَكَلَ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ: مَا حَمَلَكِ عَلَى الَّذِي صَنَعْتِ؟ قُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَنْ يَضُرَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا [مِنْهُ]؛ فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقُتِلَتْ"، ولأنه تغرير يفضي إلى الهلاك غالباً فأشبه الإكراه. فإن قيل: هذا الخبر قال أهل الحديث: إنه مرسل، والشافعي لا يرى الاحتجاج به، وعلى تقدير اتصاله – كما خرجه البيهقي عن حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي هريرة، فقد روى أبو داود، عن أنس بن مالك، انه قيل

لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلاَ تَقْتُلُهَا؟ فَقَالَ:"لاََ"، وأخرجه مسلم والبخاري. وروى أبو داود، عن أبي هريرة الحديث، وفيه: [قال]: "فَمَا عَرَضَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم"، وهذا يعارض لما استدل به، فجوابه ما ذكره البيهقي: أنه يحتمل أنه لم يقتلها في الابتداء، ثم لما مات بشر بن البراء أمر بقتلها. وقد حكى البندنيجي والمتولي وغيرهما من الطريقين: انه لا قود عليه في المسألة الثانية وإن وجب في الأولى. ثم القولان في الأولى يجريان فيما إذا قال [له]: كله، وفيه شيء من السم لكنه لا يضر؛ كما حكاه في "التهذيب"، وفيما إذا حفر بئراً في ممر داره وغطاها، وأذن لإنسان بالدخول؛ فدخل ووقع في البئر، كما حكاه في "الوجيز"، وابن الصباغ عن بعض الأصحاب، وأن منهم من قطع بعدم الوجوب؛ لأنه يمكنه التوصل إلى معرفة البئر، بخلاف السم، وكذا يجريان – كما حكاه القاضي الحسين – فيما إذا حفر بئراً في طريق أعمى؛ فتردى فيها، والقولان في الصورة الثانية يجريان فيما إذا جعل السم في دَنٍّ ما على الطريق؛ فشرب منه إنسان فمات، كما حكاه المتولي والبغوي. قال الرافعي: وليكن الفرض فيما إذا كان طريق شخص معين، إما مطلقاً أو في ذلك الوقت، وإلا فلا تتحقق العمدية. وقد ادعى العراقيون القطع بامتناع القصاص فيما إذا خلط السم بطعام نفسهن وتركه في بيته، فدخل إنسان، وأكله من غير إذن.

وحكى الإمام طريقين فيما إذا كان [الآكل] ممن جرت عادته بدخول دار الفاعل والأكل فيها انبساطاً: أحدهما: ما ذكره العراقيون. والثاني: طرد القولين في وجوب القصاص. ولو كان قد صنع السم في طعام، وقدمه إليه في جملة أطعمة، وكان من الممكن ألا يتعاطى المسموم، ويكتفي بغيره – فإذا تعاطاه، قال الإمام في باب وضع الحجر: إن أمر الضمان يترتب على ما [إذا] قدم إليه طعاماً مسموماً متحداًن وهنا أولى بانتفاء الضمان، وإذا قلنا بعدم وجوب القصاص في مسألتي الكتاب، فهل تجب الدية؟ قيل: نعم. وقيل: قولان حكاهما في الأولى القاضي في "المجرد"، وفي الثانية غيره. وقيل: في الأولى قولان، وفي الثانية: لا تجب. وبهذا الطريق أجاب الماوردي [في موضع]، وفرق بأنه [إذا أكل] بالإطعام فقد أكل [بأمره؛ فصار بالأمر ضامناً، وإذا أكل] طعام نفسه فهو بغير أمره فلم يضمنه. وفي "الشامل": أن الشيخ أبا حامد قال: في الأولى تجب، وفي الثانية قولان، وهذه طريقة القاضي الحسين في "تعليقه"، ولا خلاف في وجوب قيمة ما خلط به السم من طعام الغير: لأنه أفسده عليه. تنبيه: قول الشيخ: وأطعم رجلاً، فيه احتراز عما لو أطعمه صبيًّا لا تمييز له؛ فإنه يجب عليه القود في الأولى جزماً؛ كما لو قال له: اقتل نفسك، ففعل، وهكذا الحكم [فيما] لو كان الرجل في معنى الصغير؛ لجنون أو عجمة، واعتقد وجوب طاعة الآمر، وهذا بخلاف ما لو أمر العجمي بقتل نفسه فقتلها؛ فإنه لا يجب القود جزماً؛ لأن كل أحد لا يخفى عليه أن قتل نفسه لا يجوز،

وإن جاز أن يخفى عليه جواز قتل غيره، وأن السم يقتل إذا أكله. قال:"وإن قتل رجلاً بسحر يقتل غالباً وجب عليه القود"؛ لأنه قتله بسبب يقتل غالباً؛ فكان كما لو قتله بسكين، وإن لم يقتل غالباً [فلا قود فيه، وسيأتي] حكمه في الكتاب، ولا يعرف كونه يقتل غالباً [أوْ لا إلا من جهة] الجاني، وقد أنكر بعض أصحابنا، وهو أبو جعفر المقرئ الأستراباذي؛ كما حكاه ابن الصباغ والمصنف، أو أبو جعفر الترمذي، كما حكاه الإمام عن رواية العراقيين عنه – أن للسحر حقيقة، وقال: إنه تخييل [لا حقيقة له و] لا أصل له، [ولا] يناط به قصاص ولا غرم. وقال الشاشي: إن الأستراباذي [الذي] قال هذا القول، هو من أهل الظاهر. وعلى كل حال فهذا ليس بشيء؛ لأن الله – تعالى – أمر بالاستعاذة منه؛ بقوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]، وقال تعالى: [{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] وفي بعض الألفاظ أنه – عليه السلام – قال: "السحر حق". وقد روى الشافعي بسنده عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت:"مَكَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيَّاماً يُخَيَّلُ إِلَيهِ أَنَّهُ يَاتِي النِّسَاءَ، وَلاَ يَاتِيهِنَّ، فَاسْتَيقَظَ ذَاتَ لَيلَةٍ، وَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، قَدْ أَفْتَانِي رَبِّي فِيمَا اسْتَفْتَيتُهُ، أَتَانِي رَجُلاَنِ [فِي المنَامِ]؛ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيَّ، وَالآخَرُ عِنْدَ رَاسِي، فَقَالَ الذِي عِنْدَ رِجْلِي للِّذِي عِنْدَ رَاسِي: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَك مَطْبُوبٌ؛ فَقَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ فَقَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ اليَهُودِيُّ، قَالَ: فِيمَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، تَحْتَ رَاعُوثَةِ بِئْرِ ذَرْوَانَ، قَالَ: فَأَتَيتُ البِئْرَ، فَإِذَا مَاؤُهَا كَنَقْعِ الحِنَّاءِ، فَنَزَلَ عَلِيٌّ فَأَخْرَجَهُ، فَلَمَّا حُلَّ

شَفَانِي اللهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ"، وروي: "كَأَنَّمَا أُنْشِطْتُ مِنْ عِقَالٍ". و [قوله]: مطبوب: أي مسحور، ذكره أبو عبيد في "الغريب". وجف الطلعة: وعاؤها، وراعوثة البئر: صخرة في أسفل [البئر] يجلس عليها المستقي. ثم السحر قد يكون قولاً كالرقية، وقد يكون فعلاً كالتدخين، وقد اختلف العلماء في جواز [تعلم السحر: فذهب قوم إلى أن] تعلمه وتعليمه كفر، وقد عزا ابن الصباغ ذلك إلى الإمام [مالك] – رضي الله عنه – ونحن لا نقول به؛ إلا إذا اعتقد الساحر كونه حقًّا، أو يرى لنفسه قدرة على تقليب الأعيان؛ فيكفر باعتقاده كما قال القاضي الحسين والماوردي، أو يعتقد فيه ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها؛ كما حكاه ابن الصباغ. وذهب قوم إلى أنه حرام، وهو ما حكاه أصحابنا العراقيون كابن الصباغ وغيره، وتابعهم المتولي والماوردي، وهكذا القاضي الحسين عند تعلمه ليسحر به، وادعى البندنيجي أن شخصاً لو اعتقد إباحته كان كافراً؛ لأنه اعتقد إباحة ما أجمع المسلمون على تحريمه، وذهب قوم إلى أنه مكروه إذا خلا عن فعل أو قول محرم، وبه قال بعض أصحابنا؛ كما حكاه الإمام. وذهب قوم على نفي الكراهة فيه كما لا يكره تعلم مذاهب الكفر؛ للرد عليهم، وبهذا قال بعض أصحابنا؛ كما حكاه الإمام أيضاً، وبه جزم القاضي الحسين، والغزالي في "الوسيط".

قال: "وإن قطع أجنبي سلعة من رجل بغير إذنه، فمات – وجب عليه القود"؛ لأنه متعد بالقطع، فأشبه ما لو قطع يده أو رجله؛ فمات. والسلعة – بكسر السين – قال أهل اللغة: هو خُراج – بتخفيف الراء – كهيئة الغدة، وقال ابن الصباغ: إنها غدد تكون بين الجلد واللحم؛ فتظهر كحمصة وكبطيخة- كما قال الجوهري – يعني: وما بينهما، وقد تكون في رأس الإنسان أو في وجهه أو في جسده. وأما السلعة – بالفتح-: فهي الشجة، وليست مرادة هنا. وذكر الرجل في هذا المقام؛ للتنبيه على أن سكوته، عند القطع لا يجعل رضاً بالقطع وإذناً فيه، لا لأن الحكم في الصغير مخالف له، [أما] إذا قطعها بإذنه فينظر: إن كان لا يخاف من قطعها التلف لم يجب على القاطع الضمان؛ لأن [الإذن] في قطعها – في هذه الحالة – لأجل زوال الشين؛ فكان كإذنه في الفصاد والحجامة. وإن كان يخاف من قطعها التلف فينظر: فإن كان بقاؤها مخوفاً أيضاً، لكن خوف البقاء أغلب على الظن وأكثر- فالقطع أيضاً جائز، إلا على وجه حكاه

الإمام؛ فيجوز الإذن فيه ولا ضمان على القاطع. وإن كان خوف القطع أكثر وأغلب على الظن فلا يجوز القطع في هذه الحالة جزماً؛ كما لو لم يكن خوف في البقاء، وكان موجوداً في القطع، فإذا أذن فيه فلا يجوز له القطع، لكنه لو فعل لا قصاص على الأصح، وسنذكر- من بعد- ما يظهر لك به جريان وجه فيه عن ابن سلمة، وفي ضمان النفس قولان حكاهما الإمام. ولو استوى الأمران، واعتدل الخوفان – فعند الشيخ أبي محمد: لا يحل القطع. وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لا يعترض عليه، [قال الرافعي: وهو الأشبه]. وقريب من هذه [المسألة]: ما لو أضرمت النار في إنسان، وكان لا يطيق الصبر على لفحاتها، فأراد أن يلقي نفسه في بحر، ورأى ذلك أهون، وقد حكى الإمام عن شيخه المنع، وأن في المسألة احتمالاً؛ فإن الإحراق مُذَفِّف، وكذلك الإغراق، ثم قال: والرأي ما ذكره شيخنا، [وقال في "الوجيز": الأصح مقابله]. قال: وإن قطعها حاكم، [أو وصى] من صغير؛ [أي]: أو [من] مجنون؛ حيث يكون ترك القطع [أخوف من القطع]؛ كما قاله الماوردي، ولا ولي له سواهن فمات – ففيه قولان، [أي]: منصوصان؛ كما حكاه الماوردي في الجنايات: "أحدهما: يجب عليه القود"؛ لأنه عجل من تلفه ما كان مرجوًّا؛ فأشبه ما لو قطعها، وكان القطع أخوف، [أو كان الأب أو الجد بعد باقيا]، وهذا أصح في "الجيلي". "والثاني: لا يجب؛ لأنه لم يقصد القتل، بل قصد الإصلاح والمداواة، وله نظر في مداواته؛ فكان ذلك شبهة في إسقاط القصاص، [وهذا [أصح عند

القاضي أبي الطيب والنواوي]؛ فعلى هذا تجب الدية مغلظة. ولو كان القاطع في هذه الحالة الإمام الأعظم فمنهم من أجرى القولين فيه، وقيل: لا قود جزماً، وإليه أشار أبو إسحاق [المروزي]، لأنه أبعد عن التهمة؛ [وولايته أعم]. ولو كان القاطع أباً أو جداً فلا [قود ولا] دية [عليه في هذه الحالة. نعم، لو كان – والحالة هذه – القطع أخوف] ففي إيجاب الدية وجهان [في "الحاوي"، و"التهذيب"]، وهل تكون دية عمد [تتعجل في ماله]، أو دية شبه عمد تؤخذ على عاقلته؟ فيه وجهان [في "الحاوي"، وفي] أن وصي الأب يجري مجرى الأب [على وجه. وعن صاحب "الإفصاح": أن القولين المذكورين في الحاكم إذا كان له أب أو جَدٌّ، أما إذا لم يكن فلا قود وجهاً واحداً؛ لأنه لا يجد من يقوم بشأنه، فلا بد وأن يراعيه. فإن قيل: هل يجوز لولي الصغير والمجنون قطع السلعة منه؟ قلنا: يحتاج في ذلك إلى تقديم الكلام في جواز ذلك للشخص نفسه؛ إذا كان بالغاً عاقلاً، وقد قال الأصحاب: إنه يجوز له ذلك، وأن يأذن فيه]، إذا كان خوف التبقية أكثر وأغلب على الظن، على الصحيح، وفيه وجه: أنه لا يجوز، [ولو كان خوف القطع أغلب فلا يجوز وفاقاً]. ولو استوى الأمران، واعتدل الخوفان: فمن منع في الحالة الأولى فهو مانع هاهنا من طريق الأولى، وقد [صرح بالمنع هنا] الشيخ أبو محمد، وبعض الأصحاب قال: لا معترض عليه في هذه الحالة أيضاً، فحيث قلنا: لا

يجوز للإنسان قطع ذلك من نفسه؛ فالولي بالمنع أولى، وحيث قلنا: يجوز، فالحاكم ومن في معناه لا يجوز له القطع في حالة كون القطع [محظوراً، والتبقية] محظرة، ومست الحاجة إلى النظر في تغليب أحد [الظنين كما نص عليه الشافعي]، [وفي حالة انتفاء حالة] الحظر في القطع واقتضاء المصلحة له يجوز؛ كما في الفصد والحجامة. نعم، لو أدى إلى الهلاك ففي الضمان وجهان جاريان [أيضاً] في الفصد والحجامة: أحدهما: يضمن، وبه جزم القاضي الحسين؛ كالتعزير إذا أفضى إلى التلف. وأظهرهما- وهو المذكور في "الوجيز"، وبه قال عامة الأصحاب -: المنع، [وعن "جمع الجوامع" حكاية وجه: أنه لا يجوز للسلطان الفصد والحجامة، ويختص نظره وتصرفه بالمال، والأب والجد يجوز له قطع السلعة، عند استواء الأمرين؛] فإن الشافعي [نص] على أن له قطعها. قال الإمام: ولم يُرِد صورة المعالجة حيث لا ضرر في القطع؛ فإن ذلك يجوز للحاكم، بل مراده [ما] إذا تعارض خطران في القطع والتبقية، ورأي القطع صواباً، وجوزنا ذلك للمرء نفسه، والفرق بينهما: أن ذلك يحتاج] إلى نظر دقيق؛ فاختص به الولي الشفيق [كما في الإجبار على التزويج]:

وحكم قطع الأكلة والحُبَيْبة حكم قطع السلعة – فيما ذكرناه – صرح به الإمام وأبو الطيب وابن الصباغ في باب حد الخمر، ولا خلاف في أن الأجنبي لا يجوز له قطع ذلك من الصبي والمجنون بغير إذن وليه. نعم، في حال عدم الولي يشبه أن يكون الحكم كما في الختان، وحيث لا يجوز له فإذا فعله أطلق الجمهور أن عليه القصاص عند هلاكه. وفي "تعليق" القاضي الحسين – في الموضع المذكور – تخريج قول في عدم إيجاب القصاص، إذا قطع اليد المتآكلة من غير إذن؛ فسرت إلى النفس؛ لأنه نص هاهنا على إيجاب القود، وقال في الخراج: إذا قطع يده من الكوع، ثم جاء آخر، وقطعها من المرفق، فمات – فعليهما القودز قال القفال: احتمل أن يجعل حكم الألم باقياً، فتكون المسألة على قولين: أحدهما: على القاطع هاهنا القود. والثاني: لا، وعليه نصف الدية؛ لأنه مات عقيب ألمين: أحدهما: مضمون، والآخر: غير مضمون. قال: والصحيح الفرق؛ لأن ألم الأكلة من جهة الله – تعالى- وليس لآدمي فيه صنع، فجعل الفعل والقتل كله منسوباً إلى هذا المتعدي، ونظيره مريض مذفف؛ بحيث يعلم أنه يموت غداً، فقتله رجل؛ فعليه القود، أو كمال الدية، وأما هناك مات عقيب جنايتين غير موحيتين ولا مذففتين. قال:"وإن اشترك جماعة في قتل واحد قتلوا به"؛ أي: إذا كان فعل كل واحد منهم، لو انفرد لقتل، كما ذكره المحاملي، وغيره؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] والسلطان هو القصاص بلا خلاف، ولقوله صلى الله عليه وسلم:" [ثم] ثُمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ، قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَأَنَا – وَاللهِ – عَاقِلُةُ، فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَ هَذَا اليَومِ قَتِيلاً فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرتَيْنِ: إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا،

وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ" ولم يفصل الله – تعالى- ولا رسوله بين أن يكون القاتل واحداً، أو جماعة، [فكان له] استيفاؤه بهذا الإطلاق. وقد روي: "أن عمر – رضي الله عنه – قتل سبعة، أو خمسة من أهل صنعاء؛ [اشتركوا في قتل رجل [واحد] قتلوه غيلة – وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء] لقتلتهم به جميعاً". معنى "غيلة" أي: حيلة؛ لأن القتل على أنحاء غيلة، وهو أن يحتالوا [له] بالتمكين من الاستخفاء ونحوه حتى يقتلوه. وفتكاً وهو: أن يكون آمناً فيراقب حتى يقتل. وغدراً؛ وهو: أن يقتل بعد أمانه. وصبراً؛ وهو: قتل الأسير مجاهرة، ومعنى تمالأ: تعاون. وروي عن عليّ – كرم الله وجهه – أنه قال: "واللهِ مَا قَتَلْتُ عُثْمَانَ، وَلاَ مَالاتُ [عَلَى] قَتْلِهِ" أي: عاونتن وقتل عليٌّ ثلاثة برجل، وقتل المغيرة سبعة بواحد. وقال ابن عباس: إذا قتل جماعة واحداً قتلوا به، ولو كانوا مائة، ولم ينكر عليهم أحد؛ فكان إجماعاً. فإن قيل: [قد روي] أن معاذ بن جبل أنكر ذلك، وأن [ابن] الزبير قال: لا يقتلوا به، ولكن يقرع، فمن خرجت [القرعة عليه] قتل. قيل: إن صح ذلك فعنه جوابان من قول الشافعي في القديم:

أحدهما: أن الصحابة إذا اختلفوا في شيء – فالأخذ بقول الطائفة التي فيها الإمام أولى. [و] الثاني: أن الأخذ بقول الأكثر أولى؛ لأن القصاص شرع لأحد معنيين؛ إما لتشفي الغيظ، ودرك الثأر، أو للردع والزجر، وكلاهما نطق به القرآن العزيز: فالتشفي في قوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] والزجر في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وأيهما كان يوجب قتل الجماعة بالواحد؛ إذ التشفي لا يحصل بقتل واحد منهم وقد اشتركوا في إزهاق روحه وإيصال الألم إلى قلوب الأولياء؛ وكذلك [الزجر]؛ وهذا هو الجديد. وقد حكى القاضي الحسين، والإمام، عن القديم أن الجماعة لا تقتل بالواحد، بل لولي الدم أن يختار واحداً منهم، ويقتله قودّا؛ كمذهب مالك، رضي الله عنه. ثم على الجديد قد اختلف الأصحاب في كيفية استحقاق قتلهم: فمذهب العامة؛ كما حكاه القاضي الحسين والإمام: أنه استحق [على] كل منهم [روحه؛ إذ الروح لا تتجزأ، ولا تتبعض، ولو استحق بعض روحه لم يقتل بحال. وقال الحليمي: استحق على كل منهم؛] إذا كانوا عشرة – مثلاً – عشر روحه؛ بدليل: أنه لو آل الأمر إلى الدية – لم يجب عليه إلا العشر، وفي الحقيقة كل واحد منهم استوفى عشر روح المقتول؛ فاستحق عليه عشر روحه، غير أن الروح لا تتجزأ؛ فلا يمكن استيفاء المستحق إلا بغيره؛ فاستوفى لتعذره؛ كما نص الشافعي – رحمه الله-[على] أنه إذا جبر عظمه بعظم بخس، والتحم عليه الجلد واللحم، وخاف التلف – أنه ينزع. وقد أبطل الإمام استشهاده بالدية بقتل الرجل المرأة؛ فإن دمه مستحق بجميعها، وإن كان الأمر [إذا] آل إلى المال لم يجب إلا نصف الدية.

ثم اعلم أن ما ذكرناه من التعليل تخدشه مسألة؛ وهي إذا ضرب قوم شخصاً بالسياط، أو بعصا خفيفة، كل واحد ضربة؛ فمات [بذلك] – [فإن قضية] ما ذكرناه: أن يجب عليهم القصاص؛ كي لا يصير ذلك ذريعة و [قضية ما ذكرناه] من التقييد في صدر المسألة نفيه، وقد حكى المراوزة ذلك وجهين [وثالثاً؛ وهو] عن صدر ذلك عن تواطؤ منهم وجب، وإلا فلا، وهو ما [جزم به القاضي الحسين]، وصاحب "التهذيب"، وادعى الإمام أن إيجاب القصاص من [غير تواطؤ لا وجه له] أصلاً، بل يجب القطع بأنه لا قصاص؛ لأن في [إيجابه حينئذ] إيجابه [على شريك خاطئ]، وأن في حال التواطؤ يجب أن يكون في المسألة قولان: أحدهما؛ وهو القياس: عدم الوجوب. والثاني: الوجوب. وعلى كل قولٍ: المال واجب على الجميع. وقد فرع القاضي والبغوي على ما أجابا به؛ فقالا: لو ضرب واحد سوطين، أو ثلاثة، وجاء آخر وضرب خمسين، أو مائة، قبل أن يزول ألم الضرب الأول، ولاتواطؤ – فلا قصاص على واحد منهما؛ لأن الأول شبه عمد، والثاني شريك [له]. وإنه لو ضرب واحد أولا خمسين، ثم ضرب آخر سوطين، أو ثلاثة، قبل أن يزول ألم الضرب الأول -: فإن كان الثاني عالماً بضرب الأول – فعليهما القصاص؛ لظهور قصد الهلاك منهما، وإن كان جاهلاً فلا قصاص عليهما؛ لأنه لم يظهر قصد الهلاك من الثاني، ويجب [بضربي الأول نصف دية العمد، [وبضرب الثاني نصف دية شبه العمد].

وفرق بينه وبين ما إذا ضرب مريضاً ضرباً يقتل المريض، دون الصحيح، وهو جاهل بمرضه؛ حيث نوجب القصاص – على رأي – بأن هناك لم [نجد من نحيل] القتل عليه سوى الضارب. قال: وإن جرحه واحد جراحة، وجرحه الآخر مائة جراحة؛ أي: ولم تبرأ جراحة منها؛ فمات – فهما قاتلان، أي: فيجب عليهما القود، أو الدية بينهما على السواء؛ لان الجرح له سراية في البدن، وغور لا يطلع عليه؛ فقد يموت من جرح، ولا يموت من جراحات، والهلاك حصل عقيب فعلهما، ولا يمكن إضافته إلى واحد معين، ولا إسقاطه؛ فأضيف إليهما. ويفارق هذا ما إذا جلد في حد القذف أحداً وثمانين [سوطاً] فمات؛ فإنا على قول نضيف الهلاك على الجميع، ونوزعه على عدد الضربات. والفرق أن محل الجلد مشاهد [يعلم] به التساوي، ولا كذلك الجراحات؛ كذا قاله الماوردي، وقضيته أن يقال: [فيما إذا تمالأ عليه قوم بالضرب]، وأفضى الأمر إلى الدية: أن توزع على عدد الضربات على قول، [وقد حكاه الرافعي] مع قول آخر: أنه كالجراحة. أما إذا برئت منهما جراحة، فإن كانت جراحة المنفرد سقط عنه الضمان في النفس، ووجب أرشها، وإن كانت [جراحة الآخر فا] لقصاص باق بحاله. فرع: إذا جرحه ثلاثة، وادعى [أحدهم] أن جراحته [اندملت قبل موته] وأنكر الآخران ذلك، وقالا: مات من الجراح الثلاث – فإن صدقه الولي، وكان قصده القصاص من الباقين – قبل منه، وإن أراد أخذ الدية منهما لم يقبل تصديقه؛ لأنه في هذه الحالة يأخذ من كل منهما نصف الدية، وفي حال عدم الاندمال يأخذ الثلث، فكان عليهما في تصديقه ضرر؛ فلم يقبل؛ قاله المحاملي.

قال: وإن قطع أحدهما كفه، والآخر ذراعه، [أي:] الذي كان الكف فيه؛ فمات – فهما قاتلان؛ لأن قطع الأول علق منه الألم بالأعضاء الشريفة؛ وهي الكبد والقلب والدماغ، واتصل بها من قطع الثاني مثلها؛ فتعاون الكل على الإزهاق؛ فتساويا في وجوب القود؛ كما لو قطع أحدهما يده اليمنى، والآخر اليسرى؛ فسرى إلى نفسه، وهذه العلة – كما قال القاضي أبو الطيب – صرح بها الشافعي. قال: وإن قطع أحدهما يده، [وحز] الآخر رقبته، أو قطع حلقومه، أو مريئه، أو أخرج [حشوته]، أي: أبانها [منه]؛ كما قاله المحاملي والماوردي والقاضيان الطبري والحسين – فالأول جارح؛ أي: يجب عليه القصاص في اليد وديتها، والثاني قاتل؛ لأنه قطع بفعله سراية الأول، وأزهق فعله الروح؛ فوجب عليه القصاص؛ كما لو اندمل جرح الأول، ثم قتله الثاني. ولا فرق في ذلك بين أن يتوقع [البرء من الجراحة الأولى، أو لا يتوقع]، ويتيقن الهلاك منها بعد يومين أو ثلاث. نعم لو انتهى في الأولى إلى حركة المذبوحين؛ وهي [التي لا] يبقى معها الإبصار والإدراك، والنطق والحركة الاختياريان – لم يكن لحز الرقبة معنى، وهو كما لو فعل ذلك بعد الموت، فيعزَّر. والحشوة – بكسر الحاء وضمها: لغتان مشهورتان –هي الأمعاء، وحكم شق البطن أولاً من غير إخراج الحشوة، أو خرقها من غير [إبانة] بحيث حكم أهل البصائر بأنه يموت لا محالة؛ إذا صدر من واحد، ثم صدر من غيره إخراج الحشوة [أو إبانتها] أو حز الرقبة – حكم قطع اليد أولاً، وحز الرقبة، أو ما في معناه ثانياً؛ لأن بشق الجوف لا تزول الحياة المستقرة.

وقد ألحق الأصحاب – كما قال الرافعي – بهذه الحالة المريض، إذا أشرف على الهلاك، وقالوا: يجب القصاص على قاتله، وإن انتهى إلى حالة النزع، وصار عيشه عيش المذبوحين. ولفظ الإمام: أن المريض إذا انتهى إلى سكرات الموت بدت مخايله، وتعثرت الأنفاس في الشراسيف؛ فلا نحكم له بالموت، وإن كان يظن أنه في مثل حالة المقدودز وفرقوا بأن انتهاء المرض إلى تلك الحالة غير مقطوع بهن وقد يظن به ذلك، ثم يشفى، بخلاف المقدود ومن في معناه. وفي "تعليق" القاضي الحسين ما ينازع في ذلك؛ فإنه قال: المريض إذا أشرف على الهلاك. فإن وقع في حراك المذبوحين لا يحل الذبح، ومن قتله لا يكون قاتلاً، ولا عبرة بسيلان الدم وعدم سيلانه. قال: وإن اشترك الأب والأجنبي في قتل الابن وجب القود على الأجنبي؛ لان فعل الأب عفو، وسقوط القود عن أحد الشريكين لمعنى لا بغير صفة فعله، لا يسقط القصاص عن الآخر، دليله ما لو عفي عن أحد الشيريكين [في القتل]. وفي معنى ما ذكرناه: إذا شارك حر عبداً في قتل عبد، أو مسلم ذميًّا في قتل ذميّ – فلا قصاص على المسلم والحر، ويجب على الذميّ والعبد، وهذا بخلاف ما لو جرح ذميٌّ ذميًّا، ثم أسلم المجروح، فجرحه مسلم، أو جرح عبدٌ عبداً، ثم عتق المجروح، فجرحه حر، ومات منهما – فإنه يجب القصاص على المسلم، والحر؛ لان القصاص يجب على كل منهما بتقدير الانفراد؛ فكذلك عند الاجتماع. فرع: إذا قطع حر يد عبد، ثم عتق، فقطع آخر يده الأخرى، ثم مات – فلا قصاص على الأول، وعلى الثاني القصاص في الطرف؛ وكذا في النفس، على الصحيح.

قال أبو الطيب بن سلمة: لا يجب فيها [قصاص]؛ لأن الموت حصل من فعلين: أحدهما: في حال الرق، وذلك غير موجب [للقصاص، والآخر في حال الحرية، وهو موجب للقصاص، وإذا اجتمع ما يوجب] القصاص وما [يسقطه، غلب ما يسقطه]، كما في العامد والمخطئ، حكاه القاضي أبو الطيب والبندنيجي. قال: وإن اشترك المخطئ والعامد في القتل، أو ضربه أحدهما بعصا خفيفة، وجرحه الآخر؛ فمات، أي: منهما – لم يجب القصاص على واحد منهما: أما الأول، فلأنه فعله في الأولى خطأ، وفي الثانية شبه عمد، وقد تقدم الدليل على انتفاء القصاص عنهما. وأما الثاني، فلان الزهوق حصل بفعلين: أحدهما: يوجبه، والآخر ينفيه، [فانتفى]؛ كما لو جرحه [واحد] جرحين بهذه الصفة. أو نقول: قد اجتمع ما يوجب القصاص وما يسقطه؛ فوجب أن يغلب حكم الإسقاط؛ كما إذا قتل من نصفه حر ونصفه رقيق رقيقاً. وعن المزني: أنه يجب القصاص على شريك المخطئ، وشريك الجارح عمد خطأ، وقال الإمام: وددت أن يكون هذا قولاً معدوداً من مذهب الشافعي، وقد يوجه بأن العامد لو انفرد بقتله قتل، فإذا شارك غيره وجب أن يقتل؛ كالأجنبي إذا شارك الأب. وقد حكى الروياني في "جمع الجوامع" أنه قد قيل: إنه قول للشافعي، ذكره المزني في العقارات. فرع: شريك الصبي المميز والمجنون [الذي له تمييز]: هل يجب عليه القصاص؟ ينبني على الخلاف في أن [عمدهما عمد] أو خطأ؟ إن قلنا بالأول [وجب]، وإلا فلا.

أما من لا تمييز له [بحال] فعمده خطأ، وشريكه شريك خاطئ [لا محالة]؛ كذا قاله القفال، وعليه جرى في "التهذيب". قال: وإن جرح نفسه وجرحه آخر، أو جرحه سبع وجرحه آخر؛ فمات أي: من الجرحين، وكانا مما يقتلان غالباً – ففيه قولان: أحدهما: يجب القود على الجارح؛ لأنه شريك عامد، وغنما سقط ضمانه؛ لمعنى [فيه، لا لمعنى] في فعله؛ فأشبه الأب، وهذا هو الأصح في الصورة الأولى؛ كما ذكره الروياني، وغيره، وأظهر في الصورة الثانية؛ كما قاله الماوردي. والثاني: لا يجب؛ لأنه إذا لم يجب على شريك الخاطئ، مع أن جنايته مضمونة [عليه] بالدية، فلئلاَّ يجب وجنايته غير مضمونة كان أولى، وهذا ما صححه الماوردي في الصورة الأولى عند الكلام فيما إذا اجتمع على القتل عامد ومخطئ، وبه قطع بعضهم في الثانية؛ لأنه لا تكليف على السبع؛ فكان شريكه كشريك الخاطئ؛ لان فعل السبع لا يصدر [عن] فكر وروية، ولا يوصف بالعمدية، وهذا ما صححه الغزالي وإمامه، والقاضي الحسين، والنووي. ثم ظاهر كلام الشيخ في مسالة السبع يقتضي انه لا فرق في جريان الخلاف فيها يبن أن يكون الجرح الصادر من السبع صدر عن قصد، أو لا عن قصد؛ كما إذا وقع عليه فجرحه، وهو ما صرح به في "التهذيب"، وفي كلام الإمام ما يقتضي أن محل الخلاف إذا قصد السبع الجرح، فأما إذا وقع عليه من غير قصد فليس هو موضع الخلاف. تنبيه: من الصورة الأولى يظهر لك أن السيد لو جرح عبده، وجرحه آخر – يجري القولان فيه كما صرح به غيره؛ لاستواء السيد وجارح نفسه في عدم وجوب الضمان للآدمي، ووجوب الكفارة عليهما على الصحيح، وبه جزم العراقيون. وعن بعضهم القطع بالوجوب إذا اوجبنا الكفارة، وهي جارية في صورة الكتاب أيضاً؛ كما حكاها الإمام؛ تفريعاً على إيجاب الكفارة.

ومن الصورة الثانية يظهر لك فيما لو جرح حربي مسلماًن وجرحه مسلم آخر، ومات منهما، أو قطعت يد إنسان في السرقة، أو قصاصاً، ثم جرحه آخر متعدياً، أو جرح مسلم مرتدًّا، فأسلم، فجرحه آخر، أو ذميّ حربيًّا، ثم عقدت الذمة للحربي، فجرحه ذميّ آخر، أو إنسان جرح الصائل عليه، ثم جرحه آخر – [جريان القولين]، كما صرح بهما غيره؛ لأن فعل السبع لا يوجب شيئاً؛ كما أن الشريك العامد في الصور التي ذكرناها لا يوجب فعله شيئاً. وحكى الفوراني عن بعضهم – في مسألة قطع اليد في سرقة، أو قصاصاً – القطع بالوجوب؛ لأن فعلهما في مقابلة ما سبق من جناية المقطوع؛ فهو كالمضمون به. قال: وإن جرحه واحد، وداوى هو جرحه بسم غير موحٍ، أي: غير قاتل في الحال، ولكنه يقتل غالباً أي: وعلم المجروح حاله، أو خاط الجرح في لحم حيّ؛ أي: قصداً، وذلك مما يقتل غالباً؛ فمات – فقد قيل: لا يجب القود على الجارح؛ لأن المجروح قصد المداواة، لا الجناية، وذلك عمد خطأن وشريك قاتل عمد الخطأ لا قود عليه. وقيل: على قولين كالمسألة قبلها، وهذه الطريقة أظهر عند ابن الصباغ. ثم حقيقة الخلاف يرجع إلى أن الذي صدر من المجروح عمد أو عمد خطأ؟ وقد حكى الأصحاب فيه – في الصورة الأولى – وجهين، وفي الصورة الثانية أنه عمد، وقال الماوردي: عندي أنه عمد خطأ، فمن جعله عمد خطأ أسقط القصاص جزماً، ومن جعله عمداً أجرى القولين. أما إذا لم يعلم المجروح بأن السم يقتل غالباً –فقصده التداوي – فالمجزوم به الطريقة الأولى؛ كما لو كان السم لا يقتل غالباً بل نادراً [و] كما لو قصد الخياطة في لحم ميت فصادف لحماً حيًّا، أو في الجلد فصادف اللحم. ولو كان السم [يقتل لا محالة في ثاني الحال، فالمجزوم به الطريقة الثانية؛ صرح بذلك

الماوردي، ولو كان السم] موحياً- وهو الذي يقتل في الحال – لم يجب على الجارح قصاص، ولا دية، سواء كان المجروح عالماً بحاله أو جاهلاً بها؛ لأنه قطع سراية جرحه بفعله؛ فأشبه ما لو جرحه، فذبح نفسه. ولو خاط الجرح في لحم ميت وجب القود قولاً واحداً؛ لأن السراية لا تحصل بالخياطة في الميت، وسواء – فيما ذكرناه – شرب السم للتداوي، أو وضعه في الجرح للتداوي، كما صرح به المحاملي وغيره. والحكم فيما لو داواه غيره بالسم المذكور بإذنه، أو [خاط له] الجرح في لحم حيّ بإذنه؛ كالحكم فيما إذا فعل ذلك بنفسه، ولا شيء على المأذون له. تنبيه: ظاهر إطلاق الشيخ القول بأنه لا قود على الجارح يشمل النفس والجرح، وأنه لا فرق بين أن يكون الجرح مما لا يجري فيه القصاص، أو يجري فيه، وكلام الرافعي والمحاملي وغيرهما مصرح بأن الجرح إن كان مما يجري فيه القصاص وجب؛ غذ لا مشاركة فيه، وكلام الماوردي مصرح بما اقتضاه كلام الشيخ في بعض الصور على وجه لابن سريج، وفي بعض بلا خلاف؛ فإنه قال فيما إذا كان السم يقتل لا محالة في ثاني الحال، وقلنا: لا يجب القصاص في النفس: إنا ننظر في الجرح: فإن لم يكن فيه قصاص لم يمكن الولي منه، وإن كان مما يوجب القصاص إذا انفرد: كالموضحة، وقطع اليد والرجل – ففي وجوب القصاص فيه، مع سقوطه في النفس [وجهان: أحدهما وهو قول ابن سريج-: لا يجب، ويسقط بسقوطه في النفس]؛ لأنه إذا انفرد عنها روعي فيه الاندمال، ولم يندمل. والثاني: يجب؛ لأنه قد انتهت غايته بالموت فصار كالمندمل، فعلى هذا إن كانت ديته مثل دية نصف النفس كأحد اليدين أو الرجلين، وفعله الولي – فقد استوفى جميع حقه، وإن كانت ديته أقل من نصف دية النفس كالإصبع، فإذا اقتص منه فقد استوفى [من] حقه بقدر ديته وهي العشر، وبقي له تمام

النصف، إن كانت ديته أكثر من نصف الدية فوجهان: [أحدهما]-: وهو قياس قول الإصطخري-: يقتص منه. والوجه الثاني –وهو عندي أشبه-: أنه لا يجوز أن يقتص بنصف الدية من الأعضاء إلا ما قابلها؛ لأنها توجد بدلاً منها، فعلى هذا: إن أمكن تبعيضه استوفى [منه بقدره]، كاليدين إذا قطعهما؛ فله أن يقتص في إحدى اليدين والتعيين إليه، وإن لم يمكن تبعيضه: كجدع الأنف، وقطع الذكر – فيسقط القود فيه؛ لما تضمنه من الزيادة على قدر المستحق من الدية. قلت: وعندي أن مادة الخلاف في الأصل أن قطع الطرف إذا صار قتلاً؛ فاستيفاؤه هل هو مقصود في نفسه، [أم هو طريق في استيفاء النفس؟ وفيه الخلاف السابق، فإن قلنا: هو مقصود في نفسه]، استوفى هاهنا، وإلا فلا؛ لأن النفس لا يجوز استيفاؤها في هذه الحالة، لكن قضية هذا أن يطرد فيما إذا كان السم مما يقتل غالباً. وقد قال الماوردي: إنا إذا لم نوجب القصاص في النفس، وأراد الولي القصاص في الجرح – لم يكن له ذلك وجهاً واحداً؛ لأن شريك الخاطئ في الجرح كشريكه في النفس. ثم قال فيما إذا كان السم لا يقتل غالباً: إنه لا قصاص على الجارح في النفس والجرح، والله أعلم. قال: وإن خاط الجرح من له عليه ولاية، أي: غير الأب والجد، كالوصي والإمام ونائبه- ففيه قولان: أحدهما: يجب القود على الولي، فيجب على الجارح؛ لأن الولي فعل ما لا يحل له فعله عامداً؛ فكان كالأجنبي، وهذا ما صححه الجيلي. والثاني: لا يجب على الولي؛ لأنه لم يقصد الجناية، بل قصد المداواة؛ فكان [شبه عمد] في إسقاط القصاص عنه. قال: ولا على الجارح؛ لأنه شارك من فعله عمد خطأ، وهذا ما صححه

النووي، فعلى هذا: يجب على كل واحد منهما نصف الدية في ماله، وقيل: يجب النصف المختص بالإمام في بيت المال. وفي "ابن يونس" أنه قيل: ما يتعلق بجناية الولي يجب؛ حيث تجب دية شبه العمد، وإنه لم يذكر في "الحاوي" غيره. انتهى. والذي رأيته في "الحاوي" حكاية القولين كما ذكرتهما في الإمام خاصة. نعم الذي جزم به في الحاوي وجوب القود على الجارح؛ لأنه شارك في عمد مضمون، وحكاية القولين في وجوب القصاص على الولي، أما إذا كان الولي أباً أو جدًّا فلا قود عليه، وهل يضمن؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ تغليباً لحسن النظر، قال الماوردي: وعلى هذا في وجوب القود على الجارح قولان. والثاني: نعم، فعلى هذا يجب على الجارح قولاً واحداً؛ لأنه شارك في عمد مضمون. قال: ومن لا يجب عليه القصاص في النفس، أي: كالصبي والمعتوه، والمبرسم – لا يجب عليه [القصاص] في الطرف، ومن وجب عليه [القصاص] في النفس؛ أي: كالمكلف والملتزم للأحكام، إذا قتل مثله حرًّا كان، أو عبداً – وجب عليه القصاص في الطرف؛ أي: مع السلامة؛ لأن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى صونه بالقصاص؛ فكان كالنفس في وجوب القصاص وعدمه، واحترزنا بـ"الملتزم للأحكام" عن الحربي. قال: ومن لا يقاد بغيره في النفس، [أي]: كالمسلم بقتل الكافر، [و] الحر بقتل العبد، والوالد بقتل الولد، وما في معناه – لا يقاد به في الطرف؛ لأن حرمة [النفس] آكد من حرمة الطرف؛ بدليل أن الأطراف بعض النفس، ومتى صارت الأطراف نفساً دخل بدلها في دية النفس، ولا تجب بإتلافها الكفارة،

ولا تدخلها القسامة، وإذا لم يجب القود في الشريف ففيما دونه أولى. قال: ومن أقيد بغيره في النفس، [أي]: كالكفر بالمسلم، والعبد بالحر – أقيد به في الطرف؛ لقوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [المائدة: 45]، ولأن حرمة النفس أولى من حرمة الطرف، وقد جرى القصاص بينهما فيها؛ فبأن [يجري] في الطرف من طريق الأولى؛ ولأن الخصم – وهو أبو حنيفة – قد وافقنا على قتل العبد بالعبد وبالحر، والرجل بالمرأة، والكافر بالمسلم، وخالفنا في [قطع] طرف العبد بالحر وبالعبد، والكافر بالمسلم؛ كما حكاه عنه المحاملي، والمرأة بالرجل، نظراً إلى أن الأطراف يعتبر فيها التساوي [بالسلامة وغيرها، فاعتبر التساوي] في ديتها، فنقول له: كل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس وجب أن يجري بينهما في الأطراف السليمة؛ كالحرين والحرتين. قال: وما لا يجب القصاص فيه في النفس من الخطأ وعمد الخطأ، لا يجب القصاص فيه في الطرف؛ لما بيناه، فكلام الشيخ الأول تعرض به لبيان الأهلية، والثاني تعرض به لبيان المانع، والثالث تعرض به لطرق التفويت. قال: وإن اشترك جماعة في [قطع طرف] طفعة واحدة، أي: مثل أن وضعوا على يده حديدة، وتحاملوا عليها، أو أخذوا خشبة، أو حجراً كبيراً – كما ذكر القاضي الحسين – ووضعوها على يده، وحملوا عليها إلى أن حصلت الإبانة، أو جروا المنشار في ذهابه ورجوعه. قال: قطعوا [به]؛ لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقوله صلى الله عليه وسلم:"الْعَمْدُ قَوَدٌ" ولم يفصلا، وما روي: "أَنَّ رَجُلَينِ شَهِدَا عِنْدَ

عَلِيٍّ – كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ- عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ، فَقَطَعَهُ ثُمَّ إِنَّهُمَا رَجعَا، وَجَاءَا بِآخَرَ، وَقَالا: يَا أَمِيرَ المؤمِنينَ، هَذَا هُوَ السَّارِقُ، وَإِنَّمَا أَخْطَانَا، فَقَالَ عَلِي – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا" وهذا يدل على أن الاثنين يقطعان بالواحد. ولأنهم اشتركوا في تفويت محل معصوم بالقصاص في حق المنفرد عمداً؛ فلزم كلاًّ منهم القصاص؛ كما لو اشتركوا في قتل النفس، ويخالف هذا ما لو سرق رجلان فصاعداً نصاباً واحداً لا يقطع واحد منهم؛ لأن القطع في السرقة حد لله – تعالى – [والحدود] تحال على الشبهات؛ بخلاف القصاص، الذي هو حق آدمي؛ ولذلك لو سرق نصف نصاب، ثم عاد، وكمل – لا يقطع، وهنا لو أبان العضو بقطعين فأكثر قطع. قال: وإن تفرقت جناياتهم، أي: مثل: أن أبان كل منهم بعض الطرف، أو أبان واحد منهم بعضه، واشترك الباقون في إبانة باقيه، أو تعاونوا [على قطعه] بمنشار، وجره بعضهم [في الذهاب]، وآخرون في العود. [قال]: لم يجب على واحد منهم القود، أي: في جملة العضو، [ولا في] بعضه. أما الأول؛ فلان جناية كل منهم في بعض العضو؛ فلا يقتص منه في جميعه، وليس كما إذا جرحه بعضهم جراحة، ثم جرحه آخر، فإن زهوق الروح يحصل بالسرايات؛ وهي مختلطة بالقطع، [و] لا تمييز فيها، وإبانة اليد تحصل بالقطع المحسوس، والقطع يتميز عن القطع. وأما الثاني – فلتقاوت الأعصاب في المحل والعروق، وعدم انتهائه إلى عظم.

وحكى القاضي الحسين والفوراني عن صاحب التقريب أنه إن أمكن أن يستوفي من يد كل منهم بقدر ما قطع يستوفي، والرافعي قال: إنه حكى ذلك قولاً. وقال الإمام: إنه أخذه من قول الشافعي في أن القصاص هل يجري في المتلاحمة، ووجه الشبه: أن الموضحة يجري القصاص فيها كالإبانة، وقطع [بعض] اليد بعض الإبانة؛ كما أن المتلاحمة بعض الموضحة. ووجه الفرق: أن جلدة الرأس وما عليها من لحم أجزاؤها متساوية؛ فإنها جلد ولحم، وليس فيها أعصاب، وعروقها جداول الدم، والعروق الرقاق لا يعتبر بها أصلاً، ومعظم اليد يشتمل على أعصاب ملتفة وعروق ساكنة وضارية، ويختلف وصفها في الأيدي؛ فلا يتأتى إجراء التماثل فيها. وعلى الصحيح: يجب على كل منهم حكومة على قدر جنايته؛ بحيث يكون مجموعها بقدر دية اليد. تنبيه: قول الشيخ:"في قطع طرف" يظهر أن يكون احترز به عما إذا اشتركوا في موضحة؛ بأن تحاملوا على آلة وجروها معاً، فإن في ذلك احتمالين للإمام: أحدهما: أنه يوزع عليهم، ويوضح من كل منهم قدر حصته؛ لأن الموضحة قابلة للتجزئة، والقصاص جار في أجزائها؛ فصار كما لو أتلفوا مالاً يوزع عليهم الغرم، وعلى هذا فتعيين الموضع إلى اختيار المقتص منه، وهذا ما أجاب به [في] الوجيز. والثاني: أنه يوضح من كل منهم مثل تلك الموضحة؛ لأنه لا [جزء] إلا وكل واحد منهم جان فيه؛ فأشبه ما إذا اشتركوا في قطع يد، وبهذا أجاب في التهذيب، وقال الإمام: إنه أقرب. قال: ويجب القصاص في الجروح والأعضاء؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ

النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، وقد تقدم في أول الكتاب وجه التمسك بها؛ ولأن الحاجة كما دعت إلى صيانة النفوس بالقصاص دعت إلى [صيانة] ما ذكرناه به. قال: فأما الجروح، أي: وهي التي تشق ولا تبين – فيجب في كل ما ينتهي إلى عظم؛ كالموضحة، وجرح العضد والساق والفخذ، أما في الموضحة؛ فللإجماع، حكاه المتولي، وأما فيما عداها فللآية، ولأنه يمكن اعتبار المماثلة فيها؛ لكون نهايتها معلومة؛ فجرى القصاص فيها كالموضحة. قال: [وقيل]: لا يجب فيما عدا الموضحة؛ لأنه لما خالفها في تقدر الأرش خالفها في غيره، فهذا ما صار إليه كثير من أصحابنا؛ كما قال الماوردي، وذكر هو والقاضي أبو الطيب أنه فاسد مذهباً وحجاجاً: أما المذهب؛ فلأنه خلاف نص الشافعي؛ فإنه قال في كتاب "الأم": إن الموضحة إذا كانت على الساق لم تصعد إلى الفخذ، ولم تنزل إلى القدم، وإن كانت على الذراع لم تصعد إلى العضد، ولم تنزل إلى الكف. وأما الحجاج؛ قال الماوردي: فهو أنه لما كان في البدن جرح مقدر، وهو الجائفة – وجب أن يكون فيه ما يوجب القصاص وهو الموضحة [كالرأس. وقال أبو الطيب: ولأن القصاص إنما وجب في الموضحة]؛ لأن الجناية وصلت إلى عظم يمنع السكين، وهذا المعنى موجود، وإنما وجب الأرش المقدر في الموضحة، ولم يوجد فيما نحن فيه؛ لأن الشين في الوجه والرأس أعظم منه في البدن؛ فإن تيك لا تغطيها الثياب، وهذه تغطيها الثياب. وحكم جرح الصدر أو العين أو الأصابع، إذا انتهى إلى عظم – حكم [جرح] العضد. تنبيهان: أحدهما: العضد مؤنثة، وتذكر.

قال الزجاجي وغيره: لا يجوز تذكيرها؛ وهي المفصل من المرفق إلى الكتف، وفيها لغات؛ أشهرها: عَضُد؛ بفتح العين، وضم الضاد، وعضد: بإسكان الضاد، وعُضد: بضم العين، وعَضِد: بفتح العين وكسر الضاد، وعلى هذا لا يجوز كسر العين وإسكان الضاد. الثاني: كلام الشيخ يفهم أن الجرح إذا لم ينته إلى عظم لا يجب فيه القصاص، وإن كان في الرأس، وهو ظاهر ما رواه الربيع عن نص الشافعي في "الأم": أنه لا قصاص فيما دون الموضحة، وعلل ذلك بأنه يؤدي إلى أن يستوفي موضحة بمتلاحمة؛ وذلك أنه ربما كان رأس المشجوج ألحم، فإذا قدرنا المتلاحمة، وأخذنا قدرها من رأس الشاج بلغ موضحة. وظاهر لفظ الشافعي في المختصر يدل على وجوبه؛ فإنه قال: ولو جرحه، ولم يوضحه – اقتص منه بقدر ما شق من الموضحة. وقال في موضع آخر: اقتص منه بقدر ما شق إن أمكن. واختلف الأصحاب – لأجل ذلك – في الباضعة والمتلاحمة على طريقين: أقربهما: إثبات قولين، حكاهما الماوردي، وعلى ذلك جرى صاحب "العدة" والفوراني والمتولي. والأظهر عند الأكثرين: انه لا قصاص، وعند القفال والشيخ أبي محمد: مقابله، وبه جزم القاضي الحسين. والقائلون بهذه الطريقة اختلفوا في محلها: فقيل: محلها إذا أمكن، وصورته أن يكون على رأس كل من الشاج

والمشجوج موضحة قريبة من موضع الشجة، أو يكون الشاج قد جرح المشجوج موضحة، ومتلاحمة [مثلاً]؛ فيقتص منه في الموضحة، ثم ينظر – على قول الوجوب- في موضحة المشجوج، ونقيس الشجة التي نريد القصاص فيها أهي نصفها، أو ثلثها، وإذا عرفنا ذلك – نظرنا في موضحة الشاج، واستوفينا مثل نصفها، أو ثلثها. أما إذا لم يكن على رأسهما موضحتان – فليس إلا أخذ الأرش. وقد زاد الإمام في التصوير أن تكون الموضحتان طريقين؛ فإنهما إذا جَفَّتَا وأخذتا في الاندمال لم يتأت الضبط. والقاضي الحسين فرض إمكان التصوير بما إذا كانتا مندملتين. وقيل: محلها على التعميم، وعند عدم الموضحتين يقتص – على قول الوجوب – في القدر المستيقن ويكف عن محل الإشكال، [وهذا ما جزم به] الإمام، والقاضي الحسين. والطريق الثاني: القطع بالمنع، وعلى ذلك جرى العراقيون، من القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ، والمحاملي، والبندنيجي [وغيرهم إلا] الشيخ أبا حامد؛ فإنه قال: يمكن – عندي – القصاص في المتلاحمة. وذكر صورة الإمكان كما حكيناها من قبل. ثم القائلون بهذا الطريق تحزبوا: فمنهم من نسب المزني إلى الوهم، قال الماوردي: وهذا لا وجه له؛ لأن المزني اضبط من نقل عن الشافعي – رضي الله [عنهما] – وأثبتهم رواية. وقال الماسرجسي: كان الشافعي يعلق القول في المسألة، ويقول بوجوب القصاص إن أمكن، [ثم] بان أنه لا إمكان؛ فقطع القول بالمنع. ومنهم من حمل النصين على حالتي الإمكان وعدمه، وهو ما صار إليه أبو إسحاق وابن أبي هريرة وأكثر أصحابنا، كما حكاه الماوردي. وحكم ما عدا الباضعة والمتلاحمة مما دون الموضحة – حكمها؛ كما

صرح به الماوردي والفوراني والمتولي، وقال: إن الحكم كذلك فيما إذا قلنا: يجب القصاص في جرح العضد ونحوه، و [إن] لم ينته إلى العظم. والإمام والروياني قالا بجريان ما ذكرناه في الباضعة والمتلاحمة في السمحاق. وحكى الإمام في الحارصة القطع بأن لا قصاص [فيها]؛ لأنه [لا] وقع لها، ولا يفوت بها شيء، وأن الشيخ أبا محمد تردد في الدامية، وأن ميل القفال إلى تنزيلها منزلة الحارصة. وفي وجوب القصاص بقطع بعض المارن والأذن من غير إبانة اختلاف مرتب على الخلاف في الباضعة والمتلاحمة، والأصح في "النهاية": الوجوب؛ لإحاطة الهواء بهما، وإمكان الاطلاع عليهما من الجانبين، ويقدر المقطوع بالتجزئة؛ كالثلث والربع، ويستوفي من الجاني مثله، ولا ينظر إلى مساحة المقطوع. قال: وإذا أوضح رجلاً في بعض رأسه، وقدر الموضحة يستوعب [جميع] راس الشاج – أوضح جميع رأسه؛ لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] والقصاص: المماثلة، ولا يمكن في الموضحة إلا بالمساحة، وقد استوعبت المساحة رأسه؛ فوجب. وقال أبو علي الطبري: لا يجاوز مل محله [بل] يستوفيه، ويأخذ الأرش لما بقي، وبهذا جزم الماوردي والقاضي الحسين؛ لأنا نراعي في ذلك التسمية؛ وهي مختلفة. وقد حكى ابن الصباغ، عن ابن أبي هريرة رواية الوجهين، وأنه صحح الثاني، لكن الذي حكاه المحاملي عن الشافعي الأول؛ لأن لكلٍّ رأساً؛ فجاز أخذ القصاص فيه، وهو الذي جزم به الفوراني أيضاً، وصححه القاضي أبو الطيب، وقال: إن نص الشافعي في "الأم" يدل عليه. ولا خلاف أنه إذا كان قدر الموضحة لا يستوعب جميع رأس الشاج، وأمكن

استيفاؤها من غير مجاوزة ذلك المحل - لا يجوز استيفاؤها من غيره، لكن هل يشترط أن يبدأ من الموضع الذي [انتهى إليه الجاني، ويختم بالذي بدأ به الجاني]؟ فيه وجهان؛ أصحهما- عند الماوردي، وبه قال جمهور الأصحاب؛ كما قال؛ وبه جزم أبو الطيب-: الثاني، وإذا قلنا بالأول، وأشكل الحال رجع إلى الجاني. ثم كيفية الاستيفاء - في هذه الحالة - أن يحلق موضع الموضحة من رأس الجاني؛ إن كان وقت الجناية على [رأس المجني عليه] شعر، ويعلم على قدر المستحق طولاً وعرضاً بسواد، أو غيره، ويشد شدًّا وثيقاً بحيث لا يتحرك، ويقتص منها، قال الرافعي: ولو لم يكن على رأس المشجوج شعر وقت الجناية، وكان الشعر على رأس الجاني - فلا يمكن القصاص؛ لما فيه من إتلاف الشعر الذي لم يتلفه، وعزا ذلك إلى نصه في الأم، وأنه لا يؤثر التفاوت في خفة الشعر وكثافته. ولو كان رأس المشجوج أقل من رأس الشاج، وقد أوضح جميع رأسه - قال في "المهذب": للمجني عليه أن يقتص بقدر رأسه، من أي جهة شاء. وإن بعض الأصحاب قال: لا يجوز أن يستوفي بعضها من جهة، وبعضها من جهة أخرى. ثم قال الشيخ: ويحتمل - عندي - أنه يجوز؛ لأنه لا يجاوز محل الجناية، ولا قدرها، نعم، لو قال أهل الخبرة: إن في ذلك زيادة ضرر أو شين، منع لذلك. وما حكاه عن بعض الأصحاب به جزم الماوردي، وهو قياس تخريج [ابن سريج] في أن بعض الموضحة إذا تعذر استيفاؤه، يجب فيه أرش الموضحة؛ كما سنذكره، وما أبداه الشيخ قد حكاه البغوي وجهاً، [وهو قياس المذهب في أنه لا يجب في بعض الموضحة إلا قدره من أرشها]. وقد حكى الماوردي وجهاً [في هذه الصورة: أنه يشترط البداية من الموضع الذي بدأ منه الجاني.

وحكى الإمام وجهاً] ثالثاً: أن الخيرة في هذه الصورة إلى الجاني حتى يمكن [من] القصاص من أي جانب شاء، ثم قال: وهو متجه لا بأس به. قال: وإن زاد حقه على جميع رأس الشاج، أي: مثل أن كانت مساحة رأس الشاج خمسة عشر إصبعاً، ومساحة رأس المشجوج عشرون – أوضح جميع رأسه؛ لما ذكرناه. قال: وأخذ الأرش فيما بقي بقدره؛ لأنه لا يمكن النزول إلى الوجه ولا إلى القفا؛ لأنه لا قصاص في غير العضو الذي جنى عليه، وإذا تعذر القصاص فيما زاد تعين أرشه؛ وهو في مثالنا ربع أرش الموضحة، وإنما كان ذلك؛ لأن الجميع موضحة واحدة، وهذا بعضها. وذهب أبو علي بن أبي هريرة إلى انه يجب فيه تمام أرش الموضحة؛ لأنه لو انفرد ذلك القدر لوجب له أرش موضحة كاملة؛ فكذلك هاهنا. والحكم فيما إذا جرح عضده أو ساقه أو فخذه، وقلنا بالمنصوص – كالحكم الذي ذكرناه في الموضحة في الرأس. تنبيه: الشاج: بتشديد الجيم، ويقال: شجه يشجه، بضم الشين – [في المضارع]- وكسرها شجًّا؛ فهو مشجوج وشجيج، والجارح شاج؛ وهي الشجة، وجمعها: شجاج. فرع: لو زاد المقتص في الموضحة على القدر الواجب له، فإن كان سبب الزيادة تحرك المقتص منه؛ فذلك هدر، وإن لم يكن منه سبب: فإن فعله عمداً – فعليه القصاص، بعد اندمال الموضحة التي جناها الجاني. وإن كان خطأ – فوجهان: أحدهما – وهو الذي حكاه القاضي أبو الطيب، والمحاملي، وابن الصباغ -: أنه يجب عليه [جميع] أرش الموضحة؛ لأن قدر الزيادة لو انفرد؛ كان موضحة، ولا يمكن بناؤه على الأول؛ لان ذلك استيفاء حقن وهذا فعل على وجه التعدي، فانفرد بحكمه.

والثاني- حكاه القاضي الحسين، مع الأول -: أنه يجب بقدره من أرش الموضحة باعتبار التوزيع، وهذا اختيار القفال أولاً، قال الفوراني: ثم رجع عنه إلى الأول. ولو اختلفا في أنه تعمد ذلك أو أخطأ فيه – فالقول قول الفاعل. ولو اختلفا في أن سبب الزيادة تحرك المستوفي منه، أو غيره، ففيمن القول قوله وجهان. قال: وإن هشم رأسه؛ أي: مع الإيضاح – اقتص منه في الموضحة؛ لاشتمال جنايته عليها، وإمكان القصاص فيها؛ كما إذا قطع يده من وسط الساعد؛ فإن له أن يقتص منه في الكف. قال: ووجب الأرش فيما زاد؛ لتعذر القصاص فيه، وصار هذا؛ كما لو اتلف على إنسان قفيزين من طعام، فوجد عنده أحدهما؛ فإنه يأخذه، وينتقل في الآخر على قيمته. والأرش هاهنا ما بين أرش الموضحة والهاشمة، وهو خمس من الإبل. وهكذا الحكم فيما لو كانت الجناية مُنقَّلة، أو مأمومة، أو دامغة، لكن الأرش في المنقلة عشر من الإبل، وفي المأمومة والدامغة ثمانية وعشرون وثلث. ولو أراد المجني عليه أن يقتص في بعض الموضحة، ويأخذ الأرش عن باقي الموضحة؛ فهل له ذلك؟ فيه وجهان في "النهاية": أحدهما: نعم؛ لأن الذي أفرده بالقصاص قابل له؛ فأشبه ما لو قطع له أصبعين، فأراد القصاص في أحدهما، وأخذ دية الآخر. وأصحهما في الرافعين وبه أجاب في التهذيب: المنع. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ وغيره من الصحاب يفهم أنا لا نراعي تساوي الموضحتين في السمك والعمق؛ كما راعينا تساويهما في الطول والعرض، وبه صرح القاضي أبو الطيب. وحكى المحاملي، والقاضي الحسين وغيرهما عن أبي إسحاق المروزي أنه

قال: يراعى تساويهما في السمك والعمق ولا يشق شعيرتين بشعيرة قال الإمام: وهو غلط. والقاضي قال: إنه واهٍ؛ لأنا لو راعينا هذا – لأدى [ذلك] إلى سد باب القصاص في الموضحة [ولا] وجه لإسقاطه. قال: وأما الأعضاء، أي: التي أجملنا وجوب القصاص فيها ودللنا عليه، فيجب في كل ما يمكن القصاص فيه من غير حيف؛ أي: ميل وظلم – كما نفصله – لإمكانه. قال: فنؤخذ العين بالعين؛ للآية فتؤخذ اليمين باليمين، واليسار باليسار؛ عملاً بالمعادلة، ومفهوم هذا اللفظ [أن] اليسار لا تؤخذ باليمين، وبه صرح الأصحاب؛ قياساً على ما لو قطع يمين شخص، ولا يمين للجاني؛ فإنه لا يقتص منه في يساره. قال: ولا تؤخذ صحيحة بقائمة، أي: وهي التي ذهب ضوءها، وبقي بياضها وسوادها بحاله؛ لأنه [يأخذ] أكثر من حقه، وتؤخذ القائمة بالصحيحة؛ أي: إذا رضي المجني عليه؛ لأنه يأخذ أقل من حقه. قال: وإن أوضحه – أي: في رأسه؛ كما صرح به المحاملي، والقاضي الحسين، والإمام، فذهب ضوء عينه – وجب فيه – أي: في ضوء العين، القود على المنصوص- أي: في "المختصر" لأنه لا يمكن إتلافه بالمباشرة؛ فوجب القصاص فيه بالسراية، كالنفس. قال: غير أنه لا يمس الحدقة؛ لأنه لم يجن عليها؛ فلم يقتص منها، فعلى هذا إن أراد القصاص في الموضحة، وضوء العين أوضحه؛ كما أوضح، فإن ذهب ضوء العين بذلك – فقد حصل القصاص فيها على الصحيح كما سنذكره من بعد، وإن لم يحصل فقد حصل استيفاء القصاص في الموضحة، وطريق استيفائه في الضوء يأتي.

تنبيه: الضوء: مهموز، مفتوح الضاد ومضمومها، حكاهما الأصمعي وابن السِّكِّيت وابن قتيبة والجوهري، وهو: الضياء. والحدقة هي: السواد الأعظم الذي في العين، وأما الأصغر فهو الناظر وفيه إنسان العين. والمقلة: لحم العين الذي يجمع السواد والبياض، ذكره ابن قتيبة في أدب الكاتب. وجمع الحدقة: حِداق، ويقال: حَدَق. والجفن بفتح الجيم. قال: وخرج فيه قول آخر: [أنه لا يقتص منه] أي: من نصه فيما إذا قطع إصبعاً من كف؛ فسرى إلى الكف؛ فسقط على أنه لا يجب في الكف قصاص؛ إذ كل واحد منهما سراية [فيما] دون النفس. ووجهه فيهما: أن السراية من جهته خطأ. قال الشيخ في المهذب، وابن الصباغ: وهذا من تخريج أبي إسحاق المروزي، ولم يخرج من نصه هنا إلى مسالة الكف أنه يجب فيها القصاص، وهذا ما حكاه الرافعي عن العراقيين عنه. وفي تعليق القاضي أبي الطيب، ومجموع المحاملي: أنه [خرج من مسألة الضوء إلى مسالة الكف قولاً: أنه] يجب القصاص، وجعل المسألتين على قولين، وصحح المحاملي قول الوجوب فيهما. وهذه الطريقة حكاها الشيخ أبو عليّ عن بعض الأصحاب، ولم يسمه؛ فلعله أراد أبا إسحاق، ويعضده أن الماوردي قال: إن غيره لم يساعده على التخريج. وفي "الرافعي" أنه قيل: إن المزني قال بهذه الطريقة وأنه كان يختار القول الأول في مسألة الضوء. وبالجملة فالذي صار إليه سائر الصحاب – كما قال القاضي أبو الطيب،

والمحاملي، وجزم به القاضي الحسين إجراء النصين على ظاهرهما، وفرقوا بأن الأجسام تنال بالجناية [فالجناية] على غيرها لا تعد قصداً على تفويتها [، واللطائف لا تباشر بالجناية، وطريق التوصل على تفويتها] الجناية على محلها، أو ما يجاوره، ويتعلق به؛ فلذلك تعلق به القصاص كالنفس. وقياس هذا الفرق أن يقال: لو جنى على رأسه؛ فذهب عقله، أو على أذنه؛ فذهب سمعه، أو على أنفه؛ فذهب شمه – أن القصاص واجب على الصحيح. وقد جزم في "المهذب" بأنه لا يجب؛ لأن هذه المعاني في غير محل الجناية؛ فلا يمكن القصاص فيها. وقال الرافعي: إن التوجيه يشكل بمسألة الضوء، والتعليل الصحيح أن يقال: لا يجب القصاص؛ لأنه غير مقدور. وقد وافق الشيخ – على ما ادعاه من الحكم في الصور الثلاثة – البندنيجي، وطرده في غيرها؛ حيث قال: كل جناية سرت إلى ما دون النفس، لا قصاص في السراية، إلا في مسألة العين. وكذلك القاضي الحسين؛ حيث قال: كل قصاص يجري في النفس يجري في الطرف إلا في شيئين: أحدهما: القود في النفس يجب بالسراية، وفي الطرف لا يجب بالسراية، وغنما يجب بإتلاف عينه إلا في إذهاب البصر. وحكى الإمام عن الأصحاب تفريعاً على أن الجسام لا يقتص منها بالسراية؛ أنهم نزلوا لطيفة السمع منزلة لطيفة البصر؛ يعني: إذا ذهب بإيضاح الرأس، وأنه لا يبعد أني لحق بهما منعقد الكلام، وأن صاحب التقريب نص على إلحاق لطيفة البطش إذا زالت عن بعض الأعضاء، بلطيفة البصر، وأن شيخه أبدى في ذلك تردداً، وقال في قطع إلحاقه بالبصر: إن غزالة البطش بالسراية تعسر

عسر إزالة الأجرام؛ بخلاف لطيفة البصر؛ فإنها ألطف المعاني؛ فلذلك أثرت الجنايات فيها، وأن الأصحاب ترددوا في العقل، ووجه التردد أنه من وجه: لطيفة، ومن وجه: يبعد تناوله والاستمكان من إزالته. ثم قال: وأحرى اللطائف البصر والسمع، ويليهما الكلام، ويلي الكلام البطش، وأبعد المعاني عن الإزالة العقل، والأصحاب مترددون في جميعها. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ وغيره يقتضي أنه لا رق في إيجاب القصاص في الصورتين أن تكون الموضحة تسري إليه غالباً أم لا. [وقد قال] الشيخ أبو حامد فيما لو أوضحه بما يوضح غالباً، ولا يقتل غالباً؛ [فمات من] تلك الجراحة -: إنه لا يجب القصاص في النفس، وقضية ذلك أن يقال بمثله في الضوء، لكن ابن الصباغ استبعد ما قاله الشيخ أبو حامد؛ كما حكاه الرافعي؛ لأن هذه الآلة إذا كانت توضح في الغالب كانت كالحديد. قال: ويؤخذ الجفن بالجفن؛ لانتهائه إلى مفصل، وقيل: لا قصاص فيه. قال: الأعلى بالأعلى، والأسفل بالأسفل، واليمين باليمين، واليسار باليسار؛ عملاً بالمعادلة. ويؤخذ جفن البصير بجفن الضرير، وبالعكس. تنبيه: قال النواوي: [كان] ينبغي أن يقول: الأيمن بالأيمن، وتأويل ما ذكره أن تقديره: وذو اليمين بذي اليمين؛ بحذف المضاف، وهذا شائع معروف. قال: ويؤخذ المارن بالمارن؛ أي: بكسر الراء، وهو: ما لان من لحم الأنف، والمنخر بالمنخر؛ لإمكان القصاص فيهمان ويؤخذ أيضاً الحاجز بينهما بالحاجز. والمنخر: بفتح الميم، وإسكان النون، وكسر الخاء، وبكسر الميم والخاء لغتان مشهورتان، ومنخور: لغة ثالثة حكاها الجوهري. قال: فإن قطع بعضه قدر ذلك بالجزء كالنصف والثلث فيؤخذ مثله به؛ رعاية للمعادلة.

قال الأصحاب: ولا يقدره بالمساحة كما قلنا في الموضحة؛ لأنه قد يكون أنف الجاني صغيراً وأنف المجني عليه كبيراً؛ فيؤدي إلى أخذ جميع المارن ببعضه، وذلك ممتنع بخلاف الموضحة؛ فإن الرأس بعد استيفائها باق في كل حالة. وحكى البغوي عن أبي إسحاق المروزي أنه لا قصاص في بعضه. قال: وإن جدعه، أي: قطع المارن والقصبة، أو بعضها – اقتص في المارن؛ لدخوله في الجناية، وإمكان القصاص فيه، وأخذ الأرش، أي: وهو: الحكومة، في القصبة؛ لتعذر القصاص فيها، والحكومة في هذه الصورة تكون أكثر من دية منقِّلة؛ كما صرح به الماوردي؛ لأنه لو لم يقطع القصبة، لكن نقلها، وجب عليه دية منقلة، وكذلك لو هشمها أو أوضحها، وجبت دية هاشمة أو موضحة. والجدع – بفتح الجيم والدال المهملة-: ما ذكرناه. ويقال أيضاً لقطع الأذن والشفة واليد جَدَعَهُ، يجدَعُهُ فهو أجدع، وهي جدعاء. قال: ويؤخذ الصحيح بالمجذوم إذا لم يسقط منه شيء؛ لتساويهما في الخلقة، والجذام مرض، فلا يمنع القصاص؛ كسائر الأمراض. وفي "التهذيب" أن الحكم كذلك فيما إذا لم يسودَّ العضو، أما إذا اسودَّ فلا قصاص فيه؛ لأنه دخل في حد البلى، ويكون الواجب فيه الحكومة، فإن سقط منه شيء قبل الاسوداد روعي ما ذهب منه وما بقي، فإن أمكن القود فيه استوفى؛ كما إذا ذهب أحد المنخرين وبقي الآخر، وإن لم يمكن، [كما إذا كان الساقط مقدمه، قال الماوردي: سقط؛ لأنه لا يمكن] استبقاء الأرنبة مع القود فيما بعدها.

قلت: وهذه العبارة تفهم أن مقدمة أنف الجاني لو سقطت لم يكن للمجني عليه القصاص فيما بقي، وهو موافق لما ظنه بعض الأصحاب أن الشافعي أسقط القصاص فيه، إذا سقط بعضه بالجذام، وإن كان نقصان أنف القاطع مثل نقصانه. وقال الإمام: إنه غلط. وعلى هذا فالقياس يقتضي أن نقول: يقتص منه في هذه الحالة؛ كما نقول فيمن قطع أنملة وسطى من أصبع رجل، وله أنملة عليا – فإنا لا نقتص منه، فغذا سقطت أنملة الجاني العليا [فإنا نقتص] منه في الوسطى، وعلى تقدير أن يكون الحكم كذلك فالعبارة الوافية بالمقصود أن نقول: لم يستوف [منه]، على أن في مسألة الأنملة وجهاً للقفال: أنه لا قصاص فيها ولو سقطت العليا. وقال الإمام: إنه لا يجري فيما إذا كان الجاني [قد] قطع الأنملة العليا من شخص، ثم الأنملة تحتها من شخص آخر، فإن العليا كأنها مقطوعة؛ بسبب أنها مستحقة لصاحب العليا. قال: ويؤخذ غير الأخشم بالأخشم، أي: الذي لا يشم؛ لتساويهما في السلامة، وعدم الشم نقص في غيره وهو الدماغ. قال: وتؤخذ الأذن بالأذن؛ للآية، والبعض بالبعض، والصحيح- أي: أذن الصحيح- بالأصم، والأًم بالصحيح؛ لما بيناه في الأنف. وقيل: لا قصاص في بعضها، وعزاه في "التهذيب" إلى أبي إسحاق. قال ابن يونس: وقال ابن الصباغ: إنه أقيس. والذي رأيته في "الشامل": أن الأول أقيس، وهو ما حكاه عن الشيخ أبي حامد. قال: ولا تؤخذ الصحيحة بالمخرومة؛ أي: التي سقط بعضها؛ لأنها دونها، ويثبت للمجني عليه الخيار بين أن يقتص إلى موضع الخرم، ويترك الباقي، ويأخذ ديته؛ بناء على جواز القصاص في بعض الأذن، وبين أن يأخذ الدية إلا ما يقابل قدر النقصان.

قال: وتؤخذ بالمثقوبة؛ أي: التي لم يسقط منها شيء، سواء اتسع الثقب أو لا؛ إذ الثقب ليس نقصاً، بل زينه، وهذا نصه. وصور الخراسانيون ذلك بأذن النساء، قال الرافعي: ولا اختصاص له بهن، لكنه فيهن أغلب؛ فلذلك ذكروه. وحكى ابن يونس عنهم أنهم حكوا فيها وجهاً آخر: أن ذلك بمنزلة الخرم. قال: ويؤخذ الأنف الصحيح والأذن الصحيحة بالأنف المستحشف، أي: بكسر الشين، وهو اليابس، مأخوذ من حشف التمر. والأذن الشلاء، أي: بالمد، وهي اليابسة – في اصح القولين- لأنهما متساويان في المنفعة، ولا يؤخذان في الآخر؛ كما لا تؤخذ اليد الصحيحة بالشلاء. قال: وتؤخذ السن بالسن؛ للآية، ويقتص من البيضاء بالسوداء والخضراء، ومن سن الشاب بسن الشيخ، ومن القوية بالضعيفة، ومن الكبيرة بالصغيرة، ومن المشدة بالمتحركة إذا كانت منافعها باقية، كذا أطلقه الأصحاب، وسنذكر قولين فيما إذا قلع مثل هذا السن؛ هل تكمل فيه الدية أم لا؟ فإن لم تكمل فيه، فيظهر ألا نوجب على قوي السن أن يقلعها قصاصاً. قال: ولا تؤخذ سن بسن غيرها؛ لاختلافهما في الاسم والمنفعة. ولا قصاص في بعض السن؛ كما صرح به في "التهذيب" وغيره؛ بناء على أن كسر العظام لا قصاص فيه؛ لعدم الضبط. وفي "المهذب" و"الحاوي" أنه إذا كسر سنه، وأمكن أن يكسر من الجاني مثل كسره – اقتص منه، وإن لم يمكن فلا قصاص. وقد عزا القاضي ابن كج ذلك إلى نص الشافعي في الأم. وصور ابن يونس الإمكان بأن يكون قد كسر نصف السن بالطول. قال: ويؤخذ اللسان باللسان؛ للآية، مع أن له حدًّا ينتهي إليه؛ فأشبه الأنف؛ وهذا قول أبي عليّ بن أبي هريرة، واختاره الماسرجسي؛ كما حكاه القاضي ابو الطيب، وقال أبو إسحاق: لا قصاص فيه؛ لأن أصله لا يمكن استيعابه إلا بقطع غيره.

قال ابن الصباغ: وهذا أقيس. واللسان يذكر ويؤنث؛ فمن ذكر – قال: جمعه: ألسنة؛ كأخمرة، ومن أنث-قال: السن؛ كأذرع. [قال: فإن أمكن أخذ البعض بالبعض، [أي]: كالنصف بالنصف، والثلث بالثلث؛ أخذ، وهل ذلك ممكن؟ فيه وجهان، أصحهما: نعم.] قال: ولا يؤخذ لسان ناطق –أي: بتنوين "لسان" – بلسان أخرس؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه؛ غذ الخرس نقص في اللسان، ويؤخذ الأخرس بالناطق؛ لأنه يأخذ دون حقه، ويقطع لسان المتكلم بلسان الرضيع؛ إن ظهر فيه أثر النطق بالتحريك عند البكاء وغيره، وألا لم يقطع، وإن بلغ أوان التكلم، ولم يتكلم- لم يقطع به لسان المتكلم. قال: وتؤخذ الشفة بالشفة؛ [لأن لها نهاية مضبوطة، ثم حد الشفة] في عرض الوجه: إلى الشدقين، وفي طوله أوجه حكاها الإمام: أحدها: أنه المتجافي إلى محل الارتتاق، وموضع الارتتاق من الأعلى يقرب من الوترة، ومن الأسفل يقع في محاذاة نهاية العنفقة. والثاني: انه الذي يستر عُمُورَ الأسنان. والثالث – عن الشيخ أبي محمد، ويحكي عن نصه في "الأم"، وبه حد أكثر المتكلمين في الشفة- أنه الذي ينبو عند الانطباق؛ كما انه يراعى هذا القدر في الشفرين. والرابع: أنه القدر الذي لو قطع لم تنطبق الشفة للأخرى. وقال في "المهذب": هي ما جاوز جلد الذقن والخدين علواً [وسفلا]،

وهذا ما حكاه في "الحاوي"، عن نصه في "الأم"، لكنه زاد فه: مما ارتفع عن الأسنان واللثة. قال: العليا بالعليا، والسفلى [بالسفلى]؛ طلباً للتساوي. قال: وقيل: لا قصاص فيهما؛ لأنهما لا ينتهيان إلى عظم؛ فأشبها الباضعة، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد، والأول هو المنصوص في "الأم"؛ كما حكاه في "التهذيب" و"الحاوي". قال: وتؤخذ اليد باليد، والرجل بالرجل، والأصابع بالأصابع، والأنامل [بالأنامل]، والكف بالكف، والمرفق بالمرفق، والمنكب بالمنكب؛ إذا لم يخف من جائفة؛ لأن لها مفاصل يمكن القصاص فيها من غير حيف؛ فأشبه ما نص عليه [صاحب] الشرع. وحكى الإمام أن في بعض "تعاليق" شيخه وجهاً بعيداً: أنه لا قصاص في المرفق، ثم قال: وهذا أحسبه غلطاً من المعلق، ولو صح فلعل سببه أنه لا تؤمن الزيادة؛ لأجل تداخل عظم في عظم. وحكى فيما إذا قطع الجاني العضو، وأجاف، وقال أهل هذا الشأن: إنه يمكننا أن نقطع يد الجاني ويجيفه، مع الاقتصار على مثل تلك الجائفة – أن الذي ذكره الأصحاب في الطريقين: أنا نستوفي القصاص، وليس هذا إجراء قصاص في الجائفة، وإنما محل القصاص اليد وليست الجائفة مقصودة. واستشكله، [ثم] حكى عن شيخه القطع بأنه لا قصاص، وهو ما ادعى الرافعي أنه المشهور، ومقابله هو المجزوم به في "تعليق" القاضي الحسين. وهكذا القصاص يجري في الفخذ بالفخذ؛ إذا لم يخف من جائفة، ويعرف ذلك بقول أهل الخبرة. ثم ظاهر كلام الشيخ يفهم أن احتمال خوف الجائفة موجود عند إزالة المنكب، وكلام القاضي أبي الطيب يأباه؛ فإنه قال: إذا قطع من المنكب، فإن

اقتلع [منه] عظم الكتف، وهو المشط – سئل أهل الخبرة؛ فإن قالوا: إذا اقتلع منه لا تصير جائفة، فإنه يقتص منه، [وإن قالوا: تصير جائفة، فالقصاص في ذلك الموضع لا يجب، وله أن يقتص منه] في ذلك المنكب، ويأخذ الحكومة في العظم الذي اقتلعه. وظاهر هذا الكلام يدل على أنه لا يقتص فيما دون المنكب، وكذلك كلام البندنيجي؛ حيث قال: يأخذ القصاص في أقرب مفصل إلى الكتف. وقال المحاملي في "المجموع" في هذه الحالة: إنه بالخيار بين أن يقتص منه في مفصل الإبط [أو مفصل الكوع] أو مفصل الذراع، ويأخذ حكومة في الباقي وكلام الماوردي، والشيخ في المهذب موافق له. وهذا الاختلاف يقتضي إثبات وجهين في المسألة، وحينئذ يكونان [كالوجهين] اللذين ذكرهما الأصحاب فيما إذا قطع يده من بعض العضد؛ فإنه لا قصاص في العظم، وله أن يقتص في المرفق، فلو أراد أن يقتص في الكتف فهل له ذلك؟ فيه وجهان حكاهما البغوي وغيره، واختار البغوي الجواز، وهو ما جزم به في "المهذب"، [وجزم] في الإبانة بمقابله؛ وهو المحكي عن الشيخ الحسين الطبري، والذي ذكره ابن الصباغ، لكنه قال: وهذه المسألة لم يذكرها أصحابنا. ثم على وجه الجواز؛ إذا قطع اليد من الكوع، هل له حكومة ما بين المقدور على قطعه إلى الموضع الذي قطعه؟ فيه وجهان، المذكور [منهما] في "المهذب" و"الحاوي": نعم. وعن القفال: أنه استشهد لمقابله بما إذا التمست الثيب الجديدة أن يقيم عندها [سبعاً]، فأجابها؛ فإنه يقضي جميع السبع للباقيات – على

وجه – ثم [إن] أسقطنا الحكومة في ذلك فهل تسقط في القدر الذي لم يقدر على الاستيفاء فيه؟ حكى الغزالي فيه وجهين، قال الرافعي: ولم أجدهما لغيره. قال: وإن قطع اليد من الذراع اقتص في الكف، قال الشافعي: لأنه أقرب إلى المماثلة؛ كذا حكاه البندنيجي، ولأنه داخل في الجناية يمكن القصاص فيه. قال: واخذ الأرش في الباقي؛ لأنه كسر عظم، لا يمكن القصاص فيه؛ فتعين الأرش؛ وهو الحكومة، قال الماوردي: ولا يبلغ بها دية الكف، وهذا بخلاف ما لو قطع يده من نصف الكف؛ فإنه له أن يقتص في الأصابع، ولا أرش له؛ لأجل الباقي على أحد الوجهين في الشامل؛ لان الكف كله تابع للأصابع؛ فلان يتبعها بعضه أولى؛ وهذا تفريع على ظاهر المذهب في أنه لا قصاص في بعض الكف؛ كما قاله القاضي الحسين، أما إذا قلنا بأن فيه القصاص – كما افهمه لفظ القاضي؛ وهو قياس قول صاحب التقريب في إيجاب القصاص في قطع بعض الكف – فيظهر أن يقال: ليس له قطع الأصابع؛ كما صرح به الأصحاب؛ فيما إذا قطع كفه، فأراد أن يلتقط الأصابع؛ أنه ليس له، وفيما إذا قطع يده من المرفق أنه ليس له القصاص في الكف؛ لإمكان وضع الحديدة في موضع وضعها الجاني، على أن في هذه الحالة وجهاً حكاه القاضي الحسين عن أصحابنا العراقيين: أن له أن يقتص في الكف، ويأخذ الحكومة في الباقي. وفي "أمالي" أبي الفرج: أن له أن يعدل من مفصل إلى مفصل دونه؛ فإنه كالمسامحة وترك بعض الحق. ومثل هذه المسائل في الرِّجل، والساق كالذراع، والفخذ كالعضد، والورك كعظم الكتف، صرح به الشيخ وابن الصباغ والماوردي. فرع: إذا قطع يده من الكفن فالتقط المجني عليه أصابعه – عزر، وهل له أن يعود ويجز كفه؟ فيه وجهان؛ أصحهما في التهذيب: نعم، ومقابله هو نظير ما

جزم به الإمام فيما إذا قطع يده من مفصل؛ فاستوفى من الجاني دونه، وأراد أن يقتص من المفصل؛ كما انه لو طلب حكومته لم يجب إليها، وإن كان البغوي قد ابدى في الحكومة احتمالاً لنفسه. قال: ولا تؤخذ يمين بيسار، ولا يسار بيمين، ولا خنصر بإبهام، ولا أنملة بأنملة أخرى؛ لأنها جوارح مختلفة المنافع والأماكن، فلم يؤخذ بعضها ببعض؛ كالعين بالأنف. قال: ولا صحيحة بشلاء، [أي:] وإن رضي؛ لأن الشلاء عضو مسلوب المنفعة؛ فلم يؤخذ به عضو كامل المنفعة؛ كالعين البصيرة لا تؤخذ بالعين العمياء؛ ولان الصحيحة نصف الجملة، والشلاء ليست نصفاً؛ فأخذها استيفاء لأكثر من الحق، وهذا بخلاف الأذن الصحيحة؛ [حيث] تؤخذ بالأذن الشلاء في أصح القولين: أن الأذن الشلاء مساوية للسليمة في المنفعة؛ لأنها تمنع من الهوام وتجمع الصوت؛ كالصحيحة سواء، وليس كذلك في مسألتنا. ثم شلل اليد: بطلان بطشها، ولا يشترط معه سقوط الحِسِّ على الصحيح. وعن الشيخ أبي محمد: أن الشلل ينافي الحِسَّ والحركة؛ ولذلك تسمى اليد الشلاء: ميتة. وقد قال الأصحاب: إن الشلل مما يتصور زوالهن وفرعوا عليه مسائل، وهذا يبين أن الشلل ليس موت العضو. وحكى الرافعي، عن القاضي أبي الطيب وغيره: أنهم منعوا كونه ميتاً، وقالوا: لو كان كذلك لتغير. والذي رأيته في "تعليق" القاضي أبي الطيب عند الاستدلال على القصاص في الأطراف، وفي المسالة التي تلي ما نحن فيه: أنها ميتة. وحكم شلل [بعض الأصابع في منع القصاص – حكم شلل] جميع اليد، لكن في هذه الحالة: للمجني عليه لقط مثل الأصابع التي كانت في كفه، وأخذ

الأرش عن باقي الأصابع التي حصل فيها الشلل، وهل [تجب] له بسبب الكف حكومة؟ فيه وحهان: أصحهما: الوجوب فيما قابل المقتص فيه من الأصابع، وفيما قابل ما لم يقتص فيه؛ لأجل الشلل، وفي هذه الحالة جزم القاضي الحسين بعدم الاستتباع، وقال: تجب الحكومة؛ بخلاف ما لو امتنع القصاص في بعض الأصابع دون بعض، لا لأجل الشلل؛ فإن الصحيح وجوب الحكومة فيما قابل الأصابع المقتص فيها من الكف، وعدم وجوبها فيما قابل الأصابع التي أخذت ديتها من الكف عند المراوزة، وفرقوا بأن الحكومة ضعيفة فلا تستتبع؛ بخلاف الدية. والعراقيون والماوردي جزموا بسقوط الحكومة فيما قابل ما أخذت عنه الحكومة من الأصابع؛ لأجل الشلل من الكف؛ كما جزموا بسقوطها إذا اخذت دية بعض الأصابع. فرع: لو تعدى المجني عليه وقطع اليد السليمة بدون إذن الجاني؛ فهل يقع القطع موقع القصاص؟ قال الإمام: لا؛ لأن ذلك بمثابة قتل الحر بالعبد، والمسلم بالذميّ. ولو مات الجاني من القطع في هذه الحالة؛ فهل يجب على المجني عليه القصاص؟ قضية ما قاله الإمام: إيجابه، وفي "تعليق" القاضي الحسين احتمال وجهين فيه. ولو كان ذلك بإذن الجاني، قال الرافعي: نظر؛ إن أطلق، جعل المجني عليه مستوفياً لحقه، ولم يلزمه شيء، وبهذا جزم القاضي الحسين في "تعليقه"، وقال بمثله فيما لو مات من ذلك القطع. فإن قال: اقطعها عوضاً عن يدك؛ قصاصاً – ففيه وجهان: أحدهما: أن على المجني عليه [نصف الدية، وعلى الجاني الحكومة، وهذا ما أجاب به في "التهذيب". والثاني: أنه لا شيء على المجني عليه]، وكأن الجاني أدى عن الرديء

الجيد وأخذه المستحق. فرع آخر: سليم اليد إذا قطع يداً شلاء، ثم شلت يده، ذكر الإمام أن شيخه قال: خرج القفال في الاقتصاص منه قولين، ثم رجع وقطع بالمنع، وهو الذي رآه الإمام مذهباًز والجواب في التهذيب: أنه يقتص منه. وكذا [لو] قطع يداً ناقصة بأصبع، ثم سقطت تلك الأصبع من القاطع. قال: وتؤخذ الشلاء بالصحيحة؛ لنقصانها عن حقه، ولا أرش له في هذه الحالة، صرح به القاضيان أبو الطيب والحسين. ثم المسالة مصورة بما إذا قال أهل الخبرة: إن انسداد أفواه العروق ممكن، ولا يخشى من ذلك تلف النفس، أما إذا قالوا: إن قطعها يفتح العروق، ولا تنسد، ويخاف عليه التلف من نزف الدم – فلا يقتص منه؛ لأنه يؤدي إلى أخذ نفسٍ بطرف، وذلك ممتنع، صرح به العراقيون والماوردي والإمام. وعن شرح مختصر الجويني نقل وجه عن أبي إسحاق: أن الشلاء لا تقطع بالصحيحة مطلقاً؛ لأن الشرع لم يرد بالقصاص فيها. وفي الجيلي حكاية خلاف في الصورة الثانية، فإنه قال بعد تقرير كلام الشيخ من غير حمله على الحالة الأولى: وقيل: لا تؤخذ الشلاء بالصحيحة إلا إذا قال أهل الخبرة: إن الشلاء إذا قطعت لا يخشى منها الهلاك. ولم أر ذلك في غيره. ولو تساوت اليدان في الشلل ففي القصاص وجهان: أحدهما- وهو محكي عن أبي إسحاق -: لا، [ووجهه بأن] العلة في الأبدان تتفاوت، ولا يعرف منتهاها؛ فصار الشللان، مختلفين، غير متماثلين؛ فسقط القصاص فيه. والثاني- وهو قول ابن أبي هريرة وأكثر أصحابنا؛ كما قال الماوردي-:أن القصاص فيه واجب. قال: ولا تؤخذ كاملة الأصابع بناقصة الأصابع؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، وفي

هذه الحالة له أن يقتص من أصابع الجاني التي كان للمقطوع [مثلها] صرح به العراقيون والماوردي، والمراوزة، وإذا فعل ذلك – وجب له حكومة ما قابل [المفقود من أصابعه قبل الجناية من الكف، وهل يجب له حكومة ما قابل] الأصابع التي اقتص عنها؟ فيه وجهان في "المهذب"، وغيره، والإيجاب هو الراجح في الرافعي، والمنسوب إلى أبي إسحاق، ونسبه الماوردي – عند الكلام فيما إذا كان في كف المجني عليه أصبعان شلاوان، واقتص من ثلاثة أصابع- إلى منصوص الشافعي رضي الله عنه، ولم يحك في مسألتنا سواه؛ فإنه قال: للمجني عليه بعد القصاص في مثل ما له من الأصابع: أخذ [أرش الكف] المستبقاة له، ولا يبلغ بأرشها دية أصبع؛ لأنها تبع الأصابع. وإنما قلنا: إن هذا الكلام يقتضي الجزم بهذا الوجه؛ لأنه ذكر في موضع آخر أن الحكومة الواجبة بسبب الكف لا يبلغ بها دية أصبع، وهذا ظاهر النص في "المختصر"، كما حكاه القاضي الحسين؛ لأن الأصبع الواحدة مقدرة، والكف منتسب لها؛ فنقص حكومتها عن ذلك القدر. وحكى معه وجهاً آخر: أنه يبلغ بحكومته دية أصبع، ولا يبلغ بها دية الأصابع الخمس. وعلى هذين الوجهين يتخرج قدر الواجب من الحكومة الواجبة فيما قابل الأصبع المقتص منها من الكف: فإن قلنا بما حكاه الماوردي، فإذا كان للمقتص منه ثلاث أصابع، فالحكومة تؤخذ عن ثلاثة أخماس الكف، فلا تبلغ حكومة ذلك أرش ثلاثة أخماس أصبع، وقد صرح به الماوردي. وإن قلنا بالوجه الذي حكاه القاضي – فلا يبلغ بحكومته أرش ثلاثة أخماس جميع الأصابع. فرع: اليد التي لا أظفار لها – لا تقطع بها [اليد] السليمة –عند العراقيين ونسبوه إلى النص؛ كما حكاه الإمام عنهم، لكن عن الشيخ أبي حامد وغيره:

أنه تكمل فيه الدية. وقال الإمام على سبيل الاحتمال: القياس جريان القصاص، وإن عدمت الأظفار، وهذا ما جرى عليه الغزالي، وترك المنقول الظاهر. وفي صاحب "التهذيب" بقياس المنقول، وقال: تنقص عن الدية شيئاً. فرع: إذا قطع أصبعاً له ثلاث أنامل، ومثله من يد الجاني فيه أربع أنامل؛ فهل يقطع به؟ قال القاضي الحسين في تعليقه: ينظر: فإن لم تزدد أصبع الجاني؛ بسبب زيادة الأنملة – اقتص منه، وإلا فلا. ولو قطع من له أربع أنامل في أصبع أنملة من أصبعه ثلاث أنامل – كان له القصاص، وأرش ما بين الثلث والربع من دية الأصبع، وهو خمسة أسداس بعير. وإن قطع أنملتين اقتص منه في أنملتين، ووجب مع ذلك بعير وثلثان. وإن قطع الثلاث، قطعت منه ثلاث أنامل، وغرم بعيرين ونصفاً. ولو كان الجاني صاحب الثلاث: فإن قطع أنملة، لم يقطع منه شيء، ووجب عليه ربع دية الأصبع. وإن قطع أنملتين، قطعت منه أنملة، ووجب عليه تفاوت ما بين النصف والثلث من دية أصبع؛ وهو بعير وثلثان. وإن قطع ثلاث أنامل قطع منه أنملتان، وغرم ما بين الثلثين، وثلاثة أرباع دية الأصبع، قال ذلك في "العدة"، وقال إنه إذا قطع جميع الأصبع، يقطع أصبعه ويجب عليه حكومة. قال: وتؤخذ الناقصة بالكاملة؛ لأن المأخوذ بعض حقه، ويأخذ الأرش عن الأصبع الناقصة؛ لأن كل عضو أخذ قوداً إذا كان [موجوداً أخذت ديته إذا كان] [مفقودا]؛ كما لو قطع أصابعه، وكان للقاطع [بعضها]. وقد وافق الخصم – وهو أبو حنيفة – في أخذ الأرش هنا؛ كما حكاه

المحاملي، وعلى هذا فالفرق بينه وبين أخذ الشلاء بالصحيحة؛ حيث لا أرش ثَمَّ إذا رضي بها: أن ثم الصورة كالصورة، والنقصان في الصفة لا يوجب أرشها؛ كقتل الكافر بالمسلم، والعبد بالحر، وهاهنا النقص في الصورة والمعنى؛ فلذلك وجب الأرش. قال: ولا يؤخذ أصلي بزائد؛ لزيادته على مستحقه، ولا زائد بأصلي؛ لاختلافهما في المحل؛ كما لا يقطع خنصر بإبهام، فلو كان الزائد في محل الأصلي جاز أخذه [به] من غير أرش؛ كما يجوز اخذ الشلاء بالصحيحة، وقد حكى ابن الخلِّ [عن] شيخه أنه قال: مراد الشيخ: أنه لا تقطع يد ذات الأصابع، وفيها واحدة زائدة بذات خمس أصلية، ولا ذات كفين أحدهما زائد بذات كف واحد؛ لزيادته على حقه، وعلى هذا يكون المنع في هذه المسألة والتي قبلها؛ لأجل الزيادة. ويجوز له أن يلتقط الأصابع الأصلية، وفي دخول حكومة الكف في القصاص وجهان، أصحهما في "تعليق" القاضي أبي الطيب: عدم الدخول؛ فيجب. وفي "ابن يونس" أن في بعض النسخ: ويؤخذ الزائد بالأصلي، وأنه يمكن حمله على ما إذا كان الزائد في ضمن الأصلي؛ كما لو قطع من له أربع أصابع أصلية وأصبع زائدة- كفَّ من له خمس أصابع أصلية؛ فإن له أن يقتص منه في الكف، ولا أرش له؛ لأن الزائدة كالأصلية في الخلقة. فرع: إذا كان للجاني ستة أصابع، وللمجني عليه خمس أصليات – لم يجز له أن يقطع يده، وله التقاط الأصليات، [إن كانت الزائدة متميزة، ولا يؤدي التقاط الأصليات إلى تلف الزائدة، وإن كان يؤدي التقاطها] إلى تلف الزائدة – التقط منها ما لا يؤدي إليه. ولو لم تتميز الزائدة عن الأصليات، وقال أهل الخبرة: لا ندري أن الزيادة متفرقة في الكل وشائعة فيها، أو هي واحدة من الست لا بعينها – كان له أن يلتقط ستًّا، فلو التقط خمساً فلا شيء له، ولا عليه، وإن قال أهل الخبرة: الزيادة متفرقة في الكل؛ [بأن] حصلت بها في كل أصبع أدنى

زيادة فليس له – في هذه الحالة- أن يلتقط شيئاً؛ لأن في كل أصبع نقصاناً من وجه، وزيادة من وجه، فإن بادر وقطع الكف ألزمناه حكومة، وإن قطع خمساً منها فقد استوفى أسداس اليد؛ فيبقى له سدس دية [اليد]، ويحط من ذلك حكومة؛ لزيادة الخلقة فيما استوفاه، ولو قطع [واحد أصبعاً] من هذه الأصابع فلا قصاص [عليه]، وعليه سدس دية اليد. فرع: [هل] يؤخذ الزائد بالزائد؟ ينظر: إن اختلف محلاهما فلا، وتتعين الحكومة، وإن تساويا في الحجم صغراً وكبراً وطولاً وقصراً أخذ. وإن اختلفا: فإن كان الزائد ستًّا فهل للاختلاف أثر فيه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كما في الأصلين وبهذا قال صاحب "التقريب". والثاني: نعم؛ لأنه ليس له اسم مخصوص حتى يكتفي باتفاق الاسم؛ كما يكتفي في اليمين واليسار، وهذا ما حكاه ابن كج عن ابن سلمة، ونسب الأول إلى ابي إسحاق، وغيره نسب إليه الثاني. وإن كان الزائد أصبعاً: فمنهم من سكت عن الكلام فيه، ومنهم من أجرى فيه الخلاف، وعلى هذا جرى صاحب "التهذيب" والإمام، وحكيا عمن صار إلى التأثير أننا في السبابة والوسطى ننظر إلى القدر، ونراعي الصورة، وخص الإمام محل الخلاف بما إذا استوت حكومتهما، وقال فيما إذا اختلفت بالتأثير جزماً. وقطع القاضي أبو الطيب في "تعليقه" بالمنع في حالة زيادة أنامل أحدهما على الآخر. فإن قلنا بأنه لا أثر للتفاوت في الحجم، وهو الأظهر؛ كما ذكره القاضي الروياني وصاحب "العدة"وغيرهما ونقلوه عن النص- كان للمجني عليه القصاص، ولا حكومة له، إن كانت الزيادة من جهته. وإن قلنا بمقابله: فإن كان الزائد من جهة الجاني، فلا قصاص، وإن كان من

جهة المجني عليه [كان له] القصاص والحكومة بقدر النقص. قال: وإن قطع أنملة؛ [فتآكل منها] الكف – أي: وسقط – لم يجب القصاص فيما تآكل؛ لأنه يمكن إتلافه بالمباشرة؛ فلم يقتص منه بالسراية؛ لعدم تحقق العمدية، ولا تحمل العاقلة على هذا دية ما تآكل، وإن كان حكمه حكم الخطأ؛ لأنه سراية جناية عمد؛ هكذا أطلقه بعضهم. وحكى الماوردي في هذه الصورة وجهين: أحدهما- عن ابن أبي هريرة -: أن الدية تجب في ماله دية العمد حالة؛ لأنها جناية واحدة؛ فلم يختلف حكمها. والثاني – عن أبي إسحاق-: أنها تجب مؤجلة على العاقلة، وحكاه صاحب "العدة" أيضاً. قال: وقيل فيه قول مخرج، أي: من ذهاب الضوء بالموضحة: أنه يجب القصاص؛ لأن كل واحد منهما سراية فيما دون النفس، وقد تقدم الكلام في المسالة، ولا خلاف أن له القصاص في الأصبع، وإذا فعله هل تجب له حكومة لما تحت المقتص منه من الكف؟ فيه وجهان تقدما، ولو أخذ عنه الدية اندرجت حكومة ما تحته من الكف فيه عند العراقيين، وحكى الإمام في هذه الصورة أيضاً وجهين. وحكم قطع جميع الأصابع، وتآكل الكف منها – حكم قطع الأنملة. قال: ويؤخذ الفرج بالفرج والشُّفر بالشفر؛ لإمكان ذلك من غير حيف، وهذا ما نص عليه في "الأم"، وهو الأصح في "التهذيب"، وفي "الرافعي": أن العراقيين – كالشيخ أبي حامد، وأتباعه – جزموا بأنه لا قصاص فيهما. والشفر: مضموم الشين، وهو: [طرف] جانب الفرج، وشفر كل شيء طرفه، ويقال أيضاً: شافر الفرج، وشفيرها.

قال: والأنثيان بالأنثيين، فإن أمكن أخذ [البعض بالبعض]؛ لشمول الآية [له]، ويعرف ذلك بقول أهل الخبرة. وحكى القاضي أبو الطيب، عن الماسرجسي أنه قال: رأيت رجلاً من فزارة له إحدى الأنثيين، وسئل عن ذلك؛ قال: كانت بي حكة؛ فقعدت في الشمس، فكنت أحك خصيتي إلى أن انشقت؛ فخرجت إحدى البيضتين، وبقيت الأخرى. وعن عمرو بن شعيب أنه قال:"كان لنا غنم قد خصيناها من جانب اليسار؛ فكانت تلقح". ولا فرق عندنا في جريان القصاص في الأنثيين بين أن يكون المجني عليه شيخاً أو صبيًّا والجاني شابًّا، ولا بين أن يكون مجبوب الذكر أو عنيناً والجاني سليماً؛ كما ذكرناه في الذكر. فرع: لو رُضَّ أنثياه ففي "التهذيب": انه يقتص بمثله إن أمكن، وإلا وجبت الدية، قال الرافعي: ويشبه أن يكون [الدق] ككسر العظم. قال: ويؤخذ الذكر بالذكر؛ لأنه ينتهي إلى حد معلوم؛ فاندرج في الآية، أو نقول به قياساً على قطع الأنف والأذن؛ وكذا يؤخذ البعض بالبعض، ويعتبر بالجزء لا بالمساحة. وعن أبي إسحاق المروزي منع أخذ البعض بالبعض. قال: وتؤخذ الأليتان بالأليتين؛ لانتهائهما إلى حد معلوم، وهما اللحمان الناتئان بين الظهر والفخذ، وهذا هو الظاهر عند الأئمة، ومنهم صاحب التهذيب. وعن المزني: أنه لا قصاص فيهما، وادعى الإمام في الديات اتفاق الأصحاب عليه. قال: ويؤخذ ذكر الفحل بذكر الخصيّ؛ لأنه مثله، وعدم الإنزال لمعنى في غيره؛ كما قلنا في أخذ أذن السميع بالأصم؛ وكذا يؤخذ [ذكر] الشاب والفحل بذكر الشيخ والخنثى والصبي والعِنين؛ لأنه لا خلل في نفس العضو،

وتعذر الانتشار؛ لضعف في القلب، أو الدماغ؛ كما قاله الرافعي، أو لعلة في الصلب؛ كما قاله القاضي أبو الطيب. قال: والمختون بالأقلف، أي: الذي لم يختن، وبقيت قلفته عليه؛ لأن غايته زيادة في الخلقة؛ وهي لا تمنع القصاص؛ وكذا يؤخذ الأقلف بالمختونح لان تلك الزيادة مستحقة الإزالة؛ فهي كالمعدومة. والأقلفن والأغلف، والأغرل، والرغل – بالغين المعجمة في الثلاثة- والأعرم بالعين المهملة بمعنى؛ كما قاله الأزهري وغيره، والجمع: قلف، وغلف، وغرلن ورغل، وعرم. قال: ولا يؤخذ الصحيح بالأشل؛ لان في اخذه زيادة على القدر المستحق، وشلل الذكر: ألا يتغير في حر باسترسال، ولا في برد بتقلص، بل يبقى على حالة واحدة فيهما. قال الماوردي: أو ينقبض باليد، فإذا فارقته انبسط، أو ينبسط باليد، فإذا فارقته انقبض. ويؤخذ الأشل بالأشل؛ بالشرط الذي تقدم. قال الماوردي: ولا يمنع اختلاف أنواع الشلل من جريان القصاص بينهما؛ لعموم النقص، وعدم المنفعة. والشل والشلل لغتان بمعنى. قال: وإن اختلفا في الشلل: فإن كان ذلك في عضو ظاهر، فالقول قول الجاني؛ لأن المجني عليه يقدر على إقامة البينة على سلامة العضو الظاهر، فإذا تعذر ذلك، كان شبهة في سلامتهما، فكان القول قول الجاني. قال: وإن كان في عضو باطن فالقول قول المجني عليه؛ لأنه يبعد إقامة السنة عليها؛ لأنها لا تشاهد في العادة، والأصل السلام، وهذا ما نص عليه الشافعي في الحالين، وبه قال أبو إسحاق المروزوي؛ كما حكاه في الحاوي.

ثم كلام البندنيجي والأصحاب يقتضي أنا إذا جعلنا القول قول [المجني عليه، أنه يجب القصاص، وله العفو على الدية، وبه صرح في الحاوي، وقد قال الأصحاب فيما إذا قطع ملفوفاً، وجعلنا القول قول] الولي، لا يجب القصاص؛ لأنه يسقط بالشبهة، ولكن تجب الدية. وقال القاضي أبو الطيب: يحتمل قوله: أنه يجب القصاص؛ فأي فرق بينهما؟ قال: وقيل: فيهما قولان، أي: بالنقل والتخريج. وجه قبول قول الجاني قوله صلى الله عليه وسلم:"الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"، والمجني عليه هو المدعي للسلامة، ولأن الجاني هو الغارم؛ فوجب أن يكون القول قوله؛ لأن الأصل براءة ذمته. ووجه قبول قول المجني عليه: أن الغالب والظاهر صحة ذلك العضو؛ فوجب الحكم بالظاهر وه والصحة، وهذه الطريقة تحكي عن ابن الوكيل، وأنه طردها في إنكار الجاني أصل السلامة، وفي تسليمه السلامة، ودعوى الزوال. وادعى الماوردي والبندنيجي والمحاملي أنا إذا قلنا بالطريق الأول فمحل قبول قول الجاني جزماً: إذا كان قد أنكر أصل السلامة، أما إذا اعترف بها، وادعى حدوث الشلل بعدها – ففيه قولان منصوصان للشافعي: أحدهما: أن القول [قول الجاني؛ لأنه يحتمل الأمرين، والأصل براءة ذمته. والثاني: القول] قول المجني عليه؛ لأن الأصل السلامة، وما يدعيه من طرآن الشلل لم يعلم. وعلى ما حكاه المحاملي يحمل ما حكاه القاضي أبو الطيب في "تعليقه" – حيث قال: اتفق أصحابنا كلهم: أبو إسحاق المروزي، وأبو عليّ بن أبي هريرة، وابو عليّ الطبري، والقاضي أبو حامد في "الجامع" – على أن الجناية إن كانت في عضو ظاهر، واختلفا في سلامته؛ [فالقول قول الجاني]، [وعلى المجني

عليه البينة قولاً واحداً، وإن كانت على عضو باطن، واختلفا في سلامته فالمسالة على قولين:] [أحدهما: أن القول قول المجني عليه، وهو الصحيح، وقد اتفق أصحابنا على صحته. والقول الثاني: أن القول] قول الجاني، وقد صرح بهذا الحمل عنهم الرافعي، وقال: إن ابن القطان وافقهم في ذلك، وإن هذه الطريقة أظهر الطرق. وعن أبي الطيب بن سلمة: أن الجاني إن انكر أصل السلامة فهو المصدَّق بلا خلاف، وإن سلم السلامة، وادعى حدوث النقصان – فالمصدق المجني عليه بلا خلاف، وبهذا تحصل في المسألة عند الاختصار أربعة أقوال كما جمعها الإمام: المصدق: الجاني على الإطلاق. المصدق: المجني عليه على الإطلاق. الفرق بين الأعضاء الظاهرة والباطنة. الفرق بين أن تكون السلامة أصلاً وبين أن ينكر وجودها. والصحيح – وإن ثبت الخلاف؛ كما قال المحاملي والبندنيجي في العضو الظاهر – تصديق الجاني، وفي العضو الباطن: تصديق المجني عليه. وهذا الخلاف يجري فيما إذا قطع يداً، واختلف هو والمجني عليه في وجود أصابعها حالة الجناية؛ كما صرح به الإمام، ولا يجيء قول التفصيل بين الظاهر والباطن. وقد استدرك الإمام على من قال: إن الخلاف يجري فيما إذا قال الجاني: ما خلقت لك يد، وقال المجني عليه: خلقت وقطعتها، أو سلم الجاني أصل الخلقة، وادعى سقوطها قبل الدعوى عليه، فإن من أنكر أصل الوجود، أو زعم أنه كان مباناً – فهو منكر لأصل الجناية، ومن ادعيت عليه جناية؛ فأنكرها،

فالقول قوله في إنكارها. ثم [ما] المعني بالعضو الظاهر [والباطن]؟ قال الإمام: تلقيت من كلام الأصحاب فيه وجهين: أحدهما: أن الباطن: ما يجب ستره عن الأعين؛ وهو العورة. والظاهر: ما عدا ذلك. وأليقهما بفقه الفصل: أن الباطن ما يعتاد ستره مروءة، والظاهر: ما لا يستر غالباً؛ وذلك لأن الفرق بين النوعين مبني على عسر إقامة الشهادة وسهولتها، وما يستر غالباً لا يطلع على حاله؛ فتعسر إقامة البينة فيه. فرع: إذا جعلنا القول قول الجاني، فأراد المجني عليه إقام البينة على سلامة العضو -ففي كيفيتها قولان حكاهما القاضي أبو الطيب: أحدهما: يقيمها على سلامته حالة الجناية. والثاني: أنه يكفيه أن يقيمها على سلامته قبل الجناية. قال: وهذا هو الصحيح؛ لأن مذهب الشافعي - رضي الله عنه - لا يختلف في أن الرجل إذا ادعى على آخر عيناً، وأقام بينة على أنه ورثها، وقال الشاهدان: لا نعلم زوال ملكه إلى أن شهدنا بهذه الشهادة؛ فإنه يحكم له بما ادعى؛ لأن الأصل بقاء ملكه على تلك العين؛ فكذلك هاهنا. ووافقه على التصحيح كما قاله الرافعي، والروياني وغيره، والمحاملي وابن الصباغ والبندنيجي وغيرهم بنوا لقولين في حالة إنكار الجاني [أصل السلامة على القولين فيما لو اعترف الجاني وغيره] بأصل السلامة، وادعى زوالها، فإن قلنا: القول قوله، فلابد من أن تشهد البينة على السلامة حالة الجناية، ولا يحتاج في هذه الحالة إلى يمين. وإن قلنا: القول قول المجني عليه، كفاه إقامتها على [سلامته قبل الجناية لكنه يحتاج إلى اليمين، ويجوز للشاهد أن يشهد على] سلامة العين، إذا رآه يتبع بصره الشيء زماناً طويلاً، ويتوقى المهالك، دون ما إذا

رآه يتبع بصره الشيء الزمان اليسير؛ لأن ذلك قد يوجد من الأعمى. وكذلك يجوز للشاهد أن يشهد على سلامة اليد، والذكر برؤية الانقباض والانبساط. قال القاضي الحسين في التعليق، والإمام: ولو صرحوا بذلك عند القاضي، لم تقبل شهادتهم؛ كما إذا رأوا شيئاً في يد زيد، يتصرف فيه تصرف الملاك، والناس ينسبونه إليه، وليس له دافع، ولا منازع يسوغ له الشهادة له بالملك، ولو صرح به، ردت شهادته. وكلام القاضي أبي الطيب يقتضي جوازه؛ فإنه قال: إذا نقل الشاهدان ذلك إلى الحاكم، أو لم ينقلاه، لكنهما شهدا بأنهما رأياه بصيراً، أو صحيح اليدين – قبلت شهادتهما، وليس للحاكم أن يسألهما عن [سبب التحمل] ومتى سألهما عن سبب التحمل – كفاهما أن يقولا: تحملنا [الشهادة]، من حيث جاز لنا أن نشهد. فرع: إذا قطع يد رجل ثم سرت إلى النفس؛ فقال ورثة المقطوع: مات من السراية، وقال الجاني: بل من سم شربه؛ وهو موحٍ – ففيمن القول قوله وجهان في تعليق القاضي الحسين، وأصحهما: قبول قول الوارث؛ وجعله المتولي المذهب. وهذا بخلاف ما لو ادعى الجاني الاندمال في مدة تحتمله، [وقال الورثة: إنه مات من السراية- فإن المذهب أن القول قول الجاني. وفيه وجه حكاه المتولي] وقال: إن نص الشافعي –رضي الله تعالى عنه- في القسامة يدل عليه. وقد تقدم في الباب قبله حكم الاختلاف في صغر الجاني أو جنونه.

باب العفو والقصاص

باب العفو والقصاص قد يقع في بعض النسخ: [العفو] عن القصاص، والصواب الأول، وتقديره: حكم العفو وكيفية القصاص. قال: وإذا قتل من له وارث - أي: خاص- وجب القصاص للوارث؛ أي: واحداً كان أو أكثر، ذكراً كان، أو أنثى، وارثاً بسبب كالزوجين والمعتق، أو بنسب؛ لما روى ابن سريج الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثُمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَأَنَا وَاللهِ عَاقِلُهُ، فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: إِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ" خرجه أبو داود والترمذي، وعن أبي هريرة مثله في قوله:"فَمَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ ... " إلى آخره، أخرجه البخاري والترمذي، وقال الترمذي: إنه صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة في خطبة خطبها. ووجه الدليل من الخبر أنه خيَّر الورثة بين الدية والقتل، والدية تثبت [لجميع الورثة] بالاتفاق؛ كما حكاه الشافعي- رضي الله عنه - ودلت عليه الأخبار التي سنذكرها؛ فكذلك القصاص. وحكى القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وصاحب "العدة"، والمتولي، وراء ذلك وجهين: أحدهما: [أنه للعصبة] خاصة.

ووجهه ابن الصباغ بأن القصاص شرع؛ لدفع العار؛ فاختص بالعصبات؛ كولاية النكاح. والثاني: أنه لذوي الأنساب من الورثة، دون ذوي الأسباب. قال ابن الصباغ: وقائله يقول: الزوجية تزول بالموت، وإنما يراد القصاص للتشفي، ودرك الغيظ، وهذا قد يفهم أن مراده بمن يرث بالسبب الزوجان خاصة دون من عداهما، وهو المعتق؛ ولأجل هذا الإفهام؛ اعرض ابن يونس عن هذه العبارة، واقتصر على قوله: وقيل: يختص بغير الزوجين. وقال المتولي: إنه يتعين للمستحقين بالعصب والولاء، دون الزوج والزوجة. [وكلام الإمام يفهم أنا إذا قلنا: إنه للعصبات خاصة، هل يندرج في هذا الاسم المعتق، أو لا؛ لأنه قال في حد القذف ذلك، ثم قال: ومن غريب ما حكاه الشيخ في شرح التلخيص أن من أصحابنا من أجرى القصاص مجرى حد القذف؛ حتى تخرج فيه الوجوه التي ذكرناها فيمن يرثهن ويرث طلبه]؟ والمذهب الأول؛ لما ذكرناه، وما ذكروه لا يصح؛ لأنه يثبت للصغار والمجانين بخلاف ولاية النكاح، وقد روى أبو داود أن "رَجُلاً قَتَلَ رجلاً فِي عَهْدِ عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – فَطَالَبَهُ أَوْلِيَاؤُهُ بِالقَوَدِ، ثُمَّ قَالَتْ أُخْتُ القَتِيلِ، وَكَانَتْ زَوجَة القَاتِل: قَدْ عَفَوتُ عَنْ حَقِّي؛ فَقَالَ عُمَرُ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: اللهُ أَكْبَرُ! عتقَ الرَّجُلُ" ولم ينكر عليه أحد. تنبيه: قول الشيخ: وجب القصاص للوارث، يفهم أمرين. أحدهما: انه لا يثبت للموروث، وقد أشار الرافعي – عند الكلام في قتل

المسلم بالكافر- إلى حكاية خلاف في انه يثبت للوارث ابتداء أو تلقياً. والثاني: نعينه في الوجوب، وقد حكى الأصحاب عن الشافعي في المسألة قولين: أحدهما- وهوا لأصح عند الشيخ أبي حامد، ومن تابعه كالمحاملي وصاحب العدة، وادعى ابن يونس أنه الجديد-: أن الواجب أحد شيئين، لا بعينه؛ وهما القصاص والدية، قال الماوردي: وكل منهما أصل. وكذلك قال المحاملي، وزاد: انه إذا اختار أحدهما حكمنا بأنه الذي كان وجب بالقتل. ووجهه: قوله صلى الله عليه وسلم: "فأهله بين خيرتين: أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا"، فتخييره بين القود والدية يقتضي أن يكون كل واحد منهما عن القتل؛ ككفارة الصيد واليمين. وحكى العزالي أنا على قولنا: الواجب احد الأمرين؛ فهل نقول: القصاص أصل، والدية تابع، أم هما متوازنان من كل وجه؟ فيه تردد. وهذا التردد استنبط مما حكاه الإمام عن الأصحاب فيما إذا عفي عن الدية، [كما سنذكره. والقول الثاني: وهو الأصح عند القاضي أبي الطيب والروياني وصاحب التهذيب وغيرهم، كما قال الرافعي]، وادعى ابن يونس أنه القديم -: أن الواجب [القود] عيناً، والدية بدل عنه، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك؛ لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية: [المائدة:45]، وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [إلى آخرها] [البقرة:178] ووجه الدلالة منها من وجهين: أحدهما: أنه أوجب القصاص على القتلى، ولم يذكر الدية. والثاني: أنه أوجب الدية بشرط العفو؛ فدل على أن القصاص هو الأصل. وقوله صلى الله عليه وسلم: "المد قود لا عقل فيه". وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: "فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ"، فهو أن هذا التخيير لا

يدل على أن كل واحد منهما أصل بنفسه، ويدل على صحة هذا: أن لابس الخف بالخيار بين أن يمسح عليه بشرطه، وبين أن ينزعه ويغسل الرجل، ولا يقال: إن كل واحد من الفعلين أصل بنفسه، بل المسح بدل عن الغسل، وهو الأصل. وللقولين فوائد تظهر من بعد، إن شاء الله تعالى. قال: وهو بالخيار بين أن يقتص [وبين أن] يعفو؛ لأنه حق ثبت له؛ فكان مخيراً في استيفائه وإسقاطه كسائر الحقوق، وهذا الخيار على التراخي، صرح به الغزالي وغيره في الشفعة. فرع: إذا تضرع من عليه القصاص لولي القتيل، وسأله أخذ الدية منه، والعفو عن قصاصه؛ فاخذ الولي المال من غير تصريح بالعفو؛ فهل يكون عفواً عن القصاص عليه؟ فيه وجهان، حكاهما الإمام، عند الكلام في قطع اليمين عن اليسار. قال: فإن عفا – أي: عن القصاص على الدية – وجبت الدية؛ أي: وإن قلنا: [إن] الواجب القصاص عيناً، ولم يرض الجاني بذلك؛ لعموم الخبر، والحكم بعد موت الجاني قبل العفو عن القصاص كالحكم بعد العفو عن القصاص على الدية. وعن شرح مختصر الجويني: أن صاحب "الجامع" حكى [قولاً] عن القديم مثل [مذهب] أبي حنيفة أنه: لا يعدل إلى المال إلا برضا الجاني، وإذا مات سقطت الدية. والمذهب الأول؛ لأنها جناية يجوز أخذ المال فيها؛ فلم يعتبر في جواز أخذه رضا الجاني؛ كما إذا قطع يداً تامة الأصابع [وهو ناقص الأصابع]، وقد سلم أبو حنيفة الحكم فيها، وعلى هذا قال الإمام: إذا كنا نخير الولي على القولين،

يرجع إلى الدية بعد الموت؛ ففي العبارة المشهورة بتزجية القولين تكلف، والصيغة الناصة أن يقال: العمد يقتضي ثبوت المال لا محالة، ولكنه يقتضيه أصلاً معارضاً وموازناً للقصاص، أم يقتضيه على قضيته من التبعية؟ فيه القولان، قال المتولي: والواجب من الدية عند العفو دية المقتول، لا دية القاتل؛ لأنه أبقى روحه؛ بإسقاط حقه من مورثه، ومن أحيا غيره ببذل شيء استحق بدل المبذول؛ كما لو كان مضطراً؛ فأطعمه، يستحق عليه [بذل] بدل الطعام. ولو مات الجاني قبل العفو والقصاص، أو قتل ظلماً، أو بحق في قصاص أو [حد] زنى، وأوجبنا الدية في تركته – فهل الواجب دية المقتول [أم دية القاتل]؟ فيه وجهان، تظهر فائدتهما فيما لو كان القاتل امرأة، والمقتول رجلاً، أو بالعكس. ثم الدية تثبت للوارث ابتداء، أم تثبت للموروث في آخر جزء من أجزاء الحياة، وتنتقل إلى الوارث؟ فيه قولان حكاهما العراقيون وغيرهم. وأصحهما في "الوسيط" و"التتمة" و"التهذيب" و"الزوائد" وغيرها: الثاني؛ بدليل وجوب وفاء ديونه وتنفيذ وصاياه [منها] باتفاق الصحاب خلا أبا ثور. والذي صححه القاضي الروياني: الأول، ومن قال به أجاب عما استدل به بأن الورثة ملكوا الدية من جهته وبدلاً عن نفسه؛ فقدم حقه على حقوقهم. [قال البندنيجي في كتاب الوصية: والوجهان جاريان في الغُرة، هل ملكها الجنين في آخره جزء من حياته، أم تثبت للوارث ابتداء]؟ قال: وإن [عفا] مطلقاً ففيه قولان: أحدهما: لا تجب. والثاني: تجب، وهو الأصح.

هذان القولان مبنيان على القولين في أن موجب العمد ماذا؟ فالأول مبني على أن موجبه القود عيناً، وقد صححه النواوي. والثاني مبني على أن موجبه أحد الأمرين، لا بعينه: القصاص والدية. وهذا العفو عما ثبت له من تخييره في تعيينه، لا أنه اختاره ثم أسقطه، فإنه لو كان كذلك، لم تجب له الدية جزماً، ومثل هذا [ما] ذكر فيما إذا اسلم على عشر نسوة؛ فعين ستة للفراق؛ فإنه يتعين النكاح في الباقيات، وإن أطلق أربعاً منهن كان تعييناً للنكاح فيهن، وسقط حقه. وفي "مجموع" المحاملي و"تعليق" القاضي أبي الطيب وغيرهما أن أبا إسحاق المروزي حكى – تفريعاً على القول بأن الواجب القود عيناً – قولاً أو وجهاً بوجوب الدية، ووجهه المتولي بأن عفو المستحق معتبر بعفو الشرع، وفي الموضع الذي عفا الشرع عن القصاص – لعدم الكفاءة – تجب الدية؛ فكذلك هاهنا. وقال المحاملي، وابن الصباغ: إنه ليس بشيء. وتأوَّل الإمام لقائله بأن معنى قولنا: الواجب القود عيناً: أنه الأصل، ولا يثبت المال معه؛ كما لا يثبت البدل مع المبدل إذا ترتب البدل على المبدل، وإذا سقط القصاص؛ جاء وقت البدل؛ فثبت المال ثبوت المبدلات. وحكى الماوردي القولين على غير هذا النحو؛ تفريعاً على قولنا: إن الواجب القود عيناً، وبعد عفوه من غير تعرض للدية: أحدهما – وهو الذي نص عليه في جراح العمد -: أن له أن يختار الدية من بعد. والقول الثاني – وهو الذي ذكره في كتاب اليمين مع الشاهد-: أنه قد سقط حقه من الدية؛ فليس له أن يختارها من بعد. وأصل هذين القولين إذا أقام المدعي شاهداً، وامتنع أن يحلف معه، وعرضت

اليمين على المنكر، فنكل عنها: فهل ترد على المدعي، أم لا؟ على قولين. ثم صورة العفو المطلق أن يقول: عفوت عن القصاص، ولم يتعرض لذكر الدية بإثبات، ولا نفي؛ كما أفهمه كلام الشيخ في "المهذيب"، والمحاملي، والإمام وغيرهم. وكلام ابن يونس يفهم أن صورته ما ذكره القاضي أبو الطيب، وهو أن يقول: عفوت، ولا يذكر شيئاً آخر. وإنما صرفنا هذا العفو إلى القصاص على قولنا: إن الواجب أحد الأمرين؛ لأنه اللائق بالعفو، ونقل صاحب "التقريب" [وجها آخر في هذه الصورة، وجزم به الشيخ أبو علي والعمراني في "الزوائد"، وقال الرافعي: إن الأظهر أنه يراجع، فإن قال: أردت به القصاص، سقط، وإن قال: أردت به الدية، فهو كما [لو] صرح بذلك ابتداءً. والتفريع عليه سيأتي، وإن [قال] لم تكن لي نية، فوجهان حكاهما الشيخ أبو علي، وأشار إليهما صاحب "التقريب"]: أحدهما: أنه ينصرف إلى القصاص. والثاني: انه يقال له: اصرفه الآن بنيتك. فرع: لو قال: عفوت عما وجب لي عليك بهذه الجناية، أو: عن حقي الثابت عليك، وما أشبهه – سقط حقه من القصاص والدية؛ كما لو عفا عنهما صريحاً؛ كذا حكى عن رواية القاضي ابن كج عن النص. وفي "الحاوي" أنه إذا قال: عفوت عن حقي، وقلنا: الواجب القصاص عيناً سقط القصاص، ولا تسقط الدية؛ فإن عجل اختيارها، وجبت له، وإن لم يعجله، فعلى القولين؛ يعني: القولين اللذين حكاهما من قبل. وحكى فيما إذا قال: عفوت عن القصاص والدية، وقلنا: الواجب القصاص عيناً – أن عفوه يصح عن القصاص. وهل يصح عفوه عن الدية؟ فيه وجهان، وجه المنع: أنه لم يقع في وقته، وعلى هذا: إن اختار الدية في الحال، وجبت، وإن اختارها بعد ذلك فعلى ما مضى من القولين.

ولو قال: عفوت على أن لا مال [لي]، فوجهان: أحدهما: أنه كما لو عفا عنهما. والثاني: لا تسقط به المطالبة بالمال؛ لأنه لم يسقطه، وإنما شرط انتفاءه وإلى هذا مال الصيدلاني. فرع: إذا قال: عفوت عن القصاص ونصف الدية، ففي "تعليق" القاضي الحسين: انه لا خلاف في سقوط نصف الدية؛ لأنا إن قلنا: مطلقا لعفو [لا يوجب المال، فهو بهذا العفو موجب نصف الدية، وإن قلنا: مطلق العفو] يوجب المال؛ فهو بهذا العفو اسقط نصف الدية. وفي "الرافعي" أنه حكى عن القاضي الحسين انه قال: هذه معضلة أسهرت الأجلَّة. وحكى عن غيره أنها بمنزلة ما لو عفا عن القود ونصف الدية؛ فيسقط القود ونصف الدية. قال: وإن اختار القصاص، أي: تفريعاً على قولنا: إن الواجب أحد الأمرين، ثم اختار الدية – لم يكن له [ذلك] على المنصوص؛ لأن باختياره القصاص سقط حقه من الدية؛ فلم يكن له الرجوع إليها؛ كما لو اختار الدية؛ فإنه يسقط حقه من القصاص، وليس له الرجوع إليه، وهذا ما صححه في "التهذيب"، فعلى هذا: [هل] يسقط حقه، من القصاص [أيضاً]؟ فيه وجهان، أصحهما في "التهذيب": لا. وقد شبه القاضي الخلاف بالوجهين في أن حق الشفعة والرد بالعيب هل يسقط بالمصالحة عليهما على مال، وقلنا بعدم استحقاق المال، وهما جاريان فيما إذا عفا عن القصاص ابتداء على مال غير الدية، ولم يقبل الجاني ذلك؛ كما حكاه البغوي، لكنا إذا أسقطنا القصاص في مسألة الكتاب بالعفو، لا يرجع إلى الدية، وفي المسالة التي ذكرناها إذا أسقطنا القصاص، وجعلنا عفوه كالعفو المطلق، فيجيء فيه الخلاف السابق، فإن قلنا: لا يسقط حقه

من القصاص، وهو المتعين في استيفاء الحق – فهل له أن يصالح عنه الجاني بالتراضي؟ فيه وجهان جاريان فيما لو فعل ذلك ابتداء بعد اختيار القصاص. ووجه المنع: أن عقوبة فلم تجز المصالحة عنها على عوض؛ كحد القذف. ووجه الجواز – وهو ما قال الإمام: لعله الأصح- أن القصاص في مقابلة متقوم بالمال على الجملة، وهو النفس، وتتلف به؛ فتُقَوَّم، وليس كذلك العرض في القذف، وعلى هذا لا فرق بين أن يصالح على جنس الدية أو غير جنسها، أقل منها أو أكثر. ولو كان المصالح أجنبيًّا، ففي جوازه وجهان، أصحهما: الجواز؛ كما في الخلع معه. ومقابل المنصوص وجه حكاه العراقيون: أن له الدية. قال ابن الصباغ: وتكون بدلاً عن القصاص، وليست التي وجبت بالقتل، وهذا كما إذا ادعى حقًّا، وأقام شاهداً، فإنه يحلف معه، فإن امتنع من اليمين، عرضنا اليمين على المنكر، فإن نكل رددنا اليمين، وكانت غير الأولة. ووجهه المحاملي والشيخ في "المهذب": بأنه استحق أعلى البدلين، فكان له أن يعدل إلى أدناهما. وهذا التوجيه يقتضي أن تكون الدية بدل النفس، لا بدل القصاص، وقد يقوى هذا الوجه بأن في تمكينه من الرجوع إلى الدية ما يدعوه إلى العفو؛ كما قلنا: إنه يجوز له العفو على الدية، مع قولنا: إن الواجب القود عيناً. وقد ادعى في "الوجيز" أن هذا الوجه الأظهر، وبه جزم في "الحاوي"، والإمام حكى فيما إذا عفا عن الدية صريحاً ثلاثة أوجه: أحدها: أن المال يسقط بالكلية، [حتى] لو أراد الولي إسقاط القصاص على مال، لم يجد إليه سبيلاً. قلت: ومن طريق الأولى إذا أطلق العفو عنه، وقد صرح [به] الرافعي.

والثاني: أنه لا معنى للعفو عن المال، مع بقاء [القود]، فالذي جرى منه لغو، وهو على خيرته الأولى، وكأنه لم يعف، والسبب فيه: أنا وإن كنا نثبت المال أصلاً فهو على قضية التبعية للقود؛ فيستحيل أن نثبت له المال مع بقاء القود. والثالث وهو اختيار الشيخ أبي محمد -: أن العفو عن المال يلحق هذا القول [بقولنا]: موجب العمد القود المحض، وفائدة هذا القول: أنه إن عفا عنه على مال ثبت، وإن عفا مطلقاً ففي ثبوت الدية الطريقان السابقان: أحدهما: القطع بعدم الاستحقاق. والثاني: حكاية قولين أو وجهين، كما حكاهما أبو إسحاق. ثم قال الإمام فيما إذا كانت صيغة الولي: اخترت القصاص -: الوجه أن ينبني على التصريح بإسقاط المال، فإن قلنا: العفو لغون فلا معنى لقوله: اخترت القصاص. وإن قلنا: العفو عن المال له حكم، فقوله: [ما] اخترت القصاص، هل يفيده؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما. وقد عكس القاضي أبو الطيب الكلام في المسألة في "تعليقه"، فقال: إذا اختار القصاص، ثم عاد واختار الدية – ثبتت له الدية؛ لأنه يريد أن ينتقل من الأعلى إلى الأدنى؛ فجاز له ذلك. وإن اختار الدية، ثم عاد وقال: أنا اختار الآن القصاص- فهل يثبت له القصاص، أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه ليس [له] ذلك؛ لأنه يريد أن ينتقل من الأدنى إلى الأعلى. والوجه الثاني: أن له ذلك؛ لأن برجوعه قد سقط حقه من الدية، ويكون كأنه اختار القصاص ابتداء. وإن أصل هذه المسألة ما إذا ادعى إنسان على رجل شيئاً، وله [به] شاهد، فإنه يحلف معه ويستحق، فإن نكل عن اليمين، ورددناه على المدعي

عليه؛ فنكل، فهل ترد على المدعي [أم لا]؟ فيه قولان: وجه الرد: أن الشاهد قد سقط بنكوله؛ فيكون كاليمين تثبت في حق المدعي عليه ابتداء، وإذا ثبتت في حقه ابتداء، فنكل عنها- ردت على المدعي؛ كذلك هاهنا. وقد تحصل لك من مجموع ما ذكرناه فيما إذا اختاره القصاص، ثم الدية، أو العكس- ثلاثة أوجه: أحدها: أنه إذا اختار أحدهما ليس له العود إليه. [والثاني: أن له العود إليه]. وقد حكى هذا عن القفال أبو الفرج السرخسي في "أماليه"، وشبهه بما إذا أتلف كُرّ حِنْطَةٍ جيدة على إنسان، ولم يوجد هناك إلا كر حنطة رديئة؛ فإنه يتخير رب الحنطة بين أن يأخذه، وبين أن يعدل إلى القيمة، فلو قال: اخترت أحدهما، لم يبطل به خياره. والثالث: إن اختار القصاص كان له الرجوع إلى الدية، وإن اختار الدية لم يكن له الرجوع إلى القصاص. أما إذا قلنا: الواجب القصاص عيناً، لم يكن لعفوه عن الدية معنى، ولا له تأثير في القصاص ولا في الدية؛ لأن القود لم يعف عنه، والدية لم يستحقها مع بقاء القود؛ فلم يصح عفوه عنها، صرح به الماوردي. فرع: إذا قال: عفوت عن الدية، وصححنا عفوه، فمات الجاني قبل استيفاء القصاص، كان المستحق الدية؛ لفوات القصاص بغير اختياره. وعن القاضي ابن كج حكاية قول: انه لا رجوع له إلى المال بعد إسقاطه. واعلم أن جميع ما ذكرناه مفروض فيما إذا كان الوارث مكلفاً غير محجور عليه، أما إذا كان غير مكلف؛ فلا أثر لعفوه، وإذا كان مكلفاً محجوراً عليه – نظر: فإن كان الحجر لحق غيره كالمفلس فله أن يقتص، ولو عفا عن القصاص سقط وأما الدية، فإن قلنا: موجب العمد أحد الأمرين، فله القصاص، وله العفو

عنه، فإن عفا عنه ثبتت الدية، سواء صرح بإثباتها، أو بنفيها، أو سكت عنها، وحينئذ، تصرف إلى غرمائه، ولا يكلف تعجيل القصاص، أو العفو؛ ليصرف المال إليهم. وإن قلنا: موجب العمد القود، فإن عفا على المال، ثبت، وتعلق حق الغرماء به، وإن عفا مطلقاً، أو على أن لا مال، فإن قلنا: مطلق العفو [لا] يوجب الدية؛ فكذلك الحكم هنا، وإن قلنا: مطلقه يوجبها، فعند الإطلاق تجب، وعند النفي هل تجب؟ فيه وجهان: المذكور منهما في "مجموع" المحاملي: الوجوب. وأصحهما في "الرافعي": المنع، لأن العفو مع نفي المال لا يقتضي مالاً؛ فلو كلفنا المفلس أن يطلق؛ ليثبت المال؛ كان ذلك تكليفاً بالكسب، وليس عليه الكسب؛ لما عليه من الديون. قال الإمام: ويعبر عن الوجهين بأن العفو مع نفي المال – إسقاط للواجب، أو منع للوجوف. وحكم المريض بالنسبة إلى القدر الزائد على الثلث، ووارث من له القصاص، وعليه دين- حكم المفلس، صرح به القاضي أبو الطيب، والمحاملي. وعفو المكاتب عن الدية تبرع لا ينفذ [من غير] إذن السيد، وإن أذن فعلى الخلاف في تبرعاته. وإن [كان] الحجر لحق نفسه كالسفيه، فيصح منه إسقاط القصاص واستيفاؤه، وفيما يرجع إلى الدية حكمه حكم المفلس على أحد الوجهين، وبه أجاب أكثرهم؛ ومنهم: القاضي أبو الطيب، والقاضي الحسين، والمحاملي. والوجه الثاني: أنه لا يصح عفوه عن المال بحال؛ كالصبي، ويحكي عن القفال أنه قطع به، وعلل بأنا وإن قلنا: مطلق العفو لا يوجب المال؛ فإذا

تصدى له مال لم يجز له تركه؛ كما لو وهب له شيء [أو وصى] له بشيء، فلم يقبل – فوليه يقبل عليه، بخلاف المفلس: لا يقبل عليه الغرماء ولا الحاكم. وحكى الإمام أنه لو رد لم يصح رده؛ فإن الولي يقبل عليه، ويوقف فيه. قال: وإن قطع اليدين من الجاني، ثم عفا عن القصاص – لم تجب [له] الدية، [أي:] سواء أطلق، أو عفا عليها؛ لأنه استوفى ما يوازي [بدله] بدل النفس، فلو وجبت له الدية – لأدى إلى أن يأخذ ديتين لنفس واحدة. وحكى الإمام عن صاحب "التقريب" أن من أصحابنا من جوز له الرجوع إلى المال. قال الإمام: والمال في هذا المقام: الدية الكاملة. ثم على الأول – وهو المذهب – هل يسقط حقه عند العفو على الدية؟ يظهر مجيء الوجهين السابقين فيه؛ إذا كان جاهلاً بالحكم. وهل تجوز المصالحة عن القصاص في هذه الصورة قبل العفو على مال؟ حكى الرافعي فيه وجهين، وصحح الجواز، والقاضي الحسين صحح خلافه، وهو قضية قول الإمام. والمتولي جعل الخلاف مبنيًّا على أن موجب العمد ماذا؟ فإن قلنا: موجبه القود، صح؛ سواء كان المال من جنس الدية [أو من] غير جنسها. وإن قلنا: موجبه أحد الأمرين، لم يصح؛ لأنه قد استوفى ما يوازي بدله بدل حقه. قال: وإن قطع إحداهما، [ثم] عفا عن القصاص – وجب له نصف الدية؛ لأنه أخذ ما يوازي بدله نص الدية؛ فبقي له [النصف]. وهذا إذا عفا على الدية، أو مطلقاً، وقلنا: الواجب أحد الأمرين، أما إذا قلنا: الواجب القود عيناً، فيجيء في استحقاقه الطريقان السابقان:

أحدهما: القطع بعدم الاستحقاق. والثاني: جريان قولين أو وجهين فيه. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمرين: أحدهما: أنه لا فرق [-فيما ذكره-] بين أن تكون دية الجاني قدر دية المجني عليه، أو دونها، أو أكثر منها، وهو متفق عليه، فيما إذا كانت [قدرها، أما إذا كانت] دونها؛ كما إذا كان المقتول رجلاً، والقاتل امرأة؛ ففي الصورة الأولى قال المتولي: إن قلنا: موجب العمد أحد الأمرين، كان له مطالبتها بنصف الدية، وهو الأظهر في "الرافعي"، وإن قلنا: موجبه القود فلا يستحق شيئاً؛ لأنه الدية، وهو الأظهر في "الرافعي"، وإن قلنا: موجبه القود فلا يستحق شيئاً؛ لأنه لو قتلها لجعل مستوفياً لحقه، وقد استوفى منها ما يوازي روحها في الحكم. وقال في الصورة الثانية: إن قلنا: إن الواجب أحد الأمرين، طالبها بثلاثة أرباع الدية. وإن قلنا: الواجب القود، طالبها بنصف الدية. والقاضي أبو الطيب وغيره حكوا الخلاف في الصورتين؛ كما ذكره المتولي، لكنهما لم يثبتاه. ولو كانت المرأة قد قطعت يدي الرجل وأذنيه؛ فاقتص منها الولي، ثم عفا – لم تجب الدية جزماً. وعلى الأصل الذي ذكرناه يخرج ما إذا كان المجني عليه مسلماً، والجاني يهوديًّا، وقد قطع الولي يديه: فعلى القول بأن الواجب أحد الأمرين: يطالبه بثلثي الدية؛ لأن بدل يديه ثلث الدية. وعلى القول بأن الواجب القود لا يطالب بشيء، وعلى هذا فقس لو كان الولي قد قطع إحدى يدي المجوسي، ولو كان الجاني –حال قطع الولي يديه- مرتدًّا، وقد كان مسلماً حال الجناية فعلى القول بأن الواجب أحد الأمرين، للولي

مطالبته بكل الدية؛ لأن أطراف المرتد لا تقوَّم وعلى القول بأن الواجب القود ليس للولي مطالبته بشيء، لأنه استوفى ما يوازي روحه. الثاني: أنه لا فرق عند قطع [الولي] اليدين من الجاني – أو أحداهما – بين أن يكون الولي مسيئاً بالقطع أو غير مسيء؛ بأن يكون الجاني قد قطع اليدين من المجني، أو إحداهما، ثم سرت الجراحة إلى نفسه، أو لم تسر، وحزّ الجارح رقبته قبل الاندمال، وهذا لا شك فيه فيما إذا كان الولي مسيئاً بالقطع أو غير مسيء، وقد حصل زهوق الروح بالسراية؛ وكذلك إذا حصل بحز الرقبة بعد القطع وقبل الاندمال على المذهب؛ لأنه لا فرق عند الشافعي بين أن يقطع يده ويسري القطع إلى نفسه، وبين أن يقطع يده، ثم يحز رقبته قبل الاندمال- في أن أرش الطرف يدخل في دية النفس. وعلى قياس قول الإصطخري وابن سريج- أن أرش الطرف لا يدخل في دية النفس عند حز الرقبة، ويلزم الجاني دية الطرف والنفس بالغة ما بلغت؛ كما حكاه عنهما القاضي أبو الطيب والرافعي، وادعى الإمام أن للشافعي قولاً يدل على موافقته، وانه الأصح في القياس - يجب أن يقطع بوجوب الدية في الصورة الأولى، والثانية إن عفا الولي عليها؛ وكذا إن أطلق العفو على قولنا: إن الواجب احد الأمرين. وإن قلنا: الواجب القود، فيجيء الطريقان. ويعضد ذلك أن القاضي أبا الطيب وغيره حكوا عنهما فيما إذا قطع رجل طرف رجل، فعفا عنه، ثم عاد الجاني، وحز رقبته – أنه يجب القصاص في النفس، وإذا عفا عنه، وجب كمال الدية؛ بناء على الأصل المذكور. وحكوا عن غيرهما في هذه الصورة وجهين آخرين: أحدهما: أنه لا يجوز القتل؛ لأن القتل حصل بهما؛ فهما كجناية واحدة، فإذا سقط القصاص في بعضها سقط في جميعها، إلا أنه يجب نصف الدية. وادعى

الماوردي أن هذا ظاهر المذهب. والثاني: أنه يجب القصاص، وإذا عفا عنه وجب نصف الدية؛ لأن القتل ليس من أثر الجناية التي عفا عن القصاص فيها، وإنما هو قتل ابتدأه، فلا يؤثر العفو عن الطرف شبهة فيه. وهذا ما صححه القاضي أبو الطيب، والإمام، والشيخ في المهذب، وغيرهم، ونسبه الماوردي إلى أبي عليّ بن أبي هريرة. وقال المحاملي والبندنيجي: إنه المذهب. قلت: وهذان الوجهان في هذه الصورة يمكن ان يُرَتَّبا على وجهين حكاهما صاحب "التقريب"؛ فيما إذا قطع إنسان يد رجل؛ فسرت الجراحة إلى نفسه، فعفا الولي عن القصاص في الطرف – هل يسقط حقه من القصاص في النفس، أم لا؟ فإن قلنا: لا يسقط، وهو القياس؛ كما لو كان مستحق القصاص في الطرف غير مستحقه في النفس – وصورته: أن يقطع يد عبد، ثم يعتق، فتسري الجراحة إلى نفسه؛ فإن القصاص في الطرف للسيد، وفي [النفس] لوارث العبد المعتق – لم يسقط هاهنا. وإن قلنا: إنه يسقط في النفس؛ نظراً إلى أنه لما عفا عن الطرف؛ فكأنه ضمن سلامة الأطراف، وفي قتله إتلاف أطرافه – فهاهنا يجري الوجهان، ووجه الفرق: أن العفو عن قصاص الطرف في المسالة الثانية وجد قبل استحقاق القصاص في النفس؛ فضعف فيه الإلزام، [وفي الأولى وجد بعد استحقاق قصاص النفس، فقوى الإلزام]. لكن قد حكى الرافعي الجزم بأنه إذا قطع يده، ثم حز رقبته قبل الاندمال، فعفا وليه عن القطع- لا يسقط قصاص النفس. وهذا يبطل الفرق المذكور، والله أعلم. قال: وإن كان القصاص لنفسين، فعفا أحدهما، أي: عن القصاص – سقط القصاص؛ لتمليكه صلى الله عليه وسلم استيفاء القتل لجملة الأهل؛ فلم يملكه بعضهم.

ولما روي: أن رَجُلاً قَتَلَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – فَجَاءَ وَرَثَةُ المقْتُولِ؛ فَقَالَتْ أُخْتُ المقْتُولِ – وَهِيَ امْرَأَةُ القَاتِلِ –قَدْ عَفَوتُ عَنْ حَقِّي، فَقَالَ عُمَرُ: عُتِقَ مِنَ القَتْلِ". ولأن القصاص لا يتبعض، فإذا سقط بعضه – سقط جميعه، ويخالف حد القذف إذا ثبت لجماعة، فعفا بعضهم؛ حيث أثبتناه للباقين – على قول- لان حد القذف ليس له بدل ينتقل إليه، [والقصاص له بدل ينتقل إليه]. قال: [و] وجب للآخر حقه من الدية؛ لما روى زيد بن وهب قال: دخل رجل على امرأته؛ فوجد [عندها] رجلاً؛ فقتلها؛ فاستعدى إخوتها عمر – رضي الله عنه – فقال بعض إخوتها: قد تصدقت؛ فقضى لسائرهم بالدية. وقد ادَّعى المتولي عند الكلام في العفو المطلق الإجماع على ذلك. ولا فرق – فيما ذكرناه – بين أن يكون نصيب العافي مثل نصيب الآخر؛ كما إذا كانا ابنين، وهو ما يفهمه كلام الشيخ من بعد، وفيها فرض الشافعي الكلام، أو أكثر؛ كما إذا كن العافي أخا، ومعه أخت، أو أقل؛ كما إذا كان العافي أختاً، ومعها أخ؛ كما صرح به الماوردي. ثم هل يجب للعافي شيء من الدية؟ ينظر: إن عفا عليها فنعم، وإن عفا عنها فلا، وإن أطلق؛ جاء الخلاف السابق. قال: وإن أراد القصاص لم يجز لأحدهما أن ينفرد به؛ لأن الشرع أثبته للأهل؛ فلم يكن لأحدهم الاستبداد به؛ لما فيه من الافتيات على الباقين وتفويت حقهم؛ كما في سائر الحقوق، فإن تراضيا على أن يستوفيه أحدهما- جاز وكان المستوفي وكيلاً عن صاحبه في حصته، قال القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وغيرهما: ولا يجوز الاستيفاء إلا كذلك، أو يوكلا وكلاً واحداً يستوفيه.

قال: وإن تشاحّا أقرع بينهما؛ لأنه [ليس] أحدهما بأولى من الآخر؛ فتعينت القرعة؛ حسماً لتنازعهما، فلو خرجت لأحدهما، قال البندنيجي: لم يكن له أن يستوفيه حتى يستأذنه؛ لأن حقه قائم، وهذا ما ادعى القاضي الحسين أنه الأظهر. وحكى وجهاً آخر: أنه يجوز بعد خروج القرعة بدون إذنه، نعم لو منعه منه، امتنع. قال: [فإن بدر] أحدهمان فاقتص، أي: بغير قرعة، ولا إذن من صاحبه، ولا حكم [من] حاكم بالمنع منه، وهو عالم بتحريم ذلك ففيه قولان: أحدهما: [أنه] لا قود عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ" و"ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَلأَنْ يُخْطِئَ الإِمَامُ فِي العَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي العُقُوبَةِ". والشبهة ثابتة من وجهين: أحدهما-وهو الظهر عند الإمام والرافعي -: أن له فيه حقًّا، فاندفع عنه

الحد به؛ كما لو وطئ الجارية المشتركة. والثاني: أن من علماء المدينة، أو أكثرهم – كما قال القاضي أبو الطيب – من ذهب على أن لكل من الورثة الانفراد باستيفاء القصاص، حتى لو عفا بعضهم – كان لمن لم يعف القصاص، وقد حكى الماوردي، والمحاملي وغيرهما ذلك عن مالك أيضاً، واختلاف العلماء في إباحة الفعل الذي لا يدعو قليله إلى كثيره شبهة دارئة للعقوبة؛ [ولذلك لا نوجب] الحد في الأنكحة المختلف فيها. وهذا القول اختاره المزني، وصححه الرافعي، والقاضي أبو الطيب، والمحاملي، والإمام، والمصنف. والثاني: يجب عليه القود؛ لأنه استوفى أكثر من حقه؛ فلزمه القصاص فيه؛ كما لو كان له القصاص في الطرف؛ فاستوفى النفس. وأيضاً: فإن القصاص لهما؛ فإذا استوفاه أحدهما، فقد قتل نصفاً لا يملكه. قال القاضي أبو الطيب: [فجاز] أن يقاد به؛ كما إذا اشترك رجلان في قتل واحد؛ فإنهما يقتلان به، ويكون كل واحد منهما بنصفه. وقد وافق القاضي في هذا التعليل المحاملي، والبندنيجي، والماوردي، وابن الصباغ، والمصنف، والرافعي، وإن اختلفت عباراتهم. وقد ادعى الجيلي أن هذا القول هو الأصح في "الشامل"، و"البسيط"، ولم أره في "الشامل" في موضعه، [و"البسيط" لم أقف عليه فيه] ونسبه المتولي إلى القديم. أما إذا كان القتل بقرعة، أو بإذن الآخر، أو كان القاتل جاهلاً بالتحريم – فلا يجب عليه [وجهاً] واحداً، صرح به في "التهذيب" في الأخرة. ولو كان بعد حكم الحاكم بالمنع منه، قال الماوردي: فالصحيح أن عليه القود؛ لنفوذ حكمه برفع الشبهة فيه. قال وإن عفا أحدهما، ثم اقتص الآخر قبل العلم بالعفو، أو بعد العلم قوبل الحكم بسقوط القود، أي: وقلنا: لا قود عليه إذا اقتص قبل العفو – ففيه قولان:

أصحهما: أنه يجب [عليه] القود. والثاني: لا يجب. هذان القولان بناهما الأصحاب على الوجهين في [علة] امتناع القصاص في المسألة السابقة: فمن قال: العلة ثمَّ شبهة أن له فيه حقًّا، قال بوجوبه هنا؛ لأن بالعفو سقط حقه؛ فأشبه ما لو قتله بعد عفوهما، أو قتله العافي بعد عفوه، فإنه يجب القود قولاً واحداً. ومن قال: العلة ثَمَّ شبهة أن له فيه حقًّا، قال بوجوبه هنا؛ لأن بالعفو سقط حقه؛ فأشبه ما لو قتله بعد عفوهما، أو قتله العافي بعد عفوه، فإنه يجب القود قولاً واحداً. ومن قال: العلة ثَمَّ شبهة اختلاف العلماء لم يوجب [القود] هنا؛ لأن اختلافهم موجود، لكن هذه العلة قد ينقضها [ما] إذا قتل المسلم ذميًّا، فقتله وليه؛ فإنا نقتله به، وإن كان الخلاف في قتله ثابتاً، فلا جرم كان الصحيح الأول. ولا شك في أن الخلاف المذكور في قتله بعد العلم بالعفو مرتب على الخلاف في قتله بعد العفو وقبل العلم به، وأولى بإيجاب القصاص؛ وكذا حكاه البندنيجي، ومن هنا تخرج طريقة قاطعة بإيجاب القصاص فيما إذا قتله بعد العلم بالعفو، وقد حكاها ابن الصباغ وغيره [وأما] إذا قتله بعد العفو وحكم الحاكم بسقوط القصاص – وجب القصاص قولاً واحداً، سواء علم بالعفو أو لم يعلم، صرح به القاضي أبو الطيب والبندنيجي؛ لأن بحكم الحاكم يصير المختلف فيه إجماعاً، فتزول الشبهة. وهذا الجزم فيه نظر؛ لأنا قد حكينا فيما إذا قتل من [قد] عهده مرتداًّ، وثبت أنه أسلم قبل القتل في وجوب القصاص عليه – قولين، [مع] أنه لا شبهة في إباحة قتله، إلا كونه بني على استصحاب الحال، وذلك موجود هنا.

ووجه الشبه بين الصورتين: أن المقتول معصوم بالإجماع، والقاتل جاهل بحاله، غير معذور في الإقدام. نعم [الأشبه ما قاله البندنيجي؛ وهو الجزم بوجوب القصاص إذا وقع القتل بعد الحكم، سواء علم بالحكم أو لم يعلم]. وقد يتخيل بينهما فرق؛ وهو أن المرتد كان مهدر الدم بالنسبة إلى القاتل، بل إلى كل واحد، ومنعه من قتله حذر من الافتيات على الإمام؛ لكون الاستيفاء منصبه، ولما كان الأمر كذلك قويت الشبهة في استصحاب المهدر؛ فسقط القصاص، ولا كذلك في مسألتنا، فإن المقتول بالنسبة على القاتل معصوم الدم؛ ولذلك تجب عليه الكفارة والدية؛ فضعفت الشبهة في استصحاب المسقط للقصاص فقط، وهو عدم العفو، فوجب القصاص، [والله أعلم]. قال: وإن قلنا: يجب، فأُقِيد منه، وجبت الدية، أي: دية المقتول أولاً، في تركة القاتل الأول. ووجهه في الصورة الأولى – كما قاله ابن الصباغ، والرافعي وغيرهما-: أن القصاص لمَّا وجب، لم يقع قتل الجاني قصاصاً؛ كما لو قتله أجنبي، وإذا فات القصاص وجبت الدية. ووجهه في الصورة الثانية والثالثة: أن بالعفو تعين حق ورثة المقتول أولاً في الدية، ولم يؤخذ، ولا عوض عنها، ثم الدية-في هذه الحالة – تصرف إلى ورثة المقتص وإلى الذي لم يقتص، [كما كانت تصرف إلى] من اقتص وغلى [من لم يقتص] لو مات القاتل، وهذا مجزوم به في طرق الأصحاب. قلت: وفي في الصورة الأولى نظر؛ لأنهم جعلوا علة وجوب القصاص فيها كون المقتص استوفى أكثر من حقه، أو كونه قتل نصفاً لا يملكه، ومثل ذلك يوجب القصاص؛ كما إذا اشترك اثنان في قتل رجل، وهذا منهم دليل ظاهر على

جعله مستوفياً لحصته من القصاص، وإنما وجب عليه القتل؛ لاستيفائه حق الآخر؛ فكان [يجب أن يقال: لا] يجب [من الدية] في تركة القاتل أولاً إلا قدر نصيب الذي لم يقتص. نعم، لا يرد ما ذكرته على الإمام، فإنه جعل علة القول بوجوب القصاص أن استيفاءه حق نفسه من القصاص غير ممكن، ولا سلطان له في استيفاء حق أخيه؛ فلا يقع قتله عن جهة القصاص، لا في حقه، ولا حق أخيه، وإذا لم يقع عن جهة القصاص، كان قتله [إياه] بمثابة قتل الأجنبي [والله اعلم]. أما إذا لم يقد منه، فإن عفا عنه مجاناً، فالحكم كما لو أقيد منه؛ وكذا إذا أطلق العفو، وقلنا: مطلقه لا يوُجب الدية، فأما إذا قلنا: مطلقه يوجبها، أو عفا عليها؛ فالحكم كما إذا قلنا: لا يجب القود في حال القتل بعد العفو، وسنذكره. قال: فإن قلنا: لا يجب، فقد استوفى المقتص حقه: أما في الصورة الأولى، فظاهر؛ لأن قتل الجميع يتضمن قتل البعض. وفي "التتمة" أن من علل من أصحابنا سقوط القصاص باختلاف العلماء، لم يجعل لشركة تأثيراً؛ فلا يصير مستوفياً حقه. وأما في الصورة الثانية والثالثة، فلأن الواجب عليه دية الذي قتله، والواجب له نصف دية مورثه؛ فسقط مما عليه بإزاء ما له، وبقي الباقي في ذمته، وهذا ما جزم به البندنيجي، وهو من الشيخ، ومنه تفرعي على وقوع التقاص بنفس الوجوب. أما إذا قلنا: لا يحصل إلا بالتراضي، لم يجعل المقتص مستوفياً لحقه إلا به، صرح به الماوردي، والمصنف وغيرهما. واستشكل الرافعي جريان التقاص في مسألتنا؛ من حيث إن موضع الخلاف في التقاص؛ إذا تساوى الديتان في الجنس والصفة، حتى لا يجري فيما

إذا كان أحدهما حالاًّ والآخر مؤجلاً، أو كانا مختلفين في قدر الأجل، قال: وهاهنا إحدى الديتين ثبتت في ذمة الابن القاتل لوارث الجاني، والأخرى تتع7لق بتركة الجاني، ولا تثبت في ذمة الوارث، وهذا الاختلاف أشد من الاختلاف في قدر الأجل. قلت: وجوابه أن للشافعي – رضي الله عنه – قولين في أن الدية تثبت للمقتول أولاً، أو للوارث ابتداء؟ فإن قلنا بالأول – وهو الصحيح في الطرق- فمن وجب في ذمته الدين هو الذي وجب له الدين؛ فلا اختلاف. وإن قلنا بالثاني، فلا نسلم أن هذا الاختلاف اشد من الاختلاف في قدر الأجل؛ لأن الدية- وإن وجبت للوارث ابتداء – فهي متعلق حق أرباب الديون على المورث، ومحل لتنفيذ وصاياه باتفاق الأصحاب، فكانت كأنها له. نعم، الانتقاد على الأصحاب في شيء ساذكره من بعد، وهذه مادته. قال: ووجب لأخيه نصف الدية، أي: في الصورة الأولى من غير تفصيل؛ لأنه فات عليه القصاص بدون رضاه؛ فانتقل حقه إلى ما يقابله من الدية؛ كما لو فات بعفو شريكه، وهل هي نصف دية مورثه، أو نصف دية قاتل أبيه؟ يظهر مجيء الوجهين اللذين حكيناهما عن رواية المتولي من قبل، وتظهر فائدتهما فيما لو كان المقتول أولاً مسلماً، وقاتله ذميّ، ثم أسلم، وأما [في الصورة] الثانية والثالثة، فكذلك الحكم إن كان قد عفا على الدية، أو أطلق، وقلنا: العفو المطلق يوجب الدية؛ لما ذكرناه من قبل. أما إذا قلنا: لا يوجبها، أو صرح بإسقاط الدية عند العفو، فلا يجب [له] شيء. قال: وممن يأخذ؟ فيه قولان:

أحدهما: من أخيه المقتص، قال الأصحاب: لأن نفس قاتل أبيه كانت مستحقة لهما، فإذا قتله أحدهما فقد أتلف ما يستحقه هو وأخوه؛ فوجب عليه ضمان حق أخيه؛ كما لو كانت لهما وديعة؛ فأتلفها أحدهما، وهذا التعليل يفهم اختصاص هذا القول بالصورة الأولى، مع أنه جار فيها، وفيما عداها؛ كما صرح به الماوردي، وكذا ابن الصباغ، ووجهه بأن القصاص وإن سقط قبل القتل، فالقاتل محل الحق؛ فإذا أتلفه متلف انتقل الحق إليه. والثاني: من تركه الجاني؛ كما لو قتله أجنبي؛ [و] هذا ما اختاره المزني، وهو الأصح عند النواوي وغيره. قال الأصحاب: ويخالف الوديعة؛ فإنها غير مضمونة لو تلفت بآفة سماوية، ونفس الجاني أولاً مضمونة لو تلفت بآفة سماوية. وأيضاً: فإن الوديعة لو أتلفها أجنبي لضمنها لهما؛ فكذلك إذا أتلفها أخوه؛ بخلاف ما لو قتل الجاني [أولاً أجنبيٌّ]؛ فإن ديته تكون لورثته على الأجنبي، ودية المقتول أولاً في تركه قاتله، على أن في هذه الصورة – أيضاً – وجهاً حكاه الرافعي: أن دية المقتول أولاً تجب على الأجنبي، ولا تجب في تركة القاتل. وقد حكى في مسألة الكتاب عن ابن سريج قول ثالث مخرج: أن الذي لم يقتل من الابنين يتخير بين أن يأخذ حقه من أخيه، وبين أن يأخذه من تركة الجانين وينزلان منزلة الغاصب، والمتلف من يد الغاصب. تنبيه: محل قولنا: إن نصيب الذي لم يقتص من الدية يأخذه من أخيه إذا كانت دية المقتول أولاً ودية قاتله مستوية، أما لو اختلفتا؛ بأن كان المقتول أولاً مسلماً، وقاتله ذميّ – فإن الواجب على المقتص في هذه الصورة نصف دية الذميّ، وهو سدس دية المسلم، ولأخيه نصف دية مسلم؛ فقد قال ابن الصباغ: لو قلنا: إنه يرجع عليه، لم يمكن أن يرجع عليه بنصف دية المسلم، ولا يمكن أن يرجع على أخيه، وورثة القاتل؛ لأن على هذا القول: أخوه أتلف جميع حقه،

ولم يذكر أصحابنا هذا الفرع، وهذا يدل على تضعيف هذا القول. فرع: إذا أبرأ الأخ – الذي لم يقتل – أخاه من نصف الدية، أو أبرأه ورثة القاتل منه؛ إن قلنا: إن حق الأخ يأخذه من أخيه، برئ، ولا شيء عليه لأحد، ولا يبرأ بإبراء ورثة المقتص منه. وإن قلنا: إن نصيب الأخ يأخذه من تركة القاتل، لم يبرأ بإبراء أخيه، ويبرأ بإبراء الورثة. قال المحاملي والبندنيجي والماوردي وغيرهم: وتبرأ الورثة - أيضاً – على هذا القول بإبراء الذي لم يقتص؛ لأن الحق يثبت له عليهم. وهذا فيه نظر؛ لأن دية المقتول أولاً واجبة في ذمة مورثهم دونهم، وإن تعلقت بالتركة؛ وهي ملكهم، فحصول براءتهم بالإبراء ولا شيء في ذمتهم- لا وجه له، وهذا ما وعدْتُ به من قبل. فرع: إذا كان المقتص جاهلاً بتحريم القتل، فقد ذكرنا أنه لا قود عليه جزماً، لكن هل حكم هذا القتل حكم الخطأ حتى يتحمل بدله العاقلة، أم لا؟ فيه قولان: فإن قلنا: تتحمله العاقلة، فالحكم كما إذا قلنا بوجوب القصاص، واقتص منه لكن في هذه [الحالة] يثبت لورثة القاتل أولاً ديته على عاقلة المقتص مؤجلة. قلت: وينبغي أن يلاحظ فيه جعل الخاطئ مستوفياً لحقه، حتى لا يجب على عاقلته إلا نصف دية القاتل أو لا، على وجه. وإن قلنا: إن العاقلة لا تتحمله؛ فالحكم كما إذا قلنا بامتناع القصاص في حالة القتل بعد العفو، وقد ذكرناه. قال: وإن كان القصاص لصبي أو معتوه، حبس القاتل حتى يبلغ الصبين ويفيق المعتوه. هذا الفصل ينظم حكمين:

أحدهما: بمفهومه، وهو أن وليهما لا يجوز له القصاص ولا العفو على مال. والثاني: بمنطوقه، وهو حبس القاتل. ووجه الأول: أنه قتل ثابت غير متحتم لمعين، فلا يجوز استيفاؤه، ولا إسقاطه إلا برضاه؛ كما لو كان غائباً، أو بالغاً؛ ولأن القصد من القصاص [إنما هو] التشفي، ودرك الغيظ؛ وهو لا يحصل باستيفاء الولي؛ فلذلك لم يدخل تحت ولايته. قال الجيلي: فلو حكم حاكم باستيفاء القصاص فالأصح: أنه لا ينقض حكمه، ولا فرق في الولي بين أن يكون وصيًّا أو حاكماً أو أباً. وحكم القصاص في الطرف بسبب قطع طرف المولى عليه أو غيره، حكْمُ القصاص في النفس؛ كما صرح به المحاملي في "المجموع"، والقاضي الحسين، والرافعي. وفي "الذخائر": أن هذا مخصوص بما إذا ثبت له بإرث عن غيره، أما إذا ثبت له بجناية على طرفه فلوليه استيفاؤه. وحكى عن القفال أن للسلطان استيفاء قصاص المجنون بعد الأب. وقال الإمام في باب اللقيط: [كان الشيخ أبو بكر يزيفه]. ووجه الثاني: أن في حبس القاتل مصلحة له؛ لأنه لا يقتل في الحال، ومصلحة للمولى عليه؛ لأنه يستوفيه في حالة يصح تشفيه، ودرك غيظه. وأيضاً فإنه استحق قتله، وفيه إتلاف نفسه ومنفعته؛ فإذا تعذر استيفاء نفسه، أتلفنا منفعته بالحبس إلى أن يمكن إتلاف نفسه. وكما يحبس القاتل يحبس القاطع لطرف يجب عليه به القصاص كي لا يفوت الحق بتواريه وهربه، والمتولي للحبس: الحاكم دون الولي، ولا يتوقف على طلب الولي؛ صرح به الماوردي. وهكذا الحكم لو كان المستحق للقصاص في النفس غائباً، دون القصاص

في الطرف – عند ابن الصباغ- لأن للميت في قصاص النفس حقًّا، وللحاكم ولاية على ما يخلفه الميت، بخلاف مال الغائب المكلف. قال الرافعي: وفي كلام الإمام وغيره ما ينازع فيه، ويشعر بأخذ مال الغائب ويحفظ له، وأنه يحبس لقصاص الطرف [أيضاً]. وفي "الحاوي" أنه لا يحبس لقصاص الغائب إلا باستدعاء منه. وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسي: أن الشيخ ابا عليّ قال: لا يحبس القاتل؛ لأن الحبس ضم عقوبة إلى القصاص المستحق عليه، وحمل الحبس في كلام الشافعي – رضي الله عنه – على التوقف والإنظار. والمشهور الأول، وعليه جرى الإمام والقاضي الحسين. قال: وإن كان الصبي والمعتوه فقيرين [يحتاجان إلى ما ينفق] عليهما، جاز لوليهما العفو على الدية؛ لأن هذا موضع ضرورة؛ فجاز له ذلك؛ كما نقول في بيع عقاره. وقيل: لا يجوز؛ لأنه يستحق النفقة في بيت المال؛ فلا حاجة إلى العفو عن القصاص، وهذا ما ادعى البندنيجي أنه المنصوص، والجيلي أنه الأصح، وقال الرافعي: إنه الأظهر في الصبي، بخلاف المجنون؛ فإن الظهر فيه الجواز. قال الماوردي: ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن يعتبر حال الولي: فإن كان مناسباً، أو وصيًّا، لم يصح عفوه؛ [وإن كان حاكماً صحَّ عفوه]؛ لأنه حكم يجوز أن ينفذ باجتهاده. أما إذا كان فقيراً غير محتاج إلى ما ينفق عليه؛ بان كان له قريب تلزمه نفقته، لم يجز له العفو جزماً، صرح به الماوردي وغيره. وقد أطلق الغزالي هنا حكاية نص للشافعي –رضي الله عنه – فيما إذا

[وجب القصاص لمجنون: أن لوليه المطالبة بالأرش؛ للحيلولة، وفيما إذا] كان لصبي أنه ليس له، من غير تقييد بحالة الفقر، ووجه ذلك بأن للصبي أمداً ينتظر؛ بخلاف المجنون، وأن من الأصحاب من خرج من كل مسألة إلى الأخرى وجهاً، واتبع في هذا الإطلاق الإمام، وقد وافقهما على ذلك – في المجنون- أبو إسحاق الخراط؛ كما ذكره القاضي الروياني عنه، لكنا حكينا في باب اللقيط: أن محل النص في المجنون إذا كان معسراً. وعن الإمام نفي الخلاف في الصبي إذا كان عاقلاً مميزاً موسراً؛ فتعين حمل النصين المطلقين هنا على حالة الاحتياج فيهما، وحمل ما أطلقه البندنيجي من حكايته أن قول المنع الذي ذكره الشيخ هنا هو المنصوص على الصبي خاصة؛ كما صرح به في المهذب، وحينئذ يستقيم التخريج، [والله أعلم]. قال: وإن وثب الصبي أو المعتوه، فقتل الجاني، أي: أو قطع طرفه المستحق له – فقد قيل: يصير مستوفيا؛ لأنه وإن منع من القصاص فهو المستحق له، ولا سبيل إلى إحباط فعله؛ فصرف إلى استيفاء حقه؛ وكما لو كان له وديعة عنده، فأتلفها. وهذا ما جزم به القاضي الحسين قبيل باب: عفو المجني عليه في الصبي، وقاسه على ما إذا اشترى قيم الطفل له عبداً؛ فبادر الصبي وقتله قبل القبض؛ فإنه يصير قابضاً، وألحق استيفاء القصاص في الطرف باستيفائه في النفس. وقال المتولي: إنه الصحيح في استيفاء الطرف في الصبي والمجنون. قال: والمذهب: أنه لا يصير مستوفياً؛ لأنه ليس من أهل الاستيفاء، ويخالف مسألة البيع والوديعة؛ لأن هناك فعله مضمون، والملك له، فلو لم نجعله مستوفياً لأوجبنا عليه ضمان ملكه، وهنا لا ملك له في محل القصاص؛ بدليل ما لو

أتلفه أجنبي؛ فإنه لا يضمن له – على المذهب – وإذا كان كذلك لم يلزم منه إذا ضمناه أن نضمنه ملك نفسه. وقد فرق الشيخ في المهذب وغيره من الأصحاب بين ما نحن فيه، وبين الوديعة؛ بأنها لو تلفت من غير فعل [برئ منها المودع، ولو هلك الجاني من غير فعل] لم يبرأ من الجناية؛ فعلى هذا هل تجب دية القاتل المقتول في مالهما، أم على عاقلتهما؟ فيه خلاف مبني على أن عمدهما عمد، أم لا فإن قلنا: إنه عمد، كانت في مالهما، ويجيء فيها أقوال التقاص. وإن قلنا بمقابله، كانت على العاقلة مؤجلة، وحقهما في تركة القاتل المقتول حالاًّ. قال الإمام: وهذا الخلاف غير مذكور في طريقنا، لكن قياس أئمتنا يقتضيه. و [قد] احترز الشيخ بلفظ:"وثب" وهو القتل بدون إذن الجاني عما إذا قتله بعد تمكينه من نفسه؛ فإنه لا يكون مستوفياً وجهاً واحداً، ويكون فعله مهدراً لا ضمان فيه؛ لتفريطه. قال أهل اللغة: يقال: وَثَبَ يَثِبُ وَثْباً ووِثَاباً؛ أي: طفر. وحكم البالغ العاقل إذا قتل الجاني، أو قطع طرفه خطأ – حكم الصبي والمجنون في جريان الخلاف؛ كما صرح به المتولي والغزالي، وأبداه الإمام تخريجاً، لكن الأصح: أنه يجعل مستوفياً، وهو ما جزم به القاضي الحسين في باب القصاص في الشجاج، وقال الإمام ثمَّ: إنه الذي يجب القطع به، وهو الذي تقتضيه علة الأصحاب؛ حيث عللوا قول المنع في الصبي والمجنون بأنهما ليسا من أهل الاستيفاء، وهذا من أهله. قال: وإن قتل من لا وارث له جاز للإمام أن يقتص، أي: إذا رأى ذلك مصلحة، وله أن يعفو على الدية؛ [أي:] إذا رآه مصلحة؛ لأن الحق للمسلمين؛ فكان للإمام الذي هو نائبهم ان يفعل ما فيه مصلحتهم؛ كولي

الطفل في ماله، وقد تقدم في كتاب اللقيط حكاية قول عن رواية البويطي أنه لا قصاص بقتل من لا وارث له. قال المتولي: وعلى ذلك يخرج إيجاب القصاص على من قتل من وارثه الخاص لا يستوعب جميع ميراثه، فعلى الأول يجب ويستوفي باتفاقه، واتفاق الإمام معه، ولا يجوز بدون ذلك. وعلى الثاني: لا يجب أصلاً، ولا يجوز للإمام العفو عن القصاص والدية؛ لأنه تصرف لا حظ للمسلمين فيه، فلم يملكه؛ قاله في المهذب. وقد ذكرت عن القاضي الحسين [وغيره في باب الوصية حكاية وجه: أن الوصية بالزائد على الثلث ممن لا وارث له تنفذ بإجازة الإمام؛ إقامة له مقام الوارث الخاص، وعلى هذا: لا يبعد أن يصح عفوه مجاناً. قال:] وإن قطع أصبع رجل، أي: عمداً، وهو حر، فقال: عفوت عن هذه الجناية، وما يحدث منها؛ فسرت إلى الكف – سقط الضمان في الأصبع؛ أي: من قود ودية؛ لعفوه عنه بعد الوجوب. وفي "الحاوي" أنا إذا قلنا: [إن] الواجب القود عيناً، ولا تجب الدية غلا باختيار الدية – لم يصح العفو عن الدية، [إلا أن يصرح بالعفو عنها]. وعن المزني: أنه لا يصح العفو عن الدية]، وإن صرح بالعفو عنها؛ لأنها لا تجب إلا بالاندمال؛ فالعفو عنها وجد قبل وجوبها. قال الشيخ في "المهذب": وهذا خطأ؛ لأن الدية تجب بالجناية، وإنما يتأخر استيفاؤها إلى الاندمال كالدين المؤجل، وبدل على ذلك أنه لو جنى على طرف عبده، ثم باعه، ثم اندمل، كان أرش الطرف له دون المشتري. قال: ووجبت دية بقية الأصابع؛ لأنه عفا عنها قبل الوجوب؛ فلم يصح. قال البندنيجي: ويكون الكف تبعاً للأصل. وحكى القاضي الحسين وغيره من المراوزة وجهاً؛ أنه يصح؛ نظراً إلى أنه

وجد سبب وجوبها وهو القطع. وفي كلام القاضي أبي الطيب ما يمنع [أنه سبب] الوجوب؛ كما سنذكره. ولا يجب القصاص في بقية الأصابع، وإن قلنا بوجوب القصاص بالسراية إلى الأجسام – كما افهمه قول الشيخ – وجبت دية بقية الأصابع؛ [لحدوثها من معفوّ عنه]. أما إذا قال: عفوت عن هذه الجناية، ولم يزد- فقد حكى البندنيجي والمحاملي عن نص الشافعي في "الأم" فيما إذا لم تسر إلى الكف: أنه عفو عن القود، دون العقل؛ لأنه ما عفا عن المال. وزاد المحاملي في الحكاية عنه: فإذا سقط وجبت الدية. ثم قال: وهذا مفرع على قولنا: إن موجب العمد القود، أما إذا قلنا: موجبه أحد الأمرين، ففي بقاء دية الاصبع احتمالان، وكذلك حكاهما الرافعي عن القاضي الروياني. وفي "الحاوي": أنه عفو عن القصاص وعن دية الأصبع؛ إذا قلنا: الواجب أحد الأمرين، وإن قلنا: الواجب القود، ولا تجب الدية إلا باختيارها – لم يصح. قلت: وما ذكروه يظهر جريانه في مسألتنا؛ لأن السريان لا يظهر له معنى في دية الأصبع، وأما دية بقية الأصابع- فتجب، ولا يجيء فيها الوجه السابق؛ نظراً إلى صحة الإبراء عما لم يجب، ولكن جرى سبب وجوبه. نعم حكى الطبري، والقاضي الحسين وغيرهما من المراوزة وجهاً: [أنها لا تجب]؛ موجهين ذلك بأن السراية تولدت من جناية غير مضمونة؛ فلم تكن مضمونة؛ كما لو قطع يد مرتد، فأسلم، ثم سري – لم تكن تلك السراية مضمونة؛ [وكما] لو قال لشخص: اقطع يدي، فقطعها، فسرى القطع على عضو آخر، وقضية هذا التعليل: أن يطرد هذا الوجه فيما إذا سرت الجناية إلى النفس، لكن القاضي حكى وجوب مازاد على دية الأصبع بلا خلاف. ثم [من] طريق الأولى – على هذا الوجه – لا يجب القصاص في بقية

الأصابع، وأما على الأول – وهو المذهب – فقد قال الأصحاب: لا يجب القصاص أيضاً، ويجيء على قياس قول أبي الطيب بن سلمة- الذي سنذكره من بعد – أنه يجب إذا قلنا بوجوبه بالسراية إلى الأجسام؛ كذا قال الرافعي. قال: وإن سرت إلى النفس سقط القصاص، أي: في الجميع، قال المحاملي: لن القصاص يسقط في الأصبع؛ لعفوه، وإذا سقط في البعض سقط في الكل؛ لأنه لا يتبعض. وقال القاضي أبو الطيب: لأن السراية تابعة للجناية في حكم القصاص؛ بدليل ما لو قطع يد مرتد، ثم اسلم، ثم سرت الجناية إلى نفسه؛ فإنه لا يجب القصاص فيها؛ كما لا يجب في الطرف؛ كذلك هاهنا: لما سقط القصاص في الجناية، سقط في سرايتها، وهذا ما ادعى القاضي الحسين نفي خلافه. وفي "ابن يونس" أنه قيل بوجوبه في النفس؛ لأن الفعل كان عدواناً، ولم يعف عن النفس. وهذا الوجه حكاه المتولي والقاضي الحسين والإمام وغيرهم عن أبي الطيب بن سلمة فيما إذا قال: عفوت عن هذه الجناية، ولم يزد؛ فسرت إلى نفسه. وذكر في "الزوائد": أن الطبري حكى عن ابن سلمة أنه حكى ذلك قولاً مخرجاً عن ابن سريج، وعلى هذا قال القاضي ابن كج: لو عفا عن القصاص لم ينك له إلا نصف الدية؛ لسقوط النصف بالعفو عن أرش اليد. قال: وهل تسقط الدية؟ فقد قيل: إن ذلك وصية للقاتل، أي: في الحكم بدليل اعتبار الدية من الثلث، وفيها قولان قد تقدم توجيههما. فعلى هذه الطريقة:

إن قلنا بقول الصحة، وخرجت من الثلث – برئ منها، وإلا برئ بقدر ما يخرج منه، ووجب الباقي. وإن قلنا بالمنع وجب جميع دية النفس، ولم يبرا منها بالعفو عنها. قال الماوردي: وسواء ما وجب بالجناية قبل العفو، وما حدث [بعده بالسراية]؛ لأن سراية جنايته إلى النفس قد جعلته قاتلاً. فإن قيل: إذا أبطلتم الوصية للقاتل، وأبطلتم عفوه عن الدية؛ فهلا بطل عفوه عن القصاص؛ لأنه وصية للقاتل؟! قيل: لأن الدية مال، والقود ليس بمال؛ بدليل عدم صحة الوصية به لأجنبي، بخلاف الدية. فإن قيل: لِمَ كان العفو كالوصية إذا سرت إلى النفس على أحد القولين، ولم يكن كالوصية إذا سرت إلى الكف واندمل، قولاً واحداً؟ قال البندنيجي: قلنا: لأنها إذا سرت إلى النفس كان ذلك عطية تجب بالموت؛ فكانت وصية، وإذا اندمل الكف، ولم يمت – كان إبراء عن عقلها؛ فلهذا لم يصح عما لم يجب. وهذا الجواب فيه نظر؛ لأنا قد ذكرنا أن جعله وصية من طريق الحكم، لا أنه وصية حقيقة، وإذا كان كذلك: فإن كانت مسألة الاندمال مصورة بما إذا صح، ولم يمت من تلك الجراحة ولا من غيرها، فهذه الحالة لا يعتبر فيها التبرعات من الثلث، بل من رأس المال؛ فانقطع عن التصرفات فيها حكم الوصية. وإن كانت مسألة الاندمال مصورة بما إذا كان في حالة البراءة مريضاً ومات من ذلك المرض – فالإبراء هاهنا في معنى الوصية؛ فلا يحصل بما ذكره جواب، [والله أعلم]. وفي "الجيلي": أن الشيخ أبا محمد في "السلسلة" خرج الخلاف في مسألة الكف على القولين في الوصية للقاتل. ثم اعلم أن القول [بأن هذا وصية للقاتل] مفرع على أن صورة الوصية

للقاتل أن يجرحه، ثم يوصي له [أما إذا قلنا: صورتها: أن يوصي له]، ثم يجرحه وإذا جرحه ثم أوصى له، يصح جزماً- فقد يقال: يصح هاهنا على هذه الطريقة قولاً واحداً. ويظهر أن يقال: لا يكون وصية، بل إبراء؛ كما سنذكره. قال: وقيل: هو إبراء أي: وليس بوصية؛ لأن الوصية تكون بعد الموت. وهذا ما صححه الرافعي والنواوي، ونسبه ابن الصباغ إلى أبي حامد. قال: فيصح في آرش الإصبع، أي: إن خرج من الثلث – لتحقق العفو عنه بعد وجوبه، أما إذا لم يخرج من الثلث شيء منه، فلا يصح أيضاً؛ لوقوعه في حال الخوف؛ كذلك أشار إليه ابن الصباغ، وصرح به القاضي الحسين، وقال: إن الحك كذلك فيما لو قتله آخر قبل الاندمال. قال: ولا يصح في النفس، أي: في دية [النفس؛ لأنه عفا] عما لا يملكه؛ على قولنا: إن الدية تثبت للوارث ابتداء، أو عما لم يجب؛ إن قلنا بأنها تثبت للموروث ابتداء، وكل من العفوين لا يصح. قال: فيجب عليه تسعة أعشار الدية؛ لأن القطع صار قتلاً؛ فواجبه الدية، وقد برئ مما قابل الأصبع منها [وهو العشر؛ فبقي الباقي] وهو تسعة أعشارها. وقيل: لا يجب له عليه شيء إذا خرج ذلك من الثلث؛ بناء على صحة الإبراء عما لم يجب، [ولكن] جرى سبب وجوبه، ولابد – على هذا – من ملاحظة أن الدية تثبت للقتيل أولاً، ثم تنتقل، أما إذا قلنا: إنها تثبت للوارث ابتداءً فيظهر عدم مجيئه؛ لأن المبرئ غير المستحق، وهذا بخلاف ما إذا قلنا: إن ذلك وصية؛ فإن ذلك لا يلاحظ؛ لكون الدية تنفذ منها الوصايا، وإن قلنا: إن الوارث يملكها ابتداء إلا على قول أبي ثور. وقد سلك القاضي أبو الطيب، والحسين، وابن الصباغ في هذه المسألة طريقاً

آخر؛ فقالوا: إذا سرى القطع إلى النفس بعد العفو عن الجناية، وما يحدث منها – فالقصاص غير واجب، وأرش الأصبع هل يبرأ منه؟ ينبني على أن الوصية للقاتل [هل] تصح أم لا؟ فإن منعناها لم تصح، وإلا صحت. وأما القدر الزائد عليه على تمام دية النفسن فهل يصح العفو عنهن أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه عفو عما لم يجب؛ فلا يصح؛ كما لا يصح عفوه عن ارش الكف إذا كانت السراية إلى الكف فقط. والثاني: يصح، ويفارق ما إذا سرى القطع إلى الكف؛ لأن الجناية على الأصبع لا تكون جناية على الكف؛ بخلاف الجناية على الأصبع؛ فإنها جناية على النفس. قال الرافعي: وهذا الخلاف بعينه هو الخلاف في أن الإبراء عما لم يجبن وجرى سبب وجوبه، هل يصح؟ قلت: لو كان هو [هو] لكان يبرأ عن أرش الكف؛ لأن سبب وجوبه الجناية على الأصبع قطعاً. ثم قال القاضي وغيره فإن قلنا: لا يصح العفو، وجب تسعون من الإبل، وإن قلنا: يصح، انبنى على القولين في الوصية للقاتل: فإن قلنا: لا تصح، صح العفو، وعلى ذلك جرى الرافعي، لكنه سكت عن القول بصحة العفو عن أرش الأصبع إلى تمام دية النفس، ولم يخرجه على الوصية [للقاتل]، وهذا يوهم أنه لا يخرج [عليه]. وحاصل الفرق بين الطريقين: أنا – على طريقة ابن الصباغ، ومن معه – إذا صححنا العفو عن أرش الأصبع، وعن القدر الزائد على أرش الأصبع، فنصححه في أرش الأصبع؛ لكونه إبراء [عما وجب، وفي [القدر] الزائد لكونه

إبراء] عما وجد سبب وجوبه، ونجعل حكمه حكم الوصية للقاتل؛ كما عجلنا حكمه حكمها في اعتباره من الثلث. [وعلى طريقة الشيخ – وهي التي أوردها المحاملي، والبندنيجي، والماوردي – نصححه في أرش الأصبع على طريقةٍ؛ لكونه وصية، وعلى طريقة؛ لكونه وصية، وعلى طريقة؛ لكونه إبراء، ولا نجعل حكمه حكم الوصية للقاتل، وإن جعلنا حكمه حكمها في اعتباره من الثلث؛ لكونه] صدر في حال الخوف، ونصححه في القدر الزائد- إذا صححناه –لكونه وصية قولاً واحداً. ثم على طريقة من صحح العفو عن أرش الأصبع، دون القدر الزائدعليه من الدية؛ لكونه إبراء – سؤال لا يكاد يندفع، ويحتاج في تقريره إلى تجديد العهد باصلين: أحدهما: أن الإبراء عن المجهول غير صحيح على المذهب. والثاني: أن الجراحات إذا سرت إلى النفس، وأفضى الأمر إلى الدية- لا نظر إلى أروشها، سواء كانت مقدرة أو غير مقدرة، بل الواجب – كما قال الإمام – دية واحدة عن النفس، لا عن الأطراف، ولا يختلف مذهبنا في ذلك. وإذا كان كذلك، فالإبراء حصل عما قابل الأصبع من الدية، وقد تبينا بآخر الأمر أن لا مقابل لها، ولو قيل بأن لها مقابلاً فليس هو عشراً من الإبل، بل جزء من الدية، وهو مجهول، وقضية ذلك: ألا يصح فيما ادعوه. فإن قلت: إنما صح عن أرش الأصبع؛ لأني انزل الإبراء منزلة الاقتصاص، وهو لو اقتص في الأصبع، لسقط من الدية العشر؛ فكذلك إذا عفا عن أرشه. [قلت: غنما سقط العشر عند القصاص فيه؛ لأنه استوفى ما قيمته العشر، مع أنه لا يمكن رده؛ فصار كما لو تسلم عشراً؛ بخلاف الإبراء؛ فإنه يقبل الرد.

فإن] قلتَ: قد أشار ابن الصباغ – في أواخر باب القصاص بالسيف – إلى شيء يمكن أخذ الجواب منه، وهو أنا عند السراية في مثل هذه الحالة لا نسقط ارش الجناية السابقة بالسراية، بل نوجب بالسراية تمامَ الدية. قلت: قد تقدم لنا خلاف فيما إذا قطع يدهن ثم ارتد ومات في الردة: أن القصاص في اليد هل يجب، أم لا؟ بناء على خلاف حكاه الأصحاب فيما إذا قطع يده فمات: [أنه] يجوز لولي المقتول – عندنا – قطع يده، فإن مات وإلا حزَّ رقبته، وهل يكون قطع اليد مقصوداً في الاستيفاء، [أم يكون القطع طريقاً في الاستيفاء؟]. والثاني: هو الذي فرع عليه الأصحاب؛ كما سنذكره عن ابن الصباغ في الباب، فينبغي أن تنبني هذه المسالة على هذا الخلاف: فإن قلنا: إن قطع اليد غنما وجب طريقاً في الاستيفاء؛ فالمقصود: النفس؛ فيكون الواجب ديتها؛ [فلا ينظر] إلى ارش الطرف. وإن قلنا: وجب مقصوداً؛ فحينئذ يتجه الواب. ولك أن تجيب عن هذا بان محل التردد إذا لم يتعلق بأرش اليد حق لغير مستحق النفس، أما إذا تعلق به حقن فذلك الحق لا يسقط عند السراية إلى النفس، ولا شيء منهن ما أمكن استيفاؤه اتفاقاً، وإن وجبت دية النفس؛ دليله ما لو قطع يد عبد، ثم أعتقن ثم مات، فإن حق السيد لا يسقط، وإذا كان كذلك، فالجاني هاهنا قد تعلق له حق بأرش الأصبع، وهو براءته منه، فإذا صار القطع قتلاً، ووجبت دية النفس، وجب ألا يسقط الحق السابق؛ كما في حق السيد، وبهذا تحرر الجواب عن السؤال، [والله أعلم]. أما إذا كان الجاني عبداً، فإن أضاف العفو إلى السيد؛ بأن قال: عفوت عما وجب لي على سيدك من قود وعقل – قال القاضيان الماوردي، وأبو الطيب: صح عفوه عن الدية، ولم يصح عن القود؛ لوجوب الدية على السيد، والقود على العبد.

وغيرهما بنى صحته في الدية على أن الدية بجناية العبد هل تثبت في ذمته مع تعلقها برقبته، ام لا؟ وفيه قولان: فإن قلنا: لا تتعلق بالذمة، فالحكم كذلك. وإن قلنا: تتعلق بالذمة مع الرقبة، لم يصح؛ لانه عفو من غير من عليه العفو. فإن قيل: فكان يتجه – [على] هذا – أن تكون فائدة العفو انفكاك الرقبة عن التعلق؛ إذا قلنا: إن هذا التعلق قابل للفك؛ كما حكاه الإمام وجهاً هاهنا. قلت: الإمام أجاب عنه: بأنا إذا قلنا: إن ذلك قابل للفك، فذاك إذا جرد مستحق الأرش القصد إلى قطعه، وهاهنا لم يجرد القصد إليه. فإن أضاف العفو إلى العبد، قال الماوردي: صح عن القود، ولم يصح عن الدية. وغيره قال: هذا مفرع على عدم تعلقها بالذمة، أما إذا قلنا بالتعلق، فهو كما لو كان الجاني حرًّا عامداً، وقد عُفي عنه. وإن أطلق؛ بأن قال: عفوت عن هذه الجناية، وما يحدث منها من عقل وقود – قال القاضي أبو الطيب والماوردي: صح العفو عن القود في حق العبد، وعن الدية في حق السيد، سواء جازت الوصية للقاتل أو لم تجز. والقاضي الحسين وغيره قالوا: إن الحكم كذلك؛ إذا قلنا: لا تعلق للدية بالذمة؛ فإن قلنا: تتعلق بها، فينبني على أن الوصية للقاتل هل تصح، [أم لا]؟ ثم إذا صححنا العفو؛ فإن قلنا: هو وصية، صح في الجميع، وإن قلنا: هو إبراء، صح في أرش الجناية دون ما حصل بالسراية على الأصح. ولو كانت الجناية خطأ: فإن كان الجاني عبداً، فلا يخفى حكمه مما مضى، وإن كان حرًّا؛ فإن ثبتت الجناية بإقراره، ولم تصدقه العاقلة – فالحكم فيها كجناية العمد، سواء كان الجاني مسلماً أو ذميًّا؛ لأن وجوبها على الجاني

دون العاقلة. وإن ثبتت بإقراره وصدقته العاقلة، أو بالبينة: فإن كان الجاني ذميًّا، وعاقلته لا يجري عليهم حكمنا كأهل الحرب، أو كانوا مسلمين- فالحكم كذلك؛ كما حكاه الماوردي. وإن كان الجاني مسلماً، أو ذميًّا، وعاقلته من أهل الذمة؛ فإن أضيف العفو إلى العاقلة، صح، سواء قلنا: إن الدية تلاقيهم، أو تلاقي الجاني، ثم تنتقل عليهم، صرح به الرافعي. قال: وكذا لو قال: عفوت عن الديةن ولم يضف إلى أحد، وعلى هذا إن غلبنا على هذا العفو حكم الوصية نفذ في الجميع، وإن قلنا: هو إبراء، نفذ في القدر الواجب بأول الجناية، دون ما سرت إليه – على الأصح – والقاضي الحسين قال فيما لو عفا عن العاقلة: إن قلنا: إن الوجوب يلاقيهم، صح عفوه فيما باشرته الجناية، وفيما لم تباشره الوجهان. وإن قلنا: إن الوجوب يلاقي الجانين ففيما لم يباشر: الظاهر أنه لا يصح، وفيما باشر وجهان. وقال فيما إذا أطلق العفو: إن قلنا يجب على العاقلة ابتداء؛ صح فيما باشر، وإن قلنا: يجب على الجاني ابتداء، ففيه وجهان. وإن أضاف العفو إلى الجاني، فإن قلنا: الوجوب [لا] يلاقيه، فهو لغو، وإن قلنا: يلاقيه، وتتحمله العاقلة – فوجهانا حكاهما القاضي الحسين وغيره، وأظهرهما في "الرافعي" وهو المذكور في "التهذيب"-: أن الجواب كذلك؛ لأنه لا شيء عليه عند العفو؛ فإن الدية كما وجبت انتقلت عنه. والثاني: أنه ينفذ بتقديره أصيلاً، وبتقدير العاقلة كفيلاً، ثم إذا برئ الأصيل برئ الكفيل. وهذا ما جزم به الماوردي، وقال: لا فرق عليه بين أن يجعل العفو في حكم الوصية أو الإبراء سواء أجيزت الوصية للقاتل أوْ رُدَّتْ، لكن إذا جرى عليها حكم الوصية كان عفواً [عن الجميع، وإلا لكان عفواً] عما وجب بابتداء الجناية، دون ما حدث بعدها بالسراية. ومن قال بالأول قال: هذا الانتقال يشبه الحوالة، لا الضمان.

فرعان: أحدهما: إذا جنى عليه جناية توجب القصاص، إذا اندملت: كقطع [الأصبع] ونحوها، فعفا المجني عليه على الدية، ثم سرت إلى النفس – لم يجب قصاص النفس، وفيه الوجه المنسوب إلى أبي الطيب بن سلمة. ولو جنى جناية لا توجب القصاص إذا اندملت؛ كالجائفة، فأخذ المجني عليه الأرش، ثم سرت الجناية إلى النفس- فالمنقول في "المهذب"، و"تعليق" القاضي ابي الطيب، و"التتمة"، وغيرها: أنه يجب القصاص؛ لأن الجناية لم تتولد عن معفو عنه. وهكذا لو كان المجني عليه قد قال – والصورة هذه -: عفوت عن القصاص، فهو لغو؛ لأن هذه الجناية لا قصاص فيها. وقال الإمام في الأولى: يحتمل أن يقال: لا يجب القصاص؛ لأن الجائفة، وإن لم يكن فيها قصاص، فهي على سبيل القصاص، وأخذ الأرش مشعر بالعفو؛ [فيجوز أن يجعل شبهة دارئة للقصاص كالعفو] فيما يوجب القصاص، وهذا الاحتمال جريانه في الصورة الثانية [من طريق] الأولى. الفرع الثاني: إذا قال لرجل: اقطع يدي؛ وهو مالك لأمر نفسه؛ فقطعها، لم يجب عليه قصاص ولا دية؛ لأن الإذن في الإتلاف من مستحق البدل، يتضمن الإهدار؛ كما لو أذن في إتلاف ماله؛ وهذا ما جزم به ابن الصباغ وغيره. وحكى الغزالي في باب: ضمان الولاة – في وجوب الضمان – خلافاً منشؤه أن المستحق أسقط حقه، ولكنه مُحَرَّم. فإن سرى القطع إلى نفسه، أو قال له ابتداء: اقتلني؛ ففعل – فلا قصاص على الأصح، وفيه قول تقدمت حكايته عن رواية أبي سهل الصعلوكي: أنه يجب، ووجهه بأمرين: بأن القصاص يثبت للورثة ابتداء.

وبأن القتل لا يباح بالإذن؛ فأشبه إذن المرأة في الزنى ومطاوعتها لا يسقطه. وهذا التوجيه يقتضي جريان هذا الوجه في الإذن في قطع اليد. وهل تجب الدية؟ بناه القاضي أبو الطيب وغيره على أنها تثبت للوارث ابتداء، أم تثبت للموروث في آخر جزء من حياته، ثم تنتقل إلى الوارث؟ فعلى الأول تجب، وعلى الثاني- وهو الأصح-: لا، وهذا ما أشار ابن الصباغ إلى القطع به. قال الرافعي: وقد اعترض على هذا- يعني: الإمام- بأن الدية إذا ثبتت له، وهي عرضة للانتقال إلى الورثة، فيجب ألا ينفذ الإسقاط والإباحة إلا في ثلثها. وأجيب بأنه لا يسقط بائناً في الحال، وإنما يبيح ما يتضمن إتلافه مالاً لولا الإباحة، والقاضي الحسين قال: كان ينبغي أن يتخرج هذا القول على أن الوصية للقاتل هل تصح، أم لا؟ ولكن أصحابنا ما بنوه. ثم إذا قلنا بوجوب الدية؛ وجبت الكفارة لا محالة. وإن قلنا: لا تجب، ففي الكفارة وجهان: أصحهما: الوجوب، وهو ما ادعى القاضي الحسين نفي خلافه. ومقابله يخحكي عن تخريج ابن سريج قائلاً بأن حق الله – تعالى- يتبع في الوجوب والسقوط حق الآدمي. ولو كان الآذن في القطع أو القتل عبداً، فهل يجب القصاص؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي وغيره، ووجه السقوط – وهو الذي جزم به القاضي الحسين في القطع-: أن القصاص يسقط بالشبهة، وقول العبد فيه مقبول-[صرح به ابن الصباغ ثمَّ؛ إذا أقر على نفسه-] فلذلك يؤثر رضاه في سقوطه. قلت: ولو وجه بأن الحق في القصاص استيفاء وإسقاط للعبد، دون سيده؛ كما حكاه في "المهذب" في باب الإقرار، والقاضي أبو الطيب في أوائل باب الديات – لكان أوجه، لكن الذي حكاه الغزالي في "الفتاوى": أن نصوص الشافعي –رضي الله عنه- في كتاب جناية العبد والجناية عليه مصرحةٌ بان حق القصاص في العبد والعفو للسيد، وأن عفو العبد لا ينفذ، وهو ما صرح به

المتولي في هذا الفرع، وفي غيره، [وأشار إليه البندنيجي في باب قذف الأمة]، [وصرح به ابن الصباغ ثمَّ]؛ فلهذا عدل عما ذكرته إلى ما ذكرتم. وإن لم نوجب القصاص؛ فهل تجب الدية؟ قال في "التتمة": فيه وجهان ينبنيان على أن الأمة إذا طاوعت على الزنى هل يجب المهر أم لا؟ و [في المسألة]. قولان ذكرناهما، والمجزوم به في "الرافعي" الوجوب. فرع: سكوت المجني عليه عند الإقدام على القطع ظلماً، هل ينزل منزلة الإذن؟ فيه وجهان. أصحهما: لا؛ كما إذا سكت عند إتلاف ما لهز والثاني: نعم؛ لأنه سكت في محل يحرم السكوت فيه؛ فدل على الرضا. قال الإمام: والوجهان مفرعان على الا يجوز الاستسلام، ومأخوذان من تردد الأصحاب في أن الزانية لماذا لا تستحق المهر؟ فمن قائل: لان الوطء غير محترم، ومن قائل: لن التمكين رضا في العرف. قال: وإن وجب القصاص في النفس على رجل؛ فمات، أو في الطرف؛ فزال الطرف – وجبت الدية؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم- "فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ"، ومن خير بين شيئين إذا تعذر أحدهما تعين الآخر؛ ولأن مستحق القصاص سقط حقه منه بغير اختياره؛ فانتقل حقه لبدل محل الاستيفاء؛ وهو الدية؛ كما إذا سقط بعفو بعض الورثة عن القصاص، ولا فرق – في ذلك – بين أن نقول: إن الواجب احد الأمرين، أو القود عيناً. قال: ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان – أي: وإذنه –لان موضع القصاص مختلف فيه؛ فيحتاج السلطان أن يجتهد فيه.

ولأن الاستيفاء إنما يجوز بآلة مخصوصة، والإمام هو المتفقد لها، وأمر الدم خطير؛ فلا وجه لتسليط الآحاد عليه. فلو فعل دون إذن الإمام، اعتد به، وعزر. وحكى القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق المروزي، والماوردي عن منصور التيمي المصري من أصحابنا: أن للمستحق الاستقلال باستيفائه؛ لأنه حق ثبت بنص القرآن، وبالإجماع، وما كان هكذا لم يفتقر في استيفائه إلى إذن الإمام. [وحكى الجيلي في باب حد القذف وجهاً مخرجاً: انه لا يعتد به]. وظاهر المذهب الأول، ويستوي فيه قصاص النفس والطرف. ويستحب أن يحضر الإمام لاستيفاء القصاص شاهدين؛ لأنه ربما جحد المقتص؛ فقال: لم اقتص، ويطالب بالدية، وينبغي ان يضرب عنقه- إذا استحق القتل – من خلف قفاه، وأن يعصب عينيه؛ لأنه أرفق به، قاله الماوردي. قال: وعليه أن يتفقد الآلة التي يستوفي بها؛ كي لا تكون مسمومة أو كالة؛ فيحصل للمقتص منه بها مثلة وتعذيب، وليس له ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ". وفي "تعليق" القاضي الحسين وجه: أنه لا يمنع من استيفاء قصاص النفس بآلة مسمومة؛ إذ المقصود إزهاق الروح. قال الإمام: ولعله الأصح، وذكر أن محله إذا لم يتحقق تفتيت الجثة به؛ بحيث يمنع من الغسل، أما إذا تحقق ذلك فلا يجوز بلا خلاف. ثم ما ذكرناه من منع الاقتصاص بالآلة المسمومة [والكالة، إذا لم تكن الجناية بكالة أو مسمومة]، أما إذا كانت به، فهل يقتل بمثله، أما بصارم؟ فيه وجهان:

أشبههما في الكالة؛ [على ما ذكر عن] القاضي الروياني وغيره: الأول، وبه أجاب في "التتمة" فيهما. وإذا بان بعد الاستيفاء أنه استوفاه بآلة كالة، فلا شيء عليه؛ لأنه أخذ حقه؛ قاله المحاملي، وفي "الرافعي": أنه يعزر. وإن بان أنه استوفاه بآلة مسمومة، فعليه التعزير؛ لإساءته، ثم ينظر؛ فإن كان في قصاص النفس؛ فلا شيء [آخر يجب] [عليه]، وإن كان في قصاص الطرف، ولم يسر؛ فكذلك الحكم، وإن سرى إلى النفس، لم يحب القصاص، ووجب عليه نصف الدية، لكن هل تتحمله العاقلة؟ فيه وجهان في "المهذب"، في باب العاقلة، وغيره، وأشبههما: المنع. وفي كتاب ابن كج ذكر وجه: أن يجب القصاص، وقال: إنه إذا كان السم موحياً وجب وجهاً واحداً. قال: فإن كان من له القصاص يحسن الاستيفاء، أي: بأن كان رجلاً قوي اليد والنفس، لا يلحقه جبن عند الاستيفاء، عارفاً بالمفصل؛ كما ذكره الماوردي – مكنه منه؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33]؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم:"فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ... "، ولأن فيه تحقيق حكمة شرعية القصاص؛ وهي كمال التشفي والانتقام. قال المتولي: فلو طلب – على ذلك – أجرة أعطيها؛ لأنه عمل معلوم، ويجوز أن يتبرع [به]؛ فجاز أن يأخذ عليه الأجرة؛ كما إذا قال: أنا أتولى الكيل بأجرة، لا يمنع. وظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق – في ذلك – بين أن يكون القصاص في النفس، أو في الطرف. والمذكور في "الشامل"، و"الحاوي"،و"تعليق" البندنيجي، و"المهذب": أن ذلك لا يجري في الطرف؛ لأنه لا يؤمن مع قصد التشفي من الحيف بما [لا] يمكن تلافيه.

وحكى المراوزة وجهاً: أنه يجوز فيه أيضاً، وادعى القاضي الحسين في "تعليقه": أنه المنصوص، والرافعي أن الأول أظهر. وقد حكى المتولي الوجهين أيضاً؛ فيما إذا أراد أن يوكل شخصاً من جهته، وقال: إن محل الجواز جزماً إذا رضي بأن يستوفيه الجلاد المنصوب لاستيفاء العقوبات، أو غيره ممن يختاره الإمام. فرع: إذا مكناه من القصاص، فإن ضرب عنقه؛ فأبان رأسه- فقد استوفي حقه؛ وإن ضرب غير العنق – نظر: فإن كان في موضع لا يجوز أن يخطئ فيه، مثل: أن ضرب ساقه، [أو وسطه- فإنه يعزر، وإن كان في موضع يجوز أن يخطئ [في مثله]، مثل: أن ضرب رأسه] أو بين كتفيه؛ فيقال له: ما قصدت بهذا؟ فإن قال: تعمدته – عزر، وإن قال: أخطأت، عزر إن لم يحلف، وإن حلف فلا. ثم بعد ذلك هل يمكن أن يستوفي القصاص، أم يأمر بالتوكيل؟ الذي دل عليه نص الشافعي هنا: الثاني، وقال في كتاب "الأم" بالأول: فمن الأصحاب من قال: في المسألة قولان، وعلى ذلك جرى البصريون. وحكى الإمام الخلاف وجهين، ونسب وجه الجواز إلى قوله أبي بكر الصيدلاني، وقال: إنه الأوجه؛ فإن حقه في التعاطي ينبغي ألا يعطل بعدوان صدر منه. وقال الشيخ أبو حامد وأتباعه: المسألة على اختلاف حالين: فالموضع الذي اثبت له اختياره، إذا بان للحاكم أنه يحسن القصاص، والموضع الذي قال: لا يجوز له أن يعود، إذا بان للحاكم انه لا يحسنه، وعلى ذلك جرى ابن الصباغ، والمتولي. وقد حكى الشيخ في "المهذب"، والقاضي أبو الطيب، والماوردي الطريقين، لكن الماوردي فرض محل الخلاف فيما إذا تاب بعد عمده؛ وكذلك المتولي ذكره في صورة العمد، ولم يذكر التوبة، وحكاه الإمام – أيضاً – عن الشيخ أبي

بكر الصيدلاني، وأنه جزم في حالة خطئه بعدم تمكينه، وفرق بأن العامد لم يتبين لنا خرقه في الأمر، ولكنه اعتدى؛ فنهيناه، ونحن له – إن عاد- بالمرصاد. وأما المخطئ، [فتبين أنه] ليس يحسن الأمر؛ فلا ينفع زجره. وحكى عن غيره أنه لا فرق، ثم قال مستدركاً: وهذا الوجه ينبغي أن يكون مخصوصاً بما إذا لم ينكر منه الخطأ، ولم يظهر خرقه، فإن ظهر فليمنع بلا خلاف. قال: وإن لم يحسن الاستيفاء؛ أي: كالمرأة، والذي يجبن عنه، أو بيده ضعف من شلل ونحوه – أمر بالتوكيل؛ لأن فيه وصولاً إلى حقه، وأمناً من الحيف، ولا يوكل في استيفائه من مسلم إلا مسلماً، صرح به الرافعي في قتال أهل البغي، وهذا إذا كان المستحق [واحدا، فلو كان المستحق جمعاً،] وفيهم من لا يحسنه، وتشاحوا في الاستيفاء – أقرع بينهم كما ذكرنا، لكن هل يدخل من لا يحسن في القرعة؟ فيه وجهان، وقيل: قولان؛ أرجحهما عند القاضي ابن كج وأبي الفرج والإمام وغيرهم: المنع، وعن بعضهم: القطع به، وعلى هذا: لو خرجت لقادر فعجز، أعيدت القرعة بين الباقين. ثم فائدة دخول العاجز في القرعة: أنها إذا خرجت له، استناب، وعند عدم إدخاله فيها لا يجوز استيفاؤه إلا برضاه جزماً. قال: وإن لم يوجد من يتطوع، استؤجر من خمس الخمس، أي: من سهم المصالح؛ لأن ذلك من المصالح، ولا فرق فيه بين القصاص في النفس، أو الطرف. قال: وإن لم يمكن؛ [أي]: إما لعدم ذلك، أو لوجوده ووجود ما هو أهم منه – فمن مال الجاني؛ لأن الحق عليه؛ فكانت أجرة الاستيفاء عليه أيضاً؛ كأجرة الكيال في كيل الطعام المبيع.

وحكى الإمام وجهاً عن صاحب "التقريب": أن الأجرة على المستوفي؛ نظراً إلى أن الواجب التمكين، لا التسليم، [وأنه] قرب الخلاف من الخلاف في بيع الثمار على رءوس الأشجار، هل يحصل تسليمها بالتخلية. وفرق الإمام بين البابين: بأن اليد جزء من الإنسان، والتسليم فيها لا يحصل إلا بالفصل، وليست الثمار كذلك؛ ألا ترى أن الجاني لو فاتت يده بعد التمكين يستقر عليه ضمان الجناية بلا خلاف، وإذا [اجتيحت] الثمار بعد التخلية فمن ضمان من تكون؟ فيها الخلاف المشهور، والخلاف الذي يشبه هذا الخلاف وجهان ذكراً في أن مؤنة الجداد على البائع أو على المشتري؟ تفريعاً على أن الجوائح من ضمان البائع. وحكى المتولي أنه إذا لم يكن في بيت المال شيء: فإن كان للجاني مال، فعليه الأجرة، سواء كان القصاص في النفس، أو في الطرف، وإن لم يكن له مال نظر: فإن كان القصاص في النفس؛ فيستقرض على بيت المال؛ لأنه لا يرجى حصول مال له بعد ذلك. وإن كان طرفاً فوجهان: أحدهما: أن الحكم كذلك. والثاني: يستقرض على الجاني. وقد سلك الفوراني، والمسعودي في المسألة طريقاً آخر؛ فقالا: إن الشافعي نص في القصاص على أن الأجرة على المقطوع والمقتول، وفي الحدود على أن الأجرة على بيت المال؛ منهم من قررها، ومنهم من تصرف فيهما بالنقل والتخريج، وأثبت فيهما قولين: أحدهما: [أن] الوجوب على الجاني والمحدود. والثاني: انه يجب في القصاص على المستحق، وفي الحدود في بيت المال، وعلى ذلك جرى الغزالي. وغيرهم ممن لم يحك النصين، قال: في مسألة الحدود وجهان: أحدهما- وهو الذي يقتضيه إيراد الأكثرين تصريحاً وتعريضاً-: أنها تجب

على المحدود والسارق؛ كما قلنا هاهنا: إنها تجب على الجاني، وبهذا قال الماسرجسي. والثاني: أنها في بيت المال. ومنهم من خصص الإيجاب على بيت المال بما إذا لم يكن للجاني مال. ثم إذا وجب ذلك في بيت المال، لم يكن فيه شيء، أو كان ولكن يستوعبه ما هو أهم – فيستقرض الإمام على بيت المال إلى أن يجد سعة. قال الروياني: أو يستأجر بأجرة مؤجلة أو يسخر من يقوم به على ما يراه. وإذا قلنا بالصحيح – وهو أن أجرة القصاص على الجاني – فلو قال الجاني على الطرف: أنا أقطعه، ولا أُعْطِي الأجرة- ففي "المهذب" و"العدة": أنه لا يجاب، وهو الأظهر. وذكر ابن الصباغ والمتولي وجهين فيه، ونسبهما القاضي أبو الطيب إلى رواية أبي الحسن الماسرجسي. وقال الجيلي: إنهما ينبنيان على ما إذا قالت المرأة: أنا أخدم نفسي، وآخذ أجرة الخادم؛ فإنها هل تجاب؟ فيه قولان. وليس ما قاله من البناء بظاهر؛ لأنه ليس بِوِزانِ المسألة، وصوابه البناء على ما إذا قال الزوج: أنا أخدمها بنفسي ولا أعطي أجرة الخادم؛ ففي إجابته خلاف سبق. وحكى الرافعي الوجهين في قصاص الطرف والنفس، وقال: إن الداركي قطع بإجابة الجاني؛ لحصول التعذيب. وعلى مقابله: إذا قتل نفسه، أو قطع طرفه بإذن المستحق – ففي الاعتداد به عن القصاص وجهان: أحدهما: لا؛ كما لو جلد نفسه في الزنى بإذن الإمام، وفي القذف بإذن المقذوف. والثاني: نعم؛ لحصول الزهوق، وإبانة العضو، ويخالف الجلد؛ لأنه قد لا يؤلم نفسه الإيلام المقصود [فلا يتحقق المقصود].

قال: وإن وجب القصاص على حامل، أي: في النفس أو الطرف؛ كما صرح به الرافعي وغيره، وثبت حملها، [أو أمارته] الظاهرة بالبينة، أو بإقرار الولي. قالك لم يستوف حتى تضع: أما في النفس؛ فلقوله تعالى: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:33]، أي: لا يقتل غير القاتل، وفي قتل الحامل قتل غير القاتل وهو الحمل، وقد روي:"أن عمر – رضي الله عنه – أمر برجم امرأة أقرت بالزنى، وهي حامل، فردها عليّ – كرم الله وجهه – وقال لعمر – رضي الله عنه -: إنه لا سبيل لك على ما في بطنها، فقال عمر: لولا عليّ لهلك عمر". وقيل: عن القائل لعمر هذا القول معاذ بن جبل، وإن عمر قال له بعد تركها: عجز النساء أن يلدن مثلك يا معاذ! وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ. وقال الماوردي: إن الأول أثبت. ولأنه اجتمع هاهنا حقان: حق الطفل، وحق الولي في تعجيل القصاص، ومع الصبر يمكن استيفاء الحقين؛ فكان أولى من تفويت أحدهما. قال القاضي أبو الطيب: وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين؛ فهو إجماع. وأما في الطرف؛ فلأن فيه إجهاض الجنين، وهو متلف له؛ كما يتلفه استيفاء قصاص النفس. ثم في [حالة الحمل] تحبس إلى أن يمكن استيفاؤه – كما قلنا – فيمن وجب عليه قصاص لصبي أو معتوه، وهل للولي أخذ الدية في الحال؛ للحيلولة؟ حكى الإمام أن الشيخ أبا بكر الصيدلاني ألحقه بما إذا قطع إنسان أنملة عُليا من شخص، ووسطى لشخص آخر، وامتنع صاحب العليا من تعجيل القصاص، وطلب صاحب الوسطى أخذ المال؛ للحيلولة، وللأصحاب فيها وجهان.

قال الإمام: والوجه إلحاق ذلك بما إذا طلب الولي المال في قصاص الصبي؛ لأن للولادة أمداً ينتظر؛ كما أن للصبي أمداً ينتظر. وقد قال الأصحاب: إنه لا يجوز للولي ذلك. ثم إذا أخذ المال، وأراد بعد الوضع رده واستيفاء القصاص – فهل له ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما المتولي، كالوجهين فيما إذا أخذ القيمة عند انقطاع المثل، ثم قدر على المثل. قال: ويسقي الولد اللبَأ؛ لأن الولد لا يكاد يعيش في الغالب بدونه، ويقال: إنه إذا لم يشربه لا يعيش، وهو ما ذكره القاضي الحسين والمتولي والمصنف، وإذا كان كذلك ففي منعه بقتلها أو بقطع طرفها الذي لا يؤمن معه الموت توصل إلى قتله غالباً أو محققاً. وفي "الجيلي" أن صاحب "الكافي" قال: لا ينتظر سقي الولد اللبأ؛ لأن الولد يعيش بدون اللبأ؛ كما لو ماتت الأم حال الوضع، وهذا ما ادعى الرافعي ميل القاضي أبي الطيب إليه، وعلق الإمام القول في ذلك؛ فقال: إن تحقق أن الولد لا يعيش بدونه، فتمهل. واللبأ: مقصور ومهموز، وهو أوائل اللبن بعد انفصال الولد. قال: ويستغني عنها بلبن غيرها؛ لأن قبل استغنائه بلبن غيرها لو اقتص منها لهلك، وإذا وجب تأخير القصاص – لحفظه مجتنًّا – فأولى أن يجب لحفظه مولوداً. وعن ابن خيران: [أن] له الاستيفاء، ولا يبالي بذلك؛ كما لو كان للقاتل عيال يضعفون ظاهراً لو اقتص منه، والصحيح الأول، وهذه الحالة تنتهي باستكمال رضاع المولود حولين، وإنما جاز له الاستيفاء بعد استغنائه بلبن غيرها، وإن كان قبل استكمال الحولين؛ كما ذكره الماوردي وغيره، وأشار إليه الشيخ بقوله: "بلبن غيرها"، وادعى الإمام الاتفاق عليه؛ لأن الفائت على

الولد منها مزيد إشفاق وحذر، ولا يقع هذا موقعاً في مقابلة حق آدمي تأخر. وهكذا الحكم عند الشيخ أبي حامد [فيما] إذا وجب عليها الرجم، [وعليه جرى الشيخ؛ كما سيأتي]. وقال المراوزة، كالفوراني والإمام وغيرهما: من وجب عليها الرجم لا يستوفي منها حتى تنقضي مدة الرضاع، وإن وجدنا من يرضعه، يوجد للطفل كافل مسلم. ويشهد لما ادعوه ما رواه أبو داود في حديث مطول: "أَنَّ الغَامِدِيَّةَ أَتَتْ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَتْ: زَنَيْتُ؛ فَطَهِّرْنِي، وَاللهِ إِنِّي لَحُبْلَى، قَالَ: فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي. فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم-[بِالصَّبِيِّ] فَقَالَتْ: قَدْ وَلَدْتُ؛ فَقَالَ: ارْجِعِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ. فَجَاءَتْ بِهِ وَقَدْ فَطَمَتْهُ وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ يَاكُلُهُ؛ فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – بِالصَّبِيِّ فَدُفِعَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأُمِرَ بِهَا؛ فَرُجِمَتْ". قال الإمام: والفرق بين القصاص و [بين] الجلد: ما تحقق: أن حقوق الله – تعالى- تبنى على المساهلة؛ ولذلك يقبل الرجوع عن الإقرار فيها، وحقوق الآدميين تبنى على التضييق. وأيضاً: فإن الهارب في الحد لا يتبع، وفي القصاص يتبع. [وقد حكى القاضي الحسين في باب حد الزنى تأخير الرجم وتعجيل القصاص عن نص الشافعي، وقال: إن من الأصحاب من خرج قولاً في المسألتين، ومنهم من أجرى النصين على ظاهرهما، وفرق بما ذكرناه]. ثم المراد باستغناء الولد بلبن غيرها: أن تتسلمه امرأة ذات لبن، أو توجد بهيمة ذات لبن يحل تناوله، لكن الأولى للولي في الحالة الثانية: الصبر؛ لتقوم

برضاعه؛ فإن لبن النساء أوفق للطفل، وكذا الأولى في حقه إذا لم توجد مرضعة راتبة له ألا يستوفيه؛ لئلا يختلف عليه لبن النساء، وعلى هاتين الحالتين حمل قول الشافعي؛ فإن لم يكن لولدها مرضع فأحب إليَّ لو ترك بطيب نفس الولي حتى توجد له مرضع، فإن لم يفعل قتلت. ولو علم [أنه] ستوجد له من تترتب لرضاعه، ولكن لم تتعين في الحال، ولا تسلمته – ففي جواز تعجيل قتلها [قبل تعيين] مرضعة وتسلمه وجهان: أظهرهما في "الحاوي": الجواز، وبه جزم غيره، وقالوا: إذا كان في البلد مرضعة واحدة أجبرت بعد القتل على الرضاع، وإن كان فيه أكثر من واحدة أجبرت واحدة منهن عليه بالأجرة. فرع: إذا بادر الولي وقتلها قبل استغناء الولد بلبن غيرها، ومات الولد بسبب ذلك- فهل يجب ضمانه؟ قال القاضي أبو الطيب: سمعت الماسرجسي يقول: سمعت أبا عليّ بن أبي هريرة يقول: لا يضمنه؛ لأن أكثر ما فيه أنه حال بينه وبين ما يقوم به؛ فهو [بمنزلة ما] لو أخذ زاده في البرية؛ فمات من الجوع؛ فإنه لا يضمنه، كذلك هاهنا. قال الماسرجسي: ثم سمعته يقول بعد ذلك: إن عليه القصاص؛ لأنه لو حبس رجلاً في بيت، ومنعه الطعام والشراب؛ فمات – وجب عليه الضمان، كذلك هاهنا. وهذا ما أجاب به الشيخ أبو حامد في "التعليق"، وحكاه القاضي ابن كج عن النص، وحكى الرافعي أن الماسرجسي قال: سمعت ابن أبي هريرة يقول: عليه دية الولد؛ فقلت له: أليس لو غصب طعام رجل في البادية أو كسوته؛ فمات جوعاً أو برداً – لا ضمان عليه، فما الفرق؟ فتوقف، ثم [لما] عاد على الدرس – قال: لا ضمان فيهما جميعاً. قال: وإن ادعت الحمل، فقد قيل: يقبل قولها؛ لقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ

يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة:228] أي: من حمل وحيض؛ كما قاله أهل التفسير، ومن حرم عليه كتمان شيء وجب [قبول] قوله إذا أظهره، أصله: الشهادة؛ فإن كتمانها حرام بقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] الآية، وإذا أخبر الشاهد بما عنده قبل قوله. ولأن للحمل أمارات تظهر وأمارات تخفى، وهي عوارض تجدها الحامل من نفسها، وتختص بمعرفتها، وهذا النوع يتعذر إقامة البينة عليه؛ فقُبِل قولها فيها؛ كالحيض، وهذا ما ادعى القاضي أبو الطيب أنه المذهب، والمنصوص عليه – يعني: في "الأم" – كما حكاه ابن الصباغ، وهو الذي عليه أكثر الأصحاب. فعلى هذا تحبس، فإن ظهر استمر إلى وقت إمكان [استيفاء القصاص]، وإن لم يظهر في زمن ظهور مخايله استوفى على الأظهر من الاحتمالين عند الإمام؛ فإن انتظار انقضاء مدة الحمل بعيد. قال الإمام: والقائل بهذا القول ليت شعري ما مذهبه إذا استوجبت المرأة القصاص، ثم وطئت، الوطء على الإعلاق، ولو اعترف السيد بالوطء، ترتب عليه لحوق نسب المولود الذي يأتي به. وأعرض الغزالي عن ذلك، وقال على هذا القول: لا يجوز استيفاء القصاص من امرأة يغشاها زوجها. قال الرافعي: وهذا إن كان المراد به إذا ادعت الحمل [فظاهر، وإن أراد أنه يمتنع الاستيفاء بمجرد المخالطة والوطء من غير دعواها الحمل، فهو ممنوع؛] لأن الأصل عدم الحمل؛ فجاز أن يقال: إنما يعدل عن الأصل بشهادة تستند على الأمارات الخفية. قال: وقيل: لا يقبل حتى تقيم بينة بالحمل، أي: وللولي قتلها قبل ذلك؛ لان حقه واجب على الفور، والحمل يحتمل وجوده، ويحتمل عدمه، مع أنه الأصل، وهي متهمة في الإخبار؛ فلا يترك المحقق بالوهم، وهذا قول أبي سعيد الإصطخري، وصححه في "الوجيز". وقال الماوردي والقاضي أبو الطيب: إنه خطأ، كما ذكرناه.

ويكفي في البينة المقامة على الحمل أربع نسوة يشهدن به، أو بظهور مخايله. قال: وإن اقتص منها- أي: الولي – بعد تمكين الإمام، وتلف الجنين من القصاص – وجب ضمانه؛ لأنه مخلوق فات بالجناية، ثم ضمانه – إن وضعته ميتاً – الغُرة، وإن وضعته حيًّا متألماً إلى الموت فالدية الكاملة، والكفارة واجبة في الحالين؛ كما سنذكره، ومحل وجوب الدية محل وجوب الغُرة؛ كما ذكره – ابن الصباغ في كتاب الحدود. أما إذا لم يتلف منه؛ بأن لم ينفصل منها، أو انفصل حيًّا غير متألم – فلا شيء عليه، سواء مات بعد ذلك أو لم يمت. قال: فإن كان السلطان علم به، أي: بالحمل، وقد مكن منه؛ كما ذكرناه – فعليه ضمانه؛ لأن الاجتهاد والنظر إليه، والبحث والاحتياط عليه، وفعل الولي صادر عن رأيه؛ فكان كالآلة. قال العراقيون والماوردي والقاضي الحسين والمتولي: ولا فرق – في ذلك – بين أن يكون الولي جاهلاً بالحال أو عالماً، وفيما ذكروه – في حالة العلم –نظر؛ لنا قد ذكرنا فيما إذا أمر السلطان بقتل رجل ظلماً، والمأمور عالم به: أن الضمان واجب على المأمور؛ لأنه المباشر دون الإمام، والقول بهذا هنا أولى؛ لأن الاستيفاء إلى خيرة الولي؛ بخلاف المأمور [ثَمَّ]؛ فإنه لا يقدر على المخالفة، وقد صار إلى ذلك الفوراني، وجزم به، وحكاه الغزالي وجهاً ثانياً، وصححه، وهو يحكي عن اختيار المزني في كل حال؛ نظراً للمباشرة. وقال الإمام: إنه الذي صار إليه معظم أصحابنا، وحكى وجهاً ثالثاً عن رواية صاحب "التقريب": أن الضمان عليهما؛ لأن الولي مباشر، وأمر الإمام كالمباشرة؛ يشتركان في الضمان، ثم قال: وهذا غريب لم أره لغيره، وقد رواه غيره عن [رواية] أبي علي الطبري، ورأيته فيما وقفت عليه من "تعليق" البندنيجي أيضاً، وقالوا في حالة الجهل: عن أوجبنا الضمان على الإمام في حالة العلم فهاهنا أولى، وإلا فوجهان قريبان مما إذا أضاف الغاصب بالطعام المغصوب غيره –

على من يستقر الضمان؟ وظاهر المذهب وهو المنصوص: الأول، وعلى هذا فتحمل العاقلة عن الإمام الضمان غرة كانت أو دية، وعليه الكفارة. قال القاضي الحسين والإمام: ولا يجب في بيت المال من ذلك شيء؛ لأنه عامد غير مخطئ. وهذا ما حكاه الرافعي. وحكى ابن الصباغ ذلك طريقة في استيفاء الحد في حالة الحمل، مع علم الإمام بهن ثم قال: والظاهر من المذهب أن في ذلك قولين: أحدهما: أنها على عاقلته. والثاني: أنها في بيت المال؛ لأن إتلاف الجنين إنما هو عمد خطأ لا يتمحض فيه عمد؛ فجرى مجرى الخطأ. قال: وإن لم يعلم، وعلم الولي ذلك – فعليه ضمانه؛ لأنه المباشر، والسلطان لما لم يعلم به، لم يكن مسلطاً له على الإتلاف. وعن صاحب "التقريب" رواية وجه: أنه على الإمام؛ لتقصيره في البحث، قال الإمام: وهو غريب لم أره لغيره. فعلى المذهب: تتحمل العاقلة عن المقتص الغرة أو الدية دون الكفارة؛ وكذا إذا أوجبنا عليه الضمان في الحالة السابقة. وعلى وجه صاحب "التقريب": الغرة أو الدية هل تتحملها العاقلة عن الإمام، أو تجب في بيت المال؛ لكونه مخطئاً؟ فيه قولان يأتيان في الكتاب. فإن قلنا الوجوب في بيت المال فالكفارة هل تجب فيه أيضاً، أم على الإمام؟ فيه قولان في "تعليق" البندنيجي، والقاضي أبي الطيب. وغيرهما أثبت الخلاف وجهين، ويظهر جريانهما في الحالة السابقة أيضاً؛ بناء على ظاهر المذهب. قال: وإن لم يعلم واحد منهما، فقد قيل: على الإمام؛ لتقصيره، وهذا قول ابن أبي هريرة، وبه قطع الشيخ أبو حامد، مال إليه الشيخ أبو محمد، وجزم به صاحب الفروع. قيل: على الولي؛ لقوة جانبه بالمباشرة، وهذا قول أبي إسحاق المروزي، وحكى غير الشيخ في المسالة وجهاً ثالثاً أنه عليهما؛ لوجود التسليط من الإمام،

والمباشرة من الولي، وهو قول البصريين. وإذا جمعت ما ذكر في المسألة واختصرت، قلت: على من يجب الضمان؟ فيه أربعة أوجه: على الإمام مطلقاً. على الولي مطلقاً. عليهما مطلقاً. على الإمام إن كان عالماً، أو كانا معاً جاهلين، وعلى الولي إن اختص الإمام بالجهل، وهذا حكم الضمان. وأما الإثم، فهو يتبع العلم. أما إذا كان المقتص نائب الإمام، أو جلاده، دون الولي: فإن كان جاهلاً فلا ضمان عليه بحال، وإن كان عالماً ففيه خلاف مرتب على الخلاف في الولي إذا كان عالماً، وأذن له الإمام، والجلاد أولى بألا يضمن؛ لأنه لا يستوفي لنفسه شيئاً، وإنما يمتثل مأموراً يمضيه الإمام؛ ولذلك قيل: إنه آلة سياسة الإمام، وإنه لا كفارة عليه إذا جرى على يده قتل بغير حق. وعن أبي الفرج السرخسي حكاية وجهين في أنه هل يعتبر علم الولي والمباشر الجلاد، وقال: أصحهما: أنه يعتبر حتى إذا كان عالماً، وهما عالمان، يكون الضمان عليهم أثلاثاً. ولو كان الولي هو المستوفي بغير إذن الإمام فهو آثم، وتجب الغُرة أو الدية على عاقلته بكل حال، والكفارة في ماله. واعلم أنه ليس المراد مما أطلق من العلم بالحمل وعدمه حقيقة العلم؛ فإن ذلك لا يتصور، وإنما المراد به الظن المؤكد بظهور مخايله، وعبر عنه الإمام بأن قال: إن كان عالماً بالحمل علم منه. قال: وإن قتل واحد جماعة، أو قطع عضواً من جماعة، أي: على الترتيب –

أقيد بالأول لسبق حقه، وأخذت الدية للباقين، أي: بعد استيفاء الأول القود؛ لأن من خير بين أمرين إذا تعذر أحدهما تعين الآخر، أصله: إذا تعذر القصاص بعفو [بعض] الورثة؛ فإنه يتعين للباقين الدية؛ فعلى هذا: إن اتسعت تركته لجميع الديات فذاك، وإلا قسمت بين الجميع، ولا نظر إلى المتقدم والمتأخر. ولو عفا الأول عن القصاص أقيد للثاني، وهكذا، وليس لولي الثاني أن يجبر ولي المقتول أولاً على المبادرة إلى القصاص أو العفو عنه، بل حقه على التراخي كما [كان]، قال الإمام: ولا يختلف المذهب في ذلك. ولو كان ولي المقتول أولاً غائباً، أو صبيًّا أو معتوهاً، حبس القاتل إلى حضور الغائب، وكمال حال غيره وهو ما رواه الربيع. وفي "الإبانة" و"العدة" حكاية قول عن رواية حرملة: أن للثاني أن يقتص، ويصير الحضور والكمال مرجحاً. ولا فرق – فيما ذكرناه – بين أن يثبت القتل أو القطع مرتباً بالبينة، أو بإقرار الجاني وتكذيب بعض الأولياء نعم، في حالة الإقرار قال أبو الفرج: للولي المكذب تحليفه. والاعتبار في التقدم بوقت الموت، [لا بوقت] الجناية، حتى لو قطع يد إنسان، وقتل آخر؛ فسرى القطع إلى النفس – فحق التقدم بالقتل للثاني، صرح به القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما. وفي التتمة حكاية وجه: أنه يقتل بالمقطوع يده؛ لأن القطع صار قتلاً. فرع: إذا قتل أجنبي هذا القاتل، قال المتولي: فالمذهب أن الدية تؤخذ وتقسم بين الجميع، وهذا ما جزم به القاضي الحسين. وقيل: يختص بها ولي المقتول [أولاً]. قال: وإن قتلهم، أو قطعهم دفعة واحدة، أو أشكل الحال – أقرع بينهم؛

لتساويهم، وحينئذ من خرجت القرعة له كان كمن قتل مورثه، أو قطع طرفه أولاً، فإن عفا أعيدت القرعة للباقين. وحكى الفوراني والطبري في "العدة" في أصل المسألة - والحالة هذه -: أنه يقتل ويقطع لجميعهم، ويجب لكل واحد من الأولياء حصة مورثه من الدية. وقد حكاه الرافعي عن الروياني في القتل، وأن صاحب "البيان" حكى أن بعض أصحابنا بخراسان قالوا: يكتفي بقتل الواحد عن الجماعة؛ كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك. لكن إيراد الرافعي مصرح بأن محل هذين الوجهين إذا وجد القتل أو القطع مرتباً، وإلحاق هذه الحالة بها. تنبيه: ظاهر إطلاق الشيخ وأكثر الأصحاب القول بالإقراع، يقتضي إيجابه، وقد صرح به الماوردي؛ حيث قال: فإن بدر أحدهم فاقتص منه بغير قرعة، فإن كان بأمر الإمام فقد أساء الإمام، ولم يعزر المقتص. وعن رواية أبي الفياض وغيره: أنه مستحب، وللإمام أن يقتله بمن شاء منهم؛ لثبوت استحقاق الكل على التساوي. قال الروياني: وهو الأصح، وعليه جرى القاضي ابن كج وغيره، وحكوا عن نص الشافعي أنه قال: أحببت أن يقرع بينهم. ولو رضوا بتقديم واحد بلا قرعة جاز، والحق لا يعدوهم؛ فإن بدا لهم ردوا إلى القرعة، قاله الإمام. وهذا إذا كان أولياء القتلاء حضوراً بالغين عقلاء، فلو كان بعضهم غائباً أو صغيراً أو معتوهاً فالمشهور: أن الحكم كذلك. وفي "الوسيط"، عن رواية حرملة: أن للحاضر والكامل أن يقتص، ويكون الحضور والكمال مرجحاً كالقرعة. فرع: لو كان القاتل عبداً فهل يقتل بواحد؛ كما لو كان حرًّا، أو يقتل بجميعهم؛ لأن في تخصيصه ببعضهم تضييعاً لحق الباقين؟ فيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب في أثناء المسألة الأولى وغيره.

والذي أورده ابن كج- منهما-: الثاني. وأصحهما – عند الإمام والقاضي الروياني والفوراني والقاضي الحسين والمتولي، وغيرهم-: الأول، ويكون بمنزلة المعسر [يقتل بواحد] وللباقين الديات في ذمته، يلقى الله – تعالى – [بها]. وهذا قد يقال: إنه يؤخذ من كلام الشيخ؛ لكونه لم يفصل بين الحر والعبد، وليس كذلك؛ لأن قوله في صدر المسألة: وأخذت الدية للباقين يأبى ذلك في حالة القتل، وإن لم يأبه في حالة القطع. فعلى هذا: إن قتلهم على الترتيب، أو في دفعة واحدة – يكون حكمه ما سبق، ولا يكون عفو ولي الأول عن القصاص على مال مانعاً من أن يستوفي ولي المقتول ثانياً القصاص منه، وإن تعلق المال برقبته، لكن [لو] عفا ولي الثاني أيضاً على مال تعلق الجميع بالرقبة، ولا نظر إلى [التقدم والتأخر]؛ كما لو أتلف مالاً على جماعة في أزمنة مختلفة. وإيراد صاحب "التهذيب" يشعر بأن محل الخلاف فيما إذا قتلهم في دفعة واحدة، أما إذا كان على الترتيب فلا يُقتل بهم، وهذا هو الذي يتقضيه كلام القاضي أبو الطيب عند الكلام في قتل الحر بالعبد؛ حيث قال: إذا قتل عبد عبدين؛ أحدهما بعد الآخر، فيبدأ بالأول؛ فإن قتله سيده، سقط حق الثاني؛ لفوات الرقبة، فإن عفا سيد الأول كان لسيد الثاني أن يقتص، وإن قتلهما معاً. [قال]: فإن قتلاه به فقد استوفيا حقهما، وإن عفا أحدهما، ولم يعف الآخر، فإن حق الذي لم يعف لم يسقط، ولا يملك القتل؛ لأن القصاص لا يتبعض؛ فيتعلق الأرش برقبته؛ فيباع، ويستوفي قيمة المقتول من ثمنه، وهذا منه في الصورة الأخيرة؛ بناء على أنه يقتل بهما؛ كما أورده ابن كج، وإلا لم يستقم ما ذكره حكماً وتعليلاً. ثم فيما ذكرناه عن الأصحاب من تعليل الوجه الثاني ما يفهمك أنه لا يجري

في القطع؛ لإمكان تعلق الأرش بالرقبة بعده. قال: فإن بدر واحد فقتله، أو قطعه، أي: من غير قرعة ولا عفو من الأول- فقد استوفى حقه؛ لأن حق كلِّ من الأولياء قد تعلق بذلك المحل؛ بدليل ما لو عفا ولي المقتول أو المقطوع أولاً، أو من خرجت له القرعة؛ فإن ذلك ينتقل إلى من بعده؛ فإذا استوفاه فقد استوفى حقه من محله، لكنه يعزر؛ لما في ذلك من إبطال حق الغير. وشبه القاضي أبو الطيب ذلك بما إذا تقدم رجلان إلى ماءٍ ليستقياه، وأحدهما سبق الآخر – فإن الثاني لو أزاح الأول عنه واستقى، كان قد أخذ حقه، ويكون متعدياً؛ لأن السابق أحق. قال: وجبت الدية للباقية؛ لتعذر القصاص عليهم بغير اختيارهم؛ فكان كالموت. وحكى القاضي الحسين في "التعليق" وجهاً ضعيفاً: ان المبادر يغرم للأول دية قتيله، ويأخذ من تركة الجاني دية قتيل نفسه. وفي "التتمة" وجه: انه تلزمه الدية، ويختص بها ولي المقتول الأول؛ لأنه كان مقدماً عليه؛ فإذا فوت الحق عليه غرم له؛ كالعبد المرتهن إذا جنى، ثم جاء المرتهن فقتله، يغرم الأرش لحق المجني عليه. والفرق بين هذه العبارة [والأولى]: أن الأولى توجب دية المقتول أولاً، والثانية توجب دية القاتل للمقتول، وذلك يظهر عند اختلاف الديات بسبب الأنوثة والدين. قال المتولي: ولا يجيء هذا الوجه فيما إذا خرجت القرعة لواحد، فقتله غيره؛ لأن القرعة لا توجب زيادة قوة، وإنما صرنا إليها؛ لقطع المنازعة، بخلاف السبق. فرع: إذا تمالأ على القاتل أولياء القتلاء، وقتلوه جميعاً – فقد حكى المراوزة في المسألة ثلاثة أوجه: أصحهما: أنه يقع عن جميعهم موزعاً عليهم، ويرجع كل منهم إلى ما يقتضيه

التوزيع من الدية: فإن كانوا ثلاثة رجع كل منهم بثلثي دية مورثه، [أو أربعة رجع كل منهم بنصف وربع دية مورثه]، وهذا ما جزم به المتولي. والثاني: أنه يقرع بينهم، ويجعل القتل واقعاً عمن خرجت له القرعة، وللآخرين الدية. والثالث- حكاه الشيخ أبو محمد عن الحليمي -: أنه يكتفي به عن جميعهم، ولا رجوع لهم إلى الدية؛ لأنه لو قتل جماعة واحداً ظلماً لجعلنا كلَّ واحد منهم كالمنفرد بالقتل في الاعتداء؛ كذلك نجعله كالمنفرد في الاستيفاء. قلت: وهذا فيه نظر؛ لأنا قد حكينا أن مذهب الحليمي فيما إذا قتل عشرةٌ واحداً ظلماً – أن المستحق على كل [واحد] منهم عشر روحه، إلا أن الروح لا تتجزأ؛ فلا يمكن استيفاء المستحق إلا بغيره؛ فاستوفى لتعذره، وإذا كان هذا مأخذه في استيفاء جميع [النفس من كل واحد منهم] ثَمَّ، لم يحسن جريان مثله هاهنا؛ لانتفاء عدم إمكان استيفاء البعض. نعم، قد يقال: إنه ذكر هذا تخريجاً على أصول الشافعي في تلك المسألة، [لا] على ما اعتقده، والله أعلم. فرع مُرَكَّبٌ من القتل والقطع: إذا قتل رجلاً، وقطع طرف آخر، ولم يسر، وحضر المستحقان- فإنه يقطع طرفه أولا، ثم يقتل، سواء تقدم القتل، أو تأخر؛ لأن في ذلك جمعاً بين الحقين، وهذا بخلاف ما لو قطع يمين إنسان، وقطع لآخر أصبعاً من يمينه، وحضر المستحقان؛ فإنه يقطع للسابق منهما، وللآخر من الدية بقدر ما تعذر عليه استيفاؤه. والفرق: أن نقصان الطرف لا يوجب نقصان النفس؛ ألا ترى أن بدلها لا يختلف، ويُقتل كامل الأطراف بناقص الأطراف، ونقصان الإصبع يوجب نقصان اليد؛ ولذلك اختلف البدل، ولم يقطع الطرف الكامل بالناقص. وما أطلقه في الوجيز في هذه الحالة من أن يقرع بينها، فهو محمول على ما

إذا وقع القطعان معاً، لا على الترتيب، أو جهل السابق. ثم في الصورة الأولى، [لو أخر مستحق الطرف استيفاء القصاص، قال الإمام في باب حد قاطع الطريق: فإجباره على التعجيل محال، وحمله على العفو محال، وتفويت حقه بتسليط مستحق النفس على القتل، لا وجه له. نعم]، لو ابتدر مستحق القصاص في النفس، وقتله، فلا شيء عليه. وفي "التتمة": أن الحكم كما لو قتل رجلين، وابتدر ولي الثاني فقتله. أما إذا سرى القطع إلى نفس المقطوع أيضاً: فإن كان قبل أن يصدر من القاطع القتل، قطع، ثم قتل، وإن كان بعده فقد حكى ابن الصباغ عن الأصحاب: أنه ليس للولي استيفاء القصاص في الطرف، إلا أن يعفو ولي المقتول قبل السراية؛ فحينئذ يكون له القطع ثم القتل، قال: وفيه نظر؛ لأنه استحق القطع قبل قتل الآخر، فسرايته لا تسقط حقه، وإنما يجيء هذا على قول من قال: إن القصاص في الطرف يدخل في النفس، وغنما يقطع الطرف؛ لأنه طريق إلى قتله بمثل ما قتل [به]. قلت: وهذا هوا لذي اقتضاه قول أصحابنا أيضاً؛ حيث جزموا – كما حكاه الرافعي – فيما إذا قطع يده؛ فسرى الجرح إلى نفسه، فعفا عن النفس – بأنه لا قصاص في الطرف، وإن ترددوا فيما إذا عفا عن الطرف في هذه الصورة، هل يكون عفواً عن النفس؟ على وجهين. وهذا ما أشرت إليه من قبل عند الكلام فيما إذا قال: عفوت عن هذه الجناية وما يحدث منها. قال: وإن قتل وارتد، أو قطع وسرق – أقيد للآدمي، أي: عند الطلب، ودخل فيه حد الردة والسرقة؛ لأن حق الآدمي مبني على التشديد، وفي تقديمه تحصيل مقصود حق الله – تعالى [من وجه]. وحكى الماوردي وجهاً آخر: أنهما لا يتداخلان، ويستوفيان؛ فيقطع بالسرقة [أولاً]، ويقتل بالردة، وتجب الدية، ولعل محل هذا الوجه إذا تقدمت الردة

والسرقة، أما إذا تأخر ذلك فقد يقال: لا يجري؛ لما فيه من تفويت حق السبق، وقد يقال به؛ لأن حق الله –تعالى- إذا سقط لا جابر له، بخلاف حق الآدمي. وهذا الخلاف شبيه بالخلاف فيما إذا اجتمع في المال الزكاة وحق الآدمي. والثالث – وهو القسمة – لا يجيء هاهنا؛ لأنا لا نرى قتل الشخص الواحد لشخصين وإن قتل وليهما معاً؛ ففي هذه الصورة. فرع: إذا قتل الوليُّ المرتدَّ عن الردة، دون القصاص – فعن "فتاوى" صاحب "التهذيب" أنه ينظر: إن كان ولي القصاص إماماً فله الدية في تركة المرتد؛ لأن للإمام قتله عن الجهتين. وإن كان غير الإمام، وقع قتله عن القصاص، ولا دية له؛ لأن غير الإمام لا يملك قتله عن جهة الردة، قال: وكذلك لو اشترى عبداً مرتداً؛ فقتله المشتري قبل القبض عن الردة – ينفسخ العقد إن كان المشتري الإمام، وإن كان غيره صار قابضاً؛ كما لو قتله ظلماً محضاً. قال: وإن قطع يد رجل، ثم قتله – قطع، ثم قتل؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، ولأن المقصود من القصاص التشفي والانتقام، وإنما يكمل التشفي إذا فعل به مثل ما فعلن لكن الولي يتولى القتل، [وهل يتولى] قطع اليد إن منعناه عند الاندمال؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي، وقال: إنهما مخرجان من القولين فيما إذا اجافه؛ فمات: هل يجاف؟ كما سنذكره. قال: وإن قطعه؛ فمات منه – قطعت يده، فإن مات، أي: في مثل تلك المدة التي سرت فيها جنايته، وإلا قتل؛ لأن ذلك أقرب إلى المماثلة. ثم ظاهر كلام الشيخ وغيره من العراقيين –كالبندنيجي والمحاملي وغيرهما – يقتضي وجوب الإنظار، وهو المحكي عن أبي الحسين بن القطان.

والذي جزم به الغزالي والقاضي الحسين، وادعى الرافعي أنه المشهور: أنه غير مستحق حتى يجوز لولي المقتول أن يقتله عقيب القطع. وفي "التتمة": أنه إذا أراد قتله قبل مضي تلك المدة؛ فإن اندمل الجرحُ، أو ظهرت أمارات الاندمال، فله ذلك. وإن كانت الجراحة متألمة، ولم تظهر أمارة البرء – فليس له ذلك. قال: وإن قطع يد رجل من الذراع، أو أجافه، فمات – ففيه قولان: أحدهما: يُقتل، أي: بالسيف، ولا يفعل به مثل ذلك؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} والمثلية لا تتحقق في [مثل] هذه الحالة؛ بدليل عدم إيجاب القصاص في ذلك عند الاندمال؛ فتعين المصير إلى القتل بالسيف، وهذا ما صححه في "التهذيب". قلت: ولو قيل على هذا القول: إن له قطع اليد من الكوع في مسالة قطع الذراع؛ كما كان له ذلك لو لم يسر الجرح – لم يبعد. قال: والثاني: يُجْرح كما جرح؛ تحقيقاً للمماثلة في طريق الإزهاق؛ كما في الحالة الأولى وما قبلها، ويخالف حالة اندمال الجراحة؛ لأن المقصود ثَمَّ ليس إزهاق الروح، وقد يكون في هذا الفعل – بسبب الزيادة على المستحق – إزهاقها، وهاهنا المقصود إزهاقها؛ فلا اثر لتفاوت يتفق في ذلك؛ ألا ترى أنه لو ضربه بمثقل، فلم يمت، لا يجب القصاص فيه، ولو مات منه، وجب القصاص فيه، وضرب بمثله؟ وقد بنى المتولي القولين في الجائفة على الخلاف الذي ذكرناه فيما ذا قطع يده فمات في أن قطع اليد في هذه الحالة لكونه مقصودة في نفسها، أو لكونها طريقاً في الاستيفاء؟ فعلى الأول: يتعين السيف، وعلى الثاني: يُجيفه. قال: فإن مات، وألا قتل؛ لأنه لا يمكن أن يفعل به مثل ذلك مرة أخرى، وإزهاق الروح مستحق؛ فتعين له هذا الطريق، وهذا القول أصح عند الشيخ أبي

حامد وأبي الطيب وغيرهما من العراقيين، والروياني – أيضاً – وهو جارٍ، كما حكاه أبو الطيب وغيره فيما إذا قطع ذراع من لا كفّ له، والجاني صحيح الكف؛ فتقطع يده من الذراع، فإن مات، وإلا قتل، وهو الأظهر عند الإمام، وقيل: إنه المنصوص في "المختصر". ثم محل هذا القول إذا قال الولي: أنا أقتص في الجرح، ثم أحز رقبته إن لم يمت، أما إذا قال [الولي]: أنا أقتص في الجرح، وأعفو عنه إن لم يمت – لم يمكن منه، صرح به البندنيجي، والرافعي في مسألة الجائفة، وقال: إنه إذا أجافه، ثم عفا عنه – عزر على ما فعل. والقاضي الحسين خصّ محل التعزير بما إذا قال بعد الإجافة: كنت لا أريد قتله. والذي حكاه الماوردي أن [محل القول الثاني] في الصورتين: إذا لم يرد العفو عن القصاص، [فإن أراد العمل به] مع عفوه عن القصاص في النفس – لم يجز؛ لأنه قد صار بالعفو عن النفس كالمنفرد عن الراية. والقولان في مسألة الكتاب يجريان – كما قاله الأصحاب – فيما إذا قطع يداً شلاء، ويد القاطع صحيحة، أو شجه هاشمة، أو منقلة، أو مأمومة، فمات بالسراية. وخصّ بعض الأصحاب القولين بما إذا كانت الجناية الغالب منها الموت، أما إذا لم يغلب منها فيقتل بالسيف، قال القاضي أبو الطيب: وهذا ليس بشيء. قال: وإن قتل بالسيف أو السحر لم يقتل إلا بالسيف، أما في الأولى؛ فللآية، وأما في الثانية، فلما روى الترمذي عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ" ولم يفصل.

قال الأصحاب: ولأن عمل السحر محرم، ولا شيء مباح [يشبهه]، على أن ذلك لا ينضبط، ويختلف تأثيره. وقد ادّعى المحاملي والبندنيجي نفي الخلاف في ذلك بين الأصحاب، ولم أر تصريحاً بخلافه، لكن في كلام القاضي الحسين ما يقتضي أن له أن يقتله بالسحر؛ فإنه قال: كل آلة يجب بها القود يستوفي القود بجنسها، إلا في مسألتين: إذا لاطَ به، وإذا أوجره خمراً. على أن ما ادّعاه الأصحاب لا يخلو عن احتمال؛ من حيث إنا إذا قلنا: تعلم السحر ليس بحرام، ففعله – إذا لم يكن فيه سجود لصنم، ولا ما شابهه أو قاربه – إنما حرمناه؛ لما فيه من الإضرار بالغير، وإذا كان كذلك فهو كالقطع والضرب، [والضرب والقطع] إذا أفضى إلى الموت جاز أن يقتص من فاعله بجنسه؛ فكان القياس أن يكون السحر كذلك. فإن قيل: إن أثر السحر لا ينضبط؛ فيُقال لقائل هذا: هلاَّ خرجته على الخلاف في الجائفة وتسليط السبع والحية على القاتل. نعم، قد يُقال: معرفة كون السحر يقتل لا يهتدي إليها غير فاعله؛ ولذلك قلنا: لا يتصور وجوب القصاص به إلا بالإقرار، وإذا كان كذلك فلم يظهر كونه فعلاً صالحاً للقتل – غالباً – فلا يسلط به عليه؛ لما فيه من الخلو عن الفائدة، بخلاف الجائفة ونحوها؛ فإن كل أحد يعرف أن ذلك يوصل إلى إزهاق الروح غالباً، فلم يخلُ الإتيان به عن الفائدة، والله أعلم. قال: وإن قتل باللواط أو سقى الخمر فقد قيل: يقتل بالسيف؛ لان ما قتل به محرم الفعل؛ فلم يجز أن يفعل به مثله، وتعين له السيف؛ كما في القتل بالسحر، وهذا هو الأصح.

وقيل: يعمل في اللواط مثل الذكر من الخشب؛ فيقتل بهن وفي الخمر يسقي الماء؛ فيقتل به؛ [لقربه من فعله]، وهذا قول أبي سعيد الإصطخري؛ كما حكاه القاضي الحسين، وأبي إسحاق المروزي كما حكاه المحاملي والبندنيجي، وحكى الماوردي عنه أنه في مسألة اللواط: يقتل بإيلاج خشبة كما ذكره الشيخ، وفي سقي الخمر [يقتل بسقي] الخلّ. وحكى القاضي أبو الطيب عنه [أنه] في مسالة الخمر يسقي الماء حتى يموت، كما ذكره الشيخ، وفي مسألة اللواط: يعمل له من الجلود مثل الذكر، ويوالي عليه، ويكرر الفعل إلى أن يموت، قال المتولي: ومحل هذا الوجه إذا كان موت القاتل متوقعاً بالمقابلة بمثل ما فعل، أما إذا لم يتوقع، وكان موت المجني عليه؛ لطفولية، ونحوها – فلا؛ لأن فيه ارتكاب محظور بلا فائدة. وهذا موافق لما قاله الإمام، فيما إذا ضرب نحيفاً بضربات يقتل مثلُها مثلَه غالباً ولا يقتل مثل الجاني- إما يقيناً، أو غالباً لقوته -: إن الوجه القطع بأنه لا يضرب بتلك الضربات؛ لأنها لا تقتله، وإنما يراعى المماثلة إذا توقعنا حصول الاقتصاص بذلك الطريق، لكن الإمام بدا له في الأخيرة احتمال آخر. وقد حكى الفوراني وجهاً آخر في اللواط: أنه لا يجب به القصاص؛ لأن المقصود به طلب اللذة؛ فلا يتحقق العمد فيه، ثم قال: وهو خطأ. وحكى أبو الفرج السرخسي وجهاً في سقي الخمر مثله؛ لأنه لا يقصد به الإهلاك. فرع: لو سقاه البول حتى مات، قال القاضي الحسين: احتمل أن يوجر بقدره من البول، بخلاف الخمر؛ لأن البول يباح شربه عند الضرورة، والخمر لا يباح على الصحيح من المذهب، وكذا لو سقاه السم، ومات، والسم طاهر- يسقي مثله، وحكى الرافعي عنه وجهين في مسألة البول، أو يكون كالخمر. قال: وإن غرق، أو حرق، أو قتل بالخشب، او بالحجر – فله أن يقتله

بالسيف؛ لأنه أوحى وأسهل على المقتول؛ ففيه ترك بعض الحق، وله أن يفعل به مثل ما فعل، أي: من كل وجه؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة:194]، ولما روى البراءُ بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ"، وما روى مسلم والبخاري وأبو داود وغيرهم، عن قتادة:"أَنَّ جَارِيَةَ وُجِدَتْ قَدْ رُضَّ رَاسُهَا [بَيْنَ حَجَرَيْنِ]، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلانٌ، حَتَّى سَمَّوا اليَهُودِيَّ، [فَأَوْمَتْ بِرَاسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ]، [فَاعْتَرَفَ]؛ فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَضَّ رَاسُهُ بِالْحِجَارِةِ". قال البيهقي: ولا تجوز دعوى الشيخ في [هذا؛ لنهيه] – عليه السلام – عن المثلة؛ إذ ليس في هذا تاريخ ولا سبب يدل على النسخ، ويمكن الجمع بينهما: بأنه إنما نهى عن المثلة فيمن وجب قتله، لا على طريق المكافأة والمجازاة. ["وضابط هذا"] النوع: أن يقع القتل بما يوحي، إلا ما ذكرناه. وحكى الإمام أن في بعض الطرق رمزاً إلى أنه في مسألة الحرق لا يقتل به، وحكاه المتولي قولاً في الضرب، وفيما إذا رماه من جبل، أو حبسه في بيت حتى مات جوعاً، وقال: إنه اختيار المزني.

وقد أجرى الخلاف- أيضاً – فيما إذا قتله بإنهاش حية ونحوها، أو بحبسه مع سبع في مضيق ونحوه؛ لأن الأفاعي غير متماثلة، وكذا السباع، حكاه الماوردي. فرع: إذا تعذر الوقوف على قدر الحجر، او قدر النار، أو قدر الماء، أو عدد الضربات – فعن القفال: أنه يقتل بالسيف، وعن بعضهم: أنه [يؤخذ] باليقين. قال: فإن فعل [به مثل] ذلك، فلم يمت – ففيه قولان: أحدهما: يقتل بالسيف؛ لأن المماثلة قد حصلت، ولم يبق إلا تفويت الروح؛ فوجب تفويتها بأسهل ما يمكن، وهو ضرب العنق بالسيف، وهذا ما ادّعى القاضي الحسين أن الشافعي لم يقل بخلافه، [ولا يختلف] مذهبه فيه. والثاني: يكرر عليه مثل ما فعل إلى أن يموت. قال الماوردي: أو ينتهي إلى حالة يعلم – قطعاً – أنه يموت فيها؛ فيُمسك عنه؛ كما يمسك عن المضروب العنق إذا بقيت فيه حياة. ووجهه: انه فعل به فعلا اتصل بالموت؛ فيجب أن يفعل به مثل ذلك على أن يموت؛ ليكون أشبه بفعله، وكي لا يوالي عليه بين نوعين من العذاب، وهذا ما ادّعى القاضي أبو الطيب والبغوي، والنواوي أنه الصحيح، وقال القاضي الحسين: إنه أخذ من قول الشافعي في "المختصر". وقال بعض أصحابنا: إن لم يمت من عدد الضرب، قتل بالسيف. وحكى في مسألة القتل بالنار، إذا بقينا الجاني بقدر ما بقي المقتول فيها حتى مات، فلم يمت – أنا ننظر: فإن كان إخراجه وحَزُّ رقبته أسهل فعل، وإن كان تبقيته في تلك النار زماناً أسهل عليه من حز رقبته، فوجهان: أحدهما: يبقى. والثاني: لا؛ لأنا نراعي الأسهل عليه في هذا الباب. وقال: إن هذا الحكم فيما هو في معنى ذلك مثل التخنيق، وعلى ذلك جرى صاحب "الإبانة"وغيره.

وصور الإمام محل الوجهين بما إذا لم يمكن قتله بالسيف في النار. وتردد الشيخ أبو محمد فيما إذا كان الإخراج أهون، وتراضوا على البقاء، والأظهر: أنه لا أثر لتراضيهما. قال: إلا في الجائفة وقطع الطرف؛ لتعذر إمكان ذلك في المحل، وفي غيره يؤدي إلى أخذ طرف بطرفين، وجائفة بجائفتين، وهذا ما ادّعى ابن الصباغ والمحاملي وغيرهما نفي خلافه. وفي "البسيط" [وجه]: أنه يزاد في الجوائف، إذا جوّزنا القصاص فيها؛ ليكون إزهاق الروح قصاصاً بطريق إزهاقه عدواناً، وهذا ما ادّعى المزني أنه قياس مذهب الشافعي، والأصحاب فرّقوا بما ذكرناه. قال: ومن وجب له القصاص في الطرف، استحب له ألا يعجل في القصاص حتى يندمل. هذا الفصل يقتضي بيان حكمين: أحدهما: جواز القصاص قبل الاندمال، وقدخالف [فيه] أبو حنيفة ومالك والمزني. [والثاني: استحباب التأخير على الاندمال]. ودليلهما: ما روى الدارقطني في "سننه"، عن رواية أيوب، عن عمرو بن دينار، عن جابر:"أَنَّ رَجُلا طَعَنَ رَجُلا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ؛ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَقِيد، فَقِيلَ لَهُ: حَتَّى تَبْرَأَ؛ فَأَبَى، وعَجَّلَ؛ فَاسْتَقَادَ، فَعَرِجَتْ رِجْلُهُ، وَبَرِئَتْ رِجْلُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ؛ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "لَيْسَ لَكَ شَيْءٌ، أَنْتَ اَبَيْتَ".

قال الماوردي: وفي هذا الحديث دلالة على شيء ثالث، وهو جواز القود من الجناية بغير الحديد؛ لأن الجناية كانت بقرن. قلت: وعلى أمر رابع، وهو أن ما حصل بسبب الجناية من شين بعد الاقتصاص لا يجبر بشيء آخر. وفي تعليق القاضي الحسين حكاية وجه: أنه لا يجوز استيفاء القصاص قبل الاندمال؛ كما سنذكره في الديّات، [والإمام حكاه في آخر النهاية، وقال: إنه بعيد، لا أعرف له وجهاً] وادّعى الرافعي أنه قول مخرج، وان الأول هو المنصوص. قال: فإن أراد العفو عنه على الدية، قَبْل الاندمال –ففيه قولان: أحدهما: يجوز؛ لأن الدية أحد البدلين؛ فكان له الرجوع إليها قبل الاندمال؛ كالقصاص. قال القاضي الحسين: وهذا اخذ من نص الشافعي في كتاب المكاتب، فيما إذا جنى السيد على عبده المكاتب، فقطع يده: أن له أن يعجل أرش يده قصاصاً من كتابته. وقال الرافعي: إنه أخذ من نصه في تعجيل القصاص. فعلى هذا: لو كان أرش الطرف زائداً على دية؛ مثل أن قطع يديه ورجليه؛ فهل له أخذ الزائد على دية النفس؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما –وبه قال أبو إسحاق-: لا؛ لأن دية النفس في هذا المقام هي المحققة، وما زاد مشكوك فيه. والثاني: نعم؛ لأن الأصل بقاء استحقاق ذلك، وعدم السراية. قال: والثاني: لايجوز؛ لأن الأرش لا يستقر قبل الاندمال؛ إذ قد يسري القطع؛ فيدخل أرشه في دية النفس، وقد يشارك الجاني فيه شخص آخر، أو

أشخاص فيتوزع عليهم؛ بخلاف القصاص في الطرف، فإنه لا يسقط، ولا يتبعض؛ بسبب ما يحدث من اندمال، أو سراية، أو مشاركة في قتل النفس، وهذا هو الصحيح، والمنصوص عليه في جميع كتبه، والمعمول عليه عند سائر الأصحاب؛ كما قاله الماوردي. قال القاضي الحسين: وقد قال بمثله في مسألة المكاتب بعضُ الأصحاب، وبعضهم أقرّ النصين، وفرق بأن للمكاتب غرضاً في الاستيفاء قبل الاندمال، وهو وصوله إلى الحرية، بخلاف الحر. قال الإمام: والصائرون إلى جواز التعجيل في مسألة المكاتب اختلفوا: فمنهم من خصّ ذلك بما إذا كان المال المأخوذ وافياً بالنجوم أو بما بقي منها، ومنهم من يعمم الحكم، وهو قضية إطلاق القاضي الحسين. فرع: لو كانت الجناية مما لا توجب قصاصاً ولا أرشاً مقدراً، فلابد من التوقف حتى تتبين العاقبة. وعن بعض الأصحاب فيما رواه الشيخ أبو محمد: أنه يأخذ أقل ما يفرض حكومة لتلك الجراحة. قال: وإن اقتص في الطرف؛ فسري على نفس الجاني – لم يجب ضمان السراية؛ لقوله تعالى: {وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 41، 42] وهذا قد انتصر؛ فيجب ألا يكون عليه سبيل. وأيضاً: فقد روى عن عمر وعليّ – رضي الله عنهما – أنهما قالا:"إِنَّ [مَنْ] مَاتَ مِنْ حَدٍّ، أَوْ قِصَاصٍ؛ فلاَ دِيَةَ لَهُ، [الحق قَتَلَه] ". ولأنها عقوبة مستحقة مقدرة؛ فوجب ألا تُضمن سرايتها؛ كالقطع في السرقة.

قال: وإن اقتصّ في الطرف، ثم سرى إلى نفس المجني عليهن ثم [سرى] على نفس الجاني – فقد استوفى حقه؛ لأن السراية لما كانت كالمباشرة في إيجاب القصاص، وجب أن تكون كذلك في استيفائه. قال المحاملي: وهكذا الحكم لو اقتص من الجاني في الطرف، فعاد وقتل المجني عليه، ثم سرى القطع غلى نفسه؛ فإنه يجعل قصاصاً؛ لأنها سراية عن قصاص بعد وجوب القصاص. وهكذا الحكم إذا قطع يدي إنسان، [فسرى القطع إلى النفس، فقطع الولي إحدى اليدين،] ومات الجاني قبل قطع الأخرى – يجعل مستوفياً لحقه، ولا تجب دية اليد الأخرى؛ لأن الجرح قد صار قتلاً، وقد استوفاه بالسراية. تنبيه: احترز الشيخ بقوله:"ثم سرى إلى نفس الجاني" عما إذا اقتصّ [في الطرف]، فسرى إلى عضو آخر، لا إلى النفس، كما إذا قطع أصبعه، فسرى إلى كفه، ثم قطع أصبع الجاني؛ فسرى [-أيضاً-] إلى الكف؛ فإن الشافعي نص في موضع – كما ادعاه الرافعي – على أنه لا قصاص. وقال في المختصر فيما إذا أوضحه؛ فذهب ضوء عينه وشعر رأسه؛ فاقتص المجني عليه في الموضحة؛ فذهب ضوء عينه، وشعر رأسه: إنه يكون مستوفياً لحقه. ولو لم يذهب ضوء عين الجاني، وثبت شعره – فعليه دية البصر، وحكومة الشعر. وفي [هذا النصّ] إيقاع الشعر [في مقابلة الشعر] وهو من الأجسام؛ فأشعر بأن السراية إلى الجسم تقع قصاصاً. واختلف الأصحاب – لأجل ذلك – في حصول الاستيفاء بالسراية إلى ضوء العين والطرف؛ إذا لم نوجب القصاص فيهما بالسراية والشعر – على طرق: إحداها: المنع في الجميع، والقائلون به اختلفوا: فمنهم من قال: إنما أراد الشافعي بالشعر: شعر موضع الموضحة؛ فإنه يتبع

الموضحة؛ كالشعر على اليد والرجل يتبعها قصاصاً ومالاًز ومنهم من قال: لم يتكلم الشافعي في الشعر، وغنما هو من زيادة المزني، وقالا: ما ذكره في الضوء مفرع على الصحيح في وجوب القصاص فيه بالسراية [إليه]. والثانية: القطع في مسألة الضوء بالحصول، وفيما عداه قولان: أحدهما: الحصول؛ كما في النفس، وهو اختيار المزني. فعلى هذا: لا نظر في حكومة الشعر إلى التفاوت بين قدر الحكومتين. والثاني: المنع، وبه جزم ابن الصباغ والماوردي والمتولي. والفرق بينه وبين الروح: أن السراية إليها توجب القصاص، بخلاف ما نحن فيه. والثالثة: القطع في مسألة الضوء بالحصول، وي مسألة الشعر بالمنع، وفي الطرف قولان؛ وهما جاريان – كما حكاه الإمام – فيما إذا قطع يد إنسان، فاقتص المجني عليه في أصبع من يد الجاني؛ فسرى إلى الكف، ومال إلى الحصول، وقال: لا وجه عندنا إلا القطع به. والصحيح – [وإن ثبت] الخلاف في الشعر والطرف -: عدم الحصول، وعلى هذا: تجب دية ما فات من الأطراف بالسراية، وحكومة الشعر. قال الرافعي: وله المطالبة بأرش الأصبع عند القطع؛ لأنه إن سرى القطع إلى الكف لم يسقط ما في الذمة؛ فلا [معنى] لانتظار السراية. قال: وإن سرى إلى نفس الجاني، ثم [سرى] على نفس المجني عليه- فقد قيل: تكون السراية قصاصاً؛ لأنها سراية عن قصاص، وقد وجب عليه القصاص في النفس؛ فكان قصاصاً عنه كالتي قبلها، وهذا قول أبي إسحاق المروزي. والمذهب: أن السراية هدر، أي: سراية القصاص؛ لأن القصاص إنما يجب في النفس بزهوق الروح؛ فلو جعل مستوفياً بالسراية السابقة لكان كالسلف في القصاص، والسلف في القصاص لا يجوز؛ كما لا يجوز أن يقول: اقطع يدك

حتى إذا قطعت يدي لا يكون [لي] عليك شيء. وعلى هذا: يجب نصف الدية في تركة الجاني؛ إن كانت دية الجاني مثل دية المجني عليه، فإن كانت أقل فيجيء في قدر ما يرجع به الخلاف السابق. وقد اعرض غير الشيخ من الأصحاب عن ذكر المذهب في هذه المسألة، وحكى الخلاف وجهين، وقال الإمام: إنه يمكن بناؤها على أنَّا [هل] نجعل الجرح قتلاً إذا أدى إلى القتل، أم لا؟ وفيه وجهان ذكرناهما فيما إذا جرح الكافر كافراً، ثم أسلم الجارح، أو العبد عبداً، ثم اعتق العبد، ومات المجروح، وقضية هذا البناء أن يكون الراجح عنده [أن السراية هدر؛ لأن الراجح عنده] ثم امتناع القصاص. تنبيه: الهدر- بفتح الدال والهاء – المُلْغَى الذي وجوده كعدمه. قال: وإن قلع سن صغير لم يثغر، أي: لم يسقط أسنان اللبن – لم يجز أن يقتص منه؛ لأن العادة في أسنان من هذا حاله أنها تعود بعدما سقطت؛ فلم يتحقق إتلافها. قال: حتى يؤيس من نباتها؛ لأنَّا حينئذ نتحقق الإتلاف وفساد المنبت، وهذا بخلاف الموضحة والجائفة؛ فإنه يقتص منهما في الحال، وإن كان الغالب عودهما. والفرق: أنَّا لو لم نفعل ذلك لصارت معظم المواضح والجوائف هدراً.

وقد جزم بما حكاه الشيخ الجمهور، ومنهم: الإمام، ثم قال: وفي القلب من إيجاب القصاص في هذه الحالة شيء؛ لأن عين السن من المثغور عضو قصاص، ومن غير المثغور ليس عضو قصاص؛ فلا تتجه فيهما المقابلة. وقد حكى الغزالي وغيره ذلك قولا، ووجهوه بأنه فضلة في الأصل نازلة منزلة الشعر الذي ينبت مرة بعد أخرى، وسن البالغ أصلية. وحكى الإمام عن صاحب التقريب وجهاً: أن الجائفة إذا التحمت زال حكمها، ورأى تخصيصه- على ضعفه – بما إذا تعدت الحديدة إلى الجوف، وحصل الخرق من غير زوال لحم من البين، دون ما إذا شيء، ونبت [شيء] جديد، ورأى طرده في مثلها في الموضحة. ثم حالة الإياس من الإنبات في السن: [أن ينتهي] الصبي إلى سن يقول أهل الخبرة فيه: إنه لا ينبت بعد ذلك. ولو مات الصبي قبل بلوغ ذلك السن، لم يجب القصاص، وفي وجوب الأرش خلاف يأتي. تنبيه: كلام الشيخ يفهم أمرين: أحدهما: أنه إذا قلع سن من قد أثغر – أنه يجب القصاص في الحال، و [قد] حكى عن الشيخ أبي حامد أنه قال في ذلك: يسأل أهل الخبرة أيضاً؛ فإن قالوا: لا تعود؛ وجب القود [في الحال]، وإن قالوا: يرجى عودها إلى مدة؛ انتظرت. وهذا ما ذكره في المهذب، لكن أكثر الأصحاب على ما أفهمه كلام الشيخ.

الثاني: إذا قلع سن كبير لم يثغر أنه [لا يجوز] القصاص في الحل. وقياس قول الشيخ أبي حامد في المسألة السابقة، أنه لا قصاص إلا بعد مراجعة أهل الخبرة؛ وهو قضية ما حكاه الرافعي؛ حيث قال: إذا قلع غير مثغور سن غير مثغور فلا قصاص في الحال؛ لأن الغالب في السن المقلوعة النبات؛ فإن نبتت فلا قصاص ولا دية؛ وإن لم تنبت وقد دخل عليه وقته؛ فالمجني عليه يأخذ الأرش أو يقتص، وعلى هذا يكون ذكر الصبي لا للتقييد؛ بل لأن الغالب أن السن الذي لم يثغر: سن الصبي. فرع: إذا اقتص من الجاني بقلعه سن من قد اتَّغَر، أو أخذ منه الأرش، فعاد سن المجني عليه؛ فقولان منصوصان جاريان فيما لو قطع لسانه فنبت: أحدهما: أنه نعمة مجددة، وهذا هو الأصح في مجموع المحاملي، وقد قيل: بالقطع به في اللسان، فعلى هذا: يرجع الجاني على المجني عليه بأرش السن خمس من الإبل. وعن رواية أبي الطيب بن سلمة: أنه لا يطالب في صورة الاقتصاص بشيء؛ بخلاف أخذ الأرش، فإن أخذ الأرش المدفوع ممكن؛ بخلاف القصاص. ولو انعكس الحال؛ فعاد سن الجاني، دون المجني عليه، فعلى الأول: لا شيء عليه، وعلى الثاني وجهان: أحدهما: يقلع ثانياً، وكلما عاد قلع؛ لأن الجاني أعدم نبات [سن] المجني عليه؛ فوجب أن يفعل به مثل ذلك. والثاني: لا يقلع، وعلى هذا فوجان حكاهما الماوردي: أحدهما-وبه جزم أبو الطيب والمحاملي-: أنه يؤخذ منه أرش السن، وهو خمس من الإبل. والثاني: [لا يؤخذ بالدية]؛ كما لا يؤخذ بالقصاص.

ولو عاد سن الجاني والمجني عليه معاً، فلا شيء لأحدهما على الآخر باتفاق القولين. تنبيه: يقال للصبي إذا سقطت رواضعه: قد ثغر يثغر؛ فهو مثغور؛ كضرب يضرب فهو مضروب، فإذا نبتت بعد ذلك قيل: اتَّغر، بتشديد التاء ثالثة الحروف، وأصله: اثتغر؛ فقلبت التاء تاء، ثم أدغمت، وحينئذ يكون قول الشيخ: لم يثغر، بمثناة، آخر الحروف مضمومة، ثم مثلثة ساكنة، ثم غين معجمة مفتوحة. قال: وإن وجب له القصاص في العينين بالقلعن لم يمكَّن من الاستيفاء؛ [لأنه] لا يحسنه [لعماه] وعدم بصره بهما، بل يؤمر بالتوكيل فيه؛ لأن به يحصل مقصوده من غير حيف. ولو كان قصاصه واجباً في عين واحدة، وهو يبصر بالأخرى - مكِّن [من الاستيفاء؛ إن كان يحسنه]، صرح به الماوردي، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ وغيرهم. قال: ويقلع بالأصبع؛ لأنه يأتي على ما لا يأتي عليه الحديد؛ فتقع المماثلة. وقيل: يقلع بالحديد. ومحل ذلك: إذا كان الجني قد قلع بالأصبع، أما إذا كان قد قلع بالحديد، لم يقلع إلا به. قال: وإن كان [قد] لطمه [حتى] ذهب الضوء؛ أي: ضوء العينين، ومثل تلك اللطمة تذهبه - فعل به مثل ذلك؛ طلباً للمماثلة، وهذا ما حكى عن نص الشافعي في الأم، ونسبه في المهذب لبعض الأصحاب، وقال: يحتمل عندي ألا يقتص باللطمة؛ كما لا يقتص إذا هشمه؛ فذهب ضوء عينه بالهاشمة، وأنه لا اقتصاص في اللطمة كما لا اقتصاص في الهاشمة. وقد أقام البغوي هذا الاحتمال وجهاً، وقال: إنه الأصح. أما إذا ذهب ضوء إحدى عينيه فلا يمكن أن يفعل به مثل ما فعل؛ لأنه ربما

أذهب عينيه جميعاً، وربما زال عقله؛ فيكون قد أتلف [منه] أكثر مما جنى عليه، وعلى هذا يكون الحكم كما سنذكره. قال: فإن لم يذهب [الضوء]، وأمكن أن يذهب [الضوء] من غير أن يمس الحدقة، أي: مثل أن يوضع في العين كافور أو يقرب منها حديدة مُحمَاة ونحو ذلك- فعل ذلك؛ لإمكان استيفاء الحق من غير حيف. قال: وإن لم يمكن، أي: إلا بإذهاب الحدقة، اخذت الدية؛ لتعذر القصاص؛ وهكذا الحكم فيما إذا شخصت عين المجني عليه باللطمة، مع ذهاب ضوئها، ولم تشخص عين الجاني باللطمة المستوفاة؛ فإنها تعالج بما يفضي إلى شخوصها إن أمكن، وإن لم يمكن قال البندنيجي: فلا ضمان فيه ولا قود. قال: وإن وجب له القصاص في اليمين، فقال: أخرج يمينك، أي: لأقطعها؛ فأخرج اليسار عمداً؛ فقطعها – لم تجزئه عما عليه؛ لأنه لا يجوز أن يعتاض عن [طرف] طرفاً بالتراضي، كما لا يجوز قتل شخص عوضاً [عن] شخص؛ فعند عدم التراضي أولى. قال: غير أنه لا يقتص منه في اليمين حتى تندمل المقطوعة. هذا الفصل يقتضي أمرين: أحدهما: أن قصاصه في اليمين لا يسقط؛ وهو كذلك، إذا لم يقصد أخذ اليسار عنه؛ لأنه لم يرض بإسقاطه، أما إذا قصد ذلك: فإن علم أنها اليسرى، قال في الحاوي: سقط قصاصه من اليمنى، وإن قال: ظننتها اليمنى؛ ففي سقوط قصاصه وجهان يأتي مثلهما من بعد، واجراهما الرافعي وغيره فيما إذا علم أنها اليسرى، وظن أنها تجزئ عن اليمنى، وقال: إن أظهرهما وهو المذكور في

المهذب، ومختار أبي حامد، والقاضي الحسين، على ما حكاه الإمام، وقد رأيته في تعليقه: أنه يسقط؛ لأنا إذا جعلنا مجرد الإخراج مع قصد الإباحة كالتصريح [بالإباحة، لم يبعد أن يجعل قطع اليسار على قصد الاكتفاء بها كالتصريح] بإسقاط القصاص في اليمنى. وقد أبدى الإمام احتمالاً لنفسه، وجزم به: ان الخلاف يجري فيما إذا علم القاطع أنها لا تجزئ عن اليمنى، ثم قال: ولو قلت [بأن هذه] الصورة أولى بأن [يسقط القصاص فيها؛ بأن] يحمل ما صدر من القاطع على [معاملة فاسدة]؛ لكان قريباً؛ فإنه لم يجر في الصورة المتقدمة إلا الظن، وقد تبين أنه مخالف للشرع، والذي جزم به القاضي الحسين في هذه الصورة: عدم السقوط. الثاني – وهو ظاهر اللفظ -: أنه لا يقتص منه في اليمين حتى تندمل المقطوعة؛ لأن القصد أخذ الطرف، دون إتلاف النفس، والموالاة لا يؤمن معها على النفس؛ كذا وجهه الأصحاب. ومقتضى هذا التوجيه أن يُقال: إذا وجب له القصاص في حر، أو برد شديدين، أو بالجاني مرض مُحْظَر: انه لا يستوفي [منه] في هذه الأحوال؛ خشية من إذهاب النفس؛ كما قلنا بذلك في الحد لهذا المعنى، وقد صرح بذلك صاحب جمع الجوامع، حكاية عن نص الشافعي – رضي الله عنه – في الأم. لكن الذي جزم به الغزالي والبغوي أنه لا يؤخر بسبب ذلك في مسألة الكتاب، وإن أُخِّرَ في الحدود؛ لأن حقوق الله – تعالى – مبنية على المساهلة والمسامحة، بخلاف حقوق الآدميين، وخشية الهلاك في مسألتنا جاءت

بسبب تعدي المستحق؛ فغلظ عليه بتأخير حقه، بخلاف ما إذا توقعت بسبب حرّ ونحوه؛ فإنه لا تعدي منه حتى يكون مانعاً من حقه؛ ألا ترى أنه لو وجب القصاص في أطراف الجاني جاز له الموالاة في قطعها، وإن خشي من ذلك تلف النفس؛ لما ذكرناه. على أن في مسألة الكتاب قولاً مخرجاً حكاه الإمام: أنه لا يمنع [من استيفاء حقّه في اليمين عاجلاً، وفي مسألة قطع الأطراف وجه: أنه يمنع] من التوالي فيها كما في مسألة الكتاب على النص، وقال الإمام: إن هذا لا أصل له. ووجه آخر، وبه أجاب القاضي الحسين في التعليق: أنه يجوز عند قطع الجاني أعضاء المجني عليه متوالية، أو دفعة واحدة، ولا يجوز عند قطعها متفرقة. وقد طرد القاضي أصله، فيما إذا قطع يمين زيد، ثم يسار عمرو، وقال: إنه لا يقطع للمتأخر حتى يندمل القطع المتقدم. وقال فيما إذا قطعهما معاً: إنه يقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، قطع له، ثم يترك حتى يندمل، ثم يقطع. ثم لا يخفى أن القاطع لليسار لا يجب عليه قصاص ولا دية، وإن كان عالماً بالحال، كما حكى عن نص الشافعي؛ لأن صاحبها بذلها مجاناً، وإن لم يتلفظ بالإباحة؛ كما قلنا في تقديم الطعام للضيف. قال الإمام: وقد حكى وجه ضعيف: أن الضيف لا يستبيح الطعام بالتقديم، بل لابد من لفظ يدل على الإباحة، والقياس أن يطرد هاهنا، ويقول: يجب الضمان؛ يعني: الدية، وقد حكى ذلك عن رواية أبي الحسين بن القطان، وأنه حمل نص الشافعي على ما إذا أذن صريحاً، لكن الإمام لم يعده من المذهب، وقال: ينبغي أن يستدل بمواضع الوفاق على فساد [المواضع الضعيفة، ولا يتعرض بالوجوه الضعيفة على مواضع الوفاق]. وقد روى عن أبي الطيب بن سلمة أنه قال: يحتمل أن يجب القصاص عند العلم؛ لأنه قطع عضواً لا حق له فيه عن علم بالحال، وهذا الاحتمال نشأ من أمرين:

أحدهما: اعتقاد أن الإخراج ليس بإباحة. والثاني: أن سكوت الإنسان عند إقدام ظالم على قطع عضوه لا يسقط القصاص عنه؛ كما حكيناه من قبل. والظاهر المشهور في مسألتنا-الأول: نعم، لو سرى [قطع اليسار] إلى النفس، قال الرافعي: ففي وجوب الدية الخلاف المذكور فيما إذا قال: اقتلني فقتله، وكان الأولى في العبارة أن يُقال: فهو كما لو قال لرجل: اقطع يدي؛ فقطعها، وسرت؛ لأنه وزان المسألة، وإن كان الحكم في المسألتين [واحدا]، وقد ذكرنا من قبل فيما إذا قال: اقطع يدي فسرى القطع إلى النفس – وجوب القصاص على وجه، ويظهر جريان مثله هاهنا من طريق الأولى. ثم إذا لم نوجب الدية هاهنا، وهو الذي أورده ابن الصباغ والمحاملي؛ فكأن المخرج هو القاتل لنفسه، وحينئذ تجب له دية اليمين، ويكون في وجوب الكفارة في ماله الخلاف الآتي، وقد صرح المحاملي بالأول، والإمام بالثاني. قال: وإن قال: فعلت ذلك غلطاً، أي: بسبب ما حصل لي من الدهش، أو ظناً أنه يجزئ، أو ظننت أنه طلب مني اليسار – نظر في المقتص: فإن قطع وهو جاهل، أي: بأنها اليسار أو بأنها لا تجزئ- فلا قصاص عليه؛ لجهله، وبذل صاحبها. وحكى صاحب التهذيب في حالة جهل القاطع بأنها اليسار، وقول المخرج: فعلت ذلك ظناً أنه يجزئ- وجهاً: أنه يجب القصاص؛ كما لو قتل إنساناً، وقال: ظننته قاتل أبي. وحكاه القاضي الحسين، والإمام – بناء على هذا الأصل-[أبداه احتمالاً] فيما إذا قال المخرج: فعلت ذلك غلطاً بسبب الدهش. وهذا منهم؛ بناء على اعتقادهم أنه إذا قال: تعمدت القطع – أنه يجب القصاص، كما سنذكره عنهم. ويمكن أن يفرق بين قتل من ظنه قاتل أبيه، وبني ما نحن فيه؛ بأن المخرج

هاهنا مقصر؛ حيث لم يتثبت، و [لم] يفحص عن الحال؛ بخلاف من ظنه قاتل أبيه؛ فإنه لا تقصير من جهته. وقد حكى الإمام والغزالي في حالة جهل القاطع: بأنها لا تجزئ [وقول المخرج: ظننت أنها تجزئ] عن اليمين – أن العراقيين حكوا عن أبي حفص بن الوكيل وجوب القصاص، وكتبهم ساكتة عنه في هذه الحالة، ومصرحة بحكايته عنه في الحالة التي سنذكرها والله اعلم. قال: وتجب عليه الدية؛ لأن الباذل بذلها على ان تكون عوضاً عن اليمين، والقاطع قطعها على اعتقاد ذلك؛ فإذا لم يصح العضو، وتلف المعوض، وجب بدله؛ كمن اشترى سلعة بعوض فاسد، وتلف عنده. قال القاضي أبو الطيب، والمصنف، وغيرهما: وهذا الوجه هو المذهب، وهو ظاهر النص في المختصر فعلى هذا تكون الدية على العاقلة، أو في مال القاطع؟ ينظر: إن كان في صورة الجهل بأنها اليسار، فهي على العاقلة؛ كما صرح به الماوردي. وإن كان في صورة الجهل بأنها تجزئ؛ فيتجه أن يتخرج على الوجهين فيما إذا قتل قاتل أبيه بعد عفو أخيه، وجهله بتحريم القتل، وقد ذكرناهما من قبل. وقال الرافعي: إنا إذا أوجبنا دية اليسار، فهي في مال القاطع؛ لأنه قطع متعمداً. وعن نصه في الأم أنها تجب على العاقلة، ولم يقيد هذا الكلام بصورة. قال: وقيل: لا تجب؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها؛ فكان [كما في الصورة] السابقة. ثم على الوجهين: هل يسقط قصاصه في اليمين، وتجب له الدية عند جهله بأنها تجزئ، أو لا يسقط، ويستوفيه من بعد؟ فيه الوجهان السابقان، صرح بهما الماوردي، والمذكور منهما في الشامل، ومجموع المحاملي: عدم السقوط. وهذا إذا لم يسر القطع، أما إذا سرى إلى النفس قال ابن الصباغ: كانت

مضمونة بالدية الكاملة، وقد تعذر قطع اليمين، ووجب له نصف الدية؛ فيتقاصان، ويبقى للجاني نصف الدية لورثته. وحكى عن الشيخ أبي حامد أنه قال: عندي أنه استوفى حقّه من اليمين بتلفه؛ فسقط حقّه؛ ويجب عليه كمال الدية؛ كما لو كان له القصاص في اليد؛ فقطعها ثم قتله؛ والذي رجحه الأول؛ وهو المذكور في مجموع المحاملي، والبندنيجي. قال: وإن قطع وهو عالم، أي: بأنها اليسار، وانها لا تجزئ، ولم يقطعها عمّاله – فالمذهب: أنه لا قصاص عليه؛ لأنا أقمنا ذلك مقام الإذن في القطع، وهو لو قال لغيره: اقطع يدي؛ فقطعها – لا قصاص عليه؛ فكذلك هاهنا، فعلى هذا تجب الدية. وقيل: يجب؛ لتعمده قطع يد محرمة، ويخالف مسألة الإذن في القطع، فإنه إنما أذن هاهنا على أن يكون عوضاً عن اليمين؛ فإذا لم يكن عوضاً؛ فكأن لا إذن؛ بخلاف تلك المسألة؛ فإن الإذن فيها لم يتقيد بحالة، فحمل على عمومه، وهذا قول أبي حفص بن الوكيل. وقد حكى هذا الخلاف في الصورة المذكورة القاضي أبو الطيب والمحاملي ابن الصباغ؛ ولم يفصلوا بين أن يكون القاطع قصد أخذها عن حقّه، أو لا عن حقّه. والماوردي جزم فيما إذا أخذها عن حقّه بأنه لا قصاص، وفي الحالة الأخرى – بوجوبه، وإلى ذلك صار الإمام والقاضي الحسين، والبغوي في حالة [قول المخرج: فعلت ذلك غلطاً؛ بسبب الدهش وفي حالة] قوله: فعلت ذلك ظنًّا أنه يجزئ، انفرد القاضي الحسين بالجزم بوجوب القصاص. ولو قال القاطع عند العلم بأنها اليسار: إنما قطعتها لظني أن المخرج قصد الإباحة، فقد جزم في التهذيب في حالة قول المخرج: غلطت بوجوب القصاص؛ كمن قتل إنساناً، وقال: ظننت أنه أذن لي في القتل. وقضية ذلك أن يُقال بمثله فيما إذا قال المخرح: ظننت أنه تجزئ عن اليمين، وقال القاطع: إنما قطعت؛ لظني انك أبحتها.

وهذا ما أبداه الإمام احتمالاً موجهاً لذلك: بأن هذا الظن بعيد، والظنون البعيدة لا تدرأ القصاص، لكن المحكي عن القفال وغيره: انه لا قصاص؛ لان ما يقوله ممكن. ولو قال القاطع: دهشت؛ فلم أدر ما صنعت، وكان المخرج قد قال ذلك –قال الإمام: لزمه القصاص في اليسار؛ لأن الدهشة السالبة للاختيار لا تليق بحال القاطع. قال: وإن اختلفا في العلم أي: في علم الباذل بأنها اليسار؛ كما قاله البندنيجي وغيره، وأن قطعها لا يجزئ عن اليمين – فالقول قول الجاني؛ لأنه أعرف بحاله، مع أن الأصل عدم العلم؛ فإن حلف ثبتت له ديتها، وإن نكل فيحلف القاطع انه ما بذلها إلا وهو يعلم أنها [لا تقع] بدلاً عن اليمين، وتكون الجناية هدراً. قال: وإن تراضيا على أخذ اليسار؛ فقطع – لزمه دية اليسار؛ لأن الصلح لم يصح، فإن القصاص إذا تعلق بمحل لم يجز استيفاء غيره ولو بالتراضي: كقطع اليد عن الرجل، وبالعكس، وقد سقط القصاص؛ لبذل صاحبها إياها؛ فتعين وجوب الدية؛ لأن البذل كان في مقابلة ما عليه؛ فإذا لم يسلم له، وقد فات ما بذله، وجب أن يرجع إلى بدله؛ كما في العقود الفاسدة. قال: وسقط قصاصه في اليمين؛ لأن عدوله إلى اليسار رضا منه بترك القصاص فيها. وقيل: لا يسقط؛ لأنه أخذ اليسار، على أن تكون بدلاً عن اليمين؛ فإذا لم يسلم البدل والمبدل قائم بحاله – استحق أخذه؛ فعلى هذا يجيء ما تقدم في قطع اليمين. وعلى الأول تجب له الدية، وقد وجبت عليه الدية، فإن تساويا تقاصًّا، وإن اختلفا، كيد الرجل، ويد المرأة – تقاصا فيما تساويا فيه، ويردّان الفضل.

قال: وإن كان القصاص على مجنون؛ أي: بأن جني وهو عاقل، ثم جنّ؛ فقال له: اخرج يمينك؛ فأخرج اليسار؛ فقطعها؛ فإن [كان] المقتص عالماً وجب عليه القصاص، وإن كان جاهلاً، وجبت عليه الدية؛ لأن بذل المجنون لا يصح؛ فكان كما لو قطعها بغير بذل، ثم حكم قصاصه في اليمين لا يخفى مما تقدم، والله أعلم. ولنختم الباب بفروع تتعلق به: [الفرع الأول]: إذا وجب على سفيه قصاص، وامتنع من له القصاص عن العفو عنه إلا بأكثر من قدر الدية – كان للسفيه بذل ذلك مع مراجعة الولي: فإن أبي الولي ذلك، أو تعذرت مراجعته – استقل السفيه، وإن احتاج إلى بذل ديات. ولو نهى [السفيه] عن المصالحة، أو سكت عنها، قال الإمام في باب الحرية: الوجه عندنا أن للولي ذلك؛ كما أنه تدارك رمقه – وإن احتاج إلى استيعاب ماله – بطعام يحصله. ثم قال: وقد يخطر للفقيه: أنه ليس للولي التصرف في دمه، وهو بعيد. [الفرع الثاني]: إذا جنى حرّ على حرّ جناية توجب القصاص، فصالحه المجني [عليه] على عين عبد، أو ثوب- جاز، وإن لم تكن الدية معلومة لهما؛ فإن تلفت العين قبل القبض، أو ردها بعيب، أو خرجت مستحقة – فلا رجوع إلى القصاص، وبم [يرجع]: هل بقيمة العين، أو بارش الجناية؟ ينبني على أن بدل الصلح عن الدم مضمون ضمان العقد، أو ضمان اليد. وإن كانت الجناية موجبة للدية؛ فصالح منها على عين، أو اشترى بها عيناً: إما من العاقلة في الخطأ، أو من الجاني في العمد – فيُنظر: إن لم يعلما قدر إبل الدية وأسنانها لم يصح، وإن علما ذلك، ولم يبق إلا الجهل بأوصافها – ففي

صحة ذلك وجهان. وإذا صح فلو تلف الصالح عليه، أو ردّه بعيب – فالرجوع إلى الأرش قولاً واحداً؛ لأنه يمكن الرجوع إلى المصالح عنه؛ [لأنه مال، وفي الصلح عن القصاص لا يمكن الرجوع إلى المصالح عنه]. [الفرع الثالث]: إذا قتل أحد عبدي الرجل [العبدَ] الآخر عمداً – فللسيد أن يقتص منه؛ فإن أعتقه، لم يسقط عنه القصاص، ولو عفا عنه بعد العتق مطلقاً، لم يثبت المال؛ لأن القتل لم يثبته. قال صاحب التهذيب في فتاويه: ولا يخرج على أن العفو المطلق هل يوجب المال؟ وإن عفا بعد العتق على مال ثبت [المال]. [الفرع الرابع]: إذا ضرب ثنيته فزلزلها، ثم سقطت بعد ذلك [بأيام] بيجب القصاص؛ وكذا لو ضرب على يده؛ فاضطربت أو تورمت، ثم سقطت بعد أيام] – يجب على الضارب القصاص.

باب من لا تجب عليه الدية بالجناية

باب من لا تجب عليه الدية بالجناية لا تجب الدية على الحربي؛ لأنه غير ملتزم لأحكام الإسلام. ويجيء على قياس قول الأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني: إنه يجب عليه القصاص؛ بناء على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة - أن تجب عليه الدية أيضاً. قال: ولا على السيد في قتل عبده؛ لأنها لو وجبت لوجبت له. قال: ولا على من قتل حربيًّا أو مرتدًّا؛ لإباحة دمهما وسقوط حرمتهما، ومحل الكلام في المرتد إذا قتله مسلم، أما إذا قتله ذميّ، فقد تقدم الكلام فيه. وهكذا الحكم فيما [لو جرح أحدهما، أو قطع طرفاً من أطرافه] على المذهب؛ كما يأتي في باب: الديات. [وفي" الجيلي" حكاية وجه في المرتد: أنه يجب فيه الدية]، وسنذكره في بابه، [إن شاء الله تعالى]. قال: وإن أرسل سهماً على حربيّ، أو مرتد؛ فأسلم، ووقع به السهم؛ فقتله - لزمه دية مسلم؛ لأن حالة الرمي حالة تسبب للجناية، وحالة الإصابة حالة تحقيق الجناية؛ فكان الاعتبار بها أولى؛ لأن الضمان يتعقبها؛ كما نقول في حالة الحفر والإلقاء فيها، وحالة وضع الحجر، والإلقاء عليه. ولأن استقرار الجناية بحالة الإصابة، دون حالة الرمي؛ فكانت أوْلى بالاعتبار، وشهد له: أنه لو حفر بئراً في الطريق، وهناك حربي، أو مرتد؛ فأسلم،

ووقع فيها؛ فمات – ضمنه، وإن كان عند التسبُّب مهدراً، وهذا هو المنصوص عليه في الأم؛ كما حكاه البندنيجي. قال: وقيل: لا يلزمه؛ لأنه وجد السبب الداخل تحت الاختيار في حالة كونه مهدراً؛ فأحيل الحكم عليه؛ كما لو جرحه، ثم أسلم، ومات وهذا ما ادعى الرافعي أنه المشهور عن أبي جعفر الترمذي، وقال: إنه هكذا روي عن الداركي، عن أبي محمد الفارسي عنه. والمراوزة حكوا هذا الوجه، ولم ينسبوه، وصححه الفوراني في مسألة الحربي. وقال الماوردي: إن أبا علي بن أبي هريرة كاد أن يخرجه في مسألة المرتد، لكن لم يصرح به فيها أحد من أصحابنا، وكأن الفرق بينه وبين مسألة الجرح المقيس عليها – على الصحيح -: أن الجرح الذي هو سبب الضمان وجد حالة الإهدار، والرميُ إنما يتم بالإصابة، وقد حصلت في حالة العصمة. وفي المسألة وجه ثالث حكاه المصنف، والمحاملي، والبندنيجي، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ بدلاً عن الثاني أنها: تجب للمرتد، دون الحربي؛ لأن إباحة قتل الحربي جائزة لكل أحد، بخلاف قتل المرتد؛ فإن إباحته مختصة بالإمام، ونسبوا هذا الوجه – وكذلك الماوردي- إلى أبي جعفر الترمذي من أصحابنا. قال القاضي أبو الطيب: وراويه أبو القاسم الداركي، عن أبي محمد الفارسي عنه، وقد حكاه أيضاً المراوزة، ونسبه أبو الفرج الزاز إلى ابن سريج، والقاضي الحسين في تعليقه إلى أبي إسحاق، وقال: إنه قيل له: ما قولك فيما إذا كان الرامي إماماً، على هذه الطريقة؟ فقال: لا نوجب الضمان. وهكذا أورده صاحب التهذيب، ثم قال: ولكن للإمام في قتل المرتد ضربة بالسيف صبراً، دون أن يرشقه بالنشاب؛ فالرمي إليه ضرب من المثلة، وهو غير سائغ.

قال الرافعي: وقضية هذا الكلام ألا يفرق بينه وبين غيره. قلت: بل الفرق مع هذا الجمع لائح، فإن الإمام وإن شارك الأجنبي في التعدي بالرمي، فقد امتاز عنه بإباحة القتل. وقد ادّعى الماوردي أن ما قاله أبو جعفر فاسد؛ لأن اختلافهما في هذا الوجه لما لم يمنع من تساويهما قبل الإسلام في سقوط القود – لم يمنع من تساويهما بعد الإسلام في وجوب الدية، وهذا قد يؤخذ جوابه من قاعدة ذكرها القاضي الحسين؛ وهي: أنّا في القود نعتبر التساوي في الطرفين، والواسطة؛ حتى لو تخللت حالة لم يكن فيها كفئاً للقاتل لا يجب القود؛ لأنه مما يدرأ بالشبهة؛ [فإذا حدثت حالة لم يكن القتيل [فيها] كفئاً للقاتل حصلت شبهة]. وكذا يلحق بالقود حل الأكل؛ فيعتبر فيه الطرفان، والواسطة، حتى لو رمى مسلم إلى صيد، فارتد، ثم أسلم، ثم أصابه السهم: لا يحل؛ لأن الأصل في الميتات الحرمة. وهكذا الحكم في تحمل العاقلة يعتبر [فيه] الطرفان والواسطة؛ لأنها مؤاخذة بجناية الغير؛ فهي معدولة عن القياس؛ فاحتيط فيها احتياطنا في العقود. وفي أصل الضمان الخلاف السابق، وفي قدر الضمان يعتبر المال جزماً. وقد حكى الإمام أن الشيخ أبا علي حكى قولاً فيما إذا رمى سهماً إلى صيد، وارتدّ، وعاد إلى الإسلام، ثم أصاب السهم إنساناً – أن الدية تضرب على عاقلته المسلمين، ويكتفي بإسلامه في الطرفين، ثم قال: وهذا القول يجري فيما إذا رمى إلى مسلم؛ فارتد، وعاد إلى الإسلام، وأصابه؛ لأن الحكم بتحمل العقل والقصاص واحد، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم. واعلم أن الخلاف المذكور في مسألة الكتاب يجري فيما إذا أرسل سهماً على قاتل أبيه، ثم عفا عنه، ثم وقع به السهم؛ فقتله.

[وفيما لو] كان الرامي حربيًّا، ثم أسلم، [أو عقد له الأمان] قبل الإصابة. [وفيما إذا أرسل سهماً على عبده، ثم أعتقه، ثم وقع به السهم؛ فمات منه]. لكن الأولى ترتيبه في الرمي إلى قاتل الأب على الرمي إلى المرتد، وأولى بوجوب الضمان؛ لأن إهدار دم المرتد أعظم من إهدار [دم] من عليه قصاص. والأولى في الرمي إلى عبده ترتيبهُ على الرمي إلى قاتل الأب، وأولى بوجوب القصاص؛ لأن هذا القتل مضمون بالكفارة إذا لم يتغير الحال؛ بخلاف الرمي إلى قاتل الأب، وقد جزم بالوجوب فيه الفوراني. فرع: إذا أوجبنا الدية في مسألتي الكتاب، فهل هي دية العمد، أو الخطأ المحض، أو عمد الخطأ؟ فيه ثلاثة أوجه، أوسطها: أظهرها. قال الغزالي: وهي تجري في كل قتل عمد محض صدر عن ظن في حال القتل. قال: ومن قتل من وجب رجمه بالبينة، أو انحتم قتله في المحاربة – لم تلزمه الدية؛ لأنه مهدر الدم؛ فكان كالمرتد. وفي ابن يونس حكاية وجه عن رواية ابن الصباغ في الصورة الأولى: أن الدية تجب إذا قلنا: لا يجب القصاص فيها، كما سنذكره. وفي تعليق القاضي الحسين في باب القصاص بالسيف [وغيره] حكاية وجه في الصورة الثانية: أنها تجب؛ بناء على أن القتل في المحاربة يقع قصاصاً. أما إذا قتل من وجب رجمه بالإقرار، ففي ابن يونس أنه يضمن بالدية. وفي الحاوي عند الكلام في جرح المسلم المرتد ما يقتضي الجزم بأنه لا يضمن بالدية؛ فإنه قال: إذا جرح مقرًّا بالزنى وهو محصن؛ فرجع عن إقراره، ثم مات – ففي ضمان نفسه وجهان، حكاهما ابن أبي هريرة: أحدهما: لا يضمنه بقود ولا دية؛ لإباحة نفسه وقت الجناية. [والثاني: يضمن ديته وإن جرى عليه حكم الإباحة وقت الجناية].

والفرق بينه وبين المرتد أن المرتد مباح الدم إلا أن يتوب من ردته، والزاني محظور النفس إلا أن يقيم على إقراره. تنبيه: في عدم إيجاب الدية في الحالتين اللتين ذكرهما الشيخ دليل ظاهر على عدم إيجاب القصاص أيضاً؛ لأن القاعدة العامة: أنها متى انتفت انتفى القصاص، ولا يستثني منها إلا [مسائل قليلة: منها: إذا قطع [من إنسان] ما بدله دية كاملة، ثم قتله، أو سرت الجراحة إلى نفسه؛ فقطع الولي من الجاني مثل ما قطعن ولم يسر الجرح؛ فإن القصاص في النفس ثابت، ولو أراد العفو عنه على الدية لم يثبت. ومنها: المرتد إذا قتله ذميّ، يجب عليه القصاص على وجه دون الدية إذا آل الأمر إليها. [ومنها: إذا قتل العبد عبد سيده يجب عليه القصاص، ولا دية]. وقد أطلق الشيخ في المهذب، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ وغيرهم القول بأن الزاني المحصن إذا قتله مسلم هل يجب عليه القصاص أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن ولي قتله هو الإمام، فإذا تولاه غيره، أقيد منه؛ كالقاتل إذا قتله غير ولي المقتول بغير إذنه. وأصحهما – وهو الذي عليه جمهور [أصحابنا] كما قاله الماوردي، واختاره الإمام، وروى عن المراوزة: القطع به، وعزاه المصنف إلى النص، يعني في "الأم"؛ كما حكاه المحاملي -: عدم الوجوب؛ كما قلنا: إنه مقتضى كلام الشيخ هنا، واستدل له القاضي أبو الطيب وغيره بما روى سعد بن أبي وقاص قال:"قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ لَو أَنَّ أَحَدَنَا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَكَانَ يَقْتُلُهُ، أَوْ حَتَّى يَاتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كَفَى بِالسَّيفِ شَا" وَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ: شَاهِداً؛ فَلَمْ يُتِمَّ الكَلاَمَ، ثُمَّ قَالَ: لاَ حَتَّى يَاتِي بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ".

وهذا منهم دليل ظاهر على أن محل الخلاف إذا وجب رجمه بالبينة، لكن ما حكيناه عن الماوردي من قبل يلحق حالة ثبوته بالإقرار بذلك، وعليه يدل قول النبدنيجي: إذا قلنا: لا قود، فالمراد به: إذا ثبت أنه [قتله] بعد أن زنى؛ فإن لم يكن له بينة: فإن صدقه الولي فلا شيء عليه، وإن كذبه الولي فالقول قوله. وقال في الحاوي بعد حكاية الوجهين: والأصح – عندي – من إطلاق هذين المذهبين: أن يقال: إن وجب قتل الزاني بالبينة فلا قود على قاتله؛ [لانحتام قتله، وإن وجب بإقراره أقيد من قاتله]؛ [لأن قتله] بإقراره غير منحتم؛ لسقوطه عنه برجوعه عن إقراره. ثم قال: وعلى هذا لو أن محارباً من قطاع الطريق قتل في المحاربة رجلاً فللإمام أن ينفرد بقتله دون ولي المقتول، [ولولي المقتول] أن يقتله بغير إذن الإمام لما قد تعلق به من حقه؛ فإن قتله غيرهما من الأجانب؛ فعلى الوجه الأول، [يجب]، وعلى مذهب الشافعي وجمهور أصحابنا لا قود عليه. وهذا الخلاف ذكره المتولي تفريقاً على قولنا: إن قتل المحارب حق الله – تعالى- خاصة، وطرده القاضي الحسين فيما إذا قتل الزاني المحصن مثله، أو القاتل فيا لحرابة مثله، وفيما إذا قتل الزاني المحصن قاتلاً في الحرابة، وبالعكس، وفيما إذا قتل تارك الصلاة مثله.

قال: وضابطه: أن مباح الدم إذا قتل مباح الدم، واستويا في فضيلة الإسلام – يكون في القود جوابان، وإذا اختلفا لم يقتل الفاضل بالمفضول، وفي قتل المفضول بالفاضل جوابان. وقضية هذا الضابط: أن [يكون في قتل المرتد بالزاني المحصن جوابان؛ لأن الزاني المحصن أفضل من المرتد مع استوائهما في إباحة الدم. وقد جزم المتولي بأنه يقتل به، وكلام الشيخ يقتضي [أنه لا] يقتل به؛ لأنه قال: "ومن قتل من وجب رجمه بالبينة"، ولم يفصل بين قاتل وقاتل. وكذا قضية هذا اللفظ من الشيخ: أن الذميّ إذا قتل من وجب رجمه لا يقتل به، وقد قال العراقيون: إنه يقتل [به] بلا خلاف. وحكى الرملي في قتله به وجهين: أحدهما: يجب، وإن اختار ورثته الدية لزمه دية مسلم. والثاني: لا يجب؛ كما لو قتله مسلم، والله أعلم. قال: ومن قتل مسلماً تترس به المشركون في دار الحرب؛ أي جعلوه ترساً لهم –فقد قيل: إن علم أنه مسلم، وجبت الدية؛ لأنه يلزمه أن يتوفاه؛ فلزمت ديته؛ كما لو [لم يتترس به]. ولا فرق – في ذلك – بين أن يقصده، أو يقصد غيره؛ فيقع فيه. وإن لم يعلم. لم تجب؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} أي: [في قوم عدو لكم] {وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فاقتصر على ذكر الكفارة، ولو وجبت الدية لذكرها. وأيضاً: فإنه غاير بين قتله في دار الإسلام وفي دار الشرك، ولو تساويا لأطلق الحكم، ولم يغاير بينهما. وهذا الطريق هو الذي حمل عليه المزني نص الشافعي في كتاب حكم أهل

الكتاب على وجوب الدية، ونصّه في موضع آخر منه على أنها لا تجب، وصححه النواوي. قال: وقيل: إن عينه بالرمي وجبت؛ لأن [اليمان] أبا حذيفة بن اليمان قتله المسلمون، ولم يعلموا بإسلامه؛ فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته. وإن لم يعينه لم تجب؛ للآية، وهذا الطريق هوا لذي حمل عليه أبو إسحاق اختلاف النصين، [وبه جزم الماوردي في كتاب كفارة القتل] [وجزم في التهذيب] فيما إذا لم يعينه: إما لكونه رمى سهماً مرسلاً، أو قصد غيره؛ فوقع فيه – بأنها لا تجب، وحكى فيما إذا عينه قولين، سواء علم أن في الصف مسلماً، أم لا. وحكى القاضي أبو الطيب أن أبا علي الطبري حكى عن بعض الأصحاب أنه قال: إن اضطر إلى قتله، لم تجب، وإلا وجبت، وحمل النصين على هذين الحالين. قال: وقيل: فيه قولان؛ حملا للنصين على ظاهرهما، سواء علم أو لم يعلم، قصد أو لم يقصد، اضطر أو لم يضطر؛ كما قاله القاضي أبو الطيب. وجه الوجوب – وهو المختار في المرشد: أن الأسير غير مفرط، وهو محقون الدم له حرمة؛ فأشبه ما لو خرج من الصف، فرماه إنسان؛ فقتله. ووجه مقابله: أنا لو أوجبناها أدى ذلك إلى تعطيل الجهاد. والذي حكاه القاضي الحسين في كفارة القتل: أنه إذا رمى السهم، ولم يعلم أن في الصف مسلماًن ولا عين شخصاً – أنها لا تجب، وإن علم في هذه الحالة أن فيه مسلماً – فالظاهر الوجوب. وإن عينه بالرمي؛ فأصابه، فإن علم أن فيهم مسلمين فقولان، [أظهرهما كما حكاه في كتاب السير: الوجوب، فإن لم يعلم أن فيهم مسلمين فقولان] مرتبان على حالة العلم، وأولى بالوجوب.

قال الرافعي: ويشبه أن يكون هذان القولان المذكوران فيما إذا قتل من ظنه كافراً؛ لكونه على زيّ أهل الشرك؛ لأن كونه مع الكفار في صف القتالن يغلب على الظن كونه كافراً، وقد سبق أن الأظهر منهما: أنها لا تجب. ولو قصد بالرمي كافراً؛ فأصاب المسلم، قال: إن لم يعلم أن في الصف مسلماً، لم تجب، وإن علم أن فيه مسلماً، أو عرف مكانه، وجبت. وحكى الإمام عن شيخه في هذه الصورة تخريج قولين، وقال: إن ذلك منقاس حسن، ونظيرهما ما حكاه القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ في كفارة القتل؛ فيما إذا قتل مسلماً في دار الحرب خطأ والذي حكاه الماوردي في كتاب السير فيما إذا قتل مسلماً في دار الحرب، ولم يعلم به أنه [إن قتله] خطأن لم يجب إلا الكفارة، وإن قتله عمداً، ففي وجوب الدية قولان: اختيار المزني منهما عدم الوجوب؛ لأن الجهل بإسلامه يغلب حكم الدار. والثاني: اختاره أبو إسحاق المروزي؛ تغليباً لحكم قصده. ثم حيث نوجب الدية: فإن كان قد قصده، كانت الدية في ماله، وإن كان لم يقصده، فهي على العاقلة مخففة في ثلاث سنين. وفي تعليق القاضي الحسين ما يوهم خلافاً في هذه الحالة؛ فإنه قال في كتاب "السير": إذا لم نوجب القود عليه ففي الدية وجهان: أحدهما: [تجب] مغلظة في ماله. والثاني: تجب على عاقلته؛ لأنه شبه عمد؛ حيث لم يقصده، وإنما قصد غيره، وهذا حكم الدية. وأما الكفارة فتجب في كل حال، إلا على طريقة سنذكرها في باب كفارة القتل. والقصاص لا يجب على الصحيح، وسنذكره في قتال المشركين، عن شاء الله تعالى، والله أعلم.

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء السادس عشر المحتوى: تتمة كتاب الجنايات

باب ما تجب به الدية من الجنايات

بسم الله الرحمن الرحيم باب ما تجب به الدية من الجنايات قال: إذا أصاب رجلاً بما يجوز أن يقتل؛ فمات منه، وجبت الدية: أما إذا كان خطأ؛ فلقوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92]. وأما إذا كان عمد خطأ؛ فلما روى الشافعي بسنده عن انب عمر - رضي الله عنهم - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَلا إِنَّ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ، وَالْعَصَا مِائَةً مِنَ الإِبِلِ" وقد رواه أبو داود، عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس، عن ابن عمر - رضي الله عنهم - لكن لفظه: "أَلاَ إِنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ"

وأخرجه النسائي، وابن ماجه، والدارقطني في "سننه" والبخاري في "التاريخ الكبير"، ويعضده ما سنذكره عن ابن شعبة في هذا الباب. وأما إذا كان عمداً؛ فلما روى أبو داود عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: "لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم [خَطِيباً] فَقَالَ: مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ [يُودَى، أو يُقَادَ] " وأخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي والنسائي، وابن ماجه مختصراً ومطولاً. ثم هذا الكلام من الشيخ موافق في حالة العمد؛ لما حكيناه في أول باب: العفو والقصاص عن الإمام أن القتل العمد موجب للمال لا محالة، ولكن يقتضيه أصلاً معارضاً، وموازناً للقصاص، أو يقتضيه على قضية من التبعية؟ فيه القولان، المعبر عنهما بأن الواجب أحد الأمرين، أو القود عيناً. [لكن الشيخ في المهذب قال: إن] الدية تجب بقتل العمد – في أحد القولين – وبالعفو على الدية في القول الآخر. وإذا كان كذلك فيكون كلامه [هنا] مفرعاً على القول الأول، [أو متعلقاً بمحذوف وهو العفو، ويكون تقديره: إذا أصاب رجلاً بما يجوز أن يقتل فمات منه وعفا عن القود في العمد – وجبت الدية] والله أعلم. قال: وإن ألقاه في ماء أو نار قد يموت فيه؛ فمات منه – وجبت ديته؛ لنسبة تلفه إليه، وصورة ذلك: [أن] يلقيه في لجة بحر يبعد ساحله، وهو يحسن العوم أو لا يحسنه، أو في نهر أو بحر يقرب ساحله، وهو لا يحسن العوم، أو يلقيه في نار يطول مداها، ونحو ذلك؛ وهكذا الحكم فيما إذا شدّ يديه ورجليه، وطرحه في ساحل؛ فزاد الماء، وهلك منه – فلا فرق فيه بين أن تكون الزيادة معلومة الوجود، أو قد تحصل [أو لا تحصل في] العادة، لكن في الحالة الأول تجب دية العمد، وفي الثانية دية [شبه العمد، وفي الثالثة دية] الخطأ؛ كما صرح به في المهذب، والماوردي في باب: التقاء الفارسين. قال: وإن أمكنه التخلص، فلم يفعل حتى هلك –ففيه قولان: أصحهما: أنه لا تجب ديته؛ لأن التلف حصل باستدامة منسوبة إليه، دون

ملقيه؛ فلم تجب ديته؛ كما لو خرج من ذلك، ثم عاد إليه. ووجه الوجوب: القياس على ما لو جرحه وقدر على المداواة، فلم يفعلها حتى مات. والقائل بالأول فرق بما ذكرناه في باب ما يجب به القصاص. وقيل في مسألة الماء: لا تجب الدية وجهاً واحداً، وإن جرى القولان في النار؛ لأن الإلقاء في النار جناية متلفة لا يقدم الناس عليها مختارين، وليس الإلقاء في الماء لمن يحسن العوم جناية عليه؛ فإن الناس جناية متلفة لا يقدم الناس عليها مختارين، وليس الإلقاء في الماء لمن يحسن العوم جناية عليه؛ فإن الناس قد يعومون فيه مختارين؛ لتبرد، أو تنظف، ولا ينسبون إلى تغرير. وعن القفال طريقة قاطعة بالوجوب، وتنزيل ترك السباحة منزلة ترك المعالجة. وقد حكى الماوردي [أن] القولين في مسألة النار مأخوذان ممن أذن لغيره في قتله، وعلى الصحيح منهما: يجب على الملقي أرش ما عملت فيه النار منحين ألقاه إلى أن أمكنه الخروج. قال الجيلي: فإن لم يمكن معرفة قدر الأرش لم يلزمه إلا التعزير. قلت: لو قيل: لم يلزمه إلا المحقق، لكان أولى. وقد تقدم في باب ما يجب به القصاص طريقة معرفة إمكان التخلص. وحكم التلف بعد الخروج من النار؛ بسبب النار – حكم تلفه [فيها] ولا خلاف في أنه إذا ألقاه في ماء خفيف لا يصدر إلى صدره عند الوقوف؛ [فرقد فيه] حتى علاه، ومات – أنه لا ضمان على الملقي. قال: وإن ألقاه على أفعى، أو ألقاها عليه، [أو على أسد، أو ألقاه عليه]، أي: في مضيق – وجبت ديته؛ لأنه ألجأه إلى قتله. وألحق في الحاوي بذلك في باب: القصاص بغير السيف – ما إذا حبسه في بيت مفعي؛ فنهشته أفعى؛ فمات، [أو كانت] مقيمة فيه، والبيت ضيقاً، وهو يقصر عن طولها، ومدى نفختها، ولا كوى فيه، ولا ثقاب تتسرب فيه الأفاعي. وقال عند انتفاء شيء مما ذكرناه بعدم وجوب الضمان.

وألحق في "المهذب" و"الحاوي" بذلك أيضاً في باب: التقاء الفارسين - ما إذا شد يديه ورجليه، وطرحه في أرض مسبعة، أو غير مسبعة، وذكرنا في باب: ما يجب به القصاص ما قيل فيه. وفي التتمة أن الدية لا تجب في مسألة الحية من مسألتي الكتاب؛ لأنه كالممسك؛ وهي كالقاتل، وقال في مسألة الأسد: [إذا كان قد أغراه عليه إن لم يمكنه التخلص منهن وجب فيه القصاص والدية، وإن أمكنه فهو كما لو ألقاه فيما يمكنه التخلص منه. وهذه الصورة تخالف صورة مسألة الكتاب؛ فلا يظن أن الكلام يجري فيها؛ كما أوهمه لفظ بعض الشارحين. تنبيه: الأفعى: الأنثى من الحيات، والجمع: أفاعٍ، والذكر: أفعوان؛ بضم الهمزة والعين. قال الجوهري: الأفعى: أفعل، تقول: هذه أفعى بالتنوين؛ وكذلك أروى، وتفعى الرجل: صار كالأفعى في الشر، ولام الكلمة في الأفعى: واو. وقال الزبيدي: الأفعى: حية رقشاء، دقيقة العنق، عريضة الرأس، وربما كانت ذات قرنين. قال: وإن سحر رجلاً بما لا يقتل غالباً وقد يقتل؛ فمات منه - وجبت الدية؛ لأنه عمد خطأ، والدية تكون في ماله مغلظة؛ لأنه لا يثبت أنه سحره إلا بإقراره؛ كما ذكرناه. نعم ما ينشأ عن ذلك السحر تارة يكون ثبوته بإقراره أيضاً، وتارة بالبينة، مثل: أن يقول: سحرته بكذا، فيشهد عدلان من السحرة بعد توبتهما بأن الذي أقر أنه [الذي] سحره به هذا شأنه. ولو قال: سحرت غيره، فانقلب إليه - فهو اعتراف بقتل الخطأ؛ فتكون الدية مخففة في ماله.

قال: وإن ضرب الوالد ولدهن أو المعلم الصبي، أو الزوج زوجته – أي: عند النشوز – أو ضرب السلطان رجلاً في غير حد؛ أي: في تعزير؛ فأدى إلى الهلاك – وجبت ديته؛ لأن الضرب أبيح لهم للتأديب؛ فإذا بان مهلكاً – علمنا أنه مفرط؛ فضمن لذلك، [وشهد لذلك ما روى الشافعي بسنده، عن عليّ – كرم الله وجهه –أنه قال: "لَيْسَ أَحَدٌ أُقِيمُ عَلَيهِ حَدًّا؛ فَيَمُوتَ، فَأَجِدَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْئاً الحق قتله إلاَّ شَارِب الخَمْرِ؛ فَإِنَّهُ شَيءٌ رَأَينَاهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ مَاتَ مِنْهُ – فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الإِمَامِ" أو قال: "فِي بَيتِ الْمِال"، الشك من الشافعي. ولا يجوز أن يكون المراد به: إذا مات من الحد؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم- حد في الخمر؛ فثبت أنه أراد من الزيادة على أربعين. وقد ادعى القاضي أبو الطيب إجماع المسلمين على ضمان الزوج؛ فنقول في غيره: يضمن بالقياس عليه؛ بجامع ما يشتركان فيه من إرادة الإصلاح بضرب لم يقدره الشرع في آدمي. واحترزنا بذلك عن المستأجر إذا ضرب الدابة المستأجرة الضرب المعتاد، فهلكت – لم يضمن [وكذلك الراكض إذا ضربها الضرب المعتاد فهلكت – لم يضمن]؛ كما قاله أبو الطيب وغيره]. قال العراقيون – كما حكاه الإمام عنهم في كتاب الرهن -: وهذا بخلاف ما لو قال السيد لآخر: اضرب عبدي؛ فضربه؛ فأتي عليه؛ فإنه لا ضمان؛ لأن لفظ الضرب [مطلق لا تقييد فيه، ثم قال الإمام: وهذا فيه نظر عندي؛ فإن الضرب] يخالف القتل، [وما حكاه قد نقله ابن الصباغ في كتاب الرهن، ثم قال: إلا أن عندي إن كان أذنه في تأديبه، أو تضمنه إذنه؛ فيشترط فيه –حينئذ –

السلامة؛ كما يشترط في الضرب الشرعي]. ثم الدية الواجبة – في هذه [الحالة] – دية شبه العمد؛ كما ستفهمه مما نحكيه عن القاضي أبي الطيب في مسألة ضرب بطن المرأة، [وصرح به الغزالي وإمامه]. واعلم أن هاهنا مباحثة لا بأس بذكرها، وهي أن الأصحاب أطلقوا القول بوجوب الدية في هذه الصورة موجهين ذلك بما ذكرناهن ولم أر في الطرق ما يخالف ذلك إلا ما حكاه في الزوائد، وهو أن الشيخ الحسين الطبري قال: ذكر شيخنا – رحمه الله – أن التعزير على نوعين: نوع واجب: كتعزير من قذف أمه، أو وطئ أجنبية فيما دون الفرج؛ فإذا أدى إلى التلف يحتمل ألا يضمن. ونوع آخر: لا يجب؛ مثل: أن يسيء أدبه في مجلس القاضي؛ فيعزره؛ فهو مضمون. وقال الغزالي: [في كتاب القسم النشوز ما يفهم أن الصبي إذا مات لا يضمن؛ لأنه قال: والأولى للزوج ترك الضرب؛ بخلاف الولي؛ فإن الأولى به ألا يترك الضرب؛ لأن مقصوده: إصلاح الصبي لأجل الصبي، وهذا يصلح زوجته؛ لنفسه؛ ولذلك كان [ضرب الزوج] مقيداً بشرط سلامة العاقبة. وفي الرافعي في كتاب: موجبات الضمان حكاية وجه: أنه لا ضمان؛ إذ عزر بحق الآدمي؛ بناء على أنه واجب إذا طلبه المستحق؛ كما سنذكره. وأطلق ابن يونس في باب: التعزير [حكاية وجه: أنه] إذا مات منه لا ضمان، ولم أره في غيره هكذا]. لكن لقائل أن يقول: التفريط تارة يحصل من كون الضرب لاقى محلاً يجب أن يُتَوَقى، وتارة عن تركه النظر في الزمان، أو في حال المضروب، أو صفة الضرب، وتارة من كونه جاوز الحد في عدد الضربات ولو تحققنا استناد الهلاك إلى الحالة الأخيرة لقلنا: حصل من مأذون فيه [وغير مأذون فيه]، وقضيته إيجاب نصف الضمان على أي كما قرره الأصحاب في الزيادة على الحد؛ وكذا لو تحققنا أن الهلاك حصل بسبب وقوع الضرب في حرٍّ شديد، أو

بردم مفرط – يجب أن نقول: حصل الهلاك بمأذون فيه، وغيره؛ فيجب عليه نصف الضمان – على وجه – كما حكاه الشيخ في مهذبه فيما إذا ختن الإمام في حر شديد أو برد مفرط، وإذا كان الحكم هكذا عند التحقق وجب أن يقال في حالة الشك: لا يجب أيضاً إلا نصف الضمان؛ لأنه المتيقن، والأصل براءة الذمة مما سواه. وطريق الجواب أن يقال: ما ذكرتموه جرى في أمور ضبطها الشرع، ولم يكلها إلى اجتهاد المكلف؛ فلذلك أحلنا الهلاك عند مجاوزتها إلى الحق والباطل، وهاهنا لا تقدير من جهة الشرع، ولا مرد للقدر الواجب إلا الاجتهاد وبمجاوزته الحد تبين أنه ليس من أهله، والله أعلم. قال: وإن سلم الصبي إلى السابح، فغرق في يده – وجبت الدية؛ لأنه لا يغرق إلا بإهمال السابح وقلة تحفظه، وتكون الدية فيه دية شبه العمد؛ كما لو ضرب المعلم الصبي للتأديب؛ فهلك. وفي التتمة وجه: أنها لا تجب؛ كما لو نقله إلى مسبعة، وبل أولى؛ لأن الخطر هناك أكبر، ولأن ذلك تضييع، وهذا قد تدعو الحاجة إليه. وأبدى الإمام هذا الوجه احتمالاً، وقال: الحر لا يدخل تحت اليد، ولم يوجد من السابح فعل، إذا خاض الصبي بنفسه في الماء. نعم لو ألقاه السابح في الماء، ليعلمه، فقد يجعل الإلقاء موجباً للضمان على تفصيل مذكور في باب القصاص. ويجري الخلاف فيما لو كان الولي يعلمه السباحة بنفسه؛ فغرق. ولو أدخله الماء؛ [ليغسله، لا ليعلمه السباحة] – فالحكم كما لو ختنه، أو قطع يده من أكلة؛ فمات منه، قاله في التتمة. قال: وإن غرق البالغ مع السابح لم تجب ديته؛ لأنه مستقل، وعليه أن يحتاط لنفسه، ولا يغتر بقول السابح. وهذا ما حكاه في التهذيب أيضاً. [و] في الوسيط: أنه إن خاض معه؛ اعتماداً على يده، فأهمله – فيحتمل أنه يجب الضمان. قال: وإن صاح على صبي، أي: غير مميز؛ فوقع من سطح، أو على بالغ وهو غافل، فوقع، ومات – وجبت الدية:

أما في الصبي؛ فلأنه كثيراً ما يتأثر ويضطرب بالصيحة الشديدة؛ فأحيل الهلاك عليها. وأما في البالغ؛ فلأنه مع الغفلة كالصبي. وقيل: لا تجب في البالغ؛ وهو الأصح في تعليق القاضي الحسين، والرافعي، وعند النواوي؛ لأن الغالب من حال البالغ التماسك، وعدم التأثر بالصياح؛ فالسقوط والموت يحملان على موافقة. وقد وافق الشيخ على تصحيح الأول صاحب المرشد، ونسبه البندنيجي إلى قول ابن أبي هريرة. أما إذا كان البالغ غير غافل ففي الشامل وتعليق القاضي الحسين والتتمة: القطع بعدم الضمان، وكلام الرافعي يقتضي جريان الخلاف فيه أيضاً؛ فإنه حكى فيه ثلاثة أوجه، ثالثها وهو قول ابن أبي هريرة -: إن غافصه من ورائه وجبت، وإن صاح عليه في وجهه فلا. والصبي المراهق المتيقظ كالبالغ، والمجنون والمعتوه الذي [تعتريه الوساوس]، والمرأة الضعيفة العقل، والنائم – كالصبي. وشهر السلاح والتهديد الشديد، كالصياح، والصياح على الغير من صيد أو غيره – فيما ذكرناه – كالصياح عليه، ولا فرق فيه إذا وقع على صيد – بين أن يكون الصائح يحرم عليه الصيد، أو لا. وعن صاحب التلخيص أن الصائح إن كان محرماً، أو في الحرم – تعلق بصيحته الضمان، وإلا فلا. أما لو كان الصبي على وجه الأرض، ومات من الصيحة، فلا أثر لذلك. وحكى الإمام عن بعضهم أنه أجراه مجرى الارتعاد، والسقوط من حرف الجدار، وهو ما جزم به القاضي الحسين في تعليقه. ثم الدية الواجبة [- فيما ذكره الشيخ-] دية شبه العمد. قال الرافعي: وقد قيل في مسألة الصبي بوجوب القصاص؛ كما قيل بمثله فيمن حفر بئراً في دهليزه، ودعا غيره؛ فوقع فيها، بل هاهنا أولى؛ لان تأثير

الصيحة بالارتعاد والاضطراب أشد من تأثير الدعوة، وقياس من يقول به: أن تجب مغلظة [على الجاني]. قلت: مسألة الحفر التي يجب فيها القصاص على هذا الوجه مصوَّرة في التتمة بما إذا حفر البئر في دهليز رجل ليس في الدار غيره، ولابد له من الخروج، وكان الرجل أعمى، أو كان الموضع مخرج الرجل، وإذا كان كذلك فلا يظهر للأولوية وجه، والدية الواجبة في حال الصياح على الغير دية الخطأ. قال: وإن صاح على صبي، أي: غير مميز؛ فزال عقله – وجبت الدية؛ لما تقدم، ولا يجري القصاص على الأصح؛ لأن هذا [لا] يزيل العقل غالباً. وقيل بوجوبه، فعلى هذا إذا آل الأمر إلى المال، لا يخفى الحكم، وعلى الأول تكون دية عمد الخطأ. قال: وإن صاح على بالغ؛ فزال عقله، لم تجب؛ لأن معه من الضبط والعقل ما يمنعه من ذلك؛ فدل على أن زواله لم يكن من الصياح، وهذا ما جزم به القاضي الحسين، وكذا البندنيجي، وحكاه عن النص في "الأم". وقد حكى الرافعي فيه الخلاف السابق في سقوطه وموته، وحكى الماوردي أن ابن أبي هريرة قال بالضمان هنا؛ بخلاف الوقوع، وأنه فرق بأن في الوقوع فعلاً للواقع؛ فجاز أن ينسب الوقوع إليه، وليس في زوال العقل فعل من الزائل العقل، فلم ينسب زواله إلا إلى الصائح المزعج. قال: وإن طلب بصيراً بالسيف؛ فوقع في بئر –أي: ظاهر له – فمات؛ لم يضمن؛ لأنه سبب غير مجلئ؛ فقدمت المباشرة عليه؛ كما لو حفر إنسان بئراً؛ فجاء آخر وردى فيها نفسه؛ ولأنه أوقع نفسه فيما كان يحاذره من المتبع؛ فأشبه ما إذا أكره إنساناً على أن يقتل نفسه؛ ففعل؛ فإنه لا يجب الضمان على المكره. وهذا إذا كان المطلوب مكلفاً، أما لو كان غير مكلف، وقلنا: عمده عمد، فالحكم كذلك، وإلا ضمن الطالب، صرح به المصنف، والماوردي، وغيرهما. قال: وإن طلب ضريراً؛ فوقع في بئر، أي: وهو لا يعرف بها، ضمنه؛ لأن الواقع لم يقصد إهلاك نفسه، وقد ألجأه المتبع إلى الهرب المفضي إلى المعنى

المهلك؛ فضمنه كالشهود إذا شهدوا بالقتل، ثم رجعوا [عن الشهادة]. وحكم البصير إذا لم يعلم بالبئر؛ لكونه في ظلمة الليل، أو [في] موضع مظلم، أو كانت مغطاة – حكم الضرير، [وحكم الضرير] إذا علم بالبئر حكم البصير. وحكم الوقوع في النار، ومن شاهق جبل، أو سطح عالٍ – حكم الوقوع في البئر، ولا يلتحق بذلك: إذا [افترس المطلوب سبعٌ في الطريق، سواء] كان بصيراً أو أعمى؛ لأنه لم يوجد من الطالب فعل مهلك، ومباشرة السبع التي عرضت كعروض القتل على إمساك الممسك، اللهم إلا أن يكون ألجأه إليه في مضيق؛ فيجب الضمان. وهل يلتحق بالبئر انخساف السقف الذي حصل الهروب عليه؟ فيه وجهان في "المهذب" و"الحاوي". وجه المنع: أن المعنى المهلك لم يشعر به الطالب، ولا المطلوب؛ فأشبه ما إذا عرض سبع؛ فافترسه، وهذا ما أجاب به البغوي، والروياني، والقاضي الحسين. ووجه الإلحاق: أنه حمله على الهروب، وألجأه إليه، وقد أفضى إلى المعنى المهلك من غير شعور المطلوب [به]؛ فأشبه ما إذا وقع في بئر مغطاة. قال الرافعي: وهذا ما أورده العراقيون، وحكوه عن نصه في الأم، ورجحه المتولي، وصاحب المرشد، وإليه مال الإمام. تنبيه: قد يفهم من عدول الشيخ في هذه المسألة عن قوله: وجبت ديته، كما ذكر فيما تقدم، إلى قوله: "وجب ضمانه" – أن القصاص يجب؛ كما يجب في مسألة الشهود، وليس الأمر كذلك؛ لأمرين: أحدهما: أنه ذكر هذه اللفظة في موضع لا قصاص فيه جزماً، وهو ما إذا ضرب بطن امرأة؛ فألقت جنيناً ميتاً. والثاني: أن الماوردي صرح في المسألة: بأن الدية تجب على العاقلة، والعاقلة لا تحمل دية جناية يجب فيها القصاص جزماً.

لكن في التتمة أنه إذا حفر بئراً في دهليزه، وغطاه، ثم أذن لإنسان في دخول داره؛ فدخل؛ فوقع في البئر – أن حكمه حكم ما لو خلط السم بطعام، وقدمه إليه، وهذا إن لم يفهم منه القطع بوجوب القصاص هاهنا؛ لكونه هنا مكرهاً بالفعل، وفي مسألة الدهليز هو مكره بالعادة؛ فلا أقل من أن يكون مثله، حتى يجري فيه القولان. قال: وإن ضرب بطن امرأة؛ فألقت جنيناً ميتاً – وجب ضمانه؛ لما روى أبو داود، عن المغيرة بن شعبة: "أَنَّ امْرَأَتَيْنِ كَانَتاَ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِعَمُودٍ فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: كَيْفَ نَدِي مَنْ لاَ صَاحَ وَلاَ أَكَلَ وَلاَ شَرِبَ وَلاَ اسْتَهَلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرَابِ؟، فَقَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ وَجَعَلَهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَرْأَة". وفي رواية: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ وَغُرَّةً لِمَا فِي بَطْنِهَا" وأخرجه مسلم والترمذي وغيرهما. ثم هذه الجناية حكمها حكم الخطأ، أو حكم شبه العمد؟ فيه وجهان: أحدهما- وهو قول أبي إسحاق-: أنها خطأ؛ لأنه [مات] بسبب الضرب، ولم يباشر بالجناية. والثاني-وهو قول ابن أبي هريرة -: أنه إذا قصد ضربها فهو شبه عمد، وهذا ما اختاره القاضي أبو الطيب، وذكر أن الشافعي نص عليه؛ لأن ذلك تولد من فعله؛ كما لو ضربه تأديباً؛ كذا حكاه عنه العمراني في الزوائد في دية الجنين، ولا يتصور في الجنين؛ لمحض العمدية؛ لأنه لا يقصد عينه، بل يقصد غيره؛ كذا جزم به الماوردي، والقاضي الحسين وغيرهما. وفي المهذب أنه يكون عمداً محضاً، إذا قصد الإجهاض، ونحا صاحب التهذيب نحوه.

فروع: لو طفرت الحامل، فألقت جنيناً ميتاً: فإن لم تخرج الطفرة عن عادة مثلها من الحوامل، ولا كان مثلها مسقطاً للأجنة، لم تضمنه، وإن خرجت عن عادة مثلها، وكانت الأجنة تسقط بمثل طفرتها، ضمنته بالغرة والكفارة، ولم ترث [من الغرة]. وهكذا لو شربت دواء؛ فأسقطت جنيناً ميتاً، روعي حال الدواء: فإن زعم علماء الطب أن مثله قد يسقط الأجنة - ضمنت جنينها. وإن قالوا: إن مثله لا يسقط الأجنة، لم تضمنه. وإن أشكل، وجوزوه - ضمنته. ولو امتنعت من الطعام والشراب حتى ألقت جنينها، وكانت الأجنة تسقط من جوع الأم وعطشها -نظر: فإن دعتها الضرورة إلى الجوع والعطش؛ للإعواز والعدم - فلا ضمان، وإلا ضمنته. ولو جاعت وعطشت في صوم فرض ضمنت؛ لأنها مع الخوف على حملها مأمورة بالإفطار، منهية عن الصيام. قالهما الماوردي، والله أعلم. قال: وإن بعث السلطان إلى امرأة ذكرت [له] بسوء؛ فأجهضت الجنين - وجب ضمانه؛ لما روى: "أَنَّ عُمَرَ - رضي اللهُ عَنْهُ - أَرْسَلَ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَاءِ الأَجْنَادِ يَغْشَاهَا الرِّجَالُ باللَّيْلِ يَدْعُوهَا، وَكَانَتْ تُرقِي فِي دَرَجٍ؛ فَفَزِعَتْ؛ [فَاَجْهَضَتْ ما في بَطْنِهَا]؛ فَاسْتَشَارَ عُمَرُ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوفٍ: إِنَّكَ مُؤَدِّبٌ؛ فَلاَ شَيءَ عَلَيكَ؛ فَقَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ -: إِنِ اجْتَهَدَ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ لَم يَجْتَهِدْ فَقَدْ غَشَّك، عَلَيكَ الدِّيَةُ؛ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لِعَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ -: عَزَمْتُ عَلَيكَ لَتُقَسِّمَنَّها عَلَى قَوْمِكَ". قال الإمام في كتاب الأشربة: وقد اختلف فيمن المشار إليه بقوله: "إن اجتهد فقد أخطأ ... " إلى آخره فقال بعض المتكلمين: إنه رسول عمر الذي بعثه إليها،

ومعناه: إن اجتهد الرسول، أي: في رعاية الوقت والمكان في تأدية الرسالة – فقد أخطأ، وإن لم يتعرض لتخير زمان ومكان – فقد غش. قال: وهذا بعيد. والصحيح: انه أراد بما قال عبد الرحمن بن عوف. وقد أضاف بعضهم إلى القصة: "أن عثمان بن عفان –رضي الله عنه – وافق عبد الرحمن، وأنهم سكتا عند مقالة عليّ – كرم الله وجهه – وذلك يدل على رجوعهما إلى قوله؛ فكان إجماعاً. قال القاضي أبو الطيب: وهذا بخلاف ما لو بعث إليها السلطان؛ فماتت – لا ضمان؛ لأن الغالب على البالغة العاقلة عدم موتها من ذلك. ولو لم يبعث السلطان إليها، لكن الرسول انطلق من عند نفسه، على لسانه – وجبت الغرة على عاقلة الرسول. قال: وإن رمى إلى هدف، فأخطأ؛ فأصاب آدميًّا فقتله – وجبت الدية؛ للآية، وهكذا الحكم فيما إذا رمى إلى صيد؛ فوقع في آدمي. ولو كان قد أكرهه إنسان على الرمي في هذه الصورة –فهما قاتلان خطأ، وعلى كل [واحد] منهما كفارة، وعلى عاقلة كل منهما نصف الدية، وهل لعاقلة المكره الرجوع بما يغرمونه على المُكرِه؟ قال الرافعي قبيل كتاب الديات: يحتمل أن يقال: لا يرجعون كما لا يرجعون على القاتل في شبه العمد، ويحتمل أن يقال: لا شيء على المكرِه وعاقلته؛ لأن الذي فعله المكرَه غير ما حمله المكرِه عليه. قال: وإن ختن الحجام، فأخطأ؛ فأصاب الحشفة – وجب عليه الضمان، أي: وتحمله العاقلة؛ لأنه فوت ما لم يؤذن له في تفويته من غير ضرورة. واعلم أن ما ذكره الشيخ من وجوب الضمان أو الدية على الجاني في هذا الباب، المخاطب بإيفائه العاقلة، عند اعترافها، أو إنكارها وقيام البينة، وهذا الإطلاق مستعمل كثيراً في كلام الأئمة؛ ومنهم الإمام، وقال: لست أعني به: ارتباط الضمان بماله، وإنما نعني به: ارتباط الضمان بعاقلته، ولكن التحفظ عسير في أثناء الكلام.

وهذا منه بناء على أن الوجوب يلاقي العاقلة ابتداء، أما إذا قلنا: إنه يلاقي الجاني، وتتحمله العاقلة – كما هو الصحيح- فلا حاجة إلى الاعتذار عن هذا الإطلاق، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم "مَنْ قُتِلَ [فِي] عِمِيًّا، رَمْيّا بِحَجَرٍ، أَوْ ضَرْباً بِعَصَا – فعليه عَقْلُ الْخَطَأِ"، والله أعلم. قال: وإن امتنع من الختان، أي بعد وجوب عليه؛ وهو بعد البلوغ؛ فختنه الإمام في حرٍّ شديد، أو برد شديد، فمات – فالمنصوص [عليه] أي في "الأم": أنه يجب ضمانه؛ لظهور التفريط؛ فإن الإمام منهي عن أن يختن في هذين الحالين. قال: وقيل: فيه قولان. وجه الوجوب: [ما ذكرناه. ووجه المنع]: أن إتلافه حصل بفعل ما هو مستحق عليه، وهذا خرج من نص الشافعي في المختصر على عدم وجوب الضمان فيما إذا أقام الإمام الحد في حر شديد أو برد شديد، وفيما إذا أقام الحد على حامل؛ فماتت منه. كما خرج من نصه هاهنا إلى ثَمَّ قولاً بوجوب الضمان. والقائلون بالطريق الأولى – وهم المُقِرُّون للنصين- قالوا: الفرق من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الحد مقدر بمعلوم، غير مجتهد فيه؛ فلم تضمن سرايته، والختان مجتهد فيه؛ فضمنت سرايته؛ كالتعزير. والثاني: أن استيفاء الحد إلى الأئمة؛ فإذا أقاموه لم يؤاخذوا بعواقبه، والختان لا يتولاه الولاة، وإنما يتعاطاه المرء في نفسه أو وليه في صباه؛ فإذا خاض الإمام فيه قهراً كان على شرط سلامة العاقبة. والثالث: أن الختان جرح؛ فالغالب منه التلف والحد ضرب في ظاهر البدن؛ فالغالب منه السلامة.

وحكى القاضي أبو حامد في الجامع طريقة ثالثة حكاها ابن الصباغ عنه: أن ذلك ليس على قولين، وإنما أراد في الختان: إذا كان الغالب التلف، وأراد في الحد: إذا كان الأغلب السلامة، وصرح بذلك في الختان، وأطلق في الحد. والخلاف المذكور في الختان [في] حالة البلوغ – جارٍ فيما إذا جرى من الإمام في حال الصبا أيضاً، عند عدم الوي، كما حكاه الإمام، وقال: إن النص فيه على وجوب الضمان، وذكر قبل ذلك أن النص الذي ذكرناه عن الأم يجري في الأب إذا ختن الطفل في الحر الشديد، والبرد المفرط، وإن جرى خلاف في نفس الضمان عن الإمام، فالأب أولى بانتفاء الضمان عنه؛ فإن الختان في حقه كالحد في حق الإمام؛ من حيث إنه يتولاه، أما إذا ختن الإمام البالغ عند الامتناع في حال الاعتدال، وأدى إلى الهلاك – فلا ضمان [فيه]. وكذا لو ختن الأب الصب، [أو الإمام] الصبي الذي لا ولي له في هذه الحالة، وأدى إلى الهلاك – لا ضمان فيه عند الأصحاب. وحكى الإمام، عن القاضي أنه قال: الذي أراه: وجوب الضمان فيه، [ورأيته في تعليقه في السلطان خاصة، وقاسه على التعزير، وقال: إنه هل يجب [القود] أم لا؟ يحتمل وجهين؛ بناء على ما لو ضرب رجلاً بإبرة؛ فمات، لأنه لا يخاف منه إلا أن فيه إنهار الدم؛ كذا الختان مثله في الصبي. وقال: إن أصحابنا قالوا على هذا: لو أكره رجلاً على الحجامة؛ فمات منها – ففي وجوب القود وجهان. ووجه الإمام: [قول القاضي الذي حكاه عنه:] بأنه لا يجب في حق الصبين وليس هو من المعالجات التي لو تركت لجر تركها فساداً في البدن. ثم قال: وهذا في الأب بعيد؛ فإنه قد صح في الخبر: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِأَنْ تُحْلَقَ رَاسُ الْمَولُودِ، وَيُعَقَّ عَنْهُ، وَيُخْتَنَ فِي السَّابعِ مِنْ وِلاَدَتِهِ".

ووجه ما ذكره الجمهور: بأن الختان لابد منه؛ فإجراؤه في [الصغر] والبدن رخص أولى؛ فيلتحق من هذا الوجه بالمعالجة. قلت: وهذا من الإمام؛ بناء على تسليم عدم وجوب الختان على الولي قبل البلوغ، [واستحبابه كما ذكره ابن الصباغ والبندنيجي. أما إذا قلنا بوجوبه قبل البلوغ كما] حكاه في الزوائد، عن الصيدلاني، وأبي سليمان المروزي صاحب المزني؛ [حيث] قالا: الختان واجب، ويعصي الأب بتركه حتى يبلغ – فدليله: كونه قام بواجب؛ فأشبه ما بعد البلوغ. [ولو ختن الصبي أجنبي في حالة عدم الولي، قال في التهذيب: يحتمل أن يبني ذلك على أن الإمام إذا ختن في الحر [الشديد]، أو البرد؛ فمات المختون؛ هل يضمن؟ إن قلنا: نعم، فكذلك هاهنا، وإلا فلا ضمان. وعن أمالي أبي الفرج السرخسي أن ذلك مبني على أن الجرح اليسير هل يتعلق به القصاص؟ وفيه وجهان؛ إن قلنا: نعم، فهو عمد، وإلا فشبه عمد، وهذا شبيه بما حكيناه عن القاضي في المسألة السابقة، والذي حكاه الماوردي: إيجاب الضمان]. فرع: إذا قلنا بوجوب الضمان على الإمام في مسألة الكتاب؛ فماذا يضمن؟ فيه وجهان في "المهذب": أصحهما في الحاوي: جميع الدية؛ لأنه مفرط. والثاني: نصفها؛ لأنه مات من واجب ومحظور؛ فسقط النصف، ووجب النصف، وهذا ما حكاه الماوردي عن الشيخ أبي حامد، وقال الرافعي: إنه أظهر. ثم محل وجوبها بيت المال أو عاقلته؟ يشبه أن يجيء فيه الخلاف المذكور فيما إذا استوفى الحد من حامل؛ فأسقطت الجنين، وفيه طريقان: أحدهما: القطع بثبوتها على عاقلته، وهي ما حكاها الإمام [ثَمَّ] لأن بيت المال إنما يحمل ما يجب بخطأ الإمام، والإمام هنا عامد. والثانية: حكاية قولين فيه؛ وهي ما ادعى ابن الصباغ أنها ظاهر المذهب ثَمَّ

قال: وإن حفر بئراً في طريق المسلمين، أي: لمصلحة [نفسه] وسواء كان الناس يتضررونه بالحفر أو لا؛ كما صرح به في المهذب. قال: أو وضع فيه حجراً، أو طرح فيه ماء، أي: وما في معناه؛ كبوله، أو بصاقه؛ كما حكاه البندنيجي في كفارة القتل. قال: أو قشر بطيخ، أي: وما في معناه من الكناسات؛ فهلك به إنسان – وجب الضمان؛ لأنه تعدى بذلك؛ فضمن من هلك [به] كما لو جنى عليه، والضمان على العاقلة؛ كما نبهنا عليه من قبل، وصرح به ابن الصباغ وغيره. وقد جعل الماوردي محل الجزم بوجوب الضمان في البئر، إذا أضر حفرها بالمارة، أو لم يضر، وقصد به التملك، أو لم يصده، ولم يحكم رأسها، وتركها مفتوحة. وقال فيما إذا أحكم رأسها، وقصد بحفرها اختصاصه بالارتفاق بها؛ إما لحش داره، أو لماء مطرها؛ فإن استأذن الإمام على ذلك لم يضمن. قال ابن الصباغ: كما يجوز أن يقطع بعض الطريق الواسع لمن يبنيه لنفسه. قال الرافعي: وهذا ما أورده أصحابنا العراقيون، وتابعهم القاضي الروياني، وصاحب التتمة. قال الماوردي: [فإن لم] يأذن الإمام، فوجهان: المذكور منهما في تعليق القاضي الحسين، والشامل: الجزم بالضمان. وادعى الإمام [عدم] اختلاف العلماء فيه، وإيراد القاضي يقتضي طرده في حالة الإذن، وهو الذي أورده في التهذيب. وحكى الإمام قطع الأئمة به، وأن في بعض التصانيف حكاية وجه في نفي الضمان، وقال: إنه بعيد عن التحصيل. وقال البندنيجي في وضع الحجر: لا فرق في الضمان بين أن يكون الطريق ضيقاً أو واسعاً. وقد ذكر الماوردي تفصيلاً في وضع الطين، ويجب طرده في الحجر، وهو أن الإنسان إذا أخرج من داره طيناً لهدم أو بناء يستعمله حالاً فحالاً: فإن كان الطريق ضيقاً، أو الطين كثيراً – فهو متعد بوضعه فيه؛ فيكون ضامناً لدية التالف، وإن كان الطريق واسعاً والطين قليلاً، وقد عدل [به] عن مسلك المارة إلى

فناء داره – لم يضمن؛ لأنه غير متعد، ولا يجد الناس من مثل هذه بدًّا. وقال بعض أصحابنا: يضمن؛ لأنه مباح بشرط السلامة؛ فإذا أفضى إلى الهلاك ضمن؛ كتأديب المعلم. [ثم قال]: وهذا فاسد؛ لما فيه من التسوية [بين المباح] والمحظور. وما حكاه عن هذا القائل شبيه بما حكاه القاضي الحسين، عن صاحب التلخيص في قشر البطيخ؛ فإنه حكى عنه أنه [قال]: يباح له ذلك بشرط السلامة، وحكى مع ذلك وجهين: أحدهما: أنه إن ألقاه في زاوية من الشارع، ليست بممرٍّ للناس – فلا ضمان عليه، وهو يجري في القمامات؛ كما صرح به الإمام. والثاني: إن كان الجانب الذي يلي الباطن، وهو الوجه المأكول يلي الأرض؛ فزلقت به رجل إنسان؛ فتحرك – يلزمه الضمان، وإن لم يتحرك – لا يلزمه [الضمان]؛ لان القشر إذا لم يتحرك – كان سوط تَعثُّر به، لا بسببه. وإن كان الجانب المأكول يلي الهواء؛ فن لم يتحرك، يلزمه الضمان، وإن تحرك، لم يلزمه؛ لأنه بفعله تحرك؛ فكان السقوط على الأرض لمعنى من جهة الساقط، لا بسبب القشر. وهذا ما حكاه الإمام عن صاحب التلخيص، وطوائف من الأصحاب، [مع] حكاية الوجه الأول، وحكاية وجه آخر حكاه المتولي أيضاً: أنه لا ضمان؛ لأن الشوارع من مرافق الأملاك؛ فلو منع الملاك من طرح الكناسات والفضلات في الطرق الواسعة؛ لضاقت عليهم الأملاك. ثم قال الإمام: ومعظم المحققين [ذهبوا إلى] إبطال تفصيل صاحب التلخيص، والمصير إلى أن الضمان يجب، وهو ما اختاره القاضي الحسين، ثم قال: وعلى هذا لو رش الماء على باب داره، أو حانوته، فمر به مار؛ فزلق ومات، أو انكسرت رجله؛ فإن بالغ، يلزمه الضمان، وإن لم يفرط، بل قص به تسكين الغبار، [أي عن المارين، فالمذهب أنه لا ضمان. وقد قال الإمام بدل هذه العبارة:] إنه كاحتفار البئر؛ لمصلحة المسلمين.

ومحل ما ذكرناه من الضمان، إذا لم ير التالف ما حصل بسببه التلف، أما إذا رآه، وتعمد وضع رجله عليه حتى هلك – فلا ضمنا جزماً في جميع الصور. فرع: إذا وضع إنسان حجراً في الطريق؛ فعثر به إنسان فدحرجه إلى موضع آخر، فعثر به آخر، وتلف منه – وجب الضمان على عاقلة الذي عثر أولاً؛ لأن الحجر في ذلك الموضع إنما حصل بفعله؛ قاله القاضي الحسين والرافعي، وغيرهما. قال: وإن حفر بئراً، ووضع آخر حجراً؛ فتعثر إنسان بالحجر، ووقع في البئر؛ فمات – وجب الضمان على واضع الحجر، [أي]: وتتحمله عاقلته؛ لأنه سب دفعه إلى البئر، والسبب كالمباشرة؛ فيجعل ناصب الحجر كأنه باشر دفعه، ولو فرض ذلك، فالضمان على الدافع، وإن كان الهلاك لا يحصل بدفع الدافع لولا البئر؛ كما نقول بعدم وجوب الضمان على دافع الآلة إلى القاتل؛ وإن كان لا يحصل القتل بدون آلة. وهكذا لو وضع إنسان حجراً، وآخر حديدة؛ فتعثر مار بالحجر، ووقع على الحديدة؛ فمات – وجب الضمان على واضع الحجر على النص، وهو الصحيح في المهذب. وفيه [وفي] غيره: أن أبا الفياض البصري قال: إن كانت الحديدة سكيناً قاطعاً فالضمان على واضعها دون واضع الحجر فإن كان غير قاطع، وجب على واضع الحجر؛ لأن السكين القاطع موح. قال الماوردي: وهكذا قال فيمن دفع رجلاً على سكين [في يد] قصاب؛ فانذبح بها: إن ديته على القصاب دون الدافع. والإمام، والقاضي الحسين، وغيرهما قالوا في الأخيرة: إن حرك القصاب يده قريباً من جوف الملقي عليه فيجب الضمان عليه حينئذ، وألا فهو على الدافع. وهكذا لو حفر بئراً، ونصب آخر في أسلفها سكيناً؛ فوقع إنسان في البئر، وهلك من الحديدة، فالضمان على حافر البئر. وفي البيان وجه: أن الضمان على ناصب السكين خاصة. وقد أورد الإمام – على ما أجمع عليه الأصحاب [في مسألة الكتاب] –

سؤالاً؛ فقال: الحجر سبب [في الدفع] وليس دفعاً، والبئر سبب في الهلاك، وليس إهلاكاً؛ فلا يبعد، من طريق القياس، وقد اجتمع السببان أن شترك المسببان في الضمان، وليس من الإنصاف أن يجعل الحجر كالدافع المباشر، ويجعل البئر على حقيقة السبب؛ فإن قدرت سبب الدفع دفعاً؛ فقدر سبب الهلاك إهلاكاً؛ فإنه لو ألقى ملقٍ إنساناً على سكين بيد إنسان؛ فتلقاه صاحب السكين؛ فالهلاك منهما، والضمان عليهما. وما ذكروه من إلقاء الواقف على السكين أظهر إشكالاً من هذا؛ فإن حل السكين، وإلقاءه ممكن فالاشتمال به، والتحمل عيه ليدوم منتصباً كيف يحيط؟ فليكن ما قاله الأصحاب مفروضاً حيث لا يتمكن صاحب السكين من إلقائه وطرحه. تنبيه: محل ما ذكرناه – كما اقتضاه كلام الشيخ – إذا كان الوضع في الطريق، وفي معناه إذا كان الحفر والوضع في ملك الغير بغير إذنه، والهالك غير متعد بالدخول. أما إذا كان الحفر والوضع في ملك فاعله، أو في غير ملكه، ولكنه فعل بالإذن – فلا ضمان. والرضا ببقاء المحفور هل يجعل كالإذن في الحفر؟ فيه وجهان مضيا عن الشامل وغيره في كتاب الغصب، والمذكور منهما في تعليق البندنيجي المنع، والأظهر في الرافعي: مقابله، وعليهما يخرج – كما قال الماوردي -: جواز الطم بعد ذلك بدون رضا المالك. ولو كان الدخول أيضاً بغير إذن، فهل يحال الهلاك على الدخول، أو على الحفر العدوان؟ فيه وجهان في التتمة. ولو كان وضع الحجر فيملكه، [أو] بإذن المالك، أو برزت نبلة من الأرض؛ كما قال الماوردي، والحفر أو وضع الحديدة غير مباح؛ فتعثر إنسان بالحجر، أو بالنبلة، ووقع في البئر، أو على الحديدة؛ فمات – فالضمان على

الحافر، أو [على] واضع الحديدة؛ [فإنه المتعدي، قال الرافعي: وينبغي أن يقال لا يجب الضمان على الحافر وواضع الحديدة]؛كما لو كان حفر البئر أو وضع السكين في محل عدوان، وحصل حجر على طرفه بمجيء سيل أو بوضع حربي، أو سبع؛ فعثر بالحجر إنسان، ووقع في البئر، أو على السكين؛ فمات، فإنه لا ضمان على أحد؛ كما صرح به القاضي الحسين، والإمام، وغيرهما؛ قياساً على ما لو ألقاه السبع أو الحربي [في البئر]. قال: ويدل عليه – أيضاً – أن المتولي قال: لو حفر في ملكه بئراً، وجاء آخر؛ فنصب فيها حديدة؛ فوقع إنسان في البئر، وجرحته الحديدة؛ فمات –فلا ضمان على واحد منهما: أما الحافر فظاهر، وأما الآخر؛ فلأن الوقوع في البئر هو الذي أفضى إلى الوقوع على الحديدة؛ فكان حافر البئر كالمباشر، [و] الآخر كالمتسبب. على أن في المسألة التي حكيناها عن القاضي الحسين والإمام وجهاً حكاه المتولي: أنه يجب الضمان على عاقلة الحافر؛ لأنه لا وجه للإهدار، والحافر هو المتعدي. فروع: الفرع الأول: لو حفر بئراً قريبة العمق، فعمقها غيره؛ فضمان من تردى فيها على الأول، على وجه، وعليهما على وجه، وهو الأظهر؛ فعلى هذا: في كيفية شركتهما وجهان حكاهما الشيخ أبو عليٍّ: أحدهما: النصف؛ كما لو مات من الجراحات. والثاني: يوزع على ذلك الحفر. الفرع الثاني: إذا حفر بئراً متعدياً، ثم طمها، وجاء آخر، وأخرج ما طمت به؛ فتردى فيها إنسان – فالضمان على الأول؛ لأنه المبتدئ بالتعدي، أو على الثاني؛ لانقطاع أثر الحفر الأول بالطم؟ فيه وجهان عن البيان. قلت: وهذا الإطلاق فيه نظر، بل كان يجب أن يقال: إن كان الطم وجد بوجه مشروع، فلا وجه إلا تعلق الضمان بالثاني؛ لأن الأول برئ من الحفر بالطم.

وإن كان الطم بغير وجه مشروع، فيتجه أن يكون محل الخلاف. الفرع الثالث: إذا وضع رجل حجراً في الطريق، ووضع آخران حجراً بجنبه، وتعثر بهما إنسان – فالوجه الأظهر: أو الضمان يتعلق بهم أثلاثاً، وهو ما ادعى ابن الصباغ انه قياس المذهب. وفي التهذيب وجه: أنه يتعلق نص الضمان بالمنفرد، ونصفه بالآخرين. قال: وإن حفر بئراً في طريق واسع؛ لمصلحة المسلمين، أو بني مسجداً، أي: للمسلمين، أو علق قنديلاً – أي: بكسر القاف – في مسجد، أو فرش فيه حصيراً، ولم يأذن له الإمام في شيء من ذلك، أي: ولا نائبه في أمر المسجد؛ فهلك به إنسان – فقد قيل: يضمن. قال في المهذب: لأن ما تعلق بمصلحة المسلمين يختص [به الإمام]؛ فمن افتات عليه كان متعدياً؛ فضمن من هلك بهن وهذه العلة تفهم أن الإقدام على ذلك – على هذا القول – لا يجوز. وقد قال الرافعي: إنه جائز بشرط سلامة العاقبة. وقد ادعى الجيلي أن هذا القول أصح، وقال القاضي أبو حامد: إن الشافعي أشار إليه في القديم في مسألة البئر. وقيل: لا يضمن؛ لأنه اعتمد مصلحة المسلمين لا بإضرار؛ فهو كما لو فعله بإذن الإمام، أو إمام المسجد؛ فإنه لا يضمن، وهذا ما ادعى ابن يونس والنواوي أنه الأصح، واختاره في المرشد، وحكاه القاضي أبو الطيب عن نص الشافعي في الجديد في مسألة البئر، وصححه البغوي. وعلى حكاية الخلاف المذكور قولين، جرى الإمام والقاضي الحسين. وحكى ابن الصباغ أن الشيخ أبا حامد أثبته وجهين، وعلى ذلك جرى أتباعه – البندنيجي وغيره، [وكذا] البغوي والماوردي [في مسألة حفر البئر وبناء المسجد. وقال الماوردي:] إن إجراءهما في مسألة القنديل، والحصير من تخريج الشيخ أبي حامد، وإن سائر أصحابنا خالفوه، وقالوا: لا يضمن وجهاً واحداً، سواء أذن فيه الإمام، أو لم يأذن، [وإنه] الصحيح؛ لكثرته في العرف، وإن إذن

الإمام فيه يشق وهو المذكور في الشامل، وتعليق القاضي الحسين؛ كما حكى عن الشيخ أبي حامد، وقال: إن في معنى ذلك: ما إذا طين المسجد أو نصب فيه عماداً، فوقع على إنسان؛ فأتلفه. وحكم تلف عضو من الأعضاء بسبب الحفر وغيره - حكم تلف النفس. وحكم وضع دنٍّ على باب المسجد؛ ليشرب الناس منه حكم بناء المسجد، صرح به في التهذيب. وأصل الخلاف في المسائل التي ذكرها الشيخ وغيره- كما قاله البندنيجي -مسألة البئر. وادعى القاضي أبو الطيب أنه في مسألة البئر مخرج من القولين المذكورين في مسألة تعليق [قنديل] في مسجد، أو إحداث خشبة في سقفه، أو فرش بارية فيه، وهي الحصير، ولا يقال: حصيرة؛ كما قاله النواوي. أما إذا بنى المسجد لنفسه فهو كحفر البئر لنفسه. قال البندنيجي، وابن الصباغ: والحفر في المسجد كالحفر في الشوارع، وقد صرح به البغوي والرافعي، وهذا هو المشهور في الطرق، ووراءه أمران: أحدهما: حكى الإمام طريقة قاطعة بأن الحفر إن حصل بدون إذن الإمام ضمن، وإن كان بإذنه، [ففي الضمان قولان]. ثم قال: الطريقة الأولى أمثل؛ فإن الحفر إذا كان للمصلحة، وكان قد صدر عن إذن الناظر في المصالح بَعُدَ في الرأي الكلي والجزئي تقدير الضمان. ولو أمر الإمام ابتداء باحتفار بئر، ثم فرض التردي فيها؛ فلا يصير إلى إثبات الضمان - والحالة هذه - إلا جسور، ولا نأمن أن صاحب الطريقة الثانية يقضي بوجوب الضمان أيضاً. الثاني: حكى صاحب التهذيب أن أبا حنيفة قال: إن الفاعل لما ذكرنه لمصلحة المسلمين إن لم يكن من أهل المحلة ضمن، وهو قول أبي إسحاق. تنبيه: قد فهم من تصوير الشيخ المسألة بالطريق الواسع لمصلحة المسلمين - أن

محل ما ذكره إذا كان لا يضر بالمسلمين، وإلا لم يكن لمصلحتهم، ولم يكن لذكر "الوسع" معنى، وقد صرح الأصحاب كافة بأن الحفر إذا كان مضراًّ بالمسلمين اقتضى الضمان، وإن كان بإذن الإمام؛ لأنه ليس له الإذن إلا فيما فيه مصلحة. قال: وإن حفر بئراً في ملكه، أو في موات؛ لينتفع بها، أي في مدة مقامه، ثم يتركها للمسلمين؛ كما نبه عليه البندنيجي؛ فوقع فيها إنسان، ومات - لم يضمن؛ لأنه غير متعد بذلك؛ إذ له الانتفاع بملكه، وبالموات. قال الأصحاب: وعلى الصورة الأخيرة حمل ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْبِئْرُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جَرْحُهُ جُبَارٌ، وَالْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ". وذكر الماوردي مع هذا التأويل تأويلاً آخر، وهو أن المراد به: الأجير في حفر البئر والمعدن إذا تلف كان هدراً، ثم قال: ولا يمتنع أن يحمل على عموم الأمرين فيما أبيح فعله، وإن أريد به أحدهما؛ لاشتراكهما في المعنى. لكنه حكى فيما إذا حفرها؛ لينتفع بها هو والسابلة بدون إذن الإمام في الضمان قولين: القديم: وجوبه. والجديد: منعه. قال: وإن حفر بئراً في ملكه، [أو في طريق ملكه، [واستدعى إنساناً]؛ فوقع فيها؛ فهلك -: فإن كانت ظاهرة، أي: للداخل، لم يضمن؛ لعدم تفريط الآذن، وتفريط الداخل. وظهورها يكون بأحد أمرين: بأن يكون الداخل بصيراً، والدخول في النهار، وهي في موضع لا ظلام فيه، أو بالليل وقد أعلم بها، وفي معناه الضرير. قال: وإن كانت مغطاة، أي: ولم يعلم الداخل بها، ولا رأى أثراً يدل عليها، أو كان أعمى - كما قال الماوردي، وكذا البندنيجي في باب ضمان البهائم - ففيه قولان. وجه المنع - وهو المنصوص هنا؛ كما قاله الماوردي، وأنه الأظهر، وادعى

القاضي أبو الطيب أنه المذهب -: أنه دخل باختياره، والحفر مباح. ووجه الوجوب- وهو الذي صححه النواوي، واختاره في المرشد -: أنه ملجئ إلى ذلك عرفاً؛ فأشبه الإلجاء الحسي؛ فإنه لو فعله ضمن جزماً. وقد ادعى الماوردي أنه مخرج من أحد قوليه؛ فيمن سم طعاماً، وأذن في أكله. وحكى الإمام أن من الأصحاب من جعل هذه المسألة أولى بوجوب الضمان؛ فإن تناول الطعام وازدراده تعلق بعين المتلف؛ بخلاف الطروق؛ فإن التردي يقع لا عن اعتماد إليه. لكن الإمام فرض ذلك فيما إذا كان الحفر في طريق ضيق لا مدخل إلى الملك غيره، ولا محيص للداخل عن التردي في البئر، وقال فيما إذا كانت البئر مائلة، وأمكن تقدير الازورار عنها: إن في هذه الحالة طريقين للأصحاب: منهم من قطع بانتفاء الضمان، فإن الحفر ليس بعدوان، وكان من حق الداخل [أن] يتحفظ، وهذا هو المسلك الأصح. ومنهم من جعل في الضمان قولين. فرع: لو كان الحافر غير المالك بدون إذنه، لكن المالك علم بالبئر، ولم يعلم من استدعاه بها – ففي تعليق القاضي الحسين وجهان: أحدهما: أن الضمان على المالك؛ حيث لم يعلمه. والثاني: على الحافر؛ لأنه المتعدي بالحفر. قال: وإن كان في داره كلب عقور؛ فاستدعى إنساناً؛ فعقره؛ فعلى القولين. وقيل: لا يجب الضمان وجهاً واحداً، وهو ما نص عليه في باب: ضمان البهائم، وما جزم ابن الصباغ في باب: صفة العمد، وإن حكى الخلاف في باب ضمان البهائم، وأجراهما فيما إذا كان في داره أحبولة؛ فأذن لإنسان؛ فدخل فأصابته؛ لأن للكلب اختياراً، ويمكنه دفعه بعصاً وغيرها، وهذا إذا علم به،

ولم يعلم بأنه عقور، أما إذا علم بذلك فلا يجب الضمان جزماً، وكذا إذا كان مربوطاً في موضع؛ فصار إليه المستدعي، وهو غير عالم بحاله. ولو أكرهه رب الدار على الدخول، قال الماوردي: فإن اتصل الإكراه بالتلف، فيكون مضموناً بالدية على المكره؛ لتعديه بالإكراه. وإن لم يتصل الإكراه بالتلف ففي استصحاب حكمه وجهان: أحدهما: أن حكمه مستصحب؛ فعلى هذا يكون مضموناً على المكره. [والثاني: أن حكمه قد زال بانقطاعه فيكون كغير المكره، والله أعلم]. قال: وإن أمر السلطان رجلاً أن ينزل إلى بئر، أو يصعد إلى نخل؛ لمصلحة المسلمين؛ فوقع؛ فمات- وجب ضمانه؛ لأنه يستحب للمأمور طاعته؛ فإذا فعل، وترتب عليه الهلاك – ضمن؛ لأن الاستحباب مرجح للفعل على الترك في نظر الفاعل؛ كما أن الإكراه الحسي بما يفضي إلى الهلاك مرجح للفعل في نظر فاعله على الترك، وقد قلنا: إن المكره يجب عليه الضمان؛ فكذلك هاهنا. وما ذكرناه من الاستحباب هو ما صرح به القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ في باب: عدد الخمر، [وكلام الإمام في "التغريب" يقتضي وجوب الفعل على المأمور؛ فإنه قال: إذا استعان الإمام بأحد من المسلمين لزمه الانقياد له]. وقال في التهذيب: إنما يجب ضمانه، إذا قلنا: إن أمر السلطان يكون إكراهاً؛ نظراً إلى سطوته، ووجوب طاعته، وهذا ما اقتصر على إيراده في الجنايات الرافعي، وبعض الشارحين لهذا الكتابن ولو كان هذا المأخذ لما وجب ضمانه عند العراقيين؛ لأنهم لم يجعلوا أمر السلطان إكراهاً. ثم الضمان على من يجب؟ قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ في هذه الصورة: فيه قولان: أحدهما: على عاقلته. والثاني: في بيت المال. وقالا فيما إذا كان قد أمره بذلك، لخاص نفسه: إنه يكون على عاقلة الإمام، وإن هذا بخلاف ما لو أمره أن يسعى في حاجته؛ فسعى؛ [فعثر] فمات؛ فإنه لا

ضمان على الإمام، لأن السعي ليس بسبب الإتلاف، ولا العثار؛ بخلاف صعود النخلة، ونزول البئر. قال: وإن أمره بعض الرعية فوقع؛ فمات – لم يجب ضمانه؛ لأن طاعة هذا [الأمر] لا تجب، ولا تستحب؛ فصار كما لو فعل ذلك بدون أمر. نعم، لو أكرهه على الصعود أو النزول فقد قال في الوسيط: إن القصاص واجب على المكره، ولم يجعله كشريك الخاطئ؛ لأن هذا الخطأ ولده إكراهه؛ بخلاف جهل المكره وصباه؛ فإن فيه وجهين، يعني: إذا أكره البالغ صبياًّ على القتل، فإن في وجوب القصاص على البالغ قولين مبنيين على أن عمد الصبي عمد، أو خطأ؟ قال الرافعي: والأظهر ما ذكره الفوراني، وصاحب التهذيب، وحكاه القاضي الروياني -: أنه عمد خطأ، لا يتعلق به القصاص؛ لأن الفعل ليس مما يقصد به الهلاك. قال: وإن بنى حائطاً في ملكه، أي: مستقيماً، فمال إلى الطريق، فلم ينقضه، حتى وقع على إنسان؛ فقتله – لم يضمن على ظاهر المذهب؛ لأنه وضعه في ملكه، وسقط بعد فعله؛ فلم يتعلق به ضمان؛ كما لو سقط من غير ميل، واستهدام. ولفظ الشافعي – رحمه الله – الذي قيل: إن هذا ظاهره: "إن مال حائط دار؛ فوقع على إنسان؛ فأتلفه – فلا شيء فيه، وإن أشهد عليه؛ لأنه بناه في ملكه، والميل حادث من غير فعله، وقد أساء بتركه. وقد رجح هذا المزني والإمام، وقال به أبو سعيد الإصطخري، وأبو عليّ الطبري، والشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا؛ كما قاله القاضي أبو الطيب. ولا فرق فيه بين أن يطالب بإزالته؛ فلم يزله، أو لا؟ كما صرح به المزني، وهو مأخوذ من قول الشافعي – رضي الله عنه – وإن أشهد عليه. وقيل: يضمن؛ لأنه [لما] مال، لزمه إزالته؛ فكان متعدياً بتركه؛ فضمن ما هلك به؛ كما لو بناه مائلاً إلى الطريق؛ فإنه يضم ما تلف به جزماً، وهذا قول

أبي إسحاق، وابن أبي هريرة، واختاره صاحب المرشد، والقضاة: الماوردي، وأبو الطيب والروياني، وأيده الماوردي بأنه لو أخرج روشناً من داره أقر عليه، وضمن ما تلف به، وهو هاهنا لا يقر على ميل الحائط؛ فكان أولى أن يضمن ما تلف به، ثم قال القاضي أبو الطيب: إن قائله حمل النص على ما إذا: مال [وسقط من غير أن يتمكن من تداركه. والماوردي وابن الصباغ قالا: إنه حمل النص على ما إذا مال] إلى ملك نفسه؛ فإنه لا يضمن ما تلف به جزماً. قلت: وما قالوه فيه نظر؛ لأن قول الشافعي: [وإن أشهد عليه]، يأبى الحمل الأول، وكذلك قوله: "فقد أساء بتركه"، يأباه، ويأبى الحمل الثاني؛ لأنه إذا مال، ولم يعلم به حتى سقط، أو مال إلى ملكه، وعلم به – غير مسيء بالترك. ومن قال بأنه عند الميل مأمور بالإزالة أو لا يقر على ميل الحائط؛ فذاك منه مصادرة؛ لأن القائل بعدم الضمان لا يلزمه بالنقض؛ كما صرح به القاضي أبو الطيب. لكن يشكل هذا بقول الشافعي: "فقد أساء"، إلا أن يحمل على ترك الأولى. ثم على قول أبي إسحاق لو مال بعض الجدار، وحصل التلف بالمائل – كان المضمون جميع الدية، وإن كان بما لم يمل خاصة، لم يجب شيء، وإن كان بهما فهو كما سنذكره في الميزاب والجناح، إلا القول الثالث ثَمَّ. وقد فهم من قول الشيخ والقاضي أبي الطيب: إن محل الخلاف في مسألة الكتاب إذا تمكن من النقض، فلم يفعله، أما إذا لم يتمكن، فلا يضمن وجهاً واحداً. وقد صرح الرافعي بحكاية ذلك عن الشيخ أبي حامد، والبغوي. وحكى القاضي الحسين مع هذه الطريقة طريقة أخرى، وهي: أن محلها إذا لم يتمكن، أما إذا تمكن، ضمن وجهاً واحداً. وعند الاختصار يجتمع في المسألة ثلاثة أوجه: ثالثتها: إن تمكن ضمن، وإلا فلا، وهذا ما أورده الإمام، وقال: إنه لم يره لأحد من أئمة المذهب. ثم الوجهان في مسألة الكتاب جاريان – كما حكاه ابن الصباغ، والقاضي أبو

الطيب، والبندنيجي، وغيرهم – فيما إذا مال إلى ملك جاره، لكن في هذه الصورة للجار مطالبته بإزالة المائل إلى ملكه؛ كما إذا انتشرت إليه الأغصان؛ فإن لم يفعل كن له نقضهن قاله البندنيجي والماوردي. ويجري الوجهان أيضاً – كما حكاه ابن الصباغ، عن رواية القاضي أبي الطيب- فيما لو وضع عدلاً على حائط نفسه، فوقع في ملك غيره؛ فأمر بإزالته، فلم يفعل؛ فعثر به إنسان؛ فهلك، أو سقط الحائط إلى الطريق؛ فلم يرفعه حتى تعثر به إنسان، وهلك؛ وكذلك حكاهما الماوردي في مسألة سقوط الحائط [المائل، فقال: إن قلنا: لا يضمن بسقوط الحائط]، فكلك لا يضمن من تعثر بنقضه إذا لم يتمكن من رفعه؛ فإن تمكن؛ فلم يفعل، ضمن. وإن قلنا: يضمن بسقوط الحائط؛ فكذا يضمن من عثر به. وإطلاقه القول بالضمان عند التمكن موافق للطريقة التي حكيناها عن رواية القاضي الحسين في محل الخلاف. وقد بقي من الصور السبع التي ذكرها الأصحاب في وقوع الحائط ثلاث: إحداها: أن يبنيه مائلاً إلى ملكه؛ فيقع، ويتلف به إنسان، أو بما طار منه من شظية- فلا ضمان؛ كما قاله القاضي الحين وغيره. نعم لو ربطه تحته – فسقط عليه، قال الماوردي: إن كان مؤذنا بالسقوط، ضمن الرابط، وإلا فلا. الثانية: أن يبنيه مستقيماً؛ فيميل إلى ملكه – فلا ضمان بسببه من طريق الأولى. الثالثة: أن يبنيه مستوياً؛ فيستهدم من غير ميل؛ فليس لأحد مطالبته بنقضه، وإذا وقع على إنسان؛ فأتلفه؛ فلا ضمان، وهذا ما حكاه الماوردي، ونسهب ابن الصباغ إلى الاصطخري، ثم قال: وفيه نظر؛ لأنه ممنوع من أن يصنع في ملكه ما يعلم أنه يتعدى إلى ملك غيره؛ كما ليس له أن يؤجج ناراً في ملكه، مع وجود

الريح، ولا يطرح في داره ما يتعدى إلى ملك غيره، كذلك هاهنا: إذا كان مستهدماً؛ فالظاهر أنه يتعدى إلى ملك غيره؛ فيمنع. وقد أبدى المتولي هذا الاحتمال وجهاً، وقال: للجار، والمارة في الشارع المطالبة به؛ لما يخاف منه الضرر؛ فإن لم يفعل حتى سقط؛ فهو كما لو مال فلم ينقضه حتى أتلف. واعلم أنا حيث نوجب الضمان فيما ذكرناه [والمتلف آدمي يكون على عاقلة صاحب الحائط، كما ذكرناه] من قبل، وإن كان مالاً غير آدمي، كان على صاحب الحائط. ولو باع الحائط المبني مائلاً، قال صاحب التهذيب: لم يبرأ من الضمان حتى إذا سقط على إنسان؛ فهلك -يكون الضمان على عاقلة البائع. [قلت: وقد يتخل أن محل ذلك إذا لم يقبض الجدار، أما إذا أقبضه فلا يكون من ضمانه، بل يكون من ضمان المشتري، ولا شك في أن هذا الحكم لا يزول عن البائع؛ إذا لم يقبضه المشتري، أما إذا خلي بينه وبينه؛ فيشبه أن يبني ذلك على أن التخلية في المنقول هل تكون قبضاً أم لا؟ وفيها خلاف، والأصح: أنها لا تكون بضاً؛ فعلى هذا لا يزول الضمان في هذه المسألة عن البائع بالبيع والتخلية؛ لأن الجدار المائل يستحق نقضه؛ فهو كالمنقول. قد فرعنا على أن التخلية فيه لا تكفي، ويصح جواب البغوي - مطلقاً - وإن قلنا: إنها تكفي، فيكون هاهنا على المشتري، والله أعلم]. قال: وإن وضع جرة على طرف سطح، فرماها الريح؛ فمات بها إنسان - لم يضمن؛ لأنه غير متعد بوضعها في ملكه، ووقوعها كان بغير فعله. وهكذا الحكم فيما لو ابتلَّ موضع الجرة؛ فسقطت، وفيما لو نام على السطح؛ فانهار به الجدار؛ فسقط على إنسان؛ فقتله - لا ضمان عليه، بخلاف ما لو سقط؛ لتقلبه في نومه؛ فإن الضمان ثابت؛ كما حكاه الماوردي. ولو وضع على طرف سطحه قفصاً فيه قوارير، فهبت الريح وألقته في الشارع، وكاد أن يسقط على أحد؛ فرماه عن نفسه حتى سقط على الأرض، وانكسرت القوارير - قال القاضي الحسين: عليه الضمان؛ لأنه كان من حقه أن يتأخر عنه،

ولا يدفعه حتى سقط على الأرض بفعله، فلو لم يتمكن من الخلاص إلا بالدفع والإتلاف؛ فهل يضمن؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ تنزيلاً لذلك منزلة البهيمة الصائلة. وأظهرهما في الرافعي: نعم؛ لأنه لا قصد ولا اختيار فيها بخلاف البهيمة. قال: وإن أخرج روشناً إلى الطريقين أي: وكان يسوغ له إخراجه؛ فوقع أي: بجملته – على إنسان؛ فمات – وجب نصف الدية، لأنه هلك بشيئين: أحدهما: الخارج منه، وهو مضمون؛ لأنه جاز فعله بشرط سلامة العاقبة؛ كالرمي إلى الصيد. والآخر: الداخل في ملكه؛ وهو غير مضمون؛ فقسط الضمان على الشيئين، وهذا ما جزم به القاضي الحسين، وحكاه الإمام عن الأكثرين، وقال: إنه القياس المرضي. وحكى القاضي أبو الطيب وغيره قولاً آخر: أن الواجب من الدية بقدر ما كان خارجاً منه إلى الطريق: فإن كان الخارج ثلاثة أشبار، [والداخل] الذي على الحائط شبر – وجب ثلاثة أرباع الدية، وإن كان الخارج شبرين، والداخل شبراً – وجب ثلثا الدية. والقولان مأخوذان من القولين فيما إذا ضرب الجلاد أحداً وأربعين في الخمر؛ فمات. وحكى الماوردي أن القاضي أبا حامد حكى في جامعه قولاً ثالثاً: أنه يضمن جميع الدية لأن الداخل في الحائط من الخشب جذبه الخارج منه؛ فضمن به جميع الدية. وحكى عن الشافعي [أنه] قال: ولا أبالي أي طرفيها أصابه. يعني: الخشبة؛ لأنها قتلت بثقلها. وحكى الغزالي وإمامه وجماعة أنا على قول التوزيع ننظر إلى الوزن لا إلى المساحة. قال: وإن تقصف من خشبة الخارج شيء؛ فهلك به إنسان –ضمن جميع الدية؛ لأنه هلك بما هو مضمون خاصة. قال القاضي أبو الطيب، وغيره: وهذه المسألة يُعَمَّى بها؛ فيقال: ما تقول في خشبة إذا وقع جميعها على إنسان؛ فمات، لم يضمن إلا نصف ديته، وإذا وقع

بعضها عليه؛ فمات، وجب كل الدية؟ وفي النهاية أن القابول – وهو الروشن البارز – لو تناهى مخرجه في الاحتياط؛ فجرت حادثة لا تتوقع موجودة أو صاعقة؛ فسقط بها القابول- فلست أرى إطلاق القول بالضمان؛ فلينظر من أدرك هذا. قال القاضي الحسين: ولو تصور حصول التلف بسقوط الداخل في الملك دون الخارج، لم يجب شيء. تنبيه: قول الشيخ: أخرج روشناً إلى الطريق، احترز به عما إذا أخرجه إلى ملكه؛ فسقط؛ فإنه لا ضمان. قال القاضي الحسين: وكذلك لو أخرجه إلى ملك غيره بإذن مالكه؛ لأنه وجد الإذن في المستحق المتعين. وفيه أيضاً احتراز عما إذا أخرجه إلى درب غير نافذ بإذن أهل الدرب؛ فإنه لا يضمن؛ كما [إذا] أخرجه إلى ملك غيره بإذنه وقد صرح بذلك القاضي الحسين والمتلوي. قال: وإن نصب ميزاباً؛ أي: في الطريق؛ فوقع على إنسان؛ فأتلفه –فهو كالروشن؛ لأن كلاًّ منهما جاز إخراجه ليتوسع به في الانتفاع في ملكه، وهذا هوا لجديد كما حكاه القاضيان: الماوردي وأبو الطب، والمصنف، وغيرهم؛ على هذا في كيفية ما يضمن به إذا سقط الجميع الأقوال السابقة. ولا فرق بين أن يصيب الطرف البارز أو الذي في الحائط؛ كما حكاه المستظهري وابن الصباغ، وحكينا مثله عن النص في الروشن. وقيل: لا يضمن؛ لأن الضرورة تدعو إليه؛ فإن المياه إذا اجتمعت، فلم يكن لها سبيل إلى الخروج- عادت إلى الدار؛ فيكون منه خرابها؛ بخلاف الروشن؛ فإن إخراجه؛ لاتساع في المنفعة، لا للضرورة الحاقّة، وهذا حكاه القاضي أبو حامد في جامعه عن القديم. قال الأصحاب: وليس بشيء، لأنه [قد] كان يقدر على إجراء مائة إلى بئر يحفرها في داره، أو يفتح أخدوداً في الجدار، [و] يجري فيه الماء؛ فانتفت الضرورة.

ثم القول القديم يجري فيما إذا سقط البارز خاصة، ولفظ الغزالي في هذه المسألة قَلِق؛ فإنه قال: إذا سقط ميزاب إنسان على رأس إنسان: فإن كان الساقط هو القدر البارز فهو كالجناح، وإن كان الساقط جميع الميزاب ففي الضمان وجهان. وهذا يقتضي الجزم بالضمان فيما إذا سقط البارز خاصة، وإجراء الخلاف فيما إذا سقط الجميع، والمنقول ما ذكرناه، وما يتلف من [الماء الساقط] من الميزاب مضمون على ناصبه. تنبيه: المئزاب: بكسر الميم، وبعدها همزة، ويجوز تخفيفها بقلبها ياء؛ فيقال: ميزاب – بياء ساكنة- وقد غلط من منع ذلك، ولا خلاف بين أهل اللغة في جوازه. ويقال أيضاً: مرزاب؛ براء، ثم زاي، وهي لغة مشهورة، قالوا: ولا قال: مزراب، بتقديم الزاي. وجمع "مئزاب": مآزيب. قال: وإن كان معه دابة، فأتلفت إنساناً بيدها أو رجلها – وجب عليه الضمان، أي: وتتحمله العاقلة؛ لأنها في يده؛ فكانت جنايتها كجنايته، وهكذا الحكم إذا أتلفت بذنبها أو بفمها، حتى لو ابتلعت جوهرة ضمنها، ولو كانت ما يؤكل، هل يجب ذبحها؟ فيه وجهان في تعليق القاضي أبي الطيب [والمهذب وغيرهما] مبنيان على القولين يمن غصب خيطاً وخاط به جرح حيوان يؤكل. وقد حكيت في باب الغصب وجهاً عن ابن أبي هريرة فارقاً بي أن تكون الدابة بعيراً؛ فيضمن الجوهرة، أو شاة، فلا. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الذي مع الدابة راكباً أو قائداً أو سائقاً، ولا بين أن يكون مالكاً أو مستأجراً أو مودعاً أو مستعيراً أو غاصباً. ولو كان معها قائد، أو سائق، فالضمان عليهما نصفين. وإن كان أحدهما راكباً، والآخر سائقاً، أو قائداً- اختص الضمان به، على أحد القولين أو الوجهين. ومقابله هو الأصح في تعليق القاضي أبي الطيب، والأقيس في الشامل. وهذا كله إذا كانت الدابة طوعاً، أما لو كانت قويت بحيث لا يستطيع ردها، فسنذكرها في مسألة الاصطدام.

وحكم بول الدابة في يده إذا تلف به إنسان، أو تزلق به شخص؛ فهلك – حكم تلفه بيدها. ولو لم تكن في يده لم يضمن ذلك، صرح به الماوردي وغيره، وحكى الإمام ذلك في باب وضع الحجر في حال طروقها عن الأصحاب، وأبدى عدم الضمان احتمالاً لنفسه، ووجهه: بأن هذا لا يمكن التصون منه؛ فلو ثبت الضمان لمنع من المرور والطروق. وقال في باب ضمان البهائم: إن كان البول والروث في حال ممرها فلا ضمان إلا أن [يتفق مزيد انتشار] بسبب وقوفها؛ فقد قال الأصحاب: إن كان [الممر] ضيقاً فوقوف الدابة عدوان، وما يترتب عليه يقتضي الضمان. ولو كان الطريق واسعاً، ووقوف الدابة معتاد فوقوفها كمشيها، وهذا ما حكاه المسعودي. ثم قال الإمام: وهذا يلتفت إلى اصطدام [الماشي مع الواقف] وسيأتي. وقال الماوردي: إذا أوقفها في الطريق الواسع في وسطه ضمن، وإن أوقفها فيه بفناء داره، والدابة غير شغبة ففي وجوب الضمان وجهان من اختلاف قوليه في [جواز] حفر البئر بفناء داره. وعن ابن الوكيل وجه مطلق: أنه يجوز أن يوقف الدابة في الطريق؛ كما يجوز أن يجريها، فإذا بالت أو راثت في وقوفها، وتلف به إنسان – لم يضمن. والذي حكاه ابن الصباغ: أن إيقاف الدابة في طريق المسلمين مُضَمَّن، سواء كان الطريق ضيقاً أو واسعاً، وهو المحكي عن النص في الرافعي، وهذا بخلاف ما لو ربطها في دهليزه، فرمحت إنساناً خارجاً عنه، أو أتلفته ببولها – فإنه لا يضمن؛ [كما لا يضمن] إذا كسر حطباً في ملكه؛ فطارت منه شظية؛ فأصابت عني إنسان؛ فأبطلت ضوءها. وقد ألحق الإمام بذلك ما تتلفه البهائم في حال طروقها في الشوارع، مما لا سبيل إلى دفعه: كالغبار الذي ينشره مشيها، ويتعلق بثياب الناس، والفواكه، [وغيرها]، وكذا ما يطير بسبب مشيها في زمن الشتاء وكثرة الوحل؛ لأن ذلك

لا يمكن دفعه؛ فلو تعلق الضمان به لاقتضى المنع من الانتفاع بالشوارع. نعم، لو جاوز المعتاد في ذلك؛ فتلف بسببه شيء، ضمنه. فروع: [الفرع الأول:] إذا كان للدابة ولد سائب؛ فأتلف شيئاً في حال كون أمه في يده - ضمنه؛ كما يضمن ما تُتْلفه أمه؛ وكذا لو كان يقود جملاً وخلفه آخر مقطراً، وأتلف المقطر شيئاً - ضمنه. الفرع الثاني: إذا نخس الدابة، أو ضربها مغافصة؛ فرمت راكبها؛ فمات، أو أتلفت مالاً - وجب الضمان على الناخس، قاله أبو علي في الإفصاح. وعن كتاب ابن كج وجه آخر: أنه عليهما. قال في ["فتاوى" صاحب] التهذيب: إن كان النخس بإذن المالك فالضمان عليه. الفرع الثالث: إذا غلبته دابة؛ فاستقبلها إنسان، وردها؛ فأتلفت في انصرافها، فالضمان على الراد. [الفرع الرابع:] لو كان يحمل رجلاً، فجاء آخر وقرص الحامل، أو ضربه؛ فتحرك؛ فسقط المحمول عن ظهره- قال في التتمة: هو كما لو أكره الحامل على إلقاء المحمول عن ظهره. قال: وإن لم ينك معها: فإن كان بالنهار لم يضمن ما تتلفه، وإن كان بالليل ضمن ما تتلفه، أي: من زرع وغيره؛ كما صرح به الرافعي والبغوي؛ لما روى الشافعي، عن مالك مسنداً إلى محيصة - رضي الله عنهم - أن: "نَاقَةَ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطا بِالنَّهَارِ؛ فَأَفْسَدَتْ فِيهِ؛ فَقَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:أَنَّ عَلَى أَهْلِ الأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتِ المَوَاشِي بِاللَّيْلِ فَهُوَ ضَمَانٌ عَلَى أَهْلِهَا"، أي: مضمون [على أهلها]؛ كقولهم: سِرٌّ كَاتِم، أي: مكتوم.

وروى أبو داود بسنده عن البراء [بن عازب] أنه قال: "كانَتْ لِي نَاقة ضَارِبَةٌ، فَدَخَلَتْ حَائِطاً؛ فَأفْسَدَتْ فِيهِ؛ فَعَلِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى لله عليه وسلم – فَقَضَى أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ". وقد اتفق الأصحاب على ما شهد به الحديث في الليل والنهار في ضمان الزرع وعدمه؛ إذا كان عادة أهل تلك البلدة تسييب مواشيهم نهاراً؛ لترعى في الموات الجاري بها العادة من غير راع، وحفظها ليلاً، وليس على الحوائط، والزرع حيطان، وإليه أشار الشافعي بقوله: "حيطان المدينة لا حائط لها". نعم، لو اتفق ذلك في القرى العامرة، والبلدان المتجاورة التي تجاور زرعها، ولا يمكن الرعي إلا في ساقية أو نهر من بين المزارع، ونحو ذلك – فقد حكى البندنيجي، وكذا الشيخ أبو حامد كما ذكره ابن الصباغ عنهن عن بعض أصحابنا أنه قال: لا يجوز للإنسان إرسال ماشيته نهاراً، فإن فعل فعليه الضمان، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب"، وهو الأصح في الرافعي. ومنهم من قال: لا يضمن؛ للخبر. وعن أبي الطيب بن سلمة: أنه إذا أرسل الدابة في البلد؛ فأتلفت شيئاً – ضمنه؛ لأن الدابة في البلد تراقب، ولا ترسل [وحدها]، وهو الوجه. ولو تغيرت عادة أهل بلد بحفظ المزارع بالليل والمواشي بالنهار، انعكس الحكم على الأصح. وعن رواية الشيخ أبي عليّ حكاية قول: أنا نتخذ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم –مرجعاً؛ فلا نعدل عنه، ولا ننظر إلى اختلاف عادات البلاد؛ فكل ما يقع نهاراً فلا ضمان على ملاك البهائم، وكل ما يقع ليلاً فعليهم الضمان؛ فإن تتبع الساعات عسير. وكذا الخلاف جار فيما إذا كانت الحوائط محوطة، وترك صاحبها بابها مفتوحاً ليلاً، والأصح: أنه لا ضمان، وبه قال صاحب التخليص، وجزم به في الوسيط؛ لأن مالك الزرع مقصر، وبهذا أيد الإمام ما أبداه من عدم الضمان

فيما لو اطلع على دخول البهيمة في زرعه ليلاً، ولم يتعرض لها بإخراج مع إمكانه، وقياس القول الناظر إلى الحديث خلافه. ولو كثرت المواشي [في النهار]؛ حتى عجز أرباب الزروع عن حفظها – ففي وجوب الضمان وجهان في الحاوي. ولو ابتلعت البهيمة في النهار جوهرة وشبهها؛ فهل تلحق بالزرع؟ فيه وجهان: اختيار ابن أبي هريرة: نعم. واختيار غيره، وهو – كما قال في "المهذب" – أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي البصري، والمختار في [المرشد]: أنه يضمن بكل حال. وفرق بأن الزرع مألوف [فلزم] صاحبها حفظها، وابتلاع الجوهرة غير مألوف؛ فلم يلزم صاحبها حفظها. قال: وإن انفلتت بالليل، وأتلفت: فإن كان بتفريط منه في حفظها –أي: مثل أن ترك الباب مفتوحاً، [أو لم] [يعقلها]؛ كعادة أهل تلك الناحية- ضمن، كما لو أرسلها، وإن لم يكن بتفريط [منه]، أي: كما إذا أغلق الباب؛ ففتحه لص، أو وقعت الحائط؛ فخرجتن أو عقل الناقة – كما يفعل أهل البادية – فتمرغت، وحلت العقال – لم يضمن؛ لأنه غير مفرط. قال الأصحاب: وعلى هذه الحالة ونظائرها حمل قوله صلى الله عليه وسلم:"الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا [جُبَارٌ]، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ" كما رواه أبو داود عن أبي هريرة، وخرجه البخاري، ومسلم، وغيرهم. لكن أبو داود حمل الحديث على غير هذه الحالة، وقال: العجماء: التي لا يكون معها أحد، وتكون بالنهار، ولا تكون بالليل. ومعنى جُبار: مهدر.

والعجماء - ممدوداً -: البهيمة، وإنما سميت عجماء؛ لأنها لا تتكلم، وكل من لا يقدر على الكلام أصلاً فهو أعجم، ومستعجم، والأعجم - أيضاً -: الذي لا يفصح ولا يبين كلامه، وإن كان من العرب. وجرحها: حكى الشيخ زكي الدين في حواشيه على مختصر السنن أن بعضهم قال: هو هاهنا بفتح الجيم على المصدر، لا غيرُ. وقال الأزهري: فأما الجرح بالضم فالاسم. وفي فتاوي صاحب التهذيب: أن الريح إذا هاجت، وأظلم النهار؛ فتفرقت غنم الراعي؛ ووقعت في زرع؛ فأفسدته - فالراعي مغلوب، وفي وجوب الضمان عليه قولان، أظهرهما: المنع؛ فأفسدته - فالراعي مغلوب، وفي وجوب الضمان عليه قولان، أظهرهما: المنع؛ وكذا الحكم لو ندَّ بعير من صاحبه؛ فأتلف شيئاً، وعليه ينطبق ما حكاه في الحاوي أن ابن أبي هريرة حكى وجهاً؛ أن أرباب الأموال إذا أحرزوا مواشيهم بالليل؛ فغلبتهم ونفرت؛ فرعت في الليل زرعاً - ضمنوه؛ لأنه لم يكن من أرباب الزرع تفريط. وقال - أعني الماوردي- في غير الماشية: إن صاحبها إذا لم يكن معها، فإن كان قد أرسلها باختياره، أو فرط في ربطها، وحفظها؛ فاسترسلت - كان ضامناً لما أتلفت، وإن لم يفرط في ذلك؛ أتلفت مالاً، أو نفساً، ففي الضمان وجهان: أحدهما - وهو الأصح -: أن لا ضمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "جرح العجماء جبار". والثاني: عليه الضمان؛ لأنه قلما يكون ذلك إلا من تفريط. ولم يفصل - فيما ذكره - بين الليل والنهار، ثم قال: وهذان الوجهان مخرجان من اختلاف قوليه في اصطدام السفينتين إذا كان من غير تفريط. فرع: إذا دخلت البهيمة المزرعة؛ فصاح عيها صاحب المزرعة؛ فخرجت، ووقعت في زرع الجار - قال الأئمة: إن اقتصر على تنفيرها عن زرع نفسه فلا ضمان عليه، وإن اتبعها بعد الخروج من زرعه حتى أوقعها في زرع الجار، توجه الضمان عليه.

ولو كانت مزرعته محفوفة بمزارع الناس، وكان لا يتأتى إخراجها إلا بإدخالها مزرعة الغير؛ فسوق الدابة، وإخراجُها – في هذه الحالة – لا يجوز؛ لأنه ليس له أن يجعل مال غيره وقاية لماله؛ فإن فعل فهو ضامن. نعم، عليه أن يتركها، ويأخذ من صاحبها [ضمان] ما أتلفته. ولو دخلت بهيمة ملكه، ولم تُتْلف له مالاً – قال العبادي في فتاويه: إنه رأى في تعليق القاضي أنه إن نفرها عن ملكه – لا ضمان، وإن نفرها غَلْوة سهم ضمن. ثم قال: والقياس أنه يضمن كما لو هبت ريح؛ فألقت ثوباً في حجره، أو حط السيل حجراً؛ فألقاه في ملكه – لا يجوز إخراجه وتضييعه، بل يدفعه للمالك. وهذا ما جزم به البغوي في فتاويه؛ إذا لم تكن مسيبة من جهة المالك؛ كالإبل والبقر. قال: وإن كان له كلب عقور، [فلم يحفظه]؛ فقتل إنساناً، أي: في ليل – أو نهار – ضمنه؛ لتفريطه. وفي معناه الهرة المملوكة التي تأكل الطيور، وقيل: لا ضمان عليه يهما؛ لأن العادة لم تجر بربط الكلاب والسنانير في البيوت؛ فأشبه ما لو أرسل طيراً، فلقط حبًّا لغيره، أو كسر عليه شيئاً؛ فإنه لا ضمان على مرسله – كما ذكره ابن الصباغ- لأن العادة جرت بإرساله. أما إذا لم يكن الكلب عقوراً، ولا السنور مفسداً، ففي تعليق القاضي أبي الطيب أنه لا ضمان، بسبب ما يتلفه؛ كما حكاه أبو علي في الإفصاح. وفي الرافعي، وابن يونس حكاية وجه: أن ذلك كالماشية. وحكى الإمام وجهاً آخر في الهرة في هذه الحالة؛ أنه يضمن ما تتلفه بالنهار دون الليل؛ فإن الأشياء تصان عن السنور ليلاً، ولايحتاط فيها نهاراً. ووجهاً آخر: أنه يضمن ما تتلفه مطلقاً. قال: وإن قعد في طريق ضيق، وعثر به إنسان؛ فماتا – وجب على كل واحد منهما دية الآخر، أي: وتحملها العاقلة. أما العاثر؛ فلأنه قتل المصدوم بفعله منفرداً؛ فلهذا ضمن عاقلته ديته.

وأما المصدوم؛ فلأنه متعد بقعوده في ذلك الموضع، وقد حصل الهلاك به؛ فضمن؛ كما لو وضع حجراً فهلك به إنسان، وهذا ما نص عليه الشافعي، رضي الله عنه. أما إذا كان الطريق واسعاً فعلى عاقلة العاثر دية المصدوم، وديته هدر. وهكذا الحكم فيما لو كان القاعد واقفاً؛ فعثر به إنسان؛ فماتا. وعلى الحالة الأولى حمل أكثر الأصحاب قول الشافعي في القديم: إن دية الجالس على عاقلة العاثر، ودية العاثر على عاقلة الجالس. وحملوا قوله في الجديد: "لو كان أحدهما واقفاً، فصدمه الآخر؛ فماتا – فدم الصادم هدر، ودية المصدوم كلها على عاقلة الصادم" على الحالة الثانية، وهي سعة الطريق، ولم يجعلوا اختلاف قوله في الجديد والقديم اختلاف قولين. وحكى القاضي أبو الطيب أن من الأصحاب من قال: [إن] المصدوم تكون كمال ديته على عاقلة العاثر، وأما دية العاثر؛ فهل تلزم عاقلة المصدوم؟ فيه قولان. وهذا من القاضي يدل على جريان طريقة القولين في الواقف في الحالين، [وهو] ما صرح به البندنيجي، وكلام الماوردي مصرح بأنهما في الحالين خاصة. وفرق على القديم بينه وبين الواقف: بأن القيام في الطرقات لا يستغني عنه، ولا يجد الناس بدًّا منه؛ بخلاف الجلوس؛ فإن مواضعه في غير المسالك المطروقة. وحكى الفوراني والقاضي الحسين والمسعودي مع النص الذي ذكرناه عن الجديد في العاثر بالقائم – نصًّا آخر: أن العاثر بالقاعد، والنائم في الطريق؛ إذا مات تجب دية الصادم على عاقلة المصدوم، وتهدر دية المصدوم. وأن منهم من جعل فيهما قولين نقلاً، وتخريجاً: أحدهما: في الواقف النائم تهدر دية المصدوم، وتجب دية الصادم على عاقلتهما. والثاني: تهدر دية الصادم منهما، وتجب دية المصدوم. وأن منهم من أجرى المسألتين على ظاهرهما، وهو الصحيح عند القاضي الحسين والبغوي، والفرق ما حكيناه عن الماوردي، وعلى ذلك جرى الإمام

في باب: وضع الحجر، وقال: النقل والتخريج عندي تكلف. ومحل اختلاف الطريقتين؛ كما صرح به الرافعي؛ وكذا البندنيجي عند ضيق الطريق، أما عند اتساعه، فلا ضمان على عاقلة الواقف، والجالس جزماً. وعند الاختصار يخرج مما ذكرناه في المسألة أوجه، أو أقوال: أحدها: دية كل واحد منهما على عاقلة الآخر، وسواء فيه القاعد والواقف، وهو الذي حكاه البندنيجي عن القديم. والثاني: وجوب دية الواقف أو القاعد على عاقلة الماشي، دون العكس، وهو الذي أطلقه في الجديد كما حكاه البندنيجي، وبه أجاب المتولي، ورجحه أبو الحسين العبادي. والثالث: وجوب دية الواقف على الماشي، دون العكس، ووجوب دية الماشي على عاقلة الجالس، دون العكس، وهو مأخوذ مما حكيناه عن [الماوردي. والرابع: وجوب دية الماشي على عاقلة الواقف، أو الجالس، دون العكس، وهو] أضعفها. وهذا كله إذا لم يوجد من الواقف فعل؛ فإن وجد كما إذا انحرف إلى الماشي لما قرب منه؛ فأصابه في انحرافه، وماتا – فهما كماشيين اصطدما، وسنذكره. فرع: لو جلس في مسجد؛ فعثر به إنسان، وماتا – فعلى عاقلة الماشي دية الجالس، ولا ضمان للماشي، وكذلك لو نام فيه، وهو معتكف. ولو جلس في المسجد؛ لأمر يُنزَّه عنه المسجد، أو استوطن المسجد، لا للقرية – فهو الجاني، لا الصادم؛ فإن مات به الصادم يجب الضمان على عاقلته؛ كذا حكاه في التهذيب عن الشيخ؛ يعني: القاضي الحسين. قال: وإن اصطدما، [وماتا]، وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر، أي: وتتحمله عاقلته؛ لأن كل واحد منهما هلك بفعل نفسه وفعل صاحبه، بخلاف المسألة قبلها؛ فأهدر النصف، ووجب النصف؛ كما لو جرح نفسه، وجرحه آخر؛ فمات من الجراحتين. وأيضاً: فقد روي عن عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – أنه قال: "إذا اصطدم الفارسان؛ فماتا- فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه"،

ولم يظهر له مخالف؛ فإن كان قد انتشر فهو إجماع، وإن لم ينتشر فهو حجة على الخصم – وهو أبو حنيفة، رحمه الله – لأنه يرى أن ذلك حجة كما هو رأي الشافعي في القديم. ولا فرق في ذلك بين أن يكونا راكبين فرسين أو حمارين، أو أحدهما راكباً فرساً، والآخر راكباً حماراً، ولا بنيأن يكونا ماشيين، أو أحدهما راكباً وهو قصير، والآخر ماشياً وهو طويل، ولا بين أن يكونا مقبلين أو مدبرين، أو أحدهما مقبلاً والآخر مدبراً، ولا بين أن يقعا على وجوبهما أو على قُفِيِّهما، أو يقع أحدهما على وجهه، والآخر على قفاه؛ لأن صدم كل منهما لصاحبه قد وجد. وقال المزني: إذا كانا ماشيين، ووقع أحدهما على وجهه – كانت ديته هدراً؛ لأنه دافع، ودية الآخر على عاقلته؛ لأنه مدفوع؛ فشابه ما إذا وقع بحجر وضعه الآخر في الطريق. قال البندنيجي وصاحب "العدة": فمن أصحابنا من جعل هذا قولاً آخر للشافعي، وجعل المسألة على قولين. وحكى الشيخ أبو علي عن صاحب "التلخيص" أنه صار إلى ذلك، وطرده فيما إذا وقعا منكبين على وجوههما، وقال: إن ديتهما هدر، وإذا وقعا على ظهورهما وجب على عاقلة كل منهما كمال دية الآخر. ثم قال الشيخ أبو علي: وقد وافقه بعض الأصحاب، ومعظمهم ذهبوا إلى تغليطه. وقال الماوردي: إن ما صار إليه المزني فاسد؛ لأن الاستلقاء يحتمل أن يكون لتقدم الوقوع، والانكباب لتأخر الوقوع، ويحتمل أن يكون الاستلقاء [في الوقوع]؛ لشدة صدمته؛ كما يقع الحجر من الحائط لشدة رميه؛ فلم يسلم ما اعتل به. وكذا لا فرق بين أن يكون الاصطدام صدر عن صد أو لا عن قصد. نعم، إن كان عن قصد فالدية فيه دية شبه العمد؛ كما قاله الشيخ أبو حامد، وبه جزم البغوي، وصاحب "العدة"، وإلا فدية الخطأ. وقال أبو إسحاق المروزي: إذا اصطدم الفارسان عن قصد فذلك عمد محض، ويجب نصف الدية مغلظاً حالاً في ماله، ولا يجب القود؛ لأن الروح

خرجت عن عمد مضمون وغير مضمون، وإنما يجب القود إذا خرجت الروح عن عمد محض مضمون. قال القاضي أبو الطيب: وهذا عند أصحابنا خطأ؛ لأنه خلاف ما نص عليه الشافعي؛ لأنه قد نص- يعني: في "الأم"، كما حكاه الرافعي- على أن الاصطدام إما خطأ أو شبه عمد، [ولم يذكر فيه العمد]؛ لأنه لو كان عمداً محضاً لوجب القصاص على أحد قوليه فبمن شارك عمداً محضاً غير مضمون، مثل: من شارك في قتل الرجل سَبُعاً أو حربيًّا، وعلى ذلك جرى ابن الصباغ؛ فصحح الأول. واقتصر الإمام والغزالي على إيراد ما ذكره أبو إسحاق من كون ذلك عمداً محضاً، ثم قال الإمام: والجواب في القصاص: التخريج على شريك النفس، وقد مضى التفصيل فيه، وحكى القاضي الحسين الخلاف كما حكاه العراقيون، لكن حكى أن أبا إسحاق قال: كان القياس أن يجب عليه القود، غير أنه فات المحل؛ فسقط القود، ووجبت الدية مغلظة في ماله. قلت: ويظهر أثر ذلك فيما لو اصطدما، ومات أحدهما دون الآخر. [قال القاضي الحسين والبغوي والماوردي والبندنيجي: ولو كان أحدهما مخطئاً، والآخر] قاصداً [للقتل] فلكل منهما حكمه على التفصيل السابق. تنبيه: في قول الشيخ: "وجب على كل [واحد] منهما دية الآخر"، ما يفهمك أن المسألة مفروضة فيما إذا كانا حرين، أما لو كانا عبدين فإن كل واحد منهما تعلق برقبته نصف قيمة صاحبه، وقد تلفت؛ فسقط، وهذا بخلاف المسألة السابقة؛ فإن العاقلة هي المتحملة. ولو كان أحدهما عبداً، والآخر حرًّا - فإنه يسقط نصف قيمة العبد بجناية نفسه، والنصف الآخر في ذمة الحر إن لم تتحمل العاقلة العبد، وفي ذمتها إن تحملته. وأما الحر فإنه يسقط نصف ديته بجنايته على نفسه، والنصف الآخر تعلق برقبة العبد، والرقبة قد تلفت ببدل وهو نصف القيمة؛ فإن كان نصف الدية مثل نصف القيمة، وقلنا بأن الواجب في ماله - فللسيد ولورثة الحر أن

يتقاصَّا، قاله في "التهذيب" و"الحاوي". وقال القاضي أبو الطيب: [إنه] لا يقع التقاص إلا باختيارهما؛ لأنهما جنسان مختلفان؛ فإن نصف الدية من الإبل، ونصف القيمة من نقد البلد، والعبارتان متقاربتان، لكن الثانية أبين. وهذا إذا كانت الإبل موجودة، أما لو كانت معدومة فالواجب من الدراهم والدنانير بدلاً عنها، إما مقدر أو غيره؛ فيظهر جريان أقوال التقاص كلها في هذه الحالة. وإن كان نصف الدية [أكثر من نصف القيمة فالزيادة هدَر. وإن نصف الدية] أقل فالفاضل من القيمة يرجع به السيد. وإن قلنا: إن نصف القيمة على العاقلة، قال في "التهذيب": فإن كانوا هم الورثة تقاصوا أيضاً، وإلاّ فالسيد يستوفيه؛ كما قال القاضي أبو الطيب؛ ويُوفى منه حق الورثة إن أمكن؛ فإن بقى [منه] شيء فهو له، وإن بقي من الدية شيء فهو هدر. وحكى الماوردي مع ذلك وجهاً آخر: أن السيد لا يستوفيها، بل ينتقل الحق إلى ورثة الحر من نصف القيمة بقدر نصف الدية. فرع: إذا تجاذب اثنان حبلا؛ فانقطع، وماتا – يهدر من دية كل منهما نصفها، ويجب النصف على عاقلة الآخر إن كان الحبل ملكهما أو غصباه، فإن كان أحدهما مالكاً، والآخر غاصباً – فدم الغاصب مهدر، وعلى عاقلته نصف دية الآخر. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه قال في كرة أخرى – يعني: القفال، رحمهما الله -: يجب كمال ديته على عاقلة الظالم. ولا فرق في الصورة الأولى بين أن يقعا منكبين أو مستلقيين، أو أحدهما كذا والآخر هكذا. وفي "الزوائد" للعمراني أن أبا عليِّ قال: وكذلك الإمام قال: قال أصحابنا: وعلى [قياس] قول صاحب "التلخيص" إن استلقيا على القفا كان هدراً، وإن سقطا على وجوههما فتجب دية كل واحد منهما على عاقلة صاحبه، وإن استلقى

أحدهما، وانكب الآخر – فدية المستلقي هدر، ودية من وقع على وجهه على عاقلة المستلقي. ونص الشافعي – رضي الله عنه – والذي [دل] عليه [كلام] عامة الأصحاب: الأول. وذكر الرافعي عن صاحب "التهذيب" في الأخيرة أنه قال: يجب على عاقلة المستلقي نصف دية المنكب مغلظة، ويجب على عاقلة المنكب نصف دية المستلقي مخففة. ثم قال: وهذا إن صح اقتضى أن يقال في صورة الاصطدام: إذا انكب أحدهما، واستلقى الآخر – يجب على عاقلة المستلقي نصف دية المنكب مخففة، وعلى عاقلة المنكب نصف دية المستلقي مغلظة. [قلت]: وما قاله في "التهذيب" هو المذكور في "الإبانة". ولو قطع قاطع هذا الحبل؛ فسقطا- ضمن عاقلته دية كل منهما. ولو أرخى أحدهما الحبل؛ فمات الآخر – سقط من ديته نصفها، ووجب نصفها على عاقلة المرخي. فرع: إذا طصدم رجلان بإناءين [فيهما طعام]؛ فانكسرا – ضمن كل منهما نصف قيمة إناء الآخر، وأما الطعامان: فإن تميزا أخذ كل منهما طعامه؛ وإن احتاج فصله إلى مؤنةٍ، كانت عليهما، وكذا إن نقصا بعد التمييز كان أرش النقص عليهما. وإن اختلطا ولم يتميزا: فإن كان طعام أحدهما سويقاً، والآخر عسلاً – فيقوَّم كل [واحد] منهما على انفراده، ثم يقومان بعد الاختلاط: فإن لم يكن ثَمَّ نقصان صارا شريكين فيه بقدر القيمتين؛ فإذا كانت قيمة السويق عشرة، والعسل خمسة – كان صاحب السويق شريكاً بالثلثين، وصاحب العسل بالثلث؛ فإن باعاه اقتسما ثمنه، وإن أرادا قسمته بينهما جبراً لم يجز، وإن أرادا قسمته عن تراض ففي جوازه قولان، حكاهما الماوردي؛ بناء على أنها [- أي: القسمة – بيع أو إفراز؟

وإن نقصت القيمة باختلاطهما ضمن كل [واحد] منهما لصاحبه [نصف أرش] الناقص من طعامه، وتقاصّا، ثم كانا في الشركة كما سبق. قال: [إن اصطدمت] امرأتان حاملان؛ فماتتا، ومات جنيناهما –وجب على كل واحدة منهما دية الأخرى، ونصف دية جنينها، ونصف دية جنين الأخرى، أي: وتحمل ذلك العاقلة؛ لأن الهلاك منسوب إلى فعلهما. قال: وإن أركب صبيين – أي: مميزين – [دابتين] [أي:] تصلحان لمثلهما أو لا تصلحان، اتفق جنسهما أو اختلف. [قال]: من لا ولاية له عليهما؛ فاصطدما، وماتا – وجب على الذي أركبهما ضمان ما جناه كل [واحد] منهما على نفسه وعلى صاحبه، أي: وتحمل ذلك عاقلته؛ لأنه تعدى بإركابهما؛ فضمن جنيتهما؛ كما لو دفع لصبي سكيناً، فوقعت من يده، ثم وقع عليها؛ فإن الدافع يضمن، كذا قاله ابن الخل. ولو تلفت الدابتان ضمن قيمتهما في ماله، وهكذا الحكم فيما لو [لم يصطدما]، لكن سقطا من على الدابتين، كما قاله القاضي أبو الطيب. وخص المتولي ذلك بما إذا كان [الصبي لا يستمسك على الدابة، وقال فيما إذا كان] يستمسك: إن كان ينقله من موضع إلى موضع فلا ضمان؛ لأنه لا يخاف الهلاك منه غالباً. ولو أتلفت الدابة شيئاً، والصبي راكبها بإركاب أجنبي – ضمنه المُرْكِب، وتتحمله عاقلته إن كان آدمياًّ، قاله القاضي الحسين، وكذلك البغوي فيما إذا غلبته الدابة وأتلفت، بخلاف ما لو غلبت المالك البالغ؛ حيث لا يضمن على قول؛ لأنه غير متعد، والمُرْكِب هنا متعد. ولا يجب في مال الصبيين في مسألة الكتاب شيء، وكذا على عاقلتها.

ولو أركب كل واحد من الصبيين واحد، ضمن عاقلة كل مْكِب نصف دية كل من الصبيين. وحكى الشيخ أبو حامد أن أبا القاسم الداركي وأبا الحسين بن المرزبان كانا يقولان: يجب على عاقلة كل واحد من المركبين دية من أركبه، وقال: إنه ليس بشيء. فرع: إذا تعمد الصبيان الاصطدام في هذه الحالة، وهلكا- قال في "الوسيط": يحتمل أن يقال: الهلاك محال على الصبيين إذا جعلنا للصبي عمداً؛ لأن المباشرة أولى من السبب، لكن لما لم تكن مباشرته عدواناً لصباه، أمكن أن يجعل كالتردي مع الحفر. وهذا منه إشارة إلى الوجه الذي حكيناه عن المتولي فيما إذا حفر إنسان بئراً في محل عدوان، ووضع حربي حجراً عليها؛ فعثر به إنسان، ووقع في البئر: أن الضمان على الحافر. قال الرافعي: والاحتمال حسن. والحكم – إن قتل به – كالحكم فيما إذا ركبا بأنفسهمان ولو ركبا بأنفسهما كان حكمهما حكم البالغين. أما إذا أركبهما من له عليهما ولاية، أو أجنبي بإذن من له عليهما ولاية – [دابة] يصلح مثلهما أن يركبها، الحكم كما إذا ركبا بأنفسهما؛ لأنه غير متعد؛ إذ له تاديبهما، ومن جملته الركوب لتعليم الفروسية، وهذا ما حكاه العراقيون. وحكى القاضي الحسين مع ذلك وجهاً آخر عند اقتضاء المصلحة ذلك: أنه يجب على عاقلة الولي الدية لكل واحد منهما، وإنما أبيح له ذلك بشرط السلامة، وهو اختيار الشيخ، أعني القفال. وقال الإمام: إنه غير سديد. قال: والوجهان – عندي – [فيما] إذا كان الإركاب لزينة، أو لحاجة غير مهمة، أما إذا مست حاجة أرهقت للنقل من مكان إلى مكان؛ فلا يتعلق به الضمان، ويكون بمثابة ما لو عالج الولي الصبي بالفصد عند [حاجته و] إشارة الأطباء بذلك.

أما إذا لم يكن في إركابهما مصلحة، كما لو كانا غير مميزين كابن سنة [أو سنتين]، وقد أركبهما الولي – وجب على عاقلته دية كل منهما. قال: وإن اصطدم سفينتان؛ فهلكتا وما فيهما – أي: من الآدميين وغيرهم – فإن كان ذلك بتفريط من القيمين، أي: بأن قصَّرا في تكميل آلتهما، أو في ربطهما عند طرآن الربح، أو في إحرافهما عند إمكان ذلك، فلم يفعلاه، أو سيَّرا في ريح شديدة لا تسير السفن في مثلها. [قال:] فهما –أي: في الضمان – كالرجلين إذا تصادما، أي: عن قصد، وكانا راكبين، وتلفا وتلف مركوبهما؛ فيجب على كل واحد منهما [في ماله] ضمان نصف سفينة صاحبه إن كانت السفينتان للقيمين، وضمان نصف كل من السفينتين إن كانا أجيرين فيهما أو مستأجرين أو مودعين. وكذا الحكم فيما فيهما من المتاع لهما أو لغيرهما، كذا أطلقه الماوردي والقاضي أبو الطيب وغيرهما، وهو محمول على استقرار الضمان، وألا فلكل من صاحبي السفينتين مطالبة قائد سفينته بكل ضمانها، وكذلك لكل من له مال في [سفينة] مطالبة ملاحها، وقرار الضمان في النصف من ذلك على كل من الملاحين؛ كما صرح به الفوراني، وكذا الرافعي في السفن، ووجهه أن كلاً من القيمينِ قد قصر قبل الاصطدام؛ فدخلت السفينة وما فيها في ضمانه [بذلك]، لكنه شاركه في الإتلاف غيره؛ فاستقر الضمان عليهما نصفين. وأما الآدميون، فقد قال القاضي أبو الطيب: يراجع أهل الخبرة؛ فإن قالوا: إن مثل هذا [يغرق –غالباً – فهما قاتلان عمداً؛ فيجب عليهما القصاص، وإن قالوا: إن مثل هذا] لا يغرق – غالباً – فيجب دية شبه العمد على عاقلتهما. وقول الشيخ: "فهما كالرجلين إذا تصادما"، يقتضي جريان خلاف في وجوب القصاص؛ كما حكيناه في مسألة الاصطدام عن أبي إسحاق وغيره. وقد صرح بحكاية هذا هاهنا الشاشي في "حليته"؛ حيث قال: هل يصح في ذلك العمد المحض أم لا؟ فقال أبو إسحاق: يصح العمد؛ لوجوب القود.

وقال الشيخ أبو حامد: لا يصح. قلت: والوجه حمل ما قاله القاضي [أبو الطيب] على ما إذا قصدا الاصطدام؛ كما قاله الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ والمصنف، وحمل ما اقتضاه كلام الشيخ وذكره الشاشي على ما إذا لم يقصدا، بل قصرا؛ كما قاله المذكورون. واقتصر في "المهذب" في هذه الحالة- وغيره على أن الواجب على كل منهما نصف ديات ركاب السفينتين. قال: وإن كان بغير تفريط، أي: مثل: إن كانت عدتهما كاملة، وقد طرحاها، أو لم يطرحاها حتى هاج ريح عاصفة، ولم يمكنهما إمساك السفن –ففيه قولان: أحدهما: أنهما كالرجلين- أي: الراكبين – إذا اصطدما؛ فيضمنان؛ لأنه لما كان اصطدام الفارسين موجباً للضمان وإن عجزا عن ضبط الفرسين – وجب أن يضمن القيمان وإن عجزا عن ضبط السفينتين، وهذا ما نص عليه في "الإملاء". وعلى هذا يكون الحكم كما تقدم، إلا في إيجاب القصاص وكون الدية مغلظة. والثاني: لا ضمان على واحد منهما؛ لأن ما خرج عن التعدي والتفريط في الأمانات لم يضمن بالحوادث الطارقة؛ كالوديعة، ولأن التلف لو كان بصاعقة لم يضمن؛ فكذلك بالريح العاصفة، وهذا ما نص عليه في الإجارات، وصححه الرافعي، واختاره في "المرشد"، ويخالف اصطداما لفارسين؛ لأن عنان الدابة بيد راكبها، يتصرف على اختياره؛ فإن قهرته فلتفريطه في آلة ضبطها، والريح العاصفة لا يقدر على دفعها، ولا يجد [سبيلاً إلى ضبطها

ودفعها]؛ فعلى هذا تكون النفوس الأموال هدراً، إلا إذا كان القيم مستأجراً على حملها إلى كذا؛ فيتخرج ضمانه لها على ضمان الأجير المشترك إذا لم يكن صاحبها معها، والسفن لا تضمن إلا أن تكون مستعارة؛ فيضمن كل من الملاحين قيمة السفينة التي استعارها. قال: وقيل: القولان إذا لم يكن منهما فعل، أي: في الابتداء، بأن كانت السفينتان –كما قال القاضي أبو الطيب والمصنف- واقفتين على الساحل؛ فحملت الريح كل واحدة [على] الأخرى. قال: فأما إذا سيَّرا السفن، ثم اصطدمت، أي: بسبب طرد الريح – وجب الضمان قولاً واحداً؛ لأن بداية السير وجدت منهما، وكل مبتد بشيء، اتصل بفعله ما اخرج الأمر عن يده – لزمه ضمانه؛ كما إذا رمى [سهماً إلى غابة؛ فاشتد الريح، فأوصله] إلى غابة أخرى؛ فأتلف شيئاً؛ فإنه يلزمه ضمانه؛ لاتصال الإتلاف بفعله. وادعى الإمام أن هذا إسراف. وقد صور ابن يونس عدم الفعل بأن تكون السفينة من المراكب الكبار التي ينصب القَيِّمُ الشراع، ويمد الحبال، ويقيم المركب نحو الريح، حتى إذا هبت دفعت. و [صوَّر] الفعل بأن تكون السفينة من المراكب الصغار التي تندفع بالمجاديف؛ فدفعها في ابتداء السفر. قال: وقيل: القولان في الجميع؛ لأن القيِّمَيْنِ وإن كانا قد وجد منهما بداية السير، إلا أن التلف لم يحصل بذلك، وإنما حصل بإلقاء الريح لإحداهما على الأخرى، وهذا قول أبي إسحاق والإصطخري، ولم يحك الماوردي سوى هذه الطريقة، وهي التي رجحها الرافعي. وقد أجرى الخراسانيون القولين في الفارسين إذا غلبتهما الدابتان؛ فاصطدما، وماتا، وفي الواحد إذا غلبته الدابة، وأتلف شيئاً. وعزاه في "الزوائد" إلى صاحب "التلخيص".

ولو كان التفريط من أحد القَيِّمينِ دون الآخر، فحكم كل منهما عند الانفراد كحكمه عند اجتماعهما على صفة الفعل، فلو اختلفا في التفريط، وجعلنا لعدمه أثراً في نفي الضمان - فالقول قول النافي له. ولو صدمت السفينة المربوطة على الشط سفينة مجراة؛ فكسرتها - فالضمان على مجرى السفينة الصادمة، نص عليه في "المختصر"، كما صوره بعضهم. واعلم أن النواوي - رحمه الله - قال: الصواب في قول الشيخ: "وقيل: القولان إذا لم يكن منهما فعل" حذف الواو، وجعلها فاءً؛ لئلاَّ يبقى قوله: "وقيل: القولان في الجميع" تكراراً بلا فائدة، وقد سبق مثل هذا في الوقف، ونبهت عليه. قال: وإن رمى عشرة أنفس حجراً بالمنجنيق، فرجع [الحجر] عليهم؛ فقتل أحدهم - سقط من ديته العشر، ووجب تسعة أعشارها على الباقين، أي: وتتحمل ذلك العاقلة؛ لأن الهلاك حصل بفعله وفعلهم؛ فهدر بفعله العشر، ووجب تسعة أعشارها على عواقل الباقين. وهكذا الحكم لو قتل جميعهم. ولو قتل اثنين منهم سقط من دية كل منهما عشرها، ووجب تسعة أعشارها على عواقل الباقين والقتيل الآخر؛ وهكذا لو قتل ثلاثة أو أربعة أو غير ذلك. ولو وقع الحجر على غيرهم؛ فقتل واحداً مثلاً - نظر: فإن قصدوا بالرمي هدم حائط، فاتق وقوعه عليه، وجب على عاقلة كل منهم عشر ديته مخففة. وكذا لو قصدوا قتل غيره، فوقع عليه. وإن قصدوا قتله، واتفقوا على اعتماده - فالعراقيون قالوا: لا قود على واحد منهم؛ إذ لا يتصور في الرمي بحجر المنجنيق قتل العمد؛ لأنه يرمي تحيقاً؛ يقع على من لم يقصد قتلهن ووزان ذلك: أن يرمي بالسهم إلى العلو، فيسقط؛ فيقتل إنساناً؛ فإنه لا قصاص فيه. وجزم الماوردي بوجوب القصاص على جميعهم، وقال: إن بعضهم لو قال: تعمدت، وقال بعضهم: لم أتعمد - اقتص من العامد، ولزم من أنكر العمدية

دية الخطأ في ماله، بعد إحلافه، ولا تتحملها العاقلة عنه؛ لأنه اعتراف، إلا أن يصدقوه؛ فيتحملوا عنه. وتوسط المتولي، والغزالي وإمامه، والصيدلاني، فقالوا: إن كان الغالب أنه يصيب من قصدوه فهو عمد [يتعلق به القصاص والدية المغلظة في أموالهم، وإلا فهو عمد] خطأ، وهذا ما صدر به القاضي الحسين كلامه فيما إذا كانوا قلَّما يخطئون في القتل بذلك، ثم قال: ومن أصحابنا من قال: لا يجب القصاص؛ لأن الإصابة منهم نادر؛ بخلاف الرمي. ولو قصد بالرمي قتل واحد من عشرة لا بعينه، قال الماوردي: فلا قود، ويجب [فيه] عمد الخطأ؛ لأنهم عمدوا الفعل، وأخطئوا في تعيين النفس. وقد روى الدارقطني في "سننه"، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس – رضي الله عنهم – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قُتَلَ فِي عِمِّيَّا رِميا بِحَجَرٍ، أَوْ ضَرْباً بِعَصاً فَعَلَيْهِ عَقْلُ الْخَطَأِ، وَمَنْ قُتَلَ اعْتِبَاطاً فَهُوَ قَوَدٌ، لا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَاتِلِهِ؛ فَمَنْ حَالَ بَيْنَهُمَا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ، وَالْمَلائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفاً وَلاَ عَدْلاً" قال الماوردي: والعِمِّيَّا: ان يرمي [إلى] جماعة؛ فيصيب أحدهم لا بعينه. والاعتباط: أن يرمي أحدهم بعينه. ولأن قصد عين الشخص معتبر في العمدية؛ ألا تراه لو قال: اقتل أحد هؤلاء، وألا قتلتك؛ فقتل أحدهم –لايجب القصاص على المكره؛ لأنه لم يقصد عين أحدهم؟! وقد وافق على انتفاء القصاص القاضي الحين، مع تيقن مصير بعضهم مقتولاً؛ بأن كانوا في حصن أو نحوه، وقاسه على ما لو رمى سهماً إلى جماعة، ولم يقصد واحداً منهم بعينه؛ فأصاب واحداً. ثم قال: ويحتمل وجهاً آخر: أنه يجب؛ كما لو رمى إلى جماعة من الظباء سهماً؛ فأصاب واحداً – يحل؛ كذا هذا مثله. وهذا الاحتمال قد حكينا مثله وجهاً في مسألة الرمي عن رواية المتولي وغيره

من قبل، وأجراه المتولي فيما إذا قال: اقتل أحد هذين الرجلين، وإلا قتلتنك – أنه يكون مكرهاً، حتى لا يجب القصاص على القاتل على أحد القولين. وفرق صاحب "التهذيب" بين الرمي إلى الصيد وما نحن فيه: بأن حقيقة القصد إلى الشخص شرط في القصاص؛ بدليل ما لو رمى إلى شخص؛ فنفذ منه إلى آخر- لا يجب [القصاص بسبب الثاني، وليس ذلك شرطاً في حل الصيد؛ ألا ترى أنه لو رمى صيداً؛ فنفذ منه إلى آخر] حل الثاني على الأصح؟! وادعى الإمام أن محل إطلاق الأصحاب القول بانتفاء القصاص إذا لم تتحقق إصابة الحجر للجميع، وعليه يدل كلام القاضي؛ حيث شبه ذلك برمي السهم، وقال فيما إذا كان القوم محصورين في موضع، وكان الحاذف على علم بأنه إذا سدد الحجر عليهم أتى على جميعهم، وحقق قصده؛ وأتى عليهم -: فالذي أراه وجوب القصاص، وهذا كما لو قال المكُرِه: اقتل هؤلاء؛ فقتلهم –يجب القصاص على المكره، ولا أثر للاختيار في التقديم والتأخير. وقد أطلق في "الوسيط"أنا إذا لم نوجب القصاص في هذه الصورة [المذكورة]، يكون ما جرى طأ، ومقتضاه وجوب دية الخطأ، وهو ما دل عليه ظاهر الخبر، ويعضده ما سنذكره عن الإمام في أول كتاب الديات: أن من لا يتصور منه العمد المحض لا يتصور منه عمد الخطأ، لكن المنقول في "التهذيب" وغيره ما ذكرناه عن "الحاوي". تنبيه: [المنجنيق] هي مؤنثة، فارسية معرَّبة، والميم مفتوحة عند الأكثرين. قال الجواليقي: مفتوحة ومكسورة. قال الجوهري: وأصلها [بالفارسية "من جي نيك"، أي: ما أجودني]! وقال الفراء: تقديرها: منفعيل؛ لقولهم: [كنا نجنق مرة، ونرشق أخرى،] والجمع: منجنيقات. قال: وقال سيبويه: هي ["فنعليل"]؛ فالميم أصلية؛ لقولهم في الجمع: مجانيقن وفي التصغير: مُجَيْنيق]. هذا كلام الجوهري. وقال الجواليقي: قيل: الميم زائدة، وقيل: أصلية، وقيل: الميم والنون في أوله

زائدتان، وقيل: أصليتان، وقيل: الميم اصل والنون زائدة. قال: وحكى الفراء: "منجنوق" بالواو، وحكى غيره: "منجليق" باللام. قال: وإن وقع رجل في بئر، أي: لا يهلك مثلها؛ فجذب ثانياً، والثاني ثالثاً، والثالث رابعاً، وماتوا، أي: بوقوع بعضهم فوق بعض – وجب للأول ثلث الدية على الثاني، والثلث على الثالث، ويهدر الثلث؛ لأنه هلك بثلاثة أسباب: بفعله وهو جذب الثاني، وبفعل الثاني: وهو جذب الثالث، وبفعل الثالث: وهو جذب الرابع؛ فقسطت الدية على الأسباب الثلاثة، وسقط ما يخص فعله فكان الأمر كما ذكره الشيخ. وقيل: لا شيء له؛ لأنه باشر قتل [نفسه] بجذبه الثاني وما تولد من جذبه. قال: ويجب للثاني ثلث الدية على الأول، والثلث على الثالث، ويهدر الثلث؛ لأنه هلك بثلاثة أسباب: لجذب الأول له، وبجذبه هو للثالث، وبجذب الثالث للرابع؛ فقسطت الدية على الأسباب الثلاثة، وسقط ما يخص فعله. وقيل: تهدر نصف ديته؛ بجذبه الثالث وما حدث من جذبه، ويجب نصفها على الأول بجذبه. وقيل: يجب له الثلث؛ لأنه مات بجذب الأول، ووقوع الثالث والرابع عليه، ووقوعهما عليه من نتيجة فعله؛ فلم يتعلق بهما ضمان؛ فوجب الثلث على الأول، وقد استدل له بما سنذكره عن عليِّ، كرم الله وجهه. قال: ويجب للثالث نصف الدية على الثاني، ويهدر النصف؛ لأنه هلك بسببين: جذب الثاني له، وبجذبه الرابع؛ فقسطت الدية عليهما، وسقط ما يخص فعله، وهذا هو الأصح في "الرافعي". قال: وقيل: يسقط ثلث الدية، ويجب الثلثان، أي: على الأول والثاني؛ لأنه مات بثلاثة أسباب: جذب الأول للثاني، وجذب الثاني له، وجذبه الرابع؛ فقسطت الدية عليها، وسقط [ما يخص فعله]. قلت: ولو قيل: يجب على الأول والثاني نصف الدية، لم يبعد؛ لأنه

صار مجذوباً بالقوتين جميعاً. قال: ويجب للرابع الدية على الثالث؛ لأنه هلك بجذبه له، وهذا هو الأصح. قال: وقيل: يجب على الثلاثة- أي الأوَل – أثلاثاً؛ لأن وقوعه مضاف إلى الجذبات الثلاث. والدية في هذه الأحوال تجب على العاقلة؛ كما ذكرناه. أما إذا كان البئر مهلكاً؛ فالأول هلك بصدمته، وبالوقوع عليه، فإن كان في محل عدوان فهل يكون سبباً في الضمان، أم لا؟ فيه وجهان؛ فإن قلنا: لا، وهو ما يحكي عن الخضري؛ لأن الحفر سبب، والذي وجد وهو الجذب مباشرة؛ فقدمت على السبب – فالحكم فيه كما تقدم؛ فيكون – على الصحيح – يجب له ثلثا الدية. وعلى وجه: لا يجب له شيء؛ لأنه باشر قتل [نفسه] بجذب الثاني وما تولد منه. وإن قلنا: نعم – وهو [الصحيح] – فالهلاك حصل بأربعة أسباب: صدمة البئر، وفعل الثلاثة؛ فيسقط ربع الدية، ويجب ربعها على حافر البئر، أو يسقط أيضاً إن كان الحفر غير عدوان، أو حافره حربيًّا، ويجب ربع على الثاني، وربع على الثالث. وحكى المتولي أنه يجب له ربع الدية على حافر البئر إن كان عدواناً لا غير، وإن لم يكن عدواناً، فلا شيء له؛ لأن الأول مات بالوقوع في البئر، وبوقوع الثلاثة فوقه ووقوعهم نتيجة فعله؛ فلم يتعلق به ضمان، وقد استدل له بما روي: أن ناساً باليمن حفروا زُبية للأسد؛ فوقع الأسد فيها؛ فازدحم الناس عليها؛ فتردى فيها واحد؛ فتعلق بواحد؛ فجذبه؛ وجذب الثاني ثالثاً، والثالث رابعاً؛ فقتلهم الأسد؛ فرفع ذلك إلى عليّ – كرم الله وجهه – فقال: "للأول ربع [الدية، وللثاني] الثلث، وللثالث النصف، وللرابع الجميع؛ فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هو كما قال".

وحكى الإمام والقاضي الحسين وجهاً: أن الواجب على حافر البئر نصف الدية، ويهدر النصف؛ لأن هلاكه حصل بصدمة البئر، وبثقل الثاني [والثالث] والرابع، وثِقَلُهم حصل بجذبه؛ فأحيل الهلاك عليه وعلى حافر البئر، فعلى هذا: لو كان الحفر غير عدوان، لمي جب شيء، وبهذا يحصل في المسألة خمسة أوجه. [قلت:] ويمكن أن يقال بوجه سادس، مركب من أصلين: أحدهما: إلغاء صدمة البئر، أو تفرض [المسألة فيما إذا لم يكن البئر مهلكاً]؟ والثاني: إيجاب دية الرابع على الأول والثاني والثالث أثلاثاً، ودية الثالث: على الأول ثلثها، وعلى الثاني ثلثها، ويهدر الثلث؛ فيقال: يجب له على الثاني سدس الدية وتسعها، وعلى الثالث تسع الدية، ويهدر الباقي؛ لأن إهلاكه حصل بوقوع الثاني والثالث والرابع عليه؛ فتسقط ديته على جذب الثلاثة؛ فينوب كل واحد ثلثها. ووقوع الثاني حصل من فعله؛ [فسقط]، ووقوع الثالث حصل من جذبه وجذب الثاني؛ فيسقط ما يخصه عليهما؛ فيسقط نصفه وهو السدس، ويجب السدس. ووقوع الرابع [حصل] من جذبه وجذب الثاني [وجذب الثالث] فيُقسَّط ما يخصه عليهم؛ فيسقط ثلثه وهو التسع، ويجب على كل [واحد] من الثاني والثالث [تسع، ولم أرَ ذلك، والله أعلم. وأما الحكم في الثاني والثالث] والرابع فيما إذا كان البئر مهلكاً في محل عدوان، فكما لو لم يكن ذلك؛ لأنه لا أثر للحفر في حقهم. ولو وقعوا متفرقين؛ لسعة البئر، فدية كل مجذوب على جاذبه؛ لأن جذبه عمد. قال الإمام: ولو كان الجاذب حيًّا لتكلمنا في القصاص عليه.

ودية الأول على عاقلة حافر البئر إن كان متعدياً بحفره، وإلا فلا. ولو وقع الثاني على الأول، والثالث على الثاني، والرابع على الثالث من غير جذب – فالكلام في ذلك يحتاج إلى تقيم أصل، وهو ما إذا وقع واد، ثم آخر عليه؛ فإن مات الأول فالثاني ضامن له؛ كما لو تعثر بحجر، وما الذي يلزمه؟ ينظر: إن تعمد إلقاء نفسه عليه، ومثله يقتل غالباً لضخامته، وعمق البئر – فالقود. وإن لم يقتل غالباً فدية عمد الخطأ. وإن لم يتعمد فدية الخطأ. وقد أطلق بعضهم وجوبها كاملة على الثاني. وبعضهم قال في هذه الصورة: يجب على الثاني نصف الدية؛ لأن الهلاك حصل به وبصدمة البئر. ثم إن كان الحفر عدواناً وجب النصف الآخر على الحافر، وإلا فهو هدر، وهذا أصح عند المتولي وغيره. نعم، لو نزل الأول البئر من غير أن يصدمه، ثم وقع عليه الثاني – تعلق به كل الدية. قلت: وساق ما قاله هذا القائل: ألا يجب القصاص في الصورة السابقة، كما لا تجب كل الدية؛ لأن البئر لا يوجب إلا المال؛ فيكون كعمد الخطأ أو الخطأ، وقد حصل الهلاك به، وبالعمد، ويتعين محل وجوب القصاص في الصورة الثاني، وبها صوَّر ابن الصباغ. وأمَّا دية الثاني فهدر إن تعمد إلقاء نفسه، أو لم يكن الحفر عدواناً، وإلا تعلق الضمان بحافر البئر. وقد أبدى الإمام تردداً فيما إذا كان البئر في محل عدوان، وسقط الأول ثم الثاني عليه – في أن الثاني هل يطالب بشيء، ثم يرجع به على حافر البئر؛ لأنه السبب، أم لا يطالب؟ وقربه بعضهم من المكره على إتلاف المال هل يكون طريقاً للضمان، مع أن القرار على المكره؟ وفيه وجهان.

ولو تردى في البئر ثلاثة، واحد بعد واحد؛ فمن قال في الصورتين السابقتين: إن دية الأول على الثاني، قال هاهنا: تكون على الثاني والثالث. ومن قال في الصورة الأولى: يكون على الثاني النصف، قال هنا: [يكون] على الثاني والثالث الثلثان والثلث الآخر على الحافر إن كان الحفر عدواناً، وإلا سقط. وأما الثاني، فقد ذكر الشيخ أبو حامد أن ديته على الثالث؛ لأنه تلف بوقوعه عليه. وذكر القاضي أبو الطيب [أن] الواجب عليه النصف، والنصف هدر؛ لأنه تلف بوقوعه على الأول، وبوقوع الثالث عليه. قال ابن الصباغ: وهذا أقيس؛ لأن وقوعه على غيره سبب في تلفه كوقوع غيره عليه. قال: وإن تجارح رجلان –أي: خطأ، [أو عمد خطأ] وماتا – أي: بالسراية –وجب على كل واحد منهما دية الآخر، أي: وتتحملها عاقلته؛ لأنه قاتله. أما إذا كانت عمداً فدم كل واحد منهما هدر، قاله القاضي الحسين، واستدل له بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا تَقَاتَل الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقُتُولُ فِي النَّارِ"، وهذا ظاهر إذا لم يكن الجرح مما يجري فيه القصاص، وكذا إن كان ما يجري فيه، [لكن جُرح الثاني لم يكن في موضع جرح الأول، فإن كان فيه] فيظهر أن يقال: إنا ننظر إلى انه هل كان قتل الجارح أولاً، أو بعده، ويتخرج على الخلاف السابق في موضعه. قال: فإن ادعى كل واحد منهما أنه جرح للدفع، لم يقبل؛ لأن الأصل عدم التعدي من الآخر، وصيانة دمه؛ فإذا حلفا، قال الماوردي: وجب على كل [واحد] منهما القود: أي: إن كان الجرح يوجبه، ثم إن سرى الجرح إلى النفس، قال في "ابن يونس": وجب على كل واحد دية الآخر. ولو أقام أحدهما بينة بأن الآخر دخل عليه بسيف مسلول أو قوس موتور، قال

الماوردي في باب صول الفحل: نظر في البينة: فإن أكملت الشهادة بأن قالت: أراده بذلك، سقط عنه القود [، وإن لم تقل ذلك فقد ذكر الشيخ أبو حامد أنه يقبل منه هذه الدعوى، ويسقط عنه القود] والدية؛ لأن ظاهر الحال يشهد بصدقه. وعندي: أن هذه الشهادة توجب سقوط القود؛ لأنها شبهة فيه، ولا توجب سقوط الدية؛ لأنها شبهة فيه، ولا توجب سقوط الدية؛ لاحتمال دخوله على هذه الحالة هارباً من طالب. والذي قاله الجمهور قول الشيخ أبي حامد. ولو شهدت البينة أنه دخل عيه بسيف غير مشهور، لم يسقط بها قود ولا دية. ولو وقع الاختلاف بين الوليين بعد موتهما. قال القاضي الحسين: تحالف الوليان، وعلى كل واحد منهما إذا حلف الدية، ويتقاصان، ولا يفيد اليمين سوى أنه ربما ينكل أحدهما؛ فيستحق الثاني دعواه إن حلف عليها. وهذا ما حكاه الإمام عن الأصحاب، لكن أسقط من اللفظ وجوب الدية والتقاص، قال: وقد يظهر أثر ذلك فيما لو اختلفت ديتهما، أو كان أحدهما حرًّا، والآخر عبداً؛ فإن التقاص – كما ذكرناه عن القاضي أبي الطيب فيما تقدم – لا يجري في مثل هذا إلا بالتراضي. ثم قال الإمام: لو التقى رجلان بسيفين، وكل واحد منهما قاصد للآخر، وغلب على ظن كل منهما أنه لا يندفع عنه إلا بوضع السيف فيه – فيجوز وضعه، ثم يخرج من ذلك: أنه لا ضمان أصلاً، ويصير كل واحد منهما وقد التبس الأمر عليه في حق صاحبه؛ كبهيمة صائلة. ثم إذا قلنا بذلك فيتجه أن يكون دم [كل واحد منهما هدراً]. ثم قال: هذا ما أراهن وغالب ظني أني وجدت لبعض الأصحاب نصًّا في هذه المسألة، وسأحرص على طلبه وإلحاقه، على أن الكلام عندي في هذا على وجه لا يجوز تقدير الخلاف فيه، ولو فرض خلاف ذلك فهو هفوة من قائله، والله أعلم.

باب الديات

[باب الديات] "الديات" جمع: دية. وهي اسم للمال الواجب بالجناية على الحر في نفس أو طرف. ومصدر، وأصلها: ودية، مشتقة من "الودي"، وهو دفع الدية؛ كـ"العِدَة" من "الوعد"، و"الزنة" من "الوزن"، و"الشية" من "الوشي"، ونظائرها، تقول: وديت القتيل أديه ودياً، ودية: أعطيت ديته، واتديت: أخذت الدية، وتقول في الأمر: دِ فلاناً، وللاثنين: دِيَا، وللجمع: دُوا فلاناً. قال - رحمه الله تعالى -: ودية الحر المسلم: مائة من الإبل؛ لما روى النسائي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن الديات، وقرئ على أهل اليمن: "أَنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ"، وقد ادعى ابن يونس الإجماع على ذلك. قال: فإن كان القتل عمداً، أي: يجب به القصاص أو لا، أو شبه عمد - وجبت أثلاثاً؛ أي: ثلاثة أقسام: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها. ووجهه في الأولى: ما روى محمد بن راشد، عن سليمان، عن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّداً دُفِعَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ، فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوهُ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ، وَهِيَ ثَلاَثُونَ

حِقَّةً، وَثَلاَثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً" كذا أورده الماوردي، وخرجه الترمذي وقال: إنه حسن غريب. وروي عن عبادة: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي الدِّيَةِ العُظْمَى بِثَلاَثِينَ حِقَّةً، وَثَلاَثِينَ جَزْعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً حَوَامِلَ"، كذا أورده القاضي أبو الطيب. ووجهه في الثانية ما روى الدارقطني [في "سننه"]، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ، مِثْلُ الْعَمْدِ وَلاَ يُقْتَلُ صَاحِبُهُ". وقد امتنع بعضهم من الاستدلال بما ذكرناه من الأحاديث؛ لما في [رواية] عمرو بن شعيب من المقال، واستدل على إيجاب الخلفات في قتل شبه العمد بما روى الشافعي بسنده، عن ابن عمر – رضي الله عنهم – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَلا إِنَّ فِي قَتِيلِ الْعَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنَ الإِبِلِ مُغَلَّظَةً؛ مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا". وعلى إيجاب الجذاع والحقاق؛ بأمرين: أحدهما: قول عمر، وعثمان، وعليِّ، وزيد، وابن عباس، والمغيرة – رضي الله عنهم – بذلك. والثاني: أن الإجماع منعقد على أنه لا يجب سن واحد، ولا سنان، ولما نص على الخلفات – لتغليظها – علم أن الباقي دونها؛ فجعلناه من سنين متواليين.

وعلى إيجاب ذلك في قتل العمد؛ بالقياس على عمد الخطأ. وحكى عن أبي ثور [أن] الدية في هذين الحالين تجب مخمسة كالخطأ. والخلفة – بفتح الخاء المعجمة، وكسر اللام -: هي الحامل، وقيل: هي الحامل من ابتداء إلقاحها إلى عشرة أشهر، ثم هي عشراء؛ كذا حكاه البندنيجي عن أبي عبيد، وحينئذ يكون قوله: "في بطونها اولاها" تاكيداًوبياناً، قال القاضي أبو الطب: كما تقول العرب: بنت مخاض أنثى، وابن لبون ذكر. قال جمهور أهل اللغة: وليس لها جمع من لفظها، بل جمعها: ماخض؛ كما يقال: امرأة، ونساء. [و] قال الجوهري: خَلفِ؛ بفتح الخاء، وكسر اللام. ثم هل يشترط في إجزاء الخَلفِة أن تكون ثنية فصاعداً، أم الإجزاء منوط بكونها حاملاً كيف كانت من ثنيّة فما دونها؟ فيه قولان: وقد استدل للأول، وهو الصحيح في "تعليق" القاضي الحسين، والمشهور؛ كما قال البندنيجي، وأن المزني نقله – برواية الشافعي، رحمه الله. و [استدل] للثاني- وهو ظاهر قوله في "الأم" – برواية عقبة بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلاَدُهَا، مَابَينَ الثَّنِيّةِ إِلَى بَازِلِ عَامٍ". و"بازل عام" – كما قال القاضي أبو الطيب -: هي التي تسع سنين، ودخلت في العاشرة. قال: وإن كان خطأ، وجبت أخماساً: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. أما وجه اعتبار التخميس فيها – وهو ما صار إليه جمهور الصحابة، رضي الله عنهم – فما روي عن ابن مسعود- رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دِيَّةُ الخَطَأِ أَخْمَاسٌ".

وأما وجه اعتبار الأسنان المذكورة فيه فما روى عن ابن مسعود أيضاً أنه قال: "دية الخطأ أخماس: عشرون جذعة، وعشرون حقة، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون ذكر، وعشرون بنت مخاض"، وهو وإن كان موقوفاً عليه فقد روى عنه إسماعيل بن عياش، عن الحجاج بن أرطاة، عن زيد بن جبير، عن جنيف بن مالك، عن ابن مسعود أن النبي – صلى الله عيه وسلم-: "قَضَى فِي دِيَةِ الْخَطَأِ أَخْمَاساً: خُمساً جِذَاعاً، وَخُمساً حِقَاقاً، وَخُمساً بَنَاتِ لَبُونٍ [وَخُمساً بَنَاتِ مَخَاضٍ، وَخُمساً بَنِي لَبُونٍ ذُكُورٍ] ذكر". ثم يؤيده ما حكاه الشافعي – رحمه الله – عن سليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون: دية الخطأ مائة من الإبل. وذكر ما ذكرناه، وسليمان تابعي، وإشارته إلى من تقدمه محمول على الصحابة – رضي الله عنهم – قال الماوردي: فصار ذلك إجماعاً نقله عنهم. قال: وإن قتل في الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، أو في الحرم، أي: حرم مكة، [شرفه الله تعالى]، أو قتل ذا رحم محرم – وجبت الدية مغلظة، خطأ كان أو عمداً، ووجهه: ما روى عن الصحابة- رضي الله عنهم – أنهم غلظوا في هذه المواضع الثلاث، وإن اختلفوا في كيفية التغليظ: روي عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، أَوْ قَتَلَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، أَوْ قَتَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ – فَعَلَيهِ دِيةٌ وَثُلُثٌ". وروي أن "عثمان قضى في امرأة وطئت في الطواف بديتها ستة آلاف درهم، وألفين؛ تغليظاً للحرم".

وعن ابن عباس أن رجلاً قتل رجلاً في الشهر الحرام، في البلد الحرام؛ فقال: "دِيَتُهُ اثنا عشر أَلْفَ درهمٍ، وللشهر الحرام أربعة آلاف، وللبلد الحرام أربعة آلاف". قال القاضي أبو الطيب: والاستدلال من هذه الأخبار بوجهين: أحدهما: أن هذا كان بمحضر من الصحابة عند اجتماع الناس بالموسم، ولم ينكره منكر، ولا رده راد؛ فدل على أنه إجماع منهم. والثاني: أن هذا لا يدرك [اجتهاداً أو قياساً، وإنما يدرك] بالتوقيف؛ فدل على أنهم لم يفعلوه إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً: فإن قتل شبه العمد يوجب التغليظ، وذلك لأجل ما اقترن بالقتل الخطأ [من عمد الضرب وقصده، وإذا كان ذلك سبباً للتغليظ، فاقتران هذه الأسباب بالقتل الخطأ] أولى بالتغليظ؛ لأن لكل واحد منهما تأثيراً في حقن الدم، وحفظ حرمته، نطق بذلك الشرع. أما الأشهر الحرم؛ فلقوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]، وقال –عز من قائل-: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة:217]. وأما الحرم؛ فقد قال – صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَعْتَى النَّاسِ مَنْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ"، فجعل القاتل [فيه] أعتي الناس. وأما الرحم فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم: "نهى أبا حذيفة أن يقتل أباه، وقال: دعه يقتله غيرك"، "ونهى أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – أن يخرج إلى أبيه في القتال". وهذا يدل على تغليظ قتل ذي الرحم المحرم.

ولا يثبت لحرم المدينة هذا الحكم، على أصح الوجهين، قال القاضي أبو الطيب وغيره: بناء على قول الشافعي – رضي الله عنه – في الجديد: إنها ليست بحرم. ويثبت؛ بناء على قوله في القديم: إنها حرم، ومن قتل منها صيداً يسلب ما عليه من الثياب. قال الرافعي: ومنهم من حكى التردد إذا قلنا بهذا القول. وهل يثبت هذا الحكم في قتل المحرم الحلال؟ فيه وجهان: وجه الثبوت – وهو المحكي عن أبي الفياض البصري، وابن أبي هريرة -: أن الإحرام لما أوجب ضمان الصيد كما أوجبه الحرم، كذلك يوجب التغليظ كما أوجبه. وأصحهما: المنع. والفرق: أن حرمة المكان لازمة، بخلاف حرمة الإحرام. وحكى القاضي الحسين الوجهين، فيما إذا قتل حلال محرماً. وقتل ذي الرحم إذا لم يكن محرماً هل تتغلظ فيه الدية؟ فيه وجهان: اختيار الشيخ أبي محمد والقاضي الروياني: أنها تتغلظ؛ لما فيه من قطيعة الرحم [وتأكيد الحرمة، وعلى هذا يدل ظاهر النص؛ فإنه قال: وذي الرحم]. والأكثرون على المنع؛ كما لا تتغلظ بحرمة الرضاع والمصاهرة، وادعى القاضي الحسين إجماع الأصحاب على أن المحرمية شرط. واعلم أن التغليظ في الدية يكون من ثلاثة أوجه: التخصيص بالجاني، وكونها حالة، وكونها مثلثة، وذلك يختص بجناية العمد. وتخفيفها يكون من ثلاثة أوجه: كونها على العاقلة، وتأجيلها، وتخميسها، وذلك يختص بجناية الخطأ. وتخفيفها من وجهين: وهو كونها مؤجلة على العاقلة [على الأصح – كما سنذكره من بعد] وتغليظها من وجه، وهو كونها مثلثة، ويختص ذلك بجناية عمد الخطأ وبالقتل خطأ في الأشهر الحرم، أو في الحَرَم، أو ذا رحم [محرم]، كما ذكرناه، وقد صرح بذلك البندنيجي. وبذلك يظهر لك مراد الشيخ بقوله: وجبت مغلظة، عمداً كان أو خطأ.

ثم ما ذكره من جريان التغليظ يجري في دية من عداه. قال: وفي عمد الصبي والمجنون [- أي اللذين لهما تمييز -] قولان: أحدهما: أنه عمد؛ لأنهما قد ميزا مضارهما من منافعهما؛ فوجب أن يصح منها العمد كالبالغ العاقل، ولأنه يجوز تأديبهما على القتل؛ فكان عمدهما عمداً؛ كالمكلف، وهذا هو الأصح في "الرافعي"، واختاره [القاضي] أبو الطيب. قال: فتجب فيه دية مغلظة – أي: بالأنواع الثلاثة – كما تجب كذلك في مال المكلف [إذا تعمد القتل]. قال: والثاني: أنه خطأ؛ لما روي عن علي – كرم الله وجهه – أنه قال: "عَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأُ"، ولقوله – عليه الصلاة والسلام-: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ ... " الخبر المشهور. قال القاضي أبو الطيب: وفيه دليلان: أحدهما: أنه أخبر أن القلم رفع عنهما، ومن رفع عنه القلم لا يصح عمده. والثاني: أنه قرنهما بالنائم، وقد ثبت أن النائم لو انقلب على صبي؛ فقتله – لم يجب عليه القصاص؛ لأن عمده لا يصح؛ كذلك الصبي والمجنون. والقائل بالأول أجاب عن أثر عليّ بأنه لم يصح، وعن الخبر بوجهين: أحدهما: أنا كذا نقول: إن القلم رفع عنه فيما يتعلق بعبادة الأبدان؛ ولهذا لا نوجب القصاص عليه. والثاني: أن الاستدلال بالقرين لا يجوز؛ لأن اللفظ قد يتفق ويختلف المعنى، يدل عليه قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، وإيتاء الحق واجب، والأكل ليس بواجب. وكذا قول صفوان بن عسال: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَلاَّ نَنْزِعَ خِفَافَنَا إِذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ، أضوْ سَفَراً ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، ِإلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ، َلكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَولٍ وَنَومٍ قرن بين الغائط والبول والنوم، وإن كان النوم لا ينقض الوضوء على جميع الصفات، [والغائط والبول

ينقضان الوضوء على جميع الصفات]. قال الماوردي: ولو جعل عمد الصبي عمداً، وعمد المجنون خطأ، لكان الفرق بينهما أشبه؛ لأن العبادات تصح من الصبي، ولا تصح من المجنون، لكن القولين في الجميع بينهما مطلقاً؛ فأطلقناه مع الفرق الذي أراه. [ثم] على القول الثاني لا يكون لهما [عمد] خطأ، قال الإمام - عند اصطدام الصبيين -: لأن شبه العمد إنما يتصور فيمن يتصور منه العمد المحض؛ فعلى هذا تجب الدية مخففة من كل وجه إذا لم تقع في الأشهر الحُرُم، [أو في الحَرَم]، [أو] في رحم محرم. أما إذا وجد مع واحد مما ذكرناه، فلم أر فيه نقلاً، ويجوز أن يقال [بتغليظها بالتثليث؛ أخذاً من قول الشيخ: عمداً كان أو خطأ، ويجوز أن يقال] بعدمه؛ لأن التثليث وجب في قتل الخطأ عند وقوعه في الأشهر الحُرُم وما في معناها؛ [إلحاقاً لذلك بعمد الخطأ]، وقد ذكرنا أنه لا عمد خطأ للصبي والمجنون، وإذا امتنع في حقهما المشبه به، فالمشبه أولى. أما إذا لم يكن لهما تمييز، فقد قال القاضي الحسين في "التعليق"، والإمام، وغيرهما: إنه لا عمد لهما قولاً واحداً. وفي "الحاوي"، في آخر كتاب الديات: أنا على القول الأول نسوي بين الصبي والمجنون، سواء كان مميزاً أو غير مميز، وهل يتعلق بقتل من لا تمييز له منهما ضمان؛ وكذا إذا أتلفا مالاً هل يتعلق [الضمان بمالهما]؟ فيه وجهان خرجهما الشيخ أبو محمد من الخلاف الذي ذكرناه فيما إذا أمر السيد عبده الذي لا تمييز له بقتل شخص، هل يتعلق الضمان برقبته، أم لا؟ وجه المنع: أنه شبيه بإتلاف البهيمة العادية. والذي يقتضيه إيراد الجمهور: إيجابه؛ لأنهم ادعوا أنه خطأ، وادعى المتولي أنه خطأ بلا خلاف.

قال: وإن كان للقاتل أو للعاقلة إبل، وجبت الدية منها. يعني: إذا كان للقاتل إبل حيث تجب الدية عليه؛ بأن كان القتل عمداً، أو خطأ ثبت بإقراره – كما ذكر الماوردي، والبندنيجي، وابن الصباغ – أو للعاقلة إبل حيث تتحمل الدية؛ [بأن كنا الفعل خطأ، وقد ثبت بالبينة أو بإقرار العاقلة – وجبت الدية] من نوعها؛ كما تجب الزكاة من النوع الذي يملكه من تجب عليه الزكاة. ولا فرق في ذلك بين أن تكون إبل البلد مثلها أو دونها أو فوقها. وحكى الإمام وجهاً عن محققي المراوزة – ورجحه -: أن الاعتبار بغالب إبل البلد؛ لأن الدية عوض متلف، واعتباره بملك من عليه بعيد. فعلى هذا: إن كانت إبل البلد نوعين فأكثر، ولا غالب فيها – فالخيرة إلى المعطي. وعلى الأول –وهو الذي نص عليه في "المختصر" في مسألة العاقلة-: لو كانت إبل الجاني مختلفة الأنواع؛ فأخرج من كل نوع بحصته – جاز، وهذا ما أوجبه ابن الصباغ عليه. والماوردي قال: إذا أراد أن يعطي من أحد الأنواع، فإن أخرج من الأعلى جاز، [وإن كان أرذلها، وإن لم يكن فيها غالب، فإن أخرج من الأعلى جاز]، وإن أخرج من الأدنى لم يجز، إلا أن يرضى به [الولي، وهذا بخلاف الزكاة؛ حيث لا يجوز له إخراج نوع دون ما وجب عليه، وإن رضي به] الفقراء؛ لما في ذلك من إبطال حق الله تعالى. ولو كانت إبل العاقلة مختلفة، نظر: فإن كان لكل منهم نوع واحد؛ فيؤخذ من كل واحد منهم من النوع الذي يملكه. وإن كان لكل منهم انواع، فحكمه حكم القاتل، إلا في عدم إجزاء الأدنى؛ فإنه يجوز هاهنا. قال الماوردي: لأنها تؤخذ من العاقلة؛ مواساة، ومن الجاني استحقاقاً. وحكى الرافعي وصاحب "الحلية" فيما يجب على الواحد عند اختلاف الأنواع عنده – وجهين: أحدهما: غالب إبله؛ فإن استووا يُخَيَّر. والثاني: يجب من كل نوع بقسطه؛ فإن أخرج الجميع من نوع واحد، وكان أجودها – جاز، وهذا ما حكاه الأصحاب، وعليه إشكال سأذكره في آخر باب

العاقلة، إن شاء الله تعالى. قال: وإن لم يكن لهما إبل وجبت من غالب إبل البلد، فإن لم يكن فمن غالب إبل أقرب البلاد إليهم؛ كما قلنا بذلك في زكاة الفطر، وهذا في حكم أهل البلدان. فإن كانوا من أهل القبائل اعتبر غالب إبل القبيلة؛ فإن لم يكن فمن غالب إبل أقرب القبائل إليهم. قال: ولا يؤخذ فيها معيب ولا مريض؛ لأنها بدل متلف؛ فكان من شرطه الصحة والسلامة من العيب؛ قياساً على سائر أبدال المتلفات. ولا فرق في ذلك بين أن تكون إبل القاتل والعاقلة صحاحاً أو مراضاً، سليمات أو معيبات، بخلاف الزكاة؛ بخلاف الزكاة؛ حيث تؤخذ المراض من المراض، ومن المعبات معيبة؛ لأن الزكاة استحقاق جزء من عين المال؛ فكانت معتبرة بصفة المال، والدية تجب في الذمة؛ فكان من شرطها الصحة والسلامة. وأيضاً: فإنا لو أوجبنا في الزكاة صحيحة من مراض لأدى إلى أن يأتي على أكثر من ربع العشر، والشرع إنما أوجبه، وليس كذلك الدية؛ فإنه يجب الجزء اليسير منها، ولا يؤدي إلى الإجحاف؛ لأن الموسر تجب عليه في ثلاث سنين دينار ونصف – على رأي – ونصف دينار على آخر، وإذا تقرر ذلك وجب على القاتل أو العاقلة في هذه الحالة: الإخراج من نوع إبلهما، سواء كانت إبل البلد أو القبيلة أعلى منها أو دونها أو مساوية لها. قال: فإن تراضيا على أخذ العوض عن الإبل، جاز؛ لأنها حق مستقر في الذمة؛ فجاز أخذ البدل عنه؛ كسائر أبدال المتلفات. قال صاحب "البيان": هكذا أطلقوه، وليكن ذلك مبنيًّا على أنه يجوز الصلح عن إبل الدية. وهذا منه إشارة إلى حالة الجهل بالصفات، ومعرفة القدر، والسن؛ إذ ذلك محل الخلاف في جواز الصلح عيها والاعتياض؛ كما صرح به القاضي الحسين في باب عفو المجني عليه ثم يموت. أما إذا كانت معلومة القدر والسن والصفات فلا نزاع في جواز الصلح عليها،

وقد صرح به في "الوسيط" في كتاب الصلح. قال: وإن أعوزت الإبل وجبت قيمتها بالغة ما بلغت في أصح القولين؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يُقَوِّمُ الإِبِلَ عَلَى أَهْلِ القُرَى؛ فَإِذَا غَلَتْ رَفَعَ فِي قِيمَتِهَا، وَإِذَا هَانَتْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا". وروي عنه – أيضاً – قال: "كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِمَائَةَ دِينَارٍ، حَتَّى اسْتُخْلِفَ عُمَرُ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – فَغَلَتِ الإِبِلُ، فَصَعَدَ الْمِنْبَرَ خَطِيباً؛ فَقَالَ: "أَلاَ إِنَّ الإِبِلَ قَدْ غَلَتْ"؛ فَقَضَى عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الوَرِقِ بِاثْنَى عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ". وفيه دليلان: أحدهما: أنه أخبر أن عمر – رضي الله عنه – زاد في قيمتها لما غلت؛ فدل على أنه ينتقل إلى قيمتها إذا أعوزت، وأن الذهب والفضة بدلان من الإبل، وليسا بأصلين. والثاني: أن قوله: "كانت قيمة الدية كذا"، يدل على أن الواجب هي الإبل أصلاً؛ ولأن الإبل بدل متلف لا يجوز العدول عنه إلى غيره مع وجوده؛ فوجب الرجوع إلى قيمته عند إعوازه، أصله: إذا أتلف ما لَه مِثْلٌ، وهذا ما اختاره المزني، وهو الجديد. فعلى هذا: تقوم بغالب نقد البلد، وتراعى صفتها في التغليظ إن كانت مغلظة. قال الإمام والقاضي [الحسين]: فإن غلب النقدان في البلد يخير الجاني، وتقوم الإبل التي لو كانت موجودة لوجب تسليمها، فلو وجبت في بلد، والإبل موجودة في بلد – يجب النقل من مثلها، كما سنذكره؛ فهل الاعتبار بقيمة مواضع الوجود، أو بلد الإعواز لو كانت الإبل موجودة فيها؟ فيه وجهان في "التهذيب"، والأشبه: الثاني.

والاعتبار في الوقت بيوم وجوب الدفع إن كانت مفقودة إذ ذاك، وإن وجب وهي موجودة، فلم يتفق الأداء حتى أعوزت – تجب قيمة يوم الإعواز؛ لأن الحق يومئذ تحول إلى القيمة، كذا قاله الروياني. وقد وقع في لفظ الشافعي – رضي الله عنه – أنه يعتبر قيمة يوم الوجوب. والمراد- كما صرح به الأصحاب في باب العاقلة- يوم وجوب التسليم؛ كما ذكرناه. قال: وفيه قول آخر- أي: قديم – أنه يجب ألف دينار – أي: أصلاً – على أهل الذهب، أو اثنا عشر ألف درهم – أي: أصلاً – على أهل الورق؛ كما قاله القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والجمهور. ووجهه: ما روى [الزهري] عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم [عن أبيه عن جده عمرو بن حزم] أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن: "أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَ [عَلَي] أَهْلِ الوَرِقِ اثْنَا عَشْرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ". ولأن ما استحق في الدية كان أصلاً مقدراً؛ كالإبل، وهذا ما ادعى الجيلي أن الروياني وجماعة من أصحابنا اختاروه، خصوصاً في موضع لا تعرف الإبل وقيمتها. وقد حكى القاضي ابن كج وجهاً عن رواية [أبي] الحسين أنه قدر الدراهم. قال: ويزاد للتغليظ قدر الثلث، أي: على القديم؛ لما روي عن عمر – رضي الله عنه- أنه قال: "مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَم، أَوْ قَتَلَ ذَا رَحِمٍ، أَوْ قَتَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ- فَعَلَيهِ دِيَةٌ وَثُلُثٌ".

وعن عثمان - رضي الله عنه - أنه "قَضَى فِي امْرَأَةٍ وُطِئَتْ [فِي الطَّوَافِ] بِالأَقْدَامِ بِثَمَانِيَةِ آَلاَفِ دِرْهَمٍ"، وهي دية وثلث. وعلى هذا: لو تعدد سبب التغليظ؛ بأن قتل مُحْرِماً في الحرم، فهل يتعدد؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ كما لو قتل المحرم صيداً في الحرم لا يلزمه إلا جزاء واحد. والثاني: نعم؛ فيزاد لكل سبب ثلث الدية؛ لما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أَنَّ رَجُلاً قَتَلَ رَجُلاً فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي البَلَدِ الْحَرَامِ؛ فَقَالَ: دِيَّتُهُ اثْنَا عَشْرَ أَلْفِ [دِرْهَمٍ]، ولِلشَّهْرِ الْحَرَامِ أَرْبَعَةُ آلاَفٍ، وَلِلبَلَدِ الْحَرَامِ أَرْبَعَةُ آَلاَفٍ". وعلى هذا لو انضم إلى ذلك كون القتل شبه عمد، وجب أربعة وعشرون ألفاً، أو ألفا دينار. وإن انضاف إلى ذلك وقعه في [ذي الرحم]؛ فثمانية وعشرون ألفاً، أو ألفا دينار، وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث. وقيل: لا يزاد للتغليظ على القديم شيء؛ لأن التغليظ في الإبل إنما ورد بالسن والصفة. لا بزيادة العدد، وهذا ما صححه الرافعي، وقال: إنه أخذ مما احتج به على فساد القول القديم. وقيل: إن المصير إليه يُسْقِطُ أثر التغليظ. ولو وجد بعض الإبل، وعدم بعضها - أخذ الموجود، والكلام في المفقود كما تقدم؛ هكذا أطلقه ابن الصباغ، وصرح المتولي بذلك؛ تفريعاً على الجديد. [أما إذا قلنا بالقديم]، قال: لا يجبر الولي على قبول ذلك من جنسين؛ حتى لا يختلف عليه حقه. فرع: إذا قلنا بالجديد، فلو قال المستحق عند إعواز الإبل: لا أطالب الآن بشيء، وأصبر إلى أن توجد قال الإمام: فالأظهر أن الأمر إليه؛ لأن الأصل هو الإبل.

ويحتمل أن يقال: لمن [عليه] الدية أن يكلفه قبض ما عليه؛ لتبرأ ذمته. ولم يصر أحد من الأصحاب إلى أنه لو أخذ الدراهم، ثم وجدت الإبل – يرد الدراهم، ويرجع إلى الإبل؛ بخلاف ما إذا غرم قيمة المثل في الغصب والقرض – لإعوازه – ثم وجده؛ فإن في الرجوع إلى المثل خلافاً. تنبيه: الإعواز [حقيقة: عدم] الوجود [في تلك الناحية، ويقوم مقامه الامتناع من البيع مع وجودها] إلا بأكثر من ثمن المثل. ولو كانت في غير البلد والقبيلة، فينظر: إن قربت المسافة وسهل تحصيلها، فهي كالموجودة، فإن بعدت بحيث تعظم المشقة الكلفة فهي كالمعدومة. وبم يضبط القرب والبعد؟ أشار بعضهم إلى رعاية مسافة القصر؛ فجعلها فما فوقها من حد البعد. وقال الإمام: لو زادت مؤنة إحضارها على قيمتها في موضع العِزَّة لم يلزمه إحضارها، وإلا لزم. وقال في "التتمة": إن حد القرب والبعد ما ذكرناه في كتاب السلم. قال: ودية اليهودي والنصراني: ثلث دية المسلم؛ لما روى أبو إسحاق المروزي في "الشرح" بإسناده، عن موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى، عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دَِيةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرانِيِّ ثُلُثُ دِيَّةِ الْمُسْلِمِ". ولأنه أقل ما قيل، والأصل براءة الذمة مما زاد. ولا فرق في ذلك بين أن تكون قد عقدت له الذمة، أو دخل معاهدا، ً أو مستأمناً في ساعة من نهار. والسامرة والصابئة، قال الماوردي: إن أجروا مجرى اليهود والنصارى في إقرارهم بالجزية، وأكل ذبائحهم، ونكاح نسائهم – كانت ديتهم ثلث دية المسلم، وإن لم يقروا بالجزية؛ لمخالفتهم اليهود والنصارى في أصل معتقدهم؛ فديتهم – إذا كان لهم أمان – دية المجوسي.

قال: ودية المجوسي – أي: إذا دخل بأمان-ثلثا عشر دية المسلم، أي: وهي ستة أبعرة وثلثان، أو ثمانمائة درهم، أو ستة وستون ديناراً وثلثان. ووجهه: ما روى ربيعة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنهم -: "أَنَّهُ جَعَلَ دِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمَائَةَ دِرْهَمٍ". وكذلك روي عن عثمان وابن مسعود – رضي الله عنهما – فكان هذا القول منهم، والقضاء به مع انتشاره في الصحابة – إجماعاً لا يسوغ خلافه. ولأن مثل هذه التقديرات لا تفعل إلا توقيفاً. قال الماوردي: ولأن حكم المجوس في إقرارهم وأخذ جزيتهم منقول عن عمر، ومعمول به إجماعاً؛ فكذلك حكمه فيهم بالدية. واستأنس الشارح لـ "مختصر" الجويني لذلك؛ بأن قال: "اليهود والنصارى لهم كتاب ودين كان حقًّا بالإجماع، وتحل مناكحتهم، وذبائحهم، ويقرون بالجزية، [وليس للمجوس من هذه الأمور الخمسة إلا التقرير بالجزية؛] فكانت ديتهم خمس ديتهم، وهي ثلثا عشر دية المسلم، أو كما قال: الحساب ثلث خمس دية المسلم، أو خمس ثلثها. والوثني كالمجوسي؛ لأنه كافر لا يحل للمسلم مناكحة أهل دينه، وعلى هذا يدل قول الشيخ من بعد: وهكذا الحكم في عبدة الشمس والقمر والبقر والشجر. قال: ومن لم تبلغه الدعوة، أي: دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وعبادة الله تعالى وهي بفتح الدال وبلغه دعوة غيره. قال: فالمنصوص أنه إن كان يهوديٍّا أو نصرانيًّا وجب فيه ثلث الدية، وإن كان مجوسيًّا أو وثنيًّا وجب فيه ثلثا عشر الدية؛ لأنه ثبت له بجهله نوع عصمة؛ فألحق بالمستأمن من أهله دينه. فعلى هذا: إن لم يعرف دينه فوجهان: أحدهما: دية مسلم، قال البندنيجي: وليس بشيء.

والمذهب: وجوب دية مجوسي؛ لأنه اليقين. قال: وقيل: إن كان متمسكاً بكتاب لم يبدل وجب فيه دية مسلم؛ لأنه مولود على الفطرة، ولم يظهر منه عناد. وحكم النسخ لا يثبت قبل بلوغ الخبر، وإن كان متمسكاً بكتاب تبدَّل ففيه ثلث الدية، أي: إذا كان يهوديًّا أو نصرانيًّا. قال ابن الخل جمعاً بين الحقين: وهذا قول أبي إسحاق، واختاره القفال؛ كما حكاه القاضي الحسين عنه. وقال القاضي أبو الطيب في كتاب السير: إنه خطأ. وعلى هذا: يجب في المجوسي ثلثا عشر الدية. والذي أفهم أن مراد الشيخ: ما ذكرناه من [اليهودي والنصراني]، دون من عداهما ممن ذكره – قوله: "كتاب"؛ لأن الوثني لا كتاب له؛ وكذا المجوسي؛ على رأي، وإن كان قد رفع؛ فصار كأن لا كتاب. ووراء ما ذكره الشيخ وجهان، ولم يحك الماوردي سواهما: أحدهما: أن الواجب فيه دية مسلم مطلقاً. والثاني: [أن] الواجب فيه دية مجوسي أبداً؛ لأنها يقين، والأصل براءة الذمة. وحكى الإمام وجهاً في الذي تمسك بدين مبدل: أنه لا يجب بقتله شيء؛ لأنه ليس على دين حق، ولا عهد له، ولا ذمة، وامتناعنا عن قتله كامتناعنا عن قتل النساء، والذراري، وهذا ما جزم به المتولي. وامتنع الرافعي من إجراء الوجه الصائر إلى إيجاب تمام الدية فيما إذا كان متمسكاً بكتاب مبدل. أما من لم تبلغه دعوة نبي أصلاً فقد حكى المعتمدون – كما حكاه الإمام عن القفال- أنه يجب القصاص بقتله؛ لأنه لم يوجد منه عناد وإنكار، وهو على الفطرة الأصلية، وعلى هذا تجب فيه دية مسلم. والظاهر: أنه لا قصاص؛ لعدم التكافؤ، قال القاضي الحسين: وهذا يوهن كلام الشافعي –رحمه الله – في "المختصر"؛ في كتاب "السير"؛ فإنه قال: ومن كان

مشركاً، يستحيل إثبات القود وكمال الدية بقتله ونقل نصان في أنه تجب الدية الكاملة، أو أخس الديات، [فأقامهما بعض الأصحاب قولين، وقطع آخرون بوجوب أخس الديات]، وحمل النص الآخر على ما إذا كان متمسكاً بدين لم يبدل، ولم يبلغه ما يخالفه. فرع: إذا قتل من لا يعلم هل بلغته الدعوة أم لا، قال الماوردي في كتاب "السير": ففي ضمان ديته وجهان؛ بناء على الوجهين في أنه هل كان الناس قبل ورود الشرع على أصل الإيمان حتى [كفروا بالرسل، أو كانوا على أصل الكفر حتى] آمنوا بالرسل. آخر: الزنديق إذا دخل إلينا بأمان، هل يجب بقتله شيء أم لا؟ تردد فيه الشيخ أبو محمد: ففي حالة ألحقه بالمرتد من جهة أنه يظهر الإسلام ويبطن الكفر؛ فيجعل إظهاره الإسلام كإسلام المرتد من قبل، وفي حالة يلحقه بالوثني، قال الرافعي: وهو الأصح؛ لأنه لم يسبق منه التزام الإسلام. قال: وإن قطع يد نصراني، أي: محقون الدم، فأسلم، ثم مات – وجب عليه دية مسلم؛ لأن القطع مضمون، وحدوث الزيادة يا لمضمون يلزم؛ كزيادة المغصوب. ولأنه لما اعتبر استقرار الدية فيما زاد من الموضحة إذا صارت نفساً في إيجاب الدية الكاملة، بعد أن وجب نصف عشرها، وفيما إذا نقص بقطع اليدين والرجلين إذا سرت إلى النفس في إيجاب دية واحدة، بعد وجوب ديتين- وجب أن يكون بمثابتهما ما حدث من زيادة الدية بالإسلام. وإنما لم يجب القصاص؛ لأنه لم يقصد الجناية على المكافئ؛ فكان ذلك شبهة في إسقاطه. ولأنه لما صح- في هذه الحالة – إسقاط بالكفر عند الجناية، وإيجاب بالإسلام عند السراية – وجب أن يغلب حكم الإسقاط على حكم الإيجاب؛ لأنه يصح فيه إسقاط ما وجب، ولا يصح فيه إيجاب ما سقط، وهكذا الحكم فيما إذا جرح عبداً لغيره، فعتق، ثم مات – يجب فيه دية حر، دون القصاص. فرع: لو قطع أصبع ذمي، ثم أسلم، ثم سرى القطع إلى الكف واندمل –

فعلى القاطع أرش الأصبع، وهي عشر دية الذمي، وأرش الكف يجب معتبراً بدية المسلم، وهو أربعة أخماس دية [يد] المسلم. وكذا في العبد لو قطع أصبعه، ثم أعتقه السيد، ثم سرى إلى الكف – يجب على القاطع عشر قيمته للسيد، وأرش الكف للعتيق؛ قاله القاضي الحسين. قال: وإن قطع يد حربي، ثم أسلم ومات –فلا شيء عليه؛ لأنه سراية قطع غير مضمون؛ فأشبه ما لو مات من قطع السرقة أو القصاص، وهذا ما جزم به البندنيجي، والقاضي أبو الطيب، والماوردي، والشيخ أبو علي، والفوراني، والقاضي الحسين، وطرده فيما إذا جرح قاتل أبيه، ثم عفا، فسرى إلى النفس، [وفيما إذا جرح عبد نفسه]، ثم أعتقه، فسرى الجرح إلى النفس،] وهو في هذه الحالة محكي عن النص؛ لأن الجرح غير مضمون؛ فسرايته كذلك. وخرج في مسألة العبد قول: أنه تجب الدية من نصه في "عيون المسائل" فيما إذا ضرب بطن جارية مشتركة بينه وبين غيره، وهي حامل بولد رقيق لهما، ثم أعتق نصيبه، وسرى العتق إلى الباقي، ثم أجهضت جنيناً ميتاً – أنه جب للجنين غرة كاملة. [كما] خرج من مسألتنا إلى مسألة الجنين قول: أنه لا يجب إلا نصف غرة؛ نظراً إلى حالة الجناية، دون حالة الاستقرار. وحكى الشيخ أبو علي عن بعضهم تقرير النصين. والفرق: أن الجراحة صادفت مملوكه حقيقة، [ثم طرأ العتق]، وفي الضرب إنما يتحقق إصابة الجناية على الولد عند الانفصال؛ [فجعلت حالة الانفصال كحالة إصابة السهم، وما قبلها كالرمي، والولد عند الانفصال] حر. قال: وإن قطع يد مرتد؛ فأسلم، ومات – لم يلزمه شيء؛ لما ذكرناه. قال الإمام قبل كتاب الجزية بورقة: وعلى هذا إذا قال مالك العبد لإنسان: اقتل هذا العبد، فقطع يده – لم يضمن [يده]؛قياساً على قطع يد المرتد. وقيل: يلزمه، أي: تمام الدية، كما حكاه البندنيجي، عن تخريج الربيع

في كتاب المرتد، وكذا المصنف هنا؛ لأنه مسلم في حال سراية الجناية، القاطع متعدٍّ؛ لأنه ليس له قتل المرتد، فضلاً عن قطع يده الذي لايجوز للإمام فعله، وبهذا خالفت المسألة مسألة الحربي؛ لأن الإقدام على قتله مباح لكل أحد. قال: وليس بشيء؛ لما ذكرناه من العلة. وقد حكى الغزالي والمصنف والمحاملي هذا الوجه في الحربي أيضاً، ونسبه الرافعي فيهما إلى أبي إسحاق، وحكاه القاضي ابن كج عن أبي محمد الفارسي. وعلى هذا: فالذي رأى الإمام القطع به في مسألة الحربي والمعتق: أن الدية تكون مخففة مضروبة على العاقلة، [وأن] تكون الجناية ملحقة بالخطأ المحض؛ كاعتراض الذمي في مرور السهم إلى الصيد. وحكى الرافعي عنه في الديات أنه ألحق المرتد في هذا المعنى بالحربي. وفي "الحاوي" في كتاب المرتد: أنه إذا جرح، ثم أسلم، ثم مات – قال الربيع: فيه قول أنه يجب علىلجارح نصف ديته؛ [لأنه مرتد في حال الجناية، ومسلم في حال السراية فقط]، ووجب نصفها. ثم قال: وهذا من تخريج الربيع، وليس بمحكي عن الشافعي – رضي الله عنه – ولا تقتضيه أصول مذهبه. ولو جرح حربي مسلماً، ثم أسلم الجارح، ومات المجروح – فلا شيء عليه؛ كذا جزم به في "التهذيب". وحكى الرافعي عن بعضهم أنه يلزمه الضامن؛ لأن المجني عليه مضمون في الحالين. قال: وإن أرسل سهماً على ذميّ، فأسلم، ثم وقع به السهم؛ فقتله – لزمه دية مسلم؛ لما ذكرناه فيما إذا أرسله على حربي، فأسلم، ثم وقع به؛ فمات. قال: ودية المرأة على النصف من دية الرجل؛ لما روي عن عمرو بن حزم – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "دِيَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ" ويروي ذلك عن عمر وعثمان وعليّ، والعبادلة: ابن مسعود، وابن عباس،

وابن عمر – رضي الله عنهم – ولم يخالفهم أحد، مع اشتهاره؛ فصار إجماعاً. ويجب في الخنثى المشكل دية المرأة؛ لأن الزيادة مشكوك فيها، ذكره في "البيان" وغيره. وكما أن دية المرأة على النصف، فدية أطرافها وجراحاتها على النصف من دية أطراف الرجل وجراحاته، على الجديد. وفي القديم قول: أن المرأة تغادل الرجل إلى تمام ثلث الدية؛ كما قاله القاضي الحسين وغيره، [أي: تساويه] في العقل؛ فإذا زاد الواجب على الثلث صارت على النصف. وتمسك فيه بما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمَرْأَةُ تُعَاقِلُ الرَّجُلَ إِلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا"، وقد قيل: إن هذا مرجوع عنه. وبعضهم قال: إن الشافعي – رضي الله عنه- حكاه عن غيره، ولم يثبته قولاً له أصلاً، قاله الماوردي. قال: ودية الجنين، أي: الحر المسلم، إذا انفصل ميتاً بالجناية: غرةٌ: عبدٌ أو أمةٌ؛ لما روى أبو داود "أَنّ عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي إِمْلاَصِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ – صَلَّي اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – قَضَى فِيهَا "بِغُرَّةٍ عَبْدٍ، أَوْ وَلِيدَةٍ؛ فَقَالَ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، فَأَتَاهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ

مَسْلَمَةَ؛ فَشَهِدَ لَهُ" وأخرجه مسلم. قال أبو داود: بلغني عن أبي عبيد: إنما سمي إملاصاً؛ لأن المرأة تزلقه قبل الولادة، وكذلك كل ما زلق من اليد وغيره فقد ملص. وقد قيل: إن عمر – رضي الله عنه – لما جاءه خلاف ما يعلم في الديات أراد التثبت، لا أنه يرد خبر الواحد. وقيل: كان [مراده: أنهم] إذا رأوه يفعل ذلك مع الصحابة بالغ غيرهم في التثبت فيما يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال القاضي الحسين: والحكمة في إيجاب الغرة في الجنين أنه شخص يرجى له حال الحياة، وكمال الحال بالحياة، والجاني فوته [عليه] بجنايته، وقطع عليه طريق الكمال بالحياة، فجاءت الشريعة فأوجبت عليه شخصاً كامل الحال بالحياة في مقابلة ما فوت بجنايته. ولا فرق في ذلك بأن يكون الجنين ذكراً أو أنثى؛ لإطلاق الخبر. قال القاضي أبو الطيب: والحكمة في ذلك: أن ديتهما لو اختلفت لكثر التشاجر والتخاصم في كونه ذكراً أو أنثى؛ فحسم الشرع مادة ذلك بالتسوية؛ كما فعل في إيجاب الصاع في المصراة في قليل اللبن وكثيره؛ حسماً للمنازعة والمخاصمة. قال: قيمته نصف عشر دية الأب أو عشر دية الأم، [أي:] وذلك خمس من الإبل، ووجهه: ما روي أَنَّ "عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – أَقَامَ الغُرَّةَ خَمْسِينَ دِينَاراً"، ومعنى "أقام":قوم. وروي ذلك عن زيد بن ثابت، وعليّ – رضي الله عنهما – كما حكاه الماوردي، ولامخالف لهم من الصحابة. ومن المعنى: أنها دية؛ فوجب أن تكون مقدرة كسائر الديات.

وأيضاً: فإنه جعل مقدراً، وأقل أرش ورد به الشرع مقدراً دية الموضحة والسن؛ فألحقت هذه الجناية بهما، ولا ترد الأنملة؛ فإن التقدير فيها بالاجتهاد، والذي [ورد] من الشرع فيها تقدير الأصبع. ثم القيمة تختلف باختلاف الخطأ وعمد الخطأ؛ فإن كانت الجناية خطأ فالغرة مخمسة في حق العاقلة، وإن كانت عمد خطأ فتكون مثلثة: حقة ونصف، وجذعة ونصف، وخلفتان، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب، والبندنيجي أيضاً، وقال: إنه مفرع على الجديد. أما إذا قلنا: قيمة الإبل – عند الإعواز- مقدرة؛ فيعتبر هنا أن تكون قيمة الغرة خمسين ديناراً، أو ستمائة درهم، يعني في الخطأ، وتزاد للتغليظ قدر الثلث؛ عملاً بما ذكرناه من قبل، وهذا ما صرح به الماوردي عن جمهور البغداديين، ونسب الأول إلى قول البصريين، وقال: إنا عليه نقوِّم الإبل الخمس، فما انتهت [إليه] قيمتها، اعتبرنا أن تكون قيمة الغرة ذلك القدر؛ لأن الإبل ليست من جنس القيمة. وفي "تعليق" القاضي الحسين، في أوائل باب الديات: أنا إن قلنا: إن الواجب عند إعواز الغرة –قيمتها؛ فلا تغلظ، وإن قلنا [عند] إعوازها: تنتقل إلى خمس من الإبل، فهل تغلظ، أم لا؟ فالمذهب: أنها لا تغلظ. وحكى عن الشيخ أبي طاهر الزيادي أنه قال: تغلظ؛ كما في الأطراف. وهذا يفهم أحد أمرين: أحدهما: أن ذلك راجع إلى الغرة نفسها مع وجودها. والثاني: أن ذلك مفروض عند عدمها وإيجاب غيرها، وهو الذي فهمه الرافعي، وقال: إن الأئمة [لم] يتكلموا في التغليظ عند وجود الغرة، إلا أن الزيادي قال:

ينبغي أن يقال: تجب غرة قيمتها نصف عشر الدية المغلظة، وإن هذا حسن. وفي المسألة وجه آخر حكاه المراوزة: أن الغرة إذا كانت سلمية بالسن الذي سنذكره، لا تعتبر قيمتها بشيء، وادعى الإمام أنه الذي دل عليه كلام معظم نقلة المذهب. ولا خلاف [في] أنه لا يعتبر في الغرة نوع، سواء كان غالباً في البلد أو لا، وسواء كان في يد من وجبت عليه أم لا؛ لإطلاق الخبر، صرح به الإمام. أما إذا ماتت الأم، ولم ينفصل جنين بعد الجناية [عليها]، وكان يظن حملها؛ لانتفاخ بطنها، أو حركة فيه – لم يجب بسببه شيء؛ لأنا لا نتيقن وجود جنين. نعم، لو انكشف الحال عن جنين في بطنها ميتاً، ولم ينفصل؛ بأن قُدَّت بنصفين؛ فظهر في بطنها ولم يخرج، أو خرج رأسه، ثم ماتت، ولم يتم خروجه – فهل تجب فيه الغرة، أم لا؟ فيه وجهان: أصحهما- وبه جزم القاضي أبو الطيب -: نعم. والثاني: لا، ما لم ينفصل بكماله، وهذا ما يحكي عن القفال؛ لأنه قبل الانفصال كالعضو من أمه، واستشهد له بأن انقضاء العدة ووقوع الطلاق المعلق بالولادة وسائر الأحكام لا تتعلق بخروج بعض الولد، بل بالانفصال التام؛ فكذلك هاهنا. قلت: سأذكر عن رواية الإمام عن القفال ما يقتضي خلاف ذلك.

ولا خلاف عندنا أنه لو انفصل بعد موتها بالجناية عليها، وهي حية: أن الغرة تجب، ولو ضرب بطن ميتة؛ فانفصل منها جنين ميت – لم تجب الغرة؛ لأن الظاهر أن هلاكه بهلاك الأم، قاله في "التهذيب"،وادعى الماوردي الإجماع فيه. وعن "جمع الجوامع" للروياني: أن القاضي الطبري قال: يجب ضمان الجنين؛ لأن الجنين [قد] يبقى حيًّا في بطن أمه، والأصل بقاء حياته. قال: تدفع إلى ورثته أي: لو انفصل حيًّا، ثم مات؛ لأنها دية نفس. واحترز الشيخ بذلك عن مذهب من قال: إنها تصرف للأم، هو الليث بن سعد؛ لأنه بمنزلة أعضائها؛ بدليل انه تابع لها في الرق والحرية. وعن مذهب من قال: إنها للعصبة خاصة، وهو علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه! وعن مذهب من قال: إنها للأبوين خاصة، وهو ربيعة؛ لخلقه من مائها. ورثته الأم إن كانت حرة حية عند انفصاله، والعصبة، وقدرنا حياة الجنين؛ تغليظاً على الجاني، ولم نقدرها عند إنفاق مال الجنين؛ لأن الأصل عدمهما. واعلم أنه لا يجب للأم شيء بسبب ما حصل لها من ألم الجناية والضرب، إذا لم يبن له أثر في بدنها كاللطمة والرفسة، فأما إجهاضها عند إلقائه ففيه قولان حكاهما القاضي أبو حامد في "جامعه": أحدهما: لا شيء لها فيه أيضاً. والثاني: لها فيه حكومة؛ لأنه كالجرح في الفرج عند خروج الجنين منه؛ فلو اقترن بذلك أثر الضرب في بدنها، ضمن حكومة للضرب، وحكومة للإجهاض. تنبيه: سمي الجنين جنيناً؛ لاستتاره، ومنه: الجن، وجن عليه [الليل]، والمجن: بكسر الميم، وهو الترس.

والغرة، قال أهل اللغة والغريب، والفقهاء: هي النسمة من الرقيق، ذكراً كان أو أنثى، وسميا بذلك؛ لأنهما غرة ما يملكه الإنسان، أي: أفضله وأشهره، وغرة كل شيء خياره. وفي "حواشي" الشيخ زكي الدين –رحمه الله- أن أبا عمرو بن العلاء كان يقول: الغرة: عبد أبيض، أو أمة بيضاء، وإنما سميت غرة؛ لبياضها. وقيل: إطلاقه صلى الله عليه وسلم الغرة على العبد والأمة، على طريق التوسع والمجاز؛ فإن الغرة اسم الوجه؛ لأن الوجه أشرف الأعضاء؛ فسمي الخيار من المماليك: غرة؛ لأنه في المماليك كالوجه في الأعضاء. وقوله – عليه السلام -: "غرة: عبد، أو أمة" حمله غير واحد من العلماء على التفسير، لا على الشك. قال الشيخ زكي الدين – رحمه الله -: والرواية فيه بالتنوين، وما بعده بدل منه، ورواه بعضهم بالإضافة، والأول أوجه؛ لأنه بين الغرة ما هي. انتهى. وهذا الترديد يأتي في قول الشيخ أيضاً. قال الشيخ زكي الدين – رحمه الله -: والرواية فيه بالتنوين، وما بعده بدل منه، ورواه بعضهم بالإضافة، والأول أوجه؛ لأنه بين الغرة ما هي. انتهى. وهذا الترديد يأتي في قول الشيخ أيضاً. فرع: إذا ضرب بطن امرأة، فأجهضت جنينين أو ثلاثة – وجب لكل منهم غرة. ولو اشترك اثنان في ضربها؛ فألقت جنيناً، وجب على عاقلتهما غرة واحدة. قال: وإن كان أحد أبويه مسلماً، [والآخر كافراً، أو أحدهما مجوسيًّا والآخر كتابيا – اعتبر أكثرهما بدلاً. أما في الأولى؛ فلأنه محكوم بإسلامه؛ فكان كما لو كان أبواه مسلمين. وأما في الثانية؛ فلأنه إذا اتفق في بدل النفس ما يوجب الإسقاط والإيجاب [غلب الإيجاب]؛ كما قلنا في السمع – المتولد بين الضبع والذئب – إذا قتله المحرم، وهذا ما نص عليه في "المختصر". وعلى هذا: إن كان الأب كتابيًّا، والأم مجوسية – وجبت غرة قيمتها قيمة بعير وثلثين، أو مائتا درهم، أو ستة عشر ديناراً وثلثان – على الخلاف الذي سبق؛ لأن عشر دية الأم ثلث بعير، أو ثلاثة دنانير وثلث، أو أربعون درهماً؛ فكان ما

ذكرناه أكثر بدلاً. ولو كانت الأم كتابية، والأب مجوسيًّا – وجبت غرة قيمتها قيمة بعير وثلث، أو ما ذكرناه؛ لأن ذلك عشر دية الأم، ونصف عشر دية الأب في هذه الحالة ثلثا بعير، أو ستة دنانير وثلثان، أو ثمانون درهما. ولأجل هاتين المسألتين قال الشيخ في الفصل قبله: "قيمة نصف عشر دية الأب، أو عشر دية الأم". وحكى الإمام أن من يوثق به نقل عن القاضي الحسين: أن الجنين إذا كان كافراً، وجب فيه جزء من الغرة، نسبته من الغرة نسبة دية أهل الجنين من الدية الكاملة، فإن كان الجنين نصرانياً فدية النصراني ثلث دية المسلم؛ ففي الجنين النصراني ثلث الغرة، وفي الجنين المجوسي خمس ثلث الغرة؛ فإن الديات هكذا [تجري] نسبتها، وهو هكذا في "تعليقه". ثم قال الإمام: وهذه الطريقة منقاسة؛ فإن الغرة من الجنين بمثابة الدية من الشخص التام، ولكني لم أر هذا لأحد من الأصحاب. وجه الخلل فيه: أنه هجوم على القياس في أول المرتبة من غير ثبت من طريق التعبد، والأصل في الباب التعبد. ثم حكى عن العراقيين ما ذكرناه، وقال: إن هذا يقتضي أن ما حكاه عن القاضي مغاير له، وقد صرح به من بعد؛ حيث حكى ذلك وجهين؛ ولأجل ذلك حكى الغزالي وجهاً: أنه يجب في الجنين الكافر ثلث الغرة، يعني إذا كان يهودياً أو نصرانياً. وادعى الرافعي أن هذا لم يذكره أحد، وإنما هو محمول على إيجاب غرة قيمتها ثلث الغرة الكاملة، وهذا كلام من لم يقف على كلام الإمام، والله أعلم. وعن بعض الأصحاب أنه يؤخذ هذا القدر من الدية، ويدفع إلى المستحق، من غير أن يصرف إلى الغرة، وحكاه في "البيان" عن المسعودي. قال الرافعي: وإيراد آخرين يشعر بأنه يدفع إليه هذا القدر، [أو غرة بقيمة هذا القدر].

والأصح: تعين الثاني، إلا ألا توجد غرة بهذه القيمة؛ فيكون الحكم كما سنذكره. وقيل في المسألة قول مخرج: أن الاعتبار بالأب، وهو ما حكاه الإمام عن رواية صاحب "التقريب". وحكى القاضي الحسين وغيره عن أبي الطيب بن سلمة: أن الاعتبار بأخف الأبوين ضماناً؛ لأن الأصل براءة الذمة عن الزيادة، وهذا ما اختاره الماوردي من عند نفسه. والقول والوجه مأخوذان من الخلاف في أن المسلم هل ينكح المتولدة من أبوين كتابي ومجوسية، وهذا كله تفريع على الصحيح في أن الغرة يعتبر فيها القيمة، أما إذا قلنا: لا تعتبر – كما حكاه الإمام عن المراوزة – فهاهنا ثلاثة أوجه: أحدها: أن الواجب غرة كاملة، ولا يبالي بالتسوية بينه وبين الجنين المسلم؛ لأنه لا سبيل إلى الإهدار، ولا إلى تجزئة الغرة. قال الرافعي: وقد يحتج له بظاهر ما يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ قَضَى فِي الْجَنِينِ بِالغُرَّةِ". والثاني: أنه لا يجب في جنين الكافر- كيف قدر – عبد ولا جزء من عبد؛ لأنه لا يمكن التسوية بينه وبين الجنين المسلم؛ كما لا يسوَّى بين المسلم والكافر في الدية، والتجزئة ممتنعة، وهذا ما قطع به الشيخ أبو محمد والصيدلاني، وصاحب "التقريب"، وبعض المصنفين؛ كما حكاه الإمام، وقال في موضع آخر: إن هذه الطريقة [هي] التي تعرفها المراوزة. والثالث: الوجه الذي حكيناه عن القاضي من قبل. فرع: إذا جنى على مرتدة حبلى؛ فأجهضت – نظر: إن ارتدت بعد الحبل وجبت غرة كاملة؛ لأن الجنين محكوم [له بالإسلام]، وإن حبلت بعد الارتداد من مرتد، فيبني على أن المتولد من مرتدين مسلم أم كافر؟ إن قلنا: مسلم، وجبت [فيه غرة] كاملة، وإن قلنا: كافر،

فهو كجنين الحربيين لا يجب فيه شيء على الجاني؛ كذا حكى عن الشيخ أبي عليّ وغيره، وكلام القاضي الحسين منطبق عليه. وفي "التهذيب": أن من لم يجعل المتولد بين المرتدين مسلماً يوجب فيه ما يجب في جنين المجوسيين؛ فإن من يذهب إليه يثبت له حرمة؛ لبقاء علقة الإسلام. [فرع آخر]: إذا جنى على ذمية حبلى تحت ذمي، فأسلمت، أو أسلم الذمي، ثم أجهضت – وجبت غرة كاملة؛ لأن الاعتبار في قدر الضمان بالمال. قال: وإن ألقته حيًّا، ثم مات، أي: عقيبه، أو بقي متألماً إلى أن مات – وجبت فيه دية كاملة، أي: سواء كان [لستة أشهر فما دونها] أو فما فقها، أو كانت حياته بعد الانفصال كحياة من انتهى إلى حركة المذبوحين أولا؛ لتحقق الجناية على حي. وعلى المزني: أنها إذا وضعته قبل ستة أشهر- أنها لا تجب؛ لأن الجناية – والصورة هذه – منع من الحياة، لا قطع لها. وفي "التتمة" حكاية مثله عند انتهائه إلى حركة المذبوحين. فرع: لو انفصل بعض الولد، وصرخ واستهل، وقتله قاتل، والبعض منه في البطن – فالواجب: الغرة على الصحيح عند الإمام، وهو اختيار القفال كما حكاه القاضي الحسين، وبه جزم الماوردي؛ فلا يجب القصاص به، ولو أعتقه عن الكفارة لم يجزئه، وإن باع الأم أو وهبها دخل في البيع. وعلى الجملة: فهو في جميع القضايا والأحكام بمنزلة الجنين الذي لم ينفصل منه شيء. وقال بعض أصحابنا: إذا قتله قاتل استوجب القصاص، وإذا آل الأمر إلى المال وجبت الدية بكاملها، ويصير مستقلاً بنفسه في الإعتاق وكل ما كنا [لا] نثبته لعدم الاستيقان في الوجود. قال الإمام في كتاب العدد: وهذا وإن كان منقاساً، وقد عزي إلى القفال – فهو ضعيف في الحكاية؛ فما أراه ملتحقاً بالمذهب، وهذا ما حكاه القاضي أبو

الطيب في وجوب الدية خاصة. قال: فإن اختلفا في حياته، أي: حال الوضع، فالقول قول الجاني؛ لأن الأصل يشهد له، فلو أقام الوارث بينة على حياته أو على استهلاله، عمل بها. ويكفيه [في إثبات الاستهلال] شهادة النسوة؛ لأن الاستهلال حينئذ لايطلع عليه - غالباً - إلا النساء؛ كالولادة. وعن حكاية الربيع: أنه لا يقبل إلا من رجلين، أو رجل وامرأتين. وحكى القاضي أبو الطيب بعد حكاية ذلك عنه أن القاضي أبا حامد غلطه؛ لأن هذه الشهادة هي مستندة إلى سببها، وهي الولادة، وشهادة النساء مسموعة فيها على الانفراد. وفي "أدب القاضي" لابن أبي الدم: أن صاحب "التهذيب" قال: وقيل: لا يثبت إلا برجلين. والذي رأيته فيه: أن الربيع قال: و [قيل] فيه قول آخر: أنه لا يقبل إلا من رجلين عدلين، وقد حكينا عن غيره أنه حكى عن الربيع ما ذكرناه، ولعل صاحب "التهذيب" اقتصر على بعض كلامه. فلو أقام كل منهما بينة قدمت بينة الوارث؛ لاشتمالها على زيادة علم. ولو اتفقا على أنه انفصل حيًّا، لكن ادعى الجاني أن سببه غير جنايته، وادعى الوارث أن انفصاله بسبب الجناية -[فإن كان الانفصال عقيب الجناية] فالمصدق الوارث باليمين، وإن انفصل بعد مدة من وقت الجناية فالمصدق الجاني باليمين؛ لأن الظاهر معه، إلا أن يقيم الوارث بينة أنها لم تزل متألمة حتى أجهضت، ولا تقبل هذه الشهادة إلا من رجلين. وضبط المتولي المدة المتخللة بما يزول فيها ألم الجناية وأثرها غالباً. وهكذا الحكم فيما لو اتفقا على أن الجنين سقط حيًّا بجنايته، وادعى الجاني أنه مات بسبب آخر، وقال الوارث: بل بالجناية، فإن لم يمتد الزمان فالمصدق الوارث، وإلا فالجاني، إلا أن يقيم الوارث بينة على أنه لم يزل متألماً حتى الموت.

فرع: إذا أقر الجاني بانفصال الجنين حيًّا، وأنه مات من جنايته – فإن صدقته العاقلة تحملوا الدية، وإن كذبه في حياته وحلفوا، وجب عليهم قدر الغرة من جنايته، والباقي على الجاني قاله البندنيجي، والقاضي الحسين وغيرهما. قال: وإن ألقته مضغة، وشهد القوابل أنه خلق آدمي، أي: شهدن أنه لو بقي لتخطط – ففيه قولان: أحدهما: تجب فيه الغرة. الثاني: لا تجب، وقد بينا ذلك في كتاب العدد. فروع: لو ضربها؛ فألقت يداً، أو رجلاً، أو عضواً [آخر] – فعليه الغرة؛ لأن ذلك يدل على وجود الجنين، وهذا مجزوم به في الطرق. وقد ذكرنا من قبل فيما إذا تحقق وجود الجنين، ولم ينفصل – وجهين في وجوب الغرة، وعللنا وجه المنع بأن الأحكام المتعلقة بالولادة لا تتعلق بخروج بعض الولد، بل بالانفصال التام، وهذا يقتضي أن يجري الوجه المذكور هاهنا، إلا أن يقال: انفصال البعض يقام مقام انفصال الجميع مع تحقق وجوده. ولو ألقت يدين، أو ثلاثة، أو أربعة – لم تجب إلا غرة [واحدة]؛ لأن الشخص الواحد قد يكون له ذلك. ولو ألقت راسين، فكذلك؛ لأن الشخص الواحد قد يكون له رأسان، يحكي أنه كان لواحد رأسان؛ فكان إذا ضحك بأحدهما أو بكى ضحك الآخر أو بكى. ولو ألقت جسدين، قال في "الحاوي": فالحكم كذلك؛ لجواز أن يكون عليهما رأس واحد. وقال القاضي الحسين: يجب غرتان؛ لأن الشخص الواحد لا يكون له بدنان منفصلان. ومن هذا يؤخذ أن كلام الماوردي محمول على الجسدين المتصلين. ولو ألقت يداً، ثم ألقت الباقي، ومات – فعليه دية النفس، وتدخل دية اليد فيها.

ولو ألقت الباقي وعاش فعليه نصف الدية؛ كذا قاله [القاضي] الحسين. وقال الماوردي: إن دلت شواهد حال اليد على انفصالها بعد استقرار الحياة، ففيه نصف الدية. وإن دلت على انفصالها قبل استقرار الحياة، ففيه نصف الغرة. وكذا حكاه القاضي أبو الطيب، وقال: لو اشتبه الحال على القوابل كان الواجب نصف الغرة. قال: ولا يقبل في الغرة ما له دون سبع سنين؛ لأن الغرة هي الخيار، ومن له دون سبع سنين ليس من الخيار؛ لأنه يحتاج إلى من يكفله، ويخالف الكفارة؛ حيث يجزئ مثل هذا فيها. قال القاضي الحسين: لأن المقصود من الإعتاق فيها تكميل شخص بالحرية، وتسليطه على القيام بكفايته عاجلاً أو آجلاً، والصغير وإن كان لا يقوم بكفايته في الحال فيقوم بها في المآل، والمقصود من الغرة جبر الخلل الواقع للأبوين بإتلاف ولدهما عليهما، ولا ينجبر الخلل بمن هو أقل من سبع سنين؛ لأنه يكون كلاًّ عليهما. قال: ولا كبير ضعيف، أي: عن العمل؛ لما ذكرناه. وظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه يقبل منه من له سبع سنين وأكثر، [ولكن لا] إلى أن ينتهي إلى حد الهرم المؤثر في حل القوى وتضعيف المُنَّة، وهو ما صرح به الإمام وابن الصباغ [عن قول الشيخ أبي حامد، وقال ابن الصباغ:] إنه قال: وليس للشافعي - رضي الله عنه- نص في ذلك، وقد وافقه على ذلك جماهير الأصحاب؛ كما [حكاه] الإمام والقاضي الحسين والقاضي أبو الطيب البندنيجي؛ تمسكاً بقول الشافعي - رضي الله عنه -في "الأم": وليس له أن يؤديها هرمة؛ فدل على أنها ما لم تكن هرمة تجزئ، وهو الذي صححه في "التهذيب" والقاضي الحسين، وادعى الماوردي أنه لا يقبل منه من سنة زائداً على عشرين سنة؛ لأن الغرة معتبرة بشرطين: أحدهما: أكمل مايكون نفعاً. [والثاني: أزيد ما يكون ثمناً.

وهي قبل العشرين أزيد ثمناً وأقل نفعاً]، وبعد العشرين أكمل نفعاً وأقل ثمناً؛ فاقتضى أن يكون العشرون حدًّا لغاية؛ لأنها أقرب سن إلى [الجمع] بين زيادة الثمن وكمال المنفعة. ولا فرق في ذلك بين الغلام والجارية، وهذا ما حكاه صاحب "البيان" والإمام والقاضي الحسين عن بعض الأصحاب. قال: وقيل: لا تقبل الجارية بعد عشرين سنة، ولا الغلام بعد خمسة عشر سنة؛ لأن ثمن الجارية إلى عشرين يزيد، وثمن الغلام بعد البلوغ ينقص؛ بسبب امتناعه عن خدمة النساء. وهذا ما نسبه القاضي أبو الطيب إلى ابن أبي هريرة، ورجحه أبو الفرج الزاز والقاضي الروياني وجماعة؛ كما قال الرافعي. وإيراد المصنف في "المهذب" وصاحب "الوجيز" يقتضيه، وقال الماوردي: إنه فاسد؛ لوجهين: أحدهما: [أنه] لما لم يختلفا في أول السن وجب ألا يختلفا في آخره. والثاني: أن نقصان ثمنه مقابل لزيادة نفعه؛ فتعارضا، وتساويا فيها الغلام والجارية. قال: ولا يقبل خصي؛ لأن الغرة - كما ذكرنا - الخيار، وليس الخصي من الخيار، ولأنه ناقص عضو من أصل الخلقة؛ فلم يجزئ في الغرة، أصله: إذا كان مقطوع الأنف. ولا نظر إلى زيادة قيمته؛ بسبب الخِصاء؛ كما لا أثر لذلك في امتناع الرد بالعيب. ولا فرق في ذلك بين أن يكون مقطوع الذكر والأنثيين، أو أحدهما. وفي معنى الخصي: الخنثى. قال ولا معيب، [أي] وإن كان العيب يسيراً لا يضر بالعمل؛ لأن

المعيب ليس بخيار، ولأن هذه دية؛ فوجب ألا تكون معيبة، أصله دية الكبير. ويخالف هذا المعتق في الكفارة؛ حيث يجزئ فيه المعيب بعيب لا يضر بالعمل؛ لأن صاحب الشرع هنا أوجب الغرة، والغرة: الخيار، وهناك أوجب رقبة، والمعيبة تسمى: رقبة. وأيضاً: فإن حقوق الله – تعالى – مبنية على المسامحة، بخلاف حقوق العباد. ولأن الغرة وجبت على سبيل العوض؛ إذ هي بدل من المتلف، وضمان المتلفات نازع إلى الأعواض على اشتراط السلامة. وقد عد الرافعي من أنواع العيب: انتهاء الصبي إلى سن التمييز، ولا تمييز له. وليس عدم الصنعة في الغلام، أو الجارية مانعاً من قبولها. ولو رضي مستحق الغرة بقبولها معيبة جاز؛ إذ الحق له. ولو تراضيا على أخذ العوض عن الغرة مع وجودها، فهو كالاعتياض عن إبل الدية. قال: فإن عدمت الغرة- أي: أو لم توجد بما ذكرناه من القيمة – [وجب خمس] [من] الإبل، أي: في الحر المسلم – في أصح القولين – وقيمة الغرة في [القول] الآخر. هذه المسألة بناها الماوردي على الخلاف السابق في أن الغرة عند الوجود بماذا تقوم، وحكينا أن الجديد: تقويمها [بقيمة خمس من الإبل، والقديم: تقويمها] بخمسين ديناراً، أو ستمائة درهم، فالأول مبني على الأول، وبه قال البصريون، والثاني [مبني] على الثاني، وبه قال البغداديون، وعلى ذلك ينطبق ما حكاه الفوراني عن بعض مشايخنا – وعليه جرى الغزالي – أن وجوب الخمس من الإبل هو الجديد، ووجوب القيمة هو القديم. لكن الفوراني والبغوي حكيا بعد تصدير كلامهما بالقول الأول: أن الثاني مخرج من تقويم الإبل في الدية إذا فقدت، وذلك يقتضي أن يكون من

الجديد أيضاً. وعن الشيخ أبي حامد: أن القول الأول هو القديم، والثاني هوا لجديد. قال ابن يونس: وأكثر الأصحاب على ذلك. فإن صح ذلك؛ فيكون هذا مما الفتوى فيه على القديم. وقد وجه الأول – وهو الذي جزم به في "المهذب" و"الشامل"، وقطع به بعض الأصحاب، وحكاه الفوراني والمتولي عن النص – بأنها عند الوجود مقدرة بالخمس؛ فإذا فقدت أخذنا ما هي مقدرة به، ويروي ذلك عن زيد بن ثابت، وإليه أشار في "الوسيط" بقوله: ولا يمكن أن يعرف هذا إلا بتوقيف، ولعله ورد. ووجه الثاني: [بأنه القياس]؛ كما لو غصب عبداً فأبق أو تلف. التفريع: إن قلنا بالأول؛ فإن كان الفعل خطأ وجبت مخمسة، وإن كان عمداً، وجبت مثلثة، حكاه البندنيجي، والماوردي، وفيه ما ذكرناه عن القاضي الحسين من قبل. فلو عدمت الإبل، ففيما يجب الخلاف السابق فيما إذا عدمت إبل الدية. وإن قلنا بالثاني وجب خمسون ديناراً أو ستمائة درهم، صرح به البندنيجي والماوردي، وقال: إن ذلك فيما إذا كان الفعل خطأ، أما إذا كان عمداً فيزاد قدر الثلث، وهذا الذي ذكرناه تفريع على أن الغرة تقوم عند الوجود. أما إذا قلنا: لا تقوم – كما حكيناه عن المراوزة – فيكون الواجب هاهنا على قول اعتبار القيمة: قيمتها بالغة ما بلغت، وعليه يحسن تعليل الرافعي القول الأول بأنا لو أوجبنا قيمة الغرة لم نأمن أن تبلغ دية كاملة، أو تزيد عليها، وهذا ما حكاه القاضي الحسين قولاً مع القول الثاني في الكتاب، ولم يتعرض لإيجاب خمس من الإبل هنا، وإن كان قد أشار إليه في أوائل الديات؛ كما حكينا عنه من قبل. قال: [والشجاج] في الرأس [عشر]. [الشجاج] – بتشديد الجيم -: جمع شجة. وهي: الجراحة في الرأس والوجه.

وفي غيرهما تسمى جراحة لا غير. ويقال: شجَّه يشُجه، ويشِجه – بضم الشين وكسرها – شجًّا؛ فهو مشجوج وشجيج، والجارح: شاج. قال: الحارصة، والدامية، والباضعة، والمتلاحمة، والسمحاق، والموضحة، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، والدامغة، أي بالغين المعجمة، وهذا ما ادعى المحاملي أنه الصحيح، وحكاه البندنيجي عن الشافعي – رضي الله عنه – وأهل اللغة. وحكى الماوردي أن في كتاب ابن سريج جعل الدامغة والمأمومة سواء، وأنه أثبت بدل "الدامغة": الدامعة-[بعين مهملة] – وجعلها بين الدامية والباضعة، وأن الأكثرين عدوها إحدى عشرة؛ فأثبتوا الدامغة – بالغين المعجمة – وأدخلوا بين الدامية والباضعة: الدامعة، بالعين المهملة. ثم قال: ويحتمل أن يكون بين الباضعة والمتلاحمة: البازلة؛ فتكون اثنتي عشرة، وحكى ذلك عن بعضهم في باب الديات. وحكى عن بعضهم انه جعل بين المتلاحمة والسمحاق: الملطاة؛ فتكون ثلاث عشرة. ومنهم من جعل بين الموضحة والهاشمة شجة أخرى تسمى: المفرشة؛ فتكون أربع عشرة. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب أن المنقول عن أهل اللغة – وذكره القتبي -: أنها ثمانية، وأسقط في العد مما في الكتاب: الدامية، والدامغة، بالغين المعجمة. قال: فالحارصة: ما تشق الجلد، [أي]: قليلاً، ولا تدمي، وهكذا فسرها صاحب "المحكم"، وهي مأخوذة – كما قال الماوردي والقاضي الحسين –من قولهم: حرص القصار الثوب: إذا شقه وخدشه قليلاً بالدق. وقال في "المهذب": إن الحارصة ما تكشط الجلد. وهو كذلك في "تعليق" القاضي الحسين، والبندنيجي، و"مجموع" المحاملي، وأنه مأخوذ من قولهم:

حرص القصار الثوب: إذا كشط عنه الوسخ، وهذا هو المحكي عن الأزهري، وهي بالحاء والصاد المهملتين، وتسمى: الحريصة، ويقال: حرص رأسه –بفتح الراء – يحرصه: بكسرها، حرصاً: بإسكانها. قال: والدامية ما تشق الجلد، وتدمي، أي من غير سيلان؛ كما قاله الماوردي والقاضي الحسني في موضع من كتابه، وحكاه المحاملي عن ابن سريج، والرافعي عن الشافعي – رضي الله عنه – وأهل اللغة. ويليها عند الأكثرين – ومنهم: ابن سريج، كما قلناه – الدامعة، بالعين المهملة، وهي التي يخرج دمها كالدموع. وقد فسر بعضهم الدامية بالتي يسيل منها الدم، وعلى ذلك جرى القاضي الحسين في موضع من كتابه، وكذا الغزالي وإمامه. و [فسروا] الدامغة بالتي يقطر منها الدم، وكذلك جعلها هذا القائل بين الحارصة والدامية. قال: والباضعة: ما تقطع اللحم؛ لأن بضع الشيء: شقه، وتليها الشجة التي سماها الماوردي: البازلة، وهي التي يتبزل الدم فيها؛ فتكون أقوى من الدامغة؛ لأن دم البازلة ما اتصل ودام، ودم الدامغة ما انقطع، وقال: إن هذا أشبه بالمعنى [والاشتقاق]. قال: والمتلاحمة: ما تنزل في اللحم، وقد تسمى: اللاحمة وأهل المدينة يسمونها – كما قال الماوردي -: البازلة؛ لأنها تبزل؛ أي: يشق فيها اللحم. وعن الإمام تقديم المتلاحمة على الباضعة، وتفسير كل واحدة بما سبق في الأخرى، والمعنى لا يختلف. قال: والسمحاق: ما يبقى بينه وبين العظم جلدة رقيقة، سميت بذلك؛ لأن الجلد [الذي] وصلت إليه يسمى: سمحاق الرأس، مأخوذ من سمحايق البطن، وهو الشحم الرقيق، وغيم سمحايق: إذا كان رقيقاً، ويسميها أهل المدينة – كما قال الماوردي -: الملطاة.

والسمحاق بكسر السين، وبالحاء، المهملتين. قال: ويجب في هذه الخمسة الحكومة؛ لأن التقدير يعتمد التوقيف، ولم يرد فيه توقيف، روي عن مكحول مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم: "جَعَلَ فِي الْمُوضِحَةِ خَمْساً مِنَ الإِبِلِ، وَلَمْ [يُوقِفْ] فِيمَا دُونَ ذَلِكَ شَيئاً". وروى عبد الحق في "الأحكام"، عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لَمْ يَقْضِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِشَيْءٍ" وإذا كان كذلك تعينت الحكومة. قال: ولا تبلغ بحكومتها أرش الموضحة؛ لأنها دونها، قال الماوردي: وهذا هو الظاهر من منصوص الشافعي – رضي الله عنه – وقول جمهور أصحابه، ووراءه أمران حكاهما الماوردي أيضاً، وثالث عن غيره. فأحد الأمرين: حكى أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة، عن الشافعي –رضي الله عنه- أن الحكم كذلك، إذا لم يمكن معرفة قدر الشجة من الموضحة؛ فإن أمكن ذلك اعتبر ما انتهت إليه في اللحم من مقدار ما بلغته الموضحة؛ فإن أمكن ذلك اعتبر ما انتهت إليه في اللحم من مقدار ما بلغته الموضحة حتى وصلت إلى العظم، فإذا عرف مقداره من نصف أو ثلث أو ربع، كان فيه بقدر ذلك من أرش الموضحة؛ فإن لم أنه النصف، وشك في الزائد- اعتبر شكه بتقويم الحكومة؛ فإن زاد على النصف، وبلغ الثلثين – زال حكم الشك في الزيادة بإثباتها، وحكم [بها، ولزم ثلثا دية الموضحة. وإن بلغت النصف زال حكم الشك في الزيادة بإسقاطها، وحكم] بنصف دية الموضحة، وإن نقصت عن النصف بطل حكم النقصان والزيادة، وثبت حكم النصف. وهذا ما نسبه الرافعي إلى الأكثرين، وعليه اقتصر في "المهذب". وقال ابن الصباغ: إنه الذي قاله أصحابنا.

وحكى القاضي أبو الطيب قبل الكلام في دية [اليهودي والنصراني]: أنا إذا عرفنا نسبة المجروح من الموضحة نوجب أكثر الأمرين مما اقتضاه التوزيع أو حكومة لا يبلغ بها أرش موضحة. والفرق بين هذا وبين ما حكيناه عن أبي إسحاق وغيره: أنا على هذا نوجب المحكومة إذا زاد قدرها على قدر ما اقتضاه التوزيع، مع تحقق قدر النسبة، وعلى رأي أبي إسحاق:؛ إذا تحققنا نسبة الجرح من الموضحة من غير شك في زيادة عليه، لانوجب إلا قدر النسبة من دية الموضحة، وإن كان قدر الحكومة أزيد منه، وهذا هو الأمر الثالث الذي أشرت إليه، وأدخلته بين كلام الماوردي؛ لقربه مما قبله. والثاني مما حكاه الماوردي: أن ابن سريج رأى أن أروشها مقدرة بالاجتهاد،

كما قدرت الموضحة وما فوقها بالنص؛ فجعل في الحارصة بعيراً واحداً، وفي الدامية والدامغة بعيرين، وفي الباضعة والبازلة والمتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي الملطاة والسمحاق أربعة أبعرة. قال: والموضحة: ما توضح العظم، أي: تكشفه بحيث يقرع بالمرود، وإن كان العظم غير مشاهد بالدم الذي ستره. قال: في الرأس أو الوجه، وفيها خمس من الإبل؛ لما روى عمرو بن حزم في مسنده - كما ذكره أبو إسحاق - أن النبي صلى الله عليه وسلم:"كَتَبَ كِتَاباً إِلَى اليَمَنِ، وَفِيهِ: وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ". قال الإمام: وهذا الحديث الذي اعتمد عليه الشافعي -رضي الله عنه - في تقدير أروش الأطراف. وقد روى ما ذكرناه في الموضحة معاذ بن جبل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لفظاً سمعت منه". وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فِي الْمُوَضِّحِ خَمْسٌ" أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: إنه حسن. وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - قالا: "الْمُوَضِّحَةُ فِي الرَّاسِ وَالوْجْهِ سَوْاءٌ". ونقل مكحول، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أنه قال: "الْمُوَضِّحَةُ فِي

الرَّاسِ وَالوَجْهِ وَالْحَاجِبِ سَوَاءٌ"، ولا يعرف لهم مخالف. ولا فرق في ذلك بين أن تكون صغيرة كالمخيط – كما قال الماوردي – أو أكبر؛ لأنها على الأسماء؛ فاستوى حكم صغيرها وكبيرها كالأطراف. وأبدى الإمام تخريج وجهين فيما إذا غرز إبرة في رأس إنسان، وتحققنا وصول رأس الإبرة إلى العظم، ثم استلها: في أن ذلك هل يكون إيضاحاً – مما سنذكره فيما إذا أوضح موضحتين، وأدخل بينهما مروداً في الباطن. وكذا لا فرق بين أن يسترها الشعر أو لا، ولا بين أن يحصل بها شين، أو لا يحصل، وإذا حصل بين القليل والكثير. قال الماوردي: وقد حكى عن الشافعي – رضي الله عنه – أنه قال في موضع آخر: "إن موضحة [الجبهة إذا كثر] شينها في الوجه أن فيها أكثر الأمرين من ديتها أو أرش شينها؛ فاختلف أصحابنا على وجهين: أن [خرجوا] زيادة الشين في الرأس والوجه على قولين: والوجه الثاني: أنه لا يلزمه في شين الرأس إلا ديتها، ويلزمه في شين الوجه أكثر الأمرين؛ لأن شينها في الوجه أقبَح. وقد نسب الرافعي الأخر إلى الإصطخري وابن أبي محمد الفارسي، وأنه لا تفريع على هذا. ثم ما ذكره الشيخ مفروض في الموضحة على الحر المسلم الذكر، ونسبة قدر أرش الموضحة عيه من ديته: نصف عشرها؛ فراعى هذه النسبة في حق غيره، حتى يجب في موضحة المرأة بعيران ونصف، وفي موضحة اليهودي والنصراني بعير وثلثان، وفي موضحة النمجوسي ثلث بعير؛ لأن ذلك نصف عشر ديتهم، وقد ذكرنا تقدير أبدالها بالدراهم [من] قبل. تنبيه: قول الشيخ: "والشجاج في الرأس عشر" ثم قوله: "والموضحة: ما

توضح العظم في الرأس أو الوجه"، يفهم أن باقي الشجاج لا يجري في الوجه، وليس الأمر كذلك؛ بل ما ذكره في الرأس، قال الأصحاب: إنه يجري في الجبهة من الوجه. وكذلك يتصور ماسوى المأمومة والدامغة في الخد وقصبة الأنف واللحى الأسفل، على أن في بعضه خلافاً سيأتي. قال: فإن عمت الرأس، ونزلت إلى الوجه - فقد قيل: يلزمه خمس من الإبل؛ لأن الجبهة والرأس كلاهما محل الإيضاح؛ فأشبه ما إذا أوضح رأسه في موضعين وجرح ما بينهما. وقيل: عشر؛ لأن الرأس والوجه عضوان مختلفان، فرتب على الجناية على كل منهما عند الاجتماع ما يترتب عند الانفراد، كما لو أوضحه، وأمرَّ السكين إلى قفاه؛ فإنه يجب عليه في الموضحة خمس من الإبل، ويجب في الجراحة في القفا حكومة. ويخالف ما إذا أوضحه في موضعين، ثم خرق ما بينهما؛ لأن الرأس كلها محل واحد؛ بدليل أن قدر الموضحة من الشجوج [لو استوعب جميع رأس] الشاج - استوفى، ولو زاد عليه لم يستوف من الوجه، وهذا ما صححه الرافعي وغيره. وعلى هذا فرعان: أحدهما: لو شملت الموضحة الجبهة والوجه، قال الإمام: في الاتحاد تردد، والأظهر الاتحاد؛ تنزيلاً لأجزاء الوجه منزلة أجزاء الرأس. الثاني: لو كانت الجراحة الواصلة إلى الوجه من الرأس مختلفة؛ بأن كانت في الرأس موضحة، وفي الوجه متلاحمة - وجب عليه خمس من الإبل وحكومة المتلاحمة، كما ذكرنا في جراحة القفا. وعلى الأول: لا شيء عليه سوى خمس من الإبل في الفرعين.

قال: إن أوضح موضحتين بينهما حاجز، فعليه عشر من الإبل؛ لعموم أخبار المواضح، ولا فرق في ذلك بين أن يَرفع الحديدة عن موضحة، ثم يضعها على موضحة أخرى، وبين أن يجريها على الرأس من موضع الإيضاح الأول إلى أن يتحامل عليها في موضع آخر؛ فيوضحه، واللحم والجلد سليمان. وحكى الإمام في الحالة الثانية وجهاً ضعيفاً: أن الحاصل موضحة واحدة؛ لاتحاد الفعل وتواصل الحركات. وفي تعليق القاضي الحسين الجزم به نقلاً وتفقهاً. وهذا الحكم فيما لو كثرت المواضح؛ يجب في كل واحدة خمس من الإبل. وفيه وجه: أنها إذا كثرت، بحيث تزيد أروشها على دية النفس –لا يجب فيها أكثر من دية النفس؛ كما سيأتي مثله في قلع الأسنان. والصحيح، وبه قطع ابن كج: الأول. وفرق بين ذلك وبين الأسنان؛ بأن الأسنان معلومة مضبوطة؛ كالأصابع؛ فجاز إلا تزاد على دية النفس؛ كالأصابع؛ والموضحات ليست مضبوطة قدراً ولا عدداً؛ فيجب أرشها بحسب وجودها. قال: وإن خرق بينهما –أي: قبل الاندمال – رجعت إلى خمس؛ لأن فعل الإنسان مبني على فعله فيجعل كالشيء الواحد؛ بدليل ما لو قطع يده، ثم حز رقبته قبل الاندمال؛ فإنا نجعل الجنايتين واحدة، وإذا كان كذلك لم يجب عليه سوى خمس. وهكذا الحكم فيما لو تآكل ما بينهما، صرح به القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين والمراوزة، وادعى أنه لا خلاف فيه. وأبدى الرافعي تخريج وجه في مسألة الكتاب: أنه يجب عليه أرش ثلاث موضحات من قول ابن سريج فيما إذا قطع يديه ورجليه، ثم حز رقبته: إنه يجب عليه ديات. وحكى ابن كج وجهاً آخر فيها: أنه لا يجب عليه بسبب رفع الحاجز شيء، ولكن

لا يسقطه به شيء من الأرشين؛ لأن زيادة الجناية تبعد أن تكون مسقطة لما وجب. قال: وإن خرق بينهما غيره، وجب على الأول عشر، وعلى الثاني خمس؛ لأن فعل الإنسان لا ينبني على فعل غيره؛ بدليل: ما لو قطع يد إنسان، وحز آخر رقبته؛ فإنه يجب على [كل] منهما موجب جنايته. ولو خرق بينهما المجني عيه كان فعله هدراً، واستمر وجوب العشر على الأول. فرع: لو أوضحه رجلان كل واحد موضحة، تم تآكل الحاجز بينهما- عادت إلى واحدة، ووجب على كل منهما نصف أرشها. ولو اشتركا في موضحتين، ثم رفع أحدهما الحاجز – فعلى الذي رفع نصف أرش موضحة، وعلى الآخر أرش موضحة كاملة. قال: وإن أوضح موضحتين، ثم خرق بينهما في الباطن، أي: وبقي الجلد الظاهر – [فقد قيل: يجب عليه أرش موضحتين؛ نظراً للظاهر]، وهذا ما صححه الجيلي. وقيل: أرش موضحة؛ [نظراً] للباطن، وهذا هو الأصح، وبه جزم القاضي الحسين. وذكا الخلاف جارٍ – كما حكاه الإمام – فيما إذا أدخل حديدة من الموضحة إلى الموضحة في الباطن، ثم استلها، وعاد اللحم وانطبق. وفيما إذا أوضح موضحتين ابتداء، بينهما حاجز الجلد دون اللحم، أو اللحم دون الجلد. وقيل: اللحم يصلح حاجزاً دون الجلد؛ لان اللحم هو الساتر للعظم المنطبق عليه؛ فيكون الاعتبار به. وقيل العكس؛ لأن الجلد هو الذي يظهر للناظرين؛ فإذا بقي [على] اتصاله لم يكن العظم واضجاً.

قال الإمام: وهذا ليس بشيء: [وبه جزم الماوردي، وكلامه يوهم أن الشافعي – رضي الله عنه – نص عليه]. قال: وإن شج في جميع رأسه شجة دون الموضحة، وأوضح في بعضها، ولم ينفصل بعضها عن بعض – وجب عليه أرش موضحة؛ إذ الكل لو كان موضحة لم يلزمه أكثر من أرش موضحة، فإذا كان بعضه موضحة وبعضه دونها كان أولى ألا يلزمه زيادة على أرشها. وفي "الجيلي" حكاية وجه: أنه يجب عليه مع ذلك حكومة، والمشهور: الأول، وهو المحكي عن نصه في "الأم". نعم، لو اقتص في الموضحة، فهل له أخذ الحكومة لما دونه من المتلاحمة والسمحاق؟ قال صاحب "التهذيب": يحتمل أن يكون على وجهين؛ كما لو قطع يده من نصف الكف؛ فاقتص المجني عليه من الأصابع، هل له حكومة نصف الكف؟ فيه وجهان. فروع: [الفرع الأول:] لو وسع الجاني الموضحة لم يجب عليه سوى أرش موضحة واحدة، على الصحيح. وفيه وجه: أنه يجب عليه أرش أخرى؛ كما لو وسعها غيره. قال الرافعي: وهذا الخلاف كالخلاف المذكور فيما لو رفع الحاجز بين موضحتيه. [الفرع الثاني:] إذا أوضح موضحة بعضها عمد، وبعضها خطأ، أو هو في بعضها محق، وفي بعضها متعدٍّ – فهل الحاصل واحدة، أو اثنتان؟ فيه وجهان: أظهرهما – في "الرافعي" -: الثاني. [الفرع الثالث:] إذا قال الجاني: رفعت الحاجز قبل الاندمال؛ فعادت الموضحتان واحدة، وقال الولي: بل بعده؛ فعليك أرش ثلاث موضحات – قال الأئمة: إن قصر الزمان صدق الجاني بيمينه، وإن طال صدق المجني عله بيمينه، فإذا حلف [ثبت] له أرشان، وهل يثبت الثالث؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم؛ لأنه ثبت رفع الحاجز باعتراف الجاني، وثبت الاندمال بيمين المجني عليه؛ فقد حصلت موضحة ثالثة. وأصحهما: لا، ويصدق الجاني. وسنذكر عن الأصحاب في مسألة الاختلاف في موت المجني عيه بجنايات توجب ديات بالسراية أو بغيرها [كلاماً] يظهر مجيء مثله هاهنا؛ ليطلب من ثَمَّ. ولو وجدنا الحاجز بينهما مرتفعاً، فقال الجاني: رفعته أنا، أو: ارتفع بالسراية، وقال المجني عليه: بل رفعه آخر، أو رفعته أنا – فالظاهر تصديق المجني عليه؛ لأن الموضحتين توجبان أرشين؛ فالظاهر: ثبوتهما، واستقرارهما، وهذا ما جزم به القاضي أبو الطيب. قال: الهاشمة: ما تهشم العظم، أي: تكسره بعد الإيضاح. [قال]: ويجب فيها عشر من الإبل؛ لما روى قبيصة بن ذؤيب: "أن زيد ابن ثابت – رضي الله عنه – قدر فيها عشراً من الإبل". والظاهر: أنه لا يقوله إلا توقيفاً؛ [فإن كان توقيفاً] كما ذكر القاضي الحسين والإمام أن بعض أصحابنا روى أن زيد بن ثابت روى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمصير إليه واجب، وإن لم يكن توقيفاً فهو قول صحابي، وليس له مخالف؛ فكان إجماعاً. ولأن كسر العظم بالهشم ملحق بكسر ما تقدرت ديته من السن، وفيه خمس من الإبل؛ وكذلك في الهشم؛ فصار مع [أرش] الموضحة عشراً. وعن "أمالي" أبي الفرج السرخسي نقل قول عن القديم: أن الواجب أرش موضحة وحكومة. قال: وإن ضربه بمثقل؛ فهشم العظم، ولم يجرح – لزمه خمس من الإبل؛ لأن العشر إذا كانت في مقابلة الجرح والهشم، وأرش الجرح كما قلنا خمس – تعين أن الخمسة الباقية في مقابلة الهشم؛ فوجبت عند انفراده، وهذا

قول أبي إسحاق. وعن "المنهاج": أن الشافعي - رضي الله عنه- نص عليه، وهذا هو الصحيح في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"المهذب" وغيرهما. وقيل: تلزمه حكومة؛ كهشم أعضاء البدن، وهذا قول ابن أبي هريرة، كما قاله في "المهذب". قال الإمام: وعلى هذا هل يبلغ بحكومته خمساً من الإبل؟ تردد فيه جواب القاضي. وقد أفسد الماوردي قول ابن أبي هريرة: بأنه لما لم تتقدر موضحة الجسد وهاشمته، لم يتقدر انفراد هشمه، ولما تقدرت موضحة الرأس وهاشمته، تقدر انفراد هشمه. ثم هذا المعنى ليس مما نرى؛ فلا يثبت [حكمه] إلا بإقرار الجاني، أو بشهادة عدلين من أهل الخبرة. فروع: [الفرع الأول:] إذا أوضح في مواضع متفرقة، وهشم في كل واحد منها- فهي هاشمات، وعن ابن كج حكاية وجه عن ابن القطان غير موجه بأنها تجعل موضحات وهاشمة واحدة، ولا تفريع عليه. [الفرع الثاني:] إذا شجه هاشمتين عليهما موضحة واحدة - كانتا هاشمتين، وعليه دياتهما؛ لأنه زاد إيضاح مالا هشم تحته. ولو أوضحه موضحتين تحتهما هاشمة واحدة، كان ذلك هاشمتين. قال البندنيجي: قولاً واحداً؛ لأنه قد زاده هشماً بلا إيضاح عليه. قال الماوردي: فإن قيل: فهذا هشم في الباطن دون الظاهر. قيل: الفرق: امتزاج اللحم بالجلد في الموضحة، وانفصال العظم عن الجلد واللحم في الهاشمة. وفرق ابن الصباغ بأن الهاشمة تابعة للموضحة، وهما موضحتان، وليست الموضحة تابعة لغيرها. وحكى الرافعي وجهاً: أن الحاصل هاشمة واحدة؛ لاتصال الكسر، فعلى هذا

لا فرق. [الفرع الثالث:] إذا شجه؛ فهشم مقدم رأسه وأعلى جبهته، كان على وجهين كما قلنا في الموضحة. ولو شجه؛ فأوضح رأسه، وهشم جبهته - كان مأخوذاً بدية موضحة في أحدهما، وبهاشمة في الأخرى، قالهما الماوردي. وقد ذكرنا أن بين الهاشمة والمأمومة شجة؛ تسمى: المفرشة، وهي الموضحة إذا اقترن بها صداع في الرأس من غير هشم، قال الماوردي: فينظر في الصداع الحادث عنها: فإن انقطع ولم يدم، فلا شيء فيه غير دية الموضحة. وإن استدام الصداع على الأبد ولم يسكن، كان فيه مع أرش الموضحة حكومة لا تبلغ دية هاشمة. وإن كان يضرب في زمان، ويسكن في آخر؛ فإن علم أن عود الصداع سببه الموضحة، كان فيه حكومة، وإن علم أنه من غيرها، فلا حكومة فيه، ولا فيما تقدمه؛ لأنه لم يدم. وإن شك فيه، فلا حكومة أيضاً؛ لأنها لا تجب بالشك. قال: والمنقلة: ما لا تبرأ إلا بنقل العظم. هذا الكلام يحتمل أمرين: أحدهما: ألا تبرأ إلا بنقل العظم - الذي انتقل من محله إلى محل [آخر]؛ بالجناية إلى محله. والثاني: ألا تبرأ إلا بنقل العظم أصلاً ورأساً، وعليه ينطبق قول الماوردي في الديات حكاية عن "المختصر": وهي التي تكسر عظم الرأس حتى يتشظَّى فينقل من عظامه؛ ليلتئم، وقد سمي الشافعي - رحمه الله - هذه الشجة في "الأم":المنقولة.

وقد قيل: إن المنقولة: [هي] التي تنقل فراش العظم، أي: ما دق منها من موضع إلى موضع. قال: ويجب فيها خمسة عشر من الإبل: لانعقاد الإجماع عليه؛ كما حكاه الماوردي؛ لرواية عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً إلى [أهل] اليمن، وفيه: "وَفِي الْمُنْقِلَةِ خَمْسَةَ عَشْرَ مِنَ الإِبِلِ" خرجه النسائي. فرع: لو شجه منقلة لا إيضاح عليها لزمه كمال أرشها؛ قاله الماوردي، بخلاف الهاشمة إذا لم يكن عليها إيضاح؛ لأن المنقلة لابد من إيضاحها؛ لتنقل العظم الذي فيها؛ فصار الإيضاح عائداً إلى جانيها؛ فلزمه جميع ديتها، والهاشمة لا تفتقر إلى إيضاح؛ فلم يلزمه غلا قدر ما جنى فيها. وفي "الرافعي" حكاية [وجهين] فيما إذا نقل العظم من غير إيضاح: أحدهما: أن الواجب الحكومة. والثاني: أن الواجب عشر من الإبل. "وأن في الرقم" وغيره [أي في الأصل -:]؛ أن موضعهما إذا لم يحوج الهشم إلى البط والشق لإخراج العظم أو تقويمهن فإن أحوج إليه فالذي أتى به هاشمة، يجب فيها ما يجب في الهاشمة، [كذا وقفت عليه في نسختين]. قال: والمأمومة: ما تصل إلى الجلدة التي تلي الدماغ، سميت بذلك؛ لوصولها إلى أم الرأس، وهي الجلدة المحيطة بمخ الدماغ، وتسمى: الآمَّة – أيضاً – بالمد وتشديد الميم. قال: وفيها ثلث الدية؛ لما روى عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً إلى اليمن فيه: "وَفِي الْمَامُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ" خرجه النسائي. وقد روى أبو داود عن عمرو بن شعيب، عن أبيهن عن جده في حديث طويل:

"وَفِي الْمَامُومَةِ ثُلُثُ الْعَقْلِ ثَلاَثٌ وَثَلاَثُونَ مِنَ الإِبِلِ وَثُلُثٌ". فرع: لو شجه رجل موضحة، وهشمه ثانٍ بعد [الإيضاح، ونقله ثالث بعد الهشم، وأمّه رابع] بعد التنقيل- وجب على الأول دية موضحة، وعلى الثاني ما زاد عليها من دية الهاشمة – وهو خمس من الإبل – [وعلى الثالث ما زاد عليهما من دية المنقلة – وهو خمس من الإبل] – وعلى الرابع ما زاد عليها من دية المأمومة، وهي ثمانية عشر بعيراً وثلث، وهذا ما حكي عن ابن سريج، وهو الصحيح، عن كتاب ابن كج وغيره حكاية وجه آخر: أنهم يجعلون شركاء في المأمومة؛ فيكون أرشها عليهم أرباعاً. فلو جاء خامس، وخرق خريطة الدماغ – ففي "التهذيب": أن عليه تمام دية النفس، وهذا على طريقة من جعل أرش الدامغة دية النفس، كما سنذكره. وعلى طريقة ابن سريج يظهر أن يجب نصف أرش المأمومة. قال: والدامغة: ما وصلت إلى الدماغ، ويجب فيها ما يجب في المأمومة؛ يعني: ثلث الدية؛ لأنها واصلة إلى جوف؛ فأشبهت الجائفة، وهذا ما نص عليه الشافعي، رحمه الله. قال الماوردي: والذي أراه: أنه يجب تفضيلها على المأمومة بزيادة حكومة؛ لخرق غشاوة الدماغ، لكنه لم يُحْكَ عن الشافعي، رحمه الله. وفي "الجيلي": أن الروياني استحسنه، وحكى الفوراني وجماعة أن الواجب فيها تمام الدية؛ لأنها تُذَفَّف، وعلى هذا جرى الإمام؛ حيث قال: وليست الدامغة من الجراح، وإنما توحي، تذفف تذفيفَ حزَّ الرقبة. قال الراعي: والأولون يمنعون كونها مذففة. قال: وفي الجائفة ثلث الدية؛ لما روى عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في الكتاب الذي كتبه إلى اليمن: "وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ"، خرجه النسائي. وقد روى [عن] عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال::"وَفِي الْجَائِفَة ثُلُثُ الدِّيَةِ".

قال: وهي الجناية التي تصل إلى جوف البدن من ظهر أو بطن أو صدر أو ثغرة نحر. ثغرة النحر: خسفة اللبة. وألحق الإمام بذلك الوصول بالمثانة. ولا فرق في ذلك بين أن يكون بمحدد أو غيره، ولا بين الصغير [منها] والكبير؛ لأنها متعلقة بالاسم؛ كما في الموضحة. وكذا لا فرق بين أن تندمل أو يحز آخر رقبته قبل الاندمال على المذهب؛ كما صار إليه الأصحاب في الموضحة، وادعى الإمام فيها الاتفاق. وفي "تعليق" القاضي الحسين أن بعض أصحابنا قال فيما إذا اندملت: لا يجب أرش جائفة، وعليه حكومة. وعزاه في "التتمة" إلى رواية صاحب "الإيضاح" تخريجاً من قول الشافعي إذا أفضى امرأة فالتحم الموضع: إن عليه الحكومة. وابن الصباغ نسبه إلى تخريج صاحب "الإيضاح" نفسه. وطرده المتولي في الموضحة تخريجاً لنفسه، وهذا قد حكيناه عن رواية الإمام من قبل. وفي "التهذيب": أن بعضهم خرج مسألة الجائفة على القولين في سقوط الأرش، عند عود السن، وإدخال خشبة أو حديدة في حلقه إلى أن تنتهي إلى جوفه – لا يجب بها شيء، إلا أن تخدش شيئاً في الجوف؛ فتجب حكومته، ويعزر في الحال؛ أدباً. ولو خرق بوصول الخشبة إلى الجوف حاجزاً من غشاوة المعدة، أو الحشوة – ففي إجراء حكم الجائفة عليها وجهان. قال الماوردي: بناء على اختلاف الوجهين في الحاجز بين الموضحتين إذا انخرق باطنه من اللحم، وبقى ظاهره من الجلد، كذلك حكاهما المصنف فيما إذا حصل ذلك بإدخال خشبة في دبره.

واحترز الشيخ بجوف البدن عن الوصول إلى جوف غيره؛ كما إذا جرح الذكر، فوصلت الجراحة إلى جوفه؛ فإنه لا يجب فيها أرش جائفة عند العراقيين؛ لأنه لا يخاف من الوصول إلى جوفه التلف، وقد حكى الإمام فيه وجهين. وعما إذا وصلت إلى جوف الفم؛ فإن فيها خلافاً، كما سنذكره. ومحل الاقتصار في الجائفة على ثلث الدية إذا وقعت الجراحة موازية للبطن، ولم تلدغ الآلة كبده ولا طحاله، أما إذا وقعت في الجسد غير موازية للجوف، وجرها إليه، أو لدغت الآلة الكبد أو الطحال – وجب ثلث الدية وحكومة، ولو كسر ضلعه من الجائفة؛ فإن نفذت الجائفة من غير الضلع لزمته حكومة للضلع، وإن لم تنفذ إلا بكسر الضلع دخلت حكومته في دية الجائفة. قال: فإن طعنه في بطنه؛ فخرجت الطعنة من ظهره – فهما جائفتان؛ لما رواه الجمهور، عن أبي بكر – رضي الله عنه – "أَنَّهُ قَضَى عَلَى رَجُلٍ رَمَى رَجُلاً بِسَهْمٍ فَأَنْفَذَهُ، بِثُلُثِي الدِّيَةِ". وقد روى في "المهذب" عن عمر – رضي الله عنه – نحوه، ولم يظهر لهما مخالف؛ فكان إجماعاً. ولأن ما خرق حجاب الجوف كان جائفة؛ كالداخلة من الظاهر إلى الباطن. قال: وقيل: هي جائفة؛ لأن الجائفة: ما وصلت إلى الجوف، والنافذة خارجة فكانت أقل من الجائفة؛ فعلى هذا يجب عليه مع أرش الجائفة حكومة؛ كذا حكاه القاضي الحسين، غيره، وهو الأظهر في "الرافعي". وفي "النهاية": أن الشيخ أبا بكر أبدى ذلك احتمالاً لنفسه؛ لأن هذه الجراحة زائدة على الواصلة إلى الجوف؛ فاقتضى ذلك زيادة حكومة. ثم قال الإمام: وهذا الذي ذكره فيه نظر؛ فإن تلك الزيادة التي تخيلها حقيقتها أنها جائفة أخرى، فإن مال إلى حقيقة هذا فالوجه إيجاب ثلثي دية، وإلا فلا

وجه مع [اعتقاد] اتحاد الجائفة؛ لإيجاب الزيادة، وهذا بمثابة ما لو أجاف بطن إنسان، ثم زاد فوسع تلك الجائفة. وما ذكره الإمام قد حكاه الرافعي وجهاً لبعض الأصحاب، وهو ظاهر كلام الشيخ. قال: والأول أصح؛ لما ذكرناه. قال الماوردي: وهو مذهب الشافعي، وعليه جمهور أصحابه. وعلى هذا: إن كان ما حصل به الطعن قد قطع بنفوذه في الجوف بعض خُشْوةٍ، كان عليه مع دية الجائفتين حكومة فيما قطع. ولو جرحه بخنجر له طرفان؛ فأجافه في موضعين، وبينهما حاجز – كانت جائفتين؛ فإن خرقه الجاني، أو تآكل، أو خرقه غير الجاني، أو المجني عليه – فالحكم فيه كما ذكرنا في الموضحة. قال: وإن أجاف جائفة، فجاء آخر ووسعها-أي: في الظاهر والباطن – وجب على الثاني أرش جائفة؛ لأنه لو انفرد هذا القدر لكان جائفة؛ فكذا عند الاشتراك؛ كما قلنا في الموضحة، ولو اتسعت في الباطن دون الظاهر، أو بالعكس، أو زاد في [غورها] – قال الماوردي: فعليه حكومة؛ لأنه جرح لم يكمل جائفة. ولو قطع من جانب بعض [الظاهر ومن جانب بعض] الباطن، ففي التتمة: أنه ينظر في ثخانة الجلد واللحم، ويقسط أرش الجائفة على المقطوع من الجانبين، وقد يقتضي التقسيط تمام الأرش؛ بأن قطع نصف الظاهر من جانب، ونصف الباطن من جانب. أما إذا لم يؤثر فعل الثاني في سعتها شيئاً، لم يجب عليه سوى التعزير. قال: وإن طعن وجنته، فهشم العظم، ووصلت الجراحة إلى الفم – ففيه قولان: أحدهما: أنها جائفة؛ أي: يجب فيها ما يجب في الجائفة؛ لأنها جراحة واصلة [من الظاهر إلى جوف، فأشبهت الواصلة] إلى الباطن، وهذا أصح في الجيلي.

والثاني: يلزمه أرش هاشمة؛ ولا يجب عليه أرش جائفة؛ لأنه لا يطلق عليها جائفة، ولا يخاف منها كالخوف من الجائفة؛ فلا تلحق بها في الحكم. وأيضاً: فإنه لو خرق شدقه لم يكن جائفة كما حكاه ابن الصباغ؛ فكذا هاهنا، وهذا أصح عند النواوي، والمختار في "المرشد". فعلى هذا: يجب [عليه] مع أرش الهاشمة حكومة لما زاد، صرح به البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما. والوجنة: اللحم المرتفع من الخدين، وفيها أربع لغات: فتح الواو، وكسرها، وضمها، وأجنة – بالألف – والجمع: الوجنات، بفتحها، ومن كسر المفرد، أسكن الجيم، وفتحها، وكسرها، ومن ضمه ضم الجيم وفتحها وأسكنها، ويقال: رجل مُوَجَّن، وأوجن: عظيم الوجنة. وفي "عدة" الطبري حكاية القولين فيما إذا خرق شدقه؛ فوصل إلى داخل الفم: في أنه هل يجب [عليه] أرش جائفة أم لا؟ وحكى الماوردي نظير القولين في الأصل عن حكاية القاضي أبي حامد فيما إذا طعن وجنته؛ فهشمت العظم، وتنقل إلى أن وصل إلى الفم، أو كانت [في] إحدى اللحيين؛ فخرقت كذلك حتى وصلت إلى الفم: أحدهما: يجب فيها أرش مأمومة. والثاني: تجب فيها دية منقلة، وزيادة حكومة. وحكى القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، عن أبي علي الطبري أنه خرج ما إذا جرح قصبة أنفه، وأنفذ الجراحة إلى باطنه – على القولين في مسألة الكتاب؛ لأن باطن الأنف كباطن الفم. وحكى الماوردي عن رواية القاضي أبي حامد في "الجامع" حكاية قول: أنه يلزمه دية مأمومة، وتلزمه حكومة هي أكثر من دية منقلة. فرع: إذا خاط المجروح جائفته؛ ففتقها آخر حتى عادت جائفة- نظر:

فإن كان ذلك بعد التحامها ظاهراً وباطناً [فعليه دية جائفة وقيمة الخيط لا غير إن كان تالفاً. وإن كان قبل التحامها ظاهراً وباطناً] فلا شيء عليه في الجائفة، ويعزر أدباً، ويغرم قيمة الخيط إن كان تالفاً، وأجرة مثل الخياطة؛ لأنه ما ألزم في محله غرما سواه، وإن كان بعد التحامها ظاهراً دون الباطن فعليه حكومة، ويغرم قيمة الخيط؛ ولا يغرم أجرة الخياطة؛ لدخوله في حكومة محله، قاله الماوردي. وأطلق في "الرافعي" أنا إذا أوجبنا الحكومة في صور هذه المسألة، لا تجب أجرة الخياطة، ويجب ضمان المخيط إن تلف. قال: ويجب في الأذنين إذا قطعهما من أصلها الدية؛ لأنه روي عن عمر وعلي – رضي الله عنهما – أنهما قالا: "وَفِي الأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ"، ولا يعرف لهما مخالف. قال الماوردي: ولرواية عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وَفِي الأُذُنَيْنِ الدِّيةُ". وروى الدارقطني، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم [أنه كان في كتاب عمرو بن حزم] حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران: "وَفِي الأُذُنِ خَمْسُونَ". وفي "النهاية": أنه لم يرج لها ذكر في كتاب عمرو بن حزم، وقد رواه بعضهم –يعني القاضي الحسين- عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مجازفة في الرواية، ولم يصح

-عندنا – في ذلك خبر في كتب الحديث. ولأنها عضوان يجتمع منهما جمال ومنفعة؛ فوجب أن تكمل فيها الدية؛ كاليدين والرجلين. قال: وفي أحداهما نصفها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَفِي الأُذُنِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ". وبعضهم يروي ذلك عن كتاب (عمرو] بن حزم. قال: وفي بعضها بقسطه؛ لأن ما وجبت فيه الدية وجب في بعضه بقسطه؛ كالأصابع. وحكى الإمام أن بعض الأصحاب خرج وجهاً آخر: أن في الأذنين الحكومة، وقال: إنه متجه إن لم يثبت فيهما خبر؛ فإن إيجاب بدل الكل في الطرف ليس منقاساً في الأصل، والأصل المعتمد في تكميل بدل الجملة [في] الجزء توقيف الشارع. ولا فرق على المذهب بين ذات الثقب والخرم إذا لم يذهب منها شيء، ولا بين أذن الأصم والسميع؛ لأن محل السمع في الصماخ لا في الأذن؛ لبقائه بعد قطعها. وخالف حلول البصر في العين، وحلول حركة الكلام في اللسان. قال: وإن ضرب الأذن؛ فشلت، أي: يبست – وجبت الدية في أحد القولين – أي: في "الأم" –كما يلزمه ذلك في شلل اليدين، وهذا أصح في "التهذيب" وعند النواوي". والحكومة في الآخر؛ لبقاء منافعها بعد الشلل: من جمع الصوت، ومنع دخول الهوام والماء إذا اغتسل، وعدم منافع اليد بالشلل. وبعضهم بنى الخلاف على خلاف في أن منفعة الأذن منع دبيب الهوام وهو يزول بالشلل، أو جمع الصوت وهو باق مع الشلل. قال: وإن قطع أذناً شلاء، ففيه قولان: أحدهما: تجب الدية. والثاني: الحكومة.

هذان القولان ينبنيان –كما قال الماوردي، والقاضي أبو الطيب، والبندنيجي – على القولين في الفصل قبله، فمن قال: تجب ثم الدية، أوجب هاهنا الحكومة؛ كما في قطع اليد الشلاء، ومن قال: تجب ثم الحكومة، أوجب هاهنا الدية. وعن الشيخ أبي حامد: أن إيجاب الدية غلط لا يحكي، بل عليه حكومة قولاً واحداً؛ كما قلنا فيمن قلع عيناً قائمة. قال البندنيجي: وهو غلط. وهذا القول أشار إليه الماوردي بقوله: وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يجب في الحالين إلا حكومتان: أحداهما: بالاستحشاف، والأخرى: بالقطع، يستوفي بالحكومتين جميع الدية، لا يجوز نقصانها، ويجوز زيادتها. وعن ابن كج وجه آخر: انه لا يشترط بلوغهما قدر الدية. ثم قال الماوردي: وما ذكره هذا القائل- يعني: في الأصل – فاسد؛ لأنه لا بد أن يجري في إحدى الحكومتين حكم الجناية على الصحة، وذلك موجب لكمال الدية. وقد عكس الإمام البناء؛ فجعل الخلاف في الأولى مبنيًّا على الخلاف في المسألة الثانية، والمعنى لا يختلف. فرع: إذا جنى على أذنه؛ فاسودت، ففيها حكومة؛ كما لو جنى على يده؛ فاسودت، وإن كانت المنفعة باقية. فرع آخر: إذا استأصل قطع الأذن حتى أوضح العظم، قال الرافعي: لم يجعل أرش الموضحة تبعاً لدية الأذن؛ لأنه لا يتبع مقدَّرٌ مقدَّراً. قال: ويجب في السمع الدية؛ لما روى معاذ بن جبل – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَفِي السَّمْعِ الدِّيَةُ"، روي: "أَنَّ رَجُلاً رَمَى رَاسَ رَجُلٍ بِحَجَرٍ فِي زَمَانِ

عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – فَأَذْهَبَ سَمْعَهُ وَعَقْلَهُ وَلِسَانَهُ وَذَكَرَهُ؛ فَقَضَى عَلَيهِ عُمَرُ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – بِأَرْبَعِ دِياتٍ، وَهُوَ حَيٍّ"، ولا مخالف له من الصحابة. ولأن السمع من أشرف الحواس؛ فأشبه حاسة البصر. ولا فرق في إيجاب الدية بين أن يذهب السمع، أو يحكم أهل البصائر بأنه باقٍ في مقره، ولكنه ارتتق بالجناية داخل الأذن ارتتاقاً لا وصول إلى زواله؛ كما صرح به الإمام. وحكى الغزالي والرافعي في الحالة الثانية وجهين، ثانيهما – وهو الأظهر في "الرافعي"، وبه أجاب في "التتمة" -: إيجاب الحكومة. واعلم أن لطيفة السمع ليست [متعلقة بجزء من الأذن، وإنما في مقرها من الرأس، وقد قال العلماء: السمع] شيء واحد، وليس من المثاني، بخلاف البصر. قال الإمام: وذهب بعض أصحابنا إلى إلحاقه بالمثاني، وكأنه يتخيل لطيفتين لكل واحدة نفوذ في مصرف الأذن؛ كما يتحقق ذلك في البصر، وهذا مزيف عند جماهير الأصحاب. قال: فإن قطع الأذنين وذهب السمع – وجبت ديتان؛ لقطعه عضواً وإذهابه منفعة حالَّة في غيره؛ فلم يدخل أرش المنفعة في دية العضو؛ كما لو أوضح رأسه؛ فأذهب ضوء عينه. قال: فإن اختلفا في ذهاب السمع، أي: والجناية مما يحتمل ذهاب السمع بها – تتبع في أوقات الغفلة: فإن ظهر منه انزعاج سقطت دعواه؛ لظهور كذبه. وهذا من الشيخ يقتضي أنا لا نحلف الجاني في هذه الحالة. وفي "الحاوي": أنه لابد من تحليفه: إن سمعه باق؛ لجواز أن يكون انزعاج المجني عليه عند الصوت بالاتفاق، [وأنه لا يكفيه] أن يحلف: إن سمعه لم يذهب بجنايته.

قال: وإن لم يظهر فالقول قوله؛ لأن الظاهر صدقه مع يمينه؛ لاحتمال أن يكون متحفظاً في تلك الحالة. ثم صورة امتحانه: أن يُتَغَفَّلَ، ثم يصاح [به] بأزعج صوت وأهوله، يتضمن إنذاراً أو تحذيراً أو بأن يطرح في موضع [جلوسه شيء له صوت من موضع] عالٍ، ويكرر ذلك في أوقات الخلوات، ومن جهات؛ حتى يتحقق زوال اسمع بها؛ فإن الطبع يظهر منها ما يزول معه التصنيع. وإذا ثبت زوال سمعه – إما بإقرار الجاني، أو بالطريق المذكور – قال الماوردي: فيراجع عدول أهل الطب في أنه هل يجوز أن يعود، أم لا؟ فإن نفوا قدروها، وجب الانتظار بالدية إلى انقضاء تلك المدة: فإن عاد السمع فيها سقطت، وألا ثبتت. قال: وإن ادعى نقصان السمع – أي: من الأذنين جميعاً – فالقول قوله مع يمينه؛ إذ لا يعرف ذلك إلا من جهته. قال: ويجب فيما نقص بقدره –أي: من الدية – إذا عرف قدر نقصانه؛ لما مضى من نظائره. وطريق معرفة ذلك: أن يوقف له من يحدثه حتى يقول له: لا أسمع، ثم يغير الصوت عليه بالارتفاع قليلاً؛ فإن قال: أسمع، فقد صدق، ثم يتباعد عنه إلى أن يبلغ قدر المسافة التي كان يسمع منها قبل الجناية، ثم تذرع المسافة التي سمع فيها، ثم يدار الذي يحدثه إلى الجانب الآخر، ويفعل مثل ذلك؛ فإن اتفقت المسافتان – فقد ظهر صدقه؛ فيحلف، ويجب له بنسبة ما ذهب من السمع. وإن لم يعلم حد سماعه في حال الصحة، فلا سبيل إلى تحقيق المستحق من الدية؛ فيعطي في الذاهب منه حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده؛ كما قاله الماوردي والبغوي.

فإن قال المجني عليه: أنا أعرف قدر ما ذهب من سمعي، وهو النصف مثلاً، قال الماوردي: أحلف على دعواه، وحكم بقوله؛ [لأنه] لا يتوصل إلى معرفته إلا من جهته؛ فقيل قوله فيه مع يمينه؛ كما يقبل قول المرأة في حيضها. وقال الإمام وغيره: إنه يقدر الاعتبار بسمع رجل سليم السمع في مثل سنه وصحته؛ بأن يجلس بجنب المجني عليه، ويؤمر من يرفع الصوت ويناديهما من مسافة بعيدة، لا يسمع منها واحد منهما، ثم يقرب المنادي شيئاً فشيئاً، إلى أن يقول السليم: سمعت؛ [فيعلم على الموضع، ثم يديم المنادي ذلك الحد من رفع الصوت، ويقرب إلى أن يقول المجني عليه: سمعت]، فيضبط ما بينهما من التفاوت. أما إذا ادعى نقصان السمع في إحدى الأذنين – جرب بعد تصميم الأذن السليمة، وفعلنا معه ما تقدم؛ فإن انضبط الذاهب، وجب بقسطه، وإلا وجبت الحكومة. فرع: إذا أصمت الجناية إحدى الأذنين، وجب نصف الدية. [قال الإمام: وكان شيخي أبو محمد يمنع القول بإيجاب نصف الدية،] ويصير إلى أن يعتبر ما نقص من السمع بحالة الكمال. وهذا الذي ذكره إن كان قياس قولنا: إن السمع ليس من المثاني؛ فاعتبار النظر إلى إحدى الأذنين أقرب من معرفة جزئية النقصان بذرع المسافات، وحكى الغزالي وجهاًك أن الواجب الحكومة. قال: وفي العقل الدية؛ لما روى عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وَفِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ". وروى جابر بن عبد الله [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَفِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ".

وقضى عمر - رضي الله] عنه- في المشجوج رأسه، حين ذهب عقله بها وسمعه، ولسانه وذكره، بأربع ديات. ولأن العقل أشرف من حواس الجسد كلها؛ لامتيازه به من الحيوان البهيم، وفَرْقِه به بين الخير والشر، وتوصله به إلى [اجتلاب المنافع]، ودفع المضار، وتعلق التكليف به؛ فكان أحق بكمال الدية من جميع الحواس، ولا يجب فيه القصاص؛ لأمرين: أحدهما: اختلاف الناس في محله؛ فطائفة تقول: محله الدماغ، وأخرى تقول: القلب، وأخرى تقول: مشترك بينهما، وإن كان الأصح من أقوالهم- كما قال الماوردي وأبو الطيب - الثاني؛ لقوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46] وقوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} أي: عقل. والثاني: تعذر استيفائه؛ لأنه يذهب بيسير الجناية، ولا يذهب بكثيرها، وهذا هو المشهور. وقد ذكرنا من قبل أن الإمام حكى تردداً للأصحاب في وجوبه. ثم المراد بالعقل الذي تجب به الدية: العقل الغريزي الذي يتعلق به التكليف، وهو العلم بالمدركات الضرورية. فأما العقل المكتسب الذي هو حسن التقدير، وإصابة التدبير، ومعرفة حقائق الأمور - فلا دية فيه مع بقاء الغريزي، وفيه حكومة. ومحل إيجاب الدية في العقل - عند المتولي - إذا قال أهل الخبرة: إن العارض الذي حدث لا يزول، أما إذا توقعوا الزوال فيتوقف: فإن مات قبل الاستقامة ففي الدية وجهان؛ كما إذا قلع سن مثغور، فمات قبل أن يعود، [والله أعلم]. قال: فإن نقص ما يعرف قدره؛ بأن يجن يوماً، ويفيق يوماً - وجب بقسطه، أي: من الدية؛ لإمكان ذلك.

قال الرافعي: وقد يتأتى معرفة التفاوت بغير الزمان؛ بأن يقابل [صواب فعله، ومنظوم قوله] بالخطأ المطروح منهما، وتعرف النسبة بينهما؛ فيجب قسط الزائل، وهكذا ما ذكره في التهذيب. قال: وإن لم يعرف، أي: مثل أن صار إذا سمع صيحة زال عقله، ثم يعود؛ كما قال في "المهذب"، أو يفزع مما لا يفزع منه العاقل، ويستوحش إذا خلا؛ كما قاله ابن الصباغ وغيره. قال: وجبت حكومة؛ لتعذر الأرش المقدر. واعلم أن قول الشيخ: "فإن نقص ما يعرف قدره" فيه منازعة؛ فإن الماوردي قال: إن العقل الغريزي لا يتبعض في ذاته؛ لأنه محدود بما لا يتجزأ؛ فلا يصح أن يذهب بعضه، ويبقى بعضه، ولكن قد يتبعض زمانه؛ فيعقل يوماً، ويجن يوماً؛ فتوزع الدية عليها. قال: فإن ذهب العقل بجناية [لا أرش] لها مقدر، أي: كالحارصة والدامية [والباضعة] والمتلاحمة والسمحاق. قال: دخل أرش الجناية في دية العقل؛ لأن عمر – رضي الله عنه – أوجب للمشجوج رأسه أربع ديات، ولم يوجب له أرش الشجة؛ فلو وجب لقضى به. قال: وإن ذهب بجناية لها أرش مقدر: كالموضحة، وقطع اليد والرجل – ففيه قولان: أصحهما: أنه لا يدخل أرش الجناية في دية العقل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"في الموضحة خمس من الإبل، وفي اليد خمسون من الإبل، [وَفِي الرِّجْلِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ]، وَفِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ"، فنص على هذه التقديرات؛ فلم يجز إسقاطها.

ولأن العقل عرض يختص بمحل مخصوص؛ فلم تتداخل فيه أروش الجنايات كالسمع والبصر، وهذا هو الجديد. ومقابله: أن أرش الجناية إن كان أقل، اندرج في دية العقل، وإن كان أكثر كما إذا قطع يديه وأنفه فذهب عقله –دخلت دية العقل في أرش الجناية، ووجبت ديتان؛ و [هذا] هو القديم؛ لأن ذهاب العقل يعطل المنافع من سائر أعضائه؛ لأن المجنون لا ينتفع بنفسه وإن كانت سائر أعضائه سليمة؛ فجرى ذلك مجرى خروج الروح، وقد أفسد هذا بأمور، ومنها: أن قضية تشبيهه بالروح: أن تندرج أروش الجنايات في دية العقل وإن كانت أكثر منه؛ كما تندرج أروش الجراحات في دية النفس وإن كانت أكثر منها، وأيضاً: فإنه لو قطع يد ميت [فإنه] لا قصاص عليه ولا دية، ولو قطع يد مجنون وجب. واحترز المتولي عن هذا في توجيه هذا القول، فقال: العقل يشبه الروح؛ من حيث إن زواله يشبه زوال الروح [في زوال التكليف]. ويشبه فوات منفعة البصر؛ من حيث إنه يبقى الجمال في صورة الأعضاء مع زواله؛ كما يبقى الجمال في الحدقة بعد زوال الضوء؛ فلشبهه بالروح يدخل أرش الجناية في ديته إذا كان الأرش أقل، ولشبهه بالضوء لا يجمع بين بدله وبين أرش الجناية على الجزم؛ كما لا يجمع بين دية البصر وأرش العين القائمة، وإن كان تفويت العين القائمة يوجب حكومة، بل يدخل الأقل في الأكثر. واعلم أن جزم الشيخ باندراج الأرش الذي ليس بمقدر دية في العقل، وحكاية الخلاف في الأرش المقدر – لم يوافقه عليه أحد من المصنفين فيما وقفت عليه، إلا القاضي الحسين في "تعليقه"، وقد حكاه الإمام عنه أيضاً، وقال: إنه ليس بشيء. والجمهور – كالقاضي أبي الطيب، والماوردي، والبندنيجي، وابن الصباغ، والمتولي، [والبغوي]، وغيرهم – حكوا القولين الجديد والقديم في الصورتين، وحينئذ يكون قول الشيخ: "دخل أرش الجناية في دية العقل"، اختياراً

منه للقديم، ويؤيده قضاء عمر رضي الله عنه كما ذكرناه. نعم، الموضع الذي لا يجب فيه سوى دية العقل جزماً: إذا زال [عقله] بمال لا أرش له، كاللطمة، واللكمة، والضرب بالحجر والعصا على الرأس أو حول القلب، وفي هذه الحالة هل يجب التعزير مع الدية؟ الذي أطلقه الجمهور: الوجوب. وحكى الماوردي فيه وجهين، ووجه المنع: أن دية العقل أغلظ من التعزير؛ فاندرج فيها. وسلك في "المهذب" طريقاً آخر – قال الرافعي: إنه في غيره أيضا ً- وهو: أن أرش الجناية إن كان مثل الدية أو أكثر، لم تدخل فيه دية العقل، ولا [تدخل] دية العقل فيه، وحكاية القولين فيما إذا كان أرش الجناية أقل من دية العقل: هل يدخل في دية العقل، أم لا؟ وهو خلاف نص الشافعي رضي الله عنه؛ فإنه قال: إذا قطع يديه؛ فزال عقله؛ فهل الواجب دية، أو ديتان؟ [فعلى قولين]. فرع: لو أنكر الجاني زوال العقل، ونَسَبَهُ إلى التجانن – راقبناه في الخلوات وأوقات الغفلة: فإن لم تنتظم أقواله وأفعاله وجبت الدية من غير يمين؛ لأن تحليفه يثبت جنونه، والمجنون لا يحلف. نعم، لو كان الاختلاف فيمن يجن وقتاً، ويفيق وقتاً – حلفناه في زمن إفاقته. وإن وجدناها منظومة، فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لجواز أنها صدرت من اتفاقاً، أو جرياً على ما اعتاده. قال: ويجب في العينين الدية؛ لما روى النسائي [أن] في كتاب [عمرو] بن حزم: "وَفِي العَيْنَيْنِ دِيَةٌ"، وروى على بن أبي طالب رضي الله عنه

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فِي الَعيْنَيْنِ الدِّيةُ". ولأنهما من أعظم الجوارح نفعاً، وأجلِّ الحواس قدراً، فكان إيجاب الدية فيهما أحرى. وسواء في ذلك الصغيرة والكبيرة، والحادِّة والكليلة، والصحيحة والعليلة، والعشواء والعمشاء والحولاء؛ إذا كان النظر سليماً؛ قاله الماوردي. وألحق الغزالي الأخفش بالأعمش، وسنذكر ما قيل فيه في الفروع. قال: وفي أحداهما نصفها؛ لأن في كتاب عمرو بن حزم [أن النبي صلى الله عليه وسلم] قال:"فِي العَيْنِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ". قال الشافعي: أراد به العين الواحدة. ويؤيده ما روى معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [: "وفِي إِحْدَى العَيْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيِةِ" ولأن كل دية وجبت في عضوين وجب نصفها في أحدهما؛ كاليدين. قال: وإن جنى عليه جناية، فادعى منها ذهاب البصر، أي: حالاً ومآلاً، وكذبه الجاني، وشهد بذلك شاهدان من أهل المعرفة- وجبت الدية؛ لما روى معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال] "وَفِي البَصَرِ الدِّيةُ"، ولأن منفعة العين بناظرها؛ فإذا سلبها كملت عليه ديتها كالشلل في اليدين، ولا يحتاج مع إقامة البينة إلى يمين. وقد خالفت هذه المسألة مسألة دعوى زوال السمع؛ حيث لا يُرَدُّ ثَمَّ إلى أهل

الخبرة؛ لأنه لا اطلاع لهم عليه؛ بخلاف ضوء البصر؛ فإنه يمكن الاطلاع عليه في ضوء الشمس. ويقوم مقام الشاهدين في جناية الخطأ رجل وامرأتان؛ كما قاله البندنيجي. فرع: لو عاد بصر المجني عليه بعد أن قضى له بالقود أو الدية، قال في "الحاوي": فالمذهب: أنه لا درك عليه بعوده فيما قضى له به من قود أو دية. وللشافعي –رضي الله عنه – في سن المثغور إذا قلعت؛ فاقتص منها، أو أخذ ديتها، ثم عادت قولان، أحدهما: يلزمه رد ديتها؛ فعلى هذا اختلفت الأصحاب في تخريجه في العين إذا عاد بصرها على وجهين: فعلى وجه: يرد، وهذا ما ذكره مجلي والمصنف؛ استدلالاً بأن الضوء لو زال، لم يعد. وعلى وجه: لا يرد شيئاً، والفرق: أن عود السن معهود في جنسه، وعود البصر غير معهود في جنسه. وعلى هذا: لو اقتص من الجاني، ثم عاد بصره – لم يؤخذ بذهابه ثانياً على الصحيح من المذهب، وهل يؤخذ على القول المخرج من السن؟ فيه وجهان. فرع آخر: لو جنى على بصر صبي، أو مجنون؛ فذهب ضوء عينه، وقال أهل الخبرة: إنه لا يعود؛ ففي "المهذب" وغيره حكاية قولين: أحدهما: لا يجب عليه شيء في الحال؛ لجواز ألا يكون البصر زائلاً. والثاني: يجب عليه القصاص أو الدية. قال: وإن قالا: ذهب ولكن يرجى عوده إلى مدة معلومة – انتظر إليها حتى لا يبقى ارتياب، فعلى هذا: إن لم يعد في تلك المدة وجبت الدية، وكذا القصاص، [قاله البندنيجي والماوردي. وادعى الجيلي أنه لا يجب القصاص] بلا خلاف، وهو ما أورده المصنف والرافعي والبغوي ومجلي؛ لأن قول أهل الخبرة يورث شبهة. وإن عاد لم يجب عليه قصاص ولا دية، ووجبت [عليه] حكومة الجناية إن أثرت؛ وإن لم تؤثر عزر.

ولو جنى على المجني عليه [آخر] في مدة الانتظار ففقأ عينه – فالدية على الأول دون الثاني، [وكذا القود]، قاله الماوردي والبندنيجي، وعلى الثاني الحكومة. وقضية ما حكيناه عن "المهذب" وغيره في المسألة السابقة: ألا يجب القود على الأول، وتجب عليه الدية خاصة؛ للشبهة. قال: فإن مات قبل انقضائها وجبت الدية؛ لتحقق الجناية، والتردد في عود الضوء، مع كونه غير معهود، بخلاف عود السن؛ حيث جرى في إيجاب أرشه في مثل هذه الحالة قولان؛ فإنه معهود فيمن لم يثغر، وهذا ما جزم به البندنيجي وابن الصباغ. وقد قيل بطرد القولين المذكورين [في السن] هاهنا أيضاً. فعلى قول: لا يجب سوى الحكومة؛ كما حكاه الماوردي والمصنف وغيرهما، وهو بعيد؛ لما ذكرناه. أما إذا لم يقدراه بمدة معلومة، لم ينظر؛ لأنه يؤدي إلى إسقاط [موجب] الجناية. قال البندنيجي: فيؤخذ منه القود، أو الدية في الحال. ولو قال أهل المعرفة: لا يعرف حال العين، ويجوز أن يكون بصرها ذاهباً؛ فإن كنا المجني عليه بالغاً، عاقلاً امتحن في أوقات غفلاته بما يزعج البصر رؤيته، ويشار إلى عينه بما توقاه البصر بإغماضها، ويؤمر بالمشي في طريق الحفائر والآبار، ومعه من يحوله عنها وهو لا يشعر؛ فإن دلت أحواله على صدقه؛ [جعل القول] قوله، ويحلف؛ لجواز تصنعه [فيه] ويقضي له بعد يمينه بالقود أو الدية، وإن دلت أحواله على كذبه؛ بأن كان يطبق طرفه عند الإشارة، ويتوقى بئراً إن كانت، ويعدل عن حائط إن لقيه – كان القول قول

الجاني، مع يمينه على أن بصره لباقٍ؛ لجواز أن يكون قد جرى ذلك اتفاقاً. وإن كان المجني عليه صغيراً، أو مجنوناً، انتظر بلوغه وإفاقته، بعد حبس الجاني: إن مات قام وليهما مقامهما فيما يدعيانه من ذهاب البصر، [واختلافهما] عليه إن كان] معهما ظاهر يدل على صدقهما؛ قاله الماوردي. واعتبر الإمام الامتحان بما ذكرناه [في ابتداء] الأمر من غير عرض على أهل الخبرة. وفي "التتمة": أن الحاكم بالخيار: إن شاء راجع أهل الخبرة، وإن شاء امتحنه. قال: وإن نقص الضوء، أي: في العينين، ولم يكن قد عرف مدى بصره قبل الجناية – وجبت حكومة؛ لتعذر إيجاب قسط من الأرش المقدر. وفي "الرافعي": أن ذلك على الطريقين المذكورين في السمع: فمنهم من اعتبره بمثله في السن والصحة، والأكثرون على ما ذكره الشيخ؛ لاختلاف الناس في الإدراك. ويروي عن الماسرجسي أنه قال: رأيت صياداً كان يرى الصيد على فرسخين. أما إذا كان قد عرف مدى بصره قبل الجناية، اعتبر مدى بصره بعدها، ولزمه من الدية بقد رما بين المسافتين، قاله الماوردي. وحكى عن الشافعي – رحمه الله – فيما إذا نقص ضوء أحداهما عن الأخرى: أن تعصب عينه العليلة، وتطلق الصحيحة، وينصب له شخص من بعد على نشز من الأرض أو مستويها؛ فإذا رأى الشخص – بوعد منه حتى ينتهي إلى مدى لا يراه بعده، ويختبر صدقه؛ بأن يعاد الشخص من جهات شتى، ويغير ما عليه؛ كما قاله القاضي أبو الطيب؛ فإذا وثق بما قاله من هذا الاختبار الذي لم يختلف مدى البصر فيه باختلاف الجهات – مسح قدر المسافة؛ فذا كانت ألف ذراع – مثلاً – علم أنه قدر مدى بصره مع الصحيحة، وإن اختلف عمل بالأقل؛ احتياطاً، ثم أطلقت العليلة، وعصبت الصحيحة؛ فإن رأى الشخص

من مداه علم أنه لم يذهب من بصره العليلة شيء، وإن لم يره قرب منه حتى ينتهي إلى حد يراه، ويختبر ذلك بالجهات، ويحسب بأكثر ما قاله من مدى بصره بالعليلة، ويمسح؛ فإن كان خمسمائة ذراع – مثلاً – كان الذاهب النصف؛ فيؤخذ بربع الدية؛ لأنه نصف دية إحدى العينين، وعلى هذه النسبة فقس. وقد حكى ابن الصباغ أن الشافعي رضي الله عنه قال في "الأم": لو زعم اهل العلم بالطب أن بصره يقل إذا بعدت المسافة، ويكثر إذا قربت، وأمكن هذا في المذارعة [عملت عليه]. ولفظ البندنيجي: أوجبت الحصة. قال ابن الصباغ: وبيان هذا: أنهم إذا قالوا: الرجل إذا كان ينظر إلى مائة ذراع؛ فإذا أراد أن ينظر إلى مائتي ذراع احتاج للمائة الثانية إلى ضعفي ما تحتاج إليه الأولى من البصر؛ فحينئذ إذا أبصر بالصحيحة إلى مائتي ذراع، وبالعليلة إلى مائة- علمنا أن نقص من ضوئه ثلثاه. قال الشافعي – رحمه الله -: "ولا أظن أن هذا يضبط"، ومن هذا اللفظ أخذ الأصحاب – كما حكاه مجلي عن الشيخ أبي حامد عنهم – أن هذا لا يمكن معرفته ولا العمل عليه. قال: فإن ادعى نقصانه فالقول قوله – أي: مع يمينه – لأنه لا يعرف إلا من جهته. قال: وفي العين القائمة الحكومة. العين القائمة: هي التي بياضها وسوادها صافيان، ولا يبصر بها شيئاً، وإنما وجبت الحكومة؛ لأن في إذهابها إتلاف إجمال من غير منفعة؛ فأشبه قطع اللسان الأخرس؛ وهكذا الحكم في العين التي ركبها بياض امتنع النظر بسببه، وإن كان باقياً تحت البياض؛ لأنه لا يبصر به؛ كما لا يبصر بالذاهب من أصله. قال الماوردي: ولا فرق في ذلك بين أن يرجى زوال البياض بالعلاج؛ فيعود البصر، أو لا. [نعم]، لو كان البياض قد أذهب بعض البصر وبقي البعض؛ فهو على ضربين:

أحدهما: أن يكون قد غشي جميع النظار وهو رقيق؛ فصار يبصر أقل من بصره قبل البياض، فإن أمكن معرفة ما ذهب بالبياض وجب في الباقي قسطه من الدية، وإن لم يمكن ففيه حكومة. والضرب الثاني: أن يكون البياض قد غشي بعض الناظر؛ فلا يبصر بما غشيه، ويبصر بما عداه؛ فيلزم الجاني عليها إذا أذهب بصرها ما كان باقياً منها من نصف أو ثلث، أو ربع، إذا عرف ذلك وخبر من أهل بالبصر. وقد ذكرنا فيما [إذا] حصل بالجناية ارتتاق منفذ السمع، مع بقاء السمع في مقره وجهاً رجحه الرافعي: أنه لا تجب الحكومة، ولا يبعد مجيئه في نظيره هاهنا، وألا فيعسر الفرق. فروع: الأول: إذا ضرب عينه؛ فأشخصها، وذهب بعض بصرها – لزمه أكثر الأمرين من: دية الذاهب من بصرها، أو حكومة إشخاصها، ولا يجع عليه بينهما؛ لاجتماع محلهما، ويكون أقلهما داخلاً في الأكثر؛ قاله الماوردي. الثاني: إذا ضربه؛ فصار أعشى، وهو الذي لا يبصر لليل – قال في التهذيب: يجب عليه نصف الدية. الثالث: ولو عشى إحدى عينيه، فربع الدية. وقضية ما حكيناه عن الماوردي من إيجاب الدية كاملة في قلع عين الأعشى: ألا يجب عند حصول العشى بالجناية إلا الحكومة؛ عملاً بما نقلناه عن الأصحاب في الأذن الشلاء. وأبدى الرافعي تخريج وجه: أنه يجب فيه كمال الدية من قول الغزالي: إن إزالة بصر الأخفش يوجب كمال الدية؛ لأن الأخفش –كما فسر -: هو الذي يبصر بالليل دون النهار، وإذا وجب في ذلك كمال الدية وجب أن يجب في الذي يبصر في النهار دون الليل ذلك.

قال: وفي الأجفان الدية؛ لما روى بعض أصحابنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتاب عمرو ابن حزم: "وفي الجفون إذا استؤصلت الدية"، لكنه ليس بمشهور عند أصحاب الحديث؛ فنقول: لأنها من تمام الخلقة فيها منفعة وجمال يؤلم قطعها، ويخاف على النفس من سراية الجناية عليها؛ فكملت فيها الدية؛ كسائر الأعضاء. ولا فرق في ذلك بين أجفان الصغير والكبير، والبصير والضرير. قال الماوردي: وأما القود، فإن أمكن فيها، ولم يتعد ضرره إلى العينين- وجب، وإلا سقط. قال: وفي كل أحد ربعها؛ لأن كل ذي عدد من الأعضاء تكمل فيه الدية، يقسط على عدده؛ كاليدين والرجلين في تقسيط ديتهما عليهما، وعلى الأصابع، وتقسط دية الأصابع على الأنامل، وسواء في ذلك الجفن الأعلى والأسفل. قال: وفي الأهداب الحكومة؛ لأن فيها جمالاً ومنفعة، لكن منفعتها – وهي ذبها عن البصر – منفعة ضعيفة؛ فلم تجب لأجل ذلك بها الدية؛ كما في الأظفار. وأيضاً: فإن الدية إنما تجب في قطع ما يخاف من سرايته، [ويؤلم في إبانته]، وهذا معدوم في الأهداب. ومحل إيجاب الحكومة إذا نتفها، ولم تعد، أو عادت دون الأولى، لكن في الحالة الثانية تكون أقل من الأولى. أما إذا عادت بعد النتف كما كانت، فوجهان: أحدهما: تجب الحكومة أيضاً. والثاني: لا شيء له؛ لعدم التأثير، ويعزر الفاعل؛ لأجل الأذى. قال: فإن قلع الأهداب مع الأجفان، لزمه دية؛ لأن الشعر إذا كان نابتاً على العضو كان تابعاً له في الضمان؛ كشعر الوجه. وقيل: يلزمه دية، أي للأجفان، وحكومة، أي: للأهداب؛ لأن في الأهداب جمالاً منفرداً ومنفعة منفردة؛ فوجب لها أرش منفرد. قال الماوردي: وهذا لا وجه له؛ لأن الجفون محل الأهداب؛ فلم تنفرد بالحكومة عنها؛ كالأصابع مع الكف.

قال: وفي المارن الدية؛ لما روى ابن طاوس، عن أبيه أنه كان عنده كتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: "فِي الأَنْفِ أَوْعَى مَارِنِهِ جَدْعاً الدِّيَةُ". وقد أورد الشافعي – رحمه الله – لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك في المختصر. قال الماوردي: وكثيراً ما يفعل الشافعي مثل هذا إذا أمكن؛ فإن لم يمكن فبألفاظ الصحابة؛ فإن لم يجد فبألفاظ أئمة التابعين، وكثيراً ما يوردها بلفظ عطاء بن أبي رباح. وروى عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وَفِي الأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ" خرجه النسائي. ومارن الأنف: هو ما لان من الأنف؛ كما ذكرناه من قبل، وعليه ينطبق قول الشيخ هاهنا. وقال الماوردي: هو ما لان من الحاجز بني [المنخرين] المتصل بعضه بقصبة الأنف، وإن الدية إنما تكمل باستيعاب المارن مع المنخرين، وسواء في ذلك الأنف الأقنى والأفطس والأجحر والأخنس، وأنف الأشم والأخشم. قال: وفي بعضه بحسابه من الدية إن أمكن؛ لما مضى؛ فيقدر بالثلث والربع، ونحوه. وإن لم يمكن فالواجب الحكومة. وحكى الإمام وجهاً: أنا نعتبر النسبة إلى جميع الأنف بقصبته. قال: وإن قطع المارن وبعض القصبة، لزمه [دية وحكومة؛ لأن القصبة] مع المارن كالذراع مع الكف، ولا يبلغ [مع الحكومة] دية الأنف؛ لأنها تبع له، ولا تنقص عن دية منقلة، بل تزيد عليها؛ كما حكينا ذلك عن الماوردي في باب: ما يجب به القصاص، وحكاه الرافعي عن رواية القاضي ابن كج عن النص، وقال: إنه لم يجد لغيره [تعرضاً لذلك]. ويجيء على قياس قول حكيناه من قبل فيما إذا خرق القصبة خاصة أنه تجب دية

مأمومة، وحكومة هي أكثر من دية منقلة – ألا تنقص عن ذلك على قول أيضاًز وعن أبي عليّ بن أبي هريرة تخريج قول آخر: أنه لا يجب سوى دية المارن؛ بناء على اختلاف قول الشافعي – رحمه الله – في قطع الحلمة مع الثديين، وقطع الحشفة مع بعض الذكر. قال الماوردي: وليس هذا التخريج صحيحاً؛ لأمرين: أحدهما: أن محل الحلمة في الثدي، ومحل الحشفة على الذكر، وليس محل المارن على القصبة، وإن اتصل بها؛ فاختلفا. والثاني: أنه لما وجب في إيضاح القصبة مع قطع المارن الدية، ودية موضحة – كان إلزام الغرم في قطع أصلها أحق. قال: فإن ضرب الأنف؛ فشل المارن – ففيه قولان؛ كالأذن، وقد تقدم توجيههما، [وعليهما يخرج] ما لو جدع أنفاً مستحشفاً، كان فيما يلزمه قولان؛ كما قلنا في الأذن الشلاء، صرح بهما الماوردي. قال: وإن عوجه، أي: بالجناية عليه، لزمه حكومة؛ لإزالة الجمال، فإن جبر حتى عاد مستقيماً كانت حكومته أقل. قال: وفي إحدى المنخرين نصف الدية؛ لأنه أذهب نصف المال ونصف المنفعة، وهذا ما حكاه في "المهذب"، وهو المحكي عن النص، وحكاه الماوردي عن رواية الشيخ أبي حامد، عن أبي إسحاق. وفي الرافعي نستبه إلى ابن سريج أيضاً، وصححه البغوي وشيخه القاضي الحين، فعلى هذا يجب في الحاجز حكومة. وقيل: [يلزمه] ثلث الدية [تقسيطاً للدية] على المنخرين، والحاجز الذي اشتمل الأنف عليها، وهذا قول أبي عليِّ الطبريّ، وإيراد الغزالي في "الوجيز" يقتضي ترجيحه، وإليه ذهب القاضيان: الطبري والروياني، وعلى هذا يجب في الحاجز خاصة ثلث الدية. وفي الرافعي أنه يخرج مما ذكره الإمام نقلاً وتلخيصاً: أنه لا يجب في أحد

الطرفين النصف ولا الثلث، ولكن ينسب ما بقي ويوزع الواجب عليهما؛ فيجب ما يقتضيه التقسيط، وأنه أقام هذا وجهاً آخر، لكنه لا يستغني عن النظر في أن الدية تجب في مقابلة الطرفين، أو الطبقات الثلاث. ثم إذا جعلنا الدية [في] مقابلة الطرفين، فلا يكاد يهر تفاوت بينهما، ولا يكون الواجب إلا النصف. وإن جعلناه في مقابلة الطبقات الثلاث، فيظهر تفاوت الطرفين على الواسطة، ويكون الواجب فوق الثلث ودون النصف. وعلى الوجهين المذكورين في الكتاب يخرّج ما إذا ذهب من بعض المنخرين شيء، ولم يمكن معرفته – في أن الواجب من الحكومة ينقص عن نصف الدية أو ثلثها؛ كما صرح به الماوردي. [قال: وفي الشم الدية؛ لما روي] عن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وَفِي الشَّمِّ" يعني الدية؛ لأن الشم من الحواس النافعة؛ فأشبه حاسة السمع والبصر. وقيل: فيه حكومة؛ لأن الشم ضعيف النفع، وهذا ما حكاه صاحب التقريب وجهاً، و [حكاه] منصور اليمني قولاً. وعلى الأول – هو الصحيح -: لو جنى عليه؛ فذهب الشم من إحدى المنخرين- لزمه نصف الدية. قال الرافعي: ويشبه أن يجيء فيه الوجه المذكور في إبطال السمع من إحدى الأذنين. وإن نقص الشم، وأمكن معرفة النقص – وجب بقسطه من الدية، وإلا فالحكومة. قال: وإن قطع الأنف، [أي: مارن الأنف]، فذهب الشم – لزمه ديتان؛ لأن الشم في غير الأنف؛ فكان كالسمع مع الأذن.

قال: فإن ادعى ذهاب الشم، تتبع في حال الغفلة بالروائح الطيبة والكريهة، أي: مرة بعد أخرى؛ لعدم إمكان إقامة البينة على الذهاب. قال: فإن لم يظهر منه إحساس؛ أي: بأن كان لا يرتاح إلى الروائح الطيبة، ولا يظهر منه كراهة الروائح – المنتنة – حلف؛ لأن الظاهر معه، وإمكان تصنعه قائم. وإن وجد منه الارتياح والكراهة، كان القول قول الجاني، لكن مع اليمين على بقاء شمه؛ لاحتمال حصول ذلك اتفاقاً. ثم إذا حلفنا المجني عليه، ثم غطى أنفه عند شم رائحة منتنة، فادعى الجاني أنه غطاه؛ لبقاء شمه، وقال المجني عليه: غطيته؛ لحاجة أوعادة – فالقول قوله، ويحكم له بالدية، قاله الماوردي. فرعان: أحدهما: إذا قضينا بالدية، ثم عاد شمه- لزمه رد الدية؛ لعلمنا بأن ذهاب شمه كان لحائل، ولا شيء له، إلا أن يكون بعد عوده أضعف منه قبل ذهابه؛ [بأن كان] يشم من قريب وبعيد؛ فصار يشم من القريب ولا يشم من البعيد، أو كان يشم الروائح القوية والضعيفة؛ فصار يشم القوية دون الضعيفة؛ فحينئذ ينظر: فإن علم فدر الذاهب منه – قال الشافعي: ولا أحسبه يعلم – كان فيه من الدية بقسطه، وإلا ففيه الحكومة. الثاني: لو كان في أصل الخلقة يشم شمًّا ضعيفاً؛ بأن [كان] يشم من القرب دون البعد، أو القوي من الروائح دون الضعيف، فجنى عليه؛ فصار لا يشم شيئاً – قال الماوردي: ففيه وجهان محتملان: أحدهما: فيه الدية الكاملة؛ كالأعضاء الضعيفة. والثاني: أن الموجود كان فيه بعض الشم؛ [فلم يلزم فيه إلا بعض الدية]، بخلاف ضعف الأعضاء التي يوجد جنس المنافع فيها.

فعلى هذا: إن عُلم ما كان ذاهباً من شمه، ففيه من الدية بقسطه، وإن لم يعلم فالحكومة يجتهد فيها الحاكم. قال: وفي الشفتين الدية؛ لما روى عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ" خرجه النسائي، ولأنهما عضوان من أصل الخلقة فيهما منفعة وجمال يألم بقطعهما، ويخاف من سرايته؛ فأشبهتا اليدين. قال: وفي أحداهما نصفها، وفي بعضها بقسطه؛ لما مر. قال: وإن جنى عليها؛ فشلت، أي: صارتا يابستين لا تتقلصان، ولا تسترخيان – وجبت الدية؛ كما لو جنى على اليدين؛ فشلتا. وهكذا الحكم فيما لو جنى عليهما؛ فتقلصتا، ولم تنبسطا بالمد، أو استرختا بحيث لم تتقلصا عن الأسنان إذا كشر أو ضحك؛ كما نص عليه الشافعي، رحمه الله. قال الماوردي: وفيه عندي نظر؛ لبقاء منفعتهما بحفظ الأسنان، وما يدخل الفم من طعام وشراب؛ فاقتضى لأجل ذلك أن تجب حكومة؛ بخلاف تقلصهما المذهب لجميع منافعهما، وهذا ما أورده في "المهذب"؛ حيث قال: ون تقلصتا وجبت عليه الحكومة؛ لأن منفعتهما لم تبطل، وإنما حصل بهما نقص. فرع: لو قطع شفة مشقوقة، ففي "التهذيب" و"التتمة": أن فيها دية ناقصة بقدر حكومة الشق، وفي "الحاوي": [أنه يجب جميع ديتها]؛ إن لم يذهب الشق شيئاً من منافعها، وبقسطه إن أذهب معلوم القدر من منافعها، وحكومة إن لم يعلم قدر الذاهب. فرع آخر: هل تتبع حكومة الشارب دية الشفة؟ نقل عن القاضي ابن كج فيه وجهان.

قال: وفي اللسان الدية، أي: إذا كان ناطقاً سليم الذوق؛ لرواية عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ" خرجه النسائي. ولأنه قول أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود – رضي الله عنهم – ولا مخالف لهم. ولأنه عضو فيه جمال ومنفعة، يألم بقطعه، ويخاف [من سرايته]؛ فكملت فيه الدية كسائر الأعضاء. [أما جمال] اللسان، فقد روى ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه "قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فِيمَ الْجَمَالُ؟ قَالَ: فِي اللِّسَانِ"، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ". وأما منفعة اللسان فالمعتمد فيها ثلاثة أشياء: أحدها: الكلام الذي يعبر به عما في النفس، ويتوصل به إلى أربه. والثاني: حاسة الذوق التي يدرك بها ملاذ طعامه وشرابه، ويعرف بها فرق [ما] بين الحلو والحامض، والمر والعذب، وهذا هو المشهور. وفي "التتمة": أن الذوق في طرف الحلق، وعلى ذلك ينبني ما لو ضربه ضربة أزال بها نطقه وذوقه؛ فقال: عليه ديتان؛ لأن محلهما مختلف، ووافقه في "التهذيب" في الحكم. والثالث: الاعتماد عليه في أكل الطعام ومضغه وإدارته في لهواته، حتى يستكمل طحنه في الأضراس، وتندفع بقاياه من الأشداق. ولا فرق – فيما ذكرناه – بين لسان الصغير والكبير، والمتكلم بالعربية والأعجمية، والفصيح والألكن، والثقيل والعجل، والأرت والألثع؛ كضعف البطش في اليد.

قال الروياني: ويحتمل أن يقال بخلافه. أما إذا كان ناطقاً مفقود الذوق. قال الماوردي: لم تكمل في الدية، وكان فيه حكومة؛ كالأخرس. فروع: [الفرع الأول] لسان الصغير الذي يعجز عن الكلام إذا قطع، هل تجب فيه الدية؟ ينظر: فإن عرفت سلامته بنطقه بحروف الحلق، وهي أول ما يظهر من الصغير في البكاء، [أو بحروف الشفة في "بابا" و"ماما"، وهي الحالة الثانية للصغير]، أو بحروف اللسان؛ فإذا عرف [منه] أحد هذه الثلاثة في زمانه كملت فيه الدية. قال القاضي الحسين: وضمن بالقود- أيضاً – وإن لم يستكمل الكلام؛ لأنه يكمل في غالب العرف إذا بلغ زمان الكلام. وإن لم يظهر منه في أوقات هذه [الحروف] ما يدل على سلامة لسانه، كان ظاهره دليلاً على خرسه؛ فيلزم فيه حكومة. ولو قطعه ساعة ولادته قال الماوردي: صار لسانه – وإن كان من الأعضاء الظاهرة من الكبير – جارياً مجرى الأعضاء الباطنة؛ فيكون على قولين: أحدهما: يحمل على الصحة، وتكمل فيه الدية، وهذا ما حكاه في "المهذب" وغيره، ونسبه ابن كج إلى قول أبي إسحاق. والثاني: يحمل على عدمه؛ فتجب فيه حكومة، وهذا ما حكاه الغزالي، وحكى الإمام قطع الأصحاب به، مع وقفة لشيخه فيه. ولو تعذر النطق في اللسان لا لخلل فيه، ولكنه ولد أصم، أو أزيل سمعه قبل أن يبلغ مظنة النطق، فلم يحسن الكلام؛ لأنه لا يسمع شيئاً – فالواجب فيه الدية، أو الحكومة؟ فيه وجهان. قال: وإن جنى عليه؛ فخرس – فعليه الدية؛ لأنه سلبه أعظم منافعه؛ فحلَّ ذهابها من اللسان محل ذهاب البصر من العين، وهذا فيما إذا لم

يقدر على النطق بشيء من الحروف اللسانية والحلقية والشفهية. أما إذا قدر على النطق بالشفهية والحلقية، فقد ذكر في "الوسيط" والوجيز: [أن] الحكم كذلك، وعلله بأن الذي بطل حرفُ مقصود برأسه. قال الرافعي: وهذا لم [أجد] أحداً من الأصحاب تعرض له، وهو مناقض لما ذكره من بعد، وهو أنه يجب في بعض الكلام بعض الدية، وتوزع على جميع الحروف من الشفهية وغيرها، وإنما يستمر ذلك على طريقة الإصطخري على ما يتبين. قال: فإن ذهب بعض الكلام وجب بقسطه؛ لما تقدم، [ويقسم على حروف لغته: فإن] كان أعجمي اللسان اعتبر من عدد حروف كلامه؛ فإن حروف اللغات مختلفة الأعداد والأنواع؛ فالضاد مختصة بالعربية، وبعضها مختص بالأعجمية، وبعضها مشترك بني اللغات كلها، وبعض اللغات تكون حروف [الكلام] فيها أحداً وعشرين حرفاً، وبعضها ستة وعشرين حرفاً، وبعضها أحداً وثلاثين حرفاً. وإن كان عربي اللسان قسط على حروف المعجم التي عليها بناء جميع الكلام، وهي تسعة وعشرون حرفاً؛ كما قال الماوردي، ومنهم من عدها ثمانية وعشرين حرفاً، وأسقط حرف "لا"؛ [لدخوله] في الألف واللام، وعلى ذلك جرى في "المهذب"، وقبله القاضيان: أبو الطيب، والحسين، وكذا ابن الصباغ. وسواء في ذلك حروف الشفة واللسان والحلق في ظاهر قول الشافعي، وجمهور أصحابه – رضي الله عنهم أجمعين – وعلى هذا يكون في مقابلة كل

حرف ثلاثة أبعرة ونصف، [وجزء من] أربعة عشر جزءاً من بعير. وقال أبو علي بن أبي هريرة والإصطخري: يقسط على حروف اللسان، وهي ثمانية عشر كما قال في "المهذب"، وأربعة عشر؛ كما حكاه القاضي الحسين عن الإصطخري دون حروف الحلق والشفة، وهي عشرة: ستة منها للحلق، وهي: الهمزة، والحاء، والخاء، والعين، والغين، و [الهاء]، وأربعة للشفة، وهي: الباء، والفاء، والميم، والواو. قال الماوردي: وهذا فاسد؛ لأن هذه وإن كانت مخارجها في الحلق والشفة، فاللسان معبر عنها وناطق بها؛ ولذلك لم يتلفظ الأخرس بها؛ فعلى هذا: لو ضرب ضارب شفته؛ فأذهب الحروف الشفوية، أو رقبته؛ فأذهب الحروف الحلقية – لا يجب إلا الحكومة. وعن كتاب ابن كج: أنه لو قطع شفته؛ فأذهب الباء والميم، فعن الإصطخري: أنه يجب مع دية الشفتين أرش الحرفين، وأن ابن الوكيل سئل عنه؛ فقال: لا يجب إلا الدية؛ كما أنه لو قطع لسانه، وذهب كلامه، لا يجب الدية. وإن كان يحسن العربية غيرها، قسط على حروف المعجم. [وقيل: يوزع على أكثرهما حروفاً، وقيل: على أقلهما. ومحل التوزيع على حروف المعجم] إذا كان قبل الجناية تحقق الكلام بجميعها، فإن كان ألثغ لا يحسن الكلام إلا بعشرين منها، قال القاضي الحسين: فتوزع الدية على العشرين، وعلى ذلك جرى في "التهذيب". وحكى غيره من المراوزة وجهاً آخر: أن التوزيع على جميع الحروف، دون ما يحسنه، وهذا ما أورده المتولي. وكذا الخلاف فيما إذا تعطل عليه بعض الحروف؛ بسبب جناية، لكنه مرتب، وأولى بالتوزيع على الجميع، وهذا ما أورده الإمام.

ثم إذا قلنا بالتوزيع على الجميع في الأولى؛ فلو كان الشخص ممن يقدر على التعبير عن جميع مقاصده؛ لفطنته، استحداده من اللغة، وتهديه إلى مناط الكلام، فهل تكمل فيه الدية؟ فيه وجهان، أظهرهما: لا. واعلم أنا في اعتبار الذاهب من الحروف لا نأمره بأن ينطق بكل حرف على حياله؛ لأن الحرف الواحد يجمع في الهجاء حروفاً، بل نأمره بكلمة يكون الحرف الذي نمتحنه فيه من جملتها: إما في أولها، أو في وسطها، [أو في آخرها]؛ فإذا أردت اعتباره في أول الكلمة، وكان المعتبر هو الألف – فَامره أن يقول: أحمد، وأسهل، وأنصر، وأبعد؛ ليكون بعد الألف حروف متغايرة يزول بها الاشتباه؛ فإن لم تسلم له الألف في هذه الأسماء والأفعال كانت ذاهبة وإن سلمت كانت باقية. وإن أردت اعتبار الباء، فَامره أن يقول: بركة، وباب، وبعد. ثم على هذه العبرة تفعل في جميع الحروف؛ فإن ثقل عليه الحرف، ثم أتى به سليماً عد في السليم دون الذاهب، وإن قلبه بلثغة صارت في لسانه عد في الذاهب؛ وكذلك لو صار أرتَّ؛ لأن الأرت يأتي من الكلمة ببعضها ويسقط بعضها. قال: وإن حصلت به تمتمة، أي: صار يردد التاء – ثالثة الحروف – مراراً، أو عجلة – وجبت الحكومة؛ لحصول النقص والشَّيْن بجنايته. وهكذا الحكم لو صار أرد، وهو الذي يردد الكلمة مراراً، أو فأفاء، وهو الذي يكرر الفاء مراراً. فرع: لو كان الباقي من حروف كلامه بعد الذاهب منه لا يفهم معناه، لم يضمنه الجاني، للعلم بأن [بعض] الحروف لا يقوم مقام جميعها؛ فلم يلزمه إلا ضمان الذاهب منها، وهذا ما حكاه الماوردي، والقاضي أبو الطيب، وغيرهما، وقال في "التتمة": إنه المشهور من المذهب، والمنصوص في "الأم". وفي "التهذيب": أنه يجب كمال الدية؛ لأن منفعة الكلام قد فاتت، ويحكي

هذا عن أبي إسحاق وعن القفال، وفيما روى عن الروياني أنه المذهب. قال الرافعي: ويمكن أن يقال: صورة النص في البعض إذا لم يمكنه أن يأتي بالكلمة التي فيها الحرف الذاهب، ولكن بقي له كلام مفهوم. [والذي صار إليه القفال صورته ما إذا لم يبق له كلام مفهوم]. فرع آخر: إذا جنى على اللسان؛ [فأبدل صورته]، واللسان على اعتداله وتمكينه من التقطيع والترديد- فعليه الدية؛ لأنه من المنافع المقصودة؛ فلو أبطل مع ذلك حركة اللسان حتى عجز عن الترديد والتقطيع، فوجهان أرجحهما: انه تلزمه ديتان. والثاني: دية واحدة؛ لأن المقصود: الكلام، وفواته بأحد طريقين: انقطاع الصوت، وعجز اللسان عن الحركة، وقد يجتمع الطريقان، وقد يوجد أحدهما خاصة. فإن قلنا بالأول وكانت حركة اللسان باقية؛ فقد تعذر النطق؛ بسبب فوات الصوت، قال الرافعي: فيجيء الخلاف المذكور في أن تعطيل المنفعة هل هو كزوالها؟ فإن جعلناه كزوالها وجب ديتان، وإلا فدية واحدة. قال: وإن قطع نصف اللسان، وذهب نصف الكلام- وجب [نصف] الدية؛ لأن ما ذهب من اللسان ومن الكلام تساويا فأيهما اعتبر، كان الواجب هذا. قال: وإن قطع ربع اللسان، وذهب نصف الكلام –وجب نصف الدية وإن قطع النصف، فذهب ربع الكلام –وجب نصف الدية؛ لأن منفعة العضو إذا ضمنت بديته، اعتبر فيه الأكثر من ذهاب العضو والمنفعة. دليله ما لو قطع الخنصر من أصابع اليد، فشلت، فإنه يلزمه جميع ديتها، لذهاب جميع منفعتها، ولو لم يشل [باقيها] لزمه دية الإصبع، وهو خمس دية اليد، لأنه أخذ خمس اليد، وإن كان الذاهب بها أقل من خمس المنفعة كذلك فيما ذهب

من اللسان والكلام، وهذا تعليل أبي كثير، وظاهر تعليل الشافعي. وقال أبو إسحاق: الاعتبار باللسان؛ لأن الجناية عليه مباشرة، إلا أنه إذا قطع الربع، فذهب نصف الكلام –دل على شلل ربع آخر. قال القاضي أبو الطيب: وهذا غلط؛ لأنه ظن أن الكلام يقابل أبعاض اللسان، فيخص كل بعض من الكلام بعضاً من اللسان، وليس بصحيح؛ لأنه قد يذهببعض الكلام واللسان باق بحاله [لم يذهب منه شيء، وقد يذهب بعض اللسان، ويكون الكلام باق بحاله] لم ينقص؛ فلم يصح ما اعتبره. وتظهر ثمرة الخلاف في فروع: منها: إذا قطع ربع لسانه، فذهب نصف كلامه، ثم جاء آخر، وقطع الباقي – فعلى المذهب: يلزم الثاني ثلاثة أرباع الدية؛ [لأنه قطع ثلاثة أرباع اللسان]، وعلى قول أبي إسحاق: يلزمه نصف الدية، وحكومة [في ربع اللسان]؛ لان [نصف اللسان] سلم وربعه أشل. ومنها: إذا قطع نصف لسانهن فذهب ربع كلامه، ثم جاء آخر، فقطع الباقي، فعلى الأول: يلزم الثاني ثلاثة أرباع الدية، وعلى قول أبي إسحاق: يلزمه نصف الدية؛ لأنه قطع نصف لسانه. ومنها: إذا جنى على لسانه، فذهب بعض كلامه، فقطعه آخر – فعلى المذهب: على الثاني دية كاملة، وعلى قول أبي إسحاق: عليه نصف دية اللسان وحكومة. ومنها: إذا قطع فلقة من لسانه، ولم يبطل بذلك شيء من كلامه – قال الإمام: من راعى الكلام لم يوجب على القاطع إلا الحكومة، ومن راعى الجزم أوجب قسطاً بالنسبة إلى اللسان، ولكن هذا إيجاب المقدر من غير تفويت الكلام، ولو صح ذلك لزم إيجاب الدية الكاملة في لسان الأخرس، وموجبه الحكومة، وبه أجاب في "الوسيط". قال: وإن قطع اللسان، وأخذ الدية، ثم نبت – رد الدية في أحد

القولين؛ لعود مثل ما قطع، دون الآخر، لأن هذه نعمة جديدة من الله تعالى. وهذان القولان كالقولين فيما إذا عاد سن المثغور بعد قلعه، كما سنذكرهما. وهذه طريقة أبي إسحاق، وظاهر التنبيه، وكلام الشيخ يقتضي أنا على القول الأول لا نبقى من المأخوذ قدر الحكومة. وقد ادعى الماوردي أن ذلك يبقى منها قولاً واحداً وإن جرى خلاف في مسألة السن، كما سنذكره. وقيل هاهنا: لا يرد شيئاً [مما أخذ] قولاً واحداً؛ لأن عود السن معهود في الجملة، بخلاف عود اللسان، وهذه طريق ابن أبي هريرة. ولو جنى على لسانه، فخرس، وغرم الدية، ثم عاد فنطق – رد ما أخذه من الدية. قال الماوردي: قولاً واحداً، بخلاف اللسان إذا نبت. والفرق: أن ذهاب اللسان محقق، والنابت غيره، وذهاب الكلام مظنون؛ فدل النطق على بقائه. وما قاله من الفرق يرد عليه ما حكيناه عنه في عود ضوء العين بعد زواله. وقد صور القاضي الحسين صورة عود اللسان: بان يقطع بعضه من العرض، فتزول منفعته، فينبت ثانياً وتعود منفعته. وصوره غيره بأن يقطعه بجملته. قال ابن أبي هريرة: وقد كنا ننكر على المزني حتى وجدنا في زماننا رجلاً من أولاد الخلفاء قطع لسانه، فنبت؛ فعلمنا أن مثله قد يكون. قال: وفي الذوق الدية. صورة المسألة – كما حكاه الجمهور -: أن يجني على لسانه، فيذهب حاسة ذوقه، ولذة طعامه حتى صار لا يفرق بين الحلو والحامض، والمر والمالح والعذب – فتجب فيه الدية؛ لأن الذوق إحدى الحواس المختصة بعضو خاص؛ فأشبه حاسة الشم والسمع، وبل أولى؛ لأن الذوق أنفع من الشم وآكد، وهذا ما نص عليه الشافعي – رحمه الله – كما حكاه ابن الصباغ، عن رواية القاضي أبي الطيب، وقال الماوردي: ليس للشافعي – رحمه الله- فيه نص، وإنما ذلك

هو الذي يقتضيه مذهبه، وكلام البندنيجي مشير إلى ذلك. وقد وافقهم القاضي الحسين على إيجاب الدية الكاملة فيه. ثم قال ابن الصباغ: قد نص الشافعي - رضي الله عنه -على أن في لسان الأخرس الحكومة، مع أن الذوق يذهب بذهابه؛ فدل على أن في الذوق الحكومة. وما ذكره حسن، ولا يندفع بما قاله الرافعي وحكاه الشيخ في المهذب: أن محل إيجاب الحكومة بقطع اللسان الأخرس، إذا لم يذهب ذوقه، أو كان قد ذهب قبل قطه، دون ما إذا ذهب بالقطع؛ فنه يجب فيه الدية الكاملة، لإتلاف حاسة الذوق، لأن الماوردي حكى نص الشافعي -رحمه الله - على إيجاب الحكومة بقطع اللسان الأخرس، ثم قال: وإنما لم تجب الدية، لأنه قد سلب الكلام الذي هو الأخص الأغلب من [منافع اللسان]، ولو بقى بالخرس بعض منافعه - وهو الذوق، وتصرفه في مضغ الطعام - فلم تبلغ ديته دية لسان كامل المنافع. نعم، لو صح ما قاله المتولي: أن محل الذوق طرف الحلق - لا ندْفعَ سؤال ابن الصباغ. وعن أبي الطيب بن سلمة أنه يمكن تخريج قول: أن الواجب في لسان الأخرس الدية، فلعله أخذه من هنا فرع: لو نقص من اللسان بالجناية عليه بعض الذوق، قال في المهذب: نظر: فإن كان نقصاناً لا يتقدر، بأن يحس بالمذاق الخمس إلا أنه لا يدركها على كمالها - وجبت عليه حكومة، وإن لم يدرك إحدى المذاق الخمس، ويدرك الباقي - وجب عيه خمس الدية، فإن لم يدرك اثنتين، وجب خمسان، وهكذا؛ لأنه تعدد المتلف، فتقدر الأرش. قال: وفي كل سن، [أي] إذا أثغر خمس من الإبل؛ لرواية عمرو بن حزم، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أنه قال في كتابه إلى اليمن: "وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِبلِ"، وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه [قال]: "وَفِي

الأَسْنَانِ خَمْسٌ [خمس] "، وسواء في ذلك البيضاء المليحة والسوداء القبيحة إذا كان ذلك من أصل الخلقة، أو طارئاً عليها ولم ينقص منفعتها، كذا قاله الماوردي. وقال ابن الصباغ والقاضي الحسين: إن الحكم كذلك إن نبتت قبل الإثغار وبعده سوداء، أما إذا كانت قبل أن يثغر بيضاء، ثم نبتت بعده سوداء - سئل أهل الخبرة: فإن قالوا: إن ذلك لعلة، وجبت فيها حكومة. وإن قالوا: إنه لغير علة، وجبت الدية. وكذا لا فرق بين السن الكبيرة والصغيرة، والضرس وغيره؛ لاشتراكهما في الاسم، ولأنه جاء في خبر عمرو بن شعيب أنه - عليه السلام -[قَضَى فِي الأَسْنَانِ وَ] الأَصَابعُ سَوَاءٌ. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه - عليه السلام - قال: "الأَصَابعُ [سَوَاءٌ]، وَالأَسْنَانُ سَوَاءٌ، الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ" أخرجه أبو داود. نعم، اختلف أصحابنا فيما لو كانت ثنايا إنسان مثل رباعياته، أو أقل منها: فحكى الإمام والقاضي أبو الطيب أنه لا يجب فيه تمام الأرش، ولكن [ينقص منه] بحسب نقصانها. وطرده القاضي الحسين فيما إذا كانت الوسطى من الأصابع مثل التي تليها أو البنصر، لا تكمل فيها الدية، وهو الذي أوره الروياني في السن، ثم قال: ويخالف هذا ما إذا كانت أسنان الصف الواحد قصيرة بأسرها؛ فإن الغالب أن ذلك يكون لمعنّى في الخلقة، وتفاوت الأسنان في الصف الواحد يشعر بأنه قد

أصاب المنبت خلل، وأن النقصان كان لذلك. وقال قائلون: يكمل فيها الأرش، وهو الذي أورده في "التهذيب". ولا نزاع في أن صغر السن إذا انتهى إلى ألا يصلح للمضغ لا يجب فيه إلا الحكومة، وعلى هذه الحالة يحمل قول الفوراني: [إن في] الضرس إذا كان أصغر من الرباعيات حكومة عن بعض أصحابنا؛ لأنه عيب. لكن يمنع من ذلك استشكاله للحكم. قال: فإن كسر ما ظهر، وجب عليه خمس من الإبل؛ لأن المنفعة الجمال فيما ظهر؛ فكملت ديته. وادعى القاضي أبو الطيب أن الظاهر هوا لذي يسمى سنا، وأما الداخل فليس يسن، وكذلك قال الرافعي، وحينئذٍ يكون هذا الكلام من الشيخ كالتفسير لما أطلقه من لفظ السن. قال: وفي بعضه بقسطه؛ لإمكان معرفة الحصة، ولا فرق في البعض بين أن يكون من الطول أو من العرض، ولا بين أن يكون قد أزاله [من] سن سليم أو من سن [قد] ذهب بعضه بالنقب والتآكل. ولو ذهب منه حده الذي [كان] يكسر به، وبقي كالا، فكسره إنسان – وجب عليه تمام ديته. ثم البعضية تنسب إلى ما ظهر من السن في الغالب، حتى لو تقلص عمور اللثة حتى ظهر من السنخ المغيب في اللثة ما لم يكن ظاهراً – لا يدخل ذلك القدر في التقسيط. وقيل: البعضية تنسب إلى الظاهر، والسنخ على وجه؛ بناء على الظاهر من المذهب في دخول السنخ في السن، حكاه الإمام والمتولي. والقاضي الحسن خصه بما لم يكن النقص في الطول، وجعله كالوجه الآتي فيما إذا قطع [بعض الحشفة: هل يحسب من جميع الذكر، أو من الحشفة فقط؟ وقال فيما إذا قطع] بعض ما ظهر طولا: إنه يوزع على ما ظهر وجهاً واحداً.

فإن قيل: قياس هذا الوهج ألا يجب تمام الأرش عند قطع جميع الظاهر. قيل: إذا قطع الجميع لم يبق للسنخ منفعة بها مبالاة؛ فإن منفعته المقصودة: حمل الظاهر وحفظه؛ فلذلك أتممنا الأرش، إذا بقى من الظاهر بعضه - بقيى في السنخ منفعة حمله، فوزعنا الأرش على ما ذهب، وعلى جميع ما بقي منتفعاً به. قال: وفي السنخ - أي أصل السن المغيب في اللحم، حكومة؛ لأنه تابع؛ فأشبه قطع الكف بعد قطع الأصابع، وسواء صدر ذلك من كاسر الظاهر بعد الكسر والاندمال، أو من غيره. ولو صدر من الجاني قبل الاندمال، فوجهان عن القاضي الحسين: الذي يوافق إطلاق الجمهور منهما: الوجوب أيضاً: والثاني: أنها تدخل في أرش السن. وطرد هذا الخلاف في قطع الكف بعد قطع الأصابع وقبل الاندمال، والذي رأيته في "تعليقه" فيهما: وجه الوجوب، كما ذكره غيره. وفرق بينه وبين ما إذا أوضح موضحتين، ثم أزال الحاجز بينهما؛ حيث تعود الجنايات واحدة: بأن ثم اسم المزال واحد، وهاهنا اختلف اسم المزال. قال: فإن قلع السن مع السنخ، دخل السنخ في السن؛ لأن السنخ تابع لما ظهر؛ فاندرج في الظاهر؛ كما لو قطع الكف مع الأصابع، وهذا ما حكاه الجمهور. وحكى الإمام وجهاً آخر: أنه تجب حكومة مع الأرش؛ لزيادة الجناية بقلع السنخ. وعن بعضهم القطع به، تعليلاً بأن السنخ باطن، فيفرد بالحكم. ولو قلع بعض السن مع السنخ، كما إذا كسر إنسان نصف الظاهر، فجاء آخر وقلع الباقي مع السنخ - فهل يدخل السنخ في أرش الباقي؟ فيه ثلاثة أوجه.

أحدهما: نعم؛ [كما لو قلعه مع جميع السن. والثاني: لا، وتجب حكومة، وهو الظاهر من منصوص الشافعي، كما] قاله البندنيجي والماوردي، ونسبه الرافعي إلى "الأم"؛ لأنه تابع لجميع السن؛ فلا يتبع بعضه. والثالث – وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن الألو إن كان قد كسر نصفه عرضاً لزم الثاني في سنخه حكومة؛ للزيادة على سنخ ما قلعه، وإن كان الأول قد كسره طولاً لم يلزم الثاني حكومة السنخ؛ لأنه سنخ للبقية التي كسرها هذا ما أورده ابن الصباغ وصاحب "التهذيب" وغيرهما، كما قال الرافعي. وقال القاضي الحسين: إن كان الأول قد كسر نصف الظاهر عرضاً، فإن أوجبنا عليه ثلث الدية فنوجب على الثاني الثلثين، وإن أوجبنا على الأول نصف الدية [فماذا نوجب على الثاني؟ فيه وجهان: أحدهما – وهو الأظهر-: نصف الدية] دون الحكومة؛ كما لو جاء واحد وقطع أنملة، ثم جاء آخر وقطع يده من الكوع؛ فالكف كما يتبع جميع الأصابع مع الأنامل يتبع بعض الأنامل؛ فكذلك السنخ. والثاني: عليه نصف الدية وحكومة. وإن كان الأول قد قلع نصف ما ظهر طولا، فعليه نصف الدية، وحكومة السنخ؛ كما لو قطع ثلاثة أصابع من يده، ثم جاء آخر، وقطع يده من الكوع – يجب عليه أرش إصبعين وثلاثة أخماس حكومة الكف؛ لأجل الأصابع المفقودة، كذلك هاهنا. ومحل الاتفاق على وجوب أرش السن إذا انفصلت ولم تبق متعلقة بشيء، أما إذا قلعت وبقيت متعلقة بعروق، ثم عادت إلى ما كانت، فعن "جمع الجوامع" للروياني: أنه لا دية، لأن الدية إنما تجب بالإبانة، ولم توجد، وعليه حكومة.

ولو جنى على السن، أبطل منفعته – وهي المضغ – وجب عليه أرشه، فلو ذهب [منه] نص المنفعة، قال الماوردي: ففيه قولان: أحدهما: عليه ديتها تامة؛ لأنه قد يكون المسلوب من منفعتها مساوياً لمنفعة غيرها. والقول الثاني: فيها حكومة. ثم قال: ولو قيل بوجه ثالث: أنه إن ذهب أكثر منافعها كملت ديتها، وإن ذهب أقلها ففيها حكومة؛ اعتباراً بالأغلب- كان له وجه. والقولان جاريان – كما حكاه الماوردي عن نصه في "الأم" –فيما إذا قلع سناً ذهب بعض منافعه وبقى البعض، وفيما إذا قلع سنًّا قد تحرك لكبر أو مرض، مع بقاء المنفعة، كما حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والقاضي الحسين. وقال الإمام: إن كان الظاهر والغالب على الظن ثباتها، وجب الأرش الكامل بلا خلاف، كما نوجب الأرش في الأعضاء الناقصة بالأمراض العارضة، وإن كان الغالب على الظن سقوطها، فهو موضع القولين، وأصحهما الوجوب. قال: وإن جنى على سنه اثنان، [ثم اختلفا] – أي الجاني ثانياً، والمجني عليه – فقال: الجاني الأول [قد] كسر منه ثلثيه، وكسرت [أنا] ثلثه؛ فعلى ثلث الأرش، وقال المجني عليه: بل الأول كسر النصف، وأنت النصف؛ فعليك نصف الأرش. قال: فالقول قول المجني عليه؛ لأن الأصل بقاء السن. أما لو اختلف الجاني الأول والمجني عليه في قدر ما ذهب بجنايته من السن، فالقول قول الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته عما زاد على ما أقر به، مع إمكان إقامة البينة عليه. وهذا بخلاف ما لو وقع الاختلاف في الذاهب من منفعة السن، فإن القول قول المجني عليه، كما لو اختلفا في أصل ذهاب المنفعة، لأنه لا يطلع على ذلك إلا من جهته.

وصورة الاختلاف: أن يدعي الجاني أن الذي ظهر من السن قدر كبير، ونسبة ما كسر منه نصف، ويدعي المجني عليه أن الذي ظهر من السن دون ذلك [القدر، وأن الذي كسر ثلثاه]. [قال:] وإن قلع سن كبير، فضمن، ثم نبت –ففيه قولان: أحدهما: يرد ما أخذ كالصغير إذا عادت سنه، وهذا ما يقتضي [كلام] الماوردي ترجيحه، وهو الأصح في "الجيلي". فعلى هذا: هل يبقى منه شيء؛ للألم وسيلان الدم، أم لا؟ فيه وجهان، حكاهما الماوردي عن ابن أبي هريرة، وظاهرهما: الثاني. والثاني: لا يرد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ"، ولم يفصل بين أن تعود أو لا تعود. ولأن العادة في سن [من] أثغر ألا تعود، فإن عادت فهي هبة [مجددة] من الله – تعالى- فلم يسقط بها ضمان ما أتلف عيه. وهذا القول اختاره المزني، وصححه القاضي أبو الطيب والنواوي. فرع: إذا انقلع سنه، فأدخل مكانه سنًّا طاهراً من حيوان مذكري – فالتزق، ثم جاء آخر، فقلعه – ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه الأرش؛ لأنه أذهب منفعة [له] مباحة. والثاني: لا يجب [الأرش]؛ لأنه ليس من أصل الخلقة، وإنما هو موصول به، وزائد فيه؛ [فحل] محل الشعر الموصول بشعره، قاله [القاضي] أبو الطيب، وكذلك البندنيجي وابن الصباغ، لكنهما قالا – على قول الوجوب-: إن الواجب الحكومة، وهو الأشبه، وطرده فيما إذا كان المغروز من حديد أو خشب أو ذهب، وعلى ذلك جرى الرافعي، وقال الإمام: لا يتصور أن يلتحم على الذهب اللحم.

قال: وإن قلع سن صغير لم يثغر، انتظر: فإن وقع الإياس من نباتها، أي: بأن قال أهل الخبرة: قد تجاوزت مدة نباتها – وجب أرشها؛ لأنها سن لم تعد بعد القلع، فكانت كسن المثغر. ولو مات قبل الانتهاء إلى ذلك السن، فقولان كما قال الماوردي والبندنيجي، ووجهان كما قال أبو الطيب: أحدهما: تجب الدية؛ لأنه قلع سنا لم تعد. والثاني: [تجب] حكومة. وكذا القولان- أو الوجهان – جاريان فيما لو طلع بعضها، ثم مات قبل استكماله، لكنا – على القول الأول – نوجب من ديتها بالقسط. وإطلاق الماوردي وغيره – على القول الثاني- إيجاب الحكومة، يظهر أنه مفرع على قولنا بوجوبها إذا عاد السن، أما إذا قلنا بالمنع عند العود، فيظهر عدم إيجابها هاهنا أيضاً، كما قال المتولي، وعليه يحمل قول البندنيجي، والثاني: لا شيء عليه. والقاضي أبو الطيب اقتصر في حكاية الوجه الثاني في الصورتين على عدم إيجاب الدية، وهو الذي جعله ابن كج أقوى الوجهين. وإنما لم نوجب الدية قبل الإياس من النبات؛ لأن المعهود من أسنان اللبن أنها تعود بعد السقوط، ولو عادت، فإن كانت مساوية لأخواتها في المقدار والمكان، فلا دية. وأما الحكومة، فإن كان قد جرح محل المقلوعة حتى أدماه، لزمه حكومة جرحه. وإن لم يجرحه، ففي حكومة المقلوعة وجهان: أحدهما: لا؛ لأنها تسقط لو لم تقلع والثاني: فيها حكومة؛ لأنه قد أفقده منفعتها. قال الماوردي: ولو قيل بوجه ثالث: أنه إن قلعها في زمان سقوطها فلا حكومة فيها، وإن قلعها قبل زمانه ففيها حكومة – كان مذهباً، لأنها قبل زمان السقوط نافعة، وفي زمانه مسلوبة المنفعة. وما ذكره هنا مع ما ذكره في سن من قد أثغر، يحتاج إلى نظر، فليتأمل.

ولو عادت مخالفة لأخواتها: فإن كانت المخالفة، لطولها على مثلها، فلا شيء عليه وإن شان أو ضر؛ لأن الزيادة لا تكون من جنايته؛ لأن الجناية نقص، لا زيادة. وكذلك لو نبت معها سن زائدة، صرح به الماوردي، وغيره من العراقيين والمراوزة. وقال في "المهذب": يحتمل – عندي – أن تلزمه الحكومة للشين الذي [قد] حصل بها. وإن كانت المخالفة قصرها عن مثلها، فعليه من أرشها بقدر ما نقص. وإن كانت المخالفة دخولها أو خروجها عن أخواتها، ولم تبطل بذلك منفعتها – فالواجب الحكمة. ولو بطلت منفعتها بذلك وجبت الدية. ولو كانت المخالفة في اللون، بأن نبتت صفراء أو خضراء أو سوداء، وأخواتها بيض – فتجب الحكومة. وقيل بتخريج قول في إيجاب كل الدية إذا نبتت سوداء. ولو كان الاختلاف في قدر المنفعة، فقولان: أحدهما: تجب الدية كاملة. والثاني: حكومة. قال الماوردي: ولو قيل بكمال ديتها إن ذهب أكثر منافعها، وحكومة إن ذهب أقلها، كان مذهباً. فرع: إذا قلع قالع سن صغير، وجاء آخر، فجنى على المنبت، فأفسده – قال الإمام: لا وجه لإيجاب الأرش عليهما، ولا على الثاني، وأما الأول [فيجوز أن يقال بوجوبه عليه، ويجوز أن تجب الحكومة. ولو سقطت سنه بنفسه، ثم جنى جان، فأفسد المنبت] فيجوز أن يقال بوجوب الأرش عليه؛ لأنه قد أفسد المنبت، ولم تسبق جناية يحال الفساد عليها. قال: وإن جنى على سن، فتغيرت، أي: بإصفرار أو اخضرار، أو اسوداد.

قال: أو اضطربت، أي: مع بقاء منفعتها – وجبت عليه حكومة؛ لما حصل بها من شين، كما لو ضرب يده فتغيرت أو ضعفت منفعتها. وهكذا لحكم فيما لو برزت بجنايته عما جاورها. وقيل: يجب في اسوداد السن بالجناية أرش كامل؛ لذهاب جمالها بالسواد، وهذا خرجه المزني والمتقدمون من الأصحاب – كما قال الماوردي- من قول الشافعي في كتاب العقل، كما حكاه البندنيجي: "فيها تمام عقلها"، والذي ذهب إليه جمهور أصحابنا ومتأخروهم: ما ذكره الشيخ، وحملوا نصه عل ما إذا ذهبت منافعها، وهوا لأِبه عند الماوردي، وبه جزم القاضي أبو الطيب وكذلك النبدنيجي. قال: وإن قلع جميع الأسنان في دفعة، أي: بأن ضربه ضربة واحدة، أو سقاه دواء يسقطها؛ فسقطت كذلك. قال: أو متواليا، أي: بحيث لم يتخلل الجنايتين اندمال – فقد قيل: تجب دية نفس؛ لأنه جنس ذو عدد، فلا يضمن بأكثر من دية النفس، كالأصابع. والمذهب – أي: الذي نص عليه في كتبه، كما قاله البندنيجي – أنه يجب في كل سن خمس من الإبل؛ لقوله عليه السلام-: "وَفِي الأَسْنَانِ [خَمْسٌ] "، وهذا ما قطع به ابن الوكيل وغيره. والفرق بين الأسنان والأصابع: أن الأصابع لا تزيد على عشرين مع سلامة الحال، بخلاف الأسنان، فعلى هذا: يجب عليه إذا كان المجني [عليه] كامل الأسنان مائة وستون من الإبل؛ [لأن] جملة الأسنان اثنان وثلاثون سناً: أربع ثنايا: ثنتان من أسفل، وثنتان من فوق، [وأربع رباعيات كذلك]، وأربعة أنياب كذلك، وأربع ضواحك كذلك، واثنا عشر ضرساً: ستة من فوق، وستة من أسفل، وهي الطواحن، وأربع نواجذ، وهي آخر أسنان الفم. فلو كانت زائدة على ذلك، قال الرافعي: ففي كتاب ابن كج ما يخرج منه وجهان:

أحدهما: يجب لكل سن مما زاد – أيضاً – أرش؛ لظاهر الخبر. والثاني – عن رواية أبي الحسين -: أن الواجب لما زاد الحكومة؛ لأن الغالب في الأسنان العدد الذي ذكرناه، فالزائد عليه كالإصبع الزائدة. والقولان جاريان فيما لو قلع زائداً على عشرين سناً. وقيل: إذا قلعها واحدة بعد واحدة تعين القول الثاني، ولم يذكر في "المهذب"، و"الحاوي"، و"تعليق" البندنيجي غيره، وهو الذي حكاه القاضي الحسين عن أصحابه، وقال: إن الحكم في الاصفرار والاخضرار حكم السواد. لكن الطريق الأول هو الصحيح في الرافعي. قال: وفي أللحيين الدية؛ لما فيهما من الجمال، عِظم المنفعة، وذهابهما أخوف على النفس وأسلب للمنافع من الأذنين؛ فكانا بإيجاب الدية أولى. قال: وفي أحداهما نصفها؛ لأنها لما كملت فيهما – تنصفت في إحداهما؛ كاليدين. واللحيان – بفتح اللام هما: العظمان اللذان عليهما الأسنان السفلى، يجتمع مقدمهما في الذقن، ومؤخرهما في الأذن. والمسألة مصورة بما إذا لم يكن عليهما أسنان، إما لكون المجني عليه صغيراً، أو كبيراً سقطت أسنانه، وهذا حكم الدية. وأما القود: فإن أمكن فيهما أو أحدهما وجب، وإلا فلا. وقد استشكل المتولي إيجاب الدية في اللحيين؛ لأنه [لم يرد] فيهما خبر، والقياس لا يقتضيه، بل اللحيُ من العظام الداخلة؛ فيشبه الترقوة والضلع. وأيضاً فإنه لا دية في الساعد، والعضد، والساق والفخذ، وهي أيضاً عظام فيها جمال ومنفعة. قال: وإن قلع اللحيين مع الأسنان، وجبت دية كل واحد منهما؛ لأنهما عضوان أصليان في الجمال والمنفعة يجب في كل واحد منهما دية

مقدرة، فكانا كالشفتين مع الأسنان، [وحكى الخراسانيون وجهاً: أنه تجب دية واحدة، أي دية اللحيين، وتدخل دية الأسنان فيها] لحلولها فيها، مع كونها أكثر كما دخلت دية الكف في دية الأصابع، لكثرتها. والقائلون بالأول فرقوا بينها من ثلاثة أوجه: أحدها: أن اسم "اليد" ينطلق على الكف والأصابع، ولا ينطلق اسم "اللحيين" على الأسنان، ولا اسم الأسنان على اللحيين. والثاني: أن اللحيين قد يتكامل خلقهما مع عدم الأسنان في الصغر، ويبقيان على كمالهما بعد ذهاب الأسنان من الكبر، ولا يكمل خلق اليد إلا بالأصابع، ولا تكون كاملة بعد ذهابها. والثالث: أن للحيين منافع غير حفظ الأسنان، وللأسنان منافع غير منافع اللحيين؛ فانفرد كل منهما بحكم، وليس كذلك في منافع الكف، فإنه لا نفع له بعد ذهاب الأصابع. فرع: لو جنى على اللحيين، فيبسا، حتى لم ينفتحا، ولم ينطبقا ضمنهما بالدية؛ لذهاب منفعة المضغ منهما، كما لو قاله الفوراني والطبري في العدة وغيرهما، فألحق ذلك باليد إذا شلت، ولاتضمن دية الأسنان، وإن ذهبت منافعها، لأنه لم يجن عليها، وإنما وقف نفعها بذهاب منافع غيرها، كذا نص عليه الشافعي في "الأم"، كما حكاه الماوردي. وقال الرافعي معترضاً على ذلك: [إن] في إبطال المضغ الدية، وإنه قد يحتج له بأن المنفعة العظمى للأسنان المضغ، والأسنان مضمونة بالدية؛ فكذلك منافعها، كالبصر مع العين. وإن الغزالي ذكر – لتفويت المضغ – طريقين: أحدهما: إن تصلب مغرس اللحيين حتى يمنع حركتهما ذهاباً ومجيئاً. والثاني: أن يجني على الأسنان، فيصيبها خدر، فتبطل صلاحيتها

للمضغ، وأن على ذلك جرى الإمام. قال: وفي كل إصبع عشر من الإبل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم: "فِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الإبِلِ"، وروى أبو داود عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأَصَابعُ سَوَاءٌ عَشْرٌ عَشْرٌ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ". ولا فرق في ذلك بين الإبهام والخنصر وغيرهما؛ لما ذكرناه، وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ" يعني الإبهام والخنصر. خرجه أبو داود والبخاري وغيرهما. قال: وفي كل أنملة ثلاثة أبعرة وثلث، وإلا الإبهام؛ فإنه يجب في كل أنملة منهما خمس من الإبل؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – لما قسط دية اليد على أصابعها وجب أن يقسط دية الإصبع على أعداد أناملها، وفي كل إصبع غير الإبهام ثلاث أنامل، فيكون في كل أنملة ما ذكره، وفي الإبهام أنملتان؛ فيكون في كل واحدة خمسة. نعم، لو كان لرجل في إبهامه ثلاث أنامل وجب في كل واحدة منها ثلاثة أبعرة وثلث، ولو خلق في غيرها أربع أنامل وجب في كل أنملة بعيران ونصف، ولو كان لغير الإبهام أنملتان وجب في كل واحدة خمس؛ نظراً للتقسيط، وهكذا يفعل في الزيادة والنقصان، ويخالف ما لو زادت الأصابع على العدد المعتاد، حيث لا تقسط دية اليد عليها؛ لأن الأنامل لما اختلفت في أصل الخلقة الغالبة بالزيادة والنقصان كان كذلك في الخلقة النادرة، ولما لم تختلف الأصابع في الخلقة المعهود فارقها حم الخلقة النادرة، وأيضاً فإن الزيادة في الأصابع متميزة، وفي [الأنامل غير متميزة]؛ فلذلك اشتركت الأنامل وتفرقت الأصابع.

قال: وفي الكفين مع الأصابع الدية؛ لما روى معاذ بن جبل – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وفي اليدين الدية". ولرواية عمرو بن حزم، أنه – [عليه السلام]- قال في كتابه إلى اليمن: "وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ". [وإذا وجب في الواحدة خمسون وجب] في الاثنتين مائة. ولأنهما من أعظم الأعضاء نفعاً في البطش والعمل. وإنما حملنا في "اليد" الخبر على الكف؛ لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، وقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مفصل الكف، فدل على أنها هي اليد لغة وشرعاً. ولأن الدية تكمل في الرجل إذا قطعت من مفصل القدم، لأنها تقطع منه في السرقة، كذلك اليد، لما قطعت من الكف في السرقة، وجب أن تختص بكمال الدية. قال: فإن قطع ما زاد على الكف، أي: مع الكف بأصابعه – وجبت الدية في الكف، لما ذكرناه، والحكومة فيما زاد، لأنه ليس بتابع، وليس له أرش مقدر، فتعينت الحكمة، بخلاف الكف مع الأصابع، لأنهما كالعضو الواحد، لأن بهما جميعاً يتم البطش. وعن أبي عبيد بن حربويه من أصحابنا: أنه لو قطع [اليد] إلى المنكب، لم يجب سوى دية؛ لأن عمار بن ياسر تيمم حين أطلق ذكر التيمم إلى المناكب، تعويلاً على مطلق الاسم، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما يكفيك ضربة لوجهك، وضربة لذراعيك". قال الماوردي: وهو خطأ؛ لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، فلما جعل المرفق غاية، دل على أن حد اليد ما دون الغاية، مع ما ذكرناه من آية السرقة، وما فعله عمار وغيره من الصحابة لما نزلت آية التيمم، فلم يكن لكونه واجباً عليهم، كما قاله أبو الطب – بل ليسبغوا تيممهم، كما روى أن: "أبا هريرة كان يغسل ذراعيه إلى الآباط في الوضوء، ليسبغ وضوءه، ويقول: أفعل ذلك؛

لأطيل غرتي"؛ فلم يكن فيه حجة. ثم قضية قول أبي عبيد: ألا يجب في الكف بأصابعه كمال الدية، وقد صرح به عنه القاضي الحسين، وهو ظاهر الفساد؛ لأن الأصابع لو انفردت بالقطع لوجبت الدية كاملة بالنص، فمن طريق الأولى إذا قطع معها غيرها. ومحل ما ذكرناه في الكف والأصابع: إذا قطعهما معاً، فلو قطع الأصابع، ثم الكف، وجبت دية الأصابع، وحكومة الكف، إن كان بعد الاندمال، وكذا إن كان قبله على الصحيح، كما قلناه في كسر السن، وقلع السنخ بعدها. قال: وإن جنى عليها، فشلت، وجبت الدية، لأنه فات المقصود منها، فأشبه ما لو قطعها، وبالقياس على ما لو جنى على عينه، فذهب ضوءها، ولا فرق في ذلك بين اليد والإصبع. قال: وفي اليد الشلاء الحكومة؛ لإزالة الجمال دون المنفعة. قال: وفي [اليد] الزائدة والإصبع الزائدة الحكومة؛ لأن كل عضو لا نوجب ديته تجب فيه حكومة، كالكف، وإنما لم تجب فيه الدية؛ لعدم نفعه. وقيل: إن لم يحصل بها شين لم يجب في الزائدة شيء؛ لأنها جناية لم يحصل بها نقص، فلم يجب بها أرش، كما لو لطم وجهه، فلم يؤثر. وتعرف الزائدة من الأصلية بقوة البطش، سواء كانت الباطشة في استواء الذراع، أو منحرفة عنه، فلو تساويا في البطش، نظر إلى استوائهما في القدر: فإن اختلفا، فالأصلية هي الكبرى، وإن استويا في القدر فالأصلية التي في استواء الذراع، فإن استويا، فكاملة الأصابع هي الأصلية دون الناقصة، فلو كانت أحداهما كاملة الأصابع، والأخرى زائدة الأصابع – ففي "تعليق" القاضي الحسين أن الكاملة هي الأصلية، والأكثرون على أنه لا يكون ذلك. فإن عدمت الأمارات، قال الماوردي: فهما يدان زائدتان، فإن قطعهما قاطع كان عليه القود وحكومة، خلافاً للمزني؛ فإنه قال: لا قصاص بقطعهما، لنقصانهما.

ولو قطع أحداهما فلا قود اتفاقاً، وعليه نصف دية يد، وزيادة حكومة، وعن كتاب ابن كج حكاية وجه، عن رواية أبي الحسين: أنه لا تجب الحكومة مع نصف [دية] اليد. وفي "الوسيط": أن جعل إحدى اليدين نصفاً، مع احتمال كونها زائدة مشكلٌ، وأشار بذلك أن أحداهما أصلية، والأخرى زائدة، والأحكام يتبع فيها اليقين. ولو قطع إصبعاً من أحداهما فعليه نصف دية إصبع، وزيادة حكومة على المذهب، ولو قطع أنملة إصبع من أحداهما فعليه نصف دية أنملة، وزيادة حكومة على المذهب، ولا يجب القود، إلا أن يقطع إصبعين متماثلين من الكفين، ويؤخذ منه مع القصاص حكومة. فلو قطع إبهام إحدى اليدين، فأخذ المجني عليه أرشها والحكومة، ثم عاد الجاني، فقطع إبهام اليد الأخرى، فأراد المجني عليه رد الأرش، واستيفاء القصاص، فهل له ذلك؟ فيه وجهان أصلهما في "النهاية". فرع: لو قطع اليد الباطشة، فحكم فيها بقود، أو دية، ثم صارت غير الباطشة باطشة – وجب فيها كمال الدية لو قطعت، لأنها يد باطشة. قال الماوردي: ويجيء في رد ما أخذه من كمال الدية وجهان مخرجان من اختلاف قوليه في عود السن المثغور. ففي أحدهما: لا يرد شيئاً، وهو الأظهر في الرافعي. وفي الثاني: يرد ما زاد على قدر الحكومة. وحكى القاضي الحسين الوجهين في مسألتنا من غير تخريج من مسألة السن. وفرق بعضهم بين ما نحن فيه وبين السن: بأن عود السن في محل الجناية، والبطش هاهنا حصل في غير محل الجناية. قال: وفي الرجلين الدية؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ"، ولأنه – عليه السلام – قال في كتاب

عمرو بن حزم: "وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ" كما خرجه النسائي، [و] إذا وجب في واحدة نصف دية ففيهما دية. ولا فرق في ذلك بين أن تكون الرجلُ عرجاء أو سليمة؛ لأن العيب ليس في نفس العضو، وإنما العرج يكون لقصر في الفخذ، أو في الساق، أو تشنج أعضاء الركبة. ولو تعطل مشي الرِّجل، مع سلامتها، لكسر الصلب – فعلى وجه: يجب فيها حكومة، لأن تعطل المنفعة كزوالها في تعذر الانتفاع، والأظهر: وجوب الدية، لسلامتها، وخلل غيرها لا يوجب نقصان ديتها. قال: وفي كل إصبع عشر من الإبل؛ لما روى الترمذي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دِيةُ أَصَابعِ اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءٌ، عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ لِكُلِّ إِصْبَعٍ" وقال: إنه [حديث] حسن صحيح غريب. وعنه قال: "جَعَلَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – أصَابعَ اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءً" خرجه أبو داود. قال: وفي الأليتين الدية. الأليتان: ما أشرف على الظهر والفخذين، وإن لم ينته ذلك إلى العظم. وإنما وجبت الدية فيهما؛ لأنهما عضوان فيهما جمال ظاهر، ومنفعة؛ لأنهما رباط المفصل والورك، وبهما يستقر الجلوس، فكملت فيهما الدية كاليدين والرجلين، وسواء في ذلك الصغير والكبير، ومن كان أرسح الآلية معروقها، أو لَجِيم الآلية غليظها. ويجب فيهما القصاص إذا استوعبهما، خلافاً للمزني

وبعض أصحابنا، كما قاله القاضي أبو الطيب. قال: وفي أحداهما نصفها، كقطع إحدى اليدين. ولو قطع بعض أحداهما، فإن علم قدر المقطوع منها ففيه من الدية بحسابه، وإن جهل ففيه الحكومة. وإن قطعهما حتى أبقاهما على جلد لم ينفصل، وأعيدا، فالتحما - كان فيهما حكومة كالجرح المندمل. ولو نبتت الأليتان بعد قطعهما، لم يرد المأخوذ من ديتها، على ظاهر المذهب في "التهذيب". قال الماوردي: وقد خرج في ردها قول آخر كاللسان إذا نبت. قال: وإن كسر صلبه، فلم يطق المشي، أي: لأجل كسر الصب، لا لشلل حصل في الرجلين - لزمته الدية؛ لما روى [النسائي] أنه صلى الله عليه وسلم قال في كتاب عمرو بن حزم: "وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ"، وقد روي ذلك عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - ولا مخالف له من الصحابة، والمعنى فيه أنه أذهب جماله بكسر صلبه، وأبطل تصرفه بذهاب مشيه؛ فكملت فيه الدية؛ كما لو ضربه فأعدم شمه أو ذوقه. أما لو اقترن بكسر الصلب، وبطلان المشي شلل في الرجلين؛ وجبت ديتان، كما حكاه القاضي أبو الطيب عند الكلام في اللسان والماوردي هنا. وقال البندنيجي: تجب الدية لأجل شلل الرجلين، وحكومة لكسر الصلب، وهو ما أورده المتولي. ويرجع حاصل ما ذكروه إلى وجهين كالوجهين اللذين ذكرناهما فيما إذا جنى على لسانه، فأبطل صوته وحركة اللسان، حتى عجز عن الترديد والتقطيع. فرع: إذا اختلفا في ذهاب المشي، امتحن بأن يقصد بالسيف في وقت غفلته،

فإن تحرك ومشى؟ ظهر كذبه، وإلا حَلَف، وأخذ الدية. قال: وإن نقص مشيه، أو احتاج إلى عصا- لزمته الحكومة؛ للنقص الحاصل. وهكذا لو صار يمشي منحنياً؛ يلزم الجاني الحكومة؛ لذهاب الجمال مع بقاء المنفعة. قال: وإن كسر صلبه، فعجز عن الوطء – لزمته الدية؛ لأنه روي ذلك عن أبي بكر وعمر [وعلي] – رضي الله عنهم – ولا مخالف لهم من الصحابة. ثمّ المسألة مصورة عند الماوردي بما إذا حصل بالكسر ذهاب مَنِيِّهِ، وعدم انتشار ذكره، لا لشلل فيه. وقال فيما إذا كان عجزه عن الوطء؛ لضعف حركته، مع بقاء منيه، وانتشار ذكره: [إن عليه الحكومة، لأنه قد يقدر على الإنزال باستدخال ذكره]، وكلام الرافعي مصرح عن الأصحاب بأنهم صرحوا بتصوير ذهاب جماعه بما إذا لم ينقطع ماؤه، وبقي الذكر سليماً، وأن كلامهم يشعر بأنهم أرادوا بذهاب الجماع: بطلان الالتذاذ [به] والرغبة فيه، وكذلك صوره الإمام ومن تبعه. على أن الإمام استبعد زوال الشهوة مع بقاء المنى، ثم قال: إن أمكن ذلك فيجب أن يقال: إذا ذهب بالجناية شهوة الطعام تجب الدية بطريق الأولى، إن صح تصويره وإدراك تأثير الجناية فيه. والقاضي أبو الطيب قال: إذا ضربه على صلبه، فأورثه ذلك الضرب الامتناع من الجماع؛ فلا يرجع يقدر عليه بحال – فإنه يراجع أهل الخبرة: فإن قالوا: إن مثل ذلك لا يكون، [فيأخذ منه كمال الدية. وإن قالوا: إن مثل ذلك لا يكون]، كان فيه حكومة. وقال بعد ذلك في فرع آخر: ولو كسر صلبه فأورثه ذلك عدم نزول الماء، قال الأصحاب: لا نص للشافعي في هذه المسألة إلا أنه روى عن مجاهد أنه قال: يجب في ذلك دية [كاملة] ثانية. ثم قال

أصحابنا: هذا هو المذهب؛ لأن هذا يؤدي إلى انقطاع النسل، وهذا فيه أعظم المضرة عليه، ويكون القول قوله مع يمينه. وهذا من القاضي يقتضي أن تكون هذه الصورة عند غيره الصورة التي ذكرها [أولا]. ولو أبطل من المرأة قوة الإحبال، وجب عليه ديتها، قاله الرافعي. ثم قال الأصحاب: إذا كان قد كسر صلبه، وشل ذكره - وجبت دية وحكومة: فالدية في مقابلة شلل اذكر، والحكومة في مقابلة كسر الظهر. كذا حكاه أبو الطيب وابن الصباغ والبندنيجي وغيرهم. وقد يقال: إن هذا يظهر أن إيجاب الدية في الصورتين السابقتين كان لأجل ذهاب منفعة المشي أو الوطء، واندرج فيها حكومة كسر الصلب، وبهذا يقوى قول الشيخ: إن العقل إذا ذهب بجناية لا أرش لها مقدر، دخل أرش الجناية في دية العقل. لكن المتولي علل إيجاب الحكومة عند شلل الرِّجل مع بطلان المشي؛ بأن المشي منفعة في الرّجل، فإذا شلت ففوات المنفعة لشلل الرّجل؛ فافرد كسر الظهر بالحكومة، وإذا كانت سليمة ففوات المشي لخلل في الصلب؛ فلا يفرد بحكومة. قال: فإن اختلفا في ذلك، فالقول قول المجني عليه -[أي: مع اليمين]- لأنه لا يطلع عليه إلا من جهته. قال الماوردي والبندنيجي: وهذا إذا اقترن بقوله علامة تدل على صدقه، وقال أهل الخبرة: إنه [يجوز أن يذهب جماعه بذلك، أما إذا لم يقترن بقوله علامة، أو قال أهل الخبرة: إنه] لا يذهب من مثل ذلك الجماع - فالقول قول الجاني. قال: [فإن أبطل] المشي والوطء - أي بكَسْرهِ الصلب -[لزمه ديتان

على ظاهر النص]؛ كما لو ضرب رأسه؛ فازال سمعه وبصره، وقيل: دية؛ لأنهما منفعة عضو واحد، وهذا حكاه الشيخ أبو حامد. والصحيح الأول؛ لأنهما منفعتان في محلين. وهكذا الخلاف فيما إذا كسر صلبه؛ فذهب مشيه وماؤه؛ كما حكاه القاضي الحسين. قال: وإن قطع اللحم الناتئ على الظهر؛ أي: من جانبي السلسلة – لزمته الدية؛ لأن فيه جمالاً ومنفعة، وفي أحدهما نصفها، وفي بعضها بحسابه؛ لما سبق في الأذنين وغيرهما. وهذه المسألة غير مذكورة في الكتب المشهورة. نعم، فيها إن قلع جميع الجلد الدية إذا لم يستخلف وإن كان قد قيل: إن مثل هذا الشخص لا يبقى. لكن أثر ذلك يظهر فيما لو حز آخر رقبته وفيه حياة مستقرة. وحكى الإمام عن الشيخ أبي عليٍّ أنه لو قطعت يداه بعد سلخ الجلد، توزع مساحة الجلد على جميع البدن، فما يخص اليدين يحط من [دية اليدين]، ويجب الباقي. وعلى هذا القياس: لو قطع يد إنسان، ثم جاء آخر وسلخ جلده- فتجب على من سلخ دية الجلد محطوطاً منها قسط اليدين من الجلد. وفي "الحاوي": أن في سلخ الجلد الحكومة، ولا يبلغ بها دية النفس، وأنها تجب في حال عوده أقل مما تجب فيما إذا لم يعد. قال: وفي حلمتي المرأة الدية. "حلمتي المرأة": رأس الثديين اللذين يلتقمهما الصبي. ويقال: المجتمع ناتئاً على رأس الثدي. وهذه العبارة أحسن؛ لتناولها حلمة الرجل، وفيهما ديتهما؛ كما قال الشافعي؛ لأن فيهما جمالاً، ومنفعة الثدي لا

تستوفي إلا بهما، وتتعطل بفقدهما. قال: وفي أحداهما نصفها بطريق التقسيط، وهكذا الحكم فيما لو شلتا أو إحداهما. قال: إن جنى على الثديين؛ فشلا – وجبت الدية؛ لأن إبطال المنفعة بمنزلة القطع. وشللهما: ألا يألما؛ ما قال الماوردي. وهذا من الشيخ يفهم أن في قطع الثديين الدية من طريق الأولى، وقد صرح بذلك الأصحاب إذا كانت الحلمتان فيهما، وأن في أحداهما نصفها؛ فيكونان كالكفين مع الأصابع. وفيه وجه: أنه تجب دية وحكومة إذا قطع الثديين بجملتهما. وعن الماسرجسي نقله قولاً. أما إذا قطعهما، ولا حلمة لهما – ففيهما الحكومة؛ كما في قطع الكف الخالي عن الأصابع. وقالوا: لا فرق في ذلك بين أن يكونا من كبيرة أو صغيرة، نزل فيهما اللبن أو لم ينزل. فرع: لو قطع بعض الحلمة، كان فيه من الدية بقسطه، وهل يعتبر القسط من الحلمة، أو من جميع الثدي؟ على قولين من اختلاف قوليه في قطع بعض الحشفة، كما سنذكرهما، قاله الماوردي. قال: وإن انقطع لبنهما لزمته الحكومة؛ لأن اللبن وإن لم يكن حالاً في الثدي فإنه منزل في منفذ إليه؛ فإذا انقطع تبينا انسداد ذلك بالجناية؛ فأوجبنا لأجله الحكومة ولم نوجب الدية؛ لاحتمال عوده بخلاف انقطاع المني. وقيل: تجب الدية، وهو احتمال أبداه الإمام، ولم يذكر في "التتمة" غيره، وقد خطئ فيه؛ لما ذكرناه.

ومحل الكلام في ذلك إذا قال أهل الخبرة: إن ذلك حصل من الضرب؛ فإن قالوا: إنه من غره، فلا دية ولا حكومة. قال: وفي حلمتي الرجل حكومة؛ لأنه إتلاف جمال من غير منفعة، وهذا ما نص عليه هنا. قال: [وقيل] فيه قول آخر: أنه يجب فيهما الدية؛ لأن كل ما يجب فيه الدية من المرأة وجب فيه الدية من الرجل؛ كاليدين، وهذا [ما] حكاه ابن الصباغ عن نصه في آخر الباب، والماوردي عن نصه في الديات، وبعضهم جعله مخرجاً. والأول أصح؛ لما ذكرناه، وبه قطع بعضهم، وحمل ما نص عليه في كتاب الديات من إيجاب الدية فيهما على الحكاية عن الغير. وعلى القولين يخرج ما لو قطع ثديي الرجل، أو أشلهما إذا لم يُجِفْ محلهما، فإن أجافه وجب عليه مع أرشهما دية جائفتين. فرع: يجري القصاص في حلمة الرجل [بحلمة الرجل]؛ إن أوجبنا فيهما الدية أو الحكومة، وكذلك يجري في حلمة [المرأة بالرج] وبالعكس إذا أوجبنا في حلمة الرجل الدية، وإن لم نوجبها، قطعت حلمة الرجل بالمرأة؛ إن رضيت، دون العكس، وتقطع حلمة المرأة بحلمة بالمرأة. وفي التتمة وجه: أنه إن لم يتدل الثدي، لا يجب القصاص؛ لاتصالهما بلحم الصدر، وتعذر التمييز. ولا يجب القصاص في الثدي؛ [كما] قاله في "التذهيب"؛ لأنه لا يمكن رعاية المماثلة فيه، وللمجني عليه أن يقطع الحلمة ويأخذ حكومة الثدي.

قال: وفي جميع الذكر الدية؛ لما روى عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ" خرجه النسائي، وروي أنه صلى الله عليه وسلم: "قَضَى فِي الوَدِيفِ بِالدِّيَةِ". قال قطرب: الوديف: الذكر. ولأنه من آلة التناسل، وذلك من أعظم المنافع، ولأنه أحد منافذ الجسد؛ فأشبه الأنف. ولا فرق بني ذكر الرجل والشيخ الهِم والصبي، والعنين، الذي لا يأتي النساء؛ لأن العنة عيب في غير الذكر؛ لأن الشهوة في القلب، والمني في الصلب. قال: فإن قطع بعض الحشفة، وجب [من الدية] بقسطه من الحشفة [في أصح القولين]؛ لأن الدية تكمل بقطعها؛ فقسطت على أبعاضها؛ فعلى هذا يلزمه في نصف الحشفة أو ثلثها، [نصف الدية أو ثلثها]. [قال:] وبقسطه من جميع الذكر في [القول] الآخر؛ لأنه الأصل المقصود بكمال الدية؛ فكانت أبعاضه مقسطة عليه. فعلى هذا: إن كان المقطوع نصف الحشفة، وهو سدس الذكر- وجب سدس الدية. قال المتولي والبندنيجي: وهذا إذا لم يختل مجرى البول بالقطع، [أما إذا]

اختل، وجب أكثر الأمرين من حكومة الخلل أو ما يخص ذلك من الدية باعتبار التقسيط. قال الجيلي: والقولان ينبنيان على أن مقطوع الحشفة إذا أولج الباقي من ذكره في الفرج، هل تتعلق أحكام الوطء بمقدار الحشفة منه، أو لا تتعلق إلا باستيعابه؟ فرع: إذا قطع جزءاً من الذكر مما تحت الحشفة، [فقد مر] الخلاف في [أنها هل تكون] جائفة، أم لا.؟ وإن لم يبنه: فإن قلنا في قطع بعض الحشفة: إن التقسيط على الحشفة لا غير؛ فعليه هاهنا الحكومة، وإلا فالقسط، والوجه الأخير هو الذي أورده البندنيجي. قال: وإن جني عليه؛ فشل - وجبت عليه الدية؛ لأنه عضو وجب بقطعه الدية؛ فوجبت بشلله الدية كسائر الأعضاء. قال في التتمة: وهكذا لو [شقه] طولاً، ولم يبن منه [شيئاً]، وزالت منفعته به - تجب فيه الدية؛ كما في الشلل. قال: وإن قطع ذكراً [أشل] وجبت عليه الحكومة. [شلل الذكر: أن ينقبض فلا ينبسط، أو ينبسط فلا ينقبض كما ذكرناه، وإنما وجبت فيه الحكومة]؛ لأن شلله [قد] أبطل [منافعه] وبقي جماله؛ فكان كاليد الشلاء. فإن قيل: منافعه باقية؛ لأنه مخرج البول، وخروجه [من الأشل كخروجه] من غيره؛ فوجبت أن تكمل فيه الدية. قيل: مخرج البول منه أقل منافعه؛ لأنه يخرج مع قطعه، وقد فات بقطعه أكثر منافعه، والحكم [يتبع] الأكثر. ولو جني على ذكره؛ فصار لا يمكنه الجماع به؛ لعدم انتشاره، لا لشلله - لم يجب سوى الحكومة؛ قاله ابن الصباغ والبغوي، وغيرهما؛ لأن العضو ومنفعته باقيان، والخلل في غيرهما.

وعلى هذا: فلو قطعه قاطع بعد ذلك فعليه القصاص، أو كمال الدية. قال: وفي الأنثيين الدية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم: "وَفِي الأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ"، ويروى: "فِي البَيْضَتَيْنِ" كما خرجه النسائي. ولأنهما من تمام الخلقة، وهما محل التناسل؛ لانعقاد مني الصلب في يسراهما إذا نزل إليهما؛ فصار لقاحاً فيها. ولأن الحياة محلهما؛ ولذلك كان عصرهما مفضياً إلى التلف. ولا فرق بين أن تكونا لصغير أو لكبير، عنين أو غيره، باقي الذكر أو مجبوبه؛ لأن جب الذكر نقص في غيرهما. قال: وفي إحداهما نصفها، سواء كانت يمنى أو يسرى؛ لأنه روي عن عليِّ – كرم الله وجهه – أنه قال: "في الخصية نصف الدية؛، وكذلك روي عن عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت، ولا مخالف لهم. ولأن كل عضوين كملت فيهما الدية تنصفت في كل واحد منهما على السواء، وإن اختلفت منافعهما؛ كاليدين. وقد حكي عن عمرو بن شعيب أنه قال: عجبت ممن يفضل البيضة اليسرى على اليمنى؛ لأن النسل منها؛ فإنه كان لنا غنم، فخصيناها من الجانب الأيسر؛ فكن يلقحن. وهكذا الحكم فيما لو جني عليهما؛ فشلتا، أو أحداهما. فرع: لو قطع أنثييه؛ فذهب ماؤه – لزمه مع دية الأنثيين دية؛ لذهاب الماء. قال: وفي إسكتي المرأةالدية. الإسكتان – بكسر الهمزة، وفتح الكاف – عند أهل اللغة: حرفا شق فرجها.

قال الأزهري: ويفترق الشفران والإسكتان: في أن الإسكتين ناحيتا الفرج، والشفران: طرفا الناحيتين. وعند الفقهاء: هما الشفران؛ كما قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، وكذا الماوردي، وحدهما بأنهما المغطيان للفرج المنضمان عليه من جانبيه؛ كالشفتين في غطاء الفم، والجفون في غطاء العين، ووافقه في هذه الحكاية الرافعي؛ حيث قال: [عبر الشافعي عن] الشفرين كالإسكتين، وهو نص المزني في "المختصر". وإنما وجبت الدية فيهما؛ لأن فيهما جمالاً ومنفعة فكانتا كالشفرين. وسواء في ذلك المخفوضة- وهي المختونة-وغيرها، والبكر والثيب، والكبيرة والصغيرة، التي يطاق جماعها أو لا يطاق من رتق أو قرن. قال: وفي أحداهما نصفها؛ لما تقدم. وإن جنى [عليهما؛ فشلتا]، وجبت الدية؛ لأن شللهما قد أذهب منافعهما. فرع: لو قطع مع الشفرين الركب - وهو عانة المرأة- فعليه الحكومة مع ديتها. وكذلك لو قطع شيئاً من [عانة الرجل مع ذكره]. ولو قطع شفري بكر، وأزال بالجناية جلدة البكارة - فعليه مع دية الشفرين أرش البكارة. قال: وفي الإفضاء الدية؛ لأن في ذلك إذهاب جمال ومنفعة مقصودة، وقد روي عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أنه قال: "فِي الإِفْضَاءِ الدِّيَةُ". قال: وهو أن يجعل سبيل الحيض والغائط واحداً؛ إذ به تفوت المنفعة بالكلية. وأصل الإفضاء:؛ الفضاء، وهي البرية الواسعة؛ فكأنه لما رفع الحاجز اتسعت فصارت كالفضاء.

وسبيل الحيض: مدخل الذكر، وهو في أسفل الفرج، وهذا قول ابن أبي هريرة؛ كما حكاه الماوردي. وقال القاضي أبو الطيب: إنه قال به عامة أصحابنا. واختاره، وهو المحكي –أيضاً – عن الشيخ أبي محمد، والشريف ناصر، والمجزوم به في "حلية الروياني". وقيل: أن يجعل سبيل البول والحيض واحداً؛ لأن ما بين القبل والدبر فيه قوة لا يرفعه الذكر، فلا يحمل الإفضاء عليه؛ لأنهم فرضوا الإفضاء بالذكر، وسبيل البول: ثقبة في أعلى الفرج، وهذا قول [الشيخ] أبي حامد وجمهور البغداديين، ورجحه القاضي الحسين والبغوي. قال الماوردي: والأول أظهر؛ لأن خرق الحاجز الذي في القبل بين مدخل الذكر ومخرج البول هو استهلاك لبعض منافعه، وليس في أعضاء الجسد ما تكمل الدية في بعض منافعه. نعم، في خرق ما ذكره [الشيخ] أبو حامد حكومة، ولو قيل بوجوب الدية فيه، فوجوبها في خرق ما بين السبيلين أولى. وقال المتولي: الصحيح أن خرق كل واحد منهما إفضاء يضمن بالدية؛ لوجود الإخلال في الاستمتاع بإزالته، وإفضائه إلى زوال إمساك الخارج من القبل؛ فلو جمع بينهما بجناية واحدة وجبت ديتان. ولا فرق في وجوب الدية بالإفضاء بين أن يحصل بآلة الجماع أو غيرها، ولا بين أن تكون المرأة ثيباً أو بكراً، ولا بين أن يكون الفاعل له زوجها أو واطئاً بشبهة، أو زانياً مكرهاً أو غير مكره. ومحل إيجاب الدية والاقتصار عليها. إذا لم يندمل الجرح، ولم يحصل معه استرسال البول؛ فلو اندملت لم يجب سوى الحكومة إن بقي شين؛ كما جزم به الماوردي والقاضي أبو الطيب وغيرهما، وهو الأصح. وعن السرخسي وغيره وجه: أن الدية تجب؛ كما في الجائفة. والقائلون بالأول فرقوا بأن أرش الجائفة يتعلق باسمها، وقد أجافه، وإن كان الموضع قد التحم؛ فلهذا لم تتغير الدية فيها، وفي مسألتنا الدية تجب؛ لأجل زوال الحاجز، وقد رجع إلى ما كان.

ولو حصل مع الإفضاء استرسال في البول، فالمذهب – وهو المذكور في "الحاوي" وغيره -: إيجاب حكومة مع دية الإفضاء. وفي تعليق القاضي الحسين وغيره حكاية وجه: أن الواجب دية لا غير؛ لأن زوال الحاجز يتضمن الاسترسال غالباً؛ فلا يفرد بحكومة. واعلم أن الإفضاء تارة يكون عمداً محضاً بأن تكون المرأة ضعيفة [أو نحيفة]، والواطئ كبيراً يعلم أن وطأه يفضيها أو يغلب على ظنه؛ فتلزمه دية حالة مغلظة في ماله، وإن أفضى الإفضاء إلى تلفها كان عليه القود. وتارة يكون عمد خطأ؛ بأن يكون وطء مثله لمثلها يجوز أن يفضيها ويجوز ألا يفضيها. وتارة يكون خطأ؛ بأن يكون مثله مفضياً للصغيرة [وغير مفض للكبيرة]؛ [فيطأ الصغيرة، وهو [يظن أنها] الكبيرة]؛ فيفضيها؛ فتجب الدية في الصورتين على عاقلته: مغلظة في الأولى، مخففة في الثانية. قال: وفي إذهاب العذرة الحكومة؛ لأنه قطع جلد حصل به شين، وليس فيه أرش مقدر، ويجب مع ذلك دية الإفضاء إن حصل [من الجناية] إفضاء، جزم به الماوردي. وهذا إذا أذهبها غير الزوج بغير وطء، أما إذا أذهبها بوطء، نظر: فإن كان بزنى فهي مطاوعة فيه؛ فلا أرش لها. وإن كانت مكرهة، أو كان الوطء بشبهة- فالمهر واجب، وهل هو مهر بكر أم ثيب؟ فيه وجهان تقدم ذكرهما في الصداق، وفي كتاب الغصب، وفي كتاب الغصب، وفي البيع الفاسد. فإن أوجبنا مهر ثيب – وهو محكي في طريق المراوزة، ونسبوه إلى النص، وأظهر عند الرافعي – وجب أرش البكارة جزماً. وإن أوجبنا مهر بكر، فهل يجب معه أرش البكارة، أم يدخل في المهر؟ فيه وجهان، [و] حكاهما القاضي أبو الطيب قولين كالقولين فيما إذا ذهب العقل بجناية هي موضحة.

وقضية هذا البناء: أن يكون القديم: الاندراج، والجديد: عدمه؛ كما ذكرناه من قبل. وفي "تعليق" البندنيجي: أن المذهب: الاندراج، وحكى القاضي – أيضاً- عن بعضهم القطع به، وعليه جرى في "المهذب"؛ فإنه فرق بينه وبين الموضحة: بأن هاهنا لا يمكن الوطء إلا بذهاب هذه العذرة، وليس كذلك ثمّ؛ فإن العقل قد يجني عليه بما لا يجني على الموضحة، والجناية بالموضحة قد [لا] تكون جناية على العقل؛ فأحدهما غير الآخر. والطريقان جاريان – كما حكاه القاضي أبو الطيب – فيما إذا حصل [من الوطء] المذكور إقضاء؛ فأزال البكارة. وفي "الحاوي" حكاية وجه: أن أرش البكارة يدخل في دية الإفضاء، وإن لم يدخل في المهر عند تجرد الوطء عن الإفضاء، وهذا ما حكاه ابن الصباغ عن النص فيهما، واقتصر ابن يونس على إيراده، وفرق بأن الدية بدل عن العضو الذي فيه البكارة؛ فاندرج فيه أرشها، والمهر ليس بدلاً عن العضو، بل عوض عن الاستمتاع بالبضع؛ فلم يندرج فيه الأرش. أما إذا أذهبها الزوج: فإن كان بالوطء فلا شيء عليه، وكذا إن كان بغيره؛ كما حكاه القاضي الحسين والماوردي. ثم قال القاضي: ويحتمل أن يجب أرشها؛ لأنه استحقه على وجه يكون استيفاء، وهذه جناية. وقد صرح غيره بحكايته وجهاً. ثم إذا أوجبنا أرش البكارة حيث يجب؛ فهل يكون من الإبل، أو من نقد البلد؟ فيه وجهان في "التهذيب"، وأصحهما في "الرافعي" – وهو المذكور في "تعليق" القاضي أبو الطيب -: الأول، على ما هو قاعدة الجناية على الأحرار. فرع: لو أزالت بكر بكارة أخرى، اقتص منها، قاله الرافعي. وفي "الشامل": أن المجني عليها إن كانت حرة وجب لها حكومة، ولم يتعرض لذكر القصاص. ولو عادت البكارة، لم تسترد الأرش.

فرع آخر: إذا قتلت البكر عمداً؛ فأزال ولي القتيل بكارتها وعفا عنها – قال في "التتمة": إِنْ أزالها بإصبع أو خشبة، فلا شيء عليه بسببها، وإن أزالها بالوطء، فكذلك إن أوجبنا مهر ثيب وأرش البكارة، أو قلنا: إِنَّ أرش البكارة ينفرد عن المهر. وإن قلنا: لا يجب سوى مهر بكر، وجب هاهنا مهرها كاملاً. قال: وفي الشعور كلها الحكومة، يعني: الشعور التي [في] نباتها جمال في الجملة: كشعر الرأس، واللحية، والحاجب؛ لأنه أتلف جمالاً من غير منفعة؛ فلم يضمن ذلك بكمال الدية، وضمنه بالحكومة؛ كإتلاف العين القائمة، واليد الشلاء، وهذا بشرط ألا يعود؛ لفساد المنبت، أو يعود ناقصاً. وأما لو عاد كما كان، فلا شيء على المشهور. وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر: أن فيه حكومةً دون حكومته إذا لم يَعُدْ، وادعى أن الشافعي – رحمه الله – لوح إلى الوجهين، فلو خرج على قولين كان محتملاً، وفي "تعليق" القاضي الحسين تخصيص الوجهين بما إذا حصل له ألم عند الإزالة، والجزم بالمنع عند عدمه. وأما ما لا جمال في بقائه، ويجمل بذهابه؛ كشعر الإبط [والعانة]- فلا حكومة فيه. قال الماوردي: وقد خرج بعض أصحابنا فيه وجهاً ثانياً: أن فيه إذا لم يعد الحكومة، وإن كان ذهابه أجمل؛ لأن الشافعي – رحمه الله – قد أوجب في لحية المرأة إذا نتفت ولم تعد حكومة، وإن كان ذهابها أجمل بالمرأة من نباتها، وهما في المعنى واحد. وعلى هذا يحسن أن يحمل كلام الشيخ على عمومه. وفي "الحاوي" – أيضاً – حكاية وجه فيما إذا أخذ شعر الرأس والشارب ممن لا يشينه ذلك، وهو من جرت عادته بحلقه، ولم يعد -: أنه لا يجب فيه حكومة، والجزم بأنه إذا عاد: لا تجب. فرع: إذا قلع حاجبه، وأوضح العظم، وجب عليه أكثر الأمرين من الموضحة،

وأرش الموضحة، قاله القاضي أبو الطيب عند الكلام في الشجاج. قال: وفي جميع الجراحات سوى [ما ذكرنا]، أي: من الموضحة والجائفة – الحكومة؛ لأنه لا تقدير للشرع فيها، ولم ينته حصول الشين فيها إلى المنصوص عليه؛ فتعينت الحكومة. قال القاضي أبو الطيب: ولأنه – عليه السلام – قدر الأروش في الشجاج في الرأس والوجه؛ فلو كان الأرش مقدراً في الجراحات فيما عداهما لكان أولى بالبيان؛ لأنها أكثر من الشجاج الموجبة للأروش المقدرة. قال الأصحاب: وهكذا الحكم في كسر العظام، وينقلها يجب فيها – فيما عدا الوجه والرأس – الحكومة. والفرق بين الرأس والوجه، وبين سائر أعضاء البدن في ذلك من أوجه: أحدها: أن الجناية على الرأس والوجه أخوف؛ وهكذا الجائفة، بخلاف غيرهما. والثاني: أن شينها في ذلك أقبح. والثالث: أن الرأس أشرف؛ لاشتماله على حواس السمع والبصر والشم، والذوق. والرابع: أنا لو أوجبنا في الموضحة على سائر البدن خمساً من الإبل، لأدى إلى أن نوجب في الموضحة على العضو أكثر مما يجب بقطعه؛ فإن الأنملة فيها ثلاثة أبعرة وثلث، بخلاف الإيضاح في الرأس والوجه. وقد حكى عن الشافعي – رضي الله عنه – أنه قال في القديم: إذا كسر ترقوته ففيه جمل، وفي الضلع جمل؛ لأن عمر – رضي الله عنه – حكم فيهما بالجمل. قال الماوردي: ومذهب الشافعي: أن قول الصحابي إذا انتشر، ولم يظهر له مخالف – وجب العمل به، وإذا لم ينتشر فعلى قولين، وهذا قول قد انتشر؛ فكان العمل به واجبا. والجديد ما ذكرناه: أن الواجب في ذلك الحكومة. وذهب أبو إسحاق المروزي، وأبو عليّ بن أبي هريرة، وأكثر المتأخرين إلى

أن المسألة ليست على قولين، ومذهب الشافعي في ذلك وجوب الحكومة، وما حكى عن عمر – رضي الله عنه – فهو تنبيه على قدر الحكومة؛ لأنه تقدير مستقر. قال: وفي تعويج الرقبة، وتصغير الوجه، وتسويده –الحكومة؛ لأنه إذهاب جمال من غير منفعة، وفي بعض النسخ: "تصعير الوجه" أي تعويجه، والذي وقفت عليه في نسخة عليها خط المصنف: الأول. فلو أخذ الحكومة ثم زال الشين – لزمه رد الحكومة. وفي "تعليق" القاضي الحسين وجه آخر: أنه لا يسترد؛ لأجل الألم. وذكر فيما إذا زال قبل الأخذ: أن له الأخذ. فرع: لو لوى عنقه؛ فامتنع عليه بسبب ذلك الطعام والشراب وجبت عليه الدية؛ كما صرح به الإمام والفوراني؛ لأنه سد [منفذ الطعام والشراب] وإن كان من هذا حاله لا يعيش. فرع: لو لوى عنقه؛ فامتنع عليه بسبب ذلك الطعام والشراب وجبت عليه الدية؛ كما صرح به الإمام والفوراني؛ لأنه سد [منفذ الطعام والشراب] وإن كان من هذا حاله لا يعيش. لكن أثر ما ذكرناه يظهر فيما لو حز آخر رقبته. قال الإمام: فلو مات بسبب امتناع الطعام والشراب، إن قلنا: إن من قطع يدي شخص أو رجليه، ثم حز رقبته – لايجب عليه إلا دية واحدة، فكذلك هاهنا. وإن قلنا ثم: تجب عليه ديتان، فهاهنا يجوز أن يجعل موته بسبب الجوع والعطش بمنزلة السراية؛ حتى تجب دية واحدة، ويجوز ألا يعد من قبيل السراية، بل يجعل كالحز؛ فتجب ديتان. قال: والحكومة: أن يُقوَّم بلا جناية، أي: لو كان عبداً، ويقوم بعد الاندمال مع الجناية، فما نقص من ذلك وجب بقسطه من الدية. أما تعين هذا الطريق فوجهه: أن ما تجب فيه الحكومة من الجنايات ليس في أرشه نص، فوجب التقدير [فيه] بالاجتهاد، ولا طريق إلى معرفة قدر النقصان من جهة الاجتهاد إلا بالتقويم؛ فاعتمدناه.

وأما إيجاب نسبة النقصان في التقويم من الدية، أي: دية النفس، لا دية العضو المجني عليه – لأن الدية مضمونة بالدية؛ فوجب القدر الناقص منها، كما يقوم المبيع [عند الرجوع بأرش العيب، ثم نوجب القدر الناقص من الثمن حين كان المبيع] مضموناً بالثمن. ومثال ذلك: إذا كان المجني عليه لو كان عبداً سليماً من الجناية يساوي مائة، وبعد اندمال الجناية يساوي تسعين – عرفنا أن الفائت بالجناية عشر القيمة؛ فنوجب على الجاني عشر دية المجني عليه، لكن بشرط أن ينقص عشر الدية عن دية العضو المجني عليه [إن كان له أرش مقدر؛ فلو لم ينقص، نقص [عنه] ما يراه الحاكم، وأقله: ما يجوز أن يكون ثمناً، أو صداقاً لامرأة]. قال الإمام: ولو قال قائل في هذه الحالة: تضبط نسبة النقصان الحاصل بالجناية على العضو، مع بقاء العضو، ثم يقدر النقصان بفوات العضو، ثم يدرك ما بين النقصانين، ويحط مثل تلك النسبة؛ فإن نعتبر نقصان الجزء بنقصان الكل غير الكل؛ فهذا وجه من الرأي جيد. وفرَّ بعض أصحابنا من ذلك؛ فجعل نقص الجناية معتبراً من دية العضو المجني عليه، لا من دية النفس: فإن كانت الجناية على يده، والنقص – كما ذكرنا- العشر وجب عشر دية اليد. وإن كانت على إصبع وجب [عشر دية الإصبع. وإن كانت على الرأس فيما دون الموضحة أوجب عشر دية الموضحة. وإن كانت على الجسد فيما دون الجائفة أوجب] عشر دية الجائفة، ولم نعتبره من دية النفس؛ حذاراً من ان يبلغ أرش الحكومة دية ذلك [العضو]، أو زيادة عليه. قال الماوردي: وهو فاسد؛ لوجهين، حكاهما في المهذب أيضاً:

أحدهما: أنه لما كان التقويم للنفس، دون العضو، وجب أن يكون النقص معتبراً من دية النفس دون العضو. والثاني: أنه قد يقارب جناية الحكومة جناية المقدر؛ كالسمحاق مع الموضحة، فلو اعتبر النقص من دية الموضحة لبعد ما بين الأرشين، مع قرب ما بين الجنايتين. والوجهان متفقان على أن الجناية إذا كانت على عضو ليس له أرش مقدر – من كتف، أو فخذ، أو ساق، أو عضد، أو ذراع – أن المعتبر فيها نقصانها عن دية النفس، وإن زادت على دية يد أو عضو آخر، وقد صرح بهذا الجواب في "التهذيب". وشبه الأئمة تنقيص الحكومة عن أرش الموضحة، والأرش المقدر في العضو، أو عن دية النفس بالتعزير؛ حيث لا يبلغ به أدنى الحدود، وكذلك الرضخ لا يبلغ به السهم، والمتعة لا يبلغ بها نصف المهر. فرع: الجناية [على الكف] يعتبر ألا تبلغ حكومتها دية إصبع واحد على الأصح، وبه جزم العراقيون. وفي "الإبانة" وغيرها حكاية وجه سبقت حكايته: أنه يجوز أن تزيد عليه، لكن ينقص من دية [الأصابع] الخمس. فرع آخر: الجناية على البدن – كالظهر والبطن والصدر – فيها الوجهان السابقان في صدر المسألة، فعلى وجه: تنقص عن دية الجائفة؛ كما ينقص ما دون الموضحة [عن أرش الموضحة]. قال الماوردي: ويمكن أن يفصل بين الموضحة مع ما دونها، وبين الجائفة مع غيرها: أن ما تقدم الموضحة بعض الموضحة؛ فلم يبلغ ديتها، وغير الجائفة قد لا يكون بعضها؛ لما فيه من كسر عظم وإتلاف لحم؛ فجاز أن تزيد يد حكومتها على دية الجائفة، وهو الأصح.

[قال]: وإن كانت الجناية مما لا ينقص بها شيء بعد الاندمال، ويخاف منها التلف حين الجناية: كالإصبع الزائد، وذكر العبد، أي: إذا كان أصل، أو فرعنا على القديم في أن الواجب يه ما نقص من القيمة؛ كما سنذكره. قال: قوم حال الجناية، فما نقص [من ذلك] وجب؛ لأنه [لما] تعذر تقويمه في حال الاندمال؛ لانتفاء النقص – قوم في الحالة التي يظهر فهيا، وهي حالة الجناية؛ كما قلنا في ولد المغرور: لما تعذر تقويمه حالة العلوق قوم [في حال] إمكان تقويمه، وهو عند الوضع. وهذا إذا لم يظهر بسبب الجناية نقص في التقويم إلا عند الجناية، أما إذا ظهر بعد الجناية، وقبل الاندمال- اعتبرنا النقص الحاصل في أقرب الأحوال إلى الاندمال، ثم الحالة التي تليها، إلى أن نرجع إلى حالة الجناية- كما قال الشيخ – إن لم يكن نقص إلا فيها. وقيل: المرجع في تقدير الحكومة في هذه الحالة إلى اجتهاد الحاكم، حكاه الطبري في "العدة"، وكذا الفوراني، مع ما ذكره الشيخ، وهذا تفريع على إيجاب الحكومة فيها، وهو قول أبي إسحاق المروزي، والمذهب في "تعليق" البندنيجي. وقد ذهب ابن سريج إلى أن الجناية إذا لم تنقص شيئاً بعد الاندمال، لا يجب فيها شيء، وبه جزم بعضهم في ذَكَرِ العبد، ورجحه الرافعي، وقال: [إن الإمام قال]: إن قول ابن سريج هو ظاهر القياس؛ فإن المعتمد في الحكومات اعتبار النقصان، وبناء النسبة عليه، فإذا لم يكن نقص أصلاً فلا معنى لإيجاب شيء مع انعدام الموجب. وأيد ذلك – أيضاً – بأن الذي صار إلى أن المرجع في تقدير الحكومة إلى اختيار القاضي، إن قال: إنه يوجب ما شاء، فهذا في غاية البعد، وإن كان بسبب نظره إلى رأي، فهو المطلوب؛ فليبحث عنه؛ فهو مرادنا.

والقائل بالوجه الآخر، وهو اعتبار النظر إلى حالة الجناية، فإما أن يقومه لو كان عبداً، والألم لا يزول، أو يقومه مع تقدير الزوال: فإن قال بالأول فهو باب من الظلم ولا ينبغي أن يقدر الشيء إلا على ما هو عليه. وإن قال بالثاني فيسقول المقومون: إذا كانت الآلام تزول، والشين ينتفي، فالقيمة بحالها. وإذا تعطل الوجهان تعين المصير إلى أنه لا يجب شيء أصلاً، وصحة المذهب وفساده تمتحن بالتقديقات. وقد تعرض الرافعي لجوابه، فقال: ولناصر الوجه الأول أن يقول: يسند الحاكم اجتهادَه إلى كيفية الجناية، خفة وفحشاً، وإلى قبحها في النظر سعةً، أو عرضاً، وإلى قدر الآلام المتولدة منها، المختلفة بسرعة البرء وبطئه. وأن يجبوا عن الآخر بأن هاهنا قسماً آخر، وهو أن يقول: ما قيمته، وبه هذه الجناية التي لايدري أيحصل الاندمال فيها ويزول ألمها، أو يسري، ولا يدري – على التقدير الأول – أيبقى شين وأثر، أم لا؟ ولا شك أن الجراحة التي حالها ما ذكرنا توجب نقصان القيمة. ثم قال: وقد تعرض الإمام في خلال الفصل لهذا الجواب، إلا أن نفسه لم تسكن إليه. ثم الوجهان جاريان في كل جناية هي جرح أو كسر عظم؛ كما حكاهما القاضي أبو الطيب، وكذا فيما [إذا] كان ضرباً على الوجه؛ فأثر اسوداداً ونحوه، كما حكيناه عن رواية القاضي الحسين من قبل. وفي "الرافعي" و"التهذيب" الجزم في الضرب بعدم الإيجاب. وقد طرد القاضي الحسين الوجهين – أيضاً – فيما إذا ضرب بطن امرأة؛ فأجهضت الجنين، وحصل لها ألم بسبب الضرب، ولم يحصل شين؛ فعلى وجه: يجب حكومة في وقت الألم، وعلى وجه: لا يجب شيء، وادعى أنه المنصوص عليه في باب "دية الجنين". أما إذا قطع ذكر العبد، وفرعنا على الجديد في أن جراح العبد من قيمته

كجراح الحرِّ من ديته، فالواجب القيمة؛ وإن زادت بسبب ذلك، صرح به المتولي وكذا الغزالي في كتاب الديات، وإن كان قد قال عند الكلام في معنى الحكومة: إن القياس: ألا يجب شيء. وفيه وجه: أنه يجب كمال القيمة. قال: وإن كان مما لا يخاف [منه]، كحلية المرأة –أي إذا أتلفها، وأفسد منبتها؛ كما ذكرنا في الشعور – قُومَ لو كان عبدا وله لحية، وقوم ولا لحية له – فيجب ما بينهما، أي: من الدية؛ كما ذكرناه؛ لأن هذا هو الممكن. والوجه السابق في أن قدرها موكول إلى اجتهاد الحاكم جارٍ هاهنا، وقد جزم به الفوراني وصاحب "العدة"، وهو تفريع على قول أبي إسحاق: إن الحكومة تجب في لحية المرأة، وهو ظاهر النص. وطرد ابن سريج مذهبه، ولم يوجب فيها شيئاً.

وادعى الغزالي أنه القياس، وجزم في"الوسيط" به فيما إذا كانت الجناية خفيفة لا تؤثر نقصاً في حالة وجودها، وإن كان في "التتمة" [قال]: إن الحاكم يوجب فيها شيئاً بالاجتهاد. تنبيه: كلام الشيخ يفهم أمرين: أحدهما: اعتبار سنه في التقويم. والثاني: أنه لا تنقص حكومة لحية المرأة عن حكومة لحية الرجل، [وكذا هما في "التهذيب"]، وفي كلام الأئمة ما ينازع فيهما. أما الأول: فقد قال ابن الصباغ يعتبر بعبد يشينه ذهاب اللحية، كابن الأربعين والخمسين. وعن الشيخ أبي حامد أنه يعتبر أن يكون كابن الثلاثين والأربعين؛ لأن اللحية لمثل هذا فيها جمال. وقال الغزالي: يعتبر بعبد بلغ أوان اللحية. يعني طلوعها، والعبارة متقاربة. وفي كلام الإمام إشارة إلى أن بعضهم رأى أنا نعتبر زوال لحية الغلام في حال كونه أمرد؛ فإنه قال: ولا حاصل لقول من يقول: الالتحاء ينقص قيمة المرد من الغلمان. ثم رد عليه بأن ما ذكرناه في لحية نبتت في أوانها، وعدم اللحية في الرجال في أوان نباتها نقص بَيِّنْ وشيْنٌ. وأما الثاني فظاهر نص الشافعي – كما ذكره ابن الصباغ وغيره – صريحٌ في تنقيص حكومتها عن حكومة الرجل؛ حيث قال: إذا نتف لحية امرأة أو شاربها، فعليه حكومة دون حكومة لحية الرجل، وإن لم يحدث من نتفها شينٌ. وفي كلام الإمام ما يحصل به جواب هذا، فإنه قال: ولست أعرف ضبطا في مقدار الحط، وليس إلا الرجوع إلى بوادر خاطر المجتهد؛ ولعسر هذا لم يعتبره الأصحاب- يعني: النقص عن حكومة الرجل- ونزلوا لحية المرأة منزلة [لحية] الرجل.

وقد أوضح الماوردي طريق معرفة ذلك، فقال: نتف اللحية يُحْدِث في المرأة زيادةً وفي الرجل نقصاناً؛ فتسقط الزيادة الحادثة في المرأة من النقصان الحادث في الرجل، وينظر الباقي بعده؛ فيعتبر من ديتها، فإن لم يبق بعد إسقاط الزيادة شيء من النقصان أوجبنا حينئذ أقل ما يجوز أن يكون ثمناً، أو صداقاً. مثاله: إذا قدرنا أمة، وقيمتها مع وجود اللحية أربعون، وبدون اللحية خمسون فالزائد الخمس؛ فإذا قدرناها غلاماً، وله لحية وقيمته بلحيته مائة، وبدونها بعد قلعها وفساد منبتها تسعون – فالفائت العشر؛ فينقص من الزائد في المرأة عشر قيمتها، وهو خمسة؛ فيبقى من الزيادة عشر قيمتها؛ فيجب عشر ديتها. ولو كانت قيمة الغلام [والحالة هذه]، بعد قلع لحيته وفساد المنبت؛ ثمانين فالفائت خمس قيمته؛ ففي هذه الحالة استوعب النقص الزيادة؛ فيجب من الدية أقل ما يكون ثمناً. فرع: إذا قلع سنًّا زائدة، وأوجبنا الحكومة فيها؛ كما هو مذهب أبي إسحاق، والأصح في "التهذيب" وغيره، خلافاً لابن سريج – فقد اختلفت الطرق في [كيفية] معرفة حكومتها: فقال ابن الصباغ: [يقال]: إذا قلعت هذه السن الزائدة، وليس خلفها سن أصلية كم قيمته؟ فيقال مثلاً: ثمانية وتسعون، [ويقال: وكم] قيمته إذا لم تكن مقلوعة؟ فيقال: مائة- فقد نقص خُمُسُ عُشْرِ القيمة؛ فنوجب خمس عُشْرِ الدية. وهذا ما أورده في "المهذب". وحكي أن الشيخ أبا حامد قال في "التعليق": يقال: هذا السن الزائد إذا لم يكن وراءها سن كم قيمة هذا العبد؟ فإن قيل: مائة، فيقال: ولو كان وراءه سن آخر كم قيمته؟ فإذا قيل: تسعون، عرفنا أن الناقص عشر القيمة؛ فنوجب عشر ديته؛ لأنه إذا لم يكن وراءه سن، [يكون] فيه جمال؛ فتكون قيمته أكثر، وإذا كان وراءه سن، لم يكن فيه جمال، فتقل قيمته. وفي "تعليق" البندنيجي أنه يقال: إذا قلع سنًّا زائدة، وخلفها سن أصلية، كم يساوي؟ فإذا قيل: مائة، قلنا: [ولو] لم يكن هناك سن أصلية كم يساوي؟ فإذا

قيل تسعون، قلنا: ففيها عشر الدية وعلى هذا أبداً. واللفظان متقاربان، وليس مراد الشيخ أبي حامد وغيره أنا نوجب في السن عشر الدية؛ للعلم بأن السن الأصلية لا يجب فيها ذلك، وإنما مرادهم بذلك: المثال لا حقيقة الأمر؛ ولذلك كان ما مثل به ابن الصباغ أحسنَ؛ لسلامته عن الطعن. وقد حكى المراوزة وجهاً: أن المرجع في حكومته إلى اجتهاد الحاكم؛ كما في نظائر ذلك. فرع آخر: إذا قطع أنملة لها طرفان. أحدهما: زائد. والآخر: أصلي – فيجب [في] الأصلي أرشه، وأما الزائد فلا يمكن اعتباره بشيء. قال ابن الصباغ والبندنيجي: فيقدرها الحاكم باختياره، ولا يبلغ بذلك أرشَ الأصلي. قال الرافعي: وكان يجوز أن يقوم – وله الزائدُ – بلا أصلية كما اعتبرت لحية المرأة بلحية الرجل، ولحيتها كأعضاء زائدة، ولحيته كالأعضاء الأصلية. قال: وما اختلف فيه العمد والخطأ في النفس -: بسبب التغليظ – اختلف فيما دون النفس بالقياس على النفس. قال: ويجب في قتل العبد والأمة قيمتهما بالغة ما بلغت؛ لأنهما مال مضمون بالإتلاف لحق الآدمي بغير جنسه؛ فضمن بقيمته بالغة ما بلغت؛ كسائر الأموال، وهذا متفق عليه. [فرع: لو كانت الأمة حال القتل مزوجة. قال الإمام في أول فصل مذكور في نكاح الغرور: إن الواجب قيمتها خلية عن الزوج، وإن تقدير ذلك فيها ممكن لو بقيت، ولكنا نعتبر الصفة التي كانت

الجارية عليها حالة الإتلاف]. قال: وما ضمن من الحر بالدية – أي: كاليدين والرجلين ونحوهما – ضمن [من العبد] والأمة بالقيمة؛ لأنه روي ذلك عن عمر وعليّ – رضي الله عنهما – ولأن كُلاًّ منهما حيوان يضمن بالقصاص والكفارة؛ فكانت أطرافه وجراحاته مضمونة ببدل مقدر من بدنه كالحر، وهذا هو الجديد، والأصح في الطرق، ولم يحك العراقيون سواه. وبعضهم نفي أن يكون ثَمَّ خلافٌ، كما حكاه في "التهذيب"، وعلى هذا تأتي المسائل التي نفرعها من بعد. وحكى المراوزة عن ابن سريج [تخريج] قول: أن جميع أطراف العبد والأمة وجراحاتهما مضمونة بقدر النقصان كالبهائم، وهذا أخذ من نص الشافعي – رحمه الله – أن العاقلة لا تحمل قيمة العبد المقتول خطأ، كالبهائم. وقد حكى الإمام هذا التخريج قولاً منصوصاً [في القديم]. فحصل في المسألة قولان، وهما جاريان فيما ضمن من الحر بأرش مقدر: كالسن، والأنملة، ونحوهما، هل يضمن من العبد والأمة بما نقص، أو بمثل نسبة ذلك من قيمته، حتى يضمن سنه بنصف عشر قيمته، وأنملة، ونحوهما، هل يضمن من العبد والأمة بما نقص، أو بمثل نسبة ذلك من قيمته، حتى يضمن سنه بنصف عشر قيمته، وأنملة خنصره – مثلاً- بثلث عشر قيمته. قال الإمام: ثم على الجديد قد يعرض للعبد ما لا يتصور في الحر، وبيانه: أن العبد إذا كانت قيمته ألفاً؛ فإذا قطعت يده؛ فعادت قيمته إلى ستمائة – فعلى القاطع خمسمائة؛ فلو قطع آخر يده؛ فعليه ثلاثمائة، وهذا لا يتصور في الحر؛ فإن بدله لا ينقص. ثم محلف هذا عند صاحب "التهذيب" إذا صدر القطع الثاني بعد اندمال

الأول، وقال إذا حصل قبل اندماله: إن على الثاني نصف ما أوجبنا على الأول، وهو مائتان وخمسون؛ لأن الجناية الأولى ما استقرت بَعْدُ حتى يقسط النقصان، وقد أوجبنا بها نصف القيمة، وكأنه انتقص نصف القيمة. ولو مات العبد من القطعين، قال الرافعي: ففي الواجب عليهما اختلاف أوجه مذكورة في الصيد والذبائح، وقد حررته في هذا الكتاب في الباب المذكور على أبلغ وجه؛ فليطلب منه. قال: وما ضمن من الحر بالحكومة ضمن من العبد والأمة بما نقص؛ لأنا نشبه الحُر في الحكومة بالعبد؛ لنعرف قدر التفاوت؛ فنرجع به؛ ففي المشبه به أولى. وقد قال الأصحاب: إن العبد أصل للحر في الحكومة، والحر أصل للعبد في التقدير، فعلى هذا: لا يبلغ بأرش الجناية التي لا أرش لها قيمة الجملة، أو قيمة العضو التي صدرت الجناية فيه، على التفصيل والخلاف السابق في الحر، صرح به الماوردي، وصرح بنقيضه عن النص. قال: ولا يختلف العمد والخطأ في ضمان العبد والأمة؛ لأن المضمون هو المالية، وضمان المال لا يختلف فيه العمد والخطأ. وقد قال: لم لا أجرى قول في التغليظ في قيمتهما إذا وقع القتل عمداً، أو في الحرم، أو كان القتيل ذا رحم محرم للقاتل، أو في الأشهر الحرم؛ بناء على أن العبد كالحر في كون العاقلة تحمله، وبناء على أن دية الحر [مقدرة بألف] دينار أو اثني عشر ألف درهم عند إعواز الإبل، وأنه يزاد للتغليظ فيها قدر الثلث. قال: وإن قطع يد عبد، ثم أعتق، ثم مات وجب فيه دية حُرّ؛ نظراً إلى حال استقرار الجناية؛ فإن الضمان بدل المتلف؛ فينظر فيه حالة التلف، وسواء في ذلك الزيادة على قدر القيمة والنقص عنها. قال: [للمولى منها] أقل الأمرين من نصف الدية أو نصف القيمة –أي:

وقت الجناية – لأن نصف القيمة إن كان أقل فهو لم يستحق أكثر من ذلك؛ لأن الزيادة حصلت في حال الحرية، ولا حق له فيها. وإن كان نصف الدية أقل لم يستحق أكثر منه؛ لأنه استحق [نصف] بدل نفسه في حال الرق؛ فإذا نقص نصف بدلها بالعتق عن نصف بدلها في حال الرق لم يستحق أكثر منه؛ لأنه المتسبب فيه بالعتق، وهذا قول أبي عليّ بن أبي هريرة. والمنصوص عليه؛ كما ذكره القاضي الحين، وهو الذي أورده في "المهذب"، وعليه الجمهور: أنه يجب للمولى منها أقل الأمرين من نصف القيمة أو كل الدية. قال الماوردي: وما قاله ابن أبي هريرة زلل؛ لأن الجناية من شخص واحد لا يخلو حالها من أربعة أقسام: إما أن نعتبرها وقت الجناية بنصف القيمة؛ قَلَّت أو كثرت. أو نعتبرها وقت الموت بجميع الدية، قلت أو كثرت. أو نعتبرها بأكثر الأمرين؛ فلا يجوز، وهو مردود بالاتفاق. أو نعتبرها بأقل الأمرين، وهو متفق عليه؛ فوجب أن يكون الأقل ما وجب في الابتداء وهو نصف القيمة، وما استقر في الانتهاء وهو جميع الدية، فأما أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية، فلا يعتبر إلا في جناية اثنين، وهو أن يقطع حر يد عبد، فيعتق، ثم يقطع آخر يده الأخرى، ثم يموت – فيكون عليها دية حر بينهما نصفين، للسيد منها أقل الأمرين من نصف قيمته، أو نصف ديته؛ لانهما جنايتان أحداهما في الرق يختص بها السيد، والأخرى في الحرية يختص بها الورثة. وكذا فيما إذا قطع يده، وهو عبد؛ فعتق، ثم عاد الجاني، وقطع الأخرى، ومات منهما فإن الواجب عليه الدية، وللمولى منها أقل الأمرين من نصف القيمة، أو نصف الدية؛ كما حكاه القاضي أبو الطيب، والماوردي – أيضاً- وقال: لعل ابن

أبي هريرة خالف في تلك المسألة حملاً على هذه، والفرق بينهما واضح. ولا يجب على الجاني في هذه الصورة القصاص في النفس، ويجب عليه في الطرف الذي قطعه بعد الحرية. وعن ابن كج حكاية وجه: أنه يجب في النفس أيضاً. وعن ابن سريج حكاية وجه: أنه لا يجب في الطرف كما حكاه الماوردي؛ لدخوله بالسراية في نفس لا تستحق قوداً، وهما ضعيفان. وقد حكى في مسألة الكتاب قول آخر: ادعى صاحب "التقريب" وأبو يعقوب الأبيوردي، والقاضي الحسين وشيخه القفال –أنه مخرج من قول الشافعي في الفروع التي سنذكرها: إن للمولى أقل الأمرين من كل الدية أو كل القيمة. وفي تعليق بعض المراوزة نسبة هذا القول إلى القديم، وعبر عنه المراوزة كما حكاه الإمام – بأنه يجب للسيد الأقل مما يلزم الجاني آخراً بالجناية على الملك أولاً، أو من مثل نسبته [من] القيمة. وفي "تعليق" القاضي الحسين أن المزني قال [وجهاً: إنه] يجب للمولى نصف [القيمة]؛ لأنه قد استحق النصف من قيمته على الجاني بقطع يده؛ فلا يتغير. أما إذا اندمل القطع، ومات المعتق بسبب آخر- كان للسيد على الجاني نصف قيمته. ثم على القول الصحيح في مسألة الكتاب فروع: منها: إذا كان الجاني قد قطع يدي العبد قبل العتق، ثم سري القطع؛ فمات منه – وجب على الجاني الدية، وللسيد منها أقل الأمرين من كل الدية، وكل القيمة. وقال المزني: إن كانت القيمة أكثر وجبت للسيد على الجاني؛ اعتباراً بوقت الجناية. قال الإمام: وكأنه يقول: لا سبيل إلى صرف رقبة الحر إلى السيد، ولا سبيل إلى حرمانه؛ فالوجه أن يقطع أثر الجناية، ويصرف إليه أرش ما جرى في الرق. وهذا كوجه ذكره الإصطخري، فيما إذا قطع يدي مسلم ورجليه، فارتد، ومات بالسراية – أنه يجب على الجاني ديتان، ولا ينظر إلى السراية بعد السردة.

وعن الشيخ أبي محمد: أن من سلك مسلك الإصطخري هناك لا يبعد أن يوافق المزني هاهنا. ولو لم يمت العبد في هذه الصورة، واندمل الجرح – وجب للسيد كمال القيمة. وعن ابن كج حكاية وجه فيما إذا كان الاندمال بعد العتق: أن الواجب فيه دية حر؛ اعتباراً بحال الاستقرار. ومنها: لو قطعت يدا العبد في حال الرق، ثم عتق، ثم أوضحه الجاني، ومات من الجراحات- فالواجب عليه دية حر، وللمولى منها أقل الأمرين من كل الدية، أو [كل] القيمة. وفي شرح الفروع للقاضي أبي الطيب حكاية قول آخر: أنه يجب للمولى أقل الأمرين من نصف قيمته أو نصف ديته. وهكذا الخلاف فيما لو صدرت الموضحة من جانٍ آخر. ومنها: إذا: قطع حر يد عبد، فعتق، ثم جاء آخر فقطع يده الأخرى، ثم جاء آخر؛ فقطع رجله، ثم مات بالسراية – فعلى الثاني والثالث القصاص فيما قطعاه، وكذا في النفس على [الأصح]، خلافاً لأبي الطيب بن سلمة؛ كما حكيناه من قبل عن رواية القاضي أبي الطيب، وغيره. وبعضهم نسب إلى أبي الطيب بن سلمة حكاية قولين في المسألة؛ كما في شريك السبع. وأما الدية فهي عليهم أثلاثاً: للورثة منها الثلثان بلا شك، وهل هما الثلثان الواجبان على الثاني والثالث، أو هما شائعان على الجميع؟ فيه خلاف سنذكره، وما الذي يستحقه السيد؟ فيه قولان منصوصان في المختصر: اختيار المزني: أقل الأمرين من نصف القيمة أو ثلث الدية. والقول الثاني: أنه يستحق أقل المرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية، وباقي الثلث للورثة – أيضاً –إن كان أكثر الأمرين. ولو انعكست الصورة؛ بأن قطع أحدهما يده، وآخر رجله، وهو رقيق، ثم عتق؛ فقطع آخر يده الأخرى- فالسالم للورثة الثلث بلا شك. وما للسيد؟

فعلى اختيار المزني: أقل الأمرين من كمال القيمة أو ثلثي الدية. وعلى القول الآخر: أقل الأمرين من ثلثي القيمة أو ثلثي الدية. ولو كان الجناة أربعة، وقد قطع أحدهم يده، وآخر يده الأخرى، وآخر رجله قبل العتق، ثم قطع الرابع الرجل الأخرى بعد العتق؛ فالواجب عليهم الدية أرباعاً: للورثة منها ربع بلا شك، وما الذي يجب للسيد؟ فعلى رأي المزني: الأقل من نصف قيمته وثلاثة أرباع الدية. وعلى القول الآخر: الأقل من ثلاثة أرباع الدية أو ثلاثة أرباع القيمة، وعلى هذا فَقِسْ. ومنها: إذا قطع حر إصبع عبد، فعتق، ثم قطع آخر يده، مات منهما – فعليهما الدية، وللسيد الأقل من نصف الدية وعشر القيمة، ولا يخفى على متأمل التفريع على قول ابن أبي هريرة وغيره فيما ذكرناه من الفروع. تنبيه: ظاهر قول الشيخ: "للمولى منها أقل الأمرين .. " إلى آخره، أن الواجب للسيد إبل، لا قيمة، وهو ما صرح به القاضي أبو الطيب؛ حيث قال: إذا ثبت القولان في جميع المسائل – يعني القولين اللذين حكيناهما عن "المختصر" في الفروع – فإن حق السيد يتعلق بعين الإبل، وليس للورثة أن يمنعوه الإبل، ويعطوه غيرها بدلها. فعلى هذا: إن كان نصف الدية أقل أو مساوياً لنصف القيمة، أخذه [إبلا]، على رأي الشيخ وأبي علي بن أبي هريرة. وعلى رأي غيره: إن كان كل الدية اقل أو مساوياً لنصف القيمة أخذه إبلاً، وإن كان الأقل نصف القيمة أخذ من الإبل بقدره، وقد صرح به المحاملي، وكذا ابن الصباغ وقال: فإن قيل: أليس لو كان على المقتول دين تعلق بذمته؛ فلو قال الورثة: نحن نقضي الدين ونأخذ الإبل، كان لهم ذلك؟ فهلا كان هنا مثله. قلنا: الفصل بينهما: أن مال الميت انتقل إلى الورثة، وقد تعلق به حق الغرماء؛ فكان لهم أن يقضوه من غيره، وهاهنا حق الجناية على الجاني وجب

للسيد دون الورثة؛ فلم يكن لهم أن يعطوه من غيره. قال القاضي أبو الطيب: فإن قيل هنا: الزكاة تتعلق بعين المال على قول تعلق شركة، ولرب المال دفعها من غيره. قلنا: الفرق [بينهما]: أن مستحق الزكاة غير معين، وليس كذلك هاهنا؛ فإن [السيد هو المستحق]، وهو معين. وقد أبدى الإمام احتمالاً أقامه وجهاً، وكذلك الغزالي، فيما إذا كان الأقل هو الواجب على الجاني -: أن الجاني إذا أتى للسيد بالدراهم، أجبر على قبولها؛ لأن ما يجب له يجب بحق الملك، [والواجب بحق الملك] النقد، فإذا أتى به فقد أتى بأصل حقه، [وإن أتى] له بالإبل أجبر على قبولها أيضاً. ويخرج من ذلك: أن الخيار للجاني، وهو أفقه وأغوص عند الإمام، وإيراده في "الوجيز" يشعر بترجيحه. وفي "الحاوي" ما يقتضي أن الواجب على الجاني إن كان هو أقل الأمرين، فالأمر كما حكيناه عن القاضي وغيره من قبل، وإن كان الأقل الواجب للسيد تعين على الجاني دفع الدراهم للسيد، وأجبر عليها السيد، ويسقط مما عليه من الإبل بقدرها، ويدفع الباقي للورثة؛ فإنه حكى فيما إذا قطع يد عبد، فعتق، فقطع آخر يده الأخرى، ومات بسرايتهما – فالدية عليهما نصفين، وللسيد منها أقل الأمرين، كما ذكرناه من قبل. فإن [كان] نصف الدية أقل استوفى من القاطع الدية إبلا، وأعطى السيد نصفها إبلا، وهل يختص السيد بالنصف الذي على القاطع الأول، أو يشترك هو والورثة فيما على القاطعين؟ فيه وجهان. ولا يجوز أن يعدل بالسيد عن نصف الدية من الإبل إلى نصف القيمة إلا عن مراضاة. وإن كان الأقل نصف القيمة [وجب أن يأخذ السيد من إبل الدية نصف قيمة عبده ورقاص أو ذهباً، فإن عدل به إلى الإبل لم يجز إلا عن مراضاة. فإن قيل بالوجه الأول: إن حقه مختص بالجاني الأول، رجع عليه بنصف قيمة

عبده، وقوم بها من الإبل ما قابلها، ودفع ما بقي من نصف الدية مع جميع النصف الآخر إلى الورثة. ومن هنا استنبطت ما ذكرته؛ فإن جميع ما وجب على الجانب في مسألة الكتاب نظير ما وجب على الجاني الأول إذا قلنا بانحصار حق السيد فيه. قال الماوردي: وإن قيل باشتراك السيد والورثة أخذت الدية إبلاً، وكان للوارث الخيار بين أن يدفع للسيد نصف القيمة من ماله ويأخذ جميع الدية، وبين أن يبيع منها بقدر نصف القيمة ويأخذ الباقي؛ فإن أراد الوارث أن يدفع إلى السيد بنصف القيمة إبلا، لم يلزمه إلا عن مراضاة؛ لأن حقه في غيرها. وهذا – أيضاً – يقتضي في مسألة الكتاب أن يكون للورثة الخيار كما ذكره؛ لأن حق السيد شائع في جميع ما وجب على الجاني، كما هو شائع فيما وجب على الجانيين. ومساق هذا البحث: ألا يبرأ الجاني بإبراء السيد من قدر ما وجب له، وقد صرح الإمام والرافعي ببراءته، وهو يعضد ما اقتضاه كلام الشيخ، والله أعلم. فرع حكاه الإمام في كتاب السير: إذا جرح مسلم ذميًّا؛ فنقض العهد، والتحق بدار الحرب، ثم استرق، ومات من تلك الجراحة – ففيما يجب على الجاني ثلاثة أقوال: أضعفها – وهو ما حكاه القاضي الحسين، والإمام والدي: أنه أرش الجناية بالغاً ما بلغ، ورأيته في تعليق القاضي الحسين احتمالاً لنفسه. والقول الثاني: أنه تجب القيمة بالغة ما بلغت، ولا ينظر إلى الأرش. قال الإمام: ويعرض عليه إشكال؛ فإن الجناية قد تخللها حالة إهدار. وكذا فيما إذا جرح مسلم مسلماً، فارتد المجروح، ثم أسلم، ومات، وقلنا: لا تجب الدية الكاملة – فماذا يجب على الجارح؟ وجهان: أحدهما: نصف الدية؛ نظراً إلى حالة العصمة، والإهدار. والثاني: ثلثا الدية؛ نظراً إلى حالتي العصمة، والإهدار؛ فيجب أن يجريا هاهنا على [هذا] القول.

والقول الثالث: أن الواجب أقل الأمرين من أرش الجناية [وكل] القيمة، [قال الإمام: وعلى قياس التخريج الذي ذكرته يكون الواجب أقل الأمرين من أرش الجناية] ونصف القيمة في قول، أو ثلثي القيمة في قول. ثم المأخوذ لمن يصرف؟ قال الإمام: إن قلنا بالأول فهو للورثة لا محالة، ولا حظ للسيد فيه؛ لأنها صدرت في حال الحرية. وإن قلنا بالثاني فمقدار الأرش من القيمة للورثة، والباقي للسيد؛ فإن لم يفضل عن الأرش شيء، أو نقص عن القيمة – فإن الورثة يختصون بالمأخوذ دون السيد. وإن قلنا بالقول الثالث فهو للورثة، نص عليه الشافعي – رضي الله عنه –هكذا. وجزم القاضي الحسين في "تعليقه" بأن السيد على القول الأول والثالث: يفوز بالمأخوذ، وعلى الثاني: يأخذ من المأخوذ قدر القيمة؛ فإن فضل شيء أخذه الورثة، وإلا فلا شيء لهم، ونسب ما ذكره من التفريع على القولين الأخيرين إلى النص، وقال الإمام: إنه غلط. ثم ما ذكرناه من استحقاق الورثة هو ظاهر النص هاهنا، وفيه قول مخرج: أنه يكون فيئاّ وسنذكر في باب عقد الهدنة – إن شاء الله تعالى – كيفية التخريج. قال: ويجب في جنين الأمة –أي: الرقيق – عشر قيمة الأم؛ لأنه جنين آدمية سقط ميتاً؛ فضمن بعشر ما تضمن به الأم؛ كجنين الحرة. ولأنه لما اعتبرت فيه القيمة، وليس له قيمة؛ لأنه إن قوم ميتاً لم يكن للميت قيمة، وإن قوم حيًّا، لم يكن له حياة؛ فوجب أن يعدل عن تقويمه عند استحالته إلى تقويم أصله؛ كما يجعل العبد أصلاً للحر في الحكومات، ويجعل الحر أصلاً للعبد في المقدرات.

قال: حال الضرب، لا حال الإسقاط؛ لأنه لابد من اعتبار إحدى الحالين؛ فكان الاعتبار بحالة الجناية أولى؛ لأن الجناية سبب الإسقاط، وهذا هو المنصوص، وبه قال ابن سريج، وأبو إسحاق، وهو الأصح. وقال المزني: الاعتبار بحالة الإسقاط. وقد وافقه عليه الإصطخري؛ لأن الجناية إذا صارت نفساً، كان الاعتبار ببدلها وقت استقرارها؛ كالجناية على العبد إذا عتق، وعلى الكافر إذا أسلم. قال الماوردي: وهو خطأ؛ لأن سراية الجناية إذا لم تعتبر بحال حادثة، كانت معتبرة بوقت الجناية، دون استقرارها [بالسراية؛ كالعبد إذا جنى عليه، ثم سرت إلى نفسه مع تقارفه؛ فإنه يعتبر قيمته وقت الجناية، دون استقرارها]. وحكى القاضي الحسين وراء الوجهين وجهاً آخر قال: إنه سمعه من شيخه – يعني القفال -: أن الاعتبار قيمة أكثر الأمرين من يوم الجناية إلى يوم الإلقاء، وأنه قال: إن النص محمول على أنه أراد به أن الغالب أن قيمتها يوم الجناية أكثر من قيمتها يوم الإلقاء؛ فلهذا نص على حالة الجناية. وحكم جنين أم الولد، والمكاتبة، والمدبرة، والمعتقة بصفة إذا كان مثلها لا حرًّا حكم جنين الأمة فيجب فيه عشر قيمة أمة، وهذا إذا كانت الأم سليمة الأعضاء، والجنين سليمها، سواء كان ذكراً أو أنثى. ولو كان الجنين سليم الأطراف، كامل الخلقة، والأم زمنة، ناقصة الخلقة – ففي طريق المراوزة حكاية وجهين، أصحهما –عند القاضي الحسين وغيره -: أنا نقدر الأم سالمة الأطراف، ونقومها، ونوجب عشر قيمتها، وقد قاسه الرافعي على ما إذا كانت الأم كافرة، والجنين مسلماً؛ فإنا نقدر فيها الإسلام، وتقوم مسلمة. ولو انعكس الحال؛ فكانت الأم سالمة الأطراف، والجنين ناقصها؛ فوجهان أيضاً: أحدهما: أنا نقدر [أن] الأم ناقصة الأطراف، ونوجب عشر قيمتها. والثاني: أنا نوجب عشر قيمة الأم، ولا ننظر إلى المخالفة. وهذا ما أبداه القاضي احتمالاً، ولم يذكر سواه، وهو الأصح في "الرافعي".

والفرق: أن نقصان الجنين قد يكون من أثر الجناية، واللائق: الاحتياط والتغليظ على الجاني. أما إذا كان جنين الأمة حرًّا؛ بأن وطئها حر؛ ظانًّا أنها زوجته الحرة أو أمته- ففي "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الشامل" وغيرهما من كتب العراقيين: أن الواجب فيه غرة، وفي "تعليق" القاضي الحسين إبداء ذلك احتمالاً. ولو كان جنين [الحرة] رقيقاً؛ بأن كان الحمل لشخص، وأمه لآخر بالوصية، فأعتق الأم مالكها – قدرنا الأم رقيقة، وأوجبنا [في الجنين] عشر قيمتها. قال: وإن ضرب بطن أمة، [ثم أعتقت]، ثم ألقت جنيناً [ميتاً – وجب] فيه دية جنين حر، أي: وهي غرة؛ لأن الضمان عند تغير الحال معتبر بحالة الاستقرار، [كما إذا قطع يد عبدٍ، فأعتق، ثم مات؛ فإن الواجب فيه ديةُ حُرٍّ نظراً لحالة الاستقرار]، والجنين في حالة استقرار الجناية حر. ثم ما الذي يستحقه السيد من ذلك؟ فيه وجهان، أو قولان: مشهورهما – وبه جزم الماوردي، وهو المعزي إلى ابن أبي هريرة في تعليق أبي الطيب -: أقل الأمرين من عشر قيمة الأم قبل العتق، والغرة. والثاني- حكاه القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق، وقال الرافعي: إن به قال القاضي أبو الطيب، ويحكي عن القفال-: أنه لا يستحق بحكم الملك شيئاً؛ لأن الإجهاض حصل في حالة الحرية، وما يجب إنما يجب بالإجهاض؛ فأِبه ما إذا حفر بئراً؛ فتردى فيها حرٌّ كان رقيقاً حال الحفر. وقد قيل: إن مأخذ الوجهين: أن الموجب للضمان الضرب أو الإجهاض؟ وفيه طريقان للأصحاب: أحدهما: أنه الضرب، وإليه مال ابن الحداد والشيخ أبو علي في جماعة؛ لأنه يؤثر في الجنين؛ ألا ترى أثره عليه [عند] الانفصال، والإجهاض هو نهاية الجناية؛ فكان الضرب كقطع اليد، والإجهاض كالسراية.

والثاني: أنه الإجهاض، وإليه ميل النص، وكلام أكثر الناقلين؛ كما حكاه الرافعي؛ لأن الرحم محل نشوء الطفل وتربيته وسبب الهلاك مفارقته دون الضرب، لكن الضرب لما فيه من الآلام يفضي إلى المفارقة؛ فيكون الاعتبار بوقت المفارقة؛ فالوجه الأول مبني على الأول، و [الوجه] الثاني [مبني] على الثاني. وقد بنى الأصحاب على الطريقين فروعاً: منها: إذا كان الضارب هو السيد، ثم حصل العتق، ثم الإجهاض – فعلى الأول: لا شيء عليه، وعلى الثاني: عليه غرة لورثته. ومنها: إذا كان الجنين مشتركاً بين اثنين بالسوية، فأعتق أحدهما نصيبه [بعتق نصيبه] من أمه، وهو معسر بعد أن جنى عليها، ثم أجهضت الجنين كان عليه نصف عشر قيمة الأم لشريكه، وهل يجب عليه نصف غرة للنصف الحر؟ قال ابن الحداد: لا؛ بناء على المأخذ الأول؛ لأن الضرب وجد، وهو في ملكه. وقال آخرون: نعم، وحكوه عن النص في "الأم"، ومنهم ابن الصباغ، وهو بناء على أن الموجب هو الإجهاض، وقد حكيناه في باب الديات عن نصه في "عيون المسائل" أيضاً. فعلى هذا: لمن يكون؟ ينبني على الخلاف في أن من بعضه حر وبعضه رقيق هل يورث؟ إن قلنا: لا، كان للشريك الذي لم يعتق؛ على رأي، وبه جزم في "الحاوي"، ولبيت المال على رأي الإصطخري. وإن قلنا: نعم، ورثه عصبته دون أمه ومعتقه، فإن لم يكن له عصبة فبيت المال. ولو كان المعتق موسراً؛ فإن قلنا: السراية تحصل بنفس الإعتاق، أو بأداء القيمة، فأدَّاها قبل الإجهاض – فإن قلنا: الموجب الإجهاض، فعلى الجاني الغرة، ومصرفها ما ذكرناه. وإن قلنا: تحصل بأداء القيمة، ولم يؤدها حتى أجهضت؛ فالحكم كما ذكرناه فيما إذا كان معسراً. وإن قلنا: إن العتق موقوف؛ فإن أدى القيمة تبين حصول العتق من وقت

اللفظ، ويكون الحكم على ما إذا فرعنا على أن السراية تحصل بنفس اللفظ. وإن لم يؤد القيمة فكما ذكرنا فيما إذا كان المعتق معسراً. ولو ضرب الشريكان الجارية المشتركة، ثم اعتقاها معاً، ثم أسقطت جنينً ميتاً، ضمن كل واحد ربع الغرة عند ابن الحداد. وعلى ما حكى عن النص والأكثرين: يجب على كل واحد نصف الغرة، وترث الأم منه الثلث؛ كذا قاله ابن الصباغ. ومنها: إذا جنى على حربية؛ فأسلمت، ثم أجهضت؛ فعلى الأول: لا شيء على الضارب. وقال الماوردي: إنه الذي يجيء على مذهب الشافعي، رحمه الله. وإن قلنا: الموجب الإجهاض؛ وجبت غرة. قال الماوردي: وهو قياس مذهب المزني؛ لأنه يعتبر جنينها بوقت الولادة. ثم قال: فإن قيل: كيف يضمن الجناية عند سرايتها في الجنين إذا كانت هدراً في الابتداء؟ قيل: لأن الجناية على الجنين لا تكون إلا بالسراية إليه دون المباشرة؛ فصارت السراية كالمباشرة في غيره. وبقية المسائل المتفرعة على الطريقين نذكر ما تيسر منها في باب العاقلة، إن شاء الله تعالى. فرع: إذا اشترك مسلم وذمي في وطء ذمية، فعلقت بولد، فضربها ضارب؛ فأجهضت جنيناً -: فإن ألحقه القائف بالمسلم وجب ضمان جنين مسلم، وإن ألحقه بالذمي فعليه ضمان جنين ذمي، وإن لم يوجد قائف، أو وجد، وأشكل – قال القاضي الحسين: الذي سمعته من شيخي: أنه يؤخذ من الجاني نصف الغرة، ونصف ثلث الغرة؛ فيكون ثلثي الغرة، ويكون موقوفاً بين المسلم والذمي والذمية إلى أن يتبين الأمر ويصطلحوا عليه. وغيره أطلق أن الواجب على الجاني ضمان جنين ذميّ. وقد نجز شرح مسائل الباب، وإذا تأملت ما فيه، وما ألحقناه به – عرفت أن

الشخص الواحد قد يجب فيه إذا كان رجلاً سبعٌ وعشرون دية، وإذا كان امرأة ستٌّ وعشرون دية؛ فنسردها لك؛ ليسهل عليك تناولها، ثم نذكر بعدها فرعاً نختم به؛ لتعلقه بالباب. في الأذنين إذا قطعهما، أو أبطل حسهما – الدية. وفي السمع الدية. في العقل الدية. في العينين أو البصر الدية. في الأجفان الدية. في المارن الدية. في الشم الدية. في الشفتين الدية. في الكلام الدية، واللسان تابع له. في إبطال الصوت الدية. في الذوق الدية. في اللحيين الدية. في الأسنان الدية فأكثر. في إبطال المضغ الدية. في إبطال الازدراد الدية. في إبطال شهوة الطعام الدية. في اليدين الدية. في الرجلين الدية. في الأليتين الدية. في إبطال المشي الدية. في إبطال الجماع الدية. في بطلان الإنزال الدية.

في اللحم الناتئ على الظهر الدية. في [جميع الجلد] الدية. في حلمتي المرأة الدية، والثدي تابع [لهام]. في حلمتي الرجل الدية على قول. في الحشفة الدية، وبقية الذكر تابع. في الأنثيين الدية. في إسكتي المرأة الدية. في إبطال قوة [الإحبال من] المرأة الدية. في الإفضاء الدية. وهذه الديات ترجع عند السراية إلى دية واحدة. ولو حز الجاني رقبته قبل الاندمال، فكذلك الحكم على المذهب. وخرج ابن سريج قولاً قال به الإصطخري أيضاً: أنه يفرد حكم كل جناية، واختاره الإمام؛ كما لو حز بعد الاندمال، وكما لو كان الجاني غيره، وهذا إذا اتفقت الجناية على الأطراف، والجناية على النفس في العمد والخطأ، أما إذا كانت أحداهما عمداً، والأخرى خطأ، وقلنا بالتداخل عند اتحاد الصفة – فهاهنا وجهان أو قولان ادعى مجلي أنهما منصوصان: أحدهما: أن الحكم كذلك. وأشبههما: المنع؛ لأن التداخل يليق بحالة الاتفاق دون الاختلاف، ولأن المستحق عليه مختلف عند اختلاف الصفة. ولنضرب لذلك مثالاً: فإذا قطع يديه خطأ، ثم حزَّ رقبته قبل الاندمال عمداً – فللولي القصاص في النفس، وليس له قطع يده؛ [فإن قتله]، وقلنا بالتداخل – فوجهان؛ فلا شيء له من الدية، وإن قلنا بعدم التداخل، فيأخذ نصف الدية من العاقلة. وإن عفا عن القصاص؛ فإن قلنا بالتداخل فوجهان: أحدهما: تجب دية، نصفها مخفف على العاقلة، ونصفها مغلظ على الجاني، وهذا ما ينسب إلى النص.

وأظهرهما – وهو الذي أورده في "التهذيب"-: أنه تجب دية مغلظة على الجاني؛ لأنا إذا قلنا بالتداخل فمعناه إسقاط بدل الطرف، والاقتصار على بدل النفس؛ لتصير الجناية نفساً، وإذا قلنا بعدم التداخل فيجب نصف دية مخففة على العاقلة لليد، ودية مغلظة على الجاني للنفس. ولو قطع يده عمداً، ثم حزَّ رقبته خطأ – فللولي قطع يده؛ فإذا فعل وقلنا بالتداخل، أخذ نصف الدية مخففاً من العاقلة، وإذا عفا، فعلى وجه: يجب نصف دية مخففة، [ونصف دية مغلظة لليد، وعلى وجهٍ: تجب دية مخففة] للنفس. وإن قلنا بعدم التداخل، فيأخذ كمال الدية ومخففة عند استيفاء القطع، وعند العفو [يجب نصف دية في مال الجاني مغلظاً]، [ودية على العاقلة مخففاً]. والفرع: إذا اختلف الجاني وولي المقتول، فادعى الجاني أنه مات بالسراية، وقال ولي المقتول: بل مات بعد الاندمال – نظر: إن لم يمكن الاندمال في تلك المدة؛ لقصر الزمان، كيوم ويومين – فالقول قول الجاني بلا يمين. وعن "تعليق" الشيخ أبي حامد أنه يحلف؛ لجواز أن يكون الموت بسبب حادث؛ كلسع حية، وشرب سم مذفف، ولم يستحسن ما ذكره؛ لأن تنازعهما في الاندمال، والسبب الآخر لم يجر له ذكر حتى يُنْفَى. فإن أمكن الاندمال في تلك المدة، فقد قال ابن الصباغ والروياني: إن مضت مدة طويلة لا يمكن أن تبقى الجراحة فيها غير مندملة فالقول قول الجاني بلا يمين، وإن أمكن الاندمال وعدمه في تلك المدة فالقول قوله مع اليمين. قال الرافعي: ويشبه أن يقال: ليس لمدة الاندمال ضبط، وقد تبقى الجراحة سنين كثيرة، والشخص ضمنا بسببها إلى أن يموت منها؛ فينبغي ألا يكون التصديق عند إمكان الاندمال إلا باليمين. وهذا ما ذكره صاحب "التهذيب" وغيره. وقال الإمام: إن أمكن الاندمال، لكنه كان بعيداً، وكان الظاهر خلافه – فالقول قول الجاني؛ بناء على ظاهر الحال، وادعى وفاق الأصحاب عليه، وهذا

معنى قول الغزالي: فيصدق من يصدقه الحال الظاهر. قال الرافعي: والذي يوجد للأكثرين في الصورة التي حكاها الإمام: أن المصدق الولي، وربما قطعوا به. وعن أبي الطيب بن سلمة تخريج قول من مسألة الملفوف: أنه يصدق الجاني؛ لأن ما يقوله محتمل، والأصل براءة الذمة. قلت: ولما جزم به الإمام أصل في المذهب يعضده، وهوأن المدعي من هو؟ هل هو الذي يُخَلَّى وسكوته، أو من يدعي خلاف الظاهر؟ وفيه خلاف بين الأصحاب حكاه الغزالي في آخر الرهن، وفي آخر نكاح المشركات، وفي أوائل الدعاوى والبينات. فإن قلنا: إن المدعي من يدعي خلاف الظاهر، فهو في مسألتنا الوليُّ. وإن قلنا: هو من يُخَلَّى وسكوته، فهو أيضاً الولي. فظهر أنه مدع على كل حال، وإذا كان مدعياً، كان الجاني مدعي عليه؛ فيكون القول قوله جزماً، وألا انخرم الأصل المذكور. نعم، يظهر من هذا الأصل اختلاف فيما إذا انعكس الحال؛ فكان الظاهر يصدق الولي، ويكذب الجاني-: فإن قلنا: إنه الذي يخلي وسكوته، [فالولي يخلي وسكوته]؛ فيكون الجاني مدعى عليه؛ فيكون القول قوله. وقد جزم الغزالي بقبول قول الولي، وهو من طريق الأولى عند الرافعي، [والله أعلم]. ولو قال الجاني: مات بالسراية، أو: قتلته قبل الاندمال، وفرعنا على التداخل، وادعى الولي أنه مات بسبب آخر، بأن قال: إنه قتل نسه، أو شرب سمًّا موحياً، أو: قتله آخر – فوجهان:

أحدهما: المصدق الجاني؛ لأن ما يقوله محتمل، والأصل براءة الذمة، ويحكي هذا عن أبي إسحاق. وأظهرهما- وبه قال أبو عليّ الطبريّ -: أنه يصدق الولي؛ لأن الأصل بقاء الديات الواجبة بالجنايات، والأصل عدم السبب الآخر. وعلى هذا ينطبق قول الغزالي: وإن لم يكن مع أحدهما ظاهر، فهو خارج على تقابل الأصلين. وقد ادعى الرافعي أن الخلاف الذي ذكره عن أبي الطيب بن سلمة وغيره في الصورة السابقة، ينطبق عليه قول الغزالي: "فهو خارج على تقابل الأصلين"، ولم يظهر ذلك، والله أعلم.

باب العاقلة وما تحمله

باب العاقلة وما تحمله العقل: الدية؛ لأن مؤديها يعقلها بفناءِ أولياء المقتول، يقال: عقلت فلاناً، إذا أعطيت ديته، وعقلت عن فلان: إذا غرمت عنه دية جناية، ويقال لدافع الدية: عاقل؛ لدفعه الإبل بالعُقُل؛ وهي الحبال التي تثنى بها أيدي الإبل إلى ركبها؛ فتشد بها. وقيل: سمي بذلك؛ لأنه يمنع القاتل، والعقل: المنع؛ ولهذا سمي العقل عقلاً؛ لأنه يمنع صاحبه من القبيح. وقيل: سمي بذلك؛ لأنه يقودإبل الدية، فيعقلها على باب أولياء المقتول. وجمع العاقل: عاقلة، ثم عواقل: جمع الجمع، والمعاقل: الديات. قال: إذا جنى الحر على نفس حر، أي: غير نسه، خطأ، أو عمد خطأ - وجبت الدية على عاقلته. وجهه في عمد الخطأ: ما روى أبو داود، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل؛ فرمت أحداهما الأخرى بحجر؛ فقتلتها؛ فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدية جنينها: غرة: عبد، أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم؛ فقال حمل بن النابغة [الهذلي]: يا رسول الله، كيف أغرم [دية] من لا أكَل، ولا شرب ولا نطق ولا استهل؛ فمثل ذلك بَطل؛ فقال رسول الله: "إِنَّمَا [هَذضا مِنْ] إِخْوَانِ الْكُهَّانِ" من أجل سجعه الذي سجع. وأخرجه البخاري ومسلم.

والوليدة: كناية عما ولد من الإماء في ملك المالك، وقيل: الجارية الصغيرة، والولائد: الوصائف. وبطل: بالباء الوحدة المفتوحة، ويروى: "يطل" بضم الياء آخر الحروف، ورجحه الخطابي؛ فعلى هذا يكون من بطل دمه: إذا اهدر، ولم يطلب به. وأكثر الروايات على الأول، وحينئذ يكون من "البطلان"؛ بطل الشيء: [ذهب]. ووجهه في الخطأ: ما روي عن أبي سعيد الخدري - رضيا لله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الْقَوَدُ بِالسَّيْفِ، وَالْخَطَأُ عَلَى الْعَاقِلَةِ". ولأنها إذا تحملت بدل شبه العمد مع قصد الجناية، ففي بدل الخطأ ولا قصد لها أولى. وقد ادعى الإمام إجماع المسلمين على أن دية شبه العمد والخطأ مضروبةٌ على العاقلة، وهذا إذا صدقوا على الجناية، أو قامت عليها بينة، أما إذا عدم ذلك فسنذكره في آخر الباب. وقد ادعى الإمام إجماع المسلمين على أن دية شبه العمد والخطأ مضروبةٌ على العاقلة، وهذا إذا صدقوا على الجناية، أو قامت عليها بينة، أما إذا عدم ذلك فسنذكره في آخر الباب. قال العلماء: وتغريم غير الجاني خارجٌ عن الأقيسة الظاهرة، إلا أن القبائل في الجاهلية كانوا يقومون بنصرة من جنى منهم، ويمنعون أولياء القتيل من أن يدركوا بثأرهم، ويأخذوا من الجاني حقهم، فجعل الشرع بدل تلك النصرة بذلَ المال، وربما شبه إعانة الأقارب بتحمل الدية عنه، بإعانة الأجانب الذين غرموا؛ لإصلاح ذات البين، ويصرف [سهم من] الزكاة إليهم. وخصص الضرب على العاقلة بالخطأ، وشبه العمد؛ لأن ذلك مما يكثر، سيما في حق الذين يتعاطون الأسلحة، ولا يتأتى الاحتراز عنه؛ فحسن إعانة القاتل؛ كي لا يفتقر بالسبب الذي هو معذور فيه. وفي الرافعي حكاية وجه: أن دية شبه العمد لا تحملها العاقلة، وعزاه إلى رواية أبي الفرج وابن كج، وأن بعضهم رواه قولاً مخرجاً عن ابن القاص. وحكى عن "جمع الجوامع": أن بعضهم ذهب إلى أن دية الجنين لا تحملها

العاقلة؛ بناء على أن العاقلة لا تحمل ما دون الثلث من أروش الأطراف، كما سنذكره. قال: وإن جنى على أطرافه، أي: خطأ، أو عمد خطأ – ففيه قولان: أصحهما: أنها على عاقلته؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حمل العاقلة جميع الدية؛ وهي أثقل نبه به على تحمل ما هو اقلن وقد روينا ان النبي صلى الله عليه وسلم: "قَضَى بِغُرَّةِ الْجَنِينِ عَلضى العَاقِلَةِ"، وقدرها اقل مقدر نص عليه صاحب الشرع؛ فالحق به غيره. ولأنه لما تحمل الجاني قليل الدية وكثيرها [في العمد]، وجب أن تتحمل العاقلة قليلها وكثيرها في الخطأ، وهذا ما نص عليه في الجديد، و [هو] أحد قولي القديم كما حكاه القاضي الحسين وابن الصباغ. والقول الثاني: أن العاقلة لا تحملها؛ لأنها [لا] تضمن بالكفارة، ولا تجري فيها القسامة؛ فلم تتحملها العاقلة كبذل المال، وهذا ما حكاه في "المهذب" عن القديم، وكذلك ابن الصباغ، وقال الإمام: إنه قول مهجور لا تعرفه المراوزة، ولا أصل له. وحكى القاضي الحسين عن القديم بدلاً عن القول الذي قبله: أنها لا تحمل ما دون ثلث الدية، وتحمل الثلث فما زاد، وحكاه الإمام أيضاً، وقال: إنه بعيد، غير معتدٍّ به. وقد ذكرت مراراً أن القول القديم لا يحل عده من مذهب الشافعي – رضي الله عنه – مع رجوعه عنه. أما إذا جنى على نفسه، أو قطع طرف نفسه – فلا دية له ولا لورثته على عاقلته، سواء كان ذلك خطأ أو عمد خطأ. وحكى الإمام وجهاً بعيداً: أنه يجب له دية الطرف؛ إذا قطعه خطأ على العاقلة، وضعفه.

تنبيه: احترز الشيخ بقوله: " [جني] خطأ، أو عمد خطأ" عن جناية العمد؛ فإن الدية فيه واجبة على القاتل، سواء كانت مما يجري فيها القصاص: كقتل الأجنبي، وقطع طرفه، أو لا يجري: كقتل الوالد ولده، والمسلم الذميَّ، وأرش الجائفةونحوها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَحْمِلُ العاَقِلَةُ عَمْداً وَلاَ عَبْداً وَلاَ صُلْحاً وَلاَ اعْتِرَافاً". ثم ظاهر قول الشيخ يقتضي أن وجوب الدية يلاقي العاقلة ابتداءن وقد حكى البندنيجي والقاضي الحسين وغيرهما من الفريقين في ذلك قولين: أحدهما: أن الأمر كذلك؛ لظاهر الخبر. والثاني: أنها تجب على الجاني، ثم تتحملها العاقلة؛ لأنا إذا قلنا به فقد تمسكنا بطرف من قياس الأصول، ويجعل التحمل في حكم الإعانة؛ كما يؤدي الدين عمن تحمل حمالة في إصلاح ذات البين من سهم الزكاة، وهذا ما صححه الشاشي وابن يونس. وللقولين [شبيه في] مواضع مضت، ولهما أثر يظهر من بعدز [ثم] قال الإمام: وما ذكرناه من ترديد القول هاهنا لسنا نسنده إلى منصوص صاحب المذهب نقلاً صريحاً، وإنما تلقيناه من تصاريف كلامه [في التفريعات ومعناه الذي يجريه في أثناء كلامه]، ونظيره كثير؛ فإن النقل يقع تارة لفظاً، وتارة من جهة المعنى والاستنباط.

قال: وإن جنى على عبد؛ ففيه قولان: أصحهما: أن القيمة في ماله؛ لما روى ابن عباس – [رضي الله عنهما – أنه عليه السلام] قال: "لاَ تَحْمِلُ العَاقِلَةُ عَمْداً وَلاَ عَبْداص وَلاَ صُلْحاً وَلاَ اعْتِرَافاً"؛ ولأنه يضمن بالقيمة؛ فأِبه سائر الأموال، وهذا ما يفهم من كلام الإمام، والقاضي الحسين أنه القديم. فعلىهذا تجب على الجاني حالة، كما حكاه القاضي الحسين. ولا يجب على العاقلة بدل الجنين الرقيق. والقول الثاني: أنها تحمله؛ لأنه يجب بقتله القصاص والكفارة؛ فاشبه الحر، وهذا ما نص عليه الشافعي –رضي الله عنه- في "المختصر"؛ حيث قال: وتحمل العاقلة كل ما كثر وقل من قتل وجرح، من حر وعبد. وقال في موضع آخر منه: وتحمل عنه العاقلة إذا كان خطأ. وقال الرافعي والبغوي: إنه الجديد، والأصح. ووافقهما على التصحيح جماعة؛ منهم: البندنيجي، وصاحب "المرشد"، والنواوي، وقال ابن الصباغ: إن المزني اختاره؛ محتجاًّ بأن الخبر لم يثبت متصلاً، وإنما هو موقوف على ابن عباس، وإن ثبت فهو مؤول على أن العاقلة لا تحمل عنه. قال: وإن جنى عبد على عبد، أو على حر، [أي: بغير إذن السيد]، جناية توجب المال ابتداء، أو آل إليها [بالعفو عليه]. قال: وجب المال في رقبته؛ لأنه لا يمكن إلزام جنايته السيد؛ لأنه إضرار به، والجاني العبد، لا السيد. ولا يمكن أن يقال: إنه يكون في ذمته إلى أن يعتق ويوسر؛ فإنه تفويت للضمان، أو تأخير لا إلى غاية معلومة، وفيه ضرر ظاهر، ويخالف ما إذا عامله

إنسان بإقراض وغيره؛ فإنه رضي بكون الحق في ذمته؛ فجعل التعليق بالرقبة طريقاً وسطاً في رعاية الجانبين. وقد روي عن ابن عباس – رضي الله عنهم – أنه قال: "إِنَّ العَبْدَ لاَ يُغَرِّمُ سَيِّدَهُ فَوقَ نَفسِهِ شَيْئاً" وبعضهم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهل يتعلق [مع ذلك] بذمة العبد حتى يتبع بما يفضل عن ثمن رقبته من أرش الجناية، او بجملتها إن اتفق تلف الثمن قبل إيفائه للمجني عليه؟ حكى الإمام فيه وجهين عن الأصحاب، وأصحهما – كما حكاه [الإمام] في كتاب النكاح [والإقرار] وهاهنا: التعلق، وهو ما جزم به الماوردي. وفي "التهذيب" حكاية الخلاف المذكور قولين، وأن القديم منهما: التعلق، والجديد الأصح: المنع؛ لأن محله الرقبة، وقد بيعت فيه. وكأنه أخذ ذلك من كلام القاضي الحسين الذي سنذكره من بعد. وفي "الجيلي": أن الغزالي قال في "الخلاصة": إن كان القتل عمداً، وبيع في الجناية، وفضل عنه- يتبع به إذا عتق، وإن كان خطأ لم يتبع على الأصح، وسيظهر لك ثمرة الخلاف، [ومحله – كما قال الإمام في الإقرار – إذا اعترف السيد بالجناية، أما إذا أنكر فلا وجه إلا القطع بأن الأرش يتعلق بذمة العبد. قلت: ويعضده إطباق الأصحاب على أن الجاني خطأ إذا أقر بالجناية، وكذبته العاقلة – أنها تتعلق بذمته]، وهو قضية ما في "تعليق" أبي الطيب، والبندنيجي، و"الشامل"؛ حيث قالوا في كتاب الرهن [وغيره]: إن العبد إذا أقر بجناية خطأ، لا يقبل قوله على سيده؛ فإذا كذبه بقي أرش الجناية في ذمته يتبع به إذا عتق.

[وعلى هذا: بكم يطالب بعد العتق؟ قال الإمام في كتاب الإقرار: الذي قطع به: المحققون تمام الأرش. وذكر القاضي وجهاً عن بعض الأصحاب: أنه يطالب بأقل الأمرين من الأرش، وقيمة الرقبة. وهذا ساقط، منحرف عن قاعدة المذهب. قلت: والذي يظهر: عدم سقوطه؛ لانا ما ألزمناه الغرم بعد العتق في هذه الصورة جزماً إلا لعدم إنكار السيد؛ كما ذكر؛ فغاية الأمر: أن يلزمه ما كان السيد مطالباً بإيفائه من الرقبة، وهو أقل الأمرين على الصحيح. نعم، إذا قلنا عند اعتراف السيد: يلزم العبد تمام الأرش في ذمته، فلا يجيء هذا الوجه قطعاً. وقد حكى الإمام في أوائل باب الإقرار: أن القياسيين طردوا الخلاف فيما إذا أنكر السيد الجناية أيضاً؛ فتحصلنا في تقرير محل الخلاف على طريين]. قال: ومولاه بالخيار بي أن يسلمه؛ فيباع [في الجناية]، وبين أن يفديه؛ لأنه متعلق الحق؛ فخير بين تسليمه للبيع وبين إبقائه، وإيفاء [ما عليه]؛ كما لو رهن ماله بدين غيره. [قال القاضي الحسين في باب موضع اليمين: ويلزم السيد إحضاره إذا كان يقدر عليه، ومؤنة الإحضار عليه؛ كما لو باع عيناً غائبة، يلزمه إحضارها، ومؤنة الإحضار عليه]، ولا يصير العبد ملكاً للمجني عليه؛ لأنه ليس من جنس حقه. وقد يورد على هذا ما ذكرناه من ملك السيد جزءاً من دية عبده الذي قطعت يده في حال رقه، ثم أعتقه فسرت إلى نفسه؛ فإن ذلك الجزء ليس من جنس حقه. والبائع عند امتناع السيد من الفداء من يأذن له السيد؛ فإن امتنع فهو الحاكم، ولا يبيع منه إلا بقدر الأرش إلا ألا يوجد من يشتري [إلا] الجميع؛ فيبيع الكل. قال: فإن أرادالفداء، فداه - في أحد القولين – بأقل الأمرين من قيمته

أو أرش الجناية؛ لأنه إن كانت قيمته أقل فليس على السيد إلا تسليم رقبته؛ فإذا لم يسلم لم تتوجه المطالبة إلا بالقيمة. وإن كان الأرش أقل فليس للمجني عليه إلا ذاك، وهذا ما نسبه الفوراني، والبغوي، والرافعي إلى الجديد. وبأرش الجناية بالغاً ما بلغ في [القول] الآخر؛ لأنه لو سلم، وعرض على البيع ربما اشترى بأكثر من قيمته؛ فإذا منع البيع، ولا منتهى يقف عنده توقٌّع ما يشتري به – لزمه الأرش بالغاً ما بلغ، وهذا ما نسبه المذكورون إلى القديم. وفي تعليق القاضي الحسين إطلاق القولين كما ذكرنا عن القديم والجديد، ثم قال: وهما ينبنيان على جوابين مستنبطين، لولا ذانك الجوابان ما عرف القولان، وهذا أصل غير منصوص عليه، [مستنبط من فرع منصوص عليه]؛ إذ لا يتخرج هذا الفرع إلا على ذلك الأصل، والجوابان: أن أرش الجناية هل يتعلق بذمة العبد مع رقبته أم لا؟ وجه البناء – كما قال الإمام -: أنا إن منعنا تعلق الأرش بالذمة، فالفداء يتعلق بالرقبة. وإن قلنا: الأرش يتعلق بذمة العبد، فقد صارت الرقبة كالمرتهنة بجميعه، فإذا أراد السيد فك الرقبة فلابد من أداء جميع الدين حتى تنفك الوثقة، وكذلك حكاه الفوراني. ثم قال الإمام: وفي هذا البناء خلل من جهة أن الأصح: أن الأرش يتعلق بذمة العبد، وأنه يطالب به إذا عتق، والأصح: أن السيد يفديه بأقل الأمرين، وحينئذ لا ينتظم البناء. وهذا منه بناء على اعتقاده ومن معه: أن الأصح تعلق الأرش بذمة العبد، وألا فالبناء لا خلل فيه على اعتقاد من صحح عدم التعلق، وهم الأكثرون كما حكاه الرافعي. ثم القيمة المعتبرة في ذلك قيمة يوم الجناية على النص، وعن القفال: اعتبار

قيمة يوم الفداء؛ لأن ما قبل ذلك لا يؤاخذ به السيد؛ ألا ترى أنه لو مات قبل اختيار الفداء، لم يلزم السيد شيء؟! وحمل النص على ما إذا سبق من السيد منع من بيعه حالة الجناية، ثم انتقصت القيمة. ولا فرق في تخيير السيد بين الفداء وتسليمه للبيع بين أن يكون قد قال: اخترت الفداء، أو لا يقول ذلك؛ كما هو ظاهر المذهب في "النهاية"، والمجزوم به في "التهذيب". وحكى افمام أن بعض أصحابنا ذهب إلى أنه إذا قال: اخترت الفداء، لزمه الوفاء بما قال، وأن هذا القائل لا يشترط أن يقول: التزمت، بل إذا قال: اخترت، كفى ذلك، وكذا إذا قال: أنا أفديه، فصيغة الوعد الجازمة كافية. ولو كان الجاني جارية، فوطئها المولى – فهل يكون الوطء اختياراً للفداء على هذا؟ فيه وجهان، أصحهما في "الرافعي": المنع؛ لأن الوطء لا داللة له على الاختيار، بخلاف اللفظ. ثم قال الإمام: وكل ذلك خَبْط لا أرى الاعتداد به، ومحله إذا لم يمت العبد، أما إذا مات، قال الرافعي: فلا رجوع له بحال. أما إذا كنات جناية العبد قد صدرت بإذن السيد، قد قال الإمام في كتاب الإقرار: إن الأرش يتعلق برقبة العبد لا محالة، والأصح: أنه لا يتعلق بكسبه. والفرق بينه وبين ديو المعاملة: أنه ثَمَّ مأذون له [في] تأدية ما ييق به، ويتعين لهذه الجهة كسبه، والمأذون له في الجناية ليس مأذوناً في قيمة ما يجني عليه؛ [فلا] يتعلق بكسبه. وأبعد بعض أصحابنا، وقال: إن الأرش يتعلق بالرقبة والكسب جميعاً لمكان الإذن، وهذا غلط، لا أصل له. ولعل هذا من الإمام مفروض فيما كان للعبد تمييز أما إذا [لم يكن له] تمييز فقد ذكرت ما فيه في باب ما يجب به القصاص من الجنايات، وكتاب [الرهن].

وقد آن ذكر ما تقدم الوعد به من ذكر فائدة القول بأن أرش الجناية يتعلق بذمة العبد مع رقبته. فمنها: هل يملك المجني عليه فك الرقبة عن التعلق، ور الحق إلى الذمة خاصة؛ كما يملك فك الرهن؟ فيه وجهان حكاهما الإمام في باب العفو عن القصاص. ومنها: لو ضمن ضامن الأرش في ذمته هل يصح؟ قال الإمام: فيه تردد عندي، مأخوذ من كلام الأئمة: وجه المنع: أنا وإن أطلقنا ثبوته في الذمة؛ فهو على تقدي رالتوقع، ولا استقرار له في الحال. ووجه الصحة – وهو الأظهر-: القياس على ضمان ما في ذمة [الميت المعسر]، بل أولى؛ لأن العبد يرجى له العتق وايسار، بخلاف الميت، وضمان ما يلزمه من ديون المعاملات أولى بالصحة. ولا خلاف أنه يصح ضمان ما يتعلق بكسبه كالمهر في النكاح الصحيح. ولو ضمن السيد أرش الجناية فهو مرتب – عند الإمام – على ما إذا ضمنه أجنبي، وأولى بالصحة؛ لتعلقه بملكه. فروع: إذا قتل السيد العبد الجاني، أو أعتقه، أو استولد الجارية الجانية، ونفذنا ذلك – فالمذهب: أنه لا يلزمه إلا أقل الأمرين؛ لأنه متلف، والمتلف لا يلزمه أكثر من قيمة ما أتلف. ومن أصحابنا من أجرى القولين. وفي "الشامل" في كتاب الظهار: أن مجريهما في مسألة [العتق] أبو إسحاق، وان القاضي أبا الطيب صحح ذلك. ولو مات العبد، أو هرب [قبل] أن يطالب اسيد بتسليمه – فلا شيء على السيد. وكذا لو طولب به، فلم يمنعه.

وإن طولب به؛ فمنعه، قال الرافعي، والبغوي: صار مختاراً للفداء. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه يضمنه. والعبارتان متقاربتان. ولو جنى العبد جنايات قبل الفداء، فعلى الأصح: يفديه السيد بأقل الأمرين من قيمته، أو أروش جناياته، وعلى الثاني: بأورش جناياته. وكذا الحكم فيما لو جنى بعد أن سلمه للبيع. ولو قتل أجنبي العبد الجاني قتلاً يستوجب القصاص؛ فللسيد القصاص. قال في "التهذيب": وإذا فعل كان عليه الفداء للمجني عليه. قال الرافعي: ويجوز أن ينظر في وجوب الفداء عليه، إلى أن موجب العمد القصاص أو أحد الأمرين. يعني: فإن قلنا: الواجب القصاص عيناً، فينبغي ألا يلزمه الفداء. ولو كانت الجناية على العبد موجبة للمال، تعلق حق المجني عليه بالمأخوذ، وللسيد بعد ذلك اختيار الفداء، وفيماي فديه به الطريقان؛ كما قاله الرافعي. [و] لو جنى العبد على شخص، ثم قطع جان يد العبد، ثم جنى العبد على آخر، ومات العبد من القطع، ومات اللذان جنى عليهما العبد من جنايته – فالواجب على الذي قطع يد العبد ومات منها كمال قيمته، وحصة اليد منها يختص بها المجني عليه أولاً، ويتضاربان في الباقي هما أو ورثتهما: هذا بما بقي من حقه، [والآخر بتمام حقه]. وحكى الشيخ أبو علي: أن من الأصحاب من يغلط؛ فيعتبر [أرش اليد] – في هذ الحالة- نصف القيمة، وهو فاسد؛ لأنه لو قطع الجاني يديه، يلزمه أن يقول: يستبد المجني عليه الأول أو ورثته بجميع الدية، وذلك ممتنع. ولو اشترى المجني عليه أووليه العبد الجاني، فإن كان بغير أرش الجناية، نظر: فإن كان في حقه القصاص لم يسقط، وكان له استيفاؤه، فإذا استوفاه نظر: فإن كان المستحق قطع الطرف فالبيع باق بحاله، ولا خيار له في

نقضه بهذا القصاص؛ لعلمه باستحقاقه، وإن كان المستحق نفسه فقد اختلف أصحابنا في الاقتصاص منه هل يجري مجرى استهلاكه، أو يجري موته بالمرض؟ على وجهين مضيا في البيع. فعلى الأول: يرجع ولي المجني عليه على البائع بثمنه. وعلى الثاني: لا يرجع بثمنه؛ لتلفه في يده، ولا بأرش عيبه؛ لعلمه بجنايته. ولو اشتراه المجني عليه أو وليه بأرش الجناية؛ فإن كان المستحق القصاص، فقد سقط، ورجع الحق إلى المال؛ فينظر: فإن كان إبلا، وجهلا - أو أحدهما-جنسها وسنها، فالبيع باطل. وكذا لو كان ورقاً أو ذهبا، وجهله أحدهما. وإن عرفا سن الإبل وجنسها، [وجهلا وصها] ونوعها - قال الماوردي: ففي جواز جعلها صداقاً قولان والبيع كالصداق عند ابن أبي هريرة، وإليه صا رأبو عليّ؛ كما ذكره الغزالي في الصلح. وعند أبي إسحاق المروزي: يبطل قولاً واحداً. والفرق: اتساع حكم الصداق؛ لثبوته بعقد وغير عقد، وضيق حكم البيع الذي لا يستحق الثمن فيه إلا بعقد. والإمام بنى ذلك على جواز الاعتياض عن إبل الدية فقال: إن قلنا لا يصح ففي البيع وجهان: أحدهما: لا؛ كما لايجوز الاعتياض. والثاني: يجوز؛ فإن هذه المعاملة ليست لإيفاء أرش [واستيفاء أرش] وإنما هي لتبرئة الذمة، والإبراء عن الأرش من الإبل جائز؛ فإن قلنا بصحة البيع برئ العبد من أرش الجناية؛ فلو وجد به عيباً [كان له أن يرده ويعود أرش الجناية في رقبة العبد فيباع] فيها، أو يفديه السيد، وفائدة الرد: تخليص المشتري من عهدته.

وقد ذكرت في كتاب البيع شيئاً من فروع هذه المسألة؛ فليطلب منه. واعلم أن أرش جناية العمد إذا تعلق برقبة العبد، اقتضى بيعه عند امتناع السيد من الفداء في الحال، ولو تعلق برقبته أرش جناية الخطأ، ففي "تعليق" القاضي الحسين: أن الذي ذكره منصور الفقيه: أنه يباع منه في كل سنة بقدر ثلث الجناية، وتجب دية الخطأ مؤجلةً [في ثلاث سنين في رقبته. وقيل: يباع العبد في الحال كما لو أتلف مال إنسان، ودية الخطأ إنما تجب مؤجلة] إذا تحملها العواقل لا غير [وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب في كتاب القسامة والبندنيجي في آخر كتاب الكتابة وكذا الماوردي]. ولهذا الخلاف شبيه يعضده، وسأذكره في آخر الباب، إن شاء الله تعالى, قال: وإن جنت أم الولد فداها المولى بأقل الأمرين؛ لما ذكرناه في بابه. وقد ذكرنا ثَمَّ قولاً آخر عن المراوزة. وقال الإمام: إن تعليل إلزام السيد الفداء [مما يغمض؛ لأن السيد تصرف في ملكه، وإلزامه الفداء] بسبب جناية تصدر منها بعد الاستيلاد بعيد عن قياس الأصول، ولكنه متفق عليه بين أصحابنا. وعلى هذا: فالقيمة المعتبرة عند الشيخ أبي عليّ: قيمة يوم الاستيلاد؛ لأنه الذي صار السيد مانعاً به، وذلك المعنى لا يتجدد. قال الإمام: وهذا غير متجه، والذي كان يصير إليه شيخي: أن الاعتبار بقيمة يوم الجناية، وهذا أقيس وأفقه. قال: وإن جنى مكاتب، [فإن] كان على أجنبي فدى نفسه بأقل الأمرين، وإن كانعلى مولاه فدى بأقل الأمرين في أحد القولين، وبالأرش في الآخر. فإن لم يفد بيع في الجناية، وانفسخت الكتابة؛ لما ذكرناه في بابه؛ فليطلب منه.

ومن نصفه حر ونصفه رقيق إذا قتل خطأ، يجب نصف الدية على عاقلته؛ كذا حكاه الرافعي عن "فتاوى" صاحب "التهذيب". قال: وما يجب بخطأ الإمام فهو في بيت المال في أحد القولين؛ لأن الدية وجبت بالحكم بين المسلمين؛ فكانت من بيت مالهم، وأيضاً: فإن خطأ الإمام يكثر؛ فلوأوجبناه على عاقلته لأدى ذلك إلى الإجحاف بهم؛ فكان بيت المال احق بهن وهذا ما اختاره في "المرشد". فعلى هذا: هل تجب الكفارة في بيت المال أو في ماله؟ فيه قولان حكاهما القاضي أبو الطيب والماوردي، وهما في "المهذب" وجهان، واختار في "المرشد" منهما: الأول. ووجه الفرق على الثاني: أن الكفارة عبادة محضة؛ فكانت في ماله. قال: وعلى عاقلته في [القول] الآخر؛ كما لو لم يكن إماماً، وهذا ما صححه النواوي والشيخ أبو حامد والقاضي الروياني وغيرهم، ويشهد له: أن عمر – رضي الله عنه –حين ضمن جنين المرأة التي أرهقها؛ فألقته ميتاً، قال لعلي – كرم الله وجهه -: "عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَلاَّ تَبْرَحَ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ" يعني: من قريش؛ لأنهم عاقلة عمر، ولم ينكر ذلك أحد من زمنهم، ولا من جميع الأمة، كما قاله الماوردي. وحكم عمد خطأ الإمام حكم خطئه على ظاهر المذهب، كما حكيناه عن الأصحاب في مسألة قتل الحامل. وقد حكينا ثم عن القاضي الحسين وغيره: أنه يكون على عاقلته جزماً، وبه صرح الإمام؛ حيث ذكر هذه المسألة في حد الشرب بفروعها، وقال: إن الأئمة قالوا: ما ذكرناه من القولين فذاك إذا لم يظهر منه تقصير في الواقعة؛ فإن ظهر تقصيره فلا خلاف في أن ما يلزمه لا يضرب على بيت المال. وضرب له مثالاً، وهو استيفاء الحد من الحامل مع علمه بحملها.

[قال: وما يجب من الدية بالخطأ أو عمد الخطأ، فهو مؤجل، لأن العاقلة تملها علىوجه المواساة؛ فوجب أن يكون وجوبها مؤجلاً، أصله: الزكاة؛ فإنها تؤخذ في كل سنة]. قال: فإن كان دية نفس كاملة - أي: وهي دية الرجل الحر المسلم - فهو مؤجل في ثلاث سنين، في كل سنة ثلثها؛ لقول الشافعي - رضي الله عنه-:ولا اختلاف بين أحد علمته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بها في ثلاث سنين". ولأنه روي عن عمر -رضي الله عنه - أنه جعل الدية على العاقلة في الأعطية أثلاثاً في ثلاث سنين. وكذلك روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه جعل الدية على العاقلة أثلاثاً. وروى الشيخ أبو حامد عن عليٍّ - كرم الله وجهه- مثل ذلك. ومنه دليلان: أحدهما: أنه إجماع الصحابة. والثاني: أنهم لا يقولون ذلك إلا توقيفاً؛ لأنه لا مدخل للقياس فيه. وقول ابن المنذر: "إن ما ذكره الشافعي - رضي الله عنه- لا يعلم له أصلاً من كتاب ولا سنة"، وقول أحمد بن حنبل - رضي الله عنه- حين سُئل عن ذلك: "لا أعرف فيه شيئاً"- فقد أجاب أصحابنا عنه بجوابين: أحدهما - وهو قول ابن أبي هريرة - أن مراد الشافعي بقضائه: تأجيل الدية في ثلاث سنين، وانه مروي، لكنه مرسل؛ فلذلك لم يذكر إسناده. والثاني- وهو ماحكاه القاضي أبوالطيب أنه لا يجوز أن يرد قولالشافعي بذلك؛ لأنه عرفه، وغيره لم يعرفه. وقد قال الغزالي في كتاب السير، عند الكلام في أراضي الكفار: إن الشافعي أعلم القوم بالأخبار والتواريخ. قال القاضي الحسين: وقد اختلف أصحابنا في المعنى الذي لأجله كانت في ثلاث سنين:

فقيل: لكونها بدل نفس. وقيل: لكونها دية كاملة، وهذا أشبه عند الرافعي. أما الدية الاوجبة بقتل العمد فهي على القاتل حالَّة؛ [لأنه] لا يليق بحالِهِ الرِّفق. قال: وابتداؤها من وقت القتل- أي: من حين زهوق الروح – لأنه حق مؤجل وجب بسبب؛ فاعتبر ابتاء الأجل من حين وجود السبب؛ كالأثمان في البيع [تجب بوجود البيع]، وهو أول أجل المؤجل. ولا فرق في ذلك بين أن يحصل الزهوق بجراحة مذففة، أو بسراية من قطع عضو ونحوه، وهذا ما يوجد في "الحاوي"، و"تعليق" أبي الطيب، و"البندنيجي"، و"الشامل"، و"النهاية"، و"التهذيب". وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن الموت إذا حصل بالسراية بعد قطع إصبع، ففي ابتداء الوقت ثلاثة أوجه: أحدها: من وقت الجراحة؛ لأن سبب الوجوب هو الجرح. والثاني: من وقت زهوق الروح. والثالث: أن دية الإصبع ابتداؤها من وقت القطع، والباقي: من وقت الزهوق. وفي "الوسيط" و"الوجيز": أن ابتداء الحول من وقت الرفع إلى القاضي؛ لأن هذه مدة تناط بالاجتهاد. وهذا ما حكاه الفوراني فيما وقفت عليه من الإبانة.

وفي "البيان" و"الذخائر" نسبة ذلك إلى الخراسانيين، قال الرافعي: ولعله أخذ من كلام الغزالي. والصحيح الأول؛ لأن هذه مدة ثابتة بالشرع؛ فلايحتاج فيها إلى قضاء القاضي: كمدة الإيلاء، والعدةن بخلاف العنة؛ لأن تلك تثبت بالشرط؛ فتثبت من حين الشرط؛ كالخيار. قال: وإن كان أرش طرف، فإن كان قدر الدية-أي كما إذا قطع ذكره، أو يديه، أو رجليه، ونحو ذلك – فهو في ثلاث سنين؛ قياساً على دية النفس. وفيه وجه حكاه الإمام عن رواية شيخه: أنها تجب في سنة؛ نظراً إلى أن المعنى في بدل النفس [الكاملة]: كونها دية نفس. ثم قال: وليست أعتد به، وإن تكرر سماعي منه. وهو جار في جميع دية الأطراف، وإن زادت على دية النفس، [أو نقصت]. قال: وإن كان الثلث، أي: كدية الجائفة والمأمومة، فما دونه، أي كدية الموضحة ونحوها – ففي سنة؛ لأن العاقلة لا تحمل حالاً؛ فاعتبرت السنة؛ كالزكاة. فرع: لو قتل ثلاثة واحداً خطأ فالدية على عواقلهم أثلاثاً، يجب على كل منهم ثلث في ثلاث سنين؛ لأن الدية واحدة، ومستحقها واحد. وفيه وجه: أن الثثل الذي يخص كل واحد منهم يضرب في سنة؛ لأنهم أشخاص متعددون، وقدر الثلث يؤخذ من العاقلة في السنة. قال: وإن كان الثلثين، أي: كدية اليد – وجب الثلث في سنة؛ [لما ذكرناه]، وما زاد في السنة الثانية؛ لأنه لا يجب على العاقلة شيء في أقل من سنة.

قال: وإن كان قدر الدية أو أقل، أي: كدية يد وجائفة أو مأمومة – وجب الثلثان في سنتين، وما زاد في السنة الثالثة؛ اعتباراً بتقسيط الدية الكاملة في ثلاث سنين. وقول الشيخ: "قدر الدية" تكرار، جرى فيه على عادته في المسائل قبلها؛ لأنه ذكره من قبل. قال: وإن كان أكثر من ذلك، كدية اليدين والرجلين – لم يجب في كل سنة أكثرمن الثلث، [أي: ثلث الدية؛ لأنها جناية على واحد؛ فلم يجب في كل سنة أكثر من الثلث]؛ كي لا يحصل بهم الإجحاف، وهذا أصح في "التهذيب". وفي "تعليق" [القاضي الحسين]: أنا إذا نظرنا إلى المعنى الأول في دية النفس ففيما يجب هاهنا في [كل سنة] وجهان: أحدهما: ما ذكره الشيخ، وهو الأظهر في "الرافعي" أيضاً. والثاني: أنه يجمع جميع ذلك في ثلاث سنين. وقد احترزنا – على الصحيح – بقولنا: جناية على واحد، عما إذا وجبت ديتان فأكثر لشخصين بجناية واحدة [على اثنين فأكثر]؛ فإنه يجب لورثة كل منهم في كل سنة ثلث ديته؛ كما صرح به الماوردي. وحكى القاضي الحسين في هذه الصورة وجهين؛ بناء على المعنيين السابقين: فمن قال: المعنى في إيجاب الدية الكاملة في ثلاث سنين كونها دية نفس، فهاهنا يجب لكل ولي ثلث دية قتيله. ومن قال: المعنى: أنها دية كاملة، وجب ذلك هاهنا على العاقلة في ست سنين في كل سنة ثلث الدية؛ مراعاة للقدر وفي "الرافعي" طريقان آخران: أحدهما: أنا إن نظرنا إلى المعنى الأول ففيه الوجهان المذكوران، وإن نظرنا إلى المعنى الثاني ففي ست سنين.

والثاني – وهو الأظهر-: أنا إن نظرنا إلى المعنى الأول ففي ثلاث سنين، وإن نظرنا إلى المعنى الثاني فوجهان: أحدهما: في ست سنين. وأصحهما: في ثلاث سنين؛ لأن الواجب ديات مختلفة، ومستحقوها مختلفون؛ فلا يؤخر [حق] بعضهم باستحقاق غيره. قال: وابتداؤها، أي: ابتداء مدة دية الأطراف من وقت الاندمال، أي: إذا سرت إلى عضو آخر دون النفس؛ لأنه وقت استقرار الجناية، وهذا ما ذكره الشيخ أبو حامد وأصحابه، عليه جرى صاحب "الحاوي"، وقال ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب: إنه الذي قال به أصحابنا، واختاره في "المرشد". وصور ذلك البندنيجي بما قطع إصبعه، فسرت الجراحة بعد شهر إلى كفه، ثم اندملت بعد شهر آخر – فابتداء المدة بعد انقضاء الشهرين، لا من وقت القطع، ولا من وقت السراية. وقيل: يعتبر ابتداء المدة من وقت سقوط الأخير؛ فإنه نهاية الجناية، وقطع الطرف مع السراية كقطع العضوين، وهذا ما ذكره في "التهذيب"، وقال في "الإبانة": أنه الصحيح. وضعفه الإمام. وقيل: يعتبر أرش الأول من وقت الجراحة، وأرش الثاني من قوت [وقوف] السراية، وهذا يحكي عن اختيار القفال، ورجحه الإمام والقاضي الروياني. أما إذا لم يسر الجرح أصلاً، فابتداء المدة من حين الجرح، وقد وافق عليه الفوراني؛ لأن الوجوب معلق بها، والاندمال بيّن استقرارها؛ فعلى هذا: إن اندملت بعد انقضاء الأجل استحق تعجيلها. ولو انقضى الأجل قبل الاندمال، ففي "النهاية": أن [في] جواز مطالبة العاقلة بها الخلاف المذكور في مطالبة الجاني بها عند العمد. وعن "جمع الجوامع" للقاضي الروياني: أن أبا الفياض ذهب إلى احتساب

المدة من وقت الاندمال، فإن كان الشيخ قصده فكلامه على إطلاقه. قال: وإن كان دية نفس ناقصة: كدية الجنين، والمرأة، والذميّ –فقد قبل، هي كدية النفس الكاملة؛ فتجب في ثلاث سنين؛ نظراً للمعنى الأول. وهذا أصح في "تعليق" القاضي أبي الطيب، ويقال: إنه اختيار الماسرجسي. وقيل هي كأرش الطرف إذا نقص عن الدية؛ نظراً للمعنى الثاني. وهذا أشبه في "الرافعي"، والمختار في "المرشد"، والنواوي، وعليهما يخرج – أيضاً – ما إذا قتل عبداً قيمته أكثر من دية حر، وقلنا: تحمله العاقلة؛ فعلى الأول: تجب في ثلاث سنين، قال القاضي أبو الطيب: وهذا نقله القاضي أبو حامد في "جامعه"، ولم ينقله غيره. وعلى الثاني: يؤدي في كل سنة بقدر ثلث [دية حر]. وقد بنى الماوردي الوجه الأول في هذه الصورة على الوجه الأول في الصورة قبلها، والثاني على الثاني. قال: والعاقلة: العصبات، أي: الذين يرثون بالنسب والولاء إذا كانوا ذكوراً. وجهه في عصبات النسب: قول الشافعي – رحمه الله – في "المختصر": ولا مخالف أن العاقلة: العصبة، وهم القرابة من قبل الأب. ووجهه في عصبات الولاء: قوله صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ"، ولأنه لما استحق الميراث بالولاء كاستحقاقه بالنسب، وجب أن يتحمل به العقل كما يحمل بالنسب. وقد روي "أن عليًّا والزبير اختصما إلى عمر – رضي الله عنه- في مولى لصفية بنت عبد المطلب، وقد جنى؛ لأن الزبير ابنها، وعلى ابن أخيها" – وفي "النهاية": أنه ابن عمّها، وهو سهو – فقضى للزبير بالميراث، وعلى عليّ بأن يعقل عنه، ولم يخالفه أحد؛ فكان إجماعاً. ووجهه فيهما: ما روى أبو داود من طريق عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم

في قصة المرأتين التي سنذكرها "جَعَلَ دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَصَبَةِ القَاتِلَةِ"، وأخرجه مسلم والترمذي، كما ذكرناه من قبل، وسنذكره برواية أخرى. قال: ما عدا الأب، والجد، والابن، وابن الابن؛ لما روى أبو داود عن جابر: "أَنَّ امْرَأَتَيْنِ قَتَلَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا زَوجٌ وَوَلَدٌ، قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ، وَبَرَّأَ زَوْجَهَا وَوَلَدَهَا". قال: فقال عاقلة المقتولة: ميراثها لنا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ؛ مِيرَاثُهَا لِزَوْجِهَا وَوَلَدِهَا". ولما ذكرناه من خبر سعيد بن المسيب وأبي سلمة في أول الباب. وعن ابن المسيب، عن أبي هريرة – في هذه القصة – قال: "ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ تُوُفِّيَتْ؛ فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا، وَأَنَّ العَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا"، وأخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي. وقد روى ابن المنذر بسنده، عن ابن مسعود أنه – عليه السلام – قال في خطبة الوداع: "لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍن لاَ يُؤْخَذُ الْمَرْءُ بِجَرِيرَةِ أَبِيهِ، وَلاَ بِجَرِيرَةِ ابْنِهِ"، فكان على عمومه. ولان الجاني لا يتحمل العقلح لما فيه من الإجحاف بهن وهؤلاء أبعاضه؛ فلا يتحملونه؛ لان مالهم كمالهح ولهذا لا تقبل شهادته لهم؛ كما لا تقبل شهادته لنفسه، ويستغني بمالهم كما يستغني بمال نفسه.

ولا فرق – في ذلك –بين ابن القاتل وأبيه، ولا بين ابن المعتق وأبيه على الأظهر، وبه جزم القاضي أبو الطيب، والحسين، وابن الصباغ، وإن كان على خلاف القياس؛ لما ذكرناه من قضاء عمر، رضي الله عنه. وقيل: [إن المعتق وأباه] يتحملان العقل كالمعتق. فرع: لو كان للمرأة القاتلة ابن هو ابن ابن عمها، أو ابن هو مولاها- فهل يتحمل العقل؟ فيه وجهان حكاهما الفوراني وصاحب "العدة" والإمام عن العراقيين: أحدهما – وبه قال الشيخ أبو عليّ [السنجي]-: نعم؛ كما يزوجها، وهذا أقيس في "النهاية". والثاني – وهو المذكور في "الحاوي" في صورة ابن العم، وفيهما في "تعليق" القاضي أبي الطيب، و"الشامل" -: لا؛ لأن العلة في ذلك أن بينهما بعضية، وهي موجودة، ويخالف ولاية النكاح؛ لأن المنع منهما كان لعدم الولاية، وقد وجدت. فرع آخر: ذوو الأرحام لا يتحملون العقل، قال في "التتمة":إلا على طريقة من يرى توريثهم؛ فيحملون عند عدم العصبات؛ كما يرثون عند عدمهم. قال: ولا يعقل بنو أب وهناك من هو أقرب منهم، أي: وكان المضروب عليهم [يفي بقدر] الواجب، بل يقدم الأقرب فالأقرب؛ لأن حق يستحق بالتعصيب؛ فقدم الأقرب فالأقرب كالميراث – فعلى هذا: يُقَدَّم الإخوة، فإن وفى المقسط عليهم بالواجب – كما سنذكره – فذاك، وإن زاد، فسيأتي حكمه، وإن نقص انتقلنا إلى بنيهم، ووزع على كل منهم ما يقتضيه حاله – كما سنذكره – فإن وفى المقسط عليهم بتمام الواجب فذاك، وإن نقص أيضاً [عدلنا إلى الأعمام، ثم بنيهم، ثم أعمام الأب، ثم بنيهم]، وهكذا نفعل إلى ألا نجد

أحداً من عصبات النسب؛ فننتقل إلى المعتق إن كان رجلاً؛ فإن لم يوف المضروب عليه بتمام الواجب، أو كان امرأة – عدلنا إلى إخوته، ثم [إلى] بنيهم، ثم أعمامه، ثم [إلى] بنيهم، وهكذا، [فإن عدموا انتقلنا إلى معتق المعتق، ثم إلى إخوته، ثم بنيهم، وهكذا] على ترتيب الولاء. ويفارق هذا الميراث – حيث لا يشارك فيه الأبعد الأقرب؛ لأن ما يجب على كل واحد من العاقلة يقدر بمقدار مضبوط كما سيأتي، لا يزاد عليه، وما يرثه كل واحد من العصبة غر مقدر؛ فيحوزه الأقرب، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب والماوردي والبندنيجي وابن الصباغ. وحكى الإمام أن الأئمة قيدوا الضرب على عصبات [المعتق بموت المعتق، وأنه يمكن تعليله؛ بأن العصبات] لا حق لهم [في الولاء] ولاحق لهم بالولاء؛ فيقعون من المُعْتِق في حياة المُعْتَق موقع الأجانب؛ فإذا مات المُعْتَق ورثوا بالولاء، وصار الولاء لهم لحمةكلحمة النسب؛ فإذ ذاك يضرب عليهم، وأنه لا يتجه إلا هذا. نعم، إذا لم يكن ثم معتق، وضربنا على عصبته، فهل يختص الضرب بالأقربين ولا نتعداهم، أم نتعداهم إلى [الأباعد؛ كصنيعنا] في عصبات النسب؟ هذا فيه تردد ظاهر، والأصح الثاني. قلت: [ومادة الاحتمال] الأولى تقوى بما حكاه القاضي الحسين في باب الولاء، عن نص الشافعي فيما إذا أعتق رجل أمة، فمات المعتق، وخلف ابناً صغيراً، وللابن الصغير جدان، الجد ليس له أن يزوج الأمة المعتقة. وكذلك يقوى ما حكاه الإمام عن الأئمة في حياة المعتق بما حكاه القاضي الحسين في باب الولاء: أن المعتق لو قتل المعتق، وللمعتق ابن لا يرث

القاتل المقتول، ولا ولده يرثه. ولا شك في أن المعتق لو كان امرأة، يتحمل العقل عن معتقها من يتحمل العقل عنها؛ كما يملك تزويجها، صرح به الفوراني، وإن سكت عن الكلام فيما سبق. قال: [فإن اجتمع من] يدلي بالأب والأم، ومن يدلي بالأب – ففيه قولان: أصحهما: أنه يقدم من يدلي بالأب والأم؛ لأنه أولى بالميراث؛ فوجب أن يكون أولى بالتحمل؛ قياساً على الأخ مع ابن الأخ، وهذا هوالجديد. والثاني: أنهما سواء؛ لأن قرابة الأم لا تأثير لها في [تحمل العقل]؛ ولهذا لا يجب على الأخ من الأم، وإذا كان كذلك كان الجميع سواء؛ لاشتراكهم في ميراث [مال] الأب، وهذا حكاه القاضي أبو الطيب عن القديم. قال: وإن [اجتمع منهم جماعة] في درجة واحدة، وبعضهم غيب – ففيه قولان:

أصحها: أنهم سواء؛ كما في الميراث. والثاني: [يقدم الأقرب]؛ لأن نصرة الحاضر أقوى؛ فيجب أن يكون أولى؛ ولأن في قسمتها على الحاضر والغائب مشقة. فعلى هذا: إن وفى المقسط على الحاضرين بالواجب فذاك، وألا انتقلنا إلى الغائبين، ووزعنا على كل منهم ما يقتضيه حاله؛ كما ذكرناه في الأبعد مع الأقرب. ولو كان بعض الغائبين داره أبعد من دار بعض، لم نوزع على الأبعد داراً إلا بعد التوزيع على الأقرب، ولم يحصل به تمام الواجب. وفي "التتمة" نصب الخلاف في مسألة الكتاب في أنه هل يجوز تخصيص الحاضرين؛ بناء على أنه لو كانت العاقلة كلهم حاضرينن لايجوز تخصيص بعضهم بالضرب؛ فإن جوزنا فيجوز تخصيص الحاضرين بلا خلاف. أما لو كان الغائب أقرب درجة، والحاضر أبعد، ففي "تعليق" القاضي أبي الطيب، والبندنيجي، و"الشامل": أنها على الغائب؛ لأن القرب في الدرجة هو المقدم على الحضور. وفي "الإبانة" حكاية القولين في هذه الصورة مقتصراً عليهما: أحدهما: يقدم الحضور. والثاني: يقدم الغيب. والقاضي الحسين والإمام والمصنف والماوردي حكوا القولين في الصورتين، والأقيس عند الإمام منهما: الثاني. [تنبيه: غيب: يجوز بضم الغين وتشديد الياء، ويجوز: "غيبٌ": بفتحهما وتخفيف الياء. قال أهل اللغة: يقال: غاب يغيب غيبة، وغيباً، وغياباً، وغيوباً، وغيبوبة، ومغيباً؛ فهو غائب، وهم غائبون، وغياب، وغب، وغيب، وغيبه]. ثم الغيبة المعتبرة فيما ذكرناه عند الغزالي: الغيبة التي تمنع التحصيل في سنة

- يعني: بالمكاتبة إلى قاضي [ذلك البلد- وهذا احتمال أبداه الإمام لنفسه؛ [فإنه قال: وإذا] قلنا بجواز الأخذ من الحضور دون الأباعد؛ فيجب ألا يجري هذا في كل غيبة، وإن كانت إلى مسافة القصر؛ فإن الضرب يسهل على من يبعد عن مكان العقل مرحلتين، وكذلك لو زادت المسافة، وأقرب معتبر في هذا التعذر عندي يتلقى من الأجل الشرعي؛ فإن كان يمكن تحصيل الغرض من الغيب في سنة فليس الأمر متعذراً، وإن كان لا يتوصل إلى الضرب عليهم في كل سنة فيمكن أن يقضي عند ذلك بالتعذر، ويجري فيه القولان. وكلام الشافعي - رضي الله عنه- في "المختصر" لا يساعده على ذلك، فإنه قال: إذا جنى [رجل] بمكة وعاقلته بالشام، [فإن لم يكن خبر قضى بالعقل، وقد قيل: نحمله على عاقلة الرجل ببلده، ثم أقرب العواقل، ولا ينتظر بالعقل غائب. وكذلك صور الماوردي والبندنيجي وغيرهما [محل القولين] بما إذا كان بعض العاقلة بمكة وبعضهم غيب بالشام] وقالوا فيما إذا فرعنا على تقديم الحاضر، ولم يوف الموزع عيهم بالواجب: أنا نقدم منهم من هو [مقيم] بالمدينة، دون من هو مقيم بالشام، وعلى هذا يظهر أن لا ضابط إلا مسافة القصر. قال: فإن عدم العصبات، أي: من النسب والولاء، وهناك مولى من أسفل - ففيه قولان: أصحهما: أنه لا يعقل؛ لأنه ليس بمباشرلهن ولا له عليه ولاء؛ فأشبه الأجانب، ولأنه حكم من أحكام الولاء؛ فيختص بالمعتق كالميراث. والثاني: أنه يعقل؛ لأن المولى الأعلى إذا كان يتحمل عن الأسفل، وهو

المنعم؛ فلأن يتحمل المنعم عليه عن المنعم أولى. ولأن العقل للنصرة، والعتيق أولى بنصرة معتقه؛ لإنعامه عليه، وهذا ما حكى القاضي أبو الطيب أنه نص عليه [هنا]، والبندنيجي أنه نص عيه في "الأم". ويخالف الميراث؛ لأن ذلك في مقابلة النعمة التي للمعتق؛ بسبب الإعتاق، ولا نعمة للعتيق على المعتق. وعلى هذا: لا يتعدى العقل إلى أحد من عصبات المولى الأسفل بحال؛ لأنه لا يتحمل الجناية عنهم؛ فلذلك لا يتحملون عنه. وفي "البيان": أن الذي يقتضيه المذهب أن يكون في عتيق العتيق القولان؛ لأن الجاني يتحمل عنه. ثم ظاهر كلام الشيخ: أنَّا على قول تحمل المولى من أسفل العقل يكون قبل بيت المال؛ كما صرح به في المهذب، وبه جزم القاضي أبو الطيب والماوردي والبندنيجي. وفي "ابن يونس": أن بعضهم رأى تأخيره عنه. قال: فإن لم يكن من يعقل، أي: إما لعدمه، أو لوجوده وإعساره –وجب في بيت المال، أي: إذا كان مسلماً؛ لأن مال بيت المال للمسلمين، وهم يرثونه؛ كما ترث العصبات، ويخالف الذميّ؛ فإنهم لا يرثونه، وإنما ينتقل ماله إلى بيت المال فيئا. وهكذا إذا وجدنا من يعقل، لكن فضل من الواجب شيء بعد التوزيع عليهم. قال: فإن لم يكن، أي: بيت المال، وقد عدم من يعقل – فقد قيل: [يجب] على الجاني، [وقيل: لا يجب [عليه]. هذان القولان –كما قال القاضي أبو الطيب وغيره – يبنيان على أن الدية تجب على الجاني، ثم تتحملها العاقلة، أو تجب عليهم ابتداء؟ وفيه القولان السابقان.

فعلى الأول: تجب على الجاني]، وهو المختار في "المرشد"؛ لأنها وجبت عليه في الأصل؛ فإذا تعذر من يتحمل بقي الوجوب في محله، ولأن الأصحاب متفقون على وجوبها على الذميّ إذا لم يكن له عصبة. وعلى الثاني: لا تجب [عليه]؛ لوجوبها على غيره. وهما كالوجهين في زكاة الفطر إذا كان الزوج معسراً، والزوجة موسرة، وقطع القاضي الحسين بأن نوجب على الزوجة الفِطْرة، ولا نوجب على الجاني الدية، وإن قلنا: إنها تجب عليه ابتداء، ثم تنتقل إلى العاقلة. وفرق بأن الزكاة الأصل وجوبها على المكلف، غيرأنه يتحمل عنها الزوج لعارض؛ فإذا لم يجب عليه التحمل عاد إلى الأصل. ودية الخطأ الأصل وجوبها على العاقلة وأخذها من مالهم؛ فجاز ألا تعود إليه، وإن تعذر استيفاؤها منهم. قال الإمام: وما ذكره غير سديد، والأصحاب كلهم على ذكر الخلاف في الجاني، ويتفرع على الوجهين فروع: منها: إذا كان الجاني معسراً؛ فإن قلنا بوجوبها عليه، ثبتت في ذمته إلى أن يوسر، وإن قلنا: لا تجب عليه، بقيت ديناً في بيت المال، كما قاله الماوردي. وعن "شرح [مختصر" الجويني] وجه: أنها تجب على جميع المسلمين؛ كنفقة الفقراء. والقاضي الحسين حكى وجهين فيما إذا لم يكن في [بيت] المال شيء، ثم ظهر بعد ثلاث سنين، [من غير بناء: أحدهما: لا يؤدي منه؛ كما لو صارت العاقلة موسرين بعد ثلاث سنين]، لا تضرب عليهم. والثاني: يؤدي؛ لقوله – عليه السلام-: "لا يترك في الإسلام مُفْرحٌ". ولأنه مرصد للمصالح، وهذا منها.

[و [قد] قال الإمام: إن القاضي فرعهما على قولنا: إن القاتل لا يؤاخذ بالدية أصلاً. ثم قال]: وقد بنى على هذين الوجهين الخلاف في أن الجاني هل يغرم، أم لا؟ فإن قلنا: يؤخذ عند يسار بيت المال منه، لم تجب عليه، وألا وجبت عليه. ومنها: إذا أوجبنا عل ىلجاني؛ فهل تجب على ابنه وأبيه؛ كام تجب عليه؟ فيه وجهان: أحدهما – وبه قال أبو عليّ الطبري -: نعم، ونبدأ بهما قبل القاتل؛ لأنا [لا] نحمل الأب والابن؛ لأنهما بعضه؛ فإذا تحمل تحملا. قال الرافعي: وأقواهما عند البغوي: المنع؛ لأن الإيجاب على القاتل من جهة أنه الأصل، وغيره يتحمل عنه؛ فإذا تعذر التحمل طولب بحكم الأصل، وهذا المعنى لا يتحقق في الأب والابن، وهذا ما أبداه الشيخ في "المهذب" احتمالا، واختاره في "المرشد". والوجهان – كما حكاهما العمراني عن رواية الطبري – جاريان فيما إذا لم يكن للذمي عاقلة، وقال: إن الذي عليه الأكثرون: الأول، والذي صححه البغوي والإمام: الثاني أيضاً. قال: ولا يعقل فقير-أي: وإن كان معتملاً – لأن حمل العاقلة لإزالة الضرر عن ولي المقتول؛ كي لا يهدر الدم، وتخفيفاً عن القاتل، كي لا يذهب جميع ماله، ولا يجوز أن يزال الضرر عن إنسان بإلحاق الضرر بغيره، وفي إيجابه على الفقير إضرار به. ولأن ذلك طريق المواساة، والفقير ليس من أهلها؛ فلا تجب عليه كنفقة الأقارب. وبهذا يخرج إيجاب الجزية على الفقير على قولٍ، لأنها تجب عوضا عن حقن دمه، والسكنى في الدار والغني والفقير في ذلك سواء. وكذا يخرج به وجوب زكاة الفطر.

قال القاضي أبو الطيب وغيره: لأن الزكاة تجب طهرة للصائم من الرفث، ولا تجب للمواساة، ولهذا يجب إخراجها عن العبيد، وليسوا من أهل المواساة. ومن هذا الفرق يظهر لك أن المراد بالفقير هاهنا: ليس من لا يملك شيئاً [أصلا]؛ فإنه لو كان كذلك لم تجب عليه زكاة الفطر، ولما حسن من الأصحاب ذكر الفرق؛ فتعين أن المراد به: من لا يملك ما يفضل عن كفايته على الدوام. قال: ولا صبي ولا معتوه؛ لأن حمل العقل مبني على النصرة، وليس الصبي والمعتوه من أهلها؛ لأن من لا عقل له ولا تمييز لا يصح منه النصرة بالفعل ولا بالرأي، وهذا بخلاف الشيوخ والزمنى والعميان والشباب الضعفاء؛ فإنهم يتحملون العقل، كما حكاه القاضي أبو الطيب، وإن عجزوا عن النصرة بالفعل؛ لقدرتهم على النصرة بالقول والرأي؛ فإن النصرة ليست كلها بالسيف، وإنما هي بالسيف والرأي وبالكلام. وفي "المهذب" و"الحاوي" حكاية وجه في الشيخ الهِمَّ والمريض البالغ حدّ الزمانة: أنه لا يحمل؛ بناء على القول بامتناع قتل مثله من المشركين إذا أسر. وحكاه الفوراني في الزَّمِن –أيضاً – بناء على ضرب الجزية [عليه]، وقال به أبو علي بن أبي هريرة في "التعليقط فيما إذا كان زمناً من يديه ورجليه. وقال القاضي أبو الطيب: إنه خطأ. وقدحكاه الرافعي في الأعمى أيضاً. والمذهب – كما قال القاضي أبو الطيب -: الأول؛ لما ذكرناه. فإن قيل: إذا اتبعتم النصرة بالرأي والكلام دون الفعل، فينبغي أن تعقل النساء؛ لأن لهن رأياً وكلاماً، وقد اتفق الأصحاب على أنهن لا يعقلن. قلنا: جوابه من وجهين. أحدهما: أن رأيهن ناقص. ثم لو سلم كماله في بعضهن، فقد منع منه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة التي حكم عليها بالغرة لما توفيت: بأن ميراثها لبنيها، وبالعقل على عصبتها،

والنساء لا تعصيب لهن؛ ولهذا المعنى لم يذكرهن الشيخ؛ لأنهن خرجن بقوله: والعاقلة العصبات. قال: ولا مسلم عن كافر، [ولا كافر عن مسلم]؛ لأنه لا موالاة بينهما، ولا توارث؛ فانتفت المناصرة. نعم، الذمي يعقل عن الذميّ الموافق له في الملة؛ لأن المناصرة بينهما في الحق موجودة لا تمنعها الذمة. وهل يعقل عنه مع اختلاف الملة كاليهودي عن النصراني، أم لا؟ فيه قولان في "النهاية" و"تعليق" القاضي الحسين: وأظهرهما فيه، وهو المذكور في "الحاوي" و"تعليق" البندنيجي: نعم؛ لأن الكفر كله ملة واحدة. والثاني: لا، والكفر مِلَل. وهكذا الخلاف في ميراث أحدهما من الآخر، كما مر. وهل يعقل الحربي عن الذميّظ أطلق المصنف وغيره: المنع. وقال في "التتمة": إن قدر الإمام على الضرب عليهم، فينبني على أن اختلاف الدار هل يقطع التوارث؟ إن قلنا: نعم، امتنع العقل، وإلا فوجهان؛ لانقطاع المناصرة باختلاف الدار. والمعاهد كالذمي، فيحمل عنه الذميّ، ويتحمل عن الذميّ، إذا زادت مدة العهد على أجل الدية، ولم تنصرم قبل مضي الأجل، ولا خلاف في أن الذمّي لا يعقل عن المرتد، كما لا يعقل المرتد عنه. قال: وإن أرسل الكافر – أي: المحقون الدم –سهما، أي: على طائر، أو صيد، كما قاله في "المهذب"، ثم أسلم، ثم وقع سهمه فقتل، أو رمى مسلماً، ثم ارتد، ثم وقع سهمه، فقتل – كانت الدية في ماله. أما في الأولى، فلأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته الكفار؛ لوقوع القتل في حال الإسلام، ولا على عاقلته المسلمين؛ لتحقق السبب الداخل تحت الاختيار في

حالة الكفر، فتعين إيجابها في ماله، صيانة للحق عن الضياع. وأما في الثانية، فلأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته المسلمين؛ لوقوع القتل في الكفر، ولا على عاقلته الكفار؛ لأنه لا عاقلة له منهم كما ذكرناه؛ فتعين إيجابها في ماله، وهذا مأخذه القاعدة التي ذكرتها عن القاضي الحسين في باب من لا تجب عليه الدية بالجناية. وهكذا الحكم على ما لاقه القاضي الحسين فيما إذا رمى من أبوه رقيق وأمه معتقة سهما، فقيل أن يصيب السهم عتق أبوه، ثم أصاب سهمه إنساناً – تجب الدية في ماله؛ لأنه لا يمكننا أن نوجبها على موالي أمه؛ لأن الولاء انجر [بعتق الأب] إلى موالي الأب؛ فالإًابة حصلت، ولا ولاء لم عليه، ولا على موالي الأب؛ لأن السبب وجدن ولا ولاء لهم عليه. وقد ذكرنا ثم أن الرامي وهو مسلم، إذا ارتد، ثم عاد إلى الإسلام قبل الإصابة: أن العاقلة لا تحمل عنه على المذهب، وعلى قول: تجب على عاقلته المسلمين. ولو كان الكافر قد قطع يد إنسان، ثم أسلم، ومات المقطوع – قال الماوردي والمصنف: تحمل ديته الكاملة عاقلته الكفار، دون المسلمين؛ لحدوث الجناية في الكفر وإن استقرت بعد إسلامه؛ ولذلك لم يسقط عنه القود إسلامه، بخلاف إرسال السهم، لأن هاهنا وجدت الجناية مع القطع، وثَّم حدثت بعد إرسال السهم. قال الماوردي: وهكذا الحكم لو كان القاطع مسلما، فارتد عن الإسلام، ومات المقطوع – عقله عنه عصباته المسلمون. وهذا ما حكاه الرافعي في الصورة الأولى وجهاً. وحكى عن ابن الحداد أن الواجب على العاقلة نصف الدية، والباقي في ماله، وأن أكثر الأصحاب [ساعدوه. وبهذا أجاب القاضي الحسين في باب صفة العمد، واختاره صاحب "المرشد"، وهو مطرد عند ابن الحداد والأصحاب] في حر أمه معتقة وأبوه رقيق جرح إنساناً، ثم أعتق أبوه، ثم مات المجني عليه: أنه يجب على موالي الأم مقدار أرش الجناية، والباقي يجب على الجاني؛ لأنه لا يمكن إيجابه على

معتق [الأم؛ لأنه خرج بإعتاق الأب عن استحقاق الولاء، فلا يلزمه ما يجب بعد ذلك. ولا يمك إيجابه على معتق] الأب؛ لأنه وجب بسراية جناية وجدت قبل انجرار الولاء إليه، فلا يلزمه تحمله. ولا يمكن إيجابه في بيت المال؛ لأنه لا يحمل عن المعتق مع وجود معتقه؛ فتعين ضربه عليه. وقد أبدى الإمام – في هذه الصورة – احتمالاً في الضرب على بيت المال؛ لأنه إذا تعذر الضرب على المعتق كان كمن لا معتق له، وهذا الاحتمال لا يجري في مسألتي الذمي والمرتد؛ لأن بيت المال لا يحمل عنهما. ولا شك أن وجه ابن الحداد يجري في الصورة الثانية جزما؛ إذ لا فرق بين الصورتين. وقد قال الرافعي: إن الخلاف في الصورة الألوى ربما بني على الخلاف فيما إذا جرح ذميّ ذميا، ثم أسلم الجارح، ومات المجروح: هل يقتص منه؟ إن قلنا: نعم، اعتباراً بحالة الجرح، فجميع الدية عليهم، وإن قلنا: لا يقتص، لم يلزمهم كمال الدية. وهذا قضية القاعدة التي ذكرناها عن القاضي الحسين من قبل، ومقتضاه: أن يكون الراجح عند الجمهور ما ذكرناه عن الماوردي، وعند الإمام والمتولي: مقابله. وقد اتفق الفريقان على أن الذمي لوقطع في حال كفره يدي المجني عليه أو رجليه: أن جميع الدية على عاقلته الذميين، وكذلك لو كانت جناية المعتقة أمه مباشرة أو بالسراية في حال رق أبيه، أرشها قدر الدية أو أكثر، تحملها عاقلة الأم، لأن الجراحة حين كان الولاء لهم، فوجب هذا القدر، والمعتبر: ألا يزيد قدر الواجب على المتحمل في حالة الجناية الحاصلة من بعد، وهذا يضعف البناء المذكور، لأن الخلاف في جريان القصاص جار هاهنا. فروع: الفرع الأول: إذا جنى ذمي جناية خطأ على رجل ثم أسلم الجاني، ثم جنى جناية أخرى على المجني عليه أولاً خطأ، ومات من الجنايتين –كان على عاقلته من المسلمين نصف الدية، وعلى عاقلته من أهل الذمة أرش الجناية التي وجدت في حال الكفر، فإن كان أرشها أقل من نصف الدية وجب تمام النصف من

مال الجاني، بناء على أصل ابن الحداد، وقد صرح به في "الفروع". ولو كانت الجراحة بعد الإسلام مذففة، فقد قال الشيخ أبو عليّ: إن أرش الجراحة الواقعة في الكفر على عاقلته الكفار، والباقي إلى تمام الدية على عاقلته المسلمين. وفي "النهاية" و"البيان": أن هذا جواب على قول ابن سريج والإصطخري: أن أرش الطرف لا يدخل في دية النفس إذا حصل تلفها بالمباشرة دون السراية. وفي "النهاية" و"البيان": أن هذا جواب على قول ابن سريج والإصطخري: أن أرش الطرف لا يدخل في دية النفس إذا حصل تلفها بالمباشرة دون السراية. أما إذا قلنا: تدخل، كما تدخل إذا سرت الجراحة إلى النفس – وهو المذهب كما تقدم – فجميع الدية على عاقلته المسلمين، وهو كذلك في شرح الفروع للقاضي أبي الطيب. [الفرع الثاني:] إذا جرحه وهو مسلم، ثم ارتد، ومضى عليه في الردة زمان يسري فيه الجرح، ثم عاد إلى الإسلام، ومات المجروح – فقولان: أحدهما: أن جميع الدية على عاقلته، اعتباراً بالطرفين. والثاني: أن على عاقلته أرش الجراحة، وما زاد [على الأرش] إلى تمام الدية في مال الجاني. وقال في "المهذب" عوض هذا: إنه يجب عليه نصف الدية، وعلى العاقلة نصف الدية، واختاره في "المرشد". وجزم جازمون بوجوب الجميع على العاقلة إذا قصر زمان الردة المتخللة، وخصصوا القولين بما إذا طال زمانها. قال في "التهذيب": ويجيء وجه: أن على العاقلة ثلثي الدية، لوجود الإسلام في الأول والأخير. ولو كان الذمّي قد حفر [ئراً عدواناً]، ثم أسلم، فتردى فيها إنسان – تجب الدية في ماله، قاله القاضي الحسين في باب صفة العمد. [الفرع الثالث:] إذا لم يتغيرحال الرامي [لكن تغير حال المرمى] إليه قبل الإصابة، بأن رمى إليه وهو حربي، أو مرتد، ثم أسلم، ووقع به السهم، وأوجبنا ديته – ففي تحملها على العاقلة وجهان، قدمت ذكرهما، والذي ذكره القاضي أبو الطيب منهما في شرح الفروع عند الكلام فيما إذا ضرب بطن حربية

حامل، فأسلمت، ثم وضعت: أنها على العاقلة، وحكاه عن نص الشافعي، وأن أصحابنا لم يختلفوا فيه. وكلام ابن كج يقتضي الجزم بالوجوب على الجاني؛ لانه قال فيما إذا أصاب سهمه من أسلم، وكان مرتداً عند الرمي، ولم يقصد إلى رميه -: تكون الدية في ماله، لا على عاقلته؛ لأنهم يقولون: إنك لما أرسلت السهم، كان الرمي مهدراً لا يلزمنا شيء في قتله. ومن يوجبها في ماله إذا لم يقصد الرمي إليه، فأولى أن يوجبها فيه إذا قصد. وهما جاريان –كما ذكرنا – فيما إذا رمى إلى شخص ظنه حربيًّا في دار الشرك، فكان مسلماً. ولو رمى إلى شخص ظنه شجرة، أو ظبية، فكان إنساناً، فالظاهر – وبه قطع الشيخ أبو محمد -: أنه على العاقلة؛ كما لو رمى إلى صيد، فعرض له في الطريق إنسان، فأصابه. وقربه الإمام من مسألة الرمي إلى من ظنه حربيًّا. تنبيه: عدول الشيخ عن قوله: "وجبت الدية في ذمته" كما ذكره في "المهذب"، إلى قوله: "وجبت في ماله" – كما قاله في "التهذيب" أيضاً – لنفي توهم تعلقها بمال المرتد، [بناء] على قولنا: إن الردة تزيل ملكه، ووجوب الدية وجد بعد زواله، كما صار إليه بعض الأصحاب، كما سنذكره في باب قتل المرتد، وإلا فهي متعلقة بذمته، مؤجلة في ثلاث سنين، وإذا مات أو قتل قبل انقضائها، سقط الأجل، وأخذت من ماله، صرح به البغوي وغيره. ويأتي فيه الوجه الذي سنذكره فيما إذا أقر الجاني بجناية الخطأ، وكذبته العاقلة، ومات: أن الأجل لا يسقط، كما حكاه في "التهذيب". قال: ويجب على الغني نصف دينار، لأن أقل ما يواسي به الغني في زكاته نصف دينار من عشرين ديناراً، فحمل الغني نصف دينار؛ لأن الزيادة عليه تئول إلى الإجحاف، ولا تقف على مقدار. قال: وعلى المتوسط ربع دينار؛ لأنه إذا لزم الغني نصف دينار وجب أن

يقتصر من المقل على نصفه، كما أن نفقة المعسر نصف نفقة الموسر. ولك في الاستدلال طريق آخر، فتقول: لا يمكن إيجاب قدر تافه على المتوسط؛ لأنه لو اقتصر عليه لجاز الاقتصار على القيراط والحبة، وذلك مما لا يفي بالدية؛ فيفوت المقصود، وينهدر الدم؛ فوجب اني جب عند القتل ما ليس بتافه، وحده ما يقطع به السارق؛ لقول عائشة – رضي الله عنها-: "لَمْ تَكُنِ الْيَدُ تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّيءِ التَّافِهِ"، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ". وإذا لزم المقل ربع دينار، وجب أنا يضاعف في حق المكثر، فيلزمه نصف دينار، كما يلزم الموسر في النفقة مِثْلا نفقة المعسر. قال: في كل سنة – أي من السنين الثلاثة- لأنه حق تعلق بالحول يجب على سبيل المواساة؛ فتكرر بتكرر الحول كالزكاة، وهذا أصح في "الرافعي"، وأظهر عند القاضي الحسين، وبه قال أكثر الأصحاب، كما قال الماوردي، واختاره في المرشد، فيكون –حينئذ – الواجب: على الغني في السنين الثلاثة دينار ونصف، وعلى المتوسط نصف وربع دينار. قال: وقيل: لا يجب أكثر من النصف، أي على الغني، والربع، أي: على المتوسط، في الثلاث سنين؛ لأن الأصل عدم الضرب؛ فلا يخالف إلا في هذا القدر، وهذا يحكي عن ابن سريج، وابن القاص. قال الماوردي: فعلى هذا يكون المأخوذ من المكثر، في كل سنة سدس دينار، ومن المقل نصف سدس دينار. وفي "ابن يونس": أن المحاملي حكى أن ابن سريج قال: يؤخذ منه هذا القدر دفعة واحدة. وفي "تعليق" البندنيجي: أن ابن سريج قال: الدينار ونصف لا ينقص عنه الغني، وكذلك المتوسط لا ينقص عن نصف وربع دينار، لكن يستوفي من

الغني [ذلك] في تسع سنين، في كل ثلاث سنين نصف دينار، ويستوفي من المتوسط ذلك في تسع سنين في كل ثلاث سنين ربع دينار. قال الماوردي: ثم معلوم أن قيمة كل بعير من إبل الدية أكثر من نصف دينار، ولا يمكن أن يتجزأ، فينفرد كل واحد منهم بجزور قيمته نصف دينار؛ [يجب أن يشترك في أداء البعير الواحد العدد الذي يكون قسط الواحد من ثمنه نصف دينار] إن كان مكثراً، وربع دينار إن كان مقلاً، ولا يجوز أن يدفع كل واحد منهم جزءاً، كما قاله ابن الصباغ؛ لأن في لك إضراراً بالجميع. واعلم أن هذا الكلام من الأصحاب لا يمكن جمعه، مع ما حكيناه عنهم في أوائل الديات: أن إبل العاقلة إذا اختلفت أنواعها، وجب على كل منهم من نوع إبله حتى لو اختلفت أنواع إبل الواحد منهم يؤخذ من أغلبها، أو من الجميع بالقسط، لأن الحيوان الواحد لا يمكن أن يكون من نوعين، فضلاً عن أكثر منهما، فتأمل ذلك. وقول القاضي الحسين: إن للإمام [أن يضرب الدية عليهم بالإبل، فيضرب على جماعة بعيرا، فإن شق وتعذر فله] أن يضرب عليهم الدنانير، ثم لا يجبر ولي الدم على قبولها، بل له أن يكلف [الإمام] حتى يصرفها إلى الإبل – لا ينفي هذا السؤال. نعم، هذا منتظم مع ما حكيناه عن رواية الإمام عن بعض الأصحاب: أن الاعتبار يغلب إبل البلد، والله أعلم. ثم إذا أعوزت الإبل – عدلنا إلى الدنانير أو الدراهم، إما مقدرة بألف دينار، أو باثني عشر ألف درهم على قوله [في] القديم، أو بقيمة مائة بعير على قوله [في] الجديد، ويجيء [الإشكال] في أي نوع تقوَّم: فإن قلنا بالقديم، وكان من أهل الدراهم – تحمل المكثر منها ستة دراهم، والمقل ثلاثة [دراهم]؛ لأن الدينار منها مقابل لاثني عشر درهما. وإن

كان من أهل الذهب، فعليهما ما ذكره الشيخ. وإن قلنا بالجديد قومت بنقد البلد، فإن كان دراهمن قال الماوردي: ففيه وجهان محتملان: أحدهما: انه يتحمل المكثر منها ستة دراهم، والمقل ثلاثة دراهم، على ما ذكرنا؛ اعتباراً بقيمة الدينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والوجه الثاني: أنه لما عدل بالإبل إلى قيمة الوقت، وجب أن يعدل بالدنانير إلى قيمة الوقت، فيحمل المكثر من الدراهم قيمة نصف دينار بسعر وقته، والمقل قيمة ربع دينار؛ لأن الدينار في وقتنا أكثر قيمة منه في وقت الرسول، صلوات الله عليه وسلامه. واعتبار القيمة يكون وقت الدفع؛ لأنه وقت وجوب القيمة، فلو وجدت الإبل، أو شيء منها قبل الدفع، فهو الواجب، ولو وجدت بعد الدفع، لا يرد ما أخذ، ويطالب بالإبل، صرح به الماوردي والبندنيجي والقاضي أبو الطيب وغيرهم. ثم ما ذكرناه من إيجاب نصف دينار أو ربع دينار على الشخص الواحد، مفروض فيما إذا كان المخاطب بالأداء عصبات الجاني، أو معتقه إذا كان واحداً، أو عصبات معتقه المنفرد بعتقه. فلو اشترك جماعة في عتقه وجب على كل منهم بقدر حصته من نصف دينار، إن كان مكثراًن أو [من] ربع دينار عن كان مقلاً. ويجب على كل من عصبات [كل من] المعتقين قدر ما كان يجب على المعتق نفسه، بحسب السعة والضيق، صرح به القاضي الحسين والإمام. ولو كان المخاطب بالأداء الجاني، لعدم العاقلة، أو عجز بيت المال، فالدية عليه مقسطة في ثلاث سنين، كما تقسط على بيت المال، لو كان موجوداً، صرح به الإمام وغيره من العراقيين في كتاب المرتد، وغيره. وكذا إذا كانت

العاقلة موجودين، وفضل بعد التوزيع عليهم شيء، وعجز عنه بيت المال – يوزع الباقي على ثلاث سنين، صرح به الرافعي. وحكى الإمام فيما إذا كان الجاني ذميا، ولا عاقلة له، وقلنا: يتحمل أبوه وابنه العقل معه –أن الأصحاب اختلفوا في المقدار المضروب. فمنهم من قال: لا يزيد ما يضربه على نصف دينار، على قياس الضرب على العواقل. ومنهم من قال: الدية مضروبة على القاتل وأبيه وابنه أثلاثاً؛ فإن هذا ليس على قياس الضرب على العواقل. وهذا لا يتخيلن فضلا [عن] ان يعول عليه. قلت: وقريب منه ما حكيناه عن [رواية] القاضي الحسين، فيما إذا كان الجاني خطأ عبدا – أن دية الخطأ إنما تجب مؤجلة إذا تحملها العواقل، لا غير. قال: ويعتبر حاله في السعة والقلة عند الحلول، يعني: في الفقر والغنى والتوسط؛ لأنه حق مالي يتعلق بالحول على سبيل المواساة، فاعتبر حاله عند الحول؛ كالزكاة، فعلى هذا: لو كان موسراً أو متوسطاً في [أول الحول، ثم أعسر في آخره – لم يجب عليه من قسط ذلك الحول شيء. ولو انعكس الحال [فكان] فقيراً في ابتداء الحول، مكثراً أو متوسطاً في] انتهائه – وجب عليه قسط ذلك الحول. قال في "التتمة": وهذا بخلاف ما لو كان صبياً أو معتوهاً أو رققاً في أول الحول، ثم صار عند انتهائه بالغاً أو عاقلاً أو حرًّا – لا تؤخذ منه حصة تلك السنة. والفرق: أن الفقير مستجمع لصفات الكمال؛ فهو من أهل النصرة، وإنما اعتبر المال؛ للتمكن من الأداء؛ فاعتبر آخر الحولن وهؤلاء ليسوا من أهل الكمال. نعم، هل يلزمه قسط السنتين الباقيتين؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأن الواجب في الأحوال واحد؛ لان سببه واحد، إلا أنه مُنجَّم، فإذا لم يكن الشخص بصفة الكمال في الابتداء لم يدخل في التوزيع.

وحكى في "التهذيب" الوجهين في قسط السنة الأولى، وصحح المنع، وقاس مقابله على اليسار بعد الإعسار، وجزم بوجوبحصة الحول الثاني والثالث. واعلم أن الأصحاب اختلفوا فيما يضبط به اليسار، والتوسط هاهنا: فالذي أورده في "التهذيب" أن الاعتبار بالعادة، وأن ذلك يختلف بالبلدان والأزمان، ورأى الإمام: الأقرب اعتبار ذلك بالزكاة؛ كما اعتبر قدر الواجب بالزكاة، فقال: إن كان يملك عشرين ديناراً في آخر الحول فهو غني، لكن يفارق ما تجب فيه الزكاة من وجهين: أحدهما: أنه لا يشترط أن يملك النقد، أو شيئاً من الأموال الزكاتية، بل إذا ملك ما يساوي هذا القدر من سائر الأموال، كان كما لو ملك هذه الأموال. والثاني: يشترط أن يكون ما يملكه فاضلاً عن مسكنه وثيابه وسائر ما لا يكلف في الكفارة بيعه وصرفه إلى ثمن الرقبة، وهذا لا يشترط في الزكاة. والمتوسط هو الذي يملك [أقل من] ذلك، لكنه يفضل عن حاجته، ويشترط أن يكون فوق القدر المأخوذ وهو ربع دينار؛ كي لا يرده أخذه منه إلى حد الفقر. قال: فإن قسط عليهم، فبقي شيء، أخذ من بيت المال؛ لانه منزل على الميراث، وهذه رتبة المال في الميراث، فلو لم يكن في بيت المال شيء، فهل يجب على الجاني؟ فيه الخلاف السابق. قال: وإن زاد عددهم على قدر الثلث، يعني: إذا كان في درجة واحدة أشخاص، بحيث إذا قسم الواجب في تلك السنة عليهم خص الغني دون النصف دينار، والمتوسط دون الربع دينار – ففيه قولان: أحدهما: يقسط عليهم، وينقص كل واحد عن النصف والربع؛ لأنه حق يُستحق بالتعصيب، فقسم قليله وكثره بين الجميع كالميراث، ولأنهم استووا في الدرجة والتعصيب؛ فوجب أن يستووا في الحمل؛ قياساً على ما إذا كان العقل وفقهم لا يزيد عليهم، وهذا هو الأصح والمختار في "المرشد". والثاني: يقسط الإمام على من يرى منهم؛ لأن في تقسيط القليل على الجميع مشقة.

قال الماوردي: والأولى أن نفضها على من كان أسرع إجابة إليها. وفي "الجيلي": أن خيرة التعيين هل تثبت للمجني عليه؟ فيه وجهان. قال: ومن مات من العاقلة قبل محل النجم، سقط ما عليه –أي: من قسط ذلك النجم – كما لا تجب الزكاة عليه قبل الحول، وهذا بخلاف ما لو مات الذمي [في أثناء] الحول؛ فإنا نأخذ منه جزية ما مضى على طريقة تأتي، لأن الجزية بدل السكن، كالأجرة، أما قسط النجم الذي قبله، فلا يسقط بموته إذا كان موسراً في آخره؛ لأنه حق استقر في حال الحياة؛ فوجب ألا يسقط بالموت كالزكاة. قال الإمام: وهذا يخرج منه أنا لا نحكم بأن الدية تجب مؤجلة على العاقلة، بل نقضي بأن ابتداء وجوبها في آخر السنة، وهذا فيه تعقيد؛ فإن الدية إن كانت واجبة فلتجب على العاقلة، ولتكن مؤجلة عليهم، فإن لم تكن واجبة فهذا يبعد عن قياس الصول؛ فإن موجب الدية القتل، وقد وقع؛ فكان الأصل لوجوب الدية على العاقلة، وهذا أصل بدع لا نظير له. والأوجه أن يقول: وجبت الدية بالقتل وهي متأصلة، ولكنا لا نضيف وجوبها إلى العاقلة، فإن كانوا فقراء تبينّا أن وجوبها لم يتعلق بهم، ولكنَّ متعلقةٌ ببيت المال. والدليل عليه: أنا لا نبتدئ بضرب مدة في حق بيت المال عند افتقار العاقلة في الجزء الأخير، وكذلك إذا لم يكن في بيت المال شيء – لا يبتدئ [الأجل

للأخذ] من القاتل على أحد القولين، والله أعلم. فرع – نختم به الباب -: إذا أقر الجاني بجناية الخطأ أو شبه العمد، فإن صدقه العاقلة فعليهم، فإن لم يكن له عاقلة، وصدقه الإمام – فهي في بيت المال، كما حكاه البغوي عن شيخه. وإن كذبه العاقلة والإمام في أصل القتل، لم يقبل إقراره عليهم، ولا على بيت المالن ولكن تحلف العاقلة على نفي العلم، فإذا حلفوا، كانت الدية على المقر؛ لأنه لا سبيل إلى التعطيلن وقد تعذر التحمل، ويروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ تَحْمِلُ العَاقِلَةُ عَمْداً وَلاَ اعْتِرَافاً". قال الإمام: ولم يخرج الأصحاب الوجوب على المقر، على الخلاف [في] أنه يلاقي الجاني ابتداء وتتحمله العاقلة، [أو يلاقيها] ابتداء؟ ولا يبعد عن القياس أن يقال: إذا لم يلاقِ الوجوب الجاني لا يلزمه شيء؛ لأنه إنما أقر عليهم، لا على نفسه، لأن الخطأ يلزم [عليهم الدية]، فإذا لم يقبل عليهم، وجب ألا يقبل الوجوب، ولست أحمل ترك الأصحاب لهذا إلا على ظهوره عندهمن وطلبهم أن يفرعوا على القول الآخر، وهذا ما حكاه البغوي وغيره عن المزني، والمذهب المنقول الأول. ثم أيده الإمام باتفاق الأصحاب على وجوب [الدية] على الذمي إذا لم يكن له عاقلة. أما إذا اعترفت العاقلة بالقتل، وأنكرت كونه خطأ، وادعى هو ذلك – فيظهر أن يقال: إن القول قوله؛ لأنه أعرف بقصده إذا لم يكذبه الظاهر. لكن قضية ما حكيناه عن الماوردي في باب ما تجب به الدية من الجنايات، [عند] الكلام فيما إذا رمى عشرة أنفس [حجراً] بالمنجنيق – يقتضي خلافه، فتأمل ذلك. ثم الدية تتأجل على المقر بالجناية الخطأ أو عمد خطأ، كما تتأجل على العاقلة في ثلاث سنين، وهل يحل عليه الأجل إذا مات؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا، لأن الأجل يلازم دية الخطأ شرعاً، فلم يحل عليه بموته، كما لا يحل على العاقلة بموتها، [وهذا ما ادعى القاضي الحسين في أوائل باب الشهاة بالجناية: أنه المذهب. وفرق بين ذلك، وبين الدين عليه حيث يحل بموته: بأن الأجل إنما يثبت باستمهاله لأجل التمهل، وبالموت خرج من أن يتمهل؛ فحل. وأما الأجل في باب الدية فثبت بأصل الشرع؛ فلا يحل بموته؛ كما لا يحل على عاقلته]. وأصحهما في "التهذيب"، وبه جزم البندنيجي، والقاضي أبو الطيب في كتاب حكم المرتد -: الحلول. قال في "التهذيب": لأن ذلك بعد موته يتعلق بالتركة، ولا أجل في الأعيان، بخلاف العاقلة؛ لأن الوجوب عليها من طريق المواساة؛ فسقط بموته قبل الأجل الوجوب على الجاني؛ نظراً للمستحق حتى لا يضيع حقه، فإذا مات من عليه، أخذ من تركته. وما ذكره البغوي من علة الوجه الثاني يؤيد قول من قال: إن دية الخطأ تتعلق برقبة العبد حالَّة، وهذا ما تقدم مني الوعد به. ولو مات الجاني – والحالة هذه – معسراً ففي "التهذيب": أنه يحتمل أن تؤخذ الدية من بيت المال كمن لا عاقلة له، ويحتمل ألا تؤخذ كما لو كان معسراً في حال الحياة. ولو غرم، ثم اعترفت العاقلة – فإن قلنا: الوجوب يلاقي الجاني، فلا يرد الولي ما أخذ، ويرجع الجاني على العاقلة. وإن قلنا: يلاقي العاقلة ابتداء، فتغريم الجاني كتغريم الغاصب البدل، عند إباق العبد من يده، فيرد إلى الجاني ما أخذ منه؛ كما يرد للغاصب ما بذله عند عود العبد، ويبتدئ الولي مطالبة العاقلة. واعلم أن دعوى قتل الخطأ وشبه العمد، مسموعة على العاقلة، وكذا على الجاني ابتداء، حتى قال في "التهذيب": إذا ادعى عله، فنكل وحلف المدعي عليه- فإن جعلنا اليمين المردودة كإقرار المدعي عليه، وجبت الدية على المدعي عليه إن كذبت العاقلة المدعي. وإن قلنا: إنها كالبينة، فالدية على العاقلة، وقيل: إنها على المدعي عليه؛ لأنها إن جعلت كالبينة فذاك في حق المتداعيين دون غيرهما، والله أعلم.

باب كفارة القتل

باب كفارة القتل الكفارة مأخوذة من التكفير، وهو: الستر؛ فكأنها تغطي الذنب وتستره، وقد قدمت ذلك في باب كفارة اليمين. والأصل في وجوبها بالقتل على الجملة قبل الإجماع قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الآية [النساء: 92]. والاستثناء هاهنا منقطع عند بعضهم؛ فيكون بمعنى: لكن، وعند بعضهم [تكون "إلا"]، بمعنى: ولا؛ فيكون كأنه تعالى قال: [{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً}: أن يقتل مؤمناً ولا خطأ؛ مثل قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150]. قال البندنيجي: وهذا تأويل أبي عبيدة، وعند بعضهم: أن في الآية ضميراً محذوفاً، وتقديره]: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً، ومن قتل مؤمناً فهو آثم، إلاَّ أن يكون خطأ؛ فإنه لا يأثم. وحذف ذلك؛ لأن في الآية ما يدل عليه. قال القاضي أبو الطيب: وهذا هو الصحيح. ومعنى قوله تعالى: {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} أي: في قوم، كما قاله الشافعي - رضي الله عنه - وقد روي ذلك عن ابن عباس، رضي الله عنهما. وما روى وائلة بن الأسقع قال: أتينا رسول الله صل الله عليه وسلم في صاحب لنا أوجب النار بالقتل. وروى: استوجب النار بالقتل - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَعْتِقُوا عَنْهُ". وفي رواية:

"فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً يُعْتِقِ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ". قال: إذا قتل، أي: من هو من أهل الضمان، مكلفاً كان أو غير مكلف، من يحرم قتله لحق الله – عز وجل – أي: حرًّا كان أو عبداً، مسلماً كان أو ذميًّا أو معاهداً. قال: عمداً [كان] أو خطأ، أو فعل به شيئاً فمات به، أو ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً [ميتاً]، أي: وما في معناه- وجبت عليه الكفارة: أما في الخطأ، للآية والإجماع. وأما في العمد؛ فللحديث السابق؛ فإن القاتل لا يستوجب النار إلا في قتل العمد. وقد روي أن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه – قال: يا رسول الله، إني وأدت في الجاهلية؟ فقال: "أعتق عن كل موءودة رقبة". وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تحفر تحت الحامل إذا ضربها الطلق حفرةً تسقط فيها ولدها إذا وضعته: فإن كان ذكراً أخرجوه وإن كان أنثى طموا عليه التراب حتى يموت، وهذا قتل عمد وقد أمر فيه بالكفارة، وظاهر الأمر الوجوب، ولأنه قتل آدمي محقون الدم لحرمته، فوجب أن تجب به الكفارة كما إذا كان القتل خطأ. وقولنا: "محقون الدم"، يحترز به عن الزاني المحصن والمرتد. وقولنا: "لحرمته"، يحترز به عن نساء أهل الشرك وذراريهم قبل ملكهم، كما احترز الشيخ عنهم بقوله:"لحق الله تعالى"؛ فإن قتلهم محرم لا لحرمتهم، بل لصيانة حق المسلمين في تملكهم، وقتل المرتد والزاني المحصن إذا قتلهما غير الإمام، [وقتل نساء أهل الذمة وذراريهم] – وإن كان حراماً – فليس لحق الله – تعالى – وإنما لما فيه من الافتيات على الإمام [وتفويت

مال على المسلمين]. قال الشافعي – رضي الله عنه-: ولأنه قتل تتعلق به الكفارة [إذا أخطأ؛ فوجب أن يتعلق به وجوب الكفارة] إذا كان عمداً، أصله: قتل الصيد. وإذا ثبت وجوبها في قتل العمد، [وفي] الخطأ – ثبت في قتل [عمد] الخطا من طريق الأولى؛ ولهذا الأولوية لم يذكره الشيخ. وأما إذا فعل به شيئاً [مات [به]، كما إذا شهد عليه بالزور، أو أكرهه على قتله، أو حفر بئراً فتردى فيها] فمات، أو رش الطريق، أو طرح فيه حجراً، أو قشر بطيخ، أو باقلاء، ونحو ذلك، فمات به – فلعموم الآية والخبر؛ فإنه ليس فيهما تفرقة بين القاتل بسبب وبغيرسبب، ولأنه حق مال يتعلق [بقتل المباشرة]، فتعلق بقتل السبب، أصله الدية، بل أولى؛ لأن الكفارة تجب في موضع لا تجب فيه الدية. وأما في الجنين؛ فلما روي أن عمر – رضي الله عنه – قضى فيه بالدية والكفارة، ولا مخالف له من الصحابة فكان إجماعاً. وقد قال ابن المنذر: ولا أعرف فيه خلافاً بين أهل العلم. والمعنى فيه: أنه آدمي مضمون بالجناية، فوجب أن يكون مضموناً بالكفارة؛ كما لو وضعته حيًّا ثم مات. ولا فرق في وجوب الكفارة على القاتل بين أن يستوفي منه القصاص، أَوْ لا ويعفي عنه. نعم إذا استوفى، حكى الماوردي عن رواية أبي إسحاق وابن ابي هريرة وجهاً: أنها تسقط؛ لأنه قد سلَّم نفسه ووفى الحق الذي وجب عليه. وقد روي أنه عليه السلام قال: "الْقَتْلُ كَفَّارَةٌ"، وقد حكاه الإمام عن رواية صاحب "التقريب" وقال: إنه غير معتد به.

والصحيح أن الكفارة تبقى على وجوبها؛ لأنها حق الله - تعالى- فلا تسقط بتأدية حق الآدمي، كما لا تسقط بأداء الدية، هذا هو المشهور. وفي "تعليق" البندنيجي: أن المسلم إذا قتل مسلماً تترس المشركون به، ولم يكن من قتالهم بد - طريقة مجرية لقولين في وجوب الكفارة. وحكى المراوزة وجهاً: أن الإنسان إذا قتل نفسه لا تجب عليه الكفارة، وادعى القاضي الحسين قبيل [باب عقل] الموالي: أنه الظاهر؛ لأنها [تجب] عقيب إزهاق الروح، وهو في تلك الحالة خرج عن أن يجب عليه شيء، وقضية ذلك: انه إذا حفر بئراً في حال حياته، فوقع فيها شخص بعد وفاته - أن يكون الظاهر امتناع وجوب الكفارة، وقد قال في الموضع المذكور: إن في وجوبها وجهين، والظاهر منهما الوجوب في تركته. والأصح عند الإمام: الوجوب في الحالين كما جزم به العراقيون. وفي"ابن يونس" [حكاية] وجه عن الخراسانيين: أن الكفارة لا تجب عليه بقتل عبده، ولم أره فيما وقفت عليه، [نعم قدمت في باب الأطعمة مباحثة تتعلق بذلك، فلتطلب منه]. قال: وإن اشترك جماعة في قتل واحد، وجب على كل واحد منهم كفارة؛ لأنه حق يتعلق بالقتل لا يتبعض، بدليل امتناع قستمها على الأطراف؛ فوجب أن تكمل في حق كل واحد من القاتلين، أصله القصاص، ولأن في الكفارة معنى العبادة، والعبادة الواحدة لا تتوزع على الجماعة. وقيل فيه قول آخر: أنه تجب عليهم كفارة واحدة؛ لأنها مال يجب بالقتل، فوجب ألا يكمل في حق كل واحد من القائلين، أصله [الدية، و] الكفارة في قتل الصيد. قال أبو الطيب وابن الصباغ: وهذا ما حكاه أبو علي الطبري عن نص الشافعي - رضي الله عنه - في كتاب الشاهد واليمين، وهو مذهب أبي ثور، وقال البندنيجي: إنه حكاه عن نص الشافعي - رضي الله عنه - في

الديات. وقال الماوردي: إن هذا غلط، ولا يعرف للشافعي –رضي الله عنه- في شيء من ما كتبه، ولا نقله عنه أحد من أصحابه، ومنصوصه في جميع كتبه بخلافه. والفرق بين الكفارة وجزاء الصيد والدية – ما أشرنا إليه -: أن الكفارة لا تتبعض على الأعضاء، بخلاف الدية وجزءا الصيد، وأيضاً فإن الدية بدل النفس. وهي واحدة؛ فلم يلزم فيها إلا دية واحدة، والكفارة لتكفير القتل، وكل واحد منهم قاتل فلزم كلا منهم كفارة. تنبيه: قول الشيخ: "إذا قتل من يحرم قتله وجبت عليه الكفارة"، دليل ظاهر على أن سبب وجوبها القتل، وهو خروج الروح، وأن الوجوب يكون على الفور، وحكى الرافعي في آخر كتاب الوصية عن المتولي: أنها ليست على الفور، لكن هل [يجوز] تعجيلها [قبل وجوبها؟ ينظر إن عجلها على الجرح لم يجز، وإن عجلها] بعد الجرح وقبل الموت فوجهان، أصحهما – كما حكاه المحاملي في كتاب الأيمان -: أنه يجوز. وحكى الرافعي ثم عن أبي الطيب بن سلمة احتمالاً في جواز التعجيل قبل الجرح. قال: والكفارة: عتق رقبة مؤمنة، أي: على من وجدها فاضلة عن كفايته على الدوام، كما قاله الماوردي والبندنيجي. قال: فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين؛ للآية، فإن لم يستطع ففيه قولان: أحدهما: يطعم ستين مسكيناً، كل مسكين مدًّا من طعام؛ لأنها كفارة ينتقل فيها من العتق إلى الصيام؛ فوجب أن ينتقل من الصوم إلى الإطعام ككفارة الظهار، [ولأن الله – تعالى – نص على الإطعام في كفارة الظهار]، [[وأطلق ذكره في كفارة القتل، فوجب أن يحمل مطلقه في كفارة القتل على تقييده في كفارة الظهار]؛ لأن المطلق محمول على المقيد في جنسه. وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب عن القديم، وقال الإمام: إنه غير معتد به. والثاني: لا يطعم، أي: بل تكون باقية في ذمته كما قاله الماوردي هنا؛ لأن الأبدال في الكفارات موقوفة على النص دون القياس، ولا يجوز حمل مطلقها

على المقيد إلا في الأوصاف دون الأصل؛ كما حمل إطلاق "اليد" في التيمم على تقييدها بـ"المرافق" في الوضوء، ولم يحمل إغفال ذكر الرأس والرجلين في التيمم على ما قيد من ذكرهما في الوضوء. وهذا هو الأصح، وقال القاضي أبو الطيب: إنه الجديد. فعلى هذا: لو مات قبل التكفير، قال الغزالي وإمامه: يخرج من تركته لكل يوم مد، لا بطريق البدليةن بل كما تخرج الفدية إذا فات صوم رمضان. وأجرى الإمام ذلك فيما إذا انتهى الجاني في الهرم إلى حدِّ يجوز له الإطعام عن الصيام. وقد حكى ابن الصباغ وغيره في كتاب الصيام قولاً: أن القاتل إذا عجز عن أداء ما وجب عليه سقط عنه الوجوب، كما حكاه الشيخ في كفارة الصوم إذا عجز عنها المباشر، وقال ابن الصباغ: إنه مطرد في كفارة اليمين والظهار. [وحكى الإمام عن صاحب "التلخيص" أنه استثنى كفارة الظهار]، وقال: لا يستحل المظاهر الإقدام على الوطء ما لم يكفر. فعلى هذا: لا يطعم عنه إذا مات ولم يكفر. ولا فرق فيما ذكرناه من الترتيب بين الكافر والمسلم؛ فيجب على الكافر العتق، ويتصور إجزاؤه منه بأن سلم في ملكه عبد، أو يشتري عبداً مسلماً – إذا صححنا شراء الكافر العبد المسلم -] أو يقول المسلم: أعتق عبدك المسلم عن كفارتي؛ فإنه يصح على الأصح. فإن لم يوجد شيء من ذلك قال القاضي الحسين: فلا يجوز له التكفير بالصوم؛ لأنه ليس من أهل الصيام شرعاً، ولا يجوز له الانتقال إلى الإطعام –أيضاً – إن أوجبناه، إلاّ إذا مرض وعجز عن الصوم بنفسه، فحينئذ يجوز له التكفير بالإطعام. وأحال الرافعي الكلام في ذلك على كتاب الظهار، وقد ذكرت أنا فيه ما فيه الكفاية وكذلك في كفارة اليمين. وكذا لا فرق في الترتيب المذكور بين المكلف، والصبي والمجنون؛ فيجب على وليهما التكفير عنهما بالعتق من مالهما، كما يخرج الزكاة والفطرة منه، قاله القاضي الحسين في كتاب الوصية، وكذا [البندنيجي في كتاب الأيمان، [قاله]] الرافعي هاهنا، وقال حكاية عن البغوي: إن الولي لو أعتق [من مال

نفسه عنهما، فإن كان أباً او جدًّا جاز، وإن كان وصيًّا أو قيماً لم يجز، حتى يقبل القاضي التمليك، ثم يعتق عنهما القيم. وقال في كتاب الصداق: لو وجب على صبي كفارة القتل لا يجوز لوليّه أن يعتق عنه من ماله، ولو تبرع الولي وأعتق عنه من مال نفسه لم يجز؛ لأنه لو صح لضمن دخوله في ملك الابن ثم يعتق عليه، وذلك لا يجوز. وعلى هذا: فيظهر الفرق بينه وبين الزكاة والفطرة: أن إخراجهما على الفور، وهذا التكفير ليس على الفور؛ فلا ضرورة في التعجيل، ولو صام الصبي في حال صباه فهل يعتد به؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين وغيره من المراوزة؛ بناء على ما لو قضى الصبي الحج الذي أفسده في صغره وقلنا بوجوب القضاء عليه: هل يعتد به؟ وفيه وجهان أو قولان. قال الرافعي: وإذا جعلنا الإطعام في هذه الكفارة مدخلاً، فيطعم الوي إن كان الصبي من أهل الإطعام، وينبغي أن يقال: إذا اعتددنا بصوم الصبي مع الصغر فلا يجوز العدول إلى الإطعام، أي: إذا كان قادراً عليه، وإلا فيجوز كما في المجنون، ولو أراد الولي أن يطعم عنه من مال نفسه، فهو كما لو أراد أن يعتق عنه إذا جوّزناه، وقد ذكرنا التفصيل فيه، [والله أعلم].

باب قتال أهل البغي

باب قتال أهل البغي الباغي في اصطلاح الفقهاء: المخالف للإمام العادل، الخارج عن طاعته بالامتناع عن أداء ما وجب عليه بالشرائط التي سنذكرها. ولم سمِّي باغياً؟ قيل: لمجاوزته الحد الرسوم له؛ فالبغي: مجاوزة الحد؛ يقال: بغى الجرح: إذا ترامى إلى الفساد، وبغت المرأة: إذا فجرت. وقيل: لطلبه الاستعلاء على الإمام؛ من قولهم: بغى الشيء، إذا طلبه. وقيل: لأنه ظالم بذلك، والبغي: الظلم والتعدي بالقوة إلى طلب ما ليس بمستحق؛ قال الله تعالى: {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [الحج: 60] أي: ظلم، وهذا يقتضي أن يكون البغاة فسقة؛ لظلمهم. وقد أطلق الأصحاب القول بأن البغي ليس باسم ذم، وإنما عبَّرَ به الشافعي - رضي الله عنه - عن قوم اجتهدوا فأخطئوا، وما فسقوا عنده، كما أنهم ليسوا بكفرة كما دَلَّ عليه الكتاب العزيز، لكنهم مخطئون فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل. ومنهم من يسميهم: عصاة، ولا يسميهم: فسقة. ومنهم من قسم البغي إلى ما هو فسق، وإلى ما ليس بفسق، وسنذكره - إن شاء الله تعالى في كتاب القضاء. وعلى الأول: فالتشديدات الواردة في الخروج عن طاعة افمام ومخالفته، كما روى [عن] عبادة بن الصامت قال: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَلا تُنَازِعَ الأَمْرَ اَهْلَهُ"، وما روى أبو داود: أنه صلى الله عيه وسلم قال:

"مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيدَ شِبْرٍ؛ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ عَنْ عُنُقِهِ". ومعنى: قيد شبر، أي: قدر شبر؛ يقال: قِيدُ الشيء، وقَادُ الشيء، وقَدُّ الشيء، [أي]: قَدْره. والرِّبْقُة: هي الحبل الذي يجعل في عنق الناقة وقت الحلب، حكاه أب الطيب. وقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ". -محمولة على من يخرج من الطاعة ويخالف الإمام بلا عذر ولا تأويل. قال: إذا خرج على الإمام، أي: العادل أو الجائر، كما ذكره العمراني عن القفال، طائفة من المسلمين، ورامت خلعه، أي: طلبت عزله؛ بتأويل في كتاب الله – تعالى – أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قاله المتولي. قال: أو منعت الزكاة، أي: عن الإمام، عند طلبها [بتأويل] كما ذكرناه، أو حقًّا توجه عليها، أي: بتأويل كما ذكرناه، وامتنعوا بالحرب – بعث إليهم، وسألهم: ما ينقمون؟ أي: يكرهون، فإن ذكروا شبهة أزالها، وإن ذكروا علة يمكن إزاحتها – أي: إبعادها – أزاحها، وذلك مثل أن يطلبوا قاتلاً معيناً؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}، فأمر بالإصلاح أولاً، وفي ذلك سعي في الإصلاح، وما روي أن عليًّا – كرم الله وجهه – بعث عبد الله بن عباس- رضي الله عنهم – إلى أهل "النهروان"، فمضى إليهم وقال: هذا

علي بن أبي طالب، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة، وقد عرفتم فضله، فما تنقمون منه؟ قالوا: ننقم ثلاثاً: تحكيم في الدين وقد أغنى كتاب الله وسنة رسوله عن التحكيم، وأنه قتلوما سبي، فإما أن قتل ويسبي، أو لا يقتل ولا يسبي، ومحي اسمه من الخلافة: فإن كان على حق فلم خلع؟ وإن كان على غير حقٍّ فلم دخل؟! فقال ابن عباس – رضي الله عنهما – أما التحكيم فإن الله تعالى حكَّم في الدين فقال: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، وقال عز من قائل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] في أرنب قيمته درهم. وأما أنه قتل وما سبي، فلو حصلت عائشة- رضي الله عنها – في قسم أحدكم كيف يصنع؟ وقد قال تعالى: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} [الأحزاب: 53]؛ فقالوا: رجعنا عن هذه. وأما محوه اسمه من الخلافة حين كتب كتاب التحكيم بينه وبين معاوية، فقد محا النبي صلى الله عليه وسلم اسمه من النبوة في المفاضلة بينه وبين قريش عليُّ بن أبي طالب – رضي الله عنه- فكتب: هذا ما قاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لا تكتب: "رسول الله"؛ لو علمنا أنك رسول ما خالفناك، واكتب: "محمد بن عبد الله"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم [لعليٍّ]: "امحه"، فقال: لا أستطيع أن أمحو اسمك من النبوة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرنيه"، فأراه فمحاه بإصبعه. فلما قال لهم ذلك رجع بعضهم، وأقام بعض على المخالفة، [وهم] نحو من أربعة آلاف. ثم المبعوث ينبغي أن يكون أميناً فطناً ناصحاً كما فعل عليٍّ، كرم الله وجهه! ثم ظاهر كلام الشيخ – رضي الله عنه – يقتضي أن [يكون] هذا البعث

واجباً، وهو قضية كلام الماوردي، وكذا ابن الصباغ؛ حيث قال: لم يكن للإمام أن يقاتلهم حتى يبعث إليهم ويسألهم عن شبهتهم. وقال البندنيجي: لم يجز قتالهم حتى تقع المراسلة. وقال الإمام: لا يحل [له] أن يبغتهم بالقتال. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن افمام لو أراد قتالهم قبل تقديم المناظرة، قال بعض أصحابنا: يحتمل وجهين؛ بناء على استتابة المرتد: إن قلنا: لا تجب الاستتابة، فله ذلك؛ لأنهما سواء في أن الشبهة اعترضت على كل واحد منهما. وأصح الوجهين: أنه يناظرهم؛ لأنهم ليسوا أسوأ حالاً من المشركين، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وجه سريَّةً يأمرهم أولاً بأن يدعوهم إلى كلمة الشهادة. قال: فإن أبَوْا، أي: إما عن العود إلى الطاعة بعد إزالة ما ادعوه من الشبهة، أو عن المناظرة على ما امتنعوا لأجله، كما قال البندنيجي وغيره. قال: وعظهم وخوفهم بالقتال؛ لأن ذلك أقرب إلى تحصل المقصود، فإن أبوا قاتلهم، أي: إذا علم الإمام أن في عَسْكره قدرةً عليهم، ويكون القصد بالقتال دفعهم عما هم عليه – كما قاله البندنيجي- دون قتلهم. ووجهه فيمن أراد خلع الإمام قولُهُ تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أي: ترجع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قاله قتادة؛ فإذا أمر بقتال طائفة بغت على طائفة أخرى حتى تفيء إلى أمر الله، [فلأَنْ يقاتل الذين بغوا على الإمام إلى أن يفيئوا إلى أمر الله] أولى. وأيضاً: فإن عليًّا – كرّم الله وجهه – لما ردَّ عليه ابن عباس – رضي الله عنهم – خبر من بقي من أهل النهروان قال لأصحابه: سيروا على اسم الله تعالى؛ فلن ينقلب منهم عشرة، ولن يتقل [منّا] عشرة. فساروا معه إليهم، فقتلهم، وأفلت منهم ثمانية، وقتل من أصحاب علي – رضي الله عنه – تسعة.

وقاتل علي – رضي الله عنه – أيضاً أهل "البصرة" يوم الجمل، ومعاوية بـ"صفين". ووجهه في مانعي الزكاة والحقوق: ما روي أن أبا بكر [الصديق] –رضي الله عنه – لما منعه أهل الردة الزكاةَ، وتمسكوا من قوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:103] بأمرين: أحدهما: أن الله تعالى خاطب بالأخذ نبيَّه صلى الله عليه وسلم دون غيره. والثاني: أن صلاة ابن أبي قحافة ليست سكناً لهم كصلاته صلى الله عليه وسلم. ظهر له فساد قولهم، وأزمع على قتالهم؛ فأشار عليه جماعة بالكف عنهم، منهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف؛ فقال أبو بكر – [رضي الله عنه -: يا أصحاب محمد، لا فرقت بين ما جمع الله – يعني قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] – والله، لو منعوني عناقاً – أو عقالاً – مما أعطو رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليه، فقال له عمر – رضي الله عنه -: علامَ تقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَاتِلُوا النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَإِذَا قَالُوها عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ"؟! فوكز أبو بكر في صدر عمر – رضي الله عنهما – وقال: إليك عني، شديداً في الجاهلية، خوّاراً في الإسلام؟! وهل هذا إلا من حقها؟! قال عمر – رضي الله عنه -: فشرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر، رضي الله عنه. فحينئذ أجمعوا معه على قتالهم مع مُقامهم على الإسلامز ولأنهم لما قوتلوا لامتناعهم من حق الإمام في الطاعة، كان قتالهام على امتناعهم من حق الله تعالى في الزكاة أولى، وقد حُكي عن الشافعي – رضي الله عنه – أنه قال: أخذ المسلمون السيرة في قتال المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا السيرة من قتال المرتدين من أبي بكر – رضي الله عنه –وأخذوا السيرة في قتال البغاة من علي، رضي الله عنه! ثم هذا القتال هل هو واجب أم مباح؟ قال الماوردي: هو منقسم ثلاثة أقسام:

قسم يكون واجباً، وهو يؤخذ من خمسة أمور: أحدها: أن يتعرضوا لحريم أهل العدل أو لإفساد سبيلهم. والثاني: أن يتعطل جهاد المشركين بهم. والثالث: أن يأخذوا من حقوق بيت المال ما ليس لهم. والرابع: أن يمتنعوا من دفع ما وجب عليهم. والخامس: أن يتظاهروا على خلع الإمام الذي قد انعقدت بيعته ولزمت طاعته. وقسم يكون مباحاً، وهو ما إذا انفردوا عن الجماعة، ولم يمنعوا حقاًّ، ولا تعدوا إلى ما ليس لهم؛ فيجوز للإمام قتالهم لتفريق الجماعة، ولا يجب؛ لتظاهرهم بالطاعة. وقسم مختلف فيه هل هو مباح أو واجب؟ وهو ما إذا امتنعوا – مع انفرادهم – من دفع زكوات أموالهم الظاهرة، وأقاموا بتفريقها في أهل السُّهْمان ففيهم قولان أحدهما – وهو قياس قول الشافعي، رضي الله عنه في القديم -: أن قتالهم عليها [واجب إذا قيل بوجوب دفعها إلى الإمام. والثاني – وهو قياس قوله في الجديد -: أن قتالهم عليها] مباح، وليس بواجب إذا قيل: إن دفعها إلى الإمام مستحب. فإذا عرفت ذلك علمت أن كلام الشيخ منطبق على القسم الأول والأخير؛ فيكون مراده: الوجوب، وهو ظاهر اللفظ، وهذا [ما] حكاه الماوردي بعد أن قال: إن إباحة قتال البغاة على بغيهم معتبرة بثلاثة شروط متفق عليها، ورابع مختلف فيه – وكذلك هي في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الشامل"، وفي كلام الشيخ – رضي الله عنه - إشارة إلى بعضها كما نُنِّبه عليه-: أحدها: أن يكونوا في منعة بكثرة عددهم؛ بحيث لا يمكن تفريق جمعهم إلا بقتالهم، فإن كانوا آحاداً لا يمتنعون استُوفيت منهم الحقوق، ولم يقاتلوا. وهذا يؤخذ من قول الشيخ: طائفة، ومن قوله: امتنعوا بالحرب؛ لأن من لا منعة فيه ولا قوة لا يمتنع بقتال. والثاني: أن يعتزلوا عن إمام أهل العدل بدار ينحازون إليها ويتميزون بها

كأهل الجمل وصفين، فإن كانوا على اختلاطهم بأهل العدل ولم ينفردوا عنهم لم يقاتلوا، ولا تجري عليهم أحكام [البغاة]؛ لانتفاء المعنى الذي لأجله نثبتها. قال الرافعي: وربما قال القائل بهذا: [و] ينبغي أن يكونوا بحيث لا يحيط بهم أجناد الإمام، بل يكونوا في طرف من الأطراف، وقد صرح الإمام بحكايته عن العراقيين، والمحققون لم يعتبروا هذا الشرط، وإنما اعتبروا استعصاءهم وخروجهم عن قبضة الإمام، حتى لو تمكنوا من [المقاومة مع] كونهم محوفين بجند الإمام – وجب الحكم بحصول الشوكة، وهذا ما اقتضاه كلام الشيخ؛ حيث لم يأت في كلامه بما يدل عليه. والثالث: أن يخالفوه بتأويل محتمل، كالذي تأوله أهل الجمل وصفين في المطالبة بدم عثمان بن عفان – رضي الله عنه-[حيث اعتقدوا أنه يعرف قَتَلَتَهُ، ويقدر عليهم ويمنعهم منهم لرضاه بقتله، ومواطأته إيَّاهم، وكذا كل تأويل بطلانه مظنون، فإن] لم يكن لهم تأويل، أجرى عليهم حكم الحرابة وقطاع الطريق. قال المتولي: وإنما اعتبرنا ذلك؛ لأن من خالف بغير تأويل كان معانداً، ومن تمسك بتأويل كان [طالب حق] على اعتقاده؛ فلا يكون معانداً؛ فنسب إلى نوع حرمة بسقوط الضمان وغيره كما سنذكره. وأبدى الإمام احتمالاً فيما إذا كان لمن لا تأويل لهم شوكة في نفوذ قضاء قضاتهم. وحكى الرافعي طريقة مجرية للقولين في ضمانهم ما يتلفونه في حال القتال كأهل البغي، وقال: إنها أظهر؛ لأن المعنى المعتمد عليه هناك موجود هنا. وكذا حكى الإمام أن هذه الطريقة يدل عليها ظاهر النص، هذا ما قيدنا به كلام الشيخ، وليس فيه ما يمكن أن يؤخذ منه إلا قوله: فإن ذكروا شبهة

أزالها، مع قوله: بعث إليهم، وسألهم: ما تنقمون. ولو كان بطلان التأويل مقطوعاً به ففيه وجهان: قال الرافعي: أوفقهما لما أطلقه الأكثرون: انه لا يعتبر كتأويل أهل الردة وشبهتهم الآن. والثاني: يعتبر، ويكفي تغليطهم فيه، وقد يغلط في القطعيات غالطون. قال الرافعي: وعلى الوجهين يخرج أن معاوية ومن تابعه مخطئون فيما اعتقده قطعاً أو ظنًّا؛ لأنهم باغون عند الأئمة بلا شك، وعليه يدل الخبر المشهور: "أَنَّ عَمَّاراً تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغيَةُ"، فإن شرطنا في البغي أن يكون بطلان التأويل مظنوناً فنقول: كان مبطلاً فيما ذهب إليه ظنًّا، وإن لم نشترطه وأثبتنا اسم البغي وحكمه، مع القطع ببطلان التأويل – فنقول: كان معاوية مبطلاً قطعاً. وهذا الكلام لم يظهر لي توجيهه.

والرابع المختلف فيه: فهو نصب إمام لهم يجتمعون على طاعته، وينقادون لأمره، وفيه وجهان في "الحاوي"، وقولان كما حكاهما القاضي أبو الطيّب: أحدهما – وهو قول طائفة -: أنه شرط يستحق به قتالهم؛ ليستقر به تميزهم ومباينتهم، وهذا ما نسبه الرافعي إلى الجديد. وقال الإمام: إن معظم الأئمة في الطرق اعتبروه، وبه جزم الفوراني والقاضي الحسين في "تعليقه" والماوردي في "الأحكام"، ومال إليه البغوي والمتولي. والثاني –وهو قول الأكثرين من أصحاب الشافعي، كما قال المارودي، وهو الذي صححه ابن الصباغ والإمام -: أنه ليس بشرط في قتالهم؛ لأن عليًّا – رضي الله عنه – قاتل أهل الجمل ولم يكن لهم إمام، وأهل صفين قبل أن ينصبوا إماماً لهم. قال الإمام: وعلى هذا فلابد وأن يكون لهم متبوع وإن لم يكن إماماً؛ لأن الشوكة لا تحصل إذا لم يكن لهم متبوع مطاع؛ فإن رجال النجدة – وإن كثروا –فلا قوة لهم ولا شوكة إذا لم يصدروا عن رأي. وفي "الرافعي": أن في "منهاج" الشيخ أبي محمد اعتبار امرين آخرين في أهل البغي: أحدهما: أن يمتنعوا من حكم الإمام. والثاني: أن يظهروا لأنفسهم حكماً. وعلى هذا: لا نسلم ما ذكره الماوردي في التقسيم من منازعة في إباحة القتال في القسم الثاني والثالث، مأخذها: ما سنذكره في الخوارج، إن شاء الله تعالى. فرع: إذا تقوى قوم قليل بحصن منيع، فهل يلتحقون بمن تقوى بالعَدَد والعُدَد حتى تثبت لهم أحكام البغاة؟ فيه وجهان حكاهما الإمام، وراى الأولى أن يُفَصَّل فيقال: إن كان الحصن على فوهة الطريق، وكانوا يستولون بسببه لى ناحية وراء الحصن – فالشوكة حاصلة، وحكم اهل البغي ثابت؛ كي لا يتضرر أهل الناحية

بتعطيل الأقضية والأحكام، وإلا فليسوا بأهل بغين ولا يبالي بما يقع من التعطيل في العدد القليل. ثم قال: ولا خلاف أنه لو تحزَّب [من] رجال القبائل المرموقين عددٌ يسير، وكانوا يقوون بما تفضل القوى على مصادمة الجموع الكثيرة - فهم على عدة تامة. قال الرافعي: ويحتمل أن ينازع فيه منازع؛ لقلة عددهم، وتجعل قواهم كالمكان الحصين. قال: وإن استنظروا مدة - أي: معينة كاليوم والثلاث والشهر والشهرين، كما قاله الفوراني؛ ليُنظَروا - أنظرهم؛ لعل يتضح لهم الحق. قال: إلا أن يخاف أنهم يقصدون الاجتماع على حربه؛ فلا ينظرهم للأمن من ذلك، ويظهر له ذلك بالبحث عن حالهم. وهذا الذي ذكره الشيخ في هذا الكتاب هو ظاهر نص الشافعي - رضي الله عنه - في "المختصر" وما حكاه القاضيان أبو الطيب والحسين في تعليقهما وغيرهم. وفي "المهذب" قال: إن سألوا إنظار مدة قريبة كاليوم وإلى ثلاثة أيام، فيجابون إليه، وإن طلبوا أكثر من ذلك بحث عنهم الإمام. وذكر التفصيل المذكور وهذا ما حكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد، [وبه جزم البندنيجي]، وهو كذلك في "الحاوي"، وأشار في كلامه إلى الفرق بين الحالين: بأنه في الثلاثة الأيام إذا أنظرهم كان عسكره مقيماً عليهم، ويحترز في هذه المدة منهم؛ لأن قتالهم لا يدوم، واتصاله ليلا ًونهاراً لا يمكن، ولابد من استراحة عسكره ودوابه، فيجعلها إجابة لسؤالهم إعذاراً وإنذاراً. ثم قال - وكذلك البندنيجي [أيضاً]- فيما إذا سألوا الإنظار مدة طويلة [و] يظهر أن قصدهم بالإنظار ليجمعوا في مدته العساكر، أو ليطلبوا آلة المناكدة،

أو لينصرف عنهم العساكر -: إنا ننظر: فإن كان عسكر أهل العدل [يه قوة وصبر على قتالهم لم يُنظرهم، وإن وجد في عسكر أهل العدل] ضعفاً عنهم وعجزاً عن مطامولتهم، أنظرهم؛ ليلتمس القوة عليهم، إما بعساكر أو بأموال، ويجعل ظاهر الإنظار إجابة لسؤالهم؛ ليقيموا على الكفء الموادعة، وباطن إنظارهم لالتماس القوة عليهم، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأصحاب. وقال القاضي أبو الطيب: إن هذه الحالة إذا كانت موجودة قبل سؤالهم لا يبتدئ بقتالهم، ويؤخره ما أمكن إلى أن تحصل له قوة؛ فإنا لا نأمن الاستئصال. والذي استصوبه ابن الصباغ، وقال: إنه أولى – ما ذكره الشيخ في هذا الكتاب؛ لأنه يجوز أن يكون بإنظارهم يوماً يلحقهم مدد منهم؛ فيقووا. ولا يجوز أن يُنظرهم إلا إلى غاية اتفاقاً، وحيث لا يجوز الإنظار لا نجوزه بأحد البراهين؛ لأنه لا يجوز التعرض لها. قال: ويقاتلهم إلى أن يفيئوا إلى أمر الله تعالى؛ للآية. قال: ولا يتبع في الحرب مُدْبرهم، ولا يذفِّف على جريحهم؛ لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يَابْنَ أُمِّ عَبْدٍ، مَا حُكْمُ مَنْ بَغَى مِنْ أُمَّتِي؟ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: لاَ يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ، وَلاَ يُجَارُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، ولاَ يُقْتَلث اَسِيرُهُمْ"، وقال: "لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاثٍ ... " الحديث. ودخل الحسين بن علي –رضي الله عنهما – على مروان فقال له: ما رأيت أكرم من أبيكن ما عن ولينا ظهورنا يوم الجمل حتى نادى مناديه: ألا لا يُتبع مدبر، ولا يذفّف على جريح. وفي "تعليق" القاضي الحسين وغيره: أن الشافعي – رضي الله عنه –فسر الآية، فقال: الفيء: ترك القتال بالعود إلى الطاعة، أو بالهزيمة والإعراض عن

القتال، كما قال تعالى في الإيلاء: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]. يعني: رجع عن الإضرار إلى إيفاء حقها بالجماع. وعلى هذا يكون الدليل على منع قتال المنهزم الآية أيضاً، ومنها استدل الشافعي بوجه آخر؛ حيث قال: الله تعالى أمر بقتال أهل البغي، ولم يأمر بقتلهم، وإنما يقال: قاتلوا، لمن يقاتل، فأما من لا يقاتل لا يقال: قاتلوه، وإنما يقال: اقتلوه. وهذا إذا لم يكن في هزيمته متحيِّزاً إلى فئة، فإن كان فقد قال القاضي الحسين والإمام: إن كانت الفئة قريبة فيتبع، وإن كانت بعيدة منه لم يتبع، خلافاً لأبي حنيفة وأبي إسحاق المروزي حيث قالا باتباعه إذا انهزم إلى فئة مطلقاً، كما حكاه ابن الصباغ وغيره، وأنه يجوز قتله؛ لأن المتحرِّف والمتحيِّز بمنزلة المقاتل. وكذا حكى البندنيجي في "تعليقه" والعمراني في "الزوائد" عن أبي إسحاق؛ بناء على هذا الأصل: أنه لا يطلق الأسير الذي انهزم متحيزاً إلى فئة. وعلى الصحيح قال الجيلي: لو قتل المدبر أو ذُفِّف على الجريح؛ لم يجب على فاعل ذلك القصاص. تنبيه: التذفيف – بالذال المعجمة -: التجهيز وتتميم القتل وتعجيله، يقال: رجل

ذفيف، أي: [سريع]. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه موالاة الجرح، وإجهاز القتل. ويقال بالدال المهملة، والأول أكثر. قال: ويتجنب قتل ذي رحمه، أي: محرماً كان أو غير محرم، كما صرّح به الإمام اولقاضي الحسين وغيرهما؛ لأن ذلك يقطع صلة الرحم وهي مأمور بها؛ قال الله تعالى: "أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ بِيَدِي، وَشَقَقْتُ لَهَا اسْماً مِنِ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ"، كذا قاله القاضي الحسين. ويروي أنه – عليه السلام- كان يقول يوم دخل المدينة، وهو على بعير: "أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلاَمَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ". وقد استدل بعضهم على ذلك بقوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي} الآية [لقمان: 15]، فأمر بصحبتهما بمعروف في حال دعائهما إلى الشرك، ففي هذه الحالة أولى. وهذا فيه نظر؛ لأن الدعوى عامة في ذي الرحم، وما استدل به يختص ببعضهم، ولا يلزم من مَنْعِ قَتْل هذا البعض مَنْعُ قتل بقية ذوي الأرحام، كما سنذكره في قتال المشركين. وعلى كل حال: فلو خالف وقتل ذا رحمه فقد ارتكب مكروهاً، اللهم إلا أن يقصد المَحْرم قتله؛ فلا يكره، كما إذا قصد قتله في غير القتال.

قال: وإن أسر منهم رجلاً حبسه على أن تنقضي الحرب، أي: ويتفرق جمعهم؛ لينكف شره. ولا يجوز قتله؛ لما رويناه من خبر ابن مسعود – رضي الله عنه – ولأن سيرة علي – كرّم الله وجهه – فيهم كانت هكذا، وعليها عَمِلَ المسلمون من بعده، وهذا بخلاف أهل الحرب؛ لأن المقصود ثَمَّ: قتلهم بقتالهم، وهاهنا المقصود بقتالهم –كما ذكرنا -: دفعهم عمَّا هم عليه، وقد حصل بالحبس. قال الماوردي والمصنف: فلو قتل أسيراً منهم ضمنه القاتل بالدية، وفي ضمانه بالقود وجهان، وجه المنع: أن أبا حنيفة تخير قتله؛ فصار ذلك شبهة يدرأ بها القصاص، وهذا ما اختاره في "المرشد". قال: ثم يخليه؛ لحصول الأمن منه. قال: ويأخذ عليه العهد ألا يعود إلى قتاله، احتياطاً بحسب القدرة، وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه لا يطلقه إِلاَّ بعد مبايعته على الطاعة، [أي: قبل انقضاء الحرب]، وأن من أصحابنا من خص ما ذكرناه بما إذا أمنا بعد انقضاء الحرب رجوعهم إلى طاعة الإمام وذهاب شوكتهم، فأما ما دام يخاف شرهم فلا يلزمه إطلاقهم. والأول: هو المنصوص، فقال الإمام بعد حكاية الأول عن رواية العراقيين عن بعض الأصحاب: إن هذا [بعيد] لا أصل له. ثم محل حبسه إلى أن تنقضي الحرب مصوَّرٌ بما إذا لم يذعن للمبايعة حال أسره، أما إذا أذعن لذلك، وأظهر الطاعة عند الأسر، وقبل انقضاء الحرب – يجب أن يخلي إذا كان حرًّا. قال القاضي الحسين: والعبد يحبس إلى أن تنقضي الحرب؛ لأنه ليس من أهل المبايعة. وفي "تعليق" البندنيجي و"المهذب": إلحاقه بالنساء جزماً، وهو ما حكاه الرافعي عن [بعض] الأصحاب وإن كان يقاتل، وسيأتي حكم النساء. فرع: لا يجوز قتل من كف عن القتال من أهل البغي إذا كان واقفاً معهم في الصف؛ لأن القصد بقتاله الكف، وهو كافٌّ فصار كالأسير، وفي "الحاوي" وغيره وجه: أنه يجوز أن يعمد إلى قتله؛ لأنه رِدْءٌ لهم وعَوْن، فأجري عليه حكم مقاتليهم.

وقد روي أن شخصاً قتل محمد بن طلحة بن عبد الله، حين كان واقفاً مع أهل الجمل، فلم يأخذ على – رضي الله عنه – [قاتله] بدية، ولا زجره على قتله. قال: وإن أسر منهم صبيًّا أو امرأة، خلاه لى المنصوص؛ إذ ليس هو من أهل القتال والمبايعة عليه، [وهذا ما] اختاره في "المرشد". وقيل: يحبس إلى أن تنقضي الحرب؛ لأن فيه كسراً لقلوبهم، فيكون في ذلك مصلحة للحرب [وتدبير] للقتال، وهذا ما حكاه الإمام، عن رواية العراقيين، عن أبي إسحاق. وهكذا الخلاف في المجنون، والشيخ الكبير الذي لا يقاتل مثله. ولا فرق في الصبي بين أن يكون مراهقاً، أو غير مراهق؛ كما صرّح به البندنيجي، وحكاه الرافعي عن بعض الأصحاب، وإن كان ممن يقاتل. وفي "تعليق" القاضي الحسين: الجزم بالمنصوص [عليه]، إلا إذا خاف بإطلاقهم قوة أهل البغي؛ فإنه لا بأس بحبسهم إلى أن يأمن شرهم وتنقضي الحرب، وهذا ما حكاه الرافعي عن أبي إسحاق، وقال القاضي: إن الصبي المراهق يحبس إلى [أن تنقضي] الحرب كالبالغ، وعلى ذلك جرى الإمام، والله أعلم. قال: ولا يقاتلهم بما يعم كالمنجنيق والنار؛ لأن القصد: [الكف، لا الهلاك]، ولأانه يصيب من [لا] يجوز قتله كالجرحى، ومن لا يدعي إلى الطاعة والبيعة على الجهاد، مثل الصبيان، والنسوان، والعبيد. قال: إلا لضرورة، أي: مثل أن يحيطوا بأهل العدل ويخاف [الاصطلام] ولا يجدوا مخلصاً منهم إلا بذلك، أو يرميهم أهل البغي بالنار، أو ينصبوا المنجنيق عليهم، فيفعل أهل العدل مثل ذلك. وفي معنى النار تفجير المياه عليهم ليغرقوا، وإلقاء الحيات والأسد عليهم؛ فلا يجو ذلك من غير ضرورة، صرّح به الماوردي.

فرع: لو تحصنوا ببلدة، ولم يتأت الاستيلاء عليها [إلا بهذه الأسباب [العظيمة الأثر، فإن كان فيها رعايا لا بغي منهم لم يجز توجيه هذه الأسباب] [عليها]؛ محافظة عليهم، وإن لم يكن فيها إلا الباغون المقاتلون فقد حكى الغزالي فيه تردداً. وقال الإمام: الذي أراه المنع؛ لأن الإمام ينظر للمسلمين، وتَرْك بلدة في أيدي طائفة من المسلمين – وربما قدر على احتيال في المحاصرة والتضييق – أقربُ إلى الصلاح من اصطدام الأمم. قال: ولا يستعين عليهم بالكفار؛ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]، ولأن المقصود كف شرهم وردهم إلى الطاعة، وهؤلاء يتديَّنون بقتل مقبلهم ومدبرهم والمجروحين والمأسورين، ويرون ذلك قربة وطاعة؛ فلا يحصل المقصود بهم. قال: ولا بمن يرى قتلهم مدبرين، أي: وهم الحنفية؛ لما يلزم من الكف عنهم إذا انهزموا، وهكذا أطلقه المزني، وهل هذا المنع منع تحريم أو منع ندب واستحباب؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وما أطلقه المزني [والشيخ] محمول على ما إذا لم تدع الضرورة إليه، أما إذا دعت إلى ذلك؛ لعجز أهل العدل عن مقاومتهم جاز ان يستعين بهم على ثلاثة شروط: ألا يجد عوناً غيرهم، وأن يقدر على ردهم إذا انهزم أهل البغي، بأن تكون له هيبة تمنعهم من مخالفته، وهذان الشرطان اقتصر عليهما القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ، والثالث – قاله الماوردي، [وهو]-: أن يثق بما شرطه عليهم: ألا يتبعوا مدبراً، ولا يجيروا على جريح. قال: فإن فقد شرط من هذه الثلاثة لم تجز الاستعانة بهم. وعند غيره المعتبر في المنع فَقْد أحد الشرطين الأولين. [قال الرافعي]: ولفظ "التهذيب" يقتضي جواز الاستعانة إذا وجد أحدهما، ولفظ القاضي الحسين يقتضي جواز الاستعانة إذا وجد الشرط الثاني؛ فإنه قال: أطلق المزني منع أهل العدل [من] الاستعانة بمن يرى قتلهم مدبرين. ثم قال:

قال أصحابنا: الشافعي – رضي الله عنه – فصّل [فقال]: إن كان بالإمام قوة تضبطهم لم أرَ بأساً أن يستعان بهم، وإن لم يكن به قوة فلا يستعين بهم. وذلك صحيح. قال القاضي أبو الطيب: فإن قيل: اليس قد قلتم: إنه يجوز للحاكم أن يستخلف من يعتقد خلاف مذهبه، فيولي الشافعي مالكيًّا وحنفيًّا وغيرهما من أهل المذاهب؟ فالجواب: أن أصحابنا اختلفوا فيه على ما حكاه ابن أبي هريرة، وقال: قد نص الشافعي على المنع من ذلك، فقال: وهكذا من ولى شيئاً فينبغي ألا يوليه من يعلم أنه يعمل بخلاف الحق فيه. فإن قلنا: لا يجوز، [سقط السؤال، وإن قلنا: يجوز] فالفرق: أن الحاكم يحكم باجتهاده فيما يسوغ فيه الاجتهاد، وهذه الأحكام يسوغ فيها الاجتهاد، وليس كذلك قتل [أهل البغي مولِّين]، والجرحى والأسرى منهم؛ فإن ذلك لا يسوغ فيه الاجتهاد. وقد ظهر لك بما ذكره الشيخ أن أهل البغي يخالفن أهل الحرب في أشياء [: في امتناع كبسهم في ديارهم غِرَّةً وبَياتاً، و] في امتناع قتلهم مدبرين، والتذفيف على جريحهم، وقتل أسيرهمن وعدم استرقاقه. وفي عدم قتالهم بالمنجنيق والنار وما في معناهما، وعدم الاستعانة عليهم بمن ذكرناهم. ووراء ذلك أمور أخر، منها: أنه لا يجوز أن يحاصرهم ويمنعهم الطعام والشراب، إلا على رأي الإمام في أهل القلعة، ولا يجوز عقر خيولهم إذا قاتلوا عليها، ولا قطع أشجارهم وزرعهم، ولا الانتفاع بما يأخذه من أموالهم من مطعوم وغيره، وكذا من أسلحة وخيول، بل يحفظ لهم إلى انقضاء الحرب والأمن من قتالهم يعودهم إلى الطاعة أو تفريق شملهم، وهو وقت إطلاق الأسرى، اللهم إلا ان تقع ضرورة بألا يجد أحدنا ما يدفع به عن نس سوى سلاحهم، أو ما يركبه في وقت الهزيمة إلا خيولهم؛ فيجوز الاستعمال والركوب، كما يجوز أكل مال الغير للضرورة، وهذا بخلاف أهل الحرب، كما سيأتي بيانه، إن شاء الله – تعالى.

قال: وإن أتلف عليهم أهل العدل شيئاً، يعني من نفس ومال، دعت الحاجة إلى إتلافه بالقتال في حال الحرب-[لم يضمنوه؛ لأنهم مأمورون بقتالهم، وقتالهم يفضي إلى ذلك، فلم يلزم ضمانه، كنفس من قصد نفسه أو ماله من قطاع الطريق. قال: وإن أتلف أهل البغي على أهل العدل شيئاً، أي: من نفس ومال في حال الحرب] مع الحاجة إلى إتلافه، ففيه قولان: أصحهما: أنهم لا يضمنون. قال الشافعي – رضي الله عنه –: لأن الله – تعالى – أمر أن نصلح بينهم بالعدل، ولم يذكر وجوب الضمان على أهل البغي في الدماء والأموال؛ فدلَّ على أنها ساقطة الضمان، ولأن الحروب جرت في عصر الصحابة والتابعين – رضي الله عنهم – كوقعة الجمل وصفين، [ولم] ينقل أن بعضهم طالب بعضاً بضمان نفس ولا مال مع معرفة القاتل والمقتول، كما رواه ابن شهاب الزهري، ولأن الغرامة لو وجبت لم يؤمن أن ينفرهم ذلك عن العود إلى الطاعة، ويحملهم على التمادي فيما هم فيه، [ولأجل] ذلك أسقط الشرع التَّبِعات عن أهل الحرب إذا أسلموا، وهذا ما حكاه الماوردي عن الجديد، وفي "تعليق" البندنيجي: أنه الذي قال به في القديم. والقول الثاني: أنهم يضمنون؛ لما روي أن أبا بكر – رضي الله عنه- قال للذين قاتلهم بعدما تابوا: "تَدُونَ قَتْلاَنَا، وَلاَ نَدِي قَتْلاَكُمْ"، ولأنهما فريقان من المسلمين [محق ومبطل]، فلا يستويان في سقوطالغرم؛ كقطاع الطريق

والرفقة، وهذا ما ادّعى الماوردي انه قاله في القديم، واختاره الروياني. ويقال: إن القولين منصوصان في "البويطي"، وحكى البندنيجي: أنهما منصوصان في "الأم". والقائلون بالأول قالوا: إن أبا بكر – رضي الله عنه- لما قال ذلك القول قال له عمر – رضي الله عنه -: "لا تأخذ لقتلانا دية؛ لأنهم عملو لله، وأجورهم على الله"، فسكت أبو بكر سكوتَ راجعٍ. التريع: إن قلنا بالأول وكان المتلف نفساً، فهل تجب الكفارة؟ فيه وجهان: أشبههما في "الرافعي" – وهو أصح في "الحاوي" -: المنع؛ طرداً للإهدار وقطعاص للتبعات، وإن قلنا بالثاني، وكان القتل عمداً ففي وجوب القصاص وجهان، فإن أوجبناه – وهو قول أبي إسحاق قال: الأمر إلى المال – كان في مال الجاني، و [إن] لم نوجبهن فهل تجب دية شبه العمد في مال [العاقلة، او دية العمد في مال] الجاني؟ خرجه الإمام على الخلاف الذي حكيناه عن روايته فيما إذا قتل من رآه في ادر الإسلام على زي أهل الحربن ولم نوجب فيه القصاصن والذي ذكره في "الحاوي": الثاني. أما لو أتلف [كل من] الفريقين على الآخر شيئاً في غير القتال، أو فيه مع الاستغناء عنه، كما صرح به الإمام وغيره – ضمنوه. وجهاً واحداً، وهذا يضعف قياس عدم تضمين أهل البغي، قياساً على أهل الحرب؛ لأجل النفرة من العود. قال الماوردي: ولو قصد أهل العدل بإتلاف أموال أهل البغي إضعافهم لم يضمنوا، وفي "تعليق" القاضيالحسين: أنهم لو أكلوا طعامهم قبل انقضاء الحرب، واستمتعوا بدوابهم وأسلحتهم، ولبسوا ثيابهم – فوجهان: أحدهما: لا شيء عليهم؛ لأنهم أتلفوا متأولين؛ فإن أبا حنيفة يبيح لهم ذلك. والثاني: يجب عليهم الضمان كما لو حرقوه. ثم قال: والوجهان ينبنيان على القولين في أهل البغي إذا أتلفوا في حال القتال.

ولا خلاف في وجوب رد ما أخذ من أموال كل من الفريقين، بعد انقضاء الحرب وسكون الفتنة. فرع: لو استولى باغ على أمة أو مستولدة لأهل العدل، فوطئها – فعليه الحد، [وحكى الماوردي في "الأحكام" وجهين فيه؛ لأنه قال: إذا أتى أهلُ البغي قبل القدرة عليهم حدوداً، ففي إقامتها بعد القدرة عليهم وجهان،] وإن أولدها فالولد رقيق غير نسيب. وهل يجب المهر إذا كانت مكرهة؟ منهم من جعله على الخلاف في ضمان المال، وقال صاحب "التهذيب": ينبغي أن يقطع بوجوبه؛ كما لو أتلف المأخوذ بعد الانهزام. فرع: إذا استعان أهل البغي بأهل الذمة على قتالنا، وأتلفوا مالاً أو نفساً – فهل حكمهم حكم أهل البغي في الضمان؛ أم لا؟ وكذا في جواز قتلهم مقبلين لا مدبرين، [وغير ذلك]؟ قال الأصحاب: الكلام في ذلك ينبني على أنهم: [هل] ينتقض عهدهم بالقتال، أم لا؟ وفيه تفصيل سنذكره. فإن قالوا: كنا مكرهين على القتال، قُبِلَ قولهم، [ولم يكن] ذلك نقضاً لعهدهم، وكذا لو قالوا: ظننا أنه يجوز لنا إعانة بعض المسلمين على بعض، أو أنهم يستعينون بنا على أهل الكفر، أو أنهم المحقون ولنا إعانتهم – فلا ينتقض عهدهم؛ للشبهة. وإن لم يدعوا شيئاً من ذلك، وقاتلوا بعد إعلامهم وإنذارهم بالمراسلة والمكاتبة، فللشافعي – رضي الله عنه – فيه قولان: أحدهما: أنه يكون نقضاً لعهدهم؛ كما لو قاتلوا مع المشركين؛ ولهذا قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة لما عاونوا الأحزاب. والثاني: لا؛ لأنهم قاتلوا مع المسلمين [وفي نصرتهم، ولا يجب عليهم معرفة المحق من المبطل من المسلمين]؛ فكان ذلك شبهة في حقهم. هكذا ذكر القاضي أبو الطيب الحكم والتعليل، ووافقه في الحكم البندنيجي،

وكذا ابن الصباغ، لكنه صور مسألة القولين بما إذا لم يدَّعوا شيئاً مما ذكرناهن ولم تعرض لذكر المراسلة وغيرهان وقاس قول الانتقاض على ما لو انفردوا، ووجَّهَ مقابله: بأن أهل الذمة لا يعلمون المحق من المبطل؛ فيكون ذلك شبهة لهم. وحكي أن أبا إسحاق المروزي قال: القولان فيما إذا لم يكن قد شرط عليهم الكف عن القتال في عقد الذمة نطقاً، فأما إذا شرط انتقض. قولاً واحداً. وهذا [ما] حكاه الماوردي والروياني، وكذا الشيخ في "المهذب"، لكنه صور مسألة القولين بما إذا كانوا عالمين غير مكرهين، واختار في "المرشد" منهما الانتقاض، وكذا الرافعي. وفي "التهذيب" و"الإبانة" و"تعليق" القاضي الحسين: الجزم بانتقاض العهد في حالة العلم بأنه لا يجوز لهم قتالنا، ولم يكونوا مكرهين ولا جاهلين بالحال، وكذا إذا كان قد شرط عليهم [في عقد الذمة] ترك [قتالنا، وحكاية القولين في حالةدعواهم الجوازَ، ولم يكن قد شرط عليهم ترك] القتال. ثم قال القاضي الحسين: وقال الشيخ – يعني: القفال -: لا يختلف القول في [أهل] الذمة أن قتالهم لا يكون نقضاً؛ لأن أمانهم بيدهم، [وإنما] القولان في أن للإمام نقضه مع دعواهم الجهالة، أم لا؟ وعامة أصحابنا لم يفصِّلوا هذا التفصيل، ومنقول المزني يدل على ما قاله أصحابنا. انتهى. وفي "الرافعي": أن أبا الطيب بن سلمة طرد القولين في حالة دعواهم الإكراه أيضاً، فإذا تقرر ذلك فحيث قلنا: لا ينتقض عهدهمن فهم كأهل البغي في أنه لا يتبع مدبرهم، ولا يذفف على جريحهم، ولا يقتل أسيرهمن ولو أتلفوا مالاً أو نفساً على أهل العدل ضمنوه، قولاً واحداً. قال الشافعي – رضي الله نه -: إنما سقط الضمان عن المسلمين؛ للتأويل، فأما أهل الذمة فلا يسقط عنهم. قال القاضي أبو الطيب: والدليل عليه قوله – تعالى-: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية [الحجرات: 9]، ولم يأمرنا بالتبعية، وأيضاً فإنا إنما لم نغرم

المسلمين؛ كي لا يكون ذلك [تنفيراً لهم عن الدخول في طاعة افمام، ولا يحتاج إلى ذلك] في أهل الذمة؛ فلزمهم الضمان. [وقيل]: إذا قلنا: إن المسلم إذا قَتَلَ وهو من أهل البغي، لا يجب عليه القصاص، فهاهنا لا يجب على الذمي [على وجه]؛ للشبهة المقترنة باحوالهم، وحيث قلنا: ينتقض عهدهم، فما أتلفوه من نفس ومال بعد نقض العهد، [لا يكون مضموناً عليهم؛ لأنهم أهل حرابة، ويجوز قتلهم وقتالهم مقبلين، وهل يجوز وهم مدبرون؟ إن قلنا: من نقض العهد] لا يُبْلَغ مأمنه، وهو ما جزم به القاضي الحسين والإمام هنا فيما إذا قالوا: علمنا أنكم مسلمون، وأنه لا يجوز لنا قتالكم، ولم نكن مكرهين على ذلك – فنعم، وإن قلنا: يُبْلَغ [إلى] مأمنه، فهاهنا وجهان: وجه الجواز: جعل ذلك من بقيَّة العقوبة على القتال. وقال الإمام: ينبغي على هذا أن يقطع بأنهم يضمنون ما أتلفوا؛ لانا إذا قلنا: إنهم يبلغون المأمن، جعلناهم في بقيَّة من الأمان، فكيف يجوز ألا نغرمهم؟! ولو استعان أهل البغي بأهل العهد إلى مدةن قال القاضي أبو الطيب: كان ذلك نقضاً لعهدهم، إلا في مسألة واحدة: وهي إذا كانوا مكرهين، وأقاموا بذلك بينة ون ما إذا ادعوا ذلك، [أو ادعوا] الجهل بالحال، والفرق بينهم وبين أهل الذمة: أن الذمة أقوى؛ ولهذا نقول: يجوز أن [ينبذ إليهم] عهدهم؛ لخوف الجناية، ولا كذلك [في] أهل الذمة. وعلى ما قاله جرى الأئمة، ولم أر له مخالفاً فيما وقفت عليه.

ولو استعانوا بأهل الحرب بأمان أعطوهم إياه، فإن كان الأمان مطلقاً قال الماوردي: صح الأمان لهم، وكان عقد أهل البغي لهم كعقد أهل العدل. وقد قال الشافعي – رضي الله عنه- كما حكاه القاضي الحسين: ولو وادع أهل البغي قوماً من المشركين لم يكن لأحد من المسلمين غدرهم؛ فإن قاتلوا، قال الماوردي: صاروا كاهل العهد، ولو كان عقد الأمان مشروطاً بقتالهم معنا حكمه في حق أهل] البغي؛ اعتباراص بالشرط؛ فيجوز لأهل العدل قتلهم واسترقاقهم وسبيهم مقبلين ومدبرين، ولم يجز لأهل البغي ذلك. وفي "النهاية": أنه حكي عن القاضي أنه قال: لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم؛ لأنهم صاروا من أهل البغي بالأمان، فثبت لهم حكم أهل البغي. وهذا عندنا زلل، لا يثبت لأهل الحرب في حقوق أهل العدل – امان ولا عُلقة أمان،

وهم كما لو انفردوا بمقاتلة المسلمين، نعم: هل ينعقد لهم أمان في حق أهل البغي؟ فيه وجهان؛ فإن قلنا: لا ينعقد، فليس للبغاة أن يقاتلوهم، بل يردونهم إلى مأمنهمن فلو قال أهل الحرب، وقد وقعوا في أسر أهل العدل: ظننا أنه يحل لنا مقاتلتكم إذا استعان بنا المسلمون، وحسبنا أنهم الفئة المحقة، أو قالوا: ظننا أنكم كفار – فهذا موضع الخلاف [المشهور]، فمنهم من قال: نصدقهم ونعاملهم معاملة البُغاة؛ فلا نقتلهم مدبرينن ونبلغهم المأمن، وهو الظاهر، ومنهم من قال: نقتلهم حيث ثقفناهم؛ لأن مجرد ظنون الكفار لا يؤثر. انتهى. وقوله: "هذا موضع الخلاف المشهور"، يعني: بين الأصحاب والقاضي؛ لأن القاضي الحسين صرّح في هذه الحالة في "تعليقه": بأنهم لا يقتلون مدبرين، [ويبلغون المأمن، وفي حالة دعواهم العلم وعدم الإكراه يقتلون مدبرين،] ولا يبلغون المأمن، ولو لم يعقدوا [لهم] أماناً، لكن استعانوا بهم على قتال اهل العدلن فلا خلاف أنه [لا] ينعقد لهم امان على أهل العدل، ويجوز قتلهم مدبرين. وإيراد القاضي يقتضي ترجيح الوجه الصائر إلى انعقاد الأمان في حق أهل البغي، وهو الأصح في "الرافعي" و"التهذيب"، وقال في "الزوائد": إنها طريقة أبي حامد. وعلى هذا: إذا حاربنا أهل البغي ومعهم أهل الحرب، لا يبطل أمانهم في حقهم، بخلاف ما لو أمَّن رجلٌ مشركاً، فقصد مسلماً أو ماله، فإن لمؤمِّنه مجاهدته ونبذ أمانه. قال القاضي الحسين: والفرق أن هذا الواحد إذا أمنه، فإنما [هو] يأخذ من الكف عن جميعهم، فإذا قاتل واحداً منهم صار ناقضاً لأمانه، وأما البغاة فإنهم أمنوه على قتالنا، فإذا حاربونا معهم لم يفعلوا شيئاً يضاد عقد أمانهم؛ فلم يصيروا ناقضين. وعلى الوجه الآخر قال في "التهذيب": يجوز لأهل البغي أن يكرُّوا عليهم

بالقتل والاسترقاق في صورة دعواهم العلم بالحال. وهو خلاف ما حكيناه عن الإمام، وفي صورة دعواهم الظن بجواز القتال: لا يجوز لأهل البغي اغتيالهم، بل يبلغونهم المأمن، وكذلك أهل العدل أيضاً. وهو خلاف ما حكيناه عن الماوردي. ولو قاتل أهل الذمة أهل البغي، قال القاضي ابن كج: لا ينتقض عهدهم، وعن [رواية] أبي الحسين بن القطان وجه: أنه ينتقض؛ لأنهم حاربوا المسلمين. قال: وإن ولوا قاضياً نفذ من حكمه ما ينفذ من حكم الجماعة، أي: جماعة أهل [العدل]؛ لأن لهم تأويلاً يسوغ فيه الاجتهاد. وقال المعتبرون من الأصحاب وهم العراقيون، وطائفة من المراوزة والماوردي: وهذا بشرط أن يكون مسجتمعاً لشرائط القضاء كما سنذكرها، وبهذا يخرج ما إذا كان ممكن يستحل دماء أهل العدل وأموالهم؛ لأنه بهذا الاعتقاد فاسق، ومن شرط القضاء: العدالة، وما إذا كان من الخطابيةن وهم طائفة يرون أن يشهدوا لموافقيهم في العقيدة؛ تصديقاً لقولهم واعتماداً على أنهم لا يكذبون؛ لأن الكذب كفر عندهم؛ لأن من هذا شأنه يقضي لموافقه أيضاً، ونحن لا نقبل شهادته له – كما سيأتي في موضعه – فقضاؤه له أولى، كما [أنَّا] لا نقبل شهادة الوالد لولده، ولا نقبل حكمه له، نعم: لو قضى على من وافقه في الاعتقاد، اتجه تنفيذ حكمه إن قبلنا شهادته عليه، كما جزم به القاضي الحسين؛ لأنه ليس في القول بتصديق صاحبه ما يوجب فسقه، وهو نظير العداوة والقرابة: يردان الشهادة من أحد الجانبين دون الآخر. قال الرافعي: ومنهم من يطلق نفوذ قضاء أهل البغي؛ رعاية لمصلحة الرعايا، وقد صرّح مصرّحون: بأن من ولاه صاحب الشوكة نفذ قضاؤه، وإن كان جاهلاً أو فاسقاً كقضاء أهل البغين وهذا القياس فيه نظر، وسيأتي إن شاء الله – تعالى- في كتاب الأقضية. [ولا فرق] في تنفيذ حكمه بين أن يرفع إلينا [بعد عود البلاد إلينا،]

وبين أن يأتي كتابه إلينا، [لكن] قال الأئمة: يستحب في هذه الحالة ألا نقبله استخفافاً بهم واستهانة، كما حكاه في "المهذب"، وكذا البندنيجي وابن الصباغ. وقال الماوردي: الأولى ألا يتظاهر بقوله ويتلطف في ردّه. وظاهر كلام الغزالي يقتضي خلاف ذلك؛ لأنه قال: يجب على قاضينا إمضاؤه. وكذلك لفظ القاضي الحسين؛ فإنه قال: ولو كتب [إلى قاضينا] بحكومة لزمه التنفيذ والإمضاء. وكذا لفظ أبي الطيب: وجب أن نقبله وننفذه. فلعلهم أرادوا بذلك عدم النقض والحكم بخلافه. أما إذا لم يحكم، لكن كتب بسماع البيّنة دون الحكم – فهل يحكم قاضينا به؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لما فيه من معاونة أهل البغي وإقامة مناصبهم، ولأنه يعتقد خلافه؛ فكان كما إذا كتب الحنفي على قاضٍ شافعي بالشفعة للجار، وانقطاع الرجعة بلفظ البينونة- لا نحكم به؛ لأنه خلاف ما نعتقده. وأصحهما –وهو ما أورده البندنيجي -: نعم؛ لأن الكتاب الذي يرده يتعلق برعايانا، وإذا نفذنا حكم قاضيهم لمصلحة رعاياهم، فَلأَنْ نراعي مصلحة رعايانا كان أولى. وقد حكى الإمام عن رواية صاحب "التقريب" والشيخ أبي محمد طرد القولين فيما إذا أبرموه واستعانوا به في الاستيفاء، وقال: كنت أود لو فَصَلَ فاصلون بين الأحكام التي تتعلق بأصحاب النجدة والامتناع، وبين ما يتعلق بالرعايا. تنبيه: حكم الشيخ بنفوذ حكم حاكمهم يعرفك قبول شهادة الواحد منهم؛ لأنه لو خرج بالبغي عن العدالة لم يصح حكمه، وهذا بناء على أصلنا في انهم ليسوا بفسقة كما مر، ولفظ الشافعي –رضي الله عنه -: "ولو شهد منهم عدل قبلت شهادته ما لم يكن يرى أن يشهد لموافقته [بتصديقه"، فأثبت العدالة مع البغي. وقوله: "ما لم يكن يرى أن يشهد لموافقته]، أراد به الخطابية. وقول الشيخ: ما ينفذ من حكم الجماعة، احترز به عما لو خالف حكمه نصًّا أو إجماعاً أو قياساً جليًّا؛ فإنا لا ننفذه حتى لو وقع واحد من أهل العدل في

أسرهم، فقضى عليه قاضيهم بضمان ما أتلف في الحرب، لم ينفذ قضاؤه، وكذا لو حكم بسقوط الضمان عمن أتلف شيئاً في غير القتال، فإن حكم بسقوط ضمان ما أتلفوه في حال الحرب أنفذناه؛ لأنه محل الاجتهاد. فرع: إذا ورد على قاضي أهل العدل كتاب من قاضي أهل البغي، وهو لا يدري أنه يستحل دماء أهل العدل وأموالهم أو لا – فقد حكى ابن كج في تنفيذه قولين، وقال: إن اختيار الشافعي – رضي الله عنه – منهما: أنه لا يقبل ولا يعمل به. قال: وإن أخذوا الزكاة والخراج [والجزية] اعتد به، [أي: اعتد به] أهل العدل للمأخوذ منه إذا رجعت البلاد إليهم؛ اقتداء بعلي – كرّم الله وجهه – فإنه قاتل أهل "البصرة" ولم يتبع ما أخذوه من الحقوق، ولأنهم أخذوا ذلك بتأويل سائغ؛ فأشبه حكم الحاكم [باجتهاد سائغ] لا ينقضه آخر، ولأن في إعادة الطلب إضراراً بأهل البلدة ومشقة شديدة؛ فغنهم قد يغلبون على البلاد السنين الكثيرة، وفي "تعليق" القاضي الحسين [حكاية وجه]: أنهم إن أعطوا الزكاة بطيب أنفسهم من غير كره منهم لا يسقط عنهم، وقضية ذلك أن تطرد في غيرها. قال الرافعي: وفي الجزية وجه رواه الفوراني وغيره: أنه لا يُعتد بأخذها؛ لأنها عوض السكنى، والأعواض بعيدة عن المسامحة. قلت: وقضية هذا التعليل: أن يطرد هذا الوجه في الخراج، لكن كلام الفوراني يفهم التعليل بشيء آخر؛ لأنه قال – بعد أن حكى: أنهم إذا أخذوا الجزية فلا ينبني كما في أخذ الصدقات -: وقيل: فيه وجه ىخر: ينبني، والرق: أن الذمي ليس بأمين على ما عليه من الجزية، يشير بذلك إلى أنه متهم في الدفع لهم على وجه الإكراه؛ لأنه عدو لأهل العدل؛ فيكون كما لو دفعها بالرضا، وقد تقدم في دفعها بالرضا احتمال وجه في عدم الإجزاء، وعلى هذا لا يحسن تخريج هذا الوجه في الخراج. وفي الاعتداد بما فرقوه من سهم المرتزقة من الفيء على جندهم وجهان في "النهاية"، وظاهر المذهب: وقوعه موقعه.

قال: فإن ادعى من عليه زكاة أنه [دفع الزكاة] إليهم، قُبل قوله مع يمينه، أن الزكاة عبادة وجبت على سبيل المواساة، والمسلم في إيفاء العبادات [أمين]. قال: وقيل: يحلف مستحبًّا، وهو المختار في "المرشد"، وقيل: يحلف وجوباً، وتوجيههما مذكور في الزكاة. وقال النواوي: الصواب حذف "الواو" من "وقيل" الأولى أو جعلها "فاء"، وقد سبق في الاصطدام مثله. فإن قلنا بالثاني، وهو الأصح في "الجيلي" وعند النواوي، فإذا لم يحلف ألزمناه الزكاة، لا لنكوله؛ بل لأنها كانت واجبة عليه في الأصل، وقد ملك إسقاطها باليمين، فإذا لم يحلف رجعنا إلى الأصل، وفي "الجيلي" وجه: أنها لا تؤخذ منه. قال: وإن ادعى من عليه جزية أنه دفعها إليهم لم يقبل قوله إلا ببيّنة؛ لأن الجزية على الكفار عوض عن المساكنة، فأشبه ما لو ادعى المستأجر دفع الأجرة لا يقبل قوله إلا بينة. وفي كتاب ابن كج وجه: أنه يُصدق كدافع الزكاة. قال: وإن ادعى من عليه خراج أنه دفعه إليهم، أي: وهو مسلم، فقد قيل: يقبل قوله؛ لأن المسلم من أهل الائتمان؛ فقبل قوله كما في دفع الزكاة. قال النبدنيجي: وليس بشيء. وقيل: لا يقبل؛ لأن الخراج [ثمن أو أجرة]، فلا يقبل قوله في الدفع، كالثمن في البيع والأجرة في الإجارة، وهذا أصح في "الرافعي" وغيره، وهو المختار في "المرشد". أما لو كان من عليه الخراج كافراً، لم يقبل قوله كما في الجزية، صرح به الماوردي. ولو ادّعى من عليه حد أنهم استوفوه منه، قُبِل قوله بلا يمين، وهذا ما حكاه الماوردي؛ لأنها مما تدرأ بالشبهات، وقيل: إن كان قد ثبت بإقراره قُبِل، وإن كان قد ثبت بالبينة: فإن ظهر أثر الضرب أو القطع قبل قوله، وإلا فلا، وهذا ما حكاه المتولي.

فرع: حيث لا يقبل قول المدعي الإيفاء إلا ببينة، فلو أحضر خطًّا بالقبض منه، قال الماوردي: فإن كانت محتملة شبهة لم يُعمل بها، وإن كانت سالمة من الاحتمال ظاهرة الصحة، فهل يعمل بها في حقوق بيت المال؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ اعتباراً بالعرف فيها. والثاني- وهو الأصح في "الحاوي" -: [لا؛] كما لا يجوز العمل بها في الأحكام، ولا في حقوق المعاملات؛ لدخول الاحتمال فيها، وإمكان التزوير. قال: وإن أظهر قومٌ رأيَ الخوارج، ولم يظهروا ذلك بحرب، لم [نتعرض إليهم]. الخوارج: صِنف مشهور من المبتدعة، يعتقدون أن من أتى كبيرة فقد كفر وحبط عمله، واستحق الخلود في النار، وأن دار الأمير تصير بظهور الكبائر فيها دار كفر وإباحة؛ فيكون من تولاهم جرى عليه حكمهم؛ فلذلك طعنوا في الأئمة، وامتنعوا من الصلاة خلف واحد منهم، ولزموا تجنب [الجمعات و] الجماعات. فإظهار رأيهم أن ينطقوا بمعتقدهم، يوتجنبوا حضور الجمعات والجماعات، فإذا فعلوا ذلك ولم يُظهروه بحرب، بل استمروا على طاعة الإمام [ظاهرا] – لم نتعرض إليهم؛ لما رُوي أن عليًّا – كرم الله وجهه – سمع وهو في الصلاة رجلاً يقول، [وهو] في جانب المسجد: لا حُكْمَ إلا لله ولرسوله، وقصد بذلك تخطئة عليّ في التحكيم بينه وبين معاوية، فقال علي – كرم الله وجهه – وهو [في] خلال الصلاة – كما نقله القاضي الحسين-: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم: 60]، وقصد به قراءة القرآن، وإن تضمن ذلك ردًّا عليه، ومثل ذلك لا يضر بالصلاة عندنا كما قاله القاضي [الحسين]، فلما فرغ من الصلاة قال: "كلمة حق أُريد بها باطل"، [كما] قال الماوردي، وهذا أحسن جواب فيمن عرض بمثل هذا القول. ثم قال [علي] – رضي الله عنه -: "لكم

علينا ثلاثة: لا نمنعكم مساجد الله – تعالى – أن تذكروا فيها سامه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم في أيدينا، ولا نبدأكم بالقتال". فجعل الأحكام فيهم كهي في أهل العدلن واقتفى في ذلك سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين في كفه عنهم مع علمه بمعتقدهم؛ لتظاهرهم بالطاعة مع استبطان المعصية، وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا اَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَاللهُ يَتَولَّى السَّرَائِرَ". قال القاضي الحسين [و] أصحابنا: وهذا إذا لم يكن على المسلمين ضرر منهم، فأما إذا اتصل ذلك بضررهم، فإنه يتعرض غليهم حتى يزول ذلك عن المسلمين. قال: وكان حكمهم حكم الجماعة فيام لهم وعليهم، يعني: [حكم] جماعة أهل العدل فيما يتلف بعضهم على بعض من نفس ومال، وفيما يتعاطونه مما يوجب العقوبات؛ لما ذكرناه من أثر عليّ رضي الله عنه. وقد روي أن عليًّا – رضي الله عنه – ولي [علي] أهل النهروان عامله عبد الله ابن خباب بن الأرت وقد اعتزلوه، فكنا ناظراً فيهم كنظره في أهل العدل، إلى أن وثبوا عليه وقالوا: ما تقول في الشيخين أبي بكر وعمر؟ فقال: ما أقول في خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمامي المسلمين، فقالوا: ما تقول في عثمان بن عفان؟ فقال في الست الأوائل خيراً، وأمسك عن الست الأواخر، فقالوا: ما تقول في علي بن أبي طالب؟ فقال: أمير المؤمنين، وسيد المتقين. فعمدوا إليه فذبحوه؛ فراسلهم عليّ: أن سَلِّموا إليَّ قاتله أحكم فيه بحكم الله – تعالى – فقالوا: كلنا قتلناه. قال: فاستسلموا لحكم الله. فسار إليهم وقتل أكثرهم. قال القاضي الحسين: وقد قيل: إنه لم ينفلت منهم أكثر من اثنين أو ثلاثة،

وكان عدد القتلى أربعة آلاف، وهذا يدل على إجراء حكم أهل العدل عليهم، وأنه لا يسقط بخلع الطاعة. وفي "المهذب" و"الشامل" و"الحاوي" وغيرها وجه: أنه يتحتم قتل القاتل منهم؛ بالقياس على القتل في المحاربة. وفي "التتمة" تخصيص الخلاف بما إذا قتل في حال القتال، أما إذا أظهروا ذلك بحرب فقد قال في "التهذيب": إنهم فسقة وأصحاب نهب؛ فحكمهم حكم قطاع الطريق. وهو قضية ما ذكرناه عن الأصحاب من قبل في أن مِن شَرْط الباغي أن يكون تأويله محتملاً يسوغ في الشرع، كالذي تأوله أهل الجمل وصفين في المطالبة بقتلة عثمان –رضي الله عنه – وأنهم إذا لم يكن لهم تأويل أجري عليهم حكم الحرابة وقطاع الطريق، فعلى هذا: يضمنون ما يتلفونه في حال القتال من نفس ومال جزماً؛ لان تأيلهم كَلاَ تأويلٍ، بل هم به كفرة على رأي، وقد صرح بذلك المتولي. قال: وإن صرحوا بسب الإمام، [أي:] أو أحد من أهل العدلن مثل أن قالوا: يا فاسق أو يا ظالم – عَزرهم؛ لتعديهم بإتيان معصية لا حَدَّ فيها ولا كفارة. وقد روي أن عدي بن أرطاة كتب إلى عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه -: إن الخوارج عندنا يسبونك، فكتب إليه: إن سبوني فسبوهم أو اعفوا عنهم. قال: وإن عرضوا بسبِّهِ، أي مثل أن قالوا: ما بقي في الناس عادل، أو قد عم الظلن الناس – لم يتعرض إليهم؛ لأنه يحتمل السب وغيره، فلا يرتب عليه ما يرتب على السب المحقق، وروي أن رجلاً من الخوارج قال لعلي – رضي الله عنه – بعد صلاة الصبح: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، فأجابه عليَّ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الروم: 60]، ولم يتعرض له بتعزير ولا غيره، وقيل: يعزرهم؛ كي لا تنخرق الهيبة، ويجعلوا التعريض تصريحاً. وهذا الذي ذكرناه هو المذكور في طريقة أهل العراق و"الحاوي"، وكذا في

"تعليق" القاضي الحسين خلا ذكر التعزير. والغزالي وإمامه قالا: في تكفيرهم الخلاف المشهور في تكفير أهل الأهواء والبدع، فإن لم نكفرهم ففيهم وجهان: أحدهما: أن شبهتهم كتأويل البغاة، وحكمهم كحكمهم. قلت: وهذا نازع إلى أن التأويل المقطوع بخطئه تأويل معتبر فيما نحن فيه. قال الإمام: وهذا الوجه ساقط لا أصل له. وأصحهما: أنهم كأهل الردة، ولا يبالي بما يتمسكون به؛ لظهور فساده، وعلى هذا: فلا تنفذ أحكامهم، بخلاف أحكام البُغاة. ويجيء في ضمان ما يتلفونه في حال القتال الطريقان الآتيان في المرتدين، وهما كالطريقين [المذكورين] في الذين كثرت شوكتهم ولا تأويل لهم إذا أتلفوا في حال الحرب، وقد مضيا. قال: وإن اقتتلت طائفتان في طلب رياسة أو نهب مال أو عصبيةٍ، فهما ظالمتان، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَان فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ". قال: وعلى كل واحدة منهما ضمان ما تتلف على الأخرى من نفس ومال؛ لأن سقوط ذلك عن البغاة كان لأجل التأويل، واعتقادهم إباحة القتال، وهذا منتفٍ [ها] هنا، وعلى الإمام أن يكفهما عن الظلم. ولو اقتتلت طائفتان من أهل البغين قال الصحاب: لم يجز للإماام ان يُعِين أحداهما على الأخرى إن قدر على دفعهما، بل عليه أن يدفعهما عن البغي، إن لم يستطع فليضم إليه أقربهما إلى معتقده وأرغبهما في طاعته، فإن استويتا ضم إليه [أقلهما جمعاً، فإن استويتا ضم إليه] أقربهما داراً، فإن استويتا

اجتهد رأيه في أحداهما، فإن طاوعته التي قاتلها أو انهزمت عنه عدل إلى الأخرى ولم يبدأها بقتال، إلا بعد استدعائها ثانياً إلى الطاعة؛ لأن انضمامها إليه كالأمان الذي يقطع حكم ما تقدم من الاستدعاء والجناية. قال: ومن قصد قتل رجل أي: بغير حق، جاز للمقصود دفعه عن نفسه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"، [كذا أخرجه البخاري عن عكرمة مولى ابن عباس. وخرج أبو داود عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أرِيدَ مَالُهُ بشغَيءرش حَقٍّ فَقَاتَلَ فَهُوَ شَهِيدٌ" وقال الترمذي: إنه حسن صحيح]. فلولا أن له قتاله ودفعه عن ماله لم يدرك به الشهادة، فإذا ثبت ذلك في المال ففي النفس من طريق الأولى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم شبه حرمة المال بحرمة النفس، فقال: "حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ"، والمشبه دون المشبه به. [وقد روى أبو داود عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، اَوْ دُونَ دِينِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ"، وأخرجه النسائي وابن ماجهن وقال الترمذي: إنه حسن صحيح]. ولا فرق في الدافع عن نفسه بين أن يكون مسلماً أو ذميًّا، ولا بين الحر والعبد، سواء كان قاصده سيده أو غيره. ثم محل جوازه بالاتفاق إذا لم يكن للمطلوب ملجأ يلجأ إليه من حصن يغلقه عليه، أو هرب لا يمكن لحوقه فيه، أما إذا وجد ملجأ [فقد قال] الشافعي – رضي الله عنه – في كتاب الخراج: "له أن يثبت ويقاتل"، وقال في كتاب أهل البغي: "ليس له أن يقاتل، [بل] يلزمه أن يهرب". فاختلف

الأصحاب في ذلك: فخرجه بعضهم على قولين: أحدهما: يجب الهرب؛ لأنه ضرب من الدفع وهو أسهل من غيره، وإذا قدر على الدفع بأدنى الأمور لم يعدل إلى أصعبها، وهذا ما قال الإمام قبيل باب ما له لبسه من كتاب صلاة الخوف: إن الظاهر عندي القطع به. والثاني: له أن يثبت؛ لأن المقام في ذلك المكان مباح، فإذا جاء من يطلب منه ما لا يجب عليه، كان له الدفع بأدنى ما يندفع، ولا يلزمه الانتقال عن مكانه. قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: ومنهم من بنى الخلاف على وجوب الدفع، فإن قلنا: الدفع واجب، لزمه الهرب، وإلا فلا، [وعلى هذا جرى الإمام]. وقال آخرون: بل هو على اختلاف حالينن وحملوا الأول على ما إذا غلب على ظنه أنه [ينجو، والثاني على ما إذا غلب على ظنه أنه] لا ينجو بالهرب منه. قال: وهل يجب [ذلك]؟ قيل: يجب؟ لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29]، وكما يجب على المضطر من الجوع إحياء نفسه بأكل ما يجده من الطعام، وهذا ما ادعى القاضي أبو الطيب أنه الذي قال به سائر الأصحاب، وأنه المشهور، وهو الأصح في "الجيلي". وقيل: لا يجب، لقوله تعالى: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} [المائدة:28]، وهذا وإن كان في شرع من قبلنا، فقد ورد في شرعنا ما يقرره، روي عن حذيفة بن اليمان في الصحيح [-كما قال الإمام -] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [لمّا] وصف ما سيكون من الفتن، فقال حذيفة: "يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَوْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ [الزَّمضانُ]؟ فَقَالَ: ادْخُلْ بَيْتَكَ، وَأَخْمِلء ذِكْرَكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَو دَخَلَ بَيْتِي، فَقَالَ: إِذَا رَاعَكَ بَرِيقُ السَّيفِ فَاسْتُرْ وَجْهَكَ، وَكُنْ عَبْدَ اللهِ الْمَقْتُولَن وَلاض تَكُنْ عَبْدَ اللهِ القَاتِلَ"، وفي بعض الألفاظ:

" [وَكُنْ خَيْرَ ابْنَي] آدَمَ"، وعَنَى صلى الله عليه وسلم قابيل وهابيل. وقد صحَّ أن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – حين أربدت نفسه منع عنه عبيدَهُ، وكانوا أربعمائة شاكِّين [في] السلاح كما حكاه الإمام، وقال لهم: من ألقى سلاحه فهو حر. والفرق على هذا بنيه وبين المضطر: أن في القتل شهادة يرجو بها الثواب، وليس في ترك الأكل شهادة يُثاب عليها، وهذا قول أبي إسحاق المروزي، وهوا لمختار في "المرشد"، ثم الرافعي ثم النواوي، وإيراد الماوردي يقتضي ترجيحه، وفي "التهذيب" أن شيخي كان يقول – يعني القاضي الحسين -: إن أمكنه دفعه من غير أن يقتله يجب، ولا يجوز أن يستسلم. والذي رأيته في "تعليقه": أن الأصحاب أطلقوا القول بأن المقصود بالقتل، بالخيار بين الاستسلام وبين الدفع عن نفسه. وقلت أنا: إن أمكنه أن يدفعه من غير أن يجرحه أو يقتله يجب عليه الدفع. وقال في "التتمة": المذهب أنه إن قدر على دفعه من غير تفويت روحه، أو تفويت [عضو من أعضائه – لزمه الدفع، وإن لم يتمكن [من الدفع] إلا بأن يأتي على روحه أو] عضو من أعضائه، ولم نوجمب عليه الهرب إذا قدر عليه

- فهاهنا محل الخلاف، وقد حكى الماوردي: أن أبا إسحاق طرد مذهبه فيما إذا وجد المضطر طعاماً لغيره وهو غير قادر على ثمنه، وفيما لو وجد ميتة، وقال: لا يجب عليه الأكل، بل يكون مخيراً فيه، وجعل محل إيجاب الأكل – جزماً – ما إذا كان مالكاً للطعام، أو واجداً لثمنه، وغيره أوجب الأكل في جميع الأحوال. ثم إذا لم نوجب الدفع عن النفس، فهل يكون تركه مباحاً أو مندوباًظ حكى الإمام فيه خلافاً عن الأصحاب، وأثبت الخلاف المذكور في الكتاب قولين، وأشار إلى أنهما منصوصان، ثم قال: ولا خلاف في استحباب الإيثار وإن أدى إلى هلاك المؤثر، وهو شِيَم الصالحينن ويتصور من أوجه يدل البعض منها على الكل، فإذا اضطر الرجل وانتهى إلى المخمصة ومعه ما يسد جوعه، وفي رفقته مضطر، فآثره بالطعام – فهو حسن، وكذلك القول في جملة الأسباب التي يتدارك بها المُهَج. قال: وإن قصد ماله فله أن يدفعه نه لما ذكرناه من قبل. ولا فرق في ذلك بين ما كثر منه أو قل [ولو درهم]؛ لعموم الخبر، [وحكى الإمام في باب صلاة الخوف أن الأصحاب استنبطوا من نص نقله الأئمة والصيدلاني عن الشافعي: أنه لا يصلي صلاة شدة الخوف فيما إذا أدركه سيل، وعلم أنه لو مر مسرعاً وصلى ماراً مؤمئاً سَلِمَ وسلم ماله، ولو صلى متمكناً أن يهرب ويتلف ماله – قولاً في أن الذابَّ عن المال إذا علم أنه لا يتأتى له دفع قاصد ماله إلا بقتلهن وبما يؤدي إلى القتل – فليس له أن يدفعه، قال: وهذا بعيد جداً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"، فإذا كان يجوز له أن يعرض نفسه للهلاك بسبب ماله، فَقَتْل الصائل مع الاقتصار على قدر الحاجة في الدفع أولى. ومن منع قتل الصائل على المال، لا شك أنه يمنع مالك المال من أن يعرض نفسه للهلاك في الذب عن المال، وإذا قال هذا فيكون مخالفاً للخبر، والله أعلم]. قال: [وله تركه؛] لأنه يجوز له أن يتجه إياه، وفي "التهذيب": أن الأمر كذلك إذا لم يكن المال حيواناً، أو كان ولم يقصد إتلافه، أما إذا قصد إتلافه فإنه يجب عليه الدفع ما لم يخش على نفسه؛ لحرمة ذي الروح. قال: وإن قصد حريمه –أي كولده وزوجته ونحوهما – بقتل، أو لينال من

أحدهما فاحشة- كما قال الماوردي – وجب عليه الدفع؛ لتحريم إباحة ذلك؛ لأن الحق لغيره، وليس [له] أن يجود بحق غيره. وقد روي أن امرأة خرجت تحتطب، فتبعها رجل فراودها عن نفسها؛ فرمته بفهر فقتلته، فرُفع ذلك لعمر – رضي الله عنه – فقال: قتيل الله، والله لا نودي هذا ابداًز ولم يخالفه أحد؛ فكان إجماعاً، وهذا ما جزم به البغوي والمتولي، وشرطا في الوجوب: ألا يخاف على نفسه، وإليه أشار الغزالي وإمامه في كتاب السير، كما سنذكره ثَمَّ، إن شاء الله تعالى. وفي "النهاية" في كتاب الخوف، ما يقتضي جريان الخلاف الذي ذكرناه في وجوب الدفع عن نفسه، والذب عن الحريم؛ فإنه قال بعد حكاية الخلاف في وجوب الدفع عن نفسه: والذب عن [دم] الغير وعن الُحرَم في كل ما ذكرتهن بمثابة ذب الإنسان عن دم نفسه. وكلامه الذي سنذكره من بعد مصرح به أيضاً، وقد حكاه من العراقيين: القاضي أبو الطيب في باب جامع السير، عند الكلام في لقاء الواحد ثلاثة من الكفار، [والماوردي جزم به في صلاة الخوف حين قال: وأما القتال المباح فقتال الرجل عن ماله وحريمه]. وقد احترز الشيخ بلفظة "من" في قوله: ومن قصد قتل رجل، عما إذا صالت عليه بهيمة؛ فإنه يجب عليه دفعها وجهاً واحداً، ولا يجري فيها الخلاف المذكور في الاستسلام، وقد صرّح به الماوردي والإمام وغيرهما. تنبيه: ظاهر إطلاق الشيخ يقتضي أموراً: أحدها: أنه لا فرق في القاصد من الآدميين لقتل الشخص بين الكافر والمسلم، والمكلف وغيره، إذا كان له تمييز، وهو في هذا الإطلاق متبع للعراقيين، إلا انه لا خلاف في أن القاصد إذا كان حربيًّا لا يجوز الاستسلام له، كما سيأتي في موضعه، وكذلك إذا كان مرتدًّا، وقد الحق بهما الإمام الذمين حيث قال في باب صول الفحل: والوجه القطع [بأنه] لا يجوز الاستسلام له، وإن كانت الذمة توجب حقن دمه؛ لانه بصياله ناقض عهده،

فتسقط حرمته ويبقى كافراً صائلاً على مسلم، وإن قلنا: إنه لا ينتقض عهده بصياله – كما هو وجه ضعيف – فلا حرمة للذمة حالة القتال والصيال، وعلى الجملة فالاستسلام للكافر ذل، وقد حكى ذلك عن الأصحاب في باب: صلاة الخوف. وعن "جمع الجوامع" للروياني: أن الصائل إذا كان كافراً فالأولى له أن يقاتل، ويكره له ترك القتال والدفع عند الإمكان. وهذا يشعر بالتجويز كما أفهمه إطلاق [كلامي الشيخ، والمشهور الأول، وفي "الحاوي" إلحاق المجنون بالبهيمة وقال: إنه لو كف عن الدفع كان كالإذن في قتل نفسه، وقد حكى الإمام عن شيخه في كتاب صلاة الخوف طريقة قاطعة تمنع الاستسلام لغير المكلف كما في البهيمة؛ نظراً إلى ما دَلَّ عليه قوله تعالى: {أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29]، وهذا ليس بآثم. ثم قال: و [هذا] فيه نظر؛ لأن المحذور قتل مسلم، وهذا متحقق في الصبي والمجنون، ولعله أظهر من جهة أنهما لا يأثمان وليسا كالسبع يصول؛ فإنه يتعين دفعه قطعاً، وعلى ذلك جرى الرافعي، وجعل الأظهر طريقة القولين كما اقتضاه كلام الشيخ وغيره. الثاني – وهو ما دل عليه المفهوم -: أنه إذا قصد عضواً من أعضائه لا يكون الحكم فيه كالحكم في قصد القتل، والأصحاب مطبقون على أن له الدفع، وساكتون عن الوجوب وعدمه فيما وقفت عليه من كتبهم إلا ما سأذكره عن الإمام. الثالث- وهو ما دَلَّ عليه المفهوم أيضاً-: أنه إذا قصد قتل غيره، وليس ذلك الغير من حريمه، لا يكون الحكم فيه كما تقدم، وقد حكيت عن الإمام أنه قال في صلاة الخوف: إن الذب عن دم الغير بمثابة الذب عن دم نفسه في جميع ما ذكرناه. وقال في باب صول الفحل: إن الذي اختاره المحققون من الفقهاء أن حكمه في حق غيره كحكمه في الدفع عن نفسه حتى يكون واجباً عليه على قولٍ، وبه أجاب في "التهذيب" وعلله بأن الحق لغيره، لويس له أن يجود بحق غيره، لكن بشرط

ألا يغلب على ظنه هلاك نفسه، فإن غلب فلا يجب؛ لأنه لا يلزمه أن يجعل روحه فداء لروح غيره. وهذا لشرط مختار القاضي الحسين في "التعليق"، وحكاه الرافعي عن الشيخ إبراهيم المروزي؛ إذ قال الإمام: وعلماء الأصول اضطربوا في هذا، فذهب المحققون منهم إلى أن هذا محتوم على الولاة، فأما آحاد الناس فلا يلزمهم هذا، ثم منهم من لم يجوّز شهر السلاح للدفع عن الغير، ومنهم من جوَّزه ولم يوجبه، وأن هذا لا يختص بأن يصول الإنسان على غيره قاصداً قتله، فمن كان [مُقدِماً] على مُحرَّم فيمنع منه، فإن أبى دفع عنه. ثم قال: فخرج مما ذكرناه أن الإنسان يدفع عن نفسه بكل وجه، والكلام في وجوب الدفع، وهذه مرتبة، والمرتبة الأخرى في الدفع عن الغير، وهو مقصود بالقتل أو بفاحشة الزنى، وهاهنا افتراق الفقهاء وأرباب الأصول كما قدمناه، وفي كلام الأصوليين رمز إلى موافقة الفقهاء. والمرتبة الثالثة في الدفع عن المنكرات والمحرمات سوى ما ذكرناه، يعني: كشرب الخمر ورض رأس حيوان محترم كما صرّح به في كلامه من قبل، فالأصوليون مطبقون على: أنه لا يجوز لآحاد الناس شهر السالح، وذهب طوائف من الفقهاء [إلى]: أنه لا مبالاة بشهر السلاح إذا أفضت الحاجة إليه، وعلى [هذا] ينطبق ما جزم به الرافعي فيما إذا رأى شخصاً يتلف مال نفسه، بأن يحرق لبسه ويغرق متاعه، أنه يجوز له الدفع، وفيما إذا كان حيواناً محترماً ورآه يشدخ لبسه ويغرق متاعه، أنه يجوز له الدفع، وفيما إذا كان حيواناً محترماً ورآه يشدخ رأسه، في وجوب الدفع لحرمة الحيوان وجهان، المذكور منهما في "التهذيب": الوجوب؛ ولذا قال فيما إذا علم أن إنساناً يشرب الخمر في داره أو أن في الدار طنبوراً يضربه: فله أن يهجم عليه ويريق الخمر ويفصل الطنبور، ويمنعهم من الشرب والضرب، وإن [لم] ينتهوا قَاتَلهم عليه، فإن أتى القتل عليهم فهو مثاب عليه، وكذا حكاه الفوراني والعمراني عن الطبري، وحكى الغزالي من أن من الفقهاء من منع [ذلك] إلا للسلطان؛ خوفاً من الفتنة، وهو مأخوذ من قول الإمام: وذهب طوائف من الفقهاء إلى كذا. قال: وإذا أمكن الدفع بأسهل الوجوه لم يعدل إلى أصعبها؛ لأن هذا فعل

جُوّز للضرورة، ولا ضرورة في الأصعب مع إمكان تحصيل المقصود بالأسهل، فعلى هذا: إذا غلب على ظنه أن الصائل يندفع بالصياح لم يدفعه باليد، فإن لم يندفع بالصياح – مثل أن كان في موضع لا يلحقه غوث – دفعه باليد إن غلب على ظنه اندفاعه بها، فإن لم يندفع بها دفعه بالعصا إن غلب على ظنه اندفاعه بها، فإن لم يندفع دفعه بالسلاح، فإن لم يندفع إلا بقطع عضو قطعه. قال: فإن لم يندفع – أي: في ظنه – إلا بالقتل فقتله لم يضمنه، أي: بقود ولا دية ولا كفارة؛ لما روى الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ جَارِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"، والشهيد مظلوم، وللمظلوم دفع الظلم عن نفسه بالقتال، وما أبيح من القتال لم يجب به ضمان؛ لقوله تعالى: {وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 41، 42]، وقد روى الشافعي – رضي الله عنه – بسنده عن صفوان ابن يعلي بن أمية عن أبيه أنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة العسرة، وكان لي أجير، فقاتل إنساناً، فعض أحدهما [يد] صاحبه، [فانتزع يده من فيه]؛ فانتزع ثنيَّته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم [فأهدر ثنيته] وقال: "أَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَعَضُّهَا كَأَنَّهَا [فِي] فِي فَحْلِ". ولما ذكرناه من قصة عمر – رضي الله عنه – في التي خرجت بالحطب. فإن قيل: أليس قد روي أنه – عليه السلام – قال: "لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانِن وَزنَِى بَعْدَ إِحْصَانٍ، وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيرِ نَفْسٍ"، وهذا غير هذه الثلاثة؛ فلا يجوز القتل به. قيل: إن المباح – هاهنا – ليس [هو] القتل، وإنما هو الدفع، فإن أدى إلى

القتل فهو سراية متولدة من فعل مباح من غير قصدٍ [ما] إلى القتل؛ فلم يكن مخالفاً للخبر، وعلى أن الزيادة تجوز في مثل هذا بالدليل، كما زِيدَ قتل الحية والسبع العادي على الخمس التي نص النبي صلى الله عليه وسلم على قتله، في الحل والحرم، وهذا السؤال قد أورد – أيضاً – على قتال أهل البغي، وأجيب عنه بهذا الجواب. وقال الماوردي: للخبر تأويلان [يغيبان عن الجواب]: أحدهما: لا يحل قتله صبراً إلا بإحدى ثلاث، وهذا لا يقتل صبراً، وإنما ينتهي حاله إلى القتل دفعاً. والثاني: لا يحل قتله بسبب متقدم إلا بإحدى ثلاث، وهذا لا يقتل بمتقدم، وإنما يقتل بسبب حادث في الحال. وحكى الإمام أن بعض الأئمة نقل للشافعي – رضي الله عنه – قولاً قديماً أنه لا يجوز الدفع عن المال إذا كان لا يتأتى إلا [بقتل القاصد] أو بإتلاف عضو من أعضائه، ثم قال: وهذا وإن أمكن توجيهه في القياس فهو بعيد في الحكاية، والمتولي روى ذلك وجهاً. قال الماوردي: وهذا التدريج في غير الدفع عن الفاحشة، أما إذا رأى رجلاً، وقد أولج في فرج أهله تعجل الدفع وتغلظ، فيجوز أن يبدأ بالقتل ولا يترتب على ما قدمناه؛ لأنه في كل لحظة تمر عليه مواقع، فجاز [لأجلها أن يعجل] القتل، قال: وعلى هذا ففي هذا القتل وجهان محتملان: أحدهما: أنه قتل دفع؛ فيختص بالرجل دون المرأة ويستوي فيه البكر والثيب. والثاني: [أنه] قتل حد؛ فعلى هذا يجوز أن يجمع فيه بين قتل الرجل والمرأة إذا كانت مطاوعة، إلا أن المرأة يفرق فيها بين البكر والثيب؛ فيقتلها [إن كانت ثيباً، وتُجلد إن كانت] بكراً وتغرب. وأما الرجل ففيه وجهان:

[أحدهما]: يفرق فيه بين البكر والثيب أيضاً. والثاني- وهو الأظهر -: لا يفرق، ويقتل في الحال؛ لأن القتل في الحال أغلظ من قتله دعاً، وهو يجوز وإن لم يكن محصناً. ثم إذا خالف المصول عليه في الترتيب الذي ذكرناه وعَدَل إلى الدفع باليد مع إمكان الدفع بالكلام – ضمن، وكذا إذا عدل إلى الضرب بالعصا مع إمكان الدفع باليد، فأتى الضرب عليه – ضمنه، ومن طريق الأولى إذا عدل إلى قطع العضو مع إمكان الدفع بالجرح، أو إلى القتل مع إمكان الدفع بالقطع. نعم، لو كان يمكن دفعه بالسوط، وليس معه إلا سيف أو سكين لو قَصَدَهُ لَقَتَلَهُ – فهذا فيه تردد. قال الإمام: لأن الدفع ممكن من غير قتل، لكن [ليس] يتأتى الدفع في هذه الحالة إلا بما يجد، ولا يمكن نسبته إلى التقصير بترك استصحاب السوط، وهذا ما جعله في "الوسيط" الظاهر. وقد حكى الإمام أن صاحب "التقريب" قال: كل من قصد أمراً يسوغ دفعه عنه، فهل يجب على المصول عليه أن يقدم إنذاره أم يبتدئ الدفع فعلاً من غير تقديم إنذار بالقول؟ فإن هذا عندي يتخرج على استتابة المرتد، وفيها قولان: ثم قال الإمام: وهذا الذي ذكره مما انفرد به، ولابد فيه من تفصيل؛ فإن الأصحاب أطلقوا أقوالهم: إن أمكن الدفع بالقول فلا يعدل عنه إلى الفعل؛ فالوجه: [القول] الذي يكون تخويفاً أو زعقة على الصائل إن أمكن الدفع به؛ فلا يجوز أن يكون في وجوب البداءة به خلاف. والذي ذكره صاحب ["التقريب"] إنذار لا يكون دفعاً في نفسه، ولكنه من قبيل موعظة أو قريب منها، فإن أوجبناه فلم يفعله المصول عليه وفعل غيره ضمن بتركه، وليس كما إذا أوجبنا استتابة المرتد فلم يستتب، وابتدر مبتدر فقتله؛ فإن الضمان لا يجب؛ من

جهة أن الردة مهدرة، وهي واقعة. قال: وإن اندفع، أي: إما بنفسه أو باليد، أو بضرب بعصا أو بجرح – [لم يتعرض إليه] لزوال السبب المسلط، وهكذا الحكم فيما لو كان قد أخذ المال فتبعه صاحبه، فألقاه إليه، لم يجز له اتباعه، فإن اتبعه فأتى عليه في نفس أو غيرها – ضمن. قال: وإن اطلع رجل في بيت رجل، أي: فنظر حريمه، وليس بينهما محرمية – جاز رمي عينيه، أي: في حالة النظر بما يعميها مع إمكان زجره بالكلام؛ لما روى الشافعي – رضي الله عنه – بسنده عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَاتَ عَيْنَهُ – فَمَا عَلَيكَ جُنَاحٌ"، وفي بعض ألفاظه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَفُقِئَ عَينُه فَلاَ دِيةَ لَهُ وَلاَ قِصَاصَ". وروى – أيضاً – بسنده عن سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى رجلٍ ينظر في حجرة من حُجَرِهِ صلى الله عليه وسلم من صِيرِ بابهن وبيده مدرى يحك بها رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَعْلَمُ أَنَكَ تَنْظُرُنِي، أَوْ تَنْظُرُ لِي؛ لَقَلَعْتُ بِهَا عَينَكَ، أَوْ لضطَعَنْتُ بِهِ فِي عَينِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ". والمدري – كما قال أبوا لطيب -: حديدة صغيرة يفرق بها الشعر، وتُسمى بـ"العراق": المخيط، يستعملها النساء.

وقيل: ليس له أن يرميه قبل أن ينهاه؛ كما في الصائل، والأحاديث محمولة على ما إذا داوم النظر بعد النهي، فعلى هذا لو رماه قبل النهي ضمن، وهذا ما نسبه ابن الصباغ والبندنيجي إلى الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وكذلك الماوردي نسبه إليه وإلى القاضي أبي حامد وجمهور البصريين، والغزالي نسبه إلى القاضين يعني: الحسين. وفي "المهذب" نسبة الأول إلى القاضي أبي حامد والشيخ أبي حامد الإسفراييني، وهو المختار في "المرشد"، والمجزوم به في "الإبانة"، وقال الماوردي: إنه قول ابن أبي هريرة، وأكثر البغداديين. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: نسبته إلى شيخه أبي الحسن الماسرجسي، ثم أشار إلى أنه مذهب الشافعي – رضي الله عنه – لأنه قال بعد حكاية الوجه الثاني: وهذا خلاف مذهب الشافعي، رضي الله عنه. قال الغزالي: وكأن الفرق أن النظر إلى الحرم جناية تامة؛ فإن ما رآه وانكشف له لا يستر باندفاعه بعده، لكن لا خلاف أنه بعد الاندفاع لا يقصد عينه بالجناية السابقة، فكأن المسلط الخاصية المذكورة مع وجود الجناية. ثم قال القاضي أبو الطيب: نعم، قال الأصحاب: يستحب له ألا يرميه في أول الاطلاع، ويأمره بالانصراف عنه، فإن رماه قبل أن يأمره فقد ترك الاستحباب ولا ضمان عليه، ويأتي في وجوب هذا الإنذار إذا أوجبناه في الصائل بغير النظر خلاف صاحب "التقريب". [قال:] ويرميه بشيء خفيف، أي: مثل حصا الخَذْف والعُود بقدر المدْرَى؛ لأن المستحق بالجناية فقء العين التي جنت، والخفيف يحصله، والكثيف يزيد عليه؛ فلا يجوز، ثم إذا رماه بشيء خفيف؛ ففقأ عينه، أو أصاب قريباً من عينه، فجرحه – فلا ضمان عليه، وكذا إذا سرى فَقْءُ العين إلى النفس فمات، كما صرّح به في "التهذيب". ولو أصاب موضعاً بعيداً من عينه، لا عن قصد، فهل يضمن؟ قال في "الشامل": لا، وفي "التهذيب": فيه وجهان. وقال: إنهما جاريان فيما لو لم يمكنه إصابة عينه، فأصاب موضعاً آخر، وجزم في "الشامل": بالمنع من الرمي إلى

غير العين، وقد وافق عليه البغوي عند إمكان الرمي إلى العين. قال: فإن رماه بحجر [ثقيل] يقتل، فقتله؛ فعليه القود لتعديه. قال: فإن رماه بشيء خفيف، فلم يرجع – استغاث عليه، فإن لم يلحقه غوث فله أن يضربه بما يردعه [عنه]؛ لوضوح عذره؛ كما في الصائل. قال في "المهذب": والمستحب له قبل الضرب بما يردعه أن يخوفه بالله تعالى. ونسب ابن الصباغ هذا إلى نص الشافعي، رضي الله عنه. أما إذا كان في البيت محرم للناظر، مثل أمه وأخته ونحوهما – نُظِر: فإن كان منكشفاً متجرداً هو كالأجنبية؛ فيجوز رميه؛ لأن النظر إليه حرام، كذا أطلقه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، وفي "تعليق" البندنيجي: أنه يقال له إذا كان في الدار امرأة متجردة: انصرِفْ؛ فإن هاهنا عورة مكشوفة، فإن لم ينصرف وحلَّ منه مايحل من الأجنبي، ثم قال: وهذا نص في: أنه لا يجوز حتى يتقدم إليه بما هو أيسر منه؛ وهو الإضراب، ولو كان المحرم مستترة لم يجز رميه. قال الإمام: وإن كان لا يجوز له أن ينظر؛ لجواز أن يكون في الدار حرم لصاحب الدار، ولكن ما له من الشبهة أسقط جواز قصد عينه. وفي "حلية" الشاشي: أن المطلع إذا كان من المحارم الذي يجري بينهما القصاص، في جواز رميه وجهان: قال الشيخ أبو حامد: يجوز. وقال ابن أبي هريرة: لا يجوز. وهما كذلك في "الحاوي"، وجزم في "الإبانة" بمنع الرمي. وقد ألحق بهذه الحالة ما إذا كان للمطلع في البيت مال، وحُكْم الرجل إذا كان في البيت وحده مكشوف العورة حكم الأجنبية؛ فيجوز له رمي عين الناظر، صرّح به أبو الطيب والبغوي، ولو لم يكن مكشوف العورة، فالذي حكاه الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: منع الرمي.

وفي "الحاوي" أنه كالمرأة سواء، وفي "التهذيب" و"عدة" الطبري و"النهاية" و"الإبانة" فيه وجهان جاريان فيما لو كان له فيها حريم وهن متسترات بالثياب، ورأى الإمام الأظهر – هاهنا-: جواز الرمي؛ لاشتمال الدار على الحرم. تنبيه: احترز الشيخ بقوله: "وإن اطلع رجل" عما إذا اطلع امرأة أو صبي مراهق؛ فإن في جواز رمي عينه وجهين في "التهذيب"، [و] المذكور منهما في "الشامل" و"عدة" الطبري و"الإبانة" في المرأة: الجواز؛ لأن الإنسان يستر عورته من النساء والرجال. وبقوله: "في بيت رجل" عما إذا دخل رجل بيت رجل بغير أمره؛ فإنه يأمره بالخروج من غير ضرب، فإن امتنع دَفَعَه، فإن لم يندفع ضربه، وبأي عضو يبدأ؟ فيه وجهان في "العدة" وغيرها: أحدهما: بالرِّجل؛ لأنها الجانية، كما في النظر تفقأ العين، فعلى هذا لو ضرب غير الرِّجْلِ ضمن، قاله في "التهذيب" وقال الإمام: هذا الوجه غلط لا أصل له. والثاني: له ضرب أي عضو شاء؛ لأنه دخل بجميع بدنه، فلو أتى الضرب عليه لم يضمنه، ولو دفعه قبل أن يأمره بالخروج، فهل يضمنه؟ فيه وجهان في "التهذيب"؛ كما لو رمى الناظر قبل النهي، والمذكور – في "تعليق" أبي الطيب -: الضمان. نعم، قال: لو كان في البيت امرأة ليست بمحرم للداخل فنظر إليها، فهل يجوز رمي عينه وطعنها؟ قال [أبو علي] بن أبي هريرة والطبري: نعم؛ لأنه إذا جاز ذلك إذا نظر من خارج الدار؛ فمن داخلها أولى. وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز، بل يأمره بالانصراف، فإذا لم ينصرف ضَرَبه؛ لان الحكم لما انتقل غلى جميع النفس سقط اعتبار الطروء. وعما إذا قعد إنسان في طريق هو وزوجته وهي مكشوفة العورة؛ فنظر غليها

ناظر، لا يجوز رميه؛ لأن التفريط من المنظور. وكذا لو جلس مع امرأته، أو وحده مكشوف العورة في مسجد [وأغلق بابه]، فنظر إليهما نظار، لا يجوز رميه؛ لأن التفريط منهما؛ فإن الجلوس في المسجد لا يجوز هكذا، ولأنه لا يختص بقوم دون قوم؛ فهو بمنزلة الجلوس في الطريق. ثم كلام الشيخ يشمل ما إذا كان الباب مغلقاً أو مفتوحاً، ونظر منه النظار أو من كوة في البيت واسعة، وقد قال الأصحاب: إن نظر وهو مختار – لم يجز رميه، فإن فعل ضمن، وإن وقف طويلاً ينظر فهل يجوز رميه؟ فيه وجهان، اختيار الشيخ أبي حامد: الجواز، وأصحهما في "التهذيب": المنع، وهو المختار في "المرشد"، ولم يحك الفوراني – وكذا الإمام – سواه، وطرده فيما إذا سقط شيء من جدار البيت، فنظر ناظر من تلك الثلمة. وأجرى البغوي الوجهين فيما لو نظر إليه الناظر من سطح بيته، أو المؤذن من المنارة، وكلام الشيخ يقتضي الجزم [بالرمي] فيهما، وهو المذكور في "الشامل" و"تعليق" البندنيجي و"العدة" و"الإبانة" و"النهاية"، [وفيما] إذا نظر إليه من سطح بيته. ولا خلاف [في] أن المشرف لو كان أعمى، [لا يجوز] رميه؛ لان الأعمى لا تأثير لاطلاعه؛ فلو رماه ضمنه، سواء كان عالماً بعماه أو جاهلاً به. صرّح به في "التهذيب". ولو كان النظار مخطئاً في النظر؛ بأن وقع اتفاقاً، لم يكن لصاحب الحريم أن يرميه مع العلم بحاله، فإن رماه حين اطلع فأصاب عينه، لم يضمن؛ لأن الاطلاع قد وجد في الظاهر، [ولا يعلم] ما في قلب المطلع من القصد وعدمه، فلا ينسب إلى التفريط في رميه إيَّاه. ذكره ابن الصباغ والطبري.

فرع: لو وقف واقف بباب دار، وكان يسترق السمع – فلا يجوز أن يقصد أُذنه، بخلاف ما إذا نظر؛ فإنه باستراقه السمع ليس يطلع على عورة، وإنما المحذور اتصال النظر بالعورات. قال الإمام: وهذا لا يجوز غيره، وقد قطع به القاضي لما سئل عنه. وفي بعض التعاليق عن شيخي: تنزيل الأذن منزلة العين، وهذا لم أسمعه ولم أثق بمن علق عنه ذلك فيما زعم، ولم أورد هذا ليعتد به، ولكني نبهت على غلطه. قال: وإن عض يد إنسان فنزعها منه، فسقطت أسنانه لم يضمن؛ لما ذكرناه من حديث صفوان بن يعلي بن أمية، وقد روى عمران بن الحصين أيضاً "أَنَّ رَجُلاً عَضَّ آخَرَ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، فَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ؛ فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَبْطَلَهَا". خرجه مسلم، ولغيره: "وَقَالَ: أَرَدْتَ أَنْ تَقْضِمَ يَدَ أَخِيكَ كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ". والقضم بالأسنان، والخضم بالأضراس، وقد روي عن الحسن أنه قال: يخضم ويقضم. ولأن النفس لا تضمن بالدفع؛ فالأطراف أولى، وهذا إذا لم يمكنه تخليصها بدون سقوط الأسنان. أما إذا أمكن بأن قدر على فتح فيه بيده الأخرى، وإخراج يده فلم يفعله ونتر يده، أو لم يمكن ذلك، وأمكن بضرب فكه دون غيره، فلم يفعله ونترها، فسقطت أسنانه – ضمن؛ لما ذكرناه في دفع الصائل. قال الشافعي – رضي الله عنه – في "الأم": "وسواء كان العاض ظالماً أو مظلوماً؛ لأن نفس العض محرم على كل حال".

قال: فإن لم يقدر على تخليصه، أي: إلا بفك لحييه، ففك لحييه – لم يضمن؛ كما لو لم يتمكن من دفع الصائل إلا بقطع طرفه، وهكذا لو لم يقدر على تخليصه إلا ببعج بطنه وعصر خُصْيَيْه وما أشبه ذلك، كان له فعله، صرّح به القاضي أبو الطيب. فرع: لو عض قفاه كان له تخليصه بما يقدر عليه، فإن أمكنه بيده ضرب فكه لا غير، فإن لم تنله يداه تحامل على رأسه مصعداً أو منحدراً، فإن لم يتمكن من ذلك كان له بعج بطنه وعصر خُصْيَيه إذا لم يقدر على الخلاص بأيسر من ذلك. قال الإمام: وهذا أصح، فإن خطر لذي خاطر أن [منتهى عضِّ العاض] خدش أو إيلام، فلا نظر إلى هذا، وقد مهدنا جواز قتل من يقصد فلساً في الدفع عنه، فلو خالف ودفع بنوع من قدرته على الدفع بدونه ضمن، وعلى هذه الحالة حمل ما نقله المزني عن الشافعي – رضي الله عنه -: [أنه] إذا بعج بطنه بسكين أو فقأ عينه بيده، أو ضربه في بعض جسده – ضمن. وفي "الزوائد": أن صاحب ["العدة"] وكذا صاحب "الإبانة" قالا: وأخطأ بعض أصحابنا وأجرى هذا اللفظ على ظاهره وقال: يضمن الطاعن وإن لم يمكن الدفع إلا به؛ لأن العاض قصده بغير سلاح؛ فليس له دفعه بالسلاح. وفي "النهاية": أن من أصحابنا من قال: لا يجوز أن يضع السلاح في غير العضو الجاني، وهذا وإن كان مشهوراً في الحكاية فلا أصل له، والذي أراه أن يترك فعله إذا كان القصد من الجاني لا ينتهي إلى قتل أوف فساد [عضو]، فإن كان ينتهي إلى ذلك، وكان لا يتأتى تخليص العضو الذي منه الجناية بالدفع – فالوجه: القطع بتسليط المصول عليه على الدفع، فإن ظن ظانٌّ أن الوجه الضعيف الذي حكيناه يوجب أن تختص اليد الصائلة بالدفع إذا احتوت على قبضه السيف، فقد أخطأ في ظنه؛ فإن الضرب بالسيف وإن كان صادراً

من اليد، فالتحامل مضاف إلى جملته، بشرط ألا يؤدي إلى الهلاك أو فساد عضو. [قال:] وإن صالت عليه بهيمة، فلم تندفع إلا بقتلها [فقتلها] – لم يضمن؛ لأنه دفعٌ مباح بالاتفاق، فوجب ألا يكون مضموناً على الدافع؛ كالآدمي المكلف من حُرّ أو عبدن بل أولى؛ لأن ضمان الآدمي آكد من ضمان البهيمة، وقد وافق الخصم – وهو أبو حنيفة – على إهدار دمه. فرع: لا يجوز للإنسان أن يدخل بيت شخص إلا بإذنه، سواء كان مالكاً أو مستأجراً أو مستعيراً، ثم إن كان أجنبيًّا أو قريباً غير محرم؛ فلابد من إذن صريح، سواء كان الباب مغلقاً أو مفتوحاً، وإن كان ذا محرم: فإن كان ساكناً مع صاحب البيت فيه، فلا يلزمه أن يستأذن، ولكن عليه إذا أراد الدخول أن يشعر بدخوله بالنحنحة وشدة الوطء، ونقل الخُطا ليستتر العريان، ويفترق المجتمعان، وإن لم يكن المحرم ساكناً معه، فإن كان الباب مغلقاً لم يجز الدخول إلا بإذن، وإن كان مفتوحاً ففي وجوب الاستئذان وانتظار الإذن وجهان: أحدهما: يجب عليه الاستئذان، ويحرم عليه الدخول بغير إذن؛ لجواز أن يكون رب الدار على عورة. والثاني: لا يلزمه الاستئذان، ويلزمه الإشعار بالدخول بالنحنحة والحركة الشديدة. قاله الماوردي، والله أعلم.

باب قتل المرتد

باب قتل المرتد الردة في اللغة: الرجوع عن الشيء إلى غيره. قال الله - سبحانه وتعالى-: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 28]. فالمرتد - لغة - كما قال الشافعي [-رضي الله عنه-:] من رجع عن شيء كان عليه. وقيل: بمعنى الامتناع عن أداء الحق، يقال: فلان مرتد، أي: ممتنع عن أداء الحق، ومنه إطلاق اسم الردة على مانعي الزكاة في زمن أبي بكر، رضي الله عنه. وفي الشرع: الرجوع عن الإسلام إلى الكفر من مكلَّف؛ بنية أو فعل صريح في الاستهزاء: كالسجود للصنم ونحوه، والاستخفاف بالمصحف والكعبة، أو يقول عناداً، أو استهزاءً أو اعتقاداً، أو باستحلال حرام، أو تحريم حلال مجمع عليه، كما قاله القاضي الحسين، ومنه: اعتقاد أن السحر حلال، وكما ذكرناه عن البندنيجي، وهذا هو الصحيح. قال الإمام: وفي بعض التعاليق عن شيخي: أن الفعل بمجرده لا يكون كفراً، وهذا زلل من المعلِّق، وسنذكر في آخر الباب شيئاً من تفصيل ما أجملناه في الضابط. ولا خلاف في أن الارتداد محظورٌ لا يجوز الإقرار عليه، وهو أنجس أنواع الكفر وأغلظها، كما قال الله - تعالى-: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ

وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية [البقرة:217]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} الآية [آل عمران: 89]، وغير ذلك من الآيات. قال: تصح الردة من كل بالغ عاقل مختار بالإجماع، والمعنيُّ بالصحة [هاهنا]: ترتُّبُ الأحكام أو بعضها عليه. قال: فأما الصبي والمعتوه فلا تصح ردتهما، أي: سواء كان لهما تمييز أو لا؛ للخبر المشهور، ولأن المجنون – ومن لا تمييز له – لا تصح ردته إجماعاً. فنقول فيمن له تمييز: آدمي غير مكلف، فلا تصح ردته قياساً عليهما، لكن الذي يمتاز به عليهما عندنا أن الإمام يخوفه ويهدده ولا يقتله؛ كما قاله البندنيجي حكاية عن الشافعي، رضي الله عنه. وفي كلام الإمام إشارة إلى حكاية خلاف في صحة ردته؛ فإنه قال: وسبيل الردة الصادرة منه كسبيل صدور الإسلام منه؛ كما ذكرناه في اللقيط. وكما لا تصح الردة من المجنون، لا يقتل في حال جنونه إذا كان قد ارتد في حال إفاقته؛ لأنه ربما عاد إلى الإسلام لو عقل، وكذا لو أقر على نفسه بالزنى، أو بحد من حدود الله - تعالى – في حال إفاقته؛ لا يستوفي منه [في] حال جنونه؛ كما قاله القاضي الحسين في باب: عفو المجني عليه ثم يموت، قال: بخلاف ما لو ثبت عليه بالبيّنة ثم جن؛ فإن الظاهر أنه يستوفي، لكن هذا التأخير على سبيل الاحتياط، حتى لو قتل في حال الجنون، أو حُدَّ من فعل الردة أو سبب الحد – لم يجب على الفاعل شيء. قال: وتصح ردة السكران؛ لأن الصحابة – رضي الله عنهم – أجمعوا على تكليفه، وهذا ما نص عليه الشافعي – رضي الله عنه – هنا، حيث قال: وإن ارتد سكران، فمات كان ماله فيئاً، ولا يقتل إن لم يتب حتى يمتنع مفيقاً. وبه جزم القاضي أبو الطيب.

قال: و [قيل] فيه قولان، سبق توجيه نظيرهما في [كتاب] الطلاق وغيره، وأن الأظهر: هذه الطريقة، وأن أصح القولين فيها: جعْلُهُ كالصاحي. التفريع: إن قلنا بالصحة فلا يقتل حتى يُفيق، فيعرض عليه الإسلام فيمتنع، وفي صحة استتابته [في حال السكر] وجهان في "الحاوي" و"التهذيب": أحدهما: أنها تصح كما تصح ردته، لكن المستحب أن يُؤخَّر إلى الإفاقة. قال الماوردي: وهذا ظاهر مذهب الشافعي – رضي الله عنه – وبه قال أبو إسحاق. والثاني- وهو المذكور في "الشامل" -: المنع؛ لأن الشبهة لا تزول في تلك الحالة، ولو عاد إلى الإسلام في السكر صح إسلامه، وارتفع حكم الردة. وقد روي عن الشافعي –رضي الله عنه- أنه قال: لو رجع إلى الإسلام لم أُخَلِّ سبيله حتى يفيق، فإن وصف الإسلام كان مسلماً من حين وصف الإسلام، وإن وصف الكفر كان كافراً [الآن]؛ لان إسلامه صح، وإنما أحبسه استظهاراً. وبهذا جزم أبو الطيب في "تعليقه"، وكذلك قال فيما إذا كان قد ارتد وهو صاحٍ، ثم أسلم وهو سكران، وقد تقدم طريق عن [ابن] أبي هريرة

في [أن] تصرفات السكران ينفذ منها ما عليه بلا خلاف، والقولان فيما له، فعلى هذه الطريقة يجيء قول كما قال الماوردي [وغيره]: أنه لا يصح إسلامه بعد ارتداده؛ لأنه تخفيف، وإن صحت ردته، وإن كان بعد كفر يُقَرّ عليه كالذمي؛ صحَّ لأنه تغليظ. وأطلق القاضي الحسين قولاً: أنه لا يصح إسلامه، وإن صحت ردته. وعن رواية ابن كج طريقة أخرى قاطعة: بأنه لا يصح عوده إلى الإسلام، وحكى الجزم بالمنع فيما لو كان قد ارتد صاحياً، ثم سكر فأسلم، قال الماوردي: وما صار إليه ابن أبي هريرة خطأ؛ لأن السُّكْرَ إن سلبه حكم التمييز وجب أن يعم كالمجنون، [وإن لم] يسلبه حكم التمييز وجب أن يعم كالصاحي، ولا يصح أن يكون مميزاً في بعض الأحكام وغير مميز في بعضها؛ لتناقضه في المعقول، وفساده في الأصول؛ فثبت بهذا أن الظاهر: الأول، وعلى هذا لو قتله قاتل تعلق به الضمان والقصاص. وذكر الإمام: أن بعض الأصحاب يشير به إلى الفوراني، فإنه مذكور في "إبانته"؛ ذكر قولاً في إهداره أخذاً من الخلاف فيما إذا اسلم أحد أبوي الطفل بعد علوقه على الكفر، ثم بلغ وقُتِل قبل أن يعرب عن نفسه بالإسلام، هل يجب الضمان على قاتله أم لا؟ والتقريب: أن الإسلام الصادر من السكران حكميّ؛ إذ ليس له عقل صحيح، كما أن الإسلام الحاصل بتبعية أحد الأبوين حكميّ، ثم قال: إنه ليس بشيء، وإن قلنا بعدم صحة ردته، فلو قتله قاتل تعلق بقتله القصاص والضمان، وفي وجه: لا يجب القصاص للشبهة، وتجب الدية، ويحكي هذا عن [ابن] القطان. قال: وأما المكره فلا تصح ردته، [أي]: إذا كان قلبه مطمئناًّ بالإيمان؛

لقوله – تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، ويجوز له النطق بكلمة الردة بالشرط المذكور، وهل يجب؟ فيه وجهان، أصحهما: المنع مصابرة وثباتاً على الدين، كما يعرض نفسه للقتل في الجهاد ذبًّا عن الدين، وعلى هذا فالأفضل أن يثبت ولايتكلم بكلمة الردة. ومن الأصحاب من قال: إن كان ممن يتوقع منه النكاية [في العدو] والقيام بأحكام الشرع، فالأفضل أن يتكلم بها، ويدفع القتل عن نفسه؛ لما في بقائه من الصلاح، وإلا فالأفضل أن يمتنع، وهذا ما أورده الماوردي، واختاره في "المرشد". أما إذا أُكره على التلفظ [كلمة الردة]، فاعتقد ذلك بقلبه – صحت ردته؛ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106]. ولو تجرد قلبه في حالة الإكراه على التلفظ بكلمة الردة عن [اعتقاد الإيمان والكفر]، ففيه وجهان في "الحاوي": أحدهما: أنه باق على إسلامه؛ لأن ما حدث من الإكراه معفو عنه. والثاني: أنه يكون مرتداً حتى يدفع حكم لفظه بمعتقده؛ لأنه لا عذر له في تركه. قال: وهكذا المُكْرَه على الطلاق، تعتبر فيه هذه الأحوال الثلاثة في لفظه ومعتقده. ولا خلاف أن الحربي والمرتد إذا أُكرِها على الإسلام صح إسلامهما؛ كما حكاه البندنيجي والقاضي أبو الطيب وغيرهما، وفي صحة إسلام الذمي بالإكراه عليه وجهان في "المهذب" في [موضع منه لم يحضرني ذكره]، وفي "النهاية" في كتاب الظهار، وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب صفة العمد، والمجزوم به منهما في "الحاوي" و"تعليق" البندنيجي والقاضي أبي الطيب [و"الذخائر" وغيرها] في باب قتل المرتد: [المنع]، كما في الإكراه على الردة، [وهو في

موضع آخر من المهذب]، ونقل مجلي أن الغزالي قال: إن الصحيح أن المرتد إذا حُمل على التوبة بالسيف فلا أثر لها، ومذهب الشافعي – رضي الله عنه – الأول، وقد حكى عن [أبي] إسحاق أيضاً. قال: وكذا الأسير في يد الكفار، أي: مقيداً [كان] أو محبوساً، لا تصح ردته، أي: سواء طلبت منه أم لا؛ لأن الحبس والقيد إكراه، وهذا ما حكاه الرافعي والقاضي أبو الطيب عن النص، لكن في كلام الأصحاب ما يقتضي خلافه؛ فإنهم قالوا: إذا قامت بيّنة على شخص بأنه ارتد بقوله كذا وكذا، فقال: كنت مكرهاً فيما أتيت به- نظر: فإن كانت قرائن الأحوال تشهد له بأنْ كان في أسر الكفار، أو كان محفوفاً بجماعة منهم وهو مستشعر – صدق بيمينه، وإنما حلف؛ لاحتمال كونه مختاراً؛ [فإنه يصح ذلك الكلام]. وإن لم تشهد القرائن [بصدقه]؛ بأن كان في دار الإسلام – [لم] يقبل قوله، وأجري عليه أحكام المرتدين. وهكذا الحكم لو كان في دار الحرب وهو آمن؛ لكونه في خلوة، [و] لا يشعر به أحد منهم، وهذا يقتضي أن محل عدم الحكم بردته إذا ادعى الإكراه، مع كونه في أيدي الكفار، أما قبل الدعوى واليمين فلا، ويؤيده ما حُكي عن القفال أنه لو ارتد الأسير في أيدي الكفار، ثم حَلَّ بهم خيل المسلمين، فاطلع عليهم من الحصن وقال: أنا مسلم، وإنما تشبهت بهم؛ فَرَقاً منهم – يقبل قوله، ويحكم بإسلامه، وإن لم يدَّعِ ذلك حتى مات، فالظاهر أنه ارتد طائعاً، وإن مات أسيراً. ولو رجع الأسير إلى بلاد الإسلام، ومات قبل أن يظهر إسلامه – هل يورث؟ قياس ما ذكرناه عن القفال: لا، وقد صرح الماوردي بحكايته عن

ابن القطان وقال: إنه يموت كافراً، وكان من حقه إذا جاءنا أن يتكلم بكلمة الإسلام. وقال القاضي الحسين: يحتمل قولين؛ بناء على ما قلنا في الصبي المحكوم بإسلامه تبعاً لأحد أبويه، فبلغ ومات قبل أن يظهره: ما حكمه؟ فعلى قولين. وجزم القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما [فيما] إذا قامت البينة على إكراهه على الردة في دار الحرب، ثم عاد إلى [دار] الإسلام – بأنه يؤمر بإظهار الإسلام، فإن امتنع كان مرتدًّا من حين ارتد في دار الحرب، لأنَّا تبيَّنا أنه لم يكن مكرهاً [عليه]، وهذا ما حكاه الإمام عن صاحب "التقريب" والعراقيين، [ثم قال]: وفيه عندي احتمال ظاهر؛ فإنه لم يسبق منه اختيار، والأمر محمول على ظاهر الإكراه، ويلزم منه دوام حكم الإسلام [له] مستمرًّا، [وامتناعه من] تجديد كلمة الإسلام لا يغيّر الحكم بإسلامه. ثم هذا العرض: هل هو [مستحب أو واجب]؟ سكت عنه المعظم، وعن ابن كج: انه مستحب، واحتج له بأنه لو أكره على الكفر في دار الإسلام، لا تعرض الكلمة عليه بعد زوال الإكراه باتفاق الأصحاب. ثم إنه شرط في هذا العرض ألا يؤم الجماعات، ولا يقبل على الطاعات بعد العود إلينا، فلو فعل ذلك [استغنى عن العرض]. قال: ومن ارتد عن الإسلام استحب [له] أن يستتاب في أحد القولين؛ لرجاء توبته، وإنما لم تجب؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"، ولأن وجوب الاستتابة يوجب حظر دمه قبلها وضَمانَه، كما يجب على قاتل من لم تبلغه الدعوة لما كان التبليغ واجباً، وهو غير مضمون [الدم]؛ فدلَّ على استحبابها،

وهذا ما اختاره ابن أبي هريرة كما حكاه الرافعي، وقال القاضي الحسين: إنه اختيار الماسرجسي. ويجب في الآخر؛ لما روى عروة عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "ارْتَدَّتِ امْرَأَةٌ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَتْ وَإِلا قُتِلَتْ". وروى أبو بكر بن المنذر أن ابن مسعود كتب إلى عثمان –رضي الله عنه – في قوم ارتدوا، فكتب [إليه] عثمان –رضي الله عنه-: ادعهم إلى الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن أجابوا فخلِّ عنهم، وإن امتنعوا فاقتلهم، فأجاب بعضهم؛ فخلى سبيله، وامتنع بعضهم؛ فقتله. ولأن الأغلب من حدوث الردة: أنه لاعتراض شبهة؛ فلم يجز الإقدام على القتل قبل كشفها والاستتابة منها، كأهل الحرب: لا يجوز قتلهم إلا بعد بلوغ الدعوة، وإظهار المعجزة، وهذا أصح في "الحاوي". وعند النواوي والقاضيين الطبري والروياني. وقال القاضي الحسين: إنه اختيار ابن أبي هريرة وابن المرزبان. قال: وفي مدة الاستتابة قولان، أي: سواء قلنا باستحبابها أو بوجوبها، كما قاله الماوردي والبندنيجي وغيرهما: أحدهما: ثلاثة أيام؛ لما روي أن رجلاً قدم على عمر – رضي الله عنه – من الشام، من قِبَلِ أبي موسى الأشعري، فقال له عمر – رضي الله عنه-: هل فيكم من مُغَرّبةِ خبرٍ؟ فقال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه فقتلناه، وفي رواية أنه قال: لا، إلا أن نصرانيًّا أسلم، ثم ارتد؛ فقتله أبو موسى، فقال عمر – رضي الله عنه-: "هَلاَّ حَبَسْتُمُوهُ فِي بَيْتٍ ثَلاَثاً، وَأَطْعَمْتُمُوهُ فِي كُلِّ يَومٍ رَغِيفاً، وَاسْتَتَبْتُمُوهُ؛ لَعَلَّهُ

يَتُوبُ؟! اللَّهُمَّ لَمْ أُحْضَرْ، ولَمْ آمُرْ، وَلَم أرْضَ إِذْ بَلَغَنِي، اللهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيكَ مِنْ دَمِهِ! "، وفي رواية: مما فعله أبو موسى. ولأن المقصود منه استبصاره في الدين، ورجوعه [إلى] الحق، وذلك مما يحتاج فيه إلى التروِّي والفكر، فأمهل بما يُقَدَّر في الشرع من مدة [هي] أقل الكثير وأكثر القليل، وذلك ثلاثة أيام. قال الماوردي: وعلى هذا يكون إمهال الثلاث على قولٍ مستحبًّا، وعلى قولٍ واجباً. وذهب بعضهم – كما حكاه غيره- إلى أنه لا خلاف في انه لا يجب الإمهال ثلاثاً، وإنما الخلاف في الاستحباب، وهذا ما يحكي عن اختيار الشيخ أبي محمد في "المنهاج"، فإن قلنا: لا يستحب، منع منه، وعلى كل حال: لا يخلي سبيله، بل يحبس حتى تنقضي مدته، كما أشار إليه عمر، رضي الله عنه. قال: والثاني: في حال، وهو الأصح؛ لما روى ابن المنذر عن جابر أن امرأة يقال لها [أم] رومان، ارتدت عن الإسلام، فبلغ أمرها النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بأن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت. [وَرَوُى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – قَالَتْ: ارْتَدَّتِ امْرَأَةٌ يَوْمَ أُحُدِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَتْ وَإِلا قُتِلَتْ]. ولم

يقدر فيها بالثلاث، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"، ولقصة عثمان التي ذكرناها، ومن جهة القياس: أنه حَدٌّ، فلم يؤجل فيه كسائر الحدود. قال البندنيجي: وهذا ما اختاره الشافعي والمزني، رضي الله عنهما. وقال ابن الصباغ: إنه الذي نصره الشافعي، رضي الله عنه. وفي "الوسيط": أنا على هذا القول لو قال: أمهلوني؛ ريثما تنجلي شبهتي بالمناظرة، فهل يمهل؟ فيه قولان، والإمام حكاهما عن رواية العراقيين، والذي أورده منهما القاضي الحسين، وحكاه الروياني عن النص: الإمهال، واستبعد الخلاف فيه، ورأى الغزالي مقابله أصحَّ، وعن أبي إسحاق أنه لو قال: أنا جائع فأطعموني، ثم ناظروني، أو كان الإمام مشغولاً بما هو أهم منه – تأتينَا به. قال: فإن رجع إلى الإسلام قُبِل منه، أي سواء كانت ردته إلى دين يتظاهر به أهله: كاليهودية والنصرانية والمجوسية، أو إلى كفر يُسِرُّه [أهله]: كالزنديق والمنافق، كما صرّح به الماوردي والعراقيون، وحكاه الإمام عن [نص] الشافعي –رضي الله عنه – لعموم قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 94]، يعني: استسلم إليكم، وألقى المقادة إليكم، وسبب نزولها أن رَجُلا يقال له: مِرْداس بن عمر، كانت له غنيمات، لَقِيَتْهُ سريةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: السلام عليكم، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فبدر إليه أسامة بن زيد فقتله، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لم قتلته؟! قال: إنما قالها متعوّذاً! قال: هلا شققت عن قلبه! ثم حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله، وردّ عليهم غنمه.

ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى [يَشْهَدُوا أَنْ] لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَأَنْ يَسْتَقْبِلُوا قِبْلَتَنَا، وَ [أَنْ] يَاكُلُوا ذَبِيحَتَنَا، وَ [أَنْ] يُصَلُّوا صَلاَتَنَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ"، وفي رواية: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ". أخرجه أبو داود والبخاري تعليقاً، وقال الترمذي: إنه حسن صحيح غريب. وروي أن رجلاً سارَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُدْرَ ما سارّه حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؟ قَالَ: بَلَى، وَلا شَهَادَةَ لَهُّ قَالَ: "أَلَيْسَ يُصَلِّي؟ "، قَالَ: بَلَى، وَلا صَلاةَ لَهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: [أُولَئِكَ الذِين] نَهَانِي اللهُ – سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى – عَنْهُمْ".

ورُوي عَنْ عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ مِنْ رَجُلٍ النِّفَاقَ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مُسْلِمٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ عُمَرُ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَظُنُّكَ تُظْهِرُ الإِسلاَمَ مُسْتَعِيذاً، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلَيْسَ فِي الإِسْلاَمِ مَا يُعِيذُنِي؟! قَالَ عُمَرُ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: بَلَى، فِي الإِسْلاَمِ مَا أَعَاذَ مَنِ اسْتَعَاذَ بهِ. وهذا هو الصحيح، ووراءه وجوه أُخر: أحدها: أنه لا تقبل توبة الزنديق ورجوعه إلى الإسلام؛ لأن التوبة عند الخوف عين الزندقة؛ فلا اعتماد على ما يظهره. قال الروياني في "الحلية": والعمل على هذا. قال الإمام: وقد أضاف الأصحاب هذا إلى أبي إسحاق. يعني: الإسفراييني، كما صرّح به غيره. والصحيح عندنا من مذهبه: الوجه الثاني، وهو أنه إذا أُخذ ليقتل فتاب لم تقبل توبته، وإن جاءنا ابتداء وظهرت مخايل الصدق قبلت. والثالث – عن القفال الشاشي – أن المتناهين في الخبث – كدعاة الباطنية – لا تقبل توبتهم ورجوعهم إلى الإسلام، وتقبل من عوامهم. قال: وإن تكرر منه ثم أسلم – عزر؛ لتهاونه بالإسلام، وليمتنع من العود إلى مثله، وإنما صح إسلامه؛ للأخبار السالفة. وقال أبو إسحاق المروزي: لا يقبل إسلام من تكررت منه الردة؛ لبطلان الثقة بقوله. قال الإمام: وهذا من هفواته الفاحشة، ولا مبالاة بها، والماوردي وأبو الطيب وغيرهما نسبوا هذا القول [إلى] إسحاق بن راهويه، وليس هو من أصحابنا،

والظاهر من المذهب الأول. قال الأصحاب: ولا يبعد أن يخطئ الإنسان مرتين ويصيب مراراً. قال: وإن ارتد إلى دين لا تأويل لأهله، أي: كعَبدَة الأوثان، ومنكري النبوات كالأميين من العرب – كفاه أن يقر بالشهادتين، وهما [كما] قال البندنيجي عن الشافعي – رضي الله عنهما – أشهد أن لا إله إلا الله، [وأشهد] أن محمداً رسول الله؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ ... " الخبر السابق. نعم، يستحب أن يأتي بلفظ البراءة من كل دين [خالف الإسلام]. وفي "التهذيب" أنه إذا قال: لا إله إلا الله، حكم بإسلامه، ثم يجبر على قبول سائر الأحكام. قال: وإن ارتد إلى دين يزعم أهله أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى العرب [أي:] خاصة – لم يصح إسلامه حتى يأتي بالشهادتين، ويبرأ من كل دين خالف [دين] الإسلام؛ لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أن يريد ما يعتقده، فإذا قال ما ذكرناه انقطع الاحتمال، ويقوم مقام ذلك قوله: إن محمداً مبعوث إلى كافة الخلق، كما قاله القاضي الحسين والبغوي، وماذكره الشيخ في الحالتين هو المنقول عن نص الشافعي – رضي الله عنه- في "الأم"،كما حكاه الماوردي، وفي كتابه المسمى بـ "المرتد الصغير" كما قاله القاضي أبو الطيب، وفي كتابه المسمى بـ "المرتد الكبير" كما حكاه البندنيجي. وعليه حمل الجمهور- ومنهم القاضي أبو حامد وأبو إسحاق – وَصْف الشافعي –رضي الله عنه- الإسلام في "المختصر" في كتاب الظهار، حيث قال: أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، [وأن] يبرأ من كل دين يخالف الإسلام. مع قوله في موضع آخر: إنه إذا أتى بالشهادتين حكم بإسلامه، وقالوا: ليس ذلك باختلاف قول، ولم يحك القاضي أبو الطيب غير ذلك، ومن الأصحاب من أخذ بظاهر النص الأول، وقال: الإتيان بالتبرؤ من كل دين

شرط في إسلام كل كافر ومرتد؛ كالشهادتين، ومنهم من أخذ بظاهر النص الآخر، وقال: إنه لا يجبن بل يستحب في إسلام كل كافر ومرتد كالاعتراف بالبعث والجزاء. وقد حكى الماوردي الوجهين، وما ذكره الشيخ في الحالة الأولى يكتفي به – أيضاً – فيما إذا كان قد انتقل إلى دين من هو معترف بالوحدانية منكرٌ رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذكره في الحالة الثانية لابد منه في حق [من انتقل إلى دين يزعم أهله أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حق]، لكنهم [يقولون]: إنه لم يظهر بعد. ولو كان قد كفر بجحود فرض الصلاة والزكاة، واستباحة محرم – كالزنى والخمر – مع اعترافه بالشهادتين – فلابد في صحة إسلامه من أن يأتي بالشهادتين ويرجع عما اعتقده ويعترف بما جحده، ولا يجزئه الاقتصار على الاعتراف؛ لأنه قد جرى عليه حكم الكفر بالردة، فلزمه إعادة الشهادتين؛ ليزول بهما حكم الكفر، ولو كان كفره بسبّ [سيدنا] محمد صلى الله عليه وسلم كان [في الاعتراف بنبوته] في الشهادتين مَقْنَعٌ، ولا يفتقر إلى الاعتراف بحظر سبه [صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاعتراف بنبوته اعتراف بحظر سبه]. ومما ذكرناه يظهر لك ما يحصل به إسلام [من لم] يرتد [أصلا]، بل هو كافر أصلي، فيكون فيه الأقوال الثلاثة، ولا يشترط في حقه أن يعرف جميع قواعد العقائد حتى لا تغادره منها قاعدة، بل الذي اعتبره الشرع في ذلك الإتيان بالشهادتين كما ذكرنا، قال الإمام: وهما جامعتان للقواعد؛ إذ في التوحيد الاعتراف بالإله والوحدانية، وفيه التعرض لصفات الإلهية، وتفويض الأمور إلى من لا إله غيره. والشهادة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم تقتضي تصديقه في جميع ما أتى به؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل – عليه السلام – في الحديث المعروف عن

الإسلام: "شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ"، وهذه طريقة وهي المشهورة، ومَيْلُ الرافعي إلى ترجيحها. قال الإمام: والقائل بها يرى أن النطق بالشهادتين باب من التعبد، حتى إذا قال المعطِّل [: لا إله إلا الله، لا يحكم بإسلامه ما لم يقل: محمد رسول الله، ثم قال: وقال المعظم من المحققين: من أتى من الشهادتين بما يخالف عَقْدَه نحكم له بالإسلام، فإذا قال المعطِّل]: لا غله إلا الله، صار مسلماً، وعرض عليه شهادة النبوة، فإن أباها كان مرتدًّا، وكذلك إذا قال الثَّنَوِيُّ بإثبات الإله حكم له بالإسلام. وإذا قال اليهودي أو النصراني: محمد رسول الله، حكم له بالإسلام، وإن لم يوحد، إلا أن يكون ممن يرى أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب [خاصة، وعلى] هذه الطريقة: لو اعترف يهودي أو نصراني بصلاة من الصلوات على موافقة ملتنا، أو بحكم من الأحكام التي تختص بشريعتنا، كتحريم الخمر والخنزير، فهل يحكم بإسلامه؟ فيه اختلاف بين المحققين، والذي مال إليه معظمهم: الحكم به، وضبط القاضي الحسين هذا بأن قال: كل ما إذا أنكره المسلم قبل كفر بما جحد، فما يجحده يصير الكافر المخالف له مؤمناً بعقده إلا في مسألة واحدة، وهي أن المسلم لو جحد نبوة عيسى – عليه السلام- يصير به كافراً، واليهودي لو أقر بنبوته لا يحكم بإيمانه. ووجه هذه القاعدة: أن التصديق لا يتبعض، فإن صدق- وراء ذلك – بالجميع فذلك، وإن كذب في غير ما صدق فهو مرتد، وهذا ما أورده في "التهذيب"، وحكى أن اليهودي إذا أقر برسالة عيسى – عليه السلام – يحكم بإسلامه على وجهٍ؛ طرداً للقاعدة المذكورة. وكما يصح الإسلام باللغة العربية يصح بجميع اللغات؛ كما صرّح به ابن الصباغ [وغيره]، نعم: لو لُقّن العجمي الكلمة العربية فتلفظ بها وهو لا يعرف معناها، لم يحكم بإسلامه.

وعن "المنهاج" للإمام الحليمي: أنه لا خلاف أن الإيمان ينعقد بغير القول المعروف، وهو كلمة "لا إله إلا الله"، حتى لو قال: لا إله سوى الله، أو غير الله، أو ما عدا الله، فهو كقوله: [إلا الله]. [وكذا لو قال: ما من إله إلا الله، أو: لا إله إلا الرحمن، أو: لا رحمن إلا الله، أو: لا إله إلا الباري، أو: لا باري إلا الله]. وأن قول القائل: [أحمد أو أبو القاسم] رسول الله، كقوله: محمد رسول الله. والأخرس يشير بالإسلام ويكتفي به؛ فإن إشارته قائمة مقام نطق الناطق. قال الإمام: وأبعد بعض أصحابنا فشرط أن يضم إلى الإشارة إقامة صلاةٍ، وهذا بعيد لا أصل له، وهذا ما قال الرافعي: إنه ظاهر النص في "الأم"، ثم قال الإمام: وقال بعض من يجزم على التحقيق: إنما لا يحصل الإسلام بإشارة الأخرس؛ لأن الإشارة منه تناقض ما يجب عقده في أوصاف الإلهية؛ إذ الإشارة لا تتم إلا بالإيماء إلى جهة، وما يومأ إليه جسم، والمذهب الأول، والقائل به حمل اشتراط الصلاة على ما إذا لم تكن الإشارة مفهمة، ويدل على الاكتفاء بالإشارة ما روي: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جارية أعجمية أو خرساء، فقال: "عليَّ عتق رقبة، فهل تجزئ عني هذه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم [لها]: "أَيْنَ اللهُ؟، فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: مَنْ أَنَا؟ فَأَشَارَتْ [إِلَى] أَنَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ". قال المتولي: وإنما جعل الإشارة إلى السماء دليلاً على إيمانها؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام. فأفهم الإشارة البراءة، وادعى الإمام أن هذا الحديث لا دلالة فيه؛ لأنه قال بعد ما حكاه عن بعض من يجزم على التحقيق: فإن [قال] قائل: كيف تستجيزون ذكر هذا وحديث الخرساء في الصحيح؟ قلنا:

ذلك حديث مؤول باتفاق من عليه معول؛ فإن فيه: قال لها:"أين الله؟ "، وكل حديث يقتضي العقل تأويل ظاهره فلا حجة فيه. وقد حكى الرافعي عن "المنهاج" للحليمي – أيضاً – فروعاً تمس الحاجة إلى ذكرها وإن طالت: فمنها: إذا قال الكافر الذي لا دين له: آمنت بالله – صار مؤمناً بالله، وإن كان يشرك بالله غيره فلا، حتى يقول: آمنت بالله وحده، وكفرت بما كنت أشرك به، وأن قوله: أسلمت لله، أو أسلمت وجهي لله، كقوله: آمنت بالله. وأنه لو قيل للكافر: أسلم لله، أو: آمن بالله، فقال: أسلمت وآمنت، فيحتمل أن يجعل مؤمناً، وأنه لو قال: أؤمن بالله، أو: أسلم لله، فهو إيمان؛ كما أن قول القائل: أقسم بالله، يمين، ولا يحمل على الوعد إلا أن يريده، وأنه لو قال: الله ربي، أو: الله خالقي، فإن لم يكن له دين من قبل فهو إيمان. وإن كان من الذين يقولون بِقِدَمِ أشياء مع الله – تعالى- لم يكن مؤمناً، حتى يقرَّ بأن لا قديم إلا الله، وكذا الحكم لو قال: لا خالق إلا الله؛ لأن القائلين به يقولون: الله خلق ما خلق لكن من أصل قديم. وأنه لو قال اليهودي المشبِّه: لا إله إلا الله، لم يكن هذا إيماناً منه حتى يبرأ من التشبيه، ويقر بأنه ليس كمثله شيء، وإن قال مع ذلك: محمد رسول الله، فإن كان يعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء بإبطال التشبيه، كان مؤمناً، وإلا فلابد من أن يبرأ من التشبيه. وطرد هذا التفصيل فيما إذا قال الذي يذهب إلى قدم أشياء مع الله – تعالى-: لا إله إلا الله محمد رسول الله، حتى إذا كان يعلم أن محمداً جاء بإبطال ذلك، كان مؤمناً. وأن الثنوي إذا قال: لا إله إلا الله [محمد رسول الله]، لم يكن مؤمناً حتى يبرأ من القول بقدم النور والظلمة. وإن قال: لا قديم إلا الله [-تعالى- كان مؤمناً. وأن الوثني إذا قال: لا إله إلا الله،] فإن كان يزعم ان الوثن شريك لله – تعالى –

صار مؤمناً، وإن كان يرى أن الله – تعالى – هو الخالق ويعظم الوثن؛ لزعمه أن يقربه إلى الله – تعالى – لم يكن مؤمناً حتى يبرأ من عبادة الوثن. وأنه لو قال الإبراهيمي، وهو يوحد الله – تعالى –وإنما [يكفر بجحد] الرسل: محمد رسول الله – صار مؤمناً، وإن أقر برسالة نبي قبله كإبراهيم – عليه السلام – لم يكن مؤمناً. وأن المعطل إذا قال: محمد رسول الله، فقد قيل: يكون مؤمناً؛ لأنه أثبت الرسول والمرسل معاً. وإذا قال الكافر: لا إله إلا الله الذي آمن به المسلمون، كان مؤمناً، ولو قال: [آمنت بالذي لا إله غيره، أو بمن لا إله غيره – لم يكن مؤمناً؛ لأنه قد يريد الوثن، وأنه لو قال: آمنت بالله] وبمحمد، كان مؤمناً بالله، ولم يكن مؤمناً بنبوة محمد [صلى الله عليه وسلم حتى يقول: بمحمد رسول الله، أو:] بمحمد النبي، وأنه لو قال: آمنت بمحمد الرسول، لم يكن مؤمناً؛ لأن النبي لا يكون إلا لله، والرسول قد يكون لغيره. وأن الفلسفي إذا قال: أشهد أن الباري – تعالى – علة الموجودات، أو مَبْدؤها، أو سببها – لم يكن ذلك إيماناً، حتى يقول: إنه مخترع ما سواه ومحدثه بعد أن لم يكن. وأن الكافر إذا قال: لا إله إلا المحيي والمميت، فإن لم يكن من الطبائعيين كان مؤمناً، وإن كان منهم فلا؛ لأنهم ينسبون الحياة والموت إلى الطبيعة؛ فينبغي أن يقول: لا إله إلا الله، أو: إلا الباري، أو يذكر اسماً آخر لا تبقى معه الشبهة. وأنه إذا قال: لا إله [إلا] الملك، أو: إلا الرزاق – لم يكن مؤمناً؛ لأنه [قد] يريد المَلِك الذي يقيم عطايا الجند، ويرتب أرزاقهم، كما كان يذكر قوم فرعون [له] وكان ملكهم. ولو قال: لا إله إلا الله، أو: لا رازق إلا الله – كان مؤمناًن وبمثله أجاب

فيما إذا قال: لا مالك إلا الله العظيم، أو العزيز، أو الحكيم، أو الكريم، وبالعكس. وأنه لو قال: لا إله إلا الله الملك، أو: إلا ملك السماء – كان مؤمناً، قال الله –تعالى-: {أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] وأراد نفسه. ولو قال: لا إله إلا ساكن السماء، لم يكن مؤمناً، وكذا لو قال: [لا إله] إلا الله ساكن السماء؛ لأن السكون غير جائز على الله تعالى. وأنه لو قال: آمنت بالله إن شاء الله – [وإن] كان شاباً – لم يكن مؤمناً. وأنه لو قال اليهودي: أنا برئ من اليهودية، والنصراني: أنا برئ من النصرانية- لم يكن مؤمناً، وكذا لو قال: من كل ملة تخالف الإسلام؛ لأنه يبقى التعطيل الذي يخالف وليس بملة، فإن قال: من كل [ما يخالف] الإسلام من دين ورأي وهوى، كان مسلماً، وأنه إذا قال: الإسلام حق، لم يكن مؤمناً؛ لأنه قد يكون يقر بالحق ولا ينقاد له، وفي "التهذيب": أنه إذا قال: دينكم حق، أو أنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم – حكم بإسلامه. [وأنه لو] قال: أنا ولي وأحب محمداً، لم يصح إسلامه؛ لأنه قد يحبه لخصاله الحميدة، وكذا لو قال: أنا مثلكم، أو: مؤمن، أو: مسلم، أو: آمنت، أو: أسلمت، وهو كذلك في "تعليق" القاضي الحسين، ولو كان بين يدي القاضي؛ لأنه قد يريد: في البشرية ومؤمن بموسى ومنقاد لكم. وعن "منهاج" الحليمي أيضاً: أنه إذا [قال] من له ملة: أنا مسلم مثلكم – كان مقرًّا بالإسلام، [وإذا قال المعطل – بعد أن قيل له: أسلم-: أنا مسلم، أو من المسلمين – كان مقراً بالإسلام،] والله أعلم. قال: وإن أقام على الردة وجب قتله؛ لما روى عثمان بن عفان – رضي الله عنه-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ .. "

الخبر المشهور، وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ". ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة؛ لما ذكرناه من الأخبار، قال الماوردي: فلو كان المرتد في منعة فلا يقاتلوا إلا بعد إنذارهم وسؤالهم عن سبب ردتهم، فإن ذكروا شبهة أزالها، وإن ذكروا مظلمة رفعها، وإن أصروا قاتلهم. قال: فإن كان حرًّا لم يقتله إلا الإمام، أي: أو من يأذن له فيه؛ لأنه قتل مستحق لله – تعالى، فكان للإمام ولمن يأذن له كرجم الزاني، وهذا [إذا] لم يقاتل؛ أما إذا كان محارباً في منعة، قال الماوردي: جاز أن يقتله كل من قدر عليه، ولم يختص بالإمام؛ كما يجوز قتل أهل الحرب. قال: فإن قتله غيره بغير إذنه – عزر؛ لافتياته عليه، وفي "الجيلي" حكاية وجه عن "شرح التلخيص: أنه تجب فيه الدية. قال: وإن قتله إنسان، ثم قامت البينة أنه كان قد [رجع إلى الإسلام] ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه القود؛ لأن نفسه في الطرفين محظورة، وإباحتها مخصوصة بشخص؛ فلم يقتضِ ذلك سقوط القصاص، كما إذا قتل من وجب عليه قصاص لغيره، وهذا ما نص عليه في "المختصر" و"الأم"، وهو الأصح في "الحاوي" وعند النواوي وغيرهما. والثاني: لا يجب إلا الدية؛ لأن تقدم الردة شبهة لسقوط القود؛ فأشبه الحربي إذا أسلم وقتله من لم يعلم بإسلامه، سقط عنه القود، وضمنه بالدية، كذلك إسلام الرتد، وهذا ما نص عليه في بعض كتبه، وبعضهم قال: إنه مخرج كما حكيته في الجنايات، وصححه [في] "الجيلي"، ومن الأصحاب من نفى الخلاف في المسألة وقال: النصان محمولان على حالين، وهؤلاء اختلفوا، فقال ابن أبي هريرة: الموضع الذي نص [فيه] على سقوط القود إذا كانت

آثار الردة باقية عليه من قيد أو حبس أو أصفاد، والموضع الذي نص فيه [على وجوب] القود إذا فقد ذلك. ومنهم من قال: الموضع الذي أسقط فيه القود إذا كان في منعة، والموضع الذي أوجب فيه القود إذا لم يكن في منعة؛ لأنه ممنوع من قتل غير الممتنع، وغير ممنوع من قتل الممتنع. قال: وإن كان عبداً فقد قيل: يجوز للسيد قتله؛ لأنه عقوبة تجب لحق الله – تعالى- فكان للمولى إقامتها كما يقيم عليه حد الزنى. وهذا ما اختاره في "المرشد" والنواوي. وقيل: لا يجوز؛ لأنه حق لله – تعالى – لا يتصل بحقه في إصلاح ملكه، بخلاف حد الزنى، وهذا أصح عند القاضي الحسين، كما حكاه في باب حد الزنى، وقال: إن به قال أكثر الأصحاب، وقال [القاضي] أبو الطيب ثَمَّ: إنه غير صحيح. قال: وإن أتلف المرتد مالاً أو نفساً على مسلم وجب عليه الضمان؛ لأنه التزم ذلك بالإقرار بالإسلام؛ فلا يسقط عنه بالجحود كالملتزم بالإقرار عند الحاكم. قال: وإن امتنع بالحرب، فأتلف؛ أي في حال الحرب، وكان لهم شوكة – ففيه قولان كأهل البغي. وجه الوجوب: أنه لا ينفذ قضاء قاضيهم؛ فكان حكمهم في الضمان حكم قطاع الطريق، ولأن كل من ضمن ما يتلفه إذا لم يكن في منعة ضمن، إن كان في منعة كالمسلم طرداً والحربي عكساً، ولأن الردة إن لم تزده شرًّا لم تزده خيراً، وهذا ما نص عليه في "المختصر" هاهنا وأكثر كتبه، كما قاله الماوردي في باب قتال أهل الردة. وقال البندنيجي: إنه منصوص عليه في "سير" الأوزاعي"، وصححه البغوي والماوردي والبندنيجي وقبلهم الشيخ أبو حامد.

ووجه المنع: أن وفداً من براعة وغطفان الذين كانوا قد ارتدوا، جاءوا إلى أبي [بكر] – رضي الله عنه- يسألونه [عن] الصلح بعد توبتهم فقال: "تَدُون قتلانا، وقتلاكم [في النار"]، فقال عمر – رضي الله عنه-: "إِن قَتْلانَا قُتِلُوا عَلَى أَمْرِ اللهِ – تَعَالَى – لَيْسَ لَهُمْ دِيَاتٌ"، فتفرق الناس على قول عمر، وهذا ما نص عليه في "سير" الأوزاعي كما قاله الماوردي، وفي قتال أهل البغي كما قاله البندنيجي وصححه بعضهم. وهذه طريقة ابن أبي هريرة والشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب وابن الصباغ والبغداديين، وهي الصحيحة عند المصنف، لكن الأصح باتفاق الأصحاب في أهل البغي: عدم الضمان، وهاهنا الأصح عند الجمهور [كما ذكرناه]، ومنهم أيضاً القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: وجوبه، وقال القاضي أبو حامد المرْورُّوذي وأبو القاسم الصيمري وأكثر البصريين: إنه يجب عليه الضمان قولاً واحداً، وهو اختيار المزني كما قاله الماوردي. قال الرافعي: وقد ترتب الخلاف في المرتدين على الخلاف في الباغين، وفي كيفية الترتيب اختلاف رأي حكاه القاضي الحسين في "تعليقه" – أيضاً – والفوراني في "إبانته": فقائل يقول: إذا أوجبنا الضمان على الباغي فالمرتد أولى بالوجوب، وإلا ففي المرتدين قولان، والفرق أنهم أولى بالتغليظ، ويحكي هذا عن اختيار القفال، وإليه مال [اختيار] القاضي الحسين أيضاً. وقائل يقول: إذا نفينا الضمان عن الباغي فالمرتد أولى، وإن أوجبناه على الباغي ففي المرتد قولان.

والفرق: أن المرتدين متخلفون عن الإسلام وأحكامه؛ فهم بأهل الحرب أشبه، ثم يجيء على طريقة التضمين الخلاف في أنهم: [هل] يضمنون النفس بالقصاص أم لا؟ كما ذكرنا في أهل البغي، وبه صرح البندنيجي هنا. تنبيه: احترز الشيخ بالمسلم عما إذا أتلف المرتد نفس ذمي؛ فإن في ضمانه لها بالقصاص خلافاً تقدم، وأما ضمانه لماله ولنفسه بالدية فهو فيه كالمسلم. فرع: إذا زنى في ردته أو شرب الخمر فيكتفي بقتله، أم يقام عليه الحد ثم يقتل؟ حكي عن رواية ابن كج فيه وجهان، أصحهما: الثاني. قال: وإن ارتد وله مال ففيه قولان، أي منصوصان في صدقة الورق. أحدهما: أنه باق على ملكه؛ لأن الكفر لاينافي الملك كالكفر الأصلي، ولأن الردة سبب لهدر الدم فلا تزيل الملك؛ كالزنى والقتل في الحرابة، وهذا قد نص عليه – أيضاً – في زكاة المواشي، وهو الأصح في "الحاوي"، واختاره المزني والنواوي. والثاني: أنه موقوف، فإن رجع إلى الإسلام حكم بأنه له، وإن لم يرجع حكم بأنه زال بالردة كبضع زوجته؛ ولأن ماله يعتبر بدمه، ودمه موقوف؛ فكذلك ماله، وهذا ما نص عليه في هذا الباب، وهو أصح في "التهذيب". وقيل: فيه قول ثالث: أنه يزول بنفس الردة؛ لأن ردته أزالت ملكه عن دمه الذي هو أعز الأشياء عليه، فَلأَنْ تُزيل ملكه عن ماله أولى، وأيضاً فإنه يشبه النكاح قبل الدخول؛ [لعدم العلقة بعد الردة، والنكاح قبل الدخول] يزول بها؛ فكذلك ماله.

قال القاضي الحسين: وليس كالزنى والقتل في الحرابة؛ لأنهما ليسا من جنس المؤثر في إباحة المال، بخلاف الكفر فإنه يؤثر في إباحة المال، وكفر المرتد أغلظ وجوه الكفر؛ فأثر في الملك بالزوال، وهذا أصح في "المهذب" و"حلية"الشاشي و"المرشد" و"الجيلي"، وسبب إفراده عن القولين السابقين: أنه ليس منصوصاً عليه، لكن في لفظ المزني شيء يحتمله ويحتمل غيره؛ فإنه قال في كتاب التدبير: "إن تدبير المرتد باطل في أحد أقواله الثلاثة؛ لأن ملكه خارج عنه". فقال من اقتصر في مسألة الكتاب على إيراد القولين السابقين لا غير، وهو ابن سريج وطائفة: أراد [أن] يكون ملكه خارجاً عنه خروجه عن تصرفه مع بقائه على ملكه؛ لأنه لو خرج عن ملكه بالردة لما عاد إليه إلا بتمليك مستجد. وقال من أورد القول الثالث في مسألة الكتاب – وهو أبو إسحاق المروزي، كما نقله البندنيجي، وكثير من الأصحاب، كما حكاه الماوردي: إنه أراد به زوال ملكه عن ماله، فإن عاد إلى الإسلامن عاد المال غليه كالخل إذا انقلب خمراً زال ملك صاحبه عنه، فإذا صار خلاًّ عاد ملكه، وكالبيضة تبطل المالية فيها بانقلابها مذرة، فإذا صارت فرخاً عاد مالاً، وجلد الشاة تبطل المالية فيه بموتها، ثمإذا دُبغ عاد مالاً، وعلى هذه الطريقة جرى المصنف في "المهذب"، والقاضي الحسين والفوراني وغيرهم. وحكى القاضي أبو الطيب في "تعليقه" والروياني أيضاً: أن منهم من قطع القول باستمرار الملك، ورد الخلاف إلى [أن] تصرفه هل ينفذ أم لا؟ كما سنذكره. قال الماوردي: وعلى هذه الأقوال يكون حكم ما استفاد ملكه في [حال] ردته بهبة أو وصية أو اصطياد أو احتشاش، فإن قيل بالأول مَلَكَهُ، وإن قيل

بالثاني كان موقوفاً مراعَى، فإن عاد إلى الإسلام [ملكه]، وألا فينظر: فإن كان عن هبة أو وصية بطلت وعاد إلى الواهب وورثة الموصي، وإن كان عن اصطياد أو احتشاش كان على أصل الإباحة، وإن قيل بالثالث لم يملكه؛ لأنه إذا لم يملك ما استقر عليه ملكه فأولى ألا يملك ما لم يستقر عليه، وعلى ذلك جرى المتولي وكذا المصنف في "المهذب"، لكنه لم يذكر التفريع مفصلاً كما ذكرناه، وذكر بعد حكايته تفريعاً آخر على الأقوال في [الأصل، وقد يفهم أنها مفرعة على الأقوال في] الفرع. وقال الإمام: إذا قلنا بزوال ملكه، فظاهر القياس أنه يثبت الملك لأهل الفيء فيما إذا احتطب واصطاد، كما يجعل الملك للسيد فيما يحتطبه العبد ويصطاده. قال: [وليكن] شراؤه واتهابه كشراء العبد واتهابه بغير إذن السيد حتى يجيء فيه الخلاف. وعلى هذا جرى الغزالي، وما قالاه فيه نظر؛ لأنا قد حكينا عن الإمام في باب العبد المأذون: أن شراء العبد إذا صح وقع للعبد، ويكون للسيد الخيار بين أن يقره عليه وبين أن ينزعه من يده، وقضية التخريج: أن يقع الملك للمرتد ثم ينتقل إلى الفيء، وقد دللنا على امتناع ذلك؛ فتعين ما قاله الماوردي ومن معه، [لكن في كلام البندنيجي وغيره ما يقتضي ذكر طريقة قاطعة أنه يملك، وإنما الخلاف في زوال ملكه عما هو موجود، وسنذكر ذلك في باب اليمين في الدعاوى]. ولو وطئت المرتدة بشبهة أو مكرهة، فإن قلنا: إن ملكها باق، وجب لها المهر، وإن قلنا: إنه موقوف، فهو موقوف، وإن قلنا: إنه زائل، لم يجب على الواطئ؛ كما لو وطئ ميتة على ظن أنها حية بشبهة، كذا قاله الرافعي عن "التتمة"، وقال: إنه إذا أكره على عمل كان حكمه حكم المهر. هذا حكم اكتسابه، وأما ما يلزمه من الكلف والمؤن، فنفقته واجبة في ماله،

وإن قلنا بزوال ملكه، وكذا نفقة زوجاته ورقيقه، وفي نفقة أقاربه وجهان في "الحاوي" وغيره، وأصحهما - وهو المذكور في "الشامل" -: اللزوم؛ لأن سبب استحقاقها سابق على الردة، ومقابله منسوب إلى الإصطخري، قال القاضي الحسين والإمام: وهو القياس، وقد صححه صاحب "العدة" و"الإبانة". وقال البندنيجي: إنه ليس بشيء. وقد حكى عن الإصطخري طرده في نفقة الزوجة أيضاً. وعن ابن كج رواية وجه عن ابن الوكيل: أنه لا ينفق عليه في زمن استتابته من ماله إذا قلنا بزواله، وينفق عليه من بيت المال. ولا خلاف أنه إذا عاد إلى الإسلام استمر ملكه، قال المتولي: وليس كالنكاح المنقطع بالردة لا يعود بالإسلام؛ لأن الحكم بزوال الملك سبيله سبيل العقوبات، والعقوبات تسقط بالعود إلى الإسلام، وانقطاع النكاح ليس سبيله سبيل العقوبات؛ ألا ترى [إلى] انقطاعه بردة المرأة كانقطاعه بردة الرجل، والنكاح حق الرجل، ولا يجوز أن نجعل جنايتها سبباً لعقوبته، وإنما انقطاعه بالردة لفوات الحل بما عرض لا إلى غاية تنتظر. وعلى الأقوال كلها، يؤجر الحاكم عقاره ورقيقه ومدبره ومستولدته، ومكاتبه يؤدي النجوم إلى الحاكم، ويجعل أمته عند امرأة، وماله عند عدل إلى أن يظهر حاله. ولا فرق في ذلك بين أن يلتحق المرتد بدار الحرب، وبين أن يكون في قبضة الإمام، نعم إذا كان في دار الحرب باع الحاكم من رقيقه ما يرى فيه المصلحة؛ لأنه إذا خرج عن قبضة الإمام فربما طال الأمر وتعذر رجوعه أو قتله، ويخالف إذا كان في قبضة الإمام؛ فإن الأمر يُفْصَل عن قريب، قاله أب والطيب وغيره. قال: وأما تصرفه ففيه ثلاثة أقوال، أي بلا خلاف بين الأصحاب؛ كما صرح به البندنيجي والماوردي: أما عند من حكى في زوال ملكه ثلاثة أقوال، فقد بناها على أقوال [الملك]، وعلى هذا جرى في "المهذب"،وابن الصباغ في "الشامل"، وتبعهما في ذلك ابن يونس والجيلي، وليس اتباعهما بصواب.

وأما على طريقة ابن سريج ومن معه، وهي التي اقتضى إيراد الشيخ هاهنا ترجيحها – فإنهم كما ذكرنا حملوا كلام المزني على منع التصرف لا على انتقال الملك، وبذلك يحصل في التصرف ثلاثة أقوال، ثانيها ليس مبنيًّا على قول زوال الملك. وأما على الطريقة التي حكاها أبو الطيب والروياني في أن الملك لا ينقطع جزماً، وإنما الأقوال في التصرف – فهي مصرح بها، لكن يحتاج في تقرير الأقوال على هذه الطريقة [إلى] مقدمة، وهي أنه هل يصير محجوراً عليه بنفس الردة أم لا؟ وفيه قولان في "تعليق" أبي الطيب، [وفي غيره] وجهان مشبهان بالخلاف: في أنه إذا طرأ السفه بعد الرشد هل يصير الشخص محجوراً عليه بذلك أم لابد من ضرب القاضي؟ [وقد بناهما القاضي الحسين] عليهما، والظاهر: أنه لا يصير محجوراً عليه بنفس الردة، وهو الذي أورده البندنيجي وابن الصباغ والشاشي في "حليته" والفوراني، فعلى هذا يحجر الحاكم عليه؛ كي لا يتلفه، وعلى مقابله فهل هذا الحجر حجر سفه أو حجر فلس؟ [فيه قولان في "تعليق" أبي الطيب [أيضاً]، وفي غيره وجهان، أصحهما في "الرافعي": أنه حجر فلس، وحكى الماوردي الوجهين في أن الحجر المذكور حجر سفه أو حجر مرض، وبذلك يجتمع فيه ثلاثة أوجه، وقد حكاها القاضي الحسين. فإذا تقرر ذلك عدنا إلى تمام [تقرير] كلام الشيخ: أحدها: ينفذ، أي سواء قتل في الردة أو عاد إلى الإسلام، وهذا بناء على بقاء ملكهن وأنه لا يصير محجوراً عليه بنفس الردة، ولم يصدر من الحاكم حجر عليه. والثاني: لا ينفذ، أي سواء عاد إلى الإسلام أو لم يعد، وهذا بناء على زوال ملكه عند قوم، وعند قوم بناء على بقاء ملكه، وأنه يصير بنفس الردة محجوراً

عليه حجر سفه أو حجر فلس إذا قلنا: إن تصرفات المفلس فاسدة كما هو أحد القولين، كما صرّح به أبو الطيب. والثالث: أنه موقف، أي: إن كان من التصرفات التي تقبل الوقف كالعتق والتدبير، فإن قيل بالردة كان تصرفه باطلاً مردوداً، وإن عاد إلى الإسلام كان ذلك نافذاً، وهذا بناء على القول بوقف ملكه عند قوم، وعند قوم هو جارٍ مع قولنا ببقاء ملكه؛ تفريعاً على أنه يصير محجوراً عليه بالردة حجر فلس، وقلنا: تصرفات المفلس موقوفة مراعاة، فإن وفي ما عليه من الدَّيْن من غير ما وقع التصرف فيه نفذ، وإن لم يوف بطل، وكذا يجيء على قولنا: إنه محجور عليه حجر مرض، وهذا القول هو الذي صححه النواوي، وفي "النهاية": أن من أصحابنا من قال: إذا قلنا ببقاء ملكه يكون تصرفه تصرف المريض [في] مرض الموت؛ لأن السيف قريب منه، وهو بناء على أن من قدم للقتل يعتبر تصرفه من الثلث. أما التصرف الذي لا يقبل الوقف كالبيع والإجارة، قال الماوردي: فلا يجيء فيه إلا قولان، يعني على الجديد. أما إذا قلنا بجواز وقف العقود كما هو محكي عن القديم، جاءت فيه الأقوال الثلاثة أيضاً، وعلى ذلك ينطبق ما حكيناه عنه في الهبة [منه] من قبل. وقد حكى البندنيجي الأمرين حيث قال: واختلف أصحابنا في موضع الأقوال على طريقين، منهم من قال: في جميع تصرفه ثلاثة أقوال، عقداً كان أو غير عقد، ومنهم من قال: في غير العقود ثلاثة أقوال، وأما في العقود كالبيع والكتابة ونحوها فعلى قولين، وما حكاه في الكتابة هو الذي أورده الرافعي. وقال في "الحاوي": إن ما اشتمل على أمرين يصح الوقف والشرط في

أحدهما ولا يصح في الآخر، كالخلع والكتابة؛ لأنهما يشتملان على طلاق وعتق، ويصح فيهما الوقف والشرط، وعلى معاوضة لا يصح فيها الوقف والشرط – ففي المغلب منهما وجهان: أحدهما: يغلب فيهما حكم العوض، فعلى هذا لا يجيء فيهما إلا قولان كالبيع، يعني على الجديد. والثاني: أنه يغلب فيهما حكم الطلاق والعتق، فعلى هذا تأتي فيهما الأقوال الثلاثة. ثم قضية كلام البندنيجي: أن يجيء في تزويجه أمته – إذا قلنا بعدم زوال ملكه- الأقوالُ على رأي بعض الأصحاب، وعلى رأي لا يجيء إلا قولان، وعلى ذلك جرى المتولي وغيره حيث قالوا: إن التزويج من التصرفات التي لا تقبل الوقف، لكن قد قال البندنيجي: إنه يملك تزويجها، إذا قلنا: إن ملكه باق، ولم يحجر عليه، كما يملك الكافر تزويج أمته المسلمة. وقال في "التهذيب": إنه غير قوي. ثم قال البندنيجي: ومن أصحابنا من قال: لا يزوجها، وتصرفاته بعد حجر الحاكم عليه، أطلق في "المهذب" وغيره القول بعدم نفوذها. وقال آخرون: الحاكم إذا حجر عليه فهو مفرع على بقاء ملكه، وفي كيفية الحجر الخلاف السابق: فالمشهور أنه حجر سفه أو حجر فلس]، وعند الماوردي: أنه حجر [سفه] أو حجر مرض. قال القاضي الحسين: فإن قلنا: إنه حجر مرض، نفذ منها في ماله ما ينفذ من المريض. انتهى. وإن قلنا: إنه حجر سفه، لم ينفذ منها شيء، وإن قلنا: إنه حجر فلس، فقضيته أن يأتي فيها وجهان: أحدهما: أنها باطلة. والثاني: أنها موقوفة.

وقال الماوردي: إن التصرف إن كان فيه إهلاك للمالية، كالعطايا والهبات والوصايا والصدقات والوقف والعتق – فهو باطل، سواء قيل: إنه حجر سفه أو مرض، ولا يقال: إنا إذا قلنا: إنه حجر مرض يجاز كما تجاز وصايا المريض؛ لأن للمريض في ماله الثلث، فأمضيت وصاياه من ثلثهن وليس للمرتد ثلث تجعل وصاياه منه. وإن كان التصرف بيعاً أو إجارة، فإن قلنا: إن حجره حجر سفه، لم يصح؛ لأن عقود السفيه باطلة، وإن قلنا: إنه حجر مرض، نفذت؛ لأن عقود المريض جائزة. قال: وعلى هذين الوجهين يكون حكم إقراره بالديون والحقوق. قلت: وهما جاريان أيضاً إذا قلنا: إنه حجر فلس؛ بناء على القولين في صحة إقرار المفلس، والله أعلم. قال: وإذا مات – أي على الردة – أو قتل، قضيت الديون من ماله، يعني الديون اللازمة له قبل الردة، وإن حكمنا بزوال ملكه بنفس الردة؛ لأن الردة وإن أزالت الملك فحقها أن تكون كالموت، [والموت] مزيل للملك، ثم الديون الثابتة في حال الحياة تتعلق بما يخلفه الميت، وهي مقدمة على حقوق الورثة، فبأن تقدم هاهنا على حقوق أهل الفيء أولى؛ لأن جهة الزوال بالردة عرضة للارتفاع بالإسلام، والموت مزيل للملك على الثبات، ويثبت حق الورثة على اللزوم، وهذا ما ادعى القاضي الحسين والإمام نفي خلافه. قال: والباقي فيء؛ لأنه لما امتنع أن يرثه عنه أقاربه المسلمون؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " [لاَ يَتَوارَثُ] أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى"، وأقاربه الكفار؛ لما فيه من علقة الإسلام، ولا مرتدٌّ مثلُه؛ لامتناع إرث المرتد – فتعين كون ماله فيئاً، كحال من لا وارث له من أهل الذمة. وقد روي ذلك عن زيد بن ثابت وابن عباس – رضي الله عنهما – ولا مخالف لهما من الصحابة.

وأما [ما] تعاطى سبب إيجابه بعد الردة فينظر: فإن كان تصرفاً جائزاً كان كالديون اللازمة قبلها، وإن كان تصرفاً مردوداً لم يستحق، وفي أرش الجنايات على الأنفس والأموال وجهان: ظاهر المذهب منهما في "تعليق" البندنيجي و"الحاوي": أنها تقضي من ماله. والثاني: أنها لا تقضي؛ بناء على أن ملكه قد زال بالردة، وهذا ما أبداه القاضي الحسين احتمالاً مخرجاً على مذهب الإصطخري [في أنه لا تجب نفقة القريب في ماله على هذا القول، وقد [حكى أن الإصطخري] وأبا الطيب بن سلمة قالا به، وهو المختار في "المرشد"، وقد قيل: إن الإصطخري] طرده في قضاء الديون السابقة على الردة. فروع: إذا كانت الديون مؤجلة ولم يمت بعد فهل تحل بردته؟ قال الأصحاب: ذلك ينبني على زوال ملكه، فإن قلنا ببقائه فلا، وإن قلنا بزواله فنعم، وإن قلنا بقول الوقف: فإن أسلم تبَيّنا عدم حلولها، وإلا تبينا حلولها. ولو كان قد استولد جارية، أو دبَّر مملوكه فلا يعتق على الأقوال كلها؛ لأن عتق المستولدة يتعلق بالإياس من الاستفراش، ولم يوجد، والمدبر تعلق عتقه بالموت لفظاً ولم يوجد، نعم لو مات أو قتل عتقت المستولدة على الأقوال كلها؛ [لأنها] لا تقبل التصرف ونقل الملك، وأما المدبر فإن قلنا بزوال ملكه أو بقول الوقف فلا يعتق، وإلا كان كما لو دبر من لا وارث له عبداً ثم ماتن ولو استولد المرتد أمته في حال ردته: فإن أثبتنا له الملك نفذ، وإلا فلا ينفذ، فإن أسلم فقولان كما لو استولد المشتري الجارية المشتراة في زمن الخيار، وقلنا: الملك للبائع، فتم البيع. قال: فإن أقام وارثه بينة – أنه صلى بعد الردة، أي التي حكمنا بصحتها منه، فإن كانت الصلاة في دار الإسلام لم يحكم بإسلامه، وإن كانت في دار الحرب حكم بإسلامه.

قال ابن الصباغ والماوردي: والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن إظهار الإسلام في دار الحرب إنما يكون في الصلاة؛ فإنه لا يمكنه إظهار الشهادتين بينهم، بخلاف دار الإسلام. والثاني: أن صلاته في دار الإسلام تحتمل أن تكون تقية، وفي دار الحرب لا يحتاج إلى اتقاء المسلمين، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ عن النص. وقال البندنيجي: إنه منصوص عليه في كتاب "المرتد [الكبير] ". والماوردي: إنه في "الأم" ثم قال: وفيه نظر؛ لأنه لو صارت الصلاة إسلاماً للمرتد لصارت إسلاماً للحربي. و [على] هذا جرى الإمام حيث حكى عن العراقيين ما ذكرناه، واستبعده، ثم قال: والوجه في قياس المراوزة القطع بأنه لا يحكم بإسلامه في دار الحرب، كما لو صلى فيها الكافر الأصلي. وهذا منهما دليل على أن الحربي لا يحكم بإسلامه بصلاته في دار الحرب، وبالغ الإمام في ذلك فقال: لو حكم به حاكم كان صائراً إلى مذهب أبي حنيفة. وفي "الرافعي": أن صاحب "البيان" سوى بين الكافر الأصلي والمرتد فيما ذكرناه، وهذا يدفع الإلزام ثم قال: ويمكن أن نفرق بينهما بأن المرتد كان مسلماً، وعلقة الإسلام باقية فيه، وهو محمول على العود إليه، والعود إلى ما كان أهونُ من افتتاح أمر لم يكن؛ فجاز أن يجعل الشيء عوداً إلى الإسلام ولا يجعل افتتاحاً. ثم إيراد الشيخ في "المهذب" يفهم تخصيص ما ذكرناه من إسلام المرتد، بما إذا كان قد ارتد إلى دين لا تأويل لأهله، ولم أره في غيره. ولا يحصل الإسلام بإنكار الردة بعد الشهادة عليه بأنه ارتد بكذا، سواء كان في دار الإسلام أو دار الحرب، بخلاف ما لو شهد عليه بأنه أقر بالزنى، فأنكر - جعل [ذلك] رجوعاً، [وسقط] عنه الحد. نعم، لو ادعى أنه قال ذلك مكرهاً، ودلت شواهد الحال على صدقه - قبل قوله، وإلا [فلا] يُقبل كما

ذكرناه من قبل. ولو شهد عليه أنه نطق بكلمة الردة من غير أن تتعرض البينة لأنه ارتد، فقال: صدقا ولكني كنت مكرهاً – فالذي حكى عن الشيخ أبي محمد وتوبع عليه: أنه لا يقتل؛ لأنه ليس فيه تكذيب البينة، بخلاف ما إذا شهدت بالردة، فإن الإكراه ينافي الردة ولا ينافي التلفظ بكلمة الردة، وعلى هذا يجب عليه أن يجدد كلمة الإسلام، فلو قتل قبل التجديد ودعوى الإكراه أو الحلف عليه، فهل يكون قتله مضموناً أم لا؟ فيه قولان، ولو قتل بعد دعوى الإكراه والحلف عليه، قال الإمام: فيقطع بأنه مضمون. وأعلم أن الشهادة بالردة عند الماوردي لا تقبل إلا مفسرة كالجرح؛ لاختلاف الناس في أسباب التكفير، ورأى الإمام تخريج ذلك على الخلاف في أن الشهادة على البيع وسائر العقود، هل تسمع مطلقة، أم يجب التفصيل والتعرض للشرائط؟ قال الرافعي: والظاهر قبول الشهادة المطلقة والقضاء بها. قلت: ولو رتب الخلاف في هذه الشهادة على القولين اللذين حكاهما الأصحاب فيما إذا أقر مسلم أن أباه مات كافراً، وأنه لا يرث منه، ولم يفسر بماذا كفر، بل أطلق هذا القول – لكان أولى؛ لأن الإقرار المطلق يحتمل فيه ما لا يحتمل في الشهادة المطلقة، وأحد القولين في مسألة الإقرار: أنه لا يقبل ويرثه؛ لأنه ربما يعتقد تكفير أهل البدع، والثاني: لا يرثه؛ لأنه أقر بكفره. وفي "الرافعي" وجه جعله [الأظهر]: أنه يستفصَل، فإن فصل وذكر ما هو كفر صرف المال إلى الفيء، وإن ذكر في التفسير ما ليس بكفر صرف [المال] إليه. فرع: إذا ارتد الأسير في يد الكفار ولم نحكم بردته، فقال أحد وارثيه: مات مرتداًّ، وقال الآخر: بل مات مسلماً – سلم للذي [ادعى] موته على الإسلام نصيبه، وفي نصيب الآخر قولان نص عليهما في "المرتد الكبير" كما حكاه البندنيجي: أحدهما: يوقف حتى يُستبان أمره.

والثاني: يكون فيئاً. ولو كان الأسير يشرب معهم الخمر ويأكل [معهم] الخنزير، ويشهد معهم مواضع متعبَّدهم، إلا أنه ما سجد لصنم، ولا [وجد منه ما يوجب الكفر – فلا نحكم بكفره. فلو مات على هذه الحالة وله ابنان مسلمان، فقال أحدهما:] مات مسلماً، وقال الآخر: بل مرتدًّا – ففيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين: أحدهما: يكون ميراثه بين ولديه؛ لأنا نغلط مدعي ردته فيما يدعيه؛ لأنه يقول: أبي بما فعل صار مرتدًّا. والثاني: أن نصيب المدعي الردة لا يحل له، وعلى ذلك جرى في "التهذيب". قال: وإن علقت منه كافرة، أي: أصلية، وطئها بنكاح أو شبهة، كما قاله في "المهذب"، أو مرتدة، كما قاله أبو الطيب والماوردي والفوراني وغيرهم. قال: بولد في حال الردة، أي: وانفصل وهما كذلك، كما قيده الفوراني. قال: فهو كافر؛ [لأنه] متولد بين كافرين؛ فكان كافراً كولد الحربيين، لكن كفره ككفر أبيه سحباً لحكم الردة، أو كفره كفرٌ أصلي؟ فيه قولان: الأصح منهما في "الحاوي"، وادعى أنه المنصوص عليه في هذا الموضع: الأول، وادعى الفوراني أن الأصح: الثاني. قلت: ولو قيل: بأن ولد المرتد من الكافرة الأصلية كفره أصلي، ومن المرتدة يكون مرتدًّا – لم يبعد؛ بناء على أصلين: أحدهما: أن الذمي لا يقتل بالمرتد؛ لكونه أشرف منه، مع اشتراكهما في الكفر. والثاني: أن المتولد بين وثني وكتابية تعقد له الذمة؛ لحكمنا بتبعيته في هذه الحالة لها في الدين؛ لكونها أشرف ديناً من أبيه، كما يتبعها في الإسلام لشرفهن وفي كتب المراوزة – فيما إذا كانت أمه مرتدة أيضاً – طريقة أخرى

حاكية للقولين على غير هذا النحو: أحدهما: أنه كافر أصلي. والثاني: أنه مسلم؛ لبقاء علقة الإسلام في الأبوين؛ لأن المرتد يجبر على الإسلام ولا تؤخذ منه الجزية، ولاتعقد معه المهادنة، ويؤمر بقضاء الصلوات التي تمر عليه أوقاتها في الكفر، وكل ذلك من علائق الإسلام، وإذا بقيت فيهما علقة الإسلام غلب على الولد حكمه. وهذا ما صححه في "التهذيب"، وبه قال صاحب "التلخيص". وعند الاختصار يحصل في الولد ثلاثة أقوال كما ذكرها الغزالي.

قال: وفي استرقاق هذا الولد قولان –أي: على قولنا إنه كافر – وهما ينبنيان على أن كفره ككفر أبيه أو هو كفر أصلي. فعلى الأول: لا يسترق كما لا يسترق أبواه؛ [لبقاء عُلْقة] الإسلام فيهما، وهذا أصح عند القاضي الحسين، فعلى هذا يستتاب بعد البلوغ، فإن تاب وألا قتل، وحكم أولاد هذا الولد حكمه. وعلى الثاني: يسترق؛ لأنه كار لا أمان له، ولم يثبت له حكم الإيمان بنفسه؛ فهو كأولاد أهل الحرب، وعلى هذا يجوز المن عليه والفداء به. قال الماوردي وأبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم: ولا يجوز أن يقره الإمام بالجزية؛ لأنه دخل في الكفر بعد نزول القرآن. وقال الإمام: يجوز عقد الجزية معه إذا بلغ، وهو كالكافر الأصلي في كل معنى. وهذا قد حكاه في باب عقد الذمة وجهاً، وقال: إنه لا أصل له، وإن المذهب: أنها لا تعقد له، وأنا إذا قلنا بعقدها ففي حل المناكحة والذبيحة تردد، وأن الوجه: القطع بالتحريم. وأما إذا علقت منه مسلمة وطئها بشبهة نكاح أو غيره، فولده منها مسلم، قال الرافعي: بلا خلاف. وكذلك لو ارتد الأبوان بعد العلوق فهو مسلم، ومن طريق الأولى إذا ارتدا أو أحدهما بعد انفصاله وقبل البلوغ أن نحكم بإسلامه، ولا يتبع أحدهما في الكفر وإن تبعه في الإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " [الإِسْلامُ] يَعْلُو، وَلا يُعْلَى". ولو بلغ هذا الولد بعد ارتداد أبيه وأعرب بالكفر، قال البندنيجي: فالمنصوص أنه مرتد، ومن أصحابنا من قال: يقر على كفره. وهذا [ما] حكاه في "المهذب" قولاً عن تخريج ابن سريج؛ متمسكاً فيه بقول الشافعي – رضي الله عنه-: لو بلغ فقتله قاتل قبل أن يصف الإسلام لم يجب عليه القود. قال الماوردي: وهذا التخريج سهو منه إلا أن يكون قاله مذهباً لنسه، فيفسد بما ذكرناه.

قلت: ولا شك أن [هذا] الوجه يجري في الصورتين السابقتين من طريق الأولى. ولا يجوز استرقاق [من باشر الردة بنفسه بحال، كما لا يجوز استرقاق] أهل البغي، وهذا من الأحكام التي اتفق المرتدون والبغاة فيها، وإن اختلفوا في أمور، [منها: قتلهم] مدبرين، وجواز التذفيف على جريحهم، [وقتل أسيرهم]، ورميهم بالنار ونحوها، والاستعانة عليهم بالكفار، وعدم إمهالهم مدة إذا استمهلوا لغلظ كفرهم، وكذلك قال الأصحاب: إذا امتنع المرتدون بالحرابة بدأنا بقتالاهم قبل قتال أهل الحرب، ولأنهم أهدى إلى عورات المسلمين. وقد نجز ما في الباب من المسائل، وآن الوفاء بما وعدنا بذكره: قال المتولي: إذا قال المسلم لمسلم: يا كافر – بلا تأويل – كفر؛ لأنه سمي الإسلام كفراً، وكذا لو سأله كافر يريد الإسلام أن يلقنه الشهادة، فلم يفعل، أو أشار عليه بألا يسلم، أو على مسلم بأن يرتد – فهو كافر؛ للرضا بالكفر، بخلاف ما لو قال للكافر: لا رزقه الله الإيمان، أو لمسلم: سلبه الله الإيمان؛ لأنه ليس رضا بالكفر، لكنه دعا عليه بتشديد العقوبة. وفي "فتاوى" القاضي الحسين وجهان في كفره بالدعاء بالكفر، وكذا فيما إذا أكره مسلماً على الكفر في أنه هل يكفر بذلك أم لا؟ والمتولي جزم بكفره، بخلاف المكره على الإسلام، إنه لا يكون مسلماً به، وقال: إن العزم على الكفر في المستقبل كفر في الحال، وكذا التردد في أنه [هل] يكفر أم لا؟ والتعليق بأمر في المستقبل، كما إذا قال: إن هلك مالي أو مات ولدي تهودت أو تنصرت –كفر. وإن من اعتقد قدم العالم أو حدوث الصانع، أو نَفَى ما هو ثابت للقديم بالإجماع ككونه عالماً وقادراً، أو أثبت ما هو منتف عنه بالإجماع كالألوان، أو أثبت له الاتصال والانفصال – كان كافراً، وكذا من أنكر جواز بعثة الرسل، أو نبوة نبي من الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – أو كَذَّبه، أو جحد آية من القرآ،

مجمعاً عليها، أو زاد في القرآن كلمة [واعتقد] أنها منه، أو سب نبيًّا من الأنبياء – عليهم السلام – أو استخف به، أو استحل حراماً بالإجماع، أو حرم محلَّلا بالإجماع، أو نفى وجوب مجمع عليه كالزكاة ونحوها في زماننا – ووافقه على ذلك الماوردي – أو اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع، كصلاة سادسة أو صوم [من] شوّال، أو نسب عائشة – رضي الله عنها – إلى الفاحشة، وادعى النبوة في زماننا، أو صدق مدعيها. وعن الشيخ أبي محمد – رحمه الله- أن من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمداً؛ فقد كفر ويراق دمه؛ قال الإمام: وهذه زلة ولم أر ما قاله لأحد من الأصحاب، والظاهر – وهو الذي أورده الغزالي -: أنه يعزر. وجزم الإمام بأن سب الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو قذفٌ صريحُ كفرٍ باتفاق الأصحاب، وأن الشيخ أبا بكر الفارسي قال في كتاب "الإجماع": إنه لو تاب لم يسقط القتل عنه؛ لأن حد قذفه صلى الله عليه وسلم القتل، وحد القذف لا يسقط بالتوبة. وادعى فيه الإجماع، ووافقه الشيخ أبو بكر القفال. وقال الأستاذ أبو إسحاق: إنه يكفر بالسب، فإذا تاب [سقط] القتل عنه. وقال الصيدلاني: إذا تاب سقط القتل وجلد ثمانين. ثم أبدى الإمام في ذلك مباحثة [لنفسه]، فليطلبها [من أرادها في كتاب عقد الذمة]. وقال القاضي الحسين: ولو تقلنس المسلم بقلنوسة المجوس، أو تزنَّر بزُنَّارهم – صار كافراً؛ لأن الظاهر أنه لا يفعل ذلك إلا عن عقيدة الكفر، بخلاف ما لو دخل دار الحرب فشرب معهم الخمر، أو أكل لحم الخنزير – لم يُحكَم بكفره؛ فإن ارتكاب المحرمات ليس بكفر ولا يسلب به اسم الإيمان، ولا يستحق الفاسق – إذا مات ولم يتب – الخلود في النار. والله أعلم.

باب قتال المشركين

باب قتال المشركين هذا الباب ترجمه صاحب "التلخيص" وغيره بكتاب "الجهاد"، وبعضهم بكتاب "السير"؛ لأن الأحكام المودَعة فيه متلقاة من سِيَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أكثرها. والسيرة: الطريقة، وهي مِنْ: سار يسير، و"الفِعْلة": للهيئة، كالجِلسة والقِعدة. وقد ذكر الشافعي - رضي الله عنه- وأصحابه -رحمهم الله -[في صدر هذا الكتاب] مقدمة [لا غَنَاء عن] ذكرها، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بُعث أُمِرَ بالتبليغ والإنذار بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]، وكان ذلك في يوم الاثنين من شهر رمضان، وكان ابن أربعين سنة في قول الأكثرين، وفي قول الآخرين: ابن ثلاث وأربعين [سنة]، فبلغ ذلك زوجته خديجة، فآمنت به. ثم اختلف العلماء في أول من آمن به بعدها، فقيل: عليٌّ - كرم الله وجهه - وكان - إذ ذاك - ابنَ تسعٍ، وقيل: [بل] ابن عشرٍ، وقيل: أبو بكر - رضي الله عنه، وقيل: زيد بن حارثة. ثم نزل جبريل -عليه السلام-[يوم الثلاثاء] بأعلى مكة، فهم بِعَقِبِهِ [في ناحية] الوادي؛ فانفجرت فيه عين، فتوضأ جبريل - عليه السلام- ليُريَه كيف الطهور، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم [منها، ثم قام جبريل يصلي، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم] بصلاته؛ فكانت هذه أول عبادة فُرضت عليه كما قاله الماوردي. ثم جاء إلى خديجة فتوضأ لها حتى توضأت، وصلى بها كما صلى به جبريل

- عليهما السلام- فكانت أول من توضأ وصلى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغ قومه بعد ثلاث سنين من مبعثه، واتبعه قوم بعد قوم، وكان القتال ممنوعاً عنه بـ"مكة" كما نقله ابن الصباغ، وأُمِرَ بالصبر على أذى الكفار واحتماله منهم، وكذل من آمن معه. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمهاجرة إلى المدينة، فهاجر إليها بعد أن أقام بـ "مكة" رسولاً ثلاث عشرة سنة في الرواية الظاهرة، وفي الأخرى عشر سنين، وذلك في [يوم] الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وأُمِر بقتال من قاتله بقوله – تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، [ثم لما] قوى الإسلام أُمِر بابتداء القتال، لكن في غير الأشهر الحُرُم بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [الآية] [البقرة:191]، ثم أمر به من غير تقييد بشرط وزمان ومكان؛ بقوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191]. واختلف أصحابنا في أن الجهاد في عصره صلى الله عليه وسلم هل كان فرض عين أو فرض كفاية؟ والذي عليه عامة أصحابنا: المذهب الثاني. وقال أبو علي الطبري كما حكاه أبو الطيب، وابن أبي هريرة كما حكاه الماوردي – بالأول. ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً وعشرين غزوة، قاتل منها [في] تسع غزوات كما حكاه الماوردي، [وفي "مسلم": أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ. كذا ذكره في أثناء حديث ابن عمرن في باب: كم حج

النبي صلى الله عليه وسلم]. وسرَّى صلى الله عليه وسلم سبعاً وأربعين سرية كما نقله الماوردي، وفي "المهذب" وغيره: أنها خمس وثلاثون سرية، ولم يتفق في كل منها قتال؛ فلنذكر من غزواته صلى الله عليه وسلم أشهرها: ففي السنة الأولى من هجرته صلى الله عليه وسلم لم يغزُ. وفي السنة الثانية غزا غزوة بدر الكبرى المشهورة، وكانت في يوم السبت السابع عشر من شهر رمضان، وبها سُمِّي هذا العام: عام بدر، وفي هذا العام فرض الصيام وكان في شعبان، وكانوا يصومون عاشوراء، كذا نقله الماوردي. وفي "تعليق" [أبي الطيب و] "الشامل" وغيرهما: أن الصيام فُرِضَ بعد سنتين من الهجرة، وفيه – أيضاً –أقرت صلاة السفر، وزيد في الحضر ركعتان؛ فجعلت أربعاً. وحولت القبلة إلى الكعبة في يوم الثلاثاء، النَصفَ من شعبان، بعد أن صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، بالمدينة، ثمانية عشر شهراً؛ كما حكاه الواقدي. وقال قتادة وابن زيد: [حُوِّلت] بعد ستة عشر شهراً [في رجب. وحكى القاضي الحسين في كتاب "الهدنة": أنه صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً.] وفيه – أيضاً – فرضت زكاة الفطر، وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قبل الفطر بيوم أو يومين، وفيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بالناس

صلاة العيد، وهو أول عيد صُلِّي، ثم صلى صلاة عيد الأضحى فيه – أيضاً- وضحى فيه بشاة، وقيل: بشاتين، وضحى معه ذوو اليسار بعد صلاة العيد، وهو أول عيد ضُحِّي فيه. وفي السنة الثالثة من الهجرة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أُحُد. وفي السنة الرابعة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني النضير في شهر ربيع الأول، كذا نقله الماوردي، وفي "النهاية": أن غزوة بني النضير كانت في السنة السادسة، وغزوة ذات الرقاع كانت في هذا العام. وفي السنة الخامسة من الهجرة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة ذات الرقاع، كما نقله الماوردي، وكان خروجه في ليلة السبت العاشر من المحرم، وصلى بها صلاة الخوف، وهي أول صلاة صلاها في الخوف. وفيها غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب، وكانت – كما نقله الماوردي – في الثامن من ذي القعدة، وفيها ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء لاشتغاله بالقتال، فلما انكف العدو أمر صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذن وأقام للظهر، وأقام لكل صلاة بعدها ولم يؤذن. والذي رواه البخاري – رضي الله عنه-: أن صلاة الخندق كانت في شوال سنة أربع من الهجرة، وبهذا اندفع سؤال المزني، رحمه الله. وفيها غزوة بني قريظة، اتفقت في يوم الأربعاء الثالث والعشرين من ذي القعدة. وفي هذه السنة ضاع عقد عائشة – رضي الله عنها – ونزلت آية التيم. وفي السنة السادسة من الهجرة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الحديبية في يوم الاثنين هلالَ ذي القعدة، وفيها أحرم صلى الله عليه وسلم بالعمرة، وصُدَّ عن البيت، وفيها أسلم من الناس أكثر من جميع من أسلم من قبل، ووقعت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وفيها فرض الحج، ومن أصحابنا من قال: إنه فرض في سنة خمس، وفي "النهاية" في كتاب الحج حكاية خلاف عن أصحابنا في أن الحج هل وجب قبل الهجرة أو بعدها؟ وهذا بعيد. ثم اختلف أصحابنا في أن الزكاة [فرضت] قبل الصوم، أو بعده وقبل الحج.

وفي السنة السابعة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر وفتحها، وفيها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء في هلال ذي القعدة، وخرج معه من شهد الحديبية وغيرهم، إلا من قُتِل منهم [أو مات] وأحرم من [قِبَل المسير] الذي صدر منه. وفي السنة الثامنة فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، واختلف العلماء في أنه [هل] فتحها عنوة أو صلحاً؟ فذهب الأوزاعي ومالك وأبو حنيفة إلى الأول، وهو الذي أورده في "الوجيز". وحكى الماوردي عن الشافعي أنه قال: إنها فتحت صلحاً بأمان عقد بشرط، فلما وجد – وهو الكف – لزم الأمان، وانعقد الصلح. وهذا قول مجاهد. قال الماوردي: والذي أراه: أن أسفل مكة دخله خالد بن الوليد عنوة؛ لأنه قوتل فقاتل، وأعلى مكة دخله الزبير صلحاً؛ لأنهم كفوا والتزموا شرط أبي سفيان؛ فكف عنهم الزبير، ولم يقتل أحداً، ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في يوم الجمعة العشرين من شهر رمضان، واستقر بها – التزم أمان من لم يقاتل، واستأنف أمان من قاتل، وكذلك استجار بأم هانئ بنت أبي طالب رجلان من أهل مكة، فدخل عليٌّ – كر الله وجهه – ليقتلهما، فمنعَتْه، وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال صلى الله عليه وسلم: " [قَدْ] أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ أُمَّ هَانِئ"، ولو كان الأمان عامًّا لم يحتاجا إلى ذلك، ولو لم يكن أمان لكان كل الناس كذلك.

وقال الإمام: إن عني القائل بأنها فتحت عنوة: أنه مُنع فقاتل، فليس الأمر كذلك، وإن أراد أنه: دخلها معتدياً على هيئة الاستمكان من القهر، فهذا حق لا ينكر، لكنه أمر بقتل رجال مخصوصين [كان قد عزم على قتلهم]. وفي هذه السنة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح غزوة حنين إلى هوازن في السادس من شوال، وفيها اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجِعرانة في ليلة الأربعاء الثامن عشر من ذي القعدة، وفيها – كما قال الماوردي – استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر- رضي الله عنه –على الحج، وأمره أن يؤم الناس كلهم. وفي السنة التاسعة من الهجرة، غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزة تبوك في الروم في رجب، وكان – عليه السلام – إذا هم بغزوة ورّى بغيرها، إلا في تبوك؛ فإنه أباح بها؛ حتى يأخذ الناس أهبتهم؛ لبعد المسافة، واتفقت تلك الخرجة في شدة الحر، وفيها تخلف من نزلت فيهم الآية المشهورة، وفيها استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم [أبا بكر] على الحج بالناس من المدينة، وفيها بعث العمال لجبي الصدقات من العرب. وفي السنة العاشرة حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وفيها نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية، وعاش رسول الله صلى الله ليه وسلم بعد أن قضى حجه اثنين وثمانين يوماً، وتوفي صلى الله عليه وسلم في سنة إحدى عشرة من الهجرة في يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وكان ابتداء مرضه الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم الثامن والعشرين من صفر، حشرنا الله في أمته! قال [الشيخ – رحمه الله -:] من لا يقدر على إظهار الدين في دار الحرب، أي: لكونه لا قوة له، ولا عشيرة تمنعه، وقدر على الهجرة، أي: إلى بلاد الإسلام- وجب عليه أن يهاجر؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} الآية [النساء: 97]، مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" كما خرجه أبو داود والنسائي عن معاوية.

وروى أبو داود عن جرير، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَنَّا بَرِيءٌ مِنْ كُلٍّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ؟ قَالَ: لاَ تَراءَى نَارُهُمَا"، أي: لا يتفق رأيهما. فعبَّر عن الرأي بالنار؛ لأن الإنسان يستضيء بالرأي كما يستضيء بالنار، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ"، أي: لا تقتدوا بآرائهم. وما روي عنه صلى الله عليه وسلم [أنه] قال يوم فتح مكة: "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ"، فهو محمول على الهجرة من مكة إلى المدينة؛ لأنها صارت بعد الفتح دار إسلام أبداً؛ فلا معنى للهجرة من دار إلى دار، مع أنه يحتمل أنه لا هجرة كاملة الفضل كالهجرة قبل الفتح؛ فإنهما لا يستويان، كما لا يستوي الإنفاق قبل الفتح وبعده. ولا فرق في ذلك بين أن يكون المسلم أسيراً في أيدي الكفار في قيد أو حبس، أو قد أطلقوه بشرط المقام عندهم، أو بعد تحليفه على عدم مفارقتهم، أو لا يكون شيء من ذلك، ولا يحنث عند الحلف إن كان مكرهاً على اليمين، وفي معناه ما إذا حلَّفوه وهو في الحبس أو القيد، كما صرح به القاضي الحسين والماوردي، وحكى فيما إذا ابتدأهم باليمين على عدم الهرب وهو في القيد أو الحبس - وجهين في الحنث؛ وهما - أيضاً - في "التهذيب"، وجزم بأنه إذا قيل له: لا نطلقك حتى تحلف ألا تخرج إلى دار الإسلام، فحلف. وأطلقوه فخرج - بعدم الحنث، ولم يُقيِّدُه بحالة حبس وغيرها، لكنه قاسه على ما إذا أخذ

اللصوص رجلاً، وقالوا: لا نتركك حتى تحلف ألا تخبر بمكاننا أحداًن فحلف وتركوه، فأخبر بهم؛ فإنه لا كفارة عليه، وإن كان قد حلف بالطلاق فلا يقع. قال: ومن قدر على إظهار الدين، أي: لقوته وكثرة عشرته –استحب له أن يهاجر. أما عدم وجوبها؛ فلقدرته على إظهار دينه والقيام بواجبه؛ ولهذا بَعَث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية عثمان [بن عفان] – رضي الله عنه – إلى مكة؛ لأن عشيرته كانت أقوى بـ"مكة"، فأُكرِم، ولأنه – تعالى – لما أوجبها على المستضعفين دل على أنها لا تجب على غيرهم. وفي "النهاية" وجه: أنه يحرم عليه الإقامة؛ لإطلاق الخبر؛ لأن المسلم بين أَظْهُر الكفار مقهورٌ مهان، فإن انكفوا عنه لعارض لم يؤمن عودُهم إليه، والمشهور الأول. وأما كونها مستحبة؛ فلقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]، ولأنه لا يأمن أن يميل إليهم، وفي بقائه [عندهم] تكثير لسواد المشركين وزيادة في عددهم. ومن لم يقدر على إظهار الدين ولا على الهجرة، فهذا يسقط عنه الهجرة؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ} الآية [النساء: 98]. والكلام في الحالة الثانية مخصوص عند الماوردي بما إذا كان يرجو نصرة المسلمين بنصرته، ولم يتمكن من الدعاء إلى الإسلام في دار الحرب ولا القتال عليه ولا الانعزال عنهم. وقال – فيما إذا قدر على الانعزال والدعاء والقتال -: إنه يجب عليه أن يقيم، وكذا إذا قدر على الانعزال ولم يقدر على الدعاء والقتال: يجب عليه المقام؛ لأن داره قد صارت بانعزاله دار إسلام، فإذا هاجر عنها صارت دار حرب، ولو لم يقدر على الانعزال أيضاً، فإن كان يرجو ظهور الإسلام بمقامه فالأولى به أن يقيم ولا يهاجر، وإن استوت أحواله في المقام والهجرة فهو بالخيار بينهما، وهذا كله في زماننا.

وأما الهجرة في زمنه صلى الله عليه وسلم فقد كانت في زمن مقامه بـ"مكة" لمن خشي على نفسه من المقام معه [بـ"مكة" جائزةً]، ولمن أمن على نفسه ودينه معصيةً، [إلا لحاجة]؛ لما في مقامه من ظهور الإيمان وكثرة العدد، وفي مدة مقامه بالمدينة قبل الفتح واجبةً على من خاف على نفسه [أو دينه، وهو قادر على الخروج بأهله وماله؛ للآية، ومستحبة لمن أمن على نفسه] كالعباس بن عبد المطلب. وذكر أبو عبيد في كتاب الأموال: "أن الهجرة كانت على غير أهل مكة من الرغائب، ولم تكن فرضاً؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم أتاه أعرابي يسأله عن الهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "وَيْحَكَ إِنَّ شَانَ الْهِجْرَةِ شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ "قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئاً" كما خرجه البخاري ومسلم وغيرهما، ولأنه لم يأمر الوفود عليه قبل الفتح بالهجرة. والهجرة: الانتقال من موضع إلى موضع، وسميت بذلك؛ لأنه يهجر فيها ما ألفه من وطن وأهل، وقيل: لأنه يهجر فيها العادة من عمل وكسب. وهي على القولين مأخوذة من "الهجر"؛ وهو الترك. قال: والجهاد فرض على الكفاية؛ لقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78]، وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:244]، مع قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122]، أي: يجاهدوا جميعاً في قولٍ، أو ما كان لهم إذا جاهد قوم أن يخرجوا

معهم؛ حتى يتخلفوا لحفظ الذراري والأموال [في قولٍ، وقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله تعالى: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95]. فالآيات الأول دالة على خطاب جميع المؤمنين، [والآية الرابعة تبين] أن الجميع ليسوا مخاطبين، [وكذلك الخامسة]، ووجه الدليل منها: أن الله – تعالى – فاضل بينهم، ولايجوز أن يفاضل بين مأجور ومأزور، وإنما يحصل التفاضل بين مأجورَيْنِ؛ أحدهما أعظم أجراً من الآخر، كما فاضل بينهم في الإنفاق. وأيضاً فقد وعد كلاًّ من المجاهد والقاعد الحسنى، ولو كان القاعد عاصياً لما وعده الحسنى، وهذا شأن فرض الكفاية، ولأنه لو فرض على الأعيان لتعطلت المعايش والمكاسب، وأدى ذلك إلى خراب البلاد؛ لأنه كان يجب ألا يتخلف صاحب صناعة، ولا من يحرث ويزرع، ولا من يحفظ البلاد من العدو، وفي هذا أعظم الفساد؛ والله لا يحب الفساد. قال في "المرشد": والجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان. وهذا إذا كان الكفار قارِّين في بلادهم غير متعلقين بأطراف بلاد الإسلام، أما إذا قصدوا بلادنا فسيأتي حكمه، إن شاء الله تعالى. قال: إذا قام به من فيه الكفاية سقط الفرض عن الباقين؛ لأن هذا شأن [فرض الكفاية] كما هو مقرر في الأصول، والكفاية في هذه الحالة تحصل – كما قاله الماوردي وأبو الطيب والرافعي وغيرهم – بشيئين: أحدهما: شحن الإمام الثغور بجماعة يلقون من بإزائهم من العدو، ويكافئونهم؛ فيسقط بذلك فرض الجهاد عمن خلفهم، فإن ضعفوا واستشغروا وجب على كل من وراءهم من المسلمين أن يمدوهم من أنفسهم بمن يتقوَّوْن به على قتل عدوهم، ويصير جميع من تخلف عن إمدادهم داخلاً في فرض الكفاية حتى يمدهم بأهل الكفاية.

والثاني: أن يدخل دار الكفار غازياً بنفسه، أو يبعث جيشاً يؤمر عليهم من يصلح لذلك، وأقله مرة، كما سيأتي، وهذا ما يقتضيه ظاهر كلام الشيخ. ولو امتنع الكل من القيام لَحِق الحرجُ، لكن هل يعم الجميع أو يخص الذي يدنو إليه؟ حُكي عن رواية ابن كج فيه وجهان، المذكور منهما في "الحاوي" وكذا "تعليق" أبي الطيب: الأول؛ حيث قالا: ومتى لم يُخلِّ بالثغور من الرجال قدراً يحصل بهم الكفاية لم يسقط الفرض عن الباقين، وكان الإمام وجميع الناس آثمين بذلك، وعلى الجملة: فالذي يلحقه الحرج من عَلِمَ وقدر على القيام به، ومن لم يعلم وكان قريبا ًمن الموضع بحيث يليق بحاله البحث والمراقبة – آثمٌ أيضاً من جهة ترك البحث. قال الإمام: ويختلف هذا بكبر البلد وصغرها، وقد يبلغ التعطيل مبلغاً ينتهي خبره إلى البلاد؛ فيجب عليهم السعي في التدارك، فإن لم يفعلوا نالهم الحرج، وهكذا على التدريج الذي ذكرناه إلى أن يعم الخطة. وإذا قام بالفرض جَمْعٌ لو قام به بعضهم لسقط الحرج عن الباقين، فكلهم مؤدون الفرض؛ لتساويهم في صلاحية القيام، وشمول الحرج للكل لو تعطل. قال الإمام: وإذا صلى على الميت جمع، ثم صلى آخرون، فالوجه أن يجعلهم بمثابة المقاربين للأولين في الصلاة؛ فإن التنفل بصلاة الجنازة لا نرى له أصلا في الشرع. قال: ومن حضر الصف [وهو] من أهل الفرض تعيّن عليه؛ لقوله – تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ} الآية، وقوله – تعالى-: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}، أما إذا حضره من ليس من أهل الفرض، فكلام الشيخ يقتضي أنه لا يتعين عليه، وقد صرح به القاضي الحسين في كتاب قسم الفيء في أواخره، حيث قال: فأما الصبي والمجنون والعبد والمرأة والمريض والضعيف الذي لا يطيق القتال، لا يعطون من أربعة أخماس الفيء؛

لأنهم ليسوا من أهل الجهاد بدليل أنهم لو حضروا الصف لم يتعين عليهم [القتال]. وقد صرح بذلك - أيضاً- الشيخ أبو حامد وغيره في المريض والأعمى والأعرج، وقال غيرهم خلافه، وسيأتي الكلام فيه، و [صرّح به] ابن يونس في العبد والكافر، وحكى القاضي الحسين هنا أن [النص في] العبد إذا حضر بإذن سيده تعين عليه كالحر، وإن كان بغير إذنه فلا يأثم بالانصراف، كما نص على أنه لا إثم على المرأة؛ لكونها ليست من أهل القتال. [وجزم الإمام في "الغياثي" بأن العبد يتعين عليه المصابرة وإن حضر بغير إذن سيده، وكذلك الولد إذا خرج بغير إذن أحد أبويه إلى أن تضع الحرب أوزارها]. وقال [في "النهاية"] في أهل الذمة: الذي أراه أنهم يمنعون من الانصراف إذا حضروا بإذن الإمام؛ لما فيه من الضرر. ثم ما المتعين بحضور الصف؟ الذي يظهر أنه الجهاد، وفي "تعليق" البندنيجي: أن المتعين جزماً الثبات وعدم الانصراف، وأما القتال فإن كان في المسلمين قلة ولا يكفي بعضهم لقتال المشركين، فيتعين القتال أيضاً، وإن كان فيهم من يقوم بالقتال- يعني: وتقدم إليه - قال: فهو بالخيار إن شاء قاتل وإن شاء ترك. وسأظهر من كلام الإمام- من بعد - ما يقتضي إجراء خلاف في وجوبه في هذه الحالة أيضاً - إن شاء الله تعالى، وأن الصحيح وجوبه كما اقتضاه ظاهر كلام الشيخ، والله أعلم. وكما يتعين الجهاد بحضور الصف يتعين أيضاً في حالتين، حكاهما الماوردي: إحداهما: إذا حل العدو بلاد الإسلام -[والعياذ بالله]- ووطئها؛ فيتعين فرض قتاله على أهل البلاد التي وطئها وأذلها، وإن لم يكن بأهلها قدرة على دفعه تعين فرض القتال على كافة المسلمين؛ [حتى تنكشف البلاد من العدو

إلى بلاده، وإن كان بهم قدرة على دفعه، لم يسقط بهم فرض الكفاية عن كافة المسلمين ما دام العدو باقياً في ديارهم، وهل يتعين عليهم كما تعين على أهل الثغر؟ فيه وجهان، فإن انهزم أهل ذلك الثغر عنهم، صار فرض جهادهم متعيناً على كافة الأمة، وجهاً واحداً، حتى يردوه إلى بلاده إن لم يستصحب معه شيئاً للمسلمين، أو أسيراً منهم، إلا فحتى يسترجع ذلك من أيديهم. الحالة الثانية: إذا أطل العدو على بلاد المسلمين لقتالهم وخافوه؛ فيتعين فرض الجهاد على كل من أطاقه وقدر عليه من البلاد التي أطلها، وكذلك إذا لم يطل العدو لكنه قصد بلاد الإسلام، وبقي بينه وبينها [دون] مسافة القصر. ويدخل في هذا التعيين جميع من في الثغر من المجاهدين، سوى النساء إذا لم يكن فيهن قوة الدفع، وكذا الصبيان والمرضى، ويدخل فيه من عليه دين، ومن له أبوان لا يأذنان له؛ لأنه قتال دفاع وليس بقتال غزو، فيتعين فرضه على كل مطيق، وكذا يدخل فيه العبيد بدون إذن السادة، إن لم يكن في الأحرار مدفع. قال الإمام: وبهذا يتبين أن العبد من أهل القتال، ولكن إذا لم يتعين فحق السيد مقدم. ولو أمكن مقاومة الأحرار لهم من غير موافقة العبيد، لكن بالموافقة تقوى القلوب – فوجهان حكاهما المراوزة، أحدهما: أن الجواب كذلك، وهو قضية [كلام] الماوردي، والنسوان اللاتي فيهن قوة [كالعبيد]، صرح به الإمام وغيره. وفي "الرافعي" أن ابن أبي هريرة قال فيما إذا أطل العدو: لا يكون الجهاد فرض عين، بل هو فرض كفاية أيضاً، وهذا يأتي في الحالة الأخرى من طريق الأولى. والمذهب: الأول، وعليه ينظر: إن كان عدد العدو أكثر من مثلي عدد من في الثغر – لم يسقط فرض الكفاية عن كافة المسلمين، ووجب على الإمام إمدادهم

بمن تقوم به الكفاية، وإن كان العدو مثلي أهل الثغر فما دون، قال الماوردي: فإن كان في صورة إطلال العدو كان في حق غير أهل الثغر فرض كفايةٍ باقياً عليهم، وإن كان في الصورة الأخرى، فهل يسقط بأهل الثغر فرض الكفاية عمن عداهم؟ حكى ابن أبي هريرة فيه وجهين: أحدهما: [لا،] خوفاً من الظفر بهم؛ فيصير فرض القتال متعيناً عليهم وباقياً على الكفاية في حق غيرهم، وفي "الوسيط" وغيره: أن أهل الثغر إذا كان فيهم كثرة في صور إطلال العدو، فخرج بعضهم وفيهم كفاية، فهل يتحتم على الآخرين المساعدة؟ فيه وجهان. وأصحهما في "الرافعي": نعم؛ لعظم الواقعة وكون النصر غير منضبط. وفي "الإبانة" وكذا في "العدة" كما حكاه العمراني: أن العدو إذا لم يدخل بلاد الإسلام، فقتاله فرض على الكفاية، وإن دخل كان على من يقربه فرض عين، وكذا على من بعد عنه إن كان يجد الزاد والراحلة، ويقوى أن يجاهدهم، وإن كان بعيداً ولا يجد الزاد والراحلة، ولا يقوون على قصد العدو، فهل يلزم ذلك؟ فيه وجهان، أحدهما: نعم، ويكون على أعيانهم؛ لقوله تعالى: {انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً}؛ فإن القرب والبعد معتبر بمسافة القصر، وفي "الوسيط" إجراء الوجهين [فيما] إذا كان في أهل البلد كثرة، وخرج من تقوم به الكفاية في وجوبه على من هو خارج البلد فيما دون مسافة القصر. ولو كان العدو قد سار في بلاده إلى نحو بلاد الإسلام، فإن كان غير متأهب للقتال، فقتاله فرض كفاية، كما لو أن مقيماً في بلاده ولم يسر كما ذكرناه، ولكن ينبغي أن يتحرز من مكره، ولو انتهى إلى أن صار بينه وبين بلاد الإسلام يوم وليلة، فالفرض في جهاده كما لو كان مقيماً في بلاده أيضاً، لكن يجب التأهب لقتاله. قال الماوردي: وفرض هذا التأهب على أعيان [أهل] ذلك الثغر.

فرعان: نزول العدو في موات دار الإسلام أو خرابها، هل ينزل منزلة دخوله بلاد الإسلام؟ فيه وجهان حكاهما الغزالي، والمذكور منهما في "النهاية" حكاية عن الأصحاب: الأول، والذي رآه لنفسه: مقابله. وأسر المسلم أو المسلمين هل ينزل منزلة الدخول لدار الإسلام؟ فيه وجهان، أظهرهما عند الإمام: الأول؛ لأن حرمة دار الإسلام كحرمة المسلمين؛ فالاستيلاء على المسلم أعظم. قال: ويستحب الإكثار من الغزو؛ لأنه طاعة، والإكثار من الطاعة مستحب، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر منه كما ذكرناه، وقد سأل ابن مسعود – رضي الله عنه – رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: "الصَّلاَةُ لِمِيقَاتِهَا"، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "بِرُّ الوَالِدَيْنِ"، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ". وروى سهل بن سعد الساعدي: أنه – عليه السلام – قال: "لَغَزْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ- تَعَالَى – خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"، غير ذلك من الأخبار. قال الماوردي: والذي [استقرت عليه سِيَر] الخلفاء الراشدين أن يكون لهم في كل فصل غزوة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد فرض الجهاد على هذا. تنبيه: الغزو: مصدر: غَزَوْتُ العدو، وأصله: الطلب، يقال: ما مغزاك؟ أي: ما مطلوبك؟ والغازي يطلب إعلاء كلمة الله – تعالى – والثواب والغنيمة، والاسم: الغَزاة والغَزْوة، وهو غازٍ، وهم غُزَاة، وغُزَّى، وأغزيته: جهزته للغزو. قال: وأقل ما يجب في كل سنة مرة: أما وجه وجوبه في كل سنة فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ أمر به لم يتركه في كل سنة، والاقتداء [رسول الله] صلى الله عليه وسلم واجب، وأما كون أقل ذلك [في السنة

مرة]، فوجهه قوله تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ} الآية [التوبة:126]، قال مجاهد: إنها نزلت في الجهاد، ولأن فرض الجهاد متكرر، وأقل الفرض المتكرر ما وجب في كل عام مرة كالصيام وزكاة المال والفطر، ولأن الجزية تؤخذ للكف عن القتال، وإنما تؤخذ مرة واحدة في السنة، وسهم الغزاة يؤخذ في كل سنة مرة؛ فلابد من غزوة واحدة، ثم الإمام فيها مخير: إن شاء خرج بنفسه، وإن شاء بعث قوماً وأمَّر عليهم أميراً، على حسب ما تقتضيه المصلحة، قال ابن الصباغ: و [يلزم] الرعية طاعته فيما يراه من ذلك، وهذا ما نص عليه الشافعي – رضي الله عنه – وقال أيضاً: إنه يُغْزِي كل قوم إلى من يليهم من الكفار؛ لأنهم أعرف بقتالهم. وعلى ذلك جرى أصحابه وقالوا: للإمام تكليف أهل البر القتال في البر؛ لأنهم أعرف به، وتكليف أهل البحر القتال في البحر: لأنهم أخبر به. ثم ظاهر كلام الشيخ وغيره: أن الاعتبار بإرسال الجند مرة واحدة إلى أي جهة كانت من جهات العدو في إسقاط الفرض، ومن ذلك قول البندنيجي: وإذا غزا [جهة سنة غزا جهة] أخرى [في] السنة الثانية. وكلام الإمام مصرح بأمر زائد على ذلك؛ فإنه قال: قال الفقهاء: يتعين على الإمام أن يقيم في كل سنة قتالاً مع الكفار، ويجب أن يغزي إلى كل صَوْبٍ منهم جنداً إذا أمكن ذلك، وزعموا أن فرض الكفاية يسقط بقتال واحد في كل صوب، والمختار – عندي في هذا – مسلك الأصوليين؛ فإنهم قالوا: الجهاد دعوة قهرية، فيجب إدامته على حسب الإمكان، حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم، ولا يختص بالمرة الواحدة في السنة، وإذا أمكنت الزيادة لا يعطل الفرض. وما ذكره الفقهاء حملوه على الغالب؛ لأن الأموال والعدد لا يتأتى تجهيزها للجند في السنة أكثر من مرة واحدة، وإذا اصطلى الرجال بنار القتال ونالوا من العدو، ونيل منهم – لم يعودوا ولا دوابهم إلى الاستعداد التام إلا في مدة السنة.

قال: فإن دعت الحاجة إلى أكثر [من ذلك] وجب؛ لأنه فرض كفاية، فيقدر بقدر الكفاية. قال: وإن دعت إلى تأخيره لضعف المسلمين، أخره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر قتال قريش بالهدنة، وأخر قتال غيرهم من القبائل بغير هدنة، ولأن ما يرجى من النفع بتأخيره أكثر مما يرجى من النفع بتقديمه؛ فوجب تأخيره. و [الضُّعْف و] الضَّعْف – بضم الضاد وفتحها – خلاف القوة، وتارة يحصل بقلة المسلمين، وعظم شوكة الكفار في هذا العام، وتارة لكون بلاد المسلمين مجدبة، ولا شيء لهم يتقوون به [على] عدوهم، وما أشبه ذلك، ولو أمكن قتال بعض الكفار [دون بعض] تعين على النعت المتقدم. وهذا كله في الغزو، وأما حراسة حصون المسلمين، فمتعينة على الفور، ويجب إدامتها بلا فتور، وذلك بعمارة الثغور، وإعداد الكراع والأسلحة، وحفر الخنادق، وترتيب الرجال- كما قال ابن الصباغ – في أطراف البلاد، يلقون من بإزائهم من المشركين إذا أمكن، ويؤمِّر في كل ناحية أميرا يجيشهم في المقام، ويديرهم في أمر الحرب والجهاد، ويعتبر فيه أن يكون مسلماً حرًّ ممن له رأي وعقل ونجده وبصيرة بالحرب، ومكايدة العدو، ويكون فيه أمانة ورفق ناصح للمسلمين، وأن يكون من أهل الاجتهاد [في أحكام الجهاد]. وحكى الماوردي في اعتبار كونه [من أهل الاجتهاد] في الأحكام الدينية وجهين؛ بناء على اختلاف أصحابنا في هذا الأمير، هل يجوز أن ينظر في أحكام جيشه إذا كان مطلق الولاية؟ ولو فوض إليه ولاية التنفيذ، وهي ما كانت موقوفة على رأي الإمام في تنفيذ أمره [فلا يعتبر] من الشرائط المذكورة الحرية، ولا أهلية الاجتهاد في أحكام الجهاد وغيرها. قال: ولا يجب الجهاد إلا على ذكر بالغ عاقل مستطيع، أي: مسلم،

وسكت الشيخ عنه لوضوحه. ووجه وجوبه على من هذه صفته: الاتفاق، وهذه الصفات جمعت شروط الأهلية وانتفاء الموانع الحسية والشرعية. قال الماوردي: ولا فرق فيه بين أن [يكون] يحسن القتال أو لا؛ لأنه إن كان يحسنه حارب، وإلا كثَّر وهَيَّب. ووجه عدم وجوبه على من لم يتصف بها سيأتي. قال: فأما المرأة والعبد والصبي، فلا يجب عليهم: أما المرأة؛ فلقوله تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ} [الأنفال: 65]، وإطلاق لفظ "المؤمنين" يتوجه إلى الرجال دون النساء، ولا يدخلن فيه، كما هو مذهب الشافعي – رضي الله عنه – إلا بدليل يدل على إرادة دخولهن؛ كما نقله الماوردي. وقد روي عن عائشة – رضي الله عنها – أنها [قالت]: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد فقال: "جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ"، وروى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "جِهَادُ الْكَبِيرِ وَالضَّعِيفِ وَالْمَرْأَةِ؛: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ". والخنثى المشكل في ذلك كالمرأة. وأما العبد؛ فلقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41]،وهذا الخطاب لا يتوجه للمملوك؛ لأنه لا يملك؛ فصار داخلا في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 91]، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم تَبِعَهُ مَمْلُوكٌ لاِمْرَأَةٍ مِنْ مُزَينَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اسْتَاذَنْتَ مَوْلاَتَكَ؟ " فَقَالَ: لاَ، فَقَالَ – عَلَيهِ السَّلاَمُ -: "لَو مِتَّ أُصَلِّ عَلَيكَ، ارْجِعْ فَاسْتَاذِنْهَا، وَاَقْرِئْهَا مِنِّي السَّلاَمَ"، فَرَجَعَ فَاسْتَاذَنَها، فَأَذِنَتْ لَهُ. وَرَوَى جَابِرٌ أن عَبْداً قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ وَالْجِهَادِ، فَقَدِمَ صَاحِبُهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرَهُ اَنَّهُ مَمْلُوكٌ، فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ بِعَبْدَينِ، فَكَانَ بَعْدُ إِذَا

أَتَاهُ إِنْسَانٌ لاَ يَعْرِفُهُ لِيُبَايِعَهُ، سَأَلَهُ: أَحُرٌّ هُوَ أَمْ مَمْلُوكٌ؟ فَإِنْ قَالَ: أَنَا حُرٌّن بَايَعَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ وَالْجِهَادِ، وَإِنْ قَالَ: أَنَا مَمْلُوكٌ، بَايَعَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ وَلَمْ يُبَايِعْهُ عَلَى الْجِهَادِ. ومن جهة المعنى: أنه لو حضر الغنيمة لم يسهم له، بل يرضخ، ولو كان من أهل فرض الجهاد لأُسْهِمَ له، والمدبر والمكاتب. ومن فيه جزء من رق – وإن قل في ذلك – ككامل الرق. ولو أذن السيد للعبد في الجهاد، قال الإمام: فالوجه ألا يلزمه طاعته؛ فإنه ليس من أهل هذا الشأن بنفسه، والملك لا يقتضي التعرض للهلاك، وليس القتال من الاستخدام الذي يجب للسيد على العبد، ولا يجوز أن يكون في هذا خلاف، وإذا لم نوجب الدفع عن المسلم المقصود على التفصيل الذي قدمناه للفقهاء، فلا يجب على العبد أن يدفع عن سيده إذا كان في الدفع تعريض نفسه للقتل. نعم، له استصحابه لخدمته في السفر [وليسوس] دوابه. وهذا ما أورده الغزالي، وقال الرافعي: إن قوله: وليس عليه الذب عن سيده، ينبغي أن يعلم بالواو؛ فإنه جواب على أن الدفع عن الغير لا يجب. قلت: ولا ينبغي أن يعلم بالواو؛ لأن موضع الخلاف في وجوب الدفع عن الغير إذا لم يخف على نفسه، أما إذا خاف عليها فلا يجب، والمسألة مصورة هاهنا بالخوف. وأما الصبي؛ فلقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} الآية [التوبة: 91] قيل: وهم الصبيان؛ لضعف أبدانهم، وقوله – عليه السلام -: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ ... " الخبر المشهور. وقد روي أنه – عليه الصلاة والسلام – رد زيد بن ثابت ورافع بن خديج والبراء بن عازب وعبد الله بن عمر –رضي الله عنهم – [يوم بدر، استصغرهم.

وروى نافع عن ابن عمر] قَالَ: عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَومَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَدَّنِي وَلَمْ يُجِزْنِي فِي القِتَالِ، وَعُرِضْتُ عَلَيهِ يَومَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي. خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. قال: فإن حضروا جاز، أي: بإذن الإمام؛ لما في حضورهم من النفع. وقد روى أبو داود عن أنس قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عيه وسلم يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْم وَنِسْوَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، يَسْقِينَ الْمَاءَ، وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى. وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي. وحضور العبد منوط بإذن مولاه، وإلا فلا يجوز. قال: ولا يجب الجهاد على معتوه؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} [قيل: وهم] المجانين؛ لضعف عقولهم، وللخبر المشهور. وأفرد الشيخ هذه المسألة عما قبلها؛ لافتراقهم في جواز الحضور؛ فإن المعتوه لا نحضره الحرب؛ لأن حضوره مظنة الضرر على المسلمين؛ فإنه قد يعبث فيهم فيشغلهم عن القتال، بخلاف غيره كما تقدم. قال: ولا على غير مستطيع، وهو الأعمى والأعرج والمريض الذي لا يقدر على القتال؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} الآية [الفتح: 17]؛لأن سورة الفتح نزلت في الجهاد باتفاق المفسرين، وقول الشيخ: الذي لا يقدر على القتال، يعود إلى الثلاثة، وفيه احتراز عن أعمى إحدى العينين؛ فإنه يجب عليه القتال، كما يجب على الأعشى والأعمش ومن في بصره سوء وهو يدرك به الشخص والسلاح، وعن الأعرج الذي يقدر على الركوب والمشي معاً؛ فإنه يجب عليه،

دون ما إذا قدر على أحدهما كما صرح به ابن الصباغ وغيره. وفي "الرافعي" وجه اختاره في "المرشد": أن الأعرج إذا كان عنده ما يركبه وقدر على ركوبه خاصة وجب عليه، يعني في موضع يمكن القتال فيه راكباً، وهو ما حكاه الإمام عن العراقيين، وألحق في "المرشد" به ما إذا كان يقدر على المشي خاصة. والظاهر: الأول وبه جزم البغوي والمراوزة، كما حكاه الإمام؛ لأن الدابة قد تهلك فيهلك. وعن المريض مرضاً يسيراً لا يمنعه عن القتال، كالحمى اليسيرة والصداع [اليسير]، ووجع الضرس؛ فإنه يجب عليه، بخلاف ما يخشى منه كالحمى الشديدة ورمد [ووجع العين]، كما حكاه أبو الطيب. ومن طريق الأولى: لا يجب على مقطوع الرجل، وكذا مقطوع إحدى اليدين، ولو كان مقطوع بعض أصابعها، فإن كان المقطوع الأكثر فكذلك الحكم، وإن كان المقطوع الأقل وجبن قاله [المصنف] والماوردي. وكذلك حكم الأنامل. قال: والفقير الذي لا يجد ما ينفق على نفسه وعياله، ولا يجد ما يحمله، وهو على مسافة تقصر فيها الصلاة، أي: سواء قدر على المشي أو عجز عنه كما قاله الماوردي، لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} [الآية] [التوبة: 91] إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَاذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} [التوبة: 93]، وفي الآية – أيضاً – دليل على أن العادم إذا دفع له الإمام من بيت المال ما ينفقه عليه ويحمله يجب عليه الجهاد، وقد صرح به الأصحاب، وأنه لا يجب عليه إذا كان المدفوع من غير بيت المال، والفرق: أن له في مال بيت المال حقا؛ فلا تلحقه مِنَّةٌ، بخلاف مال غيره. نعم، لو قبله لزمه فرض الجهاد بعد القبول، وإذا

كانت المسافة دون مسافة القصر لم يكن عدم الراحلة مانعاً من الوجوب إذا كان قادراً على المشي، كما أن ذلك لا يمنع وجوب الحجز نعم، في هذه الحالة القدرة على النفقة شرط، إلا إذا كان العدو على باب البلد الذي هو فيه؛ فإنه يجب عليه القتال بكل حال، كما قاله أبو الطيب والمصنف والبندنيجي وغيرهم. ثم المعتبر في النفقة نفقة الأهل وآلة الجهاد ونفقته في الذهاب، وكذا في الإياب؛ لأن الأصل بقاؤه، والنفس تحدثه بالرجوع إلى أهله وإن كان هذا السفر مظنة الموت. نعم، لو كان لا أهل له ففي اعتبار نفقة الإياب في مثله في الحج وجهان، قال الإمام: وهما جاريان هنا وقد يرتبان، وهاهنا أولى بعدم الاعتبار. قال الأصحاب: وكل عذر يمنع [وجوب] الحج يمنع وجوب الجهاد إلا الخوف من طلائع الكفار في الطريق؛ فإنه يمنع الحج ولا يمنع الجهاد، وفي الخوف من متلصصي المسلمين وجهان في "النهاية"؛ أصحهما – وهو الذي أورده الغزالي وقال [الإمام]: إن ميل النص [والأئمة إليه]-: أنه لا يمنع؛ لان الخوف محتمل في هذا السفر، مع أن قصد المتلصصين من فروض الكفايات، فلعله أهم. قال: ولا يجاهد من عليه دين، أي: حالاًّ أو مؤجلاً، إلا بإذن غريمه، أي: مسلماً كان أو كافراً، ووجهه: ما روى أبو قتادة: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبيلِ اللهِ صَابِراً مُحْتَسِباً، مُقْبِلا غَيْرَ مُدْبِرٍ، يُكَفِّرُ اللهُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، إِلاَّ الدَّيْنَ"، وفي رواية: أَيَحْجُزُنِي عَنِ الْجَنَّةِ شَيءٌ؟ فَقَالَ: "لاَ، إِلاَّ الدَّيْنُ". [وما] حجز عن الجنة لم يتوصل بالجهاد إليها، ولأن فرض الدين إذا كان حالاًّ [فهو] متعين عليه، وفرض الجهاد على الكفاية، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية. وإذا كان مؤجلاً

فمقصود الجهاد: طلب الشهادة ببذل النفس والاستسلام للقتل، وذلك يؤدي إلى إسقاط حق ثابت؛ فمنع منه. نعم، لو أذن له صاحب الدين صار من أهل الجهاد، وللإمام احتمال فيه مع جزمه بجوازه، وإذا جاهد لم يتعرض للشهادة، ولم يتقدم أمام الصفوف، ويقف في وسطها أو حواشيها، ليحفظ الدين بحفظه نفسه، قاله الماوردي، وهذا على وجه الاستحباب، كما صرح به البندنيجي. وقيل: يجوز في الدين المؤجل أن يجاهد بغير إذنه؛ لأنه في الحال مخاطب بفرض الكفاية، بخلاف الدين؛ فإنه لا يتوجه الخطاب به إلا بعد حلوله؛ فلا يترك أمراً ناجزاً لشيء منتظر، وهذا أصح عند النواوي وصاحب "المرشد". والصحيح في "تعليق" القاضي أبي الطيب: الأول؛ لما ذكرناه، وهو ظاهر النص في "المختصر"؛ فإنه قال: ولا يجاهد إلا بإذن أهل الدين، وما ذكره صاحب الوجه الثاني منتفض بما لو كان الدين الحالُّ على معسر؛ فإن المعنى المذكور موجود فيه، وقد قال الأصحاب: إنه لا يجاهد إلا بإذن الغريم، كما لو كان الدين حالاًّ وهو موسر، صرح به الماوردي، ومحل المنع عنده مصور بما إذا لم يستتب من يقضي الدين من ماله الحاضر، أو [استناب من يقضيه من ماله الغائب، أما إذا استناب من يقضيه من المال الحاضر] لم يلزمه الاستئذان؛ لأنه كالمؤدين وعلى ذلك جرى في "التهذيب"، والحق به غيرهما قيام كفيل به كما ذكرناه في باب التفليس. واعلم أن ظاهر نص الشافعي – رضي الله عنه – الذي حكيناه، وكلام الشيخ هاهنا وفي "المهذب" وكلام البندنيجي والماوردي يقتضي أمرين: أحدهما: منع نفس الجهاد، لا منع السفر له. والثاني: إناطة المنع منه بعد الإذن، وعدم الإذن تارة يُعقل مع المنع من الجهاد، وتارة يعقل مع السكوت. وبهذا التقرير يظهر لك: أن هذه المسألة مخالفة للمسألة المذكورة في هذا

الكتاب في أول باب التفليس؛ لأنه ذكر ثم أن الممنوع السفر، وحينئذ لا يقال: إن إيراده ثم يقتضي تصحيح قول اقتضى إيراده هنا تصحيح مقابله، بل يقال: إن الخلاف المذكور في باب التفليس مرتب على الخلاف المذكور هاهنا، إن قلنا: [إن] الجهاد نفسه لا يتوقف على إذن الغريم، فالسفر إليه من طريق الأولى، وإن قلنا: يتوقف على الإذن - كما هو ظاهر النص - جاء الخلاف المذكور في باب التفليس، ويكون وجه الجواز الذي اقتضى إيراد الشيخ ترجيحه: [أن المحذور] المتوقع الناشئ من طلب الشهادة، وهو تعذر الدين [بالموت]- مأمون؛ لتوقف الجهاد على الإذن، ومن منعه، قال: إذا كان الجهاد ممنوعاً بدون الإذن، كان ما يتوصل به إليه كذلك؛ حسما للباب كالخلوة. والفرق على الأول: أن الجهاد إنما تدعو النفس إليه لطلب الأجر، فإذا كان محرماً لم يقدم عليه؛ لأن من طبعها كراهة الموت، بخلاف الزنى؛ [فإن] في النفس داعية إليه؛ فلذلك مُنعت الخلوة، [ويكون الفرق بين الصحيح في المسألتين: أن الجهاد نفسه مظنة المظنة؛ فإنه قد يحصل مع السفر للجهاد جهاد، وقد لا يحصل]. لكن في كلام الماوردي والمصنف شيء قد يفهم منه: أن الممنوع منه هاهنا جزماً أو على أحد الوجهين، السفر للجهاد؛ فإنهما قالا فيما إذا كان الدين مؤجلا: أحد الوجهين: أنه يجوز أن يجاهد من غير إذن الغريم؛ كما يجوز أن يسافر لغير الجهاد [بغير إذنه]، وهو مصرح به كذلك في "تعليق" القاضي الحسين و"النهاية" في هذا الموضع، وفيهما في الدين المؤجل وجهان آخران ذكرناهما في باب التفليس [مع] غيرهما، وكلام القاضي أبي الطيب هنا ليس فيه تصريح بأحد الأمرين؛ لأنه ذكر فيما إذا كان الدين حالا: أن لرب الدين منعه من الخروج، وإذا كان مؤجلاً فهل له منعه من الخروج؟ فيه وجهان. ولفظ "الخروج" يحتمل أن يريد به: [السفر، وهو الظاهر من قوة الكلام،

ويحتمل أن يريد به]: إلى وجه العدو؛ فيكون مراده الجهاد كما هو [ظاهر] لفظ الشافعي، رضي الله عنه. و [على] هذا: فبين عبارة الشافعي – رضي الله عنه – ومن تبعها، وعبارة أبي الطيب فرق؛ لأن عبارة الشافعي –رضي الله عنه – تقتضي كما ذكرنا أن المنع منوط بعدم الإذن، وهو أعم، وعبارة القاضي أبي الطيب وكذلك البندنيجي مصرحة بأن لرب الدين منعه، ومن هاهنا استشكل بعضهم الجمع بين كلامي الشيخ هاهنا وفي التفليس؛ بناء على أن المراد هاهنا: السفر، لا الجهاد نفسه، والأشبه ما ذكرته أولا؛ لأن الأصحاب نسبوا قول المنع من السفر في الدين المؤجل إلى الإصطخري كما نقلته في التفليس، ولو كان المراد بما ذكره الشافعي – رضي الله عنه – هاهنا: السفر، لا الجهاد نفسه، لم يكن منسوباً إلى الإصطخري؛ بل للنص في "المختصر"، فتأمل ذلك، والله أعلم. قال: ولا يجوز لمن أحد أبويه مسلم أن يغزو بغير إذنه؛ لما روى أبو داود عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُجَاهِدُ؟ قَالَ: "أَلَكَ أَبَوَانِ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ". وخرجه البخاري ومسلم. وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن رجلا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال – عليه السلام -: "هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ؟ " فَقَالَ: أَبَوَايَ، فَقَالَ – عَلَيهِ السَّلامُ -: "أَذِنَا لَكَ؟ " قَالَ: لاَ، قَالَ: "ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَاذِنْهُمَا، فَإِنْ أّذِنَا لَكَ فَجَاهِدُ وَإِلاَّ فَبِرَّهُمَا".

ولأن فرض الجهاد [على الكفاية]، وبر الوالدين وطاعتهما [فرض عين]، ولهذا [يأثم بترك كلامهما]، كما يعصي بترك صلاة الفرض، كما حكاه مجلي عن ابن الصباغ في طلاق المريض، وفرض العين آكد فكان الاشتغال به أولى. ولو كان أبواه كافرين لم يلزمه استئذانهما؛ لأنهما يمنعانه، وقد جاهد أبو حذيفة ابن عتبة بن ربيعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوه عتبة يقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حتى قتل، ولا شك في كراهيته لذلك. واستئذان الجد والجدة عند عدم الأبوين كاستئذان الأبوين، صرح به الماوردي والمصنف والبغوي وغيرهم، وهو ما أبداه الإمام احتمالاً، وقد مضى في إلحاقهما بالأبوين عند عدمهما في جواز التفريق بينهما وبين الطفل –خلافٌ كان لا يبعد عن القياس مجيء مثله هاهنا، ومع وجود الأبوين هل يلزمه استئذانهما مع الأبوين؟ فيه وجهان في "المهذب"، والصحيح فيه وفي "التهذيب": اللزوم؛ لأن بوجود الأبوين لا يسقط بر الجدين، ولا تنقص شفقتهما عليه. ثم ظاهر كلام الشيخ إيجاب استئذان الرقيق من الأبوين كالحر منهما، وهو ما اختاره في "المرشد"، وأبداه في "المهذب" احتمالا لنفسه؛ لأن المملوك كالحر في البر والشفقة، فكان كالحر في الاستئذان، بعد أن قال: [إن] بعض أصحابنا قال: تشترط الحرية ولا يلزمه استئذان الرقيق، وهو ما أورده الماوردي؛ لأنه لا إذن للرقيق في نفسه فلم يعتبر في غيره، وحكى الشاشي في "حليته" في ذلك وجهين، وكذلك البغوي، وقال: إن الصحيح عندي انه لا يجاهد بدون إذنه، وعلى ذلك جرى الرافعي. فرع: سفر غير الجهاد هل يلتحق به في وجوب استئذان الأبوين أم [لا؟] قال الأصحاب: إن كان لأجل حج الفرض وقد استطاعه فلا، وادعى الإمام نفي خلافه، وفي "تعليق" القاضي الحسين هاهنا وجه: أنه يلتحق به؛ لأنه وإن وجب علهي لكن لم يتعين أداؤه في تلك السنة، والغزالي حكاه في كتاب الحج، وقال الرافعي: إنه غريب.

وفي حج التطوع قولان رأيتهما فيما وقفت عليه من "تعليق" البندنيجي هاهنا. وإن كان سفره لتجارة أو لطلب علم فقد أطلق العراقيون – ومنهم [القاضي] أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ –أن الاستئذان مستحب. وقال في "الحاوي": إن كان الأبوان أو أحدهما ممن [لا تلزمه نفقته فلا يلزمه أن يستأذنهما في سفره، وإن كان ممن] تلزمه نفقتهما أو نفقة أحدهما، فهما كصاحب الدين؛ لأن وجوب نفقتهما كالدين لهما؛ فيجب استئذانهما [أو من وجبت نفقته منهما، مسلما كان أو كافراً، إلا أن يستنيب في الإنفاق عليهما من ماله الحاضر، فلا يلزمه استئذانهما]. والمراوزة فصلوا قالوا: إن كان لطلب [علم هو] فرض عين كالعلم بالطهارة والصلاة، وقدر ما يبتلى به العامة، إذا لم يكن في بلده من يتعلم ذلك منه – فله ذلك من غير إذن من أحدهما، وإن كان من فروض الكفايات كما إذا خرج طالباً لدرجة الفتوى، وفي البلد من يشتغل بالفتوى – فوجهان، أصحهما: عدم وجوب الاستئذان، فإن [كان] المفتي شيخاً جزم القاضي الحسين بجواز الخروج من غير إذن؛ لأن ذلك الشيخ يعرض أن يموت، وإن لم يكن هناك من يشتغل بالفتوى فطلب العلم واجب على الكل على الكفاية، والكل عصاة [ترك ذلك، ولو] خرج في هذه الحالة واحد لا غير لم يلزمه الاستئذان؛ لأنه بالخروج يدفع الحرج عن نفسه، وادعى الإمام نفي الخلاف فيه، وإن خرج معه جماعة ففي الحاجة إلى الإذن وجهان مرتبان على الخلاف السابق وأولى بعدم الاحتياج، وهو الذي أورده القاضي الحسين، ووجهه: أنه لم يوجد في الحال من يقوم بالمقصود، [والخارجون معه قد لا يظفرون بالمقصود]. وعد الإمام مقابل هذا الوجه بعيداً، وادعى القاضي الحسين أن من تفقه يسيراً وعلم بعض العلوم، وله خاطر بحيث إنه لو تكلف لبلغ درجة المفتين – يتعين عليه التفقُّه، وفي هذه الصورة يجوز له الخروج من غير إذنٍ وجهاً واحدا، وغيره

قال: أصح الوجهين: أنه لا يتعين عليه النفقة. وقالوا في سفر التجارة؛: إن كان قصيراً فلا يحتاج فيه إلى الإذن بحال، وإن كان طويلاً نظر: إن كان فيه خوف ظاهر كركوب البحر والبراري المخطرة فهو كسفر الجهاد، ويجيء فيه ما حكيته عن "تتمة التتمة" في باب التفليس، وإن كان الأمن غالباً فوجهان، الأظهر: الجواز بدون الإذن، وهذا ما حكاه الرافعي، وهو مستنبط من احتمال أبداه الإمام لنفسه بعد حكايته عن القاضي إطلاق القول بأن الأسفار المباحة لابد فيها من [إذن الوالدين]، وقد رأيت هذا في "تعليق" القاضي، ورأيت فيه أنه قال في كَرَّة أخرى: فيها وجهان، قال الإمام: والأبوان الكافران لا يبعد عندي إلحاقهما في الأسفار المباحة في الأمور الدنيوية بالأبوين المسلمين. قال: فإن أذن له الغريم، [أي: أو أحد الأبوين]، ثم بدا له قبل أن يحضر الصف، أو أسلم أحد أبويه قبل أن يحضر الصف - لم يغز إلا بإذنهم؛ لأنه عذر يمنع وجوب الجهاد، فطرآنه يمنعه أيضاً كالمرض والعمى. وفي كتاب ابن كج: أنه لا يلزمه الانصراف، ويتخير؛ كما لا يجب الانصراف على المرأة إذا أذن لها في السفر وطلقها بعد مفارقة البلد. والمشهور الأول، وهو – كما قال الماوردي – مصور بما إذا لم يكن الخارج مُسْتَجْعَلا، أما إذا كان مستجعلا من السلطان على غزوة، [فإنه لا يرجع]؛ لما وجب عليه من حق الجعالة المشتركة بين حقوق الله – تعالى- وحقوق الآدميين، فكانت أولى ممن انفرد بحقوق الآدميين. ثم إذا لم يمكَّن من الغزو فهل يجب عليه الانصراف؟ قال الرافعي: نعم، يجب إلا إذا خاف على نفسه أو ماله. وإنه ألحق به ما إذا خاف من انصرافه انكسار المسلمين فيعذر في المضي. ولو لم يمكنه الانصراف، لكنه قدر على الإقامة في قرية في الطريق إلى أن يرجع جنود الإسلام – لزمه، صرح به

الإمام وغيره، وأوهم الغزالي في "الوسيط" خلافاً في وجوب الإقامة بقوله: فالظاهر أنه يجب عليه الوقوف بقرية إن أمكن؛ إذ غرضهم ترك القتال. قال: وإن كان قد حضر الصف، أي: وتحقق الزحف، وهو اختلاط البعض بالبعض – ففيه قولان: أحدهما: [أنه] لا يغزو؛ لما ذكرناه. والثاني: أنه يلزمه، وهو المختار في "النواوي" و"المرشد"، وبه جزم الفوراني والبغوي، وإليه مال الأكثرون كما قال الرافعي؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45]،وقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15]، ولأنهما حقان متعبان، وتعين الجهاد سابق؛ فقدم. قال القاضي أبو الطيب: وعلى هذا لا يجوز له أن يقف موقف طالب الشهادة ومن قد استسلم للقتل، ويكون في أواخر الصوف يحرس وما أشبه ذلك، وهذان القولان حكاهما أبو إسحاق في "الشرح"، وحكاهما الماوردي وجهين عن رواية القاضي أبي حامد، وقال: إن محلهما إذا كان متطوعاً بالقتال، أما إذا كان مستجعلاً فلا يرجع إذا كان مقامه أصلح من رجوعه، ولو كان رجوعه أصلح من مقامه لتشاغل المجاهدين به، فيرجع ولا يقيم. وفصل القاضي الحسين تفصيلاً آخر، فقال: إن كان يخاف الفتنة من رجوعه وكَسْرَ قلوب المسلمين لم يجز له أن يرجع، وإن كان لا يخاف الفتنة فهل له أن يرجع؟ فيه وجهان. ثم قال: ومن أصحابنا من قال: في جواز الرجوع وجهان، وفي "الوسيط" وغيره، في حال خوف الفتنة من الرجوع وجه: أنه يجب عليه الرجوع؛ فيكون في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: وجوب المصابرة. والثاني: وجوب الرجوع. والثالث: أنه مخير، وقد نسب الإمام هذا إلى اختيار القاضي الحسين. وفي "الرافعي" وجه رابع: أنه يجب الانصراف إن رجع رب الدين، ولا

يجب إذا رجع أحد الوالدين، والفرق: عظم شأن الدين. وحكم تجديد الدين حكم إسلام أحد الأبوين، صرح به الغزالي والقاضي الحسين. ورجوع السيد عن الإذن للعبد بعد الخروج يشبه أن يكون كرجوع رب الدين، بل أولى؛ لأن من عليه الدين يصير من أهل الجهاد بالإذن، بخلاف العبد، لكن في كلام الأصحاب ما يقتضي عكسه؛ فإنهم قالوا: لو خرج من عليه الدين بدون إذنٍ، وحضر الصف - ففي [وجوب] رجوعه خلاف مرتب على ما إذا خرج بالإذن ثم رجع في الإذن وهو في الصف، وأولى بوجوب الانصراف؛ لأنه متعدٍّ بالخروج، وقالوا: إذا خرج العبد بغير إذن سيده فيلزمه الانصراف ما لم يحضر الوقعة، فإن حضر فلا، كما صرح به في "التهذيب" وحكيناه عن الإمام من قبل، وعن القاضي الروياني في هذه الحالة في العبد: أنه يستحب له الرجوع. ثم ما ذكرناه من الأعذار بالنسبة إلى حق غيره، وأما الأعذار المختصة بنفسه إذا طرأت، كما إذا حصل له مرض أو عمى أو نحو ذلك، فهو بالخيار بين التوجه والرجوع، ولا فرق فيه بين أن يكون مستجعلاً، وقد حصل العذر بعد استجعاله، أو لا يكون مستجعلا، قال الماوردي: ولا يجوز ما أخذه منه؛ لأنه استحقه من مال الله تعالى وقال القاضي الحسين: إن هذا نص الشافعي، رضي الله عنه. وقال أصحابنا: إنه كذلك إن كان من المرتزقة الذين يعطيهم من الفيء، فأما ما يعطيه من سهم سبيل الله - وهو سهم الغزاة في الزكاة - فإذا لم يَغز في تلك السنة يسترجع بما أعطاه إياه، نص عليه، والفرق: أن المرتزقة إنما يعطون من الفيء للاستعداد للقتال، والاستعداد قائم في مستقبل الأيام، فأما الذين لا ديوان لهم من أهل الصدقات فإنما يعطون للغزو، لا للاستعداد؛ فهو كما لو أعطى ابن السبيل فلم يخرج فإنه يسترد منه.

وقال القاضي أبو الطيب: إن حصل ذلك قبل التقاء الزحفين [فهو مخيّر، إلا أن يخاف التلف من الرجوع؛ فإنه يمضي، وإن حدث بعد التقاء الزحفين] وجب عليه الثبات. ومن أصحابنا من قال: لا يلزمه الثبات، وله الرجوع إن اختار كما لو طرأ في الطريق، وهذا ما نسبه ابن الصباغ إلى الشيخ أبي حامد، والبغوي إلى شيخه بعد تصدير كلامه بالمنع، والأخير أصح عند الفوراني، وكذا عند الإمام، ونسب الأول إلى رواية صاحب "التقريب"، والفوراني قال: إنه مخرج من رجوع الأبوين وصاحب الدين. وخصّا محل الخلاف بما إذا لم يوجب الانصراف انفلالا وانحلالا في الجند، فإن أورثه لم يجز الرجوع. وطرآن العجز عن النفقة كطرآن المرض [ونحوه]، عند الماوردي وغيره من المراوزة، وقال صاحب "التقريب": ليس له أن يرجع. كما نقله القاضي الحسين عنه، ولعل ما قاله الماوردي محمول على ما إذا لم يلتق الزحفان بعدُ، وما قاله صاحب "التقريب" إذا حصل العجز بعد التقاء الزحفين، كما حكينا عن الأصحاب من قبل أنهم قالوا: إذا كان العدو على باب البلد لم يمنع من الجهاد العجز عن النفقة. وطرآن العجز عن المركوب في حال القتال بموته أو بأخذه لا يجوز الرجوع-كما حكاه أبو الطيب وصاحب "المرشد" وكذا البغوي – إن أمكن أن يقاتل راجلاً، وألا فيجوز له الانصراف. ولو انكسر سلاحه أو أُخِذَن قال القاضي أبو الطيب: قاتل بما وجد من السلاح، فإن لم يجد فبالأحجار وما أشبه ذلكن فإن لم يكن هناك ما يقاتل به فله الانصراف ولا إثم عليه، وعلى ذلك جرى ابن الصباغ، وحكى الرافعي فيما إذا لم يقدر إلا على الحجارة، وجها: أنه يجوز [له] الانصراف، ووجها ثالثاً: أنه إن كان معه مقلاع يرمي به، فلا يجوز [له] الانصراف، وإلا فيجوز، وهذا ما

حكاه القاضي الحسين مع الذي قبله، وقال: الأصح أن له الرجوع؛ لأنه ليس في الرمي بالحجارة كبير فائدة. وقال في موضع آخر: إن الأظهر المنع؛ لأنه يمكنه المقاتلة بالمقلاع، والله أعلم. فرع: إذا ذهبت دابته أو نفقته، فرجع، ثم أفاد ما ذهب منه -نظر: فإن أفاده في أرض العدو وجب عليه العود إلى الجهاد، وإن وجده في بلاد الإسلام فالأفضل له العود ولا يلزمه. ولو أعطاه السلطان بدل ما تلف منه: فإن كان في أرض العدو لزمه قبوله للعود، فإن عاد ولم يقبل لم يجبر على القبول، وإن لم يعد أجبر على القبول والعود، وإن كان في بلاد الإسلام فهو مخير بين قبوله ورده: فإن قبل وجب عليه العود، وإلا فلا يجب. آخر: إذا غزا أرباب الأعذار ثم ارتفعت أعذارهم، فأبصر الأعمى، وصح المريض، واستقام الأعرج، وأيسر المعسر قبل التقاء الزحفين ودخول أرض العدو - فإن كان المشركون أظهر منعوا من العود، [وإن كان المسلمون أظهر خيروا بين المقام والعود، ولو كان [ذلك] بعد التقاء الزحفين منعوا من العود] إلى انجلاء الحرب. قال: وإن أحاط العدو بهم، وتعين الجهاد - جاز من غير إذنهم؛ لأنه قتالُ دفاعٍ عن الدين وليس بقتال غزو؛ فتعين على كل مطيق، وأيضاً: فإن تركه يفضي إلى الهلاك؛ فقدم على حق الأبوين والغريم، وكذا حكم العبد مع سيده. قال: ولا يجاهد أحد، أي: من المسلمين الأحرار عن أحد؛ لأنه متى حضر الصف تعين عليه، سواء كان قد جاهد ألف مرة أو لا، ومتى تعين الفرض عليه لم يَنُبْ عن غيره فيه كما في الحج، ولا فرق في ذلك بين أن يكون بجُعْلٍ أو بغير جعل، ويجب على كل من أخذ الجعل رده. وماروي أنه - عليه السلام - قال: "لِلْغَازِي أَجْرُهُ، وَلِلْجَاعِلِ أَجْرُهُ،

وَأَجْرُ الْغَازِي" – [كما خرجه] أبو داود عن ابن عمر – فهو محمول على الإعانة على الحرب تدفع إليه، ونفقةٍ تصرف إليه. قال ابن الصباغ: فإن قيل: قد أجزتم أن يدفع السلطان الجعل ليغزو، قلنا: الغزاة علىضربين: منهم من حقه الفيء، وهو من فضل الله-تعالى-[لا أنه] عوض عن جهاده، بل يقع جهاده عنه لا عن غيره، ومنهم [من] حقه في الصدقات يعطي إذا نشط ليغزو معونة له، ويقع غزوه عن نفسه. وكذا لا يجوز للإمام أن يستأجر للجهاد من ذكرناه من سهم المصالح على الأصح؛ لما ذكرناه، وعن الصيدلاني وطوائف من الأئمة كما حكاه [الإمام] في موضع آخر جوازه. ولو قهر الإمام جماعة من المسلمين وأكرههم على الخروج والجهاد، لم يستحقوا الأجرة كما أطلقه الأصحاب، [وقد] وافق على هذا الصيدلاني وغيره، كما حكاه الإمام واستعجب منه، وفي "التهذيب": أنه إن تعين الجهاد عليهم فالأمر كذلك، وألا فلهم الأجرة من حين أخرجهم إلى أن يحضروا الوقعة. قلت: ولهذا الاختلاف شبيه، وهو ما إذا مات الأجير على الحج قبل الإحرام، وبعد قطع المسافة إلى الميقات، فالمنصوص – وهو الصحيح-: أنه لا يستحق شيئاً من الأجرة؛ لأن المقصود لم يحصل منه شيء، وعند الإصطخري حكيناه عن النص في مسالة الحج، مع ملاحظة أن الحر إذا حبسن لا يستحق شيئاً من الأجرة كما هو الأصح، وبه قال الجمهور كما تقدم، وما صار إليه البغوي مأخذه مذهب الصيرفي والإصطخري، أو أن الحر إذا حبس يستحق

الأجرة، كما هو مذهب ابن أبي هريرة. وقد قال الرافعي: إن تفصيل صاحب "التهذيب" حسن فليحمل عليه ما أطلقه الجمهور، والله أعلم. ولو أراد الإمام أن يستأجر كافراً، فسنذكر حكمه، وإن أراد أن يستأجر عبدا مسلماً، وقلنا: لا يجوز إجارة الحر المسلم له – ففي جوازه وجهان، قال الإمام: خرجهما الحذاق على أنه إذا وطئ الكفار طَرَفاً من بلاد الإسلام، هل يتعين الجهاد على العبيد؟ إن قلنا: نعم، فهم من أهل فرض الجهاد، فإذا وقفوا في الصف وقع عنهم؛ فيكون استئجارهم كاستئجار الأحرار، وإلا فيجوز كأهل الذمة، وقد أجراهما البغوي في استئجار غير الإمام لهم. قلت: وهذا الخلاف يظهر أنه مختص بحالة استقلال الأحرار بدفع من قصدهم من العدو؛ لأن الأصل المبني عليه الخلاف في صحة استئجار العبيد، وهو أن العبيد هل يتعين عليهم الجهاد إذا طرق العدو بلادهم، أم لا؟ محل الخلاف فيه إذا كان في الأحرار كفاية ويحصل بقتال العبيد قوة، كما حكيناه من قبل عن رواية الإمام، أما إذا لم تحصل الكفاية إلا بالعبيد، فقد حكينا عنه الجزم بتعين القتال عليهم، وأن به نتبين أن العبد من أهل القتال، وقضية البناء: ألا يجوز الاستئجار في مثل هذه الحالة جزماً. ثم من هاهنا يؤخذ الخلاف الذي أشرت [إليه] من قبل في أن من حضر الصف، وكانت الكفاية تحصل بنم تصدى لقتالهم، هل يتعين [عليه] القتال أيضاً أم لا؟ لأن الإمام جعل حضور الصف بمنزلة طروق العدو بلاد الإسلام، وقد تقدم أن العدو إذا طرق بلاد الإسلام وخرج له من تلك الجهة من يقوم بكفايته هل يتعين على الباقين القتال؟ فيه وجهان، أصحهما: نعم، وهو الذي حكينا عن الماوردي الجزم به، وبهذا يستقيم التعليل الذي ذكرناه في امتناع جهاد أحد عن أحد.

وقد أطلق ابن يونس جواز استنابة المشرك والعبد في القتال؛ لأنه لا يتعين عليهما الجهاد بالحضور، والله أعلم. قال: ويكره أن يغزو أحد إلا بإذن الإمام، أي: أو الأمير المنصوب من جهته؛ لأنه على حسب الحاجة، والإمام ونائبه أعرف بها، وإنما لم يحرم؛ لأنه ليس فيه أكثر من التغرير بالنفس، وهو جائز في الجهاد. وفي "المرشد": أنه إذا جاهد بغير إذن الإمام لم يجز. قال: ويتعاهد الإمام الخيل والرجال، فما لا يصلح منها للحرب، منع من دخول دار الحرب؛ لأنه تغرير من غير فائدة، وقد يكون في ذلك ضرر على المسلمين، واستدل الجيلي على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعاهدهم وينظر في خيولهم وأحوالهم، وكان يستصحب من يصلح، ويترك من لا يصلح. قال: ولا يأذن لمخذل، ولا لمن يرجف بالمسلمين. المخذل: هو المفشل عن القتال؛ بأن يقول: فالعدو كثرة ولهم شوكة، ونحن فينا قلة، أو يقول: خيول المشركين فيها قوة، وخيولنا فيها ضعف، وهذا وقت شديد الحر، ونخشى التلف إن خرجنا فيه، ونحو ذلك. والمُرْجِف: من يشيع أقوالاً تدل على ظهور العدو أو الخوف منهم، مثل أن يقول: السرية التي بعثها الإمام قد أخذت، والجيش الذي بعده قد هلكوا، وللمشركين كمين في مكان كذا وكذا، ونخاف أن يهجم علينا، وما أشبه ذلك. والأصل في منعهم قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} أي: بإيقاع الاختلاف بينكم، وبإسراع تفريق جمعكم، {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ} أي: الهزيمة أو التكذيب بوعد الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل، {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي: من يستمع كلامهم ويطيعهم، أو: فيكم عيون مثلكم ينقلون أخباركم إليهم، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 95]. ومن جهة المعنى: أن المقصود من الانتفاع بهم معدوم، والمخوف من الضرر بهم موجود.

وإذا منع هؤلاء؛ فمنع من دل على عورات المسلمين، وإرشاد العدو إلى أسباب الظفر، وتحذيرهم من وقوع الضرر – أولى، كما نص عليه الشافعي، رضي الله عنه. ومن هذا حالُه، قال القاضي أبو الطيب والمصنف وغيرهما: إنه يعزر على ذلك إذا لم يكن من ذوي الهيئات، ولا يوجب ذلك قتله، وكذا إن كان يؤوي جواسيسهم، ويشهد لذلك حديث حاطب بن أبي بلتعة الثابت في "الصحيح". فإن قيل: قد كان يخرج معه – عليه السلام –أمثال هؤلاء من المنافقين، روي أن عبد الله بن أبيِّ ابن سلول كان يقول يوم الخندق: "ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا"، ويوم بدر: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، ويوم أحد: "لو أطاعونا ما قتلوا"، فهلا وجب والاقتداء به؟ قيل: لا لأن الله – تعالى – خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرين عدما فيمن بعده من الولاة: كون جبريل – عليه السلام – كان يخبره بما يقوله المنافقون، فكانوا لا يلتفتون إلى قولهم، ولا يكسر ذلك قلوبهم، ويدل عليه حديث حاطب، وكون أصحابه لا يخذلونه، ويبذلون أنفسهم دونه. وعلى هذا: من دخل من هؤلاء في الجند أخرج، ولا يسهم له ولا يرضخ، ولو قتل كافراً لم يستحق سلبه. وعن رواية القاضي الروياني وجهان: أحدهما: أن ذلك فيما إذا نهاه الإمام ولم ينته، أما إذا لم ينهه فيسهم له [كغيره]. والثاني: أنه يرضخ له. ولا يلتحق الفاسق بالمخذل، وفي "الرافعي" في قسم الغنائم وجه: أنه لا يسهم له؛ لأنه لا يؤمن منه الغدر والتخذيل.

قال: ولا يستعين بمشرك؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف: 51]، وقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51]، وما روى جرير بن عبد الله عن أبيه [عن جده]، قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ، فَأَتَيْنُهُ [أَنَا] وَرَجُلٌ آخَرُ قَبْلَ أَنْ نسلم، [فَقُلْنَا:] إِنَّا نَسْتَحِي أَنْ [يَشْهَدَ قَومُنَا] مَشْهَداً [لاَ نَشْهَدُهُ]، فَقَالَ: "أَسْلِمَا"، قُلْنَا: لاَ، فَقَالَ: "إِنَّا لا نَسْتَعِينُ بِالْمشْرِكينَ"، فأسلمنا وخرجنا معه، وكنا ذلك في بدر. قال: إلا أن يكون في المسلمين قلة، أي: بحيث تمس الحاجة إلى الاستعانة بهم؛ كما قاله البندنيجي وغيره، والذي يستعين به حسن الرأي في المسلمين، أي: فيجوز حينئذ؛ لظن تحصيل المقصود منهم، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بعد بدر بيهود بني قينقاع، فغزوا معه، وشهد معه صفوان بن أمية حنينا بعد الفتح، وهو يومئذ مشرك، وكان حسن الرأي في الإسلام، وقد استعار منه رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين درعا عام الفتح، فقال: أغصب يا محمد؟ فقال: "لاَ، بَلْ عَاريةٌ مَضْمُونَةٌ مُؤَدَّاةٌ"، واستصحبه معه في غزوة هوازن، فسمع صفوان رجلا يقول: غلبت

هوازن وقتل محمد، فقال: بفيك الحجر، لرب من قريش أحب، أو قال: خير من رب من هوازن. وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ مائة ناقة، فقال: هذا عطاء من لا يخشى الفقر. وهذان الشرطان اقتصر على اعتبارهما ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب – في هذا الباب- والبندنيجي، وزاد في "الحاوي" في هذا الباب عليهما ثالثا، وهو: أن يكون اعتقاده مخالفاً لمعتقد المشركين كاليهود والنصارى وعبدة الأوثان، فإن وافقهم لم يجز. وفي "تعليق" القاضي الحسين: اشتراط علم الإمام بأن من يستعين به إذا انضم إلى طائفة الحرب يقوي على دفعهم، فأما إذا علم أنه لا يقاومهم إذا صاروا [حزبا] واحداً، فليس له أن يستعين بهم على قتالهم، ولم يشترط – وراء ذلك – شيئاً آخر، وعلى ذلك جرى الفوراني والإمام، وكذا القاضي أبو الطيب في كتاب أهل البغي؛ تمسكا بقول الشافعي – رضي الله عنه -: ولا بأس إذا كان حكم الإسلام الظاهر أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين. وهذا الشرط منافٍ للشرط الأول؛ لأنهم إذا قلوا حتى احتاجوا لمقاومة إحدى الفئتين إلى الاستعانة بالأخرى؛ فكيف يقدرون على مقاوتمهما إذا التأمتا؟! فلا يظن أنه يجعل شرطا رابعا إذا انضم إلى غيره. والذي اعتبره البغوي شرطان: أحدهما: ما ذكرناه عن القاضي. والثاني: حسن الرأي في المسلمين. وعليهما اقتصر الماوردي في كتاب قتال أهل البغي. ثم في هذه الحالة يستحب للإمام أن يستأجرهم مدة معلومة، كما دل [عليه] ظاهر نص الشافعي - رضي الله عنه –لأن ذلك أحقر لهم وأصغر، ولا يجعلون كالمسلمين فيرضخ لهم؛ لأن لهم [في ذلك تشريفاً وتعظيماً]، وتنعقد المعاملة إجارة، وإن كانت الأعمال مجهولة والمدة غير مضبوطة؛ لأن

ذلك من عموم المصالح والمقاصد المرعية، ومقصود هذه الإجارة لا يقع إلا على الجهاد، ولا يتأتى فيها الإعلام، ولأن المعاملات التي تجري بين المسلمين والكفار يحتمل فيها الجهالة، ودليله مسألة العلج- كما سيأتي- وهذا ما مال إليه الجمهور. وحكى ابن الصباغ في كتاب الفيء أنه: يجوز أن يستأجرهم، ولا يبين المدة. وحكى الإمام أن آخرين قالوا: هذه جعالة؛ لأجل الجهالة، ثم قال: وهذا لا وجه له؛ لأنها لو كانت جعالة لتمكن المجعول له من الترك بعد الوقوف في الصف، وهذا لو جوزناه لأفضى إلى ضرر عظيم لا سبيل إلى احتماله. قال الفوراني: ثم المال الذي يستأجر منه مال الرضخ؛ فيكون فيه ثلاثة أقوال، كما سيأتي. وعلى ذلك جرى القاضي أبوا لطيب، إلا أنه جعل بدل القول بأنها من أربعة أخماس الغنيمة: من أربعة أخماس الفيء، وفي "الشامل" في قسم الغنائم: أنها من أصل الغنيمة، كالمؤنة، ونص الشافعي - رضي الله عنه - دال على أنه من سهم المصالح؛ لأنه قال: يستأجر من مال لا مالك له بعينه، وهو سهم النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى ذلك اقتصر الماوردي، وقال: إنه يعطي من سهم المصالح الحاصل [قبل القسمة؛ لان الأجرة تستحق بالعقد الواقع] قبلها، وهل يجوز أن يعطي من أربعة أخماس الفيء؟ فيه قولان؛ بناء على الخلاف في مصرفها، فإن قيل: إنه للجيش خاصة، لم يجز دفع الأجرة منه، وإن قيل: إنه للمصالح العامة، دفعت منها. ويجوز أن تزيد الأجرة على سهم الراجل والفارس على الأصح في "الحاوي"، وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يجوز أن تبلغ سهم الراجل. قال الماوردي: وهو غلط؛ لأن عقد الإجارة معهم قبل المغنم، وسهام الغانمين تستحق من بعد؛ فهي مجهولة؛ فلم يصح أن تعتبر في عقد تقدمها. وفي "التهذيب" في قسم الغنائم وجه: أنه يجوز أن تبلغ سهم راجل، ولا يبلغ بها سهم فارس، وفي "الشامل" في قسم الغنائم: أنه يعطي ما يكون رصخا من

الغنيمة، وما زاد من سهم [المصالح]، يعني: أن الأجرة إذا زادت على سهم الراجل أعطي من الغنيمة ما دون السهم، ويعطي الباقي من سهم المصالح. ثم إذا صحت الإجارة وشهدوا الوقعة أخذوا بالقتال جبرا، وإن لم يجبر المسلم عليه إلا عند ظهور العدو واستيلائه، قال الماوردي: والفرق أن القتال هو المستأجر عليه، فوجب استيفاؤه جبرا؛ لأنه متعين على الأجر، وقتال المسلم في حق نفسه على وجه الكفاية غير متعين، فلم يجبر عليه، فإن قاتلوا استحقوا الأجرة، وإن لم يقاتلوا، أطلق في "الشامل" في كتاب: قسم الفيء في استحقاقهم الأجرة إذا حضروا الصف وجهين. وقال في "الحاوي": إن كان عدم قتالهم لانهزام العدو، استحقوا؛ لأنهم [قد] بذلوا أنفسهم، فصاروا كمن أجر نفسه للخدمة فلم يستخدم. قلت: وقضية التوجيه المذكور: أن يطرد في هذه الصورة الخلاف الذي ذكرته في إجارة الحر للخدمة وغيرها. وإن لم يقاتلوا مع الحاجة إلى قتالهم، ردوا من الأجرة بالقسط، وفيما تقسط عليه الأجرة وجهان: أحدهما: على القتال، وعلى المسافة من بلد الإجارة إلى موضع الوقعة من دار الحرب. والثاني: على القتال ومسافة مسيره في بلاد الحرب إلى موضع الوقعة؛ لأن مسيره في دار الإسلام سبب يتوصل به إلى العمل، ومسيره في دار الحرب شروع في العمل؛ لأن كل موضع من دار الحرب محل لقتال أهله. قال الماوردي: وهما ينبنيان على الخلاف في مسافة الحج هل تتقسط عليها الأجرة أم لا. ولو صالح الإمام أهل الثغر الذين استأجر للغزو لأجلهم، فإن [كان] الصلح بعد دخوله بهم [دار الحرب – لم يسترجع منهم شيء من الأجرة، وإن

كان قبل مسيره بهم من دار الإسلام استرجع جميع الأجرة، وإن كان بعد مسيره بهم] من دار الإسلام وقبل دخوله بهم دار الحرب، ففي استحقاقهم من الأجرة بقدر المسافة وجهان مأخذهما ما تقدم. ولو لم يستأجرهم لكن جعل لهم جعالة وسماها – صح أيضاً، ودفع القدر المجعول من مال المصالح المأخوذ من هذا المغنم؛ لأن الجعالة تستحق بعد العمل، فوجبت من المال الحاصل بعده. ولو قال لهم: أنا أرضيكم، أو: أعطيكم ما تستغنون به، قال الرافعي: استحقوا أجرة المثل، وقال القاضي الحسين فيما إذا قال: [أعطيك شيئاً]-: إنه يستحق جعلا، ولو لم يجعل لهم شيئاً بعد الاستعانة بهم استحقوا الرضخ؛ كما سنذكره. فرع: إذا أكره الإمام أهل الذمة على الخروج، وحملهم على القتال معه –استحقوا أجرة المثل من وقت الخروج إلى وقت التخلية، كذا حكاه القاضي الحسين عن النص، وأنه لا يضمن أجرة مثلهم بعد التخلية إلى العود إلى وطنه، وعلى ذلك جرى الإمام، وهذا بخالف العبد يضمن أجرة مثله إذا أكرهه على الخروج إلى أن يعود إلى يد سيده، وهذا ما أورده في "التهذيب". وقال الرافعي: يشبه أن ينبني في العبيد على الوجهين السابقين إن جعلناهم من أهل فرض الجهاد، فليكونوا كالأحرار، ولو لم يقاتلوا أهل الذمة مع حضورهم مكرهين ففي استحقاقهم أجرة القتال وجهان، أصحهما في "الرافعي": المنع، وعلى هذا: إن لم يكونوا في حبس لم يستحقوا شيئاً عن الوقوف للقتال، وإن كانوا محبوسين ففي استحقاق أجرة مثل الوقوف وجهان، وأما أجرة مثل الذهاب فقد جزم الإمام بوجوبها. فرع: هل يجوز للآحاد استئجار الذمي على الجهاد؟ فيه وجهان –حكاهما

الإمام في كتاب قسم الفيء – مبنيان على جواز استئجارهم على الأذان، والذي حكاه في كتاب الصداق عن الأصحاب: أنه لا يجوز، ثم قال: وهذا فيه احتمال عندنا؛ تخريجاً على استئجار المسلم المسلم على الأذان، [ولا فقه] في انفصال أحد البابين عن الآخر؛ ولأجل [ذلك] حكى الغزالي والوجهين كما في استئجار الأذان، قال الرافعي: وأصحهما: المنع، وإن كان الأصح في الأذان الجواز؛ لأن الجهاد أعظم وقعاً، ويقع بإقامته وتأخيره مصالح يحتاج فيها إلى نظر كامل، مع كون أهل الذمة مخالفين للدين، وقد يخونون في الجيش إذا حضروا؛ ففوض أمرهم إلى الإمام. قال: ويبدأ بقتال من يليه من الكفار لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ} [التوبة:123]، ووجه المصلحة في ذلك ظاهر. قال: ويبدأ بالأهم فالأهم؛ لأنه أصلح للمسلمين والإسلام، وهذا ذكره جريا على المعتاد والغالب، فإن لم يكن ثم خوف مِمَّن يليه من الكفار، واقتضت المصلحة تجهيز الجند إلى الأبعدين؛ ليغتالهم – فعل الإمام ذلك، بعد أني فعل ما يأمن به الأقرب من مهادنة وأن يجعل بإزائه من يرده إن قصد. وقد غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، وخلف بني قريظة وهم على باب المدينة، بعد أن وادعهم. ولو استوى الخوف من القربى والبعدي، فإن كانتا في جهة واحدة بدأ بالقربى، [وإن كانتا في جهتين ولم يمكن تفريق الجيش عليهما بدأ بالقربى]، وإن أمكن تفريقه عليهما قاتلهما. قال: ولا يقاتل من لم تبلغه الدعوى حتى يعرض عليه الدين، أي: دين الإسلام؛ [لأنه لا يلزمه الإسلام] قبل العلم بذلك، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، فلا يجز قتالهم على ما لايلزمهم. قال البندنيجي: وإذا علم الإمام بقوم من هذه الجهلة لم يجز تأخير رسوله عنهم.

قال: ويقاتل أهل الكتابين والمجوس إلى أن يسلموا؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}، إلى قوله تعالى: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ". وقال القاضي الحسين: إنما يرتفع السيف عنهم بأن يقولوا هذه الكلمة، ويقروا بأحكامها، فأما بمجرد أن يقولوا هذه الكلمة فلا. قال: أو يبذلوا الجزية. ووجهه في أهل الكتابين قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} إلى قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، قال القاضي الحسين: والصغار عندنا: التزام أحكام الإسلام. وأما في المجوس؛ فلأن عمر – رضي الله عنه – امتنع من أخذ الجزية منهم لشكه في أنهم من أهل الكتاب، حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر أو نجران، وقال: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ". [وقد] روى عن علي – كرم الله وجهه – أنه قال: إنه كان لهم كتاب يدرسونه، فسكر ملكهم فواقع بنته، فأنكر ذلك عليه أصحابه، فقال لهم: ما أرغب بكم عن سنة أبيكم آدم، إنه كان ينكح بنيه بناته، فقبل بعضهم، وأبى بعض أن يقبل، فأصبحوا وقد رفع كتابهم من بين أظهرهم ونسخ من صدورهم. ولأجل ذلك اختلف أصحابنا في أنهم هل كان لهم كتاب ثم نسخ أم لا؟ وقال الرافعي في باب عقد الذمة: إن الأول أظهر؛ لما ذكره على- رضي الله عنه – وإن منهم من قطع به، وهو المحكي في "الحاوي" عن نصه في "الأم" و"المختصر"، وحكى عن البصريين نفي الخلاف فيهم، وحملوا قوله: إنهم أهل كتاب على أن حكمهم حكم أهل الكتاب، والذي عليه الجمهور: الطريق الأولى.

ثم كيفية الحال في هؤلاء: أن يدعوهم أولاً إلى الإسلام، وهو على وجه الاستحباب إن كانوا قد علموا بالبعثة، كما قاله في "المهذب"، فإن امتنعوا دعاهم إلى بذل الجزية، فإن امتنعوا قاتلهم إلى أن يفعلوا أحد الأمرين. فرع: إذا بذلوا الجزية هل يجب قبولها وعقد الذمة أم لا؟ الذي أفهمه كلام الأصحاب هنا وصرحوا به في باب عقد الذمة الوجوب، وعن "البيان" و"العدة" حكاية وجه: أنه لا تجب الإجابة إلا إذا رأى الإمام المصلحة [في القبول] كما في الهدنة، والظاهر المشهور: الأول. نعم، إن كان يخاف غائلتهم، ويرى أن ذلك مكيدة منهم؛ فلا يجيبهم. قال: ويقاتل من سواهم، أي: كعبدة الأوثان والنار والشمس، إلى أن يسلموا؛ لأن الآية والخبر عامان في قتال كل كافر، يخرج منهما من ذكرناه؛ لدليل مخصص؛ فبقيا فيما عداه على عمومهما، ولأن في قوله تعالى: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 101] ما يفهم خروج غيرهم من هذا الحكم، وكذا فيما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن: "أَنْ يَاخُذُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ كُلِّ مُحْتَلِمٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ دِيْنَاراً" – دَلِيْلٌ [عَلَى ذَلِكَ]. قال: ويجوز بياتهم، البيات، والتبييت: الإغارة ليلا، ووجه جوازها: ما روى أبو داود عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: "أَمَّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ، فَغَزَوْنَا نَاساً مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَبَيَّتْنَاهُمْ فَقَتَلْنَاهُمْ، وَكَانَ شِعَارُنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ: أَمِتْ أَمِتْ، قَالَ سَلَمَةُ: فَقَتَلْتُ بِيَدِي تِلْكَ اللَّيْلَةَ سَبْعَةٌ أَهْلَ أبْيَاتٍ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ"، وخرجه النسائي وابن ماجه.

وأيضاً: فإن أكبر ما فيه قتل الكافر بغتة، وقد أَغَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ، وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى الْمَاءَ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَي سَبْيَهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، كما خرجه مسلم والبخاري وغيرهما، وبعث نفراً فقتلوا ابن أبي الحقيق اليهودي غيلة. وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُحِبُّ أَنْ تَقْتُلَهُ؟ قَالَ نَعَمْ، [قَالَ: تَاذَن لِي أَنْ أَقُول شَيْئاً؟ قَالَ: نَعَمْ]، فَأَتَاهُ مَعَ ثَلاَثَةِ نَفَرِ أَوْ أَرْبَعَةٍ - والقصة طويلة -فقتلوه غيلة. قال: ونصب المنجنيق عليهم، ورميهم بالنار، أي: وما في معنى ذلك من هدم البيوت، وإلقاء الحيات والعقارب عليهم، وإجراء السيل، وقطع الماء عنهم؛ لأنه - عليه السلام - نصب على الطائف حين حاصرها بعد فتح مكة منجنيقا أو عرادة، ولأن أكبرما في ذلك قتلهم غيلة، وقد ذكرنا جوازه. فإن قيل: فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النسوان والولدان، وفي ذلك قتلهم. قيل: إنما كان في السبي المغنوم أن يقتلوا صبر؛ فإنهم غنيمة، فأما وهم في دار الحرب وهي دار إباحة يصيرون فيها تبعا لرجالهم، فلان روى [أبو داود عن الصعب بن جثامة] أنه - عليه السلام - سئل عن الدار من المشركين

يبيتون، فيصاب من ذراريهم ونسائهم، فقال: "هم منهم"، يعني: في حكمهم. وفي هذا الجواب نظر؛ لأن تتمة هذا الحديث: "ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ"، أخرجه البخاري ومسلم. [ولأجل ذلك] قال القاضي الحسين: يستحب للإمام إذا علم ظاهراً بكثرة المسلمين وقوتهم أنه يقهرهم ألا ينصب المنجنيق، ولا النار، ولا شيئاً يعمهم؛ لأن في ذلك قتل البهائم التي لا ذنب لها، وقتل نسائهم وأطفالهم، فأما إذا خاف منهم، وعلم أنه لو عمهم بشيء من ذلك يكون أقدر عليهم جاز ذلك من غير كراهة، وكذا إذا تحصنوا بحصن، فلم يتوصل إلى قتلهم إلا بما يعمهم. قال: ويتجنب قتل أبيه وابنه؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15]، [فأمر بصحبتهما بالمعروف] في حال دعائهما إلى الشرك. وقد روي أن أبا حذيفة بن عتبة أراد أن يبارز أباه [يوم بدر]، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اترُكْهُ يَلِي قَتْلَهُ غَيْرُكَ". وروي أن عبد الرحمن بن أبي بكر – رضي الله عنهما- قال يوم أحد: أين ابن أبي قحافة؟ يعني أباه، فاخترط أبو بكر – رضيا لله عنه – السيف، وهم بالخروج إليه، فقال له – عليه السلام -: "شم سيفك"، أي: أغمده، و"متعنا بنفسك"، فرجع. ولأن هذا يؤدي إلى قطع الأرحام، والله – تعالى –نهى عن قطع الرحم.

وأيضاً: "فإنه ربما" إذا قاتله، تحمله الشفقة على الترك؛ فيكون ذلك سبباً لرجوعه. وهذا [التجنب] على وجه الاستحباب، فإن لم يفعله، قال الأصحاب: فقد ارتكب مكروها، [لكن حكى الإمام قبيل كتاب الدعوى والبينات، أن الأصحاب اطردوا في أن الابن الجلاد هل يقتل أباه حدا؟ كما اختلفوا في أن شهادته عليه بما يوجب العقوبة هل تقبل؟ فالأصح: أنه يقتله، ويظهر أن يجيء مثل هذا الخلاف هنا]. قال: إلا أن يسمع منه ما لا يصبر عليه من ذكر الله – تعالى- وذكر رسوله، أي: فلا يكره؛ لما روي أن أبا عبيدة بن الجراح سمع أباه يسب رسول الله [فقتله، وجاء برأسه إلى النبي]، فقال له: "لم قتلته؟ " فقال: لأني سمعته يسبك فلم أصبر. فلم ينكر عليه، وأنزل الله – تعالى- فيه: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [المجادلة: 22]، فأقره على قتله، وعذره فيه. واعلم أن اقتصار الشيخ على تجنب قتل الأب والابن في هذا الموضع، وقوله في باب قتال أهل البغي: ويتجنب قتل ذي رحمه؛ كما نص عليه الشافعي – رحمه الله – في "المختصر" في الموضعين – يفهم أن بين البابين فرقا، وقد قال لا لأصحاب منهم القاضيان أبو الطيب والحسين وابن الصباغ والماوردي، في باب قتال أهل البغي: إنه لا فرق بينهما، واقتصر القاضي الحسين هاهنا على ذكر تجنب قتل ذي الرحم المحرم، وكذلك الماوردي، وقال: فيمن عداهم من الأقارب والعصبات كبني الأعمام والعمات – وجهان: أحدهما: لا يكره [له] قتالهم كالأجانب، وهو قول ابن أبي هريرة. والثاني: يكره. ثم قال الماوردي: والذي عندي أن ينظر حالهم بعد ذوي الأرحام: فإن كان

فيهم من يرث منه ويورث كره له قتلهم؛ لقوة النسب والتوريث منهم، وإن كان ممن [لا يرث و] لا يورث لهم يكره. قال: ولا يقتل النساء و [لا] الصبيان؛ لما ذكرناه من الخبر الذي رواه الصعب ابن جثامة، [والصاد فيه مفتوحة والعين ساكنة]، وجثامة: بفتح الجيم والثاء المثلثة. [قال]: إلا أن يقاتلوا؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِامْرَأَةِ مَقْتُولَةٍ يَومَ خَيبَرَ – وَقِيلَ: يَومَ الْخَنْدَقِ – [فَقَالَ]: "مَا لِهَذِهِ تُقْتَلُ وَلاَ تُقَاتِلُ"، وفي رواية: "مَنْ قَتَلَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ؟! " فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، غَنِمْتُهَا، فَأَرْدَفْتُهَا خَلْفِي، فَلَمَّا رَأَتِ الْهَزِيْمَةَ فِينَا أَهْوَتْ إِلَى قَائِمِ سَيفِي لِتَقْتُلَنِي فَقَتَلْتُهَا، فلم ينكر عليه. وبالقياس على المسلمات. والخنثى المشكل كالمرأة، والمجنون كالصبي.

قال: وفي قتل الشيوخ، الذين لا رأي لهم [في القتال] ولا قتال فيهم، وأصحاب الصوامع، أي: شيوخاً كانوا أو شباباً، كما قاله الماوردي وابن الصباغ وغيرهما – قولان: أصحهما: أنهم يتقلون؛ [لأنهم] حربيون ذكور فاندرجوا في عموم الآية والخبر كالشباب. وقد روي أبو داود عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ"، والشرخ: الصغار الذين لم يدركوا، وقيل: الشباب [أهل الجلد] الذين يصلحون للخدمة، ذكرهما أبو عبيد، وقد خرج الحديث الترمذي، وقال: إنه حسن صحيح [غريب]. وهذا القول هو المنصوص عليه في "سير الواقدي"، واختاره المزني وأبو إسحاق. والثاني: لا يقتلون؛ لما روي أنه – عليه السلام – [قال]: "اقْتُلُوا [الشَّرْخَ، وَاتْرُكُوا الشَّيْخَ]. وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "انْطَلِقُوا باسْمِ اللهِ، عَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ، لاَ تَقْتُلُوا شَيْخاً فَانياً وَلاَ طِفْلاً صَغِيراً وَلاَ امْرَأَةً". وروي عن أبي بكر – رضي الله عنه – [أنه] قال ليزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل لما بعثهم إلى الشام: لاَ تَقْتُلُوا الوِلْدَانَ وَ [لاَ] النِّسَاءَ وَلاَ الشُّيُوخَ، وَسَتَجِدُونَ أَقْوَاماً [حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّوَامِعِ فَدَعُوهُمْ وَمَا] حَبَسُوا لَهُ أَنْفُسَهُمْ.

وهذا ما نص عليه في كتاب: حكم أهل الكتاب، وطرده القاضي أبو الطيب في الزمني والعميان، وغيره في العُسَفَاء – وهم – الأجراء- لأن أبا داود روى عن رباح – أو رباح – أنه – عليه السلام – قال لخالد: "لا تَقْتُلْ امْرَأَةً، وَلا عَسِيفاً"، وأخرجه النسائي وابن ماجه. وطرد أيضاً في المحترفين المشغولين بحرفهم، ومقطوعي الأيدي والأرجل، وحكى الرافعي عن رواية ابن كج والقاضي أبي الطيب طريقة قاطعة بالقول الأول في الأجراء، وربما نسبت إلى ابن أبي هريرة، ثم قال: والحارفون في معناهم لا محالة. والطريقان جاريان في السوقة، فعند الشيخ أبي محمد يجري فيهم القولان؛ لأنهم لم يمارسوا القتال ولم يتعاطوا الأسلحة، قال الإمام: وهذا لم يتعرض له الأئمة وإن كان متوجهاً، وعند غيره: القطع بأنهم يقتلون؛ لقدرتهم على القتال. التفريع: إن قلنا بقتل الشيوخ و [من] في معناهم، فالذي حكاه العراقيون: أن الإمام يتخير فيهم بين أربعة أمور: القتل، والاسترقاق، والمن، والفداء. ويجوز سبي أموالهم، وأولادهم. وإن قلنا بالقول الثاني، فهل يتعين الرق [فيهم]، أو يتخير الإمام فيهم بين الاسترقاق والمن والفداء؟ فيه قولان، كالأسير إذا أسلم، وهذا ما أورده الماوردي، وحكى أبو الطيب طريقة أخرى: [أنه] لا يتخير قولا واحدا، والفرق: أنه في الأسير قبل أن يسلم كان مخيراً بين أربعة أشياء، فلما أسلم سقط القتل [وبقي الخيار في] الباقي، وليس كذلك هاهنا؛ فإنه لم يثبت له الخيار من

قبل حتى يستصحب، بل هو ممنوع من قتله ابتداء؛ فصار كالصبيان والنساء. وعن رواية صاحب "التقريب"، وأبي يعقوب الأبيوردي عن النص: أنه لا يجوز استرقاقهم ولا يتعرض لهم، وهذا ما أورده في "التهذيب" و"الإبانة"، وكذا القاضي الحسين، وهل يجوز سبي نسائهم وذراريهم؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: يجوز سبي النساء دون الذراري، [والذي حكاه القاضي الحسين والفوراني: منع سبي الذراري] وحكاية الخلاف في النساء، واختارا منه أيضاً المنع. والخلاف جارٍ في اغتنام أموالهم، والذي حكاه القاضي والفوراني: الجزم بالمنع، وقال الإمام: القائل بأنه لا يغنم أموال السوقة قارب خرق الإجماع. أما الشيوخ الذين لهم رأي وتدبير ولا قتال فيهم فيقتلون قولا واحداً؛ لأن دريد ابن الصمة قتله – أو ذبحه – المسلمون يوم حنين، وكان المشركون [جاءوا به] يستنجدون برأيه، وحملوه في شجار وهو الهودج؛ لأنه لم يكن يستطيع الجلوس، لبلوغه مائة وخمساً وخمسين سنة، كما قاله الماوردي، وقيل: بلغ سنة مائة وخمسين سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم يراه، فلم ينكر قتله، ولا نهي عنه؛ فدل على إباحته. ولأن التدبير علم بالحرب، والقتل عمل، والعلم أبلغ من العمل، قال الماوردي: وقد أفصح المتنبي [عن ذلك] حيث قال: الرأي قبل شجاعة الشجعانِ هو أولٌ وهي المحل الثاني قال القاضي الحسين: ومن أصحابنا من أطلق في الشيوخ قولين. قال الرافعي: ثم الذي يتقضيه كلام الأصحاب ويفهمه: أنه لا فرق بين أن يحضر ذو الرأي في [الصف للقتال] أو لا يحضر في أنه يجوز قتله، ولا بين أن يقدر على صاحب الحرفة منهم في صف القتال، أو يدخل بعض بلادهم وهم غارون، فيجده هناك في جواز قتله على القولين.

وفي "الوسيط": أن موضع القولين في الشيخ الذي لا رأي له ما إذا لم يحضر للقتال، فإن حضر فالظاهر أنه يقتل، ويحتمل أن يطرد القولان، وأن ذا الرأي يقتل إذا حضر، وإن لم يحضر فالظاهر أنه يقتل. فرع: الحربية إذا ترهبت، ففي استرقاقها قولان؛ بناء على قتل الراهب؛ لأن الاسترقاق في النساء بمنزلة القتل في الرجال، والأصح في "تعليق" القاضي الحسين: أنها تسترق؛ لأن الأصل أن الترهب للرجال دونهن. قال: وإن تترسوا بالنساء والصبيان، أي: في حال القتال ودونه، لم يمتنع من قتالهم؛ كي لا يتخذوا ذلك ذريعة إلى منع الجهاد، ولأنه يؤدي إلى تلف المسلمين؛ لأنهم يكفون عن رميهم، وأولئك لا يكفون، بل يرمون ويقاتلون؛ فيؤدون إلى الهزيمة، وكان الاحتياط لحق المسلمين أولى من الاحتياط لنساء الكافرين وأولادهم. وقيل: إذا تترسوا بهم لا في حال القتال، لا يجوز رميهم وقتالهم؛ لأنه لا حاجة إلى ذلك [داعية]، مع كونه يؤدي إلى قتل من نهى عن قتله فامتنع؛ كما [لو] تترسوا بأسارى المسلمين في هذه الحالة، وهذا القول أصح عند القفال. والقول [الأول] مال إليه مائلون، وعضدوه بجواز نصب المنجنيق على القلعة وإن كان يصيبهم، وبعضهم جزم به ورد قول [المنع] إلى الكراهة، وعلى هذا جرى الفوراني، وحكاه ابن الصباغ عن أبي إسحاق، قال الرافعي: وقد نُوزع في حكاية الكراهة عنه، وذكر أن عنده: يستحب التوقي عنهم لا غير، ومن أصحاب هذه الطريقة من قال: في الكراهة قولان. وأظهر الطرق: أن القولين في الجواز، وهي التي أوردها القاضي أبو الطيب وأكثر الأصحاب، كما قاله ابن الصباغ، وخصهما الماوردي بما إذا قصدوا بذلك الدفع عن أنفسهم، أما إذا فعلوا ذلك نَكْداً منهم فلا يمنع من قتالهم جزما، ولو تترسوا بهم وهم في القلعة، فمنهم من قال برميهم، ومنهم من قال: في جواز

الرمي إليهم قولان وإن عجزنا عن القلعة إلا به؛ لانا في غنية عن أصل القلعة. قال: وإن كان معهم قليل من أسارى المسلمين، أي: بالنسبة إلى عددهم، ولم يتترسوا بهم – لم يمنع من رميهم بالمنجنيق وما في معناه؛ لأن الظاهر سلامتهم، وأن الغالب أنه يصيب الكافرين [دونهم، مع أن [في منع] ذلك تعطيلا لأمر الجهاد؛ فإنهم لا يعجزون أن يمسكوا مسلماً عندهم، ولأن الدار دار إباحة؛ فلا يحرم القتال بكون المسلمين فيها، كما أن دارنا لا تحل بكون المشركين فيها، وعلى ذلك ينطبق ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "منعت دار الإسلام ما فيها، وأباحت دار الشرك ما فيها"، وهذا هو المنصوص في "المختصر" والصحيح، وبه جزم القاضي أبو الطيب والماوردي، لكن يكون الرمي كروهاً، كما قاله الرافعي، وحكى قولاً أنه يحرم؛ لأنه قد يصيب المسلمين، و"زوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم"، كما ورد [في] الخبر. قال: وإن كان معهم كثير، أي: مثل أن كانوا مثل عدد المشركين أو أكثر – لم يرمهم؛ لأن الغالب أنه يصيب المسلمين. قال: إلا إذا خاف شرهم؛ أي: خاف إن لم يقاتلهم انهزم المسلمون وهلكوا؛ لأن سلامة الأكثر مع تلف الأقل أولى، وهذا ما نص عليه في "المختصر"، وبه جزم الماوردي وغيره. قال الرافعي: وقد ألحق بالضرورة ما إذا لم يحصل فتح القلعة إلا بذلك، وهذه طريقة. ومنهم من لم ينظر إلى الضرورة وعدمها، وقال: إن علم [أن] ما يرمي به من النار والمنجنيق يهلك المسلم، لم يجز [رميهم]، وإن كان ذلك موهوما، ففيه القولان. وفي "التهذيب": أنه يجوز الرمي بما يعمهم في حال التحام القتال، والخوف على المسلمين أن يظفر بهم، وإن لم يكن ذلك، أو كانوا في حصن، فهل يجوز أن يفعل بهم ذلك؟ فيه قولان، ويجيء من مجموع ذلك في المسألة ثلاثة أقوال:

أحدها: الجواز مطلقاً في حالة الضرورة [وعدمها. والثاني: المنع في حالة الضرورة وعدمها]. والثالث: التفرقة. ثم إذا رمي إلى القلعة أو البلد وقتل مسلما، قال الرافعي: فإن لم يعلم أن في أهلها [مسلماً] لم تجب إلا الكفارة، وإن علم وجبت الدية والكفارة، حكاه الروياني. قلت: وما حكاه في حالة عدم العلم هو قضية ما في "تعليق" البندنيجي في باب كفارة القتل؛ حيث قال: إذا قتل مسلماً في دار الحرب ولم يقصد عينه، مثل أن بيَّتوهم ليلا [فقتلوهم] وكان فيهم مسلم، أو قتله في غارة -[فلا تجب إلا الكفارة]- وعلى ذلك جرى في "التهذيب" ثم، وزاد فقال: سواء عرف أن في الدار مسلماً أو لم يعرف. وبه جزم القاضي أبو الطيب هاهنا، وعلله بأنه أبيح له الرمي إلى هذه الدار. قال: وإن تترسوا بهم في حال القتال، أي: وخفنا من ترك قتالهم اصطلام أجناد الإسلام، واختلال ركن عظيم في الإسلام - لم يمتنع من قتالهم؛ كي لا يكون ذلك وسيلة إلى ترك فرض الجهاد والظفر بالمسلمين؛ فكان محظور الترك أعظم من محظور الفعل. قال: غير أنه يتجنب أن يصيبهم، أي: فيكون القصد بالرمي والضرب المتترس دون الترس؛ قضاء للحقين بقدر الإمكان، وهذا ما نص عليه في "المختصر"، حيث قال: إن تترسوا بمسلم، رأيت أن يكف إلا أن يكونوا ملتحمين، فيصيب المشرك ويتوقى المسلم جهده. وعلى ذلك جرى العراقيون والماوردي، وصدر به القاضي الحسين كلامه، وقيل: لا يجوز الرمي إذا لم يتأت ضرب الكفار إلا

بضرب المسلم؛ لان غاية ما فيه أنا نخاف على أنفسنا، ودم المسلم لا يباح بالخوف، بدليل صورة الإكراه، وهذا ما أورده في "التهذيب"، وبه أجاب الغزالي فيما إذا تترس كافر بمسلم، وأشعر إيراده بتخصيص الوجهين فيما إذا تترس الكفار بطائفة من المسلمين في صف القتال، وأشار الإمام إلى الفرق بأن الإهلاك في حال تترسهم بطائفة أمر كلي لا يبعد أن يتساهل فيه في أشخاص من الأسارى؛ حفظا على الكليات. التفريع: إن قلنا بالمنع، فرمى وقتل مسلما، ففي وجوب القصاص طريقان: أحدهما: تخريجه على قولي الإكراه. والثاني: القطع بالوجوب كالمضطر إلى قتل إنسان ليأكله، ويفارق المكره فإن ملجأ إلى القتل، وهاهنا بخلافه، وأيضاً: فإن ثم من يحال عليه، وهو المكره، وليس هاهنا من يحال عليه. وإن قلنا بظاهر النص، فرمى وقتل مسلما، قال الرافعي: فلا قصاص؛ لأنه مع تجويز الرمي لا يجتمعان. وهذا ما أورده أبو الطب وابن الصباغ والبندنيجي، وقال القاضي الحسين: مع قولنا: إنه يجوز رمي المتترس دون الترس، إذا رمى فأصاب الترس كان في وجوب القود عليه الطريقان: أحدهما: القطع بالوجوب. والثاني: تخريجه على القولين في المكره. ثم قال: وقيل على القول الذي يقول: يلزمه القود: ينبغي ألا يجوز له قصد المتترس؛ لأنه لا يأمن أن يفضي قصده إلى قتل محرم، فوجب للقود. وفي "الحاوي" ما يقرب من ذلك؛ فإنه جزم بجواز الرمي إلى المتترس في حالة الضرورة، ثم قال: ولو دعته الضرورة إلى قتل الترس ليتوصل به إلى دفع المشرك عن نفسه، ففي وجوب القود عليه وجهان، حكاهما ابن أبي هريرة

تخريجاً من اختلاف قوليه في المكره، وحكى القاضي الحسين في هذه الصورة في آخر الفصل عن بعض: أنا إن لم نوجب القود على المكره، فهاهنا أولى، وإن أوجبناه على المكره، فهاهنا قولان، والفرق [: أن] المكره قتل لإحياء نفسه [وحده] لا غير؛ فكان كما لو قتله للمجاعة، وأما هاهنا: [فإنما] قتله لإعلاء كلمة الله تعالى، دفعاً عن المسلمين لا عن نفسه وحده، وهذه الطريقة تأتي في الحالة الأولى التي حكينا عنه فيها الطريقين من طريق الأولى، وأما الكفارة، فتجب على كل حال، وفي وجوب الدية خلاف سبق. أما إذا تترسوا بهم في غير حال القتال، فالذي جزم به القاضيان أبو الطيب والحسين، وابن الصباغ والماوردي وغيرهم: منع الرمي، وأنه إذا رمى فأصاب مسلما قصده، [وجب] القصاص [قولا] واحدا، وكذا الدية عند العفو. قال ابن يونس: [وقيل بجواز] رميهم بكل حال كما لو تترسوا بالنساء والصبيان، وليس بشيء؛ لأن حرمة المسلم آكد، وحكم المستأمن والذمي في دار الحرب في جميع ما ذكرناه حكم [المسلم] إلا في وجوب القود، قاله الماوردي والرافعي وغيرهما. فرع: إذا تترس كافر بمال مسلم أو فرسه، فإن كان في غير القتال فلا يجوز أن يقصد المتترس، وفي حال القتال، إذا اضطر إلى قصد المتترس فلا يقصد الترس، فإن بلغ إلى حالة لا يصل إلى [المتترس] إلا بأن يقصد الترس، فله ذلك، وهل يجب عليه الضمان؟ قال القاضي الحسين: إن قلنا في النفس يجب القود قولا واحدا، [فهاهنا يجب الضمان قولا واحدا]، وإن جعلنا في القود قولين، فهاهنا لا يجب ضمان المال، وليس كما إذا أكره على إتلاف مال الغير؛ فإن قرار الضمان على المكره.

و [هل] يكون المكره طريقاً في الضمان؟ فيه وجهان؛ لأن هاهنا لا يمكن أن يقال: إن الرامي يكون طريقا؛ لأن الحربي ليس عليه قرار الضمان، وعلى ذلك جرى في "التهذيب". تنبيه: الأسارى: بضم الهمزة وفتحها، قال ابن فارس: وليس المفتوحة بالعالية. ويجمع أيضاً [على]: أٍرى، والواحد: أسير ومأسور، وهو مشتق من "الإسار" وهو القِدُّ، لأنهم كانوا يشدون الأسير بالقِدِّ، فسمي كل أخيذ أسيرا، وإن لم يشد به، ويقال: أسرت الرجل أسرا [وإساراً]. قال: ومن آمنه مسلم – هو بهمزة ممدودة – بالغ عاقل مختار، حرم قتله، أي: ما دام الأمان باقيا، سواء كان المؤمن إماما أو نائبه أو غيرهما، حرا كان أو عبداً، ذكراً أو أنثى، عدلاً كان أو فاسقاً. والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}، أي: استأمنك فآمِنْه، أو: استعانك فأعنه، وكلام الله، قيل: [أراد به] سورة "براءة" خاصة، وقيل: جميع القرآن، {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَامَنَهُ} [التوبة: 6]، أي: [بعد] انقضاء مدة الأمان إن أقام على الشرك، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]، [أي]: الرشد من الغي، أو استباحة دمائهم عند انقضاء مدة أمانهم. وقوله صلى الله عليه وسلم: ["دَمُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدٌ، فَمَنْ خفر مُسْلِماً، فَعَلَيهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ"، أي: عبيدهم، كما قاله أبو عبيد؛ لأنهم أدنى من الأحرار.

وقد روي أن عمر – رضي الله عنه – جهز جيشا، فنزلوا على قرية من قرى رامهرمز، فرأوا أنهم سيفتحونها، فرجعوا حتى يقيلوا ويرجعوا، فبقي عبد منهم فواطأ أهل القرية وواطئه، فكتب لهم كتابا في صحيفة، ونبذها مع سهم رماه إليهم، فأخذوها وخرجوا بأمانه، فكتب بذلك إلى عمر – رضي الله عنه – فقال: "العَبْدُ الْمُسْلِمُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ذِمَّتُهُ ذِمَّتُهُمْ"، ولم يخالفه فيه أحد؛ فكان إجماعاً. وروي أن أم هانئ بنت أبي طالب قالت – عام الفتح -: يا رسول الله، إني قد أجرت حَمَويَّ، وزعم ابن أمي أنه قاتلهما – تعني علي بن أبي طالب –فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ، وَأَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ"، ومعنى هذا الخبر ثابت في "الصحيحين". وحكى الرافعي عن ابن أبي هريرة: أنه لا يصح أمان الفاسق؛ لأنه ولاية، وليس هو من أهلها، ونسب القاضي الحسين هذا الوجه إلى ابن سريج، وأن غيره قال: إن كان فسقه بسبب معونته لهم على المسلمين فلا يجوز، وإن كان بزنى أو شرب خمر صح. وظاهر المذهب ما دل عليه كلام الشيخ، ويشهد له قصة العبد السالفة. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ هنا يقتضي أموراً: أحدها: جواز تأمين بعض الرعية لأهل بلد، وأكثر من ذلك؛ لإتيانه بلفظة "مَنْ" الصالحة لذلك، وأنه لا فرق في المُؤَمَّن الكافر بين أن يكون قد أسر أم لا، وقد قال الأصحاب: إن نفوذ أمان أحد الرعية منوط بشرطين:

أحدهما: ألا يتعطل الجهاد [به]، وذلك مثل أن يؤمن نفرا يسيراً من الواحد إلى العشرة، وكذا المائة والقافلة، وكذا القلعة الصغيرة، كما حكى عن "البيان"، ويشهد لذلك قصة العبد السابقة. وفي "الرافعي": أن الأشبه في القلعة المنع، وما جاوز ذلك لا يصح أمانه فيه، بل هو منوط بالإمام ونائبه، والشيخ نبه على ذلك في باب عقد الهدنة. وألحقوا بذلك ما إذا أمن مائة ألف من المسلمين مائة ألف من الكافرين، فظهر انحسام الجهاد أو نقصانه بذلك، وأبطلوا أمانهم، قال الرافعي: ولك أن تقول: إن أمنوهم [معاً، فردُّ الكل متوجهٌ، وإن أمنوهم] علىلتعاقب، فينبغي أن يجوز أمان الأول فالأول إلى ظهور الخلل. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن من أصحابنا من قال: إنما يجوز أمانه لواحد واحد، فإذا فعل كذلك جاز، وإن أمن ثلاثمائة أو أكثر، فأما إذا أمن أهل بلدة أو قرية أو قبيلة كلهم لم يجز، قلوا أو كثروا؛ لأن طريق هذا طريق الهدنة. ثم قال: ويحكي هذا عن أبي إسحاق. وهذا قد حكاه الرافعي عن الروياني حيث قال: إذا أمن واحدا واحداً جاز، وإن كثروا حتى زادوا عن عدد أهل البلدة

الواحدة، أو القرية الواحدة. والشرط الثاني: ألا يكون الكافر المُؤَمَّن قد أسره المسلمون، سواء في ذلك عدم إشرافه على الأسر أو إشرافه عليه، كما إذا كان في مضيق أو في حصن، أو في جوف بئر أو في القتال وقد انهزموا، فإن كان مأسوراً فقد أطلق معظم الأصحاب القول بأنه لا يصح إلا من الإمام؛ لما فيه من إبطال التخيير الثابت له، وفي "الحاوي" أن الأمر كذلك إذا انتهى إلى يد الإمام، وكذلك إذا انتهى إلى يد نائبه، لا يصح تأمينه من غيرهما، وإن لم يصل إليهما لا يصح من غير [من] أسره من الرعية، ويصح ممن أسره، ومن الإمام، وكذا من نائبه إن كان الأسير من ثغره، وإن كان من غير ثغره فلا يصح منه؛ لخروجه عن ولايته. الأمر الثاني: اختصاص الأمان بالرجال من الكفار دون النساء؛ لأن المتصف بحل القتل قبل الأمان الرجال دون الذراري والنسوان، وفائدة الأمان- لو صح مع النساء –مَنْعُ الاسترقاق، وما أفهمه كلام الشيخ فيهن صرح به الغزالي، ووجهه بأن أمان المرأة إنما يصح تبعاً للرجال؛ فلا يستقل، والماوردي جزم بصحة أمان المرأة، قوال القاضي الحسين: إنه يتخرج على قولين؛ بناء على أنه إذا صالح أهل حصن ليس فيه إلا نسوة وقد أشرفن على الاسترقاق، على مال حتى لا يسترقهن-فهل يسقط حق الاسترقاق ببذل المال؟ فعلى قولين، فإن قلنا: إنه يسقط به سقط بالأمان، وإلا فلا، وعلى ذلك جرى في "التهذيب". الأمر الثالث: أن الأمان لا يفيد غير تحريم القتل، وقد قال الأصحاب: إنه يفيد معه منع الاسترقاق والمفاداة، وهل يفيد عصمة ماله وأهله؟. قال الغزالي وإمامه: إن شرط ذلك في الأمان، فنعم، وإلا فلا يدخل الذي في دار الحرب فيه، وفي دخول ما معه من المال فيه، فيه وجهان، المذكور منهما في "تعليق" البندنيجي: الدخول، وكذلك هو في "الشامل" و"تعليق" أبي الطيب في عقد الهدنة، وقال: إنه لا يدخل فيه زوجته، وألحق البندنيجي الذرية بالمال. وفي "الحاوي": أنه يدخل في الأمان على نفسه ما يباشره من ثيابه التي لا

يستغني عنها، وما يستعمله من آلته التي لابد له منها، وما ينفقه في مدة أمانه لضرورته إلى ذلك، ولا يدخل فيه ما عداه من أمواله، وكذا ذراريه. وسواء كان المؤمِّن الإمامَ أو غيره، ولو أمنه على نفسه وماله، فإن كان ماله حاضراً صح أمانه عليه، سواء كان المؤمن إماماً أو غيره، وإن كان غائباً فلا يصح إلا من الإمام، أو من قام مقامه من وُلاة الثغور، وكذا حكم الذرية في حال الحضور والغيبة على ما فصلناه. الأمر الرابع: أن تحريم قتل المؤمن يعم جميع المسلمين في جميع الأماكن والأزمان، والأمر كذلك عند الماوردي في الأماكن، إذا شمل الأمان بالتصريح جميع بلاد الإسلام، سواء كان المؤمن إماماً أو غيره، أما إذا أطلق الأمان: فإن كان المؤمن إماماً فالحكم كذلك أيضاً، وإن كان نائباً عنه شمل الأمان بالتصريح جميع محل ولايته حالة الأمان، ولا يزول عن بعضها بعزله منه، ولو كان من آحاد الرعية تناول موضع سكن المؤمن من بلد أو قرية، ولا يتعدى ذلك إلى غيره إلا إلى الطريق الموصلة [إليه] من دار الحرب، ويكون أمنه فيه في حالة اجتيازه [فيه] بقدر الحاجة، دون حال الإقامة، وكذا الحكم فيما إذا عين له المؤمن موضعاً بعينه. وأما الزمان فهو مقدر بما سنذكره في الهدنة، فإن صرح المؤمن بما يجوز منه لم يتعداه، ويجوز له أن يستوي المدة بمقامه في المكان الذي عينه له، وله بعد انقضائها الأمان في مدة عوده إلى بلده، اللهم إلا أن يكون الأمان عاماً في بلاد الإسلام كلها؛ فإن المدة إذا نقضت لا تكون في أمان إلى عوده إلى بلده، وهذا ما حكاه الماوردي هنا، وأفهمه كلام البندنيجي وغيره في كتاب عقد الهدنة، وقال الماوردي ثم: إن أمانه مقصور على حقن دمه وماله دون مقامه، ولم يكن لمن أمنه من المسلمين تقدير مدته، فإذا رأى الإمام من المصلحة إخراجه، [أخرجه] آمنا حتى يصير إلى مأمنه.

ثم على الأول لو صرح بقدر زائد على ما يجوز عقده من المدة بطل الأمان في القدر الزائد، [وفي] الباقي طريقان حكاهما [الماوردي] وسنذكرهما عن غيره في باب [عقد] الهدنة: أحدهما: القطع بالصحة فيه. والثاني: تخريجه على قولي تفريق الصفقة. وإن أطلق الأمان تناول المدة الثابتة بالنص، وهي أربعة أشهر لا غير، بوعدها يعلم أن أمانه قد انقضى؛ فيرد إلى مأمنه، والله أعلم. قال: وإن أمنه صبي، لم يقتل. الصبي لا يصح أمانه؛ لأنه عقد فلم يصح منه كسائر عقودهن ولكن المؤمن لا يقتل، كما قال الشيخ. غير أنه يعرف أنه لا أمان له ليرجع إلى مأمنه؛ لأنه دخل معتقداً أنه في أمان، فكان شبهة في منع قتله. وهكذا الحكم فيما إذا أمنه مجنون أو مكره لا يصح، ولا يقبل، ويعرف أنه لا أمان له ليرجع إلى مأمنه؛ لما ذكرناه. ولو أمن الذمي كافراً لم يصح أمانه؛ لأنه متهم، وليس له العقد علينا، وقد روي أنه - عليه السلام – قال: "يجبر على المسلمين بعضهم". تنبيه: في قول الشيخ: "ويعرف أنه لا أمان له:، ما يعرفك أن المسألة مصورة بما إذا لم يكن عالماً بعدم صحة أمان الصبي، أما لو كان عالماً به، حل قتله في الحال؛ لأنه حربي دخل بغير أمان، قاله في "المهذب" والقاضي الحسين وغيرهما. قال: ومن أمنه أسير قد أطلق، أي: من القيد والحبس، وأمنوه على ألا يخرج من دارهم فبقي فيها غير قادر على الخروج منها.

قال: باختياره، أي: حصل الأمان باختيار من الأسير؛ فلم يكن مكرهاً فيه. قال: حرم قتله؛ لعموم الأخبار. ويظهر من هذه الصورة والحكم فيها جواز أمان التاجر في دار الحرب. لكن في "تعليق" القاضي الحسين: أنه إذا أمنهم لا يكون أمانا يلزم إمضاؤه المسلمين، لكنه يكون أماناً لهم منه، حتى لا يجوز له أن يغتالهم، وهذا ما أورده في "التهذيب"، وطرده فيما إذا دخل مسلم لدار الحرب بأمان، فأمن كافراً منهم، وقضية ذلك أن يطرد هذا الحكم بجملته في الأسير في الصورة التي ذكرناها من طريق الأولى؛ ولأجل ذلك أطلق بعضهم في صحة أمان الأسير وجهين، أصحهما: المنع. ثم في صورة مسألة الكتاب التي ذكرناها لا يكون الكافر المؤمن آمناً من المسلمين، إلا في دار الحرب في الموضع الذي فيه الأسير كما صرح به الماوردي، إلا أن يصرح بأمانه في غيره، فيأمن فيه، ولو لم يؤمنهم، وقد أمنوه، كما ذكرنا، ولا شرطوا عليه أن يكونوا في أمان منه – فهل له أن يغتالهم؟ المذهب: لا؛ كما لو شرطوا عليه عند إطلاقه أن يكونوا في أمان منه، وقد عزاه القاضي الحسين في قتال أهل البغي إلى النص، وغيره نسبه إلى نصه في "أمالي حرملة". وعن ابن أبي هريرة: أن له أن يغتالهم؛ لأنهم لم يستأمنوهن فأشبه ما لو أطلقوه من غير شرط أصلاً، ولو خرج من ديارهم فاتبعه قوم منهم فله قتلهم في الأحوال الثلاثة. تنبيه: في قول الشيخ: قد أطلق، ما يفهمك أنه إذا كان في قيد أو حبس لا يصح أمانه، وهو الأصح في "الرافعي" و"التهذيب"؛ لأنه مقهور في أيديهم لا يعرف وجه النظر والمصلحة، ولأن الأمان يقتضي أن يكون المؤمن آمنا، والأسير في أيديهم ليس بآمن. قلت: ولأن القيد والحبس كالإكراه على الفعل، دليله ما إذا ارتد المسلم وهو [في] قيدهم أو حبسهم لم يحكم بصحة ردته؛ لجعل ذلك كالإكراه عليها، وإن لم يطلب منه، والذي أطلق القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والشيخ أبو

حامد القول به: أنه يصح أمان الأسير قال البندنيجي: ولو كان محبوساً. ونسبه إلى نصه في "حرملة"، موجِّهاً له بأنه ما حبس ليؤمن، فإذا تبرع به فهو مختار، وهذا ينتقض بمسألة الردة؛ فإنه ما حبس ليرتد، ورأى الإمام تخصيص الوجهين بما إذا أمن من لم يأسره، والقطع بالمنع [إذا] أمن من أسره؛ لأنه كالمكره من جهته، وعلى ذلك جرى الغزالي، ويقرب منه قول الماوردي: عندي أن أمانه يعتبر بحال من أمنه، فإن كان في أمان من المشرك صح أمان لذلك المشرك، وإن لم يكن في أمان منه لم يصح؛ لأن الأمان ما اقتضى التساوي فيه. ثم إذا قلنا: لا يصح أمانه عموما، فهل يصح بالنسبة إلى الأسير حتى لا يجوز أن يغتال من أمنه كما في التاجر، أم لا يصح؟ فيه وجهان، والذي أورده الغزالي: الأول، والذي مال إليه الأكثرون – ومنهم القفال -: مقابله، وفرق القاضي الحسين بينه وبين التاجر: بأن التاجر في أمان منهم، وليس كذلك الأسير، وقضية الأمان: التساوي. واعلم أن الأمان يصح بالصريح كقوله: أمنتك، أو: أنت آمن، أو: في أمان، أو: أنت مجار، أو: قد أجرتك، أو: لا بأس عليك، أو: لا خوف عليك، وما شاكله كما حكاه الماوردي. قال الرافعي: وفي إيراد بعضهم ما يقتضي أن قوله: لا بأس عليك، كناية، وهذا خلاف ما دل عليه قول الصحابة؛ فإنه روى أن عمر –رضي الله عنه – قال للهرمزان: "تَكَلَّمْ وَلاَ بَاسَ عَلَيكَ"، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَمَرَ عُمَرُ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ لَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: لَيْسَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ، [قَدْ أَمَّنْتَهُ]، فَقَالَ عُمَرُ: كَلاَّ، فَقَالَ لَهُ الزُّبَيرُ: قَدْ قُلْتَ لَهُ: تَكَلَّمْ، وَلاَ بَاسَ عَلَيكَ؛ فَدَرَأَ عَنْهُ عُمَرُ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – القَتْلَ. ويصح بالكتابة والرسالة مع الكافر والمسلم، وعد ذلك من الصرائح، ويصح أيضاً بالكناية مع النية؛ كقوله: أنت على ما تحب، أو: كن كيف شئت، أو: لا تخف ولا تحزن، [عند الماوردي، وعند الروياني قوله:"لا تخف ولا تحزن"] من الصرائح.

والإشارة المفهمة عند الماوردي والبندنيجي وأبي الطيب والقاضي الحسين من الكنايات حتى قالوا: إنه لو أشار ثم مات قبل أن يبين مراده، لم ينعقد الأمان، وقد حكاه ابن الصباغ عن نصه في "سير الواقدي". نعم، لا يقتل، ويعرف أنه لا أمان له ليرجع إلى مأمنه. وفي "المهذب": أنه يحصل الأمان بالإشارة المفهمة من غير تقييد بأن يصرح المشير بالأمان. نعمم، لو قال المشير: ما أردت الأمان، قبل قوله، وعرف أنه لا أمان له. ولا فرق في الإشارة بين أن تصدر من ناطق أو أخرس، كما صرح به الإمام. وكما يصح الأمان منجزا، يصح معلقا ولو على الأخطار وبالغرر. ويعتبر من جانب الكافر المؤمن أمران: أحدهما: أن يبلغه الأمان، فإن لم يبلغه فلا أمان له، حتى لو ابتدر المؤمن فقتله جاز، صرح به القاضي الحسين والرافعي وغيرهما، وبنى القاضي [على ذلك] ما لو أشار المسلم إليه قاصداً الأمان، وقال الكافر: لم أفهم منه الأمان – أنه لا ينعقد له أمان. والثاني: ألا يرد الأمان، فإن رده ارتد، كالإيجاب في البيع والهبة. وفي اعتبار النطق بالقبول أو الإشارة به أو الأمارة تردد عند الإمام، وقال: إن الظاهر أنه لابد من ذلك، وهو المذكور في "الوجيز"، ومقابله هو المذكور في "التهذيب"، وقول المؤمن للمؤمن بعد قبول الأمان: لست أؤمنك، فخذ حذرك مني، قائم مقام رد الأمان عند الإمام؛ لأنه لا يثبت في أحد الطرفين دون الآخر. قال: ومن اسلم منهم في حصار أو مضيق، أي: رجلاً كان أو امرأة، كما صرح به في "التهذيب" وغيره –حقن دمه وماله، أي: صانه ومنعه أن يستباح؛ لما روى أبو داود عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي

دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ عز وجل"، وأخرجه مسلم وغيره، وقوله – عليه السلام -: "مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ". قال: وصان صغار أولاده، أي: الأحرار عن السبي؛ لما روى الشافعي – رضي الله عنه – بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ، أَسْلَمَ ابْنَا سَعْيَةَ، وَهُمَا ثَعْلَبَةُ وَأُسَيدُ، كَمَا قَالَهُ القَلْعِيُّ فِي المستَغرب، فَأَحْرَزَ إسْلامُهُمَا أَمْوَالَهُمَا وَأَوْلادَهُمَا الصِّغَارَ، وفي روايَةِ الشَّعْبِيِّ: وَالدُّور وَالشَّجَرَ. وفي "التهذيب" و"الإبانة" قول الشافعي –رضي الله عنه -: "إن المرأة لا تصون أولادها الصغار"، قال الرافعي: وإن صح هذا، فيشبه أن يقال: لا يستتبع الولد في الإسلام، والأظهر: الأول. والمجنون المتصل جنونه بصباه في حكم الصبي، وإن جن بعد البلوغ ففي صيانته بإسلام الأب وجهان في "التهذيب" وغيره؛ بناء على عود ولاية المال إليه، وأصحهما فيما نحن فيه: نعم، وقياس البناء: ألا يتبع الأم إذا أسلمت، وقلنا: لا ولاية لها كما هو المذهب. وحكم الحمل فيما ذكرناه حكم الولد الصغير؛ لأنه حر مسلم، فوجب أن يتبع أباه كما لو كان منفصلاً. نعم، هل يجوز استرقاق أمه في حال اجتنانه إذا كان المسلم أباه؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وجزم الإمام بأنها إذا لم تكن زوجة: أنها تسترق. وولد الولد هل يلحق بالولد فيما ذكرناه؟ فيه وجهان في "التهذيب"، وأظهرهما في "الرافعي": نعم، وقيل: هما فيما إذا كان أبوه حيا، فإن كان ميتا أحرزه وجها واحدا، وهذا ما صححه الروياني، وفي "الإبانة" أن القفال قال مرة

أخرى: "إن الوجهين فيما إذا كان أبوه ميتا، فإن كان حيا لم يصنه قولا واحدا". ولا تلحق بالأب في ذلك ابنته البالغة العاقلة، وإن تبعته في عقد الذمة؛ لأنها متمكنة من الإسلام، بخلاف عقد الذمة. وكذا لا يمنع إسلامه استرقاق زوجته على المنصوص في "سير" الواقدي والأوزاعي كما قاله البندنيجي، وهوا لذي صححه القاضي أبو الطيب، وجزم به الماوردي، وحكى فيما إذا تزوج المسلم حربية في جواز سبيها واسترقاقها وجهين: أحدهما: الجواز؛ كما لو أسلم زوجها بعد كفره. والثاني: لا يجوز؛ كما أن المسلم لو استأجر أرضاً من دار الحرب، لا تغنم حتى تنقضي مدة إجارته. قال القاضي أبو الطيب: والفرق بينها وبين منفعة البضع المملوكة بالنكاح: أن مدة الإجارة تنقضي؛ فليس لهم أن يغنموها حتى يستوفي ما ثبت له من الحق، وليس النكاح كذلك، فإنه ليس له غاية ولا هو مؤقت، ولو قلنا: لا يملكونها، أدى إلى إبطال حقهم. وكلام الماوردي والرافعي وغيرهما مصرح بجواز اغتنام الأرض، ولكن الإجارة لا تنفسخ، وفرق بأن المنفعة تثبت عليها اليد؛ هي كالمال، ومنفعة البضع لا تثبت عليها اليد؛ فلم تكن كالمال، قال في"التهذيب": وكذلك لا تضمن بالغصب. وقد أجرى هذا الوجه المصنف والقاضي أبو الطيب والإمام وغيرهم، في منع استرقاق زوجة الحربي إذا أسلم وتخلفت، والفوراني حكاه قولاً مخرجاً؛ فإنه حكى فيها النص المتقدم، وقال: إن الشافعي –رضي الله عنه – نص على [أن] معتق المسلم إذا التحق بدار الحرب، أنه لا يسترق ولا يغنم، فمنهم من جعل المسألتين على قولين:

أحدهما: لا يغنم واحد منهما؛ لتعلق حق المسلم بالزوجية والولاء فيهما. والثاني: يجوز؛ لأنهما بالغان حربيان، صارا كسائر من يجوز اغتنامه. ومنهم من فصل، فقال: تسبى الزوجة؛ لأن النكاح قابل للفسخ، ولا يسبي المعتق؛ لأنه لا سبيل إلى دفع الولاء وفسخه، وهذه طريقة الشيخ أبي علي. قال الرافعي: والظاهر ما نص عليه في الصورتين، وإن قدر الخلاف هكذا، قال الجمهور: والذي أورده العراقيون والماوردي في مسألة الولاء: المنصوص. نعم، حكوا الخلاف في جواز استرقاق معتق الذمي، وصحح البندنيجي الجواز، وفرق بينه وبين معتق المسلم [بأن الذمي يجوز أن يحدث عليه الرق؛ فلم يمنع ولاؤه من الاسترقاق، بخلاف المسلم] والذي اختاره ابن كج في الزوجة: امتناع الاسترقاق أيضاً. قلت: وهو قضية ما صححه القاضي الحسين والفوراني، في: أن زوجة من لا رأي له ولا قتال فيه [ومن] في معناه – لا تسبي ولا تسترق إذا قلنا: إنهم لا يقتلون؛ لأن نعمة الزوج بالإسلام مقطوع بها؛ فكان المسلم [بإحراز الزوجة أولى]. قال: ومن عرف من المسلمين من نفسه بلاء في الحرب، أي حماية فيه وقوة له كما قاله الأزهري جاز له أن يبارز، أي: من غير كراهة ولا استحباب؛ لقوله تعالى: {انفِرُوا خِفَافاً}، وهو: الإسراع في المبارزة {وثقالا} أي: في الثبات والمصابرة. وروى أبو هريرة – رضي الله عنه – أنه – عليه الصلاة والسلام – سئل عن المبارزة بين الصفين، فقال: "لا بأس به". وذهب أبو علي بن أبي هريرة إلى أن هذه المبارزة مكروهة؛ لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]. [وحكى القاضي أبو الطيب وغيره، في باب "ما يكره لبسه"، عن أبي عليٍّ

الطبري، أنه حكى وجهاً في "الإيضاح": أن ذلك لا يجوز، وأنه اختاره؛ موجِّهاً له بألاَّ يؤمن أن يخرج إليه من هو أقوى منه؛ فيقتله؛ فيوهن ذلك المسلمين]. والمذهب: الأول، وهو مشروط بما إذا بارز بإذن الحاكم على الجيش، وبما إذا لم يدخل [بقتل] المبارز ضرر على المسلمين؛ لكونه أميرهم الذي تختلُّ بفقده أمورهم، فإن عدم شيء من ذلكن لم يجز ابتداء، قاله الماوردي، وحكى غيره وجهاً في جوازه بغير إذن الإمام، لكن المستحب استئذانه، وهذا ما جزم به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ [هنا]، وفي "تعليق" القاضي الحسين أنه أظهر الوجهين، [وقال الرافعي: إنه أصح الوجهين]، وإن عليه الأكثرين، وإن عليهما بنى الأصحاب الخلاف في أن المبارز [لو آمنه المستبد] بالمبارزة من المسلمين، هل يصح أم لا؟ وكذا حكى الخلاف في جواز مبارزة الضعيف، والمذكور منهما في "تعليق" القاضي الحسين: المنع، [وكذا في "تعليق" أبي الطيب كما حكاه في باب ما يكره لبسه]، وفي "الرافعي" حكاية عن النص أنه مكروه، وقال في "المهذب": إنه صحيح. قال: وإن بارز كافراً، استحب لمن عرف من نفسه بلاء أن يخرج إليه؛ لما روى أبو داود عن علي –رضي الله عنه – قال: تقدم – يعني: عتبة بن ربيعة – وتبعه ابنه وأخونه، فنادى: من يبارز؟ فانتدب له شباب من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه، فقالوا: [لا] حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بنى عمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُمْ يَا حَمْزَةُ، قُمْ يَا عَلِيُّ، قُمْ يَا عُبَيدَةُ بْنُ الْحَارِثِ"، فَأَقْبَلَ حَمْزَةُ إِلَى عُتْبَةَ، وَاَقْبَلْتُ إِلَى شَيْبَة، وَاخْتُلِفَ بَينَ عُبَيدَةَ وَالوَلِيدِ ضَربَتَانِ، فَأَثْخَنَ

كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ مِلْنَا عَلَى الوَلِيدِ، فَقَتَلْنَاهُ، وَاحْتَمَلَنَا عُبَيْدَةَ. وقد اخرج مسلم في "صحيحه" من حديث قيس بن عبادة قال: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يُقْسِمُ قَسَماًن إِنَّ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الذِينَ بَرَزُوا يَومَ بَدْرٍ: حَمْزَةَ، وَعَلِيٍّ، وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ. وروى ابن المنذر بإسناده عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه أنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم [يَومَ خَيبَرَ، فَخَرَجَ مَرْحَبُ يَطْلُبُ مَنْ يُبَارِزُهُ، فَخَرجَ إِلَيهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَضَربَهُ عَلِيٌّ – كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ – فَعَلَّقَ رَأَسَهُ، ثُمَّ حَزَّهُ وَجَاءَ بِهِ بْنُ مَسْلَمَة، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فقتلهن وهي رواية جابر بن عبد الله. ولأن في تركها إضعافاً لقلوب المسلمين وتقوية لقلوب الكافرين، ولو خرج إليه من يضعف عن لقائه، كره له ذلكن قاله أبو الطيب. وفي "الرافعي": أن ابن كج أطلق استحباب المبارزة، ولم يفرق بين الابتداء والإجابة. قال: فإن شرط ألا يقاتله غيره، أي: شرط الكافر ألا يقاتله غير من برز إليه مجيباً أو مبتدئاً، وفي له بالشرط؛ لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله – عليه السلام -: "الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ". قال: إلا أن يثخن المسلم [أو ينهزم]، فيجوز قتاله؛ لأنه شرط الأمان حالة القتال، فانقضى بزواله، ولأن الوليد بن عتبة بن ربيعة لما أثخن عبيدة بن الحارث في يوم بدر، ولم يبق فيه قتال – مال على

وحمزة – رضي الله عنهما – على الوليد، فقتلاه. ولو أثخن المسلم الكافر، فهل يجوز أن يقتل غيره؟ فيه وجهان عن رواية ابن كج. والإثخان: انتهاؤه بالجرح إلى سقوط قيامه، بحيث لا يبقى له حراك ولا متناع. وهذا الحكم فيما إذا لم يشترط الكافر عدم التعرض إليه، لكن جرت العادة بأن من برز لا يقاتله غير من برز إليه، فتجعل العادة كالشرط، كما حكاه الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ عن نص الشافعي – رضي الله عنه- وغيرهم قال: إنه منصوص عليه في "سير" الواقدي، وبه جزم الروياني، وهو ما اختاره في "المهذب"، بعد أن حكى عن بعض أصحابنا أنه يستحب ألا يتعرض له غيره في هذه الحالة. ولو لم يَجْرِ شيء من ذلك جاز للمسلمين قتله مع المبارزة، ولو شرط ألا يقاتله غيره وإن أثخن المسلم وتمكن منه، فالشرط فاسد؛ لما فيه من الضرر، وهل يفسد به أصل الأمان؟ فيه وجهان عن رواية ابن كج. قال: فإن شرط ألا يتعرض له حتى يرجع إلى الصف، وفي له بذلك؛ عملا بالشرط، قال الماوردي: إلا أن يصدر من الكافر إحدى خصال ثلاث، فيجوز التعرض له: إحداهن: إن تولى عنه المسلم فيتبعه. والثانية: أن يظهر المشرك على المسلم، ويعزم على قتله؛ فيجب علينا أن نستنقذه [منه]؛ لما يلزم من حراسة نفسه، فإن قدرنا على ذلك بغير قتله، لم يجز أن نقتله، وإن لم نقدر على استنقاذه إلا بقتله، جاز قتله لاستنقاذ المسلم منه؛ لما يلزم من حراسة نفسه، فإن قدرنا على ذلك بغير قتله، لم يجز أن نقتله، وإن لم نقدر على استنقاذه إلا بقتله، جاز قتله لاستنقاذ المسلم منه؛ لأنه لا أمان [له] على قتل مسلم. والثالثة: أن يستنجد الكافر أصحابه من المشركين في معونته على المسلم،

وفي هذه الحالة تكون إعانة المسلم للمسلم واجبة، كما صرح به القاضي أبو الطيب عن النص. نعم، لو أعانوه من غير أن يستنجدهم، فنهاهم عن ذلك، فلم ينتهوا – لم يجز أن يتعرض له، وكان لنا قتال من أعانه، وإن لم يمنعهم كان إمساكه عن [المسلمين] رضاً بمعونتهم؛ فصار كما لو استنجدهم، وبهذا صرح أبو الطيب والبندنيجي. ولو كانت العادة جارية بألا يتعرض له حتى يرجع إلى الصف، كان الحكم كما لو شرط ذلك، كما نص عليه الشافعي، رضي الله عنه. قال: وليس للمسلم أن ينصرف عن اثنين. الأصل في وجوب الثبات قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} الآية، وقوله – عليه السلام-: "الْكَبَائِرُ سَبْعٌ ... – وَعَدَّ مِنْهَا -: التَّوَلِّيَ يَوْمَ الزَّحْفِ". وفي اعتبار الاثنين قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} إلى قوله تعالى: {بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بمعونة الله، أو: بمشيئة الله، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، أي: على القتال في معونتهم على عدوهم، وهذا أمر بلفظ الخبر، وألا لوقع خلاف الخبر، وهو محال. ومثله قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ}، {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ}، ولأن التخفيف لا يدخل إلا فيما هو أمر، ولا يدخل في الإخبار إلا عن متقدم، ويعضده ما روى أبو داود عن ابن عباس – رضي الله عنهما –قال: نَزَلَتْ {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فَرَضَ [اللهُ] عَلَيهِمْ أَلاَّ يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشْرَة، ثُمَّ إِنَّهُ جَاءَ تَخْفِيفٌ، فَقَالَ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} [الآية. قال]: فَلَمَّا خُفِّفَ عَنْهُمْ مِنَ العدة، نقص مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خُفِّفَ عَنْهُمْ.

وروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: من فر من ثلاثة فلم يفر، ومن فر من اثنين فقد فر. قال الشافعي – رضي الله عنه-: وهذا في معنى التنزيل. قال القاضي الحين: ولعل المعنى فيه أن المسلم يقاتل على إحدى الحسنيين: إما أن يقتل فيفوز بالجنة، أو لا يقتل فيفوز بالدنيا والغنيمة، والكافر يقاتل على الفوز بالدنيا، وهذا بَيَّن في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} الآية [التوبة: 52]. فأوجب على كل مسلم المصابرة مع مشركين [لهذا]. قال: إلا متحرفاً لقتال، أي: مثل أن يكون الموضع الذي هو فيه لا يتهيأ له فيه القتال لضيقه، أو لكون عين الشمس أو الريح الناقل التراب في وجهه؛ فينحرف إلى مكان يتهيأ [له] فيه القتال. قال: أو متحيزاً إلى فئة، أي: مثل أن ينهزم ليضم نفسه إلى قوم، ليعود معهم إلى القتال؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ} [الآية] [الأنفال: 16]. ولا فرق في المتحيز إلى فئة بين أن تكون الفئة قريبة أو بعيدة، كالحجاز وخراسان على الأصح، وبه جزم أبو الطيب والماوردي والمصنف وغيرهم. وروى أبو داود عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أَنَّهُ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةٌ، وَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ، فَلَمَّا بَرَزْنَا قُلْنَاك كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ؟ فَدَخَلْنَا الْمَدِينَةَ، فَجَلَسْنَا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ صلاَةِ الفَجْرِ، فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا لَهُ وَقُلْنَا: نَحْنث الفَرَّارُونَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْنَا وَقَالَ: "لاَ، بَلْ أَنْتُمُ الكَارُّونَ"، قَالَ: فَدَنَوْنَا، فَقَبَّلْنَا يَدَهُ، فَقَالَ: "أَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ".

ومعنى "حاص الناس حيصة"، أي: جالوا جولة يطلبون الفرار، وهي بفتح الحاء المهملة والصاد المهملة. وروي: "فجاص" [بفتح] الجيم، بمعنى: فر، وقد روي عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال::"أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ"، وكان بالمدينة والمجاهدون بالشام. وفي طريق المراوزة وجه: أنه لا يجوز إلى الفئة البعيدة، وهو الذي أفهم كلام الفوراني الجزم به. وعلى كل حال: فهل يجب عليه أن يحقق العزم بالقتال مع الفئة التي تحيز إليها؟ فيه وجهان، أصحهما: لا، فلو انصرف عن اثنين لا لما ذكرناه فقد باء بسخط من الله، وفعل كبيرة. قال الشافعي – رضي الله عنه -: إلا أن يعفو الله عنه. قال ابن أبي هريرة – كما رواه أبو الطيب -: وهذا دليل على بطلان قول من زعم أن الشافعي – رضي الله عنه – يرى مذهب الاعتزال. وفي "الحاوي": أنه هل يشترط في توبته معاودته للقتال؟ فيه وجهان، وعند من لم يشترطه: لابد من نية أنه متى عاد لا ينهزم، إلا كما أمر الله تعالى. وعند الإمام أن محل جواز التحيز إلى فئة أخرى: إذا استشعر الموَلِّي عجزاً محوجاً إلى الاستنجاد؛ لضعف جند الإسلام، [فإن لم يكن كذلك فلا حاجة إلى التحيز؛ فإن تحيزه قد يقل جند الإسلام]. ويظهر أن يكون الغزالي أخذ من هنا ما أطلقه من أن الانصراف إذا كان فيه انكسار المسلمين لم يجز، فإن لم يكن فيجوز إن قصد التحيز والانحراف، قال

الرافعي: ولم يشترط غيرهما ذلك. قال: فإن خاف أن يقتل، أي: وغلب على ظنه ذلك، فقد قيل: له أن يولي؛ لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. والمذهب: أنه ليس له أن يولي؛ لقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}، ويكون معتمداً على تفضل الله – تعالى – بالنصر، ولا فرق في ذلك – كما قاله الماوردي – بين أن يكون المسلمون فرساناً والكفار رجالة أو بالعكس، وهذا مقيد في "الرافعي" بما إذا أمكن كذلك. قال: وإن كان بإزائه أكثر من اثنين، وغلب على ظنه أنه لا يهلك – [أي]: بكسر اللام – فالأولى أن يثبت؛ حتى لاتنكسر قلوب المسلمين، ويفوز بالجهاد، وإنما لا يجب عليه؛ لمفهوم قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} الآية [الأنفال: 66]. وحكى المراوزة فيما إذا كان من المسلمين مائة من الأبطال، وفي مقابلتهم من الكفار مائتان وواحد من الضعفاء: أنه يجب الثبات على أصح الوجهين؛ لأنهم يقاومونهم، وإنما يراعى العدد عند تفاوت الأوصاف، والخلاف عندهم جار في عكس ذلك، وهو ما إذا كان مائة وتسعة وتسعون من الكفار الأقوياء ومائة من ضعفاء المسلمين. قال: وإن غلب على ظنه أنه يهلك، فالأولى أن ينصرف؛ لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، وإنما لم يجب؛ لأنه بصدد إذا قتل فاز بالشهادة. وقيل: يجب عليه؛ لظاهر الآية. والقاضي أبو الطيب والماوردي وابن الصباغ والبندنيجي بنوا القولين في الوجوب وعدمه على القولين فيما إذا صال عليه إنسان وقصد دمه، هل يجب عليه الدفع أم لا؟ فيه القولان، وقضية هذا البناء: أن يكون الصحيح عند أبي

الطيب الوجوب كما حكيناه عنه ثم، لكن الصحيح عنده وعند غيره هاهنا عدمه، ثم في البناء نظر من وجه آخر؛ لأنا قد ذكرنا ثم أن القاصد لو كان كافراً لوجب دفعه جزماً، وكأن قضيته أن يجزم هنا بوجوب الانصراف، وقد أطلق القاضي الحسين القول بأنه إذا كان في مقابلته أكثر من اثنين: أن الأفضل له المصابرة. وفي "النهاية" فيما إذا زاد العدد: أن الثبات إن كان فيه الهلاك [المحض من غير نكاية في الكفار لزم الفرار، وإن كان في الثبات نكاية فيهم ففي جواز المصابرة الخلاف]. تنبيه: قول الشيخ: وليس للمسلم أن ينصرف عن اثنين، ليس المراد به – كما قال الشيخ أبو حامد -: أن كل واحد على الانفراد يصابر اثنين [منفردين]، وإنما المراد: أن جيش المشركين إذا كان ضعف جيش المسلمين فعليهم المصابرة، وهذا ما أورده البندنيجي، وكذا الماوردي وقال: إنه مذهب الشافعي – رحمه الله – وبه قال ابن عباس- رضي الله عنهما – وعليه ينطبق قول الشيخ في "المهذب": إنه إذا التقى الزحفان، ولم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين، ولم يخافوا الهلاك – تعين عليهم. ونازع ابن الصباغ في هذا، وعضد قوله بما ذكرناه من أثر ابن عباس. وفي "الحاوي" و"المهذب" و"التهذيب": أنه إذا لقي الرجل من المسلمين رجلين من المشركين في غير الحرب، فإن طلباه ولم يطلبهما فله أن يولي؛ لأنه غير متأهب للقتال، وإن طلبهما ولم يطلباه ففيه وجهان: أحدهما: أن له أن يولي؛ لأن فرض الجهاد في الجماعة دون الانفراد، وقال الماوردي: إن هذا ظاهر مذهب الشافعي، رضي الله عنه. وفي "البحر": أنه الأظهر. والثاني- وهو المختار في "المرشد"-: أنه يحرم عليه أن يولي عنهما؛ لأنه مجاهد لهما، فإن تولى عنهما كان كما لو كان مع الجماعة. فرع: إذا غزا العدو بلاد المسلمين، فتركوا البروز إليهم ولم يخرجوا، قال الشافعي – رضي الله عنه -: كان كتوليهم. قال القاضي الحسين: قال أصحابنا: وهذا إذا كان بإزاء كل مشركين مسلم

فأكثر، فأما إذا كان المسلمون أقل من ذلك فلا يعصون. ثم قال الشافعي – رضي الله عنه-: ولا يضيق على المسلمين أن يتحصنوا [وإن كانوا قاهرين للعدو إذا ظنوا أن ذلك يزيد في قوتهم، ما لم يتناول العدو من المسلمين [أو] أموالهم، وإن كان العدو قاهرين فلا بأس أن يتحصنوا] إلى أن يأتيهم مدد أو تحدث لهم قوة. قال: وإن غرر من له سهم بنفسه في قتل كافر ممتنع في حال القتال، أي: وقع القتل في حال القتال- استحق سلبه، أي: سواء شرط له الإمام ذلك أو لم يشرطه؛ لما روى أبو داود عن أبي قتادة –رضي الله عنه – في حديث مطول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غزاة حنين بعد انقضائها: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ"، وأخرجه البخاري ومسلم. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ – يعني يوم حنين -: "مَنْ قَتَلَ كَافِراً [فَلَهُ] سَلَبُهُ"، فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلاً وأخذ أسلابهم، أخرجه أبو داود. قال القاضي الحسين: والمعنى فيه: أن يقتله ذلك الكافر مخاطرة بالروح وكفاية شره المسلمين، وفيه إظهار للفتاء من نفس. قال: وإن كان لا سهم له وله رضخ، [أي]: كالصبي والمرأة والعبد والكافر إذا حضر بإذن الإمام - فقد قيل: يستحق؛ لعموم الخبر، وهذا ما اختاره في "المرشد"، وعليه جرى النواوي إلا في الذمي؛ فعلى هذا: لا يستحق مع السلب الرضخ قولا واحداً كما نص عليه الشافعي – رضي الله عنه – في "سير"

الواقدي. [و] إذا كان القاتل عبدا صرف السلب إلى سيده. وقيل: لا يستحق؛ لأنه لا يستحق السهم الراتب المجمع عليه؛ فلألا يستحق السلب – وهو غير راتب ومختلف فيه –أولى، فعلى هذا: يرضخ له ويزيد فيه لأجل بلائه في قتلهن قاله الماوردي، وقال: عن الوجهين مبنيان على اختلاف أصحابنا [في قول] رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ"، هل هو ابتداء عطية منه، أو بيان لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنفال: 41] فعلى الأول: يستحق من له الرضخ اسلب، وعلى الثاني: لا. وفي "التهذيب": أن الذمي إذا قلنا: إنه يستحق الرضخ من بيت المال، لم يستحقه، وإن قلنا: يستحقه من الغنيمة، فهو كالعبد، ومن ذلك يجيء فيه طريقة جازمة بالمنع، والأظهر عند القاضي الحسين وغيره في العبد: أنه يستحق السلب [وإن لم يستحقه الصبي] والمرأة؛ لأنهما ليسا من أهل القتال، وبه جزم في "الرقم". ولا خلاف أن من لا سهم له ولا رضخ كالمخذْل ونحوه، والكافر الذي حضر [بدون إذن] الإمام، إذا غرر بنفسه في قتل كافر لا يستحق [سلبه]. فرع: إذا كان القاتل خنثى مشكلا، وقلنا: المرأة لا تستحق السلب – توقفنا فيه إلى أن يتبين حاله، قاله في "التهذيب". قال: وإن لم يغرر بنفسه، كأن رماه من الصف فقتله، أو قتله وهو أسير أو مثخن – لم يستحق؛ لأن ابن مسعود – رضي الله عنه – قتل أبا جهل، وكان قد أثخنه شابان من الأنصار يوم بدر، وهما معاذ ومعوذ ابنا عفراء، فلم يدفع النبي صلى الله عليه وسلم سلبه إليه ودفعه إلى الشابين كما حكاه الإمام، أو إلى أحدهما كما حكاه الماوردي.

ولأن دفع السلب لكونه قد كفى المسلمين شره، وهذا مكفي الشر. وهكذا الحكم فيما لو قتل شيخاً أو مريضاً لا قتال فيه. وقضية ما ذكره الشيخ: أنه إذا أغرى على الكافر كلبا عقورا فقتله أنه لا يستحق سلبه، وقال القاضي الحسين في "تعليقه": إنه يستحقه؛ لأنه خاطر بروحه حيث صبر في مقابلته حتى عقره الكلب. قال: وإن قتله وقد ترك القتال وانهزم، أي: غير متحرف [لقتال أو متحيز] إلى فئة - لم يستحق سلبه؛ لأنه لم يكف المسلمين شره فالتحق بالأسير والمثخن، وهذا بخلاف ما [لو] قتله [وهو] مول ليكر أو ليتحيز إلى فئة، فإنه يستحق سلبه؛ لأن الحرب كرٌّ وفر. وفي "التهذيب": أنه إذا قاتله، فهرب من بين يديه، فقتله مدبراً - استحق سلبه، وهو ظاهر المذهب في "النهاية"، ونسب على [رواية] الشيخ أبي علي، وأنه قال: المنهزم الذي لا يستحق قاتله سلبه هو الذي لم يخض في القتال، وولى أو انهزم مع جملة الجيش. نعم، لو قتل هذا المنهزم غير قرنه لم يستحق سلبه واحد منهما، قال الإمام: وهذا بخلاف ما لو كان الكافر يقاتل مسلما، فجاء آخر وقتله من ورائه؛ فإنه يستحق سلبه؛ لان أبا قتادة - رضي الله عنه - هكذا فعل. وقضى له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلب. قال: وإن اشترك اثنان في قتله اشتركا في سلبه؛ لأنهما لما اشتركا في السبب اشتركا في المسبب، وكذا لو اشترك جمع في قتله اشتركوا في سلبه. وعن رواية أبي الفرج الزاز وجه: أنه لو وقع فيما بين جماعة لا ترجى نجاته منهم، لم يختص قاتلوه [سلبه]، لأنه صار مكفي الشر بالوقوع فيما بينهم، وذكر أنه لو أمسكه واحد وقتله آخر كان السلب بينهما؛ لأن كفاية شره حصلت منهما، ويخالف القصاص؛ فإنه منوط بالقتل.

قال الرافعي: وكأن هذا التصوير فيما إذا منعه [من] أن يذهب ولم يضبط، فأما الإمساك الضابط فإنه أسر، وقتل الأسير لا يستحق به السلب. قال: وإن قطع أحدهما يديه ورجليه، وقتله الآخر – فالسلب للقاطع؛ لأنه الذي كفى شره فأشبه ما لو قتله، وهكذا لو أثخنه إنسان أو فقأ عينه فقتله آخر كان السلب للأول، قاله في "التهذيب". قال الإمام: ولو أصاب الكافر ضربة؛ فسقط ولم يبق فيه بقية يدافع بها، ولكن لو ترك لعاش – فالذي أراه: أن هذا ليس بإثخان يستحق به السلب، فإن قيل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلُبهُ"، فعلق استحقاق السلب بالقتل، وما ذكرتموه ليس بقتل، فلم استحق به السلب؟ قال الإمام: قلنا: هذا منزل على غالب العرف، والغالب: أن القاتل هو الجارح أو المذفف ابتداء؛ فاتجه تنزيل الخطاب عليه، ويشهد له ما ذكرناه في قصة أبي جهل. قال: وإن قطع أحدهما إحدى يديه وإحدى رجليه، وقتله الآخر – ففيه قولان: أحدهما: أن السلب للأول؛ لأنه الذي عطله وكفه عن كمال الكيد، وهذا أصح في "الجيلي" وعند النواوي، وقال الرافعي: إن هذا ما أورده المزني، وبه أجاب جماعة من الأصحاب ومنهم الروياني. والثاني: أنه للثاني؛ لأنه الذي كفى شره؛ فإنه بعد القطع يمكنه أن يمشي ويجلب ويركب ويقاتل، وهذا ما حكاه المزني كما حكاه القاضي أبو الطيب، وقال: إن الأصحاب قالوا: إنه الصحيح، وهو المختار في "المرشد". والقولان جاريان – كما حكاه العراقيون والشيخ أبو علي – فيما لو قطع أحدهما يديه أو رجليه وقتله الآخر. وحكى الشيخ أبو علي طريقة أخرى: أن المسألة ليست على قولين، ولكنها على حالين: فحيث قال: السلب للأول، أراد به: إذا أزمنه بحيث لم يبق فيه قتال. وحيث قال: إنه للثاني، أراد به: إذا لم يسقط قتاله بقطع يديه أو رجليه.

قال الإمام: وهذه الطريقة هي الصحيحة التي لا يجوز غيرها؛ فإن الأزمان يختلف باختلاف الأشخاص، ولا خلاف أنه إذا قطع أحدهما إحدى يديه أو إحدى رجليهن ثم قتله آخر: أن السلب للثاني. قال: وإن قتل امرأة أو صبيًّا، فإن كان لا يقاتل لم يستحق سلبه؛ لأنه لم يغرر بنفسه، وإن قتله وهو يقاتل استحق سلبه؛ لعموم الخبر مع كونه غرر بنفسه، وهذا ما جزم به القاضي الحسين في باب قسم الفيء. وفي "التهذيب" وغيره وجه آخر: أنه لا يستحق، وهذا ما أبداه الإمام احتمالاً، وادعى أن المقتول لو كان عبداً فلا خلاف في استحقاق سلبه. وفي "الرافعي" إجراء طريقة الخلاف فيه أيضاً. قال: والسلب: ما تثبت يده عليه، أي: يد القتيل، في حال القتال: من ثيابه، وحليه، ونفقته، وفرسه، وسلاحه؛ لثبوت يده عليه، فالتحق بجنة الحرب. وقيل: لا يستحق الحلي والمنطقة والنفقة؛ لأن ذلك مما لا يستعان به في القتال غالباً، ولا هو من آلة الحرب؛ فأشبه المتاع والخيمة، وهذا ما أومأ إليه في "الأم". قال: والأول أصح، وهو الذي اختاره البويطي في "مختصره" وأبو إسحاق، كما حكاه أبو الطيب؛ لما روي أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه – أَتَى بِسِوَارَيْ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، فَأَلبَسَهُمَا سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جَعْشَمَ، وَقَالَ لَهُ: اسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ وَكَبِّرْ وَقُلِ: الْحَمْدُ للهِ الذِي سَلَبَهُمَا كِسْرَي بْنَ هُرْمُزَ، وَأَلْبَسَهُمَا سُرَاقَةَ بْنَ مِالِكٍ، أَعْرَابِياً مِنْ بَنِي مُدْلَج. وجه الدليل منه: أنه سماهما سلبا. والسبب في إلياس عمر سراقة ذلك: أن سراقة يوم فتح مكة حسر كمَّيْه عن ذراعيه، وكان اشعر الذراعين وقد لحقه الخجل، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد الخجل

عنه، فقال: "كَأَنِّي بِكَ وَقَدْ أُلْبِسْتَ سِوَارَي كِسْرَى"، وعمر بن الخطاب – رضي الله عنه- حاضر، فلما أخذ عمر غرائبه أراد أن يحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم لسراقة. كذا قاله القاضي الحسين. ومن المعنى: أنه متصل به؛ فوجب أن يكون من جملة السلب كالسيف والرمح. والقولان يجريان – كما قال الشيخ أبو حامد والماوردي – في الجنيبة الواحدة، وجزم القاضي أبو الطيب فيها وفي المملوك الذي يحجبه بأنه ليس له، وحكى في "التهذيب" ذلك طريقين في الجنيبة، وقال الإمام في الغلام: إن كان حاملا لسلاحه تناوله متى شاء، فيجوز أن يكون السلاح بمنزلة الجنيبة، ويجوز أن يقال: لا، وإنا إذا جعلنا الجنيبة من السلب، ففي السلاح الذي [عليها] تردد. والمراد بالثياب: ما على [الجسد من ثياب] البدن حتى الخف والرانات. وبالحلي: التاج الذي على رأسه والخاتم في إصبعه، وكذا الطوق الذي يعمل في الرقبة من ذهب أو فضة إذا لم يقصد منه وقاية الرقبة، فإن قصد فهو ملحق بالسلاح، والمنطقة – بكسر الميم -: ما يكون في الوسط من ذهب أو فضة وغير ذلك، وجمعها: مناطق. والمراد بالنفقة: الدراهم ونحوها مما يكون في كيس مربوط على وسطه. والمراد بالفرس: الذي هو راكبه أو في يده، وقد نزل عنه في مضيق أو غيره، كما صرح به البغوي وكذا ابن الصباغ عن النص، ويدخل في ذلك ما على الفرس من سرج ولجام ونحوهما. والمراد بالسلاح: السيف والرمح والقوس والخوذة والجوشن، ونحوه مما يعد جنة، وفي الحقيبة المشدودة على فرسه وما فيها من الدراهم والأقمشة طريقان، أظهرهما القطع بعدم الدخول، والثانية: طرد القولين.

تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي [أن تمام السلب يستحقه القاتل] ولا يخمس، وهو الذي أورده العراقيون؛ استدلالاً بما روى أبو داود عن عوف بن مالك وخالد بن الوليد أن النبي صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ وَلَمْ يُخَمِّسْ السَّلَبَ، وروي أنه – عليه السلام – دفع إلى سلمة ابن الأكوع سلب قتيله أجمع. وفي "التهذيب" وغيره من كتب المراوزة في تخميسه قولان: أحدهما: نعم؛ كسائر الغنائم، فيكون خمسه لأهل الخمس، والباقي للقاتل. وأصحهما: لا، ويكون الجميع للقاتل؛ لظاهر الخبر. نعم، هل يستحق مع ذلك سهم الغنيمة؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وقال: إن ظاهر النص هاهنا أنه يستحق ذلك، وعلى مقابله: إن كان السلب قدر السهم فلا كلام، وإن كان أكثر من السهم فلا شيء له سواه، وإن كان أقل السهم تمم له. قال: وإن أسر صبيا رق، لأنه – عليه السلام – كان يقسم السبي كما يقسم المال، فإن [كان] للصغير زوجة انفسخ نكاحها، وهكذا الحكم فيما لو أسر مجنوناً، صرح به القاضي الحسين. قال: فإن كان وحده تبع السابي في الإسلام. قال أبو حامد: وهذا إجماع. وقال ابن الصباغ: إنه لا خلاف فيه. [وعلته] – كما قال في "المهذب" -: أنه لا يستقل بنفسه؛ إذ لا حكم لكلامه، فجعل تابعاً للسابي؛ [لأنه] كالأب في الحضانة والكفالة، وقال الإمام: وهذا يتم بأن يعلم أن السبي يقلبه عما كان عليه قلبا كلياً؛ فإنه كان محكوما بحريته متعلقاً بسبب الاستقلال إذا بلغ، والآن قد رق بالسبي حتى كأنه عدم عما كان عليه واستفتح له وجود بحسب ولاية السابي، وعلى هذا فما حكم إسلامه؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي هاهنا:

أحدهما: أنه مقطوع به في الظاهر والباطن، فإن بلغ ووصف الكفر لم يقر عليه، وبه قال المزني، وهو الظاهر من مذهب الشافعي – رضي الله عنه – وإليه صار جمهور البغداديين. والثاني: أنه مجرى عليه في الظاهر دون الباطن، فلو بلغ ووصف الكفر أقر عليه بعد إرهاقه. وهذا قول جمهور البصريين. وقد حكى ابن الصباغ الخلاف المذكور في باب اللقيط، وكذلك الإمام حيث جعل إسلامه بتبعية السابي كالمحكوم بإسلامه تبعاً لأبيه. و [قد] حكى في "المهذب" وجها آخر: أنه باق على حكم كفره لا يتبع السابي، وقال: إنه ظاهر المذهب؛ لأن يد السابي يد ملك فأشبهت يدالمشتري. وهذا قد حكاه الماوردي هكذا في كتاب اللقيط، وحكاه البغوي وجها في كتاب الظهار، وقال: الأول هو الأصح. فإذا قلنا به، فلو كان السابي مراهقاً أو مجنوناً حكم بإسلام المسبي أيضاً تبعاً لهن كذا حكاه البغوي في قسم الغنائم، ولو كان السابي ذمياً في بلاد الإسلام ففي الحكم بإسلام المسبي وجهان في "النهاية" في كتاب اللقيط، وأصحهما: المنع. وحكم المجنون إذا بلغ كذلك واستمر جنونه حكم الصبي، وإن بلغ عاقلاً ثم جن ففي تبعيته للسابي وجهان كالوجهين في تبعيته لأبيه في الإسلام، قال القاضي الحسين: وهما مبنيان على عود الولاية للأب. قال: وإن كان معه أحد أبويه تبعه في الدين؛ لأن الاعتبار بأحد أبويه أولى من الاعتبار بسابيه لأجل البعضية، ويفارق ما إذا كان وحده؛ لأنا في تلك الحالة لا نتحقق كفر واحد من أبويه، بخلاف ما إذا كان أحدهما معه فإنا نتحقق كفره؛ فلذلك ألحقناه بهن كذا قاله أبو الطيب. ولا فرق في ذلك بين أن يموت الأبوان أو أحدهما أو لا يموت؛ لأن الاعتبار بحالة السبي.

ولو سبى الولد واحد، وسبي أحد الولدين آخر - قال في "التهذيب" في كتاب "الظهار" [والقاضي في "الفتاوى"]: فإن كانا في عسكر واحد لم يتبع الولد السابي في الإسلام، وإن كانا في عسكرين تبعه. [ولو كان مع الصغير جده فهل يتبعه أو يتبع السابي؟ فيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب في [باب] دعوى الأعاجم؛ بناءً على أنه يتبع الجد في الإسلام أم لا، فإن قلنا: يتبعه في الإسلام، تبعه هاهنا، وإن قلنا: لا يتبعه في الإسلام، تبع السابي هنا]. قال: وإن سبى امرأة رقت بالأسر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسم السبي كما يقسم المال. [قال الماوردي في "الأحكام": وهذا إذا كانت كتابية، فإن كانت من قوم ليس لهم كتاب كالدهرية وعبدة الأوثان، فإن امتنعت من الإسلام قتلت عند الشافعي. قلت: ويظهر أن يجيء فيها ما سنذكره في الأسير]. قال: فإن كان لها زوج انفسخ نكاحها؛ لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، والمراد بالمحصنات هاهنا: ذوت الأزواج؛ لأن الإحصان يطلق على التزويج؛ قال الله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}، ومراده: المتزوجون بالاتفاق، ووجه الدليل من الآية: أنه حرم المتزوجات إلا ما ملكت أيماننا بحدوث السبي؛ فإن سبب نزول هذه الآية: أن المسلمين يوم سبي أوطاس امتنعوا من وطء النساء؛ لأن لهن أزواجاً في دار الحرب، فلو كان لنكاح باقياً لما جازت الإباحة ولكان التحريم باقيا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سَبَى أَوْطَاسَ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ جَمِيعاً، فَقَسَّمَ السَّبْيَ، وَأَمَرَ أَلاَّ تُوطَأَ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ"، ولم يسأل عن ذات زوج ولا غيرها، ومعلوم أن فيهن من كان لها زوج، فلو لم ينفسخ نكاحها لما حل وطؤها بعد الوضع والحيض، قال

الشافعي بعد أن قال ما ذكرناه من الخبر: وليس قطع العصمة بينهن من أزواجهن بأكثر من سبيهن. وهذا إذا كان الزوج كافراً، سواء سبي معها أو لا؛ لعموم الآية والخبر، ولأنه رق طرأ على نكاح؛ فوجب أن يبطل به كما لو أسر أحدهما. وقد وافق [الخصم وهو] أبو حنيفة – على انفساخه في حالة الانفراد. ولو كان الزوج مسلما، فإن قلنا: لا تسترق زوجته، فليست المسألة، وإن قلنا: تسترق، فقد أطلق الإمام في هذا الكتاب أن المذهب انفساخ نكاحه، وهو ظاهر كلام الشيخ، وإن صاحب "التقريب" روى وجها أن النكاح لا ينفسخ؛ لأن الجمع بين ثبوت الرق وبين استيفاء النكاح ممكن، فوجب القضاء بالأمرين. وحكى القاضي الحسين والفوراني أن هذا قول صاحب "التقريب" نفسه، قال الإمام: وصاحب هذا الوجه لا يشترط أن يزول الرق في مدة العدة إذا كانت مدخولاً بها. وقال في آخر"النهاية": إن السبي إن كان قبل الدخول انفسخ النكاح، وإن كان بعده فمنهم من قال: إن الحكم كذلك، ومنهم من قال: إذا اتفق العتق والإسلام قبل انقضاء العدة فالنكاح قائم؛ كما لو ارتد أحد الزوجين بعد الدخول، فإن عتقت وأسلمت قبل انقضائها استمر النكاح، وإن عتقت ولم تسلم فكذلك؛ فإنها حرة كتابية، ولو أسلمت ولم تعتق: فإن كان الزوج ممن يحل له استدامة النكاح على الأمة المسلمة؛ ففيه وجهان، أصحهما: أن له الاستدامة. ولو كان الزوجان مملوكين أو أحدهما، ففي "تعليق" القاضيين أبي الطيب والحسين، و"الحاوي": في انفساخ النكاح وجهان، وفي "تعليق" البندنيجي: أنه لا نص في ذلك. وقال الشيخ – يعني أبا حامد -: الذي يقتضيه قياس المذهب: أنه لا ينفسخ. وكذلك قال في "المهذب"، وعدم الانفساخ هو الذي صححه القاضي الحسين والإمام وغيرهما. ووجه مقابله – وهو المختار في "المرشد" -: أن هذا في حكم رق جديد؛ لأن الأول لم يكن مستقرا إذ كان معرضاً للبطلان بقهره مولاه ومراغمته إياه.

وحكى الإمام وغيره الوجهين فيما إذا كان الزوجان رقيقين مسلمين لأهل الحرب [وغنما]، وجزم القاضي الحسين بأن المسبي لو كان مستأجراً لمسلم لا تنفسخ الإجارة، كما ذكرنا مثله فيما إذا غنمت الأرض، ولو كان مستأجراً لحربي انفسخت، ولو كان مستاجراً لذمي ففيه وجهان؛ بناء على القولين السابقين في أن ولاء الذمي هل يبطل باسترقاق معتقه أم لا؟ [والذي حكاه البندنيجي في كتاب التدبير: أنه يجوز استرقاق من للذمي عليه ولاء؛ لأنه يجوز أن يسترق مولاه إذا كان في دار الحرب؛ فمعتقه أولى، وابن الصباغ حكى ثم في جوازه وجهين]. وفي "التهذيب" وغيره إجراء الوجهين في انفساخ إجارة المسلم أيضاً؛ كما في انفساخ نكاحه، ثم قال: والمذهب الأول. واعلم أن ما ذكرناه من عدم [انفساخ] نكاح المسلم إذا سبيت زوجته محله إذا لم يكن الزوج هو السابي، أما إذا كان هو السابي فهذا ينبني على أنه يملك المسبية بالسبي [أم لا]، وكلام الأصحاب يفهم اختلافاً فيه، فإن الذي حكيناه عن "المهذب" في تعليل الحكم بإسلام المسبي تبعاً للسابي، يقتضي أنه يملكه بالسبي، وكذلك ما حكاه الرافعي من أن المسبي لو كان عليه دين للسابي، فهل يسقط بالسبي؟ فيه وجهان؛ بناء على أن الوجهين فيما إذا كان له دين على عبد غيره، فملكه هل يسقط أم لا – يقتضي ذلك أيضاً. وقد صرح به البندنيجي حيث قال: إن المرأة إذا سبيت كانت مملوكة لسابيها، وإذا سبي الطفل وحده كان في الدين تبعاً للسابي؛ فيكون له مملوك صغير مسلم ينفذ تصرفه فيه، وله بيعه من المسلمين، وليس له بيعه من المشركين، فإن خالف وباعه فهو على القولين. وكلام ابن الصباغ قبيل باب المبارزة مصرح به أيضاً؛ حيث قال: إذا سبي صغير من دار الحرب لا يعرف له نسب، فإنه يكون للسابي ويتبعه في دينه، فإن

أعتقه السابي نفذ عتقه، وثبت له عليه الولاء. وعلى هذا ينبغي أن ينفسخ نكاح المسلم قولاً واحداً، وهذا مما لا خفاء فيه. وكلام الإمام والبغوي والرافعي وغيرهم في قسم الغنائم مصرح بأن الصبي والمجنون والرقيق والمرأة يصيرون أرقاء بنفس الأسر ويقسمون كسائر الأموال، ويشهد لذلك ما ذكرناه في صدر الفصل حكاية عن الشافعي – رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم سبي أوطاس وبني المصطلق النساء والرجال، فقسم السبي، وهذا يدل على أن السابي لا يملك المسبي بالسبي، وهو قضية ما ذكره الأئمة في أنه يبدأ من الغنيمة بالسلب فيدفع إلى القاتل، ويقسم الباقي، فإن صح هذا فينبغي ألا ينفسخ النكاح إلا إذا وقعت في قسمته أو بعضها، وعندي أنه يمكن الجمع بين الكلامين بالحمل على حالين دل عليهما كلام الأصحاب: فالأول محمول على ما إذا دخل المسلم دار الحرب وسرق المرأة والصبي؛ على رأي من يرى أن المسروق لا يخمس. والثاني محمول على ما إذا استولى عليهما مع جملة الجيش بالقهر والغلبة، فإن كان وحده ملك منهما أربعة أخماسها، والخمس الباقي لأهل الخمس. وهكذا إذا قلنا: إن المسروق يخمس، يكون الحكم كذلك، ويشهد له أن الفوراني قال: إذا دخل المسلم دار الحرب وحده، وانتهز الفرصة فسبي ابنه الصغير – فقد ملك بنفس الأسر وعتق عليه. وكذا حكاه القاضي أبو الطيب فيما إذا ملك ابنه الصغير أو ابنته البالغة أو أمه، لكنه قال: إنه يؤخذ منه الخمس يدفع لأهل الخمس. وهذا منه محمول على ما إذا كان موسرا، أما إذا كان معسراً بقدر الخمس من قريبه فلا يعتق منه إلا أربعة أخماسه، وهكذا أجاب ابن الصباغ في العتق، لكنه شرط أن يختار السابي الملك، قوال فيما إذا لم يختره: إن الأخماس الأربعة تكون لمصالح المسلمين والخمس لأهل الخمس، وفي هذا شيء يظهر لك في أوائل الباب التالي لهذا الباب، وقضية هذا أن ينفسخ النكاح إذا اتفق أنه انفرد بسبي زوجته على هذا النعت إن اختار التملك، وإلا فلا، وقضيته – أيضاً – أن خمس الدين لا يسقط فيما إذا كان السابي رب الدين،

ويكون الخلاف في الأخماس الأربعة. قال القاضي أبو الطيب: ولو كان المسبي ابنه البالغ أو أباه لم يعتق؛ لأنه ما ملكه وإنما ملك أن يتملكه، وللإمام فيه الخيار، فإذا اختار الاسترقاق ودفعه إلى سابيه عتق عليه إن اختار التملك، ونسب ذلك إلى ابن الحداد، وعلى ذلك جرى ابن الصباغ، وكذلك الرافعي، وقال: إن الأصحاب جعلوا إلحاقه الابن الصغير بالأم فيما ذكرناه هفوة؛ لأن الأب المسلم يتبعه الولد الصغير في الإسلام فلا يتصور منه سبي ولده. وهذا قد تعرض له الإمام – أيضاً – في آخر "النهاية"، وفيما قاله نظر؛ فإن الولد وإن جعل مسلما بإسلام أبيه فهو إذا كان رقيقاً للكفار، والإسلام لا يمنع من سبيه، كما قال الأصحاب فيما إذا أسلم عبد للكفار في أيديهم ولم يخرج إلى دار الإسلام؛ فإنه يغنم، بخلاف ما إذا قهر سيده بعد الإسلام فخرج إلينا؛ فإنه يحكم بعتقه كما حكاه أبو الطيب وابن الصباغ عن ابن سريج وغيرهما، وإذا كان كذلك فلعل ما ذكره ابن الحداد محمول على حالة رق الولد؛ فلا هفوة إذاً، والله اعلم. قال: وإن أسر حرًّا، أي: مكلفاً من أهل القتال، فللإمام: أي: أو أمير الجيوش، كما قاله الماوردي وغيره، أن يختار ما فيه المصلحة من القتل والاسترقاق والمن والمفاداة بمال، أي: للمأسور أو غيره أو بمن أسر من المسلمين. الأسر – كما قال البندنيجي في أواخر الكلام في الأمان -: أن يحصل في يد المسلمين مكتوفاً، أو في حبس، أو ممسكاً باليد، والدليل على جواز القتل إذا رآه مصلحة لكون المأسور من الشجعان أو من أصحاب الرأي، قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وَمَا رُوِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ يَومَ بَدْرٍ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيطٍ صَبْراً، وَكَانَ قَدْ بَزَقَ فِي وَجْهِهِ، وَقَتَلَ النَّضِرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كِنْدَةَ". والدليل على جواز الاسترقاق إذا رآه لكون المأسور كثير العمل ولا رأي له

ولا شجاعة فيه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} [محمد: 4]، [أي بالظفر، وقيل: بالأسر] {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد: 4] أي: بالاسترقاق كما حكاه الماوردي، وفيه نظر؛ لأن المن بعد الاسترقاق ممتنع، وقد دلت الآية بعد شد الوثاق على جوازه. وما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اسْتَرَقَّ بَنِي قُرَيظَةَ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُوَازِنَ يَوم حنين، وادعى القاضي أبو الطيب أنه لا خلاف فيه بين المسلمين. والدليل على جواز المن إذا رآه لكون المأسور فيه ميل إلى الإسلام، قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]، أي: حتى ينزل عيسى ابن مريم فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وقيل: حتى يسلم جميع من على وجه الأرض، كذا قاله أبو الطيب، وفي "الحاوي" في "أوزارها" تأويلان: أحدهما: أوزار الكفر بالإسلام. والثاني: أثقال السلاح بالظفر. وروي أنه صلى الله عليه وسلم مَنَّ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى أَبِي العَاص بْنِ الرَّبِيعِ، وَمَنَّ عَلَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ عَلَى أَلاَّ يُقَاتِلَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَكَّةَ قَالَ: سَخِرْتُ بِمُحَمَّدٍ، وَقَاتَلَهُ يَومَ أُحُدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللهُمَّ لاَ تَقْتُلْهُ"، فَمَا أُسِرَ يَومَئِذٍ غَيْرُهُ؛ فَقَتَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بيِيَدِهِ. ورَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَسَرُوا ثُمَامَةَ بْنَ أَثَالٍ الْحَنَفِيَّ سَيِّدَ أَهْلِ اليَمَامَةِ، وَرَبَطُوهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِإِطْلاَقِهِ، فَانْطَلَقَ إِلَى مَحَلٍّ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وأخرجه البخاري ومسلم.

وثمامة: بثناء مثلثة مضمومة، وأثال: بضم الهمزة، وبعدها ثاء مثلثة مفتوحة، وبعدها لام. و"ذم" في هذه الرواية بذال معجمة، وفي رواية أخرى لأبي داود: بدال مهملة. والدليل على جواز الفداء – إذا رآه – لكون للمأسور أموال كثيرة أو شرف في قومه، قوله تعالى: {وَإِمَّا فِدَاءً}، وما روي أنه – عليه السلام – فَادَى يَومَ بَدْرٍ بِالأَمْوَالِ. ولا يقال: إن الله – تعالى- أنكر ذلك، فلا يستدل به؛ لأن الله – تعالى- قيد إنكاره بشرط حيث قال: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67]، وفي ذلك تأويلان: أحدهما: كثرة القتل. والثاني: الاستيلاء والظفر. وقد أنعم الله – تعالى – بهما؛ فزال الإنكار، وارتفع المنع. وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ الحُصَيْنِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَسَرُوا أَعْرَابِيًّا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ، فَأَوْثَقُوهُ وَطَرَحُوهُ فِي الْحِرَّةِ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم [فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ، فَوَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: بِمَ أُخِذْتُ وأُخِذَتْ سَابِقَةُ الحَجِّ؟! يعني: ناقة [له] تسبق الحاج كما قاله أبو الطيب. وقال الماوردي: إنها العضباء، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم] وصارت إلى العقيلي، فأخذت منه بعد أسره، فأراد بذلك أن: سابقة الحاج قد أخذت منين فلم أوخذ بعدها؟! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكُمْ ثَقِيفَ"، يعني: بجناية حلفائكم التي رضيت بها، وشاركتهم فيها، وكانوا قد أسروا رجلين من المسلمين، ومضى النبي صلى الله عليه وسلم فناداه: يا محمد يا محمد، فرحمه، فعاد إليه فقال: إني مسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَا إِنَّكَ لَو قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ لأَفْلَحْتَ كُلَّ الفَلاَحِ" ومضى.

وقد روي أن المسلمين فادوا به الرجلين اللذين أثرتهما ثقيف. ثم المال المفادي به يقسم كالغنائم، ولا يتخير الإمام فيه، وما ذكرناه في الاسترقاق محله – بلا خلاف – إذا لم يكن الأسير من العرب، وكان له كتاب أو شبهة كتاب، فإن كان [من] العرب، فالجديد – كما حكاه البغوي – أن الأمر كذلك، ولم يحك الماوردي سواه، وفي القديم: أنه لا يجوز استرقاق العرب؛ لما روي أنه – عليه السلام – قال يوم حنين: "لَو كَانَ الاسْتِرْقَاقُ ثَابِتاً عَلَى العَرَبِ، لَكَانَ اليَومَ، إِنَّمَا [هُوَ] إِسَارٌ وَفِدَاءٌ". وإن كان من العجم ولا كتاب له، ولا شبهة كتاب، فالمشهور – وبه جزم في "التهذيب" -: أنه يرق أيضاً، وفي كتب العراقيين والحاوي حكاية عن الإصطخري: أنه إذا كان من عبدة الأوثان لا يجوز استرقاقه؛ لأنه لا يقر على عبادة الأوثان بالجزية؛ فكذلك بالاسترقاق كالمرتد، وهو جارٍ – كما حكاه الماوردي- في العربي الذي يعبد الوثن، والمذهب الأول؛ لأنه كافر يجوز أن يفادي به ويمن عليه، فجاز استرقاقه كأهل الكتاب. وفي "تعليق" القاضي الحسين خصلة خامسة يثبت للإمام الخيار فيها، وهي تخليده السجن إلى أن يرى فيه ما يراه، وفي "تعليق" أبي الطيب: أن الشيخ أبا حامد كان يحكي أن [الشيخ] أبا الحسين الطبري كان قد سئل عن البالغين إذا أسرهم الإمام، فقال: قد صاروا أرقاء بنفس الأسر كالصبيان والنسوان. وهذا غلط، قال القاضي: وأنا رأيته وكنت صبيا، ومثل هذا لا يخفى عن ذلك الرجل. أما إذا كان المأسور عبداً، فلا يجوز التخيير، وليس إلا الاسترقاق، فلو رأى أن يمن عليه لم يجز إلا برضا الغانمين. وفي "الحاوي" أنه لو أراد أن يفادي به أسرى من المسلمين، ويعوض عنه الغانمين جاز.

وفي "المهذب": أنه لو رأى قتله – قتله، وضمن قيمته للغانمين؛ لأنه مال لهم. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إذا أسر جماعة من العبيد العقلاء البالغين، فهل يجوز قتلهم؟ يحتمل وجهين؛ بناء على ما لو سبي الزوجان الرقيقان، هل ينفسخ النكاح أم لا؟ وفيه وجهان، أحدهما: ينفسخ؛ لأن ذلك الرق قد زال، وحدث بالسبي رق آخر، فعلى هذا قد زال رق العبد؛ فيجوز للإمام قتله. فروع: هل يجوز استرقاق بعض الشخص؟ فيه وجهان مبنيان على ما إذا استولد أحد الشريكين الجارية المشتركة، وهو معسر، هل يكون الولد كله حرا، أم الحر نمه قدر ما يملكه أبوه من أمه؟ وفيه قولان – أو وجهان – محكيان في "تعليق" أبي الطيب وغيره، فإن لم تجوزه، فإذا ضربه على بعضه كان كله رقيقاً. إذا وقع في الأسر من شككنا في بلوغه كشفنا عن مؤتزره، فإن لم يكن [قد] أنبت الشعر الخشن فهو من السبي، وإن أنبته فهو بالغ؛ فللإمام فيه الخيار، فلو ادعى انه استعجل ذلك ففي "الإبانة" الجزم بأن القول قوله، وفي غيرها: [أنا] إن جعلنا ذلك عين البلوغ لم يقبل منه، وإن جعلناه علامة على البلوغ – وهو الأظهر – قبل منه، لكن باليمين، وحلف على إنبات الصبي وإن كان القياس منعه؛ لأن وجود الشعر الخشن أمارة ظاهرة على بلوغه، وهذا ما حكي عن النص. وفي "الذخائر" في كتاب الأقضية: أن من أصحابنا من قال: يحبس حتى يبلغ، فإن حلف إذ ذاك وإلا قتل. وفي "الرافعي": أن بعض أصحابنا ذهب إلى أن هذه اليمين احتياط واستظهار. وفي "الحاوي": أنه لو أقام بينة في هذه الحالة على عدم استكمال خمس عشرة سنة، فهل يقبل قوله بها؟ فيه قولان مرتبان على القولين في أن إنبات الشعر بلوغ أو علامة؟

ولو شككنا في رجولته بأن كان خنثى مشكلا وقف أمره. إذا وقع سلاحنا في أيديهم جاز أن يفادي المشرك به، ولا يجوز إذا وقع سلاحهم في أيدينا أن نعيده إليهم بمال، وهل يجوز بمن أسر من المسلمين؟ فيه وجهان في "التهذيب". إذا قتل مسلم الأسير قبل أن يختار [الإمام] خصلة لم يجب عليه سوى التعزير، وكذا إذا قتله بعد أن اختار قتله، ولو قتله بعد الاسترقاق ضمن قيمته، وتكون [قيمته] غنيمة للمسلمين. وإن قتله بعد المن: فإن كان قبل وصوله إلى مأمنه ضمن ديته لأهله، وإن كان بعد وصوله إليهم فلا شيء عليه. ولو قتله بعد المفاداة على مال أو أسرى: فإن كان القتل قبل فدائه ضمن ديته وتكون غنيمة، وإن كان بعد [فدائه وقبل إطلاقه ضمن ديته لورثته، وإن كان بعد] قبض فدائه وإطلاقه إلى مأمنه فلا ضمان؛ لعوده إلى ما كان عليه قبل أسره. قال: فإن استرقه وكان له زوجة انفسخ نكاحها؛ لأنه رق طرأ على أحد الزوجين فانفسخ به النكاح كما إذا طرأ على الزوجة، وقبل استرقاقه لا ينفسخ إذا بقيت في دار الحرب؛ لأن العلة حدوث الرق ولم يوجد بعد. فرع: إذا كان عليه دين فهل يسقط باسترقاقه؟ قال الأصحاب: إن كان لمسلم فالظاهر من المذهب: لا، وحكى الإمام عن الخلافيين أنهم شببوا بسقوطه كمذهب أبي حنيفة؛ لأنه انقلب عما كان [عليه] حتى كأنه عدم ثم وجد، قال: وهذا [لا] يلتحق بالمذهب، والمقطوع به الأول، ولو كان لحربي سقط، وللإمام احتمال فيه على الصحيح في الأولى إذا غنم دون ماله كان حق المسلم باقياً في عين ماله، حتى لو ظفر به المسلمون قضى منه حقه. ولو غنم المال أولا أو غنم المال معه، وكان المغنوم امرأة أو صبياً، أو وقع غنم المال حال ضرب الإمام الرق [على] البالغ – بقي الدين في ذمته يتبع به

إذا عتق، ولا يقضي من عين المال؛ لتعلق حق الغانمين بعينه، وتعلق حقه بالذمة. وفي "التهذيب" الجزم فيما إذا غنما معا: أنه يقدم الدين كما يقدم على حقوق الورثة، وهو ما أبداه الإمام احتمالاً لنفسه، وأشار [إليه] الغزالي بقوله: ولا يقضي من عين المال على الظاهر. وهل يحل الدين المؤجل بالاسترقاق؟ فيه وجهان مرتبان على حلوله بالفلس، وأولى بالحلول؛ لأن الرق يزيل الملك كالموت، بخلاف الحجر، ومال الذمي فيما ذكرناه كمال المسلم، قاله الإمام. قال: وإن أسلم في الأسر سقط قتله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ... " الحديث. قال: وبقي الخيار في الباقي في أحد القولين؛ لأن سقوط الخيار في أحد الأشياء – وهو القتل هاهنا- لا يوجب سقوطه في الباقي؛ كالكفارة إذا سقط خياره في العتق لتعذر لم يسقط خياره فيما عداه. وهذا ما نص عليه في كتاب الأسرى والغلول، وقال أبو الطيب: إنه المشهور من المذهب. وهو أصح في "النهاية"، و [في] "الحاوي"، وعند النواوي، وحكى الفوراني طريقة قاطعة به، وعلى هذا لا يجوز أن يفادي به إلا أن يكون له عشيرة يأمن معها على دينه ونفسه. [قال:] ويرق في الآخر، [أي]: بنفس الإسلام؛ لأنه أسر حرم قتله فرق بالأسر كالصبي والمرأة، ولأنه لو جاز أن يفادي به لأدى إلى أن يرد المسلم إلى دار الحرب. [وهذا ظاهر النص في "المختصر"]. والقائلون بالأول ردوا ذلك بما ذكرناه من حديث عمران بن الحصين، وفرقوا

[بينه و] بين الصبيان والنسوان بأن الإمام لم يكن مخيراً فيهم في الأصل، بخلاف ما نحن فيه. وفي "الوجيز" ما يقتضي جريان خلاف في جواز الاسترقاق بعد الإسلام؛ لأنه قال فيما إذا نزل أهل قلعة على حكم حاكم: لو أسلم واحد منهم قبل الإرقاق ففي جواز إرقاقه وجهان، وكذا الخلاف في كل كافر لا يرق بنفس الأسر إذا أسلم قبل الإرقاق. قال الرافعي: وهذا لا ذكر له في كلام الأصحاب، إنما الكلام في أنه هل يرق بنفس الإسلام أو لا يرق؟ فرع: هل يقوم بذل الأسير الجزية وطلب عقد الذمة – إذا كان ممن يجوز عقدها معه – مقام الإسلام في تحريم القتل؟ فيه قولان في "التهذيب"، ووجهان في "الحاوي" عن رواية ابن أبي هريرة: [فإن قلنا بالمنع، بقي الإمام على خيرته كما كان. وإن قلنا بتحريم القتل – وهو ما حكاه القاضي الحسين عن النص في "المختصر"، وقال الرافعي في كتاب عقد الذمة: إنه الأولى – ففي "الحاوي": أنه يبقى على خيرته – فيما عدا القتل – وجها واحداً، بخلاف المسلم في أحد القولين؛ لأن بقاء الكفر يوجب بقاء حكمه. وقال في "التهذيب": على هذا القول، هل يجوز استرقاقه؟ فيه وجهان]، قال الفوراني: إنهما مبنيان على ما إذا حاصر حصنا، وليس فيه إلا النساء، وبذلوا الجزية، فهل يجب قبول ذلك؟ فيه قولان، ووجه البناء: أن الأسير خرج بالأسر عن أن يكون من أهل الجزية كالمرأة، فإذا بذل الجزية، هل ينتفي إرقاقه؟ وهذا البناء نسبه الإمام إلى القفال. ثم أصح الوجهين عند البغوي: الجواز، وعلى مقابله يتعين عقد الذمة له ويطلق، وهذا ما حكاه الإمام عن رواية صاحب "التقريب"، وأنه زيفه، والفرق

على هذا بينه وبين من أسلم؛ حيث لا يمنع رقه قطعا: أن الجزية من آثار الكفر، فإذا عقدنا له الذمة لم نخله عن صغار الكفر، ولو خلينا المسلم حتما لكان الإسلام محبطاً لآثار الأسر بالكلية، وهذا لا سبيل إليه. ثم إذا قلنا بالصحيح، فلو أراد الإمام أن يمن عليه لمصلحة رآها – فعل، وإن أراد مفاداته، وهو لا يبغيها، ويأبي إلا الجزية وقبولها – قال الإمام: فلا سبيل إلى إجباره؛ فإن الكلام لا ينتظم؛ فإنه لا يجبر عليها إلا بالقتل، وهذا عود إلى القتل الذي حكمنا بسقوطه، فتعين – حينئذ- قبول الجزية منه، فإن قيل: هذا عين الوجه الذي نقله صاحب "التقريب"، قيل: [إن] الفرق [بينهما]: أن ذلك الوجه يرى إسعاف باذل الجزية، وإن كان الصلاح في إرقاقه، ونحن نقول: إن [كان] الصلاح في إرقاقه، [أرقه] ونفذ الرق عليه قهرا. قال: وإن غرر بنفسه في أسره؛ فقتله الإمام أو من عليه – ففي سلبه قولان: أحدهما: أنه [لمن] أسره؛ لأن المخاطرة بالروح فيه أكبر منها في القتل، وهذا أظهر وأصح عند القاضي الحسين، والشيخ أبي حامد، والقفال، ولم يورد الفوراني سواء. والثاني: ليس له؛ لأنه جعل للقاتل، أو لمن مهد سبيه الإثخان ونحوه، ولم يوجد شيء من ذلك، وهذا مذكور في "الأم". قال: وإن استرقه أو فاداه بمال، فهل يستحق من أسره رقبته أو المال المفادي به؟ فيه قولان، ووجههما: أنه مال حصل بسبب تغريره؛ فكان فيه قولان كالسلب، وهما – في "تعليق" القاضي الحسين و"الشامل" – مبنيان على القولين السابقين، وقضية البناء: أن يكون الظاهر عند القاضي أن الرقبة والمال للآسر، وعلى ذلك جرى الجيلي. لكن الذي صححه النواوي مقابله، وهو ما قال الرافعي: إنه يشبه أن يكون

الأظهر، وفي "النهاية": أن الأوجه أنه يستحق السلب والرقبة إذا رقت، وأن الأظهر: أنه لا يستحق المال المفادى به؛ لأنه لم يسلبه، ولا هو عين المأسور. وكلام الشيخ في "المهذب" يدل على أن القولين في الرقبة والمال [المفادى به] مفرعان على قولنا: إنه يستحق السلب. وعلى هذا جرى الفوراني؛ حيث جزم بأن السلب له، وفي رقبته القولان، فإن قلنا بأن ذلك يكون للآسر، فيجيء في تخميسه الخلاف السابق في تخميس السلب. قال الإمام: ولو اتفق الأسر من جميع الجند، فرقاب المأسورين مغنومة مردودة إلى المغنم، وإنه لو قال قائل: إذا رأينا صرف رقبة المأسور – وقد أرق – إلى الآسر، ثم رأينا عدم تخميس السلب؛ فينبغي ألا تخمس الرقاب – لم يكن ذلك بعيدا، لكن [الظاهر] التخميس؛ فإن التخصيص إنما صادفناه عند اختصاص بعض رجال القتال بوجه العناء، ولم يوجد. قال: وإن حاصر قلعة، فنزل أهلها على حكم حاكم – جاز؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَاصَرَ بَنِي قُرَيظَةَ، رَضُوا بَأنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ؛ ظَنَّا مِنْهُمْ أَنَّهُ يَمِيلُ إِلَيهِمْ؛ لأنَّ أُمَّةُ كَانَتْ مِنْ بَنِي قُرَيظَةَ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِياتِيَهُ وَكَانَ مُثْخَناً، فَلَمَّا بَلَغَهُ الأَمْرُ، قَالَ: لَقَدْ حَانَ لِسَعْدِ أَلاَّ تَاخُذَهُ فِي اللهِ لَوْمَةٌ لاَئِمٍ، وَرَكِبَ حِمَاراً، وَأَتَى، فَلَمَّا بَدَا لِكُفَّارِ بَنِي قُرَيظَةَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ"، فَقَامُوا نَحْوَهُ، فَقَالَ: رَضِيتُمْ بِحُكْمِي؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: أَرَضِيتُمْ بِحُكْمِي فَقَالَ: حَكَمْتُ بِقَتْلِ مُقاتِلِيهِم، وَسَبْيِ ذَرَارِيهِمْ وَنِسَائِهِمْ، [وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ]، فكان يكشف عن مؤتزرهم؛ فمن أنبت قتل، ومن لم ينبت جعل في الذراري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ حَكَمَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أرْقِعةٍ" أي: سماوات؛ لأن السماء تسمى رقيعا؛ لأنها مرقعة بالنجوم، وتقول العرب: ما تحت الرقيع أرفع من فلان، قال أبو الطيب: ويعنون السماء. وقتل منهم يومئذ زهاء من ستمائة، وكانوا مكتوفين مكبين على وجوههم.

قال: ويجب أن يكون الحاكم حرًّا مسلما ثقة، من أهل الاجتهاد؛ لأنها ولاية حكم، فشرط فيها هذه الصفات كولاية القضاء، وقد اشتمل كلام الشيخ على اعتبار سبع شرائط صرح بها الماوردي وابن الصباغ وغيرها: الحرية والإسلام والعدالة، وهي مأخوذة من قوله: حرا مسلماً ثقة، ومن هذا اللفظ يؤخذ اعتبار الذكورية أيضاً. والثلاثة الباقية – وهي: البلوغ، والعقل، والعلم – تؤخذ من قوله: من أهل الاجتهاد، وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن يكون المعتبر من استجمعت شرائط الفتوى فيه، وعليه ينطبق قول ابن الصباغ: إنه يعتبر فيه من الشرائط ما نعتبره في الحاكم، إلا كونه بصيراً. وحكى الإمام أن العراقيين قالوا: ينبغي أن يكون مجتهداً، وما أظنهم شرطوا أوصاف الاجتهاد المعتبرة في المفتي، فإن عنوا بالاجتهاد: التهدي إلى طلب الصلاح، والنظر للمسلمين، فهذا لابد منه، وإن أرادوا استجماع شرائط الفتوى، فهذا غلط غير معتد به؛ ولأجل ذلك قال الغزالي ومن بعده: يعتبر فيه أن يكون عارفاً بمصالح القتال، فلو أخل بشرط مما ذكرناه لم يصح حكمه، لكن يردون إلى مأمنهم. ولا يضر كونه أعمى وإن ضر في ولاية القضاء على المذهب؛ لأنه هاهنا يحكم بما اشتهرت به أحوالهم، وتظاهرت به أخبارهم، فاستوى فيه الأعمى والبصير، كما استويا في الشهادة بالاستفاضة. وكذا يجوز أن ينزلوا على حكم اثنين؛ لأن اجتهادهما أقوى، فإن اتفقا فذاك، وإن اختلفا لم ينفذ حكمهما، وردوا إلى القلعة، إلا أن يتفقوا على حكم غيرهما. ويجوز أن ينزلوا على حكم من لم يتعين في الحال إذا شرط تعيينه للمسلمين، أو لهم وللمسلمين في ثاني الحال، دون ما إذا شرط تعيينه للكفار خاصة، قال

في "المرشد": إلا أن يشترطوا فيمن يعينونه الصفات التي ذكرناها؛ فيجوز، وكذا هو في "الرافعي". ولو صولحوا على تحكيم أسير في أيديهم، قال الماوردي: فإن كان في وقت اختيار التحكيم أسيراً، لم يصح، وإن كان قد أطلق قبل تحكيمه كرهناه وصحن وكذا لو عقد الصلح على تحكيم رجل قد أسلم منهم قبل الصلح، يصح ويكره. قال: ولا يحكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين من القتل والاسترقاق والمن والفداء؛ ليعلو الإسلام على الشرك، حكى الروياني: أنه لا ينفذ حكمه بالمن على جميعهم، واستغربه. ويجوز أن يحكم بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم، كما فعل سعد بن معاذ، وتكون أموالهم غنيمة. ويجوز أن يحكم باسترقاق من أسلم منهم، وقتل من أقام على الكفر، وهذا في حق المقاتلة، أما غيرهم من النسوان والصبيان والمجانين، فالتخيير فيهم يكون بين المن والاسترقاق، فإن اختار الاسترقاق لمي كن له بعد المن إلا برضا الغانمين، كما فعله – عليه السلام – حين جاءه وفد هوازن، فلم يترك لهم سبيهم حتى استطاب قلوب الغانمين، وأخبره عرفاؤهم بإذنهم، صرح به الماوردي وغيره، والحديث أخرجه البخاري وأبو داود. قال: وإن حكم بعقد الذمة لم يلزم؛ لأنه عقد معاوضة فلم يجز بدون الرضا، وهذا ما جزم به الماوردي، وهو الأصح في "الجيلي"، فعلى هذا: لو رضوا بعقدها، لزم الصلح، وإن امتنعوا بلغوا المأمن. وقيل: يلزم؛ لأنهم نزلوا راضين بحكمه، وهذا أصح عند النواوي وصاحب "المرشد"، وقال الرافعي: إن الميل إليه أكثر، فعلى هذا: إن تابوا كانوا بمثابة أهل

الذمة إذا التزموا الدية، ثم امتنعوا عن أدائها، وسيأتي حكمهم إن شاء الله تعالى، قاله الإمام وغيره. قال الرافعي: وقد أجري الوجهان فيما إذا حكم بالمفاداة. قال: وإن حكم بقتل الرجال، ورأى الإمام أن يمن عليهم – جاز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهب لثابت الأنصاري الزبير بن باطا اليهودي وذريته وماله، بعد أن حكم سعد بقتل الرجال من بني قريظة، وسبي ذراريهم، وأخذ أموالهم. وهكذا لو رأى الحاكم أن يمن عليهم، جاز كما قاله في "المهذب". ولو حكم بالقتل وأخذ المال، فعفا الإمام عن واحد منهم وماله – جاز؛ لحديث ثابت، صرح به ابن الصباغ. ولو أراد الإمام أن يسترق من حكم بقتله، قال في "المهذب" و"التهذيب": لم يجز؛ لأنه [لم] ينزل على هذا الشرط. وهذا ما حكى عن الصيدلاني، وحكى الإمام معه وجهاً آخر: أنه يجوز؛ لأنه دون القتل، والإمام لا يزيد على حكم الحاكم، وله أن ينقص عنه إذا رأى فيه المصلحة. قال: وإن نزلوا على حكم حاكم، فأسلموا قبل أن يحكم بشيء – عصم، أي: الإسلام دماءهم وأموالهم، وحرم سبيهم؛ لما ذكرناه من خبر ابني سعية. قال: وإن أسلموا بعد الحكم، أي: بقتل الرجال وسبي الذراري وأخذ الأموال، كما صوره أبو الطيب – سقط القتل؛ لزوال سببه، هو الكفر، وبقي الباقي؛ لأنه لا ينافي الإسلام كما ذكرناه في الأسير ولأنه متعلق بحقوق المسلمين؛ فلا يجوز إبطاله عليهم. ويجوز أن يكون مراد الشيخ: سقط القتل إن كان قد حكم به، وبقي الباقي إن كان المحكوم به غير القتل؛ لما ذكرناه، وكذا صور الجيلي، وعلى هذا: إن كان المحكوم به القتل، فقد قلنا: إنه سقطن قال ابن الصباغ والروياني وغيرهما:

وليس للإمام أن يسترقه. وقال الإمام: إن هذا بناء على منع استرقاقه مع بقائه على الكفر كما ذكرناه، أما إذا قلنا بجواز استرقاقه مع بقاء الكفر فهاهنا يجوز [له] أن يسترقه، وإن حكم بالاسترقاق، فإن أرقه قبل إسلامه فلا كلام، وإن أسلم قبل أن يرق، فكلام الشيخ يقتضي بقاءه، وهو الأشبه في "الرافعي" وفي "الوسيط"، أما إذا قلنا: الاسترقاق فوق القتل، لم يجز استرقاقه. ثم محل بقاء حكم المفاداة إذا كان له عشيرة [يأمن] معها على نفسه ودينه كما ذكرناه في الأسير. قال: وإن مات الحاكم قبل الحكم ردوا إلى القلعة، أي: إن لم يتفقوا على حاكم غيره؛ لأنه لا يجوز تحكيم غيره لعدم الرضا به، ولا يجوز اغتيالهم؛ لأنهم نزلوا على أمان؛ فتعين درهم إلى مأمنهم وهي القلعة. فرع: لو صالح زعيم القلعة على أمان مائة نفس منهم، صح الأمان للحاجة، ويعين الزعيم مائة، فإن عد مائة وأغفل نفسه جاز قتله. روي أن أبا موسى الأشعري – رضي الله عنه – حاصر مدينة السوس فصالحه دهقانها على أن يؤمن مائة رجل من أهلها، فقال أبو موسى: إني لأرجو أن يخدعه الله عن نفسه، فلما عينهم قال له أبو موسى: أفرغت؟ قال: نعم، فأمنهم وأمر بقتل الدهقان، فقال: أتغدرني وقد أمنتني؟! فقال: أمنت العدة التي سميت، [ولم تسم] نفسك. قال: ويجوز لأمير الجيش أن يشترط للبدأة والرجعة ما رأى على قدر عملهم. البدأة –بفتح الباء وإسكان الدال وبعدها همزة -: السرية الأولى التي ينفذها الحاكم على الجيش أول ما يدخل بلاد العدو.

والرجعة – بفتح الراء – السرية الثانية التي ينفذها بعد رجوع الأولى. وقيل: البدأة: ابتداء السفر، والمراد بها السرية التي يبعثها متولي الجيش قبل دخوله دار الحرب مقدمة له، والرجعة: التي يأمرها بالرجوع بعد توجه الجيش إلى دار الإسلام. وهذا ما أورده الإمام، وقال الرافعي: إنه المشهور، ووجه ما ذكره الشيخ: ما روى أبو داود بإسناده عن حبيب بن سلمة الفهري قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم [نَفَلَ الرُّبُعَ فِي الْبَدْأَةِ والثلث فِي الرَّجْعَةِ، وروي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم] كَانَ ينفل فِي الْبَدْأَةِ الرُّبُعَ، وَفِي الْقُفُولِ الثُّلُثَ. وفاضل بينهم؛ لأنهم في البدأة مستريحون لم يطل بهم السفر والكفار في غفلة، والإمام [من] ورائهم يستظهرون به، وكل ذلك في الرجعة بخلافه، قال الإمام: وقد يكون الأمر على العكس بأن يقدر الكفار على أهبتهم في الابتداء؛ فتعظم مصادمتهم، ويقدرون مفلولين في الانتهاء؛ فيسهل الكر عليهم. ولا يتقدر النفل بالثلث والربع؛ لأن ما فعله [رسول الله] صلى الله عليه وسلم كان اتفاقاً لرأي رآه [في] ذلك الوقت لا تقديرا، فرجع فيه إلى رأي الإمام كما تقتضيه المصلحة حتى يجوز له أن يجعل للبدأة أكثر مما يجعل للرجعة إذا مست الحاجة إليه. قال: من خمس الخمس، أي: الحاصل عند الإمام، أو من الذي يحصل من

المشركين على حسب ما تقتضيه المصلحة، ووجهه: ما روى أبو الزناد عن سعيد بن المسيب قال: كان الناس يعطون النفل من [خمس] الخمس، ولأنه سهم المصالح وهذا من المصالح. والنفل: بالتحريك والتخفيف كما قاله المحاملي، وسمي بذلك؛ لأنه زيادة على السهم الراتب، كما سميت صلاة التطوع نافلة؛ لأنها زيادة على الصلاة الراتبة، ثم هل يشترط أن يكون ما يشترطه معلوما؟ قال الأصحاب: إن كان من المال الحاصل عند المسلمين فلابد من معرفته؛ للقدرة عليه، وإن كان من المال الذي يؤخذ من المشركين جاز أن يكون مجهولاً لكن مقدراً بالجزية كالثلث والربع، كما ذكرناه من حديث حبيب. قال ابن الصباغ: فإن قيل: قد روى ابن عمر أنه – عليه السلام – بعثه في سرية قبل نجد، [فغنموا] إبلاً كثيراً وكانت سهامهم اثني عشر بعيراً، [أو أحد عشر بعيراً] ونفلهم بعيراً بعيراً، وذلك أكثر من خمس الخمس – قيل: يحتمل أمرين: أحدهما: أن الغنيمة كانت إبلاً وغير إبل، وإنما كان السهم من الإبل اثني عشر بعيراً. والثاني: أنه يحتمل أن يكون نفل ما زاد على خمس الخمس من بيت المال، [أو من المال] الذي يختص به وهو أربعة أخماس الفيء، وهذا ما أورده العراقيون، والقائل به جعل الثلث والربع في الحديث قدر ثلث سهامهم [وربع سهامهم] من خمس [الخمس]؛ لأن الغنيمة مقسومة على جميع الجيش، ولا يجوز هذا القائل أن يكون ما يجعله للسرية من غير خمس الخمس، حتى [إنه] لو رأى أن يخصصهم بأعيان ما أتوا به غرم لباقي الجند مقدار

النفل من خمس الخمس كما صرح به الإمام، وقد أول آخرون الثلث والربع في الحديث على ثلث خمس الخمس وربعه، ووراؤه – فيما إذا كان النفل من أموال المشركين- قولان أو وجهان، أو قول ووجه حكاهما الرافعي، وكذا الماوردي حيث حكى عن ابن أبي هريرة أنه [قال: "إنه] كالرضخ": أحدهما: أنه من رأس مال الغنيمة كالسلب ونحوه ثم يقسم الباقي، وينسب هذا إلى رواية القاضي الحسين عن القديم، والقائل به قال: إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للبدأة والرجعة ثلث ما غنموا أو ربعه. وكان يليق أن يذكر في طريقة العراق أيضاً؛ لأن هذا التأويل مذكور في "الشامل" وغيره من كتبهم. والثاني: أنه من أربعة أخماس الغنيمة، ثم يقسم الباقي منها بين أصحاب النفل وسائر الجيش، والقائل به جعل الثلث والربع في الحديث ثلث أربعة أخماس الغنيمة وربعها، ويشهد له ما خرجه أبو داود وابن ماجه عن حبيب بن سلمة أنه – عليه السلام – كَانَ يُنَفِّلُ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ، وفي رواية لأبي داود عنه: أنه – عليه السلام – كَانَ يُنَفِّلُ الرُّبْعَ بَعْدَ الْخُمُسِ إِذَا قَفَلَ. ومحل جواز النفل إذا دعت غليه الحاجة، وهو أن يكون بالمسلمين قلة وبالمشركين كثرة، ولهم شوكة؛ [فيشترط ذلك] تحريضاً لهم على القتال، فأما إذا كانوا مستظهرين عليهم فلا حاجة به. قال الشافعي – رضي الله عنه-: وذلك أن أكثر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فيها أنفال؛ فعلم أنه إنما فعل ذلك عند الحاجة، ولأنه من سهم المصالح، فلا يدفع إلا عند المصلحة.

ولو فعل بعض الجيش البدأة أو الرجعة من غير أن يشترط لهم الإمام شيئاً لم يستحقوا النفل، صرح به الإمام. قال: ويجوز أن يشترط، أي الحاكم على الجيش لمن دله على قلعة، أي: للكفار لا يعرفها أو لا يعرف طريقها 0 جعلا، أي: من خمس الخمس الذي في أيدي المسلمين، أو مما يغنمه من القلعة، لأن في ذلك مصلحة للمسلمين، وكذا يجوز اشتراط الجعل لمن دله على طريق قريب من الكفار، أو سهل كثير الماء والعشب، كما صرح به أبو الطيب وغيره. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجه اقتضى إيراده ترجيحه: أنه لا يجوز أن يكون المجعول له مسلما؛ لأنه إذا حضر يندب إلى الدلالة أو يؤمر بها، ونسب الجواز إلى قول أبي إسحاق. قال: فإن كان المجعول له كافراً؛ جاز أن يجعل له جعلا مجهولا، أي: مما يأخذه من القلعة، كقوله: لك ثلث ما تغنمه منها أو ربعه، كما قاله أبو الطيب، أو لك منها جارية سماها له كبنت رئيس القلعة أو جاريته، أو لم يسمها، بل قال: جارية، وأطلق، ونحو ذلك؛ لأنها معاملة مع الكفار جوزت للضرورة فاغتفرت فيها الجهالة، وقد روي أنه – عليه السلام – صالح بني النضير على أن يأخذوا ما يسوقونه من الإبل إلا المال والسلاح، وهذا مجهول وغير مملوك. وعن ابن كج وجه فيما إذا لم يسم الجارية: أنه لا يجوز، وهو محكي في "تعليق" القاضي الحسين – [أيضاً] – وإيراد الماوردي مائل إليه؛ حيث قال في تصوير المسألة: إذا سمي الجارية، وكذا البندنيجي وأبو الطيب صوراها بما إذا [كان] شرط بنت رئيس القلعة، لكن الذي صححه القاضي الحسين والرافعي: الأول، أما إذا كان الجعل مما في [يد] المسلمين من المال؛ فلا يجوز أن يكون مجهولاً، كما صرح به أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما؛ للقدرة على نفي الجهالة، وهذه المسألة تلقب بمسألة العلج، والعلج: اسم للكافر الفظ الغليظ

الشديد، مأخوذ من المعالجة وهي المجالدة، ومنه قوله – عليه السلام-: "الدعاء والبلاء يعتلجان في الهواء"، أي يضطربان ويتدافعان، فيدفع الدعاء البلاء، وسمي العلاج علاجاً؛ لأنه يدفع الداء. ولو كان المجعول له مسلماً فيجوز شرط الجعل المعلوم له، وهل يجوز شرط المجهول؟ فيه وجهان حكاهما الفوراني: أحدهما: وينسب إلى ابن أبي هريرة: أنه لا يجوز؛ لأنه عقد يشتمل على أنواع من الغرر فلا يجوز مثله مع المسلم الملتزم للأحكام، ويخالف الكافر؛ لأنه إنما جاز معه للحاجة؛ فإنه أعرف بطرق قلاعهم غالباً. وهذا أصح عند القاضي الحسين والإمام، وهو الذي يفهمه كلام الشيخ. والثاني: أنه يجوز؛ لأنها جعالة يجوز عقدها مع الكافر؛ فجازت مع المسلم كسائر الجعالات، وأيضاً فللعقد تعلق بالكفار فاحتملت فيه الجهالة، وإن جرت مع مسلم كشرط النفل للبدأة والرجعة، وهذا ما قال الرافعي: [إن أصحابنا العراقيين قالوا به] وهو كذلك في كتبهم، وقد يستدل له بما روي أنه – عليه السلام – قال: "مُثِّلَتْ لِيَ الحِيرَةُ، وَأَنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَهَا"، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَبْ لِي بِنْتَ بُقَيْلَةَ، فَقَالَ: "هِيَ لَكَ"، فَلَمَّا فَتَحَهَا أَصْحَابُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَعْطَوهُ الْجَارِيَةَ، فَقَالَ أَبُوهَا: أَتَبِيْعُهَا مِنِّي، فَقَالَ: نَعَمْ بِأَلْفٍ، فَأَعْطَاهُ الأَلْفَ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ طَلَبْتَ ثَلاَثِينَ أَلْفاً أَعْطَاكَ، فَقَالَ: وَهَلْ عَدَدٌ أَكْثَرُ مِنَ الأَلْفِ. ورأى الإمام تخصيص الوجهين بما إذا جوزنا استئجار المسلم على الجهاد،

فإن لم نجوزه لم تصح هذه المعاملة مع المسلم، ولا يستحق أجرة المثل؛ كما لا يستحق الجارية المسماة. [قال:] وإن قال: من دلني على القلعة الفلانية، فله منها جارية، أي: بالشرط الذي ذكرناه، فدله عليها ولم تفتح – لم يستحق شيئاً؛ لأنه لما شرط جارية منها صارت جعالته مستحقة بشرطين: الدلالة، والفتح، فلم يستحقها بأحد الشرطين، وهذا بخلاف ما لو جعل لمن دله على القلعة شيئاً في غيرها؛ فإنه يستحقه بالدلالة، وإن تعذر الفتح، كما قاله الماوردي وابن الصباغ؛ لأنها معلقة بشرط واحد، وهو الدلالة وقد وجد، وهذا ما جزم به الماوردي وصححه القاضي أبوا لطيب والإمام. وقيل: يرضخ له؛ لأجل تعبه ودلالته للمسلمين وليس بشيء؛ لما ذكرناه. وفي "الحاوي": أنه يستحب أن يرضخ له، وفي "إبانة" الفوراني وجه: أنه يستحق أجرة المثل للدلالة. ومحل ذلك: إذا أطلق العقد، أما إذا شرط له منها جارية إذا فتحت فلا يستحق شيئاً قولاً واحداً. نعم، لو أمكننا الفتح فلم نقاتل، فهل يستحق الدلال والحالة هذه شيئاً؟ قال الإمام: هذا محل التردد. ولو لم يتفق الفتح في تلك الدفعة، فعاد الأمير مرة أخرى وفتحها – ففي استحقاق الجعل وجهان في "الحاوي" وغيره، وقال الإمام: إن كان عودنا إليها مستنداً إلى الدلالة الأولى ولولاها لما عدنا، فيظهر هاهنا تسليم الجارية إليه، وإن اتفق ذلك لكوننا رُمنا غيرها؛ فوقعنا عليها من غير استمساك بالإعلام الأول، فهاهنا يظهر الاحتمال، والأصح: أنها لا تسلم له؛ فإن المعاملة الجارية بيننا وإن كانت مطلقة فهي من طريق العرف مقيدة باتصال الفتح بالدلالة، وهذا الظهور جرى منقطعاً، وبالجملة فلا يبعد ترتيب بعض الأحوال على بعض، ولا يخلو كل منها عن الخلاف.

وعن ابن كج حكاية الوجهين فيما إذا دلنا على قلعة ابتداء، ولكنا فتحناها بطريق آخر لا بدلالته، وبناهما على أن الاستحقاق يثبت بنفس الدلالة، أو لا يستحق إلا إذا حصل الفتح بدلالته. ولو فتحها غير المدلول؛ لم يستحق الدليل شيئاً؛ لأن الشرط لم يجر معه. قال: وإن تحت صلحا، وامتنع صاحب القلعة من تسليم الجارية، أي: لدخولها في شرط الصلح معه، مثل أن يصالحه المسلمون على أنه وأهله آمنون، والباقون يسبون، وكانت الجارية من أهله. قال: وامتنع المجعول له من قبض قيمتها، أي: أو مثلها - فسخ الصلح؛ لتعذر الوفاء به، فإنه اجتمع أمران متنافيان ولا سبيل إلى إسقاط أحدهما، فعلى هذا يردون إلى القلعة، ولهم تحصينها كما كانت بغير زيادة ولا نقصان، وهذا ما أورده الفوراني والقاضي الحسين والإمام، وحكاه [القاضي] أبو الطيب عن النص، وقال هو والفوراني: إنا نبدأ بالعرض على الرئيس، ونشترط له فيه إعطاء عوضها، فإن أبي عرضنا الأمر على [الدليل. وفي "الحاوي" و"النهاية": أنا نبدأ بالعرض على الدليل، فإن امتنع عرضنا الأمر على] صاحب القلعة. وفي "المهذب" و"الشامل" حكاية وجه عن أبي إسحاق: أن الجارية للدليل، وشرطنا في الصلح لا يصح؛ لأن الدليل استحقها قبل الصلح؛ فأشبه ما لو تزوج امرأة ثم زوجت من غيره. قال الماوردي: وهو خطأ؛ لأن الدليل لو عفا أمضينا الصلح، ولو فسد؛ لم يصح إلا بعقد جديد. التفريع: إن قلنا بالأول، فردوا إلى القلعة، ثم فتحها الإمام عنوة - استحق الدليل الجارية، ولو لم يفتحها، ففي الغرم للدليل قولان في "تعليق" القاضي الحسين،

ووجه الغرم: أنها وصلت إلى يد الإمام، فتفويتها عليه سببه الأمان، ولو رضي صاحب القلعة بتسليم الجارية، غرم له قيمتها من بيت المال. صرح به القاضي الحسين والبغوي، وفي "الشامل" و"تعليق" البندنيجي: أنها تكون من مال الرضخ؛ فيكون فيه الأقوال الثلاثة. قال: وإن فتحت عنوة، أي: قهرا، وعينها مفتوحة، وقد أسلمت الجارية قبل الفتح، أي: وكانت حرة – دفع إليه قيمتها؛ لأنها بالإسلام منعت نفهسا من الاسترقاق، فلا يمكن دفعها إليه، ودفعت إليه قيمتها؛ لأن كل عين لو كانت باقية على الرق، استحق أخذها، فإذا كانت كالفائتة بالحرية، رجع إلى قيمتها؛ كما إذا فسخ البائع البيع بعيب في الثمن، وقد أعتق المشتري المبيع، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة على أن يرد عليهم من نسائهم من أسلم، فكان يردهن عليهم، فلما أنزل الله – تعالى – تحريم ذلك ورد ما أنفقوا، بقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} الآية، فكان من أسلم من النساء يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أزواجهن بمهورهن. وهذا ما أورده القضاة الماوردي وأبو الطيب والحسين، وصححه الفوراني والإمام. قال الماوردي: وسواء في ذلك الدليل المسلم والكافر، وقيل: لا يستحق شيئاً؛ لأن الشرع منع من استرقاقها؛ فألحقت بالمعدومة. وفي "الرافعي" حكاية [وجه] عن ابن سريج: أن في المسألة قولاً آخر، [وهو] أن الجارية تسلم إليه؛ لأنه يستحقها قبل أن أسلمت، والمذهب: الأول. فأما لو أسلمت بعد الفتح، سلمت إلى الدليل إن كان مسلما، وإن كان كافراً انبنى على صحة شراء الكافر المسلم، فإن صححناه استحق الجارية، ويمنع منها حتى يزيلها عن ملكه، أو يسلم فيستحلها، فإن لم يفعل ذلك بيعت عليه جبرا

ودفع إليه ثمنها، وإن منعنا البيع فلا يستحق الجارية ويدفع إليه قيمتها، فإن أسلم من بعد لم يستحقها؛ لانتقال حقه منها إلى قيمتها. قاله الماوردي. وفي "الرافعي" حكاية طريقة أخرى عن أبي الطيب بن سلمة: أن في استحقاقه البدل في هذه الحالة الخلاف المذكور في الموت. وقد أشار إليه الإمام؛ حيث قال في بعض التصانيف: جعل إسلامها – إذا كان المجعول له كافراً – كموتها على وجه. فيجيء فيه التفصيل الذي سنذكره في الموت. قال: وإن ماتت قبل الفتح، ففيه قولان: أحدهما: يدفع إليه قيمتها كما لو أسلمت؛ لأنه ممنوع منها في الحالين، وقاسه البندنيجي على ما لو كان الجعل ثوباً فبان مفقوداً. والثاني: لا شيء له؛ لأن الميتة غير مقدرو عليها، فصار كما لو لم يكن فيها جارية؛ فإنه لا يستحق شيئاً، وخالفت التي أسلمت؛ فإنه منع الشرع منها مع القدرة على تسليمها. [قال الماوردي: وعندي أن الأولى من إطلاق هذين القولين: أن ينظر: فإن ماتت بعد القدرة على تسليمها] استحق قيمتها، وإن ماتت قبل القدرة على التسليم فلا شيء له، ويجوز أن يكون إطلاق الشافعي محمولاً على هذا التفصيل. وسلك الفوراني طريقاً آخر، فقال، إن ماتت [قبل الظفر بها فلا شيء له، وإن ماتت [بعد الظفر، فقولان: أحدهما: يستحق قيمتها. والثاني: لا شيء له. وفي "النهاية"، طريقة أخرى: أنها إن ماتت]] بعد الظفر بها دفع إليه قيمتها، وإن ماتت قبل الظفر فقولان. ولم يورد القاضي الحسين في تعليقه سوى هذه، وحكى الإمام وجهاً: أنا إذا غرمنا له إنما نغرم [له] أجرة مثله،

ومحل الغرم: مالُ الرضخ، [صرح به الإمام]. فرع: إذا لم يكن في القلعة سوى الجارية، ففي "الإبانة" حكاية وجهين: أصحهما- في "الرافعي" -: أنها تسلم للدليل؛ عملاً بالشرط. الثاني: لا؛ لأن هذا تنفيل، ولا يجوز للإمام أن ينفل جميع الغنيمة، قال الإمام: وهذا إذا لم يتمكن من ملك تلك القلعة؛ لكونها محفوفة بالكفر، ويعسر تخليف جمع يقومون بحفظها عن الكفار، أما إذا أمكن فيجب القطع بتسليم الجارية. ولو لم يكن في القلعة جارية أصلاً في حال العقد، قال الماوردي: فإن وجدت في غيرها، فإن كانت من أهلها فهي كما لو كانت فيها، وإن لم تكن من أهلها فلا شيء للدليل. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه يرضخ له؛ لأنه فعل ما أمكنه، ولا ذنب له في عدمها؛ لأنه بالجملة أعاننا. ولو قال: من دلني على القلعة فله كذا، وكانت بقربه، فقال له شخص: ها هي ذي – ففي استحقاقه الجعل وجهان في "تعليق" القاضي الحسين وغيره: وجه المنع: أن الدلالة لا تكون في الشيء الذي نشاهده، وإنما يسمى هذا إخباراً. [وعن] ابن كج: أن المذهب استحقاق الجعل إذا فتحت؛ كما لو قال: من جاءني بعبدي الآبق فله كذا، فوجده إنسان في البلد وجاء به. قال: ويجوز قطع أشجارهم، [أي]: بعد الفراغ من القتال؛ لقوله تعالى: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} الآية [التوبة:120]، وقوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا ....} الآية [الحشر: 5]، وسبب نزولها: أنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بقطع نخل بني النضير، قال واحد من الحصن: إن هذا فساد يا محمد وإنك تنهي عن الفساد،

فقال المسلمون: يا رسول الله، هل لنا من أجر أو علينا من وزر في ذلك؟ فنزلت. وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم النخيل بخيبر وبالطائف، وهي آخر غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم كُفِيَ فيها القتال. قال: وتخريب ديارهم؛ لقوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] وبالقياس على قطع النخيل. قال: فإن غلب على ظنه أنه يحصل لهم، فالأولى ألا يفعل ذلك؛ حفظاً لها على المسلمين، وهذا ما روي عن الشيخ أبي حامد. وقيل: يحرم؛ نظراً لهذه العلة، وهو ما أورده القاضي الحسين، وحمل ما جرى منه – عليه السلام – على حالة غلبة الظن بعدم بقائها للمسلمين. وقد حكى الوجهين جميعاً في "المهذب"، ومحلهما: إذا دخل مُغِيراًن أما إذا فتحها وأمن أهلها فلا يجوز قطعها جزماً، وكذلك التخريب. وفي "الحاوي": أن محل الجواز إذا كان القطع والتخريب يضعفهم وينفعنا، وكذا لو كان لا ينفعنا، لكن مع كراهة، ولو كنا نعلم أنا لا نصل إليهم إلا بالقطع والتخريب وجب، وإن فقد ذلك كله فهو محظور؛ لان [ذلك] مغنم. قال: ولا يجوز قتل البهائم؛ لما روي الشافعي – رضي الله عنه – بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَتَلَ عُصْفُوراً [فَمَا فَوْقَهَا] بِغَيْرِ حَقِّهَا، سَأَلَهُ اللهُ – تَعَالَى- عَنْ ذَلِكَ، قِيلَ: وَمَا حَقُّهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَنْ يَذْبَحَهَا فَيَاكُلَهَا، وَلاَ يَقْطَعَ [رَاسَهَا] فَيَرْمِيَ بِهَا". وقد نهى [النبي] – عليه السلام – عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة، ولأنها ذات روح لها حرمة؛ فلم يجز إتلافها غيظاً للمشركين، كما في النساء والصبيان. ولا فرق في ذلك بين ألا يقع في أيدينا، أو يقع ويخشى أن ينزع، أو تعذر سوقها ونقلها إلى دار الإسلام، كما ذكره أبو الطيب وغيره، وهذا بخلاف ما ليس بحيوان؛ فإنا إذا تعذر علينا حمله أو خشينا أخذه أتلفناه.

قال: إلا إذا قاتلوا عليها، أي: فيجوز قتلها؛ توصلاً إلى قتلهم؛ لما روى أبو داود ومسلم "أَنَّ فِي غَزَاةِ مُؤتَةَ، رَأَى رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ رَجُلاً مِنَ الرُّومِ وَعَلَيهِ لأمَةٌ حَسَنَةٌ، تَلْمَعُ بِالذَّهَبِ، وَهُوَ مُعَدُّ لِلْمُسْلِمِينَ وَالنِّكَايَةِ فِيهِمْ، فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَطَائِفَةً مِنَ جِلْدِ جَمَلٍ كَالدَّرَقَةِ، وكَمَنَ لَهُ وَرَاءَ حَجَرٍ، فَلَمَّا جَاوَزَهُ ذَلِكَ الرُّومِيُّ خَرَجَ مِنْ وَرَائِهِ، فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ فَسَقَطَ إِلى الأَرْضِ، فَجَلسَ عَلَى صَدْرِهِ وَذَبَحَهُ، وَأَخَذَ لامَتَهُ وَسِلاَحَهُ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ؛ فَأَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيهِ صلى الله عليه وسلم عَقْرَه الفَرَسَ". وكذلك يجز قتل الخيل إذا حصلت في أيدينا وخشينا أن يأخذها العدو [ويقاتلنا] عليها، على الصحيح في "ابن يونس"، وفي "تعليق" البندنيجي أنه لا نص في ذلك، والذي يجيء على المذهب: أنه يجوز قتلها إذا خشينا من أخذها الهزيمة، دون ما إذا لم نخش الهزيمة إذا أخذوها، والله اعلم. قال: وتقتل الخنازير؛ لأنه يحرم الانتفاع بها، وقيل: إذا لم يكن فيها عدوى لم تقتل، وهذا ما أفهمه نصه في "سير" الواقدي؛ حيث قال: يقتل إن كان فيه عدوى. وأما الكلاب فقد قال الشافعي – رضي الله عنه-: إنها تقتل أو تسيب. قال القاضي أبو الطيب: وليس هذا على ظاهره، وإنما أراد أنها تقتل إن كانت عقورة، وتسيب إن لم تكن كذلك، يعني: ولا منفعة فيها، وإلا فإذا كانت منتفعاً بها فسنذكر حكمها، إن شاء الله. قال: وتراق الخمور، وتكسر الملاهي، كما لو وجدت في يد مسلم. قال القاضيان الحسين وأبو الطيب: فلو كانت ظروف الخمور جوابي يزيد كراء نقلها على قيمتها كسرت؛ كي لا ينتفعوا بها.

قال: ويتلف ما في أيديهم من التوراة والإنجيل؛ لأنه لا يحل للمسلمين تمولها كما نقله البندنيجي، ولا حرمة لها؛ لتبديلها؛ فوجب إتلافها كالخمور. وكذا كتب السحر [وما لا] منفعة فيه كما قاله أبو الطيب، وكتب الهجو كما قاله القاضي الحسين. ثم إتلافها يكون بغسلها إن أمكن الانتفاع بوعائها، بأن كانت في رق، وإن كانت في ورق مزقها، بحيث تصلح لعمل الكاغذ، وتباع، ولا يجوز إحراقها؛ لما في ذلك من إتلاف ماليتها. والقاضي أبو الطيب خص ذلك بما إذا أمكن بيعها بعد التحريق، فإن كانت مما لا يشترى أحرقت. وعن "البحر": أن التوراة والإنجيل لا يحرقان على الصحيح؛ لما يهما من اسم الله تعالى. قال: ويجوز أكل ما أصيب في الدار، أي: دار الحرب، من الطعام، أي: سواء أذن فيه الإمام أو لم يأذن؛ لما روى أبو داود عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – "أَنَّ جَيْشاً غَنِمُوا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَعَاماً وَعَسَلاً فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمُ الْخُمُسُ". وروي أن عبد الله بن أبي أوفى سئل عن طعام خيبر: أَخَمَّسَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، كَانَ أَحَدُنَا يَاخُذُ مِنْهُ قَدْرَ حَاجَتِهِ، وَيَتْرُكُ البَاقِي". وروى أبو داود عن عبد الله بن مغفل قال: "دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شِحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَالْتَزَمْتُهُ قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ: لاَ أُعْطِي مِنْ هَذا أَحَداً الْيَوْمَ شَيْئاً قَالَ: فَالْتَفَتْ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَبْتَسِمُ إِلَيَّ" وأخرجه البخاري ومسلم. وروي عن عبد الله بن عمر قال: "كُنَّا نُصِيبُ فِي دَارِ الْحَرْبِ العَسَلَ وَالفَوَاكِهَ،

فَكُنَّا لاَ نُعْطِي أَحَداً مِنْهَا شَيْئاً". وروي أن سلمنا الفارسي جاء إلى مولاه سويد في نفر من المسلمين يوم المدائن، فقال: يا سويد، عندك ما نأكل؟ فقال: ما عندي شيء ولكني خرجت في آثار المشركين، فوجدت سلة مخيطة لا أدري ما فيها، ففتحت فإذا فيها خبز وجبنة، وسكرة، فجعل سلمان يلقي إليهم من الخبز ويقطع من الجبنة بالسكين، ويلقي إليهم يأكلون. والمعنى فيه: أن الحاجة تدعو إليه؛ فإن الطعام يعز في دار الحرب، وقد يفسد إلى أن ينقل، أو يتعذر نقله، أو تزداد مؤنة نقله على ثمنه؛ فجعله الشرع لأجل ذلك على الإباحة. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن جميع الطعام مباح أكله لهمن ويدل عليه قوله: وتعلف منه الدواب. [والذي] أطبق [عليه الأصحاب: أن المباح] الطعام المحتاج إليه عادة كالقوت وأدمه من زيت أو شيرج وسمن ولحم وجبن؛ للحديث، وفي الفواكه وجهان في "النهاية". قال الإمام: ويمكن أن يفصل بين ما يتسارع إليه الفساد ويشق نقله وبين غيره. وفي "الوسيط" في إباحة الفواكه الرطبة وجهان، وهو يفهم الجزم بالمنع في غيرها، والجمهور جوزوا البسط في الكل، ولم يذكروا خلافاً، وألحقوا بذلك الحلوى. وأما ما لا يحتاج إلى أكله عادة، بل للتداوي، ففي إباحته ثلاثة أوجه في "الحاوي": أحدها: أنه ممنوع منه إلا بقيمته، وبحسب على [من أخذه] من سهمه،

وهذا ما أورده القاضيان أبو الطيب والحسين وكذا الإمام، وقال: إن الكر والفانيذ من ذلك. والثاني: أنها مباحة؛ لأن الضرورة إليها أدعى، فكانت بالإباحة أولى. والثالث: إن كان لا يؤكل إلا تداويا حسب على الآخذ من سهمه، وإن كان يؤكل للدواء وغيره، لم يحسب عليه. وقطع بالمنع في الدواء الذي يطلى به في حق نفسه ودابته. وفي "النهاية" حكاية وجهين في جواز أخذ الشحوم والأدهان كتوقيح الدواب، وهو مسحها بالذائب والمغلي منها؛ لجربها، وأصحهما – وهو المنصوص في "سير" الواقدي -: المنع. قال الرافعي: وعلى مقابله ينبغي أن يجوز الأذهان بها. قال: ويعلف منه الدواب التي لا يستغني عنها في الحرب: كفرسه، والبهيمة التي يحمل عليها [قماشه] وسلاحه وماءه؛ لأن أمير جيش لعمر – رضي الله عنه – كتب إليه يستأذنه في طعام بلد دخلوه، فكتب إليه: "فَلْيَاكُلُوا وَلْيَعْلِفُوا دَوَابَّهُمْ، وَلاَ يَبِيعُوا بِذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ". والتبن والقت ملحق في هذا بالشعير، فيجوز. أما ما لا يحتاج إليها في الحرب، بل هي مستصحبة للزينة والفرجة: كالفهود والنمورة والبزاة، فلا يجوز أن يطعمها من مال أهل الحرب، وما حمله استظهاراً لحاجة ربما دعت إليه كالجنيبة "يستظهر بها" لركوبه، أو دابة يستظهر بها لحمولته، ففيها وجهان في "الحاوي"، والمذكور منهما في "تعليق" أبي الطيب في الجنيبة: الجواز، وهو الذي رجحه الرافعي، وفي "تعليق" البندنيجي الجزم بالمنع. قال: ويجوز ذبح ما يؤكل للأكل؛ لأنه مما يؤكل في العادة فهو كاللحم، وذبحه منزل منزلة معاناة طبخ اللحم، وهذا ما جزم به القاضيان [الحسين

وأبو الطيب] والبندنيجي. قال: من غير ضمان، يعني: لا ضمان عليه في الصور الثلاث التي ذكرناها؛ لما ذكرناه من الأدلة. وقيل: يجب ضمان ما يذبح؛ لأن الأخبار إنما وردت في الطعام، وليس المذبوح بطعام في عينه؛ ولذلك يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلاً، وليس كذلك اللحم، ولأن اللحم لا يمكن نقله، وهذا يمكن نقله. قال: وليس بشيء؛ لأنه لو وجب الضمان لم يجز الذبح، ولجرى مجرى سائر الأموال، وقد وافق هذا القائل على جوازه كما حكاه الإمام وأفهمه إيراد الشيخ وابن الصباغ، وفي "الرافعي" حكاية وجه في "البيان": أنه لا يجوز؛ لأن الحاجة إليه تندر، وهو محكي في "تعليق" أبي الطيب؛ لأنه يمكن نقلها. ثم على المذهب: يجب رد الإهاب إلى المغنم إن لم يكن مأكولا مع اللحم. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين الغنم وغيرها، وهو ما قال الرافعي: إنه الذي يوجد للمعظم تصريحاً [ودلالة] وإنه الوجه، ولم يورد ابن الصباغ والبندنيجي غيره، والقاضي أبو الطيب صور المسألة في الغنم، وسكت عما عداها. وقال الإمام: إن الذي يتيسر سوقه من الحيوانات يساق، والأغنام تذبح، والأصح: أن مسلكها مسلك الأطعمة؛ فإن الأغنام في الشرع كالأطعمة الضائعة؛ ولهذا قال- عليه الصلاة والسالم – في ضالتها للسائل عنها: "هِيَ لَكَ أَوْ لأخِيكَ أوْ لِلذِّئْبِ". وقال العراقيون: الأغنام تذبح وإن تيسر سوقها، ولكن هل يغرم؟ فيه وجهان، وعلى ذلك جرى الغزالي. وتلخيص ذلك: أن غير الغنم لا يذبح إذا أمكن سوقه، والغنم تذبح، وعند المراوزة: لا ضمان كما في اللحم، وعند العراقيين في الضمان في حالتي إمكان السوق وعدمه وجهان. وقال الرافعي: إن إيراد الغزالي يفهم اختصاص الوجهين بما إذا أمكن السوق،

والقطع بعدم الضمان إذا لم يمكن، ثم قال: ولا يبعد على قول من يمنع مِنْ ذبح ما سوى الغنم أن يمنع من ذبح الغنم التي يمكن سوقها. أما الذبح لغير الأكل كما إذا احتاج بعض الغزاة إلى جلد جمل أو بقرة؛ ليَقُدَّ منه سيورا، أو يعمل منه دَرَقة وما أشبهه - فلا يجوز له الذبح لأجل ذلك؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لا لمأكلةٍ، فإن خالف وذبح فهل يضمن اللحم أم لا؟ فيه وجهان في "تعليق" أبي الطيب وغيره. وأما الجلد فيجب رده إلى المغنم، فإن قد منه مراده، ضمن ولزمه رده وأجرة مثله في تلك المدة، وما نقص من أجرة الجلد بالاستعمال، نص على ذلك الشافعي - رضي الله عنه - قال القاضي أبو الطيب: وهذا بمنزلة ما قال الشافعي في كتاب الغصب: إذا غصب رجل ثوباً ولبسه وأخلقه، ما الذي يجب عليه؟ فيه قولان: أحدهما: رده وأجرة مثله في تلك المدة وما نقص من قيمته باللبس. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمرين: أحدهما: أنه لا فرق في إباحة الطعام والعلف بين أن يكون الآكل والعالف محتاجاً إلى ذلك، أو لم يكن محتاجاً إليه؛ لكون ما معه قدر حاجته من ماله، كما أن له أخذ الماء المباح وإن كان معه، وهو الظاهر من المذهب. نعم، يشترط ألا يأخذ إلا قدر ما يكفيه في الحال، أو فيما بين يديه لقطع المسافة كما قاله في "التهذيب"، وقد يستدل له بما ذكرناه من حديث عبد الله بن مغفل. وعن [ابن] أبي هريرة: أنه لا يجوز إذا لم يكن [به] حاجة، كما لا يجوز [للمضطر] أكل طعام الغير إلا للحاجة. قال الماوردي: وهو خطأ؛ لوجهين: أحدهما: أن المضطر لا يباح له إلا عند خوف التلف، وقد أباح هاهنا وإن لم يخف التلف. والثاني: أن المضطر ضامن، وهذا غير ضامن، وأيضاً فإنه غير مقتصر فيه

على ما يحتاج إليه، بل يجوز أكل الفاكهة والحلوى عند الجمهور. وعلى كل حال لا يملك المأخوذ ما دام في دار الحرب كما صرح به البندنيجي والإمام وغيرهما، وإن جاز له أكله، ويدل عليه: أنه لو أتلفه أو أطعمه لغير الغانمين ضمنه، كما صرح به الرافعي وغيره، ولا يجوز أن يأكل فوق الحاجة، فلو فعل فقد حكى الروياني عن النص: أنه يؤدي ثمنه إلى المغنم. الأمر الثاني: أنه لا فرق بين أن يجد المسلمون في دار الحرب أسواقاً يتمكنون من الشراء منها أو لا، وقد حكى الغزالي في حالة التمكن وجهين. ورأى الإمام القطع بالجواز؛ لأنهم نزلوا دار الحرب في أمر الطعام منزلة السفر في الترخص؛ فإن القصر وإن ثبت لمشاقِّ السفر، فالمترفه الذي [لا] كلفة عليه يشارك فيه المشقوق عليه. قلت: والخلاف في هذه الصورة قريب الشبه من الخلاف فيما إذا كان معه قدر حاجته من الطعام، بل ينبغي أن يترتب فيقال: إن جوزنا البسط له ثم فهاهنا أولى، وألا فوجهان؛ لأن ثمَّ المحتاج إليه في ملكه، وهاهنا يحتاج إلى تحصيله، وقد يتعذر. نعم، قال الأصحاب: لو كان لجماعة من الكفار معنا مهادنة، وكانوا لا يمتنعون عن المبايعة والمشاراة مع الذين يطرقونهم من المسلمين – فالأظهر: وجوب الكف عن أطعمة المغنم وإن لم تكن ديار المهادنين معزية إلى دار الإسلام. فرع: إذا قل الطعام وازدحم الجند فقد حكى الإمام عن المحققين أن قائد الجند إذا استشعر النزاع أثبت يده على الطعام، وقسمه على قدر الحاجات، ويقول لمن معه ما يكفيه: اكتف بما معك [ولا] تزاحم أصحاب الحاجات، وإن كنت تشاركهم فيه لو اتسع الطعام. آخر: هل يلحق ما بين عمران دار الإسلام ودار الحرب [بدار الحرب] في جواز أكل الطعام وعلف الدواب؟ فيه وجهان، أشبههما – وبه أجاب

الروياني -: نعم؛ لبقاء الحاجة الداعية إليه؛ فإنهم لا يجدون من يشترون منه، ولا يصادفون سُوقاً. قال: وإن خرجوا إلى دار الإسلام ومعهم شيء من الطعام ففيه قولان: أحدهما: يجب رده إلى المغنم، أي: إن كان قبل القسمة، وإلا فإلى الإمام، كما قاله ابن الصباغ وغيره. ووجهه: أنه أبيح له أخذه في دار الحرب؛ لأجل كونها مظنة الحاجة، وقد زالت، وهذا ما نص عليه في "المختصر" ورجحه القاضي الحسين والرافعي. والثاني: لا يجب؛ لما روي أبو داود عن القاسم مولى عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كُنَّا نَاكُلُ الْجَزُورَ فِي الغَزْوِ وَلاَ نَقْسِمُهُ، حَتَّى إِنْ كُنَّا لَنَرْجِعُ إِلَى رِحَالِنَا وَأَخْرِجَتُنَا مِنْهُ مُمْلأَةٌ"؛ ولأن ما كان أحق به في دار الحرب كان أحق به في دار الإسلام؛ [كما لو احتطب أو احتش أو اصطاد وخرج به إلى دار الإسلام]، وهذا ما نص عليه في "سير" الأوزاعي. قال البندنيجي: وعلى هذا: فيكون قد ملكه بالإخراج ملكا ينفرد به، وقيل: القولان إذا كان قليلاً، أما لو كان كثيرا، وجب رده قولا واحداً، وهذا ما اقتصر الغزالي على إيراده، وهو منسوب إلى الشيخ أبي محمد، وقال في "المهذب" بعد حكايته: والصحيح الأول، وعليه جرى الجمهور. ورأى الإمام القطع بالقول الأول فيما إذا حمل الغازي من الطعام ما يغلب على الظن – مع السير الدائم وتواصل التناقل – أنه يفضل منه شيء عند الاتصال بدار الإسلام، وأن محل التردد إذا كان المحمول لا يبعد استنفاق كله، وهذا يؤخذ من كلام الفوراني؛ حيث صور محل القولين بما إذا أخذ قدر كفايته فلم يتفق أكله، ولو صح الحديث الذي ذكرناه لكان فيه رد عليهما. لكن القاسم تكلم فيه غير واحد، والوصول إلى دار يقطنها أهل الذمة أو العهد – وهي في قبضة المسلمين – بمثابة ديار الإسلام فيما نحن فيه؛ لأن

الرافعي جعلها كذلك في منع التبسط بأكل الطعام فيها. فرع: إذا لحق الجند مدد بعد انجلاء الحرب وحيازة المغنم، هل لهم أن يتبسطوا في أطعمة المغنم كما يتبسط فيها الغانمون؟ فيه وجهان في "النهاية"، وأصحهما في "الرافعي": المنع. تنبيه: المغنم: الموضع الذي تجمع فيه أموال الغنيمة، ويقال [له]: القَبَض، بقاف وموحدة مفتوحتين وضاد معجمة. مسألة: إذا أقرض واحد من الغانمين الطعام الذي أخذه لكفايته واحداً من الغانمين، فعند الشيخ أبي حامد والجمهور: أن القرض لم يصح، وكذلك البيع، لكن المقترض أحق به. لثبوت يده عليه، ولا يلزمه رده إلى الأول، فإن رده إليه صار أحق به؛ لثبوت يده عليه. وقال القاضي أبو الطيب: إنه يصح البيع والقرض؛ لأن الشافعي – رضي الله عنه- نص على أنه: إذا تبايع رجلان طعاماً بطعام في بلاد العدو، فالقياس: أنه لا بأس به. ثم قال: وإذا قلنا بصحة البيع والقرض، كان بدلهما لنفسه. وهذا الكلام منه يحتمل أنه أراد به: ما داما في دار الحرب، ويحتمل أنه أراد به ذلك، وما إذا خرج إلى دار الإسلام، والذي يرجح الثاني ما حكاه المحاملي: أنه إذا خرج المقترض من دار الحرب معه الطعام، إن قلنا: إن له أن ينتفع بما معه من الطعام، لزمه أن يرده للمقرض. لكن الذي حكاه الإمام عمن صحح القرض – وهو الصيدلاني وغيره من المحققين – أن محل جواز المطالبة دارُ الحرب إذا كان عين المقرَض باقية، أو وجد مثلها من طعام دار الحرب ون مال نفسه، أما بعد الخروج إلى دار الإسلام، أو عدم الطعام في دار الحرب، فلا مطالبة، ثم قال: وللإمام إذا كان الطعام المقترض باقياً، وقد دخل به [إلى] دار الإسلام – أن يأخذه ويرده إلى المغنم، فإن تفرق الجند وعسر فض ذلك عليهم، فقد قال الصيدلاني: يضمه

إلى خمس الخمس، وقيل: سبيله سبيل الفيء، ولو كان الطعام تالفاً حين خرجوا إلى دار الإسلام، فالذي قطع به كل محقق: أنه لا يطالب المقترض بشيء. ثم قال: والحكم في البيع كالحكم في القرض. ولو باع الطعام بغيره من نقد وغيره، لم يصح جزماً، صرح به ابن الصباغ، ويشهد له أثر عمر، رضي الله عنه. قال: وما سوى ذلك من الأموال، أي: وإن قلت، لا يجوز لأحد أن يستبد به، أي: ينفرد به ويستقل؛ لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنفال: 41]، والاستبداد مخالف لها. وروي أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في حديث طويل: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دنا من بعير فأخذ وَبَرَةً من سنامه، ثم قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ لِي مِنْ هَذَا الْفَيْءِ شَيْءٌ وَلاَ هَذَا- وَرَفَعَ إِصْبَعَهُ – إِلاَّ الْخُمُسَ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ؛ فَأَدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ"، فقام رجل في يده كبة من شعر، فقال: أخذت هذه؛ لأصلح بها بردعة لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا [مَا] كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكَ"، فَقَالَ: أَمَّا إِذْ بَلَغَتْ مَا أَرَى فَلاَ أَرَبَ لِي فِيهَا وَنَبَذَهَا" وأخرجه النسائي.

وروى أبو داود عن رويفع بن ثابت: أنه – عليه الصلاة والسلام – قال: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَلْبَسْ ثَوْباً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ] حتى إذا اخلقه رده فيه". قال: فمن أخذ [منه] شيئاً، وجب [عليه] رده إلى المغنم؛ لما ذكرناه، فلو دعت حاجته إلى استعمال شيء منه، أخذه بإذن الإمام وحسب عليه. قال الروياني: ويجوز أن يستأذنه في لبس ما دعت حاجته [إليه] مدة حاجته بالأجرة، ثم يرده إلى المغنم. قال: وله قول آخر، إذا قال الأمير: من أخذ شيئاً فهو له – صح، ومن أخذ شيئاً ملكه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "مَنْ أَخَذَ شَيْئاً فَهُوَ لَهُ"، وهذا أخذ من قول الشافعي – رضي الله عنه- في "الأم": وذهب بعض الناس- يعني: أبا حنيفة – إلى جوازه، ولو ذهب إليه ذاهب لكان له تأويل، أو لكان مذهبا. قال الإمام: وهذا متجه في طريق الإقالة، وله [نظير في مورد] الشرع، وهو

اختصاص القاتل بالسلب، وعلى هذا قال الإمام، فيكون بمثابة التنفيل الذي سبق، ويزول الخلاف في وجوب الجبران من خمس الخمس كما تقدم في البدأة والرجعة، ومحله قبل حيازة المغانم، فأما بعدها فلا، [هكذا اقتضاه] كلام الأصحاب كما قاله الإمام، وفي "الحاوي": [أن] محله إذا قال الإمام ذلك قبل الوقعة. قال: والأول أصح؛ لما ذكرناه مع قوله – عليه السلام -: "الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ"، فلم يجز أن يختص بها بعضهم، ويخالف السلب؛ فإن سبب التخصيص به التحريض على القتال وكفاية الشر، وهذا عكسه؛ لأنه يشغل وأطبق الأصحاب على ترجيحهن وقالوا: ما روي أنه – عليه السلام – قاله يوم بدر لا يثبت، وإن ثبت لم يكن فيه دليل؛ لأن غنائم بدر كانت خالصة له صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء؛ ولذلك أسهم فيها لعثمان وكان بالمدينة، وهذا فيه نظر؛ لأن هذا القول إن صح فالظاهر أنه قاله قبل حيازة الغنائم، وغنائم بدر إنما جعلت له بعد ذلك، ويدل عليه أنه جاء في مسلم: أن مصعب بن سعد – وهو ابن أبي وقاص – روى عن أبيه قال: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بسيف، فقلت: يا رسول الله، إن الله قد شفي صدري اليوم من العدو، فهب لي هذا السيف، فقال: "إن هذا السيف ليس لي ولا لك"، فذهبت وأنا أقول: يعطاه اليوم من لم يُبْلِ بلائي، فبينا أنا إذ جاءني الرسول فقال: أجبن فجئتن فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ سَأَلْتَنِي هَذَا السَّيْفَ وَلَيْسَ هُوَ لِي لَكَ وَإِنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَهُ لِي فَهُوَ لَكَ ثُمَّ قَرَأَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}، وإذا كان كذلك،

لم يكن جعلها له قادحاً في دلالة الخبر. نعمن الجواب الصحيح: أن الآية الدالة على التخميس نزلت بعد بدر؛ فكان العمل عليها، وقد يمنع أن قوله – عليه السلام-: "مَنْ أَخَذَ شَيْئاً فَهُوَ لَهُ" كان قبل نزول الآية. قال: ومن قتل من الكفار، [كره] نقل رأسه من بلد إلى بلد؛ لأنه لم يعهد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا له فائدة، وقد روي أن جماعة نقلوا رءوس الكفار من قتلى دمشق في زمن أبي بكر – رضي الله عنه – إلى المدينة، فقال: لا تنقلوا هذه الجيف إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يخالفه أحد، وهذا ما ذهب إليه الشيخ أبو حامد.

قال الإمام: وهذه المسألة لا نص فيها للشافعي- رضي الله عنه – والكراهية قياس مذهبه. وقال شيخي: قصة أبي بكر –رضي الله عنه – يمكن حملها على تنزيه الحرم عن نقل جيف الكفار، فلو [كان] نقل الرءوس فاجعاً في الكفار، فهو ضرب من التنكيل، فإذا رآه الإمام، لم يكن في تجويزه بعد، مع نفي الكراهة، وما صار إليه الشيخ أبو محمد قد أبداه الماوردي احتمالاً لنفسه، وزاد عليه فقال: إن ذلك مستحب، بعد أن قال: إنه لا نص للشافعي – رضي الله عنه – في المسألة، كما قاله الإمام. قال: وإن غلب الكفار المسلمين على أموالهم، لم يملكوها؛ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]؛ فلو ملكوها لكان لهم عليهم سبيل. وقوله- عليه السلام -: "لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"، وكما لا يملكونها لا يضمنونها إذا أتلفوها، وهم أهل حرابة على المشهور. وحكى القاضي الحسين أن المزني قال في "المنثور": إذا عقدت الذمة للمتلف ضمن ما أتلفه؟ فلو كان المغلوب عليه أمةً، وقد وطئها الكافر، فعلقت منه [بولد- فإن] الولد لسيدها المسلم، ولا يلحق نسبه بالحربي، فلو أسلم الواطئ، قال الشافعي – رضي الله عنه -: كان الولد له. قال ابن سريج: وهذا أراد به الشافعي – رضي الله عنه – إذا كانت قد علقت [بعد أن أسلم]، وأما إن علقت قبل الإسلام فلا يكون له، قال أبو الطيب: والفرق أنها إذا علقت بعد

الإسلام فهو معتقد أنها ملكه، وله في مال المسلم [شبهة، والنسب] يلحق بالشبهة، والكافر لا شبهة له في مال المسلم بحال. فرع: لو دخل واحد من المسلمين دار الحرب، فرأى مالا لغيره قد استولى عليه المشركون –جاز له أخذه؛ ليرده إلى صاحبه، وهل يضمنه؟ فيه طريقان: أحدهما: أن فيه قولين؛ كما في أخذ العين المغصوبة ليردها [إلى صاحبها]. والثاني: القطع بعدم الضمان، والفرق: أنه في الغصب ينقلها من يد ضامنها، وليس كذلك هاهنا، قاله القاضي الحسين وغيره. قال: فإن استرجعت، أي: استرجعها المسلمون من الكفار، وجب ردها على أصحابها؛ لما روى الشافعي – رضي الله عنه – بسنده عن عمران بن الحصين – رضي الله عنه -: أَنَّ جَارِيَةً مِنَ الأَنْصَارِ أُسِرَتْ، وَكَانَتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العَضْبَاءُ أُصِيبَتْ قبلَهَا، فَكَانَتْ تَكُونُ فِيهِمْ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي انْفَلَتَتْ مِنْ وَثَاقِهَا، فَجَاءَتْ إِلَى الإِبِلِ، فَرَكِبَتْ نَاقَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَطَلَبَتْ نَاحِيَةَ الْمَدِينَةِ، فَطُلِبَتْ مِنْ لَيْلَتِهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيهَا، فَجَعَلَتْ للهِ عَلَيهَا إِنْ نَجَّاهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ، قَالُوا لَهَا لاَ تَنْحَرِيهَا حَتَّى تُخْبِرِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأُخْبِرَ صلى الله عليه وسلم بِخَبَرِ الْجَارِيَةِ، فَقَالَ: "سُبْحَانَ اللهِ، بِئْسَ مَا جَازَتْهَا"، قَالَ: [لاَ] وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِيمَا لاَ يَمْلِكُهُ العَبْدُ، وَلاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِيمَا لاَ يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ"، وَأَخَذَهَا مِنْهَا. وكذا [لو] لم تسترجع، [ولكن] من هي في يده أسلم؛ فإنها تنزع من يده، فترد لمالكها، فإن تلفت في يده بعد التمكن من الرد ضمنها، وإن تلفت قبلهن قال القاضي الحسين: يجب أن يقال: لا تضمن. قال: فإن لم يعلم حتى قسم عوض [صاحبها] من خمس الخمس؛ جبرا

لحقه، ولا نفسخ القسمة؛ لحصول المقصود، والمراد بالصاحب هاهنا: من وقعت في سهمه من الغنيمة لا مالكها الأصلي. قال القاضيان الماوردي والحسين: وهذا [إذا] شق نقض القسمة، فأما إذا لم تشق نقضت ولا تعويض. وفي "الجيلي" وجه: أنه يسترد من كل سهم بقدر حصته بالتوزيع. ولو غلب بعض الكفار على بعض، فالمقهور يصير مملوكاً للقاهر، حتى لو قهر العبد سيده، عتق العبد وصار السيد رقيقاً له، كما حكاه القاضي أبو الطيب في كتاب الجزية، والهدنة، والإمام في آخر "النهاية"، لكن أبا الطيب فسر القهر بإخراجه إلى دار الإسلام، وللإمام شرط أن توجد صورة قهر الاستعباد، وأنه لا يشترط قصد الاسترقاق، ثم قال: وفيه نظر؛ فإن القهر قد يجري استخداماً، فلا يتميز قصد الرق إلا بقصد الإرقاق، ثم قال: ولو قهر حربي ابنه، وباعه من مسلم، فهل يصح ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه أجاب أبو زيد-: أنه يصح، ولا يعتق عليه؛ لان القهر سبب الملك، فإذا دام القهر دام السبب. والثاني- وهو اختيار ابن الحداد -: أنه لا يجوز البيع ولا يبقى [له] عليه ملكن وبهذا جزم أبو الطيب في كتاب "السير"، قال الإمام: وعلى هذا فيتجه أن نقول: لا يملك الأب ابنه بالقهر؛ لاقتران السبب المقتضي للعتق بالقهر، ولا يقال: قياس هذا ألا يصح - أيضاً - شراؤه؛ لأن جواز ذلك ذريعة إلى تخليصه من الرق، وهو لا يتأتى مع استمرار القهر [هنا]، والله أعلم. وقد نجز شرح مسائل الباب، فلنختمه بذكر فروع يسيرة تتعلق به: إذا قال الأمير: من غزا معي فله دينار، استحق كل من غزا معه ديناراً إذا كان مسلماً ليس من أهل الفيء، أو ذمياً دون أهل الفيء والمعاهدين.

قال الماوردي: ولا يدخل في ذلك النساء. بخلاف ما لو قال: من قاتل معي فله دينار؛ فإنه يستحقه من قاتل [معه] من الرجال والنساء؛ لأن الغزو حكم فتوجه إلى أهله، والقتال فعل فتوجه إلى من وجد منهن ولا يستحقه الصبيان في الحالين؛ لأن الجعالة عقد، فلم تصح إلا مع أهل العقد. ولا يدخل في ذلك العبيد إلا بإذن السادة، ولو حضر من يستحق الجعل [الصف] ولم يقاتل، فإن كان لفظه: من غزا معي، استحق، وإن قال: من قاتل، فلا. ولا يختص جواز هذه الجعالة بقدر الدينار، بل تجوز بما يراه الإمام، وإن زاد على سهم راجل أو فارس، إن كان المجعول له مسلماً وكذا إن كان كافراً على المذهب، وعند ابن أبي هريرة: لا يبلغ بها سهم راجل. ولو قال: جعلت لجميع من غزا معي ألف دينار، فإن كان المال في الذمة، استحق ذلك من اتصف بما ذكرناه في الجعالة السابقة، ويسوى بين المسلم والذمي، ومن يسهم له ومن لا يسهم له، ولا يدخل فيها من العبيد المأذون لهم إلا من لم يدخل فيها سيده؛ كيلا يؤدي إلى تفضيل السادة على غيرهم؛ لأن ما يجعل للعبد فهو لسيده. ويدخل في هذه الجعالة الصبيان، إذا لم يدخل فيها أولياؤهم. ولو كان الجعل معيناً بأن قال: قد جعلت لجميع من غزا معي هذا المال الحاضر، صح، وإن كان مجهولاً. لكن إن كان المال من مال الصدقات، لم يدخل فيها أهل الذمة ولا أهل الفيء من المسلمين، وإن كان من سهم المصالح فالحكم كما لو كان المال في الذمة، وإن كان المال من أربعة أخماس الفيء ففي الجعالة المعقودة به قولان من اختلاف القولين في وجوب مصرفه، فإن قلنا: مصرفه الجيش، بطلت، وإن [قلنا]: مصرفه المصالح، صحت.

ثم إذا غزا من أخرجه الشرع من هذه الجعالات، فهل يستحق شيئاً؟ قال الماوردي: إن كان عالماً بإخراجه فلا، وإن كان جاهلاً فوجهان، أحدهما: يستحق جُعل مثله؛ لأنه دخل في جعالة فاسدة، والله أعلم.

باب قسم الفيء والغنيمة

باب قسم الفيء والغنيمة "الغنيمة" و"المغنم": بمعنىً، وهو في اللغة مشتقة من "الغُنم"، وهو الفائدة الحاصلة بغير بدل. و"الفيء" مأخوذ من قولهم: فاء الفيء، إذا رجع، والمراد بالرجوع - هاهنا-: المصير، أي: صار للمسلمين. قال الإمام: واسم الفيء يطلق - في اللغة ووضع اللسان - على الغنيمة، انطلاقه على ما يظفر به من أموال الكفار من غير قتال، وهو منطبق على قول المسعودي وطائفة: إن كل اسم من المالين يقع على الآخر، إذا أفردا بالذكر، فإن جمع بينهما، افترقا كـ[اسمي "الفقير"] و"المسكين". وعن الشيخ أبي حامد القزويني وغيره: أن اسم "الفيء" يشمل المالين، واسم "الغنيمة" لا يتناول الفيء. وفي لفظ الشافعي - رضي الله عنه - ما يشعر به، وضابطهما في عرف الشرع مذكور في الكتاب، ويقال: غنم يغنم غنما، [بضم الغين]. قال- رحمه الله -: الغنيمة: ما أخذ من الكفار بالقتال، وإيجاف الخيل والركاب. الإيجاف: الإعمال، وقيل: الإسراع، والوجيف: ضرب من سير الخيل والإبل، يقال: وجف يجف - بكسر الجيم - وجفا: بإسكانها ووجيفا، وأوجفته أنا. والركاب: الإبل خاصة، قال الأزهري وغيره: هي الرواحل المعدة للركوب، ولا واحد لها من لفظها، بل واحدها: راحلة، وجمعها: ركب، ككتاب وكتب. فإن قيل: إيجاف الخيل والركاب ليس شرطاً في اسم الغنيمة؛ لأن ما حصل

من المال بقتال الرجالة وأصحاب السفن في البحر غنيمة، وليس فيه إيجاف خيل وركاب، وكذا القتال ليس شرطاً في اسم الغنيمة؛ فإن الصفين إذا التقيا وولانا الكفار ظهورهم، ومنحونا أكتافهم من غير [شهر] سلاح، فما تركوه- إذ ولوا منهزمين –مال مغنوم؛ كما صرح به الإمام في أثناء كلامه؛ فالحد الصحيح ما أورده الغزالي أن الغنيمة: كل مال أخذته الفئة المجاهدة على سبيل الغلبة [على الكفار]، دون ما يختلس ويسرق؛ فإنه خاص بذلك المختلس. قيل في الجواب عنه: إن كلام الشيخ محمول على الغالب، أو كما قال ابن عطية: إن المأخوذ بالسعي وإيجاف [الخيل] والركاب غنيمة، ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفاً له. وقد يقال: إن هذا السؤال إنما جاء من جعل "الواو" في قول الشيخ: "وإيجاف الخيل" للتشريك، والظاهر أن الشيخ لم يرده، وإنما أراد جعلها بمعنى: "أو"؛ لأن للواء اثني عشر موضعاً أو أحد عشر موضعاً، تستعمل فيه كما قاله أبو الحسن على ابن محمد الهروي النحوي في كتاب "الأزهية"، منها: أنها تستعمل بمعنى "أو"؛ كما في قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، وإن كان الزمخشري منع من استعمالها بمعنى "أو" في الآية المذكورة، ويدل عليه قوله: والركاب؛ فإنه لا يتبادر إلى الفهم اشتراط مجموع إيجاف الخيل والركاب في اسم الغنيمة، وإذا كان كذلك؛ فكأنه قال: الغنيمة: ما أخذ من الكفار بالقتال، أو بإيجاف الخيل، أو الركاب. وحينئذ يندفع السؤال، ولاندفاعه طريق آخر سأذكره في الباب الذي يليه، إن شاء الله تعالى. [فإن] قلت: يلزم من هذا أن يكون ما أخذ من الكفار عند انجلائهم بسبب حصول خيل المسلمين أو ركابهم في دار الحرب، وضرب معسكرهم، والبروز في مقاتلتهم –غنيمة، لأنه حصل بإيجاف خيل أو ركاب، وليس كذلك. قلت: قد حكى الإمام عن رواية الشيخ أبي علي وصاحب "التقريب" في ذلك

وجهين، فلعل الشيخ اختار جعله غنيمة، [وعلى مقابله – وهو الصحيح عند الإمام – وهو الصحيح عند الإمام – أنه لا يكون غنيمة]، بل فيئاً. ففي قوله: ما أخذ من الكفار، ما ينافي ذلك؛ فإنه ليس مأخوذاً منهم. نعم، لفظة "ما أخذ"، في قول الشيخ تدخل الكلب المنتفع به في الغنيمة، وليس بغنيمة عند العراقيين، فيقسم كما صرح به البندنيجي وابن الصباغ، [بل] قالوا: إن كان في الغانمين من يحل له اقتناؤه للزرع أو الماشية أو الصيد، دفع إليه، قال ابن الصباغ: ولا يحسب عليه، وإن لم يكن فيهم من يحل له اقتناؤه – لفقد ذلك يهم – دفعه إلى من هو محتاج إليه من أهل الخمس، [وهذا] قد حكاه القاضي الحسين عن نص الشافعي، رضي الله عنه. قال البندنيجي: وإن لم يكن في أهل الخمس من يل له اقتناؤه ترك. وهو كذلك في "الحاوي" وقال: إنه إذا دفعه إلى شخص لا يعوض الغانمين عنه؛ لأنه

ليس بمال. وقد حكاه الإمام عن العراقيين- أيضاً – حيث قال: إنهم قالوا: نسلمه إلى واحد من الغانمين لعلمنا باحتياجه إليه، ولا يكون محسوباً عليه. واعترض عليه بأن الكلب منتفع به؛ فليكن حق اليد فيه لجميعهم؛ كما أن [من] مات وله كلبن لا يستبد به بعض الورثة. قال الرافعي: والذي نجده في كتب العراقيين: أنه إن أراده بعض الغانمين، أو بعض أهل الخمس، ولم ينازع فيه –سلم إليه، وإن تنازعوا: فإن وجدنا كلاباً وأمكنت القسمة عدداً، قسمت، وإلا أفرع. وما قاله الرافعي لم أقف عليه فيما وقفت عليه منها، بل قال في "الشامل" بعد حكاية ما ذكرته عنه: ولم يذكر أصحابنا إذا تنازع فيها الغانمون، وأبدى ما ذكره ["الرافعي"] احتمالاً لنفسه فقال: ينبغي أن يكون الحكم في ذلك: أنه متى أمكن قسمتها بينهم عدداً من غير تقويم فعل، وإن لم يمكن ذلك، أقرع بينهم فيها. وليس ما أبداه الإمام من الإلحاق بالميراث، بالقوي؛ لأن الوراثة سبب قوي يحصل الملك مع عدم الرضا به، فجاز أن تنقل الاختصاصات، وسبب ملك الغانمين ضعيف؛ لأنه لا يحصل الملك أو لا يلزمه إلا بالرضا؛ فلا يلحق بالقوي. [وكذلك أعرض] الغزالي عن إبداء احتمال الإمام، وأورد ما ذكره العراقيون، واحترز عن إدخال الكلاب في الغنيمة بقوله: الغنيمة كل مال. ومن هذا الوجه كان ما ذكره الغزالي من الحد أولى، على أن لك أن تقول: في كلام الشيخ ما يخرجها أيضاً، وهو قوله: "ومتى تملك ذلك"، فنبه به على أن مراده بالأول: ما يقبل الملك، والكلاب لا تقبله، والله أعلم. وقد حكى الإمام عن رواية شيخه وجهاً في المال المسروق: أنه يكون غنيمة، عند الكلام في غزو طائفة بغير إذن الإمام، وضعفه بعد أن حكى – عند الكلام في التبسط في طعام أهل الحرب – إجماع الصحاب على مقابله، وهو

الذي أورده الفوراني قبيل كتاب قسم الصدقات، وصور الإمام محله بما إذا أمكن الوصول إلى مكان المال منه غير عدة ونصرة، بأن السارق يقصد تملك المال بإثبات اليد عليه، ومال الحربي غير معصوم؛ فصار سبيله سبيل الاستيلاء على المباحات، تملك بوضع اليد، وقد وجد، بخلاف مال الغنيمة؛ فإنه وإن حصل في يد الغانمين فليس مقصودهم الملك؛ إذ لا يجوز التغرير بالمهج لاكتساب الأموال، والغرض الأعظم إعلاء كلمة الله – تعالى- وقمع اعداء الدين، وللمقصد أثر ظاهر فيما يملك بالاستيلاء، وعلى ذلك ينطبق إيراد الشيخ، وما حكاه البغوي والفوراني من أن الرجل إذا دخل دار الحرب، وأخذ من حربي مالا بالقتال، يؤخذ منه الخمس والباقي له، وإن أخذه على جهة السوم، ثم جحد أو هرب، فهو له خاصة- فالمراد: ما إذا لم يكن قد صدر من أهل الحرب للمسلم أمان، أما إذا كان له منهم أمان، فلا يملكه، بل يجب عليه رده على من أخذه منه، فإن لم يفعل اجبر عليه إذا طلبه صاحبه، كما صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، والوجه المنقول عن رواية الشيخ أبي محمد، قال الرافعي: إنه الموافق لما أورده أكثرهم، وكأنهم جعلوا دخوله دار الحرب وتغريره بنفسه قائماً مقام القتال. قلت: وقد نأخذ ذلك من كلام القاضي الحسين، حيث جزم بأن الأسير في أيدي الكفار إذا أطلقوه، فاستولى على شيء من أموالهم – أنا حيث نجوز له اغتيالهم، فما يأخذه من المال ويخرجه من دار الحرب يكون غنيمة تخمس. ومن كلام الماوردي حيث جزم بأن المأخوذ خلسة وتلصصاً يخمس، لكنه قال في موضع آخر: إن أبا إسحاق المروزي قال في المختلس: إنه فيء؛ لأنه حصل بغير إيجاف خيل و [لا] ركاب. وهو الذي أورده في كتاب السرقة، وأبدى احتمالاً لنفسه: أنه يخمس، وقد أجاب القاضي أبو الطيب بمثله في التلصص حيث قال: إن ما أتوا به على وجه التلصص بخمس. وقال في موضع

آخر قبله في السلب: إنه مال خاطر بنفسه عليه؛ فلم يجز تخميسه؛ كما لو تلصص على الكفار في دار الحرب. فرع: إذا أهدى الكفار للمسلمين شيئاً، فهل يكون غنيمة أم لا؟ قال القاضي أبو الطيب: ينظر: فإن كان ذلك والحرب قائمة، فإنه يكون غنيمة لجماعة المسلمين، وإن كان بعد انقضاء الحرب، فهو لمن خص به دون غيره. وعلى [ذلك] جرى الماوردي وابن الصباغ في الرجل الواحد إذا أهدي إليه أميراً كان أو غيره. وجعل ابن الصباغ حكم الهدية قبل الخروج من دار الإسلام بمنزلة الهدية بعد انقضاء الحرب، ونسب ذلك إلى نصه في "حرملة"؛ ولأجل ذلك قال الرافعي: الوجه أن يجعل محل القول بأن المختلس والسارق يختص بما أخذه، إذا دخل الواحد أو النفر اليسير دار الحرب وأخذوا، فأما إذا أخذه بعض الجند الداخلين بسرقة أو اختلاس، فيشبه أن يكون غُلولاً. قال: ومتى يملك ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: بانقضاء الحرب؛ لأنه في أيدي الكفار قبل انقضائه، ولم يحصل في قهر المسلمين، وبعد انقضائه زالت أيديهم وقهروا، فحصل في ملك المسلمين؛ لوجود سببه وهو القهر. والثاني: بانقضاء الحرب وحيازة المال؛ لأن المال قبل حيازته معرض للاسترداد؛ فلا يكمل الاستيلاء عليه إلا بحيازته، قال القاضي الحسين: وحيازته الاستيلاء على أموالهم من غير منازعتهم. وقال النواوي: الحيازة والحوز: الجمع والضم، ويقال: حازه يحوزه واحتازه. وقد حكى القولين في الملك هكذا: الماوردي عند الكلام فيما إذا لحقهم مدد أو أسير، وكذلك ابن الصباغ حكى ذلك في موضعين، وقضية ذلك: أن المال متى حيز بعد انقضاء الحرب فقد ملكوا وجهاً واحداً. وعن المحاملي حكاية القولين فيما يثبت به الحق في الغنيمة، وقضيته: أن الحيازة إذا حصلت بعد انقضاء الحرب، فقد حصل الاختصاص قولاً واحداً.

ويظهر أن ما قاله المحاملي مخالف لما أورده الشيخ وغيره، و [إذا جمعت بينهما جاء في المسألة قولان: أحدهما: أنهم ملكوا بانقضاء الحرب والحيازة حقيقة. والثاني: أنهم لم يملكوا المال، بل ملكوا أن يتملكوه، وهو اختيار ابن سريج وابن خيران. وقد حكى القولين هكذا القاضي الحسين وغيره في كتاب الزكاة]. وقد يجمع بين الكلامين بالحمل على حالين، فيقال: ما أورده الشيخ يحمل على ملك جملة الغانمين، لا على ملك كل [واحد] منهم قدر ما يستحقه، ويحمل ما حكاه المحاملي على كل [واحد] من الغانمين؛ كما هو ظاهر النص في "المختصر" في كتاب الزكاة؛ حيث قال: ولو غنموا ولم يقسم المال حتى حال الحول، فقد أساء إن لم يكن عذر، ولا زكاة في فضة منها ولا ذهب، حتى يستقبل بها حولاً كاملاً بعد القسم؛ لأنه لا ملك لأحد فيه بعينه. ويدل على الحمل على هذين الحالين أن الماوردي قال في أوائل باب وقوع الرجل على الجارية قبل القسمة من كتاب "السير": إذا استقر الظفر بالهزيمة وحيزت الأموال والسبي فقد ملكها جميع الغانمين، [على وجه الاستحقاق، لا على وجه التعيين؛ كما يملك أهل السُّهمان الزكاة قبل دفعها. وأما كل واحد من الغانمين]،فإنما يملك بالحضور أن يتملك ولا يتعين إلا بالقسم؛ كالشفعة تملك الخليط بالبيع أن يتملك، ولم يتعين له الملك لمعنيين: أحدهما: أن حقه فيها يزول بتركه، وتعود إلى غيره كالشفعة. والثاني: لو تأخر قسمها حتى حال حولها، لم تجب زكاتها، ولو ملكت وجبت. وعلى ذلك ينطبق ما حكاه ابن الصباغ في الباب المذكور حيث قال: قال الأصحاب: إذا جمعت الغنائم ثبت لكل واحد من المسلمين حق الملك،

ولا يملك إلا باختيار التملك، سواء فيه ما قبل القسمة وبعدها، وهو كذلك في "تعليق" البندنيجي. لكن في كلام ابن الصباغ – في موضع آخر – ما يخالف ذلك؛ فإنه قال: إذا باع حصته من الغنيمة قبل القسمة، فإن كان قد اختار التملك صح؛ عن كان معلوماً، وإن لم يختر التملك قال أبو إسحاق: يصح إذا كان معلوماً؛ لأنه ملكه بالحيازة. ومن أصحابنا من قال: لا يملك البيع؛ لأن ملكه لم يستقر عليه. والوجهان يدلان على أن الواحد قد ملك قبل القسمة بالاحتياز. فإذا تقرر هذا، فللقولين فوائد: منها: إذا لحق من شهد الوقعة مدد بعد انقضاء الحرب وقبل الحيازة، فعلى القول الأول: لا يشاركهم المدد، قال ابن الصباغ: وهو المنصوص. وفي "الرافعي": أنه الصحيح، وعلى القول الثاني: يشاركهم، وهو المختار في "المرشد". وعن ابن كج: أنه حكى عن بعض الأصحاب أنه قال: إن كان لا يؤمن رجعة الكفار استحق، وإن كان يؤمن لم يستحق، ولو لحقوهم بعد الحيازة وقبل تقضي الحرب، فقضية ما ذكرناه انعكاس الحال. وفي "النهاية" حكاية القولين فيه، وقال القاضي الحسين: إن ذلك مرتب على الحالة الأولى، وهاهنا أولى بالمشاركة، فإن قلنا بعدمها، شارك [فيما حيز] بعد حضوره [جزماً. وقد تعرض لذلك بعض الأصحاب كما حكاه ابن كج؛ حيث قال: إنه يشارك فيما حيز بعد حضوره] دون ما حيز قبله، وهو في "الإبانة" أيضاً، ولو لحقهم قبل تقضي الحرب وقبل الحيازة، فلا خلاف في المشاركة. ومنها: إذا تخلص الأسير من يد العدو ولحق بالمسلمين، فإن كان قبل تقضي الحرب وحيازة المال، ففي "الحاوي" انه يستحق، قاتل أو لم يقاتل.

وفي "الشامل" و"تعليق" القاضي الحسين: أنه إن قاتل استحق، وإلا فوجهان أو قولان، ووجه المنع: انه حضر لخلاصه من الأسر لا للقتال؛ فلم يستحق السهم، وهذا كالخلاف في الأجير [والتاجر] كما سيأتي، وهذا بخلاف الكافر إذا أسلم ولحق بالصف قبل انقضاء الحرب والحيازة؛ فإنه يسهم له إذا قاتل، وكذا إن لم يقاتل، وأشار في "الوجيز" إلى وجه فيما إذا لم يقاتل بقوله: "استحق على [الأظهر] "، وهذا المشار إليه هو الذي أورده صاحب "الرقم" فيه. وفصل الفوراني في الأسير فقال: إن كان من هذا الجيش استحق إذا حضر الصف، قاتل أو لم يقاتل، وإن كان من جيش آخر، فإن قاتل استحق على الأصح، وإلا فقولان، وإنه خُرج فيه قول آخر إذا قاتل: أنه لا سهم له، وهو الصحيح في "الرافعي". ولو لحق الأسير بهم بعد انقضاء الحرب وقبل الحيازة، فعلى القول الأول: لا مشاركة، وعلى الثاني: أطلق الماوردي القول بالمشاركة، وفي "الشامل"أنه كذلك إن قاتل، وألا فوجهان على هذا القول. ومنها: لو أسلم واحد من الكفار بعد انقضاء الحرب، وقبل حيازة ماله، فعلى القول الأول: لا يؤثر إسلامه في إحرازه، وعلى الثاني: أحرزه إسلامه، كذا حكى القاضي الحسين الوجهين. ومنها: لو مات أحد من الذين حضروا الصف بعد تقضي الحرب وقبل الحيازة والإعراض عن القسمة، فعلى القول الأول: استحق ورثته ما كان له، وهو أصح في "التهذيب"، وعلى الثاني: [لا شيء لهم، قاله القاضي الحسين. ومنها: إذا مات فرسه قبل الحيازة وبعد انقضاء الحرب، فعلى القول الأول، له سهم الفرس، وعلى الثاني:] لا، قاله ابن الصباغ، وطرد ذلك فيما إذا أعار فرسه أو وهبه، وهذه طريقة، وحكى الإمام عن صاحب "التقريب" فيما إذا غنمت النساء ولم تقسم، هل يثبت الملك قبل القسمة للغانمين؟ ثلاثة أوجه تجري في سائر الأموال:

أحدها: لا يثبت لهم حقيقة الملك قبل [القسم، وإنما] يثبت لهم حق الملك؛ لأن من أعرض منهم سقط حقه، ولو ملكوا بالاستيلاء لاستقر ملكهم؛ كما يستقر ملك المصطاد والمحتش والسارق من مال الكفار من غير مطاردة وقتال. وهكذا أورد الحكم البندينيجي والقاضي أبوا لطيب، وكذا ابن الصباغ في كتاب الزكاة، واستدل له بأن الواحد منهم إذا سقط حقه سقط، ولو كانوا قد ملكوا الأعيان لم تسقط بالإسقاط؛ كالميراث. وأسند أبو الطيب هذا التعليل إلى أبي إسحاق. والوجه الثاني: أنه يثبت لهم ملك ضعيف؛ كما يثبت للمشتري في زمان الخيار على القول الصحيح؛ فإن سبب الملك الاستيلاء؛ فاستحال أن يثبت السبب ولا يثبت الملك، وأيضاً: فإن ملك الكفار زال، والأموال المغنومة أملاك محضة، ويبعد على مذهب الشافعي- رضي الله عنه – ملك [لا مالك له]. والوجه الثالث: أن ملكهم موقوف، فإن سلمت الغنيمة حتى قسمت، تبين لنا أنهم ملكوها لما غنموها، وإن لم تتفق القسمة حتى تلفت الغنيمة، أو أعرض من يريد الإعراض، فيتبين لنا أن الغنيمة لم تملك إن تلفت، ويتبين أنه [لم] يملكها من أعرض عنها، وهذا مع تعليل الوجه الأول يدل على أن الخلاف في ملك الواحد من الغانمين، على الإشاعة. ثم قال الإمام: والرأي الحق أنا لا نقول: نتبين أن حصة كل واحد من الغانمين كانت له على التعيين قبل القسمة. وحكى صاحب "التقريب" وجهاً غريباً مفرعاً على قول الوقف: أنا نتبين بالقسمة أن كل واحد منهم ملك الحصة التي أصابته عند الاستيلاء على المغنم، وهذا على نهاية البعد، وقد ظهر لك مما ذكرناه أن الواحد من الغانمين إذا أعرض قبل الرضا بالملك أو أسقط حقه نفذ إعراضه. قال الأصحاب: ويقدر كأنه لم يحضر مع الغانمين، وتقسم الغنيمة خمساً وأربعة أخماس، وهكذا أورده الإمام.

قلت: وحينئذ تكون فائدة إعراضه راجعة إلى الغانمين لا إلى أهل الخمس، وكلام الإمام في آخر الفصل – كما سنذكره – مصرح بأن نصيب المعرض يكون أربعة أخماسه للغانمين، وخمسه لأهل الخمس. وفيه وجه حكاه الرافعي: أنه يضم جميع نصيبه إلى الخمس، وهذا ما أبداه الإمام تخريجاً لنفسه مما سنذكره من تخريج ابن سريج، وقال: إنه تكلف، والمذهب الذي عليه التعويل: الأول، وهو إخراجه من البين. قلت: [وقضية ما حكيناه] في باب قتال المشركين عن ابن الصباغ من الجزم به فيما إذا كان قد أسر أباه وحده، واختار الإمام استرقاقه، فرد الآسر الملك – أن خمسه لأهل الخمس، والأخماس الأربعة [تكون لمصالح المسلمين – أن يكون هذا حكم نصيب الراد من جملة الغانمين، إلا أن يقال: إنما صرنا إلى ذلك ثَمَّ؛ لأنه تعذر الصرف للغانمين، ولابد من الصرف لجهة الخمس، وجهة أخرى، وهاهنا أمكن للصرف]، إلى جهة الغانمين؛ فلا ضرورة في صرفه إلى جهة المصالح. وفي كلام الإمام أن محل نفوذ الرد بالاتفاق إذا لم يفرز الإمام الخمس، وكان المعرض بعض الغانمين، أما إذا أفرزه، وأفرز ما يخرج من رأس الغنيمةن ولم يقسم ما للغانمين – فالمذهب وهو المنصوص: أن الإعراض نافذ أيضاً، وذكر ابن سريج قولاً مخرجاً؛: أنه لا ينفذ، ثم قال الإمام: والذي أراه: أن الإمام إن استبد بإخراج الخمس، فحقوق الغانمين لا تحول عما كانت عليه، وإن استقسموا الإمام، واستدعوا منه أن يميز الخمس فأجابهم، فهذا يشعر باختيارهم تأكيد حقوق أنفسهم. قلت: وهذا يظهر بناؤه على ما إذا قال الغانمون: اخترنا الغنيمة قبل القسمة، فإن الملك هل يلزم بذلك؟ فيه وجهان حكاهما الإمام، فإن قلنا: إنه لا حكم لذلك، بل لا تستقر الحصص إلا بالقسمة والإفراز – فلا اثر لما صدر من سؤال القسمة من طريق الأولى، وإن قلنا: إن ملكهم يستقر بذلك حتى لو فرض

إعراض- لم يؤثر، وهذا ما حكاه ابن الصباغ في كتاب الزكاة والرافعي عن الأصحاب ثم، وكذلك هاهنا في الواحد، فيظهر أن يكون محل التردد. وفي "التهذيب" حكاية القول المنصوص والمخرج فيما إذا أفرز الخمس، وأفرز نصيب كل واحد من الغانمين، أو أفرز [لكل] طائفة شيئاً معلوماً، وقال: إن الأصح نفوذ الرد وعدم الملك، وهو الذي أورده العراقيون. ولو أعرض جملة الغانمين فالذي ذهب إليه المحققون صحة ذلك، وتنعكس الأخماس الربعة إلى مصارف الخمس، وتوزع عليها. ومن أصحابنا من قال: إذا أعرضوا لم يسقط بإعراضهم شيء من حقوقهم، وهذا الترديد مرتب على ما هو المذهب من أن حصة المعرض نُقَضُّ على الخمس والأخماس الأربعة، ويظهر أن يجيء مثل ذلك فيما إذا كان الغانم واحداً وأعرض. وقد فرع الأصحاب على أقوال الملك فروعاً ضاق المحل عن الكلام فيها، فلنذكر ما يتيسر منها بعد فراغ مسائل الباب، إن شاء الله تعالى. قال: وأول ما يبدأ منه بسلب المقتول، فيدفع إلى القاتل؛ للحديث السابق، ولأن حقه متعلق بعينه، وسابق على الاغتنام، وكذا يبدأ بالرضخ إن قلنا: إنه من رأس [المال المغنوم]، كما يبدأ بأجرة النقال والحافظ ونحو ذلك. وفي "تعليق" القاضي الحسين في كتاب "السير": أن الإمام إذا رام نقل الغنيمة [إلى] دار الإسلام، فإن كان معه حمولة، حمل عليها، وإن لم يكن معه حمولة، فينبغي للمسلمين أن يحملوها بلا كراء إن كانت لهم حمولة، فلو امتنعوا فعلى قولين: أحدهما: يُكْرِي، ويكون الكراء على الغنيمة. والثاني: يجبر من معه فضل حمولة؛ لأنه موضع ضرورة.

فرع: لو أعرض ستحق السلب عنه، فهل يسقط حقه؟ فيه وجهان حكاهما الإمام: أحدهما: نعم؛ كما تسقط حصة الغانم من المغنم بذلك. والثاني: لا يسقط؛ لأنه متعين له، فصار كتعيين الحصة بالقسمة. قال: ثم يقسم الباقي، أي: بعد الحيازة وانقضاء القتال، على خمسة، [أي: عقاراً كان أو غيره]؛ لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال:41]، وإذا أخرج من مالٍ خُمسه، [كان] مقسوماً على خمسة. ثم بعد ذلك يأخذ خمس رقاع، فيكتب على واحدة: لله والمصالح، وعلى أربعة: للغانمين، ويدرجها في بنادق من طين متساوية، ويخرج لكل قسم رقعة، فما خرج عليه اسم الله تعالى جعله لأهل الخمس، والباقي للغانمين. قال الإمام: فلو ثبتت الأيدي صورةً على مغانم والحرب قائمة، والمطاردة قائمة، فاقتسموا في هذه الحالة – فالذي رأيت للأصحاب: أن [هذه] القسمة مردودة، ولست أبعد تخريج صحتها على القولين في أن المدد إذا لحق بعد وضع الأيدي والحرب قائمة هل يشارك أم لا؟ وهذا لابد من تخريجه. قال: فيقسم الخمس على خمسة أسهم؛ لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]. فإن قيل: [المذكور في الآية ستة؛ فينبغي] أن يقسم الخمس عليها كما صار إليه بعض العلماء، وجعل ما لله مصروفاً لرتاج الكعبة؟ قيل في جوابه: إن السنة ثبتت أن المصارف خمسة؛ فإن ابن عباس وابن عمر – رضي الله عنهما – قالا: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَسِّمُ الْخُمُسَ عَلَى خَمْسَةٍ.

وروى محمدبن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ إِلا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ"، فلو كان مقسوماً على ستة لقال: إلا السدس، وأما الآية فقد قيل: إنما أضيفت إلى الله – تعالى – تبركا بالافتتاح باسمه – عز وجل- وقيل: إن هذا الخمس لله؛ لأن مصارفه مصارف القربات، وقيل: أضيف إليه؛ قطعاً عما كانت الملوك تفعله قبل الإسلام، فإنها كانت تأخذ الخمس، وقيل: ليعلم أنه ليس مختصاً برسوله اختصاصاً يسقط بموته. فإذا تقرر ذلك، فهم أن المال كله يقسم على خمسة وعشرين جزءا؛ لأنه أقل عدد لخمسه خمس صحيح. قال: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف في المصالح، أي: سهم منها كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وهو الآن يصرف في المصالح. ووجه كون الخمس كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته قد تقدم، وروي أنه كان ينفق [منه] على نفسه وأهله وفي مصالحه صلى الله عليه وسلم، وما فضل جعله في السلاح عدة في سبيل الله – تعالى- وسائر المصالح. ووجه كونه بعد وفاته يصرف في المصالح، قوله صلى الله عليه وسلم في خبر ابن مطعم: "مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ إِلا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ"؛ فدل [برده على جميع] المسلمين على ثبوته لهم وإن تغير حكمه، لا على سقوطه، ولا يمكن رده على جميع المسلمين غلا بصرفه في مصالحهم؛ فتعينت، ولأنه سهم مستحق من سهام الخمس؛ فلم يسقط كسائر السهام. وحكى الإمام قولا: أن سهمه صلى الله عليه وسلم [بعد وفاته] يسقطن وتبقى القسمة على الأسهم الأربعة الباقية، ثم قال: وهذا غريب لم أره إلا في طريقة شيخنا أبي علي. وفي "الرافعي" أن أبا الفرج الزاز حكاه عن بعض الأصحاب؛ لأن الشافعي

- رضي الله عنه – حكاه عن بعض أهل العلم ثم استحسنه. وحكى الإمام –أيضاً – أن بعض العلماء ذهب إلى أن سهم [رسول الله صلى الله عليه وسلم] يصرف إلى خليفة الزمان، ولم يصح عندي نسبة هذا إلى أحد من أصحابنا، وفي بعض الطرق – يعني طريقة الفوراني، كما هو مذكور في "إبانته" – صيغة مخيلة لهذا المعنى؛ فإنه قال: ظاهر المذهب أن السهم الذي كان له – عليه السلام – لا يصرف إلى خليفة الزمان. فقوله: ظاهر المذهب، يشعر بخلافه، ولكنه إفهام لا حاصل له، وقد أقامه في "الوسيط" وجها لبعض الأصحاب. [قال: وأهمها سد الثغور، أي: بالرجال المقاتلة والعدد وإصلاحها؛ لأن بها يحفظ المسلمون. و"الثغور": جمع "ثغر"، وهو موضع المخافة]. قال: ثم الأهم فالأهم من أرزاق القضاة والمؤذنين، وغير ذلك من المصالح. قال: وسهم لذوي القربى، أي: لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم وبنو المطلب، أي دون غيرهم من بني عبد شمس ونوفل، وإن كان هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل أولاد عبد مناف؛ لما روي عن جبير بن مطعم قال: لما [قسم] رسول الله صلى الله عليه وسلم [سهم] ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب، أتيت أنا وعثمان بن عفان النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم؛ لمكانك الذي وضعك الله به منهم، فما بال إخواننا من بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا، وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُوا الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ" خرجه أبو داود والبخاري بنحوه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ"، يعني أنهم كانوا متناصرين لحلف عقدوه بينهم في الجاهلية، وتميزوا به عن بني عبد شمس

ونوفل لما كتبت قريش الصحيفة وتبايعوا على ألا يجالسوا بني هاشم ولا يبايعوهم ولا ينكاحوهم، وبقوا على ذلك سنة؛ ولهذا الحلف دخل بنو المطلب مع [بني] هاشم في الشِّعْب بـ"مكة" حين دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى بقول جبير وعثمان –رضي الله عنهما -: أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم، أن رسول الله صلى الله عيه وسلم [هو] محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وبقولهما: فما بال إخواننا من بني المطلب وقرابتنا وقرابتهم واحدة، أنا بنو عم؛ لأن جبيراً من بني نوفل، وعثمان من بني عبد شمس. وقد اختلف الأصحاب لأجل ما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم في سبب الاستحقاق على ثلاثة أوجه حكاها الماوردي: أحدهما: أنه القرابة [وحدها]، والمنع مع وجودها في بني عبد شمس ونوفل كان لسبب آخر؛ كما نقول في اثنين احدهما قاتل. والثاني: أنه القرابة والنصرة. والثالث: أنه القرابة والتقديم بالنصرة؛ كما نقول في أخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب. قال: للذكر مثل حظ الأنثيين. هذا الفصل يقتضي أمرين: أحدهما: أنه يصرف للإناث منهم، وقد وجهه الجيلي بأنه – عليه السلام – أسهم لأم الزبير من ذوي القربى، وقال غيره: إن الزبير أخذ من الخمس سهم أمه صفية بنت عبد المطلب، ولأن ما استحق بالقرابة اشترك فيه الرجال والنساء كالميراث. والثاني: التفاضل، ووجهه أنه مال مستحق بقرابة الأب بالشرع؛ ففضل فيه الذكر على الأنثى كميراث ولد الأب. وقال المزني وأبو ثور: إنهما يستويان كما في الوصية للأقارب.

قيل: وهذا خطأ؛ لأن اعتبارهم بالميراث أولى من الوصية؛ لأن السهم والميراث عطيتنا من الله تعالى، والوصية عطية من آدمي تقف على اختياره، وإنما سوِّي بين جميع الذكور وبين جميع الإناث، ولم تفوض القسمة إلى رأي الإمام كما [في] حق الفقراء؛ لأن الفقراء يأخذون للحاجة التي قد تختلف فيهم؛ فجاز أن يفضل بينهم لأجلها، وهؤلاء يأخذون لأجل القرابة، وهي لا تختلف؛ فوجب التسوية بينهم لأجلها. قال: ويدفع [إلى] القاضي، [أي]: البعيد، والداني منهم؛ لظاهر الآية. وقد روي أن الزبير كان يعمم بالعطاء الغائب عن موضع حصول الفيء والحاضر فيه، ولأنه سهم مستحق بالقرابة؛ [فيستوي فيه] القاضي والداني كالميراث. وقيل: يدفع ما يحصل في كل إقليم إلى من فيه منهم، أي: فالحاصل من كفار الروم [مثلا] يدفع سهم ذوي القربى منه إلى من في الشام والعراق من ذوي القربى، والحاصل من الترك يدفع إلى من بـ "خراسان"، لما في النقل من المشقة فالتحق بالزكاة. وهذا قول أبي إسحاق المروزي، وضعف بأنه يفضي إلى إعطاء بعضهم دون بعض، وهو مخالف للآية، ويخالف سهم الفقراء في الزكاة؛ لأن ثم يجوز أن يعطي بعض فقراء البلد دون جميعهم؛ فجاز أن يخص به فقراء بلد دون غيرها وليس كذلك هاهنا، وما ذكره من المشقة مندفع؛ فإن الإمام يأمر أمناءه في كل إقليم بضبط من فيه من ذوي القربى، ويأمره بصرف حصة من فيه من جميع أسهم مما حصل فيه، فإن لم يتفق في بعضها شيء أو لم يف بمن فيه إذا وزع جميع السهم عليهم، فحينئذ ينفل بقدر الحاجة، وذلك مما لا تعظم فيه المشقة. ولا فرق في ذلك بين الصغير والكبير، أو الغني والفقير؛ لأن العباس

-رضي الله عنه – كان يأخذ منه وهو من أيسر قريش، اللهم إلا أن يكون القدر الحاصل لهم إذا وزع عليهم لا يسد مسدا؛ فحينئذ قال الإمام: يقدم الأحوج فالأحوج، ولا يستوعب؛ للضرورة، وتصير الحاجة مرجحة، وإن لم تكن معتبرة في استحقاق هذا السهم. وكذا لا فرق في التساوي في القسم بين المدلي [بجهة واحدة أو بجهتين، وحكي في "الوسيط" عن القاضي الحسين: أن المدلي] بجهتين يفضل على المدلي بجهة [واحدة]؛ كما يقدم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب، ثم قال: وهذا يدل على أن الإدلاء بالأم له أثر في الاستحقاق عند الاجتماع؛ فلا يبعد عن القياس أن يؤثر عند الانفراد مع شمول اسم القرابة. يعني بذلك: أن أولاد البنات لا يبعد أن يدخلنه في هذا السهم؛ للتعليل الذي ذكره القاضي، وهو باطل بأخوة الأم في الولاء؛ فإنه يرجح بها على الصحيح، ولا أثر لها عند الانفراد. وكذا لا فرق في استحقاق ذلك بين من حضر الصف ومن لم يحضر. نعم، من حضر يستحق ذلك مع سهمه من الغنيمة. فرع: لو أعرض ذوو القربى عن سهمهم فهل يسقط؟ قال الإمام: الأظهر أنه لا يسقط؛ لأنه منحة أثبتها الله لهم من غير معاناة وشهود وقعة؛ فليسوا كالغانمين الذين تحمل شهادتهم على إعلاء كلمة الله، تعالى. ويمكن أن يقال: يسقط بالإعراض قبل القسمة كالغانمين؛ لأن ما يصرف إليهم ملك لا تراعي فيه الحاجة فكانوا كالغانمين. آخر: إذا جاء الإمام إنسان، وادعى أنه من ذوي القربى، لم يعطه بدعواه حتى يثبت، فإن كان نسبه مستفيضاً اكتفى به، وإلا لزمه إثباته بالبينة إن أراد طلب حقه من ذلك السهم، قاله الإمام. وفي "الحاوي" في كتاب العاقلة: أن أبا إسحاق المروزوي وأبا على بن أبي هريرة وأكثر أصحابنا قالوا: إن من ادعى أنه من قريش، وقريش تسمع دعواه ولا

تنكره، أو ادعى أنه من بني هاشم، وبنو هاشم يسمعونه ولا ينكرونه – أنا نحكم بنسبه منهم بإقرارهم [إياه] على دعوى نسبهم، وبمثل هذا يثبت أكثر أنساب [العامة]، فإن تجدد من أنكر نسبه ونفاه عنهم، فقال: لست منهم – لم يقبل نفيه، ولو شهد له بأنه ليس منهم؛ لأن الشهادة على مجرد النفي لا تصح. قال: وسهم لليتامى الفقراء؛ لأنه مصروف في ذوي الحاجات فخرج منهم الأغنياء، ولأنه إرفاق لمن تتوجه إليه المعونة والرحمة، وهم الفقراء دون الأغنياء، وهذا مذهب الشافعي؛ كما قاله الماوردي وصححه غيره. وقيل: يشترك فيه الأغنياء والفقراء؛ لإطلاق الآية، وبالقياس على ذوي القربى، ولأنه لو اعتبر فيهم الفقر لدخلوا في جملة المساكين، وهذا قول حكاه القاضي أبو الطيب في "السير"، وكذلك ابن القاص والقفال الشاشي حكياه، وقال القاضي الحسين: إنه مذهبنا ومذهب عامة أصحابنا. قال: وليس بشيء؛ لأن غناه بالمال فوق غناه بالأب، ولو كان له أب لم يُعْطَ؛ فكذلك إذا كان له مال. التفريع: إن قلنا بالأول، [قال الماوردي: فلا فرق فيهم بين من مات أبوه أو قتل، و] يجوز الاقتصار على الصرف لبعضهم دون بعض؛ كما في الفقراء، ويجوز أن يجتهد الإمام رأيه في التسوية بينهم والتفضيل. وإن قلنا بالثاني اختص به من قتل أبوه في الجهاد دون غيره؛ [رعاية] لنصرة الآباء في الأبناء كذوي القربىن وقسم على جميعهم، ولا يخص به بعضهم. ثم على قول الشافعي – رضي الله عنه – يفرق في أيتام جميع الأقاليم، وعلى قول أبي إسحاق: يفرق ما في كل إقليم إلى اليتامى بمن فيه، ويسوي فيه بين الذكر والأنثى؛ كما في الوقف، وكلام ابن الصباغ يقتضي أن قول أبي إسحاق ومقابله يجريان على القول الأول أيضاً.

وحكى القاضي الحسين وغيره عن القفال: أن المراد باليتامى: يتامى أهل الفيء الذين كتبوا أسماءهم في الديوان، فأما يتامى الأعراب الذين هم أهل الصدقات فلا يعطون من الفيء. قلت: وبهذا يحصل فيمن المستحق من الأيتام ثلاثة أوجه: أحدها: كل يتيم. والثاني: كل يتيم قتل أبوه في الجهاد سواء كان من أهل الفيء أو من أهل الصدقة، كما سنذكرهم. والثالث: يتامى المرتزقة من الفيء دون غيرهم. واليتيم: اسم الصغير الذي لا أب له عند الأكثرين، وقيل: الذي لا أب له ولا جد. قال الماوردي: وقيل: إن اعتبار الصِّغَر في اسم اليتيم جاء من جهة الشرع؛ لقوله – عليه السلام-:"لا يتم بعد حُلُمٍ"، وإلا فهو يطلق على الصغير والكبير. قال: وسهم للمساكين؛ للآية، ويندرج فيهم من لا يملك شيئاً ومن يملك بعض كفايته؛ لما تقدم في الزكاة والوصية [والوقف]: أن كل اسم من "الفقر" [و"المسكنة"] يطلق على الآخر عند الانفراد. قال الماوردي: وقد اختلف أصحابنا فيمن يستحق هذا السهم على وجهين: أحدهما: جميع المساكين من المسلمين؛ لدخول المسكنة في [جميعهم. والثاني: أنه يختص به مساكين أهل الجهاد الذين قد عجزوا عنه بالمسكنة]، أو الزمانة، ولا حق فيه لغيرهم؛ لأن [مال] الغنيمة بأهل الجهاد أخص، فعلى هذا يجب أن يفرقه في جميعهم في جميع الأقاليم على المذهب، خلافاً لأبي إسحاق، ويجب أن يسوي بينهم من غير تفضيل بين كبير وصغير وذكر وأنثى، ولا يجوز أن يجمع لهم بين [سهمهم من] الخمس

وسهمهم من الزكاة، ويجوز أن يدفع إليهم من الكفارات، بخلاف ما إذا فرعنا على الوجه الأول؛ فإنه يجوز أن يخص به البعض ويجوز التفضيل فيه، ويجوز أن يجمع لهم [بين سهمهم من خمس] الخمس وسهمهم من الزكاة والكفارة. كذا قاله الماوردي، وفي "الرافعي": الجزم بمنع الاقتصار على ثلاثة منهم، وكذا في بني السبيل. وكلام ابن الصباغ مصرح بأن قول أبي إسحاق ومقابله يجريان إذا فرعنا على الوجه الأول الذي لم يذكر سواه. فرع: إذا اجتمع في الشخص الواحد صفة المسكنة واليتم، قال الماوردي: أعطي من سهم اليتيم، لأنه صفة لازمة، والمسكنة صفة زائلة. قال: وسهم لابن السبيل؛ للآية، وتفسيره مذكور في الزكاة. قال: تصرف إليهم على قدر حجاتهم؛ كما في الزكاة، وقد أشعر هذا اللفظ بأنه لابد من الحاجة في الصرف إليهم، وهو الأصح، ولا فرق فيه بين أن يكون مع الحاجة غنيا، كما إذا كان مجتازاً وماله في بلده، أو فقيراً لا مال له وقد أنشأ السفر. وحكى الإمام أن الشيخ أبا عليى ذكر وجهاً عن بعض الأصحاب؛ أنا نصرف هذا السهم إلى كل من يهم بالسفر، وإن لم يكن به حاجة ماسة. ثم قال: وهذا بعيد جداً لا تعويل عليه. وفي "الحاوي": أن لأصحابنا وجهين فيمن يستحق هذا السهم منهم: أحدهما: أنه لبني السبيل من جميع المسلمين. والثاني: انه لبني السبيل من المجاهدين خاصة. ويتفرع على الوجهين الخلاف في الأمور السابقة في الفصل قبله، وعند اعتبار التوزيع هاهنا يقسط على مسافة أسفارهم. قال: ولا يعطي الكافر [منه] شيئاً، يعني: لا يعطي الكافر من

الخمس شيئاً؛ لأنه عطية من الله – تعالى – فاختص بها أهل طاعته، كالزكاة، وهذا فيما عدا سهم المصالح، [فأما سهم] المصالح فيعطي الكافر منه عند وجود المصلحة. فرع: إذا فقد بعض الأصناف وزع نصيبه على الباقين، كما في الزكاة، إلا سهم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه مصروف من بعده، كما ذكرناه. قال: ويقسم الباقي – وهو أربعة أخماس [بين] الغانمين؛ لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ...} [الآية]؛ فاقتضى أن يكون الباقي بعد الخمس لمن غنمه، كما قال تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]؛ فدل على أن الباقي للأب. وطريق القسمة: أن يحضر أسماءهم، ويسوي بين قويهم وضعيفهم، ولا يفضل أحداً على أحد، إلا الفارس بفرسه، كما سنذكره، وله أن يعين سهم بعضهم في عين وآخر في أخرى وإن كرهوا ذلك، كما صرح به الأصحاب في كتاب الزكاة وغيرهن هذا هو المشهور. وعن المسعودي والبغوي – وهو [أيضاً] في "الحاوي" -: أن من قاتل أكثر من غيره، فله أن يضخ له مع السهم، وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنفل ابن مسعود سيف أبي جهل، ونفل سعد بن [أبي وقاص سيف سعيد بن العاص]، وكان يسمى ذا الكشفة. وقيل: يزاد له من سهم المصالح ما يليق بالحال. وعلى الأول قال الماوردي: فلا يبلغ بالرضخ سهم فارس ولا راجل. ثم الغانمون: هم الذين حضروا الوقعة بنية القتال وهم من أهل الخطاب به، سواء منهم من قاتل ومن لم يقاتل، ومن حضر في أول القتال إلى آخره، ومن حضر في آخره إذا لم يحصل قبل حضوره حيازة [المال]؛ لما روي

أنه – عليه الصلاة والسلام – قال: "الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ"، وقد روى الشافعي ذلك موقوفاً على أبي بكر – رضي الله عنه –ومنهم من يقول: إنه موقوف على أبي بكر وعثمان، أو أبي بكر وعمر، وأيَّاماً كان فهو دليل؛ لأنه لا مخالف لهما، كما قاله الماوردي. أما إذا حصلت حيازة [المال] قبل حضوره فقد ذكرنا حكمها في أول الباب. ولو حضر في أول القتال دون آخره: فإن كان سبب ذلك حدوث موت أو مرض فسيأتي في الكتاب، وإن كان سببه انهزامه لم يستحق، وإن كان سببه انحرافه للقتال أو تحيزه إلى فئة استحق، هكذا أورده الرافعي في هذا الباب، وقال في كتاب السير: إن النص في المتحيز إلى الفئة البعيدة، لا يشارك الغانمين في الغنيمة إن فارق قبل الاغتنام، وإن غُنم شيء دون شيء، لم يبطل حقه فيما غنم قبل مفارقته، ولا شيء له فيما غنم بعدها، وأن بمثله أجاب في المتحرف للقتال، وأطلق بعضهم القول: بأن المتحرف يشارك، وهو ما أورده الإمام. قال الرافعي: ولعله فيما إذا لم يبعد ولم يغب، ويكون النص فيما إذا تحرف للقتال ثم انقطع [عن القوم] قبل أن يغنموا. ولو كان التحيز لفئة قريبة ففي مشاركته للغانمين فيما غنموه بعد مفارقته وجهان، أشبههما: الاستحقاق، وحكى الإمام الوجهين عن الأصحاب من غير تقييد بقرب ولا بعد، وأبدى لنسه القطع بالمنع عند بعد الفئة، وأنه لا يحل العمل بخلافه، ورد الوجهين إلى حالة القرب بحيث تحصل النجدة به. ولو حضر في أوله، ثم انهزم، ثم حضر في آخره – ففي "التهذيب": أنه يستحق من المحوز بعد حضوره دون المحوز قبله، وهذا بناء على أن الملك يحصل بالحيازة، أما إذا قلنا: [إنه] يحصل بالقتال، فيستحق نصيبه من الجميع، كما حكيناه عن القاضي الحسين فيما إذا حضر بعد الحيازة وقبل انقضاء الحرب.

ولو هرب، ثم ادعى أنه كان متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة، ففي "الوجيز": أنه يصدق بيمينه، وفي "تعليق" القاضي الحسين و"التهذيب": أنه إن لم يعد إلا بعد انقضاء القتال لم يصدق؛ لأن الظاهر خلافه، وإن عاد قبله صدق بيمينه، فإن حلف استحق من الكل، وإن نكل لم يستحق إلا من المحوز بعد عوده، وهذا في صورة يكون الانحراف والتحيز المحقق لا يمنع المشاركة. واعلم أن ظاهر إيراد الشيخ يقتضي أن أهل الخمس يفوزون بسهامهم قبل قسمة الأخماس [الأربعة] على الغانمين، وليس كذلك؛ بل المذكور في "تعليق" أبي الطيب و"الشامل" و"الحاوي" وغيرها: أن الذي يبدأ به إخراج الخمس بالقرعة كما ذكرناه، ثم يقسم الأخماس الأربعة بين الغانمين قبل أن يقسم على أهل الخمس؛ لمعان ثلاثة: لحضورهم، وغيبة أهل الخمس، وكون ما يأخذونه بسبب جهادهم، فصار كالمعاوضة، وأهل الخمس يأخذون مواساة، ولأن بهم ملك أهل الخمس خمسهم، وكانوا أقوى في الغنيمة منهم. قال الأصحاب: ويستحب أن يعجل بالقسمة في دار الحرب، فإن أخرها كره إلا أن يكون ثم عذر يقتضي التأخير، صرح به الماوردي وغيره في كتاب السير، وابن الصباغ وغيره في كتاب الزكاة. قال: ويعطي للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم؛ لما روى ابن ماجه عن ابن عمر- رضي الله عنهما – أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ يَومَ خَيْبَرَ لِلْفَارِسِ ثَلاَثَةَ أَسْهُمٍ، لِلْفَرَسِ [سَهْمَانِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ] ". وفي رواية مسلم والترمذي: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَسَّمَ فِي النَّفْلِ لِلفَرَسِ سَهْمَينِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمَا. ولفظ البخاري: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلفَرَسِ سَهْمَينِ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْماً. وفي لفظ آخر: قَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَومَ خَيْبَرَ لِلفَرَسِ سَهْمَينِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْماً،

قال: فسره نافع، قال: إذا كان مع الراجل فرس فله ثلاثة أسهم، وإن لم يكن له فرس فله سهم. والمراد بالفارس هاهنا: من حضر الوقعة وهو من أهل فرض القتال، بفرس يقاتل عليه مهيأ للقتال، سواء كان الفرس عتيقا: وهو الذي أبواه عربيان، أو برذونا: وهو الذي أبواه أعجميان، أو مقرفاً: وهو الذي أمه عربية وأبوه أعجمي، أو هجينا: وهو الذي أبوه عربي وأمه أعجمية. وسواء في ذلك قاتل عليه أو لم يقاتل لعدم الحاجة إليه، وكذا إن قاتل في الماء أسهم لفرسه؛ لأنه ربما انتقل إلى البر فقاتل عليه، وكذا لو قاتل في حصار حصن أسهم لفرسه؛ لأه عُدَّة يلحق أهل الحصن إن هربوا ويرهبهم إن حضروا، حكاه ابن الصباغ عن نصه في "الأم" وغيره. وفي "الرافعي" أن ابن كج حمل النص في مسألة القتال في الماء على ما إذا كانوا بقرب الساحل، واحتمل أن يخرج ويركب، فأما إذا لم يحتمل الحال الركوب، فلا معنى لإعطاء سهم الفرس. وقريب منه ما أورده الإمام فيما إذا نزلوا عن الخيل في مضيق؛ حيث قال: إن لم يبعدوا عن الخل [استحقوا سهامها] وإن درجوا موغلين في القتال، وبعدوا عن الخيل، فهل [يستحقون سهامها]؟ فيه وجهان. وقد ألحق الماوردي بالمسألتين المنصوص عليهما في "الأم" ما إذا استخلف أمير الجيش قوماً في المعسكر على حفظه وحراسته؛ حذراً من هجوم العدو عليه، أو أفرد [كميناً] ليظفر من العدو ويغرَّهم، وقال: إنه يسهم لهم ولأفراسهم. أما من حضر القتال بغير الأفراس، لمي ستحق سوى سهم راجل، سواء كان راكباً جملاً أو بغلاً أو حماراً؛ لانه لم ينقل أنه – عليه السلام – أسهم للإبل وقد كانوا يحضرون بالنجب، ولأن الفرس تنفرد بالكر والفر والطلب والهرب، بخلاف غيرها وقد ادعى ابن يونس في ذلك الإجماع، وفيه نظر؛ فإن في

"الشامل": أن الحسن البصري قال: إنه يسهم للإبل. وفي "الجيلي": أنه يرضخ لمركوبه ويسهم له، ويكون رضخ الإبل أكبر من رضخ البغل، ورضخ البغل أكبر من رضخ الحمار [ولا] يبلغ به سهمه. والمذكور في "النهاية" و"الإبانة": الأول؛ حيث قالا: لا يستحق راكب البغل والحمار والإبل والفيلة إلا ما يستحقه الراجل. قال: ولا يسهم إلا لفرس واحد؛ لما روى أبو عاصم عن ابن عمر عن نافع عن ابن عمر: أن الزبير بن العوام حضر بخيبر ومعه أفراس، فلم يسهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا لفرس واحد. وروى أن [النبي] صلى الله عليه وسلم حَضَرَ خَيْبَرَ وَمَعَهُ ثَلاَثَةُ أَفْرَاسٍ: السَّكْبُ والظَّرِبُ والمُرتَجِزُ، فَلَمْ يُسْهِمْ إِلاَّ لِوَاحِدٍ. ولأنه لا يقاتل إلا على واحد، ولو تحول عنه صار تاركاً له. وفي "الرافعي": أن راوين قد رووا قولاً للشافعي – رضي الله عنه -: أنه يسهم لفرسين. وفي "النهاية" حكاية ذلك وجهاً عن رواية شيخه، وقال: إنه يقرب من قول من جعل الجَنيبة من السلب، والقاضي الحسين في كتاب السير جعل الوجهين كالوجهين في استحقاق الجنيبة. فرع: لو ركب اثنان فرساً وحضرا الوقعة، فعن بعض الأصحاب: أنهما كفارسين يحصل لهما ستة أسهم، واستبعده ابن كج، وعن بعضهم: أنهما كراجلين؛ لتعذر الكر والفر. قال ابن كج: وعندي أنه يجعل لهما أربعة [أسهم]، سهمان لهما، وسهمان للفرس.

ويقرب من ذلك إذا حضر اثنان بفرس مشترك بينهما؛ فإن فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يسهم للفرس. والثاني: يسهم لكل منهما سهم فرس. والثالث: يعطيان سهم فرس واحد، حكاها أبو الفرج في "الأمالي". قال: فإن دخل [إلى [دار] الحرب] راجلاً، ثم حصل له فرس، فحضر به الحرب إلى أن ينقضي، أسهم له؛ لأن المقصود من الفرس قد حصل بذلك، فأسهم له كما لو دخل والفرس معه؛ ولأن استحقاق المقاتل بالحضور؛ فكذا الاستحقاق بالفرس. تنبيه: الفرس يقع على الذكر والأنثى باتفاقهم، فقوله: حضر به، كلام صحيح. وأما الحرب: فالمشهور أنها مؤنثة، قال الله تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]. قال الجوهري: قال المبرد: وقد تذكر، فقول المصنف: [إلى أن] ينقضي، [صحيح على لغة التذكير، وأما على [لغة] التأنيث فيصح أن نقول تَقَضَّي] – بفتح التاء والقاف وتشديد الضاد – أي: تنقضي، فحذفت إحدى التاءين، أو نقول: تقضت، وإن كان قد نقل قول ضعيف أنه يقال: الشمس طلع. قال: وإن عار فرسُه، أي: هرب، فلم يجده إلا بعد انقضاء الحرب – لم يسهم له؛ لأنه لم يحصل المقصود منه؛ فلم يملك سهمه، كما لو مات أو ضلَّ صاحبه عن حضور الوقعة حتى فاتته؛ فإنه لا يسهم له وإن كان معذوراً.

وقيل: يسهم له؛ لأنه خرج من يده [لا] باختياره، وكان يتوقع عوده حالة القتال، وهذا رواه الشيخ أبو حامد، وخطأ قائله الأصحاب. وفي "الجيلي": أنه يجري فيما إذا مات الفرس أو باعه، ولم أره في غيره، ومحل الخلاف – كما قال الماوردي-: فيما إذا غاب الفرس عن الوقعة ومصاف القتال، أما إذا لم يغب عنها أسهم. قال: وإن غصب فرساً فقاتل عليه أسهم [له] أي: سهم للفرس في أظهر القولين، ولصاحب الفرس في [القول] الآخر. هذان القولان بناهما الشيخ أبو حامد – وتبعه الماوردي- على القولين فيما إذا غصب مالاً وربح فيه، فعلى الجديد: يكون الربح للغاصب؛ فكذلك هاهنا: يكون سهم الفرس [للغاصب، وعلى القديم: يكون الربح لرب المال؛ فكذلك هاهنا: يكون سهم الفرس] لمالكها، وهذا ما اختاره في "المرشد". وقال ابن الصباغ: عندي أنه يكون السهم للغاصب قولاً واحداً. ويكون عليه أجرة مثل الفرس لصاحبه، ويخالف مسألة البضاعة؛ لأن جعل الربح فيها على القديم للمالك؛ خشية من أن يكثر الغصب والخيانات في الأمانات، وهذا مفقود هنا؛ [و] لأن أجرة الفرس تجب عليه، وربما كانت أكبر من سهمه؛ فلا يؤدي إلى ذلك. وبنى القاضي الحسين القولين على ما إذا غصب فهذا اصطاد به، فلمن يكون الصيد؟ وفيه قولان. ثم [على] مقابل الأظهر، قال الماوردي: يجب على الغاصب الأجرة،

وإن كان السهم لغيره؛ لوجوبها [بالغصب، وكذلك] هو في "تعليق" القاضي الحسين. قلت: ولا يبعد تخريج وجوبها على الخلاف في وجوب أجرة [المثل] للفهد إذا اصطاد به، وقلنا: إن الصيد لمالك الفهد، إلا أن يقال: منفعة الفهد ليست إلا في الصيد، وقد حصلت لمالكه؛ فلا يأخذ بدلها، [ومنفعة الفرس لا تنحصر في تحصيل السهم؛ فلذلك ضمن بدلها]. وقد ظهر لك مما ذكرناه: [أن سهم] الفرس لابد منه، ولكن لمن يكون؟ وقد صرّح به القاضي الحسين والفوراني، وحكى ابن الصباغ: أن القاضي أبا الطيب حكى في السهم للفرس وجهين، ورأيت في "تعليقه" [قبيل باب فتح] السواد: أنه إذا غصب فرساً فقاتل عليه، فإن كان صاحب الفرس قد حضر الوقعة أو حضر وقت القسمة، دفع إليه سهماً الفرس؛ لأنه يتعذر الانتفاع به لا يبطل حقهن ألا ترى أن الفارس إذا كان القتال في مضيق أو على رأس جبل ولا يمكنه أن يقاتل إلا راجلاً، فإنه يسهم له ولفرسه، وإن كان الانتفاع به قد تعذر؟! كذلك هاهنا مثله. ولم يحك سواه، وهكذا أورده الماوردي في أوائل باب جامع السير. فرع: لو استأجر فرساً أو استعاره، حضر به، قال القاضيان الماوردي والحسين: إن استأجره أو استعاره للقتال ملك سهمهن وعن ابن كج [رواية وجه]: أنه يكون للمعير، وإن استأجره أو استعاره للركوب دون القتال كان كما لو غصبه. قال: وإن حضر بفرس ضعيف أو أعجف، أي: مهزول، أسهم له في أحد القولين؛ لان اختلاف الجند في القوة والضعف لا يوجب اختلافهم في السهم؛ فكذلك الخيل [ولا يسهم له في] الآخر؛ لأن في البغال التي [لا سهم] لها ما هو أغنى منها، ولا يسهم له، فهذه أولى، وهذا أصح في "الرافعي" وغيره.

والقولان جاريان فيما إذا حضر بفرس حطم وهو الكسير، أو قَحْمٍ وهو الكبير، أو ضرع وهو الصغير، وهذه طريقة أبي علي بن خيران، أخذها من قول الشافعي –رضي الله عنه- في "المختصر" و"الأم"، قيل: لا يسهم لها، وقيل: يسهم لها. وطريقة أبي إسحاق المروزي: أن ذلك ليس على قولين، بل [على] اختلاف حالين، فقوله: يسهم لها، أراد: إذا أمكن القتال عليها [مع ضعفها، وقوله: يسهم لها، أراد: إذا لم يمكن القتال عليها]، وهذا ما اختاره في "المرشد". قال الماوردي والقاضي الحسين والرافعي وغيرهم: ومحل ذلك إذا لم يناد الأمير: أن لا يدخل أحد من الجيش بواحد منها، أما إذا كان قد نادى فلا سهم لمن دخل بها. وهذا يشبه ما ذكرناه في المخذل في الباب قبله على رأي. قال: ومن مات أو خرج عن أن يكون من أهل القتال بمرض، أي: مثل العمى والزمانة، أو غيره كالجراحة، قبل تقضي الحرب، أي: وحيازة المال – [لم] يسهم له؛ لأن المال يملك في أحد القولين بانقضاء الحرب، وفي الآخر بحيازة المال، ولم يوجد واحد منهما، وهو من أهل القتال، فأشبه المجنون إذا حضر والطفلن وهذا ما أورده القاضي ابن كج وابن الصباغ، وحكى الإمام عن الأصحاب القطع به في مسألة الموت، وحكى غيره فيها قولاً: أنه يستحق السهم ويصرف لوارثه، مخرجاً من نصه فيما إذا مات فرسه في أثناء القتال: أنه يستحق سهم الفارس؛ كما خرج من نصه في مسألة موته [إلى مسألة] موت الفرس قولٌ جزم به العراقيون: أنه لا يستحق سهم الفرس، والأظهر فيهما: تقرير النصين، وفرقوا بأن الفارس متبوع؛ فإذا مات فات الأصل، والفرس تابع؛ فإذا مات جاز أن يبقى سهمه للمتبوع. وعن الشيخ أبي زيد: أنه إن حصلت حيازة المال بنصب قتال جديد، فلا استحقاق، لا في موت الفارس، ولا في موت الفرس، وعليه يحمل نصه في

موت الفارس، ولو أفضى ذلك القتال إلى الحيازة ثبت الاستحقاق في الصورتين، وعليه يحمل نصه في صورة الفرس. وفي "الحاوي" وغيره من كتب المراوزة في مسألة المريض – وراء ما ذكره الشيخ – وجهان: أحدهما: أنه يستحق السهم؛ عملاً [بظاهر قول الشافعي – رضي الله عنه – في "المختصر". ولو دخل رجل يريد القتال، فمرض لوم يقاتل، أسهم له، بخلاف ما إذا مات، والفرق: أن الملك له متصور، والرأي والإرهاب به والتكثير حاصل، بخلاف الميت، وهذا أصح عند البغوي كما قاله الرافعي. وحكى الإمام عن بعضهم القطع بعدم جريانه فيما إذا طرأ الجنون؛ نظراً إلى أن العلة في السهم للمريض: الانتفاع برأيه، وعن آخرين إجراء القول الآخر فيه، وقال: إن هذا المسلك أفقه. وقد أجرى هذا القول البغوي والقاضي الحسين وغيرهما في الجريح الذي لا يرجى برؤه، وكذلك [ابن] الصباغ، وإن جزم في مسألة المريض بعدم السهم [له] كما ذكرناه، وفرق بأن ذلك مما لا يمكن الاحتراز منه في المحاربة ويكثر وجوده. والثاني: أنه إن كان يرجى زوال المرض وعوده إلى الصحة: كالحمى الشديدة، ورمد العين، وانطلاق الجوف – يسهم له، وإن كان لا يرجى فلا يسهم له. وهذا منه دليل على أن في حالة [رجاء البرء وجهين، وكذلك في حالة] عدم رجاء البرء، وقد جزم الإمام وغيره بأن الذي يرجى بره لا يمنع من استحقاق السهم، وأن الوجهين يختصان بالذي لا يرجى برؤه. ثم ما المراد برجاء البرء؟ قال الرافعي: الأكثرون أطلقوا القول في رجاء البرء [و] عدمه، وحكى بعض [أصحاب الإمام] أن المعتبر رجاء البرء قبل انجلاء القتال. وهذا نم الرافعي دليل على أنه لم يطالع كلام الإمام في ذلك؛ فإنه

لو وقف عليه لم يسنده إلى بعض أصحابه بل كان يسنده إليه؛ لأنه صرح به [فقال: إن المرض الذي لا يرجى برؤه إلا بعد انفصال القتال، كالذي لا يرجى برؤه؛ فيجري فيه الوجهان، وإذا لم يستحق المريض السهم فيرضخ له]، صرح به الإمام والماوردي والحناطي. قال: ويرضخ للعبد؛ لما روى أبو داود عن عمير مولى آبي اللحم قال: شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عيه وسلم فَأَمَرَ بِي فَقُلِّدْتُ سَيْفاً، فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُن فَأُخْبِرَ أَنِّ] مَمْلُوكٌ؛ فَأَمَرَ لِي مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ، وأخرجه الترمذي وقال: إنه حسن صحيح. الخُرْثِي: متاع البيت وأثاثه، قال الجوهري: الخرثي: أثاث البيت وأسقاطه. ولا فرق في ذلك بين أن يكون السيد قد أذن له أو لا. قال: والمرأة؛ لما روى أبو داود عن زيد بن هرمز، قال: كَتَبَ نَجْدَةُ الْحَرُورِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلَهُ عَنِ النِّسَاءِ، وَهَلْ كَانَ يُضْرَبُ لَهُنَّ بِسَهْمٍ؟ فَأَنَا كَتَبُتُ كِتَابَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى نَجْدَةَ: قَدْ كُنَّ يَحْضُرْنَ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا أَنْ يَضْرِبَ لَهُنَّ بِسَهْمٍ فَلاَ، وَقَدْ كَانَ يَرْضَخُ لَهُنَّ. وأخرجه مسلم. ولا فرق في ذلك بين أن تكون ذات زوج و [قد] أذن لها زوجها، أو لا. والخنثى المشكل في حكم المرأة، يرضخ له.

قال: والصبي؛ لأنه ليس من أهل فرض الجهاد، وقد حصل به تكثير السواد والنفع؛ فلم يسهم له؛ فأرضخ له كالمرأة، ولفظ الشافعي – رضي الله عنه – كما حكاه البندنيجي دالٌّ على أنه – عليه السلام – أرضخ للصبي؛ حيث قال: شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبيد ونساء وصبي، فرضخ لهم. ولا فرق في ذلك بين أن يأذن له وليه أو لا. وفي "الحاوي" إلحاق المجنون في الرضخ بالصبي، وادعى أنه - عليه السلام- أرضخ له. وبهذا يظهر لك أنه لا فرق في الصبي بين أن يكون فيه منفعة أو لا منفعة فيه كالمجنون. وفي"النهاية" حكاية تردد عن الأصحاب في الصبي والمرأة إذا لم يكن فيهما منفعة: فمنهم من قال: لا يرضخ لهما، [وهو] ظاهر القياس، ومنه من قال: يرضخ لهما؛ لكونهما حضرا الوقعة، وعلى هذا ينبغي أن يتخرج الرضخ للمجنون. [فرع: لو ادعى أنه حال القتال كان بالغاً، فإن حلف استحق، وإن نكل فلا، ومن أصحابنا من قال: يصدق ولا يحلف؛ لأنه إن كان بالغاً فلا حاجة إلى الحلف، وإن قدر صبياًّ فلا حكم لحلفه، قاله مجلي في كتاب الأقضية]. قال: والكافر إن حضر بإذن الإمام، أي: من غير استئجار ولا جعالة، كما نبهنا عليه من قبل. [والدليل عليه]: ما روي أنه صلى الله عليه وسلم استعان بيهود [بني] قينقاع، فرضخ لهم ولم يسهم. وعن بعض الشروح حكاية وجه: أنه لا شيء له، وعن أبي إسحاق: أنه إنما يستحق الرضخ إذا قاتل. وهو ظاهر النص في "المختصر"، كما حكاه القاضي أبو الطيب في كتاب "السير"، بخلاف مستحق الرضخ؛ لأن المدفوع إليه في معنى الأجرة فلابد من العمل. والصحيح: الأول، وعلى هذا: فلو كان الكافر امرأة وقد حضرت بإذن الإمام، ففي استحقاقها الرضخ كالمسلمة وجهان في طريق المراوزة، وأصحهما: أنها تستحق.

أما إذا حضر الذمي بغير إذن الإمام، فلا يستحق شيئاً؛ لأنه متهم بموالاة دينه، بل للإمام تعزيره إذا أدى اجتهاده إليهن وفيه وجه حكاه الرافعي: أنه يستحق الرضخ، وهو ما أورده الإمام، ووجهه بأنهم في منصب الذب عنَّا، وهم من سكان ديارنا، ورد التردد إلى حالة منع الإمام لهم من الدخول، وفي "الحاوي" في كتاب السير: أنهم إن قاتلوا أرضخ لهم، وإلا [فلا]. وأما المخذل والمرجف، فقد ذكرنا حكمهما في الباب قبله. ثم هذا الرضخ مستحق أو مستحب؟ فيه قولان عن رواية أبي الفرج الزاز، والمشهور: الأول؛ لأنه – عليه السلام – لم يترك الرضخ قط، ولنا فيه أسوة حسنة، صلى الله عليه وسلم. فرع: لو انفرد مستحقو الرضخ بدخول دار الحرب والقتال وحيازة المال، نظر: فإن كانوا من العبيد أو الصبيان أو النسوان خمس، وفي الباقي ثلاثة أوجه في "الشامل" و"النهاية" و"الإبانة": أحدها- عن أبي إسحاق، وهو الأصح عند القاضي أبي الطيب -: أنه يقسم بينهم كما يقسم الرضخ، على ما يقتضيه الرأي من التسوية والتفضيل. والثاني: يقسم كالغنيمة: للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم، وهذا لم يحكه الإمام والفوراني، بل حكيا بدله: أن جميع المال يصرف إليهم من غير إخراج خمسه كالمسروق، [وإن كان الإمام قد ادعى في آخر "النهاية" أنه لا خلاف في تخميس ما انفرد به الصبيان]. والثالث: يرضخ لهم، ويجعل الباقي في بيت المال. قال الإمام: وهذا بعيد غير معقول. وفي "التهذيب" تخصيص هذا الوجه بالصبيان والنسوان، ولم يذكر في العبيد إلا أنه لساداتهم، ولو كان معهم واحد من أهل الكمال رضخ لهم، والباقي بعد الخمس لذلك الواحد. ولو كانوا من أهل الذمة وقد فعلوا ذلك: فإن كان بإذن الإمام فالحكم فيما يأخذونه على ما شرطه، وإن كان بغير إذنه ففي "الرافعي" وآخر "النهاية": أنه لا يخمس؛ لأن الخمس حق [يجب] على المسلمين كالزكاة، وحكى ابن الصباغ

عن أبي إسحاق احتمال وجهين: أحدهما: يرضخ لهم، ويؤخذ الباقي لبيت المال. والثاني: أنه يترك في أيديهم؛ كما لو غلب بعض المشركين بعضاً. وحكى عن الداركي أنه حكى عن الشافعي – رضي الله عنه-: أنه نص علىنه لا يخمس، ولا ينزع من أيديهم، قال: وهذا عين الوجه الثاني. ولو كان الغانم مسلماً وذميًّا، فهل يخمس نصيب المسلم أو الجميع؟ حكى الإمام في آخر "النهاية" عن رواية الشيخ أبي علي وجهين، وقال الإمام: [إنا] إذا قلنا: إن الرشخ من سهم المصالح، فيخمس الجميع، ولا حق للذمي من الغنيمة. آخر: لو زال نقصان أهل الرضخ، فعتق العبد، وأسلم الكافر، وبلغ الصبي قبل انقضاء الحرب – أسهم له، وإن كان بعد انقضائها فقد أطلق الماوردي: أنه ليس له إلا الرضخ. قال الرافعي: وينبغي أن يجيء في الزوال بعد انقضاء الحرب، [وقبل حيازة المال الخلاف السابق في استحقاق من حضر بعد انقضاء الحرب] وقبل حيازة المال. ولو ظهرت رجولة الخنثى، قال البندنيجي: يصرف له السهم من حين بان رجلاً. قال: وفي الأجير، أي: للخدمة وسياسة الدواب ونحو ذلك مدة معينة – ثلاثة أقوال، أي: منصوصة في "المختصر": أحدهما: يسهم له، ويستحق الأجرة؛ لأن استحقاق السهم بالحضور، واستحقاق الأجرة بالتمكين، وقد اجتمع الأمران. قال الماوردي: وسواء في ذلك [ما إذا] قاتل أو لم يقاتل. وقال البغوي والقاضي الحسين والإمام: إن محل استحقاق السهم إذا قاتل، فإن لم يقاتل فلا. وعلى ذلك جرى الغزالي وجماعة. وأطلق المسعودي وآخرون استحقاقه من غير تفصيل بين أن يقاتل أو لا، وكذلك أطلق الشافعي –رضي الله عنه- في "المختصر".

ثم استحقاق الأجرة على هذا إذا لم يعطل من العمل الموظف عليه شيئاً؛ بأن يقع القتال في فترة أعماله، وكان لا يحتاج إلى العمل فيها، فإن تعطل في مقدار الزمان [عمل]، استحق السهم، وسقط من الأجرة ما قابله من تعطيله، كذا قاله الإمام. وفي "الحاوي": فيما إذا كان حضوره الوقعة يمنع من استيفاء منافع إجارته، [ينظر:] فإن دعاه المستأجر إلى خدمته، فتأبَّى ويغلبه على منافع نفسه رد ما قابل مدة حضورهن وإن لم يدعه إلى خدمته؛ ففي استحقاق الأجرة وجهان، وجه الاستحقاق: أن الأجرة في مقابلة التمكين من الخدمة، وهو موجود وإن لم يقترن به الاستيفاء، وهذا القول هو الأظهر في "الرافعي" والمختار للنووي، وإذا فرعنا عليه استحق السلب إذا قاتل. والثاني: يرضخ له؛ لأن منفعته مستحقة لغيره؛ فأشبه العبد. وفي "تعليق" القاضي الحسين في كتاب "السير" رواية خبر فيه، وعلى هذا يكون الحكم في الأجرة كما تقدم. وفي "الحاوي": أن هذا [إذا] لم يقاتل، أما إذا قاتل، فإن قتل استحق السلب، وفي استحقاقه السهم-سواء قتل أو لا – وجهان: أحدهما- وهو قول أكثر البصريين-: أنه يستحقه كالسلب. والثاني – وهو ظاهر قول أبي إسحاق، والأصح عندي -: أنه لا يسهم له؛ لأن من لا يستحق السهم بالحضور إذا لم يقاتل، لم يستحقه إذا قاتل كأهل الرضخ. وفي "الرافعي": أنه لا يستحق السهم، وفي السلب وجهان، وحكى عن ابن كج وجهاً: أنه لا يرضخ له؛ لأنه لم يسهم له وهو من أهله، قد حكاه الإمام عن رواية الشيخ أبي علي والعراقيين. والثالث: يخبر؛ فإن اختار السهم فسخت الإجارة وسقطت الأجرة، وإن اختار الأجرةن سقط السهم، أي: ويرضخ له، كما صرح به القاضي الحسين؛ لأن

التسليم الواحد لا يوجب بدلين مختلفين، وأيهما اختار سقط الآخر؛ كما في القصاص والدية، وهذا ما اختاره في "المرشد". ومحل الأقوال عند الماوردي: ما إذا كان الأجير يقدر على فسخ الإجارة، أما إذا لم يقدر فلا يأتي إلا القولان الأولان. وقال صاحب "الإفصاح": إن محلها إذا استأجره الإمام لسقي الغزاة وحفظ دوابهم من سهم الصدقات، أما إذا استأجره واحد من الرعية فلا يكون فيها إلا القولان [الأولان]؛ لأن الإجارة لازمة في حق الأجير، ولا معنى لتوفير الأجرة على المستأجر ودفع السهم من نصيب الغانمين. وهذا ما اختاره القاضي أبو الطيب، وحكى الرافعي: أن صاحب "الإفصاح" قال: إن السهم يكون للمستأجر. وفي "تعليق" القاضي الحسين أن من أصحابنا من قال: محل الأقوال إذا كانت الإجارة على طريق الجعالة، بأن يقول: إن عملت لي شهراً فلك كذا، فأما إذا عقد عقد الإجارة على خدمة مدة؛ فلا يسهم له قولاً واحداً، وله الرضخ؛ لأنه يستحق الخدمة بعقد لازم. ثم قال: وعامة أصحابنا على التسوية بين الإجارتين. وكذا في "الرافعي": أن الأكثرين أجروها فيما إذا كان المستأجر الإمام أو آحاد الرعية؛ كما أطلقه الشافعي، وقالوا: إن لزوم الإجارة لا يختلف في الصورتين. وعلى هذا فوقت التخيير – كما ذكره ابن الصباغ – قبل القتال وبعده، فيقال له قبل القتال: إن أردت الجهاد فاطرح الأجرة، وإن أردت الأجرة فاطرح الجهاد، ويقال له بعده: إن كنت قصدت الأجرة فخذها ولا سهم لك، وإن كنت قصدت الجهاد فلا أجرة لكن والمراد: أن الغرض يحصل بكل واحد منهما، لا أنه مخير في الحالين. والمراد على القول الثالث بسقوط الأجرة: أجرة وقت شهود الوقعة، دون ما قبل مدة خروجه من دار الإسلام أو مدة دخوله دار الحرب؛ لأن استحقاق

الغنيمة يتعلق به؛ فلا تجب معه الأجرة، وقبله لا يجتمع الحقان، وهذا ما جزم به ابن الصباغ، ورجحه الرافعي والقاضي الحسين في هذا الباب، ونسبه في كتاب "السير" إلى القفال، ووراءه وجهان حكاهما الإمام: أحدهما: أنه تسقط الأجرة من حين دخوله دار الحرب إلى انقضاء القتال، وقال القاضي الحسين في كتاب "السير": إنه الذي قاله الأكثرون، وهو الأصح. وقال الإمام: إنه بعيد عن قواعدنا؛ فإنا لا نعتبر دار الحرب. والثاني: أنه تسقط الأجرة عنه من ابتداء الإجارة إلى حين انقضاء القتال، وهذا ما حكاه القاضي الحسين في هذا الكتاب عن رواية القفال، معبراً عنه: بأنه يحتاج إلى طرح جميع الأجرة، وأن القفال اختاره. أما إذا كانت الإجارة على عمل في الذمة فله السهم بلا خلاف، والعمل للمستأجر دين في ذمته. ولو كانت الإجارة على الجهاد والأجير كافراً، فقد ذكرنا أنه لا يستحق [إلا] الأجرة، ولو كان مسلماً: فإن صححنا فله الأجرة دون السهم والرضخ، قال الرافعي: وينبغي أن تجيء الأقوال الثلاثة فيه. وفي "تعليق" القاضي الحسين و"النهاية": أن من أصحابنا من خرجها على الأقوال. وإن لم نصححها فلا يستحق الأجرة، وفي استحقاق سهم الغنيمة وجهان، المذكور منهما في "التهذيب": المنع، قاتل [أو لم يقاتل]؛ لأنه أعرض عنه بالإجارة ولم يحضر مجاهداً. والوجهان جاريان – كما قال الإمام- فيما إذا كان المستأجر للمسلم آحاد المسلمين ولم نصحح الإجارة، وهما – كما قال الشيخ أبو محمد والقاضي الحسين – مبنيان على القولين فيما إذا أحرم الأجير بالحج عن مستأجره، ثم صرف النية إلى نفسه: فأحد القولين: أنه يستحق الأجرة في الحج؛ لان الحج حصل عن الغيرز والثاني: لا؛ لأن كان عنده انه يحج عن نفسه.

والوجهان – هاهنا – على ضد ذلك. وقال الإمام: لا شك أن هذا التردد مرتب على أن الإجارة للجهاد إذا صحت، هل يستحق المجاهد السهم والأجرة، أم لا؟ فإن قلنا: إنه يستحقهما؛ فهاهنا يستحق السهم، وإن قلنا: لا يستحق ثم السهم؛ فهاهنا، هل يستحقه؟ فيه الخلاف، والمذهب: أنه يستحقه. قال: وفي تجار العسكر – [أي]: كالخبازين والبقالين والسراجين والصاغة، ونحو ذلك ممن جرت عادتهم باتباع العساكر – قولان: أحدهما: يسهم لهم؛ لأنهم شهدوا الوقعة، وهم من أهل القتال؛ فاندرجوا في عموم الخبر، وهذا أصح في "تعليق" القاضي الحسين في كتاب "السير"، وقيل: إنه كذلك في "حلية" القاضي الروياني. والثاني: يرضخ لهم، أي: ولا يسهم؛ لان السهم إنما يستحقه المجاهدون، وهؤلاء ليس قصدهم الجهاد، وإنما قصدهم التجارة، وهذه طريقة أبي إسحاق وابن القطان، ولم يورد القاضي الروياني في "الحلية" سواها، ولا فرق فيها بين أن يكون ثَمَّ قتال أو لا؛ كما هو ظاهر [لفظ] "المختصر" حيث قال: ولو دخل تجار فقاتلوا أو لم يقاتلوا، لم أر بأساً أن يسهم لهم، وقيل: لا يسهم لهم. وفي "النهاية" حكاية وجه عن رواية الشيخ أبي علي والعراقيين: أنه لا يرضخ لهم؛ بناء على أنه لا يسهم [لهم]. وقيل: إن قاتلوا أسهم لهم؛ لأن الجهاد – وهو القتال – قد تحقق منهم، وإن لم يقاتلوا، أي: وشهدوا الوقعة، فعلى قولين، ووجههما ما سبق، وهذه طريقة الشيخ أبي حامد، ولم يحك الماوردي في هذا الكتاب سواها، ووراء ذلك طريقان حكاهما القاضي الحسين وغيره، وثالثة حكاها الماوردي في "السير": أحدها: أنهم إن قاتلوا استحقوا السهم، وإلا فالرضخ، وهذه اختارها في "المرشد". والثانية- حكاها ابن الصباغ أيضاً -: [أنهم] إن لم يقاتلوا لم يستحقوا، وإن

قاتلوا فعلى قولين، وهذه أصح في "الرافعي" و [في] "تعليق" القاضي الحسين في هذا الكتاب، وقال الرافعي: إن [هذا] ظاهر لفظ "المختصر". والثالثة: إن قصد بخروجه الجهاد، وجعل التجارة تبعاً – استحق، قاتل أو لم يقاتل، وإن قصد التجارة وتخلف في المعسكر؛ فلا يستحق – قولاً واحداً، وإن قصد التجارة وحضر الوقعة فإن قاتل استحق، وإلا فقولان. قال القاضي الحسين هنا وفي "السير": وأصل هذا الخلاف في التجار والإجراء: أن العزم على القتال هل يشترط في استحقاق السهم، أم لا؟ وفيه جوابان: [إن قلنا]: لا يعتبر، أسهم لهم، قاتلوا أو لم يقاتلوا، وإن قلنا: يعتبر، فلا يسهم لهم، [وهذا ما] حكاه الإمام عن الشيخ أبي بكر، يعني به: القفال. قال: ومن أين يكون الرضخ؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: من أصل الغنيمة كالسلب، ولأنه أجرة أعوان؛ فصار كأجرة حافظي الغنيمة وحامليها الذين [يُعْطَوْن] أجورهم من أصل الغنيمة. والثاني: من أربعة أخماسها؛ لأنهم أضعف [من] الغانمين حكماً؛ فلم يجز أن يكونوا أقوى، ولأنه يستحق بالحضور فأشبه سهم الغزاة، وهذا أصح في "الرافعي" و"النهاية"، قبيل الكلام في استحقاق الأجير السهم. والثالث: من سهم المصالح؛ لأنه مستحق ليس من أصحاب السهام ولا من أصحاب الخمس، فلم يكن الدفع إليه إلا على وجه المصلحة؛ فكان من سهم المصالح. قال الماوردي: وهذا أضعفها، ذكره الشافعي – رضي الله عنه – في [بعض] منصوصاته، وهو الذي اختاره في "المرشد"، وهذه طريقة البندنيجي وأبي الطيب والفوراني، [وكذا] الماوردي في هذا الكتاب، وحكى في "السير": اختصاص القول الثالث بالكافر، ولم يحكه في المسلم. وحكى ابن الصباغ الطريقين، وكذلك الرافعي، وصحح الأولى، وحكى طريقة

ثالثة جازمة بإجراء الأقوال في رضخ المسلم، والقطع في الذمي بأن رضخه من خمس الخمس. واعلم أن أمير الجيش إذا أراد قسمة الرضخ، نظر إلى قدر عنائهم وأعمالهم: فيزيد المقاتل ومن قتاله أكثر على غيره، ويفضل المرأة التي تداوي الجرحى وتسقي العطشى، على التي تحفظ الرجال، بخلاف سهم الغنيمة؛ حيث يسوي فيه بين المقاتل وغيره، وفرق الأصحاب بينهما: بأن الغنيمة منصوص عليها، والرضخ مجتهد فيه؛ فجاز أنا يختلف كدية الحر؛ لما كانت منصوصاً عليها، لم تختلف، وقيمة العبد مجتهد فيها، فاختلفت. ولا يبلغ بالرضخ سهم راجل إن كان مستحقه راجلاً، وإن كان فارساً فوجهان: أحدهما – وهو قول ابن أبي هريرة -: أن الحكم كذلك. والثاني- وهو الذي قال الماوردي في كتاب "السير": إنه عندي أظهر، [وبه أجاب الإمام-:] أنه يجوز أن يبلغ به سهم راجل، ولا يبلغ به سهم فارس؛ لأن الرضخ مشترك بينه وبين فرسه، وإن [كان] ملكها فهو [في] رضخ نفسه مقصر عن سهم الراجل. وقال الرافعي: إن الوجهين ينبنيان على أن تعزير الحر [هل يجوز أن] يبلغ به حد العبد، أم لا؟ وقال: إن الظاهر الأول، [وهو] المفهوم من كلام الأصحاب، وبه أجاب في "الحاوي". قال: وإن خرجت سريتان، أي: من الجيش، الذي خرج إلى العدو إلى جهة احدة، أي: في طريقين أو طريق واحدة، فغنمت إحداهما شيئاً – [اشتركوا فيه]، أي: السريتان والجيش؛ لأنه جيش واحد، وقد يشهد له ما روي أنه – عليه السلام – لما فتح هوازن، بعث سرية من الجيش قبل

أوطاس، فغنمت، فأشرك – عليه الصلاة والسلام – بينها وبين الجيش. كذا قاله القاضي الحسين، وكذا لو غنم الجيش شيئاً شاركه السريتان؛ لأنه – عليه السلام – كان في غزوة أوطاس، فبعث سرية إلى حنين، ثم أشركهم فيما أصاب بـ"أوطاس". و [قد] روى أبو داود عن ابن عمر قال: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَيْشِ قِبَلَ نَجْدٍ وَابْتَعَثَ سَرَيَّةً مِنَ الْجَيْشِ، فَكَانَ سُهْمَانُ الْجَيْشِ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيراً اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيراً، وَنَفَّلَ أَهْلَ السَّرِيَّةِ بَعِيراً بَعِيراً، وَكَانَ سُهْمَانُهُمْ ثَلاَثَة عَشَرَ [ثَلاَثَةَ عَشَرَ] ". أما إذا لم يكن الجيش قد خرج إلى العدو، لم يشارك واحدة من السريتين، وإن كان بقربهما بحيث يلحقهما غوثه؛ لأن من فيه غير مجاهد ولا ردء لهم، وقد كانت السرايا تخرج من المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يشركهم المقيمون بها، وأما إحدى السريتين مع الأخرى: فإن كان الأمير عليهما واحداً، أو كانت إحداهما قريبة من الأخرى بحيث تكون عوناً لها اشتركا، وإن لم يكن كذلك فلا شركة. وفي "الشامل" إشارة إلى خلاف في هذه الحالة؛ فإنه قال: إذا بعث سريتين وهو مقيم، فغنمت أحداهما؛ لم تشركها الأخرى على الصحيح من المذهب. وفي "الحاوي": [الجزم] بالاشتراك، وقال فيما إذا بعثهما إلى جهتين مختلفتين: إنه لا مشاركة. نعم، لو انضم من كل سرية طائفة إلى الأخرى، وقصدوا جهة واحدة- اشتركوا فيما أخذوا منها، وهل تشرك بقية كل سرية [الطائفة التي خرجت منها فيما حصل لها؟ فيه وجهان: إن قلنا بالمشاركة شاركتهم الطائفة] – أيضاً – فيما غنموه في حال انفرادهم، وإلا فلا.

[قال:] وإن بعث أمير الجيش – أي: بعد خروجه كما ذكرنا – سريتين إلى موضعين، فغنمت أحداهما [شيئاً]؛ اشتركوا فيه؛ لأنه جيش واحد، وهذا ما اختاره في "المرشد". وقال القاضي الحسين: إنه مذهب الشافعي – رضي الله عنه – ولم يحك سواه، وحكى الإمام عن المراوزة القطع به. وقيل: ما يغنمه الجيش مشترك بينه وبين السريتين؛ لاعتضاده بهما، وما تغنمه كل واحدة من السريتين يكون بين السرية الغانمة وبين الجيش، لاعتضادها به، ولا تشركها فيه السرية الأخرى؛ لأن أحداهما ليست بأصل للأخرى، بخلاف الجيش. وذكر القاضي ابن كج – وكذا الإمام – أن شرط الشركة – فيما ذكرناه – أن يكونوا بالقرب مرتصدين للنصرة، وحد القرب: أن يبلغهم الغوث والمدد منهم إن احتاجوا. قال الرافعي: ولم يتعرض أكثرهم لذلك، واكتفوا باجتماعهم في دار الحرب، وهذا حكاه الغزالي عن القفال واستبعده، وهو في "النهاية" معزي إلى رواية بعض المصنفين عنه. وقال الإمام – أيضاً – فيما إذا كان المقصد قطراً واحداً بنواحيه: إنه لا يعتبر القرب، وهو مسلك المحققين. واستدل له بالخبر الذي ذكرناه في غنيمة أوطاس؛ فإن بينهما وبين حنين ليالي. فعلى الأول: لو كانت أحداهما قريبة والأخرى بعيدة، اختصت القريبة بالمشاركة. تنبيه: السرية، قال ابن السكيت: هي ما بين خمسة أنفس إلى ثلاثمائة. وقال الخليل: هي نحو أربعمائة، ويعضده ما روى أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ

أَرْبَعَةُ آلاَفٍ، وَلَنْ يُغْلَبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً مِنْ قِلَّةٍ". فرع: الجاسوس إذا بعثه الإمام لينظر عدد المشركين وينقل أخبارهم، فغنم الجيش قبل رجوعه إليهم، ثم رجع – ففيه وجهان في "الشامل" وغيره: أحدهما: لا يشاركهم؛ [لأنه لم يحضر الوقعة. والثاني: يشاركهم، وإليه ذهب الداركي؛ لأنه كان في مصلحتهم، وخاطر بنفسه بما هو أكثر من الثبات في الصف؛ فوجب أن يشاركهم]، وهذا ما اختاره في "المرشد". قال: وأما الفيء فهو كل مال أخذ من الكفار من غير قتال: كالمال الذي تركوه فزعاً من المسلمين، والجزية، والخراج، والأموال التي يموت عنها [صاحبها و] لا وارث له من أهل [الذمة]، أي: وغير ذلك مما في معناه كمال المرتد إذا قتل أو مات كما تقدم في بابه، والعشر المأخوذ من تجارتهم، وقد تقدم بيان [ممَّ اشتُقَّ] ذلك. قال: وفيها قولان: أحدهما: أنها تخمس؛ فيصرف خمسها إلى أهل الخمس، أي: الذين تقدم ذكرهم على النعت السابق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أربعة أخماس الفيء [خاصة] يصرفها في نفقته ومؤنة عياله، وخمسه [يقسمه على ما] يقسم عليه الخمس،

[وهو الأصناف الخمسة السابق ذكرها، وفيها خمس له صلى الله عليه وسلم؛ فوجب أن يخمس] بعد وفاته أيضاً كما قلنا في الغنيمة. كذا قاله القاضي الحسين، ويشهد له قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] الآية، ووجه الدليل منها: أن الله – تعالى- أضاف "الفيء" إلى رسوله صلى الله عليه وسلم كما أضاف الغنيمة إلى الغانمين، ثم استثنى من استثناه في سهم الغانمين، فوجب أن يكون إطلاق ما جعل لهم من الفيء محمولاً على المقدار المجعول لهم من الغنيمة، وهو الخمس، ويكون الباقي لمن أضاف المال إليه، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما كان الباقي من الغنيمة لمن أضافها إليهم وهم الغانمون، وهذا هو الجديد. والثاني: لا يخمس إلا ما هربوا عنه فزعا من المسلمين؛ أي: وما في معناه، وهو المبذول للكف عن قتالهم دون ما عدا ذلك؛ لأن الآية المذكورة – كما قال القاضي الحسين – نزلت في أموال بني النضير، وكان [النبي] صلى الله عليه وسلم قد صالحهم على أن يتركوا الدور والأراضي، ويحملوا كل صفراء وبيضاء، وما تحمله الركائب، فاختص الحكم بها، وهذا ما حكاه القاضي الحسين والعراقيون عن القديم، وعلى هذا يكون جميع ما سوى المذكور كالأخماس الأربعة من المذكور، كما قاله في "التهذيب". وفي "الحاوي": أنه يكون مصروفاً في المصالح. وفي "النهاية": أن ظاهر كلام صاحب "التقريب" يقتضي أن يكون مصروفاً إلى ما يصرف إليه خمس الفيء الحاصل بالإرعاب. وقيل: المحكي في القديم محض إخراج مال المرتد عن أن يكون فيئاً دون إخراج غيره من الأموال المذكورة؛ لأن المرتد يستصحب فيه [حكم] دار الإسلام؛ ولذلك يؤمر بقضاء الصلوات، ومال المسلم إذا مات ولا وارث له لا يخمس. وفي "النهاية": أنا إذا فرعنا على القديم، ففي الطرق تردد في الجزية؛ من جهة أن الكفار وإن كانوا يبذلونها على طوع، فسبب بذلهم لها استيلاء يد الإسلام عليهم، واستعلاء كلمة الله تعالى، فكانت حرية أن تلحق بالفيء الحاصل بالترعيب. وفي "الرافعي": أن منهم من أطلق في مال الفيء قولين: الجديد: أنه

بخمس، والقديم: المنع؛ لأنه لم يقاتل عليه، ونسب هذه الطريقة إلى رواية صاحب "التهذيب"، والجديد هو الصحيح؛ لاستواء جميع الأموال المذكورة في الوصول إلينا بغير قتال وإيجاف خيل وركاب، وعدم اختصاص بعض المسلمين بها. وقد روى البراء بن عازب، قَالَ: لَقِيتُ خَالِي وَمَعَهُ رَايَةٌ، فَقُلْتُ: إِلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَجُلٍ عَرَّسَ بِامْرَأَةٍ ابنه أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَأُخَمِّسَ مَالَهُ. وما ذكره القاضي [الحسين] [من سبب] النزول فيه نظر؛ لأن الماوردي ادعى أنه – عليه السلام – كان له في صدر الإسلام جميع الفيء؛ كما كان له جميع الغنيمة، واستدل له بما روي أنه – عليه السلام – ملك أموال بني النضير وكانت مما أفاء الله عليه، ولم يشاركه فيها أحد، ونسب ذلك إلى قول الشافعي – رضي الله عنه – أيضاً، وأنها صارت بعد وفاته من صدقاته التي تصدق بها مع نصف فدك، وثلث وادي القرى والحصون الثلاثة من خيبر: الكتيبة، والوطيح، والسلالم، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن أنزل الله في الفيء: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآية [الحشر: 7]، وفي الغنيمة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنفال: 41]. قال: وفي أربعة أخماسها قولان: أحدهما: أنها لأجناد الإسلام، أي: المقاتلة الخاصة الذين عينهم الإمام لجهاد العدو والذب عن البيضة والمنع من الحريم، وأثبت أسماءهم في الديوان، بعد استجماع البلوغ والعقل والإسلام والحرية والصحة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يستحقها في حياته لرعب العدو منه، قال – عليه الصلاة والسالم -: "نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ"، ورعب العدو بعده من الجيش للمقاتلة؛ فكانت لهم.

ولا يشرك من ذكر أنهم أهل السهم من الزكاة، وهم الذين يجاهدون إذا نشطوا، وهم أرباب المعايش والصنائع، والأعراب الذين يتطوعون بالجهاد إن شاءوا، ويقصرون فيه إن أحبوا، ولم يثبتوا في الديوان بسهم ولا رضخٍ كما لا يشركهم أهل الفيء في سهم الزكاة، وقد أشار الشيخ إلى الفريقين بقوله في قسم الصدقات: والسابع: الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان، وقد كان أهل الفيء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعزل عن أهل الصدقات، كما حكاه القاضي الحسين عن قول ابن عباس. وقال الماوردي: إن المطوعة كانوا يسمون أعراباً، ويسمى المقاتلة مهاجرين، وعلى ذلك يدل ما سنذكره من الحديث في أول عقد الذمة. وهذا القول هو الأصح في "الرافعي" و"النهاية" وعند النواوي. والثاني: أنها للمصالح؛ لأنها كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فصرفت بعده إلى المصالح كخمس الخمس من الفيء والغنيمة، وفي "الحاوي": أنه – عليه السلام – كان يصرفها فيها، وكذلك حكاه أبو العباس الروياني، وقال: إن ذلك هل كان واجباً عليه أو تفضلاً منه؟ فيه طريقان. وقد حكينا من قبل: أنها كانت له، وكان ينفق منها على نفسه وعياله، ويلزم من هذا خلاف في أنها كانت له أم لا؟ وكذا في أن نفقته من أي شيء كانت؟ فعلى قول من جعل الأخماس الأربعة ليست له، تنحصر في خمس خمس الفيء والغنيمة، وقد حكاه الروياني [أيضاً]. قال: فيعطون، أي: الأجناد، من ذلك قدر كفايتهم؛ لان إعانتهم من أهم المصالحن والباقي للمصالح، أي: الباقية بعد ذلك، وهذا ما اختاره في "المرشد"، فعلى هذا: ينبغي للإمام أن يثبت المقاتلة في جميع الثغور والبلدان في ديوانه، أي: دفتره؛ كما قاله في "الشامل" و"المرشد"، وما يحتاجون إليه في نفقاتهمومؤناتهم، وذلك يختلف بكثرة العيال وقلتهم، فيتعرفهم، ويقدر لكل منهم ما يكفيه لزوجاته، وإن كن أربعاً على الأصح. وفي "النهاية" حكاية وجه: أنه لايزيد على كفاية زوجة واحدة. وكذا نقدر له كفاية عبيد الخدمة الذين يحتاج إليهم في أمر الغزو، وكذا

من يعزو منهم معه، على الصحيح. وفي "النهاية": أن بعضهم قال: لا يعطي مؤنة عبيده الذين أعدهم للقتال. وكذا نقدر له كفاية من تلزمه نفقتهم من الأقارب، وعبداً واحداً للخدمة في حال عدم الغزو، كما قلنا في خادم الزوجة، ولا ندخل في تقديره زائداً على عبد واحد ولا نفقة العبيد الزَّمْنَى. وعن رواية الحناطي وأبي الفرج الزاز حكاية وجه: أنه لا يقدر للأولاد شيئاً؛ لأنهم لا يقاتلون، وهو غريب. ويلاحظ مع ذلك كونه من الفرسان أو الرجالة، وقربه من المغزى وبعده عنه؛ لأن البعد يوجب كرة الكلفة والقرب يقللها، وكذا يلاحظ خصب البلد الذي هو فيه وجدبه؛ فإن المؤن في بلاد الخصب أقل منها في بلاد الجدب، وغلاء السعر ورخصه. وينظر بعد ذلك فيمن يتجدد له من الأولاد أو أكثر ويزيده ما يليق به، وإلى ذلك أشار الشافعي – رضي الله عنه – بقوله: ويعطي المنفوس شيئاً، وكلما كبر زاده. [وكذا] ينظر فيمن نقص من عياله بطلاق أو موت أو بيع، وينقص مما قرره [له] بقدر كفاية ذلك. ويلاحظ في الكفاية – أيضاً – ثمن السلاح والمركوب، إن لم يكن هناك سلاح ودواب معدة لها موقوفة أو مشتراة من سهم المصالح. وقد حكى الإمام عن الأصحاب: إثبات قولين في أن ما يأخذه أحد المرتزقة للذرية الذكور هل يحكم له فيه بالملك أو للذرية؟ فإن قلنا بالثاني، فهل تملك بنات المرتزقة ما يأخذه لكفايتهن، أو يكون ملكاً للمرتزقة؟ فيه وجهان. ووجه الفرق: أن الغلمان يتوقع أن يبلغوا رجالاً للقتال كآبائهم، فإن حكمنا بالملك للبنات، ففي الملك للزوجات خلاف، والذي مال إليه الأكثرون: أنهن لا يملكن، وحكى الفوراني: أن القولين في الجميع من غير ترتيب. وفي "الرافعي": أن الإمام هل يدفع إلى الواحد من المرتزقة ما يتعهد به

الأولاد، أو يتولى الإمام تعهدهم بنفسه، أو بمن ينصبه لذلك؟ فيه قولان؛ أشبههما: أولهما. وفي مسألة الكتاب قول ثالث حكاه المراوزة أن الأخماس الأربعة تقسم على الجهات كما يقسم الخمس؛ فعلى هذا: يقسم جملة الفيء على خمسة أقسام، قالوا: وعليه يدل ظاهر قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآية [الحشر: 7]، ونسب الإمام هذا القول إلى القديم، ولاتفريع عليه. تنبيه: في قول الشيخ تفريعاً على القول الثاني: فيعطون من ذلك قدر كفايتهم، والباقي للمصالح - ما يفهمك أنا على القول الأول [لا نفعل] كذلك، بل نقسمه بينهم، والأمر كما أفهمه كلامه على الصحيح، وبه جزم الماوردي في أول الكلام، وحكى في أواخر الباب وجهين أوردهما القاضي الحسين وابن الصباغ أيضاً: أحدهما- وهو الذي صححه الرافعي -: أنه يصرف من الفاضل عن الكفاية ما يرى صرفه في السلاح والكراع وإصلاح ما تشعث من الحصون والثغور، ثم يرد الفاضل بعد ذلك عليهم. والثاني: أن الفاضل عن الكفاية يصرف عليهم، وبهذا جزم في "الوسيط"؛ حيث قال معبراً عن القول الأول: الأظهر أن الأربعة أخماس للمرتزقة كأربعة أخماس الغنيمة، لكن هذا اللفظ قد يفهم: أنا نسوي بين الرجالة وكذا بين الفرسان، ونفاضل بين الفرسان والرجالة كما نفعل في أربعة أخماس الغنيمة، وليس كذلك؛ بل المراد التشبيه في نفس القسمة لا في صفتها. وقد اختلف النقلة في كيفية القسمة: فالذي أورده الإمام: أنَّا نوزع الفاضل بعد كفاية كل منهم على عدد رءوسهم بالسوية، فإن المؤن قد زالت بالكلية وكأنها غير معتبرة، والفيء مضاف إليهم. والذي أورده ابن الصباغ والماوردي والقاضي الحسين - في باب تفريق أربعة أخماس الفيء -: أن الفاضل يقسم على قدر الكفايات، فإذا كانت كفاية واحد ألفاً مثلاً، وكفاية ثان ألفين، وثالث ثلاثة آلاف، ورابع أربعة آلاف - فمجموع

كفاياتهم عشرة آلاف، فيفض [جميع] أربعة أخماس الفيء على عشرة أجزاء، ويعطي الأول: عشرها، والثاني: خمسها، والثالث: ثلاثة أعشارها، والرابع: خمسيها، وهكذا يفعل إذا زادوا. ووراء ما ذكرناه فرعان: أحدهما: لو عجز مال الفيء عن كفاية الجند، قال الماوردي: فعلى القول الأول: لا شيء لهم غيره في الحال [والمآل]، وعلى الثاني: يبقى ديناً لهم على بيت المال، قال القاضي الحسين: فإن كان فيه شيء من مال المواريث والوصايا التي فاضت على مصرفها، صرفها إليهم. الثاني: لو فضل بعد الصرف للأجناد قدر كفاياتهم، والصرف في جهات المصالح في ذلك الوقت قدر حاجتها بحيث لم يبق مصرف فضل، وقلنا: إن الأخماس الأربعة للمصالح، فماذا يصنع به؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ والقاضي الحسين وكذا الماوردي وغيره: أحدهما: يستبقي في بيت المال؛ لأنه قد تنفق مصلحة فيكون معداً لها. والثاني: أن يرده إلى الجيش بقسطه على أرزاقهم. وعلى هذا قال الماوردي: ففي كيفية الرد إليهم وجهان: أحدهما: أنه معونة لهم لا تحسب عليهم. والثاني: يرد إليهم سلفاً معجلا، يحتسب به عليهم من رزق العام الثاني. وحكى الإمام: أن ظاهر نص الشافعي –رضي الله عنه – والمشهور في كتابه: أن الفاضل عن قدر الكفاية ووجوه المصالح يخرج ولا يدخر منه شيء ما وجد مصرفاً [له، فيبدأ ببناء] رابطات ومساجد على حسب الرائي فيها؛ تأسيا بسيرة الشيخين؛ فإنهما ما كانا يدخران مال سنة [قط]، بل كانا يصرفان مال كل سنة إلى مصارفه. وعلى هذا إن ألمت ملمة – والعياذ بالله تعالى – [وتعين] القيام بها، فإنه يخاطب [بها أهل] الثروة من المسلمين، وقال: إن الإمام إذا رأى أن يصرف من الفاضل عن كفاية المرتزقة شيئاً للمطوعة بالقتال، فلا معترض عليه.

واعلم أنه لا فرق في إعطاء الأجناد قدر الكفاية بين أن يكون بهم حاجة، أو لا، كما إذا كانوا موسرين من أهل الثروة؛ كما حكاه الإمام على القولين معاً، والله أعلم. قال: ويبدأ فيه، أي: في العطاء للمرتزقة، بالمهاجرين؛ لأن الله – تعالى- شهد لهم بالصدق، وبنصرة دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليهم بطلب فضله ورضوانه، وقدمهم في الذكر على غيرهم في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ...} [الحشر: 8]، وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ} [التوبة:100]، فكانوا جديرين بالتقديم فيما نحن فيه. والمستحق لهذا الاسم – كما حكاه الشيخ زكي الدين في "حواشيه على مختصر السنن" له-: أهل مكة، الذين هاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم [قبل الفتح؛ لوجوب البقاء عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم]، والتحول معه حيث تحول، وادعى بعضهم الإجماع عليه، ولوجوب أصل الهجرة عليهم [والاختلاف في وجوبها على غيرهم، والمراد بالمقدمين هنا: أولادهم كما بينه الأصحاب في] كتاب الصلاة. قال: ويقدم القرب فالأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه – عليه الصلاة والسلام – سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ؛ كما نطق به الخبر الصحيح، والقرب من الشريف تشريف؛ فاستحق به التقديم، وأيضاً ما سنذكره من فعل عمر، رضي الله عنه. ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي – وهو الذي جدد بناء الكعبة بعد إبراهيم عليه [الصلاة و] السلام – ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. واختلف النسابون من علماء الشريعة فيمن هو قريش من أجداده صلى الله عليه وسلم على أقوال: أصحها – وهو قول الشعبي -: أنه النضر بن كنانة. قال الأستاذ أبو منصور: وهو قول أكثر النسابين، وبه قال الشافعي وأصحابه.

فعلى هذا: من كان من ولد النضر فهو من قريش، ومن جاوز النضر بنسبه فليس من قريش. والثاني: أنه فهر بن مالك بن النضر؛ لأن اسمه قريش؛ وعلى هذا من يفرق نسبه عن فهر فهو من قريش، ومن جاوز فهراً بنسبه فليس من قريش. وهذان القولان لم يورد في "المهذب" و"الحاوي" سواهما. والثالث: أنه إلياس بن مضر. وذكر القاضي الحسين في "تعليقه" – في باب: قتال البغاة – أن اسم "قريش" يقع على من جمعهم وقرشهم قصي بن كلاب بن مرة بمكة، وسموا قريشاً؛ لأن قصيًّا قرشهم بمكة، أي: جمعهم. فإذا عرفت ذلك، فهمت أن قريشاً يقدمون على غيرهم، وأن بني هاشم مقدمون على سائر قبائل قريش؛ لان رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فإنهم أولاد جده؛ فكانوا أقرب من غيرهم، ولا يشاركهم في القرب أولاد [بني] عبد شمس ونوفل، وإن كان جد الجميع عبد مناف؛ لأنهم أولاد أخي جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بنو هاشم أقرب منهم بجد، وقضية هذا: ألا يساوي بني هاشم – أيضاً – بنو عبد المطلب؛ لأنهم أولاد أخي جد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرناه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم سوَّى بينهم في سهم ذوي القربى، وعلله بما ذكرناه، ثَمَّ. واتبعه عمر –رضي الله عنه – فيما نحن فيه، ولم يخالفه فيه أحد؛ كما أنه لم يخالفه أحد في تقديم القبيلتين على غيرهما. فلذلك قال الشيخ – رضي الله عنه -: ويسوي بين بني هاشم وبني المطلب أي: يجعلهم كالقبيلة الواحدة ثم يقدم بعد بني هاشم وبني المطلب بنو عبد شمس؛ لأن عبد شمس أخو هاشم والمطلب لأمهما أيضاً، كما نقله الإمام وغيره، فكان أقرب من نوفل؛ لأنه أخوهم لأبيهم خاصة، وكذلك فعل عمر، رضي الله عنه. ومن هذا يؤخذ دليل ما جزم به الماوردي فيما إذا أوصى لأقرب الناس إليه،

وله أخ شقيق، وأخ لأب: أنها للشقيق. ثم يقدَّم بعد بني عبد شمس بنو نوفل، [وبهم يكمل] أولاد عبد مناف، [ثم يقدم بعدهم بنو قصي، وهم بنو عبد العزي وبنو عبد الدار؛ لأن بعد العزي وعبد الار أخوا عبد مناف]، وهم أولاد كلاب؛ لان كلاباً ليس له عقب من غيرهمز ثم يقدم بنو مرة - وهم بنو تيم - وبنو مخزوم؛ لأن تيماً ومخزوماً أخوا كلاب، وأبو بكر - رضي الله عنه - من بني تيم. ثم يقدم بنو كعب - وهم بنو عدي وبنو سهم وبنو جمح - لأنهم إخوة مرة، وعمر - رضي الله عنه- من بني عدي، وهكذا يقدم بنو جد بعد جد؛ اقتداء بعمر - رضي الله عنه- فإنه كذا فعل لما رتبهم في ديوانه. قال: فإن استوى بطنان في القرب [إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم]، أي: كبني عبد العزى وبني عبد الدار، وكبني تيم وبني مخزوم. [قال:] قدم من فيه أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: فيقدم بنو عبد العزى على بني عبد الدار، لأن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، ومنهم - أيضاً - الزبير ابن العوام؛ [لأن العوام] أخو خديجة، ويقدم بنو تيم على بني مخزوم؛ لأن عائشة منهم، وهكذا فعل عمر - رضي الله عنه - وهكذا يقدم بنو

عدي على بني سهم وبني جمح؛ لأن حفصة منهم، وعمر – رضي الله عنه – لما قسم سامح بحقه، فأخرهم وقدم بني جمح، وسوى بين بني سهم وبني عدي، فلما ولي المهدي أمير المؤمنين قدم بني عدي على بني جمح وبني سهم؛ لما ذكرناه، ولسابقة عمر، رضي الله عنه. قال: ثم بالأنصار، أي: من الأوس والخزرج؛ لقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة: 100]، ولأن لهم من الأثر في الإسلام ما ليس لغيرهم؛ فإنهم آووا ونصروا، وآثروا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أنفسهم بالأنفس والأموال، وقد روي أنه – عليه السلام – قال لهم حين وجدوا في أنفسهم –لما أعطي غيرهم من مال هوازن ولم يعطهم -: "ألا تجيبوني يا معشر الأنصار، أما والله لو شئتم لقلتم – ولصدقتم -: "أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآمناك، وعائلاً فآسيناك، يا معشر الأنصار، وجدتم في أنفسكم للعاعة من الدنيا، تألفت بها قوماً أسلموا ووكلتكم إلى إيمانكم، أفلا ترضون عنا يا معشر الأنصار أن يرجع الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَولاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ؛ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، وَلَو سَلَكَ النَّاسُ شِعْباً [وَالأَنْصَارُ شِعْباً] لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ! " فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا بالله قسماً وحظَّا. واللعاعة: خسيس الثمر، وقيل: أوائل البقل عند طلوعه. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ دال على أن البدأة بالمهاجرين، ثم يقدم من

قبائلهم الأقرب فالأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على النحو الذي ذكرناه، ويسوي بين بني هاشم وبني المطلب من المهاجرين، وإذا استووا في القرب مع الهجرة، قدم من فيهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يبدأ بعد المهاجرين بالأنصار، وهذا إذا تأملته اقتضى أمرين: أحدهما: أن من هاجر ونسبه بعيد من رسول الله صلى الله عليه وسلمن يقدم على من لم يهاجرن ونسبه قريب منه- عليه السلام - بل إن من هاجر مقدم على الأنصاري، والأنصاري مقدم على من نسبه أقرب من نسب الأنصاري على رسول الله صلى الله ليه وسلم وابن الصباغ والقاضي الحسين وغيرهم، ودلَّ عليه ظاهر لفظ الشافعي - رضي الله عنه-: أن الذين يبدأ بهم قريش؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشاً [ولا تقدموها"]. ثم يقدم من قريش الأقرب فالأقرب -كما تقدم - إلى أن ينتهوا، فيقدم بعدهم الأنصار. واعتمدوا في ذلك فعل عمر- رضي الله عنه - حين رتب الجيش على هذا النحو، وجعل العباس في أولهم، كما نقله الإمام، [مع] أنه لم يكن من المهاجرين، [بل] من المأسورين يوم بدر، ولم يخالفه أحد، وحينئذ فيتعين حمل كلام الشيخ على أحد أمرين: إما أن يكون قد أطلق لفظ "المهاجرين" وأراد بهم قريشاً؛ لأن أكثر المهاجرين منهم، مع إرادة التنبيه على فضلهم بالهجرة منضمًّا إلى فضلهم بالنسب، كما عدل عن لفظ "الأوس والخزرج" إلى لفظ "الأنصار"، وليتبع في ذلك لفظ الكتاب العزيز. وإما أن يكون في كلامه تقديم وتأخير، وهو شائع في كلام العرب، بل في الفصيح منه؛ قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] [والتقدير: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجاً]. وقال تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه:129]،

والتقدير: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاماً، وغير ذلك من الآيات، وإذا كان كذلك، كان تقدير كلامه: ويقدم الأقرب فالأقرب- أي: من القبائل – إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبدأ منهم بالمهاجرين، أي: عند الاستواء في القرب، فإن استووا فيها قدم من فيه أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بالأنصار. فتكون الهجرة رجحة عند الاستواء في القرب، فإن عدمت الهجرة كان الترجيح بالنصرة. وعلى التقديم بالهجرة ينطبق قول الشافعي – رضي الله عنه- الذي حكاه أبو الطيب: ومن فرض له الوالي من قبائل العرب، رأيت أن يقدم الأقرب فالأقرب، فإذا استووا قدم أهل السابقة على غير أهل السابقة ممن هو مثلهم في القرابة. وكذا قول الماوردي: أما ترتيب القبيلة الواحدة من قريش أو غيرهم، فينبغي أن [يقدم] منهم ذو السابقة، [ثم ذو السن]، ثم ذو الشجاعة. وعلى التقديم بالنصرة ينطبق ما حكاه الرافعي عن أبي الفرج السرخسي: أنه حمل ظاهر لفظ الشافعي –رضي الله عنه – في تقديم الأنصار على غيرهم من قبائل العرب بعد قريش، على العرب الذين هم أبعد من الأنصار، فأما سائر العرب الذين هم أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار فهم مقدمون على الأنصار. وبهذا يبقى قول الشيخ: ثم بسائر الناس، على عمومه، كما سنذكره. لكن في "المهذب" و"التهذيب"، و"تعليق" القاضي الحسين و"الرافعي": أنا نقدم عند الاستواء في القرب بالسن؛ كما روي عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي بني هاشم وبني المطلب، فإذا كان السن في الهاشمي قدمه على المطلبي، وإذا كان في المطلبي قدمه على الهاشمي. وكذلك اعتمد عمر – رضي الله عنه – فإن استووا في السن قدم أقدمهما هجرة وأفضلهما سابقة، وأنه إذا فرغت قريش قدمت الأنصار. [وعلى] كل حال، فما ذكرته أقرب من أن يكون ما قاله مخالفاً فيه كافة الأصحاب، على أن ما دل عليه ظاهر لفظ الشيخ من تقديم المهاجرين على

من هو أقرب منهم قد يقال: إنه مقتضى كلام الأصحاب، وإن خالفوه؛ لأنهم جزموا بتقديم الأنصار على من هو أقرب منهم، وإذا كان كذلك فالمهاجري مقدم على النصاري بالاتفاق؛ فاقتضى وصفه الذي يقدم به على الأنصاري، أن يتقدم به على من يقدم عليه الأنصاري، وجوابه: أن الأنصار ما قدموا على قريب، بل على قريب ليس [من] قريش، ولا يبعد أن يقولوا: إن المهاجرين من غير قريش مقدمون على من هو أقرب منهم من [غير] قريش، بل يجب القطع به؛ لما ذكرناه، [والله أعلم]. قال: ثم بسائر الناس. هذا الكلام يجوز أن يكون المراد به سائر الناس من العجم؛ بناء على التقدير الذي سبق؛ لأنه إذا قدم الأقرب فالأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لزم أن يكون العجم بعد جميع العرب؛ لأن العرب أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [من غيرهم]، وعند الانتهاء إلى العجم لا يمكن التقديم بالقرب؛ لأنه لا تنضبط معرفته، بل من بعد عدنان من العرب لا يمكن ضبط قبائلهم؛ للاختلاف في المقدم منها والمؤخر، وإنما قدمناهم على العجم للعلم بأن العرب أقربن وإذا كانوا كذلك كانوا كالقبيلة الواحدة؛ فيقع التقديم فيهم بالسن والفضائل والسابقة إن كانت لهم، كما صرح به الماوردي، وعليه ينطبق قوله في "المهذب" والبغوي: ولا يقدم بعض العجم على بعض بالنسب. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: ثم بسائر الناس، أنه يبدأ بعد الأنصار بسائر الناس؛ بناء على أن مراده بالمهاجرين: قريش، وحينئذ فلا يمكن حمل الكلام على ظاهره؛ لأن الذين يبدأ بهم بعد الأنصار بالاتفاق بقية العرب ثم بالعجم، حتى قال الماوردي: إنه بعد الأنصار يعدل إلى مضر، ثم إلى ربيعة، ثم إلى جميع ولد عدنان، ثم إلى قحطان. فرتبهم على السابقة، [والله أعلم].

ثم ما ذكرناه من التقديم والترتيب، حكى الرافعي عن الأئمة: أنه مستحب لا مستحق، وعليه ينطبق قوله في "المهذب": ويستحب [أن يبدأ] بقريش. ولا يظهر للشرف الذي ذكرناه أثر في التفضيل في المقدار، بل يستوي ذو النسب والعلم والورع والسابقة في الإسلام له أو لآبائه، وغيرهم فيه، أعني في قدر الحاجة إذا قلنا: إنهم يعطون من أربعة أخماس الفيء للمصلحة، وكذلك إذا قلنا: إن أربعة أخماس الفيء لهم وفضل شيء عن قدر كفايتهم. هكذا جزم به الماوردي وغيره، وعليه نص الشافعي – رضي الله عنه – اتباعاً لقضاء أبي بكر وعلي – رضي الله عنهما- ولأنهم يعطون بسبب الجهاد وهم مستوون فيه؛ فلم يفضل بعضهم على بعض كما في الغنيمة. وأشار القاضي الحسين إلى خلاف في ذلك [بقوله]: ولا يزاد بسبب مما ذكرناه على المذهب. وحكى الرافعي عن رواية أبي الفرج السرخسي وجهاً: أنه يجوز التفضيل اتباعاً لقضاء عمر، رضي الله عنه. وحكى الإمام عن رواية صاحب "التقريب" أنه قال: إن اتسع المال، ورأى الإمام أن يفعل ذلك كما فعله عمر – رضي الله عنه – كان [ذلك] محتملاً. وأن الشيخ أبا محمد – رحمه الله – كان يقول: التصرف في ذلك قريب من التصرف في حدِّ الشرب؛ فإنَّا قد نفوض الرأي إلى الإمام [فيه]. واعلم أن الأصحاب قالوا: الأولى للإمام أن يجعل الجيش كتائب، ويجعل لهم علامات يتعارفون بها فيما بينهم، ويعقد لهم ألوية، ويجعل على كل قبيلة نقيباً، كما فعله – عليه السلام – في طائفة الأنصار، ثم النقيب يعرف على كل طائفة من القبيلة عريفاً، روى الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف عام خيبر على كل عشرة عريفاً، وجعل يوم فتح مكة للمهاجرين شعاراً، [وللأوس شعاراً]،

و [للخزرج شعاراً]. والمعنى في ذلك: أن يسهل عليه الأمر إذا أراد أن يَرْزُقهم أو يدعوهم لغزو أو غيره. والأولى [له]: [أن يرتب أسماءهم] في الديوان على حسب ما ذكرناه في العطاء؛ اقتداء بعمر – رضي الله عنه – فإنه هكذا فعل لما كثر الناس والمال في زمنه. وينبغي أن يجعل للعطاء وقتاً معلوماً في السنة، والأولى أن يكون مرة واحدة، فإن رأى زيادة مصلحة فعله، ولا يجعله [في] كل أسبوع؛ كي لا يكون طريقاً لتعطيل الجهاد. وقد ذكرنا أن الديوان: عبارة عن الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجند، وفي كلام الماوردي ما يدل على: أنه الموضع الذي يجلس فيه للكتابة؛ فإنه حكى اختلافاً في [أن] الديوان سمي بذلك لماذا؟. فحكى عن قوم: أن سببه أن كسرى اطلع يوماً على كتابه وهم يحسبون مع أنفسهم، فقال: ديوانه، أي: مجنون؛ فسمي موضع جلوسهم ديواناً. وعن آخرين: أنه سمي بذلك؛ لأن الديوان اسم للشيطان؛ فسمي الكتاب باسمهم؛ لوصولهم إلى غوامض الأمور وضبطهم الشاذ وجمعهم المتفرق، ثم سمي موضع جلوسهم باسمهم، فقيل: ديوان. قال: ومن مات منهم، أي: من أجناد أهل الفيء، دفع إلى ورثته، أي: من الأولاد الذين كانت تلزمه نفقتهم، وزوجته – الكفاية، أي: من أربعة أخماس الفيء؛ اعتباراً بالمصلحة؛ فإنهم إذا علموا انه يفعل مع عيالهم كذلك، وفروا نفوسهم على الجهاد، ولم يتشاغلوا عنه بأسباب التحصيل للأموال ليخلفوها لهم، وقد روي أن عمر –رضي الله عنه – كان يفرض لأولاد المرتزقة.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الأولاد والزوجة فقراء أو أغنياء، كما ذكرنا في الصرف للأجناد. وهذا الذي ذكره الشيخ هو ما جعله الغزالي الأظهر، واختاره في "المرشد". وانتهاء الدفع للزوجة بتزوجها، وفي الأولاد الذكور ببلوغهم على صفة يقدرون على التكسب والقتال معها، فإن بلغوا عاجزين عن ذلك استمروا على الرزق كما كانوا يرزقون قبل البلوغ، كذا ذكره ابن الصباغ وغيره. وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر: أن بالبلوغ انقطع الاستحقاق، وحكاية الوجهين أيضاً فيما إذا بلغ واحد من أطفال المرتزقة في حياة أبيه كذلك؛ لأنه جمع بين المسألتين، وحكى فيهما ثلاثة أوجه، ثالثها: يدفع للبالغ كذلك من أولاد الأجناد وأولاد الموتى. ثم قال: والأصح عندي أن ينظر: فإن كان الذي أقعدهم عن القتال موجباً لنفقاتهم على الآباء بعد بلوغهم كوجوبها عليهم في صغرهم، كالجنون والزمانة المانعة من الاكتساب – بقوا على حكم الذراري في مال الفيء. وإن كان ما أعجزهم عن القتال لا يوجب نفقاتهم بعد البلوغ؛ لقدرتهم على الاكتساب مع العجز عن القتال- خرجوا عن حكم الذرية في مال الفيء. وإن كان ما أعجزهم عن القتال لا يوجب نفقاتهم بعد البلوغ؛ لقدرتهم على الاكتساب مع العجز عن القتال – خرجوا عن حكم الذرية في مال الفيء. وأما الإناث، فقضية ما في "الوسيط": أنهن يرزقن إلى أن ينكحن. ووراء ما ذكره الشيخ أمران: أحدهما: حكى في "المهذب" وغيره من الكتب المشهورة قولاً آخر جعله الرافعي الأظهر: أن الذرية والزوجة لا يعطون شيئاً؛ لأن ما استحق به العطاء – وهو إرصاد النفس للجهاد – مفقود فيهم.

والثاني- حكاه الماوردي: أن القولين في الذرية محمولان على حالين: فالأول: محمول على ما إذا كان في الذرية من يرجى أن يكون من أهل الفيء إذا بلغ فيعطي قدر الكفاية. والثاني: محمول على ما إذا فقد ذلك. قال: إن بلغ الصبي، أي: من الذرية، واختار أن يفرض له، أي: يقدر له قدر كفايته من مال الفيء، ويكون من المقاتلة – فرض له؛ كما لو جاء واحد من المتطوعة ورام ذلك، لكن بشرط أن يكون في المال متسع. [قال: وإن لم يختر ترك، أي: ولا يعطي من مال الفيء ما كان يأخذه؛ لأنه صار من أهل التكسب والاستقلال]. قال: ومن خرج [عن] أن يكون من المقاتلة، أي: بمرض لا يرجى زواله، كالعمى والزمانة، أو بجرح في القتال وغيره – سقط حقه، أي: من مال الفيء في المستقبل؛ لزوال سبب استحقاقه، وهو إرصاد النفس للجهاد. وفي "الشامل" و"الحاوي" و"تعليق" القاضي الحسين: أن في إعطائه قدر الكفاية من مال الفيء القولين في الذرية وعليهما ما تقدم. أما إذا كان المرض مرجو الزوال؛ لم يسقط حقه وإن طال، قال الماوردي: وسواء فيه المخوف وغيره. وأما حقه في الماضي فينبغي أن يكون الحكم فيه كالحكم فيما لو مات إذا قلنا بسقوطه في المستقبل، وقد قال الأصحاب: إنه إن مات بعد جمع المال وانقضاء الحول صرف نصيبه إلى ورثته بلا خلاف؛ لأنه حق لازم ثبت له؛ فانتقل لورثته كالجرة في الإجارة. ولا يسقط هذا الحق بالإعراض عنه على الظاهر؛ كما قاله الإمام بعد أن حكى تردداً فيه عن الأصحاب. ولو مات بعد جمع المال وقبل تمام الحول فقولان – ويقال: وجهان:

أظهرهما: أن قسط ما مضى يصرف إلى ورثته كالأجرة في الإجارة. والثاني: المنع، كالجعل في الجعالة لا يستحق قبل تمام العمل. وبنى القاضي الحسين والفوراني الخلاف على الخلاف في الذمي إذا مات في أثناء الحول هل يطلب منه حصة ما مضى، أم لا؟ قال الإمام: وهذا البناء غير مرضٍ عند المحققين؛ من جهة أن [مدة] الجزية لا تنقص عن السنة أصلاً، وهذا توقيف شرعي متفق عليه، ومدة العطاء لا حدَّ لها، ولو أراد صاحب الأمر أن يجعلها ستة أشهر أو أقل جاز، ولا معترض عليه. قلت: وما قاله القاضي ظاهر في حصته من الجزية وما قاله الإمام ظاهر في حصته من غيرها. ولو مات قبل جمع المال وبعد تمام الحول، فظاهر النص: أنه لا شيء للوارث، وبه أجاب القاضي أبو الطيب وآخرون، واقتصر في "التهذيب" عليه. وقال الشيخ أبو حامد: إن عطاءه مصروف إلى ورثته. وادعى ثبوت الحق له بمضي المدة، وهذا ما أورده القاضي الحسين، وقال الماوردي: إنه خطأ. ولو مات قبل حيازة المال في أثناء الحول، فالذي جزم به الماوردي والفوراني: عدم الاستحقاق، وفي "الرافعي": أنا إن قلنا: إنه لو مات بعد انقضائه لا يستحق، فهاهنا أولى، وإن قلنا: إنه يستحق ثم، ففي قسط ما مضى الخلاف المذكور فيما إذا مات بعد جمع المال وقبل تمام الحول، والمحكي في "الشامل" عن أبي حامد: المنع. وهذا كله مبني على ما إذا كان الإمام يعطي في السنة مرة واحدة، أما إذا عين له وقتين أو أكثر، فالاعتبار بمضي المدة المضروبة. فرع: على المرتزق من الفيء إذا أمره الإمام بالخروج إلى الغزو ألا يتخلف، فإن امتنع سقط حقه؛ كالزوجة يسقط حقها من النفقة ونحوها بالنشوز. قال: وإن كان في مال الفيء أراضٍ، وقلنا: إنها، أي: الأخماس الأربعة، للمصالح- صارت وقفاً تصرف غلتها فيها؛ لما في ذلك من استدامة المصلحة

واستدراك الغلة في كل عام، وقضية هذا: أن نجزم بمثله في سهم المصالح من خمس الفيء، وكلام الرافعي مصرح بجريان الخلاف الآتي فيه. قال: وإن قلنا: إنها للمقاتلة، قسمت بينهم؛ لأنها ملك لهم، فوجب قسمتها بينهم - كالمنقول وغيره - كأربعة أخماس الغنيمة. وهذا ما اختاره النواوي. وقيل: تصير وقفاً وتقسم غلتها بينهم؛ لأن ملك الغلة في كل عام أمر وأنفع، ولأن أهل الفيء قاموا في تملكه مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وحقه من أراضي الفيء وقف؛ فكذلك ما ملكه الجيش بعده منها. ويخالف ما ينقل ويحول؛ فإنه لا تتأبد منفعته، ويفارق الغنيمة؛ لأن للاجتهاد مدخلاً هاهنا في التقدير، بخلاف الغنيمة، وهذا ما دل عليه ظاهر [لفظه في] "المختصر"، وقال به كثير من أصحابنا، كما حكاه الماوردي، وهو أصح في "الرافعي". فعلى هذا: هل تصير وقفاً بنفس حصولها للفيء من غير لفظ؛ كما يصير الذراري والنسوان [بنفس الأسر أرقاء]، أم لا بد [من] أن يتلفظ الإمام بالوقف؟ فيه وجهان في "الشامل" وغيره، والذي رجحه الماوردي: الأول، كما دل عليه كلام الشيخ، ونسب الثاني إلى بعض البصريين، وقال: إنه خطأ، وهو الذي صححه الرافعي والنووي، وقالا: إن رأى الإمام أن يبيعها ويصرف ثمنها لهم، فعل، فإن رأى وقفها، فعل، وهذا وجه ثالث حكاه الإمام.

وحكى الرافعي وجهاً: أن المراد بالوقف – هاهنا – على التصرف، لا الوقف الذي يمنع البيع وغيره. وظاهر كلام الإمام يقتضي أنه الراجح عند الأصحاب. وهذا حكم الأخماس الأربعة. وأما الخميس الباقي، ففي "المهذب": أنه لأهل الخمس، وفي "الشامل" و"الحاوي": أنا إن قلنا: إن الأخماس الأربعة لا تصير وقفاً، فكذلك الخمس، وإن قلنا: إنها تصير وقفاً، فكذلك الخمس إلا سهم ذوي القربى [منه]؛ فإن فيه وجهين: أحدهما – وهو الأصح في "الحاوي" -: أن الأمر كذلك. ومقابله هو المختار في "المرشد"؛ لأن تملكهم له على سبيل الميراث، ولا مدخل للاجتهاد فيه. وفي "الرافعي": أن في سهم ذوي القربى الخلاف المذكور في الأخماس الأربعة، إذا قلنا: إنها للمقاتلة. وأما سهم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل، فمترتب على سهم ذوي القربى، وأولى بكونها وقفاً، والله أعلم. وقد نجز شرح مسائل الباب، فلنختمه بما تقدم الوعد به من فروع أقوال الملك في الغنيمة: فمنها: إذا وطئت جارية من الكفار، نظر: إن كان ذلك قبل الحيازة واستقرار الظفر بهزيمة أهلها- فهي باقية كما كانت؛ فيكون الوطء زنى إن علم بالتحريم؛ فيجب به الحد – قاله الماوردي، وهذا محمول على ما إذا قصد فعل الزنى، أما إذا قصد اختداعها عن نفسها والاستيلاء عليها واسترقاقها، فقد قال القاضي الحسين عند الكلام فيما إذا فعل المسلمون بعضهم ببعض في دار الحرب ما يوجب الحد: إنه لا حد عليه. ولو لم يقصد ذلك ولكنه جهل التحريم، فهو وطء شبهة يسقط الحد، قال

المتولي في باب قتل المرتد: ولا يجب المهر؛ لأن مالها غير مضمون بالإتلاف؛ فكذلك منفعة بضعها. وإن كان الوطء بعد استقرار الظفر والحيازة لها: فإن كان بعد وقوع القسمة فلا يخفى حكم ذلك من القواعد، وإن كان قبلها، نظر: فإن لم يكن للواطئ في الغنيمة سهم ولا رضخ ولا ولد له ولا والد يستحق ذلك، فحكمه – كما قال القاضي الحسين – حكم من وطئ جارية بيت المال: فإن كان ذميًّا وجب عليه الحد، وإن كان مسلماً فوجهان: أظهرهما: أنه يحد، وعلى ذلك جرى صاحب "التهذيب" والروياني. ومقابله هو الأقوى عند ابن كج، وقال الإمام في أواخر باب السرقة: إنه لا يجب أن يعتد به. وإن كان ممن له في الغنيمة سهم أو رضخ، فلا حد عليه سواء علم بتحريم ذلك أو لا، وسواء قلنا: له ملك أو لا. قال القاضي الحسين: ويخالف الجارية المشتركة إذا وطئها أحد الشريكين؛ حيث يجب عليه الحد على أحد الوجهين، كالوجهين في وجوبه بوطء الجارية المحرمة عليه برضاع أو نسب؛ لأن ملك الشريك هناك متأكد، بخلاف جارية المغنم. وقال الإمام: إن القول القديم في إيجاب الحد على الشريك يجري فيه. وحكى في آخر الفصل أن القاضي حكى على قولنا: إن الشريك يجب عليه الحد، وجهين في وجوب الحد على من وطئ جارية من المغنم، وبإيجابه قال أبو ثور. وإن كان ممن له في الغانمين ابن يستحق السهم أو الرضخ، فهكذا حكمه. وفي "تعليق" القاضي الحسين: إلحاق الوالد بالولد في ذلك. وفي "النهاية": أنه لا أثر لذلك ويجب الحد؛ لأن من وطئ جارية أبيه، وجب عليه الحد، بخلاف من وطئ جارية ابنه. وهذا هو الصحيح. والمهر واجب على الواطئ وإن كان من الغانمين، ومصرفه مصرف الغنائم، قال الماوردي: سواء حصلت في ملكه بعد ذلك بالقسمة أو لا، وسواء كان عدد الغانمين محصوراً أو لا، يعني: وفي الغنيمة غير الجارية وحكى عن بعض الأصحاب فيما إذا كان عدد الغانمين محصوراً: أنه يسقط

من المهر بقدر حصته منها، سواء حصلت في ملكه أو لا؛ لأن ملكه موقوف عليهم، ولاحق لغيرهم فيها، وهذا هو ظاهر النص، وهو الذي أورده القاضي الحسين، والإمام والقاضي ابن كج جعلاه مبنيًّا على أن كل واحد من الغانمين قد ملك حصةً من الغنيمة قبل القسمة، وبنيا الأول على القول بعدم الملك، وهوا لذي جزم به العراقيون؛ بناء على الأصل المذكور، وقال الماوردي: إنه الأشبه. وجعل النص محمولاً على ما إذا كان قد تملكها بالقسمة مع جماعة محصورين قبل الوطء، ولو حمل على حالة كون الجارية كل الغنيمة لكان أولى؛ فإن قياس ما سنذكره عن "الحاوي" في هذه الصورة: الجزم بسقوط حصته من المهر. وقال الإمام فيما إذا وقعت الجارية في حصة غيره: إن قضية الوجه الذي رواه صاحب "التقريب" – من أن نتبين بالقسمة أن ما حصل في يد كل واحد، قد ملكه بنفس الاغتنام – أن يجب جميع المهر لمن وقعت [في] قسمته، واستضعفه، وروى عن صاحب "التقريب" فيما إذا وقعت الجارية في حصة الواطئ: أنه لا يجب عليه شيء من المهر؛ بناء على الوجه المذكور، وقد حكاه ابن كج قولاً غريباً عن رواية أبي الحسين. وقد ظهر بما ذكرناه أن محل الخلاف في وجوب جميع المهر أو بعضه فيما إذا كان عدد الغانمين محصوراً، أما إذا كان غير محصور، فيغرم جميع المهر، وتوضع في المغنم وتقسم؛ فإن حصته من المهر ليست نفساً، وبذلك صرح القاضي الحسين وغيره، وجعل الإمام محل الاتفاق على ذلك إذا طابت نفس الواطئ بأداء جميع المهر، وقال فيما إذا قال الواطئ: أسقطه قدر حصتي -: فلابد من إيجاب، فإن تيسر الضبط فذاك، وإلا أخذ المتحقق وحط المتيقن، وتوقف في المشكوك فيه. وهكذا كله إذا خلا الوطء عن الإحبال، [أما] إذا أحبلها أحد الغانمين، فحكم الحد والمهر كما تقدم، فإذا لم يوجب الحد، فهل يثبت الاستيلاد؟ قال بعضهم: إن قلنا: لا ملك له، لم ينفذ في الحال، وفي نفوذه إذا ملكها يوماً ما القولان المذكوران في باب الاستيلاد، وهذا ما أورده العراقيون، وقال

القاضي أبو الطيب: إنه لا يختلف المذهب فيه. وإن قلنا: غنه قد ملكن ففي نفوذه في الحال في حصته إذا كان موسراً وجهان؛ كالوجهين في نفوذ الاستيلاد المشترى في زمن الخيار على قولنا: إن الملك له؛ لأنه ملك ضعيف، وهذه الطريقة رواها صاحب "التقريب". وقيل: إن قلنا: إنه يملك نفذ، وألا فقولان كالقولين في استيلاد الأب جارية ابنه، وضعف الإمام هذه الطريقة. ويخرجه من الطريقين عند الاختصار قولان أو وجهان: أحدهما: نفوذه مطلقاً، وهو الذي أورده القاضي الحسين، سواء كان الغانمون محصورين أو لا، قال: لأنا نتيقن أن له شركاً فيها. وهذا بناه على الصحيح في أن السراية تحصل مع اليسار بنفس الاستيلاد لا بدفع القيمة. وقد نسب المنع إلى ابن أبي هريرة، وهو المذكور في أكثر الكتب، وكذلك في "الحاوي" في حالة عدم انحصار الغنيمة، وقال فيما إذا كانوا محصورين: إنه ينظر: فإن لم يكن في الغنيمة سواها قطعنا بنفوذه، وإن كان ثمة غيرها ففي نفوذه وجهان؛ بناء على الوجهين في سقوط مهرها إذا انحصر عددهم، وفي المغنم غيرها. وعلى وجه المنع، فالفرق بينه وبين ما إذا لم يكن ثم غيرها: أنه إذا كان ثم غيرها احتمل أن يجعل الإمام الجارية لغيره؛ فإنَّ له أن يقسم الغنيمة قسمةَ تحكمٍ لا قسمة مراضاة، بخلاف ما إذا لم يكن ثم غيرها. وقد أشرنا إلى أن محل ما ذكرناه إذا كان الواطئ موسراً بقيمة ما يخص الغانمين من الجارية، فلو كان معسراً، فإن كان الجند محصورين فالحكم في نفوذه في حصته كما تقدم، ولا يسري الاستيلاد إن نفذناه إلى باقيها، وهكذا الحكم فيما إذا كانت حصته من باقي الغنيمة تفي بقيمة ما بقي من الجارية، ورُدَّ، قال الإمام: ولا نقول: إن حق السراية يلزمه اختيار التملك؛ فإن الاختيار بمثابة ابتداء الاكتساب. ولو كان عدد الغانمين غير محصور، ففي "تعليق" القاضي الحسين: أنها لا تصير أم ولد؛ لأن نصيبه منها على قول الملك مجهول، والحكم بانعقاد أمومة غير معلومة لا معنى له.

وقال الرافعي: إن أفرزها الإمام لطائفة قبل الوطء وهو منهم، فالحكم كما إذا كانوا محصورين، وإلا فلا نحكم بالاستيلاد في الحال، فإن وقعت في الآخرة في حصة الواطئ ثبت الاستيلاد حينئذ، أي: إن أثبتناه في حصة الموسر، وإن صار بعضها له، ثبت في ذلك البعض، ونسبه إلى "التهذيب" وغيره. التفريع: إن قلنا بنفوذ استيلاد الموسر في حصته، ففي "الحاوي" أنه هل يسقط خيار الإمام في قسمتها لمن شاء، ويلزمه دفعها إليه، أو يكون على خياره؟ فيه وجهان محتملان. قلت: والثاني لا وجه له أصلاً. وإن قلنا بعدم النفوذ، فإن تأخرت القسمة حتى وضعت، فعن ابن كج: أن الجارية تجعل في المغنم، وتدخل في القسمة، وإن دخلها نقص بالولادة لزمه الأرش. وقبل الوضع هي حامل بحُرٍّ كما سنذكره، ولا يجوز بيعها على الصحيح، وبه جزم العراقيون، وكذلك قسمتها إن قلنا: [إن] القسمة بيع. وعلى هذا، فعن صاحب "التقريب": أنه يحتمل أن تسلم له في حصته إن كانت حصته قدر قيمتها أو أكثر، ويأخذ الفاضل، وإن كانت أقلن أخذ منه الفاضل، وهذا ما حكاه البندنيجي عن أبي إسحاق، وضعفه الأصحاب. وقيل: تؤخذ منه قيمتها، وتلقى في الغنيمة؛ لأنه بالإحبال حال بينها وبين الغانمين. وفي "الحاوي" حكاية وجهين مع الأول: أحدهما: أنها لا تقوم عليه. والثاني: أنها تقوم عليه إن قلنا: إنه إذا ملكها صارت أم ولد لهن وإلا فلا تقوم عليه، وهذا [قد] حكاه أبو الطيب أيضاً، وللإمام احتمالان: أحدهما: أنها توقف إلى أن تلد، ثم تلقى في الغنيمة. والثاني: جواز قسمتها في هذه الحالة، وأنه يقوى إذا قلنا: إن القسمة إقرار. ولا شك في أن الولد ينسب – إذا لم نوجب الحد – وينعقد في حال يسار

الواطئ حُرًّا إن ثبت الاستيلاد في جميع الجارية؛ لان له شبهة ملك، وهل تجب قيمته؟ فيه وجهان ينبنيان على أن الجارية هل تقوم عليه أم لا؟ فإن [قلنا:] نعم، لم يلزمه؛ لأنها في ملكه حين وضعت الولد، وإن قلنا: لا، لزمته؛ لأنه منع رقه بوطئه، كذا حكاه الرافعي، وظاهره: أن محل الخلاف إذا حكمنا بالاستيلاد، وهو كذلك في "تعليق" القاضي الحسين، لكنه بناه على أن السراية تحصل بنفس الإحبال، أم لابد من دفع القيمة؟ فعلى الأول: لا يجب، وعلى الثاني: يجب عليه [منها قدر] حصة أصحابه، وفي "تعليق" أبي الطيب والبندنيجي الجزم بعدم الاستيلاد. وحكاية الوجهين في قيمة الولد مبنيان على الخلاف في أنها تقوم عليه، أم لا؟ كما بناهما الرافعي. وقد شبه مشبهون – ومنهم الإمام – الخلاف بالخلاف في وجوب قيمة الولد إذا وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة وهو موسر، ثم منهم من بنى الخلاف فيهما على أن الملك يحصل للمستولد قبل العلوق أو مع العلوق أو بعده؟ ثم حكم قيمة الولد حكم المهر، وقيمة الجايرة. ولو كان الواطئ معسراً، وثبت الاستيلاد في حصته من الجارية، أو لم يثبت كما حكاه العراقيون، فيخلق الولد كله حرًّا؟ أو الحر منه قدر حصته والباقي رقيق؟ فيه وجهان – أو قولان – حكاهما الفريقان. فإن قلنا بالثاني، فلو ملك باقي الجارية أو جميعها [من بعد] بقي الرق في الباقي دون حصته إن حكمنا بنفوذ الاستيلاد [في الحال]؛ لأنها علقت برقيق في غير الملك. وإن قلنا بالأول، وهو ما دل كلام الإمام على ترجيحه، ففي نفوذ الاستيلاد في الباقي أو في الجميع على قول من [لم] ينفذه ابتداء – القولان. ومحل الوجهين في انعقاد جميع الولد على الحرية أو بعضه – كما قاله

القاضي الحسين – إذا انحصر الغانمون، فإن كانوا غير محصورين، ففي "تعليق" القاضي و"التهذيب": أنا إن قلنا عند الانحصار: كل الولد حر؛ فتؤخذ منه قيمته، وتوضع في المغنم، وتقسم على الكل، وإن قلنا: إن هناك الحر قدر حصته، فهاهنا يكون الكل رقيقاً – قالا: ثم الإمام عند القسمة يجتهد حتى تقع الأم والولد في حصة الواطئ، فإن وقعا في حصته، قال القاضي: فتصير أمَّ ولد له، والولد في قول: خلق رقيقاً كله، وهذا – على مذهبنا – غريب. وقال في "التهذيب": إن الجارية تصير أم ولد، [كما تقدم، والولد حر، وإن وقع البعض في ملكه صار بقدره من الجارية أم ولد]، وعتق من الولد بقدر ما ملك. ومنها: إذا وقع في الأسر من يعتق على بعض الغانمين، ورق: إما بنفس الأسر، أو بإرقاق الإمام – فالنص: أنه لا يعتق قبل القسمة واختيار التملك، وهوا لذي أورده العراقيون، والنص فيما إذا استولد بعض الغانمين جارية من المغنم: أنه يثبت الاستيلاد كما مر، فمن الأصحاب من جعلهما على قولين؛ بناء على أن الغنيمة تملك بالاستيلاد أم لا. ومنهم من أقر النصين، وهو الذي صححه القاضي الحين، وقالوا: الفرق: أن الاستيلاد أقوى؛ بدليل نفوذ إحبال المجنون دون إعتاقه. وعن الشيخ أبي محمد في "المنهاج": أنه فرق بان الوطء اختيار التملك، وكذلك جعل وطء البائع في مدة الخيار فسخاً، وليس في مسألة القريب ما يدل على الاختيار، وأنه بنى [على ذلك] ما لو قال مشيراً إلى حريته قبل القسم: قد أعتقت هذه، نحكم بثبوت العتق. قال الرافعي: والظاهر أنه لا يثبت العتق في الحال وإن قدرنا الخلاف، فإذا استقر ملكه فيه بأن وقع في نصيبه واختار تملكه، أو وقع بعضه في نصيبه واختاره – عتق عليه، وينظر لتقويم الباقي عليه إلى يساره وإعساره. وفي "الحاوي": أن الغانمين إذا كانوا محصورين ولم يكن في الغنيمة إلا

قريبه – فيملك حصته، وإن لم يَجْرِ التملك، ويعتق عليه، ولا يقوم عليه الباقي؛ لأنه ملكه بغير اختياره. وإن كان في الغنيمة غيره، ففي نفوذ العتق في حصته وجهان كما قلنا في الاستيلاد، فإن قلنا بالعتق لم يقوم عليه الباقي – أيضاً- بخلاف ما لو وقع قريبه في حصة أقوام هو أحدهم مع كون الغانمين غير محصورين؛ فإن الحصة تعتق عليه إذا اختار التملك، ويقوم الباقي عليه؛ لأنه ملكه باختياره. ومنها: لو أعتق واحد من الغانمين عبداً من الغنيمة، قال الرافعي: ففي ثبوت العتق في الحال ما ذكرناه في عتق القريب، كذا نقله صاحب "التهذيب" وغيره. وفي "الحاوي": أنه لا يعتق بحال، والفرق: قوةُ عتق القريب؛ فإنه يثبت بلا اختيار، وضَعْفُ غيره المتوقف على الاختيار. وكذلك يعتق على المحجور عليه قريبه إذا ملكه، ولو أعتق مملوكه لم ينفذ [عتقه]، والله – عز وجل – أعلم.

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء السابع عشر المحتوى: تتمة كتاب الجنايات - كتاب الحدود

باب عقد الذمة [وضرب الجزية]

بسم الله الرحمن الرحيم باب عقد الذمة [وضرب الجزية] الذمة: العهد والالتزام، وضرب الجزية: إثباتها وتقريرها. ويسمى [المأخوذ: ضريبة، "فعيلة"؛ بمعنى "مفعولة"، جمعها ضرائب. والجزية: عبارة عن المال] المأخوذ بالتراضي من الكفار؛ لإسكاننا إياهم في دار الإسلام، أو لحقن دمائهم وذراريهم وأموالهم، أو لكفنا عن قتالهم، على اختلاف في ذلك. وهي مأخوذة من "المجازاة" و"الجزاء"؛ لأنها جزاء عن سكني دارنا، أو عن حقن دمائهم، أو عن كفنا عن قتالهم، على حسب الاختلاف السابق. والأخير مختار القاضي الحسين، وقال: [إن] جعلها في مقابلة مقامهم في دارنا مدخول؛ لأن المرأة تقيم في دار الإسلام كالرجل ولا جزية عليها، وكذلك جعلها في مقابلة حقن الدماء مدخول؛ لأن الجزية تتكرر بتكرر السنين، وبدل حقن الدم لا يتكرر بتكرر الأزمنة، ولأنها لو كانت بدل حقن الدماء لما ارتفع [حقن الدماء] بحال؛ كما لو صالح من دم العمد على مال، وهو يرتفع بنقض العهد. وقال الإمام: الوجه أن نجمع مقاصد الكفار ونقول: هي مقابلة بالجزية. وقيل: إن "الجزية": "فعلة"، من: جزي يجزي: إذا قضي؛ قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]، أي: لا تقضي. وتقول

العرب: جزيت ديني، أي: قضيته، وجمعها: جزى، كقربة وقرب. والأصل فيها – قبل الإجماع – من الكتاب قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، أي: حتى يلتزموها؛ كما جاء في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلى قوله تعالى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، والمراد: حتى يلتزموا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في وقت استحقاقها، بالإتيان بلفظ الشهادتين المتضمن لذلك. وقد قيل: إن آية الجزية ناسخة لهذه الآية، وقيل: لا، بل هي خاصة بأهل الكتاب وهذه عامة في كل مشرك. ومن السنة: ما روى سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش، أوصاه بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيرا، وقال: "إذا لقيت عدوك من المشركين، فأدعهم إلى إحدى ثلاث خصال – أو خلال – فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم، وكيف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول إلى دار المهاجرين وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك، أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين، [فإن أبوا واختاروا دارهم، فأعلمهم] أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم من الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن الله وقاتلهم". خرجه أبو داود ومسلم وغيرهما.

وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل نجران، ومن مجوس هجر، ومن أهل أيلة وهم ثلاثمائة رجل. ولأن في أخذها معونة للمسلمين وإهانة للمشركين، [وربما بعثهم] على الإسلام. قال – رحمه الله –: ولا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو ممن فوض إليه الإمام؛ لأنه من المصالح العظام؛ فاختص بمن له النظر العام، ولأن الولاية في المال المستفاد بهذا العقد [للإمام ونائبه؛ فوجب أن تكون ولاية العقد لهما كما في العقد] على مال اليتيم. وعن كتاب ابن كج نقل وجه: أنه يصح من الآحاد، كالأمان. وعلى الأول: لو عقدها واحد من المسلمين من غير إذن الإمام، فلا يغتال المعقود له بل يلحق بمأمنه. ولو أقام سنة فصاعدا، فهل يؤخذ منه لكل سنة دينار؟ فيه وجهان، أشبههما: المنع؛ لأن القبول ممن لا يقبل الإيجاب لغو؛ فكأنه لم يقبل شيئا. وهل يجب هذا العقد عند طلب الكفار له؟ فيه كلام تقدم في باب "قتال المشركين". قال: ولا يعقد لمن لا كتاب له ولا شبهة كتاب كعبده الأوثان والمرتدة؛ لأن الله – تعالى – أمر بقتل جميع المشركين إلى أن يسلموا، بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا

الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: 5]، وخص منهم في كتابه العزيز أهل الكتاب بالآية السالفة، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من له شبهة كتاب – وهم المجوس – بما سنذكره من الخبر، وبفعله؛ فبقي الحكم فيمن عدا المذكورين؛ لعموم الآية. والمرتدة: جمع مرتد. قال: ومن دخل في دين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل؛ لأنه دخل في دين لا حرمة له؛ فلم يعقد له كعبدة الأوثان. والواو في قول الشيخ: "والنصارى ... والتبديل" يتعين أن تكون بمعني ["أو" إن] استعملت لفظة "من" للإفراد، كما نبهنا على جواز ذلك في الباب [قبله]، ويكون معنى الكلام: ومن دخل في دين اليهود أو النصارى بعد النسخ أو التبديل. ويجوز أن تكون بمعنى: "أو" – أيضا -[إذا استعملت لفظة] "من" للجمع كما هو معناها، والظاهر أنه المراد. [و] يجوز أن تبقى على حالها ويكون قد أثبت هذا الحكم للجمع، وخص كل حالة ببعض الجمع؛ [كما] في قوله تعالى: [{فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]، وفي قوله تعالى: [{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]، أي: لينفر الخفاف منكم خفافا والثقال ثقالا، ويكون تقدير الكلام: والداخلون في دين اليهود والنصارى، أي: بعضهم في هذا الدين وبعضهم في الآخر بعد النسخ والتبديل، أي: بعضهم بعد النسخ وبعضهم بعد التبديل، أو كلهم كذا أو كذا. والمحوج إلى ذلك: أنه لا يمكن جعل الواو في قوله: "والتبديل" [الواو]

المشركة؛ لأن المراد [أن] من دخل بعد النسخ فلا تعقد له [الذمة] وإن دخل في دين غير مبدل، وكذا من دخل قبل النسخ وبعد التبديل في الدين [المبدل] [لا تعقد له، كما صرح به أبو الطيب والبندنيجي والمصنف وكثيرون؛ لما ذكرناه من التعليل. وفي "الرافعي" على هذه الطريقة حكاية قولين في جواز العقد لأولاد [من] دخل قبل النسخ وبعد التبديل في الدين المبدل] كأولاد المرتدين، وهذه طريقة الفوراني والطبري في "العدة"، وضعفها الإمام، وحكى طريقة أخرى: أنها تعقد لمن دخل قبل النسخ [وبعد التبديل]، سواء دخل في الدين المبدل أو لا، وقال: المذهب: القطع بها؛ لأنهم وإن بدلوا فمعلوم أنه بقي [منه] ما لم يبدل؛ فلا ينحط التمسك به عن شبهة كتاب المجوس. وحكى الرافعي: أن أبن كج لم يورد سواها، وأن الروياني [اعتمدها] في "البحر". وحكى عن القاضي أبي الطيب أنه قال: لا أحفظ الشرط المذكور عن الشافعي، وإنما فرق في كتبه بين ما قبل نزول القرآن وما بعده، وهذا أولى؛ [تغليبا] لحقن الدم. ثم المراد بالذين دخلوا [بعد النسخ: الداخلون] بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما صرح به القاضي أبو الطيب في أوائل الباب. وعن "التحرير": أنهم الداخلون بعد نزول القرآن، وعلى ذلك ينطبق ما عزي لـ "البحر" حكاية عن الشافعي – رضي الله عنه – كما تقدم، وقد أورده القاضي أبو الطيب في [باب] تبديل أهل الذمة من كتاب الجزية.

وبين العبارتين فرق؛ لأن هذه [العبارة] تقتضي أن من دخل في الدين المذكور بعد أن نزل قوله تعالى: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله تعالى: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]، لا تعقد له الذمة؛ لأنها أول آية أنزت عليه صلى الله عليه وسلم والعبارة الأولى تقتضي أن تعقد له؛ لأنه في هذه الحالة لم يؤمر بإنذار ولا رسالة، ولم يزل كذلك إلى نزل عليه قوله تعالى: {يأيها المدثر*قم فأنذر* ...} إلى قوله: {والزجر فاهجر} [المدثر: 1 - 5]، ففي هذه الحالة تمت نبوته، وتحققت رسالته. وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر مع الأول عن رواية أبي إسحاق المروزي – وقال: إنه الأظهر -: أن شريعة موسى – عليه السلام – نسختها [شريعة] عيسى – عليه السلام – فمن دخل فيها بعد بعثته لا تعقد لأولاده، وهذا ما حكاه البندنيجي عن الشافعي – رضي الله عنه -، وجزم به في "المهذب"، وعزا إلى المزني أنها تعقد لمن دخل قبل النسخ أو بعده، وسواء دخل في دين المبدلين أو غيره. قال: ويجوز أن يعقد لليهود والنصارى، أي: من العرب والعجم؛ لعموم الآية؛ فإنها دلت على عقدها لأهل الكتاب، ولم يقع فيها فصل بين عجمي وعربي، واليهود والنصارى أهل كتاب بالاتفاق؛ قال الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156]، وقد روى أبو داود عن أنس بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من أكيدر دومة، بعد أن أسره وحمله إلى المدينة، وكان من غسان أو من كندة على اختلاف فيه، وأخذها من أهل اليمن وأكثرهم عرب. وأكيدر: بضم الهمزة، وفتح الكاف، وسكون الياء آخر الحروف، وبعدها دال مهملة [مكسورة وراء مهملة.

ودومة:] من بلاد الشام، بينها وبين دمشق خمس ليال، وبينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة. وممن تهود من العرب: كنانة وكندة وحمير وبنو الحارث بن كعب، وومن تنصرهم: ربيعة وغسان وبعض قضاعة. ولا فرق في اليهود والنصارى فيما ذكرناه بين أن يكونوا لم يبدلوا أو قد بدلوا؛ لأن لهم في الحالة الأولى شرف دينهم الذي كان حقا، وشرف آبائهم الذين ماتوا على دين حق، وفي الحالة الثانية: شرف آبائهم [فقط]. قال: والمجوس؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، كما رواه الشافعي – رضي الله عنه – وروي عبد الرحمن بن عوف: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"، وقد أخذها منهم أبو بكر – رضي الله عنه – فيما فتحه من أطراف العراق، [وأخذها عمر – رضي الله عنه – ممن كان بالعراق] وفارس منهم، وأخذها عثمان بن عفان – رضي الله عنه – أيضا – فكان أخذها منهم سنة عن رسول الله وأثرا عن الخلفاء الراشدين، وقد ذكرنا في باب قتال المشركين أثرا عن علي – رضي الله عنه – في ذلك. قال: ولمن دخل في دين اليهود والنصارى، ولم يعلم هل دخل قبل النسخ والتبديل أو بعده. هذا الفصل ينظم في هذا الحكم صورتين: إحداهما: يثبت فيها بالمفهوم. والأخرى: يثبت فيها بالمنطوق. فالأولى: إذا دخلوا في دين اليهود والنصارى قبل التبديل والنسخ؛ فيجوز أن يعقد لهم؛ لأنهم دخلوا في دين حق إذ ذاك؛ فكان كما لو دخلوا في عصر موسى وعيسى، على نبينا وعليهم السلام. ولا فرق فيهم – أيضا – بين من بدل بعد ذلك أو لم يبدل.

ويلتحق بهذه الحالة ما إذا دخل بعد التبديل، لكن [في الدين الذي لم يبدل]، كما صر به البندنيجي. وهذه الصورة ظاهر كلام الشيخ في ابتداء الكلام يأباها؛ فينبغي أن يحمل كلام الشيخ على ما عداها، كما نبهت عليه [من] قبل. والثانية – وهي التي صرح بها -: إذا شككنا هل دخلوا قبل النسخ والتبديل أو بعده، فيعقد لهم – أيضا – كما نص عليه في "الأم"؛ لأنهم دائرون بين أمرين: أحدهما: يقتضي حقن الدم، والآخر: إباحته، فغلب حكم الحقن عملا بالأصل؛ فإن الأصل في الدماء الحقن، ومع هذا لا تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم، كما تقدم؛ لأن الأصل في الأبضاع والميتات التحريم، فتمسكنا فيهما عند الشك في المبيح بالأصل؛ كصنعنا في المجوس، وقد حكينا طرفا من ذلك في كتاب النكاح، وممن وقع الشك في أنهم دخلوا بعد التبديل أو قبله: تنوخ، وبنو تغلب، وبهراء. قال: وأما السامرة والصائبة فقد قيل: يجوز أن يعقد لهم، وقيل: لا يجوز هذا الفرع ينبغي على أصل تقدم في باب ما يحرم من النكاح، وهو أن السامرة طائفة من اليهود، والصائبة طائفة من النصارى [أم لا]؟ وقد حكينا فيه أربع طرق: إحداها – وهي التي صار إليها الجمهور، ونص عليها الشافعي – رضي الله عنه – أنهم إن كانوا يخالفون اليهود والنصارى في أصول الأديان فليسوا منهم، وإن وافقوهم في أصول الاعتقادات، وخالفوهم في فروعها – فهم منهم. وعلى هذه الطريق يكون حكم عقد الذم لهم كذلك، وهي التي صححها النووي والفوراني. الثانية: أنهم منهم كما نص عليه الشافعي – رضي الله عنه – في "الأم" على ما نقله البندنيجي.

والقائلون بها قالوا: ما ذكر من النص الأول كان قبل أن يظهر له حالهم، ثم بأن له أمرهم بعد ذلك، فأجابا بأنهم منهم، وهذا قول أبي إسحاق، ونص الخلاف في المسألة، وقال القاضي أبو الطبيب: إنه المذهب. فعلى هذا: يعقد لهم الذمة، وتحل مناكحتهم وذبائحهم. الثالثة: أنهم ليسوا منهم كما نص عليه الشافعي – رضي الله عنه – في بعض كتبه، كما نقله الإمام، فعلى هذا: لا يعقد لهم الذمة. وهذه والتي قبلها هما ما في الكتاب. الرابعة: أن في كونهم منهم قولين، وكذا هما في عقد الذمة [لهم]. وقال الإمام في كتاب النكاح: لا وجه للخلاف فيمن يكفرهم اليهود والنصارى، ولا يعدونهم منهم، ولا يبعد التردد في الذين يبدعونهم ولا يخرجونهم من زمرتهم في سقوط الجزية بالبدعة، وقال هنا: إنا لو تحققنا تعطيلهم، أي: باعتقادهم أن مدبر العالم الأنجم السبعة، ومدبرها الفلك الأعلى الحي الناطق، أو أنهم يقولون بقدم النور والظلمة وإسناد الحوادث إليهما – فلا شك أنا لا نأخذ الجزية منهم. ولو بقي الأمر مشكلا في حالهم فهل يجوز عقد الذمة لهم [أم لا]؟ فيه احتمالان، والظاهر: الأول، وبه جزم القاضي الحسين والماوردي. قال: ومن تمسك بدين إبراهيم وشيث، أي: وهو ابن ادم لصلبه، وغيرهما من الأنبياء – عليهم السلام – فقد قيل: يعقد لهم؛ لأن الله – تعالى – أخبرنا أنه أنزل عليهم صفحا، قال الله تعالى {أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وافى} [النجم: 36، 37]، {وإنه لفي زبر الأولين} [الشعراء: 196]، وهذه تسمى كتبا، وإذا كان كذلك اندرجوا في قوله تعالى: {ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]. وإنما قلنا: [إن] هذه تسمى كتبا؛ لأن الشافعي – رضي الله عنه – لما سأله الرشيد في المحنة، فقال له: كيف معرفتك بكتاب الله؟ قال [له]: عن أي

كتبه تسألني؛ فإن الله أنزل على آدم ثلاثين صحيفة، [وأنزل على إدريس ست عشرة صحيفة]، وأنزل على إبراهيم ثماني صحف. فدل هذا [على] أن الصحف كتب، ولأن المجوس يقرون بالجزية وليس لهم كتاب؛ بل شبهة [كتاب]؛ فكان هؤلاء بذلك أولى، وهذا قول أبي إسحاق وغيره، كما حكاه الصنف وغيره، وهو الذي صححه النووي والرافعي وصاحب "المرشد"، وكلام الإمام يقتضي ترجيحه. قال: وقيل: لا يعقد لهم؛ لأن هذه الكتب لم ينزل بها جبريل، وإنما أثبتت بما حصل [لهم] من الإلهام، وليس فيها بيان الأحكام من الأمر والنهي، وإنما هي مواعظ وتسبيح وتهليل؛ [فلم تلتحق بالكتابين]، ولأنا لا نثق بأقوالهم، ولا ندري صدقهم من كذبهم. قال القاضي الحسين: وهذا ما صار إليه الأكثرون. وكلامه قد يفهم أن أبا إسحاق منهم؛ فإنه حكى عنه أنه قال: لو تصور لنا ثبوت كتاب [سوى الكتابين، [لأعطينا أهله حكم أهل الكتابين] في حقن الدم، ولكنه لا يثبت؛ إذ لا طريق إلى معرفته إلا من جهة مدعيه، ولا يمكننا معرفته بقولهم؛ إذ لا حكم له، وليس كذلك؛ بل هو مصرح فيما إذا ثبت لهم كتاب]: بأن حكمهم حكم اليهود في حل مناكحتهم وذبائحهم وعقد الذمة معهم، وإن لم يثبت وشككنا فيه: بأن حكمهم حكم المجوس، كذا صرح به ابن الصباغ عنه. [و] في هذه الحالة يجب أن يقال بعد حل المناكحة والذبيحة، وإن جوزنا عقد الذمة لهم كما صرح به بعضهم. وفي "الرافعي": أن منهم من أجرى خلافاً في حل ذلك في هذه الحالة، وجزم بالحل عند تحقيق كتابهم، وكذا عند إسلام اثنين منهم [وشهادتهما بصحة الكتاب.

والماوردي أبو الطيب حكيا الوجهين في حالة التحقيق، ونسبا الإباحة إلى قول أبي إسحاق كما حكيناه عنه، وقال الماوردي: إنه ظاهر المذهب، [وحكى في موضع آخر بعده أن من] ادعى أن له كتابا غير التوراة والإنجيل فله ثلاثة أحوال: أحدها: [أن يتحقق دينهم ويعلم كتابهم؛ فهم كاليهود والنصارى في كل شيء]. والثاني: أن يتحقق كذب قولهم، وأنه لا كتاب لهم؛ فيكونون كعبدة الأوثان. والثالث: أن يحتمل ما قالوه الصدق والكذب؛ فلا يقبل قول كفارهم، فإن أسلم منهم عدد يكون خبرهم مستفيضا حكم بقولهم في ثبوت كتابهم، وإقرارهم بالجزية، واستباحة مناكحتهم، وحل ذبائحهم. وإن لم يسلم منهم من يكون خبرهم مستفيضا متواترا فهؤلاء لا يعلم خبرهم [إلا] منهم في حال كفرهم، فيقرون بالجزية؛ لأن ما يبذلونه لا يحرم علينا أخذه، وأصل دمائهم محظور؛ فلا يحل لنا قتلهم بالشك، ولا تحل مناكحتهم وذبائحهم. قال: ولا يعقد لمن ولد بين وثني وكتابية؛ لأن الولد من قبل الأب؛ ولهذا يشرف بشرفه، والأب ممن لا يعقد له الجزية؛ فكذلك الولد. [وهذا إذا لم يدن بعد بلوغه بدين أهل الكتاب، فلو كان يدين به فهل يكون حكمه حكم أمه، فيه وجهان في "النهاية" في باب الصيد والذبائح، والأصح: لا]. قال: وفيمن ولد بين كتابي ووثنية قولان: أصحهما: أنه يعقد له؛ تغليبا لجانب الأب. ووجه مقابله: أنه لم يتمحض كتابيا؛ فأشبه المتولد بين الوثني والكتابية، وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي وصاحب "التقريب" في الصورتين؛ إلحاقا لعقد الذمة بحل المناكحة وحل الذبيحة. وحكى القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبندنيجي في الصورة الثانية طريقة

قاطعة بالقول [الأول؛ لأنا في الذبيحة والمناكحة غلبنا حكم التحريم، عملا بالأصل] فيهما؛ فكذلك ها هنا يجب أن يغلب حكم التحريم في حقن الدم؛ لأنه الأصل. وقضية هذا [التعليل]: أن تطرد هذه الطريقة في الصورة الأولى، وقد حكى ذلك الرافعي عن رواية الشيخ أبي حامد، [وهي المذكورة] في "التهذيب"، و"تعليق" القاضي الحسين و"الإبانة" في الصورتين، وصححها الإمام وقال: الوجه القطع بها. بعد أن حكى طريقة أبي إسحاق. وجمع في "الحاوي" بين الصورتين، وحكى فيهما أربعة أوجه: أحدها: أنه ملحق بأبيه [كيفما كان دون أمه]. والثاني: أنه ملحق بأنه كيفما كانت. والثالث: أنه ملحق بأتمهما دينا؛ كما يلحق به في قدر الدية، ويلحق بالمسلم منهما؛ فعلى هذا: إن كان أبوه وثنيا وأمه كتابية ألحق بها، وإن كان أبوه كتابيا وأمه وثنية ألحق به. والرابع: أنه يلحق بأغلظهما كفرا؛ لأن التخفيف رخصة مستثناة، فعلى هذا: أيهما كان وثنيا ألحق به، ولا يقر بالجزية. ولا يجري هذا الخلاف فيما إذا كان أحدهما مجوسيا والآخر كتابيا لأن الفريقين من أهل عقد الذمة. فرع: إذا حاصرنا قلعة، فبذل أهلها الجزية، وزعموا أنهم أهل كتاب – وجبت إجابتهم على الشرط [الذي ذكرناه] في باب قتال المشركين، ولا نطالبهم بإقامة بينة على دينهم؛ لعدم إمكان ذلك. قال ابن الصباغ: لكن يشترط عليهم أنه متى بان أنهم عبدة أوثان، أو دخل آباؤهم في الدين الذي ادعوه بعد نزول القرآن –نبذ إليهم عهدهم وقاتلهم. وإذا عقد لهم ثم أسلم منهم اثنان، وظهرت عدالتهما، وشهدا بأنهم ليسوا كما زعموا،

وأنما هم عبدة أوثان – نبذ إليهم عهدهم، قال البندنيجي والمصنف وغيرهما، وقال الإمام إنا نتبين أن الذمة غير منعقدة، ونعاملهم معاملة عبدة الأوثان، لكن هل نغتالهم أو نلحقهم بدار الحرب؟ فيه تردد، والظاهر: الأول، وبه جزم القاضي الحسين في "تعليقه"؛ لأنهم دخلوا على بصيرة بفساد الأمان فلا يعذروا. وهكذا الحكم فيما إذا اعترفوا كلهم بأنهم أهل وثن، ولو اعترفوا بعضهم دون بعض عومل كل منهم بمقتضى قوله. قال: ولا يصح عقد الذمة إلا بشرطين: التزام أحكام الملة، أي: يلزموا أن تجري أحكام ملة الإسلام عليهم من غير تصريح بحكم حكم منها، كما صرح به البندنيجي. قال: [وبذل الجزية]، أي: التزام بذل الجزية في كل سنة. وذلك بأن يقول الإمام أو نائبه. أقررتكم، أو: أذنت لكم في الإقامة في دار الإسلام، على أن تنقادوا لأحكام الإسلام، وتبذلوا في كل سنة كذا وكذا، ويقول الذمي: قبلت، أو: رضيت [بذلك]، أو يبتدئ الكافر فيقول: أقررني بكذا على شرط كذا، فيقول له الإمام أو نائبه: أقررتك. ووجه اعتبار الشرطين قوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية} [التوبة: 29] أي: يلتزموها كما تقدم بيانه، {عن يد} أي: عن قوة وبطش، أو: عن منة لكم عليهم بإبقائهم وحقن دمائهم؛ لأن "اليد" يعبر بها عن القدرة والمنة جميعاً، {وهم صاغرون} أي: بالتزام أحكام الإسلام، كما فسره الشافعي – رضي الله عنه – في "الأم" وغيرها، وقال الأصحاب: أنه أصح الأقوال في التفسير؛ لأن الحكم على الشخص بما لا يعتقده ويضطر إلى احتماله أشد صغارا، وهذا كما يقال: آخذ حقي منك وأنت صاغر. ومن جهة المعنى: أن الجزية مع الانقياد والاستسلام كالعوض عن التقرير، فيجب التعرض له كالثمن في البيع، والأجرة في الإجارة، وهذا هو الصحيح، وقال القاضي الحسين بعد حكاية أنه لا بد من [ذكر] الشرطين كما ذكره

الشيخ – رحمه الله -: إن فيه إشكالا؛ لأن جريان أحكام الإسلام عليهم من مقتضيات العقد، والتصريح بمقتضى العقد لا يشترط في صحة العقد؛ كما لا يشترك في صحته ألا ينتصب للقتال مع المسلمين وإن كان من جملة الشرائط، فلو قيل: يكتفي بمطلق العقد، لم يبعد؟ وقد أقام بعضهم هذا جها، ووراءه وجوه [أخر]: أحدها: أنه لا يشترط تعيين مقدار الجزية، بل ينزل المطلق من العقد على الأقل، قال الإمام: وهذا غير سديد. الثاني - حكاه الرافعي وغيره عن أبي إسحاق -: أنه يشترط التصريح في العقد بكف اللسان عن الله تعالى وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه؛ إذ به تحصل المسالمة وترك التعرض من الجانبين. وفي "الإشراف": أن أبا إسحاق طرد مذهبه في اشتراط عدم الزنى بمسلمة وإصابتهم باسم نكاح، وافتتان المسلمين عن دينهم، وقطع الطريق عليهم، والدلالة على عورات المسلمين. والفرق بين هذا وبين الشرط الأول من وجهين: أحدهما: أنا على الأول لا نشترط التصريح، وعلى هذا نشترطه. والثاني: أنه ثم التزم أنا نجري عليه أحكامنا، فالملتزم فعلنا، وهذا من فعله، كذا أشار إليه البندنيجي. واستغنى المراوزة باشتراطهم في العقد الانقياد والاستسلام عن اشتراط [الانكفاف عن هذه الأشياء]، فقالوا: الأصح: أنه لا يشترط؛ لأن في شرط الانقياد والاستسلام غنية عنه. الثالث: حكى الماوردي أن للشافعي – رضي الله عنه – في المراد بالأحكام التي فسر [بها الصغار] قولين:

أحدهما: التحكم بالقوة والاستطالة. والثاني: [التحكم] بالأحكام الشرعية. فعلى الأول: لا تلزمهم أحكامنا، وعلى الثاني: تلزمهم أحكامنا. فرع: هل يجوز عقد الذمة مؤقتا؟ فيه طريقان: أحداهما: أن فيه قولين، ومنهم من أوردهما وجهين: أصحهما في "تعليق" القاضي الحسين: الجواز، وفي "الرافعي": المنع؛ لأنه [بدل عن] الإسلام، والإسلام لا يصح مؤقتا؛ فكذلك عقد الذمة. والثاني: القطع به. وهذا في التأقيت بوقت معلوم، أما لو قال الإمام أو نائبه: أقركم ما شئت، قال الإمام: فمن لم يمنع التأقيت بالوقت المعلوم لم يمنع هذا، ومن منع ذلك، اختلفوا في هذا، وسبب الاختلاف ما روي أنه – عليه السلام – قال لأهل الكتاب في جزيرة العرب: "أقركم ما أقركم الله تعالى"، والوجه: منع هذا منا، وحمل قوله صلى الله عليه وسلم على توقع النسخ وانتظار الوحي. وأجاب آخرون عن الخبر بأنه جرى في المهادنة حين وادع يهود خيبر، لا في عقد الذمة، وجزموا بمنع ذلك من غيره صلى الله عليه وسلم. ولو قال: أقركم ما شئتم، جاز اتفاقا؛ لأن لهم أن ينبذوا العهد متى شاءوا، فليس فيه إلا التصريح بمقتضى العقد. قال: والأولى أن يقسم الجزية على الطبقات، أي: على القوم المتباينين. و"الطبقات" جمع: طبقة. قال: فيجعل على الفقير المعتمل، أي الكسوب، دينار، وعلى المتوسط ديناران، وعلى الغني أربعة دنانير؛ اقتداء بعمر، رضي الله عنه. أشار الشيخ بذلك إلى فعل عمر – رضي الله عنه – بأهل الكوفة لما بعث إليهم عثمان بن حنيف؛ فإنه جعل على الغني ثمانية وأربعين [درهما]، وعلى

المتوسط أربعة وعشرين [درهما]، وعلى الفقير اثني عشر درهما، والاثنا عشر هي قيمة الدينار كما تقدم في باب الديات. ولأن في ذلك الخروج من الخلاف؛ فإن أبا حنيفة – رحمه الله – يرى أن القسمة على هذا النحو واجبة كما حكاه الإمام، وكذا القاضي الحسين عنه، وأنه مخير بين [أن يدفع] الذهب أو الدراهم كما نص عليهما عمر – رضي الله عنه – وإن كان من أصله: أن يقابل الدينار بعشرة دراهم، ودليلنا عليه: ما سنذكره. والاعتبار في [الغني والفقر والتوسط] بوقت الأخذ، لا بوقت العقد. ولو ادعى أحدهم بعد الضرب [عليهم] كما ذكرنا: أنه فقير أو متوسط، قبل قوله، إلا أن تقوم بينة على خلافه. قال: وأقل ما يؤخذ دينار؛ لما روى [أبو داود] عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم يعني: محتلما – دينارا أو عدله من المعافر – وهي ثياب تكون باليمن -. وأخرجه

الترمذي وقال: إنه حسن. وعن بعضهم: أنه روي مرسلا، وأنه أصح. ومعنى "عدله": أي بدله؛ كما في قوله تعالى: {أو عدل ذلك صياما} [المائدة: 95]، وقيل: إن "العدل" و"العدل" لغتان، وهما المثل. والثياب منسوبة إلى قبيلة من اليمن، وقيل: إلى موضع باليمن يقال له: معافر. وروي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم [كتب إلى أهل اليمن: "أن يأخذ من أهل الكتاب من كل محتلم دينارا"، ولم يفرق بين الغني والمتوسط، مع العلم بأن أحوالهم مختلفة في ذلك، وكذا روي أنه صلى الله عليه وسلم:] ضرب على أيلة ثلاثمائة [دينار، وكانوا ثلاثمائة] نفر، وهم متفاوتون في اليسار والإعسار لا محالة. ومن جهة المعنى: أن الجزية تؤخذ لحقن الدم وسكنى الدار، وذلك يستوي فيه المكثر والمقل. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ – رحمه الله – وغيره [يقتضي] أن الواجب هو الذهب، حتى لو أراد أن يأخذ عنه دراهم كان الواجب قدر قيمته كما دل عليه ظاهر الخبر، وهذا ما قال الإمام: إنه رأى في كلام الأصحاب ما يدل عليه، لكنه ذكر ذلك بعد أن جزم بأن الأقل الدينار أو الاثنا عشر درهما مسكوكة من

النقرة الخالصة، وأن للإمام الخيار في أخذ أيهما شاء. قال: وأكثره ما يقع التراضي عليه؛ لأنه عقد يعتبر فيه التراضي فجاز بما وقع الاتفاق عليه مما لم يرد الشرع بخلافه؛ كالبيع والإجارة. قال الأصحاب: ولا يجوز للعاقد إذا قدر على العقد بمائة دينار أن ينقص منها دانقا، لكنه لا يجبر الكافر على الزيادة عن الدينار، فمتى طلب زائدا عليه، وامتنع الكافر من بذل الزائد – وجب قبول الدينار منه. فرع: إذا بذل الكافر أكثر من دينار وهو جاهل بأن أقل الواجب دينار، لا يجوز للإمام أن يعرفه: إن [أقل] الواجب عليك دينار، وإنك لو امتنعت من بذل الزائد عليه، لم ألزمك سواه. بخلاف ما إذا بذل واحد من المسلمين زائدا عما وجب عليه من الزكاة؛ فإن الإمام يعرفه: إن الواجب عليك كذا، قال القاضي الحسين وغيره: والفرق: أن الزكاة وجبت بالشرع؛ [فروعي فيها إيجاب الشرع]، وأما الجزية فتجب بالمعاقدة والتراضي؛ فروعي فيها ما يقع به التراضي. قال: ويجوز أن يضرب الجزية على الرقاب، أي: بأن يجعل على كل رقبة شيئا معلوما، للخبر المتقدم. قال: ويجوز أن يضرب على الأراضي، أي: على ما يخرج من الأراضي مما تجب فيه الزكاة من [تمر] وزرع، ويجوز أن يضرب على مواشيهم كما فعل عمر – رضي الله عنه – في نصارى العرب. أشار الشيخ بما ذكره إلى أن للإمام أن يضرب [الجزية] على من يعقدها معهم، على ما تجب في جنسه الزكاة من أموال الكفار كالثمار والزروع والمواشي باسم الصدقة، عربا كانوا أو غير عرب؛ اقتداء بعمر – رضي الله عنه –

فإن من تنصر من الأعراب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهم بهراء وتنوخ وبنو تغلب، لما طلب عمر منهم الجزية أبوا من دفعها؛ أنفة من ذل الجزية، وقالوا: نحن عرب لا نؤدي ما تؤدي العجم! خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض. وعنوا به الصدقة، فقال عمر – رضي الله عنه – لا آخذ من مشرك صدقة فرضها الله – تعالى – على المسلمين طهرة، فقالوا: [خذ] منا ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية، فأبى؛ فارتحلوا، وأرادوا أن يلتحقوا بالروم؛ فصالحهم عمر – رضي الله عنه – على أن يضعف عليهم الصدقة ويأخذها جزية باسم الصدقة، وكان بمحضر من الصحابة – رضي الله عنهم – فلم ينكره منكر. وحكى الإمام والرافعي وجها: أن هذا العقد يختص بالعرب؛ اقتصارا على ما نقل عن عمر – رضي الله عنه – ولا يبعد تخصيص العرب بمزية، وهذا كما أن الرق يجري على العجم بلا خلاف، وفي جريانه على العرب الخلاف السابق. ثم إذا فعل الإمام أو نائبه ذلك لمصلحة اقتضاها رأيه، فقال: ضعفت عليكم الصدقة، أخذ من الداخلين في العقد الملتزمين الجزية من [كل من] ملك خمسا من الإبل شاتين، ومن [كل من] ملك أربعين من الغنم شاتين، ومن كل من ملك من البقر ثلاثين تبيعين، ومن كل من ملك عشرين مثقالا من الذهب دينارا، ومن [كل من] ملك مائتي درهم عشرة دراهم، ومن كل من ملك وسقا من الحبوب أو الثمار الخمس إن كان قد سقاه بماء السماء، والعشر إن كان قد سقاه بنضح أو دالية، ومن كل من ملك ركازا أو استخرج من معدن شيئا الخمس على الشرط المعتبر [فيه]، وهذا مما [لم] يختلف فيه الأصحاب، واقتدوا فيه بفعل عمر – رضي الله عنه – نعم، اختلفوا في أمور: منها: [أنا هل] ننصف النصاب كما ضعفنا المأخوذ؟ فيه قولان في "تعليق" القاضي الحسين وغيره: أحدهما - رواه الربيع -: أن ما كان عفوا في المسلمين من وقص أو دون

النصاب فهو عفو منهم، [وهذا] أصح في "النهاية" و"الرافعي"، وبه جزم الماوردي. والثاني - رواه البويطي -: أنه يجعل كالنصاب على النصف؛ فيكون في عشرين شاه [شاة]، وفي مائة درهم خمسة دراهم، وكذلك ينصف الوقص، فمتى بلغت مائة شاة ونصف شاة فقد زاد نصف الوقص؛ فتجب ثلاث شياة، وتجب في البعيرين نصف شاة، وفي سبعة أبعرة ونصف ثلاث شياة، وفي الزرع إذا بلغ وسقين ونصفاً العشر أو نصفه. قال الإمام: والقائل بهذا يوجب فيما زاد على النصاب من الوقص ولم يبلغ نصابا بحساب التضعيف. وحكى الإمام في الوقص وجها ثالثا نسبة إلى القفال: أن كل ما يؤدي إلى [التشقيص مع] التضعيف فلا يؤخذ، وإن كان لا يؤدي إليه أخذ من الوقص. فعلى هذا: إذا ملك سبعا ونصفا من الإبل فعليه ثلاث شياة؛ إذ لا تشقيص على حساب التضعيف، ولو ملك من الإبل ثلاثين ونصفا فعليه بنت مخاض وبنت لبون، وفي خمس وثلاثين [من البقر] تبيع ومسنة، وقال: هذا ما يقتضيه حساب التضعيف، مع الأخذ من الوقص واجتناب التشقيص، وبيان ذلك: أنه إذا ملك ثلاثين [ونصفا فيقدر تضعيف ما يزيد على الخمس والعشرين وهو خمس ونصف]، فإذا ضعف الزائد بلغ أحد عشر، وبه يبلغ المال ستا وثلاثين، وواجبها بنت لبون؛ فتؤخذ بنت مخاض في خمس وعشرين، وتؤخذ بنت لبون بتقدير بلوغ المال ستا وثلاثين بتضعيفه. ومن لم يبال بالتشقيص يقول: من ملك ثلاثين ونصفا من الإبل فيجب في الخمس والعشرين بنتا مخاض، ويجب في الخمس والنصف ما يجب في الأحد عشر من أجزاء بنت لبون إذا أضيف إلى ست وثلاثين.

ومنها: الجبران هل يضاعف؟ فيه وجهان، والصحيح – كما قال الإمام والقاضي الحسين وغيرهما-: لا؛ فلا يجب إلا شاتان وعشرون درهما إذا وجب عليه سن ولم يكن عنده إلا دونه؛ لأنا لو ضعفنا [الجبران لكان ضعف المضعف، والزيادة على المضعف لا وجه بها، مع أنه لا خلاف في أنا لو دفعنا جبرانا] لم ندفع إلا جبرانا واحدا. ومنها: النصاب المعتبر في حقهم هل يشترط وجوده من أول الحول [إلى آخره؛ كالزكاة، أو لا يعتبر وجوده إلا في رأس الحول] [عند الوجوب؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وتظهر فائدتهما فيما لو كان موجودا في آخر الحول] دون أوله، فعلى الأول: لا شيء فيها، وعلى الثاني يؤخذ الضعف، ولو كان موجودا في أول الحول دون آخره، قال: ينظر: فإن كان عدمه بالتلف فلا شيء فيه، وإن عدم بنقله إلى مال غير زكائي أخذ منهم؛ لأنهم مهتمون ولا يتدينون بأدائها فأخذت منهم، والمسلمون لا يتهمون؛ لأنهم يتدينون بأدائها. قال: ولا يجوز أن ينقص ما يأخذ من أراضيهم ومواشيهم عن دينار. أراد الشيخ بهذا الكلام بيان أن محل جواز الضرب على الأراضي والمواشي إذا لم ينقص ما يؤخذ من كل [واحد] عن دينار؛ لأن المأخوذ جزية كما ذكرنا، لكن باسم الصدقة؛ لرعونة المأخوذ منه، روي عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: "هؤلاء – يعني: نصارى العرب – قوم حمقى، أبوا الاسم ورضوا بالمعنى"؛ ولهذا يصرف مصارف الجزية، وإذا كان جزية لم يجز أن ينقص عن دينار؛ لما ذكرناه. ثم حالة عدم النقص تتحقق بأن يشترط عليهم أن ما ينقص من المأخوذ من

كل [واحد] منهم عن الدينار يكمله، وأن من لا مال له مما يجب فيه الزكاة [يعطي الدينار] كما أشار إليه الشافعي – رحمه الله -[في] كتاب الجزية من "الأم" حيث قال: إنما يجوز أن يصالحوا على ذلك بأن يقال [لهم]: من كان منكم له مال [أخذ منه ما شرط على نفسه إذا كانت قيمته ديناراً فأكثر؛ [فأما إذا] لم يكن له مال] يجب فيه ما شرط، [أو كان له مال] يجب فيه إلا أنه [أقل] من قيمة دينار، فعليه تمام دينار. قال [الشافعي – رضي الله عنه]، كما حكاه القاضي أبو الطيب -: وعلى هذا يحمل فعل عمر – رضي الله عنه – وإن لم يحك عنه. وقال أبو إسحاق المروزي [في "الشرح"]: الأشبه بفعل عمر – رضي الله عنه – أنه [لم] يشترط ذلك عليهم، وإنما كان كذلك؛ لأن أموالهم كانت الحرث والماشية، وعلم أنها تفي بالجزية أو تزيد عليها؛ فحمل الأمر على الغالب؛ ولأجل ذلك قال أبو إسحاق: إذا كان الغالب يوفيه ما لهم بالدينار جاز العقد من غير شرط، فإن عرض في أموالهم عارض، فنقص ما يؤخذ منها على الدينار من كل شخص – طولبوا [بتكميله، وهذا] ما اختاره [في "المرشد"]، وظاهر النص كما [قال] البندنيجي: الأول. ثم قال: ولو لم يغلب على الظن أن ما لهم من أموال الزكاة لا يفي المأخوذ منه بالدينار، فلا يجوز هذا العقد، ولا يجري الوجهان. وهذا هو الصحيح في "تعليق" القاضي [الحسين]، وظاهر المذهب في "الحاوي"، ووراءه وجوه: أحدها: حكى القاضي الحسين فيما إذا عقد الصلح، ولم يكن يبلغ

المأخوذ منهم قدر الدينار – أنه يطالبهم بالزيادة؛ حتى يتم ما يكون قدر دينار. والثاني والثالث – حكاهما الماوردي –: أحدهما: أن جواز ذلك لا يتقيد بحالة حصول الدينار من كل واحد؛ بل يجوز وإن نقص عن الدينار، [بل] وإن عدم أخذ شيء من بعضهم كما إذا كان فيهم من لم يبلغ [ماله] نصابا، ومن لم [يملك مالا] يزكى. قال: وهو الظاهر من فعل عمر – رضي الله عنه – ووجهه: أنه يجوز أن يزيد المال في وقت آخر، أو يتجدد فيحصل جبر الفائت بما أخذ منه. والثاني: أن ذلك يجوز إذا علم أن المأخوذ من أرباب الأموال لو وزع على الجميع أن تنقص حصة كل واحد [منهم] عن دينار، ولا يضر كون المأخوذ من بعضهم لا يفي بالدينار، ولا عدم الأخذ من آخر؛ لعدم مال زكائي له. وقال: إن فعل عمر – رضي الله عنه – محمول على ذلك، وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن الشافعي – رضي الله عنه – نص على عدم جواز هذا العقد في هذه الحالة، إلا أن يقول في الصلح: إن الأغنياء منهم يؤدون عن الفقراء، أو عن نفر من عشيرته، فأما إذا قال: أنا أعطي كذا على ألا يجب على الفقير منا شيء، [فلا يجوز؛ لأنه] لا يقر أحدا في ديارنا [من غير] جزية، [و] هذا قد قاله البندنيجي أيضا. قال القاضي [الحسين]: وعلى هذا: لو أن حصنا أو بلدة مشتملة على مائة نفر، فقال شخص: أنا أعطي مائة دينار عني وعن أهل البلد – جاز. ولو قال: أنا أؤدي المائة على أن لا جزية عليهم، لم يجز.

وحكى الماوردي وجها آخر: أنه يجوز؛ بناء على جوازه في المسألة السالفة. واعلم أن ما ذكرناه [من] تضعيف الصدقة ليس بمتعين حتى ولا يجوز غيره، بل قال الأصحاب: إذا رأى الإمام أن يربع ويخمس على وجه المصلحة [فعل]، صرح به القاضي الحسين وغيره، إذا كان المأخوذ من كل [واحد] منهم قدر الدينار، وأوجب الشيخ أبو حامد عقد الذمة [لهم] بهذا الاسم إذا طلبوا في هذه الحالة، ورأى الإمام المنع منه]؛ لما فيه من تشبيههم بالمسلمين في المأخوذ منهم، وحط الصغار من غير عوض [مالي]. ولو نقص المأخوذ من كل منهم عن دينار، لم يجز العقد؛ كما تقدم. نعم، لو كان المأخوذ من بعضهم يوفي بالدينار عن كل واحد منهم مع ما يأخذ منهم، ففيه وجهان في "الحاوي". [فرعان: إذا قال] من بدل اسم الصدقة؛ أنفة من اسم الجزية: قد أسقطت اسم الصدقة عني ورضيت باسم الجزية؛ ففيه وجهان: أحدهما – وهو المشهور، وبه جزم المصنف، وابن الصباغ -: [أنه يسقط] مضاعفة الصدقة عنه؛ لأنها في مقابلة ما أسقطه. والثاني – وهو الأصح في "الحاوي" -: أنها لا تسقط؛ لأن حكم الجزية موجود في الحالين؛ فلم يكن لاختلاف الاسم تأثير، [وهذا يوافق ما] ذهب إليه الشيخ أبو حامد من وجوب العقد بهذا الاسم عند بذل الدينار. [الثاني]: إذا باع صاحب الأرض [الأرض] التي ضربت الجزية عليها

صح البيع، وتحول المضروب عليها إلى رقبته، قاله في "المهذب" و"المرشد". [وفي "الرافعي"]: أنه إن بقي مع البائع ما يفي الحاصل منه بالمشروط عليه فذاك، وإلا انقلبت الجزية إلى رقبته، ولو أسلم سقط المضروب [عليها]؛ لأنها جزية [فسقطت] بالإسلام. فائدة: إذا لم يصح عقد الذمة من الإمام؛ لفقد شرط مما ذكرناه أو غيره – فلا يثبت القدر المسمى، وإنما الرجوع إلى دينار على كل حالم في السنة، قاله الإمام، وصرح به القاضي الحسين عن نص الشافعي – رضي الله عنه – حيث قال: قال الشافعي – رضي الله عنه –: فإن شرط ألا يجري الحكم عليهم فالصلح فاسد ولهم أخذ ما صولحوا عليه في المدة التي كف عن قتالهم، وعليهم أن ينبذ إليهم؛ حتى يصالحوه على ما يجوز، ومن صالحهم على شيء مما زعم أنه لا يجوز الصلح عليه، وأخذ عليهم جزية أكثر من دينار في السنة – رد الفضل عن الدينار. نعم، لو صالحهم الإمام على المقام بالحجاز فالعقد فاسد. قال المصنف والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم: ويجب عليهم في هذه الحالة المسمى؛ لأنهم إذا أقاموا به مع فساد العقد فلا بد من بدل، ولا شيء مضبوط يرجع إليه. قال: ويجوز أن يشترط عليهم [بعد الدينار] ضيافة من يمر بهم من المسلمين، أي: المجاهدين وغيرهم، كما صرح به البندنيجي وغيره إذا رضوا بذلك؛ لما روي أنه ?: "ضرب على نصارى أيلة ثلاثمائة دينار [في كل سنة]، وكانوا ثلاثمائة نفس، وأن يضيفوا من يمر بهم من المسلمين ثلاثا، ولا يغشوا مسلما". وقد روي أن عمر – رضي الله عنه – "ضرب الجزية على

[أهل] الشام، على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق ثمانية وأربعين درهما، وضيافة ثلاثة أيام". والمعنى [في ذلك: أنه فيه] مصلحة الأغنياء والفقراء من المسلمين: أما الأغنياء فإنهم قد يتأبون من البيع منهم [إذا مروا بهم] فيلحقهم الضرر، فإذا علموا أن ضيافتهم عليهم باعوا منهم، كذا قاله أبو الطيب. وأما الفقراء فإنهم يضطرون إلى المرور بهم لقضاء حوائجهم وإصلاح أشغالهم، وهم لا يتصدقون عليهم؛ فيلحقهم الضرر، فشرعت دفعا [له]، وهذا على وجه الاستحباب كما ذكره الرافعي. وهل يدخل أهل الذمة في استحقاق الضيافة عند الطروق، إذا كان الشرط مطلقا؟ فيه تردد حكاه الإمام. وقد أفهم كلام الشيخ [أنه لا يجوز جعل] الضيافة من الدينار، وهذا ما صار إليه أبو إسحاق وابن أبي هريرة، وجزم به القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وجمهور البغداديين، وصححه القاضي الحسين والرافعي. وحكى وجه آخر: أنه يجوز [أن يكون] من الدينار؛ لأنه ليس على أهل الذمة إلا الجزية، وهذا ما قال به أكثر البصريين؛ حيث جوزوا [أن يجعل بدلا عن الدينار كله إذا كان مبلغ ما في السنة معلوما يبلغ] قدر الدينار فما زاد، وإيراده في "الوسيط" و"الوجيز" يقتضي ترجيحه، وهو خلاف نص الشافعي – رضي الله عنه – فإن القاضي الحسين قال عند قوله: ولا بأس أن يصالحهم على خراج أراضيهم: قال الشافعي – رضي الله عنه –: لو صالحهم على الضيافة وحدها،

لم يجز؛ لأن المسلمين ربما لا يدخلون، وربما لا يأكلون من طعامهم؛ فهو مجهول. وعلى القول بالجواز، قال القاضي الحسين والغزالي: يحسب كل منهم [في آخر] الحول ما أنفقه، فإن بلغ دينارا فذاك، وإلا [طولب بإتمام] الدينار، ومفهوم هذا: أنا على القول الأول لا نفعل ذلك. وقد صرح المارودي بما ذكره القاضي تفريعا على القول الثاني، وبما أفمه لفظة تفريعاً على القول الأول، وتبعه فيه الروياني، فيه نظر؛ لأن الضيافة لا تثبت إلا بالشرط، وحينئذ فالإمام إما أن يكون قد صرح في العقد بالدينار و [اشتراط] الضيافة معه [بأن الضيافة هي نفس الجزية، أو بأنها محسوبة من الجزية التي قدرها عليهم، أو ذكر الضيافة وسكت عن الدينار. فإن كان قد صرح بالدينار والضيافة معه] فيجب أن يطلبوا بالباقي من الضيافة عن القدر المشروط؛ لأنها زيادة التزموها على أقل الواجب، فكملت كالزيادة من الذهب. وإن كان قد جعل نفس الضيافة الجزية، أو جعلها بعض الدينار كما يفهمه لفظ الغزالي – رحمه الله – فعلى القول الثاني ما ذكروه صحيح، وعلى القول الأول العقد باطل؛ فيكون الواجب كما ذكرنا دينارا والمنفق في الضيافة محسوبا منه إن [كان الطارقون مستحقين للجزية، [و] لا زائد عليه، وتفريعهم يقتضي خلافه. و] إن كان قد ذكر الضيافة وسكت عن الدينار؛ فالتفريع على القول الثاني كما في الحالة قبله، وعلى القول الأول العقد باطل؛ بناء على أن ذكر الجزية في العقد شرط كما هو الصحيح، وحينئذ فيكون الحكم كما تقدم. نعم، قال يقال: إن مراد الماوردي الحالة الأولى، وكلامه يرشد إليها، وإنما لم

يلزموا على القول الأول بإتمام المشروط من الضيافة؛ لأن عقده [على] هذا القول لا يجب بيان عدد الضيفان، [فإذا لم يعينوا] فلا شيء [عليه] بعد من إضافة [يمكن] المطالبة به. نعم، لو شرط ضيافة قوم محصورين فقد يقول: يلزم الإتمام، والله أعلم. ومما فرعه المارودي على القول الثاني: أنه لا يكون لغير أهل الفيء من الضيافة حظ، وهل يختص بها المجتازون من جيش المجاهدين، أو يكون لهم [ولغيرهم؟] فيه قولان؛ بناء على [أن] [مصروف مال] الفيء هل يختص بالجيش، أو يعم جميع [أهل الفيء، وصرح بأنها على القول الأول، يعم جميع] المجتازين من المسلمين، ولا يختص بها قوم دون قوم، وفي هذا الإطلاق أيضاً نظر؛ فإن المسألة إن كانت مصورة بما إذا شرط كون الضيافة [زائدة على الدينار فينبغي ألا يختلف الحكم فيها على القولين، وإن كانت الضيافة] هي الدينار من غير زيادة فيجب أن يقال على القول الأول بالبطلان وبعدم الصرف إلى جميع المجتازين من المسلمين؛ لما تقدم من التقرير. فإن قلت: نلتزم الصورة الأولى، [ونقول] إذا جوزنا جعل الضيافة بدلا عن الدينار عند الانفراد، فإذا شرطت مع الدينار فكأنا شرطنا عليهم دينارين، وجعلنا الضيافة أصلا؛ كما أن أخذ الدينارين أصل فلا يجوز الصرف لغير مستحقي الفيء، وإذا لم يجعل الضيافة قائمة مقام الدينار فكأنها تابعة له، ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع. قلت: إن صح الجواب على هذا التقرير فسد به [ما حصل به] الجواب

في الصورة السابقة فتأمله، والله أعلم. قال: ويبين أيام الضيافة في كل سنة، أي: بأن يقول: أقررتكم على أن عليكم عن كل مكلف منكم دينارا، وعليكم ضيافة ألف نفس في السنة أو أكثر منها أو أقل، كما حكى عن الروياني، وهو في "الحاوي" ويقتضيه كلام الشيخ والبندنيجي وغيرهما الآتي من بعد، أو يقول: على أن كل [منكم ضيافة] مائة نفس أو أكثر أو أقل، كما ذكره غيرهم. قال: ويذكر قدر من يضاف من الفرسان أو الرجالة، أي: في كل يوم، مثل أن يقول: ويقوموا [بضيافة] عشرة [أنفس] في كل يوم [منهم] فرسان ستة، ورجالة أربعة. قال: ومقدار الضيافة من يوم أو يومين أو ثلاثة، أي: بالنسبة إلى كل شخص؛ لأن ذلك كله أنفى للغرر، وأقطع المنازعة، وهذا البيان صرح [به] البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما: بأنه على وجه الوجوب؛ فلا يصح العقد بدونه. وحكى الرافعي [أن] في "البحر": أنه لو لم يذكر عدد أيام الضيافة في الحول، واقتصر على ذكر ثلاثة أيام مثلا عند قدوم كل قوم – كان فيه وجهان: إن جعلناها أصلا كالدينار فلا يجوز، وإلا فيجوز، وهما كذلك في "الحاوي"، والمراد: أن الضيافة إن جعلت [بدلا] عن الدينار وجوزناها فلا يجوز، وإن لم تجعل الضيافة بدلا عن الدينار فيجوز، وهذا يقتضي الجزم بأنه لا يشترط ذكر عدد الضيافة تفريغا على مذهب العراقيين وأكثر البغداديين، وبه يجتمع مع ما ذكرناه عن البندنيجي وغيره في الاشتراط وجهان، وكذا الحكم في اشتراط عدد الضيفان يجتمع فيه وجهان؛ لأن الماوردي قال: إذا شرطت الضيافة وراء أقل الجزية، فلا يشترط التعرض للعدد، وإنما يشترط إذا جعلت من [نفس] الجزية.

قال: ولا يزاد على ثلاثة أيام؛ لما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الضيافة ثلاث، وما زاد عنها صدقة"، وفي رواية "مكرمة"، وفي رواية " [لا يحل] لأحد أن يثوي عند صاحبه حتى يجرحه"، وروي أنه قال: "الضيافة ثلاثة [أيام]، والإجازة: يوم وليلة". وأراد بالإجازة: إعطاء الجائزة، من قولهم: أجازه يجيزه، إذا أعطاه الجائزة، ومعناه: أنهم يزودونه ليوم وليلة إذا رحل، وتضيفه في المقام ثلاثة أيام، ولأن الضيافة مختصة بالمسافرين، ومن قصد إقامة أكثر من ثلاثة أيام انقطع سفره. وعن ابن كج: أنه يشترط على المتوسط ثلاثة أيام، وعلى الغني ستة أيام. وقال الإمام: إذا حصل التوافق على الزيادة في الليالي فلا معترض. تنبيه: "الضيافة" من: ضاف، إذا مال؛ لأن الضيف يميل إلى المضيف. قال أهل اللغة: يقال: أضفت الرجل، وضيفته: إذا أنزلته ضيفا، وضفته وتضيفته: إذا نزلت عليه ضيفا. و"الضيف" يكون واحدا وجمعا، ويجمع أيضا على: أضياف، وضيفان، وضيوف، والمرأة ضيف وضيفة. قال: ويبين قدر الطعام والأدم، والعلف وأصنافها؛ نفيا لجهالة العوض، والأعدل في تقدير الطعام ثلاثة أرطال من الخبز في كل يوم، ومن الأدم ما يكفي ذلك، كما ذكرناه في النفقات. وفي علف الدواب يرجع إلى العادة الغالبة، وهي تختلف بالخيل والجمال

والحمير، وظاهر كلام الشافعي – رضي الله عنه – يدل على أن بيان العلف لا يشترط؛ فإنه قال – كما حكاه ابن الصباغ وأبو الطيب-: إنه لو أطلق ذكر العلف لا يدخل فيه الشعير، وإنما هو التبن والحشيش. ولم يورد الماوردي غير المنصوص عليه، وقال: هو وغيره: إنه عند اشتراط الشعير يجب القيام به، قال: ويكون ذلك من جنس طعامهم وإدامهم؛ نفيا للمشقة عليهم. قال الماوردي: فإن كانوا يقتاتون الحنطة ويتأدمون باللحم، كان عليهم أن يضيفوهم بذلك، وإن كانوا يتاتون الشغير ويتأدمون بالألبان، أضافوهم بذلك [وأما ما سواه] من الثمار والفواكه فإن كانوا يأكلون ذلك غالبا في كل يوم شرط عليهم في زمانها، وليس للأضياف أن يكلفوهم ما ليس بغالب لأقواتهم ودوابهم، ولا ذبح جمالهم ودجاجهم، ولا الفواكه النادرة والحلوى، ولا ما [لا] يتضمنه شرط صلحهم. قال: ويقسم ذلك على عددهم، أي: إن استوت جزاهم وتنازعوا، كما صرح به البندنيجي والماوردي وغيرهما، وعلى قدر جزاهم، أي: إن اختلفت وتنازعوا؛ لأن هذا هو اللائق بالحال. وهذا بناه الماوردي على الصحيح في أن الضيافة تكون وراء الدينار، وحكى وجها آخر: أنهم متساوون في الضيافة، إن تفاضلوا في الجزية إذا جعلت الضيافة أصلا وجوزناه. واعلم أن كلام الشيخ – رحمه الله تعالى – يقتضي أمرين: أحدهما: جواز ضرب الضيافة على عددهم من غير بيان ما على كل واحد منهم في الابتداء كما حكيناه من قبل، وفي كلام القاضي الحسين ما يتنازع في ذلك؛ فإنه قال: وعلى الإمام أن يبين لكل واحد [منهم] عددا معلوما يضيفه في كل شهر أو جميع السنة، وعلى هذا ينبغي أن ينزل كلام الشيخ أيضا بأن يقرأ: ويقسم – بفتح الياء وإسكان القاف – ويكون الضمير عائدا إلى عاقد الذمة لكن الظاهر الأول. الثاني: أنها تضرب على الغني والمتوسط [والفقير] المعتمل الذي تقدم

ذكره، وهذا هو المحكي عن الشيخ أبي حامد، ولم يورد البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين والإمام والغزالي سواه، وهو محكي عن الشيخ أبي محمد. قال القاضي الحسين: فيوظف على الغني عشرة مثلا، وعلى المتوسط خمسة، وعلى الفقير ثلاثة، على ما يؤدي إليه اجتهاده، ولا تفاوت بينهم في صفة الطعام والإدام، كي لا يؤدي إلى إضرار الأغنياء؛ لأن الضيف يميل إليهم [رغبة في] أطعمتهم الناعمة. وتبعه في هذا الإيراد الإمام. وفي "الرافعي": أنه يجعل على الغني عشرين، وعلى المتوسط عشرة، وعلى الفقير خمسة. وفي "المهذب" و"الحاوي": أن الفقير لا يشترط عليه الضيافة؛ لأنها تتكرر فلا يسهل عليه القيام بها. وهذا ظاهر نص الشافعي – رضي الله عنه – كما سنذكره من بعد، واعتبر الماوردي في جواز ضرب الضيافة أن يكون بالمضروب [عليه] قوة بها، إما لخصب بلادهم وإما لكثرة أموالهم، فإن ضعفوا عنها لم يؤخذوا بها. وفي "الرافعي" – بعد نسبة ما حكيناه عن المذهب إلى الروياني وقوله: إنه الأشبه – أن الأحسن ما ذكره صاحب "التهذيب"، وهو الاشتراط على المعتمل دون غير المعتمل. وهذا ما نبهت على أنه ظاهر كلام الشيخ هنا، ويمكن حمل كلامه في "المهذب" على الفقير [غير المعتمل، وإليه يرشد قوله: ولا تجب على الفقير [وإن وجبت عليه الجزية]، يعني]: وإن وجبت عليه الجزية على قول. قال الرافعي: ويمكن أن يبنى الخلاف على أن الضيافة تحسب من الجزية أو وراء الجزية، فإن قلنا بالأول يشترط عليه، ولا يزاد فيما ينفقه على الدينار، وإن قلنا بالثاني فلا.

[قلت: ولو صح ما ذكره لم يكن ذلك خلافا مبنيا؛ بل هو منزل على حاله، فإن شرطت مع الدينار جازت، وإلا فلا]. قال: وعليهم أن يسكنوهم في فضول مساكنهم وكنائسهم، [أي: في مدة الضيافة؛ لأن الضيافة تستلزمها عادة، وقد روي: "أن عمر – رضي الله عنه كتب إلى الشام: [أن يؤخذ أهل الذمة] بتوسيع أبواب كنائسهم]؛ ليدخلها الراكب إذا نزلها". ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الإسكان يلزمهم من غير تنصيص عليه، وكلام غيره من الأصحاب مصرح باشتراطه كما يشترط غيره، وقالوا: إنه يجوز شرطه على الفقراء الذين لا يضيفون في بيوتهم. تنبيه: "فضول المنازل": [جمع"فضل"، وهو ما زاد على الحاجة؛ فلا يجوز إخراج أرباب المنازل] منها إذا ضاقت ولم يسعهم الفضول، وهذا ما حكاه البندنيجي عن النص؛ حيث قال: قال الشافعي – رضي الله عنه – في "الأم": وإن لم تسعهم فضول منازل الأغنياء نزلوا في فضول منازل الفقراء وذوي الحاجة، ولا ضيافة عليهم، فإن لم يسعهم فضول منازلهم لم يكن لهم إخراج أربابها منها ونزولهم فيها، ويجب أن يكون الفضل الذي ينزل فيه الضيف يقيه من الحر في وقته [والبرد في وقته]. وكذا يجب أن يهيئوا موضعا للدواب. قال الماوردي: ولو شرط عليهم أن انقطع مركوبه حملوه إلى طرف بلاد الضيافة جاز، وإن لم يشترط عليهم لم يلزمهم. فروع: حكاها الماوردي وغيره: إذا ضرب الإمام الضيافة عليهم، ثم أراد نقل المؤن إلى الدينار، وأخذه منهم – ففيه وجهان، أحدهما: لا يجوز ذلك إلا برضاهم، قال الإمام: والصحيح

عندي: أن الضيافة إن رأيناها محسوبة من الدينار الذي هو الأصل، فللإمام ردها إلى الدينار، وإن كانت الضيافة زائدة على الدينار فالوجه: القطع بعدم قدرته على ذلك بدون رضاهم. [ثم] إذا قلنا بجواز رجوعه إلى الدينار فهل يبقى الدينار لعموم المصالح كالضيافة، أم يختص بأهل الفيء؟ فيه وجهان، أظهرهما في "الرافعي": الثاني؛ لأن القياس في الضيافة – أيضا – الاختصاص، إلا أن الحاجة اقتضت التعميم، وإذا ردت إلى الأصل ثبت الاختصاص كما في الدينار المضروب ابتداء. إذا طلب الضيف [ثمن] الطعام لم يلزمهم ذلك، ولو أراد أخذ الطعام ليذهب به ولا يأكله عندهم، فله ذلك، بخلاف طعام الوليمة لا يجوز إخراجه؛ لأن هذه معارضة وتلك مكرمة. ليس للضيف طلب طعام الأيام الثلاثة في اليوم الأول، وإذا امتنعوا من الإتيان بالطعام في وقته فهل للضيف المطالبة به في الغد؟ إن قلنا بأنه زائد على الدنيا فلا يجوز، وإلا فيجوز. [لا يلزم] أهل الذمة أجرة الطبيب والحمام وثمن الدواء. إذا تنازعوا في إنزال الضيف فالخيار إليه، [وإن تزاحم] الضيفان على واحد فالخيار [إليه، وإن لم يزاحم الضيفان على واحد فالخيار] للذمي، وإن كثر عددهم وقل المضيفون فالسابق أحق، وعند التساوي الرجوع إلى القرعة. قال الشافعي:- رضي الله عنه -: فإن غلب بعضهم بعضا ودخل المنزل كان أحق [به]، حكاه البندنيجي. قال: ومن بلغ من أولادهم، أي: في دارنا، واختار المقام – واستؤنف له عقد الذمة على ظاهر النص؛ لأن عقد الأب وقع لنفسه دونه، وقد ثبت له حكم الاستقلال؛ فعومل معاملة من لا أب له، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب

[وابن الصباغ]، واختاره في "المرشد"، وقال الإمام: إنه الأشبه. وقيل: تؤخذ منه جزية أبيه، أي: من غير استئناف عقد؛ لأنه لما تبعه في النسب والأمان تبعه في الذمة. ولا تؤخذ منه على هذا جزية قوم أمه إذا كانت أكثر من جزية أبيه؛ لأن الأم لا جزية عليها، [وهذا بخلاف الدية]، وهذا القول أصح في "تعليق" القاضي الحسين، وبه جزم الفوراني، وقال الإمام: إن ظاهر النص يدل عليه. ولذلك قال الماوردي: إنه ظاهر مذهب الشافعي – رضي الله عنه – ونسب الأول إلى قول الشيخ أبي حامد، [وقال]: إنه فاسد؛ لأن الشافعي – رضي الله عنه – جعل جزية الولد إذا اختلفت جزية أبويه جزية [أبيه دون] أمه ولم يستأنف أحد من الأئمة العقد للأولاد عند بلوغهم. ثم لا فرق في جريان القولين عندنا بين أن يكون الأب قد قال: التزمت في حق ابني إذا بلغ مثل ما التزمت في حق نفسي، أو لا، قاله الإمام وغيره. التفريع: [إن قلنا بالأول:] ضرب عليه من الجزية ما يقع به التراضي، والأولى أن يتلطف به إلى أن يقبل جزية أبيه إذا كانت أكثر من أقل ما رضي به، فإن أبي إلا بذل أقل الجزية – وجب العقد له. وإن قلنا بالثاني: قيل له إن رضيت بجزية أبيك تركناك، وإن أبيت فقد نقضت العهد؛ فنعاملك معاملة ناقض العهد، فإن أبى رد إلى مأمنه كما جزم به أبو الطيب والبندنيجي والقاضي الحسين، فإن عاد وبذل أقل الجزية عقد له. وفي "الرافعي": حكاية طريقين فيه عند الامتناع من بذل [جزية] أبيه: أحدهما: أنه على الخلاف الآتي فيما إذا امتنع المستقل بالعقد من بذل الزيادة. [والثاني: أنا نقبل منه عند الامتناع من بذل الزيادة] على أقل الجزية ما بذله في الحال؛ لأنه لم يقبل بنفسه حتى يجعل بالامتناع ناقضا للعهد.

تنبيه: ظاهر قول الشيخ يقتضي أنه لا فرق فيما ذكره بين أن يبلغ الولد رشيدا أو سفيها، والأمر كذلك، لكن إذا قلنا: إنه تؤخذ منه جزية أبيه، أخذت من مال السفيه وإن كانت أقل [من] الجزى، وإن قلنا باستئناف عقد الذمة فللسفيه الاستقلال به؛ لحقن دمه بأقل الجزى، وهل يجوز العقد بأكثر منه؟ قال القاضي الحسين في "تعليقه": سئل عن ذلك – يعني القفال- فقال: يلزمه، أذن الولي [أو لم يأذن]؛ كما لو صالح عن دم العمد على أكثر من الدية، وهذا ما أورده في "الوسيط" فقها وتوجيها. [ثم] قال القاضي: وفي لزوم الزيادة دون إذنه نظر؛ لأنه يمكنه حقن دمه دونها؛ إذ الإمام يلزمه حقن الدم بالدينار الواحد، بخلاف ما لو وجب عليه قصاص، فصالح على أكثر من الدية – يلزمه الزيادة؛ لأنه لا يتوصل إلى [حقن دمه] بدونها إذا لم يرض المستحق إلا بها. وفي "النهاية" نسبة التجويز إلى القاضي وتضعيفه بما أبداه القاضي احتمالا، وقد أبدى ابن الصباغ هذا الاحتمال أيضا، وحكى عن الروياني مثله؛ ولأجل ذلك جزم في "التهذيب" بعدم أخذ الزيادة. ولو امتنع السفيه من بذل الجزية، ورام اللحوق بدار الحرب – فليس للولي عقدها، صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والروياني وغيرهم، وكلام الغزالي في "الوسيط" يفهم خلافه؛ لأنه قال: ولو عقد الولي الزيادة لم يكن للسفيه المنع كما يشتري له الطعام في المخمصة قهرا؛ لصيانة روحه. والأشبه الأول، وكلام الغزالي يمكن عوده إلى مسألة القصاص التي قاس عليها ما نحن فيه، كما صرح به الإمام فيها، لا إلى مسألة الجزية، لكن كلامه في

"الوجيز" مصرح بالأول؛ فلعله أخذه من ظاهر كلامه في "الوسيط" من غير مراجعة غيره في ذلك الوقت، والله أعلم. قال: وتؤخذ الجزية في آخر الحول؛ لأنه حق مالي يتكرر بتكرر السنين؛ فكان وقت أخذه آخر الحول كالزكاة والدية، وحكى الأصحاب قولين تظهر فائدتهما من بعد في أن الحول هل هو مضروب [للوجوب كالزكاة]، أو يتعلق الوجوب بأول الحول، والمدة مضروبة للأداء. وفي "النهاية": أن عبارات الأصحاب قد اختلفت في إضافة الوجوب إلى أول السنة: فمن قائل: يجب الجميع بأول السنة ثم الاستقرار على التدريج، ومن قائل إنها تجب شيئا فشيئا، وعلى هذا يتخرج أن الإمام هل له أن يطالب بقسط ما مضى أم لا؟ وفيه وجهان حكاهما الإمام أيضا، والظاهر المنع؛ إتباعا لسير الأولين، وأنه هل يجوز للإمام أن يشترط تعجيل الجزية؟ فيه وجهان في "التهذيب"، ووجه الجواز إلحاقها بالأجرة. فرع: إذا بلغ الصبي في أثناء الحول، واختار المقام عندنا – خير بين ثلاثة أشياء: بين أن يدفع عند تمام الحول قسط الماضي؛ ليكون حوله [مع] حول أصحابه، وبين أن يؤخر قسط بعض الحول إلى تمام الحول الثاني فيعطيه معه، وبين أن يصبر إلى أن يتم حول من [حين] بلوغه فيعطي ما عليه. قال: ويؤخذ ذلك منهم برفق، كما تؤخذ سائر الديون [؛ لما روى أبو داود عن عروة بن الزبير: أن هشام بن حكيم بن حزام وجد رجلا – وهو على حمص – يشمس ناسا من النبط في أداء الجزية، فقال: ما هذا؟! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا"، وأخرجه مسلم.

و] لأنها عوض عن حقن دمائهم وسكناهم في دار الإسلام فكانت كالأجرة في الإجارة والثمن في البيع، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب في أواخر كتاب الجزية عن نص الشافعي – رضي الله عنه – في "الأم"، وكذلك البندنيجي حكاه عن النص قبيل باب الهدنة، وذكر أن الشافعي – رضي الله عنه – قال: يكفي في الصغار أن يجري عليهم الحكم، لا أن يضربوا ولا يؤذوا بكلام قبيح. وقد حكى تفسير الصغار في الآية بهذا عنه – أيضا – المراوزة وقالوا هنا: إنها تؤخذ منهم على وجه الإهانة فيطأطئ الذمي رأسه عند التسليم، ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمته – وهي من اللحيين مجتمع اللحم بين الماضغ والأذن، فيقول: يا عدو الله، أد حق الله. واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {وهم صاغرون} [التوبة: 29]، لكنهم اختلفوا في أن ذلك واجب أو مستحب، على وجهين، أصحهما في "الوسيط" و"الرافعي": الثاني؛ لأنها تسقط بتضعيف الصدقة، وبنوا على الوجهين جواز توكيل المسلم في أدائها، والحولة عليه بها، وضمان المسلم بها. وقال الإمام: الأصح عندي تصحيح الضمان؛ فإن ذلك لا يقطع إمكان توجيه الطلب على المضمون عنه ونفي الضمان – حتى يقال: لا يلزم الضامن شيء – بعيد. ثم قال: ويتجه عندنا طرد الخلاف فيما إذا وكل الذمي ذميا فإن كل ملتزم للذمة معني بالصغار في نفسه، ولا خلاف في جواز توكيل المسلم [في] عقد الذمة؛ لأنه ليس في صغار. تنبيه: الرفض ضد العنف، وقد رفق به، يرفق – بالضم – وأرفقته، وترفقت به. قال: ولا يؤخذ من امرأة؛ لقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله} الآية [التوبة: 29.] [وهذا خطاب للذكور]. وروي عن عمر – رضي الله عنه – أنه كتب إلى أمراء الأجناد: أن اضربوا

الجزية، ولا تضربوها على النساء، والصبيان إلا من جرت عليه المواسي. ولأن الجزية تؤخذ في مقابلة حقن الدم وسكني الدار، [والمرأة] محقونة الدم، وهي مال بدليل ملكها بنفس الأسر؛ فلم تجب عليها جزية لسكني الدار كسائر الأموال. والخنثى فيما نحن فيه ملحق بالمرأة. نعم، لو بانت ذكورته فهل تؤخذ منه جزية الأحوال الماضية؟ فيه وجهان عن رواية ابن كج، رحمه الله تعالى. ثم لا فرق في المرأة بين أن تكون زوجة لذمي استتبعها معه في العقد [كما سنذكره] أو لا، وذلك في صورتين: إحداهما: أن تولد في دارنا. والثاني: أن تكون في دار الحرب، وقد طلبت أن يعقد لها الذمة؛ لتخرج إلى دار الإسلام وتقيم، وفي هذه الحالة يجوز أن يأذن لها بشرط أن يجري عليها أحكام [الإسلام] من غير جزية وهذا [مما] لا خلاف فيه وإن كان للشافعي – رضي الله عنه – قولان معزيان [إلى "الأم"] حكاهما أبو حامد الإسفراييني، وأشار إليهما ابن أبي هريرة فيما إذا حاصرنا قلعة لا رجل فيها، وسأل من فيها من النسوان عقد الذمة لهن، فشرط أن يجري عليهن أحكام الإسلام ويبذلن الجزية: أحدهما: لا [يجير] ويتوصل إلى فتح القلعة وسبيهن، وهذا ما نقله أبو بكر الفاسي في "عيون المسائل" عن نصه؛ معللا بأن الجزية تؤخذ لقطع الحرب، ولا حرب في النساء، وهن غنيمة، وصححه الغزالي وإمامه بعد روايته [وجها]، واختاره في "المرشد"، وفرق بينه وبين الصورة قبلها بأنها ثم تصير

تبعا للمسلمين، وربما حملها ذلك على الإسلام، وهنا بخلاف ذلك [مع أنه] لا مصلحة [في إقرارهن] في قلعة منفردات. والثاني: يلزم عقد الذمة بالشرط المذكور ولا يأخذ منهن شيئا باسم الجزية، فإن أخذ رد عليهن إلا [أن] يعلمن عدم [وجوب ذلك فيكون هبة تملك بالقبض، [ولهن الامتناع قبل القبض]، وكلام الفوراني مصرح بأنا على هذا القول نأخذ منهم الجزية، وقد حكاها الماوردي وجها عن ابن أبي هريرة. وفي "تعليق" القاضي الحسين تفريعا على هذا القول: أنها تؤخذ في سنة واحدة، ولا تتكرر بتكرر السنين، وحكاه الإمام عمن يوثق به، وقال: إنه كلام مضطرب. قال: ولا عبد؛ لأنه روي عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: لا جزية على مملوك. وفي "الحاوي" أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا جزية على عبد"؛ ولأنه لا يملك وهو مال، والمال لا جزية عليه. والمدبر والمكاتب [وولد أم الولد] كتابع لها؛ كالقن، وكذا من [بعضه حر وبعضه رقيق على المذهب كما قال الرافعي، وإيراد المصنف والماوردي يقتضي ترجيحه.

وقيل: إنه يؤدي من الجزية بقدر ما فيه من الحرية؛ لأنه يملك بها، وهذا ما اختاره في "المرشد". وكما لا تجب على العبد لا تجب على سيده. نعم، لو عتق العبد، فإن كان ممن لا يعقد لهم الذمة ألحق بدار الحرب، [وإن كان ممن يعقد لهم الذمة فإن بذل الجزية أقر بدار الإسلام، وإلا ألحق بدار الحرب] وفي قدر جزيته إذا كان سيده ذميا ثلاثة أوجه حكاها الماوردي: أحدها: قدر جزية معتقدة؛ لأنها لزمته بعتقه. والثاني: جزية حر من عصبته؛ لأنه أخص بميراثه ونصرته. والثالث: ما يقع به التراضي لتفرده بها دون غيره، وهذا ما اختاره في "المرشد"، وهو مع الأول، مذكوران في "المهذب". والتفريع على الأوجه كما تقدم في الصغير [إذا بلغ]، ولو كان معتقه مسلما فالاعتبار بما يقع به التراضي، ويتجه أن يجيء الوجه الثاني. قال: ولا صبي ولا مجنون؛ لقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله} الآية [التوبة: 29]. والصبي والمجنون ليسا من أهل القتال قال – عليه السلام –: "رفع القلم عن ثلاث"، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: "خذ من كل حالم دينارا" أي: محتلم؛ فدل بمفهومه على عدم الوجوب على الصبي ومن طريق الأولى [على] المجنون. وعن "البيان" حكاية وجه: أنها تؤخذ من المجنون؛ تنزيلا للجنون بمنزلة المرض، ونسبه بعض الشارحين إلى بعض الخراسانيين. قال الرافعي: ولا عبرة [به]. فرع لو شرط على الرجال أن يؤدوا عن أبنائهم ونسائهم غير ما يؤدون عن

أنفسهم، قال الشافعي – رضي الله عنه – في "الأم": جاز ذلك إذا كان من أموالهم، ولزم كما يلزم ما اتفقوا [على زيادته عن] أقل الجزى، ولو كان الملتزم من أموال الصبيان والنسوان، لم يجز. قال: وفي الشيخ الفاني والراهب قولان. القولان في المذكورين ومن [في] معناهما – كما تقدم في باب قتال المشركين – مبنيان كما قال [القاضي أبو الطبيب و [القاضي] الحسين] وابن الصباغ وغيرهم على جواز قتلهم: فإن قلنا بجوازه أخذت منهم [الجزية] إذا بذلوها، وهو ظاهر النص وصححه النووي، واختاره في "المرشد" وغيره، وحكى القاضي الحسين والفوراني وغيرهما طريقة جازمة به؛ لأنهم كانوا من أهل القتال. وإن قلنا بمنع قتلهم جاز إقرارهم في دار الإسلام من غير جزية كالنساء والصبيان، قاله القاضي أبو الطيب وابن الصباغ. وقال القاضي الحسين: إنهم يلحقون بمأمنهم. قال: وفي الفقير الذي لا كسب له قولان: أحدهما: لا تجب عليه؛ لما روي أن عمر – رضي الله عنه – جعل أهل السواد ثلاث طوائف: الغني، والمتوسط، والمعتمل، ولو كانت تجب على من لا صنعة له لكانوا أربع طوائف، [ولأنها حق مالي تجب في كل حول؛ فوجب ألا تجب على الفقير الذي [لا] صنعة له]؛ كالزكاة، والدية على العاقلة، وهذا [ما] نص عليه في "سير" الواقدي. فعلى هذا: تعقد له الذمة على أن يكون في دار الإسلام، فإذا أيسر وقدر على العمل استؤنف له الحول من ذلك الوقت. والثاني: تجب عليه؛ لقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا

الكتاب حتى يعطوا الجزية} الآية [التوبة: 29]. والقتال يعم الموسر والمعسر [الفقير]؛ فكذلك الجزية، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "خذ من كل حالم دينارا"، مع علمه بأن فيهم الفقراء، ولأن الجزية في مقابلة حقن الدم وسكني الدار، والغني والفقير فيهما سواء؛ فكذلك في وجوبها مع أن ما حقن به الدم لا يسقط بالإعسار [؛ كالدية، وما استحق به المقام في مكان لا يسقط بالإعسار] كالأجرة، وهذا ما نص عليه في سائر كتبه، واختاره [المزني و] النووي. وعلى هذا قال: ويطالب بها إذا أيسر، أي: تعقد له الذمة، ويطالب بالجزية إذا أيسر كما يعامل في حالة الإعسار، ويطالب بالبذل عند يساره. قال البندنيجي: فإذن على القولين تعقد له الذمة. وحكى القاضي أبو الطيب وابن الصباغ عن أبوي علي؛ ابن أبي هريرة وصاحب الإفصاح احتمال وجه آخر على هذا القول: أنه لا يقر إلا بإعطاء الجزية فإن تمحل وحصل قدر الجزية في كل سنة وأداها؛ أقر، وإلا أخرج من دار الإسلام. وحكى [القاضي] الحسين والفوراني أن من أصحابنا من قال: لا يترك في دار الإسلام مجانا قولا واحدا، وإنما القولان في أنه هل يضرب عليه، ثم يمهل إلى أن يوسر أو يلحق بالمأمن، وهذا ما اختاره في "المرشد". قال: وإن كان فيهم من يجن يوما ويفيق يوما، فالمنصوص – أي: في باب "ما يرفع الجزية"-: أنه تؤخذ منه الجزية – أي: كاملة – في آخر الحول، ولا ينظر إلى الجنون المتقطع؛ تغليبا لحكم الأهلية ووجوب الجزية، وهذه طريقة الشيخ أبي حامد كما نقلها العمراني [في "زوائده" عنه]، والقائل بها يوجب

تمام [الجزية] من طريق الأولى إذا كان زمن الإفاقة أكثر، وأما إذا [كان] أقل فقد حكى الإمام عنه: أنه [لا أثر للإفاقة]؛ فغلب الأكثر. قال: وقيل: يلفق أيام الإفاقة، فإذا بلغ قدرها حولا، أي: مثل أن مضى عليه حولان؛ [وجبت] عليه الجزية؛ لأنه لو كان في جميع الحول مجنونا لم تجب، ولو كان في جميعه مفيقا وجبت؛ فوجب – إذا كان في نصفه مفيقا وفي نصفه مجنونا – أن تسقط بقدر الجنون وتجب بقدر الإفاقة. قال: وهو الأظهر؛ لما ذكرناه، وهو الذي أورده في "المهذب" والماوردي، ونص عليه الشافعي – رضي الله عنه – في موضع آخر والقائلون به حملوا قول الشافعي – رضي الله عنه -: لا ترفع عنه الجزية بجنونه، على أيام الإفاقة. وعلى هذا جرى القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ. وحكى الإمام عن رواية الشيخ أبي علي: أن من يجن ويفيق لا يجب عليه جزية أصلا، وإن كان زمن الإفاقة أكثر، إلا أن يكون الجنون في حكم العارض كيوم في شهر؛ فيكون الاعتبار بالإفاقة، ولا نظر للجنون في هذه الحالة. وحكى الفوراني وغيره عن القفال: أنه إن كان في آخر الحول مفيقا طولب بالجزية، وإلا فلا. وهذا القائل لا يفصل بين أن يكون من الجنون مساويا لزمن الإفاقة، أو أحدهما أكثر من الآخر؛ كما صرح به الإمام عنه. ولو كان يجن نصف الحول ويفيق نصفه، قال البندنيجي: إن كانت الإفاقة في النصف الأخير واستمرت، فإذا حال الحول وجبت [عليه] لهذه البقية قولا واحدا. وكيف تؤخذ؟ الكلام فيها كما ذكرنا في الصبي إذا بلغ في أثناء الحول، وإن كانت في النصف الأول، فهل عليه جزية ما مضى؟ على قولين؛ كما لو أسلم في أثناء الحول، وهما في "المهذب" أيضا.

فرع: لو وقع في الأسر من [يجن ويفيق]، قال الإمام: إن غلبنا حكم الجنون فيرق ولا يقتل، وإن غلبنا حكم الإفاقة فلا يرق بالأسر، والظاهر: الحقن. قال: والإشكال فيه أن الجنون والإفاقة لا يجتمعان حتى يقال: اجتمع في الشخص الواحد الحاظر والمبيح؛ فيغلب الحاظر، ويتجه أن يعتبر وقت الأسر، وهو الذي اقتصر عليه الغزالي في ["الوجيز، وقال] في "الوسيط": إنه الصحيح. قال الرافعي: وهو في الحقيقة كوجه التلفيق في مسألة الجزية. قال: ومن مات منهم أو أسلم بعد الحول أخذت منه جزية ما مضى، أي قلت أم كثرت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم"، وهو قد ضمنها بالعقد وتمام الحول فوجب عليه الغرم، لعموم الخبر، ولأن الجزية دين يجب استيفاؤه والمطالبة به في حالة الكفر؛ فوجب ألا [يسقط بالإسلام]، أصله: الجراح وسائر الديون. فرع: إذا كان على الميت دين آخر، وضاق المال عن وفاء الجميع – فهل يضارب بقدرها مع الغرماء، أو تقدم الجزية على حقوق الآدميين؟ أو تقدم ديون الآدميين على الجزية؟ فيه الأقوال الثلاثة المذكورة في الزكاة، وهي جارية فيما إذا أفلس بعد الحول؛ كما ذكره البغوي وغيره. والذي أورده البندنيجي وغيره من العراقيين في الأولى: المضاربة، وهو ظاهر النص في المختصر، وبذلك يحصل في المسألة طريقان، وهما مبنيان على اختلاف نقله الإمام عن الأصحاب في أن الجزية ينحى بها نحو حقوق الله تعالى كالزكاة، أو نحو حقوق الآدميين؛ لأنها ليست من القرب، ومصرفها المرتزقة. وفي "الوسيط" حكاية الطريقين على غير هذا النحو: أحدهما: القطع بالتقديم.

والثاني: إثبات الأقوال. قال الرافعي: وهذا من سبق القلم، ولا صائر إلى القطع بتقديم الجزية. قال: ومن مات أو أسلم في أثناء الحول، فقد قيل: يؤخذ منه لما مضي؛ لأن الجزية في مقابلة حقن الدم والمساكنة، وقد حصل بعض ذلك؛ فوجب أن يجب بقسط ما مضى كما في أجرة الدار، وهذه طريقة أبي إسحاق، ورأي القاضي ابن كج تخصيصها بصورة الموت. قال: وقيل فيه قولان: أحدهما: لا يجب [عليه] شيء؛ لأنه حق مالي يتكرر بتكرر الحول فلم يجب ببعض الحول شيء منه؛ كما في الزكاة؛ لأن المستأمن يقيم بعض الحول بلا جزية، ولو كانت تجب بسقطه لما جاز؛ [كما لا يجوز] أن يقيم حولا بغير جزية، وقد قطع بهذا القول بعض الأصحاب. والثاني: يجب لما مضى بقسطه وهو الأصح؛ [لما ذكرناه]. وقد وافق الشيخ في التصحيح الرافعي والقاضي الحسين وغيرهما. وقيل: الفرق بين الجزية والزكاة: أن الزكاة يتعلق وجوبها بالحول، والجزية تجب بالعقد ويتحتم أداؤها بالحول، والمستأمن لم تجب عليه الجزية بعقده، وهذا قد وجبت عليه الجزية، وإنما تحتمت؛ فافترقا، وقد تبين لك بما ذكرناه أن في المسألة ثلاث طرق، وأظهرها: طريقة القولين، وهي التي اقتصر على إيرادها القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبندنيجي وكذا الماوردي، وقال: إنهما مأخوذان من اختلاف قول الشافعي – رضي الله عنه – في حول الجزية هل هو مضروب للوجوب، أو للأداء؟ فعلى الأول: لا يجب، وعلى الثاني: يجب. وقال القاضي الحسين: إن الجزية [هل تجب بأول الحول وتستقر جزءا فجزءا

إلى أن يتم الحول]؛ كالأجرة، أو تجب بآخر الحول؟ فيه جوابان مستنبطان من القولين في مسالة الكتاب. ثم في محل الخلاف طريقان: أحدهما: محله إذا مات وقد مضى أكثر من أربعة أشهر، أما إذا مضت أربعة أشهر أو أقل منها؛ فلا يلزمه شيء. والثاني - وهو الصحيح -: أنه لا فرق في [جريان القولين] بين أن يموت وقد مضت أربعة أشهر أو [أقل منها أو أكثر]. حكاهما الإمام والرافعي في باب عقد الهدنة. فرع: إذا غاب الذمي ثم عاد، وقال: أسلمت من وقت كذا، فلا جزية علي، وأنكر الإمام ذلك – حكى صاحب "الإشراف" فيه قولين: أحدهما: القول قول الإمام؛ لأن الأصل بقاء الكفر. والثاني: القول قول الذمي؛ لأن الأصل عدم [وجوب الجزية]؛ إذ الجزية تجب عند حولان الحول. وحكى في وضع آخر: أنه إذا ادعى ذلك فاتهمه الإمام حلفه؛ واليمين واجبة أو مستحبة؟ فيه وجهان. وإذا نكل على وجه الوجوب حكم القاضي بالجزية؛ للعقد السابق على طريق ابن القاص، بخلاف مذهب ابن سريج، وحكى غيره وجها: أنه يحبس إلى أن يحلف أو يقر. آخر: يهود خيبر كغيرهم في ضرب الجزية عليهم، وسئل ابن سريج عما يدعونه من أن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – كتب [لهم] كتابا بإسقاطها، فقال: لم ينقل أحد من المسلمين ذلك.

قال ابن الصباغ: وفي زماننا [قد أظهروا] كتابا، وذكروا أنه بخط علي، [وأنه كتبه عن النبي صلى الله عليه وسلم وبأن تزويدهم وكذبهم فيه؛ فإن فيه شهادة سعد بن معاذ ومعاوية – رضي الله عنهما – وتاريخه بعد موت سع وقبل إسلام معاوية. وعن "البحر": أن ابن أبي هريرة أسقط الجزية عنهم؛ لأنه عليه السلام ساقاهم وجعلهم بذلك حولا؛ ولأنه قال: "أقركم ما أقركم الله تعالى" فأبهم. قال الماوردي: وهذا شيء تفرد به ابن أبي هريرة، ولا أعرف له [منه] موافقا، وأحسبه لما رأى الولاة [على] هذا خرج لفعلهم وجها. قال: وإن مات الإمام، أو عزل وولي غيره، ولم يعرف مقدار الجزية؛ أي: لعدم من يخبره بذلك من المسلمين، ولا وجد في الديوان شيئا يدل عليه – رجع [فيه] إلى قولهم؛ لتعذر معرفته من غيرهم، وطريقة – كمال قال الماوردي -: أن يسألهم فرادى فإن توافقوا على قدر يجوز العقد به أقرهم عليه بعد أحلافهم، قال: واليمين واجبة. [وقال] القاضي أبو الطيب و [القاضي] الحسين وابن الصباغ والبندنيجي: إنها مستحبة؛ لأنها لا تخالف الظاهر، بخلاف ما لو اعترفوا بدينارين، وقالوا: الدينار جزية والآخر هدية؛ فإن اليمين هنا واجبة. قال البندنيجي وابن الصباغ: لأنها تخالف الظاهر، وتخالف الزكاة على

أحد الوجهين؛ فإنها مواساة، وهذه معاوضة، وإن اختلفوا: فذكر بعضهم أنه أقرهم بدينار، وآخرون أنه أقرهم بأكثر منه – ألزم كلا منهم بما أقر به، ولا تقبل شهادة بعضهم على بعض، ويكتب الإمام في ديوان الجزية: أنه رجع فيه إلى قولهم حين أشكل عليه أمرهم فاعترفوا بكذا؛ لجواز أن يجد بينة عادلة تشهد بخلاف ما ذكروه فيرجع عليهم بالتفاوت، أما إذا عرف مقدار الجزية بأن استفاضت بها الأخبار، وانتشر ذكرها في الأمصار، أو شهد بها عدلان من المسلمين – اعتمد على ذلك، وهل يقوم مقام ذلك كونها في ديوان الجزية مكتوبة مع عدم الريبة لكونها تحت ختم؟ فيه وجهان في "الحاوي". قال: ويأخذهم الإمام بأحكام المسلمين من ضمان المال والنفس والعرض، أي: بالنسبة إلى المسلمين؛ لأنهم يعتقدون وجوب ذلك، وقد التزموا إجراء حكم الإسلام عليهم بعقد الذمة؛ كما تقدم. وأما بالنسبة إلى أهل الذمة وغيرهم فسيأتي الكلام فيه، إن شاء الله تعالى. قال: وإن أتوا ما يوجب الحد بما يعتقدون تحريمه: كالزنى والسرقة، أقام عليهم الحد؛ لما روى مسلم عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فأمر [بهما] رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، قال عبد الله بن عمر: فكنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها الحجارة بنفسه. وفي رواية أبي داود: "يجنأ عليها يقيها الحجارة"، وخرجه البخاري.

ويجنأ – بفتح الياء آخر الحروف، وسكون الجيم وبعدها نون مفتوحة وهمزة – يقال: جنئ، [يجنأ] على الشيء: إذا أكب عليه. فثبت هذا الحكم على الزنى بالنص، وقيس الباقي عليه. فإن قيل: هذا الفعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدل على المدعي؛ لأمرين: أحدهما: أن الكلام في أهل الذمة، واليهوديان لم يكونا من أهل الذمة كما نقله الإمام في نكاح المشركات عند الكلام في وجوب الحكم بين أهل الذمة. الثاني: أن كلام الشيخ يقتضي إقامة الحد، سواء رضوا بحكمنا أو لم يرضوا،

والحديث يدل على حالة [الرضا] بالحكم. قلت: الجواب على الأول: [أنه إذا] جاز ذلك في غير أهل الذمة وهم أهل العهد ففي أهل الذمة [من طريق] أولى؛ لالتزامهم جريان أحكام الإسلام عليهم مع اعتقادهم الوجوب. وعن الثاني: لا نسلم أن الحديث دال على اعتبار رضاهم، ولئن دل عليه هذا الخبر؛ فقد جاء في "صحيح" مسلم و"سنن" أبي داو عن البراء بن عازب قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي يحمم، فدعاهم فقال: "هكذا تجدون حد الزنى [في كتابكم]؟ "، فقالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم، قال: "نشدتك الله الذي أنزل التوراة على موسى، [أهكذا] تجدون حد الزنى في كتابكم؟ "، فقال: اللهم لا، ولو أنك نشدتني [بهذا] لم أخبرك. حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الرجل الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقالوا: تعالوا فنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم الجلد، وتركنا الرجم، فقال رسول الله ?: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه"، فأمر به فرجم. والتحميم كما قال الماوردي في باب حد الزنى: تسويد الوجه، مشتق من "الحممة"، وهي الفحمة. على أن الإمام قال: ما ذكره العراقيون من إقامة حد الزنى والسرقة عليهم حسن، ولم أر في طريق المراوزة ما يخالفه، والذي أراه في ذلك: أن من زنى منهم بمسلمة، أو سرق مال مسلم؛ فالحكم جار عليهم، فأما إذا زنى كافر بكافرة، أو سرق كافر مال كافر، فالذي أراه: يخرج هذا [على] القولين في

وجوب الحكم بينهم، فإنهم لما حرموا الزنى والسرقة في دينهم كذلك حرموا الغضب وتغييب الودائع، ونحوها، ثم ذلك يخرج على القولين؛ فكذلك الزنى والسرقة. وهذا الاحتمال قد صرح به منقولا الماوردي في كتاب السرقة، [والتفرقة] بين أن يزني بمسلمة، أو يسرق مال مسلم، أو يكون ذلك في أهل الذمة، وقد حكى الرافعي في كتاب النكاح شيئا منه عن صاحب "التهذيب" وغيره؛ حيث قال: إنهم قالوا: إقامة حد الزنى والسرقة عليهم للإمام إذا قلنا: يجب الحكم بينهم، أما إذا قلنا: لا يجب الحكم بينهم؛ فلا يقام الحد عليهم إلا بالرضا. ورأيته في "التهذيب" في هذا الكتاب، وقال: إنه لا فرق في ذلك بين أن يسرق مال مسلم أو ذمي، أو يزني بمسلمة أو ذمية، وقد ذكرت في باب اللعان شيئا يتعلق بهذه المسألة فيطلب منه. وإذا تأملت ما حكيته عن الإمام والماوردي والبغوي ظهر لك [في المسألة] ثلاثة أوجه. قال الماوردي: وإذا لم يحدهم [حد الزنى] على الزنى بذمية فذاك [لا ينقض عهدهم]، لكن لا يقرون على ارتكاب الزنى في دار الإسلام؛ لأنها تمنع من ارتكاب الفواحش فيستتابون [منه]، فإن تابوا، وإلا نبذنا إليهم عهدهم. قال القاضي أبو الطيب: ثم لا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون حكم [أهل] الذمة [فيما اعتقدوا تحريمه] موافقا لحكم الإسلام، أو لا؛ لقوله تعالى: {وإن أحكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49]؛ ولأن حكم التوراة والإنجيل [قد نسخ]؛ فوجب أن يحكم بالناسخ دون المنسوخ.

قال: وإن لم يعتقدوا تحريمه كشرب الخمر، أي: ونكاح ذوات المحارم المجوس بحكم العقد – لم يقم عليهم الحد؛ لأنهم يقرون على الكفر بالجزية لاعتقادهم؛ فكان إقرارهم على ما دونه مما يعتقدون إباحته أولى، ولا فرق في ذلك بين أن يرضوا بحكمنا عند الترافع إلينا أو لا. وحكى الإمام في كتاب الغضب عن أئمة الخلاف وجها في وجوب الحد [على شارب الخمر إذا رضي بحكمنا، وقال: إن في كلام الشيخ أبي علي رمزا] إليه، وتوجيهه هين إن صح النقل، وقد يعتضد [بما نص عليه] الشافعي – رضي الله عنه -[إذ] قال: "إذا شرب الحنفي النبيذ حددته، وقبلت شهادته؛ فإذا كان اعتقاد الحنفي استحلال النبيذ لا يعصمه من الحد، فعقد الذمي لا يعصمه من الحد إذا رضي بحكمنا، لكن المذهب الأول، والفرق بينه وبين الحنفي على المذهب فيه - أيضا -: أن المعنى الذي لأجله وجب الحد على شارب الخمر موجود في النبيذ، وهو مقطوع به، فاطرح الخلاف، والحنفي مزجور بالحد زجر وغيره، وليس الذمي مزجورا بحد الشرب، مع العلم بأنه يشرب الخمر استحلالا وتدينا، وعلى كل حال: ليس لهم إظهار ذلك، فإن أظهروه عزروا؛ لأنه إظهار منكر في دار الإسلام، وهو لا يجوز. قال: ويلزمهم، أي: بالشرط، أن يتميزا عن المسلمين في اللباس، أي: في دار الإسلام كما قيده في "المهذب"؛ ليعرفوا بما يليق بهم في الحياة والممات، والتمييز يكون بلبس الغيار، والأولى أن تلبس كل طائفة ما اعتادته. قال الأصحاب: وعادة اليهود لبس العسلي وهو: الأصفر، وعادة النصارى لبس الأكهب والأدكن، وهو نوع من [أنواع] الفاختي. قال ابن الصباغ: والدكنة: السواد. وعادة المجوس: لبس الأسود والأحمر. ويكفي ذلك في بعض الثياب الظاهرة من العمامة [أو غيرها] كما قاله

الماوردي وغيره، وكلام القاضي الحسين [وغيره] يقتضي الاكتفاء بخرقة من الألوان، وأنها تكون مخيطة على أكتافهم دون الذيل، وتبعه البغوي في ذلك. وقال الرافعي: يشبه أن يقال: لا يختص ذلك بالكتف، والشرط: الخياطة [على موضع لا يعتاد، وألحق إلقاء المنديل ونحوه على الكتف بالخياطة]، وهو بعيد. قال الماوردي: ولو لبس اليهود والنصارى لونا واحدا جاز، وإذا تميزوا بلباس وصار مألوفا لهم منعوا من العدول عنه إلى غيره؛ كي لا يقع الاشتباه والإشكال. قال: فإن لبسوا قلانس، لبس المجوس القلانس؛ لأنها عادتهم، ميزوها عن قلانس المسلمين بالخرق، أي: التي ذكرناها؛ ليقع الامتياز بها، وقد أطلق بعضهم تسمية الخرق بالعسلية، ومنهم القاضي الحسين، وتقوم مقام الخرق في تمييز القلانس – كما قال الرافعي – الذؤابة والعلامة في رأسها، وهو في ذلك متبع للبندنيجي حيث قال: وإذا لبسوا القلانس [ميزوها، فيجعلون] في أعلاها عذبة، ولا يعملون في ذلك آذانها، كقلانس القضاة. قال: ويشتدون الزنانير في أوساطهم، أي: فوق الثياب؛ لما روي أن عمر – رضي الله عنه – كتب إلى أمراء الأمصار في أهل الكتاب أن يجزوا نواصيهم، وأن يربطوا الكستيجات في أوساطهم، وتزوي المناطق، ليعرفوا بزيهم من بين أهل الإسلام. والكستيجات: الزنانير، وهي التي عناها بالمناطق في الرواية الأخرى. والزنار: خيط مستغلظ يستوي فيه سائر الألوان، كما قاله [الماوردي، ولا

يكتفى بشدها باطنة]، قال القاضي الحسين: لأنهم يتدينون بعقدها باطنا. قال الرافعي والماوردي: وليس لهم إبداله بالمنطقة والمنديل ونحوهما، وإنما جمع بين الغيار والزنار – كما قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ – ليكون أثبت للعلامة؛ فإن المسلم قد يلبس الغيار [الملون] وقد يشد وسطه في حال العمل، فإذا جمع بينهما [زال الشبه]، وهذا يقتضي أن [يكون] الإتيان بهما معتبرا. وفي "ابن يونس": أن التمييز يحصل بأحد الأمرين، ومراده ما ذكره الرافعي وغيره: أنه يجوز الاكتفاء بشرط أحدهما، فلو شرطهما وجب الوفاء بهما. قال: ويكون في رقابهم خاتم، أي: طوق من رصاص أو نحاس، أو جرس يدخل معهم الحمام، أي: التي يدخلها المسلمون كما صرح به الرافعي – رحمه الله تعالى – لأن الغيار بالثياب لا يمكن في جوف الحمام، وقد روى أبو عبيدة في كتاب الأموال عن عمر – رضي الله عنه -[أنه] كتب إلى الأمراء أن يختموا رقاب أهل الذمة بخاتم رصاص، وهكذا الحكم في الحالة التي يتجردون فيها عن الثياب يكون الخاتم ونحوه في رقابهم. قال الأصحاب: ويمنعون من إرسال الضفائر وفرق الشعر، كما يفعله الأشراف والأجناد؛ قاله الماوردي، وكذا البندنيجي، وقال: إنهم إذا تحذفوا فلا يتحذفون في الشواش التي هي عادة الأشراف، بل يزال الشعر عن موضع التحذيف كله. وفي "الرافعي" و"الحاوي" وغيرهما: أنهم يؤخذون بجز النواصي؛ لأثر عمر، رضي الله عنه. قال: ولهم أن يلبسوا العمائم والطيلسان، أي: إذا تميزوا بما ذكرناه؛ لأن التمييز قد حصل. وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه لا يجوز لبس الطيلسان؛ لأنه أجل ملابس

المسلمين، وقال: إنه ليس بشيء. نعم، هل يمنعون من التظاهر [بلبس الديباج والحرير؟ [حكي فيه وجهين، والظاهر منهما في "الرافعي": الجواز]؛ قياسا على مرتفع الثياب من القطن والكتان. وفي "تعليق" القاضي الحسين الجزم بمقابله؛ فإنه قال: قد ذكرنا أنه يفرق بين المسلمين [وبينهم في الملبس؛ فلا يكون لباسهم فاخرا غاليا في الثمن كلباس المسلمين]. تنبيه: [الطيلسان – بفتح الطاء واللام، وكسرها، وضمها، وهما شاذان، وهو: معرب، وجمعه: طيالسة]. قال: وتشد المرأة الزنار؛ لما روي [أن] عمر – رضي الله عنه – كتب إلى أمراء الآفاق أن يلزموا [نساء] أهل الذمة بعقد الزنانير. قال: تحت الإزار، أي: وفوق الثياب؛ كي لا يصف عجيزتها، وينكشف رأسها؛ فكان ذلك أستر لها، وهذا ما اختاره في "المرشد"، وجزم به البندنيجي والبغوي. وقيل: فوق الإزار؛ ليظهر كالرجل، وإلى هذا صار الشيخ أبو محمد، وحكى الرافعي عن بعضهم: أنه أشار إلى أن يجعل تحت الإزار، لكن بشرط أن تظهر شيئا منه، واعتبر القاضي الحسين: أن تجعل على ثيابها علامة تتميز بها إذا خرجت عن المسلمات، وعليه ينطبق قول الماوردي: وأما نساء أهل الذمة فيؤخذون بلبس الغيار في الخمار الظاهر الذي يشاهد، وحكى الإمام فيه وجهين. قال: ويكون في عنقها خاتم، أي: من رصاص أو نحاس، لا من ذهب وفضة، يدخل معها الحمام؛ لتتميز به، وهذا بناء على جواز دخولها الحمام مع المسلمات، أما إذا منعناهن من [العقد] من ذلك؛ كما هو وجه حكاه القاضي

الحسين ورجحه البغوي – كن كالرجال إذا دخلوا حماما لا مسلم فيه. قال الماوردي والغزالي: ويمنعن من فرق الشعر والذوائب في الحمامات دون منازلهن، ولا يؤخذن بتحذيف شعرهن. قال: ويكون أحد خفيها أسود والآخر أبيض [أو أحمر] وغير ذلك؛ لتتميز به، وهذا هو الصحيح. وروي الإمام وجها آخر: [أنهن لا يؤخذن] بالغيار؛ لأنهن [لا يخرجن إلا نادرا] فلا يحتاج فيهن إلى التمييز، [وهو جار – كما قال الرافعي – فيما يحصل به التمييز في الحمام، وما ذكرناه من الغيار والتمييز] في الحمام واجب أو مستحب؟ حكى الرافعي والماوردي فيه وجهين، وطردهما الماوردي في المنع من ركوب الخيل، والذي يوافقه إيراد الجمهور منهما: الوجوب، ومنهم الإمام، لكنه حكى الخلاف فيما سنذكره من الدواب والمراكب فقال: قال قائلون: نكلفهم التمييز؛ كما في الغيار، ومنهم من جعل ما عدا الغيار أدبا. قال: ولا يركبون الخيل، أي: من أي نوع كانت؛ لقوله تعالى: {ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} [الأنفال: 60]، فأمر بإعدادها أولياءه؛ [ليجاهدوا عليها أعداءه] وقال صلى الله عليه وسلم "الخيل معقودة في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"، وعنى به الغنيمة، وهؤلاء مغنومون؛ [فلم يجز] أن يصيروا غانمين. وروي أنه قال: "الخيل ظهورها" عز، وهم قد ضربت عليهم الذلة، وقد

تقدمت حكاية وجه: أنهم لا يمنعون، وقد حكاه ابن كج – أيضا – والقاضي الحسين، وتوسط الشيخ أبو محمد، فمنع من [ركوب] الشريفة، وجوز ركوب البراذين الخسيسة، ولا خلاف في منعهم من التقلد بالسيوف وحمل السلاح ولجم الذهب والفضة. قال: ويركبون البغال والحمير؛ لأنه لا شرف فيها، وألحق الغزالي البغال النفسية بالخيل في المنع، وهو في ذلك تبع للإمام، والفوراني جزم به، ولم يقيده بالنفسية، والأظهر: الأول، واقتصر الأكثرون عليه. قال: بالأكف عرضا، أي: من جانب واحد بحيث تبقى رجلاه مدلاة إلى جانب، وظهره إلى جانب آخر. ووجهة: ما روي أبو عبيد: أن عمر – رضي الله عنه – كتب إلى أمراء الأجناد أن يركبوا أهل الذمة على الأكف عرضا – ولا يركبون كما يركب المسلمون. وعن الشيخ أبي حامد: أنهم يركبون مستويا، ولكن يكون الركاب من خشب، وهو الذي أورده الماوردي عن ابن أبي هريرة، كما نقله الرافعي: أنه لا حجر في الركوب، وقال: إنه يحسن أن يتوسط فيفرق بين أن يركب إلى مسافة قريبة من البلد فيركب عرضا، وبين أن يسير [مسافرا إلى] مسافة شاسعة – أي: بعيدة – فلا يكلف ذلك؛ بل يخصص الركوب عرضا بالحضر. قال ابن كج: وهذا كله في الذكور البالغين، فأما النساء والصغار [فلا يلزمون الصغار]؛ كما لا تضرب عليهم الجزية. تنبيه: الأكف: بضم الهمزة والكاف، وتخفيف الفاء، جمع أكاف [بكسر الهمزة]، ويقال - أيضا -: وكاف بكسر الواو، [وتقول: آكفت] الحمار، وأوكفته: شددت عليه الإكاف. قال: ولا يصدرون في المجالس، أي: مجلس المسلمين؛ إهانة لهم، ولا

يبدءون بالسلام؛ لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدءوهم بالسلام، وإذا لقيتموهم، [في الطريق] فاضطروهم – أو ألجئوهم – إلى أضيق الطرق". خرجه أبو داود، ومسلم، والترمذي. وحكى الماوردي في كتاب السير وجها [آخر]: أنه يجوز أن نبدأهم بالسلام؛ [لأنه لما كان السلام] أدبا وسنة [كان] المسلم بفعله أحق، فعلى هذا يقول له المسلم: السلام عليك، وعلى الأول إذا سلم الكافر ابتداء، قال في "التهذيب": فلا يجيبه. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه يرد عليه، وكذلك [قال] في "الحاوي": إنه يرد عليه. وقال: إن في كيفية الرد وجهين حكاهما في كتاب السير: أحدهما: أنه يقول: وعليك السلام، ولا يزيده عليه. والثاني: [أنه] يقول: "وعليك"؛ لأنه ربما نوى شرا بسلامه، ويشهد له ما روى مالك والبخاري عن عبد الله بن دينار أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول: السام عليكم، فقولوا: وعليكم". وفي لفظ "لمسلم" والنسائي: "فقل: عليك" بغير واو. قال الخطابي: وهو الصواب؛ لأنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه

[بعينه] مردودا عليهم، وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم والدخول فيما قالوه، لكن الذي يرويه [عامة المحدثين] بالواو. والسام عند بعضهم: الموت، وعلى هذا تكون الرواية المشهورة أولى. وفسر بعضهم السام: بالسآمة، وهي: الملالة، أي: تسأمون دينكم، وعلى هذا يظهر ما قاله الخطابي، لكنه لم يذكر سوى التفسير الأول. قال: ويلجئون إلى أضيق الطرق؛ للخبر. قال الأصحاب: وليكن الإلجاء بحيث لا يقع في وهدة، ولا يصدمه جدار، وهذا عن ضيق الطريق، فإن خلت الطريق عن الزحمة فلا حرج. فرع: لا يجوز لمسلم أن يوادهم؛ قال الله تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله ...} الآية [المجادلة: 22] قاله الرافعي والبغوي. قال: ويمنعون أي: بالشرط – كما قاله الماوردي – أن يعلوا على المسلمين في البناء؛ لأن في ذلك استكبارا لهم وتعظيما، ويخشى منه الاطلاع على عورات المسلمين، وقد استأنس الأصحاب [له] بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه". وعن كتاب ابن كج حكاية قول: أنهم لا يمنعون من ذلك، وعن بعضهم: القطع به، وحمل ما نقل من ترك الإطالة على إطالة جدران الكنيسة. وعلى الأول: إذا لم يشترط عليهم ذلك، قال الماوردي في "الأحكام": فالمستحب ألا يعلوا. قال: ولا يمنعون من المساواة؛ نظرا إلى أن المانع في الحالة السابقة خشية الاطلاع على العورات، والحديث قد دل على منع العلو على الإسلام، ولم يوجد. وقيل يمنعون؛ لقوله تعالى: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} [البقرة: 61]، فينبغي أن نستحقرهم في جميع الأشياء، ولأن القصد تمييزهم [عن المسلمين في

المساكن كما تميزوا في اللباس والمركوب، والمساواة] تنفي التمييز، والحديث دال على علو الإسلام ولا علو مع المساواة، وهذا ما رجحه أبو الطيب، وصاحب المرشد، وصححه البندنيجي والرافعي والنووي. فرع: هل يجوز [لهم] إخراج الرواشن إلى طريق المسلمين السابلة؟ فيه وجهان في "الحاوي" وغيره، وجه المنع: إلحاق ذلك بالإحياء، وهكذا الخلاف في آبار حشوشهم إذا أرادوا حفرها في أفنية دورهم. قال: وإن تملكوا دارا عالية [البناء] أقروا عليها. قال الشافعي – رضي الله عنه -: أنه على هذا ملكه، وهكذا الحكم فيما إذا كانوا قد بنوها عالية قبل الصلح معهم. نعم، يمنعون في الصورتين من الإشراف على المسلمين، وألا يطلعوا سطوحها إلا بعد تحجيرها، وإن لم يؤمر المسلمون بتحجير أسطحتهم، ويمنع صبيانهم من الإشراف [وإن [لم] يمنع صبيان المسلمين من الإشراف] على المسلمين، قاله الماوردي. فرع: لو هدمت الدار العالية وأرادوا إعادتها، فطريقان: إحداهما: أن الحكم كما لو أرادوا إنشاءها ابتداء، وهذه طريقة البندنيجي وأبي الطيب وابن الصباغ. والثانية: أن في جواز إعادتها كما لو كانت وجهين، وهذه طريقة الماوردي والقاضي الحسين. ولا نزاع في أنهم لو استأجروا دارا عالية لم يمنعوا من سكناها، قاله في "المرشد". تنبيه: في قول الشيخ: على المسلمين، ما يفهمك أنهم لو كانوا منفردين في محلة لا يختلط بهم المسلمون، ولا تتصل محلتهم بمحلة المسلمين، بل يفصم بينهما الخراب – أنه لا يكون حكمهم كذلك.

وفي "الحاوي" في هذه الحالة: أنه لا يمنع بعضهم [من] أن يعلوا على بعض إذا كانوا من أهل ملة واحدة، ولو كانوا من أهل ملتين فهل يمنعون من العلو؟ فيه وجهان، [ونقلهما الجيلي عن "الكافي". وعلى كل حال فهل يمنع الجميع من الإطالة على جميع بناء المسلمين في ذلك المصر؟ فيه وجهان]، المجزوم به منهما [في "تعليق" القاضي الحسين]، والمختار في "المرشد": أنه لا حجر عليهم في هذه الحالة. قلت: ويظهر أن يجيء [في هذه الحالة] وجه آخر: أنهم يمنعون من الإطالة [على أقرب بناء إليهم من بناء المسلمين دون بناء سائر البلد؛ كما أن الأصح فيما] إذا كان بناؤهم بين المسلمين أن يمنعون من الإطالة والمساواة لأقصر بناء جيرانهم، ومن هو أقرب منهم دون من عداهم، سواء كان بماء الجار معتدلا، أو في غاية الانخفاض، ووراء الأصح في هذه الصورة أمران: أحدهما: [فيما] إذا كان بناء الجار في غاية الانخفاض نظر الإمام. والثاني – وجه حكاه الرافعي عن "الكافي" والورياني، وهو مذكور في "الحاوي"-: أنهم يمنعون من إطالة بنائهم على بناء أحد من المسلمين في جميع ذلك المصر. ثم ما ذكرناه من المنع لمحض حق الله تعالى حتى يمنع وإن رضي الجار، قال الرافعي: وأظهر الوجهين أنه محتوم، والثاني: [عن] رواية صاحب "التقريب": أنه محبوب، [قال الإمام]: وهو بعيد غير معتد به. قال: ويمنعون من إظهار المنكر، أي: كالصليب، والأعياد التي لهم، ورفع أصواتهم على أمواتهم، ونكاح المحارم. قال: والخمر والخنزير والناقوس والجهر بالتوراة والإنجيل، أي: وإن كان

[ذلك] في كنائسهم؛ لما في ذلك من المفاسد، وسواء شرط عليهم ذلك في العقد أو لم يشترط، كما قاله القاضي أبو الطيب وابن الصباغ. وفي "الحاوي": أن ذلك لا يجب إلا بالشرط، وحكى الغزالي وغيره وجها أنهم [لا] يمنعون من الناقوس في الكنيسة – أيضا – تبعا لها. قال: ويمنعون من إحداث بيع وكنائس، أي: للتعبد [فيها] في دار الإسلام، أي: وإن لم يشترط عليهم [ذلك] كما صرح به أبو الطيب. وفي "الحاوي": أنه لا يجب إلا بالشرط. ووجه المنع من ذلك: ما روي أن مسروق بن عبد الرحمن قال: لما صالح عمر – رضي الله عنه – نصارى الشام وكتب إليهم كتابا أنهم لا يبنون في بلادهم ولا فيما حولهم ديرا ولا كنيسة ولا صومعة راهب، ذكره أبو الوليد على كتاب المزني. وروي [عن] ابن عباس أنه قال: أيما مصر مصرته العرب فليس لأحد من أهل الذمة أن يبني فيه بيعة، وما كان قبل ذلك فحق على المسلمين أن يفوا لهم به؛ يعني: لا يخربونه. ولأن ذلك معصية؛ فلم يجز إحداثه في بلاد الإسلام. وهكذا الحكم في إحداث [بيت] نار المجوس، والصوامع، ومجتمع صلواتهم، فلو فعلوا ذلك على غفلة منا نقص عليهم، أما الكنائس التي يراد بناؤها لنزول المارة فيها قال الماوردي: إن شركوا فيها بين المسلمين وبينهم جاز

لهم إحداثها، وإن جعلوها مقصورة على أهل دينهم دون المسلمين، ففي تمكينهم من بنائها وجهان. ولا فرق فيما ذكرناه بين ما خطه المسلمون كبغداد؛ فإن المستنصر خطها، والبصرة والكوفة؛ فإنهما خطتا في زمن عمر – رضي الله عنه – وكان تخطيط البصرة في سنة سبع عشرة من الهجرة على يد عتبة بن غزوان، وقيل: إنه لم يعبد بها صنم [قط]- وبين ما خطه المشركون وملكه المسلمون: إما عنوة، أو صلحا، ولم يشترطوا فيه إحداث شيء من ذلك، [أو أسلم] أهل تلك البلدة، كالمدينة على ساكنها أفضل – الصلاة والسلام – أما إذا شرط الإمام لهم في الصلح أن يحدثوا ما شاءوا من ذلك؛ نظر: فإن كان في بلد فتحها المسلون عنوة، أو خطوها – فالصلح باطل. قال الأصحاب: وما يوجد في البصرة ونحوها من الكنائس لا ينقض؛ لاحتمال أنها كانت في قرية أو برية، فاتصلت بها عمارات المسلمين، فإن عرف إحداث شيء منها بعد بناء المسلمين وعمارتهم – نقض. وإن كان في بلد فتحت صلحا ففي "الحاوي": أنه لا يجوز أيضا. وعن الروياني في "الكافي" وغيره: أنه يجوز، وعليه ينطبق قول ابن الصباغ حيث قال: فإن صالحهم على أن تكون الدار للمسلمين ويؤدون الجزية إلينا، فيكون الحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح معهم من إحداث ذلك وعمارته، وهذا [ما] حكاه البندنيجي عن أبي إسحاق. وإذا وجد في البلدة التي فتحت عنوة كنيسة أو بيعة ونحوها، فهل يجب هدم ذلك، أو يجوز مصالحتهم على إقرارها لهم بالجزية؟ فيه وجهان في الطريقين: وجه جواز المصالحة على إبقائها، وهو الصحيح في "الحاوي": أثر ابن

عباس – رضي الله عنهما -[السابق، وقد روي أن عمر بن عبد العزيز] كتب إلى عماله: لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار. والأصح في "الوجيز" و"الرافعي": وجوب الهدم؛ لأن المسلمين قد ملكوها بالاستيلاء فيمتنع جعلها كنيسة، وقد حكى الإمام عن طائفة من الأصحاب القطع به. وفي "الحاوي": [أنا إذا قلنا]: لا يجوز مصالحتهم عليها، فهل يجوز بيعها منهم لتكون كنيسة على حالها استحبابا لما كانت، أو لا؟ فيه وجهان. ولا خلاف فيما إذا ملك المسلمون البلدة بالصلح على أن تكون [في أيديهم] بجزية معلومة يؤدونها، وعلى بقاء البيع والكنائس لهم – أنها تبقى؛ لأنه إذا جازت مصالحتهم على أن تكون [جميع] البلدة لهم فجوازها على أن يكون بعضها لهم من طريق الأولى. وعلى هذه الحالة يحمل ما فرعه الشيخ حيث قال: ولا يمنعون من إعادة [ما أستهدم منها، أي: من الكنائس إذا سقط جميعها، ووجهه: أن إعادة] بنائها بمنزلة استدامتها، فإذا جازت الاستدامة جاز البناء، ولأنهم لا يمنعون من عمارتها وتشييدها إذا خيف وقوعها؛ فكذلك لا يمنعون من الإعادة، وهذا هو ما صححه القاضي أبو الطيب، وقال البندنيجي: إنه المذهب، وعلى هذا فهل لهم توسيع خطتها؟ فيه وجهان، أصحهما: المنع؛ لأن الزيادة كنيسة جديدة متصلة بالأولى. [قال] وقيل: يمنعون؛ لأن عمر – رضي الله عنه – شرط على نصارى الشام ألا يجدوا ما خرب منها؛ ولأنه يشبه الاستحداث، وهذا قول الإصطخري واختاره ابن أبي هريرة. وقال الماوردي: الصحيح عندي من إطلاق هذين الوجهين: أن ينظر في خرابها، فإن صارت دراسة مستطرقة كالموات منعوا؛ لأن البناء استئناف إنشاء،

وإن كانت شعثة باقية الآثار والجدران جاز لهم بناؤها، وإن هدموها لاستئنافها لم يمنعوا؛ لأن [عمارة المستهدم استصلاح، وإنشاء الداثر استئناف. [انتهى]. ولا خلاف في إنهم لا يمنعون] من عمارة بعض جدرانها التي استرمت، لكن هل يجب إخفاء العمارة؟ فيه وجهان، أصحهما – وبه جزم في "الوجيز"-: لا، وعلى هذا يجوز أن يطينها من داخل وخارج، وعلى مقابله: يمنعون من التطيين من خارج. وإذا أشرف الجدار فلا وجه إلا أن يبنوا جدارا داخل الكنيسة. قال الرافعي: ويمكن أن يكتفي من يقول بوجوب الإخفاء بإرخاء ستر تقع العمارة وراءه، أو بإيقاعها في الليل. أما إذا فتحت البلد صلحا، ولم يشترطوا إبقاء الكنائس ونحوها – ففي "الحاوي": أن الحكم في إبقاء الكنائس القديمة كما إذا فتحت عنوة، وفي "الوجيز" وغيره: حكاية وجهين [في وجوب الإبقاء، والأشبه: عدمه، وبذلك يجتمع في المسألة ثلاثة أوجه]: [أحدها]: يجب الإبقاء. والثاني: لا يجوز [الإبقاء]. والثالث: يجوز أن يبقى بالبيع منهم. قال: وإن صولحوا في بلدهم على الجزية لم يمنعوا من إظهار المنكر والخمر، والخنزير، والناقوس، والجهر بالتوراة والإنجيل، وإحداث البيع، والكنائس؛ لأن الدار لهم وليست [بدار إسلام]. وأشار الغزالي [إلى] خلاف في هذه الحالة بقوله: والظاهر: أنهم لا يمنعون من إحداث كنيسة. وكذلك قول القاضي الحسين: ولا يتعرض لهم فيها

على ظاهر المذهب، يفهم الخلاف. وهل يمنعون من ركوب الخيل؟ أبدى الماوردي فيه لنفسه وجهين، ووجه المنع بأنهم ربما يتقوون بذلك على المسلمين. ولا شك في أنهم يمنعون من إيواء الجواسيس، ونقل الأخبار، وما يتضرر به المسلمون في ديارهم. تنبيه: البيع: بكسر الباء [وفتح الياء]، واحدتها: بيعة: بكسر الباء وإسكان الياء. واستهدم: بفتح التاء. قال: ويمنعون من المقام بالحجاز؛ لما روى أبو داود عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -[أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لأخرجن اليهود [والنصارى] من جزيرة العرب؛ فلا أنزل فيها إلا مسلما] وأخرجه مسلم والترمذي. وروى أبو داود عن ابن عباس – رضي الله عنهم – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:] أوصى بثلاثة، فقال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم"، قال ابن عباس: وسكت عن الثالثة، أو قالها فنسيتها. وأخرجه البخاري ومسلم مطولا. والثالثة قيل: هي تجهيز أسامة. وقيل: يحتمل أنها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري وثنا"، وفي "الموطأ": ما يشير إلى ذلك.

ووجه الدليل مما ذكرناه: أن الحجاز هو نفس الجزيرة عند بعضهم، وهو الذي أورده القاضي الحسين والشيخ أبو محمد، فعلى هذا وجه الدلالة ظاهر. وعند بعضهم: هو بعض الجزيرة، كما سنذكره، وهو الأظهر، وبه جزم أصحابنا العراقيون والماوردي وغيرهم. وقالوا: ما أطلقه صلى الله عليه وسلم من الجزيرة، المراد به: الحجاز، ويدل عليه ما روى أبو عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم أن [قال]: "أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب". فلم يتفرغ أبو بكر – رضي الله عنه لإخراج اليهود والنصارى من الحجاز، وأهل نجران من الجزيرة؛ لقصر مدته واشتغاله بقتال أهل الردة ومانعي الزكاة فأخرجهم عمر – رضي الله عنه – بعده في زمن خلافته؛ كما نقله الإمام مالك وأبو الطيب وغيرهما، ولم ينقل أن أحدا من الخلفاء أجلى من كان باليمن من أهل الذمة، وإن كانت من جزيرة العرب فدل على ما ذكرناه. ويقال: إن عمر – رضي الله عنه – أجلى من اليهود من الجزيرة زهاء أربعين ألفا، وإن بعضهم التحق بأطراف الشام، وبعضهم بسواد الكوفة. وسبب إخراج أهل نجران من الجزيرة – وإن لم تكن من الحجاز – أنه ? كان قد صالحهم على ألا يأكلوا الربا فنقضوا العهد وأكلوه. قال: وهي مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها. هكذا فسر الشافعي – رضي الله عنه – الحجاز في "الأم"؛ كما نقله البندنيجي. قال الأصمعي وغيره: وسمي ذلك حجازا؛ لأنه حجز بين تهامة ونجد. وفي

"صحاح" الجوهري عن الأصمعي: أنه سمي به؛ [لاحتجازه] بالحرار الخمس، ومنها: حرة بني سليم، وحرة واقم، ويقال: احتجز الرجل بإزاره، إذا شده على وسطه. واليمامة: مدينة بطرف اليمن على أربع مراحل من مكة – شرفها الله تعالى – ومرحلتين من الطائف، وسميت باسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، يقال: هو أبصر من زرقاء اليمامة. والمخاليف – بفتح الميم وبالخاء المعجمة – جمع "مخلاف" بكسر الميم، وهي قرى مجتمعة. وعلى هذا التفسير الذي ذكره الشافعي – رضي الله عنه – تكون الطائف والوج – وهو وادي الطائف – وخيبر [من الحجاز؛ لأن الطائف والوج من مخاليف مكة]، وخيبر من مخاليف المدينة؛ كذا قاله الغزالي. وفي "النهاية": أن المراوزة قالوا: الذي يحرم إقرار المشركين فيه: [مكة، والمدينة ومخاليفها. وقال العراقيون: إنه] مكة والمدينة واليمن. والمخاليف حكمها حكم البلاد في جميع الطرق، وقد يتجه عد اليمن من الحجاز؛ لأنه مجتمع العرب؛ ولأجل ذلك حي في "الوجيز" في دخول اليمن في الحجاز وجهين، ورد الرافعي الوجهين إلى أن اليمن هل يدخل في [حد] الجزيرة أم لا؟ وهو الأقرب إلى كلامه في "الوسيط"، والأول هو المفهوم من كلامه في "الوجيز"، ووراء ما ذكره الشافعي – رضي الله عنه – من [تفسير "الحجاز"] أقوال: منها – عن الحربي –: أن تبوك وفلسطين من الحجاز. ومنها – عن الكلبي – أن حدود الحجاز: ما بين جبلي طيئ إلى طريق العراق. وقد ذكرنا أن الحجاز على الطريقة المشهورة: بعض الجزيرة، وقد اختلف

القائلون بهذا الطريق في حد الجزيرة: فعن الإمام مالك: أنها الحجاز واليمن وما لم يبلغه ملك فارس والروم. وعن سعيد بن عبد العزيز: أنها ما بين الوادي إلى أقصى اليمن إلى تخوم العراق إلى البحر. قال الشيخ زكي الدين عبد العظيم: ويشبه أن يريد بالوادي وادي القرن. وحكى البخاري عن المغيرة، قال: هي مكة، والمدينة، واليمامة، واليمن. وقال الأصمعي – وهو المحكي عن الشافعي، كما نقله الماوردي-: هي من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول، وأما في العرض: فمن جدة وما والاها من ساحل البحر، إلى أطراف الشام. وقال أبو عبيد: هي ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول، وما بين يبرين إلى منقطع السماوة في العرض. والحفر - بفتح الحاء -: هو التراب يستخرج من الحفرة، والحفر هذه ركايا احتفرها أبو موسى الأشعري على جانب الطريق من البصرة إلى مكة، تكون منها على خمسة أميال، وهي مياه عذبة. ويبرين – بفتح الياء آخر الحروف، وسكون الباء الموحدة وكسر الراء -: رمل لا يدرك أطرافه عن يمين مطالع الشمس من حجر اليمامة. والسماوة: موضع بالبادية ناحية العواصم. واختلف الناس في السبب الذي لأجله سميت الجزيرة جزيرة: فقيل: لانحياز الماء عن موضعها بعد أن كان يجري عليها. وقيل: الجزر: القطع؛ ومنه سميت الجزيرة؛ لأنها قطعة منه أو: لأن الماء جزر عنه، أي: انقطع، وجزيرة العرب سميت بها؛ لأنها جزرت عنها المياه التي حولها لبحر البصرة، وعمان، وعدن، والفرات. وقيل: لأن حواليها بحر الحبش وبحر فارس ودجلة والفرات، [فالبحران يحيطان بجانبها الجنوبي]، والدجلة والفرات أحاطا بجانبها الشمالي.

واعلم أنهم كما يمنعون من المقام بالحجاز يمنعون من المقام بسواحل بحره وجزائره وجباله، كما صرح به البندنيجي وغيره، وحكاه ابن الصباغ عن نصه في "الأم". وفي "النهاية" حكاية وجه: أنهم إذا أقاموا في الطرق المعترضة التي لا تسلك في أوساط البلاد المعدودة، كما بين مكة والمدينة ونحو ذلك، لا يمنعون منه. ولا نزاع في أنهم لا يمنعون من ركوب بحر الحجاز؛ لأنه ليس موضع إقامة، صرح به البندنيجي وغيره. وحكى ابن الصباغ أن الشافعي – رضي الله عنه – قال في "الأم": ولا يبين لي أن أمنعهم من [ركوب بحر الحجاز. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنهم لا يمكنون من] المقام في المراكب في "البحر" إلا قدر ما ينزلون في البر، وأقصاه ثلاثة أيام مقام المسافر، ولعله أراد: إذا أذن فيه الإمام، [وأقام في موضع واحد كما سنذكره في البلاد. قال: وإن أذن لهم، أي: الإمام] أو نائبه، في الدخول، أي: لغير الحرم من بلاد الحجاز؛ لتجارة أو رسالة – لم يقيموا أكثر من ثلاثة أيام، أي: في موضع واحد غير يوم الدخول ويوم الخروج كما صرح به الإمام وغيره. والأصل فيه: ما روي عن عمر – رضي الله عنه – أنه أجلى أهل الذمة من الحجاز، وضرب لمن قدم منهم تاجرا ثلاثة أيام. وهكذا الحكم في الإذن لأهل الحرب في دخول ما عدا الحرم من الحجاز. ولا فرق في ذلك بين أن يكون له من الشغل ما ينقضي في الأيام الثلاثة، أو لا ينقضي؛ لأنه يمكنه التوكيل فيه. نعم، لو مرض جاز أن يقيم في الموضع الواحد إلى أن يبرأ؛ لما في ذلك من

المشقة، صرح به القاضي الحسين وغيره من العراقيين. وفي "النهاية": أنه ينظر: إن تمكن من الانتقال من غير أن تعظم المشقة عليه كلف الانتقال، وإن خيف عليه الموت ترك إلى أن يبرأ، وإن لم يخف [عليه] الموت ولكن [كان] ينال مشقة عظيمة – فوجهان، أصحهما: الانتقال. قلت: وقياس ما ذكره: أن يترك في حالة يخشى عليه الموت [فيها من الانتقال، إلى أن ينتهي إلى حالة لا يخشى عليه فيها الموت] وإن لحقه مشقة عظيمة [على أصح الوجهين، أو إلى ألا تلحقه مشقة عظيمة] على مقابله، ولا يترك إلى أن يبرأ. ولا خلاف أن له الانتقال في حالة الصحة من موضع إلى موضع من بلاد الحجاز؛ بشرط ألا يقيم في كل موضع أكثر من ثلاثة أيام، ولا يقوم إذن [غير] الإمام [ونائبه في ذلك مقام إذنهما، صرح به الماوردي وغيره. [نعم]، لو دخل غير تاجر الحجاز بأمان مسلم، فهل يجب عليه شيء؟ فيه وجهان، والمذهب: المنع. قال الإمام: ومن يوجب شيئا فلا متعلق له غير الدينار، وهو أقل الجزية، ولا أحد يصير إلى تعشير ما معه من ثوب ومركوب. ولا يتوقف جواز الإذن منهما على اشتراط [مال] يؤخذ منهم في حالة الدخول للرسالة، بل لا يجوز أن يشترط عليهم في هذه الحالة، وكذلك لا يتوقف الإذن في الدخول [بالتجارة] التي بالمسلمين إليها حاجة على اشتراط مال. نعم، لو لم يكن بالمسلمين إلى ما يحضرونه حاجة كالعطرة ونحوه، ففي "الشامل" و"تعليق" القاضي أبي الطيب: أنه إذا رأى المصلحة في الإذن بغير

شيء كان له ذلك، وإن رأى المصلحة في الاشتراط لم يجز أن يأذن [الإمام]، إلا أن يشترط عليهم عوضا على حسب ما يراه. وفي "تعليق" البندنيجي، والقاضي الحسين: أنه لا يجوز أن يأذن في حالة عدم المصلحة للمسلمين في الدخول إلا بعوض، وحكى الغزالي وغيره في المسألة وجهين، ورأى الإمام ترجيح الأول، والمعظم على الثاني. قال الأصحاب: والأولى: أن يشترط على أهل الذمة نصف العشر، وعلى أهل الحرب العشر؛ لأن عمر – رضي الله عنه – هكذا شرط على من دخل الحجاز، وفيه وجه: أنه لا يجوز الزيادة على ذلك. ثم إذا أطلق الإذن للكافر الذمي أو الحربي في الدخول بالتجارة، لم يستحق عليه شيء على المذهب في "تعليق" البندنيجي، وهو الصحيح عند الشيخ حيث قال: وقيل: إن كانوا من أهل الذمة، [أي: وقد أطلق الإذن لهم من غير شط]- أخذ منهم لدخول الحجاز [نصف] العشر من تجارتهم، وإن كانوا من أهل الحرب أخذ منهم العشر؛ لتقدير ذلك في الشرع بفعل عمر – رضي الله عنه – فحمل مطلق الإذن عليه. قال: وليس بشيء؛ لأنه أمان من غير شرط؛ فلم يستحق به مال كالهدنة. قال الرافعي: والوجهان قريبان من الخلاف السابق في أنه هل يجوز حط أصله، أو أحد الخلافين مبنى على الآخر؟ وأنت إذا تأملت ما حكيته عن البندنيجي وابن الصباغ – عرفت أنه غير مبني عليه؛ فإنهما حكيا الخلاف المذكور في الكتاب، وجزما في مسألة حط الجميع بأحد الوجهين. ثم حيث وجب أخذ العشر، أو نصف العشر من الحربي أو الذمي – إما بالشرط أو غيره – فهل يتكرر المأخوذ بتكرر الدخول في السنة الواحدة من غير شرط في التكرر؟ قال الأصحاب: أما في الذمي فلا، بل لا يؤخذ منه سوى مرة واحدة في

السنة، وأما في الحربي فالمذهب: أن الحكم فيه كالذمي كما حكيناه عن البندنيجي، وهو ظاهر النص في "الشامل". ومن أصحابنا من قال: يؤخذ العشر في كل مرة، وإلا فيفضي إلى فوات ذلك؛ لأنه يتجر طول الحول، فإذا قارب حولان الحول انقطع دخوله؛ فيتعذر الأخذ منه، ويخالف الذمي؛ لأنه تحت قبضة الإمام فيمكنه أن يأخذ منه إذا تأخر عن الدخول رأس الحول. وهذا يفهم أنا على المذهب لا نأخذ العشر أو نصفه إلا بعد مضي حول من حين الدخول كما يفعل [في الجزية]، وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية طريقة طاردة للوجهين في الذمي أيضا. ولا خلاف في عدم تكرر الأخذ بانتقاله من موضع إلى موضع من دار الإسلام. أما إذا شرط في الصلح أن يأخذ في كل سنة مرتين، أو في كل شهر مرة، أو يأخذ في كل دفعة يحملون فيها شيئا – كان ذلك جائزا، حكاه القاضي الحسين عن النص، ومن منع من أخذ الزيادة على ما قرره عمر – رضي الله عنه – ورأى عدم التكرار عند عدم الشرط، لم يجوز ذلك الشرط كما أشار إليه الغزالي؛ لأنه زيادة على ما فعله عمر، رضي الله عنه. ولا فرق فيما ذكرناه بين أهل الحرب وأهل الذمة في دخولهم الحجاز بين الرجل والمرأة؛ لأنها ممنوعة من دخول الحجاز [كالرجل، بخلاف ما لو ترددت في غير الحجاز] من بلاد الإسلام، لا يجوز أن يشترط عليها شيء من مالها؛ لأنها غير ممنوعة من المقام فيها، صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما. قال: ولا يمكن مشرك، أي حربيا كان أو ذميا، من دخول الحرم، أي: حرم مكة شرفها الله تعالى بحال، أي: سواء أراد الدخول لأداء رسالة، أو طلب تجارة بعوض، أو غيره، أو لسماع كلام الله تعالى، أو تعلم شيء من العلوم؛ لقوله

تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]، [وإن] كان نزول هذه الآية في سنة تسع من الهجرة، والمراد بالمسجد [فيها]: جميع الحرم؛ لأنه قد يعبر به عنه؛ قال الله تعالى: {سبحان الذي أسرى ليلا بعبده من المسجد الحرام} [الإسراء: 1]، وكان [من] بيت خديجة كما نقله الماوردي والبغوي، أو من بيت أم هانئ؛ كما قاله القاضي الحسين وغيره، وكلاهما في الحرم؛ ولا قائل بأنه يستعمل في مكة دون بقية الحرم. ويدل على أن المراد ما ذكرناه سياق الآية، وهو قوله تعالى: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} [التوبة: 28]، أي: إن خفتم انقطاع التجارة والميرة عنكم فاعتصموا بفضل الله، ومعلوم أن ما يجلب إلى البلد، لا إلى المسجد نفسه، وقد روى الشافعي – رضي الله عنه – بإسناده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الخراج، ولا لمشرك أن يدخل الحرم"، وروي أنه – عليه السلام – قال: "لا يجتمع مسلم ومشرك في الحرم"، وخالف الحرم الحجاز؛ لعظم شأنه: من النسك، وتحريم صيده وشجره؛ فكذلك لم نقس عليه. وعلى هذا: إذا جلبوا تجارة أو حضروا لأداء رسالة أقاموا فيما وراء الحرم على النعت السابق، ويخرج إليهم من يقصد البيع لهم والشراء منهم، ويرسل الإمام من يسمع الرسالة، فإن أبوا إلقاءها إلا للإمام أو نائبه المقيم في الحرم خرج إليهم. ثم حد الحرم من طريق المدينة: مسجد التنعيم، وهو على ثلاثة أميال، ومن طريق العراق: على سبعة أميال عند ثلة جبل بالمقطع، ومن طريق الطائف: على سبعة أميال أيضا عند طرف عرنة، ومن طريق اليمن: على سبعة أميال، ومن طريق الجعرانة: على تسعة أميال [من شعب أبي عبد الله بن خالد بن أسيد، وهو من

طريق جدة: على عشرة أميال] عند منقطع الأعشاش، ومن بطن عرنة: على أحد عشر ميلاً. كذا جمعته من كلام المصنف والماوردي، والهروي في "الإشراف" وغيرهم، وذلك مضبوط بالأعلام المشهورة. فرع: لو دخل كافر الحرم أخرج، فإن كان جاهلا بالمنع لم يعزر، وإن كان عالما [به] عزر، فلو مرض فيه أخرج ولو خيف موته، ولا يلحق حرم المدينة بحرم مكة؛ لعظم شرفه بتعليق النسك به. قال: فإن دخل ومات ودفن، أي: ولم يتقطع – نبش وأخرج؛ لأن جيفته أعظم من دخوله حيا، أما إذا انقطع فقد نص الشافعي – رضي الله عنه – على أنه لا يخرج، ويجعل كالفائت لتعذره. وعن "البحر" وجه: أنه تجمع عظامه إن أمكن ويخرج، وهو ما أورده الإمام، ثم الإخراج يكون إلى الحل من بلاد الحجاز؛ لأنه يجوز أن يدفن الكافر فيها ابتداء كما يقر فيها مريضا، ويخالف الحرم؛ لعظم شرفه. ورأى الإمام تخصيص جواز الدفن في الحجاز ابتداء بما إذا تعذر نقله إلى غير الحجاز، وأنه يواري مواراة الجيف، وقال فيما إذا كان في طرف الحجاز: لا يدفن فيه؛ [لسهولة النقل. وفي "التهذيب" و"المرشد": أنه إن أمكن نقله قبل أن يتغير، نقل ولم يدفن فيه]، وإن خيف عليه التغير دفن؛ للضرورة. والجمهور على الأول. وحكى الإمام فيما إذا دفن في الحجاز مع إمكان النقل إلى غيره فهل ينبش؟ فيه وجهان، والظاهر منهما: وهذا التفصيل إن أمكن جريانه فيما إذا مات في الحرم بالنسبة إلى الدفن في الحجاز أو غيره لم يبعد المصير إليه. قال: ولا يدخلون سائر المساجد؛ لما [في ذلك] من استذلالهم له؛ فإنهم يتدينون بإذلاله. قال: إلا بإذن؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أستر ثمامة بن أثال وربطة إلى سارية

من سواري المسجد، وأنه أنزل ثقيف وسبي قريظة و [بني] النضير في المسجد حتى أمر بهم فبيعوا. وجواز الإذن منوط بالحاجة، مثل: أن يدخل ليسلم أو ليسمع كلام الله تعالى، أو ليستفتي كما ذكره الماوردي وصاحب "المرشد" وغيرهما، ولا يدخلون للأكل والشرب، بخلاف المسلمين؛ فإن المسلم وإن دخله لذلك فهو يعظمه، قال ابن الصباغ وغيره. ولا خلاف في جواز الإذن من الإمام ونائبه، وكذا من آحاد المسلمين عند أبي الطيب والقاضي الحسين وابن الصباغ وغيرهم. وفي "الحاوي": أن الدخول إن كان لمقام أكثر من ثلاثة أيام، لم يصح الإذن فيه إلا من الإمام، أو يجتمع عليه أهل تلك الناحية؛ بشرط ألا يستضر به أحد من المسلمين، وإن كان لاجتياز، أو لبث يسير: فإن كان من الجوامع التي ترتب الأئمة فيه إلا بإذن السلطان، لم يصح الإذن في دخوله إلا من السلطان، وإن كان من مساجد القبائل والعشائر التي أئمتها بغير [إذن السلطان، لم يعتبر إذن السلطان في دخوله. وفيمن يصح] إذنه وجهان: أحدهما: كل من صح أمانة لمشرك كما مر في بابه، وهو الأظهر. والثاني: لا يصح إلا ممن كان من أهل الجهاد من الرجال الأحرار. وجلوس الحاكم في المسجد للحكم إذن للكافر في دخوله إذا كانت له خصومة. ولو دخل الكافر من غير إذن نظر: فإن شرط عليهم ألا يدخلوها عزر الداخل، وإلا فوجهان حكاهما القاضي الحسين، والأصح منهما – وبه جزم المصنف وغيره -: وجوب التعزيز، فعلى هذا: لو دخل لسماع القرآن بدون إذن فهل يعزر؟ فيه وجهان حكاهما القاضي أيضا. قال: وإن كان جنبا فقد قيل: لا يمكن من اللبث [في المسجد]؛ لأنه إذا منع منه المسلم فالكافر أولى، وهذا أصح في "الجيلي".

قال: وقيل: يمكن؛ لأن المسلم يعتقد تعظيمه، والكافر بخلافه، وهذا ما اختاره صاحب "المرشد" والنووي، واستدل له بربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال في المسجد؛ فإنه لا يخلو عن احتلام، وغسله إن اتفق في كفره [لم يعتد] به. قال: ويجعل الإمام على كل طائفة منهم رجلا، أي: من المسلمين؛ كما ذكره الرافعي والماوردي، يكتب أسماءهم وحلاهم – أي: بكسر الحاء – فيتعرض [لنسبه] ولونه وسنه وغيرها، ويصف وجهه ولحيته وجبهته وحاجبيه وعينيه [وشفتيه] وأسنانه، وآثار وجهه إن كانت. قال: ويستوفي عليهم ما يؤخذون به، أي: كبلوغ بعض أولادهم، وإفاقة مجنونهم، وعتق عبيدهم، وحضور غائبهم، ويسار فقيرهم. ووجهة ذلك: اعتبار المصلحة الظاهرة، وكذا يستوفي لهم هذا الرجل ما يتعلق بحقوقهم، فيكتب اسم من مات منهم، أو أسلم، أو جن، أو افتقر، أو زمن ونحوه؛ ليسقط عنه الجزية، ولا يجوز أن يكون الرجل ذميا؛ لأنه لا يعتمد خبره. نعم، لو جعل الذمي عريفا عليهم لتجهيزهم لأداء الجزية، وشكوا إليه من يتعدى عليهم من المسلمين، ومن يتعدى منهم – جاز، صرح به الماوردي وغيره. وقال الماوردي في "الأحكام" في باب الفيء: إنه يجوز نصب الذمي لأخذ الجزية منهم والعشر، وهل يجوز نصبه لأخذ الخراج المضروب على رقاب الأرضين إذا صارت في أيدي المسلمين وصارت معاملته معهم؟ فيه وجهان. قال: وعلى الإمام حفظ من كان منهم في دار الإسلام، ودفع من قصدهم بالأذية، أي: من مسلم وكافر، واستنقاذ من أسر منهم، أي: أو أخذ من أموالهم؛ لأنهم بذلوا الجزية لحفظ أنفسهم وأموالهم، والتزمنا ذلك بالعقد معهم؛ فوجب

الوفاء به، فلو شرط في العهد ألا يدفع عنهم كان [الشرط] باطلا والعقد فاسدا، صرح به أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ؛ لأنه لا يجوز اشتراط تمكين المشركين من استطراق دار الإسلام. ولا يجب رد ما أخذ منهم من الخمور والخنازير؛ لأنها ليست بمال عندنا، كذا صرحوا به، وفيه نظر من جهة أنه قد ذكرنا في الغضب: أن المسلم إذا غصب خمرا من ذمي وجب ردها عليه، وهو المذهب، وكان قياسه أن تنزع لهم، أما إذا لم يكونوا في دار الإسلام، بل كانوا [في وسط الحرب – فلا مطمع في الذب عنهم، ولو كانوا] منفردين ببلدة في جوار دار الإسلام، قال الفوراني: إن كان فيها مسلمون وجب الذب عنهم أيضا، وإن لم يكن فيها مسلم نظر: إن كان بين بلدهم وبلد أهل الحرب بلد للمسلمين أو مال لهم، فالحكم كذلك عند الماوردي، وأطلق غيره – كالفوراني وغيره – حكاية وجهين في وجوب الذب عند انفرادهم ببلدة: وأصحهما في "الرافعي": الوجوب عند الإمكان؛ إلحاقا لهم بأهل الإسلام في العصمة والصيانة. ومقابله: هو الأقيس عند الإمام. ومحلهما: إذا جرى العقد مطلقا، أما إذا جرى بشرط الذب عنهم [وجب الوفاء بالمتلزم، صرح به الفوراني وغيره. وقال الإمام: إذا قلنا: لا يجب الدفع عنهم عند الإطلاق، فالرأي ألا يلزم بالالتزام، ولو شرط ألا يذب عنهم] في هذه الحالة صح الشرط؛ لأنه ليس فيه تمكين أهل الحرب من دخول دار الإسلام، قاله أبو الطيب وغيره. قال الماوردي: ولا يلزمه الذب عنهم؛ إلا أن يخاف عليهم الاصطلام؛ فيجب استنقاذ نفوسهم دون أموالهم. وقال فيما إذا كان بين أهل الحرب وبين أهل الذمة بلد للمسلمين أو مال،

وشرط عدم الكف عنهم: إن الشرط باطل، ويلزم الذب عنهم. وقياس ما تقدم: فساد العقد، وأطلق الإمام حكاية وجه: أن شرط ترك الذب فاسد، والظاهر الأول. نعم، هل يكره؟ نقل عن نصه في موضع: أنه يكره، وفي موضع آخر: لا [يكره]. قال الأصحاب: وليس ذلك باختلاف قول؛ بل الأول محمول على حالة الابتداء بالشرط منا؛ [لأنه يؤذن بالضعف، والثاني محمول على حالة الابتداء بالشرط منهم]. قال: فإن لم يفعل حتى مضى الحول لم تجب الجزية؛ لأنها في مقابلة الحفظ، ولم يوجد. قال البندنيجي: ويستأنف الحول من حين المعاونة، ولو لم يفعله في بعض الحول سقط ما يقابله، قاله الماوردي. فرع: لو أغار أهل الحرب على أهل الذمة، فقتلوا منهم، وأتلفوا أموالهم، فظفر بهم الإمام – لم يقتص منهم؛ لأنهم لم يلتزموا حكم الإسلام. ولو أغار عليهم أهل الهدنة، فقتلوا منهم، أو أتلفوا – أخذهم بضمان ذلك. نعم، لو كانوا قد نقضوا العهد قبل الغارة على أهل الذمة ففي أخذهم بضمان ما أتلفوه من نفس أو مال القولان في أهل الردة. قال: وإن تحاكموا إلينا مع المسلمين وجب الحكم بينهم، أي: سواء كان المسلم طالبا أو مطلوبا؛ لمنع الظلم عن المسلم، ومنعه عن الظلم، ولأن المسلم لا يمكنه النزول على حكم الكفار؛ فتعين فصل الخصومة بحكمنا. قال: وإن تحاكموا بعضهم في بعض ففيه قولان. أحدهما: يجب الحكم بينهم، أي: بحكمنا؛ لقوله تعالى: {وأن احكم بينهم

بما أنزل الله} [المائدة: 49]، وهذا أمر، [وظاهر] الأمر يقتضي الوجوب، ولأنه يلزمه أن يدفع عنهم من قصدهم من مسلم أو ذمي أو حربي؛ فلزمه أن يحكم بينهم كالمسلمين، وهذا أصح عند الماوردي والإمام البغوي والروياني وغيرهم، واختاره المزني. والثاني: لا يجب؛ لأنهم كفار فلم يجب الحكم بينهم؛ كما لو كانوا معاهدين، وقد دل الكتاب العزيز على عدم وجوب الحكم بين أهل العهد بقوله تعالى: {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42]؛ فإنها نزلت في يهود المدينة الذين هادنهم النبي ? وهم قريظة وبنو النضير وبنو المصطلق من غير جزية، قال الشافعي – رضي الله عنه –: ولا أعلم مخالفا بين أهل العلم فيه. وهذا ما [نص عليه في الجديد كما حكاه القاضي الحسين، وهو المذكور في "المختصر"، و] اختاره الشيخ أبو حامد وابن الصباغ، وقد اختلف في محل القولين على طرق حكاها ابن الصباغ وغيره في نكاح المشركات: أحدها: أنهما في حقوق العباد، فأما حقوق الله تعالى فتجب قولا واحدا. والثاني: أنهما [في حقوق الله تعالى، فأما] في حقوق العباد فتجب قولا واحدا. والثالث – وهو أظهرها على ما حكي [عن] الشيخ أبي حامد -: طرد القولين في الحالين. وحكى الماوردي في كتاب السرقة طريقة [أخرى]، وهي أن ما تحاكموا فيه إن ثبت بغير مراضاة [الخصمين]: كالقصاص في الجنايات، والغضب في الأموال – لزمه استيفاؤه؛ لأن دار الإسلام تمنع من التعدي والتغالب، وإن كان عن مراضاة كديون المعاملات؛ ففي وجوب الاستيفاء القولان. وعند الاختصار يجيء في حقوق الله تعالى والعباد خمسة أقوال: منها ثلاثة [أقوال] حكاها الماوردي في باب حد الذميين.

ثالثها: يجب الحكم في حقوق العباد، ولا يجب في حقوق الله تعالى. [ورابعها: يجب في حقوق الله تعالى] ولا يجب في حقوق الآدميين، وعلى هذا ينطبق إقامة حد الزنى ونحوه عليهم، وإن لم يرضوا بحكمنا كما تقدم. وخامسها: يجب فيما ثبت بغير التراضي، ولا يجب فيما ثبت بالتراضي وهذا كله إذا اتحدت ملمتها، أما لو اختلفت فطريقتان: منهم من قال: في وجوب الحكم القولان – أيضا – وهي طريقة أبي إسحاق. ومنهم من جزم بالوجوب، وهي طريقة ابن أبي هريرة، وقال الإمام في نكاح المشركات. إن عليها معظم الأئمة. وصححها الرافعي، ولم يحك القاضي الحسين في هذا الكتاب سواها، وقال: إنه لا يختلف المذهب في ذلك. قال الإمام: والقائل بهذه عول في الفرق على أن المختلفين قد لا يجتمعان على حاكم؛ فيؤدي إلى أن تبقى الخصومة ناشبة، وهذا يتحقق بين المتفقين، وفي ذلك [فضل] نظر، وهو أنه إذا لم يكن لأهل الذمة في بلد الخصومة حاكم فما قرره الأصحاب من دوام الخصام في المختلفين محقق هاهنا؛ فيلزم على موجب ذلك: أن يجب على حاكمنا الحكم إذا لم يكن لهم حاكم، وكذا إذا كان وامتنع [أحد الخصمين]؛ إذ يبعد أن يلزمهم حكم الكفر، ويكون وزير حاكمهم حتى يعدى من جهتهم. ومن تأمل ما ذكرته علم ضعف القول بعدم الوجوب، والطريقان جاريان فيما إذا ترافع إلينا ذمي ومعاهد، لكن الأظهر هنا طرد القولين، وهي التي أوردها ابن الصباغ في نكاح المشركات، والمذكور في "تعليق" القاضي الحسين: [طريقة] الجزم. وفي "الحاوي" في كتاب الجزية الجزم بعدم الوجوب؛ تغليبا لحكم الإسقاط. ومحله – كما نبه عليه في كتاب السرقة – إذ لم يكن بسبب قصاص وغضب؛ فإن كان وجب قولا واحدا؛ كما ذكره في السرقة.

التفريع: إن قلنا بالأول، فإذا استعدى خصم على خصم وجب أعداؤه وإحضار الخصم؛ ليحكم بينهما، ووجب على المعدي إليه الحضور، وإن قلنا بالثاني لم يجب الإعداء. قال القاضي الحسين هنا: بل لا يجوز له ذلك. وقال في كتاب اللعان: إنا على هذا نجبرهما على الترافع إلى حاكم أهل دينهما، ولا نمكنهما من التخاصم والتواثب. وهذا ما أشار إليه الإمام واستبعده. ثم إذا أعدى القاضي كان المعدي إليه بالخيار [في الحضور]، ولا يحضر جبرا، قال القاضي الحسين: وإذا حضر فلا يحكم عليه ما لم يرض بحكمنا، فإذا رضي به حكم. قال الإمام: وينفذ حكمه، ولا خيرة له بعد ذلك الحكم. وفي "المهذب": إنه إذا حكم لم يلزم [ذلك] الحكم. قال ابن يونس: إلا إذا التزموه بعد الحكم. وهذا موافق لما سنذكره عن الماوردي في أهل الهدنة. قلت: ويمكن أن يكون مأخذ اختلاف النقلين [اختلاف القولين] في أن حكم المحكم يلزم بنفسه، أو لابد من التراضي عليه بعد الحكم؟ على أنه [لو] رتب ذلك فيل: إن قلنا: إن حكم المحكوم ينفذ بنفسه بعد حكم الحاكم هنا، على القول بعدم وجوب الحكم عليه؛ فرضاهما ابتداء بالحكم من طريق الأولى، وإن قلنا بتوقف نفوذ حكم المحكوم على التراضي به [بعد الحكم]، فهاهنا [أولى، وهو] محل النظر؛ فيجوز أن يقال بالتوقف أيضا، ويجوز أن يقال: لا؛ لأن الحاكم أهل للحكم بالجملة بخلاف المحكم – لم يبعد، والله أعلم.

ووراء ما ذكرناه أمران غريبان: أحدهما: ما أفهمه كلام الغزالي: أنا على القولين لا نحكم إلا [إذ] رضي الخصمان جميعا؛ حيث قال: ولا نحكم إلا إذا رضي الخصمان جميعا بحكمنا. قال الرافعي: ويمكن حمله على ما قاله الأصحاب بأن يجعل هذا الكلام من تتمة قوله: "ولا يجب الحكم بين المعاهدين". الثاني: قال الماوردي في "باب حد الذميين": [إنا] إذا قلنا بعدم وجوب الحكم وعدم وجوب الحضور فذاك إذا لم يشترط [عليهم] في عقد [الذمة] التزام أحكامنا، [أما إن شرط عليهم في عقد الذمة أن تجري عليهم أحكامنا] فيلزم الحاكم أن يعديهم، ويحكم بينهم، ويلزمهم الحضور إليه والتزام حكمه. وهذا منه نزعة [إلى ما] ذكرناه عن القاضي الحسين: أنه لا يشترط التصريح بالتزام أحكامه الملة، أما إذا قلنا بوجوبه فلا يمكن اجتماع هذين الكلامين. قال: وإن تبايعوا بيوعا فاسدة، أي: كما إذا تبايعوا درهما بدرهمين، أو الخمر والخنزير [ونحو ذلك]. قال: وتقابضوا، ثم [ترافعوا إلينا]، لم ينقض ما فعلوا؛ لانتهاء الأمر ونجازه في الشرك مع أنهم مقرون على ما استقر بينهم. قال: وإن لم يتقابضوا نقض عليهم؛ لأن العقد لم يتأكد بقبض فأجرى عليهم حكم الإسلام، لكن هل يجوز للمسلمين أخذ أثمان ذلك منهم مع العلم بصورة الحال؟ فيه كلام استوفيته في كتاب الرهن، وهذا بخلاف ما لو تناكحوا

[نكاحا فاسدا] وترافعوا إلينا؛ فإنا ننظر: إن كان في حال الترافع يجوز ابتداء العقد في الإسلام أقررناهم، ولا ننظر إلى شرائط العقود كما نفعل في حالة إسلامهم، وإن كان لا يجوز كما إذا كانت في العدة، أو مطلقة منه ثلاثا ولم يدخل بها زوج بعده، أو محرما له – فإنا لا نمضيه؛ لأن النكاح قد استمر حكمه بعد الترافع. وفي "الحاوي" في كتاب السرقة: أنهم إذا نكحوا ذوات محارمهم، فإن كانوا لا يعتقدون إباحته [في دينهم كاليهود، لم يقروا على عهدهم، وصار منهم كالزنى، [وإن اعتقدوا إباحته] كالمجوس أقروا عليه. وفي غير "الحاوي": أنه] لو كان الترافع من مجوسي ومجوسية في طلب النفقة، أو بين كتابي ومجوسية ففي جواز تقريرهم وإلزامهم النفقة وجهان، والظاهر: التقرير والحكم بالنفقة؛ كما لو أسلما. ومقابله – وهو المنع – ينسب إلى الإصطخري، واختاره القاضي الحسين، ورجحه الإمام؛ لأن المجوسية لا يجوز نكاحها في الإسلام. ولو ترافعوا في نكاح شخص لأختين، [وقد طلبتا] فرض النفقة – قال الإمام ففيه تردد، والذي أرى القطع به: المنع؛ لقيام المانع، وحيث لا يجوز التقرير، قال فالقاضي المرفوع إليه يعرض عنهما، أو يفرق بين الزوجين؟ فيه وجهان. أرجحهما عند الإمام: الإعراض، وإنما يفرق إذا رضوا بحكمنا. ووجه الثاني: أنهم بالرفع أظهر، وأما [ما] خالف الملة فأشبه ما إذا أظهروا خمورهم، وهذا ما حكاه البندنيجي، وأسنده القاضي الحسين في كتاب الجزية في نكاح المحرمة، والمعتدة ونحوهما إلى النص؛ لتعلقه بحق الغير. فرع: لو باع الذمي من ذمي آخر درهمين بأربعة دراهم، وقبض البائع درهمين من الثمن ثم ترافعوا – قال الأصحاب: إن كان المشتري قصد بما دفعه الأصل

فالقول قوله، وبطل القدر الزائد عنه، وإن كان قد قصد بما دفعه الفائدة – بقي الأصل في ذمته، ولا يسترجع من الآخذ شيء، وإن كان قد قصد الدفع عنهما بقي في ذمته نصف الأصل وهو درهم واحد، وإن لم يكن قد قصد شيئا فوجهان: أحدهما: يكون نصفه للأصل ونصفه للربح، وقد سبق حكمهما. والثاني: له أن يصرفه الآن إلى أيهما شاء من الأصل والربح، صرح به القاضي الحسين، وهو وزان ما ذكرناه فيما إذا كان عليه دين برهن ودين بغير رهن، فدفع للمدين شيئا من جنس دينه. قال: وإن ترافعوا إلى حاكم لهم، فألزمهم التقابض، أي: وتقابضوا، ثم ترافعوا إلى حاكم المسلمين – أمضى ذلك [الحكم] في أحد القولين، كما لو تقابضوا بالتراضي، وكما لو أسلموا بعد التقابض بإلزام قاضيهم، وهذا أصح عند الرافعي والنووي وغيرهما. ولا يمضيه في الآخر؛ لأنه قبضه عن كره؛ فأشبه ما لو لم يقبض، وهذا ما اختاره في "المرشد". وعن الشيخ أبي محمد: إجراء الخلاف – أيضا – فيما لو أسلموا بعد التقابض بإلزام قاضيهم. وقال الإمام: إنه منقاس؛ لأن الالتزام بالترافع أضعف من الالتزام بالإسلام، وإذا ألزمنا المترافعين حكم الإسلام فلأن نلزمه المسلمين أولى، والخلاف يجري فيما إذا أتلف بعضهم لبعض خمرا أو نحوها، فألزمهم [حاكمهم إقباض البدل]، فقبض بالإلزام، ثم طرأ منهم إسلام، أو ترافع [بعضهم]، وضعف الإمام القول برد القيمة. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ – رحمه الله تعالى – يقتضي أمرين:

أحدهما: أن حاكمنا يمضي حكم حاكمهم على القول الأول، كما يمضي حكم أحد حكام المسلمين. وقال البندنيجي: إنا حيث نقرهم على أحد القولين لا نقرهم من حيث إنه إمضاء لقضاء قاضيهم وإنفاذه، ولكن بحكم ما وقع من القبض. ويعضده أن الماوردي حكي أن الإمام إذا قلد على أهل الذمة واحدا منهم حاكما، كان حكمه غير لازم لهم، وكان فيه كالمتوسط بينهم، خلافا لأبي حنيفة. قلت: ويعضد هذا قول [الغزالي: إنه لا يقبل المسلم نكاح كافرة من قاضيهم]، وعلى هذا [يكون معنى] قول الشيخ: "أمضاه": أنه لا يتعرض له. لكن الذي دل عليه كلام الإمام والقاضي الحسين كما سبق [اعتبار أفعال] قاضيهم، ويشهد له الخبر المذكور في أمر اليهود حين مروا على الرسول صلى الله عليه وسلم بواحد منهم محمم، ولم ينكر عليهم إقامة الحد، بل سأل: [هو] التحميم أو غيره؟ فلو لم يكن لقاضيهم حكم لأنكر نفس إقامة الحد، والله أعلم. الثاني: أنه على القول الآخر لا يمضيه، وعدم إمضائه تارة يكون بتركه وإهماله كما قال أصحابنا فيما إذا رفع [إلى قاض] من قضاة الإسلام حكم

آخر، وكان لا يراه: هل يمضيه، أو لا يمضيه، بل يتركه ولا يتعرض له؟ وتارة يكون بأن ينقضه، وهو الأقرب هاهنا، وبه صرح البندنيجي وغيره حيث قالوا: يكون كما لو ترافعوا قبل القبض. وهذا كله عند الترافع، أما إذا لم يترافعوا إلينا فلا يتعرض لهم إلا أن يظهروا [ذلك]، [فإن أظهروه]، قال في "الحاوي": إن لم يتعلق بالمنكرات الظاهرة كالبيوع الباطلة، والمناكح الفاسدة – لم يتعرض لهم، وإن كان من المنكرات الظاهرة كنكاح ذوات المحارم، وبيع الخمور والخنازير – فيمنعون منها، وفي فسخ عقودهم عليها وجهان. وقد حكى المتولي في نكاح المحارم في حالة عدم الإظهار مع العلم بفعلهم لذلك الوجهين، وقال: إن الصحيح عدم التعرض لهم، وبه جزم القاضي الحسين؛ لأن الصحابة عرفوا من حال المجوس: [أنهم ينكحون المحارم]، ولم يتعرضوا لهم. ومقابله – حكاه الزبيري قولا -: إن الإمام يفرق بينهما؛ كما لو عرف أن المجوسي نكح مسلمة أو مرتدة قال: وإن أسلم [منهم] صبي مميز، أي: أتى بالشهادتين – لم يصح إسلامه؛ لأنه غير مكلف بالشرع؛ فلم يصح إسلامه كغير المميز والمجنون؛ فإنه لا يصح إسلامهما إجماعا، وهذا ما نص عليه الشافعي – رضي الله عنه – قديما وجديدا؛ كما نقله الإمام. فعلى هذا [قال الشافعي – رضي الله عنه]-: يفرق بينه وبين أبويه؛ كي لا يفتن عن دينه. انتهى. فإذا بلغ ووصف الإسلام يكون مسلما من حين وصفه بعد البلوغ، وإن [وصف الكفر] استحب أن يهدد، فإن أصر على الكفر رد إلى أهله، قاله البغوي وغيره.

وما ذكرناه من الحيلولة قد ادعى الإمام في أثناء كلامه في مسائل الهدنة أنه مما أجمع عليه [الأصحاب]؛ لأن صدور ذلك منه يغلب على الظن تعلق قلبه بالهدى، وظن توقع الإيمان إذا غلب لم يعطل، وقال في باب اللقيط قبيل فصل أوله: "لا دعوى [للمرأة] ": لم أر أحدا من الأصحاب يشير إلى جواز تركة تحت حضانة الكافر، ولا يبعد في القياس ألا ينتزع من يد الكافر، [ولكن يستحب نزعه مع استرضاء الأب الكافر]؛ فإن نزعه من يده التزام أمر وإبطال حق. وقال في أوائل الباب: إن الشافعي – رضي الله عنه – قال في بعض مجاري كلامه: إذا نطق صبي مميز من صبيان الكفار بالإسلام، وظهر لنا إضماره بالإسلام – نحول بينه وبين الكفار. و [هذا] الذي ذكره الشافعي – رضي الله عنه – مما اختلف أصحابنا فيه تفريغا على مذهبه الصحيح: فقال بعضهم: هذه الحيلولة محتومة. وقال بعض أصحابنا: مما قاله الشافعي – رضي الله عنه – محمول على أنا نتوصل إلى ذلك برفق ونستعطف فيه أبويه، فإن أبيا لم نحل بينه وبينهما؛ فإن لفظ الصبي في ذلك لا حكم له، وهذا ما أورده المتولي حيث قال: يستحب أن يفصل بينه وبين أقاربه الكفار. وقيل: يصح إسلامه في الظاهر دون الباطن. معنى [هذا] الوجه – كما قاله ابن الصباغ في كتاب الظهار -: أن إسلامه يكون مراعى، فيفرق بينه وبين أبويه، فإن بلغ ووصف الإسلام كان مسلما من حين تلفظ بالشهادتين، وإلا فلا، ووجهه: بأنه لا يوثق منه بما كان في الصغر، إلا إذا أنضاف إليه الإتيان بعد البلوغ بالشهادتين، ووراء ذلك وجهان آخران: أحدهما – حكاه ابن الصباغ وغيره عن الإصطخري:- أنه يصح إسلام؛ كما

تصح صلاته وصيامه، ولأنه يمكنه معرفة التوحيد بالنطق والاستدلال؛ فصح منه كالبالغ، وقد حكاه في "المهذب" في باب قتال المشركين ولم ينسبه لأحد، وادعى الغزالي أن هذا الوجه خرج من قول الشافعي – رضي الله عنه -: حيل بينه وبين الكفار. وذلك قاله الماوردي في عقد الهدنة ونسبه إلى [ابن] أبي هريرة، وخطأه، وادعى الإمام أنه القوي توجيها. والثاني – حكاه الإمام عن رواية شيخه عن الشيخ أبي إسحاق -: أنه إذا عقل الصبي وعلم الإسلام وعقده فهو من الفائزين إذا مات على عقده هذا صبيا، وإن كان لا يتعلق بإسلامه أحكام الدنيا، وعن هذا عبر المعبرون: بأنه يصح إسلامه في الباطن دون الظاهر. قال الإمام: وما عندي أن هذا الخبر يختلف فيما صار إليه، والفرق على المذهب بينه وبين الصلاة: أن الصلاة حيث صحت منه كانت نفلا، والإسلام لا يتنفل به، بل [الإتيان به] يكون فرضا، وأداء الفرض لا يصح من الصبي. قال: فإن امتنعوا من أداء الجزية والتزام أحكام الملة، انتقض عهدهم؛ لأن الذمة لا تنعقد إلا بهما، فلم تبق دونهما. ولا فرق في امتناعهم بين أداء الجزية، أو القدر الزائد على الدينار إذا التزموه بالعقد، وفي معنى الامتناع من الشرطين: قتال المسلمين؛ فينتقض به العهد، سواء [شرط] عليهم في العقد أو لم يشترط، وسواء انفردوا به أو قاتلوا مع أهل الحرب؛ لأن قتالهم يوجب علينا أن نقاتلهم، وذلك ينافي عقد الذمة؛ فدل على نقض العهد، وقتالهم مع أهل البغي قد ذكرنا حكمه في باب قتال أهل البغي، وهذا هو الصحيح، ووراءه أمور: أحدها: حكى القاضي الحسين في باب حكم المرتد عند امتناعهم من بذل الجزية [بعد أن التزموها وأدوها] عن ابن سريج رواية ثلاثة أوجه:

أحدها – وهو اختيار المزني -: أنهم يجبرون على أداء الحزية؛ لأنهم التزموا ذلك بعقد [الذمة]؛ فلا حاجة إلى تركه إليهم، ويلحقهم بدار الحرب فيزيدوا في أعدائنا. والثاني: أنه يقال لهم: إما أن تعطلوا، وإلا سبيناكم الآن ونقتلكم، وصار امتناعكم من بذل الجزية نقصا لأمانكم. والثالث – وهو أشبه مذهب الشافعي – رضي الله عنه – وهو المنصوص: أنه لا يجبر على الجزية، ولا يسترق في الحال، ولكن ينبذ إليه عهده، ويلحقه بمأمنه. الثاني: حكى صاحب "التهذيب" وجها: أنه يقنع منهم بالدينار إذا امتنعوا من بذل الزيادة عليه، وكانوا جاهلين بأن الزيادة على الدينار [لا] تلزمهم. الثالث: حكى ابن كج قولين فيما إذا امتنعوا من إجراء الأحكام عليهم في انتقاض العهد. وقال الإمام: إن امتنع هاربا فلا أراه ناقضا، وإن امتنع راكبا في عدة وقوة فينبغي أن يدعى إلى الإسلام، فإن نصب القتال انتقض عهده بالقتال. الرابع: حكى الإمام عن القاضي الحسين حصر الانتقاض في نصب القتال. [ثم] قال الإمام: ولست أبعد أن الأولين ذكروا القتال، وعدوا منع الجزية من أسبابه، وعبروا بالامتناع عن القتال، وإذا كان كذلك آل الأمر إلى أن الناقض بنفسه وذاته القتال؛ فإنه مناف للأمان. قلت: وعلى ذلك ينطبق ما حكاه [القاضي] أبو الطيب وابن الضباغ فيما إذا امتنعوا من الضيافة، وقد التزموا زيادتها فوق الدينار، فإن كان الامتناع من البعض أجبر عليه، وإن [كان من] الجميع قوتلوا، فإذا قاتلوا انتقض

العهد والذمة، قال ابن الصباغ: ولا يسقط ما مضى. وإذا أردنا أن نجمع بين ذلك وبين ما ذكره الشيخ هنا قلنا بعد قوله: "وإن امتنعوا من بذل الجزية والتزام أحكام الملة": أي بالقتال، [ويؤيده أنه] سكت عن ذكر القتال، وعده من جملة النواقض، والله أعلم. فرع: إذا امتنع الواحد منهم من بذل الجزية، فإن كان مع بقائه على التزامها لم يكن ذلك نقضا لعهده، وأخذت منه جبرا، بخلاف الجماعة؛ لأن إجبار الجماعة [عليها] متعذر، وإجبار الواحد ممكن، وإن امتنع من أدائها لامتناعه من التزامها – كان نقضا للعهد كالجماعة، قاله الماوردي، وما قاله فيما إذا امتنع من الأداء لا غير مع القدرة، هو ما أبداه الإمام احتمالا لنفسه بعد حكايته عن الأصحاب انتقاض العهد – أيضا – واستحسنه. ولو قاتل المسلمين بعضهم، وقعد عنه بعضهم – انتقض عهد المقاتل، قال الماوردي: ونظر في القاعد، فإن ظهر منه الرضا كان نقضا لعهده، وإن لم يظهر منه الرضا كان على عهده، وهذا قد حكاه البندنيجي في المهادنين. وقال في أهل الذمة: إنه إذا انتقض عهد بعضهم لم ينتقض في حق الباقين، سواء سكتوا على فعلهم أو لم يسكتوا؛ لأن عقد الذمة أقوى من عقد الهدنة. قال: وإن زنى أحدهم بمسلمة، أو أصابها [باسم نكاح]، أو آوى عينا للكفار، أي: جاسوسا، أو دل على عورة للمسلمين، أي: على خلل؛ لأن العورة في اللغة: [هي] كل خلل يتخوف منه في ثغر أو حرب، أو فتن مسلما عن دينه، أو قتله، أو قطع عليه الطريق – نظر: فإن لم يكن قد شرط ذلك في عقد الذمة، أي: لفظا –لم ينتقض؛ لأن هذه الأشياء وإن اقتضى العقد المنع منها؛ لأنها محرمة لا تحل بمقصوده؛ فلم يمنع تعاطيها من استمرار حكمه. قال: وإن شرط عليهم، أي: باللفظ – فقد قيل: ينتقض؛ لما روي أنه رفع إلى أبي عبيدة بن الجراح نصراني استكره امرأة مسلمة على الزنى، فقال: ما على هذا

صالحناكم. وضرب عنقه. ولأنهم خالفوا ما شرط عليهم، وفيه ضرر على المسلمين؛ فانتقض به العهد كقتال المسلمين، وهذا ما قال ابن الصباغ: إنه المنصوص في الأشياء السبعة، وإن الأصحاب ألحقوا القتل بها، وصححه النووي وصاحب "المرشد"، ويحكي عن اختيار القفال، [و] قال القاضي الحسين: إنه المذهب. وقيل: لا ينتقض؛ لأن ما لم ينقض إذا لم يكن مشروطا لا ينقض إذا كان مشروطا. أصله: إظهار الخمر، وترك الغيار، ونحوهما، وهذا ما حكاه ابن الصباغ وجها، وقال الرافعي: إنه ينسب إلى اختيار القاضي أبي الطيب، ورجحه صاحب "التهذيب" وجماعة، وهذه طريقة الصيدلاني – أيضا – وغيره من محققي الأصحاب. وحكى القاضي الحسين والإمام عن العراقيين من أصحابنا: رواية وجه آخر: [أنه] ينتقض العهد بذلك، سواء شرط في العقد أو لم يشرط. وحكى ابن كج عن بعضهم: القطع به، وهو قضية ما أطلقه الماوردي [من الانتقاض] في باب [حد] السرقة، ولم يحك سواه، وبنى هاهنا [الخلاف] المذكور في ذلك على أن ذلك يجب [بالعقد] من غير شرط، أو لا يجب إلا بالشرط؟ وفيه قولان: فإن قلنا بالأول انتقض العهد بها، سواء شرط أو لا. وإن قلنا بالثاني – كان الحكم كما ذكره الشيخ. وعن الشيخ أبي محمد رواية طريقة ثالثة، وهو أنه إن شرط ذلك في العقد

انتقض وجها واحدا، وإلا فوجهان. وعند الاختصار يجتمع في المسألة ثلاثة أوجه؛ كما أوردها الغزالي وصاحب "التقريب" وصاحب "الإفصاح" والقاضي الحسين، والإمام عن العراقيين، ثالثها: إن شرط انتقض، وإلا فلا، قال الإمام: وكنت أحب لو قال قائل: لا ينتقض العهد [بها] بصدور المضرات، ولكن للإمام أن ينقض العهد بها إن شاء، ولم يصر إلى هذا أحد في هذا الفصل، والقول به ممكن. واحترز بقوله: "في هذا الفصل"، عما حكيناه عن بعض الأصحاب فيما إذا قاتل أهل الذمة أهل العدل مع أهل البغي في حالة ذكرناها ثم: أنه لا ينتقض، ولكن للإمام نقضه، وفي القتل الموجب للقصاص وقطع الطريق طريقة قاطعة بأنه كالقتال؛ لأن شهر السلاح وقصد النفوس والأموال مجاهرة تناقض الأمان. تنبيه: ما المراد بالشرط في العقد؟ الذي دل عليه كلام الأصحاب: الكف عن ذكر ذلك وفعله، وكلام الماوردي مصرح به. وقال الإمام: المراد به شرط الانتقاض إذا فعل ذلك، لا شرط الانكفاف عن هذه الأشياء؛ فإن نفس الذمة مزجرة عن هذه الأمور؛ فلا معنى لذكرها، وقال: إن هذا مما اتفق عليه الأصحاب. فرع: لو أشكال الحال، فلم يعرف هل شرط عليهم في العقد أم لا؟ قال في "المرشد": يجب تنزيله على أنه مشروط؛ لأن مطلق العقد يحمل على ما تقرر في عرف الشرع، وهذا العقد في عرف الشرع كان مشتملا على هذه الشرائط؛ ولهذا قال [ابن] عمر لما وجد من أهل الذمة سب النبي صلى الله عليه وسلم: ما على هذا أعطيناكم الأمان.

قلت: ويظهر أن يقال: الأصل عدم الشرط وعدم إباحة الدم، وبقاء صحة العقد، والله أعلم. قال: وإن ذكر الله عز وجل، أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو دينه بما لا يجوز، أي: مما لا يتدينون [به] ولا يعتقدونه – فقد قيل: ينتقض العهد. وقيل: إن لم يشترط لم ينتقض، وإن شرط فعلى الوجهين. هذان الطريقان مبنيان على أن [من] شرط [صحة] العقد: التعرض فيه لاشتراط عدم ذلك منه، أو ليس [ذلك] بشرط في الصحة، وفيه طريقان للأصحاب: الذي اختاره أبو إسحاق المروزي منهما: الأول. والذي عليه عامة الأصحاب: الثاني. فإن قلنا بالأول انتقض به العهد؛ كما إذا امتنعوا من أداء الجزية والتزامها وإن قلنا بالثاني كان حكمه حكم الأشياء السبعة السابقة التي لا يشترط في صحة العقد اشتراط تجنبها. وهذه الطريقة اختارها في "المرشد". وبني الماوردي الطريقتين على قولين في أن ذلك يلزم بالعقد [أو] بالشرط؟ فإن قلنا بالأول انتقض العهد وإن [لم] يجر [شرط]، وإلا كان كالحالة السابقة. أما ما يتدينون به، وهو [غير] معتقدهم كقولهم في الله – سبحانه وتعالى -: ثالث وثلاثة، وإن عزيزا والمسيح ابناه – فهو بمثابة إظهار الخمر ونحوه، ومن هذا القبيل قولهم في القرآن: إنه ليس من عند الله، أو: ليس بمعجز، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه كاذب، وإنه قتل اليهود بغير حق، وهذه طريقة، وهي

المحكية عن الصيدلاني، ورجحها الرافعي. ووراءها طريقة أخرى، وهي أن محل الخلاف في ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بسوء يعتقدونه ويتدينون به، أما إذا ذكروه صلى الله عليه وسلم بما لا يعتقدونه ولا يتدينون [به]، كما إذا نسبوه إلى الزنى أو طعنوا في نسبه، فيلحق ذلك بالقتال، وينتقض به العهد، سواء شرط عليهم ترك ذلك أو لم يشترط. قال الرافعي: وهذه قضية ما في "تعليق" إبراهيم المروزي، وما حكاه الروياني عن بعض الخراسانيين. قلت: وهي التي أوردها القاضي الحسين، لكنه اختار فيما إذا ذكروه بما يعتقدونه فيه: أنه [إن شرط انتقض، وإلا فلا]. وعلى كل قول يستوفي منهم القتل إن كان ما فعلوه يوجبه: كالقتل والزني في حالة الإحصان، وكذا ذكر الله – سبحانه – ورسوله [وكتابة] ودينه [بما لا ينبغي كما قاله البندنيجي، ولعله أراد ذكر الله – سبحانه – ورسوله [وكتابه] ودينه] بما لا يعتقدونه [ولا] يتدينون به، وحينئذ فيكون استحقاق القتل بسب النبي صلى الله عليه وسلم منطبقا على قول أبي بكر الفارسي الذي ادعى الإجماع عليه: إن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل حدا. لكن قال القاضي أبو الطيب وغيره: إنه ليس بصحيح؛ لأن الله – تعالى – قال: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]. [فإن قلت]: إذا كان في بعض الصور مقتولا لا محالة، فأي فائدة [في الخلاف] في بقاء عهده، أو نقضه؟ قلت: فائدته إذا قلنا ببقاء العهد تظهر في ماله؛ فيصرف لمن كان يصرف إليه

لو مات على الذمة، وإن قلنا بنقض العهد [فتظهر أن يبنى] على أن من انتقض عهده يرد إلى مأمنه، أم يغتال في الحال؟ فإن قلنا بالثاني كان ماله فيئا، وإن قلنا بالأول ظهر أن يلحق بمن مات من المعاهدين في دار الإسلام، وله مال [فيها]، وفيه قولان يأتيان. [وقد حكى ابن كج في كون ماله فيئا إذا قيل بانتقاض عهده، وقتل – وجهين، من غير بناء على ما ذكرناه، والله أعلم. وكذا يستوفي منهم الحد إن كان ما فعلوه يوجبه، وإن أوجب التعزيز عزروا. وقد ذكرت حكم من ذكر الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم بما لا يجوز من المسلمين [في باب الردة] فإنه أشبه به. قال: وإن فعل ما منع منه مما لا ضرر فيه كترك الغيار وإظهار الخمر وما أشبههما عزر؛ لإظهار ما منع منه إما بالشرط أو بإطلاق العقد. قال: ولم ينتفض العهد؛ لأنه ليس في منافاة الأمان فلا إضرار [على المسلمين]، أو لأنهم يعتقدونه دينا ومذهبا. ثم إذا أظهروا الخمور والخنازير فهل نتلفها؟ قال القاضي الحسين: إن لم يكن قد شرط عليهم ألا يظهروها [لم يكن له ذلك، وإن كان قد شرط عليهم ألا يظهروها فله] إتلافها بالإراقة والقتل. واعلم أن ذكر الشيخ المثالين المذكورين؛ للتنبيه على انه لا فرق في ذلك بين ترك الغيار وشبهه من ركوب الخيل وغيره كما سنذكره، و [لا] بين إظهار الخمر وشبهه من إظهار صلبانهم، وفعل ما يسنح من صلاتهم، وأصوات نواقيسهم، والعلو على المسلمين في البناء، واتخاذ بيعة أو كنيسة في بلاد الإسلام.

وقد حكى الماوردي أن ترك إظهار الخمر وشبهه لا يجب بالعقد ويجب بالشرط، ولبس الغيار لا يجب بالعقد، وهل يجب الشرط؟ فيه وجهان: فإن قلنا: إنه يجب، فإذا شرط عليهم وفعلوا خلاف الشرط؛ ففي انتفاء العهد به قولان، وإن قلنا: لا يجب بالشرط، فليس عليهم إلا التعزيز. وهكذا الحكم إذا فعلوا أمرا حراما، وقلنا: لا ينتقض به العهد، كما ذكره القاضي الحسين. وألحق الماوردي بالغيار أن يكون على أبوابهم أثر تتميز به دورهم، وإخفاء دفن موتاهم، وعدم إظهار النواح والندب على موتاهم، وعدم دخولهم مساجدنا، وعدم تملكهم رقيقا مسلما، عبدا كان أو أمة. قال: وإن خيف منهم نقض العهد لم ينبذ [إليهم] عهدهم؛ لأنه عقد لازم من جهتنا لحقهم؛ بدليل وجوبه عند طلبهم؛ فلم يجز إبطاله عليهم بمجرد الخوف مع كونهم في قهر الإمام وقبضته، فإذا تعاطوا شيئا مما يخافه عاملهم بموجبه. وحكى الإمام في أثناء الفصول السابقة: أن من أصحابنا من يجوز نبذ العهد إذا ظهرت تهمة تجر ضررا، والمشهور الأول. نعم، للذمي نبذ العهد بلا سبب، وإذا نبذه بلغ مأمنه على الأصح، وفيه وجه: أنه يكون بعد نبذه كافرا لا أمان له، قال الإمام: [و] لا وجه له. فرع: إذا شرط عليهم في العقد انتقاضه بفعل شيء لا ينتقض به عند عدم الشرط أو معه، فهل ينتقض؟ قال القاضي الحسين: لا؛ لأنه إنما يفعل ذلك تخويفا لهم ومبالغة في الزجر عنه. وقال الإمام بعد حكايته عن الأئمة: وهذا كلام لا أستجيز الاكتفاء به، بل هو مبني على أصل، وهو أن عقد الذمة مؤقتا هل يجوز أم لا؟ فمن جوزه يجب أن يقول: إذا قال عاقد الذمة: إن أظهرتم خموركم فلا عهد [لكم] أو انتقض

العهد بالإظهار، ومن قال: الذمة المؤقتة فاسدة، فقضيته أن يحكم بفساد هذا العقد من ابتدائه، ولا يجوز للإمام عقد مثله. وفي كلام الصيدلاني والأصحاب ما يشير إلى أن الذمة باقية والشرط فاسد، ثم قال: وهو فقيه؛ لأن الذمة لم تربط بوقت زماني، وإنما أرسلت إرسالا [لا] يتصور أن تتأيد الذمة لو فرض عدم ما شرط انتفاؤه فيئول [الفساد] إلى الشرط، بخلاف التأقيت بالزمان. قال: ومن فعل ما يوجب نق العهد، أي: من غير قتال – رد إلى مأمنه في أحد القولين، أي: بعد استيفاء ما وجب عليه بسبب ما فعله كما ذكرنا؛ لأنه في أحد القولين، أي: بعد استيفاء ما وجب عليه بسبب ما فعله كما ذكرنا؛ لأنه حصل في دار الإسلام بأمان فلم يجز قتله قبل الرد إلى مأمنه؛ كما لو دخل بأمان صبي، وهذا ما نص عليه في كتاب الجزية؛ فعلى هذا قال الماوردي: [و] لا يجوز أن يأووا في دار الإسلام، وبعد بلوغ مأمنهم يكونون حربا. وقال القاضي أبو الطيب في باب تبديل أهل الذمة: إن له الإقامة بعد ذلك؛ ليقضي حوائجه ويجمع ما له مدة الهدنة أربعة أشهر. وعلى كل حال، يظهر أن يلزمهم ضمان ما يتلفونه قبل انتهائهم إلى مأمنهم، كما حكيناه عن الإمام في باب قتال أهل البغي. قال: وقتل في الحال في القول الآخر؛ لأثر أبي عبيدة بن الجراح، وبحالف من أمنه صبي؛ فإنه يعتقد أن له أمانا، وهنا هو مفرط بنقض العهد، وهذا ما نص عيه في كتاب النكاح من "الأم"، وهو الصحيح في "المهذب" وغيره، فعلى هذا قال الماوردي وغيره: يتخير الإمام [فيه] بين الاسترقاق والمن والفداء؛ كما في الأسير. نعم، لو أسلم قبل الاسترقاق، قال البندنيجي وغيره: سقط القتل والاسترقاق، وقال الماوردي: سقطت؛ فلا يجوز القتل والاسترقاق والمفاداة، بخلاف الأسير؛ [لأن له أمامنا متقدما لم يكن للأسير فصار حكمه به أخف من الأسير، وهذا ما حكاه الروياني عن الشيخ أبي حامد، وادعى أن سائر الأصحاب وافقوه.

ولو لم يسلم، لكنه بذل الجزية فهل يعصم بها دمه؟ يظهر أن يقال: إنه يترتب على الأسير] إذا بذلها وقد ذكرنا فيه خلافا في باب قتال المشركين، فإنا قلنا في الأسير: إنه يعصم بها دمه، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان؛ ولهذا الترتيب نظير سأذكره في [باب] عقد الهدنة، إن شاء الله تعالى. فإن قلت: الذي يقتضيه كلام أبي الطيب وابن الصباغ: الجزم بعصمة دمه؛ لأنهما قالا فيما إذا امتنع الكل من بذل ما التزموه زائدا على الدينار من ضيافة: إنهم يقاتلون، فإذا قاتلوا فقد نقضوا العهد، فإن طلبوا بعد ذلك عقد الذمة وبذلوا قدر الدينار وجب قبوله والكف عنهم. ولا يقال: لعل هذا تفريغ على عدم اغتيالهم؛ لأنهم إذا قاتلوا لم يجز قول تبليغ المأمن كما صرح به الأصحاب – ومنهم الماوردي والإمام – وهم فقد قاتلوا. قلت: يمكن حمل ذلك على ما إذا خرجوا عن قبضة الإمام بالقتال وامتازوا عن الأسير، وما ذكرناه مفروض فيما إذا كانوا في قهره وقبضته، على أن ما ذكر من كونهم إذا قاتلوا لا يبلغون المأمن [قد ذكرت في باب قتال أهل البغي عند استغاثتهم بأهل الذمة ما] ينازع في ذلك، فليطلب منه، والله أعلم.

تنبيه: المأمن – بفتح الميم الثانية: موضع الأمن. قال البندنيجي في باب تبديل أهل الذمة: وكل موضع قلنا: يرد فيه إلى مأمنه، فالمراد [به] أقرب بلاد الحرب من دار الإسلام. وعلى ذلك جرى ابن كج وقال: إنه لا يلزم إلحاقه ببلده الذي يسكنه فوق ذلك إلى أن يكون بين [أول بلاد] الكفر وبلده الذي يسكنه بلد للمسلمين يحتاج إلى المرور عليه، وعن "البحر": أنه لو كان له مأمنان فعلى الإمام إلحاقه بالذي يسكنه منهما، ولو كان يسكن بلدين فالاختيار إلى الإمام. فرع: إذا انتقض عهد أهل الذمة فهل ينتقض عهد ذراريهم ونسائهم؟ فيه وجهان في "الحاوي"، أصحهما – وبه جزم ابن الصباغ والبندنيجي في النسوان، واختاره في "المرشد" -: أنه لا ينتقض؛ لأنه قد ثبت لهم الأمان ولم يوجد [منهم] خيانة، وحكى البندنيجي الخلاف في الأولاد [و] الصغار قولين في باب تبديل أهل الذمة، وخص محلهما بما إذا لم يكن لهم أم، أو كانت [وليست] من أهل الجزية، أما إذا كانت من أهل الجزية أقروا معها في دار الإسلام، وكذلك حكى هذا التفصيل والخلاف الإمام عن العراقيين في كتاب السير، واستحسن الفرق بين الحالين، وقال: إن الأوجه من القولين على قياس المراوزة التقرير، وجزم في هذا الكتاب بأن نقض العهد إن كان بالقتال ونبذ العهد فلا خلاف في الاغتيال والاستئصال في النفس والذرية والمال. [ثم] إذا قلنا بعدم انتقاض العهد فيهم فلا يجوز سبيهم، ويجوز تقريرهم في دار الإسلام، فإن سألوا الرجوع إلى دار الحرب، قال الماوردي: أعدنا النساء دون الصبيان؛ لأنه لا حكم لاختيار من لم يبلغ، فإن طلبهم أهلهم، قال الماوردي: إن كان الطالب هو المستحق لحضانتهم ردوا إليه، وإلا منعوا منه.

وقال البندنيجي فيما إذا انتقض عهد العاقد بسبب كونه توثن بعد تهوده أو تنصره: فإنا نرده إلى مأمنه وأولاده إذا لم نحكم بانتقاض العهد فيهم على التفصيل الذي ذكرناه، حكمهم حكم زوجته ورقيقه ومدبره وأمهات أولاده ومكاتبه، فإن [اختاروا أن يخرجوا معه فذلك إليهم، وإن] اختاروا المقام في دار الإسلام لم يجبروا على الخروج، ويقال له: وكل في بيع الرقيق. فرع: عكس هذا: وهو إذا عقد البالغ العاقل [لنفسه] الذمة، فهل يتبعه أحد ممن ليس له أهلية الاستقلال بالعقد. قال الأصحاب: لا شك أنه يتبعه مماليكه وأمواله مع الشرط وبدونه، ولا يتبعه الأجانب بدون الشرط ومع الشرط، فإطلاق بعضهم يقتضي التبعية حيث قالوا: لو كان في قلعة رجل واحد ونساء فبذل الجزية جاز، وصار النساء تبعا له في العصمة، ونزل الإمام ومن تبعه هذا على ما إذا كن من أقاربه كما سنذكره، وقالوا: لا يتبع الأجانب بحال وتتبعه كل امرأة بينهما وبينه قرابة وإن لم تكن محرما له، ولا على عمود نسبه بالشرط، ولا يتبعه بدون الشرط، وكذا حكم الصبية والمجانين من أقاربه، وفي تبعية أولاده الأطفال من غير شرط وجهان، وجه التبعية – وهو الأظهر، وبه جزم في "الوجيز" -: قرينة الحال؛ فإن الرجل لا يتوطن بلده إلا مع صغار أولاده [في الغالب]؛ فصار كالتصريح بالشرط، وفي تبعية الزوجات طريقان: أحدهما – وهو الأظهر -: أنهن كالصبيان. والثاني: كالقرابات. وفي اندراج الأصهار والأحماء مع الشرط خلاف [مشهور] والله سبحانه أعلم.

باب عقد الهدنة

باب عقد الهدنة الهدنة: مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معلومة، بعوض [أو غيره]، سواء فيهم من يقر على دينه ومن لا يقر، كما قاله الماوردي في كتاب السرقة. وهي مشتقة من "الهدون" وهو السكون؛ فإنه إذا صالحهم سكنت ثائرة الفتنة وهدأت، وهذا العقد يسمى: مهادنة، [ومعاهدة]، ومسالمة، وموادعة. قال الشافعي - رضي الله عنه -: "ولم أعلم مخالفا من أهل العلم بالسير أن رسول الله ? لما نزل المدينة وادع يهود كافة على غير جزية"، وأراد: هادن. والأصل فيه [قبل] الإجماع قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 1، 2] أي: كونوا آمنين فيها أربعة أشهر، وقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]، وكذلك فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل المدينة من يهود، وهم نفر من بني قريظة وبني النضير وبني المصطلق حين وافي ضعفا في [أول] الإسلام، وهو أول عهوده، وهادن قريشا [عام الحديبية] على وضع القتال عشر سنين حين لم يقو الإسلام بعد، وكان ذلك في سنة ست من الهجرة كما تقدم، والعاقد له سهيل ابن عمرو، وفيه نزل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 7]، وكان هذا الصلح عظيم البركة، أسلم بعده أكثر ممن أسلم

قبله، والمعنى فيه: أنه يرجو إسلامهم؛ فجوز لذلك. قال: لا يجوز عقد الهدنة، أي: لأهل إقليم أو صقع عظيم أو خلق كثير إلا للإمام أو لمن فوض إليه الإمام، أي: عقدها؛ لأنه باطلاعه على جميع الأمور أعرف بمصالح ذلك من آحاد الناس، وعلى التدبير والسياسة أقدر، وبحراسة الملك أخبر؛ فاختص به، ولو فوض إلى آحاد الناس أفضى إلى تعطيل الجهاد، أما عقد الهدنة لآحاد الكفار والنفر اليسير فقد تقدم الكلام فيه في قتال المشركين، فلو عقدها على العموم آحاد المسلمين لم يغتالوا، بل يردون إلى المأمن، وولاة الثغور المفوض إليهم الجهاد وحده لا يجوز إليهم عقد الهدنة إلا قدر الاستراحة وهي أربعة أشهر، ولا يجوز أن يكون سنة؛ لأن عليه أن يجاهد في كل سنة، وفيما بينهما قولان حكاهما الماوردي، وأطلق الرافعي والفوراني وغيرهما أنه يجوز لولي الإقليم المهادنة مع أهل قرية أو بلدة على ذلك الإقليم للحاجة، وكأنه مأذون بتفويض مصلحة الإقليم إليه، قال الفوراني: ولا يجوز أن يعقدها مع إقليم كالهند. قال: وإذا رأى في عقدها مصلحة، أي: مثل أن يرجو إسلامهم، أو بذل الجزية، أو معاونة المسلمين على قتال غيرهم، أو ضعف المسمين وقوتهم – جاز أن يعقد؛ لما ذكرنا. قال: ثم ينظر: فإن كان مستظهرا فله أن يعقد أربعة أشهر؛ للآية. قال الشافعي: وكان ذلك في أقوى ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [حين منصرفه من تبوك، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم الفتح [فر] صفوان بن أمية إلى الساحل على أن يلقي نفسه في البحر، فأخذ له بعض أهله الأمان، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال له: بلغني أنك وأمنتني فاجعله شهرين، فقال: "وأربعة"، وكان – عليه السلام – يرجو [الإسلام منه]، وأسلم قبل مضي المدة، وحسن إسلامه. قال: ولا يجوز سنة؛ لأن الله تعالى قد كان منع منه بعد فرض الجهاد بقوله

تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، وجعل غاية أمرهم الإسلام بقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا} [التوبة: 11] ثم إنه أمر بقتلهم حتى يعطلوا الجزية إن لم يسلموا بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية [التوبة: 29]. ثم إن الله أذن في الأشهر الأربعة بغير جزية بقوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ} [التوبة: 2] بعد قوله {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1]، ثم استثنى بعده بآيات فقال: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 4]، فاتبع إذنه، وبقينا فيما [زاد على ذلك] على موجب القتال. وحكى الفوراني قولا أنه يجوز سنة فما فوقها إلى ما دون السنتين، ووجهه بأن الكافر قد يكون له أشغال لا تحصل إلا في فصول السنة الأربعة، وما لم تكن المدة سنتين، ولم تدخل في حد التكرار فإنها تكون قصير، قال الإمام: وهو غلط، ولم أره لأحد من الأصحاب. قال: وفيما بينهما قولان: وجه المنع – وهو الذي نص عليه هاهنا وفي الجزية من [كتاب] "الأم"، واختاره الغزالي والرافعي والنواوي وصاحب "المرشد" -: ما تقدم. ووجه الجواز: أنها مدة قاصرة عن مدة الجزية؛ فجاز أن يؤمن فيها بغير عوض، أصله: الأشهر الأربعة، وهذا ما نص عليه في "سير" الواقدي، وحكى صاحب "البحر" عن أبي إسحاق القطع به. وفي "الرافعي": أن بانين بنوا القولين على أنه إذا مات في أثناء السنة هل يجب قسط ما مضى أم لا؟ فإنا قلنا: يجب، لم يجز، وإلا جاز، والصحيح عدم البناء. وهذا كله بالنسبة إلى نفوس المعقود معهم، أما أموالهم فيجوز أن يعقد لها مؤبدا، وهل يجوز كذلك في الذرية؟ فيه وجهان، قاله الماوردي في السير. قال: وإن لم يكن مستظهرا، أو كان [مستظهرا] ولكن يلزمه في غزوهم مشقة لبعدهم – جاز أن يهادنهم عشر سنين، أي: عند الحاجة؛ لما تقدم من

مهادنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش عشر سنين، وقد كان بالإسلام ضعف، أما إذا لم تدع الحاجة إلى الغزو لم يجز أن يهادنهم العشر، بل ما تدعو الحاجة إليه، صرح به الماوردي وغيره، ولو دعت الحاجة إلى أكثر من العشر لم يزد على العشر، قال القاضي الحسين: بلا خلاف. وعن رواية صاحب "التقريب" وجه: أنه يجوز بحسب الحاجة. قال الإمام: وهو مزيف لا تعويل عليه ولا اعتداد به. نعم، يجوز في هذه الحالة أن يعقد على عشر سنين، ثم على عشر [سنين] قبل مضي الأولى، جزم به الفوراني وغيره وحكاه القاضي الحسين عن ابن المرزبان،. وما ذكره [الشيخ هو المشهور من الطرق، وعن] الشيخ أبي حامد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل العهد قبل تمام العشر، وأن الأصحاب اختلفوا في ذلك الإبطال هل هو نسخ للزائد على الأشهر الأربعة، أو لفعل أمر اقتضى [رفع العهد؟] والأصح: الثاني؛ فإنه أقام [على الهدنة] سنتين، [وأبطله لما أعان] قريش بني بكر وهم خلفاؤها، على خزاعة وهم حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم. [ثم] قال: فإنا قلنا بالأول لم تجز الزيادة على أربعة أشهر لا لحاجة و [لا] ضرورة، وإن قلنا بالثاني. [فإن دعت الحاجة] فيجوز إلى سنة، أو يجب أن تقصر المدة عن السنة؟ فيه وجهان. وإن دعت الضرورة جاز أن تبلغ المدة سنة، ويجب الاقتصار عليها، أم تجوز الزيادة إلى عشر؟ فيه قولان. فرع: إذا عقدت المدة على أكثر من المدة المشروعة بطل القدر الزائد،

وفي بطلانه في المدة المشروعة طريقان حكاهما الفوراني والبغوي وغيرهما: أحدهما: طرد قولي تفريق الصفقة فيه، ولم يورد البندنيجي وابن الصباغ وكذا الماوردي في هذا الباب سواه، وكذلك الغزالي، وقال الرافعي: إنه الأظهر. والثاني: القطع بالصحة، وعليه – كما قال القاضي الحسين – الأكثرون، وهو الذي رجحه في كتاب السير وضعف الأول، والفرق: أن البيوع تنزه عن الخطر والغرر، ويحتاج فيها عند فساد البيع إلى توزيع [الثمن]، وذلك يجر غررا وجهالة، والعقد مع المشركين لا يبطل بالغرر. وأيضا: فإنه لو دهانهم إلى غير مدة على أنه متى بدا له نقض العهد نقضه جاز، ولو باغ بما شاء لم يجز. تنبيه: [في قول الشيخ]: وإن رأى في عقدها مصلحة [جاز أن يعقد، ما يفهم أمرين: أحدهما: أنه إذا لم يكن في عقدها مصلحة]، بأن كان في المسلمين قوة وبهم ضعف، وإذا هادنهم قويت شوكتهم – أنه لا يجوز، وقد صرح به الماوردي والبندنيجي وغيرهما. الثاني: أن العقد لا يجب وإن طلبوه في حالة المصلحة، وهو الصحيح عند أئمة المذهب، لكن على الإمام أن يجتهد ويحافظ على الأصلح من الإجابة والترك. قال الإمام: وما يتعلق باجتهاد الإمام لا يعد من الواجب، وإن كان يتعين عليه رعاية الأصلح كالخصال المشروعة في حق الأسير، وفيه وجه حكاه الرافعي: أنهم إذا طلبوا وجب إجابتهم إذا لم يكن فيها مضرة كما في عقد الذمة، ونسبه الإمام إلى رواية بعض المصنفين، وقد رأيته في "الإنابة"، لكن بشرط أن يرى الإمام العقد مصلحة بأن رجا إسلام الداخل عند سماع كلام الله تعالى. وبين العبارتين فرق، على أن في عقد الذمة وجها حكاه الفوراني والطبري أيضا: أنه لا يجب عند الطلب والمصلحة، وقد قامت حكايته في قتال المشركين، والوجهان ضعيفان.

قال وإن هادن، أي: من غير تعيين مدة، على أن [له] الخيار في الفسخ متى شاء – جاز؛ لأن النبي وادع يهود خيبر، وقال: "أقركم [على] ما أقركم الله"، ولو عقد الإمام العهد على النعت الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: ما شاء الله – لم يصح؛ لأنه – عليه السلام – يعلم ما عند الله بالوحي وغيره بخلاف غيره، ولو قال: هادنتكم ما شاء فلان، وهو مسلم عدل ذو رأي – جاز، فإذا نقضها انتقضت، كذا قاله الرافعي. واشترط في "الحاوي" في المفوض إليه: أن يكو أهلا للاجتهاد في أحكام الدين، فلو فقد [ذلك] لم يصح التفويض، وقال: إن له الاستدامة، وأما النقض فينظر [فيه]: فإن كان المفوض إليه من ولاة الجهاد لم يحتج في النقض إلى إذن الإمام، وإلا فلا ينفذ إلا بإذن الإمام، وحينئذ فإن وافق رأيه رأي الإمام فعل، وإن اختلفا فإن رأي الإمام البقاء اتبع، وإن كان رأيه النقض: فإن كان لعذر غلب نظر الإمام، وإن كان لغير عذر غلب نظر المفوض إليه. فرع: لو أطلق عقد الهدنة كان العقد فاسدا؛ لأن الإطلاق يقتضي التأبيد، جزم به القاضي أبو الطيب والماوردي والبندنيجي وغيرها، وفي "الإبانة" الجزم بأنه يصح عند الضعف وينزل على عشر سنين، وحكى الإمام ذلك عن صاحب "التقريب"، وأن في بعض التصانيف في إطلاق العقد في حال القوة قولين: أحدهما: يحمل على أربعة أشهر؛ تنزيلا على الأقل. والثاني: على سنة؛ تنزيلا على الأكثر. [والحالان مذكوران] في "التهذيب" على هذا النحو، واعترض الإمام فقال: القول بتصحيح الهدنة عند القوة سنة غلط، وإن صح فالعقد لا يختص بأربعة أشهر ولا بالسنة؛ [فإنه قد يعقد] [على عشرة أشهر]؛ معنى لتنزيلها على أربعة أو على سنة، وكذلك القول [في تصحيح] العقد على عشر سنين، فالوجه: القطع بالفساد.

واعلم أنه كما يجوز عقد الهدنة بغير شيء يؤخذ منهم، [يجوز بشيء يؤخذ منهم]، بل هو المتعين عند القدرة عليه كما قاله الماوردي، ولا يجوز أن يعقد على مال يؤديه لهم إلا لضرورة بأن يحيط الكفار بالمسلمين ويخافوا اصطلامهم، سواء كانوا في حصن أو في بلد أو في الصف؛ كما يجوز أن يفدى الأسير الذي في أيديهم إذا خلف [على نفسه]، أو كانوا يستذلونه بعذاب أو امتهان، لكن هل يجب البذل في هذه الحالة؟ فيه وجهان مبنيان على الخلاف في وجوب دفع الصائل، قاله أبو الطيب وابن الصباغ، وقال الرافعي في آخر كتاب السير: إن فداء الأسير محبوب، ولم يحك ثم سواه. ثم المال الذي يأخذونه ما حكمه؟ أطلق البندنيجي والماوردي وأبو الطيب والمصنف أنه كالأموال التي يغنمونها منا. وحكى القاضي الحسين: أنه إذا فادى أسيرا على مال، ثم أسلم ذلك المشرك الذي أخذ الفداء، أو أظهر المسلمون على الدار، ووجدوا ذلك الفداء بعينه – فهل يرد على من فادى أم لا؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي – أيضا – في آخر السير: وجه المنع: أنه أعطى متطوعا به فملكوه؛ كما في ثمن المبيع. وعلى مقابله: لو وجد المال مع مستأمن، قال الماوردي: نظر، فإن كان سبب تملكه باقيا لم يسترجع منه، وأعيد إلى مستحقه، ولم يتعرض عليه في غيره من أمواله؛ لأمانة، ولو أطلقوا الأسير على أن يحمل إليهم شيئا لا يجب عليه الوفاء. نعم، قال الشافعي – رضي الله عنه -: يستحب له الوفاء به؛ كي لا يرغبوا عن إطلاق الأسارى، كذا حكاه أبو الطيب وابن الصباغ والماوردي والقاضي الحسين والبغوي، والإمام قال: إنه رآه في "تعليقه" عن الإمام، [ثم قال]: وحكى الشافعي – رضي الله عنه – عن بعض السلف أنه يجب عليه أحد

الأمرين: إما العود إلى الأسر، وإما بذل المال، وقيل: هذا قول الشافعي – رضي الله عنه – في القديم، وهو بعيد لا أصل له، ولم أره في [غير] "تعليقه"، ولست أعده من المذهب. وحكى الرافعي قبيل كتاب عقد الذمة: أن الأسير لو قال للكافر: أطلقني على كذا، ففعل، أو قال له الكافر: افد نفسك بكذا، ففعل – لزمه ما التزم، وأنه لو قال مسلم لكافر: أطلق أسيرك ولك علي ألف، فأطلق – يجب عليه الألف؛ كما لو قال: أعتق أم ولدك على كذا ففعل، وأنه لو فدى الأسير بمال من [غير] سؤال لا يرجع عليه، ولو كان بسؤال الأسير بشرط الرجوع فأجابه رجع، وكذا لو لم يشترط الرجوع على أصح الوجهين في "التهذيب". قال: وعلى الإمام أن يدفع عنهم الأذية من جهة المسلمين، ولا يلزمه دفع الأذية عنهم من جهة أهل الحرب؛ لأن الهدنة عقدت معهم على الكف عنهم، لا على الحفظ لهم، وبهذا خالفوا أهل الذمة، وعبر الأصحاب عنه بأن عقد الذمة حق لهم على المسلمين؛ ولذلك يجب عند الطلب، وعقد الهدنة ليس بحق لهم بدليل عدم وجوبه عند الطلب، وإنما يفعله الإمام إذا كان فيه مصلحة للمسلمين؛ فكان لهم. وفي تخصيص الشيخ عدم وجوب الدفع بأهل الحرب ما يفهم أن دفع أهل الذمة عنهم واجب كالمسلمين؛ لالتزامهم الأحكام، ودخولهم تحت قهر الإمام، وقد صرح به الأصحاب. وأهل الهدنة [مع أهل الهدنة] كأهل الحرب معهم. نعم، يقال لهم: إن تناصفتم وإلا نبذنا إليكم عهدكم، ثم صرتم بعد بلوغ مأمنكم حربا؛ لما توجبه دار الإسلام من التناصف، كذا قاله الماوردي في كتاب السرقة.

ولو قصد أهل الحرب المعاهدين، وأخذوا أموالهم، فقصدهم الإمام، وظفر بهم، [واسترجع] أموال [أهل] العهد – ردها عليهم؛ كذا أخذه الأصحاب من قول الشافعي – رضي الله عنه – في كتاب الجزية، [كما قاله] القاضي أبو الطيب؛ ولهذا لا يجوز للمسلمين أن يشتروا من أهل الحرب ذلك المال، فإن اشتروه وجب رده على أهل الهدنة، وأراد الأصحاب [بما ذكروه] من هذا الحكم التنبيه على أنا وإن لم نمنعهم من أهل الحرب لا نجلهم بالنسبة إليهم أهل حرب؛ [فإنه لو كان كذلك لم يجب رد المأخوذ إليهم، بل يكون غنيمة؛ فإن بعض أهل الحرب] إذا قهر بعضا على مال ملكه، كما صرح به الرافعي في كتاب السير عند الكلام فيما إذا كان [على] المسبي دين، وهو قضية ما حكيناه من ملكه نفس المقهور في آخر باب قتال المشركين، لكن لك أن تقول: قد حكى القاضي أبو الطيب – أيضا – أن الأمة منهم إذا جاءت إلينا مسلمة صارت حرة؛ لأنها غلبت مولاها على نفسها [فملكت] نفسها بالقهر والغلبة، [وعتقت]؛ كما يملك العبد الحربي سيده بالقهر والغلبة. وهذا يدل على أنهم كأهل الحرب بالنسبة إلى بعضهم مع بعض؛ فأولى أن يكونوا كذلك بالنسبة إلى أهل الحرب، والله أعلم. قال: وإن جاء منهم مسلم لم يجب رده إليهم، أي: وإن شرط في العقد؛ لأنه لا يجوز إجبار المسلم على انتقاله من بلد إلى بلد في دار الإسلام، فلألا لا يجبر على الرجوع إلى دار الحرب أولى. نعم، في حال الشرط ينظر: إن شرط رد المستضعفين [فيهم، وهم الذين لو أسلموا في دار الحرب لوجبت

عليهم الهجرة، كما قيده البندنيجي، أو المستضعفين] وغيرهم، أو أطلق الرد، فالشرط فاسد كما حكاه البندنيجي، وهل يفسد العقد؟ الذي أورده أبو الطيب والقاضي الحسين والبندنيجي وابن الصباغ والغزالي: أن عقد الهدنة يفسد [بالشروط الفاسدة]، وهذا منها، وجزم الماوردي بعدم بطلان الهدنة بها؛ لأنها ليست كالبيوع التي تفسد بالشروط الفاسدة، كما تجر جهالة في الثمن، وليست بأوكد من عقود المناكحات، وحكى الإمام الأمرين، فقال: في الفساد تردد للأصحاب كالتردد في أن الوقف هل يفسد [بالشرائط الفاسدة؟]. وفرع الماوردي على ما حكاه فقال: [و] لا يجب على الإمام أن يعلمهم ببطلان الشرط قبل مطالبتهم به، فإن طالبوه به أعلمهم بإبطاله في الشرع، فإن دعوه إلى نقض العهد نقضه، إلا أن يخاف منهم الاصطلام. وحكى المزاورة في وجوب رد الذي لا عشيرة له، و [يغلب] على الظن أنه يذل ويهان – طريقين: أظهرهما: طرد الوجهين اللذين سنذكرهما في العبد. وثانيهما: القطع بالرد؛ لأن الجزية في الجملة مظنة القوة والاقتدار، وعلى هذا فيكون شرط الرد صحيحا. قال الإمام: ولا يبعد عندي على هذا أن يشترط الإمام عليهم ألا يهينوا المسلم المردود عليهم، فإن أهانوه كانوا ناقضين للعهد، وإن شرط رد من جاء منهم [مسلما] ممن له عشيرة وتحميه وتمنعه كان الشرط جائزا، كما صرح به أبو الطيب والماوردي وكذا البندنيجي، وقال: إن ضابطه كان من لو أسلم في دار الحرب لم يجب عليه الهجرة جاز شرط رده في عقد الهدنة، لكنه لا يجب الرد أيضا، بل الواجب التخلية بينه وبينهم، والإذن له في الانصراف، كما صرح به الماوردي وأبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ، وكذا الرافعي عن

الأصحاب، ولم يحك سواه؛ لأن الواجب في حق أهل الهدنة الكف عنهم، لا معونتهم في حقوقهم. قال الرافعي: ولا يبعد تسمية التخلية ردا كما في رد الوديعة، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صالح قريشا قال: "من جاء منكم مسلما رددناه، ومن جاء [منا] فسحقا سحقا، فجاءه أبو بصير مسلما، فجاء رجلان يطلبانه، فمكنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، كما نقله القاضي الحسين والماوردي. قال القاضي: فخرجا به، وكان مع أحدهما سيف، فقال أبو بصير: أرى سيفك ضاربا؟ فقال: نعم، وقد جربته فوجدته صارما، فقال: أعطني، فأعطاه، فجعله كالأمس الذاهب، وفر الآخر، وجاء [إلى] النبي صلى الله عليه وسلم فلما أيصره قال: "جاء به أمر مفظع"، فقال: إنه قتل صاحبي وكنت في يده كالمقتول. ثم جاء أبو بصير؛ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت وفيت بالشروط، وقد خلصني الله منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "مسعر حرب لو وجد أعوانا، يعرض له بأن يرتصد لقطع الطريق عليهم"، فعرف ذلك التعريض، فالتحق به ثلاثمائة نفر، وكان يقطع الطريق على المشركين حتى استغاثوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمنعهم عن ذلك. قال ابن الصباغ: قال الشافعي - رضي الله عنه -: ويستحب للإمام أن يقول له سرا: لا ترجع إليهم. وزاد [غيره]: وإن رجعت فالأفضل لك الهروب. وقال الفوراني: إنه يعرض له بذلك ولا يصرح. وحكى القاضي الحسين أن ابن سريج خص محل جواز شرط الرد بأن

يشترط الرد [من [بلد] أو بلدين أو بلاد معلومة يرد منها بعد أن يبقى بلد، فلو شرط الرد] من جميع بلاد المسلمين، قال الشافعي – رضي الله عنه -: فالصلح باطل؛ لأن فيه منعا من الإسلام. ولا نزاع أنه لو شرط أن يبعث إليهم من جاء منهم في فساد الصلح، كما حكاه القاضي الحسين والروياني عن نص الشافعي – رضي الله عنه – لأنه إذا شرط البعث فكأنه منعهم من الإسلام والهجرة إلى دار الإسلام، [ولا يجوز ذلك، بخلاف ما إذا شرط ألا يمنعهم منهم؛ فإنه ليس فيه منع الإسلام]؛ لأنه يقدر أن يغيب عن بلد الإمام إلى بلد آخر، كما فعل أبو بصير. وفي "الرافعي": أن بعض أصحابنا قال: يجب الوفاء بالشرط، وأن قضيته ألا يعتبر الطلب. والظاهر أنه عنى الفوراني؛ فإنه مذكور كذلك في "الإنابة". قال: وإن جاءت مسلمة لم يجز ردها إليهم، أي: عند إطلاق العقد؛ لأن النبي ? لما شرط لقريش ما شرط جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن [أبي] معيط مسلمة، وجاء أخواها عمارة والوليد في طلبها، وجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية [مسلمة]، فجاء زوجها وابن مسافر في طلبها، وجاءت سعدة زوجة صفي بن الراهب بمكة، فجاء في طلبها، وقالوا: يا محمد، قد شرطت لنا رد النساء، وطي الكتاب لم يجف؛ فاردد علينا نساءنا، فتوقف النبي صلى الله عليه وسلم عن ردهن؛ توقعا لأمر الله تعالى [فيهن] حتى نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} [إلى قوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّار} [الممتحنة: 10]؛ فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ردهن ومن رد النساء كلهن، كذا حكاه الماوردي، فإذا لم يجز الرد وقد وجد الشرط، فلألا يجوز عند عدمه

[كان] أولى. وهكذا الحكم فيما إذا جاءت كافرة ثم أسلمت عندنا، [كما] صرح به القاضي الحسين والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم. والصبي إذا أظهر الإسلام وإن لم يحكم بإسلامه، كالمرأة، صرح به الماوردي وغيره، وألحق به البندنيجي والرافعي المجنون. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إذا شرط رد من جاء منهم، فجاء صبي، وجاء أبوه في طلبه – يرد عليه؛ لأن الصبي لا يصير مسلما بدخوله [في] دار الإسلام، هكذا سمعت منه في الدرس. يعني من القفال، أما إذا شرط في الصلح رد النساء، فالشرط فاسد وإن كن ممن لهن عشيرة؛ لاستقرار الشريعة على منع ردهن. والفرق بين الرجال والنساء فيما ذكرناه: أنهن ضعيفات العقول؛ فيخاف أن يفتن، ولا يؤمن أن يزوجهن أولياؤهن من الكفار فينالوهن، ولا يمكنهن في العادة الهرب والنجاة بأنفسهن، وعلى هذا فهل يفسد العقد؟ الحكم كما تقدم. ثم ظاهر ما حكيناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرط لهم رد النساء، وقد اختلف قول الشافعي – رضي الله عنه -[فيه]: فاحد القولين: أنه لم يجر شرط [لهن]، وإنما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم اللفظ أن يرد من جاءه؛ فتوهم الكفار تناوله النساء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عالما بأنهن لا يدخلن، وأطلق ذلك ليخدعهم، ومثل ذلك جائز. والثاني: أن الشرط شمل النساء، وعلى هذا ففي كيفية الشمول وجهان. أحدهما: بالتصريح، حكاه الماوردي، وتبعه الروياني. وأظهرهما: أنه بالإطلاق، والقائل به قال – كما حكاه القاضي الحسين -: لا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عالما بأنهم لا يدخلن، ويطلق اللفظ الدال على دخولهن. وعلى كلا الوجهين اختلفوا في أن شرط ردهن هل كان جائزا أم لا؟ على وجهين: أحدهما – وهو الذي أورده أبو الطيب وابن الصباغ -: نعم؛ لأنه كان

مباحا في ابتداء الإسلام: أن تقر المسلمة على نكاح كافر، ولذلك أقر النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على نكاح أبي العاص بن الربيع، وكان على كفر، إلى أن انتزعها منه حين هاجر، ثم ردها عليه حين أسلم؛ فلذلك شرط الرد، ثم حرم الله – تعالى – ذلك ونسخه. قال القاضي الحسين: [و] هذا قول من يرى النسخ قبل العمل، فعلى هذا بم نسخ؟ فيه وجهان: أحدهما: بالآية المذكورة. والثاني: بامتناعه صلى الله عليه وسلم من ردهن. والوجهان مبنيان على قولين حكاهما القاضي الحسين هنا، والماوردي في كتاب حد الزنى، عن الشافعي – رضي الله عنه – ووراءهما وجهان، وهما أيضا للأصوليين في أن القرآن [هل] ينسخ بالسنة أم لا؟ فالأول: مختار ابن سريج؛ كما قاله [الرافعي والماوردي. والثاني: مختار الشافعي والمزني – رضي الله عنهما – قاله] القاضي أبو الطيب وكذا [القاضي] الحسين، وادعى أنه الجديد، وعليه الأكثرون من أصحابنا؛ كما نقله الماوردي. كذا لا يجوز عند الشافعي وأصحابه – رضي الله عنهم – نسخ الكتب

بالسنة، وإن كانت متواترة، حكاه الماوردي أيضا، وحكى [القاضي] أبو الطيب في باب حد الزنى قولا مخرجا عن ابن سريج: أنه يجوز أيضا. والوجه الثاني: أن شرط ردهن لم يكن جائزا، وعلى هذا فوجهان: أحدهما: أنه – عليه الصلاة والسلام – سها في اجتهاده، فبين الله – تعالى – له الحكم، ولم يقره على خلافه، ومثل ذلك يجوز على الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام. قال القاضي الحسين: ودليله: قوله – تعالى - {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] [إلى قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}]، وقع السهو لداود؛ فنبهه سليمان، عليهما السلام. والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم علم أن ذلك [غير] جائز بالاختيار، لكن دعت ضرورة الوقت إليه؛ لأنه – عليه السلام – كان في ألف وأربعمائة من أصحابه، وكان المشركون نحو أربعة آلاف؛ فلذلك فعله، وقد يفعل في الاضطرار ما لا يجوز فعله في الاختيار، فلما زالت الضرورة منع [منه]. قال: فإن جاء زوجها، أي: أو من يقوم مقامه من وكيل أو وارث، يطلب ما دفع إليها من الصداق – ففيه قولان: أحدهما: يجب [رده]؛ لأنه لا يختلف مذهب الشافعي – رضي الله عنه – أنه كان يجب بذله على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {وَءاتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] وإذا كان كذلك وجب على الأئمة بعده. كذا قاله أبو الطيب والبندنيجي، ولأن الهدنة تقتضي الكف عن أموالهم، وبضع المرأة كمال له، وإذا لم يمكن رده عليه رد [عليه] بدله. والثاني: لا يجب؛ لأن بضع المرأة ليس بمال حتى يدخل في الأمان، ألا

ترى أن الرجل إذا عقد له الأمان، دخلت فيه أمواله، ولا تدخل [فيه] زوجته؟! كذا قاله أبو الطيب وابن الصباغ، ولأنه لو وجب رد بدله [لكان] مهر المثل دون المسمى؛ لأن هذا لأجل الحيلولة. ولما لم يجب مهر المثل، لم يجب المسمى، وهذا مختار الشافعي [و] المزني؛ كما قاله البندنيجي، وابن الصباغ وصححه، وكذلك أبو الطيب والماوردي. وأبدى [الماوردي] لنفسه احتمالا على القول [الأول]: أنه ينبغي أن يجب أقل الأمرين مما دفعه، أو مهر المثل. وقد بنى طائفة -[و] منهم الماوردي والبندنيجي والقاضي الحسين والفوراني – القولين على القولين – في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل كان قد شرط في صلح قريش رد النساء أم لا؟ فإن بالشرط، [إنه كان قد] شرط، لم يجب المهر بعده؛ لأن الرد وجب عليه بالشرط، ومن بعده من الأئمة [لا] يجوز له الشرط. وإن قلنا: [إنه] لم يشرط؛ وجب رد المهر على من بعده من [الأئمة]؛ عملا بالآية. والقولان [يجريان] عند العراقيين وصاحب "القريب" والمحققين في حالة إطلاق عقد الهدمة من غير شرط. قال الإمام: وذهبت طائفة إلى الجزم بعد الوجوب في هذه الحالة، وخصوا محل القولين بما إذا شرط في العقد رد من [جاء] منهم مسلما؛ فإن النساء لا يدخلن فيه، ولا يفسد العقد به، وإن اعتقد الكفار دخولهن فيه. ووجه الغرم ما سنذكره، قال الرافعي: [وقد] يرتب، فيقال: إن أوجبناه عند

الإطلاق فهاهنا أولى، وإلا فقولان. والفرق: أن هذا الإطلاق يوهم الدخول؛ فيكون كالتغرير، والتغرير من أسباب الضمان. وإن شرط رد النساء، فقد ذكرنا أن الشرط فاسد، وفي فساد العقد خلاف، فإن صححناه جرى القولان، ولا يجب شيء بالاتفاق في حالة اشتراط عدم رد من جاء منهم، أو من النساء خاصة. وما ذكرناه من الخلاف في الغرم في صورة الكتاب يجري فيما إذا جاءت كافرة، ثم أسلمت عندنا. وفي كلام الإمام إشارة إلى أنا إذا أوجبنا الغرم في صورة الكتاب، فهاهنا خلاف، والأصح: أنا نغرم – أيضا – ولا يفهم ما حكيته عنه من كلامه إلا من طالع أوله. تنبيه: كلام الشيخ مصرح بأن الذي يطلبه الزوج القدر المدفوع، وأنه الذي يدفع إليه على أحد القولين، ولو صح ذلك للزم منه أن تكون هي الغارمة؛ ثم حينئذ يجب أن يقال: إن كان الإسلام بعد الدخول فلا غرم عليها قولا واحدا، وإن كان قبله وجب قولا واحدا؛ كأهل الحرب. وليس الأمر كما أفهمه صريح كلامه، واللازم عليه – بل المذكور في طرق الأصحاب – تصوير المسألة بما إذا طلب الزوج الزوجة، وأن الواجب بذل المدفوع إن كان متمولا عندنا، دون ما ليس بممول كالخمر ونحوه – فإنه [لا] يجب غرم شيء في مقابلته اتفاقا – وأن المدفوع يكون من سهم المصالح. وطريق الجواب عن تصوير المسألة بما ذكره: أن فائدة الطلب الرجوع بالمدفوع؛ فلذلك عبر عن طلب الزوجة بطلبه؛ ولأن فيه تنبيها على أن دفع ما دفعه لا يكون إلا بعد طلبه له، وطلبه يستلزم أن يكون قد طلبها أولا؛ لأن دفع المدفوع فرع المنع لها منه، فكان هذا اللفظ أولى مما ذكره غيره؛ لأن ذلك يفهم أنه بمجرد طلبها والمنع منه، يدفع إليه بدل الذي دفعه، وليس كذلك.

وسيظهر لك عند الكلام فيما إذا كان زوجها عبدا. والجواب عن الآخر: أنه رام في العبارة القرب مما ورد في الكتاب العزيز، [وهو قوله تعالى {وَءاتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} وعدل عن عبارة الكتاب العزيز؛] [لأنها تدخل] بعمومها ما أنفق لغير الصداق من عرس وهدية وكرامة، وليس مرجوعا به عندنا اتفاقا؛ كما نقله أهل الطريقين وعزاه البندنيجي إلى نصه في "الأم"، و"من" [في] قوله: من الصداق: لبيان الجنس، لا للتبعيض، وفائدتها: الاحتراز عما ذكرناه. على أنه حكى وجه عن رواية ابن كج: أن المرأة إن كان لها مال، أخذ منها؛ فعلى هذا يظهر أن يقال: إن كان ما دفعه في يدها يرد إليه، [وحينئذ] فيحتمل أن يكون [الشيخ] فرع عليه، لكن الصحيح المشهور: الأول. واحترز بلفظ "الزوج" عما إذا جاء غيره من أقاربها؛ فإنه لا يدفع إليه شيء بالاتفاق؛ لأن المدفوع عوض [عن] الإحالة بينه وبين ما عتقد ملكه، ولا ملك للأقارب عليها نعم، لو جاءت كافرة، وجاء أحد من أقاربها [في طلبها]، ولم تسلم – سلمت إليه. واحترز به – أيضا – عما إذا داء بعد بينونتها منه بالطلاق الثلاث أو بخلع أو بانقضاء العدة منه بعد الإسلام؛ لأن لفظ "الزوجية" لا يصدق عليه في هذه الأحوال بزعمه، وقد صرح بالجزم بعدم الاستحقاق عند الطلب بعد الطلاق الثلاث والخلع: الماوردي [والبندنيجي والقاضي الحسين، وبعدمه في الحالة الأخرى: الماوردي والرافعي]، وقال: إن شرط الاستحقاق على القول به أن يقع الطلب في العدة، وقضية ذلك: أن الإسلام إذا كان قبل الدخول ألا يستحق الزوج عند مجيئه وطلبه شيئا قولا وحدا، وهو ما أورده القاضي أبو الطيب في "تعليقه" عند الكلام فيما إذا أسلمت [أمة] منهم وجاءتنا، كما سنذكر لفظه فيه، وحكاه ابن

الصباغ عنه ثم، وسنذكر من نص الشافعي – رضي الله عنه – ما يعضده. والذي جزم به [الإمام] في أثناء الفروع جريان القولين فيها أيضا، وكذلك ابن الصباغ حكاه في صدر الفصل، وصحح هذه الطريقة، وحكي عن بعض الأصحاب طريقة أخرى قاطعة برد المهر؛ لأن المرأة إذا أسلمت تحت الكافر قبل الدخول سقط مهرها، ثم قال: وهذا سهو من هذا القائل؛ لأن كلامنا في رد الإمام المهر من سهم المصالح، فأما المرأة فلا يجب عليها ما غلبت الكفار عليه؛ كما لو كانت أمة فجاءت مسلمة حكمنا بحريتها. وهذا الطريق الأخير هو الذي أورده القاضي أبو الطيب في صدر المسألة، وهو الذي يظهر صحته؛ لأنا قد ذكرنا الصداق ونكاح المشركات: أن المرأة إذا أسلمت قبل الدخول سقط [مهرها] على الصحيح من غير فرق بين أن يكون الزوجان حربيين أو ذميين أو أحدهما حربيا والآخر ذميا، وإذا كان الإسلام يسقط فمصيرها إلى دار الإسلام يمنع الإسقاط؛ لأنه إنما يرتد للزوج بعد الإسلام؛ لأن الإسلام ينفسخ [به] النكاح، وإذا انفسخ ارتد إذ ذاك، وهي في حالة الإسلام ممنوعة من أخذ أموال أهل الهدنة كغيرها؛ كما سنذكره؛ فوجب عليها الرد، وسنذكر من كلام الماوردي ما يؤيده، والله أعلم. ثم قضية الطريق التي صححها ابن الصباغ: أن يجري فيما إذا تأخر الطلب بعد إسلامها إلى أن انقضت العدة؛ لأن النكاح يزول [بهما على حد] سواء؛ وحينئذ فيكون الفارق بينهما وبين ما إذا طلق ثلاثا أو خلعا: أن ذلك إذا صدر [منه دل على إعراضه عنها؛ فسقط حقه به، بخلاف ما إذا صدر الإسلام] قبل الدخول أو بعده، ولم يتفق الطلب حتى انقضت العدة؛ لأنه لم يصدر من جهته ما يدل على الإعراض، ولو حصل الطلب في العدة بسبب

إسلامها أو قبل الطلاق، ثم انقضت العدة على رأي من اعتبرها، أو حصل الطلاق البائن قبل الدفع – لم يسقط. قال الماوردي: لأنه استحق بالطلب فلا يسقط بالطلاق وغيره، ولو طلقها [طلقة رجعية [فهي زوجة في كتاب الله تعالى. وقضيته: أن يندرج في كلام الشيخ، فيعطى إذا طلب قبل انقضاء العدة. وقد قال الشافعي – رضي الله عنه – كما حكاه القاضي الحسين: لا يعطيه حتى يراجعها [ثم يطلبها]. فمن أصحابنا من قال: معناه: راجعها قبل أن تسلم هي، فأما بعد ما أسلمت فلا معنى لرجعته إياها؛ لأنها مسلمة وهو مشرك. وعبر الإمام عن هذا بأنه يستحق الغرم وإن لم يراجع؛ لأن الرجعة فاسدة فلا معنى لاشتراطها، وجعله قولا منسوبا إلى تخريج المحققين، وارتضاه أيضا. وقال القاضي: الصحيح غير هذا فمتى راجع استحق، ومعنى الرجعة لبس يراد للصحة، ولكن يستدل بها على مقامه على إمساكها وطلبه إياها، ولولا منعنا عنه بإسلامها لكانت عنده متى راجعها فقد وجع المنع؛ [فيجب رد] العوض. وهذا ما أورده الماوردي وأبو الطيب وابن الصباغ. واحترز بلفظ "ما دفع لها" عن الرجوع بما لم يدفعه، وهو: إما كل الصداق أو بعضه، ولذلك حالتان: إحداهما: أن يكون باقيا في ذمته، ولا خلاف أنه لا يرجع في هذه الحالة بشيء. والثانية: أن تكون [قد] أبرأته منه، أو وهبته منه بعد قبضه، فالحكم في الرجوع إذا فرعنا على القول به في حالة القبض كالحكم فيما إذا طلق المسلمة بعد الإبراء أو الهبة. وقد ذكرناه، صرح به القاضي الحسين والإمام وغيرهما. لكن في قول الشيخ: [لها]، ما يشعر بتصوير المسألة بما إذا كانت حرة؛

فإن الدفع لها إنما يكون في حال حريتها، والأمة يكون الدفع لسيدها، وقد قال الأصحاب: إنه لا فرق فيما ذكرناه بالنسبة إلى المدفوع بين الحرة والأمة، ولا بين أن يكون زوجها حرا أو عبدا. نعم، يختلف الحكم في أمرين: أحدهما: أن محل الاتفاق على الغرم على القول به إذا جاء السيد والزوج في طلبها، أما إذا جاء أحدهما فقد حكى الإمام ومن تبعه ثلاثة أوجه: أحدهما: لا نغرم له شيئا؛ لأن حق الرد مشترك بينهما؛ فلم يتم الطلب، ولم يورد الفوراني سواه. وأصحها: [أنا نغرم] [في] حق الطالب. والثالث – واختاره صاحب "التقريب" أنا [نغرم للسيد] إن انفرد بالطلب، ولا نغرم للزوج إن انفراد، والفرق: أن حق اليد في الأزمة المزوجة للسيد؛ ألا ترى أن له أن يسافر بها؟! وإذا لم ينفرد الزوج باليد لم يؤثر طلبه على الانفراد. الثاني: إذا كان الزوج عبدا فلها خيار الفسخ إذا عتقت كما سنذكره، فإن فسخت النكاح لم تغرم المهر؛ لأن الحيلولة حصلت بالفسخ، كذا جزم به الرافعي. وقضية ما ذكرناه في إسلامها قبل الدخول أن يجري القولان هنا أيضا. وإن لم تفسخ توقف الدفع على القول به على حضوره وطلبها، وحضور سيده وطلب المهر، فإن حضر أحدهما لم يدفع إليه. قاله البندنيجي وابن الصباغ والماوردي والفوراني وغيرهم. ولو لم تكن الأمة الحاضرة مسلمة مزوجة فقد قال البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين والفوراني: أنها تصير حرة؛ لأنها غلبت سيدها على نفسها، فإذا جاء سيدها يطلبها لم ترد إليه، وهل ترد إليه قيمتها لا ما اشتراها به؟ فيه قولان، المذكور منهما في "تعليق" القاضي أبي الطيب: المنع، وهو الذي صححه المصنف في "المهذب"؛ لأن الحيلولة ليست للإسلام فقط، وإنما وجبت الحيلولة؛ لأن ملكه قد زال عنها وصارت أجنبية منه لا حق له عليها في الحال؛

فهو بمنزلة ما لو أسلمت امرأة قبل الدخول بها ثم جاء زوجها يطلبها أو يطلب مهرها – لم يكن له؛ لأن الحيلولة [وقعت بالبينونة؛ لاختلاف الدين، وليست [الحيلولة]] لأجل الإسلام فقط، قال ابن الصباغ: والصحيح مقابله، وهو المختار في "المرشد". والذي حكاه الماوردي: أنها إن قهرت مولاها على نفسها قبل الإسلام [أو بعده وقبل الهدنة فالأمر كذلك، وإن كان ذلك بعد الإسلام] والهدنة فلا تعتق؛ لحظر أموالهم بعدها فلا يملكها مسلم بالغلبة، وتكون [على] ملك سيدها، لكن [تمنع منه و] يقال: إن أعتقها كان الولاء لك، فإن امتنع كان الإمام مخيرا بين أن يبيعها لمسلم أو يدفع للسيد قيمتها من بيت المال، ويعتقها على كافة المسلمين، وولاؤها لهم. قلت: والذي يقتضيه القياس عند امتناعه من العتق أن يؤمر بنقلها عن ملكه ببيع أو هبة؛ كالأمة إذا أسلمت في يد كافر [لا أن] الإمام يتملكها [عليه] قهرا، وقد أشار إلى ذلك صاحب "البيان" من عند نفسه. وفي "المهذب" حكاية التفصيل المذكور في العتق وعدمه، وقال: إنا إذا حكمنا برقها، فجاء مولاها يطلبها – لم ترد إليه، فإن طلب قيمتها دفعت إليه كما لو غضب منه مال وأتلف. قال الرافعي: [ومن أطلق الحكم بالعتق له أن يقول به وإن أسلمت ثم فارقت؛ لأن الهدنة جرت معنا، ولم تجر معها]، [وتكون كمن جاءنا مسلما ورددناه أن له التعرض لهم].

قلت: وهذا فيه نظر؛ لأنهم بطلبه ناقضون للعهد معه؛ لأنهم يطلبونه بغير حق؛ فلذلك يسلط عليهم، وصار هكذا كما نقول في الأسير: إذا أمنه أهل الحرب على أنهم في أمان منه، فإنه لا يجوز له اغتيالهم ولا أخذ شيء من أموالهم، فإذا خرج إلى دار الإسلام فتبعه أحدهم ليرده، كان له اغتياله كما صرح به العراقيون والمراوزة في كتاب السير؛ لأنه بطلبه ناقص للإمان؛ لكونه بغير حق، ومما يؤيد ذلك: أن من جاء منهم ولم يطلبوه لم يجز [له أن يغتالهم]، وكان في معاملته لهم كغيره من المسلمين. صرح به الإمام وادعي أنه لا خلاف فيه، وهاهنا لما [أن] أسلمت قبل الخروج، لم يزل ملك الكافر عنها؛ فلزمها بمقتضى ما قررناه حكم الإسلام، فإذا حضرت [إلينا]، فجاء سيدها يطلبها – لم يكن طلبه بغير حق؛ فانقطع الإلحاق، والله أعلم. وحكم أم [الولد] إذا جاءتنا بالنسبة إلى العتق واستحقاق القيمة [حكم الأمة، قاله الماوردي، وقال: إن المكاتبة في العتق وعدمه كذلك، فإن حكمنا بعتقها] فالحكم كما في الأمة، وإلا فكتابها باقية، ولا [تباع عليه]، فإن أدت مال كتابتها عتقت بالكتابة، وكان الولاء له، وإن عجزت ورقت حوسب من قيمتها بما أخذه من مال كتابتها بعد إسلامها، دون ما أخذه قبل إسلامها، فإن بلغ قدر المحسوب عليه القيمة أو أكثر، فقد استوفى حقه، ولا يرجع عليه بالفاضل، وعتقت، وكان ولاؤها للمسلمين، هل ترد عليهم من بيت المال؟ فيه قولان: أحدهما: لا: إذا قيل: إن سيد الأمة لا يستحقه. والثاني: يرد: إذا قيل: إن سيد الأمة يستحقه.

وحكم العبد إذا جاءنا مسلما حكم الأمة إذا جاءت مسلمة عند الفوراني والماوردي وغيرهما، من غير فصل بينهما، فمن فصل في الأمة فصل فيه، ومن أطلق القولين في الأمة أطلقهما [في العبد]. وحكى الإمام في وجوب رد العبد وجهين: أصحهما – وهو الذي يوج للمعظم -: المنع؛ كما في الحر الذي لا عشيرة له؛ [لأنه جاء مسلما مراغما لهم، والظاهر: أنهم يسترقونه ويستهينونه، ولا عشيرة له تحميه]. والثاني: يرد، والمنع في حق النساء لخوف الفاحشة، وعلى هذا فيكون المعنى بالرد: التمكين منه، كما تقدم في الحر. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمورا أخر: أحدهما: أنه لا فرق بين أن تكون الزوجة حال الطلب حية أم لا، وقد قال الأصحاب: إنها لو كنت ميتة فلا تستحق قولا واحدا [إذ لا منع]، وكذا لو مات الزوج قبل الطلب لا يستحق ورثته شيئا لم ذكرناه. نعم، لو ماتت أو مات بعد الطلب استحق، ويدفع في الصورة الثانية إلى ورثته، وحكم القتل قبل الطلب حكم الموت. وحكى الإمام فيما إذا حصل بعده: أن الغرم يجب على القاتل؛ لأنه المانع بالقتل. ثم رأى [الإمام] أن يفصل فيقال: إن قتلها على الاتصال بالطلب فالحكم ما ذكروه، وإن تأخر القتل فقد استقر الغرم عليها بالمنع؛ فلا أثر للقتل بعده. قلت: وهذا الذي ذكره يشبه طريقة ذكرتها فيما إذا قتلت أم الولد

عقيب الجناية: أن السيد لا يغرم؛ فإنه لا حيلولة [له]. ولو جرحها جارح قبل الطلب، ثم طلبها الزوج، وقد انتهت إلى حركة المذبوحين – لم يرجع، وإن بقيت فيها حياة مستقرة فالغرم على الجارح، أو في بيت المال؟ فيه وجهان، أصحهما: الثاني في "النهاية" و"الرافعي" الأمر الثاني: أنه لا فرق مع بقائها عند الطلب [بين] أن تكون باقية على الإسلام أو مرتدة. وقد حكى الأصحاب في حال ارتدادها [أنها] تمنع منهم، وفي الاستحقاق إذا قيل به في حالة الإسلام وجهان، أصحهما في "النهاية" و"الحاوي" و"الرافعي": نعم، وهو المجزوم به في "الشامل"؛ لأن فرج المرتدة محظور على الكافر كالمسلم، وكلام الإمام مصرح بأن محل الوجهين فيما إذا أسلمت، ثم ارتدت والتحقت بنا مرتدة. الثالث: أنه لا فرق بين أن يكون الزوج حال الطلب مسلما أو كافرا، و [قد] قال الأصحاب: إنه إذا كان مسلما لم يستحق وجها واحدا؛ لأنا [قد] بينا أن الاستحقاق إنما يثبت [لأجل شبهة ملكه] إذا كان الطلب في العدة، وإسلامه وهي في العدة يستمر به النكاح؛ فلا يستحق معه شيئا، وإن كان الإسلام قبل الدخول فلا يستحق أيضا؛ لأنها بانت بالإسلام. كذا نص عليه [الشافعي] في "الأم"، كما نقله ابن الصباغ، وهو الذي وعدت بذكره في نصرة قول القاضي أبي الطيب، لكن ابن الصباغ استشعره فقال: وإنما قلنا: لا يجب إذا أسلم الزوج – يعني قبل الدخول – لأنه التزم أحكام الإسلام.

نعم، لو طلب وهو كافر ثم أسلم بعد انقضاء العدة، فهل يستحق؟ فيه وجهان في "الحاوي". وجه الاستحقاق: القياس عل ما إذا كان قد قبض قبل الإسلام والصورة هذه؛ فإنه لا يسترجع منه [وجها] واحدا. ووجه المنع – وهو المنسوب لأبي إسحاق في "الشامل"-: يمكنه من نكاحها إن أحب. الرابع: أنه لا فرق بين أن يكون البلد الذي هاجرت [إليه فيه الإمام أو نائبه أو لا، وقد قال الأصحاب: إنها إذا هاجرت] إلى بلد غير الإمام [أو نائبه] لا يستحق وجها واحدا، مع الجزم بوجوب المنع كما ذكره ابن الصباغ؛ لأن المدفوع – كما ذكرناه – من سهم المصالح، ولا تصرف لغير الإمام ونائبه [فيه، وأن محل الخلاف فيما إذا هاجرت إلى بلد الإمام أو نائبه]، واستمرت فيه إلى حين الطلب، حتى لو خرجت منه قبل الطلب لم يجب الغرم – أيضا – كما قاله القاضي الحسين. ثم ما المراد بالنائب المذكور؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي، وتبعه الروياني: أحدهما: أنه النائب عنه في عقد الهدنة بمباشرته لها. والثاني: النائب في بيت المال. قال الرافعي: والأحسن ما قاله صاحب "التهذيب" وغيره، وهو أنه [إن] قال عند الهدنة: من جاءني منكم مسلما رددته، لم يلزمه شيء إذا جاءت لغير بلده، وإن قال: من جاء [من] المسلمين، أو: من جاءنا – وجب الغرم، وهذا [وهو] الذي حكاه الفوراني. وحكى الإمام فيما إذا كان قد قال: من جاءني، وجاءت إلى طرف من أطراف بلاد الإسلام – وجهين في الغرم. نعم، لو جاءت إلى [بلد من] بلاد البغاة الخارجين عن حكم الإمام فلا يلزمه جزما،

وكذلك [الحكم] [فيما] إذا كان قد قال: من جاءنا. فروع: إذا جاءت الصغيرة وقد أظهرت الإسلام، فالمذهب – كما تقدم -: أنا [لا] نحكم به، ولا ترد إليهم، وهل يدفع إليه مهرها على القول به؟ فيه قولان في "الشامل" و"تعليق" البندنيجي، ووجهان في غيرهما: أحدهما: لا؛ كما لو جاءت مجنونة، ولم ندر هل أسلمت أم لا؟ فإنه يوقف أمرها ولا ترد إليهم إلى الإفاقة، فإن أعربت بالإسلام لم يخف الحكم، وإن أعربت بالكفر ردت إليهم، وهذا ما صححه الروياني والبغوي وغيرهما كما قال الرافعي. والثاني: يصرف إليه، وهو الذي أورده الفوراني و [الغزالي] في "الوجيز"، والفرق بينهما وبين المجنونة: [أن المجنونة] منعنا منها للشك في إسلامها، والصغيرة منعنا منها لوصفها الإسلام. وفي "النهاية" وجه: أن الصغيرة ترد؛ لأن ما جاءت [به] ليس بإسلام، ولو وصفت [المجنونة] الإسلام، قال الماوردي: فهي كالصغيرة. والذي أجاب به الشيخ أبو حامد: أنه يحال بينهما، ولا يدفع إليه شيء حتى يتبين حالها. ولا خلاف أنها لو وصفته قبل الجنون دفع إليه [على] القول بوجوب الدفع. إذا جاءت إلينا عشر زوجات لواحد منهم قد نكحهن في الشرك، قيل له: اختر من جميعهن أربعا، ولك ما دفعته لهن، على القول بوجوب الدفع، ولا شيء لك فيما عداهن؛ لاستقرار الشرع على تجريم من زاد على الأربع، حكاه الماوردي، وتبعه الروياني.

إذا ادعى الطالب الزوجية وأنكرتها، قال الماوردي وابن الصباغ: لم تقبل دعواه إلا بشاهدين من عدول المسلمين يشهدان بنكاحه. و [هذا يدل] على عدم توجه اليمين عليها، وقد صرح أبو الطيب والبندنيجي بحلفها، ولو ادعى إقباضها الصداق، وكذبته – فكذلك القول قولها، ولا يمين عليها، كما قاله الماوردي وتبعه الروياني؛ لأن رده مستحق على غيرها، وطولب الزوج بالبينة، ويكفيه شاهد ويمين أو شاهد وامرأتان، وفي "الشامل": أن قولها مقبول باليمين. وعن "تعليق" الشيخ أبي حامد: أنهما إذا اختلفا يفحص الإمام عن مهر مثلها، وقد تمكنه معرفته من تجار المسلمين الذي دخلوا دار الحرب [أو من] الأسرى، ثم يحلف الرجل: إنه أصدقها [ذلك القدر] وتسلمته، ولو صدقته على النكاح والقبض ثبت الغرم حيث بينته – صرح به الماوردي والبندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ – لعسر إقامة البينة على ما يجري بين الكفار. ورأى الإمام ألا يعتمد قولها، ولا يجعل حجة علينا. قال: وإن تحاكموا إلينا لم يجب الحكم بينهم؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]، وقد ذكرنا أنها نزلت في يهود المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هادنهم بغير عوض، ويقال: إنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، ويشهد له قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43]؛ ولأن المشروط معهم الكف عنهم دون الدفع؛ فكان عدم الوجوب من مقتضى الشرط، بخلاف أهل الذمة؛ فإن عقدهم اقتضى الذب عنهم. وعلى هذا: لو ترافعوا إلينا، فاختار الحاكم أن يحكم بينهم – كانوا مخيرين بين التزام حكمه بعد الحكم وبين رده، سواء في ذلك حقوق الله – تعالى – وحقوق الآدميين، صرح به الماوردي في باب حد الذميين، ولا فرق في ذلك بين أن [تختلف ملتهما أو تتفق].

وحكى الإمام عن طوائف من المحققين أنه يجب الحكم في الحالة الأولى، وعن بعض الأصحاب: أنا إنا قلنا في الذميين المختلفي الملة قولا واحدا: [إنه يجب الحكم] ففي المعاهدين المختلفي الملة قولان. قال: وهذا عندي ذهول عن حقيقة العهد؛ فإنا [لم نلتزم] لهم الذب [عنهم]. نعم، ما حكيناه عن المحققين محمول على أصل، وهو أن طائفة من أهل العهد إذا دخلوا دارنا، ثم بارزوا، وأخذوا [يصطدمون ويتجالدون] بالسيوف – فهل يجوز تركهم على هذه الحالة؟ الذي ذهب إليه أهل الايالة: أنه لا يجوز، لما فيه من جهر الفساد، فعلى هذا ينبني قول المحققين؛ حتى لا يؤدي إلى المحذور الذي أشرنا إليه، والمذهب عندي: القطع بأنه لا يجب الحكم وإن اختلفوا ملتهم. ولا خلاف في أنهم إذا تحاكموا مع المسلمين وجب الحكم، ولو تحاكموا مع أهل الذمة ففيه طرق تقدمة في الباب قبله. قال: وإن خيف منهم نقض العهد جاز أن ينبذ إليهم [عهدهم]؛ لقوله تعالى: [{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}] الآية [الأنفال: 58]، والخوف المؤثر هو الحاصل عن سبب ودلالة على الخيانة في الباطن بما لو أظهره لانتقض به العهد، كما نقله الماوردي، ومثله [البندنيجي]؛ بأن يعين على المسلمين، أو يتجسس للمشركين. وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما: لا تعويل على حديث النفس والخاطر، وقد عزي إلى النص في "الأم"، والفرق بين أهل العهد والذمة: أن عقد الهدنة للمسلمين؛ بدليل عدم وجوبه، [ومن جملة النظر لهم نقضه عند خوف النقض. وعقد الذمة لأهل الذمة بدليل وجوبه] فلا ينقض بالوهم، ولأن

عقد الهدنة عقد أمان؛ فجاز نقضها بالخوف، والذمة عقد معاوضة؛ فلا يجوز نقضها بالخوف، ولأن عقد الذمة أقوى بدليل تأبيدها. وعن أبي الحسين بن القطان رواية قول أنه لا ينبذ بدلالة الخيانة كما في أهل الذمة. والصحيح الأول. ولا بد في نقض العهد في هذه الحالة من حكم الحاكم بالنقض؛ لأنه يحتاج إلى اجتهاد ونظر. وعن الشيخ أبي حامد: أنه ينتقض بنفس خوف الخيانة. والمنصوص الصحيح: الأول. وإذا حكم به ردهم [إلى مأمنهم] بعد استيفاء ما وجب عليهم من حقوق الله – تعالى – وعباده إن كانت، وهذا بخلاف ما لو صدر منهم ما يقتضي نقض العهد كقتل مسلم، أو أخذ ماله، أو تظاهر بالقتال، أو بعذر الإسلام، أو بسب النبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن، كما قاله الماوردي، وكذا كل ما يضر بالمسلمين مما ذكرناه في باب عقد الذمة، وإن لم تنتقض به الذمة – كما صرح به الإمام – فإنه لا يحتاج إلى الحكم فيه؛ لظهوره، ولا يبلغهم المأمن، بل هم أهل حرب بفعل ذلك، كما قاله الماوردي [وغيره]؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} الآية [التوبة: 12]. وفي "النهاية" حكاية وجه: أنهم إذا لم يعلموا أن ذلك ينقض العهد، فلا يغتالهم قبل تعريفهم أنه انتقض. وقال الرافعي: إن محل اغتيالهم إذا نقضوا العهد إذا كانوا في بلادهم، [فأما من دخل] دارنا بأمان أو عهد، فلا يغتال وإن انتقض عهده، بل [يبلغ إلى مأمنه]، كذلك نقله القاضيان ابن كج والروياني وغيرهما.

ولا يشترط في هذا أن يصدر الفعل من الكل، بل لو [فعله البعض] ولم ينكره الباقون، انتقض عهد الجميع، بخلاف أهل الذمة، كما تقدم. ويدل عليه: أنه صلى الله عليه وسلم لما هادن يهود بني قريظة، أعان بعضهم أبا سفيان بن حرب [على حرب] النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق، وقيل: [إن] الذين أعانوه: حيي بن أخطب وأخوه وآخر؛ فنقض به عهدهم، وغزاهم حتى قتل رجالهم إلا ابني سعية: أسيد وثعلبة، وسبى ذراريهم. وكذلك لما عقدت الهدنة بينه وبين أهل مكة عام الحديبية كانت خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم داخلين معه في الهدنة، [وبنو بكر حلفاء قريش داخلون معهم في الهدنة]، فقتل بعض بكر رجلا من خزاعة، وآوى بعض أهل مكة القاتل، ولم ينكر الباقون على من فعل ذلك؛ فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان الفتح. ولأن عقد الهدنة يتم بعقد بعض المشركين ورضا الباقين، ويكون السكوت رضا بذلك؛ فوجب أن يكون النقض مثله. أما إذا أنكر من لم يفعل على الفاعلين بقول أو فعل، أو اعتزلوهم، أو كاتبوا الإمام بصنيعهم، وأنهم باقون معه على العهد – لم ينتقض إلا عهد الناقضين؛ قال الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} الآية [الأنعام: 44]. ثم إن كانوا متميزين عنهم، وإلا أمرهم أن يتميزوا، والقول قول من ادعى عدم الرضا، كما قاله أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، فإن لم يتميزوا مع القدرة، قال الماوردي: صار الكل ناقضين للعهد. قال الرافعي: ووراء ذلك شيئان مستغربان: أحدهما: قال الإمام: لو بدت خيانة من بعضهم، وسكت الآخرون، ولم ينكروا – كان للإمام أن ينبذ إليهم، وهكذا كان قضية أهل مكة. والثاني: [أنه] في كتاب ابن كج: أنه لو نقض السوقة العهد، ولم يعلم

الرئيس والأشراف بذلك – ففي انتقاض العهد في حق السوقة وجهان عن رواية أبي الحسين: وجه المنع: أنه لا اعتبار بعقدهم؛ فكذا [في النقض]، فلو نقض الرئيس وامتنع الأتباع وأنكروا، ففي الانتقاض في حقهم قولان. وجه الانتقاض: أنه لم يبق العهد في حق المتبوع، فلا يبقى في حق التابع. تنبيه: في قول الشيخ: وإن خيف منهم ... إلى آخره، ما يعرفك أن العقد لازم قبل ذلك، وقد صرح به الأصحاب، واستدلوا له بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 44]، [وقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]]، وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون عند شروطهم"، والمعنى فيه ظاهر. قال الأصحاب: ولا فرق بين أن يعقد في حالة الضعف المدة الطويلة، ثم يقوى، أم لا، وأنه لا يختلف ذلك [ببقاء] الإمام أو عزله وولاية غيره. نعم، إذا ولي غيره فرأى [أن] العقد فاسد، قال في "البحر": نظر: فإن كان [فاسدا] بنص أو إجماع انتقض، وإن كان باجتهاد فلا. فرع: إذا نقضوا العهد، ثم أتلفوا شيئا في حالة قتالهم، ثم ظهر الإمام عليهم – ففي المسألة قولان نقلهما القاضي الحسين: [أحدهما]: أنهم يؤخذون بضمانة قبل التوبة وبعدها. والثاني: لا يؤخذون بشيء إلا أن [يوجد مال [رجل بعينه فيرد؛ لأنهم فعلوا في حال الامتناع ونقض العهد. قال: وإن دخل حربي إلى دار الإسلام من غير أمان، جاز قتله واسترقاقه؛ لأنه كافر قدر الله المسلمين عليه، فجاز قتله واسترقاقه، وكذا المن

عليه والفداء كما في الأسير. نعم، حكمه مخالف للأسير في أمور: أحدها: أنه لو أسلم قبل أن يختار الإمام واحدة من الخصال، سقط عنه الكل، كما أشار إليه الأصحاب في السير، وهو قضية ما نورده عن الرافعي من بعد، والأسير لم أسلم [لم يسقطن] كما تقدم. الثاني: أنه لو ادعى أنه دخل دار الإسلام بأمان واحد من المسلمين وصدقه ذلك الواحد، رجع إلى قوله، وإن كذبه. كان الداخل مغنوما، وإن كان من ادعى أمانة غائبا، فهل يقبل قوله؟ فيه وجهان في "الحاوي"، والمنصوص منهما – كما حكاه البندنيجي، وبه جزم الماوردي في السير -: القبول، ورجحه العمراني والروياني. والأسير لو ادعى ذلك بعد الأسر، لم يقبل منه جزما إلا ببينة تشهد به، وهي رجلان عدلان؛ لأنه يسقط بها [عن نفسه القتل، ويقبل فيها رجل وامرأتان إذا كان ذلك بعد الإسلام؛ لأنه يسقط] بها الرق، ولا يكفيه تصديق من ادعى أنه أمنه، كما ذكره البندنيجي وأبو الطيب [وغيرهما] في [كتاب] السير. الثالث: لو أنه بذل الجزية، وكان ممن يجوز عقدها له، فهل يكون ذلك مانعا من استرقاقه وقتله؟ فيه وجهان مرتبان على القولين اللذين ذكرناهما في الأسير، وهاهنا أولى بالعصمة. قال الشيخ أبو محمد: والفرق: أنا لم نقصد أسره، وإنما وقع في القبضة اتفاقا. وعن القاضي ابن كج: أنه ذكر في موضع من كتابه أنه تقبل منه الجزية، ولا يجوز استرقاقه، وفي موضع [آخر]: أن الإمام [فيه بالخيار] بين أن يسترقه وبين أن يقرره بالجزية. قال: وكان ماله فيئا؛ لأنه حصل بغير قتال. وهذا إذا قبله الإمام أو استرقه، أما لو رأى الإمام أن يمن عليه ويرد إليه

أمواله ويخلي ذريته؛ فله ذلك، بخلاف سبايا أهل الحرب؛ لأن الغانمين قد ملكوهم وملكوا الأموال؛ فيحتاج إلى رضاهم، كذا حكاه الرافعي، وهو الذي وعدت بذكره من قبل. تنبيه: الأمان قد تقدم أنه يصح من الإمام ومن نائبه، ومن آحاد المسلمين المكلفين للآحاد، وفي معناه أمور: منها اثنان سنذكرهما. والثالث: إذا دخل لسماع كلام الله – تعالى – أو ليسلم، أو ليبذل الجزية، قال الأصحاب: ويصدق في دعواه تلك، ولا يتعرض له؛ لظاهر الآية، ويجوز تعليمه القرآن إذا رجي إسلامه، ولا يجوز إذا خيف منه الاستخفاف به. وكذا القول في تعليمه الفقه والكلام وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمنع من تعلم الشعر والنحو. قال الروياني: ومنع بعض الفقهاء منه؛ كي لا يتطاولوا به على من لا يحسنه من المسلمين. فرع: إذا دخل [رجل] حربي دارنا، وبقي مدة، ثم اطلعنا عليه – فالذي حكاه الإمام: أنا لا نأخذ منه شيئا [لما مضي؛ لأن عماد الجزية القبول وهذا حربي لم يلتزم شيئا]، وصححه ابن كج، وحكى عن تخريج أبي الحسين وجها آخر: أنه تؤخذ منه الجزية لما مضى. قال: وإن استأذن في الدخول، ورأى الإمام المصلحة في الإذن بأن يدخل بتجارة ينتفع بها المسلمون، أو في أداء رسالة، أو يأخذ من تجارتهم شيئا – جاز أن يأذن له في الدخول؛ تحصيلا للمصلحة المتعلقة به.

واحترز بلفظ "الإمام" في هذا المقام عن آحاد المكلفين المسلمين؛ فإنه لا يجوز إذنه في الدخول بالتجارة والزيارة، كما صرح به الأصحاب، وحكاه ابن الصباغ عن أبي إسحاق في اشتراط العشر بعد الكلام في المسألة بفصول، فلو سمع الكفار واحدا من المسلمين يقول: من دخل تاجرا فهو في أمان، فاعتمدوه – قال الإمام: فلا شك في فساد الأمان، لكن، هل يثبت لهم حكم الأمان إذا ظنوه صحيحا؟ فيه وجهان. واحترز بلفظ "إذا رأى المصلحة" عما إذا لم يكن في الدخول مصلحة؛ فإنه لا يجوز بحال؛ لما فيه من اطلاع للكفار على عورات المسلمين، ونقل الأسلحة للكفار، وعبر عنه الرافعي بأنه لا يجوز من غير حاجة، وكلام الغزالي في السير مصرح بأن المانع من الإذن والأمان حصول المضرة؛ كالجاسوس ونحوه، وأنه لا يشترط في انعقاد الأمان ظهور المصلحة، بل يكفي عدم المضرة. وقال الإمام: إنه إذا أمن [من] في دخوله مضرة ينبغي ألا يستحق التبليغ إلى المأمن؛ لأن دخول مثله خيانة ملجئة إلى أن يغتال. ثم كلام الشيخ يفهم أمورا: أحدها: جواز الإذن في الدخول بتجارة يحتاج إليها المسلمون بغير عوض، وبعوض إذا لم يكن بالمسلمين إليها حاجة، وهذا ما اتفق عليه الأصحاب. لكن في حال عدم الحاجة إليها، هل يجب الشرط كيف كان الأمر، أو يجوز الشرط إذا رأى الإمام فيه المصلحة، ويجوز الترك تغليبا للمصلحة؟ فيه وجهان، حكاهما المراوزة: وأصحهما عند الإمام – وبه جزم القاضي الحسين والبندنيجي – الأول. وأظهرهما في "الرافعي" – وبه جزم أبو الطيب وابن الصباغ والماوردي -: الثاني. وقد تقدم مثلهما في الإذن في دخول الحجاز، قال الرافعي: ويقرب من الوجهين الوجهان في أنه إذا أطلق الإذن [في الدخول] من غير شرط، هل يجب شيء أم لا؟ أو أحد الخلافين [مبني] على الآخر؟ قلت: والأظهر عدم البناء، وقد نبهت عليه في [باب] عقد الذمة. الثاني: أن [المشروط لا يتقدر] بشيء، وقد [صرح به] الأصحاب، وقالوا: يستحب أن يكون العشر؛ اقتداء بعمر – رضي الله عنه – فإنه شرط عليهم العشر، ويجوز أن يزيد عليه إذا كانت بضاعتهم كاسدة في بلادهم نافقة عندنا،

ويجوز أن يقنع منهم به وبما دونه إذا انعكس الحال، ويجوز – كما قال الماوردي-: أن يجعل في صنف العشر، وفي آخر أكثر منه أو أقل، على حسب ما يراه. وحكى الإمام وجها اقتضى إيراده ترجيحه: أنه لا يجوز الزيادة على العشر؛ لأن عمر – رضي الله عنه – شرطه مع ظهور الإسلام والتمكن من الزيادة؛ فدل على أنه الأكثر. والأصح الأول. ثم إذا شرط في الصلح قدرا، قال الماوردي: صار ذلك واجبا في متاجرهم ما أقاموا على صلحهم كالجزية، لا يجوز لغيره من الأئمة نقضه إلى زيادة أو نقصان. الثالث: أن الدخول لأداء رسالة يتوقف على الإذن، وهو ما أفهمه كلام القاضي أبي الطيب والبندنيجي وغيرهما، وكلام غيرهما – ومنهم ابن الصباغ والإمام – يقتضي خلافه؛ حيث قالوا: إذا ادعى الداخل في بلاد الإسلام بغير إذن الرسالة قبل قوله، [ولا يقتل]، وتكون له الرسالة – كما قال الماوردي – أمانا على نفسه وماله، ولا يحتاج معها إلى استئناف أمان. ولا يجوز أن يوظف على الرسول والمستجير [لسماع كلام] الله تعالى [مال]، قال الإمام: لأن لهما الدخول من غير إذن. وزاد الماوردي في موضع آخر، فقال: لو دخل الرسول بمال لا يعشر وإن كان العشر مشروطا؛ لأنه لما تميز عنهم في أمان الرسالة تميز عنهم في تعشير المال؛ تغليبا لنفع الإسلام برسالته. وقد استدل لعدم قتل الرسل بما روى أبو داود عن نعيم -[وهو] ابن مسعود – الأشجعي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لرسولين جاءا من قبل مسيلمة حين قرأ كتاب مسيلمة: "ما تقولان أنتما؟ " قالا: [نقول كما] قال.

قال: أما والله، لولا أن الرسول لا يقتل لضربت أعناقكما. ولا فرق في قبول قوله بين أن يكون [بين يديه] كتاب أو لا، قال الماوردي: إلا أن يعلم كذبه. وللإمام احتمال فيما إذا لم يكن معه كتاب؛ لأن مخايل الرسالة لا تخفى، ويغلب على الظن – والحالة هذه – كذبه، وقد أقامه في "الوسيط" وجها. والصحيح الأول. نعم، إذا اتهمه الإمام حلفه كما حكاه ابن كج عن النص، وفي "الحاوي": أنه لا يلزمه أحلافه على الرسالة؛ لأنه مبلغ، ومت على الرسول إلا البلاغ، وتبعه في ذلك صاحب "البحر" وقال: إن محل ذلك إذا كان في الرسالة مصلحة للمسلمين من صلح يجدد أو هدنة تعقد أو فداء أسراء، وأما إذا [كان] جاء رسولا بوعيد أو تهديد فلا يكون له أمان، ويتخير للإمام فيه بين الخصال الأربع، [وهذا] أحد الأمرين اللذين وعدت بهما من قبل. وثانيهما" قال القاضي الحسين: إذا قال: دخلت لتأخذ مني المال المضروب، ورضيت به – فإنه يؤخذ منه ولا يغنم. وفي كلام الإمام ما ينازع فيه؛ فإنه قال: ولو زعم الكافر أنه ظن التجارة أمانا لم يبال به، واغتيل [وأخذ] ماله، ولا تعويل على ظنه إذا لم يكن [له] مستند. فروع: هل يتكرر المأخوذ بتكرار الدخول؟ الحكم فيه كما إذا تكرر دخول الحربي وغيره الحجاز، وقد تقدم، وكلام الإمام يفهم أن الخلاف في تكرار

الأخذ في بلاد الحجاز لعظم شأنها، أما غيرها فلا يتكرر، والذي صرح به البندنيجي والمصنف وغيرهما: [الأول]. إذا دخل أهل الحرب بالتجارة وقد شرط عليهم العشر، فلم يتفق منهم بيع، فهل يؤخذ منهم المشروط؟ قال القاضي أبو الطيب والمصنف وغيرهما: ينظر: فإن [قال]: أعطيكم عشر الثمن، فلا يؤخذ منه شيء، وإن أطلق قوله وقال: لكم العشر، أو: [لكم] العشر من مالي – كان إطلاقه القول ينصرف إلى المقيد، فإن باع أخذ عشر الثمن، [وإن لم يبع [أخذ عشر الثمن المباع إن أراد الرجوع. وفي "الحاوي": أن العشر إن كان مشروطا في عين المال وجب على كل من حمله إلى بلاد الإسلام من حربي أو ذمي أو مسلم، ولا يمنع الإسلام [من أخذه]، بل يكون [ثمنا ينضاف] إلى الثمن الذي ابتاعه من أهل الحرب، ويكون ما أداه إليهم تسعة أعشار ثمنه أو أربعة أخماسه، وما أداه [إلى] الإمام عشر الثمن أو خمسة. وإن كان العشر مشروطا في ذممهم لأجل المال وعينه، أخذ عشره من الحربي إذا حمله، ولا يؤخذ من المسلم، وفي أخذه من الذمي وجهان. ولا خلاف أنه لا يؤخذ من أهل الذمة [عن تجارتهم] شيء وإن ترددوا في بلاد الإسلام كلها، سوى الحجاز كما تقدم ذكره، وحكم المرأة فيهم حكم الرجل. فرع: يصح الأمان العام من صاحب الأمر بأن يقول: أمنت من دخل دار الإسلام تاجرا. قال: وإذا دخل، أي: للغرض المطلوب جاز أن يقيم اليوم والعشرة؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، وهي مدة قريبة بالإضافة إلى ما دخل إليه، فإن

انقضت حاجته في دون ذلك لم يمكن من المقام بمطلق الإذن للغرض السابق. صرح به الفريقان. ولو لم ينقض رسالته إلا في سنة جاز أن يقيم بغير جزية [سنة]، قال الماوردي: لأن حكم الرسالة مخصوص، من [أحكام] جماعتهم. وقال الإمام: إن الداخل لسماع كلام الله تعالى هل يمهل أربعة أشهر؟ أو يقال: إذا لم ينفصل الأمر بمجالس يعرض فيها البيان التام، فيقال له: الحق بمأمنك؟ فيه تردد أخذته من فحوى كلام الأصحاب، [والظاهر: المنع]. قال: فإن طلب أن يقيم مدة، أي من غير حاجة، جاز أن يأذن له، أي: الإمام أو نائبه في المقام أربعة أشهر، ولا يجوز سنة، وفيما بينهما قولان؛ لأنهم في معنى المهادنين. فرع: لو قال الإمام له: إن لم ترجع إلى دار الحرب حكمت عليك بحكم أهل الذمة، قال أبو العباس: إن أقام سنة من حين دخوله إلينا أخذت منه الجزية، وأقل ما يؤخذ منه [دينار]. وإن قاله [له]: اخرج إلى دار الحرب، وإن أقمت عندنا صيرتك ذميا، فأقام سنة، ثم قال: أقمت لحاجة أقضيها، وانصرف – قبل منه، ولم تؤخذ منه الجزية، ورد إلى مأمنه، حكاه البندنيجي. قال: فإن أقام، أي: في دار الإسلام، لزمه التزام أحكام المسلمين، أي: الأحكام المتعلقة بالمسلمين؛ فيضمن المال والنفس، ويجب عليه حد القذف؛ لأن العقد كما اقتضى [أمانهم من المسلمين في ذلك، اقتضى [أمان المسلمين منهم، فإذا دخل على التزامه ترتب عليه مقتضاه. وهكذا الحكم في أتباع المسلمين من أهل الذمة، صرح به أبو الطيب وابن

الصباغ في باب "الحكم بين المهادنين"، وقالا فيما إذا نقض أهل الهدنة العهد، وامتنعوا على الإمام، وأتلفوا أموال أهل الذمة: في وجوب الضمان عليهم قولان، كما إذا ارتد المسلمون، وامتنعوا، وأتلفوا على المسلمين شيئا، وقد ذكرناهما من قبل. قال: ولا يجب [عليه] حد الزنى والشرب؛ لأنهما من حقوق الله – تعالى – وهو لم يلتزمها. ولا فرق في ذلك بين أن يزني بمن هي مثله، [أو بذمية]، أو بمسلمة؛ كما قاله الماوردي قبيل باب حد القذف. وحكى الإمام في كتاب السرقة طريقة أخرى فيما إذا زني بمسلمة: أن حكمه حكم سرقته مال مسلم؛ فيكون على الخلاف الآتي. قال الماوردي: ولو شرط عليه في الابتداء التزام أحكامنا لزمه ذلك. قال: وفي حد السرقة والمحاربة؛ أي: المتعلقة بالمسلمين [وأهل الذمة] قولان: أحدهما: يجب؛ لأن في إقامته صيانة لحق المسلمين وأتباعهم؛ فأشبه حد القذف، وهذا ما نص عليه في "سير" الواقدي، واختاره في "المرشد". والثاني: لا يجب؛ لأنه محض حق الله – تعالى فأشبه حد الزنى، وهذا أصح في "الجيلي"، وعند النواوي. وقال القاضي أبو الطيب في باب حد السرقة: إنه الذي نص عليه في عامة كتبه. وجميع ما ذكرناه جار في أهل الذمة – أيضا – وحكى الإمام قولا ثالثا: أنه إن شرط عليه القطع إذا سرق، وإن لم يشترط، لم يقطع.

ولو كان المسروق مال معاهد آخر أو مستأمن [فلا قطع] قولا وحدا، قاله الماوردي في كتاب السرقة. واعلم أن [في] قول الشيخ هنا: "وإذا أقام لزمه التزام أحكام المسلمين"، وقوله في باب عقد الذمة: " [ولا يصح عقد الذمة] إلا بشرطين: التزام أحكام الملة، [وبذل الجزية] [ما] يعرفك أن بينهما فرقا، وقد أوضحه الشيخ بالمثال فتأمله. قال: ويجب دفع الأذية عنه، كما [يجب عن] الذمي؛ لأنه التزم له بالعقد كف المسلمين عنه، وكف أتباعهم وهم أهل الذمة؛ لكونهم في قبضة الإمام؛ فوجب القيام به، وكونه في دار الإسلام يقتضي وجوب دفع أهل الحرب عنه؛ لأجل الدار؛ فإن تسليط الكفار على طروق دار الإسلام ممتنع؛ لهذا قال الأصحاب: إن أهل الذمة المقيمين بدار الإسلام لو شرطوا في العقد ألا يدفع عنهم أهل الحرب كان الشرط باطلا؛ لما ذكرناه. فانتظم من مجموع ذلك وجوب الدفع عنه [كما يجب] عن الذمي، وقد غفل بعض الشارحين لهذا الكتاب عما نبهت عليه، فحمل كلام الشيخ على دفع أذية المسلمين عنه و [من معهم] من أهل الذمة – خاصة – وهو ما ذكره في "الحاوي" في كتاب السرقة. [و] في "فتاوى" القاضي: أن بعض أصحابنا قال: لو قصد المستأمنين الذين دخلوا دار الإسلام للتجارة بأمان أهل الذمة أو أهل الحرب، لا يجب على الإمام الدفع عنهم، بخلاف ما لو قصدهم المسلمون، والمشهور: الأول. نعم، ما ذكره مختص بأهل الهدنة إذا انفردوا ببلد في طرف بلاد الإسلام لا

يمر أهل الحرب إذا قصدوها على بلد للمسلمين في طريقهم أو مال لهم، أما إذا كانوا في بلد لا يمكن قصدها إلا بالمرور على ذلك فيظهر أن يكون الحكم كما إذا كانوا في بلد المسلمين، ويجب الدفع؛ لما أشرنا إليه من التعليل عملا بما ذكره الأصحاب في عقد الذمة، والله أعلم. قال: فإن رجع إلى دار الحرب بإذن الإمام في تجارة أو رسالة؛ فهو باق على الأمان في نفسه وماله، كالذمي إذا دخل دار الحرب بالتجارة. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي اشتراط إذن الإمام في [الدخول لدار] الحرب. وفي "المهذب" و"الحاوي" في كتاب السير وغيرهما: السكوت عن إذن الإمام، واعتبار أن يكون الخروج كذلك، وألحق بهما البندنيجي الخروج للزيارة. وأطلق الماوردي في كتاب الجزية القول بأن الحربي إذا دخل بأمان، ثم عاد إلى دار الحرب؛ انقضى حكم أمانه، فإن عاد ثانيا بغير أمان، غنم. نعم، لو عقد له الإمام الأمان على تكرير الدخول اعتبارا بصريح العقد كان في تردده آمنا في كل دفعة ما شرطه من المدة، فلعل الشيخ لاحظ هذا وأراده. قال: وإن رجع للاستيطان، انتقض الأمان في نفسه وما معه من المال؛ لأنه بهذه النية [قد] صار حربا لنا. قال: وإن أودع مالا في دار الإسلام – أي: [و] قد ثبت له الأمان؛ لم ينتقض الأمان فيه، ويجب رده إليه؛ لأنه زال أمانه بانتقاله، وبقي في ماله ببقائه في الدار، ولا يضر كونه غير آمن، وماله في أمان؛ ألا تراه يأخذ الأمان لماله؛ فيكون آمنا فيه دون نفسه، وكذا إذا دخل إليهم مسلم بأمان، فأرسل معه واحد منه ماله؛ فإنه يكون في أمان؛ لقدرة المسلم على أمانه، ولا يكون هو آمنا، كذا صرح أبو الطيب.

وحكم الذمي إذا أخذ منهم مالا حكم المسلم الداخل لهم على الأصح، لا لصحة أمان الذمي، بل لكونه أمانا فاسدا كأمان الصبي. وفي "تعليق" القاضي أبو الطيب وغيره رواية قول: أن المال لا يكون في أمان؛ لأن الذمي لا يصح. ثم إن الأمان يحصل للمال وكذا للذرية بالتصريح به، وهل [يحصل] لهما عند إطلاق الأمان له؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين في باب حكم المرتد. وحكم الذرية المستخلفين في دار الإسلام، حكم الأموال المودعة، قاله الماوردي. ووراء ما ذكره الشيخ في المال خاصة وجهان أوردهما القاضي الحسين هنا وغيره: أحدهما: أنه ينتقض الأمان في ماله كما انتقض في نفسه، وقال: إنه أقيس؛ فعلى هذا يكون فيئا. والثاني: أنه إن لم يتعرض في الأمان للمال، بل حصل الأمان فيه تبعا – فكذلك يجعل تبعا [في الانتقاض]، وإن ذكره في الأمان لم يرتفع عنه بارتفاعه عن النفس، وسيأتي ما يقوي ذلك من كلام الماوردي. ومحل الخلاف إذا اتصل بدار الحرب، أما قبل اتصاله [بها]، قال الإمام: فالوجه بقاء الأمان في الأموال، ويحتمل أن يطرد الخلاف. تنبيه: ظاهر قول الشيخ: "ويجب رده إليه"، أنه لا يمكن من الدخول لأخذه بالأمان الأول، حتى لو دخل كان كالداخل بغير أمان، وهو ما حكاه ابن الصباغ، وأبداه الإمام هنا احتمالا، واختاره الشيخ أبو زيد؛ كما حكاه الإمام في آخر "النهاية"، وتبعه صاحب "المرشد". وقال الإمام ثم: إن الأصحاب وابن الحداد قالوا: إن له أن يدخل من غرير تجديد أمان [لتحصيل تلك الأموال، و] الدخول له يومئذ كالدخول للسفارة

وسماع كلام الله تعالى، ولكن ينبغي أن يعجل في تحصيل عين حقه، ولا يعرج على أمر آخر، وكذا لا ينبغي أن يكرر العود، ويستصحب في كل مرة بعضه إذا تمكن من أخذه دفعة واحدة، فإن خالف، قال الإمام: تعرض للقتل والأسر. قال: فإن قتل أو مات في دار الحرب ففي ماله قولان، أي: مع الحكم بانتقاله إلى وارثه [كما نقله المصنف وغيره]. [أحدهما]: أنه يرد إلى ورثته؛ لأن الأمان من حقوق المال، ومن ورث مالا ورثه بحقوقه، أصله: خيار الرد بالعيب، والأخذ بالشفعة، وهذا ما نص عليه في المكاتب، واختاره المزني وصاحب "المرشد" والنواوي، وصححه البغوي، وإيراد القاضي أبي الطيب يقتضي ترجيحه، فعلى هذا: لا يكون لأقاربه من أهل الذمة فيه شيء على الأصح، ويصرف لأقاربه الحربيين. قال الماوردي: سواء كانوا في دار الحرب أو في دار الإسلام، [وقال القاضي أبو الطيب: إنه يرد لمن ولد في دار الحرب دون من رزقهم في دار الإسلام]. قال في "المرشد": ويخالف الذمي إذا مات وله قريب في دار الحرب لا يرثه؛ لأن المستأمن ليس من أهل دار الإسلام، فإن لم يكن له وارث كان فيئا بلا خلاف. والثاني: أنه [يغنم و] يصير فيئا؛ لأنه انتقل للوارث ولا أيمان له ولا أمان. وهذا ما نص عليه في "سير" الواقدي، وحكاه المزني هنا، [واختاره أبو [إسحاق، وقد أفهم هذا التعليل أن محل الخلاف إذا لم يكن للوارث أمان على ماله، أما إذا كان فلا يتجه إلا القول الأول، وكذلك جزم به الماوردي صريحا، والقاضي الحسين. وعن ابن خيران نفي الخلاف في المسألة، وتنزيل [النصين] على حالين كما نقله عنه المصنف والبندنيجي وغيرهما، وقال: الأول محمول على ما إذا شرط الأمان لنفسه ولورثته إن مات، والثاني محمول على ما إذا أطلق العقد.

وحكى الماوردي عنه حمل الأول على ما إذا شرط أمانه مدة حياته [وبعد مماته، والثاني على ما إذا شرط أمانه مدة حياته]. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنا على القول الثاني نقول: الأمر في ماله على التوقف كما في [مال المرتد]، فإذا مات قبل أن ردت أمواله عليه بان لنا أنا غنمناها بنقض العهد. قال: وإن أسر واسترق صار ماله فيئا، أي: تفريعا على [أنه إذا مات في دار الحرب] كان ماله فيئا؛ لأن ملكه قد زال بالاسترقاق كما زال بالموت. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية قول آخر على هذا القول أنه يوقف على ما يظهر، فإن عتق رد إليه، وإن مات كان فيئا. وفي "الرافعي": أنه المذكور في "الشامل"، ولم أره. وقد رجع حاصل القولين إلى أنه [يكون فيئا على هذا القول، لكن في الحال أو بعد موته، أما إذا قلنا عند موته: إنه] يرد لورثته، فهاهنا يوقف؛ لأنه لا يمكن نقله للوارث؛ لأنه حي، ولا إلى بيت المال؛ لأنه مال له أمان، وهذا ما اختاره في "المرشد". فعلى هذا إن عتق صرف إليه، وإن مات ففيه قولان حكاهما المصنف عن رواية [ابن] أبي هريرة والقاضي الحسين وغيرهما: أحدهما: أنه يكون للوارث كما لو مات حرا. وأصحهما في "الرافعي" و"المرشد" – وبه جزم القاضي أبو الطيب والبندنيجي -: أنه يكون فيئا؛ لأن العبد لا يورث. وقد ادعى الإمام أن الشافعي – رضي الله عنه – نص على أن أموال من نقض العهد واسترق ومات [رقيقا]، [فيء]، [وأن] مقابله مخرج من نصه في مسألة ذكرتها [أنا] في آخر باب الديات، وعلى هذا فكيف

السبيل لأخذهم له؟ تردد فيه الإمام وقال: يجوز أن [يقال]: يصرف إليهم إرثا، وامتناع التوريث من الرقيق [حكم شرعي] والكفار لا يتعبدون بتفاصيل الشرع. ويجوز أن يقال: لا يصرف إليهم إرثا، ولكن لأنهم أخص به كما نقول فيمن بعضه حر وبعضه رقيق: يصرف ما اكتسبه ببعضه [الحر] إلى مالك الرقيق منه؛ لأنه أخص به، وإذا قلنا بالتوريث فيورثه إذا مات، أو يسند استحقاق الوراثة إلى ما قبل جريان الرق؟ فيه احتمال. وحكم المال الثابت للحربي في ذمة المسلم ببيع أو قرض قبل استرقاقه حكم ماله المودع عندنا، صرح به الإمام في أثناء كلامه. ولو من الإمام عليه، قال القاضي أبو الطيب: سلم إليه ماله. وكلام البندنيجي قريب منه؛ فإنه قال: بقي ماله على أمانه. قال: وإن قتل أو مات في الأسر، أي: قبل الاسترقاق – ففي ماله قولان؛ كما لو مات في دار الحرب، وقد سبق توجيههما. قال: وإن مات في دار الإسلام قبل أن يرجع إلى دار الحرب [رد إلى مأمنه] على المنصوص، أي: في "سير" الواقدي؛ لأنه مات على أمانه، فبقي ماله على الأمان، بخلاف ما لو مات في دار الحرب، وهذا أصح في "الرافعي"، واختاره في "المرشد". وقيل: هو – أيضا – على قولين؛ نظرا للعلة السابقة. ويجري الطريقان فيما إذا مات في دار الحرب وقد دخلها بإذن الإمام في تجارة أو رسالة. ثم إذا قلنا بالمنصوص جاز لوارثه دخول دار الإسلام لطلب ذلك المال، وإن لم يعقد له أمان، ويظهر الفرق بينه وبين صاحب المال على الوجه الآخر: أن المورث هاهنا لم يصدر منه خيانة، والوارث كذلك؛ فتبعه في الأمان، بخلاف رب المال ثم. فرع: قال الماوردي في "الأحكام" في باب الفيء: يجوز شراء أولاد أهل العهد، منهم ولا يجوز سبيهم.

آخر: إذا اقترض حربي من حربي مالا، ثم دخلا إلينا بأمان – فهل على المقترض رد ما اقترضه؟ قال البندنيجي: خرجه ابن سريج على وجهين: أحدهما: عليه رده كالمهر. والثاني: لا؛ فإن الشافعي قال: لو تزوج حربي حربية ودخل بها، ثم ماتت، وأسلم زوجها، ودخل إلينا، فدخل وارثها يطالبه بالصداق والميراث – لا شيء له. قال أبو العباس: والأول أصح، ويكون تأويل هذه المسألة: أن الحربي تزوج بها على أن لا مهر، وعلى ذلك جرى في "المهذب". وحكى الرافعي أن الحربي إذا اقترض من حربي شيئا، أو التزم بالشراء ثمنا، ثم أسلما، أو قبلا الجزية أو الأمان معا أو على الترتيب – استمر الاستحقاق إذا كان الثمن المذكور مما يصح طلبه؛ كما إذا أسلم الزوجان ولم تقبض المهر المسمى، ولو أسلم المستحق عليه، أو قبل الجزية دون المستحق – فالنص: أن الجواب كذلك، ويستمر الاستحقاق. وعن نصه: أنه إذا ماتت زوجة الحربي، فجاءنا مسلما أو مستأمنا، فجاء ورثتها يطلبون مهرها – لم يكن لهم شيء، وفيه طريقان عن الأصحاب. أحدهما: أن فيهما قولين بالنقل والتخريج، وهذا كله حكاه الإمام عن العراقيين: وأصحهما: بقاء الاستحقاق، ويستدام [حكم] العقد. والثاني: المنع؛ لأنه يبعد أن يمكن الحربي من مطالبة المسلم أو الذمي في دارنا. والطريق الثاني: القطع بالقول الأول، وبه قال ابن سريج، وحمل النص الثاني على ما إذا سمى خمرا أو خنزيرا وأقبضه في الكفر. انتهى. وما قال الثاني منتقض بما إذا دخل مسلم إلى دار الحرب بأمان، فسرق [لهم] مالا، أو ابتاعه [منهم]، أو استقرضه، [ثم جاء] إلى دار

الإسلام، [ثم دخل صاحبه إلى دار الإسلام]، بأمان – فإن على المسلم رد ما سرق أو استقرض، كما صرح به المصنف والرافعي وغيرهما. [وإذا] فرعنا على القول الثاني، قال الإمام: فلا خلاف أن العهد يبقى بينهما، حتى لو أسلم المستحق طالبه، وإنما على هذا القول يتوقف في الطلب، فليفهم الناظر ذلك. والخلاف يجري فيما لو أتلف حربي على حربي مالا أو غصبه ثم أسلما، أو أسلم صاحب المال، والأصح: عدم المطالبة، وهو الذي جزم به الإمام. والله – عز وجل – أعلم. * * *

باب خراج السواد

باب خراج السواد الخراج: شيء يوظف على الأراضي أو غيرها، وأصله: الغلة، ومنه الحديث: "الخراج بالضمان". والسواد -[كما]- قال النواوي -: سواد العراق، وهو سواد كسرى ملك الفرس - كما قال الماوردي - الذي فتحه المسلمون أيام عمر - رضي الله عنه -[بعد أن فتحت أطرافه في أيام أبي بكر - رضي الله عنه]- وهو أزيد من العراق؛ لأن مساحة العراق مائة وخمسة وعشرون فرسخا في عرض ثمانين فرسخا، ومساحة السواد - كما قال الماوردي وغيره - مائة وستون فرسخا [في عرض ثمانين فرسخا؛ فيكون أزيد منه بخمسة وثلاثين فرسخا]. وسمي العراق عراقا؛ لاستواء أرضه حيث خلت من جبال تعلو أو أودية تنخفض، والعراق في كلام العرب: الاستواء؛ قال الشاعر: سقتم إلى الحق معا وساقوا ... سياق من ليس له عراق [أي: من ليس له استواء]. قال الماوردي: وفي تسمية السواد سوادا ثلاثة أوجه: أحدها: لكثرته؛ مأخوذ منه سواد القوم: إذا كثروا، قاله الأصمعي. والثاني: لسواده بالزرع والأشجار؛ لأن الخضرة ترى من البعد سوادا، ثم تظهر الخضرة بالقرب منها، فلما أقبل المسلمون من بياض الفلاة، قالوا: ما هذا السواد؛ فسمي سوادا. والثالث: أن العرب تجمع بين الخضرة والسواد في الاسم؛ قال أبو عبيد: ومنه قول الشاعر:

فراحت رواحا من زرود فنازعت ... زبالة جلباب من الليل أخضرا يعني: أسود. وحكى أبو الطيب: أنها سميت بذلك؛ لأن الشمس ما كانت تطلع على الأرض؛ لالتفاف الأشجار وازدحامها وتسترها؛ فسميت لأجل ذلك سوادا. قال: أرض السواد: ما بين حديثة الموصل إلى عبادان طولا، وما بين القادسية إلى حلوان عرضا. ما ذكره الشيخ هنا هو ما أورده البندنيجي – وكذا أبو الطيب – قبل باب: ما أحرزه المشركون بأوراق، وقال أبو الطيب في هذا الباب بعد ذكر ذلك: إن غربي البصرة – وهو شط عثمان – ليس من جملة السواد؛ لأنه كان في ذلك الوقت أرضا سبخة، فأحياها عثمان بن أبي العاص الثقفي وعتبة بن غزوان. وكلام الماوردي قريب منه، [قال] بعد أن ذكر ما ذكره الشيخ من الحد: وليست البصرة – وإن دخلت في هذا الحد – من أرض السواد؛ لأنها مما أحياها المسلمون من المغارب إلى موضع من شرقي دجلتها يسميه أهل البصرة الفرات، ومن غربي دجلتها النهر المعروف بنهر المراة. وحضرت الشيخ أبا حامد الإسفراييني وهو يدرس في تحديد السواد في كتاب الرهن، وأدخل فيه البصرة، فأقبل علي وقال: هكذا تقول؟ قلت: لا. فقال: ولم؟ قلت: لأنها كانت مواتا فأحياها المسلمون، فأقبل على أصحابه وقال: علقوا ما يقول؛ فإن أهل البصرة أعرف بالبصرة. وعلى ذلك جرى في "المهذب"، فقال بعد ذكر ما حكاه هنا: ولا يدخل من البصرة [فيه] إلا الفرات في شرقي دجلتها ونهر المرأة في غربي دجلتها. وقد أطلق في "التهذيب" خروج البصرة من الحد المذكور، وهو محمول على

ما ذكرناه، وقد تقدم ذكر ذرعها طولا وعرضا بالفراسخ، فلنذكره بالأجربة؛ لأنه أمس بالمقصود. قال في "الشامل": مسح عثمان بن حنيف أرض الخراج، فكانت ستة وثلاثين ألف [ألف] جريب، ذكره أبو عبيدة والساجي هكذا. وقال في "المهذب": [قال الساجي]: هو – يعني السواد – اثنان وثلاثون ألف ألف جريب، وقال أبو عبيدة: هو ستة وثلاثون ألف ألف جريب. [وفي "الذخائر": أن في كتاب "مختصر الخراج": أن أرض السواد جميعها مائتا ألف [ألف] جريب]، وخمسة وعشرون ألف ألف جريب، ينحط من ذلك ما لا ينتفع به من مواضع الجبال والآكام، وما لا يعلوه الماء، ونحو ذلك: خمسة وسبعون ألف ألف جريب، يبقى مائة ألف ألف وخمسون ألف ألف جريب، يستعمل من ذلك النصف، [ويراح النصف] إلا ما عمل من النخل والشجر، وقال فيه هذا الذي مسح عثمان بن حنيف من السواد. قال الشيخ مجلي: حكي ذلك [كله] عن أبي عبيدة بعد أن ذكر الطول والعرض على ما بيناه؛ وهذا اختلاف كثير [وتباين بين]. قلت: والوجه غير هذا كله؛ لأن الجريب – كما قال النواوي والقلعي وصاحب "الوافي"-: أرض مربعة، كل قائمة منها ستون ذراعا، وأنت إذا ضربت ذلك في مثله بلغ ثلاثة آلاف ذراع وستمائة ذراع. وقال الماوردي [في "الأحكام"]: إنه عشر قبصات في عشر قصبات، وذرع كل قصبة ستة أذرع، وإذا ضربت ذلك بالتكسير بلغ ثلاثة آلاف ذراع وستمائة [ذراع]. وقد قال ابن يونس: إنه سنة آلاف وأربعمائة، وهو غلط. وقد ذكرنا أن [طول] السواد مائة وستون فرسخا وعرضه ثمانون فرسخا،

وطول الفرسخ – كما قال الماوردي -: اثنا عشر ألف ذراع بالمراسلة، وعرضه كذلك؛ فيكون بذراع المساحة – وهي الهاشمي الكبير، كما قال في "الأحكام" -: تسعة آلاف ذراع [طولا] في عرض مثله، فإذا ضرب فرسخ في فرسخ، بلغ أحدا وثمانين ألف ألف ذراع، وذلك اثنان وعشرون ألف جريب وخمسمائة جريب، كما قال الماوردي – أيضا – وهو صحيح؛ لأنك إذا ضربت [الجريب] وهو ثلاثة آلاف وستمائة في عشرة، بلغ ستة وثلاثين ألفا، وإن ضربته [في مائة] بلغ ثلاثمائة ألف وستة آلاف، وإن ضربته في ألف بلغ ثلاثة آلاف [ألف] وستمائة ألف، وإن ضربته في عشرة آلاف بلغ ستة وثلاثين [ألف ألف]، وإن ضربته في عشرين ألفا بلغ اثنين وسبعين ألف [ألف] [وإن ضربته في اثنين وعشرين ألفا وخمسمائة بلغ أحدا وثمانين ألف ألف] كما ذكرنا. وإذا عرفت أن الفرسخ في الطول والعرض اثنان وعشرون ألف جريب وخمسمائة جريب، فاضربه في اثني عشر ألف فرسخ وثمانمائة فرسخ – وهي جملة أرض السواد – يبلغ مائتي ألف ألف، وثمانية وثمانين ألف ألف جريب؛ لأنك إذا ضربت عشرين ألفا في اثني عشر ألفا، [بلغت مائتي ألف ألف وأربعين ألف ألف، وإذا ضربت ألفين في اثني عشر [ألفا]] بلغ ذلك أربعة وعشرين ألف ألف، وإذا ضربت خمسمائة [في اثني عشر ألفا بلغت ستة آلاف [ألف]، وإذا ضربت ثمانمائة] في اثنين وعشرين ألفا وخمسمائة بلغت ثمانية عشر ألف [ألف] جريب. وجملة [ذلك] إذا جمعته: العدد [الذي ذكرناه]، يسقط منه مجاري

الماء والقرى والمدن وما لا ينتفع به من مواضع الجبال والآكام، وما لا يعلوه الماء، ونحو ذلك ما زاد على ثمانين ألف جريب، وهو قريب الثلث [أو نحوه]، كما قال الماوردي، وإن الباقي [وهو] مائتا ألف ألف جريب يراح [منه] نصفها، ويزرع نصفها إذا تكاملت مصالحها ومجاريها. قال الماوردي: وقد كانت مساحة [المزدرع] في أيام عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – اثنين وثلاثين ألف ألف جريب [إلى ستة وثلاثين ألف ألف جريب]؛ لأن البطائح تعطلت بالماء، ونواح تعطلت بالسوق، ونواح تعطلت بالعمارات، والعوارض والحوادث لا يخلو الزمان منها خصوصا وعموما. وعلى هذا يحمل ما نقله الشيخ في "المهذب" وغيره من الساجي وأبي عبيدة، والله أعلم. وقد اختلف العلماء في كيفية فتح أرض السواد: فعن أبي إسحاق [وجه نقله ابن كج: أنه وقع صلحا. وعن الماسرجسي: أن أبا إسحاق [كان يتصره] في الدرس، وقال] في "الشرح" الذي له: إنه فتح عنوة. كذا حكاه أبو الطيب. [وفي "الحاوي": أن الشافعي – رضي الله عنه – أشار إليه في كتاب قسم الفيء]. وعن أبي الطيب بن سلمة أنه قال: اشتبه الأمر علي؛ [فلا أدري] أفتحت صلحا أو عنوة؟ والذي نص عليه الشافعي – رضي الله عنه – في أكثر كتبه – كما قال الماوردي، وهو المشهور، والصحيح -: أنها فتحت عنوة، وأن عمر – رضي الله عنه – قسم أراضي السواد في جملة الغنائم، وعلى هذا، فكيف قسم؟

المحكي عن أبي إسحاق: أنه قال: كان في الغنيمة غير الأراضي من المواشي وصنوف الأمتعة، وأن عمر – رضي الله عنه – رأى أنه إن صرف خمسها [إلى أهل] الخمس أنفقوه، فأراد أن يجعل لهم عدة باقية يستظهرون بها؛ [فعوضهم] عن خمسها الأخماس الأربعة [من الأراضي]، وجعل الأرض لأهل الخمس، والمنقولات للغانمين. والصحيح المشهور: أنه قسمها بين الغانمين، ولم يخصصها بأهل الخمس، ثم استطاب قلوبهم عنها، واستردها بعد أن استغلوها [مدة]. وقد اختلف في المعنى الذي لأجله استنزلهم عنها: فقيل: لأنه خشي أن يقل الناس؛ فتحصل جميع الأرض لواحد؛ فتضيق بالناس المنازل؛ فلا يكون لأحد موضع يسكنه، حكاه أبو الطيب. وقيل: فعل ذلك؛ لنظره في المنصب؛ لأنه جعل حصن العراق: البصرة، والكوفة [رباطا للمجاهدين] ليحفظوا [من] بإزائهم [من] المسلمين، ويستمدوا سواد عراقهم في أرزاقهم بسبب جهادهم، وعلم أنه [إن] أقرهم على ملكهم مع سعته وكثرة [ارتفاعه بقي] من بعدهم لا يجدون ما يستمدون به، وقد قاموا مقامهم وسدوا مسدهم، فكان الأصلح ما فعله؛ ليعم [نفعه] في كل عصر. وقيل: لأنه رأى أنهم إن أقاموا فيه [على] عمارته واستغلاله تعطل الجهاد، وإن أنهضهم عنه مع بقائه على ملكهم خرب، مع جلالة قدره وكثرة مستغلة؛ فكان جعله مع الدهاقنة وضرب الخراج عليهم أولى.

وقد روي أن بعضهم طابت نفسه؛ فرد نصيبه، ومنهم من أبي إلا بعوض عن نصيبه حتى استخلص الكل للمسلمين. قال القاضي الحسين: وهذا بين في رواية [جرير بن عبد الله] البجلي، وهي أصح الروايات عندنا في سواد العراق، روي عن جرير أنه قال: كانت بجيلة ربع الناس، فأصابهم ربع السواد، فاستغلوه [ثلاث سنين] أو أربع شك الشافعي – رضي الله عنه – فقال عمر – رضي الله عنه -: لولا أني قاسم مسئول لتركتكم وما قسم لكم، لكني أرى أن تردوه للمسلمين، إني أسأل عن إعراضكم عن القتال واشتغالكم بزراعة هذه الأراضي فعاضني عن نصيبي نيفا وثمانين دينارا، وكانت معي امرأة سماها – لم يحضر الشافعي ذكرها، وهي أم كرز – فقالت [إن] أبي شهد القادسية وقد ثبت سهمه، وإني لا أرضى حتى تملأ فمي لآلئ، وكفي دنانير، وتركبني ناقة ذلولا عليها قطيفة حمراء، فأعطاها عمر – رضي الله عنه – ما سألته. وهو في استطابته قلوب الغانمين متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في استطابته قلوبهم عن سبي هوازن، والقصة مشهورة. قال: وهي وقف على المسلمين، [أي]: وقفها عمر – رضي الله عنه. [قال]: على المنصوص، أي: في "سير" الواقدي والرهن معا، كما قاله البندنيجي، ووجهة: ما روي أن عتبة بن فرقد اشترى أرضا من أرض السواد، فأتى عمر – رضي الله عنه – فأخبره، فقال: ممن اشتريتها. فقال: من أهلها. فلما حضر المهاجرون والأنصار قال له عمر – رضي الله عنه -: هؤلاء أربابها، أبعتموه

شيئا؟ قالوا: لا. قال [له]: ارجع، فرد الأرض على من باعك وخذ الثمن منه. فدل هذا الخبر على أنه كان وقفها، وإلا فما كان يرد شراء من اشترى منها شيئا. وقد روي عن سفيان الثوري: أنه قال: أرض السواد لا يجوز بيعها؛ فدل على أنها كانت وقفا. وروي عنه أنه قال: جعل عمر السواد [وقفا] على المسلمين ما تناسلوا. كذا نقله ابن الصباغ. [وعن] ابن شبرمة [أنه قال]: [إن] أرض السواد لا يصح بيعها ووقفها. وهذا [ما] اختاره فيها الإصطخري والبصريون، وصححه أبو الطيب وغيره. وعلى هذا قال: لا يجوز بيعها ولا رهنها ولا هبتها كغيرها من الأعيان الموقوفة. قال: وما يؤخذ منها باسم الخراج أجرة؛ لأنه قد ثبت أنه كان يؤخذ منها شيء باسم الخراج، ولا سبيل مع ما ذكرناه أن يكون ثمنا؛ فتعين أن يكون أجرة، وجوز ذلك من غير بيان مدة؛ لأنه عقد مع الكفار وهم الفرس، والعقد إذا تعلق بالكفار عفي عن الجهالة في قدر العوض والمدة، أصله: [مسألة] العلج. وقد تقدمت. ومصرف المأخوذ مصرف [خمس] الخمس من الفيء والغنيمة.

فرع: هل [يجوز] على هذا لمن في يده شيء منها إجارته مدة مؤبدة بمال يتراضون عليه كما فعل عمر، رضي الله عنه؟ فيه تردد حكاه الإمام عن الأصحاب، والأصح: المنع، مع القطع بجواز الإجارة فيه مدة مؤقتة. ولا يجوز لمن تلقى شيئا منها عن آبائه وأجداده أن ينتزع منه؛ لأنها [إجارة لازمة صدرت من عمر، رضي الله عنه. قال: وقيل: إنها مملوكة] من زمن عمر – رضي الله عنه – إلى وقتنا هذا، [تباع وتوهب وتورث]، وما أنكر ذلك منكر ولا رده راد، فكان إجماعا، ولأنها لو كانت وقفا لما جاز إحداث المساجد [فيها] والمقابر والسقايات كما في غيرها من الأوقاف. قال: وما يؤخذ منها باسم الخراج ثمن؛ لأن المضروب لو كان خراجا لما استباحوا ثمار تلك الأشجار؛ لأن مستأجر الأرض لا يستبيح بالعقد الأعيان [التي في الأرض]، وإنما [يستبيح] المنافع منها؛ فدل على أن المضروب باسم الخراج ثمن. قال البندنيجي: وعلى هذا إذا باع من في يده شيء منها اقتضى العقد ثمنين: أحدهما: المسمى في [هذا] العقد. والثاني: المقدر الشرعي الذي سنذكره. فيكون كأنه باعه بثمن حال ومنجم، وهذا قول ابن سريج وأبي إسحاق المرزوي وبعض البغداديين من أصحابنا، كما حكاه الماوردي في كتاب الرهن. والقائلون بالأول أجابوا عن الأول بما ذكرناه من إنكار عمر – رضي الله عنه – وبأن هذه [المسألة] مسألة خلاف، وهي مجتهد فيها؛ فلا يتوجه فيها الإنكار.

وعن الثاني: بأن عمر – رضي الله عنه – يحتمل أن يكون وقف المزارع دون المساكن والمنازل؛ فتكون المساجد والسقايات فيما لم يدخل في الوقف، ويحتمل أن يكون [قد] وقف الكل، لكنه على مصالح المسلمين، وهذا من مصالحهم. قال البندنيجي: وصار هذا كما نقول فيمن وقف قرية [على قوم] كان لهم إحداث هذا فيها كذلك هاهنا. وقد حكى الماوردي وجهين في أن المنازل التي كانت موجودة قبل الفتح هل دخلت في الوقف أم لا؟ وعلى ذلك جرى في "المهذب"، واختار في "المرشد" الثاني، وكذلك الرافعي، وهو المحكي عن إيراد الروياني في جمع الجوامع. وعن الثالث: أن الأصحاب اختلفوا في جواز استباحة الثمار الحاصلة من الأشجار، فعلى قول: المنع – وهو الأصح عند الروياني وغيره، [كما حكاه الرافعي] اندفع السؤال، ويجب على الإمام أن يأخذها ويصرف ثمنها في مصالح المسلمين. ومن جوز ذلك – وهو ما اختاره في "المرشد" – تمسك بأمرين: أحدهما: الضرورة الداعية لذلك؛ ألا ترى [أن] في المساقاة نجعل للعامل جزءا من الثمرة وإن كان مجهولا، كذلك هنا [مثله]. والثاني: ما ذكرناه من أن العقد إذا تعلق بالمشركين تسومح فيه. ووراء ما ذكرناه أمران [آخران]: أحدهما: حكى الرافعي عن القاضي أبي حامد أن لابن سريج عبارة أخرى تخرج الخراج [عن] أن يكون ثمنا مع تجويز البيع، فقال: عمر – رضي الله عنه – وقفها [لا وقفا] محرما مؤبدا، ولكن جعلها موقوفة على

مصالح المسلمين؛ ليؤدي ملاكها على تداول الأيدي وتبدلها بالبيع والشراء خراجا ينتفع به المسلمين. وضعف الأمر الثاني. قال الماوردي: إطلاق المذهبين الأولين عندي معلول؛ لأن ما فعله عمر – رضي الله عنه – فيها لا يثبت بالاجتهاد حتى يكون فعلا مرويا وقولا محكيا عن قول صريح يستوثق فيه بالكتب والشهادات في الأغلب، وهذا معدوم فيه؛ [فلم صح القطع] بوقفها؛ لما عليه الناس من تبايعها، ولا القطع [ببيعها] بالخراج؛ للجهالة بقدرة، وبكونه مقدرا بالزراعة؛ ولأن مشتريها يدفع خراجها جون بائعها؛ فيصير دافعا للثمن، وليس للمبيع إلا ثمن واحد، ويكون ما قيل من وقفها محمولا على أنه وقفها عن قسمة الغانمين، ويكون وقف خراجها على كافة المسلمين، ويكون ملكها طلقا لمن أقرت عليه؛ استصحابا لقديم ملكه؛ لما عرف من عموم المصلحة ودوام الانتفاع. وقال: إن رد عمر – رضي الله عنه – البيع يحتمل أن يكون [لكون] البائع غير مالك؛ فإنه قال: "هؤلاء أصحابها"، أو كان ذلك قبل استنزالهم عنها. قال: والواجب أن يؤخذ ما ضربه أمير المؤمنين [عمر]- رضي الله عنه – وهو من كل جريب كرم عشرة دراهم، ومن كل جريب نخل ثمانية دراهم، ومن كل جريب [رطبة أو شجرة] ستة دراهم، ومن كل جريب حنطة أربعة دراهم، ومن كل جريب شعير درهمان. أشار الشيخ بهذا إلى ما رواه أبو بكر بن المنذر بإسناده عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن لاحق بن حميد قال: بعث عمر – رضي الله عنه – عثمان بن حنيف، ففرض على جريب الكرم عشرة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية [دراهم]، وعلى جريب القصب والشجر ستة دراهم، وعلى

جريب البر أربعة دراهم، وعلى جريب الشعير درهمين. قال القاضي أبو الطيب: وهذا الذي وردت به السنة. [و] زاد في "المهذب" تتمة الرواية المذكورة: وكتب عثمان بن حنيف بذلك إلى عمر – رضي الله عنه – فارتضاه. قال: وقيل على الجريب من الكرم والشجر: عشرة دراهم، ومن النخل ثمانية، ومن قصب السكر ستة، ومن الرطبة خمسة، ومن البر أربعة، ومن الشعير درهمان. وهذا ما صدر به الماوردي كلامه، واستدل له بما روى قتادة عن أبي محارب أن عثمان بن حنيف فعل ذلك، ولم يورد في "الأحكام السلطانية" سواه. وحكى القاضي أبو الطيب في "تعليقه" مع الأول: أن الواجب من كل جريب نخل عشرة دراهم، ومن كل جريب [كرم] ثمانية [دراهم [، ومن كل [جريب] قصب وهي الرطبة والشجر ستة، ومن كل جريب حنطة أربعة، ومن [كل جريب شعير] درهمان. وهذا ما أورده البندنيجي وابن الصباغ، واختاره في "المرشد"، واستدل له بأن مجالدا روى عن الشعبي أن عثمان ابن حنيف فعل ذلك، وأنه مسح السواد، فكان قدره سوى المنازل ستة وثلاثين ألف ألف جريب. زاد ابن الصباغ: وأنه كتب إلى عمر – رضي الله عنه – كتابا بما فعله فأمضاه. قال الماوردي: وكان ذراع عثمان في مساحته ذراع اليد وقبضته وإبهامه ممدودة، وكان مبلغ ارتفاع السواد في أيام عمر – رضي الله عنه – مائة

وستين ألف ألف درهم [، كما قال البندنيجي، وقيل: مائة ألف ألف وسبعة وثلاثون ألف ألف درهم،] [وجباه زياد مائة ألف ألف]، وجباه الحجاج ثمانية عشر ألف ألف. قال الماوردي: وجباه عمر بن عبد العزيز ثمانين ألف ألف [درهم]، ثم بلغ في آخر أيامه [مائة] ألف ألف وعشرين ألفا؛ لعدله وعمارته. وفي "تعليق" البندنيجي: أن أول ما جباه عمر بن عبد العزيز ثلاثون ألف ألف، ثم بلغ في السنة الثانية سبعين ألف ألف، وقال: إن عشت إلى قابل لأردنه إلى ما كان [عليه] في أيام عمر، ورضي الله عنه. فتوفي في تلك السنة، وعلى ذلك جرى صاحب "المرشد" والرافعي. واعلم أن [هذا] المأخوذ عن الخراج أو الثمن لا يدخل فيه الزكاة [إن وجبت]. فرع: إذا رأى الإمام أن يطيب قلوب الغانمين عن أراضي الغنيمة، ويفعل فيها ما فعله عمر، جاز، والله أعلم وأحكم.

كتاب الحدود

كتاب الحدود الحدود: جمع "الحد"، والحد في اللغة: المنع، ومنه سمي حد الدار؛ لمنعه من مشاركة غيرها فيها، وسمي البواب والسجان: حدادا؛ لمنعه الناس من الدخول والخروج. قال الشاعر: كم دون بابك من قوم نحاذرهم ... يا أم عمرو وحداد وحداد أراد بالأول: البواب، وبالثاني: السجان؛ لما يتعلق بهما من المنع. وسميت الحدود حدودا؛ لكونها موانع وزواجر عن ارتكاب الفواحش وتعاطي المحرمات. وقيل: سميت بذلك؛ لأن الله - تعالى - حدها وقدرها؛ فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها، فيزيد عليها أو ينقص منها. قاله ابن قتيبة. وقد كانت الحدود في صدر الإسلام بالغرامات؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من غل الصدقة، [فإنا آخذوها] [منه] وشطر ماله، غرمة من غرامات ربنا، ليس لآل محمد فيها شيء". وهي شريعة من الشرائع المتقدمة، قال الله - تعالى - في قصة يوسف: {فما جزاؤه} [يوسف: 47]، أي: فما عقوبة من سرق عندكم؟ ثم نسخ غرم العقوبات بالحدود، وسنذكر أدلتها، إن شاء الله.

باب حد الزنى

باب حد الزنى "الزنى" يقصر فيكتب بالياء، وهو الأحسن، ويجوز أن يكتب بالألف عملا بلفظه، ويمد فيكتب بالألف ولا يجوز كتابته بالياء. [و] هو - كما قال الماوردي وغيره - عبارة عن أن يطأ الرجل المرأة بغير عقد ولا شبهة عقد، وملك ولا شبهة ملك، عالما بالتحريم. [و] قال الغزالي: إنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج، [أي]: من غير حائل، محرم قطعا، مشتهى طبعا، إذا انتفت عنه الشبهة. قال الرافعي: وفي قوله: "محرم قطعا" غنية عن قوله: "إذا انتفت الشبهة عنه" وفيه نظر؛ لأن المراد بكونه: "محرم قطعا" أن يكون لا خلاف فيه، وذلك قد يوجد مع وجود الشبهة، كما إذا وطئ الجارية المشتركة بينه وبين غيره، وأخته المملوكة وما سنذكره. واحترزنا بقولنا: "من غير حائل" عما إذا لف على ذكره خرقة وأولج. وفيه خلاف حكاه الزبيلي في "أدب القضاء" [له]، واستقصاه في كتاب الظهار.

والزنى من المحرمات [و] الكبائر؛ قال الله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]. وقد روي عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -[أنه] قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل له ندا وهو خلقك". قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك؛ خشية أن يأكل معك". قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزني بحليلة جارك"، فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ} الآية [الفرقان: 68]. ولا يخفى أن إيلاج الحشفة في الفرج يقوم مقام إيلاج جميع الذكر، [وكذا إيلاج مقدار الحشفة من الذكر] من مقطوع الحشفة على الأصح. قال: إذا زنى البالغ العاقل المختار، وهو مسلم أو ذمي أو مرتد، وجب عليه الحد. أما وجوبه على المسلم المتصف بما ذكره، فوجهه – قبل الإجماع – ما سنذكره. وأما عن وجوبه على الذمي؛ فلأن أهل الملل – كما قال الرافعي -: مجمعون على تحريمه، وقد التزم إجراء الأحكام عليه؛ عليه حده كالمسلم. وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم يهوديين زنيا، وكانا محصنين. وأما وجوبه على المرتد فمن طريق الأولى تجرى أحكام الإسلام عليه. واحترز الشيخ بذكر البلوغ والعقل عن الصبي والمجنون؛ فإنه لا يجب عليهما الحد للخبر المشهور. وفي "الجيلي": أن الروياني حكى في وجوب حد الزنى على الصبي المراهق وجهين، والأصح: الأول. نعم، يؤدبه الولي بما يزجره عن ذلك.

والذي رأيته في "البحر" في الفروع المذكورة، بعد كتاب الأقضية: أنه إذا زنى بامرأة وعنده: أنه ليس ببالغ، فبان أنه كان بالغا: هل يلزمه الحد؟ فيه وجهان. واحترز بالاختيار عن [ذكر] المكره؛ فإن لا يجب عليه الحد، فرق بين الرجل والمرأة، وهو بناء على تصور الإكراه في حق الرجل، وهو الصحيح، كما هو متصور في حق المرأة بلا خلاف، بأن تضبط وتجامع. وقيل: [إن] الإكراه لا يتصور في حق الرجل؛ لأن انتشار الذكر متعلق بالاختيار، فعلى هذا: يجب عليه الحد. وقد أفهم عدول الشيخ عن لفظ "الكافر" إلى "الذمي": أن المراد بالذكر: من يجب عليه الحد، ويقام عليه، وإلا فأهل الحرب يجب عليهم حد الزنى؛ لاعتقادهم تحريمه. وقد تقدم في باب عقد الذمة [أن إقامة حد الزنى على أهل الذمة] هل هو مبني على وجوب الحكم بينهم عند الترافع أو غير مبني؟ فليطلب منه. واعلم أن ما ذكره الشيخ قد فهم منه فاهمون إيجاب الحد على من زنى وهو جاهل بتحريم الزنى؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لكونه نشأ في بادية بعيدة، لزعمهم أنه ليس في كلام الشيخ ما يخرجه، فقالوا: وهو لا يجب [عليه] الحد؛ لما روى أبو داود عن أبي هريرة، في حديث ماعز: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "هل تدري ما الزنى؟ " قال: نعم، أتيت منها حراما [ما] يأتي الرجل من أهله حلالا. فلو لم يكن الجهل مانعا من الحد لم يكن للسؤال فائدة، ولأن الحد يتبع الإثم وهو غير آثم. وهذا متفق عليه.

نعم، اختلف الأصحاب فيما لو وطئ المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن، وادعى جهله بتحريم [ذلك، في] أنه هل يقبل منه أم لا؟ كما حكاه في "المهذب"، ورجح في "المرشد" القبول؛ لأن معرفة ذلك تحتاج إلى فقه. وقريب منه ما حكاه ابن كج فيما إذا نكح أخته من الرضاع، وادعى أنه يجهل تحريم ذلك؛ فإن في قبول قوله قولين، مع القطع بعدم القبول فيما لو ادعى ذلك في الأخت من النسب. قلت: وليس الأمر كما فهم، بل كلام الشيخ مخرج للصورة المذكورة أيضا؛ لأنه قال: إذا زنى ... إلى آخره. وقد ذكرنا حد الزنى، وبه يظهر أنه وطء من جهل تحريم الزنى وهو قريب عهد الإسلام، ليس بزنى؛ فلا يكون هو زانيا، والله أعلم. قال: فإن كان محصنا، أي: في حالة زناه، فحده الرجم، أي: رجلا كان أو امرأة؛ لما روى أبو داود، عن عبد الله بن عباس: أن عمر – يعني: ابن الخطاب، رضي الله عنه – خطب، فقال: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، فأنزل عليه الكتاب، وكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا من بعده، وإني خشيت إن طال بالناس الزمان أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في كتاب الله تعالى، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله – تعالى – فالرجم حق على من زنى من الرجال والنساء [إذا كان محصنا، إذا قامت البينة، أو كان حمل أو اعتراف]، وأيم الله، لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله – عز وجل – لكتبتها. وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي مختصرا ومطولا. وقد كان ذلك بمحضر من الصحابة، [ولم ينكره أحد].

وروى مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – وزيد بن خالد الجهني: أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أنشدك الله، إلا قضيت بكتاب الله! [فقال الخصم الآخر – وهو أفقه منه -: نعم فاقض بيننا بكتاب الله] وأذن لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل". فقال: إن ابني كان عسيفا عند هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم، فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: "الوليدة والغنم رد عليك، و [على ابنك] وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام. واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". قال: فغدا عليها فاعترفت، فأمر [بها] رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت. وفي رواية أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم جلد ابنه مائة وغربه عاما. وخرجه البخاري ومسلم أيضا. وظاهر الحال: أن المرأة كانت محصنة دون العسيف، ويدل عليه ما سنذكره. ولا يجب عندنا على المحصن مع الرجم الجلد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به في هذا الخبر، وكذا في حديث ماعز. وقد روي عن جابر أنه قال: رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا ولم يجلده. قال أبو الطيب: ولا نقول: ولم يجلده إلا وقد علمه وقطع به. وذهب ابن المنذر من أصحابنا كما حكاه [عنه] ابن الصباغ وغيره إلى

وجوبه؛ متمسكا بما رواه مسلم عن [عبادة] بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"، وأراد بالثيب: المحصن، يدل عليه ما روى أبو داود والنسائي عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان، فإنه يرجم ... "، ورواية البخاري ومسلم، عن عبد الله – وهو ابن مسعود -: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: [الثيب] الزاني ... ". [والصحيح الأول]، وأجاب أصحابنا عن حديث عبادة بوجهين. أحدهما: أن الجلد [فيه] مع الرجم منسوخ بما ذكرناه من حديث أبي هريرة؛ لأن ما رواه عبادة هو البيان الأول؛ ولهذا قال: "خذوا عني، [خذوا عني] "، وأبو هريرة إسلامه متأخر؛ فكان ما رواه ناسخا للأول. والثاني: أنه محمول على ما إذا زنى وهو بكر، فلم يحد حتى زنى وهو محصن. قال: والمحصن: من وطئ [و] هو في نكاح صحيح. "الإحصان" و"التحصين" في اللغة: المنع؛ قال الله – تعالى: {لتحصنكم من بأسكم} [الأنبياء: 80]، وقال – تعالى –: {في قرى محصنة} [الحشر: 14]، ومنه سمي الحان حصانا؛ لامتناع راكبه، ودرع حصينة؛ لامتناع وصول السلام للابسها. و [قد] ورد في الشرع بمعنى "الإسلام"، وبمعنى "البلوغ"، وبمعنى "العقل"، وقد قيل كل منها [في قوله – تعالى]: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة} [النساء: 25].

وبمعنى الحرية، ومنه قوله – تعالى -: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات} [النساء: 25] [بمعنى: الحرائر]، [وكذا قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح في المحصنات المؤمنات} [النساء: 25]. وبمعنى العفة]، ومنه قوله – تعالى: {والذين يرمون المحصنات} [النور: 4]. وبمعنى التزويج، [ومنه قوله تعالى: {والمحصنات من النساء} [النساء: 24]. وبمعنى الإصابة في النكاح]، ومنه قوله تعالى: {محصنين غير مسافحين}، قيل: مصيبين [في النكاح]، ويدل على تعين هذا فيما نحن فيه ما روى مسلم والبخاري وغيرهما عن عبد الله – وهو ابن مسعود – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم [يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله] إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". [وليس المراد بالثيابة: زوال العذرة: لعدم هذه الصفة في الرجال]. فتعين أن المراد بها الوطء. قال القاضي أبو الطيب: وقد أجمعوا على أن المراد بالثيوبة الوطء في النكاح [الصحيح]. [وعبارته في "المهذب": ولا خلاف أن المراد بالثيب: الذي وطئ في نكاح صحيح]. قال المتولي: والمعنى فيه: أن الشهوة [مركبة في النفس]، فإذا أصاب في النكاح فقد نال اللذة، وقضى الشهوة؛ فحقه أن يمتنع عن الحرام. وأيضا: فإنه إذا أصاب امرأته فقد أكد استفراشها، وحينئذ فلو لطخ غيره فراشه عظمت وحشته وأذيته؛ فحقه أن [يمتنع عن تلطيخ فراش الغير]، فإذا لم

يمتنع فقد عظمت جنايته، وهذا أشبه من الأول. ولا فرق في الإصابة بين أن يقع قي حال الإباحة، [أو حال] الإحرام والحيض وعدة الغير، كما صرح به الرافعي وغيره، وهو مذكور في "الشامل" في باب إتيان النساء في أدبارهن. ولا يقوم مقامه الوطء في النكاح الفاسد ووطء الشبهة؛ لأن ذلك يحصل صفة الكمال، وقد ذكرنا في باب ما يحرم من النكاح: أن الوطء في النكاح الفاسد [و] وطء الشبهة لا يحصل [به] صفة الكمال. وهذا ما أورده المعظم، وحكى الغزالي وإمامه قولا: أنه يحصل بهما. وبعضهم نسبه إلى القديم. ولا يقوم الوطء في الملك مقامه [وفاقا؛ كما قاله الإمام وغيره]. قال: وهو حر بالغ عاقل. هذا الفصل يقتضي أمرين: أحدهما: اعتبار الحرية والبلوغ والعقل في الإحصان. [وجه اعتبار الحرية قوله تعالى: {فعليهن نصف ما على المحصنات} [النساء: 25]، أي: الحرائر كما ذكرنا، فإذا كانت الحرية شرطا في إكمال [الجلد] فلأن تكون شرطا في الرجم، وهو أكمل من تمام الجلد كان أولى. قال المتولي: والمعنى في ذلك: أن العقوبة [تتغلظ بتغلظ] الجناية، والحرية تغلظ الجناية من وجهين: أحدهما: أنها تمنع من الفواحش، لأنها صفة كمال وشرف، والشريف يصون نفسه مما يدنس عرضه، والرقيق مستذل مهان، لا يتحاشى ما

يتحاشاه الحر، ولذلك قالت هند [عند] البيعة: "أو تزني الحرة؟! ". والثاني: أنها توسع طريق الحل؛ ألا ترى أن الرقيق يحتاج في النكاح إلى إذن السيد، ولا ينكح إلا امرأتين، ومن ارتكب الحرام مع اتساع [طرق الحل]، كانت جنايته أغلظ. ووجه اعتبار البلوغ والعقل: كون الصبي والمجنون لا يجب عليهما الحد كما تقدم. [و] الأمر الثاني: اعتبار الحرية والبلوغ والعقل في حالة الوطء في النكاح الصحيح، ووجهه قوله صلى الله عليه وسلم: "الثيب بالثيب [جلد مائة والرجم"؛ لأن ذلك يقتضي أن الرجم مستحق بالزنى] بعد الثيوية، ولو جاز أن تكون الثيوبة حاصلة [في الوطء] [في النكاح] الصحيح عند انتفاء الحرية والتكليف، لأدى [إلى إيجاب] الرجم على العبد والصبي والمجنون، وهو لا يجب، أو لما كان استحقاق الرجم بالزنى متعقبا للثيوبة؛ كما دل عليه الخبر. وللمعنى الأول أشار في "الوسيط" بقوله: "إذ ليس يحصل التحصين بالمباح به؛ لأن المباح [هو الوطء]. والضمير في قوله "به" عائد إلى النكاح الصحيح، وكأنه قال: إذ ليس يحصل التحصين بالوطء المباح بالعقد الصحيح حالة الوطء]؛ فإنه لو زنى بعد تلك الحالة لم يقم عليه حد المحصن، وكذا فيما بعد الكمال] والله أعلم. ثم ظاهر كلام الشيخ على هذا التقرير يقتضي أن للإحصان شرطا [واحدا]: وهو الوطء في النكاح الصحيح، وأن لهذا الشرط ثلاثة شروط: وقوعه في حالة الحرية والبلوغ والعقل، [وقد عد القاضي أبو الطيب شروط]

الإحصان أربعة: الحرية، والبلوغ، والعقل، والوطء في النكاح الصحيح، وقال في "الحاوي": إن ذلك مذهب الشافعي، وعليه جمهور أصحابه. وعبارة الشيخ منطبقة على قول البندنيجي: [المذهب]: أن شرائط الإحصان أربعة: أن يطأ في نكاح صحيح، وهو حر، بالغ، عاقل. [لكن يلزم على هذا: أن يقال: إذا وطئ في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل] وكان ذميا، فالتحق بدار الحرب، ثم استرق، فزنى: إنه يرجم. وقد صرح القاضي الحسين وغيره بأن عليه جلد خمسين والتغريب – إن رأيناه – لا غير؛ لأن الاعتبار في الحدود بحالة الوجوب؛ فيجب أن يقال: المحصن الذي يجب عليه الرجم: من وطئ في نكاح صحيح، وهو حر بالغ عاقل في حال الوطء وحالة الزنى، [و] يدخل في ذلك ما إذا استمر على الحرية والعقل من [حين] الوطء في النكاح الصحيح إلى فراغه من الزنى، وما إذا وطئ في نكاح صحيح وهو كذلك، [ثم نقض العهد، واسترق، ثم عتق فزنى؛ أو وطئ في نكاح صحيح وهو كذلك]، ثم جن، وأفاق، ثم زنى – فإنه يرجم في هذه الأحوال اتفاقا؛ لعود الإحصان واستمراره؛ كما صرح به القاضي [الحسين]. وألحق ابن الصباغ بذلك ما إذا وطئ في نكاح [صحيح] وهو كذلك، ثم ارتد وأسلم، ثم زنى. وقد حكى الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين عن بعضه أصحابنا: أن شرط الإحصان واحد، وهو الوطء في النكاح الصحيح، والحرية والبلوغ والعقل شروط في وجوب الرجم دون الإحصان، وفرع عليه القاضي الحسين في باب حد القذف فرعا: وهو ما إذا تزوج العبد، ووطئ في النكاح، ثم عتق في خلال الزنى – فإن نزع في الحال، لا يرجم. وإن نزع، ثم أولج، رجم. وإن لم ينزع [لكن مكث] وداوم عليه، ففي رجمه وجهان؛ بناء على ما لو

جامع امرأته في [شهر] رمضان، وطلع الفجر، ولم ينزع، هل تجب الكفارة، قال: وقد ذكرنا فيه قولين. وقد ذكر الشيخ ثمرة الخلاف السابق، حيث قال: فإن وطئ وهو عبد ثم عتق، أو صبي ثم بلغ، أو مجنون ثم أفاق – فليس بمحصن؛ لما ذكرناه، وهو ما ادعى القاضي أبو الطيب وابن الصباغ أنه ظاهر المذهب، واختاره في "المرشد" ومعظم الأصحاب؛ لقول الشافعي – رضي الله عنه – في النكاح: ولو أصاب الحر البالغ، أو [أصيبت] الحرة البالغة – فهو إحصان. [قال]: وقيل: هو محصن؛ لأنه وطء يتعلق به الإحلال للزوج الأول؛ فوجب أن يتعلق به الإحصان كما لو وطئ في حال الكمال، وهذا ما صححه في "الوسيط" وقال البندنيجي وغيره: إنه قول [من] جعل شرط الإحصان واحدا: وهو الوطء، [كما أشرت] إليه. وحكى القاضي الحسين وجها ثالثا: أن وطء العبد يحصل الإحصان دون وطء الصبي؛ لأن وطء العبد وطء كامل، ووطء الصبي ليس بكامل؛ لأن القلم لا يجري عليه. ووجها رابعا عن أبي إسحاق على ضد هذا؛ لأن الصبي حر كامل. وفي "الرافعي" حكاية الوجهين – أيضا – عن رواية الشيخ أبي حامد، وأنه وجه الأخير بأن الرق يوجب نقصان النكاح، بخلاف الصغر؛ ألا ترى أن الرقيق لا ينكح سوى امرأتين، وللولي أن يزوج الصغير أربعا؟! تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمرين: أحدهما: أن ما ذكره حد لإحصان الرجل، ولا شك في أنه حد لإحصان المرأة – أيضا – وقد يستأنس لهذا الإطلاق بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركا له في عبد ... ". والثاني: أنا حيث نعتبر [صفة] الحرية والبلوغ والعقل في الواطئ حالة وطئه في النكاح الصحيح، لا نعتبر ذلك في الموطوءة في النكاح الصحيح،

حتى لو وطئ الحر [البالغ] العامل أمة أو صبية أو مجنونة [في نكاح] صحيح، ثبت الإحصان في حقه دونها، وكذلك العكس. وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب في "تعليقه" [عن] رواية القاضي أبي حامد عن الشافعي – رضي الله عنه – في كتاب النكاح من القديم، وأنه حكى عنه في النكاح من "الأمالي": أنه لا يصير واحد منهما محصنا إلا أن يكونا كاملين في حال الوطء؛ لأنه وطء لم يصر به أحدهما محصنا؛ إلا أن يكون كاملين في حال الوطء؛ لأنه وطء لم يصر به أحدهما محصنا؛ [فلا يصير به الآخر محصنا] كوطء الشبهة، وعلى ذلك جرى في "المهذب"، وصحح القول الأول، وتبعه الرافعي. وفي "الحاوي" الجزم بما ذكره الشيخ فيما إذا كانت الموطوءة ناقصة، وكذا فيما إذا كانت كاملة والواطئ ناقصا [بسبب رق] أو جنون، وإن كان بسبب صغر، وكان مما يستمتع بمثله كالمراهق، ففي تحصيل حصانتها قولان: أحدهما – وبه قال في "الإملاء"-: لا يحصنها؛ لضعف إصابته. و [القول] الثاني – نص عليه في "الأم" – أنه قد حصنها وإن لم يتحصن بها؛ لأن المعتبر في الإصابة تغييب الحشفة، ولا يعتبر فيه الضعف؛ كإصابة الشيخ. وفي "الشامل" و"تعليق" البندنيجي والقاضي الحسين حكاية القولين منصوصين؛ كما ذكره الماوردي، وأنهما جاريان فيما إذا وطئ الكامل صغيرة. وفي "الوسيط" حكاية الخلاف المذكور في الصورتين وجهين، وقال: إنما ينقدح هذا في الصغير الذي لا يشتهي، أما المراهق [فلا ينقدح فيه خلاف؛ إذ العاقلة لو مكنت من نفسها مجنونا رجمت، والمراهق] المشتهي كالمجنون، وبهذا جزم القاضي الحسين. وقال في "الوجيز": الأظهر فيما إذا كان الصغير في محل الشهوة – وجوب الرجم، وإن [لم] يكن ففيه تردد. قال: وإن كان في غير محصن، فإن كان حرا فحده جلد مائة؛ لقوله تعالى:

{الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 20]. قال الماوردي: وسمي الجلد جلدا؛ لوصوله إلى الجلد. قال: وتغريب عام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "البكر بالبكر: [جلد] مائة وتغريب سنة". قال: إلى مسافة تقصر فيها الصلاة؛ لأن ما دون ذلك في حكم الحضر؛ ولهذا نقول: من سافر دون ذلك، لا يفطر ولا يمسح على الخفين مدة المسافرين، وإذا كان من مكة على دون هذه المسافة، كان من حاضري المسجد الحرام؛ فلا دم عليه إذا تمتع. [و] لأن المقصود بالتغريب إيحاشه [بالبعد] عن الأهل والوطن، وفيما دون مسافة القصر تتواصل الأخبار، ولا تتم الوحشة؛ وهذا ما ذهب إليه الأكثرون. وحكى الماوردي عن ابن أبي هريرة [وجها]: أنه يجوز لما دون مسافة القصر بحيث ينطلق عليه اسم الغربة، وتلحقه مشقة ووحشة [في المقام]؛ لمطلق الخبر، وهو في "المهذب" أيضا. وفي "التتمة" وجه [آخر]: أنه يجوز إلى موضع لو خرج المبكر إليه، لم يرجع [من يومه]. والصحيح الأول: وهو الذي لم يورد أبو الطيب سواه. وهذا بيان لأقل المسافة، فلو رأى الإمام تغريبه إلى [ما] فوق مسافة القصر، فعل. روي أن أبا بكر – رضي الله عنه – غرب إلى فدك، وعمر إلى الشام،

وعثمان إلى مصر، وعلي إلى البصرة والكوفة، وهذا ما أورده الماوردي والمصنف وغيرهما. وفي "التتمة": أنه إذا وجد على مسافة القصر موضع صالح، لم يجز التغريب إلى البعيد. تنبيهات: أحدها: تعيين جهة التغريب، حكى الإمام فيه وجهين. أحدهما: للزاني، ورأى أنه الأظهر؛ لأن المقصود إيحاشه [بالإبعاد] عن الموضع بقدر مرحلتين، فإذا حصل هذا الغرض، [فليأخذ] في أي صوب شاء، وعلى هذا جرى الغزالي. والثاني: للإمام، قال الرافعي: وهو اللائق بالزجر والتعنيف. وبموافقة ما ذكره صاحب التهذيب: أن الإمام لا يرسله إرسالا، بل [يغربه إلى بلد معين. وفي "الحاوي": أن الإمام مخير في تغريبه] بين أمرين: أن يعين البلد الذي يغرب إليه، ويلزمه المقام فيه، ولا يجوز له الخروج منه، ويصير كالحبس، [ولا يعتقل في ذلك الموضع، فليحفظ بالمراقبة والتوكيل به، فإن احتيج إلى الاعتقال اعتقل، وقال في موضع آخر: إنه لا يعتقل إلا أن به، فإن احتيج إلى الاعتقال اعتقل، وقال في موضع آخر: إنه لا يعتقل إلا أن يتعرض للزنى وإفساد الناس؛ فيحبس كفا عن الناس]. والثاني: ألا يعيد البلد؛ فيجوز له إذا جاوز مسافة التغريب أن يقيم في أي

البلاد أراد، وينتقل إلى أي البلاد شاء. وقد حكى الإمام وجها آخر فيما إذا عين الإمام بلد التغريب، فغرب إليه: أنه لا يمنع من الانتقال منه، وهو الذي أورده [أبو سعيد] المتولي، واختاره الإمام بعد نسبة مقابله إلى رأي بعض المصنفين، وأنه لم يذكره أحد من الأئمة، وأنه باطل؛ لأنه جمع بين حبس وتغريب، ولم تشهد له سنة ولا قياس. وما ضعفه الإمام هو ما صححه [القاضي] الروياني في "الحلية"؛ لأن في تمكينه من السير والضرب في [الأرض] نوع تنزه. الثاني: ابتداء العام [من أي وقت يحسب؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي وغيره. أحدهما:] من وقت إخراجه من بلد الزنى. والثاني: من وقت حصوله في الموضع الذي غرب إليه، وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب. الثالث: لا ترتيب في إقامة الجلد والتغريب؛ فيجوز فعل أحدهما قبل الآخر. الرابع: لا بد في التغريب من أمر الإمام أو نائبه، حتى لو أراد الإمام تغريبه، فخرج بنفسه، وغاب سنة، ثم عاد – لم يحصل؛ لأن المقصود التنكيل، وإنما يحصل بنفي السلطان، وهذا هو الصحيح في "تعليق" القاضي الحسين وغيره. وعن [كتاب] ابن كج [حكاية] وجه بعض الأصحاب: أنه يكتفي بذلك، وهو في "تعليق" القاضي الحسين أيضا، وبه جزم الماوردي، وفرق بينه وبين الجلد بأنه حق [يستوفى منه]؛ فلم يجز أن يستوفيه، والتغريب [انتقال] إلى مكان وقد وجد.

الخامس: إذا كان المغرب امرأة، فهل تغرب وحدها؟ [فيه] وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه سفر واجب، فأشبه الهجرة؛ فإنها إذا كانت تخاف الفتنة على دينها كان عليها أن تسافر وحدها. وأصحهما – وبه جزم أبو الطيب -: المنع؛ لقوله ?: "لا تسافر المرأة إلا ومعها زوجها أو محرم لها". ولأنه لا يؤمن عليها. هكذا أطلق مطلقون الوجهين، ومنهم القاضي الحسين، وخصهما الإمام ومن تبعه بما إذا كان الطريق آمنا، وأشار إلى القطع بالمنع إذا لم يكن الطريق آمنا. فعلى هذا: إن تطوع محرمها بالخروج معها، غربت. وإن أبى ورضي الزوج، غربت. فإن لم يكن، أو كان وأبى، ووجدت نسوة ثقات أو امرأة واحدة تخرج في صحبتها – غربت. وقيل: لا يكتفي بالنسوة. فإن امتنع [من] يجوز التغريب معه من السفر إلا بالكراء، كان [الكراء] من مال الزانية؛ لأن ذلك من مؤنة هذا السفر، وذلك يجب عليها؛ كما تجب نفقتها وكذا ركوبها؛ قاله القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبندنيجي. فإن لم يكن فمن بيت المال. وعن كتاب ابن كج: أن نفقة المغرب ومؤنته من ماله بقدر ما يشترك فيه السفر والحضر، وما زاد بسبب السفر فهو في بيت المال، وهو ما أورده الماوردي والقاضي الحسين، وقالا: إنه إذا لم يكن فيه شيء كان في كال الزاني. وقياس هذا: أن تكون أجرة المحرم ومن في معناه من بيت المال مع القدرة، و [قد] صرح به الغزالي، ورجحه البغوي وابن كج، وصححه القاضي

الحسين، وقال: إنه إذا لم يكن في بيت المال شيء كان من مالها و [لو] لم يوجد إلا المحرم، وامتنع من الخروج مع بذل الأجرة له – فهل يجبر على الخروج؟ فيه وجهان: أحدهما – عن ابن سريج – نعم؛ للحاجة إليه في إقامة الواجب. والمذهب – كما قال البندنيجي -: أنه لا يجبر؛ كما في الحج، ولأنه تغريب من لم يذنب. وعلى هذا، فالقياس: أن يؤخر التغريب إلى أن يتيسر، وبه جزم ابن الصباغ. وعن الروياني: أنها تغرب، ويحتاط الإمام في ذلك. السادس: أنه لا فرق في وجوب التغريب بين أن يكون الزاني من أهل البلد التي زنى فيها، أو غريبا عنها. نعم، لا يغرب الغريب إلى بلده، ولا إلى موضع بينه وبينها دون مسافة القصر. قال الغزالي: فلو انتقل بعد ذلك إلى بلده، فالظاهر: أنه لا يمنع. وحكى غيره أنه يمنع، وهو الأشبه في "الرافعي". فروع: لا يمكن المغرب [من] [أن يستصحب] [معه] أهله وعشيرته؛ لأنه لا يستوحش حينئذ، وله أن يحمل جارية يتسرى بها وما يحتاج إليه [من نفقة] لنفسه ولمن يخدمه. قاله القاضي الحسين، وتبعه البغوي، وفي "التنمية": أنه لو خرج مع عشيرته لم يمنعوا. إذا زنى المسافر في الطريق، غرب إلى غير مقصده. وإذا عاد المغرب إلى الموضع [الذي غرب] منه، [رد إلى الموضع الذي غرب فيه]، وهل يستأنف المدة أو يحتسب بما مضى دون مدة الرجوع؟ الذي أورده في "الوجيز": الاستئناف، وقال في "الوسيط": إنه الأظهر.

وهذا ما أبداه الإمام. والذي حكاه القاضي الحسين والماوردي والبندنيجي [والمتولي]: مقابله. قال الرافعي: وقد خرج بعضهم هذا الخلاف من الخلاف في أنه: هل يجوز في اللقطة تغريب سنة للتعريب؟ إذا زنى المغرب في الموضع الذي غرب فيه غرب إلى موضع آخر. قال ابن كج والماوردي: ويدخل فيه بقية الأول؛ لأن الحدين من جنس واحد فتداخلا. وفي "تعليق" القاضي الحسين وجه آخر: أنه لا يغرب [منه]؛ لأن تلك البقعة لما صلح أن يكون التغريب بها عقوبة في الزنى الأول؛ فكذا في الثاني. إذا انقضت مدة التغريب، فهل يجوز للمغرب الرجوع إلى وطنه؟ أطلق الأكثرون: الجواز. وقال الماوردي: إن عين الإمام موضع التغريب، لم يجز إلا بإذن الإمام، فإن خالف عزر، كما إذا خرج من الحبس بغير إذن، وإن لم يعين له الموضع جاز من غير إذن، قال: والأولى أن يكون بإذن. إذا ادعى المغرب انقضاء السنة فالقول قوله إذا لم تكن بينه – قاله الماوردي – لأنه من حقوق الله – تعالى، ويحلف استظهارا. ولا يسقط عن المغرب في زمان التغريب نفقة زوجته، وتنقضي مدة العنة والإيلاء. قال: وإن كان عبدا فحده جلد خمسين، عدول الشيخ عن لفظ "الرقيق" إلى لفظ "العبد" يجوز أن يكون من باب ذكر أحد الأمرين والمراد هو مقابله كقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81]، ويجوز أن يكون للتنبيه على مذهب المخالف – وهو: داود – فإنه رأى أن حد العبد مائة وحد الأمة خمسون؛ تمسكا بقوله تعالى: {الزانية والزاني} الآية، وقوله تعالى: {فإذا أحصن}،

أي: بالإسلام، أو العقل أو البلوغ، كما تقدم {فعليهن نصف ما على المحصنات}، أي: الحرائر، {من العذاب} [النساء: 25]، فأوجب على كل زان جلد مائة، وخص الأمة بالاقتصار على خمسين، فبقينا فيما عداها على [موجب] الأول، وهذا هو الأقرب. ودليلنا عليه: أن العبد ناقص بالرق؛ فوجب أن يكون [حده على النصف من الحر]؛ كالأمة. وإنما قلنا: إن العلة في نقصان حد الأمة الرق؛ أنها [إذا] عتقت وزنت، كمل حدها. فإن قيل: قد قرأ ابن عباس: {فإذا أحصن} بضم الألف، ومعناه: زوجن، ومقتضى ذلك: أنهن إذا لم يزوجن لا يجب [عليهن] حد، وكذلك العبد؛ كما صار إليه ابن عباس. قيل في جوابه: إن المنع أخذ من دليل الخطاب، [وقد روى] البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت [ولم تحصن]، فقال: "إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم [إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت] فبيعوها ولو بضفير" يعني: حبلا، قال القاضي الحسين: [يعني]: حبلا باليا. وهذا منطوق، والمنطوق مقدم على المفهوم. ولأن من لزمه الحد بعد التزويج، لزمه قبل التزويج؛ كالحر والحرة، [وقد روي عن أبي ثور أنه قال: "يجب عليه جلد مائة"]. قال: وفي تغريبه ثلاثة أقوال: أحدهما: لا يجب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها

الحد ... " أربع مرات، ولم يذكر النفي. ولأن النفي إنما أمر به للوحشة في الانقطاع عن الأهل، والعبد لا وحشة عليه [في ذلك؛ لأنه لا أهل له في الغالب، و [لأن] فيه تفويت حق السيد]، وهذا ما اختاره [القاضي] أبو حامد، وهو أحد قولي الجديد، كما قال البندنيجي. وقال بعض الشارحين: إنه أضعف الأقوال؛ لأن العبد إذا [ألف موضعا شق عليه الانتقال، ويدل عليه وجوب نفي الغريب. وحق السيد لا يبالي به في عقوبات الجرائم؛ ألا ترى أنه يقتل إذا ارتد، ويحد إذا قذف، وإن تضرر السيد؟! مع إمكان إجارته واستعماله في الغربة. والثاني: يجب تغريب عام، لأن [أمة لابن] عمر – رضي الله عنهما – زنت فجلدها، وغربها إلى فدك، ولا مخالف له؛ فدل على ثبوته. وأما اعتباره سنة؛ فلأنها مدة مقدرة بالشرع لأمر يتعلق بالطبع؛ فاستوى فيها الحر والعبد؛ كمدة العنة والإيلاء، وهذا ما رواه ابن أبي هريرة مخرجا، قال القاضي أبو الطيب: [ولا يحفظ عن الشافعي. وفي "تعليق" القاضي الحسين و"الحاوي" والبندنيجي: أنه قوله في القديم، وأشار إلى ذلك ابن الصباغ أيضا. والثالث: يجب تغريب نصف عام؛ لأنه حد يتبعض فينقص العبد فيه عن الحر؛ كالجلد، وهذا أصح عند الشيخ أبي حامد والماوردي والإمام والقاضي الحسين كما حكاه في كتاب اللعان. وقال هنا: إنه الجديد، وكذلك المزني، وقال

أبو الطيب]: إن المزني قال: إنه أولى قوليه، وبه قطع في موضع آخر، وعلى هذا جرى أبو إسحاق المروزي، فجرم به، وعلى هذا يجيء في مؤنة التغريب الخلاف السابق. فإن قلنا ثم: إنها على الحر، كانت هنا على السيد، وإن قلنا ثم: إنها في بيت المال، فكذلك هاهنا، وقد صرح بهما الجيلي، وحكى الماوردي في كتاب اللعان الوجهين في نفقة الأمة في مدة التغريب، وعلل وجه كونها على بيت المال: بأن السيد ممنوع منها، وحكى هنا وجها في أصل التغريب: أن الإمام إن تولى جلد الرقيق غربه، وإن تولاه السيد لم يغربه. وما ذكرناه في القن يجري في المدبر والمعتق بصفة والمكاتب وأم الولد، وفيمن نصفه رقيق ونصفه حر ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كالكامل الرق، وبه جزم الماوردي. والثاني: أنه يجب عليه ثلاثة أرباع الجلد، وقياسه: أن يغرب تسعة أشهر؛ تفريعا على الصحيح؛ لأنه يحتمل التقسيط وألزم قائله [أن يجوز له نكاح ثلاث نسوة. والثالث: أن يفرق بين] أن يكون بينه وبين سيده مهايأة أو لا، فإن كانت ووقع الزنى في نوبة نفسه، فعليه حد كامل، وإن زنى في نوبة سيدة أو لم يكن بينهما مهايأة، فعليه حد الأرقاء. قال: ومن لاط وهو من أهل حد الزنى، يعني لكونه بالغا عاقلا مختارا عالما بتحريم اللواط، وهو مسلم أو ذمي أو مرتد – ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه الرجم؛ أي: محصنا كان أو [غير محصن]؛ لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط [فارجموا الأعلى والأسفل]. ورواية أبي داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من

وجدتموه يعمل عمل قوم لوط] فاقتلوا الفاعل والمفعول به". وأخرجه الترمذي وابن ماجه، وكذا النسائي ولفظة: "لعن الله من عمل عمل قوم لوط". وعلى هذه الرواية: فدليل كون القتل بالرجم ما روى أبو داود عن سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية، قال: يرجم. ولأنه قتل وجب بالوطء؛ فكان بالرجم كقتل الزاني؛ وهذا ما نص عليه في كتاب "اختلاف علي وعبد الله"، كما نقله البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين، واختاره البغداديون. وقيل على هذا في المسألة قول آخر أو وجه: أنه يقتل بالسيف، ويحكى عن أبي الحسين [ابن] القطان والبصريين؛ لأن إطلاق القتل ينصرف إليه؛ بدليل قتل المرتد. وقيل يهدم عليه جدار، أو يرمى من شاهق حتى يموت؛ أخذا من عذاب قوم لوط. قال الله تعالى: {فجعلنا عليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة} [الحجر: 74]. والثاني: يجب عليه الرجم إن كان محصنا، والجلد والتغريب إن لم يكن محصنا؛ لأن الله – تعالى – سمى هذا الفعل: فاحشة، بقوله تعالى: {لتأتون

الفاحشة} [العنكبوت: 28]، و [قد] قال تعالى: {والذان يأتيانها منكم فآذوهما} [النساء: 16]، [ثم] قال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا ... " الحديث؛ فدل على ذلك حد الفاحشة؛ لأنه بيان للآيتين. وقد روى أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان"، وإذا ثبت أن هذا زنى، دخل تحت قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا} الآية [النور: 2]. ولأنه حد يجب بالوطء فاختلف البكر والثيب [فيه] كحد الزنا. وهذا ما حكاه الربيع، وقال: إن الشافعي – رضي الله عنه – رجع فيه عن الأول؛ كما نقله الماوردي والبندنيجي والقاضي الحسين، وهو المشهور من المذهب؛ كما نقله المصنف والقاضي وأبو الطيب، وصححه الرافعي وصاحب "المرشد" والنواوي. وحكى المراوزة قولا: أن الواجب في اللواط التعزيز؛ لأنه وطء لا يجب المهر [إلا] بالإيلاج فيه، فلا يجب به الحد؛ كإتيان البهيمة، وهو مخرج منه. قال [الرافعي]: ومنهم من لم يثبت هذا القول. قلت: وهم العراقيون. ولا فرق في ذلك بين أن يصدر هذا الفعل في أجنبي أو [في] مملوكة، على الصحيح. وقيل: إذا جرى في مملوكه، كان في وجوب الحد قولان؛ لقيام الملك؛ كما

لو وطئ أخته [من الرضاع] المملوكة، وهذا ما نسبه القاضي الحسين إلى الشيخ أبي سهل الأبيوردي، والقائلون بالأول فرقوا بأن الملك [ثم] يبيح الإتيان في القبل على الجملة، فإذا لم يتجه في الأخت انتهض شبهة، ولا يبيح هذا النوع بحال. وهذا كله بالنسبة إلى الفاعل، أما المفعول به: فإن كان [صغيرا أو مجنونا أو مكرها، فلا حد عليه، ولا يجب [له] المهر؛ لأن منفعة بضع الرجل لا تتقوم. وإن كان ممن يجب عليه الحد، فإن قلنا: يجب عليه القتل كيف كان، فكذلك هو، ويقتل كما يقتل الفاعل. وإن قلنا: إن حده كحد الزنى، فيجلد المفعول به ويغرب، محصنا كان أو غير محصن؛ قاله الرافعي والقاضي الحسين، ووجهه بأنه لا يتصور إدخال الذكر في دبره على وجه مباح حتى يصير محصنا ويقال برجمه إذا مكن من نفسه. وفي "الحاوي" [أنه يستوي على هذا القول الفاعل والمفعول به فيما ذكرناه]. وفي "الوسيط": أن في اعتبار إصابته زوجته في نكاح صحيح، نظرا وترددا. تنبيه: اللواط: إتيان الرجل الرجل، وسمي بذلك؛ لأن أول من عمله من الأناسي قوم لوط، وإلا فقد روي أنه – عليه السلام – قال: "أول من لاط إبليس لما هبط من الجنة فردا لا زوجة له، فلاط بنفسه، فكانت ذريته منه". وهل يلتحق بذلك في الحكم إتيان المرأة الأجنبية في دبرها؟ فيه طريقان في "الوسيط": أظهرهما: نعم؛ لأنه إتيان في غير المأتي فيجيء في الفاعل الأقوال، وتكون عقوبة المرأة الجلد والتغريب على قولنا: إن حده كحد الزنى. وهذا ما

أورده في "الوجيز"، ويحكى عن الشيخ أبي حامد، وحكى البندنيجي [عن] النص مثله، ورجحه البغوي، وعلى [هذا] إن كانت مكرهة وجب لها [مهر المثل]. والثاني: أنه زنى؛ [لأنه وطء صادف أنثى، فأشبه وطأها في القبل. قال الرافعي: وهذا ما [اختاره ابن كج، وأورده في "المهذب"]، وهو المذكور في "الحاوي"، وفي الشامل – أيضا – في باب إتيان النساء في أدبارهن، وفي "الإبانة" هنا. فعلى هذا: حده حد الزنى بلا خلاف، وترجم المرأة إن كانت محصنة. وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب الشهادة على الحدود: أن الصحيح على هذا القول: أن المرأة تجلد، سواء كانت بكرا أو ثيبا؛ لأنها لا تصير محصنة بالتمكين من دبرها، بخلاف الرجل؛ فإنه يصير محصنا [بإيلاج الذكر]. قال: وإن أتى بهيمة ففيه قولان كاللواط، أي: كالقولين في اللواط، وهو ما ذكره الشافعي هنا، وقال في "الوسيط": إنه وجه مخرج. ووجه الأول: ما روى أبو داود عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة [عن ابن عباس] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه". قال: قلت [له]: ما شأن البهيمة؟ قال: ما أراه قال ذلك [إلا] أنه كره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها ذلك العمل [وأخرجه النسائي]؛ فهذا الحديث دل على القتل. وأما كونه بالرجم؛ فلأنه قتل وجب بالوطء؛ فكان بالرجم كقتل الزنى، وهذا رأي البغداديين. وذهب البصريون – تفريعا على وجوب القتل كيف كان – أنه يقتل بالسيف؛

كما تقدم مثله في مسألة اللواط. ووجه القول القاني: أنه إيلاج في فرج [يجب به الغسل؛ فوجب به الحد، وفرق فيه بين البكر والثيب] كالإيلاج في فرج المرأة. [قال]: وقيل فيه قول ثالث: أنه يعزر؛ لما روى [أبو داود] عن عاصم -[وهو] ابن أبي النجود – عن أبي رزين، [وهو] مسعود بن مالك الأسدي، عن ابن عباس قال: "ليس [على الذي يأتي بهيمة حد" وأخرجه النسائي. وهذا لا يقوله إلا توقيفا، وإذا انتفى الحد ثبت التعزيز؛ لأنه أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة، ولأنه [أتى فرجا] لا تميل إليه النفس ولا تدعو الشهوة إلى مواقعته، والحدود شرعت زواجر عما تدعو إليه النفوس؛ ألا ترى أنه لو شرب الخمر لوجب الحد، ولو شرب البول لم يجب؛ لما ذكرناه. وهذا القول ادعى في "الوسيط": أنه المنصوص، وغيره قال: إنه أخذ من قول الشافعي – رضي الله عنه – في الشهادات: "ويكون فيما يسأل الإمام الشهود: أزنى بامرأة؟ [لأنهم قد] يعدون الوقوع على البهيمة زنى، [وقد يعدون] الاستمناء زنى"، وهو الأصح عند البغوي، وصاحب "المرشد"، والرافعي، والنواوي. ويقال: إن عليه أكثر أهل العلم، وكذلك قال الإمام: إنه الأصح عند الأصحاب وعن "البيان" [حكاية] طريقة قاطعة [به. قال:] فإن كانت [البهيمة تؤكل]، وجب ذبحها؛ للحديث. قال القاضي الحسين والماوردي: واختلف في المعنى فيه: فقيل: لأنها ربما تأتي بولد مشوه [الخلق].

[قال الماوردي: روي أن راعيا أتى بهيمة فولدت خلقا مشوها]. قال القاضي الحسين: وعلى هذا لا تذبح إلا إذا كانت أنثى وقد أتاها في فرجها. وقيل: لأن في بقائها تذكارا للفاحشة؛ فيعتبر بها. قال القاضي: وعلى هذا تذبح ذكرا كانت أو أنثى، [أتاها] في فرجها أو في دبرها. قال: وأكلت؛ لأنها حيوان مأكول ذبحه من هو من أهل الذكاة؛ فحل أكله كغيرها من الحيوانات المأكولة؛ وهذا أصح في "الجيلي" و"المرشد"، واختاره الإمام والبغوي، وعن ابن كج [القطع به]. وقيل: لا تؤكل؛ لأنها مأمور بقتلها لغير قربة، وما أمر بقتله لا يؤكل؛ كالسبع، وقد أشار إلى هذا ابن عباس – رضي الله عنه – حين سأله عكرمة [كما تقدم]، وهذا أصح عند الشيخ أبي حامد؛ كما نقله الرافعي. قال: وإن كانت لا تؤكل، فقد قيل: تذبح؛ لإطلاق الخبر، وقيل لا تذبح؛ لأن النبي ? نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة؛ وهذا ما صححه النواوي وصاحب "المرشد"، والحديث الأول راويه عمرو، وهو ضعيف، وقد بين البخاري ضعفه حيث قال: عمرو [صدوق، ولكنه يروي عن عكرمة مناكير. وقال أيضا: وعمرو يروي] عن عكرمة في قصة البهيمة، فلا أدري أسمع أم لا؟ وهذه الطريقة حكاها القاضي الحسين والشيخ أبو جامد وجماعة، ولم يوردوا سواها، وكذا البندنيجي بعد قوله: إن الشافعي – رضي الله عنه – ما تكلم على البهيمة بشيء، وإنما تكلم فيها أصحابه.

وحكى القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما وجها فيما إذا كانت البهيمة تؤكل: يمنع الذبح؛ لأنها أسوأ حالا من المجنونة [و] المستكرهة، ثم لا تحدان؛ [فكذا: هذه] وهو مأخوذ من قول الشافعي – رضي الله عنه – في كتاب "اختلاف علي وعبد الله" بعد روايته الخبر السابق عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: إن صح قلت به؛ لأن في روايته ضعفا. فرع: إذا قلنا بوجوب الذبح، ولم تكن البهيمة له، فإن كانت مما يحل أكلها، وقلنا بحله، وجب [على] الفاعل ما بين قيمتها حية ومذبوحة، [و] إلا وجبت [القيمة كلها]؛ لأنه المتسبب في إتلافها، كذا قاله القاضي أبو الطيب والبندنيجي والمصنف، وهو الأصح في "الرافعي". وحكى ابن الصباغ عن أبي علي الطبري أنه [قد] قيل: إن قيمتها في بيت المال، وهو الذي صححه القاضي الحسين. وفي "الوسيط" و"الحاوي": حكاية وجه أنه لا [يغرم لصاحبها شيء]؛ لأن الشرع أوجب قتلها للمصلحة. وما ذكرناه من وجوب الحد أو التعزيز في إتيان الرجل البهيمة، يجري فيما إذا مكنت [المرأة] قردا أو ذئبا من نفسها؛ ذكره البغوي وغيره. وقال القاضي الحسين: المذهب: أنه يجب عليها الحد، [ويمكن أن يقال: لا يجب؛ لأنه لا يحصل لها اللذة والشهوة بهما. وقتل البهيمة في هذه الصورة لا يجيء إلا إذا قلنا: العلة في المسألة السابقة: خشية تذكار الفاحشة، وإن ما لا يؤكل يقتل]. قال: [وإن وطئ أجنبية ميتة، فقد قيل: يحد؛ لأنه إيلاج في فرج لا شبهة [له] فيه، فهو كفرج الحية؛ وهذا ظاهر المذهب في "تعليق" البندنيجي. وقيل: لا يحد؛ لأنه غير مقصود، ولا يميل الطبع إليه، وعلى هذا يعزر.

والخلاف جار فيما إذا لاط بميت، وقد رواه [المصنف] في "المهذب" وجهين، وقال القاضي [الحسين]: إنه قولان كالقولين في إتيان البهيمة؛ وقياس هذا: أنه يكون الصحيح الثاني، وبه صرح النواوي وصاحب "المرشد"، وجزم به في "الوسيط". قال: وإن وطئ أجنبية فيما دون الفرج، عزر، أي: ولا حد عليه؛ لما روى أبو داود، عن عبد الله بن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم [فقال]: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة؛ فأصبت منها دون أن أمسها، فأما هذا فأقم علي ما شئت. فقال عمر: قد ستر الله عليك لو سترت على نفسك، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فانطلق الرجل، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه، فتلا عليه: {وأقم الصلاة طرفي النهار ...} الآية [هود: 114]، فقال رجل من القوم: يا رسول الله، أله خاصة أم للناس؟ فقال: "للناس كافة"، وأخرجه مسلم والترمذي. وهكذا الحكم فيما إذا وطئ رجلا فيما دون الدبر. قال: وإن استمنى بيده عزر؛ لأنها مباشرة محرمة بغير إيلاج؛ فكان كمباشرة الأجنبية فيما دون الفرج، وإنما قلنا: إنها محرمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ملعون من نكح يده". ولأنها مباشرة تفضي إلى قطع النسل؛ فحرمت كاللواط. قال المتولي في كتاب النكاح: ويخالف ما إذا استمنى بيد المرأة أو

الجارية، حيث يجوز له ذلك؛ لأنها محل الاستمتاع، بخلاف يده. وعلى ذلك جرى الروياني في "التجربة". وحكى الرافعي عن ابن كج: [أن] في تحريمه توقفا في القديم. وفي "فتاوى" القاضي: أن امرأته لو غمزت ذكره بإذنه فأمنى، كره ذلك؛ لأن العزل مكروه. [قال: وإن أتت المرأة المرأة عزرتا؛ لأنه فعل محرم لم يحصل فيه الإيلاج، فلم يوجب إلا التعزيز؛ كالمباشرة فيما دون الفرج. قال القاضي أبو الطيب: وتحريم ذلك تحريم الزنى، ويأثم كما يأثم الزاني، لرواية أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان"]. قال: وإن وطئ جارية مشتركة بينه بين غيره، أو جارية ابنه، عزر [، أي:] ولا يحد. أما في الجارية المشتركة؛ فلأنه اجتمع مع يوجب الحد وما لا يوجبه، والحد مبني على الإسقاط. وأما في جارية الابن؛ فلما للأب فيها من الشبهة بدليل لحوق نسب الولد. وفي "الحاوي" وجه: أنه لا يعزر. قال: وإن وطئ أخته بملك اليمين ففيه قولان: أحدهما: يحد؛ لأنها محرمة عليه [على] التأبيد، وملكه ليس شبهة فيه؛ كما لو وطئ عبده. وبقولنا: "على التأبيد" خرجت الجارية المشتركة والمزوجة والمعتدة؛ وهذا ما نص عليه في "الإملاء"، وهو من الكتب الجديدة؛ كما قال الرافعي. وقال الإمام: إنه منصوص عليه في القديم، فعلى هذا: هل يثبت النسب لو أتت منه بولد؟ وهل تصير أم ولد [له]؟ فيه خلاف سبق، وادعى البندنيجي أنه ثابت على القولين معا.

[و] الثاني: [يعزر،] وهو الأصح؛ لأنه وطئ في ملكه في المحل المستباح على الجملة؛ فلم يجب به الحد؛ كما لو وطئ أمته الحائض. وفي "تعليق" البندنيجي أن هذا القول مع الأول منصوصان في آخر "الإملاء". وقد وافق الشيخ على التصحيح القاضي أبو الطيب والحسين والبندنيجي. وحكى الرافعي طريقة مجربة لهذا الخلاف فيما إذا وطئ الجارية المشتركة، والمزوجة والمعتدة عن الغير والجارية المجوسية والوثنية، ووطئ الكافر الجارية التي أسلمت في ملكه قبل البيع. وقد حكينا وجه الإيجاب في الجارية المشتركة في باب عتق أم الولد من تخريج الإمام، وأن الإصطخري خرج قولا في وجوب الحد على الأب إذا وطئ جارين الابن، مما إذا وطئ أخته المملوكة؛ لأجل أن الوطء في الصورتين حرام بالاتفاق، ووجوبه فيما إذا كانت الجارية موطوءة الابن أظهر؛ لقوة المشابهة، وهو ما حكاه الإمام فيها نصا عن القديم. وحكى البندنيجي الخلاف فيما إذا كان الابن قد وطئها: وجهين. وحكى الروياني في "التجربة" عن الأصحاب: القطع به فيما إذا كان الابن قد استولدها، وخص محل الخلاف بما إذا لم تكن مستولدة؛ وكانت موطوءة الابن. وفي "الوسيط" الجزم بعدم الوجوب إذا حبلت من الأب، وأن الخلاف فيما إذا لما تحبل. والصحيح: ما أورده الشيخ كما تقدم. وجارية بيت المال إذا وطئت: هل يجب الحد على واطئها؟ تقدم الكلام فيه في أواخر باب: قسم الفيء والغنيمة. قال: وإن وطئ امرأة في نكاح مجمع على بطلانه، وهو يعتقد تحريمه: كنكاح ذوات المحارم، أي بالقرابة أو بالرضاع أو النكاح، أو استأجر امرأة للزني، فوطئها – حد، أي: خلافا لأبي حنيفة في الجميع. أما في الأولى؛ فلقوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا} [النساء: 22]، فجعل الله

- تعالى - وطء امرأة الأب أغلظ من الزنى؛ [لأنه قال فيه: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء: 32]، وزاد [فيه] هاهنا: {مقتا}، وإذا كان أغلظ من الزنى،] وجب أن يكون أولى بوجوب حده. وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه] قال: "من وقع على ذات رحم [محرم] فاقتلوه". قال الماوردي: وهو محمول على مواقعتها بالنكاح؛ لأن غير النكاح يستوي فيه ذات المحرم وغيرها، وإذا كان كذلك فهو عام في المحصن وغير المحصن، إلا أن الدليل قد دل على أن غير المحصن لا يقتل؛ فبقي العموم فيما عداه. وأما فيما إذا استأجرها على الزنى؛ فلأنه عقد باطل بالإجماع؛ فلم يكن شبهة في درء الحد؛ كنكاح ذوات المحارم. وهكذا الحكم فيما إذا تزوج بامرأة خامسة، أو بمن طلقها ثلاثا قبل أن تنكح زوجا غيره، أو بمعتدة، أو بأخت زوجته ونحوها، أو بمرتدة، أو بذات زوج، أو نكح الكافر مسلمة ووطئها. وبمثله أجاب البغوي فيما إذا وطئ وثنية أو مجوسية بنكاح. وعن "جميع الجوامع" في المجوسية: أنه لا يجب الحد؛ لأن في نكاحها خلافا. وكما يجب عليه فيما ذكرناه الحد عندنا، [يجب على المرأة – أيضا – خلافا له. ولا خلاف عندنا] وعنده في أنه لو استأجر امرأة لغسل أو خبز أو غير ذلك، فزني بها - وجب [عليه] الحد. قال: وإن وطئ في نكاح مختلف [في إباحته: كالنكاح] بلا ولي ولا شهود، ونكاح المتعة لم يحد؛ لأنه نكاح مختلف في صحته؛ فإن أبا حنيفة

– رحمه الله – يصحح النكاح بلا ولي، ومالك – رحمه الله – يصححه بلا شهود، وابن عباس – رضي الله عنه – يروى عنه إباحة نكاح المتعة؛ وإذا كان كذلك، لم يجب [به] الحد؛ للشبهة كما لو وطئها في عقد وليه فاسق. وقيل: إن وطئ في نكاح بلا ولي، وهو يعتقد تحريمه – حد؛ لقوله - ?: "لا تنكح المرأة المرأة؛ إنما الزانية [هي التي] تنكح نفسها". ولأن الاعتبار بما يعتقده؛ ألا ترى أنه لو رأى أمة [في داره] ظنها أمته، فوطئها – لا حد عليه، ولو علم أنها أجنبيه وجب الحد. وقد روي أن رفقة جمعت ركبا فيهم امرأة، فجعلت أمرها إلى رجل، فزوجها، فجلد عمر – رضي الله عنه – الناكح والمنكح، وهو قول أبي بكر الصيرفي. وحكى الإمام في آخر [باب] الغصب: أن الصيدلاني قال به. وفي الرافعي: أنه يحكي عن الإصطخري وأبي بكر الفارسي أيضا. قال: وليس بشيء؛ لقوله ?: "ادرءوا الحدود بالشبهات"، والاختلاف شبهة. [وأما قوله: إن الاعتبار بالاعتقاد، فهو إذا اعتقد تحريمه من طريق النظر كانت شبهة] المخالف قائمة فيه، بخلاف أمة الغير. وأما الخبر فالمراد به تشبيهها بالزانية في تبرجها واستقلالها بضم نفسها؛ ولهذا قال: "الزانية هي التي تنكح نفسها"، ولم يقل: التي تنكح نفسها زانية. وأما فعل عمر – رضي الله عنه – فإنما فعل ذلك؛ تأديبا لا حدا؛ [لأنه] لا يجب الحد على المنكح ولا على الناكح إلا بعد الوطء، ولم ينقل. فإن قيل: ما ذكرتموه من المعنى يبطل بالنبيذ؛ فإنكم تحدون فيه، وفيه شبهة المخالف.

قيل: الجواب عنه من وجوه: أحدها: أن الغرض من الحد الردع والزجر، والنكاح بلا ولي لا يفتقر إلى ذلك؛ لأنه لا غرض فيه يدعو النفس إليه، وليس كذلك [في] النبيذ؛ [فإنه لا طريق إلى استباحته]، والنفس تدعو إليه؛ فلا يمكن الزجر عنه إلا بالحد؛ ألا ترى أنا نحد من اعتقد إباحته، بخلاف النكاح بلا ولي؛ وهذا ما أورده ابن الصباغ. والثاني – قاله الإمام – أن كل ما يحذر من الخمر فهو في النبيذ موجود، وليس كذلك الزنى. والثالث – قاله القاضي أبو الطيب في كتاب السير -: أن الوطء في هذا النكاح لا يئول إلى حالة تحرم بالإجماع، وليس كذلك النبيذ؛ فإن له حالة تئول إلى ما يحرم بالإجماع بمعنى حالة السكر؛ فوجب الحد. قال الإمام: وكان شيخي يحكي عن الصيرفي في ثبوت الحد على الحنفي في النكاح بلا ولي – طرد قياس النص في شرب النبيذ، وحكاه الرافعي عنه، وعن غيره، وعن الشيخ أبي علي: أنه حكى عنه القطع بأنه لا حد عليه. وقد ذكرت في كتاب النكاح خلافا في وجوب الحد على من وطئ في نكاح المتعة؛ بناء على القول بأن ابن عباس – رضي الله عنه – رجع عن [القول بإباحته]، وقد نسب الغزالي القول بإيجاب الحد فيه على هذا التقدير إلى القديم، وما أرده الشيخ [فهو] بناء على أنه لم يرجع عنه. فإن قيل: إذا كان خلاف ابن عباس في حل نكاح المتعة شبهة دارئة للحد مع ثبوت تحريمه بالنص؛ فينبغي أن يجعل عطاء في إباحة الجواري شبهة دارئة للحد عمن وطئ جارية الغير بإذنه. قيل: قد اختلف الأصحاب في ذلك: فمنهم من رأى ذلك؛ عملا بالأصل المذكور. ومنهم من أوجب الحد، وهو الصحيح؛ لأنه لم يصح هذا المذهب عن عطاء،

وقد أشار إليه [الغزالي] في كتاب الرهن حيث قال: وقيل: [إن] مذهب عطاء إباحة الجواري. نعم، لو ادعى الواطئ جهله بتحريم ذلك مع الإباحة، فهل يقبل؟ تقدم الكلام [عليه] في أول الباب. فرع: إذا شهد [شاهدا زور] على نكاح [رجل] لامرأة، فلا تحل له عندنا؛ خلافا لأبي حنيفة. فإذا وطئها الزوج وهو عالم بالحال، قال الشيخ أبو حامد والقاضي الحسين: عليه الحد دونها إن كانت مكرهة. قال ابن الصباغ قبيل كتاب الشهادات: وفيه نظر؛ فإن التحريم مختلف فيه؛ ولأجل ذلك قال في "البحر" في باب عدد الشهود: وقال بعض أصحابنا: في وجوب الحد نظر، وأنا أقول: لا يلزم الحد؛ لأنه مختلف في إباحته، وخلاف أبي حنيفة في صحة النكاح أعظم الشبهة؛ فالوطء وطء شبهة، سواء كان عالما أو جاهلا. قال: وإن وجد امرأة في فراشة، فظنها زوجته، أي أو مملوكته الكاملة له، فوطئها - لم يحد، [أي]: خلافا لأبي حنيفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم؛ فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة". ولأن الحد يتبع الإثم، ولا إثم عليه. ولأنه وطء يتعلق به تحريم المصاهرة؛ فلم يجب به الحد؛ كالوطء في النكاح الفاسد، وقبل [قوله] في دعوى ذلك؛ للاحتمال. وأما المرأة: فإن اعتقدت ما اعتقده، فلا حد عليها أيضا.

وإن علمت بالحال، وجب عليها [الحد] دونه. وهكذا إذا استدخلت ذكر نائم أو مجنون، أو أكرهته على الوطء. ولو ظن [الواطئ]: أنها جاريته المشتركة بينه وبين غيره، وقلنا: لا يجب الحد بوطئها مع العلم؛ كما هو الصحيح – قال الإمام: ففيه تردد، ويظهر أن يقال: لا حد؛ لأنه ظن ما لو تحققه لاندفع الحد، ويجوز أن يقال: يجب؛ لأنه علم التحريم، [ثم ظن] أنه اقترن به ما يدفع الحد، ولم يكن؛ فكان من حقه إذا علم التحريم أن يمتنع. فرع: إذا وجدت امرأة جامل ولا زوج لها، قال البندنيجي وابن الصباغ: تسأل، فإن قالت: إنه من زنى، أقيم عليها الحد، وإن قالت: إنه من وطء شبهة، فلا حد عليها. [وقال في "الحاوي": لا يجوز أن تسأل عما يوجب حد الزنى عليها قبل الوضع، وكذا بعده إن [كان] الولد ميتا. وإن وضعته حيا سئلت؛ لما يتعلق به من حق الولد. ولو سئلت فسكت، قال الأصحاب: لا حد عليها. وقد ذكرت في باب ما يلحق [من النسب] عن الروياني: أن الحمل إذا كان مجهول الحال حمل على أنه من زنى، وقضية ذلك: إيجاب الحد، وهو الذي يشهد له حديث عمر السابق في أول الباب. قال: وإن زنى بامرأة، وادعى أنه جهل تحريم الزنى: فإن كان [ممن] يجوز أن يخفى عليه بأن كان قريب العهد بالإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة لم يحد؛ لأنه يحتمل ما يدعيه، وقد روي أن رجلا قال: زنيت البارحة، فسئل، [فقال]: ما علمت أن الله حرمه، فكتب [بذلك] إلى عمر بن الخطاب

– رضي الله عنه – فكتب: إن كان علم أن الله حرمه فحدوه، وإن لم يعلم فأعلموه، فإن عاد فارجموه. وهكذا الحكم فيما إذا كان مجنونا، فأفاق، ووطئ لوقته، ثم ادعى ذلك – يصدق. قال الماوردي: ولا يلزم إحلافه؛ استظهارا؛ لأنه الظاهر من حاله. ولو ادعى من ذكرناه العلم بالتحريم، وأنه لم يعلم تعلق الحد به – فقد جعله الإمام على التردد الذي ذكرناه فيما إذا وطئ امرأة على ظن أنها جاريته المشتركة بينه وبين غيره، وكانت غيرها، أما إذا كان قد نشأ [فيما] بين المسلمين وهو عاقل، حد؛ لأن الظاهر خلاف ما يدعيه، ولو ادعى في هذه الحالة جهله بكون المرأة معتدة حال النكاح والوطء، أو أنها ذات زوج – حلف إن كان ما يدعيه ممكنا، [ودرئ عنه] الحد. نص عليه. وعن القاضي أبي حامد أنه قد قيل: إن اليمين استظهارا. وهذا يوافق ما حكيناه عن "الحاوي". تنبيه: نشأ في بادية، مهموز، يقال: نشأ ينشأ [نشئا] ونشوءا -[بالواو]- وأنشأه الله: خلقه، والاسم: النشأة، والنشأة [بالمد]: [الحدث: الذي جاوز الصغر، والجارية ناشئ أيضا، والجمع: النشء]. قال: وإن وطئ امرأته في الموضع المكروه، أي: المحروم وهو الدبر [عزر]، أي: ولا يجب عليه الحد؛ لأنه مختلف في إباحته، ولأنها محل استمتاعه على الجملة؛ وهذا ما أورده القاضي الحسين، ولفظ "المختصر" – كما نقله ابن الصباغ -: أنه ينهاه الإمام، فإن عاد عزره. ولعل محل النهي إذا جهل تحريم ذلك.

وحكى [الرافعي] طريقة أخرى [قاطعة]: بأن حكمه حكم من وطئ أخته [بملك اليمين]؛ فيكون على القولين. وعلى [هذا] جرى الغزالي؛ حيث قال: وجب على التعزيز على المذهب، وقال الإمام في باب إتيان النساء في أدبارهن: إن تخريجه على القولين في وطء مملوكته المحرمة عليه لم يشر إليه أحد من الأصحاب، لا تصريحا ولا تعريضا، بل صرحوا بنفي الحد لما فرعوا على القول القديم في وطء مملوكته المحرمة عليه، وقطعوا بأن وطء الزوجة في حال الحيض لا يوجب الحد. ثم قال: والإتيان في غير المأتى بين وطء الحائض وبين وطء المملوكة المزوجة، وتشبيهه بوطء الحائض أقرب. وحكم وطء أمته في الموضع المكروه بالنسبة إلى الحد وعدمه، حكم وطء الزوجة، وأما لحوق النسب ففيه خلاف سبق، وقد حكاه الإمام في كتاب النكاح، وهذا فيما إذا كانت الأمة حلالا له، فلو كانت أخته أو مجوسية ونحوها، قال في "المحيط": فالمذهب: وجوب الحد. قال: وإن وطئها [وهي حائض] عزر، أي: ولا يحد. أما انتفاء الحد؛ فلأن ذلك جرى في محل استمتاعه؛ فكان شبهة. وأما وجوب التعزيز؛ فلأنه محرم، كما سبق دليله في باب الحيض، ولا حد فيه ولا كفارة. وعن "حلية" الشاسي: أن الجديد: [أنه] لا شيء عليه سوى التوبة والاستغفار. وكأنه أخذه من ظاهر قوله في "المختصر" فإن وطئ في الدم استغفر الله – تعالى – ولا يعود. قال [الشيخ- رحمه الله -:] وقال في القديم: [إن كان في] إقبال الدم، وجب عليه دينار، وإن كان في إدباره، وجب عليه نصف دينار؛ لما روى ابن عباس أنه عليه السلام قال في الذي أتى امرأته وهي حائض: "يتصدق

بدينار أو بنصف دينار"، وعلى هذا فما المراد بإقبال الدم وإدباره؟ قيل: إقباله: ما قبل انقطاعه، وإدباره: ما بعد انقطاعه، وهذا منسوب إلى أبي إسحاق. قال الإمام: وهو درئ لا تعويل عليه. وقيل: إقباله: حالة قوة الدم، كالأسود بالنسبة إلى الأحمر، وإدباره: حالة ضعفه، كالأحمر بالنسبة إلى الأسود. [ثم يصرف] المأخوذ إلى الفقراء أو المساكين. وحكى بعض الأصحاب: أنه يجب عليه عتق رقبة كما ذهب إليه عمر – رضي الله عنه – وهو في "الحاوي" معزى إلى قول سعيد بن جبير. والصحيح الجديد: أنه لا غرم؛ لأنه وطء محرم للأذى، فلم يتعلق به غرم كالوطء في الدبر، وأما الحديث فقد أوقف الشافعي – رضي الله عنه – في القديم العمل به على صحته، فمنهم من قال: لم يصح، ومنهم من قال: إنه صح، لكنه منسوخ؛ فإنه ورد في ابتداء الإسلام، وكانت العقوبات بالأموال، ثم ورد ما نسخه، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لم يجعل في المال حقا سوى الزكاة". قال: ولا يقيم الحد [على الحر] إلا الإمام أو من فوض إليه الإمام؛ لأنه لم يقم حد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه، ولا في أيام الخلفاء – رضي الله عنهم – إلا بإذنهم. وعن "تتمة التتمة": أن الشيخ أبا سعيد المتولي حكى عن رواية القفال قولا: أنه يجوز [استيفاؤه للآحاد]؛ على سبيل الحسبة؛ كالأمر بالمعروف. قال الرافعي في قتال أهل البغي: ولا يجوز للإمام أن يتخذ جلادا كافرا لإقامة الحدود.

قال: ويجوز للولي – أي: المكلف، الرشيد، الحر، العدل، العالم بقدر الحدود وأسبابها – أن يقيم الحد على عبده وأمته؛ لما روى النسائي عن علي – كرم الله وجهه – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ["أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم"، وروى مسلم عن أبي هريرة قال]: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر"، وفي رواية: "ولو بضفير أو بحبل من شعر"، وفي رواية لأبي داود أنه قال: في كل مرة: "فليضربها كتاب الله ولا يثرب عليها". وقال الرابعة: "فإن عادت فليضربها كتاب الله، ثم ليبعها ولو بحبل من شعر"، وأخرجه البخاري ومسلم بنحوه. والمذكور في كتاب الله – سبحانه – عقوبة للزاني هو الحد، لا التعزيز والتثريب والتعيير والتبكيت.

قال القاضي الحسين: والبيع المذكور في الحديث منسوخ. وحكى الطحاوي عن أبي ثور: أنه قال بوجوبه بعد الرابعة، وعن [ابن القاص تخريج قولين في إقامته على العبد، وكأنه ألحق ذلك بالإجبار على النكاح، ولم يساعده الأصحاب على ذلك، وقطعوا بأن له إقامة الحد عليهما. وقيل: [إن ثبت بالإقرار جاز [له]]، وإن ثبت بالنية لم يجز، والمذهب الأول. ظاهر كلام الشيخ في [حكاية] هذه الطريقة يقتضي خلاف المراد؛ لأنه [يقتضي أن الحد إذا ثبت بالنية عند الحاكم على عبده وأمته ليس له إقامته، وإن ثبت بإقرارهما [فله]، وليس كذلك، بل المنقول في "تعليق" البندنيجي و"الشامل" وغيرهما: أنه [له] في الحالين. قال القاضي الحسين: ولا يستأذن الحاكم فيه، وإنما المراد أن السيد هل يسمع البنية على رقيقه بما يوجب الحد عليه أم لا؟ فعلى وجه نسبه القاضي أبو الطيب إلى ابن أبي هريرة: أنه ليس له ذلك؛ لأن ثبوت الشيء بالبنية يتوقف على معرفة عدالتها، وربما أفضى ذلك إلى طلب التزكية، وهذا منصب الحكام. وعلى وجه – وهو المنصوص [و] الصحيح -: له سماع البنية والبحث عنها، والتجريح والتعديل إذا كان عالما بصفات الشهود، فإذا عرف ذلك حده؛ لأنه سبب يملك به الحاكم إقامة الحد، فملك به السيد ذلك؛ كالإقرار. وعلى هذا: لو علم السيد [سبب وجوب الحد، وقلنا: للقاضي أن يقضي بعلمه في الحد، كان للسيد] أن يقيم الحد، وإلا فلا يجوز. وفي "الحاوي": أنه إذا جوز ذلك للحاكم ففي جوازه للسيد وجهان؛ لاختلاف الوجهين في جواز حده بالبينة.

قال القاضي الحسين: والعلم في ذلك يحصل بأن يعترف عنده، ولم تكن بينة؛ أو قال: رأيته يزني. وجعل محل الجلد بالإقرار المتفق عليه ما إذا أقر عبده بين يدي الشهود. ولا فرق في الحد المفوض إلى السيد بين الجلد والتغريب على المذهب في تعليق القاضي الحسين، والصحيح في غيره، وعن بعض الأصحاب – وربما نسب إلى ابن سريج -: أن التغريب للإمام؛ تمسكا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها"، فاقتصر على الإذن في الجلد. قال القاضي أبو الطيب: وهو غلط؛ لأن ابن عمر جلد أمة له زنت ونفاها إلى فدك. وكما يجوز للسيد إقامة الحد على مملوكه يجوز للإمام – أيضا – حتى إذا ابتدر أحدهما فاقامه، وقع الموقع. وعن رواية الشيخ أبي خلف الطبري وجهان في أن: الأولى للسيد أن يقيم الحد بنفسه؛ ليكون أستر، وكي لا تنقص قيمة العبد بظهور زناه، أو الأولى أن يفوضه الإمام؛ ليخرج من الخلاف؟ وإذا تنازع في إقامته السيد والإمام، فمن الأولى منهما؟ فيه احتمالان للإمام، أظهرهما: أنه للإمام؛ لولايته العامة؛ كما أنه أولى بإمامة الصلاة. قال: فإن كان المولى فاسقا أو امرأة فقد قيل: لا يقيم؛ لأنها ولاية في إقامة الحد فمنع منها الفاسق والمرأة كولاية النكاح، وهذا ما نسبه القاضي أبو الطيب وغيره في الفاسق إلى أبي إسحاق، وفي المرأة إلى ابن أبي هريرة، وعلى هذا ما يقيمه على رقيق المرأة؟ فيه وجهان: أحدهما: وليها؛ كما يزوج أمتها. والثاني – وهو الأظهر في "الرافعي"-: الحاكم. والوجهان محكيان في الطريقين.

وقيل: يقيم، وهو الأصح: أما في الفاسق؛ فلمعلوم الخبر، ولأنها ولاية تستحق بالملك فلم تعتبر فيها العدالة كتزويج أمته، وهذا ما نص عليه في القديم، كما حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ. وأما في المرأة؛ فلما روى الشافعي – رضي الله عنه – بسنده: أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم جلدت أمة لها زنت [الحد]، وأن عائشة – رضي الله عنها – قطعت جارية لها سرقت، وحفصة قتلت جارية لها سحرتها، ولم ينكر عليهن أحد. وقد وافق الشيخ على التصحيح الجمهور، [فعلى هذا: هل تقيم المرأة الحد بنفسها، أو تأمر رجلا يستوفيه؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين: أحدهما: تقيمه بنفسها؛ كالتعزيز؛ وهذا ما أورده البندنيجي. والثاني: توكل رجلا؛ وهو اختيار المزني. قال القاضي: ونظيره إذا ثبت لها القصاص مع جماعة، وأرادوا الاستيفاء، ففي وجه: لا تدخل [المرأة] في القرعة، وفي وجه: تدخل، ثم إذا خرجت قرعتها أمرت رجلا بالاستيفاء. وقياس القاضي الوجه الأول على التعزيز يفهم أنها تقيمه وجها واحدا. وقد حكى الرافعي وجها: أن السيد لا يعزر عبده لحق الله تعالى؛ لأن التعزيز غير مضبوط؛ فيفتقر إلى نظر واجتهاد. قال: وإن كان مكاتبا [فقد قيل: يقيم؛ لعموم الخبر، ولأنها ولاية مستفادة من الملك فأشبهت سائر تصرفاته؛ وهذا ما اختاره الرافعي والنواوي. وقيل: لا يقيم، وهو الأصح؛ لأن ملكه غير تام. وأيضا: فذاك ولاية، والمكاتب ليس من أهل الولايات. وقد وافق الشيخ على [تصحيح هذا البغوي].

وعلى هذا: فمن يستوفيه؟ حكى القاضي الحسين عن القفال: أنه سيد المكاتب، وأنه طرد ذلك فيما إذا زنى المكاتب: أن له إقامة الحد عليه؛ لأن ملكه باق عليه، ولا عبرة بجواز التصرف؛ كما يقيم على أم ولده وعلى عبده المرهون وأمته المزوجة، وهذا هو حكاه الرافعي عن تخريج ابن القطان. والمذهب في كتاب ابن كج: أن السيد لا يقيم الحد على عبد مكاتبه. وقد بنى القاضي الحسين الخلاف في المكاتب والفاسق والمرأة على أن الرجل الحر استفاد إقامة الحد على رقيقه لماذا؟ وفيه معنيان: أحدهما: بحكم الولاية؛ فعلى هذا: لا يقيمه المذكورون؛ وكذا إذا كان السيد ذميا، وهو المذهب [فيه]. والثاني: لتحصين الملك، فعلى هذا يملكون إقامة ذلك؛ وكذلك الذمي يملكه على أمته المسلمة؛ كما له [أن يزوجها]. وقضية هذا الأصل المذكور: أن يكون الصحيح في الصور المذكورة واحدا، وهو قضية ما ذكره البندنيجي، فإنه قال: الحكم في الفاسق والمكاتب واحد. لكن الذي رجحه القاضي الحسين وغيره في المرأة والفاسق والمكاتب – ما رجحه الشيخ. قال القاضي الحسين: ويخرج على [هذين الوجهين] ولي الطفل في ماله. ثم قال: وفيه نظر؛ لأن الحد إنما يولي بالتولية أو بالملك، وليس له واحد منهما؛ لأنه لا ملك له، والسلطان لم يوله ذلك. وهذا الكلام [قد] يفهم: أن الأب [أو الجد] بقيمه جزما، وإن جرى الخلاف في القيم والوصي، وهذه طريقة صرح بها الرافعي هكذا، وحكى طريقة أخرى طاردة للخلاف في الجميع، قال: وربما بني الخلاف على الخلاف في [أن] ولي الطفل: هي يزوج

رقيقة أم لا؟ وهو ما صرح به الفوراني في الوصي، ويشبه أن يقال: إن جعلنا [الحد] استصلاحا، فلهم إقامته. وإن قلنا: يقام بطريق الولاية، ففيه الخلاف. فرع: من بعضه حر وبعضه رقيق لا يملك إقامة الحد على ما ملكه ببعضه الحر، وكذا لا يملك مالك [بعضه] الرقيق إقامة الحد عليه إذا فعل موجبه اتفاقا، قاله الماوردي. وقال الإمام: رأيت في نسخة من "تعليق" الصيدلاني إلحاقه بالمدبر، وهو خطأ صريح، [ولعله من] علل النسخ. ولو كان العبد بين شركاء وزعت السياط على قدر أملاكهم، فإن وقع كسر فوضوا المنكسر إلى أحدهم، أما إذا لم يكن السيد عالما بالحدود، قال في "الحاوي": منع من إقامتها؛ لأنه لم يعلم وجوب الحد حتى يرجع فيه إلى غيره، فإن رجع إلى حاكم جاز أن يعمل على قوله فيما حكم به من وجوب وإسقاط، ويقوم باستيفاء ما حكم به الحاكم، وليس للإمام نقصه، وإن رجع فيه إلى استيفائه، نظر: فإن كان الحد متفقا [على وجوبه] [جاز للسيد أن يستوفيه بقول من أفتاه، وإن كان مختلفا في وجوبه] ففي جواز استيفاء الحد بفتياه وجهان. وفي "الرافعي" [حكاية] عن "البيان" وغيره أنه: هل يجوز أن يكون السيد جاهلا؟ ينبني على أن استصلاح أو ولاية، فعلى الثاني يكفي أن يكون عالما بمقدار الحد وكيفيته. قال: ولا يقيم الحد في المسجد؛ لما روي أبو داود عن حكم بن حزام [أنه] قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستفاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود"، والمعنى فيه خشية تلويث المسجد بما

يحصل من المحدود من حدث ودم جراحه قد يتفق، وهذا على وجه الكراهة كما صرح به [القاضي] أبو الطيب وابن الصباغ قبيل باب قتال أهل الردة. وكلام الرافعي يفهم أن ذلك محرم؛ لأنه قال: فلو جلد في المسجد سقط الفرص كما لو صلى أن ذلك محرم؛ لأنه قال: فلو جلد في المسجد سقط الفرص كما لو صلى في [مكان مغصوب]. وكما لا يجلد حدا في المسجد لا يجلد تعزيزا فيه، وهل يجوز إقامة الحدود في دار الحرب؟ قال القاضي الحسين في كتاب السير: الذي نص عليه هنا: أنها تقام، وهو المنصوص في "سير" الأوزاعي كما قاله البندنيجي، ونص في موضع آخر [على] أنها تؤخر إلى أن يخرج من دار الحرب، وهو ما نص عليه في "سير" الواقدي، وقد استدل له بما روى زيد بن ثابت أنه قال: "لا تقام الحدود في دار الحرب؛ مخافة أن يلحق أهلها بالعدو"، وعن عمر – رضي الله عنه – أنه كتب إلى عماله: ألا يقيموا حدا على أحد من المسلمين في دار الحرب. فمن أصحابنا من جعل في الاستيفاء قولين، ولم يورد الفوراني هنا سواهما. ومنهم من قال: المسألة على حالين، فحيث قال: لا يستوفي، أراد: إذا كان [في المسلمين] ضعف، وهو بعيد من دار الإسلام؛ مخافة هيجان الفتنة، وحيث قال: يستوفي، أراد: إذا كان [في المسلمين] ضعف، وهو بعيد من دار الإسلام؛ مخافة هيجان الفتنة، وحيث قال: يستوفي، أراد: إذا كان في المسلمين قوة، وكان قريبا من دار الإسلام يأمن هيجان الفتنة. ومنهم من قال: حيث قال: يستوفى أراد: إذا كان الإمام قد فوض استيفاء الحدود إلى أمير الجيش، وحيث قال: لا يستوفي، أراد إذا لم يكن قد فوض ذلك إليه، وعلى طريقة نفي الخلاف جرى البندنيجي والماوردي والقاضي أبو الطيب، وادعى ابن الصباغ اتفاق أصحابنا عليها، وحمل النص الأول على [حالة] تفرغ الإمام، والثاني على حالة اشتغاله بتدبير الجيش وما هو أهم من ذلك. قال: ولا يجلد في حر شديد، ولا [في] برد شديد، ولا في مرض

يرجى برؤه حتى يبرأ؛ لأن المقصود من إقامة الحد الردع والزجر دون القتل، وإقامة الحد في الحر والبرد [والمرض] معين على قتله. وعن رواية أبي الحسين [بن] القطان وجه: أن المريض لا يؤخر [حده]، بل يضرب بحسب ما يحتمله، كما سنذكره. [وعلى هذا]: لو ضرب بما يحتمله، ثم برئ، فهل يقام عليه حد الأصحاء؟ فيه وجهان عن رواية ابن كج أيضا. وعلى الأول: هل يحبس في هذه الحالة إلى أن يستوفي منه الحد؟ قال الإمام: لا سبيل إلى تخليته، وفيه فضل نظر: فإن ثبت بالبنية فيتجه حبسه؛ كما تحبس الزانية الحامل. وإن ثبت بالإقرار، فالحبس محتمل عندي؛ فإنه إن كان لا يستسلم لحق الله – تعالى – فهين عليه الرجوع عن الإقرار، ويشهد لذلك حديث الغامدية؛ فإنها لما أقرت بالزنى، وكانت حاملا – لم يحبسها رسول الله ?، وخلاها حتى تضع. ويجوز أن يقال: يحبس المقر، فإن رجع عن الإقرار خلي سبيله. قال: فإن جلد في هذه الأحوال، فمات، فالمنصوص: أنه لا يضمن، وقيل: فيه قولان سبق توجيههما وتقريرهما في باب: ما تجب به الدية من الجنايات. وللخلاف فرع لم يذكره [ثم،] وهو أن الامتناع من إقامة الحد في هذه الأحوال، هل هو على سبيل الاستحباب أو الوجوب؟ قال الإمام: إن قلنا: لا يضمن، كان على سبيل الاستحباب، وإن قلنا: يضمن، فوجهان: أحدهما: أن التأخير واجب، وإنما ضمناه؛ لتعديه بترك الواجب. والثاني: أنه يجوز التعجيل، ولكن بشرط سلامة العاقبة؛ كما في التعزير.

قال الرافعي: وقد يفرق بأن التعزير غير مقدر، فيقال: التعزير المأمور به هو الذي لا يهلك، فإذا أهلك تبين أنه لم يقتصر على المأمور [به]، والحد مأمور به مع كونه مهلكا، فإنه لو والى متعد بضرب مائة سوط وجب القصاص، وأطلق الشيخ في المهذب وغيره القول بأنه لا يجوز التعجيل في هذه الأحوال. قال الرافعي: ويجوز أن يقال بوجوب التأخير مع الاختلاف في وجوب الضمان لو لم يؤخر؛ كما نقول: يجب على الآحاد تفويض إهلاك [الزاني] المحصن إلى الإمام، [مع الخلاف في وجوب الضمان] لو قتله قاتل بغير إذن الإمام. قال: ولا تجلد المرأة في حال الحبل حتى تضع وتبرأ من ألم الولادة، أي: وينقطع دم النفاس؛ لأن في استيفائه قبل ذلك إتلافا لولدها، ولم يجن وربما كان فيه معونة على قتلها؛ لأن الحامل الولد تضعف [قوتها]، وقد روى مسلم في "صحيحه" قال: خطب [علي – رضي الله عنه –] فقال: أيها الناس، أقيموا على أقارئكم الحد: من أحصن منهم، ومن لم يحصن؛ فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بنفاس؛ فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنت"، وفي رواية: "اتركها حتى تتماثل"، ولم يذكر: "من أحصن منهم، ومن لم يحصن". ولو حدت في حال الحمل، فأجهضت [نظر: فإن لم يعلم بحملها، فإن سقط الجنين ميتا وجبت فيه غرة، وإن وضعته حيا، ثم مات، وجبت ديته، وهل يكون ذلك على عاقلة الإمام أو في بيت المال؟ فيه القولان والكفارة، على التفصيل السابق، وإن كان عالما بحملها، فذلك بمنزلة شبه العمد؛ فيكون في محل الغرة أو الدية القولان.

قال القاضي أبو الطيب: ومن أصحابنا من قال: تكون على عاقلته قولا واحدا؛ لأن ذلك تعد من جهة الإمام بضرب من العمد، ولا يحمل بيت المال إلا ما كان خطأ، وهذه الطريقة لم يورد الإمام سواها، وقد ذكرنا الطريقين من قبل هذا في بدل الجنين. وأما الأم [إذا ماتت] فإن قيل: إنها ماتت في إقامة الحد؛ لم يضمن، وإن قيل: إنها ماتت من الإسقاط، وجب الضمان، وإن قيل: إنها ماتت منهما، سقط النصف، ووجب النصف، وهل يكون على عاقلة الإمام أو في بيت المال؟ فيه القولان. قال القاضي أبو الطيب: سمعت [الشيخ] أبا الحسن الماسرجسي يقول: سمعت أبا علي بن أبي هريرة يقول: فيه قول آخر: أن الأم تضمن كالجنين؛ لأنه متعد بضربها؛ فإنه مأمور بتأخير الضرب حتى تضع. وقد مضى في باب ما تجب به الدية من الجنايات استقصاء ذلك. قال: ولا يجلد بسوط جديد، أي: يجرح، ولا ببال، [أي]: لا يؤلم؛ [لما روى الشافعي – رضي الله عنه – عن مالك عن زيد بن أسلم: "أن رجلا اعترف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنى، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأتى بسوط مكسور فقال: فوق [هذا،] فأتي بسوط جديد لم يكسر ثمره، فقال: بين هذين". قال ابن الصباغ: وقد روي هذا الحديث مسندا [عن أبي هريرة] عن النبي صلى الله عليه وسلم

والمذكور في "الموطأ" أنه أتي بسوط لم يقطع ثمره، فقال: "دون هذا، فأتي بسوط قد ركب به ولان، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد، ثم قال: "أيها الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله؛ فإنه من يبين لنا صفحته نقم عليه كتاب الله". ولأن في الضرب بالجديد زيادة ألم، وبالتالي فوات المقصود، وهكذا الحكم فيما إذا [أراد الضرب] بقضيب فليكن متوسطا: لا رطبا [طريا]؛ لأنه بثقله يشق الجلد ويغوص في البدن، ولا في غاية اليبوسة فلا يؤلم ويتشظى. قال: ولا يمد ولا يشد يديه، ولا يجرد، بل يكون عليه قميص؛ لما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لا يحل في هذه الأمة تجريد ولا مد ولا صفد، والصفد: القيد والشد، وروي أن رجلا أتى أبا عبيدة بن الجراح فأقر عنده بالزنى، فقال [أبو عبيدة: اضربوه وعليه قميص. وأيضا: فإنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمد والشد والتجريد، ولو كان لنقل، كما نقل الحد. وحكمه عدم الشد: أن يتقي بيديه ما يخاف من تكرر الضرب عليه شدة الألم؛ فيضعهما عليه. قال: ولا يبالغ في الضرب، أي: يرفع يده فوق رأسه، فينهر الدم؛ لما روي عن علي – كرم الله وجهه – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سوط بين سوطين، وضرب بين ضربين". كذا قاله ابن الصباغ وغيره ولم يسنده للرسول صلى الله عليه وسلم. وروى أبو بكر بن المنذر أن عمر بن الخطاب أتى برجل يريد أن يضربه فدعا بسوط، فقال: ائتوني بألين منه، فأتي بألين منه، فقال: ائتوني بأشد منه، فأتي بسوط

بين السوطين، فقال: اضربه ولا ترين إبطك، وأعط كل عضو حقه. كذا ذكره أبو الطيب، وروي أن عمر - رضي الله عنه – أتي بامرأة راعية أتاها راع، فقال: ويح المرية، أفسدت حسبها، اذهبا بالمرية فاضرباها ولا تخرقوا جلدها. ولأن القصد من إقامة الحدود الردع والزجر دون الإتلاف؛ وذلك يحصل بالضرب بين الضربين. ومعنى "ينهر الدم"، أي: يسيل، مشبه بجري الماء في النهر، ويقال: نهر وأنهرته، أي: سال وأسلته، وهو – بفتح الياء والهاء – ولو قرئ: فينهر الدم – بضم الياء وكسر الهاء ونصب "الدم" – لكان صحيحا. فرع: إذا ضربه، فأنهر الدم وتلف، فإن لم يضربه بعد إنهار الدم [لاستكمال حده فلا ضمان، وإن ضربه بعد إنهار الدم؛ فإن كان في غير ذلك الموضع فلا ضمان [فيه] وإن كان فيه] فوجهان، فإن قلنا به؛ ففي قدره وجهان: أحدهما: جميع الدية. والثاني: نصفها، قاله الماوردي. ولو كان المضروب رقيق الجلد يدمى بالضرب الخفيف فلا يبالي به. قال: ويفرق الضرب على أعضائه؛ لأثر عمر – رضي الله عنه – السابق حيث قال: "وأعط كل عضو حقه"، وبعضهم يروي هذا اللفظ عن علي – رضي الله عنه – ومنهم المصنف في "المهذب"، والمعنى فيه: أن في موالاة الضرب على موضع واحد تسببا إلى التلف؛ لعظم الألم. قال: ويتوقى الوجه؛ لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه".

قال القاضي أبو الطيب: وهذا حديث صحيح. وكأنه يشير إلى رواية مسلم [عنه] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ضرب أحدكم أخاه فليتجنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته"، وفي رواية: "إذا قاتل". ولأن الوجه مجمع المحاسن، وأثر الشين فيه يعظم. [ومعنى قوله عليه السلام: "خلق آدم على صورته"، يفسره ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق وجه آدم على صورته"]. قال: و [الرأس والخاصرة [والفرج] وسائر المواضع المخوقة، [أي]: كثغرة النحر، ونحوها؛ لأن القصد هو الردع والزجر دون القتل، والضرب في هذه المواضع يؤدي إلى التلف، قال القاضي أبو الطيب [في باب حد الخمر]: سمعت الماسرجسي يقول: غلط بعض أصحابنا فقال: يضرب على رأسه؛ لأن المزني قال: ويتقى الوجه والفرج. وهذا ما حكاه بعض الشارحين والرافعي عن أكثر الأصحاب، ومنهم: القاضي الحسين والغزالي والفوراني، ويحكى عن الشيخ أبي حامد – أيضا – لأن الرأس مغطى؛ فلا يخاف تشويهه، بخلاف الوجه، وقد روي أن أبا بكر – رضي الله عنه – قال للجلاد: "أضرب الرأس؛ فإن الشيطان فيه". وفي "الكافي": أنه يضرب الرأس أحيانا. قال الماسرجسي: ووجه الغلط: أن الوجه عبارة عما علاه، ولأنا إذا اتقينا الفرج؛ لأنه مقتل، فالرأس أولى بذلك؛ لأنه موضع شريف، وفيه مقتل، ويخاف من ضربه نزول الماء في العين وزوال العقل، وأمر أبي بكر – رضي الله

عنه – معارض بقول علي – رضي الله عنه -: "اضرب وأوجع، واتق الرأس والفرج". قال: وعلى أني وجدت ذلك للشافعي [- رضي الله عنه – نصا في "المختصر" للبويطي في باب إملاء الشافعي]، فقال: ويضرب الرجال في الحدود قياما والنساء قعودا ما خلا الوجه، والرأس، والمذاكير، والبطن. وهذا ما صححه أبو الطيب في هذا الباب، وبه جزم الماوردي في باب صفة السوط، وكذا ابن [الصباغ والروياني]. قال: وإن وضع يده على موضع ضرب غيره؛ لأنه يدل على شدة ألمه فلا يؤمن هلاكه لو والى الضرب عليه. قال: ويضرب الرجل قائما والمرأة جالسة في شيء يستر عليها؛ لأن أبا بكر بن المنذر روى عن علي – كرم الله وجهه – أنه قال: يضرب الرجل قائما والمرأة جالسة، والمعنى في الرجل: أنه يتمكن من تفريق الضرب على جميع بدنه؛ فكان أولى؛ لقول عمر: "أعط كل عضو حقه"، ولا يجوز قياس المرأة على الرجل؛ لأنها عورة، وقيامها يؤدي إلى كشفها. قال: وتمسك عليها امرأة ثيابها؛ كي لا تنكشف، كذا قاله الشافعي – رضي الله عنه – وقال: إن الثياب تربط. قال: فإن كان نضو الخلق، أي: مهزولا هزالا شديدا لا يطيق الضرب، وهو بكسر النون. قال: أو مريضا لا يرجى برؤه، أي: كمن به السل والزمانة والجذام. [قال]: [ضرب] بأطراف الثياب وإثكال النخل؛ لما روى أبو داود عن أبي أمامة أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى، فعاد جلده [على عظمه]، فدخلت عليه جارية لبعضهم؛ فهش لها فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال:

استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني قد وقعت على جارية دخلت علي. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به، لو حملناه إليه لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ، [فيضرب بها] ضربة واحدة وهذا نص في الباب. قال الشافعي – رضي الله عنه -: وإذا كانت الصلاة تختلف على حسب اختلاف حال المصلي فالجلد بذلك [أولى]. ويفارق هذا من يرجى زوال مرضه والحامل؛ لأن لزوال ذلك أمدا ينتظر، وهنا لو أخر الحد لأدى إلى تفويته بالكلية؛ لأن شفاءه لا أمد له. نعم، حكى الماوردي وجهين فيما إذا سرق من ذا حاله، وعلم أن القطع قاتله – هل يقطع أم لا؟ وقياس ما ذكرناه أن يقطع خشية من فواته، وهو الصحيح في "تعليق" القاضي أبو الطيب في حالة ثبوت القطع بإقراره، وجزم به في حالة [ثبوته بالبينة]. فرع: إذا أقمنا الحد كما ذكرنا، فبرئ المحدود على ندور – قال الإمام: فالذي قطع به الأصحاب أن ما مضى كاف، ولا نعيد الحد بعد البرء [والاستقلال، وإن أوجبنا على من حج عنه لعضبه [الحج عند البرء]؛] لأن مبنى الحد على الاندفاع بالشبهة، ولو برئ قبل الضرب بالإثكال أقيم عليه حد الأصحاء. تنبيه: إثكال النخل – بكسرة الهمزة وإسكان المثلثة – والأثكول – بضم الهمزة – والعثكال – بكسر العين – والعثكول – بضمها – هو العرجون الذي فيه أغصان الشماريخ التي عليها البسر والرطب، قال أهل اللغة: وهي بمنزلة العنقود في العنب. و"العثكال" أفصح من "الإثكال"، وجمع "الإثكال" أثاكيل، ويقال: شمراخ

وشمروخ، وعثكال وعثكول، وإثكال وأثكول. ومراد الشيخ بالإثكال: أن يكون فيه مائة شمروخ، إن كان الزاني حرا، فيضرب بها ضربة واحدة على النحو الذي تقدم فيه الأيمان، أو يكون فيه خمسون شمروخا، فيضرب به دفعتين ونحو ذلك. وما ذكره من الضرب بأطراف الثياب، قد قال بعض الشارحين: إنه لم [يرد له ذكر] في الكتب المشهورة إلا في "المستظهري"، وهو مذكور في "الشامل" و"تعليق" البندنيحي والقاضي الحسين هنا، وفي "الحاوي" في كتاب اللعان، وحكاه الرافعي عن الروياني أيضا. ثم في قوله: ضرب بكذا، ما يعرفك أنه لا يكفي وضع ذلك عليه؛ كما حكى الإمام اتفاق الطرق عليه، وأنه يكفي ما يسمى ضربا، وأن بعض المصنفين قال: إنه لا يؤلم بالضرب، وأبدى لنفسه احتمالا، وقال: إذا كان هذا الشخص لا يمكن ضربه بسياط الحد المذكورة و [كان قد] يستقل بأسواط خفيفة [دون سياط الحد – فالذي أراه أنه يجب الضرب بالأسواط الخفيفة]. وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه إذا ضعف عن احتمال سياط الحد فليس [يجب] عليه إلا الضرب بالعثكال، وما ذكروه من الضرب بالعثكال لا أراه زاجرا إذا لم يكن فيه إيلام يتوقع مثله من بدن الصحيح، وهذا ما لا بد منه، وإلا بطل حكم الحد. [واعلم أن ما ذكرناه في صفة سوط الحد]، وكيفية الضرب فيه، وهيئة المضروب – يعتبر [مثله] في الضرب في التعزير. وحكى الماوردي، عن أبي عبد الله الزبيري من أصحابنا أنه قال: يجوز أن يضرب في التعزير بسوط لم يكسر ثمره، فوق سوط الحد، وتكون صفة الضرب

فيه أعلى من صفته في الحد؛ لأن ذنوب التعزير مختلفة؛ فجاز أن يكون الضرب [فيها] مختلفا، وأنه يجوز أن يوالي الضرب [فيها على] موضع واحد من الجسد لا كالحد؛ [لأن الحد لما لم يجز العفو عنه، لم يجز العفو عن بعض الحد]، ولما جاز العفو عن التعزير جاز عن [ضرب [بعض الجسد. قال الماوردي: وهو غلط؛ لأن ما يوجب الحد أعظم جريمة مما يوجب التعزير؛ فاقتضى أن يكون التعزير دونه، وجمع الضرب في موضع واحد مفض إلى التلف؛ فكان المنع منه في التعزير المباح أولى، والله أعلم. قال: وإن كان حده الرجم، فإن كان قد ثبت بالإقرار، فالمستحب: أن يبدأ الإمام، وإن ثبت بالنية، فالمستحب أن يبدأ الشهود؛ لما روي عن علي – كرم الله وجهه – أنه قال: أيها الناس، إنما الرجم رجمان: رجم سر، ورجم علانية، فرجم السر: أن يشهد [عليه الشهود، فيبدأ الشهود فيرجموا، ثم الإمام ثم الناس، ورجم العلانية: أن يشهد] على المرأة بأني وطئتها، فيبدأ الإمام فيرجم، ثم يرجم الناس، ألا وإني راجم فلانة فارجموا. ثم تقدم فرماها بحجر، ثم خلى بينهم وبينها. ولأن في ذلك امتحان الإمام والشهود؛ فإن من لم يكن منهم محققا لذلك، لم يفعله، فيرجع عما شهد به؛ فيؤدي إلى إسقاط ما لم يجب من الحد؛ ولأجل ما ذكرناه صار أبو حنيفة – رحمه الله – إلى وجوب ذلك، ودليلنا على عدم الوجوب: ما سنذكره من الأخبار الواردة، فيمن أقر عند النبي ? بالزنى؛ [فأمر برجمه، ولم يرجمه بنفسه. ولأنه أحد حدي الزنى]؛ فلا يجب على الإمام والشهود أن يحضروه، ولا أن يتولوا بأنفسهم شيئا منه كالجلد. قال: وإن وجب الرجم في الحر أو البرد أو المرض، [أي:] الذي يرجى برؤه، فإن كان قد ثبت بالبينة رجم؛ لأن المقصود قتله؛ فلا يعتبر حال

الزمان وحاله مع أنه معين على المقصود. قال: وإن ثبت بالإقرار، فالمنصوص، أي: في "الأم"؛ كما نقله القاضي الحسين هنا، وإن لم يعزه [إليها] في كتاب اللعان – أن يؤخر إلى أن يبرأ، ويعتدل الهواء؛ لأنه ربما تمسه الحجارة فيرجع، فيعين الزمان والضعف على قتله، وهذا ما جزم به الفوراني، واختاره في "المرشد"، وصححه القاضي الحسين في كتاب اللعان، [ونسبه الإمام إلى الأئمة هنا وإلى النص في اللعان] في حالة شدة الحر والبرد. ومن هذه العلة؛ يظهر أنه إذا جن بعد الإقرار بالزنى، لا يحد؛ لأنه قد يرجع عن الإقرار؛ كما صرح به الرافعي في باب الردة، لكن قال البغوي: إن هذا على سبيل الاحتياط؛ فلو قتله لا يجب عليه شيء. و"الهواء" في لفظ الشيخ [هنا] ممدود، ويكتب بالألف. وقيل: يقام؛ لأن المقصود قتله، والزمان والمرض يعين [عليه]؛ فكان كما لو ثبت بالبنية، واحتمال رجوعه عن الإقرار معارض باحتمال رجوع الشهود عن الشهادة، وهذا ما صححه النووي، و] قال] القاضي [أبو الطيب] والبندنيجي: إنه المذهب. ونسبا الأول إلى قول [بعض] الأصحاب، وقال الإمام والقاضي في كتاب اللعان: إنه مخرج من نص الشافعي فيما إذا لاعن الزوج بعد قذف زوجته، وكانت محصنة: أنها ترجم في شدة الحر والبرد، قال القاضي: والمرض. وحكى الإمام عن صاحب "التقريب" رواية طريقين: أحدهما: طرد [القولين] فيما إذا ثبت الزنى بالبينة. وإذا جمعت بين هذه الطريقة وبين ما في الكتاب، جاء في الصورتين ثلاثة

أوجه، وقد حكاها الماوردي في كتاب اللعان، عن رواية ابن أبي هريرة. أحدها – قال: وهو الظاهر من مذهب الشافعي – رضي الله عنه – والمنصوص عليه في هذا الموضع -: أنه يجعل الرجم، سواء ثبت بإقراره أو بشهادة. والثاني: يؤخر الرجم ولا يجعل حتى يعتدل الحر والبرد، ويبرأ من مرضه، سواء [ثبت بالإقرار] أو بالبينة؛ لأنه يجوز أن يرجع عن إقراره، ويرجع الشهود عن الشهادة؛ [فلا يعجل عن زمان الترجية حتى يمكن استدراك ما يقع]. والثالث: أنه يؤخر إن ثبت بالإقرار، ولا يؤخر إن ثبت بالشهادة؛ لأن الظاهر من المقر رجوعه؛ لأنه مندوب إلى الرجوع، والظاهر من الشهود: أنهم لا يرجعون؛ لأنهم غير مندوبين إليه. والطريق الثاني -[وهو] الذي رواه صاحب "التقريب"، وحكاه القاضي الحسين عن بعض أصحابنا: القطع بالرجم في شدة الحر والبرد عند ثبوت الزنى بالإقرار، وحكاية القولين في حالة الثبوت بالبينة؛ فإن الإنسان لا يقر بما يوجب هلاكه إلا عن ثبت وتوطين نفس على ما يلقاه؛ فالرجوع بعيد وإن كان مقبولا، والشهادة في معرض الريب. وإذا جمعت بين هذه الطريقة وما في الكتاب، جاء في المسألة ثلاثة أوجه في إقامة [الحد في شدة] الحر والبرد، وقد حكاها ابن يونس عن رواية الشيخ أبي حامد: أحدها: يرجم في الحال. والثاني: إن ثبت بالإقرار لم يرجم، وإن ثبت بالبينة رجم. والثالث: عكس هذا. وحكى ابن يونس عن الشيخ أبي حامد الجزم في حالة المرض بأنه يؤخر الرجم، سواء كان يرجى برؤه أو لا. وجزم القاضي أبو الطيب بالرجم في حالة عدم رجاء البرء وثبوته بالبينة،

وتخريجه على الوجهين فيما إذا ثبت بالإقرار، وصحح التعجيل؛ لأنه [لا] غاية تنتظر، الله أعلم. والزنى لثابت بلعان الزوج في حالة إحصانها، نص الشافعي – رضي الله عنه – على أنه لا يؤخر لأجل الحر والبرد، وخرج بعض الأصحاب فيه قولا من نصه في الزنى الثابت بالإقرار: أنه يؤخر. ومنهم من أقر النصين، وفرق بأن المقر يغلب على الظن رجوعه؛ لحث الطبيعة والشرع عليه، وليس كذلك الملاعن وتكذيبه؛ فإنه غير مستحب له ولا مأمور به، كذا قاله الإمام في كتاب اللعان. قال: وإن وجب الرجم وهي حامل، لم ترجم حتى تضع؛ لأن في رجمها حال حملها قتل ولدها؛ فلم يجز. قال: ويستعين الولد بلبن غيرها؛ لأنه إذا حفظ [حال كونه جنينا]، [فبعد] استهلاله أولى. وهذه طريقة الشيخ أبي حامد ولم يورد الماوردي سواها. نعم، حكي فيما إذا كان في البلد مرضعة، ولم تكفله بعد – وجهين في جواز رجمها. وقد حكيت في باب العفو والقصاص عن النص، وبه قال المراوزة: أنها لا ترجم حتى تفطم الولد، وإن وجدت مرضعة غيرها. ولناصر طريقة الشيخ أبي حامد أن يستدل لها بما روى أبو داود عن عمران بن حصين أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "إني [قد] زنيت، وأنا حبلى، فدعا صلى الله عليه وسلم وليا لها فقال [له]: أحسن إليها، فإذا وضعت فجئ بها، فلما [أن] وضعت جاء بها، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشكت ثيابها، أي: شدت، ثم أمر بها فرجمت، ثم أمرهم فصلوا عليها، فقال عمر – رضي الله

عنه-: [يا رسول الله]، تصلي عليها وقد زنت؟! قال: "والذي نفسه بيده لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها"، وخرجه مسلم وغيره. ولا يمكن حمل هذا الفعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم على حالة عدم مرضعة؛ فتعين حمله على حالة وجودها؛ ويدل على ذلك أنه جاء في "مسلم" في قصة الغامدية حين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعها، قال: "لا، إذن ألا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه"، فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا رسول الله، قال: فرجمها. لكن للقائلين بالنص في تأخير رجمها إلى الفطام التمسك بما ذكرناه وهو ما روى أبو داود عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن امرأة – يعني من غامد – أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني قد فجرت، فقال: "ارجعي" فرجعت، فلما كان الغد أتت، فقالت: لعلك أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك، فوالله إني لحبلي، فقال لها: "ارجعي"، فرجعت، فلما ولدت أتته بالصبي فقالت: قد ولدت، فقال: "ارجعي [فأرضعيه حتى تفطميه] "، فجاءته وقد فطمته وفي يده شيء يؤكل؛ فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين، وأمر بها فحفر لها، وأمر بها فرجمت، وكان خالد فيمن يرجمها، فرجمها بحجر، فوقعت قطرة من دمها على وجنته فسبها؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "مهلا يا خالد! فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس، لغفر له"، وأمر بها فصلى عليها ودفنت. وأخرجه أيضا أتم من هذا. ولا خلاف أنه إذا لم توجد مرضعة غيرها: أنها لا ترجم؛ بل تمهل إلى الفطام، أو وجود غيرها؛ على الخلاف السابق.

واعلم أن ما ذكرناه من الحديث مصرح بجواز الصلاة على المقتول في الحد، وهو الذي نص عليه الشافعي – رضي الله عنه – لكن قد يفهم من قول عمر – رضي الله عنه – وجواب الرسول ?: [أنه لا] يصلى على الزاني إذا لم يقم عليه الحد، ولم يتب؛ لأن عمر – رضي الله عنه – قال: "كيف نصلي عليها، وقد زنت" فجعل العلة الزنى، وما ورد من الرسول صلى الله عليه وسلم في جوابه لا ينفي ذلك، بل أقره، وعلل الجواز بتوبتها، وكونها جادت بنفسها، ولم يوجد واحد منهما، والله أعلم. قال: وإن ثبت الرجم بالبينة، استحب أن تحفر لها حفرة، أي: إلى الصدر؛ لما روى أبو داود عن خالد بن اللجلاج في حديث طويل أن فتى اعترف بالزنى، فقال له النبي ?: "أحصنت؟ قال: نعم، فأمر به فرجم"، قال اللجلاج: فخرجنا به، فحفرنا له حفرة حتى أمكنا، ثم رميناه بالحجارة، حتى هدأ – أي: مات – وأخرجه النسائي. واللجلاج – بفتح اللام وإسكان الجيم، وآخره جيم – أيضا. ولأن الظاهر من الشهود: أنهم لا يرجعون؛ فيكون الرجم في الحفرة أسهل. قال: وإن ثبت بالإقرار، لم تحفر؛ لأنه ربما عن له [أن يرجع ويهرب]، فإذا كان في الحفرة لم يتمكن من ذلك. وما ذكره الشيخ من الحفر وعدمه هو المذكور في "الأحكام السلطانية"؛ حيث قال: وإذا رجم الزاني بالبينة، حفرت له بئر عند رجمه، ينزل فيها إلى وسطه [تمنعه] من الهرب، وإن رجم بإقراره لم يحفر له. وقال ابن يونس: [إن] في بعض النسخ: استحب أن يحفر لها [حفيرة].

وهو الصحيح؛ لأن المنقول أن الرجل لا يحفر له، وأما المرأة: فعند الشيخ أبي حامد يحفر لها إن ثبت زناها بالبنية، ولا يحفر لها إن ثبت بالإقرار؛ لاحتمال هربها. وما ذكره من تصحيح هذه النسخة يظهر صحته؛ لأن الشيخ محيي الدين النووي لم ينبه في [هذا الموضع] على شيء، فلو كان لفظ الشيخ: "استحب أن يحفر له"، لنبه على ذلك؛ كما [هي] عادته؛ لأن ما ذكره ابن يونس من الجزم في الرجل بعدم الحفر والتفصيل في المرأة هو الذي نقله البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين وصاحب "الكافي"، ويحكى عن "جمع الجوامع" أيضا، ووافقهم الماوردي على ذلك في "الحاوي"، وزاد حكاية وجه في حالة ثبوته بالإقرار: أنه يحفر لها؛ تغليبا لحق صيانتها وسترها، وقد روي أن النبي ? أمر بأن يحفر للغامدية إلى الصدر، وكانت مقرة. قلت: وقائل هذا الوجه لا يفصل بين أن يكون قد ثبت زناها بالبينة أو بالإقرار، وهو ما أورده في "المهذب"، ويحكى عن الشيخ الفراء، واختاره في "المرشد". وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أن القاضي أبا حامد ذكر في "الجامع" أن المرأة إذا ثبت زناها بالإقرار يحفر لها، وإن ثبت بالبينة: فإن شاء حفر، وإن شاء ترك. قال [القاضي] أبو الطيب: ولا نعلم من أين نقله، والذي تقتضيه السنة: أن يحفر لها إذا ثبت بالبنية، ويتخير إذا ثبت بالإقرار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حفر للغامدية، ولم يحفر للجهنية، وزناهما ثبت بالإقرار؛ فدل على التخيير [في] حالة الإقرار. قال: وإن رجم – أي: المقر – فهرب، لم يتبع؛ لما روى النسائي عن أبي هريرة، وذكر قصة ماعز، قال: فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فراره حين مسته الحجارة، قال: "فهلا تركتموه". وقال أبو داود: "لعله أن يتوب؛ فيتوب الله عليه". وروى أبو داود في حديث طويل أن جابر بن عبد الله، قال: "كنت فيمن رجم

[الرجل]- يعني: ماعز بن مالك – وأنا لما خرجنا به، فرجمناه فوجد مس الحجارة، صرخ بنا: يا قوم، ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قومي قتلوني وغروني [من نفسي] وأخبروني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [غير قاتلي]. فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرناه، قال: "هلا تركتموه، وجئتموني به"؛ ليستثبت منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما لترك حد فلا. وأخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر طرفا منه بنحوه. لكن هل [يجعل هربه بمنزلة صريح رجوعه؛ حتى يسقط عنه الحد إذا قدرنا عليه مرة أخرى وهو ساكت؛ فلا يرجم؛ أو لا يسقط حتى إذا قدرنا عليه نستفسره، فإن إصر على الإقرار يرجم؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي و] كذا] القاضي الحسين والإمام، وقال: إن بعض الأئمة ذكر مسلكا حسنا في ذلك، فقال: الخلاف في أن الهارب هل يتبع؟ فأما المصير إلى أن الحد يسقط به، فلا. وقال: إن الامتناع من الاستسلام لإقامة الحد عليه ملحق عند الأصحاب بالهرب. وقياس من جعل الهرب بمنزلة الرجوع عن الإقرار أن يقول إذا هرب، فاتبع، وقتل: إنه يضمن، وإن لم يصرح بالرجوع. وفي "تعليق" أبي الطيب و"الرافعي" و"المرشد": أنه لا يضمن إذا لم يسمع منه التصريح بالرجوع، وهو الذي اقتضاه ظاهر الخبر. ولا خلاف في أنع إذا ثبت زناه بالبينة، فهرب: أنه يتبع، ولا فرق فيه بين الرجل والمرأة؛ صرح به البندنيجي وغيره. وفي "الوسيط": أن الهرب لا بد وأن يؤثر على رأي، وإن ثبت بالشهادة. وحكى الرافعي: أن في "النهاية" خلافا في أن طلب ترك الحد والهرب هل يسقط الحد؟ قال: وكأن المقصود منه أنا إذا فرعنا على أن الحد يسقط بالتوبة،

فينزل ذلك منزلة التوبة – على رأي – كما ينزل منزلة الرجوع عن الإقرار على رأي]. وقد نجز شرح [ما في] الباب فلنختمه بفروع: إذا فرق الإمام الجلد، فجلد في يوم خمسين [ولاء]، وفي يوم بعده خمسين ولاء – أجزأ. ولو جلد المائة في عشرة أيام، لم يعتد بما تقدم من الجلدات؛ فإن الإيلام الحاصل بالمائة المتواترة لا يحصل إذا فرقت الجلدات، وتخللت الفترات المريحة، كذا قاله الإمام في أوائل هذا الباب عند الكلام في التغريب. وعلى هذا: فبم يضبط ما يجوز من التفريق؟ قال الرافعي حكاية عن الإمام: إن [كان] التفريق بحيث لا يحصل من كل دفعة ألم له وقع: كسوط، وسوطين في كل يوم – فهذا ليس بحد؛ وإن كان يؤلم، [يؤثر] بمألمه وقع، فإن لم يتخلل من الزمان ما يزول فيه الألم الأول، اعتد به، وإن تخلل ففيه تردد: ظاهر كلام القاضي الاعتداد به. والأوجه: المنع؛ لأن الموالاة لو عدلت بالأسواط، [البلغ] أثرها عددا منها صالحا؛ ففي ترك الموالاة إسقاط جزء من الحد. إذا شهدوا بالزنى، ولم يثبت إحصانه، فجلد، ثم ثبت إحصانه رجم، ولو ثبت الزنى والإخصان، فأخذوا في الرجم، فرجع شهود الإحصان [عن الشهادة] ترك الرجم، وجلد، ولا يقوم ما رمى به مقام الجلد. وفي "فتاوى" القاضي: أن بعض أصحابنا قال: [رمي] بعض الأحجار يقوم مقام الجلد. وهو غير صحيح. المحصن لا يقتل بالسيف؛ لأن المقصود أن يمثل به وينكل بالرجم. وليس ما يرمى به جنس ولا عدد، وقد تصيب الأحجار مقاتله فيموت

سريعا، وقد يتباطأ موته، ولا يرمى بصخرة تذفف، ولا بالحصيات الخفيفة فيطول تعذيبه، بل يطوف [الناس] به ويرمى بحجارة معتدلة، قال الماوردي: قدر الكف إلى أن يموت، وفي معناها قطع الآخر والخزف والمدر ونحوها، وإن كان الخبر قد ورد بالحجارة. قال القاضي الحسين: لأن القصد منه القتل، وذلك يحصل بالجميع، كما ذكرنا في الاستنجاء. قال الماوردي: ويكون موقف الرامي منه، بحيث لا يبعد [عليه] فيخطئه، ولا يدنو منه فيؤلمه. والأولى لمن حضر رجمه: أن يكون عونا فيه إن رجم بالبينة، وممسكا عنه إن رجم بالإقرار. وجميع بدنه محل الرجم في المقاتل وغير المقاتل، لكن يتوقى الوجه وحده؛ لأمره صلى الله عليه وسلم باتقاء الوجه. يستحب أن يحضر الرجم جماعة من المسلمين؛ قال الله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور: 2]. قال الشافعي – رضي الله عنه -: وأقلهم أربعة؛ لأنه لا يثبت بأقل منهم. قال الماوردي: وكذا يستحب أن يعرض عليه التوبة قبل رجمه؛ لتكون خاتمة أمره، وإن حضر وقت الصلاة أمر بها، وإن تطوع بصلاة صلى ركعتين، وإن استسقى ماء أسقي، وإن استطعم [لم] يطعم، والفرق: أن الماء لعطش سابق، والأكل لشبع مستقبل، ولا يربط ولا يقيد [ويخلى] والاتقاء بيديه، والله أعلم.

باب حد القذف

باب حد القذف القذف: الرمي، تقول: قذفت الشيء، إذا رميته، والمراد به هنا: الرمي بالزنى في معرض التعيير. واحترز بذلك عما إذا ذكر [عند القاضي] بلفظ الشهادة مع تمام العدد، [وبدونه] على رأي. وعما إذا شهد بجرحه، فاستفسره القاضي، فأخبره بزناه، فإنه لا حد عليه، كما ذكره ابن الصباغ [حكاية] عن الشيخ أبي حامد، سواء كان بلفظ الشهادة أو بدونه. وهو حرام؛ لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} الآية [النور: 4]. وهو من الكبائر السبع التي عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه ان عمر، وعن رواية حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قذف محصنة يحبط عمله مائة سنة" نقله البندنيجي. قال: إذا قذف بالغ عاقل مختار، وهو مسلم أو ذمي أو مستأمن أو مرتد، محصنا، ليس بولد له - وجب عليه الحد؛ للإجماع كما قاله الرافعي. واشتراط البلوغ والعقل في القاذف احترز به عن الصبي والمجنون، فإنه لا

حد عليهما؛ لحديث: "رفع القلم ... "، [و] لأنه حد؛ فلا يجب عليهما كحد الزنى، والسرقة، وقطع الطريق. نعم: هل يعزران؟ قال: في "التهذيب": الصبي يعزر، وكذلك المجنون إذا كان له تمييز. وأطلق البندنيجي القول بأنه لا شيء عليهما. وفي "الحاوي": أن الصبي إذا كان مراهقا يؤذي قذف مثله؛ عزر أدبا، كما يؤدب في مصالحه، وإن كان لا يؤذي قذفه لم يعزر. واشترط الطواعية؛ ليخرج المكره، فإنه لا حد عليه ولا تعزير، للخبر المشهور. وكذا لا يجب على المكره، بخلاف المكره على القتل؛ لأنه يمكنه أن يجعل المكره كالآلة له بأن يأخذ يده، فيقتل بها شخصا، ولا يتصور ذلك في القذف بأن يأخذ لسان شخص فيقذف به. وفي "فتاوى" القاضي الحسين: أن الأستاذ أبا طاهر الزيادي، قال: كما يجب القتل على المكره يجب حد القذف على المكره – أيضا - وهو اختيار العبادي. واعتبار الإسلام والذمة والأمان؛ ليخرج الحربي، فإنه لا حد عليه؛ لعدم التزامه، وإن كان مخاطبا به. وذكر المرتد؛ ليعلم أن الردة لا تقطع عنه ما التزمه بالإسلام من الأحكام. واعتبار إحصان المقذوف دل عليه قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات}، فشرط الإحصان، كما سنذكره. واحترز بقوله: "ليس بولد له" عن ولده [وولد ولده]؛ لأنه إذا لم يقتل به، فلألا يحد بقذفه [كان] أولى. ووجه الأولوية: أن القصاص آكد وجوبا من حد القذف؛ ألا ترى أنه يجب

للزاني على العفيف، وللعبد على العبد، وللكافر على الكافر، ولا كذلك حد القذف. قال: فإن كان حرا، جلد ثمانين؛ لقوله تعالى: "والذين يرمون المحصنات" – أي: بالزنى – {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة}. وروى أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها – قالت: "لما نزل عذري، قام النبي صلى الله عليه وسلم [فذكر ذلك]، وتلا – تعني: القرآن - فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة، فضربوا حدهم"، وسماهم: مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، ويقولون المرأة: حمنة بنت جحش. وقال الطحاوي: ثمانين ثمانين، وهم الذين تولوا كبر ذلك وقالوا بالفاحشة، حسان ومسطح [وحمنة]. قال الماوردي: وإنما جعل حد القذف ثمانين؛ لأن القذف بالزنى أقل من فعل الزنى؛ فكانت أقل حدا منه. قال: وإن كان مملوكا جلد أربعين؛ لما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة: أنه قال: أدركت أبا بكر وعمر ومن بعدهما من الخلفاء، فلم أرهم يضربون المملوك في القذف إلا أربعين. وأشار بذلك إلى أنه مجمع عليه. وقد روى جعفر بن محمد عن أبيه: أن علي بن أبي طالب كان لا يضرب المملوك [في القذف] إلا أربعين. ولأنه حد يتبعض، فكان المملوك فيه على النصف [من الحر] [كحد] الزنى.

والآية المراد بها: الأحرار؛ ألا ترى إلى قوله: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} [النور: 4] والعبد لا تقبل شهادته قاذفا كان أو غير قاذف، وأم الولد والمكاتب والمدير ومن بعضه حر كالرقيق في الحد. وقد تقدم حكاية وجهين في كيفية إقامة حد الزنى على من نصفه حر ونصفه رقيق، ولا يبعد مجيء مثلهما هاهنا. قال: والمحصن هو: البالغ العاقل الحر المسلم العفيف، أي: عن الزنى. قال ابن الصباغ: وهذا اتفاق. ولأن الله تعالى شرط في حد القذف إحصان المقذوف، وهو الكمال؛ فاعتبر البلوغ فيه؛ لنقص الصغر، والعقل، لنقص الجنون، والحرية؛ لنقص الرق، والإسلام؛ لنقص الكفر، ولقوله - صلى الله عليه وسلم: "من أشرك بالله فليس بمحصن". واعتبرت العفة؛ لنقص الزنى، ولقوله - سبحانه وتعالى -: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء}؛ فدل على أنهم إذا أتوا بشهداء لم يحدوا، ولقوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات} [النور: 23]. قيل: أراد: الغافلات عن الفواحش بتركها، والعفة تحصل باشتهار الخير والعفاف. وهل يحكم بحصولها من غير بحث عنها؟ فيه وجهان في "الحاوي" وغيره في كتاب اللعان. مختار أبي إسحاق المروزي منهما: المنع، وهو ما اقتضى إيراد المصنف في "المهذب" ترجيحه، واختاره في "المرشد"؛ فلا بد من البحث عنها؛ كما في العدالة.

قال الرافعي: والذي رجحه الأكثرون: عدم الوجوب، وفرقوا بين ذلك وبين العدالة، بأن البحث في الإحصان يؤدي إلى هتك الستر، وإظهار الزنى المأمور بستره، والبحث عن العدالة بخلافه. ولأن القاذف عصى بالقذف؛ فغلظ عليه بإقامة الحد بظاهر الإحصان، والمشهود عليه لم يصدر منه ما يقتضي التغليظ عليه. قال الإمام: ولا يقدح في الحصانة مراودته على الزنى، وتحومه على طلبه، وصدور مقدماته، وهذا ما وجدت الطرق متفقة عليه. ثم حكى عن شيخه احتمالا في قدح ذلك في العفة؛ خرجه من نص الشافعي - رضي الله عنه - على أنه إذا زنى بعد القذف [تسقط العفة]. ووجه التخريج: أن الزنى اللاحق لا يدل على زنى سابق، وإنما يدل على سبق مقدماته. قال الإمام: وهذا ليس بشيء. قال: فإن قذف صغيرا أو مجنونا أو عبدا أو كافرا أو فاجرا – أي: زانيا - أو من وطئ وطئا حراما لا شبهة [له] فيه - أي كوطء جارية والده أو أمه، أو المرهونة عنده، أو ذات محرم له بعقد نكاح مع علمه بالتحريم – عزر، أي: ولا يحد أما عدم وجوب الحد، فلانتفاء الإحصان الدالة عليه الآية السابقة. وأما وجوب التعزير، فلما حصل للمقذوف من الأذى بقذفه. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الصبي والمجنون والعبد والكافر والمسلم الكامل إذا وطئ وطئا حراما لا شبهة له فيه، ثم بلغ، وعقل، وعتق، وأسلم، وتاب، وحسنت توبته، فقذفه قاذف - لا حد عليه. والأمر كذلك في العبد،

والكافر، والمسلم الكامل وإن ظهر صلاحه وزهده بعد مائة سنة من زناه، دون الصبي والمجنون؛ صرح بذلك القاضي الحسين في موضعين، وفرق بأن زنى العبد والكافر والمسلم الكامل يكون حقيقة؛ فأسقط حصانتهم، بخلاف الصبي والمجنون. وقال: الإمام بعد ذكر ما حكيته عنه في المسلم الكامل: وهذه دعوى عريضة، وما أراها تسلم عن الخلاف؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتوبة تمحو الذنب، وترد العدالة، وما يحرم المروءة إذا ترك عادت المروءة، ولم [أر] هذا التصريح على هذا الوجه في شيء من كتبنا. قال: وإن وطئ بشبهة، فقد قيل: يحد؛ لأنه وطء لا يوجب الحد؛ فلم تسقط به العفة، كوطء الزوجة والأمة حائضا وصائمة ومعتكفة ومحرمة، وبعد الظهار، وقبل إخراج الكفارة، أو جاريته المجوسية. وقيل: يعزر، أي: ولا يحد؛ لأنه وطء محرم في غير ملك؛ فأسقط العفة، كالزنى. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي إجراء الوجهين في حد من قذف واطئ جارية ابنه، والجارية المشتركة بينه وبين غيره، وجاريته المحرمة عليه برضاع [ونحوه ومجوسية] ونحوها، [وجاريته] المباحة له في دبرها، أو وطئ في نكاح بلا ولي ولا شهود، وفي نكاح المتعة والشغار وهو يعتقد تحريمه، أو وطئ امرأة زفت إليه، أو وجدها على فراشه فظنها زوجته أو أمته المباحة له، ولا شك في جريان الخلاف في الكل، لكنه في بعض الصور أظهر من بعض، ويظهر لك [ذلك] بما سنذكره من الطرق. قال ابن الصباغ: إذا وطئ الجارية المشتركة أو المجوسية؛ لا تسقط عفته،

وفي سقوطها بوطء جارية ابنه، أو مكاتبته، أو مطلقته الرجعية في [زمن] عدتها، أو أن يطأ بشبهة أو عقد فاسد - ثلاثة أوجه: أصحها - كما حكاه الرافعي عن الشيخ أبي حامد -: بقاء العفة. ومقابله محكي عن اختيار أبي اسحاق، وذكر الروياني أنه أقرب. وثالثها: أن ما كان زنى لولا [ما ذكره من] الشبهة فإنه يسقط إحصانه، فأما وطء الرجعية في النكاح الفاسد، ووطء المكاتبة، فلا يسقط الإحصان؛ لأنه ليس بزنى لا ظاهرا ولا باطنا. وما جزم به في الجارية المشتركة، قال الرافعي: إن جماعة أشاروا إلى القطع به. ومراده بوطء الشبهة: ما إذا وطئ من اعتقدها زوجته أو أمته المباحة له، يدل عليه: أن البندنيجي حكى الوجهين في هذه الصورة، وفي النكاح الفاسد، ووطء [جارية الولد]، وسكت عن الوجه الثالث. وحكى هو وابن الصباغ فيما إذا وطئ أمه أو أخته من الرضاع أو النسب بملك اليمين، وجهين [في] أن قاذفه: هل يحد أم لا؛ بناء على أنه هل يحد بهذا الوطء أم لا؟ فإن قلنا: يحد، لم يحد قاذفه، وإن قلنا: لا يحد، حد قاذفه. وقياس ما ذكرا من الوجهين في وطء الشبهة ونحوه: أن يجريا على قولنا: إنه لا يحد الواطئ، وعلى ذلك جرى الرافعي وغيره، فحكموا الوجهين كذلك. ونظم صاحب التهذيب يقتضي ترجيح عدم حد القاذف – أيضا - وهو الأشبه، وبه جزم الماوردي؛ لدلالة هذا الفعل على قلة محاشاته الزنى؛ فإن غشيان المحارم أفحش من الزنى بالأجنبيات. وخص الماوردي [محل] الخلاف بالوطء في النكاح بلا ولي ولا شهود ونكاح المتعة والشغار؛ كما صرح به في هذا الباب وفي اللعان، وجزم بأن وطء الجارية المشتركة وجارية الولد يسقط الحصانة وإن كان لا يوجب الحد.

وجزم الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ بأن وطء الزوجة والأمة في الحيض والإحرام والاعتكاف والصيام وقبل إخراج الكفارة بعد الظهار لا يسقط العفة. وحكى القاضي الحسين وجها آخر فيه؛ لأنه قال: من أصحابنا من حد الوطء الذي يسقط العفة بأنه: كل وطء يعصي به. قال الإمام: وهذا بعيد لا احتفال به، وليس معدودا من المذهب. و [قد] حكى الإمام طريقا جمع فيها ما حكاه القاضي الحسين [من الطرق] وما حكيناه، وأورده على أحسن وجه، فقال: إذا وطئ أخته بملك اليمين، ولم نوجب الحد، فهل تسقط عفته؟ فيه وجهان: فإن قلنا: تسقط، فلو وطئ جارية ولده أو الجارية المشتركة، وقلنا: لا حد - ففي بطلان عفته وجهان، ووجه الفرق: أن أحد الشريكين يتوصل إلى نقل ملك شريكه لنفسه بطريق الاستيلاد، وكذلك الولد، وإذ ذاك يثبت الحل، وذوات المحارم لا تستحل بحال، فإن قلنا: تسقط [عفته]، فلو نكح الشافعي بغير ولي، وألم بالمنكوحة - ففي سقوط عفته وجهان؛ للاختلاف في الحد: فإن قلنا: تسقط عفته، فلو وطئ بشبهة في نكاح فاسد أو على ظن زوجية؛ ففي سقوط العفة وجهان: وجه [البقاء]: القياس على العدالة. ووجه مقابله: دلالة ذلك على ترك التحفظ؛ فألحق بحرمان القاتل خطأ الميراث. قال: وألحق أئمتنا بهذه الصورة ما إذا جرت الفاحشة في حال الصبا، وهذا أبعد الصور، وإن لم يكن بد من الخلاف، فليرتب على وطء الشبهة من المكلف. والفارق: سقوط التكليف عن الصبيان بالكلية؛ فلا لوم ولا توبيخ. وإذا فهمت ما ذكر: انتظم منه عند الاختصار في المسألة أوجه: أحدها: لا تسقط العفة إلا بما يوجب الحد. والثاني: يسقطها ذلك ووطء المحرم بملك اليمين.

والثالث: يسقطها ذلك ووطء الأب والشريك. والرابع: يسقطها ذلك والوطء في النكاح بلا ولي ونحوه على خلاف المعتقد. والخامس: يسقطها ذلك ووطء الشبهة من المكلف. والسادس: يسقطها ذلك ووطء الصبي. والسابع: يسقطها ذلك ووطء زوجته، أو أمته الحائض وما في معناها. فرع: قال في "التهذيب": إذا وطئ قريب العهد بالإسلام امرأة غصبها على ظن الحل، لا تبطل حصانته. قال الرافعي: ويشبه أن يجيء فيه الخلاف المذكور في وطء الشبهة. قلت: قد ذكرنا في باب ما يحرم من النكاح عن صاحب "التهذيب": أن الزنى على صورة الجهل ممن هو قريب عهد بالإسلام، هل يثبت النسب، ويوجب المهر، ويكون الولد به حرا إن كان الفعل بأمة؟ فيه وجهان، أصحهما: الثبوت فإن قلنا به التحق بوطء الشبهة، وإن قلنا بمقابله، فقد جعلنا حكمه حكم الزنى فيما عدا الحد؛ فينبغي أن تسقط الحصانة جزما. ومثل الخلاف المذكور قد حكاه الرافعي قولين أو وجهين، فيما إذا كان القاتل جاهلا بتحريم القتل: هل يجعل جهله كقتل الخطأ [حتى] تكون الدية على العاقلة، أو تجب في ماله؟ حكاه عند الكلام في عفو أحد الاثنين، وذكرتهما مع وجه ثالث في باب: من لا تجب عليه الدية بالجناية. هذا حكم الرجل، وأما المرأة المغصوبة، فهل تسقط حصانتها [بذلك؟ قال القاضي الحسين في هذا الباب من أكرهت على الزنى، هل تسقط حصانتها؟] فيه وجهان. ومنهم من قال: إن أولج فيها مقهورة، لم تسقط. وإن أكرهها بالقتل [وغيره] حتى مكنت [من نفسها]، فعلى وجهين، والله أعلم. قال: وإن قذف ولده أو ولد ولده عزر، بسبب ما حصل للمقذوف من

الأذى، ولا يحد لما ذكرناه من قبل، وهذا ما نص عليه في "الأم". وقضية ما ذكرناه من التوجيه ألا يجب له التعزير – أيضا - لأن الحد أشد ثبوتا [من التعزير]، وقد سقط. وقد سمعت بعض مشايخي يحكيه وجها، لما [طلبت منه] الفرق بينه وبين ما إذا وطئ جارية ابنه، فإنه لا يجب عليه الحد على الصحيح، وكذا التعزير على وجه، وعن أبي ثور وابن المنذر من أصحابنا: أنه يجب عليه الحد؛ لظاهر القرآن، لكنه يكره له إقامته، والصحيح: الأول. والأم في معنى الأب. قال القاضيان أبو الطيب والحسين وغيرهما: وإذا قذف رجل امرأة محصنة له منها ولد، وماتت - لم يكن للولد المطالبة بالحد، وسقط كما في القصاص، وإن كان لها ابن من غيره، كان له المطالبة، وبكم يطالب؟ يظهر لك من بعد، والذي أورده ابن الصباغ: المطالبة بالجميع. قال: وإن قذف مجهولا، فقال: هو عبد، وقال المقذوف: [بل] أنا حر - فالقول قول القاذف؛ لأنه يحتمل أن يكون عبدا، والأصل براءة الذمة من الحد مع أنه يسقط بالشبهة، وهذا ما نص عليه هاهنا. فعلى هذا: يعزر. وقيل فيه قولان، الصحيح منهما: [قبول] قول القاذف، ووجه مقابله - وهو الأصح في "الجيلي" -: أن الأصل في الدار الحرية، وقد تقدم في باب اللقيط في هذه المسألة من الكلام ما يغني عن الإعادة. فرع: لو اعترف المقذوف والقاذف بأنه كان عبدا، فعتق، وادعى المقذوف أنه أراد نسبته إلى [الزنى] بعد الحرية، وقال القاذف: إنما أردت أنك زنيت في حال الرق - فالحكم كما سنذكره فيما إذا اختلفا في مثل هذه الصورة [في الفصل بعده]، قاله الماوردي. قال: وإن [قال]: زنيت وأنت نصراني، فقال: لم أزن [ولا كنت]

نصرانيا، ولم يعرف حاله - ففيه قولان: أحدهما: يحد؛ لأن ظاهر الدار الإسلام، فرجح قول المقذوف به؛ وهذا ما صححه النواوي. والثاني: يعزر، أي: بعد حلف القاذف؛ لأن ما يقوله محتمل، والأصل براءة الذمة من الحد. وإذا انتفى الحد، ثبت التعزير باعترافه، وهذا ما أجاب به هنا، أما إذا عرف له حال نصرانية، فلا حد عليه. نعم، لو قال: أردت قذفي بعد إسلامي؛ فعليك الحد، وقال: بل أردت [قذفك] قبل إسلامك؛ فلا حد علي - فالذي حكاه الداركي والشيخ أبو حامد فيما إذا كان المخاطب امرأة: أن القول قول المقذوفة، وعلى القاذف الحد؛ لأن قوله: "زنيت" يقتضي القذف [في الحال]، وقوله: "وأنت نصرانية"، يقتضي الإخبار عن تقدم حالها؛ فصار الظاهر مع المقذوفة. قال الماوردي: والذي أراه: أن القول قول القاذف مع يمينه، ولا حد عليه؛ لأنه لما وصل قوله "زنيت"، بقوله: "وأنت نصرانية" - كان أظهر احتمالية إضافة الزنى إلى النصرانية؛ لكون أحدهما تعلق بالآخر، ولو استوى الاحتمالان لوجب أن يدرأ بالشبهة، وقد وافق ابن الصباغ في الاحتمال المذكور، واستشهد له بأنه لو قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار وأنت مسلمة، تعلق الطلاق بدخول الدار في الإسلام. ومثل هذا يظهر جريانه في مسألتنا. ولو علم أنه لم يزل مسلما، وجب على القاذف الحد للقذف، والتعزير؛ لنسبته إلى الكفر. قال: [وإن قذفه، وقال: قذفته وهو مجنون، فقال: بل قذفني وأنا عاقل، وعرف له حال جنون - فالقول قول القاذف في أظهر القولين؛ لأنه قد ثبت حال جنون، وما يدعيه كل واحد منهما ممكن، والأصل براءة الذمة.

فعلى هذا: إذا حلف القاذف، عزر إن طلبه المقذوف. والقول قول المقذوف في الآخر؛ لأن صحته موجودة في الحال، والأصل عدم الجنون في الحالة التي يدعي وجود القذف فيها. فعلى هذا: [إذا] حلف المقذوف، حد القاذف. ولا نزاع في أنه إذا لم يعرف له حال جنون، أن القول قول المقذوف؛ كما لو ادعى القاذف أنه قذفه في حال ردته، ولم يعلم له حال ردة؛ فإن القول قول المقذوف. نعم، لو عرفت [له ردة]، وادعى القاف صدور القذف في حال ردته، وقال المقذوف: بل بعد زوالها - فالقول قول القاذف؛ لأن الأصل بقاؤها. صرح به القاضي الحسين، وقياسه: أن يطرد مثله في الجنون. ولو ادعى القاذف صدور القذف في حال الردة المعلومة للمقذوف، وقال المقذوف: بل في الإسلام - فهو نظير مسألة الكتاب، وقد حكى الماوردي فيها وجهين، وبناهما على أنه إذا لم تعرف ردته، فأراد القاذف أن يقيم بينة على ردته، ففي كيفية سماعها قولان: أحدهما: تشهد بردته، ثم يكون القول قوله مع يمينه. والثاني: تشهد بأنه قذفه في حال الردة. ولو ادعى القاذف أن القذف جرى منه وهو مجنون، فقد تقدم الكلام فيه في باب اللعان. قال: وإن قذف عفيفا، فلم يحد حتى زنى أو وطئ وطئا حراما، أي يزول به إحصانه - لم يحد؛ لأن حد القذف موضوع لإسقاط المعرة عن المقذوف، والمعرة لا تسقط إذا زنى أو وطئ وطئا حراما، فلم يجب في قذفه حد؛ [و] لأن عادة من لا يدين بإجهار المعاصي أن يستر بإخفائها؛ فظهورها منه لا يكون إلا بعد كثرتها وتكررها. [روي أنه] حمل إلى عمر - رضي الله عنه - رجل زنى،

فقال: [والله] ما زنيت قبل هذه، فقال عمر: كذبت؛ إن الله – تعالى - لا يفضح عبده بأول معصية. فكان فيما ظهر من وطئه دليل على تقدمه منه؛ فلم يحد قاذفه، وهذا هو المذهب. وعن المزني: أنه يحد؛ كما لو ارتد المقذوف بعد القذف. قال الإمام هنا: وكنا نعد هذا تخريجا في المذهب، فرأيت [للشيخ أبي] علي في "شرح التلخيص" أن هذا قول للشافعي في القديم. وقال في باب الشهادة [على الشهادة]: إنه الذي صار إليه طوائف من أصحابنا، وقد خرج ابن أبي هريرة وجها في طرآن الردة، وقال: إنها تسقط الحصانة أيضا. وحكاه في "المهذب"، وأبداه القاضي أبو الطيب احتمالا لنفسه، و [قد] استشكل الإمام الفرق بين طرآن الزنى وطرآن الردة مع تقرير الصحيح في الصورتين، وقد فرق بينهما بوجوه: أحدها، علة الحكم السابقة. والثاني: - قاله الماوردي -: أن حد القذف موضوع لحراسة العفة من الزنى [دون الردة]؛ فجاز أن يسقط بحدوث الزنى وإن لم يسقط بحدوث الردة. والثالث: - قاله القاضي الحسين -: أن الردة السابقة لا تسقط الإحصان إذا طرأ الإسلام، بخلاف الزنى السابق؛ فكما افترق الكفر والزنى إذا تقدما، فلا يمتنع [أن يفترقا] إذا تأخرا. ولا يقوم مقام الزنى الطارئ في إسقاط العفة والحد، صدور السرقة أو القتل من المقذوف. وعن كتاب ابن كج: أن أبا الحسين حكى فيه وجهين. وهل يقوم تمكينه من نفسه حتى وطئ في دبره مقام زناه؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين في باب الشهادة على الحدود؛ بناء على أن اللواط حكمه حكم الزنى أو لا؟ وهذا كله فيما إذا ثبت زنى المقذوف أو وطؤه وطئا حراما عند الحاكم

بإقراره، أو بينة تشهد بمشاهدته، أو على إقراره بذلك، وفي هذه الحالة الأخيرة هل يكفي [في الشهادة بها] شاهدان، أم لابد من أربعة؟ قال الإمام: [إن قلنا: يثبت الإقرار بالزنى بشاهدين كفيا هاهنا أيضا، و] إن قلنا: لا يثبت إلا بأربعة، فهل يكفي في إسقاط الحد شاهدان يشهدان بإقراره بالزنى أم لابد من أربعة؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين - أيضا - في آخر الفصل، والذي أورده الغزالي منهما: الاكتفاء؛ حيث قال: ويكفي في ذلك شاهدان. وأراد ما ذكرناه، وهو ظاهر النص؛ فإنه قال: "ولو جاء الزوج بشاهدين على إقرارها بالزنى لم يلاعن، ولم يحد، ولا حد عليها. قال القاضي الحسين: واختلف الأصحاب في ذلك: فمنهم من قال: أجاب على قوله: يثبت الإقرار بالزنى بشاهدين؛ فلم يحد القاذف؛ لثبوت زناها، ولم يحدها؛ لأن صورة الأمر: أنها أنكرت الزنى، أو رجعت؛ فسقط بذلك الحد عنها. ومنهم من قال: أجاب على أنه لا يثبت الإقرار بالزنى بأقل من أربعة؛ لأنه لم يحدها، وإنما لم يحد القاذف؛ لأنه يجوز أن يسقط الحد عن القاذف، ولا تحد هي حد الزنى؛ كما لو أقام أربعة من العدول على زناها، وأقامت [هي] أربع نسوة على أنها عذراء - سقط الحد [عن القاذف، ولا تحد هي حد الزنى. وهذان الوجهان متفقان على سقوط الحد] عنه بشهادة الشاهدين بالإقرار. ولو لم يكن للقاذف بينة، فأراد إحلاف المقذوف على زناه، فهل له ذلك؟ قال الإمام: وكذا القاضي الحسين: فيه قولان، أظهرهما: لا، وعلى تصحيحه جرى البغوي والمتولي، وهو ما ينسب إلى النص في "الإملاء"، ووجهه: أن شريك بن السحماء الذي رميت به الملاعنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل، فأنكر، فلم يحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومقابله منسوب إلى رواية الشيخ أبي زيد؛ لما فيه من سقوط الحد عن القاذف. قال الرافعي: وهذا هو الموافق لجواب الأكثرين. قلت: ويعضده قول القاضي الحسين في باب النكول ورد اليمين: لو قذف رجل شخصا ميتا، وله ورثة، وأرادوا أن يحدوه، فقال: أنا أحلفكم: إنكم لا تعلمون أن مورثكم كان زانيا - فإن له استحلافهم على الصحيح من المذهب. قال البندنيجي: وهذه اليمين ليست على حد الزنى، لأن اليمين لا مدخل لها فيه، وإنما حلف على ما ادعاه؛ ليسقط حد [القذف الذي هو حق آدمي. فعلى هذا: إن نكل حلف] القاذف، وسقط حد القذف، ولا يحد المقذوف؛ لأن الزنى لا يثبت بعدلين، فكيف بالنكول ورد اليمين؟! وأشار الإمام إلى حكاية وجه عن رواية الشيخ أبي علي، والصحيح: الأول. قال: القاضي: وهذا الحكم فيما إذا ادعى سرقة وحلف المدعى عليه، فنكل، وحلف المدعي - لا يقطع المدعى عليه، ويضمن المال؛ لأن القطع لا يثبت [إلا] بعدلين. وحكى الإمام في كتاب السرقة عن الأصحاب: وجوب القطع في السرقة إذا ثبت المال المسروق باليمين المردودة، وأن من الأصحاب من خرج من مسألة الزنى إلى مسألة السرقة، ومن مسألة السرقة إلى مسألة الزنى، وأثبت فيهما جميعا خلافا. وستكون لنا عودة إلى ذلك، إن شاء الله تعالى. قال: ولا يجب الحد إلا أن يقذفه بصريح الزنى أو اللواط أو بالكناية مع النية، أي: ولا يجب بالقذف بغير ذلك. ووجه وجوبه عند القذف بصريح الزنى: الآية. واللواط في معناه إذا وجب فيه الحد؛ كما هو الصحيح، أما إذا لم يوجب فيه [إلا التعزير، فلا يجب بالقذف [به] إلا التعزير.

ووجه وجوبه عند الإتيان بالكناية مع النية: أن ما لا يعتبر فيه] الشهادة ولا قبول مخاطب، كانت الكناية فيه مع النية كالصريح، أصله الطلاق والعتاق. ودليل اعتبار النية مع الكناية سيأتي. ووجه انتفائه عند القذف بغير ذلك فيما هو أعظم من الزنى، وهو الكفر بالله تعالى: أن القذف بالزنى أعير، وبالنسل أضر، والمقذوف بالكفر يقدر على نفيه عن نفسه بإظهار الشهادتين، ولا يقدر المقذوف بالزنى عن نفيه عن نفسه، وما عدا الكفر دون الكفر؛ فمن طريق الأولى ألا يوجبه. قال: والصريح أن يقول: زنيت، أو: يا زان، أو: لطت، أو: يا لوطي، أو: زنا فرجك، وما أشبهه، أي كقوله: أتيت بهيمة؛ إن جعلنا إتيان البهيمة يوجب الحد، أو: نكت فلانة، أو: أولجت حشفتك في فرجها - لكن مع الوصف بالتحريم وانتفاء الشبهة، أو: زنا قبلك أو دبرك. قال الرافعي: والخلاف المذكور في باب الإيلاء في الجماع وسائر الألفاظ [هل] هي صريحة، يعود هاهنا: فما كان صريحا وانضم إليه الوصف بالتحريم كان قاذفا. وهكذا الحكم فيما لو قال: [لامرأة]: زنيت، أو: يا زانية، أو: يا زان، كما نص عليه الشافعي - رضي الله عنه - في "المختصر"، أو: يا زاني، كما نص عليه في حرملة، وقال: إنه يرجم، وابن الصباغ قال: إن هذا غير جائز ولا يضر ذلك، ألا ترى أنه لو قال للرجل: يا زانية، كان قذفا، أو قال له: زنيت، وللمرأة: زنيت - كان قذفا. وفي "الرافعي": أن الداركي قال: سمعت أبا محمد الفارسي يحكي عن نص الشافعي - رضي الله عنه - في الدعاوى والبينات: أن قوله للمرأة: يا زان، أو يا زاني - لا يكون قذفا. وربما نسب ذلك إلى القديم. [قال الداركي: وطلبت ما نقله في الموضع، فلم أجده. وعن صاحب "التقريب" حكاية قول عن القديم] فيما إذا قال [للرجل: يا

زانية، أنه ليس بقذف، والمشهور الأول. ولو قال:] علوت على رجل حتى دخل ذكره في فرجك، أو: لاط بك فلان - كان قذفا، سواء خوطب بذلك رجل أو امرأة. وعن المزني: أنه قال في "المختصر الكبير" - كالمنكر لذلك: "لا أدري على ماذا أقيسه؟! "، فقال الأصحاب: قسه على القبل؛ بجامع أنه وطء يتعلق به الحد. وألحق القاضي الحسين في "فتاويه" بذلك قوله للرجل: يا مؤاجر للعادة، قال مؤلفها: والأصح أنه كناية. والخنثى المشكل إذا قيل له: زنيت، أو: يا زانية - كان حكمه حكم الرجل، ولو قال له: زنا قبلك، أو: فرجك، قال في "البيان": الذي يقتضيه المذهب أن فيه وجهين: أحدهما: أنه صريح. والثاني: أنه كناية كما لو أضاف الزنى إلى اليد؛ لأن كلاهما يحتمل أن يكون عضوا زائدا. واعلم أن الرافعي عد قوله: يا لوطي، من كنيات القذف، وهو منطبق على ما حكاه القاضي أبو الطيب في "تعليقه": أنه يرجع إليه إذا قال: [أردت بذلك] [أنه على دين] قوم لوط، [لم يجب] عليه الحد، وإن قال: [أردت] أنه يعمل عمل قوم لوط، وجب عليه الحد، وعليه جرى في "المهذب". وقال ابن الصباغ: هذا فيه نظر؛ لأنه مستعمل في الرمي بالفاحشة؛ فلا ينبغي أن يقبل قوله: إني أردت به أنه على دينهم، بل يكون قذفا. وقد حكاه [صاحب] "الكافي" وجها، مع جزمه بأنه عند الإطلاق [يكون كقوله]: "يا زاني"، كما حكاه الشيخ، على أن في بعض النسخ بدل قوله: "يا لوطي"، "يا لائط"، والظاهر: أنها الصحيحة؛ ولذلك لم يتعرض النواوي لكلام عليها.

[وفي "الجيلي": أن في "البحر" أن قوله: "لطت"، أو: "يا لوطي"، ليس بصريح، وقيل: صريح]. قال: والكناية أن يقول: "يا فاجر"، [أو:] "يا خبيث"، أو: ["يا] حلال ابن الحلال" [وهما في الخصومة. أراد الشيخ بقوله: "وهما في الخصومة"، أن هذه الحالة لا تجعل قوله: "يا حلال ابن الحلال" وشبهها صريحا، كما صار إليه الإمام مالك وأحمد - رحمهما الله - لأن الخصومة شرط كونه كناية، لأن هذا اللفظ يحتمل القذف وغيره فكان كناية]. قال: فإن نوى به القذف، وجب الحد، لوجود شرط العمل بالكناية، وإن لم ينو، لم يجب؛ لأنه قد ثبت أن [في] ذلك كناية، والكناية لا تعمل بدون نية، وإلا كانت صريحا، ولأن الخصم قد وافقنا على اعتبار النية في قوله: "يا حلال ابن الحلال" في حالة الرضا كما نقله الماوردي، فنقول: ما كانت النية شرطا فيه في حالة الرضا كانت شرطا فيه في حالة الغضب كالكنايات في الطلاق،

ولأن كل ما نسبه إلى نفسه لم يكن إقرارا بالزنى، وجب إذا نسبه إلى غيره ألا يكون قذفا بالزنى؛ قياسا على حالة الرضا. وقد عد من جملة الكنايات قول الشخص للشخص: "يا قواد"؛ فإنه كناية عن قذف زوجته، وعن الشيخ إبراهيم المروزي: أنه حكى عن أستاذه: أنه قال: هو صريح؛ لاعتياد الناس القذف به. ومنهم من يجعله صريحا في العامي خاصة، قاله الرافعي في هذا الباب. واعلم أن عد لفظ الشيخ: "يا حلال ابن الحلال"، من الكنايات حتى يقع بها القذف إذا نواه هو وجه لبعض الأصحاب، ولم يورد الشيخ أبو حامد وجماعة - كما قال الرافعي – سواه. قال: والصحيح: أنه وما شابهه: [كقوله]: أما أنا فلست بزان، وأمي ليست بزانية، وما أحسن اسمك في الجيران، وما أنا بابن خباز ولا إسكاف، وما أشبهه - ليس بكناية؛ لأن الكناية هي [التي] تنبئ على المعنى وعلى غيره ولو على بعد، وهذه الألفاظ لا دلالة فيها على القذف، بل هي من المعاريض، وما يتخيل ويفهم منها، فمستنده قرائن الأحوال، وإذا لم تكن كناية، لم يحصل بها قذف وإن أريد، لأن الكناية إنما تؤثر النية فيها. [قال]: وظاهر النص الأول؛ لأنه [قال] كما حكاه القاضي الحسين في أواخر الباب -: ولا حد في التعريض ولا في الكناية ما لم يرد به القذف. وقد استدل الأصحاب على أن التعريض في حالة الغضب لا يكون قذفا بما رواه الشافعي مسندا عن أبي هريرة: أن رجلا من فزارة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاما أسود؟! فقال: له النبي صلى الله عليه وسلم: "ألك إبل؟ "، قال: نعم، [قال: "ما ألوانها؟ " قال: حمر كلها، قال: "هل فيها من أورق] "؟ قال: نعم، قال: أنى ذلك"؟ قال: لعل عرقا نزع، قال: "كذلك هذا، لعل عرقا

نُزِعَ". فلم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا التعريض قذفا وإن كان ظاهر الحال يشهد بعضه. وكذا قول [الرجل] الآخر للنبي صلى الله عليه وسلم: إن امرأتي لا ترد يد لامس، فقال: "طلقها"، قال: إني أحبها، قال: "أمسكها". وهذا تعريض بالقذف، ولم يجعله قذفا، ولا يقال: إن المراد: لا ترد يد ملتمس عما يطلبه من ماله؛ لأنه لو كان كذلك، لم يكن جوابه صلى الله عليه وسلم: "طلقها"، ولكان جوابه للأمر بحبس ماله عنها، على أن الرافعي عد قوله: إن امرأتي لا ترد يد لامس، من الكنايات، وعلى هذا التقدير تكون الألفاظ التي يراد بها القذف [ثلاثة أقسام:] صريح، وقد سبق. وكناية: وهي "يا فاجر"، أو: "يا خبيث" كما ذكره الشيخ، و"يا نبطي" للعربي، و"يا عربي" للنبطي، و"يا مؤاجر" كما حكيناه من قبل، و [هو] ما قاله القاضي أبو الطيب في هذا الباب، وقول الأجنبي للأجنبية: لست عذراء، أو: وجد معك رجل. فلو قال: الزوج لزوجته ذلك فكذلك الحكم على الأصح في "الرافعي"، وحكى عن القديم: أنه صريح. ولو قال: يا نذل، كان كناية على الأصح في "النهاية". وتعريض: وهو "يا حلال ابن الحلال" وشبهه كما تقدم. وهذا حكاه القاضي الحسين عن القفال في مرة، وعليه جرى الإمام، ثم حكى القاضي عن القفال أنه قال في [كرة ثانية]: جملة الألفاظ على أربعة أقسام: قسم هو صريح.

وقسم هو كناية: إن أراد به القذف يكون قذفا، وإلا فلا، كقوله: "يا فاسقة"، "يا فاجرة"، "يابن الحلال"، "أما أمي فليست بزانية"، وهذا منطبق على ما أورده الشيخ، ثم قال القاضي: وعندي وجب أن يفرق بين قوله: "يا فاسقة، يا فاجرة" وبين قوله: "يابن الحلال" "وليست أمي بزانية"؛ لأن قوله: "يا فاسقة"، أضاف إليها الفسق وعيرها بهذا اللفظ، بخلاف قوله: "يابن الحلال"؛ لأنه لم يضف [اللفظ] إليها. وقسم ثالث: هل يجعل كناية في القذف إن أراد به القذف كقوله أما أنا فلم أزن، وأما أمي [فلم تزن]؟ فيه وجهان، والأصح: أنه لا يكون قذفا. وقسم رابع: لا يكون قذفا بكل حال، كقوله: "بارك الله فيك" وما شابهه. ثم في قوله للعربي: "يا نبطي"، إن قال: أردت به نبطي اللسان، [ليس بفصيح] كفصاحة العرب، أو: نبطي الدار؛ لأنه يسكن دار النبط، وكذبه المقذوف - فإن حلف القاذف فلا حد عليه، قال: القاضي أبو الطيب والحسين: ويؤدب بكلامه؛ للأذى الموهم لنفي نسبه. وفي "الحاوي": أنه ينظر في مخرج كلامه، فإن لم يرد به الذم والسب فلا يعزر، وإن أراد به الذم والسب؛ عزر عليه للأذى، وإن نكل حلف المقذوف [عليه]- قال الشافعي - رضي الله عنه -: يحلف: لقد أراد نفيه، ويحد له. وظاهر هذا يدل على أنه أوجب الحد بنفي النسب دون القذف. واختلف الأصحاب في ذلك: فمنهم من قال: أراد إذا كان قد أراد قذف أمه بأن يقول: زنت بنبطي وأنت من ماء ذلك النبطي، [أو أراد أن جدته أم أبيه زنت بنبطي، وأنه ابن من خلق من ماء النبطي]، وحينئذ فإن كانت المرمية بالزنى محصنة جلد بطلبها، أو بطلب من يقوم مقامها، وإلا عزر، وهذا ما ذهب إليه أبو علي الطبري وأكثر أصحابنا، كما قاله أبو الطيب.

ومن أصحابنا من قال: بظاهر كلام الشافعي، وقال: نفي السبب يوجب الحد، قال القاضي أبو الطيب: وهو الصحيح عندي؛ لأن كلامه هنا لا يحتمل غيره. وحكى الطحاوي هذا عن الشافعي، رضي الله عنه. ووجهه: ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا أوتى برجل يقول: كنانة ليست من قريش، إلا جلدته". وحكى المراوزة وابن الصباغ هذا النص فيما إذا كان نفي النسب من أجنبي، فقال: لست [ابن فلان، وحكوا – أيضا - فيما إذا قال: الرجل لولده: لست] بابني، أنه لا يكون قذفا، وأن الأصحاب اختلفوا فيهما على طرق: إحداها: حكاية قولين في المسألتين: أحدهما: يكون قذفا فيهما. والثاني: أنه كناية [فيهما]، وهو الأقيس عند الغزالي. والثانية: القطع بالقول الأول، وهي منسوبة لابن الوكيل. والثالثة: تقرير النصين، وهي الصحيحة في "الرافعي"، وتنسب إلى ابن أبي هريرة، لأن الوالد يحتاج في تأديب الولد إلى [مثل هذا] الكلام؛ زجرا له عما لا يليق بنسبه، فيحمل ذلك منه على التأديب، والأجنبي بخلافه. والرابعة - عن أبي اسحاق -: أنه لا فرق بين المسألتين، وإنما أراد بقوله: حد لها، إذا اعترف أنه أراد [به] القذف، وكذلك في حق الزوج، كذا نقله ابن الصباغ عن حكاية القاضي أبي الطيب عنه، وحكى الشيخ أبو حامد عنه: أنه إنما أراد الشافعي - رضي الله عنه - في الزوج إذا [قال]: ليس بابني، لا يكون قذفا إذا كان [ذلك] قبل استقرار نسبه عقيب وضعه، فأما إذا قال: ذلك [بعد استقرار] نسبه منه؛ كان قذفا، وإنما قال في الأجنبي: إنه يكون قذفا؛ لأنه قال

ذلك بعد استقرار نسب المولود، والله أعلم. قال: وإن اختلفا في النية فالقول قول القاذف؛ لأنه أعرف بكلامه. قال الجيلي: فلو اعترف بأنه نوى، فهل نقول: وجب الحد من حين التلفظ أو من حين البيان؟ فيه وجهان، تظهر فائدة الثاني فيما إذا وطئ المقذوف بعده، وهذا إذا تأملته لم يظهر له معنى؛ لأن الحد إن وجب من حين اللفظ أو من حين البيان يسقط، وبطرآن الزنى بعده، كما لا يجب إذا كان الزنى قبله. نعم، إن أراد أنا هل نقول: وجب وسقط، أو ما وجب أصلا - لم يبعد. فرع: هل يجب على القاذف إذا كان قد نوى القذف ولم يحلف، الإظهار؛ ليستوفي منه الحد؟ الحكاية عن الأصحاب: الوجوب؛ كما لو قتل إنسانا في خفية يجب عليه اظهاره، ليستوفي منه القصاص أو يعفى عنه. قال الرافعي: وهذا قول [من] يوجب الحد عليه فيما بينه وبين الله تعالى. وفيه احتمال آخر: أنه لا يجب الإظهار؛ لأن إظهار النية إتمام الأذى؛ فيبعد إيجابه. وعلى هذا فلا يحكم بوجوب الحد ما لم يوجد الإيذاء التام، ونظم الغزالي يميل إلى ترجيح هذا، ويؤيده قول البغوي في باب حد الزنى: إن من قذف أو قتل يستحب له الإقرار؛ ليستوفي منه القصاص وحد القذف؛ لما في حقوق الآدميين من التشديد، وإذا لم يجب الإقرار بالقذف الصريح فعند بينة أولى. لكن المنقول في "الحاوي" في كتاب السرقة وجوب الإقرار بهما، وهو ما أبداه الرافعي في باب حد الزنى احتمالا آخر: إذا قذف شخصا بحضرة الإمام والمقذوف غائب [معلوم،] فهل يجب على الإمام إعلامه بذلك؟ حكى الماوردي فيه ثلاثة أوجه: أحدها: نعم؛ لأنه حق ثبت له؛ فوجب إعلامه به، كما يلزمه إعلامه بما يثبت عنده من أمواله؛ لجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأموال والأعراض. قال الرافعي: وهذا ما ذكره أكثرهم، وهو الذي اقتضى إيراد ابن الصباغ

والقاضي الحسين ترجيحه، وعليه حمل الشافعي - رضي الله عنه -[كما قال الإمام]: بعث النبي صلى الله عليه وسلم في قصة العسيف، لا لتعترف بالزنى. والثاني: لا؛ لأنها حدود تدرأ بالشبهات، فعلى هذا يكون البعث مستحبا، [كما] حكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد. والثالث - وهو قول ابن سريج -: أنه إن تعدى قذف الغائب إلى قذف حاضر مطالب، كرجل قذف امرأته برجل سماه، فلاعن الزوج عنها - لم يلزم الإمام إعلامه؛ لأن لعان الزوج يسقط حد القذف في حق كل واحد منهما، وكذلك لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم شريك ابن السحماء حين قذفه هلال بن أمية بامرأته، وهكذا لو كان القذف من أجنبي لرجل وامرأة بزنى واحد، فحضر أحدهما مطالبا بالحد - لم يلزم الإمام إعلام الآخر؛ لأن الحاضر إذا استوفى فهو في حقه وحق الغائب؛ لأن في زوال المعرة عن أحدهما بالحد في قذفهما زوالا للمعرة عنهما؛ لأن الزنى واحد، و [إن] لم يتصل قذف الغائب بحاضر مطالب، وجب على الإمام إعلام الغائب؛ ليستوفي بالمطالبة حقه إن شاء، كما أنفذ صلى الله عليه وسلم أنيسا إلى المرأة. وعن أبي الفرج الزاز: أن النص في مسألتنا وجوب الإعلام، وفيما إذا أقر عنده مقر لآخر بدين: أنه لا يجب عليه إخبار المقر له، وأن للأصحاب ثلاثة طرق: أحدها: تنزيل النصين على حالين: إن كان الذي يتعلق به الحاضر حاضرا عالما بالحال فلا حاجة إلى إخباره في النوعين، وإن كان غائبا أو غافلا عما جرى، وجب إخباره؛ كي لا يضيع حقه. والثاني: الفرق بين الحد والمال؛ فإن الحد يستوفيه الإمام ويتعلق به، فيخبره ليستوفي إن أراد، والمال لا يختص استيفاؤه بالإمام. والثالث: جعلهما على قولين بالنقل والتخريج، ويحكى هذا [الطريق] عن رواية صاحب "التقريب". وعن القفال عن بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث أنيسا؛ لأنه كان قد شهد على

إقرار المرأة بالزنى أبو الزاني مع آخر، فبعث [أنيسا] ليستثبت إن رجعت عن إقرارها تركها، وإلا أقام الحد عليها. قال: وإن [قال]: زنأت في الجبل، أي: بالهمز، [أي]: ولم ينو القذف - لم يحد؛ لأن "زنأت" في اللغة عبارة عن: صعدت، يقال: زنأ يزنأ زنئا، وزنئوا: إذا صعدوا، وزنى يزني زناء وزنى: إذا فجر. والفرق بينهما في حقيقة اللسان وعرف الاستعمال مشهور، حكي أن امرأة [من العرب] كانت ترقص ابنا لها، وتقول: أشبه أبا أمك أو أشبه حمل ... ولا تكونن كهلوف وكل يصبح في مضجعه قد انجدل ... وارق إلى الخيرات زنئا في الجبل وأرادت بالحمل: نجيبا من قومه، ولعله أبوه. والهلوف: الرجل [الجافي] العظيم. والوكل: الضعيف. فكأنها قالت: لا تكونن رجلا ثقيل الجسم مسترخيا. وأرادت بقولها: "قد انجدل" أي: وقع على الأرض؛ [لأنها تسمى] الجدالة. وبقولها: "وارق" أي: اصعد. وبقولها: "زنئا في الجبل" أي: كصعودك في الجبل. [ومعناه: أنك تعلو بصعودك إلى الخيرات كما تعلو بصعودك إلى الجبل]. وإذا كانت حقيقة في الصعود لم يحمل على المجاز من غير نية. وحكى الماوردي عن أبي الطيب بن سلمة: أن قائل هذا اللفظ: إن كان من أهل العربية لم يكن قذفا، وإن كان ممن لا يعرفها كان قذفا، لأن العامي [لا

يفرق] بين "زنأت" و"زنيت"، وهذا نظير ما ذكرناه في قوله لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار. أما إذا نوى القذف حد. ولو قال: زنيت في الجبل، من غير همز، وقال: أردت الصعود - ففي القبول ثلاثة أوجه حكاها الغزالي والشيخ أبو الفرج: أصحها: أنه قذف. والثاني: [أنه ليس بقذف إلا أن يريده، ويروى] هذا عن صاحب "التلخيص". والثالث: إن كان جاهلا باللغة عزر، وإن كان بصيرا بها فلا [يقبل قوله]. قال: وإن قال: "زنأت"، [أي]: بالهمز، ولم يقل: في الجبل - فقد قيل: يحد كما لو قال: "زنيت" بالياء؛ لأن ذوات الياء تهمز؛ كقوله: عنأت وعنيت، ولأنه لم يصله [فهو قذف بظاهره، وإنما يصرفه عن ذلك إقرانه بالجبل؛ لأنه يستعمل في غير لفظ] الزنى مع لفظ "الجبل". وعن الداركي: أن أبا أحمد الجرجاني نسبه إلى النص في الجامع الكبير. وقيل: لا يحد إلا بالبينة وهو الأصح؛ لأن [اللفظ] ظاهر في الصعود. وقد وافق الشيخ على التصحيح القاضي الحسين، وكذا أبو الطيب والرافعي ونسبه إلى القفال، وحكيا معا وجها ثالثا: أن القائل إن كان من أهل اللغة يعرف ألفاظها، لم يكن قذفا إلا أن يريده، وإن لم يكن كذلك فهو قاذف به. وهذا منسوب في "المهذب" إلى أبي الطيب بن سلمة، وكلام ابن الصباغ يفهم حكايته عنه أيضا. ولو قال: زنأت في البيت، فالظاهر: أنه قذف؛ قاله القاضي الحسين والرافعي؛ لأنه لا يستعمل بمعنى الصعود في البيت ونحوه. قال: وإن قال: أنت أزنى الناس، أو: أزنى من فلان، لم يحد من غير نية، لأنا لا نعلم أن الناس زناة، ولا أن فلانا زان حتى يكون هذا أزنى منهم ومنه، ولأنا في الصورة الأولى نتحقق كذبه، فإن الناس كلهم ليسوا بزناة حتى

يكون هذا أزنى منهم. ووجه القاضي الحسين ذلك بأن قوله: "أنت أزنى الناس" يريد به: أنت أعلم الناس بالزنى، وكذا: قوله: "أنت أزنى من فلان" يريد: أنت أعلم [منه] بالزنى. قال الإمام: وهذا كلام سخيف؛ كأن التعرض للزنى لا يجوز أن يحمل على العلم بالزنى، وهذا ما نص عليه الشافعي، رضي الله عنه. وقال الماوردي: [الصحيح عندي] أنه يكون قذفا صريحا للمخاطب في الصورتين، وقد حكاه أبو الفرج السرخسي عن الداركي. وفي "الوجيز" و"تعليق" للقاضي الحسين: أن فلانا إذا كان قد زنا، وثبت زناه بالبينة أو بالإقرار، وكان عالما به - فهو قاذف للمخاطب؛ فيحد له، ويعزر لفلان. وإن كان جاهلا بثبوت زنى فلان، فليس بقاذف. ولو قال: أنت أزنى مني، ففي كونه قذفا وجهان رواهما ابن كج والماوردي، وقال: إن جواب الصيمري منهما: أنه صريح في القذف؛ كما لو قال لامرأة ابتداء: زنيت بك. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه إذا نوى بما ذكر القذف حد، وهو ظاهر لفظ "المختصر" – أيضا، وهو مما لا شك فيه في الصورة الثانية، وأما [في] الأولى: فقد قال القاضي [الحسين]: إنه يكون قذفا أيضا، وحكي عن المزني أنه لم يجعله قذفا؛ لأن القذف ما احتمل الصدق والكذب، فأما ما قطع فيه بأحدهما فليس بقذف، وهذا مقطوع فيه بالكذب؛ فصار كما لو قال لبنت اليوم: هذه زانية. ولم يورد ابن الصباغ والبندنيجي سواه. نعم، لو قال: أردت أنه أزنى من زناة الناس، كان قذفا له دون زناة الناس؛ لأنهم غير متعينين. وعن المزني أنه لا حد عليه للمخاطب أيضا. قال: وإن قال: فلان زان وأنت أزنى منه، حد؛ [أي:] لهما؛ كما لو قال: فلان زان وأنت زان. وعن أبي الحسين بن القطان وابن سلمة: أنه لا يكون قذفا للمخاطب.

ولو قال: في الناس زناة وأنت أزنى منهم، أو: أزنى زناة الناس - كان قذفا له. قال في "البسيط": وقد يعتاص الفرق بينه وبين أن يقول: أنت أزنى الناس؛ لأنا نعلم أن في الناس زناة، ولعل السبب انقطاع لفظه، وليس في لفظه إثبات زناهم، ولفظ "الناس" يتناول الكل، ومعلوم أن الناس كلهم ليسوا زناة. قال: وإن قال: [زنت] يدك أو رجلك، لم يحد، [أي:] إلا أن ينوي به القذف؛ لأن الزنى لا يوجد في هذه الأعضاء حقيقة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما اللمس، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، ويصدق ذلك [ويكذبه] الفرج". و [إذا كان] كذلك، لم يكن بإضافة الزنى إليهما قاذفا؛ كما لو قال: زنت عينك، وقد ادعى الماوردي: أنه لا خلاف فيه، وهذا ظاهر كلام الشافعي في القديم، وقال: البندنيجي: إنه المذهب. وبه قال أبو اسحاق، وابن أبي هريرة، ونسبا المزني فيما نقله - كما سنذكره - إلى الخطأ. وقيل: يحد؛ لأنه أضاف الزنى إلى عضو منه، فأشبه إضافته إلى الفرج، وهو مما لم يختلف فيه، وإن كان منسوبا للقديم، وهذا القول ظاهر ما نقله المزني في "المختصر". قال الماوردي: ولم يذكره في "جامعه". وفي "تعليق" البندنيجي: أن أبا الطيب [قال]: إن أبا اسحاق رجع عن الأول وقال بهذا. وقد حكى المصنف والغزالي [إجراء] هذا القول في إضافة الزنى إلى العين – أيضا - فتحصلنا فيه على طريقين. قال: [وإن قال]: زنى بدنك، لم يحد على ظاهر النص، أي: في القديم؛

لأن الزنا بجميع البدن لا يكون إلا بالمباشرة؛ فلا يكون صريحا كلفظ المباشرة؛ وأيضا فإنه لو قال: زنا بدني، لم يكن صريحا في الإقرار بالزنى؛ كما قاله الإمام في كتاب الظهار؛ فكذلك إذا أضافه إلى بدن غيره، وهذا ما اختاره أبو إسحاق وابن أبي هريرة. وقيل: يحد وهو الأظهر؛ لأن البدن هو الجملة التي فيها الفرج؛ فلم يجز أن يكون بالفرج قاذفا، وبالبدن الذي فيه الفرج ليس بقاذف، وهذا قول ابن سريج، واختاره الماوردي والمزني في "الجامع الكبير"، كما قاله ابن الصباغ، وصححه الرافعي أيضا. ولا يخفى أن الوجهين في هذه الصورة مفرعان على [عدم وجوبه] في الصورتين قبلها، أما إذا قلنا بوجوبه ثم، فهاهنا أولى. قال: وإن قال: وطئك فلان وأنت مكرهة، فقد قيل: يعزر؛ لأن فيما ذكره عارا وتذكارا لما جرى، فأشبه قذف المجنونة، بل أولى؛ فإن المجنونة تزجر عن الشيء القبيح بالضرب ونحوه؛ لأن لها نوع طلب، والمكرهة بخلاف ذلك؛ وهذا ما نسبه المتولي إلى النص، ويوافقه [دعوى] القاضي الحسين: أنه ظاهر المذهب، وفي "تعليق" البندنيجي نسبته إلى أبي إسحاق، ويوافقه حكاية ابن الصباغ والبغوي والرافعي ذلك وجها، وصححوه. وقيل: لا يعزر؛ لأنه لم يضف إليها فعلا فيه، ولأنها [لا عار] عليها في الزنى مع الإكراه. ولهذا الخلاف التفات في أن وطأها مكرهة هل يسقط عفتها كما سبق؟ ويجري الوجهان فيما إذا قال: وطئت بشبهة؛ كما قال الماوردي، وفيما إذا قال: وطئت وأنت نائمة، كما قاله ابن الصباغ، ولا خلاف [في] أنه لا يجب الحد. قال: وإن قذف جماعة، لا يجوز أن يكونوا كلهم زناة، أي: بكلمة واحدة: كأهل بغداد وغيرهم، [أي]: من أهل المدن الكبار – عزر، للكذب، ولا حد عليه؛ لأن الحد لنفي العار، ولا عار عليهم؛ للقطع بكذبه.

قال: وإن قذف جماعة، يجوز أن يكون كلهم زناة، أي: كالاثنين والعشرة والعدد المحصور. فإن كان بكلمات، أي: مثل أن قال: لكل واحد منهم: زنيت، ونحوه - وجب لكل واحد منهم حد؛ لإلحاقه العار بكل واحد منهم. قال: وإن كان بكلمة واحدة [،أي:] كقوله لجماعة: أنتم زناة، أو لواحد: يابن الزانيين، ففيه قولان: أصحهما: أنه يجب لكل واحد منهم حد؛ لأنه أدخل على كل واحد منهم المعرة بقذف لم يحققه؛ فلزمه حد كامل، كما لو قذفهم على الانفراد، ولأنه من حقوق الآدميين، فلم يتداخل كالقصاص، وهذا هو الجديد. ووجه مقابله - وهو القديم: أن الزنى آكد من الرمي به، وقد ثبت أنه إذا زنى بجماعة نسوة، لزمه عن الجميع حد [واحد]؛ فكذلك القذف. [و] لأن الذي صدر منه لفظ واحد؛ فوجب أن يجب به حد واحد؛ كما لو قال ذلك لواحد. فعلى هذا: لو كان بعضهم غير محصن؛ دخل التعزير في الحد من طريق الأولى. وإذا جاء أحد المقذوفين فطلب، أقيم الحد، وسقط حق الباقين. ولو عفا أحدهم، استوفاه الباقون، حتى لو لم يبق إلا واحد استوفاه. فرع: لو قال لامرأة: زنى بك فلان، فعلى القديم: الواجب حد واحد، وعلى الجديد: فيه قولان حكاهما ابن الصباغ وغيره: وجه الاتحاد - وهو ما [حكاه] الماوردي وصححه، وقال: إن عليه جمهور أصحابنا -: أنه فعل واحد. والذي رجحه الرافعي: مقابله. قال: وإن قال لامرأته: يا زانية بنت الزانية، وجب حدان، أي: إذا كانتا

محصنتين؛ لأنه قذفهما، ولا يجئ القول القديم هنا؛ لتعدد اللفظ. نعم، لو قال: أنت وأمك زانيتان، جرى. وفي "تعليق" القاضي الحسين و"النهاية": أنا إذا قلنا باتحاده في الأجنبيتين فهاهنا وجهان؛ لأن موجب القذفين هنا مختلف، فتعدد الحد؛ لاختلاف موجبهما. قال القاضي: والأظهر الاتحاد. قال: فإن حضرتا وطالبتا؛ بدئ بحد الأم؛ لأنه آكد؛ [فإنه واجب] بالإجماع. وقذف الزوجة [اختلف في وجوب الحد به؛ ولأنه لايسقط إلا بالبينة أو بالإقرار، وحد الزوجة] يسقط بهما وباللعان. وقيل: يبدأ بحد البنت؛ لأن قذفها أسبق؛ فصار كما لو قتل رجلا ثم آخر؛ فإن القصاص [لولي الأول]، وهذا قول أبي إسحاق وابن خيران وغيرهما. قال: والأول أصح؛ لما ذكرناه، وهو ما ادعى الماوردي: أنه ظاهر المذهب، ورجحه القاضي الحسين. وفي ["تعليق" القاضي الحسين] و"النهاية" وجه ثالث: أنه يقرع بينهما. ويجئ الوجهان الأخيران فيما إذا قذف أجنبيتين، إحداهما بعد الأخرى، ولا يجئ الوجه الثاني من وجهي الكتاب فيما إذا بدأ بقذف الأم أولا، ثم بالبنت بعدها؛ لفقد العلة المذكورة وترادفها مع العلة الأولى، ويجئ الوجه الأخير، وقد أشار إليه الإمام. قال: وإن حد لإحداهما: لم يحد للأخرى حتى يبرأ ظهره؛ لأن القصد بالحد الردع والزجر مع البقاء؛ فلو جمع بين الحدين ربما أدى إلى تلفه، وكان خلاف المقصود، وبهذا خالف ما لو وجب عليه قطع اليدين في [حد] القصاص لشخصين؛ فإنه يقطع لهما في وقت واحد؛ لأن القصد من القصاص فلو أخر قطع الأخرى، ربما مات بقطع الأولى؛ فيفوت الحق. قال ابن الصباغ: وهذا الفرق يلزم عليه أن تقطع يده في شدة الحر والبرد،

والأولى أن يقال: إن الحد مقدر بالشرع لا يزاد عليه؛ ولهذا لو كرر سببه لم يتكرر، فلو والينا بين الحدين أضر به، وأدى إلى خلاف موضوعه. وأما القصاص: فيجوز أن يجب قطع الأطراف كلها في قصاص واحد، وإذا جاز أن يجب قطع اليدين لواحد [فيستوفيهما؛ كذلك جاز أن يستوفيهما الاثنان. قلت: وما قاله من الإلزام في قطع اليد] في شدة الحر والبرد، قد قال به القاضي الحسين في باب [حد] الزنى إذا كانت الجناية قد صدرت في شدة الحر والبرد. وقيل: إن كان القاذف عبدًا؛ جاز أن يوالى عليه بين الحدين؛ لأنهما كالحد الواحد على الحر. أما إذا لم يحضر إلا إحداهما، وطلبت الحد، استوفى لها، ولم يتوقف على حضور الأخرى. قال: وإن [قذفه بزنى واحد مرتين]؛ لزمه حد واحد؛ لأنه يحصل المقصود، وهو تكذيبه بإقامة الحد عليه، ولا فرق في ذلك بين أن يوالي بين اللفظين أو يتخللهما زمان طويل. قال: وإن قذف بزنيين، [أي:] مثل أن قال زنيت بعمرة وزنيت ببكرة، ولم يتخللهما إقامة حد- فالمنصوص، أي: في "الأم" والقديم؛ كما قال البندينيجي: أنه يلزمه حد واحد؛ لأن فعل الزنى أغلظ من القذف به، وقد ثبت أنه لو زنى، فلم يحد حتى زنى- حد لهما حدا واحدا. وهذا ما صححه في "المهذب" ورأى ابن كج القطع به، ونسبه القاضي أبو الطيب في هذا الباب إلى قول أبي اسحاق. قال: وقال في القديم: لو قيل: يحد حدين، كان مذهبا. فجعل ذلك قولا آخر؛ لأنهما حقان لآدمي شرعا عقوبة، فلم يتداخلا كالقصاص، بخلاف الزنى، فإنه من حقوق الله -تعالى - المحضة وهي مبنية على المسامحة. تنبيه: ما ضبطناه من قول الشيخ بزنيين، وهو الصواب، كما قال النواوي، ويقع

في أكثر النسخ بزناءين، وهو خطأ إن قصر "الزنى"، وجائز إن مد. قال: وإن قذفه، فحد، ثم قذفه ثانيا بذلك الزنى -عزر؛ لأجل الكذب والأذى، ولا يحد ثانيا؛ لئلا يجتمع في القذف بالزنى الواحد حدان، و [هو غير جائز؛ كما لا يجوز أن يجتمع في فعل الزنى الواحد حدان،] ويعضده [ما روي] أن أبا بكرة لما شهد على المغيرة بن شعبة بالزنى مع اثنين، ولم يكمل الرابع شهادته -جلده عمر وجلد الشاهدين، فقال أبو بكرة بعد الجلد: والله، لقد زنى، فأراد عمر - رضي الله عنه - أن يجلده، فقال له علي -كرم الله وجهه-: إن جلدته فارجم صاحبك فترك عمر جلده. وسيأتي معنى قول علي، إن شاء الله تعالى. قال: وإن قذفه بزنى آخر، فقد قيل: يحد؛ لأنه قذف بزناءين، فإذا حد لأحدهما قبل وجود الآخر وجب أن يحد للآخر؛ كما لو زنى فحد، ثم زنى ثانيا، فإنه يحد ثانيا، وهذا ما جزم به المارودي، وهو الأصح عند الإمام وغيره. [قال]: وقيل يعزر، [أي]: ولا يحد؛ لأنه قد ثبت كذبه في حقه [مرة]؛ لإقامة الحد عليه؛ فلا حاجة إلى إظهاره ثانيا؛ وهذا ما صححه النواوي، وقال ابن كج: إنه المذهب. وأثبت الخلاف في المسألة قولين، وغيره رواهما وجهين. قال: وإن قذف أجنبية، ثم تزوجها، ثم قذفها ثانيا، إي: بغير ذلك الزنى، فإن بدأت وطالبت بالقذف الأول، فلم يقم البينة -حد؛ لأنه قذف أجنبية، وعجز عن إقامة البينة. [قال]: وإن طالبت بالثاني، ولم يلاعن، أي: ولم يقم البينة –حد حدا آخر؛ لأنه تعذر ما يسقط الحد من بينة ولعان وهذه طريقة أبي اسحاق المروزي والشيخ أبي حامد، ولم يورد المارودي والبندنيجي سواها،

[سواء] قلنا في المسألة السابقة: يجب عليه حدان، كما قو القديم، أو لا يجب [عليه] إلا حد واحد؛ لأن القذف في غير الزوجة يوجب حدا [لا يسقط بالبينة واللعان، فلما اختلف حكم القذف، وجب أن يجمع عليه بين الحدين؛ ألا ترى أنه لو زنى وهو بكر، فلم يحد حتى زنى وهز محصن -جلد، ثم رجم، ولم يتداخلا؟! بخلاف المسألة السابقة؛ فإن القذفين فيها متفقا الحكم؛ فتداخلا. وقد حكى ابن الصباغ ذلك -أيضا- عن الأصحاب، وقال هو والبنديجي: إن المزني قال في جامعه الكبير: إنه لا يحد إلا حدا واحدا. وقد حكى الرافعي وغيره -لأجل هذا- طريقة أخرى بإجراء القولين في هذه الصورة -أيضا- وقال: أن مرجحين رجحوها، ومنهم القاضي الحسين في تعليقه، وقال: إن موجب القذفين واحد، وإنما اختلفا في المخرج، واختلاف المخرج لا يوجب اختلاف الوجهين. وإيراد صاحب التهذيب يوافقه، ولم يورد الإمام في كتاب اللعان سوى هذه الطريقة. قال: وإن بدأت وطالبت بالثاني، ثم بالأول، فلم يلاعن، ولم يقم البينة -فعلى قولين، أي: السابقين في المسألة قبلها؛ كما قاله ابن الصباغ: أحدهما: يحد حدا واحدا. والثاني: يحد حدين. وقد سبق توجيههما. وهكذا أوردهما البنديجي وابن الصباغ، ولم يحكيا الطريقة الجازمة بوجوب الحدين عند البدأة بطلب الأول ثم الثاني. وكان القياس طردها هاهنا أيضا. وكذلك صحح النواوي قول إيجاب الحدين. أما إذا أقام البينة، سقط الحدان، وعزر. وإن لم يقم البينة، ولاعن، سقط الثاني دون الأول؛ لأن اللعان حجة خاصة بالنكاح؛ فلا يسقط ما وجب قبله، بخلاف البينة.

ولو طالبت بالحدين في وقت واحد، [لم يمكن] استيفاؤهما معا، ويحد للأول لسبق وجوبه إن لم يقم بينة، ثم للثاني إن لم يقم بينة ولم يلاعن. وفي الحاوي: أنه يقال لها: الحق في القذف الثاني مشترك [بينكما؛ لأن له أن يلتعن منه، وهو في الأول خالص] لك؛ فحقك فيهما أقوى، ولا يمكن استيفاؤهما معا، فعيني ما شئت. فلو اختلفا، فطلب الزوج تقديم الثاني ليلتعن، وطلبت تقديم الأول ليحد -كان المرجع إليها. ولو أقيم [عليه] حد فقال: [إنما أقيم] الأول، وقالت: بل [المقام] الثاني فالقول قول الزوج؛ لأنها تريد [اسقاط حقه] من اللعان، والأصل بقاؤه. ولو كان القذف الثاني تعين الأول؛ فلا يحد فيه قطعا، بل الواجب فيه التعذير. وهل يلاعن؟ سبق الكلام فيه في بابه. وهذا كله إذا لم يحد قبل القذف الثاني، أما إذا حد قبله، ولم يلاعن؛ لأجل الثاني -فيحد ثانيا. [وقال ابن الحداد: لا يحد للثاني. قال الشيخ أبو علي: وهذا ما رضيه أحد من أصحابنا، وقالوا: يحد ثانيا]؛ تفريعا على قول التعدد، ولا فصل بين أن يقذف في النكاح بعد أن يحد للأول أو قبله في أنه يحد للثاني إذا لم يلتعن. فرع: إذا قذف زوجته، ثم أبانها بغير لعان، ثم قذفها بزنى آخر -فهي عكس مسألة الكتاب، وقد جزم المارودي بوجوب الحدين فيهما -أيضا_ وفي الرافعي: أنه إن التعن للقذف الأول، فهل يحد للثاني؟ فيه طريقان: أحدهما - وبه قال ابن سريج-: نعم. والثاني: حكاية قولين فيه. وإن لم يلتعن، فالواجب حدان أو حد واحد؟ فيه طريقان:

أحدهما: أن فيه قولين. والثاني: القطع بوجوب حدين؛ لاختلاف القذفين، وبه قال ابن الحداد. قال: ولا يستوفى حد القذف إلا بحضرة السلطان؛ لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ...} الآية [النور: 4]، وهذا خطاب لأولي الأمر؛ فاختص بهم؛ ولأنه يحتاج إلى اجتهاد، ويدخله التخفيف، فلو فوض للمقذوف، لم يؤمن أن يحيف للتشفي، والمستوفي له بحضرة السلطان [هو] الوكيل عن المقذوف؛ كما دل عليه كلام الشيخ وغيره في باب الوكالة؛ فإن لم يوكل فمن يأمره السلطان، ولا يجوز أن يوكل فيه المقذوف، فلو فعله بإذنه لم يقع الموقع، قاله الرافعي في كتاب الجنايات. ولو استوفاه المقذوف بنفسه دون حضرة السلطان أو نائبه، لم يقع المموقع. وقال الإمام في هذا الباب: لا يبعد عن القياس الاعتداد به، لاسيما إذا صدر عن استسلام المحدود، وإقدام من المقذوف [صادر] عن رضاه، والذي سمعته من الأئمة، ودل عليه فحوى كلامهم في مجموعاتهم: أنه لا يقع الاعتداد به. انتهى. وقد حكى الرافعي احتمال الإمام وجها؛ كما لو استقل من له القصاص باستيفائه. ثم على الأول: يترك حتى يبرأ، ثم يحد. ولو مات من الجلد، وجب القصاص إن جلده دون إذنه. وإن كان بإذنه فلا قصاص، وفي الدية وجهان كما لو قتله بإذنه، قال الرافعي في كتاب الجنايات. قال: ولا يستوفي إلا بمطالبة المقذوف؛ لأنه محض حقه، فلم يستوف [بغير طلبه]؛ كحق القصاص، وإنما قلنا: إنه محض حقه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا". فأضاف أعراضنا إلينا؛ كإضافته دماءنا واموالنا. [والدماء] والموال مختصة بنا؛ فكذلك العراض. وقروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا خرج من منزله يقول: اللهم إني

تصدقت بعرضي على عبادك". وهذا دليل على [أن عرضه] حقه، وإلا لما سقط باسقاطه، ولأنه حق لا يستوفيه الإمام إلا بمطالبة المقذوف، بوفاق الخصم -وهو أبو حنيفة- فكان من حقوق المقذوف كالدين. وقد ادعى الغزالي والرافعي في هذا الباب: أن فيه مشابهة حقوق الله تعالى؛ لكونه لا يقع الموقع باستيفاء المقذوف، وينشطر بالرق، ولا يسقط بقوله للقاذف: اقذفني؛ كما سنذكره. وهذا [القول] لا يخرجه عن أن يكون محض حق الآدمي؛ كما حكى المارودي: أنه مذهب الشافعي. ألا ترى أن القصاص فيه مشابهة حقوق الله تعالى؛ فإن الغرض الأظهر منه الزجر؛ لقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179]، ومع هذا لم تخرجه المشابهة عن كونه محض حق الآدمي. قال: فإن عفا، سقط؛ لأنه محض حقه كما ذكرنا؛ فسقط بعفوه كالقصاص والدين. وأراد الشيخ بقوله: ولا يستوفي إلى بمطالبة المقذوف، فإن عفا سقط -التنبيه على مذهب الحسن البصري- رحمه الله- فإنه [جوز استيفاءه] بدون المطالبة، و [وقال: إنه] لا يسقط بالعفو. ووافقه أبو حنيفة في عدم السقوط بالعفو. قال: وإن قال لرجل: اقذفني، فقذفه -فقد قيل: يجب الحد؛ لأن العار يلحق بالعشيرة، فالإذن فيه لا يؤثر في حقهم، وهذا ما ادعى الإمام إجماع الأصحاب عليه [إلا من] سنذكره، وصححه القاضي الحسين قبيل باب الوقف في نفي الولد، وجزم به في "الوجيز".

وقضية ما ذكرناه من التعليل: ألا يسقط بعفوه عنه، ولم أره لأحد من الأصحاب. نعم، رأيت فيما [طالعته من الكتب -وإن لم أستحضره- حكاية وجهين فيما] إذ عفا عنه الوارث: هل يسقط، أو ينتقل إلى من لولا العافي لكان هو الوارث؟ وقيل: لا يجب لأنه محض حقه؛ فلم يجب مع بذله؛ كما لو قال له: اقطع يدي، فقطعها؛ فإنه لا يجب القصاص وفاقا. وقد حكى الرافعي هذا الوجه -أيضا- وقال: إنه الذي عليه الأكثرون. وهو في ذلك متبع لابن الصباغ فإنه قال ذلك، وأن القاضي أبا الطيب لم يحك وجها آخر. وقال الإمام: إنه رآه للقاضي أبي الطيب في كتابه الملقب بالمنهاج وأنه حكاه عن شيخه [الشيخ] أبي حامد، وقال: كان يرى ذلك ويزيف غيره. قال الإمام: والفرق على الجملة عسير. وقد فرق المرجحون الأول -ومنهم القاضي الحسين- بينه وبين قطع اليد: بأن أحدا لا يستعير لسان الغير حتى يخبر به، وقد يستعير يد الغير حتى تقطع يده إذا وقعت قيه الأكلة. قال: وإن وجب الحد فمات انتقل الحد إلى جميع الورثة، [لأن] حد القذف موروث عندنا؛ لأنه محض حق الآدمي، كما ذكرنا؛ فكان موروثا كسائر الحقوق، وإذا ثبت أنه موروث انتقل إلى جميع الورثة [كالمال وحقوقه. وقيل: ينتقل إلى من يرث بنسب] دون [من يرث] بسبب، أي: كالزوج والزوجة كما صرح به أبو علي بن أبي هريرة والطبري، ونقله عنهما القاضي أبو الطيب، ووجهه: أن الحد وجب لدفع العار، [ولا عار] على

الزوج والزوجة [لزوال الزوجية بالموت]؛ [فكانا كالأجانب]، قال الرافعي: وهذا يحكى عن ابن سريج. وقيل: ينتقل إلى العصبات خاصة، أي: وهم الذكور، كما قاله المارودي؛ لأنهم أخص بدخول العار عليهم، كما اختصوا -لأجل ذلك- بولاية النكاح، وهذا ما نسبه المارودي إلى ابن سريج. وقال القاضي الحسين في كتاب [اللعان: إنه الأظهر. وهو مأخوذ من قول الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب] ابن أبي ليلى وأبي حنيفة: ويأخذ حد الميت ولده وعصبته. وقال الإمام في [كتاب] اللعان: لا شك أنا إذا فرعنا على هذا: أن الأب يستحق، وفي الابن كلام، فمي أصحابنا من ورثه، وجعله على ترتيبه في العصوبة، وقدمه على من عداه، وهو ما حكاه هنا [وادعى] أنه لا خلاف فيه. ومنهم من لم يثبت [له هذا الحق؛ كما لم يثبت له حق ولاية التزويج، وهذا مخالف لنص الشافعي - رضي الله عنه - فإنه قال: "لو قذف ميتة، استحق ولدها حد قذفها". وعلى هذا: هل يثبت] للمولى المعتق على هذا الوجه، كما ينتهي إليه ولاية التزويج؟ حكى الإمام [فيه هاهنا] وجهين. قال: والمذهب: الأول؛ لما ذكرناه، وهو نصه في كتاب اللعان، حيث قال: فإن قذفها، ثم ماتت، أو قذفها بعد الموت، وانتفى من ولدها، ولم يلتعن فلورثتها أن يحدوه. وقد صححه البندنيجي والرافعي وغيرهما. وهذا الخلاف حكاه المارودي في هذا الباب أقوالا، وفي كتاب اللعان وجوها، وهي تجري في رواية التعزير؛ كما صرح به ابن الصباغ وغيره. ولا شك في أن الوجهين الأخيرين يجريان فيما إذا صدرا القذف بعد الموت، وهل يجري الوجه الأول حتى يرثه الزوج والزوجة؟ حكى القاضي الحسين والإمام فيه وجهين.

والفرق: أن القذف إذا كان في حال الحياة جرى والسبب قائم وهو الزوجية، وهنا انشاء القذف بعد ارتفاع السبب. قال الإمام هنا: وهذا لا فقه له؛ لأنه الزوجية تنتهي بالموت، فلو صح هذا الاعتبار لوجب القطع بإن الزوج لا يرث شيئا أصلا. فرع: لو قذف من لا وارث له خاص، فمات، فهل يقيم السلطان الحد؟ فيه وجهان - كما في القصاص - حكاهما المارودي. قال الرافعي: وكذا فيما إذا قذفه ميتا، والأظهر: أنه يقيمه. و [هو] ما أورده ابن الصباغ، وقال: إن له العفو عنه؛ نيابة عن المسلمين، فإنهم يرثونه. قال: وإن كان للمقذوف ابنان، فعفا أحدهما، كان للآخر أن يستوفي جميعه؛ لأنه حق شرع مقدارا لدفع المعرة، وهي باقية في حق غير العافي؛ فكان له استيفاؤه، فعلى [هذا] قال المارودي في هذا الباب: إذا لم يعف واحد منهما كان لكل [واحد] منهما أن يستوفيه. ولعله محمول على ما إذا غاب أحدهما وحضر الآخر ولم يعف، [وهو ما صرح به كذلك في كتاب اللعان، فإذا استوفى سقط حق الآخر] كما ذكرنا فيما إذا قذف شخصين بكلمة واحدة، وقلنا: يتحد الحد. وقيل: يستوفي النصف؛ لأن حد القذف متبعض؛ فاستوفى منه بقدر ميراثه، ولا يستوفي جميعه كالدية، وهذا قول أبي الحسين بن القطان؛ كما قال الماوردي في كتاب اللعان. فعلى هذا: لو كان للميت أكثر من ابنين، واقتضى التوزيع كسرا - كمل الكسر في الإسقاط. وقيل: يسقط الباقي كالقصاص. قال: والمذهب الأول كما ذكرناه، وهو الذي أورده ابن الصباغ والبندنيجي، وكذا المارودي في هذا الباب، وقال القاضي الحسين والإمام والرافعي: إنه الأظهر.

وفرق بينه وبين القصاص: [بأن القصاص] إذا سقط رجع فيه إلى بدل وهو الدية؛ فلم يسقط حقه بالكلية بعفو غيره، ولا كذلك حد القذف؛ فإنه لو سقط لسقط لا إلى بدل، ولأن تأثير الجناية لا يتعدى المجنى عليه؛ فقام جميع ورثته فيه مقامه، ولا كذلك القذف. والفرق بينه وبين الدية: أن الدية لما تبغضت في الوجوب جاز أن تتبعض في الاستحقاق، وحد القذف لما لم يتبعض في الوجوب لم يتبعض في الاستحقاق. وقد حكى القاضي الحسين في هذا الباب الخلاف في [هذه] المسألة وجوها ثلاثة عن تخريج ابن سريج، وعليه يتخرج ما لو كان القاذف أحد الورثة، سواء وقع القذف قبل الموت أو بعده. وعلى المذهب قال البندنيجي: تكون جملة الحقوق على ثلاثة أضرب: أحدها: حق يثبت لجميع الورثة، وإذا عفوا إلى واحدا ثبت له، وهو ما ذكرناه، وحق الشفعة، والغنيمة. [قال]: ومنه الولاية على اللقيط؛ على المذهب. والثاني: حق يثبت للجماعة على الاشتراك، ولكل واحد منه حصته، سواء ترك شريكه حقه أم لا، وهو المال. والثالث: [حق] يثبت على الاشتراك [لجماعة]، فإذا عفا بعضهم سقط الجميع، وهو القصاص. قال: وإن قذف عبدا ثبت له التعزير، أي: دون سيده؛ لأن السيد إنما يملك من الرقيق ما يعود إلى معنى المالية، وهذا يثبت لأجل العرض، وهو لا يملكه كما لا يملك دمه. والعرض، قال القاضي الحسين: عبارة عن محل المدح والذم من الإنسان. وعلى هذا: لو قذفه المولى عزره القاضي؛ لأنه تصرف فيما ليس له؛ كما لو قذف عبد الغير؛ قاله القاضي الحسين، وهو محكي في "الرافعي" في باب حد الزنى عن "التهذيب"، وهو الأصح في "الوجيز".

وفي "الرافعي" وغيره وجه: أنه ليس له طلب التعزير، ولكن يقال للسيد: لا تعد، فإن عاد، عزر حينئذ؛ كما يعزر إذا استخدمه فوق ما يتحمله. قال: فإن مات سقط؛ لأن العبد لا وارث له، والمولى لا يملك عنه بجهة الملك، فإذا لم يملك عنه في حياته فبعد موته أولى. وهذا أظهر في "تعليق" القاضي الحسين، وربما نسب إلى القفال. وقيل: ينتقل إلى السيد، وهو الأظهر؛ لأنه حق ثبت للملوك؛ فكان المولى أحق به كمال المكاتب، وهذا ما رجحه أبو حامد والروياني. قال الأصحاب: وليس هو على سبيل الإرث، [بل] لكونه أخص به؛ كما نقول فيما خلفه من بعضه حر [وبعضه رقيق]، فيما جمعه بحريته: إنه يكون لمالك الرقيق منه. وفي "المهذب" و"الحاوي" و"الشامل" وجه آخر: انه ينتقل إلى عصبات العبد الأحرار؛ لأنه [حق ثبت له لنفي العار فكان عصابته أحق به. وقيل: إذا قلنا:] لا يستوفيه السيد، فهل يستوفيه السلطان؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه فيمن لا وارث له. قال الرافعي: فيخرج من هذا وجه رابع: أنه يستوفيه السلطان. وقد نجز شرح [ما في] الباب، ولنختمه بفروع: إذا قال: زنيت بفلانة، وكذبته - حد حد الزى، وحد القذف إن لم يقم بينة، فلو كذب نفسه سقط عنه حد الزنى، وهل يسقط حد القذف؟ ذكر في "العدة" فيه قولين: أحدهما - ولم يذكر صاحب "التلخيص" غيره -: أنه لا يسقط. [والثاني - وهو المنصوص عليه للشافعي -: أنه يسقط]؛ لأن قوله: زنيت بفلانة، إقرار واحد وكلام واحد، والمقصود [منه]: الإقرار بالزنى، فإذا رجع

قبل في الكل. قاله في الزوائد. للسيد أن يقيم حد القذف على مملوكه عبدا كان أو أمة، صرح به الماوردي والقاضي الحسين، وقضيه ما سنذكره من إجرء الخلاف في حد الشرب أن يجري هاهنا. حد القذف، هل يستوفي في شدة الحر والبرد؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ كالقطع في القصاص. والثاني: لا؛ لأن الحد [ليس] من أسباب التلف غالبا، بخلاف القطع، قاله القاضي الحسين. وإذا وجب على مريض، قال في "الحاوي": كما إذا وجب الجلد في حد الزنى. وقال ابن كج: يقال للمستحق: إما أن تصبر إلى البرء، أو تقتصر على الضرب بالعثكال. وفي "التهذيب": أنه يجلد بالسياط، سواء كان مما يرجى زواله أو مما لا يرجى؛ لأن حقوق العباد مبنية على الضيق. إذا عفى عن حد القذف على مال، هل يثبت؟ فيه وجهان، المنسوب إلى أبي اسحاق: الثبوت. إذا تقاذف شخصان، لم يتقاصا؛ لأن التقاص إنما يكون عند اتفاق الجنس والصفة، والحدان لا يتفقان في الصفة؛ إذ لا يعلم [فيهما] التساوي؛ لاختلاف القاذف والمقذوف في الخلقة والضعف؛ ذكره القاضي الحسين وغيره. إذا قال لامرأته: زنيت بفلانة، أو: زنيت بك أو أصابتك [فلانة]، أو: وطئك رجلان في حالة واحدة – عزر. إذا قذف الصغيرة التي لا يجامع مثلها؛ عزر، هل يعزر في الحال أو [لا يعزر إلا] بعد بلوغها؟ فيه وجهان، فإن قلنا بالأول، فهل يتوقف على مطالبة وليها به، أو هو موكول إلى الإمام؟ فيه وجهان في "الحاوي". ولو كانت من يجامع مثلها، وقف على بلوغها جزما، فلو كانت زوجته، وأراد أن يلتعن قبل بلوغها، ففيه وجهان سبقا [في موضعهما. والله أعلم].

باب حد السرقة

باب حد السرقة السرقة - بفتح السين وكسر الراء-: أخذ مال الغير على سبيل الخفية، وإخراجه من حرزه. ويجوز إسكان الراء مع فتح السين وكسرها، ويقال - أيضا-: السرق، بكسر الراء. وهي مأخوذة من "المسارقة". ويقال: سرق منه مالا، وسرقه مالا، يسرقه سرقا، بفتح السين والراء. [و] يتعلق بها القطع في الجملة؛ لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديها} [المائدة: 38]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". خرحه البخاري ومسلم وغيرهما. والأمة مجمعة عليه. قال: إذا سرق بالغ عاقل مختار، وهو مسلم أو ذمي أو مرتد، نصابا من المال، من حرز مثله، لا شبهة له فيه - وجب عليه القطع؛ لعموم الآية؛ فإنها متناولة لكل سارق، واستثني منها الصبي والمجنون والمكره؛ للحديثين المشهورين، والحربي؛ لعدم التزامه أحكام الإسلام، وفي معناه المعاهد على أحد الأقوال المذكورة في باب عقد الهدنة. [واعتبار النصاب سيأتي الدليل عليه. وقد تقدم في باب عقد الذمة] خلاف في وجوب القطع على الذمي.

وفي "تعليق" القاضي الحسين إشارة إلى حكاية وجه [في] أن [المسلم يقطع بسرقة مال الذمي؛ حيث قال: ويجب على المسلم] القطع بسرقة ماله على الصحيح من المذهب، وحكى فيما إذا سرق المسلم مال المعاهد في وجوب القطع [قولين]؛ بناء على القولين في وجوب القطع على المعاهد بسرقة مال المسلم، فإن قلنا: يقطع، قطع، وإلا فلا. قال: فإن سرق [ما] دون النصاب، لم يقطع؛ لما روى مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقطع يد سارق إلا في ربع دينار فصاعدا"، وروى البخاري عنها، قالت: لم [يكن] تقطع يد السارق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في] أذنى من ثمن المجن" ترس أو حجفة وكان كل منهما ذا ثمن. زاد أبو بكر بن أبي شيبة في "مسنده" عنها: "وإن يد السارق لم تكن تكن تقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في] الشيء التافه، وروى النسائي عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع يد السارق فيما دون المجن". قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: "ربع دينار". وعن أبي عبد الرحمن محمد بن بنت الشافعي: أنه يقطع فيما دون النصاب؛ لعموم الآية، فإنه علق القطع باسم] السرقة، وقد روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله] السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل

فتقطع يده". وفي أخرى: "إن سرق حبلا وإن سرق بيضة". والصحيح: الأول، والآية قد اختلف أصحابنا في أنها من العام الذي خص، أو من المجمل الذي بين ذكرناه – على وجهين. وأما الحديث: فقد قال البخاري: قال الأعمش: كانوا يرون أنها بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أنه منها ما يساوي دراهم. وقال الإمام: الوجه حمله على جنس البيض، ومثل ذلك مساغ في قصد التعليل. فرع: لو ذبح شاة في الحرز، وقيمتها دون النصاب؛ فصارت قيمتها لأجل الذبح نصابا، وأخرجها وقيمتها كذلك – قال الماوردي: ففي قطعه وجهان محتملان، وجه المنع: أن [الزيادة حدثت بالذبح ولم] يستقر للمالك عليها يد. قال: وهكذا لو أخذ لحما فطبخه، أو دقيقا فخبزه، أو دبسا فعصده، أو جلد ميتة فدبغه، وقلنا: لو كان مدبوغا لقطع. قال: والنصاب: ربع دينار؛ لما ذكرناه، أو ما قيمته ربع دينار؛ لما روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق في مجن قيمته ثلاثة دراهم. وروى أبو داود عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد رجل سرق ترسا من صفة النساء قيمته ثلاثة دراهم، وثلاثة دراهم قيمة ربع دينار في ذلك الوقت. وفي "الشامل" حكاية وجه فيما إذا سرق من التراب ما قيمته نصابا: أنه لا يقطع؛ لأنه يوجد مباحا عام الوجود، لا تدعو النفس إلى سرقته. وعن "الفروع" حكاية وجه مثله فيما إذا سرق قشر الرمان وما أشبهه مما

يستهان بمثله في العادة، حكاه في "الزوائد"، وحكاه المصنف وغيره في الماء إذا قلنا: إنه يملك، والصحيح الأول. ثم ما المراد بالدينار: هل هو المثقال المصكوك، أو المثقال كيف كان، حتى لو سرق قطعة ذهب، وزنها ربع مثقال قطع؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه المصكوك، وهو المتبادر إلى الفهم عند الإطلاق؛ فلا يقطع من سرق سبيكة وزنها ربع مثقال، ولا تبلغ قيمتها [قيمة] ربع مثقال مصكوك. وهذا ما أورده أبو الحسن العبادي، ويحكى عن الإصطخري وابن أبي هريرة والطبري، وهو أظهر عند الإمام. والثاني: أنه المثقال، ولا نظر إلى كونه مصكوكا كما في الزكاة. قال الرافعي: وإلى ترجيحه يميل] كلام [جماعة منهم: البغوي. وقال في "البيان": إنه المذهب. وفي "الحاوي": إنه ظاهر المذهب. وفي "تعليق" أبي الطيب و"المهذب" و"الكافي": إنه الذي عليه أكثر أصحابنا. وعلى هذا: إذا سرق قطعة ذهب مصوغة ينقص وزنها [عن ربع دينار]، وتبلغ قيمتها ربع دينار – لا قطع، وعلى الأول: يقطع. وحكى القاضي الحسين الوجهين فيما إذا سرق ربع مثقال من القراضة إذا لم تبلغ قيمتها ربع مثقال مصكوك. ولا خلاف أنه إذا سرق ثوبا ونحوه، فإنما يقوم بالذهب المصكوك، قاله الإمام. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يظن السارق أن قيمة المسروق تبلغ ذلك أو لا؛ كما إذا سرق شيئا ظنه [فلوسا لا تبلغ قيمتها ربع دينار فكانت دنانير، أو سرق شيئا ظنه] دنانير فكانت فلوسا [لا] تبلغ قيمتها ربع دينار، ولو لم تبلغ ذلك فلا قطع. نعم، لو سرق جبة خسيسة تنقص قيمتها عن ربع دينار، فكان في جيبها دينار أو ما تبلغ به [قيمتها] نصابا، ولم يشعر بالحال – ففي وجوب القطع وجهان:

أظهرهما – في "تعليق" القاضي الحسين وغيره-: الوجوب أيضا. ووجه [مقابله]: أنه لم يقصد سرقة نصاب، ويخالف ما إذا سرق دنانير ظنها فلوسا؛ فإنه قصد سرقة عينها. فرع: إذا كان في البلد نقدان من الذهب، كلاهما خالص، وأحدهما أعلى ثمنا، والآخر أنقص – اعتبرت القيمة بالأغلب من دنانير البلد في زمان السرقة، فإن استويا فبأيهما يقوم؟ فيه وجهان في "الحاوي". أحدهما: بالأدنى؛ اعتبارا بعموم الظاهر. والثاني بالأعلى؛ درءا للقطع بالشبهة. تنبيه: في قول الشيخ: "ما قيمته نصايا"، [ما] يعرفك أنه إذا سرق كلبا أو خنزيرا أو خمرا أو جلد ميتة لم يدبغ، لا قطع عليه؛ لأن هذه الأشياء لا قيمة لها، وقد صرح بذلك الأصحاب. قال: وإن سرق ما يساوي نصابا، ثم نقصت قيمته بعد ذلك، لم يسقط القطع؛ لأن هلاك العين بجملتها بعد وجوب القطع لا يسقطه، فنقصان القيمة أولى، ولأنه نقص حدث بعد وجوب القطع، فلم يسقط به؛ كما لو استعمله السارق، فنقصت قيمته. ولو انعكس الحال فسرق ما قيمته دون النصاب، ثم زادت قيمته حتى بلغت نصابا – فلا قطع، وإن كانت العين باقية، قاله أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما. قال: وإن سرق طنبورا، أي: بضم الطاء، أو مزمارا يساوي مفصله نصابا، أي: لكونه يصلح لمنفعة مباحة [- قطع؛]؛ لأنه مال يقوم على متلفه؛ فقطع سارقه، كما لو سرقه مفصلا وقيمته نصاب، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد، وجزم به القاضي أبو الطيب، وقال الرافعي: إنه مال إليه الأكثرون، ومنهم العراقيون والروياني. وقيل: لا يقطع فيه بحال؛ لأن التوصل إلى إزالة المعصية مندوب إليه؛ فصار شبهة في درء القطع. قال الإمام: ولأن الحرز لا يتحقق في مثل هذه الآلة؛ فإنه يجوز الهجوم على الدور لأجلها.

وهذا ما اختاره ابن أبي هريرة، كما قاله الماوردي، وهو الأظهر عند الشيخ أبي الفرج الزاز، وكذا الإمام، ثم قال: ويتجه أن يقال: إن قصد [السرقة ففيه الوجهان، وإن قصد بإخراجها أن ييسر [له] تغييرها وإفسادها؛ فيقطع بأنه لا قطع. قال الرافعي: وهذا هو قضية كلام الأصحاب، وليجعل بيانا لما أرسلوه، لا احتمالا خارجا عن المنقول. قال الإمام: وما ذكرناه من الخلاف يجري في كل ما سلط الشرع على تكسيره، كالأصنام ونحوها ولو كسر ما أخذه في الحرز، ثم أخرجه وهو يبلغ نصابا – فقد قطع قاطعون بوجوب القطع، ومنهم صاحب "الكافي". وفي "المهذب" ما يقتضي إثبات خلاف فيه؛ فإنه حكى ثلاثة أوجه في المسألتين، ثالثها – وبه قال ابن أبي هريرة-: إن أخرجه بعد التفصيل والتغيير، قطع، وإلا فلا قطع. وكذلك حكى الأوجه الثلاثة الماوردي في أثناء كتاب السرقة عن رواية ابن أبي هريرة، وصرح بأنه لا يقطع على وجه منها، سواء أخرجه مفصلا أو غير مفصل، وادعى أن ظاهر المذهب [مقابله. ولو كان عليها ذهب أو فضة يبلغ نصابا [قطع]. قال الماوردي: لأن الذهب] والفضة زينة الملاهي؛ فصار مقصودا، وصار هذا كما إذا سرق آنية ذهب أو فضة؛ فإنه يقطع. وما ذكره في تحلية الملاهي بالذهب والفضة هو [وجه حكاه الرافعي مع وجه آخر: أنه لا قطع فيه، وما ذكره في آنية الذهب والفضة هو] المذكور في "المهذب" و"الشامل" و"التهذيب" و"الكافي". قال الرافعي: والوجه ما قاله في "البيان": أن يبنى ذلك على أنه هل يجوز اتخاذها أم لا؟ إن قلنا: يجوز، فيجب القطع بسرقتها،] وإلا فهي كآلة الملاهي. وهذا ما أورده الإمام، لكنه رأى نفي الخلاف بعيدا].

ولو كان الإناء محترما، لكنه فيه خمر، ففي القطع وجهان في "الحاوي" وغيره: أحدهما: لا يجب؛ لشبهة إراقة الخمر منه. والثاني – ويعزى إلى النص-: الوجوب؛ كما لو سرق إناء فيه بول؛ كذا قاله في "المهذب" و"التهذيب" وقضيته: أنه إذا سرق إناء البول يقطع جزما، وقد صرح به الماوردي، وفرق بأن استبقاء البول في الإناء يجوز، بخلاف الخمر، وعن "البيان" حكاية الوجهين فيه أيضا. واعلم أن ما ذكرناه من القطع فيما قيمته ربع دينار، محله بالاتفاق ما إذا قطع أهل الخبرة الذين لا يزلون في قولهم بأن القيمة كذلك، فلو قطعوا القيمة بالاجتهاد، قال الإمام: فقد يوجد للأصحاب أن القطع يجب، والذي أرى القطع به: أنه لا يجب، ما لم يقطعوا بأن القيمة لا تنقص عن هذا، ولو قطع بذلك معدودن لا يبعد الزلل عليهم، فللإمام فيه احتمال. قال: وإن اشترك اثنان في سرقة نصاب، أي: لا غير، لم يقطع واحد منهما، خلافا لأبي ثور؛ لأن كل واحد منهما لم يسرق إلا] ثمن دينار [، فلم يقطع؛ لقوله – عليه السلام -: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا"، ولأن كل واحد منهما لم يسرق ربع دينار؛ فلم يجب عليه القطع كما في حالة الانفراد، وليس كالشركة في القتل، حيث يجب القصاص عليهما؛ لأن المقصود منه وقاية الروح والعضو، فلو لم يشرع في حالة الاشتراك لأدى إلى التواطؤ وفوات المقصود، ولا كذلك السرقة؛ فإن المقصود منها لاستكثار من المال، والتواطؤ كذلك لا يحصله. قال: وإن اشتركا في النقب، فأخذ أحدهما نصابين، ولم يأخذ الآخر [شيئا]- قطع الآخذ؛ لسرقته [نصابا. قال:] [وحده؛ لأن الآخر لم يأخذ المال، فلم يكن سارقا].

قال: ومن سرق من غير حرز، لم يقطع؛ لما روى أبو داود عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق، فقال: "من أصاب منه من ذي حاجة غير [متخذ خبنة]، فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن فعليه القطع". قال الترمذي: وهو حسن. وقد خرجه النسائي. وقال في آخر عن هشام بن سعد عن عمرو بهذا الإسناد: "وليس في شيء من الماشية قطع، إلا فيما إذا آواه المراح فبلغ ثمن المجن، ففيه قطع اليد، وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثله وجلدات نكال". وجه الدليل: أنه – عليه السلام – فرق بين ما آواه الجرين وما لم يؤوه، وبين ما أواه المراح وما لم يؤوه، وليس بين الحالين فرق إلا اعتبار الحرز، ولأن الأصل عدم القطع؛ فمن ادعى وجوبه [في هذه الحالة] فعليه البيان. وأبدى الإمام معنى اعتبار الحرز، [فقال]: السارق يأخذ المال في خفية باحتراز واحتيال، لا اعتمادا على الشوكة والقوة، فحكم بالقطع زجرا؛ كي لا يضيع المال على المالك، وذلك إذا احتاط المالك بصيانة المال؛ فإن السارق حينئذ يكون على خطر من أن يطلع [عليه] وتعظم جنايته إذا اختزل منتهزا للفرصة، أما إذا ضيع المالك المال، فقد جرأ السارق ومكنه من أخذه بلا

خطر؛ فلا تعظم جنايته. والخبنة في الحديث: معطف الإزار وطرف الثوب والسراويل، أي: لا يأخذ في ثوبه. والجرين: موضع تجفيف الثمار، وهو له كالبيدر للحنطة. قال: ويختلف الإحراز باختلاف الأموال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فرق بينهما في الحديثين السابقين. قال: وعدل السلطان وجوره، وقوته وضعفه، وإنما كان كذلك؛ لأن الحزر ليس له في الشرع أمر مضبوط ولا في اللغة، فرجع فيه إلى العرف؛ كما في القبض في البيع والتفرقة فيه، والإحياء، لما لم يرد فيهما توقيف رجعنا في جميعهما إلى المعتاد بين الناس، [والعرف بين الناس] مختلف بما ذكرناه؛ فكان المرجع إليه. قال الماوردي: وإذا كان هنا مناطه، فقد يكون الشيء حرزا في وقت [وليس حرزا في وقت] آخر؛ لأن الزمان لا يبقى على حال، وربما أنتقل من صلاح إلى فساد، ومن فساد إلى صلاح، وقد ضرب الأصحاب لما أجملوه ودمجوه فيما ذكروه أمثلة؛ [ليسهل بها تناول الأحكام، فقالوا: الإصطبل حرز للدواب على] نفاستها وكثرة قيمتها، وليس حرزا للثياب والنقود؛ لأن إخراج الدواب مما يظهر ويبعد الاجتراء عليه، بخلاف ما يخفف ويسهل حمله وإخراجه، والصفة في الدار وعرصتها حرزان [للأواني] وثياب البذلة، دون الحلي والنقود؛ فإن العادة فيها الإحراز في المخازن، وكذا الثياب النفسية تحرز في الدور وفي بيوت الحانات والأسواق المنيعة. قال الماوردي: وسوق الرقيق لا يكون حرزا للصيدلة؛ لأن أبوابها في الغرف أضعف، وحوانيت الصيدلة لا تكون حرزا للعطر ولا للبز؛ لأن إحراز البز أغلظ. [وما كان حرزا لمال فهو حرز لما دونه، وأمتعة العطارين] والبقالين

والصيادلة، إذا تركها صاحب الحانوت على باب الحانوت ونام فيه، أو غاب عنه: فإن ضم بعضها إلى بعض وربطها بحبل، أو علق عليها شبكة، أو وضع لوحين على وجه الحانوت مخالفين – كفى ذلك إحرازا بالنهار، ولو تركها متفرقة ولم يقيدها بشيء مما ذكرناه، لم تكن محرزة، وأما بالليل فلا [تكون محرزة] إلا بحارس. واعتبر الماوردي مع الحارس وربط بعضها إلى بعض: أن يكون في سوق تغلق دروبها، أو في قرية يقل أهلها، فإن كان في بلد واسع ولم يكن عليه درب، لم يكن حرزا، وكذا اعتبر أن يكون الوقت سالما عن كثرة الفساد، فإن تحركت فتنة أو انتشر فساد، لم يكن حرزا. وفي "التهذيب": أن متاع البقال في الحانوت بالليل محرز في وقت الأمن إذا كان الباب مغلقا، وفي غير وقت الأمن لا بد من حارس. قال الروياني: والبقل والفجل قد يضم بعضه إلى بعض، ويترك عليه حصير، ويترك على باب الحانوت في السوق، وهناك حارس ينام ساعة [ويدور ساعة]؛ فيكون محرزا. وقد يزين الفامي حانوته أيام العيد بالأمتعة النفسية، ويعسر نقلها، فيترك ويطرح عليها نطعا، وينصب حارسا؛ فيكفي ذلك إحرازا، بخلاف سائر الأيام؛ لأن أهل السوق يعتادون ذلك، فيقوى بعضهم ببعض. والثياب على باب حانوت القصار والصباغ كأمتعة البقالين والعطارين، قاله الرافعي. قال الشافعي – رضي الله عنه -: والحنطة حرزها أن تجعل في الغرائر موضع البيع، ويكون بعضها إلى بعض، وإن لم يغلق دونها باب. فمن الأصحاب من قال:] إن [هذا حرزها في جميع البلاد، ومنهم من خص ذلك بغير العراق، وقال: حرزها في العراق أن تكون في البيوت والمساطيح وعليها الأغلاق. قاله أبو الطيب والمصنف وغيرهما. وفي "الحاوي": اعتبار ما ذكرناه عنه فيها.

قال الروياني: ورأيت في بلدنا صبر الأرز تترك في موضع البيع، وتغطى بالأكسية والمسموح، وهي محرزة، ولو كانت الحنطة في مطامير المفازة، فليست بمحرزة، وكذلك التبن في المتبنة، والثلج في المثلجة، والجمد في المجمدة في الصحراء لا يكون محزرا إلا بحارس. [وكذا الزرع قصيلا ومشتد الحب، والقطن قبل خروج جوزه وبعده، والبذر المستتر بالتراب، لا يكون محرزا إلا بحارس]. وعن "جمع الجوامع": أن الزرع في المزارع محرز، وإن لم يكن حارس. وعن "تعليق" الشيخ إبراهيم المروروذي: أن الزرع إذا كان قصيلا لا يحتاج إلى الحارس؛ لأنه [لا يحتاج] مثله في العادة [إلى حفظ]. قال الرافعي: وهذا يجري [مثله] في البذر. وفي "الحاوي" و"تعليق" القاضي أبي الطيب وغيرهما حكاية وجه: أنه لا قطع في البذر أصلا؛ لما سنذكره. ولو كانت هذه الأشياء في محوط، فهي كالثمار في البساتين. [والثمار على الأشجار إن كانت في برية، لا تكون محرزة إلا بحارس، وفي الكرم والبساتين] المحطوطة كذلك إن كانت بعيدة عن الطرق والمساكن، فإن كانت متصلة بها والجيران يراقبونها في العادة، فهي محرزة، وإلا احتيج إلى الحارس، [والأشجار في أفنية الدور محرزة، وفي البرية تحتاج إلى الحارس]. والحطب، قال البندنيجي: قال الشافعي: حرزه: أن يترك بعضه على بعض، ويربط أعلاه بحبل؛ بحيث لا يمكن أن يسل أحد منه شيئا. ومن الأصحاب من قال: لا يصير محرزا] في الليل [إلا بأن يسرج عليه أو يجعل دونه باب. قال الشيخ أبو حامد – كما نقله ابن الصباغ -: وهذا ليس بشيء. والجذوع الكبار حرزها أن تكون مطروحة على الأبواب، وسنذكر في أثناء

مسائل الباب صورا أخر، إن شاء الله تعالى. قال: فإن سرق الثياب والجواهر دونها أقفال في العمران؛ وجب القطع؛ لأن ذلك حرز مثله في العرف، سواء كان في البيت حافظ أو لم يكن، وفي معنى ذلك: الذهب والفضة والطيب، وهذا في النهار في حالة الأمن، ولا فرق [فيه] بين الحانوت والمنزل، وأما في الليل فقد أطلق في "التهذيب" أنه إذا كان فيها أحد [مع وجود الأقفال قطع، وإلا] فلا قطع. وهكذا الحكم عنده في النهار في حالة الخوف. وقال الماوردي: في حوانيت الصيارف والبزازين إن كان ذلك في زمان عدل السلطان وأمن الزمان، كانت حرزا لأموالهم من الدراهم والدنانير والبز في الليل، إذا كان بناؤها محكما، وأبوابها وثيقة، وأقفالها مكملة، ويكون على أسواقها دروب، ويكون فيها حراس. وإن كان الزمان منتشر الفساد [و] قليل الأمن، لم تكن حوانيت الصيارف والبزازين حرزا لذلك، وينقل بالليل إلى منازلهم أو [إلى] حاناتهم. أما إذا كان الباب مفتوحا والموضع في العمران فقد أطلق الرافعي في موضع حكاية عن الأصحاب: بأن النقدين والجواهر والثياب لا تكون محرزة إلا بإغلاق الباب عليها، وقال في موضع آخر: إن لم يكن في [الموضع أحد] فليس بحرز، [وإن كان فيه أحد، فإن كان نائما لم يكن حرزا بالليل]، وكذا بالنهار في حالة الخوف، وفي حالة [الأمن] وجهان، أصحهما: لا؛ كما لو لم يكن فيها أحد. وإن كان مستيقظا، فإن لم تتم ملاحظته بأن كان يتردد في الدار، فيغفله السارق ويسرق – فعن حكاية الشيخ أبي علي: فيه وجهان، ويقال: إن القفال جعلهما جوابين في درسين، أشبههما – ويحكى عن النص-: أنه لا يجب القطع، ولا يجعل ما في الدار والحالة هذه

محرزا؛ للتقصير بإهمال المراقبة مع فتح الباب. ولو كان يبالغ في الملاحظة؛ بحيث يحصل الإحراز بمثله في الصحراء فلا خلاف في وجوب القطع، ولو كانت الأقفال في برية، أو في [طرف خراب] من البلد، أو في بستان – لم يكن ذلك حرزا عند عدم الملاحظة وإن تناهت حصانة الدار المقفلة، وكذلك القلعة المحكمة؛ فإنها في هذه الحالة يسهل الوصول إلى ما فيها بالنقب والتسليق من غير خطر، وإن كانت ملاحظة كانت [حرزا، ولا يشترط عند حصانة الموضع – والحالة هذه – دوام المراقبة] في النهار، وأما في الليل: فإن لم يكن فيها أحد فليست [بحرز لما] فيها، وإن كان – لكنه نام – فعن "البيان" حكاية وجهين عن رواية المسعودي: الذي أجاب به منهما الشيخ أبو حامد ومن تابعه: أنها حرز. قال الرافعي: والموافق لما أطلقه الإمام والبغوي خلافه. وإن كان من فيها مستيقظا فهي حرز. نعم، لو كان ممن لا يبالي به وهو بعيد عن الغوث فهو خائف في نفسه وماله. فرع: الخيمة والفسطاط إذا ضربا في برية، وشدت أطنابهما، [وأسبلت أذيالهما]- فحرزهما وما فيهما من الأمتعة: أن يكون صاحبهما فيهما، سواء كان مستيقظا أو نائما، كما قاله البندنيجي وأبو الطيب. وكذا إذا كان على بابهما كما نقله القاضي أبو الطيب عن حكاية القاضي أبي حامد في "الجامع"؛ لأن عادة الناس في إحراز أمتعتهم في الخيام هكذا. وفي "الكافي": أن الحافظ لو كان نائما فلا قطع على السارق على الأصح، وعلى مقابله هو يشترط إسبال [باب] الخيمة؟ فيه وجهان عن رواية [الشيخ] ابن كج، ورأي الأظهر: أنه لا يشترط.

ولو لم يكن فيها ولا على بابها أحد فليست بمحرزة ولا ما فيها. [وفي "الرافعي" [حكاية] وجه: أنها تكون محرزة في نفسها دون ما فيها]. قال الأئمة: والشرط أن يكون هنالك عند كون صاحبها فيها وجعلها محرزة به، وما فيها أن يكون هنالك من يتقوى به، فأما إذا كان في مفازة بعيد [عن الغوث] وهو ممن لا يبالى به، فلا إحراز. ولو لم يشتد أطناب الخيمة ولم يرسل أذيالها، فهي وما فيها كالمتاع الموضوع في الصحراء، وحكمه إن نام دونه أو ولاه ظهره أو ذهل عنه بتشاغل لم يكن محرزا، وإن كان [متيقظا] يلاحظه فتغفله السارق وأخذ المال – قطع، وعن كتاب ابن كج [حكاية وجه آخر: أنه لا قطع عليه]. وهل يشترط ألا يكون في الموضع ازدحام الطارقين؟ فيه وجهان يأتي مثلهما، ومحل كونه محرزا بالملاحظة: إذا كان الملاحظ بحيث يقدر على المنع لو اطلع على أخذ السارق، إما بنفسه أو [بالاستغاثة] بالاستنجاد، فلو كان ضعيفا لا يبالى به السارق والموضع بعيد عن الغوث فالملاحظ ضائع مع المال. وحكم المسجد حكم الصحراء. ولو نام على المتاع، [أو جعله] تحت رأسه، [أو اتكأ] أو نام والعمامة على رأسه والخاتم في إصبعه والمدارس في رجله – فهو حرز. روى أبو داود عن صفوان بن أمية، قال: كنت نائما في المسجد [على] خميصة لي بثمن ثلاثين درهما، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ الرجل فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع، فأتيته فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهما؟!

أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، فقال: "هلا كان] هذا [قبل أن تأتيني به". ولو شد الخيمة بالأوتاد ولم يرسل أذيالها، وكان يمكن الدخول إليها من كل جانب – فهي محرزة، وما فيها ليس بمحرز. قال الرافعي: وقد يفهم منه أن الأمتعة [والأحمال] إذا شد بعضها ببعض تكون محرزة بعض الإحراز، وإن لم يكن هناك خيمة، ولو أن السارق نحى النائم [أولا عن الخيمة] ثم سرق فلا قطع؛ لأنها لم تكن حرزا حين سرق. وهكذا لو رفع السارق النائم عن الثواب [ثم أخذ الثواب، أو زالت رأس المتوسد النائم عما توسده] [ثم أخذ، أو انقلب في النوم] أولا [ثم أخذه] السارق – فلا قطع عليه. قال: وإن سرق المتاع من الدكاكين، أي: في الليل، وفي السوق حارس، أو سرق الثياب من الحمام وهناك حافظ، [أو الجمال] من المرعى ومعها راع، أو السفن من الشط وهي مشدودة، أو الكفن من القبر – وجب القطع. هذا الفصل ينظم خمس مسائل في الحكم لعد أهل العرف ذلك حرزا لما [ذكر:]. فالأولى إذا سرق المتاع من الدكاكين في الليل وفي السوق حارس قطع؛ لما ذكرنا. وقد اشترط الماوردي في متاع الصيارف والبزازين ما ذكرناه من قبل، وقال: إنه لا يشترط أن يبت في الحوانيت أربابها؛ لخروجه عن العرف. وفي "المهذب": عدم اشتراط الحارس في سوق الصيادلة والبقالين عن وجود الأمن الظاهر، واشتراطه في حالة قلة الأمن، أما إذا كان في النهار فمجرد إغلاق

الحانوت كاف، وكذا فتحه وملاحظة المالك وما فيه من المتاع أو جلوسه على بابه كما قال الماوردي، فإن انصرف عنه أو نام صار ما فيه غير محرز، وهذا إذا انتفت الزحمة [من] على الحانوت، فلو وجدت ففي القطع وجهان جاريان فيما لو كان المتاع مطروحا في الشارع ملاحظا والزحام موجود. قال الإمام: فلو كان المتاع الذي في الشارع ملحوظا بملاحظة جمع فيصير عدد اللاحظين في معارضة عدد الطارقين كاللحاظ في الصحراء في معارضة طارق واحد. ويشترط أن [يكون الملاحظ] [بحيث] يقدر على المنع كما تقدم. واعتبر الماوردي فيما إذا كان المتاع في أفنية الأسواق وطرقاتها في الحرز ثلاثة شروط: أن يكون بين يديه؛ فإن كان وراءه فليس بحرز. وأن يرى جميعه؛ فإن لم ير منه شيئا فليس ما لم [يره] محرزا. [وأن يكون] مجتمعا لا يمشي بينه مارة الطريق؛ فإن تفرق لم يكن ما حال بينه وبين المارة محرزا. والثانية: إذا سرق الثياب من الحمام وهناك حافظ، قطع، لما ذكرناه. والمراد [بالحافظ]: من استحفظه [صاحب الثياب المسروق، سواء كان حافظ الحمام] أو غيره، فلو نزع ثيابه والحمامي أو الحارس حاضر، ولم يسلمها إليه، ولا استحفظه إياها، بل دخل على العادة، فسرقت – فلا قطع، ولا ضمان على الحمامي والحارس على أي وجه سرقت، قاله البندنيجي والبغوي وغيرهما. وفي "فتاوى" القاضي: أنه يضمن للعادة، قال مؤلفها: وهو أصح.

ثم في قول الشيخ: وهناك حافظ، ما يعرفك أن شرطه [أن] يكون مستيقظا مراقبا؛ لأنه إذا نام أو أعرض فليس بحافظ حقيقة، وبه صرح الأصحاب، لكنه في هذه الحالة إذا كان قد استحفظ الثياب فسرقت ضمنها، وإن لم يقطع السارق. وقد اعتبر القاضي الحسين وصاحب "الكافي" والرافعي في وجوب القطع: أن يكون [قد] دخل ليسرق لا لغرض آخر، فإن كان الحمامي قد أذن للناس في الدخول، فدخل [الحمام] واغتسل وسرق عند خروجه [منه –] فلا قطع. قال القاضي: كما لو أذن للناس بالدخول في حانوته، فدخل إنسان، وسرق منه [لا قطع عليه]. والرافعي قال بعدم القطع إذا دخل مشتريا، وبوجوبه إذا دخل سارقا، وحكى قبل ذلك فيما إذا فتح صاحب الدار بابها، وأذن للناس في الدخول عليه لشراء متاعه كما يفعله الذي يخبز في داره – وجهين في وجوب القطع من غير تفصيل، ووجه المنع بأن الزحمة قد تشغل الحس. وفي "الحاوي" حكاية وجهين في أنه هل يعتبر [في القطع] خروجه من الحمام، أو لا [كما لا] يعتبر خروج السارق من المسجد إذا سرق منه؟ والأول هو الذي أجاب به الغزالي في "الفتاوى". والثالثة: إذا سرق الجمال من الرعي ومعها راع، أي: ينظر إلى جميعها ويبلغها صوته؛ كما قاله في "المهذب" و"الحاوي" وغيرهما – قطع؛ لما ذكرناه. وأطلق القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ القول بأن الراعي إذا كان ينظر إلى جميعها قطع [السارق]، وسكتوا هم وغيرهم عن اعتبار بلوغ الصوت،

وكأنهم اكتفوا بالنظر، اعتمادا على أنه إذا قصد ما يراه أمكنه أن يعدو إليه، فيدفع. ولو لم ير بعضها؛ لكونه في وهدة أو خلف جبل أو حائط أو شجرة – فلا قطع على الشارق، وكذا لو نام أو تشاغل. [ولو بعد] بعضها بحيث لا يبلغها صوته، فلا قطع عند المصنف والماوردي على من سرقه. واعتبر الماوردي وراء ما حكيناه عنه في القطع: أن تكون الجمال على ماء واحد ومسرح واحد لا يختلف بها مسرح ولا ماء، وألا يبعد [ما] بين أوائلها وأواخرها؛ حتى لا يخرج عن العرف في المسرح. والحكم في الخيل والبغال والحمير إذا كانت ترعى على ما ذكرناه، وكذا الغنم إذا كان الراعي على نشز من الأرض يراها جميعها، فهي محرزة، وإن كانت متفرقة إذا بلغها صوته، قاله الرافعي وغيره. أما إذا لم تكن الإبل ترعى، فإن كانت باركة، قال القاضي أبو الطيب: فحرزها بشيئين: أحدهما: أن تكون معقلة. والثاني: أن يكون صاحبها معها، مستيقظا كان أو نائما؛ لأن عادة الرعاة إذا أرادوا النوم أبركوا إبلهم وعقلوها. وهذا يدل على اعتبار عقلها في حالة النوم خاصة، وهو ما صرح به ابن الصباغ وغيره، واعتبروا في حال عدم عقلها ونقيضه أن ينظر إليها ويلاحظها. واعتبر الماوردي في حال النوم أن يضم بعضها إلى بعض، وأن يربطها إلى حبل قد مدة لجميعها، فإن فقد شيء من ذلك لم تكن محرزة. وحكم الخيل والبغال والحمير كذلك إلا في اعتبار إناختها، ويكون شكلها عوضا عن العقل، قاله الماوردي. وإن كانت الإبل سائرة، فإن كانت مقطرة كان الرجل الواحد في القطار حرزا لما يراه منه ويقدر على زجره [في مسيره]، قال الماوردي: فتصير بهذين

الشرطين – الرؤية والزجر – حرزا، دون أحدهما، والأغلب: أنه يكون في ثلاثة من الإبل، فإن تجاوزت فإلى أربعة، وغايته خمسة إن كان في الجمال [فضل شهامة وجلد]، وسواء كان قائدا أو سائقا، فإن سرق شيء منها، وأبعد به عن نظر جماله وموضع حرزه – وجب القطع. وفي "تعليق" أبي الطيب: أن حرزها إذا كان يسوقها مقطرة نظره إلى جميعها بحيث لا يخفى عليه شيء منها، وإن كان يقودها فحرزها يكون أمامها بحيث يشاهد جميعها كلما التفت إليها، ويكثر تعاهدها بالنظر والالتفات كالمراعي لها، فإن لم ير البعض لحائل – جبل أو بناء – أو كانت تسير في العمران، فذلك البعض [ليس بمحرز]. وفي كتاب ابن كج [وجه آخر]: أنه لا يعتبر انتهاء النظر إلى آخرها، ويكفي النظر إحرازا. قال الرافعي: وليجئ هذا في سوقها أيضا. واعتبر الفوراني ألا يزيد على القطار، وهو تسعة جمال، وعليه جرى الغزالي. [وقال الرافعي]: ينبغي ألا يزيد القطار الواحد على تسعة للعادة الغالبة، فإن زادت فهي كغير المقطرة. قال: ومنهم من أطلق ذكر التقدير، ولم يقيده بعدد. والأحسن توسط أورده أبو الفرج في "الأمالي"، فقال: في الصحراء لا يتقيد القطار بعدد، و [في] العمران يعتبر ما جرت العادة بأن يجعلها قطارا واحدا، وهو ما بين سبعة إلى عشرة، فإن زاد لم تكن الزيادة محرزة. وهذا هو الذي أورده القاضي الحسين في "التعليق".

وإن لم تكن مقطرة، بل كانت تساق، فمنهم من أطلق القول بأنها غير محرزة؛ لأن الإبل لا تسير هكذا في الغالب،] وعلى هذا جرى صاحب "التهذيب". وعن الإيضاح: أنه لا فرق بين أن تكون مقطرة أو لا؛ وبهذا أخذ القاضي الروياني، وقال: المعتبر أن يقرب منه ويقع نظره عليها، ولا تعتبر صورة التقطير. وفي "الحاوي": أن الواحد في هذه الحالة حرز لما يناله سوطه [منها؛ لأنه بالسوط يسوقها ويزجرها، ولا يكون حرزا لما لا يناله سوطه] وإن كان يراه. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن التقطير ليس بشرط في الحرز إن كان يسوقها، بل المعتبرة نظره إليها، وإن كان يقودها فالتقطير شرط. والخيل والبغال والحمير والغنم السائرة، كالإبل السائرة إذا لم تكن مقطرة. قال الرافعي: ولم يعتبروا التقطير فيها؛ لكنه معتاد في [البغال]. وعدد الغنم المحرزة بالواحد يختلف بالبلد والصحراء. وعن المسعودي: أن الغنم المرسلة في سكة تشرع إليها أبواب الدور، لا تكون محرزة حتى [تأوي إلى] الموضع. قال الرافعي: وليكن هذا فيما إذا كثرت وتعذرت الملاحظة. قلت: وإذا كان كذلك، لم يختص الفرض بهذه الصورة. واعلم أن ما جعلناه محرزا من الإبل ونحوها، فما على ظهره محرز أيضا، حتى إذا سرق منه ما قيمته نصاب قطع، [وكذلك لو سرق البعير وما عليه، إلا أن يكون صاحبا راكبا عليه؛ فلا قطع] كما جزم به أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما. وحكى القاضي الحسين في هذه الصورة، إذا كان الراكب نائما، في وجوب القطع وجهين: أحدهما: نعم؛ لأنه محرز على طريق الحقيقة. والثاني: لا يقطع. ثم قال: وقال ابن أبي هريرة: إن كان قويا وعلم السارق أنه لو انتبه منعه من

ذلك، لم يقطع، وإلا يجب القطع. رأيته على الحاشية. انتهى. وحكى الفوراني الوجه الأول، ووجها ثانيا: وهو إن كان الراكب قويا؛ بحيث لو انتبه لم يقو اللص عليه، لم يقطع، وإلا قطع. والفرق بينه وبين ما حكاه القاضي عن ابن أبي هريرة: [أن ابن أبي هريرة اشترط] علم اللص بقوته، وهذا لم يشترطه. قال الفوراني: وقد قيل: إن كان الحارس عبد فعلى السارق القطع؛ لأنه بمنزلة المتاع المملوك، وإن كان جرا فلا قطع. وهذا ما أورده البندنيجي، قال الرافعي: وكثيرون، وهو الصحيح، وقال: إن العبد لو كان نائما على مال فأخذ والمال معا؛ ففيه القطع. فرع: إذا كانت الماشية من غير الإبل والخيل والبغال والحمير [في] حظيرة دير أو مراح أو إصطبل، قال البندنيجي: نظرت: فإن كانت في بادية فليس بحرز، سواء أغلق الباب أو لم يغلق، ما لم يكن معها في المكان حارس، فإن [كان] وكان الباب] مغلقا، فهو حرز، [نائما كان الحارس] أو مستيقظا، وإن كان الباب] مفتوحا: فإن كان مستيقظا يراها فهي حرز، وإن كان نائما فليست في حرز. قال الرافعي: ويكفي أن يكون المراح من حطب أو حشيش إذا كان صاحبها فيها. وإن [كان] ذلك في الأبنية المتصلة بالعمارات والأبواب مغلقة، قال ابن الصباغ والرافعي وغيرهما: فهي محرزة، سواء كان صاحبها فيها أو لم يكن، وإن [كانت] [الأبواب] مفتوحة، فهي حرز إن كان صاحبها فيها مستيقظا، وإلا فليست بحرز. ولو دخل المراح المحرز، وحلب من ألبان الغنم، أو جز من أصوافها ما قيمته نصاب – قال الرافعي وابن الصباغ: قطع. وفي "الحاوي": إن كان المحلوب

من البهيمة الواحدة يبلغ نصابا، قطع، وإن لم يبلغ إلا باحتلاب غيرها، ففي القطع وجهان، وجه المنع، أن كل ضرع حرز للبنه. والرابعة: إذا سرق السفن من الشط وهي مشدودة، قطع؛ لما ذكرناه، فلو لم تكن مشدودة فلا قطع؛ لأنه ليس بحرز في العادة. والسفن: المراكب الكبار، والشط، جانب البر والوادي، جمعه: شطوط. والخامسة: إذا سرق الكفن من القبر، قطع، لأنه سارق، وإن اختص باسم آخر وهو النباش؛ فاندرج في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38]، وإنما قلنا: إنه سارق؛ لقول عائشة – رضي الله عنهما -: "سارق أمواتنا كسارق أحيائنا". وروي عن عمر بن عبد العزيز مثله. وقد روى البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من غرق غرقناه، ومن حرق حرقناه، ومن نبش قطعناه". وروي أنه – عليه السلام – أمر بقطع المختفي. قال الأصمعي: أهل الحجاز يسمون النباش: المختفي. ولأن الحرز إنما شرط في وجوب القطع؛ لأن المحرز يحتشم الناس من تناوله ومد الأيدي إليه، وهذا المعنى موجود في الكفن في القبر: فإن [في] الطباع نفرة عن تناوله؛ فحل القبر محل الحرز بالبيوت المغلقة والأبواب المقفلة. فإن قيل: هذا ينتقض بمن سرق حبا مبذورا؛ فإن الأرض حرز مثله، ومع ذلك لا قطع عليه. قال [القاضي] أبو الطيب والماوردي: الجواب أن من أصحابنا من قال: يجب عليه القطع؛ فسقط السؤال، ومنهم من قال: لا قطع، والفرق: أن الذي سرق الحب لم يخرج من الحرز ما [لم] يبلغ [نصابا؛ لأنه يخرجه حبة حبة،

وهي لا تبلغ نصابا، [بخلاف النباش، فإنه يخرج] [من الحرز ما يبلغ] نصابا]؛ فلذلك قطع. فإن قيل: الكفن لا مالك له، فلم يجب القطع بسرقته كسائر الأشياء المباحة. قال أبو الطيب والماوردي: لأصحابنا في الكفن إذا كان من تركة الميت، ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ملك للميت، فإذا أكله سبع أو أخذه سيل، انتقل إلى ملك الورثة على رأي، وعلى رأي الأكثرين: يكون بيت المال، وبه جزم ابن الصباغ. والثاني: أنه ملك للورثة، والميت أحق به ما دام باقيا، فإذا بلي تصرفوا فيه بالفريضة، وهذا هو الأصح في "الرافعي". وعلى هذين الوجهين يندفع السؤال. والثالث: أنه لا مالك له، أي: معين؛ فيكون لله – تعالى – كما قاله الرافعي؛ لأن الوارث لا يتمكن من التصرف فيه، والميت لا يملك شيئا، فإذا بلي الميت؛ كان لبيت المال. وجزم القاضي الحسين بأنه يكون ملكا للوارث على هذا الوجه أيضا؛ كما جزم به إذا قيل بغيره. والمشهور الأول، وعلى هذا لا يمتنع أن يقطع فيه؛ كما أن ستارة الكعبة لا مالك لها، ويقطع سارقها، وكذلك أبواب المساجد. على أن ابن خيران روى قولا آخر: أنه لا يجب القطع بسرقة الكفن بحال؛ لأنه موضوع للبلى، ويذكر أن أبا حفص ابن الوكيل نسب ذلك إلى القول القديم، والصحيح – وبه [قطع أكثر الأصحاب] الأول. وحيث تكلمنا في ملك الكفن، فلننه الكلام فيه: فإذا كان الكفن من بيت المال أو من مال أجنبي، فلمن هو؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على الخلاف المذكور فيما إذا كفن من تركته. والثاني: القطع بأنه يبقى على ملك الأجنبي أو حكم بيت المال؛ لأن نقل

الملك إلى غير مالك لا يمكن، والميت لا يملك ابتداء، وغير الميت لم يملك؛ فكان الأجنبي معيرا للكفن إعارة لا رجوع فيها كالإعارة للدفن، ويرجع إليه وإلى بيت المال بعد بلى الميت، وهذا أصح في "الكافي"؛ حيث قال: يرد إليه بعد بلى الميت على الأصح. ولو كان الميت عبدا، وقد كفنه السيد، فالملك في الكفن للسيد، أو لا يملكه أحد؟ فيه وجهان في "تعليق" البندنيجي وغيره، قال: ولا يجيء فيه أنه على حكم ملكه. قال الرافعي: لأن العبد لا يملك إلا بتمليك السيد على القول القديم، والسيد لم يملكه. ثم قال: ولمنازع أن ينازع فيه، ويجعل التكفين تمليكا، كما جعل تكفين الأجنبي تمليكا على رأي، وحكم بأن الكفن ملك للميت. قلت: ويجيء هذا – أيضا – على قولنا: إن العبد لا] يملك بتمليك [السيد؛ لأن هذا التمليك جرى بعد الموت، وبالموت زال الرق عنه، فصار كالحر المعسر؛ كما أشار إليه الغزالي في كفارة اليمين، والله أعلم. واعلم أن ما ذكرناه، في الكفن المشروع وهو خمسة أبواب؛ كما قاله أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما. وقال القاضي الحسين: إنه ثلاثة، فأما إذا كفن في الزائد على المشروع، [فالزائد] ليس بمحرز، وقيل: يقطع سارقه، وقد أجرى هذا الوجه فيما إذا وضع في القبر مضربة أو وسادة للميت، ويجري في سرقة التابوت الذي دفن فيه الميت، وعن بعضهم إجراؤه فيما إذا دفن معه [دراهم أو دنانير. وعن "الرقم" للعبادي: أن القاضي الحسين حكى عن القفال وجوب القطع فيما إذا دفن معه] مال تبعد المهم والأوهام عن دفنه فيه، ومحل ذلك إذا لم يكن القبر في بيت محرز، أما إذا كان، وجب القطع جزما؛ كما قاله الإمام، وإن كان ذلك المالك متعرضا للبلى. والطيب الزائد على ما يستحب تطييب الميت به، كسائر الأموال؛ فلا قطع فيه

على المشهور. وبه أجاب الماسرجسي، وقال بالقطع فيما إذا سرق القدر المستحب، وبلغت قيمته نصابا؛ لأن تطييبه من السنة؛ فجرى مجرى الأكفان. قال ابن الصباغ: وعندي أنه لا يجتمع الطيب [المستحب؛ فإن] المستحب التبخير بالعود، وأن يطرح في الحنوط كافور، وذلك مما لا يجتمع، فإن كان مجتمعا فلا قطع فيه. يعني: لأنه زائد. وقد حكى الماوردي وجها أنه لا قطع في الطيب بحال؛ لأنه يستهلك، بخلاف الأكفان. ثم ما أطلقناه من وجوب القطع بسرقة الكفن محله – كما قال الأصحاب – إذا أخرج من جميع القبر مجردا عن الميت، أما إذا أخرج من اللحد إلى فضاء القبر وتركه هنالك لخوف أو غيره، لم يقطع على المنصوص المشهور. قال الرافعي: ويجوز أن يخرج ذلك على الإخراج من البيت إلى صحن الدار، يعني: وقد فتح اللص بابها؛ كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ولو أخرجه على الميت ولم يجرده عنه، ففي قطعة وجهان [في "الحاوي"]: [أحدهما]- وينسب إلى المروزي -: أنه لا قطع؛ لاستبقائه على الميت. والثاني – وهو قياس [قول] ابن أبي هريرة -: أنه يقطع. وقد أطلق الشيخ هنا ذكر القبر، ولم يفصل فيه بين أن يكون في مفازة أو في مقابر المسلمين في الصحراء، أو [في] العمران. وهو متبع في الإطلاق للقاضي أبي الطيب والبندنيجي، و [عليه جرى] ابن الصباغ أيضا. وقضيته: أن القبر حرز على الإطلاق، كما حكى ذلك وجها، ويعزى إلى اختيار الشيخ أبي حامد والقفال والقاضي الحسين وأبي الحسن العبادي؛ لأن النفوس تهاب الموتى. وفي "المهذب": إن كان القبر في برية، لم يقطع، وإن كان في مقبرة تلي العمران، قطع. وهو منطبق على قول الماوردي: إن كان القبر منفردا في الفلوات، فلا قطع في السرقة منه، وإن كان في مقابر البلد الأنيسة [قطع]، سواء كان

في وسط البلد أو ظاهرها؛ بشرط أن يكون القبر عميقا؛ فلو كان قريبا من وجه الأرض، فلا قطع. انتهى. وعن "فتاوى" الفراء: أنه لو وضع الميت [قريبا] على وجه الأرض، ونضدت الحجارة عليه – كان ذلك كالدفن حتى يجب القطع بسرقة الكفن، خصوصا إذا كان ذلك حيث لا يمكن الحفر. وقد انتظم من مجموع ذلك وجوب القطع إذا كان في المقبرة المتصلة بالعمران، [و] من طريق الأولى إذا كان محرزا في بيت، وسرق الخارج عن البيت الكفن منه، وإن كان في مفازة فوجهان، وكذلك أورده صاحب "الكافي"، والوجهان يجريان فيما إذا كان القبر في بيت، وسرق من في البيت الكفن؛ كما حكاه في "التهذيب". وقال القاضي الحسين [وغيره]: إن كان القبر محرزا في بيت أو في المقابر العامة التي بقرب العمران، وهناك حارس – قطع، وكذلك إذا كانت المقبرة محفوفة بالعمارات؛ بحيث يندر تخلف الطارقين عنها زمنا يتأتى فيه النبش؛ كما قاله الإمام. وإن كان في المقابر العامرة التي بقرب البلد، ولم يكن ثم حارس – فوجهان، والمذهب في "تعليق" القاضي الحسين وجوبه، وإن كان في المقابر التي لا يعلم أن الناس يبلغون إليها، فإن كان بعيدا من البلد، لا قطع. قال القاضي: والذي عندي أنه يقطع؛ لأنه إذا مات في صحراء أو في مفازة، يجب دفنه هناك، ولا يجوز نقله إلى موضع آخر، فإذا فعل الواجب استحال أن ينسب إلى تضييع. فرع: إذا طرح الميت في الماء، فأخذ أحد كفنه فلا قطع؛ لأنه ظاهر، وهو كما لو وضع الميت على شفير القبر فأخذ سارق كفنه. ولو غيبه الماء، فغاص سارق وأخذ كفنه لم يقطع؛ لأن طرحه في الماء لا يعد إحرازا، وهذا كما لو وضعه] على وجه [الأرض فغيبه الريح بالتراب، قاله الفراء في "فتاويه".

قال الرافعي. وقد يتوقف في هذا. قال: وإن كان [المال] محرزا [في بيت]؛ يعني: لكون باب البيت مغلقا، [فأخرجه منه إلى الدار وهي مشتركة بين سكان – قطع، أي:] سواء كان الباب مغلقا أو مفتوحا؛ كما قاله البندنيجي وابن الصباغ والقاضي [الحسين]؛ لأنه أخرجه من الحرز [إلى ما ليس بحرز، فقطع كما لو أخرجه من دار] إلى زقاق غير نافذ وإن كان موثقا بالدرب، وهكذا الحكم في المدرسة والرباط والخان إذا أخرج من مخزن منه شيئا، وطرحه في وسطه، وفيه سكان. وفي "الإبانة" وغيرها من كتب المراوزة: أنه إذا أخرج المال من بعض البيوت المغلقة إلى الخان ونحوه من لا بين له فيه، والخان مغلق – فهل يقطع؟ فيه وجهان. قال الرافعي: ويقرب من هذا ما حكى عن "المنهاج" للشيخ أبي حامد: أنه إن كان بالليل لم يقطع؛ لأن الباب يكون مغلقا بالليل، وإن كان بالنهار يقطع. ولو كان المخرج من البيت المحرز إلى صحن الخان بعض سكان الخان ونحوه، فعليه القطع، سواء كان باب الخان مغلقا أو مفتوحا؛ لأن الصحن في حق السكان كالسكة المسندة بالإضافة إلى الدور، وهذا بخلاف ما لو سرق من [في] الخان شيئا من عرضه الخان، فإنه لا قطع عليه؛ لأنها مشتركة بينهم وما فيها فير محرز عنه. قال الإمام: هذا إذا [كان] فتح الباب هينا على من يخرج [من] العرصة بأن [كان] موثقا بالسلاسل ونحوها، فأما إذا كان موثقا بالمغاليق، وله مفاتيح بيد حارس؛ وكان يحتاج [مخرج المتاع] إلى معاناة ما يحتاج إليه [من يحاول] الدخول من خارج – فهذا فيه تردد. وذكر احتمالا في عدم

وجوب القطع بالإخراج من الدار إلى السكة المسندة الأسفل الموثقة بالدروب – إيقاف عرصة الخان؛ لأنها مملوكة لأصحاب الدور، وهي من مرافقهم، فتشبه عرصة الدار. وقال: [إن] الذي رآه الأصحاب الأول. قال الرافعي: وقد يفرق على هذا بأن الأمتعة قد توضع في العرصة؛ اعتمادا على ملاحظة سكان الحجر والبيوت، بخلاف السكة. قال: وإن كان الجميع لواحد وباب الدار مفتوح، أي: لم يغلقه المالك – قطع؛ لأن ما في الدار ليس بمحرز مع فتح بابها؛ فأشبه ما لو أخرجه إلى الزقاق. قال: وإن كان مغلقا فقد قيل: يقطع؛ لأن [باب] البيت حرز لما فيه من المال، فإذا أخرج منه فقد أخرجه من حرزه؛ فوجب عليه القطع كما لو كان باب الدار مفتوحا، وهذا أصح في "الجيلي". وقيل: لا يقطع؛ لأن الدار حرز لما فيها، والبيت حرز لما فيه؛ فلم يجب القطع بهتك أحد الحرزين [وإخراج المال منه] دون الآخر؛ كما لو كان المال في صندوق وهو مقفل، وذلك الصندوق في بيت مقفل، فأخرج السارق المال من الصندوق إلى البيت؛ فإنه لا قطع عليه، وهذا ظاهر النص في "المختصر"، وأصح في "الحاوي" وعند النواوي وصاحب "المرشد". وما ذكره الشيخ في الحالين هو ما أورده الأكثرون، وحكى الإمام الخلاف في الحالة الثانية فيما إذا كان المخرج من البيت تصلح الدار حرزا له، وقال فيما إذا لم تكن الدار حرزا له: وجهان مرتبان على الوجهين في الحالة السابقة، وهاهنا أولى بوجوب القطع، والفرق أن الدار مضيعة [بالإضافة إلى المخرج]، بخلافها في الحالة السابقة، ووجه عدم وجوب القطع في هذه الحالة بأن باب الدار إذا كان مغلقا فهو مزيد إيثاق المال الذي في البيت، فهي تتمة الحرز، فاعتبر قائله في القطع الإخراج من تمام الحرز. قال: وإذا جمعت بين المسألتين انتظم فيها ثلاثة أجه، ثالثها – وينسب إلى [ابن] القطان -: الفرق بين أن يكون المخرج

إلى الدار مما يحرز بها، فلا قطع، وإلا فيقطع. وعلى ذلك جرى الغزالي، وقد حرر الإمام هاهنا بحثا في تصوير المسألة فقال: لا شك في جريان ما ذكر فيما إذا تسلق اللص الجدار وتدلى إلى العرصة أخرج المتاع من البيت، فلو فتح باب الدار [ثم أخرج] المتاع [أو الدراهم] من البيت إلى العرصة فهذا فيه نظر؛ لأن الحرز إذا هتكه السارق فهو في حكم الحرز الدائم، ولولا ذلك لما أوجبنا عليه القطع بدخوله بعد النقب والأخذ منه، وقد نجيز هذا تخفيفا على السارق إذا قيل: أخرج من حرز إلى حرز، ولو حكمنا بانتهاك الحرز [في العرصة] لقطع، ونحن فإنما جعلنا الحرز بعد النقب في حكم الباقي تغليظا عليه، فقياس هذا الفقه: أن تجعل العرصة مضيعة؛ ليلزم الداخل بالإخراج [من البيت] إليها القطع، والمسألة محتملة؛ لأنه ليس مبنى الباب على التغليظ، وإنما جعلنا الناقب إذا سرق سارقا؛ لأن صورة السرقة في الغالب تكون كذا. قلت: والذي يظهر صحته الأول؛ لأن بمجرد فتح الباب أو نقب الدار لم يبق حرزا، وكذلك لو سرق منها سارق لم يقطع، وكذا لو لم يكن في الحرز حالة النقب [إلا] دون النصاب، فدخل المالك ووضع فيه شيئا، ولم يدر بهتك الحرز وكون اللص فيه، فأخذه اللص - فلا قطع عليه؛ كما حكاه القاضي الحسين عن الأصحاب؛ لأنه وضعه في حرز مهتوك، وإذا كان [ذلك] كذلك فما أخرجه إليها فهو مخرج إلى غير حرز؛ فأشبه ما لو أخرجه إلى الزقاق، لكن الذي يظهر موافقة الأصحاب عليه الثاني؛ حيث قالوا: لو أخرج الكفن من اللحد إلى فضاء القبر، وتركه هنالك لخوف أو غيره - لم يقطع على النص. ولم يحكموا سواه مع أنه قد صيره في غير حرز، والله أعلم. فرع: إذا رفع اللص المال من البيت إلى السطح، قال الماوردي: إن كان على السطح ممرق يغلق] على السفل قطع، لأن خروجه من الممرق كخروجه

من باب الدار، وإن لم يكن [عليه] ممرق يغلق]: فإن كان السطح عاليا أو عليه سترة مبنية تمنع من الوصول إليه لم يقطع؛ كما لو صعد بالمال من سفل الدار إلى غرفها، وإن كان بخلاف ذلك قطع. قال: وإن نقب رجلان، فدخل أحدهما وأخرج المتاع، ووضعه في وسط النقب، أي: وقيمته نصابان فأكثر، فأخذه الخارج – ففيه قولان: أحدهما: يقطعان؛ لأنهما اشتركا في هتك الحرز وإخراج المال؛ فوجب عليهما القطع؛ كما لو حملاه جميعا من الحرز وأخرجاه، ولأنا لو لم نوجب القطع عليهما صار ذلك طريقا إلى إسقاط القطع. وهذا ما نقله الحارث بن سريج النقال عن الشافعي – رضي الله عنه – كما قاله القاضيان أبو الطيب والحسين. وقال الماوردي: إنه رواه ابن شبرمة عن الشافعي – رضي الله عنه – في القديم. والثاني: لا يقطعان؛ لأن كل واحد منهما لم يخرج المال من كمال الحرز؛ لأن الحرز هو الحائط، وهذا ما رواه المزني والربيع، وهو الصحيح في الطرق، وبه قطع الصيدلاني؛ لأن فعل كل واحد منهما منفرد عن الآخر فلم يبن عليه؛ كما لو نقب واحد فجاء آخر فأخرج [المال]، وما ذكر من أنا لو لم نوجب القطع لصار طريقا لنفي القطع، يلزم عليه أن يقال: إذا ادعى السارق أن المسروق ملكه، يقطع لهذا المعنى، وقد نسب ابن الصباغ القولين إلى رواية الحارث بن سريج النقال، وقال القاضي أبو حامد: إنهما في كتبه القديمة. وعلى هذا يكون في المسألة طريقان، وقد جزم البندنيجي وغيره بأن أحدهما والصورة هذه لو قرب المتاع من النقب، فأخذه الخارج، كان القطع على المخرج دون المقرب، ومن طريق الأولى إذا نقبا ودخل أحدهما وأخرج المتاع، في اختصاصه بالقطع. قال الإمام: ورأيت في بعض التعاليق عن شيخي حكاية وجهين في وجوب القطع على المخرج.

وإذا جرى الخلاف في هذه الصورة ففي التي قبلها أولى، ثم ما المراد بالاشتراك في النقب؟ فيه وجهان: أحدهما – وينسب إلى رواية الفوراني -: أن يأخذا آلة واحدة فينقبان بها على النعت الذي يجب به القصاص عند الاشتراك في قطع الطرف، أما إذا كان بيد كل [واحد] منهما آلة [ينفرد بها] فلا شركة، قال في "الإبانة": ولا قطع عليهما. والثاني – وهو الصحيح، وبه جزم في "الوجيز"-: أنهما مشتركان في الصورتين. فرع: لو أن أعمى ومقعدا اجتمعا ونقبا، فركب [المقعد] الأعمى والمقعد يهديه، فأخذ المقعد وركب الأعمى – ففي "تعليق" القاضي الحسين وجهان: أحدهما: لا قطع على واحد منهما. والثاني: عليهما. وقيل: يجب على الزمن دون الأعمى، حكاه الرافعي وهو في "الزوائد" للعمراني معزي إلى "العدة" للطبري. ولو أخذ الأعمى المال بدلالة الزمن، وخرج به، فعن "البيان" أنه] هل [يجب القطع عليهما، أو لا يجب إلا على الأعمى؟ فيه وجهان، أصحهما: الثاني. ولو كانا بصيرين سالمين، فأخذ المال أحدهما، وحمله الآخر فأخرجه والمال في يده – وجب القطع على المحمول، وفي الحامل وجهان، الذي أورده الروياني منهما المنع. آخر: إذا سرق جذعا، فلحقه الراعي قبل أن يخرج جميعه، وكان المخرج يساوي نصابا – حكى القاضي أبو الطيب عن الماسرجسي: أنه لا يقطع، وكذلك إذا أخرج بعض عمامة ثم تركها، لأن بعضها لا ينفرد عن بعض؛ كما إذا كان في بعضها نجاسة والباقي على رأسه، لا تجوز صلاته.

قال القاضي: وكذلك إذا أخذ الغاصب طرفا والطرف الآخر في يد صاحبها، لم يضمنها؛ فكذلك في السرقة، قاله ابن الصباغ. قال: وإن نقب أحدهما، فدخل الآخر وأخرج المتاع – لم يقطع واحد منهما؛ لأن الناقب لم يسرق، والآخذ أخذ من غير حرز؛ فعلى هذا: على الأول ضمان ما نقبه من الجدار، وعلى الثاني ضمان ما أخذ، وهذه طريقة ابن أبي هريرة وطائفة. وقيل: فيه قولان كالمسألة قبلها، ووجه القطع: خشية جعل المواطأة على ذلك ذريعة للسرقة، وهذه الطريقة – كما حكاه الماوردي – قال بها كثير من أصحابنا، وقد حكاها الشيخ القاضي أبو الطيب وغيره، وظاهر اللفظ في إيرادها يقتضي أنهما يقطعان على قول، وهو ما صرح به الماوردي والبندنيجي والقاضي الحسين. وفي "النهاية" أنه يختص قول القطع فيها بالآخذ، وعليه جرى الجيلي، وهو الأقرب؛ لأن الأصحاب مطبقون على أن ثلاثة لو [نقبوا، ثم] دخلوا الحرز بعد نقبهم وكوروا المتاع، وحمله واحد [منهم] فأخرجه – لا قطع [إلا] عليه، وحكوه عن النص، ولو كان القطع في مسألة الكتاب على الناقب [على قول]، لكان جريانه في مسألة التكوير أولى، ويجوز أن يكون ما حكوه فيها بناء على الصحيح. وعن [ابن القاص] في مسألة الكتاب أن صاحب الدار إن لم يكن فيها فلا قطع، وإن كان فيها وجب على المخرج القطع؛ لأنها محرزة به فيكون قد أخرجه من حرز. قال ابن الصباغ: وعلى هذا ينبغي أن يقال: إن كان صاحب المتاع منتبها يراعي ما فيها، فالأمر كذلك. وإن كان نائما فإنما حرزها بالغلق وقد زال

بالنقب، وهذا ما فهمه القاضي أبو الطيب من كلام ابن القاص؛ لأنه قال بعد حكاية ما ذكرناه عنه: وهو كما قال؛ لأن صاحب الدار إذا كان فيها فما فيها محرز] به [، والوجهان إذا لم يكن صاحبها فيها أو كان نائما. وفي "الرافعي": الجزم بأن صاحبها إن كان يلاحظ المتاع [فهو محرز] به؛ فيجب القطع على الآخذ، وإن كان نائما فلا يكون المال محفوظا به في أصح الوجهين؛ كما ذكرناه فيمن نام في الدار وبابها مفتوح، وهذا منه إشارة إلى كون السرقة بالنهار؛ لأنه محل الوجهين كما ذكر، أما إذا كانت بالليل فقد جزم بأن ما في الدار لا يكون محرزا إذا كان نائما. وحينئذ يتلخص من مجموع ما ذكرنا: أن المالك إن كان مراعيا للمال قطع الآخذ بلا خلاف، وفي قطع الناقب الطريقان، وإن كان نائما: فإن كان في الليل ففي قطعهما الطريقان، وإن كان [في النهار]، فإن قلنا بالقطع في الليل ففي النهار أولى، ولا فلا قطع على الناقب. وفي قطع الآخذ وجهان، أصحهما: المنع. قال: وإن نقب أحدهما وانصرف، وجاء الآخر، [أي]: الذي لم يشهد النقب؛ كما قال الماوردي، وسرق – لم يقطع واحد منهما؛ لما ذكرناه، ومن طريق الأولى إذا أخذ الآخر من وسط النقب؛ كما قاله البندنيجي، ولا يجيء الطريق الثاني في المسألة قبلها؛ لأنه لا تواطؤ بينهما، كذا أطلقه الجمهور. وفي "الحاوي": أنه لا قطع [في مسألة الكتاب] على الذي نقب، وأما الآخر فلا قطع عليه إن اشتهر خراب الحرز، وإن لم يشتهر ولم يظهر ففي القطع وجهان جاريا فيما لو عاد الذي نقب بعد هربه في ليلة أخرى وأخرج السرقة، وجعل أظهرهما وجوب القطع. وقد حكى الوجهين في الصورة الأخيرة القاضي الحسين أيضا.

فرع: لو نقب سارقان حرزا واحدا: [أحدهما من جانب، والآخر من جانب]، وأخذ كل منهما نصابا، وأحدهما لا يعلم بصنع صاحبه – قال القاضي الحسين: فالقطع إنما يجب على السارق الذي نقب أولا، ولا قطع على الثاني؛ لأن الحرز صار مهتوكا، وإن وقع النقبان معا فعليهما القطع، وإن أخرج كل منهما ما سرقه من نقيب صاحبه، كما لو نقب واحد وأخرج المال من الباب. قال: وإن نقب الحرز [واحد] وأخذ دون النصاب وانصرف، ثم عاد وأخذ تمام النصاب، أي: لا غير، كما قال القاضي الحسين، وإن كان في كلام القاضي أبي الطيب خلافه – فقد قيل: يقطع؛ لأنه أخذ المال من حرز مثله فصار كما لو أخرجه دفعة واحدة، أو كان المسروق حبلا فأخرجه شيئا فشيئا. وهذا ما حكاه المصنف وغيره عن ابن سريج، والرافعي عنه وعن القاضي أبي حامد، وهو الأصح عند الجمهور. وقيل: لا يقطع؛ لأن المأخوذ أولا دون النصاب فلا قطع فيه، [والمأخوذ ثانيا] غير محرز فلا قطع فيه، وهذا قول أبي إسحاق. [وقيل]: إن اشتهر خراب الحرز، أي: بأن علم بالنقب المالك أو الناس – لم يقطع؛ لأنه أخذه من حرز مهتوك وإن لم يشتهر، أي: بأن ردم السارق النقب، أو نضد لبنه من غير بناء – قطع؛ لأنه أخذه من حرز هتكه هو بنفسه فقطع؛ كما لو نقب ودخل وسرق، وهذا قول ابن خيران كما حكاه المصنف وغيره، وهو المختار في "المرشد"، وفي "تعليق" القاضي الحسين أنه حكي عن ابن سريج. وهذه الأوجه، قال البغوي: إنها تجري، سواء عاد في تلك الليلة أو في [الليلة] الثانية، وقيل: إن عاد في الليلة الثانية لم يقطع وجها واحدا. وفي "تعليق" البندنيجي و"الشامل" حكاية الأوجه فيما إذا كان [العود في ليلة أخرى، واقتصر فيما إذا] عاد في وقته أو [في] ليلته على حكاية الوجهين الأولين. وهذا هو المحكي في "الزوائد" عن أبي حامد، وهو يفهم تخصيص

الوجه الثالث بالحالة الأولى، وكلام أبي الطيب كالمصرح به؛ لأنه حكى الوجهين فيما إذا عاد في ليلته، ثم قال: ولو عاد في الليلة الثانية، [وأخذ ما يساوي ربع دينار]، [أو ما يتم به ربع دينار]- فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: حكمه حكم المسألة السابقة، وقال أبو علي من خيران .. وساق مذهبه الذي ذكرناه، وفي "الحاوي" ما يقتضي خلافه؛ فإنه حكى الوجهين السابقين فيما إذا كان عوده من وقته أو من غده، وحكى الثالث، ونسبه إلى ابن خيران وأنه قال: إن عاد لوقته فاستكمل النصاب قبل اشتهار هتكه – قطع، وإن عاد من غده بعد اشتهار هتكه لم يقطع؛ لاستقرار هتك الحرز بالاشتهار، وهذا أصح. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية الوجهين الأولين فيما إذا عاد السارق قبل أن يعود إلى منزله، أما إذا عاد بعد رجوعه إلى منزله ففي القطع وجهان مرتبان على الوجهين في الحالة الأولى، وأولى بعدم القطع؛ لأنه كالمبتدئ لهذا الأمر، وغيره بانية على الأول، وعند اختصار ما ذكره يرجع حاصله إلى ثلاثة أوجه، ثالثها: إن لم يعد لمنزله قطع، وإلا فلا، وكذا حكاها الفوراني والطبري في "العدة". وكلام الإمام قريب من ذلك؛ فإنه حكى في المسألة ثلاثة أوجه عند عدم علم المالك بخراب الحرز، ثالثها: إن تواصل الفعلان من غير تخلل فصل يجب القطع، وإن انفصل أحدهما عن الثاني بزمان طويل فلا قطع. وحكى [أن شيخه] كان يقول: لو أخرج مقدارا وانطلق به وعاد، فهذا فصل بين الفعلين [وإن قرب الزمان وأسرع الكرة. وهذا حسن في إفصاح معنى الفصل بين الفعلين] على هذا الوجه، وجزم بأن المالك لو اطلع على خراب الحرز فلم يسده، أو سده فعاد السارق واستكمل بما أخذه ثانيا تمام النصاب – أنه لا قطع.

وحكم فتح الباب أو كسره أو فتح غلقه فيما ذكرناه، حكم النقب. قال: وإن ترك المال على بهيمة، فلم يسقها، فخرجت البهيمة بالمال، أو تركه في ماء راكد فتفجر [وجرى]، أي: تحرك إما بزيادة ماء آخر بسبب سيل، أو لانفتاح ما يمسكه عن الجريان بنفسه، وجرى، أي: المال، مع الماء إلى خارج الحرز – فقد قيل: يقطع، وقيل: لا يقطع. هذا الفصل ينظم مسألتين: إحداهما: إذا ترك المال على بهيمة ولم يسقها فخرجت بالمال، وفيها وجهان: أحدهما: يقطع؛ لأن وضع المال على الدابة تسبب إلى خروجه؛ فإن الدابة إذا استقلت بالحمل سارت، فصار كما لو وضعه على دابة سائرة أو واقفة وساقها، فإنه يقطع وجها واحدا. والثاني: لا يقطع؛ لأن للبهيمة اختيارا، فإذا لم يسقها وسارت، فقد سارت بنفسها لا باختيار السارق؛ فلم يقطع، قال القاضي أبو الطيب: وهذا كما قال الشافعي – رضي الله عنه – فيمن فتح قفصا عن طائر لإنسان ولم يزعجه، فوقف ساعة، ثم طار-: لم يضمنه؛ لأن للطائر اختيارا صحيحا، فحين طار طار باختياره. وهذا أصح في "الرافعي" وعند النواوي وصاحب "المرشد"، وبه جزم الفوراني، قال الرافعي: ويحكى عن القاضي أبي الطيب القطع به. وقد قيل به فيما لو وضعه على دابة واقفة وساقها، وينسب إلى "الفروع" كما قال في "الزوائد"، ورأى الإمام تخريجه في الوضع على الدابة السائرة مما سنذكره في منع [القطع] عند انثيال الصبرة. وقد اختلف الأصحاب في محل الوجهين المذكورين في مسألة الكتاب: فمنهم من قال: محلهما إذا وقف ثم سارت،] أما إذا سارت [عقيب الوضع قطع وجها واحدا؛ لإشعار الحال بأنها سارت بفعله. وكلام القاضي أبي الطيب يقتضي هذا؛ حيث استدل بوجه عدم [القطع بنص

الشافعي – رضي الله عنه – في مسألة الطير إذا وقف ثم طار. ومنهم من قال: محلها إذا مشت عقيب الوضع]، أما إذا وقفت ثم سارت فلا قطع. وهذا ما حكاه الإمام عن العراقيين، وهو اختيار الشيخ أبي علي وغيره، ولم يورد البغوي سواه، وحكى العمراني إن الشيخ ابا علي طرد ذلك فيما إذا ربط لؤلؤا على جناح طائر، وقال إن مكث [من غير] طيران ساعة، ثم طار فلا قطع، وإن طار عقيب الربط من غير تهييج، ففيه وجهان. ومنهم من أطلق الوجهين، قال الرافعي: وهو الأظهر. ومقتضاه جريانهما في الحالين. وعند الاختصار يجيء في المسألة ثلاثة أوجه؛ كما حكاها الماوردي، ثالثها: إن وقفت ثم سارت، فلا قطع، [وإلا قطع]، وهذا ما قال به ابن أبي هريرة، وحكى القاضي الحسين ذلك طريقة مستقلة، وطردها فيما لو شد لؤلؤة على جناح طائر. وهكذا فيما لو كان في الحرز غنم، فنقب: فإن خرجت في الحال قطع، وبعد ساعة لا قطع، والأقوال في المسألة تشابه الأقوال التي حكاها الإمام وغيره في مسألة فتح القفص عن الطائر. قال الإمام: ومن أصحابنا من قطع فيما نحن فيه بنفي السرقة، وإن تردد القول في مسألة الطائر [في الضمان]، والسبب فيه: أن السبب مضمن في الغصوب، والسرقة بتعاطي الإخراج بالنفس، وهذا المعنى لا يتحقق مع اختيار البهيمة، ولو فصل مفصل بين بهيمة مطمئنة لا نفار بها وبين بهيمة ذات نفار، لكان هذا وجهاً في الاحتمال، وهذا الاحتمال يمكن إجراؤه في فتح القفص عن الطائر، وحل الرباط [عن الطائر]. انتهى. فرع: لو أخرج هادي الغنم أو أم السلخة، فتبعه الغنم أو السلخة، ولم تكن الأولى وحدها [تساوي] نصابا - قال الرافعي: ففيه الخلاف، والذي

أورده القاضي الحسين: أنه إن علم أنه يخرج ذلك على أثرها، قطع، وإلا فلا، وهذا ما اختاره الطبري في "العدة"، وعن الشيخ أبي علي: القطع بالوجوب؛ لأن طبيعتها الاتباع. قال الرافعي: والظاهر: الأول، وبالمنع أجاب في "التهذيب"، وفي دخول السلخة في ضمانه وجهان. المسألة الثانية: إذا وضع المال في الماء الراكد، فتفجر وجرى مع الماء إلى خارج [الحرز - ففيه الوجهان]. وجه القطع: أنه تسبب إلى خروجه بتركه في الماء؛ فأشبه ما لو وضعه في ماء جارٍ أو راكد وحركه حتى خرج؛ فإنه يجب القطع وجهاً واحداً. ووجه مقابله – وهو الأصح في "الرافعي" و"المرشد"، وعند النواوي-: أن الماء الموضوع فيه لم يكن آلة لإخراجه، وإنما خرج بسبب حدث، وقد قيل بطرده فيما إذا وضع المال في الماء الجاري، وينسب إلى رواية الشيخ أبي حامد، وهو مذكور في "أدب القضاء" للزبيلي – أيضا – قال الرافعي: ورأيته في "تعليق" إبراهيم المروزي، ورأى الإمام تخريجه مما سنذكره من منع القطع عند انثيال الصبرة وهو جار فيما إذا حرك الواضع الماء، لكن الصحيح: القطع. والوجهان في مسألة الكتاب جاريان – كما حكاه المصنف وغيره – فيما إذا نقب وأخرج المال فوضعه في النقب، فحدثت ريح فأخرجته إلى ظاهر الحرز، واختار في "المرشد" عدم القطع، ولو كان ذلك في وقت هبوب الريح قطع، ويظهر مجيء وجه الشيخ أبي حامد فيه. فرع: لو كان في البستان أترج، والماء يدخل من أحد طرفيه ويخرج من الآخر، فجمع النار والوقود في طرف، ووضعه على الماء حتى دخل وعلا الدخان، فأسقط الأترج في الماء، وخرج من الطرف الآخر، فأخذه، أو رمى بالأحجار إلى الأشجار حتى تناثرت الثمار في الماء وخرجت من الجانب الآخر – فعن إبراهيم المروروذي: أن القاضي الحسين قال في كرة: لا قطع، وهو المذهب، وقال في أخرى: يجب؛ كما لو أخذ الثوب من خارج الحرز

بمحجن، [وهذا مذكور] في "فتاوى" القاضي. قال: وإن نقب الحرز، وقال لصبي لا يعقل: أخرج المال، فأخرجه، أو طر جيبه فوقع منه المال – وجب القطع. هذا الفصل – أيضاً – ينظم مسألتين: الأولى: إذا قال لصبي لا يعقل: أخرج المال، فأخرجه – قطع؛ لأن الصغير الذي لا يعقل كالآلة؛ ولهذا يوجب على آمره بالقتل – إذا قتل- القصاص، وإذا كان كذلك وجب عليه القطع؛ كما [لو] أخرج المال بمحجن – وهو: السوط المعوج الرأس – أو نحوه. وقد زاد القاضي أبو الطيب في تصوير المسألة: أن يناول الصبي المال للآمر، وغيره سكت عن ذلك. وهكذا حكم المجنون والبالغ الأعجمي الذي لا تمييز له، كما ذكرناه من قبل. وفي "الزوائد": أن صاحب "الفروع" حكى وجهين فيما إذا دفع المال لصبي لا [تمييز له] فخرج به، كالدابة إذا خرجت عن سوق، ويظهر جريانهما في المجنون والبالغ الذي لا تمييز له أيضا. ولو دفع المال لصبي أو مجنون، ولم يأمره بإخراج ولا أشار إليه به – قال الماوردي: فقد اختلف قول الشافعي – رضي الله عنه – في جناية الصبي والمجنون، هل يجري عليهما حكم العمد أم الخطأ؟ فعلى الأول لا يقطع السارق؛ كما لو دفعها لبالغ عاقل، وعلى الثاني يكون كوضعها على الدابة؛ فيكون في قطع السارق وجهان، أما إذا كان للصبي تمييز فلا قطع عليهما في مسألة الكتاب. وفي "فتاوى" القفال: أنه لو علم قرداً النزول إلى الدار وإخراج المتاع، فنقب وأرسل القرد، فأخرج المتاع – ينبغي ألا يجب القطع؛ لأن للحيوان اختيارا، والحد يسقط بالشبهة.

الثانية: إذا طر جيبه، أي: شقه [في خفية؛] فوقع منه المال – قطع؛ لأنه خرج بفعله متصلاً فقطع به، كما لو جر من الحرز عمامة فأخرجها، وهكذا الحكم عند القاضي أبي الطيب وابن الصباغ والمصنف وغيرهم فيما إذا نقب غرفة؛ فانثال منها طعام قيمته نصاب. وهو في "الحاوي" كذلك إذا أخرج من الطعام ما قيمته نصاب [دفعة واحدة، وحكي فيما إذا أخرج شيئا فشيئا وجهين في وجوب القطع، وعلى ذلك جرى القاضي الحسين] وقال: إن الأصح الوجوب. قال القاضي الحسين: ومن قال بمقابله فرق بينه وبين العمامة: بأن العمامة يتصل بعضها ببعض؛ فكان خروج الجميع بيده وفعله، وأما الحنطة فما خرجت في الدفعة الثانية بفعله. وفي "الوسيط" و"النهاية" و"الزوائد" و"الرافعي": أن الوجهين في هذه الحالة مفرعان على قولنا: إنه لو أخرج نصابا بفعلين متواصلين من غير فصل لا يقطع، أما إذا قلنا بوجوبه ثم فهاهنا أولى. قلت: ومن هذا البناء يظهر أن يقال: لو انثال من الطعام ما قيمته [دون] نصاب، ثم وقف، ثم انثال بعد ذلك ما يكمل به النصاب – أن يجري الخلاف من غير ترتيب. وقد ادعى الزبيلي في "أدب القضاء" له أنه لا خلاف في عدم القطع في هذه [الصورة، وإن حكى الوجهين في الصورة السابقة، والصحيح – وإن ثبت الخلاف – ما قاله العراقيون، وهو جار في مسألة طر الجيب – أيضا – كما حكاه الرافعي [وحكى] في الصورتين وجها – وينسب إلى رواية أبي إسحاق-: أنه لا يقطع فيهما بحال؛ لأن الخروج حصل بتسببه لا بمباشرة الإخراج، والسبب ضعيف لا ينبغي أن يتعلق به قطع، وقد أشار إليه في "الكافي" بقوله: ولو نقب جدارا؛ فانثالت منه الحنطة، فأخذها، أو طر جيبه أو كمه؛ فسقطت منه الدراهم والدنانير – فعليه القطع في أصح الوجهين.

تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي إيجاب القطع عند طر الجيب ووقوع المال وإن لم يأخذ الطرار، وهو على وزان ما قاله أصحابنا فيما إذا رمي الناقب بالمتاع من من داخل الحرز إلى خارجه ولم يأخذه: أن عليه القطع، سواء أخذه سارق آخر أو لم يأخذه، لكن حكى الإمام في هذه الصورة وجها عن بعض المصنفين: [أنه] إن لم يأخذه فلا قطع عليه؛ لأن الموجود حينئذ إتلاف لا سرقة، وهذا ما جزم به الزبيلي في "أدب القضاء" له إذا كان الوقوع مهلكة أو أخذه آخذ. قال الإمام: وعلى هذا لو أخذه [معينه و] صاحبه فالوجه: ألا يحب القطع على الملقي، ويجوز أن يقال بوجوبه؛ لأخذه بإذنه. والذي رأيته في "الإبانة" و"الزوائد" و ["تعليق"] القاضي الحسين: أنه [إذا خرج] وأخذ ما رماه قطع، وإن أخذه سارق آخر، فمنهم من قال: فيه الوجهان المذكوران فيما إذا نقب الحرز، فدخل أحدهما [وأخرج المتاع ووضعه] [في وسط النقب، وأخذه الخارج، ووجه الشبه: أن الرافعي لم يتناول] المسروق بعد إخراجه إياه من الحرز؛ كما أن من أخرج المتاع إلى نصف النقب لم يتناوله مخرجا من الحرز، ومنهم من قال بوجوب القطع على الرامي وحده وجهاً واحداً، كما ذكرناه أولا، قال القاضي الحسين: وهو الصحيح؛ لأن الإخراج وجد منه هاهنا تاما، بخلاف ما إذا وضعه في بعض النقب. قلت: والذي يظهر من قوة كلامهم: أن التردد محله ما إذا اشترك الرامي والآخذ في النقب؛ لأنه نظير المسألة المخرج منها الخلاف، أما إذا لم يكن الآخذ شريك الرامي في النقب فيجيء فيه الطريقان السابقان فيما إذا نقب واحد وسرق آخر: فإن قلنا بطريقة القولين فيها، اتجه جريان ما حكاه الفوراني وغيره من

الخلاف فيها – أيضا – وعلى هذا يتجه أن يجيء [مثله] [في مسألة] طر الجيب؛ إذ لا فرق يظهر بين المسألتين. وإن قلنا بطريقة القطع بعدم القطع على الناقب والمخرج، اتجه القطع في مسألة الرامي بعدم القطع على الآخذ وإجراء الخلاف في [الناقب الرامي؛ ولأجل ذلك أعرض الإمام عن الترتيب، وحكى الخلاف في] وجوب القطع على الرامي إذا لم يأخذ، وعليه جرى الغزالي، ويتجه جريان مثل ذلك في مسألة طر الجيب – أيضا – والله أعلم. وقد بالغ النواوي في ذلك، فجعل أخذه المال بعد طر الجيب من تمام تفسير الطر، قال: يقال: طره يطره طرا، [إذا] شقه وقطعه؛ فهو طرار. قال: وإن ابتلع جوهرة في الحرز، وخرج من الحرز – فقد قيل: يقطع؛ كما لو تركها في جيبه و [خرج بها]، وهذا أصح عند الإمام والروياني. وقيل: لا يقطع؛ لأن ما بلعه الإنسان لا يدري إلى ماذا يئول، فلا يتحقق خروجها من الحرز؛ ولهذا المعنى وجب عليه قيمتها، قال أبو الطيب وغيره: ولأنه كالمكره على الخروج بها؛ لأنه يلزمه الخروج ولا يمكنه إخراجها من جوفه. وهذا ما اختاره [في "المرشد" وصححه المحاملي وطائفة، وقال القاضي الحسين:] إنه المذهب. والوجهان عند الشيخ أبي حامد مخصوصان بما إذا خرجت منه الجوهرة، أما إذا لم تخرج فلا قطع جزما، وعلى هذا جرى البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين وصاحب "الكافي"، وأطلق مطلقون – ومنهم القاضي أبو الطيب والمصنف – الوجهين ولم يقيدوهما بحالة. قال الرافعي: فنزل بعضهم المطلق على المقيد، ورأى الإمام إثبات ذلك وجها فارقا بين أن تخرج [منه بعد خروجه من الحرز فيجعل سارقا، وبين ألا تخرج] فيتبين أنها فسدت وانمحقت فلا يجعل سارقا، وهذا ما اختاره النواوي.

وروى الماوردي الوجه الثالث على غير هذا النحو عن أبي الفياض: أنها إن خرجت بعلاج ودواء لم يقطع، وإن خرجت بغير علاج ولا دواء قطع، وبه يحصل في المسألة أربعة أوجه. وأورده الغزالي على غير هذين الوجهين، فقال: والثالث: إن أخذها بعد الانفصال عنه قطع، وإلا فلا. قال الرافعي: ولم أره لغيره. قلت: ومادة هذا الوجه يمكن أن تكون مأخوذة من الوجه المنقول فيما إذا نقب ورمي المال إلى خارج الحرز، فإن أخذ المال قطع، وإلا فلا، ووجه الشبه: أنه برمي المال إلى خارج الحرز كالمضيع له قبل أن يصل إلى يده، فإذا أخذه تمت السرقة، وإذا لم يأخذه كان إتلافا لا سرقة، كذلك إذا بلع الجوهرة؛ فكأنه عرضها للإتلاف، فإذا خرجت منه ولم يأخذها فهي معرضة للضياع أيضا؛ فكان بلعها وخروجها بمنزلة رمي المتاع، فإن أخذه فقد تحققت السرقة، وإلا فهو إتلاف لا سرقة، والله أعلم. وبهذا الوجه يحصل في المسألة خمسة أوجه. فرع: لو تطيب في الحرز [بطيب وخرج]، فإن لم يمكن أن يجمع منه بعد الخروج ما قيمته نصاب كالماورد ونحوه، ولم يقطع، وإن أمكن كالمسك والغالية، فوجهان، أصحهما في "تعليق" القاضي الحسين: الوجوب، وهو المختار في "المرشد"، والأشبه في "الرافعي". قال: وإن سرق حرا صغيرا وعليه حلي، [أي: يليق به]، يساوي نصابا – قطع؛ لأنه قصد سرقة ما عليه من المال، وهو نصاب؛ فأشبه ما لو أخذه منفردا، وهذا قول ابن أبي هريرة كما حكاه الماوردي وغيره، وأبي علي الطبري كما حكاه القاضي أبو الطيب وكذا ابن الصباغ، ونسبه إلى "التلقين"، وبه جزم القاضي الحسين. وقيل: لا يقطع؛ لأن يده ثابتة عليه؛ ولهذا لو وجد اللقيط وعليه مال، كان له،

وإذا كان كذلك لم يقطع؛ كما لو سرق جملا وعليه صاحبه، وهذا هو الصحيح عند الجمهور، وقال أبو الطيب: إنه الذي قال به الباقون، يعني: من الأصحاب غير الطبري. وخص الزبيلي من أصحابنا في "أدب القضاء" له محل الوجهين بما إذا نزع الحلي من الصبي، وقال إذا لم ينزعه: لا قطع عليه قولا واحدا. وصور الإمام المسألة بما إذا كان الصغير نائما أو مربوطا عند الحمل، وقال: إن الوجهين يجريان في أن ثيابه في غير صورة السرقة، هل تدخل تحت يد غاصبه وحامله أم لا؟ وهذا يقتضي إجراء الخلاف في القطع وإن لم يقلع الحلي من عليه. ثم على الثاني منهما، قال الماوردي: لو أخذ الحلي من الصبي أخذ مستخف قطع؛ لأنه أخذه من حرزه، وأشار القاضي الحسين إلى خلاف في هذه الحالة؛ حيث قال: وقيل إن أخرجه من الحرز، ثم سرق الحلي منه – لا قطع عليه على أحد الوجهين، وإن أخذ الحلي منه مجاهرا، فإن [كان] للصبي تمييز يمكن [به] أخذ ذلك منه [لم يقطع؛ لأنه يصير كالغاصب، وإن لم يكن له تمييز يمكن به أخذه منه] قطع. أما إذا كان الحلي غير لائق بالصبي: فإن أخذ الصبي من حرز الحلي قطع، وإن أخذه من [حرز] الصبي دون [حرز الحلي] لم يقطع، وعلى هذا يحمل جزم القاضي الحسين بأن الحلي إذا كان طوقاً فسرقه لا قطع [عليه]. فرع: لو كان الحر كبيرا عاقلا، فسرقه في حال نومه وعليه ثياب – فحاصل ما ذكره الإمام: بناء ذلك على أن الحر إذا نام على بعير وعليه أمتعة، فجاء سارق فأخذ بزمامه، وأخرجه عن القافلة وجعله في مضيعة – فهل يقطع؟

وفيه ثلاثة أوجه تقدمت، ثالثها: إن كان الراكب قويا لا يقاومه السارق لو انتبه فلا يجب القطع، وإن كان ضعيفا لا يبالي به السارق فعليه القطع، ولا اعتبار بيد الضعيف. [فإن قلنا: لا يقطع في مسألة البعير ففي مسألتنا أولى؛ لأن الثياب التي على الإنسان أبعد عن يد آخذها من الجمل الذي تحته والبعير؛ فإن ثياب الإنسان في حكم جزء منه]. وإن قلنا بوجوب القطع ثم، انبنى على ما لو حمل حرا أو حبسه، فتلفت عليه ثيابه، والمذهب: أنه لا ضمان. وأبعد بعض نقلة المذهب، فحكى وجها أن يد الغاصب ثبتت على الثياب، فعلى الأول: لا قطع، وعلى الثاني: إن كان المحمول ضعيفا ثبتت السرقة ووجب القطع، وإن كان قويا ففي السرقة وجهان، والظاهر – وإن ثبت الخلاف – عدم القطع. آخر: لو سرق عبدا نظر: فإن كان نائما قطع، صغيرا كان أو كبيرا؛ كما قاله القاضيان أبو الطيب والحسين وابن الصباغ. وأبدى الإمام فيما إذا كان [النائم] قويا بحيث لا يقاومه السارق لو انتبه نظرا في عدم القطع، مع جزمه بدخوله في ضمانه بذلك، ووجهه بأن مثل هذا العبد محرز بيد نفسه، فإذا احتمله ضعيف باحتيال فليس منتهيا من صون إلى ضياع. وعلى ذلك جرى الغزالي في "الوسيط"، وجزم في "الوجيز" بعدم القطع، ثم قال الإمام: وينشأ من هذا أن من جلس ببرية حيث لا مستغاث يجاب إليه، ومتاعه مخلوط، فاستغله ضعيف وأخذ المال، ولو شعر به صاحب المتاع لطره – فهل نقول: يعد هذا المال ضائعا بالنسبة إلى القوي؛ فلا قطع [على آخذه] وإن كان ضعيفا، أم نقول: يختلف الحكم بحسب اختلاف الآخذين؟ والرأي الظاهر عندنا: الثاني؛ كما أن أصل الإحراز يختلف باختلاف أصناف الأموال. ولو كان العبد مستيقظا، فإن كان صغيرا لا تمييز له قطع، ولا فرق بين أن يحمله أو يدعوه فيتبعه؛ لأنه لا تمييز له فهو كالبهيمة تساق أو تقاد.

قال الرافعي: ويجيء فيه الخلاف الذي ذكرناه في تسيير البهيمة، وحرزه دار سيده أو فناؤها، سواء كان وحده أو كان يلعب مع الصبيان، ولو بعد عن ذلك ودخل سكة أخرى، فهو مضيع إن لم يكن معه حافظ. والمجنون والأعجمي الذي لا تمييز له كالصغير الذي لا تمييز له. وإن كان العبد صغيرا مميزا، فإن سرقه سكران أو مضبوطا محمولا فهو كغير المميز، وإن أكرهه بالسيف حتى خرج من الحرز؛ ففيه وجهان: أحدهما: لا قطع؛ لأنه فارق الحرز بفعله؛ فأشبه ما لو خدعه حتى فارقه؛ فإنه لا قطع عليه. والثاني: يجب؛ كما لو ساق البهيمة بالضرب، وهذا ما أورده البغوي. وإن كان بالغا عاقلا له تمييز فلا قطع إن كان قويا؛ لأن حرزه قوته، وهي معه. قال: وإن سرق المعير مال المستعير من الحرز المعار، فالمنصوص، أي: في المختصر، أنه يقطع؛ لأنه أحرز ماله بحرز بحق فقطع السارق منه وإن كان الحرز له؛ كما لو سرق الآجر مال المستأجر من الدار المستأجرة؛ فإنه [يجب عليه القطع] وجها واحدا. وقيل: لا يقطع؛ فإن المستأجر ملك منفعة الدار، والمستعير لم يملكها، بل استباحها، وللمعير حق الرجوع في العارية متى شاء، وكان ذلك شبهة في درء القطع، وقد أطلق البندنيجي حكاية هذا الوجه كما أطلقها الشيخ، وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والفوراني وتبعه صاحب "العدة": هذا إذا نوى الرجوع عند النقب، فأما إذا [لم] ينو، قطع وجها واحدا. قال [ابن الصباغ: وحمل قائله – وهو المروزي كما قال] الماوردي – النص على هذه الحالة. وفي "تعليق" القاضي الحسين و"النهاية" وما أخذ منهما: حكاية الوجهين مع المنصوص، فجعلوا في المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: إن قضد الاسترجاع، قال القاضي: بأن دخل بالنهار – لم يقطع، وإن لم يقصد الاسترجاع بأن دخل بالليل

ونقب الجدار قطع، ويجوز أن يختلف الحكم بالقصد وعدمه؛ كالمسلم إذا دخل دار الحرب متلصصا، فوطئ حربية: إن قصد به قهرها وتملكها لو يكن زنى، وإن أحبلها صارت أم ولد [له]، ويثبت النسب، وإن لم يقصد به تملكها وقهرها كان زانيا، ولو أحبلها [لا تصير] أم ولد [له]. ونسب الإمام هذا إلى القفال، والصحيح عند الأصحاب – منهم القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وصاحب "الكافي"-: القول المنصوص، وبه قال ابن أبي هريرة. قال القاضي الحسين: ومن قال به يزيف التفصيل؛ [فإن المستعير] وإن جاز له الرجوع في العارية فبعد الرجوع فيها لا يلزمه أن يمكث ريثما يفرغ المستعير الدار من أمتعته. ويجري الوجهان الأولان فيما لو سرق الآجر مال المستأجر من الدار المستأجرة بعد انقضاء مدة الإجارة، أو المشتري مال البائع من الدار المبيعة قبل القبض وقبل إمكان تفريغها وبعد توفير الثمن، وأصحهما في هذه الحالة في "التهذيب" و"الكافي": عدم القطع، أما إذا كانت السرقة قبل توفير الثمن، قطع وجها واحدا. تنبيه: عدول الشيخ عن قوله: وإن سرق المعير مال المستعير المحرز بما استعاره، إلى [ما] ذكر؛ لأن هذا اللفظ يدخل ما إذا أعاره قميصا فلبسه المستعير، فطر المعير جيبه وأخذ المال؛ فإنه يجب القطع. قال الرافعي: ولا يكاد يجيء فيه الخلاف، وكذا يدخل ما إذا أعاره عبدا للحفظ أو لرعي الغنم، ثم سرق مما يحفظه غلامه نصابا، وللأصحاب في هذه الصورة طريقان حكاهما الإمام: أحدهما: طرد الخلاف السابق. والثاني: القطع بوجوب القطع؛ لأن الإحراز هاهنا بملاحظة العبد لا بنفس

العبد المملوك، فلعل الشيخ رأى هذه الطريقة. قال: وإن سرق المغصوب منه مال الغاصب من الحرز المغصوب، فقد قيل: يقطع؛ لأنه سرق ما لا شبهة له فيه من حرز مثله. وقيل: لا يقطع؛ لأن هذا [ليس بحرز] بالنسبة إليه، [فإنه يجوز له دخوله؛ لأنه محض حقه لا حق للغاصب فيه،] وهذا ما أورده الماوردي والقاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ، وكذا الفوراني والإمام وصاحب "الكافي" والرافعي، وادعى الإمام أنه مما لا شك فيه. انتهى. ولم أر ما يخالفه [في شيء] مما وقفت عليه، بل جزم بعضهم بعدم القطع – أيضا – فيما لو كان السارق من الحرز المغصوب أجنبيا، ومنهم القاضي أبو الطيب والماوردي وابن الصباغ، ووجهوه بأن يد الغاصب ثابتة على هذا الحرز بغير حق؛ فلم يكن لها حكم، فكان وجود هذا الحرز وعدمه سواء، وبعضهم حكى الخلاف في قطع الأجنبي، وجعل القاضي الحسين وجوبه هو الظاهر، وحكى الرافعي عن بعضهم أنه نسبه إلى النص، لكنه صحح المنع لما ذكرناه [أولا]. ولأجل ما ذكرناه صور الجيلي مسألة الكتاب بما إذا غصب إنسان حرزا من شخص ومالا من آخر، ووضعه في الحرز المغصوب [مع مال نفسه، فسرق المغصوب منه المال مال الغاصب من الحرز المغصوب،] ولا شك في جريان الخلاف في هذه الصورة، لكن بطريق البناء على أصلين: أحدهما: أن الأجنبي إذا سرق مال الغاصب من الحرز المغصوب، هل يقطع أم لا؟ والثاني: أنه إذا غصب من شخص مالا ووضعه مع ماله في حرز نفسه، فنقب صاحب المال الحرز، وسرق ماله المغصوب منه ومال الغاصب، وهو نصاب – فهل يقطع؟ وفيه ثلاثة أوجه حكاها في "المهذب"، ثالثها: إن كان ما سرقه من

مال الغاصب يتميز عن ماله قطع، وإن [كان] مختلطا به لم يقطع. وفي "تعليق" البندنيجي والقاضيين أبي الطيب والحسين و"الشامل": الجزم بعدم القطع عند الاختلاط، وحكاية وجهين في حالة التمييز: أحدهما: لا قطع، وهو الأصح في "تعليق" أبي الطيب و"الكافي"، والمختار في "المرشد"؛ لأن له هتك الحرز لأخذ مال نفسه، فلم يجب عليه بما اخذه من مال الغاصب قطع، لكونه أخذه من حرز مهتوك، وهذا قول أبي إسحاق. والثاني – وهو قول ابن أبي هريرة-: أنه يقطع؛ لأنه لما أخذ مال [الغاصب، علمنا أنه هتك الحرز لذلك، لا لأجل أخذ مال] نفسه؛ فلزمه القطع، كما لو أخذ مال الغاصب دون مال نفسه؛ كذا قاله ابن الصباغ. وفي "النهاية": أن الوجهين جاريان فيما لو أخذ مال الغاصب، ولم يأخذ مال نفسه. إذا تقرر ذلك، فإن قلنا: إن الأجنبي إذا سرق مال الغاصب من الحرز المغصوب لا قطع عليه، فهاهنا أولى، وإن قلنا: يقطع، فهاهنا وجهان إن أجرينا الخلاف فيما إذا أخذ مال الغاصب خاصة، وإلا قطع، وعلى كل حال فقد تحقق الخلاف فيها، لكن هذه الصورة ليست بظاهرة من كلام الشيخ. فروع: إذا نقب المودع الحرز الذي فيه الوديعة وأخذها فلا قطع عليه، وكذا لو أخذ من مال المودع نصابا وهو مانع للوديعة، وإن كان غير مانع لها فالذي أطلقه الجمهور: وجوب القطع، وفي "الحاوي" حكاية وجهين فيه: أحدهما – [وهو قياس قول أبي إسحاق، كما قال -: لا يقطع؛ لأن اقترانها بوديعته شبهة. والثاني] – وهو قياس قول ابن أبي هريرة -: يقطع؛ لأنه متعد بهتك الحرز وأخذه منه ما لا يستحقه. إذا سرق من له دين على إنسان من مال المديون نصاباً، فظاهر النص في

"المختصر": أنه لا يقطع، وبهذا الظاهر أخذ بعض الأصحاب كما حكاه ابن كج. والأظهر – وبه قال الجمهور-: أنه ينظر: فإن لم يكن المديون مماطلا، بل كان باذلا قطع، وإن كان غير باذل لما عليه وعجز [عن] استيفائه وأخذ قدر دينه فلا قطع [عليه] إذا قصد بالأخذ استيفاء دينه؛ كما صرح به في "الكافي" و"الرافعي"، وعليه حمل نص الشافعي رضي الله عنه. ولا فرق بين ان يكون المال من جنس دينه أو لا، كما هو أحد الطريقين، وهو الأظهر في "النهاية". وقيل: إذا أخذ قدر دينه من غير جنسه قطع، بناء على منع أخذه عند الظفر، كما سيأتي. ولو قصد السرقة دون أخذه في دينه قطع، قاله في "الكافي". وإن أخذ أكثر من دينه، قال ابن الصباغ: فهو كما ذكرنا في المغصوب منه إذا سرق أكثر من المغصوب. ولو كان مماطلا، لكن رب الدين يقدر على أخذه بالمطالبة – [ففي القطع وجهان في "الحاوي"]، والمذكور في "تعليق" القاضي الحسين: القطع [بالقطع] إذا سرق مستحق الزكاة [نصابا] من مال من عليه الزكاة، إن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، فلا قطع، وإن قلنا: [تتعلق] بالذمة، فهو كما لو سرق من مال المديون. قاله في "الكافي". إذا وهب منه شيئا ولم يقبضه له بعد، فنقب وسرقه – لم يقطع على الأصح في "الكافي"، بخلاف ما لو أوصى له بشيء فسرقه قبل موت الموصي، فإنه يقطع، لأن تمام الوصية بالقبول ولو يوجد، وتمام الهبة بالقبول وقد وجد. نعم، لو سرقه بعد موت الموصي وقبل القبول، فالأصح أنه لا يقطع. قال: وإن سرق الأجنبي المال المغصوب من الغاصب أو المسروق من السارق، فقد قيل: يقطع؛ لأنه أخذ المال من حرز مثله، وهذا ما أفهم من كلام ابن

الصباغ ترجيحه، وصححه الجيلي. وعلى هذا فالخصم في قطع هذا السارق: [المالك]، دون الغاصب والسارق الأول. وقال الماوردي: عندي أن كل واحد من المالك والسارق والعاصب حتم. وقيل: لا يقطع؛ لأنه أخذه من حرز لم يرضه المالك، وهو في يده بغير حق، وهذا أصح في "البيان" وعند النواوي، والظاهر في "تعليق" القاضي الحسين. والوجهان جاريان – كما قال في "التهذيب" و"الكافي" – سواء علم السارق بأنه مغصوب أو لا، وقد أشار الغزالي وإمامه إلى بناء الخلاف المذكور على أن غير المغصوب منه من الأجانب، هل له انتزاع المال من العاصب بطريق الحسبة [لمالكه] أم لا؟ وفيه خلاف تقدم، فإن قلنا: نعم، لم يقطع، [وإلا قطع. وفي "الكافي": أنه لو أخذه ليرده إلى مالكه لم يقطع] قولا واحدا. ويجري الوجهان – أيضا، كما حكاه الزبيلي في "أدب القضاء" له – فيما إذا اشترى طعاما شراء فاسدا وقبضه، فسرقه منه سارق. قال: وإن سرق ما له فيه شبهة كمال بيت المال، أي: إذا سرقه مسلم قبل إفرازه لطائفة كما سيأتي، سواء كان غنيا أو فقيرا، والعبد إذا سرق من [مال] مولاه، والأب إذا سرق من ابنه، [والابن إذا سرق من أبيه، والغازي، أي: من المسلمين أو الكفار إذا كان له رضخ، أو من الأحرار أو العبيد إذا سرق من الغنيمة قبل القسمة، والشريك إذا سرق من المال المشترك، أي: [المحرز عنه]- لم يقطع. جمع الشيخ – رضي الله عنه – بين هذه المسائل في الحكم؛ لاشتراكها في علته وهي الشبهة. روى الترمذي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان [له] مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن

يخطئ في [العفو خير من أن يخطئ في] العقوبة، ويروى: "ادرءوا الحدود بالشبهات"، والشبهة في المسألة الأولى وهي سرقة مال بيت المال كونه: مرصدا لحاجات الناس، فالفقير ينفق عليه منه، والغني يعطي منه بسبب ما التزمه بحمالة يحملها لطفء نار الفتنة، وقد احتج لمنع القطع فيها بما روي أن رجلا سرق من [مال] بيت المال، فكتب بعض عمال عمر – رضي الله عنه – إليه بذلك، [فقال]: لا قطع عليه، ما من أحد إلا وله فيه حق. وروى الشعبي أن رجلا سرق من مال بيت المال، فبلغ عليا – كرم الله وجهه – فقال: إن له فيه شيئا: ولم يقطعه، وقد اشتهر ذلك ولم ينكره أحد. قال الأصحاب: ولا فرق في ذلك بين أن يكون من مال الصدقات، أو من مال المصالح، ووراءه طريقان حكاهما الفوراني والرافعي: أحدهما – وينسب إلى رواية القفال -: أنه يقطع لكل حال. والثاني – وهو ما أورده الماوردي صححه الرافعي -: أنه إذا كان السارق

صاحب حق في المال المسروق [منه] فلا قطع؛ كما إذا سرق الفقير من مال الصدقات أو من مال المصالح، [وإن لم يكن صاحب حق كالغني إذا سرق من مال الصدقات قطع، وإن سرق من مال المصالح] فوجهان: أحدهما: يقطع؛ كمال الصدقات. وأصحهما: لا؛ لأنه قد يصرف ذلك المال إلى عمارة المساجد والرباطات والقناطر، فينتفع بها الغني والفقير. أما إذا كان السارق ذميا فالمشهور، وبه قال صاحب "التقريب" والعراقيون: أنه يقطع؛ لأنه مخصوص بالمسلمين، ولا نظر إل إنفاق الإمام على الذمي عند الحاجة؛ لأنه إنما ينفق للضرورة بشرط الضمان، وذلك لا يسقط القطع، بخلاف المسلم، ولا نظر إلى انتفاعه بالقناطر ونحوها؛ لأنه ينتفع بها تبعا من حيث إنه قاطن في دار الإسلام. وفيه وجه حكاه المراوزة: أنه لا قطع عليه إذا سرق من مال المصالح، كما لا قطع على الغني المسلم؛ فإنه قد يسلم، وهذا ما ارتضاه صاحب "التهذيب"،] وقد وافق هذا القائل على وجوب القطع عليه إذا سرق [من مال من لم يخلف وارثا من المسلمين؛ لأنه إرث للمسلمين خاصة. ولو كان المسروق مما أفرد لطائفة: كذوي القربى، واليتامى، والفيء إذا قيل: إن الغانمين تملكوه – قطع، ويلتحق بذلك الكفن إذا أخرج من بيت المال. والشبهة في المسألة الثانية، وهي سرقة العبد من مولاه: أنه يستحق النفقة عليه، ويده كيد سيده، بدليل أن ما في يد العبد إذا ادعاه مدع، كان القول قول السيد، وقد احتج [لذلك] بما روى السائب بن زيد قال: شهدت عمر وقد جاءه عبد الله بن عمر الحضرمي بغلام له، فقال: إن غلامي هذا سرق، فاقطع يده، فقال عمر: ما سرق؟ فقال: [سرق] مرآة امرأتي قيمتها ستون. فقال: أرسله، لا قطع

عليه، خادمكم أخذ متاعكم، ولكنه لو سرق من غيركم قطع. وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ومثله ينتشر، ولم ينقل مخالف؛ فكان إجماعا. ومع هذا، فقد خالف [أبو ثور]، ورأى وجوب القطع عليه؛ لظاهر الآية. وحكم المدبر والمكاتب وأم الولد ومن فيه جزء من رق وإن قل، إذا سرق من [مال] سيده حكم العبد، وكذا عبد مكاتبه؛ لثبوت رقه عليه. قاله الماوردي، وعليه جرى الروياني وصاحب "التخليص" في المكاتب، وحكى الرافعي وغيره فيه وجهين؛ لاستقلاله باليد. فرع: من له من عبد بعضه، وباقيه حر، إذا سرق مما جمعه العبد بحريته نصابا، وهل يقطع؟ قال القفال: لا؛ لأن المال لجميع البدن، والقطع بماله يتوجه؛ فله في بدن المسروق منه شبهة؛ فهو كسرقة مال الابن أو الأب. وقال الشيخ أبو علي السنجي: [عندي] أنه يقطع؛ لأنه [لا] شبهة له في ذلك النصف، وهو مالك له ملكا تاما تلزمه الزكاة والتكفين منه؛ كذا قاله القاضي الحسين في "التعليق" وفي "الفتاوى"، وقال: إنه يمكن بناء الخلاف على أنه لو مات، هل يكون ماله لسيدة أم لا؟ فإن قلنا: يكون له، [فلا] قطع، وإلا فيجب. والشبهة في المسألة الثالثة والرابعة، وهما إذا سرق الأب من ابنه أو الابن من أبيه: ما بين الأصول والفروع من الاتحاد، وكون [مال] كل واحد من النوعين مرصدا لحاجة الآخر، ومن حاجاته: ألا يقطع بسرقته ذلك المال، وبالمعنى الأول حصل الفرق بين [سقوط القطع] عنهما وإن كانا غنيين، وبين الغني إذا سرق مال بيت المال على رأي من أوجب القطع [عليه]؛ لأنه لا اتحاد ثم.

وحكم الأمهات والبنات مما ذكرناه حكم الأب والابن، وكذا حكم الأجداد والجدات من الطرفين، وأولاد الأولاد إن سفلوا؛ للمعنى الذي ذكرناه. وقد خالف أبو ثور فأوجب القطع على الجميع؛ لظاهر الآية. والشبهة في المسألة الخامسة، وهي إذا سرق الغازي من الغنيمة قبل القسمة: أنه إن كان مسلما فله في الأخماس الأربعة حق، وكذا في خمس خمسة، وهو سهم المصالح وهو غير متميز؛ [فأثر ذلك شبهة]؛ كالمال المشترك. وقد روي أن رجلا سرق من خمس الخمس، فلم يقطعه علي – رضي الله عنه – ولا مخالف له، كما قال الماوردي؛ فكان إجماعا. وإن كان ذميا أو عبدا، فله في كل المال أو في أربعة أخماسه أو في خمسة حق الرضخ. ولو كان الكافر ممن لا حق له في الرضخ كالمستأجر، قال القاضي الحسين: فإذا سرق قطع؛ كما لو لم يكن غازيا، أما إذا سرق منه بعد القسمة، فإن كانت قسمة الخمس من الأخماس الأربعة لا غير؛ نظر؛ فإن سرق من الخمس لم يقطع؛ لأنه إن كان حرا مسلما فله فيه حق، وإن كان كافرا أو عبدا، وقلنا: الرضخ من خمس الخمس – فكذلك، وإن قلنا: الرضخ من الأخماس الأربعة، فذاك مختلف فيه؛ فكان الاختلاف شبهة، كذا أشار إليه القاضي أبو الطيب، وصرح به البندنيجي. ويجيء فيما إذا كان حرا مسلما غنيا، ما ذكرناه من قبل. وإن سرق من الأربعة الأخماس ففي "الإبانة": أن الحكم فيه كما لو سرق الشريك من المال المشترك، وسنذكره. وفي غيرها: أنه ينظر فإن سرق قدر نصيبه أو أقل أو أكثر ولم يتبلغ الزيادة عليه نصابا، لم يقطع؛ لأمرين: أحدهما: أن له شبهة في هتك الحرز، وعلى هذا: إذا كان الزائد [قدر النصاب] لا قطع أيضا؛ كما هو الأظهر من الوجهين في "الرافعي"، والمختار

في "المرشد"، والمذهب في "تعليق" البندنيجي. والثاني: أن له شبهة في أخذ قدر حقه، فإذا لم يزد عليه أو نقص عنه، فالشبهة موجودة، وإذا زاد ما لم يبلغ نصابا لم يوجد شرط القطع فيما انتفت الشبهة فيه، وعلى هذا إذا بلغت الزيادة نصابا قطع؛ كما قيل بمثله في السرقة من المال المشترك [وقيل: لا قطع وإن قطع في المال المشترك] لأن حق كل واحد من الغانمين متعلق بجميع المغنم؛ لأنه يجوز أن يعرض الباقون فيكون الكل له، أما إذا أفرز لكل شخص حقه وملكه قطع. ولو سرق غير الغانمين من الغنيمة: فإن كان ممن له في الغانمين ولد أو والد أو مملوك أو زوج، وقلنا: لا يقطع أحد الزوجين بسرقة مال الآخر – كما سيأتي – فهو كسرقة أحد الغانمين على التفصيل السابق، وإن لم يكن له في الغانمين أحد من المذكورين، فإن كان قبل إفراز الخمس فهو كما لو سرق مال بيت المال، وكذا إن كان بعد إفراز الخمس، وسرق من الخمس أو من خمسه، وهو سهم المصالح، وإن سرق من أربعة أخماس الغنيمة قطع، وإن سرق من أربعة أخماس الخمس، فإن كان من أهل استحقاق ما سرق منه، ويتصور بأن يكون من ذوي القربى أو المساكين أو أبناء السبيل – لم يقطع، وإن لم يكن من أهل الاستحقاق؛ فوجهان في "الحاوي" [و"الرافعي"]، وأصحهما: وجوب القطع، وبه جزم القاضي؛ كما إذا سرق من أربعة أخماس الغنيمة، ووجه مقابله – كما قال الماوردي والرافعي -: أنه قد يصير من أهل الاستحقاق، ومن هذا يؤخذ أن مرادهما ما إذا سرق من سهم المساكين أو أبناء السبيل، وأما إذا سرق من سهم ذوي القربى فلا؛ لأنه لا يتصور أن يصير منهم. والشبهة في المسألة السادسة، وهي إذا سرق الشريك من المال المشترك: [كون] كل جزء [تجرد النظر] إليه له فيه حق؛ فكان شبهة دافعة للقطع؛

كما أن وطء الجارية المشتركة لا يوجب الحد. قال الأصحاب: ولا فرق على هذا بين أن يكون للسارق دينار ولشريكه ألف، وقد سرق الجميع، أو بالعكس، وهذا هو الصحيح، قال الإمام: وميل معظم الأصحاب إليه. وفي المسألة قول آخر: أنه إذا سرق من نصيب الشريك قدر نصاب، وجب القطع، وكيف يحصل سرقة نصاب من نصيب الشريك؟ الحكاية عن أكثرهم: أنه إن كان المال بينهما [بالسوية]، فإذا سرق نصف دينار فصاعدا فقد سرق من مال الشريك نصابا، [وإن كان ثلثاه للسارق، فإذا سرق ثلاثة أرباع دينار فصاعدا، فقد سرق من مال الشريك منه نصابا]. قال مجلي: وهذا ما نسبه ابن الصباغ إلى رواية القاضي عن بعض الخراسانيين في "المنهاج"، وبهذا تمتاز هذه المسألة عن سرقة الغانم من الأخماس الأربعة، فتأمل ذلك. وقيل: إنما يجعل سارقا لنصاب من مال الشريك، إذا زاد المأخوذ على قدر [حق] السارق؛ بأن يكون به في المال نصفه، فيسرق النصف وزيادة ربع دينار فصاعدا، وإن اقتصر على أخذ حصته – وهي النصف لا غير في مثالنا فلا قطع؛ لإمكان أن يقع [جميع] المأخوذ في حصته عند القسمة، هكذا حكي عن القفال. ومنهم من قال بالوجه الأول إذا لم يكن المال المشترك مما يجري فيه الإجبار على القسمة؛ [كالثياب، وبالوجه الثاني إذا كان المال المشترك مما [لا] يجري فيه الإجبار على القسمة] كالحبوب وسائر الأموال المثلية، ويحمل آخذه على أنه استقل بالقسمة، وهي إن كانت فاسدة، فإنها تصير شبهة

دارئة، هكذا وجهه الرافعي والإمام. قلت: ويجوز أن يكون قائله [هو الذي] صار إلى جواز أخذ ذلك للشريك بدون إذن شريكه، وصحح القسمة كما حكيناه وجها عن رواية الماوردي في آخر باب الربا، وقد اقتصر الإمام على حكاية هذا الوجه مع الأول من الوجهين، وفي "الإبانة" الجزم بوجوب القطع إذا أخذ من المال المشترك الذي لا يقع فيه الإجبار كالثياب ما قيمته نصاب، وحكاية الوجهين الأول والثاني فيما إذا كان المال يجبر الشريك على قسمته بالقرعة كالدراهم والحنطة والشعير، أما إذا سرق أحد الشريكين من مال شريكه الذي ليس بمشترك، قال القاضي الحسين: إن قلنا: لا يقطع أحد الزوجين إذا سرق مال الآخر، فهل يقطع الشريك والحالة هذه؟ فيه قولان: أحدهما: لا يقطع؛ لأن الغالب أنه لا يحوزه عنه؛ لما بينهما من الاشتراك والاختلاط؛ فأشبه أحد الزوجين، وهذا ما أورده الماوردي عند اشتراكهما في الحرز. وبمقابله إذا كان] في [حرز منفرد يختص به مالكه؛ لعدم الشبهة فيه، وإن وجدت في غيره. قال: وإن سرق أحد الزوجين من الآخر، أي: مالا محرزا عنه، فقد قيل: يقطع؛ لعموم قوله - تعالى -: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38]، ولأن النكاح عقد على استيفاء منفعة؛ فلا يسقط [للعقد] القطع بالسرقة كالإجارة، وهذا ما نص عليه الشافعي – رضي الله عنه – في حق الزوجة في كتاب اختلاف أبي حنيفة و"الأوزاعي"، وقد يقال له: "سير الأوزاعي"؛ كما عبر به صاحب "الكافي"، ولفظ الشافعي – رضي الله عنه – كما قاله الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ: فإن سرقت من مال زوجها الذي لم يأتمنها عليه وفي حرز منها قطعت، [وهو في الزوج] من طريق الأولى.

وفي "تعليق" القاضي الحسين و"الذخائر": أنه منصوص [عليه فيهما] في هذا الكتاب، واختاره المزني، وصححه البندنيجي والقاضي أبو الطيب وصاحب "الكافي" والرافعي والجمهور. وقيل: فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يقطع؛ لما ذكرناه. والثاني: لا يقطع؛ لأن لكل واحد منهما شبهة في مال الآخر؛ فأشبها الأب والابن، وشبهة الزوجة: أنها تستحق النفقة في مال الزوج، وشبهة الزوج – كما قال البغداديون، وعليه جرى في "المهذب" وأبو الطيب وغيرهم -: أنه يملك الحجر عليها ومنعها من التصرف في مالها [عند بعض أهل العلم، وأرادوا الإمام مالكا – رضي الله عنه – كما صرح به الماوردي. وقال البصريون: إن شبهته: كونه يستحق منعها من الخروج لإحراز مالها؛] فصار الحرز معه واهيا، ولأن كل واحد منهما متبسط في مال الآخر، ويرثه إذا مات، ولا يحجب؛ فلم يقطع بسرقة ماله؛ كالولد والوالد، وهذا ما حكاه المزني في "المختصر" هاهنا. والثالث: يقطع الزوج دون الزوجة؛ لأنه لا حق له في مالها، ولها في ماله حق بالنفقة والكسوة؛ فكانت كالأب والابن، [بل أولى؛ لأن استحقاقها ناجز، واستحقاق الأب والابن] قد يكون متأخرا لغناه، وهذا ما حكاه الحارث بن سريج النقال عن الشافعي، واختاره في "المرشد"، وحكي الفوراني أن بعض الأصحاب قال به، وحمل النصين السابقين على [الحالين اللذين] ذكرهما، وهذه طريقة [أخرى، وهي] بعيدة؛ لأن لفظ الشافعي – رضي الله عنه – في "سير" الأوزاعي؛ كما حكيته، صريح في قطع الزوجة، ولفظه في "المختصر" صريح في الزوج؛ فإنه قال: ولا قطع على زوج سرق من مال امرأته، ولا [على] امرأة سرقت من متاع زوجها. فيضعف مع ذلك الحمل على ما

ذكر. نعم، الذي قال به أصحاب الطريق الأول من حمل الموضع الذي نص فيه على عدم القطع، على ما إذا لم يكن محرزا عن السارق، والموضع الذي نص فيه على القطع، [على] ما إذا كان محرزا [عنه]- حسن، وحينئذ فيكون الفرق عندها بين كون أحد الوالدين أو المولودين لا يقطع بسرقة مال من تجب عليه نفقته، وبين الزوجة حيث تقطع بسرقة مال زوجها وإن وجبت نفقتها عليه -: أن نفقة القريب تجب لا في مقابلة عوض، بل للإحياء، فأشبه نفسه؛ لأنه يجب عليه النفقة لها [لتحيا]، وليس كذلك الزوجة؛ فإن نفقتها معاوضة؛ ولذلك لم تتقدر بالكفاية، لم تسقط بمرور الزمان، فأشبهت الأجرة. والذي أورده الشيخ أبو حامد وتبعه البندنيجي في المسألة طريقان: إحداهما: الجزم بقطعهما. والثانية: حكاية القولين الأولين. [وحينئذ] فينتظم مما ذكرناه في المسألة طرق: إحداها: القطع بقطعهما. الثانية: القطع بقطع الزوج دون الزوجة. الثالثة: حكاية قولين فيهما. الرابعة: فيهما ثلاثة أقوال، وهي طريقة القاضي أبي حامد؛ كما حكاها القاضي أبو الطيب عنه، وعليها جرى في "المهذب"، وكذا الإمام وصاحب "الكافي"، ورأى الرافعي [نسبتها في "الشامل" إلى القاضي، ورأى في غيره نسبتها إلى القاضي أبي حامد، فظن – والله أعلم – أن ابن الصباغ أراد القاضي أبا الطيب؛ فنسب الطريقة إليهما، ويجوز خلاف ذلك، والله أعلم. أما إذا لم يكن المال محرزا عن السارق، بل كان في حرزهما – لم يقطع بلا خلاف. فرع: من لا يقطع من الزوجين إذا سرق من مال الآخر لا يقطع عبده إذا

سرق منه؛ كما نص عليه الشافعي – رضي الله عنه – [في "المختصر"؛ لأثر عمر] السابق في قصة الحضرمي، والشبهة، وهي أن يد العبد كيد سيدة؛ كما تقدم. وبهذا النص جزم العراقيون، وكذا الماوردي وطرده فيما إذا سرق والد كل واحد منهما أو ولده من مال صاحبه، وكذلك القاضي الحسين في "تعليقه" جزم بالمنصوص في عبد أحد الزوجين، ثم قال: وقال أصحابنا: وإذا لم يقطع عبد كل واحد منهما بسرقة مال الثاني، [فلا يقطع والد كل واحد منهما وولده بسرقة مال الثاني]، وقد حكاه ابن كج عن ابن القطان، وأنه قال بمثله فيما إذا كان للرجل امرأتان، فسرقت إحداهما من الأخرى. ثم قال القاضي الحسين: وعلى هذا القياس يجب أن يقال: كل شخصين لا يقطع أحدهما بسرقة [مال] الثاني، فمن لا يقطع بسرقة ماله لا يقطع صاحبه بسرقة ماله أيضا، وحينئذ فيؤدي هذا إلى فسام وإلى ما لا يتناهى. وأراد بالفساد – والله أعلم -: ألا يقطع الأخ بسرقة مال أخيه؛ كما فسره الصيدلاني؛ لأنه ابن أبيه، وهو لا يقطع في مال أبيه، ومال الولد كمال الوالد على هذا، وهذا مما لا خلاف فيه عندنا، بل الأخ يقطع بمال أخيه. وأراد بما لا يتناهى أن يقال: إذا سرق أخو الزوجة مال الزوج لا يقطع؛ لأنه لا يقطع إذا سرق مال أبيه، وأبوه لا يقطع إذا سرق مال الزوجة، والزوجة لا تقطع إذا سرقت مال الزوج وهكذا. ثم قال القاضي: فيجب أن يحذف الكل، ويقتصر على ما نص عليه الشافعي – رضي الله عنه – فأما من عداه فيقطع، والفرق أن العبد يده يد مولاه، بخلاف [يد] الوالد والولد، وعلى هذا: تقطع [يد] مكاتب كل واحد منهما بسرقة مال الآخر؛ لأن يد المكاتب لا تكون كيد سيده. وهذا من القاضي يقتضي الجزم بالمنصوص [عليه] كما ذكرناه في العبد عنه.

و [قد] حكي الإمام الحكم المنصوص عليه كما ذكرناه في ضمن قاعدة حكاها حيث قال: قال الأصحاب: كل من لا يقطع بالسرقة من مال إنسان فلا يقطع عبده بالسرقة من ماله أيضا؛ فإذا لم يقطع الزوج في مال الزوجة لا يقطع عبده في سرقة مالها. وكذلك القول في سرقة عبد الإنسان من مال والده أو ولده، حكي الصيدلاني هذا مقطوعا عن القفال، ثم قال من عند نفسه – يعني: الصيدلاني-: والصحيح: أنه يقطع العبد وإن كان لا يقطع سيده؛ فإن للسيد شبهة النفقة إذا وقع الفرض [في الوالد والمولود،]، وليس للعبد شبهة النفقة في مال ولده. ثم قال: ولو كنا لا نقطع عبد الوالي في مال الولد؛ لأن مال ولده كماله؛ للزم أن نقول: لا قطع على الأخ بسرقة مال أخيه. قال الإمام: وهذا الذي ذكره متجه لا دفع له إلا بتمويه سنشير إليه، وحكي عن القاضي] الحسين [أنه قال: إذا لم يقطع أحد الزوجين في مال الثاني لم يقطع عبد واحد منهما في مال الثاني، ووجب ألا يقطع ولد أحدهما في مال الثاني وإن كان ربيبا. وهذا قبيح؛ فإن القول به يلزم إسقاط القطع عن الآخر إذا سرق مال أخيه. ثم قال الإمام: وليس هذا إلزاما؛ بل هو عين ما قال به [لو رد] التفريع إلى الوالد والولد؛ فإن ابن الأب أقرب إلى الولد من ابن الزوج، وهو ربيب إلى الزوجة، فهذا غلط صريح. قلت: وما حكاه عنه مخالف لما [هو] في "تعليقه"؛ لأن مساق كلام القاضي الذي حكاه عنه يقتضي مخالفته للنص وإيجاب القطع على عبد أحد الزوجين إذا سرق من مال الآخر؛ لأنه لما حكي أنه لا قطع على العبد [قال: [إن] مقتضاه

أن لا قطع على [والد أحد] الزوجين ولا ولده – أيضا – ويتجه؛ لأن مقتضاه أن لا قطع على] الأخ إذا سرق [من] مال أخيه، وهذا مما لا خلاف فيه؛ فليكن حكم عبد أحد الزوجين كذلك، وقد حكيت عنه أنه جزم بالمنصوص، وفرق بين العبد والوالد [والولد] بما ذكرناه. ثم على تقدير تسليم ما ادعاه فالمناقشة التي أبداها الإمام وغلطه لأجلها غير ظاهرة، بل أقول: يظهر أن يكون ما ذكره القاضي هو الصواب؛ لأنه حكي عن الأصحاب – كما نقلناه عنه، وحكاه الماوردي أيضا -: أنهم قالوا: يمنع قطع والد أحد الزوجين أو ولده إذا سرق من مال الآخر، وجزموا بأن الأخ يقطع بسرقة مال أخيه. فأراد بما ذكره إبطال النص في عبد أحد الزوجين، وإبطال قول الأصحاب في والده وولده، وهذا المقصد لا يحصل بما ذكره الإمام، والله أعلم. قال: وإن سرق رتاج الكعبة قطع؛ لأنه مال يضمن باليد وبالإتلاف، وللإمام المطالب به؛ فقطع سارق كسائر الأموال، ولأن القطع لحق الله تعالى، وإذا وجب في حقوق الآدميين، فأولى أن يجب في حقوق الله – تعالى – لأن تحريمها أغلظ لتحريك ملكه. والرتاج – براء مكسورة، وتاء ثالثة الحروف، وجيم -: الباب؛ كما قاله النواوي، وكذا الرتج، بفتح الراء والتاء. وفي "تعليق" القاضي الحسين وغيره: أنه غلق بابها، وهو الأشبه بكلام الشيخ؛ لأنه ذكر باب المسجد بعده، ولا فرق بينه وبينه باب الكعبة، فلو كان الرتاج هو الباب لكان فيه تكرار، وقال القاضي الحسين في باب النذر: [إنه قيل]: إنه الستر. قال: وإن سرق تأزير المسجد أو بابه قطع؛ لما سبق، وهكذا الحكم فيما إذا سرق جذعه أو ساريته أو آجره المنضد، وادعى الإمام إطلاق الأصحاب

الوفاق على ذلك، وأبدى لنفسه تخريج وجه مما سنذكره من عدم القطع في المستولدة؛ لنقص الملك فيها بسبب نقص بعض التصرفات، ومن عدم القطع في سرقة حصر المسجد وقناديله؛ لكونها متعلق حقوق المسلمين، فشابهت مال بيت المال. وكلام الماوردي يشير إلى حكايته عن ابن أبي هريرة؛ فإنه قال عند الكلام في سرقة الموقوف: ومذهب أبي حنيفة أنه لا قطع فيه، بخلاف آلة المسجد وأستار الكعبة، وإن [كان] ابن أبي هريرة سوى بينهما، والصحيح الأول، وإذا ثبت القطع بسرقة هذه الأشياء من المسجد مع كون السارق له فيه شبهة الانتفاع؛ فثبوته في سرقته من أملاك الآدمي المحضة أولى. وقد صرح به الأصحاب حتى في حلق الباب؛ كما حكي عن أبي إسحاق وجوب القطع فيها إذا كانت مسمرة؛ لأن ذلك حرز مثلها في العادة. وحكم أبواب الخزائن عند أبي إسحاق حكم المتاع في الدار؛ فإن كان باب الدار مغلقا، فأبواب الخزائن في حرز، مغلقة كانت أو غير مغلقة. وإن كان باب الدار مفتوحا: فإن كانت أبواب الخزائن مغلقة فهي في حرز، وأن كانت غير مغلقة فليست محرزة، أي: إن لم يكن في الدار أحد؛ كذا حكاه البندنيجي والقاضي الحسين [عنه]. والتأزير – بزاي ثم راء – مشتق من "الإزار"، يقال: أزرته تأزيرا، فتأزر، وهو كما قال النواوي: ما يستر به أسفل جدار المسجد وغيره. من خشب وغيره، وقريب منه ما حكاه ابن يونس أنه: ما عقد من الجريد المطول المعرض بالمسامير، مثلما يعمل بالستور في أركانها، وذلك عند الحجر وما حواليه، وحكي تفسيرين آخرين: أحدهما: أنه الحلق التي يشد بها أذيال الستور. والثاني – وهو معزي إلى تفسير المزني -: أنه الشاذؤوان، وصوبه أكثرهم في ذلك.

وقد أطبق الأكثرون على قطع السارق لأستار الكعبة المحيطة عليها، وحكاه القاضي أبو حامد عن النص في القديم، ورواه البندنيجي وابن الصباغ عن رواية الحارث بن سريج النقال عن الشافعي، ووجهوه بما روي الحسن البصري أن أول من صلب في الإسلام رجل من بني عامر بن لؤي، سرق كسوة الكعبة؛ فصلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي أن سارقا سرق في عهد عثمان – رضي الله عنه – فبطية منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعه، ولم ينكر عليه أحد. وعن كتاب ابن كج أن قوله الجديد والأصح: أنه لا قطع بسرقته؛ لأنه ليس له مالك معين؛ فأشبه مال بيت المال. وهذا يخالف ما قاله البندنيجي في التصوير، وعدم القطع قد حكاه المارودي عن ابن أبي هريرة أيضا، وبه يقوى الوجه الذي أبداه الإمام. قال: وإن سرق القناديل [أو الحصر] فقد قيل: يقطع؛ لأنه سرق مالا يضمن باليد والإتلاف لا مالك له [معين]، فقطع كما لو سرق أستار الكعبة وبابها، وهذا ما قاله البصريون، وجزم به الفوراني في القناديل، وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه اختيار الشيخ في الصورتين. وقيل: لا يقطع، أي: إذا كان مسلما؛ لأن ذلك وضع لمصلحة المسلمين؛ فكان له فيه حق؛ فلم يقطع به كمال بيت المال، وهذا قول البغداديين من أصحابنا، واختاره في "المرشد"، ولم يورد المصنف وأبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ سواه. وعن الروياني في "جمع الجوامع": أنه لا خلاف بين الأصحاب [في عدم] القطع بسرقة الحصر والبواري، وادعى القاضي الحسين في موضع آخر من كتاب السرقة الإجماع على أنه لا يقطع فيما يراد للمنفعة، مثل الحصر والبواري والقناديل، ومحل الكلام – كما قال الماوردي -: فيما إذا كانت معدة للاستعمال، وصرح به القاضي الحسين أيضا. أما إذا كانت موضوعة للزينة قطع،

وبهذا جزم صاحب "الكافي" مع جزمه بعدم القطع في حالة كونها معدة للاستعمال، وحكي الماوردي عن ابن أبي هريرة أنه قال بعدم القطع أيضا، وعليه ينطبق ما ذكره الإمام؛ فإنه حكى في وجوب القطع بسرقة حصر المسجد وجهين. وعن العراقيين أنهم قالوا: ما يظهر الانتفاع به فالظاهر أنه لا قطع على سارقه للاشتراك، وما أثبت في المسجد للزينة كالقناديل التي يزين بها المسجد ففيها وجهان. فانتظم من ذلك ثلاثة أوجه، ثالثها: الفصل بين ما ينتفع به فلا قطع، وبين آلة الزينة فيقطع. ولا خلاف [في] أن الذمي يقطع بسرقة ذلك. قال: وإن سرق الطعام عام السنة، أي: عام القحط، ومنه قوله تعالى: {ولقد أخذنا ءال فرعون بالسنين} [الأعراف: 130]. قال: والطعام مفقود، لم يقطع؛ لأنه روي عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: "لا قطع في عام المجاعة"، [ولأنه كالمضطر، والمضطر إذا سرق الطعام الممنوع منه لا قطع عليه] كما قال القاضي الحسين وغيره. قال: وإن كان موجودا أي: يبذله صاحبه وهو قادر على ثمنه، وإن كان بثمن غال – قطع؛ لأن لا يؤخذ من مالكه قهرا، فأشبه غير عام السنة، فأما إذا لم يقدر على شرائه لغلائه وعدم ثمنه، قال مجلي: فهو كعدم الطعام فلا قطع. قال: وإن سرق شيئا موقوفا، أي: على غيره، مثل أن يكون موقوفا على الفقراء

وهو غني، أو على بني فلان و [هو] ليس منهم – فقد قيل: يقطع، أي: سواء قلنا إن الملك لله – تعالى – أو لغيره؛ لأنه عين تضمن باليد، فوجب فيها القطع كالأعيان المطلقة، وهذا ما ادعى الماوردي أنه ظاهر المذهب، وهو المختار في "المرشد"، والأصح في "النهاية" و"الكافي" والإبانة. وقيل: لا يقطع، أي: سواء قلنا: الملك لله – تعالى – أو لغيره، أما إذا قلنا: إنه لله – تعالى – فبالقياس على الصيود. وإن قلنا: إنه لغيره، فملكه ناقص؛ لأنه لا يملك التصريف فيه، ومن شرط القطع تمام الملك، هي طريقة البندنيجي وغيره. وفي "الحاوي" حكاية وجه ثالث: أنه لا يقطع إن قلنا: إن الملك لله – تعالى – وإن قلنا: [إنه] لغيره، قطع. وفي "النهاية" حكاية طريقة أخرى لم يورد القاضي الحسين سواها، وهي أن الملك إن قلنا: لغير الله – تعالى – ففي القطع وجهان كالوجهين في القطع بسرقة أم الولد في حال نومها أو جنونها، وأصحهما في أم الولد: القطع، وهو المختار في "المرشد" و"الإبانة"، وإن قلنا: إنه لله – تعالى – قطع وجها واحدا؛ كما [في] رتاج الكعبة وبابها. قال الإمام: وهذا ليس بشيء؛ لأن صاحب الترتيب يشير إلى أن لا يصفو القول بإضافة الملك إلى جهة من الجهات، وهذا يتحقق إذا قلنا: الملك لله – تعالى – أما إذا سرق شيئا موقوفا عليه فلا قطع. قال الماوردي: وكذا إذا سرق ما وقف على وجوه الخير أو [في] عموم المصالح؛ لأنه في حكم مال بيت المال، وقال: إن [الذمي] إذا سرقه لم يقطع أيضا؛ [لأنه] تبع للمسلمين. وفي "الإبانة" الجزم بأن المسلم إذا سرق بكرة البئر المسبلة قطع، وكذلك قاله البغوي وقال: الوجه عندي أن تكون كحصر المسجد؛ لأنها لمنفعة الناس.

ولا خلاف [في] أنه إذا سرق من ريع الوقف، ولم يكن من جملة المستحقين – أنه يقطع، سواء كان جهة المسجد أو غيرها. قال ابن الصباغ: وهكذا لو كان موقوفا على الفقراء والسارق غني، وليس كما إذا سرق مال بيت المال وهو غني؛ لأنه بصدد أن يصرف إليه مع الغنى بسبب حمالة، ولا كذلك مال الوقف. فرع: إذا سرق شخصا بعضه حر وبعضه رقيق، قال الزبيلي في "أدب القضاء" له: لا قطع عليه، لأن الحرية فيه صارت شبهة. وكذا حكاه الرافعي، وطرده في المكاتب؛ لكونه في يد نفسه، وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية عن القفال في مسألة من بعضه حر: أنه يقطع، كما إذا سرق ما يقطع فيه وما لا يقطع. قال: ومن سرق عينا، أي: بقول صاحبها، [وأقام بينة] على ذلك، فادعى أنها له، أو أن مالكها أذن له في أخذها، أي: وديعة أو لنفسه؛ بأن يكون قد وهبها منه ولم يقبضها – فالمنصوص، أي: في "المختصر"، أنه لا يقطع، أي: بعد حلف مدعي السرقة؛ لأن المدعي للسرقة قد صار خصما للسارق، بدليل أنه لو نكل عن اليمين ردت على السارق ولا قطع؛ فكيف يقطع في مال هو خصم فيه؟! ولأن ما يدعيه محتمل، والقطع يسقط بالشبهة، وهذا ما قال به أكثر الأصحاب. قال القاضيان أبو الطيب والحسين: وهذا السارق يسمى اللص الظريف – أي الفقيه – وقد حكي هذا اللفظ عن [الشافعي والبندنيجي] وابن الصباغ. وقيل: يقطع، أي: إذا حلف مدعي السرقة أن العين له أو لم يأذن في أخذها؛ كي لا يتخذ ذلك ذريعة لدفع الحد والتسلط على السرقة، وهذا ما حكاه أبو إسحاق المروزي عن بعض الأصحاب كما قاله أبو الطيب، [وابن

الصباغ [واختاره] كما قاله الماوردي، ونسبه القاضي الحسين والبندنيجي إليه، وأنه حمل النص على ما إذا أقام بينة بما ادعاه، قال الروياني في "الحلية": [ولهذا وجه] في زمان الفساد. قال القاضي أبو الطيب] [والماوردي:] وليس بشيء؛ لأن الحد يسقط بالشبهة، وهذا أثبته بها، ولأنه لو قامت عليه البينة بالزنى بامرأة، فادعى أنها زوجته لم يستوف منه الحد، ولا يقال: إن ذلك ذريعة إلى إسقاط حد الزنى؛ فكذلك هاهنا. وقد ادعى الماوردي اتفاقهم على مسألة الزنى، وقال في "الشام": إن القائل في مسألة السرقة بالقط ينبغي ألا يسلم ما ذكره، وقد قال البغوي وغيره: إن الخلاف يجري فيها – أيضا – وقال الإمام: إن ظاهر المذهب والنص فيها عدم السقوط، بخلاف القطع؛ بناء على ما سنذكره من أن الظاهر فيما إذا قامت بينة على أن فلانا زنى بجارية فلان الغائب، يحد، ولا ينتظر حضور الغائب، بخلاف [مثله في] السرقة. أما إذا لم يحلف مدعي السرقة، [وحلف المدعى عليه السرقة]- قال الماوردي والقاضي أبو الطيب وابن كج والإمام: فلا قطع عليه وجها واحدا. قال القاضي الحسين: وإنما يحتاج إلى يمين المدعى عليه إذا ادعى السارق الملك، أما إذا ادعى الإباحة فلا يحلف، وعلى ذلك جرى الإمام، وادعى: أنه لا يحلف بلا خلاف مع كون القطع ساقطا، ولو نكل مدعي السرقة ولم يحلف السارق، فالذي أورده البغوي والفوراني: مجيء الخلاف، وهو ما أبداه الرافعي احتمالا لنفسه، وقال في "الشامل": ينبغي أن يسقط القطع وجها واحدا؛ لأن دعواه لم تبطل. وحكم دعوى السارق أن المسروق منه عنده وهو مجهول النسب، أو أن الحرز ملكه غصب منه المسروق منه – حكم ما ذكرناه، كذا حكاه الشيخ أبو علي

في "شرح التلخيص" وغيره، وكذا إذا ادعى العبد السارق أن المسروق ملك سيده، سواء صدقة السيد أو كذبه في الدعوى، وبه جزم في "الوجيز"، وهو الذي أجاب به في "التلخيص". وفي "النهاية" [وغيرها] حكاية وجه فيما إذا كذبه السيد: أنه يقطع؛ [بناء] على المنصوص. ولو ادعى السارق نقصان قيمة المسروق عن النصاب لم يقطع، فإن قامت البينة على أن قيمته تبلغ تمام النصاب قطع، قاله في "التهذيب". ثم اعلم أن [محل] الخلاف في [ضبط] مسألة الكتاب إذا لم [يكن] في دعوى السارق تكذيب للبينة التي شهدت بالسرقة، بأن تكون البينة قد شهدت أنه سرق نصابا من الحرز، وهو بما فيه تحت يد إنسان – فإن حكم الظاهر: أن المسروق مردود على صاحب اليد، فإذا قال السارق: ما شهدت به البينة من أني دخلت الحرز، وأخذت [منه] المال صحيح، إلا أنه كان قد وهبه مني قبل السرقة، أو باعه مني، أو أباحه لي؛ فلا قطع علي، والشهود اعتمدوا ظاهر الحال. أما إذا كان في دعواه تكذيب للبينة بأن قال: لم يزل ملكي، وكان قد غصبه مني، أو قال: ما سرقت أصلا – ففي سقوط القطع والحالة هذه تفريعا على المنصوص تردد حكاه الإمام، وقال: في كلام الأصحاب ما يدل عليه. قال الرافعي: وهذا التردد الذي حكاه قد حكاه ابن كج كذلك، وقال: المذهب: أنه لا يسقط القطع، وعندي أنه يسقط، وإطلاق عامة الناقلين يوافقه. قلت: والذي جزم به أبو الطيب والماوردي والبندنيجي وابن الصباغ في مسألة دعوة عدم السرقة: وجوب القطع،] و [في مسألة دعوة الغصب والبيع وغيرها بأنه محل الخلاف، وقد [بني] التردد المذكور على أن المدعى عليه بعد قيام البينة بالملك والسرقة لو قال: اعتمد الشهود ظاهر اليد، والمدعى [عليه] يعلم أنه ملكي، فحلفوه على نفيه هل يجاب إليه؟ وفيه خلاف،

والظاهر – وهو ما ادعى الغزالي في كتاب الأقضية نفي خلافه -: أنه لا يحلف، فعلى هذا لا يندفع القطع، وإن قلنا: إنه يحلف، فيبعد أن يقطع بيمين المدعي ويتوجه دفعه. فرع: إذا سرق اثنان، فادعى أحدهما أن المسروق ملكه أو أنه لهما، وأنكره الآخر واعترف بالسرقة – فلا قطع [على المدعي] تفريغا على النص، وفي المنكر وجهان: أحدهما: أن عليه القطع؛ لأنه مقر بأنه سرق نصابا لا شبهة له فيه، وهذا هو المذهب عند الإمام وأصح في "الكافي"، وبه قال ابن القاص، وجزم [به] الماوردي وابن الصباغ. والثاني – وينسب إلى القفال -: أنه لا يجب؛ لأن المدعي الملك قد ادعى ما لو صدق فيه لسقط القطع عنهما، فصار كما لو قال المسروق منه: إنه ملكه؛ فإنه يسقط القطع. وإن كان مقرا بأنه سرق نصابا لا شبهة له فيه، ولو لم يكذبه الآخر، لكنه قال: لا أدري – قال في "الكافي": يحتمل وجهين، أصحهما: أنه لا يقطع. ولو ادعى أحدهما: أنه ملك شريكي، وأني أخذت معه بإذنه، وأنكر الشريك ذلك – فالمنقول في "النهاية" وغيرها: أنه يسقط القطع عن المدعي، وفي المنكر وجهان. وقرب بعضهم ذلك مما إذا شهد اثنان على إنسان بالقصاص، فاقتص منه، ثم رجعا، فقال أحدهما: أخطأنا، وقال الآخر: تعمدنا – لا قصاص على مدعي الخطأ، وفي الآخر وجهان، وقال في "التهذيب" بعد حكاية ذلك: الأولى أن يقال: يجب القطع على المنكر، وفي المدعي وجهان، ووجه القطع: أنه لا يدعي لنفسه ملكا، وإنما يدعيه الشريك وهو منكر، ونظيره من شهود القصاص: أن يقول أحدهما: تعمدنا جميعا، ويقول الآخر: تعمدت] أنا [وأخطأ هو؛ فإنه يجب القصاص على من قال: تعمدنا جميعا وفي الآخر وجهان؛ لأنه يدعي الشبهة لشريكه وهو منكر، وقد حكي الطريقين صاحب "الكافي"، وعلى

الأخير ينطبق ما ذكرناه من دعوى العبد الملك لسيده وقد كذبه. قال الرافعي: وعلى رأي الغزالي في مسألة العبد، فالفرق: أن تعلق السيد بالعبد فوق تعلق الشريك بالشريك؛ ألا ترى أن يد العبد يد السيد، [وتمليك العبد تمليك للسيد]؟! فجعل دعوى ملك السيد كدعوى الحر الملك لنفسه. إذا سكت السارق بعد إقامة البينة عليه بالسرقة، وفرعنا على النص في أنه إذا ادعى الملك ونحوه لا يقطع – فهل يستفصله القاضي تذرعا إلى السقوط؟ أبدى الإمام فيه ترددا مأخوذا مما إذا أقر بموجب حد، فهل يشيب القاضي بالرجوع عن إقراره؟ فيه تردد سيأتي، إن شاء الله. إذا ادعى السارق أنه ظن أن المال المأخوذ ملكه أو ملك أبيه أو ابنه، أو أن الحرز ملكه، حكي الغزالي وغيره: أنه لا قطع عليه للشبهة، وهو فيما إذا ظن أنه ملكه قياس ما إذا وطئ امرأة [ظن أنها] زوجته أو أمته، وفيما إذا ظن أنه ملك ابنه ونحوه يشابه ما إذا وطئ أجنبية ظنها جاريته المشتركة، وقد حكينا في هذه الصورة في وجوب الحد ترددا للإمام، وقد حكي مجلي ما أورده الغزالي عن بعض الأصحاب عند الكلام في سرقة أحد الزوجين مال الآخر، وقال في فرع قبله: إنه لو سرق نصابا من دار وهو يظن أن الدار داره والمال ماله، يقطع، وألحق به ما إذا سرق شيئا ظن [أن قيمته] دون النصاب، فوجد قيمته دينارا، وهذا ما حكاه [في] "التهذيب" و"العدة". قال: وإن أقر [له] المسروق منه بالعين [المسروقة] لم يقطع؛ لأنه يحتمل أن يكون صادقا فتكون شبهة، وهكذا الحكم لو أقر أنه كان قد أذن له في أخذها، ولا فرق في ذلك بين أن يصدق السارق أو يكذبه كما ذكرناه من قبل، ولما ستعرفه من كلام الأصحاب.

ولو أقام المدعى عليه السرقة شاهدا وامرأتين أو شاهدا وحلفه معه، وانتفى القطع، وإن كانت الشهادة بالملك مطلقة، قال القاضي أبو الطيب: لأن الإطلاق يقتضي الملك في الحال، والظاهر مع دعواه أنه ملكه قبل ذلك؛ فكان شبهة في القطع. وفي "الجيلي" وجه: أنه إذا أقر بالملك المطلق لا يسقط القطع، ويظهر جريانه إن صح في البينة – أيضا – [وقد رأيت ما حكاه الجيلي في كتاب "الأسرار" للقاضي الحسين]. قال: وإن وهب منه، أي: بعد الرفع إلى السلطان، قطع، والأصل [فيه]: "ما روى أبو داود عن صفوان بن أمية، قال: كنت نائما في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهما، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ الرجل فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع، قال: فأتيته فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين؟! أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، قال فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به" وفي رواية أنه كان نائما، فجاء سارق فسرق من تحت رأسه. وأخرجه النسائي وابن ماجه. وفي رواية أخرى: "إني قد وهبتها له". وهي التي أوردها الفقهاء. قال عبد الحق: ولا أعلمه يتصل من وجه يحتج به. وعلى هذا فنقول: الهبة معنى يسقط المطالبة بالموهوب، فلم يسقط بها القطع؛

كما لو رد المال، ولأنه لو زنى بامرأة ثم ملكها أو تزوجها لم يسقط الحد؛ فكذلك هاهنا، أما إذا وهب منه قبل الرفع إلى السلطان فظاهر الخير يدل على عدم القطع لو صح الاحتجاج به، لكنه يعضده قوله صلى الله عليه وسلم: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد وفقد وجب" كما خرجه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب. وعلى هذا جرى القاضي أبو الطيب فقال بعدم القطع، وأنه يسقط، وتبعه ابن الصباغ في عدم القطع؛ لأنه إذا وهبه قبل الرفع لم يكن هناك منازع في المال ولا مخاصم فيه. والقاضي الحسين جزم بعدم سقوطه] وبعدم القطع لأجل عدم المنازع، وتبعه صاحب "العدة" في القطع بعدم السقوط]، وكلام الماوردي يقتضي إجراء خلاف في القطع؛ فإنه حكي عنه أنه قال: قال أكثر أصحابنا: إن المطالبة شرط في استيفاء القطع، فعلى هذا يسقط بالهبة استيفاؤه كالحقوق التي ليس [لها] مطالب [بها]. قال: ولا قطع على من انتهب أو اختلس [أو خان]؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على خائن، ولا منتهب، ولا مختلس، قطع" خرجه الترمذي وقال: إنه حسن صحيح. ولفظ ابن ماجه في موضع: "من انتهب نهبة مشهورة فليس منا"، وفي موضع [آخر]: "لا يقطع الخائن ولا المنتهب ولا المختلس".

[وفرق] بينه وبين السارق بأن السارق يأخذ المال [في] خفية؛ فلا يتأتى منعه، فشرع القطع زاجرا، وهؤلاء يقصدون المال عيانا؛ فيمكن دفعهم بالسلطان وغيره. قال: أو جحد؛ لأنه لا بد وأن يسبق الجحد بزعم المدعي السرقة، إذن في وضع اليد على المال؛ فهو مقصر حيث وضعه] عنده؛ فصار كما لو وضعه [في غير حرز، ولأنه لم يوجد منه أكثر من حبسه عن مالكه، والكذب في جحوده، وليس واحد منهما موجبا للقطع. وما رواه ابن عمر – رضي الله عنه – أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع فتجحده؛ فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت يدها – فجوابه – كما قال ابن المنذر -: أنه روي في الحديث: [أنها سرقت] فقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك ما روى أبو داود عن عائشة: أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: ومن يجترئ [عليه] إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أسامة، أتشفع في حد من حدود الله؟! "، ثم قام واختطب فقال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق [فيهم] الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". وأخرجه البخاري ومسلم، وغيرهم.

وذكر العارية في الحديث السابق إنما هو على وجه التعريف بالمرأة؛ لاشتهارها بذلك، [لا أن] القطع بسببها. قال القاضي الحسين: وهذا كما قال: "الجالس وسط الحلقة ملعون"، عرف بالجلوس وسط الحلقة. تنبيه: المنتهب: من يأخذ المال عيانا معتمدا بقوته وغلبته، والمختلس: من يأخذ المال من غير غلبة ويعتمد الهرب. ثم قيل: يكون ذلك مع غفلة المالك، وقيل: مع معاينته، وهو الصحيح، والسارق: من يأخذ في خفية، والخائن: من يخون في وديعة ونحوها بأخذ بعضها، والجاحد: من ينكرها. قال: ولا يقطع السارق، أي: الحر، إلا الإمام أو من فوض إليه الإمام؛ لأن القطع في السرقة وإن تعلق به حق الآدمي بسبب حفظ ماله، فالمغلب عليه حق الله – تعالى – والإمام هو النائب فيه، ولأن إعمال السلاح لصاحب الأمر أقرب، وقد ذكرنا أنه لم يقم حد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه، وكذلك في عصر الخلفاء من بعده [إلا بإذنهم]، فلو فعله بعض الرعية، قال في "التهذيب": فلا قصاص عليه؛ لأنه قطع يدا مستحقة القطع، غير أنه يعزر؛ لتفويت القطع على الإمام، وزاد الرافعي على ذلك فقال: لو سرى إلى النفس فلا ضمان؛ لتولد السراية عن مستحق. ثم قال: ويشبه أن يجعل وجوب القصاص على الخلاف في قتل الزاني المحصن. وسيكون لنا عودة إلى الكلام في هذا في آخر الباب، إن شاء الله تعالى. قال: وإن كان السارق عبدا جاز للمولى أن يقطعه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم"، وروي أن ابن عمر – رضي الله عنهما -

قطع عبدا له سرق، وأن عائشة – رضي الله عنها – قطعت أمه لها سرقت، ولم ينكر ذلك أحد. وقيل: لا يقطعه؛ لأن ما يقطع فيه السارق مختلف فيه؛ فيحتاج إلى نظر واجتهاد، وهذا ما يحكي عن ابن سريج، وفرق بينه وبين الجلد بأنه يملك جنس الجلد في التعزيز، بخلاف القطع، وبأن له في إقامة الحد غرضا، وهو أن يخفي الحال فلا تنقص قيمته، والقطع يظهر لا محالة. قال: والأول أصح؛ لما ذكرناه، وهو ما نسبه القاضي أبو الطيب والحسين والبندنيجي إلى نصه في "البويطي"، ووافق الشيخ على التصحيح أهل الطريقين، وقال الماوردي وغيره: وليس ما ذكر من التوجيه السابق بسالم؛ لأن السيد يملك قطع يد العبد للمصلحة من جهة أكلة تلحقه، وغرض الإخفاء غلط؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بإظهار العيب ونهى عن كتمانه؛ فقال: "إن كتما محقت بركة بيعهما"، والخلاف المذكور جار في أن السيد هل يقطع عبده في المحاربة وكذا قتله فيها؟ مخرج على أنه هل يقتل العبد إذا ارتد؟ قال: ولا يقطع إلا بمطالبة المسروق منه بالمال؛ لأن المال يدخله الإباحة، فيحتمل أنه أباح له أخذه، وبمطالبته ينتفي ذلك. ولأن القطع فرع ثبوت المال، وثبوته فرع المطالبة؛ فلذلك توقف القطع عليها، ويقوم مقام مطالبة المالك [مطالبة] وكيله، كما صرح به البندنيجي وغيره.

وقد يعكر هذا على التوجيه السابق؛ فإن الموكل قد يكون أباح ولم يعلم به الوكيل. نعم، [لو وكله بعد السرقة في الطلب اندفع السؤال، وقد يقال: لا يصح التوكيل] إلا على هذا النحو. فرع: الخصومة مع النباش لمن إذا قلنا بوجوب القطع عليه؟ قال الأصحاب: ذلك بنبني علي أن الملك [في الكفن] لمن؟ وقد تقدم، فإن قلنا: الملك [فيه] للوارث، فهو المخاصم، وإن قلنا: إنه للميت، فعن ابن أبي هريرة أنها للوارث أيضا؛ لأنه القائم مقامه في حقوقه، وهذا ما أورده البندنيجي، وقال أبو علي الطبري: [إن] للإمام أن يقطعه ولا يحتاج إلى المطالبة؛ لأن القطع حق الله تعالى، وإنما يحتاج إلى مطالبة الحي إذا سرق منه؛ كي لا يكون قد أذن فيه، وذلك مأمون في حق الميت، وإذا قلنا: لا مالك [له]، فالأمر فيه إلى الحاكم. وهكذا الحكم في سرقة رتاج الكعبة ونحوه، وزاد الإمام فقال: إن كان من يذهب إلى [أن] الملك في الكفن للميت أو لله تعالى،] يقول بتعين رد ما أخذه النباش إلى الميت، ولا يجوز للوارث إبداله بغيره –] فالتفريع [صحيح]، والخلاف في أن الخصم من هو صحيح، لكن هذا قول عري عن التحصيل، والوجه عندي: أن للوارث إبداله بعدما انفصل عن الميت، وحينئذ فيجب القطع بأنه الخصم لا غير. قال: وإن أقر أن سرق نصابا لا شبهة له فيه من حرز مثله من غائب، فقد قيل: يقطع؛ لأن القطع لزمه بالإقرار، فاستوفي منه في الحال؛ كما لو أقر أنه زنى بفلانة؛ [فإنه] لا ينتظر حضورها، وهذا ما حكاه الماوردي عن

[ابن] أبي هريرة، واختاره، [وفي] الرافعي نسبته إلى أبي إسحاق. قال: والمذهب: أنه لا يقطع، أي: في الحال؛ لأن من الجائز أن يقول صاحب المال عند حضوره: كنت وهبته منه، أو: أبحته إياه، أو يقر بأنه ملكه، ولو قال ذلك لم يقطع، وإن أصر على الإقرار بالسرقة؛ كما حكاه الإمام والعمراني وغيرهما، جعل ذلك شبهة في تأخير القطع، وقد صحح الرافعي وصاحب ["الكافي" هذا أيضا، ويخالف ما لو اقر باستكراه جارية غائب على الزنى؛ فإن الأشهر والمذكور في] ["الوجيز" و] "النهاية": أنه يقام عليه حد الزنى، ولا ينتظر حضور المالك؛ لأن حد الزنى لا يتوقف على طلب، ولو حضر وقال: كنت أبحتها له لم يسقط [حد] الزنى بذلك. قال الإمام: وقد ينشأ من هذا أن يقال: لو حضر مالك الجارية، وقال: كنت بعتها منه أو وهبتها، وأنكر المقر، لا يسقط الحد. قيل: وكذا إذا حضر وأقر بوقف الجارية عليه، وكذبه. وفي "الكافي" وغيره عن ابن سريج أنه قال: لا يقام عليه الحد، بل ينتظر حضور مالكها؛ لجواز أن يقر بأنه كان قد وقف تلك الجارية عليه؛ فتصير شبهة في سقوط الحد، ولا خلاف في أن الإقرار المطلق [بالسرقة لا يوجب الحد، وإن كان الإقرار المطلق] بشرب المسكر يوجب حده، وفي الإقرار بالزنى وجهان، والفرق أن اسم "السرقة" يتحقق ولا قطع معه؛ كما إذا سرق ما له فيه شبهة وما ليس بنصاب، بخلاف الشرب؛ فإن المتبادر إلى الذهن عند إطلاق شرب المسكر أن شربه حرام، والزنى لا يكاد يقع إلا على ما يتعلق به الحد، وكذلك إذا أطلق القذف به حد القاذف بلا خلاف.

ثم يتفرع في مسألة الكتاب على المذهب فرعان: أحدهما: هل يحبس المقر إلى حضور الغائب؟ حاصل ما ذكره العراقيون كأبي الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وكذا الإمام والقاضي الحسين أنه ينظر: فإن كانت الغيبة قريبة أو بعيدة، [والمسروق تالف – حبس، وإن كان باقيا والمسافة بعيدة] ففي حبسه وجهان، المذهب منهما في "تعليق" القاضي الحسين: عدم الحبس؛ فتنزع [العين من يده]، وتحفظ للمقر له إلى أن يرجع فيدعيها، فتسلم إليه، وهذا ما اختاره في "المرشد"، وأفهم إيراد المصنف [في "المهذب"] حكاية وجه في منع حبسه عند تلف العين وبعد المسافة؛ لأنه حكى في حبسه وجهين: أحدهما: نعم؛ كما يحبس من عليه قصاص لصبي أو غائب إلى أن يبلغ [أو يقدم]. والثاني: إن كان السفر قريبا حبس إلى أن يقدم الغائب، وإن كان بعيدا لم يحبس، ولأجل ذلك [حكي] الرافعي في حبسه ثلاثة أوجه: أحدها: الحبس مطلقا. والثاني: يحبس إن كانت الغيبة قريبة، وإلا فلا. [والثالث: يحبس إن كانت العين تالفة، وإلا فلا]. قال الإمام: وعلى هذا إذا بذل قيمة التالف خرج حبسه على الخلاف المذكور في [حالة] بقاء العين. ثم ليعلم أن الخلاف في الحبس ليس لأجل حق الله تعالى؛ فإن من أقر بمال لرجل في غيبته لا يحبسه السلطان؛ [كما قال الإمام، وكذا [إذا] أقر أنه غصبه من غائب]؛ كما قال الرافعي – بل لأجل القطع.

قال الإمام: وهو مبني على أن القطع يسقط [بالرجوع عن الإقرار أم لا – كما سنذكره – فإن قلنا: يسقط]، فلا معنى للحبس، وإن قلنا: لا يسقط، فيجوز أن يقال: يحبس؛ لأنه لو خلي يوشك أن يفلت ويفوت الحق. قلت: وهذا يقوي ما سنذكره عنه من الجزم بحبسه عند شهادة البينة بالسرقة والإصغاء لها، وقد جعل الرافعي عدم الحبس في الغصب ووجوبه في السرقة مسألتي فرق، وحكي عن بعض أنه فرق بأن الحاكم لا مطالبة له بمال الغائب، وليس موجب الغصب إلا ذاك، والسرقة يتعلق بها القطع الذي يملك الحاكم المطالبة به. الفرع الثاني: إذا حضر الغائب، فإن ذكر أنه أباح المال المسروق للسارق، أو أباعه منه، أو أنه ملكه – لم يقطع؛ لما ذكرناه، وإن ادعى السرقة، فظاهر كلام الأصحاب يقتضي القطع؛ كما سنبينه من بعد، إن شاء الله تعالى. قال: وإن قامت البينة عليه من غير مطالبة، فقد قيل: يقطع، وهو المنصوص، وقيل: لا يقطع، وقيل: فيه قولان: اعلم أن الموجود في أكثر النسخ وبعض الشروح حكاية لفظ الشيخ كما ذكرته، والذي أورده الجيلي من لفظ الشيخ: "فقد [قيل]: لا يقطع، وهو المنصوص، وقيل: يقطع، وقيل: فيه قولان"، وهو على كل حال لا يخلو من مناقشة، لكنها على الثاني أسهل، وبيان ذلك أن المنقول في كتب الأصحاب التي وقفت عليها حكاية ثلاثة طرق، ليس المنصوص منها القطع بالقطع، بل المنصوص خلافه؛ كما ستعرفه، وهذا وجه المناقشة على [العبارة الأولى، وليس فيها طريقة قاطعة [بعدم القطع]، وهذا وجه المناقشة على العبارتين] [معا]؛ بل الذي حكاه في "المهذب" والقاضي أبو الطيب شيخه والماوردي وابن الصباغ والبندنيجي والإمام والقاضي الحسين وغيرهم: أن الشافعي – رضي الله عنه – نص في مسألة الكتاب على عدم القطع في الحال، ونص في كتاب الحدود على أنه إذا شهد [عليه] أربعة بالزنة بجارية غائب، يقام عليه

الحد، لكن لفظ الإمام والقاضي الحسين في حكاية هذا النص فيما إذا شهد شاهدان على واحد أنه زنى بجارية فلان الغائب: أنه يحد، ولعل المراد: الشهادة على الإقرار بالزنى، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ثم اختلف الأصحاب في النصين على ثلاث طرق كما ذكرنا: إحداها – وهي طريقة ابن سريج وابن أبي هريرة -: أنه لا قطع في الحال، ولا حد للزنى في الحال – أيضا – لأنه يجوز أن يكون صاحب المال المسروق قد أباحه لكل من دخل الحرز وأخذه، أو وقف الجارية الموطوءة على الواطئ، أو إذا حضر يقر بأنه غصب المال والجارية منه أو: من ابنه؛ فلا يجب القطع والحد؛ فصار ذلك شبهة في التأخير، وقالا: ما حكي عن نصه في مسألة الزنى غلط من الناقل، قال الرافعي: وربما أول على أنه لا حاجة إلى حضوره وقت الإقامة. والثانية – قالها أبو إسحاق المروزي -: جعل المسألتين على قولين بالنقل والتخريج؛ لأنه لا معنى لحمل كلام الشافعي – رضي الله عنه – على أنه خطأ في النقل، والفرق بين المسألتين ليس بشيء، [وتعليل قول التأخير قد سبق]، وتعليل مقابله: أنه قد ثبت القطع والحد في الحال فاستوفي، والأصل عدم ما يسقطه. والثالثة – قالها أبو الطيب بن سلمة وأبو حفص بن الوكيل والقاضي أبو حامد الخراساني، وهي التي صححها الرافعي -: تقرير النصين، وفرقوا من أوجه: أحدها: أن القطع أخف حكما من الزنى؛ لأنه يسقط [بالاعتراف] بالإباحة، [بخلاف حد الزنى؛ فإنه لا يسقط بالإباحة]. الثاني: أن السرقة مخالفة للزنى؛ فإن سرقة مال الأب والأم لا توجب القطع، والزنى بجارية أحدهما [يوجب الحد]؛ فدل على الفرق بينهما.

الثالث: أن القطع يتعلق بحق الآدمي؛ لأنه شرع صيانة للأموال وحفظا لها؛ فاعتبر حضور الآدمي، وحد الزنى لم يشرع صيانة لجواري الناس وحفظا لحريمهم؛ فهو حد محض لله تعالى، فلم يعتبر حضور الآدمي، والصحيح – وإن ثبت الخلاف – في مسألة الكتاب: عدم القطع. قال الرافعي: وقد يرتب الخلاف في هذه الصورة على الخلاف فيما إذا أقر بالسرقة، وتجعل صورة الإقرار أولى بتعجيل القطع؛ لبعد الإقرار عن التهمة. ثم إذا قلنا: لا يقطع، حبس كما قال الإمام إلى حضور الغائب. وفي "الرافعي": أن في حبسه الخلاف السابق عند الإقرار، ثم إذا حضر المالك: فإن ذكر أنه أباحه وما أشبه ذلك سقط القطع، وإن ادعى المال ولم يظهر شبهة، أطلق الغزالي [القول بالقطع]، وعليه ينطبق ما قاله القاضي الحسين وغيره: أنه لا يحتاج عند الحضور والطلب إلى إعادة الشهادة في القطع، وفي المال وجهان: أحدهما: هكذا لا يحتاج إلى إعادة الشهادة لأجله، وهو أصح في "التهذيب" وغيره، وبه جزم في "الوجيز"، [وهو] في "النهاية" مفرع على القول بأن شهادة الحسبة لا تسمع في حقوق الآدميين؛ كما هو المذهب، أما إذا قلنا بسماعها فلا خلاف في السماع هنا، يعني: وعدم الاحتياج إلى الإعادة. والثاني: يحتاج؛ لأنه حق آدمي، والشهادة قبل الاستشهاد لا تسمع في حقوق الآدميين بحال. وهذا منهم يدل على سماع الشهادة بالسرقة من غير استشهاد، بالنسبة إلى ما تضمنته من حق [الله – تعالى – وفي سماعها بالنسبة إلى ما تضمنته من حق] الآدمي إذا قلنا: لا تسمع فيه شهادة الحسية استقلالا – وجهان. وفي ذلك نظر من حيث [إن] الأصحاب اختلفوا في [تصوير مسألة

الكتاب؛ كما قاله القاضي الحسين، فقال: إن منهم من رأى] تصويرها بما إذا لم يعلم صاحب المال بالسرقة أو عرف بها ولم يعرف السارق، أما إذا عرف الحال فلا تقبل الشهادة حتى يحضر ويدعي هو أو وكيله؛ كسائر الدعاوى؛ وبهذا ينبغي أن يجمع بين قول الشيخ: "ولا يقطع إلا بمطالبة المسروق منه بالمال"، وبين قوله: "وإن قامت البينة عليه من غير مطالبة ... " إلى آخره، فيحمل الأول على ما إذا علم رب المال بصورة الحال، و [الكلام] الثاني: على ما إذا لم يعلم. قال القاضي: ومنهم من أطلق القول بالسماع، وهو الصحيح؛ لتعلق حق الله – تعالى – فيقبل من غير دعوة كالزنى. وتبعه في التصحيح الرافعي، وإذا كان هذا كلامهم في التصوير، فينبغي أن يحمل ما أطلقوه من عدم الاحتياج إلى إعادة الشهادة لأجل القطع على الحالة التي تسمع فيها الشهادة، دون ما إذا قلنا بعدم سماعها عند علم المالك بالحال، ويؤيد ذلك أن الإمام قال: إن معنى رد الشهادة هنا: أنا لا نصغي إليها، ولا نرتب عليها حبسا. ثم أبدى احتمالا لنفسه في الاحتياج إلى إعادة الشهادة بالنسبة إلى القطع مع القول بالسماع ابتداء، على قولنا: إن المال لا يثبت ما لم تعد الشهادة، ووجهه: أن القطع فرع بثبوت المال، وإذا لم يثبت الأصل كيف [يثبت الفرع]؟! والله أعلم. وقد أشار الرافعي إلى اعتراض على الإمام فيما ذكره، فقال بعد حكايته: إن لك أن تقول: العبارة المنطبقة على اختيار الأئمة أصلا وفرعا في المسألة أن يقال: شهادة الحسبة مقبولة فيما يرجع إلى القطع الذي هو حق الله – تعالى – فيقطع من غير إعادة البينة التي قد سمعناها أولا، وإنما انتظرنا لتوقع ما يسقط، فلم [يظهر شيء]، وفي قبولها فيما يتعلق بالمال الخلاف في أن شهادة الحسبة هل تقبل في حقوق الآدميين؟ إن قلنا: نعم، [فلا حاجة إلى إعادة البينة، وإن قلنا:

لا، فنحتاج إلى الإعادة. وأنت إذا تأملت ما ذكرته] عرفت [أن كلام] الرافعي غير قويم، والله أعلم. فرع: لو سرق مال صبي أو مجنون، فعن ابن كج أنه [قال]: ينظر: [فإن انتظرنا] حضور الغائب واعتبرنا طلبه؛ انتظر بلوغ الصبي وإفاقة المجنون، وإلا قطعناه في الحال. قال: وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى، أي: من مفصل الكوع: أما وجوب قطع اليد فدليله الآية، وقد ورد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قطع يد السارق. وروى الشافعي بسنده عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق: "إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله". وأما كونها [اليد] اليمنى، فوجهه ما روى النخعي أن ابن مسعود كان يقرأ: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما". قال الماوردي: وهذه القراءة وإن شذت، فهي جارية مجرى خبر الواحد في وجوب العمل به، أو هي على وجه التفسير للأيدي المذكورة في القراءة

المشهورة؛ كما قاله أبو الطيب، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سرق [السارق] فاقطعوا يمينه"، وروي أن الخلفاء الأربعة قطعوا يمين السارق. والمعنى فيه: أن البطش بها أقوى؛ فكانت البدأة بها أوزع وأولى، وقد ادعى القاضي أبو الطيب أن المسلمين أجمعوا عليه. واختصاص القطع بالمفصل وجهه ما روى الدراقطني عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقطع السارق الذي سرق رداء صفوان من المفصل. وذكر أبو أحمد من [حديث] ليث عن مجاهد، عن عبد الله ابن عمر قال: قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم سارقا [سرق] من المفصل. وادعى الماوردي أنه فعل مجمع عليه. والمعنى فيه: أن البطش بالكف، وما زاد من الذراع تابع؛ ولهذا يجب في الكف دية اليد، وفيما زاد حكومة. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون له يسرى أو لا يكون، ولا يضاف إلى القطع التعزيز، وعن الفوراني: أنه يعزر مع القطع. وقال مجلي: إن أراد [بتعزيزه تعليق] يده المقطوعة [في عنقه] فحسن، وإن أراد غيره فهو منفرد به، ولم أره لغيره. قال: فإن عاد قطعت رجله اليسرى، أي: من المفصل بعد اندمال اليد، سواء سرق ثانيا ما سرقه أولا أو غيره. ووجه قطع الرجل بعد اليد: الخبر الذي رواه الشافعي – رضي الله عنه -

وقد روي أن [نجده] المروزي كتب إلى عبد الله بن عمر يسأله: هل قطع رسول الله ? بعد يد السارق يده أو رجله؟ فقال ابن عمر: قطع رجله بعد اليد. ولأنه فعل أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – ولا مخالف لهما من الصحابة. ووجه كونها اليسرى: اتفاق من صار إلى قطع الرجل بعد اليد على [أنها اليسرى]؛ كما قاله القاضي أبو الطيب، ولأن في الحرابة تقطع الرجل اليسرى بعد اليد اليمنى، فوجب أن تقطع في السرقة كذلك؛ لأن السرقة مرتين كقطع الطريق مرة؛ لكونها مجاهرة. والمعنى في ذلك خشية استيفاء [منفعة] أحد الجانبين الذي يضعف معه عن الحركة؛ فيكون في معنى ضم عقوبة على عقوبة؛ ولهذا المعنى قطعت الرجل اليسرى دون اليد اليسرى؛ لأنه لو قطعت اليد اليسرى بعد اليمنى لاستوعبت منفعة الجنس، وذلك في معنى زيادة عقوبة. وإنما قطع من مفصل القدم؛ لأن عمر – رضي الله عنه – كان يقطع القدم من مفصلها؛ كما رواه أبو بكر بن المنذر، ولأن البطش بالقدم، وفيه تجب دية الرجل؛ فوجب قطعه كاليد. وعن أبي ثور، أن الواجب قطعها من معقد الشراك. واعتبار اندمال القطع الأول خشية إفضاء التوالي إلى زهوق الروح، وليس هو المقصود، ويخالف الموالاة بينهما في الحرابة؛ لأن قطعهما ثم حد واحد؛ فلا يفرق. قال: فإن عاد قطعت يده اليسرى، فإن عاد قطعت رجله اليمنى؛ للخبر السابق، والاستيعاب هاهنا للضرورة، وقد روي أن "أقطع اليد والرجل نزل من اليمن على أبي بكر – رضي الله عنه – يشتكي إليه عامله أنه قطع يده ورجله

ظلما، فأنزله وكتب إلى عامله في أمره، وكان ينفق عليه، فافتقد عقدا لعائشة – رضي الله عنها – وكان ذلك الأقطع يدعو على سارقه، وكان يقول: اللهم عليك بمن فعل هذا بأهل [هذا] البيت، فوجد عند صائغ، فقال: دفعه إلى ذلك الأقطع، فاعترف؛ فقطع يده اليسرى". كذا نقله القاضي الحسين. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أن المسروق كان لأسماء بنت عميس زوجة أبي بكر، رضي الله عنهما. قال: وإذا قطع حسم بالنار، وهكذا لفظ البندنيجي والقاضي الحسين في "التعليق"، وحكاه القاضي أبو الطيب عن النص، ووجهه ما روي عبد الرزاق عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلا، قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل سرق شملة، فقال: اقطعوا يده، ثم احسموها". وعن معمر عن [ابن] المنكدر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع رجلا، ثم أمر به فحسم، وقال: "تب إلى الله تعالى"، فقال: أتوب إلى الله – تعالى – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن السارق إذا قطعت يده وقعت [في النار]، فإن عاد تبعها، وإن تاب استشلاها"، قال عبد الرزاق: يقول: استرجعها. ولأن في حسمها صيانة عن التلف؛ فإنه لو ترك لنزف الدم وهلك به. والمراد بالحسم: كي موضع القطع؛ لينقطع الدم، فإن الحسم: القطع، وصفته – كما قاله البندنيجي والقاضي أبو الطيب والحسين وغيرهم من العراقيين -: أن يغلي الزيت أو ما يقوم مقامه، ويغمس محل القطع فيه. وفي "الحاوي": إن كان السارق بدويا حسم بالنار؛ لأنه عادتهم، وإن كان

حضريا حسم بالزيت المغلي. وفي "الجيلي" نسبة هذا النقل إلى "الكافي"، وهو غلط من الناسخ؛ بل هو كما ذكرت؛ لأن المذكور في "الكافي" الأول. ثم الحسم من تمام الحد حتى يؤاخذ به بغير رضاه، أو هو لأجل نفسه؛ كالمداواة حتى لا يفعل بدون إذنه؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي والقاضي الحسين والإمام، وأصحهما في "الرافعي": الثاني. [ومن أثرهما]: أن ثمن الزيت ومؤنة الحسم على من تكون؟ فعلى الصحيح تكون على السارق، وعلى مقابله تكون كمونة الجلاد؛ كما قاله الإمام والرافعي. والمذكور في "الشامل" و"تعليق" البندنيجي وأبي الطيب و"المهذب" و"الكافي": أن ثمن الزيت يكون من بيت المال، فإن لم يفعل الإمام فلا شيء عليه،] ويستحب للمقطوع أن يفعله، فإن لم يفعله فلا شيء عليه [. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إنما يحسم من [مال] بيت المال، فلو لم يكن فيه مال فمن ماله، فإن لم يعط المال تركه ولم يجبر عليه. وأجره القطع، قال في "المهذب" والبندنيجي وأبي الطيب و"الحاوي" هاهنا: إنها تكون في بيت المال. وقد استقصيت الكلام فيها من باب العفو والقصاص، وحكوا هاهنا أن السارق لو قال: أنا أتولى قطع يدي بنفسي، ففي تمكينه [منه] وجهان: أحدهما: لا؛ كما لا [يتولى ذلك في القصاص]. والثاني: بلى، وهو المختار في "المرشد"؛ لأن قطع السرقة موضوع للزجر، وهو حاصل إذا تولاه بنفسه، وقطع القصاص [موضوع للتشفي، والولي أحق به، وهذا يدل على أن القصاص] مجزوم فيه بعدم تمكينه من الاستيفاء، وقد حكيت فيه خلافا. فائدة ذكرها الأصحاب: وهي أن السارق إذا أريد قطع يده أجلس؛ لأنه أمكن.

وقد نص عليه في "الأم"، ثم يضبط؛ كي لا يضطرب فيتعدى القطع إلى موضع آخر، ثم تخلع كفة حتى يبين المفصل، وذلك بأن يربط فيه حبل ويجر جرا عنيفا حتى تنخلع، ثم يقطع بحديدة ماضية دفعة واحدة. قال الماوردي: ولا يضرب السكين بحجر. وفي "تعليق" البندنيجي: أنه توضع يده على لوح أو غيره، ويوضع السكين على المفصل، ويدق من فوقه بشيء ثقيل دفعة واحدة، أو يمر السكين عليها مرة واحدة. قال الأصحاب: ويستحب أن تعلق في عنقه؛ للتنكيل والتغليظ. وقد روى أبو داود عن فضالة بن عبيد قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه، وأخرجه النسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب. وفي "النهاية": أن من الأصحاب من رأى تفويض الأمر [في ذلك] إلى رأي الإمام، ومنهم من لم ير التعليق، ولم يصحح الخبر فيه. قلت: لأن في إسناده حجاج بن أرطاة، وقال [النسائي و] غير واحد من الأئمة: إنه ضعيف لا يحتج بحديثه. وعلى الأول فمدة التعليق ساعة؛ كذا قال الشيخ في "المهذب" والقاضي أبو الطيب والبندنيجي، وحكاه القاضي الحسين عن النص، وحكي الإمام أنها تعلق في رقبته ثلاثة أيام، ولا يقطع السارق في حر [شديد]، ولا برد شديد،

ولا في مرض يرجى برؤه، وهل يقطع في المرض الذي لا يرجى برؤه؟ فيه وجهان في "الحاوي" و"تعليق" القاضي الحسين في كتاب حد الزنى، وفي "زوائد" العمراني، والمذهب منهما في "الرافعي"، وهو المذكور في "التهذيب": أنه يقطع، وإلا ففيه إهمال للحد، وبالقياس على القصاص. وحكي القاضي الحسين في هذا الباب مقابله [عن النص] حيث قال: [قال] الشافعي – رضي الله عنه -: ولا تقطع يد السارقة إذا كان بها حبل أو كانت مريضة، والسارق إذا كان مريضا دنفا. ولأجل هذا قال مجلي: المذهب: أنه لا يقطع. وهو الذي قال القاضي الحسين في كتاب [حد] الزنى إنه الأظهر. وقاسه الماوردي على حد الجلد [في الزنى والقذف. وكما لا تقطع الحامل في حال الحبل لا تقطع] في زمن النفاس؛ لأنها في هاتين الحالتين ضعيفة، فإذا انضم إلى ضعفها ألم القطع خشي عليها التلف، قاله أبو الطيب وغيره. قال: فإن عاد بعد قطع اليدين والرجلين وسرق عزر؛ لأن قطع ذلك ثبت بالكتاب والسنة، ولم يذكر بعده شيئا آخر، فلو كان لذكر، والسرقة معصية؛ فتعين فيها التعزيز. قال في "الكافي": ويحبس حتى يموت. وفي "الجيلي": حتى تظهر توبته. وفي "تعليق" القاضي الحسين و"النهاية": أنه [قد] حكي قول قديم: أنه يقتل، وقد يحتج له بما روى أبو داود عن جابر بن عبد الله أنه قال: جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، [فقال: "اقتلوه"]، فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق. فقال: "اقطعوه"، [قال: فقطع]، ثم جيء به الثانية، فقال: "اقتلوه"، فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق، فقال: "اقطعوه" [قال: فقطع، ثم جيء به الثالثة فقال: "اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق، فقال: "اقطعوه"]، ثم أتي به الرابعة،

فقال: "اقتلوه"، فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق، فقال: ["اقطعوه"، فأتي به الخامسة، فقال:] " اقتلوه. قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فألقيناه في بئر، ورمينا عليه الحجارة. وأخرجه النسائي. والصحيح الأول؛ لأن هذا الحديث قال النسائي: إنه منكر، وفيه مصعب بن ثابت، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة. وروى الزهري أن القتل منسوخ؛ لأنه رفع إليه في الخامسة، فلم يقتله، وكذلك قال الشافعي – رضي الله عنه -: إنه منسوخ، وإن هذا مما لا اختلاف فيه عند أحد من أهل العلم، ولأن كل معصية أوجبت حدا لم يكن تكرارها موجبا للقتل؛ كالزنى والقذف. قال: ومن سرق ولا يمين له أو كانت وهي شلاء، أي: وقال أهل الخبرة: إنها إذا قطعت [لم] تنسد عروقها – قطعت رجله [اليسرى]؛ قياسا على المرة الثانية، أما إذا قال أهل الخبرة: إن عروقها تنسد قطعت. قاله في "المهذب" والماوردي وغيرهما. قال الإمام: وفيه احتمال؛ لأنه لا منفعة فيها؛ فأشبهت الكف الباقية [بلا أصابع] على ما سنذكره. [ثم] قال: والظاهر الأول؛ فإن [من] قطعت يده السليمة وكانت يد القطاع شلاء، فاكتفى بها مستحق القصاص – وقعت موفع الإجزاء، فإذا لم يبعد اكتفاء [مستحق القصاص بالشلاء لم يبعد اكتفاء الشرع بها في السرقة]. قال: وإن كانت له يمين بلا أصابع قطع الكف؛ لأنه بقي ما يمكن قطعه في السرقة، فلم يعدل إلى ما بعده كما لو بقي على الكف أنملة. وهذا ما اختاره

الشيخ أبو حامد وجماعة، ومنهم صاحب "المرشد"، وقد رواه الحارث بن سريج النقال عن الشافعي – رضي الله عنه – وبه جزم ابن الصباغ في باب قاطع الطريق. وقيل: تقطع رجله اليسرى؛ لأن المنفعة المقصودة قد ذهبت من اليد؛ ولهذا لا تضمن بالأرش المقدر، فصار كما لو يبق فيها شيء، وهذا ما ادعى القاضي الحسين أنه المذهب، وحكاه القاضي أبو حامد – أيضا – عن النص، واختاره وحكي عنه أنه حكى [مثله وجها فيما] إذا كانت يمناه مقطوعة الإبهام. ويجري الخلاف المذكور في الكتاب فيما إذا كان بعض الكف قد ذهب، ومحل القطع باقيا، كما حكاه البندنيجي وغيره. فرع: اليد المشتملة على أصبع زائدة تقطع، وكذا الكفان على معصم واحد يقطعان إذا لم يتميز الأصلي منهما من الزائد، بخلاف ما إذا تميز؛ فإنه يقطع الأصلي خاصة، ويخالف هذا القصاص؛ لأنه مأخوذ من المساواة، فمنع [من] الزيادة، والقطع في السرقة القصد منه التنكيل والزجر دون المساواة، وهذا ما أورده الإمام والقاضي الحسين. قال الرافعي: ويوافقه [في] مسألة الكفين [ما] في "فتاوى" القفال: أن الكفين الباطشتين تقطعان جميعا؛ لأنهما معا [في حكم يد واحدة؛ ألا ترى أنه لا يفرد كل واحد [منهما] بدية، لكن في "التهذيب": أنه يقطع] أحدهما، فإن سرق ثانيا يقطع الآخر، ولا يقطعان بسرقة واحدة، بخلاف [الأصبع الزائدة]؛ لأنها لا يقع عليها اسم اليد، وحكي وجه آخر: أن [الأصبع الزائدة] تمنع

القطع؛ كما في القصاص، وعلى هذا يكون كمن لا يمين له. قال: ومن سرق وله يمين فلم تقطع حتى ذهبت، [أي]: بآفة سماوية أو في قصاص أو غيره، سقط القطع؛ لأنها لما سرق عند وجودها صارت مستحقة القطع، فلما زالت فات المستحق ولم يرجع إلى غيره؛ كما لو جنى عبد فتعلق الأرش برقبته ثم مات. قال الماوردي: وإذا كان ذهابها بجناية تستحق بها قودا ودية كان للسارق أن يقتص بها من الجاني، ويأخذ ديتها، وهو أحق بالدية، ولا تؤخذ منه الدية بدلا عن قطعها في السرقة؛ لأن المستحق في السرقة: القطع دون الدية، وقد فات. فإن قلت: قد حكيتم عن البغوي وغيره أن آحاد الرعية إذا قطع اليد في السرقة لم يجب عليه إلا التعزيز، فكيف ينتظم القول بذلك مع إيجاب القصاص أو الدية عليه؟ قلت: يجوز أن يجعل اختلاف النقلين وجهين في المسألة، وتكون مادتمها ما أشار إليه الرافعي من تخريج ذلك على قتل الزاني المحصن، ويجوز أن يجمع بين النقلين من غير خلاف: بأن يحمل ما قاله الماوردي على ما إذا لم يقصد القاطع استيفاء الحد، بل قصد الجناية، وما قاله غيره على ما إذا [لم] يقصد الجناية. ويرشد إليه ما سنذكره عن الماوردي فيما إذا قتل قاطع الطريق مرتدا، ويستأنس لذلك بأن الإمام إذا قتل عبدا اشتراه مرتدا في يد البائع قبل القبض بأن قصد قتله عن الردة وقع عنها، وانفسخ البيع، وإن لم يقصد ذلك جعل قابضا للمبيع، واستقر عليه الثمن؛ كما حكاه الرافعي قبيل باب الديات عن "فتاوى" صاحب "التهذيب"، لكن مساق هذا أن يقال: إذا قتل شخص زانيا محصنا وهو يجهل حاله، ثم ثبت بعد ذلك زناه بالبينة – أن يقتل به، وقد صرح الأصحاب بأن لا ضمان على الصحيح، عند الكلام فيما إذا شهد ستة بالزنى، ثم رجع اثنان.

ولو قيل: يحمل ما أطلقه الماوردي هنا على ما إذا كان القاطع [ذميا والسارق مسلما، ويحمل ما قاله البغوي وغيره على ما إذا كان القاطع] مسلما – لم يبعد، كما قلنا بمثل ذلك في قتل الزاني المحصن، والله أعلم. وحكم اليد إذا شلت وتعذر قطعها بعد الوجوب، حكم سقوطها، قاله القاضي الحسين، وقد حكي الإمام عن بعض التصانيف – وعنى "الإبانة" – وجها: أنه ينتقل إلى الرجل اليسرى عند سقوط اليمين بعد السرقة، وقال: إنه غلط. واتبعه الغزالي في ذلك، ولم يحك في "الإبانة" سواه. فرع: لو وجب قطع اليمين، فلم تقطع حتى سقطت اليسرى بأكلة – لم يسقط قطع اليمين، وعن أبي إسحاق: أنه يسقط [قطع اليمين] في أحد القولين؛ كما لو قطع الجلاد يساره غلطا. قال الأصحاب: وهو غلط؛ لأنه خلاف النص، وليس كتيك؛ لأن الجلاد ثم قطع اليسار لأجل السرقة، وإذا ذهبت بمرض لم يأخذ بدلا. قال: وإن وجب قطع اليمين، فقطع اليسار [عمدا]- قطعت يمينه، أي: حدا؛ لأنها التي وجب قطعها [وهي باقية]؛ فلم يجز غيرها كما في القصاص. قال: وأقيد من القاطع من يساره؛ [لأنه قطع يساره] عمدا بلا شبهة. قال: وإن قطع سهوا [، أي:] بأن قال: ظننت أنها اليمين، أو أن اليسار تجزئ عن اليمين. قال: غرم الدية، أي: بعد حلفه على ما ادعاه إن كذبه السارق؛ لأن ما يقوله محتمل، فكان شبهة في درء القصاص، ووجبت الدية؛ لقطعه عضوا معصوما. قال: وفي يمين السارق قولان: أحدهما: تقطع؛ لما ذكرناه. والثاني: لا تقطع؛ لأنها لو قطعت لأدى [إلى قطع] يديه لأجل سرقة

واحدة، ولأن اليسار تقوم مقام اليمين عند عدمها وعدم الرجل؛ فكذلك هاهنا، وهذه طريقة الشيخ أبي حامد التي أوردها البندنيجي. قال ابن الصباغ: إنها لا تستمر إلا أن يكون قطع الإمام صدر من غير بدل من جهة السارق، فإن بدلها يسقط القصاص كما ذكرنا من قبل. وهذا ما أورده الرافعي، وكلام الشيخ لا يأباه. وكلام القاضي الحسين يقتضي إثبات قولي السقوط وعدمه في الحالين؛ لأنه قال: نص الشافعي – رضي الله عنه – في "الأم": على أن الجلاد إذا قال [له:] أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها – [على] سقوط قطع السرقة. وحكي الحارث بن سريج البقال أو النقال – كما قال الإمام -: أنه إن علم الجلاد أنها اليسار، وتعمد قطعها فعليه القصاص، وقطع السرقة باق بحاله، [وإن قال: دهشت، فعليه الدية، وقطع السرقة باق بحاله]؛ فحصل قولان: أحدهما: لا يسقط قطع السرقة؛ كما في القصاص. والثاني: يسقط كما نص عليه في "الأم"، والفرق: أن المقصود من القود التساوي، واليسار لا تكافئ اليمين، والقصد في السرقة الزجر والتنكيل، وقد حصل. وتبعه الإمام في أول الكلام، ثم قال: ولعل ما ذكرناه إذا ظن السارق أنها اليمين لدهشة أصابته، أو ظن أن اليسار تجزئ عن اليمين، [فأخذها]، وحينئذ فيكون [كلامه] منطبقا على ما حكاه ابن الصباغ عن القاضي أبي الطيب؛ فإنه حكي عنه في هذه الصورة وجهين في الإجزاء، ورأيتهما في "التعليق" له، وقال: [إن] الثاني هو المنصوص. وتبعه في ذلك المصنف، وصحح القاضي الثاني، وكذلك صاحب "الكافي" و"المرشد" و"الرافعي"، ثم قال الرافعي: إنا على مقابله ننظر: فإن كان القاطع عالما بالحال وتعمد القطع وجب

عليه القصاص، وإلا فالدية، وهو كذلك في "المهذب"، وقد أحال الإمام [في آخر الأمر] الكلام في هذه المسألة على نظيرها في القصاص؛ فليطلب منه [ثم]، والله أعلم. * * *

باب حد قاطع الطريق

باب حد قاطع الطريق قاطع الطريق سمي بهذا الاسم؛ لأنه يمنع الناس المرور للخوف منه، وجمعه: قطاع [وقطع]؛ كغائب وغيب، وحائض وحيض. والأصل في إثبات هذا الحد قوله - تعالى -: {انما جزؤا الذين يحاربون الله ورسوله} الآية [المائده: 33]؛ فإنها نزلت - كما قال ابن عباس، وعامة الفقهاء - في قطاع الطريق من المسلمين، على ما حكاه ابن الصباغ وصاحب "الكافي". وقد قيل: إنها نزلت في المرتدين من العرنيين حين ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الرعاه، واستاقوا إبل المسلمين، فأنفذ صلى الله عليه وسلم من جاء بهم، وقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم -[وقيل: سمر أعينهم -] وألقاهم بالحرة حتى ماتوا، وهذا قول أنس بن مالك. قال القاضي الحسين: ونزلت ناسخة للمثلة. والسمل: أن تفقأ العين بشوكة أو حديدة، والسمر: كحلها بمسامير محماة. قال القاضي أبو الطيب: وفعله [النبي] صلى الله عليه وسلم بهم؛ لأنهم كانوا قد فعلوه بالرعاة؛ كما [حكاه أبو بكر] بن المنذر. وقيل: إنه كان مشروعًا في قطاع الطريق، ثم نسخ بالنهي عن المثلة. وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم فعله باجتهاده ثم نهي عنه. وقيل: [إنه] أراد ذلك ولم يفعله، وهذا قول السدي [كما] حكاه أبو الطيب.

وقيل: إنها نزلت في قوم من أهل العهد نقضوا العهد وأخافوا السبيل، وتعلق هذا القائل بأن محاربة الله ورسوله إنما تكون من الكفار. قال الماوردي: وهذا قول ابن عباس. وقد روى أبو داود عنه أنه قال: إنها نزلت في المشركين. لكن في رجاله الحسين بن واقد، وفيه مقال. وطريق الجمع بين ما نقله ابن الصباغ عنه [و [بين ما نقله] الماوردي – أن: عنه] في ذلك روايتين؛ كما حكاهما القاضي الحسين، وقال: إن الأصح: الأولى، ودليلنا عليها قوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [المائدة: 34]، ولو كان المراد الكفار لكانت التوبة تسقط عنهم القتل قبل القدرة وبعدها، والمحاربة قد تكون من المسلمين، قال الله تعالى في حق المربين: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [البقرة: 279]، وسماهم: محاربين؛ لتفاحش جنايتهم وعظم جرمهم. قال صلى الله عليه وسلم: "من آذى لي وليا [من أوليائي] فقد بارزني بالمحاربة"؛ كذا ذكره القاضي الحسين. قال: من شهر السلاح وأخاف السبيل، أي: من رجل أو امرأة في مصر أو غيره، وجب على الإمام طلبه، [أي:] سواء أخذ شيئا وقتل، أو لا؛ لأنه إذا ترك قويت شوكته، وكثر الفساد به في قتل النفوس وأخذ الأموال.

والسبيل: الطريق، والمصر: البلد الكبير، وجمعه: أمصار. والمراد بغير المصر: القرى والبوادي، وإخافة السبيل إنما تحصل كما قال الأصحاب بأن يكون للقطاع شوكة يقدموا معها على المجاهرة بالقتال للقتل وأخذ المال، وأكثر ما يقع ذلك في البوادي والمواضع البعيدة عن العمران، فيرتصدون في المكامن الدقاق، فإذا وافوهم برزوا قاصدين الأموال غير مبالين بالأنفس، وقد يتفق ذلك في البلاد لضعف السلطان، أو بعده بحيث لا يلحق من فيها غوثه لو استغاث، ومن صورة: إذا خرج أهل [أحد] طرفي البلد على أهل الطرف الآخر؛ بحيث لا يلحقهم غوث لو استغاثوا، فلو كان يلحقهم فالخارجون منتبهون لا قطاع، قاله الرافعي، وهذا الحكم إذا كانوا بين قريتين يمكن لحوق الغوث من إحداهما؛ كما قاله القاضي الحسين. وفي "الحاوي": أنه [إن] اتفق شهر السلاح في وسط المدن الكبار الذين لا يقاومون جميع أهلها، وأخذ بسبب ذلك المال، ففي جريان الحكم عليهم وجهان: أحدهما – وهو قول أكثر أصحابنا -: أنهم قطاع؛ لأنهم تغلبوا بالسلاح [جهارا] فألحق ذلك بالصحراء؛ لأن حد المحاربة: أن لا يقدر على دفع المحارب، وهو موجود. والثاني – وهو [الأقيس، واختيار] الشيخ أبي حامد -: أنه لا يجري عليهم حكم الحرابة؛ لوجود الغوث فيه؛ فسقط حكم نادره، وهذا ما أورده القاضي الحسين. ويقرب من هذه الصورة: ما لو دخل جماعة دارا بالليل بالمشاعل شاهرين [السلاح] مكاثرين، ومنعوا أصحابها من الاستغاثة في قوة السلطان وحضوره فيهم، فأظهر الوجهين: أنهم قطاع، وبه قال القفال، وهو المذكور في "التهذيب"؛ لأن المنع [من] الاستغاثة كالبعد عن محل الغوث [في التعلق] واعتماد

القوة، ومقابله: أنهم سراق؛ لأنهم يبادرون خوفا من الشعور بهم، ثم إنهم يعتمدون البوادي [خوفا]؛ لأن [الطلب] يلحقهم. قال الغزالي: ولا يبعد جعلهم مختلسين؛ لمجاهرتهم بفعلهم. قال الرافعي: وهذا ما يشعر به كلام الروياني وغيره، وقد صرح به البندنيجي فيما إذا كان دخولهم بالنهار، ومنعوا المدخول عليهم من الاستغاثة، وكانوا لو استغاثوا للحقهم الغوث. ويقوم مقام الشوكة عند القاضي الحسين والأصحاب – كما حكاه الإمام عنهم – فضل القوة إذا خرج [واحد أو] شرذمة قليلة، وفيهم قوة على جماعة لم يكثر عددهم كانوا قطاعا، [وقد] حكاه البندنيجي فيما إذا خرج الواحد، وقهر أهل قرية واستولى عليها. ويقرب منه – [كما] قال الرافعي – ما أورده ابن كج: أنه إذا أقام خمسة أو عشرة في كهف أو على ساحل جبل، فإن قرب منهم قوم لهم شوكة لم يتعرضوا لهم، وإن مر [بهم] قوم قليلو العدد قصدوهم بالقتل وأخذ المال؛ فحكمهم حكم قطاع الطريق في حق الطائفة اليسيرة، وإن تعرضوا للأقوياء واستلبوا شيئا فهم مختلسون. وعن المسعودي: أنه لو اجتمع جماعة قليلون في المواضع المنقطعة، فأخذوا المال وقتلوا، أو خرج واحد أو اثنان آخر القافلة، [واستلبوا] شيئا، أو اعترضوهم بغير سلاح – لم يكن حكمهم حكم القطاع. ورأى الإمام: أن يفصل القول في الرفقة اليسيرة والواحد والاثنين، فقال: إن كان خروجهم في مثل ذلك الطريق] يعد [تضييعا وتغريرا بالنفس والمال، فالمتعرضون لهم لا يجعلون قطاعا، وينزل خروجهم – والحالة هذه – كترك

المال في موضع لا يعد حرزا في باب السرقة. وأقام ما رآه وجها. قلت: وما قاله الإمام هو الذي اقتضاه كلام الأصحاب، وإن لم يصرحوا به؛ لأنهم قالوا: لا بد في [قطع] قاطع الطريق من أن يأخذ المال من حرز على الأصح، وبه جزم أكثرهم، وقالوا: اللحاظ حرز في الصحراء في باب السرقة إذا [كان الملاحظ] يقدر على المنع لو اطلع على السارق، فلو كان ضعيفا، والموضع بعيد عن الغوث – فهو ضائع من المال. ولو كانت الرفقة عددا يتأتى منهم دفع القاصدين ومقاومتهم فاستسلموا حتى قتلوا وأخذت أموالهم – فالقاصدون ليسوا بقطاع؛ لأن ما فعلوه لم يصدر عن شوكتهم وقوتهم، بل الرفقة ضيعوا. قال الرافعي: ويجوز أن يقال: ليست الشوكة بمجرد العدد [والعدد]، بل يحتاج مع ذلك إلى اتفاق كلمة وواحد مطاع، وعزيمة على القتال واستعمال السلاح، والقاصدون للرفاق هكذا يكونون في الغالب، والرفقة في الغالب لا يجتمع لهم كلمة، ولا يضبطهم مطاع، ولا يكون لهم عزيمة على القتال، وخلوهم عن هذه الأمور ينجر بهم إلى التخاذل، لا قصدا منهم؛ فما ينبغي أن يجعلوا مضيعين، ولا أن يخرج القاصدون لهم عن كونهم قطاعا. ويستوي في السلاح: الدبوس والسيف والقوس والعصا، قال البندنيجي: وكذا الحجارة. وحكي القاضي الحسين والإمام: أن القاطع إذا كان له فضل قوة كفى اللكم واللطم باليد. واعلم أن الشيخ أراد بذكر المصر التنبيه على مذهب الخصم، وهو [الإمام] مالك – رضي الله عنه – فإنه لا يرى الخارجين [فيه، ولا يقر به ما لم ينتهوا لى ثلاث مراحل قطاعا، وأبو حنيفة – أيضا – لا يرى الخارجين في] المصر قطاعا، والشافعي – رضي الله عنه – يقول: أراهم في المصر إن لم يكونوا أعظم

ذنبا فجنايتهم واحدة. وأراد أن جناياتهم في المصر أشنع؛ فلا أقل [من أن] تكون مساوية لما في الصحراء. قال: فإن وقع قبل أن يأخذ المال ويقتل عزر؛ لأنه تعرض للدخول في معصية عظيمة فعزر، كما لو تعرض للزنى بالقبلة والملامسة، والسرقة بالنقب. ولا فرق في ذلك بين أن يأخذ أحد من رفقته نصابا ويقتل أو لا، وإن كان ردءا له – كما ذكرنا في السرقة – أنه لا يقطع من لم يأخذ، وإن أخذ رفيقه كان هو رداء له؛ لأنه حد وجب بارتكاب معصية؛ فلا يجب على المعين [دون المباشر] كحد الزنى والقذف، وجنس هذا التعزيز وقدره موكول إلى رأي الإمام عند الجمهور كغيره من التعزيرات. قال ابن الصباغ حكاية عن ابن سريج: وإذا أراد حبسه فالأولى أن يكون في غير بلده؛ ليكون أزجر له وأوحش عليه، وانتهاؤه غير مقدر أيضا، بل يحبس مدة يحصل بها الردع والزجر. وفي "الحاوي": أنه هل يتعين الحبس في هذا التعزير؟ فيه وجهان. فإن قلنا: لا يتعين، جاز للإمام تركه إذا رأى المصلحة فيه. وإن قلنا: يتعين، فلا يجوز تركه [إلا أن تظهر توبته؛ لأنه واجب بسبب قطع الطريق؛ فلم يجز تركه] كالقطع. ثم في أي موضع يحبس؟ فيه وجهان: أحدهما: في بلده. والثاني – وهو قول ابن سريج -: في غير بلده؛ لأن النفي في الحرابة منصوص عليه، وهو زيادة في حد الزنى؛ لما فيه من ذل الغربة والبعد عن الأهل والوطن، وهل تتقدر مدته؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، ويعتبر فيه الإنابة وظهور التوبة. والثاني: تتقدر؛ لأنه قد أقيم في الحرابة مقام الحد، وعلى هذا ففي قدر المدة وجهان:

أحدهما – وهو قول أبي عبد الله الزبيري -: أنه مقدر بستة أشهر؛ كي لا يزيد على تغريب الزنى في حق العبد. والثاني – وهو الظاهر من قول ابن سريج -: أنه مقدر بسنة. وحكي في "الذخائر" وجها: أنه يعزر] بضرب ثمانين. وسيظهر لك مما سنذكره في باب التعزير أنه يعزر [بما دون المائة، وإن زاد على ثمانين، وطريقة الإمام حكاية وجهين في جنس التعزير: وأصحهما: ما حكيناه عن الجمهور. والثاني: أنه يغربه وينفيه إلى حيث يراه، وليختر جهة يحتف بهم فيها أهل النجدة والناس؛ حتى لا يتأتى منهم الترصد للناس والعود إلى ما كانوا عليه، وإذا عين صوبا منعه من أن يعدل عنه ويسير حيث شاء. وعلى هذا، فهل يعزره في البلد المنفي إليها بضرب وحبس وغيرهما، [أم يكتفي] [بالنفي؟] فيه وجهان. قال: وإن أخذ نصابا لا شبهة له فيه، وهو ممن يقطع في السرقة قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى. قد تقدم الدليل على أن قوله تعالى: {إنما جزاؤ الذين يحاربون الله ورسوله} [المائدة: 33] نزلت في قطاع الطريق، وهي وإن اقتضى ظاهرها التخيير، فالمراد بها عندنا: الترتيب، كما سنذكره، ووجهه ما روى الشافعي – رضي الله عنه – عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال في قطاع الطريق: إذا قتلوا [ولم يأخذوا المال، قتلوا، وإن أخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا أخذوا] المال ولم يقتلوا – قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، ونفيهم إذا هربوا: أن يطلبوا حتى يؤخذوا فيقام عليهم الحد. وقد روي مثل ذلك عن قتادة وأبي مخلد. قال الأصحاب: وقول ابن عباس [إما أن يكون توقيفا أو لغة، وأيما كان وجب المصير إليه.

وقد روى أبو داود في "سننه" – كما قال الماوردي – عن ابن عباس أنه قال]: وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بردة الأسلمي، فجاء ناس يريدون الإسلام، فقطع عليهم أصحابه، فنزل جبريل بالحد فيهم: أن من قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف. قال: وهذا بمنزلة المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما نزل به جبريل – عليه السلام – لا يعلم إلا منه صلى الله عليه وسلم. ومن جهة المعنى: أنه ساوى السارق في أخذ النصاب على وجه لا يمكن الاحتراز منه، فساواه في قطع اليد اليمنى، وزاد عليه بإخافة السبيل شهر السلاح، فغلظ [عليه] بقطع الرجل، وقد روي ما يدل على هذا المعنى، روي ابن لهيعة عن يزيد بن [أبي] حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه [أنس] يخبره أن هذه الآية نزلت في العرنيين، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القصاص [فيمن حارب]، فقال: "من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده لسرقته، ورجله لإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه"، ولا تنافي بين ذلك وبين الآية؛ لأن كلمة "أو" قد وردت في الكتاب العزيز للترتيب، قال الله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} [الصافات: 147] [معناه: ويزيدون]. والمحوج إلى ذلك – مع ما ذكرناه -: أن اختلاف العقوبات يوجب اختلاف أسبابها في الغلظ والخفة، والتخيير مفض إلى أن يعاقب من قل جرمه بأغلظ العقوبات، ومن كثر جرمه بأخفها، وهو ضد ما ذكرناه، والترتيب يمنع من هذا التناقض، ويستأنس له بأن الله – تعالى – بدأ بالأغلظ؛ فوجب أن يكون على الترتيب؛ لأنه عرف القرآن، دليله كفارة القتل والظهار، ولو كان المراد التخيير لبدأ

فيها بالأخف مثل كفارة اليمين، والله أعلم. ثم لا فرق [فيما ذكرناه] بين أن يكون النصاب [المأخوذ] لواحد أو لجماعة الرفقة إذا كان في حرز واحد، كما لا فرق بين أن يكون لواحد [أو جماعة] في السرقة. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمورا: أحدها: عدم اعتبار الحرز حيث اعتبر النصاب، وانتفاء الشبهة [في] الآخذ، وكونه ممن يقطع في السرقة، وسكت عن ذكر الحرز، وهو وجه حكاه الماوردي عند انفراد الآخذ عن القتل، ووجهه بأن الإحراز لا يؤثر مع القاهر الغالب، ووجهه القاضي الحسين بأنه في قطع الطريق تفاحشت جنايته فغلظ عليه. والمشهور – وبه جزم البندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ والمصنف في "المهذب"-: اعتباره حتى لو أخذ مال من انفرد عن القافلة، أو أخذ من الجمال المقطرة، وقد ترك صاحبها تعهدها، ونحو ذلك – لا قطع عليه؛ لأنه قطع يتعلق بأخذ المال، فشرط فيه الحرز كقطع السرقة. الثاني: أن الآخذ إذا كان له في المال شبهة لا يقطع. وفي "تعليق" القاضي الحسين أن الابن إذا أخذ مال أبيه هل تقطع يده ورجله؟ فعلى قولين: أحدهما: يرعى [فيه معنى السرقة فلا يقطع، والآخر يقطع؛ لأنه محض حق الله تعالى، وهذا] الخلاف له التفات على ما إذا قتل من لا يقاد به في المحاربة. الثالث: أن الذمي يقطع في المحاربة؛ لأنه يقطع في السرقة، وكذا المعاهد على أحد القولين. وقد صرح الأصحاب بعدم قطعهما، وهو خارج – أيضا – من كلام الشيخ؛ لأن الذمي والمعاهد بالحرابة انتقض عهده وصار من أهل الحرب، والحربي لا يقطع في السرقة، فلا يقطع هاهنا، وحينئذ فيكون المراد بمن يقطع في السرقة المسلم أو المرتد البالغ العاقل المختار، رجلا كان أو امرأة.

فروع: لو كان قاطع الطريق فقيد اليد اليمنى والرجل اليسرى، قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، ولو كان فقيد [اليد] اليمنى [أو الرجل] اليسرى اكتفي بقطع الموجود؛ كما يكتفي بقطع اليد الناقصة في السرقة، وهذا ما حكاه العراقيون. وقال الإمام: إنه لم يره منصوصا [عليه في طرق المراوزة، ولكنه الذي يقتضيه القياس. وفي "الحاوي" نسبته] إلى الشيخ أبي حامد، وحكي وجها آخر – وقال: إنه عنده أشبه – أن يكون الموجود تبعا للمفقود، ويعدل إلى يده اليسرى ورجله اليمنى؛ لأن قطع كل طرف [منهما مقصود في نفسه، وليس أحدهما في أصل الخلقة من الآخر، بخلاف الأصابع التي هي من خلقة] الكف؛ فافترقا. وقال الإمام: قد يخطر للفقيه أنا إذا وجدنا اليد اليمنى ولم نجد الرجل، أنا نعدل إلى اليد اليسرى بدلا عن الرجل اليسرى؛ فإنا لو لم نجد الرجل اليسرى واليد اليمنى لقطعنا اليد اليسرى والرجل اليمنى. وهذا لا تعويل عليه، ولا وجه إلا ما ذكره العراقيون. ولو عاد بعد قطع اليد والرجل يقطع الطريق، قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى. ولو قطع الإمام ذلك ابتداء، قال الماوردي: فقد أساء، ولم يضمن، ووقع ذلك موقع الإجزاء، ويخالف ما لو قطع يده اليمنى ورجله اليمنى؛ فإنه يجب عليه القصاص إن كان عالما، والدية إن كان جاهلا، ولا يجزئ عن قطع الرجل اليسرى؛ لأن الله – تعالى – نص على قطعهما من خلاف؛ فأوجبت مخالفة النص الضمان، وتقديم اليمنى على اليسرى] في الحرابة اجتهاد؛ فسقط] بمخالفته الضمان.

واعلم أن ما قطع [هنا] أولا من اليد أو الرجل لا يتوقف قطع العضو الآخر على برئه ولا على حسمه بالنار؛ لأنه حد واحد. نعم، لو خاف على نفسه من القطع الأول إن لم يحسم قبل القطع الثاني فيحسم الأول ثم يقطع الثاني. والحسم هل هو حق لله تعالى أو للمقطوع؟ فيه الخلاف السابق في السرقة، صرح به الماوردي [والقاضي الحسين]. قال: وإن أخذ دون النصاب [لم يقطع]؛ لأنه قطع يجب بأخذ المال، فاعتبر فيه النصاب كما في السرقة، وهذا ما نص عليه في "المختصر". فعلى هذا يعزر تعزيز من لم يأخذ كما تقدم. وقيل: فيه قول مخرج: أنه يقطع، أي: مما إذا قتل في المحاربة من لا يكافئه، وهذا قول ابن خيران. قال ابن الصباغ وأيده بأن قال: الحرز غير معتبر في هذا القطع؛ فكذلك النصاب. قال الماوردي: ووجدت لابن أبي هريرة كلاما يدل عليه – أيضا – وأنه يقطع في قليله وكثيره، كما كان [الاستخفاء بأخذه غير معتبر في الحرابة، وإن كان] معتبرا في السرقة. قال: وليس بشيء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "القطع في ربع دينار فصاعدا"، ولم يفصل. وأما الحرز فهو معتبر على الصحيح كما ذكرنا، والفرق بين ما نحن فيه والكفارة من وجهين، كما حكاهما مجلي عن الشيخ أبي حامد: أحدهما: أن القطع المستحق في السرقة والمحاربة جميعا لله – تعالى – فلا يختلف المستحق به، كالزنى لما كان حده لله – تعالى – لم يختلف الأمر فيه بين أن يزني بحرة أو أمة، وفي القتل: المستحق في [المحاربة الله تعالى والولي، وفي] غير المحاربة: الولي؛ فجاز أن يختلف المستحق به كما اختلف المستحق.

والثاني: [أن النصاب [هو الأصل في الموضعين في وجوب القطع، فإذا لم يوجد النصاب] سقط القطع، وليس كذلك القود؛ لأن الأصل في وجوبه هو القتل، والذي عدم صفة من صفات المقتول؛ فجاز أن يثبت حكم الأصل، وإن كان الوصف معدوما]. وقد وافق الشيخ على تضعيف قول ابن خيران الجمهور. وقال الماوردي عندي أن النصاب في المال معتبر إن انفراد المحارب بأخذه ولم يقتل، [ولا يعتبر] إذا اقترن بأخذه القتل؛ لأن القطع في الحالة الأولى مقصود، وهو مغلظ بقطع الرجل، فلا يغلظ بإسقاط النصاب، وفي حالة اقتران القتل بالأخذ المال تبع، [ولا تغليظ في] القتل؛ فغلظ بإسقاط النصاب. والنصاب هاهنا: ربع دينار، [أو ما قيمته ربع دينار؛] كما في السرقة، ولا يزاد لأجل قطع الرجل، والقيمة تعتبر في زمان الأخذ ومكانه إن كان موضعا جرت العادة فيه ببيع وشراء، ويوجد فيه من يبيع ويشتري، وإن كان لا يوجد ذلك اعتبرت قيمته [في أقرب] المواضع التي يوجد فيها بيع ذلك وشراؤه، ولا يعتبر قيمة ذلك عند استسلام الناس لأخذ أموالهم بالقهر والغلبة. قال الماوردي: وهذه صفة القيمة في اعتبار النصاب في هدم المستهلك. قال: فإن قتل – أي: عمدا عدوانا – من يكافئه؛ لأجل أخذ المال؛ كما قاله البندتيجي – انحتم قتله، لما ذكرناه من الآية مع قول ابن عباس وغيره، ووجه انحتام القتل بالتغليظ عليه؛ لأن كل جرم أوجب عقوبة في غير المحاربة اقتضى تغليظها في المحاربة؛ كأخذ المال. ومنهم من تمسك بقوله تعالى: {أن يقتلوا} [المائدة: 33]، قال: وظاهره

الإيجاب؛ لأنه أمر مقيد بشرط. وحكم الجرح [في المحاربة] والموت به بعد أيام قبل الظفر والتوبة، حكم القتل صبرا، قاله الإمام، وأبدى احتمالا فيما لو حصل الموت بعد الظفر والتوبة في عدم تحتمه، وقال: لعله الأظهر؛ نظرا [إلى حالة] الجرح، وأنه يلتفت على ما إذا جرح كافر كافرا، ثم أسلم الجارح ومات المجروح؛ [فإن في] وجوب القصاص على الجارح قولين. ومعنى الانحتام: أنه لا يسقط بعفو ولي القصاص ولا بعفو السلطان؛ كما في قتل من لا وارث له، ويستوفيه السلطان دون الولي. وقد قدمت في باب من لا يجب عليه الدية بالجناية، عن الماوردي شيئا في ذلك، وقد وافق الفريقان على ما ذكرناه من الانحتام، لكن اختلفوا في أن هذا القتل لمحض حق الله – تعالى – أو للحقين والمغلب فيه حق الله – تعالى – [أو حق] الآدمي كما ذكرته في باب: من يجب عليه القصاص، مع بعض الفروع المترتبة عليه، وما يرد على الغزالي وإمامه فيه، وبقية الفروع نذكرها هنا، إن شاء الله تعالى. قال الأصحاب حكاية عن النص: وإذا قتل سلم إلى أهله ليغسلوه ويصلوا عليه؛ لأنه مسلم قتل بحق. قال الرافعي: وقد حكينا وجها مطلقا: أنه لا يصلى على قاطع الطريق؛ استهانة له، ولا يبعد أن يجيء في هذه الصورة وكأنه هو. أما إذا كان القتل خطأ؛ بأن قصد شخصا، فأصاب غيره، أو عمد خطأ – فلا يقتل بحال، وحكم الدية حكمها فيما لو صدر ذلك في غير المحاربة، ولو قتل من لا يكافئه مع وجود عصمة المقتول؛ فقد تقدم حكاية قولين فيه، والصحيح: المنع؛ فإنه لو وجب لكان منحتما، وهو تغليظ؛ فلا يغلظ بإيجابه بغير المكافئ حتى لا يجتمع تغليظان.

والخلاف مبني عند المراوزة على أنه يقتل لمحض حق الله – تعالى – حدا، أو يقتل للمجموع والمغلب شائبة حق الآدمي؟ وأجراهما القاضي الحسين وابن أبي هريرة تخريجا فيما لو قتل عبد نفسه. ورأى [الإمام] اختصاص ذلك [فيما إذا كان العبد] مستأجرا أو مأذونا له في الحفظ – قال الغزالي: وهو لا يشعر بأنه عبده – أو مكاتبا. وعن أبي إسحاق: أنه لا يقتل جزما كما لو أخذ مال نفسه. وهو ما أورده في "التهذيب" وادعى نفي خلافه، واختاره الصيدلاني؛ لأنه لا يفرض انحياز العبد عن المولى بمصيره إلى حرب الرفقة، بل لو فرض فارض المقتول عبدا مستأجرا، فإن له أن يذب سيده عن الرفقة، ولكنه مملوك [قن]، والقتل يقع برقبته، ولو فرض مكاتبا لهذا المحارب القاتل وهو في الرفاق لا يقتل به؛ لأنه بالموت انقلب قنا. قلت: وهذا اللفظ منه قد أطلقه القاضي أبو الطيب وغيره في كتاب القسامة، لكن فيه نظر؛ فإن الغزالي قد ادعى في كفارة اليمين أن القن بالموت يزول عنه الرق، وإذا كان كذلك فكيف يعود بالموت. ولو لم يكن المقتول معصوما كالمرتد، ففي "الحاوي": أن القاتل إن لم يعلم بردته، كان في قتل قاتله الخلاف السابق، وإن علم بردته فلا يقتل جزما؛ لأن قتله مباح، ولو كان القتل العمد المحض العدوان لغير أخذ المال لم ينحتم القتل، قاله البندنيجي، والله أعلم. فرع: لو قتل جماعة على الترتيب، ففيه وجهان [حكاهما القاضي أبو الطيب وغيره في كتاب الجنايات وهاهنا: أحدهما]- عن ابن – سريج -: أنه يقتل بالأول. والثاني: [يقتل] بالجميع؛ [نظرا] لحق الله – تعالى – وهذا ما نسبه الماوردي إلى الجمهور.

وبنى المراوزة هذا الخلاف على أن القتل يقع قصاصا أو حدا، وأنا على الأول نوجب الدية للباقين، ولا نوجبها على القول الثاني. وكذا إذا مات قبل القتل، أو وقع القتل [دفعة واحدة؛ فإنه يقتل بواحد، وتجب الدية للباقين على القول الأول، ولا تجب] على القول الثاني. ثم قضية ما تقدم في الجنايات أن [ولي الأول] لو عفا عن القصاص يقتل للثاني، ولا ينافيه كونه محتوم القتل، فإن القصد قتله كيف كان، ويؤيد ذلك: أنا قدرنا من قبل أنه [لو] لم يقتل إلا واحدا، وعفا عنه ولي القتيل، وعليه شائبة القصاص – قتلناه لله تعالى؛ كمرتد استوجب القتل قصاصا فعفى عنه. ونحن نقول: لو قتل جماعة على الترتيب، وهو مرتد، فعفا ولي الأول – قتلناه عن الثاني. وفي "التهذيب" [في] مسألتنا: أن الأول لو عفا لم يسقط. آخر: هل يجب على قاطع الطريق بالقتل الكفارة؟ حكي الرافعي عن "الرقم" للعبادي: أنا إن قلنا: قتله يراعى فيه معنى القصاص، وجبت. قال: وإن أخذ المال وقتل، قتل وصلب، أي: على خشبة أو نحوها؛ لما ذكرناه من الآية، وقول ابن عباس وغيره. والصلب منحتم – أيضا – كما صرح به الأصحاب، ودل عليه كلام الشيخ من بعد؛ لأنه محض حق الله – تعالى – وجب بسبب أخذ المال في هذه الحالة؛ فكان كالقطع. وقيل: يصلب حيا، ويمنع [من] الطعام والشراب حتى يموت؛ لأن الصلب إذا كان حدا وجب أن يكون في الحياة؛ لأن الحدود لا تقام على ميت، ولأن ذلك أبلغ الانزجار، وهذا ينسب إلى رواية صاحب "التلخيص" وغيره. [وفي "الكافي" نسبته إلى قول أبي حامد، ولعله أراد أن أبا حامد رواه]، كما هو مذكور في الشامل.

وفي "تعليق" القاضي الحسين و"النهاية": أن الشافعي – رضي الله عنه – حكي هذا المذهب عن بعض السلف حكاية أشعرت بارتضائه؛ فصار صائرون من الأصحاب إلى أنه قول للشافعي، رضي الله عنه. وعلى هذا: [إلى] متى يستدام صلبه بعد موته؟ فيه الخلاف الآتي فيما إذا قتل ثم صلب، حكاه الإمام وكذا الرافعي، وقال: إنا إذا قلنا بالقول الذي رواه صاحب "التلخيص"، فإنه ينزل بعد الثلاث فيغسل ويصلى عليه بعد ذلك، وإن قلنا: لا ينزل، كما هو مذهب] أبي [علي بن أبي هريرة فلا يغسل ولا يصلى عليه [وهو ما حكاه القاضي الحسين في باب الجنائز عن أبي هريرة]. ولفظ الغزالي في كتاب الجنائز يفهم أن إذا قلنا: يقتل مصلوبا، [فلا يغسل ولا يصلى عليه على القولين؛ لأنه قال:] ومن رأى [أن يقتل مصلوبا] فقد قال: لا يصلى عليه. وأشعر ذلك بسؤال أورده الإمام حيث قال: وكان لا يمتنع أن يقتل مصلوبا، وينزل [فيغسل ويصلى] عليه، ثم يرد. ولكن لم يذهب إليه أحد، واستبعد هاهنا تصور غسله والصلاة [عليه] بعد تساقطه، وإنه لو قيل: تجمع عظامه ويصلى عليها؛ لكان على نهاية البعد، ومجلي قال: لا يبعد ذلك؛ لإمكانه مع [أن] القصد بالصلاة عليه الدعاء، وهذا يلحقه، وإن كان قد تهرأ بلي مع البلى، والله أعلم. قال: والأول أصح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة"؛ ولأن في ذلك مثله، وقد تقدم أن الآية نزلت ناسخة للمثلة، حتى روي عن عمران بن حصين أنه قال: ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فينا خطيبا إلا ونهانا عن المثلة، وحثنا على الصدقة.

والصلب وإن كان حدا فالقصد به ردع غيره؛ لأن المقتول [لا يردع، وإنما يردع به الأحياء]، والردع بالصلب موجود في الأحياء، وإن كان بعد القتل. وقد وافق الشيخ على تصحيح الأول العراقيون والمراوزة، وبعضهم جعله المذهب، ووراء ما ذكرناه أقوال، [ووجوه]: أحدها – حكاه القاضي أبو الطيب، وتبعه في "المهذب" عن رواية ابن القاض في "التلخيص" عن الشافعي – رضي الله عنه -: أنه يصلب ثلاثا قبل القتل، ثم [قال]: قال أصحابنا: وهو مذهب أبي حنيفة ولا يعرف للشافعي، وإن أثبتناه. قال البغوي والرافعي: وينزل بعد الثلاث ويقتل. وفي "الوسيط" و"التهذيب" وغيرهما: أنه يصلب [حيا]، ويقصد مقتله بحديدة مذففة على وجه، وهو مذهب أبي حنيفة، ولم يقيد ذلك بمدة، وهذا هو الوجه الذي أشرت إليه. والثاني – حكاه الإمام الرافعي وغيرهما عن تخريج أبي الطيب بن سلمة -: أنه تقطع يده ورجله لأجل المال، ويقتله [لأجل القتل]، ويصلبه لجمعه بينهما. ووجه القاضي الحسين بأن كل واحد من القتل وأخذ المال لو انفرد لوجبت فيه العقوبة، فإذا اجتمعا كان [ذلك] زيادة جناية؛ فغلظ وزيد الصلب. وهذا التعليل يقتضي أن محل خلافه إذا كان [المال] المأخوذ نصابا؛ فيكون خلاف المذهب في ضم القطع إلى القتل والصلب [لا غير]. والثالث – حكاه الرافعي والإمام وغيرهما عن رواية صاحب "التقريب" –: أنه إن أخذ نصابا وقتل قطع وقتل ولم يصلب، وإن أخذ أقل منه قتل وصلب، ويكون الصلب [لأجل أخذ] المال، وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن أبي الطيب بن سلمة، وهذا فيه مخالفة للمذهب في أمرين:

أحدهما: في جعل القطع عوضا عن الصلب عند أخذ النصاب. [والثاني: إيجاب الصلب عند أخذ دون النصاب] مع القتل، وهو الذي اختاره الماوردي لنفسه كما حكيناه من قبل، وأن المذهب – كما حكاه الرافعي -: أن المال المأخوذ إذا كان دون النصاب لا يوجب الصلب، وهذا ما أفهمه كلام الماوردي ثم، وعلى رأي ابن خيران: يجب، والله أعلم. قال: ولا يصلب، [أي]: على القول الأول، أكثر من ثلاثة أيام. هذا الفصل يقتضي أمرين: أحدهما: جواز صلبه ثلاثة أيام، وهو الذي نص عليه الشافعي – رضي الله عنه – لأن في ذلك إشهارا لحاله وتتميما للنكال، لكن ظاهر النص أنه لا فرق [في ذلك] بين أن يخشى تغيره فيها أو لا، وقد قال به بعض الأصحاب، وقال القاضي أبو الطيب: إنه سمع الماسرجسي يقول هذا. قاله الشافعي – رضي الله عنه – إذا كان البلد باردا والزمان معتدلا، فأما إذا كان الحر شديدا فإنه يصلب إلى وقت إن ترك بعده تغير، ثم يحط فيغسل، ويكفن ويصلى عليه؛ لأن في إدامة الصلب تفويتا لأمر الغسل وغيره، وهذا ما أورده في "المهذب"، والقاضي الحسين في "تعليقه"، والماوردي، وصححه الرافعي. الثاني: ألا يزاد على الأيام الثلاثة، ووجه اعتبار ذلك: أن للثلاث اعتبارا في الشرع، وليس لما زاد عليها غاية إلا أن يسيل صديده، وذلك يسقط واجبات الغسل والتكفين والصلاة والدفن، وهذا لا يجوز؛ لأن الحدود كفارات لأهلها؛ كذا قاله أبو الطيب والمصنف، ومقتضاه: أنا لا نغسله ولا نكفنه ولا نصلي عليه قبل الصلب، بل نفعله بعد الحط، وقد صرح به الإمام هنا والقاضي الحسين والبغوي وصاحب "المرشد"، وحكاه البندنيجي عن النص، وجزم الغزالي والرافعي في كتاب الجنائز وهاهنا بأنا نغسله ونصلي عليه قبل الصلب، ثم نصلبه مكفنا. وقيل: يصلب حتى يسيل صديده؛ لأن الصليب – وهو الخشبة – إنما

سمي صليبا؛ لسيلان صليب المصلوب عليها، وهو الودك؛ فيجب أن يترك إلى أن يحصل السيلان، ولأن الصلب شرع في حقه تغليظا عليه، كذلك هذا يكون تغليظا عليه، وهذا قول ابن أبي هريرة. وبعضهم زاد في الحكاية عنه أنه يترك حتى يتهرأ ويسيل صديده. وفي "تعليق" القاضي الحسين نسبة هذا الوجه على هذا النعت إلى صاحب "التخليص"، وحكاه الإمام كذلك، ولم يعزه لأحد. ثم حكي عن الصيدلاني أنه يترك حتى يتساقط، ثم قال: وفي القلب شيء منه؛ فإني لم أره لغيره. والذي ذكره بعض الأصحاب: أنه يترك حتى يسيل صليبه، والتساقط يقع بعد سيلان الصليب بمدة طويلة، ثم على هذا لا يبالي بإنتانه؛ إذ لا بد منه. انتهى. وفي "التهذيب" عن ابن أبي هريرة أنه يترك حتى يسيل صديده، إلا أن تتأذى به الأحياء. وقد حكي القاضي الحسين ذلك وجهين في المسألة من غير أن ينسبهما لأحد. ثم ما ذكرناه عن الأصحاب من قبل يقتضي أن ابن أبي هريرة لا يرى إيجاب غسله والصلاة عليه، وقد صرح به البغوي عنه، وحكاه الإمام في الجنائز ولم يعزه إليه، وحكي هاهنا عن الصيدلاني – تفريعا على أنه] يصلب حتى يسيل صديده: أنه [يقتل ويغسل ويصلى عليه، ثم يصلب، وأن الأصحاب اتفقوا على أن الغسل والصلاة لا يتركان، وهذا ذكره القاضي الحسين. وقد حكي الإمام في الجنائز وجها مطلقا: أن قاطع الطريق لا يغسل ولا يصلى عليه؛ استهانة له وتحقيرا لشأنه. قال: وليس بشيء؛ لفوات ما ذكرناه، مع تأذي الناس بريحه. وقد وافق الشيخ في هذا اللفظ القاضي أبو الطيب. وما ذكرناه من الصلب هو المشهور [من المذهب]، وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه قيل: معنى الصلب: أنه يطرح في الشمس حتى يسيل صليبه، لا أنه

يصلب على الخشبة بحال، وأن هذا يحكى عن ابن أبي هريرة، وفي "الرافعي" أن الروياني حكي ذلك عن القاضي في "جمع الجوامع". تنبيه: الصديد: الدم المختلط بالقيح، كذا قاله ابن فارس. وقال الجوهري: [هو] ماء رقيق يخرج من الجرح مختلطا بدم قبل أن تغلظ المدة. والفعل منه – كما قال ابن فارس –: أصد الجرح. فرع: لو مات قاطع الطريق قبل القتل ففي "المهذب" حكاية وجهين في صلبه: أحدهما – وهو قول الشيخ [أبي حامد]-: أنه يسقط؛ لأن الصلب تابع للقتل وصفة له، وقط سقط. وقد حكي الماوردي وابن الصباغ هذا عن رواية الحارث بن سريج النقال عن الشافعي – رضي الله عنه -] قال الماوردي: وكذا لو قيل: إنه يقتل ثم يصلب. والبندنيجي حكاه عن الشافعي – رضي الله عنه –] وقال: إنه قال: حسابه على الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. والثاني: وهو – كما قال – قول شيخنا القاضي أبي الطيب: يصلب؛ لأنهما حقان؛ فإذا تعذر أحدهما لم يسقط الآخر. قال: وإن جنى قاطع الطريق جناية توجب القصاص فيما دون النفس، أي: كما إذا قطع اليدين أو الرجلين أو الأذنين أو الأنف] وفقأ العين [، ونحو ذلك ففيه قولان: أحدهما: يتحتم القصاص؛ قياسا على النفس، وهذا [ما] قاله في سائر كتبه عن الجديد. قال الماوردي: وعلى هذا هل يراعى فيه الكفاءة؟ فيه قولان كالقصاص في النفس.

والثاني: لا يتحتم؛ لقوله تعالى: {إنما جزؤا الذين يحاربون الله ورسوله} [إلى قوله: {أن يقتلوا}] [المائدة: 33] فحتم القتل، ولا يخلو إما أن يكون – تعالى – نبه [به] على الجرح، أو قصد بذلك المخالفة بينهما، والأول لا يجوز؛ لأن القتل أغلظ، ولا ينبه بالأعلى على الأدنى، وإنما ينبه بالأدنى على الأعلى؛ كما في قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23]، وقوله تعالى: {مثقال ذرة خيرا يره} [الزلزلة: 7]؛ فتعين الثاني. ومن جهة المعنى: أنه نوع تغليظ لا يتبعض يجب في النفس؛ [فلم يجب فيما دون النفس] كالكفارة، وهذا هو المنصوص كما قال القاضي أبو الطيب، [وعنى به] أنه [المنصوص] في "المختصر"؛ كما قاله الماوردي، وهو الصحيح في "الكافي"، وعند الرافعي والنواوي. والفرق بين النفس والطرف – كما حكاه القاضي أبو الطيب عن رواية الماسرجسي عن ابن مهران صاحب أبي إسحاق المروزي –: أن قاطع الطريق يقصد بالقتل في أخذ المال؛ فغلظ عليه بالانحتام. وعلى هذا: لا بد في الاستيفاء من الكفاءة. وقد حكي الإمام عن بعضهم تخصيص الخلاف بما عدا اليدين والرجلين، وأنه قطع بالانحتام في اليدين والرجلين؛ لأنهما مما يستحقان في المحاربة. وفي "الإبانة" الجزم بعدم الانحتام في قلع العين وقطع الأذن، وحكاية القولين في اليدين والرجلين. وعند الاختصار يجتمع في المسألة ثلاثة أقوال [أو أوجه]؛ كما أوردها الإمام والغزالي في "الوجيز"، ولا خلاف في أن عقوبة سائر الجرائم الواقعة في الحرابة – غير ما ذكرناه – لا نتحتم؛ لأن القصد بالحرابة القتل وأخذ المال دون

ما عداهما من سائر المعاصي؛] فغلظ منها [ما كان مقصودا بها، ولم يغلظ ما لم يكن مقصودا بها. فرع: لو كان الجرح مما يجري في بعضه القصاص كالهاشمة، وقلنا: ينحتم القصاص، استوفي منه في الموضحة، وتعين للمجني عليه خمس من الإبل في مقابلة الهشم، قاله الماوردي. قال: وإن وجب عليه الحد فلم يقطع، طلب أبدا إلى أن يقع، فيقام عليه [الحد]؛ لما ذكرناه من الآية، مع قول ابن عباس، ولأنه إذا طلب ليقام عليه الحد التحق ببلاد الكفر فانتفى من دار الإسلام. وحكى الإمام عن شيخه: أنه كان يقول من تغليظات حد المحاربين أن الأئمة اختلفوا في أن من استوجب حدا وهرب، هل يسقط الحد عنه؟ وهؤلاء استوجبوا الحدود وإن هربوا فلا يجوز أن يتركوا، بل يلحق الطلب بهم؛ فإن تركهم يجر شرا عظيما قد يتفاقم ويبلغ مبلغا يعجز الإمام عن استدراكه. قال: فإن تاب قبل أن يقدر عليه، سقط انحتام القتل والصلب وقطع الرجل؛ لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} الآية [المائدة: 34]، ولا يحتاج في سقوط هذه الأشياء بالتوبة إلى إصلاح العمل، بخلاف حد السرقة والزنى ونحوهما، وإن قلنا: إنها تسقط بالتوبة، [فإنه لا] بد [فيها] من إصلاح العمل. قال الأصحاب من العراقيين كالماوردي وأبي الطيب وابن الصباغ: والفرق بينهما من المعنى – وإن [كان] الله تعالى قد فرق بينهما في الكتاب العزيز –: أن المحارب إذا تاب، فالظاهر أنه ما تاب تقية، بخلاف غيره. على أن الإمام قد نسب ما ذكرناه في غير الحرابة إلى اختيار القاضي الحسين، وحكي وجها آخر ونسبه إلى سائر الأصحاب، وأنهم مجمعون عليه:

أن حكم غير الحرابة كحكم الحرابة. ثم إذا سقط انحتام القتل، هل يبقى معه الخيار في القتل؟ قال الأصحاب: إن كان القاتل لا يقتل بالمقتول في غير الحرابة، فلا يبقى – أيضا – صرح به أبو الطيب والبغوي، [وإن كان يقتل به بقي فيقتل به إذا رأى الولي، وهذا ما أورده العراقيون والبغوي]، وبعض المراوزة بنى ذلك على أنه يقتل في الحراية لمحض حق الله – تعالى – أو [يقتل بحق الله – تعالى – والآدمي]؟ فعلى الأول: لا شيء عليه، ويسقط أصل القتل، وعلى الثاني – وهو الأظهر –: يبقى الخيار للولي. وحكي الرافعي: أنه يحكي تخريج وجه في القصاص وحد القذف أنهما يسقطان بالتوبة؛ لأنهما يسقطان بالشبهة كحدود الله تعالى، وعن كتاب ابن كج: أن أبا الحسين نقله قولا عن القديم في حد القذف. وقيل: يسقط قطع اليد؛ لأنه من أحكام الحرابة، من حيث إنه لا يراعى فيه الاستخفاء في أخذ المال، وهذا قول ابن أبي هريرة وأبي علي الطبري كما قاله ابن الصباغ، وأكثر الأصحاب كما قاله في "الكافي"، وبه أجاب البغوي، وفي "الوجيز" وصححه في "الوسيط"، وكذلك الرافعي. وقيل: لا يسقط، أي: بنفس التوبة؛ لأن القطع ليس من أحكام المحاربة، بل هو من أحكام أخذ المال على وجه يتعذر الاحتراز منه؛ ولذلك اعتبرنا فيه أخذ النصاب والحرز كالسرقة، وهذا قول أبي إسحاق، واختاره الشيخ أبو حامد؛ كما قاله البندنيجي، وتبعه النواوي، وعلى هذا: هل يسقط إذا انضم إلى التوبة إصلاح

العمل؟ فيه الخلاف الآتي في [حد] السرقة، ولو تاب بعد الظفر لم تنفعه التوبة عند العراقيين. وحكي القاضي الحسين، وتبعه الإمام والبغوي: أن في سقوط ما يختص بقطع الطريق وما لا يختص [به] قولين، وهذا الطريق محكي عن الفوراني والصيدلاني – أيضا – وقد يقال: لا مخالفة بين الطريقين؛ لأن القائل بسقوط حد الحرابة بالتوبة بعد الظفر، جعله كسقوط حد السرقة والزنى؛ فيعتبر فيه إصلاح العمل، بخلاف ما قبل الظفر كما تقدم، وإلى هذا أشار القاضي. لكن الماوردي وغيره جزموا القول بأن التوبة في حد السرقة والزنى ونحوهما بعد الظفر لا تسقط الحد [كما] في المحاربة، وأن محل الخلاف في إسقاطها الحد إذا كانت قبل الظفر كما سنذكره، وهذا [يمنع الجمع]، وسيكون لنا عودة لذلك، إن شاء الله تعالى. ثم إذا قلنا بما حكاه العراقيون، فلو ادعى المحارب بعد القدرة عليه أنه تاب قبل القدرة، قال الماوردي في "الأحكام السلطانية": إن لم تقترن بالدعوى أمارات تدل على التوبه؛ لم تقبل دعواه في سقوط حد قد وجب، وإن اقترن بها أمارات تد على التوبة، ففي القبول بغير بينة وجهان محتملان: أحدهما: تقبل؛ لكون ذلك شبهة [يسقط بها الحد. والثاني: لا تقبل إلا ببينة عادلة تشهد] بالتوبة قبل القدرة؛ لأنه حد قد وجب، والشبهة: ما اقترنت بالفعل، لا ما تأخرت عنه. وقد نجز شرح مسائل الباب، وقد ضمنه الأصحاب مسائل ذكر الشيخ بعضها في الباب الذي يليه، فلنقتد به [في ذلك] ونذكرها فيه، إن شاء الله تعالى.

باب حد الخمر

باب حد الخمر اسم "الخمر" [يقع] حقيقة عندنا على عصير العنب النيء إذا صار مسكرا؛ لحدوث الشدة المطربة فيه، ولا يشترط فيه أن يقذف بزبده، خلافا لأبي حنيفة - رحمه الله- فإنه شرط في صدق التسمية أن يقذف بالزبد؛ كما قال الماوردي، وحينئذ: فإذا قذف بالزبد صار هذا الاسم حقيقة عليه بالاتفاق، وعلى ذلك جرى أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ. وادعى القاضي الحسين أن عصر الرطب النيء إذا اشتد وعلا وقذف بالزبد، فهو خمر حقيقة بالاتفاق؛ كعصير العنب النيء إذا صار كذلك، وعليه جرى البغوي وغيره، وعن الروياني أنه [أورده واستغربه]. ولم سمي [ذلك] خمرا؟ فيه تأويلان: أحدهما: لكونه يخمر في الإناء حتى يصير خمرا، أي: يغطى، ولو لم يغطى لم يصر خمرا، والتخمير التغطية، ومنه سمي خمار المرأة؛ لأنه يغطيها ويسترها. والثاني: لكونه يخامر العقل بالسكر، أي: يغطيه ويخفيه. وهل يقع هذا الاسم حقيقة على ما عدا ذلك من الأنبذة؟ فيه وجهان: اختيار المزني وأبي علي بن أبي هريرة كما قال الماوردي، وأكثر الأصحاب كما قاله أبو الطيب وابن الصباغ: نعم؛ لأن الاشتراك [في الصفة] يقتضي الاشتراك في الاسم، ولأن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: [خطب عمر -رضي الله عنه- على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، ألا وإن الخمر] نزل تحريمها يوم نزل وهي من خمسة أشياء: من الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والعسل، والخمر: ما خامر العقل". كذا أخرجه مسلم.

وجه الدلالة [منه]: أنه قال: والخمر: ما خامر العقل. وهذا المعنى موجود في الأنبذة. والذي حكاه الرافعي عن الأكثرين: أنه لا يكون حقيقة، وقد كان المسلمون يشربون الخمر [في صدر] الإسلام، لكن استصحابا لحكمها في الجاهلية، أولشرع ورد في إباحتها؟ فيه وجهان لأصحابنا: أشبههما عند الماوردي: الأول. ووجه الثاني بقوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} [النحل: 67]، أي: ما أسكر من الخمر والنبيذ؛ كما قال بن عباس ومجاهد وقتادة، وهذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر، [ثم] ورد في تحريمها أربع آيات: فالأولى - وهي التي ادعى الحسن البصري أن التحريم وقع بها، وما بعدها مؤكد لها-: قوله تعالى في سورة البقرة: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير} [البقرة: 219]، أو {كثير} -: على اختلاف القراءتين، [{وإثمهما أكبر من نفعهما}]، وما كبر إثمه أو كثر لا يكون مباحا، ولأنه غلب الإثم على المنفعة، فقال: وإثمهما أكبر من نفعهما، والحكم للمغلب. والثانية: في سورة النساء، وهي قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء: 43]. والثالثة- وهي التي ادعى قتادة وأكثر العلماء أن التحريم وقع بها، [وهي] في سورة المائدة؛ [قوله تعالى]: {إنما الخمر والميسر ...} إلى قوله: {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91]، واستدلوا لذلك بما روى محمد بن إسحاق عن أبي ميسرة عن عمر – رضي الله عنه - أنه قال: "اللهم، بين لنا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت الأولى وقرئت عليه، فقال: اللهم، بين لنا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت الثانية [وقرئت عليه، فقال: اللهم، بين لنا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت الثالثة]،

فحين سمعها قال: انتهينا انتهينا. وقد خرج هذا عن عمر أبو داود، والنسائي، والترمذي، وقال: إنه مرسلا أصح. والرابعة في سورة الأعراف، وهي قوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم} [الأعراف: 33]، وهو هاهنا: الخمر، في قول الأكثرين؛ لقول الشاعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول قال الماوردي: قال بعض المتأخرين: وبهذه الآية استقر تحريمها؛ لما فيها من صريح التحريم، وهو في غيرها من طريق الاحتمال. وقد ورد في السنة ما يؤكد التحريم: روى أبو داود وابن ماجة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه". [قال [القاضي] أبو الطيب]: [وقد] ورد في "الصحيح" عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شرب الخمر في الدنيا ثم ام يتب منها، حرمها في الآخرة"، وذلك مقارب للفظ مسلم، كما سنذكره. وروى مسلم بإسناده عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن".

قال القاضي: وفيما رويت عن ابن سريج: ينزع منه عند شربها الإيمان. وذكر الماوردي في تأويله أربعة أوجه [غير هذا. وقد استقر إجماع] الأمة على تحريم عصير العنب النيء إذا اشتد [وإن لم] يقذف بالزبد، وكذلك عصير الرطب، كما حكاه القاضي الحسين، وتبعه الإمام والبغوي. وما روي عن قدامة بن مظعون، وعمرو بن معد يكرب من إباحتها؛ لقوله تعالى: {ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} [المائدة: 93]، قال عمر: وقوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91]؟! فسكت وسكتنا – قد ثبت رجوعهما عنه؛ لما أخبرهما الصحابة بتحريمها. قال أصحابنا: ويكفر من شرب عصير العنب النيء إذا اشتد وقذف بالزبد مستحلا له؛ لثبوت تحريمها [بالإجماع؛] فصار كمن صدق المجمعين على التحريم ثم جحده؛ فإنه يكون ردا للشرع. قال الرافعي: وهذا التعليل إن صح، فليجر مثله في سائر ما حصل الإجماع على افتراضه أو تحريمه [فنفاه]. وقال الإمام: إطلاق القول بتكفير مستحل الخمر لم يصدره الفقهاء عن ثبت وتحقيق، ونحن لا نكفر من خالف الإجماع، ولا نكفر من رد أهل الإجماع، وإنما نبدعه ونضلله، والسر اللطيف فيه: أنا نكفر من لا يصدق المجمعين في نسبتهم ما ذكروه إلى الشرع، ثم يرده. وعلى هذا ينطبق قول ابن الصباغ: أنا نكفره؛ لأنه كذب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد علم ضرورة من جهة النقل تحريم النبي صلى الله عليه وسلم [إياها]. وقد ادعى القاضي الحسين كفر من شرب عصير الرطب النيء إذا اشتد وقذف بالزبد مستحلا له، وتبعه البغوي وصاحب "الكافي".

ولا خلاف في عدم تكفير من شرب سائر الأنبذة مستحلا لها. قال: كل شراب أسكر كثيره حرم قليله وكثيره: أما تحريم الخمر فقد تقدم دليله. وأما ما عداه، فإن قلنا: إنه خمر حقيقة، فكذلك، وإن قلنا: إنه ليس بخمر، فوجه التحريم: ما رواه مسلم عن عمر كما ذكرناه من قبل، وما رواه النعمان ابن بشير: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخمر من خمسة ... "، وذكر ما ذكرناه عن عمر ورواية أبي داود تقرب من هذا. وروى الشافعي بسنده عن ابن عمر – رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر حرام".

وروى أبو داود عن عائشة – رضي الله عنها - أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مسكر حرام، وما أسكر منه [الفرق] فملء الكف منه حرام".

وروي [عن] عمر بن الخطاب، وولده: عبد الله، [وجابر بن عبد الله] – رضي الله عنهم - بأسانيد صحيحة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"، وقد خرجه أبو داود، والنسائي، وكذا الترمذي، وقال: إنه حسن غريب. وخرج الإمام أحمد – رحمه الله - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ["كل مسكر خمر، وكل خمر حرام"، وكذلك خرجه من طريق [آخر رجاء بن] المرجي المروزي الحافظ. ورواية مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال]: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن مات وهو يشرب الخمر يدمنها لم يتب [منها]، لم يشربها في الآخرة". وقد روى الشافعي بسنده عن عائشة – رضي الله عنها - أنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام"، وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.

وفي رواية: "والبتع نبيذ العسل"، [وأهل اليمن] يشربونه، وهو بكسر الباء الموحدة، وتسكين التاء ثالثة الحروف، وفتحها – أيضا - وسمي هذا: بتعا، كما سمي نبيذ الشعير: الجعة، ونبيذ الحنطة والذرة: المزر، ونبيذ التمر: الفضيخ، ونبيذ التمر الذي [لم] تمسه النار: السكر. ولأن الله -تعالى- علل تحريم الخمر بما يحدث عنه [من] العداوة والبغضاء والصد عن [ذكر الله] وعن الصلاة، وهذا المعنى موجود في النبيذ [كوجوده في الخمر]؛ فوجب أن يساويه في التحريم؛ لاستوائهما في التعليل. [قال:] ومن شرب المسكر، وهو مسلم بالغ عاقل مختار، أي: عالم بأنه مسكر [وبتحريمه] وجب عليه الحد، [أي:] سواء سكر أو لم يسكر؛ لما روي الترمذي [بسنده] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إن شربوا [فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا] فاقتلوهم". وروى الشافعي بسنده عن قبيصة بن ذؤيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من شرب

الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلده، فإن عاد في الثالثة والرابعة فاقتلوه"، فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ورفع القتل، وكانت رخصة. قال الشافعي – رضي الله عنه -: والحديث منسوخ؛ بهذا الحديث وغيره. وإنما قال: وغيره؛ لأن هذا الحديث مرسل، واختلف فيما أراد بغيره على وجهين: أحدهما: حديث عثمان بن عفان – رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث ... ". وقد أشار إليه في كتاب "الأم". والثاني: ما رواه محمد بن المنكدر ومحمد ابن اسحاق عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه"، فأتي برجل قد شرب الخمر فجلده، ثم أتي [به في] الثانية فجلده، ثم أتي [به في] الثالثة فجلده، ثم أتي به في الرابعة فجلده، ووضع القتل. لأن هذا [الحديث] مسند، والإجماع –كما قال القاضي الحسين والإمام- على أنه منسوخ. فقد دل [ما ذكرناه] على إيجاب الحد في الخمر، فإن قلنا: إنه حقيقة في كل مسكر، فذاك، وإلا فنقول: قد شرب شرابا محرما تدعو النفوس إلى شربه؛ كما دللنا عليه، فوجب عليه الحد قياسا على الخمر، وهما في الحد سواء، وإن كان الخمر أغلظ حكما؛ كما أن الحد في الخمر يستوي فيه من سكر منه و [من] لم يسكر، وإن كان السكر أغلظ إثما. تبيه: أدخل الشيخ بما ذكره فيمن يجب عليه الحد: من اعتقد من المسلمين إباحة النبيذ، وأخرج أهل الشرك، وقد تقدم ذكر خلاف في إقامة الحد على

المسلم المعتقد الحل بشبهة – وهو الحنفي إذا لم يسكر به - وعلى الذمي في باب عقد الذمة، لكن الصحيح والمنصوص عليه: وجوبه على الحنفي، وعدم وجوبه على الذمي؛ كما ذكره الشيخ، وعلى مقابله: لو كان شاربه يعتقد تحريمه كالشافعي، ففي إيجاب الحد وجهان في طرق المراوزة، وقال الرافعي: إن الأظهر: المنع أيضا. واحترز [الشيخ] بلفظ "الاختيار" عن المضطر إلى شربها، وذلك يفرض في صورتين: إحداهما: المكره على تعاطي الشرب بنفسه؛ فإنه لا حد عليه على المشهور؛ كمن أوجر في فيه، وعن كتاب بن كج حكاية وجهين فيه. قلت: ويمكن بناؤهما على أن الإكراه هل يبيح شربه؟ وفيه وجهان حكاهما القاضي الحسين في كتاب الجنايات، وقال: إن الصحيح إباحته، وهو الذي جزم به غيره. وادعى الغزالي نفي خلافه هاهنا، وحكى في كتاب الجنايات وجهين في الوجوب، ومحل عدم الوجوب: إذا لم يخف على روحه وما حل محل الروح. الثانية: من اضطر إلى الشرب، والكلام في أنه يباح أو يحرم مستوفى في باب الأطعمة، فإن قلنا بإباحته [فلا حد إذن في الإباحة]، وإن منعناه، فقد قال الغزالي في "الوجيز": إنه لا حد عليه. وهو ما أورده في " الحاوي"؛ حيث قال: فإن اضطر [إلى شرب] مسكر؛ لشدة عطش، أو تداوي مرض لا يوجد في الطب من شربه بدل؛ فلا حد عليه، وإن كان شربه في هاتين الحالتين مختلفا فيه. وفي "النهاية" أن الأئمة المعتبرين أطلقوا أقوالهم في الطرق بأن التداوي بالخمر حرام، وأن المتداوي بها محدود وهذا ما حكاه في "الإبانة" ثم حكى عن القاضي أنه قال: إن شرب على قصد التداوي لم يحد. [وهذا يشير إلى تسويغ التداوي. وفي "الوسيط" أن القاضي قال: لا يحد الشارب إن قصد التداوي. فكأنه

يجعل ذلك شبهة للإسقاط. وحكى الماوردي في "الأحكام": أنه إذا شرب ذلك للتداوي لا يحد،] بخلاف ما إذا شربه؛ للعطش. و [لو] لم يعلم الشارب بأن ما شربه مسكر فلا حد عليه، وكذا لو علم [بانه مسكر] ولم يعلم [تحريم الشرب]؛ لقرب عهده بالإسلام [ونحوه]، ولو علم التحريم وجهل وجوب الحد، حد. قال: فإن كان حرا جلد أربعين؛ لما روى مسلم عن حصين بن المنذر أبي ساسان، قال: شهدت عثمان بن عفان أتى بالوليد، فشهد عليه حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: لم يتقيأ حتى شربها، فقال: [يا علي، قم فاجلده، فقال] علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها! فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الرحمن بن جعفر، قم فاجلده، [فجلده] وعلي يعد حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل شرب الخمر، فجلده بجريدتين أربعين.

وعنه – أيضا - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين. كذا رواهما مسلم أيضا. وقد اختار بن المنذر – وهو من أصحابنا - مذهب أبي حنيفة ومالك في قدر الحد، وهو ثمانون. قال: وإن كان عبدا جلد عشرين؛ لأنه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من الحر كحد الزنى. وفي "تعليق" القاضي الحسين بعد حكاية ما ذكرناه: ومنهم من قال: هو أربعون كالحر. [وهو] غلط. قال: وإن رأى الإمام أن يبلغ بالحد في الحر ثمانين وفي العبد أربعين جاز؛ لما روى مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالنعال والجريد، ثم جلد أبو بكر أربعين، فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى، قال: ما ترون في جلد الخمر؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعلها كأخف الحدود، قال: فجلد عمر ثمانين. وروي أن عمر لما استشار الصحابة في الخمر قال علي بن أبي طالب: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري: ثمانون، فأخذ به عمر، ولم ينكر أحد. وهذا يعزى إلى رواية الموطأ. قد روى علي بن محمد بن الحسين عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد شارب الخمر ثمانين. وهذا نص، لكنه مرسل، والعمل على اتفاق الصحابة. والريف المذكور في الخبر، قيل: هو كل أرض فيها زرع ونخل، وقيل: هو [كل]

ما قارب الماء من أرض العرب ومن غيرها، وقيل: الريف: أرض فيها زرع وخصب، وقيل: هو الخصب والسعة في المأكل والمشرب. وهو: بكسر الراء المهملة، وبعدها [ياء] –آخر الحروف- ساكنة، وفاء. وقد روى المراوزة وجها: أنه تمتنع عليه الزيادة على الأربعين؛ لما روي أن علي بن طالب – رضي الله عنه - رجع عن ذلك، وكان يضرب في خلافته أربعين. وفي "النهاية": أن القاضي قال: إنه الصحيح من المذهب، لكن الذي ذكره شيخي ومعظم الأئمة: الأول. وعلى هذا فالزيادة [إلى ما] فوق الأربعين وما دون الثمانين بالجواز أولى، لكن الزائد على الأربعين هل هو حد أو تعزير؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين وغيره: أحدهما –عن أبي اسحاق المروزي-: أنه حد، لكنه أضعف من الأربعين الأولى؛ لأنها ثابتة بالسنة، وهذه [ثابته] باجتهاد الصحابة ورأيهم، وهذا ما يقتضيه كلام الشيخ، حيث قال: يبلغ بالحد. وأظهرهما – وهو الذي أورده الأكثرون، ومنهم البندنيجي وابن الصباغ والقاضي أبو الطيب والبغوي -: أنه تعزير؛ لأنه لو كان حدا لما جاز تركه، ويجوز أن يترك ويقتصر على الأربعين. فإن قيل: لو كان تعزيرا لما جاز أن يبلغ [به] قدر الحد، وقد جاز. قيل في جوابه: الأربعون الزائدة على الحد ليست في مقابلة التعزير لأجل الشرب؛ لأن فيه حدا؛ فلا يجب فيه تعزير، وإنما هي في مقابلة الجنايات المتولدة منه؛ من هذيان وافتراء ونحوه، ويجوز أن يبلغ بتعزير جنايات مبلغ حد. قال الرافعي: وهذا ليس بشاف؛ فإن الجناية التي يعزر عليه لابد من

تحققها وإن كان [و] لابد من التعزيز بالجناية المتوقعة فهي غير منحصرة؛ فلتجز الزيادة على الثمانين، وقد منعوها؛ فالوجه هو الأول، ويكون حد الشرب مخصوصا من بين سائر الحدود بأن يتحتم بعضه، ويتعلق بعضه باجتهاد الإمام. واعلم أن ما ذكرناه في شرب المسكر مطرود فيما إذا أكل المسكر من الشراب بخبز، أو ثرد فيه وأكل الثريد، وكذا لو طبخ به اللحم وأكل المرق؛ كما قال ابن الصباغ، وإن [أكل] اللحم فلا حد؛ لأن عين المسكر لم تبق فيه، بخلاف المرق؛ فإن عين السكر فيه، وكذا لو عجن به الدقيق وخبزه وأكل الخبز؛ فلا حد، وروى بن كج فيه وجها آخر. قال الرافعي: وفي معنى هذه الصورة: المعجون الذي فيه الخمر، والظاهر: أنه لا حد فيه؛ لاستهلاكه. وقد حكى الوجهين في هذه الصورة صاحب "البحر" قبل كتاب الشهادات بأوراق يسيرة، وقال: الصحيح: المنع؛ لأنه لا يلتذ به. وعلى هذا قال الإمام: من شرب كوز ماء وقعت فيه قطرات من الخمر، والماء غالب بصفاته –لم يحد؛ لاستهلاك الخمر فيه. ثم أحال الكلام فيه على باب الرضاع. ولو استعط بالخمر أو احتقن لم يحد، قاله ابن الصباغ؛ لأنه ليس بأكل ولا شرب. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه متى شرب المسكر جلد، وقد قال الأصحاب [من العراقيين] وغيرهم: لا يقام عليه الحد في حال سكره. وسكتوا عما إذا فعل في حال السكر، هل يعتد به أم لا؟ وحكى القاضي الحسين فيه وجهين: أحدهما: لا يعتد به. والثاني: يعتد به. وأجراهما فيما إذا أفاق ثم جن، فحد في حال جنونه، ووجه المنع بأن المقصود منه الردع والزجر، وهو لا يرتدع بذلك، ووجه مقابله: أنه إن لم يرتدع ارتدع غيره.

قال: فإن ضرب الحر أحدا وأربعين، أي [ضرب] بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، ففيه قولان: أحدهما: يضمن نصف ديته؛ لأنه لو ضرب بما ذكرناه أربعين، فمات- لم يضمنه، كما صرح به الفوراني؛ لأنه الحد الذي أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشارب؛ فكان كما لو ضرب في الزنى مائة فمات؛ فإنه لا ضمان، وإذا كان كذلك فقد مات من مضمون وغير مضمون؛ [لأن الزائد تعزير، والتعزير] مضمون كما تقدم، فوزع الغرم عليهما نصفين؛ كما لو جرح نفسه عشر جراحات، وجرحه آخر جراحة. والثاني: [يضمن] جزءا من أحد وأربعين جزءا من ديته؛ لأن الضرب يقع [على] ظاهر البدن، فهو قريب للتماثل؛ فقسط الضمان على عدده، بخلاف الجراحات؛ فإنه رب جراحة لها غور [لا يحصل] من جراحات، وهذا أصح عند النواوي وفي "المرشد". وعلى هذا: لو كان الزائد على الأربعين عشرة ضمن خمس الدية، ولو كان أربعين لم يضمن إلا نصف الدية، ولو كان خمسين ضمن على هذا خمس أتساع الدية، وعلى هذا فقس. أما إذا ضربه بالسياط، فإن قلنا بقول بن سريج وأبي اسحاق الآتي – كما ستعرفه - فالحكم كما تقدم، وإن قلنا بالمنصوص: فإن قلنا: إنه يضمن جميع الدية عند اقتصاره على الأربعين، فعند الزيادة عليها أولى. قال الرافعي في كتاب موجبات الضمان، وفي كتاب ابن كج: إن أبا حفص بن الوكيل وعبد الله بن محمد القزويني أثبتا [للشافعي – رحمه الله - قولا في وجوب] جميع الضمان في هذه الصورة.

وإن قلنا: يضمن ثم نصف الدية، فكذلك ها هنا، كذا قاله القاضي الحسين. وإن قلنا ثم: يضمن بقدر ما زاد على [ألم] النعال، وأجرينا هذا اللفظ على ظاهره كما ستعرفه ثم – فيظهر أن يقال: يضمن ها هنا جزءا من أحد وأربعين جزءا من ديته، وما زاد على ألم النعال، ووراء ما ذكرناه في صورة الكتاب كلامان: أحدهما: قد يظن أنا إذا قلنا: إن الزائد على الأربعين إلى الثمانين من الحد، لا يضمن شيئا أصلا؛ كما قلنا في الأربعين، وليس كذلك؛ لأن قائله قال – كما حكاه القاضي الحسين -: إنه أضعف من الأربعين؛ لأنه ثبت بالاجتهاد؛ ولهذا المعنى: لو مات من الأربعين الأولى لم يضمن، ولو مات من الأربعين الثانية يجب الضمان. الثاني: قال الإمام: إذا قلنا بقول ابن سريج وأبي اسحاق: إنه لا يجوز الضرب بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، فلا شك على هذا أنه يثبت الضمان وإن حصل التلف من الأربعين. قلت: وإذا كان كذلك ففي حالة الزيادة أولى. فرع: إذا أمر الإمام الجلاد أن يضربه ثمانين، فضربه أحدا وثمانين؛ فمات- ففي المسألة أوجه: أحدها: يسقط نصف الدية، ويجب نصفها على الإمام والجلاد نصفين؛ نظرا إلى أنه مات من مضمون وغير مضمون، هكذا حكاه العراقيون. والمذكور في "تعليق" القاضي الحسين على هذا: أن النصف يقسم على أحد وأربعين جزءا؛ فيكون على الإمام أربعون، وعلى الجلاد جزء، وقد حكاه الإمام أيضا، وقال: إنه جمع بين التنصيف واعتبار عدد الجلدات، وفيه احتياط. فقد حصل وجهان. والثالث: يسقط أربعون جزءا من أحد وثمانين جزءا، ويجب أحد وأربعين جزءا من أحد وثمانين جزءا من الدية: على الجلاد [جزء] وعلى الإمام أربعون. والرابع: يسقط الثلت؛ فيجب على كل واحد من الإمام والجلاد الثلث. وما ذكرنا أنه يجب على الجلاد فهو على عاقلته، وما ذكرنا أنه يجب على

الإمام فهو على عاقلته أو في بيت المال؟ فيه الخلاف السابق، فإذا قلنا: في بيت المال، ففي الكفارة وجهان: أحدهما: فيه أيضا. والثاني: في ماله. قال: ويضرب في حد الشرب بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، أي: دون السياط كما صرح به أبو الطيب وغيره، ووجهه ما روى الشافعي بسنده عن عبد الرحمن ابن أزهر، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بشارب [خمر]، فقال: "اضربوه"؛ فضرب بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، وحثوا عليه التراب، ثم قال: "بكتوه"، أي وبخوه، فبكتوه، فقالو: أما خشيت الله، أما اتقيت الله، أما استحيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ثم أرسله. فلما كان أبو بكر سأل: من حضر ذلك الضرب، فقومه أربعين، أي: عدله، كما قاله القاضي الحسين، فضرب أبو بكر في الخمر أربعين مدة حياته، ثم عمر ... وساق الحديث. قال الإمام: والسبب الذي سوغ لأبي بكر ذلك أنه لم ير بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ضبطا يشير إليه التحديد، وعلم أن ما كان كذلك؛ فللاجتهاد فيه مساغ. قال القاضي الحسين في باب صفة السوط: وعلى هذا لو ضرب بالسياط وقع الموقع. وقيل: يجوز بالسوط، [أي: ولا يجوز بغيره للمسلم الصحيح]؛ لإجماع الصحابة على جواز الضرب به، كذا قال القاضي الحسين في باب صفة السوط نقلا وتوجيها، ووجهه الإمام بأنا كفينا مؤنة التعديل، وقد بعد العهد وتناسخت العصور، ونحن لو ضربنا بالنعال [دائرون] بين أن نحط على القدر المستحق وبين أن نزيد؛ ولأنه – عليه السلام - أمر بالجلد، والمتبادر إلى الذهن فيه الضرب بالسوط؛ كما في حد الزنى والقذف، وهذا قول ابن سريج وأبي

إسحاق؛ كما قاله في "المهذب"، وحكاه الإمام عن رواية العرافيين وأنهم زيفوه. قلت: وهو الذي يدل عليه ظاهر النص في "المختصر" في باب الأقضية؛ حيث قال: وإذا علم من رجل بإقرار أو تيقن أنه شهد عنده بزور، عزره، ولم يبلغ بالتعزير أربعين سوطا: فلو لم يكن الضرب [بالسياط لما قال ذلك، وعلى هذا فصفة السوط وكيفية الضرب] كما في حد الزنى، وقد تقدم. قال: والنصوص هو الأول، وهكذا قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ، وكأنهم –والله أعلم- أخذوه من قوله في "المختصر": وإن ضرب الإمام في خمر أو ما يسكر من الشراب بنعل أو طرف ثوب أو [رداء أو] ما أشبهه ضربا يحيط العلم أنه لم يجاوز أربعين، فمات من ذلك – فالحق قتله. قال الماوردي: ومثار الخلاف أن حد النبي صلى الله عليه وسلم بالثياب والنعال كان لعذر أو شرع؟ وفيه وجهان: أحدهما – وهو قول ابن سريج وأبي اسحاق -: أنه كان [لعذر] في الشارب؛ لمرض، أو لأنه كان نضوا، كما حد مقعدا بإثكال النخل، فعلى هذا يكون حد الصحابة نصا في غير المعذور، ويكون محققا من وجه واحد وهو مقدار العدد. والثاني –وهو قول الجمهور-: أن حده كان شرعا حقق فيه حد الخمر كما حقق به في القدر؛ فعلى هذا يكون عدول الصحابة إلى السياط بالاجتهاد؛ كما في زيادة العدد، ويكون حد الخمر محققا من وجهين في الصفة والمقدار. قال الرافعي: ومنهم من رأى الضرب بالأيدي والنعال جائزا لا محالة. وذكر وجهين في أنه [هل] يتعين ذلك أم يجوز العدول إلى السياط؟ وهذا حكاه صاحب "البيان". انتهى. وادعى الإمام أن المذهب جواز الأمرين، وهو الذي صححه الرافعي في كتاب موجبات الضمان، والذي أورده القاضي الحسين في باب حد الخمر، وإن حكى الخلاف في غيره؛ كما ذكرناه من قبل. قال: فإن ضربه بالسوط، أي: أربعين، فملت، فقد قيل: يضمن بقدر ما

زاد على ألم النعال؛ إذ هو القدر الزائد على قدر الحد. قال الرافعي: وهذا شيء لا يتأتى ضبطه، وقد حكاه الإمام عن العراقيين، وقال إنا على هذا نقدر بينهما بشيء بالتقريب والاجتهاد، ويلزم ذلك القدر، ثم قال: وهو في نهاية البعد. وقيل: يضمن جميع الدية؛ لما روى مسلم عن علي بن أبي طالب، قال: "ما كنت لأقيم على أحد حدا فيموت فيه، [فأجد منه] في نفسي إلا صاحب الخمر؛ فإنه إن مات وديته؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه – وعنى [أنه] لم يسن الضرب [بالسياط]-وإنما هو رأي رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم" كما جاء في رواية غيره: "وإنما هو رأي رأيناه من بعده". ولأنه عدل عن جنس إلى غيره؛ فأشبه ما لو ضربه بجارح فملت. وقد حكى الماوردي والقاضي أبو الطيب والبندنيجي [وجها بدل] الأول: أنه يضمن نصف الدية؛ لأنه مات من مضمون وغير مضمون، وحكاه الرافعي في كتاب موجبات الضمان عن حكاية ابن المرزبان وغيره، وهذا ما [أشار إليه] النواوي، وقال الإمام: إنه الذي ذهب إليه أهل التحقيق. وفي "الحاوي" في آخر الفصل: أنه الظاهر من مذهبه الذي أشار إليه في "الأم"، ولم يحك الماوردي

الوجه الأول الذي حكاه الشيخ، وكذا غيره من العراقيين الذين ذكرناهم، فلعل مراد الشيخ ومن أطلق هذا اللفظ به – وجوب نصف الضمان؛ لأن ما زاد [على ألم النعال لا ينضبط، وهو عدوان قد اقترن بما ليس بعدوان؛ فيوزع الضمان] عليهما؛ كما قلنا فيما إذا وقع الضرب أو الختان في حر شديد ونحوه: إنه يجب نصف الضمان؛ لما ذكرناه. [وقد] حكى القاضي أبو الطيب في المسألة وجها آخر: أنه لا ضمان؛ لأنه سقط به الحد، فلا يتعلق به ضمان، وهذا ما اختاره في "المرشد". قلت: ويشتبه أن يكون مخرجا من نص الشافعي – رضي الله عنه -[على] أنه إذا ضرب الضعيف بالسوط، وكان يجب أن يضربه بإثكال النخل – أنه لا ضمان عليه؛ كما حكاه أبو الطيب قبيل باب صفة السوط، لكن الذي حكاه البندنيجي عن النص: [الضمان] في مسألة الكتاب، ويمكن أن يفرق بأن الضرب ثم كان الأصل فيه السياط، فإذا فعل كان أقرب إلى نفي الضمان، بخلاف ما نحن فيه؛ فإن الأصل فيه الضرب بالنعال ونحوها، والله أعلم. قال ابن الصباغ: وأصل الخلاف في الضمان وعدمه: أنه إذا ضرب في شدة الحر [أو البرد]، هل يضمن أم لا؟ وهذه الوجوه [كلها] مفرعة على المنصوص. أما إذا قلنا بمقابله، فلا يضمن شيئا كما حكاه الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ، وكذا إذا قلنا بجواز الضرب [به و] بالسياط والنعال، على ظاهر المذهب في "الكافي"، والأصح في "التهذيب". قال القاضي الحسين: وقائله قال: حديث علي –كرم الله وجهه- أراد به الزيادة على الأربعين؛ فإنه شيء رواه بعده صلى الله عليه وسلم وها هنا لم يزد على الأربعين؛ فلم يلزمه شيء، والحق قتله. قال الماوردي: وقد روي أن عمر لما أمر بجلد ابنه في الشراب، قال له ابنه:

يا أبت، قتلتني! فقال: الحق قتلك، وهذا المحدود هو عبيد الله، حده لما [أن] شم منه رائحة الخمر، ثم اعترف بأنه شرب الطلا. تنبيه: ظاهر قول الشيخ: فقد قيل: يضمن بقدر ما زاد على ألم النعال – يقتضي أن المنصوص: أنه يضرب بالنعال ونحوها أربعين ضربة من غير زيادة عليها، وإليه يرشد – أيضا - ما قاله الماوردي بعد حكاية الوجه الذي نقله عن الجمهور في الفصل قبل هذا، كما حكيته عنه. وكلام الإمام الذي حكيناه عنه في توجيه تعين الضرب بالسوط يقتضي: أنا إذا ضربناه بالنعال ونحوها، نبلغ به ما يعادل ألمها ألم أربعين ضربة بالسوط، ويعضده أنه قال: إذا ضربه بالنعال وأطراف الثياب، فأفضى إلى الهلاك- فلا ضمان. هكذا قال الأصحاب، وهو مشروط بوقوع الضربات على حد يعدل بأربعين جلدة من غير مزيد، وعلى ذلك جرى البغوي؛ حيث قال: ولو ضرب الشارب بالنعال وأطراف الثياب والأيدي قدر أربعين جلدة يجوز. وكذلك الرافعي في كتاب موجبات الضمان؛ حيث قال: لو ضربه أربعين جلدة فمات، فأصح القولين: [أنه] لا ضمان؛ لأن الصحابة أجمعت على أن الشارب مضروب أربعين جلدة، وعدلت ما كان بهذا القدر، وكأن [هذا] – والله أعلم - أخذ من قول الشافعي – رضي الله عنه - في الخبر، فقومه بأربعين. فائدة: حد الشرب إنما يجب إذا أقر الشارب أنه شرب مسكرا، وقامت عليه بينة بذلك، ولا يفتقر في الشهادة أن يقول [الشاهد]: شرب وهو غير مكره، أو مع علمه بأن ما شربه مسكر؛ بل يكفي أن يشهد أنه رآه يشرب شرابا [شرب منه غيره] وسكر منه؛ لأن الظاهر علمه بالحال. نعم، إن [ادعى

أنه] لم يعرف أنه مسكر لم يحد. وهذا بخلاف الشهادة على الزنى؛ حيث لا تسمع حتى يفسر الشاهد الزنى؛ لأن الزنى يعبر به عن الصريح وعن دواعيه؛ قال صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان"، بخلاف الشرب، واعتبر الماوردي في "الأحكام" أن يتعرض الشاهد للاختيار في الشرب. أما إذا وجد شخصا سكران، أو شم منه رائحة الخمر، أو تقيأ مسكرا – لم يجب عليه الحد؛ لاحتمال حصول ذلك من غير الخمر، وإن كان منه فيحتمل أنه لم يعرف [أن ذلك] خمر، أو عرف وهو مكره. وفي "الحاوي": أن ابن أبي هريرة قال: يحد بالسكر، إلا أن يدعي ما يسقط الحد، واستدل له [بأن عثمان قال:] "ما تقيأ إلا وقد شربها"؛ فأمر عليا بإقامة الحد عليه. ونسب الماوردي في الأحكام هذا إلى أبي عبد الله الزبيري. ولا يقيم [حد الشرب] على الأحرار غير الإمام [أو نائبه] على المشهور، وفيه ما ذكرناه في باب حد الزنى. ويقيمه على العبد مولاه، وهو المذهب، وفي "تعليق" القاضي الحسين عن بعضهم حكاية وجهين فيه، وحكى الرافعي وجه المنع عن رواية أبي خلف الطبري عن رواية القفال، والفرق بينه وبين حد الزنى: أن للسيد في بضع الأمة حقا، وكذلك في بضع العبد؛ ألا ترى أنه لا ينكح إلا بإذن سيده، فمكن من جلد المملوك؛ لجنايته على محل [حقه! والشرب] بخلافه. قال: ومن زنى دفعات، [أو سرق دفعات]، أو شرب المسكر دفعات ولم يحد – أجزأه عن كل جنس حد واحد؛ لأن سببها واحد فتداخلت؛ لحصول الحكمة. قال القاضي الحسين: ولا نقول في الزنى مثلا الحد يقابل الزنية الأولى، بل

يقابل الزنيات كلها؛ لأنه يؤدي إلى إخلاء بعض الزنيات عن الموجب؛ كما لو وطيء في النكاح الفاسد مرارا؛ فإنه يجب [بحد] مهر واحد، ثم هو يقابل الوطئات. قال الإمام: وكان شيخي يقول: جملة الحد يقابل بكل زنية، وإذا انتفى عن فكر الفقيه التقسيط فلا مشاحة بعد ذلك في العبارات. وقد تردد العلماء على وجه آخر، فقال قائلون: تجب حدود على أعداد الزنيات، ثم تتداخل، وقال قائلون: الزنيات إذا لم يتخللها حد كالحركات في زنية واحدة، وهذا أقرب؛ فإن الوجوب، والسقوط يجر خبلا واضطرابا في الكلام. وفي "فروع" ابن الحداد: أن المرأة إذا ثبت عليها الزنى بلعان زوجين وهي بكر في الحالتين، وجب عليهما حدان. قال القفال: وعامة أصحابنا أنكروا ذلك، وقالو: هما حدان وجبا لله من جنس واحد؛ فتداخلا. أما إذا شرب فحد، ثم شرب [ثانيا] حد ثانيا، وهكذا في بقية الصور. ولو زنى وهو بكر فحد، [ثم زنى فحد وهو بكر] [،ثم زنى وهو بكر] –كفاه تغريب سنة عن الجميع. قال: وإن زنى وهو بكر، فلم يحد حتى زنى وهو محصن –جلد ورجم؛ لأن تغاير الواجب يدل على تغاير الحكمة؛ فأشبه ما لو زنى وشرب، قال الماوردي: ولا يغرب؛ لأن رجمه يغني عنه. وفي "الرافعي" حكاية وجه: أنه يغرب [بعد الجلد و] قبل الرجم. وما ذكره الشيخ هو ما صار إليه ابن الحداد، كما حكاه الرافعي في اللعان، وادعى الشيخ أبو علي أنه ظاهر المذهب، ورأيته في " [شرح] الفروع" للقفال،

وقال: إنهم لم يختلفوا فيه، وكذا لم يورد القاضي الحسين هنا سواه، وكذلك البندنيجي، وقال: إن بهذا تأول أصحابنا ما روي عن علي –كرم الله وجهه- أنه جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة. قال [الشيخ]: ويحتمل أن يقتصر على رجمه؛ لأنهما من [جنسين اتفق موجبهما]؛ فدخل أخف الحكمين في أغلظهما؛ كما يدخل الوضوء في الجنابة. وقد حكى الماوردي الوجهين عن الأصحاب في باب حد الزنى، وكذلك الإمام في باب قاطع الطريق، وهما جاريان – كما قال الرافعي - هنا في ما إذا زنى المحصن، ثم نقض العهد، واسترق، فزنى ثانيا – في دخول الجلد في الرجم، وقد ادعى الإمام أن الثاني هو المذهب، وعليه جرى الغزالي فجعله في "الوسيط" الأظهر، وهو الموافق لما حكاه الماوردي في كتاب اللعان؛ حيث قال حكاية عن أبي اسحاق: وإذا جمع بين حدين على القاذف لزوجته [يرميها بزنى في حال الزوجية]، وبعد البينونة بزنى آخر؛ لاختلاف حكمهما – وجب إذا زنى وهو بكر، فلم يحد حتى زنى بعد إحصانه: أن يحد حدين؛ لاختلاف حكمهما وإن تجانسا؛ لأن الحد الأول: جلد، والثاني: رجم؛ فيجلد ويرجم. قال: وهذا غلط؛ لأن حد الزنى من حقوق الله – تعالى - فجاز أن يدخل أخفهما في أغلظهما عند التجانس، ولم يجز مثل ذلك في حقوق الآدميين. وعلى الأول قال الشيخ أبو علي – كما حكاه الرافعي في اللعان -: لو زنى العبد، ثم عتق، فزنى قبل الإحصان – فعليه خمسون؛ لزناه في الرق، ومائة؛ لزناه في الحرية؛ لاختلاف الحدين. والأصح: أنه يجلد مائة، [ويدخل الأقل في الأكثر، ويغرب. قال: وعلى هذا: لو زنى وهو حر بكر، فجلد خمسين، وترك لعذر [قام به]،

فزنى مرة أخرى – فيجلد مائة،] وتدخل الخمسون الباقية فيها، وهذا قد صرح به الرافعي في باب حد قاطع الطريق أيضا، وقال – حكاية عن "التهذيب" -: إن الزنى الثاني لو كان بعد الإحصان، إنه يجلد خمسين ثم يرجم. ثم قال: ويشبه أن يكون [على] الخلاف المذكور في الحر فيما إذا زنى [وهو] بكر، ثم زنى وهو [محصن] ثيب. قال: وإن زنى – أي: وهو بكر- وسرق وشرب الخمر، وجب لكل واحد [منها] حد؛ لأن أسبابها مختلفة فلم تتداخل. قال: فيبدأ بحد الشرب، ثم يجلد [في الزنى]، ثم يقطع في السرقة؛ تقديما للأخف فالأخف؛ إذ هو أقرب إلى استيفاء الكل، وسواء تقدم ما قدمناه أو تأخر. وإتيان الشيخ بلفظة "ثم" المقتضية للترتيب والتراخي؛ ليعرفك أنه لا يحد للزنى عقيب جلده عن الشرب، ولا يقطع للسرقة عقيب جلده للزنى، [بل] لا يستوفي كل حد حتى يبرأ مما قبله، كما صرح به الأصحاب والشيخ من بعد. لكن حد السرقة [عقيب جلد الزنى] يقام قبل التغريب، أو يؤخر عنه؛ لأنه من تمام حد الزنى؟ لم أر للأصحاب تعرضا له، بل لفظ الشافعي – رضي الله عنه - يدل على عدم وجوبه؛ لأنه قال – كما نقله الماوردي -: إذا اجتمعت على رجل حدود وقتل بدئ بحد القذف، ثم حبسه، فإذا برأ حد للزنى، فإذا برأ قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى من خلاف. لكن لك أن تقول: في لفظ الشافعي – رضي الله عنه - ذكر القتل، وقد قلتم: إن التغريب يغني عنه الرجم، [فكذلك القتل يغني عنه]، ولفظ الإمام: إنه يجلد للشرب، ثم يتركه حتى يندمل، ثم يجلد للزنى ويتركه حتى يندمل،

ثم يقطع. وهذا يدل على أنا لا نغربه قبل القطع؛ لإمكانه بعد القطع. أما إذا كان قد زنى وهو محصن فواجبه القتل؛ فيؤخر حده عن القطع إن لم يندرج القطع في القتل –كما ستعرفه- ولو كان مع هذه الحدود تعزير، قال الماوردي: يقدم على جميعها؛ لأمرين: أحدهما: أنه أخف. والثاني: [أنه] من حقوق الآدميين في الأغلب. قال: وإن كان معها حد قذف، فقد قيل: يبدأ به قبل [حد] الشرب؛ لأنه حق آدمي، وحقوق الآدميين مبنية على المضايقة؛ ألا ترى أن القاذف لا يفيده في إسقاطه الرجوع عن الإقرار به، بخلاف حقوق الله تعالى. وهذا ما نص عليه الشافعي – رضي الله عنه - في كتاب الجراح؛ حيث قال: يبدأ بحقوق الآدميين ثم بحقوق الله تعالى. واختاره أبو اسحاق المروزي وجماعة، وهو أصح عند القاضي أبي الطيب، وكذا الأئمة كما حكاه الرافعي. وقيل: يبدأ بحد الشرب، ثم بحد القذف؛ لأنه أخف فكانت البداية به أولى؛ لأنه أقرب إلى استيفاء الحدود؛ ولهذا المعنى بدأنا به على حد الزنى، وهذا قول ابن أبي هريرة، واختاره في "المرشد"، وصححه في "المهذب". والوجهان يجريان فيما لو اجتمع عليه حد زنى وهو بكر، وقطع الطرف قصاصا، كما قاله القاضي الحسين وغيره. ولو اجتمع قطع [في] السرقة وقطع قصاص في عضو آخر، فلا خلاف [في] أنه يقدم القطع في القصاص، وإن كانت الجناية متأخرة عن السرقة. قال: ولو اجتمع قتل قصاص وقتل في المحاربة قدم السابق منهما؛ لأنهما استويا في تعلق حق الآدمي؛ فرجح بالسبق كما في غير المحاربة. فعلى هذا: إن كان السابق قتل المحاربة، قتل فيها، وتعين حق الآخر في الدية، وإن كان السابق قتل القصاص، فإن استوفاه تعين حق الآخر في الدية على الأصح.

قال الرافعي: وهل يصلب؟ فيه الخلاف المذكور فيما إذا مات المحارب قبل أن يقتل. وهذا ما أبداه العمراني في "الزوائد" تخريجا من عند نفسه، وجزم في "الحاوي" بعدم الصلب، وكذلك الطبري. وإن عفي عن القصاص، قتل للحرابة، وصلب، ولو كان بدل القتل في المحاربة قتل [للزنى]، فعن [كتاب] ابن كج [حكاية] وجهين: أحدهما: أنه يقتل رجما بإذن الوالي؛ ليتأدى الحقان. وأصحهما: أنه يسلم إلى الولي ليقتله قصاصا، وهو الذي ذكره القاضي الحسين في "تعليقه". ولو اجتمع عليه حد ردة ورجم، قال القاضي [الحسين]: يبدأ بقتل الردة؛ لأن فسادها أشد. وقال الماوردي: يرجم للزنى، ويدخل فيه قتل الردة [؛ لأن الرجم أزيد نكالا؛ فيدخل فيه الأقل. ولو اجتمع قتل الردة]، وقتل في قطع الطريق، ورجم –قال القاضي الحسين: فإن قلنا: قتل قاطع الطريق قصاص قدم، وإن قلنا: حد، فكذلك؛ لأنه يتعلق بحق الآدمي. قال: وإن اجتمع [عليه] حدان، فأقيم [عليه] أحدهما –لم يقم الآخر، [أي:] إذا كان غير قتل، حتى يبرأ من الأول؛ لأن المقصود هو الزجر لا القتل، فلو والينا بينهما؛ لأفضى ذلك إلى القتل. أما لو كان الثاني قتلا فلا يؤخر، قال الرافعي وغيره. قال: وإن اجتمع قطع السرقة وقطع المحاربة؛ قطعت يده اليمنى للسرقة والمحاربة؛ لاجتماع سببها، وهل تقطع الرجل معها، أي: قبل اندمالها؟ قيل: تقطع؛ لأن قطع اليد والرجل حد واحد؛ فجازت الموالاة بينهما. قال أبو

الطيب وابن الصباغ: وهذا بناء على أن قطع اليد في المحاربة؛ لأجلها، كما حكيناه عن ابن أبي هريرة وأبي علي الطبري. وقيل: لا تقطع، أي: [حتى تندمل اليد؛ لاختلاف سببها؛ فإن اليد تقطع لأجل أخذ المال في غير الحرابة، والرجل تقطع لأجل المحاربة؛ فأشبه حد الزنى مع حد الشرب، وهذا بناء على أن قطع اليد عند أخذ المال في المحاربة يكون كقطع السرقة، كما حكيناه من قبل عن أبي اسحاق. فروع: إذا قطع يد إنسان في المحاربة، وأخذ المال – نظر: إن قطع يمينه، فإن قلنا: لا يتحتم، وعفا، أخذ الدية، وقطعنا يمين المحارب ورجله اليسرى حدا، وإن لم يعف، أو قلنا بالتحتم، قطعت يمينه بالقصاص، وتقطع رجله حدا؛ كما لو قطع الطريق ولا يمين له. وحكى الماوردي وجها – وقال: إنه الأصح -: أنه تقطع يده اليمنى قصاصا، وتقطع يده اليسرى ورجله اليمنى عن المحاربة؛ كما تقدم فيما إذا أخذ المال في المحاربة ويمينه مفقودة. ويظهر على الأول: ألا يوالي بين قطع اليد والرجل؛ لأن قطع اليمين يقع قصاصا، وقطع الرجل يقع حدا، ولو اجتمع قطع قصاص وقطع [حد في عضو] لم يوال بينهما. ولو قطع المحارب اليسار متقدما على أخذ المال في الحرابة أو متأخرا عنه، فإن قلنا: لا يتحتم، وعفى عنه، أخذ الولي الدية، وقطعت يده اليمنى والرجل [اليسرى]، وإن لم يعف، أو قلنا بالتحتم، قطعت اليسرى، وتأخر قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى إلى اندمال اليسار. وإنما قدمنا قطع اليسار؛ لأنه حق آدمي، كما ذكرنا، ولما ذكرناه من المعنى فارقت العقوبات الحقوق المالية؛ حيث ترددت الأقوال في أنه [هل] يقدم حق

الله -تعالى- أو حق الآدمي، أو يستويان؛ لأنهما استويا في التأكد وعدم السقوط بالشبهات؟ ويعارض فيهما حاجة الآدمي والتأكد بالإضافة إلى الله – تعالى - ومصرفه للآدمي أيضا؛ فتردد القول فيها، هكذا ذكر الفرق الإمام وغيره. وفرق القاضي الحسين بأن القصد من القطع في السرقة وقطع الطريق: التنكيل والزجر، وقد حصل ذلك المعنى بقطعهما قصاصا؛ ألا ترى أنه لو سقط ذلك بأكله سقط [القطع]، ولو قطع الجلاد يساره سقط القطع في يمينه؟! والمقصود من الزكاة ونحوها إغناء المساكين وإيصالها إلى المستحق؛ ألا ترى أنها لا تسقط بتلف المال ولا تتداخل كحقوق الآدميين؟! ولو قطع يمين إنسان [في غير محاربة] [قطعا يستحق به أخذ يمينه قصاصا وأخذ المال في المحاربة]، فإن عفا مستحق القصاص قطعت يمينه ورجله اليسرى حدا، وإلا فيقدم القصاص، وقطع الرجل اليسرى يقع بعده، لكن في الحال [أو يمهل إلى] الاندمال؟ فيه وجهان: أصحهما في "الرافعي" –وهو المذكور في "الوجيز" -: الأول؛ لأن المولاة بين العقوبتين مستحقة لولا ذلك القصاص، وما يخاف من الموالاة لا يختلف بين أن يكون قطع اليمين عن الحد – أيضا - أو عن القصاص. والثاني: يمهل إلى الاندمال؛ لأن اليمين إذا لم تقطع حدا فالمستحق عن جهة الحد قطع الرجل؛ فأشبه ما إذا استحق طرفاه عن جهتين. وهذا ما أورده القاضي [الحسين]، وهو الذي يظهر مما ذكرناه عن القاضي أبي الطيب وابن الصباغ من بناء الخلاف المذكور في الكتاب في الموالاة بين قطع اليد والرجل، فيما إذا اجتمع عليه قطع السرقة وقطع [في] المحاربة –على أن قطع اليد تقع لأجل المحاربة [أو لا]؟ ولأجل ذلك قلت في أول هذه الفروع: إنه ينبغي ألا يوالي بين قطع اليد والرجل، وإذ قد جرى الخلاف في هذه الصورة فهو في تلك أولى.

ولو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى في غير المحاربة، وأخذ المال في المحاربة: فإن عفا مستحق القصاص عنه قطعناهما في المحاربة، وإلا قطعتا قصاصا، وسقط قطع المحاربة. ولو قطعهما في المحاربة وأخذ المال فيها، فإن قلنا بعدم التحتم فالأمر كما تقدم، وإن قلنا بالتحتم قطعناهما قصاصا، وسقط الحد كذلك، قاله الشيخ أبو حامد وابن الصباغ والقاضي الحسين، وسواء قطع العضوين قبل أخذ المال أو بعده. وقال في "الحاوي": إذا قلنا بعدم تحتم القطع فالأمر كذلك، وإن قلنا بتحتمه: فإن تقدم أخذ المال واقتص في العضوين [سقط الحد، وإن تقدم قطع العضوين] ثم أخذ المال فلا يسقط القصاص حد قطع الطريق، بل تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى؛ [لأن اليد اليمنى] والرجل اليسرى مستحقتان القطع بالقصاص حتما، وكأنه قطع الطريق وليس له يد يمنى ولا رجل يسرى. وتبعه [في] ذلك الشيخ في "المهذب". قال: وإن كان مع الحدود قتل في المحاربة، فقد قيل: يوالى بين الحدود [، أي]: ولا ينتظر في استيفاء كل حد برء ما استوفي قبله؛ لأن قتله متحتم فلا معنى للتفريق، وهذا ما ينسب إلى أبي اسحاق. وقيل: لا يوالى؛ لأنه لا يؤمن أن يموت قبل استيفاء ما بعده؛ فيبقى في ذمته يستوفى [منه] يوم القيامة، كذلك قال [القاضي] أبو الطيب. وبالقياس على ما لو كان مع الحدود قتل في غير المحاربة؛ فإنه لا يوالى. وهذا أصح في الطرق، والمختار في "المرشد"، على أنه قد حكى فيما علق عن الشيخ أبي بكر الطوسي حكاية وجه فيما إذا اجتمع مع الحدود قتل في غير الحرابة: أنا نقيمها بلا إمهال. لكن المذهب المشهور الأول، ومحل الإمهال فيما عدا الحد الأخير.

فروع: لو زنى المرتد في حال ردته أو شرب، فهل يكتفى بقتله أم يقام عليه الحد ثم يقتل؟ فيه وجهان عن رواية ابن كج، وأصحهما: الثاني، وقد حكيناهما في باب الردة، وحكاهما الماوردي في دخول حد السرقة في القتل بالردة -أيضا- وهما جاريان فيما لو سرق ثم قتل في المحاربة، في أن حد السرقة هل يندرج في القتل، أم يقطع ثم يقتل، كما حكاهما ابن الصباغ؟ ويظهر جريانهما فيما إذا سرق ثم زنى وهو محصن. إذا اجتمعت عليه حقوق متمحضة للآدميين؛ بأن قذف شخصا، وقطع يد آخر، وقتل آخر –بدئ بحد القذف وإن كان متأخرا عن القطع والقتل، ثم يترك حتى يبرأ ظهره، خشية أن يموت قبل أن يستوفى منه قصاص النفس، ثم تقطع يده وإن كان القتل متقدما، ويقتل من غير إمهال؛ لأن في ذلك جمعا بين الحقوق، وإذا أمكن استيفاؤها فلا سبيل إلى تفويت بعضها. وأبدى الإمام ترددا – أقامه الغزالي وجهين - فيما إذا رضي مستحق القتل بتعجيل القطع [قبل براءة ظهره من الجلد، في أن يبتدر] القطع بعد الجلد، ورأى الأظهر والأفقه: عدمه؛ لأنا لو أتبعنا الجلد القطع؛ فليس ما يعرض من موت بسبب توالي العقوبتين واقعا عن القصاص المستحق في النفس؛ فهو يفضي إلى موت غير معتد به، ولا سبيل إلى اهدار الروح. نعم، لو علمنا قطعا أنه لو جلد وقطع على التوالي لم تفض نفسه على الفور، وإن صار ألما به، فإذا قال صاحب النفس: عجلوا وأنا أقبل، فيجب القطع ها هنا بأن له ذلك، وما قدمناه فيه إذا كنا نجوز أن تفيض نفسه لتوالي العقوبتين. قلت: وما ذكره من المعنى المفضي لمنع التوالي، موجود هنا؛ لأن مستحق القصاص في النفس لا يتعين حقه على الفور كما تقدم، [وقد صرح] به الإمام هنا؛ فقد يقول ذلك ثم يعن له ألا يستوفي القصاص على الفور؛ فيفضي إلى ذهاب نفسه هدرا [كما تقدم] أيضا.

وقوله: أنا أستوفي، لا يحصر حقه في الفورية؛ لأنه وعد، والوعود لا تلزم عندنا أمرا، والله أعلم وقد ذكرنا في باب العفو والقصاص تتمة ما ذكره الإمام هنا. قال: ومن وجب عليه [حد] الزنى [والسرقة والشرب]، فتاب وأصلح، ومضى عليه سنة، أي: قبل الظفر [به] – سقط عنه الحد في أحد القولين. أما في حد الزنى؛ فلقوله تعالى: {فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء: 16]. [وأما في السرقة؛ فلقوله تعالى: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم}] [المائدة: 39]. وأما في حد الشرب؛ فلأنه إذا سقط حد الزنى والسرقة به، فلأن يسقط حد الشرب –وهو أخف في القدر والصفة- كان أولى. وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "التوبة تجب ما قبلها"، وقال: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له". ولأن كل حد من هذه الحدود خالص حق لله -تعالى- فسقط بالتوبة كحد قاطع الطريق. وهذا ما صححه في "المهذب"، وهو الأظهر في "الحاوي"، وقال البندنيجي: إنه المذهب. ويعضده ما حكاه القاضي أبو الطيب قبيل باب قتال أهل الردة عن الشافعي؛ حيث قال: [إن] الشافعي – رضي الله عنه- قال: ويجب

لمن أصاب حدا أن يستتر بستر الله -تعالى- وأن يتقي الله ولا يعود؛ فإن الله –تعالى- يقبل التوبة عن عباده. قال: ولا يسقط في الآخر؛ لأن العمومات الواردة فيها لم تفصل بين ما قبل التوبة وما بعدها، بخلاف قاطع الطريق، ولأنه حد لا يختص بالمحاربة؛ فلم يسقط بالتوبة كحد القذف، وهذا أصح عند النواوي. والقائلون بالأول حملوا العمومات على حالة الإصرار. وأما القياس على حد القذف، فلهم منع الحكم فيه -أيضا-[لأن الماوردي قد حكى عن بعض أصحابنا: أنه يسقط بالتوبة -أيضا-] وهو قول قديم للشافعي؛ كما حكيناه في باب حد قاطع الطريق، فعلى هذا اندفع القياس. وعلى الصحيح، وهو أنه لا يسقط بها؛ كما جزم به الجمهور –فالفرق: أنه محض حق آدمي، وحقوق الآدميين مبنية على المضايقة والمشاحة، بخلاف حد الزنى ونحوه؛ فإنه محض حق الله تعالى، وحقوق الله تعالى مبنية على المساهلة والمسامحة. أما إذا حصلت التوبة بعد الظفر، فالمذكور في "الشامل" و"الحاوي": أنها لا تؤثر، وعلى ذلك جرى غيرهما، كما ستعرفه. وكأنهم –والله أعلم- أخذوا ذلك من قول الشافعي –رضي الله عنه- في "المختصر" في قطاع الطريق: ومن تاب منهم قبل أن يقدر عليه، سقط عنه الحد، ولا تسقط حقوق الآدميين، ويحتمل أن يسقط كل حد لله -تعالى- بالتوبة. وقال في كتاب الحدود: وبه أقول. ففي أحد القولين ألحقه بقاطع الطريق، وأشار في ضمن الاحتمال إلى أنه غير ملحق به، وقاطع الطريق لا يسقط حده بالتوبة بعد الظفر كما أفهمه لفظ الكتاب العزيز؛ فكذلك غيره من طريق [الأولى، ووجه] الأولوية: أن حد قاطع الطريق يسقط بمجرد إظهار التوبة، وغيره ليس كذلك. وقد حكى القاضي الحسين في باب حد الزنى عن بعض الأصحاب هذه الطريقة، وقال: إن من أصحابنا من عكس، فقال: إذا تاب عن حد الزنى قبل

القدرة عليه سقط قولا واحدا، وإن تاب بعد القدرة فقولان، وإن منهم من قال على الإطلاق: قولان، وهو الصحيح؛ لأنه قبل المرافعة وبعدها مقدور عليه، وهذا الطريق هو الذي حكاه في باب حد قاطع الطريق، وأورده الرافعي مع الأول، واقتضاه إطلاق الإمام في باب حد الزنى؛ فإنه ذكر بعد حكاية [القولين فيه]، وتصحيح عدم السقوط –كما صار إليه الرافعي وحكاه عن الجديد - سؤالا، فقال: فإن قيل: أليس [قد] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله". ولو كان الحد لا يسقط بالتوبة لكان فيما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريض على كتمان الحق- قلنا: لا يمتنع أن تكون توبة المستتر الذي لا يبدي صفحته بمثابة توبة [قاطع الطريق قبل الظفر به، وفيما ذكرناه احتمال؛ فإن سبب قبول توبة] المحاربين عطفهم على الطاعة، وردهم بالاستمالة إليها، وهذا المعنى لا يتحقق فيما ذكرناه، والمسألة محتمله، وتمام الحديث يدل على أن الوبة بعد ظهور وجوب الحد لا تنجع؛ فإنه – عليه السلام - قال في تتمة الحديث: "فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه حد الله تعالى" وهذا نص في أن التوبة لا تنفع، ووجهه من جهة المعنى: خشية صيرورتها ذريعة إلى إبطال حكم الحد؛ إذ الغرض هو الردع والزجر، ولا يعجز مرتكب ما يوجب الحد عن إظهار التوبة، ثم الحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. ووجه مقابله – على هذا التقدير -: أنه روي في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال لماعز: "ارجع فاستغفر لله وتب إليه"،

ويروى أنه قال: "هلا رددتموه [إلي] لعله يتوب". قال الرافعي في آخر [الفصل]: [وقد] يرجع حاصل هذا الخلاف إلى أن إصلاح العمل، هل يشترط فيه التوبة من غير قاطع الطريق، أم لا؟ وفيه خلاف سنذكره، فإن قلنا: نعم، فلا بد من مضي زمان يظهر فيه الصدق والصلاح؛ فلا تكفي التوبة بعد الرفع. ثم التوبة عبارة عن: الإقلاع عما فعله في الحال، والندم على الماضي، والعزم على عدم الفعل، واعتبر فيها بعضهم ألا يكون ذلك لأمر دنيوي. والمراد بالإصلاح: إصلاح العمل، وإنما اعتبر؛ لظاهر [نص] الكتاب في الآيتين، والحكمة فيه: أنه قد يظهر التوبة للتقية؛ فلا تعلم صحتها حتى يقترن بها الإصلاح في زمان يوثق فيه بالتوبة، وهذا بخلاف التوبة من قاطع الطريق، وقد

تقدم الفرق بينهما. وهذا هو المشهور، والذي جزم به العراقيون والقاضي الحسين. وقد حكينا عن الإمام وجها في أن إصلاح العمل لا يعتبر ها هنا -أيضا- وأن الأصحاب مجمعون عليه؛ كإظهار الإسلام تحت ظلال السيوف، قال: ثم سبيل التفريع –على ما ذكره القاضي -: [أن] من أظهر التوبة امتحناه سرا وعلنا، فإن ظهر الصلاح في أعماله حكمنا بسقوط الحد، وإن بدا نقيد ذلك [فالتوبة لا تسقط] هذا الحد. وهذا كلام مضطرب؛ فإن هذا التائب إن حبس كان محالا، وإن خلي سبيله، فكيف يتبع وكيف يعرف صلاحه، وهل هو مرعي في قبيل ما تاب عنه أو في جميع الأحوال؟ ولا ضبط لهذا الكلام. وأنا أقول: ذكر التوبة [المجردة قبل الظفر يدل على سقوط الحد بها، وذكر التوبة] مع إصلاح العمل يدل على [أن] المغفرة باطنة، والحدود مقامة. وقال الرافعي: يشبه أن يقال في التفريع على مذهب القاضي: إن التوبة إذا ظهرت امتنعنا عن إقامة الحد عليه، فإن ظهر الصلاح من بعد، أو لم يظهر ما يخالف التوبة فذاك، وإن ظهر ما يخالفها أقمنا الحد عليه، والله أعلم. واعتبار السنة في إصلاح العمل بعد التوبة؛ لتمضي عليه الفصول الأربعة التي قد تتغير فيها الطباع، وسيأتي [في ذلك]-أيضا- خلاف في كتاب الشهادات، إن شاء الله تعالى. فرع: حكى القاضي الحسين في باب حد الزنى أن ابن المرزبان قال: إذا قلنا [إن] التوبة تسقط حد الزنى، فقتله قاتل بعدها وهو محصن –فلا يختلف المذهب: أن عليه الدية، وهل عليه القود؟ فيه وجهان، وجه المنع: بشبهة الخلاف. قلت: وهذا شبيه بالخلاف الذي مضى فيما إذا قتل من أقر به بعد أن رجع عنه.

فروع نختم بها كتاب الحدود -: لا يجوز للإمام العفو عن الحد، ولا تجوز الشفاعة فيه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الشافع والمشفع"، قال الماوردي: وقد أتي معاوية بلصوص، فقطعهم حتى بقي واحد منهم، فقدم ليقطع، فقال: يميني أمير المؤمنين أعيذها ... بعفوك أن تلقى نكالا يشينها يدي كانت الحسناء لو تم سبرها ... ولن تعدم الحسناء عابا يشينها فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة ... إذا ما شمالي فارقتها يمينها فقال معاوية: كيف أفعل بك وقد قطعت أصحابك؟! فقالت أم السارق: اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها؛ فخلى سبيله، فكان أول حد ترك في الإسلام. الاعتبار في الحدود بحالة الوجوب [لا بحالة الأداء، حتى لو وجب الرجم أو الحد في الزنى على حر ذمي، ثم نقد العهد والتحق بدار الحرب، فسبي واسترق – يقام عليه الرجم أو الجلد مائة؛ اعتبارا بحالة الوجوب]. والاعتبار في صفته بحالة الأداء، فإن وجب وهو نضو الخلق، فصح بدنه قبل الإقامة –استوفي بالسياط. ولو وجب وهو صحيح، فصار نضو الخلق قبل الاستيفاء- أقيم عليه بإثكال النخل. قال القاضي الحسين: ولا بد للإمام في إقامة الحدود من النية، حتى لو ضربه لمصادرة أو لمعنى آخر وعليه حدود، لا يحسب عنها. متعاطي الجرائم الموجبة للحدود إذا أقيمت عليه، لا تقام عليه في [الدار] الآخرة مرة أخرى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أصاب حدا فعجل عقوبته في الدنيا فالله

أعدل من أن يثني على عبده [العقوبة في [الدار] الآخرة، ومن أصاب حدا فستر الله عليه، أو عفي عنه فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه"]. كذا قال الجيلي، ثم قال: وكذلك الحكم في حقوق الآدميين إذا استوفيت، أو عفي عنها، والذي رواه البخاري عن عبادة بن الصامت، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط، فقال: "أبايعكم على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فأخذ به في الدنيا، فهو كفارة له وطهور، ومن ستره الله، فذلك إلى الله: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له". وفي "تعليق" البندنيجي إثبات معنى هذا الحديث [حكما]؛ حيث قال: إذا مات قبل استيفاء الحدود سقط ما كان لله –سبحانه وتعالى- و [كان] حسابه على الله: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. والله أعلم بالصواب. * * *

باب التعزير

باب التعزير "التعزير" معناه في اللغة: التأديب. وفي الشرع: تأديب على ذنب ليس فيه حد ولا كفارة. وخصصه بعضهم بالتأديب الذي يفعله الإمام، دون ما يفعله الزوج بزوجته، والمعلم بالصبي، وقال: هذا يسمى تأديبا. وعلى ذلك [جرى] البندنيجي وابن الصباغ. قال الرافعي: والأول أشهر الاصطلاحين. وأصل "التعزير": من "العزر"، وهو: المنع والزجر، يقال: عزره، إذا دفعه، ومنه سمي النصر: [تعزيرا؛ لأنه يدفع العدو ويمنعه]، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وتعزروه وتوقروه} [الفتح: 9]. ثم التعزير يوافق الحد في [وجه وهو] كونهما شرعا؛ زجرا وتأديبا للصلاح، يختلفان بحسب الذنب، ويخالفه من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن تعزير ذوي الهيئات أخف من تعزير غيرهم، وهم متفقون في الحد. والثاني: تجوز الشفاعة في التعزير والعفو عنه، ولا [يجوز ذلك] في الحد. والثالث: لو تلف من التعزير ضمن على الأصح؛ كما ذكرناه في باب ما تجب به الدية من الجنايات، ولو تلف من الحد كان هدرا، وقد صرح بما ذكرناه [الماوردي] في "الحاوي" و"الأحكام". قال: ومن أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة؛ كالمباشرة المحرمة فيما دون الفرج، أي: من الأجنبية كما بينه في "المهذب"، أو من صبي، وسرقة ما دون النصاب، والقذف بغير الزنى، والجناية بما لا يوجب القصاص، والشهادة

بالزور، وما [أشبه ذلك] من المعاصي – عزر. بين الشيخ بهذه الأمثلة أن التعزير يجب في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة، سواء كانت من مقدمات ما فيه حد كالأمثلة الأول، أو لا [كشهادة الزور]، وأنه لا فرق بين أن يتمحض لله تعالى، أو يتعلق بالآدمي. والأصل في إيجابه – قبل الإجماع؛ كما ادعاه القاضي أبو الطيب - من الكتاب، قوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} [النساء 34]، فأباح للزوج الضرب عند النشوز والمخالفة؛ فكان فيه تنبيه على التعزير.

ومن السنة: ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: في خبر سرقة الثمر: "فإذا أواه الجرين، وبلغ [قيمته ثمن] المجن ففيه القطع، وإن كان دون ذلك ففيه غرم مثله وجلدات نكال"، وغيره من الأخبار التي سنذكرها. وقد عزر عمر – رضي الله عنه - من زور كاتبا. وعن علي – رضي الله عنه - لما سئل عن قول الرجل: يا فاسق يا خبيث، فقال: هي فواحش فيهن تعزير، وليس فيهن حد. وروي عن ابن عباس أنه لما خرج من البصرة استخلف أبا الأسود الدؤلي، فأتي بلص نقب على قوم، فأخذوه في النقب، فقال: مسكين! أراد أن يسرق،

فأعجلتموه، وضربه خمسة عشر سوطا. قال: على حسب ما يراه السلطان، أي: في [الجنس والقدر] على ما سنبينه؛ لأنه غير مقدر ولا مضبوط، فوكل إلى رأيه يعمل فيه ما تقتضيه المصلحة، من الحبس أو الضرب جلدا أو صفعا]. فإن رأى الجمع بينهما فعل، كذا قاله القاضي أبو الطيب والرافعي وغيرهما. قلت: وينبغي أن يكون الضرب في هذه الحالة ينقص عن أدنى الحدود نقصا إذا عدل معه الحبس بضربات لا يبلغ مجموع ذلك أدنى الحدود؛ كما سنصفه، وإلا فيلزم فيه زيادة على أدنى الحدود. وهذا مستمد مما حكيته عن الإمام في تفريق الجلد في حد الزنى. وللسلطان [أن] يقنع بالتبكيت والتوبيخ باللسان إذا اقتضته المصلحة، وكذا له إشهار التعزير في الناس؛ لتكون زيادة في نكال التعزير، وهذا محثوث عليه في شاهد الزور؛ كما قاله الاصحاب في باب ما على القاضي في الخصوم، ويكون إشهاره على باب مسجده إن كان من أهل المسجد، وإن كان من أهل السوق ففي سوقه، وإن كان من قبيلة [أو قبيل] ففي قبيلته [أو قبيله]. والفرق بين القبيلة والقبيل: أن القبيلة: بنو الأب الواحد، والقبيل: الأخلاط المجتمعون من آباء شتى. ويقول في النداء عليه: [هذا] شاهد زور فاعرفوه، قال الماوردي [ثم]: ولا يزاد في هذه الشهرة تسويد وجهه ولا حلق رأسه. ولا فرق في ذلك عند بعض أصحابنا بين أن يكون من ذوي الصيانة أو [من] غيرهم؛ لأن الصيانة قد خرج منها بزوره.

وعن [ابن] أبي هريرة: أن النداء على شاهد الزور مخصوص بغير أهل الصيانة، أما أهل الصيانة فيقتصر معهم على إشاعة الأمر. [وله أن يجرد من ثياب المعزر ما عدا ما يستر عورته، وينادي] عليه بذنبه إذا تكرر منه ولم يقلع عنه؛ كما حكاه الماوردي هنا. قال: ويجوز أن تحلق رأسه، ولا يجوز أن تحلق لحيته، وفي جواز تسويد وجهه وجهان. وقال في "الأحكام": إن الأكثرين جوزوه، [ومنع منه] الأقلون. وقال القاضي أبو الطيب في كتاب الأقضية – وتبعه ابن الصباع -: إنه لا يحلق نصف رأسه، ولا يسخم وجهه، ولا يركبه، ولا يطوف به؛ لأنه مثلة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن المثلة. قال الماوردي: ويجوز أن يصلب في التعزير حيا؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلب رجلا [على جبل يقال له]: أبو ناب. ولا يمنع – إذا صلب- من طعام وشراب ومن وضوء وصلاة، ويصلي مومئا، ويعيد إذا أرسل، ولا يجاوز بصلبه ثلاثة أيام، وفيما دونها النظر إليه. ومدة الحبس إذا رآه هل تتقدر؟ قال أبو عبد الله الزبيري من أصحابنا: نعم، تتقدر بشهر؛ للاستبراء والكشف، وبستة أشهر؛ للتأديب والتقويم. وغيره لم يقدرها.

ويجوز للإمام النفي في التعزير؛ كما قاله الماوردي، وإن ظاهر مذهب الشافعي – رضي الله عنه - أن مدته مقدرة بما دون السنة ولو بيوم؛ كي لا يصير مساويا للتغريب، وكذا صرح به في "الإشراف" عن قول الشافعي، وقد أشار الإمام إلى تضعيف هذا القول في "الغياثي" وإن لم يحكه؛ فإن التغريب بعض الحد، فلو غرب في التعزير [مدة] سنة لم يكن قد بلغ به الحد. ثم جنس ما يضرب به: الثوب، والنعل، والعصا، والسوط، على حسب ما يراه إلا في ضرب الزوج زوجته؛ فإنه يضرب بالثوب، والنعل، وأكثره العصا، ولا يجوز أن يكون بالسياط؛ لخروجه عن العرف، [ولنقصه عن أحكام الحدود]، كذا قاله الماوردي وغيره، ويظهر أن يكون مفرعا على القول بأنه يضرب في حد الشرب بالسوط، وإنه لا يبلغ بالتعزير حد الشرب –فيظهر أن يقال: لا يجوز الضرب في التعزير [بالسياط] أيضا، والله أعلم. ثم حيث يجوز بالسوط فصفته في التعزير وكيفية الضرب [به] قد مضت من قبل في باب حد الزنى. وعلى الإمام في إقامة التعزير –كما قال الأصحاب- مراعاة الترتيب والتدريج في ذلك [كما] يراعيه الدافع للصائل، ولا يرقى إلى درجة وهو [يرى] ما دونها كافيا مؤثرا، كذا صرح به الإمام. وقد ذكرنا أن بعض التعزيرات يتعين لها بعض الأنواع المذكورة على خلاف فيها؛ كما في قاطع الطريق. قال [الشيخ- رحمه الله -]: ولا يبلغ به أدنى الحدود؛ لما روى النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ضرب حدا في غير حد فهو من

المعتدين"، ولأن هذه المعاصي دون المعاصي الموجبة للحد؛ فلا يبلغ بما يجب فيها ذلك، لكن ما المراد بالأدنى الذي لا يبلغه؟ اختلف فيه الأصحاب: فمنهم من قال: لا يبلغ تعزير الحر أربعين، وتعزير العبد عشرين، وهذا ما أورده البندنيجي [والمصنف] وابن الصباغ. ومنهم من قال: لا يبلغ تعزير الحر والعبد] أربعين؛ كما حكاه القاضي الحسين، وتبعه البغوي. ومنهم من قال: لا يبلغه عشرة؛ لما روى مسلم عن أبي بردة الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله"، وروى البخاري في كتاب الحاربين نحوه، وهذا قول ابن سريج؛ كما حكاه القاضي الحسين، وكذا الماوردي، ونسبه في موقع آخر إلى أبي علي بن أبي هريرة، [وغيره نسبه إلى ابن أبي هريرة] وأبي علي الطبري، ووافقهم صاحب "التقريب"، فقال: الخبر صحيح، ولو بلغ الشافعي –رضي الله عنه- لقال به، وقد صح من أقوال الشافعي: "أن من يبلغه مذهب منه، ويصح فيه خبر على خلافه، فحق عليه أن يعتقد الخبر، [ويعتقد

أنه مذهب الشافعي"؛ فإن كل ما أطلقه في المسائل مقيد باستثناء الخبر]، وكأنه لا يقول قولا في واقعة إلا وهو مصرح بأن الأمر كذلك إن لم يصح خبر على خلافة؛ كذا ساقه الإمام. ومنهم من قال: لا يبلغ تعزير مقدمات الزنى، والوطء الحرام الذي لا يوجب [فيه] الحد حد الزنى، وله أن يزيده على حد القذف: فإن كان حرا مقصه عن المائة، وإن كان عبدا نقصه عن خمسين، ولا يبلغ تعزير القذف بما لبس بقذف حد القذف، وله أن يزيده على حد الشرب: فإن كان حرا نقصه عن ثمانين، وإن كان عبدا نقصه عن أربعين، ولا يبلغ تعزير مقدمات الشرب حد الشرب، ومنها: إدارة كأس الماء على الشراب؛ تشبها بشارب الخمر، فإن كان عبدا لم يبلغ عشرين، وإن كان حرا لم يبلغ به أربعين، كذا قاله القاضي الحسين والإمام في الكل. قال الرافعي: وقرب هذا من قولنا: الجناية الواردة على عضو تعتبر بأرش ذلك العضو. وهذا ما قال به القفال، واختاره الروياني في "الحلية"، وصححه القاضي الحسين في "التعليق"، وجعله القاضي أبو الطيب أصلا لمسألة الحكومة، وذكر الإمام تفريعا عليه: أن مقدمات السرقة تعتبر بأغلب حدود الجلد، وهو [حد] الزنى؛ لأن القطع أبلغ من مائة جلدة. وفي "تعليق" القاضي الحسين إطلاق القول على هذا الوجه: بأن الجريمة إذا لم يكن في جنسها حد مقدر كالغيبة والنميمة، لم يبلغ تعزيرها أربعين في طريق، وفي طريق: لا يبلغ به عشرين. وحكى الماوردي في "الحاوي" عن أبي عبد الله الزبيري –من أصحابنا- أنه قال: تعزير كل ذنب مستنبط من حده المشروع فيه، [وأعلاه [فيمن تعرض لشرب الخمر: تسعة] وثلاثون؛ لأن حد الخمر أربعون]، وأعلاه فيمن تعرض [للقذف بغير الزنى]: خمسة وسبعون؛ لأن حد القذف ثمانون؛ كذا قاله في

الحاوي، وقال في "الإحكام" بعد قوله حكاية عنه: " إن تعزير كل ذنب [مستنبط] من حده المشروع فيه"-: وأعلاه خمسة وسبعون؛ تقصيرا به عن حد القذف بخمسة أسواط، فإن كان الذنب في التعرض للزنى روعي ما كان منه، فإن أصابوه نال منها ما دون الفرج ضربا [معا] أعلى التعزير، وهو خمسة وسبعون سوطا، وإن وجدا في إزار لا حائل بينهما متباشرين غير متعاطيين للجماع ضربا ستين سوطا، وإن وجدا غير متباشرين ضربا خمسين سوطا، وإن وجدا في بيد متبذلين عريانين غير متباشرين ضربا أربعين سوطا، وإن وجا جالسين في بيت عليهما ثيابهما ضربا ثلاثين سوطا، وإن وجدا في طريق يكلمها وتكلمه ضربا عشرين سوطا، وإن وجد منهما الغشارة بغير كلام ضربا عشرة أسواط، وإن وجدوه يتبعها ولم [يقفوا على] غير ذلك فخفقات. وهكذا نقول في التعرض لسرقة مال يجب فيه القطع: فإذا سرق نصابا من غير حرز ضرب خمسة وسبعين، وإذا سرق من حرز أقل من نصاب ضرب ستين، وإذا سرق أقل من نصاب من غير حرز ضرب خمسين، وإذا جمع المال في الحرز واسترجع منه قبل اخراجه ضرب أربعين، وإذا نقب الحرز ودخل ولم يأخذ ضرب ثلاثين [سوطا]، وإذا نقب ولم يدخل ضرب عشرين، وإذا تعرض للنقب أو لفتح باب ولم يكمله ضرب عشرة، وإن وجد معه منقب أو كان مراصدا للمال فخفقات، ثم على هذه العبرة فيما سوى هذين. قال الماوردي: وهذا الترتيب وإن كان مستحسنا في الظاهر فقد يجرد للاستحسان فيه عن دليل يتقد ربه. والصحيح الأول، وهو الذي قال أبو الطيب هنا والماوردي: إنه مذهب الشافعي، رضي الله عنه. والحديث فقد قال بعضهم: إنه منسوخ، واحتج بعمل الصحابة بخلافه من غير إنكار، وعن عمر – رضي الله عنه - أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: ألا تبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطا، ويروى: ما بين الثلاثين إلى

الأربعين، ويروى: عشر جلدات. ذكر جميع ذلك عنه أبو بكر ابن المنذر. قال الماوردي: ولو صح فلا يلزم العمل به؛ لجواز أن يرد في ذنب بعينه؛ فلا يجب حمله على جميع الذنوب، ولا على عموم الناس. وقال غيره: إنه محمول على الزيادة على الجلدات العشر إلى استيفاء الأربعين. وقال الشيخ زكي الدين: إن ابن المنذر قال: في إسناد الحديث [مقال]. قال: فإن رأى ترك التعزير جاز؛ لما روى أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود"،

قال الأصحاب: وأدنى درجات الأمر الإباحة، لكن هذا [الحديث] يرويه عبد الملك بن زيد وعطاف بن خالد، وهما ضعيفان؛ فالحجة فيما ذكرناه: ما قاله الشافعي -رضي الله عنه- أنه كان غير شيء يثبت له التعزير صلى الله عليه وسلم فلم يعزر. ومن ذلك ما روي أنه عليه السلام كان يقسم الغنائم، فمر به واحد، فقال: هذه القسمة ليس يراد بها وجه الله. [ويروى] أنه قال: اعدل [يا محمد فلست تعدل، فقال [له]: "لقت خبت وخسرت إن لم أعدل] فمن يعدل"، ولم يعزره. ومن ذلك ما روى عبد الله ابن الزبير أن رجلا خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق، [ثم أرسل إلى جارك"؛ فغضب الأنصاري، فقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك؟! نتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " يا زبير اسق] أرضك، واحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر"، فلو لم يجز ترك التعزير لعزره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قال. [ومن ذلك ما] روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض الأسفار على بعير، فجاءه أعرابي وجبذ رداءه حتى أثرت جبذته في عنقه، وقال: احملني فإنك لا تحملني على بعيرك [ولا] على بعير أبيك؛ فثرنا إليه مالجبل من الحديد، وهممنا بقتله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "عزمت على من سمع كلامي أن يثبت مكانه"، فوقفنا بعضنا على إثر بعض، وأيدينا على مقابض السيوف ننتظر أمر النبي صلى الله عليه وسلم فدعا أسامة، وقال: "احمله على بعير الزاد"، ولم يعزره.

ولأنه ضرب غير محدود؛ فلم يكن واجبا؛ كضرب الزوج زوجته، والوالد ولده، والمعلم صبيلنه. ثم ظاهر إطلاق الشيخ يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون التعزير لمحض حق الله تعالى أو للآدمي فيه حق، والشيخ في هذا الإطلاق تبع الشيخ أبا حامد، وقال في "المهذب": إذا رأى [الإمام] ترك التعزير جاز إذا لم يتعلق به حق آدمي. فأفهم أنه إذا تعلق به حق آدمي لم يجز تركه، وقد صرح القاضي أبو الطيب والماوردي به، وحكاه الإمام وجها وكذا الرافعي، وقاسه على القصاص، وقال: إن قضية ما في "التهذيب" ترجيح مقابلة. قال الإمام: والأول أغوص، وهو جواز الترك وإن كان فيه حق آدمي؛ لأن مقدار التعزير إلى الإمام، والتغليظ بالقول من التعزير، ونحن لا نعتقد تصور صورة لا يرى الإمام فيها توبيخا؛ فإن من أساء أدبه بالجهات التي ذكرناها لا يسكت عنه، ولا يلزم على مقابلة سوء أدبه؛ فيؤل هذا إلى أن الإمام لو أراد الاقتصار من التعزير على ترك سلام فهل له ذلك؟ وسئل الغزالي [عن] ذلك، فقال: لا يجوز له الإهمال مع الطلب، ولكن هل يجوز الاقتصار على التوبيخ باللسان دون الضرب؟ فيه وجهان. وفي الإشراف: أن بعض المتأخرين من أصحابنا قال: التعزير في قذف زوجته الكتابية [والرقيقة] واجب، وما سواه ليس بواجب، وأن في وجوبه على البكر إذا ظهر فيها حمل [وجهان] والأصح: المنع.

فرع: إذا كان التعزير متعلقا بحق الآدمي، فعفى عنه، فهل للإمام إقامته إذا رآه؟ فيه وجهان، وهما جاريان فيما لو وجب له قصاص أو حد قذف فعفى عنه، فهل للإمام التعزير أم لا؟ لكن بالترتيب، ويجيء عند الاختصار فيهما ثلاثة أوجه: أحدها: [لا؛ لأن المستحق] قد أسقطه. والثاني: نعم؛ لأنه لا يخلو ذلك عن حق الله -تعالى-[ولأنه يحتاج] إلى زجر غيره عن مثل تلك الجناية. وأشبههما: الفرق بين أن يكون العفو عن الحد فلا يعزر، وبين أن يكون عن التعزير فيعزر؛ لأن الحد لازم مقدر لا يتعلق بنظر الإمام؛ فلا سبيل إلى العدول إلى غيره بعد سقوطه، والتعزير يتعلق أصله بنظر الإمام؛ فجاز ألا يؤثر فيه إسقاط غيره. وسلك في "الحاوي" طريقا آخر، فقال: إذا عفا مستحق التعزير عنه، نظر: فإن كان [بعد الترافع] إلى الإمام لم يسقط حق الإمام عنه، وكان له أن ينفرد بتعزيره. وإن كان العفو قبل الترافع، ففي سقوط حق الإمام عنه وجهان: أحدهما – وهو قول الزبيري -: السقوط. والأظهر: عدمه. وبنى على ذلك فرعا، وهو أنه لو تشاتم والد مع ولده سقط حق التعزير الذي للابن على الأب، ولا يسقط التعزير الذي للأب على الابن، وللإمام تعزيرهما [معا]. فرع: إذا كان التعزير المشروع لا ينجع في كف الجاني عن المعصية، فقد قال الإمام: إن الزوجة إن كان لا يحصل تأديبها إلا بالضرب المبرح وعلم ذلك، فلا يجوز الضرب المبرح ولا غيره؛ فإنه عري عن الفائدة. قال الرافعي: والذي أطلقه الإمام يقتضي أن يكون ذكر الزوج جاريا على طريق المثال، وسائر المعزرين في معناه، ويجوز أن يبنى الأمر في حق الإمام على أن أصل التعزير هل هو ولجب عليه؟ فإن أوجبناه التحق بالحد،

وحينئذ فيشبه أن يقال: تضرب ضربا غير مبرح؛ إقامة لصورة الواجب، وإن [لم يفد] التأديب. تنبيه: في قول الشيخ: على حسب ما يراه السلطان، ما يعرفك أن متوليه السلطان، كما صرح به الأصحاب، وهذا في حق الأحرار إن لم يسم ضرب الزوج زوجته، والمعلم الصبي، والوالد الولد: تعزيرا، وإن سميناه فنستثنيهم [من هذا الإطلاق]، وقد حكيت في باب عشرة النساء وجها حكاه الغزالي ثم: أن للزوج أم يستوفي التعزير المختص بحق الله -تعالى- وحقه في غير النشوز، ولم يحكه ها هنا. وأما العبيد فالسادة يتولون التعزير المتعلق بحقهم، وهل يتولون التعزير المتعلق بمحض حق الله تعالى؟ فيه خلاف حكاه الغزالي وغيره، وقد سبق في باب حد الزنى، والصحيح: أنهم يتولونه أيضا. فائدة – نختم بها هذا الباب؛ لتعلقها بحديث ذكرناه فيه؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود"-: قال الشافعي – رضي الله عنه -: ذوو الهيئات الذين تقال عثراتهم هم الذين لا يعرفون بالشر، فتترك لأحدهم الزلة. و [حكى الماوردي فيهم وجهين [آخرين]: أحدهما: أنهم أصحاب الصغائر دون الكبائر]. والثاني: أنهم الذين إذا ألموا بالذنب ندموا عليه وتابوا منه. قال: وفي عثراتهم ها هنا وجهان: أحدهما: صغائر الذنوب التي لا توجب الحدود. والثاني: أو للمعصية زل فيها مطيع. والله أعلم بالصواب.

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء الثامن عشر المحتوى: تتمة كتاب الحدود- كتاب الأقضية

باب أدب السلطان

بسم الله الرحمن الرحيم باب أدب السلطان السلطان: يؤنث, ويذكر, لغتان مشهورتان ولم يذكر ابن السكيت سوى التأنيث، وقد ذكرنا ذلك في الفرائض. وهو مشتق من السلاطة، وهي النجدة والقهر. وقيل من السليط نوهو الزيت لأنه يستضاء به في دفع الظلم، وتخليص الحقوق. والمراد به هاهنا: الإمام الأعظم القائم بالخلافة النبوية في حراسة الدين وسياسة الدنيا. وقد اختلف في جواز تسميته: خليفة الله: فجوزه بعضهم لقيامه بحقوقه في خلقه، ولقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}] الأنعام:165 [. وامتنع جمهور العلماء من جواز ذلك، ونسبوا قائله إلى التجوز، وقالوا: إنما يستخلف من يغيب، والله -تعالى- لا يغيب ولا يموت، وقد قيل لأبي بكر الصديق --رضي الله عنه- يا خليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم

ولا شك في أن الإمامة رياسة تامة ورعاية عامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا، كام عليه حرمنا متضمناً: حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الجنف والحيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين، وهذه جمل يأتي تفصيلها. قال: الإمامة فرض على الكفاية، لإجماع من أشرق عليه الشمس شارقة وغاربة، واتفاق مذاهب العلماء قاطبة. وقد رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم البدار إلى نصب الإمام، وتركوا بسببه التشاغل بتجهيز رسول الله- صلى الله عليه وسلم، مخافة أن يتغشاهم هاجمة، والمعنى فيه: أن هلو ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يزعهم وازع، لا يردعهم عن اتباع خطوات الشيطان رادع، مع تعين الأذى وتفرق الأهواء- لهلك [الأنام]، وتوثب الطغاة والعوام، ونشبت الخصومات، واستحوذ على أهل الدين ذوو الغرامات. وقد أشار الله – تبارك وتعالى- إلى ذلك في الكتاب المبين بقوله- تعالى- وهو اصدق القائلين: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]. وقد حكي عن عبد الرحمن بن كيسان وكذا الأصم: أن هلا يجب نصب إمام، ويجوز ترك الناس أخيافا، يلتطمون أسلافاً وأخلافاً. وهو مسبوق بالإجماع. قال الإمام: وهذا الرجل – يعني: ابن كيسان- هجوم على [شق العصا]، ومقابلة الحقوق بالعقوق، ولا يسمى إلا عند الانسلال عن ربقة الإجماع. لكن هل وجب ماذكرناه بالعقل [أو الشرع] فيه خلاف حكاه الماوردي، واستدل للأول بقول الأفوه الأودي وهو جاهلي: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا

وقد نسب الإمام هذا إلى شرذمة من الروافض، والقاضي في كتاب الجنايات إلى طائفة المتكلمين. والذي عليه جماهير الأمة: مقابله، وقد استدل له بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، ففرض علينا طاعة أولي الأمر فيناوهم الأئمة [المتأمِّرون علينا]، وقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبيلكم بعدي [ولاة]، فيليكم البَرّ بِبِرِّه، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، فإن أحسنوا فلكم [ولهم]،وإن أساؤوا فلكم وعليهم. فرع: إذا قام من فيه الكفاية بالإمامة سقط الفرض عن الباقين، وإن عرضت على [أكثرهم و] اكملهم فلم يقبلها لم يجبر [عليها]، لأنها عقد مراضاة واختيار لا يدخله الإكراه والإجبار، ويعدل عنه إلى من سواه من مستحقيها، كذا قاله الماوردي وغيره. فإن امتنعوا ولم يقم بها أحد، قال الماوردي: خرج من الناس فريقان: أحدهما: أهل الاختيار حت يختاروا إماما للأمة. والثاني: أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم. وليس على من عدا هذين الفرقين من الأمة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم.

قال: فإن لم يكن من يصلح إلا واحد تعين عليه أي: الدخول فيها لأن هذا شأن فروض الكفايات، ويلزمه طلبها، أي: عن لم تعرض عليه ليبرئ ذمته من فرضه. قال: فإن امتنع أجبر عليها، لأنه عليه حق لا يقوم به غيره، فكان كالعبادة المتعينة. قلت وقد يعرتض على هذا، فيقال، من شرط الإمام العدالة، وامتناعه فسق في هذه الحالة، فكيف يجبر؟ وجوابه: أن يقال: لعل الكلام مفروض فيما إذا كان الممتنع يرى عدم التعين، ورآه أهل الحل والعقد، او راى هو أيضا ذلك، لكن لا نسلم أن مجرد الامتناع من ذلك يفسق به، كما ذكرنا في ولاية النكاح، والله أعلم. ووجه انعقادها بالطريق الأولى: أن أبا بكر – رضي الله عنه- قال في وصيته: أما بعد، فقد استخلفت عليكم عمر ابن الخطاب، فإن عدل وبرّ فذاك ظني به، وإن غيّر وبدّل فالخير أردت، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى. فأثبت الناس كلهم إمامته بعهده. ثم كيفية ذلك – كما قال في ((التهذيب)):ان يجعله خليفة في حياته، ثم يخلفه بعد موته. وهذا اخذه من قول القاضي الحسين في ((تعليقه)). فإذا استخلف الإمام واحداً في مرضه، خلفه] بعد موته فيما كان يتولاه، لأنه لما خلفه [في حال العجز الأوهى، فلأن يخلفه في حالة العجز الأبدي أولى. وقالا: إنه لو أوصى له بالإمامة من بعده، ففيه وجهان؛ لأنه بالموت يخرج عن الولاية، فلا تصح منه لغيره تولية. قال الرافعي: ولك أن تقول: هذا التوجيه يشكل بكل وصاية، ثم ما ذكره – يعني البغوي –منجعله خليفة في] حالة [حياته، إما أن يريد] به [استنابته، فلا يكون هذا عهدا إليه [بالإمامة، أو يريد جعله إماما في الحال، فهذا]:إما خلع

النفس أو اجتماع إمامين في وقت واحد، وكل منهما لا يجوز، [او يريد] أنه يقول: جعلته خليفة [أو إماما] بعد موتي، فهذا هو معنى الوصية، ولا فرق بينهما. قلت: وكلام القاضي الذي حكيته يدل على إرادة المعنى الأول، وما قاله الرافعي من [أن] هذا لا يكون ععهدا بالإمامة، يجوز أن يمنع، وعلى كل حال فلابد من قبول من عهد إليه، وفي وقت قبوله خلاف: فمنهم من قال: يدخل بموت المولّى، كما في الوصيةووجهه الإمام بأن المولّى صاحب العهد لا يملك أحاكم الرعية والإمامة، ولا يستقل بالإنابة والسياية، مادام المولي المعاهد حيا، فلا معنى للقبول في حال الحياة. وصار صائرون إلى دخول وقته بعهد المولي [إلى موته]، وقال الماوردي: إنه الأصح، لتنتقل الإمامةعنه إلى المولى مستقرة بالقبول المتقدم. قال الإمام: وعلى [الخلاف] المذكور يتخرج خلع المولى، فعلى الأول يجوز المعاهد عزله، وعلى الثاني يمتنع من غير سبب يقتضيه. وقد جزم المتولي بالجواز مطلقاً، موجها [ذلك] بأن الخلافة لم تنتقل إليه، فلا يخشى منتبديله فساد ولا فتنة. وجزم الماوردي بالمنع مطلقا [من غير سبب]، وهو ما رآه الإمام أظهر، وجعل الأمر شورى بعده بين اثنينفصاعدا إلى عدد محصور، كالاستخلاف، إلا [أن] المستخلف غير متعين، فيتشاورون ويتفقون على أحدهم، جعل عمر –رضي الله عنه- الأمر شورى في ستة، فقال: هذا الأمر إلى علي وبإزائه الزبير، وإلى عثمان وبإزائه عبد الرحمن بن عوف، وإلى طلحة وبإزائه أبو عبيدة بن الجارح، فلما خلوا للشورى بعد موت عمر، قال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة، فقال الزبير: جعلت امري إلى [علة، وقال طلحة: جعلت أمري إلى عثمان، وقال أبو عبيدة: جعلت أمري إلى] عبد

الرحمن، [فقال عبد الرحم]: أيكم يبرأ من هذا الأمر ويجعله إليه؟ فلم يجبه أحد، فقال: أتجعلوها إلي وأخرج [منها] نفسي، والله شهيد، فقالا: نعم، فقال: قد فعلت. ثم بعد ذلك بايع عثمان، واتفقوا عليه. فلو امتنع أهل الشورى من الاختيار لم يجبروا عليه، [وكأنه] ماجعل الأمر إليهم، وهذا هو المشهور. [و] في ((البحر)) في كتاب الوصية: أن بعض أصحابنا، قال: يعتبر [في] تولية الإمام إماما رضا أهل الحل والعقد، ورضاهم: أن يعلموا به فلا ينكروه، كما علمت الصحابة في استخلاف عمر، وإن على هذا لو استخلف من لم يعلم به أهل الحل والعقد لم تنعقد إمامته. وقد حكاه في الإشراف – أيضاً- وحكاه الماوردي ((في الأحكام)) عن بعض علماء أهل البصرة. والإمام في ((الغياثي)) نسب الخلاف إلى رواية بعض المصنفين، ورجح الأول، وقال: إنه الذي يجب القطع به، وعلى هذا: فلا فرق [بين] أن يكون المولى ولد المولي، أو والده، أو أجنبيا كما اختاره [الإمام].

وقيل: لا يجوز التفويض للوالد والولد كالتزكية والحكم لهما. وقيل: يجوز للوالد دون الولد، لأن الميل إليه أشد. ولهذا الفصل فروع [نذكرها في] آخر الباب، إن شاء الله تعالى. ووجه الانعقاد بالطريق [الثاني]، وهو إجماع جماعة على التولية، كما ذكرنا -: أن إمامة أبي بكر- رضي الله عنه- هكذا ثبتت. ثم المراد بأهل الاجتهاد: المستجمعون لشرائط الفتوى، لأن من جملة صفات الإمام: أن يكون مجتهدا مفتيا، ولا يحيط المجتهد المفتي [بالأمثلة]. وعن القاضي أبي بكر بن الباقلاني في عُصب من المحققين: أنه لا يشترط ذلك، بل بكفي أن يكون ذا عقل وكيس وفضل، ويهدي إلى عظائم الأمور، وبصيرة متقدة بمن يصلح للإمامة، ولم يشترط استجماع الإمام له من الصفات، لأنه قد تمهد في قواعد الشعر [؟ الشرع] أنا نكتفي في كل مقام بما يليق به من العلم: فيكفي في المقوم العلم بالأشعار والدربة التامة مع الكيس في صفات المقومات، ويقع الاجتزاء في القسام بمعرفة الحساب والمساحة وكيفية تعديل السهام، ويراعى في الخارص ما يقتضيه حاله، وفي الحكمين المنعوتين إلى الزوجين: أن يكونا عالمين بحقوق النكاح، وتفطنهما لعادات التعاشر، وإحاطتهما بما يدق. وهذا ما أورده الماوردي، وإن كان بغير هذا اللفظ مع اعتبار العدالة، وقال الإمام: إنه أقرب إلى التحقيق، واختار لنفسه مسلكا سنذكره، والذي اورده القاضي الحسين: انا إن اكتفينا في هذا العقد بواحد - كما سنذكره- فلا بد وأن يكون صالحا للإمامة، وإن لم نكتف به فلابد وأن يكون في الجماعة واحد صالح لها. وما المراد بالجماعة التي تنعقد بهم الإمامة؟ اختلف فيه: فقيل: هم جمهور أهل الحل والعقد من كل بلد، ليكون الرضا به عاما. فقال الماوردي: وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر - رضي الله عنه- على الخلافة

[باختيار] من حضرها، ولم ينتظر في التصرف من غاب عنها. وقيل: هم [أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس، ولا يشترط اتفاق] أهل الحل والعقد في سائر البلاد والأصقاع، بل إذا وصل الخبر إلى اهل البلاد البعيدة فعليهم الموافقة والمتابعة، قال القاضي الحسين وهذا كما قلنا في الأجماع في الأحكام المجتهدات: ((لا تنعقد إلا باجتماع أهل الحل والعقد [عليه]، يعني: معظمهم إذا لم يتصور اجتماعهم، لتفاحش ما بينهم من التباعد، وهذا أصح عند البغوي والرافعي، وقال تفريعا عليه: إنه لا يتعين فيه عدد بل يعلق الحل والعقد بواحد مطاع كفت بيعته لانعقاد الإمامة، وهذا سنذكره عن الإمام. ثم قد يفهم من هذا القول اختصاص أهل البلد الذي توفى فيه الإمام بذلك، وليس كذلك كما صرح الماوردي، لكن العرف اقتضاه، لسبق علمهم بموت الأول. وقيل: هم أربعون، لأن عقد الإمامة أعظم ضررا من عقد الجمعة، وهذا العدد معتبر في الجمعة، ففي البيعة أولى. قال الغمام: وهذا قول من لا يعد من احزاب الأصوليين. وحكى القاضي الحسين [على] هذا القول وجهين في أن الذي ذكرناه اعتبار شرائط الإمام فيه، هل يعتبر وراء الأربعين أم يكون من جملة الأربعين- كالوجهين في الإمام في الجمعة، وحكاهما البغوي أيضا. وقيل: هم خمسة: ولا تنعقد بما دونهم، لأمرين: أحدهما: أن أبا بكر انعقدت إمامته بخمسة: عمر وأبي عبيدة بن الجراح وأسيد بن حصين وبشير بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة. والثاني: ان عمر جعل الشورى [في ستة]، لتعقد لأحدهم برضا الخمسة، قال

الماوردي وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من اهل البصرة. وقيل: هم أربعة لأنهم اكمل نصاب الشهادات. وقيل: هم ثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين، ليكون حاكما وشاهدين، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين، وهذا قول آخرين من علماء الكوفة. قال بعضهم: وعلى هذا يدل كلام الشيخ، لأنه أقل ما ينطلق عليه اسم الجماعة، وفيه نظر، لأن أقل الجماعة اثنان، كما قاله الشيخ في باب صلاة الجماعة، ونطق به النبي -.نعم، كلامه بهذا الاعتبار يوافق قول من ادعى أن الإمامة تنعقد باثنين. وقيل [: إنها] تنعقد بواحد، لأن العباس قال لعليّ: امدد يدك أبايعك، فيقول الناس: عم رسول الله - ربايع ابن عمه، فلا يختلف عليك اثنان. وهذا ما حكاه العمراني في ((الزوائد)) عن القاضي في كتاب الجنايات، وقد حكاه الماوردي مع قول من قال: إنها تنعقد بثلاثة كما تقدم، فحينئذ يرجع حاصل القولين إلى ان الإشهاد عند عقد الواحد هل هو شرط ام ال؟ [وقد حكي عن ((البيان)) حكاية وجهين في أن حضور شاهدين هذا العقد، هل هو شرط ام لا؟]. وقال الإمام إن الأئمة [كما] اختلفوا في عدد العاقد اضطربوا في اشتراط حضور الشهود، فرأى بعضهم: أن الإمامة تنعقد سرا بعقد من هو من أهل الحل والعقد، وزيف القاضي هذا المذهب، وتناهى مبالغا في الرد على معتقده، وسلك مسلك القطع فيما زعم، وقال: إن عمر لو استخلى بالبيعة لأبي بكر لما استقرت الإمامة، وأن على هذا قد اختلف الصائرون إليه، فاكتفى بعضهم بحضور شاهدين كعقد النكاح، وقال القاضي: لا يكتفى بهما بل يشترط حضور قوم يحصل بحضورهم الإشاعة والنشر والإذاعة. وحكى العمراني عن القاضي انه قال: إذا اعتبرنا شاهدين، فعندي انه يشترط عدالتهما ظاهرا وباطنا، بخلاف النكاح، لأن في اعتبار العدالة الباطنة في النكاح

مشقة لأنه يعقده آحاد الناس فلو كلفناهم ذلك شق عليهم. وقد حكى الإمام قول من قال: غنها تنعقد بواحد -أيضا- وقال: إن القاضي أبا بكر ارتضاه، وهو المنقول عن شيخنا أبي الحسن، وإنه أقرب إلى المذاهب، ووجهه بأن الغجماع ليس شرطا في هذا العقد إجماعا، ثم لم يثبت توقيف في عدد مخصوص، وليس بعض الأعداد اولى من بعض، فزم المصير إلى الاكتفاء بالواحد، لأن العقود في الشرع يتولاها عاقد واحد، وكلام القاضي يشير إلى أن هذا مقطوع به، ولست اراه بالغا مبلغ القطع، فإن أبا بكر – رضي الله عنه - لما بايعه عمر – رضي الله عنه – لو ثار ثائرون وأبدو اصفحة الخلاف، ولم يرضوا تلك البيعة – لما كنت أجد متعلقا في أن الإمامة كانت تستقل ببيعة واحد، وكذلك لو فرضت بيعة اثنين أو أربعة فصاعدا، وقدرت ثوران مخالفين لما وجدت متمسكا به اكتراث واحتفال في قاعدة الأمة، ولكن لما بايع عمر تبايعت الأيدي، واصطفت الأكف، واتسعت الطاعة، وانعقدت الجماعة، فالوجه عندي في ذلك: أن يعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع يحصل بهم شوكة ظاهرة وبيعة قاهرة، بحيث لو فرض ثوران خلاف لما غلب على الظن أن يصطلم اتباع الإمام، فإذ ذاك تثبت الإمامة وتستقر، ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء قاطبة على أن رجلا من أهل الحل والعقد لو استخلى بمن يصلح للإمامة، وعقد له البيعة، لم تثبتالإمامة غلا ان يكون الواحد مطاعا في قومه كثير الأتباع [بحيث يفيد أتباعه ما ذكرناه. قال: ولأجل هذا لم أر أن يكون العاقد للإمامة] مجتهدا، [ولكني أشترط] ان يكون المبايع ممن يفيد مبايعته مُنّة واقتهارا، ووجه امتناع انعقاد الإمامة بغير الطريقين المذكورين: التمسك بالأصل في عدم وجود ما يصلح دليلا له، وقد اتبع

الشيخ – فيما ذكرناه – صاحب ((الحاوي)) في الأحكام، فإنه هكذا حصر الانعقاد بالأمرين، وتبعهما في ذلك صاحب ((المرشد)) أيضا. وقد قال غيرهم: إنه ينعقد بأمر آخر وهو القهر والشوكة، فإذا اجتمع في شخص شرائطها، وكانت له شوكة، ولم يكن ثمّ إمام، فقهر الناس وحملهم على طاعته – انعقدت له الإمامة كإمامة معاوية، وعلى ذلك جرى القاضي الحسين [والرافعي]، وأشار ابن يونس إلى خلاف فيه، حيث قال: انعقدت له الإمامة عل ىلصحيح من المذهب [، وللإمام تلويح إليه مع تفصيل فيه]. نعم، الخلاف المشهور [في] انعقادها له إذا كان فاسقا أو جاهلا، والظاهر: الانعقاد – أيضا – وإن كان عاصيا بما فعله، والفرق بين انعقاد الإمامة بهذا الطريق وبين انعقادها بأحد الطريقين السابقين: أنه لو تغلب متغلب على هذا الذي انعقدت إمامته بالتغلب، انعقدت إمامة الثاني، وانعزل الأول بلا خلاف، بخلاف من انعقدت إمامته بأحد الطريقين السابقين كما سنذكره. وقد حكى الماوردي عن بعض فقهاء العراق والمتكلمين ثبوت الإمامة لمن تعينت عليه من غير عقد اقد، وتحمل الامة طاعته، لأن مقصود الاختيار تميز المُولّى وهذا متميز، وقد اختار الإمام هذا. قال: ولا يجوز أن ينعقد لاثنين في وقت واحد، أي: في بلدين وإن تباعدتا وانتشر الإسلام حتى عم الأرض [شرقها وغربها]، كما قاله القاضي الحسين، وجهه: أن الأصل في الإمامة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز التمسك بشريعة غير شريعته لمن بلغته الدعوة، فكذلك لا يجوز لأحد أن يطيع إمامين، ولأن في تعدد الأئمة اختلال أمور المسلمين، وافتراق الكلمة، لأنه قلما يتفق رأي شخصين، فلم يجز أكثر من إمام واحد، لتكون كلمة الإسلام مجتمعة. وتخالف جواز تولية قاضيين في بلد واحد على الشيوع على أحد الوجهين – كما سنذكره – فإن الإمام وراء القضاة، فإن فرض تنازع

وتمانع بين واليين كان وراء المسلمين مرجوع إليه، وأما الإمامة فهي الغاية القصوى، وليس بعدها مرجوع إليه ومتبوع، فاستحال نصب إمامين نافذي الحكم عموما، وهذا جزم به القاضي الحسين. وحكى الماوردي عن قوم [شذوا: أنهم يجوزون] ذلك في مثل هذه الحالة، وحكي عن أبي القاسم الصيرمي أنه حكى ذلك في الغنية عن الأستاذ أبي اسحاق، لانه في أحد الإقليمين ما يحتاج إلى نظر الإمام، ويفوت المقصود بسبب البعد، قال الرافعي [وغيره]: وينسب هذا إلى اختيار الإمام، وصرح به ابن يونس عنه، وقال , إنه خطأ، لأنه مسبوق بالإجماع على أنه لا يجوز. وفي ((الإشراف)): أن الأستاذ أبا اسحاق جوز ذلك في حالة واحدة، كالقضاء والبنوة: ولم يخص ذلك بحالة التباعد. والذي حكاه الإمام في ((الغياثي)) في حالة اتساع الخطة ووقوع قوم من الناس نبذة من الدنيا، بحيث لا ينتهي إليهم نظر الإمام، وتولج خط من بلاد الكفر بين خطة الإسلام – أن صائرين صاروا إلى نصب إمام في القطر الذي لا يبلغه اثر نظر الامام وعزى المهذب الى شيخنا ابي الحسن والاستاذ ابي اسحاق الاسفراييني وغيرهما واتبع هؤلاء مصلحة الخلق ثم قال وانا اقول ان سبق عقد الامامة لصالح لها وكنا نراه عند العقد مستقلا بالنظر في جميع الاقطار ثم ظهر مايمنع من اثبات نظره – فلا وجه لترك الذين [لا] يبلغهم امر الامام مهملين ولكنهم ينصبون اميرا يرجعون اليه ولايكون دلك المنصوب اماما. ولو زالت الموانع واستمكن الامام من النظر [اليهم] اذعن الامير والرعاية للامام فان راى تقرير الامير فعل وان راى تغيره فرايه متبع. وان لم يتقدم امام وخلا الدهر عن امام في زمن فترة وانفصل شطر من الخطة عن شطر وعسر نصب امام واحد يشمل رايه البلاد والعباد فنصب في احد

الشطرين في هذه الصورة أمير، وفي الأخرى أمير ولم يوقع العقد لواحد على العموم – فالحق المتبع في ذلك: أن واحدا منهما ليس إماما ولست أنكر تجويز نصبهما على حسب الحاجة ونفوذ أمرهما على موجب الشرع، ولكنه زمان خال عن أمام، ثم ان اتفق نصب إمام فحق على الأميرين أن يستسلما له، ليحكم عليهما بما يراه صلاحا. قال: فإن عقد لاثنين فالإمام هو الأول، لما روى [أبو هريرة] أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((فوا بيعة الأول فالأول، وأعطو حقه فإن الله - تعالى – سائلهم مااسترعاهم)) وروى أبو سعيد الخدري، قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما))، ال القاضي الحسين: وروي ((فأقيلوا)) بالياء. والمعنى – كما قال الخطابي –:لاتطيعوه، ولا تقبلوا له قولا، فيكون كمن مات او قتل، [وقيل:] المعنى أنه [إن] أصر ولم يبايع الأول، فهو باغ فيقاتل، ولأن المعقود عليه لا يقبل غير عقد واحد، فصح الأول وبطل الثاني كمافي النكاح. وحكى الماوردي عن طائفة أنهم قالوا: الإمام هو الذي عقدت له الإمامة في البلد الذي مات فيه من تقدمه، وعن آخرين: أنه يجب على كل واحد [منهما] أن يدفع الإمامة عن نفسه، ويسلمها لصاحبه، طلبا للسلامة، ليختار أهل الحل والعقد غيرهما وعن آخرين: أنه يقرع بينهما، والصحيح الذي عليه الفقهاء المحققون الأول. قال: وإن عقد لهما معاً، أو لم يعلم السابق منهما- استؤنفت التولية، إذ لا مزية لأحدهما على الآخر، وهذا ما حكاه الإمام في ((الغياثي))، ووافقهما في حالة وقوعهما معاً غيرهما، وفي هذه الحالة يجوز العقد لاحدهما ولغيرهما وفي الحالة

الأخرى – وافقهما – القاضي في كتاب الجبايا كما حكاه في ((الزوائد)). وقال الماوردي: إنه يوقف الأمر إلى أن ينكشف الحال، ولا مدخل للقرعة فيه، لأن الإمامة عقد، والقرعة لا مدخل فيها في العقود، ولأن الإمامة لا يجوز الاشتراك فيها، والقرعة لا مدخل فيها في العقود، والقرعة لا مدخل لها فيما لا يصح الاشتراك فيه، كالمناكح، ولا يسمع فيها دعوى أحدهما على الآخر [أنه السابق]، فلا يكون ليمينه ولا لنكوله حكم، وكذا لو قطعا التنازع فيها وسلمها أحدهما إلى الآخر لم تستقر إمامته إلا ببينة تشهد بتقدمه، ولو أقر أحدهما بالتقدم [للآخر خرج منها المقر ولم تستقر للآخر. نعم، لو شهد له بالتقدم] مع شاهد آخر سمعت شهادته إن ذكر اشتباه الأمر عليه عند التنازع، ولم يسمع منه إن لم يذكر الاشتباه، لما في القولين من التكاذب. ثم إذا طالت مدة الاشتباه، ولم يكن الانتظار – قال الماوردي: بطلت البيعتان وتستأنف بيعة لأحدهما. وفي جواز العدول إلى غيرهما خلاف، ووجه المنع: أن البيعة قد صرفت الإمامة عن عداهما. ولو امكن وقوع البيعتين معا، وتقدهما أحدهما، وأشكل – قال الرافعي: [فليكن] كما ذكرنا في الجمعتين والنكاحين. وفي ((الزوائد)):أنا نحكم ببطلانهما. ولو علم السابق ثم نسي، قال القاضي في كتاب الجبايا: فإن جوزنا انكشافه في مدة يوم أو يومين أو ئلاثة، جاز الانتظار، اقتداء بوصية عمر –رضي الله عنه- في الشورى، وإن لم نرح ذلك استؤنفت. قلت: وينبغي أن [مدة الانظار في المسألة] السابقة هكذا. قال: وينبغي أن يكون الإمام ذكرا، لأن المرأة لا تلي الإمامة الخاصة بالرجال، فكيف الإمامة العامة التي تقتضي البروز وعدم التخدر الذي المرأة مأمورة بخلافه،

وقد روى أبو بكرة – رضي الله عنه-عن رسول الله - أنه قال: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)). قال الإمام: ومن جوز من العلماء تصدي المرأة للقضاء [فيما يجوز أن تكون شاهدة فيه احال انتصاب المراة للإمامة فإن القضاء] قد يثبت مختصا، والإمامة يستحيل في وضع الشرع ثبوتها على الاختصاص. والخنثى المشكل –في هذا المقام- في معنى المرأة. قال: حرا، لأن حجر الرق إذا نافى الولايات الخاصة، فلأن ينافي [الولايات العامو] أولى، ولأن العبد لا يُهاب ولا يكاد يتفرغ. قال: بالغا عاقلا، لأن الصبي والمجنون إذا لم يصلحا للنظر في أمر انفسهما فكيف بك في أمر غيرهما، وهذا متفق عليه، ومجموع لفظ هذين الوصفين لفظ ((التكليف)). قال: عدلاً، أي: ليس بفاسق، وقد يعبر عن هذا الوصف بالورع والتقوى والأمانة كما فعله الإمام، ووجهه أن الفاسق لا يوثق به في شهادة على فلس، فكيف يولى أمور المسلمين كافة؟! قال الإمام في ((الغياثي)): والأب لافاسق مع فرط إشفاقه وحنوه على ولده، لا يعتمد في مال ولده، فكيف يؤتمن في الإمامة العظمى فاسق لا يتقي الله؟! وقد جمع الماوردي ماذكرناه في قوله: أن يكون متصفا بالعدالة على شروطها الجامعة.

قال: عالماً بالأحكام. أراد بهذا أن يكون مجتهدا لا مقلدا، لأن معظم أمور الدين تتعلق بالأئمة، فلو لم يكن الإمام مستقلا بعلم الشريعة لاحتاج إلى مراجعة العلماء في تفاصيل الوقائع، وذلك يخرجه عن رتبة الاستقلال، ويفوت من الأمور العظام والخطوب الجسام ما لا يتناهى ولا يخطر بالبال. وقد يفهم من كلام القاضي الحسين: أن ذلك ليس بشرط، حيث قال: لو اجتمع عالم فاسق وعدل جاهل، فالعدل الجاهل أولى، لأنه يمكنه حفظ الإمامة. ثم ما يعرض له من الحوادث التي يحتاج فيها إلى الاجتهاد يفوضها إلى مجتهد من العلماء يكفيه ذلك، ويستشير العلماء، فما وقع الاتفاق عليه يعمل [به ويمضي] الحكم فيها بنفسه، بوليس] كذلك، فإن هذا مفروض -كما ذكره الإمام عند فقد من يوجد من اهل الاجتهاج. ثم في هذا الوصف ما يغني عن ذكر الإسلام وإن كان معتبرا، كما صرح به غيره. وقال بعض الشارحين: إن الشيخ لم يذكره، لأن الاجتهاد في الأحكام الشرعية لا يتصور من كافر. قال: كافيا لما يتولاه من أمور الرعية وأعباء الأمة، لتوقف المقصود منه على ذلك. والأعباء- بفتح الهمزة والعين [المهملة، وبالمد-: الأحمال والأثقال، واحدها: عبء، كحمل وأحمال]، وزنا ومعنى. وقد أدرج الشيخ في هذا الوصف أوصافا صرح بها غيره: منها: أن يكون ذا رأي صحيح مفض إلى سياسة الرعية، وتدبير المصالح، إذ الغرض من الإمام جمع شتات الرأي، فإنه لا ينتظم مع تفرقه تدبير، ولا يستتب من إنالة الملك قليل ولا كثير.

الرأي قبل شجاعة الشجعان .... ... .... .... ومنها أن يكون شجاعا ليغزو بنفسه، ويعالج الجيوش، ويقوى على فتح الحصون، ويدفع الأعداء، فالجبانة تفضي إلى اصطلام الحوزة واستئصال البيضة. ومنها: أن يكون سميعاً بصيراً ناطقاً، ليتأتى منه فصل الأمور ومباشرة ما يدرك بها. قال المتولي: ولا يشترط سلامة سائر الأعضاء من نقص يمنع من استيفاء الحركة وسرعة النهوض. وقد عدَ الماوردي سلامة الأعضاء من نقص يمنع ذلك شرطاً من جملة الشروط، وحكى خلافا في فقد شيء يحصل به قبح وشين، ولم يؤثر في عمل ولا نهضة: كجدع الأنف، وسمل إحدى العينين، وجزم في ((البحر)) [في كتاب الأقضية] بمنع ولاية الأعور، مع جزمه بصحة توليته القضاء. قال الإمام: وقد يمكن رد هذه الصفات- يعني المذكورة من الأول إلى هنا- إلى شيء واحد وهو الاستقلال، فإنه يدخل تحته الكفاية والعلم والورع والتكليف والحرية، وكذا الذكورة، فإن المرأة مأمورة بأن تلزم خدرها، ومعظم أحكام الإمام تستدعي الظهور والبروز، فلا تستقل المرأة إذا. قال: وأن يكون من قريش، لورود لورود النص فيه، وانعقاد الإجماع عليه. قال الماوردي: ولا اعتبار بصيانة، فجوزها في جميع الناس، لأن أبا بكر احتج يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن الخلافة، لما بايعوا سعدا بن عبادة عليها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأَئِمَّةُ مِن قُرَيشٍ"، فأقلعوا [عن التفرد بها، ورجعوا] عن المشاركة فيها حين قالوا: منا أمير [ومنكم أمير،] تسليماً لروايته، وتصديقاً لخبره،

ورضوا بقوله: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. وقال صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشاً ولا تقدموها". وقد استدل الإمام لذلك مع الخبر- بأن الماضين ما زالوا لاهجين باختصاص هذا المنصب بقريشن ولم يتشوف أحد قط من غير قريش إلى الإمامة على تمادي الأيام وتطاول الأزمان، مع العلم بأن ذلك لو كان ممكناً لطلبه ذوو النجدة والبأس، ولما اشرأب لهذا المنصب المارقون في فسقطاط مصر اعتزوا أولاً إلى الشجرة النبوية على الافتراء، وبذلوا خزائن الأموال للكذابين النسابين، حتى ألحقوهم بصميم النسب. ثم قال: ولسنا نعقل احتياج الإمامة في وضعها إلى النسب، ولكن خص الله - تعالى - هذا المرتب العلي السني بأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك من فضل الله يؤتي من يشاء. وقد نسب بعضهم إلى الإمام احتمالاً في عدم اعتبار كونهم من قريش، والذي وقفت عليه من كلامه ما ذكرته. والقاضي الحسين، قال: الشرط في الإمامة أن يكون من قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم، ثم من كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا، كان أولى بالإمامة؛ فالهاشمي أولى، فإن لم يوجد أحد من بني هاشم صالحاً [لها] فمن قريش، وهذا يكاد يرد عليه الإجماع؛ فإن أبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم- لم يكونوا من بني هاشم وبني المطلب، وعليّ من بني هاشم، وقد قُدِّموا عليه. ثم هل يراعى مع وجود الأوصاف المعتبرة الأكمل أو لا؟ [ولا] شك في أن الأكمل أولى، لكن لو بويع المفضول، فهل تنعقد إمامته؟ فيه خلاف حكاه الإمام في كتاب الأقضية: الذي أورده الماوردي: أنه إن كان ذلك لعذر دعا إليه من كون الأفضل غائبًا أو مريضاً، أو كون المفضول أطوع في الناس وأقرب إلى القلوب- انعقدت، وإن بويع لغير عذر، فقد اختلف [في] الانعقاد.

والذي عليه الأكثرون من الفقهاء والمتكلمين: الانعقاد؛ لأن زيادة الفضل مبالغة في الاختيار، وليست معتبرة في شروط الاستحقاق. ولا خلاف في أنه لو لم تتفق الكلمة إلا عليه، في الجواز؛ لتنحسم مادة الفتنة، وكذا لو نشأ من هو أفضل من الإمام المنصوب [لم يعزل المنصوب] به. ثم الأكمل عند الاستواء في الشرائط: الأسنُّ. ولو كان أحدهما أعلم والآخر أشجع، قال الماوردي: روعي ما يوجبه حكم الوقت: فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى كان الأشجع أحق، وإن كانت الحاجة إلى [فضل العلم] أدعى؛ لسكون الدهماء وظهور أهل البدع؛ كان الأعلم أحق. قال: فإن اختل شرط من ذلك لم تصح توليته؛ لقيام الأدلة على اعتبارها، وهذا ما [اقتضاه كلام] الماوردي – أيضاً- وظاهره: أنه لا فرق [في ذلك] بين أن يكون المفقود النسب أو غيره. وقد حكى القاضي الحسين وجهاً: أنها إذا عقدت لفاسق انعقدت؛ لأنهم لم فوضوا الأمر إليه وعقدوا له الإمامة رأوه أهلاً [لها]، ونظرًا للمسلمين فيها، فلم يُرَدّ اجتهادهم، وحكم بالانعقاد. وفيه – أيضاً-: أنا إذا عدمنا قرشيًّا بالصفات المذكورة، عدلنا إلى كنانة؛ لقوله عليه السلام: "إن الله- تبارك وتعالى- اصطفى من العرب كنانة، ومن كنانة ريشاً، ومن قريش بني هاشم، فأنا [خِيَارٌ] من خِيارٍ إلى خيارٍ"، أو لفظ هذا معناه. فإن لم يوجد واحد منهم فمن جرهم، وهم الذين ربوا إسماعيل – عليه السلام- بمكة، وتزوج منهم كما قاله غيره، وتعلم اللسان منهم [، وأولاده منهم]. وقال غيره: إنه إذا لم [يوجد كنان] فرجل من ولد إسماعيل، فإن لم يكن

فمن جرهم، فإن لم يوجد فرجل من نسل إسحاق- عليه السلام- وهذا ما أورده المتولي. [وفي] "التهذيب": أنه إذا لم يوجد [أحد] من ولد إسماعيل تولى رجل من العرب. قال الرافعي: ولك أن تقول: قريش ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة، وكما قالوا: إذا لم يوجد قريشي ولي كناني، فهلا قالوا: إذا لم يوجد كناني ولي مخزومي، وهكذا تترقى إلى أب بعد أب حتى تنتهي إلى إسماعيل، عليه السلام! قلت: هذا [هو] الذي اقتضاه كلام القاضي، حيث قال: [أولاً: الشرط أن يكون قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم [ثم] من كان أقرب] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً كان أولى بالإمامة، ولاشك أن أولاد خزيمة أقرب إليه كثيراً من أولاد إسماعيل وجرهم، وحينئذ فيكون ما ذكروه تمثيلاً ليقاس عليه لا ليقتصر الحكم عليه. لكن على كلام القاضي ما ذكرته أولاً. وقد أطلق الإمام القول: بأنا إذا عدمنا قرشيّاً متصفاً بالصفات المذكورة، نصبنا من وجدناه عالماً كافياً ورعاً، وكان إماما ينفذ الأحكام على الخاص والعام. نعم، قد ذكرنا أن القرشي لو ولي، ثم حدث بعده من هو أفضل منه، وراعينا الأفضل- لا نخلعه لوجود الفاضل. ولو نصبنا ها هنا من ليس قرشيّاً للعدم، ثم نشأ في الزمان قرشي على الصفات المطلوبة: فإن عسر خلع من ليس بقرشي أقررناه، وإن لم يتعذر خلعه فالوجه عندي تسليم الأمر للقرشي؛ فإن هذا المنصب في حكم المستحق للمعتزين إلى شجرة النبوة، والذي قدمنا نصبه في [منزلة] المستناب عمن [يجمع بين] فضائل الأسباب وشرف الانتساب، فإذا تمكنا من رد الأمر إلى

النصاب ابتدرناه بلا ارتياب. وفي "الإشراف" للهروي أنه قيل: إن النسب شرط، وقيل: إنه من باب الترجيح، وهو الأصح، وفائدته: أنه إذا وجد القرشي والنبطي قدم على النبطي، وإن لم يوجد القرشي ولي النبطي، ومن قال: شرط، فلا يولي أحد. قال: وإن زال شيء من ذلك بعد التولية بطلت ولايته؛ لفوات الحكمة المتعلقة بفوات ذلك الشرط، فعلى هذا: لو عاد إلى الصفة الأولى لم تعد ولايته إلا بتولية جديدة. وقد حكى العمراني عن الجويني في بطلان ولايته بطرآن الفسق ثلاثة أوجه: أحدها: ينعزل، وهو الصحيح، وتبعه ابن يونس في ذلك؛ لما ذكرناه، وقد نسب القاضي الحسين في باب قتال البغاة هذا المذهب إلى المعتزلة. والثاني: لا ينعزل إلا بمباشرة العزل. قال [الإمام] في أواخر باب الوصية: ولو قلت: إنه الظاهر؛ لكان مستقيماً، والسبب فيه: أن استمرار العصمة بعيد، والمصير إلى انخلاع الإمام بالفسق يجوز فقه الإمام بالإمامة والزعامة، وليس وراء الإمام ناظر؛ فالوجه: ألا يطلق القول بانعزاله؛ ولأجل ذلك جزم القاضي الحسين والرافعي في كتاب الأقضية بعدم انعزاله، وهو ما اقتضاه كلام الشيخ [وغيره] في باب قسم الصدقات، وعلى هذا فلا ينعزل ما لم يثبت عند الاستنابة، كما قاله الماوردي في باب الشهادة بالجناية. وهذان الوجهان قد حكيناهما في باب ما يجب به القصاص من الجنايات عن ابن أبي هريرة. والثالث: إن أمكن استنابته أو تقويم أوَدِهِ لم يخلع، وإن لم يمكن ذلك خلعناه. والذي حكاه الإمام في "الغياثي" الوجهان الأولان، وأنه على الوجه الثاني يجب على أهل الحل والعقد خلعه، [ثم] قال: والذي يجب القطع به أن الفسق الصادر

من الإمام لا يقطع نظره، ولا يجوز خلعه؛ لما في ذلك من المفاسد، ومن الممكن أن يتوب ويسترجع؛ وعلى هذا ينطبق قول المتولي: المذهب المشهور: أنه لا ينعزل بالفسق، ولا يكون موجباً لعزله؛ لأن ذلك مختلف في كونه موجباً للعزل، فإذا عزلناه به ثارت الفتنة. ثم قال الإمام: وهذا كله في نوادر الفسوق، فأما إذا تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السداد، وتعطلت الحقوق والحدود، وارتفعت الصيانة، ووضحت الخيانة- فلابد من استدراك هذا الأمر المتفاقم، فإن أمكن كف يده وتولية غيره بالصفات المعتبرة فالبدار البدار. وإن لم يمكن القبض على يده؛ لاستظهاره بالشوكة، إلا بإراقة دماء ومصادمة أحوال جمة الأهوال- فالوجه: أن يقاس ما [مدفوعون إليه مبتلون به بما يفرض] وقوعه في محاولة دفعه: فإن كان الواقع الناجز أكثر مما يتوقع، فيجب احتمال المتوقع، وإلا فلا يسوغ التشاغل بالدفع؛ بل يتعين الاستمرار على الأمر [الواقع] والابتهال إلى الله، عز وجل. والذي أورده الماوردي: أن الفسق إن كان بسبب إتباع شهواته فقد خرج بذلك عن الإمامة، ولا يعود إليها بالتوبة، وإن كان لأجل شبهة تعترض، فتأول بها خلاف الحق، فقد ذهب فريق إلى أن الحكم كذلك، وقال كثيرون [من] علماء البصرة: لا يخرج به منها، ويجوز أن تعقد له الإمامة ابتداء؛ كما لا يمنع ذلك من ولاية القضاء وجواز الشهادة. وقال فيما إذا طرأ عليه خبل في عقله: إن كان عارضاً مرجو الزوال كالإغماء، فلا يخرج به عن الإمامة، وإن [كان] لازماً لا يرجى زواله كالجنون: فإن كان

طبقاً دائماً بطلت الإمامة، وإن كان متخللاً: فإن كان زمان الإفاقة أقل فكذلك [الحكم]، وإن [كان] أكثر ففي منعه من استدامتها خلاف، مع أنه يمنع ابتداءها. وهكذا الحكم فيما إذا طرأ عليه صمم أو خرس، في منعه الاستدامة خلاف، مع الجزم بمنعها ابتداء. ورأى الإمام: أنه مانع للاستدامة أيضاً، ومنهم من قال: إن كان يحسن الكتابة لم يخرج بهما، وإن كان لا يحسنها خرج. وكذا الخلاف فيما إذا طرأ فقد إحدى اليدين [أو الرجلين] في منع الاستدامة، وإن كان يمنع الدخول. قال الإمام: والذي أراه: أن ما يمنع من فقد الأعضاء من الابتداء يمنع من الاستدامة، ولو طرأ عليه عشي العين- وهو ألا يبصر عند دخول الليل- فلا يمنع [من] الاستدامة؛ كما لا يمنع [من] الابتداء. فرع: إذا أسر الإمام، وحُبس في المطامير، وبَعُدَ توقع خلاصه- قال الإمام: فلا نجد بُدّاً من نصب إمام نراه. وكذا لو سقطت طاعته، ورثَّتْ شوكته، ووهنت عدته، وذهبت منته، ونفرت منه القلوب من غير سبب فيه يقتضيه، ولم نجد لهذه الحالة مستدركاً- فالوجه: نصب إمام مطاع، وينزل هذا منزلة ما لو أسر الإمام وانقطع نظره عن الأنام وأهل الإسلام، ولم نصل إلى مظان الحاجات إثر رأي الإمام، ثم قال: ولابد في هذين الحالين من إنشاء الخلع. والذي قاله الماوردي في حال الأسر: أنه يجب على كافة الأمة استنفاذه، فإن وقع الإياس منه: فإن كان في أسر المشركين خرج من الإمامة بالإياس من

خلاصه، وإن كان مأسوراً مع بغاة المسلمين، فإن كانوا قد نصبُوا لأنفسهم إماماً، فالمأسور قد خرج من الإمامة؛ بالإياس من خلاصه، وعلى أهل العدل أن ينصبوا لأنفسهم إماماً، وإن لم ينصب أهل البغي لهم إماماً فالمأسور باق [على إمامته]، وعلى أهل [العدل أن يستنيبوا عنه ناظراً يخلفه إن [لم يقدر] على] الاستنابة، وإن قدر عليها كان أحق باختيار من يستنيبه منهم، فإن نخلع المأسور نفسه أو مات، لم يصر المستناب إماماً؛ لأنها نيابة عن موجود فزالت بفقده. قال: والأفضل أن يكون شديداً من غير عنف، أي: غير بالغ في الشدة، ليناً من غير ضعف، أي: غير بالغ في اللين؛ لما روى إسحاق عن الزهري عن ابن عباس قال: قَالَ عُمَرُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا ذُكِرَ أَمْرُ مَنْ يُعْهَدُ إِلَيْهِ، وَذكَرْتُ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُوْفٍ: نِعْمَ الرَّجُلُ ذَكَرْتَ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، إِنَّهُ وَاللهِ مَا يَصْلُحُ لِهَذَا الأَمْرِ يَابْنَ عَبَّاسٍ إِلَّا القَوِيُّ فِي غَيْرِ عُنْفٍ، اللَّيِّنُ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ، وَالمُمْسِكُ فِي غَيْرِ بُخْلٍ، وَالجَوَادُ فِي [غَيْرِ] إِسْرَافٍ. والمعنى في ذلك: أنه إذا كان [فيه عنف] خافه الناس؛ فلا يتمكنون من رفع حوائجهم إليه، وإذا [كان] ضعيفاً مهيناً؛ انبسطت عليه الرعية ويجير بعضهم على بعض. والعنف: بضم العين، على المشهور، وحكى القاضي عياض في "المشارق"، وصاحب "مطالع الأنوار": ضمها وفتحها وكسرها، ونقلاه عن الإمام أبي مروان بن سراج.

قال: [ولا يحتجب] عن الرعية، [أي: لا يتخذ حاجباً؛] لما روى أبو داود عن أبي مريم الأزدي قال: دخلت على معاوية، فقال: ما [أنعمنا بك] أبا فلان- وهي كلمة تقولها العرب- فقلت: حديثاً سمعته أخبرك به: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ وَلَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ [شَيْئَاً] مِنْ أُمُوْرِ المُسْلِمِينَ، فَاحْتَجَبَ دُوْنَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمُ، احْتَجَبَ اللهُ عَنْهُ دُوْنَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ"، وأخرجه الترمذي. وأصل الحجب: المنع. قال: ولا يتخذ حاجباً ولا بواباً، أي: في وقت انتصابه لفصل الخصومات؛ لأنه لا يأمن أن يمنع من له ظلامة، [أو يرجح] بعض الناس على بعض؛ لرشاء يأخذها، [أو غيره. ويروى] أنه استصعب الإذن على المغيرة بن شعبة في خلوة أرادها مع عمر- رضي الله عنه- فرشا حاجبه يرفأ حتى سهل [له] الإذن عليه، وكان يسأل الحاجب أن يجلسه في الدهليز إذا تعذر عليه الوصول؛ حتى يظن الناس أنه قد وصل؛ حتى يبدو له منزلة الاختصاص [بعمر- رضي الله عنه-] فكان المغيرة أول من رشا، ويرفأ أول من ارتشى في الإسلام. وقال في "المهذب" في باب ولاية القضاء: لا يكره للإمام أن يتخذ حاجباً؛ لأن يرفأ كان حاجب عمر، والحسن بن علي كان حاجب عثمان، وقنبر كان حاجب علي- رضي الله عنهم- ولأن الإمام ينظر في جميع المصالح؛ فتدعوه الحاجة إلى

أن يجعل لكل مصلحة وقتاً لا يدخل فيه كل أحد. وفي "الحاوي" في الموضع المذكور: أنه يستحب للأئمة اتخاذ الحاجب؛ لأنه روي أنه اجتمع على باب عمر: أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وسلمان، وبلال، وصهيب، وجماعة من وجوه العرب، فأذن لسلمان وبلال وصهيب؛ فتمعر وجه أبي سفيان، فقال سهيل بن عمرو: يا أبا سفيان، إن هؤلاء قوم دعوا ودعيت فأجابوا وتأخرت، ولئن حسدتهم اليوم على باب عمر لأنت [غداً] أشد حسداً لهم على باب الجنة. ولولا الحجاب لما تميز هؤلاء بالسابقة، ولا ترتب الناس بحسب فضائلهم وأقدارهم. وتبع صاحب "المرشد" المصنف فيما قاله في باب ولاية القضاء، وقال في كتاب الإمامة ما ذكره الشيخ هنا. وعلى [القول] الأول قال [الشيخ]: فإن اضطر إلى ذلك اتخذ أميناً سَلِساً، لا يكون جبَّاراً شرساً؛ للرفق بالرعية. وبقية أوصاف الحاجب تأتي في باب أدب القضاء. والسلس- بفتح السين وكسر اللام-: السهل، وكل سهل سلس. والجبار: المتكبر، والشرس: سيء الخلق. أما نصب الحاجب في أوقات الخلوة ونحوها، فهذا مما لا نزاع في عدم كراهته في القاضي- كما سيأتي- فما ظنك بالإمام؟! قال: ويستحب أن يشاور أهل العلم في الأحكام، أي: المختلف فيها، وأهل الرأي في النقض والإبرام؛ لقوله- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]، قال الحسن: إن كان لغنيّاً، [و] لكنه أراد أن يستن بذلك الحكام بعده، و [قد] قال صلى الله عليه وسلم: "المُسْتَشِيرُ مُعَانٌ".

وشاور عليه السلام أصحابه في أسرى بدر، وشاور أهل المدينة يوم الخندق [في حفر الخندق] حتى اتفقوا عليه، وفي صلح الأحزاب على ثلث ثمار المدينة، فقالوا: إن كان الله- سبحانه- أمر بهذا فالسمع والطاعة، وإن كان غير ذلك فلا نطمعهم فينا؛ فإنهم في الجاهلية لم يكونوا ليصلوا إلى ثمره إلا بشراء أو قِرىً، فامتنعوا. وشاور أبو بكر- رضي الله عنه- الصحابة في [أمر] الجدة أم الأم. وشاورهم عمر- رضي الله عنه- في الجدة أم الأب، وفي دية الجنين، وفي التي أجهضت ما في بطنها. وشاور عثمان في الأحكام. وكان عليّ قليل المشاورة؛ فقيل: لأنه لم يبق في عصره عديل يشاوره، وقيل: لأنه قد كان شاهد استشارة قريبة فاكتفى بها. ولم يختلف في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشاور في أمور الدنيا ومصالحها، وإنما اختلف [في] استشارته في الدين والأحكام: فمن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتهد، بل [ما] يقوله عن وحي- قال: لم يشاور فيها. ومن قال: كان له الاجتهاد، قال: إنه شاور فيها، واستدل لذلك بأنه شاور في علامة تكون لأوقات صلواتهم، وشاور أصحابه في حد الزاني والشارب، فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: "هن فواحش وفيهن عقوبات"، حتى أنزل الله فيهما ما أنزل. قال: ويلزمه النظر في مصالح الرعية من أمر الصلاة [، أي:] المفروضة على الأعيان والكفايات، والمسنونة التي من الشعائر الظاهرة، وكذا تجميع الجماعات المفروضة في الجمع والمسنونة في غيرها، والإعلام بأوقاتها، ونحو ذلك.

قال: والأئمة وأمر الصوم والأهلة، وأمر الحج والعمرة، وأمر القضاء والحسبة، وأمر الأجناد، أي: المرتبين في الحصون وغيرها، والإمرة [، أي:] على جباية الخراج والجهاد والحج والعمرة؛ كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمَّرَ أبا بكر على الحج بعد الفتح، وعلى البلاد ونحو ذلك؛ لأن الإمامة إنما وضعت لذلك. قال: ولا يولي ذلك إلا ثقة مأموناً، عارفاً بما يتولاه، كافياً لما يتقلده من الأعمال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَرْعِي رَعِيَّةً فَلَمْ يُحِطْهَا بِنُصْحِهِ لَمْ يرحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ"، ولأن المقصود من التولية لا يحصل بدون [هذه الأوصاف]. قال: ولا يدع السؤال عن أخبارهم والبحث عن أحكامهم؛ خوفاً من حدوث ما لا يجوز منهم. قال: وينظر في أموال الفيء والخراج والجزية، ويصرف ذلك للأهم فالأهم من المصالح: من سد الثغور، [أي:] وهي الحصون، بالعدد والرجال ونحوها، وأرزاق الأجناد، وسد البثوق، أي: وهي الثلم والفتح، واحدها: بثق- بفتح الباء وكسرها-[يقال]: بثق السيل موضع كذا، أي: خرقه، يبثقه بثقاً، وانبثق: انفجر، والبثوق: بموحدة، ثم مثلثة مضمومتين. قال: وحفر الأنهار، وأرزاق القضاة والمؤذنين، وغير ذلك من المصالح، أي: كبناء المساجد والربط والقناطر، والصرف للمفتين والقسام والمتفقهين، وكل من يقوم بقاعدة من قواعد الدين يلهيه قيامه بها عما فيه سداده وقوامه، وكالصرف لمن تحمل حمالة، وأجرة السجان [والسجن] وكاتب القاضي وحاجبه ونائبه والأعوان له، وثمن القرطاس، وغير ذلك مما هو مذكور في موضعه.

قال: وينظر في أموال الصدقات ومصارفها، كما سلف ذكره، ويتأمل أمر المرافق والمعادن ومن يقطعها. على ما ذكرناها في مواضعها. وقد ذكرت في باب أحدها: إذا فضل من مال بيت المال شيء ماذا يصنع به؟ فليطلب منه. وقد جعل الماوردي الأمور التي تلزم الإمام عشرة أشياء أكثرها مذكور في الكتاب، ولكنا نذكرها: أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن ظهر مبتدع، أو زاغ ذو شبهة عنه- أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق. والثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين [المتنازعين؛ حتى تعم النصفة،] فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم. والثالث: حماية البيضة، والذب عن الحريم؛ لينصرف الناس في المعاش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال. والرابع: إقامة الحدود؛ لتصان محارم الله- تعالى- عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك. والخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة. والسادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة؛ ليقام بحق الله- تعالى- في إظهاره على الدين كله. والسابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصّاً واجتهاداً من غير عسف. والثامن: تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقصير، ودفعه في وقته لا تقديم فيه ولا تأخير. [والتاسع]: استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء، فيما يفوضه إليهم في الأعمال، ويكله إليهم من الأموال. والعاشر: أن يباشر بنفسه الأمور ويتصفح الأحوال؛ لتنهض بسياسته الأمة،

وحراسته الملة، ولا يعتمد على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة؛ فقد يخون الأمين، ويغش الناصح، وهذا وإن كان مستحقّاً عليه بحكم الدين ومنصب الخلافة، فهو من حقوق السياسة لكل مسترعى. قال: فإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة، فقد أدى حق الله- سبحانه- فيما لهم وعليهم، ووجب له عليه حقان: الطاعة، والنصرة، ما لم يتغير حاله. وقال الرافعي: إن ذلك [واجب]، سواء كان عادلاً أو جائراً؛ لما روي أنه عليه السلام قال: "من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئاً من معاصي الله- تعالى- فليكره ما يأتي من معصية الله- تعالى- ولا ينزعن يده من طاعته". ولا يجوز لأهل العقد والحل بعد عقد الإمامة حلها، إذا لم تخل عن شيء من صفات الأئمة باتفاق الأمة، كما قاله الإمام. نعم، لو أراد خلع نفسه فقد اضطربت مذاهب العلماء فيه: فمنعه بعضهم كما امتنع على العاقد [و] المسلمين، وهذا ما أورده صاحب "البيان" وغيره، وأجازه آخرون؛ لما صح تواتراً واستفاضة من [خلع] الحسن بن علي نفسه، ولم ينكره أحد، وفي "التتمة" حكاية المذهبين وجهين. قال الإمام: والحق المتبع عندي: أن الإمام لو علم أنه لو خلع نفسه لاضطربت الأمور، وتزلزلت الثغور، وانجز إلى المسلمين ضرر لا قبل لهم به- فلا يجوز له ذلك، وإن علم أن خلعه نفسه [لا يضر بالمسلمين، بل يطفئ نائرة، ويحقن دماء المسلمين- فلا يمنع أن يخلع نفسه]، وهكذا كان خلع الحسن بن علي نفسه. ولو كان لا يؤثر خلعه نفسه في إلحاق ضرر ولا في تسكين نائرة، ولو خلع نفسه أقام آخر مقامه- فلست قاطعاً في ذلك جواباً، بل أرى القولين فيه متكافئين قريبي المأخذ، والأظهر عندي: أنه لو حاول استخلاء بنفسه واعتزالاً؛

لطاعة الله- تعالى- لم يمنع. وفي "تعليق" القاضي الحسين: [أنه] إذا خلع نفسه ينظر: فإن خلع إلى من لا يصلح للإمامة لم ينخلع عنها، وإن خلع إلى من هو أصلح منه أو مثله انخلع إليه، وإن خلع إلى من شك في حاله هل هو صالح للإمامة أم لا، حمل على أنه صالح لها؛ لأن الإمام لا يتصرف إلا على النظر للمسلمين، [فلما انخلع إليه رآه أهلاً لذلك]. وقال في "التهذيب": إذا خلع نفسه [ينظر. فإن كان لعذر من هرم أو على انعزل، ثم إن ولى غيره قبل أن يخلع نفسه] انعقدت الإمامة للثاني، وإن لم يول فالناس مجمعون على تولية غيره، وإن لم يظهر به عذر نظر: إن لم يول لا ينعزل، وكذلك إن ولى من هو دونه، وإن ولى من هو مثله أو فوقه ففي انعزاله وجهان. وقال: [إنا على] القول بانعزاله في هذه الصورة، إذا ولى من شككنا [فيه] أثبتنا ولايته. فروع- تقدَّم الوعد بها-: إذا عهد الإمام في الخلافة إلى غيره، قال الماوردي: فيتعين أن يكون المولى متصفاً بالشروط المذكورة من وقت العهد إليه، حتى لو كان صغيراً أو فاسقاً عند العهد، بالغاً عدلاً عند موت المولى- لم ينتصب إماماً بالعهد السابق. قال الرافعي: وقد يتوقف في هذا. وإذا عهد إلى غائب مجهول الحياة لم يصح عهده، وإن كان معلوم الحياة صح، فإن مات المستخلف وهو غائب بعد، استقدمه أهل الاختيار، فإن بعدت غيبته واستضر المسلمون بتأخير النظر في أمورهم- استناب أهل الاختيار نائباً عنه فيبايعونه بالنيابة دون الخلافة، وإذا قدُم الخليفة الغائب انعزل المستخلف، وكان نظره قبل قدومه [باقياً] ماضياً، وبعد قدومه مردوداً.

وإذا خلع الخليفة نفسه كان كما لو مات؛ فتنتقل الخلافة إلى [من] ولي العهد. قال الرافعي: ويجوز أن يفرق بين أن يقول: الخلافة بعد موتي لفلان، أو: بعد خلافتي. ولو أراد ولي العهد أن ينقل ما إليه من ولاية العهد إلى غيره لم يجز؛ لأنه إنما يجوز له النظر وتثبت له الولاية بعد موت المولي. وإنَّ وليّ العهد إذا استعفى لم يبطل عهده بالاستعفاء حتى يُعفى؛ للزومه من جهة المولِّي والمولَّى، ثم ينظر: فإن وجد غيره جاز استعفاؤه وإعفاؤه، وخرج من العهد باجتماعهما على الاستعفاء والإعفاء، وإن لم يوجد غيره لم يجز استعفاؤه ولا إعفاؤه، وكان العهد على لزومه في جهة المولِّي والمولَّى. وإنه إذا عهد إلى اثنين أو أكثر على الترتيب، فقال: الخليفة بعد موتي فلان، وبعد موته فلان، [وبعد موته فلان]- جاز، وانتقلت الخلافة إليهم كما رتب؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم [في] ترتيبه أمراء [جيش مؤتة]، وإنه لو مات الأول في حياة الخليفة فالخلافة بعده للثاني، ولو مات الأول والثاني في حياته؛ فالخليفة الثالث. قال الرافعي: وقد يتوقف في هذا، ويقال: المفهوم من اللفظ جعل الثاني خليفة بعد خلافة الأول. قلت: ويعضده ما حكاه الماوردي فيما إذا قال: وقفت على زيد، ثم من بعده على عمرو، ثم من بعده على خالد- أنه لا يصرف لخالد شيء إذا مات عمرو قبل زيد، كما ذكرناه في الوقف. وإنه لو مات الخليفة والثلاثة أحياء، وانتهت الخلافة إلى الأول، فأراد أن يعهد بها إلى غير الآخرين- فمن الفقهاء من منع ذلك [؛حملاً] على مقتضى الترتيب، إلا أن يستنزل مستحقها عنها طوعاً.

والظاهر من مذهب الشافعي وما عليه جمهور الفقهاء: جوازه؛ لأنه إذا انتهت الخلافة إليه صار أملك بها وبتفويضها إلى من يشاء، بخلاف ما إذا مات ولم يعهد [بها] إلى أحد ليس لأهل البيعة أن يبايعوا غير الثاني، ويقدم عهد الأول على اختيارهم. وهذا فيه نظر؛ لأنه قال بعد ذلك: لو قال الخليفة العاهد: قد عهدت إلى فلان، فإن مات بعد إفضاء الخلافة إليه فالخليفة بعده فلان- لم تصح خلافة الثاني، ولم ينعقد عهده بها؛ لأنه لم يعهد إليه في الحال، وإنما جعله ولي عهد بعد إفضاء الخلافة إلى الأول، وقد يموت قبل إفضائها إليه؛ فلا يكون عهد الثاني بها منبرماً؛ فلذلك بطل، وجاز للأول بعد إفضاء الخلافة إليه أن يعهد بها إلى غيره. وإن مات [من غير] عهدٍ جاز لأهل الحل والعقد اختيار غيره، ويخالف هذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش مؤتة؛ لأنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [حيّاً] لم تنتقل أمورهم إلى غيره. وإنه ليس لأهل الشورى أن يعينوا واحداً منهم في حياة الخليفة إلا أن يأذن لهم في ذلك، فإن خافوا انتشار الأمر بعده استأذنوه، فإن أذن فعلوا. وإنه يجوز للخليفة أن ينص على من يختاره للخلافة بعده؛ كما يجوز له أن يعهد إلى غيره حتى لا يصح إلا اختيار من نص عليه؛ لأنه من حقوق خلافته. ***

كتاب الأقضية

كتاب الأقضية "الأقضية": جمع "قضاء"؛ كـ "عَطاء" و"أعطية"، و"قباء" و"أقبية". والقضاء- بالمد-: الولاية المعروفة. قال الأزهري: وهو في الأصل: إحكام الشيء والفراغ منه؛ ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ} [الإسراء: 4]، فيكون القضاء إمضاء الحكم على هذا. وسُمِّي الحاكم حاكماً؛ لأنه يمضي الأحكام ويحكمها. وقال الجوهري: إنه يقال: قضى، بمعنى: أنهى وفرغ. [ومنه- كما قال الرافعي- قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15]، أي: قتله وفرغ منه]. وسُمي قاضياً، أي: قاتلاً، وسمي القضاء على هذا [قضاء؛ لأن القاضي ينهي الأمر بالفصل، ويفرغ منه بالإمضاء. ويقال]: قضى، بمعنى أوجب؛ ومنه قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، فيجوز أن يكون سمي القاضي قاضياً؛ لإيجابه الحكم على من يجب عليه. ويقال: بمعنى الإتمام؛ ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200]، فالقاضي يتمم الأمر بحكمه. ويقال: بمعنى "مات"، وبمعنى "أدى"، وبمعنى "قدر" و"صنع"؛ كقولهم: [قضى] الدرع؛ ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12]. ويسمي القضاء حُكْماً؛ لما فيه من منع الظالم من الظلم، مأخوذاً من "الحكمة" التي توجب وضع الشيء في محله، أو من إحكام الشيء؛ ومنه: حكمة اللجام؛ لمنعها الدابة من ركوبها رأسها. وقد قيل: إن الحكمة مأخوذة من هذا- أيضاً- لمنعها النفس من هواها، ويقال: حكمت وأحكمت السفيه، إذا أخذت على يده ومنعته.

باب ولاية القضاء وأدب القاضي

باب ولاية القضاء وأدب القاضي قال: ولاية القضاء فرض؛ لقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135]؛ وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] وفي أخرى {الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] وفي أخرى {الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]. ولأن طباع البشر مجبولة على التظالم والتجاحد ومنع الحقوق وارتكاب متن العقوق، وقل من ينصف من نفسه، [والإمام لا يقدر على فصل كل الخصومات، وتحصيل كل [المطلوبات من القضايا] بنفسه]؛ فدعت الحاجة إلى إقامة من ينصف المظلومين من الظالمين؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ وَزَعَةٍ". قال: على الكفاية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَلِيَّاً إِلَى اليَمَنِ قَاضِياً، وَاسْتَخْلَفَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيْدٍ عَلَى مَكَّةَ بَعْدَ الفَتْحِ وَالِياً وَقَاضِياً، وَقَلَّدَ مُعَاذاً قَضَاءَ بَعْضِ اليَمَنِ، وَقَلَّدَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ قَضَاءَ نَاجِيَةٍ، وَكَانَ يشبه بِجِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وكذلك الخلفاء الأربعة استخلفوا القضاة: فبعث أبو بكر أَنَساً إلى البحرين قاضياً، وبعث عمر أبا موسى الأشعري إلى البصرة قاضياً، وبعث عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضياً، وعثمان قلد شريحاً القضاء، وعليَّ بعث عبد الله بن عباس إلى البصرة قاضياً وناظراً، فلو كان فرض عين لم يكف واحد.

ولأن القضاء إما أمر بمعروف أو نهي عن منكر [أو هما،] وأيَّاماً كان فهو فرض على الكفاية، وقد ادعى الرافعي في ذلك الإجماع، ورأيت فيما وقفت عليه من "تعليق" القاضي أبي الطيب أنه يستحب للإمام أن ينصب القضاة في البلدان، ولم أره في غيره. والمخاطب بهذا الفرض من تكاملت فيه شروط القضاء كما سنذكرها، ثم المعروف من فروض الكفاية [أنه] إذا قام به من فيه الكفاية سقط الفرض عن الذين خُوطبوا به على الكفاية، وأنهم إذا امتنعوا منه أثموا جميعاً، وهو مصرح به كذلك هنا. نعم، حكى في "المهذب" وغيره: أن الإمام هل له في هذه الحالة أن يجبر واحداً منهم على الدخول فيه؟ فيه وجهان، اختيار الرافعي وصاحب المرشد منهما: الإجبار، وصحح ابن أبي الدم المنع. قال مجلي: وعلى هذا هل يتعين [عليه؟] فيه وجهان. وحكى ابن الصباغ والبندنيجي أن الإمام لو عين شخصاً ابتداءاً للقضاء هل يتعين عليه؟ فيه وجهان من غير بناء على ما ذكره مجلي، مع أني لم أفهم معنى البناء. وقد قال مجلي بعد حكاية الوجهين في التعيين: إن الغزالي قال هذا فيه إذا عينه من غير تخيير له، فإن كان قد خيره فلا معنى لإيجاب التقليد، وهو غير متعين، ولم يجزم الإمام بتعيينه، وما نسبه إلى الغزالي قد ذكره بعد حكايته عن العراقيين الوجهين. قال: فإن لم يكن من يصلح إلا واحد تعين عليه، أي: القبول؛ لأن هذا شأن فروض الكفايات، ولا يدفع هذا التعين [عليه] خوفه على نفسه [الخيانة والميل، بل عليه القبول، وأن يجاهد نفسه]، ويلازم سمت التقوى، ويستحب أن يقول إذا دعي: سمعاً وطاعة. قال: ويلزمه طلبه، أي: إن لم يعرض عليه؛ لأن به يخرج من واجبه.

قال في "المهذب" وغيره: ولو احتاج في هذه الحالة في تحصيله إلى بذل مال وجب بذله، كما يلزمه في شراء الرقبة في الكفارة، والطعام في المجاعة. وفي "الحاوي" ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: يجب القبول، ولا يتعين عليه طلب القضاء؛ لأن فرض التقليد على المولِّي دون المولَّى. قلت: ولعل هذا إذا علم به المولِّي، أما إذا لم يعلم فيجب عليه إعلامه، كما أطلقه البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما، وقال الماوردي في آخر الفصل: إن بذل المال في هذه الحالة مستحب. قال: فإن امتنع أجبر عليه، أي: على القبول مع عصيانه؛ لأن الناس مضطرون إلى علمه ونظره؛ فكان كصاحب الطعام إذا منعه من المضطر، وقد قدمت في باب أدب السلطان سؤالاً أورد مثله ها هنا الرافعي فليطلب جوابه من ثم، وهذا هو المشهور. وفي "تعليق" القاضي [أبي الطيب] و"الرافعي" [حكاية] وجه: نه لا يجبر عند الامتناع؛ لما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنا لا نلزم على القضاء أحداً". والأولون حملوا الحديث على حالة عدم التعين. قال: فإن كان هناك غيره، أي: صالح لذلك كصلاحيته له، كره أن يتعرض له، أي: بالطلب؛ لما روى أبو داود عن بلال بن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ طَلَبَ القَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِلَ إِلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْهُ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللهُ مَلَكاً يُسَدِّدُهُ"، وأخرجه الترمذي، وقال: إنه حسن غريب. وروى مسلم والبخاري [وغيرهما] مختصراً ومطولاً عن عبد الرحمن بن

سمرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيْتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ فِيْهَا إِلَى نَفْسِكَ، وَإِنْ أُعْطِيْتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا"، ولأن في القضاء من الخطر ما [لا] يحصر؛ قال عليه السلام: "مَنْ وَلِيَ القَضَاءَ فَقَدْ ذَبَحَ بِغَيْرِ سِكِّيْنٍ" خرجه أبو داود عن أبي هريرة، وقال الترمذي: إنه حسن غريب من هذا الوجه. وقد قيل في معناه: إن من تصدر للقضاء فقد تعرض للذبح؛ لأنه يريد أن يحكم على الصديق والعدو والقريب والبعيد بحكم [واحد]؛ فليحذره. وقيل: إنه بتوليته يصبر كالمذبوح؛ لأنه يحتاج إلى أن يميت شهوته ويكسر نفسه ويقهرها ويمنعها عن التبسط ومخالطة الناس. وقوله: "بغير سكين"، قال الخطابي: يحتمل وجهين: أحدهما: أن الذبح في ظاهر العرف وغالب العادة بالسكين، فعدل صلى الله عليه وسلم عن

ذلك؛ ليعلم أن المراد: ما يخاف عليه من هلاك دينه دون هلاك بدنه. الثاني: أن الذبح الموحِي المريح للذبيحة إنما يكون بالسكين، فإذا كان بغير سكين كان خنقاً وتعذيباً؛ فضرب المثل؛ ليكون أبلغ في الحذر منه. والأخبار المحذرة في هذا الباب كثيرة. قال مجلي: قال بعض أصحابنا: وهذا إذا لم يستشعر من نفسه ميلاً. أما إذا استشعر فلا يجوز. وقال في الوسيط: إن الأمر لا ينتهي إلى التحريم بمجرد الاستشعار. قال: إلا أن يكون محتاجاً فلا يكره، أي: التعرض له؛ لطلب الكفاية، أو خاملاً، أي: غير مشهور بين الناس، فلا يكره؛ لنشر العلم. وحكى ابن الصباغ عن بعض الأصحاب: أنه يستحب الطلب في هاتين الحالتين، وأنه يجوز بذل المال؛ لتحصيله، وقد وافق القاضي أبو الطيب هذا القائل في استحباب الطلب، وبه أجاب في "المهذب" و"التهذيب" في الحالة الثانية. وحكى الزبيلي في "أدب القضاء" له عن بعض أصحابنا: أنه يستحب له طلب القضاء، ولم يقيده بحالة من الحالات، وحكاه مجلي- أيضاً- فيما إذا كان الرجل واثقاً بنفسه، وقال: إنه أقيس. ومثل الوثوق بالنفس بما إذا كان قد جربها بالولاية، وقد أبداه في "الوسيط" احتمالاً. وعلى هذا الوجه ينطبق قول الأصحاب- كما حكاه مجلي وغيره-: إن تولي القضاء أهم من الجهاد؛ لأن الجهاد طلب الزيادة، والقضاء حفظ للحاصل وضبطه. قال مجلي: وعنوا بذلك ما حصل من أحكام الشريعة؛ فإن ضبط أحكامها وحفظ نظامها من تطرق خلل ووقوع ذلك، أهم من ابتغاء سواه. وهذا التعليل- كما قال [ابن] شداد في كتابه المترجم بـ "ملجأ الحكام عند التماس الأحكام"- يرشد إلى أن مرادهم الجهاد الذي أنشئ لاستزادة بلاد في خطة بلاد المسلمين، واستزادة أعداد من يقول بالإسلام، أما الجهاد الذي أنشئ لدفع

العدو عن المسلمين بعد أن وطئ بلادهم فلا يكون القضاء أهم منه، بل ذلك أهم من القضاء، والمفسدة المتوقعة أعم، حتى لو فرض شخص تعين القضاء، وتعين لدفع الضرر عن الإسلام والمسلمين لكونه متبعاً مطاعاً- لكان اشتغاله بدفع العدو أولى بمقتضى هذه العلة. وكذا قول الإمام وابن الصباغ وصاحب "الكافي" وغيرهم: إن القضاء من أعلى القربات، واستدلوا لذلك بما روي [أن] ابن مسعود قال: لأن أجلس فأقضي بين اثنين بحق واجب [أحب] إلي من عبادة سبعين سنة. واستأنسوا في ذلك بآيات وأخبار نذكر منها ما تيسر: فمنها: قوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48]، قدم الله- تعالى- من يمتنع عن الإجابة إلى القضاء، ومدح من يجيب إليه [إذا دعي] بقوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية؛ فدل [ذلك] على علو قدره. ومنها: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَيومٌ مِنْ إِمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةٍ، وَحَدٌّ يُقَامُ فِي أَرْضِ اللهِ بِحَقِّهِ أَزْكَى مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً". وقال عليه السلام: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ .. ".

وقال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَلَسَ القَاضِي لِلحُكْمِ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى [إِلَيْهِ] مَلَكَيْنِ يُسَدِّدَانِهِ: فَإِنْ عَدَلَ أَقَامَا، وَإِنْ جَارَ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ". وروى أبو داود عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص [عن عمرو بن العاص] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ"، فحدثت به أبا بكر بن حزم، فقال: هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة مطولاً ومختصراً. قال القاضي أبو الطيب: وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جُعِلَ قَاضِياً، فَقَدْ ذُبحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ"،

محمول على الخائن أو الجاهل؛ لما روى أبو داود عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الحَقَّ فَجَارَ فِي الحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ"، وأخرجه الترمذي وابن ماجة. وقال ابن الصباغ: الأحاديث المحذرة دالة على عظم قدره [وصعوبة أمره؛ حتى لا يقدم عليه من لا يجد من نفسه قوة في دينه] وبصيرة ثاقبة في علمه، وليجتهد في طلب الحق عادلاً عن الهوى والميل، وما جاء في حديث عبد الرحمن بن سمرة والذي قبله محمول على [من سأل] ذلك لمجرد الرياسة وطلباً للنيل، ومن استحبه فإنما يستحبه إذا قصد به القربة. وقد بالغ الإمام في "الغياثي"، فقال: الذي أراه أن القيام بما هو من فروض الكفايات أحرى بإحراز الدرجات، وأعلى في فنون القربات من فرائض الأعيان المحتومات؛ فإن ما تعين على المتعبد المكلف لو تركه ولم يقابل أمر الشرع فيه بالارتسام اختص المأثم به، ولو أقامه فهو المثاب عليه، ولو فُرِضَ تعطيل فرض من فروض الكفايات لعم المأثم الكافة على اختلاف الرتب والدرجات، فالقائم به كافٍ نفسه وكافة المخاطبين الحرج والعقاب، وأمل أفضل الثواب، ولا يهون قدر

من يحل محل المسلمين أجمعين في القيام بمهم من مهمات الدين. وعكس هذا في التعالي ما حكى ابن كج عن بعض الأصحاب: أن القضاء مكروه؛ احتجاجاً بالأحاديث المحذرة، وعبر عنه الزبيلي بأن تركه أولى، أما إذا عرض عليه ذلك وقلنا بعدم تعينه عليه، فقد قال الغزالي: الأولى القبول. ويمكن حمل ما حكيناه عن الأصحاب على هذه الحالة، وهو الأشبه، وقال البندنيجي وأبو الطيب في حالة عدم الحاجة والخمول: إنه لا يستحب له الدخول فيه، وفي حالتي [الحاجة أو الخمول: يستحب له الدخول. وعبارة ابن الصباغ] وصاحب المرشد في حالة عدم الحاجة والخمول: الأولى عدم الدخول؛ ليتفرغ لتعليم العلم والفتوى، وعلى هذه الحالة يحمل امتناع ابن عمر- رضي الله عنهما- عن القضاء حين دعاه عثمان، وفي حالة الحاجة أو الخمول الأولى الدخول، وحديث عبد الرحمن بن سمرة والذي ذكرناه قبله يدل لما حكاه الغزالي. وسلك الماوردي في "الحاوي" طريقاً آخر فيما نحن فيه، فقال: للطلب خمسة أحوال: مستحب، ومحذور، ومباح، ومكروه، ومختلف فيه: فالأول: إذا كانت الحقوق مضاعة بجور أو عجز، والأحكام فاسدة بجهل أو هوى، فيقصد بطلبه حفظ الحقوق وحراسة الأحكام؛ لأن المطلوب به أمر بمعروف ونهي عن منكر، وفي هذه الحالة يستحب له بذل المال؛ لتحصيله أيضاً. والثاني: إذا قصد بطلبه انتقاماً من أعداء أو مكسباً بارتشاء؛ لأنه قصد به ما يأثم به، وبذل المال في هذه الحالة [لحصوله] محرم أيضاً. والثالث: إذا قصد به استمداد رزقه من بيت المال، أو استدفاع الضرر به؛ لأن المقصود به مباح، والبذل في هذه الحالة إن كان بعد الولاية لم يحرم على الباذل، وإن كان قبله حرم عليه. والرابع: إذا طلبه للمباهاة والاستعلاء به؛ لأن المقصود به مكروه؛ قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص: 83]،

وفي هذه الحالة بذل المال مكروه- أيضاً- والآخذ آثم في كل الأحوال. وقد [حكى] عن ابن خيران [وابن القاص] وآخرين إطلاق القول بأن البذل محظور، وبأن قضاءه إذا ولي مردود، وحكى الماوردي عند الكلام في قبول الهدايا: أن الباذل إن كان مستغنياً عن الولاية حرم عليه البذل، وإن كان محتاجاً إليهالم يحرم. والخامس: إذا طلبه رغبة في الولاية والنظر، فقد اختلف فيه أصحابنا والسلف قبلهم على ثلاثة مذاهب: أحدها: يكره أن يكون له طالباً، ويكره أن يجيب إليه مطلوباً. [والثاني: يستحب له أن يكون طالباً، وأن يجيب إليه مطلوباً]. [والثالث- قال: وهو أعدلها-: يكره أني كون طالباً، ويستحب أن يجيب إليه مطلوباً]. وإذا كان ثمن من هو أفضل منه، فالكلام في ذلك يبنى على صحة تولية القضاء للمفضول مع وجود الفاضل، [وفيه خلاف عند الأصوليين مرتب على الخلاف في انعقاد إمامة المفضول مع وجود الفاضل]، وأولى بالانعقاد، وهو الذي صححه الرافعي والغزالي، وحكاه الإمام عن الأكثرين، وقال: إنه المختار. والفرق على هذا بين الإمامة، والقضاء: أن ما يحصل من نقض القاضي الإمام من وراء نظره فينجبر بنظر الإمام، وما فات من فضل الإمام لا جابر له. وفرق الماوردي: بأن القضاء نيابة خاصة؛ فجاز أن يعمل فيها على اختيار المستنيب، والإمامة ولاية عامة؛ فلم يصح فيها تفريط أهل الاختيار؛ لافتياتهم على غيرهم، فإن قلنا بعدم الانعقاد كان طلبه حراماً، وكذلك القبول، ويحرم على الإمام التولية، وإن قلنا بالصحة: فإن امتنع الفاضل من القبول فهو كالمعدوم، وإن لم يمتنع فالقبول جائز إن ولي بغير مسألة، والأولى ألا يقبل.

قال البغوي والغزالي: والطلب مكروه. وعن القاضي الحسين: أن الطلب من الطالب حرام، ويكره للإمام أن يوليه القضاء، فإن ولاه انعقد، ويكره له التقليد إن أمكنه أن يتعلل. قال الإمام: ودعواه تحريم الطلب [مع تصحيح نصب المفضول خطأ، وقد [قال:] يكره للإمام أن ينصبه، وحكم الطلب] يتلقى من حكم النصب، ولو كان الموجود في البلد دونه، فإن قلنا: لا تنعقد ولاية المفضول، فقد تعين، وحكمه سبق، وإن قلنا: تنعقد، كان الأولى له القبول؛ لتحصل بذلك المزية للمسلمين، وقيل: يجب إذا قلد من غير مسألة. قال الرافعي: وهذا الخلاف قريب من الخلاف المذكور فيما إذا امتنع الكل، هل يجبر الإمام أحدهم؟ والأظهر هنا: عدم الوجوب؛ لأنه قد يقوم به غيره. قلت: بل هو قريب من الخلاف الذي حكيته عن ابن الصباغ وغيره في أن الإمام إذا عين واحداً ابتداء للقضاء مع مساواته لغيره، هل يجب عليه عيناً؟ ويظهر أن يكون الأظهر ها هنا: الوجوب؛ لامتياز هذا بالفضل الذي [قيل: إنه] سبب التعيين. وقد قال الماوردي: إذا تكاملت شروط القضاء في جماعة، وكان فيهم طالب للولاية وفيهم ممسك، فالأولى تقليد الممسك، فإن امتنع [لعذر لم يجبر، وإن امتنع] لغير عذر ففي جواز إجباره عليه وجهان، فإذا كان هذا لأجل فضل الامتناع فكيف بك [في] غيره؟! والطلب جائز بل مستحب، قال الرافعي: [وحيث] استحببنا الطلب والتقليد أو أبحناهما، فذاك عند الوثوق وغلبة الظن بقوة النفس، وأما عند الاستشعار فينبغي أن يحذر؛ فإن أهم الغنائم حفظ السلامة. وبالجملة: فالذي [كان] عليه الشافعي- رضي الله عنه- الامتناع من الدخول فيه، وكذا الصدر الأول من أصحابه، وكذا الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم؛

[اقتفاء] لأثره، حكى القاضي أبو الطيب: أنه [روي أن] المأمون كتب إلى الشافعي يستدعيه؛ ليولِّيه القضاء في الشرق والغرب؛ فأبى، وجعا المزني في مرض موته، ونهاه عن توليه القضاء، وأظهر له كتاب المأمون، وقال: إني لم أظهره لأحد غيرك. وحكي- أيضاً-: أن أبا القاسم الصيدلاني المقري حدثه، فقال: كنت أمشي [مع] أبي بباب الشام، فأراني دكاكين [مختمة]، فقال: أبصر هذا؛ حتى تحكي: هذا عقار أبي علي بن خيران، استدعاه ابن الفرات للقضاء؛ فهرب؛ فختم عقاره حتى يظهر. وروي أن أبا علي بن خيران صاحب أبي العباس ابن سريج كان يعاتب ابن سريج على توليه القضاء، ويقول له: هذا الأمر لم يكن في أصحابنا، إنما كان في أصحاب أبي حنيفة، يعني: أبا يوسف وغيره، وأول من دعي بقاضي القضاة في الإسلام: أبو يوسف، حين ولاه المهدي، ثم أقره الرشيد. وقد حكي: أن أبا حنيفة- رحمه الله- ممن امتنع من الدخول فيه، حكى القاضي أبو الطيب: أن المنصور استدعى سفيان الثوري وأبا حنيفة وشريكاً؛ فهرب سفيان من الطريق، فعرض على أبي حنيفة [القضاء] فامتنع، وقال: أنا لا أصلح له، وعرض على شريك فاعتذر بعلل، فأزاحها وقلده القضاء. وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه الكبير" وغيره: أن المنصور طلب أبا حنيفة- رحمه الله- للقضاء، فأبى، فحلف المنصور ليفعلن، وحلف أبو حنيفة: إنه لا يفعل، فقال له الربيع: يحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت؟! فقال: أمير المؤمنين أقدر على كفارة يمينه منِّي، فحبسه المنصور أياماً، ثم أحضره، فقال [له] أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين أنا لا أصلح للقضاء، فإن كنت صادقاً فلا أصلح، وإن كنت كاذباً فلا أصلح؛ للكذب، فرده إلى الحبس، وضربه بالسياط،

فلم يلِ، فأطلقه. قال ابن أبي الدم: وهذه الرواية الصحيحة، وغلا فقد روي: أنه لما توعده إن لم يلِ، أجاب؛ فولاه قضاء الرصافة التي بناها المنصور لابنه المهدي، فقعد يومين لم يأته أحد، فلما كان اليوم الثالث حضره رجلان، فادعى أحدهما على الآخر [درهمين] أربعة دوانيق، فأنكره، فطلب يمينه، فقال له: قل: والله، فشرع في اليمين، فلما رأى إقدامه على اليمين دفع إليه ذلك [من ماله،] ثم مرض بعد يومين، ثم مات بعد ستة أيام، رحمه الله. وروى الخطيب أبو بكر البغدادي: أن الشافعي- رضي الله عنه- ولي القضاء بنجران من بلاد اليمن يومين أو ثلاثة، ثم حمل إلى بغداد، والصحيح: أن أبا حنيفة والشافعي- رضي الله عنهما- لم يلياه البتة. فائدة- ضمنها تنبيه: قال الرافعي: طرق الأصحاب متفقة في تعين الشخص للقضاء، وعدم تعينه [على النظر] إلى البلد والناحية لا غير. قلت: وعليه ينطبق قول أبي الطيب: الذي يجب عليه أن يتولى القضاء رجل ذو علم وأمانة، وليس في البلد غيره؛ فإنه يجب عليه أن يتولى [قضاء] ذلك البلد. وقول القاضي الحسين: فإن لم يكن في بلده من يصلح للقضاء، فلا يكره له طلب القضاء، بل يستحب، وإن قيل: يفترض عليه فرض عين، لم يبعد، وقول الإمام: وإن لم يكن في الناحية من يصلح غيره افترض عليه أن يتعرض. [قال الرافعي]: وقضية ذلك ألا يجب على من يصلح للقضاء طلب القضاء ببلدة [أخرى لا صالح [له] فيها، ولا قبوله إذا ولي، وأنه يجوز أن

يفرق] بينه وبين سائر فروض الكفايات المحوجة إلى السفر: كالجهاد، وتعلم العلم، ونحوهما؛ فإنه يمكن القيام بتلك الأمور والعود إلى الوطن، وتحمل القضاء لإيجابه له والانتقال إليه هجرة، وترك الوطن بالكلية تغريب. قلت: وفي هذا نظر؛ لأن ابن الصباغ وغيره قالوا: إذا كان الإمام في بلد، واحتاج بلد آخر إلى قاض- فإنه يلزمه أن يبعث إليهم قاضياً؛ لأنه لا غنى بهم عنه، ولا يكلفون المصير في خصوماتهم إلى بلد الإمام، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّاً إلى اليمن قاضياً، وإذا كان بعث القاضي على الإمام متعيناً، فلا بد من مبعوث يجب عليه المضي، وحينئذ فيعود الكلام إلى تعينه؛ لكونه لا صالح له غيره، أو كونه فرض كفاية [لصلاحية جمع] له، وأيضاً فإن الإمام لو ولي البلد لواحد من غيرها مع وجود صالح فيها صح، وهذا يمنع حقيقة التعين لو كان التصوير خاصّاً بما ذكره، والله أعلم. قال: ويجوز أن يكون في البلد قاضيان فأكثر، [ينظر كل واحد منهم في موضع؛ لأن نيابة القاضي عن الإمام فكانت على] حسب الاستنابة؛ كالوكالة، ولا فرق بين أن يكون ذلك في غير بلد الإمام، أو في بلده؛ كما جرت به العادة ببغداد، وإذا جاز ذلك في البلد الواحد؛ ففي البلاد أولى أن يجعل لكل بلد قاض، وهذا بخلاف الإمامة؛ حيث لا يجوز أن يكون في كل ناحية إمام مع القدرة على شمول نظره الناحيتين اتفاقاً؛ لأن القصد ثم جمع الكلمة، ولا يحصل مع الافتراق. قال الماوردي: وإذا ولي في بلد قاضيان [كان] كما إذا ولي في جانب

مُضَر من البصرة واحد، وفي جانب ربيعة منها [آخر]- نظر كل واحد في جانبه بين أهله دون الطارقين إليه، ولا يتعداهم، وفيه نظر إن صحت النسخ. هكذا قال، ولو تحاكم من الجانبين رجلان، فدعا كل واحد منهما إلى قاضي جانبه- نظر: فإن كانا عند التنازع قد اجتمعا في أحد الجانبين أجيب قول من [هو في جانبه]، طالباً كان أو مطلوباً، وإن كان كل واحد منهما في جانبه، فليس لواحد منهما أن يجبر الآخر على المحاكمة إلى قاضيه. فرع: لو كان بين الجانبين موضع مشترك بينهما، روعي الأغلب عليه في إضافته إلى أحدهما، ويجعل داخلاً فيه، فإن استوى الأمران دخل في ولاية قاضي كل جانب ما كان أقرب إليه من غيره. وقد احترز الشيخ بقوله: ينظر كل واحد منهما في موضع، عما إذا ولي قاضيان في بلد، لينظر كل واحد منهما فيه بين جميع أهله، إما بشرط عدم الاستقلال دون مراجعة صاحبه، أو مع الاستقلال؛ فإن الأصحاب متفقون على عدم الصحة عند اشتراط اجتماعهما على القضاء؛ لأن اختلاف الاجتهاد غالب والتقليد ممتنع؛ فيؤدي إلى بقاء الخصومات واستمرار المنازعات، واختلفوا في الصحة عند إثبات الاستقلال [لكل واحد] على وجهين: أصحهما- عند الإمام في "الغياثي": المنع، وعلى ذلك ينطبق قول مجلي: إن الأصحاب صححوه. واختاره في "المرشد"؛ لإفضاء ذلك إلى التشاجر والتنازع عند الترافع؛ لعدم مزية أحدهما على الآخر، وخالف ما إذا كان الإمام في بلد وولى قاضياً فيه، أو استخلف القاضي نائباً؛ فإن المنازعة مرتفعة؛ لترجيح دعوى طالب الأصل؛ كما أشار إليه الإمام في "النهاية"، وسيأتي حكاية مثله عن الماوردي عند الكلام في الاستخلاف. والثاني- وهو ما ادعى الماوردي أنه قول الأكثرين، وصححه الرافعي وابن أبي الدم، وقال في "البحر": إن الشافعي نص عليه-: الجواز؛ لأنها استنابة كالوكالة.

وعلى الوجهين فرعان: أحدهما: إذا قلنا بالمنع، قال الرافعي والماوردي وغيرهما: فلو جمع بينهما في التقليد بطلت ولايتهما، وإلا صحت ولاية الأول، وبطلت ولاية الثاني. قلت: والأشبه: بناء ذلك على أن الإمام إذا عزل [القاضي] من غير مستند، هل ينعزل؟ وفيه كلام سنذكره عند قول الشيخ: "فإن مات القاضي الكاتب"، فإن قلنا: إنه لا ينعزل، فالأمر كما قالوه؛ لأنه شبيه في هذه الحالة بالإمام، وإن قلنا: إنه ينعزل، وهو ما أورده الماوردي وغيره- كما سنذكره- فينبغي أن تكون ولاية القاضي الثاني صحيحة، متضمنة لعزل الأول، ويشهد لذلك أمران: أحدهما: ما حكاه الماوردي من أن الإمام إذا ولى شخصاً إقليماً يعجز عن النظر في جميع نواحيه، فإن له أن يقلد فيه من ينظر فيه، وكذلك الإمام، فإذا ولى الإمام فيه شخصاً انعزل الأول عن تلك البقعة. والثاني: أن البائع إذا باع المبيع في زمن الخيار من آخر صح بيعه للثاني، وكان فسخاً للعقد الأول على الصحيح؛ كما ذكرناه في موضعه؛ لأن العقدين لا يمكن اجتماعهما في الصورتين، بل العزل هنا أولى من الفسخ ثم؛ لأن البيوع [الأصل] فيها اللزوم، فالقدرة فيها على الفسخ على خلاف الأصل، والقضاء على الوجه الذي عليه نفرع عقد جائز؛ كالوكالة، فتطرق الرفع إليه من مقتضاه. ومما يؤيد صحة البناء الذي ذكرته: أن الرافعي حكى عند الكلام في العزل عن بعض الشروح ذكر وجهين: في أن تولية قاض بعد قاض، هل تكون عزلاً للأول أم لا؟ ثم قال: وليكونا مبنيين على أنه هل يجوز أن يكون في البلد قاضيان؟ وهذا عين المدعي. الثاني من الفرعين: إذا قلنا بالجواز، فإذا اتفق ذلك، قال الماوردي عند الكلام في العزل: إن اقترن بتقليد الثاني شواهد عزل الأول وانعزل بتولية الثاني، وإلا كانا شريكين في النظر، وفي هذه الحالة إذا استحضر رجلان شخصاً كل منهما إلى قاض أجاب من سبق داعيه، فإن جاءا معاً أقرع بينهما. قاله القاضي الحسين والإمام وغيرهما.

وقد نسب هذا للشيخ أبي علي، وفي بعض الكتب: أن في "الذخائر": أنهما إذا جاءا معاً قدم بالقرب، فإن استويا في القرب فالقرعة، ولم أره. كذا. ولو اختلف الخصمان في التجاذب إلى كل واحد من القاضيين، أطلق الغزالي تحكيم القرعة، وفي "الحاوي": أنه يغلب جانب الطالب، فلو كان كل منهما طالباً ومطلوباً رجح جانب الأقرب من القاضيين، فإن استويا في القرب فوجهان: [أحدهما- وهو الأظهر] في "الرافعي"-: القرعة. والثاني: يقطع التنازل بينهما حتى يتفقا على الرضا بأحدهما. فرع: إذا أطلق الإمام نصب اثنين، ولم يشترط عليهما الاجتماع، ولا صرح بالاستقلال- فعن صاحب "التقريب": أنه يحمل على [إثبات] الاستقلال؛ تنزيلاً للمطلق على ما يجوز، وعن غيره: أن التولية فاسدة، ما لم يصرح بالاستقلال. واعلم أنه كما يجوز [نصب قاضيين في بلد كل [منهما] في جانب، يجوز نصبهما فيه على] أن يحكم كل منهما في أيام معينة من كل أسبوع [أو من أسبوع واحد، وتبقى الولاية في الحالة الأولى مستمرة على النحو المشروط،] وتنقطع بمضي المدة المعينة في الثانية، ولو أطلق الولاية حملت على الأسبوع الأول لا غير، ولا يجوز لواحد منهما أن يحكم في غير نوبته، وعن القاضي ابن كج حكاية وجه فيما إذا قال: قلدتك القضاء سنة، أن التولية تبطل كما في الإمامة، والظاهر: الأول؛ تشبيهاً بالوكالة، ولو كان كالإمامة لما جاز تخصيصه ببعض الأمور. وقد قال الأصحاب: إنه لو فوض لأحدهما الحكم بين من يرد داره أو مسجده من الخصوم وللآخر مثل ذلك، أو فوض لأحدهما الحكم بالإقرار دون البينة، وللآخر عكس ذلك، أو فوض لأحدهما الحكم بين الرجال، وللآخر الحكم بين النساء، أو لأحدهما الحكم بين العرب، وللآخر الحكم بين العجم- جاز، وفي

الحالة الأخيرة لو كان [في العجم] موالٍ للعرب، ففي أحق القاضيين بالنظر في أحكامهم وجهان مبنيان على الخلاف في موالي ذوي القربى، هل يحرم عليهم من الصدقات ما يحرم على ذوي القربى أم لا؟ وإذا وقع التنازع بين رجل وامرأة في الصورة السابقة على الأخيرة، أو بين عربي وعجمي في الصورة الأخيرة- فقد أطلق القاضي الحسين والإمام قبيل كتاب القسام: أن واحداً من القاضيين لا يفصل بينهما الخصومة. وقال [القاضي الماوردي] في "الحاوي": إن لهما حالتين. إحداهما: أن يتفقا على التحاكم إلى قاضي أحدهما، فإن كان ذلك قاضي المطلوب نفذ حكمه فيهما؛ لأنه مندوب إلى استيفاء الحقوق من أهل نظره، وإن كان قاضي الطالب ففي نفوذ حكمه وجهان مخرجان من قولي التحكيم. والحالة الثانية: أن يتجاذب المتنازعان ويدعو كل [واحد] منهما إلى قاضيه- ففيه وجهان: أحدهما: يوقف تنازعهما حتى يتفقا على أحد القاضيين، ويكون الحكم كما تقدم. والثاني: يجتمع القاضيان على سماع الدعوى، فإن امتنعا أثما وأجبرا عليه، وتفرد بالحكم قاضي المطلوب، فإن اقتضى الحكم سماع البينة تفرد بسماعها قاضي المشهود عليه، وإن وقف الحكم على يمين استوفاها قاضي الحالف؛ ليكون الحكم في الأحوال كلها نافذاً من قاضي المطلوب دون الطالب. قال: ولا يصح القضاء، أي: وإن تعين على شخص لتفرده في عصره [بشروطه]، إلا بتولية الإمام أو من فوض إليه الإمام، أي: التولية إما بالتصريح، أو لدخولها في عموم ولايته، كما سنذكره، ووجهه: أنه ولاية لحق المسلمين، وهو من الأمور العظام؛ فاحتيج فيه إلى نظر الإمام، ولأن الولاية عقد،

والعقد يفتقر إلى عاقد، فاختص به الإمام ونائبه؛ لأنه الناظر للمسلمين، وهذا بخلاف من تعينت عليه الإمامة؛ فإن من فقهاء العراق والمتكلمين من [قال] بحصول الإمامة له بالتعين من غير عقد، وفرقوا بأن القضاء نيابة خاصة، يجوز عزل القاضي عنها بعد التولية مع بقائه على صفته بخلاف الإمامة. قال الماوردي: وقد شذ بعض أهل المذهب، فسوَّى بين الإمامة والقضاء في انعقادهما عند التعين من غير عاقد، والجمع بينهما في الصحة أفسد، وفي البطلان أصح. قلت: والقائل بالتسوية يجوز أن يكون هو القائل بعدم انعزال القاضي بالعزل مع بقائه على صفة القضاء كما سنذكره؛ لانتفاء الفارق عنده. ثم لا فرق عند الرافعي والبغوي فيمن فوض إليه تولية القضاء بين أن يكون أهلاً للقضاء أو لا؛ لأنه سفير. وفي "الحاوي" و"البحر": أنه لو رد إلى امرأة تقليد قاض، لم يجز؛ لأنه لا يجوز أن تكون والية، فلا تكون مولية. وهذا يقتضي أن يكون المولي بصفة من يصلح للقضاء، وقد اتفقوا على أنه لو رد إلى امرأة اختيار قاض، جاز؛ لأن الاختيار اجتهاد، فجاز لها كالفتوى. وإذا علمت انحصار تولية القضاء فيمن ذكرناه، عرفت أن تولية القضاء فرض على الإمام عيناً في كل ناحية أو بلد عرف أنها خالية عن القاضي: إما بأن يبعث إليهم قاضياً من عنده، أو يختار منهم من يصلح لذلك. قال الماوردي: ولا يجوز أن يتوقف حتى يسأل؛ لأنها من الحقوق المسترعاة، فإن عرف حال من يوليه علماً وعدالة فذاك، وإلا أحضر أهل العلم، واختار منهم واحداً بعد معرفة علمه بالاختيار، وعدالته بسؤال خلطائه والجيران. وقال: إنه يكفي [في] معرفة صلاحيته الاستفاضة، وكذا شهادة شاهدين بتكامل شروط القضاء فيه، ويختبره المولي ليتحقق لاختياره صحة معرفته، وهل يكون

اختياره بعد الشهادة واجباً أو مستحبّاً؟ فيه وجهان، ولو ولاه قبل المعرفة بحاله لم تنعقد، وإن ظهرت أهليته بعد ذلك. قال الرافعي وغيره: قال الماوردي: وقد تكون التولية في حق غيره فرض عين أيضاً، وهو ما إذا ولى الإمام شخصاً قضاء إقليم، وكان يعجز عن النظر [في جميع النواحي؛ فإنه يجب عليه عيناً تقليد القضاء فيما [إذا عجز] عن مباشرته إذا كان بعيداً عن نظر الإمام، وإن كان قريباً منه كان فرض التقليد مشتركاً بينه وبين الإمام، ومتعيناً عليهما دون غيرهما، فأيهما انفرد بالتقليد سقط فرضه عنهما، ولكن الإمام إذا ولى كان عزلاً للقاضي عن ذلك المحل، إلا أن يصرح في التقليد باستنابته [عنه]، وفي هذه الحالة، هل يجوز [للقاضي] عزله؟ فيه وجهان. وهذا كله إذا كان للأمة إمام، فلو خلا الزمان عنه وعن سلطان ذي نجدة واستقلال وكفاية ودراية، فقد أطلق الإمام في "الغياثي" القول بأن الأمور موكولة إلى العلماء، وأنه حق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضاء الولايات عن آرائهم، فإن فعلوا ذلك صار العلماء ولاة العباد، فإن عسر جمعهم على واحد استقل أهل كل صقع وناحية بإتباع علمائهم، وإن كثر العلماء في الناحية فالمتبع أعلمهم، فإن فرض استواء- على نُدُور- فإن اتفقوا على تقديم واحد فذاك، وإن تنازعوا، وأفضى الأمر إلى خصام وشجار- فالوجه عندي: الإقراع؛ فمن خرجت له القرعة قدم. وفي "الحاوي": أنه إن خلا بلد عن قاض، ولم يمكن أهله أن يتحاكموا إلى حاكم بأقرب البلاد إليهم، وخلا العصر عن إمام، وكان لا يرجى تولية إمام بعد زمان قريب، فقلد جميع أهل الاختيار منهم، أو بعضهم- وقد ظهر رضا الباقين بالسكوت وعدم الاختلاف-[شخصاً] وأمكنهم نصرته وتقوية يده- كان تقليده جائزاً؛ حتى لا يتغالبوا على الحقوق، ولو انتفى شيء من ذلك لم يجز، حتى لو قلد بعض أهل

الاختيار وأنكر البعض لم يصح، وإن كان لا يضر [مثل] ذلك في عقد الإمامة، والفرق: أن ولاية الإمام عامة في جميع البلاد التي [لا] يمكن اجتماع أهلها على الاختيار؛ فسقط اعتبار الاجتماع لتعذره، وولاية القضاء [على بلد واحد] يمكن اجتماع أهل الاختيار عليه؛ فلزم اعتبار اجتماعهم لأحكامهم، اللهم إلا أن يكون للبلد جانبان، فرضيه أهل أحد الجانبين دون الآخر؛ فإنه يصح ولايته في الجانب الذي رضي أهله قضاءه، ويكونان كالبلدين، وإذا صحت ولايته لزمت أحكامه في الجانب الذي رضي أهله قضاءه، ويكونان كالبلدين، وإذا صحت ولايته لزمت أحكامه طوعاً وكرهاً، فلو تجدد إمام لم ينقض له حكماً، وله عزله، ولم يجز للقاضي أن يستأنف النظر إلا بعد إذن الإمام، بخلاف ما لو كان المولي له إماماً، ثم تولى غيره؛ فإنه لا يلزمه استئذانه. قال: والفرق: وجود الضرورة في تقليد أهل الاختيار وعدمها في تقليد الإمام، وهذا منه بناءً على أن القاضي لا ينعزل بموت الإمام؛ كما هو الصحيح، وسنذكر خلافاً فيه. قال: ولو أذن له الإمام جاز نظره، وقام مقام التقليد، وإن لم يجز الاقتصار على الإذن في الولايات المستجدة؛ لما تقدم لهذا القاضي من شروط التقليد؛ فكان أخف. واعلم أن كلام الشيخ في هذا الفصل يتعلق به أمور لابد من ذكرها: الأمر الأول- صفة العقد: وهي بالقول مع الحضور، وبالمكاتبة مع الغيبة للضرورة. قال في "الحاوي": ولا يجوز أن يقتصر على المكاتبة مع الحضور. وقال في "الأحكام": إن تولية القضاء تنعقد بما تنعقد به الوكالة. قال الرافعي: ويجيء في المكاتبة والمراسلة خلاف مما مَرَّ في الوكالة. ثم صريح ما تنعقد به من جهة المولي أربعة ألفاظ: قلدتك القضاء، وليتك القضاء،

استخلفتك على القضاء، استنبتك على القضاء؛ كذا قاله في "الحاوي". وألحق الرافعي بذلك التفويض بصيغة الأمر؛ كقوله: اقض بين الناس، أو: احكم ببلدة كذا؛ كما في الوكالة. والكنايات في ذلك أربعة- أيضاً-: قد اعتمدت عليك في القضاء، عولت عليك في القضاء، عهدت إليك القضاء، وكلت إليك القضاء. فإن اقترن بأحدها ما يزيل الاحتمال؛ كقوله: فاحكم، أو فانظر- انعقد؛ كما في الصريح، وإلا فلا. وقد اختلف في أربعة ألفاظ، هل هي صريحة أو كناية؟ على وجهين، وهي: قد عرضت عليك القضاء، رددت إليك القضاء، جعلت إليك القضاء، أسندت إليك القضاء. وأصح الوجهين: أنها كناية، وقد عد في "الأحكام" من جملة الكنايات- كما قال الرافعي- ولم أره [كذا]: فوضت إليك القضاء. ثم قال [الرافعي]: ولا يكاد يتضح فرق بين أن يقول: وليتك القضاء، وبين أن يقول: فوضت إليك. ولابد من قبول المولى بالقول إن كان حاضراً على الفور، فيقول: قبلت، أو: تقلدت، وإن كان غائباً جاز أن يكون قبوله على التراخي، فإن شرع في النظر قبل القبول فهل يكون شروعه فيه قبولاً؟ فيه وجهان. قال الرافعي: وقد سبق في الوكالة خلاف في أنه هل يشترط القبول؟ وذكرنا أنه إن كان شرطاً، فالأظهر: أنه لا يعتبر الفور، فليكن ها هنا كذلك، وقد اعتبر الماوردي في صحة القبول شرطين: أحدهما: أن يعلم استحقاق المولي لما استنابه فيه، فإن لم يعلم ذلك لم يصح قبوله. وفي "الرافعي": أن في بعض الشروح: أن القاضي العادل إذا استقضاه أمير باغ أجابه إليه؛ لأن عائشة- رضي الله عنها- سئلت عن ذلك ما استقضى زياد؟ فقالت: إن لم يقض لهم خياركم قضى لهم شراركم. وحكى الماوردي [في "الأحكام"] فيه مذهبين؛ حيث قال: وقد اختلف في جواز الولاية من قبل الظالم:

فذهب قوم إلى جوازها؛ لأن يوسف- عليه السلام- تولى من قبل فرعون؛ ليكون بعدله دافعاً لجوره. وذهبت طائفة أخرى على حظرها، والمنع من التعرض لها؛ لما فيها من معونة الظالمين، وتزكيتهم بالتقليد، وأجابوا عن ولاية يوسف من قِبَل فرعون بجوابين: أحدهما: أن فرعون يوسف كان صالحاً، وإنما الطاغي فرعون موسى. والثاني: أنه نظر له في أملاكه دون أعماله. والشرط الثاني: أن يعلم المولى من نفسه أنه استكمل الشرائط المعتبرة في القضاء، فإن علم أنه لم يستكملها لم يصح قبوله، وكان بقبوله مجروحاً. الأمر الثاني- المحل الذي قلد قضاءه: فلابد من تعيينه، كقوله: قلدتك قضاء البصرة؛ [فلو قال: قلدتك قضاء البصرة] أو الكوفة، أو [قضاء] أي بلد شئت، أو أي بلد رضيك أهله- كان التقليد فاسداً؛ للجهل بالعمل. وإذا قلد [قضاء] بلد، وأمسك عن ذكر نواحيها وأعمالها، فيعتبر في أعمالها العرف: فإن كان جارياً بإفرادها عنه لم تدخل في ولايته؛ كما لو صرح بعدم دخولها، وإن كان العرف جارياً بإضافتها إليه دخلت في ولايته؛ كما لو صرح بذلك، وإن اختلف العرف في إفرادها وإضافتها روعي أكثرهما عرفاً، فإن استويا روعي أقربهما عهداً، قاله الماوردي، رحمه الله. الأمر الثالث- تعيين المولى بعد معرفة حاله كما ذكرنا: فلو قال: وليت أحد هذين، أو من يرغب في القضاء ببلد كذا من علمائها- لم يجز. وعن القاضي ابن كج حكاية وجهين فيما لو قال لأهل بلدة: اختاروا رجلاً منكم وقلدوه القضاء، و [أن] أشبههما: الجواز، ولو قال: فوضت إلى فلان وفلان، فهذا نصب قاضيين. قال: وإن تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء، فحكماه في مال- ففيه قولان:

أحدهما: [أنه] لا يلزم ذلك الحكم إلا أن يتراضيا به بعد الحكم. هذا الفصل ينظم حكمين: أحدهما: بطريق التضمن، وهو جواز التحكيم في الأموال جزماً. والآخر: بالتصريح، وهو بيان وقت لزوم الحكم. فأما الأول: فوجهه أَنَّ عُمَرَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ تَحَاكَمَا إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي نَخْلٍ، وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ تَحَاكَمَا إِلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعمٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ؛ فَكَان إجماعاً، وهذا ما حكاه الماوردي عند الكلام في هذه المسألة، والعراقيون حتى [قالي البندنيجي في كتاب اللعان: إن المذهب لم يختلف في ذلك. وسواء كان في البلد حاكم أو لم يكن؛ كما صرح به البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما. وحكى المراوزة والزبيلي عن الشافعي- رضي الله عنه- في صحة التحكيم قولين، وقد [أشار غليهما الماوردي عند الكلام في تحاكم عربي وعجمي وقد] نصب للعرب قاضٍ وللعجم قاضٍ كما حكيناه. [ثَمَّ] قال الرافعي: والإمام والغزالي [رأيا] تضعيف الجواز. ووجهوا مقابله بأن في التجويز عزلاً للحاكم وافتياتاً على الإمام، وأجاب القائل به عن فعل عمر وعثمان- رضي الله عنهما- بأنهما كانا إمامين، فإذا ردا إلى من يحكم بينهما وبين منازعهما صار ذلك حاكماً، وعلى هذا ففي محل القولين طرق: أحدها: [إن كان في البلد قاض، فإن لم يكن جاز قولاً واحداً. والثاني]: إذا لم يكن في البلد قاض، فإن كان لم يجز قولاً واحداً.

والثالث- وهو أظهر في "الرافعي"-: إجراؤهما في الحالين. والصحيح في "الكافي" وعند الجمهور: ما جزم به العراقيون، وقال الإمام في "الغياثي": إنه متجه في القياس، ومن قال به قال: ما ذكر من الاعتذار من تحكيم عمر وعثمان- رضي الله عنهما-[لا يصح؛ لأنه لم ينقل عنهما] أكثر من الرضا بحكمه خاصة، وذلك لا يصير به حاكماً؛ كذا قاله ابن الصباغ وغيره، وأيضاً: فإن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب حكما عبد الرحمن بن عوف في الإمامة بعد انحصارها فيهما؛ كما ذكرناه في باب أدب السلطان، فحكم لعثمان، وانعقدت بذلك إمامته، وإذا جاز ذلك في الإمامة ففي الأموال أولى، وقد روي أَنَّ وَفْداً قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيْهِمْ رَجُلٌ يُكَنَّى أَبَا الحَكَمِ، فَقَالَ: "لِمَ كُنيتَ أَبَا الحَكَمِ؟ فَقَالَ: لِأنَّ قَوْمِي يُحَكِّمُونَنِي بَيْنَهُمْ فَأَحْكُمُ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا نَهَاهُ". وأما الثاني- وهو [وقت] لزوم الحكم- ففيه قولان كما قال: أحدهما: أنه لا يلزم ذلك الحكم إلا أن يتراضيا به بعد الحكم؛ لأنه لما وقف على اختيارهما في الابتداء؛ وجب أن يقف على اختيارهما في الانتهاء، وهذا ما اختاره المزني. والثاني: أنه يلزم بنفس الحكم؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَرَاضِياً بِهِ، فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ"؛ فكان الوعيد دليلاً على لزوم حكمه؛ كما قال في الشهادة: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]؛ فدل الوعيد على لزوم [الحكم] بشهادته، ولأن من جاز حكمه، لزم [حكمه]؛

كالمولى من جهة الإمام، وهذا ما قاله الكوفيون وأكثر أصحابنا؛ كما حكاه الماوردي هنا، وعَنَى البصريين، وقال في كتاب اللعان: إنه أشبه. وصححه في "الكافي" و"المرشد" والنواوي، وما قاله الأول فقد أبطل [بتصرف] الوكيل والشريك؛ فإنه لازم وإن كان ثبوته بالرضا. والقولان منصوصان في "اختلاف العراقيين"، وقد حكاهما الإمام [وجهين] عن رواية العراقيين. قال: فإن رجع فيه أحدهما قبل أن يحكم، [أي:] وبعد الشروع فيه، وقلنا بلزوم الحكم بنفسه، كما قاله البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما- فقد قيل: يجوز؛ لأن الحكم إنما يلزم على هذا إذا وجد الرضا حالة الحكم، ولم يوجد؛ فأشبه ما لو رجع فيه قبل الشروع. وقيل: لا يجوز؛ لأن اشتراط اختيارهما بعد الشروع فيه يفضي إلى ألا يلزم بالتحكيم حكم؛ فإن أحدهما لا يعجز إذا رأى توجه الحق عليه أن يرجع فيصير التحكيم لغوماً، وقد استبعد الإمام هذا، واختاره في "المرشد"، والوجهان في "الشامل" منسوبان إلى تخريج الإصطخري، وفي "الحاوي" نسبة المنع إلى روايته، وفي "تعليق" البندنيجي أنه قال: فيه وجهان. قال: وإن تحاكما إليه في النكاح، أي: في إثباته وإثبات أحكامه، واللعان، أي: ليلاعن بينهما؛ كما قاله الماوردي [في اللعان]، بسبب الحد كما قاله المتولي ثم، والقصاص وحد القذف، أي: بسبب إثباته- فقد قيل: [يجوز]؛ لأن من صح حكمه في الأموال صح حكمه في جميع الأحكام؛ كالمولى من جهة الإمام، وهذا [ما] حكاه ابن الصباغ وأبو الطيب عن الأكثرين، وهو أصح عند النواوي وصاحب "المرشد"، وبه جزم في "الكافي"، وقال البندنيجي: إنه أقيس. قال البغوي: وهو جارٍ في كل ما يجوز للحاكم أن يحكم فيه، وعلى هذا يظهر أن

يقال: لا فرق عند العراقيين بين أن يكون في البلد حاكم أو لا، وإن في وقت لزوم الحكم القولين كما اقتضاهما كلام ابن الصباغ. وقيل لا يجوز؛ لأن هذه الأحكام غلظ فيها الشرع، فاحتيط لها، وهذا الوجه جريانه في الحدود من طريق الأولى، وقد ادعى البغوي أنه المذهب فيها، ولم يحك في "الكافي" سواه. والقائل بمنع التحكيم فيما ذكرناه يجوزه فيما عداها؛ كما قاله ابن شداد في "الأحكام"، ومجلي، وعليه ينطبق قول الزبيلي: إنه يجوز التحكيم في سائر الحكومات إلا في النكاح واللعان والحدود. وفي "التهذيب" أن منهم من قال: لا يجوز إلا في الأموال؛ لأن حكم المال أخف من حكم غيره. وفي "الحاوي" في كتاب اللعان: أن أبا القاسم الداركي كان يقول: يجوز التحكيم في اللعان عند عدم الحاكم، ولا يجوز [مع] وجوده؛ اعتباراً بالضرورة، وأن الخلاف فيه مبني على أن حكم الحاكم يلزم من غير رضا بعد الحكم، أو لابد من [الرضا؟ فعلى الأول: يجوز، وعلى الثاني: لا؛ لأن حكم اللعان لا يقع إلا لازماً، ولا يقع على] التراضي، ولا يصح فيه العفو والإبراء كالحدود، وفي طريقة المراوزة

ترتيب الخلاف [في النكاح على الخلاف في الأموال، وأولى بمنع الحكم فيه، وترتيب الخلاف] في العقوبات على الخلاف في النكاح، وأولى بمنعه- أيضاً- وهو عندهم فيما عدا الأموال وجهان. ولو كان الترافع في النكاح لأجل العقد؛ كما إذا حضرت إليه امرأة لا ولي لها، وخاطبها، ورضي بأن يعقد لهما- ففي "الحاوي": أنهما إن كانا في دار الحرب أو في بادية لا يصلان إلى حاكم، جاز تحكيمهما، وتزويج المحكم لهما، وإن كانا في دار الإسلام، وحيث يقدران فيه على الحاكم- كان في جوازه وجهان على ما ذكرنا. يريد: أنا إن لم نجوز التحكيم في [غير] الأموال أو فيها [مع وجود] الحاكم لم يجز، وإلا جاز عند فقد الولي، وهذا ما حكي عن [القاضي] الروياني أنه صححه، وأنه اختيار الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وأبي طاهر الزيادي. قال الرافعي: وليكن الخلاف في اشتراط فقد الحاكم مبنيّاً على الطريقة الفارقة بين أن يكون في البلد حاكم أم لا. وإذا جوزنا التزويج بالتحكيم، وكانت المرأة بكراً فقال لها المحكم: حكميني لأزوجك من هذا، فسكتت- قال الفراء في "فتاويه": كان سكوتها إذناً؛ كما لو استأذنها الولي [فسكتت]. حكاه الرافعي قبل الباب الثاني في دعوة النسب، وقد ذكرت في كتاب النكاح هذا الفرع، وذكرت فيه شيئاً لم أذكره هنا خشية التكرار، ولو كان الترافع في اللعان بسبب نفي الولد ففي "التتمة": أنه لا يجوز إلا أن يكون الولد كبيراً؛ لأن له فيه حقّاً، أما إذا لم يكن [المتحاكم إليه] يصلح للقضاء لم ينفذ حكمه اتفاقاً، وكذا لو لم يتفقا على الرضا بالترافع إليه. وعن أبي الفرج السرخسي: أن ذلك مفروض فيما إذا لم يكن أحد الخصمين

القاضي نفسه، فإن [كان و] هو الراضي، فهل يشترط رضا الآخر؟ فيه اختلاف نص، والظاهر: أنه لا يشترط. قال الرافعي: وليكن هذا مبنيّاً على جواز الاستخلاف، إن جاز فالرجوع إليه؛ لأنه نائب القاضي. قلت: قد قدمت عن ابن الصباغ وغيره أن التحاكم إلى الشخص لا يكون تولية [له]؛ فلا يحسن أن يكون هذا مبنيّاً على ذلك. وقد قال الماوردي قبيل كتاب الشهادات: إذا تحاكم الإمام وخصمه إلى واحد من رعيته جاز، ثم ينظر: فإن قلده خصوص هذا النظر صار قاضياً خاصّاً قبل الترافع إليه، ولم يعتبر فيه رضا التحكيم، وإن لم يقلده النظر قبل الترافع اعتبر فيه رضا الخصم. فروع: إذا ثبت عند المحكم الحق وحكم به أو لم يحكم، فله أن يشهد على نفسه بذلك في المجلس الذي حكم بينهما فيه قبل التفرق خاصة؛ لأن قوله بعد الافتراق لا يقبل؛ [كما لا يقبل] قول الحاكم بعد العزل، قاله الماوردي. وإذا رفع حكمه إلى القاضي لم ينقضه إلا حيث ينقض حكم القاضي المولّى من جهة الإمام. صرح به الماوردي وابن الصباغ والبغوي وغيرهم. ولا يجوز له أن يحبس [في الدين على المذهب؛ كما لا يجوز له استيفاء العقوبات، وقيل: يحبس]، والفرق: أن استيفاء العقوبات يخرم أبهة الولاية. وفي "الجيلي": أن الزاني، وشارب الخمر إذا جاء إلى رجل فقال: حكمتك فاستوف حق الله- فإذا جلده على الزنى أو الشرب أو رجمه فهل يقع الحد موقعه؟ فيه وجهان. وصور كلام الشيخ في القصاص إذا قلنا بجواز التحكيم فيه: بأن يجيء مستحق

القصاص [فيطلب القصاص]، [فله] أن يبينه بالبينة، ويستوفي في النفس والطرف؟ وكذا في حد القذف. وإذا تعلق الحكم بثالث؛ لم ينفذ حكم المحكم عليه بدون رضاه على الأصح عند الإمام وغيره، ومثاله: إذا تحاكم إليه اثنان في قتل الخطأ، وقامت البينة على المدعى عليه- فلا تلزم العاقلة الدية، وفيه وجه: أن رضا القاتل كافٍ؛ لأنهم تبع له، كذا قاله الغزالي، وقال: إنه بعيد؛ لأن إقرار القاتل لا يلزمهم؛ فكيف يلزمهم رضاه؟! وفي قوله: لأنهم تبع له، إشارة إلى أن [هذا] الوجه مبني على قولنا: إن الدية تثبت على [القاتل ابتداء، ثم تنتقل، وقد صرح به الماوردي وغيره حيث قالوا: إن الأول مبني على قولنا: إن الدية تجب على] العاقلة ابتداء، والثاني مبني على [قولنا:] إنها تجب على القاتل ثم تنتقل. وقضية هذا البناء: أن يكون الصحيح هنا عند الشاشي: اللزوم إن كان يقول بالبناء؛ لأن الصحيح عنده: أنها تجب على القاتل ثم تنتقل. عن أبي الفرج السرخسي: أن الوجهين مخصوصان بقولنا: إن الدية [تجب] على القاتل ثم تنتقل، أما إذا قلنا: إنها تجب على العاقلة ابتداء، فلا خلاف في أنها لا تضرب عليهم عند عدم الرضا. قال الرافعي: وهو حسن. وإذا تحاكم إليه بالتحكيم من لا تقبل شهادته له مع غيره: كابنه [ووالده] مع أجنبي، فعن الشيخ أبي الفرج السرخسي: أن [في جواز] هذا التحكيم وجهين، وفي "الحاوي": أنه إن حكم على ابنه [وأبيه] نفذ، وإن حكم على الأجنبي ففي نفوذه وجهان: وجه المنع: القياس على ما لو كان من جهة الإمام.

ووجه الجواز: أن ولاية التحكيم منعقدة باختيارهما؛ فصار المحكوم عليه راضياً بحكمه. قلت: ولو بني الخلاف على أن الحكم يفتقر لزومه إلى الرضا بعده أم لا؟ لم يبعد. وهكذا الحكم فيما لو تحاكم إليه عدوه وغيره، فحكم له أو عليه، صرح به الماوردي، وحكى وجهاً: أنه ينفذ حكم المولى من جهة الإمام على عدوه- أيضاً- وسنذكره. قال: وينبغي أن يكون القاضي ذكراً؛ لقوله- تعالى- {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34]، يعني: في العقل والرأي؛ فلم يجز أن يقمن على الرجال. وفي "البحر": أن عائشة روت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تكُونُ المَرْأَةُ حَكَماً تَقْضِي بَيْنَ العَامَّةِ"، ولأن القاضي يحتاج إلى مخالطة الرجال، والمرأة مأمورة بالتخدر؛ ولذلك لم تصح إمامتها بالرجال مع صحتها من الفاسق. والخنثى المشكل فيما نحن فيه كالمرأة، قال الماوردي: ولو بان أنه رجل، لم يصح تقليده، يعني: أنه لو بان بعد التقليد رجلاً لم تنعقد ولايته، كما صرح به في "البحر"، وقال: إنه المذهب. ثم قال: وقيل: فيه وجهان. أما إذا بانت رجولته قبل التولية؛ صح تقليده جزماً، قاله في "البحر".

قال: حرّاً؛ لأن العبد ناقص عن ولاية نفسه؛ فعن ولاية غيره أولى، وبالقياس على الشهادة، ومن لم تكمل فيه الحرية ككامل الرق في هذا المعنى. قال: بالغاً؛ لأن غير البالغ لا يجري عليه القلم؛ فلا يتعلق بقوله على نفسه حكم؛ فعلى غيره أولى. قال الماوردي: ويجمع هذا الوصف ووصف الذكورة، قولنا: رجل. قال: عاقلاً؛ للإجماع، وللمعنى الذي ذكرناه في الصبي. قال الماوردي في "الحاوي" و"الأحكام": وليس يكتفي فيه بالعقل الذي يتعلق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية؛ حتى يكون صحيح التمييز، جيد الفطنة، بعيداً من السهو والغفلة؛ حتى يتوصل بذكائه إلى وضوح ما أشكل، وفصل ما أعضل؛ وعلى ذلك حوم الإمام، حيث قال: والذي أراه: أن يضم إلى ما ذكرناه الكفاية اللائقة بالقضاء، وهي عبارة عن التشمير والاستقلال بالأمور وموافاة النفس على الحذر فيما إليه، وهذا يضاهي من صفات الإمام النجدة. وتبعه الغزالي، فقال بعد ذكر الأوصاف المعتبرة: وينبغي أن يعتبر مع هذه الخصال الكفاية اللائقة بالقضاء؛ فمجرد العلم لا يكفي في هذه الأمور. ولم يفسر معنى الكفاية؛ فاعترض عليه مجلي وقال: إن عنى [بالكفاية استقلاله بالأحكام فقد ذكره بالصفة، وإن عني] كونه ذا مال فذاك لا يشترط وفاقاً، بل يجوز أن يكون فقيراً. قال ابن شداد: ويمكن أن يقال: عني به ما قاله صاحب "الشامل"، وهو أن يكون متلبثاً ذا فطنة ويقظة لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة، لكن المشكل قوله: لابد منه.

وقد ذكر الأصحاب ما قلناه في فصل الاستحباب. و [لا فرق] في الجنون المانع للولاية بين أن يكون مطبقاً أو متقطعاً تدوم مدته أو تقصر، وبعضها غفلة أو دهشة، فلو قصرت مدته كالساعة مثلاً، وكان يعود بعد زواله إلى حالة الاستقامة؛ ففي جواز توليته وجهان في "الحاوي"، وجه الجواز: إجراء ذلك مجرى فترات النوم. قال: عدلاً؛ لأن ضدها- وهو الفسق- لما منع الأب من النظر في مال ولده، إذا اتصف به، مع قوة ولايته وعظم شفقته- فلأن يمنع القضاء وأحد متضمناته حفظ أموال الأيتام كان أولى. ولا فرق في الفسق بين أن يكون بأمر لا شبهة له فيه أو له فيه شبهة. وفي "الحاوي" حكاية وجه في صحة تولية من فسقه باعتقاد شبهة وتأويل، وقد بين في "الأحكام" المعبر عنه ها هنا بالعدل، فقال: أن يكون [صادق] اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفاً عن المحارم، متوقياً للمآثم، بعيداً من الريب، مأموناً في الرضا والغضب، مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه، فإن انخرم منها شيء منع الولاية؛ كما يمنع قبول الشهادة. قال: عالماً [بالأحكام] [، أي:] الشرعية [بطريق الاجتهاد] لا بطريق التقليد؛ لقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، [والمقلد لو قيل بصحة توليته لكان إذا استُفْتِي وحكم قافياً ما ليس له به علم؛] لأنه لا يدري طريق ذلك الحكم، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بريدة الذي سبق: "وَرَجُلٌ قَضَى بِالنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ"، والتقليد لا يخرجه عن أن يكون [قضاء على جهل؛ لأنه لا يعرف طريقه، ولأن المقلد لا يجوز أن يكون] مفتياً؛ فأولى ألا يكون قاضياً، ووجه الأولوية: أن الفتوى إخبار لا يلزم الحكم، والقضاء إخبار يلزمه.

ثم شرائط الاجتهاد [في الأحكام مذكورة في كتب الأصول، وهي على الاختصار:] العلم بالكتاب والسنة والإجماع، والقياس، ولسان العرب: والمعتبر علمه من الكتاب: علم الآيات التي تتعلق بها الأحكام. قال البندنيجي: وهي خمسمائة [آية]. وقد حكاه الماوردي عن بعضهم، ولم يحك سواه. فيعرف الناسخ منها والمنسوخ، والعام والخاص، والعام الذي أريد به الخصوص، والخاص الذي أريد به العموم فيجريه عليه، والمطلق والمقيد، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمفصل. قال الروياني: ولا يشترط حفظه القرآن على ظهر القلب. قال الرافعي: ومن الأصحاب من ينازع ظاهر كلامه فيه. والمعتبر علمه من السنة: الأخبار التي تتعلق بها الأحكام، ويعرف ناسخها ومنسوخها، وما خصص منها عام الكتاب أو بينه، وكذا ما ذكرناه في آيات الكتاب، ويعرف المتواتر منها والآحاد والمرسل، والمسند والمنقطع والمتصل، وحال الرواة: جرحهم، وتعديلهم. والمعتبر علمه من الإجماع وأقاويل الناس: علم ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه على قولين أو أكثر؛ حتى لا يقع في حكم أجمعت الأمة على خلافه، أو على قولين فاختار ثالثاً؛ فإنه منقوض كما في الحالة الأولى، كذا حكاه أبو الطيب وغيره. والمعتبر علمه من القياس: علم الجلي منه والواضح، والخفي وهو قياس الشبه، كما قاله ابن الصباغ و [قال] الماوردي: [: إنه غيره كما سنبينه، وأصول القياس وفروعه وشروطه وما يفسده به].

والمعتبر علمه من كلام العرب: صيغ الأمر والنهي، والخبر والاستخبار، والوعد والوعيد، والنداء، وأقسام الأسماء والأفعال والحروف، وما لابد منه في فهم معاني كلام الله- تعالى- وكلام رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك جاء بلغتهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: "أَحِبُّوا الْعَرَبَ لِثَلاثٍ: لأَنِّي عَرَبِيٌّ، وَالْقُرْآنَ ‘َرَبِيٌّ، وَكَلامَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ"، وكل [ذلك] محال على كتب الأصول. قال بعضهم: وإذا تأملت ذلك علمت أن هذه الصفات قد عز وجودها في زمننا هذا في شخص من العلماء، بل وفيما تقدم عليه بكثير، روي أن الشيخ أبا بكر القفال المروزي إمام المراوزة وشيخهم قال: المسئول قسمان: أحدهما: من جمع شرائط الاجتهاد، فيقضي ويفتي باجتهاده، وهذا لا يوجد. والثاني: من ينتحل مذهب واحد من الأئمة: إما الشافعي، أو أبي حنيفة، أو غيرهما، [وعرف] مذهب إمامه، وصار حاذقاً فيه، بحيث لا يشذ عنه شيء من أصول مذهبه ومنصوصاته، فإذا سئل عن حادثة: فإن عرف لصاحبه نصّاً أجاب عليه، وإن لم تكن المسألة منصوصة فله أن يجتهد فيها على مذهبه ويخرجها على أصول صاحبه، ويفتي بما أدى إليه اجتهاده، وهذا- أيضاً- أعز من الكبريت الأحمر. فإذا كان هذا قول القفال في ذلك الزمن، وفيه [تلامذته المشهورون] بصحبته أصحاب الوجوه في المذهب: كالقاضي الحسين، والفوراني، والشيخ أبي محمد والد الإمام، والصيدلاني، والشيخ أبي علي [السنجي]، المسمون بالمراوزة؛ لاشتغالهم عليه، وبالخراسانيين؛ لمقامهم بخراسان، وفيه- أيضاً- تلامذة الشيخ أبي حامد الإسفراييني بالعراق: كالمحاملي، والبندنيجي، وأقضى القضاة الماوردي، والقاضي أبي الطيب، والطبري وغيرهم- فما ظنك بهذا الزمن وقد عدم

فيه أصحاب الوجوه، بل قد قيل: إنه عدم ذلك من حين وفاة من ذكرناهم؟! لكن في "تعليق" القاضي أبي الطيب أن الشافعي لم يرد بذلك أن يكون في كل نوع منها مبرزاً حتى يكون في النحو مثل سيبويه، وفي اللغة مثل الخليل، وما أشبه ذلك؛ بل المعتبر من ذلك: ما يوصله إلى معرفة الحكم، وذلك ممكن. وهذا ما حكاه ابن الصباغ مختصراً عند الكلام في الاستشارة عن الأصحاب، وقال: إن ذلك يسهل على متعلمه الآن؛ فإنه قد جمع ودون. وكلام الروياني قريب منه. ويعضده قول الغزالي في الأصول: إنه لا حاجة إلى تتبع الأحاديث على تفرقها وانتشارها، ولكن يكفي أن يكون له أصل صحيح وقعت العناية فيه بجميع أحاديث الأحكام كسنن أبو داود. وقد سبقه بذلك البندنيجي. قال الغزالي: ويكفي معرفة مواضع كل باب فيراجعه إذا احتاج إلى الفتوى في ذلك الباب، وإن كل حديث أجمع السلف على قبوله أو تواترت عدالة رواته لا حاجة إلى البحث عن رواته، وما عدا ذلك فينبغي أن يكتفي في رواته بتعديل إمام مشهور عرف صحة مذهبه في التعديل؛ لأن من درج في الأحوال الماضية لا يخبر ولا يشاهد حاله، وتواتر السيرة لا يكاد يوجد إلا في جماعة معدودين. ثم زاد في التحقيقات في حق المفتي فقال: [إنه] لا يحتاج إلى ضبط مواضع الإجماع والاختلاف، بل يكفي أن يعرف في المسألة التي [يفتي] فيها أن قوله لا يخالف الإجماع، إما بأن يعلم أنه يوافق قول بعض المتقدمين، أو يغلب على ظنه أن الواقعة متروكة في ذلك العصر لم يخض فيها الأولون. وعلى قياس هذا معرفة الناسخ والمنسوخ؛ فإنه إنما يشترط معرفة اجتماع هذه العلوم في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الشرع، أما الذي ينتصب للاجتهاد في باب دون باب، كالناظر في مسألة المشرَّكة، فيكفيه معرفة أصول

الفرائض، ولا يضره ألا يعرف الأخبار الواردة في تحريم المسكر مثلاً. وعلى كل حال؛ فإذا تعذرت شرائط الاجتهاد على العموم، أو في مذهب إمام كزماننا-[فلابد من جزم القول والقطع بصحة تولية من اتصف بصفة العلم] في مذهب إمام من الأئمة إذا كان عارفاً [بغالب مذهبه] ومنصوصاته وأقواله المخرجة وأقاويل أصحابه، صحيح الذهن كما تقدم. وبالغ في "الوسيط"، فقال عند عدم المجتهد المطلق: الوجه القطع بتنفيذ قضاء من ولاه السلطان ذو الشوكة؛ كي لا تتعطل مصالح الخلق، فإنا ننفذ قضاء أهل البغي للحاجة، فكيف يجوز تعطيل القضاء الآن؟! نعم، يعصي السلطان بتفويضه إلى الفاسق والجاهل، ولكن بعد أن ولاه فلابد من تنفيذ أحكامه للضرورة. قال الرافعي: وهذا حسن، لكن في بعض "الشروح": أن قاضي أهل البغي إن كان منهم نظر: إن كان بغيهم لا يوجب الفسق كبغي [معاوية جاز أيضاً قضاؤه، وإن أوجب الفسق كبغي] أهل النهروان لم يجز. وقال ابن شداد وابن أبي الدم: إن ما قاله الغزالي لا نعلم أن أحداً نقله. قال ابن أبي الدم: مع تصفحي شروح المذهب والمصنفات فيه، بل الذي قطع به العراقيون والمراوزة: أن الفاسق لا تنفذ أحكامه، ونحن إذا نفذنا حكم قاضي البغاة، فلابد أن يكون مع علمه عدلاً متأولاً في خروجه مع البغاة، ولابد من تأويل حمل البغاة على بغيهم، وهذا لا خلاف فيه، فكيف ينفذ أحكام قاضي أهل العدل مع فسقه وعلمه بفسقه الفسق الذي لا تأويل فيه، وقد ذكرت في باب قتال أهل البغي في ذلك ما يغني عن الإعادة. وفي "الكافي": أن المتغلب على إقليم لو نصب قاضياً غير عالم أو غير عدل، والناس غير قادرين على دفعه، هل تنفذ أحكامه وقضاياه من تزويج الأيامى والتصرف في أموال اليتامى؟ يحتمل وجهين، أحدهما: لا، وطريق المسلمين في مثل هذه الحالة التحاكم إلى من هو من أهل القضاء في حوادثهم، فإن لم يجدوا أهلاً

للقضاء نفذت أحكامه للضرورة. قال: وقيل: يجوز أن يكون أميّاً، أي: لا يكتب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميّاً. وهذا أصح عند الإمام ومجلي والنواوي وغيرهم، وقال الإمام عند الكلام في الكاتب: إنه الذي عليه الأكثرون. وقيل: لا يجوز؛ لأنه يحتاج أن يكتب إلى غيره، ويكتب إليه، وإذا قرئ عليه شيء فربما حرف القارئ، بخلاف الذين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا ثقاة، ولو حرفوا لعلمه من جهة الوحي. وأيضاً: فإن عدم الكتابة في حقه معجزة، و [هي] في حق غيره منقصة، وهذا ما اختاره في المرشد، وقد قيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان يعرف الكتابة، ولكن منع منها؛ كي لا يتهمه الكفار في الوحي والكتابة، كذا قاله الجيلي، والصحيح أنه لم [يكن] يعرفها. قال الرافعي في الباب الثاني في جوامع القضاء في فرع منه: وقد قيل: إن الوجهين في أنه [هل يجوز أن يكون القاضي أميّاً؟ يمكن بناؤهما على الوجهين في أنه] هل يجب على القاضي كتابة المحضر والسجل؟ وهذا قد نسبه صاحب "الإشراف" إلى القاضي. وفي "الوسيط" ما يقرب من هذا. وقد اعتبر الأصحاب في صفات القاضي أموراً أخر سكت عنها الشيخ، [وقد] ظن به لذلك عدم اشتراطها: فمنها: الإسلام؛ فلا يصح تولية الكافر على المسلمين؛ لقوله- تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]، وأي سبيل أعظم من القضاء؟! وكذا لا يصح توليته على أهل دينه؛ لأن من لا تصح ولايته على العموم لا تصح على الخصوص؛ كالصبي والمجنون طرداً، والمسلم عكساً، وقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]، فالمراد به: الموالاة، [لا الولاية].

قال الماوردي: وما يفعل في العرف فهو رعاية ورياسة، وليس بتقليد حكم وقضاء، وما يلزم من حكمه أهل دينه فلالتزامهم لا للزومه لهم، ولا يقبل الإمام قوله فيما حكم به، ولو امتنع بعضهم من التحاكم إليه مع بعض لم يجبروا. وقد ذكرت في باب عقد الذمة شيئاً يخالف ذلك، فيطلب منه. وهذا الوصف قد يوجد [من] قول الشيخ: وأن يكون عالماً بالأحكام؛ لأنا قد ذكرنا أن المراد به المجتهد، والكافر ليس من أهل الاجتهاد؛ لاعتقاده عدم الحجة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقد قال الماوردي: إن من لا يعتقد من المسلمين أن خبر الواحد حجة، لا تصح توليته القضاء؛ كمن لم يعتقد أن الإجماع حجة، وكذا من نفي القياس واتبع ظاهر النص، وأخذ بأقاويل سلفهم فيما لم يرد فيه نص، مع حكاية خلاف عن أصحابنا في صحة تقليد أهل الظاهر؛ فالكافر بالمنع أولى، وقد جعل الرافعي الأظهر في أهل الظاهر جواز التقليد، وكلام الإمام يقتضي مقابله؛ لأنه قال في باب قطع اليد في السرقة: وقد ذكرنا مراراً في مواضع من الأصول والفروع أن أصحاب الظواهر ليسوا من علماء الشريعة، وإنما هم [نقلة إن ظهرت الثقة. ومنها: السمع والبصر والنطق؛ فلا يصح] تقليد الأصم الذي لا يفهم عالي الأصوات؛ لأنه لا يفرق بين إقرار وإنكار. نعم، ثقيل السمع الذي يفهم عالي الأصوات ولا يفهم خافيها تجوز ولايته، قاله الماوردي والبغوي وغيرهما. قال مجلي: وقد أشار الفوراني إلى جوازه للأصم؛ لأنه قال: هل يشترط العدد في المستمع بأن يكون القاضي أصم؟ فيه وجهان. قلت: وهذا لا يدل على جوازه للأصم الذي لا يسمع أصلاً، بل المراد [به: الذي يسمع عالي الأصوات؛ لأن المستمع إنما يكون لمن يسمع، والأعمى] لا تصح ولايته؛ لأنه لا يفرق بين الطالب والمطلوب. وفي "البحر" هنا و"زوائد" العمراني عند الكلام في شروط الإمامة العظمى

و"تعليق" القاضي الحسين في أواخر [باب] الوصية- حكاية وجه: أنه تصح ولايته، وقد قال ابن أبي الدم: إن [الجرجاني حكاه] قولاً. وقد يستدل له بما روى أبو داود عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى المَدِينَةِ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ أَعْمَى، والصحيح: الأول، وبه جزم الماوردي وغيره، وأما الحديث فقد يجاب عنه بما قاله بعضهم: أن في رجاله عمر بن داود القطان، وقد ضعفه ابن معين والنسائي. ثم على تقدير توثيقه كما صار إليه بعضهم، فهو محمول على ولاية الصلاة [بالمدينة] دون القضاء والأحكام؛ إكراماً له، وأخذاً بالأدب فيما عاتبه الله- تعالى- في أمره في قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1]، فإنه روي أن الآية نزلت فيه. وفي معنى الأعمى: من يرى الأشباح ولا يعرف الصور. نعم، لو كان [إذا قربت منه] عرفها، صح كما تصح ولاية مني بصر بالنهار دون الليل وهو الأعشى، والأخرس الذي لا تفهم إشارته، [لا يجوز تقليده؛ لأنه يعجز عن تنفيذ الأحكام وإلزام الحقوق]، فلو كانت له إشارة مفهمة ففي "الإشراف" [حكاية] جوابين [فيه] لابن القاص؛ بناءً على جواز شهادته في وجه، وقد نسب غيره الجواز إلى ابن سريج؛ كما جوز سماع شهادته. قال الماوردي: وجمهور أصحابنا على منعهما، وبه جزم البغوي، وادعى القاضي الحسين في كتاب الضمان: أنه لا خلاف فيه. نعم، لو كان في لسانه تمتمة أو عقدة أو نحو ذلك جازت توليته؛ لأنه نقص لا يمنع من الكلام وإن غمض.

ولا يقدح في الولاية كون الشخص مقطوع الأطراف أو مبطولاً أو زَمِناً، وإن كانت السلامة من الآفات أَهْيَبَ لذوي الولايات. ومنها: معرفة الحساب. وقد حكى [عن] صاحب "البحر" في صحة تولية من لا يعرفه وجهين، وقال: إن المذهب الصحة. والمنقول عن الشافعي- رضي الله عنه- في صفة القاضي- كما حكاه الماوردي وابن الصباغ والروياني وغيرهم- ثلاث شرائط: أن يكون من أهل الاجتهاد، وأن يكون عدلاً، [وأن يكون] كاملاً. وهي شاملة لجميع ما ذكرناه. قال: والأفضل أن يكون شديداً من غير عنف؛ لأنه لو كان عنيفاً لمنعت هيبته من استيفاء الحقوق [وقيام الخصوم بالحجج. قال: ليناً من غير ضعف؛ حتى لا يخترق به الخصوم، ولا تضيع الحقوق]. وهذه عبارة بعض السلف. قال القاضي أبو الطيب: قال بعض أصحابنا: يكون حسنه بين الشِّيَتَيْنِ. وفي "التهذيب": أنه يكره أن يكون جباراً يهابه الخصوم، وأن يكون ضعيفاً يطمع كل أحد في جنبته. قال: وإذا ولى الإمام رجلاً كتب [إليه بالعهد]؛ لأن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ لِعَمْره بْنِ حَزْمٍ كِتَاباً حِيْنَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ، وَأَبُو بَكْرٍ كَتَبَ لِأَنسٍ حِيْنَ بَعَثَهُ إِلَى البَحْرَيْنِ وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَى حَارِثَةُ بْنُ مُضَرِّبٍ أَنَّ عُمَرَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الكُوْفَةِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَمَّاراً أَمِيْراً وَعَبْدُ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَاضِياً وَوَزِيْراً، فَاسَمُعوا لَهُمَا وَأَطِيْعُوا؛ فَقَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِمَا.

قال القفال الشاشي- كما حكاه القاضي الحسين-: وينبغي أن يتخذ الإمام لنفسه نسخة من كتابه يمسكه حتى يتذكر به إن نسي أنه ولاه عمل [بلد كذا]، وهذا كله على وجه الاستحباب، فإن ترك الكتابة جاز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب بالعهد لمعاذ. [قال: ووصاه بتقوى الله- تعالى- والعمل بما في العهد]؛ لأن ذلك مقصود هذه الولاية وواجبها، وكذا يوصيه بالتثبت في القضاء ومشاورة أهل العلم [ونحو ذلك]، روى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى اليَمَنِ قَاضِياً، فَقُلْتُ: [يَا] رَسُولَ اللهِ، تُرْسِلُنِي وَأَنَا حَدِيْثُ السِّنِّ وَلَا عِلْمَ لِي بِالقَضَاءِ؟ فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ، فَإِذَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْكَ الخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِيَنَّ حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنَ الأَوَّلِ؛ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُبَيِّنَ لَكَ القَضَاءَ"، فما زلت قاضياً أو ما شككت في قضاء بعده. وَرُوِيَ عَنْ إِدْرِيسَ الأودي أَنَّهُ قَالَ: أَخْرَجَ إِلَيْنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ كِتَاباً فقال: هَذَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوْسَى: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ القَضَاءَ فَرِيْضَةٌ [مُحْكَمَةٌ]، وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، افْهَمْ إِذَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقِّ لَا نَفَاذَ لَهُ، وَآسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَمَجْلِسِكَ وَعَدْلِكَ- أَيْ: اجْعَلْهُمْ أُسْوَةً فِي ذَلِكَ- حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيْفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلَا يَخَافَ ضَعِيفٌ مِنْ جَوْرِكَ، البَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ النَّاسِ إِلَّا صُلْحاً أَحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلَالاً، فَلَا يَمْنَعْكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالْأَمْسِ، فَرَاجَعْتَ فِيهِ اليَوْمَ عَقْلَكَ، وَذَهَبْتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ- أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الحَقِّ؛ فَإِنَّ الحَقَّ قَدِيمٌ، لَا يُبْطِلُ [الحَقَّ شَيءٌ]، وَمُرَاجَعَةُ الحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي البَاطِلِ، [الفَهْمَ] الفَهْمَ فِيْمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ! ثُمَّ اعْرِفِ الأَشْبَاهَ وَالأَمْثَالَ، وَقِسِ الأُمُورَ بِنَظَائِرِهَا، وَاعْمَدْ إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللهِ وَأَشْبَهِهَا فِيْمَا تَرَى، وَاجْعَلْ لِلمُدَّعِي أَمَداً يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أَخَذْتَ لَهُ

بِحَقِّهِ، وَإِلَّا وَجَّهْتَ عَلَيْهِ القَضَاءَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى وَأَبْلَغُ فِي العُذْرِ، وَالمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُوداً فِي حَدٍ، أَوْ مُجَرَّباً بِشَهَادَةِ الزُّورِ، أَوْ ظنيناً فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ؛ فَإِنَّ اللهَ- تَعَالَى- تَوَلَّى مِنْكُمُ السَّرَائِرَ وَدَرَأَ عَنْكُمُ الشُّبُهَاتِ، ثُمَّ إِيَّاكَ وَالضَّجَرَ وَالْغَلَقَ-[أَيْ: ضِيْقَ الصَّدْرِ وَقِلَّةَ الصَّبْرِ، وَهُوَ بِالغَيْنِ المُعْجَمَةِ]- وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ وَالتَّنَكُّرَ بِالخُصُوْمِ فِي مَوَاطِنِ الحَقِّ الَّتِي يُوْجِبُ اللهُ بِهَا الأَجْرَ، وَيُكْسِبُ بِهَا الذُّخْرَ، وَإِنَّهُ مَنْ تَصْلُحُ سَرِيْرَتُهُ فِيْمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَصْلَحَ اللهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللهُ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ يَشِنُهُ اللهُ، فَمَا ظَنُّكَ بِثَوَابِ اللهِ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ؟! وَالسَّلَامُ. وهذه الوصية مستحبة، وقد يفهم كلام القاضي الحسين أن الوصية واجبة؛ فإنه قال: وعليه أني خلو به فيعظه ويخوفه الله- سبحانه-[ويحذره]، ويقرأ عليه عهد أمير المؤمنين عمر- رضي الله عنه- لأنه أبلغ ما يكون في الموعظة. قال: وأشهد على التولية شاهدين أي: سواء قرب محل الولاية أو بعد؛ لتثبت بهما الولاية، وهذا قول أبي إسحاق، وعلى هذا فلا يحتاجان إلى لفظ الشهادة، بل يكفي إخبار [أهل] [محل الولاية] بها، ولا يحتاج إلى تقدم دعوى. وفي "الحاوي": أنهما يشهدان عند أهل [عمل الولاية]، [فإذا شهدا، وكانا عدلين، فقد وجب على] أهل العمل طاعته. ولو وصل القاضي إلى العمل، وأخبر أهله بالولاية من غير إشهاد- لم تلزمهم

طاعته [إلا أن يصدقوه]، على أحد الوجهين في "الحاوي". وقيل: إن كان البلد [قريباً] بحيث يتصل الخبر [به] لم يلزمه الإشهاد؛ لاستقلال الاستفاضة بإثباتها، وهذا قول الإصطخري، واختاره في "المرشد"، وفي "النهاية" عوضه: أن من أصحابنا من اكتفى بكتاب، وهو عندي مشروط بظهور مخايل الصدق في خطوط الكتاب؛ ولهذا قال في "الوسيط" في حكايته- إذا وصل بالعهد ولم تستفض ولايته ولا معه شهادة عدلين-: إنه يجب الاعتماد على الكتاب مع مخايل الصدق، وبعد الجرأة على التلبيس في مثل هذا الأمر، مع خوف سطوة السلطان. وقد كان ولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتفي في ذلك بمجرد قولهم، وهذا ما صححه صاحب "الإشراف" بعد أن حكى عن الشاشي أنه قال: ظاهر المذهب أن الإشهاد لا يجب. قال البندنيجي وغيره: وأصل هذا الخلاف المذكور في الكتاب الخلاف في أن النكاح والوقف والعتق [والولاء] هل تثبت بالاستفاضة أم لا؟ وعلى هذا جرى في "التهذيب"، فإن قلنا: تثبت، لزم الرعايا ها هنا الانقياد له، وإلا فلا. قال الإمام: وإذا استخلف القاضي حاكماً في قرية، فقد لا يستفيض مثل هذا، ولا يشترط فيه الاستفاضة، بل ينقدح فيه الكتاب أو شاهدان. قال: ويسأل القاضي عن حال البلد ومن فيه من الفقهاء والأمناء، أي: العدول قبل دخوله؛ لأنه يحتاج إليهم؛ فكانت معرفته بهم قبل الدخول ليعاملهم بما يليق بهم أولى، فإن قدر على ذلك في البلد الذي وقعت فيه الولاية فذاك، وإلا يعرفه في طريقه إلى محل ولايته أو في [محل] الولاية. قال الرافعي: ويستحب [له] أن يدعو أصدقاءه الأمناء، ويلتمس منهم [أن يطلعوه على عيوبه؛ ليسعى في إزالتها.

قال:] ويستحب أن يدخل صبيحة يوم الاثنين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل [المدينة] يوم الاثنين، فإن فاته دخل [يوم] السبت أو الخميس؛ للخبر المشهور، ولأنه قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس. قال القاضي أبو الطيب والروياني [وغيرهما]: ويستحب أن يدخل البلد لابس السواد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه عمامة سوداء، ولأنه أهيب له. قال: وينزل في وسط البلد؛ لأنه أقرب إلى التسوية بين أهله في قصده، وهذا ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- في "الأم". قال: ويجمع الناس، أي: [بأن] يبعث منادياً ينادي في البلد بأن فلاناً القاضي قد حضر فاحضروا لسماع عهده [في] وقت كذا، ويكون ذلك يوماً إن كان البلد صغيراً، وثلاثة ونحوها إن كان كبيراً. قال: ويقرأ عليهم العهد؛ ليعلموا تفاصيل ولايته فيطيعوه فيها. قال: ويتسلم المحاضر والسجلات من القاضي الذي كان قبله، لتُحرس على أربابها بيد كل ذي ولاية كما كانت، وكذا يتسلم منه أموال الأيتام والضوال والوقوف وأسماء المحبسين وغيرهم، كما قاله القاضي الحسين. قال البندنيجي والماوردي وغيرهما: وهذا أول الأمانات التي يفعلها القاضي في ولايته قبل النظر في المحبسين وغيرهم، وعند أخذها إن أمكنه تصفحها ومعرفة ما فيها فعل. والمحاضر: جمع "محضر" بفتح الميم، وهو الذي يكتب فيه قضية المتحاكمين وما جرى لهما في مجلس الحكم وحجتهما، قال الجيلي: إذا لم يتصل بذلك حكم.

والسجلات: جمع "سجل" بكسر السين والجيم، وهو الذي يكتب فيه المحضر ويكتب معه تنفيذ الحكم وإمضاؤه. قال: وإن احتاج أن يستخلف في أعماله لكثرتها استخلف، أي: فيما يعجز عنه من يصلح أن يكون قاضياً، أي: من غير إذن الإمام؛ لأن العرف يقتضيه فحكمت التولية عليه. قال القاضي أبو الطيب والبغوي وغيرهما: كما إذا دفع ثوباً إلى شخص ليبيعه؛ فإن ذلك يتضمن [الإذن في] التسليم إلى من ينادي عليه. وبهذه الحالة يلتحق ما إذا مرض أو أراد أن يغيب عن البلد لشغل، كما ذكره في "التهذيب"، أما ما لا يعجز عنه في هذه الحالة هل يجوز أن يستخلف فيه؟ قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: فيه الخلاف الآتي. وكلام [القاضي] أبي الطيب في كتاب الوكالة في حكاية الخلاف كما ذكرناه [أصرح منه] هنا، وكلام الشيخ في "المهذب" يقتضي إجراء الخلاف في هذه الحالة، وإن قلنا بمنع الاستخلاف في المسألة الآتية. قال: وإن لم يحتج فقد قيل: يجوز؛ لأن [الإمام] لما ولاه صار ناظراً للمسلمين على وجه المصلحة، وكان له التولية فيما يقدر على التصرف فيه كالإمام، وهذا قول الإصطخري كما حكاه القاضيان أبو الطيب والحسين، واختاره في "المرشد". وقيل: لا يجوز إلا أن يؤذن له [في] ذلك؛ لأنه متولِّ بطريق النيابة فلم يملك بمطلق الإنابة الاستنابة كالوكيل، وهذا قول أبي علي بن خيران، قال القاضي أبو الطيب: وهو المشهور من مذهب الشافعي- رضي الله عنه- وعلى ذلك جرى في "المهذب" فقال: إنه المذهب، وصححه الرافعي والنواوي. [و] الناصر للأول قال: ليس القاضي نائباً عن الإمام، بل عن المسلمين؛ فهو

ولي في نفسه، وحكى في "الحاوي" في هذه الحالة والتي قبلها ثلاثة أوجه حكاها صاحب "الإشراف" أيضاً: أحدها- وهو قول أبي علي بن خيران-: أنه ليس له أن يستخلف، قل عمله أو كثر، [وقد نسب القاضي الحسين هذا إلى ابن أبي هريرة. والثاني- وهو قول الإصطخري-: أنه له أن يستخلف، قل عمله أو كثر]. والثالث- وهو قول جمهور البصريين، ونسبه الإمام إلى الإصطخري وكذلك القاضي الحسين، وأنه طرده في الوكيل، وأن الصحيح-: أن استخلافه معتبر بعمله، فإن قل [عمله] وقدر على مباشرته بنفسه [لم يجز أن يستخلف، وإن كثر وعجز عن مباشرته بنفسه] جاز أن يستخلف؛ اعتباراً بالوكيل. قال الماوردي: وعلى هذا فيما يستخلف عليه وجهان: أحدهما: ما عجز عنه دون ما قدر عليه. والثاني: في الجميع؛ لأن العرف فيه كالإذن. وعلى حكاية الأوجه الثلاثة في الحالتين جرى المراوزة، واستغرب الرافعي جريان الخلاف فيما لا يقدر على مباشرته. ولا خلاف في أنه إذا صرح له في الولاية بالاستخلاف- في جوازه، قال الأصحاب: والمستحب للإمام التصريح به، ولفظ الشافعي- رضي الله عنه- وأحب للإمام إذا ولى القضاء رجلاً أن يجعل له أن يولي القضاء من رأى في الطرف والأطراف، فيجوز حكمه. وكذا لا خلاف [في] أنه إذا نهاه عن الاستخلاف أنه لا يجوز فيما يقدر على مباشرته، وكذا فيما لا يقدر عليه على المشهور، وبه جزم الماوردي، وعن الشاشي حكاية عن أبي الطيب بن سلمة: أن وجود النهي في هذه الحالة كعدمه، وبه جزم القاضي أبو الطيب.

قال الرافعي: والأقرب أحد احتمالين: إما بطلان التولية- ويحكى هذا عن ابن القطان-[أو اقتصاره] على ما يقدر عليه وترك الاستخلاف. قال الماوردي: ويلزمه أن يُعلِم الإمام عند كثرة عمله بعجزه عن النظر في جميعه؛ ليكون الإمام بالخيار بين أن يأذن له في الاستخلاف أو يصرفه عما عدا المقدور عليه ويولي فيه، والثاني هو الأولى؛ ليكون هو المتولي للاختيار، فإن لم يعلم الإمام أو أعلمه ولم يأذن له في أحد الأمرين، نظر: فإن كان ما ولاه مصراً كثير السواد كالبصرة، كان نظره مختصّاً بالبلد اعتباراً بالعرف، فإن استعداه أحد على أهل السواد: فإن كان أقل من مسافة يوم وليلة، لزمه إحضاره، وإن كان على مسافة القصر يوم وليلة فأكثر، ففي وجوب إحضاره وجهان. وإن كان العمل مشتملاً على مصرين متباعدين كالبصرة وبغداد فهو بالخيار في النظر في أيهما شاء، فإذا نظر في أحدهما ففي انعزاله عن الآخر وجهان محتملان. فرعان: أحدهما: إذا قلنا بمنع الاستخلاف، فاستخلف في أمر عام، وحكم الخليفة فهل يلزم حكمه؟ قال القاضي أبو الطيب: إن حكم مجبراً لم ينفذ، وإن لم يجبر عليه [كان كالتحاكم] في لزومه بنفسه أو توقفه على الرضا بعد الحكم، [وكذلك] ذكر الماوردي وابن الصباغ. قال مجلي: وهذا فيه نظر؛ لأنهما إنما ترافعا إليه لاعتقادهما أنه حاكم منصوب فيلزم حكمه، فإذا لم يكن كذلك فكيف يلزمهما حكمه وهو فاسد كنصبه؟! وهذا بخلاف من تراضيا عليه؛ لأنهما نصباه لأنفسهما. نعم، لو علما فساد توليته وتراضيا بما يحكم به بينهما فإنه يكون على القولين، فأما مع عدم علمهما بذلك فلا وجه له. قلت: وقد يتخرج على خلاف حكيهت فيما إذا باع بيعتين في بيعة، وباعه الثاني ما

عيَّنه في البيع الأول؛ بناءً على أنه وجب [عليه] الوفاء بالبيع لأجل الشرط في البيع الأول. وفي "الرافعي": أنه ليس للقاضي إنفاذ حكم الخليفة، بل يستأنف الحكم بين الخصمين. وهو محمول على ما إذا [كان] حكمه جبراً؛ لأنه قد حكى ما حكيناه عن ابن الصباغ وغيره. ولو استخلف في أمر خاص من سماع بينة أو تحليف، فمنهم من ألحق ذلك بالاستخلاف في الأمر العام، وعن القفال: القطع بالجواز وإن لم يكن مأذوناً له في الاستخلاف، وهو الأصح في "التهذيب"؛ لأن القاضي لا يستغني عن ذلك. قال الرافعي: والذي اقتضاه إطلاق الأكثرين الأول. الثاني: إذا قلنا بجواز الاستخلاف فليس من شرطه أن يوافق الخليفة المستخلف في المذهب، بل يجوز أن يولي الشافعي مالكيّاً وحنفيّاً وبالعكس، وهذا ما جزم به الماوردي في "الأحكام" و"الحاوي" ها هنا. وقال القاضي أبو الطيب عند الكلام في أن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد-[لا بعينه] أنه المذهب؛ لأنه ليس يعلم حال التقليد أنه يحكم بخلاف ما يعتقده حقّاً؛ لأن على الحاكم أن يجتهد في الحكم عند كل حادثة، وربما تغير اجتهاده واختلف؛ فلما لم يكن [ذلك] معلوماً حال التقليد، جوز له أن يقلده. وحكى الماوردي في باب قتال أهل البغي- وكذلك القاضي أبو الطيب- في جواز ذلك وجهين حكاهما الزبيلي هنا، وربما نسبا إلى رواية ابن أبي هريرة. وقال [القاضي] أبو الطيب: [إن] الذي نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- المنع؛ فإنه قال: وهكذا من ولي شيئاً فينبغي ألا يوليه من يعلم أنه يعمل بخلاف الحق فيه. ونسب الروياني هذا النص إلى "المبسوط". ثم على الأول: للنائب أن يحكم بما أدى إليه اجتهاده وإن خالف معتقد إمامه؛

كما إذا كان حنفيّاً فرأى مذهب الشافعي في مسألة، أو بالعكس. قال الماوردي في "الأحكام": وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره؛ لتوجه التهمة إليه. وحكاه في "الحاوي" أيضاً، وأن بعض أصحابنا وافقه، ثم قال: وهذا وإن كانت السياسة تقتضيه بعد استقرار المذاهب وتميز أهلها، فحكم الشرع لا يوجبه؛ لما يلزمه من الاجتهاد في كل ما طريقه الاجتهاد. ولفظ الغزالي في "الوسيط" يوافق هذا الوجه؛ لأنه قال: وليس له أن يشترط على النائب [الحكم] بخلاف اجتهاده، أو بخلاف اعتقاده حيث يجوز تولية المقلد للضرورة، بل اعتقاد المقلد في حقه كالاجتهاد في حق المجتهد. ثم على الصحيح لو شرط المولِّي على المولَّى في عقد التولية ألا يحكم إلا بمذهب بعينه- كمذهب الشافعي مثلاً- ففي "المهذب" و"التهذيب" وغيرهما: أن التولية باطلة؛ لأنه علقها على شرط، وقد بطل الشرط فبطلت التولية. وفي "الوسيط": أنه يحكم بما توافق عليه المذهبان لا غير. وفي "أدب القضاء" لابن أبي الدم: أن القاضي أبا منصور [بن] أبي الشيخ أبي النصر بن الصباغ قال: سألت قاضي القضاة الدامغاني عما إذا ولى القاضي الحنفي نائباً شافعيّاً، وشرط عليه ألا يحكم إلا بمذهب أبي حنيفة، هل يصح؟ فقال: نعم؛ فإن قاضي القضاة أبا حازم ولى أبا العباس بن سريج القضاء ببغداد على ألا يقضي إلا بمذهب أبي حنيفة، فالتزمه. وفي "الإشراف": أن الشرط باطل، ويحكم بما يؤدي إليه اجتهاده. ويقرب من ذلك ما في "فتاوى" القاضي الحسين: وهو أنه لو ولاه القضاء، واشترط عليه ألا يحكم بالشاهد واليمين، ولا [على] غائب- تصح التولية، ويلغو الشرط حتى يقضي بما يؤدي إليه اجتهاده.

وفي "الحاوي": أن الشرط إن كان عامّاً بأن قال: لا يحكم في جميع الأحكام إلا بمذهب الشافعي مثلاً، فالشرط باطل؛ لأنه قد منعه من الاجتهاد فيما يجب [عليه فيه] الاجتهاد، ثم ينظر: فإن أخرج ذلك مخرج الأمر بأن قال: احكم بمذهب الشافعي، أو مخرج النهي بأن قال: لا تحكم بمذهب أبي حنيفة- صح التقليد، وإن بطل ما أمره به أو نهاه عنه. وإن جعله بلفظ الشرط في العقد فقال: على أن تحكم بمذهب الشافعي، أو: على ألا تحكم بمذهب أبي حنيفة- بطل التقليد؛ لفساد الشرط؛ لأنه معقود على شرط فاسد. قال في "الأحكام": فإن [كان] المولِّي عالماً بأنه اشترط ما لا يجوز كان قدحاً فيه، دون ما إذا لم يعلم، وإن كان الشرط خاصّاً في حكم بعينه، فإن كان أمراً فقال: أقد من المسلم بالكافر ومن الحر بالعبد، كان أمره بهذا الشرط فاسداً، فإن تجرد عن لفظ الشرط صح التقليد، وإن قرنه بلفظ الشرط بطل التقليد، وإن كان نهياً فهو على ضربين: الأول: أن ينهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر والحر بالعبد، ولا يقضي فيه بموجب قود ولا بإسقاط، فهذا شرط فاسد وتقليد صحيح؛ لأنه اقتصر بولايته على ما عداه، فصار خارجاً عن نظره. والثاني: أن ينهاه عن القضاء بالقصاص، ولا ينهاه عن الحكم فيه، فقد اختلف أصحابنا فيه، هل [هذا النهي] يوجب صرفه عن النظر فيه؟ [على وجهين: أحدهما: يكون صرفاً عن النظر فيه]؛ فلا يحكم فيه بإيجاب قود ولا بإسقاطه، فعلى هذا يكون التقليد صحيحاً فيما عداه. والثاني: [أنه] لا يقتضي الصرف، وليصير النهي عنه أمراً بضده أن يقتص من المسلم بالكافر، ومن الحر بالعبد، وقد تقدم حكم الأمر بذلك، والإمام إذا شرط على القاضي الحكم بمذهب بعينه هذا شأنه.

فروع: إذا أطلق الإمام التولية، وقلنا: بجواز الاستخلاف، فإذا نهاه بعد ذلك، هل يجب عليه الانتهاء؟ قال ابن أبي الدم: هذا ينبغي أن يبنى على الخلاف في انعزال القاضي بالعزل، فإن قلنا: [ينعزل، فيجب عليه أن ينتهي، ولا يجوز أن يستخلف، وإن قلنا: لا ينعزل]، فهذا فيه نظر عندي، وقاعدة الإنابة تقتضي أنه متى نهاه ابتداء أو دواماً لا يجوز [له] الاستخلاف. إذا تنازع خصمان في الحضور إلى الأصل أو [إلى] النائب، [فطلب أحدهما المحاكمة إليه، وطلب الآخر المحاكمة إلى النائب]- قال في "الحاوي": إن كان القاضي في يوم التنازع ناظراً، فالداعي إليه أولى من الداعي إلى خليفته؛ لأنه الأصل، وإن كان الناظر خليفته [كان الداعي إليه أولى؛ لأنه أعجل. هل يجوز للقاضي عزل خليفته؟] أطلق بعضهم القول بجوازه إن كان هو الذي ولاه، وإن كان الإمام [هو الذي] استنابه [عنه] فوجهان، وهما في "الحاوي" في أوائل الباب، وقال ها هنا: إنا إذا قلنا: يجوز له أن يستخلف فيما يقدر على مباشرته بنفسه مع ما لا يقدر على مباشرته بنفسه، [فإن استخلف فيما يقدر على مباشرته بنفسه] جاز له أن يعزله مع بقائه على سلامته، وإن استخلف فيما لا يقدر على مباشرته، ففي جواز عزله مع بقائه على سلامته وجهان. وقال القاضي أبو الطيب: جواز عزله مع سلامة الحال ينبني على أنه ينعزل بموته [أم لا]؟ فإن قلنا: [ينعزل بموته، انعزل بعزله، وإلا فلا ينعزل. وهذا منه بناءً على] أن القاضي الأصل لا ينعزل بموت الإمام، كما سنذكره عند الكلام

في موت القاضي الكاتب؛ لأنه ذكر هذه المسألة ثم. [أما] إذا استخلف من لا يصلح للقضاء نظر: فإن كان لفسق ونحوه، لم ينفذ شيء من أحكامه، وإن كان لفقد أهلية الاجتهاد، فإن كان مستخلفاً في أحد الأركان، فالمعتبر أن يكون أهلاً للاستقلال بذلك الركن، وإلا فهو كالفسق. وعن الشيخ أبي محمد: أن نائب القاضي في القرى إذا لم يفوض إليه إمضاء الأحكام، بل سماع البينة ونقلها- فلا يشترط منصب الاجتهاد في حقه، بل العلم اللائق بأحكام البينات. قال الإمام: وهذا يحوج إلى خطب صالح من الفقه. تنبيه: إطلاق الشيخ القول بجواز استخلاف من يصلح للقضاء يدل على جواز استخلاف [أبيه أو] ابنه إذا كان يصلح له، وقد صرح به البغوي، وكذا الماوردي، ووجهه بأن [ما بينهما] من البعضية يجري مجرى نفسه، وحكمه بنفسه جائز؛ فجاز بمن هو بعضه، وكذلك جاز للإمام أن يستخلف في أعماله من يرى من أولاده. نعم، لو رد الإمام إلى القاضي اختيار قاض لم يكن له أن يختار ولده ولا والده؛ لأن رد الاختيار إليه يمنعه من اختيار نفسه؛ فمنع اختيار من يجري بالبعضية مجرى نفسه. قلت: قد حكى البغوي والخوارزمي في "الكافي": أن القاضي هل [يسمع] شهادة ولده ووالده [أم لا]؟ فيه وجهان، وصحح ابن أبي الدم منهما المنع، وكذلك في "البحر" قبل كتاب الشهادات، وكأنَّ وَجْهَهُ تضمُّنُهُ التعديل، وهو متهم فيه، وإذا كان كذلك فهذا المعنى موجود في تفويض الحكم إليه؛ فينبغي أن يمتنع كالشهادة. فإن قيل: لا نسلم أن مأخذ المنع من قبول الشهادة التهمة في التعديل، بل يجوز أن

يكون مأخذه أنه منزل منزلة نفسه كما ذكرنا، ونحن فقد نمنع حكم القاضي [بعلمه]، فكذا بقول ولده، ولا كذلك الحكم؛ فإنه يجوز أن يحكم بنفسه؛ فكذلك بعضه. قلت: بل كلام البغوي كالمصرح بأن المأخذ في المنع التهمة، ألا ترى أنه قال بعد ذلك: وكذا إذا زكى المزكي ولده، هل تقبل شهادته؟ فيه قولان؟! وعلى هذا التقدير كان يلزم الماوردي الجزم بمنع التولية؛ لأنه جزم عند الكلام [في أصحاب المسائل، وكذا الروياني والفوراني بمنع التزكية، لكن قد يقال: إن محل جزمه] بجواز التولية إذا كان ثابت العدالة عند غيره؛ فإن في هذه الحالة رجح الإمام الحكم بشهادته، والله أعلم. قال: وإن احتاج إلى كاتب استحب أن يكون مسلماً عدلاً عاقلاً فقيهاً. هذا الفصل [ظاهره] يقتضي أمرين: أحدهما: جواز اتخاذ الكاتب عند الحاجة، ولاشك فيه، وقد قال القاضي أبو الطيب وغيره: إنه يستحب اتخاذه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كتاب؛ منهم: علي بن أبي طالب، وهو الذي كتب القضية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين [قريش يوم] الحديبية، ومنهم- كما قال ابن عباس- رجل يقال له: السجل، ومنهم زيد بن ثابت، وقد رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: [قَالَ] لِيْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتُحْسِنُ العَبْرَانِيَّةَ؛ فَإِنَّ اليَهُوْدَ يَكْتُبُونَ إِلَيَّ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَقِفَ عَلَى كُتُبِي كُلُّ أَحَدٍ؟ " فَقُلْتُ: لَا [، قَالَ]: "فَتَعَلَّمْهَا]، [قَالَ]: فَتَعَلَّمْتُهَا فِي نِصْفِ شَهْرٍ- وَرُوِيَ: فِي بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْماً- فَكُنْتُ أَقْرَأُ كُتُبَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَكْتُبُ لَهُمْ. وقد كان للخلفاء الأربعة كُتَّاب.

والمعنى فيه: أن الحاكم مشغول بالحكم والاجتهاد، [فاشتغاله] بالكتابة يقطعه عن ذلك. ومحل الاستحباب: إذا كان الكاتب لا يطلب أجراً، أو طلب وكان له رزق من بيت المال، أما إذا لم يكن في بيت المال ما يرزق منه الكاتب، فقد قال البغوي في كتاب القسمة: إنه لا يتعين في هذه الحالة [له] كاتب. وقال القاضي الحسين ثم: [إنه] لا يجوز أن يعين له كاتباً. والفوراني وصاحب "البحر" وغيرهما قالوا: [لا يستحب له] اتخاذ كاتب معلوم؛ لأنه يؤدي إلى التحامل على الناس، ولكنه يخلي بينهم وبين من يستأجرونه. والأمر الثاني: ما يستحب أن يكون في الكاتب من الصفات، وقد بين منها أربعة: إحداها: الإسلام، ووجه اعتباره قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَالُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118]، وقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]، وفي اتخاذ الكافر كاتباً اتخاذه بطانة ووليّاً، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوْسَى الأَشْعَرِيَّ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ وَمَعَهُ كَاتِبٌ نُصْرَانِيٌ، فَأَعْجَبَ عُمَرَ خَطُّهُ وَحِسَابُهُ، فَقَالَ عُمَرُ [لِأَبِي مُوْسَى:] أَحْضِرْ كَاتِبَكَ لِيَقْرَأَهُ، فَقَالَ أَبُو مُوْسَى: إِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ لَا يَدْخُلُ المَسْجِدَ؛ فَزَبَرَهُ عُمَرُ وَقَالَ: لَا تَامَنُوْهُمْ وَقَدْ خَوَّنَهُمُ اللهُ، وَلَا تُدْنُوهُمْ وَقَدْ أَبْعَدَهُمُ اللهُ، وَلَا تُعِزُّوهُمْ وَقَدْ أَذَلَّهُمُ اللهُ! فإن قيل: هذا يقتضي أن تكون صفة الإسلام واجبة. قلنا: قد قال به بعض الأصحاب، ولم يورد الماوردي وأبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم سواه، وهو الصحيح. والقائل بالأول قال: ما يكتبه لابد وأن يقف عليه القاضي، ثم يمضيه؛

فتؤمن فيه الخيانة، وقد حكي عن "البيان" تصحيحه، وكأن قائله- والله أعلم- أخذ ذلك من قول الشافعي- رضي الله عنه- في "الأم": ما ينبغي لقاض ولا والٍ أن يتخذ كاتباً ذميّاً، ولا يضع الذمي موضعاً يفضل به مسلماً، ويعز على المسلمين أن يكون لهم حاجة إلى غير أهل دينهم، والقاضي أقل الخلق في هذا عذراً. انتهى. فأجرى اللفظ على ظاهره، وحمل ذلك على الكراهة، والأولون حملوه على المنع. والثانية: العدالة، ووجه اعتبارها أن القاضي [قد يغفل عن] قراءة [ما يكتبه] الكاتب أو يقرؤه، فإذا كان عدلاً أمن منه الخيانة، بخلاف ما إذا كان فاسقاً. وقد أطلق الماوردي وأبو الطيب وغيرهما القول باشتراط العدالة فيه، ولفظ صاحب "المرشد": ويجب أن يكون عدلاً. ووجهه الماوردي بأنه مؤتمن على إثبات الإقرار والبينات وتنفيذ الأحكام؛ فافتقر إلى صفة من تثبت به الحقوق كالشهادة. وهذا أخذ من قول الشافعي- رضي الله عنه- في "المختصر": ولا ينبغي [أن يتخذ] كاتباً حتى يجمع أن يكون عدلاً [عاقلاً]، ويحرص أن يكون فقيهاً لا يؤتى من جهالة، نزهاً بعيداً من الطمع. وقد حكى الوجهين [في "المهذب"] في اعتبار العدالة [كما حكاهما في الإسلام]. وعن صاحب "البيان": أنا إن اعتبرنا الإسلام اشترطنا العدالة. ثم قد يفهم من توجيه جواز كونه كافراً [و] فاسقاً اختصاص هذا الوجه بما إذا كان القاضي كاتباً، أما إذا كان أميّاً وجوزناه فيجب القطع بالمنع؛ لفوات المعنى المجوز، والله أعلم.

والثالثة: العقل؛ كما أشار إليه الشافعي- رضي الله عنه- قال الأصحاب: وليس يريد به ما يتعلق به التكليف، وإنما يريد به شدة العقل والذكاء والتحصيل حتى لا يخدع أو يدلس عليه. وقد جزم القاضي أبو الطيب والماوردي وغيرهما باشتراط ذلك؛ لظاهر النص، والرافعي وافق الشيخ في استحباب ذلك. والرابعة: الفقه؛ ليعلم صحة ما يكتبه من فساده، وقد وافق الشيخ على استحباب هذا الوصف القاضي أبو الطيب وصاحب "البحر"، وإليه يرشد قول الشافعي- رضي الله عنه-: ويحرص أن يكون فقيهاً. والمراد بالفقيه ها هنا- كما أشار إليه أبو الطيب والماوردي-: الفقيه في أحكام الكتابة، وما يتعلق بالشروط من المحاضر والسجلات، واستعمال الألفاظ الموضوعة لها، والتحرز من الألفاظ المجملة، وجودة الخط حتى يرتبها؛ فلا يترك نسخة يمكن إلحاق شيء فيها يفسد به المعنى، ويفصلها فلا يكتب سبعة مثل تسعة، وما أشبه ذلك. وفي "ابن يونس" أنه قد قيل باشتراط وصف الفقه كما قيل باشتراطه في الأمور السابقة، وكلام الماوردي يشير إليه؛ لأنه قال: وصفة كاتب القاضي ما ذكره الشافعي- رضي الله عنه- من أوصافه، وهي أربعة: العدالة، والعقل، والفقه، والنزاهة. فإذا ظفر القاضي بمن فيه هذه الأوصاف الأربعة- وأرجو أن يظفر به- جاز أن يستكتبه. وقضية ذلك:- أيضاً- أن تكون النزاهة شرطاً- أيضاً- وهو ما يفهمه كلام صاحب "البحر" حيث قال: وتعتبر النزاهة؛ كي لا يستمال بالطبع. والقاضي أبو الطيب عطف ذلك على الفقه، فأفهم أن المراد به الاستحباب، وإليه يرشد قول الشافعي، وبه صرح الرافعي، ولما جعل الماوردي العدالة شرطاً قال: لا يجوز أن يستكتب عبداً وإن استكمل الأوصاف الأربعة؛ لأن الحرية شرط في كمال العدالة. وتبعه في ذلك الروياني. و [هو] في "تعليق" البندنيجي أيضاً. وقضية قول من جوز أن يكون كافراً أو فاسقاً، جواز استكتاب العبد حيث يجوز استخدامه، وقد استحب الأصحاب فيه أن يكون حاسباً؛ لأنه يحتاج إليه

الحساب في المقاسم والمواريث. قال ابن القاص- كما قال ابن الصباغ في أوائل الباب-: ويحرص أن يكون فصيحاً عالماً بلغات الخصوم، حافظاً العجمية إلى العربية. قال: ولا يتخذ حاجباً ولا بواباً؛ لما قدمناه في [باب] أدب السلطان، وقد رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَلَّدَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ الكُوْفَةَ، فَقَضَى فِيْهَا زَمَاناً بِغَيْرِ حَاجِبٍ، ثُمَّ اتَّخَذَ حَاجِباً؛ فَعَزَلَ عُمَرُ حَاجِبَهُ، ولأنه ربما أخر المتقدم وقدم المتأخر، ومنع من له ظلامة، فلو خالف واتخذه كره. قال: فإن احتاج اتخذ حاجباً؛ لأجل الحاجة، عاقلاً [أي] كما وصفنا في الكاتب، أميناً بعيداً من الطمع؛ لأن اتصافه بذلك يمنع ما ذكرناه من المحذور. ثم هذه الأوصاف يظهر أن تكون واجبة، وإن لم تكن واجبة في الكاتب؛ لأن ما يتفق من خيانة [لو اتفقت من الكاتب، أزاحها القاضي بنظره، وما يتفق من خيانة] تصدر من الحاجب والبواب، لا مستدرك لها، ويقوي ذلك أن الماوردي قال: الشروط المعتبرة في الحاجب نوعان: واجب، ومستحب: فأما الواجب: فثلاثة: العدالة، والعفة، والأمانة. وأما المستحب: فخمسة: أن يكون حسن المنظر، جميل المخبر، عارفاً بمقادير الناس، بعيداً من [الطمع] والهوى والعصبية، معتدل الأخلاق بين الشراسة واللين. وحكى القاضي أبو الطيب عن ابن المنذر: أنه يستحب أن يكون خصيّاً؛ حتى يكون أبلغ في العفة.

وهذا في وقت انتصابه للأحكام؛ كما نبه عليه كلام الشيخ الآتي من بعد، أما إذا اتخذه في غير وقت انتصابه للحكم لم يكره. قال الماوردي: بل إذا احتجب عن الناس في ذلك الوقت كان أحفظ لحشمته وأعظم لهيبته، وكان بعض أصحابنا يقول: إنما يكره للقاضي اتخاذ الحاجب في زمان [الاستقامة وسداد أهله، فأما في زمان] الاختلاط والتهارج واستطالة السفهاء والعامة، فالمستحب له أن يتخذ حاجباً؛ لحفظ هيبته، [ومَنْع] استطالة الخصوم. قال في "البحر": وبهذا أقول في زماننا. وقال القاضي أبو الطيب في أوائل الباب: ويستحب [له] أن يتخذ حاجباً يقوم على رأسه إذا قعد، ويقدم الخصوم ويؤخرها، فإذا حكم بين الخصمين وقاما دعا بغيرهما. وفي "النهاية": أن الصيدلاني ذكر وجهين في أن القاضي هل يتخذ حاجباً؟ ثم ذكر طريقين في محل الوجهين. إحداهما: أنه إذا لم يجلس للحكم فلم ذلك، وإن جلس له ففيه وجهان. والثانية: [عكس هذه]. قال الإمام: ولا معنى عندنا للخلاف، ولكن إن كثرت الزحمة وكانت المصلحة في اتخاذ حاجب ليمنع الزحمة اتخذه، وإن كانت المصلحة على خلاف ذلك اتبعها. وهذا منطبق على ما حكاه الشيخ وكذا صاحب "الكافي". قال: ويأمره ألا يقدم خصماً على خصم، ولا يخص في الإذن قوماً دون قوم، أي عند الاستواء؛ حراسة للقلوب عن التباغض. قال: ولا يقدم أخيراً على أول؛ لأن تقديم المتقدم واجب، ومخالفة ذلك حرام؛ ففي أمره بذلك تحامٍ عن الظلم. والخصم- بفتح الخاء- يقع على الرجل والمرأة، والجماعة منهما- بلفظ واحد.

قال الجوهري: ومن العرب من يثنيه ويجمعه، فيقول: خصمان وخصوم. والخصيم هو الخصم، وجمعه: خصماء، وخاصمته مخاصمة وخصاماً، فخصمته، أخصمه- بكسر الصاد-[والاسم: الخصومة. [واختصموا] تخاصموا، والخصم- بفتح الخاء وكسر الصاد]-: شديد الخصومة. ويقال للجانب من الغرارة والخرج، وكل شيء: خصم، بضم الخاء. قال: ويوصي الوكلاء على بابه بتقوى الله- تعالى- ويأمرهم بطلب الحق؛ لأنه الحق، [وخلافه حرام]. قال: ويوصي أعوانه، أي الرسل الذين يحضرون الخصوم [إليه] بتقوى الله- تعالى- والرفق بالخصوم؛ لأن الإجحاف ظلم، والأمر بتركه من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقاضي أحق به. [ثم واحد] "الأعوان": عون، وأصله: الظهير المعاون. وتقوى الله- تعالى-: امتثال أمره واجتناب نهيه، ومعناه: الوقاية من سخطه وعذابه، سبحانه وتعالى. قال: ولا يتخذ شهوداً مرتبين لا يقبل غيرهم؛ لأن ذلك يؤدي إلى إدخال المشقة على عامة الناس؛ لأن من احتاج أن يشهد على حقه احتاج أن يقطع غليهم المسافة، وربما وجب له حق في موضع لم يحضروه؛ فلا يمكنه إثباته بالشهادة فيضيع. قيل: [وأول] من اتخذ ذلك إسماعيل بن إسحاق المالكي، واتبعه سائر القضاة في بعض البلاد. وهذا المنع قال في "الحاوي": إنه مكروه؛ لأنه مستحدث خولف فيه الصدر الأول، وتبعه صاحب البحر، والذي جزم به القاضي أبو الطيب وغيره: أن ذلك حرام؛

لأنه مخالف للكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، ولم يخص، وقال صلى الله عليه وسلم: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ"، ولم يفرق، وقد أجمع المسلمون على أن العدل مقبول الشهادة. أما إذا رتب قوماً للشهادة ولكنه لا يمتنع من قبول [شهادة] غيرهم- قال الماوردي: فذلك جائز من غير كراهة. قال: ويتخذ قوماً من أصحاب المسائل أمناء ثقات برآء من الشحناء بينهم وبين الناس؛ ليعرف حال من يجهل عدالتهم من الشهود؛ لأنه لا يمكنه البحث بنفسه. واعتبار الأمانة- وهي العدالة- خشية من الخيانة في المسألة والطمع في الاستمالة بأخذ الرشا. واعتبار الثقة التي أرادها وهي وفور العقل؛ ليصلوا بوفور عقولهم إلى غوامض الأمور بلطف، ويؤمن أن يتم عليهم خداع أو حيلة، وأيضاً فإن وافري العقل يتجنبون قول المتهم؛ فلا يسألوا عن الشاهد عدوه، فيظهر قبيحاً [ويخفي حسناً، أو صديقه، فيظهر حسناً ويخفي قبيحاً]. واعتبار البراءة من الشحناء- وهي بالمد-: البغض والعداوة بسبب نشب، أو حسد، أو مذهب كأهل الأهواء والعصبية- حتى لا يحملهم ذلك على جرح مخالفيهم وأعدائهم وتعديل موافقيهم وأحبابهم. قال الماوردي: ولأن مَنْ طباعه العداوة والحسد، من الخير بعيد، ومن الشر قريب، فلم يوثق بخبره. ومجموع لفظ الشافعي- رضي الله عنه- في "الأم" و"المختصر" في صفاتهم: أن يكونوا جامعين للأمانة في أديانهم، وافري العقول لا يغفلون بأن يسألوا الرجل عن

عدوه فيخفي حسناً ويقول قبيحاً، أو عن صديقه فيخفي قبيحاً ويقول حسناً، برآء من الشحناء بينهم وبين الناس، [أو الحيف عليهم] أو الحيف على أحد، وألا يكونوا من أهل الأهواء والعصبية والمماطلة للناس؛ أي: اللجاج؛ لأن اللجوج ينصر هواه ويرتكب ما يهواه، ولا يرجع عن الخطأ إن ظهر له الصواب. قال الماوردي: فإذا تكاملت هذه الأوصاف في أصحاب المسائل- وإن كان كمالها متعذراً- صاروا أهلاً أن يعول عليهم في البحث ويرجع إلى أقوالهم في التعديل والجرح. وهذا يقتضي اشتراطها، وفي "النهاية": أن هذه الأوصاف مستحبة. قال: ويجتهد ألا يعرف بعضهم بعضاً، أي: بالصفة المذكورة؛ خشية أن يجمعهم الهوى على التواطؤ، ومن طريق الأولى: ألا يكونوا معروفين بذلك للناس؛ خشية أن يحتاج عليهم الشهود، أو المشهود له أو عليه، برشوة أو غيرها. قال الماوردي: وكذا يحرص ألا يعرفوا لمن يسألونه حال الشهود فيأمنوا من احتيال أعداء الشهود في إظهار الجرح، وأصدقائهم في إظهار التعديل. وأرباب المسائل الذين أرادهم الشافعي- رضي الله عنه- هم المذكورون، كما ذكره الماوردي. وقال [الإمام]: إن من الأصحاب من قال ذلك، ومنهم من قال: إنه أراد بهم الرسل الذين يحملون الرقاع إلى المزكين للبحث عن أحوال الشهود. وهذا كأنه قول أبي إسحاق الذي سنذكره في [الباب] التالي لهذا. وحكى ابن أبي الدم أن منهم من قال: أراد: الذين يسألون المذكورين عن أحوال الناس. قال: ولا يولي ولا يحكم ولا يسمع البينة في غير عمله، فإن فعل ذلك لم يعتد به؛ لأنه لا ولاية له فيه فأشبه سائر الرعية، وهكذا الحكم في الكتابة إلى قاض آخر. وحكى الرافعي قبيل القسمة أن ابن القاص قال: إنه لا يحكم ولا يشهد في غير محل ولايته، فأما الكتاب فلا بأس به.

قال الرافعي: وهو الذي يستمر على أصل الشافعي، رضي الله عنه. وظاهر كلام الشيخ [يقتضي] أنه لا فرق في البينة التي سمعها في غير عمله بين أن تكون شاهدة بالحق كالغصب والإقرار ونحوه وهي ثابتة العدالة عنده، أو لا، ولا بين أن تكون شاهدة بالتزكية، وقد وقعت الشهادة بأصل الحق في العمل. وفي "أدب القضاء" للزبيلي: أنه لو سمع الشهادة في غير عمله، ووقف على عدالتهم في عمله، وحكم بها- ففيه قولان. [قال]: وهذا بناءً على أن القاضي، هل يحكم بعلم نفسه أم لا؟ قلت: وفي هذا كلامان: أحدهما: منع كون هذه الصورة من صور القضاء بالعلم؛ كما سيأتي. والثاني: على تقدير التسليم، فأي معنى لفرض سماع عدالتهم في عمله، بل قد يظهر أن يقال: إن مأخذ الخلاف أن الاعتبار في شهادة الشهود إذا زكوا بوقت الأداء أو بوقت التزكية، وفيه كلام يرشد إليه قول الغزالي وإمامه في كتاب صلاة العيدين، فيما إذا شهد شاهدان بعد الغروب في يوم الثلاثين من رمضان رؤية الهلال ليلة الثلاثين-: إنا لا نصغي إليهما، ولو شهدا بعد الزوال يوم الثلاثين [وقبل الغروب عمل بشهادتهما في الفطر، وبان فوات العيد، ولو شهدا بعد الزوال وعدلا بعد الغروب] ففي فوات الصلاة وجهان: أحدهما: [لا]؛ لأن النظر إلى وقت التعديل [؛ فيصلون من الغد بلا خلاف]، وقد عدلوا في غير وقته. والثاني: النظر إلى وقت الشهادة، على أن [النظر إلى] هذا أيضاً بعيد. ولو انعكس الحال، فسمع الشهادة في عمله والتعديل في غير عمله- قال ابن القاص: يحكم به؛ كذا حكاه في "الإشراف"، وزاد الرافعي في الحكاية عنه أن هذا

بناءً على [أن له أن يقضي بعلمه. وقال أبو سعد: هذا يخرج على] قول من يقول: إن الشهادة على العدالة تجوز بالاستفاضة. وقال [أبو] عاصم العبادي وغيره: القياس عندي أنه لا يحكم. قال: ولا يجوز أن يرتشي؛ لما روى أبو بكر بن المنذر عن أبي هريرة قال: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ. وروى أبو داود عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: لَعَنَ [رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي. وأخرجه ابن ماجة. وروى ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَعَنَ] اللهُ الرَّاشِيَ، وَالمُرْتَشِيَ، وَالرَّائِشَ: الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا"، وروى أنس نحوه. ولأنه [إن أخذ للحكم] بغير حق، فالحكم بغير الحق حرام، والأخذ عليه حرام، وإن أخذ على إيقاف الحكم فهو يلزمه الحكم لمن وجب له؛ فتركه حرام، وإن

أخذ على أن يحكم بالحق فليس له؛ لأنه يأخذ الرزق [على ذلك] من الإمام، فليس له أن يأخذ عليه عوضاً آخر. أما دفع الرشا فهل يجوز؟ قال الأصحاب كما حكاه أبو الطيب [والإمام] والماوردي وابن الصباغ: إن كان يطلب بما دفع الحكم بغير الحق [أو إيقاف] الحكم بالحق حرم عليه، وإن كان يطلب به وصوله إلى حقه لم يحرم عليه، وإن كان حراماً على غيره؛ كما لا يحرم عليه أن يفك الأسير بماله. قال في "المرشد": وتحمل لعنة الراشي والمرتشي على ما إذا قصد بها إيقاف الحكم [بالحق] أو الحكم بالباطل، ولذلك قال الله- تعالى: {لِتَاكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .. [الآية] [البقرة: 188]، والمتوسط بينهما هو تابع لموكله فيهما، فإن [كان وكيلاً] عنهما كان فعله حراماً. وهذا الكلام من الأصحاب يدل على أن الرشوة تكون لطلب حق ولطلب باطل، وقد حكي عن ابن كج [أنه] قال: الرشوة عطية بشرط أن يحكم له بغير حق، والهدية عطية مطلقة. وكلام الماوردي يخالفه؛ فإنه قال: الرشوة: ما تقدمت الحاجة، والهدية ما تأخرت. والذي حكاه الغزالي في "الإحياء" منطبق على الأول؛ فإنه قال: المال [إن] بذل لغرض آجل فهو قربة وصدقة، وإن بذل لغرض عاجل: فإن كان لغرض مال في مقابلته فهو [هبة] بثواب مشروط أو متوقع، وإن كان لغرض عمل محرم أو واجب متعين فهو رشوة، وإن كان مباحاً فإجارة أو جعالة، وإن كان للتقرب

والتودد للمبذول له: فإن كان لمجرد نفسه فهدية، وإن كان ليتوسل بجاهه إلى أغراض ومقاصد: فإن كل جاهه بعلم أو نسب أو صلاح فهدية، وإن كان بالقضاء والعمل بولاية فرشوة. وقد تقدم في هذا الباب حكم البذل في هذه الحالة. قال القاضي أبو الطيب في "تعليقه"، وكذا الشيخ أبو حامد كما حكي عنه: إن تحريم أخذ الرشوة على الحاكم إذا كان [له رزق] من بيت المال، فأما إذا لم يكن له رزق، [أي]: وكان ممن يجوز أن يفرض له، فقال للمتحاكمين: لست أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقاً [عليه]- فإنه حينئذ يحل له ذلك. [وعلى ذلك] [جرى] الجرجاني في "التحرير". قال ابن الصباغ: ويجوز مثل ذلك؛ لأنه لم يذكر أنه طلبه من أحدهما، وأما أخذه من أحدهما للحكم بالحق، فإنه يجري مجرى الهدية، وسنذكرها. واعتبر البندنيجي في جواز ذلك: أن يكون مشغولاً في معاشه بحيث يقطعه النظر عن اكتساب المادة؛ كما [قاله في "الحاوي"]، أما إذا لم يقطعه إما لغنائه بما يستجده، وإما لقلة المحاكمات التي لا تمنعه من الاكتساب- لم يجز أن يرتزق من الخصوم، ثم اعتبر [الماوردي] في حالة الجواز- مع ما ذكرناه- ثمانية شروط: أحدها: أن يعلم به الخصمان قبل التحاكم إليه، فإن لم يعلما إلا بعد التحاكم لم يجز أن يرتزقهما. الثاني: أن يكون على الطالب والمطلوب، ولا يأخذ من أحدهما فيصير [به]

متهماً. الثالث: أن يكون عن إذن الإمام؛ فإن لم يأذن لم يجز. الرابع: ألا [يوجد متطوع]؛ فإن وجد لم يجز. الخامس: [أن يعجز [الإمام] عن دفع رزقه، فإن قدر [على ذلك] لم يجز. السادس]: أن يكون ما يرتزقه من الخصوم غير مُضِرٍّ بهم، فإن أضَرَّ بهم وأثر عليهم [لم يجز]. السابع: ألا يستزيد على قدر حاجته، فإن زاد عليها لم يجز. الثامن: أن يكون قدر المأخوذ مشهوداً، يتساوى فيه جمع الخصوم، وإن تفاضلوا في [المطالبات، فإن فاضل بينهم لم يجز إلا أن يتفاضلوا] في الزمان؛ فيجوز. قال: وفي مثل هذا معرة [تدخل على جميع] المسلمين، وإن جازت في الضرورات فواجب على الإمام وكافة المسلمين أن تزال مع الإمكان؛ إما بأن يتطوع منهم بالقضاء من يكون من أهله، وإما بأن يقام لهذا بالكفاية؛ لأنه لما كانت ولاية القضاء من فروض الكفايات كان رزق القاضي بمثابة ولايته، فلو اجتمع أهل البلد مع أعوان بيت المال على أن جعلوا للقاضي من أموالهم رزقاً دارّاً جاز، وكان أولى أن يؤخذ من أعيان الخصوم. وفي "الرافعي" أن القاضي أبا سعد الهروي قال: الأكثرون منعوا ما إذا رزقه أهل ولايته [أو واحد من الناس. وقال في موضع آخر- أعني: الرافعي-: لو رزق الإمام القاضي من مال نفسه، أو رزقه أهل ولايته]، أو واحد منهم- فالذي

خرجه صاحب "التلخيص": أنه لا يجوز له قبوله. لكن قد ذكرنا في باب الأذان: أنه كما يجوز أن يكون رزق المؤذن من بيت المال، يجوز أن يكون من مال الإمام أو واحد من الرعية. وأطلق الماوردي وصاحب "البحر" في كتاب القسمة القول بأنه لا يجوز للقاضي أن يأخذ [شيئاً] من الرعية إذا لم يكن له رزق من بيت المال، وفرق بينه وبين القسمة بما سنذكره فيها، إن شاء الله تعالى. وحكي [عن] ابن كج أنه قال: ذكر جماعة من فقهاء أصحاب أبي حنيفة والشافعي: إذا لم يكن للقاضي شيء من بيت المال فله أن يأخذ عشر ما يتولاه من أموال اليتامى والوقوف؛ للضرورة. ثم بالغ [في] الإنكار عليه، وقال: أي ضرورة في هذا؟! [إن لم يتفرغ للقضاء من غير رزق فليمتنع. ومن ذهب إلى هذا] فكأنه ذكر العشر تمثيلاً وتقريباً، ولابد من النظر إلى كفايته وإلى قدر المال والعمل، والله أعلم. تنبيه: في الرشوةِ وجَمْعِها أربعُ لغاتِ: رِشْوة ورِشَا- بكسر الراء في المفرد والجمع- ورُشوة ورُشاً- بالضم فيهما- ورِشَوْة- بالكسر، ورُشاً بالضم- وعكسهما، ورشوة- بالفتح- وقد رشاه يرشوه [رَشْواً]، وارتشى: أخذ رشوة، واسترشى: طلبها. قال: ولا يقبل هدية ممن لم يكن له عادة بالهدية [له] قبل الولاية، أي: وإن لم يكن له حكومة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ"، وروي "سُحت"، وإذا كان ذلك في العامل، ففي القاضي أولى.

وفي "الوسيط": أن القبول في حال عدم المحاكمة والحالة هذه جائز، لكن الأولى أن يُثيب أو يضع في بيت المال. وفي "النهاية" أن القبول مكروه في هذه الحالة، وهو أشد كراهة من القبول فيما إذا [لم تكن] له عادة بالهدية له قبل الولاية [وهو في غير عمله،]، وعلى ذلك جرى في "البسيط". والذي أورده العراقيون الأول، وكذلك البغوي وصاحب "الكافي"، واستدلوا له بما رواه الشافعي مسنداً عن أبي حميد الساعدي- رضي الله عنهما- قال: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنْ بَنِي الأَوْدِيَةِ، يُقَالُ لَهُ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: "هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ؛ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى المِنْبَرِ [خَطِيْباً]، فَقَالَ: "مَا بَالُ العَامِلِ نَبْعَثُهُ عَلَى بَعْضِ أَعْمَالِنَا، فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ؟! أَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ، فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَاخُذُ أَحَدٌ مِنْهَا شَيْئَاً إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيْراً لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا جُؤَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ"، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رَأَيْنَا عَفْرَ إِبْطِهِ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ"، وقد أخرجه مسلم والبخاري وغيرهم، وإن اختلفت ألفاظهم. وابن اللتبية: هو عبد الله، وهو بضم اللام وسكون التاء ثالثة الحروف وتحرك أيضاً، وبعدها باء موحدة مكسورة وياء آخر الحروف مشددة، وتاء تأنيث. وقد قيل: ابن الأتيبة، بضم الهمزة وسكون التاء ثالثة الحروف وتحرك أيضاً.

وتيعر- بفتح التاء ثالثة الحروف، وسكون الياء آخر الحروف، وبعدها عين مهملة تفتح وتكسر، وراء مهملة-: الصياح، وقد قيل الثُّغاء للضأن، واليُعار للمعز، والجؤار- بضم الجيم وبعدها همزة-: الصوت، وحكى الأخفش أن بعضهم قرأ: {عِجْلاً جَسَداً لَهُ جُؤار} [الأعراف: 148]. قال: ولا ممن كانت له عادة- أي: بسبب رحم أو مودة- ما دامت له خصومة؛ لأن القبول في هذه الحالة بمثابة الرشوة. قال البندنيجي: وهكذا لو أحس أنها لحكومة حرم القبول. قال: فإن لم تكن [له] خصومة جاز أن يقبل، أي قدر ما جرت عادته بقبوله منه، ومثله؛ لخروج ذلك عن سبب الولاية، وهذا ما حكاه ابن الصباغ عن النص في "الأم"، ولفظه: وما أهدى له ذو رحم ومودة كان يُهاديه قبل الولاية، فالترك أحب إليّ، ولا بأس أن يقبل ويتمول. قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: لا يجوز قبولها؛ للحديث السابق. ووجهه في "الحاوي": بأنه يجوز أن تحدث له محاكمة، فيكون قد تسبب بالهدية للممايلة. وقضية كلام هذا القائل: أنه لا يجوز للحاكم قبول الهدية [بحال، وهو ما أورده الفوراني والمسعودي. وعلى الأول- وهو ما ادعى البندنيجي أنه المذهب]- قال [الشيخ]: والأولى ألا يقبل؛ حسماً لمادة التهمة [بكل حال، وظاهر النص في "الأم" الذي تقدم: أنه يستحب ألا يقبل]، وعلى هذا اللفظ جرى القاضي الحسين والإمام والبندنيجي وأبو الطيب. أما إذا أهدي إليه أكثر مما جرت به عادته أو أرفع منه، مثل أن كان يهاديه بالطعام، فصار يهاديه بالثياب- لم يجز قبولها؛ كما صرح به الماوردي، وتبعه البغوي وصاحب "الكافي"؛ لأن الزيادة هدية بالولاية- وكان قضية هذا التعليل أن يطرد ذلك في الهدية للإمام، وسنذكر عنه ما يخالفه، وعلى رأي الغزالي وإمامه: لا يحرم القبول.

وهذا كله إذا كانت الهدية في عمله من أهل عمله. قال الماوردي: ونزوله على أهل عمله ضيفاً كقبول الهدية منهم، ولو كانت الهدية في غير عمله من غير أهل عمله- لسفره عن عمله- قال الماوردي: فنزاهته عنها أولى به من قبولها، فإن قبلها جاز ولم يمنع منها، وحكى ذلك الفوراني والبغوي أيضاً، ولفظ ابن الصباغ حكاية للفظ الشافعي: فإن أهدي إليه في غير عمله كرهت له ذلك؛ فإن قبل جاز. فأجراه الشافعي مجرى من جرت عادته بالهدية له، ومن أصحابنا من حرمه، وقد حكى هذا الوجه البندنيجي وأبو الطيب أيضاً. [وعلى الأول] قال في "الحاوي": لو نزل ضيفاً عليهم فلا يكره إن كان عابر سبيل، ويكره إن كان مقيماً. ولو كانت الهدية في عمله من غير أهل عمله بأن أرسل بها رسول، فإن كان للمهدي حكومة حرم القبول، وكذا لو دخل بها [المهدي] بنفسه ولا حكومة له؛ لأنه صار من عمله بالدخول [فيه]، وإن أرسل بها ولا حكومة له؛ ففي جواز قبولها وجهان في "الحاوي". فرع: ما حكم المال المأخوذ إذا قلنا: لا يجوز أخذه؟ أطلق ابن الصباغ فيه وجهين إتباعاً للقاضي أبو الطيب: أحدهما: يرد إلى بيت المال للمصالح؛ لأنه أهدى إليه لمكان ولايته، وهو منتصب لمصلحة المسلمين، وكأن المهدي أهداه للمسلمين يصرف في مصالحهم. والثاني: يرد إلى صاحبه، ثم قال: وكذلك العامل في الصدقات إذا أهدى له، فيه وجهان:

أحدهما: يرد إلى الصدقات. والثاني: يرد إلى مالكه. والمذهب في "تعليق" البندنيجي في الصورتين: الأول، وفي "الحاوي" تخصيص الوجهين في الهدية للقاضي بالهدية المبتدأة التي لا مقابل لها، وقال فيما إذا وقعت قبل الحكم: فهي رشوة، فترد إلى مالكها وينفذ الحكم على المهدي إذا ردها قبله أو بعده، وكذلك ينفذ له إن ردها قبل الحكم، وإن ردها بعده ففي نفوذه وجهان. وقال فيما إذا وقعت الهدية بعد الحكم جزاء لما جرى: إنها ترد على مهديها، وإن الحكم معها نافذ. وقد حكى المراوزة فيما يفعل بالمال مع القول بالتحريم- وجهين: أحدهما: يرد لمالكه، وهو الذي عليه الأكثرون؛ كما حكاه الإمام. والثاني: أن القاضي يملكه؛ لأن الهبة صدرت من مطلق، وكذلك القبول والتحريم محمول على التعريض للتهمة في الأمر الظاهر، فالملك بالإضافة إلى التحريم كالصلاة في الدار المغصوبة، وهذا ما اختاره صاحب "التقريب"؛ كما حكاه الفوراني. وأشار الإمام إلى أن هذا الخلاف يقرب من تردد الأصحاب في أن من دخل عليه وقت صلاة في السفر، ومعه ماء يكفيه لوضوئه، فوهبه ممن لا يحتاج إليه لسقيه- فهل يملكه؟ وأن الخلاف في مسألتنا مرتب على الخلاف في مسألة الماء. وفي "التهذيب" و"الكافي" حكاية الخلاف في ملك القاضي له إذا لم يثبه، أما إذا أثابه ملكه. وعن القفال أن البذل إن كان ممن له خصومة لم يملكه، وإن كان المهدي من أهل ولايته، ولا خصومة له و [لا] كان يعتاد- الإهداء- فهل يملكه؟ فيه وجهان وهذا قريب من كلام الماوردي. قال مجلي عقيب هذا الكلام: فإن قلنا: لا يملكه. فما الذي يفعل به؟ فيه وجهان:

أحدهما: يدفع لبيت المال. والثاني: يرد [إلى مالكه]. وكأنه أخذ هذا من مجموع الطريقين. قال الرافعي: والقياس ما ذكره أبو الفرج الزاز، وهو أنه إذا لم يملكها يردها على مالكها، فإن لم يعرفه وضعت في بيت المال. وهذا حكم الهدايا للقضاة، [وأما الهدايا] للأئمة، فقد قال [في "الحاوي"]: إنها إن كانت من هدايا دار [الإسلام]، فهي على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يهدي إليه من يستعين به على حق يستوفيه، أو على ظلم يدفعه عنه، أو على باطل يعينه عليه- فهذه [رشوة محرمة]، ويجب ردها على باذلها، ولا يجوز أن توضع في بيت المال، ويحرم على المهدي البذل في الصورة الأخيرة دون الأوليين. الثاني: أن يهدي إليه من كان يهاديه قبل الولاية، فإن كان بقدر ما كان يهاديه قبل الولاية لغير حاجة عرضت [له]، فيجوز له قبولها، وإن اقترن بها حاجة عَرَضَتْ فيمتنع من القبول عند الحاجة، ويجوز أن يقبلها بعد الحاجة، وإن زاد في هديته على قدر العادة لغير حاجة، فإن كانت الزيادة من جنس الهدية جاز قبولها؛ لدخولها في المألوف، وإن كانت من غير جنس الهدية منع [من] القبول. الثالث: أن يهدي إليه من لم يكن يهاديه قبل الولاية، فإن كان لأجل ولايته فهو رشوة يحرم عليه أخذها وإن كان الباذل مستحقّاً؛ للولاية، ويجب ردها، وهل يحرم البذل؟ فيه كلام ذكرته فيما تقدم في هذا الباب. وإن كان لأجل جميل صدر له منه إما واجباً أو تبرعاً، فلا يجوز قبولها [أيضاً؛ لأنه يصير مكتسباً لمجاملته،

ويجب ردها، ولا يحرم البذل على المهدي]. وإن كان لا لأجل ولايته ولا مكافأة على جميل فهذه هدية بعث عليها جاهه، فإن [كان] كافأه عليها جاز له قبولها، وإن لم يكافئه عليها فلا يقبلها لنفسه، وهل يقبلها لبيت المال؛ لأن جاه السلطنة لكافة المسلمين، أو يردها ولا يقبلها؛ لأنه المخصوص بها؟ فيه وجهان، ولا خلاف في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية؛ لأنه كان يكافئ عليها، ولا يميله عن الحق شيء؛ فذلك جاز له ولم يجز لغيره. وإن كانت من هدايا دار الحرب جاز له قبول هداياهم، ثم ينظر: فإن كانت لأجل السلطنة كانت الهدية للمسلمين، وإن كانت لأجل مودة سلفت بينه وبينهم قبل السلطنة جاز [له] أن يتملكها، وإن كانت لأجل حاجة عرضت، فإن كان لا يقدر على قضائها إلا بالسلطنة كان بيت المال أحق بها منه، وإن كان يقدر عليها بغير السلطنة كان أحق بها من بيت المال. والهدية للعمال على جباية الخراج والصدقات إن صدرت من غير أهل عمله، فهي كالمهاداة بين غير الولاة من الرعايا، وسنذكر حكمها. وإن كان من أهل عمله: فإن كانت قبل استيفاء الحق منه فهي رشوة يحرم عليه أخذها، سواء كان له رزق أو لا، وإن كانت بعد أخذ الحق منه: فإن كانت لأجل جميل صدر منه له كان يجب على العامل فعله، لم يجز أن يقبلها لنفسه إلا أن يعجل المكافأة، وهل يقبلها لبيت المال أو يردها على مالكها؟ فيه وجهان، وإن كانت بعد أخذ الحق منه على غير سبب أسلفه، فإن عجل المكافأة عليها بمثل قيمتها جاز أن يتملكها، وإلا فثلاثة أوجه: أحدها: أنها تقر على العامل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الهَدِيَّةَ، وَلَمْ يَسْتَرْجِعْهَا مِنْهُ. والثاني: تسترجع لبيت المال، وتضم [إلى] المال الذي استعمل عليه؛

لوصولها بسببه، فإن رأى الإمام باجتهاد أن يعطيه إياها جاز إذا كان مثله يجوز أن يبدأ بمثلها، وإن رأى أن يشاطره عليها جاز؛ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي ابْنَيْهِ حِيْنَ أَخَذَا مَالَ الفَيْءِ قَرْضاً، وَاتَّجَرَا فَرَبِحَا. الثالث: إن كان العامل مرتزقاً قدر كفايته أخذت منه لبيت المال، وإن كان غير مرتزق أقرت عليه، ولو كان مرتزقاً ولم يكتف برزقه عما تدعوه الحاجة إليه استرجع منه ما تجاوز قدر حاجته. كذا قال تخريجاً لنفسه. ويجوز بعد أخذ الحق منه أن يدخل في ضيافته إن كان مختاراً، ولا يجوز إن كان مستوطناً ولا قبل أخذه الحق منه. والهدية من الرعايا بعضهم لبعض إن كانت لطلب آجل أو عاجل، هو مال أو مودة- فجائزة، وفي بعض الصور مستحبة؛ كما تقدم في الباب، وفي الهبة. وإن كانت لأجل شفاعة، فإن [كانت] الشفاعة في محظور: كطلب محظور، أو إسقاط حق، أو معونة في ظلم- فقبولها حرام، وإن كانت الشفاعة في مباح لا يلزمه، فإن شرط [الهدية على المشفوع له فقبولها محظور، [وكذلك إن قال] المهدي: هذه الهدية جزاء شفاعتك، فقبولها محظور] أيضاً. وإن لم يشترطها الشافع، وأمسك المهدي عن ذكر الجزاء: فإن كان مهادياً له قبل الشفاعة لم يكره القبول، وإلا كره له القبول ما لم يكافئه عليها، فإن كافأه لم يكره. فرع: يكره للحاكم البيع والشراء في نفقة عياله وتدبير ضياعه، وكذا الإتجار بنفسه؛ لقوله- عليه السلام-: "مَا عَدَلَ [وَالٍ] اتَّجَرَ فِي رَعِيَّتِهِ أَبَداً"، ولأنه يشتغل بذلك عن القضاء الذي أخذ الرزق عنه، وربما حوبي، والمحاباة هبة. قال الشافعي- رضي الله عنه- في "الأم": وذلك في مجلس الحكم أكره [له].

وينبغي أن يكون [له] وكيل يقوم بذلك، ولا يعرف أنه وكيله؛ كي لا يحابي، فإن وكل وكيلاً يعرف بوكالته استبدل به غيره، ولو لم يجد من ينوب عنه تولى ذلك بنفسه؛ لأنه لابد [له] منه. فإذا وقعت لمن باعه حكومة استخلف من يحكم بينه وبين خصمه؛ لأنه إذا تولى الكم بنفسه لم يأمن أن يميل إليه، قاله في "المهذب"، وهذا التحكيم على وجه الاستحباب، كما أشار إليه في "الحاوي". قال: ولا يحكم لنفسه ولا لوالده، أي: من ذكر وأنثى وإن علا، ولا لولده أي: من ذكر وأنثى وإن سفل، ولا لعبده أي: القن أو المكاتب الكامل له أو له فيه شقص، وأمته أي: القنة أو المكاتبة أو أم الولد؛ لما يلحقه في ذلك من التهمة، ولأنه إذا لم تجز الشهادة لهم، فالحكم- وهو فوق الشهادة- أولى. قال: وإن اتفق لواحد منهم خصومة، حكم فيها بعض خلفائه؛ إذ لا تهمة تلحقه، وهذا ما أورده [القاضي] أبو الطيب وابن الصباغ والبغوي وغيرهم، وقالوا: إذا لم يكن [له] خليفة [ثَمَّ]، ترافعا إلى قاضي [بلد] آخر، وإن كانا في بلد الإمام ترافعا إليه، وقيل: إن قلنا: إن الخليفة ينعزل بموته، لم يحكم له؛ كذا قاله الغزالي، وهو مطرد في أبعاضه، كما قاله الرافعي، وجعله ابن يونس الأظهر فيما إذا كانت الخصومة له. وقد حكى الماوردي هذا الوجه، ولم ينبه على ما ذكر. ومقتضى البناء: أن يقال: إذا ترافع الإمام الأعظم وبعض الرعية إلى أحد القضاة، ألا يحكم له إذا قلنا: إن القاضي ينعزل بموت الإمام- كما سنذكره- وقد جزم الماوردي وغيره بجواز الحكم له؛ لأن القضاة ولاة في حقوق المسلمين، وإن صدرت ولايتهم عن الإمام.

وقد حاكم علي يهوديّاً إلى شريح في دِرْع وهو قاضيه، وعمر حاكم [أبي ابن] كعب إلى زيد بن ثابت، وعثمان حاكم طلحة إلى جبير بن مطعم، ولم ينكر [ذلك] أحد. والفرق بين القاضي والإمام على هذا الوجه: أن القاضي يمكنه الترافع إلى قاض آخر [أو إلى] الإمام، وليس كذلك الإمام لو امتنع ذلك. وقد استدل بعضهم على جواز حكم الخليفة لقاضيه بفعل هؤلاء الصحابة- رضي الله عنهم- والفرق الذي ذكرناه يمنع الاستدلال، وما ذكره الشيخ من منع الحكم للوالد ونحوه هو المشهود في الطرق. وقد اختلف كلام الماوردي [فيه]: فقال قبيل كتاب الشهادات: إن حكمه لهم مردود في قول جميع الفقهاء، وحكي عن أبي ثور جوازه [كالحكم] لغيره. قال: وهو خطأ؛ لأن الحكم أقوى من الشهادة، وهو ممنوع من الشهادة لهم؛ فكان أولى أن يمنع من الحكم [لهم]. وقال [قبل "كتاب] قاض إلى قاض" بأربع أوراق: في جواز حكمه لوالديه ومولوديه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يجوز حكمه لهم كالشهادة. والثاني: يجوز، وإن لم يجز أن يشهد لهم؛ لأن طريق الحكم ظاهر، وطريق الشهادة باطن؛ فتوجهت إليه التهمة في الشهادة، ولم تتوجه إليه في الحكم. والثالث: أنه يجوز أن يحكم لهم بالإقرار، ولا يجوز أن يحكم لهم بالبينة؛ لأنه [قد] يتهم بأنه يعدل [منها ما ليس بعدل]، ولا يتهم في الإقرار. وكلام الإمام يقرب من هذا؛ لأنه قال بعد حكاية ما ذكره الشيخ عن الأصحاب:

والأصح التفصيل، فنقول: قضاؤه له بعلمه مردود إن جوزنا القضاء بالعلم؛ قياساً على الشهادة، وأما إذا قضى له ببينة، ففيه وجهان: أصحهما- كما قال عند الكلام في تزكية الوالد للولد-: أنه يقضي. [وقال] في "الوسيط": الأصح أنه لا يقضي؛ إذ إليه الاستقصاء في دقائق [أداء] الشهادة والرد بالتهمة، وإليه التسامح فيه. وهذا لعله أخذه من كلام الإمام الذي سنذكره من بعد، وقد حكى الفوراني وجهاً: أنه يحكم لهم إذا قبلنا منه الشهادة لهم، وقد حكاه صاحب "التلخيص" أيضاً. ثم على المذهب: فروع: أحدها: إذا تحاكم إليه ولده ووالده، ففي الحكم لأحدهما على الآخر وجهان محتملان في "الحاوي"، أشار إليهما في "المهذب" بقوله: فقد قال بعض أصحابنا: إنه يحتمل وجهين. والظاهر في "الرافعي"، وهو الذي أورده البغوي: المنع، ومقابله هو المختار في "المرشد"؛ لأنهما استويا في القرب، فانتفت تهمة الميل. الثاني: لو سمع البينة، وفوض القضاء إلى غيره، فهل يجوز؟ فيه وجهان حكاهما الإمام، ثم قال: والوجه عندنا أن يقال: لا يقبل تعديله البينة فيما يتعلق بولده، وكذلك إذا كان هو الناقل. وفي "تعليق" القاضي الحسين أن ظاهر ما ذكره في "المختصر": أنه تسمع منه الدعوى، وتسمع منه البينة، ولا يقضي له؛ لأنه قال: يرد حكمه. فخص الحكم بالرد، ونص عليه؛ فدل على أن ما عدا الحكم غير مردود، وحكى مع ذلك احتمالاً للقفال في المنع. الثالث: للوالد تحليف الولد عند الدعوى عليه، وإن كان فيه تفريغ ذمته وإسقاط المطالبة عنه؛ كذا قاله القاضي الحسين، وتبعه في الحكم البغوي وصاحب

"الكافي"، وقالا: لأن التحليف ليس بحكم، بل هو قطع للخصومة. وقالا أيضاً: [إنه] إذا أقام المدعي على الابن بينة، فأراد الابن دفعها ببينة، لم يسمعها، [بل يسمعها] خليفته. أما الحكم على من امتنع الحكم له، فلا شك في نفوذه في حق الوالد ومن في معناه، والعبد والأمة، وأما في حق نفسه فقد قال في "الحاوي": إنه يؤاخذ به، لكن لكون ذلك إقراراً أو حكماً؟ فيه وجهان، فإن قلنا: يكون إقراراً، صح فيما يصح الإقرار به، ويرد فيما لا يلزم الإقرار به؛ كشفعة الجوار إذا قال: حكمت بها على نفسي للجار. وإن [قلنا]: يكون حكماً على نفسه، فإذا حكم بها على نفسي للجار. وإن [قلنا]: يكون حكماً على نفسه، فإذا حكم [عليها] بشفعة الجوار لزمته، [وإذا حكم [على نفسه] بمقاسمة الإخوة الجد في الميراث، وكان جدّاً لزمه. وعكس ما نحن فيه [العدو] إذا حكم عليه عدوه لا ينفذ حكمه، وإذا حكم له نفذ [حكمه، كما] حكاه القاضي الحسين والغزالي وغيرهما. وفي "الحاوي" عند الكلام في التحكيم في نفوذ الحكم عليه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء ولا بولاية التحكيم؛ كالشهادة. والثاني: يجوز بهما، بخلاف الشهادة، [والفرق: أن أسباب الحكم ظاهرة، وأسباب الشهادة] خافية؛ فانتفت التهمة عنه في الحكم، وتوجهت إليه في الشهادة، وهذا ما جزم به في "الأحكام السلطانية"، وقبل كتاب قاض إلى قاض كما ذكرنا. وقال الرافعي لما وقف من كلامه على هذه الطريقة: وهذا يشكل بالتسوية بينهما في حق الأبعاض. وفرق الماوردي بينهما بفرقين: أحدهما: أن أسباب العداوة حادثة تزول بعد وجودها، وتحدث بعد عدمها،

وأسباب الأنساب لازمة، لا تحول ولا تزول؛ فغلظت هذه، وخففت تلك. والثاني: أن الأنساب محصورة متعينة، والعداوة منتشرة [مستبهمة] يفضي ترك الحكم معها إلى امتناع كل مطلوب بما يدعيه من العداوة. والوجه الثالث: يجوز بولاية التحكيم؛ لانعقادها عن اختياره [، ولا يجوز بولاية القضاء؛ لانعقادها بغير اختياره]. تنبيه: مراد الشيخ بالحكم لعبده وأمته فيما ليس بمال إذا كان فيئاً كالقصاص في الأطراف على رأيه الذي حكيناه عنه في باب العفو والقصاص، والتعزير على رأيه ورأي غيره، وكذا [في] المال إذا كان العبد هو المتصرف فيه بأن كان مكاتباً، والكاف في قوله: "حكم فيها بعض خلفائه" مخففة. فرع: وصي اليتيم إذا ولي القضاء فلا يقضي له؛ لأنه خصم في حقه كما في حق نفسه وولده، وهذا ما اختاره ابن الحداد. وقال القاضي: يقضي؛ لأن كل قاض فهو ولي الأيتام. قال [في] "الوسيط"- وتبعه صاحب "الأشراف" والرافعي-: وهو الصحيح. ولأجل ذلك قال ابن أبي [الدم: إنه] الصحيح عند متأخري الأصحاب، وعليه العمل في الأمصار. قال: ومن تعين عليه القضاء وهو مستغن [عنه،] لم يجز أن يأخذ [عليه الرزق من بيت المال؛ لأنه فرض تعين عليه؛ فلم يجز أن يأخذ]؛ لإسقاطه بدلاً؛ كما لا يجوز أن تعتق الرقبة الواجبة [في الكفارة بعوض عليها، ولا تخرج الزكاة بعوض يشترطه على المسكين والفقير]. وفي "الرافعي": أن صاحب "التقريب" قال: يجوز أخذ الرزق [في هذه الحالة] كصاحب الطعام في المخمصة، وهذا ما حكاه في "الإشراف" عن أصحابنا بالعراق،

والأول عن أصحابنا بخراسان؛ ولأجله قال الشيخ أبو علي: المعروف لأصحابنا أنه لا يجوز. كما حكاه عنه ابن أبي الدم. قال: وإن كان محتاجاً جاز [له]؛ لأنه لا يلزمه تضييع أمر نفسه لمراعاة حق غيره. قال البندنيجي: ولأنه إذا أخذ الرزق في [هذه] الحالة قام بفريضتين: فريضة القضاء، وفريضة الإنفاق على نفسه وعياله، والحاجة تتحقق بأن يكون لا مال له ولا كسب، أو له كسب لكن يتعطل [عنه] بسبب القضاء. ثم المأخوذ في هذه الحالة ما يحتاج إليه لنفسه ولخادمه من غير إسراف ولا تقتير؛ كما قاله الماوردي. قال في "التهذيب" و"الكافي": ويعتبر في الكسوة ما يليق بحاله في زمانه، ولا يستحق ذلك إلا من حين وصوله لعمله ونظره فيه، [أو تصديه] للنظر وإن لم ينظر؛ كالأجير في العمل إذا سلم نفسه لمستأجره فلم يستعمله، ولو لم يتصد للنظر فلا رزق له، قاله الماوردي قبل الكلام في العزل. قال: ومن لم يتعين عليه جاز أن يأخذ [ما يحتاج إليه] لنفسه وخادمه؛ لما روى أبو داود عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقاً، فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ"، وَلِأَنَّ عُمَرَ- رَضِي الله عنه- اسْتَقْضَى شُرَيْحاً وَجَعَلَ لَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، [فَلَمَّا أَفْضَتِ الخِلَافَةُ إِلَى عَلِيٍّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جَعَلَ لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ]، وَقَدْ أَخَذَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى القَضَاءِ رِزْقاً، ولأن الله- تعالى- جعل للعاملين على الصدقات جزءاً منها، والقضاة بذلك

أولى؛ لأن النفع بهم أهم [وأعم]، ولأن ما لا يتعين فرضه يجوز أخذ الرزق عليه؛ كغسل الميت وحمله ودفنه. قال الماوردي: ويكون هذا الرزق جعالة ولا يكون أجرة؛ لأن الأجرة مستحقة بعقد لازم، والجعالة مستحقة بعقد جائز، والقضاء من العقود الجائزة؛ فلذلك كان الرزق عليه جعلاً، وما ذكره من الحكم ينطبق عليه قول ابن الصباغ: لا يجوز عقد الإجارة على القضاء. ووجَّهه بأنه عمل غير معلوم، والشيخ أبو حامد وجَّهه بأنه عمل لا يعمل الغير عن الغير، وإنما يقع عن نفسه ويعود نفعه على الغير. وقال البندنيجي: ومن أصحابنا من سها، فقال: يجوز أخذ الأجرة على القضاء. وعن "فتاوى" القاضي الحسين إلحاق ذلك بالأذان حتى تجوز الإجارة عليه على رأي؛ لأن كل واحد منهما يعود نفعه إلى عامة المسلمين. قال: وللقرطاس الذي يكتب فيه المحاضر؛ لأن الحاكم لا يستغني عن إثبات الحجج والمحاكمات وكتب المحاضر والسجلات؛ خشية من النسيان، وذلك من عموم المصالح، فكان بيت المال أحق بها. وفي معنى [ذلك] أرزاق أعوانه من كاتب وحاجب ونائب وقاسم وسجان، وأجرة سجن أو ثمنه وأجير يحضر الخصوم. قال البندنيجي: وقد بين الشافعي من يأخذ الجعل على عمل الخير فقال: ولو أن القاضي والقاسم وكاتب القاضي وصاحب الديوان وصاحب بيت المال والمؤذنين لم يأخذوا جعلاً وعملوا محتسبين، كان أحب إليَّ، وإن أخذوا جعلاً لم يحرم عليهم عندي، وبعضهم أعذر في أخذ الجعل من بعض، وما منهم من أحد كان أحب إليَّ أن يترك الجعل من المؤذنين، ولا بأس أن يأخذ الأجرة على الحج إذا كان قد حج عن نفسه، ويأخذ الجعل على أن يكتال [للناس، ويزن لهم ويعلمهم القرآن والنحو، وما يتأدبون به من شعر ليس بمكروه ونحوه].

قال: وإن احتسب ولم يأخذ، أي: لنفسه وخادمه- فهو أفضل؛ ليقع أجره على الله- تعالى-[مع] أنه أبعد عن التهمة. وحكى ابن أبي الدم عن الشيخ أبي علي أنه يكره له الأخذ والحالة هذه. ومحل الجواز إذا لم يجد متطوعاً بالقضاء، فإن وجده وهو صالح، فلا يجوز أن يعطى من بيت المال، صرح به الماوردي وصاحب "البيان"، وأشار إليه البندنيجي وابن الصباغ حيث قالا: ولا يولي من يطلب على القضاء رزقاً، فإن لم يجد كان له أن يولي من يعطيه رزقاً على نظره. فرع: إذا تعذر الأخذ من بيت المال، فأمر ما يأخذه القاضي من الخصوم وغيرهم قد تقدم، وأما القرطاس ونحوه فقد قال الشافعي- رضي الله عنه-: إنه يقول للطالب: إن شئت فَاتِ بصحيفة تكتب فيها شهادة شاهديك وكتاب خصومتك، ولا أُكرهك، ولا أقبل أن يشهد لك شاهد بلا كتاب. فأنسأ شهادته، واختلف الأصحاب في مراده بقوله: ولا أقبل أن يشهد لك .. إلى آخره، على وجوه ليس هذا الكتاب موضوعاً لمثلها، وإن كنت قد ذكرتها في المبيضة. وما ذكره الشيخ [من تحريم أخذ الرزق وجوازه، قال ابن الصباغ والبندنيجي:] وهو جارٍ في تحمل الشهادة وأدائها وإقامة الصلاة والأذان، وكذا العون يكون على من أرسله في طلب خصمه، وكذا كراء السجان على صاحب الحق؛ لأنه كالأجير له يحفظ مديونه، صرح [به] الزبيلي، بخلاف أجرة السجن؛ فإنها على المحبوس. فرع: إذا جعل الإمام على القضاء رزقاً، فإن سماه للأصل اختص به، وإن سمي القضاء وأطلق شاركه فيه خلفاؤه بحسب كفاياتهم في النظر وكثرة العمل، فإن عزل من استخلفه وقام بعمله، جاز أن يأخذ رزقه، وإن لم يقم به لم يجز أن يأخذه، قاله في "البحر" عند الكلام في الاستخلاف.

قال: ويحضر الولائم أي: عند من ليس له حكومة ولم يعملا له بخصوصه؛ لأن الإجابة إلى الوليمة فرض على الأعيان [على قول بعض أصحابنا، وعلى قول آخرين. فرض على الكفاية]. وحضور غيرها من الدعوات مستحب، والجمع بين الفرضين، فرض الحكم [وفرض الإجابة، أو بين فرض الحكم] واستحباب الإجابة- أولى من انفراد أحدهما، هكذا أورده القاضي أبو الطيب، وكلامه في "المهذب" يميل إليه، ومختصر ما حكاه الماوردي ثلاثة أوجه: أحدها: أن الإجابة فرض عليه؛ كما هي فرض على غيره؛ فيأثم بالترك. والثاني: لا تجب الإجابة عليه وإن وجبت على غيره على وجه، بل هي مستحبة. قال في "البحر": وأخذ هذا من قول الشافعي- رضي الله عنه-: ولا أحب أن يترك الوليمة، إما أن يجيب كُلاًّ أو يترك كُلاًّ. فلم يجعلها واجبة بل جعلها مستحبة، وهذا قول [أبي علي] بن أبي هريرة، ولم يورد ابن الصباغ سواه، وهو الذي صححه في "البحر"، فعلى هذا يكره تركها. والثالث: إن كان مرتزقاً لم يحضر؛ لأنه أجير المسلمين [فلم يجز أن يفوت [عليهم] حقوقهم [من ذلك الزمان]، وإن كان متطوعاً غير مرتزق [حضر]، وكان كغيره من الناس. وهكذا حكم الأئمة، ثم على كل حال إذا حضر المرتزق، فإن قل زمان حضوره كاليوم وما قاربه لم يلزمه رد شيء من رزقه، وإن طال- وأقل [زمان طوله] ثلاثة أيام- ردَّ من رزقه بقسط ما أخل من نظره، ذكره في "الحاوي".

أما إذا كان لصاحب الوليمة محاكمة، [أو لا وعملت] للقاضي بخصوصه- فهي كالهدية. وفي "التهذيب": أنه يكره أن يجيب [إلى] دعوة خص بها القاضي أو الأغنياء، فإن دعا جيرانه وهو فيهم، أو دعا العلماء والقاضي منهم- لم تكره [له] الإجابة. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إن دعي مع العامة لا تكره له الإجابة، وكذلك إذا دعاه مع جيرانه، وإن دعاه مع السادة والمشايخ تكره له الإجابة؛ لأن الداعي [ربما] [يظن أنه] يتخذ عنده يداً بجمعه بينه وبينهم؛ فيطمع أن يميل فيما يرفعه إليه من خصوماته. قلت: وما أطلقه من ذكر العامة لعله محمول على من ليس بسفلة منهم، ولا من أراذلهم، فأما المتصفين بذلك فقد ذكرنا في باب الوليمة أن أظهر الوجهين: أنه لا تجب الإجابة في هذه الحالة ولا تستحب، وإذا كان كذلك فقد حضر إلى ما ليس بمطلوب للشارع؛ فينبغي أن يمتنع [من الحضور]. قال: ويشهد مقدم الغائب؛ لأن هذه قربة يندب إليها جميع الناس، فكان الولاة فيها كغيرهم؛ لأن المقصود بها طاعة الله- تعالى- وطلب ثوابه. ومقدم الغائب- بفتح الميم والدال-: قدومه. قال: ويسوي بين الناس في ذلك؛ تطييباً لقلوبهم وتحاشياً عن الميل. قال: فإن كثرت عليه وقطعته عن الحكم امتنع [في حق] الكل؛ لأن القضاء لا يقوم فيه غيره مقامه، وفي حضوره عند الجميع قطع له عنه، وفي حضوره عند قوم دون آخرين ترجيح يورث ضغانة في النفوس.

قال الشافعي- رضي الله عنه-: ويعتذر إلى [الذي يدعوه ويعرفه اشتغاله] بالحكم، ويسأله أن يحلله. قال في "البحر": والأولى في زماننا هذا ألا يجيب أحداً؛ لأن السرائر قد خبثت، والظنون قد تغيرت، ولكنه يعتذر إليهم، ويسألهم التحلل. وألحق في "الإبانة" بحالة الكثرة ما إذا وجد من طبعه [أنه لا] يجيب غير الداعي إذا دعاه، وقال: إن محل [جواز] الإجابة ما إذا كان يجد من طبعه أنه يجيب غيره. ثم ظاهر ما حكيناه من تعليل القاضي أبي الطيب بجواز حضوره الولائم، يقتضي استحباب الإجابة في وليمة العرس وغيرها، وعليه ينطبق قول البغوي: ولا يستحب للقاضي التخلف عن الولائم إذا دعي إليها، خصوصاً وليمة العرس والختان. قال: ويعود المرضى ويشهد الجنائز؛ لما في ذلك من وافر الأجر، وكامل الثواب، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عَائِدُ المَرِيضِ فِي مَخْرَفٍ مِنْ مَخَارِفِ الجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ". والمخرف: البستان، وقيل: الطريق، قاله القلعي. وَعَادَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَابِراً وَسَعْداً فِي مَرَضِهِمَا، وَعَادَ غُلَاماً يَهُوْدِيّاً فِي جِوَارِهِ، وَعَرَضَ عَليْهِ الإِسْلَامَ فَأَجَابَ. قال: فإن كثرت عليه، أتى من ذلك ما لا يقطعه عن الحكم. قال الماوردي: والفرق بين هذين وحضور الولائم من وجهين: أحدهما: أن الولائم من حقوق الداعي؛ فاستوى [جميع] الدعاة في استحقاق الإجابة والعيادة، وحضور الجنائز من حقوقه؛ لأنه يقصد [به] الثواب؛ فجاز أن يخص.

والثاني: أن [في] الولائم ظنة ليست في العيادة والجنازة؛ فكان العموم فيها مزيلاً للظنة. قال القاضي أبو الطيب- وهو في "البحر" [أيضاً]-: ولأن [في] عيادة المرضى والجنائز كثرة، وفي حضورها كلها مشقة شديدة وانقطاعه عما عليه من النظر، وفي ترك البعض تفويت للأجر بالكلية، ولأن ما لا يمكن استيعابه لا يكون تخصيص البعض دون البعض [فيه]، ميلاً وتفضيلاً. قال [القاضي] أبو الطيب: ألا ترى أنه لو أصلح [هو] دعوة، كان له أن يدعو البعض [ويدع البعض]؛ لعدم إمكان الاستيعاب، وهذا بخلاف الولائم، فإنها قليلة في العادة، والاستيعاب لا يقطعه. قال في "الشامل": ويقدم [فيها] الأقرب فالأقرب. وقد ألحق الماوردي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبندنيجي والبغوي والمصنف في "المهذب" مقدم الغائب بالعيادة؛ نظراً إلى الكثرة. وحكى في "البحر" أن ابن المرزبان قال: سمعت القاضي أبا حامد يقول: الصحيح أن يعود الكل أو يترك الكل، وكذلك في الجنازة ومقدم الغائب. قال الروياني: وهذا بخلاف ما قاله [سائر أصحابنا]، والشافعي ذكر ذلك في إجابة الوليمة دون غيرها؛ فلا يصح هذا القول. قلت: وإذا عرفت ذلك علمت أن الشيخ في هذا الكتاب أخذ بقول القاضي أبي حامد في مقدم الغائب؛ لقربه من حضور الولائم في الظنة [به] وإمكان تصنعه، وبقول باقي الأصحاب في عيادة المرضى وشهادة الجنائز، والله أعلم.

قال: ولا يقضي وهو غضبان ولا جائع، أي: جوعاً شديداً، ولا عطشان، أي كذلك، ولا مهموم، أي: [همّاً] كبيراً، ولا فرحان، أي: كذلك، ولا يقضي والنعاس يغلبه، ولا يقضي والمرض يقلقه، ولا يقضي وهو حاقن، أي: يدافع البول، ولا حاقب، أي: يدافع الغائط، ولا في حر مزعج، ولا برد مؤلم. والأصل في ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَقْضِي الحَاكِمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ" كما أخرجه البخاري ومسلم، ورواية الشافعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَينِ وَهُوَ غَضْبَانُ". قال الأصحاب: ومعلوم أنه ما أراد الغضب نفسه، وإنما أراد [الاضطراب الذي يحصل بالغضب. وهذا أخذوه من قول الشافعي- رضي الله عنه-: ومعقول في قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ- أَوْ: لَا يَقْضِي القَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ- وَهُوَ غَضْبَانُ"، أنه أراد] أن يكون القاضي حين يحكم في حال لا يتغير فيها عقله [ولا خلقه، وإذا كان كذلك فهذه الأحوال يتغير فيها عقله]؛ فالنهي عن الحكم فيها مأخوذ من النص، ويؤيده أنه جاء في رواية عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه- وهو راوي حديث مسلم والبخاري السابق- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَقْضِي [القَاضِي] وَهُوَ غَضْبَانُ وَلَا مَهْمُوْمٌ وَلَا مُصَابٌ،"، وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقْضِي الحَاكِمُ [إِلَّا] وَهُوَ شَبْعَانُ

رَيَّانُ"، وما ذكرناه من أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري: إياك والضجر والقلق والتأذي بالناس، والتنكر عند الخصومة- والمعنى فيه: أنه في هذه الأحوال لا يتوفر على الاجتهاد؛ لشغل قلبه. وهذا المنع على وجه الكراهة، صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وصاحب "الكافي"، وكلام الماوردي يقتضي أن الأولى عدم الحكم في هذه الأحوال. قال: فإن حكم في هذه الأحوال نفذ حكمه. استدل الأصحاب لهذا بما رواه البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيْهِ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ مِنْهَا، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرَّ، فَأَبَى عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ"؛ فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟! فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: "اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى [يَرْجِعَ إِلَى] الجَدْرِ"، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: فَوَاللهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية. وفي "الحاوي" في أوائل كتاب الأقضية: أنه قيل: إن خصم الزبير حاطب بن أبي بلتعة. قال الأصحاب: ووجه الدلالة من هذا الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم في حال غضبه.

قلت: وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أن الإمام وصاحب "التهذيب" وجماعة- كما قال الرافعي- قالوا: إن الغضب المنهي عن الحكم معه هو الواقع لغير الله- تعالى- أما الواقع لله- تعالى- في الحكم فلا يكون منهيّاً عنه، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة لله تعالى؛ فلا [يستدل بحكمه فيه على نفوذه] في غيره، وهذا فيه بعد؛ لأن المحذور من الحكم في هذه الحالة ونحوها- كما ذكرنا- عدم توفره على الاجتهاد، و [ذلك] لا يختلف بين أن يكون لله- تعالى- أو لغيره، وكذلك قال صاحب "البحر" بعد أن [حكاه عن بعض الأصحاب بخراسان، وهو غريب. الثاني: [أنا] إذا] قلنا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم إلا عن وحي، فالمعنى الذي لأجله [نهى] عن الحكم بسببه منتفٍ في حقه؛ فلا يستدل بفعله الذي لم تشاركه أمته في سببه، على فعل غيره، وإن قلنا بما عليه جمهور أهل العلم، وهو الظاهر من مذهب الشافعي، كما قاله الماوردي في كتاب الأقضية: إن له ولغيره من الأنبياء- عليهم السلام- أن يجتهدوا، فقد اختلف أصحاب الشافعي في أنهم في اجتهادهم معصومون من الخطأ أم لا، على وجهين: أحدهما: أنهم معصومون؛ لتسكن النفس إلى [التزام] أوامرهم بانتفاء الخطأ عن أخبارهم، وعلى هذا لا يحسن التمسك به أيضاً. نعم، إن قلنا بالثاني، وهو أنهم غير معصومين من الخطأ؛ لوجوده منهم، لكنهم لا يقرهم الله- تعالى- عليه؛ ليزول الارتياب- فقد يحتج به، والله أعلم. تنبيه: شراج الحرة: بكسر [الشين] المعجمة، واحدها: شرجة-[بفتح الشين-: مسيل الماء من الحِرار إلى السهل، والحَرَّة: كل أرض] ذات حجارة سود؛ وذلك لشدة حرها ووهج الشمس فيها. والجدر- بفتح الجيم وسكون الدال المهملة-: الجدار، وقيل المراد به- ها هنا-

أصل الحائط، وقيل: أصل الشجر، وقيل: جذور المشارب التي يجتمع فيها الماء في أصول النخل. قال: والمستحب أن يجلس للقضاء في موضع [فسيح]، أي: كالرحبة والقضاء؛ كي لا يتأذى بضيقه الخصوم، ولا يزاحم فيه الشيخ والعجوز، ولا يحصل فيه ملل، فقد قيل: خير المجالس ما سافر فيه البصر. قال: بارز، أي: يعرفه الخاص والعام، ويصل إليه كل أحد، أي: من غريب ومستوطن وقوي وضعيف؛ ليصل كل أحد على طلب حقه ودفع الظلم عن نفسه. وهذا فيه إشارة إلى أنه لا يكون له حاجب في حال جلوسه للقضاء؛ كما تقدم. قال الأصحاب: ويستحب أن يكون مجلس حكمه [في الصيف] ظليلاً متصلاً بمهاب الريح، وفي الشتاء كنيناً، وأن يكون في الزمنين بعيداً عن دخان يتأذى به أو رائحة منتنة. واستحب أبو عبيد [بن] حربويه من أصحابنا وغيره أن يكون موضع جلوسه مشرفاً: كدكة ونحوها؛ ليسهل عليه النظر للناس، و [تسهل] عليهم المطالبة. قال [الرافعي]: وحسن أن توطَّأ له الفرش وتوضع الوسائد؛ ليعرفه كل داخل، وليكون أهيب عند الخصوم، وأرفق به فلا يمل. وكذلك حكى بسط البساط ونحوه ابن الصباغ وغيره. قال الماوردي: وليكن مع ذلك جلوسه في صدر مجلسه؛ ليعرفه الداخل ببديهة النظر. ولو خالف [الناس]، وجلس للقضاء في بيته كان مكروهاً [كما] صرح به صاحب "المرشد" وغيره، ولو جلس فيه لغير الحكم، فحضره خصمان لم يكره أن

يحكم بينهما؛ لأنه- عليه السلام- فَعَلَ ذَلِكَ، وَتَحَاكَمَ عُمَرُ مَعَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ إِلَى زَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ فِي بَيْتِهِ، وَقَالَ عُمَرُ: فِي بَيْتِهِ يُؤْتى الحكم. نَعَمْ، لَوْ كَثُرَتِ المُحَاكَمَاتُ خَرَجَ إِلَى مَجْلِسِ حُكْمِهِ. قال: [ولا يحتجب] إلا لعذر كما تقدم. وظاهر هذا الكلام من الشيخ أن القاضي يصرف أوقاته كلها في الانتصاب لفصل القضاء، إذا لم يكن ثم عذر، وعليه ينطبق قول القاضي الحسين: إنه يكره للقاضي أن يعين يوماً أو يومين في الأسبوع للقضاء، بل ينبغي أن يكون مرصداً للقضاء في جميع الأوقات إلا في أوقات الاستراحة والأكل والشرب. وفي "الحاوي": أنه يجعل زمان نظره معيناً من الأيام؛ ليتأهب الناس للتحاكم إليه، فإن كثرت المحاكمات ولم يتسع لها بعض الأيام لزمه النظر في كل يوم، ويكون وقت نظره من اليوم معروفاً؛ ليكون باقيه مخصوصاً في [أمور] نفسه ولراحته ودعته، وإن قلت المحاكمات واتسع لها بعض الأيام جعل يوم نظره في الأسبوع مخصوصاً بحسب الحاجة من يوم أو يومين أو ثلاثة، ويختار أن تكون [أيام نظره من الأسبوع: السبت والاثنين والخميس، فإن تجدد في غير] يوم النظر ما لا يمكن تأخيره، نظر فيه ولم يؤخره. قال في "التهذيب": إنه لا يجوز أن يؤخر النظر إذا وقعت لإنسان خصومة، إلا أن يكون مشتغلاً بصلاة أو أكل أو مُهِمٍّ؛ فلا بأس بالتأخير إلى الفراغ [منه، والله أعلم]. قال: ولا يجلس للقضاء في المسجد؛ [لِمَا رَوَى] [ابْنُ] بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: "لَا وَجَدْتَهَا؛ إِنَّمَا بُنِيَتِ المَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللهِ- تَعَالَى- وَالصَّلَاةِ"؛ فدل على كراهة ما عداهما فيه.

وروى معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانكُمْ وَمَجَانِيْنَكُمْ، وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ، وَخُصُوْمَاتِكُمْ، وَحُدُودَكُمْ، وَسَلَّ سُيُوْفِكُمْ، وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ". وقد نهى عمر القضاة أن يقضوا في المساجد. والمعنى فيه: أن حضور الخصوم لا يخلو [غالباً] من لغط، وربما تعدى إلى سب ومشاتمة، والمساجد تصان عن هذا؛ ولأنه ربما كان في القوم جنب [أو حائض أو كافر]. قال: فإن اتفق جلوسه فيه، أي: لاعتكاف أو لانتظار صلاة فيه، فحضره خصمان- لم يكره أن يحكم بينهما؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في المسجد على هذا الوجه، وقال الحسن: دخلت المسجد فرأيت عثمان- رضي الله عنه- وقد ألقي رداءه على كومة حطاب، ونام عليه، فتاه سَقَّاءٌ بقربته ومعه خصم، فجلس عثمان وقضى بينهما، ولم ينكره أحد، وَعَلَى [مِثْلِ] هَذِهِ الحَالَةِ حَمَلَ أَصْحَابُنَا قَضَاءَ عُمَرَ وَعَلِيٍّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- بَيْنَ النَّاسِ فِي المَسْجِدِ. ثم في قول الشيخ: لم يكره أن يحكم بينهما، ما يعرفك أن الحكم [فيه] في غير هذه الحالة مكروه، وهو ما أورده الفوراني. وفي "الرافعي" و"التهذيب" [حكاية وجه]: أنه لا يكره اتخاذ المسجد مجلساً للحكم [على وجه]، كمذهب مالك وأحمد وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، كما لا يكره الجلوس فيه للفتوى وتعليم القرآن والعلم، وهذا أخذ من نص الشافعي- رضي الله عنه- في موضع آخر [على] أنه لا يستحب جلوسه للقضاء في المسجد، وإلى ذلك أشار في "الوسيط". وكلام المزني مشير إلى أن اتخاذه مجلساً لا يكره، لكن الأولى تركه، والصحيح: الكراهة، وهي كراهة تنزيه؛ كما صرح به في "البحر" [وغيره].

وعلى هذا لو خالف وحكم [فيه] جاز. قاله ابن شداد. قال: ويستحب أن يجلس مستقبل القبلة؛ لما روى عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لِكُلٍّ شَرَف، وَإِنَّ أَشْرَفَ المَجَالِسِ مَا استُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَهُ"، ولأن الجلوس للحكم بين الناس قربة وطاعة؛ فاستحب [له] فيه استقبال القبلة؛ كالصلاة والأذان. وحكى ابن شداد عن ابن القاص أنه قال [في أدب القضاء]: ويجلس مستدبر القبلة، ووجهه مقابل لأهل المجلس، وهم مستقبلون القبلة؛ كمقابلة الخطيب للناس يوم الجمعة. وقد حكاه ابن أبي الدم عن رواية الشيخ أبي علي أيضاً. قال: ويجلس وعليه السكينة والوقار؛ لأنه أعظم لهيبته وأدعى لطاعته. قال الماوردي: وليكن أيضاً غاضَّ الطرف كثير الصمت، قليل الكلام، يقتصر من كلامه على سؤال [أو جواب]، ولا يرفع بكلامه صوتاً إلا زجراً من تأديب، وليقلل الحركة والإشارة، والذي ذكره [القاضي] أبو الطيب قلة الكلام؛ لأن كثرته تذهب الهيبة. قال: من غير جبرية ولا استكبار؛ [كي لا يهابه] الخصوم وأصحاب الحقوق. والجبرية- بفتح الجيم، والباء ثانية الحروف-: الكبر والتعاظم والارتفاع والقهر. ويقال: جَبَرُوةٌ- بالواو- وحُبُّورةٌ: بفتح الجيم وضم الباء المشددة، والاستكبار والكبر: أصله الأنفة مما لا ينبغي أن يؤنف منه. قال القاضي أبو الطيب: ولا يليق به مد رجليه في المجلس، ولا الاتكاء. ويحكى عن ابن أبي أحمد: الكراهية في الاتكاء؛ لما روي أنه- عليه السلام- أَبْصَرَ رَجُلاً جَالِساً وَقَدِ اتَّكَأَ عَلَى يَدِهِ اليُسْرَى، فَقَالَ: "هَذِهِ جِلْسَةُ الْمَغْضُوبِ

عَلَيْهِمْ"، فأنكر الاتكاء. قال الأصحاب: ويستحب أن يدعو عقيب جلوسه بالتوفيق والعصمة والتسديد، والأولى فيه ما روته أم سلمة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَزِلَّ [أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَضِلَّ] أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ". وروي أن الشعبي كان يقولهن، ويزيد عليهن: أَوْ أَعْتَدِي أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ، اللَّهُمَّ أَعِنِّي بِالعِلْمِ، وَزَيِّنِّي بِالْحِلْمِ، وَأَكْرِمْنِي بِالتَّقْوَى حَتَّى لَا أَنْطِقَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا أَقْضِي إِلَّا بِالْعَدْلِ. قال في "الحاوي" و"البحر": ويستحب أن يكون جلوسه عقيب صلاة ركعتين، فإن كان جلوسه في المسجد كانت الصلاة تحية، وإن كانت في غير المسجد فلا [يصليها في أوقات الكراهة]. ولم يذكر ابن الصباغ الصلاة فيما إذا كان في غير المسجد، [وقال: إنه يصلي إذا كان في المسجد]. وكذلك البندنيجي قال ذلك، وصوره بما إذا اتخذه لعذر من مطر أو غيره، وقال فيما إذا كان في غير المسجد: وهو مخير: إن شاء صلى، وإن شاء ترك، إذا لم

يكن في وقت الكراهة. ويستحب عند خروجه للحكم أن يخرج على الهيئة التي يجيء عليها إما راكباً إن كان له مركوب، أو ماشياً؛ كذا قاله أبو الطيب وابن الصباغ. وفي "الرافعي": أنه يستحب أن يكون راكباً، ويسلم على كل من يلقاه يميناً وشمالاً؛ لما روي أنه- عليه السلام- قال: "لِيُسَلِّم الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، [وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِير"، وفي رواية أخرى: "يُسَلِّم المَاشِي عَلَى القَائِمِ، وَالقَائِمُ عَلَى القَاعِدِ"]، وهذا السلام أدب؛ كما قاله الماوردي في السير. [ثم] إذا دخل مجلسه سلم على الخصوم المجتمعين فيه، ويردون عليه السلام أو بعضهم، وينادي من على رأسه. هل من خصم؟ وكان اللائق أن يذكر هذا قبل الجلوس، لكن ترتيبات الكتاب اقتضى تأخيره. قال: ويترك بين يديه القمطر مختوماً، ليترك فيه ما يجتمع من المحاضر ونحوها. والقمطر- بكسر القاف وفتح الميم وتسكين الطاء-: ما تصان فيه الكتب، وجمعه: قماطر، ويقال فيه: قمطرة، بالهاء. وفي "ابن يونس": أن أصل [القمطر: دفاتر] الحساب وغيرها، تصر وتجمع في مكان واحد، وتُعبَّأ وتُشد، يقال: قمطرت الحساب قمطرة، إذا عبَّأته وشددته. قال: ويجلس الكاتب بقربه؛ ليشاهد-[أي: القاضي]- ما يكتبه، أي: من إقرار [أو سماع] بينة أو تنفيذ حكم، وذكر سببه مع ذكر المحكوم له و [المحكوم] عليه، وكذا حِلاهما عند الجهالة، [والمحكوم به]،

و [المعنى] في ذلك: انتفاء التهمة عن الكاتب وصيانته من غلط [يقع] فيه إن اتفق. قال الماوردي: والقاضي فيما يكتبه الكاتب من ذلك بين أمرين: إما أن يلقيه عليه حتى يكتبه من لفظه، أو يكتب الكاتب بألفاظه، والقاضي ينظر إليه أو يقرؤه بعد كتابته، ويعلم فيه القاضي بخطه، ويشهد [به] على نفسه؛ ليكون حجة للمتحاكمين، ويكتب الكاتب [ذلك] نسختين، تكون إحداهما في ديوان القاضي، والأخرى بيد المحكوم له. فإن قصر القاضي فيما وصفناه كان مفرِّطاً في حقوق ولايته وحقوق الخصوم، ثم الجهة التي يجلس فيها الكاتب جهة اليسار؛ كما ذكره الماوردي وغيره. وفي "الشامل" و"الرافعي": أنها بين يديه، وكذلك حكاه البندنيجي وقال: لا يجلسه يميناً ولا شمالاً. قال القاضي أبو الطيب- وتبعه ابن الصباغ-: ولو أبعد الكاتب بناحية جاز، وفي هذه الحالة إذا ترافع إليه خصمان، فأقر أحدهما للآخر- لم يبعث بهما للكاتب ليكتب ما جرى، إلا بعد أن يشهد على المقر بحضرته، [أو يثبت اسم المقر] والمقر له، ويرفع في نسبه حتى يتميز المقر ويتعين؛ لأنه ربما جحد الإقرار وادعى أنه المقر له؛ حكى أبو بكر الصيرفي أن رجلين اختصما عند حاكم، فأقر أحدهما للآخر [بمال]، فبعث بهما إلى الكاتب، فرجع المقر عن إقراره، وادعى أن صاحبه هو الذي أقر له؛ فاشتبه الأمر على الحاكم؛ فذهب الإقرار وسقط؛ ولذلك قلنا: إنه يشهد على المقر أو يكتب اسمه ونسبه؛ حتى لا يتفق مثل ذلك. قال: ويستحب ألا يحكم، أي: لا ينتصب للحكم، إلا بمشهد من الشهود؛ احتياطاً

للحق؛ فإنه قد يتفق بعد الحكم أمر يحتاج فيه إلى البينة. قال ابن الصباغ والبندنيجي قبيل الكلام في النظر في المحبَّسين: ثم إن كان الحاكم ممن يحكم بعلمه أجلسهم بالبعد منه، حتى إذا احتاج إلى شهادتهم على حكمه استدعاهم ليشهدوا بذلك، وإن كان ممن لا يحكم بعلمه أجلسهم بالقرب منه؛ حتى يسمعوا كلام المتخاصمين، ويحفظوا على المقر إقراره؛ كي لا ينكر [بعد ذلك] ويجحد. قال البندنيجي: فإن جحد شهدوا عليه بذلك، وحكم الحاكم عليه، وعلى هذا جرى في البحر، وفي هذا كلام سنذكره. قال الماوردي: ويكون مقعدهم في مجلسه متميزاً عن غيره، ولا يساويه واحد منهم في مقعده، ولا فيما يختص به من سواد وقلنسوة، وينبغي أن يختص الشهود في ملابسهم بما يتميزون به، ويسلموا على القاضي بلفظ الرياسة، ويرد عليهم مجيباً أو مبتدئاً على تماثل وتفاضل، ويقدم بعضهم على بعض في المجلس والخطاب؛ لما يتميزون به من علم وفضل، وقد يستدل لذلك بما رواه أبو داود عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ". ثم يمينه [من] مجلسه أولى من ميسرته، فإن افترقوا في الميمنة والميسرة جاز، وإن كان اجتماعهم أولى. ويكف القاضي عن محادثة الشهود، ويكفوا عن محادثته، ويكون كلام القاضي مقصوراً على الإذن في الشهادة، وكلامهم له مقصوراً على أداء الشهادة، ويغضوا عنه أبصارهم، وإذا حضروا في غير مجلس الحكم جلسوا في مقاعدهم المعروفة في مجلسه، ورتبهم فيه على اختياره، وقطع تنافسهم

فيه؛ فإن التنافس يوهن العدالة، ويحادثهم ويحادثونه، [ويؤانسهم] ويؤانسونه بما لا تتخرق به الحشمة، ولا تزول به الصيانة. قال: وبمحضر من الفقهاء، [أي]: الذين يحل لهم الفتوى، ويصح أن يتولوا القضاء [كما] قاله البندنيجي، والمعنى في حضورهم ما سيذكره الشيخ. ثم المفتي: من اتصف بالعدالة المعتبرة في الرواية، وأهلية الاجتهاد في الأحكام الشرعية؛ كما تقدم. فالرجل والمرأة، والحر والعبد، والبصير والأعمى أهل للفتوى إذا اتصفوا بالعدالة؛ لأن روايتهم صحيحة؛ لكن لا يحضر النسوة مجلس الحكم، وتجوز مشاورتهم في غيره؛ كما قاله الماوردي. ولو اتصف العالم بالفسق لم يجز [له] قبول فتواه؛ لأنه لا يوثق بقوله. نعم، عليه أن يعمل لنفسه باجتهاده، وفي جواز مباحثته وجهان في "الحاوي"، وجه المنع: خشية ما يستحدثه بمباحثته من شبهة فاسدة. ولو كان عدلاً لم يبلغ رتبة الاجتهاد مطلقاً، لكنه بلغ ذلك في مذهب إمام- فقد حكى الفوراني وغيره في قبول فتواه وجهين، اختيار القفال منهما الجواز، قالوا: وأصل الوجهين أن المستفتي له مقلد له أو للميت صاحب المذهب، وفيه وجهان، فإن قلنا بالأول لم يجز، وإن قلنا بالثاني جاز، وهذا تفريع على جواز تقليد الميت؛ كما هو الصحيح؛ لأنه لو بطل قول القائل بموته، لبطل الإجماع بموت المجمعين، ولصارت المسألة اجتهادية، وقد منع [منه] بعضهم؛ فعلى هذا يرتفع الخلاف في المسألة، وهذا عند وجود المجتهد المطلق، فأما عند الفقد كما في [زماننا وقبله] فلا وجه إلا استفتاء الذين بلغوا رتبة الاجتهاد في مذاهب الأئمة، وهم الذين يستحب إحضارهم مجلس الحكم في هذا الزمان أيضاً، والأولى أن

يكونوا من الموافقين للقاضي في المذهب والمخالفين له؛ كما أشار إليه الغزالي بقوله: الأدب السادس: ألا يخرج حتى يجتمع [علماء الفريقين]. قال: فإن اتفق أمر مشكل شاورهم فيه؛ لما بيناه في الإمامة، ولأن أحداً من أهل العلم لا يمكنه الإحاطة بجميع السنن والآثار؛ فربما حضر بعضهم من ذلك ما لم يحضر البعض الآخر، فإذا استشار بان له ذلك بالمذاكرة، ولأن المشاورة أبعد من التهمة وأطيب لنفوس الخصوم، وإذا شاورهم ذكر كل واحد مذهبه ودليله، وتأمله القاضي، وليس لهم قبل المشاورة الاعتراض عليه، والرد إذا حكم [إلا حكم] بحكم يسوغ نقضه؛ كما سنذكره، وإن كان قد أساء بترك المشاورة؛ كما قاله الماوردي. ثم بعد المشاورة قال: [الشيخ]: فإن اتضح له الحق حكم به؛ لحصول المقصود. قال الأصحاب: ويستحب له إذا أراد أن يحكم أن [يجلس] المحكوم عليه، ويقول له: قد قامت البنية عليك بكذا، ورأيت الحكم عليك بكذا؛ ليكون أطيب لقلبه وأبعد [عن التهمة]. وعن نصه في "الأم": أنه يندبهما إلى الصلح بعد ظهور وجه الحكم، ويؤخر الحكم [اليوم واليومين] إذا سألهما فجعلاه في حل من التأخير، فإن لم يجتمعا على التحليل لم يؤخره؛ لأن الحكم إذا بان وجهه كان على الفور، وتأخيره ظلم. قال: وإن لم يتضح، أخره إلى أن يتضح، [ولا] يقلد غيره في الحكم، أي: وإن كان أعلم منه؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، وهذا ينفي جواز التقليد، وكذا حديث معاذ المشهور، وهو قوله

- عليه السلام-[له]: بِمَ تحكم .. " إلى آخره، ولأنه من أهل الاجتهاد؛ فلم يجز أن يقلد غيره؛ كما لو أراد أن يقلد من هو مثله في الفروع، ومن هو أعلم منه [بأصول الديانات]، وهذا قول أبي إسحاق المروزي؛ كما حكاه الماوردي. وقيل: إن حضره ما يفوته كالحكم بين المسافرين، وهم على الخروج- جاز أني قلد غيره، ويحكم؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وهذا لا يعلم، ولأنه لا يمكنه إذا فرضه باجتهاده؛ فجاز له التقليد للضرورة قياساً على العامي، وهذا قول ابن سريج. قال: وليس بشيء؛ لأن الاجتهاد شرط في صحة فرضه؛ فلا يسقط بخوف الفوت، كسائر الشروط، مثل: الطهارة والستارة بالنسبة إلى الصلاة، وما ذكر من الآية فالخطاب فيها لغير أهل الذكر الذين لا يعلمون البينات والزبر- وهي الحجج- بسؤال أهل [الذكر، والعالم عالم بالبينات والزبر، ثم لا نسلم تحقق الضرورة]؛ فإنه يمكنه أن يفوض الحكم إلى ذلك الغير فيحكم، وعلى تقدير التسليم؛ فالفرق بين العالم والعامي: أن العامي عاجز عن الاجتهاد، والعالم متمكن من الاجتهاد؛ فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر؛ كما لا يجوز اعتبار من لم يجد الماء والسترة بمن يقدر عليهما، ولكنه يخاف فوت الوقت إن استعملهما. قال: وإن حضره خصوم بدأ بالأول فالأول؛ لأن الأسبق أحق بالتقديم إلى حق هو له؛ كالسابق إلى مكان مباح، والاعتبار بحضور المدعي دون المدعى عليه، كما قاله أبو الطيب وابن الصباغ والفوراني وغيرهم، فلو اتفق أن المدعي والمدعى عليه حضرا في وقت واحد، وانتهت خصومة المدعي، فأراد المدعى عليه أن يدعي على المدعي بحق له- ففي "الحاوي" حكاية وجهين في تقدمه على غيره: أحدهما: يقدم؛ لهذا السبق.

والثاني: لا يسمعها إلا في مجلس آخر أو بعد انقضاء خصومات الحضور. قال: وهو الذي أراه صواباً؛ لأن اسمه لم يثبت في هذا التقديم لنفسه، وإنما ثبت لحق غيره. قلت: ويظهر على هذا أن يقال: لو حضرا معاً، ومراد كل واحد منهما الدعوى على صاحبه بحقه- أن يسمع بلا خلاف. فرع: قال الأصحاب: المستحب للقاضي أن يقدم كل يوم ثقة؛ حتى يثبت [كل] أسامي الخصوم ويكتبها أولاً فأولاً، والأسبق فالأسبق، فإذا جلس للحكم تقدم إليه من سبق على الترتيب، فلو ضاق ذلك المجلس عن استيعابهم، بدأ في المجلس الثاني بالذين تأخروا في المجلس [الأول على ترتيبهم في السبق، ويقدمون على من حضر المجلس] الثاني قبلهم، وهكذا يفعل في المجلس الثالث والرابع. قال: فإن كان فيهم مسافرون، أي: لو تأخر الحكم بينهم لتخلفوا عن القافلة؛ كما قاله الإمام والبغوي- قدمهم، أي: وإن كانوا متأخرين في الحضور؛ دفعاً [لضرر الإقامة] عنهم، ولأن الله- تعالى- خفف [عنهم أمر] العبادة بالفطر والقصر؛ فجاز أن يسامح لهم في باب الخصومة- أيضاً فيقدموا على غيرهم، ولا فرق على هذا بين أن يرضي المقيمون بذلك أو يكرهوا، وحكم المسافرين بعضهم مع بعض حكم المقيمين في الترتيب والقرعة. قال: إلا أن يكثروا، [أي] مثل أن يكونوا قدر المقيمين أو أكثر؛ كالحجيج إذا نزلوا بمكة والمدينة، فلا يقدمهم؛ دفعاً للضرر عن المقيمين. وفي "الحاوي" و"النهاية" و"المهذب" وجه أنهم لا يقدمون وإن قلوا إلا برضا المقيمين.

وظاهر النص الأول، وهو الصحيح، وبه جزم أكثرهم، [وما ذكره الشيخ] في المسافرين في حالة القلة والكثرة حكى مثله الإمام والبغوي في [اجتماع] النساء [مع الرجال، وحكى الإمام الوجه الآخر فيهن عن الأصحاب، على أنهم قالوا: الأولى للقاضي ألا يشرك بين النساء والرجال] في محل النظر، ويجعل للنساء وقتاً، وللرجال وقتاً. قال فإن استوى جماعة في الحضور، أو أشكل السابق منهم، أقرع بينهم، فمن خرجت القرعة [له] قدم؛ لأنه لما انتقى المرجح تعينت القرعة؛ كما في المسافرة ببعض النساء. وفي "الإشراف": أن القاضي يقدم من يشاء منهم إن شاء بالقرعة، وإن شاء باجتهاده، فلو آثر بعضهم بعضاً بالتقديم جاز. ثم إن هذا إذا كان الخصوم يمكن أن يقرع بينهم؛ فلو كثروا، قال ابن الصباغ وغيره: كتب أسماءهم وجعلها بين يديه، [يمد يده] فيأخذ رقعة، ويقدم صاحبها [حسب ما] يتفق. قال: ولا يقدم السابق في أكثر من حكومة؛ دفعاً للضرر عن الباقين، فإنا لو قدمناه في أكثر منها لاستوعب المجلس بدعاويه، فعلى هذا يقال له: الحق لغيرك، فإن أردت فاجلس حتى تسمع من الخصمو دعاويهم، ثم أنظر بعد ذلك في خصومتك [الثانية] إن بقي وقت، [ولم أضجر]. وهذا إذا كانت الخصومة الثانية مع غير المدعى عليه أولاً، [أما إذا] كانت معه أيضاً، ففي "الحاوي" حكاية وجهين في السماع، وحكاه الإمام في الخصومتين

والثلاث لا غير، ثم قال: وهذا بعيد مع فتح الباب؛ فعدم الزيادة على الثلاث لا أصل له؛ فالوجه ألا يزيد على خصومة واحدة. ورأيت فيما وقفت عليه من "الإشراف" أن [القاضي] أبا سعيد الإصطخري يجوز الدعاوى على رجال ولا يجوزها على رجل واحد، وهذا إن صح كان وجهاً [ثالثاً]. فرع: دخيل في هذا الباب: إذا استبق طلبة العلم، ينظر: فإن كان [ذلك] العلم مما لا يجب تعلمه، فالخيار إلى المعلم، وإن كان مما يجب تعلمه، فلو خصص أقواماً منهم، فهل يجوز له ذلك؟ فيه وجهان. قال الإمام: والأولى المنع من التخصيص؛ فإنه لا يدري من المفلح، ومن المتحرج، فليقصد التعميم، فإن كان لا يتأتى الجمع في التعليم فعند ذلك يتبع السبق أو القرعة. قال: ويسوي بين الخصمين، أي: وإن اختلفا في الشرف وغيره، والرق والحرية، في الدخول، أي: لا يدخل أحدهما قبل الآخر، والمجلس، أي: فلا يكون أحدهما أقرب إليه من الآخر، والإقبال عليهما، أي: فلا يبش في وجه أحدهما ولا يقطب، ولا يقوم لأحدهما ويترك الآخر، [بل] إما أن يقوم لهما أو يترك- كما قاله الشيخ أبو علي- والإنصات غليهما، أي: فلا يصغي لكلام أحدهما دون الآخر. والأصل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء: 135]. قال أبو عبيد في "أدب القضاء"- كما حكاه أبو الطيب-: نزلت هذه الآية في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي، فيلوي عن أحدهما، ويعرض للآخر، وروى عطاء عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنِ ابْتُلِيَ بِالقَضَاءِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَفْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ، وَلَا يَرْفَعْ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا

يَرْفَعُهُ عَلَى الآخَرِ". وقد ذكرنا أن عمر كتب إلى أبي موسى: "آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَجْلِسِكَ وَوَجْهِكَ وَقَضَائِكَ"، وروي أَنَّ عُمَرَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ انْطَلَقَا إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي خُصُومَةٍ فِي نَخْلٍ، فَلَمَّا بَلَغَا البَابَ، قَالَ عُمَرُ: السَّلامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ زَيْدٌ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ- يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ- وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا أَوَّلُ جَوْرِكَ، فَلَمَّا دَخَلَا قَالَ زَيْدٌ: هَا هُنَا يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، فَقَالَ عُمَرُ. وَهَذَهِ مَعَ هَذِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ أَجْلِسُ مَعَ خَصْمِي. ثُمَّ إِنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ ادَّعَى عَلَيْهِ النَّخْلَ، فَقَالَ عُمَرُ: نَخْلِي وَفِي يَدِي. فَقَالَ زَيْدٌ لأِبَيِّ: هَلْ لَكَ [مِنْ] بَيِّنَةٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: [إِذَنْ] اعْفُ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ عَنِ اليَمِيْنِ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا زِلْتَ جَائِراً مُنْذُ دَخَلْنَا [بِقَوْلِكَ]: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، [وَقَوْلُكَ:] هَا هُنَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَاعْفُ أَمِيرَ المُؤْمِنِيْنَ، وَلَوْ عَرَفْتَ لِي حَقّاً أَخَذْتُهُ بِيَمِينٍ، ثُمَّ حَلَفَ فَقَالَ: إِيْ وَاللهِ إِنَّكَ لَصَدُوْقٌ، وَمَا حَلَفْتَ إِلَّا عَلَى حَقٍّ. [فَقَالَ عُمَرُ:] وَهِيَ لَكَ. ولأن الحاكم إذا فضل أحد الخصمين انكسر قلب الآخر، ولحقه الضرر في استيفاء حجته والقيام بها؛ فلهذا قلنا بالتسوية بينهما. وقد أبدى ابن أبي الدم [هنا] لنفسه احتمالاً في منع القيام لهما جميعاً؛ [لأنه قد يكون أحدهما شريفاً والآخر وضيعاً،] فإذا قام لهما علم الشريف [أنه] إنما قام له، و [علم] الوضيع [أنه لم يقم له]؛ فترك القيام لهما أقرب

إلى العدل وأنفى للتهمة، وعلى هذا سير الحكام الماضين: وَرُوِيَ أَنَّ الَمْهِديَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ مُحَمَّدَ بْنَ المَنْصُوْرِ تَقَدَّمَ مَعَ خُصُومٍ لَهُ- وَهُوَ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ- إِلَى قَاضِي البَصْرَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الحَسَنِ العَنْبَرِيِّ، فَلَمَّا رَآهُ القَاضِي مُقْبِلاً أَطْرَقَ إِلَى الأَرْضِ حَتَّى جَلَسَ المَهْدِيُّ مَعَ خُصُوْمِهِ مَجْلِسَ المُتَحَاكِمِيْنَ، فَلَمَّا انْقَضَتِ الحُكُومَةُ بَيْنَهُمْ قَامَ القَاضِي فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ المَهْدِيُّ: وَاللهِ، لَوْ قُمْتَ حِيْنَ دَخَلْتُ عَلَيْكَ لَعَزَلْتُكَ، وَلَوْ لَمْ تَقُمْ حِيْنَ [انْقَضَى الحُكْمُ] لَعَزَلْتُكَ. والمهدي [أخذ هذا] عن أبيه؛ فإن أباه فعل هكذا بالمدينة عند قاضيها. ثم ما ذكرناه من التسوية مستحب أو واجب؟ فيه وجهان، المذكور منهما في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الشامل" و"المرشد": الأول، وفي "تعليق" البندنيجي ,"التهذيب": الثاني، وهو الذي حكاه ابن شداد عن الشيخ أبي حامد، والرافعي عن الأكثرين. فرع: لو سلم الخصمان على القاضي رد عليهما، وإن سلم عليه أحدهما ففي فرض رده ثلاثة أوجه مجموعة في "ابن يونس"، وهي مأخوذة من كلام مجلي: أحدها: يرد عليه [في الحال]. والثاني: يرد عليه بعد الحكم. والثالث: يرد عليهما، والذي أورده القاضي الحسين، وبه أجاب في

"التهذيب": أنه إما أن يسكت، أو يقول للآخر: سلم أنت أيضاً، فإن سلم ردها [جواب سلامهما]. واعترض الرافعي [على ذلك] بعد حكايته عن الأصحاب لا غير، فقال: في قوله للآخر: سلم أنت أيضاً، اشتغال [منه] بغير الجواب، ومثله يقطع الجواب، ثم قال: وكأنهم احتملوا ذلك كي لا يبطل معنى التسوية. وقال الإمام: ما ذكره القاضي من امتناع الرد عندي سرف؛ فإن رد السلام محمول على ابتداء أحدهما بالسلام، وهذا مما لا يخفي ولا يظهر ميلاً. قال: وإن كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً، أي: محقون الدم- قدم المسلم على الكافر في الدخول، ورفعه عليه في المجلس؛ لما روى إبراهيم التيمي قال: رأى عليُّ بن أبي طالب درعاً على يهودي، [فقال] [علي]: درعي سقطت يوم كذا، فقال اليهودي: لا أدري ما تقول، درعي وفي يدي، وفي ذلك بيني وبينك قاضي المسلمين، فارتفعا إلى شريح وهو نائب عن علي- رضي الله عنه- فلما رآه قام عن مجلسه، قال بعضهم: فقال له عليّ: هذا أول جورك، ثم أسند ظهره إلى الجدار، وبعضهم قال: إنه لما قام عن مجلسه أجلسه موضعه وجلس مع اليهودي بين يديه، فقال علي- كرم الله وجهه-: إن خصمي لو كان مسلماً لجلست معه بين يديك والذي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا تُسَاوُوْهُمْ فِي المَجَالِسِ، وَلَا تَعُوْدُوْا مَرْضَاهُمْ، وَلَا تُشَيِّعُوا جَنَائِزَهُمْ، وَاضْطَرُّوْهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ". وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والروياني والغزالي في المجلس خاصة، وحكاه البندنيجي عن بعض الأصحاب ولم يحك سواه. وفي "المهذب" و"الحاوي" حكاية وجهين في التسوية بينهما في المجلس: أحدهما: ما ذكره الشيخ هنا وغيره، وهو المختار في المرشد والمذهب

في "تعليق" القاضي الحسين. والثاني: يسوي بينهما [كما يسوي بينهما] في المدخل والكلام. وهذا التعليل منهما يدل على أنه لا خلاف في التسوية في الدخول. وقال الرافعي: يمكن أن يكون الوجهان في رفع المجلس جاريين في سائر وجوه الإكرام، وقد صرح بذلك الفوراني قبله. فرع: قال ابن الصباغ: الحاكم يجلس الخصمين بين يديه؛ لأن ذلك أمكن للحاكم في الإقبال عليهما والنظر في خصومتهما، وذلك على وجه الاستحباب، صرح به [في] "المهذب"، واستدل له بما روى عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الْخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكم. وقد خرجه أبو داود، لكن في رجاله مصعب بن ثابت المديني، ولا يحتج بحديثه. نعم، قد يستدل له بالخبر الذي ذكرناه عن علي- كرم الله وجهه- عند الكلام في كتاب العهد والتوصية بتقوى الله تعالى. وقد أشار الشيخ إلى هذه الهيئة بقوله في الباب الثاني: إذا جلس بين يدي القاضي خصمان، [قال الأصحاب: وإذا كان الخصمان] شريفين فلا بأس أن يجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، لكن الأولى الجلوس بين يديه؛ تأدباً مع الشرع، وتواضعاً لله تعالى. قال الماوردي: ولا يسمع الدعوى بينهما وهما قائمان، حتى يجلسا بين يديه تجاه وجهه، ومن عادة جلوس الخصوم أن يجلسوا في التحاكم بروكاً على الركب؛ لأنه عادة العرب في التنازع، وعرف الحكام في الأحكام، لكن إذا كان التخاصم بين نسوة جلسن متربعات؛ لأنه أستر لهن، وإن كان بين رجل وامرأة برك الرجل وتربعت المرأة. قال: وإذا جلس الخصمان تقاربا، إلا أن يكون أحدهما رجلاً والآخر امرأة غير محرم له؛ فيتباعدا ولا يتلاصقا.

وينبغي أن يكون مجلس الخصوم عند القاضي أبعد من مجالس غيرهم؛ ليتميز به الخصوم من غيرهم، وأبعد ما يكون [الخصمان أن يسمع كلامهما، وكذا أبعد ما يكون] بينهما: أن يسمع كل منهما كلام الآخر، ولو تقدم أحد الخصمين في الجلوس وتأخر الآخر، [فالأولى أن ينظر القاضي: فإن كان المتقدم قد جلس في مجلس الخصوم [وتأخر عنه الآخر] قدمه إليه، وإن كان المتأخر قد جلس في مجلس الخصوم] وتقدم الآخر أخره إليه، ولو رد المتقدم وقدم المتأخر كيف كان، جاز، قاله الماوردي. ولو كان الخصم وكيلاً وحضر موكِّله مجلس المخاصمة، حكى الزبيلي في "أدب القضاء" له: [أنه] يجب أن يكون الوكيل والموكل والخصم مستوين، فلا يجوز أن يكون الموكل بجنب القاضي، [ويقول: وكيلي جالس مع الخصم. وإذا دخل خصم دون خصم، فقام له القاضي]: إما ظناً منه بأنه لم يأته محاكماً، أو جهل ذلك، أو ارتكب المحذور فيه- قال ابن أبي الدم: فإما أن يقوم لخصمه كقيامه له؛ جبراً لما فعله؛ أو يعتذر إليه بأنه قام له ولم يشعر بمجيئه محاكماً. قال: ولا يضيف أحدهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُضِفْ أَحَدَ الخَصْمَينِ إِلَّا وَمَعَهُ خَصْمُهُ"، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا ادعي عنده على شريف حجبه حتى يقضي بينه [وبين خصمه]؛ ولأنه إذا أضاف أحد الخصمين [انكسر قلب صاحبه. وحكى ابن أبي الدم عن أبي القاسم الداركي أنه قال: هذا إذا كانت دار الخصم

بعيدة عن دار القاضي، أما إذا كان [أحد الخصمين]] جاراً للحامك أو من أقاربه، جاز للقاضي أن يدعوه إلى [داره وضيافته]؛ لأن فيه قضاء حق الجوار والقرابة؛ فلا تهمة. وقال: هذا عندي على العكس؛ فإن التهمة تتمكن من الجار والقريب أكثر من البعيد؛ لقربهما من قلب الحاكم ومودته؛ ولذلك منع الحكم للفروع والأصول، والزوج والزوجة على رأي، ثم يلزم على ذلك جواز قبول هدية أحدهما إذا كان جاراً أو قريباً، ولا قائل به مع قيام الخصومة. قال: ولا يشاوره ولا يلقن أحداً دعوى ولا حجة، أي: مثل أن يقول: قل كذا؛ لما في ذلك من إظهار الميل المؤثر كسر قلب الآخر، وقد يفضي ذلك إلى تعطيل حجته. قال القاضي أبو الطيب: وضابطه: ألا يلقن أحدهما ما فيه ضرر على الآخر، ولا يهديه إليه، مثل أن يقصد [الإقرار فيلقنه [الإنكار، ويقصد] النكول فيجرِّئه على اليمين، أو يقصد] اليمين، فيلقنه النكول، وكذا إذا توقف الشاهد في أداء الشهادة لا يجرِّئه عليها، وإذا أقدم عليها لا يوقفه عنها، إلا في الحدود التي تدرأ بالشبهات؛ لأن ذلك يضر بأحد الخصمين، [وذلك لا يجوز، وكذا] لا يجوز أن يتعنت الشاهد، كما نص عليه الشافعي، رضي الله عنه. وعنت الشاهد قد يكون من ثلاثة أوجه؛ كما قال الماوردي: إظهار المنكر عليه والاسترابة، وهو ظاهر الستر، موفور العقل، وهذا ما أورده أبو الطيب وابن الصباغ. والثاني: أن يسأله من أين علمت ما شهدت به؟ وكيف تحملت؟ ولعلك سهوت؟ وهذا عندي داخل في الأول؛ لأن هذا إنما يفعل مع المستراب. والثالث: أن يتتبعه في ألفاظه ويعارضه إلى ما جرى مجرى ما ذكرناه؛ لأن عنت الشاهد قدح فيه، وميل على المشهود له، ومفض إلى ترك الشهادة عنده.

وكذا لا يجوز أن يصرخ على الشاهد، ولا ينتهزه لأن ذلك عنت. قال: ولا يعلمه كيف يدعي؛ لأن [في] ذلك إعانة له على خصمه. وقيل: يجوز أن يعلمه؛ إذ لا يستضر الآخر [بصحة دعواه]؛ فإن الحق لا يثبت بقوله، وهذا قول الإصطخري، ولم يحك في "الإشراف" سواه. قال: والأول أصح؛ لما ذكرناه، وهو الذي عليه سائر الأصحاب كما قاله أبو الطيب، وعلى هذا يقول [له]: إن حققت دعواك سمعتها، وإلا صرفتك حتى تتحقق [لك]. ولا بأس على الوجهين بالاستفسار، مثل أن يدعي دراهم، فيقول: أهي صحاح أم مكسرة؟ أو قتلاً، فيقول: عمداً أو خطأ؟ ونحو ذلك، صرح به القاضي الحسين والبغوي [والرافعي] وغيرهم. وحكى الإمام في كتاب قاض إلى قاض الخلاف فيه أيضاً، لكنه ادعى أن ظاهر النص- يميل إلى الجواز، ولو قال له: استعن بمن ينوب عنك، قال الماوردي: فإن أشار بذلك إلى الاستعانة [في الاحتجاج عنه لم يجز، وإن أشار به إلى الاستعانة] في تحقيق الدعوى [جاز. ولا يعين له من يستعين به. والخلاف المذكور في الكتاب في تعليم الدعوى] جارٍ في تعليم الشاهد كيفية أداء الشهادة، كما صرح به [في] "الحاوي" وغيره. وقال في "العدة": الأصح الجواز [فيها]، وظاهر النص: المنع. أما إذا لقنه ما يشهد به لم يجز. قال: وله أن يزن عن أحدهما ما لزمه؛ لأن في ذلك نفعاً لهما، وله أن يشفع [له] إلى خصمه؛ لأن إجابة شفاعته إلى خيرة المشفوع إليه، ولأن الشفاعة إنما تكون بعد وجوب الحق، وحينئذ انتفى الميل، ولا يجوز أن ينهر الخصمين

فضلاً عن أحدهما، لأنه إذا فعل ذلك، لحقه الحصر والقصور عن القيام لحجته. قال: وأول ما ينظر فيه أمر المحبسين؛ لأن الحبس عذاب، وإدامة العذاب من غير ثبت لا سبيل إليه، وليس هذا من تعقب أحكام القاضي الأول حتى يقال: لابد فيه من استعداء- كما سنذكره- بل لأنه قد يكون في الحبس مظلومٌ، و [هو] لا يتمكن من التظلم كما قاله في "الحاوي" و"البحر"، وقد يكون [فيه] من حبس تأديباً وفيما مضى من الحبس كفاية. قال الإمام: وتقديم هذا حتم، وليس من الآداب حتى قال الأصحاب: لا ينبعث في خصومة ترفع إلى مجلسه [ما لم] يتفرغ قلبه من هذا الشغل، ويستخلف فيها إن جوزنا الاستخلاف، وكذا فيما نذكره من بعد من المهمات. وكيفية النظر فيما نحن فيه- كما قاله في "البحر"-: أن يرسل أولاً رجلين من أمنائه يكتبان اسم كل من في الحبس، واسم من حبس له، وبأي شيء حبس، وقال بعض أصحابنا- يعني الماوردي؛ لأنه مذكور في "الحاوي"-: [ينفذ إلى الحبس] ثقة أميناً ومعه شاهدا عدل، وقيل: [يبعث ثقة] ولا يعتبر العدد. وهذا ما أورده البندنيجي. ثم قال الروياني: وعندي الاحتياط في العدد، ويجوز أن يقتصر على واحد؛ لأن طريقه الخبر. وإذا أراد الأمين أن يكتب [أسماءهم، قال في "الحاوي" و"البحر": أقرع [بينه]، فمن خرجت قرعته قدم اسمه. وقد نسب الرافعي ذلك إلى "أمالي" أبي الفرج السرخسي. وفي "تعليق" البندنيجي: أنه يكتب] اسم كل واحد في قرعة. وكلام الماوردي وصاحب "البحر" يقتضي أن يكون اسمهم في مكتوب واحد؛

لأنهما قالا بعد ذلك: فإذا حمل المكتوب إلى القاضي نادى في الناس ثلاثة أيام إن كان البلد كبيراً، [ويوماً] واحداً إن كان [البلد] صغيراً: إن القاضي بدأ بالنظر في أمور المحبَّسين؛ فمن كان له محبوس على حق فليحضر في يوم كذا. قال الماوردي والبندنيجي: وليكن اليوم الرابع من [يوم] ندائه. قال في "البحر": و [قيل]: ينادي هكذا أولاً، ثم يبعث الثقة فيكتب أسماء المحبوسين. وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب والبندنيجي والرافعي. قال الروياني: ولا بأس به عندي، فإذا كان ذلك [اليوم] واجتمعوا، أقرع بين المحبوسين؛ لأجل التقديم. قال في "الحاوي": ولا يقتصر على القرعة الأولى؛ فمن خرجت قرعته أخرج من الحبس، ولا يحتاج فيه إلى إذن خصمه؛ لأنه يخرج في حقه لا في حق حابسه. كذا قاله في "البحر" أيضاً. وينادي بإحضار خصمه، وقيل: إذا تبين خصم المحبوس الذي خرجت عليه القرعة وجهه القاضي مع أمينه إلى الحبس؛ حتى يأخذ بيد خصمه ويأتي به [إلى] مجلس الحكم. وهذا ما أورده أبو الطيب وابن الصباغ. وإذا حضر فلا يسأل [خصم المحبوس]- كما قاله في "الحاوي" و"البحر" وغيرهما- بل يقول للمحبوس: لم حبست؟ ولا يكتفي بالسؤال [الأول] الذي وقع في الحبس، فإذا قال شيئاً، عارض الأول بالثاني، وعمل بأغلظهما [عند الاختلاف]، ولو ثبت في ديوان الحكم سبب حبسه، قابله بما قال في الأول والثاني، وعمل بأغلظ الثلاثة، ثم إذا انفصل أمره أخرج من وقعت عليه القرعة ثانياً وهكذا. وهذا إذا كان الحبس قريباً بحيث لا يتعطل على القاضي زمان إذا انتظر إخراج

محبوس منه بعد محبوس، فلو كان بعيداً أخرج بالقرعة جميع من يقدر على النظر بينهم في مجلسه قبل شروعه في النظر. وفي "تعليق" البندنيجي و"الشامل" و"الرافعي" و"المرشد": أنه إذا أراد أن ينظر، ترك الرقاع التي فيها أسماء المحبوسين بين يديه، ومد يده إليها؛ فما وقع في يده منها نظر فيه. ولعل هذا إذا كثر المحبوسون، وتعذرت القرعة؛ كما ذكرنا مثله في حضور الخصوم للتحاكم. قال: فمن حبس بحق رده إلى الحبس؛ لأنه يستحقه لو أنشئت المحاكمة عند هذا القاضي؛ فاستمراره أولى. وهذه المسألة مصورة في كلام الأصحاب- كما قال الإمام والبغوي- بما إذا أقر المحبوس أنه حبس بحق، وبما إذا أقر أنه حبس [بدين وهو قادر عليه؛ كما قاله في "الشامل" و"المرشد" وغيرهما، أو أن الدين الذي حبس] فيه ثمن مبيع، أو قرض، أو عن غصب، ولم تقم بينة بتلفه، ولم يصدقه الخصم على ذلك، أو أقر بأن الدين صداق أو أرش جناية أو بدل متلف ونحوه، وأنه معسر، فأقام الخصم بينة على أنه كان له مال؛ كما قاله أبو الطيب، [أو] أقر بأن ما حبس عليه ثمن خمر أو خنزير [لذمي] أو قيمته عنهما، والقاضي الأول والثاني يريان ذلك. وقد يفهم من كلام الشيخ أنه إذا حبس تعزيراً لأجل لَدَدٍ صدر منه ونحوه: أنه يعاد، وقد قال الغزالي: إن من حبس تعزيراً لا يعاد. وقال الرافعي: إن معظم الكتب ساكتة عن ذلك، ولعل وجه ما ذكره: أن التعزير يتعلق بنظر الحاكم الذي بانت عنده الجناية، ولا يدري هل كان الحاكم المصروف يديم حبسه أم لا؟ ولكن لو بانت جنايته عند الثاني ورأى إدامة حبسه، فالقياس جواز العود. وفي "الحاوي" و"البحر": أن التعزير قد استوفي بعزل الأول، وإن لم يستكمل

مدة حبسه، مع بقاء نظر الثاني؛ لأن القاضي الثاني لا يعزر لذنب كان مع غيره، لكنه لا يطلقه حتى ينادي عليه- كما سنذكره- لاحتمال أن يكون قد حبس لخصم وأنكره، ويحلفه: إنه ما حبس بحق لخصم؛ كما قاله ابن أبي الدم. قال: ومن حبس بغير حق خلاه؛ لأن استمراره معصية. وهذه المسألة مصورة في كلام الأصحاب بما إذا صدق الخصم المحبوس على ما ادعى أنه حبس عليه، وكان ذلك لا يقتضي الحبس، وله صور: منها: أن يصدقه على [أن] ما ابتاعه منه وحبس فيه قد تلف، أو قامت بينة بذلك ولم يعهد له مال غيره. ومنها: إذا كان الدين عن صداق أو إتلاف أو ضمان، وقد ادعى المحبوس الإعسار، وصدقه فيه الخصم، أو كذبه في دعوى الإعسار، وحلف المحبوس؛ قال القاضي أبو الطيب: لأن الأصل أن لا مال له. وهذا بناءً على أن من [لم] يعرف له مال إذا لزمه دين لا بمعاوضة محضة، القول في الإعسار قوله، كما حكيناه في باب التفليس عن العراقيين، وقد وافقهم القاضي الحسين هنا، أما إذا قلنا بما نقله المراوزة فلا يخفى تفريعه. ومنها: إذا ادعى أنه حبس في قيمة خمر أتلفه [على] ذمي أو خنزير ونحوه، وكان الحاكم الأول لا يرى ذلك، [وكذلك الثاني، أو كان الخصم مسلماً. نعم، لو كان الخصم ذميّاً، والحاكم الأول لا يرى ذلك كالشافعي]، [والثاني يراه كالحنفي- كان حكم الأول باطلاً، والثاني إن حكم بمذهبه حبسه. ولو انعكس الحال فكان الأول حنفيّاً، والثاني شافعيّاً- لم ينقضه باتفاق الأصحاب]، ولكن هل يلزمه إمضاؤه أم لا؟ فيه قولان: فإن قلنا بالأول وهو ما اختاره في "المرشد"، وصححه الرافعي- أعاده إلى الحبس.

وإن قلنا بالثاني، قال في "الحاوي" و"البحر": فيعيده إلى الحبس من غير أن يلزمه القضاء؛ لأنه [لا] يراه، ولا يطلقه؛ لأنه لا ينقض الحكم به، وأقره حتى يصطلحا. وفي "الكافي": أنه على هذا القول لا يرده إلى الحبس؛ لأن في اجتهاده أنه لا شيء عليه، ولا يمكنه نقض ما حكم به الحاكم الأول بالاجتهاد؛ فالطريق فيه: أن يوقف الأمر بينه وبين المدعي حتى يصطلحا. وهذا أقرب إلى كلام ابن الصباغ والبندنيجي حيث قالا: [لا] يمضيه، ويتوقف في بابه حتى يصطلحوا. وأطلق القاضي أبو الطيب القول بأنه إذا حبس في ثمن نخمر أو خنزير: أنه يرده إلى الحبس؛ لأنها مسألة مختلف فيها، فإذا حكم الحاكم فيها لم ينقض حكمه؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. ثم إطلاق المحبوس في الصور التي ذكرناها منوط عند الروياني والبندنيجي وابن الصباغ بالنداء عليه ثلاثاً: ألا إن فلان بن فلان قد فرغ من حكومته بينه وبين خصمه، فإن كان لأحد عليه حق فليتقدم فإن القاضي يريد إطلاقه، ووجه ذلك: أنه يحتمل أن يكون له خصم آخر فأنكره. والقاضي أبو الطيب أطلق القول بالإطلاق من غير تقييد بذلك، وقال في "المرشد": عندي أن النداء الثاني لا يحتاج إليه؛ لأن في النداء الأول غنية عنه، ولأن الخصم الآخر إن لم يكن محبوساً [له] فلا يجوز حبسه انتظاراً لخصم لم يتعين ولم يثبت له حق، وإن [كان] قد حبس له فقد عرف حقه. فرع: لو أقر المحبوس أن خصمه أقام بينة عليه بحق ولم تُعدَّل، وأنه [قد] حبس لأجل استزكائها- فهل يلحق ذلك بالقسم الأول حتى يعاد إلى الحبس، أو بالثاني حتى يخلى سبيله؟ فيه وجهان مبنيان على أنه يحبس لأجل الاستزكاء أم لا،

وفيه خلاف بين أبي إسحاق والإصطخري كما حكاه البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما. قال القاضي أبو الطيب: فعلى قول [أبي إسحاق يرده] إلى الحبس؛ لأن الحبس عنده بحق؛ لأن الأصل العدالة، وإنما السؤال عن الجرح الذي يسقط الشهادة، وهذا ما اختاره في "المرشد". وعلى قول الإصطخري يخلى؛ لأن الحبس عنده بغير حق؛ لأن البحث عنده والسؤال عن الشهود إنما هو لإثبات الشهادة. قال البندنيجي: ومحل التخلية إذا لم يكن المعزول قد حكم بوجوب الحبس عليه. وقد أوضح ذلك الماوردي، فقال بعد حكاية الوجهين: ثم إن قلنا: إنه لا يجوز حبسه، وكان القاضي قد قال: حكمت بحبسه- لزم حبسه باجتهاده، ولا يجوز إطلاقه، وإن لم يقل: حكمت، وجب إطلاقه، ولكن لا يعجل بإطلاقه حتى ينادى عليه ثلاثة أيام، كما سنذكره. قال ابن أبي الدم: وفيما قاله نظران: أحدهما: أنه قال: وإن قلنا: لا يجوز حبسه. وفصَّل كما تراه، وكان من حقه أن يقول: إذا قلنا: لا يجوز حبسه للأول، فهذا إذا لم ير ذلك رأياً ومذهباً، وإلا فلو رأى الأول حبسه، جاز له ذلك قولاً واحداً؛ لأنها مسألة مجتهد فيها. ثم [إذا] رأى القاضي الأول حبسه وحبسه، فالقاضي الثاني إن رأى حبسه سائغاً بذلك فله استدامة حبسه قولاً واحداً، وإن لم ير جواز حبسه، والتفريع على أن القاضي الأول رأى جواز حبسه وحبسه- فهل يديم الثاني حبسه بطلب الخصم؛ [إمضاء لفعل [الحاكم] الأول]، أو يطلقه؟ فيه وجهان. الثاني: أنه [قال]: [إن] قال الأول: حكمت بحبسه، لزم الثاني حبسه، وإلا أطلقه. وفي هذا إشارة إلى أن فعل الحاكم أو أمره بالفعل ليس بحكم، إنما الحكم قوله لفظاً: حكمت بكذا، أو لفظ آخر يقوم مقامه، وفي هذا تردد ظاهر. ثم إنه قد

ناقض قوله هذا؛ فإنه قال متصلاً بما ذكره: أما إذا [قال]: حبسني تعدياً بغير حق [ولغير خصم]، فدعواه تخالف الظاهر من أحوال القضاة، وحبسه حكم؛ فلا ينقض إلا بيقين الفساد. فقوله: "وحبسه حكم"، دليل على ما ذكرناه قطعاً. قلت: وكأن الجواب عما ادعاه من المناقضة: أن الحبس حكم بالحق لا [حكم] بالحبس، والكلام ها هنا في الحبس لا في الحق. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إذا قال: حبسني بشهود غير عدول، لم يقبل، ولكن يسأل عن عدالتهم: فإن كانوا عدولاً حبسه، وهل يحبسه في المدة التي يتعرف فيها أحوال الشهود؟ [فيه وجهان]. قال: ومن ادعى أنه حبس بغير خصم، أي: في [غير] حق، نادى عليه، أي: ينادي ثلاثة أيام- كما قال في "البحر"-: ألا من كان له عند فلان [بن فلان] حق فليحضر في يوم كذا؛ فإن القاضي عازم على إطلاقه من السجن. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن بعضهم قال: ينادي عليه ساعة أو ساعتين، فإن كان له خصم وإلا خلي سبيله، وقال [بعضهم]: ينادى عليه حتى يشتهر في البلد، ووجه النداء [أنه]: يحتمل أن يكون له خصم قد كتمه؛ فيظهر بالنداء. قال: [ثم يحلفه]، أي: إن لم يحضر خصم، ولا بينة تخالف دعواه [ولا توافقها؛ لأن دعواه] مخالفة للظاهر، فحلف معها، بخلاف المسألة قبلها؛ حيث قلنا: يخلى بغير يمين؛ لأن له خصماً [حاضراً]، وكان الظاهر معه، والأصل عدم خصم آخر.

وكيفية اليمين: أن يحلف بالله إنه حبس بغير حق؛ كما قاله أبو الطيب، وقد فهمت مما حكاه القاضي عن بعضهم: أنه لا يحتاج في الإطلاق إلى يمين. قال: ويخليه؛ لأن تخليد الحبس عليه بعد ذلك إضرار به لا إلى غاية، مع أنه لو كان له خصم لظهر بذلك. قال الإمام- وتبعه الغزالي-: وهو في مدة النداء لا يحبس ولا يخلى، بل ينصب من يراقبه، وهل [يأخذ منه كفيلا] ببدنه [احتياطاً]؟ فيه وجهان ذكرهما صاحب "التقريب": أحدهما: [نعم؛ فعلى هذا: إذا امتنع من القيام بكفيل رددناه إلى الحبس. والثاني: ليس على ذلك]، وهو الصحيح الذي قطع به الأئمة، كما قال الإمام. وفي "الإبانة" إطلاق القول بأن المحبوس إذا قال: حبست بظلم، لا يقبل قوله، واقتصر على ذلك. وفي "الحاوي": أن دعواه [مخالفة للظاهر] من أحوال القضاة، وحبسه حكم؛ فلا ينقض إلا بيقين الفساد، ويطلب منه البينة: فإن شهدت أنه حبس بحق عزر [في جرحه] لحابسه، وإن شهدت أنه حبس ظلماً نادى عليه ثلاثاً كما ذكرنا، ثم يطلق إن لم يحضر خصم، وإن لم تقم بينة بأحد الأمرين أعاده إلى الحبس، ويكشف عن حاله حتى ييأس بعد الكشف من ظهور حق عليه، ويطالبه بكفيل بنفسه؛ لأن الحبس واجب عليه، فإن عدم كفيلاً استظهر في بقاء حبسه على [طلب الكفيل]، ثم يطلقه عند إعوازه، وهذا غاية ما يقدر عليه القاضي. وحكى الإمام: أن في كلام القاضي ما يدل على أنه يخلى سبيله بمجرد قوله: حبست ظلماً، ولا يتشبث به، فإن ادعى عليه مدع، استعدى عليه؛ فإنا لا ندري أن

ذلك القاضي حبسه بحق أم لا، وحبس القضاة منقسم إلى حبس بحق، و [إلى] حبس ظلم وأدب، فيحمل على تأدية حق. قال الإمام: ولست أنكر اتجاه هذا في القياس؛ فإن التشبث به من حق الحبس. ولو ظهر بعد النداء خصم، وادعى أنه محبوس في حقه: فإن صدقه بأنه محبوس له لم يخف الحكم مما تقدم، وإن كذبه قيل للحاضر: أنت الآن مدع، فإن ادعيت بحق سمعناه، وإلا فأت ببينة تشهد بأنه كان محبوساً بدينك، وإلا خليناه؛ كذا قاله في "البحر". وعن "أمالي" أبي الفرج [السرخسي]: أنه [لا] يكفي لاستدامة الحبس قيام البينة على أن [القاضي] المصروف حبسه بحق هذا المدعي إن لم يبين جنس الدين وقدره. واعلم أنه [قد] وقع في بعض النسخ: "ومن ادعى أنه حبس بغير حق"، وقد يظن أنها المسألة [التي قبلها، وليس كذلك؛ لأن تلك المسألة] المحبوس أقر بما لأجله حبس، وصدقه الخصم؛ فكان الحبس بغير حق، وهذه لم يدع فيها شيئاً حبس بسببه غير الظلم، ولا عين خصماً له، والحكم الذي ذكرناه لا يختلف؛ [لأن اقتصاره] على ذلك مستلزم لعدم الخصم، ولو قال: حبسني فلان غير الحاكم ظلماً، لا يقبل ذلك منه؛ لأنه خلاف الظاهر، ويستكشف [على ما ذكرناه] فيما إذا قال: حبسني ظلماً. قال في "البحر": وقيل: إن كان فلان حاضراً أحضره حتى يقيم البينة أن [له] عليه حقّاً، وإلا أطلقه، وإن كان غائباً فوجهان:

أحدهما: يطلق؛ لأن الأصل أن لا حبس. والثاني: لا يطلق؛ لأن الظاهر أنه حبسه القاضي بحق، [هكذا] ذكره بعض أصحابنا بخراسان. وكأنه يعني الفوراني؛ لأنه ذكر ذلك في "الإبانة"، والإمام حكى الوجهين في حال الغيبة البعيدة عن بعض المصنفين، وعناه أيضاً، وقال: إنا على القول بعدم الإطلاق نكتب إلى الموضع الذي فيه الخصم حتى يحرص على إظهار حجته، فإن قصر أطلقناه، وعلى مقابله يراقب، فأما الرد إلى الحبس فهو إدامة للعذاب، ولا سبيل إليه قال: وقد يرى الإنسان في مجموعات الأصحاب عبارات موهمة. تنبيه: كلام الشيخ في هذه المسألة كالمصرح بأن القاضي ينبغي أن يكون له حبس [يعزر] [بالحبس] فيه من يستحق التعزير، وقد صرح به الأصحاب على وجه الاستحباب، واستدلوا لذلك بما روي أن عمر- رضي الله عنه- اشترى داراً بمكة واتخذها سجناً [بمكة]، وروي أن عليّاً- كرم الله وجهه- اتخذ سجناً. قال القاضي أبو الطيب: وإذا لم يتخذ سجناً أمر بملازمة من توجه عليه الحق، فتقوم الملازمة مقام الحبس. ولذلك قال: يستحب أن يتخذ درة يؤدب بها من يستحق التأديب، ويرهب بها السفيه والجاهل، وقد اتخذها عمر، رضي الله عنه. قال: ثم ينظر في أمر الأيتام، أي: الذين في عمله، والأوصياء، أي: عليهم، وكذا [على] المجانين والسفهاء، و [كذا] على تفرقة الصدقات؛ لتوليهم لمال من لا يملك المطالبة ولا يعبر عن نفسه؛ فكان النظر فيهم أولى. قال الماوردي: ويبدأ بمن يرى من غير قرعة، بخلاف المحبوسين؛ لأن هذا منه نظر اجتهاد، ولأن النظر في المحبوسين لهم، وها هنا عليهم لا لهم. أما إذا كان المال والأوصياء في عمله والمولى عليهم في غير عمله، فنظره في ذلك مبني على أنه هل له نظر في ذلك المال أم لا؟ وفيه تردد جواب القاضي الحسين، والأصح في "أدب

القضاء" لابن أبي الدم، وإليه مال الإمام: لا؛ بل سبيل تصرفه فيه كتصرفه في أموال الغيب، وسنذكره. ثم نظره في الأوصياء بعد ثبوت الوصاية لديه بإقامة البينة على الموصي بالوصاية، يكون باختياره في أمانته وقوته، وسنجده لا يخلو فيها من أربع أحوال: إحداها: أن يكون أميناً قويّاً فيقره، ولا يجوز أن يستبدل به. الثانية: أن يكون أميناً ضعيفاً لا يقدر على التفرد بتنفيذ الوصية؛ إما لكثرة المال أول ضعفه في نفسه؛ كما حكاه الرافعي، [فعلى القاضي أن يضم إليه من أمنائه من يقوى به] [، ولا يدفع يده]. الثالثة: أن يكون خائناً في الأمانة فاسقاً في الديانة؛ فلا يجوز للقاضي أن يقره عليها، ويجب عليه أن يردها إلى غيره من الأمناء. الرابعة: أن يكون ثقة في الأمانة فاسقاً في الديانة، فينظر في الوصية: فإن كانت بالولاية على الأطفال ونحوهم أو تفرقة الثلث [في غير] معينين [انتزعها منه، وردها إلى أمين، وإن كانت بالوصية في تفرقة الثلث في معينين] أو قضاء دين لمسميين، قال الماوردي: جاز أن يقرها في يده، والفرق: أن في تلك ولاية واجتهاداً، وليس الفاسق من أهلها، وهذه مقصورة بالتعيين على التنفيذ دون الاجتهاد. وفي "البحر" وغيره إطلاق القول بنزع المال منه في حال [قوة] أمانته في التصرف وفسقه في الديانة. وقد تتفق حالة خامسة، وهي أن يشك القاضي في عدالته، وقد حكى ابن الصباغ فيها وجهين: أحدهما- عن الإصطخري-: أنه يقر المال في يده؛ لأن الظاهر الأمانة.

والثاني- عن أبي إسحاق، وهو المختار في "المرشد"-: أنه ينتزعه حتى تتحقق عدالته. قلت: وهذا التوجيه يقتضي أن يكون مذهب كل واحد منهما خلاف ما حكيناه عنه فيما إذا حبس لأجل الاستزكاء. ولو أقام الوصي بينة بأن القاضي المنصرف نفذ وصيته، وأطلق تصرفه في المال- قال ابن الصباغ والبندنيجي والمصنف: لم يكن [للقاضي الثاني] التعرض له، ويمضيه على ما ثبت عنده من حكم الأول؛ لأن الظاهر: أن الأول لم ينفذه إلا بعد ثبوت أهليته. نعم، يراعيه، فإن تغير حاله [إلى حالة] من الأحوال الثلاثة عامله بما ذكرناه، هكذا أورده صاحب "البحر" وغيره. [ثم] [في] الحالة التي يقر المال في يده لو كان موجوداً، لو ادعى أنه صرفه في جهاته، قال الرافعي: فإن كان مستحقوه بالوصية معينين، لم يتعرض له؛ لأنهم يطالبون لو لم يصل إليهم، وإن كانوا غير معينين فالقول قوله، ولا يضمنه، ولو كانوا أطفالاً ونحوهم فقد تقدم حكمهم في باب الحجر. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن الوصي إذا كان قد أنفذ الوصاية وفرغ فالقاضي بالخيار: إن شاء حاسبه، وإن شاء ترك. وفي الحالة التي ينتزع المال من يده لو كان باقياً، لو كان قد تصرف فيه، قال الماوردي وغيره: فإن [كان] مستحقوه معينين بالوصية تبرعاً أو في وفاء دينه، فلا يتعرض له، والمستحق هو المخاصم. وإن كان غير معين، أو كان طفلاً، قال الماوردي: فإن كان فسقه خفيّاً يفتقر [إلى اجتهاد] نفذ تصرفه، ولم يضمن إلا بالتعدي ما لم يحكم القاضي بفسقه، وإن كان فسقه ظاهراً لا يفتقر إلى اجتهاد

[رد] تصرفه، وغرمه إذا لم يمكن التدارك كما إذا فرق على المساكين. قال: وليس له أن يرجع على المساكين بما فرقه وإن صدقوه [على الوصية]؛ لأنه يقر بوصوله إليهم [بحق]. [وفي "المهذب" حكاية وجهين في ضمانه في هذه الصورة،] ووجه المنع بأنه دفعه إلى مستحقه فهم كالمعينين، والمختار في "المرشد": الأول. وأطلق الرافعي القول بالضمان عند وجوده فاسقاً؛ لتصرفه لا عن ولاية من غير تفصيل بين فسق [خفي أو ظاهر. نعم، حكى أنه لو ادعى أنه فرق الثلث الموصي به لغير] معين؛ خوفاً عليه من أن يضيع- وجهين في ضمانه، وأظهرهما: الوجوب، ويظهر أن ينبني الخلاف فيما إذا فرقه الوصي [الفاسق] في حالة الخوف، على ما إذا فرقه من ليس بوصي في هذه الحالة وهو عدل، وفيه وجهان حكاهما ابن الصباغ وأبو الطيب، فإن قلنا: يضمن- وهو الصحيح في "تعليق" أبي الطيب، والمختار في "المرشد"- فالوصي الفاسق أولى، وإلا فوجهان. وإذا جمعت بين ما حكاه في "المهذب" وغيره واختصرت، قلت: في ضمانه عند تفريقه في غير معين ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كان في حال الخوف عليه لم يضمن، وغلا ضمن، وقد اتفق الكل على أن مستحق الثلث لو كان معيناً لم يضمن الوصي ولا الأجنبي وإن لم يكن ثم خوف؛ لأن للمعين الاستقلال بالأخذ. قال: ثم ينظر في أمر أمناء القاضي- أي: الذي كان قبله- المنصوبين [للنظر] في أموال الأيتام والمحجور عليهم الذين لا وصي عليهم، وكذا في تفرقة الوصية؛ لما ذكرناه، والخيرة في التقديم [إليه] كما حكاه الماوردي، وإذا نظر فيهم: فإن كانوا باقين على حالهم في العدالة والكفاءة أقرهم.

قال ابن الصباغ: ولا يحتاج إلى تولية؛ لأن الذي قبله ولاهم. وإن كان قد تغير [حال] أحدهم بفسق عزله، وإن كان بضعف ضم إليه من يعينه. وفي "تعليق" القاضي الحسين و"البحر": أنه بالخيار إن شاء [عزله و] انتزع ذلك منه عند بقائه على الاستقامة، وإن [شاء] أقره وحده أو ضم إليه غيره. والأمر في باقي الأحكام [كما] تقدم في الأوصياء، ولابد من إقامة البينة على أن القاضي المنصرف [قد ولاه، ولا يكفي قول المنصرف: إني وليته،] فلو لم تقم بينة فكل ما أنفق وادعى غرمه على اليتيم وعلى غيره، حكمه فيه كالمستولى عليه من غير تولية أحد، قاله القاضي الحسين. فروع: إذا فعل الأمين ما لا يجوز عن جهالة به لم ينعزل، ويرد ما فعل، فإن أمكن استدراكه لم يغرمه، وإلا غرمه. إذا ادعى الأمين أن القاضي [المنصرف] قطع له أجرة، فإن أقام [على ذلك] بينة، وكان ذلك القدر أجرة المثل- عمل بها، وإن كان أكثر من أجرة المثل رد الزائد عليها، وإن لم تقم بذلك بينة، ففي الأجرة قولان في "تعليق" القاضي الحسين وغيره: أحدهما: لا شيء له. والآخر: القول قوله، فيحلف ويستحق أجرة المثل. وقد حكى الماوردي الخلاف المذكور وجهين، وأنهما مأخوذان من الوجهين فيما إذا ادعى راكب الدابة إعارتها، وادعى المالك [إجارتها]، في أنه هل يستحق

[عليه] الأجرة أم لا؟ فإن قلنا: لصاحب الدابة الأجرة، استحق الأمين ها هنا، وإلا فلا. وتبعه الروياني في ذلك. وقال الإمام: إن الخلاف ها هنا مبني على الخلاف، فيما إذا عمل لغيره عملاً، ولم يسم له أجرة، هل يستحقها أم لا؟ على القاضي بعد تصفح أحوال الأمناء والأوصياء أن يثبت [في ديوانه] حال كل أمين ووصي وما في يده من الأموال، ومن [يلي] عليه من الأيتام؛ ليكون حجة في الجهتين، فإن وجد ذكره في ديوان القاضي الأول عارض به وعمل بأحوطهما، قاله في "الحاوي"، ولفظه في "البحر": يجب على القاضي. وسرد ذلك. قال: ثم في أمر الضوال واللقطة؛ للمعنى الذي ذكرناه. والضوال: الماشية من الإبل والبقر والغنم، واللقطة: كالمتاع والأعيان؛ كذا قاله ابن الصباغ. وقال البندنيجي: إن الضوال: ما كان من البهائم التي لا يجوز التقاطها، وهو ما امتنع من صغار السباع؛ كما ذكرناه في بابه. ونظره في الضوال: إن كان في بقائها ضرر أو تحتاج إلى مؤنة باعها وحفظ ثمنها، وإلا بقاها وتركها في الحمى حفظاً لمالكها. ونظره في اللقطة: الذي وجدها: إن اختار تملكها فهو أحق بها، وإن لم يختر ذلك أمر أميناً بأخذها وحفظها على صاحبها، وإن رأى أن يخلطها بمال بيت المال، حتى إذا جاء صاحبها أعطاه قيمتها من بيت المال- فعل، كذا حكاه ابن الصباغ. وقال البندنيجي: إن نظره فيها إذا ردها الملتقط ولم يختر تملكها فيحملها

[إلى] الحاكم؛ ليحفظها على ربها، [فينظر: إن كانت مما لا مؤنة في حفظها كالجواهر والأثمان، حفظها على ربها،] وإن كانت [مما لاستبقائها] مؤنة: كالأمتعة الجافة، [أو الحيوان] الذي يحتاج في حفظه إلى الإنفاق عليه- باعه وحفظ ثمنه [على صاحبه]. وكذا ينظر في الوقوف العامة والخاصة؛ كما قاله الماوردي: أما العامة؛ فلأن مستحقيها لا يتعينون، فمل يقف النظر على مطالب. وأما الخاصة؛ فلأن منتهاها إلى من لا يتعين من الفقراء والمساكين، ويكون نظره هل أفضت إليهم أم لا؟ وهل يستحق الولاية على من تعين منهم لصغر أو جنون أو سفه؟ وليعلم سبلها فتحمل على شرط واقفها. وإن تغير حال الولي عليها فعل ما قدمناه في الأولياء والأمناء؟ ومن تمام نظره فيها: تعاهدها بالإسجال [عند تطاول] المدة؛ لتكون الحجة باقية ومثبتة [في ديوانه، وقد حكيت ذلك في كتاب الوقف عن نص الشافعي- رضي الله عنه- كما حكاه [القاضي أبو الطيب في باب عقد الذمة]. تنبيه: كلام] الشيخ في هذا الفصل والذي قبله يعرفك أن ولاية القاضي تتضمن النظر والتصرف فيما ذكره، كما اقتضى كلامه في أثناء هذا الباب وغيره تضمنها التصرف في أمور أخر، وقد تكلم الأصحاب فيما يقتضيه [مطلق] ولاية القضاء، وملخصه: أنه يستفيد به سماع البينة والحكم، والتحليف، وفصل الخصومات، بحكم أو بصلح عن تراض، واستيفاء الحقوق، والحبس عند الحاجة، والتعزير، وتزويج اللواتي ليس لهن ولي خاص، والولاية في مال الصغار والسفهاء والمجانين [عند عدم أولياء النسب والأوصياء]، والنظر في الضوال

و [اللقط] والوقوف؛ حفظاً للأًول، وإيصالاً للغلات إلى مصارفها بالفحص عن حال المتولي إذا كان [لها] متولٍّ، وبالقيام [به] إذا لم يكن، والنظر في الوصايا، وتعيين المصروف إليه إذا [كانت الوصية لجهة] عامة إذا لم يكن [لها وصي]، والفحص عن حال الوصي إذا كان كما تقدم، وله النظر في الطرق والمنع من التعدي فيها بالأبنية وإشراع ما لا يجوز إشراعه، كذا أطلقه الماوردي في "الأحكام" وغيره. وفي "الحاوي": إن جاءه متظلم دخل في ولايته، ونظر فيه، وإن لم يأت متظلم دخل ذلك في الحسبة، وكان أحق بالنظر فيه، فإن لم يفتقر إلى اجتهاد تفرد به المحتسب، وإلا كان القاضي بالاجتهاد [فيه] أولى من المحتسب، ويكون المحتسب فيه منفذاً لحكم القاضي. [وله] نصب المفتين والمحتسبين، وأخذ الزكوات كما قاله في "الإشراف". وفصَّل الماوردي فيها، فقال: إن أقام الإمام لها ناظراً خرجت من عموم ولاية القاضي، وإلا فوجهان. قال الرافعي: ويشبه أن يطرد هذا التفصيل في المحتسبين، وكذلك القول في إمامة صلاة الجمعة والعيدين. قال الماوردي: إن أقام الإمام لها شخصاً، خرجت من عموم ولاية القاضي، وإلا فوجهان. قال الرافعي: ويقرب من هذه الأمور نصب الأئمة في المساجد. وله الحكم بنفقات الأقارب والزوجات والرقيق، وتقديرها برأيه واجتهاده، والنظر في التعديل والتجريح والتقليد والعزل. وله إقامة الحدود على مستحقها فيما يتعلق بحقوق الآدميين: كحد القذف،

والقصاص على النفوس والأطراف، فأما ما يتعلق بحدود الله- تعالى-[المحضة]: كحد الزنى وشرب الخمر وتارك الصلاة، فقد جزم في "الأحكام" بأن له إقامتها- أيضاً- من غير طلب، وقال في "الحاوي": إن تعلقت باجتهادٍ كان القاضي أحق بها، ويأمر ولاة المعاون باستيفائها وهو أولى من مباشرتها بنفسه، وعليهم أن يعملوا بأمره فيها، وإن لم تتعلق باجتهاد كان الأمير أحق بها؛ لتعلقها بتقويم السلطنة، فإن تعلق بها سماع البينة، سمعها القاضي، واستوفى الأمير. وأطلق في "الإشراف" القول بأنه لا يقتل مرتد دونه، ولا يستوفى [في] حد دونه، فإن فعله فاعل عزره القاضي. وله- كما قال في "الإشراف"- إقطاع أراضٍ ورثها المسلمون في ولايته. وفي جباية الخراج والجزية وحفظ مال بيت المال خلاف بين الأصحاب، والأظهر في "الرافعي" وبه جزم الماوردي: المنع. والنظر في أموال الغيب، قال الماوردي: إن علموا بها فلا نظر للقاضي فيها؛ لوقوعها على اختيار، وإن لم يعلموا [بها بأن] ورثوها وهم لا يعملون، فهي داخلة في نظر القاضي، وعليه حفظها حتى يقدموا أو يوكلوا؛ فيتخرج حينئذ من نظره. قال الإمام في أول كتاب قسم الفيء والغنيمة: وحفظها يكون بصيانتها إن لم يخشَ هلاكها، وإن خشي فهو كالبيع عند خوف الفوات بالكلية، وكذا خوفه تلف المعظم، ولا يجوز البيع عند خوف الاختلال الذي لا يتراقى إلى تلف المعظم [ولم يكن سارياً]؛ لأن معظم الأمة لا يعدون ذلك ضياعاً. وهذا إذا امتدت الغيبة، وعسرت المراجعة [قبل وقوع الضياع، ولم يمكن تدارك الضياع بالإجارة؛ فلو أمكنت المراجعة،] أو لم ينقطع الخبر انقطاعاً يغلب على الظن الإياس من

العود قبل المستدرك- فلا يسوغ التصرف مطلقاً، ولو أمكن التدارك عند عسر المراجعة بالإجارة، اكتفى القاضي بها ولم يبع. قال الإمام: وإجارة القاضي لأملاك الغُيَّبِ في معنى بيع الأعيان المشرفة على الهلاك؛ فإن المنافع متعرضة للضياع على مر الزمان. قال: وهذا إذا لم يصدر من الغائب نهي عن التصرف في ماله؛ لأن جواز التصرف فيه كان من حيث إن قرائن الأحوال تدل على أن الغيب لا يأبون أن يرعى حقوقهم من يلي أمر المسلمين؛ فلو فرض من المرء عند الغيبة نهي عن البيع، وانتهى الأمر إلى الضياع- فلسنا نرى البيع جائزاً- والحالة هذه- إلا أن يكون حيواناً، فإنه يباع؛ لأجل حرمة الروح؛ كما يباع في حضرته إذا كان لا يستقل بالإنفاق عليه. قال: وإن كان القاضي قبله لا يصلح للقضاء نقض أحكامه كلها، [أصاب فيها أو أخطأ؛ لأنه حكم من لا يجوز حكمه] فوجب نقضه كما لو صدر عن بعض الرعية من غير تحكيم، وهذا ما أورده البندنيجي [والبغوي والمصنف، قال الرافعي: وغيرهم. وكلام الغزالي] في "الوسيط" الذي حكيناه من قبل مصرح بأن من ولاه السلطان ذو الشوكة تنفذ أحكامه، و [قد] حكينا عن صاحب "الكافي" إبداءه احتمالاً، وذكرنا ما قيل في ذلك، وفي "البحر": أن امرأة لو قلدت القضاء على مذهب أبي حنيفة، فيما يجوز أن تكون شاهدة فيه، فحكمت- هل للشافعي نقض حكمها؟ قال الإمام: جرى فيه وجهان: أحدهما: [ينقض]، وهو اختيار الإصطخري. والثاني: لا ينقض؛ لأنه مجتهد فيه. قال: وإن استعداه خصم على القاضي قبله [لم يحضره حتى يسأله] عما بينهما؛ لجواز أن يقصد تعييبه وتبذيله وتحليفه بغير حق.

قال: فإن ادعى عليه مالاً غصبه أو رشوة أخذها على حكم أحضره؛ لأنه ذكر سبباً محتملاً، ويتعذر إثباته قبل إحضاره، وهكذا الحكم فيما إذا ادعى عليه ديناً وغيره. ثم للمعزول أن يوكل عنه في سماع الدعوى عليه ولا يحضر، وإذا حضر استؤنفت الدعوى عليه، فإن أقر أو قامت عليه بينة بالمدعي، حكم عليه [به]، وإن أنكر ولا بينة فالقول قوله مع اليمين؛ كما صرح به الماوردي، [وقال] القاضي أبو الطيب في دعوى الرشوة: إن في تحليفه ما سيأتي. قال: وإن قال: حكم عليّ بشهادة فاسقين أو عبدين، أي: وهو يعلم ذلك، وأنه لا يجوز، وأنا أطالبه بالغرم- فقد قيل: يحضره؛ لأن ما ادعاه محتمل، وكان عليه الحضور؛ كما لو ادعى عليه مالاً، وهذا قول الإصطخري وابن القاص كما حكاه أبو الطيب، وهو الأصح عند القاضي الروياني في "البحر"، وعند غيره- أيضاً- كما قاله الرافعي. وقيل: لا يحضره حتى يقيم المدعي بينة أنه حكم عليه؛ لأن الظاهر من أحكام الحكام [نفوذها على] الصحة؛ فلم يجز أن يعدل بها عن الظاهر إلا ببينة؛ صيانة لولاة المسلمين عن البذلة إلا بما يوجبها. قال ابن يونس: ولأنه يسهل على المدعي إقامة البينة على الحكم؛ لأنه يقع ظاهراً، بخلاف أخذ المال. وهذا فيه نظر؛ لأن القاضي أبا الطيب قال: [إنما] تسمع البينة على هذا الوجه إذا شهدت على إقراره بأنه حكم [عليه] بشهادة لا يجوز الحكم بها، وإذا كان كذلك فهذا كالمال سواء. لكن في "الرافعي" أن البينة إن شهدت على إقراره بذلك أحضره، وإن شهدت بما ادعاه المدعي أحضره، وهذا الوجه أصح عند صاحب "التهذيب". وفي "الحاوي" حكاية [وجه] ثالث [: أنه] إن اقترن بدعواه أمارة تدل

على صحتها من كتاب أو محضر ظاهر الصحة أحضره، وإن تجردت الدعوى عن أمارة لم يحضره، وفي هذا الوجه يندرج ما حكاه ابن يونس أنه قيل: يكفي في إحضاره أن يقيم بينة أنه حكم عليه بقضايا. ولو ادعى المدعي أن الحاكم أخذ المال منه بشهادة المذكورين، ودفعه إلى فلان-[أحضره جزماً]؛ لأن هذا [الأخذ كالغصب]. قال [الشيخ]: فإن حضر، أي: تفريعاً على الوجه الأول، أو باختياره تفريعاً على الثاني؛ كما قاله في "البحر"، وقال: حكمت عليه بشهادة عدلين حرين- فالقول قوله مع يمينه، أي: بعد استئناف الدعوى، كما صرح به الماوردي؛ لأنه أمين ادعى عليه خيانة أنكرها؛ فكان القول قوله [مع اليمين] كالمودع. وقيل: القول قوله من غير يمين؛ لأن في تحليفه امتهاناً له وابتذالاً، وفي خصوم الحاكم كثرة؛ فربما أدى ذلك إلى ألا يتولى أحد القضاء لما يلحقه من عاقبة الابتذال، وهو قول الإصطخري وصاحب "التلخيص" و"التقريب"، وإيراد القاضي أبي الطيب يقتضي ترجيحه، وقد صححه الشيخ أبو عاصم والبغوي والماوردي كما قاله الرافعي. قال: والأول أصح؛ لما ذكرناه، ولأن حقوق الآدميين يستوي فيها الكافة، وقد حكى الرافعي هذا عن اختيار العراقيين والقاضي والروياني، وهو كذلك في "البحر"، وفي "الحاوي" نسبته إلى أبي إسحاق، أما إذا حضر بعد إقامة البينة عليه بالمدعي فلا بد- أيضاً- من تجديد الدعوى، ولا يتجه الإنكار؛ لوجود البينة. نعم، لا يكتفي بما شهدت به أولاً؛ بل [لا] بد من الأداء في وجهه على المعهود. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون المدعي حكماً في مال أو [في] دم، وقد

نصب الغزالي الخلاف المذكور في الأعداء في سماع أصل الدعوى، وقال: إنه مبني على الخلاف في أن الحكم بشهادة العبدين ومن في معناهما، هل يقتضي غرماً؟ وأشار بهذا إلى [أن] ما يجب بخطأ الإمام، هل يجب في ماله أو على عاقلته إن كانت تتحمله، أم لا يجب إلا في بيت المال؟ فإن قلنا بالثاني لا تسمع الدعوى عليه، وإلا سمعت كما في قتل الخطأ. وأطلق في "الإشراف": أن محمد بن جرير الطبري وغيره من أصحابنا قالوا: لا ينبغي أن يُفَوَّ سهم هذه الدعوى نحو القاضي؛ لأن فيه تشنيعاً عليه، وهو مستغن عن هذا التشنيع عليه، بأن يقيم بيِّنة على فسق الشهود. وحكى عن بعض الأصحاب أنه قال: دعوى الطعن في الشهود مسموعة على القاضي؛ لأنه ربما يتعذر عليه إقامة البينة. وقال الرافعي: إن ما ذكره الغزالي من الخلاف غير معروف. نعم، إن كان المحكوم به قطعاً أو قتلاً، فعن الإصطخري: أن القاضي إنما يضمن إذا استوفاه بنفسه، أو أمر من استوفاه، [فأما إذا استوفاه] الولي بإذن القاضي فلا ضمان على القاضي. وخالفه الأكثرون، وقالوا: لا فرق؛ فإن القاضي هو [الذي] سلط الولي؛ فيمكن أن يجري هذا الخلاف في الأموال. انتهى. قلت: وما أنكره الرافعي على الغزالي غير متجه عليه؛ لأن الإمام حكاه، ولفظه: إذا ادعى على الأول أنه ترك الصواب في حكمه، وقضى بشهادة عبدين أو معلنين بالفسق، فهل يقبل القاضي الجديد هذه الدعوى؟ ذكر العراقيون [فيه] وجهين: أحدهما: لا يقبلها، ولا يستحضر المعزول لذلك. وهذا ليس بشيء. والوجه: القطع باستحضاره، والبحث عن حقيقة حاله. فرع: إذا ادعى على القاضي بعد العزل: أنك قتلت أبي، فقال: قتلته في أيام ولايتي قوداً، وعرف القاضي قاضياً فيما سبق من الزمان- قال صاحب "التقريب": فالقول قوله ولا يمين عليه. وذكر العبادي: أنه الأصح.

قال في "الإشراف": وعلى طريقة أبي حامد يحلفه. ثم قال: ويمكن بناؤهما- على طريقة أبي حامد- على القولين في تبعيض الإقرار، وهو إذا قال: له عليّ ألف من ثمن خمر [أو خنزير]. وهذا حكم الدعوى على المعزول، أما الدعوى على المتولي: فإن كانت بما لا يتعلق بالحكم حكم بينهما خليفته أو قاضٍ آخر كما سبق، وإن ادعى ظلماً في الحكم وأراد تغريمه؛ لم يمكن، ولم يحلف القاضي، ولا تغني دعواه إلا بالبينة، وكذا لو ادعى على الشاهد أه شهد بالزور وأراد تغريمه؛ لأنهما أمينان شرعاً، ولو فتح باب تحليفهما لانسد الأمر، ورغب القضاة عن القضاء، والشهود عن أداء الشهادات، وهذا ما حكاه الإمام في باب الامتناع عن اليمين، وكذا الحكم لو قال القاضي: قد عزلت، وأنكر، وعن الشيخ أبي حامد: أن قياس المذهب التحليف في جميع ذلك؛ كسائر الأمناء إذا [ادعيت عليهم خيانة]، وهو ما جزم بتخريجه القاضي أبو الطيب في الشهود، وقال: إن الشهادة عليهم بالتزوير إنما يتصور إقامتها على الإقرار. قال: وإن قال: جار عليّ في الحكم؛ نظر [في الحكم]: فإن كان في أمر لا يسوغ فيه الاجتهاد؛ أي [: بأن] يكون مخالفاً للنص أو الإجماع أو القياس الجلي، [أو ما] في معناه كما سنذكره، وقد ثبت المدعي بالبينة أو بإقرار الخصم-[نقض حكمه؛ كما ينقض] حكم نفسه إذا ظهر له ذلك، وقد روي أن علي بن أبي طالب نقض حكم شريح لما حكم في ميراث امرأة ماتت وخلفت زوجاً وابني عم أحدهما أخ لأم: بأن للزوج النصف، والباقي للأخ من الأم؛ تشبيهاً بالأخ من الأب [والأم مع الأخ من الأب]، وقال له: في أي كتاب وجدت هذا؟! وحكم علي- كرم الله وجهه-[بأن] للأخ من الأم السدس، وقسَّم الثلث الباقي بينهما نصفين؛

لاعتقاده أن ما قضى به شريح مخالف لنص الكتاب العزيز؛ فإن الله- تعالى- يقول: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} الآية، وسنذكر في أواخر الباب التالي لهاذ بقية أدلة جواز النقض. قال: وإن كان [في أمر] يسوغ فيه الاجتهاد كثمن الكلب وضمان خمر الذمي، فإن وافق رأيه لم ينقضه؛ لأن له الحكم به، بل يجب عليه، فكيف ينقضه؟! قال: وإن خالفه؛ ففيه قولان: أحدهما: ينقضه، قال ابن الخل: لأنه حكم يتعلق باجتهاده؛ فإذا خالفه لم يعتد به. والثاني: لا ينقضه؛ [لأن نقضه] يمنع استقرار حق لأحد؛ لأنه يتسلط كل من ولي القضاء على نقض أحكام من قبله، وهذا ما اختاره النواوي. واعلم أن بعض الشارحين لهذا الكتاب ومن يتبع ألفاظ الشيخ للاعتراض عليها، اعترض على الشيخ- رحمه الله- فالمتأدب منهم، قال: القول بعدم النقض في هذه الصورة لم يذكر في مشاهير الكتب سواه، وغير المتأدب قال: قول النقض في هذه الصورة [على] خلاف الإجماع؛ لأن ما يسوغ فيه الاجتهاد إذا اتصل به حكم حاكم نفذ، ولا يجوز لأحد بعده نقضه، وعلى هذا مضت العصور، ولو فتح هذا الباب لوقع الناس في حرج عظيم في نقض الأحكام، واسترجاع ما مضى من الأمور بمجرد الوهم والخيال. وأطنب في القول [في ذلك]، ثم قالوا: نعم، حكى المحاملي في "المقنع" قولين فيما إذا خالف رأيه على غير هذا الوجه، وهما متجهان كما قاله بعضهم: أحدهما: يمضيه. والثاني: لا يمضيه، بل يمتنع عن الحكم في تلك الواقعة؛ ليرفع إلى غيره، كما يمتنع من القضاء لنفسه ولولده على خصمه. قلت: وما ادعي من أن نقض الحكم الذي يسوغ فيه الاجتهاد خلاف

الإجماع، لم أر في كلام الأصحاب ما يخالفه، وقد وافق عليه ابن الصباغ حيث قال: وقد أجمعت الصحابة على ذلك؛ فإن أبا بكر- رضي الله عنه- حكم في مسائل باجتهاده، وخالفه عمر- رضي الله عنه-[فيها] ولم ينقض حكمه. وأما حكاية القولين في أنه إذا خالف [رأيه] هل يمضيه أو يتوقف؟ فهما صحيحان، وقد أوردهما أيضاً البندنيجي وابن الصباغ والماوردي وصاحب "الكافي" وغيرهم عند الكلام في النظر في أمر المحبسين، وتبعهم في ذلك، والرافعي حكاهما وجهين عن رواية أبي الفرج السرخسي، وأن أصحهما: أنه ينفذه، وهو الذي عليه العمل، [وأن] ابن كج حكى مقابله عن نص؛ لأن التنفيذ إعانة على ما هو خطأ عنده. ومع هذا كله فعمَّا [أورد على] الشيخ- رحمه الله-[أجوبة، ذكر منها الأولين صاحب "التهذيب": أحدهما: حمل كلام الشيخ] على ما حكاه المحاملي وغيره؛ لأن نقض الشيء يكون حقيقة إذا نقض بجملته، وإذا نقض [بعضه] لم يمتنع إطلاق اسم النقض [عليه] بطريق المجاز، دليله: الحائط إذا نقض بعضه يصح أن يقال: نقض الحائط، وإذا كان كذلك فعدم إمضائه نقض لبعض الحكم؛ فصح هذا الإطلاق عليه. الثاني: حمل ما قاله الشيخ على بعض الصور التي يسوغ فيها الاجتهاد، لا [على] كلها، وهي: [ما] إذا حكم حاكم بشفعة الجوار، ثم رفع [الأمر] إلى حاكم شافعي-

فللشافعي في نقضه قولان؛ بناءً على أن شفعة الجوار هل تثبت عنده أم لا؟ والجديد: النقض؛ لأن الجديد عدم ثبوتها، والقديم: المنع؛ لأن في القديم أنها تثبت، حكاه الغزالي وغيره. وإذا حكم حاكم بانقطاع زوجية [امرأة] المفقود، ثم جاء حاكم آخر وخالف رأيه رأي الأول- ففي نقضه قولان: أحدهما: نعم؛ بناءً على الجديد. والثاني: لا؛ بناءً على القديم. لكن للمنازع أن يمنع هذا الجواب؛ لأن من نقض الحكم في الصورتين مستنده أن ذلك يخالف النص والقياس الجلي؛ فلم يتواردا على محل واحد، ثم- أيضاً- المراد: أن يجري القولان عند مخالفة رأيه، وعلى هذا التقدير لم يجريا مع المخالفة، بل من اعتقد الجواز لم ينقض، ومن منع الجواز نقض. الثالث- وهو ما خطر لي-: أن هذا السؤال إنما جاء من إعادة الضمير في [قول الشيخ]: "وافق رأيه أو خالفه"، إلى القاضي الذي ترافعا إليه؛ لأن محل دعوى ابن الصباغ وغيره الإجماع عند المخالفة على عدم النقض، وأنا أقول: عوده إلى القاضي المعزول [ممكن، ويكون تقدير الكلام: نظر في الحكم، فإن وافق رأيه، [أي:] رأي الحاكم المعزول] بأن كان حنفيّاً، وحكم بضمان خمر الذمي وقيمة الكلب المعلم- لم ينقضه، أي: الحاكم [المولَّى]؛ للإجماع، كما ذكرنا من قبل، وقد حكينا عند الكلام في [أمر] المحبسين اتفاق الأصحاب عليه، وإن خالفه، أي: خالف رأي الحاكم المنصرف، بأن كان شافعيّاً وحكم بذلك- ففيه قولان: أحدهما: ينقضه، وهو ما حكيناه عن الأصحاب من قبل؛ لأنه حكم بخلاف

مذهبه؛ فهو باطل. والثاني: لا ينقضه؛ لأن إقدامه على الحكم دليل على أنه نظر في دليله فرآه صواباً، وهو لو صرح بذلك لم ينقضه، وكذلك عند الإطلاق؛ لأن تصرف الحاكم محمول على الصحة ظاهراً؛ ألا ترى أنه إذا ولى شخصاً أمراً حكميّاً تتضمن تلك الولاية [استجماع] جميع الشرائط المعتبرة فيها، وإن لم يصرح بهذا. وهذا القول لم أره منقولاً هكذا، ولكنه الذي تقتضيه قواعدنا وتظهر صحته. ويمكن أن يكون أصل القولين: أن المجتهد في مذهب إمام إذا قلد القضاء ورأى [غير مذهبه] صواباً في واقعةٍ، هل له الحكم به أم لا؟ وفيه خلاف ذكرته عند الاستخلاف: فإن قلنا: إنه لا يجوز، نقضه؛ لأنه حكم بما لا يجوز؛ كما نقول بنقض قضاء القاضي بعلمه إذا قلنا: إن القضاء بالعلم لا يجوز. وإن قلنا: يجوز، لم ينقضه، و [يعضد هذا] أن الغزالي في "المستصفى" قال: إذا حكم مقلد بخلاف مذهب إمامه، هل ينقض؟ إن قضينا بأن المقلد لا يجوز له أن [يتبع أي مفت شاء]، بل عليه إتباع إمامه الذي هو أحق بالصواب في ظنه- فينبغي أن ينقض حكمه، وإن جوزنا ذلك فإذا وافق مذهب [ذي مذهب]، وقع الحكم في محل الاجتهاد؛ [فلا ينقض]، والله أعلم. أما إذا لم يتظلم في حكم من قبله، فهل له أن ينظر في أحكامه؟ فيه وجهان في "الحاوي": أحدهما- وهو قول الشيخ أبي حامد-: أنه يجوز وإن لم يجب عليه ذلك إلا بعد الرفع؛ لما فيه من [فضل] الاحتياط. والثاني- وهو قول جمهور البصريين-: أنه لا يجوز له [أن] يتتبعها من

غير متظلم؛ لأنه تتبع [يقتضي] قدحاً في الولاية، فيتوجه عليه مثله. ثم إذا تتبع أحكام من قبله فإن كان فيها ما يتعلق به حق الله- تعالى- مثل: الطلاق والعتاق وغيرهما، قال القاضي أبو الطيب: فسخه إن وجده مخالفاً لما لا يجوز مخالفته، وإن لم يتعلق به حق الله- تعالى- لم يفسخه، ولم يتعرض له؛ لأن له مستحقّاً معيناً. نعم، [هل] على القاضي تعريف الخصمين صورة الحال؛ ليترافعا إليه فينقض الحكم؟ حكى القاضي ابن كج [عن ابن سريج]: أنه لا يجب إذا عرفا أنه بان الخطأ، وعن سائر الأصحاب أنه يجب وإن علما أنه بان الخطأ؛ لأنهما [قد] يتوهمان أنه لا ينقض الحكم، وبتعريفهما يرتفع التوهم. فرع- نختم به الباب، حكاه الإمام قبيل باب الامتناع من اليمين-: إذا نكح رجل امرأة، ثم استفتيا [مفتيا، فأفتى بفساد النكاح، والمسألة مجتهد فيها- فهل تبين المرأة عن الرجل] بالفتوى؟ ذكر صاحب "التقريب" في تضاعيف كلامه وجهين فيه: أحدهما: لا، وإن وقع الرضا بالفتوى، وإنما ينقطع النكاح بقضاء القاضي. والثاني: نعم؛ فإن إتباع الفتوى حتم على المكلف. وذكر وجهاً ثالثاً مفصلاً، [فقال]: إن صحح النكاح قاض فالفتوى لا ترفعه، وإن لم يتصل تصحيحه بقضاء قاض [فالفتوى ترفعه]. وقال الماوردي عند الكلام في أن الحكم إذا وقع ينفذ ظاهراً وباطناً أم لا؟ قال: إن المناكح المختلف فيها- كالنكاح بلا ولي ونحوه- للزوج فيها حالتان: إحداهما: في عقده، والأخرى في حله. فأما حال العقد: فإن كانا من أهل الاجتهاد [جاز] لهما أن ينفردا بالعقد

باجتهادهما من غير [حكم] حاكم واستفتاء [مجتهد، وإن كانا من غير أهل الاجتهاد؛ ففي جواز انفرادهما بالعقد من غير اجتهاد حاكم واستفتاء] مجتهد وجهان: أحدهما: يجوز ما لم يمنعهما ذو حكم؛ لما في الاجتهاد من إباحته. والثاني: لا يجوز ما لم يأذن لهما [فيه] ذو حكم؛ لما في الاجتهاد من خطره. وأما حال الرفع والحل: فإن اختلف الزوجان [فيه فلا يرتفع ولا ينحل] إلا بحكم حاكم، وإن اتفقا عليه من غير طلاق: فإن كانا من غير أهل الاجتهاد فلا يرتفع [بأنفسهما، ونظر]: فإن كان زوَّجهما حاكم- لم يرتفع إلا بحكم حاكم؛ لتجاوزه على من يعقد النكاح من بعده، وإن كان الزوجان من أهل الاجتهاد؛ ففيما يرتفع به العقد وجهان: أحدهما: يرتفع باجتهادهما؛ اعتباراً بعقده. والثاني- وهو قول ابن سريج-: لا يرتفع إلا بحكم حاكم؛ لتجاوزهما إلى من يعقد النكاح من بعده. فرع آخر: إذا تقدم للقاضي خصمان، وقالا: إن بيننا خصومة في كذا، وقد فصلها القاضي فلان بيننا وحكم بكذا، ولكنا نريد أن نستأنف الحكم بيننا باجتهادك، ونرضى بحكمك واجتهادك [فيه]- فعن ابن كج فيه حكاية وجهين، أشبههما في "الرافعي": الثاني. والله أعلم.

باب صفة القضاء

باب صفة القضاء [قال]: إذا جلس بين يدي القاضي خصمان، فله أن يقول لهما: تكلما؛ لأنهما ربما هاباه في الابتداء بالكلام، وهذا نصه، ومعناه: ليتكلم المدعي منكما، وإلا فكلامهما معاً ممنوع منه. قال في الحاوي: وإذا كان سكوتهما للتأهب للكلام، أو لهيبة حصرتهما عن الكلام، أمسك عنهما حتى يتحرر للمتكلم ما يذكرهُ، وتسكن نفوسهما، والأولى أن يكون القائل لهما: "تكلما" القائم على رأس القاضي، أو بين يديه. وله أن يسكت حتى يبتدئا؛ لأنهما حضرا للكلام، كذا نص عليه أيضاً، ولا يقول لأحدهما: تكلم؛ لأنه إذا أفرده بالخطاب كسر قلب الآخر. كذا ذكره القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، وحكى الرافعي وابن شداد: أنه إذا علم المدعي منهما فله أن يقول له: تكلم. قال الماوردي: والأولى في آداب الخصمين إذا جلسا للتحاكم أن يستأذنا القاضي في الكلام. وما ذكره الشيخ متبعاً فيه للنص من السكوت عنهما إلى أن يتكلما، محمول على ما إذا توقع منهما ما ذكرناه، أما إذا كان لغير سبب لم يتركهما على تطاول الإمساك، بل يقول لهما: ما خطبكما؟ وفي "أدب القضاء" لابن أبي الدم أنه قيل: يسكت ولا يقول شيئاً، فإن ادعى واحد منهما، وإلا أقيما من مكانهما. قال: فإن ادعى كل واحد منهما على الآخر حقّاً قدم السابق منهما بالدعوى؛ لسبقه، ويمنع الآخر من الكلام؛ لأن ذلك يفسد نظام الدعوى، ويمنع كل [واحد] [منهما] من أن ينال عرضه أو يحيف عليه، والقاضي جلس للعدل. قال: فإذا انقضت خصومته سمع دعوى الآخر، [أي:] إذا لم يعارضها سبق غيره كما ذكرنا من قبل؛ لأنه حينئذ لا مانع منها. ولو لم يسبق أحدهما، بل

تكلما معاً فالذي حكاه الإمام عن العراقيين، وبه جزم في "الوسيط": الإقراع، وهو المحكي في "الشامل" عن الشيخ أبي حامد. وحكى الماوردي معه وجهاً آخر: أنه يصرفهما حتى يتفقا [على] من الطالب منهما. والذي حكاه ابن شداد: أنه يسأل: من العون؟ فمن قال: إنه أحضره، فهو المدعى عليه، وإن كانا قد حضرا بأنفسهما أقرع [بينهما]. قال: فإن قطع أحدهما [الكلام] على صاحبه، أي: في الدعوى، أو ظهر منه لدد، أي: التواء في الخصومة؛ مثل أن قال: استحلف خصمي، فلما شرع في استخلافه، قال: اقطع حتى أقيم البينة، ولم يكن له بينة، أو قال لما أراد الحاكم أن يحكم: لي بينة أقيمها، ثم عاد ورفعه ثانياً ولم يقم بينة، وما أشبه ذلك مما يعلم منه أنه قصد [به] الإضرار والعنت، أو سوء أدب؛ أي: [مثل أن] عرض للحاكم بأنك ظلمتني، أو: حكمت علي بغير حق، كما قاله البندنيجي. قال: نهاه؛ ليرجع إلى الحق، وصورته، أن يقول: ذلك لا يجوز فلا تبتذل الناس. قال: فإن عاد زبره، أي: أغلظ له في الكلام، بأن يصيح عليه، أو يتوعده؛ ليقف عند الحد. قال: فإن عاد، عزره [؛ أي:] إذا رآه؛ لينكف عن مخالفة الشرع. واللدد- بفتح اللام، كما قاله ابن الصباغ-: ترك الطريق المستقيم؛ ولهذا يسمى الوجور في أحد الشدقين: لدودا، لأنه يميل، ويقال: خصم ألد، وقال النواوي: [إن] أصله: لديدا الوادي، وهما ناحيتاه. قال: فإن ادعى دعوى غير صحيحة لم يسمعها، أي: لم يرتب عليها أمراً من

سؤال الخصم وما بعده؛ لعدم استحقاق ذلك. قال الأصحاب: ويقول له: صحح دعواك، وقد تقدم الكلام في تلقين الدعوى والاستفسار. قال: وإن ادعى دعوى صحيحة، [أي]: وهي الموصوفة بما سنذكره في باب الدعاوى- إن شاء الله تعالى- قال للآخر: ما تقول فيما ادعاه عليك؟ أي: وإن لم يطالبه المدعي بذلك؛ لأن به تنفصل [الدعوى و] الخصومة؛ فلا معنى للتطويل، ويقوم مقام ذلك قوله: اخرج عن دعواه وشبهه. وقيل: لا يقول حتى يطالبه المدعي، أي مثل أن يقول: وأنا أسأل سؤاله أو مطالبته بالجواب؛ لأنه حق له، فلا يطالب به خصمه إلا بعد مسألته؛ كما نقول في اليمين: إذا توجهت عليه لا نحلفه إلا بعد مسألة المدعي، وهذا أصح عند القاضي أبي سعد. قال: وليس بشيء؛ لأن الدعوى تتضمن مسألة الجواب؛ لأنه إنما يدعي عليه حتى يسمع جوابه، والدعوى من غير استدعاء جواب هذيان من المدعي، وتفارق اليمين؛ فإن الدعوى لا تتضمن الاستحلاف، وقد قال في "الإشراف": إن أصل الوجهين الخلاف المذكور فيما إذا جلس بين يدي الحلاق، فحلق رأسه، فهل يستحق الأجرة؟ وأصله مسألة المعاطاة في البيع. قال الماوردي في باب ما على القاضي في الخصوم: وعلى الوجهين يخرج ما إذا حم بالبينة قبل السؤال، فإن قلنا بالأول نفذ حكمه، وإن قلنا بالثاني، [فلا]. قال: فإن أقر [أي:] بعد سؤال القاضي بالطلب أو بدونه على أصح الوجهين في "تعليق" أبي الطيب و"الشامل" و"النهاية" وغيرها.

قال: لم يحكم عليه حتى يطالبه المدعي؛ لأن الحكم حقه؛ فتوقف على إذنه. قال الماوردي: فيقول القاضي للمدعي: قد أقر لك بما ادعيت، فماذا تريد [منه]؟ ولا يقول له: قد سمعت إقراره؛ لأن قوله: قد أقر، حكم بصحة الإقرار، وليس قوله: قد سمعت الإقرار، حكماً بصحة الإقرار، وقيل: الحكم: ليس للمقر له ملازمة المقر، صرح به الماوردي. قلت: ويجيء وجه أنه لو حكم قبل السؤال في هذه الحالة ينفذ كما قلنا بمثله فيما إذا حكم قبل السؤال وقد قامت البينة، ويعضده: أن الرافعي في كتاب القاضي إلى القاضي، حكى عن "العدة" أنه لا يجوز الحكم على المدعى عليه، إلا بعد سؤال المدعي على أصح الوجهين، ولم يخص ذلك بما إذا كان الحق قد ثبت بالبينة، أما إذا أقر قبل سؤال القاضي أو بعده، وقد صدر بدون إذن المدعي، واعتبرنا إذنه في صحة السؤال- قال في "الحاوي": فإقراره يؤخذ به، لكن في حكم القاضي به الخلاف المذكور في القضاء بالعلم: فإن أجزناه أمسك عن سؤاله؛ لاعترافه بالمراد منه، وإن منعناه صار شاهداً فيه، ولم يجز أن يحكم به إلا أن يعود بعد سؤاله، ويكون وجوب السؤال باقياً، ولو كان المدعي قد تفرد بسؤال المدعى عليه بعد الدعوى دون القاضي، فالخصم لا يلزمه الجواب، لكن هل يقوم بسؤاله مقام سؤال القاضي؟ فيه وجهان ينبنيان على أن للقاضي التفرد بالسؤال من غير طلب أم لا؟ فإن قلنا بالأول لم يقم مقامه، ويكون الحكم كما لو أقر قبل السؤال، وإن قلنا بالثاني قام مقامه، وكان كما لو أقر بعد سؤال القاضي المعتد به. تنبيه: في قول الشيخ لم يحكم .. إلى آخره، ما يعرفك أن الحق قد ثبت ولزم بالإقرار؛ لأن الحكم لا يكون إلا بعد ذلك، وقد صرح به الماوردي والبندنيجي والقاضي الحسين؛ حيث قالوا: [إنه] لو أقر بالحق فقد لزمه، ولكن الحاكم لا يحكم بذلك إلا بعد أن يطالبه المدعي [بذلك]، وهذا بخلاف ما إذا قامت البينة؛ فإن الحق لا يثبت بمجرد الإقامة؛ لأن وراء التعديل وقفات وتوقع ريب؛

فلا بد من قطعها بإظهار القضاء. وحكى الإمام عن بعض الأصحاب أن الإقرار كالبينة المعدلة، [ثم] قال: وليس بشيء؛ لما ذكرنا. وقد يفهم من لفظ ابن يونس حكاية الخلاف على غير هذا النحو، والرافعي لما حكى الخلاف كما ذكرناه قال: والطبع لا يكاد يقبل الخلاف فيه؛ لأنه إن كان الكلام في ثبوت الحق المدعي في نفسه، فمعلوم أنه لا يتوقف على الإقرار، فكيف على الحكم بعد الإقرار؟ [وإن كان [المراد] المطالبة والإلزام، فلا خلاف في أن للمدعي الطلب بعد الإقرار]، وللقاضي الإلزام، وإن نظر ناظر إلى وجه ذكرناه في الإقرار: أن الإقرار الطلق لا يكفي للمؤاخذة، بل يسأل المقر عن سبب المال الثابت، فقال: إذا كان الإقرار المطلق مختلفاً فيه كان في محل النظر والاجتهاد، فاعتبر قضاء القاضي على رأي- فهذا شيء لا يختص بالإقرار بعد الدعوى في مجلس القاضي؛ بل ينبغي أن يطرد في محل الإقرار. [قال: وإن أنكر فله أن يقول: "ألك بينة؟ "؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً مِنْ حَضْرَمَوْتَ حَاكَمَ رَجُلاً مِنْ كِنْدَةَ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَرْضٍ، فَقَالَ لِلْحَضْرَمِيِّ: "أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: "فَيَمِينُهُ"]. قال: وله أن يسكت؛ تحرزاً من اعتقاد ميل إلى المدعي، وهذا ما حكاه الماوردي في أوائل باب ما على القاضي في الخصوم، عن بعض الأصحاب، وحكى عن بعضهم أنه اختار أن يقول للطالب: قد أنكرك ما ادعيته فماذا تريد؟ وقال بعد ذلك: إنه مخير: إن شاء قال: قد أنكرك فهل لك بينة؟ وإن شاء قال: قد أنكرك فما عندك فيه؟

قال: والأولى الأول مع من جهل، والثاني: [أولى] مع من علم. وفي كتب المراوزة حكاية وجه أنه لا يقول ذلك؛ [لأنه] كالتلقين لإظهار حجته. وفي "ابن يونس" أن موضع السكوت إذا كان المدعي يعلم أن ذلك موضع إقامة البينة، أما إذا كان لا يعلم ذلك فإنه يقول: ألك بينة؟ وهذا ما أفهم كلامه في "المهذب": أنه على وجه الوجوب. [قال: فإن قال: ما لي بينة، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه إذا لم تكن الدعوى في دم، كما قيده الشافعي- رضي الله عنه- لقوله صلى الله عليه وسلم: "البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِيْنُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ". قال ابن الصباغ وغيره: ويسأل الحاكم المدعي: هل يختار إحلافه أم لا؟]. قال: ولا يحلفه حتى يطالبه المدعي؛ لأن استيفاء اليمين حق له فتوقف على إذنه كالدين، ولو حلفه قبل الطلب لم يعتد بها. وفي "البحر": أن بعض أصحابنا بخراسان قال: [إنه] يعتد به، وهو غلط. وكأنه يشير إلى ما حكي عن الشاشي؛ فإن القاضي الحسين حكى أن الشاشي قال: المذهب: أن للقاضي أن يحلفه قبل طلب اليمين. وفي "الإشراف" نسبة هذا المذهب إلى الشاشي نفسه، وحكاه أبو الفرج الزاز وجهاً، ووجهه بأن للمدعى عليه غرضاً في اليمين وهو سقوط المطالبة والملازمة، وادعى أنه أصح. قال القاضي الحسين: والذي قاله أكثر أصحابنا الأول [، ولم يورد سواه في باب ما على القاضي في الخصوم]. وعلى هذا قال الإمام في باب امتناع اليمين: وحق [على] القاضي أن يقول للمدعي: أحلف خصمك إن أردت، وإلا فاقطع طلبتك [عنه] وارتك رفعه إلى مجلس الحكم.

[ثم] كما لا يعتد باستحلاف القاضي قبل الطلب لا يعتد [باليمين أيضاً] بعد الطلب وقبل إحلاف القاضي كما صرح به القاضي الحسين. وفي "الحاوي": أنه هل يجوز للقاضي أن يعرض عليه اليمين قبل مسألة المدعي إذا لم يعتد باليمين قبل الطلب؟ فيه وجهان: أحدهما- عن ابن سريج-: أنه يجوز؛ ليعلم إقدامه عليها فيعظه [أو يحذره]، وقال في باب موضع اليمين: لو فوض الحاكم إلى الحالف اليمين، فاستوفاها على نفسه- كان الحاكم مقصراً، وهل يجوز؟ فيه وجهان محتملان: أحدهما: يحتسب بها؛ لأنها باجتهاد الحاكم وعن أمره. والثاني: لا؛ لأنها تصير محمولة على نية الحالف، وهي مستحقة على نية المستحلف؛ فكانت غير مستحقة. فرع: لو قال المدعي للمدعى عليه: قد أبرأتك عن اليمين؛ سقط حقه من اليمين في هذه الدعوى، وله استئناف الدعوى وتحليفه، ذكره في "التهذيب" و"المهذب"، ويظهر أن ذلك مبني على مذهب العراقيين الذي سنذكره. أما إذا قلنا بمذهب المراوزة فيظهر ألا تسوغ الدعوى عليه ثانياً. قال: وإن نكل [المدعى عليه] عن اليمين، أي: بأن قال بعد قول القاضي له قل: بالله، [أو: احلف بالله]-: لا أحلف، أو: أنا ناكل، [وهو عارف بمعنى النكول]- رد اليمين على المدعي؛ أي: إذا كان الحق له؛ لأن عمر- رضي الله عنه- بدأ باليمين على المدعى عليهم، ولما لم يحلفوا ردها على المدعين، وقد رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ اليَمِيْنَ عَلَى طَالِبِ الحَقِّ، وسنذكر في باب اليمين في الدعاوى ما يقوي ذلك.

قال الغزالي: ولا يحتاج في هذه الحالة إلى قضاء القاضي بالنكول حتى لو قال المدعى عليه بعد قوله: لا أحلف، أو: أنا ناكل-: أنا أحلف، لم يجد إليه سبيلاً. وهذا أبداه الإمام في كتاب الدعاوى احتمالاً لنفسه، وحكاه في كتاب الإقرار عن رواية شيخه عن بعض الأصحاب، ولم يحك الرافعي عن رواية الإمام سواه، وقال: إن غيره وافقه فيه، والذي صدر به الإمام كلامه في كتاب الإقرار أنه [قال]: لو أراد بعد قوله: نكلت عن اليمين، أو: لست أحلف- الحلف؛ كان له ذلك ما لم يجرِ القضاء بالنكول. وقد حكى الرافعي مثله عن البغوي فيما إذا قال له القاضي: احلف بالله، فقال: لا أحلف. وقد اتفق الكل على الاحتياج إلى القضاء بالنكول عند عرض اليمين عليه فلم يحلف ولم يلفظ بأنه ناكل أو ممتنع. قال الإمام: ولا يجوز له في هذه الحالة أن يقضي بالنكول ما [لم] يظهر له ذلك منه، حتى لو جوز أن يكون امتناعه عن دهش، أو كان يقدر أنه [لا] يفهم عَرْض اليمين؛ لغباوة وعدم إلف بمراسم الخصومات- فليس له [أن] يقضي بالنكول. ويقوم مقام حكم الحاكم- إذا احتجنا إليه، كما ذكرنا- قول القاضي للمدعي: [احلف، أو]: أتحلف؟ [وقال في "البحر": عندي أن قول القاضي للمدعي: أتحلف]؟ لا يمنع المدعى عليه من الحلف، وأنه الأظهر. [و [هو] ما حكاه الإمام عن القاضي الحسين، ورأيته في "تعليقه"، ووجهه بأنه لم يأمره باليمين، بل استشاره فيها مستفهماً].

وهل يقوم إقبال القاضي على المدعي ليقول له: احلف، مقام الحكم، حتى لو أراد المدعى عليه أن يحلف بعد ذلك لم يجد إليه سبيلاً؟ فيه وجهان عن القاضي الحسين، والذي قطع به جوابه في الكرة الثانية: المنع من العود إلى اليمين. وفي "الحاوي": أنه لو امتنع عن اليمين، أو قال: قد نكلت عنها، [أو: لست] أحلف- حكاية وجهين: أحدهما: لا ترد اليمين على المدعي إلا بعد أن يقول للمنكر: قد حكمت عليك بالنكول؛ [لما فيه من الاجتهاد، فإن ردها عليه قبل حكمه لم يصح. والثاني: يجوز أن يردها على المدعي وإن لم يقل: حكمت عليك بالنكول]؛ لأن ردها [عليه] حكم بالنكول. قال الأصحاب: ويستحب للحاكم تكرار عرض اليمين على المدعى عليه ثلاثاً قبل القضاء عليه بالنكول. قال الرافعي والبغوي: واستحبابه في حالة السكوت أكثر من استحبابه فيما إذا صرح بالنكول. قال الإمام: فلو لم يكرر العرض [عليه] عند السكوت، وقضى عليه [بالنكول]- نفذ إذا ظهر له من العرضة الأولى. وفي "الحاوي": أن أصحابنا اختلفوا فيما يستقر به نكوله على وجهين: أحدهما: يستقر بإعلامه ولو مرة واحدة. [والثاني]- وهو قول أهل العراق-: [أنه لا يستقر حتى يعرض عليه ثلاثاً]. أما إذا كان المدعى عليه لا يعرف معنى النكول بأن كان عاميّاً، قال القاضي الحسين: فيجب على القاضي أن يعلمه بأنك إن نكلت تعرض اليمين على المدعي،

ويحلف ويستحق عليك الدعوى. ويقرب منه قول الماوردي أنه إذا لم يعرف حكم النكول وجب على القاضي أن يعلمه، وأنه يوجب رد اليمين على المدعي ليحكم له بيمينه. ولو اشتبه أمره على القاضي، قال القاضي الحسين: فهو كما لو كان عارفاً بحكم النكول؛ فلا يجب ذكره [له]، بل يستحب. ثم حيث قلنا: يجب الإعلام بحكم القاضي بالنكول، ولم يعلمه- قال الإمام: فهذا فيه احتمال ظاهر، والأوجه: أن قضاءه بالنكول ينفذ. وقد أقام الغزالي هذا الاحتمال وجهين. واعلم أن قول القاضي للمدعى [عليه]: احلف بالله، ليس أمراً جازماً، كما قال الإمام، ولكنه إبانة وقت الحلف واليمين المعتد بها إن أرادها المدعى عليه. فرع: لو لم ينكل المدعى عليه عن اليمين، لكن قال بعد الإنكار وعرض اليمين عليه: قد حلفني مرة على هذا الحق- نظر: فإن ادعى أن هذا القاضي هو الذي حلفه، قال القاضي الحسين: فإن تذكر أنه حلفه لم يحلفه مرة ثانية، وإن لم يتذكر لم يلتفت إلى دعوى المدعى عليه؛ لأن إقامة البينة على ذلك غير ممكنة كما صرح به غيره. وعن ابن القاص- كما حكاه أبو سعد الهروي-: أنه يجوز سماع البينة على أنه حلفه، ورأيت في "الإشراف" أن ابن القاص عزاه إلى النص، قال الرافعي: وحقه الطرد في كل باب. قلت: وقد طرده، كما سنذكره عنه. ولو لم تقم بينة، ورام تحليفه- جزم في "البحر" بأن له ذلك. وإن ادعى أن الذي حلفه غير هذا القاضي، ففي السماع وجهان لأبي سعيد الإصطخري، وهما في "الوسيط" وغيره، مأخوذان من أن الدعومى بما ليس عين

الحق ولكنه ينفع في الحق هل تسمع أم لا؟ وفيها خلاف سنذكره، والذي قطع به القاضي الحسين منهما في الكرة الثانية، وبه أجاب في "التهذيب": السماع ها هنا؛ فعلى هذا: إن حلف: إنه ما حلفه، فذاك، وإن نكل حلف هو وتخلص عن الخصومة، وله في هذه الصورة إقامة البينة. ولو قال المدعي: قد حلفني على ذلك، فحلفه: إنه ما حلفني إني ما حلفته- لم يسمع؛ للتسلسل، وكون المدعي أحق بالحلف؛ لأنه الطالب، كذا حكاه الغزالي وغيره، وفي "البحر" نسبة ذلك إلى تخريج ابن القاص، على أن الرافعي حكى عن ابن القاص أنه قال بعدم سماع [دعوى] المدعى عليه أنه حلفه. قال: فإن حلف استحق؛ لأنه فائدة الرد. وحكى في "الإشراف" وجهاً آخر أن الحق لا يجب إلا بحكم الحاكم، وأشار إلى بناء الوجهين على أن يمين الرد كإقرار الخصم أو كالبينة المقامة عليه؛ وفيها قولان مشهوران، وقال الإمام: إنهما مستنبطان من كلام الشافعين رضي الله عنه. قال القاضي الحسين: فكأنا على قولٍ نغلب جانب المدعى [عليه، وننزل النكول من جهته منزلة الإقرار، وعلى قولٍ نغلب جانب المدعي] وننزل ما يأتي به منزلة بينة يقيمها، والصحيح من القولين في "المهذب" في كتاب النكاح وغيره، وفي "الرافعي" وغيرهما، وهو المنصوص في "المختصر"-: أنها كالإقرار؛ لأن النكول صادر من جهة المدعى عليه واليمين مترتبة عليه. وعلى ذلك ينطبق قول ابن الصباغ في باب دعوى الدم: إن قولنا: إنها كالبينة، قول ضعيف. [واستدل على ضعفه في باب] النكول ورد اليمين بأن القاذف لو ادعى على المقذوف أنه زنى؛ فنكل، وحلف هو- سقط عنه الحد، ولا يجب على المقذوف حد الزنى، وكذا لو ادعى على شخص سرقة نصاب، فنكل، وحلف هو- وجب المال دون القطع، ولو كان كالبينة لوجب الحد في الصورتين؛ فدل على أنه

كالإقرار، ويجعل إنكاره رجوعاً عنه. وما قاله من عدم إيجاب الحد والقطع هو المذكور [في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الحاوي" وغيرهما في الباب المذكور]. لكن في "النهاية" في كتاب السرقة حكاية عن الأصحاب: أن القطع يجب باليمين المردودة؛ لأنا إن جعلناها كالإقرار، فالقطع يثبت به، وإن جعلناها كالبينة، فهي كبينة كاملة؛ بدليل أن القصاص يثبت بها، ثم قال: وقد يخطر للناظر في هذا أدنى إشكال؛ لأن اليمين لا تتعلق إلا بالمال [فقط]، والقطع لله- سبحانه- ولو قال رجل: استكره فلان جاريتي وزنى بها، فأنكر المدعى عليه، وأفضت الخصومة إلى [يمين الرد]- فالمهر يثبت بها، ويبعد أن يثبت حد الزنى؛ فإذن [يجب] ترديد الرأي في ثبوت حد السرقة لما أشرنا إليه، ويجب القطع بأن حد الزنى لا يثبت، وما قاله العراقيون أظهر، لكن قد يعضد القول بأن النكول مع اليمين كالبينة بنص الشافعي- رضي الله عنه- في "الأم"؛ حيث قال- كما حكاه في "البحر" وغيره في كتاب الدعاوى-: لو تعلق رجل برجل، فقال: أنت عبدي، فقال: بل أنا حر الأصل- فالقول قوله، واصل الناس على الحرية حتى تقوم بينة أو يقر برق، ويُكلف المدعي البينة: فإن جاء بها كان العبد رقيقاً [له]، وإن لم يأت بالبينة أحلف له العبد: فإن حلف كان حرّاً، وإن نكل لم يلزمه الرق حتى يحلف المدعي على رقه، فيكون رقيقاً له، وهكذا الأمة مثل العبد سواء. قلت: فلو كان النكول مع اليمين كالإقرار لم يثبت رقه؛ لأن الإقرار بالرق بعد الاعتراف بالحرية غير مقبول على الأصح، والله أعلم. وقد بنى القاضي الحسين على القولين ما إذا أراد المدعى عليه إقامة بينة على الإبراء وأداء المال بعد حلف المدعي، فإن جعلناها كالبينة سمعت بينة المدعى عليه، وإن جعلناها كالإقرار فلا تسمع؛ كما لو أقر صرحياً، ثم أقام شاهدين. وهذا البناء مذكور في "الرافعي"- أيضاً- وبنى في "المهذب" عليها ما إذا ادعى [رجل] على

المفلس بعد الحجر مالا، وأنكره ولم يحلف وحلف المدعي، فقال: إن قلنا: إن يمين الرد كالبينة، شارك الغرماء في المال، وإن قلنا: إنها كالإقرار، فعلى القولين في الإقرار، وكذا بني عليهما ما إذا ادعى إتيان زوجته امرأة، وقد تقدم، وللقولين فوائد مذكورة في الأبواب. فرع: إذا شرع المدعي في اليمين، فقال المدعى عليه للقاضي: لا تحلفه، فأنا أعطي المدعى به إليه- قال القاضي الحسين في كتاب الدعاوى في موضعين منه: إن له أن يكمل اليمين حتى يأخذه على وجه الاستحقاق، لا على وجه التبرع. قال: وإن نكل صرفهما؛ لأن الحق لا يثبت إلا بالإقرار أو ببينة، وليس النكول واحداً منهما، ولا معنى لمقامهما. و [قد] حكى القاضي أبو الطيب وغيره أن الشافعي- رضي الله عنه- قال في هذه الصورة: يسأل المدعي عن إبانة، فإن قال: امتنعت لحساب بيني وبينه أريد أن أراجعه، أو: أريد أن أستفتي الفقهاء هل يجوز [لي] أن أحلف أم لا؟ أجله الحاكم ثلاثاً لا يزيد عليها، وهذا بخلاف ما إذا امتنع المدعى عليه من اليمين، لا يسأل عن سبب امتناعه؛ لأنه إذا امتنع من اليمين ظهرت هناك يمين أخرى من جهة المدعي، توجب الحكم بها، فلو سألناه عن سبب امتناعه عن اليمين لم يعقب الحكم لنكوله؛ ولأن هناك ما يرجع إليه ويحكم به، وهو يمين المدعي، وليس كذلك امتناع المدعي عن اليمين. قلت: وقضية هذا الفرق ألا يشرع عند نكول المدعى عليه تكرار العرض عليه، وقد حُكي [عن] ابن القاص أنه قال: قياس ما ذكره الشافعي في امتناع المدعي: [أن يسأل المدعى] عليه عن سبب الامتناع أيضاً. وفي "أدب القضاء" للزبيلي أن ابن سريج قال: الاحتياط- أيضاً- أن يقال ذلك للمدعى عليه إذا نكل. وقد حكى الإمام في كتاب الإقرار أن المدعي لو سكت، وقال: سأفكر وأراجع حسابي- أن بعض الأصحاب قال: يفصل القاضي الخصومة، ويكون امتناعه كامتناع

المدعى عليه، ويقول للمدعي: استمهالك بعد الخوض بالاختيار لا معنى له، وإذا كنت لا أعذر المدعى عليه في استمهاله، فأنت أولى بذلك من جهة أن المدعى عليه مرفوع [إلى] مجلس القاضي قهراً، وأنت تحضره مختاراً، فهلا كان فكرك قبل الحضور؟ وهذا متجه حسن، والذي عليه عامة الأصحاب المنع من الإلحاق؛ لما ذكرناه. وفي "المهذب": أنه لا يسأل المدعى عليه عند الامتناع، لكنه لو ابتدأ فقال: امتنعت لأنظر في الحساب؛ أُمهل ثلاثة أيام، [وقد حكاه في "التهذيب" وجهاً. وفي "الحاوي" في باب الامتناع عن اليمين: أن المدعى عليه لا يسأل عن سبب النكول إلا أن يبتدئ فيقول: أنا متوقف عن اليمين؛ لأنظر في حسابي، فينظر ما قل من الزمان، ولا يبلغ إنظاره ثلاثة أيام]. أما إذا [كان] الحق لصبي أو مجنون أو سفيه، بأن كان المدعي وليّاً أو وصيّاً أو قيماً، فهل له أن يحلف؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها القاضي الحسين والبغوي في باب الامتناع عن اليمين، والإمام في كتاب الصداق، ثالثها: إن باشر سبب ذلك بنفسه [فله الحلف]، وإلا فلا. قال الرافعي: وهذا ما رجحه أبو الحسن العبادي، وبه أجاب السرخسي في "الأمالي"، وهي تجري فيما إذا أقام شاهداً وأراد أن يحلف معه، صرح بذلك البغوي والرافعي. وإذا قلنا: لا يحلف، وهو الذي ذكره العراقيون وصاحب "الحاوي" في باب النكول ورد اليمين- قال القاضي والبغوي: فتوقف اليمين حتى يبلغ [الصبي]، والسفيه يحلف: إنه يستحق عليه تسليم المال، ولا يقول: إليّ، ولا: إلى قيِّمي. قال القاضي: وفي حال وقف اليمين إلى البلوغ ينزع المدعي به من يد المدعى عليه إن كان عيناً، وإن كان في الذمة؛ فوجهان في نزعه.

والحكم في قيم المسجد والوقف، كالحكم في قيم الصبي، [وسنذكره في باب اليمين في الدعاوى بزيادة ذكرت ثم]. قال: وإن قال المدعى عليه بعد النكول، أي: وما في معناه كما ذكرناه: أنا أحلف- لم يسمع؛ لأنه أسقط حقه [منها] بالنكول. وفي "التهذيب" حكاية وجه آخر صدر به كلامه: أن له أن يحلف بعد النكول ما لم يعرض القاضي اليمين على المدعي أو يحكم بالنكول، وقال فيما إذا هرب المدعى عليه قبل ذلك وبعد النكول: لم يكن للمدعى عليه الحلف إذا عاد. وقد حكاه الرافعي عن غيره، ثم قال: وقضية ذلك التسوية بين التصريح بالنكول و [بين] السكوت؛ حتى لا يمنع من العود إلى اليمين في الحالين إلا بعد الحكم بأنه ناكل، أو بعد عرض اليمين على المدعي. قلت: وهو قضية ما حكيته عن الماوردي من قبل، وقد صرح به الإمام في كتاب الإقرار، [ولم يحك سواه]. قال الرافعي: وقد يفهم من قول من قال: إنه لا حاجة عند التصريح بالنكول إلى حكم الحاكم- امتناع العود إلى الحلف عند التصريح بالنكول، و [إن] لم يوجد حكم بالنكول ولا عرض يمين. ثم حيث منعنا المدعى عليه من العود إلى اليمين؛ فذاك إذا لم يرض المدعي بيمينه، فلو رضي فوجهان، أظهرهما في "النهاية" و"الرافعي": الجواز، وهو ما ادعى الإمام في كتاب الإقرار أنه قول الأصحاب عن آخرهم. وعلى هذا: فعن "الرقم"- وهو في "تعليق" القاضي الحسين [أيضاً-: أنه] لو لم يحلف المدعى عليه لم يكن للمدعي أن يعود إلى يمين الرد؛ لأنه أبطل حقه [حيث رضي] بيمين المدعى عليه.

قال: وإن قال المدعي بعد النكول: أنا أحلف، لم يسمع؛ لما بيناه، إلا أن [يعود] في مجلس آخر ويدعي، وينكل المدعى عليه؛ لتجدد الحق بتجدد الدعوى؛ فإن النكول الثاني سبب لرد اليمين كالنكول الأول، وهذا ما حكاه البندنيجي وابن الصباغ وكذا الماوردي في باب الامتناع عن اليمين، لكنهم لم يشترطوا العود في مجلس آخر، وصاحب "البحر" والقاضي أبو سعد الهروي قالا: ما ذكره الشيخ هنا وفي "المهذب" وحكاه أيضاً الرافعي عن المحاملي في "التجريد"، وفي "الحاوي" في باب ما على القاضي في الخصوم: أن أظهر الوجهين: أنه لا يحكم على المدعي بالنكول، والثاني: يحكم عليه، وهو قول الإصطخري. والذي حكاه المراوزة: أنه إذا نكل عن اليمين [كان كحِلف] المدعى عليه، أي: فلا يتمكن من الدعوى عليه بذلك مرة أخرى؛ كما صرح به البغوي والإمام، وهو الذي يقتضيه كلام القاضي أبي الطيب؛ حيث قال في "تعليقه": فإذا امتنع المدعي من اليمين سقط حقه، ويفرق الحاكم بينهما، ولا يكون له مطالبته بشيء من ذلك. وفي "النهاية" في كتاب القسامة بعد ستة أوراق منه حكاية خلاف في أن المدعي إذا أظهر النكول عن يمين الرد، ثم رغب فيها، هل يحلفه أم لا؟ وقال: إن الضابط الذي تمس الحاجة إليه: أن كل نكول يتعلق به حق حالف بعد النكول، فذاك النكول إذا ظهر فلا عود من الناكل، وكل يمين لا يمين بعدها، فالنكول عنها هل يبطل حق الناكل؟ فيه خلاف، ونكوله يتحقق بأن يقول بعد عرض اليمين عليه: لا أحلف، [أو: أنا] ناكل، أما إذا سكت فلم يحلف كان للقاضي أن يقضي عليه بالنكول إذا لم يستمهل، ويكون حكمه كما تقدم. قلت: واستحباب تكرار العرض ها هنا يظهر تأكده على استحبابه في جانب المدعى عليه.

وعن بعض المراوزة: أنه لا يصير ناكلاً عن يمين الرد ما لم يصرح بالنكول، والمشهور: الأول، وعلى هذا فلو استمهل بأن قال لما عرضت عليه اليمين: أمهلوني ريثما أطالع حسابي، أو: أستفتي، أو: أتثبت في أمري- أمهل، نص عليه، بخلاف ما لو عرضت اليمين على المدعى عليه؛ فإنه لا يمهل إذا استمهل على المذهب، كما تقدم، والفرق: أن المدعى عليه مطالب [محمول] على الإقرار أو اليمين، وأما المدعي فليس محمولاً من جهة أحد، بل هو صاحب الحق: إن أراد أجَّله، وإن أراد قدمه. ثم قال المراوزة: لا تزيد مدة إمهال المدعي على ثلاثة أيام، وهو ظاهر النص الذي حكيناه من قبل. وعن بعضهم: أنه لا ضبط لإمهاله بمدة، وسبيله في يمين الرد كسبيله في بيِّنة يقيمها متى وجدها، وهذا ما اقتضاه كلام البندنيجي وابن الصباغ؛ حيث قالا: إذا استمهل لم يسقط حقه من اليمين، ومتى اختار اليمين حلف. ولفظ البندنيجي: فأي وقت اختار حلف. وهو الذي يقتضيه إيراد البغوي والمصنف وصاحب "الإشراف"، وقال الإمام: هذا يظهر على قولنا يمين الرد تنزل منزلة البينة. وفي "البحر" في باب ما على القاضي في الخصوم في أواخره: أنا إذا عرضنا اليمين على المدعي [و] استمهل؛ لينظر في الحساب، فعاد في مجلس آخر فقال المدعى عليه: أنا أحلف الآن- فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأن المجلس الثاني لا ينبني على الأول في الأقوال وغيرها. والثاني: ليس له ذلك، وعلى هذا: يجب ألا يلزم استئناف الدعوى والرد في المجلس الثاني، وهذا ما أورده البغوي. قال: وكذلك لو ثبت عند قاض آخر نكول خصمه، له أن يحلف المدعي، وكذا إذا

كان المدعي وكيلاً، وقد نكل الخصم، فحضر الموكل- له أن يحلف، ولا يحتاج إلى استئناف الدعوى. ثم إذا منعنا المدعي من اليمين عند النكول ونحوه، أو مجاوزة مدة الإمهال، فذاك إذا أراد أن يحلف يمين الرد، أما إذا أراد أن يحلف يميناً مع شاهد أقامه، فهل له ذلك؟ فيه قولان حكاهما الماوردي وغيره: أصحهما في "التهذيب": الجواز؛ لما سنذكره، وهو [ما حكاه في] "المختصر" كما قال الماوردي. وعند الغزالي: الأصح المنع، وهو ما حكاه في "الجامع الكبير" للمزني. كما قاله الماوردي، وادعى البندنيجي أنه الذي قاله الشافعي ها هنا؛ لأن اليمين في جنبته قد بطلت، وأن الشيخ أبا حامد قال: هي على قولني؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه-[قال]: إذا قتل له ولي، وهناك لوث معه، فإن لم يحلف حلف المدعى عليه، فلو نكل فهل ترد على المدعي أم لا؟ على قولين: أحدهما: [ترد]؛ لأنها غير التي نكل عنها. والثاني: لا ترد؛ لأن اليمين كانت في جنبته، ولا فصل بين الصورتين. ولأجل ما حكاه الشيخ أبو حامد من القولين في هذه الصورة حكى الإمام القولين- أيضاً- فيما إذا أقام المدعي شاهداً، ونكل عن الحلف معه، وطلب يمين المدعى عليه، فإنه يحلف، فلو نكل اليمين فهل ترد على المدعي أم لا؟ وقد حكاهما المحاملي في باب الخيار في القصاص، والماوردي في باب الامتناع عن اليمين، فإن قلنا: لا يحلف، قال أبو حامد- وكذا ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب والقاضي الحسين في باب اليمين مع الشاهد-: يحبس المنكر بالشاهد حتى يحلف أو يعترف؛ لأنه قد تعين عليه ذلك؛ فلا يكون له إسقاطها، ويخالف هذا إذا امتنع المدعي من يمين الرد، وطلب حبس المدعى عليه حتى يحلف، لم يكن له؛ لأن الامتناع من جهته.

قال صاحب "الحاوي" في باب ما على القاضي في الخصوم: وهذا خطأ؛ لأن الحبس على الحقوق يكون بعد [ثبوت استحقاقها]، ولم يثبت الحق بالشاهد. وهذا ما أبداه ابن الصباغ احتمالاً [لنفسه] من وجه آخر، وهو أنا إذا جعلنا امتناعه عن يمينه مع شاهده كالممتنع عن اليمين المردودة، فينبغي ألا يحبس المدعى عليه ويطالب باليمين. وحكى القاضي الحسين عن القفال أن له الحلف فيما نحن فيه قولاً واحداً؛ لأن هذه اليمين بخلاف تلك اليمين؛ فإن هناك يحتاج [إلى] أن يقول: بالله، إن شاهدي لصادق فيما يقول، وهنا لا يحتاج لذلك. وهذا ما صححه في "البحر" و"الحاوي"، ويشهد لكون هذه اليمين غير الأولى: أن تلك لا تجري في كل حق، وهذه تجري في كل حق تسمع فيه الدعوى. وقد تكلم الإمام في باب الامتناع من اليمين، في تصوير النكول عن اليمين مع الشاهد، فقال: إذا أقام الشاهد قال له القاضي: إن حلفت معه ثبت حقك، وإن لم تحلف ولم يحلف المدعى عليه؛ منعتك من إعادته إلى مجلس الحكم. ثم قال: وللمدعى عليه بعد إقامة [المدعي] الشاهد أن يقول [للمدعي]: حلفني، أو احلف وخلصني. فرع: لو قال المدعي بعد إنكار المدعى عليه وقوله: "مالك عندي شيء": نعم- بطلت دعواه إن كان عالماً بالعربية، وإن كان جاهلاً بها فوجهان، قال الماوردي: [كما ذكرنا] في الإقرار. قال: وإن قال المدعي بعد العجز عن إقامة البينة: لي بينة، [سمعت بينته]، أي: وإن حلف المدعى عليه أو نكل هو والمدعي عن اليمين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:

"البَيِّنَةُ العَادِلَةُ خَيْرٌ مِنَ اليَمِيْنِ"، ولأن البينة حجة كالإقرار، ولو أقر بعد حلفه أو نكول المدعي حكم عليه؛ فكذلك يكون حكم البينة، ولو كان المدعي قد قال: لا بينة لي، [فقد] [قال] القاضي أبو الطيب: ظاهر مذهب الشافعي السماع، واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال به، وهو الأصح، وبه جزم القاضي الحسين [والإمام] وصاحب "التهذيب"، وقال الماوردي في باب الامتناع من اليمين: إنه قول جمهور أصحاب الشافعي؛ كما لو قال: لا بينة لي حاضرة، ولأنه ربما [لم] يعلم [بعد] أن له بينة، وأيضاً فقوله: لا بينة لي، يحتمل أنه أراد: حاضرة. ومنهم من قال: إن كان قد تولى هذه الشهادة بنفسه [لأنه تولى العقد بنفسه]، ثم أنكرها وأقامها بعد ذلك- لم يسمع. وإن لم يكن تولاها، وتولاها وكيله ولم يعلم هو بها، أو كان وارثاً لم يعلم بالشهادة، ثم أقامها- سمعت. و [قد] حكى الرافعي أن البغوي حكى الوجهين- أيضاً- وهما جاريان- كما حكاهما المراوزة- فيما إذا قال: لا بينة لي حاضرة ولا غائبة، وادعى الغزالي والرافعي أن الأظهر منهما السماع أيضاً، وبه جزم في "الإشراف"، ونسبه الماوردي في باب ما على القاضي في الخصوم- إلى الإصطخري، وقال: إن الأكثرين على مقابله. وتبعه في "البحر" وقال: إنه قيل: [إن] ما قاله الإصطخري ظاهر المذهب. وبهذا يحصل في المسألة ثلاثة أوجه؛ كما حكاها في "المهذب"، وطردها فيما إذا قال: كل بينة تشهد لي فهي كاذبة، وصحح القبول مطلقاً، وهو ما اختاره في "المرشد".

وفي "الحاوي" في باب الامتناع من اليمين حكاية وجه آخر في أصل المسألة: أنها لا تسمع مطلقاً، وقال: [إنه لا وجه] [له]؛ للفرق الذي ذكره صاحب الوجه الثاني؛ لأنه إن لم يجهل فعله في وقته فقد ينساه. ولا خلاف أنه لو قال بعد شهادة الشهود: بينتي كاذبة، أو: شهدوا بالزور- لا تقبل بينته، وهل تبطل دعواه؟ فيه وجهان، أصحهما: لا. ولو قال: بينتي فسقة أو عبيد، ثم أتى ببينة بعد ذلك في مدة يحصل في مثلها الاستبراء والعتق- قبلت، قاله البغوي وشيخه. وفي "الإشراف" أنه لو قال: كل بينة لي بعد اليمين أو قبلها هي بينة زور أو كاذبة، ثم أقامها- قبلت على النص؛ لأنه يجوز ألا يعرفها أصلاً، وقال بعض أصحابنا: لا تقبل؛ لأنه سبق منه تكذيبها. قال: ونظيرها ما لو قال المشتري للبائع: بع دارك هذه مني بكذا فإنها ملكك، فاشتراها، [ثم] قامت بينة على الاستحقاق- لم يرجع على البائع بالثمن على رأي ابن سريج، وفيه وجه: أنه يرجع؛ كما لو اشترى شراء مطلقاً، ونظيرها أيضاً ما إذا قال: أودعتني، وأقام بينة أنها هلكت قبل الجحود، وقد حكيناهما في باب المرابحة. قال: فإن حضرت بينة لم يطالب بإقامتها؛ أي: وله طلب يمين الخصم؛ لأن له في ذلك غرضين: [أحدهما: أنه] ربما ينزجر عن الحلف؛ فيقر بالحق، ويستغني عن إقامة البينة. والثاني: أنه إذا حلفه وأقام [عليه] البينة تبين كذبه.

وفي "الحاوي" وجه آخر: أنه ليس له إحلافه؛ لأن مقصود المدعي إثبات الحق دون إسقاطه، ويمكن إثباته بالبينة، وقد نسبه الرافعي في كتاب الدعاوى إلى "فتاوى" القفال. قال: فإن شهدوا؛ أي: بطلب المدعي، فإن كانوا فساقاً؛ أي: عند القاضي إما لعلمه بذلك أول قيام البينة به- قال للمدعي: زدني في الشهود؛ تحسباً للرد. ثم ظاهر كلام الشيخ يدل على أنه يصغي لسماع شهادتهم وإن علم فسقهم قبل الأداء، وقد يوجه بأنه لو منعهم من إقامة الشهادة لكان ذلك هتكاً للستر، وإذا تحملنا في الرد لأجل ذلك، فكذلك نتحمل في الإصغاء [لأجله]. وقد جزم القاضي الحسين بأنه لا يصغي إليهم إذا تحقق فسقهم؛ لأنه إذا اشتغل بما لا يعنيه شغله عما يعنيه. وقال الإمام في باب علم الحاكم بحال من قضى بشهادته بعد حكاية ذلك أيضاً: وقد قدمت من قبل تردداً في ذلك، والقياس أنه لا يصغي إلى من يعلم أنه مردود؛ فالوجه أن يقدم النذير إلى من يريد الإقدام على الشهادة من هؤلاء؛ حتى لا يتعرضوا، فإن فعلوا فهم الذين هتكوا أستار أنفسهم. ثم المسألة مصورة بما إذا كان الفاسق متكاتماً، والقاضي لا يرى قبول شهادته، أما المعلن بالفسق فلا ينبغي أن يصغي إلى شهادته كالعبد، إلا أن يصح مذهب في قبول شهادة المعلن، ويرى القاضي أن يصغي ليقبل؛ فلا معترض عليه في مجتهد فيه. كذا قاله الإمام، وقال قبل باب الشهادة على الشهادة: إن الشيخ أبا محمد قطع بأنه لا يصغي إلى شهادة المعلن بالفسق، وإن بعض أصحابنا ذهب إلى أنه يصغي إليها، ثم يردها، قال: وهذا بعيد عن قياسنا. وهذا هو التردد الذي أشار إليه، وأصل هذا: أنه لا يصغي إلى شهادة الكافر والصبي والعبد إذا عرف حالهم جزماً؛ كما ذكره القاضي الحسين وغيره، ويرشد إليه قول الشافعي- رضي الله عنه- في "المختصر": وإذا شهد صبي أو نصراني أو عبد فلا يسمعها، واستماعه لها تكلف.

قال: وإن كانوا عدولاً، وارتاب بهم؛ أي: لكونهم غير وافري العقول؛ كما قاله أبو الطيب والبندنيجي [وغيرهما]، أو لنظر له في الواقعة وخبال قد يدركه الفطن؛ كما قاله الإمام. قال: استحب أن يفرقهم فيسألهم؛ أي: على الانفراد، كيف تحملوا؟ أي: [فيقول لهم: من تحمل منكم أولاً؟ وثانياً؟ ومتى تحملوا أي]: فيقول: في أي شهر تحملتم؟ [وفي أي يوم؟ وفي أي ساعة؟ وفي أي موضع تحملوا؟ أي: فيقول: في أي بلد تحملتم؟] وفي أي دار، وفي أي مكان [منها]؟ لأن مع قصور العقل وخبال النفس لا تطيب النفس بقولهم؛ فاستحب الاحتياط بالتفريق على هذا النحو؛ ليقوى به ظهور الحق عند التوافق. قال الماوردي وابن الصباغ: وقد قيل: إن أول من فعل هذا دانيال النبي عليه السلام. وقال القاضي أبو الطيب: إن الأصل فيه أن حاجب داود راود امرأة عن نفسها، فأبت عليه؛ فواطأ أربعة من الشهود أن يشهدوا عليها بأن كلباً أتاها، فشهدوا عند داود- عليه السلام- فأمر بإقامة الحد عليها، وبلغ ذلك سليمان- عليه السلام- قال الماوردي والروياني: وكان إذ ذاك يلعب مع الصبيان، فقال: لو كنت أنا لفرقتهم، وقال لأربعة من الصبيان: اشهدوا عندي على امرأة بأن كلباً أتاها، فشهدوا عنده بذلك، ففرقهم، فسأل كل واحد عن لون الكلب، فاختلفوا؛ فأسقط الشهادة، فبلغ ذلك داود، فاستدعى الشهود، وفرقهم، فاختلفوا؛ فأسقط شهادتهم. وقد اقتفى علي- كرم الله وجهه- هذا الأثر لما بلغه أن سبعة خرجوا، ففقد واحد منهم، فأتت زوجته إليه، فاستدعى الستة فسألهم عنه، فأنكروا، ففرقهم، وأقام كل واحد منهم عند سارية، ووكل به من يحفظه، واستدعى واحداً منهم، فسأله، فأنكر، فقال: الله أكبر! فظن الباقون أنه قد اعترف، فاستدعاهم، فاعترفوا بقتله، فقال

للأول: قد شهدوا عليك وأنا قاتلك؛ فاعترف؛ فقتلهم. قال الأصحاب: ولا يدع من سأله منهم أن يرجع إلى أصحابه قبل أن يسألهم؛ لاحتمال أن يعيد عليهم ما قاله فيوافقوه فيه. قال: فإن اتفقوا وعظهم وخوفهم بالله- تعالى-[أي]: فيقولك شهادة الزور من أكبر الكبائر، وقد توعد الله- تعالى- عليها، [وروي] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الطَّيْرَ لَتَخْفِقُ بِأَجْنِحَتِهَا بِمَا فِي حَوَاصِلِهَا مِنْ هَوْلِ [ذَلِكَ] اليَوْمِ، وَإِنَّ شَاهِدَ الزُّوْرِ لَا تَزُولُ قَدَمَاهُ حَتَّى يَتَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"، وَرُوِيَ: "حَتَّى يُوْجِبَ النَّارَ"، ويقول لهم بعد ذلك: فإن صدقتم فاثبتوا، وإن كذبتم فغطوا رءوسكم وانصرفوا. قال: فإن ثبتوا، استحب أن يقول للمدعى عليه: شهد عليك فلان وفلان، وقد قبلت شهادتهما، وقد مكنتك من جرحهما، أي: إن كان لا يعلم أن له الجرح؛ لأن في ذلك تنبيهاً له على حفظ حقه وانتفاء التهمة عنه، أما إذا علم أن له ذلك، قال في "المهذب" و"التهذيب" قبيل كتاب الدعاوى: فله أن يقول ذلك، وله أن يسكت. قلت: ويظهر أن يجيء فيه ما حكيناه في قول القاضي للمدعي بعد إنكار الخصم: ألك بينة؟ قال: فإن قال: لي بينة بالجرح، أمهل؛ لأن عمر- رضي الله عنه- كتب إلى [أبي] موسى: اجعل لمن ادعى حقّاً غائباً- أمداً ينتهي إليه. قال: ثلاثة أيام، أي: فما دونها على حسب ما يراه؛ لأنها مدة قريبة. قال: وللمدعي ملازمته إلى أن يثبت الجرح؛ لثبوت حقه في الظاهر.

قال: فإن لم يأت بالجرح، أي: في المدة المضروبة له- كان للمدعي أن يطالب بالحق؛ لتعين حقه وعدم المانع منه، قال ابن يونس: ويجب على القاضي الحكم. وإن بقيت الريبة، وكذا لو روجعوا في بيان مكان التحمل وزمانه، فقالوا: لا يذكر المكان والزمان، ولكنا نتحقق ما شهدنا به- فليس للقاضي- والحالة هذه- أن يجبرهم على التعرض لذلك. ولكن لو بقيت ريبة القاضي وازداد ارتياباً من إصرار الشهود على ما يراجعون فيه- قال الإمام: فللقاضي أن يبحث عن جهات أخر؛ فعساه أني طلع على مطعن، فإن لم يمكن، تحتم عليه إمضاء القضاء، مع انطوائه على الريبة لقيام البينة العادلة. وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب الشهادة على الشهادة: أن الأولى أن يبين المدعي والشهود السبب في الدعوى والشهادة، فإن ارتاب القاضي بحال الشهود طلب منهم أن يبينوا السبب، فإن امتنعوا عنه فوقعت له ريبة بهم رد شهادتهم، وإن لم يقع له ريبة بامتناعهم عن ذكر السبب لم يجز له أن يرد شهادتهم. أما إذا كان الشهود وافري العقول، فقهاء، حسناً ظاهرهم، فلا يفرقهم؛ لأن في ذلك تهمة لهم وطعناً فيهم، وعليه يدل ما سنذكره من النص. قال القاضي أبو الطيب: حكي أن رجلاً شهد عند أبي عمر القاضي ببيع بستان، فقال له: كم نخلة في البستان؟ فقال: لا أشك في أن القاضي أعلم بداره مني بالبستان، فقال: [له]: نعم، فقال: [له]: كم جذعاً في دارك؟! فسكت عنه وحكم بشهادته؛ لما ظهر له من وفور عقله وشدة تحصيله. وروي أن رجلاً شهد عند علي بن عيسى، فقال له: أين شهدت؟ فقال [له]: في فضاء وسعني ووسع المشهود له والمشهود عليه، فقبل شهادته.

وروي أن أم أبي عمرو بن العلاء شهدت عند القاضي سوار مع امرأة أخرى، فجعلت أم أبي عمرو تلقنها وتذكرها؛ فزجرها سوار، فقالت: ألم تسمع قول الله- تعالى-: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282]؟! فخجل سوار. ولو سألهم فلهم ألا يجيبوه ولا يزيدوا على أداء الشهادة، قاله الإمام. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أموراً: أحدها: استحباب التفريق- كما ذكر- لمن هو ثابت العدالة عنده؛ كما ذكره في "المهذب" أيضاً، والأصحاب من العراقيين لما حكوا قول الشافعي- رضي الله عنه- وأحب إذا لم يكن لهم شدة عقول أن يفرقهم، ثم يسأل كل واحد منهم على حدته عن شهادته، واليوم الذي شهد فيه، والموضع ومن فيه؛ ليستدل على عورة إن كانت في شهادتهم، فإن جمعوا الحال الحسنة والعقل لم يفعل ذلك بهم. انتهى. قالوا: هذا التفريق في حالة الجهل بعدالتهم قبل أن يبحث عنها؛ لأنهم إذا اختلفوا رد شهادتهم، واستغنى عن البحث، وإن ثبتوا بعد التفريق والوعظ حينئذ يسأل. وأطلقوا القول بأنهم إذا كانوا عدولاً أمضى شهادتهم، لكن ما ذكره الشيخ من التفريق ليس بعيداً عن القياس، وعليه ينطبق إيراد الإمام [هنا]، وكذا في كتاب الإقرار؛ حيث قال: وليس ما ذكرناه من جواز الاستفصال [من القاضي] مردوداً إلى خيرته، ولكنه ينظر إلى حال الشاهدين: فإن رآهما على عدالتهما خبيرين بشرائط الشهادة [فطنين مستقلين]، فله ترك الاستفصال [حتماً، وإن تمارى في أمرهما، فلابد من الاستفصال]. وقد تقع حالة تجب المباحثة فيها حتماً، والاحتياط يقتضيها، ومن هذا القبيل- كما قال في كتاب الشهادات-: سماع شهادة العوام وإن كانوا عدولاً، يتعين الاستفصال

فيها، وليس الاستفصال مقصوداً في نفسه، وإنما الغرض [تبين] تثَبُّتهم في الشهادة. وكذا قول صاحب "البحر" و"الحاوي": إذا استقرت العدالة بالبحث، فإن تجددت فيها استرابة، أعاد البحث والكشف، وإلا فلا يعيده. وقال القاضي الحسين: إن محل البحث إذا عرف القاضي عدالة الشهود، ثم طالت المدة واحتمل التغير. وعلى هذا يمكن حمل كلام الشيخ، [على أن لمنازع أن ينازع في إمكان حمل كلام الشيخ] على ذلك. الثاني: أنه يجوز أن يترك التفريق، ويحكم بشهادتهم؛ لأنه لما قال: إن التفريق مستحب، فهم منه أنه [لو تركه جاز]. وقال الإمام في [كتاب] "الإقرار" ما ذكرناه [أولاً]، وقال هنا: إن هذا التفريق حتم، فلو ابتدر القضاء والإمضاء، [لم] يمض قضاؤه؛ فإن حقه ألا يقضي إلا بعد بذل المجهود في [التبين وطلب] غلبة الظن. وعليه ينطبق ما حكاه الجيلي: أن من أصحابنا من قال: يجب [عليه] البحث في أحوالهم؛ ليحصل [به] غلبة الظن، سواء طلب الخصم ذلك منه أو لم يطلبه، وسواء كان ذلك في الحدود والقصاص أو الأموال. الثالث: جواز إقامة الشهادة في حال غيبة المدعى عليه مع إمكان حضوره؛ لأنه قال: استحب أن يقول للمدعى عليه: شهد عليك فلان [وفلان]، فلو كان المشهود عليه حاضراً لم يكن لقوله ذلك معنى، وقد أشار إلى ذلك الشافعي- رضي الله عنه- بقوله في "المختصر": فإن قَبِلَ الشهادة من غير محضر خصم فلا بأس. وقال في "البحر": إن الشافعي- رضي الله عنه- ذكر في "الأم" أن القاضي لا يقبل شهادة الشاهد إلا بمحضر من الخصم المشهود عليه، فإن قبلها بغير محضره فلا بأس، ولا يختلف أصحابنا فيه.

نعم، اختلفوا في أنه إذا سمعها، هل يحكم عليه بها قبل حضوره أم لا؟ وسنذكره. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أن الشهادة هل تسمع في حال غيبة المشهود عليه، أم يحتاج [أن يحضره] ولا يسمعها إلا بحضرته؟ فيه وجهان يأتيان في الكتاب: أحدهما: يسمعها؛ لأنه غائب عن مجلس الحكم؛ فهو كما لو كان غائباً عن البلد، وهذا ما نقله الربيع. قال في "الإشراف"- وهو في كتاب العيون-: فإنه قال: وأحب أن يحضره [، فإن [لم] يحضره] وسمع البينة جاز سماعها، ولا يحكم حتى يحضره. والثاني: لا يسمعها؛ لأنه لا مشقة في إحضاره؛ فلا معنى لسماع البينة في غيبته. قال في "الذخائر": وهذا هو المذهب. وسنذكره عن غيره من بعد. قلت: وعلى هذا فيمكن حمل النص على حالة الغيبة عن البلد، وكلام الشيخ على ما إذا كان من شهد عليه لا يعرف أن له جرح البينة، وقد حكى الوجهين الروياني- أيضاً- عن القفال. [ثم] قال: والصحيح ما ذكرناه، وهو أنه لا خلاف [في جواز سماع البينة. فرع: إذا استفصل القاضي، هل يتعين على الشاهد التفصيل؟ فيه وجهان في "النهاية" في كتاب الإقرار، ولا خلاف] أنه لا يجب على الشاهد تفصيل الزمان والمكان، وإن استفصل القاضي، والفرق: أن الجهل بالشرائط يقدح، والجهل بالزمان والمكان لا يقدح. قال: وإن كان الشهود مجاهيل، أي: للقاضي، فإن جهل إسلامهم رجع فيه إلى قولهم؛ لأن الكافر يملك إنشاء الإسلام؛ فكذلك الإقرار به، كذا قاله في "التهذيب".

وحكى صاحب "الحاوي" في كتاب الشهادات وجهاً: أنه لا يقنع بقوله: إني مسلم، حتى يختبر بالإتيان بالشهادتين. وهذا قد يشهد له ما رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيّاً شَهِدَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ [اللهِ؟ قَالَ]: نَعَمْ. فَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ". قال الأصحاب: ولا يعمل في الإسلام بظاهر الدار من غير سؤال، بخلاف اللقيط؛ لأن هذا يتعلق به إيجاب حق على غيره؛ فاحتيط فيه. وفي "الحاوي" في [كتاب] الشهادات حكاية وجه آخر: أنه إذا شوهد في دار الإسلام على قديم العهد وحديثه، يحكم بإسلامه في الظاهر والباطن، ولا يسأل. قال: وإن جهل حريتهم، أي: وادعوها، لم تقبل إلا ببينة؛ لأن العبد لا يملك الحرية فلا يقبل قوله فيها. وقيل: يرجع فيها إليهم أيضاً؛ كالإسلام. قال في "المهذب": وهو ظاهر النص، أي: المنقول في كتاب الشهادات؛ فإنه قال [فيه]: ولا يقبل الشاهد حتى يثبت عنده بخبر منه أو ببينة أنه حر، ووجهه: أن الظاهر من الدار حرية أهلها؛ كما أن الظاهر من الدار [إسلام أهلها]. والأول أظهر في "المهذب" و"الحاوي" وغيرهما. قال في "الحاوي": وقد اختلف أصحابنا في مراد الشافعي بقوله: ولا يقبل الشاهد .. إلى آخره، على وجهين: أحدهما: لا يسمع الشهادة حتى يعلم حرية الشاهد وإسلامه فيسمعها، ثم يسأل عن العدالة؛ لظهور الحرية والإسلام وخفاء العدالة. والثاني: لا يحكم بها حتى يعلم حريته وإسلامه، [ويجوز أن يسمع قبل العلم بحريته وإسلامه]. قال: وإن جهل عدالتهم، أي: وكانوا وافري العقول، سأل، أي: على وجه

الوجوب- كما قاله الماوردي والإمام- عن اسم كل واحد منهم، وعن كنيته وعن صنعته وسوقه ومصلاه؛ حتى لا يشتبه بغيره على من يذكر له. قال الأصحاب: ويرفع في نسبه إن لم يكف ذكر الاسم والكنية في تعريفه، ويستقصي حِلاه؛ كما قال الشافعي، رضي الله عنه. قال: واسم المشهود له، أي: وحليته وصنعته، ونحو ذلك كما تقدم؛ كما صرح به القاضي الحسين، ووجهه: الاحتراز عن أن يكون ممن لا تقبل شهادة [الشاهد] له؛ لقرابة أو غيرها. قال: والمشهود عليه، أي: بالصفات السابقة تحرزاً من أن يكون الشهود أعداءه. [قال]: وقدر الدين؛ لأن من الشهود من يقبل قوله في القليل دون الكثير، وهذا نصه في "المختصر"، وحكاه الإمام عن بعض الأصحاب، وبه جزم في "الإبانة"، وقال الإمام: إنه غير سديد، وإن الذي ذهب إليه معظم الأئمة أن ذكر المال احتياط وليس باشتراط؛ فإن التعديل عندنا في اليسير والكثير على نسق واحد. وقد حكى صاحب "المرشد" هذا عن شيخه أبي علي وصححه. قال: وكتب ذلك في رقاع، ودفعها إلى أصحاب المسائل، أي: في السر، لكل شخص رقعة ليسألوا عن ذلك. قال الماوردي: وكيفية سؤالهم؟ أن يبدءوا بالسؤال عن أحوال الشهود، فإن وجدوهم مجروحين لم يسألوا عن غيرهم، وإن عدلوا سألوا عمن شهدوا له: فإن ذكروا أن بينه وبينهم ما يمنع من شهادتهم له لم يسألوا عما عداه، وإن ذكروا جواز شهادتهم له سألوا عن المشهود عليه: فإن ذكروا ما يمنع من شهادتهم عليه لم يسألوا عما عداه، وإن ذكروا جواز شهادتهم عليه ذكروا حينئذ القدر الذي [شهدوا به]. قال: وعلى أصحاب المسائل أن يشهدوا بما عرفوه من هذه الأحوال الأربعة

إن اجتمعت أو افترقت؛ فإن لكل واحدة منهن حكماً في غير هذه القضية، وإن لزم اعتبارها جميعاً في هذه [القضية]. وهذا من الماوردي صريح في إيجاب البحث على هذه الصفة، وعليه ينطبق قول الفوراني: يشترط أن يذكر المال والمشهود له و [المشهود] عليه إذا استزكى الشهود؛ لأن ذلك يختلف. وكذلك قول الإمام، لكنه قال بعد قوله: "أما المدعي فلا بد من إعلامه": وأما المدعى عليه فقد يدرك [المزكي بينه وبين الشهود] عداوة أو لدداً في خصومة يوجب مثلها رد الشهادة، فإن لم يقع التعرض لما ذكرناه فالتعديل في الشهود يثبت، ولكن يبقى على القاضي نظر فيما وراء التعديل. قال: ولا يعلم بعضهم بعضاً؛ خشية من التواطؤ. قال: وأقلهم اثنان، وقيل: يجوز واحد. هذا الخلاف ينبني على أن الجرح والتعديل يقع بقول أصحاب المسائل أو بقول المسئولين من الأصدقاء والجيران، وفيه خلاف بين الأصحاب: فالذي ذهب إليه الإصطخري والأكثرون كما قاله الماوردي، والبندنيجي، وصححه القاضي أبو الطيب وغيره- الأول، وهو ظاهر النص في "المختصر"؛ فإنه قال: ولا يقبل المسألة عنه ولا تعديله ولا جرحه إلا من اثنين؛ فعلى هذا: يكون أقلهم اثنان؛ لأن الجرح والتعديل لا يثبت بدونهما. وقال أبو إسحاق المروزي بالثاني؛ لأن أصحاب المسائل يخبرون عن غيرهم فهم شهود فرع، وشاهد الفرع لا تقبل شهادته مع حضور الأصل وارتفاع العذر؛ فيكون أصحاب المسائل مخبرين للقاضي بمن يزكي أو يجرح، فعلى هذا يكتفي بالواحد كما في سائر الأخبار، ويعتبر في المسئولين العدد؛ لأن الجرح والتعديل يقع بقولهم وشهادتهم عند القاضي، وعليه حمل النص. ومن قال بالأول قال العذر ثابت ها هنا؛ فإنه لا يجب على المعدل [أو الجارح] أن يحضر عند الحاكم لتزكية من يسأل عنه أو جرحه، وليس على الحاكم- أيضاً-

أن يحضر إليه ليسأله، فصار ذلك عذراً كالمرض والغيبة. كذا حكاه ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب عنهم، قالوا: وما ذكر من حمل النص على المزكين فغير صحيح؛ لأنه قال: ويخفى من كل واحد ما دفعه على الآخر. وهذا إنما يكون في أصحاب المسائل دون المزكين. قال الأصحاب: ويتفرع على الخلاف- أيضاً- مسألتان: إحداهما: أنه هل يشترط [أن يكون إخبار أصحاب المسائل للقاضي بلفظ الشهادة أم لا؟ فعلى رأي الإصطخري: يشترط] وإن كان لا يشترط لفظ الشهادة من المسئولين عند أصحاب المسائل. وقال الإمام: إن صاحب "التقريب" ذكر على [قياس] مذهب الإصطخري وجهين في اشتراط لفظ الشهادة من أصحاب المسائل. [وعلى رأي أبي إسحاق: لا يشترط الإتيان بلفظ الشهادة من أصحاب المسائل]، ويشترط من المسئولين عند القاضي. الثانية: على رأي الإصطخري لابد أن يشهد اثنان من أصحاب المسائل على كل واحد من المخبرين بالتعديل أو الجرح من الجيران وغيرهم؛ لأنها شهادة فرع، كذا حكاه مجلي عن الغزالي، وهو قياس ما حكيناه من التعليل عنه، وعلى هذا يكون قول الشيخ: "وأقلهم اثنان"، محمولاً على ما إذا شهدا على كل واحد من المسئولين إذا قلنا: يكفي ذلك، وكلام الماوردي يقتضي خلافه؛ لأنه قال: لو شهد شاهدان من أصحاب المسائل أو [من] الجيران- على حسب اختلاف الوجهين- بتعديل أحد [شاهدي الأصل] جاز أن يشهدا بتعديل الآخر قولاً واحداً، وإن كان في الشهادة على الشهادة قولان، والفرق أن في الشهادة على الشهادة هما

فرع الأصل، وفي التزكية هما شاهدان على الأصل، وعلى هذا ينطبق قول البندنيجي وغيره: إذا رجع أصحاب مسائله، فإن عدلاه حكم، وإن جرحاه وقف. ولم يفصلوا، وجزم في "المهذب" على قول الإصطخري بأنه يكفي أن يخبر الشاهدين من أصحاب المسائل واحد إذا وقع في نفوسهما صدقه، وهو مأخوذ مما في "الحاوي"؛ لأنه قال: ولا يشترط على هذا في المسئولين العدد؛ بل المعتبر أن يقع في نفوس أصحاب المسائل صدق المخبر فيما ذكره من تعديل أو جرح؛ فربما وقع في نفسه صدق الواحد، فجاز أن يقتصر عليه، وربما ارتاب في الاثنين، فيلزمه أن يشترط. قال مجلي: وهذا فيه بعد؛ إذ كيف [يثبت التعديل] والجرح بقول واحد، وعلى هذا ينطبق قول القاضي أبي الطيب: إنه لا خلاف في اشتراط العدد في التزكية. وعلى [هذا] رأي أبي إسحاق: لا يشترط العدد في الإخبار. قال القاضي أبو الطيب: ومحل الخلاف بين الإصطخري وأبي إسحاق في أصل المسألة إذا كان الحاكم قد بعث أصحاب المسائل إلى أقوام معينين يسألونهم عنهم، فلو فوض إليهم السؤال عنهم من غير أن يعين المسئولين فلابد من اثنين من أصحاب المسائل يشهدان [عند الحاكم] بما ثبت عندهما من الجرح أو التعديل بقول اثنين من المسئولين، وتكون شهادة أنفسهم، وتبعه ابن الصباغ [في ذلك]. وقال القاضي: إن هذا مما لا خلاف فيه بين أصحابنا، وكذا محله إذا لم يكن الحاكم قد نصب واحداً منهم حاكماً في الجرح والتعديل، أما إذا كان قد نصبه لذلك جاز، وعليه أن يراجع من رآه أهلاً للمراجعة في التزكية والجرح، ويصغي [إلى الشهادة] في هذا المقتضي، ويحكم بعد بذل الوسع في الاحتياط. ولا يجوز [أن] يحكم في التزكية باجتهاده؛ لأن ذلك يرجع إلى رد شهادة

مزكين إلى واحد، وذلك غير محتمل فيما [يشترط فيه] العدد، كذا أبداه الإمام في كتاب القسمة وسنذكره ثَمَّ لغرض لنا. وإذا ثبت عنده الجرح أو التعديل قبل قوله فيه وحده فإنه حاكم، وقول الحاكم مسموع في استمرار ولايته، كذا قاله الإمام. قال: فإن عادوا بالتعديل أمر من عدلهم في السر، أي: من أصحاب المسائل [أو المسئولين] على اختلاف الوجهين، أن يعدلهم في العلانية كما عدلهم سرّاً؛ لأن ذلك أبعد عن التهمة، وفيه ترغيب للناس في حسن الذكر وجميل الثناء، واحتياط للشهادة؛ فإنه ربما كان عند بعض الناس من جرحه ما يخفى على غيره، ولأن الأسماء والأنساب والحلي قد تشتبه. وقد أشار إلى هذه العلة الشافعي- رضي الله عنه- بقوله: فإذا عدل سأله تعديله علانية؛ ليعلم أن المعدل سرّاً هو هذا؛ لئلا يوافق اسمٌ اسماً، ونسبٌ نسباً، وذكر القفال في ذلك معنى آخر فقال: ربما يسمى الشاهد باسم عدلٍ، فيقول المسئول عنه: هو عدل. [قال]: وقد شهد عند قاضي مرو رجل وتسمى باسم عدل، فسأل القاضي الشيخ الخضري عنه؛ لأنه كان مزكياً، فقال: هو عدل. وكان الشاهد قد زوّر اسمه، فالتعديل علانية يدفع هذا المحذور، لكن هذا بطريق الوجوب أو الاستحباب؟ أطلق القاضي أبو الطيب- وتبعه ابن الصباغ- القول بأنه على وجه الاحتياط، فإن تركه فلا بأس؛ لأن العدالة حصلت بالتزكية، وعلى ذلك جرى في "الوسيط". وقال في "الحاوي": هذا إذا كان المعدل مشهوراً في الناس بالتميز عن غيره في الاسم والنسب. وقال فيما إذا كان غير مشهور وجاز أن يشتبه [في] الاسم والنسب: بأنه على وجه الوجوب؛ لما ذكرناه. ثم حكى [أن] ابن أبي هريرة حمله على الاستحباب تأكيداً؛ اعتباراً بالظاهر، وقال: إن الأول أصح. وقد جمع في "البحر" بين الحالتين، وحكى فيهما ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كان

مشهوراً بين الناس بما يتميز [به] عن غيره، فلا يحتاج إلى الإعادة وجوباً، ولكنه يستحب، ويجب في المجهول غير المشهور. وقال: إنه أصح. وكلام الإمام مصرح بأنه إذا لم يمكن تحصيل الغرض في الغيبة فلا بد من الإعلان. ثم اعلم أن ظاهر كلام الشيخ والشافعي- رضي الله عنهما- يقتضي إعادة التزكية، وقد صرح أبو الطيب والماوردي والبندنيجي وغيرهم بأن المراد من التعديل علانية: أن يجمع بين المزكي والمعدلين، ويقول للمزكي: هؤلاء هم الذين سألت عنهم وزكيتهم، فيقول: نعم، أو نحوه. قال القاضي الحسين: ويشترط في التزكية سؤال الحاكم عنها، فلو عدل المزكي من غير سؤال فالقاضي لا يصغي لقوله؛ لأن التعديل حسبة لا يسمع. وفي هذه الحالة- أعني حالة العود بالتعديل- يسوغ للحاكم الحكم إذا لم يتحقق عنده الجرح، وينبغي أن يعرف المشهود عليه ثبوت الحق بتعديلهم، فإن زعم أنه يمكنه جرحهم كان [الأمر] كما تقدم في الكتاب من قبل، ولو تحقق عنده الجرح بالتسامع، قال الإمام: فالرأي الذي يجب القطع [به] أنه لا يقضي بالشهادة؛ لأن ما تحققه بالتسامع أقل مراتبه أن يقتضي وقفاً، والقاضي قد يتوقف لريبة كما ذكرنا. ولا يسوغ للحاكم عندنا بمجرد شهادة المجهولين أن يحمك بما شهدوا به قبل البحث، سواء كان المشهود به حدّاً أو مالاً، وطلب المشهود عليه البحث عن عدالتهم أو سكت؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، والمجهول غير مرضي ما لم يبحث عن عدالته الباطنة، وقد روى سلمان [عن حريث]: "أَنَّ رَجُلاً شَهِدَ عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُكَ، وَلَا

يَضُرُّكَ أَنِّي لَا أَعْرِفُكَ فَاتِنِي بِمَنْ يَعْرِفُكَ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا أَعْرِفُهُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: بِأَيِّ شَيءٍ تَعْرِفُهُ؟ فَقَالَ: بِالْعَدَالَةِ وَالفَضْلِ. فَقَالَ: هُوَ جَارُكَ الأَدْنَى تَعْرِفُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَمَدْخَلَهُ وَمَخْرَجَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَعَامَلَكَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ اللَّذَيْنِ يُسْتَدَلُّ بِهِمَا عَلَى الوَرَعِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَصَاحَبَكَ فِي السَّفَرِ الَّذِيْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَسْتَ تَعْرِفُهُ. ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: ائْتِنِي بِمَنْ يَعْرِفُكَ"؛ فدل هذا من قوله وفعله على وجوب البحث. ولأن الخصم- وهو أبو حنيفة- قد وافقنا على أنه لا يحكم في الحدود قبل البحث، وكذا في الأموال عند طلب الخصم، فيقول: إن كل عدالة شرطت في الشهادة لم يجز الحكم بها مع الجهالة؛ كالشهادة على الحدود. نعم، لو اعترف [الخصم] المشهود عليه بعدالة الشهود، وقال: إنهم زكوا في هذه الواقعة- فهل يحكم عليه قبل البحث؟ فيه وجهان، حكاهما المراوزة كذا، وحكاهما العراقيون فيما إذا قال: هم عدول، وإن لم يذكر أنهم زكوا: أحدهما: يحكم؛ لأن ذلك معتبر لحقه؛ فسقط باعترافه. والثاني: لا يحكم، وهو المختار في "المرشد"؛ لأن الحكم بشهادتهم حكم بتعديلهم، وذلك لا يجوز بقول الواحد، كذا قاله الماوردي، وتبعه في "المهذب"، ثم قال: ولأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله- تعالى- ولهذا لو رضي المشهود عليه بشهادة الفاسق لم يجز للحاكم أن يحكم بشهادته. وقد بان لك من التعليل الثاني أن محل الوجهين إذا جهل الحاكم فسقهم؛ فلو علمه لم يحكم بلا خلاف، وبه صرح الإمام. فرع: إذا عدل الشاهد في شهادته، ثم شهد مرة أخرى فهل يجب إعادة استزكائه؟ قال الأصحاب: إن قصرت المدة فلا، وحكى القاضي الحسين عن الثقفي [من أصحابنا] أنه يحتاج إلى البحث وتجديد المسألة؛ لاحتمال أن يكون بينه وبين

الثاني قرابة أو عداوة [أو نحوهما]. وإن طالت والقاضي غير خبير بحاله في المدة المتخللة فهل يجب؟ فيه وجهان ذكرهما العراقيون، واختار في "المرشد" عدم الوجوب، وقال الإمام: إن الذي مال إليه الجمهور الوجوب؛ لأن الأحوال تتحول والإنسان عرضة للتغير والحدثان، وفي "البحر" نسبة هذا القول لأبي إسحاق، وهو الذي جزم به في "الإبانة". قيل: وهذا القائل يقول: ينبغي ألا يغفل القاضي المسألة عن صفة الشهود الذين يتناوبون مجلسه للشهادة، وعلى هذا لو ترك البحث عمن تثبت عدالته ثلاثة أيام كان ذلك محتملاً، [كذا نقل عن العراقيين]. قال الإمام: وفحوى كلامهم إيجاب البحث وراء ثلاثة أيام، ولست أرى أن يتقدر بذلك، ولكن المرجع في قرب الزمان وبُعده إلى العرف الغالب، وكل مدة يتوقع في مثلها تغاير طارئة؛ فإذا خلت عن المسألة فلا بد من تجديد البحث بعد هذه المدة عنه، والمرجع إلى ما يغلب على ظن القاضي. وفي "البحر" أن في "الحاوي" أن بعض أصحابنا قال: يسأل عنه [بعد] كل ستة أشهر. ثم قال: وهذا ليس بمذهبنا، والمذهب: أنه يوقف على اجتهاد القاضي ورأيه، والذي رأيته في "الحاوي" نسبة القول بتقدير المدة بستة أشهر إلى بعض الفقهاء؛ كما هو في "الشامل" وغيره. فرع: من عدل في القليل، هل يعدل في الكثير؟ فيه وجهان في "البحر" في باب ما على القاضي في الخصوم، أحدهما: لا؛ لأن القضاء بالشهادة بطريقة غلبة الظن على الصدق، ولا يسكن القلب بقول الإنسان في الكثير دون القليل. قلت: وهذا يؤخذ من قول الشافعي- رضي الله عنه-: إنه يكتب في رقاع أصحاب المسائل قدر الدين. قال الروياني: وفائدة الوجهين أن الشاهد بالقليل إذا عدله عدلان، وصح ذلك، ثم شهد في الحال، هل يلزم السؤال عن حاله ثانياً على هذين الوجهين؟ قلت: ويفارق هذان الوجهان ما حكاه ابن أبي الدم فيما إذا شهد بحق، فزكاه اثنان

في تلك الشهادة خاصة، هل يسمع؟ [فيه] وجهان، وقال: إن المذهب المشهور منهما عدم القبول، وإن العمل في بعض الأمصار على القبول للحاجة. قال: ويكفي في التعديل أن يقول: هو عدل؛ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، فأطلق العدالة، وإذا شهد أنه عدل فقد أثبت العدالة التي اقتضاها لفظ القرآن وهذا ما نص عليه في "حرملة" كما نقله أبو الطيب، واختاره الإصطخري وأبو علي الطبري في "الإفصاح"، وكذا القفال كما قاله في "البحر" والقاضي الحسين وصاحب "المرشد"، وحملوا قول الشافعي- رضي الله عنه- في "المختصر": ولا يقبل التعديل إلا أن يقول: [وهو عدل] عليَّ ولي، على التأكيد والاستحباب؛ لأن الشهادة بالتعديل تقتضي الحكم بها عليه وله. وفي "البحر" أن الذي نص عليه في "حرملة" أنه إذا قال: هو عدل مرضي، كفى في التعديل. ويقرب منه ما حكاه الماوردي عن بعض البصريين أنه شرط في القبول أن يقول: [عدل مرضي؛ لأن التعديل سلام، والرضا كمال. و [قد] صحح في "الإشراف" ما حكيناه عن رواية صاحب "البحر" عن حرملة، بعد أن حكى أنه نص في "حرملة" على أنه يقول]: هو جائز الشهادة، وقيل: لا يجوز حتى يقول: هو عدل علي ولي؛ عملاً بظاهر النص في "المختصر"، وقد نص عليه في "الأم" كما قاله الروياني، ووجهه: أن قوله: هو عدل، لا يثبت العدالة على الإطلاق؛ لأنه يجوز أن يكون [عدلاً في شيء دون شيء كما إذا وصفه بأنه صادق، واحتمل أن يكون] صادقاً في شيء دون شيء، وإذا احتمل ذلك وجب أن يصرح حتى يزول الاحتمال، وهذه علة أبي إسحاق المروزي، وغيره قال: إن العلة فيه [أنه قد] يكون الشاهد بالتعديل ممن لا تقبل شهادته له؛ لأنه من والديه أو مولوديه، ولا تقبل شهادته عليه؛ لأنه من أعدائه، ومباينيه، فإذا قال: عدل عليَّ ولي، زال هذا الاحتمال.

قال الماوردي: فعلى هذا التعليل لا يلزم ذلك إذا علم أنه لا نسب بينهما ولا عداوة، [وعلى الأول يلزم ذلك]. قلت: وما قاله غير أبي إسحاق في طرف القريب ظاهر، ولم يظهر في جانب العدو؛ فإن العدو إذا زكى عوه لا يتجه أن يقال بعدم السماع؛ لأن ذلك شهادة له، وشهادة العدو لعدوه سائغة، وعلى هذا فكان يتجه عند هذا القائل أن يكتفي بقوله: هو عدل لي، وقد تعرض لهذا السؤال القاضي الحسين. نعم، الإتيان بلفظ "علي" يحسن أن يوجه بأن في ذلك تطييب قلب القاضي بالتزكية؛ لأنه إذا رضيه على نفسه شاهداً مع حرص النفوس على عدم نفوذ كلمة الغير عليها، دل على [وضوح عدالته عنده. وقد أشار إلى [عين هذا] البندنيجي؛ حيث قال: إن معنى قوله: "علي"] أنه يقبل شهادته في كل قليل وكثير؛ لأن من الناس من يقول: أقبل شهادة الإنسان في القليل [ولا أقبله في] الكثير. وقد قال الإمام: إن قوله: "هو عدل علي ولي" [من] أبلغ عبارات المزكيين وأوقعها، وهي شائعة على مر الدهور، وقد قررها من كان مبتدئاً في سماعها مجملة، والأصحاب مجمعون على موجب ما يتفاهمون منها. وفي "الوسيط" أن كيفية التعديل أن يقول: هو عدل علي [ولي]، أو: عدل مقبول الشهادة؛ فإن العدل قد لا تقبل شهادته لكونه مغفلاً. وقال الإمام: إن العدل الرضا قد يكون مغفلاً. نعم، تثبت العدالة بما قال، ثم يستخبر بعد هذا عن الأسباب المانعة من قبول الشهادة كما سنصفها، إن شاء الله تعالى. وهذا كله على طريقة من رأى من أصحابنا أن السؤال عن أسباب العدالة لا يجب، وهو ما أورده القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبندنيجي والقاضي الحسين وادعى أنه لا خلاف فيه، ووافقهم الغزالي متبعاً في ذلك ما حكيناه عن الإمام.

قال الماوردي: وهذه الطريقة مأخوذة من قول الشافعي- رضي الله عنه-: ولا يقبل التعديل إلا بأن يقول: [عدل] عليَّ ولي. والقائلون بهذه الطريقة يقولون: السؤال عن أسبابها استظهار، وإنه يجب أن يكون الشاهد بالتعديل إذا لم يذكر الأسباب من أهل الاجتهاد. وقد ذهب آخرون من الأصحاب إلى وجوب السؤال عن أسبابها، ويكون الشاهد على هذا مؤدياً للأسباب، والقاضي هو الحاكم بالعدالة؛ وعلى هذه لا يشترط أن يكون الشاهد من أهل الاجتهاد، وقائلها يقول: استزادة القاضي أن يشهدوا أنه عدل لهم وعليهم، استخبار عن حكم العدالة، وليس بشرط في قبول الشهادة، فلا يجب على الشاهد ذكره. نعم، هل يجب على الحاكم الاستخبار عنه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كالشاهد؛ لأن الشهادة بأسباب العدالة تغني [عما سواها]. والثاني: نعم؛ للاحتياط. قلت: ولو قيل باشتراط ذكر هذا على هذه الطريقة [أيضاً] لم يبعد؛ بناءً على التعليل الثاني في أصل المسألة؛ لأن أسباب العدالة صفات كمال في الشاهد، والعداوة والقرابة أسباب مانعة من قبول الشهادة، لا ينافيها ذكر صفات الكمال؛ فكان يجب التعرض لها كما في الطريقة الأولى. تنبيه: شهادة الأب بتعديل الابن وبالعكس، هل تسمع؟ فيه خلاف حكيته عن البغوي وغيره من قبل، والذي جزم به الماوردي ها هنا، وتبعه في "البحر"، وكذا صاحب "الإبانة"، ورآه الغزالي أظهر- المنع، وقد يقال بإمكان أخذه من الخلاف الذي ذكره الشيخ ها هنا؛ لأن من اكتفى بقوله: هو عدل، [لم ينظر إلى كونه قريباً ترد شهادته له، ومن لم يكتف بذلك نظر إلى ذلك، لكن قد يقال: من اكتفى بقوله: هو عدلي، اكتفى به في ثبوت العدالة [ظاهراً والقاضي] من وراء الكشف عن القرابة وغيرها، كما حكيناه عن الإمام؛ فلا يظهر مع هذا أخذ الخلاف من ها هنا.

نعم، المنع يؤخذ [من ها هنا] قطعاً على توجيه غير أبي إسحاق. فرع: هل يحل للأب تزكية ولده إذا كان القاضي لا يرى ذلك، وهو يجهل أنه أبوه؟ لم أر فيه نقلاً، والذي يظهر: تخريجه على أن الفاسق في الباطن إذا علم حقّاً وطلب لأدائه، وهو ظاهر العدالة مسموع الشهادة- هل يحل له الإقدام على الشهادة أم لا؟ وفيه وجهان حكاهما في "البحر" في فروع ضمن باب ما على القاضي في الخصوم؛ بناءً على وجهين في أن الفاسق، هل عليه إقامة الشهادة؟ وجه الجواز: أنه شهد بالحق ليصل [الحق] إلى مستحقه. ووجه المنع: أن في أدائه إيقاع الحاكم في حكم باطل؛ لأنه إذا حكم بمستند باطل- في نظر الشرع- في حق في نفس الأمر كان باطلاً، والله أعلم. قال: ولا يقبل التعديل إلا ممن هو من أهل الخبرة الباطنة بحاله، أي: في حال الأداء أو قريباً منه؛ كما قاله الشافعي- رضي الله عنه- لأثر عمر- رضي الله عنه-[السابق]، والمعنى فيه: أن الناس يخفون عوراتهم ويغطونها، ولا يتحقق الإطلاع على السريرة، ولكن لا أقل من التوصل إلى ما يغلب على الظن، وذلك لا يحصل إلا بأهل الخبرة الباطنة، ولأن من ليس من أهل الخبرة إنما يعتمد فيما يذكره الظاهر من حاله، ولو اكتفينا بذلك لم يحتج إلى تزكية؛ لأن القاضي في هذا كالشاهد، وهذا بخلاف الشهادة بالجرح لا يشترط فيها أن يكون الشاهدان من أهل الخبرة الباطنة [به]؛ لأنه لا يشهد فيه إلا عن معاينة أو سماع- كما سنذكره- وذلك لا يحتاج إلى خبرة باطنة، وهذا أحد ما يتميز به شهود التعديل على الجرح، وثانيه: أن يكون شهود التعديل عالمين بأسباب التعديل على المشهور، بخلاف [شهود الجرح]؛ فإنه لا تشترط معرفتهم بما يقتضي الجرح؛ لأنهم لابد أن يصرحوا بالسبب المجرح.

ثم اعلم أن القاضي وصاحب المسألة إن كان لا يعرف أن المزكي من أهل الخبرة الباطنة؛ بالشهود بعدالته، ولم يعرف حذقه ومعرفته، سأله كما فعل [عمر]- رضي الله عنه- لأنه قد يعتقد جواز البناء على الظاهر وتحسين الظن، فإذا بحث القاضي زال اللبس، وإن علم أن المزكي خبير به أو خبير بالتزكية، وقد ألف ذلك منه، وراجعه فيها، فوجده خبيراً بصيراً غير مكتف بالظاهر- فإذا أطلق التعديل قال الإمام: فالأصح أن القاضي لا يحتاج إلى مراجعة في إسناد تزكيته إلى الباطن، ومن أصحابنا من شرط هذه المراجعة في كل تزكية، تمسكاً بأثر عمر، رضي الله عنه. قال: وهذا غير سديد والأثر محمول على علم عمر بأن المعدل لم يكن خبيراً، إنما أخذ التعديل، وهذا بخلاف أصحاب المسألة إذا عدلوا عند القاضي واكتفينا بهم، كما هو الصحيح؛ فإنه لا يشترط أن يكونوا من أهل الخبرة. قال الماوردي: ولا يجوز للحاكم أن يسألهم: من أين علمتم التعديل؟ وكذا الجرح إن عادوا به. وكلام ابن الصباغ قريب منه؛ فإنه قال: وليس للحاكم أن يقول كذا. ولفظ البندنيجي: أنه لا يسألهم: من أين تحملوا الشهادة، ولا عمن أخبرهم بذلك. فرع: إذا سمع شخص [من أفواه الناس] دين شخص وأمانته وصلاحه، وشهد جماعة بأنه عدل، فهل يسوغ له تعديله، وليس هو من أهل الخبرة بحاله؟ قال القاضي الحسين: له ذلك إذا تكرر [ذلك] على سمعه من أفواه الناس مرة بعد أخرى في مقامات مختلفة تخرج عن حد التواطؤ، فأما [أن يشهد به] عدلان أو أكثر فلا؛ لأنه يحتمل التواطؤ [في ذلك]. قال: وإن عادوا بالجرح سقطت شهادتهم؛ لعدم الثقة بقولهم، وهذا ظاهر قول الإصطخري وغيره في أن المرجع في التعديل والجرح إلى شهادة أصحاب المسائل،

دون المسئولين، وأما على قول أبي إسحاق فيظهر أن يقال: لا تسقط الشهادة ما لم يشهد اثنان من المسئولين بالجرح، كما يشهدان بالتعديل عند [عود] أصحاب المسائل به. لكن في "الشامل" و"تعليق" أبي الطيب أن أبا إسحاق قال: إذا عادوا إليه فأخبراه بالجرح، توقف، وقال للمدعي: زدني في شهودك. قال القاضي الحسين: ولا تتوقف الشهادة بالجرح على سؤال القاضي؛ لأن الجرح تسمع فيه شهادة الحسبة. ثم في حال عودهم بالجرح لا يستحب أن يعاد الجرح في العلانية؛ لما في ذلك من الهتك، بخلاف ما إذا عادوا بالتعديل كما تقدم، صرح به الماوردي والبغوي. قال: فإن عاد أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل أنفذ آخرين؛ لأن النصاب في الجرح والتعديل لم يكمل، فلعله بإرسال الآخرين يكمل في أحدهما أو فيهما؛ فترتب على ذلك حكمه، كما سنذكره. وفي "المهذب": أنه يبعث ثالثاً، فإن عاد بالجرح كملت بينة الجرح وعمل بموجبها، وإن عاد بالتعديل كملت بينة التعديل وعمل بموجبها. وهذا أخذه من قول الماوردي: ويجوز أن يقتصر فيمن ينفذه بعدهما على واحد؛ لأن بالواحد تكمل بينة الجرح أو التعديل. وخص القاضي الحسين محل بعث الواحد بحالة عود اثنين بالتعديل، وواحد بالجرح. وحكى الإمام في هذه الصورة عن أبي إسحاق أنه يقول للمدعي: زدني في شهودك، وقال: إن أراد به على وجه الاحتياط، [فقريب]، وإلا فلا وجه [له]. والذي أورده [القاضي] أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ في مسألة الكتاب: [الأول. وقال] الماوردي: إنه أحوط، و [هو] الذي نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- في "المختصر"، لكنه قال: "أعادهما مع غيرهما"؛ ولأجل هذا قال

البندنيجي: إنه يبعث بهما ثانياً، ويبعث مع كل واحد منهما غيره. وقال الماوردي: إن قول الشافعي- رضي الله عنه-: "أعادهما مع غيرهما" يحتمل أمرين: أحدهما: أن يعيد ثانياً للبحث؛ فربما ظهر لمن عدل جرح يوافق [فيه] صاحبه، ويسمع الحاكم من كل منهما رجوعه إلى ما بان له من خلاف الشهادة الأولى. والاحتمال الثاني: أن يكون معنى قوله: "أعادهما"، يعني: عن الشهادة، إلى حيث شاء؛ لينظر ما شهد به الثالث. قال: فإن عدله اثنان وجرحه اثنان قدم الجرح على التعديل؛ لأن شهادة الجرح [شهادة على] أمر باطن، وشهادة العدالة [شهادة] على أمر ظاهر، فكانت تلك أولى؛ لأنها علمت ما خفي على الأخرى؛ فصار هذا كما لو شهد اثنان بدين، وشهد آخران بقضائه- تقدم شهادة القضاء؛ أنها علمت ما خفي على الأخرى؛ ولأن الجارح مثبت والمعدل نافٍ، والإثبات أولى من النفي. وهكذا الحكم فيما لو شهد اثنان بالجرح، وثلاثة فأكثر إلى مائة بالتعديل؛ كما قاله القاضي الحسين وغيره. وألحق الإمام بهذه الصورة ما إذا تحقق عند القاضي الفسق بالتسامع، وشهد معدلون على العدالة كما حكيناه من قبل. قال الأصحاب: ولا تقدم بينة التعديل على الجرح إلا في مسألة [واحدة]، وهي [إذا شهد] اثنان على جزحه في بلد، ثم انتقل إلى بلد أخرى، فشهد آخران منها بالتعديل؛ فإنه يقدم التعديل على الجرح. كذا أطلقوه، ويظهر أن محله إذا كان بين انتقاله من البلد الأول إلى الثاني مدة الاستبراء، وإلا فلا يقدم.

وقد ذكر الطبري مسألة أخرى، وهي أن يقول اثنان: إنه زنى أو سرق، ويقول آخران: إنه تاب وحسنت حاله. قال: ولا يقبل الجرح إلا مفسراً، أي: لا يقبل إلا بعد ذكر سبب الجرح؛ لأن أسبابه مختلف فيها، فقد يظن الشاهد ما ليس بجرح عند القاضي جرحاً، مع أن الاعتبار فيه بما يراه القاضي. قال الشافعي- رضي الله عنه- في "الأم": شهدت رجلاً صالحاً شهد على رجل عند رجل بالجرح، فقال له: بم جرحته؟ فامتنع من تفسيره، وقال مثلي لا يخفى عليه الشهادة المجرحة، فألح عليه، وقال: لا أقبل حتى تبين السبب، فقال: رأيته يبول قائماً يترشش البول على ثيابه ورجليه ويصلي فيها، فقال: رأيته فعل ذلك؟ فقال: أراه سيفعل ذلك؛ فأسقط شهادته. فإذا فسر الشاهد السبب نظر فيه القاضي: فإن كان عنده سبباً- أيضاً- حكم به وأسقط الشهادة، وإلا توقف كما قال الماوردي، وهذا بخلاف التعديل؛ حيث لا يشترط ذكر أسبابه على المشهور، قال ابن الصباغ: لأن أسبابه تكثر، ولا يمكن ضبطها. وقال القاضي أبو الطيب: لأن أكثر ما فيه أن يذكر ما يفعل من الطاعات وأداء الفرائض على حسب ما شاهده، وقد يفعل ذلك كله ويفسق بمعصية يأتي بها سرّاً، وليس كذلك سبب الجرح؛ فإنه يمكن الإحاطة به؛ فلهذا وجب كشفه. قال الأصحاب: وكشفه أن يقول: رأيته يزني- كما قال الإمام- أو يسرق، أو يغصب، أو يلوط، ونحو ذلك، أو: أقر عندي بالزنا، أو السرقة، أو سمعته يقذف أو يكذب أو يمشي بالنميمة، أو يقول ما يعتقده من البدع المستنكرة؛ كما قاله الماوردي، ونحو ذلك. وهذا الذي أراده الشافعي- رضي الله عنه- بقوله: لا أسمع الجرح إلا بالمشاهدة أو السماع. وقال البندنيجي وابن الصباغ: إن هذا القول من الشافعي عائد إلى أصحاب المسائل؛ لأنه يحتاج أن يعلم منه ما يفوضه الحاكم إليه من ذلك؛ ليشهد به عنده، وإنما يصير [به] عالماً بأن يعلم ذلك مشاهدة أو سماعاً. وألحقا- وكذا الماوردي- بما ذكرناه

من قسم السماع، ما إذا سمع من عدد التواتر [أو الاستفاضة ذلك] عنه، وحصل له العلم، قالوا: ويطلق الشهادة في هذه الحالة كما يشهد بالموت والنسب والملك المطلق. فأما السماع من الواحد والعشرة، فقد قال الشيخ أبو حامد: إنه لا يصير به عالماً بذلك، لكنه يشهد عند الحاكم بما سمع، ويكون شاهد فرع، والذي سمع منه شاهد الأصل؛ [فيكون حكمه حكم شاهد الفرع والأصل]، ولا يثبت عنده ما قال شاهد الأصل إلا باثنين. قال ابن الصباغ: وهذا بخلاف ما ذكروه في الاستفاضة. وهذا ما ذكره العراقيون، أعني: جملة ما ذكرته. وفي "النهاية" أن من أصحابنا من لم يشترط هذه المبالغة في ذكر السبب، وعني بالمبالغة ما حكاه من قوله: رأيته يزني ونحو ذلك. قال: واكتفى بذكر ما بينه على ما يقع به الجرح لا محالة، وإنه خرجه بعض العراقيين على طريقة الإصطخري فإن مبناها على طرف من المسامحة. قال الإمام: ووراء هذا سر، وهو أن المزكيين إذا جرحا بالنسبة إلى الزنى، ففي العلماء من جعلهما قاذفين إذا لم يساعدهما عليه شاهدان آخران، وبه قال بعض أصحابنا، ومنهم من يستثني مقام الجرح، ولا يجعل نسبته [إلى] الزنى في هذا المقام قذفاً، والسبب فيه الحاجة؛ فإن المزكي مراجع مستخبر، والقاذف من يبتدئ من غير مراجعة، فعلى الأول لا يكلفون التصريح بما يجب احتمال ما يأتون به إذا عرضوا؛ حتى [لا] يقضي عليهم عند التصريح بالإيجاب، وهذا تمهيد لعذر المراجع المستخبر، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "اذْكُرُوا الفَاسِقَ بِمَا فِيْهِ، يَحْذَرْهُ النَّاسُ".

قلت: وما ذكره الإمام عن بعض الأصحاب [أنهم] غير قذفة، ينطبق عليه قول ابن الصباغ- حكاية عن الشيخ أبي حامد-: إن القاضي إذا سأل الشاهدين عن سبب الجرح، وكان زنى- لم يكن قذفاً، سواء كان بلفظ الشهادة أو بغير لفظها؛ لأنهما لم يقصدا إدخال المعرة عليه بالقذف، وإنما قصدا إثبات صفته عند الحاكم ليبني الحاكم حكمه عليه. والماوردي قال بذلك فيما إذا كان الشاهدان من أصحاب المسائل، وقال فيما إذا كان من الجيران: إنهما قاذفان إذا لم تكمل الشهادة، والفرق: أن أصحاب المسائل ندبوا للإخبار بما سمعوه، بخلاف الجيران. وكلام البندنيجي يقتضي أن ما حكي عن أبي حامد في أصحاب المسائل أيضاً [، ثم] فيما أبداه الإمام من عند نفسه في التوجيه- نظراً من حيث إنه يقتضي اختصاص الاكتفاء بالتعريض بالنسبة إلى الزنى، أما في غيره فلا، وقد أفهم كلامه أولاً الاكتفاء بالتعريض فيه، و [في] كل ما ينسبه إليه. قال: وإن سأل المدعي أن يحبسه [حتى] تثبت عدالتهم حبس؛ لأن الظاهر عدالة الشهود، وإنما يتوقف الكشف عن جرحهما، ولأن المدعي قد فعل ما عليه من إحضار البينة، وبقي على الحاكم ما عليه من معرفة العدالة؛ [كذا] قاله الماوردي وابن الصباغ في كتاب اللعان، وهو مختار أبي إسحاق المروزي كما حكيناه عند الكلام في المحبسين، والذي صححه البغوي، وقال في "المهذب":

إنه ظاهر المذهب، وبه جزم القاضي أبو الطيب قبيل كتاب الدعاوى؛ حيث قال: إنه يحبس قولاً واحداً. وعلى هذا: فلا تتقيد مدة حبسه، والمرجع فيها إلى القاضي كما قاله في "البحر". وفي "الرافعي" أن العراقيين والقاضي الروياني قالوا: إن الحبس قبل التعديل يبقى إلى ظهور الأمر للقاضي بالتزكية [أو الجرح]، ولا تتقدر له مدة. وكذا رأيته في "تعليق" البندنيجي قبيل باب القضاء على الغائب، ولم يحك الإمام سواه في آخر باب الشهادة على الوصية، ووراء ذلك وجوه [أُخر]: أحدها- حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما عند الكلام في المحبسين-: أنه لا يحبس، وهو رأي الإصطخري، وقد حكاه المصنف والبغوي ها هنا، ولم يحك القاضي الحسين في باب الشهادة على الوصية سواه، وأشار إليه الإمام [ثم]، ووجهه: أن الأصل براءة الذمة، والحق لا يوجبه إلا ظهور العدالة، ولم تظهر، مع أنه عقوبة في الحال. وهذا ما رجحه القاضي الحسين قبيل كتاب الدعاوى، وقال: إن الأول لا يصح. بعد أن نسبه إلى قول العراقيين من أصحابنا، لكنه يطالب بكفيل، وحينئذ فيكون اختياره: أنه لا يحبس، ويطالب بكفيل، وقد حكاه البغوي وجهاً آخر هكذا، وقال: إن له ملازمته على طلب الكفيل. [قال]: وإذا بعث القاضي معهما رجلاً يستكفل، فالأجرة على المدعي. الثالث: قال الإمام في كتاب اللعان: إني وجدت في بعض الطرق رمزاً إلى أن المدعى عليه لا يحبس في القذف والحد.

الرابع: حكى البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين والإمام عن الإصطخري: أنه لا يحبس في المال، وإن قلنا: يحبس في القذف والقصاص؛ لأن المال يمكن استيفاؤه في غيبته، بخلاف القذف والقصاص. قال ابن الصباغ: وما ذكره من الفرق ليس بصحيح؛ لأن المال قد يتعذر استيفاؤه في غيبته بأن يخفيه، ولا يظهر للحاكم. وهذا حكم طلب الحبس، فلو طلب من القاضي أن يحجر عليه في المال في صورة كون المدعي به ديناً؛ مخافة أن يضيع ماله، أو يحتال فيعزيه لإنسان- فهل يجاب؟ حكى الإمام قبيل كتاب الدعاوى [فيه خلافاً] عن الأصحاب، والذي قاله الأكثرون: أنه لا يجاب؛ فإن ضرر الحجر عظيم، فلا سبيل إلى الإجابة إليه، [قال]: ولا يتجه عندنا إلا هذا، وقال القاضي-[يعني] الحسين-: إن كان يتوهم القاضي هذا في المشهود عليه بأن كان يعرفه محتالاً خصماً، فله أن يجيبه، وإلا فلا. والذي رأيته في "تعليقه": أنه إن طلب الحجر وجب على الحاكم أن يحجر عليه، وإن لم يسأل ففي وجوبه عليه وجهان: أحدهما: هو حق لله تعالى؛ كالتعديل على أصلنا، لا يفتقر إلى سؤال الخصم. والثاني: لا يجب، بل [هو] حقه كالكفالة ببدن من عليه الحق. ثم [قال:] إذا قلنا بالوجوب فلو أغفله القاضي فلم يحجر [عليه]، وتصرف المشهود عليه بالبيع أو بالإقرار، ثم خرج الشهود عدولاً- هل ينقض تصرفه أم لا؟ الظاهر: أنه ينقض، ويحتمل أن يقال: لا ينقض، ونظيره: مجرد السفه والتبذير هل يوجب الحجر أم لا؟ وقد حكى عن رواية أبي الحسين بن القطان: أن الدين المدعي به يستوفي، ويوقف.

ولو كان المدعي عيناً، وطلب المدعي الحيلولة بينه وبينها، أجيب إلى ذلك إن كانت العين مما يخاف هلاكها والتفويت عليها، وتؤجر إذا أمكن إيجارها عند الطلب، وإن كانت عقاراً فوجهان حكاهما الإمام، وأشبههما في "الرافعي"، وبه جزم القاضي الحسين، وهو قضية إطلاق الأكثرين: أنه يجاب أيضاً. وعن حكاية أبي الفرج عن الإصطخري: أنه لا تنزع [العين] أصلاً. وفي "التهذيب" إجراء وجهين في الحيلولة وإن لم يطلبها المدعي، كما سنذكرهما في الحيلولة بين العبد المدعي العتق وبين سيده. ولو كان المدعي عبداً ادعى على سيده أنه أعتقه، وسأل القاضي أن يحيل بينه وبين سيده- أجيب، ويتكسب وينفق عليه من كسبه، فإن فضل شيء حفظ وسلم إليه إن زكيت البينة، وإلا فيسلم للسيد إن جرحت [البينة]، فإن لم يكن [له] كسب، أنفق عليه من بيت المال، [ثم يرجع] على سيده إن بان جرح الشهود واستمرار الرق، وإن بان حرّاً فقيراً فلا رجوع. وعن ابن كج حكاية وجهين في أن العبد هل يؤجر بدون طلبه أو طلب السيد، أم لابد من طلب أحدهما؟ قال الرافعي: والأول أقرب إلى ظاهر النص. ولو لم يطلب العبد الحيلولة، فهل للقاضي فعلها؟ فيه وجهان في "التهذيب"، والذي حكاه القاضي الحسين والإمام: أن له ذلك إذا رآه، وأنه لو كان المدعي العتق أمة، وجب احتياطاً للبضع. وكذا [فيما إذا] كان المدعي طلاقاً تتحتم الحيلولة. ولو كان المدعي به زوجية امرأة منعناها من الانتشار على المشهور، وذكر بعض الأصحاب وجهاً: أنها لا تمنع، بخلاف العبد؛ فإن الأصل في المرأة الحرية وتخلية السبيل، قال الإمام: وهذا وجه ضعيف، وإذا قلنا [به]، فهل نأخذ

[منها] كفيلاً؟ قال الصيدلاني: فيه وجهان ذكرهما صاحب "التقريب". قال: فإن قال المدعي: لي بينة غائبة، فهو بالخيار إن شاء حلف المدعى عليه؛ لأن الغائبة كالمعدومة، وإن شاء صبر حتى تحضر البينة؛ لأن الحق في طلب اليمين له، فله تأخيره، وليس له أن يلازمه إلى حضور بينة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ"، وهذا بخلاف ما لو كانت البينة في البلد؛ فإن له أن يلازمه إلى حضورها ما كان مجلس الحكم في يومه باقياً؛ فإذا انقضى المجلس لم يكن له ملازمته ما لم يشهد بوجود البينة قرينة، فإن شهدت أحواله بوجود البينة، جاز أن يلازمه إلى غاية أكثرها ثلاثة أيام، كذا حكاه الماوردي في باب: ما على القاضي في الخصوم. وحكى في "البحر" في الفروع المذكورة بعد كتاب الأقضية أن ابن أبي أحمد قال: عندنا لا يلازمه إلا أن يكون في مقدار جلوس القاضي، فيلازم حتى تحضر البينة. وهذا ما حكى الغزالي أن القضاة اصطلحوا عليه. قال: وإن أقام شاهداً واحداً، أي: عدلاً، وسأله أن يحبسه حتى يأتي بالثاني، أي، وقال: إنه في مكان قريب؛ كما قال الشافعي- رضي الله عنه- ففيه قولان: أصحهما: أنه لا يحبس؛ لأن الحق لم يثبت بعد، وهذا ما نص عليه في اللعان، وقد وافق الشيخ في تصحيحه ابن الصباغ وصاحب "البحر" [والبغوي] والنواوي. والثاني: يحبس؛ لأنه لما حبس مع كمال العدد ونقصان العدالة جاز أن يحبس مع كمال العدالة ونقصان العدد، وهذا ما ادعى الرافعي [أن] الروياني اختاره.

فعلى هذا: لو كان الشاهد مجهول الحال، فهل يحبس؟ فيه وجهان في "البحر"، وكذا في "الحاوي" و"النهاية" قبيل كتاب الدعاوى. وإذا قلنا: يحبس في حال كونه عدلاً، جرى جميع ما ذكرناه عند إقامة الشاهدين المجهولين فيه، إلا ما سنذكره من تقييد مدة الحبس. والقائلون بتصحيح الأول فرقوا بأن العدالة إذا ثبتت تبين بظهورها قيام الحجة مستنداً إلى وقت قيام الشهادة، ولا كذلك في الشاهد الواحد؛ فإن عند الإتيان بالثاني تتم. وقد حكى القاضي الحسين [الخلاف في أصل المسألة وجهين، وقيل: إن كان في المال، حبس] قولاً واحداً؛ لأنه يمكنه أن يحلف مع شاهده ويستحق، فجرى مجرى حضور الشاهدين، وهذه طريقة أبي إسحاق، كما حكاه البغوي والمصنف ها هنا. وقال الإمام والقاضي الحسين في كتاب اللعان: إن الخلاف في هذه الصورة مرتب على الخلاف في نظيرها من حد القذف والقصاص، وها هنا أولى بالحبس؛ لما ذكرناه. ثم قال الإمام: وقد يعارض ذلك بأن الحلف مع الشاهد إذا كان ممكناً فيجب أن يقال للمدعي: أنت متمكن من إثبات حقك باليمين، [فإن حلفت ثبت حقك] فافعل هذا أو خَلِّ حقك، وهذا كلام فيه فقه، وإذا عارض ما قدمناه في الترتيب أسقطه. انتهى.

وقد حكى الرافعي هذا طريقة عن رواية أبي الفرج، لكن ابن الصباغ والبندنيجي قالا: إنه يحبس في المال قولاً واحداً على رأي الأصحاب، وعلى رأي الإصطخري: لا يحبس، ولا خلاف أنه لا يحبس عند إقامة الشهادة في حدود الله- تعالى- لطلب الاستزكاء؛ لأنها مبنية على المساهلة، أما إذا قال: إن الشاهد الثاني في مكان بعيد- وهو الذي يتعذر حضوره منه في ثلاثة أيام- فإنه لا يحبس قولاً واحداً؛ كذا صرح به القاضي أبو الطيب وصاحب "البحر" قبيل كتاب الدعاوى، وحكاه في "الشامل" عن أبي إسحاق. ومن طريق الأولى: إذا ادعى أن شاهده قريب، فحبسناه ثلاثة أيام، ولم يحضره- أنه يخرج، وهو ما حكاه الرافعي عن العراقيين والروياني، وقد نقله ابن شداد عن "النهاية" و"الحاوي"، وهو فيهما في آخر باب الشهادة بالوصية، ورأيته في "تعليق" البندنيجي قبيل باب القضاء على الغائب. فرع: الثمرة والغلة الحادثتان بعد شهادة الشاهد الأول لمن تكون؟ ينظر: إن أرَّخ الثاني شهادته بيوم شهادة الأول أو بما قبله، كانت للمدعي، وإلا فلا شيء له إلا من حين شهادة الثاني، كذا حكاه الرافعي، والقاضي الحسين نسبه في موضع قبيل [باب] مختصر الدعوى إلى نص الشافعي- رضي الله عنه- ثم قال: إذا أقام شاهداً واحداً في المال، فإن قلنا: يحجر عليه، فعلى هذا نوجب عليه أجر المثل من وقت إقامة الشاهد الأول، ويقع الملك له عقيب [إقامة الشاهد] الأول، ون قلنا: لا يحجر عليه، فعلى هذا ما حصل من النماء والزيادة بعد إقامة [الشاهد الأول] وقبل [إقامة الشاهد الثاني،] يكون ملكاً للمدعى عليه، وفيه قول آخر: أن الثمرة والنتاج الذي حصل بعد إقامة الشاهد الأول وقبل الثاني، تكون ملكاً للمدعي. قال: وإذا علم الحاكم [- أي: بالمشاهدة-] وجوب الحق فهل له أن يحكم بعلمه، أي: على من تسوغ له الشهادة عليه، ولمن تسوغ شهادته له؟ فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: يحكم؛ لقوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]، وهو يعلم أن أحدهما محق في الخصومة؛ فلزمه الحكم بالحق، وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَمْنَعُ أَحَدَكُمْ هَيْبَةُ النَّاسِ [أَنْ يَقُولَ] فِي حَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ سَمِعَهُ". لأنه يجوز له الحكم بشهادة الشاهدين، وذلك من طريق الظن؛ فبالعلم أولى، وهذا ما نص عليه في "الرسالة" حيث قال: وأقضي بعلمي وهو أقوى من شاهدين، أو شاهد وامرأتين، وهو أقوى من شاهد ويمين، وهو أقوى من النكول ورد اليمين. وقال الربيع: كان الشافعي- رضي الله عنه- يرى القضاء بالعلم، وكان لا يبوح به لقضاة السوء، وقد اختاره المزني، وصححه الجمهور ومنهم الماوردي والروياني والفوراني، وبعضهم قطع به. والثاني: لا يحكم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَاكَ". وقد روي عن عمر- رضي الله عنه- "أَنَّهُ تَدَاعَى عِنْدَهُ رَجُلَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ شَاهِدِي، فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمَا شَهِدْتُ وَلَمْ أَحْكُمْ، [وَإِنْ شِئْتُمَا حَكَمْتُ] وَلَمْ أَشْهَدْ". ولأن علمه لو أقيم مقام الشاهدين لا يعقد النكاح بحضوره وحده. وهذا ما قال الرافعي إن الروياني اختاره، وصححه في "الوجيز"؛ لفساد الزمان وتعرض الشبهات إليه. وعلى هذا: لو شهد عنده شاهد بما علمه، فهل يقوم علمه مقام شاهد آخر؟ فيه

وجهان، أصحهما في "الوسيط": المنع، قال الإمام: وهو القياس. والقائلون بالقول الأول أجابوا عن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم في تلك الواقعة من المحق منهما. وعن أثر عمر- رضي الله عنه- بأنه لم يثبت. وعن النكاح: فالمغلب في حضور الشهود فيه التعبد، والتهمة موجودة فيما إذا قال: ثبت عندي وصح لدي، كذا من غير أن يبين سبب الثبوت، ومع ذلك لا يمنع نفوذ الحكم؛ فدل على عدم تأثيرها في الحكم. وهذان القولان نص عليهما في "الأم"؛ كما قاله الماوردي. والثالث: يحكم في غير حدود الله- تعالى- لما ذكرناه، ويدخل في ذلك الزكوات، كما قاله القاضي الحسين، ولا يحكم في حدوده، وهي: حد الزنى، والسرقة، والمحاربة، والشرب؛ لأنها تدرأ بالشبهات، ومندوب إلى الستر فيها، وقد روي أن أبا بكر- رضي الله عنه- قال: "لَوْ رَأَيْتُ رَجُلاً عَلَى حَدِّ لَمْ أَحِدَّهُ حَتَّى تَقُومَ البَيِّنَةُ عِنْدِي". وهذه الطريقة هي التي ذهب إليها الأكثرون؛ كما قال في "الحاوي"، وأن القائل بطرد القولين في الجميع هو ابن سريج وابن أبي هريرة. وقد رتب المراوزة الخلاف في المسألة، فحكوا في الحكم بالعلم في الأموال قولين، وفي حدود الله- تعالى- قولين مرتبين على [الأولين، وأولى بالمنع، وفي الحدود المتعلقة بالآدمي قولين مرتبين على] [القولين في حدود الله تعالى]، وأولى بالجواز. أما [إذا علم بوجوب الحق بالخبر المتواتر، فإن قلنا: يقضي بما علمه بالمشاهدة فها هنا أولى، وإلا فوجهان محكيان في "النهاية" قبيل باب "كيف تفريق قسم الصدقات":

أحدهما: لا كالمعلوم بالمشاهدة. والثاني: يقضي؛ لأن المحذور [من] منع القضاء بالعلم تعرضه للتهمة، فإذا شاع الأمر زال هذا المعنى. وأما] الحكم على من لا تقبل شهادته عليه، [أو الحكم] لمن ترد شهادته له- فممتنع قطعاً، وقد أشرنا إليه فيما تقدم. قال القاضي الحسين وغيره: ولا خلاف أنا وإن قلنا: لا يقضي بعلمه، فلا يسوغ له القضاء بخلاف علمه، وذلك مثل أن يشهد شاهدان على زوجية، والقاضي يعلم أن بينهما محرمية أو طلاقاً ثلاثاً، أو يشهدا على موت إنسان في تاريخ ذكراه، وهو يعلم أنه كان حيّاً في ذلك الزمان، أو برِق عبد والقاضي يعلم أنه أعتقه. وقد نسب بعضهم إلى الإصطخري أنه قال يتعين القضاء بالعلم في مواضع: منها: أن يقر عنده أنه طلق امرأته ثلاثاً، ثم يدعي زوجيتها. ومنها: أن يدعي أن فلاناً قتل مورثه وهو يعلم أنه قتله غيره. ومنها: أن يدعي رجلأن المرأة التي في يده أمته، ويصدقه على ذلك، والقاضي يعلم أنها ابنته. وفي "الحاوي": أنا إذا [لم نجوز] الحكم بالعلم، فأدى عند القاضي شاهدان بما يعلم خلافه، هل يجوز حكمه بشهادتهما؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن الشهادة هي المعتبرة في حكمه، دون علمه، [وهذا يوافقه الوجه الصائر إلى أنه لا يقضي في الجرح بعلمه]. والثاني- وهو أصحح-: لا يجوز؛ لأنه [متحقق لكذبهما]. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أموراً: أحدها: أن محل جواز الحكم في القضاء، بالعلم، لا بالظن، وعليه ينطبق قول

الإمام هاهنا: إنا إذا [جوزنا له أن يقضي] بعلمه، فذلك فيما يستيقنه لا ما يظنه، وإن غلب على الظن فإن الظنون لها مآخذ لا تستند إلى غيرها. وقوله في كتاب التفليس: ومن لطيف الكلام في ذلك: أن كل ما تستند الشهادة فيه إلى اليقين فلو علمه القاضي بنفسه اختلف القول في جواز قضائه بعلمه، ولو انتهى القاضي فيما لا علم [فيه] له على منتهى يشهد فيه، كالأصول التي ذكرناها- فلا يحل له القضاء، وإن كان يحل له أن يشهد بما أحاط به وظهر عنده، فليتأمل الناظر في هذا؛ فإنه من أسرار القضاء. والذي ذكره من الأصول هي الشهادة على أنه لا مال له أو لا وارث له، والشهادة بالتعديل، والشهادة على الأملاك، وقد سئل الغزالي ذلك في قوله: ولا خلاف أنه لا يقضي بظنه الذي لا يستند إلى بينة. لكن في كلام غيرهما ما ينازع في ذلك، قال الماوردي في كتاب اللقيط: إذا رأى [الشاهد] رجلاً يتصرف في دار مدة طويلة من غير معارضة جاز أن يشهد له بالملك على قول، كما يجوز للحاكم أن يحكم به، والحكم أوكد من الشهادة، والثاني: لا يجوز ذلك للشهود وإن جاز للحاكم؛ لأن للحاكم أن يجتهد، وليس للشهود أن يجتهدوا، وليس هذا إلا بناءً على جواز القضاء بالعلم، [وهو غير حاصل في هذه الصورة. وكذلك صاحب "التهذيب" والأئمة- كما قال الرافعي- مثَّلوا القضاء بالعلم] الذي هو محل الخلاف: بما إذا ادعى عليه مالاً، وقد رآه القاضي أقرضه ذلك، أو سمع المدعى عليه أقر بذلك، قال [الرافعي]: ومعلوم أن رؤية الإقراض وسماع الإقرار لا يفيد اليقين بثبوت الحكم به وقت القضاء؛ فدل ذلك على أن المراد من [القضاء] بالعلم: [ليس اليقين؛ بل الظن المؤكد].

[قلت: ولا شك في أن ما قاله الماوردي مخالف لما قالاه، فأما ما ذكره البغوي وغيره فقد يجاب عنه أن يقال: ما أسند القضاء إليه هو الإقرار والإقرار الذي هو السبب، ولاشك في أنهما معلومان؛ فلذلك نفذنا قضاء القاضي إذا كان ذلك مستنده في القضاء التعرف والتسامع ونحوهما؛ فإنه لم يستند إلى معلوم]. [قلت: وسيأتي ما يعضد ذلك. وفي "أدب القضاء" لابن أبي الدم: أن في موضع من "النهاية": أن القاضي قال: هل يقضي القاضي بعلمه؟ فيه خلاف، فإن منعناه فهل يقضي بما علمه من أخبار التواتر؟ فيه خلاف مرتب على ما إذا علمه بالمشاهدة، وأولى بالجواز ها هنا؛ لأنه لا تهمة تلحقه فيما إذا علمه بأخبار التواتر، بخلاف علمه بغيرها؛ فإنه متهم]. الثاني: أنه لا فرق في جريان الخلاف بين أن يكون ما حصل له من العلم قبل ولايته أو بعدها في محل ولايته أو غيره، وهو ما صرح به القاضي أبو الطيب والحسين وغيرهما من الفريقين، لكن هذا اللفظ يشمل ما إذا كان العلم قد حصل في مجلس الحكم أو غيره، وعليه ينطبق ما حكاه الماوردي عن لفظ الشافعي- رضي الله عنه- في أدب القضاء من الأم، حيث قال: لا يجوز فيه- أي القضاء بالعلم- إلا واحد من قولين: أحدهما: أنه له أن يقضي [بكل ما] علم قبل الولاية وبعدها في مجلس الحكم [وغيره من حقوق الآدميين. والثاني: لا يقضي بشيء من علمه في مجلس الحكم وغيره] إلا أن يشهد شاهدان على مثل ما علم؛ فيكون علمه وجهله سواء. وفي "النهاية" و"الإبانة": أنا إذا قلنا: لا يقضي بعلمه، فأقر شخص على رءوس الأشهاد- حكم عليه قولاً واحداً؛ فإن الإقرار في محل الحكم حجة ظاهرة، وقال الغزالي: إنه أقوى الحجج. وهذا وجه حكاه الماوردي عن الأكثرين، ومنهم الكرابيسي وابن سريج، مع وجه آخر موافق لمذهب مالك: أنه لا يقضي إذا أقر عنده

خصم إلا أن يشهد بإقراره شاهدان؛ كي لا يصير حاكماً بعلمه، وقد منعناه، وعلى هذا الوجه ينطبق ما حكيته عن البندنيجي وغيره عند قول الشيخ: والمستحب ألا يحكم إلا بمشهد من الشهود. وظاهر النص الذي حكيناه عن "الأم" يدل عليه أيضاً. نعم، الخلاف المشهور فيما إذا أقر عنده سرّاً، هل يحكم به وقد منعنا القضاء بالعلم؛ لأنه حجة، وجملة مجالس القضاء بمثابة مجلسه الذي يتصدى فيه [للقضاء]، هكذا وجه الإمام الجواز مع حكمه بتضعيفه، والتوجيه المذكور يعرفك أن المراد بالسر: ما إذا أقر من محل ولايته لا في مجلس الحكم، وقد أشار الماوردي إلى تلخيص محل الخلاف في الإقرار في مجلس الحكم في موضعين من "الحاوي": أحدهما: في كتاب الأقضية حيث قال: إذا ادعى رجل على رجل حقّاً، فأجاب المدعى عليه بالإقرار قبل سؤال القاضي صار القاضي حاكماً فيه بعلمه، فإن منع من الحكم بالعلم لم يجز أن يحكم به عليه إلا أن يقر بعد سؤاله. والثاني: في كتاب الإقرار حيث قال: لا يصح الإقرار إلا بأربعة شروط، الشرط الرابع [منها]: وهو المقر عنده، وهو من يصير الحق به محفوظاً، وهو أحد نفسين: إما حاكم ملزم، أو شاهد متحمل، فإن كان الإقرار عند حاكم، فمن شرطه: أن يكون بعد سماعه الدعوى عليه، فإن أقر قبل سماع الدعوى أو من غير دعوى، ففي صحة الإقرار لأصحابنا وجهان: أحدهما: يصح، وحكاه ابن المنذر عن الشافعي، رضي الله عنه. والثاني: لا يصح. قال: ويشبه أن يكون اختلافهم في هذا مخرجاً من اختلاف قوليه: في أن الحاكم هل له أن يحكم بعلمه أم لا. الثالث: أنه لا فرق فيما جرى الخلاف فيه بالقضاء بالعلم بين شيء وشيء، وقد قال العراقيون- كأبي الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم-: إنه يقضي في الجرح والتعديل بعلمه وجهاً واحداً، حتى قال الماوردي عند الكلام في البحث عن

حال الشهود: إن هذا مما لم يختلف فيه مذهب الشافعي، رضي الله عنه. وهذا الذي وعدنا من قبل أنه يدل على أن المراد بالعلم: الظن المؤكد؛ لأن العدالة لا تعلم يقيناً. وبعض المراوزة لما نظر إلى ذلك، ونظر إلى أنه لا يحكم إلا بما علمه- منع القضاء بالتعديل، إلا بعد تزكية شاهدين، وهذا ما حكيته عن رأي الإمام في كتاب التفليس، والقاضي الحسين رأى تخريج الحكم بالعدالة على القضاء بالعلم، وفي "الذخائر" طرده في الحكم بالجرح أيضاً، وقد حكى الماوردي [هذا طريقة] في كتاب الشهادات عند الكلام في حرية الشاهد، حيث قال: وكان بعض أصحابه- يعني الشافعي، رضي الله عنه يقول: هل يحكم بعلمه في الجرح والتعديل أم لا؟ فيه قولان. واعلم أن الماوردي قال ها هنا: إنا إذا جوزنا القضاء بالعلم كان نفوذه معتبراً بشرطين: [أحدهما:] أن يقول للمنكر: قد علمت أن له عليك ما ادعاه. والثاني: أن يقول: وحكمت عليك بعلمي، فإن اقتصر على أحد الشرطين وأغفل الآخر [لم ينفذ حكمه] قال: وإن سكت المدعى عليه ولم يقر ولم ينكر، أي: ولا صمم به ولا خرس- قال له الحاكم: إن أجبت وإلا جعلتك ناكلاً؛ تنبيهاً له على الحكم. قال: ويستحب أن يكرر [ذلك عليه] ثلاثاً، أي: ويعرفه أن حكم النكول استيفاء الحق بيمين المدعي؛ لاحتمال أن يكون قد لحقه دهش أو لا يعرف حكم النكول. قال: فإن أجاب وإلا جعله ناكلاً، [أي] بأن يقول: قضيت عليك بالنكول، أو يقول للمدعي: احلف، وحينئذ إذا حلف قضى له، قال في "المهذب": لأنه لا يخلو

إذا أجاب من أن يقر أو ينكر، فإن أقر فقد قضى عليه بما يجب على المقر، وإن أنكر فقد وصل إنكاره بالنكول فقضينا عليه بما يجب على المنكر إذا نكل عن اليمين، وقد تقدم فيما يتم به النكول عن اليمين [كلام] هو بعينه جار ها هنا فيما فهمته من كلامهم، وقد أشار إليه الماوردي- أيضاً- حيث قال: من امتنع عن الإقرار والإنكار قد يقول: لا أقر ولا أنكر، أو يسكت فلا يجيب؛ فيجري عليه حكم الناكل. وقال الإمام في باب الامتناع من اليمين: إنه إذا سكت ولم يجب المدعي، قال له: أجب فليس بك بكم ولا صمم، فإن تمادى على سكوته جعل ذلك إنكاراً في حكم عرض اليمين، ثم يعرض اليمين، ويجعل التمادي على السكوت نكولاً عن اليمين إذا لم يظهر عنده سبب مسكت. وهذا معنى قول الغزالي: أما السكوت فهو قريب من الإنكار. أما الأصم أو الأخرس إذا كانت له إشارة مفهمة فهو كالناطق، وإن لم تكن قال في "الحاوي": فهو كالغائب؛ فيجري عليه حكم الغائب. ولا يجوز القضاء بالنكول عندنا [من غير يمين المدعي] إلا في مسائل نذكرها- إن شاء الله تعالى- في باب اليمين في الدعاوى على خلاف فيها. قال: وإن قال: لي حساب أريد أن أنظر فيه، لم يلزم المدعي إنظاره؛ لأن فيه تأخيراً لحقه، وهذا قد حكاه الإمام هنا وفي كتاب الإقرار، ولم يحك سواه، ومقتضى ما حكيناه عن "المهذب" وغيره من إمهاله في اليمين ثلاثة أيام بعد [إنكاره للحق]، أن يمهل ها هنا ذلك أيضاً. وذكر القاضي أبو سعد أنه يمهله إلى آخر المجلس إن شاء. قال: فإن قال: برئت إليه مما يدعي أو قضيته، فقد أقر بالحق؛ لأن البراءة إليه والقضاء فرع ثبوت الحق؛ فكان دعوى ذلك إقراراً به. قال: ولا يقبل قوله في البراءة والقضاء إلا ببينة؛ لأن إسقاط حق غيره [عنه]

بقوله غير جائر، وما حكاه الشيخ من قوله: برئت إليه منه، هو ما أورده البندنيجي، وادعى في "الإشراف" أنه الذي ذكره عامة أصحابنا. وفي "البحر" أنه إذا قال: برئت إليه من هذا المال، قال ابن أبي أحمد: مذهب الشافعي- رضي الله عنه- أنه يسأل عنه، فإن قال: قضيت، كان إقراراً، وحلف المدعي بالله ما اقتضاه، وإن قال: برئت إليه بأن حلفت له أو أقمت بينة على إقراره فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، ولم يجعل قوله: برئت إليه من هذا المال، [إقراراً بالمال]. وفي "الإشراف" أن صاحب "التلخيص"- وهو ابن أبي أحمد- قال: إن مذهب الشافعي- رضي الله عنه- أن هذا ليس بإقرار إلا أن ينويه، وهذا بخلاف قوله: أبرأني من هذا المال؛ فإنه إقرار به على الأصح؛ كما قدمت حكايته في كتاب الصلح من هذا الشرح، قال القاضي الطبري- كما حكاه في "البحر"-: ويمكن أن يفرق؛ فإن قوله: أبرأني يقتضي ثبوت المال قبل إبرائه؛ لأن ما يبرأ منه بإبرائه هو المال الثابت. وأما قوله: برئت إليه، أو: عندي براءة من هذا المال، يحتمل أن يكون قد حلف له على إنكاره أو غير ذلك؛ فرجع في تفسيره إليه. وفي "الإشراف" ما يقتضي أن قوله: برئت إليه، مرادف لقوله: قضيته؛ فإنه قال: لو شهد شاهد أن رب الدين استوفى منه الدين، وشهد شاهد بأن الغريم برئ منه إليه- أي: برئ من الدين إلى من له الدين- أن المصنف قال: يجمع بين الشهادتين؛ لأنه أضاف [البراءة] إلى الغريم؛ وذلك عبارة عن فعل الإيفاء والإقباض؛ ألا ترى أنه لو قال رب الدين: برئ الغريم منه إليّ، كان إقراراً بالقبض؟! وحينئذ فيكون كلام الشيخ منطبقاً على هذا، لكن الظاهر من كلام الشيخ [أن] قوله برئت إليه مما يدعي، أو: قضيته، لفظان متباينان لا مترادفان، وهذا قريب، وما حكاه الشيخ في حالة قول المدعى عليه: قضيته، هو ما حكاه البندنيجي وابن الصباغ في أواخر باب

الدعوى على كتاب أبي حنيفة عن الشافعي- رضي الله عنهما- ثم قالا: وهذا [على أصح] القولين [فيما] إذا قال: لفلان عليّ ألف قضيتها، فهل يقبل قوله في القضاء أم لا؟ وهذا الذي قالاه يدفع الفرق [الذي يطلب] بينهما، والله أعلم. قال: وإن قال: لي بينة قريبة بالقضاء والإبراء، أمهل ثلاثة أيام؛ لأن هذه مدة قريبة لا يعظم الضرر فيها، ومقيم البينة يحتاج إلى مثلها لاستيثاق الشهود والفحص عن غيبتهم وحضورهم واستحضار الغائب منهم. وعن القاضي الحسين: أنه لا يمهل أكثر من يوم واحد؛ لأنه يشبه أن يكون متغيباً. قال: وللمدعي ملازمته حتى يقيم البينة؛ لأن حقه ظهر، ومعنى الملازمة: ألا يفارقه، فإذا أراد الدخول إلى منزله دخل معه إن أذن له، وإن لم يأذن [له] منعه من الدخول، كذا رأيته منسوباً لحكاية الروياني في "الروضة"، وليس ببعيد. فرع: من عليه دين في الظاهر لغائب ولم يطالب به، وله حجة على الإبراء، وأراد أن يقيمها- هل له ذلك؟ قال في "التتمة" في كتاب اللعان في ضمن فرع أوله: إذا ثبت عليه الحد ولم يطالبه به- ما يقتضي الجزم بالسماع. والذي أورده الماوردي عند الكلام في كتاب قاض إلى قاض: عدم السماع، وطرده فيما إذا ادعى القبض، أو ادعى أنه اشترى شقصاً مشفوعاً، وأراد إقامة البينة على العفو] عن الشفعة، أو ادعى أنه اشترى شيئاً وأراد إقامة البينة على إقباض الثمن، أو ادعت امرأة أن زوجها طلقها وأنها ليست آمنة أن يتعرض لها، وأرادت إقامة البينة على ذلك، وكذا قال فيما لو ادعت ذلك والزوج حاضر ولم يخالطها، وحكى وجهين في السماع فيما إذا ادعت ذلك [وكان] الزوج غائباً، وأرادت الخروج إلى البلد الذي الزوج [فيه].

وقال القاضي الحسين في "فتاويه": والحيلة فيما إذا أراد أن يقيم البينة على البراءة قبل الدعوى: أن ينصب مسخراً يدعي على من عليه الدين بأن لي على فلان كذا، أو أن له في ذمة هذا كذا، فَمُرْهُ يسلمه إليَّ، فيدعي من عليه الدين الإبراء منه ويقيم البينة عليه- فإن القاضي يسمعها، ويكتب له كتاباً إلى قاضي البلد الذي فيه رب الدين بسماع البينة، أو الحكم إن كان قد حكم. قال: وإن لم [يكن له] بينة حلف المدعي؛ أي: عند طلب المدعى عليه يمينه إنه ما برئ [إليه] منه ولا قضاه، واستحق، أي: القبض؛ لأن ما ادعاه محتمل، واليمين تعتمد الاحتمال. وهكذا الحكم فيما لو قامت عليه البينة بالدين، ولم يقض بها بعد، فادعى أنه برئ إليه منه، أو قضاه قبل إقامة البينة أو بعدها، وطلب يمينه عند الإنكار؛ لأن الحق في هذه الحالة يصير الحكم به بالإقرار لا بالبينة؛ لأنها تسقط بالإقرار قبل الحكم، وهذه الصيغة قد قررنا أنها تتضمن الإقرار، صرح به القاضي الحسين. نعم، لو كانت الدعوى بعد القضاء بالبينة نظر: فإن كانت دعوى القبض قال القاضي الحسين: فحق على القاضي ألا يصغي إلى قوله؛ لأن القضاء بشهادة الشهود ألزمه الحق، وإن كانت دعوى البراءة سمعت؛ لأنه ليس في ذلك تكذيب للشهود؛ لأنهم يشهدون على الظاهر. قلت: وقياس هذه العلة أن تسمع دعوى القبض أيضاً. ولو كان المدعى عليه قد أجاب المدعي بدعوى البراءة من المال، وقلنا بالصحيح: إنه يكون مقرّاً به، وكذبه المدعي، وطلب يمينه، قال الشافعي- رضي الله عنه-: يحلف بالله: إن هذا الحق- ويسميه تسمية يصير بها معلوماً- لثابت عليه، ما اقتضاه ولا شيئاً منه، ولا اقتضاه [من] مقتض بأمره ولا بغير أمره فوصل إليه، ولا أحال به ولا بشيء منه، [ولا أبرأه منه ولا من شيء منه. وزاد في "الأم": ولا كان منه ما يبرأ به من دينه ولا من شيء منه]. وعنى به صدور جناية أو إتلاف بقدر

دينه، قال في "المختصر" و"الأم": وإنه لثابت عليه إلى أن حلف هذه اليمين. قال أبو إسحاق المروزي: هذا إذا ادعى البراءة مطلقاً، أي: مثل أن قال: برئت من حقه، فإن ادعى البراءة بجهة معلومة، أي: مثل أن ادعى أنه استوفى حلف: إنه ما استوفى فقط. قال في "الشامل": وقال أصحابنا: يمكنه أن يجمع ذلك بأن يحلفه: إنه لم يبرأ من ذلك الحق بقول ولا فعل، ولو أحلفه: ما برئت ذمته من ذلك ولا من شيء منه، أو: ما برئت ذمته من ذلك الحق- كفاه، وما ذكره الشافعي- رضي الله عنه- تأكيد. وظاهر [هذا] اللفظ يقتضي الجزم بعدم ذكر الجهات عند دعوى البراءة بجهة معينة، وذكر خلاف في وجوبها عند إطلاق دعوى البراءة [، وقد قال البندنيجي والماوردي: إنه لا خلاف عند إطلاق دعوى البراءة] أنه لا يجب التعرض لقوله: وإن حقي لثابت عليه إلى أن حلف هذه اليمين. وحكاية الخلاف فيما عدا ذلك. قال الماوردي: والأكثرون على الاشتراط. وحكى عند تعيين جهة البراءة وجهين في أن يمينه تكون مقصورة على النوع الذي ادعاه، أو مشتملة على غيره من الأنواع، والأصح: الأول، وظاهر ما أطلقه الشافعي- رضي الله عنه-: الثاني، وعلى هذا: هل تكون واجبة أو احتياطاً؟ فيه الوجهان المذكوران. ثم ما ذكره الشيخ من توقف الاستحقاق على الحلف هو نظر المشهود فيما إذا ادعى أنه أبرأني من الحق: أنه لا يستحق القبض ما لم يحلف على نفي البراءة، وإلا فقد حكي عن القاضي الحسين في مسألة دعوى البراءة: أن الحق يستوفى أولاً، ثم يحلف إن شاء المدعى عليه، فإن هذه دعوى جديدة، وقال في "الوسيط": إنه بعيد. وهو على بعده يظهر جريانه في مسألتي الكتاب، وعلى الأول قال الرافعي: إن هذا يخالف ما إذا قال المدعى عليه لوكيل المدعي: قد أبرأني موكلك؛ حيث يستوفى منه الحق، ولا يؤخر إلى حضور الموكل وحلفه؛ لعظم الضرر في التأخير، وهنا التحليف متيَسّر في الحال.

ولو كان المدعَى عيناً، فقال المدعى عليه للمدعي: قد بعتها مني أو وهبتها، فكذبه، وأراد المدعى عليه إقامة البينة على ذلك- فعلى طريقة القاضي: تنزع العين من يده وتسلم للمدعي، ثم يقال للمدعى عليه: أثبت ما ادعيته واستردها. وعن الصيدلاني وغيره: أن بينة الشراء لو كانت حاضرة لم تُزَل يده، فإن استحقاق المدعي في الحال لا يتحقق. نعم، لو كانت غائبة فقال: لا تزيلوا يدي وأمهلوني ثلاثة أيام لأقيم البينة، قال الإمام: فلا يمهله بلا خلاف. قال: وإن ادعى على ميت، [أي]: ولا وارث له معين، أو غائب، أي: عن البلد إلى مسافة القصر، ولا وكيل له حاضر أو وصي، أي: لا نائب له، كما قيده الإمام، أو مستتر في البلد وله بينة- سمعها الحاكم؛ للإجماع. [قال]: وحكم بها: أما في الميت والصبي فبالاتفاق منا ومن الخصم- وهو أبو حنيفة- وفي معناهما المجنون، وكذا الأخرس الذي لا تفهم إشارته؛ كما ذكره في "الإشراف". وأما في الغائب والمستتر؛ فلقوله- تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]، وما شهدت به البينة على الغائب والمستتر حق؛ فوجب الحكم به. ولأن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان بن حرب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيْحٌ لَا يُعْطِيْنِي مَا يَكْفِيْنِي وَوَلَدِي، إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ سِرّاً، فَهَلْ عَلَيّ فِي ذَلِكَ مِنْ حَرَجٍ؟ [فَقَالَ لَهَا]: خُذِيْ مَا يَكْفِيْكِ [وَوَلَدَكِ] بِالْمَعْرُوْفِ"، وهذا قضاء منه صلى الله عليه وسلم على غائب؛ لأن أبا سفيان لم يحضر، ولم تكن فتوى؛ لأنه قال لها: "خذي"، ولو كان فتوى لقال [لها]: لا بأس عليك ونحوه. وقد قام علمه صلى الله عليه وسلم بأنها زوجته مقام البينة.

ولأن في الامتناع من القضاء على الغائب والمستتر إضاعة للحقوق التي ندب الحكام [إلى حفظها]؛ لأنه لا يعجز الممتنع من الوفاء عن الغيبة والتستر، والشرع يمنع من ذلك. وأيضاً: فبالقياس على الميت، والصبي، والمجنون، والجامع: تعذر الجواب من المدعى عليه، وإلى هذا أشار الشيخ بجمعه بين الصور الأربع في الحكم. [وألحق] القاضي الحسين بحال الغيبة التي يسمع فيها الدعوى: ما إذا أحضرا لخصم خصمه إلى المجلس، ثم هرب قبل أن يسمع الحاكم البينة عليه، أو بعدما سمعها، وقبل أن [يحكم؛ فإنه] يحكم عليه، وادعى [أن هذا] لا خلاف فيه. قال: وحلف المدعي، أي: قبل الحكم إن كان هو المستحق؛ لأنه [هو] المنقول عن الأصحاب. والاعتذار عن الشيخ: أن الواو لا تقتضي الترتيب على الصحيح. قال: إنه لم يبرأ إليه [منه]، ولا من شيء منه؛ احتياطاً للمحكوم عليه لأجل عجزه عن الجواب؛ فإنه لو كان قادراً عليه فربما كان قد ادعى ما يبرئه، ودعواه مسموعة؛ لأنها لا تنافي ما شهدت به البينة. ووراء ما ذكره الشيخ أمور [أخر]: أحدها: حكى الغزالي وجهاً: أن المتواري والمتعذر لا يجعل كالغائب في سماع الدعوى عليه؛ كما [أن] منع المهر [والثمن] لا يلحق بالإفلاس على وجه. وهذا معزي [إلى القاضي] الحسين، ورأيته في "تعليقه"، وسنذكر عند الكلام في الاستعداء [شيئاً يتعلق] به. الثاني: إذا سمعنا البينة على المستتر، وجوزنا القضاء عليه- ففي "الحاوي" عند

الكلام في الاستعداء: أنه لا يحلف المدعي؛ لأن الخصم قادر على الحضور. وهذا ما حكاه الرافعي عن "العدة". الثالث: حكى صاحب "الإشراف"، وغيره: أن [أبا] حنيفة [قال]: "لا يقضي على الغائب وإن جوزنا سماع البينة لأجل نقلها إلى حاكم آخر، إلا إذا اتصل بحق حاضر"، وأن أبا سعيد قال: هذا قول الشافعي؛ لأنه علق القول في ذلك. وفي "النهاية": أن صاحب "التقريب" حكى في مواضع من كتابه قولاً غريباً للشافعي- رضي الله عنه- في منع القضاء على الغائب، رواه حرملة عنه. فإن كان هذا [القول] مطلقاً فقد حصل في القضاء على الغائب ثلاثة أقوال، وأصحها: ما في الكتاب، وعلى هذا: فهل اليمين التي تشرع في ذلك وما ذكر معه- كما سنصفها- واجبة حتى تكون ركناً في القضاء، أم مستحبة؟ المشهور: أنها واجبة في الصور كلها، وفي "الإشراف" حكاية رواية ثانية؛ ادعى في موضع آخر منه أنها قول غريب: أن اليمين لا تجب فيما ذكرناه، بل تستحب؛ لأن دعوى الإبراء أو الأداء إن كانت فهي دعوى جديدة لا تفوت. والإمام حكى عن [رواية القاضي الوجهين عن الأصحاب في أن اليمين [التي] سنصفها عن] روايته ورواية القاضي الحسين من بعد- في حق الغائب- وقال: إن الثاني هو الأصح، وهو الذي قال القاضي الحسين في "تعليقه": إنه الأظهر، وإن الوجهين يقربان من أن التغليظ بالزمان والمكان هل يكون واجباً أو مستحبّاً؟ وفيه وجهان، ووجه التقريب: أن الزمان والمكان تأكيد لليمين، واليمين في مسألتنا تأكيد للبينة.

وقال الرافعي في باب الدعاوى والبينات: إنه يمكن بناء الوجهين على الوجهين في أن دعوى المدعى عليه بعد الحكم عليه الإبراء من الدين أو قبضه [منه] أو هبته العين المدعى [عليه] بها قبل شهادة الشهود بذلك، هل تسمع [كما يسمع قبل] حكم الحاكم عليه؟ فإن قلنا: تسمع دعواه بعد الحكم، فالتحليف مستحب، وإن قلنا: لا تسمع- كما هو الأصح في "التهذيب" فواجب؛ كي لا يفوت بالحكم عليه الدعوى، وبالتحليف أن لا تجعل الغيبة عذراً مانعاً من الفوات. قلت: ولو صح هذا البناء للزم إذا حكم الحاكم بعد الاستخلاف، وقدم الغائب، وبلغ الصبي- ألا يكون على حجته، وقد اتفقوا على أنه على حجته. ثم قال الإمام: وقد قال الأئمة: إن من ادعى على صبي أو مجنون أو ميت، ولا نائب لهم، فإذا أقام البينة فلا بد من التحليف؛ كما ذكرنا في القضاء على الغائب، والذي أراه: أن التردد الذي ذكره القاضي في أن اليمين احتياط أم وجوب، لا يجري في هذه المسائل؛ فإنا نتوقع من المدعى عليه إذا انتهى إليه كتاب القاضي إلى موضعه أن يدعي بنفسه، وهذا لا يتحقق في الصبي والميت والمجنون، وحكم نفوذ القضاء إيصال الحق إلى مستحقه، وعلى هذا جرى في "الوسيط"، وحينئذ فيحصل في المسائل طريقان في إيجاب التحليف أو استحبابه: إحداهما: حكاية الخلاف في الجميع، وهي المذكورة في "تعليق" القاضي الحسين، والأصح منه- وبه جزم الماوردي والبندنيجي وغيرهما-: الوجوب. والثانية: حكاية الخلاف في حق الغائب، وفي معناه: المستتر، والقطع بالوجوب فيمن عداهما، والله أعلم. واعلم أن فيما ذكره الشيخ من كيفية التحليف نظراً؛ لأنا قدمنا في معنى قوله: برئت إليه مما يدعي، وجهين: أحدهما: أنه بمعنى: قضيته، وعلى هذا لا ينبغي أن يكتفي بذلك، لأنه لا يلزم من كونه ما قضاه أن يكون مستحقّاً له؛ لأن أسباب الإسقاط أعم من ذلك؛ فلا احتياط [إذن].

والثاني: أنه يحتمل القضاء، ويحتمل التحليف على عدم الاستحقاق، ويحتمل إقامة البينة على إقرار المدعي كما حكيناه عن ابن القاص، وعلى هذا أيضاً لا يقع الاحتياط بالاقتصار عليه. لكن قد حكى ابن أبي الدم عن "تعليق" القاضي أبي الطيب: أن الحي إذا ادعى البراءة مطلقاً، فيمكن حصر الألفاظ التي ذكرها الشافعي- رضي الله عنه- بقوله: والله ما برئ إليَّ من الحق، ولا من شيء منه بقول ولا فعل، وإذا كان هذا كافياً في حق الحي، فكذلك في حق الميت، والذي قاله البندنيجي: أنه يحلف في حق الغائب والهارب عن مجلس الحكم: إن حقه الذي شهد له الشاهدان به ثابت عليه إلى وقتنا هذا. وكأنه- والله أعلم- أراد بهذا التحليف على استمرار ثبوت الحق، لا لثبوت أصل الحق؛ لأن أصل الحق قد قامت به البينة، والتحليف مع قيام البينة على أصل الحق لا يسوغ عندنا؛ لأن فيه قدحاً [في البينة]. والذي قاله الماوردي عند الكلام في كتاب القاضي: أنه يحلف في حق الغائب والصبي والمجنون والميت: بالله ما قبض الحق ولا شيئاً منه، ولا أبرأه منه، ولا من شيء منه [، ولا برئ إليه منه ولا من شيء منه، وإن حقه لثابت عليه. وأقل ما يجزئه أن يحلفه: إن حقه هو الثابت عليه. وأبلغ من ذلك ما حكاه [الإمام] والقاضي الحسين أنه يستظهر في تحليفه بالاحتياط التام، فيحلفه: ما أبرأه من حقه]، ولا من شيء منه، ولا أحد بأمره، [ولا اعتاض عنه ولا عن شيء منه، ولا أحد بأمره]، ولا أحال به ولا بشيء منه، ولا أحد بأمره، وإنه يلزمه تسليم المدعَى [به] إليَّ، وإن شهوده شهدوا له بالحق. وقد حكى الغزالي التعرض [بتصديق الشهود وجهاً أشعر إيراده بضعفه، وهو فيه

متبع الإمام؛ فإنه قال: والتعرض] لتصديق الشهود فيه بعد عندنا. نعم، قد يشترط ذلك على مذهب إذا كان يحلف مع الشاهد الواحد؛ [لأن الشاهد] الواحد ليس ببينة، والبينة في مسألتنا كاملة. وهذا من الإمام مشعر بجواز القضاء على الغائب ومن في معناه بالشاهد واليمين، وقد صرح به [البغوي] والرافعي وغيرهما، لكنهم قالوا: هل يكتفي بيمين واحدة أم لابد من يمينين: يمين لتكملة البينة، ويمين للحكم؟ فيه وجهان، أشبههما: الثاني، وهو الذي اختاره ابن أبي الدم [؛ لأن الثبوت قبل الحكم، والثبوت يتوقف على اليمين أولاً، وكلام الإمام يقتضي الميل إلى الأول فتأمله، وقد قال ابن أبي الدم]: إن الشيخ أبا علي قال: إنه الأصح [، وإن الغزالي أجاب به في "الفتاوي". ثم قال الإمام: وقد يعرض في التفريع على الوجه الأصح]- يعني: في كون التحليف واجباً- الاكتفاء بتحليفه على أنه يستحق الحق الآن، من غير بسط في ذكر الجهات. قلت: وهذا الاحتمال هو ما حكيناه عن البندنيجي والماوردي، وهو المذكور في "التهذيب"، وبه يحصل في إيجاب البسط على النحو السابق وعدمه خلاف، ويشبه أن تكون مادته مأخوذة من الخلاف الذي حكيته عن أبي إسحاق وغيره في المسألة السابقة عند دعوى الحي البراءة مطلقاً؛ لأنا نقدر أن الغائب ومن في معناه لو كان حاضراً فربما ادعى البراءة مطلقاً. وعلى قول عدم إيجاب البسط سؤال أشار إليه ابن أبي الدم، وهو أن الحي إذا قامت عليه بينة بحق، فطلب يمين المدعي على الاستحقاق- لا يجاب إلى ذلك؛ فكذلك ينبغي أن يكون حكم من قام مقامه. وأشار إلى جواب عنه فيما إذا كان الشهود قد شهدوا على الإقرار بالحق: بأن الحي لو ادعى أن شهادتهم عليه حق، لكنه أقر- بناءً على الصك على العادة- على أنه يقبضه، فإن [في] تحليف المدعي

خلافاً، والأصح: التحليف، فعلى هذا وجب على القاضي التعرض لذلك، والله أعلم. أما إذا كان للميت وارث معين، فالتحليف موقوف على طلبه، صرح به المصنف والبغوي وغيرهما. ولو كانت الغيبة [إلى] مسافة قريبة، ففي "التهذيب": أن الصحيح من المذهب: أنه لا يجوز القضاء عليه وسماع الدعوى من غير إحضاره، وعلى هذا ففي حد القرب وجهان: أحدهما: ما دون مسافة القصر. والثاني: مسافة العدوى. ومن أصحابنا من قال: يجوز القضاء عليه وسماع الدعوى [عليه] من غير إحضاره، وهذا ما حكاه في "البيان" عن العراقيين، حيث قال: ولم يشترط العراقيون في الغيبة حدّاً، وإنما اشترطوا خروجه عن البلد لا غير. و [عليه ينطبق ما] سنذكره من إطلاق الماوردي عند الاستعداء. ولو كان للغائب وكيل لم يحتج المدعي إلى ضم اليمين إلى البينة، وكان القضاء مجمعاً عليه. وفي "الرافعي" أن لأبي العباس الروياني جوابين في هذه الحالة في أن اليمين هل تتوقف على طلب الوكيل أو لا تتوقف؟ وانهما جاريان في المترد إذا كان له وكيل. لكن المشهور الأول، وقد بنى الأصحاب عليه: أن شخصاً لو قال لشخص: أنت وكيل فلان الغائب، ولي عليه كذا، فأدعي [عليك] وأقيم البينة في وجهك، فإن علم أنه وكيل وصدقه، وأراد ألا يخاصمه- فليعزل نفسه، وإن لم يعلم فينبغي أن يقول: لا أعلم أني وكيل، ولا يقول: لست بوكيل، فيكون مكذباً لبينة عساها تقوم [على الوكالة]، وهذا بناءً على أنه لو صدقه كان له المخاصمة، وقد حكيت في كتاب الوكالة [فيه] خلافاً؛ فليُطلبْ منه.

وهل للمدعي إقامة البينة على وكالته عند الإنكار؛ ليحصل له ما ذكرناه من الفائدة؟ فيه وجهان، ظاهر كلام أبي عاصم العبادي: نعم، قال الرافعي: والأظهر المنع؛ لأن الوكالة حقه، فكيف تقام البينة عليها قبل دعواه؟! ولو كان المدعي وكيلاً وموكله حاضراً فهو الحالف، ولو كان غائباً- أيضاً- ففي "الوسيط" وغيره: أنه يحكم من غير يمين؛ لأن الوكيل لا يمكن تحليفه، وإيقاف الحكم على حضور الموكل وحلفه فيه إضرار، وهذا قياس قول القفال في المسألة المشهورة، وهي أن مستحق الحق لو وكل وكيلاً، فأتى موضع الخصم الغائب، وأثبت الوكالة، فقال المدعى عليه: إن موكلك قد أبرأني أو استوفى؛ فلا يلزمني تسليم ما أقمت البينة عليه ما لم يحلف موكلك. فتوقف فيها فقهاء الفريقين بمرو، فاستدرك عليهم الشيخ القفال، وقال: يقضي على المدعى عليه بموجب البينة، ثم إن كانت له دعوى فتسمع في وجهها على الموكل؛ لأنا لو سلكنا هذا المسلك، لانقطعت الوسائل والذرائع إلى استيفاء الحقوق بطريق التوكيل. قال الرافعي: وقد وجدت في "تعليق" الشيخ أبي حامد مثل هذا الجواب في باب الوكالة. قلت: وهو كذلك في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الشامل". نعم، لو قال المدعى عليه للوكيل: أنت تعلم أن موكلك أبرأني، فاحلف على ذلك- فعن الشيخ أبي حامد: أنه يحلف على نفي العلم، [ومن الأصحاب من يخالفه ولا يحلف الوكيل، قال الرافعي: ولك أن تقول: يقتضي ما ذكره الشيخ أن يحلف القاضي- وقيل: المدعى عليه على الغائب- على نفي العلم] بالإبراء وسائر الأسباب المسقطة نيابة عن المدعى عليه؛ كما ناب عنه في تحليف من يدعي لنفسه. [ولو كان المدعى] له صغيراً على صغير، فهل يحكم به في الحال، أو يوقف إلى البلوغ والحلف؟ قال القاضي الحسين: يحتمل وجهين؛ بناءً على أن اليمين في حق البالغ واجبة أو مستحبة. وحكاهما الرافعي- أيضاً- وحكى تلوهما: أن قيّم

الطفل لو ادعى ديناً للصبي، فقال المدعى عليه: إنه أتلف [عليَّ] من جنس ما يدعيه ما هو قضاء لدينه- لم يسمعه؛ بل [عليه] قضاء دينه الذي أثبته القيِّم، فإذا بلغ [الصبي] حلفه. واعلم أن كيفية الدعوى على الغائب المتفق عليها بين الأصحاب أن يقول: لي على فلان الغائب كذا، ويذكر ما هو معتبر في الدعوى على الحاضر، ويقول: وهو منكر لحقي ولي بينة؛ فإنه إذا لم يكن له بينة لم تفد دعواه شيئاً، فلو قال: إنه مقر بحقي، لم تسمع؛ لأن البينة [لا تقام] على مقر. وإن سكت عن ذكر الإقرار والإنكار فهل تسمع؟ فيه وجهان: ميل الإمام إلى السماع؛ لأنه إن كان يدعي [جحوده في الحال، فهو محال، وكيف يدعي] جحود من لا يعلم حياته؟! وإن كان يدعي جحوده لما كان حاضراً، وقد مضى، فالبينة في الحال لا ترتبط بجحود ماض. وإيراد الغزالي يميل إلى ترجيح المنع، وهو ما ادعى الإمام ميل الأصحاب إليه؛ فإن الذي أرادوه بدعوى الجحود هو الجحود السابق، والبناء على إصراره [عليه]؛ فإنه الظاهر ما لم يثبت نقيضه. ويقوم مقام [دعوى] الجحود بالاتفاق: ما إذا اشترى عيناً ووفر الثمن على البائع، ثم استحقت العين المبيعة وأخذت؛ فإن للمشتري أن يقيم البينة على الغائب بقبض الثمن، ولا حاجة إلى دعوى الجحود؛ فإن إقدامه على بيع ما لا يملكه كاف في معنى الجحود، قال الإمام: وهذا مما لا مراء فيه. قال الرافعي: ورأيت فيما جمع من "فتاوي" القفال أن هذا كله فيما إذا أراد إقامة البينة على ما يدعيه؛ ليكتب القاضي به إلى حاكم بلد الغائب، فأما إذا كان للغائب مال، وأراد إقامة البينة على دينه ليوفيه القاضي- فإن القاضي يسمع بينته

ويوفيه، سواء قال: هو مقر، أم جاحد، أو قال: لا أدري أهو مقر أم جاحد. وهل للقاضي أن ينصب لسماع الدعوى على الغائب مسخراً [له] ينكر على الغائب؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، وهو المختار كما قال ابن أبي الدم؛ لتكون البينة على الإنكار. وأصحهما في "التهذيب"، وعند الشيخ أبي عليّ- كما نقله ابن أبي الدم-: لا؛ لأن الغائب قد يكون مقرّاً، فيكون إنكار المسخر كذباً. قال الرافعي: وقضية هذا التوجيه أن يقال: لا يجوز نصب المسخر. لكن الذي ذكره أبو الحسن العبادي، وصاحب "الإشراف" وغيرهما: أن القاضي مخير، إن شاء نصب [عنه] مسخراً، وإن شاء لم ينصب. قال: فإذا قدم الغائب، أو بلغ الصبي فهو على حجته، أي: في القدح في البينة، أو [في] المعارضة ببينة يقيمها على الإبراء أو القضاء أو الحوالة أو نحو ذلك؛ لدفع الظلم عن نفسه. قال الأصحاب: وإذا كان يجهل ذلك عرفه الحاكم به، وإن كان يعرفه فهو مخير إن شاء عرفه وإن شاء سكت. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الغائب على حجته، وإن لم يشترط الحاكم ذلك في الحكم، وقد قال الماوردي: إنه يشترط القاضي في حكمه على الغائب أنه قد جعله على حق وحجة إن كانت له؛ لئلا يقتضي إطلاق حكمه عليه إبطال حجته وتصرفه، والمعتبر في بينة الجرح أن تشهد بجرح بينة المدعي حالة الحكم أو قبله؛ كما قاله البندنيجي وغيره، وإذا أقام ذلك نقض الحكم قولاً واحداً؛ كما صرح به الإمام، وإن كان في نقض الحكم لو كان المحكوم عليه حاضراً عند إقامة [البينة بالجرح قولان؛ لتقصيره، بخلاف الغائب والصبي، ولا يكفي في البينة أن] تطلق الشهادة بالجرح؛ لأنه [لا] يجوز أن يكون حادثاً بعد الحكم، والجرح بعد الحكم

لا يؤثر على الأصح، وهذا بخلاف ما إذا حضر الغائب أو بلغ الصبي قبل الحكم وأقام البينة بالجرح؛ فإنها تسمع مطلقاً كما صرح به البندنيجي. قال: وإن ادعى على ظاهر في البلد غائب عن المجلس، فقد قيل: تسمع البينة عليه ويحكم؛ لأنه غائب عن مجلس الحكم، فكان كالغائب عن البلد، فعلى هذا يحلفه كما سبق. وقيل: لا تسمع؛ لأنه يمكن سؤاله من غير مشقة، فأشبه الحاضر بمجلس الحكم، وهذا هو الأصح في أكثر الكتب، وبه قطع بعضهم، وهو المذهب في "المهذب" و"الشامل" و ["تعليق"] البندنيجي، وعلله بأن على المدعى عليه في ذلك ضرراً؛ فإنه لا يمكنه جرح الشهود مطلقاً بعد حصول الحكم. وفي "الوسيط" حكاية وجه ثالث [جعله المذهب]: أنه يجوز أن يسمع البينة، ولا يقضي إلا [في حضوره]، فلعله يجد مطعناً ودفعاً، بخلاف الغائب؛ فإن انتظاره يطول. وحكى وجهاً في سماع البينة والخصم في المجلس دون مراجعته؛ لأنه قادر على الدفع والكلام فليتكلم إن أراد. وهذا ما نسبه في "الإشراف" للمزني، وقد ذكرت عن الروياني في هذا الباب من قبل كلاماً يتعلق بما نحن فيه، فليطلب منه. فرع: إذا ثبت على الغائب دَيْن وله مال حاضر، فعلى القاضي توفية الدَّين منه إذا طلبه المدعي، وإذا وفَّى هل يطالب المدعي بكفيل؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأن الحكم قد تم في الحال، والأصل عدم الدافع. والثاني- ويحكى عن الكرابيسي-: نعم؛ لأن الغائب قد يكون له مدفع إذا حضر فيحتاط له، وهذا الوجه جارٍ فيما إذا حكم الحاضر على غائب بعين حاضرة. قال: ومن استعدى الحاكم على خصم في البلد أحضره، أي: سواء عرف بينهما معاملة أم لا؛ لأن في الإعراض عن ذلك إبطالاً للحقوق، وقد يكون للحق

توجه من غير معاملة بسبب إتلاف أو إرث ونحو ذلك. وفي "تعليق" البندنيجي: أن أبا العباس- يعني ابن سريج، كما صرح [به] غيره- قال: إذا كان المستعدى عليه من أهل الصيانات والمروءات لم يحضره مجلس الحكم، ولكنه يستدعيه إلى بيته ليقضي بينه وبين خصمه. وفي "الزوائد": أن في "العدة" أن المستعدى عليه إذا كان بالصفة المذكورة، ويتوهم أن المستعدي يقصد ابتذاله، وأذاهُ بذلك- لا يستحضره مجلس الحكم، لكن ينفذ إليه من يسمع الدعوى عليه، ويحلفه إن وجبت عليه اليمين؛ لأنه لما عليه من الصيانة والمروءة يجري مجرى المخدَّرة. والمشهور: الأول، ثم الإحضار المذكور متوجه على الحاكم على وجه الوجوب، كما صرح به المصنف وصاحب "الكافي" وغيرهما، وإذا كان كذلك وجب على المطلوب إجابة الداعي أيضاً، لكن قال الإمام: إيجاب الحضور عليه لأجل [إجابة القاضي]، حتى لو لم يطلبه القاضي وطلبه الخصم، لا يجب [عليه] الحضور، بل الواجب إن كان [له] عليه حق وفاه. وفي "المهذب" و"الحاوي": أنه إذا كان بين نفسين حكومة، فدعا أحدهما صاحبه لمجلس الحكم- وجبت عليه الإجابة؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [النور: 51]، ثم رأيت في "الحاوي" في [أثناء] كتاب قاض إلى قاض أن المطلوب إن خرج إلى الطالب من حقه [لم يلزمه الحضور للقاضي]، وإلا لزمه إن كان على مسافة أقل من يوم وليلة، وإن كان على أكثر منها لم يلزمه الحضور إلا باستحضار. وكيفية الإحضار: أن يختم القاضي للطالب في طين رطب بخاتمه المعد لذلك، وهو كما قال القاضي أبو الطيب: حديدة مكتوب على رأسها: أجب القاضي،

فيحمل الطالب الطين إلى خصمه ويريه إياه إن كانت العادة جارية بذلك، أو يرسل معه عوناً ليحضره، وأجرة العون على المستعدي إن لم يكن له رزق من بيت المال، قاله في "الإشراف" وغيره. قال الماوردي: وله أن يجمع بين إرسال العون وبعث الطين المختوم معه. قال: فإن امتنع [من غير عذر]، أي: وقد وقف على ختم القاضي خاصة- كما قاله الماوردي- أشهد عليه، أي: الخصم، شاهدين أنه ممتنع، ثم يتقدم، أي: أمر القاضي بعد ثبوت امتناعه عنده بشهادة الشاهدين إلى صاحب الشرطة ليحضره؛ توصلا إلى تخليص الحق، وقد جاء في بعض ألفاظ الشافعي: أنه يستعين بصاحب الحرب، وفي بعضٍ: بوالي الأحداث، والألفاظ مترادفة، ولا يبالغ في طلب تزكية الشاهدين بالامتناع. قال الشافعي- رضي الله عنه-: ويسأل عن عدالتهما ويخفف [في] السؤال. كذا نقله ابن الصباغ عن رواية [ابن القاص]. أما إذا كان امتناعه بعد إرسال العون إليه، وأخبر العون القاضي بذلك قُبِل قوله من غير بينة، كذا قاله الماوردي، وهو الذي أورده في "الحلية". وفي "تعليق" البندنيجي و"الكافي": [أنه] عند الاستعداء يبعث معه لختم من الطين، فإن [حضر، وإلا] بعث إليه بعض أعوانه، فإن [حضر، وإلا] بعث بشاهدين يشهدان على امتناعه، فإن حضر، وإلا استعان بالسلطان على إحضاره، والأجرة في هذه الحالة على المطلوب؛ لأنه مُتَعَدٍ بالامتناع عن الحضور، كأجرة الحد تجب على المحدود، وكذا أجرة الحبس على المحبوس، قاله في "الإشراف" و"الرافعي". وعن "الجرجانيات" وجه: أنها على الطالب أيضاً. ولو كان الامتناع بسبب مرض يسوغ شهادة الفرع على [شهادة] الأصل

إذا كان [به] فهو معذور، فيبعث القاضي إليه من يحكم بينه وبين خصمه أو يوكل، وإذا توجهت [عليه] اليمين أنفذ [إليه] من يحلفه، ثم إذا حضر الممتنع بغير عذر نظر الحاكم في تعزيره: فإن شاء عفا عنه، وإن شاء عزره بالكلام أو تشويش العمامة، أو الحبس، أو الضرب على حسب اجتهاده. فرع: لو بعث الحاكم إليه فاختفى، قال في "الكافي": فيبعث من ينادي على بابه ثلاثة أيام: إن لم يحضر فلان سمّر بابه وختم، ويخبر جيرانه بذلك، فإن لم يحضر سمر باب داره إذا عُرِفت وخُتِم عليه، فإن لم يحضر بعد التسمير والختم فالقاضي يوكل عنه وكيلاً، فيدعي عليه [المدعي]. وفي "الذخائر" [و"الشامل"]: أن [ابن] القاص حكى ذلك عن الشافعي- رضي الله عنه- لكنه قال: إنه يفعل ذلك بعد أن يبعث من ينادي على بابه بمحضر من شاهدي عدل: إنه لم يحضر مع خصمه فلان وكل عنه، [قال: وحسبه] أن يعذر إليه بذلك ثلاثاً، فإن لم يحضر أقام عنه وكيلاً. ولو أخبر القاضي أنه في دار فلان أنفذ الخصيان والغلمان الذين لم يبلغوا الحلم والثقات من النساء، ويبعث معهم عدلين من الرجال، فإذا دخلوا في تلك الدار وقف الرجال في الصحن، وأخذ الخصيان في تفتيش الدار، والنساء في تفتيش النساء، قال مجلي: وينبغي أن يفعل التفتيش والهجوم عليه [أولاً] إن عرف له مكان. وإذا تعذر إحضاره بعد هذا كله، قال في "الحاوي": فقد اختلف أصحابنا، هل يكون الامتناع من الحضور كالنكول؟ فيه وجهان: أحدهما: لا. والثاني- وهو الأشبه-: أن يجعل كالنكول بعد النداء على بابه بمبلغ الدعوى وإعلامه بأنه يحكم عليه بالنكول، فعلى هذا: يسمع القاضي الدعوى [عليه] محررة، ثم يعيد النداء على بابه ثانية بأنه يحكم عليه بالنكول، فإذا امتنع من الحضور

بعد النداء الثاني حكم بنكوله، ورد اليمين على المدعي، وحكم له [بالدعوى] إذا حلف. قال: وإن استعدى على غائب عن البلد في موضع لا حاكم فيه، [أي]: وهو في حكم ولايته- كتب إلى رجل من أهل الستر والصلاحية للقضاء في ذلك ليتوسط بينهما؛ لأن ذلك أسهل عليهما. قال: فإن لم يكن أحد، لم يحضره حتى يحقق المدعي دعواه؛ لجواز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده: كشفعة الجوار، وثمن الكلب، فيُجَشِّمه الحضور بغير فائدة، وهذا بخلاف الحاضر حيث لا يستفسره عما يدعيه، وإن كان الأولى: الاستفسار؛ لأنه لا مشقة في الحضور من البلد. قال في "الإشراف": ولا يستقصي في تحقيق الدعوى، بل يخفف. قال: فإذا حقق الدعوى أحضره، أي سواء كان الموضع قريباً أو بعيداً؛ كما قاله القاضي أبو الطيب وصاحب الكافي وغيرهما؛ كي لا يتخذ المسافرة طريقاً إلى إبطال الحقوق، وله ألا يحضره ويبعث من يحكم بينهما؛ كما قاله أبو الطيب. واعتبر الإمام وصاحب "العدة" في إحضاره من فوق مسافة العدوى فما فوقها، وإن زادت على مسافة القصر في هذه الحالة-: أن تقوم البينة عند القاضي بالمدعي وتثبت. وقال الإمام فيما إذا كان في مسافة العدوى فما دونها: إن الإعداء لا يتوقف على قيام الحجة، وإن هذا متفق عليه، ذكره العراقيون وغيرهم.

والمذكور في "الكافي" في مسافة القصر فما دونها: الاكتفاء بتحقيق الدعوى. ووراء ما ذكرناه في مسألة الكتاب وجهان: أحدهما: [أنه] لا يحضره من مسافة القصر، ويحضره مما دونها؛ لأنه لما كانت مسافة القصر شرطاً في انتقال ولاية الغائب في النكاح إلى الحاكم [دل] على اعتباره في إحضار الخصم. والثاني- حكاه في "التهذيب" و"الإشراف"-: أنه يحضره من مسافة العدوى، ولا يحضره مما فوقها، قال الرافعي: وهو أظهر عند الإمام. والذي أورده العراقيون: الأول، وقال الماوردي: إنه الذي ذهب إليه الأكثرون، والظاهر من مذهب الشافعي- رضي الله عنه- وقد يستدل له بأن عمر- رضي الله عنه- استدعى المغيرة [بن] شعبة في القصة المشهورة من البصرة إلى المدينة، وإذا كان هذا في حد الله- تعالى- ففي حق الآدمي أولى. أما إذا كان في الموضع الذي فيه الغائب نائب للحاكم، لم يحضره، بل يسمع البينة، ويكتب إليه. وعن حكاية أبي العباس الروياني وجه: أنه يلزم إجابته إذا طلبه الخصم، قال الرافعي: وهذا قضية إيراد صاحب "التهذيب" فيما إذا كان المطلوب على مسافة العدوى. وبه أجاب في "العدة"، وهذا الوجه يجري من طريق الأولى فيما إذا لم يكن في البلد حاكم، وكان فيها من يصلح أن يولى. وعن "أمالي" أبي الفرج السرخسي: أن القاضي يتخير بين أن [يحضر المطلوب] وبين أن يسمع البينة فيكتب إلى نائبه. ولو كان المستعدى عليه في غير محل ولاية القاضي لم يستحضره، قال في "الحاوي": وجاز له أن يسمع الدعوى والبينة عليه؛ ليكاتب به قاضي البلد الذي فيه المطلوب، وله في المكاتبة حالتان:

إحداهما: أن يكاتبه بسماع البنية. والثانية: أن يحكم بالبينة بعد سماعها. وهذا منه دليل على أنه لا فرق في الحكم على الغائب عنده، بين أن يكون في مسافة القصر أو دونها؛ كما ذكرناه من قبل. قال: وإن استعدي على امرأة غير بَرْزة لم تكلف الحضور، بل توكل؛ صرفاً للمشقة عنها؛ فإن ضرر إبطال التخدر أعظم من ضرر المرض، ولو كان الشخص مريضاً لم يكلف الحضور؛ فهذه أولى. قال: فإن وجبت عليها اليمين أنفذ إليها من يحلفها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "واغْدُ يا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا". فبعث إليها ولم يكلفها الحضور؛ لأنها كانت غير برزة؛ كما نقله أصحابنا. والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة استدلوا بهذا الخبر [على] أنها إذا كانت غير برزة يبعث إليها من يحكم بينهما، ولم يتعرضوا للتوكيل، ولاشك في جواز الأمرين عند الجمهور، لكن الذي حكاه القاضي الحسين عن النص ما أورده الشيخ، وقال: إن صاحب "التقريب" قال به. وحكي عن القفال أنه قال: تحضر مجلس الحكم كالبرزة. وعلى هذا قال الرافعي: لو رام القاضي أن يبعث [إليها] من يحكم بينهما في دارها، فللخصم الامتناع من الدخول إليها وطلب إحضارها. وعلى قول الجمهور: إذا حضر الحاكم إلى دارها، ولم يكن بينها وبين الحاكم محرمية- جلست خلف ستر، فإن اعترف الخصم بأنها خصمته حكم بينهما، وإن أنكر ذلك: فإن شهد شاهدان بأنها خصمته حكم بينهما أيضاً، وإلا كلفها أن تخرج من وراء الستر متلفعة، كذا قاله القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما. أما البرزة، فقد قال القاضي أبو الطيب وصاحب "الكافي" وغيرهما: إن حكمها حكم الرجل في جميع ما ذكرناه. وفي "الرافعي": أن الاستعداء لو كان على امرأة خارجة عن البلد، هل يحضرها

وهي عورة؟ وهل يشترط أن يكون الطريق آمناً ومعها نسوة ثقات؟ وهل على القاضي أن يبعث إليها محرماً لها لتحضر معه؟ قال القاضي أبو العباس الروياني: كل ذلك على وجهين، الأصح: أنه يبعث إليها محرماً [لها] أو نسوة ثقات كما في الحج. ثم من هي غير البرزة التي يسميها بعضهم: المخدرة، والماوردي: الخفرة؟ المشهور- وهو الذي يحكى عن النص-: أنها التي لا تخرج لحوائجها، [ولم يورد أبو الطيب وجماعة سواه. وقال الماوردي: إنها التي لا تخرج لحوائجها]، وإن خرجت استخفت ولم تعرف، والبرزة: التي تخرج لحوائجها ومآربها غير مستخفية. وحكى القاضي الحسين أن أصحابنا قالوا: غير البرزة هي التي لا تخرج لحوائجها، وإن كانت تخرج إلى العزايا والمآتم والزيارات، والبرزة: هي التي تخرج لحوائجها. ثم قال: وعندي أن غير البرزة هي التي لا تخرج لحوائجها ولا إلى الزيارات والعزايا إلا نادراً، فإن اعتادتها لم تكن مخدرة. وفي "التهذيب": أن المخدرة التي لا تخرج إلى السوق لحوائجها، ولا إلى الولائم ولا إلى الحمام بالنهار. وفي "الشامل" في باب موضع اليمين: أنها التي لا تخاطب الرجال، ولا تحضر المواسم والأعراس. وقيل: هي التي لا تخرج أصلاً إلا لضرورة، وهذا ما اختاره الإمام. قال ابن أبي الدم: والأولى في ذلك رده إلى عرف الناس وإتباع العادات. فرع: لو اختلفا في التخدر ففي "فتاوى" القاضي الحسين: أن عليها إقامة البينة على ذلك، وأنها تمهل حتى تقيم البينة. وفي "الحاوي" أنه ينظر: فإن كانت من قوم الأغلب من حال نسائهم التخدر فالقول قولها مع يمينها، وإن [كانت من قوم] الأغلب [على نسائهم] البروز

فالقول قول الخصم مع يمينه. آخر: إذا كانت المرأة برزة، ثم لازمت التخدر- فبماذا يحصل لها [حكمه]؟ قال القاضي الحسين في "فتاويه": حكمها حكم الفاسق يتوب؛ فلابد أن تمضي عليها سنة في قولٍ وستة أشهر في قول. تنبيه: إطلاق الشيخ القول بأنه إذا وجب عليها اليمين أنفذ إليها من يحلفها يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون المدعي به يوجب التغليظ في اليمين أو لا، وهو وجه حكاه الشيخ أبو علي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ، وجزم به الماوردي؛ لأجل صيانتها، واختاره ابن أبي الدم، واستدل له بأن الأصحاب صرحوا بأنه تسمع الشهادة على شهادتها مع حضورها من غير مرض، وألحقوا تخديرها بالمرض والسفر في ذلك. ومقابل هذا الوجه: أن التخدير لا يسقط التغليظ بالمكان الشريف إلا إذا كانت حائضاً، فتحلف على باب المسجد، وهو الذي صححه الشيخ أبو علي، وحكى الإمام عن العراقيين القطع به في باب موضع اليمين، وهو الذي أورده الغزالي في باب الدعاوى والبينات، وقد حكى ذلك الرافعي عن الشيخ أبي حامد وأتباعه، ورأيته في "تعليق" البندنيجي. والله أعلم. قال: وإذا حكم على غائب، أي: بشهادة شاهدين، أو بإقراره، أو بنكوله ويمين المدعي، والمحكوم به حق في ذمته أو قصاص في بدنه إذا جوزنا القضاء على الغائب به كما هو الصحيح، أو عقار في يده. قال: فسأله المدعي أن يكتب إلى قاضي البلد الذي فيه الخصم بما حكم به لينفذه، كتب إليه؛ للإجماع كما حكاه ابن الصباغ وابن يونس، والمعنى فيه: أن بالناس حاجة إلى ذلك؛ لأن بينة الشخص تكون في بلد وخصمه في آخر كما هو صورة الكتاب، ولا يمكنه حمل البينة إلى بلد الخصم ولا حمل الخصم إلى بلد البينة، فإذا أخر ذلك سقط الحق؛ فدعت الحاجة إلى شهادة البينة في بلدها ومكاتبة قاضي بلد الخصم بذلك.

وهذه الكتابة- كما قال ابن أبي الدم- واجبة [على وجه]. ولا فرق في جواز الكتابة في هذه الحالة بين أن يكون بين البلدين مسافة القصر أو دونها، حتى لو كان البلدان متجاورين جاز ذلك أيضاً، بل لو كان لكل جانب من البلد حاكم والخصم في أحد الجانبين كتب إلى [حاكم قاضي الجانب الآخر بذلك]؛ لأن ما حكم به لزم [وليس] بعده إلا الاستيفاء؛ فوجب على كل أحد تنفيذه. وهذا بخلاف ما لو ثبت عنده ولم يحكم؛ حيث فصلنا بين قرب المسافة وبعدها كما سيأتي؛ لأن المسافة إذا لم تبعد لم يتعذر إحضار الشهود عند القاضي الآخر. قال الرافعي: وقد وجدت في نسختين من "أمالي" أبي الفرج السرخسي عكس هذا، وهو أن كتاب السماع يقبل مع قرب المسافة وبعدها، وكتاب الحكم لا يقبل إلا إذا بعدت المسافة. وهو غلط من ناسخ أو ناقل، وليس وجهاً آخر. وكذا لا فرق بين أن يكتب قاضي مصر إلى قاضي قرية أو بالعكس، أو قاضي الأصل إلى الفرع أو بالعكس؛ لأن الحاجة إلى الجميع واحدة. ثم صورة الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم، حضر- أطال الله بقاء القاضي- فلان، ويرفع في نسب المكتوب إليه، في يوم كذا من شهر كذا، من سنة كذا، مجلس حكمي، في مدينة كذا التي وليتها من قبل فلان، ويذكر من ولاه من إمام أو قاضٍ، ويرفع في نسبه: فلان [بن] فلان الفلاني، ويرفع في نسبه إلى أن يتميز عن غيره، ويكتب حِلاه وصنعته وما يشتهر به إن كان القاضي يعرفه بالنسب، وإن لم يعرفه كتب: حضر من ذكر أنه فلان [بن] فلان الفلاني- وذكر الحلية ها هنا واجب، قال القاضي أبو الطيب: لأنه ليس يعرف عينه فالمعوَّل على ذكر الحلية، وادعى بكذا، ويذكر كيفية الدعوى محررة، على فلان [بن] فلان [الفلاني]، ويرفع في نسبه، بعد ثبوت غيبته عندي؛ الغيبة الشرعية المسوغة لسماع البينة عليه والحكم بها، وشهد له بذلك في مجلس حكمي فلان وفلان، ويرفع في نسبهما بعد

سؤال الخصم ذلك. وقالا: إنهما عارفان بالمشهود عليه بعينه واسمه [ونسبه]- كذا ذكره الماوردي- وقد عرفت عدالتهما وحلفته على الحق، ويصف اليمين، وحكمت له على المدعى عليه بعد السؤال، وأبقيت المدعي على حقه وحجته إن كانت [له]، وسألني المدعي أن أكتب بذلك إليك؛ لأن خصمه بحضرتك، فأجبته؛ ليحمل خصمه على الحق إذا ورد عليك كتابي صحيح الختم والمورد بما يثبت عندي وحكمت به، وعنونت باطنه بخطي وظاهره بختمي، وهو كذا، ووقعت في صدره، وهو كذا، وعلمت على الأوصال، وهي كذا سطر ويصفها، ويكتب أسماء شهود الكتاب وتاريخه. ولو كان قد حكم عليه بإقراره قال الماوردي: ذكر في كتابه أنه أقر عندي بكذا طوعاً في صحة منه وجواز أمر، فلو لم يذكر ذلك [فهل] يقوم حكمه [مقام ذكره الطواعية والصحة وجواز الأمر؟ فيه وجهان. ولو كان الحكم] عليه بنكوله ويمين الطالب ذكره القاضي مشروحاً في كتابه، كما قال الماوردي، لكن ذكر السبب الذي اقتضى الحكم من هذه الأشياء الثلاثة- أعني: البينة والإقرار والنكول مع اليمين- هل يجب؟ فيه وجهان في "الحاوي": فإن قلنا بعدم الوجوب كفاه أن يقول في الكتاب: ثبت عندي بما تثبت بمثله الحقوق وحكمت به. وهذا ما جزم به الإمام حيث قال: لا يلزمه أن يفصل البينة القائمة في الخصومة، وإنه ليس عليه أن يرفع أسماءهم ويتشوف إلى أعلامهم؛ بل يكفيه أن يقول: قضيت لفلان بحجة شرعية تقتضي القضاء. وعلى هذا: لو سأل المحكوم عليه القاضي الكاتب عن السبب الذي حكم عليه به، قال الماوردي في فصل آخر: ينظر: فإن كان قد حكم عليه بالإقرار [لم يلزمه] أن يذكره له؛ لأنه لا يقدر على دفعه بالبينة، وإن كان قد حكم [عليه] [بنكوله ويمين الطالب لزمه أن يذكره؛ لأنه يقدر على دفعه بالبينة، وإن كان قد حكم عليه بالبينة]: فإن كان الحكم بحق في الذمة لم يلزمه ذكرها؛ لأنه لا يقدر على دفعها

بمثلها، وإن [كان] الحكم بعين قائمة لزمه أن يذكرها؛ لأنه يقدر على مقابلتها [بمثلها]؛ فتترجح بينته باليد. وإن قلنا بالوجوب، وكان [السبب البينة] فهو بالخيار بين أن يسمي الشهود أو لا يسميهم ويقتصر على وصفهم بالعدالة فلو لم يصفهم بها فهل يكون ذكره لهم تعديلاً؟ فيه وجهان في "الحاوي"، والمذكور في "العدة": أنه تعديل. أما إذا كان قد حكم عليه بالشاهد واليمين ففي جواز المكاتبة به وجهان في "الحاوي": أحدهما: لا يجوز؛ لأن المخالف [فيه] من العراقيين يرى نقض الحكم به فلم يكن له تعرض حكمه للنقض. قال الماوردي: والأولى من الخلاف أن يعتبر رأي القاضي المكاتب [به] فإن كان يرى القضاء بالشاهد واليمين [كتب إليه به، وإلا فلا. قال: ولو أراد القاضي في حكمه بالشاهد واليمين] ألا يذكره في كتابه، ويطلق الحكم بالبينة أبو بثبوت الحق عنده- جاز؛ لأنه يحكم باجتهاد نفسه، ولا يحكم باجتهاد غيره، ولو كان المحكوم به على الغائب [عقاراً] في غير البلد التي هو فيها فلا يكتب إلى قاضي البلد الذي فيه [الخصم، [ويجوز أن يكتب] إلى قاضي البلد الذي فيه] العقار وصرح به الماوردي. ولو كان المدعى به عيناً منقولة ففي جواز الحكم بها مع الغيبة خلاف سنذكره- إن شاء الله تعالى- في الدعاوى. قال: وإن ثبت عنده، أي: بدون علمه ولم يحكم به، فسأله المدعي أن يكتب إلى قاضي البلد الذي فيه الخصم بما ثبت عنده؛ ليحكم عليه- نظرت: فإن كان

بينهما مسافة [لا تقصر فيها الصلاة لم يكتب، وإن كان بينهما مسافة] تقصر فيها الصلاة كتب؛ لأن القاضي الكاتب كشاهد الأصل، وشهود الكتاب كشهود الفرع؛ فاعتبر في القبول مسافة القصر، كما اعتبرت في الشهادة على الشهادة. وقيل: يقوم ما فوق مسافة العدوى مقام مسافة القصر في ذلك، وكذا في الشهادة على الشهادة، ولا يكفي فيهما مسافة العدوى فما دونها؛ كما صرح به القاضي الحسين وغيره، وسنذكر [عند] الكلام في الشهادة على الشهادة شيئاً آخر لا يستغني عنه من يتكلم في هذه المسألة. ثم ما ذكره الأصحاب هنا يقتضي أن الكلام في البعد والقرب بالقاضي الكاتب دون الشهود الذين شهدوا عنده، وقد جزم الإمام في أوائل الباب بأن القاضي في الجانب الشرقي من بلد لو كتب إلى قاضي الجانب الغربي: بأني [قد] سمعت بينة فلان [على فلان]، ووصفها على شرطها، فاقض بها، وكان الذين شهدوا عند الكاتب قد غابوا أو ماتوا- ساغ للمكتوب إليه القضاء بذلك، بخلاف ما لو كان الذين شهدوا بعد حضوراً في البلد؛ [فإنه] لا يقضي بالكتاب؛ لأن استحضار الشهود سهل؛ فهم الأصل، وقول القاضي في حكم شهادة الفرع على الأصل فيستحضرهم القاضي الثاني ويستعيد الشهادة بشرطها. والقاضي الحسين أطلق القول في هذه الصورة بعدم القبول عملاً بما قرره أولاً، وهو قضية لفظ الشافعي- رضي الله عنه- في "الأم"؛ كما نقله في "البحر" حيث قال: وإذا كان فيه قاضيان كبغداد، فكتب أحدهما إلى الآخر بما ثبت عنده من البينة- لم ينبغ له أن يقبلها حتى تعاد عليه، وإنما يقبل البينة في البلد الثانية التي لا يكلف أهلها إتيانه. وقد طرد الإمام ما ذكره من التفصيل فيما لو وقف كل قاض في طرف محل ولايته، وقال أحدهما للآخر: إني سمعت [شهادة فلان وفلان] على فلان، وحلفته

على موجب الشرع؛ فاقض بالبينة في جانبك، فقال: إن كان شهود الأصل قد غابوا أو ماتوا قضى المقول له بذلك، وإلا فلا. ثم قال: فإن قيل إذا كان التنادي والإعلام في طرف الولايتين ممكناً كما صورنا، فإذا كتب أحدهما وشهد على كتابه شاهدان، وكان قادراً على أن يشافه القاضي ويناديه- فهلا كان ذلك ممنوعاً؛ لأن كتابة القاضي وشهادة الشهود على شهادته بمثابة الفرع للقاضي، وقوله في نفسه أصل، فكيف يقع القضاء بالفرع مع التمكن من الوصول إلى الأصل؟ قلنا: الذي دل عليه كلام الأصحاب الأول؛ لأن في تكليف المشافهة عضّاً من منصب القضاء؛ ولهذا تسمع شهادة الفرع عند مرض شاهد الأصل، ولا نكلفه أن يأتي مسكنه. وقريب من إيراده في المكاتبة- والصورة كما ذكرنا- ما حكاه الماوردي قبيل باب القسمة: أنه لا يقبل كتاب قاضي أحد الجانبين إلى قاضي الجانب الآخر في ثبوت الشهادة، ويقبل في ثبوت الإقرار إن رجع المقر؛ ولا يقبل إن لم يرجع؛ لأن ما أمكن الحكم فيه بالأصل لم يجز أن يحكم فيه بالفرع؛ كالشهادة على الشهادة يحكم فيها بشهود الفرع مع تعذر شهود الأصل، ولا يحكم فيها مع إمكانهم. وقد يفهم أن هذا الكلام مغاير لكلام الإمام، وهو هو إذا تأملته؛ لأن الإمام قد حكى بعد ذلك في حالة وجود شهود الأصل في البلد خلافاً في جواز المشافهة بنقل الشهادة من قاضي أحد جانبي البلد إلى الآخر، مبنيّاً على أصل، وهو: أن سماع البينة من القاضي حكم منه بقيام البينة، أم سبيله سبيل نقل شهادة الفرع شهادة الأصل؛ فيكون القاضي فرعاً إذاً؟ فعلى الأول- وهو الذي نقله عن الأكثرين كما سنذكره، ورآه أظهر، وتبعه الغزالي فيه- لا يستعيد الشهادة الثاني، [بل يقضي، ويكون القاضيان على

هذا يتعاونان على القضية الواحدة. وعلى الثاني- وهو الذي عليه عامة الأصحاب كما قال الرافعي، وأنه منصوص عليه في "عيون المسائل": يستعيدها، لكن للشافعي- رضي الله عنه- نصٌّ سنذكره في أوائل باب الدعاوى والبينات عند الكلام في الدعوى بالعين التي لا يمكن تعيينها، يدل على الوجه الأول، وحينئذ فيكون في المسألة قولان. قلت: ويمكن بناء الخلاف الذي حكاه الإمام على أصل آخر، وهو أن شاهد الفرع، هل يسمع [مع] حضور شاهد الأصل؟ وفيه خلاف يأتي، فإن قلنا: لا يسمع- وهو الصحيح- فلا يسمع هنا، وإلا سمع. وهذا الخلاف [كله] إذا عدل القاضي الناقل البينة، فلو لم يعدلهم، قال الإمام: فهذا [يكاد أن] يكون نقلاً محضاً، وبه يتأيد وجه من ادعى أنه نقل وليس بحكم، وقد اتفق الأصحاب على أنه إن عدل الشهود وحكم بعد التهم، فهو سائغ، لكن هل للمكتوب إليه البحث وإعادة التعديل أم لا؟ لفظ "الوجيز" بشعر الأول؛ لأنه قال: جاز [له] أن يعتمده إن رأى ذلك. قال الرافعي: والقياس الثاني، أما إذا جعلناه حكماً فظاهر، وأما إذا جعلناه نقلاً؛ فلأن شاهد الفرع إذا عدل شاهد الأصل وهو بصفة المزكيين، كفى على ظاهر المذهب. نعم، لو قامت بينة بالجرح قدمت بلا خلاف، وكذا للمدعى عليه طلب الاستمهال ثلاثة أيام؛ لإقامة بينة الجرح، ولا يحتاج في هذا القسم إلى تحليف المدعي. ولو فوض الكاتب النظر في العدالة والجرح إلى المكتوب إليه فهو سائغ أيضاً. قال الإمام: لكن النقل من غير تعديل قريب من التعطيل، ولكنا مع ذلك نجوز تفويض التعديل إلى المكتوب إليه على شرط الإبلاغ في الإعلام، والإعلام الذي ذكرناه يكون مؤكداً بالاسم والرفع [في النسب] وغيرهما من الأسباب إذا لم

يحصل الإعلام إلا بذلك، أما إذا حصل بالاسم المحض- كما إذا كان الشاهد مذكوراً في البلاد بعيد الصِّيت كفى ذلك. والماوردي قال: إن للشهود في هذه الحالة ثلاثة أحوال: إحداها: أن يكونوا من أهل البلد الذي يصل الكتاب إليه، وهم على العود إليه؛ فلا يسمع شهادتهم، وإن سمعها لم يكتب بها، وقال للطالب: اذهب مع شهودك إلى قاضي بلدهم ليشهدوا عنده بما شهدوا به عندي؛ فإن كتب القضاة مختصة بما لا يمكن ثبوته بغيرها، وثبوت هذا بالشهادة ممكن؛ فلم تجز فيه المكاتبة كالشهادة على الشهادة. والثانية: أن يكون الشهود من البلد الذي يكتب إليه، [ولا يريدون العود إليه] والبينة بتعديلهم فيه؛ فيجوز أن يكتب القاضي بشهادتهم عنده؛ ليكشف عن عدالتهم، فإذا صحت عنده حكم بشهادتهم. والثالثة: أن يكون الشهود من غير البلد الذي يكتب إليه؛ فيجوز بعد سماع شهادتهم [أن يكتب] إلى قاضي بلدهم، ويسأله عن عدالتهم، فإن عرفها كتب بها إلى القاضي الأول ليتولى الحكم بشهادتهم. أما إذا كان الحق [قد ثبت عنده] لكونه علمه وكتب به إلى غيره؛ ليقضي ذلك الغير بموجب علمه على المدعى عليه- ففي "العدة" و"البحر": أنه لا يجوز القضاء به، وإن قلنا: يجوز القضاء بالعلم؛ لأنه في هذه الحالة شاهد، وبالكتابة لا تحصل الشهادة كاملة ولا غيرها. وعن "أمالي" السرخسي: أنه يجوز، ويقضي المكتوب إليه إذا جوزنا القضاء بالعلم؛ لأن إخباره عن علمه إخبار عن قيام الحجة، فليكن كإخباره عن قيام البينة. واعلم أن ها هنا أمرين لابد من ذكرهما: أحدهما: قال القاضي الحسين في "تعليقه": إن كتاب القاضي إلى القاضي بسماع البينة دون الحكم ليس مسطوراً للشافعي، وإنما خرجها الأصحاب. فقياس قوله: ألا يجوز هذا عندي؛ لأن القاضي إذا سمع البينة فهو كشاهد فرع؛ فلا تثبت بقوله شهادة

شاهدين؛ إذ الشهادة على الشهادة لا تثبت بواحد، قال الإمام في "النهاية": وهذا ليس مذهباً له ولا وجهاً مخرجاً، وإنما هو إبداء إشكال وإيضاح وجه في الاحتمال. والذي أجمع عليه الأصحاب: ما قدمناه، ويؤيده أن القاضي بعد ذكر ما حكيناه عنه قال: ولعل أصحابنا إنما جوزوا هذا؛ لأنهم جعلوا سماع القاضي شهادة الشهود نوع حكم منه. ثم قال: فعلى هذا إذا سمع شهادة شاهد واحد، وكتب إلى [ذلك] القاضي بسماع شهادة الثاني- يجب أن يجوز، وإذا استخلف من يسمع البينة على شيء يكون بالخيار بين أن يستعيد تلك البينة [إذا حكم بنفسه، وبين أن يأخذ بقول خليفته ويقتصر على سماعه البينة] ويحكم. والرافعي قال فيما لو قال الحاكم لخليفته: اسمع دعوى فلان وبينته، ولا تحكم بها حتى تعرفني، ففعل، هل للحاكم أن يحكم به؟ القياس أنها كإنهاء أحد القاضيين في البلد إلى الآخر لإمكان إحضار الشهود. وهذا منه موافق لما ذكره القاضي، لكن قال: الأشبه ها هنا أن له الحكم؛ لأن تجويز الاستخلاف شرع للاستعانة بالخليفة، وذلك يقتضي الاعتداء بسماعه، بخلاف سماع القاضي المستقل، وبهذا أجاب أبو العباس الروياني في "الجرجانيات" على تلوم فيه. الثاني: كيفية الكتاب في صورة مسألة الكتاب، بعد ذكر المدعي والمدعى عليه، والقاضي المكتوب إليه، وتحرير الدعوى ونحو ذلك؛ كما ذكرنا في الفصل قبله- أن يكتب: وقد شهد عندي بذلك فلان وفلان بكذا، وقد ثبت عندي، ولا يقول: حكمت به. وقال الشيخ أبو حامد: لا يقول ثبت عندي أيضاً. بناءً على مذهبه في أن الثبوت حكم؛ كما حكاه عنه الماوردي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم، واختاره ابن [أبي] عصرون، وقد يقال: إن كلام الإمام منطبق عليه حيث قال: إن الأصحاب قالوا: سماع البينة من القاضي حكم [منه] بقيام البينة. والحكم على مذهبنا ليس افتتاح أمر وإنشاء شأن، وإنما [هو] إظهار ما تقرر

ممن هو مطاع متبع، فإذا حكم لزيد على عمرو، فمعناه: ظهر له وجوب حق لأحدهما على الثاني، والشرع ألزم إتباعه، كذلك إذا ظهرت البينة فأظهرها، كان ذلك حكماً منه، لكن الذي عليه أكثر الأصحاب أن الثبوت ليس بحكم، وهو أصح عند الماوردي وغيره؛ لأن الحكم هو الإلزام، وليس في الثبوت إلزام، وهو في ثبوت الحق كالإقرار، وادعى في "البحر" أن الشافعي- رضي الله عنه- نص عليه في "الأم" حيث قال: كتابه كتابان: أحدهما: كتاب تثبت يستأنف المكتوب إليه به الحكم. والثاني: كتاب حكم [منه]. ثم ما ذكرناه من تسمية الشهود في هذه الصورة واجب، صرح به القاضي الحسين والغزالي والإمام، وقال الرافعي: القياس التجويز؛ كما أنه إذا حكم استغنى عن تسمية الشهود، وأن هذا هو المفهوم من إيراد صاحب "التهذيب" وغيره، وأنه يجوز أن يقدر فيه خلاف؛ بناءً على أن كتاب القاضي إلى القاضي بسماع البينة نقل للشهادة أو حكم بقيام [البينة]؟ إن قلنا: حكم، فلا حاجة إلى التسمية، وإن قلنا: نقل، فلابد من التسمية؛ كما أنه لابد أن يسمى شاهد الفرع شاهد الأصل. [وهذا البناء فيه نظر؛ لأن من قال: إنه ليس بحكم، قال: تسمية الشهود في هذه الصورة لابد منها، وذلك دليل على أنه ليس بحكم؛ إذ لو كان حكماً لما احتيج إلى ذلك، وإذا كان هذا دليله لم يحسن بعده ما ذكر من البناء.] نعم، حكى [الروياني] في "البحر" أن بعض أصحابنا بخراسان قالوا: يجوز أن يكتب: [ثبت] عندي بشهادة العدول، ولا يسميهم، فإن لم تثبت عدالتهم سماهم. وهو ضعيف. فرع: إذا قال القاضي: صح مورد هذا الكتاب عليّ، وقبلته قبول مثله، وألزمت العمل بموجبه- قال أبو سعد الهروي: سُئِلت عنه في الدار النظامية بأصبهان، هل هو حكم أم لا؟ فقلت: يرجع إلى الحاكم، فإن قال: أردت الحكم، فهو حكم، وإن تعذر

الرجوع إليه فالاعتماد على عرف الحكام، فإن اعتقدوه حكماً فهو حكم، ثم استقر رأيي، لما وليت قضاء همذان على أنه ليس بحكم؛ لاحتمال أن المراد تصحيح الكتاب وإثبات الحجة. قال: وإذا كتب الكتاب أحضر شاهدين، أي: عدلين ممن يخرج إلى ذلك البلد، ويقرأ [عليهما الكتاب]، أو يقرأ عليه وهو يسمع؛ كي لا يحرف منه شيء، [ولا فرق] في الحالة الأخيرة بين أن يكون القارئ غير الشاهدين أو هما. نعم، إن كان القارئ غيرهما، فقد قال الشافعي- رضي الله عنه-: وأحب للشاهدين أن ينظر في الكتاب عند قراءته؛ كي لا يغير منه شيء أو يسقط. وهذا على وجه الاستحباب؛ كما صرح به [في] "المهذب" وغيره؛ لأنهما يؤديان ما سمعاه. قال: ثم يقول لهما: اشهدا علي أني كتبت إلى فلان بن فلان بما سمعتما في هذا الكتاب؛ لأن بذلك يصح التحمل عنه، وليس بعده غاية تفعل، لكن قوله: اشهدا عَلَيَّ، مذكور على وجه التأكيد، حتى لو قال لهما بعد القراءة: هذا كتابي إلى فلان، ولم يسترعهما، ولا قال [لهما]: اشهدا علي بما فيه، كفى، كذا جزم به القاضي أبو الطيب، وتبعه ابن الصباغ وغيره. وحكى الماوردي وجهاً: أنه لا يكفي؛ بناءً على منع الشهادة على المقر من غير استرعاء المقر المشهود، وهذا ما اقتضى كلام صاحب "الإشراف" عند الكلام في صفة الشهادة أنه المذهب. وعن ابن كج رواية وجه: أنه يكفي مجرد القراءة عليهما. قال الأصحاب: وإذا تم التحمل وضعا خطهما فيه قبل غيبوبته عنهما، ويختماه بختمهما، وكذلك القاضي يختمه بختمه، لكن ختم [الشهود يكون في الباطن، وختم] القاضي يكون في الظاهر، ويذكر في الباطن صفته كما تقدم، وهذا أيضاً على وجه التأكيد والاحتياط؛ لأن المعتبر عندنا ما يذكره الشاهدان، حتى لو

حضر الكتاب وهو مفتوح بعد ختمه، أو قد انمحى- عمل بما يذكرانه، ولم يضر ذلك، بل لو ذكر الشاهدان شيئاً وفتح الكتاب، فوجد [ما فيه] مخالفاً لما ذكراه- عمل بقولهما؛ كما صرح به القاضي الحسين والإمام عن الأصحاب. ولو غاب الكتاب عنهما قبل إثبات خطهما فيه فقضية ما ذكرناه: أنه لا يضر ذلك. وفي "الحاوي": أنه لا يصح هذا التحمل؛ لأنه يحتمل أن يبدل في الغيبة بغيره. ثم ما ذكرناه من الختم محله- كما قال الماوردي- إذا لم يكتب للكتاب نسخة، ورأى القاضي أن يقره مع الطالب، فلو رأى أن يقره مع الشاهدين فالأولى ألا يختمه؛ ليتدارساه [ويحفظا ما فيه] حتى يشهدا به إن ضاع أو انمحى. ولو كتب للكتاب نسختين؛ لتكونا مع الشاهدين- كان أولى، وقد أشار إلى ذلك الشافعي- رضي الله عنه- بقوله: وينبغي أن يأمرهم بنسخ كتابه في أيديهم، ويوقعوا فيه شهادتهم. قال في "البحر"- حكاية عن الأصحاب-: والأولى أن تكون كتابة النسختين قبل [أن يقرأ القاضي الكتاب] عليهما؛ لتكون نسخة كل واحد معه حالة القراءة يقابل بها. وابن الصباغ والبندنيجي قالا: ينظر في الكتاب: فإن كان ما فيه قليلاً يحفظانه اعتمد على حفظهما، وإن كان كثيراً كتب كل واحد منهما نسخة، وقابل بها؛ لتكون معه يتذكر بها ما يشهد به. قال: فإذا وصلا، أي: غير مرتابين بما في الكتاب، إلى محل ولاية المكتوب إليه قرأا الكتاب على المكتوب إليه، وقالا: نشهد أن هذا الكتاب قرأه علينا فلان بن فلان، وسمعناه وأشهدنا أنه كتب إليك بما فيه؛ لأنه الذي يحملانه، وبه يحصل المطلوب.

وفي "التهذيب" و"الرقم": أن القاضي إنما يفض الختم بعد شهادة الشهود وتعديلهم. والذي ذكره أبو سعد الهروي: أن القاضي يفتح الكتاب أولاً، ثم يشهد الشهود. وهذا لا شك أنه خلاف في الأولى؛ لما عرفت أن [في] مذهبنا عدم اعتبار الختم من أصله. ولا يكفي في ذلك لفظ الخبر، كما قال الماوردي، وهو منطبق على قول القاضي أبي الطيب وابن الصباغ وغيرهما: إنه لا يكفي اقتصارهما على قولهما: إن هذا كتاب فلان؛ لأنه يجوز أن يكون كتابه ولكنه لم يشهدهما عليه. وأوجب القاضي أبو الطيب أن يقولا: أشهدنا في مجلس حكمه؛ لأن قول القاضي لا يصح إلا في مجلس حكمه. قال في "المرشد": وفي هذا نظر. ولمي بينه. ولو تشككا في شيء مما في الكتاب لم يصح أداؤهما، ولو ورد الكتاب عليه وهو في غير محل ولايته لم يقبله، ولا يفضه ولا يسمع الشهادة؛ لما تقدم. وقد اعتبر الماوردي في صحة الأداء أن يصل الكتاب إلى القاضي بمشهدهما، إما من أيديهما أو من يد الطالب بحضرتهما، فلو لم يشهدا حضوره لم يصح الأداء. واعتبر في "الإشراف" في قبول الشهادة أن يقول [الشاهد]: أشهد أني أعرف فلان القاضي بعينه ونسبه، وأنه قاض في موضع كذا جائز القضاء. قال: ولو قالا: نشهد أنه كتب إليك بهذا ولم يقرأا، أي: وكان القاضي الكاتب قد قرأه عليهما- لم يجز، أي: قبوله وإن كان مختوماً؛ لأنه ربما زور الكتاب عليهما وكذا ختمه، ولأن المقصود ما فيه، وهو مجهول عند القاضي قبل القراءة، والشهادة بما يجهله القاضي غير مسموعة، وما ذكره الشيخ هو ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- كما نقله في "البحر"، ومثله يجري فيما لو أدرج [القاضي] الكاتب الكتاب قبل القراءة، وقال لهما: اشهدا علي أن مضمون هذا

الكتاب قضائي، فيكون التحمل فاسداً، وهو ما جازم [به] القاضي أبو الطيب وغيره، وطردوه فيما لو كتب كتاب وصيته، ولم يقرأه. والبندنيجي جعل مسألة الوصية أصلاً لمسألة القاضي، وحكى الماوردي في مسألة كتاب القاضي وجهاً في صحة التحمل؛ لأنها شهادة بكتاب معين، ونسبه الإمام إلى الإصطخري وقال: إنه متروك عليه غير معدود من المذهب. ثم أيده بعد ذلك، وقال: إن الوجه جوازه. وقد روي عن الإصطخري والماوردي والمصنف زيادة على ذلك، وأنه قال: لو لم يشهد الكاتب أحداً بل كان المكتوب إليه يعرف خط الكاتب وختمه، واتصلت بمثله كتبه جاز قبوله؛ لأن كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقبولة، ويعمل بها من غير شهادة، وهذا ليس بشيء؛ لما ذكرناه، وادعى الإمام أنه غلط لا شك فيه؛ فإن الكتاب لا تعويل عليه، والخط لا اعتبار به. قال الماوردي: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الرسل الحاملة لها تشهد بها مع أنها تجري مجرى الأخبار التي يخفى حكمها؛ لعموم إلزامها، والشهادة محمولة على الاحتياط تغليظاً؛ ولهذا لا تثبت الشهادة بالخط إذا كتب بها الشهود، وإذا تمت الشهادة عند [المكتوب] إليه، احتاج في إنفاذ حكم الكتاب إلى ثبوت عدالة شاهدي الكتاب عنده، ولا يكفي تعديل الكاتب لهما في كتابه؛ لأن في ذلك قبول شهادة الإنسان بعدالته، وقد نسب إلى القفال الشاشي الاكتفاء به، وغلطه الإمام فيه، وقال: إنه معدود من هفوات هذا الإمام. قلت: وقد يشبَّه هذا الخلاف بخلاف قد حكي عن رواية الروياني في "الروضة" فيما لو شهد على الكتاب الشاهدان اللذان ثبت بهما الحق عند الكاتب، لكن الذي جزم به في "الإشراف" في هذه الصورة: القبول؛ لأن القبول فعل الحاكم والشهادة عليه، ولأنهما لو شهدا عند القاضي الثاني بما شهدا [به] عند الأول جاز. وذكر عقيب هذا الكلام [أن] الأستاذ أبا طاهر قال: وعلى هذا أدركت القضاة من غير

نكير من العلماء، وعليه تفقهت وفقهت الناس. قلت: وقد يفهم من هذا أن هذا الكلام عائد إلى هذا الفرع، كما فهمه الرافعي وغيره، والذي وقع لي أنه عائد إلى ما ذكره قبله، وهو أن شاهد الأصل إذا زكاه شاهد الفرع جاز، وأن أحد الشاهدين إذا زكى الآخر جاز، ويؤيد ذلك أنه قال بعد قوله: "وفقهت الناس": ولولا جواز هذا لما جازت شهادة أب وابن لأجنبي، وإحدى الشهادتين تكمل الثانية، وهذا التعليل لا يمكن عوده إلى الفرع الذي ذكرناه، فتأمله! والله أعلم. وفي "أدب القضاء" لابن أبي الدم: أن الشاهدين إن قالا للحاكم الثاني: أشهدنا الحاكم على نفسه بثبوت الحق عنده، وأنه حكم به، ولم يذكرا أنه ثبت عنده بشهادتهما في لفظ أدائهما، وكان الحاكم الكاتب قد ذكر في الكتاب اسميهما- ففي سماع شهادتهما وتنفيذ حكم الكتاب [بقولهما] خلاف عند الأصحاب، والأصح: أنها تسمع وتنفذ. وإن قالا: أشهدنا الحاكم الكاتب أنه ثبت الحق عنده بشهادتهما وحكم بها، ثم أشهدنا على نفسه بذلك- قالوا: فهل ينفذه المكتوب إليه؟ فيه خلاف مطلق. وقال أبو علي الثقفي: تسمع وتنفذ قولاً واحداً، وعلى هذا تفقهت وفقهت الناس فيما وراء النهر. حكى هذا عنه الشيخ أبو علي في "شرحه الكبير". فرع: لو أراد الشاهدان أن يمسكا الكتاب ويشهدا بمضمونه، قال في "الحاوي": إن كان قد انمحى ما فيه أو معظمه لم يلزمهما إيصاله، وإن بقي ما فيه أو معظمه حرم إمساكه، ولم يمنع من صحة الشهادة. تنبيه: في قول الشيخ: أحضر شاهدين، ما يعرفك أنه أراد رجلين؛ لأن شهادة رجل وامرأتين- وإن صدق عليهما اسم شاهدين- لا يحصل بهما نصاب الشهادة فيا لمال، فكيف بك ها هنا؟! بل لو شهد على الكتاب رجل وامرأتان وهو متضمن ما يثبت بشهادة النسوة، لم يثبت.

وعن ابن كج رواية وجه في ثبوته برجل وامرأتين إذا تعلقت الحكومة بمال، وذكر أنه لو كان كتاب القاضي في رؤية هلال رمضان كفى شهادة واحد، فأجرى الكتاب مجرى المكتوب به، وأنه لو كتب في الزنى وجوزناه في العقوبات، [فهل يثبت] بشهادة رجلين، أم لابد من أربعة؟ فيه وجهان كالقولين في الإقرار بالزنى. قال: وإن مات القاضي الكاتب [أو عُزل]، أو مات المكتوب إليه [أو عزل وولي غيره- حمل الكتاب إليه] وعمل به. أما في الأولى؛ فلأن الكتاب إن تضمَّن الحكم كان العمل به متفقاً عليه، كما حكاه القاضي أبو الطيب، وإن لم يتضمن سوى الثبوت؛ فلأن الحاكم الكاتب أصل لشاهدي الكتاب، وهما باقيان، وفرع لمن شهد عنده، وتغير حال الأصل الذي هو فرع لغيره، لا يمنع من ثبوت الحكم بشهادة فرعه، دليله: ما لو أشهد شاهدا الفرع على شهادتهما فرعين ثم ماتا؛ فإنه يحكم بشهادة الفرعين لكونهما أصلاً. وفي "البحر": أن بعض أصحابنا بخراسان قال: إن الكتاب يخرج بموت الكاتب عن أن يكون بينة. وهو غلط. وأما في الثانية؛ فلأن الاعتماد على ما [يؤديه الشاهدان] لا على الكتاب؛ ألا ترى أنه لو انمحى أو ضاع جاز للمكتوب إليه أن يسمع الشهادة ويحكم بها، وإذا كان المعول عليهما [فهما حاضران]. قال الإمام: وما وقع من التخصيص فهو إقامة رسوم غير ضائرة ولا قادحة، والدليل عليه أن التخصيص إنما يتخيل من تولية أو استنابة، وليس لهذا القاضي أن يولي أحداً في غير محل ولايته، ولا أن يستنيب بحكم الولاية، وهذا مذهب البغداديين من أصحابنا، ولم يورد القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ

والقاضي الحسين والإمام سواه. وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر قال به البصريون من أصحابنا: أنه لا يجوز له قبول كتاب غيره؛ كالشهادة عند المعزول لا يحكم بها المولى بعده، وعلى هذا: فالأحوط أن يكون كتاب القاضي الأول إلى من يبلغه من قضاة المسلمين؛ فإنه إذا كان كذلك حكم به من وصل إليه. [وعلى الأول] قال القاضي أبو الطيب: الذي يقتضيه المذهب: أنهما إذا شهدا عند قاض آخر، والمكتوب إليه حي، وهو على عمله- أنه يجوز ويحكم به، وكذا إذا ولي المكتوب إليه موضعاً آخر، فحمل الكتاب إليه فيه، وعلى ذلك ينطبق قول القاضي الحسين، الذي حكى الإمام بعضه: [إنه لو] آثر شهود الكتاب المنجز من حاكم مَرْوَرُّوذ إلى حاكم نيسابور، المقام بسرخس، أو الانعطاف إلى مروروذ، أو قالوا: لا نصحبك إلا بجُعْلٍ؛ لجواز ذلك لهما؛ لما يلحقهم في قطع تلك المسافة من المشقة العظيمة- فالمدعي بالخيار بين أن يشهد على شهادتهم جماعة يصحبونه في الطريق إلى نيسابور، ويشهدون له في مجلس قاضيها، [وليس لهم أن يقولوا: لا تشهد على شهادتنا إلا بجعل- وبين أن يثبت ذلك في مجلس قاضي سرخس]، وينجز منه كتاباً إلى قاضي نيسابور. قال: وكذا لو استقبله الخصم في الطريق، له أن يثبت ذلك في مجلس كل قاض أمكنه. وفي "التهذيب": أنهم لو أرادوا المقام في موضع ليس فيه قاض ولا شهود، ليس لهم ذلك، بل عليهم المضي إلى موضع فيه قاض] وشهود، وأنهم لو طلبوا الأجرة في هذه [الحالة] فليس لهم إلا نفقتهم، وكذا دوابهم، بخلاف ما لو طلبوا أكثر من ذلك عند ابتداء الخروج من بلد القاضي الكاتب؛ حيث لا يكلفون الخروج والقناعة؛ لأن هناك يمكن إشهاد غيرهم، وها هنا حامل الكتاب مضطر إليهم.

فرع: لو مات القاضي الكاتب، أو عزل وولى غيره، فرفع إليه كتاب الذي قبله- فهل يعمل به؟ قال في "الحاوي" و"البحر": إن تضمن كتابه سماع البينة دون الحكم بقبولها، فلا يجوز للثاني أن يحكم [بقبولها بسماع الأول حتى يستأنف الشهادة، وإن تضمن السماع والحكم] بقبولها وإلزام الحق الذي تضمنها، عمل به الثاني ونفذه، وإن تضمن السماع والحكم بقبولها دون الحكم بإلزام [ما تضمنه: فإن كان من شهد عنده حيّاً موجوداً، لم يكن للثاني أن يبني على حكم الأول بالقبول حتى] يستأنف سماع الشهادة والحكم؛ لأن القدرة على شهود الأصل تمنع من الحكم بشهادة شهود الفرع، وإن كان ميتاً أو غير موجود كان للثاني أن يبني على حكم الأول؛ فيحكم بالإلزام [على حكم] الأول بالقبول؛ لأن تعذر القدرة على شهود الأصل يبيع الحكم بشهادة الفرع. قلت: وينبغي أن يتخرج على هذا ما لو ثبت عند القاضي حق ولم يحكم به، فعزل ثم ولي، هل يسوغ له الحكم به أم لا؟ وما قاله الإمام وغيره من أنه إذا أقيمت بينة في مجلس القاضي، فغاب قبل القضاء بها، وخرج عن محل ولايته، ثم عاد فهل يبني القضاء على البينة السابقة أو يستعيدها؟ فيه وجهان: أصحهما: لا. والثاني: يستعيدها؛ كما لو عزل وولي ثانياً؛ فإنه لا خلاف أنه يستعيدها، فلعله محمول على حالة وجود الشهود كما ترشد إليه قوة الكلام، أو محمول على حالة سماع البينة [دون الحكم] بقبولها، وإليه يرشد التصوير. على أن الإمام قال: في المسألة احتمال- وقد حكاه في "التهذيب" وجهاً في كتاب القسامة-: أنه إذا ولي المعزول ثانياً لا يستأنف البينة.

فإن قلت: ما ذكره الماوردي يظهر أنه متفرع على ما هو محكي عن عامة الأصحاب من أن سماع البينة من القاضي سبيله سبيل نقل شاهد الفرع شهادة شاهد الأصل، [أما] إذا قلنا: سبيله سبيل الحكم بقيام البينة- كما رآه الإمام الأظهر- فيظهر أن يقال ها هنا: إن للثاني أن يحكم، وإن كان من شهد عند الميت أو المعزول حاضراً؛ كما ينقل هو بنفسه ذلك إليه. قلت: كلام الإمام الذي حكيته من قبل يأباه، بل مصرح بنفيه، لكن النص الذي وعدت به ثم لا يأباه، بل مصرح به. واعلم أن ما ذكرناه من عمل المكتوب إليه بالكتاب عند موت الكاتب أو عزله منوط بما إذا لم يكن المكتوب إليه نائباً عن الكاتب، أما إذا كان نائباً عنه، فعمله به ينبني على أنه ينعزل بموته وعزله أم لا؟ وفيه طرق: إحداها: إن كان الاستخلاف بغير الإذن وجوزناه انعزل، وإن كان بالإذن فوجهان، كذا حكاهما القاضي الحسين في باب ما على القاضي في الخصوم. الثانية: ينعزل خلفاؤه إن كان خاص العمل كقاضي قرية أو صقع قد استخلف فيه من ينوب [عنه] في القضاء، وإن كان عام الولاية في جميع الأمصار كقاضي القضاة، ففي انعزال القضاة بموته وجهان: أحدهما: لا ينعزلون؛ لعموم نظره كالإمام. والثاني: ينعزلون بموته لخصوص نظره بالقضاء فكان كقاضي إقليم، وهذا ما أورده الماوردي. الثالثة: وهي التي أوردها القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ- إطلاق وجهين فيه: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق وأبوي علي ابن أبي هريرة والطبري؛ كما نقله القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والجمهور، كما قاله الرافعي، وجعله البندنيجي المذهب، واختاره في المرشد أنه ينعزل كالوكيل. والثاني:- وهو ما صححه القاضي الحسين عند الكلام فيما نحن فيه، وقال في "البحر": إن القفال اختاره-: أنه لا ينعزل؛ لأنه نصبه لحكم المسلمين، لا في ملكه؛

فهو معه كالإمام الأعظم مع القضاة والأمراء، فإنهم لا ينعزلون بموته ولا عزله. والقائلون بالأول افترقوا: فمنهم من سوى بين الإمام والقاضي، وقال: من ولاه الإمام ينعزل بموته وعزله أيضاً؛ كما حكاه الإمام والمارودي قبله، وعلى هذا فلا فرق. والجمهور سلموا الحكم بعدم انعزال من ولاه الإمام بموته أو عزله، وادعى القاضي [أبو الطيب] أنه لا خلاف فيه، وكذلك صاحب "التلخيص" كما نقله في "البحر"، ومنعوا كون القاضي يعقد للمسلمين، بخلاف الإمام، واستدلوا لذلك بأن الإمام ليس له أن يعزل القاضي إذا لم تتغير حاله، ولو عزله لم ينعزل، وليس كذلك نائب القاضي؛ فإن له عزله، وفرقوا بأن القضاة لو انعزلوا بموت الإمام [أو عزله]، لأدى إلى الضرر العظيم الواصل إلى كافة الأمة، بخلاف خليفة القاضي؛ كذا قاله [القاضي] أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ. وإذا جمعت بين الطرق واختصرت قلت: في عزل من ولاه القاضي بعزله أو موته أوجه: ثالثها: إن استخلف بالإذن لم ينعزل. وإلا انعزل، ولم يورد الغزالي سواها. ورابعها: إن كان المولى قاضي القضاة لم ينعزل بموته، وعزله من ولاه، وإلا انعزل. وفي "الرافعي" عوضاً عن الوجه الثالث الذي ذكرناه، فإنه إن استخلف بغير الإذن انعزل، وإن كان بالإذن: فإن قال: استخلف عني، لم ينعزل، وإن قال: عن نفسك، أو أطلق فينعزل؛ لظهور غرض المعاونة، وبطلان المعاونة ببطلان ولايته. وجعل هذا الوجه أظهر الوجوه، وبه يجيء في المسألة خمسة أوجه. وهذا كله فيمن استخلف للحكم، أما من استخلف في سماع شهادة أو أمر خاص فينعزل جزماً، وأما المستخلف على الأيتام والوقوف فقد ألحقه في "الوسيط" بالمستخلف في الحكم، والذي جزم به صاحب "الحاوي" وتبعه صاحب "البحر":

أنهم لا ينعزلون، وهو ما قال الرافعي: إنه المشهور؛ كي لا تختل أبواب المصالح، وصار سبيلهم سبيل القوام المنصوبين من جهة الواقفين. ولو كان الإمام قد نصب بنفسه نائباً عن القاضي في الحكم، فعن أبي الفرج السرخسي: أنه لا ينعزل بموت القاضي وانعزاله؛ لأنه مأذون من جهة الإمام. قال الرافعي: ويجوز أن يقال: إذا كان الإذن مقيداً بالنيابة ولم يبق الأصل، لم يبق النائب. قلت: قد حكيت عن الماوردي في أوائل باب ولاية القاضي أن الإمام إذا استناب شخصاً، وصرح في التولية له بأنه نائب عن القاضي المولى من جهته قبل ذلك- هل لذلك القاضي عزله أم لا؟ فيه وجهان: فإن قلنا: ليس له عزله، فكذلك ها هنا لا ينعزل بموته وعزله، وإن قلنا: له عزله، يشبه أن يخرج على الخلاف، والله أعلم. وقد تعلق بما نحن فيه كلام تقدم الوعد به، وهو أن القاضي هل يسوغ عزله مع سلامة الحال، ونحن الآن نخوض فيه، فنقول: إن كان القاضي خليفة لقاض آخر، فقد حكينا ها هنا عن الأصحاب أن لأصله عزله. وفي "الشامل": أنه يجيء على قول من قال: إن خليفة القاضي لا ينعزل بموته، أنه ليس له أن يعزله مع سلامة الحال، وهذا قد قاله القاضي أبو الطيب، لكن [ليس] بصيغة الاحتمال والتخريج، بل كما يحكي غيره عن المذهب. وإن كان القاضي قد ولاه الإمام فقد حكينا ها هنا عن الأصحاب أنهم قالوا: ليس للإمام عزله مع سلامة الحال. وقد حكاه الماوردي هنا عن الجمهور؛ بناءً على الفرق [بين القاضي] والإمام. وقضية ما حكيناه عن بعض الأصحاب من التسوية بين من ولاه الإمام والقاضي في الانعزال بالموت والعزل: أن له عزله مع سلامة الحال، وهو الذي جزم به الماوردي في أوائل كتاب الأقضية، وجعل تولية القضاء من العقود الجائزة. وقد حكى الوجهين صاحب "الإبانة" والعدة في غير هذا الموضع، وبناهما

القاضي أبو الطيب عند الكلام في الاستخلاف على أنه هل يجوز استخلاف القاضي فيما يقدر على مباشرته بنفسه أم لا؟ فإن قلنا: يجوز- كما قاله الإصطخري؛ لأنه صار بالولاية كالإمام- فالإمام لا يجوز له عزل القاضي [مع سلامة الحال. وإن قلنا: يمتنع الاستخلاف كما في الوكيل، فللإمام عزل القاضي]. لكن قضية هذا البناء: أن يكون الصحيح جواز العزل؛ لأن الصحيح منع الاستخلاف عند القدرة كما تقدم، والذي حكاه جمهور الأصحاب من العراقيين: منع العزل مع سلامة الحال، وقد أشار إلى ذلك ابن الصباغ عند الكلام في الاستخلاف أيضاً. وحكى الإمام عن [القاضي] أنه قال: له عزله إذا رابه منه أمر، ويكفي فيه غلبة الظن بذلك، ولو لم يظن غير الخير فإن لم يكن ثَمّ من يصلح للقضاء لم ينعزل، وإن كان ثَمّ من هو أصلح منه انعزل، وإن كان مثله فوجهان. ثم قال: وإطلاق الكلام على هذا الترتيب غفلة عما يراد في هذا الباب، فنقول أولاً: حق على الإمام ألا يصدر شيئاً من أمور المسلمين إلا عن رأي ثاقب وبحث ونظر في الصلاح، وهذا مطرد في العزل والتولية، فإن عزل شخصاً وولى دونه؛ لمصلحة- وهو إن رأى أن الأصلح [أولى لشغل أولى] مما هو فيه- فهذا ينفذ ويجب القطع به، ولا يجوز تقدير خلاف فيه، وإن فرض منه عزل مطلق، فلا اعتراض عليه إذا كان يتطرق إليه إمكان النظر، ولا يجوز أن يكون فيه خلاف. وإن رددنا الكلام إليه في نفسه وقلنا: لو لم يصدر عزله عن نظر، فهل ينفذ ذلك؟ فهذا تردد فيه بعض الناس المنتمين إلى الأصول، والذي أقطع به أنه ينفذ، ولكن يتعرض صاحب الأمر بترك الأصلح لخطر المأثم، ولو لم يقل بهذا لرددنا حكم من ولاه ثانياً، وهذا يجر خبلاً عظيماً، ولست ألتزم الخوض فيه. والذي رأيته في "تعليق" القاضي: [أنه] إن عزله بمن هو أصلح منه انعزل، وإن

عزله بمن هو دونه لم ينعزل على المذهب. وقال في "الوسيط"- على الأظهر-: وإن عزله بمثله فوجهان. وبين عبارة الإمام وهذه فرق فتأمله. وقد وافق الماوردي الإمام في بعض ما أبداه من التفصيل في أواخر كتاب الأقضية، حيث قال: إذا عزل الإمام المولى عن اجتهاد أدى إليه، إما لظهور ضعفه وإما لوجود من هو أكفأ منه- جاز، وإن عزله مع الاستقامة نفذ وإن كان غير جائز؛ لأن عزله حكم من أحكام الإمام، وأحكام الإمام إذا لم تخالف نصاً ولا إجماعاً لا ترد. وحكى ابن أبي الدم أن الشيخ أبا علي قال في "شرحه الكبير": إذا ولى الإمام قاضياً لم يتعين عليه، فعزله بمثله أو بمن هو أصلح منه- قال القفال: لا ينعزل؛ لأنه صار قاضياً من جهة الله تعالى. وقال بعض شيوخنا: ينعزل، وعلى هذا لو أخبر الإمام أن قاضي بلد كذا قد مات، فولى غيره، ثم بان كونه حيّاً- لم ينعزل الأول عند القفال، وعلى الوجه الثاني ينعزل، وتكون الولاية للثاني، وهو ما أورده الرافعي من غير بناء. وهذا حكم عزله، أما عزله نفسه فقد قال في "الحاوي": إنه لا يكون قوله: عزلت نفسي، [عزلاً]؛ لأن العزل يكون من المولي، وهو لا يجوز أن يولي نفسه؛ فلم يجز أن يعزلها. نعم، إن كان معذوراً جاز اعتزاله، وإن كان بغير عذر مع من الاعتزال، وإن لم يجبر عليه؛ لأن ولاية القضاء من العقود الجائزة؛ ولذلك نفذ فيه عزل الإمام، وإن خالف الأولى، لكن لا يجوز أن يعتزل إلا بعد إعلام الإمام واستعفائه؛ لأنه موكول إلى عمل تحرم إضاعته، وعلى الإمام أن يعفيه من النظر إذا وجد غيره؛ حتى لا يخلو العمل من ناظر، فإن أعفاه قبل ارتياد غيره جاز إن كان لا يتعذر، ولم يجز إن تعذر، ويتم عزله باستعفائه وإعفائه، ولا يتم بأحدهما، فإن نظر بين استعفائه وإعفائه صح نظره. وصاحب "التهذيب" و"الكافي" قالا: إذا عزل نفسه [هل] ينعزل؟ حكمه

حكم الإمام إذا عزله. وجزم في "النهاية" و"الحاوي" في أوائل كتاب الأقضية بانعزاله، وكذا الرافعي وقاسه على الوكيل، والقاضي الحسين قال بذلك عند عدم تعينه، وقال: إنه إذا كان متعيناً عليه ففيه نظر؛ لأن الحسن بن علي- رضي الله عنهما- خلع نفسه بعد أن ولي بثمانية أشهر، والتمسوا من عثمان- رضي الله عنه- أن يخلع نفسه فلم ير ذلك. والذي حكاه ابن أبي الدم: لا ينعزل عند تعينه، وفي انعزاله إذا لم يتعين وجهان، أصحهما: الانعزال، وعلى هذا: لو أنكر القاضي كونه قاضياً، قال في "البحر": قال جدي: صار معزولاً كالوكيل، وفيه وجه ضعيف: أنه لا يصير معزولاً. فرع: إذا عزل القاضي حيث يجوز العزل، فهل ينعزل قبل بلوغ الخبر [إليه]؟ فيه طريقان: أحدهما: حكاية قولين فيه كالوكيل، وبهذا قال صاحب "التلخيص" وابن كج. والثاني- وهو الأصح، وبه قطع أبو زيد-: القطع بعدم الانعزال ما لم يبلغ الخبر؛ لعظم الضرر في رد أقضيته بعد العزل، وقبل بلوغ الخبر. قال في "الحاوي": وفرق الأصحاب بين الوكيل والقاضي بوجهين: أحدهما: أن القاضي ناظر في حق غير المولي، والوكيل ناظر في حق المولي. والثاني: أن موت الإمام لا يوجب عزل القاضي، وموت الموكل يوجب عزل الوكيل. فقوي القاضي بهذين الوجهين على الوكيل؛ فصح لأجلهما أحكام القاضي، ولم تصح عقود الوكيل. ثم هذا الخلاف المذكور فيما إذا عزله لفظاً، أو كتب إليه: إني عزلتك، أو: أنت معزول، فأمّا إذا كتب إليه: إذا أتاك كتابي فأنت معزول، فلا ينعزل قبل أن يأتيه، وإن

كتب: إذا قرأت كتابي فأنت معزول، فلا ينعزل قبل القراءة، ثم إن قرأه بنفسه انعزل، وإن قرئ عليه فوجهان: أحدهما: لا ينعزل؛ لصورة اللفظ. وأصحهما: الانعزال؛ لأن غرض الإمام إعلامه بصورة الحال لا قراءته بنفسه، وفي مثله في الطلاق، الأظهر: أنه لا يقع؛ لأن الطلاق قد يعلق على قراءتها خاصة فيتبع اللفظ. قال: وإن فسق الكاتب، أي: قبل عمل المكتوب إليه بما في الكتاب، فإن كان فيما [ثبت عنده] ولم يحكم بطل كتابه؛ لأن الكاتب كشاهد الأصل، وفسق شهود الأصل قبل الحكم بشهادة الفرع يمنع الحكمب شهادتهم. قال: وإن كان [فيما] حكم به لم يبطل؛ لأن الحكم لا يبطل بالفسق الحادث، وهذا ما حكاه الماوردي والبندنيجي والقاضي أبو الطيب والبغوي وغيرهم، وقدي طلب الفرق بينه وبين ما لو فسق الشاهد في الواقعة بعد الحكم بشهادته؛ فإن في نقض الحكم طريقين: أحدهما: القطع بعدم النقض، وهو نظير ما قالوه ها هنا. والثاني: حكاية قولين فيه، وعلى هذا يطلب الفرق. لكن في "الرافعي": أن القاضي ابن كج أطلق القول بأنه لا يقبل كتابه إذا حدث الفسق من غير فرق بين كتاب وكتاب، وأنه فرق بينه وبين الموت: بأن ظهور الفسق يشعر بالحنث وقيام الفسق قبل يوم الحكم، قال: وهذا قضية إيراد الشيخ أبي حامد وابن الصباغ؛ وعلى هذا لا فرق. أما إذا فسق الكاتب بعد عمل المكتوب إليه بالكتاب لم ينقض، وغن لم يتضمن الكتاب سوى الثبوت، صرح به الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم. قال صاحب "الحاوي" وتبعه في "البحر": والجنون الطارئ كالفسق. وفي "الرافعي": أن الشهود على القاضي كشهود الفرع [، وشهادة الفرع] بعد

موت الأصل مقبولة، والعزل والجنون والعمى والخرس كالموت. تنبيه: كلام الشيخ في هذا الفصل [يعرفك] أن القاضي ينعزل بالفسق؛ كما صرح به القاضي الحسين، وأشار في "الوجيز" إلى خلاف فيه حيث قال: إن طرآن الفسق يوجب الانعزال على الأظهر. ومقابل الأظهر أنه لا ينعزل إلا بالعزل، كما نسبه الإمام إلى بعض الأصوليين من أصحابنا، والرافعي قال: إن طرآن الفسق يمنع من نفوذ الحكم على اصح الوجهين؛ كما يمنع طرآن الجنون والإغماء والخرس والخروج عن أهلية الضبط والاجتهاد بغلبة أو نسيان. لكن منع الحكم في الصور المذكورة [هل هو] لانعزاله حتى لو زال ما [قد] حدث فلابد من تجديد التولية، أو لكون ما حدث مانعاً لا غير حتى إذا زال استمرت التولية؟ فيه وجهان، أصحهما: الأول، ومقابله في ["الإشراف"]: الفاسق إذا تاب، ادعى في "الإشراف" أنه منصوص عليه؛ قياساً على الأب يتوب بعد الفسق، وقال الرافعي: إنه منسوب إلى تخريج صاحب "التلخيص" من قول الشافعي- رضي الله عنه- في أهل البغي: إنهم لا يقاتلون حتى يناظروا، ويسألوا عماذا ينقمون؟ فقد يسألون عزل عامل يذكرون جوره. فلو كان العامل ينعزل بالجور لقال: يدعون انعزاله بالجور، ولم يقل: يسألون عزله. قال الرافعي: إلا أنه لم يطرد جوابه في صورة الردة، وسلم أنه إذا تاب بعد الردة احتاج إلى عقد جديد، وقال الشيخ أبو زيد: القياس التسوية. وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسي: القطع بأن الإغماء مانع؛ فإذا زال عادت الولاية، بخلاف الجنون. وفي "الحاوي": أنه إذا حدث الفسق في القاضي، فإن استدامه مصرّاً عليه انعزل به، ولو عجل الإقلاع عنه: فإنك ان من غير ندم وتوبة انعزل به، وإن كان إقلاعه عن ندم وتوبة نظر: فإن كان فسقه قد ظهر قبل التوبة انعزل به، وإن لم يظهر حتى

تاب منه لم ينعزل به؛ لانتفاء العصمة عنه؛ فإن هفوات ذوي الهيئات مقالة، قل أن يسلم منها إلا من عصم، وإذا انعزل بالفسق، فحكم في حال العزل: فإن كان إلزاماً بإقرار صح، وإن كان حكماً بشهادة بطل، وعليه أن يمتنع من الحكم، ويهي حاله إلى الإمام أو إلى من ولاه؛ ليقلد غيره، ولا يغتر به الناس إن لم يعرفوه، ويقف أحكامهم إن عرفوه، وهو في إنهاء حاله بين أمرين: إما أن يظهر الاستعفاء ويكتم حاله؛ ليكون أستر [له]، وهو أولاهما، وإما أن يخبر بسبب انعزاله وإن كره له هتك ستره. قال: وإذا وصل الكتاب، أي: الموصوف بما ذكرناه، وحضر الخصم، وقال، أي: بعد الدعوى عليه وإنكاره الحق وإقامة البينة بما في الكتاب: لست فلان بن فلان، أي: المذكور في الكتاب، وليس معروفاً بذلك- فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أخبر بنفسه، والأصل أن لا مطالبة عليه، فلو نكل عن اليمين حلف المدعي، وتوجه الحكم عليه، ولو امتنع من الحلف على نفي الاسم، وأراد الحلف على نفي الاستحقاق- فالمحكي عن الصيدلاني: أنه تقبل منه اليمين على هذا الوجه، ويندفع القضاء؛ استشهاداً بأن من ادعى عليه جهة في الاستحقاق كالقرض مثلاً، فلم يتعرض في جوابه لها، واقتصر على قوله: لا يلزمني تسليم شيء إليه- أنه تقبل منه اليمين، كذلك ها هنا. قال الإمام: وهذا عندي خطأ؛ فإنه إنما امتنع من اليمين على نفي الاسم والنسب؛ لثبوتهما، ولو ثبتا فالحجة قائمة عليه، والقضاء [مبرم]، وليس كالدعوى المختصة بنفي الإقراض؛ فإن الدعوى ليست حجة، فأثبت الشرع للمدعى عليه مسلكاً في الخصومة يوافق الحق عنده، والمسألة محتملة مع ما ذكرناه. ولأجل ما ذكره الإمام جزم في "الوجيز" بأنه لا يحلف كذلك، وقال ابن يونس:

إنه الصحيح. وقد اعترض على الصيدلاني بأن وزان ما نحن فيه في مسألة [دعوى] القرض- إن سلم أن بينهما مشابهة- أن يجيب المدعى عليه بأنه [ما] اقترض، ثم يروم أن يحلف على أنه لا يستحق عليه شيئاً، وفي هذه الصورة الصحيح: أنه لا يجاب كما سيأتي، والله أعلم. أما إذا كان معروفاً بهذا الاسم فيحكم عليه [به]، ولا يقبل ما ادعاه. قاله الماوردي. قال: فإن أقام المدعي بينة أنه فلان بن فلان، أي: الذي رفع نسبه في الكتاب، أو قال المدعى [عليه]: أنا فلان بن فلان، إلا أني غير المحكوم عليه- لم يقبل قوله؛ لأن الظاهر أنه المشهود عليه؛ فإن الأصل عدم مشاركة غيره له في ذلك. قال: حتى يقيم بينة أن له من يشاركه في جميع ما وصف به في الكتاب، أي: إن لم يكن المشار إليه يعرف به كما ذكره الماوردي؛ لأن الحكم- حينئذ- يصير محتملاً له ولغيره، وقال ابن الصباغ: إنه إذا ادعى أن له من يشاركه في ذلك سأل القاضي عنه وكشف، فإن لم يظهر ذلك حكم عليه؛ لأن الظاهر أنه المحكوم عليه، فإن ظهر فالقاضي يحضر ذلك الشخص ويسأله، فإن اعترف بأنه المحكوم عليه ألزمه الحق. قلت: وفي هذا نظر من جهة أن كتاب القاضي لو تضمن أنه حكم على فلان بن فلان، ولم يرفع في نسبه، ولا وصفه بما يتميز به عن [غيره- كان] الحكم باطلاً، حتى لو أقر رجل بأنه فلان بن فلان المعني بالكتاب، لم يلزمه شيء بالقضاء المبهم في نفسه؛ كما حكاه الغزالي، وقضية ذلك: أن يكون الحكم باطلاً- أيضاً- فيما إذا اعترف المشارك في الاسم بأنه المسمى في الكتاب والمعني به؛ لأجل

الإبهام. لكن قد يمنع ابن الصباغ الحكم الذي ذكرناه، ويسوي بين المسألتين فيقول: إذا تضمن الكتاب أنه حكم على فلان بن فلان ولم يرفع في نسبه ولا ميزه بصنعةٍ، فقال [شخص]: إنه المعني بالكتاب- يلزمه الحق؛ كما حكاه الرافعي عن "أدب القاضي" [لابن القاص و"إيضاح" أبي علي]، والله أعلم. وإن أنكر، قال البندنيجي وغيره: يقال للمحكوم له: ألك بينة تفرق بين الرجلين؟ فإن أتى بالبينة حكم له، وإن لم يأت بها كتب المكتوب إليه إلى الكاتب كتاباً، وعرفه ما وقع من الإشكال ليحضر شهوده، فيذكر لأحدهما صفة يتميز بها عن صاحبه: فإن وجد الحاكم مزية كتب بها وحكم عليه، وإن لم يجد مزية وقف الأمر حتى ينكشف. هذا إذا كان حيّاً، وأما إن كان من هو بهذه الصفة ميتاً، قال الماوردي والبندنيجي: فإن لم يكن قد عاصر الحي فلا أثر لهذه المشاركة، وإن كان قد عاصره- قال البندنيجي: ويمكن أن يكون عامله-: فإن كان قد مات بعد الحكم فهو كما لو كان حيّاً، وإن كان [موته قبل الحكم] فوجهان، اختار في "المرشد" منهما: أن الإشكال واقع، ووجه إلزام الحي: أن مطلق الأحكام يتوجه في الظاهر إلى الأحياء دون الأموات. فرع: لو أقر بأنه المحكوم عليه، لكن طلب يمين المدعي على عدم القبض أو البراءة- لم يجب إلى ذلك؛ لأن الكاتب قد حلفه، صرح بذلك أبو الطيب والبندنيجي والماوردي وغيرهم. وفي "التهذيب" في مسألة دعوى الإبراء: أنه يحلفه على أنه لم يبرئه. قال الرافعي: فحصل في المسألة وجهان. ولو طلب يمين الخصم على عدالة من شهد عليه لم يلزمه اليمين، وكذا لو سأل إحلافه على أن لا عداوة بينه وبينهم. نعم، لو سأله أن يحلف على أن لا ولادة بينه وبينهم ولا شركة، وجب إحلافه على ذلك؛ لاختصاصه بالمحكوم له دون الحاكم؛ كذا حكاه الماوردي، ونسبه الرافعي إلى "العدة".

قال: وإن حكم عليه، أي: ألزمه الخروج [من] الحق، فخرج منه، فقال: اكتب [إلي كتاباً] بأنك حكمت عليّ، أي: وبأني وفيت [ما حكمت عليَّ به]؛ حتى لا يدعي ذلك مرة [أخرى]- فقد قيل: يلزمه؛ لاحتمال ما ذكره، ولأنه لو طلب الإشهاد على الخصم بالقبض لأجل ذلك وجب قولاً واحداً؛ لأنه حق ثبت عليه ببينة؛ فكذلك يجب على القاضي. وهذا قول الإصطخري، وصححه الجيلي. وقيل: لا يلزمه؛ لأن الحاكم إنما يكتب بما ثبت عنده أو حكم به بعد دعوى محررة، ولم يَجْرِ واحد منهما عنده. وهذا ما اختاره في "المرشد" والنواوي. قال: إلا [أن يدعي] ذلك مرة أخرى؛ لأنه إذا ادعى ذلك مرة أخرى توجهت دعوى الدافع بالإقباض والقاضي يعلمه، [فساغت الكتابة] به، وهذه الزيادة لم أرها لغير الشيخ، وإن كان الفقه يقتضيها نظراً لما ذكرناه. ولا خلاف أن الدافع لو طلب الكتاب الذي وصل بوجوب الحق عليه بعد وفاء الحق- لا يسلم إليه؛ لأن الورقة قد تكون ملك الخصم، وإن لم تكن فله غرض في إمساكه لتذكار الشهود؛ فربما احتاج إلى شهادتهم. قال القاضي أبو الطيب وغيره: وكذا لو باع واحد [شيئاً] فلا يلزمه تسليم كتاب الأصل ولا تمزيقه؛ لأنه ملكه وحجة عند الدرك، ولم يدخل في البيع. قال: وإن ثبت عند الحاكم حق، أي: على حاضر أو غيره، فسأله صاحب الحق أن يكتب له محضراً بما جرى- كتبه ووقع فيه، أي كتب علامته على رأسه،

مثل: الحمد لله رب العالمين، وهو بتشديد القاف، ودفعه إليه، لأن في ذلك توثقة لحقه، فشرع كالإشهاد على نفسه، لكن هذه الكتابة واجبة أم مستحبة؟ أطلق بعضهم فيها وجهين، وملخص ما ذكره في "الحاوي": أنه ينظر في ذلك: فإن كان في دين يستوفي عاجلاً لم يلزمه، وإن كان في دين مؤجل أو [في] ملك متأبد: فإن كان في صورة يجب على الحاكم الإشهاد عليه فيها جزماً، كما إذا ثبت الحق عنده بإقرار الخصم، وقلنا: [له أن] يقضي بعلمه أولاً كما قاله البندنيجي، أو يثبت بنكول الخصم وحلف المدعي ففيه وجهان: أحدهما: أن ذلك واجب كالإشهاد، وهذا أصح في "تعليق" القاضي الحسين، والمختار في "المرشد". والثاني: أنه لا يجب؛ لأن الشهادة بينة تغني عنه، والمرجع عندنا إلى ما يذكره الشاهد، قال الغزالي: وعلى هذا فيستحب للقاضي استحباباً مؤكداً. وإن كان في صورة قد اختلف في وجوب الإشهاد فيها، وهي إذا ثبت الحق بشهادة عدلين، فإن قلنا: لا يجب الإشهاد؛ لأن البينة بالحق موجودة- فكتب المحضر أولى، وإن قلنا: تجب؛ لأن في إشهاده على نفسه مع البينة الموجودة تعديلاً لبينته وإثباتاً لحقه- ففي إيجاب كتب المحضر الوجهان. وعن ابن جرير الطبري- وهو [] كما قاله الرافعي في أوائل كتاب الزكاة-: أنه لا يكتب المحضر إذا لم يعرف الخصمين، حتى لا يصير محضره الذي ثبت له حجة على ما يكون باسمهما ونسبهما.

قال القاضي أبو الطيب وصاحب "البحر": [وهذا غلط]؛ لأنهما إذا لم يكونا معروفين بعينهما، فإنه يذكر حليتهما، ولا يجوز [له] ترك ذلك، والمعول عليه الحلية؛ فصار بمنزلة معرفة العين. ونسب الإمام ما حكيناه عن ابن جرير إلى ابن خيران، وأنه ليس بشيء، والقاضي الحسين نسبه إلى الإصطخري وأنه [قال]: إذا أقر المجهول عنده لا يقبل إقراره؛ لأني [لو] قبلت ذلك لا آمن أن يكون واطأه المدعي؛ حتى يقر له، ويستعير اسم إنسان، فيسمي به نفسه، فإذا مات ادعى على ورثته، ولا ينفع القاضي كتب الحلى؛ لأن المستعار اسمه قد مات، وهو يدعي على ورثته. ثم قال: وهذا غلط؛ لأنه يؤدي إلى تعطيل الأحكام؛ فإنه لا يعرف جميع الخصوم. قال: ويكتب نسخته ويودعها [في] قمطره، أي: مختومة، ويكتب على ظهرها: خصومة فلان بن فلان، وتاريخها، [ووجه ذلك]: الاحتياط؛ فإن فيها تذكاراً بالحال، و [إليها] مرجعاً عند الحاجة، ولا شك في أن ذلك غير واجب، ثم القرطاس في كل الأحوال يكون من بيت المال؛ كما تقدم ذكره. قال: فإن لم يكن للحاكم قرطاس من بيت المال كان ذلك على صاحب الحق؛ لأنه يكتبه لحقه، وأشار القاضي الحسين إلى أنا إذا قلنا بوجوب الكتابة، ولم يكن للحاكم قرطاس من بيت المال، ولا أحضره الطالب: أنه يجب من مال القاضي على وجه، ثم قال: والصحيح: أنه لا يجب على القاضي شيء من ماله. وهذا ما جزم به [غيره]. ثم صورة المحضر: "بسم الله الرحمن الرحيم، حضر القاضي فلان بن فلان،

ويرفع في نسبه؛ حتى يتميز، قاضي بلد كذا من قبل الإمام فلان، ويرفع في نسبه، أو من قبل القاضي فلان، ويرفع في نسبه، المولى من قبل الإمام فلان، وهو بمجلس حكمه ومحل ولايته من بلد كذا، فلان بن فلان الفلاني، ويرفع في نسبه بما يميزه عن غيره، ويكتب حليته استحباباً إن كان معروف النسب عند القاضي، وإلا كتب- كما قال ابن الصباغ وشيخه أبو الطيب والبندنيجي والإمام وغيرهم-: من ذكر أنه فلان بن فلان الفلاني- وكتب الحلية هاهنا واجب؛ كما قاله أبو الطيب- وادعى على فلان بن فلان الفلاني، ويرفع في نسبه، ويذكر حليته استحباباً إن كان معروف النسب، وإلا فيذكرها وجوباً؛ لأن المعول عليها. ثم يذكر المدعى به وصفة الدعوى محررة، [ثم] إن كان المدعي عليه قد أقر بالحق كتب إقراره [، و] به. قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ. وليس يحتاج أن يذكر أنه أقر له في مجلس حكمه؛ لأن الإقرار يصح فيه وفي غيره، وهذا قد نسبه الماوردي إلى الشيخ أبي حامد، وأنه قال: إن ثبت ببينة ذكر ذلك. وهو في "تعليق" البندنيجي. قال الماوردي: وفرق بأن سماع [البينة] حكم، وليس في الإقرار حكم. وهذا الفرق ليس له وجه؛ لأن الدعوى لا يسمعها القاضي إلا في مجلس حكمه؛ ولأنه يتعلق بالإقرار إلزام، والإلزام حكم. ثم يذكر التاريخ ويوقع على رأسه بكتب العلامة؛ كما تقدم. وإن كان المدعى [عليه] قد أنكر، وقامت [عليه] بينة كاملة بالحق، وكانت عادلة- كتب إنكاره، وأنه شهد عليه بالمدعى [به] شاهدان عدلان، ثبت بهما الحق، وأن ذلك في مجلس الحكم؛ لأن الشهادة لا تسمع في غيره، وحكم تسميتها وعدمها قد تقدم الكلام فيه. وفي "الحاوي" و"البحر" في باب ما على القاضي في الخصوم: أن في تسمية

الشهود الذين حكم بشهادتهم في المحضر والسجل وجهين: أحدهما- قاله الإصطخري-: أن ترك تسميتهم أولى. والثاني- قاله ابن سريج-: أن تسميتهم أولى وأحوط للمشهود عليه؛ فلعله يقدر على جرحهم. قال الماوردي: مع أن كل واحد من الأمرين جائز. وإن أقام المدعي شاهداً [واحداً] وحلف معه، ذكر ذلك، وأن الشهادة واليمين وقعا في مجلس الحكم. ويختمه بالتاريخ، ويكتب القاضي في آخره: شهدا عندي، أو: شهد عندي بذلك. ويوقع على رأسه بالعلامة، وهذا إذا لم يكن له صك، فإن كان له صك وفيه خطوط الشهود قال القاضي أبو الطيب: فيكتب علامة توقيعه في صدره، ويكتب تحت خط الشاهدين اللذين شهدا عنده: شهدا عندي بذلك. ويقتصر عليه. قال: وكذلك في فصل الإقرار. وفي "تعليق" البندنيجي: أنه يكتب تحت خط كل واحد: شهد عندي بذلك في مجلس حكمي وقضائي. وإن كان المدعى عليه قد أنكر، ولم يكن للمدعي بينة، وطلب يمينه، فنكل عنها، وحلف المدعي بطلبه- كتب ذلك: وأنه جرى في مجلس الحكم، وختمه بالتاريخ، ووقع على رأسه بالعلامة. قال: فإن أراد، أي: المدعي- أن يسجل له، كتب له سجلاً، وحكى فيه المحضر، وأشهد على نفسه بالإنفاذ- أي بالحكم- بما ثبت في المحضر بعد الحكم به، حتى لا يكون كاذباً في إشهاده، وألفاظه: حكمت له بكذا، وألزمته الحق، وأنفذت الحكم به؛ كما قاله ابن الصباغ. قال: وسلمه إليه، وكتب نسخته، وتركها في قمطره، وتوجيه ذلك قد تقدم. وهذا السجل يبدأ فيه بكتابة الشهادة، كما ابتدأ في المحضر بالحضور؛ فيكون أول

السجل: هذا ما أشهد عليه القاضي فلان-[على ما] قدمناه- في محضر نسخته كذا، ويكتب نسخة المحضر، فإذا فرغ منه قال: فحكم به وأنفذه وأمضاه بعد أن سأله ذلك، واستيفاء الشرائط المعتبرة في ذلك، وأشهد على نفسه. ولو كان السجل على ظهر كتاب أحضره، وكتب: أشهد عليه في مجلس حكمه أنه ثبت عنده مضمون الكتاب باطنه، وهو كذا، ثم بعد فراغه يكتب: وأنه حكم به. وللناس في ذلك عرف مختلف، والمرجع في كل قطر إلى عرف أهله، على أن المحاضر والسجلات كتب، هي بما ذكرناه أحق من هذا الكتاب. فرع: قال في "الحاوي" في باب ما على القاضي في الخصوم: إذا تحاكم الخصمان، ولم يسألا القاضي الكتبة، كان القاضي مندوباً إلى إثبات محاكمتهما في ديوانه، مشروحة بما انفصلت عليه من إلزام أو إسقاط؛ احتياطاً للمتحاكمين، ووجوب ذلك معتبر بالحكم: فإن كان مما استوفى وقبض لم يجب عليه إثباته، وإن كان إثباته مستظهراً، وإن كان مما لم يقبض ولم يستوف: فإن كانت الحالة مشهورة ولا ينسى مثلها، لم يجب إثباتها، وإن جاز أن ينسى مثلها وجب عليه إثباتها؛ ليتذكر بخطه ما حكم [به] وألزم؛ [لأنه كفيل بحفظ الحقوق على أهلها، فألزم] بذلك ما يئول إلى حفظها، والله أعلم. قال: وما يجتمع من المحاضر [والسجلات] في كل شهر، أو في كل أسبوع، أو في كل يوم- على قدر قلته وكثرته- يضم بعضها إلى بعض، أي: فيصير قمطراً، ويختم عليه ويكتب عليه: محاضر وقت كذا، من شهر كذا، من سنة كذا؛ ليسهل عليه كشف ما يريده عند الحاجة إليه. قال الأصحاب: وإذا اجتمعت محاضر سنة ضمها، وكتب عليها: محاضر سنة كذا. ولو لم يفعل القاضي ذلك بنفسه، لكنه وكله إلى ثقة- جاز، والأولى: أن يكون

بحضوره [إن لم يتولاه]؛ خشية من إدراج شيء فيها. وكلام الماوردي مشير إلى تعيين حضوره عند تولي الغير ذلك. والأسبوع- بضم الهمزة والباء-: اسم للأيام السبعة. قال: فإن لم يسجل له الحاكم، أي: لم يكتب له سجلاً، وقد أشهد على نفسه بالإنفاذ- جاز؛ لأن الحكم قد حصل، وكتبة ذلك لا يلزم بها شيء؛ فإن الاعتماد على ما يشهد به الشاهد، وقيل: يلزمه كالإشهاد، حكاه البندنيجي والمصنف وغيرهما. قال الغزالي: ومن جوز للأمي أن يكون قاضياً فلا يمكنه إيجاب الكتاب وإن التمس صاحب الحق. [فإن قيل]: هل تفصلون في وجوب الإشهاد في الحكم بين أن يكون الحكم قد ثبت بالبينة أو بالإقرار على وجه؛ كما ذكرتم ذلك في الإشهاد في الثبوت؟ قلت: قد أطلق ابن الصباغ القول بأن الإشهاد على نفسه بالحكم في هذه الصورة وغيرها واجب، وهو الذي لا يتجه غيره؛ لأن الحكم يحصل بما لم تحصله البينة، وهو الإلزام؛ فلذلك وجب، بخلاف الثبوت؛ فإنه لا يحصل أمراً زائداً على ما شهدت به البينة. فرع: حدود الله- تعالى- هل يقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي؟ فيه قولان؛ كما في الشهادة على الشهادة فيها، وسنذكرهما إن شاء الله تعالى. قال: وإن ادعى رجل على رجل حقاً، فادعى أن له حجة في ديوان الحكم، أي: به، وذكر تاريخها، فوجدها كما ادعى، فإن كان ذلك حكماً حكم به هذا الحاكم لم يرجع إليه حتى يتذكر؛ لقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]؛ ولأن الخط والختم بصدد التزوير؛ فلا يجوز اعتماد القاضي عليه في الحكم بمجرده؛ كما أن الشاهد لا يجوز له الاعتماد على خطه في أداء الشهادة،

وإن حفظ النسخة في خزائنه، ووثق بأنه لم يحرف، بل أولى؛ لأن الحكم أغلظ لما فيه من الإلزام، بخلاف الشهادة. [فإن قيل]: قد قلتم: إن الراوي يجوز له في الرواية الاعتماد فيما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على النسخة إذا وثق بها، فهلا كان القضاء [مثله]؟ قلنا: لنا في الرواية وجهان: أحدهما- ما صار إليه الصيدلاني، وحكاه الرافعي عن رواية المصنف-: أنه لا يحل للمحدث إلا رواية ما حفظه وتذكره؛ فليرو كذلك أو ليترك؛ وعلى هذا اندفع السؤال. والثاني: جواز ذلك كما ادعيتم، وهو الصحيح. وعلى هذا: فالفرق أن أمر الرواية أسهل؛ ولهذا تسمع من العبد، بخلاف القضاء والشهادة. وقد سوى الشيخ أبو محمد بين الشهادة والرواية في الاعتماد على الخط عند الوثوق به، وحكى الرافعي عنه وعن غيره أنه طرده في القضاء، قال الغزالي: وما ذكره أقرب مما ذكره الصيدلاني. وكما لا يجوز اعتماد القاضي فيما حكم به على الخط والختم ما لم يتذكر، لا يجوز اعتماده فيه على شهادة شاهدين شهدا عنده بأنه حكم به؛ لأنه يمكنه أن يذكر ذلك ويصل إلى اليقين؛ فلا يرجع إلى الظن؛ ولهذا لو شهد عنده شاهدان بأنه صلى لم يرجع إليهما، وإن كان حق الله- تعالى- أخف؛ لأنه مبني على المسامحة، وأيضاً فإن الشهادة أخف من الحكم ولو شهد عند الشاهد شاهدان بأنه شهد بحق، لم يجز أن يشهد به حتى يتذكر؛ فالحكم أولى. وفي "الإشراف "والرافعي" أن ابن القاص قال: إنه يجوز له الحكم إذا شهد عنده بأنه حكم؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه- قال: "وينظر القاضي في المحضر، فإن لم يتذكر شهدوا عليه". والمذهب: الأول، والضمير في قول الشافعي- رضي الله عنه-:

"شهدوا عليه"، عائد إلى المحكوم عليه إذا كان قد أقر عند الحاكم بالحق؛ كما ذكره الأصحاب. نعم، لو شهدا عند غيره بأنه حكم بذلك: فإن كان بعد تكذيبهما لم يحكم به ذلك الغير أيضاً؛ لفسقهما بقول الحاكم الأول، وكذا لو لم يكذبهما الأول، لكنه أنكر أن يكون حكم به. قال الشافعي- رضي الله عنه-: "فإن علم غيره أنه أنكره فلا ينبغي له أن يقبله". ووجهه القاضي أبو الطيب والماوردي وغيرهما بأن الحاكم كشاهد الأصل، وشاهد الأصل لو أنكر الشهادة لم يجز لشاهد الفرع أن يشهد بها. ولو لم يصدر منه تكذيب ولا إنكار، لكنه توقف- ففي حكم الثاني بذلك وجهان حكاهما القاضي الحسين عن رواية أبي إسحاق، والمذكور منهما في "تعليق" البندنيجي والقاضي أبي الطيب: الجواز، وعليه يدل النص؛ حيث قال- كما ذكره في "البحر"-: إلا أن الحاكم إذا لم يتذكره لا يجوز [له أن يبطله]، ولا يجوز له أن يحقه، ولكنه يتوقف عنه، حتى لو رفع إلى حاكم آخر يمضيه وجوباً. والمذكور في "المهذب"، وهو المختار في "المرشد": مقابله، وهو منسوب في "البحر" إلى أبي بكر الأودني؛ كما لو شهد شهود الفرع عند الحاكم، ثم قامت بينة أن شاهدي الأصل توقفا عن الشهادة- لا يحكم بشهادة الفروع. ثم قال: وهو غلط؛ لما ذكرناه من النص. قال الماوردي والبندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم: وإذا تذكر القاضي الحكم ألزمه إياه قولاً واحداً، ولا يتخرج على القضاء بالعلم، بل هو إمضاء ما حكم به. وعن "أمالي" أبي الفرج الزاز حكاية طريقة أخرى إن أمضاه على القولين في القضاء بالعلم. فرع: هل للمدعي تحليف الخصم عند توقف القاضي في الحكم، [على] أنه لا يعرف حكم القاضي؟ قال صاحب "التهذيب": يحتمل وجهين. وهما مأخوذان مما

سنذكره في الدعاوى- إن شاء الله تعالى-: [أن] ما ليس بعين الحق، ولكنه ينفع في نفس الحق، هل تسمع الدعوى به أم لا؟ قال: وإن كان حكماً حكم به غيره لم يرجع إليه حتى يشهد به شاهدان؛ لإمكان التزوير والتحريف، وقد حكيت أن الإصطخري جوز قبول كتاب القاضي إذا عرف خطه وختمه وتكرر ورود كتبه عليه، وهذا يظهر مجيء مثله هاهنا. قال: وإذا لم يعرف الحاكم لسان الخصم، أي: لكونه عربياً والخصم عجمي؛ فإن القاضي لا يتصور أن يكون عجمياً؛ كما قاله الإمام تبعاً للقاضي الحسين، لأن الشرط: أن يكون مجتهداً على المسلك الأصح، ومن ضرورة ذلك أن يكون عالماً بلغة العرب؛ فإن الشريعة عربية. قال: رجع فيه إلى من يعرف، أي: ولا يشك فيه؛ للضرورة في فصل الخصومات، فإن شك الشاهد في ذلك اللسان لم يقبل منه، نص عليه في "الأم"، ولو [احتاج إلى] أجرة فهي على صاحب الحق أم في بيت المال كأجرة الحاكم؟ فيه وجهان في "الأحكام" لابن شداد، وقال: إنا إذا قلنا بالأول، فالواجب [عليه] أجرة المثل فيما يتعلق بخاصته في مثل حقه.

وفي "الرافعي" عوضاً عن الأول: أنها لا تجب في بيت المال؛ كالوكيل، ونسبه إلى تخريج [صاحب] "التلخيص"، وأنه يحكى عن أبي زيد أيضاً. وعلى هذا: فمؤنة ما يترجم للمدعي [على المدعي] عليه؛ لأنه يبلغ كلامه، والخلاف جار في أجرة المسمع، ويكون على الوجه الأول [على] صاحب الحق؛ كما قاله في "الوسيط". قال: ولا يقبل فيه إلا قول من تقبل شهادته، [أي: فيما يترجم فيه؛ لأنها شهادة عند الحاكم بما يقف عليه الحكم؛ فلا تقبل إلا من عدل تقبل شهادته] كالإقرار.

وعلى هذا: فلا تسمع ترجمة النساء في القصاص والحدود، وتسمع في الأموال وما في معناها مع رجل؛ كذا أطلقه البندنيجي، ولم يذكر الماوردي سواه، وقال: تسمع شهادة المرأة والرجل في الترجمة بالإقرار بالمال. وحكاه في "التهذيب" أيضاً، ثم [قال]: قال الشيخ: وجب ألا تقبل في الأموال- أيضاً- إلا من رجلين؛ كما لا تثبت الشهادة على الشهادة بقول النساء، وإن كان الحق مما يثبت برجل وامرأتين. وهذا ما أورده القاضي الحسين والإمام، وقاساه على الوكالة. والوجهان مذكوران في "الكافي"، وعلى الأول: ينبغي أن تسمع الترجمة من النسوة منفردات فيما يثبت بشهادتهن على الانفراد، وهو قضية قولهم: إن ما تقبل فيه الشهادة من المرأة تسمع فيه ترجمتها. والوالد والولد لا تقبل ترجمتهما؛ كما لا تقبل شهادتهما؛ كذا أطلقه [في] "الحاوي"، ولعله محمول على ترجمتهما بإقرار خصم قريبهما، وأما ترجمتهما بإقرار قريبهما فلا يظهر إلا سماعها. واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي: أنه لا تقبل ترجمة الأعمى فيما يفتقر فيه إلى البصر، وهو وجه حكاه الرافعي والبغوي وصاحب "الكافي" والإمام عن رواية صاحب "التقريب" في منع ترجمته مطلقاً لأن الأعمى ليس من أهل نقل الأقوال، ولا نظر إلى تفاصيل الأحوال، وعليه ينطبق قول الشيخ: ولا نقبل شهادة الأعمى إلا في موضعين. لكن الصحيح- وبه جزم الماوردي والقاضي أبو الطيب والروياني-: السماع إذا كلف القاضي المجلس السكوت؛ حتى لا يتكلم إلا المدعي والمدعى عليه؛ لأن الترجمة تفتقر إلى السماع [دون البصر، وشهادة الأعمى مقبولة فيما يتعلق بالسماع] خاصة وإن ردت فيما يتعلق بالبصر. قال: ولا يقبل إلا من عدد يثبت به الحق المدعى [به]؛ لأن خبر من ليس بحاكم يفتقر إلى الحرية؛ فافتقر إلى العدد، أصله: الشهادة، وفيه احتراز من حكم

الحاكم؛ لأن ذلك خبر من حاكم. وقولنا: يفتقر إلى الحرية، احترزنا به عن أخبار الديانات [و] عن الفتوى، ولأنه نقل إلى الحاكم ما غاب عنه فيما يتعلق بأمر المتخاصمين؛ فكان من شرطه العدد كالشهادة. وفي "الذخائر" حكاية وجه: أنه [يكتفي] بالواحد كالمسمع. وقال الإمام: فيما إذا كان الخصمان عارفين بالعربية لا يغيب عنهما مدركها، ولكنهما لا يحسنان النظم-: الوجه أن يكون هذا بمثابة ما لو كان الخصمان سميعين، والقاضي أطروش. والحكم في الصورتين: أن القاضي إذا احتاج إلى التلقي من المتوسط بالترجمة أو الإسماع، والخصمان مدركان- فالوجه: أنهما إذا أدركا ما جرى وقررا المترجم، كفى مترجم واحد، وحق القاضي أن يعتمد تقريرهما، وإن استظهر بإشارتهما فحسن، وإطلاق الأصحاب ذكر شاهدين في هذا المقام، التفات إلى قاعدة التعبد بالعدد. ثم على المذهب، وهو الذي ادعى القاضي الحسين نفي خلافه: لو كان الخصمان أعجميين، فهل للمترجمين عن أحدهما أن يترجما عن الآخر؟ [فيه] قولان حكاهما القاضي الحسين، وقال في "الحاوي": فيه وجهان مأخوذان من اختلاف الوجهين في الشاهدين إذا تحملا عن شاهد الأصل، هل يتحملان عن الشاهد الآخر؟ ومن اعتبار العدد في الترجمة يؤخذ أنه لابد فيها من لفظ الشهادة، [لأن ما يعتبر فيه العدد يعتبر فيه لفظ الشهادة]، وهذا ما جزم به [القاضي] أبو الطيب وغيره. وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر: أنهما يذكران ذلك بلفظ الخبر، قال: وليس بصحيح؛ لما ذكرناه. وهذا في الترجمة عن الخصم للقاضي، أما في [الترجمة عما] يقوله

القاضي للخصم، فإنه خبر محض، وليس بشهادة؛ لأن الشهادة لا تكون إلا عن الحاكم الملزم؛ فيجوز فيها ترجمة الواحد وإن كان عبداً، ويجوز أن يكون المترجم لأحد الخصمين هو المترجم للآخر وجهاً واحداً. قال: فإن كانت الدعوى في زنى، ففيه قولان: أحدهما: يقبل في الترجمة اثنان، لأن المقصود [معرفة] اللسان، وذلك يحصل بشهادة الاثنين، [وهذا أصح] في "الجيلي". والثاني: لا تقبل إلا [من] أربعة؛ نظراً إلى الحق المدعى به؛ ألا ترى أن ما لا تقبل فيه شهادة النسوة لا تقبل ترجمتهن فيه؟ وهذا القول لو سكت الشيخ عنه لأمكن أخذه من قوله: "ولا يقبل إلا من عدد يثبت به الحق المدعى به". وقد أجرى بعضهم هذا الخلاف في ترجمة اللعان. والقاضي الحسين في كتاب اللعان قال: إنه يجري في نقل لعان الزوج؛ [لأنه مسوق لإثبات الزنى، فأما لعانها فيكفي فيه مترجمان؛ لأنها تنفي به الزنى]. وفي "مجموع" المحاملي ثم طريقة قاطعة بأنه يكفي في الطرفين مترجمان، وقال: إنها المذهب. وضعف طريقة إجراء القولين بأن الزنى ما يثبت في هذا الموضع؛ لأن الزوج ينفيه، وكذلك الزوجة. تنبيه: كلام الشيخ مصرح بأن الخلاف في ترجمة الزنى قولان، والماوردي وغيره قالوا هاهنا: إنه وجهان مبنيان على أن الإقرار بالزنى، هل يثبت بشاهدين أم لا بد من أربعة؟ وفيه قولان، فإن قلنا بالأول كفى في [الترجمة] اثنان، وإلا فلا بد من أربعة. [وقال الماوردي في كتاب اللعان: إنا إذا قلنا في الإقرار بالزنى: لابد من أربعة]، فهاهنا [هل] لابد من أربعة- أيضاً- أو يكفي اثنان؟ فيه وجهان، أصحهما: الاكتفاء.

فرع: لو كان القاضي ثقيل السمع، [واحتاج إلى مسمع]: فهل يشترط فيه العدد كالمترجم أو يكتفي بواحد؟ حكى الغزالي فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يشترط، وهو ما اختاره الإمام، وقال: إنه يجب أن يعتقد؛ لأن كلا من المسمع والمترجم ناقل إلى القاضي: فأحدهما ينقل معنى اللفظ، والآخر ينقل اللفظ بعينه؛ فلا معنى لاشتراط العدد في الترجمان، والتردد في المسمع، وعلى هذا يشترط لفظ الشهادة على أصح الوجهين، فيقول: أشهد أنه يقول كذا وكذا. قال الرافعي: ويشبه أن يجري الخلاف في إسماع رجل وامرأتين في المال؛ كما ذكرنا في المترجم، وأجاب في "الوسيط" بالمنع كما ذكرناه عن صاحب "التهذيب". [ثَمَّ]. والثاني: لا يشترط، قال الغزالي: لأن المسمع لو غير عرفه الخصمان، أي إن كانا سميعين، والحاضرون، أي: إن كان الخصمان أصمين بخلاف الترجمة. قال في "البحر": وهذا ليس بشيء. فعلى هذا: لا يشترط لفظ الشهادة، وهل تشترط الحرية؟ فيه وجهان كما في [شهادة] هلال رمضان إذا اكتفينا فيه بالواحد. والأصح: الاشتراط، وأنه لا يسلك به مسلك الروايت. والثالث: أن العدد لا يشترط، إلا أن يكون الخصمان أصمين فيشترط؛ لأن القوم قد يغفلون عن تغييره، فالخصم هو الذي يعتني به، وهو عاجز عن الرد لو غير المسمع. وقد فهم مما ذكره الغزالي [من التعليل]: أن محل الاكتفاء بمسمع واحد في حالة صمم الخصمين- على الوجه الثاني- ما إذا كان ثم حاضر غيرهم، أما إذا لم يكن [ثم] حاضر غير الخصمين والقاضي والمسمع، فلا يكتفي به. وهو متبع في ذلك الإمام، فإنه قال فيما إذا لم يكن ثم غيرهم: الوجه القطع باشتراط العدد، وإن حكى عن الأصحاب الوجهين في هذه الحالة أيضاً.

والقاضي الحسين جزم- على القول بالاكتفاء بمسمع واحد- بأن القاضي والخصمين إذا كانوا صماً، [بأنه] لابد من اثنين. ثم قال الإمام: إن محل الوجه الثالث إذا لم يكن الحضور مأمورين من القاضي بالإصغاء ومراقبة الحال. ولو كان المحتاج إلى المسمع الخصم خاصة لثقل سمعه- فعن "جمع الجوامع" للقاضي الروياني: أنه لا حاجة فيه إلى العدد. وهو معزي إلى القفال، وذلك قضية ما ذكرناه عن الماوردي [في المترجم، والله أعلم]. قال: وإذا حكم الحاكم بحكم، فوجد النص، أي من الكتاب، أو السنة المتواترة أو المنقولة بالآحاد، أو الإجماع، أو القياس الجلي، أي: على اختلاف أنواعه التي سنذكرها بخلافه نقض حكمه؛ لأن الاجتهاد إنما يسوغ إذا لم يكن هناك مخالفة نص كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس غير محتمل، فإذا حكم باجتهاده في مثل ذلك كان مردوداً كما لو حكم بطريقة لا تصح في الشرع. وقد ادعى الماوردي في حالة قيام الإجماع: أن النقض مجمع عليه من الخصوم. واستدل هو وغيره على النقض في حالة وجود النص بقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَدْخَلَ فِي دِيْنِنِا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدُّ" ويروى: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدُّ". وبآثار وردت عن عمر- رضي الله عنه- في هذا الباب اشتهرت ولم ينكرها أحد؛ فكان إجماعاً، منها ما ذكرناه من قبل أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: "لا يَمْنَعَّكَ قَضَاءُ قَضَيْتَهُ، ثُمَّ رَاجَعْتَ فِيْهِ نَفْسَكَ فَهُدِيتَ الرُّشْدَ- أَنْ تَنْقُضَهُ، فَإِنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الحَقِّ خَيْرُ مِنَ التَّمَادِي فِي البَاطِلِ". ولأن الكتاب والسنة أصل الإجماع؛ لأنه لا يجوز أن ينعقد على [ما] يخالفهما، فلما نقض حكمه بمخالفة الإجماع كان نقضه بمخالفة الكتاب والسنة أولى.

وفي "أدب القضاء" لابن أبي الدم: أنه [قيل:] لا ينقض القضاء إذا خالف خبر الواحد. والصحيح: الأول؛ فينقض قضاء الحنفي في مسألة خيار المجلس [بنفيه] وفي العرايا، وذكاة الجنين والنكاح بلا ولي، وقيل: الأصح أنه لا ينقض في مسألة النكاح بلا ولي. وينقض- أيضاً- قضاؤه إذا حكم بشهادة فاسقين على الأصح، وكذلك قضاء من قضى بصحة بيع أمهات الأولاد [ينقض] على الأصح. ثم المراد من النص: ما لا يحتمل تأويلاً، أو يحتمل تأويلاً بعيداً ينبو عنه اللفظ. والقياس الجلي، قال النواوي: إنه الذي يعرف به موافقة الفرع الأصل، بحيث ينتفي احتمال افتراقهما أو يبعد: كقايس غير الفأرة من الميتات إذا وقعت في السمن، عليها، وغير السمن من المائعات والجامدات، عليه وقياس الغائط على البول في الماء الراكد. وفي "الحاوي": أن القياس الجلي ما كان معناه في الفرع زائداً على معنى الأصل، [وله ثلاثة ألقاب- كما قال البندنيجي-: جلي، وقياس في معنى الأصل] وقياس لا يحتمل إلا معنى واحداً. ومعنى الجلي: يجلى معناه تجلية بحيث لا يفتقر إلى بحث وسبر. [وفي معنى الأصل: [عرف] حكم فرعه كما عرف حكم أصله وصارا واحداً. والذي] لا يحتمل إلا معنىً واحداً: معناه: لا يصلح تعليق الحكم بغير معناه. قال الماوردي: وهو ثلاثة أضرب: أحدها: ما عرف معناه من ظاهر النص بغير استدلال، ولا يجوز أن يرد البعيد فيه، بخلاف أصله؛ كقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، فإن تحريم التأفيف يدل [ببديهة النص] على تحريم الضرب والشتم، ولا يجوز أن يحرم

التأفيف ويحل الضرب والشتم، ومثله قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة]؛ وقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [الآية] [آل عمران: 75]. وهذا الضرب من القياس أقرب وجوه القياس إلى النصوص؛ لدخول فروعها في النصوص، ولم يختلف أصحابنا في جواز تخصيص العموم [به]، وإن اختلفوا في جواز النسخ به على وجهين: أحدهما- وهو قول الأكثرين-: أنه لا يجوز. ومقابله منسوب إلى أبي علي بن أبي هريرة، قال الماوردي: وقد حكاه عن بعض من تقدمه. والضرب الثاني: ما عرف معناه من ظاهر النص بغير استدلال، لكن يجوز أن يرد البعيد فيه، بخلاف أصله، وذلك كنهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء البين عورها، والعرجاء [البين عرجها؛ فكذلك العمياء والقطعاء قياساً عليهما، وإن جاز أن يرد البعيد بتحريم العوراء أو العوجاء] وإباحة العمياء والقطعاء، وكنهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يلبس المحرم ثوباً مسه ورس أو زعفران، فكان العنبر والمسك قياساً عليهما. وهذا الضرب يجوز تخصيص العموم به، ولا يجوز به النسخ بوفاق أصحابنا، لجواز ورود البعيد في الفرع، بخلاف أصله. وفي "تعليق" البندنيجي أن بعض أصحابنا قال: لا يجوز أن يرد الشرع في هذا بخلاف الأصل. والضرب الثالث: ما عرف معناه من ظاهر النص باستدلال ظاهر يعرف بأدنى نظر؛ كقوله تعالى في زنى الإماء: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فجعل حدهن نصف حد الحرائر، ولم يكن المعنى فيهن إلا نقصهن بالرق، فكان العبيد قياساً عليهن في تنصيف الحد إذا زنوا لنقصهم بالرق، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركاً له في عبد وكان موسراً، قوم عليه"؛ فكانت

الأمة قياساً على العبد، وقوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]؛ فكأن معنى نهيه عن البيع أنه تشاغل عن حضور الجمعة؛ فكانت عقود المناكحات والإجارات وسائر الأعمال والصنائع قياساً على البيع؛ لأنه تشاغل عن حضور الجمعة. وهذا الضرب لا يجوز النسخ به، ويجوز تخصيص العموم به عند أكثر أصحابنا، وإن منع منه بعضهم لخروجه عن الجلاء بالاستدلال، وليس بصحيح؛ لأنه صار بجلاء الاستدلال كالجلي بغير استدلال. قال البندنيجي وبعض أصحابنا يعد هذا الضرب من أقسام القياس الواضح كما عد منه قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ"، ومعناه: أنه يغير العقل؛ فكان الجوع والجزع مثله، وكقوله صلى الله عليه وسلم] فِي الفَارَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ: "إِنْ كَانَ جَامِداً فَأَلْقُوْهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعاً فَأَرِيْقُوْهُ"، فكان العصفور مثل الفأرة، والشحم مثل السمن؛ وكقوله- تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32]. وخص الجلي بالضربين الأولين، وقال: كما ينقضي الحكم إذا خالف القياس الجلي، كذلك إذا خالف القياس الواضح بهذا التفسير. ولو خالف حكم الحاكم القياس الخفي، أو قياس غلبة الشبه-[لم ينقض حكمه؛ كما صرح به البندنيجي. والقياس الخفي: هو ما خفي معناه؛ فلم يعرف إلا باستدلال، وتكون صفاته في الفرع مساوية لمعنى الأصل. وقياس غلبة الشبه]: بما يجاذب الأصول، فأخذ من [كل] أصل شبهاً، وأخذ كل أصل منه شبهاً. كذا قاله الماوردي، لكنه ذكر أن القياس الخفي

[على] ثلاثة أضرب: أحدها: ما كان معناه لائحاً يعرف باستدلال متفق عليه؛ كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فكان عمات الآباء والأمهات في التحريم قياساً على الخالات؛ لاشتراكهن في الرحم، وقوله تعالى في نفقة الولد الصغير {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فكان نفقة الوالد عند عجزه في كبره؛ قياساً على نفقة الولد] لعجزه [في صغره]. قال: وهذا ينقض به حكم الحاكم إذا خالفه، وفي جواز تخصيص العموم به وجهان. والضرب الثاني: ما كان معناه غامضاً؛ للاستدلال المختلف فيه؛ فتقابلت معانيه حتى غمضت: كتعليل الربا في البر المنصوص عليه، فتقابل فيه التعليل بالأكل؛ ليقاس [عليه] كل مأكول، والتعليل بالقوت؛ ليقاس عليه كل مقتات، والتعليل بالكيل؛ ليقاس عليه كل مكيل. والضرب الثالث: ما كان مستبهماً وهو ما احتاج نصه ومعناه إلى الاستدلال؛ كالذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الخراج بالضمان"، فخرج بالاستدلال أن الخراج هو المنفعة، وأن الضمان هو [ضمان] البيع، ثم عرف معنى المنفعة بالاستدلال؛ فتقابلت المعاني بالاختلاف فيها. فهذا والذي قبله لا ينقض بهما حكم الحاكم إذا خالفهما، ولا يجوز تخصيص العموم بهما. وفي "الرافعي": أن ابن القاص قال: إن الضرب الثاني من هذه الأضرب من الجلي أيضاً، وقضيته النقض. وذكر الماوردي أن قياس غلبة الشبه نوعان: قياس تحقيق يكون الشبه في أحكامه، وقياس تقريب يكون الشبه في أوصافه، وقياس التحقيق [له] ثلاثة أضرب:

أحدها: أن يتردد حكم الفرع بين [أصلين: ينتقض] برده إلى أحدهما، ولا ينتقض برده إلى الآخر؛ فيرد إلى الأصل الذي [لا] ينتقض برده إليه وإن كان [أقل شبهاً، ولا يرد إلى الأصل الذي ينتقض برده إليه وإن كان] أكثر شبهاً. مثاله: العبد هل يملك إذا ملك؟ تردد بين أصلين. أحدها: الحر في جواز ملكه. والثاني: البهيمة في عدم ملكه. فلما انتقض برده إلى الحر في الميراث حين لم يملك به، وجب رده إلى التهمة؛ لسلامته من النقض، وإن كان شبهه بالأحرار أكثر من شبهه بالبهائم. والضرب الثاني: أن يتردد الفرع بين أصلين [يسلم من النقض لو رد إلى كل واحد منهما، وهو بأحد الأصلين] أكثر شبهاً منه بالأصل الآخر، مثل: أن يشبه أحدهما من وجه، و [يشبه] الآخر من وجهين؛ فيجب رده إلى الأصل الذي هو أكثر شبهاً به. مثاله: في الجناية على أطراف العبد تردد بين رده إلى الحر في تقدير الجناية على أطرافه، وبين رده إلى البهيمة في وجوب ما نقص من قيمته، وهو يشبه البهيمة في أنه مملوك ويورث، ويشبه الحر في أنه آدمي مخاطب مكلف، [يجب] في قتله القود والكفارة، فوجب رده إلى الحر في تقدير الجناية على أطرافه دون البهيمة؛ لكثرة شبهه بالحر، وقلة شبهه بالبهيمة. والضرب الثالث: أن يتردد حكم الفرع بين أصلين مختلفي الصفتين، ويوجد في الفرع بعض كل واحدة من الصفتين، ولا تكمل فيه إحدى الصفتين، لكن يوجد فيه الأكثر من إحداهما، والأقل من الأخرى؛ فيجب رده إلى الأصل الذي فيه أكثر صفاته. مثاله: ثبوت الربا في الإهْلِيلَج والسَّقَمُونيا؛ لما تردد بين الخشب في الإباحة، لأنه ليس بغذاء، وبين الطعام في التحريم؛ [لأنه مأكول؛ فكان رده إلى الغذاء في التحريم

- لأنه مأكول]، وإن لم يكن غذاءً- أولى من رده إلى الخشب في الإباحة [وإن لم يكن غذاءً]؛ لأن الأكل أغلب صفاته. وقال- أعني الماوردي- في موضع آخر: إن حكم القاضي ينتقض إذا خالف قياس التحقيق. وعد في "النهاية" مما ينقض به قضاء القاضي: ما إذا تردد مذهبان بين موافقة قاعدة كلية وبين مجانبتها والتزام حرمها، كمسألة المثقل، ومعظم مسائل الحدود والغصوب. ثم المعنى بنقض الحكم- كما قال الإمام في أول باب علم القاضي بحال من قضى [عليه]-: التبين، وإلا فليس القضاء أمراً يعقد ويحل. وحكى الماوردي في باب شهادة النساء: أن الحكم إذا وقع بأضعف المذهبين أصلاً مما ينقضه عليه غيره من القضاة فهو باطل في الظاهر والباطن، لكن هل يفتقر بطلانه إلى حكم الحاكم أم لا؟ [فيه وجهان]. [فروع]: من حكم بالتفرقة بين الزوجين بلعان ثلاث مرات، ينقض حكمه؛ لأنه خلاف الكتاب. وكذلك من حكم برضاع الكبير بعد أن كان المرضع ابن سنتين وخمسة أشهر، ففرق بين الزوجين- نقض حكمه، وردها على الزوج. ومن أجاز نكاحاً عقد بشهادة فاسقين بلا إعلان ولا إظهار، نقض حكمه. وكذا لو حكم بقتل مؤمن بكافر أو توريث أحدهما من صاحبه، أو حكم بإبطال قطع يد المرأة بيد الرجل، أو قتلها به حتى يغرم وليها نصف الدية؛ كذا حكاه القاضي حسين. وفي "الرافعي": أن من الأصحاب من منع النقض وقال: هي مسائل اجتهادية، والأدلة فيها متفاوتة. قال القاضي الروياني: وهو الصحيح. وكذلك ذكره القاضي ابن كج

في الحكم ببطلان خيار المجلس. قال: وإن اختلف رجلان، فقال أحدهما: [قد] حكم لي الحاكم [بكذا]، وأنكر الآخر، فقال الحاكم: حكمت، أي: وهو في محل ولايته باق عليها- قبل قوله وحده؛ لأنه قادر على الإنشاء، [ومن قدر على الإنشاء قدر] على الإقرار كالزوج لما قدر على إنشاء الطلاق قدر على الإقرار به. قال القاضي حسين: [حتى] لو قال: قضيت على أهل [هذه] البلدة بأن نساءهم طوالق وعبيدهم أحرار، قبل قوله ونفذ حكمه. وهذا إذا صرح بأن الحكم وقع بالبينة، أو بإقرار الخصم، أو بنكوله واليمين، [أو أطلق] الحكم. ولا يحوج القاضي إلى إثبات ما قام عنده من حجة بينة، وإن منعنا القضاء بالعلم، وهذا متفق عليه. ولو أحوج إلى البينة، فعند من يقيمها؟ نعم، [لو] قال: حكمت عليه بعلمي، فذاك ينبني على أن القضاء بالعلم هل يسوغ؟ فإن قلنا: نعم، فالحكم كما تقدم، وإلا فلا يقبل إقراره، ولا يلزم المقضي عليه ما قضى به، كذا صرح به القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم. [فإن] قيل: قد قلتم: [إن ما يسوغ فيه الاجتهاد إذا اتصل بحكم الحاكم لا ينقض، والقضاء بالعلم] مما يسوغ فيه الاجتهاد؛ فينبغي إذا اتصل بالحكم ألا ينقض. قيل: من يقول بأنه يسوغ له أن يقضي بعلمه، لم يجعل العلم حجة؛ فصار كما لو قال: حكمت من غير مستند وبغير حجة. لا ينفذ وإن كان في [محل] الاجتهاد، بخلاف المواضع المختلف فيها.

فرع: لو ادعى أحد الخصمين على القاضي المولى، وهو [في] محل ولايته، [عند قاض آخر في محل ولايته] أيضاً؛ إما لكون أحدهما نائباً عن الآخرن أو لكونهما أصلين، وجوزنا ذلك: أنك حكمت لي بكذا على خصمي، وأنكر [القاضي]- فهل له طلب يمينه؟ الذي حكاه الأصحاب: أنه ليس له ذلك. وعن القاضي الحسين أنه [قال]: ينبني ذلك على أن النكول مع يمين الرد يجري مجرى البينة أو الإقرار؟ إن قلنا: يجري مجرى البينة، فلا حكم لها؛ لأن البينة لو قامت لم يقع بها حكم. وإن قلنا: يجري مجرى الإقرار، فيحلف، قال الإمام: وتكون اليمين على نفي التذكر، فإذا نكل ردت اليمين على المدعي، وتنزل منزلة إقرار القاضي. قال الإمام: وهذا بعيد، والوجه ما ذكره الأصحاب. أما إذا قال الحاكم بعد العزل، [أو] وهو خارج عن محل ولايته: قضيت بكذا حالة نفوذ قضائي- لم يقبل [الحاكم] منه [ذلك]. نعم، لو شهد به، فهل تقبل شهادته؟ فيه خلاف يأتي في الشهادات، إن شاء الله تعالى. ولو قال بعد العزل: المال الذي في يد هذا الأمين لزيد دفعته [له] أيام قضائي، وقال الأمين: إنه لعمرو، وما قبضته منك- فالقول قول الأمين. نعم، لو سلم القبض منه فالقول قول القاضي، وهل يغرم الأمين لليتيم الذي [أقر له]؟ فيه وجهان في تعليق القاضي الحسين في باب ما على القاضي في الخصوم. والله سبحانه أعلم.

باب القسمة

باب القسمة القسمة- بكسر القاف-: الاسم من قولك: قسم المال، يقسمه قسماً- بالفتح وقاسمه، [و] تقاسما واقتسموا وتقاسموا. وهي في اصطلاح العراقيين نوعان: قسمة رد. وقسمة لا رد فيها. وفي اصطلاح المراوزة: ثلاثة أنواع: قسمة رد. وقسمة إفراز. وقسمة تعديل. قال: تجوز قسمة الأملاك؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} الآية [النساء: 8]، وقوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28] يريد: بين الناقة وبين قوم ثمود؛ فيكون لهم يوم، وللناقة يوم. وقوله- عليه السلام-: "الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، وَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ". وَقَدْ قَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَ بَدْرٍ قَرِيْباً مِنْهَا بِشِعْبٍ مِنْ شِعَابِ الصَّفْرَاءِ، وَغَنَائِمَ خَيْبَرَ بَأَوْطَاسٍ، وَقِيْلَ: بِالْجِعْرَانَةِ. وقد كان للخلفاء الراشدين قسام، وكان علي يعطي رزق قاسمه من بيت المال، ولم ينكره أحد؛ فكان إجماعاً.

وقد صرح البغوي وصاحب "البحر" وغيرهما بأن القسمة مجمع عليها، مقتصرين على ذلك؛ لأن بالناس إلى قسمة المشترك حاجة داعية إليها؛ ولأجل هذا قال الأصحاب- كما حكاه صاحب "التهذيب"، و"الكافي"، وغيرهما-: إنه لا يجوز للإمام أن يخلي نواحي الإسلام من قسام تحصل بهم الكفاية؛ كالحكام. وفي "تعليق" أبي الطيب: أنه يستحب للحاكم أن يتخذ قاسماً، وهذا إذا كان رزقه من بيت المال، فلو لم يكن، فلا ينبغي أن يجعل له قاسماً معيناً، بل يدع الناس يستأجرون من يختارونه. وهل هذا على وجه الوجوب أو الندب؟ الكلام فيه كما قدمناه في اتخاذ الكاتب؛ كذا صرح به الأصحاب. قال: فإن كان فيها رد، أي: مثل: أن يترك شخص لولديه دارين، أو عبدين، قيمة أحدهما ستمائة درهم، و [قيمة] الآخر ألف؛ فيجعلان النفيس بينهما والخسيسس بينهما على أن من يحصل له النفيس يرد مائتين للآخر حتى يعتدل. أو يكون بينهما أرض في أحد جانبيها بئر، أو بناء، أو شجر لا يمكن قسمته، فتنضبط قيمة ما اختص بذلك الجانب، وتقسم الأرض بذلك، على أن يرد من يأخذ الجانب الذي في البئر أو البناء أو الشجر بذلك القيمة. قال: فهو بيع، أي: إذا اتفقا على أن من يأخذ الأكثر قيمة يدفع [المائتين] للآخر في المثال الأول؛ لأنه يأخذ عما يؤخذ من ماله عوضاً هو مال، وذلك حقيقة البيع. وهذه القسمة تسمى: قسمة الرد، وإن كانت بيعاً ولا إجبار فيها على المشهور؛

إذ البيع لا يدخل الإجبار فيه بطلب أحد الشريكين. وعن "أمالي" أبي الفرج: أن من أصحابنا من خرج في الإجبار قولاً مأخوذاً من خلاف سنذكره فيما لو كان بينهما عبدان، قيمة أحدهما ألف، وقيمة الآخر ستمائة، فأراد أحدهما أن يقسما، على أن يجعل الخسيس وخمس النفيس سهماً وأربعة أخماس النفيس سهماً وفيها طريقان. قال الرافعي: لكن إطلاق القول بالتخريج بعيد؛ لأنه لا رد في تلك الصورة، ولا تصرف إلا في المشترك، بخلاف ما نحن فيه. قال: فما لا يجوز في البيع، قال الجيلي: كما إذا كان بينهما أرض فيها بذر مبذور، لا يجوز في هذه القسمة، لكونه تبعاً. وفيما قاله الجيلي من تصوير المسألة نظر يظهر لك مما ذكرته في البيع. وما ثبت في البيع من غير شرط وهو خيار المجلس يثبت في هذه القسمة ما لم يتفرقا. ولو شرطا في حال الرضا خيار الثلاث، كان لهما؛ [كما قال] الماوردي. أما إذا لم يتفقا على من يأخذ الأكثر قيمة، لكن تراضيا بإخراج القرعة فسيأتي الكلام فيه. قال: وإن لم يكن فيها رد، أي: سواء كانت قسمة تعديل، أو لا تعديل فيها: كالأرض المتساوية الأجزاء، أو قسمة ذوات الأمثال- ففيه قولان: أحدهما: أنه تمييز للحقين، أي: يبين أن [ما] حصل لكل واحد منهما هو الذي ملكه، كالمال الثابت في الذمة يتعين بالقبض، وإن لم تكن العين المقبوضة ديناً، ولا نجعلها عوضاً عن الدين؛ إذ لو قدرنا ذلك لما صح قبض المسلم فيه من جهة امتناع الاعتياض عنه.

ولأنها لو كانت بيعاً لما دخلها الجبر، ولما تعين حق كل واحد منهما بالقرعة، ولثبتت فيها الشفعة للثالث من الشركاء إذا تقاسم شريكاه حصتهما، وتركا حصة شائعة معهما برضاه؛ إذ يظهر جواز هذه القسمة كما سنذكره. وهذا ما اختاره في "المرشد"، وقال الجيلي: إنه المختار في "حلية" الروياني، وأشار إليه في "المحرر"، وقال ابن أبي الدم: إنه الأصح عند العراقيين. وعلى هذا قال: فما أمكن فيه القسمة، جازت قسمته، أي: وإن لم يجز بيعه؛ إذ لا مانع منها. ويجوز أن يتفرقا في قسمة الربويات من غير قبض. ويقسم بالكيل، والوزن؛ على حسب اختيارهما، وهل يجوز أن يقسم بالخرص [في نخلة وشجرة؟ فيه قولان في "الحاوي" قال: وأصح هذين القولين: أنه يمنع بالخرص] في قسمة الإجبار [لأن المقصود بها التحقيق المعلوم في الخرص، ويجاز بالخرص في قسمة الاختيار]؛ لأنها محمولة على التراضي. وحكى ابن الصباغ القولين في باب زكاة الثمار في جواز قسمة ثمر النخل خاصة. وفي "المهذب" و"الرافعي": أن ثمرة الكرم والنخل تجوز قسمتها خرصاً. كما يجوز خرصها للفقراء، وأن ثمرة غيرهما لا تقسم خرصاً؛ لأن الخرص لا يدخلها؛ وهذا يكون وجهاً ثالثاً. قال: وما لم يمكن فيه القسمة: كالأرض مع البذور، والأرض مع السنابل – لا تجوز قسمته، [أي]: إذا أريدت قسمة المجموع، للجهالة بالمقصود، وكذا لو أريدت قسمة البذر وحده، والسنابل وحدها، لم يجز أيضاً؛ للجهالة. نعم، لو طلب أحدهما قسمة الأرض دون البذر، والسنابل، أجبر الآخر. ولو كان البذر قد طلع، ولم يسنبل، بل هو يعد حشيشاً، جازت قسمة المجموع؛

كما صرح به أبو الطيب؛ وكذا قسمة الحشيش وحده على هذا القول الذي عليه نفرع، لكن هل يجبر الممتنع إذا أريدت قسمة الأرض والحشيش؟ قال في "البحر": قال بعض أصحابنا: لا يجبر؛ لأن الإجبار على ما يبقى ويدخر. والصحيح: أنه يجبر، والله أعلم. والقول الثاني: أنه بيع، أي: لنصيب أحدهما في الجانب الأيمن بنصيب الآخر في الجانب الأيسر؛ لأن كل جزء مشترك [بينهما]، فإذا [أخذ] أحدهما أحد الجزأين، فقد ابتاع حق صاحبه منه بحقه من الجزء الآخر؛ وهذا أصح عند صاحب "التهذيب"، و"الكافي"، وآخرين، ومنهم- كما قال ابن أبي الدم-: الإمام والشيخ أبو علي. وقال الماوردي في باب الربا: إنه المشهور. ونقل ابن الصباغ في باب زكاة الثمار عن المزني: أنه قال: القسمة بيع عنده. والقائلون به أجابوا عن الإجبار، وعن دخول القرعة: بأن ذلك جوز للحاجة؛ ألا ترى أن للحاكم بيع مال المديون جبراً؛ لأجل الحاجة، ولا يخرجه ذلك عن أن يكون بيعاً؟ [وعلى هذا] قال: فما جاز بيع بعضه ببعض، جازت قسمته: كالأراضي، والحبوب، والأدهان، وغيرها، ويعتبر [في] الربويات منها التقابض قبل التفرق، وأن تقع القسمة بمعيار الشرع. [وقد ذكرت] في آخر باب الربا: أنه لا يثبت فيها خيار الشرط، وكذا خيار المجلس مع فوائد أخر؛ فلتطلب منه. قال: وما لا يجوز بيع بعضه ببعض: كالعسل الذي عقد أجزاؤه [على النار]، وخل التمر- لا تجوز قسمته؛ حذراً من الربا، وكذا لا تجوز قسمة الثمار الرطبة.

قال القاضي أبو الطيب: وكذا الزرع الأخضر الذي في الأرض لا يقسم منفرداً عنها؛ على هذا القول؛ لأن بيعه لا يجوز إلا بشرط القطع، والقسمة لا تكون بشرط القطع، بل لا تكون إلا مطلقة، والبيع مطلقاً لا يجوز. أما نصيب من حصل له الجانب الأيمن من الجانب [الأيمن]، وكذا نصيب من حصل له الجانب الأيسر من الجانب الأيسر- فالقسمة فيه إفراز؛ على هذا القول أيضاً؛ كما نبه عليه الرافعي. والقاضي حسين قال في "التعليق" بعد حكاية القولين: والأصح أن يقال: القسمة تمييز، وإفراز [على هذا] بتعويض؛ لأنه ما من جزء إلا وهو مشترك بينهما، فإذا اقتسما، فما وقع في نصيب أحدهما بعضه يكون عوضاً عما له في نصيب صاحبه، وبعضه يعين ما كان له عند الشيوع. وهذا الذي ذكره الشيخ من كون قسمة الرد بيعاً، وفيما عداها القولان- هو المنقول من طريقة العراقيين؛ لأن القسمة عندهم- كما ذكرنا- نوعان لا غير. وقد يفهم من كلام البندنيجي حكاية القولين في أن القسمة بيع أو تمييز للحقين في قسمة الرد أيضاً؛ فإنه قال: اختلف قول الشافعي في القسمة على قولين، ثم قال: والقسمة ضربان: قسمة لا رد فيها، وقسمة فيها رد: فالتي لا رد فيها هي قسمة الإجبار، وصورتها: ما أمكن تعديل السهام بالأجزاء، أو بالقيمة من غير رد. وأما التي فيها رد، فهي قسمة التراضي، وصورتها: ما لا يمكن تعديل الأنصباء فيها بالأجزاء، ولا بالقيمة؛ حتى يرد أحدهما على صاحبه بدل الفاضل مما يحصل في يده. وسنذكر من كلام الشيخ في هذا الباب ما يقوي هذا الإفهام. وأما المراوزة فلما جعلوا القسمة ثلاثة أنواع، قالوا: قسمة الرد بيع؛ كما قاله العراقيون، وما لا رد فيها إن لم يحتج فيها إلى تقويم: كقسمة ذوات الأمثال، والبراح

من الأرض المتساوي القيمة- ففيه القولان. والأصح منهما عند الغزالي [في "الوجيز"] في كتاب الرهن، وتبعه النواوي- الأول. وقال الرافعي: إنه الذي يوافقه جواب الأصحاب في مسائل متفرقة [تتفرع] على القولين. وذكر في "العدة": أن الفتوى عليه. واختلفوا في محل القولين- كما حكاه البغوي، وتبعه في "الكافي"- على طريقين: أحدهما: أن محلهما إذا جرت القسمة بالإجبار، أما إذا جرت بالاختيار، كانت بيعاً وجهاً واحداً. والثاني: أنهما جاريان في الحالين، وهي التي صححاها، وقد حكاهما الرافعي عن رواية المحاملي أيضاً. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن الظاره الطريق الأول، ولم يحك سواه. وإن احتاج القاسم في القسمة إلى تقويم: كالعبدين، والدارين، ونحو ذلك- ففي كونها بيعاً أو إفرازاً طريقان- على قولنا: يجري الإجبار فيها؛ كما هو الأصح عند الإمام، وعند الشيخ أبي حامد-: إحداهما: القطع بأنها بيع: لانفصال العين عن العين، وتمييز المشترك عن المشترك؛ وهذا أصح عند الغزالي. والثانية: إجراء القولين فيها أيضاً؛ اعتماداً على الإجبار على القسمة، وهي قضية إيراد صاحب "التهذيب"، وأبي الحسن العبادي. أما إذا قلنا: لابد فيها من التراضي، قال الإمام: فالمذهب الذي يجب القطع به: أنها بيع. وأبعد بعض أصحابنا فأجرى القولين في ذلك، وقد يجريهما ويقول في

أحدهما: إفراز مشروط بالتراضي؛ كما يقول في القسمة الجبرية: بيع جاز جبراً من غير تراض. وقال الرافعي: يشبه أن يكون الطريقان في الصورة الأولى مبنيين على أن هذه القسمة هل يجبر عليها؟ إن قلنا: نعم، ففيها القولان، وإن قلنا: لا، فهي بيع لا محالة. وهذا منه دليل على أنه لم يقف على تصوير الإمام محل إجرائهما بقولنا بالإجبار عليها. وقد اعترض الإمام على الأصحاب في إطلاقهم القول بأن القسمة التي فيها رد- بيع، وقال: الوجه الذي نراه – بناء هذا على الإجبار على القسمة. وقد قال الأصحاب: لا سبيل إلى الإجبار على بذل العوض أصلاً. وهل يجري الإجبار على القدر الذي لا حاجة فيه إلى الرد، بأن يجعل العبد المساوي ستمائة سهماً، ويجعل ستمائة من العبد المساوي ألفاً سهماً، ويبقى الشيوع في مقدار أربعمائة؟ فيه خلاف، فإذا تحرر ذلك، قلنا: القدر الذي يقابل العوض لا شك أنه مبيع، وما يجري فيه- بيع، ومن سمى هذا القدر. قسمة، فهو متجوز أو غافل. وما لا يقابله العوض، فإن قلنا: يجري الإجبار فيه؛ ففي ذلك القدر قولاَ الإفراز والبيع مذهباً واحداً. وإن قلنا: لا يجري الإجبار فيما وراء ذلك، ففي القسمة المفتقرة إلى التراضي طريقان، سبقا؛ فليجريا هاهنا. وقد بطل إطلاق القول بالقطع بأن القسمة المشتملة على الرد بيع، وبأن هذا التفصيل لا بد منه، ولم نذكره إلا بعد أن رأينا في كلام الأئمة ما يدل عليه. ولما رأى الغزالي ما فيه اقتصر على إيراده في "الوسيط". قلت: وفيما قاله الإمام من التخريج نظر؛ من حيث إن هذه القسمة اعتمدت التقويم والتعديل، فإنا نجعل أربعة أخماس النفيس في مقابلة جملة الخسيس [وذلك تقويم وتعديل، وقد حكينا عنه من قبل]، فيما إذا احتاجت القسمة إلى تقويم، وقلنا بالإجبار- رواية طريقين: أحدهما: القطع بأنها بيع، وهي التي صححها الغزالي. والثاني: إجراء القولين.

وإن قلنا بعدم الإجبار، فالمذهب أنها بيع. وقضية ذلك: أن ينعكس ما أبداه من التخريج، ويقال: إن قلنا بعدم الإجبار فالوجه القطع بأنها بيع؛ بناء على المذهب. وإن قلنا بالإجبار ففيها الطريقان، والله أعلم. واعلم أن للقولين في أن القسمة بيع أو إفراز، فوائد أخر: منها: إذا وقف على قوم بعض دار، فأرادوا قسمتها، فإن كان باقيها طلقاً، قال المراوزة: إن قلنا: إنها بيع، لم تجز، وإلا جازت.

قال الرافعي- حكاية عن الروياني-: وهو الاختيار. وقال في "الحاوي" هاهنا: إن قلنا: إنها إفراز، جازت هاهنا جبراً، وإن قلنا: إنها بيع؛ ففي جواز القسمة قولان: أحدهما: لا تجوز جبراً ولا اختياراً؛ تغليباً للوقف. والثاني: تجوز جبراً واختياراً؛ تغليباً للملك. وقال في "المهذب"- وتبعه في "المرشد"-: إن قلنا: إن القسمة بيع، لم تصح، وإن قلنا: إنها تمييز للحقين، نظرت: فإن لم يكن فيها رد صحت، وإن كان فيها رد: فإن كان من أهل الوقف جاز؛ لأنهم يبتاعون الطلق، وإن كان من أهل الطلق، لم يجز؛ لأنهم يبتاعون بجواز الوقف. وفي هذا نظر من جهة أنه يقتضي أن القولين في أن القسمة تمييز للحقين أو بيع، جاريان في قسمة الرد أيضاً؛ كما قلنا: إن كلام البندنيجي يفهمه، وأن قسمة الرد تكون بيعاً في شيء دون شيء، وقد قدمنا عن العراقيين وغيرهم أن القسمة التي فيها الرد بيع. نعم، هو موافق لما قاله الإمام تفقهاً واستنباطاً من كلام الأصحاب. [و] إن كان باقي الدار وقفاً- أيضاً- فإن كان على جهة أخرى، فقد قال الماوردي في كتاب الوقف: إن قلنا: إن القسمة بيع، لم تجز، وإلا جازت إذا لم يكن ثم رد، وتلزم القسمة في الحال، وفيما بعد. وإن كان على تلك الجهة بعينها، قال في "الوسيط": لم تجز قسمتها، وإن قلنا: إن القسمة إفراز؛ لأنه كالتغيير لشرط الواقف؛ وبهذا جزم القاضي الحسين والبغوي. والماوردي هاهنا قال: وفيه وجه: أنه يجوز؛ لأنه قد يشرف على الانهدام؛ فيحتاج إلى القسمة؛ وهذا قول الشيخ أبي محمد. [و] قال الإمام في كتاب الرهن: إن ما يمتنع البيع فيه، ففي إجراء القسمة فيه قولان مبنيان على أن القسمة إفراز أو بيع. وقد يطرأ على قول البيع في بعض الصور قول في جواز القسمة؛ وذلك لمكان الضرورة؛ كما سنذكره في قسمة

الوقف؛ فإنه على التأبيد، والشركة القائمة قد تجر عسراً عظيماً. فإذا لم تعرض ضرورة ظاهرة، انطبق جواز القسمة ومنعها على القولين في أن القسمة بيع أو ليست بيعاً. وهذا منه [يفهم أن] الخلاف في جواز قسمة الوقف بعضه من بعض، يأتي وإن قلنا: إن القسمة بيع، ويقوي هذا أنه ألحقه في باب القسمة بالخلاف في [أن] قسمة الرطب في الزكاة إذا احتاج واقتضى القطاف قبل الأوان، وإن منعنا قسمة الرطب؛ للضرورة، وإذا كان كذلك اتجه أن يجري الخلاف المذكور في قسمة الوقف بالطلق؛ تفريعاً على قولنا: إن القسمة بيع. وقد حكى الماوردي الخلاف الذي ذكره الغزالي في كتاب الوقف، لكنه قيده بحالة قولنا: إن القسمة إفراز، وقال: إن وجه المنع مبني على القول بأن رقبة الوقف لا تملك، وإن وجه الجواز مبني على القول بأن رقبة الوقف تملك، وأنها على هذا تكون لازمة للمتقاسمين من أربابه غير لازمة لمن بعدهم من البطون. ومنها: أن المتقاسمين لو تقايلا، هل ينفذ؟ قال صاحب "التهذيب" و"الكافي" وغيرهما: إن قلنا: إنها بيع، صحت، وعاد الملك شائعاً كما كان، وإلا فلا يصح. وأطلق في "البحر" القول بأنهما إذا تقايلا عادت الإشاعة، حكاه في الفروع المذكورة قبيل كتاب الشهادات. وقد اتفقوا على أن أحدهما لو وجد بما صار إليه عيباً: أن له فسخ القسمة؛ صرح به البغوي والماوردي وغيرهما. ومنها: لو أرادوا قسمة المستأجر، فإن قلنا: إن بيع، خرجت على القولين. وإن قلنا: إنها إفراز، فإن لم يتضرر بها المستأجر، جازت، وإلا فلا؛ قاله في "البحر". قال: لو قال: والله، لا بعت شيئاً يقاسم- فإن قلنا: إنها بيع، ففي حنثه وجهان في "البحر" واقتضى إيراده ترجيح عدم الحنث.

قال: ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم، ويجوز أن ينصبوا من يقسم بينهم، أي: يجعلوه حكماً في القسمة، ويجوز أن يترافعوا إلى الحاكم؛ لينصب من يقسم بينهم؛ لأن المقصود يحصل [بكل ذلك]. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب حكاية قول: أنه لا يجوز أن يحكموا رجلاً في القسمة، فيجعلوه حكماً في القسمة. قال: فإن ترافعوا إليه- أي: إلى الحاكم – في قسمة ملك من غير بينة، أي: وهو في أيديهم، [بلا] منازعة بينهم فيه، ولا بينهم وبين غيرهم في ملكه- ففيه قولان: أحدهما: لا يقسم عليهم؛ لأنه قد يكون الملك لغيرهم، فإذا قسمه بينهم كان متصرفاً في ملك الغير قبل ثبوت موجبه. وأيضاً: فربما يتعلقون بالقسمة، ويعدونها حجة في ثبوت الملك، وهم مبطلون مطلوبون، ولا حاجة إلى هذا. وهذا هو الصحيح عند الشيخ أبي حامد وطبقته؛ كما قاله الرافعي، وقد وافقه النواوي، والمنصوص عليه للشافعي باتفاق الأصحاب، وقد حكاه ابن أبي الدم وجهاً. والثاني: يقسم بينهم؛ [لأن الحجة على الملك كالبينة، ولو أقاموا بينة بالملك لقسم] فكذلك هاهنا. قال: إلا أنه يكتب: أنه قسم بينهم بدعواهم؛ لينتفي الاحتمال الذي ذكرناه. قال الإمام: واحتمال كون الملك للغير؛ فيكون متصرفاً فيه قبل ثبوت موجبه- مندفع بجواز دخول القاضي تلك الدار لعبادة ونحوها، وما زال الأتقياء الأبرار يعتادون مثل ذلك، ويبنون الأمر على ظاهر اليد، وإن لم تقم عندهم حجج في الأملاك، ولا نعرف خلافاً في أن من باع داراً في يده، وأشهد على البيع القاضي- أثبت القاضي إقراره، ولم يطالبه بتثبيت الملك قبل البيع.

وهذا القول صححه البندنيجي والإمام، وتبعه الغزالي وابن أبي الدم، [و] إليه ميل [القاضي] أبي الطيب وابن الصباغ. وعلى هذا [القول] قال الماوردي والروياني: يستظهر القاضي أمرين: أحدهما: أن ينادي: هل من منازع؟ والثاني: يحلفهم: [إنه] لا حق فيه لغيرهم، لكن هذه اليمين واجبة أو مستحبة؟ فيه وجهان. وعلى الأول لا تجوز له القسمة قبل التحليف. وقد حكى الرافعي أن في كتاب أبي الفرج السرخسي وجهاً: أنه لا يحتاج القاضي إلى أن يكتب أنه قسم بينهم بدعواهم، وهذه الطريقة التي حكاها الشيخ لم يورد القاضي الحسين غيرها، وحكاها الماوردي عن الأكثرين، وقال الرافعي: إنها أظهر الطريقين. والثانية حكاها القاضي أبو الطيب [وابن الصباغ والماوردي، وغيرهم يقطع بالقول الأول، وبهذا قال أبو الطيب] بن سلمة، وأن القول الثاني حكاية لمذهب الغير؛ فإنه قال في "المختصر" بعد حكاية القول الأول: وقد قيل: يقسم، ويشهد أنه قسمها على إقرارهم، ولا يعجبني ذلك. قال في "البحر": وهذه الطريقة أصح. وقد فهم مما ذكرناه أنهم لو أقاموا بينة بالملك لقسم بينهم قولاً واحداً، وهو المنصوص. واعترض ابن سريج فقال: إنما تقام البينة وتسمع على خصم، ولا خصم هاهنا. وأجاب ابن أبي هريرة بأن القسمة تتضمن الحكم لهم بالملك، وقد يكون لهم خصم غائب؛ فتسمع البينة ليحكم لهم عليه. وفي هذا الجواب نظر. ويكفي في البينة شاهد وامرأتان، قال ابن كج: ولا يكفي شاهد ويمين؛ لأن اليمين إنما تشرع حيث يكون هناك خصم ترد عليه إن فرض نكول.

وعن ابن أبي هريرة أنه يكفي. قلت: وهو موافق لجوابه السابق. والإمام أعرض عن ذلك، وقال: إن ثبت عند القاضي ملكهم بطريق من الطرق أجابهم. ثم ليعلم أن الخلاف في جواز إقدام القاضي على القسمة في مسألة الكتاب إذا جاءوا إليه راضين بها، أما وجوبها عليه فلا خلاف في عدمه؛ كما قاله القاضي الحسين، والفوراني، وصاحب "البحر". وعكس الإمام فقال: وليس ينقدح عند الامتناع من القسمة وجه. نعم، يجوز القطع بجواز القسمة، وأما وجوبها ولم يثبت بعد عند القاضي الملك، فهذا فيه تردد من جهة أن الوجوب يجوز أن يستدعي موجباً، فأما الجواز فيكتفي فيه بظاهر الحال. وحكى في [حالة] مجيء واحد منهم طالباً وامتناع الباقين، طريقين: إحداهما: يجيب في هذه الحالة؛ ليقطع الخصومة. والثانية: طرد القولين. أما إذا كان ثم منازع في الملك، ففي "الحاوي": أنه لا يجوز للحاكم إذا حكم لهم به بأيديهم أن يقسمه بينهم مع ظهور المنازع إلا ببينة تشهد به لهم، وهذا مما لا يختلف فيه قوله؛ لأن قسمة الحاكم إثبات لملكهم، واليد توجب إثبات التصرف، ولا توجب إثبات الملك. وكذا قال فيما لو تنازعوا هم في ذلك، فادعى كل واحد ملك الجميع؛ فإن الحاكم يجعله في أيديهم، ولا يجوز أن يقسمه بينهم إن سألوه؛ لأن في تنازعهم إقراراً بسقوط القسمة. نعم، لو تقاسموا بأنفسهم لم يمنعهم، وادعى في "البحر" أنه لا خلاف فيه. تنبيه: قول الشيخ: "في ملك"، يشمل ما إذا كان التنازع في عقار أو غيره من

المنقولات، ولا شك في جريان ما قلناه في العقار، وأما المنقولات فقد حكى ابن كج فيها طريقين: أظهرهما في "الرافعي"- وبه جزم البندنيجي، والبغوي، وغيرهما-: أنه كالعقار. [والثاني: القطع بأنه يقسم وإن لم تكن بينة؛ لأن العقار] يتأبد ضرره، فيكون أجدر بالاحتياط؛ ولذلك خص بإثبات الشفعة. قال: فإن كان في القسمة رد، اعتبر التراضي في ابتداء القرعة؛ لأنه لا إجبار فيها- كما تقدم- وما لا إجبار فيه يعتبر فيه التراضي؛ كالبيع. قال: وبعد الفراغ منها على المذهب؛ لأن القسمة المشتملة على الرد بيع، والبيع لا يحصل بالقرعة؛ فافتقر إلى الرضا عند خروجها، ويتعين المبيع. وإلى هذا أشار الشافعي بقوله في "المختصر": "وإن كان في القسمة رد، لم يجز حتى يعلم كل واحد منهم موضع سهمه، وما يلزمه ويسقط عنه، فإذا علم كما يعلم البيوع التي تجوز أخذ به لا بالقرعة". تنبيه: [وقيل:] لا يعتبر التراضي بعد خروج القرعة، أي: فيلزم من خرج له الأكثر بذل ما يقابل الزائد؛ قياساً على قسمة الإجبار؛ فإن القرعة فيها ملزمة. وهذا قول الإصطخري، وضعفه الأصحاب، وفرقوا بأن هذه القسمة يعتبر التراضي في ابتدائها، بخلاف قسمة الإجبار. تنبيه: ظاهر قول الشيخ يقتضي أموراً: أحدها: إجراء القرعة في قسمة الاختيار، وهو الذي جزم به البندنيجي وغيره. وفي "الحاوي": أنهم لو تراضوا بإخراج القرعة ففي جواز الإقراع وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه بيع، وليس في البيع قرعة. والثاني: يجوز؛ تغليباً لحكم القسمة، واعتباراً بالمراضاة. الثاني: حيث يجوز الإقراع فلا فرق في اعتبار التراضي بين أن يكون المخرج

لها قاسماً من جهة الحاكم أو غيره. وفي "الحاوي": أن المخرج لها إن كان قاسماً من جهة الحاكم فلا خيار لهم بعد القرعة، وإن كان من قبلهم ثبت لهم الخيار بعد القرعة، وهل هو خيار عيب، فيكون على الفور، أو خيار مجلس؛ فيكون على التراخي إلى أن يتفرقا؟ فيه وجهان. الثالث: أنه يكفي فيه التراضي دون الإتيان بلفظ البيع أو التمليك، وهو ما ادعى الرافعي: أنه الظاهر، ولم يذكر الماوردي سواه؛ فإنه قال: وتتم القسمة بينهم بالمراضاة بعد التلفظ بالتراضي؛ لأن البيع لا يصح إلا باللفظ؛ فيكون تلفظهم بالتراضي جارياً مجرى البذل والقبول، والصيغة- كما قاله غيره- أن يقولا- إن كانا اثنين-: رضينا بهذه القسمة، أو: بما أخرجته القرعة، أو: بما جرى. وفي "التهذيب"، و"الكافي": أنه لا بد من لفظ "البيع" أو "التمليك" في هذه القسمة، وطرداه في كل قسمة تفتقر إلى التراضي، والله أعلم. قال: فإن لم يكن فيها رد، فإن تقاسموا بأنفسهم، لزم [ذلك] بإخراج القرعة؛ لحصول مقصودهما بفعلهما، وهذا لم أر له ذكراً هكذا في غير هذا الكتاب، بل المنقول في "تعليق" البندنيجي: أنه [لا يلزم إلا] بالتراضي حتى [بعد] خروج القرعة، قولاً واحداً. وفي "النهاية" ما يقرب منه؛ فإنه قال: لا بد في هذه الصورة من الرضا بعد القسمة؛ إذ لا متوسط بينهما حتى تكون قسمة مستندة لرضاهما. ثم قال: هذا هو الظاهر، وفيه احتمال؛ فإنه لو توسطهما قاسم، لكان التعويل على قسمته، لا على عينه. وفي "تعليق" البندنيجي في موضع آخر من الباب: أن كل قسمة يشترط التراضي في ابتدائهما، فهل تفتقر إلى التراضي في انتهائها وهو بعد القرعة؟ فيه وجهان، سواء كان فيها رد أو لم يكن.

قال: وإن نصبوا من يقسم بينهم- أي: حَكَمًا – اعتبر التراضي بعد خروج القرعة على المنصوص؛ لأن هذه قسمة لا بد في ابتدائها من التراضي؛ فكذلك في الانتهاء كقسمة الرد؛ وهذا ما قطع به المراوزة كما قاله الإمام، وبه أجاب الشيخ أبو حامد كما قال الرافعي، وقال: إن إليه مال المعتبرون. وعلى هذا: فهل يكفي أن يقول كل واحد بعد خروج القرعة: رضيت بهذه، وما في معناه، من غير اشتراط ذكر القسمة؛ إذ كان صدر القسمة قد صار عن تراض أم لا بد أن يقول: رضيت بهذه القسمة، [أو: قاسمتك، أو يذكر عبارة عن مقصود القسمة] من التمييز، والتفاضل، وما أشبههما؟ فيه وجهان حكاهما الإمام عن العراقيين، وأشار في "الوسيط" إلى أنهما مبنيان على قولنا: إن القسمة بيع. وحكى الإمام عن العراقيين وجهاً آخر: أن الشركاء إذا استمروا على الرضا حتى خرجت القرعة، لزم حكمها لهم؛ كما لو أحدثوا التراضي بعد القرعة؛ وهذا ما عبر عنه الغزالي بقوله: إنه يكفي عند العراقيين السكوت بعد خروج القرعة. وبين العبارتين فرق بين. ولم يحك الإمام خلافاً في عدم اشتراط الإتيان بلفظ "البيع" أو "التمليك" إذا أنشئوا الرضا بعد القرعة؛ وهذا ما عبر عنه الغزالي بقوله: إنه يكفي عند العراقيين السكوت بعد خروج القرعة. وبين العبارتين فرق بين. ولم يحك الإمام خلافاً في عدم اشتراط الإتيان بلفظ "البيع" أو "التمليك" إذا أنشئوا الرضا بعد القرعة. وقال في "الوسيط": إن العراقيين أجمعوا على ذلك وإن قلنا: إن القسمة بيع. وفي "التهذيب" و"الكافي" حكاية وجهين في اشتراط ذلك؛ بناء على قولنا: [إن] القسمة بيع.

وإيراد البغوي يقتضي ترجيح الاشتراط. [وقيل فيه] قول مخرج من التحكيم: أنه لا يعتبر التراضي؛ لأن القاسم مجتهد في تعديل السهام والإقراع؛ فلزم الرضا بعد قرعته؛ كالحاكم، وهذا مفرع على القول الصحيح الذي جزم به المعظم في جواز التحكيم في الإقراع. أما إذا كانوا قد نصبوا من يقسم بينهم وكيلاً [عنهم]، فلا تلزم قسمته إلا بالتراضي بعد إخراج القرعة جزماً؛ صرح به القاضي أبو الطيب، وتبعه ابن الصباغ، وسنذكره ثانياً؛ لغرض فيه. قال: وإن ترافعوا إلى الحاكم، فنصب من يقسم [بينهم]- أي: قسمة هو مجبر فيها- لزم ذلك بإخراج القرعة؛ لأن به يحصل مقصود الإجبار، ولأنه لما لم يعتبر التراضي في ابتدائها، لم يعتبر في انتهائها. ولأن قرعة القاسم من جهة الحاكم كحكم الحاكم الصادر عن الاجتهاد، ومن هذا الوجه ألحق الشافعي القاسم بالحاكم حيث قال: "القسام حكام"؛ كما قاله القاضي أبو الطيب، والحسين، وابن الصباغ. والبندنيجي قال: إنه أراد تشبيهه بالحاكم من هذا الوجه وفي اشتراط العدالة، لا في جميع الصفات. وفي "الحاوي" أنه إنما قال: "إنهم حكام"؛ لأمرين: أحدهما: أنهم يوقعون القسمة جبراً؛ كما يجبر الحاكم في الأحكام. وهو راجع إلى ما قاله الأولون. والثاني: أنهم يستوفون الحقوق لأربابها كاستيفاء الحاكم. وفي "النهاية" أنا إذا قلنا: [إن] القسمة الجبرية بيع؛ فلا يبعد أن يجبر كل واحد على أن يقول: بعت مالي في نصيبك بمالك في نصيبي. ثم قال: وهذا لم يشترطه أحد من الأصحاب. قال: ولا يجوز للحاكم أن ينصب للقسمة إلا حراً- أي: كامل الحرية- بالغاً،

عاقلاً، عدلاً- لأن هذه ولاية من جهته، ومن لم يتصف بذلك فليس بأهل للولايات- عالماً بالقسمة، [أي: لمعرفته بالحساب والمساحة؛ لأنهما آلة القسمة] كما أن الفقه آلة القضاء. واعتبر الماوردي والبغوي في هذا الباب وراء ذلك: أن يكون قليل الطمع نزيه النفس؛ حتى لا يرتشي فيما يلي ويخون. وقال الماوردي وغيره عند الكلام في صفة كاتب القاضي: إن الشافعي قال: والقاسم في صفة الكاتب، عالم بالحساب، لا يخدع. ثم قال: وهذا صحيح؛ لأن القاسم أمين الحاكم؛ فوجب أن يكون على صفات الكاتب في من العدالة، والأمانة، واستكمال الأوصاف الأربعة، أي: المذكورة ثم. ونزيد عليها: أن يكون عارفاً بالحساب والمساحة، وأن يكون عارفاً بالقيم؛ فإن خفيت عليه القيمة؛ لاختلاف الأجناس المقومة، لم يكن ذلك تقصيراً في صنعته، ورجع الحاكم في التقويم إلى غيره. والقاضي أبو الطيب والبندنيجي قالا: يستحب أن يكون عارفاً بذلك، جاز، ويسأل مقومين عدلين عن قيمة ما يقسمه إذا أراد أن يقسم. وتبعهما في ذلك ابن الصباغ. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجهين في احتياج القاسم إلى معرفة ذلك، حكاهما الرافعي عن رواية أبي الفرج الزاز. وقد استغنى الشيخ وغيره عن التصريح باشتراط الذكورة وإن كانت معتبرة- كما صرح به الرافعي- بإطلاق ما ذكروه؛ [فإن المفهوم منه الذكورة]؛ على أن في بعض النسخ ذكرها. أما الشركاء إذا أرادوا أن ينصبوا من يقسم بينهم: فإن لم يجعلوه حكماً في ذلك، بل وكيلاً، جاز أن يكون عبداً، وفاسقاً؛ كما صرح به البندنيجي، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وأفهمه كلام الماوردي.

ووجهه القاضي بأنه نائب عنهم في القسمة، ووكيل لهم فيها، ولو اقتسموا هم جاز ذلك على أي حال كانوا؛ فكذلك إذا وكلوا رجلاً عنهم في القسمة، جاز على أي حال كان، قال: غير أنه إذا قسم وأقرع بينهم، لم تلزم القسمة حتى يقع التراضي بها بين الشركاء بعد الإقراع، وعلى هذه الحالة يحمل كلام الشيخ في "المهذب". وفي "الرافعي": أنه ينبغي أن يكون توكيل العبد في القسمة على الخلاف في توكيله في البيع والشراء. وإن كانوا قد جعلوه حكماً يحكم بينهم في القسمة، فقد أطلق البندنيجي، والقاضي أبو الطيب، وصاحب "المرشد" القول باعتبار صفات القاسم المنصوب من جهة الحاكم فيه. وقال ابن الصباغ بعد حكاية ذلك- أيضاً-: ينبغي إذا قلنا: لا تلزمهم- أي: قسمته- إلا بتراضيهم، ألا يشترط في الابتداء الحرية والعدالة. [قلت]: وفيما قاله نظر: بل لا ينبغي جواز ذلك وإن قلنا: لابد من التراضي بعد القرعة؛ لأن القائل بهذا يجعل تمام التحكيم موقوفاً على هذا الرضا؛ كما قال بمثله في التحكيم في الأموال، وإذا كان [كذلك فالقسمة] الواقعة من المحكم إذا رضي بها الشركاء بعد الإقراع- قسمة من حاكم؛ فاعتبرت فيه صفات الحاكم؛ كما أنا نعتبرها في المحكم في الأموال وإن لم يلزم حكمه إلا بالرضا بعده، والله أعلم. قال: وإن لم يكن في القسمة تقويم- أي: وقد أمر بها الحاكم جبراً- جاز قاسم واحد؛ لأن قسمته تلزم بنفس قوله كحكم الحاكم؛ فاكتفى فيها بالواحد؛ كالحكم؛ وهذا ما أورده القاضيان: أبو الطيب والحسين، والبندنيجي، والمعظم؛ كما قال الرافعي، وبه قطع قاطعون؛ تمسكاً بقول الشافعي: "القاسم حاكم". وفي "الحاوي": أنه قال في موضع آخر: إذا لم يكن في القسمة تعديل ولا تقويم، أمر الحاكم الشركاء أن يجتمعوا على قاسمين. وظاهر هذا أنه لا يجزئ قاسم واحد؛ ولأجل ذلك قال [أكثر] الأصحاب: في المسألة قولان: أحدهما: يجزئ قاسم واحد؛ كما يجوز كيال واحد، [ووزان واحد].

والثاني: لا يجوز أقل من قاسمين؛ كما لا يجزئ أقل من مقومين، وكما لا يجزئ في جزاء الصيد أقل من مجتهدين، ولا يمتنع إذا كان القاسم كالحاكم أن يجمع فيه بين اثنين؛ كما قال- تعالى-: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]. والغزالي حكى القولين، [وقال: إن] مأخذهما أن منصبه منصب الحاكم، أو منصب الشاهد؟ وحكى الماوردي عن بعضهم: أنه منع الخلاف في المسألة، ونزل النصين على حالين؛ فقال: إن كان في الشركاء طفل أو غائب لا يجيب عن نفسه لم يجزئ أقل من قاسمين، وإن كانوا حضوراً يجيبون عن أنفسهم، أجزأ قاسم واحد. وفي "النهاية": أن صاحب "التقريب" قال: إن كان في الشركاء طفل، أو مجنون، فلا بد من قاسمين، وإن لم يكونا فعلى قولين. ثم قال: و [هذا] ليس فقهاً متيناً؛ فإن ما يدعى من العدد في البينات لا يختلف بأمثال [ما] ذكره. وبهذه الطريقة يتحصل في المسألة أربعة طرق. قال: ون كان [فيها] تقويم، لم يجز إلا قاسمان، لأن التقويم لا يثبت إلا باثنين؛ [وهذا ما] حكاه الماوردي، والبندنيجي، وصاحب "التهذيب"، و"الكافي"، و"البحر"، وقضيته: أن الحاكم لو فوض للقاسم سماع البينة بالتقويم، وأن يقسم وحده بعد ثبوت ذلك عنده- أنه [لا] يكتفي بذلك، وقد قال الإمام: إن ذلك سائغ، وعليه ينطبق ما حكيناه عن القاضي أبي الطيب وغيره عند الكلام في صفة القاسم. [ثم قد ينقدح] على ما قاله الشيخ وغيره [سؤال وجواب] يتحرك بهما فوائد، فيقال: فلو فوض الحاكم إلى مقوم أن يحكم بالتقويم باجتهاده، لم يكف؛ كما رآه الإمام، ولم يحك سواه، وتبعه الغزالي في ذلك. وإذا كان كذلك فينبغي إذا كان القاسمان هما المقومان- كما هي صورة الكتاب-

ألا يجوز أيضاً؛ بناء على هذا؛ لأن الذي امتازت به هذه الصورة عما ذكرناه- إن كان الحاكم قد فوض أمر التقويم إليهما- موافقة أحدهما للآخر في الاجتهاد، وذلك لا يوجب ثبوت القيمة التي يترتب عليها القسمة، وإنما قلنا: إنها لا توجب ثبوت القيمة؛ لأن كل واحد منهما في نفسه قد قلنا: إنه لا يجوز أن يعتمد في حكمه بالقيمة على اجتهاده خاصة، وصاحبه إن شهد عنده بشرط الشهادة فلا تثبت القيمة به وحده؛ فإنه لا خلاف على المذهب: أنها لا تثبت بأقل من اثنين؛ فلم يوجد ما يقتضي الثبوت. ولا يقال- أيضاً-: بتخريج الحكم في مثل هذه الصورة بالقيمة، على خلاف سبق ذكره في أنا إذا قلنا: لا يقتضي القاضي بعلمه، فشهد شاهد عنده بما علمه، هل يقضي إذ ذاك أم لا؟ لأن المستند ثم العلم، وهاهنا هو ظن. ولا خلاف عندهم: أن القاضي لا يقضي بظنه المستند إلى [غير] قول شاهدين، أو شاهد ويمين، ونحوهما، إلا في التعديل- على رأي قطع به بعضهم – لاتساع النظر في التعديل والجرح، وخروجهما عن الضبط، وليس التقويم كذلك؛ فإنه أمر قريب من الضبط، والرجوع فيه إلى معرفة قيم الأمثال مع تداني الصفات. وطريق الجواب: أن يقال: ما ذكره الإمام وغيره من منع تفويض الحكم في التقويم إلى شخص باجتهاده، مفروض فيما إذا فوض إليه التقويم خاصة؛ ليخبر به القاسم أو الحاكم، أما إذا كان هو القاسم فقد يمنع ذلك؛ فإن ثبوت القيمة يقع تبعاً، والتابع قد لا يشترط فيه ما يشترط في المقصود، ويستأنس لذلك بأن الإمام جزم القول بأن القاضي لو فوض إلى شخص التزكية، لا يجوز أن يحكم فيها باجتهاده؛ لأن حاصل ذلك يرجع إلى رد شهادة مزكيين إلى واحد، وذلك غير محتمل فيما يشترط فيه العدد، وجزم هو وغيره بأن للقاضي أن يحكم في التعديل باجتهاده؛ ففرق بين أن تقع التزكية مقصودة، وبين أن تقع تابعة لغيرها، فكذلك نقول هاهنا. فإن قلت: باب التقويم مغاير لذلك؛ فإن الأصحاب سووا فيه بين من فوض إليه التقويم وبين القاضي في كون كل واحد منهما لا يقضي [فيه] باجتهاده، وإذا

كان كذلك لم يحسن ما قلته. قلت: قد حكى الإمام عن الأصحاب في أن القاضي هل يقضي في التقويم باجتهاده- طريقين: إحداهما: القطع بالمنع؛ لأن القاضي ليس له أن يقضي بما لا يتحققه ويعلمه ببصيرة نفسه، وهذا منه. والثانية: طرد القولين في القضاء بالعلم، فإن قلنا بالجواز اندفع السؤال من أصله، وإن قلنا بالمنع فجوابه: أنا ذكرنا ذلك على سبيل الاستئناس، لا أنه دليل الحكم، وإذ قد بطل كونه مستأنساً، لم يضرنا ذلك في الجواب، والله أعلم. وقد جمع في "الذخائر" بين هذه المسألة والتي قبلها، وقال: في اعتبار العدد لأصحابنا أربع طرق: إحداها- وهي طريقة العراقيين-: ما ذكره الشيخ. والثانية: إن كان فيها تقويم فلا بد من اثنين، وإن لم يكن فيها تقويم فقولان. والثالثة: أن المسألة على قولين من غير تفصيل: أحدهما: يكتفي بواحد؛ كالقاضي. والثاني: لا بد من اثنين. والرابعة- قالها صاحب "التقريب"- إن تعلقت القسمة بصبي أو مجنون، فلا بد من العدد، وإلا فلا. وهذا الذي ذكره يفهم: أن القسمة إذا كان فيها تقويم يجيء فيها الطريقة الثالثة والرابعة، ولم أرهما في غيره. قال: وإن كان فيها خرص، ففيه قولان: أحدهما: يجوز واحد؛ لما روت عائشة- رضي الله عنها- "أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ خَارِصاً؛ فَكَانَ يُخَيِّرُ اليَهُوْدَ، فَيَقُولُ: إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي". ولأن الخارص لا يخلو عن نوع مجازفة، فلو فرضنا خارصين، لبعد اتفاقهما،

وفيه تعطيل التعويل على الخرص. والثاني: لا يجوز إلا اثنان؛ إلحاقاً له بالتقويم؛ لشبهه به. قال الإمام: وهو القياس؛ فليس يتجه بين المقوم والخارص فرق؛ فإن كل واحد منهما يبني قوله على التخمين والحدس مع الاستمساك ببصره عنده. والقائلون بالأول- وهو الصحيح عند النواوي وغيره- فرقوا بأن الخارص يجتهد، ويعمل باجتهاده، فكان كالحاكم، والمقوم يخبر بقيمة الشيء، فهو بمنزلة الشاهد؛ فاحتيج إلى اثنين. أما إذا لم تكن القسمة [بأمر] الحاكم، بل المفوض لها الشركاء- ففي "الحاوي"، و"البحر": أنهم يحملون في العدد على ما اتفقوا عليه من واحد أو اثنين؛ كما حملوا فيه على اختيارهم القاسم وإن لم يكن مختاراً. قالا: ولا يقبل الحاكم قول هذا القاسم؛ لأنه ليس بنائب عنه، ولا يسمع شهادته؛ لأنه شاهد على فعل نفسه. وسيأتي الكلام في هذا، إن شاء الله تعالى. فرع: حيث قلنا: يكفي قاسم واحد، يقبل الحاكم قوله وحده؛ لاستنابته له؛ كما يقبل قول خلفائه. وحيث قلنا: لابد من اثنين، لم يقبل قول الواحد، وقبل قول الاثنين؛ قاله في "الحاوي"، و"البحر". ثم قال الروياني: ولا يفتقر القاسم إلى لفظ الشهادة، وقال بعض أصحابنا: فيه وجهان، وليس بشيء. وكأنه- والله أعلم- يشير إلى الفوراني؛ لأن الوجهين في "الإبانة". قال: وأجرة القاسم- أي: المنصوب من قبل القاضي- من بيت المال- أي: من سهم المصالح- لأن نصيبه من المصالح. قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ: وللإمام أن يستأجره بأجرة مقدرة، أو يجعل له رزقاً راتباً؛ لأنه بمنزلة الحاكم، وقد كان لعلي- كرم الله وجهه-

قاسم هو عبد الله بن يحيى، وكان يعطيه [رزقه] من بيت المال. وفصل الماوردي فقال: إن كثرت القسمة والطلب، فرض أرزاقهم مشاهرة من سهم المصالح، وإن قلت أعطوا منه أجرة كل قسمة. وعن "شرح مختصر" الجويني حكاية وجه عن أبي إسحاق: أنه لا يرزق القاسم من بيت المال؛ لأنه لا يحتاج إلى تفريغ النفس والعمل، بخلاف القاضي. قال: فإن لم يكن، فعلى الشركاء- أي: إن لم يجدوا متبرعاً- لأنه يعمل لهم. قال الماوردي: ولا تمنع نيابة القسام [عن القضاة] أن يعتاضوا عن القسمة، بخلاف القضاة الممنوعين من الاعتياض على الأحكام من الخصوم؛ لوقوع الفرق من وجهين: أحدهما: أن في القضاء حقاً لله- تعالى- فمنع به القضاة من الاعتياض عنه، والقسم من حقوق الآدميين المحضة؛ فجاز للقسم الاعتياض عنها. والثاني: أن للقاسم عملاً يباشره بنفسه؛ فصار كصانع الأعمال في جواز الاعتياض عنها، والقضاة مقصورون على الأوامر والنواهي التي لا يصح الاعتياض عنها. وفي "البحر" فرق آخر، وهو أن القضاة يعملون للشرع، وينوبون عن كافة المسلمين؛ فإن الحكم من فرائض الكفايات، [والقسمة لا تفرض على الأعيان ولا على الكفاية]. قال: ويقسم عليهم على قدر أملاكهم؛ لأنها مؤنة لزمت الملك المشترك؛ فوجب أن تقسط على قدر الأنصباء؛ كنفقة العبد المشترك، والبهيمة؛ وهذا ما حكاه العراقيون والماوردي، وهو المنصوص في "المختصر". وحكى المراوزة مع هذه الطريقة طريقة أخرى، وهي إجراء قولين في المسألة: أحدهما: أنها على الأنصباء. والثاني: أنها على عدد الرؤوس؛ [على ما قاله القاضي الحسين].

وهما مبنيان على أن الشفعة تقسم على قدر الأنصباء، أو على عدد الرؤوس؟ وفيه قولان سبقا. قلت: وقد حكيت عنه في باب الشفعة: أن القولين في أن [الشفعة [تقسم] على قدر الأنصباء، أو على عدد الرؤوس-[مبنيان] على القولين في أن] مؤنة القسمة تكون على قدر الأنصباء، أو على عدد الرؤوس؟ وهذا متناقض، فليت شعري ما الصحيح من البناءين؟ وقد تمسك بعضهم في جعل مؤنة القسمة على عدد الرؤوس بأن العمل في النصيب اليسير كالعمل في النصيب الكثير؛ لأنه لا يتميز أحدهما من الآخر؛ فالعمل في الجميع، وإذا كان العمل فيهما واحداً، استووا في الأجرة. وبعضهم قال: العمل في اليسير أكثر منه في الكثير؛ لأن الحساب في الجزء اليسير أغمض، ولأن القسمة تقع بحسب أقل الأجزاء، فإن لم يجب على من قل نصيبه زيادة، فلا أقل من التساوي. والأصح باتفاق الأصحاب: الطريق الأول؛ لأنه قد يقل سهم أحد الشريكين حتى يكون سهماً من مائة سهم؛ فلو ألزم نصف الأجرة، لجاز أن يستوعب قيمة ملكه؛ فيؤدي إجازة ملكه بالقسمة إلى إزالة ملكه بها، وهذا مدفوع في المعقول، والقائلون به فرقوا بينه وبين الشفعة بشيء يحصل به الجواب عما ذكره من انتصر للقول الثاني بما ذكرناه أولاً، وهو أن الشفعة شرعت لإزالة الضرر، وقطع ضرر الدخيل، وضرر صاحب اليسير كضرر صاحب الكثير؛ فاستويا في قدر الشفعة، وأجرة القاسم تستحق بالعمل، والعمل لصاحب الكثير أكثر؛ فإنه يكيل لصاحب العشر مرة، ولصاحب الباقي تسع مرات. وإن كان ذلك في أرض، فإنه إذا فرغ من العمل والتمييز، يعلم أن العمل الذي [وقع] في أكثرهما أكثر؛ فإنه إذا ذرع ذراعاً كان سدسه لصاحب السدس، وخمسة أسداسه لصاحب الباقي؛ فوجب أن يختلف الأجر

باختلاف الأنصباء، وإن كان العمل لا يتميز؛ ألا ترى أن الشريكين إذا استأجرا راعياً؛ ليرعى لهما مائة شاة بينهما، ولأحدهما عشرها- فإن الأجرة تكون على الأنصباء، وإن كان حفظ العشر منها لا يحصل إلا بحفظ الجميع ومراعاته؟ كذا قاله أبو الطيب. وليعلم أن المسألة مصورة بصورتين: إحداهما: أن يكون الحاكم قد أمر بالقسمة، ولم يسم للقاسم شيئاً؛ فإن أجرة المثل- كما قال الماوردي، وصاحب "البحر"- واجبة [له] عليهم، وفي هذه الحالة لو تولى القسمة اثنان، استحق كل منهما أجرة مثله. وفي معنى هذه الصورة: ما إذا دعا الشركاء القاسم إلى القسمة، ولم يسموا [له] أجراً، وقلنا باستحقاقه الأجرة إما على وجه مطلقاً، أو على وجه إن كان القاسم ممن يأخذ الأجرة، دون ما إذا كان لا يأخذها؛ كما حكاه الماوردي. الثانية: أن يستأجره الشركاء بعقد واحد بأجرة مطلقة، فيستحقها عليهم، وهذه الصورة أوردها العراقيون والمراوزة. ولو كان المستأجر فيها على القسمة اثنين استحقا المسمى لا غير، وفي كيفية اقتسامهما إياه وجهان في "الحاوي". أحدهما: [أنه] يقسم نصفين؛ اعتباراً بالعدد. والثاني: أنه يقسم على قدر أجرة مثليهما؛ اعتباراً بالعمل. ولو استأجر كل واحد منهم القاسم في حقه خاصة دون شركائه، قال الماوردي، والبندنيجي، وابن الصباغ، وغيرهم: فهذا جائز، ويختص كل واحد منهم بإلزام ما سماه، ولا فرق بين أن يتساووا أو يتفاضلوا، وهذا مما لا خلاف فيه عندنا، وعليه نص الشافعي. وفي "النهاية" أن هذا ظاهر فيما إذا فرض اجتماعهم على الاستئجار؛ قال الرافعي: بأن [قالوا:] استأجرناك؛ لتقسم بيننا كذا بدينار على فلان، ودينارين على فلان،

أو وكلوا وكيلاً فعقد لهم كذلك. والصورة الأولى هي التي يقتضيها كلام أبي الطيب. قال الإمام: أما إذا فرضت عقود مترتبة؛ بأن استأجر صاحب النصف القاسم على تمييز حصته، ثم استأجره صاحب الثلث على تمييز حصته، ثم استأجره صاحب السدس على تمييز حصته- ففيه سؤال أبداه القاضي الحسين في صحة إجارة الأجير؛ لأن الأولين [لما] استأجراه لإفراز نصيبهما [صار إفراز نصيبه مستحقاً- أيضاً- عليه؛ إذ لا يمكن إفراز نصيبهما] إلا بإفراز نصيبه، فإذا استأجره صادفت الإجارة عملاً مستحقاً عليه لغيره؛ فأشبه الإجارة على الإجارة. وأجاب عنه بأن إفراز النصيبين من غير عمل في نصيب الثالث بالمساحة والتخطي لأجلها، وإدخال اسمه في البنادق والقرعة- مما لا يتأتى، وهذه الأعمال غير مستحقة عليه بإجارة شريكيه؛ فيقع استئجار الثالث عليها. قال الإمام: وهذا لا يدرأ الإشكال، وسبيل الجواب: أن استئجار الأولين لا يتم الغرض منه ما لم يستأجر الثالث؛ فإن هذا مفروض في غير الإجبار، وكيف يتأتى التمييز إلا بالتصرف في جهة الثالث، ولامتناع التصرف في ملك الغير إلا برضاه، ولو فرضت الكلام في حالة الإجبار من جهة السلطان فهو ينزل المؤنة عليهم على اجتماع- كما تقدم- فليس مما نحن فيه. نعم، المشكل في غير صورة الإجبار- أن كل واحد من استئجار الأول والثاني بعيد عن التصرف؛ فإن القسمة من ضرورتها بسط العمل على الحصص؛ فكما أن الملك قبل القسمة غير متميز فعمل القسام غير متميز، وحينئذ فانفراد بعض الشركاء بالاستئجار على تمييز حصته باطل. ولو أراد أن يستأجر؛ ليغرم تمام الأجرة عن الكل: فإن لم يرضوا فكذلك؛ لما ذكرناه. وإن رضوا فهو متبرع عليهم، موكل عنهم في الاستئجار، فيصح؛ كما لو وكل الجميع وكيلاً في الاستئجار عنهم بتفاوت في الأجرة، ففعل ذلك في عقد واحد؛ فإن عمله استحق دفعة واحدة لهم، وغايته تخيل شيوع في

العمل [المستحق]. ولخص في "الوسيط" ذلك، فقال: ليس لواحد أن ينفرد بالاستئجار بغير إذن الشريك؛ لأن تردده في الملك المشترك ممنوع [بدون الإذن؛ فيكون العمل ممنوعاً]، والإجارة فاسدة، بل يعقد واحد بإذن الباقين، أو الوكيل [بإذن الجميع]. وفي "البحر": أنه لو قال: أجرت نفسي منك؛ فأفرز نصيبك، وهو النصف من هذه الدار على كذا- صح إن رضي الباقون بالقسمة، أو كان بحيث لا يحتاج إلى رضاهم. فأما حيث يحتاج إلى الرضا ولم يرضوا [بعد] فعقده فاسد في نصيب هذا، والله أعلم. أما إذا عدل الشركاء عن القاسم المنصوب من جهة القاضي إلى قاسم ارتضوه، فأجرته عليهم وإن كان في بيت المال فضل، وتجب على جميعهم إن كان الطالب أحدهم، وأجبروا عليها؛ كما صرح به البندنيجي، والروياني، وغيرهما. وعن ابن كج رواية وجه عن ابن القطان: أنها على الطالب خاصة. والمشهور: الأول. وعلى هذا: فلا فرق بين أن يكون على الممتنع ضرر أو لا، وسواء كان يتيماً أم لا. وفي "الحاوي" وغيره: أنه إذا كان شريك الطالب يتيماً [وعليه] ضرر في القسمة، قال الشافعي: "ففي نفسي من أن أحمل عليه شيئاً، وهو مما لا يرضى له- شيء"، وأن الأصحاب اختلفوا في: ماذا أشار إليه: فقال بعضهم: أشار إلى أصل القسمة، فخرجها على وجهين: أحدهما: يمنع الطالب. والثاني: يجاب، وهو الذي أورده الفوراني والإمام؛ قياساً على رد الشيء عليه بالعيب.

وقال آخرون: أشار إلى أجرة القسمة، لأن القسمة لا تمنع لحق الصغير إذا أجبرنا الكبير؛ لأن الصغر لا يمنع الحقوق؛ فيكون في لزوم الأجرة له وجهان: أحدهما: يلزمه الحاكم قسطه منها مع عدم حظه. والثاني: يقول الحاكم للطالب: إن أردت القسمة التزم المؤنة. وهذا ما أجاب به في "العدة"، وقال الفوراني: إنه أصح القولين. وإلى ذلك أشار في "البحر" بقوله: إن هذا اختيار أكثر أصحابنا بخراسان، وإلا فالإمام قال بعد حكايته عن رواية صاحب "التقريب"، والقاضي: إنه ضعيف، لا أصل له، وإن من العاملين به من طرده وإن لم يكن في القسمة ضرر على الطفل، وطلب من وليه القسمة، وهذا في نهاية الضعف. قلت: وهذا راجع إلى الوجه المحكي عن ابن القطان. قال: وإن طلب القسمة أحد الشريكين، وامتنع الآخر، نظر: فإن لم يكن على واحد منهما ضرر: كالحبوب، والأدهان، والثياب الغليظة- أي: التي لا تنقص قيمتها بالقطع- والأراضي، والدور- أجبر الممتنع؛ لأن الطالب يطلب الانتفاع بماله على الكمال، والخلاص من سوء المشاركة، فأجيب إليه؛ لإمكانه من غير إضرار بشريكه؛ كما لو اختلط له درهم بعشرة دراهم؛ كذا قاله أبو الطيب. وهذه القسمة تسمى: قسمة الإفراز والإجبار، وتتناول كل متساوي الأجزاء؛ حتى قال القاضي الحسين: إنها تجري في اللبن المسبوك في قالب واحد، بخلاف ما لو تفاوتت أشكاله لتفاوت القوالب؛ فإنه يكون كالعرض. ولا فرق فيها بين أن يتساوى الشريكان في الملك، أو تختلف حصتهما. وعن ابن كج حكاية وجه عن ابن [أبي] هريرة: أنه لا إجبار عند تفاوت الأنصباء؛ لأنه لا يمكن أن يدفع إلى صاحب السدس الجزء الثاني، ولا الجزء الخامس، وإنما يحسن الإجبار إذا استوى الشريكان في احتمال أخذ كل واحد من الأجزاء.

وهذا التعليل ينفي إجراء هذا الوجه فيما إذا لم يكن في الملك سوى شريكين وإن اختلفت حصتهما، والمذهب: أنه لا فرق بين أن يكون في الملك شريكان أو شركاء؛ وعلى هذا: لو كان الشركاء في مثل هذه الأموال ستة على التساوي، والممتنع خمسة- قال في "الحاوي": قسم أسداساً، وأفرد للطالب سدسه، وكان خمسة أسداسه مشتركاً بين الباقين. ولو كان الطالب منهم اثنين؛ ليحوزا سهميهما مجتمعين، قسمت أثلاثاً، وأفرد لطالبي القسمة ثلثها مشتركاً بينهما، وكان الثلثان مشتركين بين الباقين. وإن طلبها ثلاثة؛ ليحوزوا سهامهم مجتمعة، قسمت نصفين، وأفرد أحد النصفين للطالبين، والنصف الآخر للممتنعين. [ثم] على هذا الاعتبار فيما زاد، ونقص، واجتمع، وافترق. واعلم أن ما ذكرناه مصور بما إذا كان التنازع في قسمة كل ثوب من الثياب المذكورة، أو أرض أو دار، [كما صرح به الأصحاب، وظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق فيما ذكره في الأرض والدار] والثوب بين أن تتساوى أجزاء ذلك، أو تختلف وتعدل بالقيمة، وهو ما أورده البندنيجي وغيره. وفي "الحاوي": أن الثوب الواحد إذا اختلفت قيمته لاختلاف نقوشه وألوانه، قسم اختياراً لا إجباراً، [وإن تماثل، ولم يختلف، ولم تنقص قيمته بقطعه- ففي قسمته إجباراً] وجهان، وقد حكاهما الفوراني، وبناهما على جواز بيع ذراع من ذلك. وفي "البحر": أن قيمته إن انتقصت بالقطع، لم يجبر الممتنع، وإن لم تنقص فوجهان، ونسب هذا إلى الخراسانيين، وقال: [إن] ابن سلمة من أصحابنا قال: إنه يجوز بكل حال؛ لأن الثياب لا تنقسم بنفسها، بخلاف الدور.

وقال الإمام: الأصحاب أطلقوا قسمة الدور، وأجروا فيها الإجبار كإجرائهم ذلك في العرصات، وهذا فيه نظر؛ فإن الدور تشتمل على أبنية وسقوف وبيوت وأروقة، وهي ذوات أشكال مختلفة، والأغراض في السكن تتفاوت تفاوتاً بيناً، وهذا زائد على الأغراض التي تفرض في العبيد، وقد أجري الخلاف في الإجبار على قسمتها؛ فكيف يطلق الوفاق في الإجبار على قسمة الدور مع ما وصفناه؟ فالوجه أن يقال: إن استوت الأبنية، وكان في شرقي الدار صفة بيت، وكذلك في غربها، ويتأتى التعديل بتبعيض العرصة؛ [فتشتمل كل حصة على ما تشتمل عليه الأخرى] من الأبنية- فيجوز أن يقال: يجري الإجبار على مثل هذه القسمة. فأما إذا اختلفت أشكال الأبنية؛ فيتعين عندي قطعاً تخريج الخلاف- أي: المذكور في قسمة النقل والتعديل- في إجراء القسمة فيها؛ لما أشرت إليه من تفاوت الأغراض، واختلاف المنافع؛ وهذا ما أورده في "الوسيط" و"الوجيز". وحكى عن الأصحاب أنهم قالوا: [إذا اختلفت قيمة جوانب العرصة؛ لقرب بعضها من الماء، بحيث يكون] الثلث بالمساحة نصفاً بالقيمة-: إنه يجبر على قسمتها كذلك، وأنهم لم يخرجوه على الخلاف. وفي "المهذب"، و"الحاوي"، و"البحر" حكاية قولين في الإجبار على هذه القسمة إذا لم يمكن قسمة الأكثر قيمة والأقل قيمة، والأصح منهما في "التهذيب": عدم الإجبار، وقال القاضي الحسين: إنه [المذهب. و] المذكور في "تعليق" البندنيجي، وهو اختيار الشيخ أبي حامد: مقابله. قالوا: وعلى هذا فأجرة القاسم توزع بحسب الشركة في الأصل، أم بحسب المأخوذ قلة وكثرة؟ فيه وجهان، أقربهما في "الرافعي": الثاني، وهو المختار في "المرشد". أما إذا أمكن قسمة الأكثر قيمة والأقل قيمة؛ كما إذا كان الجيد في مقدمها،

والرديء في مؤخرها، وإذا قسمت بينهما نصفين، صار لكل واحد منهما من الجيد والرديء مثل ما لصاحبه من الجيد والرديء- فهذه تدخلها قسمة الإجبار كالمتساوية الأجزاء. وحكم الأرض التي يسقى بعضها بالنضح، وبعضها يسقى بالنهر- حكم ما ذكرناه. وكذلك قال البغوي فيما إذا كان [في] بعض الأرض شجر أو بناء، وبعضها خال، أو كانت الدار بعضها مبني بالآجر، وبعضها [مبني] بالخشب والطين. قال: وإن كان عليهما ضرر: كالجواهر، والثياب المرتفعة- أي: [التي] تنقص قيمتها بالقطع- والرحى، والبئر، والحمام الصغير- لم يجبر الممتنع. أما [في] الجواهر وما في معناها، فقد وافق الخصم- وهو الإمام مالك- عليه. وأما في الباقي؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الإِسْلَامِ". ولأن في ذلك إضاعة للمال، وَقَدْ نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ. وبالقياس على الجواهر. ثم بماذا يعتبر دخول الضرر؟ فيه أوجه ذكرناها في باب الشفعة. تنبيه: كلام الشيخ مصرح في الصورة المذكورة بامتناع الإجبار، ومفهومه: الجواز عند التراضي، والحديث قد يأباه، والمنقول في "الحاوي" امتناع قسمة الجوهرة وما يتلف بها وإن وجد التراضي؛ للنهي عن إضاعة المال؛ فإنه سفه يستحق به الحجر، والجواز في الحمام، والسفينة، والسيف، والثوب، وفي الأرض- من طريق الأولى، وقد صرح به القاضي أبو الطيب وغيره. وفي "الرافعي": أنهم إذا التمسوا قسمة ما فيه ضرر من القاضي، فإن كانت المنفعة تتعطل بالكلية: كالسيف يكسر، فلا يجيبهم في أصح الوجهين، لكن

[لا] يمنعهم من أن يقسموا بأنفسهم. قال في "البحر": وهذا اختيار القاضي الطبري، وهو ظاهر المذهب. قال: وإن كان على أحدهما ضرر [دون الآخر- أي:] مثل أن يكون لأحدهما [عشر] أرض، وللآخر باقيها، وإذا قسمت أمكن صاحب الأعشار الانتفاع بها؛ إما لاتساع ما يحصل له، أو لضيقه ومجاورته لملك آخر له، إذا أضيف إليه انتفع بهما؛ كما قاله البغوي؛ أخذاً مما سنذكره من كلام الشافعي عند قسمة عرصة الجدار، ولم يوجد مثل ذلك لصاحب العشر. قال: فإن كان على الطالب، لم يجبر الممتنع؛ لأنه متعنت وسفيه يطلب ما يضره. قال في "البحر": وهذا قول أبي إسحاق، وهو الصحيح المشهور من المذهب. قال: وإن كان على الممتنع، فقد قيل: لا يجبر؛ لأن فيها ضرراً؛ فهو كالضرر عليهما، وقد روى نصر مولى معاوية: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قِسْمَةِ الضِّرَارِ. وقيل: يجبر، وهو الأصح؛ لأنه يطلب حقاً له ينتفع به، فوجب إجابته وإن أضر بالمطلوب منه؛ كما يطالب الغريم بدينه وإن كان لا يملك إلا قدره. و [أما] الخبر فقد قال في "البحر": إنه مرسل. وهذان الوجهان نسبهما العبادي إلى ابن سريج، وقال في "البحر": إن الثاني هو المنصوص عليه، والأول قال به أبو ثور. قال ابن يونس: واعلم أن ما ذكره الشيخ هو الترتيب المنقول عن الخراسانيين، وأما المشهور عن العراقيين، فهو: أن الضرر إن كان على الطالب فوجهان في الإجبار، أصحهما: المنع. وإن كان على الممتنع، أجبر قولاً واحداً. وما ذكره عن العراقيين هو الذي رأيته في ["تعليق" البندنيجي، وأبي الطيب،

و"الشامل"، وكذا في "الحاوي"، و"المهذب"، وقالوا: إن المنع من] الإجبار في حالة ضرر الطالب هو المذهب، وما ذكره عن الخراسانيين صحيح أيضاً، ولم يورد الفوراني والبغوي سواه، لكن في "النهاية": أن العراقيين والقاضي قالوا: من أصحابنا من جعل في كل واحدة من الصورتين وجهين إذا طلبت القسمة: أما إجراء الوجهين في حق صاحب الكثير فعلى ما ذكرناه، وأما إجراؤهما في حق صاحب القليل فمن جهة أنه يقول: لي أن أبطل حق نفسي، وأنت لا تتضرر تضرراً معتبراً فما عليك؟ فأجبني، ولا تشقق علي، فإني مطلق التصرف في حصتي. قال الإمام: وهذه الطريقة لا بأس بها، والأشهر: الأولى، وهي ما في الكتاب. وقد فرعوا في حالة كونا لضرر على الممتنع: أن أربعة لو كان بينهم أرض: لواحد نصفها، ولكل من الباقين السدس، ولا ضرر في قسمتها نصفين، وفي قسمتها أسداساً ضرر لصاحب السدس، فطلب صاحب النصف القسمة- قالوا: الثلاثة بالخيار بين أن يفرز النصف لهم مشاعاً، وبين أن يفرز كل واحد [منهم] سهمه؛ فهذا معنى قول الشافعي: "وأقول لمن كره القسمة لقلة حصصهم: إن شئتم جمعنا حقوقكم، وكانت مشاعة بينكم؛ لتنتفعوا بها". وإذا رضوا بقسمتها نصفين، ثم أراد واحد من الثلاثة إفراز نصيبه- لم يجب إليه؛ لأن هذه القسمة الضرر فيها يلحق الجميع. ولو طلب الثلاثة من صاحب النصف أن يقاسمهم، فيترك لهم النصف، ويأخذ النصف، وامتنع- أجبر عليه، قاله الروياني، والإمام. قال: وإن كان بينهما دور، ودكاكين، أو أرض في بعضها شجر، وبعضها بياض، فطلب أحدهما أن تقسم بينهما أعياناً بالقيمة، أي: بأن تجعل دار في مقابلة دار، ودكان في مقابلة دكان، وأرض في مقابلة أرض؛ ليتساوى ذلك في القيمة. قال: وطلب [الآخر] قسمة كل عين- أي: جزأين، وذلك ممكن من غير

ضرر- قسمت كل عين؛ لأن كل واحد منهما له حق في الجميع؛ فجاز أن يطالب به، ولا يجاب الآخر؛ لأن القسمة تمييز الحقين في العين؛ وهذا نقل ملك من عين إلى عين أخرى؛ فهو معاوضة، ولا إجبار عليها. قال الإمام: وهذا متفق عليه بين الأصحاب. وفي "الرافعي": أن في "الرقم" للعبادي حكاية وجه: أنه يجبر على قسمتها أعياناً بالقيمة من غير فرق بين التجاور والتباعد، لكنه ذكر هذا الوجه فيما إذا طلب أحدهما أن تقسم [بينهما] أعياناً بالقيمة، وسكت عن حال الآخر. وفي "الإبانة" ما يقتضي هذا الوجه- أيضاً- فإنه قال: لو كان بينهما قطعتا أرض في قريتين، أو بستانان في موضعين مختلفين، فدعا أحدهما إلى القسمة- فهل يقسمان جبراً بالقرعة أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لاتفاق الجنس، والمنفعة، والثاني: لا؛ لاختلاف المحل والغرض. والمذهب الأول، ويخالف ما لو كان بينهما قرية ذات مساكن، فدعا أحدهما إلى قسمة جميع القرية، ودعا الآخر إلى قسمة كل مسكن منها- فإنه يجاب الأول، ويقسم لكل واحد منهما نصفها بما اشتمل عليه من مساكنه، كما حكاه الماوردي؛ لأن القرية شاملة لمسااكنها كالدار الجامعة لبيوتها، ولا يجوز أن يقع الإجبار في قسمة الدار على [قسمة كل] بيت منها، كذلك القرية. ثم لا فرق- كما قاله القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ- بين أن تكون الدور والحوانيت متجاورة أو متفرقة، ولا بين أن يكون أحدهما كبيراً والآخر صغيراً ينفذ إلى الدار ولا ينفذ حجره لها أو لا. وأما الأراضي: فإن كانت متفرقة: كأراضي الضياع، فالحكم فيها كذلك، وإن كانت متجاورة متلاصقة، وكل أرض تنسب إلى ضيعة من ضياع القرية- قال أبو إسحاق: هي في حكم الأرض الواحدة؛ فيضم بعضها إلى بعض في قسمة الإجبار، على أن يكون لأحدهما قراح، وللآخر قراح آخر، سواء اختلفت الطرق

واختلف المشرب أو لم يختلف. وقال غيره من أصحابنا: الحكم كذلك في حال المجاورة، واتحاد الطريق والمشرب، فإن اختلف الطريق والمشرب فهي في حكم الأراضي المتفرقة؛ فلا يضم بعضها إلى بعض في قسمة الإجبار. قال القاضي أبو الطيب، والبندنيجي: وهذا ظاهر قول الشافعي. وقال ابن الصباغ: إنه أشبه بكلام الشافعي؛ لأنه قال: "ولا عنب مع نخل"، وأراد به: إذا كان بينهما مراحان في أحدهما نخل، وفي الآخر كرم؛ لأنه لو كان النخل والكرم في مراح واحد، ضم بعضه إلى بعض. وفي "الحاوي" في حالة التجاور: إن تماثلت في الثمن والمنفعة والمؤنة، فيضم بعضها إلى بعض، وتقع قسمة الإجبار على جميعها؛ كضياع القرية التي يتصل جميعها] ولا يتميز شيء منها، وإن اختلفت أسماؤها. وفي حال التجاور: واختلاف المنفعة؛ بأن يكون بعضها مزروعاً، وفي بعضها شجر، وفي بعضها كرم، و [في] بعضها نخل؛ أو تختلف في الثمن؛ لنفاسة بعضها على بعض- فإن مذهب الشافعي: أن قسمة الإجبار واقعة على كل أرض منها، ولا يضم بعضها إلى بعض في قسمة الإجبار مع اختلافها. وعلى كل حال: لا فرق – كما قاله القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ- في الإجبار على قسمة كل مراح من الأرض بين أن يكون فارغاً، أو ما فيه من الأشجار من نوع واحد، أو مختلف الأجناس: كالنخل، والكرم، وغير ذلك؛ فيضم بعض ذلك إلى بعض، ويعدل، ويكون بمنزلة البيوت والأبواب والسقوف المختلفة في دار واحدة. وفي "الرافعي": أن الخلاف الآتي في قسمة التعديل يجري فيما إذا كان البستان الواحد بعضه نخل، وبعضه كرم، وأن صاحب "التهذيب" رجح من القولين منع

الإجبار، والعراقيون من أصحابنا وغيرهم رجحوا الإجبار. قال: ويشبه أن يكون الخلاف المذكور مختصاً بما إذا لم يمكن قسمة كل نوع، فإن أمكن، فلا جبر على قسمة التعديل؛ كما لو كانا شريكين في أرض يمكن قسمة كل جيد ورديء منها [بالآخر أو] بالأجزاء، لا يجري الإجبار على التعديل. فرع: لو كان بينهما أرض واحدة، وفيها بناء أو شجر، فأراد أحدهما قسمة الأرض دون البناء والشجر- قال في "الحاوي" و"البحر": لا يقع في هذه القسمة إجبار. نعم، لو تراضيا على هذه القسمة، دخل في الأرض قسمة الإجبار ما داما مقيمين على هذا الاتفاق، وقسمت بينهما جبراً بالقرعة، وإن رجع أحدهما عن الاتفاق، زالت قسمة الإجبار. قال: وإن كان بينهما عضائد، أي: دكاكين، صغار، لا تقبل كل عضادة القسمة؛ كما قاله البندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ وأكثر الناقلين- متلاصقة، فطلب أحدهما قسمتها أعياناً بالقيمة، وامتنع الآخر- فقد قيل: يجبر؛ لأنها إذا كانت صفاً واحداً، كانت بمنزلة بيوت في دار واحدة، أو خان واحد وقد تقدم أنه يجبر على ذلك؛ إذا تساوت قيمة الأجزاء على المذهب؛ فكذلك هاهنا. قال الرافعي: وهذا أصح على ما ذكره القاضي الروياني [وغيره]، وتبعهم النواوي. وقيل: لا يجبر؛ لأن كل عضادة مسكن منفرد؛ فأشبهت الدور والدكاكين الكبار المتجاورة. قال البندنيجي: وهذا هو المذهب. وفي "الجيلي": أن هذا إذا لم تنقص القيمة بالقسمة، أما إذا نقصت فلا يجبر على القسمة وجهاً واحداً. أما إذا كان كل عضادة تقبل القسمة، فقد قدم ذكرها بقوله: "ودكاكين"، والشيخ في "المهذب" عبر عن الدكاكين بالعضائد، وأجرى الوجهين في حالة قبولها القسمة. قال: وإن كان بينهما عبيد، أو ماشية، أو ثياب، أو أخشاب أي: تنقص بالقطع-

فطلب [أحدهما] قسمتها أعياناً، أي: لتساوي ذلك في القيمة والنوع، وامتنع الآخر، فالمذهب: أنه يجبر الممتنع؛ لأنه لا يمكن قسمتها من غير ضرر إلا كذلك؛ فوجب كالدار الواحدة. وقد وافق الشيخ في هذا اللفظ البغوي. وقال البندنيجي: إن هذا القول هو الذي نص عليه، وعليه أكثر أصحابنا: كابن سريج، وأبي إسحاق، ولم يحك الفوراني سواه. وقيل: لا يجبر؛ لأنها أعيان منفردة؛ فأشبهت الدور المتفرقة، وهذا قول أبي علي بن أبي هريرة، وابن خيران. وقد حكى الخلاف في الرقيق وغيره- كما حكاه الشيخ- الماوردي، والبندنيجي، والإمام. وقال ابن الصباغ، والقاضي أبو الطيب: الخلاف في غير الرقيق، فأما الرقيق فيجبر الممتنع فيه قولاً واحداً عند أصحابنا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جزأ العبيد الستة الذين أعتقهم الرجل في مرض موته ثلاثة أجزاء، وأقرع بينهم، ولأن الرقيق لما وجب تكميل الحرية فيه، دخلته قسمة الإجبار بالقيمة، بخلاف غيره، وعلى هذا جرى في "المرشد"، وهو الذي حكاه في "البحر" عن نص الشافعي في كتاب العتق. وفي "تعليق" البندنيجي: [أن ابن] خيران قال: إنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لمزية الحرية، وفي مسألتنا لا مزية. والأواني من الرصاص والنحاس والحديد، إن اختلفت وتفاضلت لم تقسم إجباراً، وإن تشابهت وتماثلت ففي قسمتها إجباراً وجهان؛ كالحيوان والثياب. فإن قيل: ذكرتم في علة القول المنصوص: أنه لا يمكن قسمة هذه الأشياء من غير ضرر إلا كذلك؛ فوجب كالدار الواحدة، وهذه العلة تقتضي أنه لو كان بين شريكين حمامان أو طاحونان لا يمكن قسمة كل واحد منهما على الانفراد – أن يقسما كذلك. قال الماوردي: قد كان بعض أصحابنا يخرج إجبار قسمة الحمامين بين الشريكين على وجهين؛ كالحيوان والثياب، وهذا الطريق في "النهاية" – أيضاً- وقال: إن من

أصحابنا من قال: لا إجبار في الأبنية والبقاع على التصوير الذي ذكرناه، بخلاف العبيد؛ لأن تفاوت الأغراض في البقاع أوضح. وفي "البحر": أن ابن القاص ذكر عن ابن سريج أنه كان يفرق، ويقول: الأصل البقاع والرحى، والحمام بقعة، وإنما لا يتهيأ قسمتها؛ للحجارة ونحو ذلك. فإذا كان كذلك كان معناه معنى القسمة التي فيها الرد، فلم تجز إلا بالتراضي، وليس كذلك الحيوان؛ لأن كل واحد منهما لا ينقسم، وهو أصل بنفسه، وبنا ضرورة إلى إفراز حقوقهم؛ فجاز إذا كثروا أن يقتسموا إجباراً، وهو كالوجهين في الدكاكين الضيقة. أما لو اختف النوع والقيمة كالضأن والمعز، فهو كاختلاف الجنس من الحرير والقطن والكتان؛ فلا يجبر الممتنع جزماً عند العراقيين، وكذا الجمهور؛ كما قال الرافعي. [و] في "النهاية": أنه لو كان بين الشركاء عبد وطاحون وحمام، وأمكن التعديل بجعل كل صنف سهماً- ففي الإجبار وجهان مرتبان على ما إذا لم تختلف الأصناف، وهذه الصورة أبعد من الإجبار، وقد نسب الرافعي مثل هذا الطريق في مختلف النوع إلى أبي الفرج السرخسي، وقال: إن الصحيح الأول. ولو اختلف النوع، واتحدت القيمة، فهل يكون كاختلاف الجنس واتحاد النوع؟ فيه وجهان في "الحاوي". ولو اتحد النوع، واختلفت القيمة، مثل: أن كان المشترك بينهما ثلاثة أعبد، قيمة واحد مائتان، وكل من الآخرين مائة- فإن قلنا في مسألة الكتاب: لا إجبار، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان، لظهور التفاوت في العدد؛ كذا قاله الإمام. وأثبت الرافعي الخلاف قولين، ثم قال: وهما كالقولين في الأرض المختلفة الأجزاء؛ لإلحاقنا الأعيان المتماثلة كالأرض المتساوية الأجزاء. قلت: إن أراد في أصل إجراء الخلاف فنعم، وإن أراد أنه كهو من كل وجه، فلا؛

لأن الصحيح عند العراقيين- وبه جزم أكثرهم- الإجبار ثم، والمنع منه هاهنا. ولو اختلفت قيمة النوع، بأن كان المشترك بينهما حمامين: صغيراً، وكبيراً، وكان السهمان لا يعتدلان إلا بأن يجعل الحمام الصغير مع ثلث الحمام الكبير سهماً، ويجعل [ثلثا] الحمام الكبير سهماً- فالأصح: أنه لا إجبار على هذا النوع؛ فإن القسمة على ذلك لا تميز ولا تفصل، بل تبقى اشتراكاً. وبعضهم- أيضاً- خرجه على الخلاف. قال الإمام: وهو بعيد. قلت: هذه الطريقة هي التي يظهر صحتها؛ لأن الفوراني وصاحب "البحر" حكيا فيما إذا كان بينهما عبدان: قيمة أحدهما مائة، والآخر مائتين، وأراد أحدهما القسمة بأن يجعل [كل] الخسيس وربع النفيس سهماً، وثلاثة أرباع النفيس سهماً- عن الشافعي قولين في هذه الصورة، ولا فرق بينها وبين التي قبلها في التعليل المذكور، وقد حكى الرافعي فيها طريقة جازمة بالإجبار. فرع: قسمة الكلاب هل يجري فيها الإجبار؟ فيه طريقان في "الحاوي": إحداهما: نعم؛ لأن الشافعي أجاز قسمة الكلاب مع الغنم كما أجاز الوصية بها، وأنها بخروجها من القسمة تجري مجرى ذوات الأمثال. [و] الثانية: تخريجها على الوجهين، وجعل هذا النص دليلاً على أنها أصحهما. قال: وإن كان بينهما دار، وطلب أحدهما أن تقسم، فيجعل العلو لأحدهما، والسفل للآخر، وامتنع شريكه- لم يجبر الممتنع. قال الشافعي في "الأم": لأن أصل الحكم أن من ملك السفل ملك ما تحته، وما

فوقه من الهواء، فإذا أعطى هذا سفلاً لا هواء له، وهذا علواً لا سفل له- فقد أعطي كل واحد منهما على غير أصل ما يملك الناس؛ أي: ووضع القسمة التمييز. ولأن العلو والسفل بمنزلة الدارين، وقد تقدم أنه لا يجبر على قسمتهما بحيث ينفرد كل واحد منهما بدار؛ فكذلك هنا. ولأن العلو تبع للسفل؛ بدليل أنه إذا بيع له السفل والعلو تثبت الشفعة فيهما، وإذا بيع العلو وحده، لم تثبت فيه، وفي هذه الصورة جعل التابع متبوعاً، وذلك يجوز. نعم، لو تراضيا على هذه القسمة جاز، ولو طلب أحدهما أن يقسم العلو والسفل نصفين، وكان ينقسم، أجبر الآخر؛ لأن البناء في الأرض بمنزلة الغراس فيها. ولو طلب أن يقسم العلو في دفعة، والسفل في دفعة أخرى- فلا يجبر الآخر، لأنه ربما خرج لأحدهما بالإقراع من السفل النصيب الذي حصل على حصة صاحبه من العلو؛ [فالمشاركة] واختلاط الأيدي بعد باقية، والقصد من القسمة إزالة ذلك. نعم، لو رضيا بذلك جاز؛ قاله أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما. ومن هاهنا يظهر لك أن أحدهما لو طلب قسمة العلو، وبقاء السفل مشتركاً- لا يجبر الآخر عليه؛ لاحتمال أن يطلب أحدهما قسمة السفل بعد ذلك؛ فيقع المحذور المذكور. [وعلى هذه الحالة يحمل قول الروياني في "البحر" وغيره في دليل مسألة الكتاب]: ألا ترى أنه لو كان بينهما غرفة، فطلب أحدهما القسمة، لم يجبر الآخر عليها؟ وفي "الرافعي": أنه لو طلب أحدهما قسمة السفل، وترك العلو على الإشاعة، لم يجبر الآخر؛ لما ذكرناه من العلة. والروياني في "البحر" ذكر الحكم، ولم يعلله. قلت: ولو قيل في هذه الصورة بالإجبار لم يبعد، ونقول: إذا طلب أحدهما بعد ذلك قسمة العلو يقسم- يعني: بلا] قرعة- ويجعل لكل واحد منهما النصيب الذي هو علو ما حصل له من السفل؛ كما نقول فيما إذا أجبرنا على قسمة

العرصة بين الملكين عرضاً في كمال الطول: إنه لا إقراع فيها، ونجعل لكل واحد ما يلي ملكه من الجوار، ويخالف ما إذا طلب أحدهما قسمة العلو، وترك السفل على الإشاعة؛ حيث قلنا: لا يجبر الآخر، ولم نبد فيه هذا الاحتمال؛ لأنا لو قلنا بهذا ثم، لجعلنا السفل الذي هو أصل تابعاً للعلو الذي هو تابع، وذلك لا يجوز، والله أعلم. قال: وإن كان بين ملكيهما عرصة حائط، فأراد أحدهما أن تقسم؛ فيحصل لكل واحد منهما نصف الطول في كمال العرض، أي: على هذا الشكل: ??????? ??????? ??????? وامتنع الآخر- أجبر عليه؛ لأنه ملك مشترك يمكن انتفاعهما به بعد القسمة من غير ضرر. قال: وإن أراد أن تقسم عرضاً، فيجعل لكل واحد منهما نصف العرض في كمال الطول- أي: على الشكل: ????????? ????????? ????????? وامتنع الآخر- فقد قيل: يجبر؛ لأنه ملك مشترك يمكن كل واحد منهما أن ينتفع بحصته [إذا قسم فأجبر على القسمة- كما في المسألة قبلها، وهذا قول ابن أبي هريرة]. وقيل: لا يجبر؛ لامتناع القرعة؛ فإنه ربما خرجت القرعة لكل واحد منهما مما يلي ملك الآخر؛ فلا ينتفع به، وكل قسمة لا تدخلها القرعة، لا يجبر عليها كالتي فيها الرد، وهذا قول أبي إسحاق، وبه جزم في "التهذيب"، و"الكافي". وقال الرافعي: الصحيح عند العراقيين وغيرهم: الأول، وهو كذلك في "تعليق" البندنيجي، وأبي الطيب، و"المهذب"، وبه جزم في "الوجيز".

وقال ابن الصباغ في كتاب الصلح: إنه ظاهر كلام الشافعي، وأشار بذلك إلى قول الشافعي في "المختصر": "وقسمته بينهما إن شاءا: إن كان عرصته ذراعاً، أعطيته شبراً في طول الجدار، ثم قلت له: إن شئت أن تزيد من عرصة دارك أو بيتك شبراً آخر، ليكون لك جدار خالص- ذلك لك". ويخالف ما فيه رد؛ لأن دخول العوض يجعلها بيعاً، ولا يجبر على البيع. وقول الشافعي: "ثم قلت له: إن شئت أن تزيد على عرصة دارك أو بيتك شبراً .. " إلى آخره- لم يقله مشورة- كما عابه من جهل معنى كلامه- وإنما قاله ليبين أن كل واحد منهما قد ينتفع بما [قد] صار إليه، ثم ذكر وجه المنفعة بأن يضم إلى العرصة شبراً؛ ليصير جداراً كاملاً. وعلى هذا القول [فرعان:]. أحدهما: أنه لا يحتاج إلى القرعة، بل يجعل لكل واحد منهما ما يلي [ملكه] جداراً مما قاله القائل الثاني، وهذا ما أورده البندنيجي، وابن الصباغ، ووجهه الماوردي: بأن القرعة إنما تدخل في القسمة؛ لتميز ما أشبه الانتفاع به، والأنفع لكل واحد منهما، والأنفع هنا: أن يأخذ كل واحد ما يلي ملكه، فلم يكن لدخول القرعة وجه، وإنما نسب بعضهم هذا إلى صاحب "التقريب". والثاني: لو طلب أحدهما أن يقسم طولاً في [كمال] العرض، وطلب الآخر أن يقسم عرضاً في كمال الطول- لم يجبر واحد منهما، بل يتركان إلى أن يصطلحا، كذا قاله ابن يونس، وابن شداد. وفيما وقفت عليه من "الشامل": أنها تقسم عرضاً في كمال الطول، ويجعل لكل واحد مما يلي ملكه، بخلاف ما إذا قلنا: لا يجبر على قسمتها عرضاً في كمال الطول [فإنها تقسم- والحالة هذه- طولاً في كمال العرض. قال: وإن كان بينهما حائط، أي: وعرصة لهم، فطلب أحدهما أن يقسم عرضاً في كمال الطول]، وامتنع الآخر- لم يجبر، واختلف في تعليله:

فقيل: لأنا لو أجبرنا لأقرعنا، والقرعة ربما تعين الشقص الذي يلي دار زيد لعمرو، وبالعكس؛ فلا يتمكن واحد منهما من الانتفاع بما صار له، وهذه علة من منع الإجبار على القسمة عند عدم الإقراع. وقيل: لأنه لا يتأتى فيه فصل محقق؛ لأن ذلك إتلاف، وغايته رسم خط بين الشقصين ومع ذلك فإذا بنى أحدهما على ما صار له تعدي الثقل والتحامل إلى الشق الآخر؛ فيكون منتفعاً بنصيب شريكه. وضعف الإمام هذه العلة بأن هذه القسمة جائزة بالتراضي؛ كما سنذكره؛ وذلك يدل على أن رسم الخط كاف في القسمة والمفاصلة. وعن صاحب "التقريب" وجه: أنه يجاب الطالب، ويجبر الممتنع، لكن [لا] يقرع، بل يخص كل واحد بما يليه، ولا خلاف في جواز هذه القسمة بالتراضي، لكن كيف يقسم؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي: أحدهما: يعلم بعلامة، وبخط يرسم. والثاني: يشق، وينشر بالمنشار. قال القاضي الحسين وغيره، ولو طلبا من الحاكم القسمة بهذا النوع، لم يجبهما إلى [ذلك؛ كما] ذكره العراقيون؛ لأن شق الجدار في الطول إتلاف له وتضييع، ولكنهما يباشران القسمة بأنفسهما إن شاءا؛ كما لو هدماه، واقتسما النقض. [فإن قلت]: لم [لا] خرج جواز القسمة في هذه الحالة على أن القسمة بيع أو إفراز، فإن قلنا: إنها بيع، فينبغي ألا تصح؛ لن بيع ما تنقص قيمته بقطعه لا يجوز؟ قلت: الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن الأصحاب قالوا ثم: إن المانع من صحة البيع عدم القدرة على التسليم، إلا بتنقيص غير المبيع، ولا شيء غير المبيع تنقصه هذه القسمة هنا. الثاني: أن القسمة إنما تقع بعد التمييز بالسبق ونحوه، فلم تكن القسمة إذا وقعت مقتضية للتنقيص.

ووزان ذلك: أن يقطع ذراعاً من ثوب تنقص قيمته بالقطع، ثم يبيعه؛ فإنه يصح وجهاً واحداً. على أن صاحب "الحلية" جزم القول بمنع قسمته عرضاً في كمال الطول بالتراضي- أيضاً- من غير بناء على أن القسمة بيع أو إفراز، ووجهه بأن ما يصير إلى كل واحد منهما من نصف العرض مضر به وبصاحبه؛ لأنه إن أراد هدمه لم يقدر عليه إلا بهدم ما لشريكه [أو شيء منه، وإن أراد وضع شيء عليه وقع الثقل على ما لشريكه] فأضر به. ثم قال: لو تراضيا بهدمه في الحال واقتسام آلته، جاز، والمنع من قسمته بناء قائماً وتحديد ما لكل واحد منهما متصلاً. وقد سلك الفوراني في حالة التراضي طريقاً آخر، فقال: إن اقتسماه بالقرعة، لم يجز، وإن لم يكن بالقرعة فعلى وجهين. قلت: وهذا منه يدل على أنهما إذا تقاسما بأنفسهما تلزم القسمة بنفس إخراج القرعة؛ كما ذكره الشيخ من قبل. قال: وإن طلب أحدهما [أن يقسم] طولا في كمال العرض، وامتنع الآخر- فقد [قيل]: لا يجبر؛ لما ذكرناه من علة القول الثاني في مسألة العرصة؛ كذا قاله ابن الصباغ. ووجهه الماوردي بأنه قد لا يقدر على هدم النصف الذي صار إليه إلا بهدم شيء من نصيب صاحبه؛ فصارت ضرراً عليهما؛ وهذا [هو] ظاهر قول أبي إسحاق وبه جزم في "الوجيز". وقال الرافعي: إنه أشبه الوجهين، والنواوي والمستظهري قالا: إنه أصحهما. وقيل: يجبر، [وهو الأصح]، وكذا قال في "المهذب" تبعاً للبندنيجي،

وتبعهما مجلي؛ لإمكان قسمته على وجه ينتفعان به، والضرر فيه يسير؛ فأشبه العرصة، وهذا قول ابن أبي هريرة. وعلى هذا: إن كان القطع يضر بالحائط، لم يقطع، بل يجعل بينهما علامة. وإن كان القطع لا يضر به، قطع بمنشار إن كان بالطين واللبن؛ كالثوب إذا كان قطعه لا يضر. ولا خلاف في جواز هذه القسمة بالتراضي؛ صرح به الماوردي وغيره. أما إذا لم يكن لهما إلا حائط دون العرصة؛ كما إذا كانت أرضه محتكرة، ففي "الحاوي": أنه لا يجوز قسمته جبراً؛ لأن البناء لا يعلم ما فيه- ليتساويا في الاقتسام به- إلا بعد هدمه، وفي هدمه ضرر؛ فلم يدخله إجبار، فإن اصطلحا عليه جاز. قال: وإن كان بين رجلين منافع، أي: كعين لا تقبل القسمة: كالعبد، والدابة، والدار اللطيفة؛ أو تقبلها كما في الدار الفيحاء ذات البيوت والأرض، ولكنها مستأجرة لهما، أو موصى لهما بمنافعها. قال: وأرادا قسمتها بينهما بالمهايأة- أي: بأن تجعل العين في يد أحدهما يوماً، أو أسبوعاً، أو شهراً، أو سنة، ثم في يد الآخر مثل [تلك المدة]- جاز؛ لأن المنافع كالأعيان، وقد رضي المتأخر منهما بتأخير حقه؛ فلا يعترض عليه، وهذا بخلاف ما لو كان بينهما بقرة حلوب، فأرادا المهايأة في لبنها، لم يجز؛ لأن اللبن ربوي، وهو مجهول؛ قاله القاضي الحسين والبغوي، وهذه القسمة يجوزأن يعين فيها من يستوفي المنافع أولاً، ويجوز ألا يعين ويقرع بينهما؛ كما ذكر في "التهذيب". وإذا تهايآ فالنفقة المعتادة على العين إذا احتيج إليها كالنفقة على البهيمة، والعبد على مستوفي المنفعة في مدته؛ قاله في "المهذب"، و"التهذيب"، وغيرهما. والمؤن النادرة: كزكاة الفطر، والفصد، والحجامة- على من تكون؟ حكمها حكم الأكساب النادرة: كالوصية، والهبة، ووجدان الركاز في زمن المهايأة، ولمن تكون؟ فيها قولان:

أحدهما: لمن وقعت في نوبته، وهو الأصح في "الكافي"، والأظهر في "الرافعي"؛ فعلى هذا تكون المؤن النادرة عليه. والثاني- وهو المختار في "المرشد"-: تكون بينهما؛ وعلى هذا لا تحسب المدة التي اكتسب فيها ذلك من مدة من هو في يده؛ كما نقله ابن شداد عن "البيان"، وتكون المؤن النادرة عليهما. قلت: وكذلك المعتادة في زمن تحصيل ذلك، والله أعلم. وقد تقدم ذكر القولين في باب اللقطة. قال الرافعي هاهنا: وينبغي أن ينظر في الكسوة إلى قدر النوبة حتى تبقى على الاشتراك إن جرت المهايأة مياومة. فرع: إذا استوفى أحدهما نوبته، ورجع عن المهايأة، فقد أطلق القاضي احلسين هاهنا القول بأنه لا ينفعه الرجوع حتى لو اتفقا على المهايأة، لزمت؛ لأنها نوع قسمة، والقسمة تلزم بالتراضي. وجزم في "الذخائر" بجواز الرجوع بعد التراضي بها، وحكى وجهين في جواز رجوعه بعد استيفاء نوبته. والرافعي جزم بجواز الرجوع في أثناء نوبته، وحكى الوجهين في الجواز بعد استيفائها، وهما في "النهاية" مفرعان على القول بعدم الإجبار على المهايأة ابتداء؛ كما هو المذهب، وقال: إن أقيسهما جواز الرجوع. وقد بناهما البغوي هاهنا، وكذا القاضي الحسين في كتاب الصلح- كما أظنه- على أن أحدهما لو امتنع منها ابتداء، هل يجبر عليها أم لا؟ وفيه خلاف سنذكره. فإن قلنا: لا يجبر، كان له أن يرجع، ويغرم نصف أجرة مثل ما استوفاه، وإلا فلا يرجع، ويستوفي الآخر مدته. وقضية هذا البناء: ألا يفرق بين ما قبل الاستيفاء وما بعده. وقد بنى البغوي على الخلاف- أيضاً- ما إذا جاءت النوبة لأحدهما، فامتنع من استيفائها، فإن قلنا بالإجبار فلا شيء على الآخر؛ لأنه المضيع لحقه، وإلا كان له الامتناع، وطلب نصف أجرة المثل. قلت: وينبغي أن يجب عليه نصف المؤنة. قال: وإن أراد أحدهما ذلك، وامتنع الآخر، لم يجبر الممتنع؛ لأن حق كل

واحد منهما معجل؛ فلا يجبر على تأخيره بالمهايأة؛ وهذه العلة شاملة لكون الأصل في ملكهما وكونه في غير ملكهما. وعلل ابن الصباغ المنع في حالة كون الأصل [في] ملكهما وكونه في غير ملكهما: بأنه إذا كان الأصل مشاعاً فالمنفعة تابعة، ولا يصح أن ينفرد ببعض المنفعة مع الاشتراك في الأصل إلا على سبيل المعاوضة، وهي غير واجبة. وعلله القاضي الحسين في "فتاويه" في كتاب الإجارة، في حالة عدم ملكهما الأصل بعلة أخرى مع العلة الأولى، وهي أن الرقبة ليست مملوكة لهما. قال في "المهذب": ومن أصحابنا من قال: إنه يجبر على المهايأة كما يجبر على قسمة الأعيان. وقد حكى القاضي الحسين والإمام ذلك عن ابن سريج؛ وعلى هذا فالمبدوء به من خرجت له القرعة. قال الرافعي: ويجوز أن يكون الحكم في قدر النوبة كذلك. والصحيح المنصوص عليه: الأول، وبه جزم ابن الصباغ، ثم قال: ويخالف قسمة الأصل؛ لأنه إفراز للنصيبين، وتمييز للحقين. والشيخ فرق بأنه ليس في قسمة الأصل تأخير واحد منهما عن حقه، بخلاف ما نحن فيه. وقد يظهر من الفرقين تخريج خلاف فيما لو كانت الدار المستأجرة لهما- أو الموصى لهما بمنفعتها، وقد تنازعا في المهايأة- ذات بيتين متساويين في الصورة والمنفعة، فأراد أحدهما أن يكون له منفعة [هذا] البيت الآخر [والآخر منفعة البيت الآخر]، وامتنع شريكه: فإنا إذا نظرنا إلى ما علل به ابن الصباغ [المنع] في المسألة السابقة، وجدناه موجوداً في هذه الصورة مع قيام الفرق الذي ذكره أيضاً، وقضيته: عدم الإجبار هنا، وهو ما اختاره في "المرشد". وإن نظرنا إلى ما علل به الشيخ، وجدناه مفقوداً فيها مع انعدام الفرق الذي أبداه، وقضية ذلك: الإجبار، كالأعيان.

وقد صرح القاضي الحسين في "فتاويه" بحكاية وجهين في هذه الصورة، وهي ما إذا استأجر أرضاً للزراعة، وأراد المهايأة فيها بأن يكون لكل واحد قطعة منها، وهي مستوية؛ بناء على أن مأخذ [المنع السابق] تأخير حق الأحق، وكون الرقبة ليست مملوكة لهما، فإن قلنا بالأول أجبرنا هنا، وإلا فلا. فإن قيل: قضية كلامه الجزم بالإجبار في مثل هذه الصورة إذا كانت الدار أو الأرض لهما. قلت: قد قدمت أن محل الكلام في الإجبار على المهايأة إذا كانت الدار لا تقبل القسمة؛ كما صوره البغوي، والغزالي، وصاحب "الكافي"، ومجلي، وأشار إليه القاضي أيضاً، والإمام، أما إذا [كانت] تقبلها، فلا إجبار على المهايأة بحال؛ كما قاله الرافعي، وابن شداد. وإذا كانت الصورة كما فرضنا فهي قابلة للقسمة؛ فلا إجبار جزماً، وهو قضية كلام ابن الصباغ في الصورة الأولى، والله أعلم. ثم على المذهب الصحيح: إذا دام تنازعهما، وأهملوا الملك، فماذا يصنع به؟ قال مجلي من أصحابنا: يتركوا إلى أن يصطلحوا. وقيل: إنه يباع الثمن. قال الإمام: وهذا لا أصل له، ولا أعده من المذهب، وإنما هو قول بعض السلف. وقال في "التهذيب": المذهب أنه لا يباع عليهما؛ لأنهما مكلفان مطلقان، بل يؤجر عليهما، وتصرف الأجرة إليهما. وهذا ما صححه ابن كج، وصاحب "الكافي"، وبه يحصل في المسألة ثلاثة أوجه. ولو تركوا التنازع، قال الإمام: تركناهم. فرع: لو كان بينهما دين وأرادا قسمته، قال في "الحاوي": إن كان على غريم

واحد، فقسمته فسخ الشركة فيه، فإذا فسخت انقسم الدين في ذمة الغريم، وصار لكل واحد منهما قدر حقه منه، ويجوز أن ينفرد باقتضائه وقبضه. ولو لم تفسخ الشركة لم يجز لأحدهما أن ينفرد باقتضائه وقبضه منه، و [كان ما] يقبضه مشتركاً بينهما إن قبضه من غير إذن شريكه، وإن أذن له في قبض حصته منه جاز، وكان إذنه فسخاً للشركة. ولا وجه لمن خرجه على القولين في المكاتب إذا أدى إلى أحد الشريكين مال كتابته بإذن شريكه، أنه على قولين، [و] الفرق بينهما: ثبوت الحجر على المكاتب، وعدمه في الغريم. والفوراني حكى وجهين في جواز انفراد أحدهما بما أخذ مع الإذن. فإن كان الدين على جماعة، قال الماوردي: فلا يجبر واحد منهما على انحصار حقه على شخص من الغرماء؛ لأن الغرماء يتفاضلون في الذمة واليسار، وفي جواز قسمته اختياراً قولان، أصحهما عند أبي الفرج السرخسي: المنع، وبناهما الماوردي على أن القسمة بيع أو إفراز: فإن قلنا: إفراز، جازت، وإلا فلا؛ إذ بيع الدين بالدين لا يجوز. وقد حكى الرافعي طريقة قاطعة بالمنع، وهي التي أوردها الفوراني، وصاحب "العدة"، وصححها الرافعي، وقال: إنا إذا قلنا: القسمة بيع، فظاهر، وأما إذا قلنا: إنها إفراز، فإفراز ما في الذمة ممتنع إلا بقبضه. قال [في] "الحاوي" و"البحر": وطريق صحتها على قول المنع: أن يحيل كل واحد منهما لأصحابه بحقه على الغريم الذي لم يختره، ويحيله الآخر [بحقه] على الغريم الذي اختاره؛ فيتعين ذلك بالحوالة دون القسمة. قال: ومتى أراد القاسم أن يقسم عدل السهام: إما بالقيمة إن كانت مختلفة، أي: مثل أن تكون الأرض بين ثلاثة أثلاثاً، وذرعها ستة أجربة، قيمة جريب منها عشرون؛ لإمكان سقيه بالسيح، وقيمة جريبين عشرون؛ لبعدهما عن السقي

بالسيح، وقيمة باقيها عشرون؛ لزيادة البعد- فيجعل الجريب الأول سهماً، والجريب الثاني والثالث سهماً، والثلاثة الباقية سهماً؛ لأن ذلك هو العدل، وهذا إذا لم [تمكن] التسوية بين الشركاء في الجيد والمتوسط والرديء، كما تقدم. قال: أو بالأجزاء إن كانت غير مختلفة، أي: مثل أن كانت الأرض متساوية القيمة في مسألتنا؛ فتجعل ثلاثة أجزاء، كل جزء جريبان، وكذا لو كانت منقسمة إلى الرديء، والجيد، والمتوسط، والجيد في أولها، والمتوسط في وسطها، والرديء في آخرها، وإذا قسمت أثلاثاً صار لكل واحد منهم من الجيد والمتوسط الرديء مثل ما صار للآخرين، فهذه أيضاً تقسم بالأجزاء. قال: أو بالرد؛ إن كانت القسمة تقتضي الرد، أي: كثلاثة أعبد بين ثلاثة، قيمة واحد منهم أربعمائة، وآخر خمسمائة، وآخر ستمائة- فيجعل الذي قيمته خمسمائة سهماً، والذي قيمته أربعمائة [مع مائة] تؤخذ ممن يقع الذي قيمته ستمائة له سهماً، والآخر سهماً. قال الأصحاب: ويعين القاسم: أن هذا الأول، وهذا الثاني، وهذا الثالث، والخيرة إليه؛ [كما] صرح به الإمام، وله أن يجعل الابتداء في الأراضي والدور ونحوها من أي جهة شاء. قال: فإن كانت الأنصباء متساوية: كالأرض بين ثلاثة [أنفس] أثلاثاً، أقرع بينهم. [و] الأصل في الإقراع: قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]، وقوله تعالى في يونس صلى الله عليه وسلم: {فَسَاهَمَ} [الصافات: 141]. قال: فإن [شاء] كتب أسماء الملاك في رقاع متساوية- أي: يكتب في كل رقعة اسم رجل منهم- وجعلها في بنادق من طين- أي: أو شمع- متساوية؛

لأنها لو اختلفت في القدر لكانت البندقة الكبيرة تخرج، وتسبق إلى اليد، وفي ذلك ترجيح لصاحبها. لكن هذه التسوية من طريق الوجوب، أو الاحتياط؟ فيه تردد للشيخ أبي محمد، ورأى الإمام الأولى منه الثاني. قال: ويجعلها في حجر رجل لم يحضر ذلك، أي: الكتابة والبندقة؛ ليخرج على السهام؛ لأنه إذا فعل ذلك رجع الخروج إلى الوفاق المحض من غير تحيل قصد في الإخراج. قال الماوردي والإمام وغيرهما: وتوضع البنادق في الحجر مغطاة بعد تجفيفها. وهذا في "تعليق" القاضي أبي الطيب في كتاب العتق معزي إلى النص. قال الأصحاب: ويقول القاسم للمخرج: أخرج بندقة [على السهم الأول]، فإذا أخرجها كسرت، ومن كان اسمه فيها تعين حقه فيه، [ثم يقول له: أخرج بندقة على السهم الثاني، فإذا أخرجها كسرت ومن كان اسمه فيها تعين حقه فيه]، وتعين السهم الثالث للشريك الثالث، ولا يحتاج إلى إخراج البندقة الثالثة. قال: وإن شاء كتب السهام- أي: في الرقاع- فيكتب في رقعة: السهم الأول، وفي رقعة: السهم الثاني، وفي رقعة: السهم الثالث. قال: ليخرجها على الأسماء، أي: يقال له: أعط كل شخص بندقة، وإذا أعطاه كان له من السهام المكتوب فيها. وعلى هذا المثال يفعل فيما قل من العدد أو كثر؛ وهذا ما أورده العراقيون، وهو على وجه الاحتياط. فإن لم يحتط في القرعة بما ذكرناه، واقتصر على أن أقرع بينهم بحصاة أو أقلام- جاز؛ حكى الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قَسَّمَ غَنَائِمَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى خَمْسَةِ أَجْزَاء، وَأَقْرَعَ بِالنَّوَى".

وقال الماوردي في كتاب العتق: إنه متى أخل بشيء مما نص عليه الشافعي [من] الأشياء الخمسة، وهي المذكورة في الكتاب- فقد أساء. قال: وإن كانت الأنصباء مختلفة، مثل: أن يكون لواحد السدس، وللثاني الثلث، وللثالث النصف- قسمها على أقل الأجزاء، وهي ستة أسهم؛ لاشتمال الأكثر [على الأقل؛ فيمكن إعطاؤه، بخلاف ما لو قسم على الأكثر] من الأجزاء؛ فإنه لا يمكن أن يعطي الأقل. قال أبو إسحاق المروزي: ولو كان فيهم من له سدس وربع، قسمها على اثني عشر، ولو كان فيهم من له سدس وثمن، قسمها على أربعة وعشرين، فيقسم أبداً من أقل ما تخرج منه السهام كلها. قال الفوراني: ونذكر في مسألتنا: الأول، والثاني، والثالث، والرابع، والخامس، والسادس. قال: وكتب أسماء الشركات في ست رقاع: لصاحب السدس رقعة، ولصاحب الثلث رقعتان، ولصاحب النصف ثلاث رقاع، ويخرج على السهام، وإنما فعل ذلك، ولم يقتصر على ثلاث رقاع؛ لأن لصاحب النصف وصاحب الثلث مزية بكثرة المال؛ فكان لهما مزية في كثرة الرقاع؛ فإن في كثرتها فائدة، وهي أن يكون لهما غرض في الأخذ من أول الأرض، فإذا كانت سهامهما أكثر، كان أقرب إلى خروج اسمهما. قال: فإن خرج اسم صاحب السدس، أعطي السهم الأول، ثم يقرع بين الآخرين، فإن خرج اسم صاحب الثلث أعطي السهم الثاني، والثالث- أي: وهو الذي يلي الثاني- بلا قرعة؛ لأنا لو أقرعنا، فلربما خرج اسم صاحب النصف؛ فيستحق الثالث، وذلك يؤدي إلى التفريق بين ما حصل لصاحب الثلث أولاً، وما يحصل له ثانياً، وذلك ضرر عليه، وكذا على صاحب النصف إن فعل معه مثل ذلك، والقصد بالقسمة إزالة الضرر. وهذا كما قلنا فيما إذا أراد قسمة العرصة بين الدارين عرضاً في كمال الطول: لا تدخل القرعة، بل يعطي كل واحد ما يلي ملكه.

قال: والباقي لصاحب النصف- أي: بلا قرعة- لأنه لم يبق سواه؛ فتعين. قال: وإن خرج اسم صاحب النصف أولاً، أعطي ثلاثة أسهم- أي: متوالية- لما ذكرناه، ثم يقرع بين الآخرين على نحو ما تقدم، أي: فإن خرج اسم صاحب السدس، أعطي السهم الرابع، [وكان الباقي لصاحب الثلث. وإن خرج اسم صاحب الثلث، أعطي السهم الرابع] والخامس، وتعين السادس لصاحب السدس. ولو خرج اسم صاحب الثلث أولاً، أعطي الأول والثاني، ثم يقرع بين الآخرين: فإن خرج اسم صاحب النصف، أعطي الثالث والرابع والخامس، وتعين السادس لصاحب السدس. وإن خرج اسم صاحب السدس أعطي الثالث، والباقي لصاحب النصف. ثم على هذا المثال فيما قل من السهام أو كثر يفعل. قال: ولا تخرج السهام على الأسماء في هذا القسم؛ لأنه ربما خرج السهم الثاني أو الخامس لصاحب السدس؛ فيقطع نصيب صاحب الثلث، أو النصف؛ فيستضر به. قال في "المهذب": ولأنه ربما خرج الرابع لصاحب النصف؛ فيقول: آخذه وسهمين قبله، ويقول الآخران: بل تأخذه وسهمين بعده؛ فيؤدي إلى الاختلاف والخصومة. وقد ذكر البندنيجي المعنيين. وهذا ما حكاه الأكثرون، ومنهم القاضي الحسين، والبغوي. وحكى المراوزة أن الشافعي نص على أنه يكتب أسماء الملاك في الرقاع، ثم يخرج الرقاع على الأجزاء المعينة؛ كما ذكرنا، ونص في كتاب العتق على أن المريض إذا أعتق عبيداً لا يملك غيرهم، واحتجنا إلى رد العتق إلى الثلث: أنه يكتب في رقعة: الرق، وفي رقعة: الحرية، ولم يذكر كتبه أسامي العبيد، وأسامي الورثة، وقياس ذلك فيما نحن فيه: أن يكتب في الرقاع أعيان الأجزاء المعدلة، ثم يخرج

على الأسماء، وأن الأصحاب اختلفوا في ذلك: فمنهم من قال: في المسألتين قولان؛ بالنقل والتخريج. ومنهم من قال: ليست على قولين، لكنا نقرر النصين، والفرق: أن الحرية [حق لله] تعالى، وليست من حقوق العبيد؛ فإنهم لو أسقطوها لم تسقط؛ فكانت كتابة الحرية أولى، والعين المقسومة ملك الشركاء حقيقة فكتب أسمائهم أولى. وفرق الرافعي بما ذكرناه من علة المنع، ثم قال: وهذا الخلاف في الجواز أو الأولوية؟ عبارة كتب شيوخنا تشعر بوضعه في الجواز. وقال الإمام- وتبعه الغزالي-: إنه في الأولى باتفاق الأصحاب. وهو الأولى، والمحذور الذي أبداه القائلون بعدم جواز إخراج الأجزاء على الأسماء مندفع: أما ما ذكره في "المهذب"؛ فلأنه يجوز أن يقال: لا يبالي برأي الشركاء، بل يتبع نظر القاسم، كما في الجزء المبدوء به، واسم الشريك المبدوء به. وما ذكره غيره؛ فلأنه إنما يلزم إذا أخرج أولاً اسم صاحب السدس، وهو في غنية عنه- بأن يبدأ باسم صاحب النصف: فإن خرج الأول باسمه، فله الأول والثاني والثالث، وإن خرج الثاني فكذلك؛ فيعطي مع الثاني ما قبله وما بعده، وإن خرج الثالث، ففي "شرح مختصر الجويني": أنه يتوقف فيه، ويخرج لصاحب الثلث، فإن خرج الأول، فله الأول والثاني، ولصاحب النصف الثالث واللذان بعده؛ وكذا لو خرج الثاني. وإن خرج الخامس، فله الخامس والسادس؛ ثم العمل هكذا. ولم يستوعب باقي الاحتمالات. قال: وكان يجوز أن يقال: إذا خرج لصاحب النصف الثالث، فله الثالث واللذان قبله، وإن خرج الرابع فله الرابع واللذان قبله، ويتعين الأول لصاحب السدس، وإن خرج الخامس فله الخامس واللذان قبله، ويتعين السدس لصاحب السدس، وإن [خرج] السادس فله السادس واللذان قبله. وإذا أخذ زيد حقه، ولم يتعين حق الآخرين يخرج رقعة أخرى باسم [أحد]

الآخرين؛ فلا يقع تفريق. على أنه يمكن أن يقال: يبدأ باسم صاحب السدس، فإن خرج باسمه الأول والثاني دفع الأول إليه، وإن خرج الخامس والسادس، دفع السادس إليه، ثم يخرج باسم أحد الآخرين؛ فلا يقع تفريق. وإن خرج له الثالث، دفع إليه، وتعين [الأول والثاني] لصاحب الثلث، والثلاثة الأخيرة لصاحب النصف. [وإن خرج له الرابع، دفع إليه، وتعين الخامس والسادس لصاحب الثلث، والثلاثة الأولى لصاحب النصف]. ويمكن أن [يقال: يبدأ] باسم صاحب الثلث، فإن خرج له الأول أو الثاني، دفع إليه ذلك، وإن خرج الخامس والسادس دفعاً إليه، ثم يخرج باسم أحد الآخرين: فإن خرج الثالث، فله الثالث والثاني، ويتعين الأول لصاحب السدس، والثلاثة الأخيرة لصاحب النصف. وإن خرج الرابع فله الرابع والخامس، ويتعين السادس لصاحب السدس، والثلاثة الأولى لصاحب النصف. والذي حكاه صاحب "البحر": أن من أصحابنا من خرج من المسألة هاهنا إلى مسألة العتق قولاً، وجعل فيها قولين بالنقل والتخريج. ومنهم من فرق بأنه لو كتب أسماء الأجزاء ربما يؤدي إلى تفريق ملك واحد؛ فلا يجوز إلا أن يكتب أسماء المستحقين، وفي العتق يجوز كلاهما؛ لأنه لا يوجد هذا المعنى. وكأنه [أراد- والله أعلم-] الفوراني؛ لأنه هكذا قال. [قال]: وقيل: يقتصر على ثلاث رقاع لكل واحد رقعة- أي: يكتب فيها اسمه، وتكون السهام ستة؛ لأن صاحب النصف، وصاحب الثلث إنما يأخذ بالرقعة جزءاً واحداً، ثم يأخذ ما يليه إلى تمام حقه؛ فلا فائدة في كتب ما زاد

عليه؛ وهذا ما اقتضى إيراد ابن الصباغ وكذا القاضي [أبي] الطيب ترجيحه. وحكي أن ابن أبي هريرة قال: إنه لا فائدة في كتب ست رقاع إلا سرعة خروج اسم صاحب الأكثر، ولا غرض في سرعة خروج اسمه. وقال في "البحر": إنه ظاهر كلام الشافعي. وقال في "الوسيط": إنه الصحيح. [وهو في ذلك متبع لصاحب "التقريب"؛ فإن الإمام حكى عنه [أنه قال]: إنه الصحيح]، ولا معنى لرعاية غرضه في طرف الدار؛ إذ ليس هو بالطرف أولى من صاحب السدس، ولو كان أولى بالطرف؛ لكثرة نصيبه، لكان أولى بما يعينه من غير قرعة؛ وعلى هذا: إن خرج اسم صاحب النصف أولاً تعين حقه في السهم الأول والثاني والثالث، ثم يقرع بين الآخرين، فإن خرج اسم صاحب الثلث تعين حقه في الرابع والخامس، وتعين السادس لصاحب السدس، وباقي الأقسام يعرف حكمها مما تقدم. ولا يجوز أن يخرج السهام على الأجزاء في هذه القسمة- أيضاً- على هذا القول. قال القاضي [أبو] الطيب، وابن الصباغ: لأنا إذا قلنا له: أخرج على صاحب السدس، فربما خرجت رقعة النصف أو رقعة الثلث؛ فلا يكون لذلك فائدة. والصحيح عند العراقيين- كما حكاه الإمام عنهم-: الأول، [و] هو الذي أورده الماوردي، وقال البندنيجي وغيره: إنه المنصوص، وعليه أكثر أصحابنا. وفي "البحر" نسبه إلى أبي إسحاق، ثم قال: وقد قيل: إنه المذهب، لما ذكرناه من الفائدة. وكأنه- والله أعلم- يشير إلى القاضي الحسين؛ فإن هذه عبارته في "تعليقه". ثم هذا الخلاف في الأولى، حتى إذا وقعت القسمة على أي وجه [كان صحت]، أو في الوجوب حتى إذا وقعت [القسمة] موافقة لقول أحد القائلين، كانت جائزة عنده صحيحة، وغير جائزة عند مخالفه غير صحيحة؟

قال الإمام: الذي استبنت من كلام الأئمة [بعد التأمل]: الأول، [وقد] رأيت في كلام الشيخ أبي علي ما يدل على الثاني، وحكى [في كتاب] العتق ما يؤيده؛ فإنه قال فيما إذا أعتق المريض ثلاثة أعبد، لا مال له غيرهم، وهم متساوون في القيمة، وقلنا: يكتب في الرقاع الحرية والرق-: إن الأصحاب قالوا: الرق ضعف الحرية؛ فيجب أن تكون الرقاع على [هذه النسبة؛ فيكتب للحرية رقعة، وللرق رقعتين؛ لتكون الرقاع على] نسبة المطلوب في القلة والكثرة؛ فإن ما يكثر فهو حري أن يسبق إلى اليد. وفي كلام الأصحاب ما يدل على استحقاق ذلك. ومنهم من يقول: هذا استصواب، وإلا فيكفي رقعة للحرية، وأخرى للرق. فرع: إذا اقتسما ملكاً، ولم يكن لواحد منهما طريق يختص به- أخرجا طريقين من ملكهما، والعبرة في سعته عندنا بما تدعو إليه الحاجة في الدخول والخروج على ما جرت به العادة. قال: وإذا تقاسموا، ثم ادعى بعضهم على بعض غلطاً- أي: وعين قدره- فإن كان فيما تقاسموا بأنفسهم، لم تقبل دعواه، أي: سواء كانت هذه القسمة مما يدخلها الإجبار، أو لا يدخلها: كقسمة الرد؛ كما صرح به البندنيجي؛ لأنه رضي بأخذ حقه ناقصاً، فهو كما لو اشترى شيئاً يحسبه بثمن المثل، فتبين أنه بأكثر منه وقد غبن؛ كذا علله العراقيون، وحكاه الإمام عنهم. ووجهه في "البحر" بأن في دعواه تكذيباً لنفسه؛ فلم تسمع، ومقتضى التعليل الأول: أن الغرماء لو اعترفوا بالغلط، لم يفده اعترافهم شيئاً، [وبه صرح] في "الوسيط" عن العراقيين. وفي "الحاوي" الجزم بأنهم إذا اعترفوا بالغلط، نقضت القسمة، واستؤنفت على الصحة، وهو مقتضى التعليل الثاني كما قلنا مثله في مسألة المرابحة؛ ولهذا قال في "البحر": إن بعض أصحابنا بخراسان قال: لو قال المدعي في هذه الصورة: إن

شركاءه يعلمون بالغلط، [يلزمهم اليمين على نفي العلم. ومقتضى التعليلين: أنه لو أقام بينة بالغلط] لم تقبل، وقد صرح به في "المهذب"، ووجهه: بأنه يجوز أن يكون قد رضي بدون حقه. والغزالي في "الوجيز" بنى ذلك على أن القسمة بيع، أو إفراز؟ فإن قلنا: إنها بيع، وجرى لفظ تملك، فلا ينفعه الغلط، وهو كالغبن لا يوجب النقض، وفيه: وجه أنه ينقض. وإن قلنا: إنها إفراز؛ فتتوجه اليمين، وتنقض عند قيام البينة. وهذا أخذه من كلام الإمام في صحة القسمة في حال علم الشركاء في الابتداء بالتفاوت في المقسوم؛ فإنه قال فيها: الذي يقتضيه كلام الأصحاب صحة هذا، وفيه غائلة. والوجه أن نقول: إن قلنا [إن] القسمة إفراز، فلا تصح القسمة إلا مع التعديل، وإن قلنا: إنها بيع، فإذ ذاك يجوز أن تلزم بالرضا مع العلم. ثم يتضح عندي اشتراط لفظ البيع [هاهنا، [فإنا:] إنما نقيم لفظ "القسمة" مقام لفظ "البيع"] إذا جرت حقيقة القسمة، وحقيقتها التعادل، وهذا لطيف حسن. قال: وإن قسمه قاسم من جهة الحاكم، فالقول قول المدعي عليه مع يمينه [أي:] إنه لا فضل معه، أو: لا يستحق عليه ما ادعاه، ولا شيئاً منه؛ لأن الظاهر صحة القسمة، وأداء الأمانة؛ كما أن الظاهر في حكم الحاكم جريانه على الصحة. قال: وعلى المدعي البينة، أي: إن أراد إثبات الغلط، كما إذا ادعى أن الحاكم غلط عليه في الحكم، وأراد إثباته- فإن عليه البينة بذلك، فإن أتى بعدلين من أهل المعرفة بالقسمة، شهدا بالغلط بعد المساحة، نقضت القسمة. قال في "البحر": لأن ذلك ليس بأكثر من الحكم، ولو قامت البينة أن الحاكم غلط في الحكم، نقض؛ كذلك هاهنا. وقد ألحق أبو الفرج السرخسي بقيام البينة بالغلط ما إذا عرف أنه يستحق ألف

ذراع، ومسح ما أخذه فإذا هو تسعمائة. وعن كتاب ابن كج: أن أبا الحسين ذكر [أن] ابن أبي هريرة حكى قولاً أن على الشريك البينة على القسمة الجارية عادلة، وأن مدعي الغلط لا يحتاج إلى البينة، وأن أبا إسحاق فصل فقال: إن كان يدعي الغلط؛ لأن القاسم الذي قسم لا يحسن القسمة، ولا يعرف المساحة والحساب- فالأصل ما يقوله؛ فعلى صاحبه البينة. فرع: إذا لم يكن للمدعي بينة، وطلب يمين الشركاء، فامتنعوا من اليمين- حلف المدعي، ونقضت القسمة. وإن حلف البعض، ونكل البعض، فحلف المدعي- قال في "الحاوي": بطلت القسمة في حق الناكل، وأمضيت في حق من حلف. وحكى الإمام أن صاحب "التقريب" قال في هذه الحالة: إنا إذا قلنا: يمين الرد كالبينة، فقد قال بعض أصاحبنا بنقض القسمة في حق الكل: من حلف، ومن نكل؛ كما لو أقام بينة. وهذا سخيف، لا أصل له؛ فإن يمين الرد [تكون كالبينة في حق الناكل فحسب، فأما من حلف، قد رد يمين الرد] عن نفسه. ولو ادعى على القاسم بأنه غلط في القسمة؛ ليرجع عليه بالأجرة، فدعواه غير مسموعة، إلا أن تكون له بينة، فإنه ليس له تحليفه؛ فإنه حاكم أو شاهد، وكل منهما لا يحلف. نعم، [قد] يظهر أن يجيء [فيه] ما ذكرناه عن القاضي فيما إذا ادعى الخصم على القاضي: أنه حكم له بكذا في زمن ولايته؛ بناء على أن اليمين مع النكول كالإقرار؛ فإنه لو أقر بالغلط في القسمة، كان في الغرم كما لو قامت البينة بغلطه؛ كما صرح به القاضي الحسين [هنا]، وتبعه صاحب "التهذيب"، و"الكافي" فيه، [و] قالا: إنه لا يقبل قوله بالنسبة إلى نقض القسمة؛ كما لا يقبل قول القاضي: إني

غلطت، أو تعمدت الظلم في نقض الحكم، إذا كذبه المحكوم له. قال: وإن نصبا من يقسم بينهما، أي: حكماً، فإن قلنا: يعتبر التراضي بعد خروج القرعة، أي: ورضوا بها- لم يقبل قوله، أي: دعواه؛ لأنه رضي بأخذ حقه ناقصاً؛ فكان كما لو تقاسما بأنفسهما. قال الإمام: وهذا لا يجب أن يكون مقطوعاً به؛ فإن الرضا كان على تقدير التعديل والاستوءا، فإذا ظهر خلاف ذلك، ظهر الحكم بإفساد القسمة فكأن الرضا مقيد بشرط الاعتدال، وهذا كتقديرنا البيع بشرط السلامة. قال: وهذا متجه. أما إذا لم يرضيا بعد خروج القرعة قالقسمة لم تتم؛ فله الرجوع وإن لم يدع الغلط. قال: وإن قلنا: لا يعتبر [التراضي]، فهو كالحاكم؛ لوقوع ذلك جبراً. قال الإمام: وهذا فيه نظر؛ فإن قاسم القاضي مولى أو شاهد، والذي ينصبه الشركاء ليس في هذا المعنى، والمسألة محتملة. قلت: المسألة مصورة- كما ذكرنا- فيما إذا نصباه حكماً، وقلنا: إن التحكيم صحيح، وإن حكمه يلزم بنفسه، وإذا كان كذلك، فهو كقاسم الحاكم. نعم، ما ذكره كان يتجه أن لو كان الخلاف فيما إذا نصباه وكيلاً، وليس في هذه الحالة عندهم خلاف في اعتبار التراضي بعد خروج القرعة؛ ولهذا قال القاضي أبو الطيب: إنه لا تسمع الدعوى جزماً؛ كما لو تقاسما بأنفسهما. وأشار إلى ذلك ابن الصباغ أيضاً. قال: وإن كان فيها رد، أي: وقد [قسمها] قاسم الحاكم، وقلنا: يعتبر التراضي بعد خروج القرعة- لم يقبل قوله، أي: [في] دعواه.

وإن قلنا: لا يعتبر فهو كقسمة الحاكم، أي: التي لا رد فيها، وقد سبق بيانه. فرع: لو تنازعا في بيت من دار اقتسماها، فادعى كل واحد منهما: أنه وقع [له] في سهمه، ولا بينة- تحالفا، ونقضت القسمة كما في المتبايعين؛ كذا قاله في "المهذب"، و"الحاوي". والتنازع المذكور يفرض فيما إذا ادعى كل واحد منهما: أن البيت ما دخل في حد الآخر؛ بأن حده ينتهي بدونه؛ كما صوره في "البحر"، وقال: إن ما ذكرناه من الحكم منصوص عليه. ثم حكى أن أحدهما لو قال لصاحبه: حدي ينتهي إلى الموضع الفلاني، وأنت غصبته، وأضفته إلى حصتك- فالقول قول من هو في يده؛ لأنه اعترف له باليد، وادعى الغصب. [فرع] آخر: إذا تناكر الشركاء، فادعى أحدهم القسمة، وأنكرها الباقون- فإن لم تكن متعلقة بقاسم من جهة الحاكم، قال الإمام: فالقول قول الباقي، وإن تعلقت بقاسم القاضي فالرجوع إليه؛ فإنه حاكم، أو شاهد. قال: وإن تقاسما، ثم استحق من حصة أحدهما شيء معين لم يستحق مثله من حصة الآخر- بطلت القسمة؛ لأن لمن أخذ ذلك من نصيبه أن يرجع في شيء من سهم شريكه؛ فتعود الإشاعة، ويفوت مقصود القسمة. ويندرج فيما قاله الشيخ ما إذا تقاسم الورثة التركة، ثم بان أن مورثهم أوصى بعين منها، وهي تخرج من الثلث، وقد صرح به القاضي الحسين وغيره. قال: وإن استحق مثله من حصة الآخر- أي: بأن استحق قطعة أرض في نصيب كل واحد منهما بقدر حصته- لم تبطل [القسمة]؛ لأن ما بقي لكل واحد منهما بعد الاستحقاق قدر حقه، فلم يؤد إلى الإشاعة؛ وهذا ما حكاه البغوي، وصاحب "الكافي" أيضاً. وقال الإمام: إنه حسن متجه، لكن في بعض الطرق ما يدل على بطلان القسمة في البقية؛ فإن القسمة لم تنشأ على البقية أولاً، وقد تغير وصفها بالاستحقاق؛ فلا

يمتنع الحكم ببطلانها، وهذا نازع إلى تفريق الصفقة. ولو استحق من حصة أحدهما شيء، ومن حصة الآخر دونه، أو فوقه- بطلت أيضاً؛ صرح به العراقيون والمراوزة. قال: وإن استحق من الجميع جزء مشاع، أي: مثل أن اقتسما الأرض نصفين، فخرج الثلث من الأرض مستحقاً. قال: بطلت القسمة؛ لأن صاحب الجزء المستحق كان نصيبه مشاعاً في ملك كل واحد منهما، يقدر على إجارته مجتمعا بالقسمة؛ فلم يجز أن يجعل في ملكين لا يقدر على جمعه بالقسمة، وصار هذا كأرض بين ثلاثة غاب أحدهم، فاقتسمها الحاضران على أن حصة الغائب مشاعة في سهم كل واحد منهما- كانت القسمة باطلة في الجميع، كذا حكاه الماوردي [وابن الصباغ، وقال القاضي أبو الطيب: [لا تبطل قولاً واحداً]. ولا فرق في ذلك بين أن نقول: إن القسمة بيع أو إفراز؛ كما قال الماوردي]، وهذه طريقة أبي إسحاق، وهي الصحيحة في "البحر"، والمختارة في "المرشد"، وبها أجاب الروياني في "الحلية"، وقال البندنيجي: إنها المذهب. وقيل: تبطل في المستحق، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة، وهذه [طريقة] ابن أبي هريرة، وهي الصحيحة عند النواوي. وقال الرافعي: إنها التي أخذ بها أكثرهم، ولم يحك في "الوسيط"، والإمام عن العراقيين سواها. وصحح في "الوسيط" قول الصحة؛ بناء على قاعدته في تفريق الصفقة. قال: وإن تقاسم الورثة التركة، ثم ظهر دين محيط بالتركة- أي: إما ببينة، أو بإقرارهم؛ كما قاله الماوردي- فإن قلنا: القسمة تمييز للحقين، لم تبطل القسمة؛ لأن كل واحد منهما قد ميز ملكه عن ملك صاحبه من غير ضرر لاحق برب [الدين]؛ فلم يمنع منه.

قال: فإن لم يقض الدين- أي: وصاحبه مطالب به- نقضت القسمة، أي: بالبيع؛ لوفاء الدين؛ لأن في عدم نقضها في هذه الحالة إضراراً برب الدين، وحقه أولى بالرعاية. قال: وإن قلنا: إنها بيع، ففي بيع التركة قبل قضاء الدين قولان: وجه المنع: أنه تعلق بها حق الغرماء [بالموت]؛ فشابهت العين المرهونة. ووجه الجواز: أنهم لم يحدثوا ولا مورثهم عقداً يمنعهم من التصرف، بخلاف المرهون. وقاسه في "التهذيب" على تصرف المريض مع تعلق حق الورثة بها؛ وعلى هذا يقال للبائع: أنت بالخيار بين أن تقضي الدين من عين التركة أو من غيرها، فإن قضيته من غيرها استقر بيعك، وإلا نقض وقضينا الدين من التركة. وحقيقة هذا القول: أنا نصحح البيع موقوفاً. وفي "النهاية" في كتاب العتق حكاية وجه ثالث: أن البيع يصح إذا كان البائع موسراً، ويلزم، ولا سبيل إلى نقضه، وقال: [إن] الشيخ أبا علي قال: لو كان البائع معسراً، لم ينفذ بيعه ألبتة، وإنما محل الخلاف إذا كان موسراً. قال الإمام: ويتخرج لنفوذ بيع المعسر وجه حسن إذا قلنا: لا يلزم- من بيع المفلس ماله؛ فإنا قد أجرينا في بيعه قولاً على الوقف؛ فلا مانع من خروجه هاهنا. وأيضاً: فإن في كلام الشيخ أبي علي أن الثمن مستحق للغرماء، فإن صح هذا، فما وجه الفرق بين أن يكون الوارث [معسراً أو موسراً]؟ واتجه في تنفيذ بيع المعسر احتمال بين لا يتجه مثله في إعتاقه؛ فإنه لا عوض في الإعتاق. وقد وافق الشيخ ومن تبعه على حكاية الخلاف في هذه الصورة قولين هاهنا، وإن كان قد حكاه في "المهذب" وجهين، كما فعل الإمام في كتاب العتق، [و] القاضي أبو الطيب، والماوردي، والبندنيجي، وقالوا في تأسيس ذلك: كل حق إذا تعلق بعين ماله، نظرت: فإن [كان] قد تعلق باختياره: كالرهن، فالبيع باطل قولاً

واحداً، وإن كان بغير اختياره: كأرش الجناية، ووجوب الزكاة فيه، ومثل مسألة الميت إذا كان عليه دين- فالكل على قولين. وقضية هذا أمران: أحدهما: أن القولين في بيع التركة كالقولين في بيع العبد الجاني خطأ؛ وقد صرح بذلك الإمام عن شيخه في "فروع" ابن الحداد في كتاب العتق، وحكاه الغزالي في كتاب الرهن طريقة [قاطعة] مع طريقة أخرى: أن تعلق الدين بالتركة كتعلق الرهن؛ نظراً للميت، [ومبادرة إلى تبرئة ذمته]. وحكيت أنا الطريقين [و] الصحيح منهما في أول كتاب الفرائض. الثاني: أن القولين مفرعان على القول الصحيح، وهو أن الدين لا يمنع الإرث، أما إذا قلنا: يمنعه؛ فلا يصح قولاً واحداً، وكذلك صرح به الإمام هاهنا، وقال في كتاب العتق: إن تنزيل التركة منزلة العبد الجاني [خطأ]- بعيد؛ لما بين المرهون والتركة من الفرق؛ فإن حق المجني عليه طرأ على ملك تام للسيد، ثم دام الملك له، والوارث يتلقى الملك بالخلافة، وهي مشروطة بتقديم حق الميت. ثم قال في هذا الباب: وللقولين التفات عندي على أصل، وهو أن المفلس لو تصرف في الأموال التي اطرد الحجر عليها، فيقطع ببطلان تصرفه، أو نوقفه قائلين: إن سقطت الديون فقد نفذ التصرف، وإن بقيت ومست الحاجة إلى تأديتها من الأعيان، أديت منها، فالوارث كالمحجور عليه المفلس، والمال كمال المحجور، وقد أشار إلى هذا المأخذ الفوراني- أيضاً- وقضيته: أن يكون الصحيح البطلان، كما صرح به النواوي، وغيره في كتاب الرهن؛ لأن الصحيح بطلان تصرفات المفلس. ثم قال الإمام: وما ذكره العراقيون من تصحيح القسمة على قول الإفراز قولاً واحداً، ليسوا مساعدين عليه؛ فإن الإفراز تصرف في متعلق الدين؛ فيظهر إفساده كالبيع. وقد أشار كاتب "تعليق" القاضي أبي الطيب إلى أن الجزم بصحة القسمة على

القول بأنها إفراز من فقه القاضي؛ فإنه قال: قيل للقاضي: إذا قلنا: إن القسمة إفراز حق، فهل يكون على القولين أم لا؟ فقال: يحتمل أن يكون على قول واحد: أنه يصح. وهذا ما أورده البندنيجي والماوردي وابن الصباغ. قال: وفي قسمتها قولان، أي: مع العلم بالدين، ينبنيان على القولين السابقين، فإن قلنا ببطلان البيع لم تصح القسمة، وإلا صحت، وهو ما اختاره في "المرشد". وقد أفهم كلام الشيخ: أن على [هذين] القولين ينبني نقض القسمة في مسألة الكتاب، وهي ظهور الدين بعد القسمة، فإن قلنا: إن القسمة لا تصح مع العلم بالدين، فإذا بان الدين بعدها، تبين بطلانها. وإن [قلنا:] تصح مع العلم بالدين، فإذا بان بعدها لم تنقض. وقد صرح القاضي الحسين والفوراني بحكاية القولين في نقض القسمة بعد ظهور الدين، وكذلك مجلي، وقال: إنه لا فرق فيما ذكرناه بين وقوع القسمة والبيع مع العلم بالدين، أو مع جهله. وقال الفوراني: إنهما يقربان من القولين في إقرار المحجور عليه بمال قد لزمه قبل الحجر. [قال]: ووجه القرب والشبه: أن نقض هذه القسمة إنما هو بسبب متقدم. وقال القاضي الحسين: إنهما يبنيان على [أن] الدين هل يمنع الإرث أم لا؟ فإن قلنا: يمنع، نقضت، وإلا لم تنقض. وقضية ما حكيناه عن الإمام، وأشار إليه [أيضاً]- هاهنا: أنا إذا قلنا: [إن] الدين يمنع الإرث [تنقض] قولاً واحداً، وأن محل القولين إذا قلنا: إن الدين لا يمنع الإرث، وهو قضية كلام القاضي في آخر الفصل؛ حيث قال: إن أصل

القولين تصصرفات المفلس بالعتق والبيع والهبة، هل هي باطلة، أو موقوفة حتى إذا فك الحجر [عنه] تبينا أنها كانت نافذة؟ وفيها قولان؛ لأن القسمة تصرف مع تعلق حق الغير بالمتصرف فيه: كتصرفات المفلس انتهاء؛ فإنه لا [يحسن أن] يلحق تصرف الورثة بتصرف المفلس إلا إذا قلنا: إنهم ملكوا. ثم قضية البناء الذي ذكره القاضي: أن يكون الصحيح عدم النقض؛ لأن الصحيح أن الدين لا يمنع الإرث. وحكم ظهور الوصية بمائة درهم من التركة غير معينة، حكم ظهور الدين الثابت على الميت فيما ذكرناه؛ صرح به القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، والماوردي، وغيرهم. قال في "البحر": وكذا حكم حدوث دين على الشخص بعد موته وبعد القسمة. وأراد بذلك: ما إذا كان قد باع شيئاً، وأكل ثمنه، فرد بالعيب بعد الموت، ولزم رد بدل الثمن، أو تردى مترد في بئر كان قد احتفرها عدواناً. لكن قد حكى الغزالي في هذه الصورة في كتاب الرهن وجهين- بناء على قولنا في الدين المقارن: [إنا نتبين] بطلان التصرف: [أحدهما: أنا نتبين بطلان التصرف] في هذه الصورة- أيضاً- لتقدم السبب. والثاني- وهو أظهر في "الرافعي"-: أنا لا نتبين؛ لأنه كان مسوغاً [لهم] ظاهراً. أما إذا كان الدين لا يحيط بالتركة، فهل يكون الحكم كما لو كان محيطاً بها؟ فيه وجهان حكاهما الغزالي في كتاب الرهن: أظهرهما- كما قال الرافعي-: نعم؛ كما هو قياس الديون والرهون، ولم يحك في "الحاوي" في كتاب الشركة سواه؛ حيث جزم القول بأنهم لا يتصرفون في شيء منها وإن كان في باقيها وفاء بالديون. والثاني: لا، وينفذ تصرف الوارث إلى ألا يبقى إلا قدر الدين؛ فيكون الحكم فيه

كما في حال الإحاطة، ووجهه: أن الحجر في المال الكثير بشيء حقير بعيد، مع أنه لا تخلو تركة عن دين. فروع- تتعلق بما نحن فيه-: أحدها: إذا أعتق الورثة بالقرعة واحداً من العبيد الثلاثة، وظهر دين- قال القاضي الحسين هاهنا: ففيه قولان: أحدهما: تنقص الحرية، ويعين واحد من الثلاثة للبيع في الدين؛ ثم يقرع بين الباقيين، فمن خرجت قرعته [عتق] منه ثلثاه، ورق ثلثه. قال: وفيه إشكال. والقول الثاني: لا تنقص، بل يباع واحد من الرقيقين في الدين، [ثم يقرع بين الباقي وبين من حكمنا بحريته، فمن خرجت قرعته عتق منه ثلثاه. الفرع الثاني: إذا أعتق الوارث العبد قبل قضاء الدين]، قال الإمام في كتاب العتق: إن قلنا: لا ملك له، لم ينفذ. وعلى هذا لا يتجه لنا أن نقول: التركة ملك لا مالك له، بل هي مقررة على ملك الميت، ولا مطمع في إضافة الملك فيها إلى مستحق الدين. وإن قلنا: إن الملك له، قال الشيخ- يعني أبا علي-: فإن كان معسراً لا يمكنه أن يؤدي الدين من ماله، فلا ينفذ عتقه قولاً واحداً، وكان شيخي يخرج عتقه على عتق المرهون. والأوجه: ما ذكره الشيخ؛ فإن حق الوثيقة طرأ على ملك تام للراهن، ثم دام الملك له، والوارث يتلقى الملك بالخلافة وهي مشروطة بتقديم حق الميت. وإن كان موسراً، ففي نفوذ عتقه قولان: أحدهما: ينفذ، ويلزم. والثاني: أنه موقوف، فإن وصل الدين إلى مستحقه بان أن العتق نفذ مع لفظ الإعتاق، وإلا فالرق باق. ثم من كلام الشيخ: أنا إذا أنفذنا العتق، نقلنا الدين بالغاً ما بلغ إلى ذمة الوارث، ولست أرى الأمر كذلك، فالدين لا يتحول إلى ذمة الوارث قط، بل هو بالإعتاق

متلف للعبد؛ فلا يلزمه إلا أقل الأمرين من الدين وقيمة العبد. الفرع الثالث: إذا أنفذنا بيع الوارث، وقلنا: يلزم، فقد قال الشيخ: إذا سلم المشتري الثمن إلى الوارث، وتلف في يده- فللغرماء أن يطالبوا المشتري بالثمن؛ فإنه كان من حقه أن يسلمه إليهم؛ فإذا لم يفعل توجهت المطالبة عليه. قال الإمام في كتاب العتق: وفي كلامه ما يدل على أنهم يطالبون الوارث بالثمن، فإن تعذر رجعوا إلى المشتري، والوجه القطع بأنهم [لا] يطالبون المشتري؛ فإنا إذا ألزمنا بيع الوارث، فبيعه بمثابة إعتاقه، وإذا أعتق فلا عوض، ولا مستدرك له إذا نفذ. نعم، هذا يضعف الوجه الذي عليه التفريع. قال: وإن كان بينهم نهر، أو قناة، أو عين ينبع فيها الماء، فالماء- أي: الكائن في ذلك- بينهم على قدر ما شرطوا من التساوي أو التفاضل. صورة ذلك: أن يشترك جماعة في حفر نهر أو قناة إلى جانب النهر الكبير المباح: كالفرات، والدجلة، ونحوهما؛ ليجروا منه الماء إلى ذلك، أو يحفروا عين ماء؛ لينتفعوا بذلك الماء، فإذا فعلوا ذلك، فقد ملكوا ما حفروه إذا هيئوه لما أرادوا؛ كما تقدم في بابه، ويكون ملكهم على قدر ما [شرطوه] في ابتداء الحفر، وأخرجوه من النفقة؛ [لأنه إنما ملك بالعمارة، والعمارة بالنفقة]، فكان الملك موزعاً عليها، فإن أنفقوا على السواء ملكوه على السواء، وإن أنفق واحد نصف النفقة، واثنان نصفها بالسوية، كان للأول النصف، ولكل [واحد] من الآخرين الربع، وهكذا. فإذا تقرر ذلك، وحصل الماء في المحفور، كان بينهم على قدر أملاكهم، لأنه المقصود بالحفر؛ فملكوه بعد الوصول إليه؛ كما لو حفروا معدناً باطناً، فوصلوا إلى نيله؛ فإنه يكون بينهم على حسب ما أنفقوه. وقيل: إن الماء لا يملك؛ لأنه لو ملك لم يبح لمستأجر الدار التي فيها بئر

شرب مائها؛ لأن الأعيان لا تستباح بالإجارة، ولما جاز بيع دار فيها بئر بدار فيها بئر؛ لأن الربا يجري في الماء لكونه مطعوماً، ولما جاز ذلك [دل] على أنه غير مملوك؛ فعلى هذا يكونون أحق بالماء الجاري في النهر والقناة، والنابع في العين من غيرهم. لكن لو تعدى شخص، وأخذه، فقد ملكه، وليس عليه رده. قال القاضي أبو الطيب، كما لو توحل في أرض الغير صيد، فليس لغيره أخذه، فإن تخطى وأخذه، ملكه. ومن أراد تحصيل شيء [من ذلك]، فالحيلة فيه: أن يشتري سهماً من نفس النهر، والقناة، [والعين] والبئر. قال: والمذهب الأول؛ لما ذكرناه ولجريان العادة بالتصرف فيه التصرف المشروع في الأملاك من غير إنكار. قال القاضي أبو الطيب: وهذا القول نص عليه في القديم. والجواب عن قولهم: إنه لو كان مملوكاً، لم يبح بالإجارة؛ لكونه عيناً- أن الأعيان قد تستباح بالإجارة؛ للحاجة: كاللبن في الاستئجار على الرضاع، مع أنه لا ضرر على الآجر في استيفاء الماء؛ لأنه يستخلف في الحال، وما لا ضرر على المالك في استيفائه ليس له منعه؛ كالاستظلال بالحائط. وعن دليلهم الثاني: أنا نمنع كون الماء ربوياً، وإن سلمناه فنمنع صحة البيع في الصورة التي ذكروها كما حكيناه في بابه. فرع: لو تنازعوا في قدر الملك في النهر والقناة، ففي "التتمة": حكاية وجهين فيه: أحدهما: أنه يقسم على قدر الأراضي؛ لأن المقصود من النهر سقي الأراضي، والظاهر أن حقوقهم على قدر أملاكهم، وهذه طريقة الإصطخري. والثاني: يقسم بالسوية؛ لأن انحفاره باليد لا بالملك، والنهر في أيديهم. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الخلاف في ملك الماء وعدم ملكه، جار في

الصور الثلاث، وقد قال القاضي أبو الطيب: إن الماء المختلف في كونه مملوكاً هو كل ما ينبع في ملكه من بئر أو عين، وأما الماء الجاري في النهر المملوك، فلا يملك؛ كما إذا جرى الفيض إلى ملك رجل، واجتمع فيه، ولم يملكه، ولكن يكون أهل النهر أولى به؛ لأن يدهم عليه، وليس لأحد أن يزاحمهم فيه؛ لأن النهر ملك لهم. وعلى هذا جرى ابن الصباغ، والمتولي، والبغوي، وكلام الإمام موافق لكلام الشيخ؛ فإنه قال: إن الماء الذي يجري في النهر المملوك كماء القنوات مملوك على الرأي الظاهر لمالك القناة، وكل من تصرف فيه بما ينقصه ويظهر نقصه، فهو ممنوع منه، وما لا يظهر له أثر: كالشرب، أو كسقي دواب معدودة، وكأخذ قرب- فقد ذهب ذاهبون: أنه لا يسوغ المنع من هذا القدر. قال الإمام: وهذا بعينه هو الذي نقلته عن شيخي، وأنكرته، وكأنه انتفاع بما هو مملوك. وذهب القاضي وطبقته [من] المحققين إلى إجراء القياس والمصير إلى أن للملاك أن يمنعوا من هذا، وما درج عليه الأولون من التسامح فيه محمول على أن الناس لا يضنون بهذا القدر؛ فصارت قرائن الأحوال بمثابة التصريح بالإباحة. قال: فإن أرادوا سقي أراضيهم من ذلك الماء بالمهايأة، جاز، أي: فيجعل لكل منهم شرب يوم معلوم؛ كالمهايأة في المنافع، ويخالف المهايأة، في لبن الشاة والبقرة- كما ذكرنا- لأن ذلك مجهول، وهذا ما جزم به [في] "التهذيب". وعن القاضي الحسين: أن المهايأة لا تصح في الماء- أيضاً- لأن النوب تختلف من وجهين: أحدهما: أن الماء يزيد وينقص. والآخر: أنها تتفاوت في حاجات الدهقنة، فليس ما يقع من النوبة الأولى كما يقع في النوبة الأخيرة. ثم على الأول: إذا صحت، فهل تلزم؟ حكى الإمام فيها وجهين، وعند الاختصار

يجتمع في المسألة ثلاثة أوجه. قال: وإن أرادوا القسمة جاز؛ لأن بكل من ذلك يصلون إلى حقوقهم. قال: فينصب- قبل أن يبلغ إلى أراضيهم- خشبة مستوية، ويفتح فيها كوى على قدر حقوقهم، ويجري فيها الماء إلى أراضيهم؛ لأن ذلك هو العدل. وإذا [كان] فيهم شخص له العشر، ولآخر الخمس، ولآخر الباقي- جعل فيها عشر طاقات على السواء، وجعل لصاحب العشر واحدة، ولصاحب الخمس طاقتين، والباقي للآخر، وهكذا. وهذا إذا كان في الماء ضيق، أما إذا كان فيه اتساع بحيث يحصل لكل منهم فوق حاجته، فلا حاجة إلى ذلك. [تنبيه] وقول الشيخ: "ويفتح كوى"، هو بكسر الكاف، وضمها مع التنوين فيهما، وأجود منهما: كواء، بكسر الكاف والمد، وقد سبق إيضاح الكلمة في باب الصلح. قال: وإن أراد أحدهم أن يأخذ قدر حقه قبل أن يبلغ إلى المقسم ويجريه في ساقية له، أي: بمجراه، إلى أرضه، أو يدير به رحى- أي: بالساقية المذكورة- لم يكن له ذلك؛ لأن حريم النهر مشترك بينهم؛ فلا يجوز لواحد منهم أن ينفرد بالتصرف فيه بالسقي وإجراء الماء. نعم، لو أراد أن يدير بما فضل له من الماء المختص به رحى في ملكه، لم يمنع [منه]؛ صرح به في "التهذيب". تنبيه: المَقْسِم: مفتوح الميم مكسور السين؛ كـ"المجلس"، وكذا سائر ظروف الزمان والمكان التي ثالث مضارعها مكسور، أو أولها واو أو ياء- بالكسر: المَجْلِس، والمَصْرِف، والمَوْعِد، والمَوْقِف. قال: وإن أراد أن يأخذ الماء، ويسقي أرضاً ليس لها رسم شرب من هذا النهر- لم يكن له؛ لأنه يجعل لنفسه شرباً لم يكن له؛ فمنع منه؛ كما لو كانت له دار في درب غير نافذ، فاشترى داراً في درب آخر طريقها منه، فأراد أن ينفذها إلى الدار الأخرى- لم يكن له؛ لأنه يجعل لنفسه استطراقاً لم يكن إلى إحدى الدارين

من الأخرى؛ كذا قاله الشيخ أبو حامد. قال ابن الصباغ: وهذا وجه جيد، غير أن الذي شبه به قد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من جوزه، لكن يمكن على هذا أن يفرق بينها وبين الأرض؛ لأن الدار لا يستطرق منها إلى [الدرب، وإنما يستطرق منها إلى] الأخرى، ومن الأخرى إلى الدرب، وهاهنا يحمل الماء في الساقية إليها؛ فيصير لها رسم في الشرب. وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه يجوز له أن يسقي بهذا الماء بعد القسمة أرضاً أخرى، وقال: إنه شبيه بالوجه المجوز لفتح باب بين الدارين. وقد تقدم الفرق بينهما. نعم، قال ابن الصباغ: لو أراد أن يفعل مثل هذا في النهر الذي ليس بمملوك، فينبغي أن يجوز. تنبيه: الشرب- بكسر الشين-: النصيب من الماء، وهو المراد هنا، وأما مصدر شرب يشرب، [فهو بضم] الشين، وفتحها، وكسرها، ثلاث لغات. قال: وإن كان ماء مباح في نهر غير مملوك- أي: وهو صغير، قال الماوردي: [وقد] يسمى: ساقية- سقى الأول أرضه حتى [يبلغ إلى الكعب]، ثم يرسله على الثاني، وهكذا يسقي الثاني أرضه حتى يبلغ إلى الكعب، ثم يرسله إلى الثالث، ويقدم الأقرب إلى أول النهر، فالأقرب. والأصل في اعتبار ذلك حديثان: أحدهما: ما روي أن رجلاً خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه الزبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك"؛ فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك!! فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر". والثاني: ما روى أبو داود: أن رجلاً من قريش كان لهم سهم في بني قريظة،

فخاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهر، والسبيل الذي يسقون ماءه، فقضى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ الْمَاءَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يَحْبِسُهُ الأَعْلَى عَنِ الأَسْفَلِ؛ كَيْ يُرْسِلَهُ إِلَيْهِ". فالحديث الأول دل على اعتبار الأقرب فالأقرب، إذا استكفى يرسله إلى جاره، والثاني دل على ذلك، وعلى اعتبار الكعبين. وقد يستدل للمجموع بما روى عبادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في شرب النخل من السبيل إلى الأعلى أن يشرب قبل الأسفل، ويجعل الماء فيه إلى الكعبين، ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه، وكذلك حتى تنقضي الأرضون. وقد تقدم شرح ألفاظ الحديث [الأول]، وذكر رواية في كتاب الأقضية، وتكلم الأصحاب هاهنا في تأويل قصة الزبير: فقال بعضهم- كما حكاه ابن الصباغ-: إنما أمر الزبير بأن يستوفي أكثر من حقه؛ عقوبة للأنصاري؛ حيث لم يرض بقضائه. وقال أبو جعفر الترمذي: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد استنزل الزبير عن بعض حقه حين أذن له أن يسقي ولا يحبس الماء، فلما لم يقبل الأنصاري ذلك، أمره أن يستوفي حقه؛ وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب، وهو الأشبه. فإن قيل: ففي الحديث الآخر: أنه علق الحق بأن يبلغ الماء إلى الكعبين، وهذا مخالف لذلك. قال القاضي أبو الطيب: قلنا: ليس فيهما خلاف؛ لأن الماء إذا بلغ إلى الكعبين، وكانت الأرض مستوية، رجع الماء إلى الجدر. وما ذكره الشيخ هو المشهور. وفي "التتمة": أن المرجع في قدر السقي إلى العرف والعادة، فإن كان الذي ملكه في أول النهر بستاناً والأشجار مغروسة على جداول؛ [فيحبس الماء حتى تمتلئ الجداول، ويصل إلى أصول الأشجار، وإن كانت الأرض قطعاً] فيحبس الماء حتى يصل إلى الكعبين.

قال: وإن احتاج الأول إلى سقي أرضه دفعة أخرى قبل أن [يرسل إلى] الثالث، سقى، ثم يرسل إلى الثالث، لأنه لا حق للثالث إلا فيما فضل عن حاجة الأول والثاني؛ ولهذا قال الأصحاب- كما حكاه أبو الطيب-: إن كان زرع الأسفل يهلك إلى أن ينتهي الماء إليه، لم يجب على من فوقه إرساله إليه. ولو كان ماء هذا النهر يفضل عن حاجة أهله فلبعضهم أن يسوقه إلى أرض أخرى [له]، وأن يجعل مفيض أرض له أخرى إلى هذا النهر. قال في "الحاوي": لأنه ليس بمملوك لواحد منهم؛ فصار كالطريق النافذ الذي يجوز استطراقه لكل واحد، وأن يفتح فيه باباً. ويجوز أن يجعل على عرض النهر عبارة للماء؛ إذا لم تضر بأحد من أهله: كالساباط على الطريق النافذ، بخلاف النهر المملوك؛ فإنه لا يجوز ذلك؛ لأن فيه وضع شيء على ملك الشريك بغير إذنه، وهو جانبا النهر. قال: وإن كان لرجل أرض عالية، وبجنبها أرض مستفلة، ولا يبلغ الماء في العالية إلى الكعب، حتى يبلغ في المستفلة إلى الوسط- سقى المستفلة حتى يبلغ [الماء إلى] الكعب، ثم يسدها، ويسقي العالية؛ لأن هذا يحصل مقصوده من غير إضرار بغيره؛ فاتبع. قال: وإن أراد بعضهم أن يحيي أرضاً، ويسقيها من هذا النهر- أي: الصغير- الذي ليس بمملوك لأحد، ولجماعة شرب معلوم منه. قال: فإن كان لا يضر بأهل الأراضي – أي: التي لها شرب معلوم منه- بأن يكون في أسفل النهر- لم يمنع؛ لأنه ينتفع به من غير إضرار بغيره؛ فأشبه النهر الكبير: كالفرات، والدجلة، والنيل، وسيحون، وجيحون؛ فإن لكل أحد أن ينتفع بمائه كيف شاء، وليس لأحد منعه؛ فإنه لا ضرر على أحد فيه؛ لاتساعه. قال: وإن كان يضر بهم، أي: بأن كانت الأرض في أعلاه، وإذا سقيت قل الماء

على أهل الأراضي؛ فيستضرون به- منع؛ لأن [من] ملك أرضاً ملكها بمرافقها، والشرب من النهر من مرافقها؛ فلا يجوز مضايقة ملاكها فيه؛ وهكذا الحكم في مياه الأعين المباحة. فرع: لو كان النهر الصغير غير معروف الأصل، هل هو مباح أو مملوك- قال في "الحاوي": فقد اختلف أصحابنا، هل يجري عليه حكم الإباحة أو حكم الملك؟ على وجهين: أحدهما: أنه في حكم المباح، وهو قول من جعل أصل الأشياء على [الإباحة. والثاني: أنه مملوك، وهو قول من جعل أصل الأشياء] على الحظر، ولم يحك المتولي سوى هذا؛ لأن كل من له أرض على الحافة، فله عليه يد، وفرع على هذا فرعين: أحدهما: أنه إذا كان بالقرب من النهر أرض يمكن سقيها من النهر: إما على الحافة، أو متصلة بأرض على الحافة- فإن رأينا ساقية مادة من النهر إليها، يحكم بأن لها شرباً من النهر؛ لأن الظاهر يدل عليه. وإن لم يكن هناك ساقية: فإن كان لها شرب من نهر آخر، لم نجعل لها شرباً من النهر عند التنازع. وإن لم يكن لها شرب آخر، كان صاحبها شريكاً لأهل النهر؛ لأن الأرض المعدة للزراعة لا تستغني عن شرب، وليس للأرض شرب آخر؛ فدل ظاهر الحال [على] أن شربها من النهر. الثاني: إذا كان للنهر نصيب في أجمة مملوكة، وحوالي النهر أراض مملوكة، فوقع التنازع بين أرباب الأراضي وصاحب الأجمة في الماء- فهو مقسوم بين الجميع؛ لأنا جعلنا البئر مملوكاً لأهله، فلم يختص البعض بالماء. وقد نجز شرح ما في الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به: أحدها: إذا ملك أرضاً، وأراد زراعتها، ولا يمكن ذلك إلا بأن يسوق الماء في أرض جاره، فإن أراد أن يحفر نهراً على وجه الأرض- لم يجب على الجار تمكينه من ذلك، فإن أراد أن يحفر تحت الأرض طريقاً للماء إلى أرضه من غير أن يتعطل\

على مالك الأرض الانتفاع بظاهر الأرض، فهل يلزمه تمكينه؟ فيه وجهان في "التتمة" في كتاب إحياء الموات، والصحيح: أنه لا يلزمه. الفرع الثاني: إذا كان لصاحب الأرض نهر ممدود في الأرض إلى طرف ملك جاره، وليس لجاره نهر يجري الماء فيه إلى أرضه، فأراد إجراء الماء في نهر جاره إلى أرضه- فإن كان صاحب النهر يحتاج إلى إجراء الماء [فيه]، لم تلزمه إجابته، وإن لم يكن محتاجاً إلى سوق الماء فيه- فهل تلزمه إجابته؟ فيه الوجهان، ووجه الوجوب: القياس على مسألة الجذوع، والمذهب: أنه لا يلزمه؛ كما لو كان له دار لا يحتاج إلى سكناها. الفرع الثالث: إذا زاد النيل أو الفرات، ونحوهما، فدخل أملاك الناس، واجتمع فيها- قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبغوي: لم يملكوه؛ لأنه لو نزل مطر [واجتمع] في ملكه، أو ثلج فمكث، أو فرخ طائر في بستانه أو توحل طير في أرضه- لم يملكه، وكان لمن حازه؛ فكذلك الماء. وعلى هذا: إذا دخل واحد، وأخذ منه شيئاً في إنائه، ملكه على أصح الوجهين في "التهذيب". وفيه وجه آخر: أن لصاحب الملك أن يسترده؛ كما قالوا في فرخ الطائر، والله أعلم.

باب الدعاوى والبينات

باب الدعاوى والبينات "الدعوى" في اللغة: الاسم من "الادعاء"، و"الادعاء" على ميزان "الافتعال" من "الدعوة" وتاء الافتعال للاختصاص؛ فكأن المدعي دعا المدعي عليه إلى نفسه دعوة اختصاص. والمدعي- لغة-: كل من ادعى لنفسه شيئاً، سواء كان في يده أو لم يكن، وسواء كانت دعواه توافق الظاهر أو تخالفه. وأما شرعاً: فسيأتي الكلام فيه. قال البندنيجي: والمدعى عليه- لغة وشرعاً-: من ادُّعِيَ عليه شيء في يده، أو حق في ذمته. وقيل: إن الدعوى في اللغة: هي التمني، قال الله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57]، أي: ما يتمنون، وهذا ما أورده في "التهذيب". وقال في "الإشراف": تفسير الادعاء بالتمني هو قول المفسرين، وليس حداً على شرط اللغة. ويقال: ادعيت على فلان كذا ادعاءً. والبينات: جمع البينة، وهي الموضحة، وسميت الشهود: بينة؛ لأنه يتبين بهم الحق ويظهر ويتضح؛ قال الله تعالى: {حَتَّى تَاتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1]، أي: الموضحة. والأصل في هذا الباب: ما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم "قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ". قال أبو داود والترمذي: وفيه إثبات الدعوى؛ إذ لا يكون مدعى عليه إلا بعد وجود الدعوى. وما روى البخاري عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضِ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيءٍ مِنْ حَقِ أَخِيْهِ فَلَا يَاخُذْهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ"؛ والذي يسمعه

منهما إنما هو دعوى وجواب. وقد روى مسلم عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعَاوِيهِمْ، لادَّعَى نَاسُ دِمَاءَ نَاسٍ وَأَمْوَالَهُمُ، لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيهِ". قال في "الإشراف": وإنما جعلت البينة في جانب المدعي، واليمين في جانب المدعى عليه؛ لأن البينة حجة قوية بالبراءة عن التهمة، واليمين حجة ضعيفة؛ إذ الحالف متهم في يمينه بالكذب؛ [إذ] هو يستجلب باليمين منفعة إلى نفسه، والشاهد جلي عن التهمة؛ لأنه لا يجلب إلى نفسه خيراً، ولا يدفع عنها ضرراً. وجانب المدعي ضعيف؛ لأنه ادعى على مخالفة الظاهر ديناً في ذمة غيره، أو عيناً في يده، والمدعى عليه أثبت على موافقة الظاهر فراغ ذمته عن الدين، والملك فيما احتوت يده عليه؛ فوضعت الحجة القوية في جانب الضعيف؛ لينجبر ضعف الجانب بقوة الحجة، ووضعت الحجة الضعيفة في جانب القوة؛ لينجبر ضعف الحجة بقوة الجانب. قلت: وهذا الذي ذكره مستقيم على قولنا: إن المدعي من يذكر أمراً يخالف الظاهر، والمدعى عليه من يوافق قوله الظاهر. وقد اختلف الأصحاب في حد المدعي والمدعى عليه فيما اصطلح عليه الفقهاء: فمنهم من قال: المدعي والمدعى عليه من المتخاصمين من ذكرناه، وهو ما ادعى الرافعي: أنه أظهر عند الروياني، والذي يشعر به لفظ "المختصر"، ويقتضيه كلام أكثر الأصحاب. ومنهم من قال: المدعي منهما: من لو سكت بعد ما أبداه، لترك [و] سكوته، والمدعى عليه: من إذا سكت لم يترك وسكوته، بل يطالب بالجواب عند المنازعة. قال في "البحر": ومن أصحابنا من قال: حقيقة مذهبنا: أن من أضاف ملكاً أو حقاً

إلى نفسه، أو زعم سقوط حق عن نفسه- فهو مدع، ومن اقتصر على مجرد النفي فهو المدعي عليه؛ ولهذا قبلنا بينة ذي اليد؛ لأنه يضيف ملك الدار التي في يده إلى نفسه؛ كما يضيف الخارج؛ وهذا راجع إلى القول الأول. [ثم] قال الروياني: وإن شئت قلت: من زعم إذا شهد الشاهد: أن شهادته استندت إلى علم فهو مدع، ومن زعم ما لا يتصور عليه الشهادة، ولا يستند قول الشاهد فيه إلى علم، فهو مدعى عليه، وقد يتفق أن يكون الشخص الواحد مدعياً ومدعى عليه، و [هو] في المتبايعين إذا اختلفا فيما يوجب التحالف. وكذا قاله البندنيجي، وغيرهما. وهذا الاختلاف المذكور لا يختلف موجبه في الأغلب؛ فإنه لو ادعى زيد على عمرو ديناً في ذمته، أو عينا في يده، وأنكر- فزيد هو الذي يدعي خلاف الظاهر؛ لأن الظاهر براءة ذمة عمرو، وفراغ يده عن حق غيره، وهو الذي سكت لترك وسكوته، وعمرو إنكاره لما ادعي عليه موافق للظاهر، ولو سكت لم يترك وسكوته. نعم، أثر الاختلاف يظهر فيما لو أسلم زوجان قبل المسيس، واختلفا: فقال الزوج: أسلمنا معاً، والنكاح باقٍ [بيننا]؛ وقالت المرأة: [بل] على التعاقب، ولا نكاح بيننا. فإن قلنا: إن المدعي من يذكر أمراً على خلاف الظاهر، والمدعى عليه من يذكر أمراً على وفق الظاهر- فالمدعي هاهنا الزوج؛ لأن التساوق الذي يزعمه يندر وقوعه، والمرأة هاهنا مدعى عليها؛ لموافقة قولها الظاهر؛ فيكون القول قولها؛ فتحلف، وينفسخ النكاح. وإذا قلنا: المدعي من لو سكت ترك وسكوته، والمدعى عليه من إذا سكت لا يقنع منه بالسكوت- فالمدعي هاهنا: المرأة؛ لأنها لو سكتت تركت، واستمر النكاح، والزوج مدعى عليه، لأنه لا يترك لو سكت؛ لأنه يحاول بسكوته استبقاء النكاح، والتنازع وقع في الانفساخ؛ فالزوج الساكت منكر، وهي مسلطة على

تكذيبه بالبينة؛ وعلى هذا فيحلف، ويحكم باستمرار النكاح؛ كما هو الأصح في "التهذيب". وكذا يظهر أثر الخلاف [في] تشطير المهر إذا ادعى الزوج أن المرأة أسلمت قبله، وادعت أن إسلامهما وقع معاً. وأما بالنسبة إلى بقاء النكاح وفسخه فلا؛ لأن الاعتماد فيه على قول الزوج، وهو مقر بالانفساخ. وقد قال القاضي الحسين بعد تقرير ما ذكرناه: إنه يشكل على من قال بالأول دعوى المودع التلف أو الرد إلى المالك؛ فإن دعواه مخالفة للظاهر، ومع هذا جعلنا القول قوله. ثم قال: إلا أن هاهنا أصلاً آخر، وهو بقاء الأمانة، والمودع يدعي الخيانة؛ ففي الحقيقة يصير المودع مدعياً والمودع مدعى عليه الخيانة. وفي "الرافعي": أن أبا الحسن العبادي، قال: دعوى المودع توافق الظاهر؛ لأن المالك قد ساعد. على الأمانة؛ حيث ائتمنه فهو يستبقي الأمانة، وهو يزعم ارتفاعها؛ فكان الظاهر معه. قال الإمام: وقد أخذ الإصطخري هذا المسلك في الظهور والخفاء، ورد دعاوى قبلها كافة الأصحاب، وقال: إذا ادعى رجل من السفلة معاملة رجل عظيم القدر في أمر يبعد وقوعه، فدعواه مردودة، وهو كما إذا ادعى الرجل الخسيس: أنه أقرض ملكاً مالاً، أو نكح ابنته، أو استأجره لسياسة دوابه، أو ما جرى هذا المجرى، وهذا مردود. والذي ذكره لا تعويل عليه، ولا يسوغ في الدين تشويش القواعد بأمثال هذا [الوسواس]، ثم ما ذكره رد دعوى بظن، وأما الذي كنا فيه تعيين المدعي والمدعى [عليه، فرد] ذلك إنما يتعلق بأمارات تغلب على الظنون. واعلم أنه قد يوهم إيراد الغزالي أن الخلاف الذي ذكرناه في حد المدعي والمدعى عليه- قولان منصوصان، ويقويه أن الفوراني قال: اختلف قول الشافعي في

صورة المدعي والمدعى عليه، وحده، فقال في موضع: [المدعي] من يدعي أمراً باطناً، والمدعى [عليه] من يدعي أمراً ظاهراً. وقال في موضع: المدعي من إذا سكت ترك وسكوته، والمدعى عليه من لا يترك وسكوته. لكن الذي حكاه القاضي الحسين: أن القولين استنبطهما القفال من اختلاف قول الشافعي في مسألة إسلام الزوجين، وقد ينبه الخلاف في الفروع على الخلاف في الأصل المبني عليه إذا لم يمكن تخريج ذلك إلا على أصل واحد. وتبعه الإمام والبغوي في ذلك؛ ولأجله ادعى الرافعي أنه المشهور، ثم اعترض على ذلك بأمور. فقال في الأول منها: إنه يمكن أن يعكس ما ذكروه من البناء، ويقال: [إن قلنا: إن المدعي من يترك وسكوته، فالمدعي في مسألة اختلاف الزوجين إنما هو الزوج؛ لأن النكاح حقه، فلو تركها ولم يطلبها ترك، وهي لا تترك لو سكتت وأعرضت. وإن قلنا: إن المدعي من يذكر خلاف الظاره، فهي المدعية؛ لأنها تزعم ارتفاع النكاح، والظاهر دوامه. والثاني: ما المعنى بالظاهر في قولنا: إن المدعي من يخالف الظاهر، أيعني به مطلق ما يدل عليه، أم يعني به الظن الأرجح والأغلب، أم استصحاب ما كان من وجود أو عدم؟ إن عنينا الأول، لزم أن يكون لكل واحد من المتداعيين أبداً؛ لأن دليلاً ما يدل على [صدق] هذا، وآخر يدل على براءة هذا. وإن عنينا الظن الأغلب والأرجح، فهذا يختلف بالأشخاص والأحوال والقرائن الواقعة في الحادثة: فتارة يكون الأغلب على الظن صدق الطالب، وأخرى صدق المنكر. وإن عنينا استصحاب ما كان، فلم تجعل المرأة مدعى عليها إذا قلنا: إن المدعى عليه من يوافق الظاهر، وهي لا تستصحب شيئاً، بل تترك استصحاب [الأصل] الذي كان؟

والثالث: لا شك أن التنازع في كيفية الإسلام ليس معيناً لعينه، وإنما الزوج يبغي استدامه النكاح في الصورة الأولى، وهي تزعم ارتفاعه؛ فيشبه أن يقال: كل واحد منهما مدع بشيء، فأما الزوج فإنه في استدامة النكاح وطلب طاعتها كطالب مال من غيره، وأما هي فرافعة؛ كمن يقول: إنك أبرأتني، [أو: إني] أديته. فإن قلنا: يحلف الزوج، فهو قياس دعوى الروافع. وإن قلنا: تحلف المرأة، فسببه تقوي جانبها بظاهر الحال وإن كانت مدعية؛ كما يحلف المودع على الرد والهلاك وإن كان مدعياً، وهذا [طريق] يغني عن تخريج القولين على الأصل المذكور. قال- رحمه الله-: لا تصح الدعوى إلا من مطلق التصرف فيما يدعيه. قال ابن الخل: لأن صحة التصرف علم الأهلية، وهي مستفادة بإطلاق التصرف. ولأن المقصود بالدعوى التسلط على المدعى به؛ فاشترط أن يكون من أهل التصرف فيه. وقضية هذا: أن تسمع دعوى السفيه بالدم، وله أن يحلف، ويحلف؛ إذ له أن يستوفي القصاص، ويعفو عنه، لكنه إذا آل الأمر إلى المال لا يقتضيه، بل يأخذه الولي، وقد صرح به الأصحاب. وألا تسمع دعواه في المال؛ لأنه ليس بمطلق التصرف فيه، و [هو] ما حكاه القاضي الحسين في باب الامتناع من اليمين، قال: لأنه يقبح أن يدعي ويقول: أيها الحاكم، أدعي عليه ألف درهم يجب عليه تسليمها إلى قيمي. وقد قال الرافعي والماوردي في كتاب القسامة: إنها تسمع منه، ويحلف، [ويحلف] والولي يأخذ المال إذا وجب، ولم يحك غيره. وكذلك قضيته: ألا تسمع دعوى شخص بأن هذا العبد كان له وأعتقه، وغصبه فلان، وقد قال: إنها تسمع.

و [كذا] قضيته: ألا تسمع دعوى المرأة بالنكاح؛ لأنها غير مطلقة التصرف فيه، وقد قال الأصحاب: إنه [إن] اقترن بدعواها به دعوى مهر أو نفقة ونحوها، سمعت بلا خلاف، وإن ادعت به مجرداً ففي السماع وجهان في "المهذب" وغيره: وجه المنع- وهو الأصح في "الوجيز" هنا-: أنها مقرة لغيرها بالحق؛ فكيف تسمع دعواها به؟ وعلى هذا: لو كانت لها بينة، لم تسمع؛ لأن سماعها فرع قبول الدعوى. ووجه الجواز- وهو [ظاهر النص] في "الأم"، والأصح في "المرشد" و"البحر" و"الوسيط" في كتاب النكاح، وإليه جنح الأكثرون، ومنهم الماوردي-: أنه سبب الاستحقاق؛ فهو حق. وعلى هذا: [لها] أن تقيم البينة على النكاح إن سكت الزوج، وأصر عليه. ولو أنكرها، قال الإمام: فهل تبطل الدعوى؟ فعلى وجهين مبنيين على أن الزوج إذا أنكر الزوجية، ثم اعترف بها، فهل يقبل اعترافه، أم يمتنع عليه إثبات النكاح بد تقديم إنكاره؟ وفيه خلاف مطرد في كل من أنكر ملكاً أو حقاً، ثم زعم أنه غلط في إنكاره، وعاد إلى ادعائه: فإن قبلنا اعترافه، ومكناه من غشيانها، فلا تبطل الدعوى بإنكاره، ويترتب على الدعوى حقوقها المالية، وتتمكن من إقامة البينة. وإن قلنا: لا يقبل اعترافه، فلا سبيل إلى إثبات النكاح [عليه] فيما يتعلق به، ولكن هل تثبت حقوقها المالية؟ فيه احتمال وتردد. وحكى قبل ذلك أن صاحب "التقريب" حكى وجهاً ثالثاً، فقال: إن أنكر الزوج أصل النكاح والعقد فلا تقام عليه البينة، وإن اعترف بالعقد، ولكنه زعم أنه شغر عن الولي، أو لم يجر بمحضر [من] شاهدين، فأقامت المرأة البينة على أن ذلك النكاح كان مستجمعاً لشرائط الصحة- فيقبل منها، ويثبت النكاح، وتثبت حقوقها، ولها طلب القسم إن كان للزوج نسوة سواها وهذا [لا خير فيه]؛ فإنه إذا أنكر

صحة النكاح، فلا أثر للاعتراف بصورة العقد؛ فليحذف هذا من البين. ثم قال: وهذا كله وراء قولنا: إن إنكار الزوج النكاح أو شرطاً من شرائطه بمثابة الطلاق البين؛ كما هو نص الشافعي حيث قال: "إذا قال الرجل: نكحت هذه الأمة، وأنا [واجد طول] حرة: إن هذا طلاق بين"؛ لأنا قد أوضحنا في الخلع خروج هذا النص عن قياس الأصول ومسيس الحاجة إلى تأويل إن أمكن تأويله؛ فلا تفريع عليه. والغزالي جعل مادة الخلاف في بطلان الدعوى بالإنكار: أن إنكار الزوجية طلاق، أم لا؟ وتبعه الرافعي، فقالا: إن قلنا: إنه طلاق، فقد بطلت الدعوى، ولها أن تنكح زوجاً غيره، ولا ينفعه الرجوع؛ وهذا ما حكي عن القاضي أبي الطيب في "شرح الفروع". وإن قلنا: ليس بطلاق كما هو الصحيح، والذي نص عليه الشافعي، حيث قال-[كما] حكاه القاضي أبو الطيب في "باب التدبير"-: لو أن المرأة ادعت على رجل الزوجية، وأنكر أنه تزوجها- لم يكن ذلك طلاقاً منه لو كان زوجاً لها، [و] لم تبطل الدعوى، وكان كسكوته حتى تقيم البينة عليه، ولو رجع قبل رجوعه، وسلمت الزوجة إليه، وهو اختيار القفال، وشبهه بما إذا قالت: انقضت عدتي قبل الرجعة، ثم قالت: غلطت؛ فإنها تسلم إليه؛ وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد، وبه جزم في "الإبانة"، وعليه ظاهر كلام الشافعي في "الأم" – أيضاً- فإنه قال: لو ادعت عليه النكاح، وجحد، كلفت بالبينة، فإن لم تأت بها، أحلف، فإن حلف برئ، وإن نكل ردت اليمين على المرأة، فإن حلفت ألزمته النكاح، وعلى هذا لو لم يكن لها بينة، وحلف الرجل، فلا شيء عليه، وله أن ينكح أختها، وأربعاً سواها، وليس لها أن تنكح زوجاً غيره- وإن اندفع النكاح ظاهراً- إلى أن يطلقها أو يموت.

قال في "التهذيب": أو يفسخ بإعساره، أو امتناعه إذا جعلنا الامتناع مع القدرة ممكناً من الفسخ. قال الرافعي: وليكن هذا مبنياً على أن للمرأة أن تفسخ بنفسها [أما إذا أحوجناها للقاضي، فما لم يظهر له النكاح، كيف يفسخ، أو يأذن في الفسخ؟ وينبغي أن يتلطف به الحاكم حتى يقول: إن كنت نكحتها فقد طلقتها؛ ليحل لها النكاح. وإن نكل الزوج عن اليمين، حلفت، واستحقت المهر والنفقة. وفي "تعليق" القاضي [الحسين]: أنا إذا سمعنا الدعوى، فأنكر، قيل له: احلف، فإن حلف سقط دعواها، وإن نكل عن اليمين، فهل يكون نكوله طلاقاً، أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى؛ لأن الفسخ بيده. والثاني: لا؛ لأنه ليس بصريح ولا كناية؛ فالحاكم يقول له: إن كنت نكحتها فطلقها؛ حتى يحل الفرج لغيرك، فإن لم يفعل، فوجهان: أحدهما: لا يحل لها أن تنكح أبداً. والثاني: لها أن تنكح. وفي "الحاوي": أنه إذا أنكرن وكان لها بينة، سمعت، وإلا أحلف، فإن حلف فلا نكاح، وجاز لها أن تنكح غيره؛ لأن نكاحه قد زال بيمينه. وإن نكل حلفت، وحكم لها عليه بالنكاح، وله إصابتها والاستمتاع بها، وليس جحود النكاح طلاقاً. فإن قلت: يمكن الجمع بين ما قاله الشيخ وغيره بأن يقال: مراده بالمطلق التصرف هاهنا: من هو أهل لذلك، وهو البالغ، العاقل؛ كما ذكرتموه في أول البيع، وحينئذ فيكون معنى قول الشيخ: لا تصح الدعوى إلا من بالغ عاقل- كما قاله الغزالي-: أن شرط المدعي أن يكون مكلفاً ملتزماً. قلت: لولا قوله: "فيما يدعيه"، لم يبعد ذلك. ثم إذا جرينا على ظاهر اللفظ، فقد يؤخذ منه أن دعوى الحسبة لا تسمع فيما

يسوغ فيه شهادة الحسبة؛ كما إذا ادعى أن فلاناً أعتق مملوكه؛ لأنه ليس بمطلق التصرف فيه، وهو ما حكاه الإمام في كتاب العتق عن العراقيين. وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب وطء المدبرة: أنه لو ادعى على أجنبي أنه أعتق عبده الصغير، أو ادعت الأمة على سيدها عتق ولدها الصغير- سمعت، ويحلف السيد. وفي كتاب "التهذيب" في سماع دعوى الحسبة حيث تسمع شهادة الحسبة وجهان. وذكر الماوردي في كتاب قاض إلى قاض: أن رجلاً أو امرأة لو ادعى واحد منهما: أن له ولداً آخر في بلد آخر، وسأل القاضي سماع بينة بنسبه وحريته، أو بأنه ولد على فراشه؛ ليكتب به إلى قاضي ذلك البلد- فيجوز للقاضي أن يسمع البينة، ويكتب بها إن كان الولد قد مات، أو ذكر أنه في قيد من أسره، ولو كانت البينة تشهد بحرية الولد، ولم تشهد بنسبه، لم يسمعها، ولم يكتب بها؛ لأن الطالب إذا لم ينسب له، لم يكن له حق في الطلب. وإن كانت البينة تشهد بالنسب دون الحرية، فإن كان ثبوته موجباً للحرية، سمعها، وكتب بها، وإلا فلا يسمعها، ولا يكتب بها. ولو لم يذكر الطالب استرقاق الولد ولا موته، فلا يجوز أن تسمع البينة؛ لأنه لا يتعلق بها في الحال حق لطالب ولا مطلوب. تنبيه: اقتصر الشيخ على ذكر صفة المدعي؛ لدلالتها على صفة المدعي عليه من طريق الأولى؛ لأن مقصود المدعي التحصيل، والمقصود من المدعى عليه ضده؛ فإذا اعتبرنا إطلاق التصرف في المحصل، فلأن نعتبره في الغارم أولى. لكن قد قال الأصحاب: إن الدعوى على السفيه [تسمع] بالجنايات الموجبة للمال وإن قلنا: لا يقبل إقراره بها، وكذا بالمال؛ [كما] حكاه الماوردي؛ لرجاء النكول؛ إن قلنا: إن يمين الرد مع النكول كالبينة، وإن قلنا: إنها كالإقرار، فلتقام عليه البينة إن أنكر. نعم، لو لم يكن ثم بينة، لكن طلب اليمين فهل يحلف؟ \

إن قلنا: يقبل إقراره، حلف، وكذا إن لم نقبله، وقلنا: يمين الرد مع النكول كالبينة. وإن قلنا: إنها كالإقرار، ففي تحليفه وجهان أوفقهما لكلام أكثرهم: أنها لا تعرض، وهو ما أورده البندنيجي. وأصحهما عند الغزالي: العرض؛ لأنه قد يحلف فتنقطع الخصومة؛ وهذه طريقة أبي حامد وغيره. قال الرافعي: ومنهم من يطلق الخلاف في سماع الدعوى بالخطأ وشبه العمد من أصلهما، ويبنيه على الخلاف في [أن] إقراره بالإتلاف هل يقبل؟ فإن لم نقبله انبنى على أن يمين الرد كالبينة، أو كالإقرار؟ فإن قلنا: كالبينة، سمعت، وإلا فلا. وليحمل هذا على ما ذكره الأولون؛ فإنهم جميعاً متفقون على أنه لو أقام بينة تسمع، وسماع البينة مسبوق بسماع الدعوى. وقال الأصحاب: إن الدعوى على العبد بما يوجب القصاص مسموعة، وكذا بحد القذف؛ لأن إقراره بهما مقبول. وكذا تسمع الدعوى عليه بقتل الخطأ إن كان هناك لوث؛ كما قاله البغوي وغيره في كتاب القسامة، ويحلف المدعي، وتتعلق الدية برقبته. وإن لم يكن ثم لوث، فلا خلاف في سماع الدعوى به على السيد، وهل تسمع على العبد؟ الذي حكاه الماوردي في باب دعوى الدم: السماع؛ قال: لتعلقها إن أقر بذمته حتى يؤديها بعد عتقه، وقال: إنه إذا حلف كان للمدعي أن يدعي على السيد. [وكذا لو ادعى على السيد] أولاً، فحلف، كان له أن يدعي على العبد، بخلاف ما إذا أقر السيد؛ فإنها تتعلق برقبة العبد، سواء كان مقراً أو منكراً. نعم، لو ادعى على العبد، فنكل، وحلف المدعي، فهل تتعلق برقبته؟ قال: إن قلنا: إن يمين الرد مع النكول كالبينة، فنعم، وإلا فلا، واقتصر التعلق على الذمة؛ وهذا ما حكاه ابن الصباغ، وهو الذي يقتضيه كلام البغوي الذي سنذكره.

ومنهم من قال: لا تتعلق بالرقبة، وإن قلنا: إن يمين الرد مع النكول كالبينة، وهو الذي اقتضى إيراد الغزالي ترجيحه؛ لأن جعلنا إياها كالبينة في حق المتداعيين، لا في حق غيرهما. وهذان الطريقان يشابهان الطريقين اللذين حكيناهما في باب العاقلة فيما إذا ادعى على الجاني قتل الخطأ، فأنكر، وحلف المدعي- في أن العاقلة هل تحمل العقل أم لا؟ والذي أورده القاضي الحسين في باب موضع اليمين: أنها لا تسمع على العبد بحال، وأنما تسمع على السيد، وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب في باب دعوى الدم. وقال الرافعي: إن البغوي قال في مداينة العبيد: إن كان للمدعي بينة، سمعت الدعوى على العبد. وهو قياس ما حكيناه [عنه] عند وجود اللوث. وإن لم يكن ثم بينة، فإن جعلنا النكول ورد اليمين كالبينة، سمعت- أيضاً- فلعله ينكل، فيحلف المدعي. وإن قلنا: إنها كالإقرار، فلا تسمع. وغير البغوي بني سماع الدعوى عليه على أن أرش الجناية هل يتعلق بذمة العبد مع رقبته؟ إن قلنا: لا؛ فلا تسمع؛ وإن قلنا: نعم؛ فلا طلبة ولا إلزام في الحال، وإنما هو شيء يتوقع من بعد؛ فيكون كالدين المؤجل، وسنذكر في سماع الدعوى بالدين المؤجل خلافه، والأصح: عدم السماع، فإن سمعناها، فله تحليف العبد، فإن نكل وحلف المدعي اليمين المردودة تعلق بذمته، وهل يتعلق بالرقبة؟ فيه الطريقان [السابقان]. قال الرافعي: وفيما ذكره البغوي من السماع حالة وجود البينة نظر؛ لأن ظاهر كلامه يقتضي تعلق الأرش بالرقبة بإقامة البينة في وجه العبد، لكن الرقبة للسيد، فينبغي أن تقام البنية في وجهه أو وجه نائبه، والمتوجه أن يقال: لا تسمع الدعوى عليه، ولا البينة إن قصرنا التعلق بالرقبة، وتسمع البينة إن أثبتنا الأرش في ذمته؛ تفريعاً على الأصلين المذكورين.

قلت: وقضية ما ذكره في منع سماع البينة عند التعلق بالرقبة؛ لأجل تعلق حق السيد بها- أن يقال بمثله في عدم سماع البينة على السفيه بجناية الخطأ، وكذا على الرشيد؛ لأجل تعلق ذلك بالعاقلة؛ إذا قلنا: إن العاقلة يحملون ذلك ابتداء، دون ما إذا قلنا: إنه يتعلق بالجاني ثم تتحمله العاقلة، وقد ادعى الوفاق على السماع، وذلك يبطل ما ذكره هاهنا؛ على أنه قد يمكن أن يفرق بينهما. قال: ولا تصح دعوى مجهول إلا في الوصية؛ لأن الدعوى مقابلة بالتمليك، والتمليك بالوصية لا تنافيه الجهالة؛ فالدعوى بها لا تنافيها الجهالة؛ كذا قاله القاضي الحسين. وأيضاً: فإنا لو لم نصحح دعواه بها مع الجهالة، لأدى ذلك في الغالب إلى ضياع حقه؛ فإن الدعوى إنما تكون عند منازعة الورثة له، وفي هذه الحالة يبعد اطلاعه عليها. وقد وجهه الشيخ أبو عي بأنه يمكن إثبات ذلك بالبينة، وكل ما أمكن إثباته بالبينة، سمعت الدعوى به. قال ابن أبي الدم- رحمه الله-: وهذا يبطل بدعوى الإقرار المجرد؛ فإن إقامة البينة به صحيحة بلا [خلاف]. والأصح: أنه لا تسمع الدعوى به. وما ذكره الشيخ هو ما أورده الجمهور، ومنهم القاضي الحسين في موضعين من باب: "ما على القاضي في الخصوم"، ونسبه في كتاب الإقرار إلى قول أصحابنا كلهم، وقال في كتاب الإقرار: والذي عندي أن الدعوى بالوصية مجهول لا تسمع؛ لأنه يمكنه تفسير دعواها، ويدعي على الورثة أن مورثهم أوصى له [هو] بمال، وأراد به كذا، أو يعلم هو أنه أراد به كذا، فإن أنكر حلف، [فإن نكل، حلف] المدعي على ما ادعاه مفسراً من المال، واستحق دعواه. قال الإمام: والوجه عندنا ما قاله الأصحاب؛ لما ذكرناه.

قال: [فأما ما] سواها فلا بد من إعلامها- أي: تعريفها ووصفها- لأن المقصود فصل الخصومة، وإلزام الحق، وذلك لا يمكن في المجهول. وقد وافق الشيخ فيما ذكره البندنيجي في باب الاستعداد، والماوردي في باب "ما على القاضي في الخصوم"، وكذلك القاضي الحسين في موضعين منه، وفي كتاب الإقرار، وتبعه فيه البغوي والإمام. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب، و"الشامل"، و"الإشراف": إلحاق دعوى الإقرار بالمجهول بدعوى الوصية بالمجهول في الصحة، وكذلك حكاه ابن أبي الدم عن الشيخ أبي علي، وهو المختار في "المرشد". ووجهه ابن الصباغ بمعنى ما أورده القاضي أبو الطيب، وهو أنه لما صح أن يقر له بمجهول فيلزمه، صح أن يدعي عليه أنه أقر له بشيء مجهول. وقضية هذا التعليل: أن تصح الدعوى بالإبراء عن المجهول إذا صححناه، ويكون مما يستثنى- أيضاً- وقد صرح به [في] "الإشراف". وقد فرق الماوردي بين الإقرار بالمجهول، والدعوى به: بأنه إذا أقر فقد تعلق بالإقرار حق لغيره؛ [فلزم بالمجهول؛ خيفة إنكاره، ولم يتعلق بالدعوى حق لغيره]. والقاضي الحسين في كتاب الإقرار فرق بأن الدعوى حظه، فردها إلى الجهالة [لا] يؤدي إلى إلحاق مضرة به؛ لأنه يمكنه أن يفسر دعواه، بخلاف الإقرار؛ فإنه حظ الغير، فلو رددناه بالجهالة، أدى إلى الإضرار بالغير. وقد رجع حاصل ما ذكرناه إلى أن الدعوى بالإقرار بالمجهول، هل تصح أم لا؟ وفيه خلاف، وهو قضية ما حكيناه من تعليل الشيخ أبي علي في الدعوى بالوصية مجهولة؛ لأن الشهادة بالإقرار بالمجهول هل تسمع؟ فيها وجهان: وأصحهما في "تعليق" القاضي الحسين في هذا الباب، وكتاب الإقرار: المنع.

وقال ابن أبي الدم: الوجه عندي: بناء صحة الدعوى بالإقرار بالمجهول على شيء حكاه الإمام، وهو أن من أقر بشيء مبهم، وامتنع من تفسيره، فهل يحبس حتى يفسره؟ وفيه خلاف للأصحاب، والذي مال إليه الجمهور: أنه يحبس. ومنهم من [قال]: لا يحبس لامتناعه من تفسيره، لكن يقال للمدعي: ادع [عليه] حقاً معلوماً، فإن أقر به أخذ منه، وإن أنكر حلف، و [إن] قال: لست أدري؛ كان إنكاراً منه، فإن أصر عليه بعد عرض اليمين عليه، جعلناه ناكلا، ورددنا اليمين على المدعي. قال الإمام: وهذا حسن منقاس. قال ابن أبي الدم: فإن قلنا: يحبس المقر [حتى يفسر]؛ فينبغي سماع الدعوى بالإقرار بالمجهول. قلت: لأنها دعوى ملزمة. وإن قلنا: لا يحبس؛ فينبغي ألا تسمع دعوى الإقرار بالمجهول؛ إذ لا فائدة فيها إذا آل الأمر إلى تكليف المقر له ذكر قدر معلوم والدعوى به. وما ذكره مستمد مما ذكره ابن يونس، وهو حسن. وقد قال الغزالي في كتاب الإقرار: فإن قيل: كيف يصح الإقرار بالمجهول، ولا تصح الدعوى به؟ [قلنا: لا فرق بينهما؛ لأن المقر يطالب بالتفسير، وكذلك المدعي]. وهذا مجموع ما رأيته في هذه المسألة. وقد استثني- أيضاً، مع ما ذكرناه-: دعوى الطريق في ملك الغير، أو حق إجراء الماء؛ حيث قالوا: لا يحتاج إلى إعلام مقدار الطريق، والمجري؛ على الأشهر فيما حكاه القاضي أبو سعد في "الإشراف" وأنه يكفي تحديد الأرض التي يدعي فيها الطريق والمجري. وكذا تصح الشهادة المترتبة عليها.

وعن [ابن] أبي علي الثقفي: أنه لا بد من إعلام [قدر] الطريق والمجرى. قال: وكذلك لو باع بيتاً من دار، وسمى له طريقاً، ولم يببين قدره- لا يصح. قال القاضي: والذي عندي: أنه لا يشترط هذا الإعلام في الدعوى، ولكن يؤخذ على الشهود [إعلام] الطريق، ومسيل الماء بالذرعان؛ لأن الشهادة أعلى شأنا؛ فإنها تستقل بقوة إيجاب الحكم، بخلاف الدعوى. واعلم أن جميع ما ذكرناه فيما إذا كان المطلوب متعيناً، فأما من حضر ليطلب ما يعينه القاضي له: كالمفوضة تطلب الفرض على قولنا: لا يجب المهر بالعقد، وكالواهب يطلب الثواب؛ إذا قلنا: إن الهبة تقتضيه، ولم يقدر الثواب- فلا يتصور إعلام وتعيين [فيه]؛ كذا قاله في "الإشراف"، ويلتحق بذلك دعوى المتعة والحكومة. فائدة: ما ذكرناه من كلام [ابن] الصباغ، والقاضي أبي الطيب في تعليله صحة الدعوى بالمجهول، مصرح بأن الدعوى "بأنه أقر لي بكذا" مسموعة. وقد حكى الإمام في سماع هذه الدعوى وجهين، وأنهما جاريان في صور: منها: إذا ادعى المدعى عليه بعد قيام البينة [عليه] أن المدعي يعلم قدح شهوده، فهل تسمع دعواه للتحليف أم لا؟ وكذا فيما إذا ادعى المدعى عليه أن المدعي قد أقر له بالعين، ولم يقل: هي ملكي، بل اقتصر على دعوى الإقرار. وكذا فيما إذا توجهت اليمين على شخص، فقال: قد حلفني مرة أخرى. وضبط الغزالي قاعدة هذا الخلاف بأن ما ليس بعين الحق ولكن ينتفع به في الحق، هل تسمع الدعوى فيه؟ فيه خلاف، ثم استدرك، فقال: ولا خلاف أنه لا تسمع الدعوى على القاضي والشاهد بالكذب، ولا يتوجه الحلف وإن كان ينفع ذلك؛ لأنه يؤدي فتح بابه إلى فساد عظيم عام.

والأصح في "التهذيب" عدم سماع دعوى فسق الشهود؛ للتحليف. والأصح في "النهاية" في كتاب الإقرار: عدم سماع دعوى الإقرار، وأشار إليه في "الوسيط"، وهو موافق لما حكيناه في باب حد القذف: أن القاذف لو ادعى على المقذوف أنه زنى: أن أصح القولين - كما حكاه الإمام، والقاضي الحسين، والبغوي، وغيرهم-: عدم السماع، لكن الأكثرين قالوا [بالسماع] في هذه الصورة، وقياسه: أن يطرد في المسائل المذكورة إن لم نفرق بأن الحدود مبنية على المساهلة بخلاف غيرها. ثم ما ذكره الإمام من تصوير محل الخلاف فيما إذا ادعى المدعى عليه على المدعي أنه: أقر لي بالعين، ولم يقل: هي ملكي، بل اقتصر على دعوى الإقرار- يفهم أنه لو قال: [هي ملكي، وقد أقر لي بها: أنها تسمع، بلا خلاف، ويقوي ذلك أنه قال] في كتاب الإقرار: إن المقر بالشيء إذا فسره بمقبول، فقال المقر له: لم ترد بلفظك ما أظهرته، وإنما أردت أكثر من ذلك- فقد قال المحققون: لا يقبل هذا الكلام من المقر له. والوجه أن يقول المقر له: قد فسرت إقرارك بالشيء بدرهم، ولي عليك عشرة، وأنت أردت بالشيء عشرة؛ فإذا قال ذلك اتجه كلامه، وكأنه يقول: دعواي صحيحة، [و] إقرارك حجة عليها. وحق المقر أن يقول: بالله لا يلزمني التسعة الزائدة، ولم أرد بقولي إلا الدرهم. وقضية هذا- إن صح تقريره؛ كما ذكرناه - أن يجري مثله في كل صورة تشابهها. لكن القاضي الحسين قال في هذا الباب: لو قال رجل للحاكم: لي عند فلان ألف درهم، حلفه بأنه ما أقر لي بالأمس بألف درهم، هل تسمع دعواه؟ فيه وجهان؛ وهذا يقتضي أنه لا أثر لهذه الزيادة في منع إجراء الخلاف، والله أعلم. قال: وإن كان المدعى ديناً، ذكر الجنس والقدر والصفة؛ أي: التي تختلف بها الأغراض؛ لأن بذلك يحصل التعريف، ويقول: لي عليه- أو عنده؛ كما قال في

"البحر"- ذهب دينار عتيق، أو فضة درهم جديد، أو قمح صاع صفته كذا، ويذكر صفات السلم، ونحو ذلك؛ فإن قوله: ذهب، وفضة، وقمح، وشعير- بيان للجنس، وقوله: دينار، ودرهم، وصاع- بيان للقدر، وقوله: عتيق، أو جديد، ومن صفته كذا- بيان للصفة. وقد فسر ابن يونس الصفة بأن يقول: قاساني أو سابوري، وهذا بيان نوع، لا بيان صفة، وقد نبه على ذلك الشيخ في باب الربا، ولا يتوهم أن النوع والصفة شيء واحد؛ لأنه قال في "المهذب": إنه يذكر في الدين الجنس، والنوع، والصفة، وسكت عن ذكر القدر؛ للعلم بأنه لا يحصل التعريف بدونه. وقضية ذلك أن يكون المعتبر عنده ذكر أربعة أشياء: الجنس، والنوع، والقدر، والصفة في كل دين يدعى به. وقد اعتبرها الماوردي، وتبعه في "البحر" فيما إذا كان الدين أجرة، أو ثمن مبيع، أو قيمة متلف، وأنه لا يجوز أن يطلق ذكر الدراهم والدنانير في الدعوى وإن جاز إطلاقها في الأيمان؛ لأن زمان العقد يقيد صفة الأيمان بالغالب من النقود، ولا يتقيد ذلك بزمان الدعوى؛ لتقدمها عليه. وقالا فيما إذا كان الدين سلماً: لا بد من استيفاء صفات السلم كلها. وكلام الشيخ لا يأبى ما قالاه في الحالين إن أجرى كلامهما على ظاهره، لكن قد يقال: إن مرادهما بصفات السلم: شرائط السلم؛ كما صرح به الماوردي في كتاب الدعاوى وغيره، وحينئذ لا يكون كلام الشيخ متناولاً لذلك. وقد عد كون الدراهم بيضاً أو سوداً، وكون الدنانير مشرقية أو مغربية من اختلاف الأنواع. وكذا ذكر الصائغ إن نسبت الدراهم والدنانير إلى صائغ. وقالا: إن ذكر العتق والجدة، والصحة والتكسير- لا يشترط عند عدم اختلاف القيمة بهما إذا لم يكن الدين سلماً.

وقريب من ذلك ما قاله القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ: أن الدعوى إن كانت في الأثمان؛ فلا بد من ذكر الجنس والنوع والقدر؛ فنقول: ثلاثة دراهم راضة. قال ابن الصباغ: وإن اختلفت الصحاح والمكسرة، قال: صحاح أو مكسرة. وقول البندنيجي: ولا بد أن يذكر صحاحاً أو مكسرة- محمول على ذلك، وإليه يرشد قول القاضي أبي الطيب: ومن أصحابنا من قال: ويذكر أنها صحاح أو قراضة؛ لأن بينهما [تفاوتاً]. قال: وإن كان عيناً يمكن تعيينها: كالدار، والعين الحاضرة؛ عينها؛ لوقوف العلم هاهنا على ذلك. ولا فرق في ذلك بين أن يكون المدعى عليه حاضراً أو غائباً، ويجوز الحكم بذلك في الحال؛ كما صرح به القاضي الحسين وغيره. واعلم أنه قد يتوهم أن المراد بتعيين الدار: [أن] يحضرها القاضي عند الدعوى، وليس [المراد ذلك]، بل المراد: أن يبالغ في وصفها كما قال الإمام، فيذكر البلد التي هي فيه، والمحلة والسكة منها، وموضع الدار، وأنها الأولى أو غيرها، على يمين الداخل أو يساره، أو في صدر السكة إن لم تكن نافذة، ثم يتعرض إلى الحدود، وينهي الأمر إلى غاية تفيد اليقين في التعيين. قال الإمام: فإذا فعل ذلك، فكان المدعي والشهود على بعد من الدار، أشاروا إليها. قال الماوردي: ولا يكفي ذكر ثلاثة حدود دون الرابع. وقد ذكر في البيع: أنه لو باع داراً، وذكر حدودها الأربعة؛ صح، وإن ذكر حدين، لم يصح، وإن ذكر ثلاثة فوجهان؛ وهذا ينبغي أن يكون في الدعوى بها. وحكى الغزالي وجهاً: أنه لا بد من ذكر قيمة الدار، والأصح: أنه لا يشترط. وهذا في الدار المجهولة عند الحاكم، أما إذا كانت مشهورة باسم في البلد، بحيث لا يشاركها غيرها فيه: كدار الندوة بمكة- ميزها بذكر الاسم؛ لأنه زيادة علم؛ كذا قاله الماوردي.

وكلام القاضي الحسين يقتضي [أن] محل اشتراط ذكر الحدود الأربعة إذا لم يحصل العلم إلا بها؛ فإنه قال: وذكر الحدود الأربعة ليس بشرط حتى [لو كان] يصير معلوماً بذكر حد [واحد] أو حدين، يكتفي به. قال الماوردي: ولفظ الدعوى في الدار ونحوها أن يقول: "لي في يده"، ولا يقول: "لي عنده"، ولا: "عليه"، وهذا بخلاف ما إذا ادعى عبداً، أو دابة حاضرة؛ فإنه يجوز أن يقول: "لي عنده"، وكذا: "لي عليه" عند بعض أصحابنا، ولم يجزه بعضهم. قال: وإن لم يمكن تعيينها؛ أي: لكونها منقولة غير حاضرة، إما في ذلك المجلس [وهي ثقيلة]، أو في ذلك البلد- ذكر صفتها؛ أي: المعتبرة في السلم إن أمكنت؛ كما صرح [به] البندنيجي وأبو الطيب، وتبعهما ابن الصباغ؛ لحصول المقصود بذلك. وفي "الحاوي": أن الاقتصار على ذكر صفات السلم إنما يكون في المتلفات أما في غيرها: كالثياب، والعبيد، فيلزم أن يستوفي جميع أوصافه، وهو ما في "النهاية". قال: بخلاف ما إذا كان مسلماً فيه؛ لأن مقصود التمييز في الأعيان يخالف مقصود الإعلام في السلم؛ لأنه إذا أفرط وتناهى فيه، فقد ينتهي إلى عزة الوجود، وذلك ممتنع في السلم؛ فكان من ضرورته ترك الإطناب في الوصف، والغرض من وصف المدعي الوصول إلى تعيين الشخص من بين الجنس. قال: وإن ذكر القيمة فهو آكد؛ لما يحصل به من مزيد الاحتياط؛ وهذا ما حكاه العراقيون: كالبندنيجي، وأبي الطيب، وابن الصباغ، والقاضي الحسين أيضاً. وفي "الرافعي": أنه بم يضبط المدعي بعد ذكر الجنس، والنوع؟ حكى القاضي أبو سعد الهروي وغيره فيه قولين: أحدهما: أنه يتعرض للأوصاف التي يعتبر ذكرها في السلم. والثاني: أنه يتعرض للقيمة، ويستغني بها عن ذكر الأوصاف.

ثم قال: قالوا: والصحيح أن الركن في التعريف لذوات الأمثال: ذكر الصفات، وذكر القيمة مستحب، وفي تعريف ذوات القيم الركن: القيمة، وذكر الصفات مستحب. أما إذا لم يمكن ضبطها بالصفات: كالجواهر، والياقوت، فيقول: جوهر أو ياقوت قيمته كذا، وذكر القيمة شرط؛ لأنه لا يصير معلوماً بغيره؛ كذا قاله القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ. وفي "الحاوي": أن عليه أن يذكر الجنس، والنوع، وإن كان مختلف الألوان ذكر اللون، ثم حرر الدعوى ونفى الجهالة بذكر القيمة؛ لأنه لا يصير معلوماً إلا بها. وفي "التهذيب": أن الغائبة إذا لم يمكن وصفها؛ بعث الحاكم إليها من يسمع الدعوى على عينها؛ قاله في باب الامتناع والقضاء باليمين. ولا فرق في سماع الدعوى بما يمكن ضبطه بالصفة بين أن يكون المدعى عليه حاضراً أو غائباً؛ صرح به القاضي الحسين. نعم، إن كان حاضراً، فأقر بالمدعى؛ ألزم بتسليمه، فإن أحضر شيئاً متصفاً بالصفات المذكورة، وقال: إنه الذي أقر به، فإن صدقه المقر له فلا كلام، وإن قال: المقر به غيره، فالقول قول المقر في نفي ما ادعاه، ولا يلزمه تسليم ذلك إليه؛ لأنه لا يدعيه؛ قاله ابن الصباغ في كتاب الإقرار. قلت: ويظهر أن يقال: فيما يفعل بما أحضره الخلاف الآتي. ولو قال: هذا الذي أحضرته لي، والذي أقررت به-[قال] ابن الصباغ: قلنا له: خذ هذا، والقول قوله فيما يدعيه. وإن أنكر المدعى عليه، فإن لم يكن للمدعى بينة؛ حلف له. وإن قال: لي بينة تشهد على عينها، فإذا عرف المدعى عليه أن مثل العين الموصوفة في الدعوى عنده، أمره الحاكم بإحضارها؛ لتقوم البينة على عينها. وإن أنكر كون مثلها في يده، فإن لم يكن للمدعي بينة تشهد على أن مثلها في يده، فله تحليفه على ذلك. قال الغزالي: وطريق الجزم: أن يصرف الدعوى إلى القيمة، ويثبت المالية بالشهادة

على الوصف مهما لم يطلب العين. فإن قال: أدعى عبداً صفته كذا، وقيمته كذا، فإما أن يرد العين أو القيمة- فهذه دعوى غير محررة؛ ففي سماعها وجهان، ولكن اتفق القضاة على سماعها؛ للحاجة. فلو لم يفعل ذلك، ولكن طلب عينه: فإن حلف فذاك، وإن نكل وحلف المدعي، أو أقام بينة على أن في يده مثل ذلك- كلفه القاضي إحضاره، ويحبس إلى أن يحضره، أو يدعي التلف؛ فيقبل منه للضرورة. وإن أحضره، أقام المدعي بينة الملك على عينه، فإن لم يثبت الملك للمدعي قال القاضي الحسين: كانت مؤنة النقل والتحويل عليه. وإن كان المدعى عليه غائباً في البلد الذي فيه العين المدعى بها، أو غيره، فإن لم يكن للمدعي بينة، فقد ذكرنا: أنه لا معنى للدعوى على الغائب إذا لم تكن ثم بينة. وإن كانت له بينة، فهل تسمع؟ ينظر: فإن كان المدعي به مشهوراً: كعبد مشهور معروف من عبيد السلطان، أو دابة كذلك، أو ثوب مشهور، لا نظير له- كما قاله البندنيجي – سمعت، وحكم بها؛ كما في العقار؛ صرح به البندنيجي وابن الصباغ. وإن كان عيناً لا تتميز إلا بالوصف: كالثوب، والعبد غير المشهور، وجميع المنقولات التي لا تعرف، فهل تسمع أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لكثرة الأشباه والصفات، والحلى تتشابه. ولأن المشهود به مجهول العين؛ فلا يكفي فيه الوصف والحلية؛ ألا ترى أنه لا يصح أن يشهد لرجل بالوصف والحلية؛ كذلك المشهود به، ويخالف المشهود عليه إذا كان غائباً؛ لأن النسب ثم يمنع من الاشتباه؛ وهذا ما رجحه طائفة من الأصحاب؛ منهم: أبو الفرج الزاز، والشيخ أبو علي؛ [كما] قاله ابن أبي الدم. وعلى هذا فلا معنى لدعواه العين. ثم إن أراد ألا تتعطل ماليته، قال الإمام: فيعتمد قيمة العين، وليربط دعواه

بها، وإن وصف فلا بأس، وتسمع الدعوى والبينة، وينعقد القضاء على المالية؛ كما في الكرباس. والثاني: تسمع؛ لأنه يمكن ضبطه بالوصف، وقد يحتاج إلى الإتيان في الغيبة؛ فأشبه العقار والمتميز من المنقولات؛ وهذا ما اختاره الكرابيسي والإصطخري، ورجحه ابن القاص وأبو علي الطبري، وبه أجاب القفال في "الفتاوي"، وقال الماوردي: إنه الذي نص عليه في كتاب الدعاوى. قال ابن الصباغ: ويخالف المشهود له؛ لأنه لا حاجة بنا إلى ذلك؛ فإن الشهادة لا تثبت له إلا بعد دعواه؛ فعلى هذا إذا سمعت هل يقضي بها؟ فيه قولان: أحدهما: نعم؛ كما في العقار والمتميز من المنقولات. فعلى هذا: إذا حكم وكتب الكتاب إلى قاضي البلد الذي فيه العين، ووصل إليه، حلف المكتوب إليه المدعي: أن هذا المال هو الذي شهد به عند القاضي، وسلم إليه العين؛ كما ذكره ابن القاص. وأصحهما- وهو المنصوص عليه؛ كما قال في "الحاوي"، واختاره المزني، والمعول عليه-: لا يقضي؛ لأن الحكم مع الجهالة وخطر الاشتباه بعيد، لكن يكتب القاضي بذلك إلى قاضي البلد [الذي فيه] العين، وإذا وصل الكتاب إليه فماذا يفعل؟ فيه قولان، حكاهما القاضي الحسين. أحدهما: أنه يبيع ذلك من المدعي بثمن المثل، ويأخذ منه كفيلاً بالثمن، ويحضره مجلس القاضي الكاتب، فإن ثبت أنه له أبرأه من الثمن، وإلا طالبه بذلك الثمن؛ وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب في باب اللقطة؛ بناء على عدم العمل بما في الكتاب. والثاني: وهو ما حكاه الإمام عن ظاهر النص، ولم يحك القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ على هذا القول سواه-: أنه يختم على المدعي، ويجعل في عنق العبد خيطاً مختوماً بحيث لا يخرج عن عنقه، ويأخذ منه كفيلاً بقيمته. وقال الإمام: إن الكفيل في هذه الحالة يؤخذ ببدن المدعي ويسلم المدعي به إلى

المدعي أو وكيله؛ ليذهب به إلى القاضي الكاتب؛ ليشهد الشهود على عينه، اللهم إلا أن يكون المدعى أمة؛ فلا تسلم إليه وإن كان ثقة؛ لأنه قد يواقعها؛ لزعمه أنها ملكه، بل يعد لها أميناً من أهل الرفعة؛ كما حكاه الماوردي عن الإصطخري، وقال في "البحر": إنه اختيار القفال. وفي "الإبانة" وغيرها وجه: أنه يسلمها إليه؛ كالغلام. ثم إن ثبت أن المدعى له سلمه إليه، وكتب إلى ذلك القاضي حتى يبرئ كفيله؛ وإن لم يثبت المدعى [به للمدعي]، رده إلى بلد المدعى عليه، وكانت مؤنة [النقل والرد] على المدعي، وكذا أجرة مثل تلك المدة إن كانت له منفعة؛ كما قاله البغوي والقاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ، وصرحوا بأنه من ضمانه. قال البندنيجي: ولا يزول الضمان حتى يرده إلى من قبضه منه. وعن كتاب "الفروق" للشيخ أبي محمد: أن الشهود إذا شهدوا على عينه، ختم عليه خاتماً ثانياً، ويكتب: "إني حكمت به لفلان"، ويسلمه إلى المكتوب إليه حتى يرده إلى القاضي الثاني؛ فيقرأ الكتاب، ويطلق الكفيل، ويسلم العين إلى المدعي. وقد حكى الفوراني بدل القول الأول: أنه يسلم الشيء المدعى إلى المدعي، ويأخذ القيمة، ويدفعها للمدعى عليه؛ للحيلولة بينه وبين ما يزعم: أنه ملكه، وهذا قريب من قول أبي الحسن العبادي: أنه إذا سلم العين إلى المدعي، كفله قيمة المال، ثم هذه القيمة مستردة، سواء ثبت أن الملك للمدعي أو لم يثبت: أما إذا ثبت فظاهر، وأما إذا لم يثبت؛ فلأنا أخذناها للحيلولة، فإذا ارتد المال إلى المدعي؛ فلا بد من رد القيمة. قال الإمام: وما ذكرناه من أخذ الكفيل بالثمن على القول الأول واجب مذهباً واحداً، وما ذكرناه من الختم وأخذ الكفيل على القول الثاني احتياط في الواقعة، فلو تركه القاضي المكتوب إليه؛ فترتيب القضاء ونظمه لا يختلف، ولكن اختلف الأئمة في أن المكتوب إليه هل يكون تاركاً احتياطاً مأموراً به من غير إيجاب؟

وإذا تأملت ما بسطناه واختصرته، قلت: في سماع البينة والقضاء في الأعيان المنقولة ثلاثة أقوال، ثالثها: تسمع ولا يقضي بها؛ وهذه طريقة عامة الأصحاب في جميع المنقولات؛ كما قاله الرافعي. وعلى الثالث منها: ما فائدة السماع؟ فيه قولان: أحدهما: الإقدام على بيع العين المدعى بها من المدعي، وتسليم العين له مع تبقية الثمن في ذمته؛ اعتماداً على الكفالة به؛ على رأي، أو ببدن المدعي على رأي. والثاني: تسلطه على نقلها إلى بلد الشهود على رغم من هي في يده، إما ببذل قيمتها؛ للحيلولة على رأي، أو بكفالة شخص على رأي. ووراء ما عليه كافة الأصحاب طريقان: إحداهما: طريقة الماوردي، وهي أن الحكم بالشهادة على ما ينقل من الأعيان: كالعبد، والدابة، والثوب- قولان، أصحهما: عدم الحكم. وخرج ابن سريج وجهاً ثالثاً، فقال: إن كان العبد المدعي في غيبته يختص بوصف يندر وجوده في غيره: كشامة في موضع من جسده، أو أصبع زائدة في موضع من يده، أو كان مشهوراً من عبيد السلطان لا يشركه غيره في اسمه ومنزلته وصفته- جاز الحكم بشهادتهم مع غيبته. وإن شابه عموم الناس في صفته ونعته؛ لم يحكم فيه بالشهادة إلا مع التعيين والإشارة. قال: ولهذا التخريج وجه، لكنه نادر، وإطلاق القول يكون على الأعم الأغلب. فإذا قيل بعدم الحكم في الغيبة؛ ففي سماع الشهادة قولان: فإن قلنا بالسماع، كتب به إلى قاضي البلد الذي فيه المطلوب، فإذا وصل الكتاب إليه، لم يحكم بالعبد إلا أن يعينه الشهود. قال الشافعي: ويستفاد بهذه الشهادة وإن لم يقع الحكم بها إلا مع التعيين من الجهتين: ألا يتكلف الثاني الكشف عن عدالتهم، ولا يتكلف الشهود إعادة شهادتهم، وإنما يقتصرون على الإشارة بالتعيين، فيقولون: هذا هو العبد الذي

شهدنا بأنه لفلان عند القاضي الكاتب بالثبوت خاصة، عند المكتوب إليه قبل الحكم- لا يقتضي إعادة الشهادة؛ وهذا ما وعدت بذكره من قبل. قال الماوردي: وعندي فائدة ثالثة، وهي إذا مات العبد، فيستحق بهذه الشهادة على المطلوب ذي اليد قيمته على نعته وصفته. وإن قلنا: يحكم بالشهادة في الغيبة، أحضر القاضي المكتوب إليه العبد، وصاحب اليد، وقال له: هذا العبد هو المنعوت بهذه الصفة، فإن اعترف بها، حكم عليه بتسليمه إلى طالبه، وإن أنكر أن يكون هو الموصوف المحكوم به؛ ففيه قولان: أحدهما: أن القاضي يختم في عنق العبد، ويسلمه إلى الطالب المشهود له، مضموناً عليه، ويأخذ منه كفيلاً، ويفعل ما تقدم. والثاني: أنه ينادي القاضي على العبد، فإذا انتهى ثمنه، قال لمدعيه: ادفع ثمنه يكون مودعاً على يد عدل، وخذ العبد معك، فإن عينه شهودك؛ حكم القاضي له [به] وكتب برد الثمن عليه، وإن لم يعينوه لك؛ ألزمتك رده واسترجاع ثمنه. قال: وهذا القول إن أجاب إليه الطالب؛ جاز العمل عليه، وإن لم يجب إليه، لم يجبره. والأصح عندي من هذا كله: أن يقبل القاضي الثاني الكتاب، ويحكم بوجوب ما تضمنه من العبد الموصوف فيه، ويخير صاحب اليد في العبد بين أحد ثلاثة أشياء: بين أن يسلمه بالصفة المشهود بها إلى طالبه؛ فيلزم الحكم بها. وبين أن يمضي بالعبد مع طالبه على احتياط من هربه إلى القاضي الأول، فإن عينه الشهود، سلمه إلى الطالب بحكمه، وإن لم يعينوه، خلى سبيل العبد مع صاحب اليد. وبين أن يعدل بالطالب إلى دفع قيمة العبد الموصوف دون العبد الذي في يده.

فأي هذه الثلاثة فعلها صاحب اليد، فقد خرج به من حق الطالب. وإن امتنع من جميعها، وقد ثبت استحقاق العبد الموصوف- لم يجز أن تسقط شهادة عدول تثبت بمثلهم الحقوق، وأخذه القاضي الثاني جبراً بدفع قيمة العبد الموصوف؛ لأنه صار بالاشتباه غير مقدور عليه؛ فجرى مجرى العبد المغصوب إذا أبق، يلزم دفع قيمته. والطريقة الثانية: طريقة الإمام ومن تبعه، وهي أن الأقوال الثلاثة والتفاريع المذكورة فيها صحيحة فيما إذا كانت العين المدعى بها مما يمكن تعريفها وتمييزها بالصفات والحلى: كالرقيق، والدواب. أما إذا كانت مما [لا] يمكن تعريفها وإن بولغ في صفتها: كأذرع من كرباس ونحوه، فلا ترتبط الدعوى فيه والحكم بالعين قطعاً؛ فإنه لا مطمع في انتهاء الوصف إلى مبلغ إفادة التمييز، بل مدعي الكرباس يصفه، ويذكر قيمته، ويرد دعواه إليها، ويقع سماع البينة بحسب ذلك، والشهود يشهدون، وتعويلهم القيمة وإن اطنبوا في الوصف، وذكر القيمة في هذا المقام متعين؛ فإنها عماد القضاء، بخلاف ذكرها في مسألة العبد ونحوها إذ جوزنا القضاء بعينه، أو سماع البينة كما تقدم؛ فإن الأظهر عندنا: أنه لا يشترط ذلك؛ فإن القيمة لا ضبط لها في هذه المنازل إذا كان المطلوب ربط القضاء بالعين، على [أن] بعض أصحابنا اعتبر ذكرها في الإعلام. قال الرافعي: ولو بحث عن قولهما بأن الدعوى والحكم والبينة ترتبط بالقيمة دون العين؛ لولد البحث إشكالاً صعباً؛ لأن العين إن تلفت؛ فالمطالبة بالمثل أو القيمة دعوى بالدين، وليس ذلك مما نحن [فيه] في شيء، وما دامت العين باقية، فالمدعي لا يستحق القيمة؛ فكيف يطلبها، وكيف يحكم القاضي بها؟ وإن كان المراد [أنه] يدعي قدر القيمة من المال في يده، ويحكم له بذلك من غير تعيين- فهذا شيء لا عهد به، فإن كان المراد أنه يعتمد في طلب العين والحكم بها ذكر القيمة دون الصفة [والحلى؛ فهذا ذهاب إلى أنه يسمع الدعوى بالعين، ويحكم بها اعتماداً على القيمة دون الصفة، وذلك] لا يلائم نظمهما.

فرع: [إذا قلنا] بالقضاء بالبينة- كما ذكرنا- فوصل الكتاب متضمناً الحكم، وصادفنا على وصف الكتاب عبداً في يد المكتوب إليه متميزاً، سلمناه إلى المدعى ملكاً ظاهراً، فإن أرانا المدعي عليه على وصف الكتاب عبدين: إما من ملكه، أو ملك غيره- وقف القضاء، [و] قلنا للمدعي: مر، وراجع؛ كما ذكرنا مثل ذلك في المدعى عليه؛ إذ ظهر في البلد مثله. قال: وإن كانت تالفة، ولها مثل؛ ذكر جنسها، وصفتها؛ أي: المعتبرة في السلم، وقدرها؛ ليضبطها بذلك، ويكون المطلوب المثل. قال: وإن ذكر القيمة، فهو آكد؛ لما ذكرناه. وإن لم يكن لها مثل، ذكر قيمتها؛ لأنها الواجبة له؛ وهذا ما أورده ابن الصباغ وأبو الطيب والبندنيجي، والقاضي الحسين في باب "ما على القاضي في الخصوم" في هذه المسألة، والتي قبلها، وقد ذكر ابن يونس عقيب قول الشيخ: "وإن لم يكن لها مثل، ذكر قيمتها": أن ابن الصباغ قال: إن كان يمكن ضبط صفاته، فلا بد من ذكر الصفات، سواء كان له مثل أو لم يكن له مثل؛ كما قلنا في السلم، وإن لم يمكن ضبط صفاته: كالجواهر، وغيرها، ذكر القيمة. وأن في "الحاوي": أنه يلزمه في الجواهر ونحوها أن يذكر الجنس والنوع وما يضبط من صفاتها. وهذا إنما قالاه في حالة بقاء العين وادعائها، وأما في حالة التلف فالذي قالاه ما ذكرناه عنهما، والله أعلم. فرع: إذا كان المدعى سيفاً محلى وقد تلف، قال العراقيون-[كأبي الطيب، والبندنيجي، والماوردي، والمصنف، وكذا القاضي الحسين]-: فلا بد من ذكر قيمته، فإن كان محلى بالفضة قومه بالذهب، وإن كان محلى بالذهب قومه بالفضة، وإن كان محلى بهما قومه بأيهما شاء؛ لأنه موضع ضرورة. وقال في "البحر" بعد حكاية ذلك عن الأصحاب: ويحتمل عندي أن يقال: ينبغي أن يفصل بينهما في الدعوى، ويقوم بغير الجنس.

قال: وإن ادعى نكاح امرأة، فالمذهب أنه يذكر أنه تزوجها بولي مرشد- أي: رشيد_ وشاهدي عدل، ورضاها إن كان رضاها شرطاً؛ أي: إما لكونها ثيباً، أو بكراً والولي غير الأب والجد؛ لأن النكاح يتعلق به حق الله – تعالى- وحق الآدمي، وإذا وقع لا يمكن استدراكه؛ فلا تسمع الدعوى فيه إلا أن تكون مفسرة مبينة؛ كما في دعوى القتل. ولأن في شرائط انكاح خلافاً بين العلماء: فأبو حنيفة لا يشترط الولي، ومالك لا يشترط الشهود، ونحن إذا كانت بكراً لا نعتبر رضاها بعد البلوغ، وأبو حنيفة يعتبره؛ فلم يجز للحاكم أن يحكم بظاهر الدعوى حتى يعلم وجود الشرائط؛ كي لا يحكم بصحة ما هو خطأ عنده؛ وهذا ما نص عليه في "المختصر" حيث قال: لو ادعى أنه نكح امرأة لم أقبل دعواه حتى يقول: نكحتها بولي، وشاهدي عدل، ورضاها؛ إذا كان الولي ممن لا يزوجها إلا برضاها. فإن قلت: ليس في لفظه اشتراط عدالة الولي. قلت: بلى؛ لأن قوله: "عدل"، يرجع إلى الولي والشاهدين؛ لأنه يقال: قوم عدل؛ كما يقال: رجل عدل؛ كذا قاله ابن الصباغ. على أنه قد قيل: إن هذا من الشافعي جواب على عدم اشتراط عدالة الولي. وقد حكى في "الشامل" وجهاً: أنه لا حاجة إلى التعرض لعدالة الولي. قال الرافعي: وقياس الأول وجوب التعرض لسائر الصفات المعتبرة في الأولياء، ولا يشترط على هذا ذكر انتفاء الموانع من الردة، والعدة، والإحرام، والرضاع، وغير ذلك. قال الغزالي: بلا خلاف. وقال في "الإشراف": على المذهب؛ لأن الأصل عدمها، مع أن فيها كثرة؛ فيشق ذكرها. وعن محمد بن إبراهيم العبدي من أصحابنا: أنه يشترط نفيها. [ويشترط] فيما إذا ادعى الحر نكاح أمة، ذكر أنه تزوجها وهو عادم للطول، خائف للعنت.

قال في "الشامل"، و"البحر": ومن أصحابنا من قال: لا يشترط ذكر ذلك؛ كما لا يشترط ذكر انتفاء الموانع. والأول أقيس، وهو ما اختاره في "المرشد". أما إذا لم يكن رضاها شرطاً بأن كانت مجبرة؛ فلا يتعرض لرضاها، ويتعرض لذكر المزوج من أب أو جد، وعلمها بذلك إن كانت الدعوى عليها؛ كما أشار إليه الإمام في كتاب النكاح. وقيل: إن ذلك مستحب؛ لأنه دعوى ملك؛ فلا يشترط فيه ذكر السبب؛ كدعوى المال مطلقاً؛ فإنه لا خلاف في عدم اشتراط ذكر السبب كما قاله الروياني، والإمام، وتبعه [في] "الوسيط". ولأن مطلق اسم النكاح ينصرف إلى النكاح الشرعي، والنكاح الشرعي ما وجدت فيه [هذه] الشرائط. وهذا منسوب لابن أبي هريرة في "البحر"، وحكي عنه أنه قال: ويكفيه أن يقول: نكحتها نكاحاً صحيحاً. وفي "الحاوي" نسبة هذا الوجه إلى ابن سريج. قال في الإشراف: وأصل هذا الخلاف: أن العبد إذا أذن له في نكاح صحيح؛ فنكح نكاحاً فاسداً، هل يجب المهر حيث يجب [في] النكاح الصحيح أم لا؟ وقضية هذا البناء: أن يكون الصحيح الاكتفاء بالإطلاق؛ لأن الصحيح أنه يجب حيث يجب النكاح الصحيح.

وقد حكى الإمام وغيره: أن الوجها لثاني مخرج من نصه على سماع دعوى البيع مطلقة؛ كما سنذكره. قال القاضي الحسين: وقد قيل: إنه قول قديم. قال الإمام: وعلى هذا، هل يشترط التقييد بالصحة؟ فعلى وجهين، وحكاهما في "الإشراف" قولين. قال الإمام: والوجه عندي: الاشتراط؛ فإنها لفظة جامعة، دالة على المقصود؛ وعلى هذا جرى في "الوسيط". وهذا الذي ذكره الإمام هو ما ذكرناه عن ابن أبي هريرة. قال الرافعي: وقد أشار كلام الغزالي في "الوسيط" إلى أن الوجهين مفرعان على قولنا: إنه لا يشترط تفصيل الشرائط، وإيراد القاضي أبي سعد يقتضي اطرادهما مع اشتراط التفصيل؛ ليتضمن ذكر الصحة نفي الموانع. وقيل: إن كانت الدعوى لابتداء العقد- أي: بأن قال: عقدت عليها- وجب ذكرها؛ لأنها شرط في الابتداء.

وإن كان [ذلك] لاستدامته- أي: بأن قال: هي زوجتي- لم يجب ذكرها؛ لأنها ليست شرطاً في الاستدامة؛ وهذا ما اختاره صاحب "الإفصاح"، وصححه في "الوجيز" و"المرشد"، واستدل له بأن الزوجية تثبت بالاستفاضة. وقد بنى القاضي الحسين والفوراني الخلاف في دعوى الاستدامة على المعنيين في عقد النكاح، فقالا: إن قلنا: المعنى اختلاف الناس في شرائطه، فهاهنا لا يجب ذكرها؛ لأنه لا خلاف فيه. وإن قلنا: المعنى: مراعاة الاحتياط فيجب ذكرها. وفي "البحر" طريقة أخرى حاكية لقولين في اشتراط التفصيل وعدمه. واعلم: أن دعوى النكاح تصح من الزوج على الولي؛ إذا كان أباً أو جداً، والزوجة بكراً صغيرة بعد بلا خلاف، فإن أقر ثبت النكاح، وإن أنكر فقد قال القاضي الحسين هنا: إنه يحلف، فإن نكل [حلف] الزوج، وسلمت له؛ وهذا ما حكاه الإمام في آخر "النهاية" [منقولاً] عن الأصحاب. وفي كتاب الصداق حكاه عن كثير من أئمة العراق، وأنهم لم يذكروا في ذلك خلافاً. وحكى وجهاً آخر: أن الولي لا يحلف، وهو ما أبداه في آخر "النهاية"، تخريجاً من كلام القفال، قال: وإن فيه بعداً. وإن كانت بكراً كبيرة، [فقد قال] القاضي الحسين، هاهنا: إن الدعوى تسمع على الأب والجد وعليها. وأما الإمام فإنه حكى في كتاب النكاح عند الكلام في وقوع عقدين على امرأة وجهين في جواز الدعوى على المجبر، وجزم في آخر "النهاية" بالسماع، وأن له أن يحلف [على عدم التزويج، وحكى الخلاف فيما إذا نكل، هل يحلف الزوج أم لا؟ وأحد الوجهين: أنه يحلف] كما لو نكل عن اليمين في حال صغرها، وهو ما أجاب به ابن الحداد.

والثاني: لا؛ لأنه قادر على تحليف المرأة البالغة، وهي باليمين أولى. وعلى هذا: إذا حلف الأب؛ فللمدعي أن يدعي على المرأة: فإن أقرت ثبت النكاح؛ على الصحيح، وإن أنكرت؛ توجهت عليها اليمين: فإن حلفت فذاك، وإلا حلف، وسلمت إليه. وقال هاهنا: إن سماع الدعوى عليها ينبني على قبول إقرارها: فإن قبلناه فدعواه مسموعة عليها، وإلا فهل تتوجه الدعوى عليها واليمين؟ على قولين مبنيين على أن يمين الرد مع النكول كبينة أم كالإقرار؟ فإن قلنا بالأول؛ حلفت، فإن نكلت حلف المدعي، وثبت النكاح. وإن قلنا: كالإقرار، فلا تحلف؛ فإن غاية توقع الخصم أن تنكل، ويحلف هو يمين الرد، ولو أفضت الخصومة إلى ذلك لما ثبت غرض المدعي، وقد حكى ذلك الفوراني أيضاً. قلت: ويظهر [أن يقال: إن] اليمين تعرض وإن لم نقبل الإقرار، وقلنا: إن يمين الرد مع النكول كالإقرار، ويكون فائدة العرض: أن تحلف؛ فتنقطع الخصومة؛ وذلك مستمد مما حكيته عن الأصحاب فيما إذا كانت الدعوى على سفيه بما يوجب المال من الجنايات. ثم ما حكيناه عن الإمام والفوراني يفهم أمرين: أحدهما: أن الخلاف في سماع الدعوى عليها مفرع على القديم؛ لأن الجديد قبول إقرارها؛ وكذا في القديم إذا كانا عربيين كما نقله الإمام والبغوي وابن الصباغ وغيرهم؛ أو تقادم عهدهما؛ كما حكاه القاضي الحسين. أما عند فقد ذلك، فلا يقبل. قال في "الشامل": وهذا لا يعرفه أصحابنا. وفي "البحر": أن بعض أصحابنا الخراسانيين قال: لا يصح إقرارها بالنكاح في قوله القديم، لأنها لا تباشر عقد النكاح؛ فلا تكون من أهل الإقرار به، كالصبي. وكأنه- والله أعلم- يشير إلى الفوراني؛ لأن هذا لفظه في "الإبانة".

الثاني: أن محل الخلاف في سماع الدعوى عليها إذا لم يكن [له] بينة، أما إذا كانت، فيظهر أن يقال بالسماع وجهاً واحداً، ويعضده أن الأصحاب قالوا: إن الدعوى على السفيه بقتل الخطأ ونحوها مسموعة وجهاً واحداً، وإن لم يقبل إقراره لتقام عليه البينة إن أنكر. لكنه قد يعترض على هذا سؤال، فيقال: إذا جوزتم الدعوى؛ لأجل إقامة البينة، واحتمال إقرارها متوقع، فإذا أقرت فأنتم لا تسمعون إقرارها، وكيف تقام البينة على معترف؟ وجوابه: أنا إذا [لم نرتب] عليه حكماً، كان كالسكوت، كذا أشار إليه الإمام، وجوز للمدعي أن يحلف إذا قلنا: يمين الرد كالبينة مع تصريحها بالإقرار [به]. [و] على كل حال، فإذا صحت الدعوى بالنكاح، فهل يشترط في صحة الإقرار به التفصيل الذي ذكرناه في الدعوى؟ فيه خلاف حار فيما إذا أقر الرجل بالنكاح، والأصح: أنه لا يشترط، وقال الإمام: إنه المذهب. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن المذهب الاشتراط. وكذا هل يشترط عدم تكذيب الولي لها والشهود إذا كانت هي المقرة، وقبلنا: إقرارها؟ فيه خلاف، والأصح: أنه لا يشترط، وبه جزم في الأولى المصنف، وفيهما البغوي، وكل ذلك مذكور أو بعضه في كتاب النكاح، وذكرته هاهنا لمزيد فائدة. فرع: إذا ادعى على القاضي نكاح مجنونة، قال القاضي الحسين: تسمع دعواه، فإن أقر به القاضي فلا كلام، وإن أنكر فلا يحلف؛ لأن تكذيبه له إنكار للقضاء، واشتراط التفصيل وعدمه في دعوى المرأة النكاح حيث تسمع، كاشتراطه في دعوى الرجل النكاح. قال: وإن ادعى بيعاً، أو إجارة، أو غيرهما من المعقود-[أي: كالهبة،

والصلح]- لم يفتقر إلى ذكر الشروط؛ لأن المقصود المال؛ فأشبه دعوى المال؛ وهذا ما ادعى الغزالي: أنه المنصوص. وعلى هذا هل يشترط التقييد بالصحة؟ فيه وجهان، أصحهما في "الوسيط": نعم. وقيل: يفتقر، لأنه دعوى عقد، وقد اختلف في بعض شرائطه؛ فاحتيج فيه إلى التفصيل؛ كدعوى النكاح. وهذا مخرج من النص في النكاح، وينسب إلى ابن سريج. وعلى هذا: يذكر [أهلية] العاقد، والثمن، والتفرق بالأبدان عن تراض؛ كما قاله في "الشامل"، و"البحر". وقيل: في بيع الجارية يفتقر؛ لأنه يقصد به الوطء فهو كالنكاح، وفي غيرها لا يفتقر؛ لأنه يقصد به عين المال. والمذهب: الأول، ويخالف النكاح؛ لأن بضع الحرة لا يملك إلا بوجه واحد، وهو النكاح، فشرطنا التفسير فيه؛ حتى لا يكون واقعاً على وجه فاسد، بخلاف ملك اليمين؛ فإنه يحصل من وجوه شتى، وفي يوم واحد مراراً؛ فقلما يشبته؛ فلا يشترط التفسير فيه. وفي "الحاوي": أنه إذا ادعى ابتياع عبد، فإن كان المقصود دعوى العقد؛ فلا بد أن يذكر [الثمن، وإن كان المقصود انتزاعه من يده فلا بد أن يذكر] أنه ابتاعه منه، ودفع ثمنه، ومنعه منه، ولا يلزمه ذكر قدر الثمن. واعلم أنه قدر تكرر منا القول بأنه إذا ادعى المال لا يجب عليه بيان السبب، حتى ادعى الفوراني: أنه لا خلاف فيه في حالة دعوى استدامه الملك؛ كقوله: هذا ملكي. وهذا محل اتفاق فيما وقفت عليه إذا لم يطالبه المدعى عليه ببيانه، أما إذا طالبه فقال للقاضي: سل المدعي عن جهة وجوب ما ادعاه- فقد قال في "الإشراف": إن القاضي بالخيار: إن شاء سأله، وإن شاء لم يسأله. وفيه وجه آخر يعزى إلى القفال والمروزي: أن القاضي يسأله عن جهة وجوبه؛

لأن أسباب الوجوب مختلف فيها بين أهل العلم؛ فربما ظن شيئاً موجباً، وهو غير موجب في اعتقاد القاضي. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجه فيما إذا ادعى شخص عبودية شخص مجهول الحال: أنها لا تسمع مطلقاً، والأصح من المذهب: السماع. قال: وإن ادعى قتلا، ذكر القاتل، وأنه انفرد بقتله، أو شاركه فيه غيره؛ لاختلاف الحكم بذلك. ويحتاج في قتل الخطأ، وشبه العمد، والعمد الذي لا تجب فيه إلا الدية- لمشاركة المخطئ فيه ونحوه- إلى ذكر عدد المشارك؛ لأن حصة المدعى عليه من الدية لا تتبين إلا بحصر الشركاء، فلو قال: لا أعرف عددهم، لم تسمع دعواه. ولو قال: أعلم أنهم لا يزيدون على عشرة، سمعت، ويترتب على تحقيقها المطالبة بعشر الدية. وهل يحتاج في دعوى القتل العمد الموجب للقصاص بيان عدد المشاركين؟ فيه وجهان: أصحهما: لا. والثاني- ويحكى عن أبي إسحاق-: نعم؛ لأنه قد يختار الدية، فلا يدري حقه منها. وقال الإمام: الوجه عندي أن ينبني هذا على أن موجب العمد القود المحض، أو القود والدية، [أو] أحدهما لا بعينه؟ فإن قلنا بالأول فالوجه القطع بقبول الدعوى. وإن قلنا: [إن] الموجب أحدهما لا بعينه، فيحتمل الوجهان حينئذ، وهذا ما أورده الغزالي. فرع: لو ادعى أنه قتل مورثه أحد هذين، أو واحد من هذه العشرة، أو من هذا العدد، وهو محصور، وطلب من القاضي أن يسألهم، ويحلف كل واحد منهم- فهل يجيبه؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ للإبهام؛ وهذا أصح في "التهذيب"، ولم يورد جماعة غيره، وعليه ينطبق قول الشيخ: ذكر القاتل. والثاني: نعم؛ لأنه طريق يتوصل به إلى معرفة القاتل واستيفاء الحق منه. ولأن القاتل يسعى في إخفاء القتل؛ كي لا يقصد، وتعسر معرفته على الولي لذلك، فلو لم تسمع دعواه هكذا، لتضرر، وهم لا يتضررون باليمين الصادقة؛ وهذا أصح في "الوجيز". ولا يجري هذا في دعوى القرض، والبيع، وسائر المعاملات؛ لأنها تنشأ باختيار المتعاقدين، وحقها: أن يضبط كل واحد من المتعاقدين صاحبه. وقيل بإجرائه في المعاملات- أيضاً- لأن الإنسان عرضة للنسيان، وهم لا يتضررون باليمين. والأظهر: الأول؛ لعظم خطر الدم. أما إذا كان عدد من طلب أيمانهم غير محصور: كأهل القرية، والمحلة- فلا يجاب؛ لأنه يطول فيه العناء على القاضي، ويتعطل زمانه، وتتأخر بسببه حقوق سائر الناس، وفي إحضار الجمع الكبير إضرار بهم؛ وهذا ما حكاه الرافعي. [و] في "تعليق" القاضي الحسين: أن محل الخلاف فيما إذا طلب أيمان من يستحيل اجتماعهم على القتل؛ ورجاء أن ينكل واحد منهم؛ فيجعله لوثاً، ويحلف أيمان القسامة، وطرد الخلاف فيما إذا نسي متاعاً بين جماعة، وقال: أعلم أن السارق فيكم، ولا أعلم عينه، فأحلفكم واحداً واحداً. قال: ويذكر أنه عمد، أو خطأ، أو شبه عمد، ويصف كل واحد من ذلك، أي: فيقول في العمد: قتله بما يقصد به القتل غالباً، وفي شبه العمد يقول: ضربه بعصا فمات من ضربه، وفي الخطأ: سقط عليه فقتله. ووجهه: أن القتل إذا وقع لا يمكن تلافيه؛ فوجب الاحتياط فيه بذلك. وفي "الحاوي" وغيره في باب "كيف يدعي الدم" حكاية وجه: أنه لا يحتاج إلى ذلك، بل تسمع مطلقة.

ووجه آخر حكاه الماوردي هنا: أنه لا يحتاج إلى وصف قتل الخطأ. والمشهور الأول؛ وهكذا الحكم فيما إذا ادعى قطع طرف، أو جناية توجب القصاص. ولو ادعى جراحة لها أرش مقدر، ذكر الأرش في الدعوى؛ فإنه المطلوب. فرع: إذا ادعى على شخص أنه تفرد بالقتل، لم تسمع دعواه على غيره بالانفراد بالقتل، ولا بالمشاركة فيه؛ لتضمن الدعوى الأولى كذبه في الثانية. نعم، لو صدقه المدعى عليه ثانياً في ذلك، آخذناه بتصديقه- على أصح الوجهين- لأنه يحتمل أن يكون كاذباً في الدعوى الأولى صادقاً في الثانية. ولو ادعى قتلاً عمداً، فاستفصل، ففصله بما ليس بعمد- ففي بطلان أصل الدعوى قولان: أحدهما: تبطل؛ فلا يقسم؛ ولا يلتفت إلى قوله؛ لأن في دعوى العمدية اعترافاً بأنه ليس بمخطئ فلا يمكنه الرجوع عنه؛ وهذا ظاهر ما نقله المزني. وأصحهما: المنع؛ لأنه قد يظن ما ليس بعمد عمداً؛ فيتبين بتفسيره أنه مخطئ في اعتقاده. وأيضاً: فقد يكذب في الوصف، ويصدق في الأصل؛ وعلى هذا فيعتمد على تفسيره، ويمضي حكمه؛ وهذا ما نقله الربيع. والقاضي الحسين نقله عن القديم، وبعضهم قطع به، وتأول ما نقله المزني على أنه لا يقسم على ما ذكر أولاً. ويجري الطريقان فيما لو ادعى الخطأ، وفسره بما هو عمد. ولو ادعى شبه العمد، وفسره بما هو خطأ محض، وقلنا هناك بطريقة القولين- فمنهم من أجراهما هاهنا، ومنهم من قطع بعدم بطلان أصل الدعوى؛ لأن قوله الأول

يقتضي زيادة، [ومن ادعى زيادة، ثم] رجع على قدر الحق لا تبطل دعواه. ولو فسره بما هو عمد فلا تبطل دعواه، ويقسم قال الماوردي: وعندي [أنه] لا يقسم. قال: وإن ادعى أنه وارث بين جهة الإرث؛ لأنها مختلف فيها بين أهل العلم، مع قلة وقوعه للشخص الواحد؛ فقد يظن أنه وارث، وليس كذلك. قال: فإن لم يذكر، سأله الحاكم عنه، أي: فيقول له: من أي جهة أنت وارث: من النسب، أو ولاء، أو نكاح؟ وهذا هو المعنى بالاستفسار، وقد قدمت الكلام فيه في باب "أدب القضاء". وقال في "المهذب": إن هذا مطرد في كل ما لزم ذكره في الدعوى، ولم يذكره، وهو ما أورده الجمهور، وعليه نص الشافعي في "المختصر"؛ حيث قال: ينبغي للحاكم أن يقول له عند دعوى القتل: من قتل صاحبك؟ فإن قال: فلان، قال: وحده؟ فإن قال: نعم، قال: عمداً أو خطأ؟ فإن قال: عمداً، سأله، ما العمد؟ وإيراد الروياني يشعر بوجوب الاستفصال؛ فإنه قال بعد ما نقل عن الشافعي أنه يستفصل في الأشياء الأربعة كما ذكرنا: وقال الماسرجسي: لا يجب على الحاكم أن يصحح دعواه، ولا يلزمه أن يسمع إلا في دعوى محررة، [و] إنما ذكر الشافعي هذا وأراد أن يستثنيه احتياطاً. وهذا السياق يشعر بأن غيره يقول بوجوب الاستفصال، والأوجه ما نسبه إلى الماسرجسي. وفي "الحاوي" هاهنا: أن الدعوى الناقصة ضربان: نقصان صفة. ونقصان شرط. فالصفة أن يقول: لي عليه ألف، ولا يصفه؛ فيجب على الحاكم أن يسأله عنها. وأما نقصان الشرط: فأن يدعي عقد النكاح، ولا يذكر الولي ولا الشهود، فلا يسأله

عن الشرط، بل يتوقف حتى يكون هو المبتدئ بذكره، [أو لا يذكره]، فينظره. والفرق: أن نقصان الصفة لا يتردد ذكره بين صحة وفساد؛ فجاز أن يسأله عنه، ونقصان الشرط يتردد ذكره بين صحة وفساد؛ [فلم يجز أن يسأله عنه]. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي اعتبار النطق بما ذكره، ولا شك فيه، لكن هل تقوم كتابته في رقعة وادعاء ما فيها مقام النطق به؟ حكى في الإشراف- وتبعه الرافعي- فيه وجهين: أحدهما: نعم؛ لأن الكتابة طريق للبيان. والثاني: لا، وهو ما حكى في الحاوي أن به قال ابن سريج: وخص محل الاكتفاء [به] على الوجه الأول بما إذا قرأها القاضي على الطالب، وقال له بعد قراءتها: تقول هكذا؟ أو: تدعي هكذا؟ فيقول: نعم. وقال: إن الوجهين يجريان فيما إذا كتب المدعي عليه جواب الدعوى في رقعة، وقال: هذا جواب دعواه. واعلم أن حد الدعوى الصحيحة: أن تكون معلومة، ملزمة؛ كما قاله الغزالي. وقد ذكر الشيخ ما يحصل به الإعلام، وسكت [عن ذكر ما] يحصل به الإلزام، وهو قوله: ويلزمه تسليم نفسه [للقصاص] إلي؛ إن كانت الدعوى في قصاص. فلو قال: لي عليه عشرة دراهم، ووصفها، واقتصر على ذلك، أو قال: وهب مني كذا، أو باع، مقتصراً عليه، أو: قتل مورثي منفرداً عمداً عدواناً- لم تسمع؛ لأن الدين يجوز أن يكون مؤجلاً؛ فلا يستحق المطالبة به، والهبة يجوز أن تكون غير متصلة بالقبض؛ فلا يلزمه تسليمها، وإن اتصلت به فيحتمل أن يكون [قد] رجع فيها، لكونه قريباً، أو لكونها تقتضي الثواب، ولم يثبه؛ والبيع يجوز أن يكون قد انفسخ؛ فلا يلزم تسليم المدعى؛ والقصاص يجوز أن يكون قد عفي عنه؛ وبما ذكرناه ينتفي هذا الاحتمال.

وفي "النهاية" في كتاب القاضي [إلى القاضي] فيما إذا لم يقل: إني طالب؛ فيطالب، وقال: يلزمه أداء ما ادعيته عليه- إبداء تردد في الاكتفاء به؛ لأن الفقيه قد يقول: من عليه دين حال يلزمه أداؤه، وإن لم يطالبه صاحبه، وإنما يسقط وجوب الأداء برضا مستحق الحق بتأخيره؛ فلا يكون قوله: يلزمه أداؤه، متضمناً للطلب؛ فيلزمه التصريح به، وقال: إن هذا محتمل جداً. والذي قاله الأصحاب: أنه لا يحتاج، وهل يشترط أن يقول: راسل القاضي سؤاله عن ذلك؟ فيه خلاف سبق في باب صفة القضاء، لكن كلام الشيخ ثم يقتضي أن الدعوى تصح بدونه على كلا الوجهين. وكذا هل يشترط في الدعوى بالعين أن يقول: "وهي في يده"؟ فيه وجهان، حكاهما في "الإشراف"، وغيره، والأصح: أنه لا يشترط [ذلك]؛ لأن طلب التسليم يغني عنه. وما ذكرناه هو الصحيح، ووراءه شيء نذكره في ضمن فروع: الأول منها: الدعوى بالدين المؤجل هل تسمع؟ فيها ثلاثة أوجه: أصحها عند الإمام- كما قال ابن أبي الدم، وعند القاضي أبي سعد، وبه أجاب القفال في "الفتاوى"، وصاحب "الحاوي"-: المنع؛ لأنه لا يتعلق بها إلزام في الحال ومطالبة؛ وهذا ما ذكرناه من قبل، وقد حكاه الغزالي في كتاب "التدبير" عن النص. والثاني: تسمع؛ لتثبت في الحال، ويطالب في الاستقبال، وقد يموت من عليه فتتعجل المطالبة؛ وبهذا أجاب بعض أصحاب الإمام. والثالث: إن كانت له بينة، سمعت الدعوى؛ لتسجل؛ فيأمن من غيبتها وموتها؛ وإن لم تكن فلا تسمع. قلت: ويحتمل أن يكون القائل بهذا الوجه هو القائل بأن مراد الشافعي من قوله في كتاب الأقضية للمدعي: "إن شئت فأت بصحيفة فيها شهادة شاهديك، وكتاب

خصومتك، وإلا اقبل أن يشهد لك الشاهد بالكتاب فأنسأ شهادته": إذا كان لرجل على رجل دين مؤجل يشهد به شاهدان مريدان للسفر، فجاء صاحب الحق إلى الحاكم، فطالبه أن يسمع شهادة الشاهدين؛ لأنه لا يأمن جحوده في غيبة الشهود؛ فيثبت عنده، ويطالبه به إذا حل؛ فيقول له: لا أسمع شهادة شاهديك إلا أن تكون شهادتهم في كتاب فيه خطهما، وأعلم على شهادتهما. وإذا كان هذا قول هذا القائل، كان هذا الوجه مذكوراً في طريقة العراق أيضاً؛ لأن القاضي أبا الطيب وابن الصباغ ذكرا هذا التفسير عن بعض أصحابهم، وقالا: إن معنى قول الشافعي: "وأنسأ شهادته"، أي: أؤخر شهادته إذا لم يأت بكتاب. وقيل: أنسى، بمعنى: النسيان، وهو عند أكثر الأصحاب [أصح]. وهذا إذا كان جميع الدين مؤجلاً، فلو كان بعضه حالاً، وبعضه مؤجلاً- قال في "الحاوي": سمعت الدعوى في الجميع؛ لاستحقاق المطالبة ببعضه، ويكون المؤجل تبعاً. قال: وكذلك لو كان المؤجل في عقد، وقصد بدعواه تصحيح العقد: كالسلم المؤجل- تصح الدعوى به؛ لأن المقصود منه يستحق في الحال. قال ابن أبي الدم: ويلزم على هذا أن يقال: إذا كان الدين مؤجلاً بعقد بيع، تسمع الدعوى به؛ وهكذا في نظيره من الإجارة؛ لأنه يبغي تصحيح العقد بالدعوى، ولو صح هذا قولاً واحداً، لارتفع الخلاف في الدين المؤجل؛ لأن الدين لا يثبت مؤجلاً في الذمم قط إلا ببيع، أو إجارة، أو سلم، أو نكاح. أما القروض وقيم المتلفات، وما يجب من ضمان الحيلولة في الغصوب لا يجب إلا حالاً، ودية قتل الخطأ- وإن ثبتت مؤجلة- فلا توصف قبل الحلول بالدية. الفرع الثاني: من اعترف بإعسار إنسان، وأراد أن يدعي عليه ديناً ليثبته على توقع مطالبته به إذا أفاد مالاً- ففي سماع الدعوى عليه خلاف مرتب على الدعوى بالدين المؤجل، وهذه الصورة أولى بألا تقبل الدعوى فيها؛ فإن زوال الإعسار لا منتهى له بضبط.

الفرع الثالث: الدعوى على العبد بدين معاملة ثابت في ذمته هل تسمع؟ فيها خلاف مرتب على الدعوى على المعسر، وأولى بعدم السماع؛ لأنه يرتقب العتق واليسار؛ كذا قاله الإمام في آخر باب التفليس. الفرع الرابع: دعوى الجارية الاستيلاد، والرقيق التدبير، و"تعليق" العتق بالصفة- فيها طريقان: أحدهما: أنها تسمع؛ لأنها حقوق ناجزة ترتبط بها الدعوى؛ وهذا ما رجحه الإمام في باب موضع اليمين، وهو ظاهر النص في المدبر في كتاب التدبير، وصححه أبو الطيب. والثاني: [أنها] على الخلاف في دعوى الدين المؤجل؛ لأن المقصود منها العتق في المستقبل، والاستيلاد أولاها بالسماع، لتنجز آثاره من امتناع البيع والرهن وغيرهما. وقد ادعى الإمام في كتاب التدبير: أنه الأصح فيها، وأنه لا خلاف في سماع الدعوى به عند العرض على البيع وشهادة الحسبة فيه. والخلاف في سماع دعوى التدبير و"تعليق" العتق بالصفة، مفرع على أنه لا يجوز الرجوع فيه بالقول، أما إذا قلنا: يجوز، فإنكار السيد رجوع يبطل مقصود الدعوى؛ كذا قاله الرافعي، والإمام أبداه احتمالاً لنفسه. قال: وإن أنكر المدعى عليه ما ادعاه، أي: مثل أن يكون قد ادعى [عليه] قرضاً أو إتلافاً، فقال: ما اقترضت ولا أتلفت- صح الجواب؛ لمطابقة الدعوى. وحكى الإمام في باب الامتناع من اليمين: أن أبا سعيد- يعني: الإصطخري- ذهب إلى أنه يجب على المدعى عليه [أن يجيب] عن عين ما يذكره المدعي، والمشهور الأول. قال: وإن لم يتعرض لما ادعاه [عليه]، بل قال: لا [يستحق] علي شيئاً- صح الجواب، لأنا لو كلفناه أن يتعرض لنفي ما ادعي عليه عيناً، فربما تضرر

به؛ لأنه قد يكون اقترض وأتلف، ووفى ولا بينة له، فيقع في أحد محذورين: إما الكذب، أو الغرم؛ بخلاف ما إذا أنكر الاستحقاق؛ فإنه يكون صادقاً، ولا يتضرر. [و] من هذا القبيل ما إذا ادعيت عليه شفعة؛ فيقنع منه بأن يقول: [لا شفعة لك عندي، أو: لا يلزمني تسليم هذا الشقص إليك. وكذا لو ادعت عليه المرأة الطلاق؛ فيقنع منه أن يقول] أنت زوجتي. وعلى قياس هذا: لو ادعى عليه بألف حال، وكان مؤجلاً، فيقنع منه في الجواب [أن يقول]: لا يلزمني دفع شيء إليك الآن، ويحلف عليه. قال الرافعي: وهل له أن يقول: لا شيء علي مطلقاً؟ فيه وجهان عن القفال مبنيان على وجهين تقدما في أن الدين المؤجل، هل يوصف قبل الحلول بالوجوب؟ وفي "النهاية" في آخر كتاب التفليس: أنا إن قلنا: [إن] من أقر بالدين المؤجل يلزمه حالا، اكتفي منه في هذه الصورة بأن يقول: لا يلزمني التسليم، ويحلف عليه. وإن قلنا: القول قوله في الآجل، فهل يقنع منه بأن يقول: لا يلزمني التسليم؟ فعلى وجهين، أحدهما: أنه يقنع منه بذلك؛ فإن مقصود الدعوى مطالبة المدعى عليه، فإذا أنكر وجوب التوفية وحلف عليه فقد تعرض لمضادة مقصود الدعوى. ولو كان في يده مرهون أو مستأجر، وادعاه مالكه- قال الرافعي: فيكفيه في الجواب أن يقول: لا يلزمني تسليمه. قلت: وعلى قياس ما حكيناه [عن الإمام]، ينبغي أن يبني ذلك على ما إذا أقر شخص لإنسان بالملك في عين، وادعى أنها تحت يده برهن أو إجارة، وكذبه المقر له، ومن المصدق منهما؟ فيه وجهان، المذهب منهما: المقر له: فإن قلنا به فيقنع منه في الجواب بما ذكره الرافعي، ويحلف عليه. وإن قلنا بمقابله، وهو أن القول قول المقر- فهل يقنع منه بذلك، أم لا بد من التفصيل؟ فيه وجهان.

وقد حكي عن القفال والقاضي الحسين اختلاف فيما يجيب به من ادعي عليه الملك، وهو مرتهن، ولا بينة له، وقلنا: لا نقبل قوله إلا ببينة، ويخشى من تعذر إقامة البينة- فالمنقول عن القفال أنه يقول: إن ادعيت ملكاً مطلقاً فلا يلزمني التسليم، وإن ادعيت مرهوناً عندي فحتى أجيب. وعن القاضي: أن الجواب لا يسمع منه مع التردد، ولكن يجحد ملكه إن جحد صاحب الدين الرهن. وعلى عكسه: لو ادعى المرتهن الدين، وخاف الراهن جحود الرهن لو اعترف بالدين-: فعلى الوجه الأول: يفصل، فيقول: إن ادعيت ألفاً، لي عندك بها رهن، وهو كذا فحتى أجيب، وإن ادعيت ألفاً مطلقاً فلا يلزمني. وعلى الثاني: صارت العين مضمونة عليه بالجحود، فلمن عليه الدين أن يجحد ويجعل هذا بذاك، ويشترط التساوي. ونظم "الوجيز" يقتضي ترجيح الأول، وهو الذي أورده الفوراني، وذكر أن المدعى عليه يفصل الجواب أبداً، ولا يكون ذلك إقراراً بشيء. وللرافعي على ذلك سؤالان، فاطلبهما منه. قال: فإن كان المدعى ديناً، فالقول [قول [المدعى] عليه مع يمينه؛ لما روى أبو داود عن ابن أبي مليكة- وهو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة- قال: كتب إلي ابن عباس "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِيْنِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ"، وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وروى مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعَاوِيْهِمْ .. " الحديث الذي ذكرناه في أول الباب.

قال: فإن أقام المدعي بينة، قضى له، أي: ولو بعد حلف المدعى عليه. فإن قيل: ما الحكمة في تقديم البينة على اليمين مع أن كلاً منهما حجة؟ قيل: لأن اليمين حجة من جهة الخصم، وهي قول واحد، والبينة حجة من غير جهة الخصم، وهي قول اثنين؛ فكانت أبعد من التهمة. ولأن البينة مستقلة بنفسها، واليمين لا تستقل بنفسها [وتحتاج] إلى سبب آخر، وهو براءة الذمة في مسألتنا، واليد عند دعوى العين. قال: وإن [كان] المدعى عيناً، ولا بينة له، فإن كان في يد أحدهما، فالقول قوله مع يمينه؛ لما روى أبو داود عن علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي عن أبيه، قال: "جَاءَ رَجُلُ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَرَجُلُ مِنْ كِنْدَةَ إِلَىِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ الحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لأَبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا، لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَكَ بَيِّنَةُ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ، فَلَكَ يَمِينُهُ، فَقَالَ: يَا َرسُوْلَ اللهِ، إِنَّهُ فَاجِرُ، لَيْسَ يُبَالِي مَا حَلَفَ، لَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيءٍ، فَقَالَ: لَيْسَ [لَكَ] إِلَّا ذَلِكَ"، أخرجه مسلم وغيره. وروى أبو داود عن الأشعث- وهو ابن قيس- قال: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضُ، فَجَحَدَنِي، فَقَدِمْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَلَكَ بَيِّنَةُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ لِلْيَهُوْدِيِّ: احْلِفْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَنْ يَحْلِفُ، وَيَذْهَبُ بِمَالِي؛ فَأَنْزَلَ اللهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} إلى آخر الآية [آل عمران: 77]. وقد أخرجه مسلم بنحوه، والبخاري أتم منه. فرع: لو أراد المدعى [عليه] في هذه الحالة أن يقيم بينة على أن الملك له؛ ليتوقى عن اليمين، فهل تسمع؟ قال الأصحاب: ذلك ينبني على أنه لو أراد إقامة البينة على أن الملك له قبل أن يدعى عليه، هل تسمع؟ وفيها خلاف، حكاه الماوردي

والبندنيجي وجهين على السواء، والأظهر عند الإمام وغيره: المنع، وبعضهم قال: إنه المذهب. فإن قلنا به، فهل تسمع هاهنا؟ وجهان، وظاهر المذهب منهما في "النهاية" والرافعي: لا- أيضاً- فإنا في فصل الخصومات نستمسك بأقرب الطرق وأهونها، والتحليف أقرب من البينة المحوجة إلى رد النظر على الجرح والتعديل والقواعد المرعية في الشهادات. وعن ابن سريج تخريج قول أنها تسمع؛ كالمودع إذا ادعى التلف أو الرد؛ فإن القول قوله [مع] يمينه. ولو أراد أن يقيم البينة على ذلك؛ ليسقط اليمين عن نفسه، جاز مع أن الحالف يعرض نفسه للتهمة [وقد يتطرق إليه الطاعن، والبينة العادلة تقطع التهمة]. وعلى الأول فالفرق بينه وبين المودع: أن مقام صاحب اليد في الخصومة الإنكار والنفي، وذلك لا يمكن إقامة البينة عليه، ودعوى الملك لا حاجة به إليها، وهو صاحب اليد، والمستقل بما تحويه يده والمودع في مقام المدعيين- كما ذكرنا- غير أن مقامه في الائتمان صدقه فيما هو مودع فيه، واليمين [يليق] بحال المدعيين. تنبيه: قول الشيخ: "فإن كان في يد أحدهما فالقول قوله مع يمينه"، فيه ما يفهم أن دعوى الشخص تسمع بما في يده، وأنه يحلف على ذلك، وإلا لكان قوله: "وإن كان في يد المدعى عليه فالقول قوله مع يمينه" أولى وأحسن. وقد قال الأصحاب: العين إذا كانت في يد المدعي لا تصح دعواه بها، إلا أن يتعلق [له] بها حق على المدعى عليه من أجرة عنها، أو قيمة ما استهلك منها. وكذا لو قال: نازعني فيها، لم يصح أيضاً. قال الماوردي: في باب "ما على القاضي في الخصوم": لأن المنازعة دعوى تكون من غيره، لا منه. نعم، لو قال: قد عارضني فيها بغير حق، فقد اختلف أصحابنا في صحة الدعوى:

فقال أبو حامد: تصح الدعوى، ويسأل الخصم عنها؛ لأن في المعارضة رفع يد مستحقه. وقال بعضهم: لا تصح هذه الدعوى حتى يصف المعارضة بما يصف الدعوى. فعلى هذه الحالة ينبغي أن يحمل كلام الشيخ، والله – عز وجل- أعلم. قال: فإن كان في يديهما، أو لم يكن في يد [واحد منهما] – حلفا، وجعل بينهما. أما في الأولى فوجهه ما روى أبو داود بسنده عن أبي موسى الأشعري أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا بَعِيراً أَوْ دَابَّةً إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةُ، فَجَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا. وأخرجه النسائي وابن ماجه. وهذا الجعل يظهر أن يكون بعد حلفهما؛ لأن أبا داود روى بسنده عن أبي هريرة أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس لواحد منهما بينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِين مَا كَانَ، أَحَبَّا ذَلِكَ أَوْ كَرِهَا". وفي رواية قال: "فِي دَابَّةٍ وَلَيْسَ لَهُمَا بَيِّنَةُ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِيْنِ"، أي: يقرعا على من يبدأ بيمينه. ولأن في يد كل واحد منهما النصف؛ فكان القول قوله فيه؛ كالعين الكاملة. وأما في الثانية؛ فلأن نسبة العين [إليهما] فيها نسبة واحدة، فألحقت بما

إذا كانت في يديهما. وهذه المسألة مصورة بما إذا ادعى واحد منهما على صاحبه: أن هذه العين ملكي، وهو يمنعني منها بغير حق؛ فإن الدعوى تسمع. كذلك إذا لم تكن العين في يد واحد منهما، وقد صرح بذلك ابن الصباغ في باب "ما على القاضي في الخصوم" حيث قال: وإن ادعى أن هذه الدار لي، وهو يمنعني منها- صحت الدعوى، وإن لم يقل: إنها في يده؛ لأنه يجوز أن ينازعه ويمنعه وإن لم تكن في يده. وكذلك العبادي- كما حكاه الرافعي قبيل باب دعوى النسب- حيث قال: من أراد أن يدعي، ويقيم البينة من غير أن يعترف للمدعى [عليه] باليد، فطريقه أن يقول: الموضع الفلاني [في] ملكي، [وهذا] يمنعني منه؛ تعدياً، فمره يمكني منه. وكذلك الماوردي في هذا الباب حيث قال: والضرب الثاني من الدعوى الصحيحة: دعوى الاعتراض، وهي على ضربين: أحدهما: أن يتوجه إلى ما في يده. والثاني: أن يتوجه إلى ما يتعلق بذمته. فأما [ما كان في] يده فلا يصح إلا بعد معارضته، فإن كانت المعارضة بما لا يستضر به المدعي، لم تصح منه الدعوى، وإن [كانت] بما يستضر به المدعي: إما بمد اليد إلى ملكه، وإما بمنعه عن التصرف فيه، وإما بملازمته عليه، أو بقطعه عن أشغاله- صحت دعواه بخمسة شروط: أن يصف الملك بما يصير به متعيناً من منقول، وغير منقول. وأن يذكر أن له، وفي ملكه. وأن يذكر أنه عارضه فيه بغير حق؛ لأنه ربما استحق المعارضة برهن أو إجارة؛ حتى لا يبقى في دعواه ما يحتاج الحاكم أن يسأل عنه؛ ليعدل بسؤاله إلى المدعى عليه. وأما توجه الدعوى إلى ما يتعلق بذمته؛ لأنه قد طولب بما لا يستحق عليه، فإن لم

يلحقه بالمطالبة ضرر، لم تصح [منه] الدعوى. وإن لحق بها ضرر: إما بنفسه، أو بملازمته، أو في جاهه بالشناعة، وإما في ماله بالمعارضة- صحت منه الدعوى؛ ليدفع بها الضرر، وصحتها بثلاثة شروط: أن يذكر ما طولب به: إما مفسراً، أو مجملاً؛ لأن المقصود بالدعوى ما سواه. وأن يذكر أنه غير مستحق عليه. وأن يذكر ما استضر به؛ لأن مقصوده الدعوى؛ ليكون الكف عنه متوجهاً إليه. ولك أن تقول: كلام الماوردي لا يوافق كلام الشيخ؛ فإنه قال: وله في الجواب عن دعوى هذه المعارضة ثلاث أحوال: أن يعترف بجميع ما تضمنها؛ فيمنعه الحاكم من معارضته. أو ينكر المعارضة؛ فيخلي سبيله، ولا يمين عليه؛ لأنه لا يتعلق بالمعارضة استحقاق غرمه. والثالثة: أن يذكر أنه يعارضه فيه بحق يصفه؛ فيصير مدعياً بعد أن كان مدعى عليه، ويصير المدعي مدعى عليه بعد أن كان مدعياً. وكلام الشيخ يقتضي التحليف عند الإنكار. نعم، يوافق ما ذكرناه ما حكاه الإمام في كتاب النكاح عن أبي بكر الصيدلاني فيما إذا عقد اثنان على امرأة عقد نكاح، وعلم سبق أحد العقدين، لكن لم يعلم عينه، وادعى كل واحد منهما: أن السابق عقده- أن دعواه تسمع على الآخر. والمحكي عن غيره: أنها لا تسمع؛ فإن وضع الدعوى في الشريعة يقتضي ارتباطاً بالمستحق عليه، ثم يصدر من المستحق عليه إقرار أو إنكار، وليس واحد من المتزوجين مدعياً استحقاقاً على صاحبه، وليس في يد واحد منهما ما يدعيه صاحبه، وهذا منقدح حسن على قياس الدعاوى. قلت: وهذا إن صح لا يمنع ما ذكرناه؛ لأن الإمام قال: والذي نراه: أنهما إذا كانا يدعيان علم المرأة بالأسبق، وكان الرجوع إليه ممكناً- فلا يسغ تحالفهما من غير مراجعة. فأما إذا اعترفا بأن الأمر مشكل عليها، فالمرأة في هذه الحالة كالشيء المدعى الذي لا يقر ولا ينكر؛ وفي هذه الحالة يجوز أن يقال: يحلفها القاضي؛

خشية من تعطيل الحق، ويجوز أن يقال: لا يحلفها؛ فإنه لا مرتبط لدعواهما بمن يجب ربط الدعوى به. وهذا منه يدل على أن مأخذ المنع إمكان الدعوى عليها، وهو منتف فيما نحن فيه، على أن الذي يظهر صحته ما قاله الصيدلاني وإن كان ضعفه؛ لأن الزوجية قد تحققت لأحدهما، والمانع من التسليم لأحدهما منازعة الآخر، ولهذا لو أقر أحدهما بسبق عقد صاحبه، سلمت [المرأة] إليه؛ كما قاله الإمام فيما إذا سمعنا دعوى أحدهما على الآخر، فأنكر ونكل، وحلف المدعي؛ فإنا نقضي له بالزوجية. وإذا كان كذلك، فالتحليف يستخرج به الإقرار، وهو متوقف على الدعوى، على أنه لو خرج الخلاف [في ذلك على الخلاف] في أن الدعوى بما ليس بنفس الحق، ولكنه ينفع في الحق، هل تسمع- لم يبعد، وكان [يجب طرده] في دعوى المعارضات كلها. والأولى تصوير المسألة الثانية بصورة ذكرها الشيخ وغيره في كتاب الإقرار، وهي ما إذا أقر من في يده عين بأنها لأحد شخصين، ولا يعرفه، وصدقاه؛ فإنها تنزع منه، ويكونان خصمين فيها وإن لم تكن في يد واحد منهما، كما سنذكر المسألة بفروعها ثم إن شاء الله تعالى. واعلم: أن في كيفية حلفهما هاهنا اختلافاً للأصحاب؛ لأن الشافعي نص في الكبير- أي: "الأم"- على أنه يحلف كل واحد [منهما] على النفي، ولا يجمع في يمينه بين النفي والإثبات، [ونص في البيع على أن المتبايعين إذا اختلفا، وتحالفا، يجمع كل واحد في يمينه بين النفي والإثبات]. فمنهم من قال: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج: أحدهما: يجمع في يمينه [بين النفي والإثبات؛ لأن كل واحد منهم مدع ومدعى عليه. والثاني: يحلف على النفي]؛ لأن اليمين حجة للنفي.

ومنهم من أقر النصين على ظاهرهما، وفرق بأن في البيع مثبته في ضمن منفيه ضرورة؛ لاتفاقهما على أن العقد واحد، فإذا أثبته بألف، نفاه بخمسمائة، وهنا منفيه ليس في ضمن مثبته ضرورة؛ لأنه إذا نفى ما في يده عن صاحبه، لم يصر به مثبتاً ما في يد صاحبه لنفسه؛ وهذا أصح عند الإمام والرافعي، وقد تقدم ذكره في باب التحالف، وأعدته؛ لبعد العهد به. وعلى كل حال فمن المبدوء به في التحليف؟ فيه وجهان، صرح بهما المحاملي في كتاب الصلح في المسألة التي سنذكرها في هذا الباب، والإمام أشار إليهما هاهنا: أحدهما: من يختاره الحاكم من غير قرعة. والثاني: من تخرج له القرعة. وقد صرح بمثلهما الإمام في كتاب الوديعة؛ حيث قال: إذا ادعى رجلان على شخص وديعة في يده، فقال: هي لأحدكما، ولست أعرف عينه، وامتنع عن اليمين- فإنهما يحلفان، وفيمن يبدأ به الوجهان. قال الرافعي: ويجوز أن يقال: كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، فينظر إلى السبق، فمن سبق دعواه بدئ بتحليف صاحبه. وفي قدر ما يحلف عليه كل واحد منهما وجهان، حكاهما الماوردي في كتاب الصلح: أحدهما- وهو قول البغداديين-: أنه يحلف على نصفه، وهذا ما اقتضى إيراده هنا ترجيحه، ولم يحك سواه في اليمين عند التنازع في متاع البيت، وبه جزم القاضي أبو الطيب، وقال: إنه لا يجوز أن يستحلف على الكل، ومن صار إلى أنه يحلف على الكل فقد أخطأ. والثاني: أنه يحلف على جميعه، وهذا قول جمهور أصحابنا، يعني: البصريين. وفي "النهاية": أنه يحلف على النصف الذي في يده يمين النفي، وعلى النصف الذي في يد صاحبه يمين الإثبات عند توجهها عليه. ولو قال: والله إن جميع هذه الدار لي، وليس لصاحبي فيها حق ولا ملك- لم

يضر؛ فإن اللفظ على هذا الوجه أجمع وأحوى للغرض، لكنه يحلف يمين الرد، وهي يمين الإثبات من غير طلب خصمه، ويمين النفي عما في يده لا سبيل إلى عرضها عليه ما لم يطلبها الخصم. التفريع: إن قلنا بالقول المخرج هنا، وعرضنا اليمين على النفي والإثبات على أحدهما، فحلف، ونكل الثاني- لم نحتج إلى يمين الإثبات ثانياً. وإن قلنا بالمنصوص، فعرضنا على أحدهما يمين النفي: فإن حلف، عرضنا على الآخر يمين النفي، فإن حلف انقطعت الخصومة، وبقي المدعي في يدهما كما كان، ولو نكل حلف الأول على الإثبات، وثبت المدعى له، فلو أقام الناكل بينة بالملك، فهل تسمع؟ قال الأصحاب: إن قلنا: [يمين الرد] مع النكول كإقرار الخصم، لم تسمع، وإلا سمعت. وفي "التهذيب": أن الأصح السماع، لأن جعل ذلك كالإقرار حكماً، لا أنه حقيقة إقرار. ولو نكل الأول عن يمين النفي، حلف الثاني يميناً واحدة، يجمع فيها بين النفي والإثبات؛ كما حكاه القاضي الحسين، ولم يحك سواه، وكذلك أبو الفرج الزاز. وقيل: لا بد من يمين، وهو الأقيس عند الإمام؛ لتعدد المقصود، وتغايرهما. قال: وإن كان في يد ثالث، أي: وقد ادعى كل واحد من المتنازعين عليه: أن جميع ذلك ملكه- رجع إليه؛ لأنه محكوم له به في الظاهر. قال: فإن ادعاه لنفسه، فالقول قوله مع يمينه؛ لما ذكرناه فيما إذا كان المدعي عليه واحداً، قال الأصحاب: ويحلف لكل منهما يميناً عند طلبه. قال: وإن أقر به لغيره، وصدقه المقر له- انتقلت الخصومة إليه؛ لأن اليد صارت له، والخصومة إنما تدور بين متنازعين. قال: وهل يحلف، أي: المقر، [عند طلب] المدعي؟ فيه قولان. [و] القولان في هذه الصورة مبنيان على القولين فيما إذا قال: هذه الدار لزيد

[بل] لعمرو، هل يغرم لعمرو؟ فيه قولان يأتيان. فإن قلنا: يغرم له، حلف هاهنا، وهو الأصح عند النواوي وغيره؛ لأن الأصح الغرم في المسألة المبني عليها. وفي كيفية يمينه وجهان في "الحاوي" و"البحر". أحدهما: أن الدار- مثلاً- لفلان؛ لتكون يمينه موافقة لإقراره. والثاني: أنه لا حق لهذا المدعي فيها؛ لتكون يمينه معارضة للدعوى. وقال بعض الخراسانيين: إنه لا يلزمني قيمة الدار إليك؛ لأن العين قد فاتت بالإقرار الأول، وإنما الكلام في القيمة. وهذا كلام الفوراني. فلو نكل عن اليمين، حلف المدعي، واستحق القيمة. وقيل: إذا قلنا: إن يمين الرد كالبينة، ينزع المدعى [به] من المقر له، ويسلم للحالف؛ كما لو أقام بينة؛ حكاه الإمام. وإن قلنا: لو أقر لا يغرم شيئاً، قال ابن الصباغ وأبو الطيب والبندنيجي والقاضي الحسين والروياني والغزالي: لا يحلف. وفيه شيء سأذكره. وفي "الإشراف": أنه إذا ادعى رجلان وديعة في يد رجل، فاعترف لأحدهما بها، هل للثاني تحليفه؟ فيه قولان: فإن نكل عن اليمين، وحلف الثاني، ففي المسألة أربعة أوجه: أحدها: أن الوديعة تقسم بينهما؛ لأن الأول تعلق بالإقرار، والثاني تعلق بالنكول، واليمين مردودة.

وأصله: قول القسمة في مسألة تعارض البينتين. والثاني: توقف [في يده]؛ لأنه أمين إلى أن يظهر مالكها. والثالث: ينتزعها الحاكم من يد المستودع، ويضعها في يد أمين عدل إلى أن يظهر مالكها. وأصلهما: قول الوقف في تعارض البينتين. والرابع: أنها تسلم للأول، والمودع يغرم قيمتها للثاني. وأصله: قول من جعل يمين الرد كالإقرار، وهذا ما قال في "الشامل" في كتاب الوديعة: إنه المذهب. وحكى معه الوجه [الأول والثاني]، ونسب الكل إلى تخريج ابن سريج. والقولان المذكوران في الكتاب في التحليف جاريان- كما ذكره الإمام وغيره في كتاب النكاح- فيما إذا [ادعى] شخص زوجية امرأة، فأقرت له، وقبلنا إقرارها، ثم ادعى شخص آخر عليها الزوجية، وطلب يمينها، فإن قلنا: إنها لو أقرت غرمت، حلفت؛ كما نص عليه في "الإملاء"، فإن نكلت، حلف وغرمها. وماذا تغرم؟ قال الإمام: هو كمقدار ما يغرمه الشهود على الطلاق إذا رجعوا. وعن الصيدلاني حكاية قولين فيه: أحدهما- وهو مخرج على قياس الجديد؛ كما قاله الإمام، وليس منصوصاً عليه-: أنها تغرم كما ذكرناه. والثاني- وهو محكي عن القديم-: أن نكاح الأول ينفسخ، ويثبت الثاني؛ بناء على أن يمين الرد كالبينة. وهذا ما حكاه في "المهذب"، و"الشامل"، وحكيا وجهاً نسبه ابن الصباغ إلى أبي إسحاق- تفريعاً على قولنا: إن يمين الرد كالإقرار-: أنه يحكم ببطلان النكاحين؛ لأن مع الأول إقراراً، ومع الثاني ما يقوم مقام الإقرار؛ فصارت كما لو أقرت لهما في وقت واحد. والصحيح عند الصيدلاني وغيره: الأول؛ فإنا وإن جعلنا يمين الرد كالبينة فذاك في حق الناكل، والحالف لا يعدوهما، فأما تنزيلها كالبينة في حق ثالث سواهما فلا سبيل إليه، ويحققه أن سبب حلف الثاني نكولها، فلو قضينا بيمين الرد على المقر له، لكان ذلك قضاء عليه بسبب قول المقر، ولا نأمن أن تواطئه، فيحلف، وتنكل، ولا يلزمها من النكول شيء. وإن قلنا: لا يغرم لو أقرت، فلا يحلف؛ كما نص عليه الشافعي في تحريم الجمع من "الأم".

وقال الإمام وابن الصباغ: إنه ينقدح تحليفها. وإن قلنا: لو أقرت لا تغرم إذا فرعنا على القديم، وحكمنا بأن نكاح الأول ينتفي، ويثبت [نكاح] الثاني إذا نكلت، وحلف الثاني- فإنا نبغي بالتحليف فائدة ثبوت النكاح في حق الثاني إذا كان ممكناً، وهو أظهر في الفائدة من تقدير غرم؛ فكأن إقرارها الأول لا يستقر ما لم يحلف الثاني؛ وهذا ما حكاه الغزالي عن القديم، ثم قال: وهو بعيد؛ إذ نكولها كيف يرد إقرارها ويزاحمه؟ وقد صرح القاضي الحسين بما يقرب من ذلك في باب الدعوى على كتاب أبي حنيفة، حيث قال: إذا قلنا: لو أقرت لم تغرم، انبنى تحليفها على أن النكول ورد اليمين بمنزلة الإقرار أو بمنزلة البينة؟ إن قلنا: بمنزلة الإقرار، لم تحلف، وإن قلنا: بمنزلة البينة، تحلف. لكنه قال: إنها إذا عرضت عليها اليمين على هذا، فنكلت- يحلف المدعي، وينفسخ نكاح الأول، ولا تصير زوجة للثاني؛ لأن المرأة لا تتحول من شخص إلى شخص؛ فلا تقبل نقل الملك، بخلاف الأعيان. وأبعد منه ما حكاه الإمام هنا حيث قال: إذا ادعى على امرأة يحسبها خلية نكاحاً، وأنكرت، ورددنا اليمين على الخصم، فحلف، وسلمناها له، فجاء مدع وادعى نكاحها، وأقام [على ذلك] شاهدين عدلين- فقد قال الشيخ في "الشرح": إن قلنا: يمين الرد كالبينة، كان سبيلها كسبيل بينتين تعارضتا: فإن حكمنا بالتساقط فهما على مجرد الدعوى منهما، وإن حكمنا بالاستعمال فلا يجيء هنا إلا القرعة؛ وهذا على نهاية البعد؛ فإن فيه تقديم قول المدعي ويمينه على شهادة شاهدين عدلين يقيمهما آخر، وهذا لا يحتمل. قلت: وما ذكرناه من التفاريع يظهر مجيئه في غير نكاح. فرع: إذا قلنا: يسترد المدعى من المقر له عند حلف المدعي بعد نكول المدعى عليه؛ تفريعاً على قولنا: إن يمين الرد كالبينة- فهل يغرم المقر للمقر له القيمة؛ بناء

على أن الحيلولة القولية توجب الغرم؟ فيه وجهان: أصحهما في "النهاية" هنا: [لا]؛ لأنه يقول: لا يلزمني أن أحلف لك، وعلي ألا أقر لغيرك إذا رأيتك مستحقاً. والثاني: يلزمه الغرم؛ فإن الدار انتزعت منه بسبب نكوله، والسبب يوجب الضمان كالمباشرة. وحكى في كتاب الإقرار في المسألة طريقين: أحدهما: القطع بأنه لا يغرم له شيئاً. والثاني: إجراء قولين في الغرم؛ كما إذا أقر بعين لفلان، ثم أقر بها لآخر. وهذا خبط عظيم، وتخليط مجاوز للحد. قال: وإن كذبه المقر له، أخذه الحاكم، وحفظه إلى أن يجيء صاحبه؛ لأن من في يده ذلك قد اعترف بأنه ليس له، والذي أقر له به قد رده، فأخذه الحاكم حتى يثبت مستحقه؛ فيسلمه إليه؛ كالمال الضال؛ وهذا قول ابن سريج، وهو الأصح عند المتولي وابن أبي الدم، والمختار في "المرشد". وقيل: يسلم [إلى المدعي] – أي: بيمينه- لأن صاحب اليد لا يدعيه، والمقر له ينكره؛ فلم يكن للمدعي منازع فيه؛ فوجب تسليمه إليه؛ وهذا محكي عن أبي إسحاق؛ وهذا أضعف الوجوه، لأن تسليم ذلك إليه من غير بينة، ولا إقرار، ولا ظاهر يد- محال؛ وهذا التعليل الذي ذكر في توجيه قول أبي إسحاق ظاهر فيما إذا كان المنازع واحداً، أما إذا كان المنازع اثنين- مكا اقتضاه كلام الشيخ من أول المسألة- فيظهر أن يقال على هذا الوجه: يكون بينهما، وتبقى الخصومة بينهما، ويؤيد ذلك أن الماوردي قال تفريعاً على هذا الوجه: لو كان المنازع واحداً، وحضر مدع له بعد التسليم إلى الأول بيمينه، ونازعه فيه، هل يكون منازعاً فيها لذي يد، أو لغير ذي يد؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون منازعاً لذي يد؛ لتقدم الحكم بها، فصارت يداً؛ فيكون القول قوله فيه مع يمينه.

والثاني: يكون منازعاً لغير ذي يد؛ لأنه دفع إليه بيمين من غير يد؛ فيحلفان، ويكون بينهما؛ كالمتداعيين لما ليس في أيديهما. وفي "الشامل"، و"تعليق" البندنيجي في أصل المسألة وجه ثالث: أنه يقال للمقر: من أقررت له قد رد إقرارك؛ فإما أن تدعيه لنفسك؛ فتكون الخصم فيه، أو تقر به لمن يصدقك؛ فيكون الخصم، وإذا لم تفعل ذلك جعلناك ناكلاً، وحلفنا المدعي، وسلمناه إليه. وهذا معنى قول الغزالي هنا والمصنف في باب الإقرار، وغيرهما: إنه يقر في يد صاحب اليد؛ لأن إقراره قد بطل بالرد؛ فصار كأنه لم يقر؛ فتأمله. وقد صحح القاضي الحسين هذا الوجه، وقال: إنه طريقة القفال. وقال الإمام في كتاب الإقرار: إنه الذي ذهب إليه الأكثرون. وسأذكر بعد ذلك عن البندنيجي وغيره ما يقتضي: أنه الصحيح، وسنذكر في الإقرار وجهاً آخر: أنه يجبر المقر له على أخذه؛ لأنه ثبت الملك له بالإقرار ظاهراً، والإنكار لا يسقط الحق، وقد حكاه ابن يونس هاهنا. قلت: وهو يتركب من أمور: أحدها: أن المقر لا يغرم لو رجع [عن إقراره. والثاني: أن العين تنزع من يد المقر، ولا يسمع إقراره بها. والثالث: لو رجع] المقر له وادعاها لسلمت له- كما سنذكره- لأنه إذا فرع على ذلك، انسد على المدعي باب الوصول إلى حقه؛ فتعين فتحه بإجبار المقر له على أخذه. وقد قاس القاضي أبو الطيب الوجه المعزي إلى اختيار القفال في كتاب الصلح، على ما إذا قال لرجل: [لك] عندي ألف درهم، فقال: ما لي عندك شيء- فإنه لا يصح هذا الإقرار، ولا يلزمه شيء؛ فكذلك هاهنا؛ وهذا من القاضي تفريع على الصحيح، وإلا فقد حكى الرافعي في كتاب الرهن: أن الإنسان لو أقر بأنه جنى على

المرهون، وكذبه الراهن، وصدقه المرتهن [وأخذ منه الأرش، ثم حصلت البراءة من الدين- فيما يفعل بما أخذ من الأرش وجهين: أصحهما:] أنه يرد إلى المقر، وبه جزم في "الحاوي"، و"الاستقصاء". والثاني: يجعل في بيت المال. فرع: إذا رجع المقر له بعد التكذيب، وقال: تذكرت واستبنت صدق المقر فيما أقر لي به، فهل يسلم إليه؟ قال الإمام هاهنا: فيه وجهان: أحدهما: لا، حتى يجدد المقر إقراراً آخر؛ لأن الأول ارتد، وبطل بالتكذيب؛ كالقبول في الوكالة إذا ردها الوكيل، لا بد من توكيل آخر [إن أراد الوكيل القبول؛ وهذا ما ذكره القاضي. والثاني: أنه مهما صدقه زال أثر التكذيب، واستقر الإقرار، ولا يحتاج إلى تجديد إقرار آخر؛ وهذا ما] جزم به في كتاب الإقرار، ثم ادعى أنه لا خلاف فيه، ويخالف

الوكالة؛ فإنها إنشاء بتسليط، فإذا حكم ببطلانها فلا بد من استفتاح التسليط، والإقرار إجبار؛ فإذا صدر من المقر، وتمادى فيه المقر [له]، ثم وافق- جرينا على استمرار الإقرار. وبنى المتولي وغيره الخلاف في هذه المسألة على الخلاف السابق، فقال: إن قلنا: يترك في يد المقر، فهو حكم منا بإبطال ذلك الإقرار؛ فلا يصرف إلى المقر له إلا بإقرار جديد. وإن قلنا: ينزعه القاضي ويحفظه؛ فكذلك لا يسلم إليه- أيضاً- بل لو أراد إقامة البينة على أنه ملكه، لم تسمع. وإن قلنا: إنه يجبر المقر له على القبول، والقبض- كما هو وجه بعيد في المذهب- سلم له. وهذا البناء يقتضي أن الظاهر أنه لا يسلم إليه. ولو لم يرجع المقر [له] عما ذكره من الجحود، لكن رجع المقر، وقال: غلطت فيما أقررت به، وإنما هو ملكي أو ملك لفلان- فهل يسمع منه؟ قال الماوردي: فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يقبل بحال؛ لأن إقراره الأول أكذب الثاني؛ فعلى هذا يكون الحكم كما لو أقام على إقراره الأول. قلت: إلا في قولنا [له: إما أن] تدعيه لنفسك، أو تقر به لغيرك، أو نجعلك ناكلاً؛ لأن هذا القول مع رد اعترافه لا يجتمعان. والثاني: يقبل. والثالث: إن ادعاه لنفسه لم يقبل، وإن نسبه لغيره، قبل؛ لأنه متهم في ادعائه لنفسه، وغير متهم في الإقرار به لغيره. وقال الإمام في كتاب الإقرار: إن قلنا: إنه ينزع من يده، [فلا تقبل دعواه؛ وعلى هذا- أيضاً- لا تسمع الدعوى عليه بها؛ صرح به هو والقاضي الحسين أيضاً. وإن قلنا: نقره في يده، فظاهر المذهب: أنه لا تقبل دعواه أيضاً. وأبعد بعض أصحابنا، فقبل تكذيبه نفسه، ونفذ تصرفه؛ على شرط أن يصر المقر

على الإنكار والجحد، وهذا بعيد لا أصل له. وقال هاهنا: إذا لم ننزعه من يده، ولم نقبل رجوع المقر له عن الجحد، لكنه مصر عليه- ففي قبول رجوع المقر التردد الذي ذكرنا، فإن قبلنا رجوعه، فرجع المقر له- أيضاً- عن الجحد، وصدقه في الإقرار، وكذبه في دعوى الرجوع]، ولم نقبل رجوع المقر له عن الجحد- فكذلك لا نقبل دعوى المقر الغلط، وإن قبلنا رجوع المقر له عن الجحد وصدقه في الإقرار، كذبه في دعوى الرجوع- ففيه تردد. وظاهر قول القاضي: أنه لا مبالاة بقول المقر له، وكلامه في الإقرار الذي حكيناه يقتضي أن المقر له إذا رجع بعد رجوع المقر يسلم إليه. نعم، لو رجع المقر له، وقد تصرف المقر بعد رجوعه تصرفاً لازماً في وضعه، وقبلناه- قال: فقد يتجه أن يقال: إنا لا نحكم بنقض التصرف؛ لتعلق حق ثالث بمحل التصرف. فرع آخر: إذا كان المدعى به عبداً، وقد أقر من هو في يده: أنه لغير المدعي، وكذبه المقر له- فهل يكون الحكم فيه كالحكم في غيره؟ لم أر في هذه المسألة نقلاً. نعم، في "الشامل" و"تعليق" أبي الطيب، و"مجموع" المحاملي في كتاب الإقرار فيما إذا أقر شخص لعبد في يده لعمرو، وأقر العبد بأنه ملك لزيد، ورد عمرو الإقرار وجهان: أحدهما: [أنه] يعتق؛ لأن الذي هو في يده قد اعترف أنه ليس له، والذي أقر له به رد الإقرار وأبطله، وإقرار العبد بأنه ملك لزيد لا يسمع في هذه الصورة؛ فلم يبق إلا أن يكون حراً؛ كما قلنا في اللقيط إذا اعترف بالرق لمن كذبه؛ فإنه يحكم بعتقه. ومنهم من قال: يبقى على الرق؛ لأن الأصل رقه وملك المقر، فإذا أقر به لغيره فرد، كان باقياً على رقه، ويخالف اللقيط؛ لأن الأصل في الدار الحرية، فإذا أقر لمن

لا يقبل، حكم بحريته بالأصل. وعلى هذا قال ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب وغيرهما: فماذا يصنع به؟ فيه الأوجه الثلاثة التي ذكرناها في كتاب الصلح. وعنوا ما حكيناه من قبل، لكن من جملتها وجه: أنه يسلم للمدعي، وقضية ذلك: أن يسلم في هذه الصورة لمن أقر له العبد بالرق فرد إقراره؛ إذا كان يدعيه؛ وهذه الأوجه يمكن أن يقال بمثلها فيما نحن فيه- أيضاً- والله أعلم. قال: وإن أقر به لغائب- أي: معروف- انتقلت الخصومة إليه؛ لأن من في يده العين نفى أن تكون مملوكة له؛ فلا خصومة بين المدعي وبينه؛ وهذا ما أجاب به أكثرهم، ونسبه الإمام إلى العراقيين، وقال: إنه القياس الذي لا يجوز غيره. وقيل: لا تنقطع الخصومة بالإضافة إلى الغائب؛ لأن فتح ذلك يؤدي إلى الإضرار بالمدعين؛ فإنه لا يعجز كل مدعي عليه عن دفع الخصومة عنه بإضافة العين إلى غائب لا يرجى وصوله؛ وهذا ما حكاه الإمام عن شيخه وبعض المصنفين، ولم يورد البغوي وصاحب "الرقم" سواه، قال الرافعي: وهو ظاهر لفظ "المختصر". ولا فرق في جريان الخلاف- كما أطلقه الجمهور- بين أن يكون صاحب اليد قد أسند يده إلى إجارة، أو إعارة، أو وديعة، أو اقتصر على قوله: ليس لي، وإنما هو لفلان. وعن أبي عاصم العبادي- كما حكاه في "الإشراف"، وغيره-: أن محل الخلاف إذا بين جهة اليد بما ذكرناه، أما إذا اقتصر على قوله: ليس لي، وإنما هو لفلان- لم تنتقل الخصومة إليه بحال. التفريع: إن قلنا بعدم انصرافها عن الحاضر بمجرد إقراره، فللمدعي طلب يمين صاحب اليد: إنه لا يلزمه تسليمه إليه، فإن نكل حلف المدعي، وأخذ المال من يده، ثم إذا عاد الغائب، وصدق المقر، كانت العين مردودة إليه بلا حجة؛ لأن اليد له بإقرار صاحب اليد، والمدعي يستأنف الخصومة معه.

وإن قلنا بانصراف الخصومة عن الحاضر، وقف الأمر إلى حضور الغائب إن لم يكن للمدعي بينة؛ لما تقدم أن الدعوى على الغائب لا تفيد عند عدم البينة، لكن هل للمدعي طلب يمين صاحب اليد؛ لأجل الرجوع عليه بالغرم إذا أقر، أو نكل وحلف هو؟ فيه القولان السابقان بفروعهما. فإن قلنا بالصحيح- وهو [جواز] طلب التحليف- فلو أراد صاحب اليد أن يقيم بينة بأن الملك الغائب؛ ليسقط عنه اليمين، فهل تسمع؟ قال المراوزة: فيه ثلاثة أوجه: [أحدها:] وهو قول الشيخ أبي محمد-: لا تسمع إلا أن يثبت وكالة نفسه؛ لأنه ليس بمالك، ولا نائب عن المالك؛ فإقامة البينة فضول منه؛ وهذا ما صححه في "الوجيز". وعلى هذا يكون الحكم كما لو لم يقم بينة. والثاني: أن البينة تسمع لا لإثبات الملك للغائب، ولكن ليدفع الخصومة والتحليف عن نفسه؛ فإنه لا طريق لمن في يده ملك غيره إلى صرف الخصومة عن نفسه إلا هذا؛ فإنه ليس من الممكن أن يقيم بينة على أن العين ليست له؛ وهذا ما اختاره المحققون؛ كما قاله الإمام، وأورده العراقيون: كالبندنيجي، وابن الصباغ، وغيرهما. وعلى هذا يندفع عنه التحليف جزماً وهو من فوائد السماع التي سنذكرها. فإن قلت: قد ذكرتم ما إذا ادعى على شخص عيناً في يده، وطلب يمينه، فأراد أن يقيم بينة على أنها ملكه؛ ليدفع عن نفسه اليمين- أن المذهب عدم السماع؛ لأنه قادر على فصل الخصومة باليمين؛ فلا يعدل إلى فصلها بالبينة المتوقفة على النظر في عقبات، وهذا موجود هنا. قلت: قد يعذر الإنسان في الامتناع عن الحلف على إثبات الملك لغيره؛ لعدم علمه بأسباب الملك، ولا كذلك في حق نفسه؛ لقدرته على الاطلاع على السبب المملك؛ فلذلك سمعت البينة هنا، ولم تسمع ثم، والله أعلم.

والثالث: [أنه] إن ادعى لنفسه علقة من وديعة، أو عارية، وشهدت له البينة بذلك- سمعت، [و] إلا فلا. قال الإمام: وهذا اختيار القاضي، وليس يليق هذا بمنصبه؛ فإن السر المتبع ما ذكرناه من انصراف الخصومة عنه، وقطع العلائق، والوديعة لا تثبت للمودع حق المخاصمة؛ فلا معنى لاشتراط ادعائها. وهذا كله إذا لم يكن للمدعي بينة، أما إذا كانت له بينة بالملك، ولم يقم صاحب اليد بينته بالملك للغائب- فلا شك أنا نقضي للمدعي بموجب بينته، لكن [هل] هذا قضاء على الغائب حتى يحتاج فيه إلى اليمين، [أو قضاء على حاضر- وهو صاحب اليد- حتى لا يحتاج فيه إلى اليمين]؟ فيه وجهان في كتب العراقيين، و"التهذيب". والمنصوص منهما في "الأم"- كما قال البندنيجي-: الاحتياج إلى اليمين؛ لأنه قال: "من رأى القضاء على الغائب أحلفه مع يمينه"، وهو الذي صححه في "الإشراف". وقال الإمام: هو الذي يوافق مذهب العراقيين، وليس لقولهم: هذا قضاء على الحاضر، وجه. ومقابله منسوب إلى أبي إسحاق، وتمسك فيه بأن المزني قال: قضى بها على الذي هي في يده. ولأن الظاهر أنها ملكه. قال الإمام: وبهذا قطع شيخي ومن وافقه- يعني: في عدم انقطاع الخصومة عن الحاضر بمجرد إقراره- وهو مستقيم على طريقهم. وقال الرافعي: [أنه] الذي رجحه العراقيون والروياني. وفي "البحر": أنه المنصوص عليه في "الأم"، لأنه قال: يقال لهذا المدعي: أقم البينة على دعواك، وللذي في يده: ادفع عنه، فإن أقام المدعي البينة، قضى بها على

الذي هي في يده، وكتب في القضاء: إني إنما قبلت بينة فلان المدعي بعد إقرار الذي في يده الدار بأن هذه الدار لفلان، ولم يكن فلان المقر له، ولا وكيل له- حاضراً؛ فقبلت البينة لفلان المدعي على هذا الدار- ويحكي شهادة الشهود- وقضيت بها على فلان الذي هي في يده، وجعلت فلاناً المقر له بها على حجته يستأنفها، فإذا حضر أو وكيل له، استأنف الحكم بينه وبين المقضي له. ولو أقام صاحب اليد – أيضاً- بينة بأن العين للغائب، قال الشافعي- كما حكاه في "البحر"-: حكمت ببينة المدعي، وسلمت الدار إليه، ولا حكم لبينة الغائب. ومشى العراقيون على هذا؛ بناء على جزمهم في الحالة السابقة بالوجه الثاني، لكن فيما إذا كان صاحب اليد قد أسند يده إلى إيداع أو عارية. ووجهوه بأن هذه بينة مقامة من غير طلب [صاحب] الحق ولا وكيله؛ فلم يثبت بها الملك؛ كما إذا حجر الحاكم على شخص بالفلس، وأراد قسمة ماله بين غرمائه، فشهد شاهدان: أن هذه العين ملك فلان الغائب- لا يلتفت إلى تلك الشهادة، ولا تؤخر القسمة من أجلها، بل تقسم العين بين الغرماء. نعم، لو كان صاحب اليد قد أسند يده إلى رهن أو إجارة، وأقام بينة على الغائب بذلك، وله بالملك- فوجهان: أحدهما: لا يقضي له بذلك؛ كما لو كانت وديعة؛ [وهذا ما اختاره أبو إسحاق؛ كما حكاه في "الحاوي". والثاني: يقضي له بالإجارة أو الرهن، وللغائب بالملك]؛ لأنه قد تعلق به حق لهذا الحاضر؛ فأشبه ما لو كان المقر له حاضراً، وأقام بينة بالملك. قلت: وهذا يمكن بناؤه على أن للمستأجر والمرتهن حق المخاصمة عند غصب العين، وهو الذي اختاره القفال؛ كما حكاه الرافعي في آخر هذا الكتاب، وقد نسب الإمام هذا الوجه إلى رواية العراقيين عن أبي إسحاق، وفي "المهذب" و"الإشراف"، و"البحر": أن أبا إسحاق رواه عن بعض الأصحاب، وليس بشيء بالاتفاق.

والمراوزة ذكروا الوجهين الآخرين في المسألة السابقة هاهنا – أيضاً- وجزم الأصحاب بعدم القضاء بالملك للغائب في حالة إسناد اليد إلى الوديعة، وفيه نظر؛ لأن الإمام في كتاب الوديعة حكى وجهين في أن المودع هل له حق المخاصمة إذا غصب الوديعة من يده أم لا؟ فإذا أثبتناه له يظهر أن يقال: إن الملك ثبت للغائب في هذه الصورة؛ كما لو كان من بيده العين وكيلاً عن الغائب، فإنه لا خلاف في الحكم للغائب بالملك، ولا يسلم للمدعي؛ كما صرح به الإمام وغيره. وإذا صح ذلك انبنت مسألة المستأجر والمرتهن على الوديعة: فإن قلنا: يثبت الملك للغائب بدعوى المودع، فثبوته بدعوى المستأجر والمرتهن أولى، وإلا ففيه الوجهان، والله أعلم. قال البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما: فإن قيل: إذا سلم الملك بالبينة للمدعي عند إقامة صاحب اليد البينة بالملك للغائب، فما فائدة سماع البينة بالملك للغائب؟ قلنا: فائدتها عدم وجوب اليمين على صاحب اليد، وانتفاء التهمة عنه- كما تقدم- وأن الحكم في هذه الحالة إذا وقع بالبينة يكون قضاء على الغائب جزماً حتى تتوجه اليمين على المدعي إذا طلب الحكم، وعلى التحليف نص في "الأم"؛ فيحلف: إن ما شهد شهوده به حق، ولم يخرج من ملكه بوجه من الوجوه؛ كما قاله في "البحر". وما ذكره من عدم وجوب اليمين على صاحب اليد كلام الفوراني منازع فيه؛ فإنه قال: الصحيح: أنه يقضي على ذلك الغائب؛ فيحلف المدعي مع البينة، وقيل: يقضي على الحاضر؛ لأن الشيء في يده حتى لا يحلف المدعي، ثم إذا حضر الغائب، فإن أعاد البينة التي شهدت له في الغيبة، قضى له؛ لأنه صاحب اليد؛ وهذا مما لا خلاف فيه؛ كما قاله الإمام، وإن أجري خلاف فيما إذا ادعى على شخص حاضر بدار، وأقام بينة، وقضى له بالبينة، وأزيلت يد المدعي عليه، ثم وجد بينة- في أن الدار هل ترد إلى يده ونقدره صاحب يد أو لا؟ والفرق: أن الغائب معذور؛ لغيبته، بخلاف الحاضر. ومثل هذا ما ذكرناه فيما إذا حضر الغائب، وأقام بينة على جرح الشهود وقت

الحكم- ينقضي قولاً واحداً، وإن جرى في نقضه لو كان الحكم على حاضر خلاف؛ لما أشرنا إليه من الفرق. فإن قيل: قد حكى الغزالي وغيره- كما سنذكره- فيما إذا كانت العين في يد ثالث، وأقام كل واحد منهما بينة [بالملك]، فهل يكون إقرار الثالث لأحدهما بالملك مرجحاً له- وجهين، ولا يظهر بينهما فرق. قلت: محل الوجهين ثم إذا وجد الإقرار بعد تمام البينتين والحكم بعدم الملك لصاحب اليد- ظاهراً، وشرط الإقرار المقبول أن يكون [للمقر على] المقر به يد تدل على الملك؛ فلا جرم لم يؤثر ثم، وأثر هاهنا؛ لأنه صدر للغائب، واليد تدل على الملك ظاهراً، ثم إذا حضر الغائب، وانتزع العين بالبينة، ورام المدعي تحليف صاحب اليد؛ ليحلف عند نكوله، ويلزمه الغرم- لم يجد إلى ذلك سبيلاً قولاً واحداً؛ فإن الملك استقر للمقر له بالبينة؛ فخرج إقرار المقر عن كونه مقتضياً حيلولة. قال الإمام: ولا مبالاة باقتضاء الإقرار له ما يرجح بينته إذا كانت الإحالة على البينة. قال: وإن أقر [به] لمجهول، أي: مثل أن قال: هو لرجل لا أعرفه، وقد نسيت اسمه، وعينه- قيل له: إما أن تقر [به] لمعروف، أو نجعلك ناكلاً. أصل هذه المسألة: أن الإقرار للمجهول غير صحيح على المشهور؛ لعدم تعيين الطالب. وقضية ذلك: أنه إذا أقر لمن في هذه الدار، ولم نعلم عينه: أن يصح؛ لانحصار المقر له، وإمكان الاطلاع عليه؛ كما إذا أقر للحمل. لكن قد صرح الماوردي عند الكلام في الوصية للحمل بعدم الصحة. وفي "الإشراف": أن صاحب "الإفصاح" قال: يسمع الإقرار للمجهول؛ لأنه

قد يجب الإقرار للمجهول؛ كما في اللقطة يلتقطها فيقر بها الملتقط لصاحبها، وصاحبها مجهول. فإذا تقرر ذلك عدنا إلى قول الشيخ: قيل له: إما أن تقر به لمعروف، أو نجعلك ناكلاً، أي: فيحلف [المدعي] وتسلم إليه العين؛ لأنه يريد أن يصرف بذلك الخصومة عن نفسه بأمر لا يمكن تداركه بالرجوع إلى من أسند الملك إليه؛ فلم يقبل منه؛ لما فيه من الإضرار؛ وهذا ما اختاره في "المرشد". وقيل: يقال له: إما أن تقر به لمروف، أو [تدعيه] لنفسك، أو نجعلك ناكلاً؛ لأن الإقرار للمجهول لما لم يصح، صار وجوده كعدمه، وهو لو لم يقر، كان له أن يدعيه لنفسه، أو يقر به لغيره، فإن لم يفعل، كان ناكلاً. وعلى الوجه الأول: لو ادعاه لنفسه، لم يقبل؛ لأن إقراره بأنه ملك للغير صريح [في] نفي الملك عن نفسه فآخذناه به. وهذان الوجهان محكيان عن ابن سريج، وهما جميعاً متوافقان على عدم انصراف الخصومة عنه. قلت: وهما شبيهان بما ذكرناه من الخلاف في أن التصرف المردود، هل يكون حكمه حكم الصحيح بالنسبة إلى قطع الحق أم لا، كما حكيناه في البيع وغيره؟ وفي "النهاية" وغيرها حكاية وجه: أن القاضي ينتزع العين من يده إذا أقر بها لمجهول؛ كما قلنا فيما إذا أقر بها لمعين، وكذبه؛ وحينئذ تأتي التفاريع السالفة. ولو أقر لمجهول، ولم يكن ثم مدع، مثل أن قال: هذه العين غصب، ولم أعرف غصبتها ممن: قال البندنيجي وغيره في كتاب دعوى الدم: يقال له: الملك لك في الظاهر، تصرف فيها كيف شئت حتى يعرف مالكها. وقال الرافعي ثم: إن في مثل هذا خلافاً مشهوراً، وقد حكاه الإمام قبل باب القافة بأربع ورقات- أو أكثر- وجهين:

أحدهما: [أنه] لا حكم لإقراره. والثاني: يؤخذ منه، ويحفظ؛ كالمال الضائع. وجميع ما ذكرناه يأتي فيما إذا قال: هذه الدار ليست لي، مقتصراً على ذلك، أو قال: هي لرجل لا أسميه. لكن جريان الوجه بانتزاع العين من يده في الصورة السالفة- كما قال الإمام- أوجه من جريانه في هاتين الصورتين، مع أن الصحيح في الكل: عدم الانتزاع. لكن قد حكى القاضي الحسين [فيما] إذا قال: هذه الدار ليست لي ولا لك، ولا أعرف لمن هي، ولا يلزمني تسليمها إليك- ثلاثة أوجه: أصحها: أنها تنزع من يده. والثاني: تسلم للمدعي. وسكت عن الثالث، ويظهر أنه: يقال [له]: إما أن تدعيها لنفسك، أو تقر بها لمعروف، أو نجعلك ناكلا؛ لما سنذكره من كلام البندنيجي وغيره. وقضية ذلك: أن يكون الحكم فيما ذكرناه كذلك، لكن إيراد البندنيجي والرافعي موافق للإمام؛ لأنهما قالا في كتاب الصلح: إذا أقر شخص لشخص بدار، وقد ادعى نصفها، [وأخوه نصفها]، فقال المقر له: لا أملك فيها إلا النصف، ولا أعرف النصف الآخر لمن- فيما يفعل بالنصف ثلاثة أوجه: أصحها: أنه يقر في يد المقر. والثاني: ينتزعه الحاكم من يده، ويحفظه إلى أن يجيء صاحبه. والثالث: يسلمه للمدعي عليه. وقد حكى الأوجه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والإمام ثم، والمصنف هنا، واختار في "المرشد" الثاني منها. فروع: إذا قال من في يده العين: هي لكما، سلمت لهما، ولكل واحد منهما أن يحلف صاحبه.

قال البندنيجي: وهل له أن يحلف المقر؛ لأجل الغرم؟ فيه القولان. ولو قال بمن في يده العين]: هذه الدار لهذا الصبي أو المجنون- قال في "الإبانة": لا تنصرف الخصومة عنه. وغيره قال: هو كما لو قال: هي لهذا البالغ العاقل. وتكون المخاصمة مع وليه، ولا سبيل إلى تحليفه؛ كذا قاله الغزالي وأبو الفرج الزاز. وكذا لو قال: هي وقف على الفقراء، انقطعت الخصومة عنه، وهل للمدعي تحليفه؛ لأجل التغريم؟ فيه الخلاف السابق. وكذا لو قال للمدعي عليه: هي وقف على ولدي الصغير، أو: على مسجد، أو: رباط، أو: على نفسي؛ كما قاله القاضي الحسين. ولو قال المدعي: هي وقف على، وقال من هي في يده: هي وقف علي- قال القاضي الحسين: فلا خلاف أنه ليس للمدعي طلب تحليفه لأجل الغرم؛ لأنه إنما يحلف على ما يدعي أنه فوت عليه ما تقوم قيمته مقام ذلك الشيء الذي فوت عليه، وهاهنا قيمة الدار لو أخذناها لا تقوم مقام الوقف، لكن له أن يجيء كل شهر، ويدعي عليه أجرة ذلك؛ وهذا ما أورده في "التهذيب". قال الرافعي: وكان لا يبعد طلب القيمة؛ لأن الوقف مضمون عند الإتلاف، [والحيلولة في الحال كالإتلاف]. قال: وإن تداعيا حائطاً- أي: بين ملكيهما- فإن كان مبنياً على تربيع إحدى الدارين- أي: مساوياً لها في السمك، والحد، والارتفاع- مثل أن يكون طول الحائط عشرين ذراعاً، وعرصة أحدهما عشرون ذراعاً طولاً، وعرصة الآخر عشرة أذرع طولاً، وهكذا مثاله:

قال: أو متصلاً بإحداهما اتصالاً، لا يمكن إحداثه- أي: بعد البناء – قال الإمام والقاضي: وإنما يظهر ذلك في الزوايا بأن يكون ممتداً بين الملكين، ومتصلا أحد طرفيه بجدار هو ملك لمالك إحدى الدارين، وانعطف أحد الجدارين عن الثاني، وظهر في المنعطف زاوية على هيئة التداخل والرصغ. قال: فالقول قول صاحب الدار- أي: التي بنيانها ما ذكرناه مع يمينه؛ لأن الظاره: أنه مبني لداره؛ فكان الظاهر معه. وقيل في الصورة الأولى: إنهما يستويان في القدر الذي بين عرصتيهما من الحائط بعد تحالفهما؛ حكاه الماوردي. فرع: لو كان الجدار المتنازع فيه مبنياً على خشبة طويلة، وكان طرف من الخشبة والجاً في ملك أحدهما دون الآخر- فقد حكى الإمام: أن العراقيين قالوا: [الخشبة] لمن يكون طرفها في ملكه، والجدار المبني عليها تحت يده؛ فإن الظاهر: أن جدار غيره لا ينبني على ملكه. وهذا ما حكاه في "الشامل" عن بعض الأصحاب، ولم يحك غيره، ثم قال الإمام: ولم أجد هذا في طرقنا وليست المسألة خالية عن احتمال في الخشبة والجدار. قال: وإن كان بين ملكيهما- أي: ولا مرجح لأحدهما- مثل أن كان مبنياً على تربيعهما، أو متصلاً بهما اتصالاً [لا] يمكن إحداثه، أو كان مطلقاً وهو الذي لا يراد منه إلا السترة. قال: تحالفا، وجعل بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. وكيفية التحالف قد سبقت، وهاهنا حكى الماوردي الوجهين في أن الحاكم يقرع لأجل المبتدأ به في اليمين، أو يقدم من شاء منهما؟ قال: وإن كان لأحدهما عليه أزج، فالقول قول صاحب الأزج- أي: مع يمينه- لأن الظاهر أنه بني للأزج. قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما: وكذا لو كان لأحدهما عليه قبة، فالقول قوله مع يمينه. وإنما أحلفناه؛ لأنه يحتمل أن يكونا قد اشتركا في بنائه، أو أمر أحدهما صاحبه في

أن يبني عليه الأزج أو القبة، أو صالحه من ذلك على شيء أخذه منه؛ وهذا من القاضي وابن الصباغ يقتضي أن ما ذكراه يجري وإن كان الأزج والقبة يمكن إحداثهما بعد بناء الحائط. وقد خص الماوردي والإمام محل ذلك بما إذا كان الحائط [قد] بني من أساسه معوجاً على ما جرت به عادة بعض الآزاج والقباب؛ لأن هذا التعويج لا يمكن إحداث مثله بعد كمال البناء. أما إذا كان الحائط غير معوج، فإمكان إحداث الأزج والقبة على الحائط بعد كمال البناء ممكن، فهو كالأجذاع. وعلى هذا ينطبق قول القاضي الحسين: إنه إذا كان لأحدهما عليه بناء يمكن إحداثه بعد كمال البناء، [فلا يرجح به، وإن كان لا يمكن إحداثه بعد كمال البناء]، مثل: الأزج الذي يبنى من أصل الجدار وقرب الأرض، فيبني جداراً منحنياً، فيعقد الأزج عليه جزءاً فجزءاً إلى أن [يتم؛ فيحكم] به لصاحب الأزج. لكن في حالة عدم الاعوجاج قال الماوردي: ما كان من أعلى الحائط معوجاً كتعويج الأزج والقبة، فهو لصاحب الأزج والقبة، وما انحدر عنه من انتصاب الحائط في حكم المنفصل غير المتصل. تنبيه: الأزج- بفتح الهمزة، والزاي، والجيم-: سقف معقود كسقوف أواوين مدارسنا. قال الجوهري: جمعه: آزاج وآزج. قال: وإن كان لأحدهما عليه جذوع، لم يقدم صاحب الجذوع؛ لجواز أن يكون [قد] وضعها بإذنه، أو بقضاء قاض يرى ذلك؛ فلا نزيل ما تيقناه بأمر محتمل. [و] لأن وضع الجذوع معنى حادث في الحائط بعد تمامه؛ فلم يرجح به: كالتجصيص، والتزويق. والجذع: الواحد.

وهكذا لا نظر إلى من إليه الخوارج والدواخل، ولا أنصاف اللبن، ولا معاقد القمط- كما قال الشافعي- لأنه [ليس] في شيء منها دلالة. وأراد بالخوارج- كما قال الماوردي-: ظهور الحيطان، وبالدواخل: وجوه الحيطان. وقال القاضي الحسين، وتبعه الإمام: إنه أراد بالدواخل، والخوارج: الكتابة بالجحص والآجر، والتزويقات على الجدار المخرجة منه، والطاقات التي تدخل فيه. وأراد بأنصاف اللبن: إذا كان أحد جانبي الحائط مبنياً بأنصاف اللبن، والآخر بالشك والمدر؛ كما قاله ابن أبي هريرة، ولم يورد القاضي أبو الطيب سواه. وقال غيره: إنه إفريز يخرجه البناء في أعلى الحائط نحو نصف لبنة؛ ليكون وقاية للحائط من المطر وغيره. وقال القاضي الحسين، وتبعه الإمام: المراد به: الجدار المتخذ من اللبنات المنصفة التي جعل وجه الصحيح إلى جانب، ووجه المكسر إلى الجانب الآخر. وأراد بمعاقد القمط: عقد الخيوط التي يربط بها الجص على الخشبة المعرضة بين السطحين؛ كما قاله الماوردي، وسميت الخيوط: قمطاً؛ لأنه يقمط بها القصب. فلا يرجح من إلى جانبه وجه الحائط، ولا من إلى جانبه أنصاف اللبن، ولا معاقد القمط عند التنازع في الجص المتخذ ستراً بين السطحين الذي نسميه درباً. قال: وإن تداعيا عرصة- أي: بين ملكيهما- لأحدهما فيها بناء، أو شجر- فإن كان قد ثبت البناء والشجر له بالبينة، فالقول قوله في العرصة مع يمينه؛ لأن البينة أثبتت له الملك في البناء والشجر؛ فاقتضى أن تكون يده ثابتة على الأساس والمغرس؛ لانفراده بالانتفاع [بهما كما إذا كان له متاع في دار ينفرد بالانتفاع] بها، وإذا كان كذلك كان القول قوله مع يمينه؛ لما تقدم. فإن قيل: الجدار على أساسه والأشجار على مغارسها، بمثابة الجذوع على الجدار، وقد تقدم أن الجذوع إذا كانت لأحدهما لا تدل على اختصاص صاحبها

بالجدار، فكذلك هاهنا- قال الإمام والقاضي أبو الطيب وغيرهما: قلنا: الجدار بين الملكين في أيدي مالكهما؛ من حيث إنه جزء من كل دار؛ فكان هذا التمسك بالجزئية أولى من التعلق بوضع الجذع، والعرصة هاهنا في يد صاحب البناء والشجر؛ فلذلك كان القول قوله. ونظير ذلك: أن الدار إذا كانت مشحونة بأمتعة إنسان، وكان لا يسكنها أحد- فالدار تحت يد صاحب الأمتعة. ولو كان يسكنها رجلان، ولأحدهما أمتعة- فلا نظر إلى الأمتعة مع سكونهما. وأيضاً: فإن من العلماء من يرى إيجاب وضع الجذوع على حائط الغير، ولم ير أحد منهم [إيجاب] بناء حائط في ملك الغير، ولا غرس شجرة فيه، وذلك يدل على الفرق بينهما. قال: وإن ثبت له ذلك بالإقرار- أي: بإقرار المنازع- فقد قيل: القول قوله؛ كما لو قامت له بينة به؛ وهذا أصح عند النواوي وغيره. وقيل: هو بينهما. قال المحاملي في "المجموع": لأن الإقرار يثبت له ملك البناء والغراس؛ فلا ينقل ملك غيره. ومعنى هذا: أنه لولا الإقرار، لكان البناء وأساسه، والغراس ومغرسه بينهما عند التنازع فيه، فالإقرار بالبناء والشجر أخرجهما من ذلك الحكم؛ فبقي ما عداهما على حكمه. فإن قيل: هذا موجود في حال قيام البينة؛ فكان ينبغي أن يكون الحكم كذلك؟ قلنا: الفرق بينهما: أن ثبوت الملك بالبينة لا يدل على [أن] ما شهدت به [البينة] في يد المشهود عليه؛ لما تقدم أنها تسمع عند قيام المنازعة، وإذا لم تدل على ما ذكرناه، كان ثبوت البناء الشجر له بالبينة مرجحاً لجانبه بالمعنى الذي ذكرناه فقوي؛ فلذلك كان القول قوله. وثبوت الملك بالإقرار يقتضي أن يكون المقر به في يد المقر بحيث لو ادعى أنه

ملكه، لقبل منه؛ كما يأتي في بابه- إن شاء الله تعالى- ومقتضاه: ثبوت اليد للمقر على الأساس والمغرس أيضاً، وقد ادعاهما لنفسه، وهو أعرف بما أقر به؛ فكان القياس: أن يجعل القول قوله فيهما، لكن اليد التي أثبتت له في هذا المقام حتى صح إقراره للمقر له- أيضاً- مثلها على الأساس والمغرس؛ فلا جرم قسم بينهما. وهذا الذي أورده الشيخ قد حكاه الإمام عن العراقيين، ثم قال: إنهم قالوا: إن مأخذ الوجهين في حالة ثبوت الملك بالإقرار: أن من أقر لشخص بجدار أو شجرة، هل يكون مقراً بالأساس والمغرس؟ وفيه قولان مأخوذان من أن بيعهما هل يتناول أصلهما؟ وفيه قولان. والماوردي قال: إذا تنازعا عرصة حائط هو لأحدهما، ففيه وجهان: أحدهما: أنه لصاحب الحائط. والثاني: أنهما فيه سواء. وهذان الوجهان من اختلاف أصحابنا فيمن أقر لرجل بحائط، فهل يدخل قراره في إقراره، أو باع حائطاً، هل يدخل قراره في بيعه؟ على وجهين، والذي حكاه منهما في كتاب الإقرار: عدم الدخول. ثم قال الإمام: فإن قيل: إذا كان لفظ المقر مع اختصاصه بالجدار يتعدى إلى أصهل حتى يجعل إقراراً به على أحد القولين، مع أن مبنى الإقرار على الأقل الممكن- فإذا شهد عدلان [لإنسان] بملك جدار فقولوا: لفظ الشهادة يتضمن الملك في أصل الجدار على أحد القولين؛ قياساً على الإقرار. قلنا: هكذا نقول، ولا فرق- والعلم عند الله تعالى- بناء على أن سماع الشهادة بالبيع مطلقة من غير بحث [عن] شرائط الصحة؛ كما هو المذهب الظاهر، ويحمل البيع المشهود به على الصحة. تنبيه: إذا قلنا: القول قول صاحب البناء والشجر في العرصة عند إقرار المنازع له- كما ذكره الرافعي- فهل يحتاج إلى اليمين؟ لم أقف في هذا على نقل. وقضية الاحتياج إليها عند [ثبوت ذلك بالبينة: أن يحتاج إليها عند] الثبوت

بالإقرار أولى، لكن قضية البناء على الأصل المذكور أنه لا يحتاج إلى اليمين؛ فإن ثبوت العرصة حينئذ يكون بالإقرار، ومن أقر له خصمه بحق، لم يحلفه عليه، وكذلك نقول إن صح هذا في مسألة ثبوت ملك البناء والشجر بالبينة؛ إن فرعنا على ما خرجه الإمام؛ لن الثبوت حينئذ يكون بالبينة، ومن ثبت حقه بالبينة [لم تتوجه عليه اليمين بلا خلاف؛ لأن ما في التحليف قد جاء في البينة]، اللهم إلا أن ينشئ دعوى صحيحة: كدعوى بيع، أو إبراء صدر بعد ذلك، وأمكن صدوره؛ كما قاله في "التهذيب" في باب الامتناع من اليمين، أو يقول: الشاهد اعتمد ظاهر اليد، وهو يعلم سراً أن هذا لي- فإن في تحليفه في هذه الصورة خلافاً؛ حكاه الغزالي في آخر الحجة الثالثة للسرقة؛ وعلى هذا يكون تخريج الإمام أفاد أمرين: أحدهما: إجراء الخلاف في المسألتين، وهو ما اقتضاه [إطلاق المحاملي] في "المقنع"، وكذا القاضي الحسين في "التعليق"؛ حيث قال: إذا تنازعا أرضاً، ولأحدهما فيها بناء أو شجر- فالمذهب: أنه يرجح بالبناء والشجر؛ لأن العادة [ما جرت] بأن الناس يعيرون الأرض للبناء والغراس، وهو الذي أورده البغوي في باب اختلاف الزوجين في متاع البيت، ولم يفرقوا بين أن يكون [قد ثبت ذلك] بالبينة أو بالإقرار. ثم قال القاضي: نعم، في الزرع خلاف، والذي [حكاه في "التهذيب" منه]: أنه يرجح به؛ كالبناء والشجر. والثاني: أنا إذا قلنا: القول قوله في العرصة عند إقامة البينة بالبناء والشجر؛ لا يحتاج إلى اليمين، إلا أن يقال: عدم تحليف المدعي عند قيام البينة- كما ذكره الأصحاب، ونص عليه الشافعي- مفروض فيما إذا وقعت الشهادة [بما شملته] اللفظة لغة وعرفاً؛ كما إذا ادعى عيناً، وأقام بينة على أنها ملكه؛ لأن التحليف في هذه الحالة على أنها ملكه، يتضمن تكذيب الشهود قطعاً. أما إذا وقعت بشيء لم [يشمله اللفظ لغة، وإنما شمله] من حيث العرف؛ كما

في المغرس، والأساس- فإن اسم الشجرة والجدار لا يتناولهما لغة؛ كما قاله الإمام في كتاب الإقرار، وإذا كان كذلك لم يبعد التحليف؛ لأن للاحتمال مجالاً فيه، ويؤيد ذلك ما سنذكره عن نص الشافعي فيما إذا شهدت البينة بملك قديم، وقالت: لا أعلم مزيلاً له، وسمعنا ذلك: أنه يحلف المدعى عليه مع البينة، وإذا صح ما ذكرناه عند قيام البينة بالبناء والشجر؛ فكذلك عند الإقرار بهما، والله أعلم. فرع: حيث قلنا: إن القول في العرصة قول صاحب البناء والشجر؛ إذا ثبت له ذلك بالإقرار؛ بناء على الأصل المذكور- فينبغي أن يكون الحكم فيما عدا المغرس والأساس من العرصة، كالحكم الذي ذكرته في اندراجه في البيع. فرع آخر: إذا تنازعا في جدار والعرصة فيه لأحدهما، فالقول قول صاحب العرصة؛ وهكذا لو تنازعا على حائط سفله لأحدهما، كان القول قول صاحب السفل مع يمينه؛ قاله الماوردي. قال: وإن كان السفل لأحدهما، والعلو للآخر، وتنازعا [في] السقف- أي: الذي يمكن إحداثه؛ كما قال الإمام؛ تبعاً للقاضي الحسين- حلفا، وجعل بينهما؛ لأنه حاجز توسط [بين] ملكيهما، ينتفعان به، وهو غير متصل ببناء أحدهما اتصال البنيان؛ فكان بينهما كالحائط المطلق بين الدارين. وهكذا الحكم فيما إذا تنازعا الحائط بين السفل والعلو الذي في خلال أجذاع السقف، يكون بينهما؛ لأنه تبع للسقف المشترك. أما لو تنازعا في حائط السفل، فهو لصاحب السفل إلى منتهى موضع الجذوع، مع يمينه. وكذا إذا تنازعا في حائط العلو، فهو لصاحب العلو إلى ما فوق أجذاع السقف مع يمينه. ثم كيفية إمكان الإحداث- كما قال الإمام- أن يفرض سقف عال، ثم يفرض سقف دونه؛ بأن تدرج رؤوس الأجذاع في وسط الحائط، وينظم عليها السقف.

أما إذا كان لا يمكن تقدير سقف السفل على وسط الجدار بعد امتداده إلى منتهى العلو كالأزج، فإنه لا يمكن إحداثه على وسط الجدار، فإذا كان كذلك علمنا أن سقف السفل بني أولاً، واستحدث بعده جدار العلو وسقفه؛ فالسقف في هذه الصورة في يد صاحب السفل. فرع: إذا جعلناه بينهما، فلصاحب العلو الانتفاع به- كما كان قبل المنازعة- بالجلوس عليه، ووضع متاعه المعتاد من غير مجاوزة. وكذلك ينتفع به صاحب السفل- كما كان- بالاستظلال. قال الإمام: واتفق الأصحاب على أنه لا يمنع من "تعليق" شيء فيه؛ طلباً للتسوية بينه وبين صاحب العلو؛ فإن ثقله عليه. ثم قال: وهذا هو المذهب الظاهر. ومن أصحابنا من لم يجوز لصاحب السفل "تعليق" شيء في السقف، واستكفى بالاستظلال؛ وهذا ما أورده الماوردي، ثم قال: ولا وجه لما أجازه بعض أصحابنا من "تعليق" زنبيل عليه، ووضع خطاف فيه. وحكى الإمام وجهاً ثالثاً: أنه إن أمكن "تعليق" شيء فيه من غير إثبات وتد في جرم السقف، [جاز مع] اجتناب السرف، ولزوم الاقتصاد. فأما إثبات الوتد في جرم السقف فيمتنع؛ وعلى هذا قال الشيخ أبو محمد: لا يجوز لصاحب العلو ضرب وتد فيه أيضاً. وعلى وجه تجويز ضرب الوتد لصاحب السفل، هل يجوز- أيضاً- لصاحب العلو؟ فيه وجهان. ثم محل الخلاف في جواز "التعليق" إذا كان لذلك قدر له تأثير، أما ما لا تأثير له في السقف على طول الدهر: كالثوب، ونحوه، فلا منع منه؛ إذ هو بمثابة الاستناد إلى الجدار المشترك. قال: وإن تداعيا سلماً منصوباً- أي: موضع الرقي للعلو- حلف صاحب العلو، وقضى له؛ لأنه مختص بالانتفاع به في الصعود؛ فكان الظاهر معه.

ولا فرق في ذلك بين أن [يكون] السلم مسمراً، أو غير مسمر لكنه منصوب في موضع الرقي. وعن ابن خيران: أنه لصاحب السفل إذا لم يكن مسمراً. قال الرافعي: وهذا هو الوجه؛ كسائر منقولات الدار. لكن الذي عليه الأكثرون- كما حكاه ابن كج-: الأول؛ وعلى هذا فليخرج وجه في اندراج السلم الذي لم يسمر تحت بيع الدار. تنبيه: السلم معروف، وجمعه: سلالم، وسلاليم، وهو مذكر على المشهور، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور: 34]. وحكى أبو حاتم السختياني وصاحب "المحكم" فيه التذكير والتأنيث. قال الهروي: سمي: سلماً؛ تفاؤلاً بالسلامة. قال: وإن تداعيا درجة- أي: معقودة- كالأزج، فإن كان تحتها مسكن- أي: لصاحب السفل- حلفا، وجعل بينهما؛ لأن كل واحد منهما ينتفع بها: أما صاحب السفل فبالسكون تحتها، وأما صاحب العلو فبالصعود عليها، فكانت كالسقف بين السفل والعلو. ولا فرق بين أن يكون المسكن بيتاً، أو خزانة تصلح للسكن وإحراز المال. قال: وإن كان تحتها موضع حب، وما أشبهه: كموضع الجرار، والكيزان، والحطب، والرف، فهي لصاحب العلو- أي: مع يمينه- لأن الدرجة لا يقصد منها هاهنا إلا الصعود عليها، ولا يقصد أحد عمل بيت حب بفعله درجة، وتخالف المسألة قبلها؛ لأن السقف يقصد ببنائه الستر للسكن، دون عمل غرفة عليه، وقد يقصد به عمل غرفة عليه دون ستر البيت؛ فلذلك كان بينهما. وقيل: هو بينهما كالمسألة قبلها؛ وهذا قول أبي إسحاق وابن أبي هريرة. والصحيح في "الرافعي" وغيره: الأول، وهو قول الشيخ أبي حامد، وبه جزم في "الوسيط". وهذا التفصيل الذي حكاه الشيخ اتبع فيه الماوردي؛ فإنه هكذا فصل، وهو

- أيضاً- كذلك في "التهذيب"، و"تعليق" القاضي الحسين. والقاضي أبو الطيب حكى فيما إذا كان تحتها موضع ينتفع به كالخزانة وجهين: أحدهما: أنها بينهما. والثاني: أنها لصاحب العلو. قال: [وهو الأصح]، والذي نص عليه الشافعي هاهنا، ولم يفصل. قال [في] "الشامل": وهذه الطريقة أشبه. وحكم الدرجة إذا كانت صماء حكم السلم المنصوب؛ فتكون لصاحب العلو جزماً؛ صرح به أبو الطيب وغيره. قال: وإن تنازعا عرصة الدار، ولصاحب العلو ممر في بعضها دون بعض- أي: مثل [أن يكون] سلم العلو منصوباً في وسط العرصة- فالقول قولهما فيما يشتركان فيه من الممر- أي: وهو من أول العرصة إلى موضع السلم- لأن لكل واحد منهما يداً عليه؛ فيحلفان، ويجعل بينهما. ومما لا ممر فيه لصاحب العلو- أي: وهو ما وراء موضع السلم إلى آخر العرصة- فالقول قول صاحب السفل مع يمينه؛ لأنه المتفرد بالانتفاع؛ فكان في يده؛ وهذا أصح في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الحاوي" و"النهاية" و"التهذيب"، وبه جزم القاضي الحسين. [وقيل: هو بينهما]؛ لأنها بعض السفل، ويدهما على السفل؛ كذا قاله أبو الطيب، وتبعه ابن الصباغ. وقال الإمام: [إنه] يمكن أن يقال: العلو محتف بالعرصة احتفاف السفل، والهواء محتوش بالسفل والعلو؛ فلا يبعد- والحالة هذه- أن تضاف العرصة إليهما؛ فإنه يقال: صحن الدار، وعرصة الدار، والعلو والسفل من الدار. وقالوا: إن الوجهين يجريان فيما إذا كان السلم منصوباً في دهليز الدار، وقد اختلفا في باقي أرضها.

قال الإمام: والصورة الأولى على حال أولى بأن تثبت اليد فيها لصاحب العلو على ما لا مشي له فيه من العرصة من هذه الصورة، وقد حكى الخلاف [القاضي الحسين في هذه الصورة، وهو من العجائب أن يجزم في الصورة الأولى بأن باقي العرصة لصاحب السفل، ويحكي الخلاف] في الصورة الثانية، ولو عكس لكان أولى. قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: ومثل هذا إذا كان زقاق لا ينفذ، وفيه بابان لرجلين: أحدهما في وسطه، والآخر في صدره، فمن أوله إلى باب الأول بينهما، وما جاوزه إذا تنازعاه فعلى الوجهين. وعلى هذا ينطبق قول الماوردي: إن من هذين الوجهين مضى تخريج الوجهين في عرصة الزقاق المرفوع. والإمام قال: إن هذا الخلاف [قربه الأصحاب من الخلاف] المذكور في الدرب الغير نافذ إذا أراد من [في] أسفل الدرب أن يشرع جناحاً، فهل لمن في أعلاه حق الاعتراض، ولا ممر له في أصل السكة؟ وخص الماوردي محل الوجهين في مسألة الكتاب بما إذا لم يكن دون الممر وباقي العرصة حائل، أما إذا كان؛ بأن كان محولاً عن ممره وموضع استطراقه بباب أو بناء كدواخل البيوت، فيكون ذلك لصاحب السفل لا يختلف فيه؛ لأنه تفرد بالتصرف فيه؛ فصار متفرداً باليد عليه، أما لو كان السلم منصوباً في صدر الدار بحيث يخرق الماشي إليه العرصة، فجميع العرصة بينهما؛ لأنها في يدهما وتصرفهما. قال الإمام: وهذا أجمع عليه الأصحاب. لكنا قدمنا: أن حق الممر يجوز أن يشتري على حياله؛ فكان لا يبعد في طريق المعنى ألا يثبت لصاحب العلو إلا حق المرور، فأما الملك في رقة العرصة فلا. قال: وإن تنازع المكري والمكتري في الرفوف المنفصلة- أي: الموضوعة على

الأوتاد- حلفا، وجعلت بينهما؛ كذا نص عليه في "الأم". ووجهه بأن العادة مضطربة فيها: فتارة تكون للمكري، وتارة للمكتري، فلما اضطربت لم يكن أحدهما بها أولى من الآخر؛ فجعلت بينهما. وهكذا الحكم فيما لو تنازعا في السلاليم المنفصلة، وأغلاق الأبواب، وأطباق التنانير، والغرف فيه متقابلة، واليد فيه مشتركة؛ صرح به الماوردي. أما لو كانت الرفوف مسمرة، فالقول قول المكري. قال: وإن تداعى رجلان مسناة بين أرض أحدهما ونهر الآخر، حلفا، وجعلت بينهما؛ لأن فيها منفعة لصاحب النهر بجمع مائه، ولصاحب الأرض بمنعها الماء أن يخرج من أرضه. والمسناة- كما قاله النواوي-: صخرة تجعل في جانب النهر؛ لتمنعه من الأرض، وهي بضم الميم، وفتح السين المهملة، وتشديد النون. وفي "تعليق" البندنيجي في كتاب المساقاة: [أن المسناة:] الأحواض التي يجمع فيها لماء تحت النخل. قال: وإن تداعيا بعيراً، لأحدهما عليه حمل- فالقول قول صاحب الحمل مع يمينه؛ لانفراده بالانتفاع به. قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: وهذا يخالف ما لو تداعيا عبداً لأحدهما عليه قميص وسراويل، فإنه لا يحكم به له. والفرق: أن كون حمله على الجمل تصرف في الجمل بالانتفاع به، ومن انفرد بالانتفاع كانت اليد له، وليس كذلك العبد؛ فإن المنفعة هناك تعود إلى العبد؛ فلم تجعل يداً. قال ابن الصباغ: ولأن الحمل لا يجوز أن يحمله على الجمل إلا بحق، ويجوز أن يجبر العبد على لبس قميص مالكه وغيره إذا كان عرياناً، وبذله له. فرع: لو تداعيا عبداً، أو جارية، أو دابة حاملاً، واتفقا على أن الحمل لأحدهما- قال في "التهذيب": فهي لصاحب الحمل.

قال: وإن تداعيا دابة، وأحدهما راكبها، والآخر سائقها- فالقول قول الراكب مع يمين؛ لانفراده بالانتفاع بها. وقيل: هي بينهما [مع يمينهما]؛ لأن كل واحد منهما لو انفرد كانت له؛ فوجب إذا اجتمعا أن تكون بينهما؛ وهذا قول أبي إسحاق. والصحيح: الأول، وهو المذهب في "النهاية"، و"تعليق" القاضي الحسين. والفرق بينه وبين ما إذا تنازعا جداراً لأحدهما عليه جذوع: أن الانتفاع بالجدار مشترك، وإن امتازع صاحب الجذوع بزيادة، فلم يكن بها مرجحاً؛ كما نقول إذا كانا في دار، ولأحدهما فيها متاع، وليس للآخر فيها شيء وتنازعاها؛ فإنها بينهما. وفي مسألة الدابة الراكب منفرد بالانتفاع؛ فانفرد باليد. والخلاف جار- كما حكاه الإمام وغيره- فيما لو كان أحدهما راكبها، والآخر آخذ بلجامها؛ أو كان التنازع في ثوب، وأحدهما لابسه، والآخر متعلق به يجاذبه. وعزى القاضي الحسين قول الاشتراك فيها إلى أبي إسحاق [أيضاً]. وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب في باب اختلاف الزوجين في متاع البيت: أن بعض أصحابنا قال عند [أخذ] أحدهما باللجام، وركوب الآخر: إن مذهب الشافعي يقتضي أنهما سواء. وقد اتفقوا على أنهما لو تنازعا سفينة وأحدهما راكب فيها، والآخر ممسكها أنها تكون في يد الراكب دون الممسك؛ لأن الراكب متصرف. وكذا لو كان أحدهما ممسكاً برباط السفينة، والآخر ممسك بجنبها- كانت في يد ممسك الجنب؛ لأن الخشبة من السفينة، والرباط ليس منها. ولو تنازعا دابة في إصطبل أحدهما، ويدهما عليها: فإن كان في الإصطبل دواب لغير مالكه، استويا في اليد عليها، وإلا كانت اليد لصاحب الإصطبل خاصة.

ولو تداعيا عمامة، وفي يد أحدهما عشرها، وفي يد الآخر باقيها، ولا بينة- حلفا، وجعلت بينهما؛ كما لو تداعيا داراً: أحدهما في صحنها، والآخر في دهليزها- فإنها بينهما. وكذا لو تنازعا داراً وأحدهما على سطحها، والآخر في صحنها، سواء كان السطح محجراً أو لا، وسواء كان على السطح ممرق أو لا؛ كما قاله الماوردي. قال: ولو تنازعا متاعاً في ظرف، ويد أحدهما على الظرف، ويد الآخر على المتاع- اختص كل واحد بما في يده، ولا تكون اليد على الظرف مشاركة لليد على المتاع، ولا اليد على المتاع مشاركة لليد على الظرف؛ لانفصال أحدهما عن الآخر، وهذا بخلاف ما لو تنازعا عبداً، ويد أحدهما على ثوبه، ويد الآخر على العبد- فإن اليد التي على العبد [تكون على الثوب] أيضاً، دون الآخر؛ لأن يد العبد على الثوب أقوى؛ فصارت اليد على العبد وعلى ما في يده، كذا قاله الماوردي. قلت: ويتجه جريان وجه أبي إسحاق السالف في قسمة الثوب. قال: وإن كان في يدهما صبي لا يعقل- أي: ولم يعرف سبب يدهما، وهو مجهول الحرية، فادعى كل واحد منهما: أنه مملوكه- حلفا، وجعل بينهما؛ لأنه لو انفردت يد أحدهما على من هذا حاله، وادعى رقه- ثبت ملكه [عليه]؛ لأنه كالبهيمة والثوب في عدم التعبير عن نفسه، فإذا اجتمعت يدهما [عليه] حلفا وجعل بينهما؛ كالبهيمة والثوب. أما إذا عرف سبب اليد [فيه]؛ كالالتقاط، فقد تقدم في باب اللقيط: أن الأصح أنه لا يقبل قوله إلا ببينة. قال: وإن كان بالغاً، فالقول قوله، أي: في الحرية والرق لأحدهما، مع يمينه: أما إذا ادعى الحرية؛ فلأنها الأصل، والرق طارئ معترض عليها. وأما إذا عين الرق لأحدهما؛ فلأنه إنما حكم عليه بالرق باعترافه، فكان مملوكاً لمن اعترف له؛ كما لو كان في يده وحده.

وقولنا: إنما حكم عليه بالرق باعترافه، احترزنا به عما إذا أقام كل واحد منهما بينة على ملكه، فأقر هو لأحدهما؛ فإنه لا تترجح بينة المقر له بهذا الإقرار؛ لأن البينة أسقطت قوله؛ لكونها حجة عليه. فإنقلت: قد قال الأصحاب في كتاب الإقرار: إنه إذا أقر رجل بعبد في يده لرجل، فقال العبد: ملكي لرجل آخر- لا يقبل إقرار العبد، وكان للذي أقر [له] به السيد؛ لأن العبد في يد المقر، وليس في يد نفسه. ولأ، الإقرار بالرق إقرار بالمال، والعبد لا يقبل إقراره بالمال المتعلق برقبته؛ وهذا موجود في إقراره لأحد المتنازعين في رقه. قلت: لعل ما قاله الأصحاب في الإقرار محمول على ما إذا سبق ثبوت الرق على العبد قبل إقراره، وفي مسألتنا لم يسبق ثبوت رق على الإقرار، بل وقع ممتزجاً به؛ فلذلك اعتبر. ويدل على ما ذكرته: أن ابن الصباغ وجه [عدم قبول] قول العبد بأن من هو في يده لو أقر به لشخص، ولم يقر له العبد ولا لغيره- قبل إقرار السيد. قال: ولو كان يقبل فيه إقرار العبد، لم يقبل فيه إقرار السيد؛ كجناية العبد؛ وهذا يدل على أن الرق سابق على الإقرار، وإلا لما قبل إقرار من هو في يده أيضاً، والله أعلم. وما ذكرناه من قبول قول البالغ عند دعواه الحرية، وقد تنازع فيه اثنان- جار فيما لو لم يدع رقه إلا واحد. ولا فرق فيه بين أن يكون في يده وهو يستخدمه، ويستصغره استصغار العبيد، أو لا؛ ولا بين أن تتداوله الأيدي، ويجري عليه البيع والشراء مراراً، وهو ساكت، وجوزناه، أم لا. وهذا مما لم يختلف الأصحاب فيه؛ لأن التصرف مع استمرار ظاهر اليد وإن أفاد دلالة ظاهرة على الملك في غير ما نحن فيه، فإنما يدل على تعين الملك إذا كان الشيء مملوكاً؛ فيظهر من اختصاص الإنسان باليد والتصرف وعدم النكير عليه تعينه

من بين الناس، وليس هاهنا مع من يدعي الملك فيه أصل يعتضد به. قال الإمام: فإن قيل: أليس ينفذ تصرفه في البالغ وإن لم يبد منه إقرار بالرق ولا إنكار؟ قلنا: ذهب بعض أصحابنا إلى اشتراط الإقرار بالملك، وكان شيخي يميل إليه في الفتوى. ومن أصحابنا من لم يشترط ذلك وإن كان لو أظهر الحرية فدعواه مقبولة كما ينفذ تصرفه في الثوب الذي بيده؛ وهذا في شخص لم نعهده صغيراً في يده، فأما إذا عهد صغيراً في يده، وكان يدعي رقه ويستعبده إلى أن بلغ، فادعى رقه، وأنكره، وادعى أنه حر الأصل- فالذي جزم به العراقيون: أن القول قول المدعي؛ لأنا حكمنا بأنه ملكه، واستقر ذلك؛ فلا نزيله بقوله، ولكن له استحلافه. وحكى القاضي الحسين هنا، والفوراني والإمام في كتاب الإقرار وجهاً آخر: أن القول قول المدعي عليه مع يمينه، وعلى المدعي البينة، وجعله الإمام الأظهر، ثم صححه. نعم، حكاه ابن الصباغ فيما إذا كان في يده يستسخره في حال صغره، ولم يدع رقه، ولا تصرف فيه تصرفاً يقتضي الملك إلى أن بلغ، فادعاه، وكذبه الصغير، وادعى الحرية، ونسبه إلى رواية القاضي في شرح الفروع [وأنه] قال: إن قائله أخذه من اللقيط إذا حكمنا بإسلامه بظاهر الدار، ثم بلغ ووصفه الكفر- فإنه لا يحكم بردته؛ على أحد الوجهين. قال: والأصح أن القول قول المدعي في هذه الصورة أيضاً، وهو الذي جزم به القاضي في "التعليق"؛ وكذلك البندنيجي. وحكى الإمام طريقة قاطعة بقبول قول الصبي بعد البلوغ، وقال: [إنها تتجه]، وبها يتحصل في المسألة ثلاث طرق: القطع بقبول [قول المدعي، القطع بقبول] قول المدعي عليه، إجراء وجهين في المسألة. وقد ادعى القاضي الحسين أن الوجهين في الحالة الأولى مبنيان على ما لو قال الصغير في حال صغره: أنا حر الأصل، وادعى من هو في يده رقه، فهل يقبل قوله؟

وفيه خلاف: فإن قبلنا قول الصغير قبل قوله بعد البلوغ أيضاً، وإلا فلا يقبل. والغزالي والإمام هاهنا قالا: لو ادعى في حال الصغر الحرية، فإن لم نقبل قوله، فعاد وادعاها بعد البلوغ؛ ففي القبول وجهان. قال الإمام: والقياس القبول، وقد حكى ذلك القاضي- أيضاً- في موضع آخر. قال: وإن كان مميزاً يعقل، فهو كالصغير؛ لأنه لا حكم لقوله؛ وهذا ما جزم به ابن الصباغ والبندنيجي، وصححه القاضي أبو الطيب؛ فعلى هذا: يحلفان، ويجعل بينهما؛ إذا لم يصدر من الصبي إنكار ولا اعتراف. وقيل: هو كالبالغ؛ لأنه يقدر أن يعبر عن نفسه؛ فعلى هذا يكون الحكم برقه وحريته موقوفاً على إقراره: فإن اعترف بالرق، حكم لمن هو في يده بعبوديته، ويقسم بينهما. وإن أنكر الرق، حكم له بالحرية، ولا يحلف ىىل إنكاره إلا بعد البلوغ؛ هكذا قاله الماوردي، وأبو الطيب ادعى أنه ظاهر المذهب، وكذلك البندنيجي. ثم قال الماوردي: ويشبه أن يكون هذان الوجهان من اختلافهم في صحة إسلامه بعد مراهقته وقبل بلوغه. والبندنيجي وابن الصباغ والمصنف في "المهذب" حكوا الوجهين فيما إذا أنكر الصغير المميز الرق، وادعى الحرية في حال صباه، فهل يقبل قول مدعي رقه أم لا؟ كما حكاهما المراوزة، وقالوا: إن ظاهر لفظ "المختصر" مع الثاني؛ لأنه قال: ولو كان في يده صبي صغير يقول: هو عبدي، فهو كالثوب، إذا كان لا يتكلم. [وعلى هذا يحلف الصبي بعد البلوغ، وإن الصحيح الأول. وقول الشافعي: "لا يتكلم"]، عنى به: أنه ليس لكلامه حكم؛ وبهذا يجتمع في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: يحكم برقه بمجرد الدعوى، سواء أقر أو أنكر. والثاني: لا يحكم به، سواء أقر، أو أنكر. والثالث: إن أقر به حكم به، وإلا فلا، ويحلف بعد البلوغ؛ فلو أقر بعد البلوغ

بالرق وقد حكمنا بالحرية في حال صباه؛ لأجل دعواه- فمقتضى إطباقهم على التحليف: قبول قوله وإن لم يكن له فائدة؛ فإنه لا يمكن التغريم؛ لاعتراف المدعي برقه. وقد حكى القاضي الحسين في قبول إقراره بالرق وجهين: أحدهما: لا يقبل؛ لأنا حكمنا بحريته؛ فلا نبطلها؛ كما نقول في البالغ العاقل إذا أقر بأنه حر الأصل، ثم أقر بأنه عبد فلان: فلا يقبل قوله على ظاهر المذهب. والثاني: يقبل، والفرق: أن هاهنا لم يكن لقول المراهق حكم، وهناك لقول البالغ حكم. هكذا قال. ومقابل ظاهر المذهب فيما إذا أقر البالغ بالرق بعد الاعتراف بالحرية وجه حكاه عن الأصحاب في باب اللقيط: أنه يقبل قوله فيه؛ لأنه أقر بحق عليه، وقد ذكرت هذا الفرع مرة أخرى في باب اللقيط، وذكرت فيه شيئاً لم أذكره هنا؛ فليطلب منه. فرع: إذا قبلنا قول العبد في الحرية، وكان من هو في يده قد اشتراه من غيره فهل يرجع عليه بالغرم؟ الذي أطلقه ابن الحداد، وهو الذي أورده القاضي في "شرح الفروع"، والقاضي الحسين قبل باب الإقرار للوارث: لا، لأنه كان من حقه حالة ما يشتريه أن يسأله: هل أنت عبد له أم لا؟ ففرط في ذلك. وفصل أكثرهم، إن لم يصرح في منازعته بأنه رقيق رجع؛ كما لو أقام بينة على الحرية؛ لأنه لم يوجد منه ما يعطل الرجوع. وإن صرح بذلك، فعلى الوجهين فيما إذا اشترى عيناً، وقال في حال المنازعة: هي ملكي وملك من اشتريت منه؛ جرياً على رسم الخصومة، واعتماداً على الظاهر. وأصحهما- كما حكاه الرافعي والغزالي هنا وفي كتاب الضمان-: أنه يرجع، وقال الإمام في كتاب الضمان: إن معظم الأئمة حكوا الوفاق فيه. وأجرى الرافعي، والإمام الخلاف المذكور فيما إذا تقدم الإقرار للبالغ بالملك قبل الشراء؛ اعتماداً على ظاهر اليد، وطريقة الجزم جارية فيه، وهي التي حكاها البندنيجي في كتاب الرهن عند الاختلاف في القبض.

وقد قطع الشيخ أبو علي بأنه لا يرجع في مسألتنا، وفرق بينها وبين ما لو قامت البينة بالحرية- بقوة البينة، وبينها وبين شراء الأعيان بأن ثم المتاع مملوك قطعاً؛ فترتب دلالة اليد عليه، بخلاف الرقيق، فلو ثبتت حرية العبد بيمينه مع نكول المشتري؛ فيظهر أن ييقال: لا يرجع، [وإن قلنا: يرجع] في الحال السابقة؛ قياساً على ما إذا اشترى عيناً، فادعاها شخص، ونكل هو عن اليمين، فحلف المدعي- فإنه لا يرجع وجهاً واحداً؛ كما قاله الشيخ أبو علي والماوردي في أثناء الكلام في مسألة ما إذا ادعى شخص أنه يشتري هذه الدار من زيد، وادعى الآخر: أنه اشتراها من عمرو؛ لتقصيره بالنكول. وقد قال الرافعي فيما قسنا عليه: إنه يجوز أن يفرض فيهخ خلاف؛ بناء على أنه كالبينة. قال: وإن قطع ملفوفاً، فادعى الولي أنه قتله، وادعى الضارب أنه كان ميتاً ففيه قولان: أصحهما: أن القول قول الضارب؛ لأن الأصل براءة الذمة، وهذا ما نص عليه في "الأم" في باب دعوى الدم، ورجحه الشيخ أبو محمد والقاضي الروياني وأبو الطيب وغيرهم. ومقابله: أن القول قول الولي؛ لأن الأصل بقاء الحياة؛ وهذا أظهر عند الرافعي، وحكاه القاضي أبو الطيب عن القديم، وقال الماوردي: إن الربيع تفرد بنقله. وقد اختلف الأصحاب في محل القولين على ثلاثة طرق: أحدها- عن أبي إسحاق-: أنه ينظر إلى الدم السائل: إن قال أهل البصر: إنه دم حي، [فالمصدق] الولي؛ وإن قالوا: إنه دم ميت، فالمصدق الجاني، وإن اشتبه؛ ففيه القولان. والثاني- عن أبي الحسن الطبسي-: أنه إن كان ملفوفاً في ثياب الأحياء

فالمصدق الولي؛ وإن كان في الكفن فالمصدق الجاني؛ وإن كان مشتبهاً ففيه القولان؛ وهذا حكاه الإمام والفوراني في باب الشهادة على الجناية، [واستضعفاه]، [فيطلب منه، إن شاء الله تعالى]. والثالث- وهو الأظهر-: إطلاقهما: فإن صدقنا الجاني، فحلف [برئ، وإن صدقنا الولي فحلف] فله الدية. قال الشيخ أبو حامد: ويستحق [به] القصاص؛ كما تتعلق به الدية؛ لأن الخلاف في العمد الموجب للقصاص، فإذا صدقناه فيه رتبنا عليه موجبه. وبهذا قال القاضي أبو الطيب في "تعليقه". وقال الرافعي: إنه بالغ فيه حين سأله أبو بكر الدقاق، وراجعه فيه. وفي "الشامل": أنه لا يجب الصاص؛ لأنه يسقط بالشبهة، وأن أبا الطيب قال: يحتمل قولاً آخر: أنه يجب القصاص؛ كما قلنا في القسامة. قال ابن الصباغ: ويمكن عندي أن يفرق بينهما: بأن في القسامة يتكرر اليمين، وفي مسألتنا يمين واحدة. والقولان جاريان- كما حكاه القاضي الحسين وأبو الطيب- فيما إذا هدم بيتاً على جماعة، وقال ورثتهم: إنهم كانوا أحياء، وقال الهادم: بل كانوا أمواتاً. قال القاضي الحسين: ويجوز للشاهد أن يشهد بحياته في مسألة الكتاب إذا رآه يلتف في الثوب الذي قطع فيه، وفي مسألة هدم البيت يجوز له أن يشهد بحياتهم إذا رآهم دخلوا البيت. وقال الإمام: يجوز [أن نقول: ليس] له أن يشهد؛ فإن الموت بعد التلفيف ممكن، والاطلاع على الحياة بعد التلفيف ممكن، وليس كالأملاك؛ فإنه لا مستند فيها إلا الظواهر.

وعلى الأول؛ فلا يصرح بذلك، وإن صرح به عند القاضي بطلت شهادته. قال: وإن تداعيا عيناً ولأحدهما بينة؛ قضي له؛ للأحاديث السالفة، وسواء [في ذلك] ما إذا كانت العين في يد أحدهما، والمقيم للبينة غيره، أو في يدهما، أو في يد غيرهما، أو لا يد لأحدهما عليها، وهما متنازعان فيها، وتسمع في الحالة الثانية شهادة البينة بأن كل الدار لأحدهما وإن كان داخلاً في النصف، وقلنا: لا تسمع بينة الداخل قبل قيام بينة الخارج؛ كما هو المذهب؛ لأن السماع هاهنا يقع تابعاً للنصف الآخر الذي هو خارجي فيه، وإنما ينقدح رد بينة الداخل إذا أنشأها مع الاستغناء عنها، وهاهنا هو محتاج إليها؛ لأجل النصف. قال الإمام بعد حكاية ذلك عن رواية القاضي عن الأصحاب: ولعل الحاجة المذكورة: أن عبارة الشهود تضطرب لو خصصنا شهادتهم بأحد النصفين مع التمييز، مع تحقي الشروع، وفي المسألة احتمال لائح. ثم على المنقول: لو أقام الثاني بينة، قال الغزالي: فقد قيل: الآن يجب على الأول إعادة بينته؛ لتقع بعد بينة الخارج، ولا يبعد التساهل فيها أيضا. ولك أن تقول: قد تقدم فيما إذا لم يكن لهما بينة، والعين في يدهما – في كيفية حلفهما وجهان: أحدهما: على نصفها؛ وهذا وزان كونه يقيم البينة على ما في يد صاحبه هاهنا. والثاني: [أنه] يحلف على جميعها؛ وعلى هذا ينبغي أن يقيم البينة على الجميع أيضاً، وإلا فأي فرق بينهما؟ قال: وإن كان لكل واحد منهما بينة، فإن كانت في يد أحدهما، قضي بها لصاحب اليد؛ لِمَا رَوَى جَابِرُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم فِي دَابَّةٍ- أَوْ بَعِيْرٍ- وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ [عَلَى] أَنَّهَا لَهُ نَتَجهَا، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ. ولأنهما استويا في إقامة البينة، وترجحت بينته بيده؛ فقدمت كالخبرين إذا كان مع أحدهما قياس، والجامع: كون كل واحد منهما حجة. وقيل: لا يقضي له إلا أن يحلف؛ لأن بينة صاحب اليد عارضتها بينة الآخر؛ فسقطتا، وبقيت اليد، واليد لا يقضي بها من غير يمين. وقد رجع حاصل ما ذكرناه إلى أن المقضي به في [هذه] الحالة: [البينة، أو اليد] وفيه قولان يأتيان- إن شاء الله تعالى- بناء على أن البينتين إذا تعارضتا هل [تسقطان، أو] تستعملان؟ فإن قلنا بالتساقط، كان القضاء باليد؛ فلا بد من اليمين. وإن قلنا بالاستعمال، كان القضاء بالبينة؛ فلا نحتاج إلى اليمين، وقد أشار إلى ذلك البندنيجي وابن الصباغ والفوراني والبغوي وغيرهم. لكن قضية هذا البناء أن يكون الصحيح وجوب اليمين لأن الصحيح- كما سنذكره- قول التساقط، وقد قال الشيخ: والمنصوص هو الأول- يعني: في القديم- كما صرح به الرافعي، وصاحب "البحر"، وقال: إنه المذهب، واختاره في "المرشد"، وقد تقدم توجيهه. وكلام الإمام والقاضي الحسين مصرح بإجراء خلاف في اليمين- وإن قلنا: إن القضاء بالبينة- لأنهما قالا: إذا تعارضت بينتان، والدعوى على ثالث، فهل تتهاتر البينتان، أو تستعملان؟ فيه قولان.

فإن قلنا بالتهاتر، فهل نقول به هاهنا؟ [فيه وجهان: فإن قلنا به، فلا بد من اليمين. وإن قلنا بالاستعمال، قلنأ: في الاستعمال فيما إذا كانت العين في يد ثالث، ثلاثة أقولا، لا يجيء شيء منها هاهنا] وهذا لفظ الإمام خاصة. نعم، من جملة الأقوال ثم قول القرعة، فإذا قلنا به، فهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه وجهان. وعلى هذا اختصاص الداخل باليد، هل يكون كخروج القرعة؟ فيه طريقان: أحدهما: نعم؛ فيجيء الوجهان. والثاني: القطع بعدم التخصيص؛ فإن هذا اختصاص ثابت، والقرعة وفاق، ولو أديرت لما ميزت ظالماً من مظلوم. ثم قال: إذا حلفناه على قول التهاتر، حلفناه على النفي، وإذا حلفنا على قول الاستعمال، حلف على إثبات الملك؛ كما يحلف من خرجت له القرعة. ولا فرق في القضاء لصاحب اليد عند قيام البينتين بين أن تكون كل بينة قد أطلقت الشهادة بالملك، وقلنا: يجوز لك بالنسبة إلى صاحب اليد- كما سنذكره- أو بينت سبب الملك، وكان السبب واحداً أو مختلفاً. ولا [فرق] بين أن يسند الملك إلى شخص واحد، بأن يقول: هذا اشتريته من زيد، وهذا مثل ذلك، أو تقول المرأة- وهي أحد المتنازعين-: أصدقنيه زوجي، ويقول خصمها: اشتريته من زوجك- وبين أن يسند أحدهما ملكه إلى شخص، والآخر ملكه إلى شخص آخر، أو يقيم الخارج بينة: أنه اشتراها من الداخل، والداخل: أنه اشتراها من الخارج؛ كما حكاه القاضي الحسين. وهكذا الحكم فيما إذا بينت بينة الخارج سبب الملك من بيع أو اتهاب ونحوهما، وأطلقت بينة الداخل الشهادة بالملك؛ نص عليه الشافعي. وعند ابن سريج بينة الخارج أولى؛ لأن معها زيادة علم؛ كذا قاله ابن أبي الدم.

وما ذكرناه في حالة إسنادهما انتقال الملك إلى [جهة] شخص واحد، هو ما أورده القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ. وحكى الفوراني وجهاً آخر: أنهما يستويان؛ لأنهما اتفقا على أن اليد كانت لثالث، وكل واحد منهما يزعم الانتقال إليه منه. وقد حكى الماوردي الوجهين فيما إذا كانت دعواهما انتقال ذلك إليهما منه بالبيع، واقتضى إيراده أن يكون الثاني هو الصحيح منهما؛ لأنه قال: إنهما مبنيان على الخلاف فيما لو كانت العين- والحالة هذه- في يد من ادعيا انتقال الملك إليهما [منه]، وصدق أحدهما على تقدم انتقال الملك له، هل يترجح من صدقه ويحكم له بالعين، أم لا؟ وسنذكره، فإن [قلنا: يترجح] عند التصديق، فكذلك هاهنا، وإلا فلا. ويجيء القولان في التعارض والاستعمال، والقول الذي سنذكره عن رواية الربيع فيما إذا كانت العين-[و] الصورة كما ذكرنا- في يد ثالث. وقال: إنا إذا رجحنا أحدهما بيده، جاز أن يكون الآخر خصماً له، ويحلفه إذا أنكره؛ فإنه لو صدقه على أن عقده سابق، سلم العين بإقراره بالثمن الذي شهدت به بينته إن كان مثل الثمن في ابتياع نفسه، وإن كان أقل لم يكن له أن يرجع بالباقي؛ لأنه مقر أنه لا يستحق [على الثاني. وإن كان أكثر لم يكن له أن يأخذ الزيادة؛ لأنه مقر أنه لا يستحق] أكثر من الثمن الذي دفع، ويكون درك الثاني على الأول دون البائع، [ولا يكون على البائع] درك الأول ولا الثاني، لأن الثاني ملكها عن الأول، والأول قد أقر أنه لم يملكها عن البائع.

واعلم أن محل [سماع] بينة صاحب اليد- وهو المسمى بالداخل- بالاتفاق: ما إذا أقام من ليست العين في يده- وهو المسمى بالخارج- البينة بأنها ملكه، وعدلت، ولم يبق إلا الحكم. أما إذا أقامها قبل أن يدعي عليه، أو بعد الدعوى عليه، وطلب اليمين- فقد تقدم أن المذهب عدم السماع. وإذا أقامها بعد إقامة الخارج البينة، وقبل أن تعدل ففي السماع خلاف [مرتب على] الخلاف في إقامتها بعد الدعوى وطلب اليمين: فإن قلنا بالسماع ثم، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان: أحدهما: لا تسمع- أيضاً- لأنه مستغن عنها بعد. وأصحهما: السماع؛ لأن يده بعد إقامة البينة مشرفة على الزوال، فتمس الحاجة إلى تأكدها، ودفع الطاعن فيها. وفي كل حال من الأحوال الأربعة المذكورة هل يكفي إطلاق الشهادة بالملك، أم لا بد من بيان سببه من شراء، أو إرث، ونحوهما؟ فيه وجهان في كتب المراوزة، وقولان في "الحاوي" و"تعليق" البندنيجي: أحدهما: لا بد من البيان؛ لأن البينة قد تعتمد في الشهادة بالملك ظاهر اليد، فكأنها لا تدل على أكثر مما تدل عليه اليد. وهذا ما نسبه الماوردي والبندنيجي إلى القديم، والإمام إلى بعض الضعفة، وقال: إنه ليس بشيء. وأصحهما في "تعليق" القاضي الحسين، و"الرافعي"، وغيرهما، وهو الجديد في "الحاوي" و"تعليق" البندنيجي: أنه يكفي الإطلاق؛ كما في بينة الخارج؛ فإنها تقبل مطلقة مع احتمال أن الشهود اعتمدوا يداً سابقة. وهذا ما فرعنا عليه من قبل. ولو أقام الداخل البينة بالملك بعد الحكم للخارج، وتسلمه العين- فقد أطلق في "المهذب" القول بأنها تسلم للذي كان داخلاً، وانتزعت منه؛ وكذلك قاله الماوردي، وأبو الطيب، وادعى فيه الإجماع، وهو ما يقتضيه كلام ابن سريج في الفرع الذي سنذكره.

وحكى الإمام في سماع بينته وجهين عن القاضي: أحدهما: السماع إذا أسندت الملك إلى حال قيام يده، ثم أدامته إلى حالة الدعوى؛ كما كان يقضي له لو أقام البينة ويده بعد قائمة. وأظهرهما عند القاضي: عدم السماع؛ لأنا نقضنا يده، وأجرينا القضاء، فلو قبلنا بينته، لكان ذلك نقضاً للقضاء السابق. نعم، إن أقام بينة على تملك من جهة الذي هو صاحب اليد الآن، سمعت. قال الإمام: وهذا الوجه يحتاج إلى شرح؛ لأنه قال: ينبغي أن يقيم بينة على [تلقي] الملك من سبب آخر، ويجب قبول بينته، وإنما لا تقبل بينته إذا لم يذكر سبباً أصلاً، واقتصر على ادعاء الملك المطلق؛ فلا معنى لاشتراط التلقي من هذا المدعي. قال: وحاصل هذا الوجه: أن البينة المطلقة كانت تسمع من هذا الشخص في حال دوام يده على المذهب الظاهر، وإذا أزيلت يده فلا تسمع. وقد سلك الغزالي في التعبير عن الحكم في هذه المسألة طريقاً آخر، وتبعه فيه الرافعي، فقال: إن لم يسند الملك إلى الأول، فهو الآن مدع [خارج. وإن ادعى ملكاً] مستنداً إلى ما قبل إزالة اليد، واعتذر بغيبة الشهود، ونحوها- فهل تسمع بينته، وهل تقدم باليد المزالة بالقضاء؟ فيه وجهان: أحدهما: المنع؛ لأن تلك اليد مقضي بزوالها؛ فلا ينقض القضاء. وأصحهما: أن بينته مسموعة حتى يقيمها بعد ما قضى القاضي للمدعي، وينقض القضاء الأول؛ لأنه إنما أزيلت؛ لعدم الحجة، وقد قامت [الحجة] الآن. وحاصل ما ذكر يرجع إلى ذكر خلاف في سماع البينة مطلقة في الحالتين- أعني: حالة ما إذا أسند الملك إلى ما قبل إزالة اليد، أو لم يسنده: أما إذا أسنده، فالخلاف ظاهر قد ذكرته. وأما إذا لم يسنده، فقد قال: إنه الآن مدع خارج، وعني به: مدع خارج قد انتزعنا العين منه بالبينة.

ولهم فيما إذا انتزعت العين من شخص بالبينة، وعاد، وادعى ملكها- هل تسمع دعواه من غير ذكر تلقي الملك من صاحب اليد، أم تكفيه دعوى الملك مطلقاً؟ وجهان: وجه الأول: القياس على الأجنبي؛ فإنه لا خلاف أن دعواه تسمع مطلقة، وإذا أقام بينة مطلقة على الملك سمعت، وقضي له بها؛ [كما] قاله القاضي الحسين وغيره؛ وهذا ما حكاه الإمام عن الأكثرين. ووجه الثاني- وهو ما ادعى الرافعي أن بعض أصحاب الإمام قال: إنه الذي ذكره الأكثرون-: القياس على ما لو انتزعت العين من يده بإقراره، فإنه يحتاج إلى ذكر التلقي؛ كما حكاه الرافعي، ولم يحك سواه، وإن كان ابن أبي الدم قد حكى عن القاضي الحسين: أنه يكفيه دعوى الملك مطلقاً، وأنه مخالف لجميع الأصحاب. والقائلون بالأول فرقوا بين ما إذا انتزعت العين من يده بالإقرار، أو بالبينة- بأن المقر مؤاخذ بحكم قوله في نفسه في المستقبل؛ ألا ترى أن من أقر أمس يطالب به اليوم، ولولا ذلك لم يكن في الإقرار كثير فائدة. وإذا كان كذلك فيستصحب ما أقر به إلى أن يثبت الانتقال، بخلاف البينة؛ فإنا لم تشهد إلا على الملك في الحال؛ فلم يتسلط أثرها على الاستقبال. وقد مال الرافعي إلى تصحيح الوجه الأول، وقال: إنه الذي يقتضي كلام الأصحاب ترجيحه؛ لأنا قد حكينا عنهم فيما إذا أقام الداخل بينة بالملك بعد ما انتزعت العين بالبينة، هل تسمع بينته، وهل يقضى له بها؟ خلافاً، وأن الأصح السماع والقضاء. وذلك الاختلاف مفروض فيما إذا أطلق دعوى الملك، ولم يذكر التلقي، فأما إذا ادعى التلقي؛ فلا بد أن تسمع دعواه، وقد صرح به أبو الحسن العبادي. وإذا كان الاختلاف في إطلاق الدعوى، ورجحنا وجه السماع- لزم أن يكون الراجح هاهنا: أنه لا حاجة إلى ذكر التلقي.

قلت: وهذا التخريج فيه نظر؛ لأن محل السماع [ثم] إذا أسند الملك إلى ما قبل إزالة اليد، مكتفياً بالدعوى السالفة معتذراً لتأخير إقامة البينة عن محلها بغيبتها؛ فكأنه أقامها قبل الحكم عليه، ودافعاً لما شهدت به بينة الخارج من أصله؛ فلذلك ينقض الحكم على هذا الوجه، ونقدره كأن لم يكن، وليس كذلك هاهنا؛ لأن هذه دعوى مبتكرة، وبينة مستأنفة؛ فلا يحسن إلحاقها بتلك البينة، والله أعلم. ولو أقام الداخل بينة بعد القضاء عليه، وقبل إزالة يده- فإن قلنا عند إزالة يده: تسمع بينته، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان، والفرق: بقاء اليد [حسا؛] هكذا أورده الرافعي، وغيره. وعكس القاضي الحسين في "التعليق" ذلك، فقال: إذا قضى القاضي بالملك للخارج، ولم تنزع العين من يد الداخل، فهل تسمع بينته إذ ذاك؟ فيه وجهان، أصحهما: أنها لا تسمع. ولو أقام الداخل البينة بعد الحكم وزوال اليد، فإن قلنا في المسألة السابقة: لا تسمع، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان. وقد حكى القاضي أبو سعد الهروي عنه أنه قال: أشكلت علي هذه المسألة نيفاً وعشرين سنة؛ لما فيها من نقض الاجتهاد بالاجتهاد؛ فتردد جوابي فيها؛ فذكرت: أنه إن أزالها الحاكم بالتسليم، لم ينقض؛ وإن لم يزلها، فوجهان، ثم استقر رأيي على أنه لا ينقض، سواء كان قبل التسليم أو بعده. فرع- حكاه البندنيجي والقاضي أبو الطيب وغيرهما-: إذا كان في يد عمرو شاة، فادعاها زيد، وأقام بينة: أن الشاة ملكه، وأقام عمرو بينة أن حاكماً حكم له بها، وسلمها إليه قال أبو العباس بن سريج: إن كان الحاكم قد حكم بها لعمرو ببينة أقامها عمرو، قضى لزيد بها؛ لأنه قد ظهر أن لزيد بينة ويداً، ولعمرو بينة بلا يد. وإن [كان] قضى بها لعمرو؛ لأن بينة زيد كانت غير عادلة [وبينة عمرو كانت عادلة]- أقرها في يد عمرو؛ لأن البينة الفاسقة إذا ردت، ثم أعادت الشهادة، لا تقبل. وإن كان قضى بها لعمرو؛ لأنه كان خارجياً، ومن مذهب الحاكم القضاء ببينة

الخارج- أقرها في يد عمرو. وفي "الحاوي" وجه: أنه ينقض حكمه، وتسلم لزيد؛ لأن هذا الاختلاف وإن لم يكن فيه نص، فالقياس فيه جلي، والاجتهاد فيه قوي؛ فلذلك نقض حكمه. وإن لم يعلم الحاكم الثاني على أي وجه وقع حكم الأول، وأشكل [الحال] ففيه وجهان: أحدهما: ينقض الحكم بها لعمرو. والثاني- وهو الأصح-: لا ينقض، بل يقرها في يد عمرو؛ قاله البندنيجي. قال: وإن كانت في يدهما، أو [في] يد غيرهما- أي: ولم ينسبها إلى أحدهما قبل قيام البينتين، ولا بعدها- أو لا يد لأحد عليها – فقد تعارضت البينتان؛ لتنافي شهادتهما، ففي أحد القولين تسقطان؛ لأنهما قد تكاذبتا في الشهادة، ولأن البينة: ما بان بها الحكم، فإذا لم يكن فيها بيان، ردت؛ كما لو شهدت لأحد الرجلين. وبالقياس على النصين إذا تعارضا. وهذا ما حكاه في "البحر" عن القديم، وهو اختيار المزني، والأصح في "المهذب"، و"التهذيب"، و"البحر"، و"الرافعي"، وغيرها، وقال ابن الصباغ: إنه الذي نص عليه الشافعي هنا، وفي موضع آخر قال: إنه الجديد. والبندنيجي قال: إنه المنصوص عليه في "الأم"، و"البويطي". وعلى هذا قال الشيخ: فيكونان كالمتداعيين بلا بينة، وقد سبق حكم ذلك. [قال: والثاني- وهو ما سنذكره-: تستعملان؛ صيانة لهما عن الإسقاط والإبطال بقدر الإمكان]، وسنذكر من الحديث ما يدل عليه؛ وهذا قد عزاه ابن الصباغ في موضع إلى القديم، وهو عند المراوزة مخصوص بما إذا لم تتكاذبا صريحاً؛ [كما إذا شهدتا بالملك، فإنا نقول: لعل كل واحدة منهما سمعت وصية

له، أو وصبراً وغيره. فأما إذا تكاذبتا صريحاً] كما إذا شهدت إحداهما بأنه قتل في وقت كذا، وشهدت الأخرى على الحياة في ذلك الوقت، لم يجر قول الاستعمال. وطريقة العراقيين: أنه لا فرق، بل قال البندنيجي: إن تعارض البينتين: أن تشهد كل واحدة منهما بضد ما تشهد به الأخرى على صفة لا تقبل من التكاذب؛ كما إذا شهدت إحداهما: أنه باع من زيد عبده مع الزوال، والأخرى أنه باعه من عمرو مع الزوال، أو شهدت إحداهما بأن عمراً قتل زيداً بالبصرة، والأخرى أنه قتله ببغداد. واختار القاضي الحسين في باب الدعوى في الميراث قول التساقط في كل مسألة يقطع فيها بكذب إحدى البينتين، بأن تكون الدعوى في السفاح، أو في الثوب الذي لا ينسج إلا مرة، أو في النكاح، وغيره، ولم يمنع مجيء القول الآخر فيها، واختار قول الاستعمال في كل مسألة يحتمل فيها صدق البينتين، ولم يمنع مجيء قول التساقط فيها. وقد حكى الغزالي ما حكيناه عن العراقيين طريقة أخرى، وقال: إنه بعيد. وحكى الفوراني الطريقين على [غير] هذا النحو، وتبعه صاحب "البحر"، فقالا في حكاية إحدى الطريقين: إن القولين فيما إذا لم يمكن الجمع، فإن أمكن قسم بينهما لا محالة. والطريق الثاني: طرد القولين في الحالين؛ وحينئذ فيحصل من النقلين ثلاث طرق: القطع بالتساقط؛ إذا لم يمكن الجمع. القطع بالاستعمال؛ إذا أمكن الجمع. طرد القولين في الحالين، قال الرافعي: وهو الأشهر. ثم قال: وإيراد أبي الحسن العبادي ينساق إلى طريقة أخرى تنفي الخلاف، وتقطع بالتساقط عند استيقان الكذب في إحداهما، وبالاستعمال عند إمكان صدقهما؛ [كما] في الوصية.

قال: وفي الاستعمال ثلاثة أقوال: أحدها: يوقف إلى أن ينكشف، أو يصطلحا؛ لأن إحداهما صادقة، والأخرى كاذبة؛ فكان كالمرأة إذا زوجها وليان: أحدهما بعد الآخر، ونسي السابق. وهذا ما خرجه البغداديون للشافعي، وقال الإمام: إنه أعدل الأقوال في الاستعمال. وهو في ذلك متبع للقاضي الحسين؛ [فإنه كذا قال] في باب الدعوى في الميراث، وقد امتنع البصريون- كما قال الماوردي- من تخريجه، وهو الأشبه؛ لأن وقف البينة على البيان يوجب الحكم بالبيان دون البينة. والرافعي نسب هذا القول إلى رواية أبي الفياض. والثاني: يقسم بينهما، أي: إذا كان قابلاً للقسمة، بمعنى: أنه لا استحالة فيه، لا بمعنى الانقسام في الحس والعيان. ووجهه: ما روى سَعِيْدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي مُوْسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا عِنْدَ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعِيْراً- أَوْ دَابَّةً- وَشَهِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَانِ، فَجَعَلَهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وقد خرجه أبو داود بإسناد كلهم ثقات. ولأن البينة أقوى من اليد، وقد ثبت أنهما إذا تساويا في اليد جعل بينهما؛ فوجب إذا تساويا في البينة أولى أن يكون بينهما. قال الإمام: وهذا ما نقله المزني عن اختيار الشافعي، [وليس مساعداً عليه؛ فإن الإمام الشافعي] أبطله في مواضع، وقال: من قال بالقسمة، دخلت عليه شناعة؛ فإنه ليس قاضياً بواحدة من البينتين. قال في "البحر": وإذا قلنا: يقسم، وكان الشيء في أيديهما – هل يحلف كل واحد منهما لصاحبه في النصف الذي أصابه؟ فيه وجهان؛ كما لو كان الكل في يد أحدهما. فإن قلت: الوجهان في الأصل الذي قاس عليه مبنيان على قول التساقط والاستعمال: فإن قلنا بالتساقط حلف، وإلا فلا، وقول القسمة هاهنا مفرع على قول

الاستعمال، فكيف يجيء الوجهان؟ قلت: قد حكينا عن الإمام الوجهين في الأصل، وإن قلنا بالاستعمال فهما هذان الوجهان والله أعلم. والثالث: يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، قضي له؛ لما روى الشافعي في القديم مرفوعاً إلى سعيد بن المسيب: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء، وأقام كل واحد شهوداً، فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [بينهما] وقال: "اللَّهُمَّ أَنْتَ تَقْضِي بَيْنَهُمَا". ولأن اشتباه الحقوق المتساوية يوجب تميزها بالقرعة؛ كدخولها في القسمة في السفر بإحدى نسائه، وفي عتق عبيده إذا استوعبوا التركة؛ [و] هذا اللاقول محكي في الدعاوىمن القديم؛ كما حكاه البندنيجي. قال: وهل يحلف مع القرعة؟ فيه قولان: وجه الوجوب: أن القرعة قد تخطئ، وتصيب؛ فيحلف؛ لقطع التهمة ورفع الإشكال؛ مبالغة في الاحتياط. ووجه مقابله: أن القرعة سيقت للترجيح؛ فاكتفي بها؛ هكذا وجهها القاضي الحسين في موضع من "تعليقه". وقال ابن الصباغ: إنهما ينبنيان على أن الحكم عند خروج القرعة يقع بالبينة، [أو بدعواه مع القرعة؟ وفي ذلك قولان: فإن قلنا: يقع بالبينة]، فلا يحلف، وهو ما اختاره ابن أبي عصرون؛ كما حكاه ابن أبي الدم. وإن قلنا: يرجح بالقرعة، حلف، وهو ما حكاه في "البحر" عن النص، وقال: إن عليه عامة أصحابنا.

ثم قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون [الترجيح] بالبينة المعارضة لمزيتها بخروج القرعة لها؛ لأن القرعة لو انفردت عن البينة، لم ترجح بها الدعوى؛ ولهذا قال الشافعي: إنه يحلف: إن بينتي لصادقة فيما شهدت [لي به]. وقال الماوردي: إن القولين في التحليف مأخوذان من اختلاف قولي الشافعي في أن القرعة هل دخلت ترجيحاً للدعوى أو للبينة؟ فأحد القولين: أنها دخلت ترجيحاً للبينة؛ فعلى هذا لا يجب على من قرعت بينته؛ لأن الحكم بالبينة، ولا يمين مع البينة. والقول الثاني: أنها دخلت ترجيحاً للدعوى؛ [فيجب إحلاف المدعي؛ وعلى هذا يكون فيما يثبت به الحكم وجهان: أحدهما: اليمين مع البينة] ويكون يمينه بالله: إن ما شهدت به بينته حق، وقد نص عليه الشافعي، أي: في الدعاوى والبينات؛ كما حكاه في "البحر". والثاني: أن الحكم يثبت بيمينه؛ ترجيحاً بالبينة؛ وهذه الطريقة هي المشهورة على قول الاستعمال. وعن القاضي ابن كج: أنه حكى عن القاضي أبي حامد: أن الأقوال الثلاثة لا تجمع؛ بل موضع قول القسمة: ما إذا أمكن الجمع، وموضع قول القرعة: ما إذا لم يمكن. أما إذا أقر الثالث الذي في يده العين بها لأحدهما بعد قيام البينتين، فإن قلنا بالتساقط، رجع إليه، وإن قلنا بالاستعمال فهل يرجح به؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه يصير صاحب اليد. والثاني: لا؛ لأن يد الثالث بعد قيام البينتين واستعمالهما مستحقة الإزالة بالاتفاق فلا تأثير لها، ولا اعتبار بإقرار صاحبها. وقد أجاب القائلون بالقول الصحيح في أصل المسألة- وهو قول التساقط- عن القياس على نسيان السابق من النكاحين-: أنه يمكن التذكر فيه، وهاهنا لا يرجى زوال ذلك بالتذكر.

وعن حديث أبي موسى [الأشعري]: بأنه يحتمل أن يكون المدعى به في أيديهما؛ فأبطل البينتين، وقسم بينهما، على أنه روي عنه أنه قال: "ولا بينة لهما". وعن حديث سعيد بن المسيب: بأنه يحتمل أن يكون ذلك الشيء عتقاً أو قسمة؛ كذا قاله ابن الصباغ: وقد يأتي في بعض الصور الجزم بالقول الصحيح، وبيانه: ما إذا تعارضت البينتان في نكاح امرأة تنازعه رجلان؛ فإن الأصحاب قالوا: لا شك أن قول القسمة لا يجري، وكذلك قول الوقف؛ فإن الاصطلاح في النكاح غير ممكن؛ فلا معنى لحبس المرأة أبداً. فأما القرعة فقد تردد فيها الأصحاب: فمنهم من قال بجريانها، وهذا ضعيف في "تعليق" القاضي الحسين وغيره. ومنهم من ذهب إلى المنع، وهو الأصح، وبه جزم في "التهذيب"؛ وعلى هذا يلزم القطع بالتساقط؛ كذا قاله الإمام. واعلم أن الشيخ جعل العين إذا كانت في يدهما، وأقام كل [واحد] منهما بينة- كما لو كانت العين في يد غيرهما، وهو ما اختاره في "المرشد". والشيخ أبو حامد قال: إنها تكون بينهما، وهل يحتاج كل واحد منهما أن يحلف على النصف الذي في يده؟ فيه قولان؛ لأن لكل واحد منهما بينة ويداً على النصف؛ فهو كما لو أقام كل واحد منهما بينة، والعين في يد أحدهما؛ فإنه يقضي بها لصاحب اليد، وهل يحتاج إلى اليمين؟ فيه قولان. وهذا ما حكاه ابن الصباغ عن "الأم"، ولم يورد البغوي سواه؛ وكذلك الماوردي في باب الدعاوى في وقت دون وقت، وطرده فيما إذا شهدت بينة أحدهما بأنه اشتراها من زيد، وهي ملكه، وبينة الآخر: أنه اشتراها من زيد- أيضاً- وهي ملكه، وكان التاريخ واحداً، ولم يعلم السابق منهما. ووجهه البغوي: بأن بينة كل واحد منهما ترجحت في النصف الذي بيده؛ فقضي له به.

وبيانه: أن من أقام البينة منهما أولاً، فإنه يقيمها على ملك النصف الذي في يد صاحبه، والثاني يقيمها على ملكه للكل، وتسمع منه؛ لأنه في النصف الذي في يد صاحبه خارجي، وفي النصف الذي في يده داخلي، فقد قامت عليه البنية بما في يده، ويحتاج من أقام البينة على النصف أولاً أن يقيمها ثانياً على ملكه لما كان في يده. قال الرافعي: وكأن هؤلاء امتنعوا من إجراء الأقوال، وقالوا: موضع الأقوال ما إذا خلت البينتان عن الترجيح، واليد من أسباب الترجيح. والحاصل للفتوى على الطريقين معاً: إبقاء المال في يديهما كما كان، ومحلهما: إذا شهد شهود كل واحد منهما له بجميع المال- كما ذكرناه- فأما إذا شهد شهود كل واحد منهما بالنصف الذي في يد صاحبه، فالبينتان لم تتواردا على شيء واحد حتى يقال بالتعارض، ولا يد للمدعي في المشهود به حتى [يترجح] جانبه، ولكن يحكم القاضي لزيد بما في يد عمرو، ولعمرو بما في يد زيد، ويكون المال في يدهما- أيضاً- كما كان، ولكن بجهة التساقط، لا بجهة الترجيح باليد. وفي "الإبانة" في هذه الحالة- أعني: حالة إقامة كل منهما [البينة] على ملك جميع الدار-: أنه يجيء قول القسمة، ولا يجيء قول الوقف؛ إذ لا معنى للتوقف مع ثبوت اليد، وهل تجيء القرعة؟ فيه وجهان. وكلام الإمام الذي حكيناه من قبل عند الكلام فيما إذا كانت العين في يد أحدهما، يأبى ذلك، ويقتضي موافقة الشيخ أبي حامد، وقد صرح به في موضع آخر؛ حيث قال: إن كل واحد منهما إذا أقام بينة، والعين في يديهما، لم تؤثر البينتان في تغيير ما كانا عليه قبل الخصام، بل كل واحد على نصف الدار، غير أنهما كانا على ظاهر اليد، وقد ثبت الملك لكل واحد منهما في النصف. قال: وإن كانت بينة أحدهما شاهدين، وبينة الآخر شاهداً ويميناً- ففيه قولان: أحدهما: [أنه] يقضي به لصاحب الشاهدين؛ لأنها بينة مجمع عليها،

وبينة الآخر مختلف فيها. وأيضاً: فإن التهمة متوجهة في اليمين، وغير متوجهة في الشهادة؛ وهذا أصح في "الحاوي"، و"النهاية" وعند الغزالي، وصاحب "المرشد"، والنواوي، وغيرهم. وقال في "البحر": إنه ليس بشيء. والثاني: أنهما سواء؛ لأنهم استويا في إثبات الملك عند الانفراد؛ فأشبه ما لو كانت بينة أحدهما شاهدين، وبينة الآخر شاهداً وامرأتين؛ فإنه لا تترجح إحداهما على الأخرى؛ على المشهور. وادعى الإمام فيه اتفاق الأصحاب؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين قبيل كتاب الدعاوى من الجديد. وعلى هذا قال: فتتعارضان، وفيهما قولان، وقد سبق توجيههما. وعن الماسرجسي رواية قول آخر حكاه الفوراني- أيضاً-: أن الرجلين يترجحان على رجل وامرأتين؛ لزيادة الوثوق بقولهما؛ وكذلك يثبت بقول رجلين ما لا يثبت بقول رجل وامرأتين، وقد أبدى الإمام هذا احتمالاً لنفسه؛ تفريعاً على ما سنذكره عن القديم وأيده: بأن من أقام رجلاً شاهداً، وأراد أن يحلف معه في المال، أمكنه ذلك، ولو أقام امرأتين، وأراد أن يحلف معهما، لم يجز. قلت: ولو بني الخلاف في تعارض الشاهدين، والشاهد واليمين على أن الحكم عند وجود الشاهد واليمين يقع [باليمين، أو بالشاهد]، أو بهما- لم يبعد، ويقال: إن قلنا: إنه يقع باليمين، أو بهما- فلا تعارض؛ لما تقدم أن البينة أقوى من اليمين. وإن قلنا: يقع بالشاهد فقط، فيجيء التعارض؛ لأن الحكم إذا وقع بالشهادة، لم ينظر إلى عدد الشهود؛ ألا ترى أنه إذا أقام أحدهما شاهدين، والآخر عشرة- وقع التعارض؟ على أن الماوردي والقاضي الحسين وغيرهم قد حكوا عن القديم قولاً: أن البينة المشتملة على زيادة عدد أولى، والحكم بها أحق، وطردوه فيما إذا كانت إحدى البينتين أظهر في العدالة من الأخرى؛ كما هو مذهب الإمام مالك فيهما. والأكثرون نفوا عن الشافعي هذا القول، وجزموا بعدم الترجيح في هاتين

الصورتين، وحملوا ما حكي عنه على حكاية مذهب الغير. والطريقان جاريان فيما إذا خصت إحدى البينتين بزيادة فقه. قال في "الوسيط": أو كان في إحدى الجانبين شهادة أحد الخلفاء الأربعة. والصحيح- وإن ثبت الخلاف- عدم الترجيح بما ذكرناه؛ وهذا بخلاف الرواية حيث رجحوا بهذه الأمور؛ لأن الشهادة نصاب مقدر؛ فيتبع، وليس للرواية ضبط؛ فيعمل بما غلب على الظنون. ومنهم من ألحق الرواية بالشهادة. فرع: إذا قلنا بالقديم، وكان من جانب [صاحب] اليد شاهد ويمين، ومن جانب الخارج شاهدان- ففي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجهين: أحدهما: تترجح بينة صاحب اليد. والثاني: تترجح بينة الخارجي. ولو كان من جانب عشرة من أوساط العدول، ومن جانب عدلان، وهما على المنصب الأعلى في الثقة والتثبت- قال الإمام: فيجب على القاضي أن ينظر بينهما نظر المجتهدين في حرين يرويان خبراً. قال: ولو شهدت بينة أحدهما بالملك من سنة، و [شهدت] بينة الآخر بالملك من شهر- أي: مع شهادتهما بالملك في الحال، والعين في يد ثالث- ففيه قولان: أحدهما: تتعارضان، وفيهما قولان؛ إذ المقصود إثبات الملك في الحال؛ فلا تأثير للسبق؛ فإنه غير متنازع فيه، ولأن الشهادة بحديث الملك، لم تنف تقدم الملك، وإن أثبتته الأخرى؛ فصارتا متكافئتين. وهذا ما حكاه "البويطي"، والمزني [في "المختصر"]؛ ولأجله قال القاضي الحسين: إنه الجديد. وصححه ابن كج وشرذمة، وعن ابن سريج، [والشيخ أبي علي،] وابن سلمة، وابن الوكيل: القطع به.

والثاني- وهو الصحيح-: أن التي شهدت بالملك القديم أولى؛ لأنها انفردت بإثبات الملك في زمان لا تعارضها فيه الأخرى؛ فوجب وقف التعارض وأمضي ما ليس فيه تعارض. ولأن ثبوت ملك المقدم يمنع أن يملكه المتأخر إلا عنه، ولم تتضمنه الشهادة له؛ فلم يحكم بها. وهذا ما رواه الربيع، واختاره المزني والأكثرون، ومنهم الشيخ أبو حامد وسالكو طريقه، والماوردي، والبغوي، وقال في "الشامل": إنه ظاهر المذهب. وقال القاضي الحسين والشيخ أبو علي: إنه القديم. ويجري القولان- كما قال القاضي أبو الطيب، والبندنيجي- فيما إذا أقام أحدهما بينة: أنه ملكه من سنة إلى الآن، وأقام الآخر بينة [على أنه] ملكه الآن. وفي بينة الزوجين على الزوجية إذا سبق التاريخ؛ كما قال الغزالي. وكذا فيما إذا تعارضتا مع اختلاف التاريخ بسبب الملك؛ كما إذا أقام أحدهما بينة أنه اشتراه من زيد منذ سنة، والآخر [بينة] أنه اشتراه من عمرو منذ شهر. وكذا فيما إذا تنازعا أرضاً مزروعة، وأقام أحدهما بينة: أنها أرضه زرعها، والآخر بينة أنها ملكه مطلقاً؛ لأن البينة التي شهدت بالزرع تثبت الملك في وقت الزراعة؛ هكذا ذكره صاحب "التهذيب"؛ تصويراً وتوجيهاً. قال الرافعي: وفيه ما يبين أن سبق التاريخ لا يشترط أن يكون بزمان معلوم؛ حتى لو قامت بينة: أنه ملكه منذ سنة، وأخرى على أنه ملكه أكثر من سنة- كان موضع الخلاف. قال: فعلى هذا إن كان مع أحدهما بينة بالملك القديم، أي: بالملك من سنة، ومع الآخر، أي: الذي شهدت له البينة بالملك من شهر، [يد] فقد قيل: صاحب اليد أولى؛ لأن [اليد أولى من] الشهادة بالملك القديم؛ كما سنذكره. وهذا ما نص عليه

الشافعي، وتابعه عليه جمهور أصحابه؛ كما قاله الماوردي، وصححه الرافعي، واختاره في "المرشد". وقيل: صاحب البينة بالملك القديم أولى؛ لأن الترجيح من جهة البينة أولى من الترجيح من جهة اليد؛ [كما أن البينة أولى من اليد]. وهذا طريق ابن سريج؛ كما حكاه في "المهذب"، وأبي إسحاق؛ كما حكاه ابن الصباغ؛ وكذا الماوردي، وخطأه فيه، وطريقهما- كما حكاه القاضي أبو الطيب، وكلام القاضي الحسين- يقتضي أنه الضعيف؛ لأنه جعله بمنزلة من اشتملت بينته على زيادة في العدد، أو الورع، و [قد] قال ابن يونس: إنه الصحيح. وفي "الوسيط" وجه [آخر]: أنهما تتعارضان. وعلى قول الترجيح بالملك القديم في حال كون العين في يد ثالث فرع آخر، وهو: أن نماء العين وأجرتها يكون لمن شهدت له البينة بالملك القديم. وعلى مقابله إذا قلنا بالتساقط فلا، وإن قلنا بالاستعمال فيكون له في الزمن الذي لم يقع فيه التعارض، وهو أحد عشر شهراً، وما حصل في الشهر الآخر تأتي فيه الأقوال؛ كذا أشار إليه الماوردي والرافعي. وكلام ابن الصباغ يقتضي أن النماء له على كل حال؛ لأنه قال في توجيه القول بأن التي شهدت بالملك القديم أولى: ولهذا له المطالبة بالنماء في ذلك الزمان. وعلى القولين فرع آخر بناه ابن سريج، وهو: إذا كان في يد رجل دار، فادعاها رجل، وأقام شاهدين: أنها ملكه، فحكم له بها، ثم جاء آخر، وأقام شاهدين: أنها ملكه- هل يحتاج الأول إلى إعادة بينته؛ ليحصل التعارض؟ قال: إن قلنا: إن بينة الأقدم مسموعة، وإنها أولى من بينة الأحدث- فلا يحتاج، ويقع التعارض. وإن قلنا: إن بينة الأقدم والأحدث سواء، ففي الاحتياج إلى إعادة البينة الأولى وجهان، والصحيح: أنها تعاد؛ لأنها غير موجودة الآن حتى يقع التعارض؛ حكاه أبو الطيب وابن الصباغ. قال: وإن شهدت بينة أحدهما بالملك والنتاج في ملكه، وبينة الآخر بالملك

وحده- فقد قيل: بينة النتاج أولى- أي: وإن قلنا: إن البينة بالملك المتقدم لا يرجح بها- لأنها تنفي أن يتقدم عليه ملك لغيره، والشهادة بقديم الملك لا تنفي ذلك. وأيضاً: فإن بينة الأقدم شهدت بالملك دون سببه؛ فساوت بينة الأحدث، وبينة النتاج شهدت بالملك وسببه؛ فكانت أولى؛ ألا ترى أنه لو شهد شاهدان أن هذا الولد ابن فلان، وشهد آخران أنه ابن هذا ولد على فرشه- كانت بينة الفراش أولى؛ لأنها شهدت بالنسب وسببه؟ وهذه طريقة أبي إسحاق وجمهور الأصحاب؛ كما قاله الماوردي، [وبها جزم القاضي أبو الطيب في كتاب العاقلة]، وفي "الشامل": أن هذا ضعيف. والقائلون بهذه الطريقة قصدوا بما ذكروه من الفرق الرد على المزني؛ فإنه استشهد لما اختاره في المسألة السابقة بنص الشافعي على أن بينة النتاج- كما ذكرنا-[أولى]. قال: وقيل: على قولين؛ كالمسألة قبلها؛ لأنه ليس في بينة النتاج أكثر من الشهادة بملك متقدم، فلتكن على القولين. وهذه طريقة ابن سريج وأكثر الأصحاب؛ كما [قاله الرافعي، وجميع الأصحاب؛ كما] قاله الإمام. وحكى الماوردي عن ابن خيران: [أن] ابن سريج كان يقول: الشهادة بالنتاج ليستمن منصوصات الشافعي، وإنما أوردها المزني من تلقاء نفسه. ثم الطريقان في مسألة النتاج يجريان- كما قال الماوردي- فيما لو تنتازعا ثوباً، وأقام أحدهما البينة على أنه له، نسجه في ملكه، و [أقام] الآخر البينة على أنه له. ومن طريق الأولى: إذا تنازعا تمرة أو حنطة، فشهدت بينة أحدهما بأنها حدثت في ملكه من شجرته أو بذره؛ كما صرح به الرافعي. قال الماوردي: ولا تجري طريقة القطع فيما إذا شهدت بينة أحدهما بسبب الملك من الابتياع أو الميراث، وشهدت الأخرى بالملك من غير ذكر سببه، بل هذه المسألة ملحقة بتقديم الملك. وهذا استنبطه الرافعي من الفرق الذي ذكره الأصحاب بين

مسألة النتاج ومسألة تقديم الملك. وفي "تعليق" البندنيجي حكاية الطريقين في الكل، وألحق الغنيمة بالابتياع، وجعل الضابط في جريانهما: أن تشهد إحدى البينتين بالملك وسببه، وتشهد الأخرى بالملك المطلق. قال: وإن ادعى كل واحد منهما: أنه ابتاع هذه الدار من زيد، وهي ملكه، أي: ملك زيد حالة العقد، وهي الآن في يد زيد، وأقام كل واحد منهما بينة على ما يدعيه- فإن كان تاريهما مختلفاً، أي: بأن كان تاريخ إحداهما في رمضان، وتاريخ ابلخرى في شوال، أو تاريخ إحداهما في يوم السبت، والأخرى في يوم الأحد. قال: فهي للسابق منهما؛ لأنه ابتاعها وهي ملك للبائع، والآخر ابتاعها وقد زال ملكه؛ فلم يحكم له به. قال القاضي أبو الطيب: ونحن وإن كنا نجوز أن يكون قد اشتراها ثم باعها، إلا أن الظاهر أنه ما اشتراها، فإذا ادعى أنه عاد واشتراها فعليه [البينة]. قلت: ويتجه تخريج وجه في تقديم المتأخر مما سنذكره فيما إذا كان في يد شخص عبد، وادعى العبد أنه أعتقه وهو ملكه، وادعى آخر: أنه اشتراه وهو ملكه، وأقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه، وكان تاريخ العتق متأخراً، والمنقول أنها للأول. وهكذا الحكم فيما لو كانت إحدى البينتين مطلقة، والأخرى مؤرخة، وقلنا بتقديم المؤرخة على المطلقة؛ كما هو أحد الوجهين؛ فيقضي لمن أرخت بينته؛ كذا صرح به أبو الفرج الزاز، ولمن قامت بينته بالابتياع المتأخر أن يرجع على البائع بما دفعه له من الثمن؛ إن شهدت بينته بقبضه. قلت: وهذا من الأصحاب جواب على الأصح في [أن من قال في] حال المنازعة: هذا ملكي، وملك من اشتريت منه؛ فخرج مستحقا: أنه يرجع بالثمن. أما إذا قلنا: إنه لا يرجع بالثمن فيما إذا قال: ملكي وملك من اشتريت منه- كما

قدمت حكايته في الباب وجهاً- فلا يرجع بالثمن هاهنا؛ لأن ذلك عين المسألة والله أعلم. قال: وإن كان تاريخهما واحداً، [أو لم يعلم] السابق منهما- أي: إما لكونهما مطلقتين، أو لكون إحداهما مطلقة، والأخرى مؤرخة، ولم ينظر إلى تقديم المؤرخة؛ كما هو الصحيح. قال: تعارضت البينتان، أي: في الملك دون العقد فيما عدا الأولى، وفيهما في الأولى؛ للمنافاة الحاصلة بينهما. قال: وفيهما قولان: أحدهما: تسقطان؛ لما تقدم. وحكى الإمام وجهاً آخر: أنهما لا تسقطان في الصورة الثانية، وإن قلنا بالتساقط في الأولى؛ فإن صدق البينتين ممكن، فلعل أحدهما اشترى ثم عادت الدار إلى ملك المدعي عليه، فاشتراها الثاني. وهذا حكاه الفوراني؛ بناء على الطريقة التي حكاها في أن التعارض إنما يصار إليه عند تحقق التكاذب، ولا وجه لهذا؛ فإنه لا نفع في تقدير صدقهما مع تعذر إمضائهما؛ فعلى هذا- أعني: قول التساقط- يرجع إلى البائع، فإن كذبهما حلف لكل واحد منهما، وغرم [له] ما شهدت [له] به بينته من الثمن الذي دفعه؛ لأن تعارض البينتين في البيع لا في دفع الثمن؛ كذا قاله في "الحاوي" هنا. وفي "الإبانة" و"النهاية": أنه هل يرجع كل واحد منهما بما شهدت له به بينته من الثمن؟ فيه وجهان. وقد حكى الماوردي فيما إذا شهدت بينة على شخص بعتق عبده، وشهدت بينة أخرى عليه بأنه باعه: أنا إذا قلنا بالتساقط لا يلزمه رد الثمن بالبينة، لأنها قد أسقطت في كل [ما شهدت به. ومن] اختلاف نقليه يجتمع الوجهان، وقد صرح بهما عند الكلام فيما إذا ادعى أحدهما أنه اشترى هذها لدار من زيد وهي ملكه، وادعى

الآخر: أنه اشتراها من عمرو وهي ملكه، وقال: إنهما ينبنيان على القولين في أن الشهادة إذا ردت في بعضها، هل ترد في الباقي؟ والصحيح في "الرافعي" وغيره: الرجوع. وقال الإمام: إنه يرجع حاصله إلى تهاتر من وجه، واستعمال من وجه، وهو فقه لا ينقدح عند المحصل غيره؛ وهذا إذا لم تتعرض البينة لقبض المبيع، فإن تعرضت له، فلا رجوع بالثمن؛ إذ العقد قد استقر بالقبض. وإن صدق أحدهما، وكذب الآخر، كانت الدار مبيعة من المصدق دون المكذب، فإن طلب المكذب إحلاف البائع بعد ذلك، قال القاضي الحسين: ذلك ينبني على أنه لو أقر هل يغرم؟ فإن قلنا: يغرم، حلف، وإلا انبنى على أن يمين الرد كالبينة أو كالإقرار؟ فإن قلنا: كالإقرار، لم يحلف، وإلا حلف. فإذا حلف فنكل، وحلف المدعي فماذا يرجع به؟ فيه وجهان: أحدهما: قيمة العين؛ لأنه ليس ببينة حقيقة. والثاني: بالعين، وتنزع من يد المقر له؛ كما لو أقام بينة. وقال البندنيجي والفوراني: طلب اليمين ينبني على أنه لو عاد وأقر للثاني، هل يغرم له؟ وفيه قولان: فإن قلنا: يغرم، حلف، وإلا فلا. وهكذا حكى ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد، ثم قال: وينبغي عندي أن يجب عليه [رد] الثمن قولاً واحداً؛ لأنه اعترف بقبضه، وتعذر عليه تسليم المبيع، وإن لم يعترف فللثاني تحليفه؛ لما ذكرته. قلت: وهذا منه يدل على أمرين: أحدهما: أن المسألة مصورة بما قبل القبض، وأن الذي اختلف في الرجوع به الثمن إذا لم تكن البينة قد قامت بقبضه. وقد قال القاضي الحسين بعد حكاية القولين في التغريم والتحليف- كما ذكرنا عن الشيخ أبي حامد وغيره-: إن هذا إنما يتصور إذا كان المبيع قد قبضه مدعي الدار ثم عادت إلى يد البائع، فجحده؛ ليحلفه على تغريم قيمة العين. أما إذا لم يكن

قد قبض المبيع، فأقر لأحدهما، للثاني تحليفه على تغريم الثمن؛ لأنه قد فات المبيع بإقراره، فهو كما لو غصبه أو غيبه. وهذا منهما بناء على أن جناية البائع على المبيع قبل القبض كالآفة السماوية في انفساخ العقد، ولو نظرا إلى أنه كجناية الأجنبي، ولم يقولا بانفساخ العقد بمجرد الإتلاف، بل بثبوت الخيار- لقالا: إنه يثبت له الخيار، فإن فسخ كان له الثمن، وإلا فهل له طلب القيمة؟ ينبني [على] أن الحيلولة القولية التي لم ييأس معها [من] الرد، هل توجب الغرم؟ وفيه خلاف يأتي، ويدل على ذلك أن القاضي قال بعد ذلك: إذا لم يكن لهما بينة وادعيا عليه الدار- كما ذكرنا- فأقر لأحدهما، [فماذا يدعي عليه الآخر؟] ذلك ينبني على أصل، وهو أن جناية البائع على المبيع قبل القبض كآفة سماوية، أو كجناية أجنبي؟ إن قلنا: كآفة سماوية، فإنه يدعي عليه الثمن، وإن قلنا: كجناية أجنبي، انبنى على ما إذا قال: غصبت هذه الدار من زيد، لا بل من عمرو، هل يغرم القيمة أم لا؟ فإن قلنا: يغرم [ثم] فهاهنا يدعى عليه القيمة. وإن قلنا: لا يغرم ثم انبنى على أن النكول ورد اليمين يكون كالإقرار أو كالبينة؟ وساق [مثل] ما حكيناه عنه من قبل. وأما الماوردي فإنه قال فيما إذا اعترف لأحدهما، وطلب الآخر يمينه: إنه ينظر: فإن كان قد سبق بالدعوى عليه قبل أن يصدق الآخر، كان له إحلافه؛ لأنه قد استحق اليمين بإنكاره قبل دعوى الآخر؛ فلم يسقط حقه منها بتصديقه لغيره. وإن كانت دعواه بعد تصديق الآخر، فلا يمين عليه إن كانت قيمة الدار قدر ما بذله من الثمن، [وإن كانت أكثر من الثمن] فتحليفه ينبني على أنه لو عاد وصدقه، هل يغرم له الزائد من القيمة على الثمن [أم لا]؟ وفيه قولان: فإن قلنا: لا يغرم له، لم يحلف، وإلا حلف.

وهذا [قاله- والله أعلم]- بناء على ما حكيناه عنه أولاً في المسألة السالفة: أنه يرجع بما شهدت به بينته من قبض الثمن. ولو صدقهما البائع، جعلت الدار بينهما، ويكون نصفها مبيعاً على كل واحد منهما بنصف الثمن الذي أقر به البائع؛ إن صدقه المشتريان على قدره، وإن كذباه حلفاه، وبطل البيع. قال: والثاني: تستعملان: إما بالقرعة، أي: على قول من رآها؛ إذ لا مانع منها. وقال الشيخ أبو محمد: إنها لا تجري فيما عدا الصورة الأولى. وهو ضعيف. وعلى الأول هل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه القولان. قال: أو بالقسمة [أي]: على قول من رآها؛ لما ذكرناه. وعلى هذا قال العراقيون والقاضي الحسين: يثبت لكل [واحد] منهما الخيار في فسخ العقد وإمضائه بنصف الثمن الذي شهدت به بينته؛ لتبعيض الصفقة عليه. ويجيء وجه في أنه إذا أجاز يجيز بكل الثمن كما ذكرناه في البيوع. فإن اختارا الإمضاء كانا شريكين في الدار، ويرجع كل واحد منهما عليه بنصف ثمنه؛ بناء على أن الإجازة بالقسط لا بالكل. وإن اختارا الفسخ، فإن فعلا ذلك في وقت واحد، انفسخ العقدان. وإن فعل [أحدهما ذلك] قبل الآخر، فقد فسخ الأول دون الثاني. قال الماوردي: لأن بفسخ الأول يكمل المبيع للثاني؛ فسقط خياره. وإن اختار أحدهما الإمضاء، والآخر الفسخ، فالفاسخ يزول ملكه، والمجيز ينظر فيه: فإن أجاز بعد فسخ الأول، كملت له الدار بجميع الثمن. وفيه وجه حكاه القاضي الحسين وغيره: أنه لا يكمل له؛ كما سنذكره في الحالة الثانية. وإن أجاز قبل فسخ الآخر، لم يكن له إلا نصف الدار بنصف الثمن؛ لأن سهم الفاسخ لم يعد إلا بعد استقرار العقد في ابتياع النصف.

قال الإمام: والذي نراه [أن] الترتيب على عكس هذا، فإن فسخ من بدأنا به، سلمنا الدار إلى المجيز وجهاً واحداً؛ لأن القسمة ليست معينة لعينها، وإنما هي للاستواء في الطلب والحجة وقيام النزاع؛ فإذا زال وجب التسليم [إلى] المطالب. وإن رضي من بدأنا به بالبقاء، وفسخ الثاني، ففي رد النصف إلى الثاني وجهان؛ فإن الأول إنما رضي بالنصف لتقدير نزاع الثاني، فإذا زال فطلبه قائم. وفي "الإبانة": أنه إذا فسخ أحدهما فيما يخصه، فهل على المدعي [عليه] تسليم ذلك إلى الآخر؟ فيه وجهان من غير تفصيل. وهذا كله إذا لم تكن البينة قد تعرضت لقبض المبيع ولا جرى ذكره في الدعوى، أما إذا وجد ذلك، فلا خيار؛ لأن ما يحدث بعد القبض ليس على البائع عهدته. قال: ولا يجيء الوقف- أي: عند من رآه في غير هذه الصورة- لأن المعقود عليه لا يوقف. قال ابن الصباغ: فإن قيل: العقد [أيضاً لا ينقسم، وقد قلتم بالقسمة- قال: قلنا: إنما يقسم المعقود عليه، دون العقد] ولو قلنا: يوقف هاهنا، لأوقفنا العين والعقد. على أني رأيت في "الحاوي"، و"البحر"، و"الشامل" في أوائل كتاب الدعاوى عند الكلام في التنازع في كراء الدار: أنهما إذا اختلفا في عقد، وكان لهما بينة، فإن قلنا بالاستعمال فلا يجيء قول الوقف؛ لأن العقود لا توقف، والقسمة لا تجيء أيضاً؛ لأنهما يتنازعان عقداً، ولا يمكن قسمة العقد؛ فلم يبق إلا القرعة؛ فيقرع بينهما، فإذا خرج السهم لأحدهما حكم له ببينته، لكنهم قالوا: ذلك فيما إذا اختلفا: هل وقع عقد الإجارة على الدار كلها، أو [عليها إلا بيتاً فيها]، وقد يظهر فرق بين هذه المسألة وبين مسألتنا. وقد قال القاضي الحسين في مسألتنا: إن قول الوقف يجري، وإذا قلنا به أخذنا من البائع كلا الثمنين، ويعدلان- أيضاً- وهذا ما حكاه الإمام عند الكلام في هذه

المسألة، وقال قبل ذلك: إن من أصحابنا من قال: لا يوقف البيع. وهو غفلة ظاهرة؛ فإن الوقف الذي نمنعه في العقد إنما هو [وقف] العقد على وجود شرط قد تخلف عنه، أما التوقف في الخصومات فلا يمنع فرضه في البيع. والذي أورده الشيخ هو ما حكاه العراقيون: كأبي الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ، ولم يحك الفوراني سواه. وقد حكى الربيع قولاً ثالثاً في أصل المسألة: أن تعارض البينتين يوجب إبطال العقدين؛ فيكون كل واحد من البيعين باطلاً: كالمتداعيين نكاح امرأة يقيم كل واحد منهما البينة على أنه تزوجها من ولي، ولم يعلم أي العقدين سبق؛ فإنه يبطل النكاحان بتعارضهما. قال الماوردي: وقد أنكر أصحابنا هذا القول، ونسبوه إلى تخريج الربيع، ومنعوا من اعتباره بالنكاح؛ لأن نكاح المرأة لا يجوز أن يكون بين زوجين، وشراء الدار يجوز أن يكون بين مشتريين؛ فبطل النكاحان لامتناع الشركة، ولم يبطل البيعان مع جواز الشركة. وهذا كله إذا كانت العين في يد البائع، وكان منكراً أو ساكتاً، فلو صدق أحد المشتريين، فهل يوجب تصديقه ترجيح من صدقه على الآخر؟ فيه وجهان في "الحاوي" وغيره: أحدهما- وهو قول المزني، وابن سريج-: نعم؛ لأنه أصل ذو يد؛ فعلى هذا يرجع إلى بيانه في أي العقدين تقدم، ولا يرجع إلى بيانه: أيهما باع؛ لأنه قد ثبت عليه البيعان بالبينة، فإذا بين أحدهما بالتقدم كان له البيع. وقد استدل لهذا الوجه بأن الشافعي قال في كتاب الرهن: إذا كان لرجلين على رجل دين، وادعى كل واحد منهما أنه رهن عنده هذه الدار قبل صاحبه، وأقام على ذلك بينة، فأقر الراهن لأحدهما- أن بينة المقر له أولى. كذلك في مسألتنا، ولا فرق بين الرهن والبائع. [والوجه الثاني-] وهو قول أبي علي ابن خيران، وعامة أصحابنا؛ كما قال

الماوردي، وأبو الطيب-: أن تصديق البائع لأجل يده غير مقبول في ترجيح بينة أحدهما؛ لاتفاق البينتين على زوال ملكه؛ فبطل بهما حكم ملكه، وإنما يرجع إلى يد يجوز أن تكون مالكة. وما ذكره الأولون من الاستشهاد بمسألة الرهن غير دال لهم؛ لأن فيها قولين: فإن قلنا: لا يقبل، سقط السؤال. وإن قلنا: يقبل، فالفرق: أن الراهن ما زال ملكه عن الرهن؛ فقبل إقراره، وليس كذلك في مسألتنا. فعلى هذا يجري القولان في التعارض، ويكون الحكم كما سبق. وعلى الأول قال الماوردي: يجوز لكل واحد منهما أن يدعي عليه العلم بالأسبق، ويحلفه يميناً تخصه؛ لأنه لو بين بعد إنكاره قبل منه، فلو جمع بين المشتريين في البيان، لم يكن فيه بيان؛ لأن بيانه في التقديم، ويستحيل أن يكون [كل واحد منهما مقدماً] على الآخر في حالة واحدة. وقال الشيخ أبو حامد: يكون بينهما بتصديقهما. وهذا ما أورده البندنيجي، والقاضي أبو الطيب، وقال: إن كل واحد منهما هل له تحليفه؛ لأجل النصف الذي لم يقر في يده؟ فيه قولان. ثم قال الماوردي بعد حكاية قول أبي حامد: وهذا وهم إن كان قال هذا وهو يرى أن بيان البائع مقصور على التقدم بالعقد؛ لاستحالة اجتماعهما في التقدم، وإن قاله؛ لأنه يرى أنه يرجع إلى بيان البائع لأيهما باع- فهو ارتكاب مذهب لا يقتضيه المذهب. ولو كانت الدار في يد أحد المشتريين، فقد قدمت ما قيل فيها، وكذلك إذا كانت في يديهما. فروع: لو شهدت إحدى البينتين في حال عدم التأريخ بأن الدار [ملك البائع] وقت البيع، أو كونها [ملكاً] للمشتري اليوم- كانت مقدمة.

قال الشيخ أبو عاصم: وكذا إذا كان في إحدى البينتين [أنها] في يد المشتري. قال في "الإشراف": ولم يرد به مجرد اليد، بل أراد به اليد مع امتداد المدة على التصرف، ومع عدم المنازع. وكذا لو كان في إحدى البينتين ذكر نقد الثمن دون الأخرى كانت مقدمة على الأرخى. قال الشيخ أبو عاصم: سواء كانت سابقة أو مسبوقة؛ لأن التي تتعرض لنقد الثمن توجب التسليم، والأخرى لا توجبه؛ لبقاء حق حبس البائع؛ فلا تكفي المطالبة بالتسليم. قال القاضي أبو سعد: وهذا غريب، لم أصادفه في كتب أصحابنا. وفي "الحاوي" عند الكلام في الفرع الذي سنذكره بعده: أنه إذا شهدت بينة أحدهما بأنه ابتاعه منه، وقبضه، وشهدت بينة الأخرى: أنه ابتاعه منه، ولم يقولوا: إنه قبضه- فهل تترجح بينة من شهد له بالقبض؟ [فيه وجهان، والذي نص عليه الشافعي: الترجيح بالقبض؛ لأن البيع بالقبض] منبرم، وقبل القبض متردد بين سلامة المبيع فينبرم، أو تلفه فيبطل. فرع: إذا كان في يد شخص عبد، وادعى عليه آخر: أنه باعه منه بكذا، أو أقام عليه بينة، وادعى العبد أنه أعتقه، وأقام عليه بينة- فإن [كان] تأريخ البينتين [مختلفاً]، قضى بأسبقهما. وفي "الإشراف": أن هذا إذا لم يكن في البينتين إثبات الملك في يوم التصرف، فإن كان والإعتاق سابق تعارضت البينتان، قال: ويمكن أن يخرج قول أن السابق أولى مما سنذكره. ولو كان البيع سابقاً، ففيه قولان: أحدهما: السابق أولى. والثاني: أن البينة الأخيرة أولى؛ إذ فيه تصديق البينتين؛ فإنه يحتمل أنه باعه منه، ثم اشتراه، ثم أعتقه.

وإن كان تأريخ البينتين واحداً، أو كان مطلقاً، أو كان أحدهما مطلقاً، والآخر مقيداً- فإن كان في يد المشتري فهل تترجح بينته بيده؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وعليهما بنى الوجهين في الفرع قبله؛ كما ذكرنا، والذي جزم به القاضي أبو الطيب: الترجيح. ولو كان العبد في يد البائع، فهل تترجح بينة أحدهما بتصديقه؟ فيه الخلاف السابق: فإن رجحنا به: فإن صدق مدعي الشراء، لم يرجع عليه العبد بشيء، وإن صدق العبد، حكم بعتقه، وسقطت بينة بيعه، وهل لمشتريه أن يرجع [عليه] بالثمن ببينة؟ فيه قولان في "الحاوي"؛ بناء على أن الرد في البعض هل يوجب الرد في الكل؟ وإن قلنا: لا تأثير لتصديقه، فعن المزني تخريج قول للشافعي: أن تقديم بينة العبد أولى؛ لأن العبد في يد نفسه، وبينة صاحب اليد مقدمة. وضعفه الأصحاب، وامتنعوا من إثباته قولاً، وقالوا: إنما يكون في يد نفسه أن لو كان حراً؛ على أن الحر هل يثبت له يد على نفسه؟ الذي حكاه الأكثرون- كما هو في "الحاوي"-[لا]؛ خلافاً لأبي إسحاق المروزي. ثم على الصحيح في عدم ترجيح بينة العبد، ينظر: إن كان التاريخ واحداً تعارضت البينتان، وإن كانت البينتان مطلقتين، أو إحداهما مطلقة، والأخرى مؤقتة- ففي التعارض الطريقان: منهم من قال: لا تعارض؛ لأن التكاذب لا يتحقق وجوده. ومنهم من قطع بالتعارض؛ وعلى هذا ففي المسألة قولان: فإن قلنا بالتهاتر، فالحكم كما لو لم تقم بينة؛ كذا قاله الرافعي، وقال: إن الحكم فيما إذا لم تقم بينة: أن للعبد ومدعي الشراء تحليف من هو في يده، ويحلف لكل منهما يميناً، فإن أقر بالعتق يثبت، ولم يكن للمشتري تحليفه إن قلنا: إن

إتلاف البائع كالآفة السماوية. نعم، لو ادعى تسليم الثمن، حلفه له. وإن أقر بالبيع قضى له، ولم يكن للعبد تحليفه. وإن قلنا بالاستعمال، ففي مجيء قول الوقف الخلاف السابق. وإن قلنا بالقرعة، قضى لمن خرجت له. وعن ابن سريج: أنه قال: يقوى في هذه الصورة قول القرعة؛ لاشتمال الخصومة على دعوى العتق. وكذا قاله الماوردي. فإن قرعت بينة الشراء، حكم له بابتياعه، وهل يحلف؟ فيه قولان. وإن قرعت بينة العبد حكم بعتقه، ولزمه رد الثمن على المشتري؛ لأن بينته لم تسقط، وإنما ترجح غيرها، فوقفت. وغن قلنا بالقسمة عتق نصفه، وثبت نصفه لمدعي الشراء بنصف الثمن، وله الخيار: فإن فسخ، فالمشهور- وهو الذي أورده الماوردي وأبو الطيب-: أنه يعتق النصف الآخر أيضاً، وفيه وجه: أنه لا يعتق، وإيراد البغوي يشعر بترجيحه. وإن أجاز المشتري، وكان المدعى عليه معسراً، لم يسر العتق، وإن كان موسراً ففي السراية وجهان أو قولان: أصحهما عند القاضي أبي الطيب: السريان. وعند الغزالي مقابله. وقال البندنيجي: إنه المذهب، وإن الأول ليس بشيء. ونقل أبو الفياض وجهاً: أن قول القسمة لا يجري هاهنا؛ تحرزاً من تبعيض العتق. وقد حكاه الماوردي أيضاً. قال: وإن ادعى أحدهما: أنه اشتراها من زيد، وهي ملكه، وادعى الآخر: أنه اشتراها من عمرو، وهي ملكه، أي: والعين في يد ثالث، وأقام كل [واحد] منهما بينة على ما يدعيه - تعارضت البينتان؛ لأن كل واحدة شهدت بالملك لواحد، وبيعه من واحد، ولا يجوز أن تكون الدار كلها [ملكاً] لاثنين يبيعها كل واحد من واحد.

قال: وفيهما قولان سبق توجيههما. وفي "الإبانة" حكاية قول آخر: أن بينة السابق أولى. وعلى الأول- وهو الذي أورده القاضي الحسين وغيره- إن قلنا بالتساقط، فكأن لا بينة، وسألنا من العين في يده: فإن اعترف بها لأحدهما، قضى له، وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان. وإن اعترف بها لهما، قضى بها لهما، وهل يحلف لكل منهما على نصف ما اعترف به؟ فيه قولان. وإن قلنا بالاستعمال زال ملك من هي في يده عنها، ويجيء قول القرعة، والقسمة، وفي قول الوقف ما ذكرناه من اختلاف الطريقين. فإن قلنا: يقرع، فهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه قولان. وإن قلنا: يقسم، كان لكل منهما نصفها بنصف الثمن الذي ادعاه، ويرجع على بائعه بنصف الثمن. وهذا إذا لم يكن قد اعترف بقبض المبيع، ولا قامت [عليه] به بينة، ولكل منهما الخيار: فإن اختار أحدهما الرد، والآخر الإمساك، رجع الراد بجميع الثمن على بائعه، ورجع من أمسك بنصف العين بنصف الثمن، ولا يكون له كل العين، سواء تقدم اختيار إمساكه على رد الراد أو تأخر. قال البندنيجي: ولا فصل بين هذه المسألة والتي قبلها إذا كان البائع واحداً والمشتري اثنين إلا في هذا الفصل فقط؛ لأنه يؤدي الأخذ لو قيل به إلى أن يأخذ من غير بائعه، وإلا فالفقه فيهما سواء حرفاً بحرف. ولو كان قد أقر بقبض المبيع، أو قامت به بينة، لم يرجع بشيء من الثمن، ولا خيار له في فسخ العقد كما تقدم، وهذا ما أورده الجمهور. وفي "الحاوي": أن الثالث إذا ادعى العين ملكاً لنفسه، فدعواه مردودة بكل واحدة

من البينتين، لكن لا تنزع من يده قبل بت الحكم من المتنازعين، وقد تعارضت البنيتان فيه ملكاً في حق البائعين، ومبيعاً في حق المشترين، فإن قلنا بإسقاط البينتين، كان [كل] واحد من البائعين خصماً للآخر في ملكه، وكل [واحد] من المشترين خصماً لبائعه في ابتياعه؛ فيتحالف البيعان على ملكه: فإن حلفا حكم لهما، وإن نكلا جعل بينهما، وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، فهل ترد يمين النكول على مدعي ابتياعه؟ على قولين من اختلاف قوليه في غرماء المفلس: فإن قلنا: إنها ترد عليهم، ردت على المشتري منه، وإلا فلا. ثم إن حكم بالعين للبائعين، صار كل واحد من المشتريين مدعياً على بائعه بابتياعه جميع العين، ودفع ثمنه، فإن صدقه مبتاعه على دعواه، صح البيع في النصف الذي صار إليه، وبطل في نصفه الذي كان في ملك غيره، وثبت للمشتري الخيار، وإن أكذبه بائعه في ابتياعه، حلف له، ولا بيع بينهما، وهل يستحق عليه الرجوع بثمنه الذي شهدت به بينته؟ فيه قولان من اختلاف قوليه في أن الشهادة إذا ردت في بعض ما شهدت به، هل يوجب ردها في باقيه. وإن حكم بالعين لأحد البائعين، كان الحكم بينه وبين المشتري منه في الكل كما ذكرناه في النصف، إلا أنه لا خيار له إذا صح البيع هاهنا، والمشتري الآخر هل يرجع بالثمن الذي بذله على بائعه بمقتضى بينته؟ فيه القولان. وإن قلنا بالاستعمال بالقرعة، فأيهما خرجت له القرعة، حكم له، وفي إحلافه قولان، وردت البينة المقروعة في ملك الآخر وبيعه، ولم ترد فيما شهدت به من دفع الثمن قولاً واحداً؛ لأنه لم يكن ردها إسقاطاً، وإنما كان ترجيحاً. وإن قلنا بالاستعمال بالقسمة، قسمنا العين بين المشتريين نصفين، ولكل واحد منهما الخيار في إمضاء البيع في نصفه بنصف الثمن، واسترجاعه باقيه، أو فسخ البيع واسترجاع جميع ثمنه، والله أعلم. أما إذا كانت العين في يد أحد البائعين، فقد قال الشيخ في "المهذب"، والقاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ: إن الحكم كما إذا كانت في يد ثالث؛ كما

ذكرناه؛ بناء على الصحيح في أنه لا ترجيح بقوله. أما إذا قلنا بقول المزني وابن سريج: أن من صدقه البائع تترجح بينته، رجع إل البائع الذي في يده العين. وفي "الحاوي": الجزم بهذا؛ لأنها بينة داخل تندفع بها بينة الخارج؛ وهذا بناه على أصله في أن البائع خصم في هذه الحالة؛ كما ذكرناه من قبل. قال: فيؤخذ بتسليم العين إلى مشتريها منه، ويبطل بيع الآخر، ويؤخذ بائعه برد الثمن، ولا يمين للبائع الآخر، ولا للمشتري على من ترجحت بينته من البائع والمشتري؛ لأن الحكم ثبت لهما بالبينة ترجيحاً باليد، ولا يمين مع البينة. وقال فيما إذا كانت العين في يد البائعين: إنه لا تخاصم بين المشتريين فيه، وخصمه فيه هو بائعه؛ ليسلم إليه ما باعه عليه. ثم إن تنازع البيعان، وادعى كل واحد: أنه مالك لجميع العين، وبينة كل واحد من المشتريين في البيع هي بينة لكل واحد من البائعين في الملك، ولكل واحد منهما بينة داخل في النصف الذي بيده، وبينة خارج في النصف الذي في يد صاحبه، وهل لواحد منهما أن يحلف صاحبه؟ فيه القولان، فإن قلنا بالتحليف، حلفه: إنه لا حق له فيما في يده، لا أنه مالك لما في يده؛ لأنه يحلف على الإنكار، لا على الإثبات، ويصير كل واحد مالكاً لنصفها، وبائعاً لجميعها؛ فيكون كل واحد من المشتريين بالخيار بين إمضاء البيع في نصفها والرجوع بنصف ثمنه، وبين فسخ البيع في جميعها والرجوع بجميع ثمنه. وإن تصادق البائعان على أن كل واحد منهما مالك لنصف العين، فينقطع التحاكم بينهما بالتصاقد. وفي انقطاع خصومة المشتريين بانقطاعها بين البائعين وجهان، فإن قلنا بالانقطاع، كان الحكم كما تقدم؛ وإلا فلكل واحد من المشتريين المخاصمة مع من في يده العين؛ لأنه يدعي ملك جميع العين، وقد صار إلى نصفها مع بقائه في حق غيره. ولو كانت العين- والحالة لهذه – باقية بعد في يد البائعين وقت الخصومة بين

المشتريين، كان لكل واحد [منهما] مطالبة بائعه بتسليم ما ابتاعه منه، وهو لا يقدر إلا على تسليم النصف الذي في يده، فإذا قبض كل واحد منهما نصفه، تحاكم فيه المشتريا،، وكان حكمهما كما سنذكره. ولو كان البائعان قد سلماها للمشتريين، كان كل واحد منهما خصماً لصاحبه فيما في يده، ويتحالفان، ولا تستعمل بينتاهما لأنها لا تفيدهما أكثر من قسمته بينهما: فإن حلفا أو نكلا، كانت بينهما. وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، حكم بجميعها للحالف، ولم يلزمه لبائعه- إن لم يكن قد أقبضه الثمن- إلا نصف الثمن وإن صار مالكاً لجميعه؛ لأن البائع مقر أنه لا يملك إلا نصفه. وإن كان قد أقبض جميع الثمن، فليس له المطالبة بشيء منه؛ لأنه مقر باستحقاقه عليه، وليس للمشتري الناكل رجوع بدركه على بائعه؛ لأنه مستحق من يده بنكوله، ولو حلف لكان مقراً في يده. ولو كانت العين في يد أحد المشتريين- أي: في ابتداء الخصومة- ولا تصديق من البائعين، ترجحت بينته بيده وجهاً واحداً، صرح به القاضي أبو الطيب وغيره، وكذا الماوردي، وقال: إن هذا بخلاف ما لو كان في يده والبائع عليهما واحد على أحد الوجهين. وفي هذه الحالة يلزم من [العين] في يده جميع الثمن، ويرجع الآخر على صاحبه بجميع الثمن، وليس له مخاصمة صاحبه في الشراء؛ لأنه قد استقر ابتياعه لجميع العين بحكم بات، وينقطع التنزع بين البائعين كانقطاعه بين المشتريين؛ لتفرد الحكم بالبينة واليد للبائع والمشتري منه، على البائع الآخر والمشتري منه. ولو كانت في يد المشتريين، جعلت بينهما نصفين، ولكل واحد منهما إحلاف صاحبه قولاً واحداً. وفي كيفية يمينه قولان من اختلاف قوليه في تعارض البنتين: فإن قيل باستعمالهما، كانت يمين كل واحد منهما على النفي دون الإثبات؛ لأنه قد ملك بالبينة؛ فلا يمين مع البينة.

وإن قيل: إن تعارضهما موجب لإسقاطهما، كانت يمين كل واحد منهما على الإثبات دون النفي؛ فيحلف بالله: لقد ملكتها بالابتياع من فلان؛ لأنه لم يملك بالبينة؛ فصار مالكاً باليمين. فإن حلفا أو نكلا، كانت العين بينهما، ولا رجوع لواحد منهما بالدرك على بائعه. وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، حكم بالجميع للحالف، ولزمه ثمن الجميع لبائعه، ولا يرجع الناكل على بائعه بشيء من الثمن. فلو أحال المشتريان التحالف على البائعين؛ ليكونا خصمين فيه- ففيه قولان: إن قلنا بإسقاط البينتين بالتعارض، تحالف البائعان، وكان كل واحد من المشتريين خصماً لبائعه. وإن قلنا باستعمالهما، لم يتحالف البائعان؛ لبت الحكم عليهما بالبينة، ولا رجوع لواحد منهما بالدرك على بائعه وإن تداعياه، ولهما الرجوع بدركه إن لم يتداعياه. وإذا لم يرجعا بالدرك، فلا خيار لهما في فسخ البيع. وإن جعلنا لهما الرجوع بالدرك، كان لهما الخيار في فسخ البيع. قال: وإن كان في يد زيد دار، فادعى كل واحد منهما: أنه باعها منه بألف، وأقام كل واحد منهما بينة على عقده: فإن كان تأريخهما واحداً- أي: مثل أن قالت كل واحدة من البينتين: إن العقد صدر مع الزوال يوم كذا- تعارضت البينتان؛ لاستحالة كون جميع الدار ملكاً لشخصين في آن واحد. قال: وفيهما قولان سبق توجيههما: فإن قلنا بالتساقط، رجع إلى من في يده العين، فإن ادعاها لنفسه، حلف كل واحد منهما، وقضى له، وإن أقر لأحدهما، لزمه الثمن له، ويحلف للآخر قولاً واحداً؛ لأنه لو أقر لغرم له؛ فإنه يقر له بمال في ذمته. وإن أقر أنه ابتاعه من كل

[واحد] [منهما]، لزمه الثمنان. وإن أقر أنه ابتاعه منهما فقد أقر لكل واحد بنصف الثمن، وله أن يحلفه على الباقي. وإن قلنا بالاستعمال، جاء قول القرعة والقسمة، وفي مجيء قول الوقف الخلاف السابق بين الفريقين. فإن قلنا بقول القرعة، فهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه القولان، والذي لم تخرج له، [له] أن يحلف المشتري. وإن قلنا بقول القسمة، لزمه نصف ثمن كل واحد، ولا خيار له؛ لأنه يحصل له تمام المبيع، ولا غرض له في عين البائع؛ وهذا ما حكاه الماوردي والبندنيجي وأبو الطيب. وعن أبي الحسين بن القطان ثبوته؛ لأنه قد يرضى بمعاملة واحد، ولا يرضى بمعاملة اثنين. فرع: لو شهد شاهدان: إنه اشترى [من] فلان ساعة كذا، وشهد آخران: إنه كان في تلك الحالة ساكناً- فهل تقبل هذه الشهادة الثانية ويحكم بالتعارض، أو لا تقبل؟ فيه خلاف: والذي ذهب إليه الأكثرون- كما ذكره الإمام- أنها مردودة؛ لتعلقها بالنفي، ومبنى الشهادة على التعرض للإثبات. ومقابله: موجه بأن هذا نفي يمكن تقدير العلم فيه. وقد ادعى الرافعي في الفروع التي ذكرها في آخر كتاب الطلاق: أنه ظاهر المذهب؛ لأنه قال: لو رأى ذهباً، وحلف بالطلاق: إنه الذهب الذي أخذه من فلان، فشهد شاهدان: إنه ليس ذلك الذهب، وإنه حانث- فظاهر المذهب: وقوع الطلاق وإن كانت هذه شهدة على لانفي؛ لأنه نفي يحيط العلم به.

قال: وإن كان تأريخهما مختلفاً- أي: بأن شهدت بينة أحدهما بأن عقده جرى في مضان، وبينة الآخر بأن عقده جرى في شوال- لزمه الثمنان؛ لأنه يمكن الجمع بينهما: بأن يكن قد اشترى من الأول في رمضان، ثم باعه من الثاني، ثم اشتراه منه في شوال؛ وهذا كما قلنا في المرأة إذا ادعت أنه تزوجها يوم الخميس بألف، وأقامت بينة، ثم ادعت أنه تزوجها يوم الجمعة بألف، وأقامت بينة؛ فإنا نوجب لها المهرين. والفرق بين ذلك وبين ما [إذا] ادعى واحد أنه ابتاع هذه الدار من زيد في شعبان، وآخر أنه اشتراها من زيد في رمضان، حيث قدمنا السابق وإن كان مقتضى ما ذكرناه تقديم الأخير- أن ثم المدعى عين واحدة، فإذا باعها مالكها دفعة واحدة، كان البيع صحيحاً، وإذا باعها بيعة ثانية، كان البيع باطلاً؛ لأن ملكه قد زال عنها، وليس كذلك هنا، فإن المدعى ثمن في الذمة، والذمة تتسع لأثمان كثيرة؛ كذا قاله أبو الطيب، وغيره. وفي "الشامل": أن الإنسان لا يشتري ملك نفسه؛ فاحتجنا عند شرائه ثانياً إلى تقدير الانتقال عنه قبل ذلك لمن اشترى منه ثانياً، بخلاف البيع؛ فإن الإنسان قد يبيع ملك غيره؛ ولم يكن التقدير محتاجاً إليه؛ فلا جرم حكمنا بالملك في تلك المسألة للأول، وهنا ألزمناه الثمنين.

قال: وإن كانتا مطلقتين، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة- فقد قيل: يلزمه الثمنان؛ لاحتمال أن تكونا في وقتين؛ وهذا ما حكاه الماوردي والإمام [عن الأكثرين]، وهو الأصح عند القاضي الحسين وابن الصباغ والإمام والغزالي والنواوي. وقيل: يلزمه ثمن واحد؛ لأنه المتيقن وجوبه، ويسقط الآخر؛ لأنا نشك في وجوبه؛ وهذا نقل الشيخ أبي حامد. وقال في "المهذب" وغيره: يدل هذا الطريق الثاني: أنهما يتعارضان كالمؤرختين بتاريخ واحد؛ لأنه يحتمل ويحتمل، والأصل براءة الذمة. وأيضاً: فإن المدعيين متفقان على أنه لم يجز إلا بيعة واحدة منهما، وهذا الطريق يحكى عن القاضي أبي حامد وأبي الحسين وغيرهما. وعلى هذا يكون فيهما قولان: أحدهما: تسقطان، ويكون الحكم كما تقدم. والثاني: تستعملان بالقرعة، أو القسمة. وفي الوقف الخلاف. فإن قلنا بالقسمة، لزمه نصف كل واحد من الثمنين، وهو المعني بقول الشيخ: وقيل: يلزمه ثمن واحد. وحكى الإمام على قول الاستعمال وجهاً آخر أبداه تخريجاً: أنا نثبت الثمنين، ولا تنخرج الأقوال الثلاثة فيه. قال: وحينئذ فينتظم على هذا القول طريقان: أحدهما: ثبوت الثمنين. والثاني: إجراء الأقوال الثلاثة. وفي "الرافعي": أن بعض أصحابنا قال: إن شهدت البينتان بالإقباض مع البيع وجب الثمنان لا محالة. أما إذا أقام كل واحد منهما بينة على إقرار المدعى [عليه] بما [ادعاه]، قال الرافعي: فالأظهر: أن الحكم كما لو قامتا على البيعين أنفسهما، فينظر: إن قامتا

على الإقرار مطلقاً، أو شهد اثنان على الإقرار بالشراء من زيد في وقت الزوال، واثنان على الإقرار بالشراء من عمرو في ذلك [الوقت]، فيجيء ما ذكرناه. وقيل: يجب الثمنان وإن كانت الشهادة على الإقرار مطلقاً، بخلاف الشهادة على البيعين مطلقاً؛ لأن الشهادة على الأقرار قد يثبت بها ما لم يثبت بالشهادة على نفس المقر به؛ ألا ترى أنه [لو] قامت بينة على إقراره بالغصب من زيد، وأخرى على إقراره بالغصب من عمرو لزمه قيمتان، ولو قامتا على نفس الغصب من زيد، والغصب من عمرو، تعارضتا، وإذا استعملنهاهما، لم يجب إلا قيمة واحدة. وهذا الطريق لم يحك البندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ سواه، ونقله المزني عن الشافعي، واستشهد به على لزوم الثمنين في المسألة السابقة عند إطلاق البينتين، والأصحاب فرقوا بما ذكرناه. تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق فيما ذكرناه بين أن يقول كل واحد منهما: إن بيع الدار صدر منه وهو مالك، أو لا، [و] يدل عليه أنه قال: "وأقام كل واحد منهما بينة على عقده"، وهو ما حكاه أبو الفياض في "تتمة الجامع الصغير"، لكن لفظ الشافعي في "المختصر"- وعليه أكثر الأصحاب- تصوير المسألة بما إذا قال كل واحد منهما: إنها ملكه حالة البيع. قال: وإن ادعى رجل ملك عبد، وأقام عليه بينة، وادعى الآخر، أي: المنازع له، أنه باعه منه، أو وقفه، أي: عليه، أو أعتقه، وأقام عليه بينة-[قضى] بالبيع، والوقف، والعتق؛ لأن البينة الشاهدة بذلك معها زيادة علم؛ لأنها شهدت بأمر حادث من المشهود له بالملك أولاً؛ فقدمكت على بينة الملك. ولو أقام العبد بينة أنه حر، قال في "الإشراف": قال أصحابنا: بينة الحرية أولى. وقال أبو حامد الإسفراييني: بينة الرق أولى؛ لأنها ناقلة من الأصل، فقد أفادت زيادة علم.

والمنازع في العتق تارة يكون العبد، وتارة [يكون] من ذكرناه في أول هذا الباب. قال: وإن قال لعبده: إن قتلت فأنت حر، فأقام العبد بينة: [أنه قتل]، وأقام الورثة بينة أنه مات- ففيه قولان: أحدهما: تتعارضان، ويرق العبد- أي: بعد حلف الورثة- لأن كل واحد تنفي ما تثبته الأخرى؛ فبينة القتل تثبته وتنفي الموت، وبينة الموت تثبته وتنفي القتل، فسقطتا، وكأن لا بينة؛ فيحلف الوارث على نفي العتق. والثاني: تقدم بينة القتل؛ لأنها عرفت زيادة لا تعرفها الأخرى، وهي الموت قتلاً. وأيضاً: [فإن] كل قتيل ميت، وليس كل ميت قتيلاً؛ فعلى هذا يعتق العبد. وهذا هو الظاهر من القياس على ما ذكره أبو الحسن العبادي، ونقل طريقة قاطعة به، وقد صححه النواوي، واختاره في "المرشد". وما ذكره الشيخ هو ما حكاه الأصحاب عن الشافعي في آخر كتاب الشهادات من "الأم"؛ لأنه ذكر هذه المسألة والتي تليها ثم. قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون هذا الخلاف على قوله الجديد: إن البينتين إذا تعارضتا سقطتا، ويجيء على القول القديم الأقوال في الاستعمال. وقد أورده الرافعي في المسالة فقهاً من غير أن يذكره احتمالاً لأحد، وهو المذكور في "تعليق" القاضي الحسين، و"النهاية" و"التهذيب". وقال الرافعي: إنا إذا قلنا بالقسمة عتق نصفه، وإن قلنا بالقرعة عتق إن خرجت له القرعة، ورق إن خرجت للوارث. والوقف لا يجيء، وقال الإمام: إن قول الوقف لا يخرج هاهنا؛ فإنه لا منتهى له، وهو يرجع في التحقيق إلى ضبط العبد وتعطيل منفعته.

ولا شك أنه لا يثبت القصاص بقتل السيد إذا ثبتت البينة من قبله؛ لأن الوارث امنكر للقتل. نعم، لو ادعى الوارث القتل، وأقام المدعي بينة أنه مات حتف أنفه- جرى القولان. قال: وإن قال: [إن] مت في رمضان فعبدي حر، وإن مت في شوال فجاريتي حرة، ومات، فأقام العبد بينة [أنه مات] في رمضان، والجارية بينة بالموت في شوال- ففيه قولان: أحدهما: تتعارضان، ويرقان؛ لتنافيهما. وفي "النهاية": أنا إذا قلنا بالتساقط فقد عتق أحدهما، وأشكل الأمر، ولو اتفق مثل هذا لم يخف حكمه في أن الرجوع إلى الورثة، وكيف السبيل؟ وهو بمثابة ما لو قال: إن كان هذا الطائر غراباً فغانم حر، وإن لم يكن غراباً فسالم حر، ومر الطائر، وأشكل الأمر. والثاني: تقدم [بينة] رمضان؛ لجواز علمها بذلك وخفاء الأمر على بينة شوال؛ وهذا ما صححه النواوي، واختاره في "المرشد". وعن ابن سريج والمزني – كما قال الرافعي- أن بينة شوال أولى؛ لأن معها زيادة علم، وهو استمرار الحياة إلى شوال، وربما أغمي عليه في رمضان؛ فظنت البينة الشاهدة بالموت فيه الموت. قال الرافعي: ولمن شرطه أن يطرده في نظائر المسألة من قبل ومن بعد. وفي "التهذيب" أن ما ذكره الشيخ مفرع على القول الصحيح، وهو التساقط، أما إذا قلنا: تستعملان، فتجيء الأقوال الثلاثة. قال الرافعي: وعلى قول القسمة يعتق من كل واحد منهما نصفه. فرع: لو حكم الحاكم بشهادة شاهدي الموت في رمضان، ثم شهد على أنه مات في شوال شاهدان- فهل ينقض الحكم على القول الأول، وينزل ذلك منزلة ما لو شهدت البينتان معاً أم لا؟ عن ابن سريج تخريج قولين فيه؛ كما لو بان فسق الشهود بعد الحكم؛

قاله الرافعي والروياني وغيرهما. وقد يطلب الفرق على مذهب ابن سريج بين هذا وبين ما إذا حضرت بينة صاحب اليد بعد الحكم للخارج بالبينة؛ فإنه قال ثم: ينقض الحكم جزماً. قال: وإن قال لأحدهما: إن مت [بمرضي هذا] فأنت حر، وقال للآخر: إن برئت من مرضي هذا فأنت حر، ومات، وأقام كل واحد منهما بينة على ما يوجب عتقه- تعارضت البينتان- أي: قولاً واحد- لأن كل واحدة منهما تكذب الأخرى. وفي "الرافعي" و"التهذيب" وراء ذلك وجهان: أحدهما: أن بينة الموت من ذلك المرض أولى؛ لزيادة علمها بالموت، وقد حكاه الموردي قولاً آخر. والثاني: أن بينة البرء أولى؛ لعلمها بالبرء، ويحكى هذا عن ابن القطان. والصحيح [ما أورده الشيخ]، وهو المحكي في "الشامل" و"تعليق" البندنيجي عن نص الشافعي، والقاضي الحسين لم يورد سواه. وعلى هذا قال الشيخ: وسقطتا، ورق العبدان: أي: إذا قلنا بالتساقط؛ كما هو الجديد، ولكل منهما تحليف الورثة. وي "الحاوي": أنا إذا قلنا بالتساقط فقد انعتق أحدهما، ولم يتعين العتق فيه؛ فيرجع إلى بيان الورثة في ذلك. فإن بينوا عتق أحدهما، عمل في ذلك على بيانهم، وحكم برق الآخر، وله إحلافهم. وإن عدم بيان الورثة، أقرع بينهما، وعتق القارع، ورق المقروع. أما إذا قلنا بالقديم- وهو قول الاستعمال-[فتجيء الأقوال]؛ صرح به الرافعي. وحكى عن رواية ابن كج عن بعض [الأصحاب]: أنه إذا وجد التعارض في مثل هذا غلبت الحرية، ويجيء ما جزم به الشيخ من [طريقة] التساقط- أيضاً-

على الطريقة التي حكاها الإمام وغيره: أن محل الاستعمال إذا لم تتكاذب البينتان صريحاً، أما إذا تكاذبتا فلا؛ لأن هنا التكاذب صريح، والله أعلم. قال: وإن شهد شاهدان: إنه أعتق سالماً- أي: في مرض موته- وهو ثلث ماله، وشهد آخران: إنه أعتق غانماً، وهو ثلث ماله، ولم يعلم الأول منهما- أي: وقد تحقق أن أحدهما بعد الآخر- ففيه قولان: أحدهما: يعتق من كل واحد منهما نصفه؛ لتساويهما، وتعذر القرعة؛ إذ ربما خرج سهم الرق [على الحر] فيصير رقيقاً، وعلى العكس، فإذا أعتقنا من كل واحد نصفه، عتق نصف المقدم، وعتقه مستحق، ورق نصف المتأخر، ورقه مستحق. وأيضاً: فإنه لو شهد شاهدان: إنه أوصى لهذا بثلثه، وشهد آخران: إنه أوصى لآخر بثلثه- قسم بينهما؛ فكذلك هاهنا؛ وهذا ما نص عليه في "المختصر" في باب الشهادة في الوصية، وهو الذي رجحه الروياني وغيره، وقال البندنيجي: إن أبا إسحاق وابن سريج قطعا به. والثاني: يقرع بينهما؛ لامتناع الجمع بينهما، وعدم المزية في أحدهما؛ فكان إكمال الحرية في أحدهما أولى من تبعيضها فيهما؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، واختاره المزني وآخرون، ومنهم من قطع به، وحمل قول الشافعي في "المختصر" على ما إذا شهدت البينتان بالوصية بالعتق لا بتنجزه. ومنهم من أجرى القولين في التنجيز والوصية؛ كذا قاله القاضي الحسين وغيره، والقولان في مسألة الكتاب- كما قال جماعة من الأئمة- كالقولين في الجمعتين والنكاحين في مثل هذه الحالة، فإن قلنا ببطلان النكاحين والجمعتين، أقرعنا هاهنا كما لو وقعتا معاً. وإن توقفنا في النكاحين، وأمرنا الجميع بالظهر- أعتقنا من كل واحد منهما نصفه. وقد فرع الماوردي وغيره على القولين في الكتاب إذا كانت قيمة أحدهما ثلث

المال، وقيمة الآخر سدسه، فقال: إن قلنا بالقرعة، فإن خرجت للذي قيمته الثلث، عتق جميعه، وإلا عتق جميع الآخر، ونصف هذا. وإن قلنا بالقسمة يعتق من النفيس ثلثاه، ومن الخسيس ثلثاه؛ كما لو أوصى لزيد بجميع ماله، ولعمرو بثلث ماله، وأجاز الورثة- فإنه يقسم المال بينهما أرباعاً؛ فإن الموصى له بالكل يضارب بثلاثة أمثال ما يضارب به الآخر. وهذا ما أورده الأكثرون، وتكون المسألة على هذا تصح من ثمانية عشر سهماً. وفي "الوسيط" وجه آخر: أنه يعتق من النفيس ثلاثة أرباعه، ومن الخسيس نصفه؛ لأن النفيس يقول: إذا أعتقت أولاً فجميعي [حر]، وإن تأخرت فنصفي حر؛ فنصفي مسلم لا خلاف فيه، وإنما النزاع في نصفي الآخر، وقد قدر سدس بيني وبينك؛ فيقسم علينا. قال: وهذا ينبغي أن يطرد في مسألة الوصية، فيقول الموصى له بالكل: أما الثلثان فهما مسلمان إلي، وإنما التزاحم في الثلث؛ فيقسم علينا؛ فيحصل له بالكل على خمسة أسداس، والآخر على سدس، وقد قطع الإمام بهذا التخريج، وقال: إنه لا فرق بين الصورتين. أما إذا علم السابق منهما، فهو المعتق. ولو وقع العتقان معاً، أقرع بينهما جزماً؛ للخبر. قال القاضي الحسين: وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه وجهان. ولو أمكن سبق أحدهما، ووقوعهما معاً، قال القاضي الحسين، وتبعه الإمام، والبغوي: فكذلك يقرع. وقال الإمام وغيره: احتمال الترتيب أغلب، وأقرب من احتمال المعية، والسابق منهما غير معلوم، وإذا كان كذلك، وتعارضت البينتان، وأطلقتا- علمنا أن أحد العقدين سابق، ولم نعرفه بعينه؛ فيجيء القولان. قال القاضي الحسين: ولا خلاف أنا إذا علمنا عين السابق، ولكن نسيناه: أنه يعتق من كل واحد منهما نصفه. وهذا قياس قول من قال: إذا علم السابق من النكاحين والجمعتين، ونسي: أنه يوقف، وهو الظاهر.

وقد حكى البغوي والرافعي في المسألتين طريقين: أحدهما: هذا، وهو الذي أورده أبو الفرج السرخسي وغيره. والثاني: طرد القولين. قال: وإن ادعى عيناً في يد زيد، وأقام بينة بملك متقدم، فإن شهدت البينة: إنها ملكه أمس، لم يحكم له؛ لأنه يدعي ملك العين في الحال، والبينة لا تشهد له بذلك، وإنما تشهد له [بأنها له] بالأمس؛ فصار كما لو ادعى شيئاً، وشهدت له البينة بغيره. ولأن ثبوت الملك سابقاً إن اقتضى بقاءه، فيد المدعي علي وتصرفه يدل على الانتقال إليه بحق؛ فلا يحصل ظن الملك في الحال. قال: حتى تشهد البينة: إنه أخذها منه زيد- أي: بما لا يوجب زوال الملك- إما بمباح: [كإجارة] أو عارية، أو بمحظور: من غصب وتغلب؛ لأنه قد بان بالبينة أن اليد الطارئة غير موجبة للملك؛ فثبت بها حكم الملك المتقدم. وهذا ما نقله المزني، والربيع؛ ولأجل ذلك قال القاضي الحسين والإمام: إنه الجديد، وهو المذهب. وقيل: فيه قولان: أصحهما: أنه لا يحكم له؛ لما ذكرناه. ولأن دعوى الملك السابق لا تسمع [مجردة عن الملك في الحال]؛ فكذلك البينة [عليه]. والثاني: يحكم [له]؛ لأنه قد ثبت بالبينة أن العين كانت له بالأمس، والظاهر بقاء الملك؛ وهذا القول رواه "البويطي"، وقال القاضي الحسين والإمام: إنه القديم. والطريقان جاريان- كما حكاه المصنف والبندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين والإمام- فيما إذا شهدت البينة بأن العين كانت في يده بالأمس، وأكثرهم

حكوا النصين فيها، وقالوا: لا فرق بين أن تشهد له باليد أمس، أو تشهد له بالملك أمس، ووراء ذلك أمران: أحدهما: حكى الماوردي الطريقين في الشهادة باليد السابقة، واقتضى إيراده أن البنية إذا شهدت بالملك القديم، سمعت جزماً؛ فإنه قال في توجيه الحكم بالشهادة باليد السابقة: إن اليد دالة على الملك؛ فجرت مجراه، وقد ثبت أن المدعي لو أقام بينة على أن الدار كانت له بالأمس، حكم له بها؛ كذلك إذا أقام بينة أنها كانت في يده بالأمس. وأشار عند الكلام فيما إذا شهدت البينة: إن هذه الجارية بنت أمته، إلى خلاف في الصورتين، لكن بالترتيب، فإنه قال: مذهب الشافعي المشهور: أنه لا يحكم له باليد إذا شهدوا له بيد متقدمة وإن حكم له بالملك إذا شهدوا له بالملك المتقدم على أحد القولين، وأن "البويطي" وابن سريج كانا يجمعان بين الشهادة بقديم الملك، وقديم اليد في الحكم بها على أحد القولين، وقد ذكرنا من فروق أصحابنا بين قديم الملك وقديم اليد ما يمنع الجمع بينهما، وكأنه يشير إلى أن اليد السابقة لا تدل على الملك إلا ظاهراً، ويجوز أن تكون على غير ملك؛ كما علل به الأصحاب ما حكي عن الشافعي في "الأم" حيث قال: إذا شهد شاهدان: [إن] هذه الدار لفلان منذ سنة، وشهد آخران: إنها في يد آخر منذ سنة- أن بينة الملك أولى من بينة اليد؛ لأن اليد تكون على ملك، وغير ملك، بخلاف الملك. الأمر الثاني: ادعى الغزالي في "الوسيط"، و"الوجيز": أنه لا خلاف في أن البنية لو شهدت بأنه كان [في] يد المدعي بالأمس- قبل، وجعل المدعي صاحب اليد. ولعل ذلك محمول على ما إذا شهدت البينة بذلك، وأن المدعى عليه أخذها من يده؛ كما نص على ذلك في "المختصر"، وصرح به الأصحاب. ومن أجرى لفظه على ظاهره قال: إن الغلط وقع [في] ذلك من جهة أنه لما قدم أن البينة إذا أسندت الملك إلى محسوس بأن قالت: إنه كان في ملكه بالأمس، اشتراه من صاحب اليد: أنه يقبل- قال في الشهادة باليد أمس: إنها مقبولة كذلك.

والمنقول ما ذكرناه، والله أعلم. ثم طريقة القولين في الصورتين هي المشهورة، وهي في "الشامل"، و"تعليق" البندنيجي منسوبة إلى ابن سريج، وقالا: إنه قال: أصل القولين ما إذا تنازعا داراً في يد غيرهما، وأقام أحدهما بينة: أنها ملكه منذ سنة إلى الآن، والآخر بينة: أنها ملكه في الحال- ما حكمهما؟ فإن قلنا: إنهما سواء، فهاهنا لا تسمع البينة بالملك المتقدم واليد السابقة. وإن قلنا: بينة الملك القديم أولى، فهاهنا تسمع البينة بالملك المتقدم واليد السابقة. وفي "الرافعي": أن بعضهم عكس فبنى الخلاف في تلك المسألة على الخلاف في هذه المسألة، وهو كذلك في "تعليق" القاضي الحسين. وسلك الإمام طريقاًآخر، فقال: إن قلنا في المسألة التي جعلها ابن سريج أصلاً لهذه المسألة بالتساوي، فهنا لا نحكم بالبينة بالملك السابق واليد السابقة، وإن قلنا ثم: تترجح بينة الملك المتقدم، فإذ ذاك يجري القولان هاهنا: الجديد، والقديم. والقائلون بالطريق الأول- ومنهم أبو إسحاق المروزي- قالوا: ما قاله "البويطي" من كيسه، لا من قول الشافعي. والصحيح- وإن ثبت الخلاف-: عدم السماع عند الاقتصار على الشهادة بالملك المتقدم أو اليد، كما ذكره الشيخ. أما إذا شهدت بالملك المتقدم، وقالت: إنه ثابت في الحال، أو: لم يزل، أو: لا نعلم له مزيلاً- سمعت؛ كما قاله الإمام والقاضي الحسين والرافعي، وترتب الحكم عليها. وفي الحالة الأخرى أمران: أحدهما: نقل ابن المنذر عن الشافعي: أنه يحلف المدعي مع البينة. قال القاضي أبو سعد: وهو غريب، ووجهه: بأن البينة قامت على خلاف الظاهر، ولم تتعرض لإسقاط ما مع المدعى عليه من الظاهر؛ فأضيف إليها اليمين. الثاني: قال ابن أبي الدم: إن في السماع وترتب الحكم نظراً؛ لأنها إذا شهدت:

إنه كان ملكه أمس، ولم نقبلها مجردة، فقولها: ولم يزل إلى الآن، نفي محض؛ فلا يقبل. ثم حكي بعد ذلك أن الشاهد إذا قال: أشهد: إنه كان ملكه بالأمس، ولا أعلم مزيلاً- قال بعض الأصحاب: يكفي هذا. وأكثرهم قالوا: لا يكفي، بل لابد من الجزم بالشهادة بالملك في الحال، ويجوز للشاهد أن يشهد بالملك في الحال؛ استصحاباً لحكم ما عرفه من قبل: كشراء، أو إرث وغيرهما، وإن كان يجوز زواله. قال الإمام: ولم أر الأصحاب يشترطون في ذلك خبرة باطنة، معربة باستمرار الزمان يطلع بها الشاهد على ظهور دوام الملك. نعم، لو صرح في شهادته: أنه اعتمد الاستصجاب فوجهان: المحكي منهما في "الوسيط"، و"النهاية" عن الأصحاب: عدم القبول؛ كما لا تقبل شهادة الرضاع على امتصاص الثدي وحركة الحلقوم، وقد اختار هذا الشيخ أبو محمد وصاحب "التقريب". وعن القاضي الحسين: القبول؛ لأنا نعلم أنه لا مستند له سواه، بخلاف الرضاع؛ فإنه يدرك بقرائن لا تدخل في العبادة. ولو قال: لا أدري أزال ملكه أم لا؟ لم يقبل؛ صرح به القاضي الحسين. فروع: لو أقام الداخل بينة بأن العين ملكه بعد أن شدت بيبنة الخارج بأنها ملكه غصبها منه الداخل، كانت بينة الخارج أولى؛ كما حكاه [الشيخ] أبو علي عن ابن سريج. وقال القاضي الحسين: فيه إشكال. وعند الأصحاب بينة ذي اليد أولى، وهو المحكي عن الشيخ أبي علي. والصحيح في "التهذيب"، والذي عليه كل العراقيين أو غالبهم: [الأول]. قال ابن أبي الدم: ولم يحك أحد منهم فيما أعلمه فيه خلافاً.

ولو شهدت البينة: إنه أقر أمس للمدعي بالملك، قبلت الشهادة، واستديم حكم الإقرار وإن [لم] يصرح الشاهد بالملك في الحال. وحكى الإمام في "النهاية" عن صاحب "التقريب" في المسألة طريقين: أحدهما: هذا. والثاني: إلحاق ذلك بالشهادة على الملك المتقدم؛ فيجيء القولان. قال الإمام: هذا وإن كان منقاساً، فالذي أعتقده فيه أنه خرق لما اتفق عليه الأولون، والقول به مسبوق بالإجماع، وإن اختار القاضي هذه الطريقة فهو بمثابة التمسك بقياس جرى في مصادمة قاعدة كلية. ولأجل ذلك جزم الغزالي [في "الوجيز"] بالطريق الأول، ووجهه بأنه لولا المؤاخذة به، لبطلت فائدة الأقارير. ولو قال المدعي عليه: هو ملكي، وكان ملكك أمس- ففيه وجهان: أظهرهما في "تعليق" القاضي الحسين: أنه ينزع من يده، ويسلم للمدعي بإقراره [له]. والثاني: لا ينزع من يده؛ لثبوت يده عليه، واليد دلالة على الملك. قال القاضي: وفيه ضعف؛ لأنه لو قال: العين ملكك بالأمس، واليوم ملكي، فلا خلاف أنها تنزع من يده؛ فكذلك إذا تأخر الإقرار بالملك للمدعي. وكلام الغزالي مصرح بإجراء الخلاف في هذه الصورة أيضاً. والقائلون بالمؤاخذة فرقوا بين الشهادة والإقرار: بأن المقر لا يقر إلا عن تحقيق: والشاهد قد يتساهل ويبني الأمر على التخمين؛ فإذا لم ينضم إليه الجزم في الحال ضعف. والذي جزم به ابن الصباغ، وحكاه الماوردي والبندنيجي وأبو الطيب عن ابن سريج فيما إذا أقر له بالملك أمس- المؤاخذة، وحكاية الوجهين فيما إذا أقر بأن العين كانت في يده أمس، وقلنا: لا تسمع الشهادة باليد المتقدمة؛ وعلى هذه الطريقة يطلب الفرق من وجهين:

أحدهما: بين قيام البينة باليد السابقة، والإقرار باليد السابقة، وقد حكى البندنيجي عن ابن سريج: أنه فرق بأن يد المدعى عليه قائمة على الملك في الحال، والظاهر: أنها لم تزل كذلك، والبينة أثبتت للمدعي يداً أمس؛ فتعارض ما سلف وسقط، وبقيت للمدعى عليه يد مشاهدة في الحال، وليس كذلك إذا أقر له باليد أمس؛ [لأن إقراره يمنع أن تكون يده اليوم تدل على إزالة اليد أمس] فيثبت للمقر له يد أمس؛ فلا تزال حتى يعلم سبب زوالها. وقال ابن الصباغ: يمكن أن يفرق بأن البينة لا تسمع إلا على ما ادعاه، والدعوى يجب أن تكون متعلقة بالحال، والإقرار يصح فيما لا تصح دعواه، وهو المجهول؛ فصح- أيضاً- في الماضي. والثاني: بين الإقرار بالملك السابق والإقرار باليد السابقة، وقد أشار إليه الأصحاب-[حكاية عن ابن سريج] – فقالوا: اليد قد تكون مستحقة، وقد لا تكون، فإذا كانت قائمة أخذنا بالظاهر فيها والاستصحاب، فإذا زالت ضعفت دلالتها؛ لأن الظاهر من يد الثاني الاستحقاق أيضاً؛ فبطل حكم اليد الأولى، بخلاف الشهادة بالملك السابق؛ فإن الملك إذا ثبت بالأمس، لم يخل عن الملك. قال ابن الصباغ: وهذا الفرق يبطل بالتسوية بين اليد والملك في البينة. ولو ادعى على الاخل شيئاً في يده، ولم يسبق من الداخل إقرار مطق للخارج ولا بيع، فقال الداخل في الخصومة: كانت العين ملك هذا المدعي أمس- قال صاحب "التقريب": هل يكون هذا كما لو شهدت بينته أنها كانت في ملك المدعي أمس، أم يكون هذا الإقرار بمثابة إقرار مطلق تشهد به البينة على الداخل: إنه أقر بأنها كانت في ملك المدعي أمس؟ فيه وجهان. قال الإمام: ولا نهاية للطف هذا التفصيل. فائدة: إذا شهدت البينة بالملك فمن ضرورتها تقدم الملك على الوقت الذي وقعت فيه الشهادة؛ فإنها لا توجب ثبوت الملك، وإنما تظهره؛ فتعين ارتباط ذلك بمتقدم؛ حتى يتصور انتقال الملك فيه بسبب من الأسباب.

قال الإمام: وهذا التقديم يقع الاكتفاء فيه بلحظة لا تقبل زماناً يتميز في الحس؛ حتى لو ادعى شاة، وأقام على دعواه بينة، وكانت نتجت قبل الإقامة بساعة- فلا يقضي له بالنتاج. نعم، لو أقام المدعي بينة بملك الشاة وكانت حاملاً، ولم تتعرض البينة لذكر الحمل- ثبت ملكه في الشاة وحملها؛ حتى لو انفصل بعد الشهادة، وقبل تزكية البينة- كان للمدعي. وما ذكره الأصحاب في كون الحمل يكون للمدعي إذا شهدت البينة بملك الشاة، ولم تتعرض للحمل- قاسوه على ما لو اشتراها وهي حامل؛ فإن الملك يثبت في الحمل وإن لم يذكره حالة العقد. قال الإمام: وقد يتطرق إليه احتمال على بعد؛ فإن الملك يفرض متبعضاً في البهيمة وحملها بالوصية. قلت: وفي الهبة، والبيع القهري، والرد بالعيب؛ على أحد القولين، كما حكينا ذلك في باب ما يجوز بيعه، وأن الجديد في الهبة: أنه لا يتبع. وإذا كان كذلك قال الإمام: فلا يبعد أن يدعي البهيمة ويستثني حملها في دعواه. وأما استتباع البهيمة للحمل في البيع، فذاك لأمر متعلق بمقتضى العقد؛ لأنه لا يصح بيع البهيمة دون ولدها؛ على المذهب الظاهر، والاستثناء في الدعوى والإقرار جائز. وقد حكى الرافعي هذا الاحتمال وجهاً، وأنه لا يحكم له بالحمل. وهذا الذي حكيناه هو المشهور في المذهب. وفي الرافعي: أن القاضي أبا سعد الهروي ذكر أن الفقيه أبا نصر البلخي- من أصحاب الرأي- حكى عن أصحابنا: أن قيام البينة يقتضي سبق الملك؛ حتى يكون النتاج للمدعي. قلت: و [على] هذا ينطبق ما حكاه المحاملي في "المجموع" في باب الشرط الذي يفسد البيع، والبندنيجي قبيل باب القافة-: أن ابن سريج قال: إذا كان في يد

الرجل جارية لها ولد، فادعاها رجل، وأقام بينة: أنها له- حكم له بها، وهل يحكم له بالولد؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن البينة لا تنقل الملك في الحال، وإنما يتبين بها حصول الملك فيما قبل؛ فيحكم بأن الولد حصل [في] ملك من قامت له البينة. وأصحهما: لا؛ وعلى هذا إشكالان: أحدهما: [ما] أشار إليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام؛ فإنه حكي عنه أنه قال: من شرط سماع الشهادة في حقوق الآدميين تقدم الدعوى الصحيحة عليها، وموافقة الشهادة لها. وقضية ذلك: أن يحكم بالملك قبيل الدعوى؛ لأن من شرط صحة الدعوى تقدم الملك عليه؛ فإنها [لا] تنشئ الملك، وإلا لكان الحكم مرتباً على دعوى لم يحكم بصحتها، ولا وافقتها [البينة]؛ فإن المدعى عند الزوال من يوم الجمعة تتضمن دعواه وجود الملك في تلك الحالة وقبيلها، فإذا أقام البينة عند الزوال من يوم السبت، ولم يحكم بالملك إلا قبيل الشهادة- كانت شاهدة بما لم تتضمنه الدعوى؛ فينبغي ألا تسمع؛ كما قاله الأصحاب في الشهدة [بالملك] المتقدم. وقد يجاب بأن ما ذكره الأصحاب سلكوا فيه طريق التحقيق؛ فإنه لا يتحقق تضمن شهادتهم نقل الملك في أكثر من الزمن المذكور، واحتمال تقدم الملك على الدعوى لا ينكر، وهو الكافي [في] سماع الشهادة؛ لأن المعتبر في صحة الدعوى التي يترتب عليها سماع الشهادة انتظامها وإمكانها ظاهراً، لا موافقتها ما في نفس الأمر. وأيضاً: فإن الشهادة لا تقام إلا بطلب المدعي؛ فيقدر عند طلبه أداء الشهادة كأنه مدع للملك ذلك الوقت أيضاً؛ فلم تقع الشهادة مخالفة للدعوى. نعم، قد يعكر على هذا ما إذا أقام شاهداً واحداً، ثم أقام آخر [بعد] مدة؛ فإن الحكم يقع عند إقامة الثاني الشهادة.

وقضية ما قاله الأصحاب: أن يكون ما شهد به الأول غير ما شهد به الثاني، وأن لا تلفيق. وقد صرح في "الزوائد" في كتاب الشهادات بأنه لو حدثت ثمرة بين الشهادتين، كانت للمدعي [عليه]، لكن قد حكينا عن القاضي في باب صفة القضاء عند الكلام في طلب الحبس حتى تزكي البينة ما يدفعه؛ فاطلبه [من] ثم، والله أعلم. الثاني: قال الأصحاب: من اشترى عيناً من الأعيان، وتمادى الزمان سنين، ثم جاء مدع، وادعاها في يد المشتري، وانتزعها منه ببينة شهدت له بملكها من غير بيان سبب الملك- كان للمشتري أن يرجع على بائعه بالثمن. قال القاضي الحسين: وهذا مع ما ذكروه لا يجتمع؛ لأن شهادة البينة لا تتضمن إسناد ملك المدعي- كما قالوا- إلى زمان يوصف بأن يشار إليه، بل لا يقتضي إلا ملك الحال وتقديراً في التقدم؛ فكيف يملك المشتري الرجوع على البائع مع إمكان ثبوت ملك المنتزع للعين؛ تلقياً من هذا المشتري؟ وهذا ضمنه الغزالي قوله: "وعجب أن يترك في يده نتاج حصل قبل البينة وبعد الشراء، ثم هو يرجع على البائع! ". ثم قال القاضي: ويحتمل أن نقول: لا يرجع المشتري بالثمن على البائع- والحالة كما وصفنا- بناء على ذلك، إلا أن تسند البينة الاستحقاق إلى حالة العقد؛ فإذ ذاك يثبت أن البيع صادف مستحقاً. قال الإمام: وما ذكره القاضي لا دفع له من طريق القياس، لكنه قال: أجمع الأصحاب من عند آخرهم على خلاف ما ذكرته، وقد رأيته في "تعليقه"، والممكن في توجيه ما ذكره الأصحاب: أن يقال: البينة الشاهدة للمدعي بالملك لا يظن بها إلا الصدق، والأصل عدم نقل الملك من المشتري، مع أنه لا يمكنه أن يثبت عدم [تصرف] نفسه؛ فاكتفينا في حقه بعدم تحقق النقل من جهته وإن كان محتملاً؛ لأجل الوثوق بالعهدة، كما أن الشرع صحح ضمان العهدة خارجاً عن القياس؛ لأجل ذلك.

وإذا لوحظ ما ذكرناه لم [يكن لصدق] الشهود محتمل إلا إسناد الاستحقاق إلى ما تقدم؛ فلهذا ثبت له الرجوع. وزاد الأصحاب عليه فقالوا: لو وهب المشتري العين المشتراة أو باعها، فأقام مدعٍ على من هي في يده البينة بأنها ملكه – رجع المشتري [الأول] على بائعه. قال الإمام: وهذا لا إشكال فيه بعد تقرير الأصل المذكور. فرع: المشتري من المشتري إذا استحق الملك في يده، ولم [يظفر ببائعه] – هل له أن يطالب البائع الأول بالثمن؟ في "فتاوى" القاضي الحسين: أن الأصح: أنه لا يطالبه، ويشبه ذلك من مات وعليه دين، وادعى وارثه ديناً على غيره، وأنكر المدعى عليه، ونكل الوارث – هل يحلف الغريم؟ قال: وإن ادعى مملوكاً، وأقام بينة: أنه ولدته أمته في ملكه، أو [ادعى] ثمرة، وأقام بينة أنها أثمرتها نخلته في ملكه – حكم له، وقيل: وهي كالبينة بملك متقدم؛ لأنهما أضافا الملك إلى حالة الولادة، وخروج الثمرة؛ وذلك زمن متقدم؛ فعلى هذا يجيء القولان؛ وهذه طريقة "البويطي" وابن سريج. والفرق على الطريق الأول – وهو الذي نص عليه الشافعي، واختاره أبو إسحاق، وابن أبي هريرة، وسائر الأصحاب؛ كما قاله أبو الطيب – من وجهين: أحدهما: أن الشهادة هناك بملك مقصود متبوع غير تابع لغيره؛ فلهذا لم تقبل بملك كان حتى يصل ذلك بحالة التنازع، وها هنا الشهادة بالتبع، والأصل ملك ثابت له في الحال؛ فثبت أنها تبع للأصل. والثاني: أن النتاج والثمرة لما لم يتقدمه فيهما مالك، صار في تملكهما أصلاً، وقديم الملك لما تقدمه فيه مالك، صار في تملكه فرعاً، وحكم الأصل أقوى من حكم الفرع. فإن قيل: ليس يمتنع أن يحدث الولد لغير مالك الأم بالوصية وغيرها مما ذكرناه، فكيف تحكمون بالملك بهذه الشهادة؟

قال الماوردي: قلنا: هذا نادر أخرجته الوصية عن حكم أصله؛ فصار كالاستثناء الذي لا يمنع جوازه من استعماله على العموم قبل وروده. وهذا ما أورده العراقيون والماوردي. وسلك الإمام طريقًا آخر، فقال: إن أراد بقوله: ولدته، والولد في ملكي، فقد ادعى ملك الولد، ولكن لم يدعه الآن، وإنما ادعى ملكه حالة الولادة، فإذا أقام على ذلك بينة، ولم تتعرض البينة لملك الحال- فهذا يتخرج على القولين في ملك أمس، ولا فرق. وإن قال: ولدته جاريتي في ملكي، وفسر ذلك بأن الجارية مملوكة له عند الولادة، فنقول: قد تكون الجارية مملوكة له، ويتصور ذلك بالوصية، وقد يكون الولد حرًّا؛ فليس ما ذكره دعوى ملك في الولد، ولكن ادعى حصول الولد في يده، ثم ادعى يدًا في زمان سابق؛ فيجري فيه القولان في دعوى اليد السابقة. وقد يخطر في هذا المقام أنه إذا ادعى الملك في أمه – إذ هو ثابت له بلا نزاع – فينبغي أن يلتحق ذلك بما إذا ادعى جارية حاملاً؛ فإنه يكون مدعيّا لحملها – أيضًا- وهذا فقيه، ولكن فيه احتمال من جهة: أنه أفرد الولد بالدعوى في هذه المسألة، وفي تلك وجَّه الدعوى على الأم فتبع الولد. قلت: وحاصل ما ذكره الإمام يرجع إلى طريقة ابن سريج؛ فإن عنده لا فرق بين الشهادة بالملك السابق أو اليد السابقة، والله أعلم. قال: وإن ادعى أن هذا العبد كان له، [وأعتقه، وغصبه] فلان، وأقام عليه بينة – فقد قيل: يقضي بها، وقيل: هي كالبينة بملك متقدم. والفرق على الطريق الأول: أن البينة ها هنا شهدت على وفق الدعوى؛ لأنه لا يدعي الملك لنفسه في الحال، ولا كذلك ثمة. فإن قيل: قد قلتم من قبل: إن الدعوى بملك سابق لا تسمع، وهو ما حكاه الماوردي عند الكلام فيما إذا شهدت البينة: إن هذه [العين] كانت في يده أمس، وقال الإمام في باب الدعوى في وقت دون وقت: لست أعرف خلافًا في رد دعواه؛

فكيف يستقيم ما ذكرتموه من الفرق؟! قلت: ذاك فيما إذا كان الملك في الحال مقصودًا متصورًا، وليس كذلك فيما نحن فيه؛ فإن المقصود إثبات العتق، ودفع الغصب، وذكر الملك السابق وقع تبعًا. قال: وإن ادعى عينًا في يد غيره، وأقام بينة: أنه ابتاعها من رجل – لم يقض له، أي: بتسليم العين؛ لأن الإنسان قد يبيع ما لا يملكه؛ فلا تزول يد صاحب اليد بالاحتمال. قال: حتى تشهد البينة: إنه ابتاعها منه وهي في ملكه، أو ابتاعها وتسلمها من يده. هذا الفصل ينظم مسألتين: إحداهما: إذا شهدت البينة: إنه ابتاعها منه وهي في ملكه – يقضي له بتسليم العين؛ لأن ملك المشتري إنما حصل من جهة البائع، فإذا ثبت ملك البائع كان ثابتاً للمشتري الآن؛ فصار كما إذا شهدت بأنه يملكها من سنة؛ كذا قاله ابن الصباغ نقلاً وتوجيهاً، ولم يحك غيره من العراقيين والمراوزة- كالإمام والقاضي الحسين والشيخ أبي علي في "شرحه الكبير" – سواه. نعم، حكى الرافعي في الفروع قبيل كتاب العتق عما جمع من "فتاوى" القفال: أن البينة إذا شهدت بأنه اشترى هذه الدار من فلان وهو يملكها، ولم يقولوا: إنها الآن ملك المدعي، في قبول هذه الشهادة – قولين؛ كما لو شهدوا: إنها كانت ملكه بالأمس. ويوافق هذا قول القاضي في "فتاويه": إن الشهود إذا شهدوا بأن هذه الدار كانت لفلان إلى أن مات، وخلفها [ميراثاً] لابنه هذا، ولم يقولوا: إنها الآن ملك هذا الابن: إن الحكم كما لو قالوا: هذه الدار كانت لفلان أمس؛ لا يقبل في الجديد. وعلى الطريقة الأولى إذا شهدت البينة: إنها للمشتري بابتياعها من زيد، قضى له – أيضاً- صرح به ابن الصباغ والرافعي، والبندنيجي وقال: إنها غير منصوصة. الثانية: إذا شهدت البينة: إنه ابتاعها، وتسلمها من يده – قضى له بها؛ لأن الظاهر

أنها ملك لمن أقبضها؛ فنزل ذلك منزلة الشهادة بالملك حالة البيع؛ وهذا ما صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبندنيجي، والشيخ أبو علي في "شرحه الكبير" كما قاله ابن أبي الدم، وصاحب "التهذيب"، وتبعهم الرافعي في ذلك، ولم يحك سواه. ومن طريق الأولى جريان القولين في المسألة السابقة فيها. وقد قطع القاضي الحسين بأنه لا تقبل البينة إذا لم تقل: إنه اشتراه من فلان وهو يملكه. وعليه ينطبق قول الماوردي في آخر باب القسمة: لو أقاما البينة بابتياعهما الدار، لم تكن بينة بالملك؛ لأن يد البائع فيها كأيديهما. وهكذا لو أقاما البينة: أنها صارت إليهما من أبيهما ميراثًا، لم تكن بينة بالملك؛ لأن يد الأب فيها كأيديهما. وهذا ما اختاره ابن أبي الدم، وقرره بأن يد الداخل حاضرة محسوسة، وهي تدل على الملك، والشهادة بالبيع وتسلم المبيع من يد البائع شهادة تتضمن الابتياع، ويد سابقة للبائع ثم بيد تتعقبها للمشتري، ولا فرق بين هذا وبين قول البينة: نشهد: إنها كانت في يده أمس، ولو شهدت باليد أمس، لم تسمع على الصحيح، وإن سمعت لم تنزع العين من ذي اليد الحاضرة بمجرد الشهادة بها؛ فكذلك ها هنا. وقد طرد القاضي أبو الطيب والبندنيجي ما قالاه في الوقف، فقالا: إذا شهدت البينة بأنه وقف كذا، [وهو في ملكه، أو: وهو في يده – حكم به. ولو شهدت بأنه وقف كذا] لا غير، لم يقبلها؛ لأن الإنسان قد يقف ما يملك وما لا يملك. أما لو ادعى الشراء من صاحب اليد، فقد اتفق الكل على أنه لا يحتاج في هذه الحالة إلى الشهادة بأنه باع ذلك وهو في ملكه، ولا في يده، بل بيعه يقطع سلطانه، ويؤاخذ بحكمه وبموجبه، خلافًا لأبي حنيفة. قال الماوردي – حكاية عن المذهب-: ولا يقضي للمدعي بها ملكًا وإن قضى له بابتياعها، [بل يكون] له فيها يد إن نوزع فيها، ولا تدفع بينة المنازع، بخلاف ما لو

شهدت البينة بأن البيع صدر والبائع مالك؛ فإنه يحكم له بها ملكًا. وإن شهدت: إنه باعها وكانت في يده، حكم بها ابتياعاً، وجرى عليه حكم الملك؛ لأن الظاهر من اليد: أنها لمالك؛ حكى ذلك عند الكلام فيما إذا كانت العين في يد شخص، فادعاها اثنان، وأقام أحدهما بينة: أنها ملكه منذ سنة، وأقام الآخر بينة: أنه اشتراها من المدعي الأول منذ خمس سنين. فرع: إذا أقام بينة على الشراء من شخص، ثم أقام بينة أخرى على ملك ذلك البائع إلى وقت البيع – قال القاضي: يجوز ذلك، ولا فرق بين أن تشهد بينة واحدة على الأمرين، وبين أن تشهد بينتان عليهما. قال الإمام: وهذا صحيح. [و] قال الرافعي: وكأن المراد ما إذا أقام شهودًا على أنه اشترى منه وقت كذا، وآخرين على أنه كان يملك إلى وقت كذا، وإلا فمن شهد على أنه مالك إلى أن باع منه، فقد شهد بالبيع والملك. فرع آخر – قاله القاضي الحسين-: لو أقام رجل [بينة]: أن الدار التي في يد فلان كانت في يد أبيه إلى أن مات، وهذا وارثه، والذي في يده لم يقم بينة على أنها له – فالدار للذي أقام البينة، بخلاف ما لو شهدت البينة: إن أباه مات وكان يسكنها؛ فإنها لا تكون له. فإن قلت: هذا يناقض ما حكيتموه عنه من أن البينة إذا شهدت بأنه ابتاع كذا من فلان، وتسلمه من يده – لا يقضي له؛ فإن البيع سبب الملك كالإرث. قلت: لا؛ فإن المشهود به في مسألة البيع مجرد التسليم؛ وذلك لا يدل على الملك، والمشهود به [هاهنا كونها] في يده، ولعل المراد بذلك: ما إذا كانت في يده يتصرف فيها مع امتداد المدة من غير منازع؛ كما حكينا مثل ذلك عن صاحب "الإشراف" في الفروع المذكورة بعد قول الشيخ: "وإن ادعى كل واحد منهما أنه ابتاع هذه الدار من زيد، وهي ملكه"؛ بل أقول: لو قامت البينة بأنه ابتاع هذه الدار من زيد، وأنها في يد البائع يتصرف فيها مدة مديدة من غير منازع- كانت كالشهادة بأنه باع

وهو مالك؛ لأن الشيخ أبا عاصم قال: لو أقام شخص بينة بأن هذا الشيء ملكه، وأقام آخر بينة: أنه في يده يتصرف فيه تصرف الملاك من غير منازع مدة مديدة – كانت بينة الثاني أولى؛ لأنها شهدت باليد والملك جميعًا، وبينة الداخل مقدمة على بينة الخارج، والله أعلم. قال: وإن ادعى مملوكًا، وأقام بينة: أنه ولدته جاريته، أو ثمرة، وأقام بينة: أنها أثمرته نخلته- لم يقض له؛ لأن من اشترى جارية قد ولدت أولاداً، أو نخلة قد أثمرت وأُبِّرت ثمرتها – يصدق أن يقال: إن أمته ولدتهم، وإن نخلته أثمرت ذلك. قال: حتى تشهد: إنها ولدته في ملكه، أو أثمرته في ملكه؛ لأنها إذا قالت ذلك، انتفى [هذا] الاحتمال. وهذا ذكره تفريعًا على المنصوص في المسألة السابقة، وهو الذي نص عليه الشافعي هاهنا، وهو الجديد في "تعليق" القاضي الحسين و"النهاية"، وهو مخالف لما نص عليه في اللقيط إذا ادعى [رجل] رقه؛ حيث قال: إنه يكفي أن تشهد البينة: إن أمته ولدته. وكأن الفرق- والله أعلم-: أن المقصود ثم معرفة الرق من الحرية، والشهادة بأن أمته ولدته تعرف رقه؛ فإن الغالب أن ما تلده الأمة مملوك، وولادتها للحر نادر؛ فلم يعول على ذلك كما قلنا من قبل. والقصد ها هنا: تعيين المالك؛ لأن الرق متفق عليه؛ إذ المسألة مصورة بما إذا ادعى مملوكًا؛ وذلك لا يحصل بكون أمته ولدته؛ لما ذكرناه. وقد حكى القاضي الحسين في مسألة المملوك قولاً آخر نسبه إلى القديم: أن البينة تقبل، وقال: إنه يضاهي قبول الشهادة بالملك القديم في الدار، ووجه الشبه: أنا إنما حكمنا [ثم] بالملك؛ للاستدامة؛ فكذلك ها هنا؛ لما أثبت الملك لنفسه في الأم، استديم الملك على الولد. قال: والأصح الأول، أي: وإن قلنا بسماع الشهادة بالملك القديم؛ لأنهم لم يثبتوا له الملك في الولد هنا قط، وهناك أثبتوا له ملك الدار أمس؛ فاستديم الملك. والإمام قال: إن القول الذي حكاه القاضي عن القديم في مسألتنا خرجه بعض

الأصحاب من سماع الشهادة بالملك القديم؛ لأن قوله: هذه بنت أمتي، يتضمن إثبات الملك حالة الولادة، وقد تقدمت. وفي "الإشراف": أنه مخرج من مسألة في الاستيلاد، وهي إذا قال: هذا ولدي من أمتي؛ فإنه إن فسر، وقال: أحبلتها في ملكي، قبل تفسيره، وثبت الاستيلاد، وإن قال: أحبلتها به في النكاح، لم يثبت، وإن أمسك عن التفسير، فهل يثبت؟ فيه وجهان. فرعان: لو شهدت البينة: إن هذا المملوك ولدته أمته بعد ملكه، ولم تقل: ولدته في ملكه – لم يحكم له بملكه؛ لأنه يجوز أن يكون قد باعها، فولدت، ثم بعد ذلك ملكها برد بعيب، أو إفلاس، أو غير ذلك. ولو شهدت البينة: إن ابن أمته، أخذه هذا من يده، كانت شهادة له باليد دون الملك. قال الماوردي: فيحكم له برده يدًا لا ملكاً. قال: وإن ادعى طيرًا، أو غزلاً، أو آجرًّا، فأقام بينة أن الطير من بيضه، والغزل من قطنه، والآجر من طينه – قضى له؛ لأن هذه الأشياء عين ماله، وإنما تغيرت صفاتها، وتفارق الثمرة والولد؛ لأن الطير والآجر والغزل لا يتصور أن يكون حاصلاً قبل حصول البينة، والقطن والطير له، والولد والثمرة يتصور حصولهما قبل حصول الملك [له] كما تقدم. وفي "الإبانة": أن ابن سريج خرج في مسألة القطن وجهاً، وجعله كولد الأمة، أي: فلا يقضي له به بمجرد ذلك. قال: وإن مات نصراني – أي: من عرف بالنصرانية- وترك ابنًا مسلمًا، وابنًا نصرانيًّا، فأقام المسلم بينة: [أن أباه] مات مسلمًا، وأقام النصراني بينة: أنه مات نصرانيًّا، ولم يؤرخا- قدمت بينة المسلم؛ لأنها شهدت بأمر خفي على الأخرى؛ فصار كما لو مات رجل عن ابن وزوجة، فقال الابن: هذه الدار ميراث بيننا، وقالت الزوجة: هي [لي]، أصدقنيها أبوك، أو باعها مني، وأقام كل منهما بينة على

ما يدعيه- فإن بينتها أولى؛ لما ذكرناه. قال الإمام: وبينة الاستصحاب لا تصادم البينة الناقلة إلا بالنفي، والشهادة على النفي مردودة. وهذا ما وقفت عليه في كتب العراقيين والمراوزة، وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه يأتي في هذه المسألة قولا التعارض، والاستعمال؛ فإنه [قال]: للبينتين في إقامة هذه الشهادة أربع أحوال: الحالة الأولى: أن تطلقا الشهادة، فيقول شهود المسلم: إن أباه مسلم، ويقول شهود النصراني: إن أباه نصراني – فيحكم بشهادة الإسلام؛ لأنها أزيد علمًا؛ لأن نصرانيته أصل، وإسلامه حادث؛ فصار كالشهادة بالجرح والتعديل، [يحكم بالجرح على التعديل]، ويجعل المسلم وارثاً. الحالة الثانية: أن تقيدا الشهادة، فتقول بينة المسلم: إن آخر كلامه عند الموت [الإسلام، وبينة النصراني: إن آخر كلامه عند الموت] التثليث، والحكم كما سيذكره الشيخ. ثم قال: فلو شهدت بينة المسلم: إن أباه مات مسلمًا، وبينة النصراني: إن أباه مات نصرانياً- فقد اختلف الأصحاب: هل تحمل هذه الشهادة على التقييد؛ لأن كل واحدة منهما شهدت بدينه عند الموت؛ حتى تأتي فيه أقوال التعارض والاستعمال، أو يحمل على الإطلاق؛ لأنهما استصحبا ما تقدم من حاله، ولم يقطعا بدينه عند خروج روحه؛ فلا تعارض، ويكون الميراث للمسلم؟ على وجهين. الحالة الثالثة: أن [تكون] الشهادة بالإسلام مطلقة، وبالنصرانية مقيدة – فلا تعارض؛ لأنه قد يسلم، ثم يرتد بعد إسلامه إلى النصرانية؛ فتصح الشهادتان، ويحكم بارتداده بعد الإسلام، ولا يرثه واحد من ابنيه، ويكون ماله فيئًا لبيت المال. الحالة الرابعة: أن تكون الشهادة بالإسلام مقيدة، وبالنصرانية مطلقة – فلا تعارض، ويكون ميراثه للمسلم.

وقد اقتصر الفوراني في التعبير عما ذكرناه من الحكم في الحالتين الأخيرتين، فقال: إذا كانت إحداهما مطلقة، والأخرى مقيدة – فالعمل بالمقيدة أولى. قال: وإن شهدت بينة المسلم: إن آخر كلامه عند الموت الإسلام، أي: ما يكون به مسلمًا، وهو النطق بالشهادتين، والتبرؤ من كل دين يخالف الإسلام، كما قاله الماوردي وغيره، وشهدت بينة النصراني: إن آخر كلامه [عند الموت] النصرانية، أي: ما يكون به نصرانيًّا، وهو النطق بالتثليث؛ كما قال الماوردي، [أو النطق] بأنه لا إله إلا الله، وأن عيسى رسول الله، وأنه بريء من كل دين سواه؛ [كما] قاله [الشيخ] أبو عاصم العبادي- تعارضت البينتان؛ لأنه يستحيل أن يموت مسلمًا نصرانيًّا. وفي "الإشراف": أن ما قاله الشيخ أبو عاصم من تصوير النصرانية فيه إشكال؛ لأن المسلمين يثبتون نبوة عيسى – عليه السلام- وإثبات نبوته ليس نفيًا لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عند منكري المفهوم. قلت: وفي هذا النظر نظر؛ لأن من تبرأ من كل دين سوى دين عيسى، فقد تبرأ من دين النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن ابن كج حكاية وجهين في أنه: هل يجب على الشهود أن يثبتوا كلمة الإسلام؛ لأنهم قد يعتقدون ما ليس بإسلام إسلامًا؟ ومقابله هو الذي أورده البندنيجي وغيره. قال: وفيهما قولان: أحدهما: تسقطان [للتكاذب؛] وهذا ما اختاره في "المرشد". قال: ويحكم بأنه مات نصرانيًّا، أي: بعد حلف الابن النصراني: إنه لا يعلم أنه مات مسلمًا؛ لأن هكذا الحكم لو لم تكن بينة؛ فإن الأصل نصرانيته. قال: والثاني: تستعملان بالوقف، أو القرعة، أو القسمة؛ لأنه لا مانع من واحد منها، كما في غير هذه الصورة، [وهذه طريقة المزني وطائفة معه، وهم المعتبرون من الأصحاب؛ كما قال الإمام. وقال البندنيجي: إنها المنصوص عليها في "الأم". كما أشار إليه ابن الصباغ، ولم يحك البغوي سواها. وقيل: لا تجيء القسمة وإن جاءت في غير هذه الصورة]؛ لاستحالة أن يشترك مسلم ونصراني في ميراث ميت؛ لأنه إن مات نصرانيًّا ورثه النصراني دون المسلم، وإن مات مسلمًا ورثه المسلم دون النصراني، فإذا قسمنا بينهما علمنا قطعًا: أن أحدهما قد أعطي ما لا يستحقه، ومنع الآخر ما يستحقه، وإن لم يتعين، بخلاف عند الميراث؛ فإنه يجوز أن يكون [الملك] مشتركًا بينهما؛ فيقسم؛ وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي وطائفة معه، كما قال الماوردي، وقد قويت بما إذا مات شخص وقد طلق واحدة من نسائه لا بعينها؛ فإن الميراث يوقف ولا يقسم بينهن. وقال الإمام: إنها غير معتد بها؛ فإن قول القسمة لا يعتمد إلا إمكان الشركة في الجنس المدعى، فأما الجهات فلا نظر إليها؛ فإن القسمة إنما تجري لاستواء المتداعبين في متعلقهما، وليس أحدهما أولى من الآخر، والتعطيل عند هذا القائل لا سبيل إليه. والشيخ أبو حامد والمصنف وغيرهما ردوا على أبي إسحاق بوجه آخر، فقالوا:

احتمال كون الملك لهما قائم في هذه الصورة – أيضاً – لأنه يجوز أن يكون مات نصرانيًّا قبل إسلام أبيه؛ فيكون ميراثه لهما، إلا أن المسلم ادعى أنه مات مسلمًا؛ ليأخذ كمال الميراث. قال البندنيجي: وهذا يخرج منه ما إذا عرف إسلام المسلم منهما قبل وفاة أبيه. ثم على الطريقة الصحيحة – وهي جريان القسمة. فروع: أحدها: هل يحلف كل واحد من الاثنين للآخر؟ فيه وجهان عن رواية ابن كج، وهما يؤخذان مما حكيناه عن الإمام والقاضي في أول المسائل، والأصح: المنع. الثاني: لو كان المتنازع في التركة ابنًا وبنتًا، فعن أبي الطيب بن سلمة: أنه يقسم المال بينهما نصفين. وعن غيره: أنه يقسم أثلاثاً قسمة الميراث. قال الرافعي: وليس واحد منهما بقويم؛ بل يجب أن يقال: هما كشخصين يدعي أحدهما جميع العين، والآخر نصفها، أقاما بينتين، وقد مر أن على قول القسمة للأول ثلاثة أرباعها، وللثاني ربعها. الثالث: لو كان المدعي للإسلام – مثلاً – زوجة الميت وأخاه، والمدعي للنصرانية ابنًا للميت- فالذي أورده الجمهور جريان القول الذي عليه نفرع فيه أيضاً؛ فنقسم. وعلى هذا فالنصف للزوجة والأخ، وفي كيفية [قسمته] وجهان في "التهذيب": أحدهما: تأخذ الزوجة ربعه، وكأنه كل التركة، وهو الذي أورده أبو الفرج السرخسي. والثاني: تأخذ نصفه؛ ليكون لها ربع التركة؛ فإن الأخ معترف به، والأولاد لا يحجبون بقولهما، وهذا ما أورده الإمام ومن تبعه. وفي "الحاوي": أن الذي عليه الجمهور: أنه لا يصح تخريج قول القسمة هاهنا وإن جاز في المسألة السابقة؛ لأن الاثنين فيما تقدم شريكان، والأخ والابن هاهنا

متدافعان؛ فصح الاشتراك هناك، وبطل هنا. قال: وإن كان الميت لا يعرف أصل دينه، تعارضت البينتان، أي: سواء كانتا مطلقتين أو مقيدتين. ووجهه في حالة التقييد ظاهر، وفي حالة الإطلاق – وإن احتمل كونهما صادقتين: الجهل بدينه؛ فإنه يمنع من الحكم بأحدهما؛ فجرى عليهما حكم التعارض في التكاذب. قال: وفيهما قولان: أحدهما: تسقطان، ويرجع إلى من في يده التركة؛ عملاً بمدلول اليد. وعلى هذا إن كانت في يد غيرهما يدعيها لنفسه، فالقول قوله. وإن لم يدعها لنفسه، قال البندنيجي: أقرت في يده حتى يزول [الإشكال]. وإن كانت في يدهما كانت بينهما؛ وهذا ما أورده البندنيجي والمصنف وغيرهما، وحكاه ابن الصباغ عن المزني؛ فإن الشيخ أبا حامد قال: إنه يحلف كل واحد منهما على ما في يده، وهو المذكور في "تعليق" القاضي الحسين أيضاً. ثم أبدى ابن الصباغ احتمالاً: أنه لا يحتاج إلى التحالف؛ كما سنذكره عنه. ولو كان [المدعي] للإسلام أو الكفر أكثر من واحد، فالقسمة- تفريعًا على قول التساقط- على عدد الرءوس، قال الفوراني: لأنها قسمة بحكم اليد. وإن كانت في يد أحدهما، فالذي ذكره الشيخ أبو حامد- وهو الذي أورده البندنيجي، والقاضي الحسين: أنها تسلم له. وقال الإمام بعد حكاية ذلك عن القاضي: إن هذا وهم وزلل من الناقل عنه؛ فإنهما إذا اعترفا بأن المال الذي فيه النزاع تركة، فلا حكم لصورة اليد؛ فإن ما كان تركة فسبيله مع الإشكال تساوي الاثنين فيه؛ ولهذا قال الرافعي: إنه الصحيح، ولم يورد في "الوجيز" سوى قسمته بينهما. وفي "الحاوي": أنه إذا سقطت البينتان والدين مجهول، ففي التركة ثلاثة أوجه: أحدها- وهو قول المزني-: أنها تقسم بينهما ملكًا بالتحليف دون البينة؛ لتكافئهما فيها.

والثاني- وهو قول أبي علي بن خيران-: أنها تقسم بينهما يدًا، وتقر معهما أمانة، يمنعان من التصرف فيها حتى يبين مستحقها منهما، أو يصطلحان عليها؛ كالميت عن زوجتين إحداهما مطلقة، وقد أشكلت. والثالث- ويشبه أن يكون قول أبي إسحاق المروزي-: أنها تقر في يد من كانت في يده قبل التنازع والتحالف، فإن كانت في يدهما، أو في يد أجنبي، أو في يد أحدهما- أقرت على حالها، وكان إقرار يد وأمانة من غير قسمة. ووهم أبو حامد، فأقرها في يده ملكًا، وهو خطأ؛ لأن سبب استحقاقه متعين بالميراث؛ فلم يجز أن يكون لليد في تملكها تأثير. ويقرب من ذلك قول ابن الصباغ بعد حكاية قول أبي حامد – كما ذكرناه أولاً-: وهذا فيه نظر؛ لأنه معترف للميت الذي ادعى أنه يرثه، والآخر يدعي مثل ذلك؛ فلا ينبغي أن يكون ليده حكم، بل ينبغي أن يكون موقوفاً، أو مقسومًا عليهما. قال: والثاني: تستعملان على ما ذكرناه، أي: ويجيء الطريقان في الاستعمال بالقسمة؛ كما صرح به الماوردي وغيره. وقيل: تقدم بينة المسلم؛ لأنه الظاهر في دار الإسلام؛ وهذا ما حكاه الفوراني عن المزني، وهو بعيد؛ إذ لو كان كذلك لجعل القول قوله حالة عدم البينة. قال ابن يونس: و [قد] قبل به أيضاً. قال: ويغسل الميت، ويصلى عليه في المسائل كلها- أي: التي ذكرها- وينوي حالة الصلاة: أنه يصلي عليه إن كان مسلمًا- كما قاله في "المهذب"، و"الشامل"- لأن أمره مشتبه؛ فجرى مجرى جماعة ماتوا وفيهم كافر قد أشكل؛ فإنهم يغسلون، ويصلى عليهم. قال الإمام: وهذا الاستشهاد إيناس، لا حاجة إليه، والعمدة في الصلاة إسناد الإسلام إلى بينة، وليس في الصلاة نزاع، ولا يموت ميت فيقطع له بالإيمان في الموافاة، ولست أنكر ترددًا من طريق الاحتمال، سيما إذا كان الرجل معروفًا بالتنصر،

وقد تعارضت بينتان في الكلمة التي بها الاختتام، ولكن النص هذا، ولم أر في الطرق ما يخالفه. وكما يغسل ويصلى عليه، يدفن في مقابر المسلمين كما يدفن الموتى الذين فيهم كافر. قال الماوردي: وفي الحالة التي حكم فيها بردته، لا يغسل ولا يصلى عليه. وأراد: الحالة التي كانت بينة النصراني فيها مقيدة، وبينة الإسلام مطلقة. فرع: لو ادعى مسلم على شخص في يده دار: أن أباه مات مسلمًا، وترك له هذه الدار إرثاً، وادعى نصراني عليه: أن أباه مات نصرانيًّا، وترك له هذه الدار إرثًا، والأب غير الأب، وأقام كل منهما بينة بما ادعاه- تعارضت البينتان، وفيهما قولان: فإن قلنا بالتساقط، بقيت الدار في يد الثالث، وإن كانت البينتان متفقتين على أنها ليست له؛ لأن كل واحد لم يثبت له ما شهدت به بينته؛ فلم يكن حجة على صاحب اليد، وجرى مجرى بينة تشهد بحق لأحد الرجلين لا بعينه؛ فإنه لا يثبت بها شيء. والفرق بين هذه [المسألة] والتي قبلها؛ حيث قلنا على الصحيح: إن العين إذا كانت في يد أحدهما، وقلنا بالتساقط، لا يختص بها: أن البينتين شهدتا ثم بأن الملك للميت؛ فلا تعارض فيه، وإنما تعارضتا في دينه؛ فثبت بهما المال، وهنا تعارضتا في ملك المال؛ فلم يثبت. وإن قلنا بالاستعمال، جاءت الأقوال الثلاثة بلا خلاف. قال: وإن مات رجل، وخلف ابنين، واتفقا على إسلام الأب، وإسلام أحدهما قبل موت الأب، واختلفا في إسلام الآخر: هل كان قبل موت الأب، [أو بعده]؟ فالقول قول الابن المتفق على إسلامه، أي: مع يمينه: إنه لا يعلم أن أخاه أسلم قبل موت أبيه؛ لأن الأصل بقاء أخيه على الكفر. وهكذا الحكم لو مات حر، وترك ابنين: أحدهما حر قبل موت أبيه، والآخر مختلف فيه، فادعى تقدم عتقه قبل موت أبيه، وادعى الآخر: أنه عتق بعد موته-

[فالقول قوله مع يمينه بالله: إنه لا يعلم أن أخاه عتق قبل موت أبيه]؛ لأن الأصل بقاء الرق. نعم، لو أقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه، قال القاضي الحسين: فالصحيح – وبه جزم البغوي وغيره-: أن بينة الابن المختلف في إسلامه مقدمة؛ لأنها ناقلة، وبينة الآخر مستصحبة، والناقلة مقدمة على المستصحبة. وقيل: إنهما متعارضتان؛ وهذا وجه ضعيف. قال: وإن اتفقا [على] أن أحدهما أسلم في شعبان، والآخر [أسلم] في رمضان، واختلفا في موت الأب: فقال أحدهما: مات قبل إسلام أخي، وقال الآخر: بل مات بعد إسلامنا- فالقول قول الثاني؛ فيشتركان؛ فإن الأصل بقاء الأب إلى حين إسلام الثاني. ولو أقام كل واحد منهما بينة على ما ادعاه، قال القاضي الحسين والأصحاب – كما حكاه الإمام-: قدمت بينة الأول؛ لاشتمالها على زيادة علم بالموت في الزمان المتقدم. ثم قال [الإمام]: وهذا ضعيف؛ لأن البينة التي شهدت في الزمان المتأخر تشهد على موته عن حياة؛ فيحصل التعارض، ويجري القولان. قلت: وهذا عين القول الأول الذي حكاه الشيخ فيما إذا قال: إن مت في رمضان فعبدي حر، وإن مت في شوال فجاريتي حرة، ومات، وأقام العبد بينة بالموت في رمضان، والجارية بينة بالموت في شوال. ويظهر مجيء الوجه الذي حكيناه ثم عن المزني وابن سريج في تقديم بينة شوال هاهنا؛ فتقدم بينة المتأخر، ويرثان جميعًا. فرع: لو اتفقا على أن أحدهما لم يزل مسلمًا، [وقال الآخر: لم أزل- أيضاً- مسلمًا]، ونازعه الأول، وقال: كنت نصرانيًّا، وإنما أسلمت بعد موت الأب- فالقول قوله: إني لم أزل مسلمًا؛ لأن ظاهر الدار يشهد له، وليس مع صاحبه أصل يستصحب.

ولو قال كل واحد منهما: لم أزل مسلمًا، وكان صاحبي نصرانيًّا، أسلم بعد موت الأب- فعن القفال تخريجه على وجهين: أحدهما: لا يصرف لواحد منهما شيء؛ لأن الأصل عدم الاستحقاق، وبقاؤهما على الكفر؛ فعلى هذا: إن كان له وارث مسلم غيرهما، فله الإرث، وإلا جعل في بيت المال؛ كذا قاله القاضي. وأصحهما في "الرافعي": [أنه] يحلف كل واحد منهما، ويجعل المال بينهما؛ لأن ظاهر اليد يشهد لكل واحد فيما يقوله في حق نفسه. قال: وإن مات رجل، وخلف أبوين كافرين، وابنين مسلمين، فقال الأبوان: مات كافراً، وقال الابنان: مات مسلماً- ففيه قولان: أصحهما: أن القول قول الأبوين – أي: مع أيمانهما- لأن كفره قبل بلوغه معلوم بكفرهما؛ فلم يقبل دعوى الابنين في حدوث إسلامه؛ لأن الأصل استصحاب كفره. والثاني: أنه يوقف حتى ينكشف، أو يصطلحوا؛ لتساوي الحالين بعد بلوغه في إسلامه وكفره؛ لأن ما قبل بلوغه هو [في إسلامه فيه] تبع لا يتحقق إلا بعد بلوغه. وهذا الذي ذكرناه عن الشيخ [هو المذكور في توجيه ابن الخل، والشيخ] اقتدى في ذكر القولين بابن سريج؛ فإن القاضي أبا الطيب والحسين والإمام والبغوي وابن الصباغ حكوا أن ابن سريج قال: فيه قولان. وقال البندنيجي بعد حكاية ذلك عنه: إنه عنى وجهين. وكذلك قال في "الحاوي": في المسألة وجهان. وقد نسبهما في "المهذب" إلى تخريج ابن سريج، وحكى عنه أنه قال: الأول أشبه بقول العلماء. وقد حكى القاضي الحسين عن المراوزة في المسألة وجهين: أحدهما: مثل الأول.

والثاني: أن القول قول لابنين؛ لأن الظاهر أن الفرع المسلم إنما يتولد من المسلم، ولأن الأصل في دار الإسلام هو الإسلام. وقال: إنهما مبنيان على أصل، وهو ما [إذا] اجتمع الأصل والظاهر، فأيهما يغلب؟ فيه قولان. وفي "الإبانة" حكاية القولين هكذا عن ابن سريج، وحينئذٍ فيجتمع في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: أن القول قول الأبوين. والثاني: أن القول قول الابنين. والثالث: أنه يوقف إلى أن ينكشف، أو يصطلحوا. قال الإمام: وليقع فرض المسألة إذا لم يسلم الابنان المسلمان كون الأبوين كافرين أصليين؛ فإن ذلك لو ثبت لم يكن شك في كفر الابن أصلاً؛ إذ لاقى الأصل، وإنما يثبت إسلامه طارئاً بالسبب أو إنشاء الإسلام، وإذا كان كذلك فمستصحب أصل الكفر أولى إذا لم تكن بينة. وفي "ابن يونس": أن الذي في الكتاب: أصحهما: أن القول قول الابنين، وقد حكاه في "الإشراف" – أيضاً- عن العراقيين، وليكن ذاك إذا لم يعرف تأصل كفر الأبوين؛ كما قاله الإمام. قال في "المرشد": وما ذكرناه إذا كان الولدان بالغين، ولم تكن أمهما كافرة، [فأما إن كانا صغيرين وأمهما كافرة،] وقامت بينة بإسلامهما، وأقر الجدان بذلك – فإنه يحكم بأنه مات مسلماً، وتكون الدعوى من الناظر في مالهما. ولو انعكس الحال؛ فكان الأبوان مسلمين، والابنان كافرين-: فإن لم يعلم للأبوين كفر قبل الإسلام، حكم بإسلام ولدهما، ولا يمين عليهما، وكانا أحق بميراثه من ابنيه. وإن علم كفر الأبوين قبل الإسلام، قال الماوردي: فيجوز أن يولد قبل إسلامهما؛ فيجري عليه حكم الكفر قبل البلوغ، ويجوز أن يولد بعد إسلامهما؛ فيكون مسلماً قبل البلوغ.

فإن كان النزاع في زمان ولادته، فادعى أبواه: أنه ولد بعد إسلامهما، وادعى ابناه: أنه ولد قبل إسلامهما- فالقول قول الأبوين مع يمينهما؛ لأنا على يقين من حدوث ولادتهم، وعلى شك من تقدمها. وإن كان النزاع في وقت إسلام الأبوين، فادعى أبواه: أنهما أسلما قبل ولادته، وادعى ابناه: أنهما أسلما بعد ولادته – فالقول قول الابنين مع يمينهما؛ لأن الأصل بقاؤهما على الكفر. فرع: لو مات رجل، [وخلف] امرأة، فقال الورثة: هي كتابية، أو رقيقة – قال الشافعي: القول قولها إذا أنكرت ذلك – أي: مع يمينها- وعلى الورثة البينة. وقال الربيع: فيه قول آخر: إن في الحرية القول قولها، دون الإسلام. ووجهه: بأن الأصل في الناس الحرية؛ لأن المشركين يخلقون أحراراً، ثم يطرأ عليهم الرق، فالأصل هو الحرية، بخلاف الدين؛ فإن الناس في الأصل انقسموا إلى الكفار والمسلمين؛ فلم يصح التمسك بالأصل في إنكار الكفر. ولو ادعى الإسلام، فقيل: القول قول الورثة مع يمينهم؛ لأن الأصل عدم وراثتها؛ كذا قاله أبو عاصم. قال في "الإشراف": وهذا يؤذن بتخريج قول في الإسلام والحرية جميعاً: أن القول قول سائر الورثة [مع أيمانهم]؛ لأن الأصل عدم وراثتها. وهذا التخريج صحيح وإن ذهب عن المصنف. قال: وإن ماتت امرأة وابنها، فقال زوجها – أي: الذي الابن منه: ماتت أولاً فورثها الابن، ثم مات الابن فورثته، وقال أخوها: بل مات الابن أولاً فورثته [الأم]، ثم ماتت فورثتها- لم يورث ميت من ميت، بل يجعل مال الابن للزوج، ومال المرأة للزوج والأخ؛ لأنه لا يورث إلا من تيقنت حياته عند موت مورثه، وهاهنا لا نعلم حياة واحد من الميتين عند موت مورثه؛ فهما كالغرقى.

فإن قيل: الزوج يدعي أنه يرث من زوجته الربع، فكيف تعطونه النصف؟ قيل: لأنه يدعي إرث جميع مالها، ونحن نعطيه بعضه. وهذا إذا لم يقم واحد منهما بينة على ما يدعيه، ولا اتفقا على وقت موت أحدهما، فإن أقام كل واحد منهما بينة [بما ادعاه] – تعارضتا، وجاءت أقوال التعارض. ولو اتفقا على وقت موت أحدهما، فلا يخفى الحكم مما تقدم. قال: وإن ادعى رجل أن أباه مات عنه وعن أخ له غائب-[أي: ولا وارث له غيرهما] – وله مال عند رجل حاضر، وأقام بينة بذلك- أي: وهي من أهل الخبرة بالميت – سلم إليه نصف المال، وأخذ الحاكم نصيب الغائب ممن هو عنده، وحفظه عليه؛ قضاء لحقهما. وثبوت الحق للغائب في هذه الصورة وقع بطريق التبع؛ لثبوت حق الحاضر؛ لارتباطهما، وعدم تميز أحدهما عن الآخر، أو لأن الحق يثبت أولاً للميت. ثم نصيب الغائب إذا أخذه، [أجره] الحاكم- إن أمكن- حفظاً لمنافعه؛ صرح به الماوردي وغيره [هنا]، وقد ذكرته في آخر باب ولاية القضاء. وقيل: إن كان ديناً لم يؤخذ، بل يترك في ذمة الغريم حتى يقدم؛ لأن الذمة أحفظ له؛ وهذا أظهر عند ابن كج، وحكاه عن النص. والوجهان يجريان- كما حكاه الإمام في باب اليمين مع الشاهد- في كل من أقر لغائب بدين، هل ينزعه الحاكم منه أم لا؟ وقال: إنه لو أقر له بعين مغصوبة، انتزعها الحاكم. وفي "الشامل" في باب الخيار في القصاص: أنه ليس له قبض العين المغصوبة من الغائب، بخلاف ما لو كانت لميت، ووارثه غائب، والفرق: أنه له ولاية على الميت؛ ولهذا تنفذ وصاياه منها، وتقضى ديونه، بخلاف الغائب؛ فإنه

لا ولاية [له] عليه. وقد حكى الغزالي في كتاب الوديعة: أن الغاصب إذا أحضر المغصوب للقاضي، والمالك غائب- هل يجب عليه القبول؟ فيه وجهان جاريان في وجوب قبول دينه أيضاً. وقال الرافعي: إن أظهر الوجهين في العين منع الإيجاب، وأن محلهما في الدين إذا كان بحيث يجب القبول على الغائب لو كان حاضراً. فرع: إذا أقام الحاضر شاهداً، وحلف معه- استوفى حقه، ولم يأخذ الحاكم نصيب الغائب؛ لأنه لم تكمل الحجة عليه، ثم إذا قدم الغائب، لم يحتج إلى إعادة الشهادة، ويحلف، ويستحق. وقيل: يأخذ نصيب الغائب أيضاً، ويوقفه إلى أن يحضر، ويحلف؛ فيسلم إليه؛ بناء على أن المدعي إذا أقام شاهداً، وطلب الحيلولة إلى أن يقيم الشاهد الآخر- أجيب. والصحيح: الأول، وما ذكرناه تفريعاً عليه فمحله إذا لم يتغير حال الشاهد، فإن تغير فوجهان: أحدهما – وبه قال القفال-: أن الحكم كذلك؛ لأن الحكم قد اتصل بشهادته؛ فلا أثر للتغير بعده. والثاني- وهو اختيار الشيخ أبي علي-: أنه لا يحلف؛ لأن الحكم اتصل بشهادته في حق الحالف دون غيره؛ ولهذا لو رجع لم يكن للغائب أن يحلف. وهذا حكم الوارث إذا ادعى حقاً لمورثه، أما إذا ادعي عليه دين على مورثه، فقد قال القاضي أبو الطيب: شرط سماعها عند تحرير المدعي [به]: أن يدعي أن المورث قد مات، وأنه خلف تركة فيها وفاء بالدين أو بعضه- أي: في يد الوارث- لأنه إذا لم يخلف تركة، لم يلزمه قضاء الدين عنه. وقال القاضي الحسين في باب موضع اليمين: إنه لا بد أن يقول: إنه خلف في يده تركة مبلغها كذا وكذا؛ حتى لو لم يدع هذا، وادعى التركة مطلقة، لا يقبل.

وحكى عن الأصحاب أنهم قالوا: لا بد وأن يقول: [وأنت] تعلم أن لي عليه كذا، فلو لم يقله، لم تسمع. قال: ولعل المعنى فيه: أن الوارث إذا لم يكن عالماً بالدين، لا يكون مطالباً مأخوذاً به في الشرع؛ على معنى أنه لا يأثم بالتصرف في التركة، بخلاف ما إذا علم. وهذا الشرط قد ذكره في "الإشراف" أيضاً. قال: وإن مات رجل، فادعى رجل أنه وارثه لا وارث له غيره، فشهد شاهدان من أهل الخبرة بحال الميت- أي: على قديم الوقت وحدوثه، في حضره وسفره-: أنه وارثه لا وارث له غيره- أي: في علمنا وبينا جهة الوراثة- سلم إليه الميراث؛ لأن ذلك أقصى الممكن في الباب، ويكفي قول الشاهدين: إنهما خبرا باطن حاله، إن لم يعرف الحاكم ذلك؛ كما اعتمد على قولهما في أصل الواقعة. وإن عرف الحاكم أنهما من أهل الخبرة، لم يستخبرهما، ولا يحتاج الآخذ في هذه الحالة إلى كفيل؛ لأنه لو طولب [به]، لكان قدحاً في بينته. وقد ادعى الإمام في ذلك حال كون الوارث الابن، الإجماع. وما ذكره الشيخ من الاكتفاء بالشاهدين هو المنقول في طريق العراق، وفي "الإبانة": أنه لا بد من ثلاثة؛ وكذا في "الاعتبار": اعتبر الثلاثة؛ للخبر المشهور. قال الإمام: وهذا لا أصل له، ولم يصر إليه أحد من الأصحاب، فإن ذكر هذا اشتراطاً فهو خطأ صريح، وإن ذكره احتياطاً، فالأمر أقرب. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن تسليم المال إلى الوارث عند قيام الشهادة بأنه لا وارث له غيره وهم من أهل الخبرة مفروض فيما إذا كان الوارث ابناً، أما إذا كان ابن ابن، أو أخاً، فيسأل القاضي عن حاله في [البلدان التي] سافر إليها؛ كما نقول في الحالة الثانية، فإن لم يظهر له وارث غيره، سلم إليه المال، وهل يأخذ منه كفيلاً؟ فيه وجهان.

فرع: إذا قال الشاهد: أشهد أن هذا وارثه، وأقطع بأنه لا وارث له سواه- سألناه عن معنى القطع؟ فإن قال: لا أعلم له وارثاً سواه، قبلناه. وإن قال: أردت القطع بذلك، قال البندنيجي: قال الشافعي في الإقرار: رجع هذا إلى معنى العلم؛ لأن القطع بهذا محال، ولا ترد به شهادته؛ لأنه أخبر باعتقاد الخطأ، ولم يقصد الكذب؛ وهذا كقوله: لا أعرف له وارثاً سواه؛ وهذا ما جزم به البغوي وغيره. وحكى ابن أبي الدم وجهاً آخر: أنه لا تقبل شهادته؛ لظهور الكذب. قال: وعلى هذا هل يصير مجروحاً في غيرها؟ فيه وجهان. فرع: شهد شاهدان: أنه لا وارث لفلان سوى عمرو، [و] شهد آخران: أنه لا وارث له سوى زيد- ثبت أنهما وارثان، ولا تعارض؛ لأن كل بينة ربما اطلعت على ما تطلع عليه الأخرى؛ حكاه الرافعي في الفروع. قال: وإن لم يقولا: لا نعلم [له] وارثاً غيره، أو قالا ذلك، ولم يكونا من أهل الخبرة، فإن كان ممن له فرض، أي: لا ينقص عنه بحال، وهما الأبوان، والزوجان- دفع إليه الفرض عائلاً؛ عملاً باليقين، واحتياطاً لما عساه يظهر: فيدفع للزوج الربع عائلاً من خمسة عشر، وهو ثلاثة من خمسة عشر. وللزوجة ربع الثمن عائلاً من سبعة وعشرين، وهو ثلاثة من مائة وثمانية. وللأم السدس عائلاً، وهو سهم من عشرة؛ إن كان الميت امرأة، لأنا نقدر أنها ماتت، وخلفت زوجاً، وأختين [لأم] وأمًّا. وإن كان رجلاً، كان ما يعطاه سهمين من سبعة عشر سهماً؛ لأنا نقدر أنه خلف أختين لأب وأم، وأختين لأم، وأمًّا، وزوجة، وللأب سهمان من خمسة عشر. قال البندنيجي: ولا يؤخذ منه ضمين. وفي "تعليق" القاضي الحسين وجه آخر: أنه لا يعطى شيئاً قبل البحث؛ كالابن، والأخ. والأصح الأول. قال: وإن [كان] ابناً أو أخاً، لم يدفع إليه شيء:

أما الأخ؛ فلجواز أن يكون ثم [من] يسقطه: كالابن. وأما الابن؛ فلجواز أن يكون ثم من يزاحمه؛ فلا يعرف قدر ما يصرف إليه. قال: ثم يسأل الحاكم عن حاله في البلاد التي سافر إليها- أي: بالمكاتبة إلى [الحكام، والنداء] فيها: بأن فلاناً قد مات، فإن كان له وارث فليأت؛ فإنا قاسمو تركته- إلى حد يغلب على الظن أنه لو كان له وارث لظهر. قال في "الحاوي": فإن حضرته بينة، جاز أن يسمعها الحاكم من غير دعوى، وعلى غير خصم؛ لأنها بينة على ما قد لزم من الكشف. قال: فإن لم يظهر [له] وارث آخر، فإن كان ممن له فرض، أكمل فرضه؛ لانفراده بسبب ذلك. وقيل: لا يكمل [له] حتى يشهد شاهدان: أنه لا وارث يحجبه؛ لأنه قد أخذ شيئاً في الجملة؛ فلا يضره وقف الباقي. والمذهب في "تعليق" القاضي أبي الطيب- وهو الصحيح في "الشامل"-: الأول. وقد قال الإمام بعد حكاية الوجهين عن رواية العراقيين، وصاحب "التقريب": إنهما كالوجهين في أن الأخ هل يصرف إليه بعد البحث شيء أم لا؟ والمذكور في "الشامل" و"تعليق" [القاضي] أبي الطيب: أنهما جاريان على قولنا: يعطى الأخ نصيبه، وأشار إلى الفرق بما ذكرناه من تعليل الوجه الثاني. قال: وإن كان ابناً، سلم إليه المال؛ لأن الظاهر أنه ليس ثم غيره مع أن الأصل عدم غيره. ولو كان بدل الابن بنتاً، سلم إليها النصف، والنصف الآخر لبيت المال؛ قاله البندنيجي. قال: وإن كان أخاً، فقد [قيل]: لا يسلم إليه المال؛ للشك في أصل إرثه؛ وهذا قول ابن سريج؛ كما حكاه الماوردي هنا، ونسبه البندنيجي إلى أبي إسحاق؛

[وكذا الماسرجسي] في كتاب الإقرار نسبه إليه وإلى ابن أبي هريرة. وقيل: يسلم [إليه] – وهو الأصح- نظراً للظاهر؛ كما في الابن؛ وهذا قول الجمهور؛ كما حكاه الماوردي، وقال: إن الوجهين يجريان في ابن الابن؛ لأنه يحتمل أن يحجب كالأخ. وأجراهما البندنيجي في الجد أيضاً. ثم محل الخلاف في الأخ إذا شهدت البينة بوراثته من أخيه، أما إذا شهدت بأنه أخوه، وسكتت عن وراثته – فقد حكى الإمام عن العراقيين: أنهم قالوا: لا يسلم إليه شيء [إلا] بعد الخبرة وجهاً واحداً؛ فإن سكوتهم عن الوراثة يورث ريباً، ويشعر بأنهم يعرفون له حاجباً. ثم قال: وهذا ليس بشيء. والوجه: أن تُختبر، ثم يجري الوجهان، كما قدمناه. وقد نسب القاضي أبو الطيب ما حكاه الإمام عن العراقيين إلى ابن سريج، وأنه قال: لو شهدت البينة بالبنوة، ولم تذكر أنه وارث، صرفنا إليه إذا لم يكن ثم حاجب بعد الكشف. وأورده ابن الصباغ، ولم ينسبه إلى أحد. وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه لو جاء رجل، وادعى على رجل بأن فلاناً مات، وأنا ابنه، وشهد شاهدان بأنه ابنه- فظاهر المذهب: أن هذه الشهادة لا تسمع؛ لأنه يجوز أن يكون ابناً له، ولا يكون وارثاً، ومن أصحابنا من قال: تسمع؛ لأن الظاهر من حال الابن أنه وارث. قال: ويستحب أن يؤخذ منه، أي: من الآخذ بحكم البحث، لا بحكم البينة كفيل؛ لاحتمال ظهور وارث آخر، وإنما لم يجب؛ لأن الظاهر عدم غيره، ولأنها وثيقة [بغير مطالب]؛ وهذا ما نص عليه في الإقرار. وقيل: يجب؛ ليكون نفوذ الحكم على الأحوط؛ وهذا ما حكاه المزني هنا؛ حيث قال: طالبه بكفيل. وقد جمع بعض الأصحاب بين النصين، وأثبت في المسألة قولين.

وبعضهم امتنع من حكاية الخلاف في المسألة، وحمل النصين على حالين؛ [ولذلك] قال الشيخ: وقيل: إن كان ثقة، استحب؛ للسكون إلى أنه لا يضيع حق من يظهر، وإن كان غير ثقة وجب؛ خوفًا من تضييعه حق من يظهر. قال: والأول أصح؛ لأنه ظهر له الحق؛ فلا يطالب بكفيل. وفي "الحاوي" طريقان آخران في الحمل: أحدهما- وقد أورده البندنيجي وغيره-: أنه إن كان ممن لا يحجب، استحب؛ وإن كان ممن يحجب وجب. والثاني: إن كان موسرًا ذا مال ظاهر، لم يجب، وإن كان معسراً وجب. وفي "تعليق" القاضي الحسين: [أنه] إن كان ممن يحجب، وجب قولاً واحداً، وإلا فوجهان. وقال الفوراني: الصحيح: أن في مطالبتهما جميعاً قولين؛ لأن الابن يحجب حجب نقصان؛ كما يحجب الأخ حجب حرمان. فإن قيل: ألستم تقسمون مال المفلس بين غرمائه بعد إشاعة أمره من غير ضمين مع جواز ظهور غريم آخر، فما الفرق؟ قيل: الفرق أن حقوق الغرماء متحققة، وحقوق هذا الوارث غير متحققة. قال الماوردي: ثم إذا دفع إليه الحاكم المال على ما وصفنا، كتب قضية ذكر فيها: أنه دفع المال إليه بعد الكشف الظاهر من غير حكم قاطع بأمر الاستحقاق؛ ليكون إن ظهر له شريك في الميراث غير مدفوع بنفوذ الحكم عليه بإبطال حقه منه؛ ليتمكن من المطالبة وإقامة البينة. قال: ومن وجب له حق على رجل، وهو مقر، أي: في الظاهر، غير مماطل – لم [يجز أن] يأخذ من ماله [بغير إذنه]؛ لأن له الخيار فيما يقضي به الدين من أي أمواله شاء؛ فلا يجوز إبطاله عليه، فلو خالف وفعل كان آثماً، ويجري على

آخذه حكم الغاصب؛ فيجب [عليه] رده، ولو كان من جنس دينه، ولا يكون تقاصًّا وإن رأينا التقاص؛ لأنه يختص بما في الذمم دون الأعيان؛ لمعنيين ذكرهما القاضي أبو الطيب: أحدهما: أنهما إذا كانا في الذمة، فلا فائدة لأحدهما بمطالبة الآخر بما [له] في ذمته، بخلاف العين؛ لأنه يجوز أن يكون له فيها غرض صحيح، مثل: أن تكون تذكرة من صديق له، أو ميت له، أو يعلم أنه حلال طلق؛ فيجب صرفها في غير ذلك الوجه؛ فلأجل غرضه منعنا غريمه من أخذها بغير اختياره. والثاني: أن التقاص إبراء؛ بدليل أنه لا يفتقر إلى إيجاب وقبول؛ كما لا يفتقر الإبراء إليهما، وقد أجمعنا على أن الإبراء لا يصح إلا بما في الذمة؛ فكذلك التقاص. نعم، لو تلف المأخوذ في يد الآخذ، وكان من الجنس جرى التقاص حينئذٍ. قال: وإن كان منكراً، أي: في الظاهر؛ كما قاله البندنيجي وابن الصباغ، وله بينة – فقد قيل: يأخذ؛ لأن هنداً قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي [إلا ما أخذت منه سرًّا؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف] "، فأذن لها في الأخذ مع القدرة عليه بالحاكم؛ لأن وجوب ذلك عليه ظاهر. ولأن في حضور الشهود وتعديلهم عند الحاكم، وسماع البينة – تطويلاً ومشقة، وربما كان فيه غرر؛ لأن الشهود ربما جرحوا. وقيل: لا يأخذ؛ لأن البينة حجة يمكنه أن يأخذ حقه بها؛ فكانت بمنزلة إقراره بالدين وهو مماطل؛ كذا قاله أبو الطيب، ومقتضاه: أن المقر المماطل لا يجري فيه الخلاف المذكور، وهو [ما] صرح به الإمام والغزالي. وفي "الحاوي" و"الرافعي" التسوية بين المقر المماطل، والمنكر الذي عليه البينة

في إجراء الخلاف في جواز الأخذ، لكن الماوردي خص الخلاف فيهما بما إذا كان المأخوذ من غير الجنس، [وقال فيما إذا كان من الجنس]: إنه يجوز وجهاً واحداً؛ لأن إحواجه إلى المحاكمة عدوان من الغريم، وكلام الشيخ الآتي من بعد يقتضي إجراء الخلاف في الحالين. ثم ما الصحيح من الوجهين في مسألة الكتاب؟ الذي يقتضيه كلام الماوردي: أنه الأول؛ لأنه قال: [إن القائل به هو الذي رأى أن له البيع] بنفسه. ومقابله: رأي من قال: [إنه] لا يبيع بنفسه. وقد صرح بأن الصحيح الأول القاضي أبو الطيب؛ كما قال الرافعي، وتبعه المصنف والروياني وصاحب "المرشد" والفوراني. وفي "الرافعي": أنه يروي عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة، وهذه الرواية إن صحت كان فيها مخالفة لما قاله الماوردي؛ لأن ابن أبي هريرة من القائلين بأنه لا يبيع بنفسه. قال: وإن كان منكراً، ولا بينة له – فله أن يأخذ؛ لعجزه عن حقه إلا بأخذه بنفسه. قال الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم: وهكذا لو كانت له بينة، وعجز عن الأخذ؛ لقوة سلطان الغريم. وعن القفال في مسألة الكتاب: أنه ليس له الأخذ، بل يقتصر على التحليف. وعلى الأول: لو كان صاحب الحق يرجو إقراره لو حضر عند القاضي، وعرض عليه اليمين- وجب إحضاره، ولم يجز له الأخذ إن قلنا: إنه لو كان مقرًّا مماطلاً؛ لم يجز له الأخذ؛ قاله الرافعي.

قال: وإن كان – [أي:] المأخوذ – من غير جنس حقه، باعه بنفسه- أي: من غير حاكم- لأنه قد يتعذر [عليه] إثبات حقه عند الحاكم، فوليناه بيعه بنفسه؛ لأجل الضرورة؛ كالآخذ؛ وهذا قول أكثر الأصحاب في "الحاوي". وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الشامل" نسبته إلى الإصطخري. وقال البندنيجي: إنه المنصوص. وقيل: يواطئ من يقر له بحق عند الحاكم، وأنه ممتنع؛ لبيع الحاكم عليه؛ لأنه لا ولاية له على الغريم، ولا نيابة، وللحاكم الولاية على الممتنعين بغير حق؛ فكان له سلوك هذه الطريقة؛ توصلا إلى استيفاء حقه؛ وهذا قول ابن أبي هريرة. وما ذكره الشيخ من تصويره موافق لما أوره القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ عنه؛ فإنهم حكوا عنه أنه قال: يواطئ رجلاً يحضر معه مجلس الحكم، ويقر له بدين، وأن المال الذي في يده رهن عنده بما له عليه من الدين، ويمتنع من بيعه؛ حتى يبيع الحاكم عليه، ويوفيه الثمن. وفي "الحاوي": أن ابن أبي هريرة صور ذلك بأن يأتمن رجلاً، ويحضره إلى الحاكم، ويدعي عليه أن له ديناً على غريم، وقد ائتمن هذا على ما في يده أن يبيعه [في ذمتي، وأسأل إلزامه ببيع ذلك، وإلزامه قضاء ديني من ثمنه،

[ويعترف الحاضر] بما ادعاه من الدين وائتمانه على ما في يده؛ ليباع في دينه؛ فيأمر الحاكم ببيعه. قال: والأول أصح؛ لأن في هذه المواطأة فجوراً وغروراً؛ فإن الحكم وإن وقع موافقاً لما في نفس الأمر، فسببه في الظاهر باطل، ولا يجوز سلوك مثل ذلك ليقع الحاكم فيه؛ كما نقول فيمن ظاهره العدالة، وهو فاسق: لا يحل له الإقدام على الشهادة بحق عند من يراه عدلاً؛ لهذا المعنى. وما ذكره ابن أبي هريرة من أنه ليس بوالٍ ولا نائب، فجوابه: أن الإذن قد يسقط عند تعذره؛ كما تؤخذ الزكاة ممن هي عليه، ولا يؤديها، ويسقط إذنه. وفي "التهذيب" موافقة الشيخ على التصحيح إذا لم يكن للآخذ بينة، أما إذا كانت، قال: فظاهر المذهب: أنه لا يبيعه إلا بإذنه. وقد سلك المراوزة في حكاية الخلاف في البائع طريقاً آخر، فقالوا: أحد الوجهين: أن الظاهر [أن] يبيع بنفسه. والثاني- وهو ما اقتضى إيراد الغزالي في "الوجيز" ترجيحه-: أنه يرفع الأمر إلى الحاكم؛ ليبيع بعد إقامة البينة على استحقاق المال. قال الشيخ أبو محمد في "السلسلة": وهما مبنيان على أن ملتقط اللقيط إذا وَجَد معه مالاً مشدوداً على ثوبه، وأراد أن ينفقه عليه- فهل له ذلك استقلالاً، أم يرفع

الأمر إلى القاضي؟ ويحكى [مثل] هذا عن القفال. قلت: وعلى هذا الطريق ينطبق قول الماوردي فيما إذا كان له بينة، هل يأخذ غير جنس حقه؟ فيه وجهان: من جوز له البيع [بنفسه]، جوز له الأخذ، ومن منعه من البيع؛ لم يجوز؛ لأنه لا فائدة في الأخذ إذاً؛ فإنه يحتاج إلى أن يرفع الأمر إلى القاضي، ويقيم البينة على استحقاق المال. وقد حكى الرافعي عن رواية الشيخ أبي حاتم القزويني وجهين في أن القاضي هل يأذن [له] في البيع، أو يفوضه إلى غيره. وإذا قلنا بالأصح في الكتاب، فإذا باع فلا يبع إلا بنقد البلد إن كان حقه من جنسه، فإن كان [الثمن] قدر حقه أخذه، وإن كان أقل من حقه فكذلك، ويبقى الباقي [له] في ذمة الغريم. وإن [كان] أكثر من حقه: إما لبيعه بأكثر من ثمن مثله، وإما لكونه لم يقدر على أخذ شيء إلا وقيمته أكثر من حقه، ولم يتمكن من بيع بعضه؛ لعدم تجزئه- أخذ قدر حقه، ورد الباقي عليه بطريقه، فإن لم يقدر على إعطائه له، حفظه عليه. ولو كان حقه من غير نقد البلد، مثل: البر، والشعير- فعن طائفة من المحققين: أنه يبيع بجنس حقه؛ خشية من التطويل. قال الإمام: وهو حسن. ومنهم من قال: لا يبيع إلا بنقد البلد، ويشتري بالثمن جنس حقه، فلو كان حقه دراهم مكسرة، ووجد دراهم صحاحاً- باع بالذهب وإن كان غير نقد البلد؛ للضرورة. ولو أراد من جوزنا له البيع أن يتملك المأخوذ بحقه، فالذي أورده البندنيجي وابن الصباغ والمصنف: المنع؛ لأنه يؤدي إلى أن يبيع من نفسه، وتلحقه التهمة فيه. وقيل: يجوز. قال الإمام: وهو غير معتد به. وإيراد الغزالي يفهم أن القائل بجواز التملك

لا يجوز البيع له. وكل هذا إذا لم يقدر على الأخذ من جنس حقه، فإن قدر على جنس حقه، لم يأخذ غير جنسه؛ وهذا ما جزم به الماوردي وغيره، فإن خالف واحد؛ كان عاصياً. وقيل: لا يجوز أخذ غير الجنس وإن لم يقدر إلا عليه؛ حكاه الإمام والفوراني قولاً؛ فعلى هذا: لو كان حقه دراهم مكسرة، فظفر بدراهم صحاحاً، فهل له أخذها؟ فيه وجهان، أصحهما: نعم. وقيل: يجوز أن يأخذ غير الجنس وإن قدر على الجنس؛ حكاه في "التهذيب" وجهاً. والذي حكاه العراقيون والماوردي: الأول، واستدلوا بجواز أخذ [غير] الجنس وإن كان من غير الأثمان بقصة هند؛ فإن لها من الحقوق المختلفة ما يعلم تعذر وجود جنسها في مال أبي سفيان. ومحل القولين بمنع أخذ [غير] الجنس إذا كان الغريم مصدقاً لملكه له، أما إذا كان الغريم منكراً؛ لكونه ملكاً له، جاز أخذه وجهاً واحداً؛ صرح به الإمام في كتاب الوكالة، وقال: إنه مقطوع به، فليفهم الناظر ذلك. وقد حكيت في باب الوكالة عن الأصحاب الخلاف فيه [أيضاً]. قال: وإن تلفت العين في يده، تلفت من ضمانه؛ لأنه أخذ العين بغير إذن مالكها لغرض نفسه؛ فكانت من ضمانه؛ كما لو اضطر [إلى] طعام الغير، فأخذ منه، وهذا ما اختاره في "المرشد". فعلى هذا قال البندنيجي: إن كان ثمنها من جنس حقه، كان قصاصاً على المذهب الصحيح. وقيل: تتلف من ضمان الغريم؛ لأنه استحق أخذها وصرف ثمنها في دينه؛ فأشبهت المرهون؛ وهذا أصح عند الروياني، كما قال الرافعي. فعلى هذا له أن يأخذ غيرها، وقد رجع حاصل الخلاف إلى أن يده على المأخوذ

من غير [جنس الحق] قبل البيع: يد ضمان، أم يد أمانة؟ ومحلهما- كما قال الماوردي- إذا لم يتمكن من بيعها، فإن تمكن، واستبقاها، ضمنها وجهاً واحداً. وسلك الإمام طريقاً آخر، فقال: إذا ظفر بغير جنس حقه، وقيمته قدر حقه، وتلف في يده – ضمنه وجهاً واحداً. ولو لم يقدر إلا على أخذ ما تزيد قيمته على قدر حقه، فهل يدخل الزائد في ضمانه؟ فيه وجهان. أحدهما: نعم؛ كالأصل. والثاني: لا؛ لأنه لم يأخذه بحق نفسه. ولهذه المسألة فروع: لو لم يتمكن من الأخذ إلا بثقب الجدار، قال القاضي الحسين: جاز له، ولا ضمان عليه؛ كما [في] دفع الصائل. ولو أخذ ثوباً قيمته عشرة [وحقه عشرة]، فبقي الثوب في يده حتى بلغت قيمته عشرين- فتلك الزيادة محسوبة عليه، وإن انتقصت قيمة الثوب. فإن كان البيع ممكناً، فالنقص محسوب عليه؛ إن لم يرد العين لتلف أو بيع، وإن ردها فلا شيء عليه. وإن لم يتمكن من البيع، ثم أمكن؛ خرج على الوجهين. ولو غصب إنسان عينًا من إنسان، وظفر المغصوب منه بعين للغاصب والامتناع قائم- قال الإمام: فله أن يأخذها، ويبيعها، وينتفع بقيمتها؛ كما لو أبق العبد المغصوب. ثم قال: فإذاً البيع بنفسه ظاهر المذهب. وإذا رد الغاصب العين؛ رد الظافر قيمة العين.

ولو كان لإنسان على آخر دين، فقال: اشتريت منك دارك بذلك الدين، وقبضتها، فأنكر- جاز لصاحب الدين المطالبة به؛ قاله الرافعي في آخر الخلع. ولو كان لإنسان على شخص دين، وعليه لذلك الشخص دين [آخر]، فإن لم يجر التقاص إلا بالتراضي، وجحد أحدهما صاحبه، وحلف- فهل للآخر أن يجحد؟ فيه وجهان. ولو كان للمجحود على الجاحد دين آخر قد قبضه، وله بينة بأصل الدين – فله إقامة البينة، وطلب ذلك الدين؛ كما قاله القاضي أبو سعد. وعن "فتاوى" القفال: لا؛ لأنهم لو شهدوا، وقال المدعى عليه: إني قضيت ما [شهدت بينته به]، وطلب يمينه- لم يكن له أن يحلف؛ وذلك يدل على أن ما شهد به غير ما يدعيه. ولو كان للجاحد أو المماطل على شخص دين، فيجوز للمجحود دينه أن يأخذ من مال مديون الجاحد قدر دينه، ولا يمنع من ذلك رد الجاحد، وإقرار المدين له، ولا تكذيب المدين للمدعي على الجاحد؛ كذا قاله الرافعي. وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به: أحدها: إذا اختلف الزوجان فيما في البيت، كان بينهما، إلا ما اختص به أحدهما، وثبت يده عليه حسًّا أو شرعاً، ويحلف كل واحد منهما على ما في يده، ولا فرق في ذلك بين أن يكون ما في البيت يصلح لهما، أو لا يصلح إلا للنساء، أو الرجال، سواء كانا مقيمين على الزوجية أو قد حصل الفراق. وكذا لو كان الاختلاف بين ورثتهما، أو بين ورثة أحدهما وبين الآخر. الفرع الثاني: إذا ادعى داراً في يد رجل، وقال: إنها ملكي، وأنت مبطل في استيلائك، وعليك ردها عليَّ، فقال المدعى عليه: لا يلزمني التسليم إليك، فأقام المدعي بينة على أن الدار ملكه، ولم تتعرض البينة لأكثر من إثبات الملك للمدعي- قال القاضي: ثبت الملك، ويكفي ثبوته، ويقال للمدعى عليه: إن أثبت

استحقاقاً من استئجار، أو ارتهان، فادَّعِ وأثبت، وإلا فحكم الملك استيلاء المالك باسترداد الملك من يدك. قال الإمام: وهذا فيه نظر؛ فإن البيت لم تشهد إلا على الملك، والملك لا ينافي استحقاق يد المدعى عليه؛ فلم تقم البينة على وجه يوجب إزالة اليد، وهذا عندي يقرب مأخذه من أن المالك وصاحب اليد إذا تنازعا في [الإعارة، والإجارة] فالقول قول من؟ فإن جعلنا القول قول المالك؛ فيكفي ثبوت الملك هنا، ثم باب الدعوى مفتوح لصاحب اليد، والقول قول المالك. وإن جعلنا القول قول صاحب اليد، فلا تزال يده ما لم تتعرض البينة لكون صاحب اليد مبطلاً. قال ابن أبي الدم: وما ذكره القاضي صحيح عندي، ولا يمكن فرض خلاف فيه في المذهب، وقاعدة المذهب تقتضيه، وليس كمسألة الإجارة التي ذكرها الإمام والخلاف فيها، والإشكال الذي ذكره ضعيف جدًّا، وبيانه: أن بينة الخارج موجبة لتقدمه شرعاً على يد الداخل إذا لم تقم له بينة بملك ولا بيد سابقة – مثلاً- ولا بأمر يعارض بينة الخارج. وكون العين المدعى بها في يد الداخل لا يعارض مجرد هذا بينة الخارج إجماعاً، وإمكان كونها مستأجرة منه أو مرهونة عنده لا يقاوم بينة الخارج إذا سكت ذو اليد عن دعوى ذلك بلا خلاف أيضاً. نعم، لو ادعى ذو اليد أن العين [بيده] بإجارة، صدق على أحد الوجهين بدعواه، أما عند سكوته فلا ذاهب إليه، ولا نعرف فيه خلافاً، والدليل على صحة ما ذكرناه: أنه لو ادعى عليه ثمن مبيع باعه منه، وسلمه إليه، فأجاب بالابتياع، وقبضه المبيع، وأن الثمن ما ذكره البائع للمدعي، وقال: لا يلزمني تسليم الثمن إليه، أو: ما يستحق عليَّ هذا الثمن، ولا شيئاً منه- فهذا لا يسمع منه إجماعاً وإن أمكن براءته منه.

وهكذا لو ادعى عليه: أنه أتلف عليه ثوباً قيمته عشرة دراهم تعديًا، أو خطأ بغير إذن المالك، وطالبه بقيمته، فقال مجيباً: أتلفته بغير إذنك وهو ملكك، ولكن ما تستحق عليّ قيمته ولا شيئاً منها- فلا يسمع منه أيضاً إجماعاً مع إمكان الإبراء. ولو قالت: تزوجني تزويجاً صحيحاً بولي مرشد وشاهدي عدل، على صداق مائة دينار، وسلمت نفسي إليه، ودخل بي، فقال مجيباً: تزوجتها [كذلك على ما ذكرت]، ودخلت بها، ولكنها ما تستحق علي هذا الصداق ولا شيئاً منه- فلا يسمع منه على المذهب الصحيح. وحكي فيه وجه عن الشيخ أبي عاصم العبادي في "فتاويه": أنه يسمع منه، والقول قوله في نفي الصداق، ولم يذكره أحد من الأصحاب في كتب المذهب، ولا ذكره الشيخ أبو عاصم في إنكار الثمن في البيع. والسبب في عدم قبول إنكاره مع إمكان البراءة: أنه اعترف بالسبب الشاغل لذمته؛ فلا يسمع منه نفيه إلا بدعوى قبض أو براءة؛ فهكذا في مسألتنا قيام البينة للخارج بسبب ظاهر في ثبوت الملك له، وترجيح [جانبه]، فإذا انضم إليه تصديق الداخل بها، تأكد الظهور، وقوي جانب المشهود له بالملك، واعترف بما يوجب عليه التسليم إليه؛ فيلزمه التسليم قولاً واحداً، وإن ادعى ناقلاً فعليه بيانه، أو ما يقتضي إبقاءه في يده فعليه إظهاره، أو إثباته قولاً واحداً، أو إظهاره والدعوى به على أحد الوجهين إن كان إجارة. قلت: وكلام الأصحاب في الوديعة يدل على ما قاله ابن أبي الدم؛ حيث قالوا: لو ادعى وديعة، فقال: ما لك عندي شيء، فأقام المودع بينة بالإيداع، فقال: أودعني ولكنها هلكت- قبل قوله؛ فلو لم تكن إقامة البينة بالإيداع موجبة للمطالبة بالتمكين من الوديعة؛ لما احتاج المودع إلى دعوى التلف. وكذا قول من قال من أصحابنا إذا مات المودع، ولم توجد الوديعة في تركته: إنه يضمن، فلو لم يكن مجرد الإيداع يقتضي وجوب الرد والمطالبة به، ودعوى التلف والرد هي المسقط للضمان- لما ضمنه؛ لأنه يحتمل التلف.

نعم، الخلاف المشهور فيما إذا اختلف المالك ومن في يده العين في الإجارة والإعارة، هل المصدق المالك أو الآجر في استحقاق الأجرة أو قيمة العين، أو نفي ذلك، لا في أنه يصدق في عقد الإجارة حتى يتمكن من استيفاء المنافع إذا كان الاختلاف في أول المدة أو انتهائها؛ وحينئذٍ فلا يتجه التخريج المذكور منهما، والله أعلم. الفرع الثالث: إذا كانت في يد شخص دار، فتنازع فيها نفسان، فقال أحدهما: كلها [لي]، وأقام على ذلك بينة، وقال الآخر: نصفها له، وأقام على ذلك بينة تعارضت البينتان في أحد النصفين، دون الآخر. فإن قلنا بالتساقط، فكأن لا بينة في النصف المتعارض فيه، وهل تبطل الشهادة في النصف الآخر؟ قال ابن سريج: فيه وجهان؛ كما لو ردت الشهادة في بعض ما شهدته به للتهمة؛ فإن في [الباقي قولين]. قال الشيخ أبو حامد: وهذا سهو منه، بل لا يرد هاهنا في النصف الآخر قولاً واحداً، ويسلم لمدعي الكل؛ لأن سقوط هاهنا بالتعارض، وهو لا يسقطها فيما بقي. وهذا ما أورده الماوردي، وقال: إن يد الثالث هل تزال عن النصف الآخر إذا كان يدعي الدار ملكاً؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لسقوط البينتين بالتعارض. والثاني: تزال؛ لاتفاق البينتين على عدم ملكه، وليس تعارضهما في حقه، وإنما تعارضهما في حق المتنازعين. ولو لم يكن من في يده العين قد ادعاها ملكاً لنفسه، نزعت يده، ووقفت للمتنازعين، وهكذا على الوجه الثاني في المسألة السابقة، فإن حلفا جعل بينهما؛ فيكمل لمدعي الكل النصف والربع، ويكون لمدعي النصف الربع لا غير. وإن نكلا، حكم لمدعي الكل بالنصف، وبقي [النصف] الآخر موقوفاً، فإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، قُضي به للحالف؛ وهذا كله على قول التساقط.

وإن قلنا بالاستعمال، لم يخف التفريع. الفرع الرابع: إذا شهد شاهدان بأن خالداً سرق من زيد في وقت كذا، وشهد آخران: أنه سرق في ذلك الوقت من عمرو- فإن قلنا بالتهاتر فلا قطع، وإن قلنا بالاستعمال، قال القاضي في "الفتاوى": فلا يجيء قول القرعة، والوقف، ويجيء قول القسمة، فإن بلغ نصيب كل واحد منهما نصاباً، قطع، وإلا فلا. الفرع الخامس: إذا كانت دار في يد ثلاثة: فادعى أحدهم أن نصفها ملكه، وباقيها في يده وديعة أو مستأجراً من فلان الغائب، وادعى الثاني: أن ثلثها له، وباقيها في يده [وديعة] لفلان الغائب، وادعى الثالث: أن سدسها له، وباقيها في يده لفلان الغائب، ولا بينة- فيحلف كل واحد منهم لصاحبيه على ما يدعيه، وتبقى اليد: فصاحب النصف يده على الثلث فهو له، وصاحب الثلث يده على الثلث [فهو له]، وصاحب السدس يده على الثلث، وهو يدعي السدس، ويقر بالباقي للغير؛ فيقبل قوله. ولو أقام كل واحد منهم البينة على قدر ما يدعيه منها ملكاً؛ أعطي صاحب الثلث الثلث؛ لأن له بالثلث يداً وبينة، ويعطى صاحب النصف الثلث؛ لأن له به يداً وبينة، ويقضى لصاحب السدس بالسدس؛ لأن له [به] يداً وبينة، وبقي هناك سدس في يد صاحب السدس، ولا بينة له، وصاحب النصف يدعي عليهما معاً السدس؛ بدليل: أنهما لو أنكرا؛ حلف له كل واحد منهما؛ فلهذا جعلنا

السدس بين صاحب النصف والسدس. الفرع السادس: إذا كانت الدار في يد ثلاثة، فادعى أحدهم ملك جميعها، وأقام عليه بينة، وادعى آخر ملك نصفها، وأقام عليه بينة، وادعى الآخر ملك ثلثها، ولا بينة له- سلم لصاحب النصف الثلث؛ لأن له عليه يداً وبينة، ولصاحب الثلث الثلث – أيضاً- لأن له عليه يداً وبينة، والثلث الذي في يد الآخر لا بينة له عليه، وقد قامت بينة صاحب- الكل على استحقاقه، وبينة صاحب النصف على استحقاق نصفه- فلا تعارض في نصفه- وهو السدس- فيسلم لمدعي الكل، ووقع التعارض في السدس الآخر، فإن قلنا بالتساقط سلم لمن هو في يده، وإلا جاءت أقوال الاستعمال فيه. قلت: ويجيء في ذلك الوجه الذي حكيناه عن ابن سريج في أن البينة إذا لم تسمع في بعض ما شهدت به- لأجل التعارض- تسقط بجملتها على قولٍ؛ فعلى هذا تكون الدار بينهم أثلاثاً بعد أيمانهم، لكن الأصحاب لم يذكروه؛ لضعفه عندهم، والله أعلم. * * *

كفاية النبيه شرح التنبيه الجزء التاسع عشر تتمة كتاب الأقضية- كتاب الشهادات

باب اليمين في الدعاوى

بسم الله الرحمن الرحيم باب اليمين في الدعاوى إذا ادعى رجل على رجل حقاً، فأنكر [المدعى عليه]، ولم تكن للمدعى بينة- فإن كان ذلك في غير الدم، حلف المدعى عليه، لما روى أبو داود عن ابن أبي مليكة- وهو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة- قال: كتب إلى ابن عباس [أن رسول] الله صلّى الله عليه وسلّم ((قضى باليمين على المدعى عليه))، وأخرجه البخاري ومسلم. وروى مسلم عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ((لو أعطى الناس بدعاويهم، لا دعى ناس دماء ناسٍ وأموالهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه)). قال: فإن نكل عن اليمين، فإن كان الحق لغير معين: كالمسلمين، أي: كمال من مات، ولا وارث له، إذا وجد في دفتره ما يدل عليه. قال: والفقراء: كمال الموصى به لهم إذا ادعاه من أسندت تفرقته إليه على الورثة. قال: حبس المدعي عليه حتى يحلف، أو يدفع الحق، لأنه لا يمكن القضاء بالنكول من غير يمين، لأن الحقوق تثبت بالإقرار أو البينة، وليس النكول واحداً منهما، ولا يمكن رد اليمين، لأن المستحق غير متعين، ولا يمكن تركه، لما فيه من ترك الحق، فتعين فصل الخصومة بما ذكرناه. وقيل: يقضى عليه بالنكول، للضرورة، وهذا [ما] قاله الإصطخري. وحكى الإمام عن شيخه وجهًا: [أنا نخليه]، ولا نقضي عليه، غير أنا

نغصبه إن عاند. ولا حاصل له، وقال بتخريجه الشيخ أبو علي أيضًا، كما حكاه ابن أبي الدم. والصحيح- وهو المذهب في ((تعليق)) البندنيجي، والقاضي الحسين، و ((البحر)) - الأول، لأن إثبات الحق لا يكون بنفيه، لأنه ضد موجبه، وفي الممتنع أن وجود الضد نافياً لحكمه ومثبتاً لحكم ضده، كالإقرار لا يوجب إنكاراً، كذلك الإنكار لا يوجب إقرارًا. وتحريره: أن النكول إنكار، فلم يثبت به حكم الإقرار، كالتكذيب لا يثبت به حكم التصديق. قال صاحب ((التخليص)): ولا يقضى [عليه] بالنكول عندنا إلا في مسائل مخصوصة، فإنه يجب الحكم فيها بالنكول، وهي ما إذا كان مع [رجل أربعون] شاة، فحال عليها الحول، ثم جاء الساعي يطالبه بزكاتها، فقال: كنت بعتها في وسط الحول، ثم مكلتها بعده. أو كان له ثمانون شاة: نصفها في بلد، ونصفها في أخرى، فطالبه الساعي بالزكاة، فقال: أخرجتها بذلك البلد التي هي فيه، أو خرص [نخلة أو كرمه] وضمنه إياه، ثم طالبه بالعشر، فادعى أنه ناقص عما خرصه، وخطأه في خرصه، أو أنه أصابته جائحة- فإن القول في ذلك كله قوله مع يمينه، فإذا نكل، أخذت منه الزكاة والعشر مما خرص عليه وضمنه. وكذا الذمي إذا غاب سنة، ثم عاد، فطالبه الإمام بالجزية، فادعى أنه أسلم قبله- فالقول قوله مع يمينه، فإن نكل، أخذت منه الجزية. وكذلك إذا سبى المشركين، وكشف عن مؤتزر أولادهم، فرآهم قد أنبتوا، وادعوا أنهم عالجوا ذلك، ولم يبلغوا- فإنهم يحلفون، ويحكم بأنهم لم يبلغوا، فإن نكلوا عن اليمين جعلوا في حكم البالغين فيما يجري عليهم من الحكم. وكذلك إذا غنم المسلمون غنيمة، فادعى صبيان منهم: أنهم كانوا بالغين في حال القتال، فإنهم يحلفون، ويسهم لهم في الغنيمة، فإن نكلوا رضخ لهم. وقال ابن الصباغ: وقد اعترض أصحابنا عليه، فقالوا في هذه المسائل: لم يحكم بالنكول، وإنما أرباب الأموال قد ادعوا معاني تسقط الأحكام المتعلقة بالأموال، فيحلفون على ثبوتها، فإن حلفوا ثبتت المعاني المسقطة للأحكام،

وإن نكلوا عن اليمين، لم تثبت المعاني المسقطة، فبقيت على الوجوب، ولا يكون هذا حكماً بالنكول، وهذا كما قلنا: إن من قذف زوجته أمر باللعان، لدرء الحد، فإن امتنع حد، ولا يكون الحد لأجل الامتناع من اللعان، ولكن لأجل القذف المتقدم. قال القاضي أبو الطيب: والجواب أن هذا لا يخفى على ابن القاص مع فضله وعلمه، والسؤال غير صحيح، لأنه لم يعتبر ما اعتبره هذا القائل، وإنما اعتبر المسائل التي إذا عرضت اليمين فيها على المدعى عليه، ونكل عنها، لم ترد اليمين، وحكم بالمدعى، وهذا صحيح، لا اعتراض فيه. وما ذكره صاحب ((التخليص)) في مسائل الزكاة مفرع على القول بوجوب اليمين، ووراءه- تفريعًا عليه أيضًا- وجوه: أحدهما: لا يقضي عليه أيضًا. والثاني: يحبس إلى أن يقر، فيؤخذ منه الحق، أو يحلف. والثالث: إن انتصب في صورة مدع، بأن قال: أديت، أو علقت- قضى عليه. وإن انتصب في صورة مدعى عليه، مثل أن قال: لم يحل على الحول، فلا يقضى عليه، قاله في ((التهذيب)) في كتاب الزكاة، [ونسبه] ثم إلى ابن سريج، وهو في النسبة موافق للقاضي الحسين، فإنه نسبه إلى ابن سريج ثم، وفي باب الامتناع من اليمين أيضًا، وقال: إن محل الخلاف إذا كان الفقراء غير محصورين، [أو محصورين] وجوزنا النقل. أما إذا منعنا نقل الصدقة، حلفوا، واستحقوا، وهكذا قاله الرافعي والشيخ أبو علي، كما قاله ابن أبي الدم، ويؤخذ من قول الشيخ: ((وإن كان الحق لمعين، حلف المدعى عليه)). أما إذا قلنا: إنها مستحبة، فلا نقضي عليه عند الامتناع بشيء، وكذلك قال الأصحاب، تفريعًا على هذا، أنه لا يأمره باليمين أمر إرهاق، وليعلمه بذلك، لأن أمر الإمام إرهاق. وما ذكره صاحب ((التخليص)) في مسألة الذمي هو الأظهر عند الشيخ أبي علي،

وهو مفرع- كما قال الإمام- على أنه إذا أسلم في أثناء الحول لا يلزمه شيء. قلت: وعلى أن اليمين واجبة، كما هو أحد الوجهين في ((تعليق)) البندنيجي والقاضي الحسين وغيرهما، ووراءه- تفريعًا على هذا- وجهان حكيتهما في باب عقد الذمة: أحدهما: [أنه] لا يقضى عليه بشيء. قال الإمام: وهذا عندي إسقاط اليمين، فإنه ينكل فلا يلزمه شيء، ولا سبيل إلى حمله [علي] اليمين. والثاني: أنه يحبس حتى يحلف، أو يعترف بما عليه. أما إذا قلنا بأن اليمين مستحبة، فلا يلزمه شيء. وإذا قلنا: إن القول عند الاختلاف في الإسلام قول الإمام- كما حكيته قولاً في باب عقد الذمة، وأبداه الإمام هنا احتمالاً لنفسه- ارتفع الخلاف، لكن الصحيح المشهور: أن القول قول الذمي. قال الإمام: وتقييد صاحب ((التخليص)) هذه المسألة بالإسلام في الغيبة، يدل على أنه لو كان بيننا، ولما انقضت السنة صادفناه مسلمًا، وادعى أنه كان قد أسلم قبل الحول، ولم يخبرنا، وكتم إسلامه عنا- أنا [لا] نقبل قوله في هذه الصورة، إذ الظاهر أن من أسلم في دار الإسلام لا ينكر إسلامه، والأصل عدم ما يدعيه، فلزمته الجزية، إلا أن يقيم بينة. وما ذكره صاحب ((التلخيص)) في أولاد المشركين مفرع على أن الإنبات علامة على البلوغ، ووراء ما ذكره- تفريعًا على هذا الوجه-[أمور:] أحدها: أنه يحبس حتى يتحقق بلوغه فيقتل، أو صباه، فنحلفه على الاستعجال، فلا يقتل. قال الإمام: وقياس الباب أن يقال: إذا بلغ، يدام الحبس عليه إلى أن يحلف، أو يقر بأني ما كنت استعجلت، فيقتل، لأن البلوغ [المحقق لا يخرجه عن الذرية أمس، وهو لا يقتل ببلوغ حادث، وإنما يقتل ببلوغ مقارن] للأسر، وقد حكاه في ((التهذيب)) هكذا، فيكون وجهًا ثانيًا.

والثالث: حكاه في ((التهذيب)) - أيضًا-: أنه لا يقضي عيه، والذي ذكره صاحب ((التخليص))، قال الإمام: إنه المنصوص. قال البندنيجي والقاضي الحسين: واليمين فيه واجبة قولًا واحدًا. قال الإمام: وفيه وقفة، لأنه قد ادعى [الصبا]، وتحليف من ادعى الصبا متناقض. وقد أجاب عنه أبو علي بأنا عولنا في تحليفه على الإنبات، [فإن ظاهره] يكذبه في دعواه مع أنه مشكل، أما إذا قلنا: إن الإنبات عين البلوغ، فلا فائدة لقوله أصلا، ويقتل. وما ذكره ((التلخيص)) في الصبي إذا ادعى أنه بالغ، وطلب السهم من الغنيمة- ففي ((التهذيب)) أنه قاله تخريجًا، وأن بعض أصحابنا قال: إنه يعطى عند الامتناع من اليمين، لأن الظاهر استحقاقه بحضور الوقعة، وأن منهم من قال: إنه يقبل قوله بلا يمين، ويعطى [السهم]، وإليه ذهب الشيخ أبو زيد، لأن احتلامه لا يعرف إلا من جهته، فهو كما علق العتق بمشيئة غيره، فإنه يصدق بغير يمين. فرع: قيم المسجد والوقف، هل يحلف إذا نكل المدعى عليه؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها القاضي الحسين، وتبعه البغوي، ثالثها: إن باشر السبب نفسه حلف، وإلا فلا. فإن قلنا: لا يحلف، فهل نقضي عليه بالنكول؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، للضرورة. والثاني: لا، ولكن يوقف حتى تقوم بينة، أو إلى قيام الساعة يعاقب عليه يوم القيامة. قال: وإن كان الحق لمعين- أي: يمكن تحليفه- ردت اليمين [على المدعي]، لقوله تعالى: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الآية] [المائدة:108]- أي: الامتناع من الإيمان الواجبة، فدل على نقل الإيمان. وقد روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: ((من طلب طلبةً بغير بينة، فالمطلوب أولى باليمين من الطالب)).

وصيغة ((أفعل)) حقيقة في الاشتراك، وإذا كان كذلك، اقتضى أن يكون للطالب حق في اليمين، وإلا لما كان المطلوب أولى منه، وحينئذ فيكون المدعى عليه أولى في الابتداء، وتنقل عند امتناعه في الانتهاء، ويدل عليه ما روى الليث بن سعد عن نافع [عن] ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رد اليمين [على] طالب حق. [ذكره] الوليد في ((المستخرج)) والدارقطني في اليمين مع الشاهد. وقد رد اليمين على عمر فحلف، وعلى زيد بن ثابتٍ فحلف، وعلى عثمان بن عفان- ردها عليه المقداد بين دي عمر- فلم يحلف، وقال: خشيت أن يوافق قدرٌ بلاءً، فيقال: بيمينه. وهذا مستفيض في الصحابة، ولم يظهر منهم مخالف، فثبت أنه إجماع. أما إذا لم يكن تحليف صاحب الحق في الحال: كالصبي، والمجنون- فقد حكى القاضي الحسين في كتاب الأضحية عن صاحب ((التلخيص)): أنه يقضي بالنكول. والمشهور: انتظار البلوغ والإفاقة، كما تقدم. قال: وإن كانت الدعوى في دم- أي: بسبب قتل خطأ، أو عمد، أو عمد خطأ- فإن كان هناك لوث، حلف المدعي خمسين يميناً، ويقضى له بالدية. الأصل في ذلك ما رواه الشافعي بسنده في حديث طويل عن سهل بن أبي حثمة أنه حدثه رجال من كبراء قومه: أن محيصة وعبد الله بن سهلٍ خرجا إلى خيبر، فلما دخلا تفرقا في حوائجهما، فقتل عبد الله بن سهلٍ، فاتهموا اليهود، فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهلٍ، وابنا عمه حويصة، ومحيصة- إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فابتدأ محيصة يخبره بذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((كبر كبر)) يريد السن، فتكلم حويصة، لأنه الأكبر، ثم تقدم محيصة، فأخبره بما عنده، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((إما أن تدوا صاحبكم وإما أن تأذنوا بحرب من الله))، فكتب إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلنها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحويصة ومحيصة

وعبد الرحمن: ((أتحلفون، وتستحقون دم صاحبكم؟))، ويروى: ((دم قتيلكم))، فقالوا: لا، ويروى أنهم قالوا: كيف نحلف، ولم نشهد، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ((أفتحلف اليهود وتبرئون؟))، فقالوا: كيف نحلفهم، وهم مشركون؟ ويروى: وليسوا بمسلمين، فوداه النبي صلّى الله عليه وسلّم بمائة ناقةٍ حمر. وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق آخر، واتفق الكل على أن البداية بالأنصار، ولا معارضة بين هذا، وبين قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((البينة على [المدعي، واليمين على] المدعى عليه))، لأن هذا خاص، وذلك عام، على أن الدارقطني قد روى بإسناده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه إلا في القسامة)). وقال: إن كل ما يرويه عمرو بن شعيب، عن جده فهو عبد الله بن عمرو، وقد أدركه، ولم يفته عنه إلا حديث واحد، فسمعه من جده: محمد بن عبد الله بن عمرو، فلا يكون مرسلاً، وقد روي من طريق آخر عن ابن عباس وأبي هريرة. وإذا كان كذلك، فيكون تقدير الحديث: إلا في القسامة، فإن اليمين لا تكون في جنبة المدعى عليه. والمعنى في جعل اليمين في جانب المدعي في القسامة عند ظهور اللوث: أن باللوث قويت جنبته، فتحولت اليمين إلى جانبه، كما [لو] أقام شاهداً واحداً في غير الدم. ومن جهة القياس: أنها أيمان تكررت في الدعوى شرعًا، فوجب أن يبدأ بها المدعي، كاللعان، فإنه يمين، قال صلّى الله عليه وسلّم: ((لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن)). وهذا في دية النفس الكاملة، أما دية النفس الناقصة: كدية المرأة، والذمي، فهل يحلف لأجلها خمسين يمينًا؟ فيه وجهان: أصحهما في ((الحاوي)): أن الأمر كذلك، حتى في دين الجنين، لخطر النفس. والثاني: أن الأيمان تقسط على كمال الدية، فيكون في دية المرأة خمس

وعشرون، وفي الذمي تسعة عشر. وقد أبدى الإمام تخريج الوجهين احتمالًا لنفسه من الخلاف في ضرب ذلك على العاقلة في ثلاث سنين أو دونها، [إذا كانت اليمين في جانب المدعى عليهم، دون ما إذا كانت في جانب المدعي، لأجل اللوث]. قال الأصحاب: وكيفية اليمين الواجبة عند حضور المدعى عليه: أن يحلف بالله، أو باسم من أسمائه، أو بصفة من صفات ذاته-: إن هذا قتل هذا، إن كان المقتول حاضرًا، وإن كان غائبًا، قال: إن هذا قتل فلان [بن فلان] الفلاني، منفردًا بقتله، ما شاركه فيه غيره. ومن هم من قال: نفي المشاركة تأكيد وليس بشرط، لأن لفظ الانفراد يغني عنه، [وهذا ما أورده القاضي الحسين، وقال الإمام: إنه متفق عليه]. والقائلون بالأول- وهو ظاهر النص- قالوا: قد يكون القاتل مكرهًا، فتكون الدية عليه وعلى المكره، فتصدق وإن كان منفردًا بالقتل، كذا قاله أبو الطيب، وغيره. وما وقفت عليه من كلام الرافعي يفهم أن الخلاف عائد إلى اشتراط ذكر الانفراد. ويذكر الحالف في يمينه: أنه قتله عمدًا، أو خطأ، أو شبه عمد. قال الماوردي: [وذكر صفة العمد لا يشترط] إذا كان المدعي قد وصف ذلك في الدعوى، ولا يجب، لأن يمين الحالف عن مذهب الشافعي متوجه إلى الصفة التي أحلفه الحاكم عليها، فلا نعيده. وإن ادعى الجاني أن الميت قد برأ من جرحه، قال الشافعي: زاد: أنه ما مات من غير جراحته التي جرحه بها، ولا برئ منها حتى مات. واعترض عليه بوجهين: أحدهما: أنه إذا ادعى البرء من الجراحة، فقد اعترف بها، فكيف يحلف المدعي؟ والثاني: أنه قد سبق أن الجاني والولي إذا اختلفا في الاندمال، وقد مضى

زمان يمكن فيه الاندمال- أن القول قول الجاني على الظاهر، فلم جعل هاهنا القول قول الولي حتى يحلف عليه؟ وأجيب عن الأول: بأن دعوى البرء من الجراحة تقتضي الاعتراف بالجراحة في نفسها، لا الاعتراف بجراحة نفسه، ويجوز أن يريد أن الجراحة التي نسبت إليه قد برأ منها، ثم مات، ويكون غرضه إبطال اللوث. وعن الثاني بوجوه: أحدها: ويحكى عن أبي إسحاق-: أن المسألة مفروضة فيما إذا كان للمدعي بينة على أنه لم يزل ضمنًا متألمًا حتى مات، أو اعترف المدعى عليه بلك، لكن ادعى أنه مات بسبب محدث، فيحلف المدعي، ويصدق، لأن الظاهر معه. الثاني- وهو الظاهر من مذهب ابن أبي هريرة-: أن محل جعلنا القول قول الجاني في الاندمال في غير القسامة، أما في القسامة، فالقول قول المدعي، لأن القسامة لما خالفت غيرها في قبول قول المدعي في القتل، خالفته في قبول قوله في سراية الجرح، وهذا ما حكى الإمام عن العراقيين القطع به، وقال: إنه هوس، فإن الجرح متفق عليه، وليس المدعي يدعي غيره، ويدعي إفضاء الجرح إلى الموت، وقصر الزمان وطوله لا يختلف بقيام اللوث وعدمه. الثالث: أن المسألة مفروضة فيما إذا اختلفا في أنه هل مضت مدة يمكن فيها الاندمال، أم لا؟ وحينئذ فالقول قول الولي، لأن الأصل أنها لم تمض. ويستحب للقاضي أن يحذر المدعي إذا أراد أن يحلف، ويعظه، ويقول له: اتق الله، ولا تحلف إلا عن تحقيق، ويقرأ عليه: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية [آل عمران:77]. والقول في التغليظ في اليمين بالمكان والزمان واللفظ، يأتي في الباب. فرع: هل يشترط أن تكون الأيمان متوالية، كما في اشتراط الموالاة في كلمات اللعان؟ فيه وجهان للقاضي الحسين، وأظهرهما- وهو الذي أورده أكثرهم-: أنها لا تشترط، لأن الأيمان من جنس الحجج، والتفريق في الحجج لا يقدح، كما إذا شهد الشهود متفرقين، وعلى هذا فلو حلفه القاضي الخمسين في خمسين يومًا، جاز. وعن ((الأم)): أنه [لو] حلف بعض الأيمان، ثم استنظر القاضي، أنظره، وإذا

عاد، اعتد بما مضى. [وعلى الأول: لو جن المدعي في خلال الأيمان، أو أغمي عليه، ثم أفاق- يبنى على ما مضى،] ولا يستأنف، لقيام العذر. لو عزل القاضي، أو مات، وولي غيره- فالذي ذكره الغزالي والبغوي- تبعًا للقاضي-: أن الثاني يستأنف، كما لو عزل القاضي أو مات [بعد] سماع البينة وقبل الحكم، وكما إذا أقام شاهدًا واحدًا، وأراد أن يحلف معه، فعزل القاضي، وولي آخر- لابد من استئناف الدعوى والشهادة. وحكي قول عن نصه في ((الأم)): أن القاضي الثاني يعتد بما سبق من الأيمان. وذكر الروياني: أنه الصحيح، ولم يحك القاضي أبو الطيب سواه. والمتولي حمل النص على ما إذا كان الحالف المدعى عليه، وقلنا بتعدد اليمين في حقه- كما سنذكره- ومات القاضي، أو عزل قبلها استكمالها وولي غيره، وقال فيما إذا كان الحالف للمدعي: إنه لابد من الاستئناف. وفرق بأن يمين المدعى عليه على النفي، فتقع نافذة بنفسها، ويمين المدعي للإثبات، فتتوقف على الحكم، والقاضي الثاني لا يحكم بحجة أقيمت عند الأول، كما في الشهادة. وقال: إن موت القاضي وعزله بعد تمام الأيمان، القول فيه كالقول فيما لو مات أو عزل في أثنائها في الطرفين. ولو عزل القاضي في أثناء يمين المدعي أو المدعى عليه، ثم ولي، فهل [يبني أو] يستأنف ذلك؟ ينبني على القضاء بالعلم: فإن قلنا: يجوز، بني، وإلا استأنف. ولو أن الولي المقسم مات في أثناء الأيمان، فالنص في ((المختصر)): أنه يستأنف. وليس كما إذا جن، ثم أفاق، فإن الحالف واحد. قال الروياني: وليس كما إذا أقام شطر البينة، ثم مات، حيث يضم وارثه إليه الشطر الثاني، ولا يستأنف، لأن شهادة كل شاهد مستقلة منفردة عن شهادة الآخر، وأيمان القسامة لا استقلال لها، ألا ترى أنه لو انضم إليها شهادة شاهد لا يحكم؟! وعن الخضري: أن الوارث يبني على أيمان المورث. وبني المتولي [ذلك] على [أن] أيمان القسامة توزع على أولياء القتيل،

أو يحلف كل واحد منهم خمسين يمينًا؟ فإن قلنا بالأول حلفوه، وإلا فلا. ولو مات بعد تمام الأيمان، حكم لورثته. ولو مات المدعى عليه في أثناء الأيمان إذا كنا نحلفه- إما في غير صورة اللوث، أو لنكول المدعي مع اللوث- بني وارثه على أيمانه. أما إذا كان المدعى عليه غائبًا، واللوث قائم، فهل يجوز أن يقسم المدعي: إن فلان ابن فلان الفلاني، ويصفه بما يجب وصفه به- كما ذكرناه في الدعوى على الغائب- ويتمم اليمين. قال الماوردي: ولو حلف هكذا في حال حضوره، ففيه وجهان محتملان في الإجزاء، جاريان فيما لو كان المقتول حاضرًا، فقال: والله إن هذا قتله فلان ابن فلان الفلاني، لأن بذكر الإشارة- مع إمكانها- يحدث من الشبهة المحتملة ما لا يحدث مع الغيبة. والوجه الثاني: أنه لا يقسم في الغيبة، لأن اللوث ضعيف، لا يعول عليه إلا إذا سلم عن قدح الخصم. تنبيه: حثمة- راوي الحديث الأول-: بفتح الحاء المهملة، وسكون الثاء المثلثة، وبعدها ميم مفتوحة، وتاء تأنيث ساكنة. ومحيصة: بضم الميم، وتاء تأنيث. ويقال: محيصة بتشديد الياء وكسرها. وحويصة: بتشديد الياء وكسرها. والقسامة، قال الماوردي: مشقتة من ((القسم))، وهي اليمين، سميت: قسامة، لتكرر الأيمان فيها. واختلف أصحابنا فيا: هل هي اسم للأيمان، أو للحالفين بها؟ فقال بعضهم: هي اسم للأيمان التي يقسمها الأولياء في الدم. قلت: وهو قول الجوهري وابن فارس، ويدل عليه: أنه جاء في بعض طرق الحديث: ((تحلفون خمسي قسامة تستحقون بها قتيلكم))، ولهذا صححه النواوي.

وقال آخرون- ومنهم القاضي أو الطيب-: إنها اسم للحالفين الذين يحلفون على استحقاق دم القتيل، وهو ما حكاه الأزهري عن أهل اللغة، وكذلك البندنيجي. وقال أبو الطيب وغيره: إن الفقهاء يسمون الأيمان: قسامة. وقال البندنيجي: إن القسامة في الشرع: كثرة الأيمان. قال الإمام: ولا اختصاص لها بأيمان الدماء، إلا أن الفقهاء استعملوها فيها، وأصحابنا يستعملونها في الأيمان التي تقع البداءة فيها بالمدعي. قلت: واستعمال الفقهاء هو الذي حكاه ابن فارس، والجوهري، حيث قال: القسامة: [هي] الأيمان تقسم على الأولياء في الدم، والله أعلم. قال: وإن كانت الدعوى في قتل عمد، ففي القود قولان: أصحهما: أنه لا يجب، لأنه صلّى الله عليه وسلّم ((كتب إلى يهود: إما أن تدوا صاحبكم، أو تأذنوا بحربٍ))، فأطلق إيجاب الدية، ولم يفصل، فلو صحت لإيجاب القصاص لبينة. ولأن أيمان المدعين لا يثبت بها النكاح، فوجب ألا يثبت بها القصاص، كشهادة النسوة، ورجل وامرأتين. وعلى هذا قال الأصحاب: تجب الدية مغلظة في مال الجاني، وهذا القول هو الجديد. ومقابله: أن القود يجب، كما رواه أبو ثور، وهو معزي إلى القيدم في ((الحاوي)) وغيره، ووجهه: قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟)) أي: دم قاتل صاحبكم. وقد روى أبو داود عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ((أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قتل في القسامة رجلًا من بني النضر بن مالكٍ)).

وروى مسلم، والبخاري: أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: ((يحلف منكم خمسون رجلًا: إن واحدًا منهم قتله، فيدفع برمته، وألزمه الحبل)). ولأن هذه حجة يثبت بها العمد، فوجب أن [يثبت] بها القصاص، كشهادة الرجلين. وأن اليمين المنقولة يثبت بها القصاص، فكذلك اليمين المبتدأة. وعلى هذا: لو كان المدعى عليهم القتل جماعة، فهل يقتلون بجملتهم بعد الأيمان، أو واحد منهم؟ الذي ذهب إليه عامة الأصحاب: الأول، لأن ما كان حجة في قتل الواحد، كان حجة في قتل الجماعة، كالشاهد. وحكى الماوردي: أن الربيع حكى قولًا لنفسه: [أنه] لا يقتل بها أكثر من واحد، وبه قال ابن سريج، لحنًا للدماء، ولضعف القسامة. وقال ابن سريج: أجعل للولي أن يقتل واحداً منهم باختياره، ويأخذ من الباقين أقساطهم من الدية. وروى أبو ثور عن الشافعي أنه قال في القديم: لا أقتل بها أكثر من اثنين. وقد أجاب القائلون بالجديد عن الحديث الأول بأنا نضمر: قتل صاحبكم. وعن الثاني: بأنه يحتمل ألا يكون هناك لوث، ووجب اليمين على المدعى عليهم، فنكلوا عن اليمين، فردت على المدعي، فاستحق القصاص، لأنه يمين منقولة. وعن الثالث: أن المراد: دفعه، لتؤخذ منه الدية لا القود. وعن الرابع: أنه ينتقض بما إذا ثبتت السرقة بشهادة رجل وامرأتين، فإنه يثبت بها المال دون القطع. وعن الخامس: أن اليمين المنقولة انضم إليها جحود المدعى عليه، وهي عندنا إما كإقرار الخصم أو كالبينة، وكل منهما يوجب القود. قال: وإن كان المدعي جماعة، ففيه قولان:

أحدهما: يحلف كل واحد خمسين يمينًا، لأن العدد في القسامة كاليمين الواحدة في غير القسامة، [فلما تساووا في غير القسامة] وجب أن يتساووا في القسامة. والثاني: تقسط [عليهم الخمسون] على قدر مواريثهم، لأن الذي يثبت بأيمانهم ينقسم عليهم في فرائض الله، فكذلك يجب أن تكون الأيمان، وتفارق غير القسامة، لأن ثم اليمين الواحدة لا تقبل القسمة، وها هنا القسمة ممكنة. قال: ويجبر الكسر، لأن اليمين الواحدة لا تتبعض، فكملت، كما في غير القسامة، وهذا ما نص عليه ها هنا، وهو الصحيح عند الماوردي والقاضي أبي الطيب والرافعي وغيرهم، وبه أجاب ابن الحداد، وميل الإمام إلى تضعيفه. وقد قيل: إن أصل الخلاف في هذه المسألة: أن الدية تثبت للوارث ابتداء، أو للمقتول؟ وفيه قولان، ذكرناهما في باب العفو والقصاص: فإن قلنا: تثبت للوارث ابتداء، حلف [كل واحد] خمسين يمينًا، لأن الحق لا يثبت للإنسان بيمين غيره، والشرع قد علق الاستحقاق بعدد من الأيمان، فلابد من تحققه. وإن قلنا: تجب للمقتول ابتداء، قسطت، لأن المستحق واحد، والورثة خلف عنه. ومقتضى هذا البناء: أن يكون الصحيح القول الثاني- أيضًا- لأن ذكرنا ثم: أن الصحيح في الطرق: أن الدية تثبت للمقتول أولًا، ثم تنتقل. وعلى هذا فروع: أحدها: إذا كان في المسألة عول، فهل تقسم الأيمان بينهم على أصل الفريضة، [أو على الفريضة و] عولها؟ فيه وجهان في ((الحاوي))، وأصلحهما فيه: الثاني. وعلى هذا: إذا كان القتيل امرأة، وتركت زوجًا، وأختين لأب وأم، وأختين لأم، وأما فالمسألة من ستة، وتصح من عشرة، [فيحلف الزوج خمسة عشر، وكل أخت شقيقة عشرة]، وكل أخت من أم خمسة والأم خمسة. وعلى الأول: يحلف الزوج خمسة وعشرين، وكل أخت شقيقة سبعة عشر، وكل أخت من أم تسعة، وكذلك الأم.

الفرع الثاني: إذا نكل بعض الورثة عن حلف ما يخصه من الأيمان أو عن بعضها، بطل حقه، لأن النكول عن البعض كالنكول عن الكل، وحلف الباقون تتمة الخمسين، وسلم [إليهم] نصيبهم من الدية، ويكون توزيع ما كان يحلفه الناكل من الأيمان على قدر استحقاقهم. مثاله: إذا كان للوارث أخوان، وزوجة، فنكل أحد الأخوين: إما عن كل ما يخصه من الأيمان، أو عن بعضه- فنصيبه من الدية الربع والثمن- وقد كان يحلف تسعة عشر يمينًا، فنقص على قدر مستحق الزوجة، والأخ الآخر، ويجبر كسرها، فتحلف [الزوجة] ثمانية أيمان مضافًا لما كانت تحلفه، وهو ثلاثة عشر يمينًا، ويحلف الأخ اثنى عشر يمينًا مضافًا لما كان يحلفه، وهو تسعة عشر [يمينًا]، فتكمل أيمانهم اثنين وخمسين يمينًا، ويسلم للزوجة ربع الدية، وللأخ الحالف الربع والثمن. ولو كان الورثة ثلاثة إخوة، أو ابنتين وابنين غائبين، أو واحدًا غأئبًا، وواحدًا صغيرًا، فإذا أراد الحاضر أخذ نصيبه، حلف خمسين يمينًا، ثم إذا حضر الغائب حلف خمسة وعشرين يمينًا، وأخذ نصيبه، [ثم إذا حضر الغائب الآخر، أو بلغ الصبي، حلف سبعة عشر يمينًا وأخذ نصيبه]، وعلى هذا المثال. ولو كان الورثة أربعة بنين، واثنان حاضران، حلف كل واحد منهما خمسة وعشرين يمينًا، وأخذ ربع الدية، فإذا حضر أحد الغائبين، حلف سبعة عشر يمينًا، وسلم إليه ربع الدية، كما لو كان الثلاثة حضورًا، فإنه لا يلزم كل احد أكثر من ذلك، فإذا حضر الرابع، حلف ثلاثة عشر يمينًا، وتسلم باقي الدية، ولو قدم الغائبان معًا، حلف كل واحد ثلاثة عشر يمينًا، ولو أراد الحاضر أن يؤخر اليمين إلى قدوم الغائب، كان له ذلك، ولم يبطل حقه، بخلاف نظيره في الشفعة، حيث لنا: إنه يبطل حقه على وجه لابن أبي هريرة، والفرق: أن الشفعة إذا تعرضت للأخذ، فالتأخير تقصير مفوت، واليمين في القسامة لا تبطل بالتأخير. الفرع الثالث: إذا حلف الحاضر الخمسين، ثم مات الغائب، ووارثه الحالف لا غير- لم يستحق نصيبه إلا بعد حلفه ما كان يخصه لو حضر. الفرع الرابع: إذا كان في الورثة خنثى مشكل، أخذنا بالاحتياط والبناء على

اليقين في الأيمان وفي الميراث جميعًا، فلو خلف القتيل ولدا خنثى لا غير، حلف خمسين يمينًا، لاحتمال أنه ذكر، ولاحتمال كونه أنثى، فإنه لو تحققت أنوثته لم يأخذ شيئًا إلا بعد حلفه خمسين، ويعطي نصف الدية، لاحتمال أنه أنثى، ولا يأخذ الإمام النصف الآخر، بل يوقف إلى أن يبين حال الخنثى: فإن بان ذكرًا سلم له، وإن بان أنثى حلف القاضي المدعى عليه للباقي، فإن نكل، فماذا يفعل معه؟ فيه الخلاف السابق. ولو كان مع الولد الخنثى عصبة للقتيل: كالعم، والأخ، وابنهما- فالحكم في حق الخنثى ما تقدم، [والعصبة مخير بين أن يحلف خمسة وعشرين يمينًا، وبين ألا يحلف، فإن حلف انتزع القاضي النصف الآخر، ووقفه بين هو بين الخنثى، فإذا تبين المستحق منهما دفعه له باليمين السابقة. [وأبدى الإمام تخريج] وجه: [أن] العصبة لا يحلف، لأنا لم نعلم له استحقاقًا، فلا تصح دعواه، ولو حلف لم يقع الاعتداد بأيمانه، وقال: إنه منقاس مطرد في كل من لا نعلم له استحقاقًا. وعلى المشهور: إذا لم يحلف، كان له ذلك، ثم إن ظهر أنه المستحق، حلف إذ ذاك خمسة وعشرين [يمينًا وتسلم] النصف الآخر. ولو خلف ولدين خنثيين، حلف كل واحد أربعة وثلاثين يمينًا، لاحتمال أنه ذكر، والآخر أنثى، ولا يأخذ إلا ثلث الدية، لاحتمال أنه أنثى، والآخر ذكر، أو أنهما أنثيان. ولو خلف ابنًا، وولدًا خنثى، فيحلف الابن أربعة وثلاثين يمينًا، لاحتمال أن الخنثى أنثى ولا يعطى إلا نصف الدية، ويحلف الخنثى خمسة وعشرين يمينًا، الخنثى أنثى ولا يعطي إلا نصف الدية، ويحلف الخنثى خمسة وعشرين يمينًأ، لاحتمال أنه ذكر، ولا يعطى إلا ثلث الدية، لاحتمال أنه أنثى، ويوقف السدس بينهما، وعلى هذا فقس، [والله أعلم]. ولو خلف جدًا، وأخًا لأب وأم، وأخًا للأب- فأخ الأب يعاد به الأخ للأب والأم- الجد، ولا يرث، فيحلف الجد عشرين يمينًا، والأخ للأبوين ثلاثين

[يمينًا]. ولو كان الورثة جدًا، وأختًا من الأبوين، وأخًا من أب- فتحلف الأخت خمسة وعشرين يمينًا، لأن لها نصف الدية، ويحلف الجد عشرين يمينًا، لأن لو خمسا الدية، ويحلف الأخ خمسة أيمان، لأن له عشر الدية. فرع: إذا مات أحد الورثة المدعين للدم، قام وارثه مقامه في الأيمان، فإن تعددوا عاد القولان: فإن قلنا: يحلف كل واحد من الورثة خمسين يمينًا، فكذلك ورثة الورثة. وإن قلنا بالتوزيع، وزعت حصة ذلك الوارث على ورثته، فلو كان للقتيل ابنا، ومات أحدهما قبل أن يحلف [عن ابنين، حلف كل واحد منهما ثلاثة عشر يمينًا، فإن مات أخوه قبل أن يحلف]، ولم يحلف إلا هذا الحالف- حلف أيضًا ثلاثة عشر يمينًا، ولا يقال: يكمل خمسة وعشرين، لأنه يحلف عن مورثه. ولو نكل أحد ولدي ابن القتيل، حلف أخوه سبعة أخرى، وعمه ثمانية، وعلى هذا فقس. قال: فإن نكل المدعي عن اليمين، ردت اليمين على المدعى عليه، فيحلف خمسين يمينًا، لقضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك في قصة اليهود التي تقدمت. ولأنا إذا غلظنا اليمين في جنبة المدعي بالعدد، احتياطًا لدم المدعى عليه- وجب أن نغلظ في جنبة المدعى عليه، صيانة لدم مورث المدعي، وهذا ما حكاه العراقيون والماوردي. وحكى القاضي الحسين والإمام قولًا آخر: أنه يكفيه يمين واحدة، وبذلك يحصل في المسألة طريقان.

وقال القاضي [الحسين] في باب دعوى الدم: إن المدعي إذا نكل عن اليمين في صورة اللوث، لم يكن للمدعى عليه أن يحلف إلا بعد استئناف الدعوى، فإذا استؤنفت بدأنا بيمين المدعى عليه. قال: وإن كانوا- أي: المدعى عليهم- جماعة، ففيه قولان: أحدهما: يحلف كل واحد [منهم] خمسين يمينًا، لأن يمين كل واحد لإثبات براءة ذمته، فلا تثبت براءة ذمته بيمين غيره، وهذا ما اختاره في ((المرشد))، وصححه المارودي والبندنيجي والقاضي أبو الطيب وغيرهم وقالوا: الفرق بين هذا وبين ما لو كان المدعي جماعة، وحلفناهم، حيث قلنا: الصحيح أنها تقسم-: أن كل واحد من المدعى عليهم كالمنفرد في إيجاب القود وإلزام الكفارة، فكان كالمنفرد في عدد الأيمان، والواحد من المدعين لا يساوي المنفرد فيما يثبته، لأن الواحد يثبت كل الدية، وكل واحد عند الاجتماع يثبت بعضها، فحلف بحسب [ما] يثبته. والثاني: تقسم [عليهم] الخمسون على عدد رءوسهم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يذكر في حق اليهود أكثر من خمسين يمينًا، وإنا وزعت على العدد، لأنه لا مرد غيره، بخلاف المسألة السابقة، فإن الإرث فيها مرد. ولأن كل واحد من المدعى عليهم يدفع عن [نفسه] القود والكفارة، فتساووا في الأيمان، وكل واحد من المدعين يثبت بيمينه حقا له، فوزعت الأيمان على قدر حقوقهم، وقد صحح البغوي قول التوزيع هنا كما صححه ثم. وعلى هذا: فلو كانت الدعوى على اثنين: أحدهما حاضر، والآخر غائب- حلف الحاضر خمسين [يمينًا]، ثم إذا حضر الغائب حلف خمسة وعشرين. وكذا لو كان حاضرين، فنكل أحدهما، يحلف الآخر خمسين يمينًا، لأن البراءة عن الدم لا تحصل بما دونها. وهذا كله تفريع على الطريقة الصحيحة، وهي الجزم بتعدد اليمين على المدعى عليه إذا كان منفردًا. أما إذا قلنا بطريقة القولين في المنفرد، جرى قول الاكتفاء بيمين واحدة

[من كل واحد] ها هنا أيضًا. فرع: إذا ردت الأيمان على المدعى عليه، فإن حلف، لم يلزمه قود ولا دية. وإن نكل عن اليمين، ففي ((الحاوي)): أنه يرغم الدية، ولا يحبس. وهكذا إذا كانت الدعوى على جماعة ونكلوا. وكلام القاضي أبي الطيب وابن الصياغ في باب اليمين مع الشاهد- مصرح بأنه لا يقضي على المدعى عليه والحالة هذه بمجرد نكوله، وكلام القاضي الحسين والإمام وغيرهما يقضتيه- أيضًا- لأنهم قالوا: إذا نكل المدعى عليه عن اليمين، فهل ترد [على المدعي؟] على قولين أطلق الأصحاب حكايتهما. قلت: ومنهم الشيخ أبو حامد، كما حكيته في باب صفة القضاء: أحدهما: لا، لأنه نكل عن اليمين في هذه الخصومة، ولو رددنا عليه لكانت صيغة يمين الرد كصيغة أيمان القسامة، والخصومة متحدة، والمقصود واحد. والقول الآخر: أنها ترد، فإنه نكل عن اليمين في مقام، وهذا مقام آخر، فصار تعدد المقام كتعدد الخصومة، وهذا ما صححه الرافعي والبندنيجي. وقال الشيخ أبو محمد: إن هذين القولين مبنيان على أن يمين الرد هل تتعدد؟ فإن قلنا: لا، فاليمين مردودة على المدعي، فإن نكوله عن أيمان القسامة محمول على رغبته عن كثرة الأيمان، وطلبه الاقتصار على يمين واحدة. وإن قلنا: تتعدد يمين الرد كما تتعدد أيمان القسامة، فلا ترد اليمين عليه، لما ذكرناه من اتحاد المطلوب والخصومة. وقال آخرون: إن [قلنا]: يمين الرد تتعدد، فالقولان جاريان، وإن قلنا: يمين الرد تتحد، فترد. وقال قائلون: إن قلنا: يمين الرد تتعدد، فلا رد قولًا واحدًا، وإن قلنا: تتحدد، ففي الرد قولان: أحدهما: ترد، لغرض الاتحاد. والثاني: لا، فإن تكرر الأيمان على الصدق لا يضر، وإن فرض كذب، فاليمين الواحدة في معنى الأيمان.

وقد خص البندنيجي وابن الصباغ والبغوي والمتولي هذه القلولين في الرد بما إذا كانت الدعوى في قتل الخطأ، أو شبه العمد، أو في قتل العمد، وقلنا: إن القود يثبت بيمين القسامة، أما إذا قلنا: لا يثبت، فترد اليمين على المدعي بلا خلاف، لأنه يستفيد بها [ما لا يستفيد] بأيمان القسامة، وهو الاقتصاص. فإن قلت: هذا منهم رجوع إلى طريق الشيخ أبي محمد في بناء القولين على تعدد يمين الرد واتحادها، نظرًا إلى حصول فائدة من هذه اليمين- لم تكن حاصلة من اليمين الأولى، وقضيته: الجزم بأن المدعي قتل العمد لو أقام شاهدًا واحدًا، وامتنع من الحلف حيث يثبت له المال بيمينه- كما سنذكره- وطلب يمين المدعى عليه، فنكل- أن يرد على المدعي، لأنه لم يكن يستفيد باليمين الأولى القصاص، وبهذه يستفيده، وحينئذ ففي الجزم عند ظهور الفائدة نظر، لأنه إنما جاء من جهة أن اختلاف الثمرة يدل على اختلاف اليمينين، فلم تكن المردودة هي التي وقع [النكول عنها]، وإذا كان كذلك لزم] الجزم بالرد وإن لم تظهر فائدة فيه، لأن حقيقة يمين الرد لا تختلف، سواء ظهرت فائدة في بعض الصور، أو لم تظهر. نعم، هذا يحسن أن يعلل به الصحيح من القولين، والآخر يعلل بأن الواقعة واحدة، بدليل أنه [لا] يحتاج إلى استئناف دعوى، وكذلك حكى الأصحاب القولين كما حكيتهما في باب صفة القضاء فيما إذا أقام المدعي شاهدًا بالمال، وامتنع من الحلف، ونكل المدعى عليه عن اليمين التي ردها عليه المدعي، فهل يحلف المدعي؟ فجرى القولان وإن لم تظهر فائدة. وكذلك حكوا القولين فيما إذا كانت الدعوى في دم، ولا لوث، فعرضت اليمين على المدعى [عليه، فنكل، فعرضت اليمين على المدعي] فنكل، ثم ظهر لوث، ورام المدعي أن يحلف- فهل يمكن منه؟ وقضية ما قالوه الجزم بعدم التحليف، لعدم ظهور الفائدة. قلت: ما ذكرته من كون هذا رجوعًا إلى طريق الشيخ أبي محمد لا يأباه كلامهم، ولو صح لكان اللازم [عليه] صحيحًا، لكن كلام الشافعي يأباه، ويأبى

ما ذكرته من الالتزام- أيضًا- لأن القاضي أب الطيب قال: إذا نكل المدعي عن القسامة، والمدعى عليه عن اليمين أيضًا، فهل ترد على المدعي؟ قال الشافعي: إن كان في ردها إليه فائدة، ردت، وإن لم يكن في ردها فائدة، فهل ترد أم لا؟ فيه قولان. وإذا ظهر لك [ذلك]، علمت أن هذه الطريقة راجعة للطريقة الذاهبة إلى أن محل القولين إذا قلنا: إن يمين الرد تتعدد، أما إذا قلنا: تتحد، فترد، والله أعلم. وهذا كله ساقنا إليه ما أورده المارودي من ثبوت الدية عند امتناع المدعى عليه من الحلف، والذي يظهر صحته: عدم الثبوت، كما اقتضاء [كلام] غيره، لأن اللوث اقتضى ترجيح جانب المدعي، كما اقتضى إقامة المدعي شاهدًا بالمال ترجيح جانبه حتى جعلت اليمين في جنبته، وقد تقدم أنه لو أقام شاهدًا، وامتنع من الحلف، [وطلب يمين المدعى عليه، فامتنع من الحلف]- لا يثبت عليه المال [المدعي]، فكذلك ها هنا. نعم، حكينا ثم عن الشيخ أبي حامد: أن المدعى عليه إذا امتنع من اليمين، وقد أقام المدعي شاهدًا، ونكل عن الحلف، وقلنا: لا ترد على المدعي- أنه يحبس المنكر حتى يحلف، أو يعترف، لأنه قد تعين عليه، فلا يكون له إسقاطه، ومقتضى هذا التعليل: أن نقول بمثل هذا هنا. قال: وإن لم يكن لوث، حلف المدعى عليه، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه))، وقصة الأنصار لا تعارض هذا، لأنها مفروضة مع اللوث، فخرجت من عموم هذا الخبر، وأجري فيما عداها [على عمومه]، لأن الأصل براءة الذمة. قال: يمينًا واحدة في أحد القولين، للخبر السابق، فإنه أدخل الألف واللام في اليمين، وإدخال الألف واللام يقتضي الجنس، والجنس إذا كان غير محصور اقتضى ما يقع عليه الاسم، وهو إذا حلف يمينًا واحدة فقد أتى بما يقع عليه الاسم. ولأنها يمين من جانب المدعى عليه شرعت لقطع الخصومة، وإسقاط الدعوى، فوجب أن تكون واحدة كما في سائر الدعاوى.

قال: وخمسين يمينًا في الآخر، لأنها يمين مسموعة في دعوى القتل، لعدم البينة، [فوجب أن تغلظ بزيادة العدد، كما إذا كان هناك لوث. واحترزنا بقولنا: ((لعدم البينة)) عما] إذا أقام شاهدًا واحدًا في قتل الخطأ، فإنه يحلف يمينًا واحدة، ويستحق الدية، هكذا قال أبو الطيب، وهو يقتضي اتحاد اليمين عند إقامة الشاهد جزمًا، وهو ما أورده غيره [من العراقيين]. وحكى المراوزة القولين في التعدد فيها أيضًا. ولأن العدد معتبر عند اللوث، ولا يجوز أن يكون لأجله، فإن اللوث إنما يحصل البداءة باليمين دون التغليظ بالعدد، دليله: أن المدعى عليه يحلف الخمسين عند نكول المدعي، وليس هنا بداية باليمين، فدل على أن التغليظ بالعدد إنما شرع لحرمة الدم، وهو موجود، وهذا ما نص عليه هنا، وصححه أبو الطيب وغيره، وفي ((جمع الجوامع)) طريقة قاطعة به، وعليه فروع: أحدها: لو كان المدعى عليه جماعة، فقولان: أحدهما: يحلف كل واحد خمسين يمينًا. والثاني: يقسم الخمسون على عدد الرءوس، فإذا حلفوا برئوا، وإن نكلوا رددنا اليمين على المدعي، وكم يحلف؟ فيه قولان: أحدهما: يمينًا واحدة. والثاني: خمسين يمينًا. فلو كان المدعون جماعة، حلف كل واحد منهم يمينًا واحدة على القول الأول، وعلى الثاني قولان: أحدهما: خمسين يمينًا. والثاني: يقسط الخمسون على قدر مواريثهم، ويجبر الكسر، كما تقدم. وإذا حلف الواحد أو الجميع، استحقوا القصاص إن كانت الدعوى في قتل عمد قولًا واحدًا، لأن اليمين المردودة كالإقرار أو كالبينة، وكل منهما يجب به القود. ولو كان الدعوى في قتل خطأ أو شبه عمد، فهل تجب الدية على العاقلة، أو في مال الجاني؟ فيه قولان ينبنيان على أن يمين الرد مع النكول كالبنية أو

كالإقرار؟ فإن قلنا بالأول كانت على العاقلة، كما لو قامت البينة بالقتل، وإلا ففي مال الجاني، وهذا ما أورده العراقيون، والقاضي الحسين والفوراني عن القفال. ثم قال القاضي: إن فيه إشكالًا، لأن جعل ذلك كالبينة في حق الحالف والناكل، لا في حق ثالث، لأنه متقاصر عن البينة، ولأجل هذا حكى الإمام عن المحققين طريقة قاطعة بأنها على الجاني وإن قلنا: إن يمين الرد كالبينة، وهي ما حكاها الفوراني عن بعض مشايخه. الثاني: لو أقر المدعى عليه بالقتل عمدًا-[بالقتل]، ونفى العمد، فهل يغلظ عليه بالخمسين؟ قال القاضي الحسين وغيره: فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما في أصل القتل، وهو الصحيح. [و] الثاني: لا، لأن الموصوف آكد من الصفة. وإذا حلف: ما قتله عمدًا، فالدية في ماله، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب في باب الشهادة بالجناية في ضمن الفرع الثاني منه. فإذا حلف، هل للمدعي طلب الدية؟ قال المتولي: فيه قولان، بناء على أن الدية في الخطأ تجب على العاقلة ابتداء أم تلقيًا؟ فإن قلنا بالأول فليس له طلب الدية، لأنه ادعى حقًا على المدعى عليه، وهو اعترف بوجوبه على غيره. وإن قلنا: أنها تجب على الجاني أولًا، ثم تتحملها العاقلة- فينبني على الحلف في الصفة هل هو كالحلف في المصوف؟ وفيه قولان مذكوران في مسائل النكاح: إن قلنا: نعم، فكأنه ادعى مالًأ، واعترف بمال آخر لا يدعيه. وإن قلنا: لا، طالب بالدية. قلت: وفيما قاله نظر، لأن ظاهر قوله أن الكلام مفروض بالنسبة إلى مطالبة القاتل، وحينئذ فذاك إنما يكون عند تكذيب العاقلة [له]، ولا بينة، وإذا كان كذلك لم يحسن بنا إلزام القاتل الدية على أنها تجب على العاقلة ابتداء، لأن محل هذا الخلاف- كما دل عليه كلام الأصحاب- إذا كانت العاقلة معترفة، أو قامت بينة، لأنهم جزموا بأن الولي لو ادعى القتل خطأ، وكذبتهما العاقلة، ولا

بينة-: أن الدية تجب في مال الجاني، للخبر. ولو صح ما ذكره من البناء للزم أن يقال: لا تجب الدية عليه على قول، فلا جرم كان الظاهر- كما قال الرافعي- الوجوب على الجاني، وأنه الذي أجاب به أكثر من أورد المسألة. الثالث: كيفية يمين المدعى عليه على هذا القول الآخر- كما قال الشافعي-: أن يحلف ما قتل فلانًا، ولا أعان على قتله، ولا ناله من فعله ولا بسبب فعله شيء جرحه، ولا وصل إليه شيء من بدنه، لأنه قد يرمي فيصيب شيئًا، فيطير الذي أصابه فيقتله، ولا أحدث شيئًا مات منه فلان، لأنه قد يحفر البئر، ويضع الحجر، فيموت منه. وأراد الشافعي بقوله: ((ما قتل فلانًا))، أي: يوجبه بالذبح. وبقوله: ((ولا أعان على قتله))، أي: بالإكراه، والشركة في القتل. وعن [ابن] أبي هريرة أنه أراد به: الممسك في القتل، فإنه قاتل على مذهب مالك، فذكره احتياطًا لا شرطًا، وعند غيره هو واجب. وبقوله: ((ولا ناله من فعله))، أي: سراية الجرح، كما قاله البصريون، أو وصول السهم عن القوس، كما قاله البغداديون. وعلى كلا الوجهين فذكر ذلك واجب. وهذه الشروط الثلاثة في قتل العمد. وبقوله: ((ولا بسبب فعله شيء جرحه)) ينتفي السهم، كما قاله البصريون، وعلى هذا يكون شرطً رابعًا في قتل العمد. والبغداديون قالوا: أراد به أن يرمي [إلى] حائط بسهم أو حجر، فيعود السهم أو الحجر على رجل فيقتله، فعلى هذا يكون شرطًا في قتل الخطأ دون العمد. وبقوله: ((ولا وصل إليه شيء من يديه)): ما ذكره، وهو شرط في الخطأ دون العمد. [وبقوله: ((ولا أحدثت شيئًا مات منه فلان)): ما ذكره، وهذا شرط في الخطأ دون العمد].

قال الماوردي: [فإن قيل]: يمين المدعى عليه يجب أن تكون موافقة لدعوى المدعي إذا فسر، وعندكم أن الدعوى لابد من التفسير فيها، فلم اعتبر الشافعي بالتفسير في اليمين مع الاستغناء عنه بالدعوى؟ قلنا: للأصحاب في الجواب عن هذا ثلاثة أوجه: أحدها: أن هذا من قوله دليل على [جواز] سماع الدعوى مطلقة غير مفسرة، وجعلوا ذلك قولًا ثانيًا في المسألة، فخرجوا سماع الدعوى مطلقة في الدم على قولين بعد اتفاقهم على أنها لا تسمع في القسامة إلا مفسرة، لاحتياج المدعي إلى الحلف عليها، وإنما خرجوه فيما عدا القسامة. والثاني: أن الشافعي ذكره شرطًا وإن لم تسمع الدعوى إلا مفسرة، احتياطًا للمقتول وإن انتقل الحق إلى وليه. والثالث: أنه شرط ذلك في حق طفل أو غائب، إذا ادعى له القتل ولي أو وكيل، أما إذا كانت الدعوى من حاضر جائز الأمر، فليس ذلك بشرط. قال الأصحاب: ويستحب للحاكم أن يحذره من اليمين الفاجرة قبل تحليفه إن كان المدعي قتلًا [غير] عمد، ولا يستحب فيما إذا كان القتل يوجب القصاص، لأن القود يدرأ بالشبهة، كذا حكاه الماوردي. قال: وإن كان الدعوى على اثنين، وعلى أحدهما لوث دون الآخر- أي: مثل أن كان القتيل في دار أحدهما- حلف المدعي على صاحب اللوث، وحلف الذي لا لوث عليه، لأنه لو كان الوث عليهما حلف عليهما، ولو عدم اللوث لم يحلف على واحد منهما، فإذا كان اللوث على أحدهما خاصة اعتبر كل واحد منهما بنفسه، ويحتاج كل واحد من المدعي والمدعى عليه الذي لم يوجد اللوث في حقه- إلى أن يحلف خمسين يمينًا، لما تقدم أن الدم لا يستحق ولا يبرأ منه بأقل منها. قال: واللوث-[أي: الناقل لليمين إلى جنبة المدعي]- هو أن يوجد

القتيل في محلة أعدائه- أي: بسبب دين أو نسب أو ترةٍ تبعث على الانتقام بالقتل، لا يخالطهم غيرهم، أي: بسكنى ولا مرور، كما قالها الماوردي وأبو الطيب، وذلك الغير لا يعلم هل هو صديق أو عدو؟ كما قاله في ((المرشد)). [و] اعلم أن ((اللوث)) - بفتح اللام، وإسكان الواو-: قرينة حال تثير الظن، وتوقع في القلب صدق المدعى، مأخوذ من ((اللوث))، وهو: القوة، كما قال النواوي. وقيل: أصل اللوث: الضعف، يقال: رجل لوث، إذا كان ضعيف العقل، وكأنهم أرادوا به أنه الحجة الضعيفة. وعلى كل حال، فما ذكره الشيخ أمثلة له لا حد. وبدأ بما ذكره، لأن الأصل في هذا قتيل الأنصار [بخيبر، وخيبر كانت دار يهود محضة، وكانت العداوة بين الأنصار] وبينهم ظاهرة بالذب عن الإسلام، ونصرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقد فارق عبد الله أصحابه فيها بعد العصر، ووجد قتيلًا قبل الليل [كما قاله في الأم]، أو بعد المغرب كما قاله في ((البويطي))، مطروحًا في عين، أو فقير- وهو البئر القصيرة، القليلة الماء- وهذه الحالة تغلب في النفس أن ما قتله غير اليهود، فلذلك جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليمين في جانب الأنصار. وحكم المحلة والحلة حكم البلد من طريق الأولى، لأن انحصار القتل في أهلها المتصفين بما ذكرناه أقرب من انحصاره في [أهل] البلد. أما إذا كان في حلة الأعداء أو قريتهم أو محلتهم من يشركهم في سكناها: فإن كان من أهل المقتول أو أصدقائه فالحكم كما تقدم، صرح به في ((المرشد))، وعليه يدل الخبر، فإن بعض أصحابنا بخراسان، قال: إن كان الأعداء أكثر ثبت اللوث، نظرًا إلى معنى الحديث. ومنهم من رجح المعنى، فقال: لو كان فيها واحد من الأعداء كفى في ثبوت اللوث عليه، نظرًا إلى أن الأولياء في حقهم من حيث الظاهر، [فكان الظاهر] إضافته قتله إلى العدو الواحد. وإن كان ممن يجهل حاله، لم يكن لوثًا باتفاق الأصحاب.

وكذلك إذا مر بها من يجهل حاله، لحاجة أو تجارة، بأن كانت القرية على الطريق، عند القاضي أبي الطيب والماوردي، وإليه يرشد قول الشيخ: ((لا يخالطهم غيرهم))، كما هي عبارة القاضي الحسين والبندنيجي. وفي ((الرافعي)): أن منهم من اشترط ألا يساكنهم غيرهم، [ولم ير بأسًا بما إذا مر بها ليس بعدو، لتجارة ونحوها، وهو ما أورده القاضي الحسين في الفروع، وعلى هذا ينطبق قول ابن الصباغ: إنه يشترط ألا يسكن معهم غيرهم]. قال الرافعي: وهو الوجه، فإن خيبر كان يطرقها الأنصار. والقائل بهذا جزم بأنه لو كان لا يدخلها غيرهم بحال، كان ذلك لوثًا في حق أهلها، وإن لم يكن بينهم وبين القتيل عداوة، كذا قاله في ((الزوائد)). فرع: وجود بعض القتيل في المحلة كوجود كله، سواء كان ذلك البعض أكثر البدن أو بعضه، حتى إذا وجدت اليد أو الرجل، وتحقق فوات الروح- كان الحكم كذلك، قاله المتولي، وبعض هذا الحكم مذكور في ((الإنابة)). ولو وجد في كل محلة قطعة منه، قال المتولي: فيؤمر بتعيين من يدعي عليه على ما سبق. قال: أو تزدحم جماعة-[أي: محصورون]، كما قال الغزالي- على بئر، أو في دخول باب من الكعبة، وغيرها، أو على طواف، أو التقاط نثار، وغير ذلك، فيوجد بينهم قتيل، لإحاطة العلم بأن قتله لم يخرج عنهم، وسواء اتفقوا في القوة والضعف أو اختلفوا. قال الماوردي: وهكذا لو ضغطهم الخوف إلى حائط، ثم فارقوه عن قتيل منهم- كان لوثًا معهم. فأما إذا هربوا من نار أو سبع، فوجد أحدهم صريعًا- نظر: فإن [كان] طريق هروبهم واسعًا، فظاهر صرعته: أنها من عثرته، فلا يكون ذلك لوثًا. [وإن كان الطريق ضيقًا، فظاهر الصرعة: أنها من صدمتهم، فيكون ذلك لوثًا].

والمراد بالعدد المحصور: أن يكون بحيث يمكنهم اجتماعهم [على القتل]، فإن لم يمكن، فكلام الغزالي يشير إلى أن الدعوى لا تسمع عليهم، ولا يمكن من القسامة، كما مر. نعم، لو ادعى الولي القتل على عدد منهم يتصور اجتماعهم على القتل- قال الرافعي: فينبغي أن يقبل، ويمكن من القسامة، كما لو ثبت اللوث في حق جماعة محصورين، فادعى الولي القتل على بعضهم، فإنه يقبل. قلت: وفي هذا القياس نظر، وسأذكره عن قريب. ثم ظاهر كلام الشيخ والماوردي: أنه لا يعتبر في كون هذا النوع لوثًا [ظهور] العداوة. وفي [لم تكن] ثم عداوة، وجوزنا أن يكون القتل عن ضغطة وزحمة من غير عمد- حكاية وجهين: أحدهما: أن له أن يحلف على أصل القتل. والثاني: ليس له ذلك، وهو الأظهر في ((الرافعي))، لأنه متردد بين أن يغرم الدية فيه، كما يتردد هو في نفسه ين أن يكون عمدًا أو خطأ. هذا لفظ الإمام، وإيضاحه: أن مطلق القتل لا يفيد مطالبة القاتل، بل لابد من ثبوت العمدية، ولا مطالبة العاقلة، بل لابد وأن يثبت كونه خطأ أو شبه عمد، والتردد يمنع ذلك. وهذا الوجهان شبيهان بوجهين حكاهما الماوردي فيما إذا شهد عدل واحد بالقتل، ولم يبين كونه [عمدًا ولا خطأ: أحدهما: لا قسامة معه، لجهل بموجبها في قتل عمد أو خطأ. والثاني:] يحكم فيه بالقسامة، لأنه لا ينفك القتل عن عمد أو خطأ، ولا تمنع القسامة في واحد منهما، ويحكم له بعد القسامة بأخفهما حكمًا، وهو الخطأ، وتكون الدية في مال الجاني، لا على العاقلة، لجواز أن يكون عندا، فيستحق في ماله. ومن ها هنان يظهر لك أن التخريج الذي قاله الرافعي من قبل في كونه يعين

أشخاصًا، ويقسم عليهم، لأن تطرق الجهل إلى القاتل أكثر من تطرقه إلى صفة القتل، بخلاف المسألة المقيس عليها، فإن اللوث ثابت على الجميع، فلا جهل. ثم هذه المسألة مصورة بصورتين: إحداهما: أن يدعي القتل مفصلاً، فيقوم اللوث على ما ذكرناه، والحكم ما تقدم. والثانية: أن يدعي القتل مطلقًا، وسمعنا ذلك كما حكيناه عن بعضهم أنه حكاه قولًا مخرجًا، فيقوم اللوث على ما ذكرناه. وعلى هذه الحالة ينطبق قول البغوي: لو ادعى رجل أنه قتل أباه، ولم يقل: عمدًا ولا خطأ، وشهد له شاهد- لم يكن ذلك لوثًا، لأنه لا يمكنه أن يحلف مع شاهده، ولو حلف لا يمكن الحكم له، لأنه لا يعلم صفة القتل حتى يستوفي موجبه. وقد قال في ((الشامل)): إن الشيخ أبا حامد حكى هذا الجواب عن بعض أصحابنا. قال: أو تتفرق جماعة عن قتيل- أي: طري- في دار-[أي:] وما في معناها- مما تفردوا به من بيت أو بستان، لما ذكرناه. ولا يشترط أن يكون بينهم وبينه عداوة، بخلاف القرية والمحلة، لأن ما انفردوا به ممنوع من غيرهم إلا بإذنهم، فيغلب على الظن أن القتل منهم حصل، وليست القرية [و] المحلة ممنوعة من مار وطارق، فاعتبر فيها ظهور العداوة، لعدم الاحتمال، قاله الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم. فرع: لو وجد قتيل في دار، ولم يوجد فيها سوى عبده- كان ذلك لوثاً في حق العبد. قال البندنيجي والقاضي أبو الطيب والماوردي: ويستفيد الورثة به قتله على قوله القديم، وتقديم أرش الجناية على الرهن إن كان مرهوناً. قلت: وهذا منهم يقتضي أمرين: أحدهما: أنه يكفي في القسامة على القتل العمد مجرد ظهور اللوث على أصل القتل، لأن كونه لا أحد في الدار غير العبد يظهر منه كونه القاتل، لا كون القتل عمدًا أو غيره. وقريب منه قول الأصحاب: إنه إذا ثبت اللوث في [حق] جماعة، وادعى الولي على بعضهم، جاز، ويمكن من القسامة، فإنه كما لا يعتبر ظهور اللوث

فيما يرجع إلى [الإنفراد والاشتراك، جاز ألا يعتبر ظهوره فيما يرجع إلى] صفتي العمد والخطأ. وما ذكرناه في الفصل قبله عن الإمام والماوردي يدل على أن القسامة على القتل الموصوف بالعمدية، تستدعي ظهور اللوث بالقتل الموصوف بها، وكذلك ما سنذكره من بعد عند الكلام فيما إذا شهد أحدهما: أنه قتله بالسيف، والآخر: أنه قتله بالعصا. الثاني: أنه يقتضي أن الورثة إذا عفوا على الدية، أو كانت الجناية موجبة لها: أنهم يقدمون بها، وهذا وجه حكيناه في كتاب الرهن، فلا يمكن أن ينبني عليه المذهب، والله أعلم. قال: أو يرى القتيل- أي: طريًا- في موضع، لا عين فيه ولا أثر، وهناك رجل مخضب بالدم- أي: إما واقفًا، أو موليًا لم يبعد- لأن هذه قرينة صارفة للقتل إليه. وقول الشيخ: ((لا عين فيه ولا أثر)) اتبع فيه لفظ الشافعي، فإنه هكذا قال، وأراد: ألا يكون بذلك الموضع عين آدمي آخر، أو سبع، أو ذئب، أو حيوان قاتل، ولا أثر لهارب من آدمي وغيره: كرشيش الدم على غير الطريق، أو قدم إنسان آخر، أو آثار حيوان. قال الماوردي: فإن فقد شرط من الشرائط الربعة، لم يكن لوثًا. وأراد بالرابع: أن يكون طريًا، كما ذكرناه. ولم يعتبر الغزالي في ((الوجيز)) في الرجل الواقف أن يكون مخضبًا بالدم، وإن قاله في ((الوسيط)) كغيره، بل اكتفى بأن يكفون معه سكين ونحوها. وفي معنى هذا النوع: ما إذا رأينا من بعد رجلاً يحرك يده كما يفعل من يضرب بالسيف أو السكين، ثم وجدنا في الموضع قتيلًا، فإنه يكون لوثًا في حق ذلك الرجل، قال الفوراني والرافعي وغيرهما. قال: أو يشهد عدل: أنه قتله فلان، لأن قول العدل الواحد لا يثبت به المدعى، ويغلب على الظن صدقه.

قال البندنيجي: ولا فرق [بين] أن تكون الدعوى في قتل عمد أو غيره. نعم: إن كان القتل عمدًا حلف معه خمسين يمينًا، وإن كان خطأ، حلف معه يمينًا، وإن كان خطأ، حلف معه يمينًا واحدة. و [على] هذا ينطبق إيراد ابن الصباغ وغيره، ومرادهم بالعمد: الذي يثبت به القصاص على القديم، على العمد الذي لم يثبت معه قصاص أصلاً، كقتل المسلم الذمي، فإن هذا حكمه حكم قتل الخطأ في أصل إيجاب المال، لا في صفته، وقد نبه عليه في ((الحاوي)) في باب الشهادة بالجناية [وغيره]. وفي ((الحاوي)): أن شهادة العدل الواحد [لوث] في قتل العمد، أما في غيره فيحلف معه يمينًا واحدة، ويستحق المال، ولا يكون لوثًا. وفي ((التتمة)): أن شهادة العدل الواحد هل هي لوث؟ ينبني على [أن] الحكم يقع بالشهادة فقط، أو بها مع اليمين، أو باليمين فقط؟ فعلى الأخير يكون لوثًا، وعلى ما عداه لا. وحكى الإمام عن الأصحاب أنهم قالوا: إذا أقام المدعي شاهدًا واحدًا، وأراد أن يحسبه، ويقدره لوثًا، وما كان يثبت اللوث عند القاضي بجهة أخرى- فإنه يحلف خمسين يمينًا، وإن أراد ألا يقيمه لوثًا، ويحلف معه- على قياس اليمين مع الشاهد- فله ذلك. ثم قال: وهذا فيه اضطراب، فإنا إن قلنا: إنه يحلف مع الشاهد الواحد خمسين يمينًا، فلا فائدة لهذا التقسيم. قلت: بل قد تظهر فائدة، لأنه إذا حلف مع الشاهد احتاج أن يضيف في يمينه: ((وإن من شهد له صادق فيما شهد له به))، على وجه لم يورد هو وغيره سواه في باب اليمين مع الشاهد، كما سنذكره. وإذا حلف لا مع الشاهد لم يحتج إلى ذلك، فقد ظهر للتقسيم فائدة. قال الإمام: وإن قلنا: إنه يحلف مع الشاهد يمينًا واحدة، والقتل خطأ، فلا

معنى لتقسيم إرادته، وتكفيه يمين واحدة إذا رغب في ذلك، يحلفه القاضي، فإن الحجة إذا قامت ثبتت نتائجها، ولم يختلف الأمر بمقصود المدعين إذا كانوا مصرين على الدعوى. نعم: إن كان الدعوى قتلاً عمدًا، وقبلنا بأيمان القسامة- ثبت اللوث بالشاهد الواحد، فإن أراد القصاص حلف خمسين يمينًا، وإن اقتصر على يمين واحدة لم يثبت القصاص، وفي ثبوت المال تردد سيأتي في باب الشهادة على الجناية. وقال قبل ذلك: أقول: إن العدل الواحد الذي تقبل شهادته إذا أخبر بوقوع القتل على صيغة الإخبار، ثبت اللوث، فإنا لا نشترط في ثبوته مراتب الخصومات. وقريب من هذا قول الرافعي: لو تقدم قول العدل على الدعوى، فينبغي أن يكتفي به، لحصول اللوث، ولا يجعل السبيل فيه سبيل الشهادات المخصوصة لمجلس الحكم المسبوقة بالدعوى. قلت: خصوصًا إذا اكتفينا بإخبار الكفار والصبيان والفسقة. قال: أو يشهد جماعة- أي: يزيدون على عدد التواطؤ، ولا يبلغون حد الاستفاضة، كما قاله الماوردي من النساء والعبيد- بذلك، أي: إذا أتوا متفرقين من نواحٍ مختلفة، ولم يسمع بعضهم كلام بعض، ولم يختلفوا في موضع القتل ولا صفته، كما قاله الماوردي، لأن في هذه الحالة يغلب على الظن صدقهم مع كونهم ممن يقبل خبرهم في الشرع. قال ابن الصباغ: واشتراط مجيئهم متفرقين بحيث لا يظهر فيهم التواطؤ، فيه نظر، لأنه متى وجد عدد مجتمعون على ذلك، حصل الظن، وتجويز التواطؤ لا يمنع الظن، كتجويز كذب العدل الواحد في الظاهر. وقد حكى الرافعي هذا وجهًا، فقال: لو جاء النساء والعبيد [مجتمعين] فوجهان: أشهرهما: المنع، لاحتمال التواطؤ. وأقواهما: أنه لوث، لما ذكرناه. قال الماوردي والقاضي الحسين وغيرهما: ولو أتى المخبرون بالقتل على الهيئة التي وصفناها، وكانوا صبيانًا أو فسقة أو كفرة- ففي كون إخبارهم لوثًا وجهان:

أحدهما: نعم، لوقوع صدقهم في النفس، وهذا أصح في ((تعليق)) البندنيجي وغيره، وأقيس في ((الشامل))، والمختار في ((المرشد)). والثاني: لا، لأنه لا يعمل على قولهم في الشرع، وهذا ما أورده البغوي، ونسبه البندنيجي إلى أبي إسحاق. قال الرافعي: وبعضهم ينسب إليه الأول. وفي ((النهاية)): حكاية طريقه قاطعة في الفسقة بأن إخبارهم لوث، فإن أقوالهم على الجملة معتبرة، وعباراتهم صالحة للعقود والحلول، بخلاف [قول] الصبي، فإنه مسلوب العبارة، لا حكم للفظه و [لا] أثر لقوله. وقياس هذه الطريقة: أن تطرد في الكافر، وحينئذ إذا جمعت بين الطريقين جاءك فيهم ثلاثة أوجه، ثالثها، أن إخبار الفاسق ومن في معناه لوث، دون إخبار الصبيان. وعن ((المنهاج)) للشيخ أبي محمد: أنه يحصل اللوث بقول الصبيان والفسقة، دون الكفار. أما لو شهد بالقتل امرأة واحدة من عدول النساء، قال الماوردي: لم تكن بينة يحلف معها، ولا لوثاً، لنقصانها عن رتبة الشاهد الواحد. قال الإمام: وكنت أود لو قيل: كل من تقبل روايته يثبت اللوث بقوله، حتى يخرج منه الاكتفاء بقول امرأة ثقة وعبد موثوق به، وإن لم تظهر الثقة ولا نقيضها، فيخرج إلى تضافر الأخبار على وجه يغلب على الظن انتفاء التواطؤ. ولأجل هذا الاحتمال قال في ((الوجيز)): القياس: [أن] قول الواحد من العبيد والنساء لوث أيضاً. ولو شهد بالقتل من عدول امرأتان، قال في ((الحاوي)): لم تكونا بينة إن حلف معهما، وكانتا لوثًا كالرجل الواحد، ويحلف في العمد والخطأ خمسين يمينًا، ويحكم له بأيمانه. وهذا منه يدل على أن محل الكلام السابق في اشتراط التفريق وغيره عند شهادة النسوة: ما إذا كن مجهولات الحال. وفي ((التهذيب)): أن شهادة اثنتين من النسوة والعبيد كشهادة الجمع، وهذا ينفي ما ذكرناه من الاحتمال.

وقد عد من أقسام اللوث: أن يقع بين قوم حرب، فيقتل رجل في التحام القتال، فإنه يكون لوثًا في حق المخالفين له، وكذا إذا ترامى الصفان بالنبل والسهام، ولا التحام. ولو انتفى الترامي والالتحام فلا يكون لوثًا في حق المخالفين، بل يكون لوثًا في حق أصحابه، قاله أبو الطيب وغيره. وفي ((الحاوي)): أنه إذا التحم القتال، فإن كان بحيث يناله سلاح أصحابه خاصة، كان لوثًا بالنسبة إليهم، وإن كان بحيث يناله سلاح أضداده خاصة، كان لوثًا بالنسبة إليهم، وإن كان بحيث يناله سلاح الجميع ففيه وجهان: أحدهما- وهو قول البغداديين-: أنه يكون لوثاً مع أضداده خاصة. والثاني- وهو قول البصريين-: أن يكون لوثًا مع الفريقين، وفيما إذا لم يلتحم القتال: أنه ينظر: فإن كان أصحابه منهزمين، وأضداده طالبين، كان لوثًا مع أضداده [خاصة]. وإن كان العكس، وإن كان العكس، انعكس الحكم. وإن تساووا في الطلب، فعل الوجهين. وكذا عد من أقسام اللوث [قول القائل]: أمرضت فلانًا بسحري، لكنه لم يمت به، وإنما مات بسبب آخر، فيقسم الولي ويأخذ الدية، كما نص عليه في ((المختصر)). قال الإمام: وفيه قول مخرج: أنه ليس بلوث ولا قسامة فيه، لأن القسامة لتعيين القاتل بعد الاتفاق على القتل، وهنا الاختلاف في نفس القتل. والذي حكاه الماوردي والبندنيجي وغيرهما: أنه إن بقي [ضمنًا مريضًا] من وقت السحر إلى وقت الموت، فالقول قول الولي مع يمينه. وإن كان قد انقطع [عنه] ألم السحر وصار داخلًا خارجًا، فيحلف الساحر: لقد مات من غير سحره. ومن أقسام اللوث: لهج ألسنة الخاص والعام: إن فلانًا قتل فلانًا، كما قاله البغوي. ووجود القتيل قريبًا من قرية، وليس هناك عمارة أخرى، ولا من يقيم في الصحراء، فإنه يكون لوثًا في حق أهل القرية إذا وجدت العداوة، وكنا نحكم

باللوث لو وجد فيها، بخلاف ما لو وجد بين قريتين أو قبيلتين، ولم يعرف بينه وبين واحدة عداوة، فإنه لا لوث على واحدة منهما، لأن العادة جرت بأن يبعد القاتل القتيل عن فنائه، دفعًا للتهمة عن نفسه، قال المتولي. ومعاينة القاضي ما هو لوث كافٍ فيه، ولا يخرج على القضاء بالعلم، لأن القضاء يقع بالأيمان، قاله الإمام. ولا فرق عندنا في ثبوت اللوث بما ذكرناه بين أن يكون في القتيل جرح أو لا، ولا في البداية بالمدعي مع وجود اللوث بين أن يكون المدعي مسلمًا أو كافرًا، والمدعى عليه مسلمًا، ولا بين أن يكون [الولي] موجوداً حين القتل أو مختبئًا، ثم يبلغ، ويدعي. ولا أثر لقول القتيل: قاتلي أو جارحي فلان، لاحتمال كونه عدوًا له، وقصده ألا يعيش بعده، والخصم [و] إن جعل ذلك لوثًا، لظنه: أن هذه حالة يصدق فيها الكاذب، ويتوب فيها الفاجر، فيبعد اتهامه، ويغلب على الظن صدقه- فقد خالف أصله [في منع] الإقرار للوارث. قال: وإن شهد شاهد: أنه قتله فلان بسيف، وشهد آخر أنه قتله بالعصا- فقد قيل: هو لوث، لأنهما اتفقا على أصل القتل، ولا يبعد أن يغلط أحدهما لا بعينه في الوقت، وقد تقع واقعة لاشك في وقوعها، ويتمارى الناس في وقتها، وهذا ظاهر ما نص عليه في ((الأم))، كما قاله القاضي أبو الطيب، وأن المزني نقله، ولفظه: أن مثل هذا يوجب القسامة، وقد اختار هذه الطريقة أبو إسحاق المروزي، وصاحب ((المرشد)). وحكى في ((الحاوي)): أن أبا إسحاق قال: إن الربيع سها [في النقل]. وقيل: ليس بلوث، لأن كل واحد يكذب الآخر، فلا تحصل غلبة الظن، وهذا قول القاضي أبي حامد وأبي الطيب بن سلمة، وكذا ابن الوكيل، كما حكاه البندنيجي وابن الصباغ.

وقال الماوردي وغيره: إن الشافعي نص عليه في ((الأم))، والقائلون به غلطوا المزني. وبعضهم- وهو أبو حامد- قال: [إن] الشافعي إنما قال ذلك فيما إذا شهد أحدهما بالقتل، وشهد الآخر على إقراره بالقتل. وأبو الطيب قال: إنما قال الشافعي: ((ومثل هذا لا يوجب القسامة))، فأسقط الناقل ((لا)). وقيل: فيهما قولان: وتوجيههما ما ذكرناه، وهذه طريقة ابن أبي هريرة، تمسك فيها بظاهر النصين، كما قال الماوردي. وقال أبو الطيب: إنه جعل أصلهما: ما إذا قال أحد الوارثين: قاتله فلان، وقال الآخر: إنما قتله فلان، هل يبطل اللوث أم لا؟ كما سنذكره. وقد اختار هذه الطريقة الإمام، والمرجح فيها عند النواوي وغيره: أنه ليس بلوث. والطرق تجري فيما لو شهد أحدهما: أنه قتله غدوة، والآخر أنه قتله عشية، أو أحدهما: أنه قتله بالبيت، والآخر أنه قتله بالسوق، أو أحدهما: أنه قتله بالبصرة، والآخر: أنه قتله بالكوفة. ولا خلاف أنه لا يثبت القتل بشهادة واحد منهما مع حلفه يمينًا واحدة، [و] لا بشهادتهما من غير يمين. فإن قيل: لو شهد أحدهما: أنه قتله عمدًا، وشهد الآخر أنه قتله خطأ، وكان المدعى قتل العمد- فقد جزم ابن الصباغ والفوراني وغيرهما بأن أصل القتل يثبت مع أن اختلافهما في الصفة، وهو يوجب التكاذب، فأي فرق؟ قيل: للقفال في هذه المسألة جوابان: أحدهما: أن القتل لا يثبت- أيضًا- لما ذكر، وعلى هذا لا فرق، ويكون الحكم في كونه لوثًا أو لا كا تقدم. [والثاني: أنه يثبت أصل القتل- كما تقدم-] لأنهما تصادقا عليه، وإنما رجع اختلافهما إلى الصفة، فصار كما إذا ادعى الولي القتل [عمدًا]، وشهد

أحدهما على القتل عمدًا، والآخر أطلق الشهادة بالقتل، فإنه يثبت أصل القتل جزماً وعلى هذا قال الإمام: فالفرق أن شهادتهما إذا اختلفت في الآلة والزمان متكاذبتان في أمر محسوس، وإذا تعرضتا لذكر العمد والخطأ فيهما مطلقتان، فقد يحسب أحدهما العمد خطأ، والآخر الخطأ عمدًا. ثم قال: وهذا تكلف، والأصح أن أصل القتل لا يثبت في تلك المسألة أيضًا. وقد سلك غيره فيها طريقًا آخر، واختلفوا فيه. والماوردي قال: إذا وقعت الشهادة من أحدهما بالقتل عمدًا، ومن الآخر بالقتل خطأ- سأل القاضي كل واحد من الشاهدين عن صفة القتل الذي شاهده، فإن اتفقا عليها وجب على الحاكم اعتبار ذلك، فإن كان عمدًا حكم فيه بالقود، وإن كان خطأ حكم فيه بالدية على العاقلة. وإن اختلفا في الصفة فهو تعارض، لا يحكم فيه بعمد ولا خطأ. قلت: وفيما ذكره نظر، لأنه جزم فيما إذا اتفقا على صفة واحدة: أنه يعمل بموجبها، فإن كانت المسألة مصورة عنده بما ذكرناه من دعوى الولي العمد، فكيف يحكم بشهادة من شهد بالخطأ، وهو غير المدعي؟! وكذا إن كانت المسألة مصورة بما إذا ادعى الولي القتل خطأ، فكيف يحكم بالعمد، ودعوى الولي تنافيه؟! وقد صرح البغوي بأن الولي إن كان قد ادعى العمد- كما ذكرناه- فشهادة شاهد الخطأ لغو، فيحلف المدعي خمسين يمينًا، ويثبت موجب القسامة. وإن كان قد ادعى القتل خطأ كانت شهادة العمد لغوًا، فيحلف المدعي مع شاهد الخطأ، وتجب الدية على العاقلة. فهكذا ينبغي أن نقول عند اتفاق الشاهدين على صفة واحدة: لا يعمل بها إذا لم تكن موافقة للدعوى، وإن كانت المسألة مصورة عنده بما إذا أطلق الولي الدعوى، وجوزناه- كما حكيناه وجهًا- فينبغي أن يخرج بطلان شهادة من خالف [تفسيره عند الاستفصال ما شهد به على ما ادعى الولي القتل: عمدًا، أو خطأ، فاستفسر]، فظهر: أنه خلاف ما ادعاه، فإن في بطلان الدعوى خلافًا تقدم، فإنه

لا فرق بينهما، بل يظهر أن يكون بطلان الشهادة أولى. وابن الصباغ لما جزم بأن أصل القتل يثبت، قال: إنه يسأل الجاني، فإذا أقر بالعمد ثبت، وإن أقر بالخطأ، وصدقه الولي فذاك، وإن كذبه الولي، فللولي أن يقسم، لأن له بما ادعاه شاهدًا واحدًا، وذلك لوث، فإن حلف ثبت له القصاص في قوله القديم، والدية في الجديد في مال الجاني حالة، مغلظة. وإن لم يحلف حلفنا الجاني، فإن حلف وجبت في ماله [مخففة]، لأن الإقرار لا تحمله العاقلة. وإن نكل: فإن رأينا رد اليمين على المدعي، فحلف- ثبت موجب العمد، وإن نكل، أو قلنا: لا ترد عليه- ثبت أخف الديات، وهي دية الخطأ في مال الجاني، مؤجلة، لأنا لا نوجب على العاقلة دية ما لم يثبت أنه خطأ، وقد ثبت وجود القتل منه، فالظاهر وجوب الدية عليه، فأوجبناها. قلت: وهذا منه يدل على أن الحكم في هذه الحالة وقع عليه بالدية بموجب البينة، لا بإقراره بعد إقامة البينة: أن القتل وقع خطأ، بخلاف ما إذا حكمنا عليه بها، وقد صدقه الولي على قتل الخطأ، ومساق كلامه يقتضي أن المسألة مصورة بما إذا كان الولي قد ادعى قتل العمد كما صورنا المسألة، وإلا لما حسن منه أن يقول: فإن كذبه الولي فله أن يقسم، ويثبت القصاص في قوله القديم ... إلى آخره. وإذا كان كذلك فقد قدمنا أن شهادة شاهد الخطأ لغو، وإذا كانت لغوًا فكيف يمكن القول بإيجاب الدية مع أنه لم يكن معه [على] أصل القتل إلا شاهد واحد مجرد عن اليمين، وهي لا تثبت به؟! فإن قلت: لا نسلم حصر تصوير المسألة فيما ذكرت، بل يجوز أن تكون [مصورة] بما إذا كان الولي قد ادعى القتل مطلقًا، وجوزناه، كما حكاه قبيل باب دعوى الدم عن أبي إسحاق، ووجهه: بأن الدعوى في ذلك تكون بالظن دون العلم والمشاهدة، وحينئذ تكون الشهادتان مسموعتين، فلا منافاة بين قوله وبين [هذا] التصوير. قلت: القول بجواز الدعوى مطلقًا ليس بالصحيح، فكيف يفرع عليه، وعلى

تقدير صحة ذلك يلزمه إسقاط اللوث، لأن شهادة قتل الخطأ إذا كانت مسموعة كشهادة العمد، فقد عارضتها في الصفة، فتسقط، وحينئذ فلا يكون له أن يقسم على قتل العمد، لسقوط اللوث بالنسبة إلى العمد، وقد قال: إن اللوث ثابت، فدل على عدم سماع شهادة الخطأ. نعم، قد تكون المسألة مصورة بما إذا ادعى الولي قتل العمد، ويكون المأخذ في إيجاب الدية سماع شهادة الخطأ في أصل القتل، وإلغاءها في صفة الخطأ، ولذلك حسن إلحاقها بما إذا ادعى قتل العمد، وشهد له شاهد بالقتل عمدًا، وآخر بالقتل مطلقًا، وقد قال الأصحاب فيها [ما يوافق] قوله، وهو أن أصل القتل يثبت، حتى لا يقبل من المدعى عليه إنكاره، ويسأل عن صفة القتل، فإن أصر على الإنكار للأصل، قال له الحاكم: إن لم تبين صفة القتل جعلناك ناكلًا، ورددت اليمين على المدعي: أنك [قتلت] عمدًا، وحكمت عليك بالقصاص. وإن بين أن صفة القتل خطأ، فقد قام للولي على القتل عمدًا شاهد لم يعارضه غيره فيه، فهو لوث، فيحلف الولي، وتثبت له الدية مغلظة في ماله، والقصاص على القول القديم، كذا صرح به البندنيجي في هذه المسألة. لكن القاضي أبو الطيب والحسين وجماعة- كما قال الرافعي- أطلقوا القول في هذه الصورة بأن القول قول المدعى عليه في كون القتل خطأ، فيحلف يمينًا واحدة، وتكون دية الخطأ في ماله، لأنها تثبت بإقراره. وإن نكل حلف المدعي، واستحق القصاص، ولأجل هذا قال البغوي لو ادعى شخص على رجل: أنه قتل أباه عمدًا، فقال المدعي عليه، قتلته خطأ، أو شبه عمد-: إن القول في نفي العمدية قوله، سواء كان هناك لوث أو لم يكن. وقال الإمام: إن القول قول المدعى [عليه] في مسألتنا إذا لم يكن ثم لوث- أي: على قتل العمد- أما إذا كان فيقسم الولي. هذا حيد عن الطريق والصواب، كما أنه لوث إذا شهد بمعانية الفعل، وحينئذ فيبقى الكلام على الصورتين واحدًا.

[و] ما ذكره البندنيجي فتأمله تفهمه. نعم، ما قاله الإمام مستقيم على طريقة ابن الصباغ في المسألة التي [قرنها بهذه] المسألة، وجمع بينهما في الحكم، وهي ما إذا أقام شاهدًا: أنه أقر بقتل العمد، وآخر: أنه أقر بالقتل، ولم يقل: عمدًأ- فإن الشهادة على الإقرار بالعمد لا تكون لوثًا، وإنما يكون اللوث بالفعل، كما قاله ابن الصباغ، وعليه يدل قول الشافعي في الأم: ((لو شهد أحدهما: أنه أقر بقتله عمدًا، وشهد الآخر بأنه أقر بقتله خطأ- لم أحكم بهذه الشهادة)). وقال الأصحاب: إن معناه في الصفة، أما القتل فإنه يثبت، لأنه ليس بين شهادتهما تنافٍ، لكن يطالب ببيان صفته، فإن أقر بأنه خطأ، وصدقه الولي، ثبتت الدية في ماله مخففة، وإن كذبه الولي فالقول قول المشهود عليه، ولا يحلف للمدعي، [لما ذكرناه: أن] شهادة العدل الواحد بالإقرار بالعمد ليست بلوث، إلا أن القاضي الحسين والإمام وصاحب ((الحاوي)) قالوا: إنه لوث: والله أعلم. قال: وإن شهد واحد: أنه قتله فلان، وشهد آخر: أنه أقر بقتله- ثبت اللوث، لأنه لا تكاذب ولا تنافي، بل كل واحدة من الشهادتين مقوية للأخرى، لكن لم تتم الشهادة، لأنه غير متماثلة، لأن فعل القتل غير الإقرار به، فلم تتم الشهادة على واحد منهما. نعم، إن كان القتل خطأ، حلف مع أيهما شاء يمينًا واحدة، وقضى له بدية الخطأ على المشهور. ويجيء فيه القول الذي حكاه المراوزة: أنه يحلف خمسين يمينًا. وعلى كل حال: إن حلف مع الشاهد على فعل القتل، كانت الدية على عاقلته. وإن حلف مع الشاهد على إقراره بالقتل، كانت الدية في ماله. وإن كان القتل عمدًا لا يجب فيه القصاص، [كما] إذا كان القاتل مسلمًا، والمقتول ذميًا، ونحو ذلك- فالحكم كما تقدم، إلا أن الدية ها هنا في مال الجاني على كل حال. وإن كان [القتل] عمدًا موجبًا للقود، حلف المدعي خمسين يمينًا، ويحكم

له بالقود على قوله في القديم، وبدية العمد حالة على قوله في الجديد، وهذا ما حكاه الماوردي وابن الصباغ وغيرهما. قال: وإن شهد اثنان: أنه قتله أحد هذين الرجلين، ولم يعينا- ثبت اللوث على أحدهما، لثبوت قتل أحدهما له، فكان كما لو وجد بينهما قتيل، كذا قاله ابن الخل وغيره. ويوافق قول الشيخ ما ذكره الماوردي أن للولي أن يقسم على أحدهما، [وليس له أن يقسم عليهما، وكذا ما ذكره الإمام: أن للولي أن يدعي على أحدهما]، وهو مؤاخذ فيما بينه وبين الله تعالى: ألا يدعي إلا على ثبتٍ، وليس عليه أن يحقق لوثًا خاصًا في حق من يعينه منهما. وكلام أبي الطيب يقتضي مخالفتهما، فإنه قال: إذا شهد أنه قتله أحدهما يكون الولي بالخيار: إن شاء أقسم عليهما، أو على كل واحد منهما، وهذا يوافقه تعليل المسألة بالقياس على ما لو وجد قتيلًا بينهما. وقد أبدى الإمام لنفسه احتمالًا في أن ذلك ليس بلوث، ووجهه: بأن اللوث إنما يثبت في حق الجماعة إذا شملتهم العداوة، وكان القتيل في موع لا يشركهم فيه غيرهم، وفي هذه الصورة لم تكن العداوة شاملة لهما، بل لو شهد الشاهدان بأن أحدهما عدوه، لم تسمع هذه الشهادة، ولم يقطع بحصول اللوث. قلت: وما قاله من الاستدلال فيه منازعة، لأنا قدمنا: أن الجماعة إذا تفرقوا عن قتيل في دار كان ذلك لوثًا، وإن لم يكن بينهم وبينه عداوة، وكذا فيما إذا ازدحموا، وتفرقوا عن قتيل على وجه حكاه. ولأجل ما قاله الإمام حكى بعضهم ذلك وجهًا، والمنقول الأول. قال في ((الحاوي)): وهكذا الحكم فيما لو شهد بذلك شاهد واحد. ويحتمل وجهًا آخر: أنه لا يكون لوثًا مع الشاهد الواحد، وإن كان لوثًا مع الشاهدين، لأن الشاهد الواحد قد جمع بين صفتين: نقصان العدد، وعدم التعيين، بخلاف الشاهدين.

قال: وإن شهد شاهد على واحد: أنه قتل أحد هذين الرجلين، لم يثبت اللوث، لأنه لا يحل بذلك غلبة الظن بصدق واحد من الوليين على التعيين، للجهل بمن شهد له. وهذه المسألة والتي قبلها ذكرهما الشافعي في ((الأم)) مع ثالثة، وهي: إذا شهد شاهد بأنه قتل زيدًا، وشهد آخر بأنه قتل عمرًا، وقال: يثبت اللوث عليه لوليهما، لأنه يجوز أن يكون قتلهما. وقد قال ابن يونس في مسألة الكتاب الأخيرة: إن الحكم كما ذكره الشيخ فيما لو شهد شاهدان بذلك، اللهم إلا أن يكون وليهما واحدًا، فحينئذ يتجه إثبات اللوث. قال: وإن ادعى أحد الوارثين القتل على واحد في موضع اللوث- أي: مثل أن قتل في محلة لا يشرك أهلها فيها غيرهم- وكذبه الآخر- أي: فقال: ما قتله هذا، لأنه كان في وقت القتل ببلد لا يمكنه أن يصل إليه، وهو عدل- كما اقتضاه ظاهر كلام الشافعي- سقط اللوث [في أحد القولين]، لأن الله تعالى أجرى العادة بحرص القريب على درك الغيظ والتشفي من قاتل، قريبه، وأن الظاهر: أنه لا يبرئه من ذلك، فإذا كان الظاهر هذا، عارض اللوث الذي هو مظنون، فيسقطان، وهذا ما اختاره أبو إسحاق. وعلى هذا يكون الحكم كما لو لم يكن ثم لوث. قال: ولم يسقط في الآخر، كما لو كان ثبوت اللوث بشهادة عدل واحد، وكذبه، وهذا ما اختاره المزني. وعلى هذا قال: [بل يحلف]- أي: المدعي- خمسين يمينًا، ويستحق حصته، كما لو كان الوارث الآخر غائبًا أو صغيرًا. والصحيح في ((العدة))، وعند النواوي: الأول، وكلام القاضي أبي الطيب يقتضيه، لأنه قال بعد ذكر دليله: والجواب عما استدل به القول الآخر من وجهين: أحدهما: أن الشاهد أقوى، لأنه لو أقام في القتل عدلًا، وحلف معه يمينًا

واحدة- كفى، وفيما عداه من وجوه اللوث يحلف خمسين يمينًا، فلم يجز اعتبار الضعيف بالقوي. والثاني: أن الشاهد يشهد بما شاهده وقطع به، وليس كذلك اللوث، لأنه يفيد غلبة الظن، فكان الشاهد أولى. أما لو اقتصر المكذب على قوله: ليس هذا قاتل مورثي، فهل يغلي قوله، كما [لو] شهد الشاهد بمثل ذلك، أو يكون حكمه ما تقدم؟ فيه وجهان جاريان- كما قال أبو الطيب وغيره- في أنه هل يشترط في المكذب أن يكون عدلًا: أحدهما: نعم، إلحاقًا لذلك بالشهادة. والثاني: لا، وهو ما عليه أكثر الأصحاب، كما قال ابن الصباغ. والفرق: أن الأجنبي قد ينفي القتل عن القاتل، لعدم الحنو والشفقة بينه وبين المقتول، بخلاف القريب. وفي ((الحاوي)) حكاية الخلاف في الحالة الأولى، والجزم بأنه لا يشترط فيه العدالة، وجرمه بأنه لا يشترط فيه العدالة قد حكاه ابن الصباغ عن النص في ((الأم))، وأنه قال: العدل والفاسق فيه سواء، ولا خلاف أن أحدهما لو ادعى القتل على واحد، وقال الآخر: لا أعلم أنه قتله، أو أعلم ذلك، لكني لا أقسم أن اللوث لا يسقط، لكن يحلف المدعي خمسين يمينًا، ويستحق حصته. وكذا لا خلاف في أن المدعي عليه لو كذب المدعي، فقال: لم أكن وقت القتل في بلد القتل، بل كنت في بلد كذا- أن القول قوله مع يمينه، ويسقط اللوث، إلا أن يقيم المدعي بينة بأنه كان حاضرًا في محل وقوع القتل، فلا يسقط اللوث. والبينة: عدلان ذكران، لأنه يثبتان ما ليس بمال وإن [كان] يفضي إلى المال، كما نقول في الوكالة على المال، قاله القاضي الحسين، وقال: إن المدعى عليه لو أقام- أيضًا- بينة بأنه كان غائبًا وقت القتل بموضع لا يمكنه الوصول إليه، كانت بينته أولى، لأنها تثبت زيادة تنفيها بينة المدعي. قال الإمام: وهذا ليس بشيء، فإن الغيبة معناها كونه في مكان آخر، والحضور معناه: كونه في هذا المكان، ومن ضرورة الكون في مكان معين انتفاء الكون في

غيره، فيجيء التعارض، ولنا في التعارض مع اليد قولان: أحدهما: تسقطان، ويرجع إلى صاحب اليد، فعلى هذا نقول: يرجع إلى مدعي الغيبة، كما لو تكن بينة، ويحلف عليها. والثاني: استعمال البينتين، وترجح بينة صاحب اليد بيه من غير يمين، وعلى هذا نقول هنا: يترجح جانب مدعي الغيبة ولا يمين عليه، ولك أن تقول: هناك ترجحت بينة الداخل بيده، وهي أمر زائد على دعواه وبينته، وها هنا لم يوجد أمر زائد على الدعوى والبينة التي [ساواه الآخر] فيها، فكيف نلحق إحداهما بالأخرى؟! والله أعلم. ولو قال المدعى عليه بعد الحلف: لم أكن حاضرًا في موضع القتل، لم يقبل منه إلا ببينته، وهذا من الأصحاب دليل على أن الدعوى لو صدرت عند وجود اللوث، ولم تتضمن التصريح بالحضور، ولا قابلها اعتراف من المدعى عليه [بحضور ولا غيبة- أن الولي يقسم. وقد قال الإمام: إني تلقيت من كلام الأصحاب ما يوجب التردد في هذا وظاهر كلامهم: أن القسامة تجري، فإن المدعى عليه] لو كان غائبًا لذكر، وفي المسألة احتمال على حال. فروع: لو قال أحدهما عند وجود اللوث: قتل مورثي زيد ورجل آخر لا أعرفه، [وقال الآخر: الذي قتل مورثي عمرو، ورجل آخر لا أعرفه]- فاللوث باق، فإنه يجوز أن يكون الذي جهله أحدهما هو الذي عرفه الآخر، فلا تكاذب، ويقسم كل واحد منهما خمسين يمينًا، ويستحق ربع الدية على من عرفه. ولو رجعا بعد ذلك، وقال الأول: الذي كنت لا أعرفه قد عرفته، وهو عمرو، وقال الثاني: قد عرفت من كنت أجهله، وهو زيد- حلف كل واحد منهما على من تجددت معرفته به خمسين يمينًا على وجه جزم به بعضهم، وأخذ ربع الدية منه. وعلى وجه آخر حكاه البندنيجي: يحلف خمسة وعشرين يمينًا.

ولو قال الأول: قد عرفت عمرًا، وليس بقاتل مورثي مع زيد، وقال الآخر: قد عرفت زيدًا، وليس بالذي قتل مورثي مع عمرو- قال الماوردي: لا ينقض ما جرى، وهل يفضي ذلك إلى إسقاط [اللوث في] الباقي؟ فيه القولان. وكذا يجريان فيما لو اتفق مثل هذا القول قبل القسم. والبندنيجي وابن الصباغ حكيا القولين في الحالين، وهو ظاهر إطلاق لفظ ((المختصر))، وهو يقوي الوجه الصائر على أن مجرد نفي القتل يكفي في التكاذب، كما تقدم. ولو قال أحدهما: قتل مورثي زيد وحده، وقال الآخر: قتله زيد وعمرو فالتكاذب ثابت، فإذا قلنا: لا يسقط اللوث، حلف الأول خمسين يمينًأ، [وأخذ من زيد نصف الدية، وحلف الثاني خمسين يمينًا] على زيد وعمرو، واستحق على واحد منهما ربع الدية. وإن قلنا: يسقط اللوث، فالثاني يكذب أخاه في نصف دعواه، فيحلف الأول، ويستحق على زيد ربع الدية، وهو الذي صدقه أخوه [فيه]، ولا يحلف على الربع الآخر، لتكذيب أخيه فيه، وأما الثاني فيحلف على زيد، ويستحق عليه ربع الدية، وهو القدر الذي يديعه عليه، ولا يحلف على عمرو، لأن أخاه يكذبه فيه. قال: ولو ادعى القتل على رجل مع اللوث، فأقر آخر أنه قتله- لم يسقط حق الولي من القسامة- أي: إذا لم يطالبه بموجب إقراره- لأنه ليس بشاهد، ولو كان شاهدًا لم يقبل [قوله] وحده في إسقاط اللوث. أما إذا طالبه بما أقر به، بطل اللوث بالنسبة إلى الأول، ووجب عليه رد ما أخذه منه، وهل يؤاخذ المقر بموجب إقراره؟ فيه قولان حكاهما ابن الصباغ وغيره، وقال الإمام: المذهب المؤاخذة. وقد حكى البندنيجي مثلهما قبيل باب ما للحاكم أن يعلمه من الذي له القسامة فيما إذا قال أولياء القتيل: ما قتل مورثنا فلان، وإنما قتله فلان، فقال من نفوا القتل عنه: ما قتله إلا أنا. ووجه الجواز: أنه اجتمعوا على التصادق، وكذب الأولياء فيما ذكروه أولًا

ليس أمرًا بدعًا مع أنه قول لم يستند إلى يقين، بخلاف دعوى القتل، فإنها مستندة إلى يقين، فاعتبرت. وقد جزم البندنيجي والقاضي أبو الطيب في باب ما يسقط اللوث بأنه لا يطالب المقر في مسألتنا، لأنه لما ادعى القتل على المنكر فقد أبرأ هذا المقر من القتل، فلا يستحق عليه شيئًا، كما لو قال من [في] يده دار: هي لك ولا تثبت لي. قال: وإن [كانت] الدعوى في طرف، فاليمين على المدعى عليه- أي: وإن كان ثم لوث: هو شاده، أو غيره- لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه)). ولأن القسامة دخلت لحرمة النفس، فلا تدخل فيما دونها، كالكفارة. ولأن القسامة إنما كانت في النفس، لأن المقتول لا يمكنه أن يعبر عن نفسه، وليس كذلك الجناية فيما دون النفس، فإن المجني عليه يمكنه أن يعبر عن نفسه، فلم يحكم له بالقسامة، لاستغنائه في الغالب عنها. قال: وفي التغليظ بالعدد قولان: وجه المنع: أنه لما سقط حكم اللوث فيه، شابه المال، والمال لا تغليظ فيه بالعدد. ووجه الوجوب: أنه لما استوى حكم النفس وما دونها في وجوب القود، وتغليظ الدية تغليظًا لحكم الدماء- استويا في التغليظ بعدد الأيمان. وقد حكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد روى الخلاف في المسألة وجهين، وقال هو وشيخه القاضي أبو الطيب، والماوردي، وغيرهم: إنه [على] قولين، وإنهما مفرعان على قولنا بالتغليظ بالعدد في دعوى النفس حيث لا لوث، أما إذا قلنا ثم: لا تعدد، فها هنا أولى. وخص الشيخ أبو حامد الخلاف بما إذا كانت الدعوى بالعمد الموجب للقصاص، وقال: لو كانت بالخطأ أو شبه العمد، ولا لوث- كانت اليمين واحدة، لأن المدعى مال محض، فشابه سائر الأموال، كذا حكاه في ((الزوائد)) عنه.

وعلى ذلك جرى ابن الصباغ، ولم يحك سواه. والبندنيجي صور المسألة بما إذا كانت الدعوى بالعدم، وسكت عما سواه. وكلام القاضي أبي الطيب والماوردي يقتضي إطلاق القولين في كل الأحوال، وعليه ينطبق قول الرافعي: إن الأكثرين لم يفرقوا بين العمد وغيره، كما في النفس. ثم إذا قلنا بالقول الثاني، فإن كان الطرف مما تكمل فيه دية النفس من غير زيادة ولا نقص: كالأنف، واللسان، واليدين، والرجلين- غلظ بخمسين [يمينًا]. فلو كان المدعى عليه جماعة، جاء القولان في أن كل واحد يحلف خمسين يمينًا، أو ما يخصه منها إذا وزعت على عدد رءوسهم. وإذا اختصرت قلت- والحالة هذه-: فيما يحلفه كل واحد منهم ثلاثة أقوال: يمينًا واحدة. خمسين يمينًا. ما يخصه من الخمسين. وإن كان الطرف مما يستحق به بعض الدية: كإحدى اليدين، والموضحة، والأنملة- ففيما يغلظ به من العدد قولان: أحدهما: خمسين يمينًا، وهو أصح عند المتولي وغيره، كما قال الرافعي. وعلى هذا إذا كان المدعى عليهم جماعة، فالحكم كما تقدم. والثاني: تقسط الأيمان على الدية، [ويغلظ فيما دونها بقسطها من كمال الدية]: فإن وجب نصف الدية: كإحدى اليدين، وغلظت بخمس وعشرين يمينًا. وإن أوجبت ثلث الدية: كالجائفة، [غلظت] بسبعة عشر يمينًا بما فيها من جبر الكسر. وإن أوجبت عشر الدية، غلظت بخمس أيمان. وإن أوجبت نصف عشرها: كالموضحة، غلظت بثلاثة أيمان. وإن أوجبت ثلث عشرها: كالأنملة من غير الإبهام، لغظت بيمينين. وحينئذ [يجتمع] فيما يلزم كل واحد في الطرف الذي يجب فيه نصف

الدية إذا كانوا خمسة- مثلًا- خمسة أقوال: يمينًا واحدة. خمسين يمينًا. خمسة وعشرين يمينًا. عشرة إيمان. خمسة أيمان. وإن [كان] الطرف مما يستحق به أكثر من الدية، مثل: قطع الذكر، والأنثيين، واليدين، والرجلين، فهل تكون الزيادة على الدية موجبة لزيادة العدد في الأيمان؟ فيه وجهان في ((الحاوي))، وقربهما الإمام من الخلاف في أن مدة الضرب على العاقلة، هل تزاد على ثلاث سنين إذا زادت الأروش؟ ووجه عدم الزيادة هنا: أن الخمسين [غاية العدد في التغليظ، فلم يحتج إلى تغليظ آخر. ووجه مقابله: أن الخمسين تغليظ مقدر] في دية النفس، فصار غاية فيها، ولم يصر غاية فيما زاد عليها، فعلى هذا: إن كان الواجب ديتين، تغلظ الأيمان بمائة يمين، وإن وجبت دية ونصف، تغلظت بخمس وسبعين، وعلى هذا القياس، ولا يخفى التفريع فيما إذا كانوا جماعة مما تقدم، والله أعلم. تنبيه- ضمنه مسائل نختم بها مسائل اللوث-: قول الشيخ: ((فإن كان الدعوى في دم، فإن [كان] هناك لوث، حلف المدعي خمسين يمينًا، ويقضى له بالدية))، يفهمك أمرين: أحدهما: أن ما ذكره ثم إلى هنا مفروض فيما إذا كان المجني عليه حرًا، لأن دعوى دم النفس هو الأصل فيما ذكره، وما بعده يتفرع عليه، وقد قال: إن المقضي به الدية، والدية إنما تجب في قتل الحر، وحينئذ فينحصر مراده بالمدعي الذي يقسم في الوارث بسبب قرابة أو نكاح، [أو ولاء]، لأن بيت المال

وإن كان وارثاً، فلا يقسم عنه، بل للإمام الدعوى، فإن أنكر المدعى عليه، وحلف عند عدم البينة- انفصلت الخصومة، وإن نكل فحكمة ما تقدم. أما لو كان المدعى دمه عبدًا قنًا، أو مدبرًا، أو معلقًا عتقه بصفة، أو مكاتبًا، أو أم ولد- فللأصحاب في القسامة على ذلك عند وجود اللوث طريقان: الأكثرون منهم- كما قال الماوردي- قالوا: في المسألة قولان، بناء على القولين في أن العاقلة هل تتحمل قيمة العبد أم لا؟ فإن قلنا: تتحمل قيمته كدية الحر، ثبتت القسامة فيه، وإن قلنا: [لا] تتحمل قيمته كقيمة البهيمة، فلا قسامة فيه، ويكون القول قول المدعى عليه. وهذه الطريقة لم يحك الإمام والفوراني سواها. وذهب ابن سريج والمحققون من أصحابنا- كما قال الماوردي وغيره- إلى القطع بجريان القسامة فيه، كما نص عليه في ((المختصر))، لأنها إنما تثبت تغليظًا لدم الآدمي، وتعظيمًا له، وهذا موجود في دم العبد، تدل عليه الكفارة والقصاص. وقد حكى هذه الطريقة القاضي الحسين أيضًا، وأبداها الإمام تخريجًا لنفسه، وعليها نقول: إن كان القتل خطأ، أو عمد خطأ، والمدعى [عليه حر]- فالقيمة تجب بعد القسامة، وهل تتحملها العاقلة؟ فيها الخلاف السابق. وإن كان القتل عمدًا تعلقت بذمته، [و] إن كان القاتل عبدًا تعلقت القيمة برقبته بعد القسامة، ويجيء في القصاص القولان، كذا حكاه العراقيون، لكن من المقسم ها هنا؟ ينظر: فإن كان السيد حرًا مكلفًا، فهو، سواء كان المقتول يتصرف فيه عبد سيده المأذون له في التجارة، أو لا، لأن السيد مالكه. وإن كان مكاتبًا فكذلك يقسم هو، فإن عجز قبل القسامة، أو مات على كتابته قبل النكول- أقسم المكاتب أو وراثه عند فقده دون ما إذا كان قد نكل. وإن كان مالك العبد أم ولد، أو عبدًا قنا- تفريعًا على القول القديم في أن العبد يملك بتمليك السيد- فهل يقسم؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأنه المالك، فأقسم كالمكاتب.

وعلى هذا تكون القيمة المأخوذة ملكًا له. فإن لم يقسم أقسم السيد. والثاني: لا، والمقسم السيد وورثته من بعده. قال في ((الفروع)): وهو المنصوص، وبه جزم المسعودي. والفرق: أن ملكه ناقص، بدليل أنه لا يملك البيع من السيد ولا الشراء منه، بخلاف المكاتب. وعلى هذا تكون القيمة المأخوذة ملكًا للسيد، صرح به الماوردي وغيره من العراقيين. وقال الإمام: إن الخلاف في قسامته ينبني على مكله: هل يزول بالإتلاف أم لا؟ وفيه وجهان: فإن قلنا: يزول [بالإتلاف]، فالمقسم السيد. وإن قلنا: لا يزول، فهل له أن يقسم؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون. ووجه المنع: ضعف ملكه، والقسامة تستدعي ملكًا قويًا، وسلطنة، واستيلاء. وعلى هذا: فلا يقسم السيد أيضًا، كما قاله العراقيون، لأنه لا ملك له. وإن استرجع السيد، وأعاد القيمة إلى ملكه فكذلك لا يقسم، لأن ما لم يثبت للعبد كيف يخلفه السيد [فيه]؟! وعلى الأول: [لو رجع السيد] قبل أن يقسم [العبد] فقد قالوا: لا يقسم أيضًا، فإن العبد لما قتل لم [يكن] ملكًا للسيد، ولم تنقلب القيمة إليه حينئذ، وإنما يثبت الملك له بالاسترجاع، فهو حق جديد، فلا يقسم عليه. قال: وهذا فيه نظر، بل يجوز أن يقال: للسيد أن يقسم إذا استرد على مذهب الخلافة، كالوارث مع الموروث. ولو كان السيد قد أوصى بهذا العبد لأم ولده، فقتل، وهناك لوث، فأقسم السيد- فيأخذ القيمة، وتبطل الوصية، ذكره في ((التهذيب)). ولو أوصى لها بقيمة العبد، فقتل في حياة السيد، فهو المقسم، فإن لم يقسم حتى مات، فالمقسم الورثة.

وكذا لو قتل بعد موت السيد، فالمقسم الورثة. قال القاضي أبو الطيب: فإن أقسموا استحقوا، ودفعوا إلى الأبد إلى أم الولد القيمة. قال الأصحاب: وإنما أقسم الورثة وإن كانت القيمة للمستولدة، لأن العبد يوم القتل كان للسيد، والقسامة من الحقوق المعلقة بالقتل، ويرثونه كما يرثون سائر الحقوق، وتثبت القيمة [له] ثم يصرفونها إلى المستولدة بموجب الوصية، ولهم غرض ظاهر في تنفيذ الوصية، وتحقيق مراده، ولهذا كان لهم قضاء ديونه من أموالهم إن لم يخلف تركة، ويجب على رب الدين القبول، بخلاف ما لو تبرع أجنبي بقضاء الدين، فإنه لا يجب على مستحق الدين قبوله. قال الإمام: وغالب ظني: أني رأيت لبعض الأصحاب خلافًا في أن الوارث- أيضاً- إذا لم يخلف من عليه الدين شيئًا، لا يلزم رب الدين القبول. [ثم قال:] ومن ظن أن إقسام الورثة يؤخذ من ثبوت الملك لهم في الموصي به أولًا، فقد أبعد. قال: وبمثله لو أوصى رجل لإنسان بعين من أعيان أمواله، ثم مات الموصي، فجاء من يدعي استحقاقها- فهل يحلف الوارث لتنفيذ الوصية، أم كيف السبيل فيه؟ قلنا: فيه تردد وفضل نظر، يجوز أن يقال: الوارث يحلف حتى إذا ثبتت العين، استمرت الوصية. ويحتمل أن يقال: إذا قتل الموصى له فالخصومة تتعلق به، وليس كصورة القسامة، فإن القسامة من خواص القتل، وحقها أن تستند إلى القتل، ولا يربط الاستحقاق إلى ما تقدم، فيحمل الأمر على الحال، وهو فقه حسن. والذي أورده [الماوردي] وصاحب ((البحر)) في كتاب الأقضية، واليمين مع الشاهد: أن الوارث يحلف، لكن لو امتنع من اليمين فهل يحلف الموصى له؟ فيه طريقان: أحدهما: طرد القولين فيما لو كان [الموصى] به دينًا، كالغرماء. والثاني: القطع بالحلف، لأن حق الورثة قد سقط من العين بقبول الموصى

له، بخلاف الدين، بدليل أن هلم توفية الديون من عين التركة، وليس لها إبدال العين الموصى بها. فإن نكل الورثة عن القسامة، فهل تحلف أم الولد؟ فيه قولان، كما في غرماء المفلس: الجديد: لا. والقديم: نعم. وهما جاريان في غرماء الميت إذا امتنع الورثة من اليمين، وفي الأمة المرهونة إذا استولدها الراهن، وادعى أنه وطئها بالإذن، وامتنع المرتهن عند إنكار الإذن من الحلف، وكذلك الراهن- في أنها هل تحلف أم لا؟ قاله البندنيجي وغيره. ثم إن قلنا: إن لأم الولد الموصى لها أن تحلف عند امتناع الورثة من الحلف، فلها أن تطلب يمين المدعى عليه. وإن قلنا: لا تحلف، فلا تطلب يمينه، لأن اليمين إنما يطلبها من ترد عليه لو نكل المدعى عليه، ولا يمكن الرد عليها إذا قلنا: إنها لا تقسم، كذا قاله ابن الصباغ حكاية عن القاضي أبي الطيب عن الأصحاب. وظاهر النص يقتضي أن لها طلب اليمين، وكذا غرماء المفلس وإن لم يسغ لهم الحلف، لأنه قال- كما حكاه الإمام والقاضي-: ولو لم تقسم الورثة، لم يكن لهم ولا لها إلا أيمان المدعى عليهم. قال الإمام: والمسلك الحق العمل بظاهر النص [وأن لها طلب اليمين]، وإن لم يسغ لها الحلف. قال: وعلى هذا إذا رد المدعى عليه اليمين عليها، حلفت، وليس تحليفها يمين الرد أيمان القسامة، لأن أيمان القسامة لا تثبت إلا القتل، ويمين الرد تثبت المالك الناجز من غير حاجة إلى الالتفات على سابق. وكذا على هذا لها أن تدعي ابتداء، ولا تتوقف دعواها على إعراض الورثة عن الطلب. ولا خلاف أن للورثة الدعوى والطلب عند الامتناع من القسامة، لما أشرنا إليه

من حق الخلافة. فرع: لو قطع يد عبد في محل اللوث، ثم أعتق، ثم مات بالسراية- فالواجب على الجاني دية حر للمولى، منها على الصحيح أقل الأمرين من نصف القيمة وكل الدية. فإن كان أقل الأمرين الدية، كان المقسم السيد دون الورثة، لأنهم لا يأخذون شيئًا، فلا يقسمون. وحكى المراوزة وجهًا آخر: أن السيد لا يقسم- أيضًا- إذا قلنا: إنه لا قسامة في العبد، لأنه إنما يستحق بجهة الرق، وقد نسب هذا الوجه إلى أبي إسحاق، وعلل بأنه لو أقسم لكان مقسمًا على ارش الطرف. والمذكور في ((الشامل)) و ((تعليق)) القاضي أبي الطيب وغيرهما: الأول. وإن كان أقل الأمرين نصف القيمة، أقسم الوارث، وفي إقسام السيد الخلاف السابق. فإن قلنا: لا يقسم، أقسم الوارث خمسين يمينًا. وإن قلنا: يقسم، فالسيد هنا كوارث آخر، فيكون فيما يحلفه كل واحد منهما قولان: أحدهما: خمسين يمينًا. والثاني: ما يخصه [منها] باعتبار المأخوذ من الدية، ويجبر الكسر. الأمر الثاني: أن الذي يقسم على دم الحر عند قيام اللوث من يقضي له عقيب حلفه [بالدية]، ومن ها هنا جاءنا خلاف حكاه الأصحاب في أن ولي الدم لو ارتد بعد القتل، هل يقسم في حال ردته، ويعتد به، أو لا يعتد به؟ فقال فريق منهم- وهو ابن أبي هريرة، وابن خيران، وابن الوكيل-: إن ذلك ينبني على أقوال الملك: فإن قلنا: إن [ملك] المرتد قد زال، لم يقسم، لأنه لا استحقاق له حتى [يثبته بيمينه].

وإن قلنا: [إن] ملكه باق، أو موقوف- يقسم. وباقي الأصحاب قالوا: يعتد بيمينه في الردة قولًا واحدًا، كما هو ظاهر نصه في ((المختصر))، لأنا وإن قلنا: إن ملكه زال، فإن ارتداده لا يمنع صحة ملكه، يدل على ذلك أنه يصح أن يحتطب، ويملك، ويزال ملكه عنه. وبالغ البندنيجي في ذلك، فقال بعد حكاية قول الأولين: وهذا قول من لم يعرف حكم المرتد، فإن الأقوال في ماله الموجود حين ردته، فأما ما يكسبه من المال، ويستأنفه من الملك بعد الردة- فإنه يثبت له حال الردة قولًا واحدًا، ولا يقال: يؤخذ من يده، ويحجر على ما يكسبه حال ردته. قلت: وفي هذا نظر من وجهين: أحدهما: يظهر لك مما ذكرناه في باب الردة. والثاني: أنه سلم أن الأقوال فيما يملكه قبل الردة، ولا شك أنا نقول: [إن]- الدية مملوكة له قبل الردة هنا، لأن اليمين لا توجب، وإنما تكشف ما وجب بالقتل، وهو متقدم على الردة، فلا جرم حسن من الأولين البناء على أقوال الملك. وقد اتفق الكل- كما قاله أبو الطيب- على استحباب ترك اليمين في حال الردة، لأنه لا يتورع عن اليمين الفاجرة، لكفره. وقد حكي عن المزني: أنه لا يعتد بيمينه في حال الردة مطلقًا، ولا يستحق بها الدية، لهذا المعنى. ويظهر أن يكون في المذهب قولٌ يوافقه، لأن البندنيجي قال: إذا قلنا: تقع يمينه موقعها، فهل تثبت الدية بقسامته؟ المذهب: أنها تثبت. وقال الربيع: فيها قول آخر: أنها لا تثبت بقسامته، ولا يعرف للشافعي. وعن ((جمع الجوامع)): أن القاضي أبا حامد روى ذلك قولًا مخرجًا. ودليل المذهب في صحة يمينه: أن الكفر لا يمنع صحة اليمين، دليله: صحة يمين الوثني، كذا قاله أبو الطيب. وقد حكى الرافعي: أنا إذا صححنا يمينه على قول الوقف، ومات، أو قتل على الردة- ففي ثبوت الدية لأهل الفيء وجهان، وظاهر النص الثبوت.

وحكي عن آخرين: أنا إذا قلنا بالوقف، ففي صحة القسامة وجهان. وقال: إن هذا أحسن موقعًا. ووجه الصحة: أنه يحتمل أن يعود إلى الإسلام، فتكون الدية له، والقسامة كما تجري عند تبين الاستحقاق، تجري عند الاحتمال، كما ذكرنا فيما إذا كان في الورثة خنثى أو غائب. ولك أن تقول: هذا ساقه في معرض تقرير كون الدية تكون فيئًا بعد التبين: أن يمينه وقعت، ولا ملك له، وقد تقدم أن الخنثى لو أقسم، ثم ظهر أنه غير مستحق- لا يعتد بيمينه، فلا يسحن الاستشهاد به هنا. وحكم قسامة سيد العبد إذا ارتد قبل القتل أو بعده، حكم الوارث إذا ارتد بعد القتل. فرع: لو جرح رجلًا، ثم ارتد المجروح، ورجع إلى الإسلام، ومات- فإن كان زمن الردة يسيرًا، ليس له تأثير في النفس- فالواجب دية كاملة، ويقسم الورثة، ويستحقونها، وهل يستحقون القصاص؟ على القديم إذا كان المدعى قتل العمد فيه قولان: فإن مضى في الردة زمن يسري فيه الجرح أقسموا، ولا قصاص قولًا واحدًا. ثم إذا قلنا: يجب جميع الدية، أقسم المدعي خمسين يمينًا، وكذا إن أوجبنا القسط من الدية، لما تقدم: أنه لا يستحق شيء من دية إلا باستكمال الخمسين. وفي ((الحاوي)) وجه: أنهم لا يقسمون، لذهاب اللوث بالسراية في الردة، وقد حكاه القاضي الحسين أيضًا. قال: ومن لزمه يمين، [أي]: إما لكونه مدعى عليه، أو مدعيًا، وقد ردت عليه اليمين، أو أقام شاهدًا واحدًا فيما يقضي له [به] باليمين مع الشاهد في بعض الصور، أو كان هناك لوث في محل يؤثر فيه. قال: في غير مال: أي: مما لا يثبت إلا بشاهدين، كما قاله الماوردي وغيره، وهذا تدخل فيه الشهادة على الرضاع، والولادة، وعيوب النساء، لأنه ليس قبول

شهادة النساء وحدهن فيها، لقلة خطرها، ولكن لأن الرجال لا يطلعون عليها غالباً. قال: أو في مال قدره النصاب، أي: من الذهب في الزكاة، كما نص عليه في ((المختصر)) - غلظ عليه اليمين بالزمان، والمكان، واللفظ. والأصل في ذلك ما روى أن عبد الرحمن بن عوف رأي قومًا يحلفون بين البيت والمقام، فقال: أعلى دم؟ فقالوا: لا، فقال: أفعلى عظيم من المال؟ فقالوا: لا، فقال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا [البيت، ويروى: أن يبهأ الناس بهذا] المقام، وهذه [المذكورة] في [أكثر] كتب الفقهاء. ومعني [((يبهأ))]: يتهاونون كما قاله الماوردي. وقال القاضي الحسين: إنه ليس بشيء، ولكن ((بهأ يبهأ))، إذا أنس بالمكان، يقال: بهأت بالشيء، إذا أنست به، حتى سقطت هيبته من قلبك. وهذا من عبد الرحمن يدل على [أن] التغليظ في الدماء والخطير من الأموال معروف عندهم، غير منكور، فألحق بهما ما هو في معناهما، وهو ما اعتبر الشرع في ثبوته بالشهادة رجلين، نظرًا لخطره، كما اعتبر ذلك فيهما، [فإنه غير مألوف في القليل من المال، فلذلك اعتبر الأصحاب فيه: ما له خطر في الشرع، صالح للمواساة. وقال القاضي الحسين: إن التغليظ باللفظ موكول إلى رأي الإمام في القليل والكثير. وعلى الأول] قال الأصحاب: فإن قيل: لو قال المقر: لفلان على مال عظيم، نزل على أقل ما يتمول، فلم نزلتهم العظيم في قول عبد الرحمن على عشرين مثقالا؟ قيل في جوابه: لأن الأصل براءة ذمة المقر، والغالب أن الإنسان إذا كان عاقلًا لا يرغب في أن يقر على نفسه بمال عظيم، فانضم الغالب إلى براءة

الذمة، وها هنا الغالب إرادة المال الكثير، لأنه قرنه بالدم. وقد اختلف الأصحاب في معنى اعتبار العشرين مثقالا على وجهين، حكاهما الماوردي: أحدهما: أنها نصاب من نصب الزكاة الذي يحتمل المواساة، وعلى هذا تغلظ في مائتي درهم، وخمس من الإبل، وأربعين من الغنم، وثلاثين من البقر، وخمسة أوسق من الحبوب والثمار، وإن نقصت قيمة كل نصاب عن عشرين مثقالًا. ولا تغلظ إذا وجبت في أقل من هذه النصب المزكاة، سواء بلغت قيمتها عشرين مثقالًا أو لا. والثاني: أن ذلك توقيف، وعلى هذا لا تغلظ اليمين في مائتي درهم، وخمس من الإبل، وأربعين من الغنم، وثلاثين من البقر، وخمسة أوسق من الحبوب والثمار- إلا أن تبلغ قيمتها عشرين مثقالًا، فما زاد، وتغلظ إذا بلغت قيمتها ذلك، وإن نقصت نصبها. والبندنيجي، والغزالي وإمامه، وابن الصباغ والرافعي- سووا بين نصاب الذهب والورق، وسكتوا عما عداهما. وقد جزم الماوردي القول بأن ما سوى ذلك من الأموال يعتبر في تغليظ اليمين فيها بلوغ قيمتها عشرين مثقالًا من غالب دنانير البلد الخالية من الغش. وعن ابن جرير الطبري- ويقال: إنه من أصحابنا-: أن التغليظ يجري في قليل المال وكثيره، وقد حكاه ابن يونس وجهًا، ولم ينسبه لأحد. والمشهور الأول. نعم، [لو] رأى القاضي التغليظ بجرأة يجدها في الحالف، فله التغليظ، قاله الرافعي. وإذا وجبت اليمين في أروش الجنايات التي لا يجب فيها القود من الخطأ وشبه العمد، لغظت إن بلغت عشرين مثقالًا، كما قاله الماوردي. وعن ابن كج حكاية وجه عن أبي الحسين: أن التغليظ يجري وإن كان الأرش دون النصاب. وإن وجبت اليمين في العتق، فإن توجهت على العبد- إما في كتابة أو

غيرها- غلظت، وإن توجهت على السيد فكذلك إن كانت قيمته نصابًا، وإلا فلا تغلظ، على الأصح. وعن صاحب ((التقريب)) حكاية وجه: أن ما يغلظ فيه من أحد الطرفين، يغلط من الآخر، تسوية بين الخصمين. ولو وجبت اليمين في وقف، غلظت وإن قلت قيمته عن العشرين، إذا قيل: إنه يثبت] بشاهد ويمين، قاله الماوردي. ولو ادعى الرجل الخلع على امرأته، فالنظر في التغليظ إلى قدر المال من الطرفين [ولو ادعته المرأة، غلظت من الطرفين]. تنبيه: كلام الشيخ مصرح بإثبات التغليظ فيما ذكره من الأوجه الثلاثة، وساكت عن جريان تغليظ آخر فيه، وقد قال الرافعي: إن [من] وجوه التغليظ المذكرة في اللعان: التغليظ بحضور جمع، ولم يذكروه ها هنا، ويشبه أن يقال: الأيمان التي تتعلق بإثبات حد أو دفع حد، يكون التغليظ فيه بالجمع، كما ذكرنا في اللعان. ومن أنواع التغليظ العدد، وهو واجب في [أيمان] اللعان والقسامة، كما تقدم. ومن أنواع التغليظ في الدماء- كما ذكرنا-: التحذير من الإقدام على اليمين الفاجرة، وقراءة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية [آل عمران:77]، والأحاديث المحذرة، وكذا عده بعضهم في غير الدماء [من الأموال وغيرها، وبعضهم خص ذلك بالدماء] واللعان، وقال: لا يستحب في غيرهما، لأن القصاص والبضع لا يدخله البذل والإباحة. قال القاضي أبو الطيب وغيره: [و] ليس بشيء، لأنه يتعلق الإثم بالجميع إذا كان فيه كاذبًا. وقد عد بعضهم من أنواع التغليظ: الحلف بالمصحف، كما سنذكره. وبعضهم استحب أن يحلف قائمًا في جميع الأيمان، كما قلنا في اللعان،

حكاه ابن الصباغ، وهو ممن رأى التغليظ بوضع المصحف في حجر الحالف، ولم يحك عن الأصحاب غيره. فرع: التغليظ يفعل بطلب الخصم، أم يغلظ القاضي وإن لم يطلب الخصم؟ حكى صاحب ((البحر)) وكذا ابن كج فيه وجهين، وذكر أن الأصح الثاني. قال [صاحب ((البحر))، وكذا] الرافعي: ويشبه أن يكونا جائزين، سواء قلنا بالاستحباب أو الإيجاب. وفيما قاله نظر سأذكره. وفي ((تعليق)) القاضي الحسين- ولم يحك سواه-: أن المدعي لو رضي بترك التغليظ، فالحكم لا يتركه، حقًا لله تعالى. وهذا مقابل لما ذكره الماوردي: أن من توجهت عليه اليمين المغلظة إذا كان زمنًا لا يقدر على المشي إلى مكان التغليظ إلا بأجرة مركوب، كانت أجرة مركوبة إلى مكان التغليظ على المستحلف له، لأنه ليس بحق على الحالف، وإنما هو حق للمستحلف، وكانت أجرة عوده على الحالف، لأنه يعود في حق نفسه. قال: فأما الزمان والمكان، فقد بيناه في اللعان- أي: بالنسبة إلى المسلم، وغيره. وأما اللفظ: فهو أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. هكذا نص عليه في كتاب القسامة، وقال ها هنا بدل قوله: ((عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)): ((الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية))، والكل جائز. قال القاضي أبو الطيب وغيره: لو أتي بغير ذلك، وهو ما جرت به عادة القضاة في التحليف: أنهم يحلفون بالله الطالب، الغالب، الضار، النافع، المدرك، المهلك، الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية- كان جائزًا، لأن القصد تباين ما قاد ألفه الناس من أيمانهم بالله في أثناء كلامهم بالإتيان من أسماء الله- تعالى- وصفاته الحسنى ما يميز ذلك، ليكون مانعًا لهم من اليمين الفاجرة، ورادعًا عنها، وقد استدل بمشروعية التغليظ في الألفاظ بما رواه [أبو داود] عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلّى الله عليه وسلّم- يعني اليهود-: ((أنشدكم بالله

الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة؟)). وقد روى أبو داود عن عكرمة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له- يعني: لابن صوريا-: ((أذكركم بالله الذي نجاكم من آل فرعون، وأقطعكم ((البحر))، وظلل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المن والسلوى، وأنزل التوراة على موسى- أتجدون في كتابكم الرجم؟!)) لكن هذا مرسل. تنبيه: قوله: ((عالم الغيب))، أي: غيب ما كان وما يكون. قوله: ((والشهادة))، يعني: شهادة الحق في كل شيء. قوله: ((الرحمن الرحيم)) هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، والرحمن: العطوف، والرحيم: المرحم. قال: وإن كان يهوديًا، حلف بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ونجاه من الغرق، [لأنه روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حلف يهوديًا، فقال: ((قل: والله الذي أنزل التوراة على موسى، ونجاه من الغرق]. قال القاضي الحسين: وكذا يحلف بالله الذي أنزل له الآيات العشر، وهي آيات يعظمونها غاية التعظيم. وفي ((البحر)): أن بعضهم قال: لا يحلف بها، أخذًا من قول الشافعي: ((ولا يحلف بما يجهل معرفته المسلمون))، ووجهه: أنهم بدلوا كتبهم، وحرفوها، فلا يؤمن أن يكون ذلك مما بدلوا. قال: وإن كان نصرانيًا، حلف بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسي، قياسًا على اليهود. قاله الماوردي: ولو رأي أن يزيده، فيقول: ((الذي أبرأ [له] الأكمه والأبرص، وأحيا له الموتى بإذنه))، فعل. قال: وإن كان مجوسيًا، حلف بالله الذي خلقه وصوره، لأن المقصود

ردعه، وزجره عن اليمين الفاجرة، وبذلك يحصل. وقيل: يحلف بالله الذي خلق النار والنور. والدهرية والملحدة يحلفون بالله الذي لا إله إلا هو، إذ لا اطلاع لنا على ما هو معظم عندهم، لنؤكد اليمين عليهم به، وكأن ثمرة التحليف لتنالهم عقوبة اليمين الفاجرة. والوثني: قال القاضي الحسين: يحلف بالله فحسب. فإن قيل: لم حلفتهم اليهودي بالله الذي أنزل التوراة على موسى، والنصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، ولم تحلفوا المسلم [بالله الذي] أنزل القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم؟ قلنا: قد حكى ابن أبي الدم عن الشيخ أبي على رواية وجهين فيه في ((شرحه الكبير))، وأن الشيخ أبا عاصم العبادي ذكرهما في ((الفتاوى)) - أيضًا- ولم يختارا شيئًا. قلت: وكلام ابن أبي الدم يقتضي أن الراجح عند الأصحاب: أنه يحلف كذلك، لأنه قال: مما تغلظ به اليمين التحليف بالمصحف. قال الشافعي: كان [ابن] الزبير يستحلف بالمصحف، ورأيت مطرفًا قاضي صنعاء يستحلف به، وهو حسن، وعليه الحكام باليمن. وكذلك قال القاضي الحسين: إن هذا النوع من التغليظ مستحب. وقال في ((الحاوي)): هو جائز عند الشافعي، وليس بمستحب، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((من كان حالفًا فليحلف بالله أو فليصمت))، وهذا من الماوردي يفهم أن الشافعي أراد فيما حكاه عن ابن الزبير، واستحسنه: التحليف بالمصحف نفسه، لكنه قال في موضع آخر من هذا الكتاب: [إن] ما حكاه الشافعي مفروض فيما إذا حلفه بالمصحف وما فيه من القرآن. وقد حكى ابن أبي الدم: أن الأصحاب قالوا: معناه: أن يوضع المصحف في حجره، ليكون أزجر له، ولا يحلفه بالمصحف فيقول: وحق المصحف، لأنه

تحليف بغير الله، وإنما يحلفه بمن أنزل القرآن، وقال: إن هكذا قاله الشيخ أبو علي، وإن الشيخ أبا زيد قال: لو حلفه بما في المصحف لا يكون يمينًا، لأن في المصحف سوادًا وبياضًا. نعم، لو حلفه بما في المصحف من القرآن [أو بما هو مكتوب، أو حلفه بالقرآن]- فهو يمين. والماوردي لما [أن ذكر] ما حكيناه عنه قال: وهل يجزئ الحلف بالمصحف عن الحلف بالله؟ فيه وجهان: أحدهما: يجزئ، ويسقط به وجوب اليمين، لاشتراكهما في الحنث بهما، ووجوب التكفير فيهما. والثاني: لا يجزئ، ولا يسقط به وجوب اليمين، لأن من الفقهاء من لا يعلق عليه حنثًا، ولا يوجب به تكفيرًا. فإن قلت: إذا كان مذهب الحاكم انعقاد اليمين به ووجوب التكفير، فلا نظر إلى مخالفة غيره، كما نقول في سائر المواضع المختلف فيها، حتى قال الأصحاب لو كان القاضي يعتقد وجوب الحق، والمستحلف لا يعتقده- تنعقد اليمين على عقيدة القاضي، كما سنذكره. قلت: المواضع المختلف فيها على قسمين: منها: ما لا مندوحة للقاضي عن ارتكابه، لكون لا طريق له غيره، وهي [التي] يعتبر فيها رأي القاضي، [وإلا لانسد] عليه باب الحكم. ومنها: ما له منه بد، [وهو ما] نحن فيه، فإنه يمكنه أن يستحلف بما هو متفق عليه، فكذلك بان الخلاف. ويعضد ذلك أن الأصحاب متفقون على أن القاضي يقضي بالشاهد واليمين في الأموال، إذا لم يكن الإثبات بشاهدين، فلو أمكن قالوا: فهل يقضي به؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي أيضًا، نظرًا لما ذكرناه، وسنذكرهما في موضوعهما، إن شاء الله تعالى.

قال: وإن اقتصر، [أي: المستحلف]، على الاسم وحده، جاز، لأن به تنعقد اليمين، يدل عليه قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور:6]، فلم يشترط الزيادة [عليه]. وما روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: ((والله، لأغزون قريشًا)). وما روي أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ألبته، فقال: والله، ما أردت إلا واحدةً، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: ((والله، ما أردت إلا واحدة؟)). وأحلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن مسعودٍ في قلته لأبي جهلٍ: ((بالله، إنك قتلته؟))، فاقتصر على الاسم المجرد. وهكذا الحكم فيما لو اقتصر على الصفة الذاتية مثل: عظمة الله، وجلال الله، وكبرياء الله، وغير ذلك. قال الماوردي: وقد شذ بعض أصحابنا، فقال: لا يجزئه إحلافه بالله حتى يعظمها بما وصفنا، ليخرج بها عن عادته. قال الأصحاب: ولا فرق فيما إذا اقتصر على الاسم بين أن يقول: بالله، أو [تالله]، أو والله، كذا قالوه هنا. وقد حكينا في كتاب الأيمان ما ينازع فيه. قالوا: وكذا لا فرق بين أن يأتي به معربًا، كقوله: ((والله))، أو غير معرب بأن يأتي به مرفوعًا كقوله: ((والله))، [أو منصوبًا كقوله: ((والله))، سواء] تعمد ذلك أو لا، كما قاله الشافعي في ((الأم))، لأن لك لحنًا لا يغير المعنى، وقال: أحببت أن يعيد حتى يصحح.

قال في ((الحاوي)) في كتاب القسامة: وقد فرق بعض أصحابنا، فقال: إن كان من أهل العربية والإعراب في كلامه، لم يكن يمينًا في حقه، إذا أتى مرفوعًا أو منصوبًا، لأنه يفرقون بين اللحن والإعراب، ولا ينطقون بالكلمة إلا على موضوعها في اللغة، فلا يجعلون ما خرج عن إعراب القسم قسمًا. وإن كان من غير أهل العربية فهو يمين في حقه، لأنه لا يفرقون بين اللحن والإعراب، ويتكلمون بينهما] على سواء. وقد حكينا عن القفال في كتاب الأيمان فيما إذا رفع: أنه لا يكون يمينًا إلا أن ينوي به اليمين، ولم يفصل بين من يحسن العربية أو لا. وقضية ذلك ألا يعتد بيمينه إذا رفع هنا أيضاً، لأن النية لا مطلع عليها. ولو حذف الحالف حرف القسم من ذكر ((الله)) تعالى، فظاهر ما قاله الأصحاب ها هنا انعقاد اليمين، والاكتفاء بذلك، لأن أبا الطيب والقاضي الحسين والبندنيجي وغيرهم قالوا: ذكر الشافعي في حديث ركانة فائدتين، وأبدى أصحابنا في أكثر من ذلك، وعدها أو الطيب [المثنى] عشرة: ثلاث في اليمين، وهي: جواز الاقتصار على مجرد الاسم. وألا يعتد باليمين إذا كانت قبل استحلاف الحاكم. وأنه يجوز حذف حرف القسم، لأنه جاء في بعض ألفاظه: ((والله، ما أردت إلا واحدة؟ فقال: الله، ما أردت واحدة؟)). وزاد الماوردي والبندنيجي عليها: أن اليمين تدخل في الطلاق ونكاح والرجعة إذا وقع فيه الخلاف والنزاع. وأن الإنسان يستحلف على نيته إن لم يعلم الأمر [إلا من] جهته. وثلاث في الرجعة، وهي: جواز الرجعة في بعض المطلقات. وأن ((ألبتة)) لا تقطع الرجعة. وأن الرجعة لا تفتقر إلى الاستشهاد.

وزاد غيره أن الرجعة مختصة بالقول. وأنها تجوز بغير علم الزوجة، لرجعة ركانة بغير علمها. وسلت في الطلاق، وهي: أن ألبته ليست بصريح في الطلاق الثلاث. وأن الطلقات الثلاث ليس بجزم. وأن الكتابة يقع بها الطلاق [مع النية. وأنه يرجع إلى نتيه في عدده. وأن الطلقات الثلاث تقع جميعها] وأن إيقاع الثلاث ليس بجزم. وأن الكناية يقع بها الطلاق مع النية. وحينئذ يجتمع فيه ست عشرة فائدة، ومن جملتها- كما ذكرنا-: الاعتداد باليمين مع حذف حرف القسم. وفي ((الحاوي)) في كتاب دعوى الدم: أنه إذا حذف حرف القسم، لم يكن يمينًا على الظاهر من مذهب الشافعي في عموم الناس كلهم، سواء ذكر الاسم مرفوعًا أو مجرورًا أو منصوبًا. [و] على قول من فرق بين أهل العربية وغيرهم من أصحابه، يجعلها بالنصب من أهل العربية يمينًا، لأنهم إذا حذفوا حرف الجر نصبوا، فصار النصب عوضًا من حرف القسم، فصارت منهم يمينًا، دون غيرهم. وقد ذكرنا في كتاب الأيمان: أنه إذا حذف حرف القسم، وأطلق- لا يكون يمينًا، لأن اليمين تتعلق بحرف القسم، وليس في هذه حرف قسم، فهو موافق لما ادعاه الماوردي من ظاهر المذهب، وذكرنا ثم وجوهًا أخر. أما إذا عرض المستحلف على الحالف اليمين مغلظة باللفظ، فأراد الاقتصار على الاسم وحده، فهل يجزئه أم لا، فيعد ناكلًا عن اليمين إن أصر على ذلك؟ الكلام في هذا وفي كل تغليظ رآه الحاكم من المكان والزمان، ينبني على أصل بعد العهد به، وهو أن فعل ذلك واجب على المستحلف أو لا؟ وحاصل ما ذكر في مجموع ذلك أربعة أوجه، أوردها في ((الوسيط)):

أحدها: أن جميع ذلك مستحب، وقد ذكره العراقيون [قولًا، وهو الصحيح]، وعلى هذا: إذا امتنع الحالف من شيء منها، وقد عرضه القاضي [وهو يراه مستحبًا واحتياطًا، لا يجبر عليه، ولا يعد ناكلًا عند العراقيين. وحكى الإمام والقاضي] الحسين فيه وجهين، أصحهما عند القفال- كما قال في البحر ((البحر)) -: أنه نكول، وطردهما القاضي والشيخ أبو علي فيما إذا عرض عليه وضع المصحف في حجره حالة الحلف، فامتنع، فهل يجعل ناكلًا أم لا؟ لأن فعل ذلك مستحب عندهما، كما ذكرنا. الثاني: أن ذلك مستحب إلا في المكان، فإنه واجب حتى لا يعتد باليمين في غيره، وهذا ذكره العراقيون [قولا] أيضًا. وعلى هذا: إذا امتنع من التغليظ بالزمان واللفظ، وقد رآه القاضي احتياطًا- فحكمه ما تقدم. وإن امتنع من التغليظ بالمكان عد ناكلًا، ولا نظر لكون عليه يمين أنه لا يحلف في ذلك المكان أو لا، كذا قاله الماوردي والإمام والرافعي وغيرهم، وهو قياس قول الأصحاب: إن اليهودي يقسم ببيعته، إذا قلنا: إن التغليظ بالمكان واجب. لكن البندنيجي والقاضي أو الطيب وغيرهما حكوا عن الشافعي في الأم- كما قاله في ((البحر)) - فيما إذا كان عليه يمين: لا حلف بين الركن والمقام، استحلفه في الحجر، فإن كان عليه يمين: لا حلف في الحجر، حلفه على يمين المقام بين المقام والحجر، فإن كان عليه يمين: لا حلف [في هذا المكان، استحلفه بالقرب من البيت. وأن الشافعي قال: لو قال قائل إذا كان عليه يمين: لا حلف] بين الركن والمقام، استحلفه فيه، وإن كان فيه حنث فيما كان حلف، كان مذهبًا، كما لو حلف: لا يحلف، فتوجهت اليمين عليه، فإنه يحلف وإن كان فيه حنث فيما كان حلف، كذلك ها هنا.

فقالوا: فقد خرجها على قولين. قال القاضي أبو الطيب: قال أصحابنا: وهذا على القول الذي يقول: إن التغليظ بالمكان [مستحق، وشرط. فأما على القول الذي يقول: إن التغليظ بالمكان] ليس بشرط، فلا يحنث في يمينه قولًا واحدًا. [والبندنيجي قال: فقيه أن يكون القولان إذا قلنا: المكان شرط، فأما إذا قلنا ليس بشرط، لم نحنثه قولًا واحدًا]. ويقرب من ذلك من حكيناه في اليمين المغلظة إذا وجبت على مخدة هل تخرج إلى موضع الاستحلاف، أو ينفذ إليها من يحلفها، ويجعل التخدر عذرًا؟ إذا قلنا [بوجوبه خرجت]، أما إذا قلنا: أنه مستحب، فلا تخرج وجهًا واحدًا. الثالث: أن ذلك واجب إلا في اللفظ، وقد حكاه الماوردي ها هنا قولًا، وعلى هذا فالفرق بين اللفظ وبينهما- كما قال القاضي الحسين وغيره-: أن قله: ((والله)) يشتمل على جميع الصفات التي يلقنه الحاكم، من قوله: ((لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ...)) إلى آخره، لأن معنى [((الله))] هذا، فلذلك اكتفى به، بخلاف المكان والزمان، فإن اسم الله تعالى لا ينظم فائدتهما. وعلى هذا قال الماوردي في باب ((ما على القاضي في الخصوم)): لو سأل المدعي تأخير إحلاف المنكر، لتغلظ عليه اليمين بإحلافه بعد العصر، أو في الجامع- كان له ملازمة المنكر، إن استحق تغليظها، ولم يكن [له] ملازمته إن لم يستق تغليظها. الرابع: أن ذلك مستحق في الجميع، وهذا ما خرجه الإمام لنفسه، والعراقيون قالوا: إن التغليظ باللفظ مستحب قولًا واحدًا، كما ذكره الشيخ هنا. وفي المسألة وجه خامس: أن التغليظ بالمكان مختص بمكة والمدينة، وفي غيرهما لا يجب قولًا واحدًا، حكاه ابن أبي الدم. ولا خلاف أن الحاكم لو قال له: قل: والله، فقال: والرحمن، أنه يكون نكولًا.

ولو قال: قل: بالله، فقال: والله- هل يكون نكولًا؟ فيه وجهان حكاهما القاضي والإمام. ولو قال: قل: بالله، فقال: تالله- فالخلاف جار، والنكول هنا أظهر، لأن تالله بعض الناس يقولون: لا يكون يمينًا. فرع: لو أحلف القاضي يهوديًا: بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، والنصراني: بالله الذي أنزل القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم، فامتنع من اليمين بذلك له يصير ناكلًا؟ فيه وجهان، حكاهما ابن أبي الدم عن رواية الشيخ علي عن شيخه القفال. قال: ومن حلف على فعل نفسه- نفيًا كان أو إثباتًا- حلف على القطع، لإحاطة علمه بحاله، وقد ألحق بذلك إذا ادعي عليه أن بهيمته أتلفت على إنسان مالًا، فأنكر، فإنه يحلف على القطع. قال الأصحاب: لأن البهيمة لا ذمة لها، والمالك لا يضمن بفعل البهيمة، وإنما يضمن بالتقصير في حفظها، وهذا أمر يتعلق بنفس الحالف. قال: ومن حلف على فعل غيره، فإن كان على إثبات حلف على القطع، لتيسر الاطلاع عليه. وحكى الفوراني عن القفال: أن للمدعي للرضاع إذا نكل خصمه عن اليمين على نفي العلم، حلف هو أيضًا على العلم، لأن جواب المدعي يكون على وفق الدعوى والظاهر أنه يحلف على البت. وإن كان على نفي، حلف على نفي العلم، أي: فيقول: والله ما علمت أنه فعل كذا، لأنه لا طريق [له على القطع في نفي فعل الغير]، فلم يكلف الحلف عليه، كما لا يكلف الشاهد فيما لا طريق [له] إلى معرفته بالقطع- القطع، بخلاف الإثبات. وقد يستدل لذلك بما روى أبو داود عن الأشعث بن قيس أن رجلًا من كندة، ورجلًا من حضرموت اختصما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في أرضٍ من اليمن، فقال

الحضرمي: يا رسول الله، إن أرضي اغتصبها أبو هذا، وهي في يده، قال: هل له بينةٌ؟ قال: [لا]، ولكن أحلفه، والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه، فتهيأ الكندي، يعني: لليمين. قال القاضي أبو الطيب وغيره: وفي هذه الحالة، لو حلف على البت والقطع احتسب باليمين، لأن ذلك [يكون] محمولًا على العلم، لأجل أنه لا يمكن الإحاطة به، كما قال الشافعي فيما إذا شهد الشاهدان: أن هذا وارثه، لا وارث له غيره. قال الرافعي: وكل ما يحلف الإنسان فيه على البت لا يشترط فيه اليقين، بل يجوز ألبت، بناء على ظن مؤكد يشنأ من خطه، أو من خط أبيه، أو نكول خصمه على ما سبق. وما ذكره من خط نفسه قد حكاه البندنيجي قبيل باب ما يجب على المرء من القيام بالشهادة، وكذا صاحب ((البحر)) [وغيره]، وألحقوا في هذا الموضع إخبار العدل الواحد بذلك. وقال في ((الحاوي)) فيما إذا رأى ذلك مكتوبًا في حساب يغلب على ظنه صحته، أو أخبره عدل [به]: إنه يجوز له أن يدعي به، وهل يجوز أن يحلف إذا ردت اليمين عليه، أو أقام شاهدًا؟ فيه وجهان لأصحابنا: أصحهما: الجواز، والقائل بخلافه قال: إنه الظاهر من كلام الشافعي، [و] حديث الأنصار مع يهود خيبر في القتل حجة عليه. وفصل ابن الصباغ، فقال هنا، إذا وجد شيئًا بخط أبيه، أو أخبره عدل به، جاز أن يحلف إذا غلب على ظنه صدق ذلك، وهو ما أورده القاضي أبو الطيب أيضًا. وقال قبل ((كتاب القاضي إلى القاضي)) بيسير: إن الإنسان إذا وجد بخط نفسه [دينًا] على إنسان، فلا يطالب به، ويحلف عليه حتى يتيقنه، وكأن الفراق: أنه في خط نفسه يمكنه التذكر، بخلاف خط أبيه.

وقد ظهر لك بما ذكرناه: أن ما ادعاه الرافعي، لم يسلم من منازعة. وكذا ما ذكره من الاعتماد على النكول فيه منازعة، لأن المذهب- كما قال الإمام في كتاب الوديعة فيما إذا ادعى المودع التلف، ونكل عن اليمين-: أن المالك يحلف على نفي العلم، وأن من أصحابنا من يكلفه جزم اليمين، لأن من الممكن أن يطلع على بقاء العين في الوقت الذي ادعى المودع تلفها، وإذا كان هذا ممكنًا، فجزم اليمين ممكن. ولو لم يغلب على ظنه صدق أبيه فيما كتبه، فإن كان مع غلبة الظن بالكذب لم يجز الإقدام على اليمين، وإن احتمل الصدق والكذب على السواء، فالذي يظهر [أن] يقال: إن الحكم كذلك. وفي ((النهاية)) في كتاب الوديعة: أن المودع لو ذكر أن الوديعة تلفت في يده، ومات قبل أن يحلف- فالوارث يخلفه في اليمين، إذا غلب على ظنه صدقه، أو علمه. ولو استوى عنده احتمال الصدق والكذب ففيه خلاف. ووجه الجواز: اعتضاد اليمين ببراءة ذمة الوارث، وسلامة التركة [له]، وهذا التوجيه لا يحسن في مسألتنا مطلقًا، فلذلك قلت: لا يتجه التحليف. ومما يؤيد ذلك أن القاضي الحسين قال قبيل باب ما يجب على المرء من القيام بالشهادة-: قال أصحابنا: إنما يحلف [علي] أن له عليه ذلك الذي رآه بخط أبيه، إذا كان لو وجد بخط أبيه: أن لفلان عليه كذا يصدق، ولا يرضى لنفسه أن يحلف على نفيه، وقال: إن القفال قال لأجل ذلك: إذا رأى بخط أبيه: أن لفلان عليه كذا، وكان أبوه من الأمانة عنده بحيث لو رأى بخطه أن له على الغير مالًا يستجيز أن يحلف عليه للاستيفاء- فلا يجوز له في مسألتنا الحلف، وإلا فيجوز. تنبيه: كلام الشيخ مصرح بأنه إذا حلف على نفي فعل الغير، يحلف على [نفي] العلم، ويقتضي أنه لا فرق في ذلك الغير بين أن يكون موروثًا أو عبدًا له، وهو ما صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، ولم يحكيا غيره.

وقال في ((البحر)): إن ابن القاص قاله تخريجًا. وحك المراوزة في نفي فعل عبده وجهين: أحدهما: هذا. والثاني- وهو الأصح في ((الرافعي)) -: أنه يحلف على البت، لأن عبده ماله، وفعله كفعل نفسه، ولذلك سمعت الدعوى عليه. وربما بنى الوجهان على أن أرش الجناية يتعلق بمحض الرقبة [أم يتعلق بالرقبة] والذمة معًا حتى يتبع بما فضل بعد العتق؟ فإن قلنا بالأول حلف على ألبت، لأنه يحلف، ويخاصم لنفسه. وإن قلنا بالثاني، فعلى [نفي] العلم، لأن العبد على هذا له ذمة تتعلق بها الحقول، والرقبة كالمرتهنة بما عليه. وقضية هذا البناء- إن صح-: أن يكو الصحيح عند الإمام وغيره ما أفهمه كلام الشيخ كما عرفت في باب العاقلة: أن الصحيح عندهم أن ذمة العبد مشتغلة بجنايته. فروع: أحدهما: إذا ادعى عليه موت قريبه، ليدعي عليه بحق، فأنكره- ففي كيفية يمينه ثلاثة أوجه: أحدها- عن ابن القاص والشيخ أبي عاصم-: أنه يحلف على البت، لأن الظاهر اطلاعه عليه. وأصحهما- في ((الرافعي))، و ((تعليق)) القاضي أبي الطيب-: أنه يحلف على نفي العلم، كما لو أنكر غصبه وإتلافه، وقد يكون موته في الغيبة، فلا يطلع الوارث عليه. وثالثها- عن الشيخ أبي زيد-: الفرق بين من عهد حاضرًا أو غائبًا. [الفرع الثاني:] إذا نصب البائع وكيلًا لقبض الثمن وتسليم المبيع، فقال له المشتري: إن موكلك أذن في تسليم المبيع، وأبطل حق الحبس، وأنت تعلم-[ففيه قولان] عن حكاية ابن القاص: أحدهما: يحلف على نفي العلم، ويديم الحبس إلى استيفاء الثمن.

والثاني- وهو اختيار أبي زيد-: أنه يحلف على البت، لأنه يثبت لنفسه استحقاق اليد [على المبيع]. [الفرع الثالث:] إذا طولب البائع بتسليم المبيع، فادعى حدوث عجز عنه، وقال: إن المشتري عالم به، فأنكر يحلف على البت، لأنه يستبقي بيمينه وجوب تسليم المبيع إليه، كذا حكي عن ابن القاص. [الفرع الرابع:] إذا مات شخص عن ابن في الظاهر، فجاء آخر، وقال: أنا أخوك، والميراث بيننا، فأنكر- قال ابن القاص: يحلف على البت أيضًا، لأن الأخوة رابطة بينهما، فهو حالف في نفسه. ونازعه منازعون في الصورتين وقالوا: يحلف على نفي العلم. قال: ومن توجهت عليه اليمين لجماعة، حلف لكل واحد منهم، لأن لكل واحد منهم يمينًا، فلم تتداخل. قال: فإن اكتفوا منه بيمين واحدة، فقد قيل: يجوز، كما يجوز أن تثبت بينة واحدة حقوق جماعة، وهذا منسوب إلى الإصطخري في ((تعليق)) القاضي أبي الطيب، في باب ((ما على القاضي في الخصوم)). وقيل: لا يجوز، وهو الأصح، لأن اليمين حجة في حق كل واحد منهم، والحجة الناقصة] لا تكمل برضا الخصم، كما لو رضي الخصم أن يحكم عليه بشهادة واحد. ولأن المقصود من اليمين الزجر، وما يحصل من الزجر بالتفريق لا يحصل بالجمع، فلم يجز وإن رضوا به، كما لو رضيت [المرأة] أن يقتصر الزوج في اللعان على شهادة واحدة، هكذا أطلق الأصحاب القول في المسألة. وفي ((الحاوي)) في كتاب اللعان: أن أبا سعيد الإصطخري قال: استحلف إسماعيل بن إسحاق رجلًا في حق لرجلين يمينًا واحدة، فأجمع فقهاء زماننا على أنه خطأ.

قال الداركي: فسألت أبا إسحاق المروزي عن ذلك، فقال: إن كان قد ادعيا ذلك الحق من جهة واحدة، مثل: أن تداعيا دارًا ورثاها عن أبيهما، أو مال شركة بينهما حلف لهما يمينًا واحدة. وإن كان الحق من وجهين، حلف لكل واحد على الانفراد. قال الماوردي: وقول أبي إسحاق صحيح. قلت: وبه أجاب الغزالي في كتاب النكاح عند الكلام فيما إذا زوجت المرأة من اثنين، واختلفا في السابق إذا كان المدعيان حاضرين وطلبا يمينه. وقال فيما لو حضر أحدهما، وطلب يمينه، ثم حضر الآخر، وطلب يمينه-: فهي لحلف له ثانيًا إذا كانت صيغة اليمين الثانية مثل الأولى؟ فيه وجهان: [و] في ((البحر)) في باب ((ما على القاضي في الخصوم)): أن بعض أصحابنا بخراسان حكى في مسألة الكتاب وجهًا: أنه يجوز للحاكم أن يحلفه يمينًا واحدة من غير رضا الخصوم، وليس بشيء، وكأنه- والله أعلم- يشير إلى الفوراني، فإن كلامه في كتاب اللعان، وهو أنه لو شهد له شاهد بحق على رجل، وعلى آخر بحق- جاز أن يحلف معه يمينًا واحدة، يذكر فيها الحقين. وقضية ما ذكره الشيخ وغيره: أن يقال في هذه الصورة بالاحتياج إلى يمينين والله أعلم.

فرع: إذا كانت دعوى الشخص الواحد تشتمل على أنواع، فأراد أن يحلفه على أحدها، ويتوقف عن إحلافه فيما عداه- جاز. وإن أراد أن يحلفه على كل نوع منها يمينًا، نظر: فإن فرقها في الدعوى، جاز أن تفرق الأيمان. وإن جمعها في الدعوى، لم يجز أن تفرق في الأيمان، قاله في ((الحاوي)) في باب ((ما على القاضي في الخصوم)). قال: ومن ادعى عليه غصب، أو بيع، فأجاب بأنه: لا حق [له] عليه لم يحلف إلا على ما أجاب، أي: لا يكلف إلا ذلك، ولا يجب عليه التعرض للغصب والبيع، لأنه قد يكون له غرض صحيح في ذلك، كما بيناه في باب الدعوى. وهكذا الحكم فيما إذا ادعى عليه دين، فأجاب بمثل ذلك. ويجوز له إذا كان الدين مؤجلًا أن يحلف: أنه [لا] يلزمه تسليم المال إليه، وكذا إذا كان معسرًا، ولا يجوز أن يحلف: أنه لا شيء [له] عليه، لأنه يكون كاذبًا في يمينه، قاله القاضي الحسين. [أما إذا أراد أن يحلف على نفي الغصب والبيع، فله ذلك قولًا واحدًا، صرح به القاضي الحسين] والبغوي. قال: وإن أجاب بنفي ما ادعى عليه- أي: بأن قال: ما غصبت منك، ولا بعتك- حلف على ما أجاب، لأنه لما أجاب بنفي ما ادعى عليه، دل على أنه يمكنه أن يحلف عليه، فحلف عليه، وهذا أظهر عند الرافعي، وقال: إنه منصوص عليه.

وقيل: يحلف: أنه لا حق [له] عليه، أي: ولا يكلف الحلف على نفي الغصب، والبيع، كالمسألة قبلها. قال: ومن حلف على شيء، ثم قامت البينة على كذبه، قضي بالبينة، وسقطت اليمين، لقول عمر- رضي الله عنه-: ((البينة أحق من اليمين الفاجرة)). قال الماوردي: ويروى هذا متصل السند إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من طريق لا يثبت، والحجة في قول عمر، لأنه لم يظهر له [فيه] مخالف. ولأن الشهادة حجة يحكم بها في المال، وهذا أبعد عن التهمة من اليمين، فجاز سماعها بعد اليمين، قياسًا على إقرار المدعى عليه، والله أعلم. وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به: أحدها: اليمين عندنا معتبرة بعقيدة القاضي المستحلف، فإذا ادعى حنفي على شافعي شفعة الجوار، والقاضي يرى إثباتها، فأنكر المدعى عليه- فليس له أن يحلف، بناء على اعتقاده في شفعة الجار، بل عليه إتباع القاضي، ولزومه في الظاهر ما التزمه القاضي، وهل يلزمه في الباطن؟ فيه وجهان كالوجهين فقي أن الحنفي إذا حكم [للشافعي] بشفعة الجوار، هل تحل له، [أو هما هما]؟ قال الرافعي: وميل الأكثرين إلى الحل، كما ذكره الغزالي في الباب الثاني من أدب القضاء، وهو الجواب في ((فتاوى)) القفال، ويوافقه ما اتفقوا عليه هنا من ترجيح اللزوم باطنًا. وعن صاحب ((التقريب)): أن القضاء في المجتهدات ينفذ في حق المقلد ظاهرًا وباطنًا، ولا ينفذ في حق المجتهد باطنًا، حتى لو كان الحالف مجتهدًا، وحلف بموجب اجتهاده- لم يأثم بذلك.

[الفرع الثاني:] إذا استثنى الحالف في يمينه باللسان في مجلس الحكم، فإن سمعه الحاكم نهاه عن ذلك، وأعاد اليمين. وإن لم يسمعه، أو وصل باللفظ شرطًا بقلبه وبنيته- انعقدت يمينه، ولم يدفع ذلك إثم اليمين الفاجرة عنه. ورأيت فيما وقفت عليه من ((تعليق)) القاضي الحسين: أنه إذا استثنى بلسانه، ولم يسمعه القاضي- لم تنعقد يمينه، ونفعه فيما بينه وبين الله تعالى في وجوب الكفارة. وإن استثنى بالعزم، لم ينفعه ذلك، لأنه يؤدي إلى تعطيل الأحكام، بخلاف الاستثناء باللفظ، لأنه يسمع القاضي، وهو ممنوع منه، وإن لم يسمع يكون ذلك نادرًا، ولا عبرة بالنوادر. [الفرع الثالث:] لا ينبغي أن يحلف القاضي السكران: مدعيًا كان أو مدعى عليه حتى يعلم ما يقوله وما يقال له، وينزجر عن اليمين الفاجرة، [فإن] حلفه في السكر، فعلى الخلاف السابق في أن السكران كالصاحي أو كالمجنون؟ قال الرافعي في كتاب القسامة: [والأظهر الأول]. وعن القاضي أبي حامد والماسرجسي ترجيح الثاني. وادعى القاضي الحسين: أنه ظاهر، والله أعلم. * * *

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات الشهادة: الإخبار عما شوهد وعلم، فهي مأخوذة من ((الشهود)) والحضور. والشاهد: حامل الشهادة، سمي بذلك، لأنه مشاهد لما غاب عن غيره. وقيل: إنها مأخوذة من الإعلان والإعلام، قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} الآية: [آل عمران:18]، أي: أعلم وبين. وجمع الشاهد- كما قال الجوهري- شهد، كصاحب وصحب. قال: وبعضهم ينكره، وجمع ((الشهد)): شهود، وأشهاد. والشهيد: الشاهد، وجمعه: شهداء، وأشهدته على كذا وبكذا، يشهد عليه وبه، أي: [صار] شاهدًا عليه وبه. وشهد: بفتح الشين وكسر الهاء، وشد: بكسرهما، وشهد وشهد بفتح الشين وكسرهما مع إسكان الهاء فيهما- فهذه أربعة أوجه جائرة في ((شهد)). والأصل في الشهادة قبل الإجماع من الكتاب آيات، منها قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282]، والأمر فيها محمول على الإرشاد والاستحباب، دون الحتم والوجوب، يدل عليه قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]. والدين المؤجل لا يثبت إلا في البيوع، وقد قال ابن عباس: أشهد أن الدين إلى أجل مسمى هو السلم، والكتابة تكون للشهادة، ثم قال تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة:283]. ولأن الله تعالى قد جعل بدلها الرهن، وهو غير واجب، فكذلك هي. ولأنها وثيقة في البيع، فلم تجب، كالرهن والإجارة.

قال الشافعي: وإنما ندب الله تعالى إلى الإشهاد وحرض عليه، لما في الإشهاد من منع التظالم بالجحود أو بالنسيان، وبراءة الذمم بعد الموت، لا غير. قال القاضي الحسين: وأراد بذلك أن الإشهاد فيه حظ لصاحب الحق، وهو أن يصل إلى حقه، ولمن عليه الحق، لأنه يمتنع عن الجحود إذا كان عليه شهود، ولو نسي ذكروه، ولو اخترمته المنية، أرضي صاحب الحق من تركته بشهادتهم، ولا تبقى ذمته مرتهنة بالحق، وكل ما ندب إليه [صاحب] الشرع فهو الخير الذي لا يعتاض عنه من تركه. ومن السنة أخبار، منها: ما روى عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الشهادة، فقال:)) ترى الشمس؟ فقال: نعم، فقال: على مثلها فاشهد أو دع))، وسنذكر غير هذا الخبر في الباب عند الحاجة إليه. ولأنها نوع وثيقة، فوجب أن تصح، كالرهن والضمان. قال الأصحاب: وهي أعم منهما، لجوازهما فيما لا يجوز فيه الرهن والضمان. * * *

باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل

باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل تحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية. اعلم أن الشهادة وثيقة تتم بالتحمل، وتستوفى بالأداء، فصارت جامعة للتحمل في الابتداء، والأداء في الانتهاء. والدليل على فرضيتها في الحالتين قوله تعالى {وَلَا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282]، أي: للتحمل، أو الأداء، كما قاله الحسن البصري. فإن قلت: قد قال ابن عباس وقتادة والربيع: إذا ما دعوا للتحمل، وعلى هذا فما الدليل على الأداء؟ قلت: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2]، أي: أدوا، وقوله تعال: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283]، أي: فلا يجد حلاوة الطاعة، ومرارة المعصية، كما قيل في التفسير الذي حكاه القاضي والإمام، فلما نهى عن الكتمان وأثمه، دل على أن إظهارها واجب، وخص القلب بالإثم، لأنه محل العلم الذي لزمه إظهاره، وحرم عليه كتمانه، كمما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37]. فإن قلت: قد قال مجاهد وعطاء والشعبي: إذا ما دعوا لإقامتها وأدائها عند الحكام، وعلى هذا فما الدليل [على التحمل]؟ قلت: قوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة:282]، فإن ابن عباس قال في تفسيرها: لا يضر الكاتب والشهيد من يدعوه إلى تحملها بالامتناع من الإجابة، والاشتغال عنه بغيرها، كما نقله عنه البندنيجي. وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: [إن] الآية تدل على ذلك على القراءة برفع الراء، أما إذا قرئت بالنصب فإنها تدل على رفع الضرر من جهة الداعي، كذلك إذا حضر يدعو الكاتب والشاهد، فلا يلح عليه في الاستحضار،

ولا يقطعه عن شغله، وعما هو أهم، ويمهله حتى يفرغ من حاجته. ولأن الحاجة تدعو إلى تحمل الشهادة وأدائها، حتى لا تضيع الحقوق، فإذا تقرر أنها فرض كان على الكفاية، لأن المصلحة المطلوبة من الشهادة من التوثق وإظهار الحجة تحصل بفعل البعض، فكان كالجهاد ورد السلام وطلب العلم. ولأن في شهادة الجميع مشقة عظيمة. قال الماوردي: والفرض في الأداء أغلظ [منه] في التحمل، ويسقط الفرض بقيام شاهدين بالمطلوب. قال البندنيجي: ومن هنا سمي فرض كفاية، لأنه كفى الباقين فعل الفاعلين، بخلاف فرض العين. وقبل القيام بالمطلوب، أطلق البندنيجي وغيره القول بأن الكل مخاطبون، والفرض يتوجه عليهم، كما إذا مات في البلد ميت توجه الفرض على الكل، وإذا سلم رجل على جماعة توجه فرض الرد على الكل، وفي هذا يتساوى فرض الكفاية وفرض العين، واختلافهما في الانتهاء، كما ذكرنا. وفي ((الحاوي)): أنه إذا دعي من يتحمل أو يؤدي عند الزيادة على العدد المشروط في الحكم، فالمبتدأ بدعائه إلى التحمل والأداء، ما حكم فرضه؟ اختلف فيه على وجهين حكاهما في ((البحر)) أيضًا: أحدهما: [أنه] يتعين عليه فرض الإجابة، إلا أن يعلم أن غيره يجيب، فلا يتعين عليه. قال في ((البحر)): وهو اختيار أبي إسحاق، والصحيح من المذهب. والثاني: أنه لا يتعين عليه فرض الإجابة، إلا أن يعلم أن غيره لا يجيب، فيتعين عليه. فعلى الأول يكون عاصياً حتى يجيب غيره، وعلى الثاني لا يكون عاصيًا حتى يمتنع غيره، فإن امتنعوا جميعًا حرجوا أجمعين، وكان المبتدأ بالاستدعاء أغلظهم مأثمًا، لأنه صار متبوعًا [في الامتناع، كما لو بدأ بالإجابة، كان أكثرهم أجرًا، لأنه صار متبوعًا] فيها. وفي ((البحر)): أن صاحب ((التخليص)) حكى الخلاف المذكور قولين، ولعله

أراد قولين مخرجين. وحكى القاضي الحسين والإمام أن المدعوين للتحمل- والصورة كما ذكرنا- لا تجب عليهما الإجابة، والمدعوين للأداء في وجوب الإجابة عليهما وجهان: أحدهما: لا تجب، كما أن من دعي للتحمل لا تجب [عليه] الإجابة إذا لم يتعين، وبه أجاب الضميري. [وأصحهما] في ((الرافعي)): أنه يجب، وإلا لأفضى إلى التواكل، ويخالف التحمل، لأن هناك يطلب منه تحمل أمانة [وها هنا يطلب منه] أداء أمانة تحملها. وقد أطلق القاضي الحسين حكاية الوجهين، والإمام قال: إن محلهما إذا كان الباقون يرغبون في الأداء، أو لم تبن رغبتهم. وهو راجع إلى ما ذكره الماوري، والروياني. ثم قال الإمام: ولعل الخلاف في إحدى الصورتين يترتب على الأخرى. قال: فإن كان، أي: من تقوم به الكفاية، في موضع ليس فيه غيره- تعين عليه، أي: التحمل والأداء عند الطلب، لانحصار المطلوب فيه، وهذا شأن فروض الكفايات، تصير بالانحصار في الشخص فرضًا عليه. فإن قلت: لم قدرت المحذوف: من تقوم به الكفاية، ولم تقدره: المطلوب للتحمل والأداء؟ قلت: لأن الأول منطبق على كلام الأصحاب من غير تكلف في تقريره مع أن سياق اللفظ يعطيه، بخلاف ما ذكرت، فإني لو قدرته لاحتجت أن أقول: المطلوب تارة يكون نصابًا كاملًا، وهو شاهدان، وتارة يكون واحدًا، فإن كان الأول فحكمه ظاهر، وإن كان الثاني فإنما يتعين عليه في صورتين: إحداهما: أن يكون المقصود يحصل به، لكون المطلوب قد قام به واحد، ولم يتمكن من تتمة غير هذا المطلوب، وفي هذه الحالة يشمل الفرض المطلوب للتحمل أو الأداء، كما ذكرنا، ولا فرق فيه- كما قال الأصحاب- بين أن تكون الشهادة به مما لا يثبت إلا بشاهدين، أو مما يثبت بالشاهد واليمين،

لأن التورع عن اليمين من مقاصد الشهادة لدفع التهمة. قال الإمام في حالة الطلب للأداء: [و] هذا مما لم يختلف أصحابنا فيه، وليس له أن يقول: احلف مع شاهدك، ولا تعويل على احتمال بعيد فيه مع نقلنا الوفاق على تثبت. وطرد ذلك فيما إذا أشهد المودع على رد الوديعة شاهدين، وقالا له عند إرادة إثابته: لا نشهد، واحلف- أنه ليس لهما ذلك. وقد اعتبر بعض المراوزة- كما حكاه الإمام- في وجوب الأداء على المتعين بحكم الوجود، وكذا في حالة كثرة العدد بالتعيين- أن يكون التحمل قد وقع منه عن قصد حتى لو وقع بصره عليه اتفاقًا، لا يجب عليه، لأنه لم يوجد منه التزام، بخلاف ما إذا تحمل، فإنه ملتزم، فجعل كضمان الأموال. قال الرافعي: والموافق لإطلاق أكثرهم: أنه لا فرق، لأنها أمانة حصلت عنده، فعليه الخروج عنها، كما أن الأمانات المالية تارة تحصل عنده بقول الوديعة، وتارة بنظير الربح. الثانية: أن يكون الحق مما يثبت بالشاهد واليمين، ولم يشهد به غيره، فإنه يجب عليه الأداء، لتمكن الخصم من الحلف معه. قال في ((الحاوي)): ولا فرق أن يكون الشاهد ممن يرى جواز الحكم بالشاهد واليمين، أو لا، إذا كان الحاكم يرى الحكم بذلك. قلت: ولا يجئ فيه الوجه الذي حكاه القاضي ابن كج في أن الشاهد لا يجوز له أن يشهد بما يعلم أن القاضي يرتب عليه ما لا يعتقده الشاهد: كالبيع الذي يترتب [عليه] الشفعة بالجوار، [والشاهد لا يعتقد الجوار] مثبتًا للشفعة، لأن الشاهد هنا يعتقد أن ما شهد به حق، فالحكم واقع بالحق في ظنه، بخلاف مسألة الشفعة. وقد حكى القاضي الحسين مع موافقة الشاهد للقاضي في اعتقاد جواز الحكم بالشاهد واليمين- وجهًا آخر: أنه لا يجب الأداء، لأنه ربما لا يحلف، أو يتغير اجتهاد الحاكم، فلا يقضي بشاهد ويمين. قال: والصحيح الأول، وهو الذي أورده الماوردي، والإمام، والرافعي.

نعم، لو كان القاضي حنفياً، فحث قلنا: يلزمه الأداء ثم، فهل يلزمه ها هنا؟ فيه وجهان حكاهما القاضي أيضًا، والأظهر- وهو الذي أورده الماوردي-: أنه لا يجب، ووجه الوجوب: أنه ربما له شهود بعده، أو يقع له الاجتهاد في أن يقضي بشاهد ويمين. وإذا جرى هذا الخلاف في الأداء، ففي التحمل من طريق الأولى، كما ستعرفه. أما إذا كان الحق مما لا يثبت إلا بشاهدين، بأن كان عقداً كالنكاح، والرجعة على القديم، فلا يجب عليه الإجابة للتحمل، إذا لم يكن ثم غيره. وكذا الأداء إذا كان قد تحمل مع شخص آخر، ومات. وكذا إذا كان في غير عقد، وعلم انه لم يتحمل على الإنشاء غيره. وإن جهل ذلك، أو كان الكل على الإقرار، ففي وجوب الأداء وجهان في ((تعليق)) القاضي الحسين، والظاهر المنع، وهو الذي أورده الماوردي، لأن الحكم لا يقوم به. ووجه مقابله: أنه ربما يظهر [له] شاهد آخر. وحكى الرافعي عن القاضي ابن كج حكاية وجه مطلق في أن الحق إذا كان مما لا يثبت بالشاهد واليمين: أنه يجب عليه الأداء، لأنها أمانة لزمته، والمدعي ينتفع بأدائها في اندفاع بعض تهمة الكذب وإن لم ينتفع به في ثبوت الحق. فرع: لو كان في الواقعة شاهدان، وأحدهما فاسق فسقًا مجمعًا عليه فالحكم في حق العدل كما لو لم يكن في الواقعة غيره، قاله الرافعي. تنبيهان: أحدهما: ما الشهادة التي يجب تحملها، هل هي كل شهادة على عقد أو إقرار وغيرهما، أو تختص ببعض الأمور دون بعض؟ الذي حكاه العراقيون والماوري: الأول، وكذلك قال البندنيجي وابن الصباغ: من دعي لتحمل الشهادة على نكاح أو بيع أو غيرهما من العقود والتوثيق للحقوق، وجب عليه التحمل.

ووجهه مع الآية: أن الحاجة تمس إلى ذلك، لتمهيد طريق إثبات الحقوق عند التنازع، ومصالح الخلق لا تتم إلا بها. وجزم المراوزة بذلك في تحمل الشهادة على النكاح، لتوقف الانعقاد عليها، وكذا في الرجعة على التقديم. وقالوا: في وجود التحمل في غيرهما وجهان، أصلهما- كما قال القاضي الحسين والإمام- اختلاف المفسرين في قوله تعالى: {وَلَا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282]. فمن حمله على التحمل أوجبه، وهو المشهور. ومن حمله على الأداء، لم يوجب التحمل، وقال: إنه مندوب إليه، لأن تحصيل ذلك واستيفاء مقاصده لا يتوقف عليها. وقد حكى الغزالي وغيره إجراء الخلاف في كتبه الوثيقة أيضًا، لأنه لا يستغني عنها في عصمة الحقوق. والقاضي الحسين قال: إن أصلهما اختلاف المفسرين في أن المنهي عن المضارة: الشاهد والكاتب، أو المشهود والمكتوب له؟ ومن لم يوجبها قال: إنها مستحبة. والوجهان شبيهان بالوجهين فيما إذا طلب الخصم من الحاكم كتابًا بما ثبت عنده أو حكم به، هل يجب أم لا؟ والصحيح- كما تقدم-: الوجوب. لكن في ((البحر)) في أوائل باب القسمة: أن الكتبة لا تفرض على الأعيان، ولا على الكفاية، ولم يحك غيره. قال الرافعي: ومنهم من يقتضي إيراده طرد الخلاف في النكاح أيضًا. وخص ابن القطان الخلاف في الأصل بما إذا لم يتقابضا لتأجيل أو غيره، فأما بعد التقابض فلا يجب التحمل بحال. وعلى المشهور، فمحل وجوبه بالاتفاق إذا حضر من يتحمل عليه الشهادة، والمتحمل مستجمعًا لشرائط العدالة. أما إذا دعي لتحمل، فعن ابن كج: أن بعض الأصحاب قال: عليه الإجابة كما لو دعي للأداء. وعلى هذا يظهر أن يكون الاعتبار في الموضع الذي [دعي للتحمل فيه،

كالموضع الذي] سنذكره فيما إذا دعي للأداء، وقد صرح به الماوردي. وعن القاضي أبي حامد: أنه لا يجب، وهو ما أورده القاضي الحسين والبغوي وأبو الفرج، إلا أن يكون المتحمل عليه [معذورًا] بمرض أو حبس، فتجب الإجابة. قال الرافعي: وكذا في المرأة المخدرة إذا أثبتنا للتخدر أثرًا، وكذا إذا دعاه القاضي ليشهد على أمر ثبت عنده، فعليه الإجابة، كي لا يحتاج إلى التردد على أبواب الشهود، فتتعطل مصالح الناس. ولو كان المطلوب للتحمل غير مستجمع لشرائط العدالة، قال القاضي الحسين: فلا تجب عليه الإجابة وجهًا واحدًا، ولكن لو ذهب وتحمل، ثم استجمعت الشرائط فيه- أدى. وفي كلام الماوردي الذي سنذكره خلافه. [التنبيه الثاني:] ما الحالة التي يجب فيها الأداء مع التعيين كما ذكرنا؟ قال الأصحاب: هي الحالة التي لا يلحقه فيها بالأداء ضرر، وقد طلب منه عند ذي ولاية تصح منه استيفاء الحقوق لأهلها من الأئمة والأمراء والحكام، سواء كان من أهل العدل أو من أهل البغي. وعن ابن القطان: أنه لا يجب الأداء إلا عند من له أهلية سماع الشهود، وهو القاضي، دون الأمراء والوزراء، [والأول هو الذي أورده الماوردي، واختاره ابن كج، وطره في الشهادة عند الوزراء]، والمحكم إن إلزمنا حكمه بدون التراضي بعده فهو كالقضاة، وإلا فلا يجب الأداء عنده، قاله الماوردي. أما إذا دعي للأداء عند غير من ذكرناه، لم يجب عليه. وكذا [إن] ألحق به ضرر، لقوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة:282]، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((لا ضرر ولا ضرار)). ومطلوب الضرر ليس بمانع، لأن المضي إلى القاضي ضرر، وقد قال الأصحاب: إن ذلك لا يمنع إلا ما حكي عن القاضي أبي حامد: أنه لا يجب

على الشاهد الأداء [إلا إذا] اجتمع مع القاضي، والمشهور: الأول، وبه يظهر: أن مرادهم ضرر خص، وقد مثلوه بصور: منها: أن يلحقه في دينه، لمأثم يلحقه، كما إذا طلب لأن يشهد بغير الحق، أو بزيادة عليه، أو بدونه في صورة نصير، أو [طلب للأداء بحق]، وهو في نفسه فاسق فسقًا غير مجتهد فيه، فإنه لا يجب عليه أن يؤدي. قال القاضي الحسين والرافعي: بل عليه أن يمتنع، إذ الفاسق لا حكم لشهادته. ولا فرق بين أن يكون فسقه ظاهرًا للناس، أو حفيًا عنهم وهو عدل عندهم. قال ابن أبي الدم: والذي فهمته من كلام الأصحاب، وتلقيته من مدارج مصنفاتهم: أنه لا يحرم عليه أداء الشهادة التي شهد بها، وهي حق- أي: إذا كان فسقه باطنًا- بل يستحب، وهو الذي أراه صحيحًا لا ريب فيه. وممن أشار إلى ذلك الماوردي والقاضي أبو الطيب وصاحبه الشيخ أبو نصر. قلت: وما ذكره الماوردي قد رأيته في ((الحاوي))، فإنه قال في كتاب الشهادات: إذا دعي الفاسق إلى تحمل الشهادة، فإن كان فسقه ظاهرًا لم يلزمه تحملها، وإن كان فسقه ظاهرًا لم يلزمه تحملها، وإن كان فسقه باطنًا لزمه تحملها. وهكذا لو [دعي] إلى أداء ما يحمل من الشهادة، لم يلزمه أداؤه إن كان ظاهر الفسق، ولزمه أداؤه إن كان باطن الفسق، لأن رد شهادته بالفسق الباطن [مختلف فيه]. وقد حكى في ((البحر)) في الفروع قبيل كتاب الشهادات في جواز الشهادة له وجهين، ووجه المنع في أدائه إيقاعًا منه للحكام في الحكم بالباطل، [بل هو حمل له على أن يحكم حكمًا باطلًا، وهذا لا يجوز، لأن الحمل على الباطل] منهي [عنه] في الدين.

ولا يصح أن يقال: الحاكم قضى بالحق، فكيف يكون باطلًا، لأن السبب الذي يستند إليه القضاء إذا كان باطلًا من جهة الشرع، كان القضاء باطلًا، وإن وافق الحق عند الله تعالى، ولهذا نقول: من اعتقد التوحيد عما ظنه دليلًا، وليس بدليل في الحقيقة، فهو غير عارف بالتوحيد، كمن اعتقده لا عن دلالة أصلًا. نعم، لو كان فسقه مجتهدًا فيه، والقاضي يتجوزه، لزمه الأداء، قاله القاضي الحسين. قلت: وينبغي أن يجئ فيه ما ذكرناه في الشاهد الواحد، لأن القاضي قد يتغير اجتهاده، ولأجل هذه العلة قال الرافعي: لو كان الحاكم يرى رد الشهادة بذلك الفسق، يجب عليه الأداء على الأظهر، لأنه قد يتغير اجتهاده. وحكى عن ((أمالي)) أبي الفرج السرخسي وجهًا: أنه لا يجب في الفسق المجتهد فيه إذا كان ظاهرًا، [لأن الظاهر] استمرار الحاكم على اجتهاده، وأن في كتاب القاضي ابن كج إطلاق القول بأن عليه أن يشهد إن كان فسقه خفيًأ، وإطلاق الوجهين فيما إذا كان ظاهرًا. [و] عندي أن ذلك عين ما نقله عن أبي الفرج، إلا أن يكون ابن كج حكى الوجهين في الفسق الظاهر، سواء إن كان الحاكم يراه فسقًا، أو لا، فحينئذ يكون غيره، ويكون موافقًا لما قلت: إنه يجب تخرجيه. ومن هذا النوع: ما إذا دعي ليشهد بالحق عند جائر في المشهود به، لا تلزمه الإجابة- كما قاله الماوردي- ووجهه: أن في ذلك إعانة على المعصية. نعم، لو كان جائزًا متعنتًا في أداء الشهادة، فهل يجب على الشاهد الأداء؟ فيه وجهان عن رواية الشيخ أبي الفرج، ووجه المنع: أن الشاهد لا يأمن أن ترد شهادته جورًا وتعنتًا، فيتعير. ومنها: أن يلحقه في بدنه، وذلك في صور: إحداها: خوفه من عقوبة تلحقه من سلطان جائر، أو عدم قاهر، أو فتنة عامة، فلا يجب عليه الأداء.

الثانية: أن يلحقه بسبب خروجه عن [موضعه] للأداء، كما إذا دعي له وهو مريض يعجز عن الحركة، أو [و] هو صحيح في حر شديد أو برد شديد أو مطر موجود، فلا يجب عليه المضي إليه ما دام ذلك باقيًا. وكذا حكم المخدرة على الأصح، لا يجب عليها الخروج لأداء الشهادة. قال الرافعي: وفيها الخلاف المذكور في الخروج للتغليظ، و [هو] قس ((تعليق)) القاضي الحسين. نعم، لو اجتمع مع القاضي في أي مكان وقت كان، وجب عليه الأداء. وغير المخدرة يلزمها الحضور والأداء، وعلى الزوج أن يأذن لها، ذكره ابن كج. الثالثة: أن يلحقه بسبب خروجه عن بلده، [لكون الحاكم] خارجًا عنها. وقد قال الماوردي: إنه لا يلزمه الإجابة، سواء قربت المسافة أو بعدت، وسواء كان ذا مركوب أو لم يكن، لأن في مفارقة وطنه مشقة يسقط معها فرض الإجابة. نعم، لو كان الحاكم في بلده، فإن قرب لزمته الإجابة، وإن بعد: فإن جرت عادته بالمشي في جميع أقطار بلده لزمته الإجابة، وأن لم تجر عادته، لم يلزمه المشي وإن قدر عليه، لأن مفارقة العادة شاق إلا أن يكون ذا مركوب، فلا مشقة عليه في الركوب، فتلزمه الإجابة. فإن [حمل] إليه ما يركبه، وهو غير ذي مركوب، اعتبرت حاله: فإن لم ينكر الناس ركوب مثله لزمته الإجابة، وإن أنكروه لم تلزمه، لأن ما ينكره الناس مستقبح. وقال المراوزة: إن دعي إلى مسافة القصر، لكون القاضي فيها- لم تجب الإجابة. وإن دعي للأداء في بلده، وجب. وكذا إذا دعي إلى مسافة العدوى. وإن دعي إلى ما دون مسافة القصر وفوق مسافة العدوى، فوجهان، بناء على أن الشهادة على الشهادة في مثلها هل تقبل؟ قال الرافعي: وأقربهما القبول، وعدم وجوب الإجابة، للمشقة.

قلت: وهذا منهم مصور بما إذا لم يتمكن المشهود له من نقل شهادة الشاهد بإثبات الحق عند حاكم آخر وحكمه به، ونقل ذلك إلى الحاكم المدعو إلى الشهادة عنده، أما إذا تمكن من ذلك، فيظهر أن يقال: لا يلزم الشاهد الخروج من البلد، لما ذكرته من كلام القاضي الحسين والإمام عند الكلام في موت القاضي الكاتب، فاطلبه من ثم. وإلى ذلك يرشد تخريجهم الخلاف فيما إذا كانت المسافة فوق مسافة العدوى ودون مسافة القصر- على [الخلاف في] أن الشهادة، هل تقبل في مثل ذلك أم لا؟ ومنها: أن يلحقه في ماله، بأن يخاف عند المصير للأداء من ضياع ماله، لعدم نائب له في حفظه، أو كان يتعطل عن الاكتساب في وقته، بسبب المضي للأداء، فلا تلزمه الإجابة. قال الماوردي: ولا فرق بين أن يضمن له الداعي حفظ ماله، أو يبذل له قدر اكتسابه في ذلك الزمن أو لا. وفي ((الرافعي)): أن في ((تعليق)) الشيخ أبي حامد: أنه لو كان الشاهد فقيرًا يكتسب قوته يومًا بيوم، وكان في صرف الزمان إلى أداء الشهادة ما يشغله عن كسبه فلا يلزمه الأداء [إلا] إذا بذل له المشهود له قدر ما يكسبه في ذلك الوقت. فروع: لو دعي الشاهد [للشهادة] عند قاض لا يعلم هل يقبله أم لا، لزمته الإجابة، لجواز أن يقبله، قاله في ((الحاوي)). ولو دعي للأداء عند من لا يعتقد الشاهد انعقاد ولايته لجهل أو فسق، لزمته الإجابة. قال الماوردي: لأنه ليس للشاهد اجتهاد في صحة التقليد وفساده. ولو شهد عند قاض، فرد شهادته، لإعلانه بالفسق، ثم طلب المدعي منه أن يشهد عند حاكم آخر- فعليه الإجابة، دون ما إذا دعاه للأداء عند ذلك القاضي بعينه، قاله الرافعي.

وفي ((الحاوي)): أن القاضي لو توقف في قبول شهادة الشاهد، لحمه برد شهادته، لجرحه- لم يلزمه أن يشهد بها عند غيره إذا دعي إليه، لأنه لا يجوز لغيره الحكم بشهادة قد ردت بحكم، بخلاف ما لو توقف في قبول شهادته لاستبراء حاله، فإنه يلزمه أن يشهد عند غيره من الحكام إذا دعي إليه. ولو قال المشهود له للشاهد: عفوتك عن أداء الشهادة، ثم طلبها منه- يلزمه الإجابة. قال في ((البحر)) قبيل كتاب الشهادات: لأن أداء الشهادة عند الطلب حق الله تعالى، [وحق الله تعالى] لا يصح فيه العفو من جهة الآدمي. ولأن الشاهد لا يخرج بهذا العفو من الشهادة. واعلم أنه إذا كملت [شرائط وجوب] الأداء، فلا يرهق الشاهد إرهاقاً، بل لو كان في صلاة أو حمام، أو على طعام- فله التأخير إلى أن يفرغ. وعن أبي الحسين بن القطان حكاية قولين: أنه هل يمهل إلى ثلاثة أيام؟ قال ابن كج: والظاهر المنع. وإذا انتفت الأعذار، وامتنع بعد ذلك عن الأداء- قال القاضي: عصى، ولا يجوز للقاضي قبول شهادته في شيء أصلًا حتى يتوب. قال الرافعي: ويوافق هذا ما قيل: إن المدعي لو قال للقاضي: لي عند فلان شهادة، وهو يمتنع من أدائها، فأحضره ليشهد- لم يجبه القاضي، لأنه بزعمه فاسق بالامتناع، فلا ينتفع بشهادته. وفي ((الحاوي)): أنه إذا امتنع من غير عذر، أثم، وفسقه بالمأثم معتبر بدخوله في الصغائر والكبائر بحسب الحال، فإن دخل في الصغائر لم يفسق به، وإن دخل في الكبائر فسق به. قال: ولا يجوز لمن تعين [عليه]- أي: التحمل والأداء- أن يأخذ عليه أجرة، كما لا يجوز أن يأخذ عن عبد أعتقه عن كفارته عوضًا. وهل يجوز لمن تعين عليه كتب الوثيقة، لكونه لا أحد غيره، وقلنا بوجوبه- أخذ الأجرة؟ فيه وجهان في ((تعليق)) القاضي الحسين كالوجهين في أخذ الأجرة على تعليم الفاتحة عند التعين، ووجه الجواز- وهو الأظهر في

((الرافعي)) -: القياس على أخذ قيمة الطعام المبذول للمضطر. وعلى هذا: فالفرق بين الكتابة [والتحمل والأداء]: أن زمن كتب الوثيقة يطول، فيستغرق [به] منفعة متقومة، بخلاف زمن التحمل والأداء. قال: ويجوز لمن لم يتعين [عليه]، كالكاتب للوثيقة، إذا لم تتعين عليه الكتابة فإنه يجوز له أخذ الأجرة، قاله الماوردي. وزاد القاضي الحسين فقال: وجهًا واحدًا. وهذا إذا لم يكن للكاتب رزق من بيت المال، فإن كان لم يكن له الأخذ، قاله الرافعي. وقيل: لا يجوز، لأن الشاهد تلحقه التهمة إذا أخذ الأجرة، فصين عنها بالحرمان، وهذا ما اختاره في ((المرشد)). والخلاف المذكور شبيه بالخلاف الذي ذكره الماوردي فيما إذا كان الشاهد مشتغلًا بالحرفة، وفي ذهابه للتحمل أو الأداء تعطيل لها، في أنه هل يجوز له طلب أجرة مثله، لا قدر ما كان يحصل له لو عمل في ذلك الوقت، بل قد يقال: إنه هو [هو]، لأنه قال- كما حكينا من قبل-: إن المشتغل بالحرفة لا يجب عليه التحمل والأداء في وقت اشتغاله بها. وقد حكى ثم وجهًا ثالثًا: أن له طلب الأجرة على التحمل، وليس له طلبها على الأداء، لأنه في الأداء متوهم، وفي التحمل غير متوهم، وهذا يظهر اطراده في كل صورة لا يجب فيها التحمل والأداء، إذ فلا فرق. وقد حكى الرافعي عن الأصحاب أنهم قالوا: أخذ الأجرة على التحمل جائز إن لم يتعين، وإن تعين فوجهان، أظهرهما: الجواز، كما ذكرنا في الإجارة إذا تعين شخص لتجهيز الميت، أو تعليم الفاتحة، أو الشيخ أبا الفرج قال: هذا إذا دعي ليتحمل، فأما إذا أتاه المتحمل، فليس للتحمل- والحالة هذه- أجرة، وليس له أن يأخذ شيئًا. وهذا الذي ذكره كله يؤخذ من قول الإمام: إن المحتمل لو كلف المشي إلى موضع، فقد ألحقه الأصحاب بالكتبة، دون ما إذا لم يمش، فإنه ليس تحمل هذه

الشهادة مما يستغرق به منفعة متقومة. وحكى الرافعي أنهم قالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على الأداء، لأنه فرض. وقال القاضي الحسين: لأنه التزمه لما تحمل، فلزمه إيفاؤه. قلت: وعلى هذا إذا وقع بصره اتفاقًا على ما يشهد به، وقلنا بالتعين عليه فقد نقول: له الأخذ، لفقد العلة. قال الرافعي: وقد يوجه بأنه كلام يسير لا أجرة لمثله. قال القاضي الحسين في ((تعليقه)) - وحكاه الإمام عنه-: نعم، لو طلب أجرة مركوب إذا كان القاضي على مسافة يؤويه الليل، أخذها، وتكون أجرة عما يقطعه من المسافة، لا على أداء الشهادة- قال الإمام: وهو مشكل عندي، فإن المشي إذا لم يكن مستحقًا، فليس عليه أن يمشي، وإن كان مستحقًا فأخذ الأجرة على المشي بعيد. نعم، له أن يقول: اكفني المشقة بإحضار مركوب. وهو الذي رأيت الطرق مشيرة إليه، وفيه- أيضًا- مجال للنظر، فإنه الذي ورط نفسه في ذلك. قال الرافعي: إن الغزالي أطلق القول بأن له طلب أجرة المركوب من غير فرق بين أن يكون القاضي معه في البلد أو لا، لكنه على [ما حكى] الإمام وصاحب ((التهذيب)) مخصوص بما إذا لم يكن معه في البلد، بل كان يأتيه من مسافة العدوى فما فوقها، فأما إذا كان معه في البلد فلا يأخذ شيئًا. وضم في ((التهذيب)) نفقة الطريق إلى أجرة المركوب، وحكى وجهين فيما لو دفع إليه شيئًا، ليصرف في ذلك، هل له أن يصرفه إلى غرض آخر، ويمشي راجلًا، وهما كالوجهين فيما إذا دفع إلى فقير شيئًا، وقال: اشتر به لنفسك ثوبًا، هل له صرفه إلى غير الثوب؟ قال الرافعي: والأشهر: الجواز، وبه أجاب الغزالي. وقال القاضي الحسين: إنه الظاهر من المذهب. ثم قال الرافعي: وقضية قولنا: إنه يطلب الأجرة إذا دعي للتحمل- أن يطلب

الأجرة إذا دعي للأداء، من غير فرق بين أن يكون القاضي معه في البلد أو لا يكون، كما لا فرق في التحمل، وأن يكون النظر إلى الأجرة مطلقًا، لا إلى نفقة الطريق، وكراء المركوب خاصة، ثم هو يصرف المأخوذ إلى ما يشاء، ولا يمنع من ذلك كون الأداء فرضًا عليه كما ذكرنا في التحمل مع تعينه، على أظهر الوجهين. انتهى. وقد ذكرت عن القاضي الحسين والبغوي عند الكلام في موت القاضي الكاتب شيئًا يتعلق بذلك، فليطلب منه. وهذا كله إذا كان الأخذ من المشهود له، أما أخذ الرزق من بيت المال، هل يجوز؟ قال القاضي أبو الطيب والغزالي في كتاب القسمة: إنه لا يجوز أن يجرى للشهود رزق من بيت المال. قال القاضي: لأن الشهادة فرض، ولا يجوز أخذ العوض عليه. وقال الغزالي: لأن الشهود لا ينحصرون وحتى لا يتهموا. وهذا معزي في ((الإشراف)) إلى ابن القاص، وأنه طرده في المزكي والترجمان. وقال القاضي أبو الطيب- أيضًا- في كتاب الأقضية: إن أخذ الجعل على الشهادة مبني على الحكم، فإن كان ما تعين عليه، نظر: فإن كان فقيرًا، كان له الأخذ. وإن كان مكفيًا، فالمستحب له ألا يأخذ عليه جعلًا، وإن أخذ جاز. وإن كان قد تعين عليه. فإن كان فقيرًا جاز له الأخذ، وإن كان مكفيًا، لم يجز له الأخذ للتحمل والأداء، وهذا [ما] حكيته عن البندنيجي وابن الصباغ في كتاب الأقضية. قال الرافعي: وعلى القول بالمنع إذا رزقه الإمام من ماله، أو واحد من الناس، يكون الحكم كما ذكرنا في القاضي. قال: ولا تقبل الشهادة إلا من حر، بالغ، [عاقل] متيقظ، حسن الديانة، ظاهر المروءة. أما قبولها ممن اجتمعت فيه هذه الأمور على الجملة، فبالاتفاق، ويدل عليه

قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، والعدل: من اشتمل على هذه الأمور لغة وشرعًا: أما لغة، فلأنه المتوسط الحال، مأخوذ من ((الاعتدال))، ومن اسم ((العدل)) و ((العديل))، لأنه [مأخوذ من المعادلة] لما حاذاه، والمعادلة: المساواة. وأما شرعًا: في المتوسط في الدين والمروءة والأحكام، كما سنذكره. ومن اتصف بما ذكرناه كان متوسطًا فيها. واحترزنا بقولنا: ((على الجملة)) من شهادة المرأة في بعض الأمور كما سيأتي. والمراد بالقبول- كما قال الرافعي-: الحكم بها، إما وحدها أو بضميمة أخرى، وهو الأغلب. وأما عدم قبولها ممن لم يكمل فيه هذه الصفات، فسنذكره. تنبيه: ((المتيقظ)) خلاف ((المغفل))، يقال: متيقظ، ويقظ، ويقظ- بكسر القاف وضمها- بمعنى. [و] المروءة: بالهمز، قال الجوهري وغيره: ويجوز تشديد الواو وترك الهمز، وهي كما قال الجوهري: الإنسانية. وقال ابن فارس: هي الرجولية. وقيل: صاحب المروءة: من يصون نفسه عن الأدناس، ولا يشينها عند الناس. وقيل: الذي يستتر بستر أمثاله في زمانه ومكانه. قال الجوهري: قال أبو زيد: يقال منه: مرؤ الرجل، أي: صار ذا مروءة، فهو مرئ، على ((فعيل))، وتمرأ الرجل: تكلف المروءة. قال: ولا تقبل من عبد، لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]. ووجه الدلالة: [أن الأحرار] هم المخاطبون، لأنهم هم المشهدون في حقوق أنفسهم، فقوله: {مِنْكُمْ} ينفي دخول العبيد فيهم. ولأنه لو قطع الكلام عند قوله: {ذَوَيْ} لاستفدنا أن الكافر لا تقبل شهادته، لأنه لا عدالة مع الكفر، فلما قال: {مِنْكُمْ}، وجب أن تكون له فائدة، ولا فائدة له إلا أن يكون المراد به: الأحرار، دون العبيد.

ولأنه [معنى] مبني على الكمال والتفضيل، ولا يتبعض، فوجب ألا يكون للعبيد فيه مدخل، قياسًا على الرجم. والذي يدل على أنه مبني على التفضيل: أن شهادة المرأتين بمنزلة شهادة الرجل الواحد، ولا تقبل النساء في كل موضع، ويقبل الرجل في كل موضع. والمكاتب، ومن [بعضه] حر وباقيه رقيق، والمدبر، وأم الولد- في ذلك كالقن. قال: ولا صبي، ولا معتوه، لأنه إذا لم ينفذ قوله في حق نفسه إذا أقر، ففي حق غيره أولى. وذكر الشيخ الصبي مع المعتوه، لأن المعتوه متفق على عدم قبول شهادته، فذكره ليقاس الصبي عيه، بجامع عدم التكليف، وإلا فذكره للمغفل يغني عنه، وقد استدل على منع قبول شهادة الصبي بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية [البقرة:282]، لأن الصبي ليس من الرجال، ولأنه عدل عن الرجلين إلى الرجل والمرأتين، فدل على أنه لا يعدل إلى غيرهم [من] الصبيان، ولأنهم ليسوا ممن يرضون من الشهداء. ولا فرق في الصبي بين أن يكون مراهقًا أو لا، ولا بين أن يحكم بصحة إسلامه أو لا، ولا بين أن يشهد في الدم والجراحات الصادرة من الصبيان مع غيره [قبل التفرق أو بعده، أو في غيرهما، لما ذكرناه. وما ذكره الخصم في تعليل قبول شهادته في الدم والجراحات الصادرة من الصبيان مع غيره قبل] التفرق، لأنه يعسر إثباتها بغيرهم، لأنا ندبنا إلى تعليم الصبيان الرمي، فإذا لم نقبل شهادة بعضهم على بعض، أدى ذلك إلى إهدار الدم والجراح، لأنه لا يحضرهم الرجال إذا اجتمعوا للرمي- يبطل بشهادتهم على تخريق الثياب، وكسر القوس والسهم، وغير ذلك من الآلات التي معهم. وأيضًا: فإن مقتضى ما ذكره قبول شهادة النسوة في الأعراس، والمآتم، والحمامات، لأنه لا يحضرهن غيرهن، وهو باطل بإجمال المسلمين. قال: ولا مغفل، لأن المغفل: من كثر غلطه ونسيانه، ومن هذا حاله لا يؤمن غلطه في الشهادة، فلا يوثق به.

وهذا إذا أطلق الشهادة، فلو أتى بها مفصلة، ووصف المكان والزمان، وتأنق في ذكر الأوصاف- قال الإمام: فالشافعي قد يقبلها، فإنه إذا فصلها وهو عدل، لا يظن به اعتماد الكذب، وهذا ما أورده الفوراني والمسعودي والغزالي. وضد ما ذكره الشيخ من مبتدأ قوله: ((ولا يقبل من عبد ...)) إلى هنا، هو المعنى بالتوسط في الأحكام. قال: ولا تقبل من صاحب كبيرة، ولا [من] مدمن على صغيرة، لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، وقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، ومن اتصف بما ذكرناه فاسق، فوجب ألا يعتمد على قوله، ولا يساوي به العدل في قبول قوله، لما ذكرناه. وإنما قلنا: إنه فاسق، لأن الفاسق في اللغة مأخوذ من الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة، أي: خرجت من قشرها، وسمي الغراب: فاسقًا، لخروجه من مألفه، وسميت الفأرة: فويسقة، لخروجها من جحرها. و [هو] في الشرع: حقيقة- كما قال الماودري- فيمن كان مسخوط الدين والطريقة، لخروجه عن الاعتدال. ومن اتصف بما ذكرناه كذلك. ولقولهصلّى الله عليه وسلّم: ((لا تقبل شهادة خائنٍ [ولا خائنة])). قال أبو عبيدة: لم يخص الخائن في أمانات الناس، بل كل من ضيع شيئًا مما أمره الله تعالى به، أو ارتكب شيئًا مما نهاه الله تعالى عنه- لا يكون عدلًا، لأنه قد لزمه اسم الخيانة، كذا حكاه في ((البحر)) عنه عند الكلام في رد شهادة العدو.

ولأن من اتصف بذلك، أشعر حاله بالتهاون بأمر الديانة، ومثله جدير بألا يخاف وبال الكذب، وضد من اتصف بهذا هو المعني بالمتوسط في الدين. والمراد بالإدمان على الصغيرة: أن تكون الغالب من أفعاله، لا أن يفعلها أحيانًا، ثم يقلع عنها، فإن الإنسان لا يخلو من ذلك، ولهذا أشار الشافعي بقوله: ليس أحد من الناس نعلمه- إلا أن يكون قليلًا- يمحض الطاعة والمروءة [حتى لا يخلطها بمعصية، ولا يمحض المعصية وترك المروءة حتى لا يخلطها بشيء من الطاعة والمروءة]، فإذا كان الأغلب على الرجل والأظهر من أمره المعصية، وخلاف المروءة- ردت شهادته. وقد استدل لذلك القاضي أبو الطيب والماوردي وغيرهما بأن أفضل الناس الأنبياء- صلوات الله عليهم وسلامه- وقد قال تعالى: {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} [ص:24]، {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24]، وقال تعالى- حكاية عن يونس- عليه السلام-: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]. وروى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم [قال:] ((ليس منا معاشر الأنبياء إلا من عصى أو هم بمعصية، إلا أخي يحيي بن زكريا)).

قال أبو علي في (الإفصاح)): أراد إبليس- لعنه الله- أن يخطئ يحيي، فطلب إناء فيه ماء يعلمه يحيي من غير أن يشعر به، ثم تصور له، وقال: ما في هذا الإناء؟ فقال: كان فيه ماء. وإذا كان شأن الأنبياء، فما ظنك بمن دونهم؟! وقد قال تعالى {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102]، فأناط الفلاح بالأغلب. لكن الإدمان على الصغيرة، السالب للعدالة، هو المداومة على نوع من الصغائر، [أو الإكثار] من الصغائر، سواء كانت من نوع واحد، أو من أنواع مختلفة؟ قال الرافعي: منهم من يفهم كلامه الأول، ومنهم من يفهم كلامه الثاني، ويوافقه قول الجمهور: من تغلب معاصيه طاعاته، كان من ذوي الشهادة. ولفظ الشافعي في ((المختصر)) قريب منه، وإذا قلنا به لم تضر المداومة على نوع واحد من الصغائر إذا غلبت الطاعات، وعلى الاحتمال الأول تضر، وهو الذي يقتضيه كلام الشيخ. تنبيه: ما المراد بالكبيرة المؤثر فعلها في العدالة، والصغيرة المعتبر في تأثيرها [في] العدالة الإصرار أو الإدمان عليها؟ قال البغوي: الكبيرة: هي المعصية الموجبة للحد. وقال غيره: هي المعصية التي يلحق صاحبها الوعد الشديد بنص كتاب أو سنة. وقال الماوردي: هي ما وجب فيها الحد، أو توجه إليها الوعيد. وقد يفهم هذا اللفظ مغايرة بينه وبين اللفظ قبله، لأن هذا يقتضي أن ما توعد عليه بالنص أو بالظاهر كبيرة، دون اللفظ الأول. وقال القاضي أبو سعد: هي كل فعل نص الكتاب على تحريمه، وكل معصية توجب في جنسها حدًا من حبس أو غيره، وترك كل فريضة مأمور بها على الفور، والكذب في الشهادة والرواية واليمين.

وحكى القاضي الحسين [أن الحليمي] قال: حد الكبيرة: كل محرم لعينه، منهي عنه لمعنى في نفسه- فتعاطيه كبيرة، وتعاطيه على وجه يجمع وجهين أو وجوهًا من التحريم يكون فاحشة، والفاحشة أعظم من الزنى. ومثاله: أن الزنى كبيرة، فإذا زنى بحليلة جاره، وهي قريبة له أو لا- يكون فاحشة، وهذا عدها صلّى الله عليه وسلّم من [أكبر] الكبائر. و ((الصغيرة)): قال الحليمي: حدها: تعاطي ما ينقص رتبته عن رتبة المنصوص عليه، [أو تعاطيه على وجه دون المنصوص عليه، ولا يستوفي معنى المنصوص عليه-] يكون صغيرة، وتعاطيه على وجه يجمع وجهين أو وجوهًا من التحريم، يكون كبيرة. مثاله: القبلة، واللمس، والمفاخذة تكون صغيرة، ولكن لو كان مع حليلة الجار القريبة له تكون كبيرة. وقال الماوردي: هي ما قل فيها الإثم، قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، وغيرهما سكت عن حدها، وكأنه اكتفى بحصر الكبائر عن ذكر الصغائر، لعدم انحصارها. وقد جمع الإمام [في ((الإرشاد))] وغيره بين ما ترد به الشهادة من المعاصي بقوله: كل جريمة [توجد] بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، ورقة الديانة، فهي مبطلة للعدالة. وأما الكبائر المذكورة في الكتاب العزيز، قال الماوردي: فلأهل التأويل فيها أربعة أقاويل: أحدها: ما زجر عنه بالحد. والثاني: ما لا يكفر إلا بالتوبة. والثالث: [ما رواه] شرحبيل عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن

الكبائر، فقال: ((أن تدعوا لله ندا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك مخالفة أن يطعم معك، وأن تزني بحليلة جارك)). والرابع: ما رواه سعيد بن جبير: أن رجلًا سأل عن ابن عباسٍ: كم الكبائر، أسبغٌ؟ فقال: هي إلى سبعمائة أقر منها إلى سبع، لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. فكأنه يرى كبائر الإثم: ما لم يستغفر الله تعالى منه بالتوبة. وقد أعرض جماعة من الأصحاب عن ضبط الكبائر والصغائر بحد، واقتصروا على ذكر ما حضرهم مما اعتقدوه كبيرة وصغيرة، فقال الروياني: الكبائر سبع: قتل النفس بغير حق، والزنى، واللواط، وشرب الخمر-[أي:] قليله وكثيره- والسرقة، والقذف، واخذ المال غصبًا. واعتبر أبو سعد في غصب المال أن يبلغ ربع دينار. وضم في ((الشامل)) إلى السبع المذكورة: الشرك بالله تعالى، والكفر بنبي من أنبيائه صلوات الله عليهم أجمعين، وشهادة الزور. وأضاف إليها في ((العدة)): [أكل] الربا، والإفطار في رمضان بلا عذر، واليمين الفاجرة، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والخيانة في الكيل والوزن، وتقديم الصلاة على وقتها، أو تأخيرها عن وقتها بلا عذر، وأخذ الرشوة، والدياثة- يعني: الجميع بين الناس، واستماع المكروه والباطل، كما قال الشافعي: إذا كان الشخص لا يحسن الغناء، وإنما معه من يغني، ثم يمضي به [إلى] الناس، فإنه فاسق، قاله: وهذا دياثه-[و] القيادة بين الرجال والنساء، والسعاية عند السلطان، ومنع الزكاة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة، ونسيان القرآن بعد تعلمه، وإحراق الحيوان بالنار، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب، والإياس من رحمة الله تعالى، والأمن من مكر الله تعالى.

ويقال: الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن [مما] يعد من الكبائر، والظهار، وأكل لحم الخنزير من غير ضرورة. قال الرافعي: وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال: كقطع الرحم، وترك الأمر بالمعروف على إطلاقهما- ونسيان القرآن، وإحراق مطلق الحيوان بالنار. وقد أشار الغزالي في ((الإحياء)) إل مثل هذا التوقف. وفي ((التهذيب)) حكاية وجه: أن ترك الصلاة الواحدة إلى أن يخرج وقتها ليس بكبيرة، وإنما ترد الشهادة به إذا اعتاده. قلت: وقد حكاه في ((الزوائد)) عن الطبري، والقاضي الحسين حكاه أيضًا، وهو المذكور في ((المهذب))، لأنه اعتبر في رد الشهادة باللعب بالشطرنج أن يتكرر منه ترك الصلاة عمدًا، والأصحاب قالوا ذلك فيما إذا اشتغل بسبب الفكر فيها [حتى] خرج وقت صلوات، أما إذا ترك الصلاة الواحدة مع الذكر كفى. وقريب من ذلك ما قاله في ((البحر)): أن القفال قال: إذا أخرج الصلاة عن وقتها، اشتغالًا بخدمة رئيس أو كبير من الناس، أو [بإجابته إلى] ما يدعوه إليه، ووقع ذلك نادرًا- لا ترد به الشهادة، لاحتمال أنه غفل أو نسي. وإن تكرر ذلك منه، أو عرفنا: أنه تعمد ذلك- ردت شهادته، لأن ترك الصلاة الواحدة من أكبر الكبائر. وحكى الرافعي عن [الروياني] رواية وجه: أن التشاغل باللعب بالشطرنج إذا فات به صلاة واحدة [ترد به الشهادة]. وقد ألحق بعضهم بالكبائر الشرب من أواني الذهب والفضة، والتختم بالذهب، ولبس الحرير، والجلوس عليه، حتى [قال]: لا ينعقد النكاح بحضور الجالس على الحرير، واستبعده الأصحاب. وعد العراقيون منها: سماع الأوتار، والمعازف، والمزمار العراقي، وما هو من شعار الشرب، وقالوا: الفعلة الواحدة من ذلك ترد بها الشهادة. والمشهور: [أن ذلك] كله من الصغائر.

قال الغزالي- تبعًا لإمامه-: وما ذكرناه في سماع الأوتار مفروض فيما إذا لم يكن الإقدام عليه مرة يشعر بالانحلال، أما إذا كان فالمرة الواحدة ترد بها الشهادة. وطرد الإمام ذلك فيما جانس ذلك. واللعب بالنرد ملحق بالقسم المختلف فيه، لأن الشيخ أبا محمد قال: إنه من الصغائر مع القول بأنه محرم. والصحيح على [هذا] أنه من الكبائر، وطرد الإمام فيه التفصيل الذي ذكرناه في المزمار. وقد عاد القاضي الحسين من الصغائر ترك السنن الراتبة، وكذا دعاء الاستفتاح، أو تسبيحات الركوع والسجود، وتبعه في ((التهذيب)). وعن أبي الفرج حكاية وجه في ترك غير الوتر وركعتي الفجر-[أنه لا ترد الشهادة باعتياد تركها. قال القاضي]: ولو أبدل الوتر وركعتي الفجر بقضاء الفوائت، ردت. وعد في ((العدة)) من الصغائر: النظر بالعين [إلى ما] لا يجوز، [و] الغيبة، والضحك من غير عجب، والكذب الذي لا حد فيه ولا ضرر، والاطلاع على بيوت الناس، وهجر المسلم فوق ثلاث، وكثرة الخصومات وإن كان الشخص محقًا، والسكوت عن الغيبة والنياحة والصياح وشق الجيب في المصائب، والتبختر في المشي، والجلوس مع الفساق متأنسًا بهم، والصلاة المكروهة في الأوقات المكروهة، والبيع والشراء في المسجد، وإدخال الصغار والمجانين والنجاسات فيه، وتخطي رقاب الناس [يوم الجمعة]، والكلام والإمام يخطب، والتغوط مستقبل القبلة، وفي طريق المسلمين، وكشف العورة في الحمام. قال الرافعي: ولك أن تتوقف في كثرة الخصومات للمحق، وتقول: ما ينبغي أن تكون بمعصية أصلًا، إذا راعى حد الشرع. وفي تخطي الرقاب يوم الجمعة،

فإنه معدود من المكروهات دون المحرومات، وكذلك الكلام والإمام يخطب. قلت: وهذا منه يدل على اختصاص الصغائر بالمحرمات، وهو الأقرب، لكن سنذكر أن اللعب بالشطرنج ليس بمحرم على المذهب، و [قد] عده الغزالي من الصغائر. وفي ((البحر)): أن من كذب عن قصد، ردت شهادته، وإن لم يكن [يقع بقوله ضرر على أحد غيره، لأن] الكذب حرام بكل حال. قال القفال: إلا أن يقوم ذلك على مذهب الكتاب والشعر في المبالغة في الكلام، وقد عد في ((الأيام)) من الصغائر. وقال ابن الصائغ: غشيان الدعوى بغير دعاء من غير ضرورة، وعدم استحلال صاحب الطعام، لأنه قال: إذا تتابع ذلك منه ردت شهادته، لأنه يأكل محرمًا إذا كانت الدعوة دعوة رجل بعينه، فأما إذا كانت دعوة سلطان أو شبيه به، فيدعو الناس إليه، فهذا طعام عام، فلا بأس به. وفي ((الزوائد)): أن الطبري عد من الصغائر [من] يهازل زوجته أو جاريته بحيث يسمع غيره، فإن جاء به نادرًا لم ترد [به] الشهادة، [فإن أكثر] منه ردت به. وقد عد الغزالي منها: شرب الحنفي النبيذ. والمنقول عن الشافعي أنه قال: الحنفي إذا شرب النبيذ حددته، وقبلت شهادته. وأن المزني قال: كيف يحد من شرب قليلًا من نبيذ شديد، وتجوز شهادته؟! فمن الأصحاب من قال المزني: يختار أنه لا يحد، كما لا يفسق، وهذا ما حكاه الماوردي والجمهور عنه، وجعله بعض الأصحاب وجهًا. [ومنهم من قال: إنه يختار: أنه يفسق، كما يحد، وجعله بعض الأصحاب وجهًا]، وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة أوجه: أصحها: المحكي عن النص، ولم يورد العراقيون والماوردي سواه، وفرقوا بين الحد والفسق بفروق: أحدها: أن الحد آكد من الفسق، ولذلك يسقط الفسق بالتوبة دون الحد.

الثاني: أن الغرض بالحد الزجر والردع، ويحتاج شارب القليل إلى الردع عنه، لأنه قد يدعوه إلى كثيره، وربما سكر منه، ورد الشهادة مأخذه عدم الثقة بقوله، وإذا لم يعتقد التحريم لم تسقط الثقة بقوله. الثالث: إن الحد إلى الإمام، فاعتبر فيه اعتقاده، ورد الشهادة يعتمد عقيدة الشاهد، ولهذا لو غصب جارية، ووطئها على اعتقاده: أنه يزني، ثم تبين أنها كانت مملوكة [له]- فسق، وردت شهادته. ولو وطئ جارية الغير عن ظن أنها جاريته، لا ترد شهادته. وعلى هذا لو كان الشارب لما لا يسكر من النبيذ يعتقد التحريم- كالشافعي- ففي رد شهادته بذلك وجهان: أحدهما: لا ترد، لأنه اعتقد تحريمه بطريق مظنون، فالشبهة فيه قائمة، ولأن استحلال الشيء أشد من فعله، ولهذا لو استحل الزنى كفر، ولو فعله لم يكفر، وإذا لم ترد شهادة مستحل الشرب، فشهادة الشارب أولى، وهذا يحكي عن ابن أبي هريرة، ولم يحك القاضيان: أبو الطيب والحسين في ((تعليقهما)) سواه، وعيه يدل النص في ((المختصر)) حيث قال: ومن شرب سواها- أي: سوى الخمر الصرف من المنصف، أو الخليطين- فهو آثم، ولا ترد شهادته إلا أن يسكر، وإنما يؤثم من يعتقد التحريم، ولهذا رجحه ابن الصباغ والمصنف والمتأخرون من الأصحاب، كما قال في ((البحر)). وعلى هذا فإنما يحكم بالفسق ورد الشهادة إذا ارتكب مجمعًا على تحريمه، لأن من فعل ما لا شبهة له فيه، يكون مقدمًا على مقطوع بتحريمه، فيخاف منه شهادة الزور المحرمة بالإجماع. والثاني- ويحكى عن أبي إسحاق-: أنها ترد، لأنه [إذا] ارتكب ما يعتقده محظورًا، لم يؤمن جراءته على شهادة الزور وسائر المحظورات، وهذا ما أورده الإمام، كما قال الرافعي والماوردي، وقال ابن الصباغ: إن القاضي حكاه في ((المجرد))، وحكى في ((البحر)): أن القاضي أبا الطيب وجماعة رجحوه، وعليه ظاهر النص، فإنه قال في ((الأم)): وإذا كان الرجل المستحل [الأنبذة] يحضر مع أهل السفه الظاهر، ويترك لها حضور الصلوات، وينادم عليها- ردت

شهادته بطرحه المروءة، وإظهاره السفه، فإذا لم يكن ذلك معها، لم ترد شهادته من قبل الاستحلال، وهذا نص صريح على الفرق. قال القفال: وعلى هذا: لو نكح بغير ولي، ووطئها، فإن اعتقد الإباحة لا ترد شهادته، وإن اعتقد فساده ردت شهادته، وعليه يدل نص الشافعي الذي حكاه في ((البحر)) بعد ذلك: أن الشافعي قال: والمستحل لنكاح المتعة، والمفتي بها، والعامل بها- لا ترد شهادته، ولا يحد. وعلى هذا- أيضًا- لو شرب من لم يعتقد الإباحة في ذلك ولا الحظر، ما لا يسكر من النبيذ مع علمه باختلاف أهل العلم في إباحته وحظره- قال في ((الحاوي)): ففي فسقه ورد شهادته بعد وجوب الحد عليه، وجهان لأصحابنا: قال البصريون: هو فاسق مردود الشهادة، لأن ترك الاسترشاد في الشبهات تهاون بالدين، فصار فسقًا. وقال البغداديون: هو على عدالته وقبول شهادته، لأن اعتقاد الإباحة أغلظ من الشرب كما ذكرنا، ولو اعتقد الإباحة لم يفسق. [وحكم المقلد فيما ذكرناه حكم مقلده إذا فعل، صرح به في ((البحر)) وغيره. ولا خلاف أنه إذا شرب من النبيذ ما أسكره: أنه يفسق]، لقيام الإجماع على أن السكر حرام، وما ألحقه الشافعي من عصير العنب بالنبيذ إذا كان مختلطًا، فهو- كما قال الماوردي- إذا خلط بالماء قبل أن يصير مسكرًا، [أما إذا خلطه بعد أن صار مسكرًا] فهو كالخمر. وكما يفسق شارب الخمر يفسق بائعها، لأنه- عليه السلام- لعنه كالشارب، ولا يفسق عاصرها ومعتصرها وإن شملتهما اللعنة. قال الرافعي: لأنه قد لا يتخذها خمرًا، ولهذه العلة قلنا لا يفسق أيضًا إذا باع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرًا. ولفظ القاضي أبي الطيب يفهم خلافه، فإنه قال: إذا باع العصير من رجل، نظر: فإن كان لا يعلم أنه يعمله خمرًا، فإن ذلك لا يؤثر في عدالته، لأنه لا يعلم حقيقة ما يفعل به، لأنه ربما فعل به غير الخمر.

قال ابن الصباغ: ولا يفسق الممسك، لأنه يجوز أن يمسكها، ليخللها، والتخليل مختلف في جوازه. [و] في ((تعليق)) البندنيجي أن الشافعي قال: لو اتخذ الخمر، لم أرد شهادته بذلك، لأنه قد يغيرها بأن يخللها، وقد يريقها. وفي ((الحاوي)): أنه [إذا] أمسك الخمر، وقصد به أن تنقلب فتصير خلًا، جاز، [ولم] يفسق به، [لأنه] يحل بالانقلاب. وإن قصد ادخارها على حالها، كان محظورًا يفسق به، لأن إمساكها داع إلى شربها، وما دعا إلى الحرام محظور. فرع: حكى في ((البحر)) في الفروع المذكورة قبل كتاب الشهادات: أن العدل لو نوى أن يواقع كبيرة غدًا: كالقتل، والزنى- لم يصر به فاسقًا. وإذا نوى المسلم أن يكفر غدًا فهل يكفر في الحال؟ فيه وجهان، والصحيح: أنه يصير كافرًا في الحال. والفرق: أن نية الاستدامة في الإيمان شرط، والنية لا توجب في حق من لا ذنب له، فإنه ليس الأصل وجوب الفسق، والأصل فقد الإيمان، وإيجاب فعله. واعلم أنه قد دخل فيما ذكره الشيخ الكافر، لأن الكفر- كما ذكرنا- من أكبر الكبائر. قال الأصحاب: ولا فرق في عدم قبول شهادته بين أن تكون على مسلم أو كافر، موافق له في الاعتقاد أو مخالف. قالوا: ولا حجة لمن سمع شهادتهم على أهل دينهم في قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((لا تقبل شهادة أهل دين على غير أهل دينهم إلا المسلمين، فإنهم عدول على أنفسهم، وعلى غيرهم))، لأن هذا الخبر لو دل لهم فإنما يدل بالمفهوم، وهم لا يقولون به. ولا يقال: أنتم تقولون [به]، فكيف خالفتموه؟ لأنا نقول: إنما نقول به في الموضع الذي لا يكون غيره أقوى منه، [وهنا ما هو أقوى منه].

وأيضًا: فإن دليل الخطاب إنما نقول به في الموضع الذي لا يئول إلى إبطال نطقه، أما إذا أدى إلى إبطال نطقه فلا نقول به، لأن النطق أقوى منه، لأنه أصله، والأصل إذا بطل طل الفرع، والأمر ها هنا كذلك، والله أعلم. قال: ولا تقبل ممن لا مروءة له: كالكناس، والنخال، والقمام- أي: الذي يجمع القمامة- بضم القاف- وهي الكناسة، ويحملها، والفعل منه: قم، يقم- والقيم في الحمام، والذي يلعب بالحمام- أي: مثل أن يتخذها، ليطيرها، وينظر تقلبها في الجو، ويشغله ذلك عن إيقاع الصلوات في وقتها، كما ذكرناه في اللعب بالشطرنج، أو يقترن بذلك قمار، كذا صوره أبو الطيب وغيره. والقوال، أي: المعنى للناس، سواء أتوه إلى موضعه أو أتاهم، دون ما إذا كان لا ينسب نفسه إليه، وإنما يترنم لنفسه، فإنه لا ترد شهادته. والرقاص، أي: الذي يعتاد الرقص، يقال: رقص يرقص رقصًا. والمشعوذ، ومن يأكل في الأسواق، أي: ينصب مائدة، وهو مما لا يعتاد مثله ذلك، دون من عادته أن يأكل القليل على باب دكانه، لشدة جوعه، كما قاله البندنيجي، أو كان ممن عادتهم أن يتغدوا في الأسواق: كالصباغين، كما قاله القاضي الحسين. وكذا السماسرة الذين لا حشمة لهم، ولا وجاهة. ويمد رجله عند الناس- أي: من غير مرض، كما قاله البندنيجي- ويلعب بالشطرنج على الطريق، وكذا كشف ما ليس بعورة من بدنه، والحكايات المضحكة، وذكر أهل وزوجته بالسخف، كما ذكره ابن الصباغ، ونحو ذلك. والأصل في هذا: أن حفظ المروءة من دواعي الحياء ووفور العقل، فطرحها إما أن يكون لخبل [في العقل] ونقصان، أو لقلة حيائه ومبالاته بأمر نفسه، وعلى كلا التقديرين، فعدم الثقة بقوله حاصل: أما المخبل فظاهر، وأما الآخر، فلأن من لا حياء له، صنع ما شاء، روى أبو مسعود البدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ((مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).

ولأن من أطرح التحفظ في حق نفسه، كان أولى أن يقل تحفظه في حق غيره. وقد تكلم الأصحاب في ضبط المروءة، واختلفت عباراتهم مع تقاربهم: فمن قائل: حفظ المروءة: أن يصون نفسه عن الأدناس، ومما يشينها عند الناس. ومن قائل: أن يسير بسيرة أشكاله وأمثاله، من أهل عصره في زمانه ومكانه. ومن قائل: أن يحفظ نفسه من فعل ما يسخر به، ويضحك عليه بسببه. والمرجع فيها إلى العرف والعادة، فقد يكون الشيء مروءة لقوم، وتركه مروءة لآخرين، فإن السوقي لو تطيلس كان تاركًا للمروءة، وهو من الفقيه مروءة، والفقيه لو تمنطق وتقلنس، يكون تاركًا للمروءة، وذلك من الشرطي مروءة. قال الإمام: وكل هذا في ضبط ما لا يحرم في نفسه، ولو أقدم عليه المقدم لم يأثم ولم يعص، فإن حق الكلام في المروءة أن تفصل عن مقارفة الذنوب، والأقرب فيه أن يقال: كل انحلال عن انفصام المروءة يشعر بترك المبالاة والخروج عن المماثلة، فهو يسئ الظنون بالتحفظ بالشهادة. وقال الماوردي: المروءة على ثلاثة أضرب: ضرب يكون شرطًا في العدالة، وهو مجانبة ما يسخف من الكلام المؤذي، أو الضحك، وترك ما قبح من الفعل الذي يلهو به، أو يستقبح، لمعرته أو أذيته، فمجانية ذلك من المروءة التي هي شرط [في] العدالة، وارتكابها مفض إلى الفسق، وكذلك نتف اللحية من السفه الذي ترد به الشهادة، وهكذا خضابها سفه ترد به الشهادة، لما فيها من تغيير خلق الله. وفي ((البحر)) في الفروع المذكورة بعد كتاب الأقضية إبداء ما ذكره الماوردي في نتف اللحية احتمالًا موجهًا [له] بقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((إذا أبغض الله عبدًا ألهمه أكل

الطين ونتف اللحية))، وهذا قاله بعد أن جزم القول بأن الشهادة لا ترد به، لأنه ليس بحرام وإن كان مكروهًا، وقال ها هنا: إن رد الشهادة به أصح عندي. وضرب لا يكون شرطًا فيها، وهو الإفضال بالمال، والطعام، والمساعدة بالنفس والجاه. وضرب مختلف فيه، وهو على ضربين: عادات، وصنائع. فأما العادات: فهو أن يقتدي فيها بأهل الصيانة [دون أهل البذلة في ملبسه ومأكله وتصرفه، فلا يتعرى من ثيابه في بلد يلبس فيه أهل الصيانة ثيابهم، ولا ينزع سراويله في بلد يلبس فيه أهل الصيانة] سراويلاتهم، ولا يكشف رأسه في بلد يغطي فيه أهل الصيانة رءوسهم. وإن كان في بلد لا يتحامى أهل الصيانة ذلك فيه، كان عفوًا: كالحجاز، و ((البحر)) الذي يقتصر أهله على لبس المئرز. وأما المأكل فلا يأكل على قوراع الطرق، ولا في مشيه، ولا يخرج عن العرف في مضغه، ولا يغالي بكثرة أكله. وأما التصرف فلا يباشر ابتياع مأكوله ومشروبه، وحمله بنفسه [في] بلد يتجافاه أهل الصيانة إلى نظائر هذا مما فيه بذلة وترك تصون. قال الإمام: إلا أن يتبع في ذلك رأي السلف، والتواضع، ويظهر أنه لم يفعله بخلًا ولا شحًا. قال الماوردي: وفي اعتبار هذا الضرب من المروءة في شروط العدالة أربعة أوجه: أحدها: أنه غير معتبر فيها، لأنه قد نقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة ما يقاربه. والثاني: أنه معتبر فيها وإن لم يفسق به، لأن العدالة في الشهادة للفضيلة المختصة بها، وهي تالية لفضيلة النبوة، قال الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} الآية [البقرة:143]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الآية [البقرة:143]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:33 - 35].

وما كان بهذه الفضيلة امتنع أن يكون مسترسلًا في البذلة، وليس ما فعله الصدر الأول بذلة، لأنه لم يخرج عن فعل أهله في الزهادة والانحراف عن الدنيا إلى الآخرة. والثالث: إن كان نشأ عليها من صغره لم تقدح في عدالته، وإن استجدها في كبره، قدحت في عدالته، لأنه يصير بالمنشأ مطبوعًا بها، وبالاستحداث مختارًا لها. والرابع: إن اختصت بالدين قدحت في عدالته: كالبول قائمًا، وفي الماء الراكد، وكشف عورته إذا خلا، وأن يتحدث بمساوي الناس. وإن اختصت بالدنيا لم تقدح في عدالته: كالأكل في الطريق، وكشف الرأس بين الناس، والمشي حافيًا، لأن مروءة الدين مشروعة، ومروءة الدنيا مستحسنة. واعلم أن الشيخ عد الكناس، والنخال، والقمام، والقيم في الحمام- ممن لا مروءة له، لأن تعاطيه هذه القاذورات وملازمته لها تدل على قلة مروءته، وكونها صنائع لا يمنع ذلك. لكن القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين أدرجوا ذلك في قسم أصحاب المكاسب الدنيئة التي سنذكرها من بعد، فأجروا فيها الخلاف. وعن أبي الفياض حكاية وجه فارق بين ما يحوج إلى مخامرة القاذورات والنجاسات، فترد به الشهادة، وبين ما لا يحوج إليه فلا ترد، فكأن الشيخ أخذ بها في ملابسه القاذورات، لكونه رآه أظهر فيها. وحكى الخلاف فيما لا يلابس فيه القاذورات، لأنه أبعد عن الدناءة، ولهذا رجح أنه لا يمنع القبول. وحكى القاضي [الحسين] عن الدراكي: أنه قال: لا تقبل شهادة الحمامي الذي يجلس على القبالة، لأنه ينظر إلى عورات الناس، فإن كان ممن يتورع عن ذلك قبلت شهادته. وحيث رددنا الشهادة بما ذكر، فذاك إذا اتخذه عادة. قال الأصحاب: ولو اتخذ الحمام للأنس أو الاستفراخ، أو لإنفاذه بالكتب لم يترد شهادته، وكذا إذا اتخذها ليطيرها وينظر تقلبها في الجو، ولم يلحقه

بسبب ذلك سهو عن صلاة، ولا قرنه بقول الهجر من القول، ولا بقمار، سواء قل ذلك منه أو كثر، كما في اللعب بالشطرنج في البيت إذا خلا عن ذلك، كذا قاله أبو الطيب وغيره، لكن ذلك مكروه، كما في اللعب بالشطرنج. وحكى الرافعي وجهًا آخر: أنه لا كراهة في هذه الحالة، كما لا كراهة [في] الاتخاذ للاستفراخ والأنس. والوجهان منسوبان في ((الوسيط)) للعراقيين، وأنهما مذكوران في رد الشهادة من جهة: أنه يقدح في المروءة. وما ذكره الشيخ وغيره في اللعب بالشطرنج مفرع على أن اللعب بها مكروه، وليس بمحرم إذا لم يلحقه به سهو عن صلاة، ولا اقتران به هجر من القول، ولا قمار، وهو الذي نص عليه الشافعي، وصححه الجمهور، بخلاف اللعب بالنرد، فإنه حرام على الصحيح في ((الحاوي)) وغيره، وبه قال ابن أبي هريرة، وابن القاص، وأبو علي الطبري، وأكثر الأصحاب، كما قاله الماوردي، والقاضي أبو الطيب، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله)). والفرق: أن الشطرنج موضوعة لصحة الفكر، وصواب التدابير، ونظام السياسة، فهي تعين على تدبير الحروب والحساب، والنرد موضوعة إلى ما تأتي به الفصوص، فهي كالأزلام. وقد حكى عن ابن خيران وأبي إسحاق المروزي والأسفراييني: أنهم قالوا: إنه مكروه كالشطرنج، لكنه أشد كراهة، وتمسكوا في ذلك بقوله الشافعي في أدب القضاء من ((الأم)): ((وأكره من جهة الخبر اللعب بالنرد أكثر مما أكره اللعب بشيء من الملاهي، ولا أحب اللعب بالشطرنج، وهي أخف حالًا [من اللعب

بالنرد]، فإن ظاهر هذا الكلام يدل على أن اللعب [بالنرد ليس بمحرم، ولهذا قال البندنيجي: إن اللعب] به عند الشافعي كاللعب بالشطرنج، غير أنه أشد كراهة. وقال القاضي أبو الطيب- كما حكاه في ((البحر)) عنه-: إنه المذهب، وقضية هذا ألا ترد الشهادة باللعب به وإن تكرر، كالشطرنج، وإليه يرشد قول أبي إسحاق الذي حكاه في ((البحر)): ولا يبين منع ذلك رد الشهادة إلا أن يكون قمارًا. لكن المذكور في ((الحاوي)): أن الشهادة ترد به وإن قلنا: إنه مكروه. وحكى عن الحليمي أنه ألحق اللعب بالشطرنج بالنرد في التحريم، وأن الروياني اختاره. وعلى هذا لا نحتاج في رد الشهادة به إلى أن يكون على الطريق، بل [يكون] الحكم فيه كاللعب بالنرد ويقع الكلام في أنه من الصغائر أو الكبائر؟ ومقابل هذا الوجه في البعد وجه [محكي فيما] علق عن الإمام: أن اللعب بالشطرنج مباح لا كراهية فيه، وهو في ((الحاوي)) - أيضًا- لأنه قال: اختلف أصحابنا فيما تستند إليه الكراهة على وجهين. أحدهما: إليها نفسها، لكونها جزءًا من اللعب. والثاني: أنها تستند لما يحذر عنها من الخلاعة، وعلى هذا لو انتفت الخلاعة عند اللعب بها، كان مباحًا. وقد اتفق الكل على أنه لو اقترن باللعب بالشطرنج تشاغل، بحيث انقطع له ليله ونهاره، ولها به عما سواه، أو خلاعة بذكر الهجر من القول، أو قمار، كما إذا أخرج كل من المتلاعبين مالًا، وشرطًا أيهما غلب أخذ المالين- ردت شهادته، لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية [المائدة:90]، والميسر: القمار. وقد تقدم الكلام في أنه لو اشتغل بها عن صلاة واحدة ما حكمه؟ ولو أخرج [أحد] اللاعبين المال على أنه إن غلب عاد إليه، وإن غلب أخذه الغالب، ففي ((الحاوي)) حكاية وجهين في جواز ذلك مع اتفاقهم على جوازه في السبق والرمي، بناء على اختلافهم في قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((لا سبق إلا في خف،

أو حافرٍ، أو نصلٍ))، هل هو أصل بذاته، أو استثناء من جملة محظور؟ على وجهين: أحدهما: أنه أصل بنفسه، يجوز القياس عليه، فعلى هذا يجوز في مثله في الشطرنج، قياسًا على السبق والرمي، لجواز القياس على أصول النص، ولا يكون إخراج هذا العوض في الشطرنج محظورًا، ولا يكون به مجروحًا. والثاني: أن الخبر في السبق والرمي استثناء من جملة محظور، فعلى هذا لا يجوز مثله في الشطرنج، ويكون إخراج هذا العوض في الشطرنج محظورًا، ويصير بإخراجه مجروحًا. وحكي مثل هذين الوجهين فيما إذا لعب بالحمام على [مثل] هذا الوجه تخريجًا على الأصل المذكور. [و] الذي حكاه البندنيجي والقاضي أبو الطيب في مسألة الشطرنج: أنه لا يصير واحد منهما مجروحًا، كما لو لعبا بغير عوض، فإن هذه المعاقدة فاسدة، ولا يملك الغالب العوض، وإن أخذه وجب رده. فروع: أحدها: الغناء بغير آلة مكروه عندنا، غير محرم على المشهور. وعن أبي الفرج الزاز رواية وجهين: أحدهما: أنه يحرم كثيره دون قليله. والثاني: أنه حرام على الإطلاق. وعلى المشهور: إذا اتخذ الرجل غلامًا، أو جارية تغني [له]، فإن كان يجمع عليها الناس فهذا سفه، ترد به الشهادة، وهو في الجارية آكد، لأن فيها سفهًا ودياثة. وإن كان لا يجمع عليها الناس، وإنما يتخذ ذلك لنفسه كان مكروهًا، ولا ترد به الشهادة، قاله ابن الصباغ [وغيره]. وخص الماوردي ذلك بما إذا لم يكن مكثرًا في ذلك، ولا متجاهرًا به. وقال فيما إذا دعا من يشركه في سماعها: فإن كان يدعوهم من أجل الغناء،

ردت شهادته، وكذا إن دعاهم لغيره، وأسمعهم إياه، وكثر حتى اشتهر، وإن قل، ولم يشتهر- فإن كان الغناء من غلام لم ترد شهادته، وإن كان من جارية فسيأتي. الفرع الثاني: إذا كان يغشى بيوت الغناء، ويغشاه المغنون للسماع، فإن كان في خفية لم ترد شهادته، لأنه لم تسقط مروءته، وإن كان متظاهرًا، فإن كان قليلًا لا يكثر منه، فكذلك، وإن كثر منه، ردت، لأنه سفه وترك مروءة. قال في ((الشامل)) و ((البحر)): ولم يفرق أصحابنا فيما ذكرناه بين سماع الغناء من الرجل والمرأة. وينبغي أن يكون [سماع] الغناء من الأجنبية أشد كراهة من سماعه من الرجل، لأنه لا يؤمن الافتتان بها وإن كان صوتها ليس بعورة في الجملة، ألا ترى أو وجهها ليس بعورة، ولا يجوز أن ينظر إليه من يخاف الافتنان به؟! وفي ((الرافعي)): أن القاضي أبا الطيب قال بتحريمه من الأجنبية. قال الرافعي: وهذا هو الخلاف الذي سبق في أن صوتها هل هو عورة؟. فإن كان في السماع منها خوف فتنة، حرم لا محالة، وكذا السماع من صبي يخاف منه الفتنة. وقال في ((الحاوي)): إن [كان] الغناء من الغلام لم ترد شهادته، وإن كان من جارية: فإن كان من حرة ردت شهادة مستمعها إذا اعتمد السماع، وإن كانت أمة فسماعا أخف، لنقصها في العورة، وهو أغلظ من سماع الغلام، لزيادتها عليه في العورة، فيحمل أن تلحق بالغلام، فلا ترد الشهادة بسماعها، ويجوز أن تلحق بالحرة فترد. الفرع الثالث: إذا استمع الحداء ونشيد الأعراب، قال الشافعي: فلا بأس به.

قال الأصحاب: ووجهه في الأولى: أنه صوت لا يؤثر في القلب طربًا، فكان كسائر الكلام. [و] وجهه في الثانية: ما روى الشافعي بسنده عن شريك أنه قال: ((أردفني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: أمعك من شعر أمية شيء؟ فقلت: نعم، فقال: هيه، فأنشدته بيتًا، فقال: هيه، فأنشدته بيتًا، فقال: هيه، فأنشدته بيتًا، فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيتٍ)). إذا كان يغني إذا اجتمع مع إخوانه، لينشرحوا بصوته، وليس بمنقطع للغناء، ولا يأخذ عليه أجرًا- قال في ((البحر)): نظر: فإن صار مشهورًا به، يدعوه الناس من أجله، فإن كان متظاهرًا به، ومعلنًا [له]، ردت شهادته. وإن كان مستترًا به، فلا. قال: وأما أصحاب المكاسب الدنيئة: كالحارس، والحائك، والحجام فقد قيل: تقبل شهادتهم إذا حسنت طريقتهم في الدين، أي: بحيث كانوا يتجنبون النجاسات، ويغسلون ما أصابهم منها، لأن بالناس حاجة إلى ذلك، وهو من فروض الكفايات، فإذا ردت شهادة من يتولاه، كان ذلك طريقًا إلى تركه ولحوق الضرر بعامة الناس، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: ((اختلاف أمتي رحمة))، وفسره الحليمي باختلافهم في الحرف والصنائع، كما حكاه الإمام وغيره عنه عند الكلام في الكفارة. وقيل: لا تقبل، لأن هذه صنائع دنيئة تذهب معها المروءة. قال: والأول أصح، لما ذكرناه. ومنهم من قال: تقبل شهادة الحائك وإن [لم] تقبل شهادة غيره، حكاه العراقيون، واختاره القفال، لأنه ينسج غزلًا، كما يخيط الخياط [ثوبًا] منسوجًا. قال الإمام: وهو حسن، لكن الناس متفقون على الازدراء بالحاكة.

وإذا جمعت هذا مع تقدم جاءك في الكل ثلاثة أوجه: ثالثها: تسمع شهادة الحائك دون ما عداه، وكذا حكاه الماوردي، وألحق القصاب والسماك بالحائك. قال في ((البحر)): وقيل: هما أحسن حالًا منه. والدباغ ملحق بالقيم في الحمام. والأساكفة، قال القاضي الحسين: إن كانوا يستعملون شعر الخنزير- وهو: الهلب- ولا يغسلون الثياب عنه، فلا خلال أنه لا تقبل شهادتهم. وإن كانوا يستعملون الهلب، ويغسلون الفم والأيدي من ذلك، فهل تقبل شهادتهم؟ فيه وجهان، الأصح: أنها لا تقبل. وإن كانوا يخرزون بالليف، أو بشعر الزرافة ويغسلون الثياب عن النجاسات فالأصح من المذهب: قبول شهادتهم. والصباغون والصاغة، أطلق الجمهور القول بقبول شهادتهم، إلا أن يصدر منهم كذب في الموعد، كما في سائر المحترفة، ويتكرر، فترد به شهادتهم. وعن كتاب ابن كج: أن بعض الأصحاب ألحق الصباغين [والصواعين] بمن ترد شهادتهم. وقد خص الغزالي محل الخلاف فيمن ذكرناهم إذا كان يليق كل حرفة بمن اكتسب بها، وكانت من صنعة آبائه، فأما غيره إذا اختارها واشتغل بها، سقطت مروءته. قال الرافعي: وهو حسن، وقضيته أن يقال: الإسكاف والقصاب إذا اشتغلا بالكنس، سقطت مروءتهما، بخلاف العكس. وذكر القاضي الحسين عند الكلام في شهادة الوالد للولد طريقة أخرى، فقال: شهادة الحمال في يسير من المال مقبولة، وكذا الدلال، وتارك المروءة، ونحوه، لأن الغالب أنهم لا يقصدون بمثل ذلك. وإن شهدوا بمال كثير، نظر: إن كان الشيء مما يقصد بالإشهاد عليه فلا يقبل، لأن الغالب أن من [يتخذ] على شيء شاهدًا، فلا يقصد حمالًا ولا كيالًا.

وإن كان الشيء مما لا يقصد بالإشهاد، مثل أن يرى رجلًا غصب مال رجل، فإنه يجوز أن يتفق مثل هذا، فتقبل شهادته فيه. قال: وتقبل شهادة الأخرس، أي: إذا كانت له إشارة مفهمة، لأن إشارة الأخرس كعبارة الناطق في نكاحه، وطلاقه، وبيعه، وشرائه، وجميع الأمور، كما قال البندنيجي في باب حد الزنى، فكذا في شهادته، وهذا ما نسبه البندنيجي في باب حد الزنى إلى أبي إسحاق، وهنا إلى ابن سريج، وهو المذكور في ((الحاوي)) في مواضع. وقيل: لا تقبل، لأن الإشارة لا تصرح، وإنما تعرف بالاستدلال الظن، ولا حاجة بالقاضي [إلى] إقامة الظن مقام العلم، لأنه يمكنه أن يستشهد غيره، بخلاف العقود، فإنها لا تستفاد إلا من جهته: إما بعقده، أو بإذنه، فكان تصحيحه للضرورة، وهذا ما صححه النواوي، والغزالي في كتاب اللعان، وحاكه البندنيجي في باب حد الزنى عن النص، وقال هنا: إنه المذهب. وكذلك الماوردي قال هنا وفي كتاب الأقضية: إنه المذهب. وفي كتاب اللعان: إنه [الذي] عليه جمهور أصحابنا، وهما في ذلك متبعان للشيخ أبي حامد، فإن هذه طريقته، كما حكاها ابن الصباغ. قال: والأول [أصح]، لما ذكرناه، والشيخ فيه موافق لأبي عبد الله الحناطي، وشيخه [القاضي] أبي الطيب، فإن القاضي في باب حد الزنى حكاه عن رواية ابن المنذر عن المزني [عن مذهب الشافعي، وقال هنا: إنه حكاه أبو بكر بن المنذر عن المزني]. وإني سمعت أبا عبد الله الحناطي يقول: إنه المذهب، وإن أبا العباس قال: لا يسمع. وكان رجلًا حافظًا لكتب الشافعي، وكتب أبي العباس. وقد ذكر المزني هذه المسألة في ((الجامع الكبير))، وذكر أن الذي يجيء على قياس قول الشافعي أن شهادته تصح، كما في نكاحه، ولم أحد للشافعي نصًا، وإنما وجدت هذا في كتاب المزني، وهو أعلم بمذهب الشافعي وما تقتضيه أصوله من غيره.

وقولهم: إنه به حاجة إلى العقود [دون الشهادة، لا يصح، لأنه يجوز أن يكون وكيلًا لغيره في العقود] وإن لم تدع الحاجة إليه، وقد تتعين عليه شهادة تحملها قبل الخرس، فتدعو الحاجة إلى سماعها منه. قال: وتقبل شهادة الأعمى فيما تحمله قبل العمى، أي: على من عرف اسمه، ونسبه، لأنه مساوٍ للبصير في العلم بذلك، والبصير يجوز أن يشهد والحالة هذه وإن لم ير المشهود عليه لغيبة أو موت، فكذلك الأعمى يجوز أن يشهد عليه وإن لم يره، وهكذا نقول من طريق الأولى لو عمي بعد الشهادة وقبل الحكم. ولا يقال: إن العمى نفسه مانع من الشهادة كالفسق، لأنا نقول: هو معنى طرأ بعد الشهادة، لا يورث تهمة في حال الشهادة، فلا يمنع الحكم بها، كالموت والعداوة، بخلاف الفسق، فإنه يورث تهمة في حال الشهادة، وهذا ما نص عليه. نعم، لو كان من طرأ عليه العمى قاضيًا، وقد سمع الشهادة على رجل باسمه ونسبه، فعمي قبل الحكم- هل يحكم؟ حكى الإمام ومن تبعه فيه وجهين، والذي حكاه القاضي الحسين منهما: أنه يحكم، وعليه فرع العراقيون، فإن صاحب ((البحر)) قال: قال أصحابنا: يجوز له في مثل هذه الصورة أن يقضي بعلمه إذا جوزنا القضاء بالعلم، أما إذا كانت الشهادة على معين بالإشارة، دون أن يعرف اسمه ونسبه، لم تصح الشهادة منه عليه بعد العمى، كما لا تصح الشهادة عليه من البصير إذا كان غائبًا والحالة هذه، اللهم إلا أن تكون يده في يده، ولم يفارقه بعد طروء العمى عليه إلى القاضي، فإنه تسمع شهادته عليه، كما قاله الماوردي وغيره. قال: ولا تقبل [شهادته] فيما تحمله بعد العمى، لانسداد طريق المعرفة عليه مع اشتباه الأصوات التي يقدر الإنسان على التصنع فيها، وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الحديث. فإن قيل: إذا عرف الشخص، وألف صوته، ينبغي أن تسمع شهادته عليه، كما يحل له أن يطأ زوجته بمثل ذلك.

قيل: الشهادة تخالف ذلك، لأنه يجوز أن يطأ زوجته، اعتمادًا على اللمس إذا عرف به علامة فيها، وبخبر المرأة الواحدة إذا زفها إليه، وقال: إنها زوجته، ولا تجوز الشهادة بمثل ذلك. قال: إلا في موضعين: أحدهما أن يقول في أذنه شيئًا، فيعلقه- أي: يجعل يده على رأسه، أو يده في يده- ويحمله إلى القاضي، ويشهد بما قاله في أذنه، للعلم بحصول العلم بأنه المشهود عليه، وهذا ما صححه الرافعي تبعًا للغزالي، والقاضي الحسين، وحكى وجهًا آخر: أنه لا تقبل، لجواز أن يكون المقر به غيره، وهو بعيد. قال القاضي: ومحل الخلاف إذا جمعهما مكان خال، وألصق فلق فيه بحرف أذنه وضبطه كما ذكرنا، فلو كان هناك جماعة، وأقر في أذنه، لم تقبل. والثاني: فيما يشهد فيه بالاستفاضة، أي: كالموت، والنسب، والملك المطلق، لأن الشهادة إذا كانت على الاسم والنسب، لم يؤثر فيها فقد البصر، كما لو شهد البصير على ميت أو غائب. ولأنه يساوي البصير في العلم بذلك، لأن سببه السمع، وهما يستويان فيه، وهذا ما حكاه الشيخ أبو حامد عن جميع الأصحاب، كما حكاه في ((البحر)) عنه، وتبعه البندنيجي في هذه الحكاية عنه. ولأنه يساوي البصير في العلم بذلك، لأن سببه السمع، وهما يستويان فيه، وهذا ما حكاه الشيخ أبو حامد عن جميع الأصحاب، كما حكاه في ((البحر)) عنه، وتبعه البندنيجي في هذه الحكاية عنهم. وقال المحاملي: إنه لا نص للشافعي [في المسألة]، وفيها نظر، لأن المخبرين لابد وأن يكونوا عدولًا، والأعمى لا يشاهدهم، فلا يعرف عدالتهم، وهذا النظر اتبع فيه الشيخ أبا حامد، فإنه قاله، كما حكاه في ((البحر)). وزاد البندنيجي فحكى عنه أنه قال بعدم السماع لأجل ذلك. وقال في ((البحر)) بعد حكاية المنع عن غيره، وأنه أصح عند عامة أصحابنا: وعليه يدل نص الشافعي، لأنه قال: ((لا تجوز شهادة [الأعمى] إلا أن يكون أثبت شيئًا معاينة، وسمعًا، ونسبًا، ثم عمي، فيجوز))، فأخبر أنه إنما يشهد بالنسب إذا كان قد أثبته وهو بصير، ثم عمي.

وأجاب القاضي أبو الطيب عن النظر الذي حكيناه عن المحاملي لما سئل عن في الدرس بأن كلام الأصحاب محمول على ما إذا سمع ذلك في دفعات، وتكرر عليه مع قوم مختلفين في أزمان مختلفة حتى يصير لا يشك فيه، لكثرة تكراره على سمعه، ويصير بمنزلة التواتر عنده، وأنه لا يجوز له التحمل إلا على هذا الوجه. وقال الشيخ أبو علي: كلامهم في سماع شهادته بالنسب مصور بما إذا كان الشخص معروف النسب من جهة أبيه وأجداده، وليس تعرف نسبته إلى قبيلة بعينها، فشهد أن فلان بن فلان [من بني فلان]، فتثبت هذه الشهادة من الأعمى، فإنه نسب لا يحتاج إلى الإشارة دون ما [إذا] نسب شخصًا إلى شخص، فإنه لا يجد إلى ذلك سبيلًا، كذا حكاه الإمام عنه. وأبدى الروياني صورة وجد له بها سبيلًا، وهي أن يقول: الرجل الذي صنعته كذا، واسمه كذا، وكيفيته كذا، هو فلان بن فلان، ثم يقال لذلك الرجل: أقم بينة أخرى على أنك الرجل الذي في سوق كذا، واسمك كذا، وكيفيتك كذا، [وصنعتك كذا]، وليس في سوقك من يشتبه معك، إلا أن يشير إلى شخص، ويشهد بنسبه. وفي ((الحاوي)): أن ما ذكره الأصحاب من سماع شهادته بالملك مفرع على أنه ليس من شرط الشهادة بالملك مشاهدة التصرف [بل تكفي استفاضة الخبر، أما إذا قلنا: لابد من الشهادة بمشاهدة التصرف] مع استفاضة الخبر، فلا تسمع عليه، وهو ما أبداه القاضي الحسين احتمالًا لنفسه، وعليه ينطبق قول القاضي أبي الطيب وغيره: كل ما شرطنا فيه البصر مجردًا، أو البصر والسمع معًا، فإنه لا يقبل فيه شهادة الأعمى. وكذا الخلاف يجري- كما قال الماوردي- فيما إذا شهد بالزوجية، وسمعنا فيها شهادة البصير بالاستفاضة، كما سيأتي. ومأخذه: أن مشاهدة الدخول والخروج شرط في هذه الشهادة أم لا؟ وقد أضاف الأصحاب إلى الصورتين المستثناتين صورة ثالثة، وهي سماع

شهادته في الترجمة، ولم يحك الماوردي وابن الصباغ غيره، وهو الصحيح كما حكيناه من قبل، لكنا حكينا ثم عن رواية صاحب ((التقريب)) وجهًا: أنه لا يسمع في الترجمة أيضًا. وأبدى ابن الصباغ احتمالًا في إلحاق صورة رابعة بما ذكرناه، فقال: ينبغي أن يكون [من] قد ألفه، وعرف صوته ضرورة أن يجوز له أن يشهد عليه، لأن ذلك يقين، ولهذا قال أصحابنا: يجوز أن يشهد على طريقة الاستفاضة، وأنه يحتاج أن يسمعه من اثنين عدلين، حسب ما ذكروه، ولابد أن يعرفهما حتى تعرف عدالتهما، وإذا صح أن يعرف الشاهد صح أن يعرف المقر، وهذا كله مفرع على منع سماع شهادة الأعمى مطلقًا. [وقد] قال الرافعي: إن الوجه المذكور في صحة قضاء الأعمى- على ضعفه- يطرد في الشهادة، وعلى هذا فلا حاجة إلى استثناء. فرع: هل تجوز رواية الأعمى؟ قال العراقيون: نعم، للتساهل فيها. وقال الإمام: تردد أئمتنا في روايته، والأظهر: منعها إذا كان السماع في حالة العمى. ووجه الجواز إذا حصلت الثقة الظاهرة: أن عائشة- رضي الله عنها- كانت تروي من وراء الستر، ومعظم الروايات عنها، والبصير في هذا المقام كالأعمى. وهذا منه قد يفهم أن الخلاف يجري في رواية ما تحمله قبل العمى، وهذا مما [لا] خلاف فيه، كالشهادة، صرح به الرافعي. تنبيه: قوله ((فيعلقه)) هو بفتح الياء، واللام، أي: يقبضه ويتعلق به، كما ذكرنا. قال أهل اللغة: يقال: علق به يعلق علقًا، كفرح يفرح فرحًا: إذا تعلق به. قال: ولا تقبل شهادة الوالد لولده وإن سفل، ولا شهادة الولد لوالده وإن علا، لقوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة:282]. والريبة تتوجه إلى شهادة بعضهم لبعض، لما جبلوا عليه من الميل والمحبة،

ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: ((الولد مبخلة مجبنة))، وقد قال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ...} [الزخرف:15]، أي: ولدًا. وقال صلّى الله عليه وسلّم: ((فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويسوءني ما ساءها)). وإذا كان الولد جزءًا من الوالد، وبضعة منه، لم تسمع شهادة أحدهما للآخر، كما لا تسمع شهادته لنفسه. وقد ذكر الساجي حديثًا رواه عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ((لا تقبل شهادة خائنٍ، ولا خائنةٍ، ولا محدودٍ حدا، ولا ذي غمر على أخيه، ولا مجربٍ في شهادة زور، ولا ظنين في قرابة، ولا ولاء، ولا شهادة القانع لأهل البيت))، وصل بذلك: ((ولا شهادة الولد لوالده، ولا الوالد لولده))، ثم قال: وهذا لا يثبته أهل النقل، فإن ثبت فهو نص، وإن لم يثبت ففي قوله: ((ولا ظنين في قرابة)) دليل على الوالد والولد، وسنذكر معنى ذكر ((الغمر)) و ((الظنين)). وأما القانع: فهو السائل، والمستعطم، وأصل القنوع: السؤال. وقيل: القانع: المتقطع إلى القوم يخدمهم، ويكون في حوائجهم، وذلك مثل الأجير والوكيل. وهذا هو المشهور. ولا فرق فيه بين الآباء والأمهات من جهة الأب أو من جهة الأم، ولا بين البنين والبنات، وأولادهن.

ونقل ابن الصباغ: أن ابن القاص حكى عن القديم قولًا: أنه تقبل شهادة الوالد للولد وبالعكس، وبه قال المزني وأبو ثور، واختاره أبو بكر [بن المنذر]. وحكى القاضي الحسين: أن لفظ الشافعي في القديم: ((الوراثة لا تنفي الشهادة))، ووجهه: أن الرجل لا يكون أمينًا في بعض الأشياء، خائنًا في البعض، [ولا] صادقًا في البعض، كاذبًا في البعض. والصحيح عند الجمهور: الأول، وما ذكروه متروك عليهم بمنع شهادته لنفسه. وعلى هذا قال الأصحاب: لا تسمع شهادة أحدها لمكاتب الآخر، وهل تسمع شهادة أحدهما بأن الآخر وكل أجنبيًا في حقوقه؟ فيه خلاف قدمت حكايته في كتابة الوكالة. وفي تزكية الوالد للولد خلاف قدمت حكايته عند الكلام في الاستخلاف. وهذا حكم الشهادة للقريب، أما الشهادة عليه، فلا خلاف في سماعها من الأب على الابن وإن سفل، وكذا من الابن على الأب في غير حد-[أي: حد] قذف- كما قاله الماوردي، ولا قصاص. وإن كانت في حد أو قصاص، ففي سماعها قولان حكاهما الماوردي والبندنيجي، تبعًا للشيخ أبي حامد، ورواهما الإمام والقاضي الحسين وجهين في الشهادة بالقود وحد القذف. ووجه المنع: أنه لما لم يقتل بقتله، و [لم] يحد بقذفه- لم يقتل ولم يحد بقوله، كالعبد إذا شهد على الحر. والمذهب- كما قال القاضي أبو الطيب-: أنها تقبل أيضًا، وهو الذي صححه القاضي الحسين وغيره. وقال القاضي أبو الطيب: إن مقابله غلط، لأنه مخالف لنص الشافعي، فإنه قال: لو أن رجلين شهدا على أبيهما بأنه قذف أمهما وأجنبية، قبلت شهادتهما عليه في قذف الأجنبية، ولم تقبل في أمهما. وقد ادعى القاضي الحسين قبل باب الشهادة على الشهادة بورقتين-: أنه المذهب، وفرع عليه أنه [إن] شهد على أبيه أو أمه بالزنى، فهل تقبل؟

قال: يحتمل أن يقال: تقبل، لأن الأب لو زنى بابنته، أو زنت الأم بابنها يجب عليهما الحد، بخلاف ما لو قتل ولده أو قذفه، فإنه [لا] يجب عليه الحد. وعلى الأول فرع الشيخ حيث قال: ومن شهد على أبيه: أنه طلق ضرة أمه، أو قذفها- أي: وأمه تحت أبيه- ففيه قولان: أحدهما: تقبل شهادته، لأنها شهادة على [أبيه لغير] أمه، فقبلت كما لو شهد على غيره. والثاني: لا تقبل، لأنه متهم، إذ يجر بشهادته إلى أمه نفعًا، وهو انفرادها [بالأب]، فإن الطلاق منجز ذلك، والقذف محوج للعان، وهو سبب الفرقة. وقد نسب بعض الشارحين القول [الأول] إلى الجديد، والثاني إلى القديم، وهو كذلك في ((المهذب))، في مسألة القذف. وقال في ((الشامل)): إن قول السماع فيها هو القديم. ونسب الماوردي في كتاب اللعان القولين في الصورتين إلى القديم، وأن المزني نقلهما في ((جامعة الكبير))، [واختار] الأول منهما. وفي ((تعليق)) البندنيجي: أنه نص في ((الأم)) على أنه لو شهد على أبيه بقذف ضرة الأم: أنه يقبل، وأطلق ذلك، وقال: إنه إذا شهد أنه طلق ضرة أمه، فقد قيل: لا يقبل. وهذا ما أشار إليه ابن الصباغ بقول: وقد علق الشافعي القول في الطلاق من الأم. قال البندنيجي: ولا فرق بين أن يشهد على أبيه بطلاق ضرة أمه أو قذفها، فالكل على قولين. وهذا منه يفهم أنهما بالنقل والتخريج. وفي ((النهاية)): أن المزني حكى في ((الجامع الكبير)) عن ((الأم)) في مسألة القذف قولين، أظهرهما: القبول، وأن العراقيين ألحقوا بذلك ما لو شهد بأنه طلق ضرة أمه. قال: ولا شك أن المسألة كالمسألة، والطلاق أوقع إن كان لهذه التهمة موقع في رد الشهادة، فإن الطلاق ينجز الفراق، ولا وجه لقول رد الشهادة في

المسألتين، فإن الزوج لا يتحتم عليه مسلك التزويج، وهذا ما اختاره النواوي وغيره. فروع: أحدهما: لو شهد ابنا الرجل عليه بأنه قذف أمهما، لم تسمع. وإن كان الأب معترفًا بالقذف، فشهد ابنا المرأة منه على إقرارها بالزنى- لم تسمع. ولو شهد أربعة من بينهما عليها بالزنى، قال الماوردي في كتاب اللعان: لم يسقط الحد عن الأب. وفي وجوب الحد على الأم قولان مبنيان على اختلاف قوليه إذا رد بعض الشهادة، هل يوجب رد باقيها أم لا؟ على قولين. وهذا- أيضًا- بناء على الصحيح في سماع الشهادة على الأب بما يوجب العقوبة [إلا أن يخص الخلاف بالعقوبة] المختصة بالآدمي، فحينئذ يكون هذا بلا خلاف، وكلام الإمام ها هنا يقتضي تعميمه، وهو ما أفهمه كلام البندنيجي وغيره. الفرع الثاني: إذا ادعت أمه بالطلاق، فشهد لها أبناها به- لم تسمع. ولو شهدا حسبة ابتداء، سمعت، وكذلك في الرضاع، قاله الرافعي وغيره هنا، وفي أواخر الرضاع. الفرع الثالث: إذا شهد الأب مع ثلاثة على زوجة ابنه بالزنى، فإن سبق من الابن قذف، فطولب بالحد، فحاول إقامة البينة، لدفع الحد عن نفسه- لم تقبل شهادة الأب. [وإن لم يقذف، أو قذف ولم يطالب بالحد- قبلت شهادة الأب]. الفرع الرابع: عبد في يد زيد ادعى مدع أنه اشتراه من عمرو بعدما اشتراه عمرو من زيد، وقبضه، وطالبه بالتسليم، فأنكر زيد جميع ذلك، فشهد ابناه للمدعي بما يقوله- حكى القاضي أبو سعد فيه قولين: أحدهما: رد شهادته، لتضمنها إثبات الملك لأبيهما.

وأصحهما عنده: القبول، لأن المقصود بالشهادة في الحال المدعي، وهو أجنبي عنهما. قال: ولا تقبل شهادة الجار إلى نفسه نفعًا: كشهادة الوارث للمورث بالجراحة قبل الاندمال، وشهادة الغرماء للمفلس بالمال- أي: بعد الحجر عليه- وشهادة للوصي لليتيم، والوكيل للموكل، أي: فيما فوض إليه النظر فيه. الأصل في ذلك قوله تعالى: {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة:282]، فأمر بالشهادة لنفي الريبة، والريبة: التهمة، وهي حاصلة في شهادة من ذكرناه. وقد روي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: ((لا تقبل شهادة خصمٍ، ولا ظنينٍ ولا ذي إحنةٍ)). وروى طلحة بن عبد الله بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث منادياً: ((أنه لا تجوز شهادة خصمٍ ولا ظنينٍ)) وقال الزهري: مضت السنة ألا تجوز شهادة خصم ولا ظنينٍ. والظنين: المتهم، ووجه التهمة في حق الوارث: أن الجراحة قد تسري إلى نفسه، فيموت منها، ويصير هو المستحق، فيصير شاهدًا لنفسه. وقيل: لأن المجروح مع بقاء الجراح: كالمريض، ولورثة المريض الاعتراض عليه في ماله، ومنعه من التصرف فيما زاد على ثلثه كاعتراضهم عليه بعد موته، ولا تجوز شهادتهم له بعد الموت، فكذلك في المرض. قال الماوردي: وعلى هذا لو كان الجرح مما لا يسري مثله إلى النفس، لم تجز شهادته له أيضًا، وعلى التعليل الأول: تجوز. ووجه التهمة في حق غرماء المفلس: أن ما يثبتونه له من المال يتعلق حقهم به حالة الشهادة، فأشبه ما لو شهد لعبده المأذون بمال، أو لشريكه بما هو مشترك بينهما، أو ببيع شريكه ما يثبت له فيه الشفعة قبل العفو، أو المرتهن

للراهن بملك العين المرهونة، أو غرماء الميت له بمال، أو المودع [للمودع] بالعين، فإنها لا تقبل. نعم: لو كان المفلس لم يحجز عليه بعد، ففي سماع شهادة الغرماء له وجهان: الأظهر منهما في ((الحاوي)): المنع أيضًا، لأنه يستفيدون بها المطالبة بديونهم، فكان كالمحكوم بفلسه. وأصحهما عند ((الرافعي))، والمختار في ((المرشد)): القبول، وهو المعزي إلى الشيخ أبي حامد، ولم يورد القاضي الحسين وأبو الطيب وابن الصباغ سواه. الفرق: أن المحكوم بفلسه يحكم لغرمائه بماله حال الشهادة، بخلاف المعسر، فإن مطالبة الغرماء له إنما تستفاد بيساره، وليس حاصلًا وقت الشهادة. قال في ((البحر)): ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الفرق لا يمنع من تساويهما في الرد، وهذا أصح عندي. ووجه التهمة في الوصي والوكيل: أنه يثبت لنفسه سلطة التصرف في المشهود به، فكأنه شهد لنفسه. نعم: لو شهد الوصي للموصى عليه بما لم [يكن له] التصرف فيه، سمعت بلا خلاف. ولو شهد الوكيل لموكله بما لم يثبت له ولاية فيه، قال في ((الحاوي)): ففي السماع وجهان. والفرق: أن الوكيل يجوز أن يتقرب بشهادته إلى موكله، والوصي بخلاف ذلك. ولو شهد الوكيل فيما فوض إليه التصرف فيه بعد عزله عنه، قال ابن القاص- وهو في ((المرشد)) وغيره-: إن كان بعد أن انتصف فيه مخاصمًا، لم تسمع شهادته، لقوله- عليه السلام-: ((لا تقبل شهادة خصمٍ)). وإن لم يكن خاصم، سمعت. وقد ذكرت هذا الفرع في الوكالة، وذكرت عن الإمام وغيره فيه وجهًا. وقد عد الأصحاب من قسم الشهادة الجارة نفعًا: شهادة الشخص لمكاتبه، [أو

مكاتب أصله وفرع] بمال، أو بجراحة في بدنه، وشهادة الوارث بموت المورث، وكذا شهادة الموصي له أو إليه بموت الموصي. وكذا شهادة المشتري شراء صحيحًا بعد الإقالة والرد بالعيب بأن الملك في المبيع للبائع- لا تقبل، لأنه يستبقي لنفسه الغلات والفوائد، إذا كان المدعي يدعي الملك من تاريخ متقدم على البيع. ولو شهد بعد الفسخ بخيار المجلس أو الشرط، فوجهان، بناء على [أنه يرفع] العقد من أصله، ويرد الفوائد إلى البائع، لا من حينه ولا يزيد، كذا حكى في ((الإشراف)). وألحق في ((التهذيب)) و ((الكافي)) في باب حد قاطع الطريق بذلك ما إذا شهد اثنان من الفقراء بأن فلانًا أوصى بثلث ماله لنا معشر الفقراء. والماسرجسي وغيره ألحقوا بذلك ما [إذا] شهد اثنان بأن فلانًا أوصى بوصية لنا فيها نصيب أو إشراف. نعم، لو قال الفقير: أشهد [أنه] أوصى بثلث ماله للفقراء، قبلت، قاله في ((التهذيب)) و ((الكافي))، لأنه لا يتعين الصرف إليه. وكذا لو قال الآخران: نشهد بالوصية، سوى ما يتعلق بنا من المال والإشراف قبلت شهادتهما، كما حكاه الرافعي. ولهذا نظائر كثيرة. قال: وإن شهد الوارث للمورث في المرض- أي: بمال- لم يقبل، كما لو شهد له بالجرح، وهذا قول أبي إسحاق، واختاره في ((المرشد))، تبعًا لصاحب ((الإفصاح))، وابن الصباغ، فإنه قال: إنه أقيس. وقيل: يقبل، لأنه لا يجر لنفسه بذلك نفعًا، ولا يدفع به عن نفسه ضررًا، فإنه إذا ثبت المال صار للمريض [دونه]، ثم إذا مات ورثه، فلا تهمة ها هنا، بخلاف الجراحة. وأوسع القاضي الحسين عبارته في الفرق، فقال: [الفرق]: أن الشهادة على

الجرح شهادة تثبت سببًا، ذلك السبب يثبت المال للوارث. وأما في المال فشهادته لا تثبت السبب له، إذ المال إنما يثبت بسبب سابق، من قرض أو بيع أو إتلاف وغيره، وهذه الأسباب تثبت المال للمورث، وهذا قول أبي الطيب بن سلمة، وهو الأصح في الرافعي هنا، وقال في كتاب القسامة: إنه الأظهر عند أكثرهم، وبه جزم الغزالي [هنا] تبعًا للفوراني وإن حكى الخلاف ثم. فرع: لو شهد الأخ لأخيه بجراحة قبل الاندمال، وللمجروح ابن يحجب الأخ، فشهادته مسموعة. قال في ((المرشد)): وكذا لو لم يكن للمجروح وارث غير الأخ، لكن كان عليه دين يستغرق ديته، لانتفاء التهمة. نعم: لو مات الابن قبل موت أبيه فالجمهور على أنه ينظر: إن مات قبل الحكم بالشهادة بطلت، وإن مات بعده لم تبطل. وعبارة الشافعي في ذلك: إن شهد له، وهناك من يحجبه، قبلته، فإن لم [أحكم] حتى صار وارثًا، طرحته، ولو كنت حكمت به ثم مات [من يحجبه] ورثته. قال الفوراني بعد حكاية ذلك: وقد قيل في هذه المسألة قولان، بناء على الإقرار للوارث، وفيه قولان، فإن قلنا: لا يجوز، فكونه وارثًا يعتبر بحال الإقرار أو بحال الموت؟ فيه قولان، كذلك ها هنا. وقضية هذا التخريج: أن يطرد فيما إذا شهد وهو وارث، فصار عند الموت غير وارث، وقد حكاه الرافعي تبعًا للغزالي وإمامه، وقال: أما على [القول] بالنظر إلى حالة الموت، يتبين أن الشهادة مقبولة، وكأنا نتوقف في الشهادة إلى آخر الأمر. قلت: وإن صح هذا [وجب] طرده فيما إذا شهد وهو وارث بالجراحة قبل الاندمال، ثم اندمل الجرح: أنه لا يحتاج إلى إعادة الشهادة.

[وقد] قال الأصحاب: إنه لابد من إعادة الشهادة، إن [قلنا]: إنها تسمع، كما سيأتي. والصحيح هاهنا: عدم القبول، [وهو المجزوم به في ((الحاوي)) وغيره]، لأن التهمة قارنت الأداء، فمنعت القبول. نعم: لو أعاد تلك الشهادة، هل تسمع؟ قال الماوردي: فيها لخلاف الآتي فيما إذا شهد بالجراحة ثم اندملت. والإمام ادعى إجماع الأصحاب على أنها لا تقبل معادة هاهنا، كما إذا ردت شهادة الفاسق، ثم تاب، وأعادها. وقال: إن ما بينهما مما قد يخطر للفقيه: أنه فرق، وهو أن الفاسق إذا تاب لم [نتحقق تغير] حاله باطنًا، وقد تحققنا أن الوارث صار محجوباً لا أثر له، لأن الذي ردت شهادته به ترويج الشهادة، وهو موجود بعد طرآن الحجب. قال: ولا تقبل شهادة الدافع عن نفسه ضررًا، كشهادة العاقلة على شهود القتل- أي: الذي تحمله العاقلة- بالفسق، لأنها متهمة في دفع تحمل العقل عن نفسها، فاندرجت في قوله- عليه السلام-: ((ولا ظنين)). قال الرافعي: وهكذا الحكم لو شهدت بتزكية شهود جرح بينة القتل. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في رد شهادة العاقلة بالجرح بين الموسر منها والمعسر، والقريب والبعيد. [وهو قول] في المسألة في بعض الصور، ومجزوم به في بعض: فالمجزوم به: ما إذا كان الشاهد موسرًا قريبًا. والمختلف فيه: ما إذا [كان] بعيدًا أو فقيرًا، لأن الشافعي نص على عدم قبول شهادة المعسر، ونص على سماع شهادة البعيد عند وجود من يقوم بالواجب من الأقربين، فاختلف الأصحاب- لأجل ذلك- في المسألتين على طريقين: الأولى منهما- وبها قال المزني، وطائفة من متقدمي أصحابنا، كما قال

الماوردي-: أن في المسألتين قولين، نقلًا وتخريجًا: وجه المقبول: [أنهما لا يتحملان في الصورتين شيئًا في الحالين، فليس موضع تهمة. ووجه المنع:] أن الفقير يتحمل لو أيسر، والبعيد يتحمل لو مات القريب، فهما متهمان بدفع ضرر متوقع. والثانية: تقرير النصين، وبه قال أبو إسحاق وابن أبي هريرة، وكثير من متأخري أصحابنا، كما قال الماوردي. والفرق: أن المال غادٍ ورائح، والغنى غير مستبعد، بل كل أحد يحدث نفسه ويتمنى الأماني، وموت القريب الذي يحوج الأبعد إلى التحمل كالمستبعد في الاعتقادات، فالتهمة لا تتحقق بمثله. ورجح الإمام طريقة القولين معترضًا على الثانية بأن البعيد كما يلزمه التحمل بموت القريب، يلزمه التحمل، لافتقارهم وحاجتهم، فإن استبعد الموت فاحتمال الفقر والحاجة غير مستبعد، لأن احتمال الغنى غير مستبعد. قال الرافعي: والأظهر عند الأكثرين طريقة التقدير، ولهم أن يجيبوا عما ذكره بأن الإنسان يطلب غنى نفسه ويذر أسبابه، ويتحمل مساعدة القدر، والظفر بالمقصود، ولا يطلب فقر غيره، ولا يسعى فيه، فتكون التهمة المبنية على تقدير غناه أظهر من التهمة المبنية على فقر الغير. أما شهادة العاقلة على فسق شهود القتل عمدًا، [أو على فسق] من شهد على إقراره بالقتل خطأ، فمقبولة، لأن الدية لا تلزمهم، فلم يكن حكمنا بقولهم دافعًا عنهم شيئًا، كذا قاله الماوردي والقاضي أبو الطيب والحسين وغيرهم، والله أعلم. ومن هذا النوع شهادة الضامن ببراءة المضمون عنه. قال في ((البحر)): وكذا شهادة الوصي والوكيل بجرح من شهد [بمال] على الموكل واليتيم. قال الرافعي: وكذا شهادة المشتري شراء فاسدًا بعد القبض بأن العين المبيعة

لغير بائعه، لما في ذلك من نقل الضمان. وكذا لو كان لميت دين على شخصين، فشهد أجنبيان لرجل بأنه أخو الميت، ثم شهد الغريمان لآخر بأنه ابنه- لم تقبل شهادة الغريمين، لأنهما ينقلان ما وجب للأخ عليهما إلى من يشهدان له بالبنوة، بخلاف ما لو تقدمت شهادة الغريمين. قال: ولا شهادة العدو على عدوه، لقوله تعاللى: {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة:282]، والعداوة من أقوى الريب، وقد روى أبو داود وابن ماجه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ((لا تجوز شهادة خائنٍ ولا خائنةٍ، ولا زان ولا زانيةٍ، ولا ذي غمرٍ على أخيه)). والغمر- بكسر الغين المعجمة، وسكون الميم، وبعدها راء مهملة- قال أبو داود: الحنة والشحناء. وقال غيره: العداوة. قال القاضي الحسين: ويروى: ((ولا ذي ضغن)). وقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث السابق: ((ولا ذي إحنةٍ) يدل عليه أيضًا، فإن ذي الإحنة: العدو. والمعنى في ذلك: التهمة. قال القاضي الحسين وغيره: والعداوة التي ترد بها الشهادة مع عدالة الشخص في نفسه، هي أن يظهر من الشخص من اللسان والفعل ما يغلب على القلب أنه معاديه يشمت بمصائبه، ويحزن بمساره، يتمنى له [كل] شر. وعد الماوري من الأسباب المقتضية للعداوة: القذف، والغصب، والسرقة، والقتل، وكذا قطع الطريق في بابه، فلا تقبل شهادة المقذوف على القاذف،

والمغصوب منه على الغاصب، والمسروق منه على الساق، وولي المقتول على القاتل، كذا أطلق قوله، وظاهره يقتضي أن مجرد القذف وغيره يحصل العداوة. وكذلك قال في كتاب اللعان: إن شرط سماع شهادة المقذوف على القاذف: أن يعفو عن الحد قبل الشهادة، وأن يكون قد حسن حاله معه، ولا يضر إذا وجد ذلك أن يذكر في شهادته عليه بقذفه لغيره قذف نفسه، إخبارًا عن الحال، وسنذكر ما يعضده عن النص. وفي ((تعليق)) القاضي الحسين في كتاب اللعان- وهو المذكور في ((التهذيب))، وغيره-: أن المقذوف لو شهد على القاذف بقذف أجنبي منفرد عن قذفه، سمعت شهادته، إذا لم يطالب بالحد، سواء عفا عنه أو لا. وادعى الإمام وفاق الأصحاب على ذلك، قياسًا على ما لو شهد عليه [فقذفه المشهود عليه، فإن الشهادة لا تبطل. نعم، لو طلب الحد ثم شهد عليه] لم تسمع شهادته، وكذا لو لم يطلب الحد، وشهد، ثم طلبه قبل الحكم- بطلت، قاله القاضي الحسين والبغوي. وكذا لو شهد اثنان من المقطوع عليهم الطريق على القاطع بقطع الطريق على غيرهما، ولم يتعرضا لأنفسهما- سمعت، كما نص عليه الشافعي، وقال: إن القاضي لا يسألهما: هل قطع عليهما الطريق أو لا؟ ولم يخالفه الأصحاب في ذلك، وقالوا: إنه لو سألهما، فلهما ألا يجيباه، فإن ألح قالوا: لا يلزمنا الجواب عن هذا، وإنما عندنا شهادة أقمناها، كذا قاله الإمام في باب [حد] قاطع الطريق. ولو تعرض الشاهد لكونه قطع عليه الطريق، لم تسمع شهادته. وعلى هذا ينطبق قول القاضي أبي الطيب وغيره في باب حد قاطع الطريق: [لو شهد رجلان] على رجل بأنه قذفهما وامرأة أجنبية، لا يثبت القذف في حقهما، ولا في حق الأجنبية: أما في حقهما، فلأمرين: أحدهما: أنهما صارا خصمين، وشهادة الخصم على خصم لا تقبل، للحديث السابق.

والثاني: أنهما صارا عدوين، ولهذه العلة لا تسمع شهادتهما للمرأة به أيضًا، بخلاف ما لو شهدا أنه قذف أنه قذف أمهما وامرأة أجنبية، فإن شهادتهما للأم [لا تسمع] للبعضية، وفي سماعها للأجنبية قولان، لأجل تبعيض اللفظ. وكذا قولهم فيما لو شهد شاهدان على شخص: أنه قطع علينا وعلى هؤلاء الطريق، لا تسمع في حق الجميع، لأنهم صاروا خصومًا، كما قاله أبو الطيب، وأي عداء كشهر السلاح عليهما، وأخذ نفوسهما ومالهما، كما قاله الشيخ أبو حامد والبندنيجي والقاضي الحسين والإمام. ويوافق ذلك- أيضًا- ما حكي عن القفال: أنه إذا عادى الشخص من يريد أن يشهد عليه، وبالغ في خصومته، فلم يجب، وسكت، ثم شهد عليه- قبلت شهادته، وإلا لاتخذ الخصماء ذلك ذريعة إلى إسقاط الشهادات. لكن في ((تعليق)) الشيخ أبي حامد وغيره- كما قال الرافعي-: أن الشافعي صور العداوة الموجبة للرد بما رجل رجلًا، أو ادعى عليه أنه قطع عليه الطريق، وأخذ ماله، فقال: ((يصيران عدوين، فلا تقبل شهادة واحد منهما على الآخر))، فاكتفى بالقذف دليلًا على العداوة، ولم يتعرض لطلب الحد. وقذف الأم والزوجة هل يحلق العداوة بين القاذف والولد والزوج أم لا؟ فيه خلاف حكاه الإمام في كتاب اللعان، وسيظهر لك أثره في التفريع، وكلام البغوي يقتضي أن قذف الزوجة يلحقها دون قذف الأم، كما سنذكره. فرع: قال في ((البحر)) في الفروع المذكورة بعد كتاب الأقضية: إذا شهد على الميت، وهو خصم الوارث، هل تسمع شهادته؟ يحتمل وجهين: أحدهما: لا تسمع، لأن الضرر يعود إلى الورثة، لأنهم لا يستحقون التركة مع بقاء الدين، فهي شهادة على الخصم في الحقيقة. والثاني: تسمع، لأن هذه الشهادة على الميت لا عليه، لأنه يقول: أشهد أن على هذا الميت كذا، ولا حق على الوارث، وإنما ينتقل إليه حق القضاء. ولو كان الشاهد خصمًا للميت دون الوارث فوجهان: فعلى الوجه الأول: تقبل. وعلى الثاني: لا.

قلت: ويظهر أن يتخرج على هذا ما إذا ادعى أولاد ميت على شخص بدين ورثوه من أبيهم، فأسقط أحدهم حقه، وأراد أن يشهد به، فعلى الوجه الثاني: لا تسمع، [لأنها] شهادة للأب، وعلى الأول: ينبغي أن تسمع. ويمكن تخرجي الخلاف في هذه الصورة على أن الورثة إذا أقاموا شاهدًا واحدًا، [بالدين لمورثهم، وراموا الحلف معه- فهل يحلف كل واحد] على كل الدين، لأنه يثبته [لنفسه، لا] لمورثه، أو يحلف أنه يستحق بطريق الميراث عن مورثه من جملة كذا- كذا وكذا؟ فيه خلاف حكاه ابن أبي الدم: فعلى الأول: لا تسمع، لأن الشهادة تكون للأب. [و] على الثاني فهو محل النظر. واعلم أن ما ذكرناه في رد شهادة العدو محله إذا كانت العداوة لأمر دنيوي- كما ذكرنا- أما إذا كانت لأمر ديني، كعداوة المسلم للكافر، والدين للفاسق، بسبب فسقه، كما قاله الرافعي، والجلاد للمضروب في الحد، كما قاله القاضي الحسين- فلا تمنع الشهادة عليهم. وكذا لو قال العالم: لا تسمعوا الحديث من فلان، فإنه مخلط، [و] لا تستفتوا منه، فإنه لا يحسن الفتوى- لم يقدح ذلك في قبول شهادته، كما حكاه الرافعي عن النص. نعم: شهادة الكافر على المسلم وغير المسلم لا تسمع، كما تقدم. وشهادة أهل الباطل في الاعتقاد من أهل القبلة، هل تسمع على أهل الحق وغيرهم؟ قال الشافعي في ((المختصر)): ((ولا أرد شهادة الرجل من أهل الأهواء، إذا كان لا يرى أن يشهد لموافقيه بتصديقه وقبول يمينه، ولشهادة من يرى كذبه شركًا بالله تعالى، ومعصية تجب بها النار- أولى بطيب النفس بقبولها ممن يجوز المأثم فيها)) أي: من أهل الأهواء- أيضًا- كما قاله ابن سريج، لا من أهل الحق. وقد اختلف الأصحاب بعد ذلك: فذهب ابن القاص وابن أبي هريرة وغيرهما إلى إجراء هذا اللفظ على ظاهره، فلم يردوا شهادة أحد من أهل الأهواء والبدع من أهل القبلة إلا الخطابية الذين

أشار إليهم الشافعي بقوله: ((أن يشهد لموافقيه))، وهم أصحاب ابن الخطاب الكوفي، لأنه يعتقدون أن من كان على رأيهم لا يكذب، لاعتقادهم أن الكذب كفر، فيصدقونه على ما ادعاه، ويشهدون له على خصمه، ومنهم من يستظهر بإحلافه قبل الشهادة، ومنهم من لا يستظهر، ويشهد بمجرد قوله. قال الماوردي: وهي في الحالتين شهادة زور. وقال الشيخ أبو حامد، وتبعه البندنيجي- وقال القاضي الحسين: إن به قال أصحابنا-: أهل الأهواء على ثلاثة أضرب: ضرب يكفرون باعتقادهم، وسنذكرهم، فلا تقبل شهادتهم. وضرب يفسقون به ولا يكفرون، كمن سبت القرابة من الخوارج، والصحابة من الروافض، فلا [نحكم] بشهادتهم أيضًا. وضرب لا يكفرون ولا يفسقون، ولكن يخطئون، قال القاضي الحسين: كالبغاة. وقال غيره- كالشافعي، ومالك، وأبو حنيفة، وغيرهم-: الذين اختلفوا في علم الشريعة. فهؤلاء لا تقبل شهادتهم، وبهذه الطريقة أخذ الماوردي، حيث قال: لسماع شهادة [أهل] الأهواء ممن لم نحكم بكفرهم ستة شروط: الأول: أن يكون ما انتحله بتأويل سائغ كتأويل البغاة، فإن كان تأويلهم غير سائغ فهم فسقة لا تقبل شهادتهم. الثاني: ألا يدفعه إجماع منعقد، [فإن دفعه، فإن كان إجماع الصحابة، لم تقبل شهادته، للحكم بفسقه، وكذا إجماع غيرهم إن كان ممن يعتقد] أنه حجة، دون ما إذا كان لا يعتقده حجة، أو ينكر تصوره. الثالث: ألا يفضي به إلى القدح في بعض الصحابة، وهم الذين كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في حضره وسفره، أو بايعوه في [الدين والدنيا]، أو وثق بسرائرهم، أو أفضى بأوامره ونواهيه إليهم، دون من قدم عليه من الوفود، وقاتل معه الأعراب، فإن أفضى به إلى القدح في واحد منهم: فإن كان ذلك القدح

سبًّا فلا تقبل شهادته، لفسقه، ويعزر، وإن كان القدح نسبته إلى فسق وضلال فكذلك الحكم إن كان المقدوح فيه من العشرة، أو ممن حضر بيعة الرضوان، أو من غيرهم ولم يدخل في المتنازعين في قتال الجمل وصفين. وإن كان ممن دخل فيهم، ففي رد شهادته بالقدح فيه وجهان مبنيان على أن حكم المتنازعين بعد ذلك حكمهم كما كان قبل التنازع، وهو الذي عليه أكثر أهل العلم، أو حكمهم غيرهم من أهل الأعصار، حتى لا يقطع بعدالة واحد منهم في الظاهر والباطن، ويحتاج للحكم بقوله إذا شهد إلى البحث عن عدالته في الباطن؟ وفيه اختلاف لأهل العلم: فعلى الأول: لا تقبل شهادة القاذف له. وعلى الثاني: تقبل، لكونهم انتقلوا بالتنازع من الألفة إلى التقاطع المنهي عنه. الرابع: ألا يقاتل عليه ولا يتأيد فيه، فإن قاتل عليه أهل العدل مبتدئًا لهم، أو دافعًا عن نفسه، وقد قدموا على قتاله دعاءه إلى الطاعة، فلم يفعل- لم تقبل شهادته، لفسقه. نعم: لو قاتلوه قبل أن عرضوا عليه الطاعة لم يفسق بمقاتلتهم، لأنه دافع بها عن نفسه، فتقبل شهادته. وهكذا الحكم فيما إذا تأيد فيه بغيره إن كان مبتدئًا، لم تقبل شهادته لفسقه، وإن تأيد فيه ليستدفع عن نفسه، فإن وجد لدفعهم بغيره سبيلًا، لم تقبل شهادته، وكذا إن لم يجد بدًا منها، وكان لا يستضر باجتماعهما، فلو كان يستضر سمعت شهادته، لأن دفع الضرر عذر مستباح. الخامس: ألا يرى تصديق موافقيه على مخالفيه، وهم الخطابية. السادس: أن تكون أفعاله [مرضية]، وتحفظه [في الشهادة ظاهر] كغيره من أهل الحق. أما من حكم بتكفيره كمن برئ من الخوارج، لموالاتهم لأبي بكر وعمر، ويكفر جميع الأمة، ويستبيح أموالهم ودماءهم، وكالغلاة يرون بمعتقدهم في علي

ابن أبي طالب تكفير جميع الأمة، واستباحة أموالهم ودمائهم- فلا تقبل شهادته. وكذا من يعتقد تكفير مخالفيه حتى من الصحابة والتابعين، فإن لم ير استباحة أموالهم ودمائهم، فلا تقبل شهادته، لكفره. نعم: لو اعتقد تكفير مخالفيه في الاعتقاد، ولم ير استباحة أموالهم، ولا تكفير الصدر الأول من الصحابة والتابعين- لم نحكم بكفره، وحكمنا بفسقه، فلا تقبل شهادته. والشيخ أبو حامد ومن تبعه مثلوا الكفار المحكوم بكفرهم من أهل الأهواء الذين سبقت الإشارة إليهم- بالقائلين بالقدر، وبنفي الرؤية، وبإضافة المشيئة إلى نفوسهم، فيقول أحدهم: أنا الفاعل للخير والشر معًا، دون الله تعالى، وبخلق القرآن. قال الإمام: [و] القول بخلق القرآن أهون بدعة ابتدعها المعتزلة، فهم- كما قال القاضي أبو الطيب- ممن حكم بكفره. قال البندنيجي: فلا تحل مناكحة من ذكرناه، ولا تؤكل ذبيحتهم، وحكمهم في هذا حكم الكفار، وهذا مذهب الشافعي، فإنه قال- أي: في الأقضية من الأمالي القديمة، كما قال في ((البحر)): من قال بخلق القرآن فهو كافر. وقال لحفص الفرد: نصفك مؤمن، ونصفك كافر، تقول بخلق القرآن فتكفر، وتقول بالرؤية فتؤمن. وقد حكى الربيع أنه قال: لا تقبل شهادة القدرية، لأنهم كفار. قال الفوراني في كتاب القسامة: وهذا ما عليه غير القفال من مشايخنا، وأكثر أهل الأصول، وقال القفال: إنهم لا يكفرون. والصحيح من الطريقين عند القضاة: أبي الطيب، وابن كج، والروياني- كما قال الرافعي- الأولى. وقال ابن الصباغ: إن الطريقة الثانية مخالفة لظاهر قول الشافعي هنا وفي ((الأم))، فإنه قال: ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث والقياس، أو من ذهب منهم إلى أمور اختلفوا فيها، فتباينوا فيها تبيانًا شديدًا، واستحل فيها بعضهم من بعض ما تطول حكايته، وكان ذلك متقادمًا: منه ما كان في عهد السلف، وبعدهم إلى اليوم، فلم نعلم أحدًا من سلف هذه الأمة يقتدى به ولا من التابعين بعدهم

رد شهادة أحد بتأويل- وإن خطأه وضلله- ورآه استحل منه ما حرم عليه، فلا ترد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال الدم والمال. ولأجل هذا قال الإمام: أنا أقول: لا سبيل إلى تكفير المعتزلة ومن في معناهم من أهل الأهواء، اقتداء بالقفال- كما ذكرنا- لأن الشافعي نص في مجموعاته على قبول شهاداتهم، وما نقل عنه من تكفيرهم فهو مجاز، وظني الغالب: أنه ناظره بعضهم فألزمه الكفر عن حجاج، ولم يحكم بكفره، وإذا كان كذلك فسبيلهم في الشهادة كسبيل غيرهم، فينظر إلى العدالة، وهذا هو المذهب لا غير، ومن أجل ذلك قال الغزالي: إن المعتزلة وسائر المبتدعة لا يكفرون وتقبل شهادتهم وإن ضللناهم. قال الإمام: وقد كان محمد بن إسماعيل البخاري يؤلف مخرجه الصحيح في الروضة بين القبر والمنبر، فقال: رويت عن محمد بن محيريز، فغلبتني عيناي، فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام، فقال: تروي عن ابن محيريز وهو يطعن في أصحابي؟! - وكان خارجيًا- قال: قلت: يا رسول الله، لكنه ثقة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ((صدقت إنه ثقة، فارو عنه)) فكنت أوري عنه بعد ذلك بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد حمل الشيخ أبو حامد ومن تبعه قول الشافعي: ((ولا أرد شهادة أحد من أهل الأهواء)) - على أهل الأهواء في الأحكام التي يسوغ فيها الاجتهاد، وقال: إنه ظاهر في كلامه، لأنه قال في جملة كلامه: ((لم ترد الشهادة بشيء من التأويل، إذا كان له وجه يحتمله))، ثم عطف فقال: ((وكذلك أهل الأهواء))، فثبت أنه أراد به أهل الذين يذهبون إلى تأويل محتمل، وقد نص على أنه لا تقبل شهادة الخوارج والقدرية. وقوله: ((ولشهادة من يرى كذبه شركًا بالله تعالى ...)) إلى آخره- لا يقدح في هذا النص وإن كان المشار إليهم الخوارج والقدرية، لأنه أراد: أني لا أرد شهادتهم باعتقادهم: أن الكذب كفر، وأنه معصية تجب بها النار، لأن هذا أدعى إلى قبول شهادتهم، لأنهم يجتنبون الزور أكثر من اجتناب غيرهم، ولكن أرد شهادتهم، لأسباب أخر، وهي اعتقادهم خلق القرآن، والقدر، ونفي الرؤية، ونحو ذلك.

وقد حكى عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: ((من فضل بعض الصحابة على بعض، أو فضل عليًا على غيره- لم ترد شهادته، ومن قال: كانت الإمامة لعلي دون غيره بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ردت شهادته، لأنه خالف الإجماع. وحكى عنه انه قال: من نفي إمامة أبي بكر، أو قال: كان ظالمًا- فقد كفر. قال في ((البحر)): قال [القاضي] أبو الطيب: ما ذكر عن أبي إسحاق لم يذكره في ((الشرح)) وإن كان صحيحًا، فهو مخالف لنص الشافعي، لأنه نص على [أن] من شتم قومًا بتأويل لا ترد شهادتهم، وأراد به هؤلاء. فرع: إذا قبلنا شهادة أهل الأهواء، فمحل رد شهادة الخطابية إذا شهدوا على مخالفيهم في الاعتقاد، [ولم يثبتوا سبب الفعل، أما إذا شهدوا على موافقيهم في الاعتقاد]، أو على مخالفيهم، وصرحوا بمشاهدة الفعل- لم ترد شهادتهم كغيرهم، صرح به القاضي الحسين في كتاب البغاة، وغيرهم هنا. وفي ((تعليق)) البندنيجي ثم نسبة القول بالقبول عند الشهادة بالمعاينة إلى أبي إسحاق، وقال: إنه ليس بشيء. وهذا من البندنيجي تفريع على طريقة أبي حامد في رد شهادة أهل الأهواء، وقد صرح به الماوردي [ثم]. قال: ولا تقبل شهادة الزوج على زوجته بالزنى، لأمرين: أحدهما: [أن الزنى] يفرض بمحل حق الزوج، فإن الزاني [مستمع] بالمنافع المستحقة له، فشهادته في صفتها تتضمن إثبات خيانة الغير على ما هو مستحق له، فلم تسمع، كما إذا شهد أنه جنى على بعده. والثاني: أن من شهد بزنى زوجته، فنفس شهادته دالة على إظهار العداوة، لأن زناها يوغر صدره بتطليخ فراشه وإدخال العار عليه وعلى ولده، وهو أبلغ في العداوة من مؤلم الضرب فاحش السبب. قال القاضي الحسين: وإلى هذه العلة أشار الشافعي- رحمه الله تعالى- وهي التي حكاها القاضي أبو الطيب في باب حد قاطع الطريق عن الشيخ أبي حامد.

وحكى بعض الرواة عن الشيخ أبي محمد وجهين في سماع شهادة الشخص على زنى زوجة ولده، وأنه قربهما من المعنيين: فعلى المعنى الأول: لا تسمع. وعلى الثاني: تسمع. قال الإمام: وهذا غريب، لا تعويل عليه، والوجه القطع بقبول شهادة أب الزوج. قال: و [تقبل] شهادة الصديق لصديقه- أي: وإن كان ملاطفًا- وهو الذي يهدي لصديقه من ماله، لعموم أدلة الكتاب والسنة. ولأن الصداقة سبب بين الشخصين، لا يتعلق به عتق أحدهما على الآخر، فلا تتعلق به رد شهادة أحدهما للآخر، قياسًا على قرابة الأخوة والعمومة والصداقة بلا ملاطفة، وقد سلم الخصم في المسألة- وهو الإمام مالك- سماع الشهادة لمن ذكرناهم. قال: و [تقبل] شهادة [الزوج] لزوجته، لعموم قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]. ولأن بينهما صلة لا توجب العتق، فلم تمنع من قبول الشهادة، كالأخوة. ولأن الزوجية عقد على منفعة، فلم توجب رد الشهادة، كالإجارة. وهذا ما حكاه العراقيون والماوردي، وهو الصحيح في ((التهذيب)) و ((تعليقة)) شيخه. [وحكى البغوي قولًا آخر: أنه لا تقبل شهادة أحدهما للآخر، وحكى شيخه] القاضي الحسين بدله: أنه تقبل [شهادة] الزوج لزوجته دون العكس. وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة أقوال قد حكاها الغزالي، كما تقدم مثلها في القطع [في] السرقة. قال الإمام في كتاب اللعان: وإذا قبلنا شهادة الزوج لزوجته، فهل نسمعها في القذف؟ فيه وجهان: وجه المنع: أن الشهادة بقذفها تتضمن إظهار عداوة القاذف، فإن الرجل يتعير بقذف [زوجته كما يتعير بقذف] نفسه.

قال: ولا تقبل شهادة الإنسان على فعل نفسه: كالمرضعة على الرضاع- أي: إذا قالت: أشهد أني أرضعته كذا- قياسًا على ما لو شهدت بالولادة، فقالت: أشهد أني ولدته، وهذا ما جزم به الفوراني، وصححه البغوي. والجمهور على السماع، ولم يحك العراقيون سواه فيما وقفت عليه، بل قال البندنيجي قبيل كتاب الشهادات: إنه لا خلاف فيه، وهو ظاهر النص في ((المختصر)) في كتاب الرضاع. ووجهه: أنها بهذه الشهادة لا تجر لنفسها نفعًا، ولا تدفع عنها ضررًا، بخلاف الولادة، فإنها يتعلق بها حق النفقة، والميراث، وسقوط القصاص، وغيرها، ولا نظر إلى أن الراضع يتعلق به ثبت المحرمية، وجواز الخلوة والمسافر، فإن الشهادة لا ترد بمثل هذه الأعراض، ألا ترى أنه لو شهد شاهدان: أن فلاناً طلق زوجته، أو أعتق أمته- تقبل، وإن كان يستفيدان حل المناكحة. ولا خلاف في سماع شهادتها إذا نسبت الفعل إلى الصبي، فقالت: أشهد أنه ارتضع مني، وهذا لم تدع أجرة [على] الرضاع، فإن ادعت عليه أجرة، لم تسمع شهادتها، للتهمة. وعلى هذه الحالة حمل بعضهم كلام الشيخ. وعن ((الحاوي)) حكاية وجهين في أنه إذا لم تقبل شهادتها في الأجرة، هل تقبل في ثبوت المحرمية، تخريجًا على الخلاف في تبعيض الشهادة، وأن اختيار أبي إسحاق منهما: القبول، [واختار] ابن أبي هريرة المنع. قال: والقاسم على القسمة بعد الفراغ، والحاكم على الحكم بعد العزل أي: إذا قال: أشهد: أني حكمت على هذا، أو لهذا بكذا، لتطرق التهمة إليهما. وقيل: تقبل شهادة القاسم والحاكم، كما في المرضعة، تفريعًا على النص، وهذا ما نسبه البندنيجي والقاضي أبو الطيب وغيرهما إلى الإصطخري، وكذا القاضي الحسين في كتاب القسمة. [وفي ((الحاوي)): أن الإصطخري حكاه عن بعض الأصحاب، وابن الصباغ في كتاب القسمة] نسبه إليه، لكنه خصه بما إذا كان بغيره أجرة، والصحيح الأول،

وبعضهم لم يورد سواه، وفرقوا بين [الحاكم] والقاسم، والحاكم والمرضعة بفرقين، ذكرهما ابن الصباغ وغيره في كتاب الرضاع: أحدهما: أن قسمة القاسم وحكم الحاكم يتعلق به حكم المتنازعين فيه، وليس كذلك إرضاع المرضعة، فإن التحريم لا يتعلق بفعلها، ولهذا لو شرب منها الطفل وهي نائمة تعلق به حكم الرضاع. والثاني: أن القاسم والحاكم متهمان، لأنهما يثبتان لأنفسهما العدالة والإضافة، بخلاف مسألتنا. وعلى هذا قال الأصحاب: لو قال الحاكم: أشهد أن قاضيًا عدلًا قضى بذلك، ففي سماع شهادته وجهان حكاهما العراقيون، والمراوزة عنهم: [وجه المنع]: أنه يحتمل أن يريد نفسه مع أن نسبة القضاء إليه ظاهرة، فكأنه صرح به. وعلى وجه السماع قال ابن أبي الدم: فالشاهد الآخر معه لا يقول: أشهد أن هذا قضى بكذا، لامتناع التلفيق بين الشهادتين، فلا يثبت الحق إن فعل ذلك، لكن هل يقول: أشهد أن قاضيًا عدلًا قضى بكذا، كما تلفظ به القاضي المعزول، أو: أشهد أن القاضي الذي شهد هذا: أنه قضى بكذا، قضى به؟ فيه تردد ظاهر عندي، ولم أظفر به مسطورًا. قال الإمام: ولو شهد [عدلان] لم يقضيا قط على قضاء قاضٍ من غير تسمية، فظاهر المذهب: قبول ذلك. وقد جزم في ((الوسيط)) بعدم قبول شهادة القاضي بعد العزل إذا أضاف الفعل إلى نفسه. وحكى الوجهين فيما إذا قال: أشهد أن قاضيًا قضى: أحدهما: تقبل، كما تقبل شهادة المرضعة كذلك فأفهم كلامه أن شهادة المرضعة إنما تقبل إذا أبهمت المرضعة، وهو راجع إلى ترجيح مذهب الفوراني الذي اقتصر الشيخ على حكايته فيها، فإن هذه الصورة تنفي إضافة الفعل إلى نفسها، كما ينفيه قولها:

قال الرافعي في كتاب الرضاع: ويمكن أن يخرج مثل [هذا] الخلاف المذكور فيما إذا شهد الحاكم أن قاضيًا قضى في المرضعة أيضًا. ويلتحق بصور الكتاب في المنع، ما إذا شهد الوكيل بالبيع على المشتري بالثمن، وأضاف البيع إلى نفسه، أو العبد الذي دفع مال سيده لأجنبي بغير إذنه، ثم عتق، وأضاف الفعل في الشهادة إلى نفسه، مثل: أن قال: أشهد أني دفعت إليه كذا من مال سيدي، كما قاله القاضي الحسين في ((الفتاوى)). ولا خلاف أن الحاكم إذا أقر عنده الخصم في مجلس الحكم، ثم عزل، وقال: أشهد: أنه أقر عندي بكذا- في سماع شهادته. قال الماوردي: ولا يحتاج إلى استرعاء، لأن الإقرار في مجلس الحكم استرعاء. وقد ألحق القاضي الحسين في ((التعليق)) بهذه الحالة ما إذا أطلق الشهادة، وقال: أشهد: أن [له] عليه [كذا، فقال: إنها تقبل، وكذلك إذا قال الوكيل بعد العزل: أشهد أن عليه] لفلان كذا، قبلت شهادته، وبمثله قال في ((الفتاوى)) في مسألة العبد: إذا قال: أشهد بأن لهذا في ذمة هذا كذا، سمعت. واحترز بقوله في مسألة الوكيل: ((بعد العزل)) عما إذا لم يعزله الموكل عن قبض الثمن، فإنه حينئذ يكون شاهدًا بما يجر [به نفعًا لنفسه]. لكن في ((الإشراف)) أطلق القول بالسماع من غير تقييد بالعزل، ثم قال: وهو غلط، فإنها شهادة جارة إلى نفسه نفعًا، فإنه يثبت لنفسه القبض، ويسقط الضمان أيضًا، فإن الوكيل إذا سلم المبيع قبل قبض الثمن يجب عليه الضمان، فصار كالبائع لا يشهد للمشتري، لأنه يسقط العهدة عن نفسه. واعلم أن ما ذكره القاضي من السماع مفرع على المذهب في سماع الشهادة بأن فلانًا يستحق في ذمة فلان كذا، وهو ما حكاه الماوردي في باب الشهادة على الشهادة، ووراءه وجهان، حكاهما ابن أبي الدم: أحدهما: عدم السماع، لأن هذا من وظيفة الحاكم. والثاني: إن كان الشاهد متمذهبًا بمذهب القاضي سمعت، وإلا فلا.

ثم إطلاق القاضي القول بجواز شهادة الوكيل لموكله بعد العزل يؤخذ [منه] أن الشخص إذا كان لولده حق على شخص، والقاضي يجهل أنه ابنه-: [أنه] يجوز له أن يشهد له. ويظهر أن يجئ في الجواز ما ذكرناه في جواز الشهادة للفاسق في الباطن بما علمه إذا كان عدلًا في الظاهر. قال: وإن جمع في الشهادة بين ما يقبل وما لا يقبل، ففيه قولان: أحدهما: ترد في الجميع، لأن الصيغة واحدة، وقد ردت في البعض، فكذلك في البعض الآخر. والثاني: تقبل في أحدهما دون الآخر، لاختصاص المانع به. قال الرافعي: والخلاف كالخلاف المشهور في تفريق الصفقة، بل هو هو. ومن هنا يظهر لك أن الصحيح الثاني، كما صرح به النواوي، واختاره في ((المرشد)). وقد أثبت بعضهم الخلاف المذكور وجهين، ومحله إذا كان ما لا يجوز لأجل التهمة، كما إذا شهد أنه اقترض من أبيه وأجنبي مالًا، ونحو ذلك. وأما إذا كان ما لا يجوز، لأجل العداوة، كما إذا شهد أنه قذفه وأجنبيًا، أو قطع عليه وعلى رفيقه الطريق- فها هنا ترد في الجميع قولًا واحدًا، لأن بهذه الشهادة ظهرت العداوة بين الشاهد والمشهود عليه، فردت شهادته عليه مطلقًا، كذا قاله البندنيجي في كتاب اللعان وغيره. وعن كتاب ابن كج: أن أبا الحسين حكى عن بعض الأصحاب فيما إذا شهد أنه قطع علي وعلى رفقتي الطريق- أن في قبولها في حق الرفقة قولين، كالقولين فيما إذا شهد لنفسه ولشريكه، فإن شهادته لنفسه مردودة، وفي شهادته لشريكه قولان، وهذه الطريقة حكى الإمام مثلها في كتاب اللعان فيما إذا شهد: أنه قذفه وأجنبياً. والصحيح الأول، ولم يورد العراقيون سواه. وما قاله ابن كج من جريان القولين في سماع الشهادة بالنسبة إلى الشريك عند الشهادة لنفسه ولشريكه، مذكور في ((الإشراف)) أيضًا.

لكن المشهور- وبه جزم صاحب ((التهذيب))، و ((الكافي)) في باب حد قاطع الطريق-: المنع، كما تقدم، ومثلاه بما إذا قال: أشهد أن العبد لنا نصفين، وقد حكينا أن القاضي أبا الطيب وغيره جعلوا من مسائله ما إذا شهد أنه قذف أمهما وأجنبية. وعزى البندنيجي ذلك في كتاب اللعان إلى نص الشافعي في ((الأم)). وحكى الإمام [ثم] في هذه الصورة طريقة قاطعة عن رواية الشيخ أبي علي: أنها ترد في الجميع، لأن قذف الأم يورث العداوة، وقد حكاها القاضي الحسين ثم أيضًا، وصححها، ولم يحك في باب حد قاطع [الطريق] غيرها، وتبعه الإمام. والطريقان يجريان- كما حكاه الإمام في كتاب اللعان- فيما إذا شهد بقذف زوجته وامرأة أجنبية. فرع: إذا كان لشخص دين على شخص، وله به بينة، فضاه بعضه، ثم مات، أو جحد، فأراد صاحب الحق [إقامة] البينة عليه- فكيف يشهد؟ قال فقهاء زماننا: إن شهد الشاهد على إقراره بباقي الدين، فقد شهد بخلاف ما وقع، وإن شهد على إقراره بكل الدين، شهد بما استشهد عليه و [ما] لم يستشهد فيه، فيكون في ذلك خلاف مبني على [أن] من شهد قبل الاستشهاد، هل يصير مجروحًا، أم لا كما سيأتي؟ فإن قلنا: يصير مجروحًا، بطلت جملة الشهادة، وإلا خرج على الخلاف السابق. فالطريق أن يقول: أشهد على إقراره بكذا من جملة بكذا، ليكون منبهًا على صورة الحال، [وما قالوه في الحالة] الثانية قد رأيت مثله في ((الإشراف)) فيما إذا ادعى ألفًا، فشهد له شاهد بألف، وآخر بألفين. وفي ((البحر)) في الفروع المذكورة قبل كتاب الشهادات: أنه إذا ادعى تسعة، فشهد له شاهد على إقرار المدعى عليه بعشرة-[فالشهادة] زائدة على الدعوى، فتبطل في الزيادة، وهل تبطل في الباقي؟ قولان، بناء على القولين في تبعيض الإقرار، لكنه قال قبل ذلك في الفروع- أيضًا-: إن البينة لو خالفت

الدعوى في الجنس لا تسمع، وإن خالفتها في القدر إلى نقصان، حكم في القدر بالبينة دون الدعوى، وإن خالفتها إلى زيادة، حكم في القدر بالدعوى دون البينة، ما لم يكن من المدعي تكذيب البينة في الزيادة، فإن أكذبها فيه، ردت، ولم يحكم بها. وهذا قد ذكره الماوردي في باب ((ما على القاضي في الخصوم، وهو موافق لما في ((أدب القضاء)) للزبيلي، فإنه قال: لو ادعى عشرة، فشهدت له البينة بعشرين، صح له العشرة، ولا يكون طعنًا على الشهود، لأنه لم يكذبهم بما فوق العشرة، بل صدقهم في العشرة، وسكت عما فوقها، وذلك يحتمل أن يقول: كان في الأصل عشرون، وكنت قضيت منها عشرة، فادعيت الباقي، وشهد الشهود على الأصل، إذ لم يعلموا بقبضي، فلا يكون ذلك تكذيبًا للبينة. وعندى: أن الشهادة على إقراره بالقدر الباقي لا تمتنع، لأن من أقر بالعشرة فقد أقر بكل جزء منها، كما قال أصحابنا: من ادعى عشرة فقد ادعى كل جزء من أجزائها، ومما يؤيد ذلك أمران: أحدهما: [أنه] لو شهد له شاهد بعشرين، وشاهد بثلاثين، [لفق بين الشهادتين، وتثبت العشرون على الأصح. ولولا أن من شهد بالثلاثين] شهد بعشرين، لما تلفقتا، وثبتت العشرون. الثاني: أن من اشترى عينًا بعشرة، هل يجوز [له] أن يقول: اشتريتها بتسعة؟ فيه وجهان حكيناهما في المرابحة: فإن قلنا: يجوز، فهاهنا كذلك. وإن قلنا: لا يجوز، فإنما كان ذاك، لأن العقد الواقع بعشرة مخالف للعقد الواقع بتسعة، لأنه يقتضي أن الدرهم من العشرة في الصورة الأولى مقابل لعشر المبيع، وفي الصورة الثانية مقابل لتسع المبيع، ولذلك لو شهد بالعقد بعشرة، والآخر شهد بالعقد بعشرين، وأضافا إلى وقت واحد، وعين واحدة- لم يلفق، وهذا منتف في الإقرار. وقد حكى الإمام في كتاب الإقرار: أنا [إذا] رددنا الشهادة [في الألف الزائد، لوقوع الشهادة] [به] قبل الدعوى لا لأجل الحرج، كما سنذكره

وجهًا، فهل نردها في الألف المدعى به؟ فيه طريقان: أحدهما: القطع بالقبول. والثاني: طرد القولين. قال: وإذا أعتق عبدين، ثم شهدا على المعتق: أنه غصبهما- لم تقبل شهادتهما. قال القاضي أبو الطيب في مسائل الدور من كتاب الإقرار: لأن إثبات شهادتهما يؤدي إلى إسقاطها، [لأنه إذا حكم بشهادتهما لم ينفذ العتق، وإذا لم ينفذ العتق بقيا على رقهما، وإذا بقيا على رقهما لم تصح شهادتهما، فلما كان إثباتها يؤدي إلى إسقاطها، لمن نقبلها. وهكذا الحكم فيما إذا ورثهما شخص عن أخيه، فأعتقهما، وشهدا بابن للميت- لم تسمع. وكذا [الحكم] لو أعتقهما المالك في مرض موته، فشهدا عليه بدين يستغرق التركة- لم تسمع، لما ذكرناه. [ثم] في مسألة الكتاب ليس لمن نسبا ملكهما إليه تسليم رقهما، لما فيه من إبطال الولاء على المعتق، وهل له أخذ أكسباهما؟ فيه وجهان، وجه المنع: أن استحقاق الأكساب فرع الرق، وأنه لم يثبت، كذا أخذته من كلام الرافعي في كتاب الإقرار. وقد حكى الإمام في كتاب الغصب فيما إذا كان في يد رجل عبد، فباعه، وأعتقه المشتري، فادعاه آخر، وصدقه البائع والمشتري والعبد- أن العتق لا يبطل، ولو مات هذا العبد، وترك مالًا، ولم يكن له قريب وارث- فميراثه للمصدق. قال: و [قد] ينقدح في المسألة تفصيل، فنقول: ما يصح من اكتسابه من غير إذن المولي، وخيار التصرف إليه، فإن يبين أن يكون كسب عبده، وما ثبت في يد

العبد عن جهة لا يصح استبداد العبد بها، فالوجه الحكم أن المقر له لا يستحقه، فإنه ينكر الملك فيه برد عتق المشتري. قال: وهذا مما لابد منه، وهو مستقر المسألة، والأئمة وإن لم يذكروا هذا التفصيل فلاشك أنهم عنوه، ولو عرض عليهم لم ينكروه. قلت: ولاشك في إجرائه في مسالة الكتاب في الكسب في حال حياتهما إذا قلنا بالتسلط على أخذه، وكذا بعد موتهما، إذا لم يكن لهما قريب، واعترف المعتق بالغصب، والله أعلم. قال: ومن ردت شهادته لمعصيته غير الكفر، أو لنقصان مروءة، فتاب- أي: ذكر أنه تاب- لم تقبل شهادته حتى يستمر على التوبة، أي: بإثباتها بالضد مما كان عليه، وهو صلاح العمل، لأن ما ادعاه من أعمال القلوب كما سنذكره، وهي لا مطلع عليها، وهو متهم في قوله، لأنه قد يريد ترويج شهادته وإصلاح حاله، فاعتبر الشرع مع دعواه إصلاح العمل الظاهر، ليدل على [صدقه فيما] ادعاه، قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} الآية [الفرقان:70]، وقال تعال: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:16]. قال: سنة، [لأن] لمضي الفصول الأربعة تأثيرًا بينا في تهييج النفوس، وانبعاثها لمشتهياتها، فإذا مضت على السلام، أشعر ذلك بحسن السريرة. وأيضًا: فإن لها اعتبارًا في الشرع في مدة العنة، وفي الزكاة، والدية، والجزية، وهذا ما حكاه الماوردي والبندنيجي والقاضي الحسين والبغوي عن الأصحاب، ورجحه ابن الصباغ. قال في ((الحاوي)): لكن اعتبار السنة، هل هو تحقيق أو تقريب؟ فيه وجهان. وقد حكى القاضي أبو الطيب وغيره وراء ذلك وجهين: أحدهما: أن المعتبر مضي ستة أشهر، وقد حكاه القاضي الحسين- أيضًا- في موضع آخر، وقال الرافعي: إنه منسوب إلى النص.

قلت: ولعله أخذ من قول الشافعي في الأم: ((أشهر))، قال أبو الطيب: وهذا لا معنى له، فإنه لم يرد في الشرع تقدير بستة أشهر في الأحكام. والثاني: أن المعتبر مضي مدة يغلب على ظن الحاكم فيها صلاحه، [وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فإذا غلب على ظنه صلاحه] وتوبته، قبلت شهادته، وهذا ما صححه القاضي الحسين، وتبعه الإمام والعبادي. وقال الإمام في تضعيف سواه: وكيف المطمع والتقدير لا يثبت إلا توقيفًا؟! أما إذا كانت المعصية كفرًا، كما إذا ارتد من هو مسموع القول في الشهادة فلا يشترط في قبول شهادته استبراء بإصلاح العمل بلا خلاف، بل يكفيه النطق بالشهادتين، والتبرؤ من كل دين خالف [دين] الإسلام مع التوبة الباطنة، كما سنذكرها. قال الأصحاب: والفرق: أنه إذا أسلم فقد أتى بضد الكفر، فلم يبق بعد ذلك احتمال، وليس كذلك إذا كان قد زنى، أو شرب، ثم تاب، لأن التوبة ليست مضادة لمعصيته بحيث تنفيها من غير احتمال، فلهذا اعتبرنا في سائر المعاصي صلاح العمل، هكذا قاله القاضي أبو الطيب وغيره. وقال الماوردي: إن الحكم كذلك إذا تاب من الردة عفوًا غير متق بها القتل، أما إذا أسلم عند إثباته للقتل، لم تقبل شهادته، إلا أن تظهر منه شروط العدالة، باستبراء حاله، وصلاح عمله. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمرين: أحدهما: أنه لا فرق فيما ذكره من اعتبار الاستبراء بين أن تكون المعصية قذفًا أو غير قذف، وهو في غير القذف موافق لما [أورده الأصحاب، كما حكاه

ابن يونس عن بعض أصحابنا وجهًا: أنه لا يشترط في شهادة الزور الاستبراء، وفي القذف]- قاله الشافعي في كتاب الشهادات من ((الأم)) -: أنه لابد من إصلاح العمل، وهو الذي جزم به في ((التهذيب))، لكن ظاهر النص في ((المختصر)): أنه لا يحتاج فيه إلى استبراء، فإنه قال: والتوبة إكذابه نفسه، لأنه أذنب حين نطق بالقذف، والتوبة منه أن يقول: القذف باطل، كما تكون الردة بالقول والتوبة عنهابالقول، فإن كان عدلًا قبلت شهادته، وإلا فحتى يختبر حاله. واختلف الأصحاب- لأجل ذلك- في المسألة على طريقين: إحداهما- وهي التي أوردها الماوردي والبندنيجي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ-: أن المسألة على قولين: أحدهما: أنه لا يشترط، لأن القاذف يحتمل أن يكون صادقًا، فلا حاجة فيه إلى التشديد. وأصحهما في ((الرافعي)): الاشتراط، وهو المختار في ((المرشد))، لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور:5]، فصار كما في سائر المعاصي. قال أبو الطيب: والقائلون بالأول حملوا الآية على التأكيد. والثانية: تنزيل النصين على حالين، والقائلون بها اختلفوا: فمنهم من حمل ما في ((الأم)) على ما إذا صرح بتكذيب نفسه، وما في ((المختصر)) على ما إذا لم يصرح. ومنهم من حمل ما في ((الأم)) على ما إذا لم يطل الزمان بعد القذف، [وما في ((المختصر)) على ما إذا طال الزمان بعد القذف] وحسنت سيرته، ثم تاب بالقول، كما سنذكره. ومنهم من حمل ما في ((الأم)) على ما إذا قذف سبًا وإيذاء كما هي صورة مسألتنا، وما في ((المختصر)) على ما إذا جاء شاهدًا ولم يتم العدد، وأوحينا عليه الحد، فإنه لا خلاف- كما قال القاضي أبو الطيب، وتبعه ابن الصباغ وصاحب ((البحر)) -: في أنه لا يجب في حقه الاستبراء وهو الذي أورده الماوردي

والبندنيجي، واستدلوا لذلك بقول عمر- رضي الله عنه- لأبي بكرة: ((تب، أقبل شهادتك))، ولم ينكره أحد. وفرقوا بينه وبين القاذف سبًا وإيذاء بأن القاذف سبًا مقطوع بفسقه، بنص الكتاب، والفسق عند الشهادة غير مقطوع به، ولهذا اتفقوا على قبول روايته، وعدم قبول رواية ذاك، وعلى هذا قال ابن الصباغ والروياني: من كانت شهادته تقبل بنفس توبته، فالإمام أن يقول له: تب، أقبل شهادتك، كما فعل عمر- رضي الله عنه. وقال الإمام: الوجه عندنا أن يقال: إذا صرح بتكذيب نفسه فلا يخرج [على] هذا التفصيل وترديد القول، بل يقطع فيه بالاستبراء. وإذا جاء شاهدًا، في الاستراء قولان مرتبان على ما إذا جاء قاذفًا، وهذه الصورة أولى بالا يشترط الاستراء فيها. وقال الغزالي: الصواب أن نقول: إن علم-[أي:] القاذف سبًا- أن ذلك حرام، فهو فاسق، فيستبرأ. وإن ظن أن هذا الصدق مباح، فلا حاجة إلى الاستبراء، ويكفي قوله: تبت. الأمر الثاني: أنه لا يشترط قبول الشهادة بعد التوبة، والإصلاح في العمل أمر آخر، وهو فيما عدا شهادة الزور وما في معناها، والقذف موافق لما أورده الأصحاب إذا كان مقبول الشهادة قبل ذلك. وأما في شهادة الزور، فقد قال في ((المهذب)): لابد أن يقول: كذبت فيما فعلت، ولا أعود إلى مثله. قال الرافعي: وقضية ذلك أن يطرد في الغيبة والنميمة. وفي ((الحاوي)) في بابا ما على القاضي في الخصوم: أنه هل يحتاج إلى النداء عليه بالتوبة من شهادة الزور، كما ينادى عليه عند الحكم بفسقه، لأجل ذلك؟ فيه وجهان، وعلى المنع فالفرق أن ظهور التوبة بأفعاله أقوى. ولأن في النداء بذلة لا تليق بحال العدل، بخلاف الفسق. وأما في القذف، فقد ذكرنا عن الشافعي أنه قال: ((والتوبة إكذابه نفسه ...)) إلى

آخره، واختلف الأصحاب في مراد الشافعي بذلك: فقال الإصطخري: مراده: ما اقتضاء ظاهر كلامه، وهو أن يقول: كذبت بما قذفته به ولا أعود إلى مثله، لأنه روى [أن النبي] صلّى الله عليه وسلّم قال: ((توبة القاذف إكذابه نفسه))، قال: ويقول ذلك وإن كان صادقًا في قذفه، لأن الله تعالى قال: {فَإِذْ لَمْ يَاتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13]، فهذا لقب أثبته الشرع، فيكذب القاذف على هذا التأويل نفسه، فإن الشرع سماه: كاذبًا. قال الإمام: وهذا بعيد، لا أصل له. وقال أبو إسحاق وابن هريرة وجمهور الأصحاب- كما قال الرافعي، وادعى البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما: أنه المذهب-: لا يكلف أن يقول ذلك، فإنه قد يكون صادقًا، فكيف نأمره بأن يكذب، والآية التي ذكرها الإصطخري نزلت في قصة الإفك، وعائشة- رضي الله عنها- كانت مبرأة مما قالوا، فلذلك سماهم الله تعال: كاذبين، ولكن يقول: القذف باطل، وإني نادم على ما فعلت، أو يقول: ما كنت محقًا في قذفي، وقد تبت منه، وما أشبه ذلك. والخبر محمول على الرجوع والإقرار ببطلان ما صدر منه، فإنه نوع إكذاب، وكذلك لفظ الشافعي، ويؤيده قوله بعد ذلك: ((والتوبة منه أن يقول: القذف باطل))، وعلى هذا قال في ((الحاوي)): هل يحتاج أن يقول في التوبة: ((لا أعود إلى مثله))، أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحتاج [إليه]، لأن العزم على ترك مثله يغني عنه. والثاني: لابد أن يقول: لا أعود إلى مثله، لأن القول في هذه التوبة معتبر، والعزم ليس بقول. قال الرافعي بعد حكاية قول أبي إسحاق: ولا فرق في ذلك بين القذف على

سبيل السب والإيذاء، وبين القذف على صورة الشهادة، [إذا] لم يتم عدد الشهود، وقلنا: يوجب الحد على من شهد. ويشبه أن يشترط في هذا الإكذاب جريانه بين يدي القاضي. وما ذكره في القاذف على سبيل السب [لا نزاع] فيه، وأما القاذف على صورة الشهادة، فقد قال البندنيجي وابن الصباغ: إنه يكفي في توبته أن يقول: ندمت على ما كان مني، ولا أعود إلى ما أتهم فيه، فإذا قال هذا، زال فسقه، وثبتت عدالته، وقبلت شهادته. وقال الماوردي: يعتبر في توبته من الشروط المتقدمة في قذف السب أن يقول: قذفي باطل، ولا يحتاج إلى الندم وترك العزم وترك العزم، لأنه شهادة في حق الله تعال، ولا أن يقول: إنني كاذب، ولا يقول: لا أعود إلى مثله، لأنه لو كمل عدد الشهود لزمه أن يشهد. أما إذا لم نوجب الحد عليه، فلا حاجة به إلى التوبة. وكذا نقول فيما إذا قذف سبًا وإيذاء، ثم أتى ببينة تشهد بالزنى، أو على الإقرار به، أو كان زوجًا، فلاعن، ولم تلاعن المرأة- لا يحتاج إلى التوبة في قبول الشهادة، كما جزم به الماوردي وابن الصباغ. وفي ((النهاية)) وجه آخر: أنه لابد منها، لأنه ليس له أن يقذف، ثم يأتي بالبينة، بل كان ينبغي أن يجئ مجئ الشهود. ومن هذا التعليل يظهر لك أنه لا يطرد في قذف الزوج إذا لا عن بعده، لأنه قد يضطر إليه. أما إذا لاعنت المرأة أيضًا، قال في ((الحاوي)) في كتاب اللعان: فيحتمل في ارتفاع فسقه وجهين، لأن لعانها معارض للعانه. فإن قلت: ما ذكرته لا يرد على الشيخ، لأن إكذاب القاذف وغيره نفسه فيما أتى به، من جملة شرائط التوبة وأركانها، كما أفهم ذلك كلام الشافعي وغيره، والشيخ، فقد قال: ((لم تقبل شهادته حتى يستمر على التوبة))، فاندرج ما ذكرته تحت كلامه.

قلت: كلام الأصحاب كالمصرح بأن هذا غير معتبر في التوبة الباطنة بين العبد وربه، وإنما هو معتبر في التوبة الظاهرة، وقول الشيخ: ((ثم تاب))، المراد به: التوبة الباطنة، وقوله: ((لم تقبل شهادته حتى يستمر على التوبة))، يعود إلى التوبة الأولى، لأنه أتى فيها بالألف واللام، فعادت إلى ما ذكر أولًا، كما في قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15،16]. وإذا كان ذلك اتجه السؤال، لكن للمعترض أن يقول: مراد الشيخ بقوله: ((ثم تاب)): التوبة الظاهرة التي تشمل ما ذكرته وغيره، لأن قوله بعد ذلك: ((حتى يستمر على التوبة سنة))، يعود إلى الأولى. وقد اتفق الأصحاب على أن التوبة الظاهرة بما ذكرناه لابد منها مع التوبة الباطنة، فتعين أن المراد بما ذكره أولًا: التوبة الظاهرة، وعلى [هذا] ينتفي السؤال، وهو الأحسن، لأن الدعوى أن مراد الشيخ بالتوبة التي ذكرها أولًا: الباطنة لا دليل عليه، والله أعلم. واحترز الشيخ بقوله: ((ومن ردت شهادته، لمعصية غير الكفر، أو لنقصان مروءة)) عما إذا ردت شهادته، لأجل الغلط، فإنه لا يستبرأ، كما صرح به البغوي والرافعي، وعما إذا ردت شهادته، لحرصه على أدائها قبل الاستشهاد، إذا قلنا: إنه يصير به مجروحًا، كما سنذكره، فإنه لا يحتاج إلى استبراء، كما صرح به البغوي. لكن في ((النهاية)) في باب الشهادة على الجناية: أن الأصحاب قالوا: يستبرأ أيضًا، ولا يبلغ استبراؤه مبلغ استبراء الفاسق، بل يقرب. [وحد القاضي ذلك في ((تعليقه)) بيومين أو ثلاثة،] فإن الغرض يحصل لنا بأن يبين لنا شبهة لإقامة الشهادة في حينها ووقتها، وترك ما يدل على غرضه في الثبوت والابتداء. وهذا المسلك وإن كان ظاهرًا فليس علي أوثره وأحبه، وهذا ذكره تفريعًا على قولنا: إنه لو أعاد تلك الشهادة لم تقبل، وأنه يشترط على هذا- أيضًا- أن يتوب عما جرى منه، ويذكر أنه لا يعاود مثله، ولا يبادر الشهادة قبل الاستشهاد، والله أعلم.

ثم قد يقال: إنه احترز بما ذكره عما إذا ردت شهادته في القذف، لنقصان العدد إذا أوجبنا عليه الحد، فإنه لا يجب الاستبراء عند الجمهور، ولا يقال: إن نفس إقدامه على الشهادة بذلك معصية، لأن العدد لو تم عمل بقوله، ولو كان نفس الإقدام معصية لما عمل به، لما سنذكره عند الكلام في حد شهود القذف، لكن إطلاق الأصحاب القول بتفسيقه بناء على إيجاب الحد عليه يدل على أنه معصية، وحينئذ فيكون كلام الشيخ يشمله، ويقتضي وجوب الاستبراء، وهو خلاف ما أورده الأصحاب كما عرفته. واعلم أن التوبة في الباطن التي تتبعها التوبة في الظاهر المرتب عليها غفران الذنب وغيره تحصل- كما قال الأصحاب فيما إذا كانت المعصية لا يتعلق بها حد لله تعالى، ولا مال، ولا حق للعباد: كوطء الأجنبية فيما دون الفرج، وتقبيلها، والاستمناء، ونحو ذلك- بأمرين: الندم على ما كان، والعزم على ألا يعود إلى ذلك في المستقبل. قال القاضي أبو الطيب: وقد يعبر عن ذلك بعبارة أخرى، فيقال: أن يستغفر الله تعالى عما مضى، ويترك الإصرار في المستقبل، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135]، هذا هو العزم على ألا يعود، كذا قاله البندنيجي والقاضي أبو الطيب والماوردي وابن الصباغ والبغوي. وذكر الرافعي وغيره من المتأخرين أمرًا ثالثًا: وهو ترك مثل ذلك في الحال، فإذا فعل ذلك لله تعالى قبل الحشرجة والمعانية، قبلت توبته عما ذكرناه وعن فإذا فعل ذلك لله تعالى قبل الحشرجة والمعاينة، قبلت عما ذكرناه وعن غيره بالشرط الذي سنذكره، لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الآية] [الشورى:25]، وقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وقوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3]، وقوله- عليه السلام-: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)).

وقد روى عن عمر أنه قال: بقية عمر المرء لا قيمة له يدرك [به] ما فات، ويحيي به ما مات، ويبدل حسناته سيئات. أما إذا فعل [ذلك] بعد الحشرجة والمعاينة فلا ينفعه ذلك، قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} الآية [النساء:17]. واحترز الرافعي بقوله: ((ترك مثل ذلك في الحال)) عن الإقلاع عن معصية [خاصة] يوقعها بشخص [دون شخص]، فإن التوبة لا تحصل منها، وفيه تنبيه على مذهبنا: أنه لا يشترط في صحة التوبة عن معصية الإقلاع عن كل المعاصي كما حكاه القاضي أبو الطيب، خلافًا للمعتزلة، فإنهم اشترطوا ذلك. وإن تعلق بالمعصية حق مالي: كمنع الزكاة، وكذا الكفارات- كما قاله البندنيجي، وفيه نظر إن لم نوجبها على الفور- وكالغضب والجنايات الموجبة للمال، فيعتبر [مع] ما ذكرناه في صحة التوبة: أن يخرج من ذلك الحق حسب الإمكان، فيؤدي الزكاة، ويرد المغصوب على الوجه المأمور به شرعًا إن كان باقيًا، وبدله إن كان تالفًا، أو يستحل فيبرئه المغصوب منه إن كان حيًا، فإن كان قد مات فعل ذلك مع وارثه. وإن غاب وانقطع خبره، دفعه إلى قاض يعرف سيرته وديانته، فإن تعذر تصدق به على الفقراء بينة الغرامة له، [كذا] ذكره العبادي في ((الرقم))، والغزالي في غير كتب الفقه، وهذا إذا كان موسرًا، فلو كان معسرًا، عزم على الأداء إذا أيسر. قال أبو الطيب: ومتى أيسر أداه. فلو مات قبل أن يغرم، قال الرافعي: فالمرجو من فضل الله- تعالى جده- المغفرة. وإن تعلق بالمعصية حق غير مالي، فإن كان حدًا لله تعالى: كما إذا زنى، أو سرق أو شرب الخمر- فإن لم يظهر ذلك بشهادة، قال القاضي أبو الطيب: فالأفضل أن يستر نفسه.

وقال القاضي الحسين: يكره أن يظهر ذلك، لقوله- عليه السلام-: ((من أصاب من هذه القاذورات [شيئًا] فليستتر بستر الله تعال، فإن من بيد [لنا] صفحته نقم فيه حد الله))، وفي هذه الحالة تحصل التوبة بما ذكرناه في الصورة الأولى. قال الأصحاب: ولو أراد أن يبدي ذلك، ليقام عليه الحد، لم يحرم قال البندنيجي: اللهم [إلا] أن يتقادم عهد ذلك، ونقول: إن الحد يسقط بتقادم العهد، كما حكيناه قولًا في بابه، فلا يحل له التمكين من الاستيفاء، لأنه ليس هناك حد فيستوفى منه. قال ابن الصباغ: وهكذا نقول على هذا القول: إذا اشتهر ذلك بين الناس، ولم تقم به بينة عند الحاكم. نعم، لو ظهر بالشهادة عليه، فإنه يجب عليه أن يظهر ذلك للإمام، ليقيم عليه الحد، ولا يجوز له أن يكتم ويستر على نفسه، لأنه لا غرض له في كتمانه وقد قامت به البينة. وفي هذه الحالة تتوقف التوبة على فعل ذلك مع ما تقدم، فإن لم يستوف منه صحت توبته، كما قاله الماوردي، وتبعه في ((البحر))، وكان المأثم في ترك الحد على من يلزمه [استيفاؤه] من الإمام أو من ينوب عنه، ولا يجري الخلاف السابق في [أن] الحد هل يسقط أم لا بتقادم العهد والتوبة، لأن محله إذا لم يثبت عند الحاكم- كما قاله الماودري هنا- أما إذا ثبت- كما صورنا- فلا يسقط قولًا واحدًا، وقد تكلمنا على ذلك في باب حد الخمر. وإن كان حقًا للعباد، قال الماوردي: فإن لم يكن ذلك حدًا: كمن تعدى فضرب إنسانًا فآلمه، احتاج- مع ما ذكرناه في الحالة الأولى في صحة التوبة- إلى استحلال المضروب باستطابة نفسه، ليزول عنه الإثم في حقه، فإن أحله منه، وإلا مكنه من نفسه، ليقابله على مثل فعله، [لأن ذلك ما في وسعه] كما

فعل عمر- رضي الله عنه-[في الذي] ضربه حين رآه يصلي مع النساء. وكلام القاضي الحسين موافق لذلك، وقال: إن صاحب هذا الحق إذا كان قد مات لا يأتي إلى وارثه، بل يستغفر لذلك الميت. وإن [كان] ذلك الحق قصاصًا في نفس أو طرف أو حد قذف، فالتوبة- كما قالوا-: أن يأتي بما تقدم، ويأتي المستحق ويمكنه من الاستيفاء، فإن لم يعلم المستحق، فيجب في القصاص أن يخبره، ويقول: أنا الذي قتلت أباك، ولزمني القصاص، فإن شئت فاقتص، وإن شئت فاعف. وفي حد القذف: هل يخبر؟ الذاي أجاب به العباد وغيره هاهنا: نعم، كما في حق القصاص. وحكى الغزالي فيما إذا أتى ببعض كنايات القذف، وأراد القذف، ولم يحلفه المقذوف على النية- ترددًا في أنه هل يخبره بذلك، أو يخفيه ولا يؤديه؟ قال الرافعي: وفي مثله في الغيبة رأيت في ((فتاوى)) الحناطي: أنها [إذا] لم تبلغ المغتاب، كفى الندم والاستغفار، وإذا بلغته، أو طرد طارد قياس القصاص والقذف فيها- فالطريق: أن يأتي المغتاب، ويستحيل منه، فإن تعذر بموته، أو عسر لغيبة فيها مشقة- فيستغفر الله تعالى، ولا اعتبار بتحليل الورثة، كذلك ذكره الحناطي وغيره. قال العبادي: والحسد كالغيبة، وهو أن يهوى زوال نعمة الغير، فيأتي المحسود، ويخبره بما أضمره، ويستقيله ويسأل الله تعالى أن يزيل عنه هذه الحالة. قال الرافعي: [و] في إلزام الإخبار عن مجرد الإضمار بعد. فرع: إذا قصر الشخص فيما عليه من الدين والمظلمة، ومات المستحق، واستحقه وارث بعد وارث- فمن المستحق له في الآخرة؟ قال القاضي الحسين في ((تعليقه)): إن كان صاحب الحق قد ادعاه فجحده من هو عليه، وحلف عليه- فلا خلاف أنه يكون للأول في القيامة. وإن كان صاحب الحق لم يحلفه، فثلاثة أوجه: أحدها: أنه للأول، وهو الصحيح، وعليه ينطبق قول أبي عبد الله الحناطي

لما سئل عن ذلك حيث قال: يرثه الله تعالى بعد موت الكل، ويرد إليه في القيامة. والثاني: أنه يكون للكل. والثالث: أن ذلك يكون للأخير، وأن لمن فوقه إلى الأول ثواب المنع، ويقرب من هذا ما حكي عن ((الرقم)): أنه يكتب الأجر لكل وارث، ثم يكون الثواب لمن بعده. وقد حكي عن رواية أبي عبد الله الحناطي وجه: أنه لآخر من مات من الوارثين. ولا خلاف- كما قاله القاضي الحسين وغيره- في أنه لو دفع [الحق، أو خرج منه إلى بعض الوارثين عند انتهاء الاستحقاق إليه، أنه يخرج] عن المظلمة إلا بما سوف وماطل، وكذا إذا أبراه ذلك الوارث، والله أعلم. قال: وإذا شهد الكافر، أو الصبي، أو العبد في حق، فردت شهادتهم، ثم أسلم الكافر، وبلغ الصبي، وعتق العبد، وأعادوا تلك الشهادة- قبلت، لأنه لا عار على هؤلاء فيما لأجله ردت شهادتهم، فإن الكافر يناظر على دينه، ويفتخر به، والصبي والعبد ليس الصبا والرق إليهما، فإذا كان كذلك لم يلحقهم تهمة في الإعادة في حال الكمال. وأيضًا: فإن [رد] شهادتهم ثابت بالنص، ولم يكن للاجتهاد فيه مساغ، ولم يجب الإصغاء إليها، فكان جودها كعدمها، ولو لم ترد حتى أسلم، وبلغ، وعتق- قبلت، فكذلك في هذه الحالة، وهذا يوضحه ما ذكرناه عند الكلام في قول الشيخ: فإن كانوا فساقًا، قال للمدعي: زدني في الشهود. ثم لا فرق فيمن ردت شهادته للكفر ثم أسلم وأعادها بين أن يكون متظاهرًا بكفره أو كاتمًا له. وعن كتاب ابن كج حكاية وجهين في قبول شهادة المتكاتم. وقال الرافعي: إن قضية كلام الأصحاب تقتضي المنع. وكذا لا فرق فيمن ردت شهادته للرق، ثم أعادها بعد الحرية بين أن يكون قنًا

أو مكاتبًا، يشهد لسيده أو لغيره، كما قاله القاضي الحسين. قال: وإن شهد الفاسق، أو من لا مروءة له، فردت شهادته، ثم تاب، وحسنت طريقته، وأعاد تلك الشهادة- لم تقبل، لأنه يتغير برد شهادته بسبب فسقه الصادر منه، فلا يؤمن أنه أصلح حاله [وأرى] الناس العدالة، ترويجًا لشهادته، ولدفع العار عن نفسه. قال القاضي الحسين: ولأن رد شهادة الفاسق إنما كان بالاجتهاد، ويجوز أن يكون هو صادقًا في الشيء المشهود به، فرده تعلق باجتهاد القاضي، فلو قبلت شهادته المعادة، لأجل عدالته، وهي أيضًا مدركة بالاجتهاد- لأدى إلى نقض الاجتهاد [بالاجتهاد]، وهذا ما نص عليه الشافعي في الصورتين. وعن المزني وأبي ثور: أن شهادة الفاسق إذا تاب، وأعادها، قبلت، كما في شهادة الكافر ونحوه. والفرق على المذهب ما ذكرناه. قال ابن الصباغ: وقد ذكر في ((التعليق)) فرقًا آخر: وهو أن المانع من قبول الشهادة في حق الكافر والصبي والعبد قد زال قطعًا، بخلاف الفاسق. قال: وهذا ليس بصحيح، لأنهم سواء في قبول شهادتهم في غير هذه الشهادة، وإن اختلفا فيما ذكر، والراجح عن الشهادة [أداءً حكمه] في إعادة تلك الشاهدة حكم الفاسق فيما ذكرناه. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في الفاسق بين المتكلم لفسقه، أو المتظاهر به والمعلن، وهو ما جزم به القاضي أبو الطيب حيث ذكر حكم المتكاتم كما ذكرناه، وألحق به المتظاهر بالفسق. وقال القاضي الحسين في موضع: إنه لا خلاف في قبول شهادة المعلن بالفسق، المعادة بعد التوبة. وهو قضية التعليل الذي حكيناه عنه، لأن الرد في هذه الحالة لم يكن بالاجتهاد، بل هو ملحق برد شهاد الكافر، ولذلك قال الماوردي بعد ذكره [مثل] ما ذكرناه عن القاضي في تعليل المسألة الثانية:

وقضية هذه العلة سماع شهادة المعلن بالفسق إذا أعادها بعد التوبة، ولو قيل به لكان وجهًا. لكن هذا الكلام منه يقتضي أن المذهب عدم القبول فيه. وكذلك حكى الرافعي: أن الروياني اختاره بعد أن قال: إنه ينسب إلى ابن أبي هريرة، وروى وجهًا آخر معه، وذكر أنه منسوب إلى أبي إسحاق: أنها تقبل، وأن القاضي أبا الطيب اختاره. والرافعي في ذلك متبع لابن الصباغ، فإنه [قال: إن] القاضي أبا الطيب قال: إنها تسمع، كشهادة الكافر. والذي رأيته في ((تعليقه)) ما ذكرته أولًا، [ولا] فرق بينه وبين الكافر ومن في معناه، لأن ذلك لا يتغير بأول شهادة ردت [له]، ولا ما بعدها، بخلاف المعلن بالفسق، فإنه إذا ردت شهادته في أول مرة تلحقه منقصة. وقد حكى القاضي الحسين في المسألة الوجهين أيضًا في موضع آخر، كما حكاهما غيره من المراوزة. فرع: إذا ردت شهادة شاهدي الفرع لفسق شاهد الأصل، ثم حسنت حاله، فأعادا تلك الشهادة، أو أعادها هو بنفسه- لم تقبل. قال القاضي الحسين: وكذا لو شهد على شهادته غير هذين الشاهدين قبل أن ترد شهادة هذين، أو بعده، فجاءا فشهدا- لم تقبل. وقد نسب الرافعي هذا النقل إلى ((أمالي)) أبي الفرج، وقال: إن شهادة شاهدي الفرع لو ردت، لفسقهما، ثم أعادها شاهد الأصل، أو غيرهما- قبلت، وهو كذلك في ((تعليق)) القاضي أيضًا. فرع: إذا شهد العدو على عدوه، فردت شهادته، ثم زالت العداوة، وأعادها فعن أبي إسحاق: أنها لا تقبل، وهو الذي صححه- كما قال الرافعي- في ((المهذب))، و ((التهذيب)). وعن أبي إسحاق: أنها تقبل، كذا قاله القاضي الحسين، ولم يورد البندنيجي في كتاب اللعان غير الوجه الأخير.

قال: وإن شهد الوارث لمورثه بالجراحة قبل الاندمال، فردت شهادته، ثم اندمل الجرح، وأعاد [تلك] الشهادة- فقد قيل: تقبل، لأن شهادته إنما ردت خشية من موته من تلك الجراحة، فيكون كأنه شهد لنفسه، فإذا برئ زال هذا [المعنى، وهذا] ما اختاره في ((المرشد)). وقيل: لا تقبل، كشهادة الفاسق إذا أعادها بعد التوبة، لأنهما جميعًا ردا، لأجل التهمة، وهذا ما قال به أبو إسحاق، واختاره النواوي، وقيل: إنه ظاهر المذهب، ولم يحك القاضي الحسين في باب الشهادة على الجناية غيره، وطرده فيما إذا شهد بالجراحة قبل الاندمال وهو وارث، ثم حدث للمجروح ابن يحجبه، فأعاد تلك الشهادة. وفي ((الحاوي)) حكاية الوجهين في هذه الصورة أيضًا. قال القاضي أبو الطيب: والقائلون بالأول فرقوا بأن العلة المانعة لقبول شهادته قد زالت يقينًا، وهو كونها غير مندملة، خشية حصول المشهود به [له]، وليس كذلك الفسق. وقد نسب القاضي الحسين هاهنا القول بعدم القبول إلى القفال، وقال: إن أصحابنا ذكروا في المسألة وجهين، كالسيد إذا ردت شهادته لمكاتبه، فعتق، وأدى السيد تلك الشهادة، هل تقبل أم لا؟ فيه قولان. وفي ((الشامل)) حكاية القبول في مسألة المكاتب عن بعض الأصحاب، ومقابله إلى تخريج ابن القاص، ولأجل ذلك حكى الفوراني وغيره الخلاف في المسألة وجهين، واختار في ((المرشد)) منهما القبول. وكذا الخلاف يجري- كما حكاه القاضي عن ابن سريج- فيما إذا شهد المولى لعبده بما لا يعود نفعه إليه: كالنكاح، فردت شهادته، ثم عتق العبد، فأعاد السيد تلك الشهادة، فهل تقبل؟ فيه قولان: والأصح: لا، لأن الرد كان للتهمة. ومقابله منسوب في ((الرافعي)) إلى ابن القاص. والخلاف جارٍ- أيضًا، كما قال الرافعي- فيما لو شهد اثنان من الشفعاء بعفو

شفيع ثالث قبل أن يعفوا، فردت شهادتهما، ثم أعادها بعد عفوهما. ومن ردت شهادته لوقوعها قبل الاستشهاد، ثم أعادها بعده، هل تسمع؟ سيأتي الكلام فيها، إن شاء الله تعالى. قال: ويقبل في المال وما يقصد به المال: كالبيع، والإجارة، والرهن، والإقرار، والغصب، وقتل الخطأ- رجلان، ورجل وامرأتان، لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282]، فكان محمولًا على عمومه في كل حق إلا ما خصه دليل، قال القاضي أبو الطيب: ولأنه إجماع. ولا فرق في شهادة الرجل والمرأتين بين أن تتقدم شهادة الرجل أو تتأخر، صرح به القاضي أبو الطيب، والحسين، والإمام. وكذا لا فرق بين أن يقدر على رجلين، أو لا يقدر إلى على رجل وامرأتين، لم يختلف أصحابنا في ذلك. والخنثى المشكل في هذا المقام كالمرأة. قال: وشاهد ويمين المدعي، لما روى الشافعي بسنده عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس: ((أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى باليمين مع الشاهد))، قال عمرو: في الأموال. وهذا الخبر وإن كان منقطعًا، لأن عمرًا لم يلق ابن عباس، فقد رواه خالد

الزنجي، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، كما خرجه مسلم. ورواه الشافعي من حديث آخر عن أبي هريرة: ((أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى باليمين مع الشاهد)). وروى من طريق آخر عن علي بن أبي طالب: ((أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى بالشاهد الواحد مع يمين من له الحق)). وروي عن غيره- أيضًا- ومجموع من رواه من الصحابة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- كما قال الماوردي- ثمانية: علي، وابن عباس، وأبو هريرة، وجابر، وعبد الله بن عمرو ابن العاص، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وسعد بن عبادة، رضي الله عنهم.

وروى الدارقطني في ((سننه)) حديثًا أسنده إلى أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((استشرت جبريل- عليه السلام- في القضاء [باليمين مع الشاهد]، فأشار علي بذلك في الأموال لا يعدو يذلك)). وهذا هو ظاهر المذهب، كما قال في ((البحر))، سواء تمكن من البينة الكاملة أو لم يتمكن. ولم يحك القاضي [أبو الطيب] في باب عدد الشهود في ضمن تعليل الحكم في مسألة منه سواه. وفي ((الحاوي): أن هذا إذا لم يتمكن من البينة الكاملة، وهي شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، فإن تمكن من ذلك ففي الحكم بالشاهد واليمين وجهان. وعلى المشهور: هل يشترط تقديم شهادة الشاهد وتزكيته [على اليمين، أم يجوز تقديم اليمين على شهادة الشاهد وتزكيته؟] المذهب في ((تعليق)) القاضي أبي الطيب- وقال: إنه الذي عليه عامة أصحابنا-: الأول، ولم يحك القاضي الحسين والإمام ومن تبعه سواه. وحكى القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما عن ابن أبي هريرة: أنه يجوز أن يحلف قبل إقامة الشهادة وقل التزكية. وللإمام احتمال في جواز الحلف بعد إقامة الشهادة وقبل التزكية.

قلت: ويمكن بناء الوجهين [على الوجهين] في أن المدعي هل يحتاج في يمينه على تصديق الشاهد، فيقول: والله إن شاهدي لصادق فيما شهد [لي] به، وإني مستحق لكذا، أو يكفيه الاقتصار على الحلف على الاستحقاق؟ وفيه خلاف حكاه صاحب ((البحر)) هاهنا، والماوردي في باب صفة اليمين، وحكيته عن رواية الإمام في باب صفة القضاء عند الكلام في [باب] القضاء على الغائب. فإن قلنا بالاحتياج إلى تصديق الشاهد كما حكيته عند الكلام في نكول المدعي عن اليمين عن القفال، وهو الذي أورده [ابن] الصباغ في باب الامتناع من اليمين والإمام هنا، [و] ادعى أن الأصحاب لم يختلفوا فيه، وتبعه الغزالي، والرافعي، ووجه ذلك بأن اليمين والشاهد حجتان مختلفتا الجنس، [فاعتبر] ارتباط إحداهما بالأخرى، لتصيرا كالنوع الواحد- فيظهر أن يقال: لا بد من تقدم الشهادة، ليقع التصديق بعدها. وإن قلنا: لا نحتاج إلى تصديق الشاهد، كما حكاه ابن أبي الدم عن الإصطخري، ووجهه الماوردي بأن يمينه بمثابة الشاهد الآخر، وليس يلزم الشاهد أن يشهد بصدق الآخر- فيظهر أن يقال بمجيء الخلاف في جواز تقديم اليمين على الشهادة. [ثم] قال الإمام تفريعًا على الاحتياج إلى تصديق الشاهد في اليمين: ولو قد ذكر الحق، وأخر تصديق الشاهد، فلا بأس، ولم أر أحدًا يضايق فيه. فرع: إذا حصل القضاء عند وجود الشاهد واليمين، فهل يستند إلى الشاهد فقط، أو إلى اليمين فقط، أو إليهما؟ فيه ثلاثة أوجه، أصحها: ثالثها، وهو الذي ينتظم عليه تعليل الأصحاب اشتراط التعرض لصدق في اليمين، كنا قال الرافعي. وتظهر فائدة الخلاف في الغرم عند الرجوع، فإن قلنا بالشاهد فقط كان الغرم عليه عند رجوعه، وإن قلنا باليمين فقط فلا شيء على الشاهد، وللإمام احتمال فيه أخذه من تغريم شهود التزكية، لأن به حصل ترويج اليمين، كما

حصل بهم ترويج شهادة الشاهد. وإن قلنا باليمين والشاهد، كان عليهما. وقال ابن أبي الدم: إن الشيخ أبا على قال: إذا قلنا: إن القضاء استند إلى الشاهد فقط، فلا صائر إلى أنه يغرم الكل، وهذا يدل على ضعف هذا الوجه. وقد عد الأصحاب مما يثبت بالشاهد واليمين حق الخيار، والفسخ بالرد بالعيب، والإقالة، والفلس، والضمان، والشفعة، والمساقاة، والمسابقة، وحصول السبق فيها، وقبض المال، والرجوع في التدبير، وعجز المكاتب عن أداء النجوم، ووجوب المهر بوطء الشبهة، وكذا بتسميته في النكاح بعد التوافق عليه، وثبوت طاعة المرأة، لاستحقاق النفقة، واستحقاق الصيد بإزمانه، والسلب بقتل الكافر، وجناية العمد التي لا توجب قصاصًا، لاقتران، المسقط بها: كقتل الوالد الولد، والمسلم الكافر، والحر العبد، وكالجائفة، والهاشمة، والمنقلة إذا لم يتقدمها إيضاح، وكذا ما قبل الموضحة إذا لم نوجب فيه القصاص. أما إذا كانت [الجناية] توجب القصاص، لكنه عفى عنه، وأراد إثباتها باليمين مع الشاهد، أو بالرجل [والمرأتين- فوجهان]: أصحهما في الحاوي: الثبوت، لأنه لا قصاص، والمقصود المال. قلت: ويؤيده ما ذكرناه: أن الجديد: أن الواجب في قتل العمد أحد الأمرين، وأنه إذا اختار أحدهما حكمنا بأنه الذي كان وجب بالقتل. وأصحهما في الرافعي، ولم يحك القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وكذا البندنيجي غيره، وعزاه إلى نصه في ((الأم)) -: المنع. وحكى عن أبي بكر الطوسي طريقة قاطعة به، لأنها في نفسها موجبة للقصاص لو ثبت، ولأنه ينبغي أن يثبت القصاص حتى يكون للعفو اعتبار. ولو أقام على الهاشمية والمنقلة المسبوقة بالإيضاح شاهدًا وامرأتين، أو شاهدًا ورام الحلف معه- فالنص: أنه لا يثبت أرش الهاشمة والمنقلة بذلك، بل لابد من شهادة رجلين. والنص فيما إذا رمى إلى زيد، ومرق السهم منه، وأصاب غيره: أنه يثبت

الخطأ الوارد على الثاني برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين. وفيهما طريقان: أحدهما: أن فيهما قولين: أحدهما: ثبوت الهشم، وقتل الخطأ برجل وامرأتين، وإن لم تثبت الموضحة وقتل العمد. والثاني: المنع، لاشتمال الجناية على ما يوجب القصاص: وهو الموضحة، وقتل العمد، وهما لا يثبتان برجل وامرأتين. وقد حكى الماوردي هذين القولين في باب الشهادة بالجناية، وفي باب اليمين مع الشاهد [في الصورتين منصوصًا] عليهما في ((الأم)) وصحح القول بثبوت قتل الخطأ بالشاهد واليمين، وعلى ذلك جرى الرافعي، فقال: أصح] الطريقين: تقرير النصين، لأن الهشم المشتمل على الإيضاح جناية واحدة، وإذا اشتملت الجناية على ما يوجب القصاص، احتيط لها، ولم تثبت إلا بحجة كاملة. وفي صورة مروق السهم، حصلت جنايتان لا تتعلق إحداهما بالأخرى. وذكر الإمام أن المدعي لو قال: أصاب سهمه الرجل الذي قصده، ونفذ منه إلى أبي، فقتله، ولم تكن الجناية الأولى متعلق حق المدعي- فيجب القطع بثبوت الخطأ بالبينة الناقصة، ومحل التردد ما إذا كانت الجناية الأولى متعلق حق المدعي. قال: وفيه احتمال، لأن الجناية في الجملة عمد منفض إلى خطأ. وذكر أنه لو ادعى [أنه] أوضح رأسه، ثم عاد وهشمه- ينبغي أن يثبت موجب الهاشمة رجل وامرأتين، لأنها لم تتصل بالموضحة، ولم تتحد الجناية. وذكر في ((الوسط)): أنه لا خلاف: أنه لو ادعى قتل عمرو خطأ، فشهدوا، وذكروا مروق السهم إليه من زيد- لم يقدح في الشهادة، لأن زيدًا ليس مقصودًا بها. وإذا قلنا بثبوت الهاشمة المسبوقة بالإيضاح، وأوجبنا أرشها- فعن صاحب ((التقريب)): أن في ثبوات القصاص في الموضحة وجهين: وجه الثبوت: التبعية، كما أن الولادة على الفراش إذا تثبتت بشهادة النسوة ثبت

النسب [تبعًا، وإن لم يثبت النسب] بشهادتهن ابتداءً، واستضعف الشيخ أبو علي والأئمة ذلك، وقالوا: الأقرب أن يقال: لا يجب قصاص الموضحة، وفي أرشها وجهان: وجه الوجوب: أنا وجدنا متعلقًا لثبوت المال، فلا يبعد أن يستتبع مال مالًا. وقد أبعد بعض الأصحاب فقال: إذا ادعى مدع قصاصًا ومالًا من جهة لا تتعلق بالقصاص، وأقام على الدعويين رجلًا وامرأتين- لا يثبت المال، كما لا يثبت القصاص. والمذهب المشهور: أن المال يثبت وإن لم يثبت القصاص. وقد عد مما يثبت بالشاهد واليمين: الديون، والحوالة، والإبراء حتى من نجوم الكتابة: الأول منها والأخير، ولم يحك العراقيون سواه. وعن رواية الموفق بن طاهر عن الربيع: أن الإبراء لا يثبت إلا بشاهدين [ذكرين، وعن غيره حكاية وجه في أن النجم الأخير من نجوم الكتابة لا يثبت إلا بشاهدي،] لترتب [العتق عليه]. والأصح في ((التهذيب)) خلافه. والأجل يثبت بالشاهد واليمين عند العراقيين، كالخيار. وقيل: [إنه] لا يثبت إلا بشاهدين، لأنه ضرب من السلطة، فكان كالوكالة. قال القاضي الحسين: وهو مأخوذ من كلام الشافعي، لأنه شرط في المال الانتقال من مالك إلى مال، والأجل لا ينتقل، لأن من عليه الأجل إذا مات بطل. والصحيح الأول. والقراض ملحق في ((الشامل))، وكذا في ((تعليق)) أبي الطيب في باب الشهادة على الجناية- بما المقصود منه المال. والشركة في ((الوسيط)) ملحقة به أيضًا. وحكى ابن أبي الدم: أن القاضي الحسين قال: عقد القراض والشركة لا يثبت إلا بشاهدين، وبه أجاب في ((التهذيب)).

وقال الرافعي: إنه الأظهر، لأنه إثبات وكالة على المال المشترك. قال ابن أبي الدم: وهذا يقوله القاضي تفريعًا على المذهب، وإلا فمن مذهبه، أن الوكالة بالمال تثبت بالشاهد والمرأتين، والشاهد واليمين، فعقد القراض والشركة أولى. وعن رواية القاضي ابن كج حكاية وجه: أن الرهن لا يثبت إلا بشاهدين. والتقويم ملحق عند أبي إسحاق المروزي بما نحن فيه، فيثبت بالشاهد [والمرأتين، والشاهد] واليمين. وقال ابن أبي هريرة: [لا مدخل للنساء فيه]. وقال الزبيلي: قال أبو الحسن: والأولى قول أبي إسحاق. قال: وأما الوقف فقد قيل: يقبل فيه ما يقبل في المال، أي: وإن قلنا: إنه ينتقل إلى الله تعالى، لأن المقصود منه تمليك الموقوف عليه منفعة الوقف، فأشبه الإجارة، وهذا قول ابن سريج وأبي الطيب بن سلمة، وينسب إلى النص هاهنا، ورجحه الإمام والبغوي والنواوي. وقيل: إن قلنا: إنه ينتقل إلى الآدمي قبل، [كالبيع]. وإن قلنا: [إنه] ينتقل إلى الله تعالى، لم يقبل، كالعتق، وهذا قول أبي إسحاق. قال الرافعي: وإلى ترجيحه مال العراقيون، ونسبوه إلى عامة الأصحاب. وقال الغزالي: إنه بعيد غير معتد به. وكلام الماوردي يقتضى ترجيح الأول، فإنه قال: إن القائلين به فرقوا بين بين الوقف على القول بالانتقال إلى الله تعالى، وبين العتق بفرقين:

أحدهما: أن أحكام الملك باقية على الوقف في ضمانه باليد، وغرامته بالقيمة، وزائلة عن المعتق، لأنه لا يضمن باليد، ولا يغرم بالقيمة. والثاني: أن المقصود بالوقف تمليك المنفعة التي هي مال، والمقصود بالعتق كمال أحكامه في ميراثه، وشهادته، وولايته. وفي ((حلية)) الشاشي في كتاب الوقف طريقة أخرى، وهي إن قلنا: إن الوقف ينتقل إلى الله تعالى، لم يقبل إلا شاهدان، وإن قلنا: إنه ينتقل للموقوف عليه، فوجهان. ولا خلاف أنه لو ادعى ورثة ميت على رجل أنه غصب هذه الدار، وكانت لأبينا وقفها علينا، أو على فلان منا، وأقاموا شاهدًا، وحلفوا معه-: أنه يثبت الغصب بذلك، وكذا الوقف إن قلنا: إنه يثبت بالشاهد واليمين، [وإن قلنا: لا يثبت بالشاهد واليمين]، كان ثبوته في هذه الصورة بالإقرار. وقد فرع الشافعي على القول بثبوت الوقف بالشاهد واليمين فروعًا، وذلك مما يدل على أنه رآه الصحيح، لأن الأصحاب قالوا ذلك: فمنها: إذا ادعى شخص أن أبي وقف داره هذه علي وعلى أخوي [دون غيرنا] من ورثته، فإذا انقرضنا فعلى أولادنا ما بقوا، ثم على الفقراء، وصدقه أخواه، وكذبهم بقية الورثة، فأقاموا شاهدًا واحدًا بذلك. هكذا صور المسألة ابن سريج، وأبو إسحاق، والقاضي أبو حامد، وقالوا: إن كلام الشافعي محمول عليها، قال الأصحاب: وهو الصحيح، ولهم [بعد ذلك] ثلاث أحوال: إحداها: أن يحلفوا معه، فيثبت لهم مدة حياتهم، فإذا انقرضوا في حالة وحدة، انتقل إلى أولادهم، لكن بيمين من جهتهم، أم يكفيهم يمين آبائهم؟ فيه وجهان في الطريقين، وبناهما القفال وطوائف من الأصحاب على أن الوقف ينتقل إلى البطن الثاني من الواقف كما انتقل للبطن الأول منه، أو ينتقل إليهم من البطن الأول؟ وفيه خلاف مشهور. فعلى الأول: يحتاجون إلى الحلف، كما احتاج إليه البطن الأول، وهو الذي [قال به] ابن سريج، كما حكاه الماوردي وغيره.

وقال البندنيجي: إن ابن سريج حكاه وجهًا، وإنه ليس بشيء. وقضية البناء المذكور أن يكون هو الصحيح، لأن الصحيح أنهم يتلقون من الواقف، وسنذكر عن ابن الصباغ ما يعضده. وعلى الثاني لا يحتاجون إلى اليمين كما لو كان ذلك في ملك، ثم انتقل إلى وارث الحالف، فإنه لا يحتاج إلى اليمين، ولأن البطن الأول قد استقلوا بإثباته، فأشبه ما لو أقاموا شاهدين، وهذا قول أبي إسحاق وغيره، وهو ظاهر المذهب، والأصح عند الماوردي، والشيخ أبي حامد ومن في طبقته، ولأجل ذلك قال البندنيجي والقاضي أبو الطيب: إنه المذهب الصحيح. وعلى هذا الخلاف يتفرع ما إذا انقرض البطن الثاني، وانتهى المال إلى الفقراء، فعلى قول أبي إسحاق، يصرف المال إليهم، وعلى قول ابن سريج: فيه وجهان: أحدهما: يصرف إليهم، للضرورة. والثاني: لا حق لهم فيه، ويعود ملكًا طلقًا، قاله الماوردي والبندنيجي وغيرهما. وفي ((الشامل)): أن القاضي أبا الطيب ذكر في ((المجرد)) وجهًا ثالثًا حكاه الغزالي أيضًا: أن يكون وقفًا يرجع إلى قرابة الواقف، لعدم استحقاق الفقراء، كالمنقطع الآخر. قال القاضي الحسين: وهذا الخلاف إذا كان الفقراء غير متعينين، أما إذا كانوا متعينين، فعندي حكمهم حكم الأولاد، وهذا ما أورده البغوي، وتبعه الرافعي. قال الإمام: ولا خلاف أن البطن الثاني إذا قلنا: لابد من يمينهم، فلم يحلفوا-[أنه] لا يعود مطلقًا، ولا يسلم لمن كان في يده إذا كان البطن الأول قد ادعوه على من هو في يده، كما سنذكره. ولو كان انقرض الإخوة واحدًا بعد واحد، فنصيب الأول يعود إلى أخويه، ونصيب الثاني يعود إلى الباقي، إذا كان الواقف قد شرط أن من مات انتقل نصيبه إلى من بقي في طبقته، وكذا لو أطلق على أحد الوجهين في ((الحاوي))،

لكن هل يحتاج من انتقل إليه شيء أن يحلف؟ إن قلنا بقول أبي إسحاق، فلا. وإن قلنا بقول ابن سريج، فوجهان: أصحهما في ((الوسيط)) وغيره: أنه لا يحلف أيضًا، لأنه قد حلف مرة على الجملة، بخلاف الأولاد. والوجه الآخر في حالة إطلاق الوقف: أن نصيب الميت يستحقه الفقراء والمساكين حتى ينقرض جميعهم، فيستحقه البطن الثاني، وهذا يظهر أن يكون قائله يرى بمذهب أبي إسحاق، أبو بمذهب ابن سريج، ويرى أنه يصرف الريع إلى الفقراء عند انقراض البطن الثاني، للضرورة. والحالة الثانية: أن ينكل الإخوة الثلاثة عن اليمين، فتكون الدار تركة [في] الظاهر، فإن كان على الميت دين يستوعبها، قضى من ثمنها، وبطل وقفها. وإن لم يكن دين، وكان ثم وصايا، قضى منها ما يحتمله الثلث. وإن لم يكن وصايا ولا ديون، صار نصيب الثلاثة منها وقفًا بإقرارهم، وكذلك نصيبهم بعد إخراج الموصى به، وقضي الدين إن كان لا يستوعب التركة، وإذا انقرضوا انتقل إلى البطن الثاني بغير يمين، وينتقل من بعدهم للفقراء، كذا قاله الماوردي والقاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ. قال الرافعي: والذي ذكره القاضي ابن كج والإمام والبغوي في كتبهم: أنها لا تصرف إلى أولادهم بغير يمين، يعنون: على سبيل الوقف، ولا يكون إقرار الأولين لازمًا عليهم. قال الرافعي: ويمكن أن يكون هذا الاختلاف مبينًا على أن البطن الثاني يتلقون من الواقف، أو من البطن الأول؟ قلت: كلام الإمام يأباه، لأنه نفي استحقاقهم عند عدم حلفهم بلا خلاف، وقال فيما إذا حلفوا: في استحقاقهم قولان، بناء على أنهم يتلقون من الواقف، أو من البطن الأول؟ فعلى الأول: يستحقون، إذا حلفوا، وعلى الثاني: لا، [وكذا قاله البغوي والغزالي في ((الوسيط)).

وقضية كلام الرافعي على الثاني: نعم، بل الجمع بين النقلين أظهر من ذلك، لأن صورة المسألة التي قال فيها الماوردي وغيره ما ذكرناه: إذا ادعى بعض الورثة أن أباهم وقفها عليهم دون باقي الورثة، وهي في يد الورثة، وصورة المسألة التي قال فيها الإمام ما ذكرناه: إذا ادعى ثلاثة على رابع في يده دار: أن أباهم وقفها عليهم، وكانت ملكه إلى حين الوقف، ونكلوا، وماتوا، فلا تصرف للبطن الثاني بلا يمين، لأن البينة لم تكمل حتى تنتزع الدار من صاحب اليد المدعي ملكها، بخلاف الصورة السابقة، لأن للناكلين عن اليمين بعد دعوى الوقف يدًا على بعضها، فلذلك حكم عليهم بموجب إقرارهم. ولو مات الباقون من الورثة قبل موت الإخوة الثلاثة- والصورة كما ذكرنا أولًا- وعاد نصيبهم إلى الثلاثة، صار جميع الدار وقفًا بإقرارهم. وكذا إذا عاد إليهم من نصيب بقية الورثة شيء كان هذا حكمه، ولهم تحليف الوارث على نفي العلم [بالوقف]، وهل للبطن الثاني الحلف مع الشاهد عند نكول الثلاثة فيما نحن نتكلم فيه؟ فيه قولان: قال بعضهم: إنهما منصوصان. وبعضهم قال: هما مبنيان على أن الوقف المنقطع الابتداء، هل يصح أو يبطل؟ فإن قلنا: يبطل، لم يحلف البطن الثاني، لأنه بطل بنكول البطن الأول، وإن قلنا: لا يبطل، حلفوا. وقضية هذا البناء أن نقول: لا يكون نصيب الناكلين وقفًا عليهم بإقرارهم، لأنه بطل بنكولهم عن اليمين، وهذا لم أره لأحد. [وبعضهم] قال: هما مبنيان على أن البطن الثاني يتلقون من البطن الأول، أو من الوقف؟ فإن قلنا بالأول، لم يحلفوا، كما [لو] أقام شخص بملك له شاهدًا، ونكل عن اليمين، ثم مات، فإن وارثه لا يحلف [كما حكاه القاضي الحسين، ولم يورد الإمام سواه]. وإن قلنا بالثاني حلفوا، وحلفهم رآه الماوردي أظهر، وقال القاضي أبو الطيب

وابن الصباغ: إنه الصحيح، واختيار الشافعي: ثم في محل هذين القولين وجهان: أحدهما- عن أبي إسحاق-: أنه إذا انقرض البطن الأول، فإن لم ينقرضوا فلا يحلفون قولًا واحدًا. والثاني- عن ابن أبي هريرة-: أنه عند بقاء البطن الأول، فإذا انقرضوا حلفوا قولًا واحدًا. قال الماوردي: وقول أبي إسحاق أشبه بالصواب. الحالة الثالثة: أن يحلف واحد من الثلاثة، وينكل الباقيان، فتصير ثلث الدار وقفًا عليه، والثلثان ميراثًا للأخوين، وبقية الورثة، ولا يرث الحالف معهما شيئًا، قاله الماوردي والبندنيجي والمحاملي والبغوي وغيرهم. وفي ((الشامل)): أن الفاضل بعد قضاء الدين والوصايا من الثلثين يقسم على جميع الورثة، ما يحصل للبنين الثلاثة يكون وقفًا على الناكلين، لأن الحالف يعترف لهم بذلك. كذا حكاه الرافعي عنه، وهو أفقه. وقال الماوردي وغيره: إن الذي يكون وقفًا عليهما حصتهما من الميراث بمقتضى إقرارهما. وقال: إن في حلف البطن الثاني القولين. والإمام لما صور المسألة بما ذكرناه قال: يكون ثلث الدار وقفًا على الحالف، ولا يثبت للناكلين حق، بل تترك حصتهما في يد المدعى عليه، فإنه لم تقم عليه حجة في ذلك المقدار. وإذا مات الإخوة الثلاثة- والصورة كما ذكرنا أولًا- انتقلت حقوقهم إلى البطن الثاني، [لكن] نصيب من لم يحلف من الإخوة يكون منتقلًا إليهم بغير يمين، ونصيب من حلف هل ينتقل إليهم بيمن أو بغير يمين؟ [فيه الوجهان السابقان. ولو كانت الصورة كما صورها الإمام- كان قضية قوله السابق: أن نصيب من قد حلف هل ينتقل بيمين أو بغير يمين؟ فيه الخلاف، ونصيب من لم يحلف لا

ينتقل إليهم بدون اليمين، وهل ينتقل باليمين؟] فيه الخلاف، وكذلك قال في ((الوسيط)) - فإنه لاحظ تصوير الإمام-: إن ولد الحالف يستحق [إن حلف، وإن لم يحلف فقولان، وولد الناكل لا يستحق] إن لم يحلف، وإن حلف فقولان. وهي عبارة الإمام، وفيها نظر من جهة قوله: ((ولد الحالف ... وولد الناكل))، فإن البطن الثاني يستحقون بشرط الواقف ما كان للبطن الأول عند إطلاق الوقف من غير أن يختص كل واحد بنصيب أبيه، وقد صرح به الماوردي والصورة كما ذكرنا، وقد أشار إلى ذلك الإمام أيضًا في موضع آخر كما سنذكره. ولو مات الأخوان الناكلان، قال الماوردي: انتقل نصيبهما إلى الأخ الحالف بغير يمين. وفي ((الرافعي)): أن في احتياجه لليمين- والصورة كما ذكرناه- ما سبق من الوجهين. قلت: ولا وجه لجريانهما، لأن البطن الثاني في احتياجهم لليمين فيما كان حلف عليه البطن الأول أشد من احتياج بعض البطن الأول إذا عاد إليه ما كان للبعض الآخر إذا كان قد حلف كما تقدم، وقد قلنا: إن نصيب الناكلين ينتقل إلى البطن الثاني بغير يمين، فللأخ الحالف من طريق الأولى. نعم: لو كانت الصورة كما ذكرها الإمام، كان في احتياجه لليمين الوجهان بلا شك. ولو مات الأخ الحالف، وبقي أخواه، قال الماوردي: فإن قلنا: إن البطن الثاني يأخذون بغير يمين عند فقط البطن الأول، انتقل إليهما نصيبه. وإن قلنا: لا ينتقل إليهم إلا بيمين، لم ينتقل نصيبه إليهما، لنكولهما عن اليمين، وفي انتقاله للبطن الثاني إذا حلفوا وجهان. فإن قلنا: لا يصرف إليهم، فوجهان: أحدهما: يصرف إلى الفقراء إلى أن ينقرض الأخوان، فيكون للبطن الثاني. والثاني: يصرف إلى أقرب الناس للواقف، ويستوي فيه الناكلان وغيرهما عند استواء الدرجة.

وفي ((تعليق)) القاضي أبي الطيب والبندنيجي و ((الشامل)) وغيرهما: أن الحالف إذا مات ففي نصيبه ثلاثة أوجه: أحدها: ينتقل إلى إخوته، وهل يحلفون؟ فيه وجهان. والثاني: ينتقل للبطن الثاني، وهل يحلفون؟ فيه الوجهان. قال الإمام: ولا فرق على هذا بين أولاد الحالف وأولاد الناكلين، بل يصرف للجميع، وهذا أضعف الوجوه عند الإمام، وهو أصحها عند الأكثرين، كما قال الرافعي، وأنهم نقلوه عن إشارته في ((الأم)). والثالث: ينتقل إلى أقرب الناس للواقف، لأن الأخوين لا يمكن تحليفهما، لنكولههما، والبطن الثاني لا يستحقونه، لعدم انقراض البطن الأول، فصار كالمنقطع. قال الإمام: وهل يلحفون؟ فيه الوجهان. ثم إذا انقرض الناكلان، يرجع إلى البطن الثاني، وهل يحلفون؟ قال ابن الصباغ وغيره: فيه الوجهان. ولو امتنع الناكلان على قولنا: يصرف إليهم باليمين، قال الإمام: انحصر الكلام في أنه [هل] يصرف إلى البطن الثاني، أو إلى أقارب الواقف؟ فلو امتنع البطن الثاني من الحلف- أيضًا- على قولنا: إنه يصرف إليهم باليمين، انحصر النظر إلى الوقف المتعذر المصرف، فإن قلنا: إنه يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف باليمين، فامتنعوا منها، فهذا وقف لا ندري له مصرفًا، وحكمه مستقصًى في كتاب الوقف. وفي ((تعليق)) القاضي الحسين وجه في أصل المسألة: أن نصيب الحالف يصرف إلى ورثته، لأنا جعلنا الناكلين كالمعدومين. ولو كانت الإخوة الثلاثة هم المستوعبون لميراث أبيهم، كانت الدار وقفًا عليهم بإقرارهم، لا بالشاهد واليمين، وانتقل الوقف عنهم إلى البطن الثاني بغير يمين. نعم: لو كان على الواقف دين يحيط بالدار، فإن قضوه من مالهم خلصت وقفًا لهم، وإن لم يقضوه فالقضاء [يقع حينئذ] بالشاهد واليمين إن كان الوقف في

الصحة، وإن لم يكن لهم بينة، فلهم تحليف أرباب الديون على نفي العلم بالوقف، [فإن حلفوا قضيت الديون من ثمنها، وإن نكلوا حلف الإخوة وثبت الوقف] وأن نكلوا- أيضًا- صرف ثمنها لأرباب الديون. ومنها: لو ادعى ثلاثة إخوة: أن أباهم وقف هذه الدار عليهم وعلى أولادهم ما تناسلوا، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء، وأقاموا بهذه الدعوى شاهدًا، وحلفوا معه، ثم حدث لأحدهم ولد- فإنه يشركهم في الوقف، لكن نصيبه- وهو الربع- يوقف على حلفه بعد البلوغ، كما نص عليه، لأنه من جملة البطن الأول، فكان في الافتقار إلى اليمين كأحد الثلاثة. وعن أبي الفرج السرخسي: أنه أجرى وجهًا: أن الصغير لا يحتاج إلى اليمين في هذه الصورة، كما لا يحتاج إليها البطن الثاني على وجه، وأنه نقل وجهين في أن الربع الموقوف على النص يوقف في يد الثلاثة أو في يد أمين؟ والأقرب: الثاني. والصحيح باتفاق الأصحاب: احتياج الصغير إلى اليمين. قال ابن الصباغ: وهذا يشهد لابن سريج في إيجاب اليمين على البطن الثاني، لأن هذا الولد الحادث إن كان مشاركًا للبطن الأول، فإن الوقف ثبت له بعد ثبوته لهم، فصار بينه وبين الواقف واسطة. قال الأصحاب: فإن قيل: هلا دفعتم نصيبه إليه من غير يمين، لأن الثلاثة المستحقين قد اعترفوا بذلك، ألا ترى أنه لو كان في يد ثلاثة دار، فاعترفوا لصغير فيها بشرك، فإنه يسلم إلى وليه؟ قال الماودري: لأصحابنا عن ذلك أجوبة: أحدها- وهو قول أبي الفياض البصري-: أن [جواب] الشافعي محمول على أن الواقف شرط في وقفه أن [من] لم يقبله وفر نصيبه على شركائه، فلذلك حلف الحادث إن صدقه الشركاء، لأنه يصير من أهله بقبوله [وقبوله] يكون بيمينه، لأنه سهمه إذا لم يقبل عائد إليهم.

ولو لم يشرط الواقف هذا، استحق الحادث سهمه باعتراف شركائه بغير يمين، كالدار المملوكة بين الشركاء الثلاثة إذا اعترفوا بشريك رابع فيها. الثاني- وهو قول بعض البصريين-: أن جواب الشافعي محمول على إطلاق الوقف، إذا قيل: إن سهم من لم يقبل أو قبل ومات يرجع إلى بقية شركائه، فأما إذا قيل: إن سهمه راجع للفقراء والمساكين، لم يستحلف، ولم يرجع على الشركاء إن لم يحلف، لأن أصحاب الشافعي اختلفوا [في مذهب] في الوقف إذا لم يقبله أحد أربابه، هل يكون نصيبه مع إطلاق شرط الوقف عائدًا على شركائه، أو على الفقراء والمساكين؟ على وجهين. والثالث- وهو قول الشيخ أبي حامد-: أن جواب الشافعي محمول على الأحوال كلها في أن الحادث لا يستحق نصيبه- وإن اعترف له الشركاء- إلا بيمينه، وفرق بين الوقف وبين الدار المملوكة بفرقين: أحدهما: أنهم في الوقف [مقرون على الواقف، وفي غير الوقف مقرون على أنفسهم. والثاني: أن في الوقف] حقًا للبطن الثاني، فلم ينفذ إقرارهم عليهم، وليس في الملك حق لغيرهم، وهذا ما أورده ابن الصباغ وغيره. ثم إن حلف الصغير بعد بلوغه، صرف إليه ما وقف له، وهو ربع الريع من حين وضع إلى وقت حلفه، ويصير الربع مما يتجدد له ما لم يحدث ولد آخر. وإن نكل عن اليمين رد نصيبه إلى أبيه وعميه، لأنه صار كالمعدوم، هكذا نص عليه. فإن قيل: كيف يرد عليهم وهم معترفون بأنه للصغير، ولا حق لهم [فيه]، وقد قال المزني- لأجل ذلك-: إن الربع الموقوف لا يصرف إليهم، بل هو وقف [قد] تعذر مصرفه؟

قيل: لأنه بامتناعه عن اليمين قد رد الوقف وإذا بطل في حقه، عاد إليهم، كذا قاله ابن الصباغ. وحكى الرافعي [و] غيره جوابين. أحدهما: أن صورة النص إذا شرط الواقف شركة من يحدث إن رغب في الوقف، ولم يرده، فإذا لم يحلف مع الشاهد كأنه رده. فإن أطلق فقد حكى الشيخ أبو حاتم القزويني: أنه لا يعود إليهم، ويكون وقفًا قد تعذر مصرفه، وبه أجاب ابن كج. وعن آخرين أنه يعود إليهم، وهو الأشهر. قلت: وهذا منطبق على قول أبي الفياض البصري الذي حكيناه من قبل. والثاني: أن الواقف جعل الثلاثة أصلًا في الاستحقاق، ثم أدخل من يحدث على سبيل العول، فإذا سقط الداخل فالقسمة على الأصول كما كانت. وشبهه في ((التهذيب)) بما إذا مات إنسان على ألف، وجاء ثلاثة، وادعى كل واحد ألفًا على الميت، وأقام شاهدًا واحدًا، فإن حلفوا معه فالألف بينهم، وإن حلف اثنان فهو لهما، وإن حلف واحد فهو لذلك الواحد. لكن قال الإمام: إن المزني لا يسلم المسألة، ويقول: ليس لصاحب الدين الأول إذا لم يحلف الثاني- أي: إذا اعترف بدينه- إلا أخذ حصته. نعم، لو أبرأ الثاني، كان للأول أخذ الجميع، لأن الثاني بطل حقه، والنكول لا يبطل الحق، ألا ترى أنه لو [لم يحلف] مع الشاهد، ثم أتم البينة، سمعت وحكم بها. وكيفما قدر الجواب، فالظاهر عند الأصحاب موافقة النص. ورأى الإمام: أن يجعل ما أعرض به المزني قولًا مخرجًا له، واستحسنه، وإذا قيل به، فنصيب المولود وقف تعذر مصرفه، فيجئ فيه الخلاف السابق. ويجيء مما ذكرناه عن بعض البصريين من قبل وجهًا هاهنا-: أنه لا يصرف نصيب الصغير إليهم إذا كان الوقف مطلقًا كما تقدم. ولو مات المولود قبل بلوغه، أو بعده وقبل النكول، قام وارثه مقامه، فيحلف، ويستحق الغلة الموقوفة دون ما يحدث بعد موته، فإنه يكون لأبيه وعميه، وهل يحتاجون إلى اليمين.

قال الإمام: إن فرعنا على ما قاله المزني ففيه الخلاف فيما إذا مات بعض البطن الأول في وقف الترتيب، وقد حلف الكل، هل يحتاج الباقون إلى التجديد؟ فإن فرعنا على النص، فلا حاجة إلى التجديد، فيقدر أن المولود لم يكن. ولو مات الولد بعد بلوغه ونكوله، لم يستحق ورثته شيئًا من الغلة الموقوفة، لأنه أبطل حقه منها، ويكون حكمها ما تقدم. وقد ألحق الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب بهذه الصورة ما إذا كان لأحدهم ولد صغير حالة دعواهم الوقف. قال ابن الصباغ: وليس بصحيح، لأنا قد ذكرنا في المسألة قبلها إذا كانوا ثلاثة بالغين، فحلف اثنان، وامتنع الثالث- كان نصيبه مقسومًا بين الورثة بعد قضاء الدين منه والوصية، ولا فرق بين البالغ الممتنع وبين الصغير إذا امتنع بعد بلوغه، ويفارق ما نص عليه في الولد الحادث، لأن بأيمان الثلاثة مع شاهدهم حكمنا بأن جميع الدار وقف، فلا يبطل ذلك بامتناع من حدث، وفي الموجود لا يمكن الحكم بوقف جميعه بيمين بعض الموقوف عليهم، وعلى هذا يكون الحكم كما ذكرنا في نكول أحد الإخوة، صرح به الماوردي. قال: وما لا يقصد به المال، أي: وهو مما يطلع عليه الرجال: كالنكاح والطلاق، والعتاق، والنسب، والولاء، والوكالة، والوصية إليه، وقتل العمد- الذي يقصد به القصاص، وسائر الحدود غير حد الزنى- لا يقبل فيه إلا شاهدان ذكران، لأن الله تعالى نص في الشهادة سوى الأموال على الرجال دون النساء في ثلاثة مواضع: في الطلاق، والرجعة، والوصية، فقال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وقال تعالى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:106]، قوال صلّى الله عليه وسلّم: ((لا نكاح إلى بولي مرشد وشاهدي عدل))، فنص الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم على شهادة الرجال، فلم يجز أن يقبل فيها شهادة النساء، كالزنى. وأيضًا فقد روى مالك عن عقيل عن ابن شهاب، قال: مضت السنة من

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في النكاح، ولا في الطلاق. وهذا وإن كان مرسلًا [فهو لازم] للخصم- وهو أبو حنيفة وأصحابنه- لأن المراسيل حجة عندهم. وقال [الزهري: جرت] السنة من النبي صلّى الله عليه وسلّم والخليفتين من بعده ألا تقل شهادة النساء في الحدود. ولأن كل ما لم يقصد منه المال إذا لم تقبل فيه شهادة النسوة على الانفراد، لم تقبل فيه شهادتهن مع الرجال، كالقصاص، وقد وافق الخصم عليه. قال الماوردي: فإن اعترضوا بالوكالة والوصية، وقالوا: المال يتعلق بهما، فهلا كان إثباتهما بشاهد وامرأتين. قلنا: ليس عقد الوصية والوكالة بمال، ولا أريد بهما المال، وإنما هما تولية أقيم الرجل فيها مقام غيره، ولهذا يقع المال لغير المتصرف. على أن القاضي الحسين قال في الوكالة في الأموال: لا نص فيها، ولا يبعد ثبوتها بالشاهد والمرأتين. وقد حكاه ابن القاص في ((أدب القضاء)) له عن ابن سريج، كما حكاه ابن أبي الدم. وعن الشيخ أبي عاصم نقل قول غريب: أن القذف إنما يثبت بشهادة أربعة، لأنه نسبه إلى الزنى، فكان كالإقرار على قول. وقد عد مما لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين: الإسلام، والردة، والبلوغ، وانقضاء العدة، والعفو عن القصاص، والحد، والحد، والإيلاء، والظهار، والموت، والإعسار على المذهب، والخلع من جانب المرأة، والتدبير، والاستيلاد، وكذا الكتابة على الأصح- وحكى ابن كج وجهًا: أنها تثبت برجل وامرأتين- والقضاء، والولاية- إن أحوجنا فيهما إلى البينة- والوديعة، كما حكاه أبو الطيب في باب الشهادة بالجناية، والشهادة على كتاب القاضي كما تقدم، والشهادة على الشهادة كما سيأتي، والإحصان، وكفالة البدن، والشهادة برؤية غير رمضان، وبهلال رمضان- محل الكلام فيهما كتاب الصيام- وجرح الشهود، وتعديلهم، اللهم

إلا أن يدعي تكذيب [المدعي] لشهوده، فإنه يحكم في ذلك بالشاهد واليمين. قال في ((البحر)): لأن تكذيب المدعي لبينته يوجب سقوط حقه، ولا يوجب جرح الشهود. و [حكى ابن أبي الدم: أن الشيخ أبا علي حكى عن ابن خيران أن جرح الشهود] بالمال يثبت بالشاهد واليمين على وجه. وقد ألحق القاضي أبو الطيب بهذا القسم قطع اليد من الساعد عمدًا. وقال الشيخ أبو حامد: إنه يثبت بالشهد واليمين، لأنه لا قصاص فيه. قال أبو الطيب: وهو غلط، لأن له أن يستوفي القصاص من الكوع، فلا يثبت ذلك بالشاهد واليمين. وقد نص الشافعي على أنه لا يقبل شاهد وامرأتان، وشاهد ويمين في الهاشمة، والمأمومة- أي: المشبوقة بالإيضاح- لأن المشجوج لو أراد القصاص من موضحته، كان له ذلك. وجواب الشيخين يتخرج على القولين السابقين في مسألة الهاشمة. فرع: لو ادع شخص على آخر أنه غصب منه مالًا، فقال: إن كنت غصبت فامرأتي طالق، فأقام المدعي شاهدًا، وحلف معه، أو شاهدًا وامرأتين على الغصب- ثبت، ويترتب عليه الضمان، ولا يقع الطلاق، نص عليه الشافعي، كما قاله الماوردي. وشبهه الأصحاب بما إذا قال لزوجته: إن ولدت فأنت طالق، فأقامت أربعًا من النسوة على الولادة- ثبتت الولادة والنسب، ولا يقع الطلاق. وكذا إذا علق الطلاق على رمضان، فثبتت الرؤية بشاهد واحد- وجب صومه، ولا يقع عليه الطلاق. ولو كان الغصب قد ثبت برجل وامرأتين، وقضى به القاضي، فقال المدعى عليه: إن كنت غصبت فزوجتي طالق، قال الرافعي: فقد قال ابن سريج- ووافقه عامة الأصحاب- بوقوع الطلاق. قال القاضي الحسين: لأنا لو منعنا وقوعه، لعرضنا حكم الحاكم للنقض والإبطال، ولا وجه له.

وعن الشيخ أبي [حامد: أنه] قال: لا يقع كما لو تقدم ((التعليق))، وقد عكس الإمام هذا الترتيب قبيل كتاب الديات، فقال: لو ثبت الغصب بشاهد وامرأتين، وقضى به القاضي، ثم قال المحكوم عليه: إن كنت غصبت فامرأتي طالق ثلاثًا، قال: الطلاق يقع، فإن الغصب تمهد. ولو أنكر الغصب أولًا، وحلف على نفيه، ثم حلف بالطلاق لما ادعى عليه الغصب، وأثبت بالشهد واليمين، واتصل القضاء [به]- ففي وقوع الطلاق خلاف سنذكره في الدعاوى والبينات، والأظهر: أنه لا يقع. وعهدي أني ذكرت طرفًا [من] الكلام في ذلك في باب الشرط في الطلاق من هذا الكتاب أو غيره، وما يدفع ما قرر به القاضي الروياني كلام ابن سريج هاهنا، فلذلك لم أذكره، فليطلب من ثم. قال: وإن شهد في قتل العمد شاهد وامرأتان، لم يثبت القصاص، ولا الدية، لأنا على قول نقول: موجب العمد القود لا غير، والدية تثبت بدلًا عنه بالعفو، يدل عليه عدم اجتماعهما، وقد تقدم أن القصاص لا يثبت برجل وامرأتين، وإذا لم يثبت لم يثبت بدله. وعلى [قول] نقول: الواجب أحد الأمرين لا بعينه: القود، أو الدية، وإنما يتعين بالاختيار، فلو أوجبنا الدية دون القصاص، لأوجبناها معينة، وهذا يخالف موجب هذا القول. وأبطل الإمام في باب الشهادة بالجناية إيجاب الدية في مسألتنا على قولنا: إن الواجب أحد الأمرين، بأمر آخر، فقال: نحن لا نشك أن المقصود الذي هو الأصل في جراح العمد القصاص، وليس المعنى بقولنا: المال أحد الموجبين، أنه يضاهي القصاص، فإن غرض الشرع إثبات ما يزجر المعتدين، ولا يقع الزجر فيما فهمناه من مقصود الشرع بالغرم المالي، والدية حيث يفوت القصاص إنما تثبت حتى لا تتعطل الجناية، ولا تقع هدرًا.

ويخرج لنا من هذا: أنا وإن قلنا: [إن] المال موجبه، فلسنا ننكر كون القصاص مقصودًا. وفي ((الإنابة))، في باب الشهادة بالجناية: أنه لو أقام شاهدًا واحدًا على القتل عمدًا، ولم نجعله لوثًا، ورام أن يحلف معه يمينًا واحدًا، ويستحق الدية، تفريعًا على قولنا: إن اليمين لا تتعدد في مثل هذه الصورة، فإن قلنا: موجب العمد القود فقط، فليس له أن يحلف مع الشاهد الواحد، وإن [قلنا]: موجب العمد أحد الأمرين، فهل يستحق الدية؟ فعلى قولين، بناء على أن من ادعى موضحة، وأقام شاهدًا واحدًا، وحلف معه- فهل يستحق الأرش؟ فعلى قولين. وهذا الخلاف هو الذي حكينا في باب [اليمين في] الدعاوي: أن الإمام وعد بذكره في باب الشهادة على الجناية، وقال: إنه مطرد فيما إذا أقام شاهدًا وامرأتين، وهو ظاهر، لأنه إذا جرى في الشاهد واليمين، فجريانه في الشاهد والمرأتين أولى، لأن هذه الحجة أقوى من تلك بالاتفاق. والغزالي في ((الوجيز)) أطلق القول فيما إذا أقام على العميد رجلا وامرأتين بأن المال يثبت وإن لم تثبت العقوبة، وهذا منه محمول على ترجيحه القول بأن الواجب في قتل العمد أحد الأمرين، كما ذكرنا أنه الجديد، وترجيح أحد القولين اللذين حكاهما الفوراني، وأشار إليهما إمامه. والرافعي قال: إنه غلط ولا محمل له إلا السهو، فإن الذي نص عليه الأصحاب: أن الدية لا تثبت، والله أعلم. قال: وإن شهد في السرقة شاهد وامرأتان، لم يثبت القطع، ويثبت المال، لأن في السرقة حقين: أحدهما: للآدمي، وهو المال. والثاني: لله تعالى، وهو القطع. والأموال تستحق بشاهد وامرأتين، والحد لا يجب إلا بشاهدين كما تقدم، وليس الغرم هاهنا بدلًا من القطع، بدليل اجتماعهما، بخلاف الدية مع القود، كما تقدم.

ولأن المال في السرقة أصل، والقطع فرع، فجاز أن يثبت حكم الأصل مع سقوط حكم الفرع، ويخالف الدية، فإن القود في القتل أصل، والدية فرع، فلم يجز أن يثبت حكم الفرع مع سقوط أصله. وهكذا الحكم فيما إذا شهد له بالسرقة رجل، وحلف معه، وهذا ما ادعى الإمام في كتاب السرقة الوفاق عليه. وقد شبه الأصحاب هذا بما ذكرناه في مسألة الغصب، وهو إذا حلف بالطلاق: أنه ما غصب، فقام على الغصب شاهد وامرأتان، أو شاهد وحلف معه- فإنه يثبت الغرم، ولا يقع الطلاق، لكنا قد حكينا عن الإمام في هذه الصورة من الغصب رواية وجه في أن الطلاق يقع، وقضية التشبيه أن يحكم بالقطع في مسألة السرقة على وجه، وقد حكاه الإمام في باب الشهادة على الجناية، حيث قال: حكى من يوثق به عن القاضي أنه لو شهد رجل وامرأتان على سرقة توجب القطع، قال: يثبت المال، وفي القطع وجهان، وهذا على نهاية البعد، فإن إثبات القطع- وهو حق لله تعالى- بشهادة رجل وامرأتين محال. ثم قال: وهذا بمثابة ما لو أقر العبد بسرقة مال، فالقطع يثبت، وفي المال قولان. انتهى. وما ذكرناه من ثبوت المال هو المنصوص، و [هو] الصحيح عند المراوزة، وبه جزم العراقيون، وقال الإمام في كتاب السرقة: إن بعض أصحابنا أبعد فلم يثبت المال إذا تضمنت الدعوى سرقة، ولو ثبت لأوجبت القطع، وحكاه الفوراني والبغوي وغيرهما. فرع: لو شهد رجل وامرأتان على صداق في نكاح ادعته المرأة، ثبت الصداق وإن لم يثبت النكاح، فإن الصداق [مال] ينفك عن النكاح، وهذا ما أورده الجمهور، وحكام الإمام في أواخر باب الرجعة عن شيخه، وأن الشيخ أبا علي قال: لا يثبت الصداق، لأن النكاح لم يثبت، وهو فرع له. قال الإمام: وهو أفقه.

قال: وإن كان في يد رجل جارية لها ولد، فادعى رجل أنها أم ولده، وولدها منه- أي: علقت في ملكه، وقد غصبها من هي في يده، [وأقام-أي:] على ذلك- شاهدًا وامرأتين، أو شاهدًا وحلف معه، قضي له بها، لأمرين: أحدهما: أن أحكام الرق جارية عليها في استخدامها، والاستمتاع بها، وإجارتها، وتملك منافعها، وأخذ قيمتها من قاتلها، والرق مال يحكم فيه بالشاهد واليمين، والشاهد والمرأتين. [والثاني: أنه] لما حرم عليه بيعها، صار الملك والدعوى مقصورًا على منافعها، والمنافع في حكم الأموال تثبت بالشاهد والمرأتين، والشاهد واليمين. قال: [وتعتق بموته]، عملًا بإقراره الذي تضمنه دعواه وإن كان إذ ذاك غير صاحب اليد، كما نقول فيمن ذكره حرية عبد، ثم ملكه ببيع أو إرث، فإنه يعتق، كذا قاله القاضي أبو الطيب وغيره. وفي ((الحاوي)): أن أصحابنا اختلفوا في عتقها، هل حصل بإقراره أو البينة؟ وأن مأخذ الاختلاف التعليل الساق. قال: وفي نسب الولد وحريته قولان. القولان ينبنيان- كما قال الأصحاب- على أنه هل يحكم له بالولد بهذه البينة، أو لا يحكم له؟ وفيه قولان: أحدهما: نص عليه في ((الأم))، ونقله المزني في ((المختصر)): أنه لا يحكم له به، لأنه ليس يدعي الملك والرق في الولد، وإنما يدعي نسبه وحريته، وهما لا يثبتان بالشاهد والمرأتين، والشاهد واليمين، وهذا ما أجاب به الروياني في ((الحلية))، وهو الصحيح. والقول الثاني- قال المزني: ((إن الشافعي قاله في موضع آخر))، ولم يوجد في شيء من كتبه، كما قاله الماوردي-: أنه يحكم له به تبعًا لأمه، لأنها في الدعوى أصل متبوع، وهو فيها فرع تابع، فأوجب ثبوت الأصل ثبوت فرعه كما لو ثبت غصب

جارية، فإنه يحكم لمدعيها بالولد الحاصل منها في يد الغاصب. قال الإمام: ولأن الولد في دعواه جزء من الجارية، وبه يثبت الاستيلاد، فإذا اختص بالجارية على صفة أمية الولد تعدى الاختصاص إلى الولد، وهذا ما اختاره المزني، كما قاله القضاة: أبو الطيب والحسين والماوردي، والبندنيجي والفوراني وابن الصباغ، وغيرهم، وأنه استشهد له بأن الشافعي نص على أن الشخص إذا ادعى عبدًا في يد غيره يسترقه: أنه كان عبده، وأنه أعتقه، وغصبه صاحب اليد بعد حريته، وأقام بما ادعاه من الملك والعتق شاهدًا وامرأتين، أو شاهدًا وحلف معه- أنه يقضي له وإن كان مقصود الدعوى استحقاق الولاء، لأنه تابع لدعوى رق وعتق، كذا دعوى الولد، لأنه تابع لرق أمه، فإنه جزء منها. واختلف الأصحاب في مسالة الاستشهاد على طريقين: إحداهما- وبها قال ابن سريج-: أن فيها أيضًا قولين، [وما ذكره الشافعي تفريع على أحد القولين]. والثانية- وبها قال أبو إسحاق، وجمهور أصحابنا، كما قال الماوردي، ولم يحك القاضي الحسين والبغوي والروياني سواها-: أن المسألة على قول واحد، كما قاله المزني، [لكن] الفرق بينهما وبين ولد أم الولد: أن العبد المدعى هناك مدعيه يدعي ملكًا متقدمًا في العبد، وحجته تصلح لإثبات الملك، وإذا ثبت الملك ترتب عليه العتق بإقراره، وفي صورة الاستيلاد إنما قامت الحجة على ملك الأم، لا جرم رتبنا العتق عليه إذا جاء وقته بإقراره، وأما الولد فقضية الدعوة والحجة كونه حر الأصل نسيبًا، والحرية النسب لا يثبتان بهذه الحجة، فلذلك افترقا. نعم، لو أن المدعي في مسألة الاستيلاد قال لصاحب اليد: استولدتها في ملكك، ثم اشتريتها مع الولد، فيعتق الولد علي، وأقام عليه حجة ناقصة فالعتق الآن يترتب على الملك الذي قامت به الحجة الناقصة، فيكون على الطريقين:

فإن قلنا بالقول الأول، لم يحكم بحرية الولد، وكذا بنسبه، كما نص عليه في كتاب الدعاوي والبينات، كما قال الفوراني. وقيل: إنه يحكم بنسبه خاصة، بناء على جواز استلحاق عبد الغير. قال الفوراني- كما نص عليه في التقاط المنبوذ-: وإن قلنا بالقول الثاني، ثبت نسب الولد وحريته بإقراره، كأمية الولد. وقد سلك الإمام، وتبعه الغزالي في مسألة الكتاب والمسألة المستشهد بها طريقًا آخر، فقال: اختيار المزني: أن حرية الولد لا تثبت، ولا تقبل هذه الحجة في حق الولد، وأن النص الذي نقله في مسألة العبد: أن المدعي لا يثبت، ويقر العبد في يد المدعى عليه، وأنه احتج به فقال: إذا لم يثبت العتق فيها مع أن قضية دعواه وحجته ترتيبه على الملك، وتواردهما على شخص واحد، فلألا يثبت في الولد- وهو شخص مستقل بقيام الحجة على الملك في الأم- كان أولى. ثم قال: إن للأصحاب طريقين في مسالة العبد: إحداهما: طرد القولين. والثانية: القطع بأنه لا يثبت المدعى، ولا ينزع العبد، ولا يحكم بعتقه، لأن في مسألة الاستيلاد الحجة صالحة للاستيلاد يقتضي ولدًا، وفي عتق العبد لا [شيء] يتعلق به الحجة والقياس: القطع في المسألتين، فإنه حرية الولد وعتق العبد لا يثبت. قال الرافعي: هذا كله محال عن وجهه، وإن شئت فراجع ((المختصر))، تتيقن أن الأمر على ما حكاه غيره. قال: ولا يقبل في حد الزنى واللواط وإتيان البهيمة إلا أربعة من الرجال. ووجهه في حد الزنى واللواط قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15]، وقوله تعالى]: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} بالنور:13]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية [النور:4]، فجعل التخلص من حد القذف بأن يشهد أربعة شهداء بالزنى، وإنما

يتخلص من القذف بثبوت الزنى، فدل على أن الزنى لا يثبت بأقل من أربعة، ويؤيده ما روى مسلم عن أبي هريرة أن سعد بن عبادة قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((لو وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: نعم)). ولأن الزنى واللواط لما كانا من أغلظ الفواحش المحظورة وأضرها، كانت الشهادة فيهما أغلظ، ليكون أستر للمحارم، وأنفى للمعرة، وإنما لم تسمع فيهما شهادة النسوة، لأن سماع شهادتين رخصة فيما خف، فلم يجز أن تسمع في مواضع التغليظ. وأما في إتيان البهيمة، فلأنه إثبات وطء هو فاحشة، أو إتيان فرج في فرج يوجب الغسل، فأشبه وطء القبل، وهذا ظاهر النص. وقيل: إن قلنا: إن الواجب في إتيان البهيمة التعزيز، قبل فيه شاهدان، لخروجه عن حكم الزنى في الحد، فخرج عن حكمه في الشهادة، وهذا قول المزني وابن خيران، وحكاه الماوردي قولًا، وقد قال بمثله المراوزة في اللواط، بناء على إيجاب التعزيز فيه. قال: وليس بشيء، لأن نقصان العقوبة لا يدل على نقصان الشهادة: كزنى الأمة. والقولان جاريان- كما قال الماودري- في باب حد الزنى في الشهادة على إتيان المرأة فيما دون الفرج، وكلام القاضي الحسين يقتضي أنه لا خلاف في ذلك، لأنه حكى أن ابن خيران قال في إتيان البهيمة: يثبت بشاهدين كالمفاخذة والقبلة. [وفرق بأن ذلك من جنس إيلاج الفرج في الفرج، بخلاف المفاخذة والقبلة]. ولا فرق عندنا في شهود الزنى بين أن يشهدوا مجتمعين أو مفترقين، ولا بين أن يشهدوا به عن قرب عهد به أو [عن بعد] عهد. قال: وإن شهد ثلاثة بالزنى، وجب على الشهود حد القذف في أحد القولين، لما روي أن المغيرة بن شعبة كان أميرًا على البصرة من قبل عمر، وكان مناكحًا، فخلا بامرأة في دار كان ينزلها، وينزل معه فيها أبو بكرة، وناقع، ونفيع، وزياد بن أمية، وكان جميعهم من ثقيف، فهبت ريح، ففتحت الباب على المغيرة،

فرأوه على بطن المرأة يفعل بها كما يفعل الرجل بامرأته، فلما أصبحوا تقدم المغيرة ليصلي، فقال أبو بكرة: تنح عن مصلانا. وانتشرت القصة، فبلغت عمر، فكتب أن يرفعوا جميعًا إليه، فلما قدموا إليه، وحضروا مجلسه، بدأ أبو بكرة، فشهد بالزنى، ووصفه، فقال علي للمغيرة: ذهب ربعك، ثم شهد بعده نافع، فقال علي: [ذهب] نصفك، ثم شهد بعده شبل بن معبد، فقال علي للمغيرة: ذهب ثلاثة أرباعك، فقال عمر: أدوا الأربعة، فأقبل زياد ليشهد، فقال عمر: إيهًا أبا العفان، قل ما عندك، وأرجو ألا يفضح الله أحدًا على يدك من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتنبه زياد، فقال: رأيت أرجلًا مختلفة، وأنفاسًا عالية، ورأيته على بطنها، وأن رجليها على كتفيه كأنهما أذنا حمار، ولا أعلم ما وراء ذلك. ورواية أبي بكر بن المنذر: [أنه] لما أقبل زياد قال عمر: جاء رجل لا يشهد إلا بالحق، فقال زياد: رأيت مجلسًا قبيحًا، وابتهارًا، ولا أدري أنكحها أم لا، فقال عمر: الله أكبر، قم يا يرفأ فاجلد هؤلاء، فجلد الثلاثة حد القذف، فقال عمر لأبي بكرة: تب أقبل شهادتك، فقال: والله لا أتوب، والله زنى، والله زنى، والله زنى، فهم عمر بجلده، فقال له علي: أراك إن جلدته رجمت صاحبك، فتركه.

ولم يخالف في هذه القصة أحد من الصحابة، فصار إجماعًا، ويدل عليه من طريق المعنى شيئان: أحدهما: أن الشهادة بالزنى أغلظ من القذف به، لأنه يقول في القذف: زنيت، ولا يصفه، وفي الشهادة بالزنى يقول: زنيت، ويصفه، والقذف لا يوجب حد المقذوف، والشهادة توجبه، فلما كانت أغلظ كانت بوجوب الحد إذا لم يتم العدد أولى. والثاني: أن سقوط الحد عنهم ذريعة إلى تسرع الناس إلى القذف إذا أرادوه أن يخرجوه مخرج الشهادة حتى لا يحدوا، ففي حدهم صيانة للأعراض في توقي القذف، فكان أولى وأحق، وهذا ما صححه النواوي، وهو الأظهر في ((الحاوي)) في باب حد الزنى، وقال: إنه المنصوص عليه في أكثر كتبه من قديم وجديد، وعلى هذا: لا تقبل شهادتهم حتى يتوبوا كما تقدم، وهل تقبل روايتهم قبل التوبة؟ فيه وجهان في ((الحاوي)): المشهور [منهما]- كما تقدم-: القبول، وينسب إلى أبي حامد. وأقيسهما- كما قال-: عدم القبول، كالشهادة. والقول الثاني: [أنهم] لا يحدون، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] فبين أن الزاني الذي يجب عليه الحد هو الذي يحتاج إلى أربعة، وكل واحد من هؤلاء لا يحتاج إلى أربعة، وإنما يحتاج إلى ثلاثة، فوجب ألا يكون ممن يجب عليه حد القذف. ولأن نقصان العدد معنى لا يمكن الشاهد الاحتراز منه، فوجب ألا يتعلق به وجوب الحد، أصله: رجوع أحدهم عن الشهادة، فإن الشافعي قد نص على أن الواحد منهم إذا رجع لا يجب على الثلاثة حد، وإن وجب الحد على الراجع على أحد القولين، كما قاله أبو الطيب. ودعوى الإجماع غير مسلمة، لأن أبا بكرة مخالف، وخلاف الواحد يمنع انعقاد الإجماع.

والفرق بينه وبين من جاء قاذفًا: أنهم ثم لو كثروا لم يندفع الحد عنهم، وهنا بخلافه. [و] لأن القاذف عاص بقذفه، فاسق بفعله، لأنه فعل ما نهي عنه، وليس كذلك الشاهد، فإن الشهادة إما مأمور بها أو مباحة مأذون [له] فيها، وهذا ما ادعى الماوردي أنه مخرج. والقولان يجريان فيما لو حضر الرابع، وتوقف، وفيما لو شهد اثنان أو واحد، كما صرح به الماوردي والإمام في باب حد الزنى، وقد تعلق بما ذكرناه أمران: أحدهما: ما معنى قول علي لعمر: ((أراك إن جلدته رجمت صاحبك؟)) قال الماوردي معناه: إن كان هذا القول غير القول الأول، فقد كملت الشهادة، فارجم صاحبك، وإن كان هو الأول فقد جلدته بغير استحقاق، فارجم صاحبك بغير استحقاق. الثاني: قال العلماء: الصحابة عدول، وهذه القصة تقتضي الطعن في المغيرة، أو فيمن شهد عليه، فما العذر؟ قيل: إن المغيرة كان يرى جواز نكاح السر، واعتمده في هذه القصة، فهو شبهة في حقه وإن كان يحد عليه. وقد قيل: إن كان يبتسم عند الشهادة عليه، فقيل له في ذلك، فقال: إني أعجب مما أريد أن أفعل بعد شهادتهم، قل: وما تفعل؟ قال: أقيم البينة أنها زوجتي.

فرع: لو شهد اثنان على إقرار شخص بالزنى، وقلنا: لا يثبت الإقرار بالزنى بشهادة رجلين- قال القاضي الحسين في ((فتاويه)): فلا حد على الشاهدين، لأنهما لم ينسباه إلى الزنى. قال: وإن شهد أربعة أحدهم الزوج- أي: ولم يتقدم منه قذف- فقد قيل: يحد الزوج قولًا واحدًا، لأنه ليس من أهل الشهادة على هذا الزنى، فكان كما لو أتى به بغير صيغة الشهادة. ولأنه روى عن ابن عباس أنه قال في أربعة شهدوا على امرأة: أنها زنت، وأحدهم زوجها، فقال: يلاعن الزوج، ويحد الثلاثة، فلم يجعل لشهادة الزوج حكمًا، وأوجب عليه أن يلاعن، وهو قول صحابي لم يظهر مخالفه، فإن قد اشتهر فهو إجماع، وإلا فهو حجة على الخصم، لأنه يترك القياس به، كا هو قول قديم للشافعي، وهذا نصه في كتاب اللعان، كما قال ابن الصباغ، وقال الماوردي ثم: إنه قول أبي إسحاق. قال: وفي الثلاثة قولان سبق توجيههما. وقيل: في الجميع قولان، لإتيانهم بلفظ الشهادة، وهذا القائل يجعل نقصان الصفة بمثابة نقصان العدد. أما إذا تقدم على شهادة الزوج قذفه، قال ابن الصباغ: حد قولًا واحدًا. وعلى كل حال إذا قلنا بوجوب الحد عليه وعلى الشهود، فهل يجوز إقامة الحد على الشهود قبل لعان الزوج ولعانها؟ فيه وجهان مبينان على خلاف الأصحاب في أن الزوج إذا لاعن وحدت، هل تسقط حصانتها بالنسبة إلى الأجانب كما سقطت بالنسبة إلى الزوج أم لا؟ فعند ابن سريج: لا، فعلى هذا يجوز إقامة الحد على الشهود قبل اللعان. وعند أبي إسحاق: نعم، فعلى هذا لا يحد الشهود إلا بعد لعان الزوج ولعانها، قال الماوردي في كتاب اللعان. فرع: لو شهد بدل الزوج عبدٌ أو كافر أو امرأة أو فاسق، فما حكمه وحكمهم؟ الكلام في ذلك ينبني على ما لو كان الأربعة عبيدًا أو فساقًا أو أعداء للمشهود عليه.

وفي ((الحاوي)): فيهم في باب حد الزنى ثلاث طرق: إحداها: أن في حدهم القولين. والثانية: لا يحدون قولًا واحدًا وإن حدوا عند نقصان العدد، لأن نقصان العدد نص، ونقصان الصفة اجتهاد، وهذه نسبها في باب اللعان إلى الإصطخري، وضعفها. والثالثة- حكاها الشيخ أبو حامد-: أنه إن كان الرد بنقصان الصفة بأمر ظاهر: كالرق، والفسق، جرى مجرى نقصان العدد، فيكون في حد الجميع قولان. وإن كان بأمر خفي: كالعداوة والفسق الخفي، فلا يصيرون قذفة، و [لا] يحدون قولًا واحدًا، لأن الظاهر منه كالنص ترد به الشهادة قبل سماعها، والخفي منه اجتهاد ترد به الشهادة بعد سماعها. وجزمٍ القاضي الحسين بأن العبيد إذا انفردوا بالشهادة، أو الكفار، أو النسوة حدوا قولًا واحدًا. وأما المعلنين بالفسق الذي لا يتوصل إليه بالاجتهاد، قال الإمام: ففيهم قولان ذكرهما ابن سريج، وحكاهما القاضي أيضًا: أحدهما: أن الحكم كذلك. والثاني: أنهم لا يحدون، فإن من العلماء من يجعل الفاسق من أهل الشهادة. وحكى الإمام فيما لو كان فسقة في الباطن دون الظاهر وجهين مرتبين على ما لو كانوا معلنين بالفسق، وقال: هاهنا أولى بألا يجب الحد، بل هو ظاهر المذهب، لأنهم لو شهدوا في مال، فردت شهادتهم، ثم تابوا، وأعادوها- لم تقبل، ولو جاء عند مجيء الشهود، فردت شهادته، ثم عتق، فأعادها، قبلت. ولو ردت شهادة المعلن بالفسق، ثم أعادها بعد التوبة، ففي سماعها وجهان. قال: ويمكن أن يجعل هذا ضابطًا فيما نحن فيه، فيقال: كل من ردت شهادته، فإذا زايل حاله [حالة]، ثم أعاد الشهادة، لا تقبل شهادته المعادة، فإذا شهد على الزنى مع كمال العدد، ثم اطلع على تلك الصفة، وردت شهادته- فلا يكون قاذفًا، ولو كان على صفة لو شهد عليها، ثم زايلته فأعادها، قبلت، فإذا شهد على الزنى، فردت شهادته، للصفة التي ذكرناها- فهو قاذف، لأنه ليس من أهل الشهادة.

وقضية هذا الضابط: أن يكون فيمن ردت شهادتهم مع كمال العدد، لأجل العداوة وجهان، لأن في قبول شهادتهم المعادة وجهين، وقد ألحقهم بمن ردت شهادتهم بفسق مجتهد فيه، وقد ادعى أنه لو ردت شهادتهم بفسق مجتهد فيه: [أنه لا خلاف في] أنهم لا يحدون، وهو [فيه] متبع للقاضي. عدنا [إلى ما] نحن فيه: قال الماوردي: فإن قلنا: إنه لا حد عليهم عند نقصان العدد، فهاهنا أولى، وإن قيل بوجوبه عند نقصان العدد، فهاهنا ثلاثة أوجه: أصحها: أنه لا حد على جميعهم، لقوة الشهادة بكمال العدد، وبكمال صفة الأكثرين. والثاني: يحد الجميع، لرد شهادتهم. والثالث: يحد من نقصت صفته بالرق والفسق، ولا يحد من كملت صفته بالعدالة. وقال القاضي أبو الطيب: إن ردت شهادة الرابع بأمر ظاهر: كما إذا كان عبدًا، أو كافرًا، أو امرأة، أو فاسقًا ظاهرًا- كان ذلك بمنزلة نقصان العدد، لا يختلف أصحابنا فيه، لأن وجود ذلك الواحد وعدمه سواء، وظاهر كلامه يعود إلى الثلاثة، وأما الرابع فقد سكت عنه. وقضية كلام القاضي الحسين والإمام: أنه يحد قولًا واحدًا إن كان رد شهادته لغير الفسق، [وإن كان للفسق] الظاهر فيجيء فيه القولان. وقال النبدنيجي: إن القولين جاريان في الذي ردت شهادته كيف كان. قال القاضي أبو الطيب: ولو كان رد شهادة الرابع بأمر خفي مثل أن يكون فاسقًا في الباطن دون الظاهر، فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هذه- أيضًا- بمنزلة نقصان العدد. منهم من قال: لا يحدون قولًا واحدًا، لأن الفسق إذا كان باطنًا لا تفريط من جهتهم في الشهادة معه، وكانوا معذورين، فلم يحدوا، وليس كذلك نقصان العدد، أو سقوط العدالة بأمر ظاهر مشهور، فإنه مفرطون فيه، فحدوا بسببه.

وقد حكى ابن الصباغ هاتين الطريقين أيضًا، وقال البندنيجي: إن الثانية هي المذهب، ونسب القائل بالأولى إلى الشذوذ، وقال: إن الذي ردت شهادته ظاهر المذهب- أيضًا- أنه لا حد عليه. قال ابن الصباغ: لأنه قد لا يعلم أنه ترد شهادته. ولو فسق واحد من الأربعة بعد الشهادة، قال البندنيجي: فلا حد عليه، ولا على الباقين، كما لو مات- يعني: قبل أن يشهد- فإنه لا حد على الباقين، كما حكاه أبو الطيب عن الشافعي. ووجهه بأنه يحتمل أنه لو شهد، شهد بما يتم به النصاب، ويشبه أن يكون فيهم ما ذكرناه فيما إذا رجع واحد منهم، وأصر الباقون. قال: وفي الإقرار بالزنى قولان: أحدهما: يثبت بشاهدين- أي: ذكرين- كغيره من الأقارير، [وهذا أصح عند القاضي الروياني، وصاحب ((المرشد))، والنواوي]. والثاني: لا يثبت إلا [بأربعة، لأنه إقرار بفعل، فلا يثبت إلا] بما يثبت به ذلك الفعل، لاستوائهما في الموجب، وهذا حكاه الماوردي في كتاب اللعان عن القديم، ونسب الأول إلى الجديد، وفرق بينه وين الشهادة بالزنى بأن المقر بالزنى لا يتحتم حده، لأن له إسقاطه بالرجوع، والمشهود عليه بفعل الزنى يتحتم الحد عليه، فغلظت البينة في الفعل، وخففت في الإقرار، وسائر الحقوق يستوي فيها حالة الإقرار وحالة ثبوت الفعل بالبينة، فلذلك لم تختلف البينة فيها. فرع: هل يعتبر في صحة الإقرار بالزنى التفسير كما يعتبر في الشهادة [به]؟ فيه وجهان تقدمت حكايتهما، ولا يبعد تخريجهما من القولين هنا. قال: ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال: كالرضاع- أي: من الثدي- والولادة، والعيوب [التي] تحت الثياب- أي: كالرتق، والقرن، والبرص، وغيره، سواء في ذلك ما تحت الإزار غيره مما يباح للمحارم النظر إليه خاصة، كما قاله في الحاوي، و ((البحر)) - شهادة رجلين، ورجل وامرأتين، وأربع نسوة.

أما قبول شهادة النساء منفردات في ذلك وما في معناه، فالأصل فيه ما روي عن الزهري أنه قال: مضت السنة بأن يجوز شهادة النساء في كل شيء لا يليه غيرهن. ولأن الرجال لا يطلعون على ذلك غالبًا، فلو لم تقبل فيه شهادة النسوة منفردات، لتعذر إثباته. وأما اعتبار الأربع، فلأنه قد تقرر أنا ما ليس بمال ولا يقصد منه المال لا يثبت إلا برجلين، وهذا منه، وإنما جوز فيه شهادة النساء لما ذكرناه، فاقتضى ذلك اعتبار الأربع، لأن الله تعالى أقام المرأتين مقام الرجل، وقال صلّى الله عليه وسلّم: ((النساء ناقصات عقل ودين))، قيل: يا رسول الله، وما نقصان عقلهن؟ قال: ((أما نقصان عقلهن، فإن شهادة المرأتين بشهادة رجل واحد))، وروي: ((أليس شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل)). فإذا ثبت قبول شهادتهن منفردات كان قبول شهادة الرجل والمرأتين والرجلين من طريق الأولى. وقد حكى الإمام في أواخر الرضاع أن صاحب ((التقريب)) حكى عن الإصطخري أنه كان يقول: لا يثبت الرضاع ولا عيوب النساء الباطنة، وإنما تثبت بشهادة النساء المتمحضات، وهذا متروك [عليه] غير معتد به. وقد ألحق البندنيجي بما ذكرناه استهلال المولود إذا ولد، وقال: إن شهادة النساء مقبولة في هذه المواضع الأربعة. فأفهم إيراده عدم قبولها فيما عداها. وقد ألحق غيره بها البكارة، والثيابة، والحيض. وحكي عن الربيع أنه قال: في الاستهلال قول آخر: أنه لا يقبل فيه [النساء على] الانفراد. قال البندنيجي: وهذا من [كيسه]. قال البندنيجي والقاضي الحسين والبغوي: ولا يلتحق بذلك الجراحات الصادرة على العورات في الحمامات، بل [كل] ذلك لا يثبت إلا بما يثبت الجرح [به] على غير العورة وإن كان لا يطلع عليه الرجال بحال، لأن أصل

الجراحات مما يطلع عليه الرجال غالبًا، وهذا ما أشار إليه الأصحاب عند الكلام مع الإمام مالك في منع شهادة الصبيان على الجراحات. وادعى القاضي أبو الطيب ثم الإجماع على ذلك. [ثم] قال البندنيجي والبغوي: فإن كان ذلك الجرح مما يوجب القود فلا يثبت إلا بعدلين ذكرين، وإن كان لا يوجب القود ثبت بشاهدين، وشاهد وامرأتين، وشاهد ويمين. واعترض الرافعي على ما ذكر من العلة بأن جنس العيب- أيضًا- مما يطلع عليه الرجال غالبًا، وإنما الذي لا يطلعون عليه العيب الخاص، وكذلك الجراحة الخاصة. أما الرضاع من لبن حلب في آنية، ففي ((التتمة)) في كتاب الرضاع: أنه لا يثبت إلا بشهادة رجلين، لأن هذا مما لا يختص النساء بالاطلاع عليه. نعم، الشهادة على [أن] اللبن المحلوب في الأواني من لبن هذه المرأة تقبل فيه شهادتهن، لأن الرجال لا يطلعون على حلب اللبن في الغالب. وقد أغرب في [آخر] كتاب الشفعة فقال إذا أخبر الشفيع نسوة بالبيع: إن ذلك ينبني على أن النسوة هل تقبل شهادتهن على الانفراد أم لا؟ إن قلنا: تقبل، فهو كما لو شهد عدلان، وإن قلنا: لا تقبل، فهو كما لو شهدت امرأة واحدة. ولعل ما ذكره محمول على ما تقبل شهادتهن منهن على وجه التبعية، كما حكيناه عن الماوردي في باب اللقيط فيما إذا ادعى رجل رقه: أنه تسمع شهادة أربع نسوة بالولادة في ملكه، وتكون شهادتهم بملك الأم عند الولادة [مقبولة تبعًا للشهادة بالولادة]. والعبوب في الوجه والكفين من النساء، ادعى الماوردي في باب شهادة النساء: أنه لا [تقبل] فيها إلا شهادة الرجال دون النساء إجماعًا، ولم يفصل بين الحرة والأمة، وقد صرح به القاضي الحسين فيهما، ووافقهما البغوي على ذلك في

الحرة، وقال: إن العيب إذا كان في وجه الأمة، أو بموضع من بدنها يبدو في المهنة- يثبت برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين، لأن المقصود منه المال. وقال القاضي الحسين فيما إذا كان العيب على ظهر الأمة أو بطنها، هل يثبت بشهادة النسوة؟: فيه وجهان ينبنيان على أن النظر إلى بطن الأمة وظهرها هل يجوز؟ وفيه وجهان. تنبيه: سكوت الشيخ في هذا النوع عن ذكر اليمين يفهمك أنه لا يثبت بشاهد ويمين، ولا بامرأتين ويمين، كما صرح به الماوردي في الرضاع، وابن خيران فيه، وفي غيره مما يثبت بشهادة النسوة. قال الرافعي: وهو الموافق لإطلاق عامة الناقلين. وحكى ابن أبي الدم أن الشيخ أبا علي قال في ((شرحه الكبير)): إن أبا الطاهر الزيادي قال: يثبت الرضاع والولادة بشهادة امرأتين، ويمين المدعي، لأن هذه شهادة توقفت على امرأتين، فجاز أن يقوم اليمين فيها مقام امرأتين، كالشاهد الواحد في المال. وأن القفال قال: إنه خطأ، لأن اليمين دخلت في الأموال لخفتها، ودخول البدل فيها، وثبوت الرضاع والولادة بشاهد وامرأتين لم يكن لخفة ذلك، بل للحاجة إليه. أما ما تحت إزار النساء من العيوب لا يثبت إلا برجلين، أو رجل وامرأتين، وأربع نسوة، ولا يثبت بشاهد ويمين. انتهى. وهذا يفهم اختصاص الخلاف بالرضاع والولادة. وقد حكى الرافعي في باب الشاهد واليمين عن رواية السرخسي عن طائفة- منهم الشيخ أبو علي- إجراء الوجه المذكور في كل ما يسمع فيه شهادة النسوة منفردات، بخلاف الأموال، حيث لا تقبل فيها شهادة امرأتين ويمين المدعي بلا خلاف، لأن المنضم إلى اليمين إذا شهدت امرأتان في الأموال أضعف شطري

الحجة، فلا يقنع بانضمام الضعيف إلى الضعيف، كما لا يقنع بانضمام امرأتين إلى امرأتين فيه، وهاهنا المنضم إلي اليمين شطر تام من الحجة لا أضعف الشطرين. والقائلون بالأول قالوا: المنصوص على جواز الحلف معه أقوى الشطرين، وليس الأقوى ثابتًا هنا، فلم يكن ذلك في معنى المنصوص عليه. فرع: ما قبلنا فيه شهادة النسوة على فعله لا نقبل فيه شهادتهن على الإقرار، صرح به المتولي وغيره في الإقرار بالرضاع، والله أعلم. وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بفرعين: أحدهما: قال صاحب ((التقريب)): لو اجتمع طائفة، فشهد اثنان منهم لاثنين بوصية في تركة، ثم شهد المشهود لهما للشاهدين بوصية في تلك التركة- قال الشافعي: لا تقبل شهادتهما، فإنهم متهمون، وهذه رواية الربيع، قاله [في ((الإشراف))]، وأن به أجاب الزجاجي. قال صاحب ((التقريب)): وكذلك لو كان لرجل ديون على طائفة من الغرماء، ولقوم عليهم ديون- أيضًا- فتناوبوا في الشهادة على الصورة التي ذكرناها- فالشهادة مردودة. قال الإمام: وعندي أن ما ذكروه مشكل، والقياس: القطع [بقبول الشهادة]، ومن أحكم الأصول لم يخلف [عنه] ما ذكرناه، ولم أر ما حكاه صاحب ((التقريب)) في شيء من الكتب. قلت: وقد حكاه القاضي الحسين في ((تعليقه)) أيضًا، وقال: إن أصحابنا قالوا: لو شهد بعضهم لبعض بالدين على رجل واحد، نظر: إن كان [الرجل] مفلسًا لا يقبل، لأنهم يشتركون في ماله، وإن [لم يكن] مفلسًا قبل، وهذا على ظاهر المذهب الذي لا يقبل شهادة الشريك في حصة

شريكه إذا كان له فيه شريك الثاني: إذا ادعى شخص على آخر شيئًا في يده، وأقام بينة، فأقام المدعى عليه شاهدين على أن الشيء له، فعاد شهود المدعي، وشهدوا بجرح شاهدي المدعى عليه- قال في ((البحر)) قبل كتاب الشهادات: الأظهر أن هذه الشهادة مسموعة، إذ لا مانع من قبولها من قرابة وعداوة وغيرهما. وقال بعض أصحابنا: لا تقبل هذه الشهادة، لأنهم متهمون في تنفيذ شهادتهم، وهذا ضعيف، لأن شاهد الفرع إذا عدل [شاهد] الأصل قبل، وإذا شهد الرجل مع ابنه بحق قبل، وما ذكروه من التهمة الضعيفة موجود في هذين الموضعين، والله عز وجل أعلم.

باب تحمل الشهادة وأدائها، والشهادة على الشهادة

باب تحمل الشهادة وأدائها، والشهادة على الشهادة ولا يصح التحمل إلا بما يقع به العلم، لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] فشرط في الشهادة أن تكون بحق معلوم، فدل على أنها لا تجوز بحق غير معلوم، ولا أن تكون بمعلوم ليس بحق، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ} [الإسراء:36] أي: لا تتبع، من قولهم: قفا فلان أثر فلان، إذا تبعه، ويقال: هو مقتف أثر فلان، وقاف أثره، {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، ومعنى ذلك: لا تقل في شيء بما لا تعلمه، فإن جوارحك شواهد عليك، كذا قاله أبو الطيب. وفي ((البحر)): أن قتادة قال في تفسير هذه الآية: لا تقل: سمعت ولم تسمع، ورأيت ولم تر، وعلمت ولم تعلم. وهو قريب مما في ((الحاوي))، فإنه قال: الآية دليل على أنه يشهد بما علمه بسمعه، وبصره، وفؤاده، فالسمع للأصوات، والبصر للمرئيات، والفؤاد للمعلومات، فجمع في العلم بين جميع أسبابه، ليخرج من غلبة الظن إلى حقيقة العلم، وقد روي [عن] عطاء وطاوس عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الشهادة، فقال: ((هل ترى الشمس [طالعة]؟ قال: نعم، قال: [على] مثلها فشاهد، أو فدع)). ولأن الشهادة مشتقة من المشاهدة التي هي أقوى الحواس دركًا، وأثبتها علمًا، لم يجز أن يشهد إلا بأقوى أسباب العلم في التحمل والأداء، وهذا هو الأصل في الشهادة، وقد يلحق الظن بالعلم في بعض الصور، للحاجة كما ستعرفه. قال-[رحمه الله- ولا يصح التحمل إلا بما يقع به العلم] فإن كان فعلًا:

كالزنى والغصب، لم يصح التحمل فيه إلا بالمشاهدة، أي: ولا يصح بالاستفاضة، لأن بالمشاهدة يصل إلى العلم به من أقصى جهاته، وما أمكن الوصول إلى علمه بالأقوى، لم يجز أن يشهد به إذا وصل إليه بالأضعف، لما ذكرناه من الأدلة السالفة. ومن هذا القسم: الرضاع، والولادة، والاصطياد، والإحياء، وكون المال في يد الشخص، والقتل، والقطع، وشرب الخمر، والسرقة، واللواط، ونحو ذلك. ويسمع في هذه الأشياء شهادة الأصم. قال: وإن أراد أن يتعمد النظر إلى ما تحت الثياب، لتحمل الشهادة، جاز على ظاهر النص، لأن سعد بن عبادة قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلًا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: ((نعم))، فدل على أن للشهود أن يتعمدوا النظر إلى موضع الزنى. قال الأصحاب: ولأن الذين شهدوا بزنى المغيرة بن شعبة تعمدوا النظر إلى فرج المغيرة والمرأة، ولم ينكر [ذلك عليهم] أحد، وهذا ما اختاره صاحب ((التلخيص))، وأبو إسحاق، وابن أبي هريرة، وهو مأخوذ من قول الشافعي: ((وتقبل شهادة النساء فيما لا يجوز للرجل غير ذي المحارم أن يتعمدوا النظر إليه لغير شهادة))، فإن هذا يقتضي أنه يجوز تعمد النظر إليه للشهادة. وقيل: لا يجوز، لأن الزنى مندوب إلى ستره، والعيوب التي تحت الثياب تقبل فيها شهادة النساء منفردات، فلا حاجة إلى تعمد النظر إلى العورات، هذا قول أبي سعيد الإصطخري، واختاره في ((المرشد))، وقال: إن الذين شهدوا على المغيرة وقع بصرهم عليه اتفاقًا. وقيل: لا يجز في غير الزنى- أي: كالرضاع، والعيوب، ويجوز في الزنى، والفرق: أن الزانيين هتكا حرمة أنفسهما، وليس كذلك المرضعة وذات العيب. ولأن شهادة النسوة تقبل فيما عدا الزنى، فلا حاجة بنا إلى تعمد الرجال العورات لأجله، ولا كذلك الزنى، فإن شهادة النسوة لا تقبل فيه، فلو لم نجز

للرجال أن يتعمدوا النظر لإقامة الشهادة عليه، لأدى إلى بطلان حد الزنى، فإن وقوع البصر على ذلك اتفاقًا نادر. وقيل: يجوز في غير الزنى، ولا يجوز في الزنى، لأن الزنى مندوب إلى ستره، وهو حق لله تعالى، وهو مبنية على المساهلة والدرء والإسقاط ما أمكن، وغير الزنى بخلاف ذلك. والصحيح في ((البحر)) و ((الرافعي)) وغيرهما: الأول. قال ابن القاص: وكان ابن سلمة يقول بالوجه الثالث، لأجل ما ذكر من الفرق حتى وجد في ((أحكام القرآن)): أن شهادة الرجال في الرضاع والولادة جائزة رأوه مفاجأة أو تعمدوا قاصدين به أداء الشهادة. فرجع عنه. وأيد ذلك صاحب ((التلخيص)) بأنه لو وقعت في يد امرأة أكلة، جاز للرجل أن يداويها، وينظر إليها وإن كان يتهيأ طلب امرأة تداويها، فكذلك ما نحن فيه. قال في ((الحاوي)) في باب ما يجب على المرء من القيام بالشهادة: ويستحب توقف الشهادة على تحمل الشهادة بالزنى، والشرب، ونحو ذلك. ولا خلاف في أنه يجوز أن يتعمد النظر إلى الوجه عند تحمل الشهادة لها، أو عليها، وكذا عند الأداء إذا كان لا يعرفها، ليضبط حلاها وإن كانت في غاية الجمال، إلا أن يخاف الفتنة، فلا ينظر، ويكف عن الشهادة إلا أن تكون متعينة عليه، فإنه ينظر بعد ضبط نفسه، كما قاله الماوردي، والرافعي. نعم، لو تعمد النظر للوجه من غير حاجة بشهوة، فسق به، ولو كان بدون شهوة، ففي جوازه خلاف مذكور في ((الوسيط)) وغيره في كتاب النكاح.

وقال الماوردي هنا: إنه مبني على خلاف ذكره العلماء في تأويل قوله صلّى الله عليه وسلّم لعلي: ((لا تتبع النظرة النظرة، فإن الأولى لك، والثانية عليك ...)). فمنهم من قال: يريد لا تتبع نظر عينك نظر قلبك، فعلى هذا لا يأثم بالنظر بغير شهوة، ويكون على عدالته، وقد حكى الإمام هذا عن الجمهور. ومنهم من قال: لا تتبع النظر الأولى التي وقعت سهوًا بالنظرة الثانية التي أوقعتها عمدًا، فعلى هذا يكون بمعاودة النظر آثمًا يخرج به عن العدالة، فلا تقبل شهادته إلا بعد التوبة، وهذا ما ذهب إليه طوائف من الأصحاب. وقال الإمام في أول كتاب النكاح: إن إليه ميل العراقيين. ثم إذا جاز أن ينظر إلى وجهها، ليعرفها في الشهادة لها عليها، قال في ((البحر)): قال جمهور الفقهاء: يجوز أن ينظر إلى جميع وجهها، لأن جميعه ليس بعورة، وعلى هذا هل يجوز النظر إلى كفيها؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأنه ليس بعورة. والثاني- وهو قول الأكثرين-: لا يجوز، لاختصاص المعرفة بالوجه. وقال في ((الحاوي)) بعد حكاية أقوال العلماء فيما يباح النظر إليه من الوجه عند التحمل أوردها الروياني [أيضًا]: والصحيح أنه ينظر إلى ما [يعرفها به]، فإن كان لا يعرفها إلا بالنظر إلى جميع وجهها، جاز له النظر إلى جميعه، وإن كان يعرفها بالنظر إلى بعض وجهها، لم يكن له أن يتجاوزه إلى غيره. وفي ((الرافعي)): إن الصميري ذكر أنه لو نظر إلى أكثر وجهها وسمع كلامها، جاز، ولعله محمول على إحدى هاتين الحالتين. قال الماوردي: ولا يزيد على النظرة الواحدة إلا ألا يتحقق إثباتها إلا بنظرة ثانية، فيجوز [منه]، وسنذكر من بعد شيئًا يتعلق بذلك. قال: وإن كان عقدًا- أي: [من] بيع ونحوه، وطلاق ونحوه، أو إقرارًا- فلابد من مشاهدة العاقد، والمقر، وسماع كلامهما- أي: ولا يكتفي في ذلك بالتسامع- لأن ما أمكن إدراكه بعلم الحواس، لم يجز أن يعمل فيه بالاستدلال المفضي إلى غالب الظن.

تنبيه: المفهوم من قول الشيخ أن العاقد والمقر لو كان امرأة فلابد من مشاهدته، والمشاهدة إنما تحصل بسفر النقاب، وكشف الوجه. وعبارة الإمام في ذلك: أنه لا يحل تحمل الشهادة على منقبة. وقريب منها قول الغزالي: لا يجوز تحمل الشهادة على امرأة منقبة. قال الرافعي: إن لك أن تقول: ما ينبغي أن يتوقف جواز التحمل على كشف الوجه، لأن حضور امرأة، أو شخص تحت النقاب، وإقرار ذلك الحاضر متيقن، فإذا رفعت المرأة إلى القاضي، والمتحمل يلازمها يتمكن من الشهادة على عينها بأنها أقرت بكذا، وهو نظير صورة الضبط في شهادة الأعمى. وقد يحضر قوم يكتفي بإخبارهم في التسامع، قبل أن تغيب المرأة- إذا لم يعتبر في التسامع طول المدة، كما سيأتي- فيخبرون عن اسمها، ونسبها، فيتمكن من الشهادة على اسمها ونسبها، بل ينبغي أن يقال: لو شهد اثنان تحملا الشهادة على امرأة لا يعرفانها أن امرأة حضرت يوم كذا بمجلس كذا، فأقرت لفلان بكذا، وشهد عدلان أن المرأة المحضرة يومئذ في ذلك المكان هذه- كان يثبت الحق بالبينتين، [أليس] لو قامت بينة على أن فلان بن فلان الفلاني أقر بكذا، وقامت بينة أخرى على أن هذا الحاضر هو فلان بن فلان- ثبت الحق، فما الفرق بين تعريف المشهود عليه المطلق باسم ونسب، وبين تعريفه بزمان ومكان، وإذا اشتمل التحمل على هذه الفوائد، وجب أن يجوز مطلقًا، ثم إن لم يعرض ما يفيد جواز الشهادة على العين، أو على الاسم والنسب، ولم ينضم إليه ما يتم به الإثبات، فذاك شيء آخر. قلت: وما ذكره فقه ظاهر لا ينكره ذو فطنة، لكن مراده الأصحاب بأنه لا يجوز التحمل على المرأة المنقبة، ليؤدي ما تحمله، اعتمادًا على معرفة صوتها، كما أشار إليه الروياني في بعض كلامه هنا، ولا يقدح في ذلك ما قاله المتولي في كتاب النكاح: أنه لو قال: زوجتك هذه، وهي منقبة، لا يصح، لأنها مجهولة، كما لا يتحمل الشهادة عليها إلا بعد مشاهدتها، لأن حالة التحمل في النكاح ملحقة بحالة الأداء في غيره، لوجوب ذلك. ولكن لقائل [أن] يقول: قد حكى الماوردي أن الناس اختلفوا في جواز تحمل الشهادة عمن لا يعرفه، ولمن لا يعرفه.

فمنع منه قوم، لأن المقصود بالشهادة أداؤها، ومع الجهالة لا يصح، فصار الشاهد غارًا. وقال قوم: يكفي المقر أن يأتيه بمن يعرفه، ثم يشهد عليه بعد التعريف، ولا يشهد عليه قبله. والذي عليه الجمهور: أنه يجوز أن يشهد على من لا يعرفه، ولمن لا يعرفه إذا أثبت صورتهما، وتحقق أشخاصهما، ثم إن عرفهما عند أداء الشهادة أدى، وإلا لم يجز [له إقامتها. ثم ظاهر إطلاق الغزالي وإمامه يقتضي منع التحمل على المرأة المنقبة مطلقًا]. وقد قال في ((الحاوي)) و ((العدة)): إن هذا مخصوص بما إذا لم يعرفها الشاهد فيه، فإن عرفها منتقبة لم تكشفه. فإن قلت: قد حكينا فيما لو كان العاقد أو المقر من وراء ثوب خفيف مشف في جواز التحمل عليه وجهان: أحدهما- وهو الأصح في ((الرافعي)) -: الجواز، لأنه لا يمنع من مشاهدة ما وراءه. والثاني: لا يجوز، لأن الاشتباه معه يجوز، وهذه الصورة أولى أن يجري فيها [هذا] الخلاف، لأن البشرة ثم مشاهدة، وليست هنا كذلك. قلت: الفرق أن البشرة ثم وإن شوهدت فمن وراء حائل لا يمنع الاشتباه كما ذكرنا، وهنا المنتقبة بعض وجهها مكشوف، وهو المعتمد في المعرفة، فلا اشتباه معه. فرع: لو دخل رجلان بيتًا لا ثالث معهما فيه، وقد عرف ذلك شخص، وجلس على بابه، فسمعهما يتعاقدان عقدًا- قال البندنيجي: قال أصحابنا: صار متحملًا للشهادة، لأنه يقطع أنه ليس في البيت سواهما. قال: وهذا عندي فاسد، [لأنه] وإن قطع أنه لا أحد سواهما، فهو لا يعرف البائع من المشتري منهما.

قال: إن كان نسبًا، أو موتًا، أو ملكًا مطلقًا- جاز أن يتحمل [بالاستفاضة] من غير معارضة، أي: ويؤدي. هذا [الفصل] ينظم ثلاث مسائل: الأولى- النسب: ووجه جواز التحمل فيه بذلك: أن النسب لا يدرك قطعًا ويقينًا، وثبوته من طريق الظاهر، فلم يكلف تحقيقه فيه، لأن ذلك يؤدي إلى إسقاط الشهادة عليه. قال في ((الإشراف)): ويجوز أن يشهد على النسب وإن لم يعرف المنسوب إليه بعينه. واعلم أن بان يونس قال: ما ذكره الشيخ في النسب من جانب الأب، أما إذا كان من جانب الأم، فهو كالنكاح. وهو في هذه العبارة متابع للغزالي، وفيها نظر، لأن النسب مأخوذة من الانتساب، وهو إلى الأب لا إلى الأم، ويدل [عليه] ما ذكره الأصحاب عند قولهم: إن الولد لا يزوج أمه، ولذلك لما أراد الإمام حكاية الخلاف في جانب الأم، قال: إن من أصحابنا من يلحق الانتماء إلى الأم بالانتساب إلى الأب، وهذا التقرير لا يحوج كلام الشيخ إلى تقييد، بل يكون على إطلاقه كما أطلقه غيره من العراقيين. ثم قال الإمام: وهذا الخلاف قريب [المأخذ] من تردد الأئمة في أن المرأة كما تقدم. وقد قال في ((الوجيز)): الأصح ثبوت الانتماء إلى الأم بالاستفاضة. وحكى في ((الوسيط)) عن بعضهم القطع به. قلت: وقد يقال: إن في كلام الشيخ ما يدل عليه، لأنه يجوز تسمية الانتماء إلى الأم نسبًا، على سبيل المجاز.

وفي كلام الشيخ ما يدل عليه، لأنه قال بعد ذكر النسب والموت والملك المطلق: جاز أن يتحمل بالاستفاضة من غير [معاينة، ومعاينة] ذلك من جانب الأب محال، فدل على إرادة جانب الأم. لكن جوابه: أن المراد معاينة النسب، وهو الولادة على الفراش، لا معاينة النسب نفسه، ويدل على ذلك أنه قال ذلك في الملك، والملك لا يشاهد، إنما المشاهد أسبابه من البيع والهبة والاحتطاب، ونحو ذلك، وهي التي أراد الشيخ أنه لا يحتاج إلى معاينتها، والله أعلم. الثانية: الموت: قال القاضي أبو الطيب: ووجه جواز التحمل فيه بالاستفاضة: أنه لا يكاد يدرك حقيقة، لأنه ربما لحقته سكتة، وقد أمر بتعجيل الدفن، فلا يمكن تركه حتى يتحقق موته، لوقوعه في الأسفار- وهي كثيرة- والبراري، والقفار. وقال غيره: لأن أسبابه كثيرة خفية، وظاهرة، يتعذر الوقوف عليها، فاكتفى فيه بالاستفاضة، كالنسب. [قال في ((الإشراف)): يجوز أن يشهد به من لم يعرف الميت بعينه]، وهذا ما أورده الجمهور. وحكى القاضي الحسين أن من أصحابنا من يلحق الموت بالمختلف فيه، فإنه على الجملة يمكن فرض العيان فيه. قال الإمام: وهذا وإن كان منقاسًا فلا تعويل عليه، فإن موت الإنسان مما يشتهر ويقع في أفواه الناس كالنسب، وعماد تحمل الشهادة هذا. الثالثة: الملك المطلق: ووجه جواز التحمل فيه بالاستفاضة فقط: أنه لا يتصور العلم فيه وإن تصور الإحاطة بأسبابه، لأن حصوله بالبيع ونحوه فرع كون البائع مالكًا، وكذلك الكلام مملوكًا، فانفلت من مالكه، ومن احتطب أو احتش احتمل أن يكون من شيء مملوك جهل حاله، وإذا كان كذلك التحق بالنسب، وهذا ما أورده العراقيون، والفوراني.

وقال الإمام: أنه بعيد، فإن فرض له ثبوت فهو فيه إذا لم يعارض هذا التسامع يد وتصرف من الغير، ووراءه أوجه: أحدها- حكاه الماوردي عن بعض الأصحاب-: أنه لا يشهد بالملك بمجرد الاستفاضة، وهو الذي حكى الإمام عن القاضي القطع به، وقال: إنه قياس المراوزة. نعم، إذا رآه يتصرف فيه شهد به، لأنه يجتمع له في العلم به السماع والمشاهدة، فيصل إليه من أقصى نهاية المكنة. والثاني: أنه لا يشهد بالملك بالاستفاضة والتصرف، بل لابد مع ذلك من أن يكون في يده، وبه أجاب في ((الرقم))، ويحكى عن نصه في ((حرملة))، فإذا اجتمع ذلك جازت الشهادة [به] بلا خلاف، كذا قاله الإمام. وفي ((البحر)) أن بعض أصحابنا بخراسان قال: في الأملاك قول آخر أنه لا تجوز الشهادة فيها حتى يعلم سبب الملك. وهو أقيس، لكنه خلاف ظاهر المذهب المنصوص. والاستفاضة المذكورة هنا صورتها أن يستفيض في الناس: أن هذه الدار، أو هذا العبد ملك زيد من غير إضافة إلى سبب، فإن كان المستفيض سبب الملك لم يتحمل عليه، كما تقدم. قال ابن الصباغ وغيره: إلا أن يكون السبب الميراث، فيجوز، لأن الميراث يستحق بالنسب والموت وكلاهما يثبتان بالاستفاضة. وقد ألحق الإمام بهذه الصور الثلاث صورة رابعة، وهي الشهادة بالإعسار، فقال: إنه يتحملها بالاستفاضة، لأنه لا مطلع عليه، ولو لم يكن في إثباته طريق لتخلد الحبس على المعسر من غير درك منتهى.

وفي ((الإشراف)) عند الكلام في الجرح والتعديل: أن الشاشي قال: تسمع في العدالة الشهادة بالشيوع من جماعة وافرة، وهذه صورة خامسة. قال: وأما النكاح، والوقف، والعتق، والولاء- فقد قيل: يشهد فيها بالاستفاضة، لأن هذه الأشياء إذا ثبتت بقيت ودامت واشتهرت، وشهود المشاهدة [قد] يزولون لطول الزمان، فلو قلنا: لا تثبت بالاستفاضة، لتعطلت غالبًا. وقد أيد في النكاح بأن أحدًا لا يشك في أن عائشة- رضي الله عنها- زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، والمستند فيه الاستفاضة، وهذا قول صاحب ((التخليص))، و ((الإيضاح))، وابن أبي هريرة، والإصطخري، وقال في ((الشامل)): إنه أقيس، وقال في ((البحر)): إنه أصح عندي، واختاره في ((المرشد))، والنواوي، و [في] ((الحاوي)): أن بعضهم جزم به في الولاء، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((الولاء لحمة كلحمة النسب)). وحكى أنه هل يحتاج عند الشهادة بالزوجية إلى أن يرى الزوج داخلًا إليها، وخارجًا من عندها- وجهين كالتصرف في الملك مع تظاهر الخبر. وقيل: لا يشهد، لأن ذلك نشأ عن لفظ مسموع، فأشبه البيع. قال البندنيجي: وهذا قول أبي إسحاق وغيره من أصحابنا. وقال القاضي الحسين: إنه الأظهر. وتبعه الإمام، والغزالي، والقاضي الروياني في ((جمع الجوامع)). وقال في ((البحر)): إنه الأشبه بمذهب الشافعي [والأصح]. وقال الرافعي: إن به أجاب القفال في ((الفتاوى))، وأن العبادي رجحه أيضًا، وأن هؤلاء قالوا: ما ذكره الأولون يمكن تداركه بالشهادة على شهود الأصل، واستحبوا للحاكم أن يجدد شهود كتب الوقف مهما خاف انقراض الأصول. قلت: وهو الذي نص عليه الشافي كما حكاه الأصحاب عنه في باب عقد الذمة. وعن صاحب ((العدة)) أن هذا ظاهر المذهب، لكن الفتوى بالجواز للحاجة. ثم أعلم أن محل الخلاف المذكور فيما إذا استفاض أن هذه زوجة فلان، لا عقد النكاح بينهما، وأن هذا وقف على فلان أو جهة عامة كما قاله الصيدلاني وغيره، لا أن فلانًا أنشأ الوقف.

وعن الشيخ أبي محمد: أن محله إذا كان الوقف على جهة عامة: كالفقراء، أما الوقف على معين فلا يجز استناد الشهادة فيه إلى الاستفاضة وجهًا واحدًا. قال الإمام: وهذا لا اعتداد به، لأن الخلاف يجري في النكاح مع اختصاصه بشخص معين. [و] قال في الإشراف: إنا إذا جوزنا الشهادة بالاستفاضة على الوقف فلا يشهد على المصرف، بل يشهد على المصرف، بل يشهد أنه وقف مؤبد، ثم الأمر بعد ذلك إلى القاضي يصرف غلة الموقوف إلى من يؤدي إليه اجتهاده، وأن هذا عتيق فلان، لا أنه أعتقه، وأن لزيد الولاء على عمرو. وقد ألحق البندنيجي بهذه الصورة [صورة] خامسة وهي تولية القضاء إذا كان الموضع قريبًا كما تقدم. والدين لا يثبت بالاستفاضة على الأصح. وحكى الهروي وجهًا: أنه يثبت وإليه أشار ابن الصباغ عند الكلام في الملك المطلق بقوله: وأصحابنا لا يسلمون عدم ثبوته بالاستفاضة. قال: وأقل ما يثبت به الاستفاضة اثنان، لأن الحاكم يعتمد على قولهما في الحكم، فكذلك الشاهد، وهذا قول الشيخ أبي حامد وأبي حاتم القزويني، ولم يورد البندنيجي والقاضي أبو الطيب سواه، ونسبه ابن الصباغ إلى المتأخرين من أصحابنا، وحكاه الإمام عن العراقيين، وأنهم قالوا: لا يعتبر في ذلك لفظ الشهادة من المخبرين، وكذا لا يشترط أن يأتي المخبر بصيغة الشهادة على الشهادة، لكن يعتبر أن يكونا عدلين، وتطيب نفس السامع بهما، وقد حكاه غيره. وقال الماودري: إن هذا وهم من قائله، لأن قول الاثنين من أخبار الآحاد، وأخبار الآحاد لا تبلغ التتابع المستفيض، بل الصحيح أن الاعتبار في ذلك بالعدد المقطوع بصدق مخبره، وهو عدد التواتر المنتفي عن المواطأة والغلط، وعلى جرى [النواوي.

وقد حكى] الإمام هذا والذي قبله وجهين عن رواية الشيخ أبي علي، وأن القاضي وشيخه وغيرهما لم يوردوا غير الثاني، وقال: إن الأول وإن [كان] بعيدًا عن القياس فهو متجه عندي من جهة أن التواتر إنما يفيد العلم إذا كان مستندًا إلى معاينة المخبرين، هذا مما لابد منه، و [هو] غير ممكن في الأنساب، فإنه لا مستند لها من عيان. قال الرافعي: وينبغي على الوجه الثاني ألا تعتبر العدالة ولا الحرية ولا الذكورة. وقد حكى ابن الصباغ: أن كلام الشافعي يقتضي أن تكثر به الأخبار، لأنه شرط تظاهر الأخبار وذلك أن يكون بانتشارها كثيرًا، وكأنه يشير إلى قول الشافعي: ((من شرط جواز الشهادة فيما ذكرناه أن يتظاهر به الخبر زمانًا طويلًا ممن يصدق، ولا يكون هناك دافع يدفعه، ولا منازع ينازع فيه، ولا دلالة يرتاب)). قال ابن يونس: ومفهوم كلام ابن الصباغ: أنه إذا كثرت الأخبار بحيث يقع في قلبه صدقهم، وإن لم يبلغوا عدد التواتر كفى. ويقرب من ذلك قول الإمام: الذي أراه أن من اشترط الاستفاضة فربما يكتفي

[بالإشاعة] من غير تكثير، فإن التواتر إذا كان لا يوجب العلم بالباطن، وهو العلم حقًا، فالعماد أمر يرجع إلى العادة في إثارة غلبات الظنون، وهذا يكفي فيه الإشاعة وعدم التكثير. وعلى هذا قال في ((البحر)): إذا تظاهر الخبر: إن كان من رجال ونساء، وصغار وكبار، وأحرار وعبيد- فهو الأوكد، لامتزاج من تصح شهادته بمن لا تصح. ولو انفرد النساء والعبيد، صح به تظاهر الخبر، لقبول خبرهم. ولو انفرد به الصبيان مع اختلاف أحوالهم، وشواهد الحال بانتفاء التصنع والمواطأة- احتمل في صحة التظاهر بهم وجهان. وفي ((تعليق)) القاضي أبي الطيب: أنه سئل في الدرس عما إذا سمع من واحد، وسكن إلى قوله، هل يجوز له أن يتحمل الشهادة على ذلك، أم لا؟ فقال: يحتمل أن يقال: يجوز، لأن الاعتبار بما يسكن إليه قلبه، ويغلب على ظنه، وقد حكاه في ((المهذب)) وجهًا، وكذلك أبو الفرح السرخسي، وبه يحصل في المسألة- إن صح حمل النص على ما قاله ابن يونس- أربعة أوجه، وعليها يتخرج ما إذا أخبر شخص بأن هذه المرأة المنتقبة فلانة [بنت فلان]، ولم يكن يعرفها، ولا كشفت عن وجهها، وطلب منه أن يتحمل عليها أو لها شهادة، ويؤديها في غيبتها، فإن كان المخبر له عدد التواتر، انبنى جواز ذلك على خلاف الأصحاب في أن من شرط الاستفاضة تكرار الأخبار، وامتداد مدة السماع أو لا يشترط ذلك، ويكفي أن يخبر الشاهد جماعة لا يرتاب في صدقهم دفعة واحدة؟ فإن قلنا بالأول، وهو الذي أورده كثيرون- كما قال الرافعي، [و] منهم الروياني فإنه قال: الملك المطلق يثبت بسماع الخبر الشائع على اختلاف أحوالهم يقولون: هذه الدار لفلان، وهذه الدابة لفلان، ويتكرر ذلك على مرور الزمان، لا يرى فيهم منكر ولا منازع- فلا يجوز التحمل عليها، ولا لها، وعليه يدل ما حكاه في ((البحر)) - أيضًا- عن الشافعي حيث قال: ويسعه الشهادة على النسب

إذا سمعه زمانًا ينسب إلى نسب، وينسبه غيره إلى ذلك النسب، ولم يسمع دافعًا، ولا دلالة يرتاب بها، فهذه شروط أربعة: طول الزمان في انتسابه إلى ذلك النسب، ونسبة غيره إياه، وعدم الدافع، وعدم الأدلة التي هي سبب الريبة. وكذلك قول الماوردي: إن النسب يثبت بسماع الخبر الشائع الخارج إلى حد الاستفاضة في أوقات مختلفة وأحوال مختلفة متباينة من مدح، وذم، وسخط، ورضا يسمع الناس فيها على اختلافهم يقولون: هذا فلان بن فلان، فيخصونه بالنسب إلى أب أدنى، أو يعمونه بنسب أعلى فيقولون: هذا من بين هاشم، أو [من] بني أمية. وإن قلنا بالثاني- وهو ما روى القاضي ابن كج القطع به- جاز له التحمل. ولو كان المخبر دون عدد التواتر، وفوق الاثنين على النحو الذي رآه الإمام يكون الحكم كما إذا أخبره عدد التواتر. وعلى رأي الماوردي ومن معه [لا يجز له التحمل. ولو كان المخبر عدلان، فعلى رأي الشيخ أبي حامد ومن معه] يجوز له التحمل، صرح به الرافعي وغيره، ومنه يظهر أن القائل بهذه الطريقة لا يشترط تكرر الخبر، فإنه لا معنى لاشتراطه مع الاكتفاء بخبر الاثنين. وللإمام احتمال في منع ذلك أيضًا. وفي ((أدب القضاء)) لابن أبي الدم: أن الشيخ أبا محمد كان يميل إلى جواز تحمل الشهادة على المرأة المنتقبة بالتعريف، للحاجة إلى ذلك، لا بناء على ثبوت النسب بالتسامع من عدلين إذا لم يكن يراه، [بل] لضرورة الناس إليه في مدايناتهم. قال القاضي الحسين: وهذه عادة أهل هراة وغيرها من البلدان تأتي المرأة المحتشمة المخدرة مع شاهدين يقولان: نشهد أن هذه بنت فلان، ثم هي تقر بأن لفلان على كذا، فتكتب شهادته على الصك، ثم تودي الشهادة، وقد يحمل على هذا الوجه.

وعلى الوجه الثاني الذي صار إليه الماوردي: لا يجوز له التحمل، وإليه صار القفال، فإنه استشهد في مثل ذلك، فكتبك أشهدني فلان وفلان: أنها فلانة بنت فلان، وأنها أقرت، فلما طلب للأداء امتنع، وقال: كيف أشهد والشاهدان في السوق، يعني: أن شهادتي شهادة الفرع، وعلى ذلك جرى القاضي الحسين، ولم يورد في ((الوجيز)) سواه. ولو كان المخبر عدلًا واحدًا، وقد طابت النفس بخبره، فالذي يجيء على الأوجه المذكورة أولًا: أنه لا يشهد عليها، وعلى الأخير يتحمل، وقد حكاه الرافعي عن الشيخ أبي محمد، سلوكًا به مسلك الأخبار، وكذا حكاه ابن أبي الدم عن الهروي عنه. قال الرافعي: وعليه جرى جماع من المتأخرين منهم القاضي الروياني. وحكى عن رواية ابن كج عن الإصطخري أنه قال: إذا كان الشخص يعرف نسب امرأة، ولا يعرف عينها، فدخل دارها، وفيها نسوة سواها، فقال لابنها الصغير: أيتهن أمك أو لجاريتها: أيتهن ستك، فأشار إلى امرأة، فسمع إقرارها، جاز أن يشهد: أن فلانة بنت فلان أقرت بكذا، وأنه لم يقم إخبار عدلين بذلك مقام إخبار الصغير والجارية، لأنه أشد وقعًا في القلب وأثبت. فروع: أحدها: إذا سمع رجلًا يقول لآخر: هذا ابني، وصدقه الابن، أو: أنا ابن فلان، وصدقه فلان، قال العراقيون- كما حكاه الإمام، وأورده ابن الصباغ-: يجوز أن يشهد على النسب. وكذا لو استلحق صبيًا أو بالغًا، فسكت. قال ابن الصباغ: وإنما أقاموا السكوت في النسب مقام النطق، لأن الإقرار على الأنساب الفاسدة لا يجوز. نعم، لو أنكر المستلحق ذلك لا يثبت النسب، ولا يشهد به. وفي ((المهذب)) وجه: أنه لا يشهد عند السكوت إلا إذا تكرر منه الإقرار والسكوت.

وقال الإمام بعد حكاية ما ذكرناه أولًا: وهذا في قياس الفقه خطأ صريح، فإن قول الشخص الواحد من غير إشاعة في حكم الدعوى حيث ذكروه، ونحن وإن كنا نثبت نسب المولود بالدعوى فيستحيل أن يجوز اعتمادها للشهادة على النسب مطلقًا. نعم، يشهد الشاهد على الدعوى، ثم يقع الحكم بموجبها، وعلى هذا جرى الغزالي. وقال الرافعي: إنه القياس الظاهر، وربما أمكن تنزيل إيراد بعض الناقلين عليه، وهو في ((الحاوي))، لأنه قال: إذا قال رجل لرجل: أن ابنك، وصدقه، ثبت بتصديقه النسب، ويكون ثبوته بينهما بالإقرار، وتكون الشهادة عليه كالشهادة على الإقرار. وإن لم يصدقه، ولم يكذبه، فإن لم يشهد حال إمساكه بالرضا لم يثبت النسب، و [إن] شهد حال إمساكه بالرضا، فقد قال أبو حامد الإسفراييني: يثبت النسب، لأن الرضا من شواهد الاعتراف، وهذا على الإطلاق ليس بصحيح، والحكم فيه: أنه إن لم يتكرر ذلك لم يكن اعترافًا بالنسب، وإن تكرر وزال عنه شواهد الخوف والرجاء في أحوال مختلفة، صار اعترافًا بالنسب، لأن أكثر الأنساب بمثله تثبت. وهكذا لو ابتدأ أحدهما فقال للآخر: أنا أبوك، اعتبر حال الابن بمثل ما اعتبرت به حال الأب، وكان الجواب فيهما سواء. وهذا منه يدل على أن قول أي حامد في جواز الشهادة على الإقرار بالنسب في حالة السكوت لا على أصل النسب، فإن الصحيح أنه إذا تكرر منه الإقرار والسكوت يجوز أن يشهد على إقراره بالنسب، لأنه لا يريد شواهد حاله بالرضا بالتصديق [على التصديق]، وقد تقدم القول بأن شهادته عند التصديق تكون على الإقرار، وكلام البندنيجي لا يأبى ذلك، فإنه قال: لو سمع رجلًا يقول لمجهول النسب: هذا ابني، أو سمع رجلًا يقول [لرجل]: هذا أبي: والأب ساكت، صار متحملًا للشهادة، لأن سكوت سكوت راضٍ بذلك.

[الفرع الثاني:] إذا استشهد اثنان بأن فلان بن فلان وكل هذا، كانت الشهادة بالوكالة شهادة بها وبالنسب جميعًا عندنا. قال في ((البحر)): لأن الشهادة توجب ما تضمنها من مقصود وغير مقصود، كمن شهد بثمن في بيع، كان شاهدًا بالبيع وإن قصد الثمن. الفرع الثالث: إذا وكل شخص شخصًا بمجلس الحاكم، وغاب، والحاكم لا يعرفه بالنسب، فشهد شاهدان أنه فلان بن فلان- ثبتت الوكالة، وكان للوكيل أن يخاصم في غيبته، بخلاف ما [لو] انتفى ذلك، فإنه لا يخاصم عنه إلا بحضوره. قال القاضي الحسين- كما ذكرناه في [باب] الوكالة-: ويكتفي القاضي بالعدالة الظاهرة في هذين الشاهدين، ويتساهل في البحث والاستزكاء. وعن القاضي أبي سعد الهروي أنه يجوز الاقتصاد فيه بمعروف واحد. قال الرافعي: وليجر مثل ذلك هنا. واعلم أنه لا يشترط عند الشهادة فيما المستند فيه الاستفاضة التصريح بها. قال في ((المرشد))، بل يطلق الشهادة بأنه ابنه، أو ملكه، كما يشهد فيما شاهده. وفي أدب القضاء لابن أبي الدم: أنه لو صرح في الشهادة بذلك، فقال: أشهد بالاستفاضة أن هذه الدار ملك زيد، لأني رأيته يتصرف فيها مدة طويلة بالبناء، والتخريب، والإسكان، والإيجار [من غير] منازع، مع شيوع ملكيته لها بين الناس- لا تسمع. والمذكور في ((الإشراف)) وغيره: أنه لو شهد أن الشيء استفاض بين الناس، لم يرتب على شهادته شيء، لأن الشيء قد يستفيض بين الناس وهو يعلم خلافه. قال الرافعي: لكن عن الشيخ أبي عاصم أنه لو شهد شاهد بالملك، وآخر بأنه في [يده] مدة طويلة يتصرف فيه بلا منازع- تمت الشهادة، وقضية ذلك

الاكتفاء به بذكر السبب، كما ذكره الشارح لكلامه، والظاهر الأول. قال: وإن رأي رجلًا يتصرف في دار، أي: بالسكن، والإسكان، والهدم، والبناء، والرهن، والبيع، والفسخ، مدة طويلة من غير معارضة- أي: منازعة- جاز أن يشهد له باليد والملك، لأن العرف قاض بأن هذا يدل على الملك. قال الماوردي في كتاب اللقيط: وبالقياس على الحاكم، فإنه يحكم بالملك بذلك، والحكم أوكد من الشهادة، وهذا قول ابن أبي هريرة والإصطخري. وقال الإمام: إنه الذي ذهب إليه جماهير الأصحاب، وصححه في ((التهذيب))، والنواوي. وقيل: يشهد له باليد دون الملك، وهو الأصح، لأن هذا التصرف مع طول المدة كما يجوز أن يكون في ملكه أن يكون في ملك غيره، واستفاده بولاية أو نيابة، وذلك يقدح في الجزم بالشهادة. قال الماوردي ثم: ويخالف الحاكم، لأن للحاكم أن يجتهد، وليس للشهود أن يجتهدوا، وهو قول أبي إسحاق. وقال الإمام: إنه الذي ذهب إليه القاضي وطائفة من المحققين، والشيخ في تصحيحه متبع لشيخه القاضي الطبري، كما قاله في ((البحر)) وتبعهما فيه. أما إذا انتفى التصرف، ولم يوجد إلا مجرد اليد، قال القاضي الحسين: فلا خلاف أنه لا يشهد بالملك، وهو ما ادعى الإمام في باب الشهادة بالجناية أنه الرأي الظاهر. قال الرافعي: ويجوز أن يشهد له باليد. وفي ((التهذيب)): أنه إنما يشهد له باليد إذا رآه في [يده] مدة طويلة. وقال الإمام هنا: إن شيخه كان يقول: اليد والتصرف يدلان على الملك مذهبًا واحدًا، واليد الدائمة بمجردها هل تدل على الملك؟ فعلى قولين: [وليست] آمن صدور هذا عن غير ثبت، فإني لم أر أحدًا من الأصحاب غيره يذكر هذين القولين في اليد المجردة، فلذلك لا أعتد به، ولا أعده من المذهب. نعم، لو وجد التصرف بالإيجار خاصة مرة بعد أخرى، هل يكفي حتى يجري فيه الخلاف السابق أم لا؟ فيه خلاف.

وجه المنع- وهو الأصح في ((الوسيط)) -: أن مثل هذا يتفق من المستأجر مدة طويلة، ومن الموصى له بالمنفعة. وقال الرافعي: إن الموافق لإطلاق الأصحاب الاكتفاء بها، وليجر الوجهان في مجرد التصرف بالرهن مرة بعد أخرى، لأن الرهن قد يصدر من المستعير. ولو وجد التصرف التام مع اليد لكن في مدة قليلة، قال العراقيون: فلا يشهد بالملك وجهًا واحدًا. ولو وجدت اليد والتصرف في المدة الطويلة، لكن ثم منازع: فإن كانت له بينة لم يشهد له بالملك وجهًا واحدًا، وإن لم تكن له بينة، فالمفهوم [من] إطلاقهم أنه لا يشهد به أيضًا. وعن ابن كج رواية وجهين فيه. ثم ما المراد بالمدة القليلة والطويلة؟ قال الشيخ أبو حامد: القليلة كالشهر والشهرين. وهو الذي أورده ابن الصباغ. وفي ((الزوائد)) أن الطبري قال: القليلة كاليومين والثلاثة. وعن الشيخ أبي عاصم: أن فيما دون عشرة أيام وجهين، وبهذا يظهر لك اختلافهم في الأكثر. وفي ((أدب القضاء)) لابن أبي الدم عن الشيخ أبي علي أنه قيل: المدة الطويلة سنة. قال الرافعي: وهو كوجه ذكرناه في مدة التسامع إذا اعتبرنا امتداد مدته. وقيل: ستة أشهر. وقيل: شهران. وحكى الرافعي عن البغوي وغيره أن المرجع في ذلك إلى العرف، وكأن المعتبر مدة يحصل فيها غلبة الظن. قال ابن كج: ويجوز للشاهد أن يعتمد في الشهادة باليد على الاستفاضة. قال الرافعي: وقد ينازع فيه، لإمكان مشاهدة اليد. واعلم أنه لا فرق في الشهادة على الملك بالتصرف والتسامع واليد بين الدور والعبيد والثياب إذا كان المشهود به يتميز عن أمثاله، كذا قاله الرافعي هنا.

وحكى في كتاب اللقيط: أنه لو رأى في يد رجل صغيرًا يدعوه بأمره، وينهاه، ويستخدمه، هل [له] أن يشهد له بالملك؟ فيه وجهان عن رواية الشيخ أبي علي، وعن غيره: أنه إن سمعه يقول: هو عبدي، أو سمع الناس يقولون: هو عبده- شهد له بالملك، وإلا فلا. قال: ومن كانت عنده شهادة لآدمي، لم يشهد بها- أي: ولو بعد الدعوى- حتى يطالب بها صاحب الحق، كي لا يتهم، وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ((خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو فيه الكذب، فيحلف الرجل اليمين لا يسألها، ويأتي بالشهادة قبل أن يسألها))، وهذا ساقه مساق الذم، فاقتضى المنع. قد روى أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: ((شر الشهود الذين شهدوا قبل أن يستشهدوا))، فلا فرق في ذلك بين أن يكون صاحب الحق قد علم بشهادته [له] أو لا [يعلم]. نعم، إذا لم يعلم يستحب له أن يعلمه [حتى] يستدعيه فيشهد [له]. فإن شهد قبل أن يستشهد، لم تقبل شهادته، للتهمة، الحديث دال عليه. قال الماوردي قبيل باب شروط الذين تقبل شهادتهم: وكان ما فعله مكروهًا. فإن قيل: فقد روى مسلم وغيره عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((ألا أخبركم بخير الشهداء: الذي يأتي بشهادته- أو يخبر بشهادته- قبل أن يسألها)) الشك من عبد الله بن أبي بكر أحد الرواة، وهذا يقتضي الندب فضلًا عن الجواز. قلنا: قد قال بالجواز بعض الأصحاب فيما إذا وقعت الشهادة بعد الدعوى،

فصحح الشهادة [بعد الدعوى]، اعتمادًا على ظاهر الخبر، ويوافقه ما حكيناه في باب صفة القضاء: أن للقاضي أن يسأل المدعى عليه بعد الدعوى، وكذا الحكم بعد إقامة الشهادة من غير طلبه على رأي فيهما، لأن ذلك مقصود الدعوى. أما إذا وقعت الشهادة قبل الدعوى، فقد قال هذا القائل: إنها لا تسمع، وعلى هذه الحالة يحمل الحديث الأول، أو على حالة كذبه، لأنه- عليه السلام- قال: ((ثم يفشو الكذب))، أو على الشهادات التي يقطع بها على المغيب، فيقال: فلان في الجنة، وفلان في النار، ونحو يذلك. والصحيح الأول، وهو الذي أورده البغوي. وعلى هذا: فالحديث الثاني إن كانت الرواية فيه أن يخبر شهادته فهو موافق لما ذكرناه، ولا يحتاج إلى تأويل، وإن كانت: أن يأتي بشهادته فهو محمول على ما تسمع فيه شهادة الحسبة من القطع في السرقة، والجلد في الحدود، وغير ذلك مما سنذكره، أو على ما يعلمه دون غيره، ولو لم يظهره لضاع حكم من أحكام الدين، وقاعدة من قواعد الشرع، أو على الشهادة في [الأمانة والحقوق تكون لليتيم والمجنون، والزكاة، والكفارة، فإن الشهادة في] ذلك تسمع عندنا قبل الاستشهاد، كما صرح به في ((البحر)) في الفروع قبل كتاب الشهادات، وفي ((الحاوي)) قبيل باب شروط الذين تقبل شهادتهم، وقالا: إنه يندب إلى ذلك. أو على سرعة إجابة الشاهد إذا استشهد، فلا يمنعها، ولا يؤخرها كما يقال: الجواد من يعطي قبل السؤال، عبارة عن حسن أدائه وتعجيله. أو على حالة عدم علم المشهود له، كما ذكره بعض أصحابنا، واقتضى إيراد ابن يونس أن الشهادة تسمع في هذه الحالة وجهًا واحدًا. وقد ظهر لك مما ذكرناه أن الشهادة قبل الدعوى غير مسموعة، وبعدها وقبل الاستشهاد وجهان، ومحلهما إذا كان المدعى عليه قد أنكر، فلو كان مقرًا لم تسمع وجهًا واحدًا.

قال الماوردي في باب ما على القاضي في الخصوم: لأن الإقرار أصل هو أقوى، والبينة فرع هو أضعف، ولا يجوز ترك الأقوى بالأضعف. ولو سكت ولم يقر ولم ينكر، فهل تسمع البينة؟ فيه وجهان في ((الحاوي)) في الموضع المذكور. وقد يقرب من الخلاف السابق في سماع البينة على المدعي عليه وهو في المجلس دون مراجعته. وفي ((النهاية)) في باب الشهادة على الجناية في سماع الشهادة في حقوق الآدميين من القصاص والمال قبل الدعوى، ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كان صاحب الحق جاهلًا به سمعت، وإلا فلا، والمذهب منها، والأصح- كما قاله في كتاب السرقة-: عدم السماع. قال: وكان شيخي يقرب الخلاف من أصل [في] الغصوب، وهو أن من رأى مالًا مغصوبًا في يد غاصب، فهل له أن يأخذه، ويحفظه على مالكه من غير إذن من المالك، ولا نصب من الوالي؟ وفيه خلاف، ووجه الشبه بين. ثم قال: ولو قيل: إن هذا الخلاف يختص جريانه بالمال دون القصاص، أي: فلا يسمع فيه إلا بعد الدعوى- لم يبعد، والوجه التسوية، فإن القصاص مع تعرضه للسقوط بالشبهات خص بمزية في الإثبات لا تجري في الأموال، هي أيمان القسامة. وفي ((الحاوي)) في باب الشهادة [بالجناية: أن أصحابنا اختلفوا في كيفية سماع الشهادة] قبل الدعوى على ثلاثة أوجه: أحدها: تسمع إذا كان الولي طفلًا أو غائبًا، ولا تسمع إذا كان بالغًا حاضرًا. والثاني: تسمع إذا لم يعرف الولي شهوده، ولا تسمع إذا عرفهم. وهذا والذي قبله جعلهما القاضي أبو الطيب شيئًا واحدًا، فقال: قال بعض أصحابنا: الشهادة مقبولة إذا لم يكن عنده علم بما يشهد به الشاهدان، [أو لمن] لا يعبر عن نفسه مثل الصغير والمجنون.

والثالث- وهو قول أبي إسحاق المروزي، وأبي علي بن أبي هريرة، والجمهور-: أنها تسمع في الدماء خاصة، ولا تسمع في غير الدماء إلا بعد الدعوى، والفرق من وجهين: أحدهما: [لتغليظ الدماء] على غيرها من الحقوق. والثاني: أنها من حقوق المقتول تقضي منه ديونه، وتنفذ منها وصاياه، فجاز للحاكم أن ينوب عنه في سماع الشهادة قبل دعوى أوليائه. قال: ويجئ على هذا التعليل أن يسمعها في ديون الميت، ولا يسمعها في ديون الحي، وهذا قد حكاه ابن الصباغ والبندنيجي عن أبي إسحاق. وعلى التعليل الأول لا يسمعها في ديون حي ولا ميت. وإذا قلنا بالصحيح في عدم السماع مطلقًا، فهل يصير الشاهد مجروحًا بالأداء؟ فيه وجهان، أشبههما في ((الرافعي)): المنع. ويحكى القطع به عن الشيخ أبي عاصم العبادي، لأن المبادرة قد تكون عن جهل منه. قال الرافعي: وظاهر الإطلاق أن الخلاف في سقوط عدالته مطلقًا، ويؤيده أن القاضي أبا سعيد قال: الوجهان ينبنيان على أن المبادرة من الصغائر، أو الكبائر. قلت: وقد صرح به الإمام في أوائل كتاب الدعاوى فيما إذا وقعت الشهادة قبل الدعوى، حيث قال: لو ادعى ألفًا فشهدت له البينة بألفين- فالألف الزائد لا يثبت، وفي ثبوت الألف المدعى وجهان. وإن لم يثبت، ورددنا الشهادة، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في جرح الشهود حتى ترد شهادتهم على وجه عمومًا، وعلى ذلك ينطبق ما قاله البغوي في كتاب الإقرار والصورة هذه، وقد شهد له شاهد بألف وآخر بألفين: إنا إذا قلنا: إن الشاهد بالألف الزائد يصير مجروحًا، إن المدعي يحلف مع شاهد [الألف] ويأخذه، فلو لم يردها عمومًا، لكانت شهادته بالألف المدعى مسموعة إذا أعيدت، فيأمر بإعادتها، ولا يحتاج إلي اليمين، كما صرح به الإمام. ثم قال الرافعي: لكن منهم من يفهم كلامه وقوع هذا الخلاف في قبول تلك

الشهادة فيه إذا أعادها، لا في سقوط العدالة مطلقًا، واستأنس فيه بما سنذكره عن الغزالي والبغوي. قلت: وهو الذي صرح به القاضي الحسين في كتاب الإقرار، حيث قال: لا خلاف أنه لا يصير مجروحًا في غير تلك القضية، وفي تلك القضية وجهان، ولأجل ذلك قال الإمام ثم فيما إذا ادعى ألفًا، وشهد له شاهد بألفين-: إن الألف الزائدة لا يثبت، لأنه حصلت الشهادة به قبل الدعوى. لكن اختلف أئمتنا فيمن شهد لإنسان بحق قبل أن يستشهد، فهل يصير مجروحًا في تلك القضية أم لا؟ فمنهم من قال: لا يصير مجروحًا، لأن ما جرى منه لم يخرم عدالته، بدليل قبول شهادته في سائر القضايا سوى هذا، وهذا مما لم يختلف فيه المحققون، لكن شهادته [فيه] مردودة، لانعدام الدعوى. ثم قال: وهذا هو القياس الذي لا يعارض فيه. ومنهم من قال: يصير مجروحًا في تلك القضية، لأن ابتداره إلى إقامة الشهادة قبل أن يستدعى يشعر بقيام غرض له في نفسه حمله على ذلك، والشهادة قد ترد بالتهم. ثم لا يمتنع التبعيض في الجرح والعدالة، بدليل أن الفاسق إذا ردت شهادته، ثم تاب، وظهرت عدالته، واستقامت حاله- فشهادته في سائر الخصومات مقبولة. ولو أعاد الشهادة المردودة، لم تقبل، وبهذا يتحصل في المسألة طريقان: فإن قلنا: إنه يصير مجروحًا، فقد تقدم الكلام في اعتبار توبته واستبرائه، وتقدم الوعد بأنا نذكر أنه إذا أعاد تلك الشهادة بعد الدعوى هل تقبل أم لا؟ وقد حكى الإمام في كتاب الإقرار في ذلك وجهين ينبنيان على أنه هل يصير مجروحًا، أم لا؟ فإن قلنا: يصير مجروحًا، لم تقبل، كما لا تقبل شهادة الفاسق المعادة بعد التوبة، وهذا أثر الجرح، ولا فرق على هذا بين أن يطول الزمان أو يقصر.

وإن قلنا: لا يصير مجروحًا، قبلت، وهذا ما ذكره شيخي. وذكر القاضي: أنا إذا قلنا بعدم القبول، فهذا الرد لا يتأبد، كشهادة الفاسق، بل إذا استبرأه القاضي مدة، وظهر عنده انتفاء التهمة قبل شهادته، وهذا أقيس وأحسن. وقد [جمع] الغزالي في ((الوسيط)) ذلك في كتاب القسامة، وقال: إذا أعادها هل تقبل؟ فيه ثلاثة أوجه- وهي في ((النهاية)) فيه أيضًا-: ثالثها: إن أعادها بعد التوبة عما جرى، ويذكر أنه لا يعاود مثله، ولا يبادر للشهادة، واستبرأه كما قاله الإمام فيه- قبلت، إلا فلا. قال الإمام: والفرق بينه وبين الفاسق أن الفاسق إذا ردت شهادته تلحقه غضاضة تبلغ به الأنفة, وقد يتهم في إعادة تلك الشهادة، وهذا لا غضاضة عليه. وما حكيناه عن القاضي يقرب منه ما في ((التهذيب)) هنا، فإنه قال: إن قلنا: إنه يصير مجروحًا، فلا تقبل إذا أعادها في ذلك المجلس، وتقبل في غيره، لأنه لا يلحقه بعدم القبول عار يكون متهمًا في الإعادة. وإن قلنا: لا يصير مجروحًا، قبلت إذا أعادها في ذلك المجلس، وفي غيره. فرع: شهادة المختفي [مسموعة عندنا] على المشهور، ولا تكون من قبيل الحرص على الشهادة، وصورتها: أن يختفي في موضع يحضره متنازعان في حق، ومن هو عليه ينكره في الظاهر، ويقر به في الباطن، فإذا سمعه شهد عليه. وحكى الفوراني والقاضي الحسين قولًا للشافعي في القديم: أن شهادته لا تقبل مطلقًا كمذهب مالك، وعليه يخرج ما حكاه في ((الزاوئد)) عن رواية الطبري عن أبي إسحاق أنه قال: لا يجوز أن يشهد على شخص بما لم يشهده على نفسه، كما لا يجوز أن يتحمل الشهادة عنه، وسوى في ذلك بين أن يقر بين يديه بدين، أو عين، أو يراه يعقد عقد بيع، أو إجارة، وسمع كلامه، أو يراه [و] قد قتل شخصًا، أو جرحه، أو أتلف عليه مالًا. والمحكي عن أبي إسحاق: اشتراط ذلك في الشهادة على الإقرار، والسكوت

عما عداه، وعليه جرى في ((المهذب)). فعلى الأول- وهو المذهب- قال الأصحاب: يستحب أن يخبر الخصم بأنه شهد عليه قبل الأداء حتى لا يبادر إلى تكذيبه إذا شهد، فيعزره القاضي. ولو أحضره رجلان حسابهما، وقالا: لا تتحمل ما تسمعه منا، فسمع منهما شيئًا، صار متحملًا له، ووجب عليه الأداء عند الطلب. قال ابن أبي أحمد: ولو ترك الدخول في الشهادة على مثل هذا المعنى، كان أحب إلي. ولو قال الشاهد للمقر: أشهد عليك بذلك، فقال: لا، ففي بطلان شهادته عليه بالإقرار وجهان في ((الحاوي)) في باب الشهادة على الشهادة. وعلى الثاني: يكفيه في صحة التحمل أن يقول للمقر: أشهد [عليك بذلك؟ فيقول: اشهد علي بذلك، أو قال: نعم. ولو قال: اشهد]، فثلاثة أوجه حكاها الماوردي في الشهادة على الشهادة: ثالثها: إن قال: اشهد علي كفى، دون ما إذا قال: اشهد. ويجب عليه عند أداء الشهادة على الإقرار أن يقول: وقد أشهدني بذلك، وعند أداء الشهادة في غيره- كالشهادة على ثمن في بيع حضره، أو قرض أقرضه، ونحو ذلك- يجب أن يذكر السبب، كذا قاله في ((البحر)) في الفروع قبل كتاب الشهادات، وهو في ((الحاوي)) في باب ما على القاضي في الخصوم. وفي ((البحر)) قبل باب الشهادة على الشهادة: أن صاحب ((الحاوي)) قال: عند الشافعي يجوز تحمل الشهادة على المختبئ إلا أن يكون في غفلة تنفذ عليه الحيلة والخداع، فلا يجوز حينئذ التحمل حتى يراه المقر، أو يعلم به. قال الروياني: وهذا أصح عندي. وحكى عنه أنه قال بعد حكاية وجهين في الحاجة إلى الاسترعاء في الإقرار: والأصح عندي من إطلاق الوجهين أن يعتبر حال الإقرار، فإن اقترن به قول أو أمارة تدل على الوجوب، استغنى به عن الاسترعاء، فالقول: أن يقول له: علي ألف درهم بحق واجب، والأمارة: أن يحضر المقر عند الشاهد ليشهده على نفسه، فيعلم بشاهد الحال أنه إقرار بواجب.

[و] إن تجرد الإقرار عما يدل على الوجوب من قول أو أمارة، افتقر إلى الاسترعاء، ولم يصح تحمل الشهادة به على إطلاقه. قال: ومن كانت عنده شهادة في حد من حدود الله تعالى، فإن رأى المصلحة في الشهادة، أي: مثل أن يكون مرتكب الجريمة غير نادم عليها، أو في سترها عليه إغراء للغير بالفاحشة، ونحو ذلك. قال: شهد، رعاية للمصلحة، فلو توقف عن الشهادة والحالة هذه، قال الماوردي في باب ما يجب على المرء من القيام بالشهادة-: كان مكروهًا، وليس بمعصية. وتبعه في ((البحر)). قال: وإن رأى المصلحة في الستر- أي: مثل أن لم تظهر تلك الفاحشة، ورأى مرتكبها قد ندم- استحب [له] ألا يشهد، لقوله عليه السلام: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم))، كما أخرجه أبو داود والنسائي.

وخرجا- أيضًا – عن زيد بن نعيم عن أبيه: أن ماعزًا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأقر عنده أربع مرات، فأمر برجمه، وقال لهزال: ((لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك)). وسبب ذلك أن مالكًا أبا ماعز أوصى إلى هزال بابنه ماعز، وكان في حجره يكلفه فوقع ماعز على فاطمة جارية هزال، فحث على الإقرار بذلك. وهزال: بفتح الهاء وتشديد الزاي، وفتحها، بعد الألف لام. وقد تقدم في باب حد السرقة حكاية وجه: أنه لا يسمع فيها شهادة الحسبة، بناء على شائبة حق الآدمي، كما لأجلها قطع المهادن على قول. و [قد] أطلق القاضي الحسين والرافعي في باب حد الزنى حكاية وجهين في استحباب كتمان شهادة الشهود في حدود الله تعالى، وأن أصحها المنع كي لا يتعطل. وقال الماوردي: إن ما ذكرنا مفروض فيما إذا لم يتعلق بترك الشهادة إيجاب حد على غير مرتكب الجريمة، فإن تعلق به كمن شهد عليه ثلاثة بالزنى، فلم تكمل شهادتهم، وجب على الرابع الأداء، وأثم بالتوقف. وتبعه في ((البحر)). وهذا ما يتعلق بحق الله تعالى في الحدود، وأما حقه في غير الحدود، فتسمع الشهادة فيه من غير دعوى ولا استشهاد، كما ذكرنا أن قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((ألا أخبركم

بخير الشهود ....))، وعنه احترز الشيخ بقوله: ((ومن كانت عنده شهادة لآدمي))، والأصحاب يعبرون عن هذا بشهادة الحسبة، وعدوا من ذلك الشهادة على أرباب الأموال بالزكوات دون الشهادة على المستحقين بقبضها، وكذا الشهادة بالوصية للفقراء غير المحصورين، حتى قالوا: يسمع في ذلك [شهادة] اثنين من الفقراء، لأنهما لا يتعينان للصرف، فإن القاضي يجوز أن يحرمهما، كذا قاله القاضي الحسين في باب الشهادة بالوصية، وقد حكيناه من قبل عن ((التهذيب)) و ((الكافي)). ولو كان الفقراء محصورين لم تسمع. ومن ذلك الطلاق البائن منه والرجعي، وكذا الخلع ليثبت المال، كما نقله الإمام، وأبدى فيه احتمالًا سنذكره. وأطلق البغوي القول بمنع شهادة الحسبة فيه. ومن ذلك بقاء العدة وانقضاؤها، والبلوغ، والإسلام، والردة، والإحصان، والتعديل، والاستيلاد، والعتق، سواء فيه العبد والأمة. وفي ((الرافعي)) أن في ((الفتاوى)) أن الشهادة بالعتق إنما تسمع عند الحاجة. ومن ذلك الرضاع. قال الرافعي: وفي ((الفتاوى)): أن الشهادة إنما تسمع به إذا [كان] بينهما نكاح، أو أراد التناكح، فلو لم يقل الشاهدان ذلك لم تسمع. وكذا لو قامت بينة بالطلاق البائن، ثم شهد اثنان بأن بينهما رضاعًا، لم تسمع. وفي الشهادة بالتدبير وجهان في ((تعليق)) القاضي الحسين، و ((تعليق)) العتق ملحق به. وشراء القريب حكى الغزالي فيه وجهين، وتبعه الرافعي. وقال القاضي الحسين في ((التعليق)) في باب الشهادة بالوصية: الظاهر من المذهب: أنها لا تقبل، لأنهم يثبتون الملك أولًا، ثم العتق يترتب عليه. ويحتمل أن يقال: تسمع. وفي ((النهاية)) حكاية الجزم عن القاضي بعدم القبول، ثم قال: وفي القلب منه

شيء، وليس يبعد أن نقول: تثبت بشهادة الحسبة، لكن الأوجه ما ذكره القاضي، فإن العوض ركن في البيع، فلو أثبتناه لأثبتنا العوض من غير دعوى، ولو أثبتنا العتق من غير مال، لكان هذا إجحافًا، وليس كالخلع، فإن العوض ليس مقصودًا، ولست ابعد في الخلع ثبوت المال تبعًا حتى لا يتعطل حق الزوج بالكلية، ولا أبعد أن يثبت الطلاق، ولا تثبت البينونة، كما لو خالع [الرجل] محجوزًا عليها بالسفه. والعفو عن القصاص أطلق القاضي الحسين وغيره فيه السماع. وعن القاضي أبي سعد الهروي حكاية وجه آخر: أنها لا تسمع فيه لأن ترك القاتل الدعوى مع الحرص على الحياة يورث التهمة في شهادتهم. والوقف على الجهات العامة تسمع فيه شهادة الحسبة. وعلى المعين قال في ((الوسيط)): الصحيح أنها لا تسمع، وهو قول الصيدلاني، كما قال الرافعي، وبه قطع الروياني في ((جمع الجوامع)). وفي ((تعليق)) القاضي الحسين: أنا إن قلنا: لا يثبت بالشاهد واليمين سمعت فيه شهادة الحسبة كالعتق. وإن قلنا: لا يثبت بالشاهد واليمين سمعت فيه شهادة الحسبة كالعتق. وإن قلنا: يثبت بهما، فلا، وهذا يقتضي إجراء خلاف في السماع على قولنا: إن الملك لله تعالى، والقطع بالمنع إذا قلنا: إنه للآدمي، وهو موافق لما في ((الوسيط))، لأن الصحيح- كما تقدم- أنه يثبت بالشاهد واليمين، وإن قلنا: إن الملك لله تعالى. وفي ((النهاية)): أن الصيدلاني قطع بالسماع إذا قلنا: إن الملك لله تعالى، وأن الذي ذهب إليه معظم الأصحاب خلاف ذلك، فإن الغالب على هذا الوقف حظوظ خاصة متعلقة بأشخاص، وهذا موافق لقول القاضي. والشهادة بالنسب لا تسمع عند القاضي قبل الدعوى، وبه أجاب في ((الوسيط)) في الباب الثالث عند الكلام في الشهادة على المرأة المنقبة. وعن الصيدلاني فيما إذا شهد شاهدان بأن هذه المرأة ولدت هذا الولد على فراش هذا لستة أشهر، والزوج يقول: أتت به لأقل من ستة أشهر- السماع. قال الإمام: وهو مخالف لما ذكره القاضي، فحصل في المسألة تردد، والمسألة

ولا تسمع شهادة الحسبة على الكتابة، ولا على أداء النجم الأخير منها. قود يقال بالسماع، بناء على أنه لا يقبل في [أداء] النجم الأخير [إلا] شاهدان. ولا تسمع على وجود الصفة التي علق عليها العتق. نعم: يجب أن يشهد من شاهد أداء النجوم ووجود [الصفة، لأجل] ما شاهده بالعتق حسبة، قاله القاضي الحسين. قال: [ولو] شهدوا بأن هذه الدار للمسجد الجامع، أو شهدوا بأن هذه الأرض ملك لهذا الرجل، فأقر ملك للمسجد الجامع، أو بأن للمسجد الجامع في ذمته شيئًا- هل تسمع هذه الشهادة أم لا؟ فيه جوابان، بناء على أنه [إذا] أقر للحمل بمال مطلقًا، هل تقبل؟ وفيه قولان، ووجه الشبه: أنه لا يتصور المعاملة بينه وبين الحمل، كما لا يتصور أن يعامل المسجد. وكذا الخلاف فيما لو اقر بأن هذه [الدار] التي في يدي للمسجد. قلت: وما ذكره من جريان الجوابين في حالة قول الشاهدين: نشهد بأن هذه الدار ملك [لهذا] الرجل، فأقر بأنها ملك للمسجد- نظر، لأن كونها ملكه يمنع صحة [إقراره بها للمطلق] التصرف، فيكف للمسجد؟! فرع: ما تسمع فيه شهادة الحسبة، هل تسمع فيه دعوى الحسبة؟ فيه وجهان ذكرناهما في أول باب الدعاوى، والمنع منسوب إلى القفال، ومقابله للقاضي الحسين، ولعله في غير حدود الله تعالى. أما في الحدود فقد قال ابن الصباغ وغيره في باب النكون ورد اليمين-: إنه لا تسمع فيها الدعوى إذا لم يتعلق للآدمي بها حق، لأنه يستحب سترها. وقد يقال: إن هذا التعليل يرشد إلى أن محل المنع، إذا كان الستر مستحبًا، أما إذا كان غير مستحب، وهو في الحالة التي تكون المصلحة في الشهادة عليه [بها] كما تقدم، فتسمع، والله أعلم.

قال: ومن شهد بالنكاح ذكر شروطه، أي: الذي تقدم ذكرها في الدعوى، إذا قلنا: إن ذكر الشروط واجب في الدعوى، لأن الناس مختلفون في ذلك، فقد يكون الشاهد لا يعتقد شيئًا شرطًا، فيجزم بالشهادة، بناء على اعتقاده، والقاضي يعتقد خلافه، فوجب البيان، لأجل ذلك، وعظم خطر النكاح. [أما] إذا قلنا: لا يشترط ذكر الشروط في الدعوى، ففي ((النهاية)): أنه لا يحتاج إلى ذكرها في الشهادة- أيضًا- لأن الشهادة تبين الدعوى، فكانت على حسبها، كذا قاله في كتاب الدعاوى. وعلى الأول هل يحتاج إلى ذكر الشروط في الشهادة على الإقرار بالنكاح؟ فيه وجهان. قال: ومن شهد بالرضاع، شهد أنه ارتضع [من ثديها]، أو من لبن حلب منها، وذكر عدد الرضاع، ووقته، لاختلاف الناس في ذلك، فإن منهم من [يرى أن إيجار الصبي اللبن لا يحرم، ومنهم من يرى أن القليل يحرم ومنهم من] يرى أن وقوعه بعد الحولين يؤثر، فوجب ذكر صوره الحال، ليعلم القاضي فيه باجتهاده. قال القاضي أبو الطيب: ويحتاج أن يقول: إنه ارتضع منها، أو أرضعته في الحولين، خمس رضعات متفرقات، في خمسة أوقات مختلفة. قال ابن الصباغ: وفي قوله: ((متفرقات)) كفاية عن ذلك. وقال الرافعي: إن في قوله: ((خمس رضعات)) كفاية عن ذكر التفرق، فإنه إذا لم يكن تفريق، لم يكن الحاصل رضعات بل رضعة طويلة. وما قاله فيه نظر، لأن المأخذ في الاشتراط- كما ذكرنا-[كون ذلك] مختلفًا فيه، والناس قد اختلفوا فيما لو انتقل من ثدي امرأة إلى ثدي أخرى في وقت واحد، هل ذلك رضعة، أو أكثر؟ وذكر التفريق ينفي هذا الاحتمال، فلذلك احتيج إليه. وهل يشترط ذكر وصول اللبن إلى الجوف؟ فيه وجهان ادعى الإمام أنهما

مأخوذان من فحوى كلام الأئمة: أحدهما: أنه لا يشترط، لأنه لا يشاهد، وهذا ما اقتضاه كلام الشيخ، وهو الذي يقتضي كلام الإمام ترجيحه. وأظهرهما عند المتولي وغيره: الاشتراط، وبه قال الصيدلاني، وجزم ابن الصباغ وغيره، قياسًا على اشتراط ذكر الإيلاج في الشهادة بالزنى، وهكذا ظاهر النص في ((المختصر))، فإنه قال: وتوقف حتى تشهد أنه رضع المولود خمس رضعات كلهن إلى جوفه. وعلى الأول لو استراب القاضي وجوز أن يكون الإرضاع غير مفض إلى وصول اللبن إلى الجوف المعتبر- فله أن يستفصل بلا خلاف. نعم لو مات الشاهد قبل الاستفصال، فهل يجوز التوقف؟ قال الإمام: هذا هو الذي يظهر فيه تردد الأصحاب. قلت: ويشهد لهذا التردد ما حكاه ابن أبي الدم: أن الشاهد إذا شهد بحق، وسأله الحاكم [عن] مستند شهادته، وكيفيتها، وهل يعرف المشهود عليه عينًا، أو اسمًا، أو نسبًا، أو يعرف مجموع ذلك، لكونه غير فقيه، أو توهم من الفقيه غفلة دلت عليها قرينة حاله، وارتاب الحاكم في ذلك، يجب على الشاهد تفصيل ما سأل عنه، فإن امتنع مع جهله توقف الحاكم في الإمضاء بشهادته، فلو مات الشاهد قبل التفصيل هل يتوقف؟ فيه خلاف، وسنذكر في الإقرار- إن شاء الله تعالى- تفصيلًا لم يذكره ابن أبي الدم هنا. وهذا الذي ذكره الشيخ من التعرض لما ذكرناه لم يختلف الأصحاب فيه من العراقيين والمروازة، إذا وقعت الشهادة على فعل الرضاع، وقد صرح به الفوراني [وغيره]. أما إذا وقعت الشهادة بأن بينهما حرمة الرضاع، فقد قال ابن الصباغ: إن الحاكم لا يسمع هذه الشهادة، لما ذكرناه، بل لابد من ذكر الشرائط أيضًا.

وقال الفوراني وغيره: إنه لا يحتاج إلى ذكر الشرائط. ولأجل ذلك قال الرافعي: قد أطلق جماعة- منهم الإمام- أن الشهادة المطلقة على أن بينهما رضاعًا محرمًا، أو حرمة الرضاع، أو أخوته، أو بنوته- مقبولة، ويؤكده قول الغزالي: ((ثم يشهد على البت: أن بينهما رضاعًا محرمًا)). لكن الأكثرون على أنه لابد من التفصيل والتعرض للشرائط، وهو ظاهر النص. وحكى في ((التهذيب)) الوجهين معًا، وقال: إن الصحيح اشتراط التفصيل. قال الرافعي: ويحسن أن يقال: إن كان المطلق فقيهًا موثوقًا بمعرفته، فيقبل منه الإطلاق، وإلا فلابد من التفصيل، وينزل الكلامان على هاتين الحالتين، أو يخص الخلاف بما إذا لم يكن المطلق فقيهًا، وقد سبق مثله في الإخبار عن نجاسة الماء وغيره. قلت: إن أراد بالفقيه فقهًا يوافق مذهبه مذهب القاضي في الرضاع فهو قريب، وقد ذكرنا مثله وجهًا ثالثًا فيما إذا شهد الشاهد بأن فلانًا يستحق على فلان كذا. وإن أراد مطلق فقيه كيف كان، فلا يحسن التفصيل، لأن مادة الاشتراط اختلاف الناس في شرائطه، فقد يكون الفقيه والقاضي مختلفين فيها، فلا يحصل المقصود. وإذا قلنا بما ذهب إليه الأكثرون فهل تسمع الشهادة على الإقرار بالرضاع مطلقة؟ فيه وجهان حكاهما المتولي وغيره. ولو قال: هي أختي من الرضاع، فعن ((البحر)) وغيره: أنه لا حاجة إلى التعرض للشرائط إن كان من أهل الفقه، وإلا فوجهان. وفرق بين الإقرار والشهادة بأن المقر يحتاط لنفسه، فلا يقر إلا عن تحقيق. واعلم أنا إذا اشترطنا ذكر وصول اللبن إلى الجوف- كما هو ظاهر النص- فالشاهد قد يتيقين ذلك بأن يعاين الحلب وإيجار الصبي المحلوب وازدراده، وحينئذ يشهد به، ولا إشكال، وقد يشاهد القرائن الدالة عليه، وهي التقام الثدي من غير حائل- كما قاله المتولي- وامتصاصها، وحركة الحلق بالتجرع وبالازدراد بعد العلم بأنها ذات لبن، ومشاهدة هذه القرائن قد يفيد اليقين، فيشهد إذ ذاك به، وقد لا يفيده فيفيد الظن القوي، وذلك يجوز الشهادة- أيضًا- كما نقول في الشهادة بالملك المطلق، بناء على التصرف واليد والتسامع. نعم: لو شاهد التقام الثدي والامتصاص، وهيئة الازدراد، ولم يعرف أن المرأة

ذات لبن- هل يحل له أن يشهد؟ فيه وجهان عن رواية أبي الفرج السرخسي، وأشبههما: المنع، لأن الأصل عدم اللبن. ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يشهد على الرضاع مستندًا إلى رؤية أخذ المرأة الصبي وجعله تحت ثيابها، وأدنته منها، كما يفعل المراضع وإن سمع صوت الامتصاص، لأنه قد يمص أصبعه، قاله المتولي. ولو حكى الشاهد صورة الحال المسموعة له، للجزم بالشهادة ولم يجزم بها، لم يترتب على حكايته حكم، إن كنا نعلم أنه لا مستند للشاهد سوى ذلك، لأن معاينة الأحوال تفيد ما لا يمكن أن يعبر عنه، فإذا جزم الشهادة دل على أثرها في الظن، بخلاف ما إذا ذكر الحال من غير جزم. قال: ومن شهد بالقتل ذكر صفة القتل، لما ذكرناه في الدعوى [به]. قال: فإن قال: ضربه بالسيف، فمات، لم يحكم به، لأنه ليس كل مضروب بالسيف ينجرح به، وإن انجرح احتمل أن يموت بسبب آخر. قال: حتى يقول: فمات منه، أو يقول: ضربه بالسيف فقتله، لأنه حينئذ ينتفي الاحتمال المذكور. وفي ((النهاية)): أن في طريق العراق ما يدل على أنه إذا قال: ضربه بالسيف فمات، أن القتل يثبت، وقد أقام [في] ((الوسيط)) ذلك وجهًا. قال الإمام: وهذا إن لم يكن خلل من النسخة فهو خلل منهم ظاهر غير معتد به. قال الرافعي: ويدل على الاختلاف أنك لا تجد في طريق [العراق] ذكر هذا الوجه. ولو قال: ضربه بالسيف، فأنهر الدم، ومات مكانه- ثبت القتل، نص عليه في ((المختصر)). قال الماوردي: فلو ادعى الجاني: أنه مات بسبب آخر ليس له تحليف الولي.

قال الشيخ أبو حامد: وهذا بخلاف ما لو قال: ضربه بالسيف، فسال دمه، ومات مكانه، فإنه لا يثبت القتل. والفرق: أن إنهار الدم سبب ظاهر في الإفضاء إلى الموت، بخلاف السيلان. قال الرافعي: وفي لفظ الإمام ما يشعر بالنزاع فيما إذا قال: ضربه بالسيف، فأنهر الدم، ومات مكانه، [فإنه قال: لو ضربه بالسيف، وأنهر دمه، ومات مكانه] بتلك [الجراحة]، ثبت القتل، فاعتر أن يقول: ((بتلك الجراحة)). ويقوي النزاع أنه قال: الشاهد يعرف حصول القتل بقرائن يشاهدها تفيده العلم، فإذا حصل شهد به، فإن لم ير إلا الجراحة، وإنهار الدم، واتصال الموت به، فهذا عندي بمثابة الشهادة على الملك، تعويلًا على اليد، [بل الوجه عندي- وإن كانت مسألة الجرح في الصورة كمسألة اليد]- ألا يتحمل الشهادة على القتل، فإن معاينة القتل ممكنة، وتلقي العلم من قرائن الأحوال ليس يقينًا، والأملاك لا مستند لها، يعني: وغاية المتعلق بها مخايل علامات، على أن الرأي الظاهر: أن مجرد اليد لا يسلط على الشهادة بالملك ما لم ينضم إليها تصرف الملاك. ولو قال: ضربه بالسيف، فأنهر دمه، ولم يشهد بموته، قال الماوردي: نظر [في موته]: فإن كان بعد زمان لا يجوز أن تندمل فيه الجراحة، حكم على الجارح بالقتل، فإن ادعى أنه مات من غيرها، فله تحليف الولي. وإن كان موته بعدها بزمان يجوز أن تندمل فيه الجراحة، حكم عليه بالجراحة، ولم يحكم عليه بالقتل، حتى يقيم وليه البينة: أنه لم يزل ضمنًا مريضًا حتى مات [فيحكم عليه حينئذ بالقتل. قال القاضي أبو الطيب وغيره: ولو ادعى الجاني في هذه الحالة أنه مات] بسبب آخر، حلف الولي مع شهادتهما: أنه مات منها، لأنه الشهود شهدوا على الألم، ولم يشهدوا على الموت منه فيمينه لا تنافي شهادتهما، لجواز أن يكون ما ادعاه صحيحًا.

وهكذا الحكم- كما قال القاضي أبو الطيب وغيره- في الشهادة على ما دون النفس إذا قال: أشهد أنه ضربه بالسيف على رأسه عمدًا، واتضح أو فاتضح، أو قال: وجدناه متضحًا- لم تسمع، لأنه يجوز أن يكون ضربه ووجده متضحًا من شيء آخر، بل إنما تسمع إذا قال ضربه بالسيف فأوضحه، أو فاتضح من ضربه، أو وجدناه متضحًا من ضربه، وحينئذٍ يقال للشاهد: عين الموضع المتضح، وبين الطول والعرض، فإن بين ذلك مع آخر، ثبت القصاص، أو الدية عند تعذر القصاص. وإن لم يعيناها، نظر: فإن لم يكن على رأسه غير موضحة واحدة، فالحكم كما لو عينا، قاله الماوردي. وفي ((الرافعي)): أنه لا يثبت القصاص في هذه الحالة، لاحتمال أنه كانت على رأسه موضحة صغيرة، ووسعها، وإنما يجب القصاص إذا قالوا: أوضح هذه الموضحة. وحكى في إيجاب الأرش وجهين. وإن كان في رأسه موضحة أخرى فأكثر، حكم للمجني عليه بالدية دون القصاص، أي: إذا عجز الشاهدان عن تعيينها، قاله الماوردي، وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب وغيره، واختار الشيخ أبو محمد، وصححه الرافعي، وحكى وجهًا آخر: أنه لا يجب، وهو ما أورده الفوراني وحكاه الإمام عن اختيار القاضي الحسين، لأن هذه الجراحة لو ثبتت صفتها لوجب القصاص، وقد تعذر إثبات القصاص، فلا تثبت الجناية أصلًا، كما لو شهد رجل وامرأتان على موضحة لا يثبت الأرش كما لا يثبت القصاص. والقائلون بالأول فرقوا بأن القصاص إنما لم يثبت، لتعذر رعاية المماثلة- فإن المحل مقصود فيها- لا لنقص في البينة، فإن الشاهد بها رجال، بخلاف صورة الاستشهاد. وقد أيد بنص الشافعي في ((الأم)) على أنه لو شهد شاهدان أن فلانًا قطع يد فلان، ولم يعينا، والمشهود له مقطوع اليدين- لا يجب القصاص، وتجب الدية.

قال الرافعي: ولو كان مقطوع يد واحدة- والصورة هذه- فهل تنزل شهادتهم على ما تشاهد مقطوعة، أو يشترط تنصيصهم؟ يجوز أن يقدر فيه خلاف، والذي حكاه الماوردي الأول. وقد اعتبر القاضي الحسين، وتبعه الإمام والغزالي في شهادة بالموضحة التعرض لوضوح العظم، [من حيث إن لفظ ((الموضحة)) مأخوذ من ((الإيضاح))، وليس فيها تعرض لإيضاح العظم]، والمطلوب إثبات العظم، وتنزيل لفظ الشاهد على الألقاب التي اصطلح عليها الفقهاء لا وجه له. نعم، قد يخطر للفطن في هذا المقام: أن الشاهد لو كان فقيهًا وقد علم القاضي منه ذلك، وتبين له أنه لا يطلق الموضحة إلا على ما يوضح العظم فهذا موضع التردد، فيجوز أن يكتفي به، لفهم المقصود، ويجوز أن يقال: لابد من كشف الأمر لفظًا، فإن للشرع تعبدات في ألفاظ الشهادات وإن كان العلم قد يحصل بغيرها. قال: وإن شهد بالزنى- ذكر الزاني- أي: من رجل وامرأة- لاحتمال أن يكون قد جهل إباحة أحدهما للآخر، لزوجية، أو ملك، فأقدم على الشهادة بذلك، أو رآه يطأ جارية ابنه، أو جارية مشتركة بينه وبين غيره، فظن أن ذلك مما يوجب الحد عليهما. قال: وكيف زنى بها، لأنه ربما رآه قد وطئ فيما دون الفرج، أو عانق، أو قبل، أو لمس باليد، أو نظر بالعين، فاعتقد ذلك زنى يوجب الحد، لأنه روى أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: ((العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والفرج يصدق ذلك ويكذبه))، وقد شهد لاعتبار ذكر كيفية الزنى قصة المغيرة، فيحتاج الشاهد به أن يقول: أدخل ذكره، أو غيب حشفته في فرجها، فإن قال مع ذلك: مثل المردود في المكحلة، والخاتم في الإصبع أو الفم، أو الرشاء في البئر- كان آكد، كذا قاله القاضي أبو الطيب. وقال القاضي الحسين في باب حد الزنى: وقد قيل: إن [ذكر] التشبيه بما ذكرناه واجب، لأنه لما غلظ بالعدد غلظ بالتشبيه، ليكون أبلغ، فلو ترك ذلك لم يجب الحد، وهذا ظاهر نصه في ((المختصر))، فإنه قال: ولا يجوز على الزنى

واللواط، وإتيان البائهم إلا أربعة يقولون: رأينا ذلك منه يدخل في ذلك منها دخول المردود في المكحلة، ويعضده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لماعز حين قال: جامعتها: ((أولجت ذكرك في فرجها كالمرود في المكحلة، والرشاء في البئر؟)) قال: نعم، فأمر برجمه. وإذا كان هذا في الإقرار ففي الشهادة أولى، لأن الشهادة بينة من غيره. قال: وفي أي موضع زنى [بها]، لأن الشهود ربما اختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: في هذه الزاوية، وقال الآخر: في زاوية أخرى، فيسقط الحد، ومن هنا نأخذ أنه يذكر في أي وقت زنى، وقد اعتبره القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، وجعلوا ما يصرح به شاهد الزنى أربعة أشياء، هي ما ذكره الشيخ مع هذه، والشيخ في اقتصاره على الثلاثة متبع للشيخ أبي حامد، فإنه لم يذكر سواها كما حكاه في ((البحر)). وحكى الماوردي ذلك لا عنه، ثم قال: وعلى قياس سؤالهم عن المكان يجب سؤالهم عن زمانه، وليس إطلاق هذا القول عندي صحيح، والواجب أن ينظر: فإن صرح بعض الشهود بذكر الزمان والمكان، وجب سؤال الباقين عنه. وإن لم يصرح بعضهم به، لم يسألوا عنه، لأنه لو وجب سؤالهم عن المكان والزمان، لوجب سؤالهم عن ثيابه وثيابها، وعن لون المزني بها من بياض أو سواد، وعن سنها من صغر أو كبر، وعن قدها من طول أو قصر، لأن اختلافهم فيه موجب لاختلاف الشهادة، وهذا يؤدي إلى ما لا يتناهى، فهو غير معتبر في السؤال فكذلك في المكان والزمان. وفي ((البحر)) في الفروع المذكورة قبل كتاب الشهادات ما يقتضي شرطًا آخر في الشهادة بالزنى، وهو تقدم لفظة ((أشهد)) على قوله: ((إنه زنى))، فلو قدم لفظ الزنى على لفظه ((أشهد)) لم تسمع شهادته، لأنه يصير متهمًا في دفع حد القذف عن نفسه. قال: ويحتمل أن يقال: لا فرق بين تقديم قوله: ((أشهد)) وبين أن يقدم الزنى، ويعقبه بقوله: ((أشهد به))، لأن الكلمة واحدة عند الوصل، ولهذا قوله: ((لا إله إلا الله)) توحيد

وإن كان لو اقتصر على أوله يكون كفرًا، ويصح ((تعليق)) الأيمان بالصفة والاستثناء، ولا يقال: إنه متهم بوصل الصفة والاستثناء. قال: فإن لم يبين الشاهد ذلك سأله الحاكم [عنه]، أي: وجوبًا، كما صرح به [القاضي] أبو الطيب، فإن به يندفع المحذور من إقامة الحد، وتبرئة العرض. ولأن الحد يسقط بالشبهة فلا يجوز إيجابه بمطلق الشهادة، لاحتمال شبهة فيها. قال في ((البحر)): فإن لم يبينوا حدوا بالقذف، لأنهم قذفة، ولم يصرحوا بالشهادة حتى يندفع حكم القذف، نص عليه الشافعي في ((الأم)). وإن ذكروا ما ليس بزنى، قال الماوردي: فلا يحد المشهود [عليه]، وهل يحدون؟ ينظر: إن صرحوا في أول الشهادة بأنه زنى، حدوا قولًا واحدًا، [وإلا فلا يحدون قولًا واحدًا]. ولو فسر ثلاثة منهم الشهادة بما هو زنى، وفسر الرابع بما ليس بزنى، ففي حد الثلاثة القولان، والرابع إن قال في أول شهادته: إنه زنى حد قولًا واحدًا، وإلا فلا يحد قولًا واحدًا.؟ فرع: من شهد بالسرقة يحتاج في صحته شهادته أن يذكر جنس المال، وقدر النصاب، وصفة الحرز، وتسمية المسروق منه، كما قاله في ((التهذيب)). قال القاضي أبو الطيب: ويذكر: أنه لا يعلم [أن] فيه شبهة له. قال البن الصباغ: وينبغي أن يكون هذا تأكيدًا، لأن الأصل عدم الشبهة. قال القاضي الحسين: ويحتاج أن يقول: هذا بعينه سرق، لأن الظاهر من مذهب الشافعي أن البينة لا تسمع على الغائب في حدود الله تعالى، وهذا منه يفهمك أمرين: أحدهما: أن هذا مطرد في جميع الحدود. الثاني: أنه لو قال: فلان بن فلان الفلاني سرق، وكان حاضرًا مجلس الحكم

من غير أن يشير إليه، وعرفه القاضي بتلك النسبة- سمعت شهادته، لفقد العلة التي ذكرها، وسنذكر ما ينازع فيه. فوائد: أحداها: هل تسمع البينة بالمجهول، ثم يطالب الشاهد بالبيان كما يطالب المقر بالمجهول به، أم لا، لأنها مأخوذة من البيان؟ فيه وجهان في ((الشامل))، و ((المهذب)) في كتاب الإقرار، وجزم ابن الصباغ بقبول الشهادة على الإقرار بالمجهول. وقد حكيت عن القاضي الحسين في أوائل باب الدعاوى حكاية وجهين في سماع الشهادة على الإقرار بالمجهول، وبذلك يجتمع في المسألتين ثلاثة أوجه، ثالثها: تسمع على الإقرار بالمجهول، ولا تسمع بالشهادة بالمجهول. الفائدة الثانية: هل تسمع الشهادة على حاضر من غير إشارة إليه؟ قال أبو إسحاق المروزي: نعم. وهذا موافق لما أفهمه كلام القاضي الحسين الذي حكيته من قبل. وقال غيره من أصحابنا: لا، إذا أمكنت الإشارة إليه. صرح به القاضي أبو الطيب عند الكلام في شهادة الأعمى، وعلى هذا لا تسمع الشهادة على الحاضر بالسرقة من طريق الأولى. الفائدة الثالثة: يشترط في صحة الشهادة أن يأتي الشاهد بلفظة: ((أشهد)) عند الأداء، فلو قال: ((أعلم))، أو: ((أتحقق))، ونحو ذلك- لم يقم مقام قوله: ((أشهد)) على الأصح تعبدًا كما تعبدنا بالعدد، وهذا ما جزم به الماوردي في [باب] ما على القاضي [في] الخصوم، وصاحب ((البحر)) في الفروع المذكورة قبل كتاب الشهادات. وفي ((النهاية)) في كتاب الإقرار حكاية وجه أن ذلك يقوم مقام قوله: ((أشهد))، وضعفه. الفائدة الرابعة: يشترط أن يؤدي كل شاهد ما تحمله من الشهادة مصرحًا به في لفظه حتى لو شهد شهادة صحيحة، فقال الشاهد الآخر: أشهد بمثل ما

شهد به هذا الشاهد، لم تصح شهادته، قاله الماوردي في أوائل باب ما على القاضي في الخصوم. ووجهه بأنه موضع أداء، وليس موضع حكاية، وبهذا يظهر لك أنه لا فرق عنده بين أن يقول: (([أشهد] بمثل ذلك))، [أو] ((أشهد بذلك))، وإن كان العمل في وقتنا على الثاني. الفائدة الخامسة: يستحب للشاهد استئذان الحاكم قبل الأداء، ليصغى إليه، فإن الشهادة عنده وهو غافل لا أثر لها، وقد اعتبر أبو عاصم العبادي الاستئذان فقال: لو شهد قبل [الاستئذان لا يعتد بشهادته قال القاضي أبو سعد: ولا وجه له، نعم لو أقام الشاهد الشهادة] قبل الإذن من القاضي، وذكر أنه لم يسمع الشهادة، بل كان ذاهل العقل عنها، فتلك الشهادة باطلة. قال: وتجوز الشهادة [على الشهادة] في حقوق الآدميين، أي: التي لا تثبت إلا بشاهدين، أو بشاهد وامرأتين، أو بأربع نسوة، لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وقوله تعالى: {وَلَا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ...} [البقرة:282]، ولم يفرق بين أن تكون الشهادة أو غيرها من الحقوق، فهو على عمومة. ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك، فإن شهود الواقعة قد يغيبون، أو يموتون. ولأن الشهادة من حقوق الآدميين اللازمة للأداء، وحقوق الآدميين تثبت تارة بالإقرار، وتارة بالشهادة، والشهادة على الإقرار مقبولة، فكذلك على الشهادة. قال: وفي حدود الله تعالى قولان: أصحهما: أنه يجوز، لأنها من الحقوق التي تثبت بالشهادة، ويجب استيفاؤها إذ ذاك، فجاز أن تثبت بالشهادة على الشهادة كغيرها من الحقوق، وهذا ما [قال] البندنيجي والإمام: إنه أقيس. ومقابله: [أنه] لا يجوز، لأمرين: أحدهما: أنها تدرأ بالشبهات.

والثاني: أنه مندوب إلى سترها، لقوله- لقوله- عليه الصلاة والسلام-: ((من أصاب من هذه القاذورات شيئًا، فليستتر بستر الله، فإن من يبد لنا صفحته نقم عليه حد الله تعالى)). وإذا كان كذلك لم يكن بنا حاجة إلى سماع الشهادة فيها، وهذا ما صححه البغوي، والرافعي، والنواوي، واختاره في ((المرشد))، و [قد] قيل بطرده في القصاص وحد القذف، نظرًا إلى العلة الأولى، فإن هذه أيضًا تسقط بالشبهات، قاله الماوردي وغيره، ونسبه البغوي إلى تخريج ابن الحداد، وهو ضعيف باتفاق الكل، ومما استدل به على ضعفه: أن الشافعي نص- كما حكاه الإمام وغيره- على السماع في القصاص. واقتصر في ((الإشراف)) عل حكاية هذه الطريقة الضعيفة، فقال: في جواز الشهادة على الشهادة في العقوبات قولان، سواء كانت لله تعالى أو للآدميين. ولا يجري [القول] الثاني جزمًا- كما قاله ابن الصباغ- في الشهادة على الشهادة في استيفاء القاضي الحد، لأنها شهادة بحق آدمي، وهو [سقوط الحد عنه]. والقولان في الأصل جاريان في جواز كتاب القاضي إلى القاضي كما تقدم، وصرح به هنا القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم. وقال ابن القاص: إنهما جريان في الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي: أن يطرد الوجه المذكور في القصاص، وحد القذف في الشهادة على الشهادة في كتاب القاضي إلى القاضي، وقد صرح به الغزالي تبعًا لإمامه، وقال: على هذا لا معنى للدعوى على الغائب بالقصاص. وفيه نظر، لأنه قد يبغي إثباته، ليستوفي

منه عند حضوره، خشية من موت [شهود] الأصل أو غيبتهم. تبنيه: عدول الشيخ عن قوله: ((وفي حقوق الله تعالى قولان)) إلى ما ذكره يعرفك أنهما لا يجريان في حقوق الله تعالى المالية: كالزكاة، والكفارة، وكذلك الوقف على الجهات العامة، والمساجد، بل تجوز الشهادة على الشهادة فيها وجهًا واحدًا، كما صرح به غيره. فرع: هل يجب على شاهد الأصل أن يشهد على شهادته إذا طولب بذلك؟ أطلق الماوردي القول بعدم الوجوب، ووجهه بأن شاهد الأصل إن كان قادرًا على الأداء فالتحمل موجب لأدائها عند الحكام، إذ هو المقصود منه، وليس بموجب للإشهاد عليها، فلم يلزمه غير المقصود بتحملها. وإن كان عاجزًا عن الأداء فكما ذكرناه. ولأن الشهادة [على الشهادة] لا تسقط عنه فرض أدائها، فلم يلزمه بالتحمل فرضان. ولأن المقر لما لم يلزمه الإشهاد على إقراره، كان الشاهد بالتحمل أولى ألا يلزمه الإشهاد على شهادته. واختار لنفسه أن وجوب الإشهاد يعتبر بالحق المشهود به، فإن كان مما ينتقل إلى الأعقاب: كالوقف المؤبد، لزمه الإشهاد، وكذلك الإجارة المعقودة إلى مدة لا يعيش إلى انقضائها في الغالب بمثابة المنتقل في وجوب الإشهاد على شهادته، وكذلك الديون المؤجلة بالأجل البعيد. وقال في ((المرشد)): لا يجب على شاهد الأصل أن يشهد على شهادته إلا أن يخاف ضياع الحق المشهود به. وقال في ((الانتصار)): عندي أن يختلف باختلاف حال الشاهد، فإن كان في مرض مخوف، أو يريد الجهاد ونحو ذلك، وجب. وقال الشاشي: عندي أنه لو بنى هذا على وجوب الإشهاد على الحاكم فيما حكم به وكتبه المحضر، كان أشبه. قلت: وفيما ذكره نظر، لأنه جمع في كلامه بين الإشهاد على القاضي وكتبة

المحضر، والإشهاد على القاضي واجب بلا خلاف، والكتبة تقدم الخلاف [فيها]، فاقتضى كلامه أن يكون الإشهاد على شهادته واجبًا بلا خلاف في وجوبه خلاف، وهذا تناقض بين. ثم لو سلم من ذلك لما كان التشبيه بكتب المحضر مناسبًا أصلًا. وفي التشبيه بإشهاد القاضي نظر، لأن إشهاد القاضي يفيد أمرًا زائدًا على البينة، ولا كذلك الشهادة على الشهادة، والله أعلم. قال: ولا يجوز أن يتحمل الشهادة على الشهادة، أي: إذا سمع الشاهد شاهدًا يقول في سوق أو طريق، [ونحو ذلك]-: أشهد أن لفلان [على فلان] كذا- لم يجز أن يجعل مستنده في التحمل ذلك، لأنه يحتمل [أن يكون] قد تساهل بذلك، أو قاله وعدًا وعد به، فلا يكون حقًا واجبًا، فلم يجز أن يشهد عليه به، ومن طريق الأولى لا يجوز أن يتحمل عليه إذا سمعه [يقول]: لفلان [على فلان] كذا، من غير لفظ الشهادة. قال: إلا أن يسترعيه الشاهد بأن يقول: أشهد أن لفلان على فلان كذا، فاشهد على شهادتي بذلك، لأنه إذا قال ذلك انتفى الاحتمال المذكور. واعتبر في ((التهذيب)) أن يشهد عنده، وعليه ينطبق ما سنذكره عن الإمام.

[والاسترعاء]: هو قوله: ((فاشهد على شهادتي بذلك)). قال الإمام: وهو ((استفعال)) من ((الرعاية)). وقال النواوي: إنه مأخوذ من ((الرعية)) أو ((المراعاة))، كأنه يقول للمتحمل: أقبل على رعاية شهادتي، وتحملها. واعتبار نطق شاهد الأصل بلفظ الشهادة عند استرعاء شاهد الفرع مفرع على المذهب في أن لفظ الشهادة متعين في الأداء للحاكم كما تقدم. أما إذا قلنا: لا يتعين، ويقوم ما في معناه مقامه، فهو هنا أولى، وقد صرح به الإمام. وفي معنى ما ذكره الشيخ قول شاهد الأصل: إني شاهد بكذا، وأشهدتك على شهادتي، أو يقول: إذا استشهدت على شهادتي فقد أذنت لك في أن تشهد. قال البغوي حكاية عن القفال: وكذا لو قال: أشهدتك على شهادتي أن فلانًا أقر لفلان بكذا، أو قال: أشهد على شهادتي أن لفلان على فلان كذا- جاز. ولو قال: أشهد أن لفلان على فلان كذا، فاشهد أنت بها- لم يكن استرعاء، حكاه الماوردي وابن الصباغ عن نصفه في ((الأم)). وما ذكرناه من اعتبار الاسترعاء يخالف الإقرار حيث قلنا: إن المذهب الذي نص عليه الشافعي: أنه يجوز لمن سمع شخصًا يقر لآخر بحق أن يشهد عليه من غير استرعاء خلافًا لأبي إسحاق. وفرق الأصحاب بينهما فريقين: [أحدهما:] أن الشهادة على المقر شهادة على [عين] من عليه الحق، فإقراره بالحق يقتضي أن يكون عليه فإن لم يكن عليه، فهو المفرط، ومن عليه

الحق هنا لا تفريط من جهته، والشاهد قد يتساهل، فلا يكون تقصيره سببًا لإضرار غيره. والثاني: أن الإقرار إخبار، وشروط الشهادة أغلظ من شروط الخبر، ولذلك [يعتبر] رجوع الشاهد، ولا يعتبر رجوع المقر. وفي ((تعليق)) أبي الطيب و ((والشامل)) حكاية وجه [آخر]، نسبه الماوردي إلى البصريين: أنه لا يصح التحمل بقوله: ((فاشهد على شهادتي بذلك))، ما لم يقل: ((وعن شهادتي))، ليكون إذنًا له في التحمل بقوله في التحمل بقوله: ((على شهادتي))، [والأداء بقوله: ((وعن شهادتي)). والأصح في ((الشامل)) وغيره: الأول، وهو قول البغداديين. ونسب الفوراني ذلك الوجه إلى بعض العلماء، واقتصر على حكاية مقابله عن المذهب. قال: أو يسمع رجلًا يشهد عند الحاكم بحق، أو يسمع رجلًا يشهد على رجل بحق مضاف إلى سبب به الحق: كالبيع، والقرض، لأن ما ذكرناه من الاحتمال منتف هاهنا. وفي معنى الشهادة عند الحاكم الشهادة عند المحكم. قال في ((التهذيب)) - وتبعه الرافعي-: سواء جوزنا التحكيم، أو لم نجوزه، لأنه لا يشهد عند المحكم والقاضي إلا وهو جازم بالقول المشهود به. وعن الإصطخري: أنه إنما يتحمل عند سماع الشهادة عند المحكم إذا جوزنا التحكيم، وهو ما أورده في ((الإشراف)). ومن طريق الأولى جواز الشهادة للحاكم والمحكم على شهادة من شهد عنده إذا لم يتفق حكمه بذلك. وألحق ابن القاص بلك ما إذا سمع الشاهد يحمل شاهدًا يصح تحمله على شهادته، مسترعيًا له، فقال: يجوز للسامع التحمل، لأن القصد معرفة عدم التساهل، وهو حاصل هنا، وبهذا يكمل سبعة مواضع يجوز للشاهد أن يشهد فيها على الشهادة.

وفي ((الحاوي)): أن بعض أصحابنا البصريين قال: لا يتحمل في صورة الإقرار، مع ذرك سبب الشغل [إلا] بالاسترعاء، وقد حكاه الإمام عن الأكثرين، ورآه الأظهر. وروى الشيخ أبو حاتم القزويني وجهًا مثله في أنه لا يتحمل على ما رآه يشهد عند القاضي [إلا] بالاسترعاء. والمشهور الأول. قال القاضي الحسين: وكذا يجوز للشخص أن يتحمل الشهادة على القاضي إذا قال في [مجلس حكمه]: قضيت بذلك وإن لم يسترعه. قال: ولا تجوز الشهادة على الشهادة إلا أن يتعذر حضور شهود الأصل. وجه المنع في حالة عدم التعذر: أن الأقوى في باب الشهادة لا يترك مع إمكانه، كما تقدم دليله، وشهادة الأصل أقوى من شهادة الفرع، لوجهين: أحدهما: أنها تثبت نفس الحق، وشهادة الفرع إنما تثبت شهادة الأصل. والثاني: أن احتمال الخطأ والخلل يكثر في شهادة الفرع، ويخالف الوكالة، [حيث يجوز تصرف] الوكيل مع حضور الموكل، لأنه قد يعجز عن تحصيل مقصوده، بخلاف شاهد الأصل، فإنه قادر على تحصيل المقصود. ويفارق الرواية، لأن بابها أوسع، بدليل عدم اعتبار العدد فيها، وقبولها من العبد، والمرأة. ووجه الجواز عند التعذر: دعاء الحاجة إليه، وهو الذي لأجله سوغت الشهادة على الشهادة كما تقدم. قال: بالموت أو المرض، أي: الذي يجوز ترك الجمعة، لا ما يمنع الحضور، كما قاله الإمام، أو الغيبة إلى مسافة تقصر فيها الصلاة. أما حصول التعذر بالموت فظاهر، وهو الغاية القصوى، ولهذا قال الشعبي: إنه لا يسمع شهادة الفرع إلا عند موت شاهد الأصل. وحكى ابن يونس هذا المذهب عن المسعودي من أصحابنا، ولم أره في غيره. وأما حصوله بالمرض الذي وصفناه، وبالغيبة في المسافة المذكورة، فلأن الأصل لو طلب للأداء فيهما لم يجب عليه الحضور، وذلك موجب للتعذر، ومنه

يظهر لك أن خوف الأصل من سلطان جائر ونحوه، واتصافه بعذر يسوغ له ترك الجمعة [ملحق بذلك، كما صرح به الأصحاب]. قال الرافعي: وهذا في الأعذار الخاصة دون العامة التي تشمل الأصل والفرع: كالمطر، والوحل الشديد. قال الأصحاب: وتسمع شهادة الفرع إذا شهد بعجز شاهد الأصل عن الحضور، أو على قول الأصل: إن عاجز عن الحضور. واعلم أن ما ذكره الشيخ من اعتبار مسافة القصر ليس منقولًا عن الشافعي، فإنه لا نص له في المسألة كما قاله البندنيجي والروياني، وإنما هو من تخريج القاضي أبو الطيب من نص الشافعي على أن ولي المرأة إذا كان غائبًا فيما دون ما تقصر فيه الصلاة، لم يجز لأحد تزويجها، وإن كان في موضع مسيرته أكثر مما تقصر فيه الصلاة، [جاز] للحاكم تزويجها، وقد حكاه القاضي الحسين وغيره [من المراوزة] وجهًا، حيث قالوا: إن كانت الغيبة في مسافة القصر سمعت شهادة الفرع. ولفظه في ((الوجيز)): فوق مسافة القصر. قال الرافعي: ولا حاجة إلى لفظة: ((فوق))، بل المعتبر مسافة القصر فما فوقها. قلت: والغزالي في لك متبع للشافعي كما دل عليه النص السابق في غيبة الولي، ومراده مسافة القصر، قال الله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال:12]، أي: اضربوا الأعناق، وقال تعال: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء:11]، أي: اثنتين فما فوقهما.

قالوا: وإن كانت الغيبة في مسافة العدوى- وهي التي إذا خرج من بيته لأداء الشهادة مبتكرًا يرجع إلى أهله قبل الليل- فلا تسمع. وإن كانت دون مسافة القصر وفوق مسافة العدوى، كما إذا أدركه الليل قبل عوده إلى منزله- فوجهان. وأجروا ذلك [كله] في تزويج المرأة في غيبة الولي الأقرب، وفي الاستعداد، وفي كتاب القاضي [إلى القاضي] [و] في وجوب الحضور للأداء على الشاهد إذا كان في مثل تلك المسافة، ومنه تخرج في مسألتنا وجه: أنه لا تسمع شهادة الفرع إلا في مسافة القصر كما ذكره الشيخ، وقد حكى عن ابن القطان- أيضًا- لكن في ((تعليق)) القاضي أبي الطيب وغيره من كتب العراقيين: أن أصحابنا اعتبروا في المسافة أن يكون في موضع يشق عليه الحضور إلى مجلس الحكم، لتعب يلحقه، ولا يلزمه الحضور. وفي ((الشامل)) نسبة هذا القول للشيخ أبي حامد، [و] قال الماوردي: إنه [الظاهر من] مذهب الشافعي. قال الرافعي: وهذا يجوز أن يحمل على المشقة اللاحقة بالمجيء مما فوق مسافة العدوى، ويجوز أن يجعل أعم من ذلك، وإلى المحمل الأول ميل ابن الصباغ. قلت: ابن الصباغ لم يمل إلى الأول، وإنما المائل إليه الشيخ أبو حامد، لأن ابن الصباغ حكى أن يوسف اعتبر في هذه الغيبة ما فوق مسافة العدوة، ثم حكى عن الشيخ أبي حامد ما حكيناه عنه، وأنه قال: وهذا قريب مما قاله أبو يوسف، وكلام البندنيجي [مصرح] بالحمل الأول، فإنه قال: [قال] أصحابنا: المشقة كما قال أبو يوسف، لكن كلام الماوردي يميل إلى المحمل الثاني، لأن المأخذ في التعذر كما ذكرنا عدم إيجاب الحضور إلى الأداء على شاهد الأصل، وقد ذكرنا عن الماوردي أن الشاهد إذا دعي للأداء خارج البلد لا يلزمه

الإجابة، سواء قربت المسافة أو بعدت، وسواء كان ذا مركوب أو لم يكن، لأن مفارقة وطنه مشقة يسقط معها فرض الإجابة. قلت: ويظهر أن يقال: إن الاعتبار في هذه المسألة بالمسافة التي لا يلزم الحضور منها إلى الجمعة على من هو خارج البلد، وهي التي لا يسمع منها النداء في الموضع الذي تقام فيه الجمعة بالشرائط المذكورة، لأن عدم إيجاب الحضور إلى الجمعة في هذه الحالة لأجل المشقة اللاحقة به، والأصحاب قد جعلوا المرض المانع من إيجاب الجمعة مجوزًا لسماع شاهد الفرع هنا، وكذا الأعذار المسوغة لترك الجمعة، فكذلك ينبغي أن تراعي المشقة التي تسقط بها الجمعة عند الخروج عن البلد هاهنا أيضًا. وعلى كل حال فالأظهر هاهنا اعتبار ما فوق مسافة العدوى، لا مسافة القصر، وهو الذي اختاره النواوي، تبعًا للرافعي والروياني وغيرهما. وإن كان الأظهر في تزويج مولية الغائب عندهم اعتبار مسافة القصر في الغيبة، وفرقوا بأن الولي إذا زوج لم يحتج إلى الحضور، بل يوكل، والشاهد يحتاج إلى الحضور. وأيضًا: فإن الخصم قد يهرب فيفوت الحق، والنكاح لا يفوت غالبًا بهذا القدر من التأخير، ووراء ما ذكرناه وجه آخر محكي عن أبي الطيب بن سلمة: أنه يقبل شهادة الفرع وإن لم يتعذر حضور شهادة الأصل بما ذكرناه. وقال ابن أبي الدم: إنه من تخريج صاحب ((التلخيص))، وإليه ذهب القفال الشاشي. قلت: ويظهر أن يكون بناء على الوجه الذي حكيناه عن القاضي أبي حامد: أنه لا يجب على الشاهد الحضور عند القاضي للأداء، بل إذا اتفق اجتماعهما لزمه أن يؤدي، ثم ما ذكرناه [هاهنا في المسافة] يظهر جريان مثله في كتاب القاضي إلى القاضي، فإن الأصحاب متفقون على أنهما سواء حتى قال القاضي أبو الطيب [وابن الصباغ] وغيرهما: كل موقع قلنا: إن الحكم بالشهادة على

الشهادة جائز، قلنا: الحكم بكتاب القاضي إلى القاضي جائز، وكل موقع قلنا: إن الحكم بالشهادة على الشهادة لا يجوز، لم يجز الحكم بكتاب القاضي إلى القاضي، والله أعلم. قال: وإذا أراد أن يؤدي الشهادة على الشهادة، فإن [كان قد] تحمل بالاسترعاء، قال: أشهد أن فلان بن فلان-[أي: وقد عرفته باسمه ونسبه، كما قاله ابن الصباغ]- يشهد على فلان بن فلان [بكذا]، وأشهدني على شهادته بذلك. وإن رآه يشهد عند الحاكم [بحق]، قال: أشهد أن فلان [بن فلان] يشهد بكذا عند الحاكمز وإن رآه يشهد بحق مضاف إلى سبب، ذكر نحو ما ذكرناه، أي: فيقول: أشهد أن فلان بن فلان يشهد على فلان بن فلان بكذا من ثمن مبيع أو قرض، ونحو ذلك، على نحو ما سمع. وكذا يحكي صورة الحال في باقي المواضع، ليكون مؤديًا لها على الوجه الذي تحملها، فيعرف الحاكم صحتها من فسادها. ولفظ الإمام في الصورة الأولى: أن يقول: أشهاد أن فلانًا شهد عندي أن لفلان على فلان كذا، وأشهدني على شهادته، وأذن لي أن أشهد إذا استشهدت، وأنا الآن أشهد على شهادته. وهذا ذكره على الوجه التام الذي لا خلاف فيه، وما ذكره الشيخ بناء على ما حكاه أولًا من مذهب البغداديين، وهو الأصح. قال الأصحاب: وكذا إذا تحمل الشهادة على مقر إن كان تحمله بالاسترعاء، قال في شهادته: أشهد أنه أقر عندي، وأشهدني على نفسه. ووجوب قوله: وأشهدني على نفسه، مفرع على مذهب أبي إسحاق كما تقدمن وإلا فلو اقتصر على قوله: أقر عندي، كفى على المذهب كما تقدم. وإن كان تحمله لكونه رآه يتعاطى سبب الشغل من بيع، أو إتلاف، ونحوهما، ذكره.

وإن كان تحمله على الإقرار من غير استرعاء ولا حضور عنده، قال في شهادته: أشهد أني سمعته يقر بكذا، ولا يقولك أقر عندي، ليكون الحاكم هو المجتهد دون الشاهد. فإن أراد الشاهد أن يجتهد رأيه في صحة الإقرار وفساده، لم يجز، وكان الحاكم أحق بهذا الاجتهاد. وأن أراد أن يجتهد رأيه في لزوم الأداء وسقوطه عنه، فوجهان في الحاوي. فرع: إذا لم يبين الشهاد كيفة التحمل، سأله الحاكم، فإن [كان فقيهًا]، قال الغزالي: يكفيه أن يقول: أشهد على شهادته، وله الإصرار عليه، [ولا يلزمه] بيانه. وفي ((الحاوي)) ما يقتضي خلافه، فإنه عدد أداء الشهادة على الصفة التي تحملها شرطًا، وقال: لو قال شاهد الفرع: أشهد على فلان بكذا، لم يجز، لأن الحق على المقر لا على الشاهد. قال: ولا تقبل الشهادة [على الشهادة] من النساء، أي: في الموضع الذي تقبل شهادتهن فيه أصلًا، لأن المقصود بشهادة الفرع إثبات شهادة الأصل، لا أصل الحق، وذلك ليس بمال، ولا يئول إلى المال، ويطلع عليه الرجال، فلم تسمع فيه شهادة النسوة، كالنكاح. وفي رواية العمراني حكاية وجه عن رواية الطبري: أنها تقبل، و [هو] في ((البحر)) - أيضًا- وقال: إنه ليس بشيء. وعن ابن كج حكايته في الولادة. والمشهور- ما ذكره الشيخ، ومنه يظهر لك أنه لو أقام شاهدًا فرعًا على واحد، وأراد أن يحلف معه- لا تثبت شهادته، لأن ما لم تقبل شهادة النسوة، لا يثبت بالشاهد واليمين. نعم، لو أقام شاهدين على أصل، وأراد أن يحلف معهما فيما ثبت بالشاهد واليمين- صح. قال: ولا تثبت شهادة كل واحد من شاهدي الأصل إلا بشاهدين، لما ذكرناه في عدم سماع شهادة النسوة.

وحكى ابن أبي الدم: أن الشيخ أبا محمد حكى في ((السلسلة)) قولًا قديمًا للشافعي: أنها تثبت بشهادة فرع واحد، كالحر. قال: ولم أر لغيره حكايته، فلا يعتد [به]. قال: فإن شهد اثنان على أحد الشاهدين، ثم شهدا على الآخر- ففيه قولان: أحدهما: يجوز، لأنها شهاة على شخصين، فجاز أن يجتمعا عليهما في حقين، كما لو شهدا على مقرين. قال الرافعي: وهذا ما اختاره العراقيون، وهو كذلك، لأن البندنيجي، والروياني صححاه، واختاره في ((المرشد)). والثاني: لا يجوز، لأنهما قاما مقام أحد الشاهدين، فلو قاما مقام الآخر أشبه ما لو شهد الواحد على الحق مرتين، وهذا ما اختاره المزني، وصححه القاضي الحسينن والسرخسي، والنواوي، وقال البغوي: إنه الجديد. وفي ((الحاوي)): أن القولين ينبنيان على أن الحق يثبت بشهود الأصل، أو بشهود الفرع؟ وفيه قولان: أحدهما: يثبت بشهود الأصل، ويتحمله عنهم شهود الفرع، وهذا ما صححه القاضي الحسين، فعلى هذا: يصح أن يشهد شاهد الفرع عن كل واحد من شاهدي الأصل. قلت: ولا تثبت شهادة الأصل بشهادة النسوة أيضًا، كما تقدم. والقول الثاني: أن الحق يثبت بشهود الفرع، وهم متحملون للشهادة عن شهود الأصل، لجواز شهاداتهم بعد موت شهود الأصل، فعلى هذا لا يجوز أن

يشهد الفرع الواحد عن أصلين. قلت: ويظهر بناء الوجه الصائر إلى سماع شهادة النسوة فيه عليه. قال الماوردي: وقد عكس أبو حامد الإسفراييني ذلك، فجعل ثبوت الحق بشهود الأصل مانعًا من أن يشهد شاهد الفرع على كل واحد من شاهدي الأصل، وعليه جرى الشيخ أبو علي والبندنيجي، واستدل للقول بأن الحكم بشهود الأصل: بأن شهادة شهود الفرع تسمع على التضاد، فيجوز أن يشهد شاهدان على زيد بأن الدار لبكر، وعلى عمرو بأن الدار لخالد، ولو كان الحكم [بشهود الفرع] لما ساغ ذلك. التفريع: إن قلنا بالأول، فلو كان المشهود به قصاصًا ونكاحًا ونحوهما- كفى شاهدان. وعلى الثاني لابد من أربعة، [وعلى هذا: لو شهد أربعة] على كل من شاهدي الأصل فوجهان: أصحهما في ((الوسيط)): الجواز. وقال الإمام: إنه [الذي] لا يجوز غيره، لأنه قد شهد اثنان على شهادة زيد، واثنان على شهادة عمرو، ولا [يضر] تعرض شاهدي زيد لشهادة عمرو، [و] بالعكس. ولو كان المشهود به مما يثبت بشاهد وامرأتين: كالأموال، والأصل شاهد وامرأتان، فعلى الأول: يكفي شاهدان يشهدان على الرجل، وعلى كل من المرأتين. وعلى الثاني: لابد من ستة. ولو كان مما يثبت بأربع نسوة: كالرضاع، فعلى الأول، يكفي شاهدان يشهدان على كل امرأة منهن، وعلى الثاني: لابد من ثمانية. قال الرافعي: وعلى الوجه الذي حكاه ابن كج في أن شهادة النسوة [على

شهادة النسوة] مقبولة فيما تقبل فيه شهادتهن، يجئ هاهنا وجهان: أحدهما: يكفي شهادة أربع، بناء على القول الأول. والثاني: لابد من ستة عشر، فيشهد كل أربع منهن على امرأة، وهذا بناء على القول الثاني. ولو كان مما لا يثبت إلا بأربعة من الرجال: كفعل الزنى، إذا قلنا: إنه يثبت بالشهادة [على الشهادة]، فعلى الأول هل يكفي شاهدان أم لابد من أربعة؟ فيه قولان ينبنيان على أن الإقرار بالزنى، هل يثبت باثنين أم لابد من أربعة؟ وفيه قولان. ووجه الشبه: أنهم لا يشهدون على فعل الزنى، بل على قول بينته، فإن قلنا: يثبت الإقرار [باثنين]، كفى هاهنا اثنان يشهدان على كل واحد من الأربعة. وإن قلنا: لا يثبت الإقرار إلا بأربعة، فكذا هنا لابد من أربعة يشهدون على كل واحد من شهود [الأصل]. وعلى القول الثاني فيما يكتفي به قولان ينبنيان- أيضًا- على أن الإقرار بالزنى يثبت باثنين أم لابد من أربعة؟ فإن قلنا: يثبت باثنين كفى هنا ثمانية يشهد كل اثنين على واحد، وإن قلنا: لا يثبت إلا بأربعة فلابد من ستة عشر كل أربعة منهم على واحد من شهود الأصل. وإذا جمعت ذلك، حصل [لك] في المسالة أربعة أقوال: يكفي شاهدان. يكفي أربعة. يكفي ثمانية. لابد من ستة عشر. ولو شهد على شهادة الفروع فروع في القصاص ونحوه، فعلى الأول يكفي اثنان، وعلى الثاني لابد من [أن] يشهد على كل فرع من الفروع الأربعة فرعان، فيجتمع ثمانية، وعلى هذا فقس.

قال: ولا يحكم بالشهادة على الشهادة حتى تثبت عنده عدالة شهود الأصل والفرع، لأن عدالة الشهود شرط في الحكم، فلو كان شهود الفرع ثابتي التزكية عنده، وزكوا شهود الأصل- قبلت تزكيتهم، وقيل: ذلك شرط في الحكم بشهادة الفرع، حكاه البغوي، وعلى هذا لا تسمع شهادة الابنين على شهادة أبيهما إذا منعنا تزكية الأب لابنه، أما إذا قلنا بالمذهب، فالمذهب سماع شهادتهما على شهادته إذا كان معروف العدالة من غيرهما. وفي ((البحر)) في الفروع المذكورة قبل كتاب الشهادات احتمال في عدم السماع، لأنهما قد يعلمان جرحه ويكتمانه، ولا يقال: إن هذا موجود فيما لو شهد الأب والابن بحق، [ومع هذا تسمع] شهادتهما، لأن أحدهما لو جرح الآخر والصورة هذه وعدله شخصان عمل بشهادتهم، بخلاف شاهد الفرع إذا جرح شاهد الأصل، فإنه لا يعمل بشهادته وإن عدله سائر الناس. وقيل: لا يجوز لشاهد الفرع تزكية شاهد الأصل كما لا يجوز لأحد شاهدي الأصل تزكية الأصل الآخر من غيره، وهذا من تخريج القفال، ونقل عنه أنه خرج من هنا إلى ثم وجهًا آخر. أنه تسمع تزكية أحد الأصلين للآخر، وجعل في المسألتين وجهين، والمشهور الفرق. وقد فهم ابن أبي الدم من إيراد القاضي الحسين ما ذكرناه حكاية عن القفال أن الوجهين يجريان في أن الأب والابن إذا شهدا بحق هل تسمع شهادتهما أم لا؟ وليس الأمر كذلك، وهذا يفهمه من طالع كلامه، والله أعلم. تنبيهان: أحدهما: ما المراد باعتبار عدالة شهود الأصل والفرع، هل حالة الأداء، أو حالة التحمل، أو في الحالتين، أو فيهما وما بينهما؟ المشهور: أنه لابد من اعتبار ذلك [فيهما] حالة أداء شهود الأصل، وهو المفهوم من قوة كلام الشيخ: أنه أراده. وفي كلام القاضي الحسين ما يفهم أنه لا يعتبر عدالة شهود الأصل عند أداء الفرع كما سنذكره.

والمشهور: أنه لا يعتبر عدالة شهود الفرع حالة التحمل كما لا يعتبر ذلك فيما إذا أراد أن يتحمل على المقر نفسه، وتعتبر في شهود الأصل حالة تحمل شهود الفرع حتى لو كان الأصل إذ ذاك فاسقًا لا يصح التحمل لأن شهود الفرع يشهدون عند التقاضي: أشهدنا فلان بن فلان فإذا كان شهود الأصل فسقة، فلا يعتمد على قولهم، فلا يصح التحمل، كما لو شهدوا عند التقاضي وكانوا فسقة لا تقبل شهادتهم، وهذا مما خلاف فيه. وعن [القاضي] الحسين في اعتبار عدالة شهود الفرع عند التحمل احتمال، لأن هذه ولاية، وقد حكاه ابن أبي الدم وجهًأ عن رواية الشيخ أبي علي، وفائدته: أنه لو حسن حالهم عند الأداء، لم تقبل، والمشهور اعتبار استمرار شهادة شاهد الأصل على العدالة إلى ما بعد الحكم بشاهد الفرع، بناء على أن شاهد الأصل إذا كان عدلًا في حالة التحمل، ثم فسق، ثم حسن حاله- لا يجوز لشاهد الفرع الأداء ما لم يجدد الشهادة على الأصل، كما هو الصحيح، وينسب إلى ابن سريج، ولم يحك في ((الإشراف)) غيره. وقد حكى الرافعي أن في ((الجرجانيات)) لأبي العباس الروياني تفريعًا على هذا: أن شاهد الفرع يحتاج أن يقول- على وجه-: أشهدني على شهادته وكان عدلًا إلى اليوم، أو: إلى أن مات، إن كان قد مات. أما إذا قلنا: لا يحتاج شاهد الفرع بعد توبة شاهد الأصل إلى تجديد التحمل- كما حكاه الإمام وجهً، وقال: أنه لا يعتد به وإن كان قضية إيراد ((التهذيب)) كما قال الرافعي: اختياره- فلا يعتبر في شاهد الأصل الاستمرار على العدالة، كما لا يعتبر استمرار شهود الفرع عليها. التنبيه الثاني: في قوله: ((حتى تثبت عنده عدالة شهود الأصل)) ما يعرف أنه لابد من تسمية شهود الأصل حتى لو قال شاهد الفرع: أشهدني عدل رضي مقبول الشهادة لي على كذا، لم تصح هذه الشهادة، كما صرح به العراقيون، والمروازة، خلافًا لمحمد بن جرير الطبري المقول فيه: إنه من أصحابنا كما تقدم، لأنه قد يكون عدلًا عند الفرع، وفاسقًا عند غيره، فيصير مجهول الحال عند الحاكم، وهذا بخلاف الشهادة عند حاكم، لم يصرح الشاهد بتسميته على أحد

الوجهين، لأن الحاكم عدل بالنسبة إلى كل أحد، بخلاف شاهد الأصل. قال: وإن شهد شهود الفرع، ثم حضر شهود الأصل [قبل أن يحكم]- لم يحكم حتى يسمع من شهود الأصل، كما لو وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة. قال الإمام: ولا يكفيه تصديق شهود الفرع بل لابد من إنشاء الشهادة من الأصل. وحكم [برء] شاهد الأصل قبل الحكم حكم قدومه. ومن طريق الأولى إذا رجع شهود الأصل عند الشهادة [قبل الحكم]، أو قالوا: ما أشهدنا شهود الفرع- لا يحكم بشهادة الفرع، بخلاف ما لو كان ذلك بعد الحكم، فإنه لا يؤثر. وفي ((تعليق)) القاضي الحسين إبداء احتمال أقامه وجهًا فيما إذا حضر شهود الأصل قبل الحكم: أنه يقضي بشهادة الفروع، ولا يؤثر حضور شهود الأصل كما لو حضروا بعد الحكم، والمشهور الأول. فإن قلت: حضور شهود الأصل كاف في عدم قبول شهادة الفرع، فما فائدة تكذيبهم لشهود الفرع؟ قيل: فائدته أن شاهد الأصل لو غاب بعد ذلك، أو مرض لا تسمع شهادة [شاهد] الفرع عليه، لأن بتكذيبه بطلت شهادته، بخلاف حضوره، فإنه لا يبطل الشهادة، ولكن يمنعها، حتى لو غاب شاهد الأصل بعد ذلك، أو عجز عن الحضور عند الحاكم، وأعاد شاهد الفرع الشهادة- قبلت، وحكم بها. ويقوم مقام تكذيب شهود الأصل للفروع شهادة شاهدين عليهم بذلك قبل الحكم. ولو شهد بعد الحكم أن شهود الأصل كذبوا شهود الفرع قبل الحكم، نقض الحكم قولًا واحدًا. قال الإمام: ولنا قولان فيما إذا قضى القاضي بشهادة شاهدين، ثم قامت بينة على فسقهما حالة الحكم، هل ينقض ذلك الحكم أم لا؟ وقد يعسر الفرق بينهما.

فروع: أحدهما: إذا طرأ على شهود الأصل ما يمنع من قبول شهادتهم قبل الحكم بشهادة الفرع، فهل يؤثر؟ قال الأصحاب: ينظر: فإن كان الطارئ موتًا، أو مرضًا أو غيبة، لم يؤثر، بل هو المراد بالتحمل وإن [كان] فسقًا أو عداوة أو ردة، منع. قال الإمام: لأن هذه أمور لا تهجم دفعة واحدة، بل الفسق يورث الريبة فيما تقدم، والردة تشعر بخبث في العقيدة سابق، والعداوة لضغائن كانت مستكنة، وليس لمدة ((من قبل)) ضبط، فينعطف إلى حالة التحمل. وللقاضي الحسين احتمال في طرآن الفسق [والردة]، لأنه قال: لو كان شهود الأصل عدولًا حالة التحمل للفرعيين، ثم طرأ عليهم فسق، أو ردة فالظاهر من المذهب أن ذلك يوقع ريبة في شهادة الفرع. وللإمام احتمال في عدم إلحاق الردة بالفسق، مأخذه ما ذكرناه في باب حد القذف: أن طرآن الردة على المقذوف لا يقدح في الإحصان السابق، على النص، بخلاف طرآن الزنى، فإنه يقدح على النص. ولو كان الطارئ جنونًا، أو عمى، فثلاثة أوجه، جمعها الإمام من كلام شيخه والصيدلاني: أحدها: أنه لا يؤثر كالموت، وهذا ما قال الإمام: إنه المذهب، وإنه الذي يجب القطع به، وما عداه تخيط في المذهب، ولأجل ذلك صححه الغزالي وغيره، ولم يحك البندنيجي وكذا البغوي عن شيخه غيره، وهو المذكور الإشراف، وألحق الخرس بالجنون. والثاني: أنه يؤثر، إذ بطلت أهليتهما، لقبول شهادتهما، وإنما استثنى الموت، للضرورة. والثالث: أن الجنون يمنع، بخلاف العمى، فإن الأعمى أهل، وإنما امتنع عليه التعيين، ولهذا لا يحكم ببطلان ما أداه قبل العمى إذ حصل العمى قبل الحكم بشهادته.

ثم إذا قلنا: تبطل، فلو زال المانع بأن أبصر الأعمى، وأفاق المجنون، قال ابن أبي الدم: فالمذهب: [أنه] لابد من إعادة التحمل، ومن أصحابنا من قال: لا يحتاج إلى الإعادة، قال في ((الوسيط)): وهذا أقيس، والأول أشهر. والإغماء لا يؤثر في الغيبة، وفي الحضور ينتظر زواله، فلا يسلط شاهد الفرع على الشهادة. قلت: ولو قيل: إنه يسلك بالشهادة على شهادته مسلك تزويج موليته كما ذكرناه في النكاح- لم يبعد، بل أولى، لما عرفت من الفرق بينهما. الفرع الثاني: إذا قال شاهد الأصل لشاهدي الفرع: نسيت أني أشهدتكما على شهادتي على زيد بكذا، وأنا ذاكر لشهادتي على زيد به، فقال الفرعان: نحن ذاكران أنك أشهدتنا- قال ابن أبي الدم: فالذي وقع لي: أن شهادة الفرعين لا [تجوز إلا] أن يجدد التحمل، ثم رأيته كذلك في كتب الأصول. الفرع الثالث: إذا حمل شهود الأصل شهود الفرع الشهادة على رجل لا يعلم الفروع اسمه ولا نسبه، جاز ولهم أن يشهدوا على عينه، وكذا على نسبه إن تعرفوا ونسبه بعد ذلك. ولو كان الفروع لا يعرفون عين المشهود له، وتحملوا الشهادة له على نسبه، جاز. قال القاضي الحسين، والفوراني: وكل ما جاءه، وادعى: إن فلان بن فلان، فعليه أن يؤدي الشهادة له، ثم ينظر: فإن أقر الخصمان بأنه هو فذاك، وإن تناكرا، فعلى المدعي إقامة البينة على اسمه ونسبه، فإن قامت بينة بذلك، حكم له. في ((فتاوى)) القاضي: أنه لو أقر رجل، فقال: لفلان بن فلان علي كذا، وأشهد عليه شاهدين، فجاء رجل، وقال: أنا فلان بن فلان الذي أقر لي بالحق عندكما، فاشهدا لي- فليس لهما أن يشهدا حتى يعرفا أنه هو المقر [له]، فلو أقام الرجل بينة عند القاضي أنه فلان بن فلان حينئذ يشهدان له به، وهذا مناقض لما تقدم، فليكن في المسألتين جوابان، والله أعلم. الفرع الرابع: إذا شهد [أصل] وشهد مع فرع على أصل [آخر]، لا يثبت

بشهادته شهادة ذلك الأصل، لأنه حينئذ يكون قد قام بثلاثة أرباع الشهادة والشهادة لا يثبت بشهادته أكثر من شطرها. وقد نجز شرح مسائل الباب، فلنختمه بفرع يتعلق به، وهو أن الشاهد هل يجوز له أن يشهد باستحقاق زيد على عمرو درهمًا مثلا إذا عرف سبب شغل ذمته به أم لا؟ قال ابن أبي الدم في موضع من أدب القضاء له: فيه وجهان مشاعان في لسان أئمة المذهب، والمشهور فيما بينهم: أنها لا تسمع. قال: وهذا لم أظفر به منقولًا مصرحًا به هكذا، غير أن الذي تلقيته من كلام المروازة، وفهمته من مدارج مباحثاتهم المذهبية، أن الشاهد ليس له أن يرتب الأحكام على أسبابها، بل وظيفته نقل ما سمعه من إقرار، أو عقد تبايع، وغير ذلك، أو شاهده من غصب، أو إتلاف، ونحو ذلك، ثم الحاكم ينظر فيما نقله الشاهد إليه، فإن كان سببًا صالحًا عنده، رتب عليه موجبه، وإن لم يره سببًا صالحًا، وهو مجتهد فيه، لم يعمل به، والسبب في ذلك أن الأسباب الملزمة متنوعة، مختلف فيها، فقد يظن الشاهد شيئًا سببًا، وليس هو سببًا عند أحد من الأئمة، أو عند الحاكم فقط، فكلف الشاهد نقل ما سمع أو رآه، لينظر الحاكم فيه. والذي رأيته منقولًا ما حكاه الماوردي في مسألة رهن الشيء بدين، ثم رهنه بدين آخر عند المرتهن، مسألة الخلاف المشهور، وهو أنه إذا أقر الراهن والمرتهن عند شاهدين أن العبد رهن بألفين، نظر: إن قيدا إقرارهما بشرح أراد الشاهدان ألا يذكرا شرح الإقرار، بل يشهدان أن العبد رهن بالألفين- قال: فإن كان الشاهدان من غير أهل الاجتهاد، [لم يجز، ووجب عليهما شرح حال الإقرار. وإن كان من أهل الاجتهاد] فهل يجوز لهما أن يجتهدا في الإقرار، ويؤديا الشهادة عند الحاكم على ما يصح في اجتهادهما؟ فيه وجهان: الأصح: أنه لا يجوز لهما ذلك، وعليهما نقل الإقرار إلى الحاكم مشروحًا

على صورته، وهكذا القول في كل شهادة طريقها الاجتهاد. وإن كان إقرار المتراهنين مطلقًا بأن أقرا عندهما أن هذا العبد رهن بألفين مطلقًا، ولم يقيدا، لكن علم الشاهدان أن الذي وقع في الباطن هو رهن العبد أولًا على دين، ثم على دين آخر، فهل يجوز لهما، أو يجب عليهما أن يشهدا بالإقرار المطلق، وليس عليهما الإخبار بما علماه في الباطن؟ فيه وجهان، أصحهما: أن عليهما أن يشهدا بالإقرار المطلق، وعليهما- أيضًا – أن يشهدا بما علماه في الباطن. وهكذا القول في كل ما علمه الشاهد مع ما تحمه إلا أن يكون ما علمه ينافي ما تحمله، أو يعتقد أنه منافٍ لما تحمله، فيلزمه الإخبار بما تحمله. وهذا كله مبني على الوجهين في اختصاص الشاهد. هذا كله كلام الماوردي، وملخصه أن العامي لا يجوز له إطلاق الشهادة المقيدة باجتهاده، وهل يجوز للشاهد المجتهد؟ فيه خلاف فيما طريقه الاجتهاد. ومفهوم هذا: أن السبب إذا كان مجتمعًا عليه، جاز أن يشهد بالاستحقاق. والذي أراه ألا يسمع هذا من الشاهد، وعليه بيان السبب كيف كان، سدًا لباب الاحتمال، ونفيًا للريب، كما فعلنا ذلك في شهادة النفي المحصور المضاف إلى زمن مخصوص محصور، فإن الشهادة مما ينبغي أن يحتاط لها. وقال قبل ذلك بثلاث ورقات، أو أقل، أو أكثر: إن الشاهد لو قال: أشهد أن هذا يستحق في ذمة هذا درهمًا، هل تسمع هذه الشهادة؟ فيه ثلاثة أوجه حكيناها [عنه من قبل]: المذهب أنها تسمع، ويعمل بها. والثاني: لا تسمع، لأن هذا من وظيفة الحاكم. والثالث: إن كان الشاهد متمذهبًا بمذهب القاضي سمعت، وإلا فلا. انتهى. وقد يظن من رأى كلامه في الموضعين أنه متناقض، وهو مما لا شك فيه، نعم: كلام الماوردي مع هذا [لا تناقض فيه]، لأن ذلك محمول على جواز الإقدام للشاهد، وهذا في جواز الحكم بتلك الشهادة، والله أعلم.

باب اختلاف الشهود والرجوع عن الشهادة

باب اختلاف الشهود والرجوع عن الشهادة إذا شهد شاهد أنه أقر بألف، وشهد آخر أنه أقر بألفين- وجب له الألف، لاتفاقهما على إثباته، كما لو شهد واحد على إقراره بالألف، وآخر بألف وخمسمائة، فإن الألف تثبت بوفاق الخصم وهو أبو حنيفة. وفي الإشراف أن القاسم حكى أنه لا يأخذ الألف من غير يمين، قال: وهو غريب. قال: وله أن يحلف ويستحق الألف الثاني، لأنه شهد له به شاهد واحد، وهكذا الحكم فيما لو شهد له شاهد أنه سرق منه كيسًا، وآخر أنه سرق [منه] كيسين، ثبت له الكيس المتفق عليه، ويحلف، ويستحق الثاني، قاله الماوردي، وأبو الطيب. ولا فرق في مسألة الكتاب بين أن يطلق الشاهدان الشهادة، أو يذكرا سبب اللزوم، فيشهد أحدهما بألف من ثمن عبد، والآخر بألفين من ثمن عبد، أو يذكر أحدهما السبب، ويطلق الآخر، كما إذا شهد أحدهما بألف من ثمن عبد، وشهد الآخر بألفين مطلقًا، كما قاله القاضي أبو الطيب في كتاب الإقرار، وقال: إنه لو شهد أحدهما بألف من ثمن عبد، والآخر بألفين من ثمن ثوب- لم يلفق بين الشهادتين، ويحلف معهما، ويستحق الألفين، وهذا بخلاف ما لو شهد له شاهد أنه باعه هذا العبد بألف في وقت كذا، وآخر أنه باعه ذلك العبد [بعينه] في ذلك الزمان بألفين- فإن فيه وجهين حكاهما الماوردي في باب الشهادة على الحدود: أحدهما: أن شهادتهما سقطت، لتعارضهما، فيصير كأن لا بينة، كما لو شهد اثنان بالبيع [بألف، واثنان بالبيع] في ذلك الزمن، فإنهما يتعارضان ويسقطان.

والثاني: أنه يحلف مع الشاهدين، ويقضى له بالألفين. وما ذكره الشيخ مصور بما إذا كان المدعي قد ادعى ألفين، أما إذا لم يدع إلا ألفا، فقد سبق الكلام في سماع شهادة الشاهد بالألفين. وما ذكره الشيخ مصور بما إذا كان المدعي قد ادعى ألفين، أما إذا لم يدع إلا ألفًا، فقد سبق الكلام في سماع شهادة الشاهد بالألفين عند الكلام في الجمع في الشهادة بين ما يجوز وما لا يجوز، وعند الكلام في الشهادة بحق للآدمي قبل الاستشهاد، فليطلب منهما. قال: وإن شهد شاهدان أنه زنى بها في زاوية، وشهد آخران أنه زنى بها في زاوية أخرى- لم يثبت الزنى، أي: بالنسبة إلى المرأة والرجل، لأنه لم يكمل على فعل واحد نصاب الشهادة، لكن هل يجب على الشهود حد القذف؟ أطلق البندنيجي والقاضي الحسين وغيرهما فيه القولين المذكورين فيما إذا لم يتم العدد. وفي ((الحاوي)) في باب حد الزنى: أنا إذا لم نوجبه عند نقصان العدد فهاهنا أولى، وإن أوجبناه ثم فهاهنا وجهان، وأجراهما فيما لو شهد اثنان أنه زنى [بها] يوم الجمعة، وآخران أنه [زنى بها] يوم السبت. ووجه المنع: أن الشهادة بالزنى قد كملت وإن اختلفت، فصارت كاملة في سقوط العفة وإن لم تكمل في وجوب الحد. نعم: لو شهد اثنان أنه زنى بها يوم الجمعة بالبصرة، وآخران أنه [زنى بها] يوم السبت ببغداد، انعكس الحال، فإن قلنا بوجوب الحد عند نقصان العدد، فهاهنا أولى، وإن قلنا: لا يجب ثم، فهاهنا ثلاثة أوجه: أحدها: يحدون جميعًا، للقطع بالكذب في شهادتهم. والثاني: لا يحدون جميعًا، لأن الكذب لا يتعين في أحد الجهتين. والثالث: يحد الأخيران، لتقدم إكذاب الأولين لهما قبل شهادتهما. قال الماوردي: وهذا صحيح. وفي ((تعليق)) البندنيجي حكاية القولين المذكورين في نقصان العدد في هذه الصورة- أيضًا- من غير ترتيب، وطردهما فيما لو شهد شاهدان أنه زنى بها وعليه جبة، و [شهد] آخران أنه زنى بها وعليه قميص.

قال: وإن شهد اثنان أنه زنى بها وهي مطاوعة، وشهد آخران أنه زنى بها وهي مكرهة- لم يثبت الزنى، أي في حق المرأة [والرجل]، لأنهم لم يتفقوا على زنى واحد، فإن زناه بها مطاوعة غير زناه بها مكرهة، فلم تكمل البينة كما في المسألة قبلها. وقيل: يثبت الزنى في حق الرجل، لأنهم اتفقوا على زناه طائعًا، وليس في الشهادتين تعارض، لأن الإكراه يجوز أن يكون في أول الفعل، والمطاوعة في آخره. قال: وليس بشيء، لما ذكرناه. وقد نسب البندنيجي هذا الذي بشيء إلى رواية ابن سريج [في ((التفريع)) على ((الجامع الصغير)) لمحمد وجهًا وحكاه القاضي الحسين عن رواية ابن سريج] وجهًا أيضًا، وقال في موضع آخر من كتاب حد الزنى: إن أبا ثور قال: سألت الشافعي عنه، فقال: يحد الرجل دونها. على ذلك ينطبق قول الماوردي: إن الخلاف قولا رواهما أبو حامد المرودوذى. [ثم] قال: إن أوجبنا الحد على الرجل لم يجد الشهود لها، ولا له، وإن قلنا: لا يجد الرجل [فإن لم] نوجب الحد على الشهود عند نقصان العدد، فهاهنا أولى، وإن أوجبناه ثم، فهاهنا وجهان. فإن أوجبناه، قال القاضي الحسين، والماوردي: حددنا شاهدي الإكراه [للرجل] دون المرأة، وشاهدي الطواعية قد قذفا الرجل والمرأة، لكن بزنى واحد، فهل يجب عليهما حدان، أو حد واحد؟ فيه قولان: الجديد: الأول. والقديم: الثاني. عكس الإمام هذا الترتيب، فقال: الزنى لا يثبت في حق المرأة، ولا يحد شاهدا الإكراه لها، وهل يحد شاهدا الطواعية؟ فيه الخلاف: فإن حددناهما لم يحد الرجل قولًا واحدًا، وإن لم نحدهما فهل يحد الرجل؟ فيه وجهان، الذي ذهب إليه أكثرهم: الوجوب، وهو الذي رجحه الرافعي، ثم قال: وكذلك نوجب

وحكى فيما لو شهد اثنان على أنه أكرهها على الزنى: أن وجوب المهر ينبني على حدهما، فإن حددنا الشاهدين لم يثبت، وإلا ثبت، وادعى أنه لا خلاف في أنه لا يجب الحد على شاهدي الإكراه، وأنه لا يجب للرجل حد القذف: أما إذا حددناه فظاهر، وأما إذا لم نحده، فلأن عدد الشهود على زناه قد تم، وإنما رددنا الشهادة، لأنه مجتهد فيه، وهذا ما حكاه الإمام عن أهل التحقيق، بناء على أن المعلنين بالفسق المجتهد فيه، لا يحدون قولًا واحدًا. فروع: أحدها لو شهد أربعة على أنه زنى بها، وشهد أربع نسوة على أنها عذراء، لا يجب عليها حد الزنى، لشبهه بقاء العذرة، ولو قذفها قاذف، لم يلزمه الحد، لقيام الشهادة على الزنى، واحتمال أن العذرة زالت، ثما عادت، لترك المبالغة في الافتضاض. ومن طريق الأولى: لا يجب الحد على الشهود، كذا أطلقه الاصحاب. وخص القاضي الحسين ذلك بما إذا كان بين الشهادتين زمان بعيد ممكن عودة العذرة فيه. لو أقامت هي أربعة على أنه أكرهها على الزنى، وطلبت المهر، وشهد أربع نسوة على أنها عذراء- فلا حد عليه، للشبهة، وعليه المهر، ولا يجب عليها له حد القذف، لشهادة الشهود. ولو شهد اثنان على أنه وطئها بشبهة، وشهد أربع نسوة على أنها عذراء فكذلك يجب المهر. قال ابن كج: ولو شهد على امرأة أربعة بالزنى، وشهد أربع نسوة على أنها رتقاء، فليس عليها حد الزنى، ولا عليهم حد القذف، لأنهم رموا بالزنى من لم يتأتى منه الزنى. وفي ((الحاوي)) في هذه الصورة: أننا ننظر: فإن كان الرتق- وكذا القرن- لا يمنع من إيلاج الحشفة في الفرج- حدت بخلاف العذرة، وإن كان يمنع ذلك لم تحد، ثم تكون هذه الشهادة مسقطة

لعفتها، فلو قذفها قاذف من بعد، لم يحد، لكما الشهادة بالزنى، وسقوط الحد بالشبهة. قال: وإن شهد أحدهما: أنه قذفه بالعجمية، وشهد الآخر أنه قذفه بالعربية، أو شهد أحدهما أنه قذفه يوم السبت، وشهد الآخر أنه قذفه يوم الأحد- لم يثبت القذف، لأنهما لم يتفقا على قذف واحد، لأن القذف بالعجمية غير القذف بالعربية، والقذف [في] يوم السبت غير القذف [في] يوم الأحد، فأشبه ما لو شهد شاهد أنه عقد عقد النكاح على فلانة يوم الأحد، وآخر أنه عقد عليها يوم الاثنين، وقد وافق الخصم- وهو أبو حنيفة- على عدم التلفيق فيها. وهكذا القول لو شهد أحدهما أنه قذفه بمكان كذا، وشهد الآخر أنه قذفه بمكان آخر، أو شهد أحدهما أنه قذف بزناه بزينب، وشهد الآخر [أنه قذفه بزناه بعمرة، أو شهد أحدهما: أنه قال له: زنيت، وشهد الآخر]: أنه قال له: يا زاني، قاله الماوردي في كتاب اللعان، والأخير شبيه بما قاله القاضي أبو الطيب في كتاب الوكالة: أنه لو شهد شاهد بأنه قال لزيد: وكلتك في كذا، وقال الآخر: أشهد أنه قال: أذنت لك في التصرف-[لم تثبت الوكالة، لأن العقد بقوله: وكلتك غير العقد بقوله: أذنت له في التصرف]، فلم تتفق شهادتهما على عقد واحد. قال: وكذلك إذا شهد أحدهما أنه قال: جعلتك وكيلًا، وقال الآخر: أشهد أنه قال: جعلتك جريًا- والجري: الوكيل- بخلاف ما لو شهد أحدهما: أنه وكله في التصرف، وشهد الآخر: أنه أذن له في التصرف، فإن الوكالة تثبت، لأنهما لم يحكيا لفظ العقد، واختلافهما في أداء اللفظ لا يؤثر في الشهادة. لكن في ((أدب القضاء)) لابن أبي الدم: أن ابن القاص حكى عن ابن سريج أنه قال تخريجًا على مذهب الشافعي فيما إذا شهد أحدهما: أنه جعله وكيلًا في هذه الخصومة، وآخر: أنه جعله وصيًا في هذه الخصومة في حياته، أو أحدهما: أنه وكله بقبض المال، والآخر: أنه سلطه عليه- أنه ينظر:

فإن كانت شهادتهما على الإقرار، ثبتت الوكالة. وإن كانت على العقد، لم تثبت. وعلى قياس ما ذكره الشيخ في إحدى مسألتي الفصل يتخرج ما إذا شهد أحدهما أنه غصب منه داره في يوم الجمعة، وشهد الآخر أنه غصبها منه [في] يوم السبت، أو شهد أحدهما: أنه غصب داره بالكوفة، وشهد الآخر: أنه غصب داره بالبصرة- مع أن الغصب لا يثبت، لأنها شهادة على فعل لم يتفقا عليه، فيحلف مع أحد الشاهدين في الأولى، ومعهما في الثانية، ويستحق الدارين. وحكى ابن أبي الدم عن أبي القاسم الداركي، [أنه] قال: يثبت الغصب، وأن الشيخ أبا علي قال: وهذا غفلة منه. قلت: وقول الداركي قد حكاه الإمام- أيضًا- في كتاب الإقرار، فإنه حكى أن صاحب التقريب روى أن الشافعي نص على أنه لو شهد شاهد أنه طلق زوجته يوم السبت، وشهد الآخر أنه طلقها يوم الأحد- لا يثبت الطلاق بشهادتهما، وأن بعض الأصحاب خرج قولًا من النص الذي سنذكره إلى هنا، وجعل في ثبوت الطلاق قولين، ولا وجه للقول المخرج هنا، وهو في نهاية البعد من طريق النقل والقياس. قال: وإن شهد أحدهما أنه أقر بالقذف بالعجمية- أي: كان إقراره عند الشاهد بالعجمية- وشهد الآخر: أنه أقر بالقذف بالعربية- أي: كان إقراره عند الشاهد بالعربية- أو شهد أحدهما: أنه أقر بالقذف يوم السبت- أي: تاريخ إقراره يوم السب- و [شهد] الآخر: أنه أقر [بالقذف] يوم الأحد-[أي تاريخ إقراره يوم الأحد]- وجب الحد، لأن [الظاهر أن] المقر به قذف واحد وإن اختلف الإخبار عنه، فكملت فيه الشهادة، ووجب به الحد وهذا ما حكاه البندنيجي وغيره، وهو يوافق ما حكاه الإمام في كتاب الإقرار عن رواية صاحب ((التقريب)) عن نص الشافعي: أنه إذا شهد أحدهما على إقرار شخص بغصب دار يوم السبت، والتاريخ للإقرار لا للغصب، [وشهد آخر على إقراره بأن غصبها يوم الأحد، والتاريخ للإقرار لا للغصب] أنه يثبت الغصب.

لكن من الأصحاب من خرج في هذه المسألة قولًا من نص الشافعي في مسألة الطلاق السابقة، وجعل في ثبوت الغصب قولين. قال الإمام: والقول المخرج هنا بعيد جدًا من طريق النقل، ولكن قد يتجه من طريق القياس. وقضية هذا التخريج أن يطرد في مسألتي الكتاب. وقد حكى ابن يونس أن الإصطخري حكاه وجهًا فيهما، وقال: أنه لا يثبت القذف. والذي رأيته في ((الشامل)) في باب اللعان، وفي ((الحاوي))، ((تعليق)) أبي الطيب، [والبندنيجي] في باب الشهادة على الحد: أن الإصطخري حكى فيما لو شهد شاهد: أنه قال: القذف الذي كان مني كان بالعربية، وشهد الآخر: أنه قال: القذف الذي كان مني كان بالمعجمية- وجهين: أحدهما: لا تتم الشهادة، لأنهما قذفان، وهذا ما اختاره القاضي أبو الطيب، وصححه البندنيجي. والثاني: تتم. قال الماودري: ولا أجد له وجهًا. قلت: ومن العجب قوله ذلك، وقد جزم في باب الشهادة على الجناية بأنه إذا شهد شاهدان على إقرار شخص بالقتل، فقال أحدهما: أقر عندي أنه قتله عشية، وقال الآخر: أقر عندي: أنه قتله غدوة، أو قال أحدهما: أقر عندي أنه قتله بسيف، وقال الآخر: أقر عندي أنه قتله بعصا، أو قال أحدهما: أقر عندي أنه قتله بالبصرة، وقال الآخر: أقر عندي أنه قتله بالكوفة- أن هذه الشهادة صحيحة لا تعارض فيها، ويثبت القتل، ثم إن كان كل واحد من الفعلين عمدًا يوجب القود، أقدناه، وإن كان كل واحد منهما خطأ، لزمته الدية في ماله، وإن كان أحدهما موجبًا للقود، والآخر خطأ، صار كما لو شهد أحدهما على إقراره بقتل العمد، وشهد الآخر على إقراره بقتل الخطأ، وقد مضى. ولا يظهر لي فرق بين مسألة الإصطخري وهذه المسألة. وقد قاس القاضي أبو الطيب الوجه بالتلفيق في مسألة الإصطخري على ما [لو] أقر عند أحد الشاهدين باللغة العجمية: أنه قذف، وعند الآخر باللغة

العربية: أنه قذف، كما صورت مسألة الكتاب، وهذا يدل على أنه لا خلاف عند الإصطخري فيها. وابن الصاغ وجهه بأن أقر بالقذف، وقوله بعد هذا: بالعربية، أو بالعجمية فيه إسقاط لإقراره، فلا يلتفت إليه. وقريب مما حكيناه عن [ابن] الصباغ وغيره- أو هو هو- ما حكاه القاضي الحسين والإمام في باب اللعان: أنه لو شهد شاهد: أنه أقر أنه قذف بالعربية، والآخر: أنه [أقر أنه] قذف بالعجمية- فالمراوزة يقولون: يلفق بينهما، لأن الأخبار يدخلها الصدق والكذب، فلعله كذب في أحد الإقرارين، وهذا ما حكاه في باب الإقرار، وذكر أن القاضي لم يحك عن الأصحاب غيره، ثم قال في كتاب اللعان: وقال العراقيون: لا يلفق بينهما، فإنه أخبر عن قذفين مختلفين. قال: وهذا أوفق، وأجرى على القياس المرعي، وأبدى هذا في باب الإقرار احتمالا للقاضي، ثم قال: والأمر على ما ذكره [القاضي]، وكان شيخي لا يحكي سواه، ويقطع به. وبه- أيضًا- جزم ابن الصباغ قبل حكايته ما نقله عن الإصطخري في فصل منفرد. قال: وإن شهد أحدهما: أنه سرق كبشًا أبيض، وشهد الآخر: أنه سرق كبشًا أسود- لم يجب الحد، لأنهما لم يتفقا على سرقة واحدة، فلم يكمل النصاب. وما ذكره الخصم من أنه يجوز أن يكون أحد جنبيه أبيض، والآخر أسود، فشهد كل واحد بما رآه- مندفع بأن الشهادة اقتضت وصف كله، لا وصف بعضه. وهذا [اللفظ] الذي ذكره الشيخ هو المنصوص عليه، قال ابن الصباغ وغيره: ومن أصحابنا من يقول: إذا سرق كيسًا، وليس كذلك، لأن الشافعي قال في ((الأم)): لو شهد أحدهما: أنه سرق منه كبشًا أقرن، وقال الآخر: أجم. والحكم لا يختلف بالكيس والكبش.

قال: فإن حلف المسروق منه مع الشاهد، أي: الذي وقعت شهادته موافقة لدعواه، أو بالحق في زعمه- قضي له، أي: بالغرم، لأنه ثبت بالشاهد واليمين. [ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في استحقاقه الغرم باليمين مع الشاهد] في هذه الصورة بين أن يكون الشاهدان قد أطلقا السرقة، أو أضافاها إلى وقت واحد، فقال أحدهما: أشهد أنه سرق له كبشًا أبيض مع طلوع الشمس في يوم كذا، وقال الآخر: أشهد أنه سرق له كبسًا أسود مع طلوع الشمس من ذلك اليوم. وهو قول الشيخ أبي حامد، لأن الماوردي جزم القول بذلك في حالة إطلاق الشهادتين، وقال: لأن الغرم يثبت بالشاهد واليمين، ولا تعارض، لأنه يجوز أن يكون قد سرق منه كبشين بالصفتين. وحكى في حالة إضافة السرقتين إلى وقت واحد وجهين في استحقاق الغرم، بناء على [أن] التعارض يقع بين شاهد وشاهد في الصورة التي ذكرناها، كما يقع فيما لو شهد [على] كل سرقة اثنان، أو لا يقع، لأنه إنما يكون في البينة الكاملة، وبالشاهد الواحد لا تكمل البينة؟ وفيه اختلاف بين الأصحاب: فإن قلنا بالثاني، وهو قول الشيخ أبي حامد، والذي ادعى أبو الطيب الإجماع عليه- ثبت له الغرم عند حلفه. وإن قلنا بمقابله: فلا، لأن الشهادة سقطت، فصار كما لو لم تكن له بينة. قلت: وقد يستشهد بهذا الاختلاف بالقولين المذكورين فيما إذا شهد شاهد أنه قتل فلانًا بالسيف، وشهد آخر أنه قتله بالعصا- هل يكون ذلك لوثا أم لا؟ فإن لم يجعل ذلك لوثًا، جعل شهادة أحدهما معارضة للأخرى، فأسقطهما، ومن جعله لوثا، لم يثبت المعارضة. قال الماوردي: والوجهان يجريان فيما لو شهد شاهد: أنه سرق منه كيسا أبيض في أول النهار، وشهد آخر أنه سرق ذلك الكيس في آخر النهار، فإن قلنا بالتعارض [صار] كما لو لم تقم له بينة، وإن قلنا بقول أبي حامد، حلف

[مع أي] الشاهدين، واستحق كيسا واحدًا، ولم يحك خلافًا فيما إذا شهد اثنان: أنه سرق كيسًا أبيض، وشخص آخر: أنه سرق كيسا أسود، وأطلقا الشهادة- أنه يحكم له بالشهادتين، وأنه المسروق كيسان، وبمثل هذا قال فيما اتحدت الصفة، واختلف الزمان، فقال اثنان: نشهد أنه سرق منه كيسا أبيض في أول النهار، وآخران: نشهد أنه سرق منها كيسا أبيض في آخر النهار. نعم، لو أضافا السرقة في الصورة الأولى [إلى] زمان بعينه، وفي الصورة الثانية إلى كيس بعينه، حكم بإسقاط الشهادتين، ولم تثبت السرقة بواحد منهما. قال: وإن شهد شاهدان أنه سرق ثوبًا قيمته عشرة [دراهم]، وشهد آخران أن قيمته عشرون، لزمه أقل القيمتين، لأن المقل ربما عرف عيبا به غفل عنه المكثر، فكان الرجوع إليه أولى. وأيضًا: فإن الأصل هو السلامة، والمقل ناقل عن الأصل، والمكثر مبقٍ عليه، والناقل أولى من المبقي. وقال الإمام في باب الشهادة على الحد: إن هذا الحكم فيما لو اتفقوا على الصفات، وصرحوا بأنه لم يستقل واحد بمعرفة صفة لم يدركها الآخر، وردوا النزاع إلى القيمة نفسها، فلا يجب عندنا إلا الأقل، حملا على براءة الذمة. وهكذا الحكم فيما لو شهد شاهدان أنه سرق ما قيمته ربع دينار، وآخران أنه سرق ما قيمته سدس دينار فيرجع إلى الأقل في الغرم والقطع، بخلاف ما لو شهد اثنان أنه سرق قطعة ذهب وزنها ربع دينار، وآخران أنه سرقها وزنتها سدس دينار، فإنه يثبت الأكثر. قال في ((التهذيب)) - تبعًا للقاضي الحسين- بالاتفاق، لأن عند من شهد بالأكثر زيادة علم، بخلاف المسألة قبلها، لأن الاختلاف ثمة [في القيمة]، وهي بالاجتهاد.

ولو شهد شاهد أنه سرق ثوبًا قيمته ربع دينار، وآخران [أن] قيمته سدس دينار- لم يثبت القطع، ويثبت السدس، وهل له أن يحلف مع الشاهد بالزيادة، ليثبتها؟ فيه وجهان في ((الحاوي)) في باب الشهادة على الحد، وحكاهما الإمام عن صاحب ((التقريب)) في آخر باب الشهادة على الوصية: أحدهما: نعم، كما لو شهد له شاهد بألف، وآخر بألفين. والثاني: لا، لأنه لا تعارض [ثم]، والتعارض هاهنا حاصل. قلت: وهذا الخلاف مفرع على أن القيمة تثبت بالشهادة والمرأتين، والشاهد واليمين، كما حكاه الزبيلي عن أبي إسحاق المروزي، ورجحه. أما إذا قلنا: إنها لا تثبت بالشاهد والمرأتين، والشاهد واليمين- كما حكاه أيضًا عن ابن هريرة- فلا حلف جزما. ثم أعلم أن الأصحاب اختلفوا في قيمة العين، هل هي وصف قائم بها، أو هي ما ينتهي إلى رغبات الراغبين؟ والأظهر: الثاني. قال ابن أبي الدم: وهذا الخلاف يقرب بعض القرب من الخلاف في أن الملاحة هل هي [صفة قائمة] بالذات، وجنس يعرف بنفسه، أو هي مختلفة باختلاف ميل الطباع؟ فروع: أحدها: إذا شهد شاهد أنه غصب منه هذه العين، وشهد آخر أنه أقر بالغصب، أو شهد أحدهما أنها ملك للمدعي، والآخر أن المدعى عليه أقر له بالملك، أو شهد أحدهما أنه طلق زوجته، والآخر أنه أقر بطلاقها، أو أحدهما أنه قبل عقد نكاح فلانة، والآخر أنه أقر بقبول نكاحها- لم يلفق بين الشهادتين. وضابط ذلك: أن يشهد أحدهما بعقد أو إنشاء، والآخر بإقرار، وإنما يلفق إذا اتفقا على ذكر عقد أو إقرار. وفي ((النهاية)) في كتاب الإقرار في الصورة الثانية حكاية وجه: أنها تلفق، وهو بعيد، وإن صح فيظهر طرده في مسألة الغصب.

الفرع الثاني: إذا ادعى ألفا، فشهد له شاهد على المقر بأنها عليه، وشهد له آخر أن [له عليه] ألفا قد قضاه- سقطت شهادة الثاني، للتناقض، وله أن يحلف مع الأول، ويستحق الألف، حكاه الإمام عن صاحب ((التلخيص)). قلت: ويجيء في المسألة وجه آخر، لأن في ((البحر)) قبل باب الشهادة على الوصية: أنه لو شهد شاهدان أن زيدا وكل عمرا في كذا، ولكن يعلم رجوعه عن وكالته- قال الصيمري فيه جوابان: أحدهما: لا تسمع الشهادة. والثاني: نسمعها بالوكالة، فإن ادعى مدعٍ الرجوع حينئذ، [لم] تسمع شهادتهم. وحكى الإمام: أنه لو شهد أحدهما أنه أقر بألف له، وقال الثاني: أقر له بألف، لكنه قضاه- فوجهان ذكرهما الصيدلاني وغيره. أحدهما: أن الحكم كذلك. والثاني: أن الألف تثبت بالشاهدين، فإن أراد الخصم أن يسقط الألف عن نفسه، فليحلف مع الشاهد بالقضاء. ولو ادعى ألفًا، فشهد له شاهد أنه أقر بألف، وآخر أنه أقر بألف، ولكن قضاه خمسمائة، والمدعي ينكر القبض- ففي ((الإبانة)) وجهان: المذهب منهما في ((تعليق)) القاضي الحسين: ثبوت خمسمائة، كما لو شهد أحدهما بألف، والثاني بألف إلا خمسمائة. والثاني: لا يثبت شيء، لأنهما لم يتفقا على ما يدعيه المدعي، قاله في الرجوع عن الشهادة. لو شهد شاهدان على شخص أن عليه ألفا، ثم قال أحدهما قبل الحكم: قد قضى الألف بعد شهادتي- فهل يقضي القاضي بثبوت الألف؟ فيه وجهان مرتبان على الوجهين في الفرع الثاني، وهنا أولى بثبوته. الفرع الثالث: إذا شهد له شاهد على إقراره بألف من ثمن مبيع، وآخر على إقراره بألف عن قرض- قال الإمام: حكى القاضي أن الألف تثبت، وتلفق الشهادتان، لأنهما اتفاق على الألف والإقرار، وإنما اختلفا في جهته.

قال الإمام: وهذا عندنا هفوة، لأن المقر به متعدد مختلف، الدليل عليه أنه لو شهد على [كل] إقراره بألف منسوب إلى جهة شاهدان، ليثبت الألفان- فالوجه القطع بأنه لا يثبت شيء، ولا سبيل إلى تلفيق هاتين الشهادتين. نعم: لو ادعى ألفا مطلقًا، فشهد شاهد بألف مطلق، وآخر بألف من جهة قرض مثلًا، هل تلفق الشهادتان؟ فيه خلاف، والأظهر: أنها تلفق، ويثبت الألف. قلت: وما أجاب به القاضي يظهر أن يكون مأخذه أن اختلاف الجهة لا يمنع من المطالبة، كما هو الصحيح، وقد حكاه الإمام في كتاب الإقرار عن الأكثرين، والله أعلم. قال: وإن شهدا شاهدان على رجلين أنهما قتلا فلانا، وشهد الآخران على الشاهدين أنهما قتلاه، رجع إلى الولي. الكلام في هذه المسألة يحتاج إن يتقدمه تصويرها، وقد اختلف الأصحاب في صورتها على أوجه: أحدها: أنها مصورة بما إذا وكل وكيلين في إثبات الدم، وأقام كل [واحد] من الشاهدين اللذين شهدا أولا وآخرًا شهادته بطلب وكيل بعد تحرير الدعوى. وهذا ما حكي عن صاحب التقريب، وعن أبي يعقوب الأبيوردي، وهو مفرع على الصحيح في أن شهادة الحسبة لا تسمع في حقوق الآدميين مطلقًا، ومفرع على أن [التوكيل في الخصومة] من غير تعيين الخصم صحيح، وإلا فقد حكى القاضي الحسين فيما إذا وكل في الدم، ولم يعين المدعى عليه في صحة التوكيل وجهين، وحكاهما في ((التهذيب)) فيما إذا قال للوكيل: ناد على اثنين من هؤلاء الجماعة فادع عليهما، واطلب ثأري منهما، وقال هو والقاضي: إن عمل الحكام والقضاة على الصحة. الثاني: أنها مصورة بما إذا ادعى الولي على الآخرين القتل، واستشهد بالأولين، فشهدا، ووقعت شهادة الأولين حسبة، وقلنا: لا تسمع شهادة الحسبة في حقوق الآدميين. وسؤال الولي إنما كان لأن شهادة الآخرين أورثت شبهة فاحتاط لأجلها

بالسؤال، وهذا ما اقتضى إيراد القاضي أبي الطيب ترجيحه، وهو الذي ذكره الإمام، بناء على الصحيح في أن شهادة الحسبة لا تقبل في حقوق الآدميين. الثالث: أنها مصورة بما إذا شهدوا حسبة من غير تقدم [دعوى]، سواء علم الولي بالقتل والشهادة أم لا، وهذا قول من يرى [قبول الشهادة بالحسبة في حقوق الآدميين مطلقًا، أو قول من يرى] سماعها في الدماء خاصة، لخطرها أو لكون [الحق] فيها للميت، لأن ديونه تقضى منها، وتنفذ وصاياه. الرابع: أنها مصورة بما إذا لم يعلم ولي القتيل، أو علم به، ولم يعلم من يشهد له به، فشهد الشهود حسبة بالقتل، وهذا قول من يرى أن شهادة الحسبة بحق الآدمي تسمع في هذه الحالة كما تقدم، ويحكى هذا عن الماسرجسي، [و] عن الأستاذ أي طاهر. الخامس: أنها مصورة بما إذا كان الولي- حالة الشهادة- لا يعبر عن نفسه، لكونه طفلًا أو مجنونًا، ثم بلغ وأفاق، وهذا قول من يرى سماع شهادة الحسبة لمن هذا حاله في الأموال وغيرها. والوجه الثالث والرابع والخامس متفقون على التصوير بوقوع الشهادة حسبة وإن اختلفت الكيفية، وعلى ذلك جرى في ((الوسيط))، فقال: إذا سمعنا الشهادة في ذلك حسبة ... وساق المسألة. فإذا تقرر ذلك كانت حكمة الرجوع إلى الولي [ظاهرة فيما إذا وقعت الشهادة حسبة، لأنه وإن سمعت فلا يحكم بها ما لم يطالب الولي] به، والمطالبة بدون إعلامه غير ممكنة. وأيضًا: فإنه قد يكذبهما، فتبطل الشهادتان، وأما إذا وقعت على وفق الدعوى فستظهر ثمرته. قال: فإن صدق الأولين، حكم بشهادتهما، لسلامتهما عن التهمة، وسقوط شهادة الآخرين، أما إذا وقعت الشهادة حسبة، فلأنهما صارا عدوين للأولين، [لكون الأولين] شهدا عليهما بالقتل، ولأنهما دافعان عهن أنفسهما القتل، فلا معارضة إذا.

قال الماوردي: لكن هل يلزم الحاكم أن يستعين الشهادة من الأولين بعد الدعوى؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لأنه لا يستفيد بها زيادة علم، وهذا ما أورده الإمام. والثاني: نعم، ولا يجوز له أن يحكم بما تقدم من الشهادة، لأنه لا يجوز أن يكون الحكم سابقًا للدعوى. وأما إذا كان الولي قد ادعى القتل على الآخرين فشهادتهما غير مقبولة، لما ذكرناه، ولتكذيبه لهما، فإنه بدعواه القتل عليهما نفى أن يكون غيرهما قتله. قال: وإن كذب الأولين، وصدق الآخرين، أو صدق الجميع، أو كذب الجميع- سقطت الشهادتان. ووجه ذلك إذا كذب الجميع ظاهر، وأما إذا صدق الجميع، فلأنه كذب كل واحدة من البينتين بتصديق الأخرى، لأن من شهدت بأن القاتل الآخران، اقتضت شهادتها أن لا قاتل له غيرهما، وكذلك من شهدت بأن القائل الأولان، اقتضيت شهادتها أن لا قاتل له غيرهما. وأما إذا كذب الأولين، وصدق الآخرين، فلأنه بتكذيبه للأولين سقطت شهادتهما، وشهادة الآخرين غير مقبولة، [و] إن وقعت حسبة، لأنهما صارا عدوين للأولين، وهما بشهادتهما دافعان القتل عن أنفسهما، كذا قاله ابن الصباغ وغيره. وفي ((الوسيط)) وراء ما ذكرناه أوجه فيما إذا وقعت الشهادة حسبة، وقبلناها: أحدهما: رد الشهادتين من غير مراجعة الولي، إذ هما متكاذبتان، ولا ترجيح. والثاني: أنه يراجع الولي، فأي البينتين صدقها، حكم بها، وبطلت الأخرى. والفرق بين هذا وبين ما في الكتاب: أن الولي لو صدق الأخرى حكم على الأولين بالقتل على هذا الوجه، ولا كذلك ما حكيناه في الكتاب. وهذان الوجهان نسبهما الإمام هكذا إلى رواية صاحب ((التقريب)). والثالث: أنه يحكم بالشهادة الأولى، أي: من غير مراجعة، لأنها صحيحة، والثانية مردودة، لتهمة الدفع وللعداوة.

قال: ولكن إثبات العداوة بمجرد الشهادة ضعيف، وهو متبع في ذلك إمامه. تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أمورًا: أحدها: أن الساقط عند تصديق الآخرين الشهادة، ومفهومة: أن الحكم الدعوى مخالف لذلك، وقد قال الأصحاب: إن كانت شهادة الأولين وقعت بعد دعوى الولي أو وكيله، وقد عين له في التوكيل الدعوى على الآخرين، سقطت دعواه أيضًا، حتى لو أراد أن يقيم على قتل الأولين أجنبيين، لم تسمع شهادتهما، كما تسقط إذا صدق الجميع، أو كذب الجميع. وإن وقعت حسبة، أو من وكيله، وقد أطلق الوكالة بالدم- لم تسقط، حتى لو أراد أن يقيم بينة على قتل الأولين له سمعت. الثاني: أن المسألة مصورة بما إذا وقعت شهادة الآخرين عقيب شهادة الأولين، لأن وضع الفاء يقتضي الترتيب والتعقيب، وهذا ما ذكره الشافعي، فإنه قال في ((المختصر)): لو شهدا على رجلين أنهما قتلاه، وشهد الآخران على الشاهدين الأولين أنهما قتلاه، وكانت شاهدتهما في مقام واحد- فإن صدقهم ولي الدم معا بطلت الشهادة، وعلى ذلك جرى الأصحاب كافة في التصوير. وقال القاضي السحين: لو تأخرت شهادة الآخرين عن ذلك المقام، لم يحتج إلى مراجعة، لأن الحاكم لا يصغي لسماع قولهما، بخلاف ما إذا كانا في ذلك المجلس، فإنه يصغي إليهما، لأنه في فصل خصومتهما، فإذا ابتدرا إلى كلمة الشهادة على الشاهدين، صارت مسموعة للحاكم لا محالة، وهذا مقو لتصوير المسألة بالصورة التي حكيناها عن الإمام وغيره. ولو وقعت شهادة بعضهم على بعض، ولم يتقدم أحدهما على الآخر- الماوردي: فكلتا الشهادتين باطلة، لا يحكم بواحدة منهما، ولا يرجع فيها إلى دعوى الولي، لتعارض الشهادتين في التدافع بها، ويظهر مجيء الوجه المنقول عن رواية صاحب ((التقريب)) هنا في أنه يرجع إلى تصديق الولي. الثالث: أن الولي لو كان صغيرًا، أو مجنونًا حالة الشهادة لا يحكم على الآخرين بالقتل في الحال، بل ينتظر البلوغ والإفاقة، لتحصل المراجعة، وهو أحد الوجهين في الحاوي، لتردد الشهادة بين إيجاب وإسقاط، فلم يحكم بأحدهما مع احتمالهما. وعن أبي إسحاق أنه يحكم عليهما في الحال بالقتل بشهادة الأولين.

فرع: لو كانت الدعوى من وكيل الولي على الآخرين، روجع، فإن صدق الأولين حكم بشهادتهما، وإن صدق الآخرين، وكذب الأولين، أو صدق الجميع، أو كذب الجميع- انعزل، ولا تبطل دعوى الموكل عن الآخرين، وهل تسقط عن الأولين؟ تقدم الكلام فيها، وقد ذكر الأصحاب هاهنا صورتين: إحداهما: أن يشهد اثنان بالقتل على رجلين، فيشهدان على رجل غير الشاهدين بالقتل، أو على رجلين غيرهما. والثانية: أن يشهد اثنان على رجل بالقتل، فيشهد أجنبيان على الشاهدين بالقتل. والحكم فيهما مأخذه مما ذكرناه في مسألة الكتاب للمتأمل، فلا حاجة [بنا] إلى التطويل فيه، والله أعلم. قال: وإن شهدوا بحق، ثم رجعوا عن الشهادة- فإن كان قبل الحكم، لم يحكم، لأن احتمال كذبهم في الرجوع مساو لاحتمال كذبهم في الشهادة، ولا يجوز الحكم مع الشك في صدق الشاهد فيما شهد به، كما لو جهل العدالة. وأيضًا: فإن الكذب ملازم لقولهم: إما في الشهادة، أو الرجوع، والحكم بشهادة الكذاب ممتنع. وعن أبي ثور: أنه يجوز أن يحكم، بناء على مذهبه في أن الفسق إذا طرأ قبل الحكم لا يمنع منه. ولا نزاع عندنا في أنه يمنع، وكذا لو طرأت عداوة بين [الشهود، والمشهود عليه] أو وارثه، كما إذا شهد الأخ لأخيه بجراحة قبل الاندمال، وللمجروح ولد، فمات الولد، ثم الوالد قبل الحكم. نعم لو طرأ على الشهادة قبل الحكم موت أو جنون أو [إغماء أو عمى] لم يمنع من الحكم. ثم الراجعون عن الشهادة إن قالوا: تعمدنا الشهادة مع علمنا ببطلانها، فسقوا، وعزروا. وإن قالوا: سهونا فيها، كان ذلك [قدحا] في حفظهم، لا في عدالتهم،

ووجب التوقف عن شهادتهم إلا ما تحققوه وأحاطوا علما به. وإن قالوا: لم يقع ذلك عمدا ولا سهوا، ولكن لشبهة اعترضنا- ومثلها يجوز على أهل العدالة واليقظة- فهم على عدالتهم وضبطهم، لا يقدح ذلك في واحد منهما، وتقبل شهادتهم من غير ما رجعوا عنه، وأما ما رجعوا عنه لا فلا تقبل شهادتهم به وإن أعادوها بحال. نعم قال الأصحاب: لو قال الشهود للحاكم بعد الشهادة وقبل الحكم: توقف، ولا تحكم، فلا يسوغ له الحكم، فلو قالوا له بعد ذلك: احكم بها، فإنا قد تيقنا السبب- ففيه وجهان في ((البحر))، وغيره، وفي ((تعليق)) القاضي الحسين حكايتهما قولين: أحدهما: لا [نمضيها]، كما قالوا: غلطنا. والثاني: نمضيها، وبه أجاب أحد الأصحاب والإمام، لكن هل يحتاج إلى إعادة تلك الشهادة؟ فيه وجهان في ((الوسيط)). قال: وإن كان بعد الحكم، أي: وقبل استيفاء المحكوم به، فإن كان [في حد]، أي: لله تعالى، أو للآدمي: كحد القذف، أو قصاص- لم يستوف، لأنهما يسقطان بالشبهة، ورجوع الشهود يوجب شبهة. فإن قيل: أليس قلتم: لو فسق الشهود في القصاص بعد الحكم وقبل الاستيفاء يستوفى على أحد الوجهين، فما الفرق؟ قيل: قد قال به بعض الأصحاب هنا، وطرده بعضهم في حد الله تعالى وحد الآدمي. ومنهم من لم يطرده في حد الله تعالى، وادعى أنه المنصوص، كما حكاه في ((البحر))، وعلى هذا فلا فرق. وعلى الأول، وهو الصحيح في ((البحر)) وغيره، وبه جزم ابن الصباغ والبندنيجي مع حكاية الخلاف في حالة الفسق قبل الحكم- فالفرق: أن الرجوع أقوى شبهة من الفسق، لأنهما يقران بأن شهادتهما زور، والفسق يورث شبهة في الشهادة مع إقامتهما عليها، فافترقا. وفي ((الحاوي)): أن القصاص لا يستوفى، لأنه يرجع فيه بعد السقوط إلى بدل

لا يسقط بالشبهة، وحد القذف هل يستوفى؟ فيه وجهان. قال: وإن كان في مال، أو عقد- أي من نكاح، وطلاق، وغيرهما- استوفي على المذهب، لأنه حكم نافذ بالاجتهاد فيما لا يسقط بالشبهة، فلا ينقض بالاجتهاد. وقيل: لا يستوفى، لأن الحكم قبل الاستيفاء غير مستقر، فأشبه ما قبل الحكم. قال: ومتى رجع شهود المال بعد الحكم، لزمهم الضمان في أصح القولين، لأنهم حالوا بينه وبين ماله بغير حق، فأشبه ما لو غصب عبدًا، فأبق من يده. والشيخ في تصحيح هذا القول متبع للقاضي أبي الطيب، فإنه قال في ((شرح الفروع)): إنه الصحيح عندي. ولا يلزمهم في الآخر، لأن العين إنما تضمن باليد أو الإتلاف، وهما معدومان هاهنا. ولأن المشهود عليه لم ييأس من رد ماله، فإن من حكم له بالمال لو اعترف بأنه له رد عليه، وذلك يوضح أن الفوات غير محقق، وهذا ما ادعى الفوراني والإمام أنه الجديد، وصححه النواوي، وهذان القولان قد حكاهما أبو حامد وغيره منصوصين، كما قاله في ((البحر)). والقاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وغيرهما قالوا: إن الذي نص عليه الشافعي هاهنا وفي غيره من الكتب: القول الثاني، فإنه قال: وإن كان في دار فأخرجت من يده إلى غيره، عزروا على [الشهادة بالزور] إن تعمدوها، ولا يعاقبون إن أخطئوا، ولم يتعمدوا، ولا يغرمون قيمة الدار. ونص فيمن أقر بدار في يده: أنه غصبها من زيد، ثم قال: لا بل من عمرو- أنها تكون لزيد، وهل يغرم لعمرو أم لا؟ على قولين. فاختلف الأصحاب- لأجل النصين- في المسألتين على طريقين: [إحداهما-

وبها] قال ابن سريج وطائفة، كما قال الماوردي-: أنهما يثبتان، وفي غرم الشهود إذا رجعوا قولان. قال البندنيجي: وبهذا قال شيوخ أصحابنا. ولفظ ابن الصباغ: أكثر أصحابنا. ولم يحك الفوراني والإمام هنا غيرها، وهي التي صححها البغوي. والثانية- وبها قال أكثرهم، كما قال الماوردي: أنه لا غرم هنا على الشهود قولا واحدًا، وإن كان في غرم المقر بالغصب قولان. والفرق: أن للغاصب يدًا صار بها ضامنا، وليس للشهود يد يضمنون بها، فافترقا. ولا فرق عند الأصحاب- كما قال في ((البحر))، وبه صرح الفوراني، والبغوي- بين الدين والعين فيما ذكرناه. وفي ((الحاوي)): أن الطريقين في العين، أما الدين إذا وقع الرجوع عن الشهادة به بعد قضائه، فإن كان المقبوض تالفا فعلى الشهود غرمه، لتلف العين بالاستهلاك، ولا يجوز للشهود أن يدعوا به على المشهود له، لما سبق من اعترافهم له بالحق. وإن كان باقيا في يد المشهود له، فقد اختلف أصحابنا: هل يكون في حكم العين، أو في حكم الدين المستهلك على وجهين. وكذا لا فرق فيما ذكرناه من إيجاب الغرم بين أن يقول الشهود: تعمدنا الكذب أو أخطأنا، لأن ضمان الأموال لا يختلف بالعمد والخطأ. ولا خلاف في أن المشهود عليه لو لم يؤد الدين لا يرجع على الشهود، وإنما يرجع عليهم بعد الغرم- قاله القاضي الحسين وغيره- لأن هذا ضمان حيلولة، بدليل أن المشهود له لو أقر للمشهود عليه بذلك رجع الشهود بما غرموه، ولا حيلولة قبل الغرم. ثم اعلم أن على القول بالغرم فروعًا: منها: القيمة بأي وقت تعتبر؟ فيه وجهان في ((الحاوي)) وغيره: أحدهما: وقت الحكم، وهو قول ابن سريج.

والثاني: أكثر ما كانت من وقت الحكم إلى وقت الرجوع. ومنها: إذا كان عبد بين اثنين، فشهد شاهدان على أحدهما بأنه أعتق نصيبه وهو موسر، [ثم رجعا]، غرما قيمة نصيب المشهود عليه بالعتق، وكذا قيمة ما حصلت فيه السراية على القول الذي عليه نفرع دون ما إذا قلنا بالقول الثاني، قاله في ((التهذيب))، و ((شرح الفروع)). ومنها: إذا رجع شاهدا الأصل، فقالا: أشهدنا الفروع علينا غالطين في الشهادة- فالعزم عليهما دون الفروع. ولو قالا: لم يشهد الفروع على شهادتنا، فلا غرم عليهما ولا على الفروع. ولو قالا: علمنا أن شهود الفروع كذبة، غرما، بخلاف ما لو قالا: ما علمنا كذبهم ثم ظهر لنا، قاله القاضي الحسين، وسنذكر بقية الفروع من بعد إن شاء الله تعالى. قال: وإن رجع شهود العتق، لزمهم الضمان، أي: بالقيمة، لا الثمن، لأنهم أتلفوا رقه عليه، فإن تداركه ممتنع شرعًا، فأشبه ما لو قتلوه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المشهود بعتقه قنا أو مدبرًا أو أم ولد، كما قاله الماوردي والبغوي وغيرهما. قلت: وقد يقال: إن حكم أم الولد يخالف حكم القن فيما إذا مات السيد، فترد القيمة، كما قلنا فيما إذا غصبت، وأخذت قيمتها للحيلولة، فمات [كما صرح به الإمام آخر كتاب الدعاوى]، وعلى هذا إن صح يظهر أن يقال في المدبر إذا مات السيد: إنه ينظر: فإن خرج من الثلث أو بعضه، استرد قدر ما خرج. إن لم يخرج منه شيء، استقر ملك المشهود عليه على القيمة. ولو شهدا عليه بكتابة عبد، ثم رجعوا، قال في ((الحاوي)): لا يغرمون في الحال شيئًا، ولكن ينظر: فإن عجز، وعاد إلى الرق، فلا غرم أيضًا. وإن أدى، وعتق، نظر فيما أداه من كتابته، فإن كان بقدر قيمته، ففي وجوب غرمها وجهان:

وجه الوجوب: أنه أداها من كسبه، والسيد يملكه أيضًا. وإن كان ما أداه وعتق به أقل من قيمته، رجع السيد بالباقي من قيمته. وفي الرجوع بقدر المؤدى الوجهان. وقد أطلق في ((الشامل)) حكاية الوجهين، ثم قال: وينبغي أن يكون هذا إذا أدى وعتق، فأما قبل العتق فلا غرم. ولو شهدوا بأن المكاتب أدى النجوم كلها، وحكم بعتقه، ثم رجعوا، غرموا أقل الأمرين من قيمته ومال كتابته، لأن القيمة إن كانت أقل فليس بأغلظ من العبد القن، فلم يلزمهم أكثر منها. وإن كان مال الكتابة أقل، فليس على المكاتب أكثر منه، فلم يرجع بالزيادة [عليه]، قاله الماوردي. وفي ((البحر)): أنه لو شهد اثنان: أنه أعتق هذا العبد على ضمان مائة، وقيمة العبد مائتان، فحكم الحاكم بشهادتهما، ثم رجعا، قال ابن الحداد: رجع على الشاهدين بتمام القيمة، وهذا ما قاله فيما إذا شهدا بالطلاق على ألف، ومهر مثلها ألفان: أنه يلزمهم ألف إذا رجعوا. قال الرافعي: ويمكن أن يفرق بأن الألف هنا من كسب العبد، وأنه للسيد، بخلاف الزوجة. فرع: لو شهدوا بوقف دار أو فرس، أو جعله الشاة أضحية، ثم رجعوا- قال ابن أبي أحمد: لزمهم في ذلك كله قيمته يوم شهدوا، لأن ذلك إتلاف، فهو بمنزلة العتق. قال: وإن رجع شهود الطلاق- أي: الثلاث- بعد الحكم، فإن كان بعد الدخول، لزمهم مهر المثل للزوج، لأنهم أتلفوا البضع عليه، وبدله مهر المثل، دليله جواز الخلع، ولأن ملكه على البضع بعد الدخول أقوى من قبله، بدليل أنه لا ينفسخ النكاح بمجرد الردة، بل يوقف على انقضاء العدة، ولا كذلك قبله،

وقد وافق الخصم- وهو مالك، وأبو حنيفة- على أنه يرجع على الشهود قبل الدخول، فكذلك بعده. قال الماوردي: والأولى عندي: أن ينظر: فإن قدر الزوج على الاجتماع بها في الباطن، لا يرجع عليهم كي لا يجمع بين الاسبتاحة والرجوع، وإن لم يصل إلى الاستمتاع بها، لامتناعها عليه، تمسكا بظاهر التحريم، رجع، وفرع على هذا أنه لو شهد شاهدان بقذف امرأته، فلا عن الحاكم بينهما، ثم رجع الشاهدان، فاللعان في الظاهر على نفاذه في التحريم المؤبد، وأما في الباطن فيعتبر بحال الزوج. فإن أمن من حد القذف حين لا عن، فالفرقة واقعة في الباطن، ولا رجوع على الشهود، لوقوع الفرقة بلعانه. وإن خاف من حد القذف، لم تقع الفرقة في الباطن، ولا رجوع له على الشهود، إن أمكنته من نفسها، ويرجع عليهم إن منعته. وما ذكره الشيخ في غرم مهر المثل هو المذهب، ووراءه قول آخر: أن المغروم المسمى، لأنه الذي فات على الزوج متقوما، والبضع ليس بمتقوم في الحقيقة، وقد حكينا مثله في الرضاع، ويشهد لهذا ما حكي عن القديم: أن المرأة لو كانت قد فوضت بضعها، وشهدوا بالطلاق قبل الفرض والمسيس- أن المغروم المتعة، وهو اختيار ابن الحداد. وقال الأصحاب: إنه غلط. قال: وإن كان قبل الدخول، ففيه قولان: أحدهما: يلزمهم نصف مهر المثل، لأمرين: أحدهما: أنه قدر ما ألزم، فإن النصف الثاني عاد إليه سليما، فصار كماك لو شهدا على المشتري بالإقالة، وقضى القاضي، ثم رجعا- لا يغرمان شيئا، لأنهما وإن فوتا عليه السلعة، ردا إليه الثمن. والثاني: أنه قد رجع على الزوجة بنصفه، فلو رجع على الشهود بجميعه، لصار إليه مهر ونصف، وهو لا يستحق أكثر من المهر، وهذا ما نقله الربيع،

واختاره المزني، وبعضهم قطع به، عملًا بقول المزني الذي سنذكره من بعد. والثاني: يلزمهم جميعه، لأمرين: أحدهما: أنهم [قد حالوا] بينه وبين [ما له] من جميع البضع، فوجب أن يرجع بجميع مهرها، كما يرجع به بعد الدخول. والثاني: أنه لما رجع بجميع المهر وإن استمتع بها، كان أولى أن يرجع بجميعه إذا لم يستمتع بها، وهذا ما نقله ابن القاص عن رواية حرملة، وصححه القاضي أبو الطيب، والبغوي، وتبعهم الرافعي، والنواوي، ونقله المزني أيضًا، ثم قال: وما رويته عن الشافعي أن الشهود إذا رجعوا قبل الدخول يجب عليهم جميع المهر- خطأ من غير الشافعي. [قال أبو الطيب: قال أصحابنا: إن كان خطأ من غير الشافعي]، فهو من المزني، لأنه الذي نقله وعلى هذا ينظر: فإن كان قد سلم الصداق إليها، لا يرجع به، لأنه لا يدعيه. وإن لم يسقه إليها لم يلزمه إلا نصفه، وإن اعترف لها بجميعه لأجل متعة منها، وهذه الطريقة عليها الأكثرون، وهي المشهورة، كما قاله أبو الطيب وصححها البغوي. وقد ادعى بعضهم أن القول الأول مخرج من نص الشافعي على أن الزوجة الكبيرة إذا أرضعت الصغيرة يجب عليها نصف مهر المثل، كما خرج من النص هنا على تغريم الشهود جميع مهر المثل إلى ثم قول مثله، وهي طريقة الإصطخري، وقد ذكرناها في كتاب الرضاع. وعن أبي إسحاق كما قال الفوراني وغيره- المنع من تخريج ما نحن فيه على قولين، وحمل رواية من أوجب جميع المهر على ما إذا ساق الزوج إليها المهر، لأنه خرج عن يده جميع المهر، ولا يمكنه أن يطالب بشيء منه، لاعترافه بعدم الفرقة، فرجع عليهم بجميعه. وحمل رواية من أوجب النصف على ما إذا كان قد ساق لها النصف، لأنه الذي تعذر عليه. قال القاضي الحسين: وعلى هذا لو كان قد ساق إليها ثلاثة أرباعه، رجع بثلاثة أرباع.

قال الماوردي: وهذه الطريقة أولى عندي من تخريج القولين، لأن ما أمكن حمله على الاتفاق كان أولى من حمله على الاختلاف. وقد حكى عن أبي إسحاق أنه أقر النصين: الذي هنا، والذي في الرضاع على ظاهرهما، ولم ير تخريج القولين فيهما، كما صار إليه الإصطخري، وفرق بأن هناك وجدت حقيقة الفرقة، والفرقة قبل الدخول توجب نصف الصداق، وهنا لم توجد الفرقة في الباطن، والمغروم للحيلولة، والحيلولة وقعت بينه وبين جميع البضع، فلذلك غرموا جميع المهر. ووراء ما ذكرناه من القولين قولان: أحدهما: [أن] المغروم نصف المسمى. والثاني: جميع المسمى، كما حكيناهما في كتاب الرضاع. أما إذا كان الطلاق دون الثلاث، فقد قال الماوردي وكذا [القاضي الحسين]: إنه ينظر: فإن كان قبل الدخول، فالحكم كما تقدم، لأنها تبين بالواحدة كما تبين بالثلاث. وإن كان بعده: فإن كان بغير عوض، نظر: فإن كان قد يكمل به ما يملكه، كما إذا كان قد طلقها طلقتين وهو حر، فشهدوا بالثالثة، رجع عليهم. قال الماودري: لكن في قدر ما يغرمون وجهان: أحدهما: ما كانوا يغرمونه لو كانت الشهادة بالثلاث، لأنهم منعوه بها من جميع البضع، كالثلاث. والثاني: ثلثه، لأنه ممنوع من بضعها بثلاث طلقات، اختص الشهود بواحدة منها، فكان ثلث المنع [منهم]، فوجب ثلث الغرم عليهم، وعلى هذا لو كان الزوج قد طلقها واحدة، وشهدوا عليه بطلقتين، لزمهم الثلثان. قلت: ولم يظهر فرق بين هذه الصورة وبين ما إذا طلقها واحدة قبل الدخول، وقد جزم بأن حكمها حكم الثلاث.

قال: وإن لم يكمل بالطلاق المشهود به الثلاث، فإن كان رجعيًا فلا غرمٍ، لأن الزوج يقدر على استباحتها بالرجعة، وهذا ما أبداه القاضي الحسين احتمالًا في ((تعليقه))، ورواه عنه أبو الفرج السرخسي وجهًا، وابن كج نسبه إلى ابن أبي هريرة. وفي ((الشامل)) و ((البحر)): أن بعض أصحابنا حكى في المسألة وجهين: أحدهما: هذا. والثاني: أنه كالبائن، لأنه يزيل الملك بانقضاء العدة. وهو ما قال القاضي الحسين: إنه الظاهر، أخذا من قول الشافعي في ((المختصر)): إنه يجب الغرامة، لأنهم حرموه عليه، والطلاق الرجعي عندنا يحرم، ولم يحك في ((التهذيب)) غير هذا، وقال هو والقاضي: إنه إن راجعها، استرد منه الغرم، وإلا استقر، سواء جدد نكاحها بعد انقضاء العدة أو لا. وإن كان الطلاق بعوض، نظر: فإن كانت شهادتهم على الزوجة لإنكارها عقد الخلع فلها الرجوع بما غرموها. وإن كانت على الزوج، لإنكاره الطلاق، فهم قد ألزموه الطلاق في مقابلة بدل إن لم يستحقه بالخلع، استحقه لأجل الحيلولة، فينظر: فإن كان العوض قدر ما يغرمه الشهود في غير الخلع، لم يرجع على الشهود بشيء، وإن كان أقل رجع عليهم بالفاضل، كما لو شهدوا بشفعة في مبيع وانتزع من مشتريه بثمنه، ثم رجعوا، فإن الثمن إن كان قدر القيمة أو أكثر، فلا يرجع على الشهود بشيء، وإن كان أقل من القيمة ضمنوا فاضل القيمة، وعلى هذا ينطبق قول ابن الحداد: إنهم لو شهدوا: أنه طلقها على ألف، ومهر مثلها ألفان: أنهما يغرمان ألفًا، لأنه يأخذ ألفًا من المرأة. وأطلق البغوي والرافعي القول بأن الشهود بالطلاق على العوض إذا رجعوا يغرمون، كما لو شهدوا بالطلاق الثلاث، وعليه ينطبق قول ابن كج: إن عليهم مهر المثل بعد الدخول، ونصفه قبل الدخول، كما لو لم يذكروا عوضًا، لأن ما جعل عوضًا إن قبضه محفوظ عنده للمرأة، لأنه لا يدعيه، وإنم لم يقبضه، فيقر

عند المرأة [إلى مدعيه]. ولا فرق في الرجوع على الشهود في هذه المسائل إذا رأيناه بين [أن يكون] الزوج قد دفع الصداق أم لا، كما قاله القاضي الحسين، ولا بين أن تكون المرأة قد فوضت بضعها، وطلقت قبل الفرض والمسيس أو لا على الجديد، وفي القديم ما ذكرناه، والذي أورده البغوي: الأول، واستشهد به على صحة القول بالرجوع بكل المهر، لأنه يجب على الشهود عند صاحب القول الأول في هذه الحالة نصف المهر، لأنه يجب على الشهود عند صاحب القول الأول في هذه الحالة نصف المهر، [وليس] يغرم الزوج إلا المتعة. فرع: لو شهدوا على امرأة بالنكاح [ثم] رجعوا، قال في ((الشامل)) و ((البحر)): قال بعض أصحابنا: إن كان قبل الدخول، لم يجب عليهم شيء، وإن كان بعده غرموا ما نقص عن مهر المثل. وقال ابن الصباغ: ينبغي إذا وقعت الشهادة قبل الدخول [ثم دخل]: أن يغرموا ما نقص، وهذا ما أطلقه ابن كج. وفي ((تعليق)) القاضي الحسين و ((التهذيب)): أنهم لا يغرمون شيئًا، سواء فيه قبل الدخول وبعده، لأنهما لم يتلفا على واحد منهما شيئًا، بل الزوج هو الذي أتلف، ومنافع البضع غير مضمونة على الشهود، ألا ترى أنهم لو شهدوا له بأمة فوطئها، ثم رجعوا، يغرمون القيمة دون المهر؟! ولو كانت الشهادة على الزوج بالنكاح، ثم رجعوا بعد الحكم، فهل يغرمون؟ فيه وجهان: أصحهما: لا، لأنهم أثبتوا له حق النكاح، وأدخلوا البضع في ملكه في مقابلة ما ألزموه من المهر، فصار كما لو شهدوا عليه بأنه اشترى هذا العبد بكذا، ثم رجعوا لا يغرمون الثمن. والثاني: أنهم يغرمون، لأنه لولا شهادتهم ما أخذ منه شيء مع إنكاره، وإذا

شهدوا يؤخذ منه نصف المهر، فكأنهم فوتوه عليه، ولا يحصل له- وهو منكر- في مقابلة ما فات شيء، بخلاف صورة الشراء، فإنه وإن كان منكرًا يحكم بدخول المبيع في ملكه، ويؤخذ منه الثمن. قال الشيخ أبو علي: ويجوز أن يكون الوجهان مبنيين على أن شهود المال إذا رجعوا، هل يغرمون، لأن فائدة الشهادة هنا ترجع إلى المالك، فإن النكاح لا يبقى [أثره] مع إنكاره. ولو ساعدتهم المرأة على الرجوع لأمرناها برد المال، فكانت الشهادة في الصورتين واقعة على ما يمكن تداركه. قال الرافعي في كتاب النكاح: ويحسن أن يرتب فيقال: إن لم يغرم شهود المال، فهاهنا أولى، وإن غرم شهود المال فهاهنا وجهان، لإثباتهم لهم حقًا في مقابلة ما فوتوا. ولو شهد شاهدان على رجل بنكاح امرأة بمهر مسمى ادعته، وآخران أنه أقر بالدخول بعد دعواها به، وآخران أنه طلقها، وحكم الحاكم بذلك، ثم رجعوا فحاصل ما ذكره الأصحاب في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا غرم على واحد من الشهود: أما شهود النكاح والإصابة، فلأنهم لم يفوتوا عليه شيئًا، ولا حالوا بينه وبين شيء. وأما شاهدا الطلاق، فلأنه ينكر النكاح، ويقر بأنهما لم يفوتا عليه شيءًا بشهادتهما. والثاني- وهو جواب ابن الحداد-: أنه لا غرم على شهود النكاح والإصابة، ويجب على شاهدي الطلاق نصف مهر المثل، لأن النكاح قد ثبت بحكم الحاكم، وبطل إنكاره، وهذا ذكره تفريعا على أن شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا لا يغرمون إلا نصف مثر المثل. والثالث: أنه يغرم شاهدا النكاح، ولا يغرم شاهدا الطلاق، وهل يغرم شاهدا الإصابة؟

إن شهدا بعد الشهادة بالنكاح، غرما، ويكون المغروم ما غرمه الزوج بالسوية بين الصنفين. وإن أطلقا الشهادة فلا شيء عليهما، ويجب على شاهدي النكاح نصف الغرم، والله أعلم. قال: وإن رجع شهود القتل بعد القتل، أي: في حد لله تعالى، أو في قصاص، فإن تعمدوا- أي: قتله بشهادتهم- لزمهم القصاص، لما قدمناه في باب ما يجب به القصاص. قال في ((البحر)): ولا يجب عليهم مع ذلك التعزير، لدخوله في القود. قلت: وكذا في حد القذف إن كان المشهود به زنى. قال: فلو عدل عن القصاص إلى الدية، فهل يعزر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كالقصاص. والثاني: نعم، لأن بالتعزيز تأديبًا يختص بالأبدان. وهذا إذا كان المشهود [به] غير زنى، أما إذا كان زنى، فإن استوفى حد القذف فيظهر ألا يجب، لدخوله فيه، وإلا فعلى الخلاف فيما إذا وجب الحد، فعفا عنه. قال: فإن أخطئوا لزمتهم الدية، لأن القاتل خطأ مباشرة هكذا حكمه، فكذلك بالسبب، ومعرفة خطئهم يستفاد من قوله: ظننا أن المشهود عليه هو فإذا هو غيره، وتكون مخمسة مؤجلة في مالهم، لأنها وجبت بالاعتراف، اللهم إلا أن تصدقهم العاقلة، [فتجب عليهم] كما قال القفال. قال الإمام: وقد يرى الحاكم- والحالة هذه- تعزير الشهود، لتركهم التحفظ. وفي ((تعليق)) القاضي بعد حكاية قول القفال: أنه فيه إشكالًا، لأن إيجاب الدية على عاقلة إنما يتعلق بالمباشرة. وعن القاضي ابن كج حكاية عن أبي الحسن أن الشهود لو ادعوا على العاقلة عند إنكارهم العلم بخطئهم، وراموا تحليفهم- ليس لهم ذلك. وقال القاضي ابن كج: ويحتمل عندي أن يقال: لهم تحليفهم، لأنهم لو أقروا لغرموا.

وقد أطلق العراقيون القول بأنها تجب على الشهود، كما ذكرنا. وقال في ((البحر)): إن بعض أصحابنا بخراسان قال: تجب [مثلثة مؤجلة، لأنه لا يتصور فيه الخطأ المحض، لأنهم قصدوا عينه، وشهدوا] عليه، كما قاله البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين، فيكون عمد خطأ. قال: وهذا خطأ، لأنه قصدوا عينه بالخطأ والغلط، وحكم الخطأ تخفيف الدية. نعم، يجب كذلك إذا قالوا: تعمدنا الشهادة بالزور، لكنا قدرنا أنه لا تقبل شهادتنا، أي: وكانوا قريبي عهد بالإسلام، وأمكن خفاء مثل [ذلك] عليهم، كما قاله البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين، وهو من بعد. أما إذا كان مثله لا يخفى عليهم، فالواجب القصاص، أو الدية المغلظة من كل وجه. وقد حكى الإمام فيما إذا قال الشهود: تعمدنا الشهادة، ولم نعلم أنه تقبل شهادتنا، أي: وكانوا قريبي عهد بالإسلام، وأمكن خفاء مثل [ذلك] عليهم، كما قاله البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين، وهو من بعد. أما إذا كان مثله لا يخفى عليهم، فالواجب القصاص، أو الدية المغلظة من كل وجه. وقد حكى الإمام فيما إذا قال الشهود: تعمدنا الشهادة، ولم نعلم أنه تقبل شهادتنا- عن الأكثرين أن القود لا يجب، من غير تفصيل بين أن يكون حاله يشهد بصدقه، أم لا، وهكذا أطلق القاضي أبو الطيب، والفوراني- أيضًا- ثم قال الإمام: وفيه نظر، فإن من ضرب شخصًا، ومات، وكان ذلك [الشخص] مريضًا يقصد قتله بمثل ذلك الضرب، فقال الضارب: لم أحسبه مريضًا، ولو كان صحيحًا لكان الأغلب ألا يموت، فهل يجب القصاص والحالة هذه؟ فيه تردد مأخوذ من كلام الأصحاب لابد من مجيئه هنا. قال الرافعي: وقد ذكر الروياني نحو ذلك، وقال: إنه سمعه من بعض أصحابنا في النظر. قال الإمام: فإن قلنا بوجوب القصاص على الشهود في هذه الحالة، فلا كلام، وإن قلنا: لا قصاص عليهم، فقد نص الشافعي على أن الدية حالة من أموالهم. وكذا قال الفوراني أيضًا، واختلف الأصحاب فيه: فقال صاحب ((التقريب)): المسألة مصورة بما إذا كان قد مضى من وقت القتل ثلاث سنين. وقال القفال: بل تجب عليهم حالة كيفما كان، كما نص عليه، لأنهم متعمدون، فيكون عمدا من كل وجه.

وقوله: إني لم أعلم، كقوله: رميته قصدًا، ولم أعلم أن السهم يبلغه. قال: وهذه المسألة تقرب ممن قتل مسلما في دار الحرب على توهم أنه مشرك، ففي وجوب الدية قولان، فإن قلنا: تجب، ففي ماله أو على عاقلته؟ قولان. فرع: لو قال بعضهم: تعمدنا الجميع الشهادة بالزور، [و] علمنا أنه يقتل، وقال البعض الآخر: بل أخطأنا- قال أبو الطيب، وابن الصباغ، والقاضي الحسين: من أقر بالعمد يجب عليه القصاص، ومن أقر بالخطأ يجب عليه حصته من الدية في ماله. وحكى الرافعي وجها: أنه لا يجب على المقر بالعمد أيضًا القصاص، لأن قول الآخر في الخطأ مقبول، فيكون الأول شريكا خاطئاً. والمشهور الأول. نعم، لو قال بعضهم: تعمدت أنا، وأخطأ أصحابي، وصدقه أصحابه- فلا قصاص عليه وعليهم، وعليه قسطه من الدية مغلظًا، وعلى أصحابه قسطهم منها مخففا في مالهم. وإن كذبوه، وقالوا: تعمدنا- وجب عليهم القصاص، قاله ابن الصباغ، وهل يجب عليه؟ فيه وجهان، أضعفهما في ((البحر)): الوجوب، وهو المختار في ((المرشد))، وكذا الحكم فيما لو قال: تعمدت أنا، ولا أدري هل أخطأ أصحابي أو تعمدوا؟ وقال أصحابه: تعمدنا- يجب عليهم القصاص، وهل يجب عليه؟ فيه وجهان في ((الشامل)) وغيره، وأصحهما في ((البحر)) الوجوب، وبه جزم البغوي. وكذا فيما إذا قال أصحابه: تعمدنا، ولا ندري حال الآخر. و [لو] قال البعض: عمدت وأخطأ أصحابي، وقال أصحابه: عمدنا وأخطأ هو، ففي وجوب القود وجهان. وقال في ((البحر)): أصحهما فيه: عدم الوجوب، وهو المختار في ((المرشد))، و ((الرافعي)). ولو انعكس الحال، فقال البعض: أخطأت وتعمد أصحابي، وقال أصحابه:

أخطأنا وعمد هو- فلا قصا على الجميع جزمًا، قاله القاضي الحسين. ولو قال البعض: عمدنا كلنا، وقال الباقون: عمدنا وأخطأ أولئك، فعلى الأول القصاص، وهل يجب على الباقين؟ فيه الخلاف. وحكم الشهادة بما يوجب قطع الطرف حكم الشهادة بما يوجب القتل فيما ذكرناه، صرح به في ((الشامل)) وغيره. [وهذا] فيما إذا رجع الشهود، فلو رجع القاضي دونهم، وقال: تعمدت، فعليه القصاص، أو الدية المغلظة بكمالها، وإن رجع القاضي والشهود دون الولي، فعليهم القصاص. وإن قالوا أخطأنا، أو عفا عنهم، فالدية منصفة: نصفها على القاضي، والنصف على الشهود. قال ((الرافعي)): هكذا أورد المسألة صاحب ((التهذيب)) وغيره، وقياسه: ألا يجب كمال الدية عن رجوع القاضي وحده، كما لو رجع بعض الشهود. قلت: لو صح هذا القياس، لاقتضى ألا يجب على الشهود إذا انفردوا بالرجوع سوى النصف، بل سوى الثلث، لما ذكرنا في باب ما يجب به القصاص: أن الشهود، والقاضي، والولي إذا رجعوا يجب على القاضي الثلث، والولي الثلث، والشهود الثلث على الصحيح عند البغوي وغيره، بل لا يطالب الشهود [بشيء، بناء على أن الكل إذا رجعوا لا يجب على القاضي والشهود شيء، بل يختص بالغرم الولي، كما هو الصحيح عند الإمام. ولاقتضى- أيضا- ألا يطالب القاضي في هذه الصورة] بشيء، بناء على الصحيح في أن النصاب إذا بقي بعد الرجوع لا يغرم الراجع شيئًا، كما ستعرفه، بل يوجبه إيجاب الأصحاب الغرم على القاضي والشهود عند رجوعهم: أنهم بمنزلة القاتلين اجتمعا على القتل، ولو انفرد أحدهما لانفرد بالغرم، ولا كذلك الشهود، فإنهم بمنزلة القاتل الواحد، والله أعلم. قال: وإن شهد عليه أربعة بالزنى- أي: وهو محصن- فرجم، ثم رجع

أحدهم، وذكر أنه أخطأ في الشهادة، لزمه ربع الدية، لأن القتل ثبت بشهادتهم، فقسمت الدية عليهم، وهل يلزمه حد القذف؟ فيه قولان حكاهما القاضي أبو الطيب. أحدهما: [لا، كما] لا يجب على الثلاثة الذين لم يرجعوا. وعكس البندنيجي ذلك، فقال: يجب على الراجع الحد، وهل يجب على المصرين؟ فيه طريقان: المنصوص: أنه لا حد عليهم، وهي طريقة المراوزة، كما قال الإمام: إنه يجب على الراجع دون المصرين. ومن أصحابنا من قال: فيهم قولان، كما لو لم يشهد الرابع. قال الإمام: وهذه بعيدة جدًا، ثم إن لم يكن بد منها، فيجب ذكرها إذا فرض الرجوع قبل نفاذ القضاء، أما إذا نفد الحكم، ورجع، فلا يجوز أن يكون في المصرين على الشهادة خلاف. أما إذا ادعى أنه تعمد، وتعمد أصحابه قتله بشهادتهم، فيظهر أن يكون الحكم في حقه كما لو ادعى ذلك، وادعوا الخطأ في شهادتهم خاصة، لأن الإصرار على الشهادة لا ينتقص عن ذلك، بل أولى، وقد ذكرنا الحكم في ذلك وما يتعلق به. ثم إذا وجب عليه القصاص- كما هو الصحيح في تلك المسألة- هل يرجم، أو يقتل بالسيف؟ فيه وجهان في ((تعليق)) القاضي الحسين، وحكاهما ((الرافعي)) في باب الرجوع عن الشهادة احتمالين لأبي الحسن العبادي، وأن الأظهر الأول. ولو كان المشهود عليه بالزنى غير محصن، فجلد، ثم رجع أحدهم، نظر: فإن مات من الضرب، فعليه ربع الدية في ماله، سواء قال: تعمدت، أو أخطأت، وحد القذف حكمه ما تقدم. وإن لم يمت، فإن أثر الضرب فيه، وجب عليه ربع الأرش، والحد. وإن لم يؤثر، فيجب عليه حد القذف، والتعزير، كما قال في ((الكافي)). قال: وإن شهد ستة- أي: بالزنى- وهو محصن فرجع اثنان، فقد قيل: لا

يلزمهما شيء، أي سواء قالا: تعمدنا الجميع، أو أخطأنا، لأن البينة بعد رجوعهما تعد باقية على إباحة دمه، وسقوط ضمانه، فلم يلزم الراجعين شيء، كما لو قتلاه بعد أن ثبت زناه وإحصان بشهادة غيرهما، وهذا ما نسبه الماوردي وغيره إلى اختيار ابن سريج، وأبو الطيب، وابن الصباغ. وغيرهم نسبوه إلى اختيار الإصطخري، وقالوا: إن الشافعي نص عليه في ((البويطي))، وهو الذي صححه في ((التهذيب))، و ((الكافي)) و ((المرشد)). وقال القاضي الحسين والإمام والفوراني: إنه المشهور. وقال الإمام في أثناء كلامه في التفريغ: إنه الصحيح. وقيل: يلزمهما ثلث الدية، لأن القتل حصل بشهادة المجموع، ولو يتعين له شخص دون شخص، يدل عليه أنهم لو رجعوا بأجمعهم، لوزعت الدية عليهم، وإذا كان كذلك فهما ثلث الجملة، فوجب عليهما ثلث الدية، وهذا ما اختاره [المزني] وأبو إسحاق وادعى الفوراني أنه منصوص عليه في ((البويطي))، وعلى هذا إن كان في صورة يجب فيها القصاص على الجميع لو رجعوا الكل- وجب على الراجعين أيضا دون ما إذا قلنا بالأول، صرح به القاضي الحسين في باب الرجوع عن الشهادة، وهذا الخلاف جارٍ في كل صورة شهد فيها أكثر من النصاب، فرجع منهم من لم ينقص النصاب به، سواء فيه ما لا يثبت إلا بشاهدين، وما يثبت بالشاهد واليمين، وهو الأموال، وما ثبت بشهادة النسوة: كالرضاع، ونحوه. وعلى الوجه الثاني يجب على الراجع بالنسبة، صرح به الفوراني، وغيره. وقد حكى القاضي الحسين عن القفال في مسألة الكتاب فيما إذا قال الراجعان: تعمدنا قتله بشهادتنا، وقلنا بالأول: إنه يحتمل أن يقال: يلزمهما القصاص، لأن حكم القصاص لا يختلف بكثرة الجناة وقلتهم، بخلاف الدية، لأنها متجزئة. قال: والصحيح الأل، وبالغ في ((الكافي))، فقال: لا خلاف أنه لا قصاص عليه، يعني: وإن ثبت الخلاف في الغرم، وبه قال ابن الحداد، وقال: إنه يخالف ما لو شهدوا بالقتل، ثم رجع اثنان أو أكثر، وبقي النصاب، فإنه يجب

على الراجعين القود، لأنه تمام بينة القصاص، وبقاءها، لا يبيح لغير الولي القتل، وإذا كان كذلك أشبه ما لو ثبت القتل بشهادة غيرهما، [وقتلاه]، فإنه يجب عليهما القود. فرع: لو رجع في صورة الكتاب ثلاثة، وجب على الراجعين ربع الدية على الوجه الأول، وعلى الثاني يجب عليهم النصف، وهو ما قال في ((الشامل)) و ((البحر)) هنا: إن الشافعي نص عليه في ((البويطي)). وقال في ((الحاوي)): إنه الظاهر من منصوص ((البويطي)) عن الشافعي. ومحل هذا الخلاف جار فيما لو شهد بالقتل ثلاثة، فرجع اثنان، فعلى الأول يجب عليهما النصف، وعلى الثاني: يجب عليهما الثلثان. ولو رجع في مسألة الكتاب أربعة، فعلى الأول يجب عليهم النصف، وعلى الثاني الثلثان. ولو رجع خمسة، وجب على الأول [عليهم]، النصف والربع، وعلى الثاني خمسة أسداس. قال: وإن شهد أربعة بالزنى، واثنان بالإحصان- أي: فرجم- ثم رجعوا، فقد قيل: لا يلزم شهود الإحصان شيء، لأن الموجب لقتله فعله، ولم يشهدوا به، وإنما أثبتوا له صفة كمال، ألا ترى أنه لو شهد اثنان على شخص بأنه قذف فادعى أنه عبد، فشهد آخران أنه حر، فجلد ثمانين، فمات، ثم رجع الكل- لا شيء على شاهدي الحرية، وهذا ما حكاه الروياني تبعا للإمام قولا، وغيره حكاه وجها، وصححه في ((التهذيب)) و ((الكافي))، واختاره في ((المرشد))، والنواوي. وقيل: يلزمهم، لأن القتل لم يستوف إلا بهم. قال الماوردي: وهذا هو الظاهر، وقد حكاه أبو حامد في ((جامعه)) عن المزني، وقد حكاه الروياني والإمام قولا. قال القاضي الحسين: وعندي في مسألة الاستشهاد بالحرية: أنه يجب عليهما أيضًا.

وقال الإمام في باب الرجوع عن الشهادة: إن على الوجهين يتخرج ما إذا شهد اثنان على ((تعليق)) العتق بدخول الدار، وشهد آخران على دخولها، ثم رجعوا بعد نفوذ القضاء، هل يغرم شهود الصفة شيئًا أم لا؟ وقد حكيت هذا من قبل. وقيل: إن شهدوا بالإحصان قبل الزنى، أي: قبل الشهادة بالزنى، لم يلزمهم شيء، لأنهم لم يثبتوا إلا صفة كمال. وإن شهدوا بعد الزنى، لزمهم، لأن الرجم لم يستوف إلا بهم، وهذا قول ابن أبي هريرة. عن أي ثور: أنه لا يلزم الغرم إلا شهود الإحصان، وغلط فيه. والوجهان الأولان في تغريم شهود الإحصان يجريان فيما لو رجعوا دون شهود الزنى، كما قاله الماوردي. التفريع: إن قلنا بعدم ضمان شاهدي الإحصان، فالدية على شهود الزنى أرباعًا عند رجوعهم، كما ذكره الشيخ. وإن ضمناهما عند رجوع شهود الزنى، أو عدم رجوعهم- ففي قدر ما يلزمهم وجهان: أحدهما: نصف الدية، لأن الرجم ثبت بنوعين، فكان كالضمان مقسطًا عليهما نصفين، فعلى هذا: يجب على كل من شاهدي الإحصان ربعها، وعلى كل واحد من شهود الزنى إذا رجعوا ثمنها. والثاني: يجب عليهم ثلث الدية، وعلى شهود الزنى إذا رجعوا الثلثان، فيجب على كل واحد، سدس الدية، كما لو شهد ستة بالزنى، وهذا ما قال الماوردي: إنه الظاهر من رواية المزنى، وصححه في ((الكافي)). قال القاضي الحسين: وهذا الخلاف نظير ما إذا أصدق الكافر زوجته خمرًا، أو خنازير، أو كلابًا، ثم أقبضها البعض في الشرك، ثم أسلما، فإنا على رأي: نوزع المقبوض على عدد [الأشهاد، وعلى رأي على عدد] الأنواع.

ولو كان الراجع شهود الزنى خاصة، فلا خلاف في ضمانهم، وفي قدر ما يضمنونه ثلاثة أوجه مبنية على الخلاف السابق: فإن قلنا: شهود الإحصان لا يغرمون، غرموا جميع الدية، وإن غرمناهما النصف، غرموا النصف، وإن غرمناهما الثلث، غرموا الثلثين. ولو كان شهود الزنى خمسة، وشهود الإحصان كذلك، فإن قلنا: لا ضمان على شهود الإحصان، كانت الدية على شهود الزنى أخماسًا. وإن قلنا: عليهم الضمان، فعلى الوجه الأول: يجب على كل [واحد] من شهود الزنى والإحصان عشر الدية. وعلى الثاني: يجب على كل من شهود الإحصان ثلث خمس الدية، وعلى كل من شهود الزنى ثلثا خمسها. فرع: لو شهد أربعة بالزنى، واثنان معهم بالإحصان، فرجم، ثم رجعوا، فإن قلنا: لا ضمان على شاهدي الإحصان في مسألة الكتاب، فكذلك هنا. وإن قلنا: عليهما الضمان، فهل يجب هاهنا؟ فيه وجهان في ((تعليق)) القاضي الحسين وغيره: أحدهما: لا، لأن الرجوع عن الشهادة بمنزلة الجناية، فيصير كأن شاهدي الإحصان صدر من كل منهما جنايتان. والآخران صدر من كل منهما جناية واحدة، ولو كان كذلك، [لكان] الضمان عليهم بالسوية، فكذلك هاهنا. وأظهرهما: أنه يجب على شاهدي الإحصان على وجه: نصف وربع الدية، وعلى وجه: ثلثا الدية، وعلى الآخرين على وجه ربع الدية، وعلى وجه: ثلثها. ولو كان الراجع- والصورة هذه- أحد الشاهدين اللذين لم يشهدا بالإحصان، قال القاضي الحسين: فعليه ربع الدية على المذهب. ومن أصحابنا من بنى ذلك على ما ذكرناه. ولو كان شهود الزنى قد شهدوا بالإحصان، ثم رجع أحدهم عن الإحصان فقط- لا شيء عليه، على الأصح، [لأنه بقي بالإحصان ثلاثة، وكذا لو رجع آخر عن الإحصان فقط، لا شيء عليه على الأصح] ولو رجع ثالث عنه، فعليهم سدس الدية، أو ربعها.

قال: وإذا حكم الحاكم بشهادة شاهدين. ثم بان أنهما كان عبدين، أو كافرين- نقض الحكم، لأنه تبين أنه حكم بما لا يجوز له الحكم به، فنقض، كما لو حكم [بحكم]، ثم وحد النص أو الإجماع أو القياس الجلي بخلافه. وهكذا الحكم فيما إذا بان أنه حكم بشهادة والدين، أو مولودين، كما قاله أبو الطيب، أو امرأتين، أو صبيين، كما قاله في ((التهذيب)). وظهور ذلك في أحد الشاهدين كظهوره فيهما. فإن قيل: قد اختلف في جواز شهادة العبد، فأجازها شريح، والنخعي، وداود، وأحمد في رواية الإمام، والاختلاف فيها دليل على جواز الاجتهاد [فيها، ولا يجوز أن ينقض بالاجتهاد حكم نفذ بالاجتهاد]، كما هو أصلكم. قيل: قد اختلف فيما لأجله ردت شهادة العبد على ثلاثة مذاهب: أحدها: بظاهر نص لم يدفعه دليل، وهو قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، فصار كالدليل، وعلى هذا يكون الحكم بشهادته مخالفًا للنص، فكان مردودًا. والثاني: أنها مردودة بقياس جلي غير محتمل، انعقد عليه إجماع الصحابة المتأخرين بعد شذوذ الخلاف من المتقدمين، فصار مردودًا بإجماع انعقد عن قياس جلي. والثالث: أنها ردت باجتهاد ظاهر الشواهد، فلم يجز أن تمضي باجتهاد خفي الشواهد، لأن الأقوى أمضى من الأضعف، وإنما يتعارضان إذا تساويا في القوة والضعف، على أن الاجتهاد لم يكن في الحكم بشهادته، وإنما حكم، لأنه لا يعلم أنه عبد، ثم علم بعبوديته قطعًا، فوجب أن يقضي بعلمه على ما أشبه وأشكل. فرع: هل يحتاج في نقض الحكم إلى حكم بالنقض من الحاكم، أم يتبين بذلك وقوعه باطلًا؟ قال الماوردي: أما إذا بانا كافرين، فلا يحتاج إليه، وإذا بانا عبدين، فوجهان مبنيان على الاختلاف في شهادة العبد، لماذا ردت هل بنص، أو إجماع [على ظاهر، أو اجتهاد ظاهر؟

فمن جعل دليل رده نصًا وإجماعًا] جعله باطلًا لا يفتقر إلى الحكم بنقضه، لكن على الحاكم أن يظهر بطلانه. ومن جعل دليل رده قوة الاجتهاد في شواهده، جعله موقوفًا على الحكم بنقضه، وهو الظاهر من مذهب الشافعي، لأنه قال من بعد: ورد شهادة العبد إنما هو بتأويل. وليس تحريق السجل نقضًا للحكم حتى ينقضه بالحكم قولًا، ويجب عليه أن يسجل بالنقض، كما أسجل بالحكم، ليكون السجل الثاني مبطلًا للسجل الأول، كما صار الثاني ناقضًا للحكم الأول، فإن لم يكن قد أسجل بالحكم لم يلزمه الإسجال بالنقض وإن كان الإسجال به أولى. قال الماوردي: ولو كان ذلك في عقد نكاح عقد بشهادتهما، افتقر إلى حكم الحاكم بنقضه، لأن مالكًا يجيز عقد النكاح بغير شهود، إذا أعلن به. قال في ((البحر)): ولا فرق في نقض الحكم الواقع بشهادة عبدين بين أن يكون الحاكم به يرى جوازه، أم لا، وهو مقتضى ما ذكره الشيخ من قبل. قال: وإن بان أنهما [كانا] فاسقين عند الحكم- أي: فسقا ظاهرًا، غير مجتهد فيه، كما قاله القاضي الحسين- نقض الحكم في أصح القولين، لأنه إذا نقض في شهادة العبد، ولا نص في منع شهادته، وجواز روايته، ففي شهادة الفاسق مع أن رد شهادته ثابت بالنص، ولا تقبل روايته- أولى، وهذا ما نص عليه الشافعي في جميع كتبه. ولا ينقض في الآخر، لأن فسقه ثبت بالاجتهاد، فإن عدالة البينة غير مقطوع بها، وإنما ثبت بالاجتهاد، فلا ينقض حكما ثبت في الظاهر بالاجتهاد، وهذا خرجه المزني مما حكاه من قول الشافعي: إن الحاكم إذا اطرد المشهود عليه جرح المشهود مدة اطراده فلم يأت بالجرح، فأمضى الحكم عليه بشهادتهما، ثم أتى بعد إمضاء الحكم عليه ببينة الجرح- لم يسمعها، وكان حكمه عليه ماضيا. وقد وافقه ابن سريج على هذا التخريج أيضًا، وجعل في المسألة قولين:

وذهب أبو إسحاق المروزي، وجمهور أصحاب الشافعي- رحمه الله- إلى المنع من تخريجه قولًا باتًا، وأجابوا عما نقله المزني من لفظ الشافعي: أنه لم ينقضه، لأن المحكومة عليه أقام بينة بفسق الشهود مطلقًا، ولم يشهدوا بفسق الشهود قبل الحكم، فلم ينقضه، لجواز حدوثه بعد نفوذ الحكم، فإنه لا ينقض لو كان كذلك وجهًا واحدًا، صرح به الماوردي، وأبو الطيب، وغيرهما. قال في ((البحر)): وهذه الطريقة أصح، وما ذكره من التوجيه فلا يصح، لأنه لا يمتنع أن ينقض الحكم بشيء يتوصل إلى صحته بالاجتهاد إذا كان يرجع الأصل إلى القطع واليقين، ألا ترى أنه ينقض الحكم بنص خبر الواحد وإن كان التوصل إلى عدالة الراوي وصدقه فيما يرويه بالاجتهاد، وكذا إذا شهدوا برق الشهود وكفرهم ينقض الحكم وإن كانت عدالة الشهود إنما تثبت بالاجتهاد. أما إذا كان الفسق مجتهدًا فيه، قال القاضي الحسين: فلا خلاف أنه لا ينقض. ثم محل الخلاف كما ذكرنا عن الإمام في باب صفة القضاء: إذا كان المحكوم عليه حاضرًا، قادرًا على النطق بحجته، أما لو كان ممن لا يقدر على النطق بالحجة: كالصبي، والمجنون، والغائب- فإنه ينقض [الحكم] قولًا واحدًا، كما دل عليه قول الشيخ [ثم: فإذا بلغ الصبي، فهو على حجته. وقد أفهم قول الشيخ]: وإن بان أنهما كان فاسقين عند الحكم، الاحتراز عما إذا بان أن فسقهما حدث بعد الحكم، وقد قال الماوردي في هذه الحالة: إنه ينظر: فإن كان بعد استيفاء الحق، فلا يجوز النقض، سواء فيه حق الله تعالى وحق الآدمي. وإن كان قبل الاستيفاء: فإن كان الحق مالًا، أو في معنى المال فلا ينقض الحكم أيضًا، ويجب استيفاؤه. وإن كان حدا لله تعالى سقط بحدوث الفسق، ولا يستوفى. وإن كان حدًا لآدمي أو قصاص، ففي سقوطه وجهان. فرع: هل يحتاج في نقض الحك بشهادة الفاسق إلى الحكم بها أم لا؟

قال الماوردي: نعم، حكى ذلك فيما [إذا] ثبت النكاح بشهادتهما، ثم ظهر فسقهما، وقال: إنه لا ينتقض بمجرد ظهور فسقهم. قال: ومتى نقض الحكم، فإن كان المحكوم به إتلافًا: كالقتل، والقطع، أي: في حد أو غيره، كما قاله أبو الطيب- ضمنه الإمام، لأنه لا يمكنه الرجوع على الشهود، لأنهم يقولون شهدنا بالحق، ولا على المشهود له، لأنه يقول: استوفيت حقي، فأوجبناه على الحاكم، لأنه مفرط في الحكم بشهادة من لا يعلم أهليته للشهادة. لكن في ماله أو في بيت المال؟ فيه الخلاف السابق، كذا أطلقه العراقيون، والماوردي، وظاهر النص في ((المختصر)) هنا، وفي حد الخمر: الأول. وفي ((النهاية)) في باب حد الخمر: أنه ينظر: إن تناهي في التقصير وترك ترتيب الخصومة والقيام بما هو مأمور به من البحث والتفتيش، فالضمان عليه قولًا واحدًا. وأبدى ترددًا في وجوب القصاص مما قاله الأصحاب فيما إذا قتل مسلمًا في دار الإسلام على زي أهل الشرك، فإنه تجب ديته، وفي وجوب القصاص قولان. قال: وقيام الشهادة وصورتها لا ينقص عن زي مشرك في دار الإسلام، وإن بحث عن أحوال الشهود، ولم يظهر منه تقصير في العادة، فهل يجب الضمان على عاقلته، أو في بيت المال؟ فيه الخلاف المشهور. ولا فرق في ذلك بين أن يتقدم الحاكم بالاقتصاص إلى ولي الدم، أو إلى غيره. وقال أبو سيعد الإصطخري: إن تقدم به الحاكم إلى ولي الدم، كان الضمان على الولي. وإن تقدم به إلى غيره، كان الضمان على الحاكم. قال الماوردي: وهو خطأ من وجهين. أحدهما: أنه أخره في الحالين. والثاني: أنه لما [لم] يضمنه مباشرة إذا كان غير ولى مع عدم استحقاقه، فأولى ألا يضمنه وليه مع جواز استحقاقه.

ثم إذا غرم الإمام، أو عاقلته، فهل لهم الرجوع على الشهود بشيء؟ الذي أطلقه العراقيون: أنه لا رجوع عليهم. وقال الإمام وغيره: إنه ينظر: فإن كان الغرم- لأجل كون الشاهدين عبدين، أو كافرين- ففي الرجوع عليهم وجهان، حكاهما البغوي أيضًا فيما لو بانا امرأتين: الظاهر من المذهب منهما الرجوع لأنهم تعرضوا لمنصب [ليسوا من أهله، ونحن نقول: من ليس من أهل الشهادة، وعلم ذلك من نفسه، فليس] له أن يتعرض لإقامتها وإن كان صادقا. وأشبه أصل بما نحن فيه الغرم الذي يثبت على الغرور في قيمة الولد مع ثبوت حق الرجوع على الغار، وأصل الشهادة أقوى في هذا المعنى، لأنها تحمل القاضي حمل اضطرار، والمغرور مستبيح لا ضرورة به. والذي رواه بعض المحققين: أنه لا رجوع عليهم، لأن القاضي أتى من تقصير خفي في البحث، فارتبط الضمان بجهته وانحصر، وليس كالغار والمغرور، فإن الشرع لم يلزم المغرور البحث، بل جعل له الجريان على ظاهر الحال، وليس كذلك القاضي، [لأنه يلزمه] التناهي في البحث، فإذا وقع ذلك دل على ترك بعض البحث. وإن كان الغرم لأجل كون الشهود فساقا، فالذي قال القاضي الحسين في باب حد الخمر: إنه لا يرجع عليهم قولًا واحدًا [و] قال في ((التهذيب)): إن كانوا فساقا سرًا، لا يرجع عليهم، وإن كانوا معلنين بالفسق، فوجهان. وقد حكى القاضي الحسين هذا- أيضًا- قبيل باب الشهادة على الوصية. وقال الإمام في باب حد الخمر: إن كان ما رآه القاضي فسقا مجتهدًا [فيه]، فلا رجوع عليهم قولًا واحدًا، فإنه مصر على شهادته، وعلى أنه من أهل الشهادة. قلت: وفي هذا نظر، لأن الفسق المجتهد [فيه] لا ينقض القاضي الحكم به- كما حكيناه- فكيف يحسن هذا التفصيل، وإن كان ما فسق به مما يوجب

التفسيق وفاقًا، فهذا فيه احتمال يجوز أن يكون كما لو ظهروا كفارا، أو عبيدًا. ويجوز ألا يرجع عليهم أصلًا- كما أطلقه الأصحاب- لأن الفاسق مأمور بكتمان فسقه، والعبد والكافر مأموران بإظهار حالهما. ويجوز أن يقال: إن كان متعيرًا بالفسق، مكاتمًا له، فلا رجوع. وإن كان معلنًا بالفسق، غير مبال به فهو كالرقيق، وهو يقرب مما إذا شهد المعلن بالفسق، فردت شهادته، ثم أعادها بعد توبته، هل تقبل؟ وقد أقام الغزالي هذه الاحتمالات وجوها. وقد قال الإمام هاهنا بعد [أن أبدى] احتمالا في الرجوع عليهم: وهذا الذي ذكرناه احتمال، وليس بمذهب، والذي اتفق عليه الأصحاب: أنه لا رجوع على الفاسق. التفريع: إن قلنا بعدم الرجوع على من ذكرناه، فلا كلام. وإن قلنا به، فلا شك [في] أن الكافر والفاسق يرجع عليه عند الغرم في الحال، وفي العبد وجهان في ((النهاية))، و ((تعليق)) القاضي: أحدهما: يرجع عليه بعد العتق. والثاني: يتعلق برقبته، لأن هذا غرم يلزم بغير رضا من له الحق. قال الإمام: وهذا متجه، لكنه غريب، عديم النظير، من جهة أنه جناية قولية، ليس فيها اضطرار محقق، وإنما الأمر مظنون، وهذا أخذه من قول القاضي في الحدود: ولا تؤخذ جناية قولية يتعلق الأرش فيها برقبته إلا هذه. ولو بان كون الشهود مراهقين، وقد يفرض التباس ذلك بأحوال تعرض من بقول الوجه، وطول القامة، وغيرها من الصفات. قال الإمام في باب حد الخمر: لم يتعرض الأصحاب لهذه الصورة، والمفهوم من فحوى كلامهم أن لا رجوع، إذ لا قول لهم، بخلاف الكفار

والعبيد، وهذا ما ادعى القاضي الحسين هنا: أنه ظاهر المذهب، والأصح. وقال الإمام هنا: إنه الذي قطع به الأصحاب في الطرق. ثم قال القاضي هنا، وفي باب حد الخمر: ويحتمل أن يقال: يتعلق الضمان بهم إذا علقنا الضمان برقبة العبد، لأننا نجعه كالجناية الحسية، والمراهق يلزمه الضمان بالفعل. وقد حكى الإمام هنا عن شيخه رواية خلاف في المسألة، ثم قال: وهذا لا أعتد به. فرع: هل يجب على المزكيين الغرم، وتتوجه مطالبة المستحق عليهم؟ قال القاضي الحسين في اكتساب الحدود: إن كان الرد لأجل الفسق، فلا، لأنه مجتهد فيه، وإن كان لأجل الرق والكفر، فنعم. وقال: إنه حكي عن أبي ثور أنه قال: سألت أبا عبد الله عن هذه المسألة، فقال: الدية على العاقلة، وعلى المزكيين التعزير. وأن القفال قال: أما التعزير، فإنما يجب إذا تعمدا، أما إذا قالا: أخطأنا فلا، وأما الضمان فواجب سواء تعمدا أو أخطأ. وقال هاهنا: إنه هل يجب عليهم الغرم، أم لا؟ فذكرنا فيه وجهين، سواء تعمدوا أو أخطئوا، فإن قلنا: يجب فيجب عليهم النصف، وعلى القاضي النصف. والمذكور منهما في ((التهذيب)): عدم الوجوب، وهو ظاهر النص في ((المختصر)). وقال في ((البحر)): إن القاضي أبا الطيب ذكر في كتاب الحدود عن القاضي أبي حامد: أنه ذكر أن القاضي يرجع بما غرم على المزكيين، لأن شهادتهم هي السبب في الضمان، فيستقر عليهم، قال الروياني: وهذا أصح عندي. قال: وإن كان مالًا، فإن كان باقيًا، رده إلى المحكوم عليه، لظهور بقاء ملكه أو يده. قال في ((الحاوي)): لكن بعد يمينه على إنكاره. وهكذا حكم الأجرة إن كان لمثله أجرة، كالدار. فإن طلب المشهود عليه إعادة الدار إلى يده، ليحلف بعد ردها إليه، وجب

على الحاكم أن يرفع عنها يد المشهود له، لبطلان بينته، ولا يأمر بردها على المشهود عليه، لأن أمره حكم له بالاستحقاق، ولا يمنعه منها، لأن منعه منها حكم عليه بإبطال الاستحقاق، ويخلى بينه وبينها من غير حكم بات. وفي ((تعليق)) القاضي الحسين فيما إذا نقضه لأجل فسق الشهود: أن المراوزة قالوا: لا تنزع العين من يد المشهود له، والغرامة تجب على القاضي في ماله، أو في بيت المال؟ ثم بعدما غرم هل يرجع على الشهود؟ فيه ما ذكرناه. قال: وإن كان تالفًا، ضمنه المحكوم له، أي: ولا يضمنه الحاكم، كما قاله أبو الطيب، لأنه حصل في يده بغير استحقاق، والمال يضمن باليد وإن لم تكن متعدية، [دليله العارية]، وبهذا فارق ما لو كان المحكوم به قتلا، أو قطعا، ونحوهما، حيث لا يطالب المشهود له بضمانه، لأنه لا يضمن باليد، وإنما يضمن بالإتلاف على وجه العدوان، وتمكين الحاكم إياه من الإتلاف أخرج إتلافه عن أن يكون إتلافا بغير حق، فلم يلزمه الضمان. وعن الشيخ أبي حاتم القزويني رواية وجه فيما إذا كان التلف بآفة سماوية: أنه لا يلزمه الضمان، والمشهور الأول. قال: فإن كان معسرًا، ضمنه الحاكم، أي: أداه الحاكم عنه من بيت المال المرصد للمصالح، على سبيل القرض، [لأن ذلك منها. قال: ثم يرجع به على المحكوم له إذا أيسر، لأن هذا شأن القرض] ولفظ القاضي أبي الطيب والبندنيجي في إيراد المسألة كلفظ الشيخ سواء. وما ذكرته من التقييد هو نفس ما صرح به الماوردي. لكن في ((البحر)): أن أصحابنا قالوا: الحاكم يضمنه في حالة إعساره، وهل يكون في بيت المال أو في ماله؟ فيه الخلاف السابق، يعني: في الكفارة، لا في الدية، ولا يجيء هاهنا: أنه يجب على العاقلة، لأنها لا تتحمل المال، كما لا تتحمل الكفارة، وما قاله في ((البحر)) هو في ((الشامل))، وفي ((تعليق)) القاضي الحسين عند تعذر أخذ القيمة من المحكوم له إن قلنا: إن الدية تجب على عاقلة

الإمام إذا كان المحكوم به قتلا، ونحوه، فالغرم في ماله، وهل يرجع به على الشهود؟ فيه وجهان: أصحهما: لا. وما ذكره الشيخ أميل إلى كلام الماوردي، لأنه لو كان يضمن ذلك في ماله، لما اختص ذلك بحالة الإعسار. ولو كان المحكوم به طلاقًا، جمع بين الزوجين فيه بعد يمين الزوج المنكر. ولو كان المحكوم به عتقًا، والمعتق باق، حكم برقه على ملك سيده، ويملك إكسابه بعد يمين السيد في إنكاره العتق. ولا يجوز [التمكين] من الزوجة والعبد إلا بعد اليمين، لما فيهما من حقوق الله تعالى، بخلاف ما إذا كان المحكوم به داراً، كذا قاله الماوردي. والقاضي أبو الطيب، وغيره لم يشترطوا في رد الزوجة والعبد يمينًا. ولو اتفق موت العبد المحكوم بعتقه قبل رجوعه للمالك، فقيمته على الحاكم، هل تجب في ماله أو في بيت المال؟ فيها الخلاف، قاله في [((الشامل))]، و ((البحر))]. وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به. أحدها: إذا شهد رجل وعشر نسوة في مال، ثم رجعوا- فالذي حكاه الماوردي هنا، وتبعه المصنف: أنه يجب على الرجل سدس الغرم، وعلى النسوة خمسة أسداسه، على كل واحدة نصف سدسه، وهذا ما حكاه في باب حد الزنى عن البغداديين من أصحابنا، والشيخ حامد. ولم يحك ابن الصباغ والبندنيجي سواه، [و] قال القاضي أبو الطيب: إنه لا يختلف المذهب فيه. وعن ابن سريج: أنه يجب على الرجل نصف الغرم، لأنه نصف البينة، وعلى كل امرأة نصف عشر الغرم، لأنها عشر نصف البينة، وهذا ما حكاه القاضي الحسين في باب حد الزنى لا غير، لأنهن وإن كثرن مع الرجل الواحد قمن مقام رجل آخر، بدليل أنهن لو انفردن لم يحكم بشهادتهن، وقد ادعى هاهنا أنه ظاهر

المذهب، ثم صححه، وتبعه البغوي، والإمام، ويحكى عن اختيار القفال والشيخ أبي علي. الفرع الثاني: إذا شهد رجلان وامرأة، ثم رجعوا، قال القاضي الحسين في كتاب الحدود: ليس على المرأة شيء، وعلى الرجل الغرم، وهو موافق لما قاله الماوردي فيما إذا شهد أربعة رجال وامرأة فرجع رجلان والمرأة: أنه لا يجب على المرأة شيء، ويجب على الرجلين. وقد قال القاضي هاهنا: إنه يجب عليها الخمس. الفرع الثالث: إذا شهد رجلان وعشر نسوة، ثم رجعوا ففيما يجب على النسوة وجهان، حكاهما القاضي: أحدهما: نصف الغرم. والثاني: ثلثه. الفرع الرابع: إذا شهد أربع نسوة ورجل في الرضاع، ثم رجعوا، قال القاضي الحسين هنا: الأصح من المذهب أن الرجل هنا كالمرأتين. ومن أصحابنا من قال: يجب علي الشطر. الفرع الخامس: إذا ادعى رجل أربعمائة، فشهد له شاهد بمائة، وآخر بمائتين، وثالث بثلاثمائة، ورابع بأربعمائة، فالثابت له بالبينة ثلاثمائة، فإذا رجعوا، غرموا الثلاثمائة مائة: على الأول منها: خمسة عشرون، لأن الشاهد بالمائة الأولى أربعة، وهو أحدهم. وعلى الثاني منها: ثمانية وخمسون وثلث: خمسة وعشرون نصيبه من المائة الأولى، وثلاثة وثلاثون وثلث نصبيه من المائة الثانية، لأنه ثبتت بقول ثلاثة [و] هو أحدهم. وعلى كل من الثالث والرابع مائة وثمانية وثلث نصيبه من المائة الأولى والثانية ثمانية وخمسون وثلث، ونصيبه من المائة الثالثة خمسون، لأنه ثبتت بقولهما، وبذلك تكمل ثلاثمائة. وإن حلف المدعي مع الشاهد الرابع على المائة الأخرى، انبنى تغريم الشاهد

لها على أن الحكم وقع بالشهادة فقط، أو باليمين فقط، أوبهما؟ فإن قلنا: بالشهادة فقط غرمها الرابع. وإن قلنا: باليمين فقط، فلا غرم لأجلها على الشاهد. وإن قلنا بهما: غرم منها خمسين. [الفرع السادس]: إذا شهد ثلاثة على رجل بثلاثين درهما، فرجع أحدهما عن عشرة، وثان عن عشرين، والثالث عن الثلاثين، فإن قلنا بمذهب ابن سريج في أن النصاب إذا كان باقيا بعد الرجوع، لا يغرم الراجع شيئًا، فلا يغرم هنا الثالث شيئًا من العشرة الثالثة، لأن بها شاهدين: الأول والثاني، ويغرم الأول ثلاثة وثلثا: نصيبه من العشرة الألى، لأنهم رجعوا عنها، وهم ثلاثة، ولا شيء عليه غير ذلك. وأما الآخران فعليهما من العشرة الأولى مثلًا ما غرم. وأما العشرة الثانية، فعلى رأي ابن سريج يلزمهما نصفها، وهو خمسة، فيكمل على كل واحد منهما خمسة ونصف وثلث. وعلى رأي المزنى يلزمهما ثلثاهما، لأنهما تثبت بقول ثلاثة، وقد رجع اثنان، فيكمل على كل واحد مننهما خمسة ونصف وثلث. وعلى رأي المزني يلزمهما ثلثاهما، لأنها تثبتت بقول ثلاثة، وقد رجع اثنان، فيكمل على واحد ستة وثلثان، فيكون على الوجه الأول جملة ما يغرم: خمسة عشر درهمًا. وعلى الوجه الثاني: ستة عشر وثلثان. وإن قلنا بأن الراجع يغرم وإن بقي النصاب، غرم الثالث زيادة على ذلك ثلاثة وثلث، لأن العشرة [الثالثة] ثبتت بقول الثلاثة، وقد رجع هو لا غير، ونصيبه منها ثلاثة وثلث، وبذلك يكمل الغرم عشرين.

باب الإقرار

باب الإقرار الإقرار- في اللسان-: الإثبات، من قولهم: قر الشيء يقر قرارا، إذا ثبتت، وأقررته، وقررته: إذا أكسبته القرار وأثبتته. والتقرير- في الكلام بمعنى: الإيضاح، راجع إلى إثبات المعنى المقصود. والإقرار في الأحكام: إخبار عن وجوب حق بسبب سابق على الإخبار، وليس هو إنشاء وافتتاح إثبات، وسمي: إقرارا، لأنه به يظهر الحق، ويقره في محله. قال القاضي الحسين: وهذا شامل للإقرار على نفسه، وعلى غيره. وفي ((الحاوي)): أن حقيقة الإقرار: الإخبار بحق [عليه، وحقيقة الشهادة الإخبار بحق على] غيره، فاجتمعا من حيث [إن كل واحد إخبار بحق، وافترقا من حيث] إن الحق في الإقرار عليه، والحق في الشهادة على غيره، ولأجل هذا ذكر الشيخ باب الإقرار تلو كتاب الشهادات. ولأجل ما ذكرناه من حقيقة الإقرار قال الأصحاب: يستحيل في وضع الإقرار تقدير امتداد ملك المقر إلى وقت الإقرار، فإنه لو كان كذلك، لكان كاذبًا، حتى قالوا: لو شهدت بينة على أن فلانًا أقر بأن الدار التي في ملكه لفلان، وكانت ملكه إلى أن أقر بها، كانت الشهادة باطلة، فإنها متناقضة. وكذلك لو قال المقر: داري هذه لفلان، أو ثوبي المملوك لي لفلان، كان باطلًا، للتناقض وسيكون لنا عودة لشيء يتعلق بذلك عند الكلام في قوله: له علي ألف قضيتها، إن شاء الله تعالى. ثم الأصل في كون الإقرار حجة قبل الإجماع من الكتاب آيات منها: قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء:135]. قال المفسرون: والشهادة على النفس: الإقرار عليها. وقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ

هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282] ومعناه: فليقر وليه بالحق غير زائد ولا ناقص، وهو العدل، فدلت الآية بمنطوقها على صحة إقرار الولي، وعلى جواز إقرار الرشيد من وجهين: أحدهما: من طريق دليل الخطاب، لأنه قال: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ...} [البقرة:282] إلى آخرها، فدل على أنه إذا استطاع هو فإنه يملك دون غيره. والثاني: من طريق فحوى الخطاب، فإن الولي إذا جاز إقراره، فالرشيد أولى بذلك، فإنه يتصرف بما له فيه حظ، وبما لاحظ له فيه، ولا يصح تصرف الولي إلا بما فيه حظ للمولى عليه. والفرق بين الفحوى وغيره- كما قال الماوردي في كتاب الأقضية-: أن الفحوى ما دل على ما هو أقوى منه، كما ذكرنا. ولحن القول الذي هو دليل الخطاب: ما دل على مثله. ومن السنة: ما روي أنه- عليه السلام- قال: ((قُولُوا الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)). وقال صلّى الله عليه وسلّم: ((واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)). وروى أنه رجم ماعزًا بإقراره، وكذا الغامدية. ولأن الإقرار أبعد عن التهمة من الشهادة، ولذلك إن الحاكم يبدأ بالسؤال عن الإقرار قبل الشهادة، فيقول للمدعى عليه: ما تقول؟ فإن أنكر، سأل المدعي، فقال له: ألك بينة؟ وإذا كان أبعد عن التهمة، كان أقوى في الحجة. قال القاضي أبو الطيب: ويؤيد ذلك: أنه لو شهد شاهدان للمدعي، ثم أقر المدعى عليه، بطلت الشهادة، وكان الحكم للإقرار دونها. قال-[رحمه الله تعالى]- من لم يحجر عليه يجوز إقراره، أي: رجلًا

كان أو امرأة، مسلمًا كان أو كافرًا، عدلًا كان أو فاسقًا، لما ذكرناه، وهذا مما لا نزاع فيه، ولا يدخل في هذا النائم، فإنه محجور عليه كما ذكرناه في الحجر، وهو ممن لم يصح إقراره، كما صرح به أبو الطيب، وكذا السكران بمحرم لا يدخل فيه على رأي تقدم ذكره في كتاب الطلاق دون السكران بمباح، فإنه في حكم المجنون بل خلاف، فلا يدخل جزمًا. نعم، يدخل فيه المكره، فإنه غير محجوز عليه، ولا يصح إقراره. فإن قلت: الإكراه مانع من الصحة، والأصل في الموانع العدم، ولهذا لم يشترط بعض الجدليين الاحتراز عنها في الدعوى كما قدمناه ذكره في أول البيع، ويعضده أن المشهور سماع الشهادة على الإقرار من غير اشتراط تعرض الشهود للطواعية. قلت: فيه نظر من وجهين: أحدهما: أن المشهور- أيضًا-: عدم اشتراط تعرض الشاهد لذكر البلوغ والعقل، وإن كانا شرطين، وإنما المأخذ أن الظاهر وقوع الشهادة على الإقرار الصحيح، ولذلك استوى المانع والشرط في عدم اشتراط التصريح بذكره، على أن في مجهول الحرية والرق قولًا رواه صاحب التقريب: أنه يشترط في الشهادة عليه التعرض لذكر الحرية، وامتنع بعضهم من تخريجه في سائر الصفات المعتبرة، وبعضهم خرجه فيها. قال الإمام: والقياس التسوية والمذهب الاكتفاء بالإطلاق، نعم للقاضي أن يسأله عن الصفات المعتبرة، فإن امتنع، قال القاضي: إن كان امتناعه لا يورث القاضي ريبة، أمضى شهادته، وإن ارتاب توقف. وظاهر هذا- كما قال الإمام-: أن الشاهد لا يلزمه أن يفصل وإن استفصله القاضي إذا علم القاضي أنه لا يشهد إلا على بصيرة، كما لا يلزمه أن يذكر مكان الإقرار وزمانه بلا خلاف. وقيل: يجب عليه أن يفصل إذا استفصل، والفرق بين ذلك وبين [الزمان والمكان]. أن الجهل بالمكان والزمان لا يقدح في الشهادة، والجهل بالشرائط يقدح، وقد ذكرت في باب صفة القضاء شيئًا يتعلق بذلك.

الثاني: أن السفه، والرق، والفلس، وكذا المرض- على أحد القولين في الإقرار للوارث- موانع أيضًا، وقد بين الشيخ حكمها، لكن قد يقال في الجواب: إن المتصف بمانع مما ذكرناه غير الإكراه من إقراره ما يصح، ومنه ما لا يصح، كما سيأتي، وللاجتهاد فيه مجال، فهو مما يغمض الكلام فيه، [فلذلك احتاج إلى بيان حكمه، وإقرار المكره باطل مطلقًا، مدرك ببداهة العقول]، فلذلك أغفله. تنبيه: كلام الشيخ يفهم أن البالغ السفيه إذا لم يتصل به حجر وال: أنه يجوز إقراره، وهو ما صرح به الماوردي، وقال: إنه لا فرق في قبول إقراره بين المال والبدن جميعًا، وأنه في الإقرار كالرشيد، وهذا ما حكيناه في باب الحجر وجهًا عن رواية الشيخ أبي علي وغيره عن بعض الأصحاب في صحة تصرفات المهمل. فإن قلت: هو الذي يقتضيه كلام القاضي أبي الطيب وابن الصباغ، وغيرها- أيضًا- حيث قالوا: لا فرق بين أن يكون المقر عدلًا أو فاسقًا، إذا لم يكن محجورًا عليه حتى قال أبو الطيب: إنه لا خلاف فيه. قلت: يجوز أن يحمل كلامهم على من طرأ عليه الفسق، ولم يتصل به حجر، فإنه لا خلاف عندهم في عدم الحجر بنفسه كما تقدم. قال: ومن حجر [عليه]، لصغر أو جنون، لا يصح إقراره، للخبر المشهور، وبه استدل أبو الطيب على عدم صحة إقرار النائم- أيضًا- لأن رفع القلم يقتضي ألا يكون لكلامهم حكم. وفي ((تعليق)) القاضي الحسين وغيره: أنه يصح إقرار الصبي المميز بالتدبير والوصية، إذا قلنا بصحتهما منها، ولم يورد المحاملي في الباب غيره. وقضية ذلك: أن يطرد في إقراره بالإسلام إذا صححناه منه- أيضًا- وهو مقتضى ما ذكروه من القاعدة- أيضًا-[في] أن من قدر على إنشاء شيء، قدر على الإقرار به، ومن لا فلا، وقد ذكرنا ما لعله يستثنى من ذلك في كتاب النكاح. قال ابن يونس: واعلم أنه قد استثنى مع ذلك أيضًا ما إذا أقر بالبلوغ بالاحتلام

في مدة الإمكان، فإنه يقبل إقراره من غير يمين، وهذا أخذه- واله أعلم- من قوله في ((الوسيط)): أما الصبا والجنون فيقتضيان حجرًا مطلقًا عن سائر الأقارير. نعم: لو أقر الصبي بالتدبير والوصية قبل، إن جعلناه من أهلهما، ولو قال: بالاحتلام صدق، فإنه يفهم أن الأمرين مستدركان مما ذكرناه، ولولا ما في ((الوجيز)) لأمكن أن يجعل قوله: ((ولو قال بلغت بالاحتلام)) كلامًا مستأنفًا، لا مستدركًا، لكنه في ((الوجيز)) لم يستدرك بـ ((نعم)) إلا قبول قوله في البلوغ، وقد استدرك ((الرافعي)) عليه ذلك، فقال: المفهوم من الإقرار الإخبار عن ثبوت حق عليه للغير، ونفس البلوغ ليس كذلك، ولهذا يطالب مدعى البلوغ بالبينة، والمقر لا [يكلف بالبينة]، ولا اليمين. نعم من قال: أنا بالغ، فقد اعترف بثبوت الحقوق المنوطة بالبلوغ، فهو من هذا الوجه يكون متضمنًا الإقرار، لا أن نفسه إقرار، وبتقدير كونه إقرارًا فليس ذلك بإقرار صبي، لأنه إذا قال: أنا بالغ، يحكم ببلوغه سابقًا على قوله، فلا يكون إقراره إقرار صبي حتى يحتاج إلى الاستدراك. قال: فإن أقر، ثم ادعى أنه غير بالغ- أي: في محل الإمكان- فالقول قوله، لأن الأصل عدم البلوغ. قال: من غير يمين، لأن حلفه يثبت صباه، وإذا ثبت كونه صبيًا، لم يصح يمينه، فكان في تحليفه إبطال تحليفه، فلم يحلف. قال: وعلى المدعي البينة- أي: إذا أراد إثبات ذلك- لأنه ادعى ما يمكن إقامة البينة عليه، والأصل عدمه، فكان عليه إقامة البينة، كما لو ادعى عليه مالًا. وتشهد البينة- كما قال أبو الطيب- باستكمال خمسة عشر سنة، أو بمشاهدة الإنزال، أو على إقراره بالبلوغ. قلت: أو على الإنبات، إن جعلناه بلوغًا في حقه. نعم: لو ادعى أنه استعجل ذلك بالمعالجة، فقد قال ابن الصباغ وغيره في باب النكول ورد اليمين: إن من سبي من أولاد الكفار، وكان قد أنبت، فادعى أنه تداوى لذلك، وأنه غير بالغ- فالقول قوله معي يمينه.

وقال القاضي في ((الفتاوى)): إنه أحد قولي الشافعي، ويشبه أن يكون هنا كذلك، ويكون تحليفه لوجود ما دل على بلوغه. وقد حكى القاضي في ((الفتاوى)) فيما إذا ادعى مالًا من جهة صبي، فقال المدعى عليه: من يدعي من جهته بالغ، فقال القيم: احلف أنك لا تعلم أنه صغير، فلم يحلف- أن الولي لا يحلف، وهل يحلف الصبي، فيقول: والله إني صغير؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الأسير. ولو انتهى من أنكر كونه بالغًا بعد إقراره إلى حالة يتحقق بلوغه فيها، ورام خصمه تحليفه على أنه كان حين الإقرار صبيًا، فهل له ذلك؟ الذي يظهر إلحاقه بمن ادعى البلوغ بالاحتلام، فإنه لا يحلف على المشهور وإن كان في خصومة كما تقدم في باب الحجر. وإذا انتهى إلى حالة يتحقق بلوغه فيها لا يحلف أيضًا: إنه كان بالغًا حينئذ على الظاهر، كما قاله الإمام، لأنا إذا حكمنا بموجب قوله فقد أنهينا الخصومة، فلا نعود إلى التحليف، وبهذا التعليل يحصل لك الفرق بين هذا وبين ما إذا حضر شخص الصف ثم ادعى وقت القسمة: أنه كان بالغًا وقت الحضور، وأنه يستحق السهم، فإنه يحلف ويستحق السهم، كما قاله ابن الصباغ وغيره في باب النكول ورد اليمين. فإن قلت: قد حكى ابن الصباغ في كتاب الإقرار: أنه إذا أقر صبي بالبلوغ في سن يحتمله، فالقول قوله من غير يمين، لأنه لا يتعلق بذلك حق على غيره. وإن باع فادعى المشتري أنه صغير، وأن البيع فاسد، فينبغي ألا يحلف، لأن المدعي مقر بأن اليمين لا تستحق عليه لصغره. [و] إن ادعى ذلك [بعد بلوغه: أنه كان في حال البيع صغيرًا، حلف، وهذا ينبغي أن يجيء مثله هنا، بخلاف ما ذكرت. قلت: هذا محمول على ما لم يكن قد ادعى ذلك] في حالة الشك في بلوغه، فأني أسلم مثله هنا، لفقد العلة التي أشار إليها الإمام، وقد صرح الإمام بذلك في مسالة الإقرار، وحكى في كتاب اللعان شيئًا يمس بما نحن فيه، فلنذكره، وهو أن من ادعى أنه صبي، وقبل قوله، لو عاد وادعى أنه بالغ، وأنه

كذب فيما مضى- قبل قوله أيضًا. وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه لا يقبل ذلك منه. ووجه القبول: أن يدعي أنه بلغ بعد هذا. فرع: من عرف حال جنون وإفاقة، ثم ادعى أن الإقرار [منه] كان في حال جنونه، وقال المفر له: بل في حال إفاقته، فمن المقبول قوله منهما؟ فيه وجهان في ((الحاوي))، وقد حكى الغزالي مثلهما قبل كتاب الصداق فيما إذا زوج الشخص أمته، ثم قال زوجتها، وكنت صغيرًا أو مجنونًا، وقد عهد له حالة جنون: أحدهما: أن القول قوله، لأن الأصل بقاء تلك الحالة. والثاني: لا، لأنه اعترف بالعقد، فيحمل على الصحة، فعليه بينة الإبطال. وقد نسب ((الرافعي)) الوجهين في مسألة النكاح إلى تخريج أبي زيد، وأن الشيخ أبا علي صحح الثاني، وكذلك غيره، وهو قضية كلام الإمام، لأنه رأى بناءهما على أن النكاح المعترف به مطلقًا يحمل على الصحيح، أم يتناول الصحيح والفاسد؟ وقضية هذا البناء أن يجزم من مسألة الإقرار بألا يقبل قوله، لأن مطلق الإقرار محمول على الصحيح، كما صرح به الإمام. وقد جزم الإمام و ((الرافعي)) في مسألة الإقرار بالقبول، كما جزموا به في الصبي. ولو ادعى المقر أنه كان مكرهًا على الإقرار، فإن أقام بينة بالإكراه مفصلة لا مطلقة، قبلت، وحكم ببطلان الإقرار، وإن كان كانت بينة الإقرار قد شهدت بالطواعية، لكن لماذا كان ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لأنها اشتملت على زيادة علم. والثاني: لأن بينة الطواعية عارضتها بينة الإكراه، فتقابلا وبقي الطوع مشكلًا، وإذا ارتبنا في اختلال شرط لم نقص بالشهادة. قال الإمام: إنما يتصور ذلك إذا اشتملت الشهادة على الإقرار والشهادة على الإخبار على تاريخ واحد. وإن لم تقم بينة بنفس الإكراه، بل أقامها على أمارة تدل عليه من حبس أو

برسم أو قيد من جهة المقر له لا من جهة غره- ترجح بها جانب المقر في دعواه، وكان القول قوله في الإكراه مع يمينه إن لم تكن بينة الإقرار قد شهدت بالطواعية، أما إذا شهدت بها، قال الإمام: فلا تعارضها الأمارات، لأنها أبدًا مقامة على ضد الأمارات الظاهرة، ولذلك تقع في جنبة المدعي، والظاهر مع المدعى عليه. وإن فقد ذلك، ووقعت الشهادة بالإقرار مطلقة، فالقول قول المقر [له] مع اليمين، لأن الأصل عدم الإكراه. وفي ((الحاوي)): أن الشيخ أبا حامد قال: القول قول المقر، وليس بصحيح. قال: ومن حجر عليه لسفه، [لا يجوز] إقراره بالمال، لأن قبوله يسقط معنى الحجر، وإتباعه به يبطل تأثيره في حفظ ماله. وقيل: إنه يقبل إذا أسنده إلى إتلاف، أو جناية توجبه، لأنه يقدر على إنشاء ذلك وإن كان محرمًا، كذا حكاه الإمام عن رواية العراقيين في كتاب القسامة قبل باب ما ينبغي للحاكم أن يعلمه، والصحيح الأول، وعليه فرعان: [أحدهما:] إذا أسند السبب إلى ما قبل الحجر عليه، فالمذهب عدم القبول- أيضًا- وفيه وجه أنه يقبل مخرج من قبول إقرار المفلس بدين أسنده إلى ما قبل الحجر، حتى يضارب المقر له الغرماء بدينه. الثاني: إذا انفك [الحجر عنه]، هل يطالب به؟ الذي أطلقه الأكثرون: أنه لا يطالب، لما ذكرناه من العلة الثانية، ويجب عليه فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان عن إتلاف، أو جناية وفاة. وقال أبو الطيب في كتاب القسامة: المذهب أنه لا يطالب به، كما لو أسند ذلك إلى معاملة. وقال أبو إسحاق: إنه يطالب به، لأن الغرم ثبت بغير رضا من له الحق، بخلاف ثمن المبيع ونحوه إذا أقر به، وفك الحجر عنه، فإنه لا يطالب به، للزومه برضا من له الحق، فهو المسلط على الإتلاف.

قال: وهذا ليس بشيء، ولم يذكر الماوردي غيره، وقال: إن الإتلاف لو اقتضى إثبات الدين مؤجلًا، لكونه قتل خطأ، فهل يثبت ابتداء الأجل من وقت الإقرار، أو من وقت فك الحجر؟ فيه وجهان، وإن القياس أن يقال: من وقت الفعل، أو من وقت فك الحجر. [و] قال الإمام: إن ما قاله أبو إسحاق ركيك، لأنه لو كان يؤاخذ به إذا رشد، لكان يؤاخذ به في سفهه، وقد حكيت عنه في باب الحجر مثل ذلك فيما إذا اشترى شيئًا، وأتلفه، فليطلب من ثم. قال: ويجوز في الطلاق، والحد، والقصاص، لأنه قادر على إنشاء الطلاق، وغير متهم في الإقرار بالحد، والقصاص، لأن الإنسان مجبول على صيانة نفسه عما يؤلمها ويؤذيها مع أنه قادر على إنشاء ذلك حسًا وإن كان ممنوعًا [منه] شرعًا. نعم، لو عاف مستحق القصاص عنه على مال، قال القاضي أبو الطيب في كتاب القسامة: أخذت الدية من مال. وقال ((الرافعي)): الصحيح ثبوت المال، لأنه يتعلق باختيار الغير، لا بإقراره، وهذا يفهم جريان خلاف في المسألة، ويشبه أن يكون مادته ما سنذكره [فيما إذا أقر العبد بما يوجب القصاص فعفى عنه على مال كما سنذكره] ويؤيده أن الأصحاب قالوا فيما إذا أقر بسرقة مال: [إنه] يقبل في القطع، وفي المال قولان، كالعبد، حكاه ابن الصباغ وغيره، وهكذا قال الإمام وغيره: إذا قلنا: لا يقبل إقراره بدين الإتلاف، فإن قبلناه فهاهنا أولى، وسنذكر عن الإمام احتمالًا في منع القطع إذا لم يقبل قوله في المال، وقد رأيت في نسخة من ((التهذيب)) إلحاق إقرار السفيه بالنكاح بإقراره بالطلاق. وفي ((تعليق)) القاضي الحسين: أنه لا يقبل إقراره بالنكاح، وهو الذي أبداه الإمام، والغزالي، لأنه يتضمن ثبوت مؤن مالية لا ينفك عنها، وهو لا يقدر على الاستقلال به، فكذلك لا يقدر على الإقرار به.

نعم: لو فرض الكلام في السفيهة قبل إقرارها، قال الإمام: لأن المرأة ليست محجورًا عليها في النكاح إذا كانت ثيبًا بالغة، أو بكرًا بالغة في حق غير الأب والجد، والمرأة الرشيدة لا تستقل بنكاح نفسها، ثم إقرارها بنكاحها مقبول على المذهب الظاهر، والسفيهة في معنى الرشيدة، وفي هذه احتمال ضعيف عندنا، وسببه ضعف قولها، وتطرق التهمة إليها من جهة خبل عقلها، سيما فيما يتعلق بالشهوات. قال: ومن حجر عليه، لفلس، يجوز إقراره بالحد والقصاص، لأن ذلك يتعلق ببدنه، والحجر لا يشمله. ولأنه غير متهم فيه. نعم، لو كان ما أقر به سرقة بعد الحجر، قال الإمام: فإن قلنا: ما يتجدد من إتلافه، ويقام عليه بينة لا يضارب به، فهاهنا أولى، وإلا فقولان مرتبان على إقراره بإتلاف المال، وهاهنا أولى بالقبول، وقد تقدم أن مذهب العراقيين: أن الجناية، والإتلاف من المفلس بعد الحجر يضارب بها الغرماء، وأن المذهب عند المراوزة: عدم المضاربة. ولو عفا مستحق القصاص عنه على مال، فقد قال القاضي أبو الطيب وغيره في كتاب القسامة: إن حكمه حكم السفيه إذا أقر بالقصاص وعفى عنه على مال، حرفا بحرف. وقد حكيت في باب التفليس عن البغوى: [أنه] كما لو أقر بدين جناية، وعن غيره القطع بالقبول، وهو موافق لقول القاضي هنا: إنه يثبت المال، ويضارب الولي به، وذكرت ثم احتمالًا، فليطلب [منه]. قال: وفي المال قولان، أي: إذا أسنده إلى ما قبل الحجر: أحدهما: يجوز، أي: ويضارب المقر له به مع الغرماء في الدين، وتسلم له العين. والثاني: لا يجوز في الحال.

القولان في هذه الحالة منصوصان كما ذكرنا في باب التفليس في ((المختصر))، وتوجيه الأول- وهو الأصح، ومختار الشافعي، كما قال أبو الطيب، وابن الصباغ، وغيرهما ثم- القياس على ما لو ثبت ذلك بالبينة، أو أقر المريض بدين، فإن المقر له يزاحم غرماء الصحة، كما سنذكرهم. ووجه الثاني: أن حق الغرماء تعلق بما له من المال، وفي مشاركتهم [لهم] إضرار بهم. وأيضًا: فإنه قد يتواطأ المفلس مع المقر له، ثم يسترد منه ما يأخذه. وقد قال في ((الحاوي)) هاهنا: إن القولين ينبنيان على اختلاف قوليه في أن حجر المفلس يجري مجرى حجر المرض، أو حجر السفه؟ فإن أجريناه مجرى حجر المرض، جاز إقراره في الحال، وشارك الغرماء، وإلا فلا يشارك، ويؤخذ به بعد فك الحجر عنه، وإلى هذه الزيادة أشار الشيخ بقوله: ((في الحال))، لكن قياس إلحاقه بالسفيه أن يكون في مطالبته بعد فك الحجر عنه الخلاف السابق في مطالبة السفيه بعد الرشد، وقد حكيت في باب التفليس عن رواية الإمام والقاضي الحسين قولين فيما إذا أقر بعين، ثم فضلت بعد فك الحجر، هل تسلم للمقر [له] أم لا؟ وقلت: إن القياس طرد ذلك في الدين أيضًا، وقد أشار إليه في ((الوسيط)) أيضًا هاهنا، أخذا من قول الإمام هناك: إن الأئمة حكوا قولين في صحة بيع المفلس عينًا من أمواله موقوفًا على التبين في الجديد، فإن كنا نرى توقف بيع المفلس، فإقراره أولى بقبول الوقف. وإن رددنا إنشاء تصرفه ففي إقراره تردد حينئذ، والأظهر في القياس ألا نرده، بل نقفه، فإن الإقرار ليس إنشاء تصرف، وإنما هو إخبار، والمفلس من أهل الإخبار، فإن رددنا قوله في الحال، لحقوق الغرماء، فإذا زالت، فلا يبعد أن يؤاخذ المقر الآن بموجب إقراره، وهذا واضح ورد إقراره عند تقدير زوال حقوق

الغرماء مشكل في القياس جدًا. أما إذا أسند الإقرار إلى سبب حادث بعد الحجر، فقد تقدم أنه إن أسنده إلى معاملة، فلا مضاربة. وإن أسنده إلى إتلاف أو جناية، فأصح الطريقين: أنه كما [لو] أسند ذلك إلى ما قبل الحجر. والثاني: أنه كما [لو] أسنده لمعاملة، وبه جزم الماوردي. ولو أطلق الإقرار بالدين، ولم يسنده، قال ((الرافعي)): فقياس المذهب التنزيل على الأول، وجعله كما [لو] أسنده إلى ما بعد الحجر. قلت: وقضية التنزيل على الأول: أن يجعل السبب معاملة، وحينئذ فلا يحكم له بالمضاربة. وقد يفهم من كلام القاضي أبي الطيب وغيره حكاية القولين المذكورين في الكتاب في هذه الحالة، ولم أره، بل ابن الصباغ لم أطلق هاهنا حكاية القولين، قال: وقد ذكرناهما في كتاب التفليس، والذي ذكره ثم ما بيناه من قبل، ولذلك اتجه اعتراض ((الرافعي)) على الغزالي، فإنه قال- تبعًا لإمامه-: وقد خرج في الإقرار المرسل قوله: أنه يقبل في الحال، ويضارب الغرماء من أحد قوليه في

القديم فيما إذا أقر بعين: أنه يقبل. قال ((الرافعي)): والقولان في هذه الحالة منصوصان في ((المختصر))، ومعلوم أن النص مغن [عن] التخريج، والله أعلم. قال: ومن حجر عليه، لرق يجوز إقراره بالحد والقصاص والطلاق، لما ذكرناه. وعن المزني: أنه لا يقبل إقراره بالحد والقصاص إذا كذبه السيد، لما في استيفاء ذلك من الإضراب بالسيد. قال الإمام في كتاب السرقة: وكنت أود لو كان مذهب المزني في عدم قبول إقراره بالقطع في السرقة قولًا بالقطع في السرقة قولًا مخرجًا، ولكن لم يشر إليه أحد من الأصحاب، وتمسكوا في تقرير المذهب- كما قال الماوردي- بعموم قوله- عليه السلام-: ((فَإِنَّهُ مَنْ بُيْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ حَدَّ اللهِ)). وبأن عليا- كرم الله وجهه- قطع عبدًا بإقراره، ولم ينكره أحد. وبالقياس على قتله في الردة. قال: وإن أقر بمال، اتبع به إذا عتق، أي: وأيسر، ولا يتعلق برقبته، ولا بكسبه، ولا بما يملكه في حال رقه بتمليك السيد إذا رأيناه، كما قال الماوردي، لأن الحجر عليه لحق السيد، فعمل بموجبه في متعلق حقه، وهو الرقبة، والكسب، والمال الذي في يده حالة رقه، واتبع به [بعد العتق واليسار]، إذ لا حق للسيد في ماله إذ ذاك. فإن قلت: قد تقدم في صحة ضمان العبد بغير إذن سيده خلاف، وإن كان من صححه لا يلزمه الوفاء إلا بعد العتق، ولا حق للسيد إذا ذاك في ماله. قلت: قد حكى ابن يونس وجهًا هاهنا: أنه لا يلزمك الوفاء بعد العتق أيضًا، فاندفع السؤال. فإن قلت: هذا الوجه لم نره هكذا على الإطلاق في غيره، ولعله مفروض فيما إذا أقر بجناية الخطأ، بناء على وجه ذكرناه في باب العاقلة عن القياسين: أنه إذا أقر بها، وكذبه السيد، لا يطالب بالأرش بعد العتق، بناء على أن الأرش في حال

التصديق لا يتعلق بذمة العبد، وإن كان [كما] نقله على الإطلاق فالصحيح خلافه، والصحيح في مسألة الضمان المنع، وهذا يكفي في السؤال. قلت: الفرق: أن للعبد عن الضمان غنية، وليس له عن الإقرار بما في ذمته غنية، فلذلك صححناه، والله أعلم. ثم على المشهور: ما الذي يطالب به العبد بعد العتق؟ ينظر: فإن كان على ما أقر به عن جناية، فقد تقدم ذكره في باب العاقلة. وإن كان عن مبيع، قال القاضي الحسين: فهو قيمته. ومن أصحابنا من قال: يتبع بالثمن. والمذهب الأول. وهذا كله إذا كان العبد غير مأذون له في التجارة، فإن كان فإقراره بديون المعاملة مقبول فيما في يده قبل العزل، سواء صدقه السيد، أو كذبه، لأنه مسلط عليها بالإذن، فإن فضل عما في يده شيء اتبع به بعد العتق، وهل يتعلق بإكسابه المتجددة قبل العتق؟ فيه خلاف سبق في بابه. وإقراره بما في يده من الأعيان بأنها مقبوضة على جهة السوم، أو بعقده، وقد فسخه بعيب، أو إقالة أو خيار- مقبول أيضًا. وإقراره بالإتلاف، والخطأ كإقرار غير المأذون، لأن الإذن لا يسلطه على ذلك. ولو أطلق الإقرار بالدين، ولم يبين جهته، فهل ينزل على دين المعاملة، لأنه الغالب، أو لا، لاحتمال أنه أراد دين إتلاف، فيه وجهان: الذي في ((الإبانة)): الأول. وأظهرهما عند الغزالي و ((الرافعي)) الثاني. ويشبه أن يكون أصل الخلاف ما إذا أقر لحمل بمال، ولم يبين سببه، هل يصح أو لا يصح؟ تنزيلًا للإقرار على السبب الغالب، وهي المعاملة المتعذرة من الحمل. ولو حجر السيد عليه، فأقر بدين معاملة، وأسنده إلى حالة الإذن، ففي ((تعليق)) القاضي أبي الطيب عند الكلام في الإقرار في المرض حكاية قولين فيه كالقولين في إسناد المفلس الإقرار بالدين إلى ما قبل الحجر.

وفي ((الرافعي)) حكايتهما وجهين مخرجين من القولين في المفلس، وقال: إن الأظهر هاهنا المنع، لعجزه عن الإنشاء، وتمكن التهمة. ومقابله ينسب إلى رواية الشيخ أبي محمد. قال: وإن أقر بسرقة مال في يده قطع- أي: يوجب القطع- لما سبق، وفيه خلاف المزني. وفي المال قولان: أحدهما: يسلم [إليه]، أي: إلى المقر له، لأنه أقر بمال في ضمن إقراره بعقوبة فقبل منه، كما أو أقر بجناية عمد، فعفا الولي عنه على مال، فإنه يجب، ويتعلق برقبته. والثاني: لا يسلم، لأن يد العبد كيد المولى، بدليل أن شخصًا لو ادعى ما في يد العبد، كان القول قول السيد، ولو كان المال الذي أقر العبد بسرقته في يد السيد، لم يسلم للمقر له، بلا خلاف، كما حكاه الإمام وغيره، فكذلك هاهنا، وهذا أصح في ((الرافعي))، واختاره في ((المرشد)). قال الأصحاب: ويخالف الإقرار بالقصاص [لأنه إقرار] بالعقوبة، وإنما يصير مالًا بعفو الولي واختياره، وهاهنا إقراره بالمال، ألا ترى أنه لو أقام المسروق منه شاهدًأ وامرأتين، ثبت المال دون القطع، ولو أقامهم على القتل الموجب للقصاص، لم يثبت قود ولا دية، وهذه طريقة ابن سريج، كما حكاها ابن الصباغ في باب مداينة العبيد. وما ذكر من الفرق بين مسألة الإقرار بالقصاص [والإقرار بالسرقة يقتضي تسليم الحكم في مسألة الإقرار بالقصاص]. وفي ((الشامل)) في باب العبد المأذون أن أبا علي قال في ((الإفصاح)): إنا إذا قلنا: الواجب في العمد أحد الأمرين فإذا اختار الولي المال، ففي ثبوته وجهان، بناء على القولين في المسروق. ومفهوم هذا: أنا إذا قلنا: [إن] الواجب القود، يجب المال بلا خلاف. وفي ((الإبانة)) عكس هذا، فقال: إن قلنا: الواجب أحد الأمرين، فلا يثبت المال

بالعفو، وإن قلنا: الواجب القود عينا، فقولان. وقال الإمام هنا: إن الولي إذا عفا على مال- إن قلنا: إن الواجب أحد الأمرين- ترتب على ثبوت المال في الإقرار بالسرقة، والدية أولى بالثبوت، لأنها تثبت ضمن القتل، وضمان المال في السرقة ممتاز في الحقيقة عن موجب القطع، فإن سبب الضمان يثبت، والساق بعد في الحرز. وإن قلنا: الواجب القود عينا، ففي ثبوت المال خلاف، وهو على هذا القول أولى بالثبوت منه على القول الأول، فإن المال على الأول موجب الإقرار، وعلى الثاني موجب الإقرار العقوبة، وهذه الطريقة توافق ما في ((التهذيب))، فإنه حكى في ثبت المال وجهين مطلقًا، وأن أصحهما الثبوت، وتعلقه بالرقبة. قال: وإن أتلف المال، بيع منه بقدر المال في أحد القولين، ولا يباع في الآخر. القولان في هذه الصورة أصلهما القولان في الصورة السابقة، فإن قلنا ثم: يسلم [المال]، فقد ألحقناه بحالة تصديق السيد، ولو صدقه السيد على السرقة، لرد المال عند بقائه، وتعلق بدله برقبته عند تلفه. وإن قلنا ثم: لا يسلم، فقد ألحقناه بما لو أقر بمال في يده لغير سيده، لا على وجه السرقة، ولو تلف المال في مثل هذه الصورة، لم يتعلق برقبته، بل بذمته، فكذلك هاهنا، وهذا ما صححه ((الرافعي))، واختاره في ((المرشد))، وهذه طريقة أبي علي بن أبي هريرة، ولم يحك ابن الصبغ في باب العبد المأذون سواها، وقال: إنه لو رجع عن إقراره، سقط القطع، وتعلق المسروق بذمته قولًا واحدًا، لأن التهمة تلحقه الآن، ووراء ذلك طرق: إحداها- عن أبي إسحاق-: أن المال إذا كان تالفًا لا يباع منه شيء قولًا واحدًا، لأن الرقبة في يد السيد، فأشبه المال المضاف إلى يده. وإن كان باقيًا، كان في تسليمه القولان. والثانية- حكاها القاضي الحسين- عوض هذه، وهي إن كان المال تالفًا، بيع منه بقدره قولًا واحدًا، وإن كان باقيًا، ففي تسليمه القولان.

والفرق: أنه إذا كان تالفًا فغاية الأمر تفويت رقبته في الضمان، والأعيان التي تفوت لو قبل إقراره بسرقتها لا تنحصر، فالضرر فيها أعظم. والثالثة- عن الشيخ أبي حامد، وجمهور البصريين-: أن المال إن كان تالفًا، ففي تعلق بدله برقبة العبد القولان، وإن كان باقيًا لم يسلم وجهًا واحدًا، لما ذكرناه. وفي ((المهذب)) نسبة هذه الطريقة للقاضي أبي حامد. والرابعة- حكاها القاضي الحسين أيضًا، وغيره من الرواة-: إجراء الخلاف في الصورتين، لكن بالترتيب: فإن قلنا: يتعلق برقبته عند تلفه، فيسلم عند البقاء من طريق الأولى، وإلا فقولان، والفرق ما بيناه. والخامسة- حكاها الماوردي هنا: أنا إن لم نقبل إقراره [في المستهلك] فأولى ألا نقبله في الباقي، وإن قبلنا إقراره في المستهلك، ففي قبوله في العين التي في يده وجهان. وإذا اختصرت ذلك، قلت: في المسألة أربعة أقوال، كما حكاها الإمام ومن تبعه في كتاب السرقة: القبول في حالة البقاء، والتعلق بالرقبة عند التلف. عدم القبول في حالة البقاء، وتعلق الغرم عند التلف بذمته، دون رقبته. القبول في حالة البقاء، وعدم التعلق بالرقبة عند التلف. عكسه. أما إذا أقر بسرقة ما لا قطع فيه، لم يقبل إقراره في تسليمه، ولا في تعلقه برقبته عند تلفه قولًا واحدًا، صرح به الإمام، وابن الصباغ، وغيرهما، بل يتعلق بذمته، كجناية الخطأ، ووراء ما ذكرناه أمران: أحدهما: قال الإمام هاهنا: إنا إذا قبلنا الإقرار بالمال من العبد والسفيه، فلا شك في وجوب القطع. وإن لم نقبل الإقرار بالمال، فقد أطلق الأصحاب وجوب القطع، [وليس الأمر كذلك عندي، بل يظهر ذكر خلاف في وجوب القطع] إذا فرعنا على رد الإقرار في المال، فإن السرقة لا تستقل بنفسها دون ارتباطها بالمال، فلابد من

تخريج وجوب القطع على خلاف ظاهر في أن الحر المطلق إذا أقر بسرقة نصاب من مال زيد، فهل يجوز قطع يده قبل مراجعة زيد، وفيه خلاف، ولعل الأظهر أنه لا قطع. الثاني: قال [القاضي] الحسين في كتاب السرقة: إذا قبلنا إقرار العبد بما في يده، ففي معنى قبوله وجهان: أحدهما: رد العين إلى المقر له بالغة ما بلغت، حملًا على أنه غير متهم. والثاني: تعلق قيمة العين برقبته، والعين للسيد، لما ذكرناه من علة القول الآخر. قال الإمام: وليس هذا بإضرار عظيم، فإن القول الأصح: أن العبد يفدى بأقل الأمرين، وأقصى ما يقر به لا يجاوز قيمته، فيكون للكلاخم توقف ينتهي إليه. وإذا قلنا: السيد يفدي عبده بالأمر اللازم، بالغًا ما بلغ، فله مكنة أن يسلم العبد، والعبد يمكنه أن يفوت رقبته على مولاه بأن يقر بجناية توجب إهلاكه. ثم قال بعد هذا: ولا يبعد إذا قبلنا إقرار العبد بالعين التي في يده، أن نقبل إقراره بما يضيفه إلى ما في يد مولاه، والله أعلم. فرع: المدبر وأم الولد فيما ذكرناه كالقنن، والمكاتب يقبل إقراره في البدن، والمال كالحر ويؤديه مما في يده، ولا يعتبر فيه تصديق السيد. نعم، إذا عجزه السيد، ولا مال معه [فديون معاملاته] يؤديها بعد عتقه، وغرم جناياته في رقبته يؤديذى من ثمنه قاله الماوردي. ومن بعضه حر، وبعضه رقيق كالمملوك في البعض الرقيق، وكالحر في البعض الحر، قاله المارودي أيضًا. قال: ولا يجوز إقرار المولى عليه بما يوجب الحد والقصاص، لأنه لا حق للسيد إلا في المال فقط، لا في الروح والبدن، وهذا يتعلق بهما. قال في ((المهذب)) - وتبعه في ((المرشد)) ولهذا لو جنى عليه جناية توجب القصاص أو الحد، استقل هو بالاستيفاء والعفو دون [إذن] السيد، وهذا فيه منازعة تقدمت حكايتها في باب العفو والقصاص.

قال: ويجوز إقراره عليه بجناية الخطأ، أي: بالنسبة إلى التعلق بالرقبة لأنها ماله، فقبل إقراره فيه. أما بالنسبة إلى التعلق بالذمة إن رأيناه فلا، وهكذا الحكم فيما إذا أقر عليه [السيد] بدين معاملة أذن فيها. قال: ومن حجر عليه لمرض، يجوز إقراره بالحد والقصاص، أن الحجر على المريض لحق الورثة، فاختص بما يثبت لهم بعد الموت، ولا حق لهم في نفسه وبدنه، ولهذا لو أقرت المرأة بالنكاح قبل، ولم يحسب ما نقص من مهر مثلها من الثلث، لأن البضع لا يسلم لهم بعد الموت. قال: ويجوز إقراره بالمال للأجنبي، قال الغزالي وغيره: للإجماع. وفيه نظر، لأن للشافعي قولًا حكاه الإمام متصلًا بباب الأوصياء: أنه يعتبر ما أقر به من الثلث، والمشهور خلافه، وعليه نقول: لو أقر لشخص في الصحة ولآخر في المرض، ومات، كانا سواء عندنا، حتى تقسم التركة عند ضيقها عن الوفاء عليهما على نسبة الدينين. وفي ((الزوائد)): أن الشيخ أبا زيد حكى عن بعض أصحابنا: أن في إقراره في المرض بعد تقدم الإقرار في الصحة قولان، كما في إقرار المفلس بعد الحجر. والمعروف في المذهب الأول. نعم، لو أقر في [صحته، أو مرضه] لشخص، ثم مات، فأقر وارثه [بدين لآخر]- فوجهان: أصحهما في ((التهذيب)): أنهما سواء- أيضًا- كما لو أقر لهما الوارث، وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن الأ كثرين. والثاني: ويعزي عن القفال، واختيار بعضهم-: أن من أقر له الميت مقدم، لأن بالموت تعلق حقه بالتركة، فليس للوارث صرفها عنه. والوجهان جاريان فيما لو ثبت على الميت دين بالبينة، ثم أقر الوارث للآخر بدين، أو أقر الوارث لشخص بدين، ثم لآخر بدين آخر.

والمعظم- كما قال الإمام- في الأخيرة على التسوية. قال ((الرافعي)): وهما مبنيان على القولين في أن المحجور عليه بالفلس إذا أقر بدين أسنده إلى ما قبل الحجر، [هل] يقبل إقراره في زحمة الغرماء؟ لأن التركة كمال المحجور عليه، من حيث إن الورثة ممنوعون عن التصرف فيها؟ وهذا ما أبداه الإمام احتمالًا لنفسه، وهو في ((تعليق)) القاضي الحسين أيضًا، ويوافقه قول المتولي: إنه لو ثبت على شخص دين في حياته، أو بعد موته، ثم تردت بهيمة لآخر في بئر كان قد احتفرها في محل عدوان، هل يزاحم صاحب البهيمة رب الدين القديم أم لا؟ حكمه ما سبق فيما إذا جنى المفلس بعد الحجر عليه، وقد قدمت ما فيه. و [قد] صرح الإمام بالخلاف هنا. ولو أقر في مرضه [لشخص بدين] ولآخر بعين، ولا مال له غيرها، فوجهان: أصحهما: أن العين تسلم للمقر له [بها] كما لو تقدم الإقرار له بها على الإقرار بالدين. والثاني: أنهما يتزاحمان، لأن لأحد الإقرارين قوة السبق، وللآخر قوة الإضافة إلى العين، فاستويا، والله أعلم. قال: وفي إقراره بالمال للوارث قولان. وجه المنع: أن المريض محجور عليه في حق الوارث، بدليل منع الوصية له، فوجب ألا يصح إقراره له، كما أن الصبي لما أن كان محجورًا عليه في حق الناس كلهم، لم يصح إقراره لهم. ولأنه متهم في ذلك، لأنه ربما قصد [أن] يزوي المال عن بعض الورثة لبعض، وإذا كان متهمًا وجب ألا يقبل إقراره. وجه القبول وهو الصحيح: قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء:135] وقد تقدم أن شهادة المرء على نفسه إقراره عليها،

وذاك عام في كل حال للوارث وغيره. وأيضًا: فإنه لو أقر له [في الصحة] لنفذ، فكذلك في المرض، كالأجنبي. والجواب عما ذكر من توجيه القول الأول [أولًا] أنه يبطل بالأجنبي إذا أقر [له] بما زاد على الثلث من ماله، فإنه يقبل وإن كان محجورًا عليه فيه. وعما ذكر ثانيًا: أنا لا نسلم أنه متهم، بل التهمة منتفية عن المريض أشد من انتفائها عن الصحيح، فإنه يكون مشرفًا على الآخرة، وقادمًا على ربه، وذلك أدعى لصدقه، روي أن أبا بكر- رضي الله عنه- قال في عهده لعمر- رضي الله عنه-: ((هذا ما عهد به أبو بكر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند آخر عهده بالدنيا، خارجًا منها، وأول عهده بالآخرة داخلًا فيها، في الحال التي يؤمن فيها الكافر، ويتقي فيها الفاجر)). [ثم] على تقدير التسليم فالتهمة موجودة فيما إذا أقر لأخيه ولا ولد له، ثم حدث له، ثم مات، وقد سلم الخصم أنه يصح الإقرار له. ومنتفية فيما إذا أقر لأخيه وله ولد وارث، فمات، وصار الأخ وارثه، وقد قال الخصم: إن الإقرار يبطل، وذلك يبطل التعليل بالتهمة. وأيضًا: فإن التهمة في الإقرار بالوارث أشد منها في الإقرار للوارث، وقد قال: لو تبنى ولدًا، وحرم به ابن عمه الكاشح، لقبل، فهاهنا أولى، وهذه الطريقة أخذت من قول الشافعي في ((المختصر)): ((ولو أقر لوارث، فلم يمت حتى حدث وارث يحجبه، فالإقرار لازم، وإن لم يحدث وارث فمن أجاز الإقرار للوارث أجازه، ومن أبي رده، ولو أقر لغير وارث، فصار وارثًا، بطل إقراره)) انتهى. لأن معنى قوله: ((من أجاز الإقرار للوارث)): أجازه لوجه معتبر، [((ومن أبي رده)) لوجه معتبر،] فهو ترديد قول له، وقد قال الماوردي: إن أبا إسحاق كان يقول بهذه الطريقة في غير ((الشرح))، وأن ابن أبي هريرة كان يجعل إقراره للوارث

لازمًا قولًا، واحدًا، ويجعل ما قاله من بطلان إقراره حكاية عن مذهب الغير، وه أبو حنيفة ومالك وابن أبي ليلى، رضي الله عنهم أجمعين. وقد حكى القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ هذه الطريقة عن أبي إسحاق، وأنه قال: إن القبول هو الذي قطع به الشافعي في كتبه، ولأجل ذلك قال الأكثرون: إن هذه الطريقة هي الصحيحة، وتبعهم الغزالي. وعلى هذا: فيكون معنى قول الشافعي: من أجاز الإقرار للوارث، أي: في الصحة، لزمته إجازته في المرض من طريق الأولى، لأنها الحالة التي يتوب فيها الفاسق، ويصدق فيها الكاذب، ويؤمن فيها الكافر، فهي أبعد عن التهمة، كما ذكرناه. ومن أبي، أي: الإقرار للوارث في المرض، لزمه رده في الصحة، لأن التهمة أقوى، وقد [وافق] على قبوله في الصحة، فتعين قبوله في المرض جزمًا، كذا كان بعض مشايخنا يقرره. لكن في ((الشامل)): أن أبا حامد كان يقول: إن قول المنع منصوص عليه في الإملاء. وقال ((الرافعي)): إن في ((تعليق)) الشيخ أبي حامد: أنه رجع إلى ذلك بعدما كان يقول بطريقة القطع بالقبول. قلت: وقول الشافعي في ((المختصر)): ((ولو أقر لغير وارث، فصار وارثًا، بطل إقراره)) صريح في منع الإقرار للوارث. وعن الإمام مال: إن كان المقر متهمًا لم يقبل إقراره، وإلا قبل، ويجتهد الحاكم فيه. قال ((الرافعي)): واختاره الروياني، لفساد الزمان. التفريع: إن قلنا بصحة الإقرار للوارث فلا كلام، وإن قلنا بمنعه فالمعتبر- كما ذكرنا- كونه وارثًا حقيقة، وذلك إنما يتحقق بالموت، فيكون النظر إليه، وهذا ما أورده العراقيون، والماوردي، وحكاه القاضي الحسين، وتبعه الإمام، والبغوي عن الجديد.

وحكوا عن القديم: أن المعتبر أن يكون وارثًا عن الإقرار، نظرًا للتهمة. وبعضهم يورد الخلاف المذكور وجهين، والأظهر ما جزم به العراقيون واختيار أبي إسحاق والروياني مقابله. ولا نظر- بالاتفاق- إلى الحالة المتخللة بين الإقرار والموت، صرح به القاضي والإمام. ولو أقرت في مرض موتها بأني أبرأت الزوج عن الصداق في حال الصحة لم يقبل على القول الذي عليه نفرع، قاله القاضي الحسين في كتاب التفليس، وهو موافق لما حكاه هنا فيما إذا أقر في المرض: أنه كان قد وهب من وارثه شيئًا في الصحة، وأقبضه إياه: أنه لا يصح على هذا القول أيضًا، دون ما إذا قلنا: إن الإقرار للوارث صحيح، فإنه يصح فيهما. وقد حكى الإمام مع هذه الطريقة في مسألة الهبة طريقة أخرى قاطعة بالمنع، لذكره ما هو عاجز عن إنشائه في الحال، وهي التي رجحها الغزالي، ويظهر جريانها في مسألة الإبراء. وقد حكى الإمام عن القاضي اختيار القبول في مسألة الهبة، لأنه قد يكون صادقًا، فليكن له طريق إلى إيصال الحق إلى المستحق، وهذا يوافقه ما ذكره الغزالي في طلاق المريض: أنه إذا أقر في المرض: أنه أعتق في الصحة، لا يحسب من الثلث، وعليه ينطبق قول الماوردي والمصنف والبغوي: إنه لو أقر في المرض: أنه أعتق أخاه في الصحة عتق، ولا يرثه إن منعنا الإقرار [للوارث] دون ما إذا لم نمنعه. وقول القاضي أبي الطيب الذي حكيته في طلاق المريض: إن المريض [إذا أقر] بما فعله في الصحة، كان كما لو فعله في الصحة، ألا ترى أنه لو أقر في مرضه: أنه وهب في الصحة، وأقبض، كان من رأس المال، أي: كما هو المنصوص الذي صرح بنقله مجلي، لكن قد حكيت عن القاضي الحسين [ثم] أنه قال: لا يبعد أن يجعل من أقر بأنه طلق امرأته في حال الصحة وهو مريض فارًا، لأنه محجور عن إنشاء القطع، وهذا تباين بين. نعم: لو أطلق الإقرار بالهبة، والإقباض، ولم يسند ذلك إلى حال الصحة،

فيشبه أن يكون كما لو أطلقت المرأة في المسألة السابقة الإقرار [بالإبراء] عن الصداق، وقد قال القاضي في التفليس فيها: إنه يحمل على الإبراء في المرض، فلا يقبل جزمًا، لأنه وصية لوارث. ولو أقر لوارثه وأجنبي معًا، هل يصح في نصفه للأجنبي، بناء على القول الذي عليه نفرع أم لا؟ فيه قولان لابن سريج، قال ((الرافعي)): والظاهر الصحة. وقد بقي من أنواع المحجور عليهم المرتد، وإقراره في بدنه لازم، وكذا في ماله قبل الحجر عليه وبعده، وإن قلنا: حجره كحجر المريض. وإن قلنا: كحجر السفيه، قال الماوردي: كانت عقوده باطلة، وفي إقراره وجهان، وبهذا يتم الكلام في الشرط الأول من شروط الإقرار الأربعة، كما قال الماوردي، وهو المقر. واعلم أن لفظ الشافعي في ضبطه: ((من لم يجز بيعه، لم يجز إقرار))، وللأصحاب فيه تأويلان: أحدهما- عن ابن أبي هريرة-: أنه من لم يجز بيعه بحال، لم يجز إقراره. والثاني: أنه من لم يجز بيعه في شيء، لم يجز إقراره في ذلك الشيء. قال: ويجوز الإقرار لكل من يثبت له الحق المقر به، لأن الإقرار حينئذ يكون قد صادف محله، واحتمل صدقه، وبهذا يخرج ما إذا أقرت المرأة بصداقها، أو الزوج ببدل الخلع، أو المجني عليه بالأرش لغيره، فإنه لا يصح، كما حكي عن صاحب ((التلخيص)) وغيره، لأن الصداق وبدل الخلع لا يكون لغيره، وكذا أرش الجناية على الحر. وألحق الماوردي بذلك ما إذا أقر بحمل بهيمته لغيره، وقال: إنه لو قال في الصور الأربع: صار ذلك لفلان، صح في الصداق، والخلع، ولم يصح في الحمل، وكان في أرش الجناية على اختلاف حالين: إن كان دراهم صح، وإن [كان] إبلا لم يصح. وأطلق في ((التهذيب)) الحكاية عن شيخه بسماع الإقرار في مسائل صاحب ((التلخيص))، لأنه يتصور أن يصير للغير بالحوالة، وحمل ما قاله صاحب ((التخليص)) على الإقرار بذلك حالة ثبوته، فإنه لا يتصور حينئذ ثبوته للغير.

[قلت]: ويصير كما لو أعتق العبد، فأقر في المجلس بدين لسيده، أو غيره، فإنه لا يصح، كما قال البغوي، وفيه نظر في حق السيد، إذا قلنا: إن الدين لا يسقطه الملك الطارئ عليه، وفي حق [غير السيد] إذا صححنا شراء العبد بثمن في ذمته، أو علقنا أرش الجناية بها. وقال الإمام فيما إذا فرض الإقرار بانتقال الصداق وبدل الخلع، أو في انتقال سائر الديون إلى إنسان: أنه لا محمل لذلك إلا تقدير بيع الدين، وفي صحته قولان، فالإقرار مخرج عليهما. قال ابن أبي الدم: وهو في ذلك متبع للجرجاني، فإنه ذكر ذلك في بعض مصنفاته. والوجه ما قاله الماوردي: وقد اتفق الكل على أن الإقرار بالدين الثابت لشخص، يجوز إذا أمكن ثبوت ذلك الدين لذلك الشخص ابتداء. وألحق في ((التهذيب)) به ما إذا [جني] على عبد لشخص، أو مال له، فأقر من له العبد ظاهرًا [والمال] بأن الأرش لآخر، لاحتمال أن يكون ذلك العبد والمال للمقر له. وقد اتفق الكل على أن الإقرار بالدين الثابت لشخص، يجوز إذا أمكن ثبوت الدين لذلك الشخص ابتداء. وألحق في ((التهذيب)) به ما إذا [جني] على عبد لشخص، أو مال له، فأقر من له العبد ظاهرًا [والمال] بأن الأرش لآخر، لاحتمال أن يكون ذلك العبد والمال للمقر له. ثم قد يرد على كلام الشيخ ما إذا قال شخص: لإنسان علي ألف، أو: لواحد من بني آدم، أو: من أهل القرية ألف، فإن مثل ذلك يثبت له الحق المقر به. وقد حكي عن رواية الشيخ أبي علي في صحة هذا الإقرار وجهان مبنيان على أنه إذا أقر لمعين بشيء، فكذبه المقر [له] هل يخرج من يده؟ فإن قلنا: نعم، صح إقراره هنا، وأخرج من يده. وإن قلنا [لا]، لم يصح هذا الإقرار. قال ((الرافعي)): وهو الصحيح، وعليه اتجه السؤال. وهذا هو الشرط الثاني من شرائط الإقرار. والثالث سنذكره في أثناء الباب. والرابع أن يكون عند من يصير الحق به محفوظًا، وهو أحد نفسين: إما حاكم

ملزم، أو شاهد متحمل، وليس له عند غير هذين تأثير. فإن [كان] الإقرار عند حاكم، فمن شرطه: أن يكون بعد سماعه الدعوى عليه، فإن أقر [عنده] قبل السماع، أو من غير دعوى، ففي صحته لأصحابنا وجهان: أحدهما: يصح، وحكاه ابن المنذر عن الشافعي. والثاني: لا يصح، وهو اختيار البصريين. قال الماوردي: ويشبه أن يكون اختلافهم في هذا مخرجًا على صحة القضاء بالعلم. وإن كان عند شاهد، [فمن شرطه الاسترعاء للتحمل، فإن لم يسترعه، وأقر عنده، أو سمعه يقر] من غير قصد له- ففي صحة التحمل وجواز الشهادة بذلك وجهان سبق ذكرهما. قال: وإن أقر لبعد بمال، ثبت المال لمولاه، كما أن الهبة منه والوصية له تكون لمولاه. قال القاضي في ((الفتاوى)): وهذا إذا كان العبد مأذونًا له في التجارة، فإن كان غير مأذون له فوجهان، بناء على ما لو أقر للحمل مطلقًا. وحكى الوجهين في ((التعليق)) - أيضًا- هكذا، وهما في ((الحاوي))، وقال: إن الأصح القبول، وهو قضية البنء المذكور، وهذا إذا قلنا: إن العبد لا يملك، أما إذا قلنا: إن العبد يملك، ففي ((المهذب)) و ((الحاوي)): أنه يصح الإقرار له، ويعتبر فيه إجازته ورده دون إجازة السيد ورده، وكذا قال في ((الحاوي)) فيما إذا كان مأذونًا، أو مكاتبًا. واحترز الشيخ بلفظ ((المال)) عما إذا أقر له بنكاح، أو بتعزيز القذف، أو بقصاص، فإنه يكون للعبد، ويعتبر فيه قبوله ورده دون السيد، كما صرح به في ((المهذب))، وهو في القصاص ماش على أصله السابق في أنه يختص بالعبد. قال: وإن أقر لبهيمة، لم يثبت المال لصاحبها، لأن البهيمة غير قابلة للملك في الحال والمآل، فكانت الإضافة إليها لغوًا، بخلاف العبد، فإنه قابل له على

الجملة، فصح إسناده إليه، [و] لقبوله لتعاطي سببه الغالب، وهو البيع. وقد ألحق في ((الحاوي)) في أول الباب بذلك الإقرار لعقار زيد، أو لمسجد، أو رباط. وحكى في الكل عند إطلاق الإقرار وجهين: أحدهما: ما ذكرناه، وهو ما جزم به في أثناء الباب في الإقرار للدابة والدار. والثاني: أنه يصح في الكل، وهو الذي صححه في أثناء الباب في الإقرار للمسجد والمصنع، وقال: إن الوجهين في الجميع مخرجان من اختلاف قوليه في الإقرار للحمل بإقرار [مطلق، وفي ((المهذب)) وغيره حكاية الوجهين في الإقرار] للمسجد والمصنع، بناء على الأصل المذكور. ولا شك في أنه إذا أضاف الإقرار إلى وجه مستحيل، كإقراره لذلك بدين معاملة: أنه يكون باطلًا، كما أنه لاشك في أنه إذا أضافه إلى وجه يصح ولا يستحيل، كإقراره لماشية مسبلة بعلوفة، من وصية أو صدقة، أو لمسجد بمال من وصية، أو لرباط أو لمصنع بمال من وقف عليه- أنه يصح، كما قاله الماوردي، وإن كان لا يبعد في الحالة الأولى تخريج وجه في صحة الإقرار، وإلغاء سببه إذا قبلنا الإقرار المطلق، كما سنذكر مثله في الإقرار للحمل. ولو قال: بسبب هذه الدابة على كذا صرف لمالكها في الحال، كما قاله الإمام، حكاية عن الأصحاب، وهو في ((الوجيز))، و ((التهذيب))، تنزيلًا على أنه استأجرها، أو جنى عليها. وعن أبي عاصم العبادي وجه: أنه لا يصح، لأن الغالب لزوم المال بالمعاملة، ولا تتصور المعاملة معها. قال ((الرافعي)): ومحل ذلك إذا قال: لمالكها بسببها علي كذا. قلت: كما حكاه في ((الشامل)): أما إذا اقتصر على قله: بسببها [علي] كذا، لم يلزم أن يكون ذلك لمالك الدابة في الحال، ولكن يسأل، ويحكم بموجب بيانه. قلت: وهذا ما أبداه الإمام احتمالًا لنفسه، ويؤكده أنه يحتمل أن يكون الغرم لغير مالك الدابة، بأن أتلفت شيئًا، وهي في يد المقر، فجعل المقر به للمالك

[مخالف لقاعدة] الإقرار في البناء على اليقين، والله أعلم. قال: وإن أقر لحمل، وعزاه إلى إرث، أو وصية- صح الإقرار، لأنه يملك بذلك، فصح إسناده إليه. قال: وإن أطلق، ففيه قولان: أصحهما: أنه يصح، لأن كلام البالغ العاقل يحمل على الصحة في الأقارير ما أمكن، وهو ممكن هنا، لجواز ملكه له بطريق صحيح من وصية أو إرث، كما يصح الإقرار للطفل، وهذا ما اختاره أبو إسحاق، وقد وافق الشيخ على تصحيحه ((الرافعي)) وغيره، وهم متبعون فيه المارودي، وقال: إنه الذي نص عليه في كتاب الإقرار بالحكم بالظاهر، وإن المزني لم ينقل من هذا الكتاب شيئًا. ومقابله: أنه لا يصح، لأن الحمل ليس من أهل المعاملة، وإيجاد سبب الاستحقاق، والظاهر من الدين في الذمة دين المعاملة، فإن الإرث والوصية أمور بعيدة الوقوع، فلا ينزل الإقرار عليها، كذا قاله الإمام، والقاضي، وهذا ما نص عيه في كتاب الإقرار والمواهب من ((الأم))، ونقله المزني. والخلاف يجري كما قال [القاضي] الحسين فيما لو قال: له علي ألف [استدنته أو اغتصبته، ولم يقل: من أبيه، ولا: منه. نعم، لو قال: علي ألف اقترضتها] منه، أو عن معاملة- فالذي حكاه العراقيون والماوردي والمراوزة: أنه يتفرع على الخلاف السابق، فإن رددنا الإقرار المطلق، فهاهنا أولى. وإن [قبلنا الإقرار] المطلق، قال العراقيون والماوردي: فهاهنا قولًا تبعيض الإقرار: أحدهما: يصح، وتلغى الإضافة المفسدة. والثاني: يبطل الجميع. وحكى المراوزة وراء هذه طريقة أخرى، تفريعًا على قبول الإقرار المطلق: أن

هذه الإضافة تبطل، ويلزمه ما أقر به قولًا واحدًا، وإليها أشار في ((الوسيط)) بقوله: ((وقيل: إن هذا هزل فلا يقبل قولًا واحدًا))، [أي: الإضافة هزل، فلا تقبل قولًا واحدًا]، كما لو قال: لفلان علي ألف لا يلزمني، فإن ذلك هزل لا يقدح في الإقرار، وهذه الطريقة أظهر في ((الرافعي))، ولم يحك البغوي سواها. قال: فإن وضعته ميتًا، بطل الإقرار، أي: الذي كنا قد قبلناه للشك في حياته المصححة لملكه بالوصية والإرث، التي يسند إليهما الإقرار. ولا فرق في ذلك بين أن تضعه لا بجناية جان أو تضعه بجناية جان على بطنها. وسواء قلنا: إن الجنين يملك الغرة في آخر جزء من حياته، كما هو قولنا، أو قلنا: لا يملكها، كما هو قول آخر، كما قاله البندنيجي في كتاب الوصية. ومن طريق الأولى الحكم ببطلان الإقرار، إذا لم تضع شيئًا، وتبين أن ما في بطنها ريح أو غيره، وقد صرح به الماوردي. وفي كل من الحالين، ينظر: فإن كان قد عزا ذلك إلى إرث، رد إلى ورثة الميت عن الحمل. وإن كان قد عزاه إلى وصية، رد إلى ورثة الموصي. وإن كان قد أطلق، ففي ((الحاوي)): أنه يقر في يده، لعدم مدعيه. وقال القاضي أبو الطيب والغزالي [تبعًا] للإمام: إنه يطالب بالتفسير، فإن بين أنه إرث أو وصية، عمل بمقتضاه. قال الغزالي: وهذه مطالبة ليس يتعين مستحقها، إذ لا ندري: أنها لمن هي؟ ولعل للقاضي ذلك بطريق الحسبة. ولو مات قبل البيان، قال في ((التهذيب)): بطل، كما أو أقر [بحق] لرجل، فرد إقراره، يبطل.

وعن ((تعليق)) الشيخ أبي حامد: أنه يطالب ورثته بالبيان. قال: وإن ألقت حيًا وميتًا، جعل المال للحي، لأن الميت كالمعدوم. ثم ظاهر هذا الكلام يقتضي: أنه لا فرق في تسليم المال للحي بين أن يكون ذكرًا أو أنثى، واحدًا كان أو أكثر. وقد قال الأصحاب فيما إذا كان واحدًا: إنه يجعل له إذا كان عن وصية ذكرًا كان أو أنثى، وإن كان عن إرث، فقد قال الماوردي: إن الأمر كذلك. وفي ((تعليق)) القاضي الحسين: إنه كذلك إذا كان ذكرًا، وإذا كان أنثى جعل لها نصفه، والباقي يرد إلى سائر ورثة الأول. وفي ((الرافعي)) و ((التهذيب)): أنه إن أسنده إلى إرث [من أب]، كان لها نصفه، وأن الحي لو كان اثنان ينظر: فإن أسند الإقرار إلى وصية، كان بينهما على السواء، ذكرين كانا أو أنثيين، أو ذكرًا وأنثى. وإن أسند إلى إرث، فإن كان ذكرين، كان لهما على السواء، وإن كان أنثيين، فالأمر كذلك عند الماوردي، والقاضي أبي الطيب، وابن الصباغ. وفي ((تعليق)) القاضي الحسين و ((النهاية)): أن لهما الثلثين منه، والباقي يرد إلى ورثة الأول. ثم قال القاضي وهو في ((النهاية)): فإن قيل: وجب أن يدفع الكل إليهما، ويحمل على أن التركة، قسمت وأقررنا على المقر للحمل، أخذًا بأسوأ الأحوال- فهذا غير صحيح، لأنه ما من درهم في التركة دينًا كان أو عينًا إلا وهو شركة بين الورثة كلهم، إذا لم يمكن اجتماع كل الورثة على القسمة، فلم تصح قسمتهم قبل انفصال الحمل، وهذا بناء على منع المقاسمة عن الحمل، وقد قيل بجوازها، كما هو مذكور في الفرائض. وإن كانا وأنثى، فللذكر ثلثاه، وللأنثى ثلثه، وهذا إذا اقتضت جهة الوراثة ذلك، فإن اقتضت التسوية، بأن يكونا ولدي أم، قال ((الرافعي)): كان ثلثه بينهما بالسوية، بناء على ما نقله.

وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: إنه يكون بينهما. ولو أطلق المقر الإقرار، قسم بينهما على السوية، كما حكاه ابن الصباغ عن ((التعليق)) ولم يورد الفوراني سواه. ووجهه الماوردي بأن الأصل التساوي حتى يعلم سبب التفاضل. وفي ((النهاية)) و ((الشامل)) - أيضًا- و ((الرافعي)): أنه يسأل عن الجهة، ويحكم بمقتضاها. واعلم أن محل جعلنا المال المقر به للحمل إذا انفصل: إذا تحقق وجوده حالة الإقرار بأن وضعته لدون ستة أشهر من وقت الإقرار، فلو وضعته لأربع سنين [من حين الإقرار فما فوقها، لم يصرف له شيء، وكذا إن وضعته لأربع سنين]، فما دونها إلى ستة أشهر، وكانت فراشًا لزوج أو لسيد، أو [و] طئت بشبهة في المدة. ولو وضعته لأربع سنين ما دونها، ولم تكن فراشًا لأحد، ولا وطئت في المدة، فقد ألحق العراقيون، والماوردي، والقاضي الحسين ذلك بما لو وضعته لدون ستة أشهر. وحكى الإمام وغيره في ذلك قولين عن رواية الشيخ أبي علي وغيره. والأصح منهما: الصرف له، كما يحكم بلحوق نسبه. وفي كل حالة جعلنا المال للحمل، سلمناه إلى وصيه، لكن وجوبًا أو جوازًا؟ قال الفوراني: إن كان قد عزاه إلى إرث، كان فيه الخلاف السابق فيما إذا أقر لشخص بمال، وقال: هذا وارثه، والنص- كما تقدم-: الوجوب. وقال القاضي أبو الطيب: محله إذا كان الوصي ثابت الوصية، فإن لم يكن من ذكر المقر أنه وصي على الحمل ثابت الوصية، فهو كما لو أقر لشخص بمال، وادعى أن هذا وكيله، لأنه لا يأمن من أن يبلغ الصبي، وينكر الوصاية، فيكون الدفع غير مبرئ كما في الوكيل، قال هذا تخريجًا على المذهب. قال: ومن أقر [بحق] لآدمي، أي: متمحضًا كديون المعاملات [ونحوها]،

والقصاص، وحد القذف، أو غير متمحض، والمغلب فيه حق الله تعالى: كالزكوات، والكفارات، وحقوق الله تعالى التي لا تسقط بالشبهات، كما قاله في ((المهذب)) وغيره، لم يقبل رجوعه، لأنه حق ثبت لغيره فلم يملك إسقاطه، لما في إسقاطه من الإضرار به، ولأجل هذا قال ابن الصباغ وغيره في باب الشهادة على الحدود: إن الحاكم لا يعرض له بالإنكار فيها، لأن إنكاره لا ينفعه. نعم، لو صدق صاحب الحق الراجع في رجوعه، بطل الإقرار إذا لم يتعلق بذلك حق الله تعالى وإن تعلق به حق، كما إذا أقر شخص بحرية عبده، ثم رجع عن ذلك، وصدقه العبد- لا يبطل الحكم بالحرية. وكذلك لو ادعى ملك جارية، وحكم لها بها بيمينه، فأحبلها، فأتت بولد لحقه في ظاهر الأمر، ثم قال بعد ذلك: كذبت في دعواي، ويميني، والجارية ليست لي، وصدقته الجارية على ذلك- لا يحكم بردها على المدعى عيه، كما لا يحكم برق الولد وفاقًا. وحكى الإمام قبل باب القافة بثلاث أوراق، وجها آخر: أنا نردها إليه، فإن الحق لا يعدو المدعي والجارية. وقال: إنه لا أصل له، ومثله ما إذا أقر شخص بنسب بالغ عاقل، ثم رجع عنه، وصدقه هل يقبل رجوعه؟ فيه وجهان. قال: وإن أقر بحد [من حدود] الله تعالى، وهي [حد] الزنى، والسرقة، والمحاربة، وشرب الخمر- قبل رجوعه، أي: سواء استوفى بعضه أو لا، لقوله- عليه السلام-: ((ادرءوا الحدود بالشبهات))، وهذه شبهة، لأنه يجوز أن يكون صادقًا في الرجوع، و [قد] روى أبو داود عن جابر بن سمرة [أنه] قال: رأيت ماعز بن مالكٍ حين جيء به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلًا قصيرًا أعضل، ليس عليه رداءٌ، فشهد على نفسه أربع مراتٍ: أنه قد زنى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((فلعلك ...)) قال: لا والله، [إنه] قد زنى الأخر، قال: فرجمه، ثم خطب، فقال:

((ألا كلما نفرنا في سبيل الله، حلف أحدهم إنه ينب كنبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة، [أما]، إن الله تعالى إن أمكنني من أحدٍ منهم إلا نكلته عنهن))، وأخرجه مسلم. وروى أبو داود بسنده عن أبي أمية المخرومي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتي بلص قد اعترف اعترافًا، ولم يوجد معه متاعٌ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((ما إخالك سرقت؟ قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا، فأمر بقطعه، فقطع)). وجه الدليل منهما: أن الرجوع لو لم يكن مقبولًا، لما كان للتعريض فائدة، وإذا ثبت ذلك في الزنى والسرقة، ففي المحاربة والشرب بالقياس عليهما. وفائدة الرجوع عن الإقرار بالسرقة سقوط القطع، وعن الإقرار بالمحاربة إذا وجد القتل فيها بالحتم دون سقوط المال وأصل القتل، كما صرح به القاضي الحسين في باب حد الزنى. ومنهم من قال: كما لا يسقط المال لا يسقط القطع في السرقة والمحاربة، لتعلقهما بحق الآدمي من حيث كونه صيانة له، ولهذا جرى الخلاف في أن المعاهد هل يقطع في سرقة مال المسلم وإن كان لا يحد في الزنى؟ قال الماوردي: وعلى هذا إذا هرب السارق يطلب. وهذه طريقة القاضي الحسين، وقد حكى الإمام في كتاب السرقة طريقة أخرى، وهي أن القطع يسقط وهل يسقط المال؟ فيه قولان، [تشبيهًا لذلك بإقرار العبد بالسرقة، فإن إقراره في وجوب القطع مقبول، وفي المال قولان]، [والصحيح] وإليه ذهب طوائف

من المحققين: سقوط القطع، وثبوت الغرم. قال الإمام: والذي يوضح ذلك: أن ضمان السارق المال يسبق استيجابه القطع، فإنه إذا ثبتت يده على مال الغير، ضمنه بالعدوان، ثم يستوجب القطع بالإخراج من الحرز، وليس كإقرار العبد، فإن سبب قبول إقراره عدم التهمة، ولولا ذلك لما قبلنا إقراره في القطع، وفيه إتلاف طرف مملوك للسيد. ولو أقر رجل بأنه استكره [على] الزنى، فالمهر والحد واجب عليه بإقراره، فلو رجع عنه لم يسقط المهر، وفي سقوط [حد الزنى جوابان للقاضي: أحدهما: يحتمل أن يكون كحد السرقة. ويحتمل أن يقال: يسقط] الحد قولًا واحدًا، لأن وجوب الحد ينقل عن المهر، ووجوب القطع لا ينقل عن مطالبة برد عين أو غرم، فارتباط القطع بالمال أشد من ارتباط الحد بالمهر. قال الإمام: ومن سلك الطريقة الأخرى في حد السرقة، وقال: إذا سقط الحد، ففي سقوط الغرم خلاف قد يلتزم مثل هذا هنا، فيقول بسقوط الحد، وفي سقوط المهر تردد. قلت: ويقوي هذا أن القاضي قال في باب حد الزنى: لو قال: زنيت بفلانة، أو: بفلان، هل يحد لأجل الذي قذفه؟ فيه خلاف. وجه المنع: أن المقصود هو الإقرار بالزنى. وعلى مقابله: إذا رجع عن الإقرار، سقط حد الزنى، وهل يسقط حد القذف؟ فيه وجهان، بناء على ما لو أقر بالسرقة، ثم رجع يسقط القطع، وفي الغرم خلاف. ووجه اشبه: أن المقصود هاهنا الإقرار بالزنى دون القذف، وفي السرقة المقصود حق الآدمي بالإقرار، فمتى رجع عن المقصود، ففي التابع قولان.

واعلم أن كيفية الرجوع عن الإقرار أن يقول: كذبت في إقراري، أو: لم أزن، أو: قد رجعت عن إقراري، وكذا لو قال: لا حد علي. قال الماوردي: مع احتمال فيه. وحكى الإمام في كتاب اللعان عن شرذمة أن قوله: ما زنيت، لا يكون رجوعًا إلا أن ينبني الرجوع بعد الاعتراف بالإقرار. ولو قال: لا تحدوني، قال الماوردي: لم يكن رجوعًا، لأنه يحتمل أن يريد به العفو والإطلاق، أو أن ينظر لأجل قضاء دين، أو وصية، أو أداء قرض، إلا أنه يسأل عن ذلك بعد الكف عنه، فإذا بين عن مراده، حكم بموجبه. وفي ((تعليق)) القاضي الحسين وغيره فيما إذا قال: لا تقيموا الحد علي حكاية وجهين في كونه رجوعًا، وحكاهما الإمام عن صاحب التقريب، وقال: الأظهر: [أنه] لا أثر لذلك، وأنهما جاريان فيما إذا امتنع من الاستسلام. ولو قال بعد شهادة الشهود على إقراره، أو حكم الحاكم به: ما أقررت- ففي ((تعليق)) القاضي الحسين: أنه لا يكون رجوعًا، وهو الذي حكاه الإمام في كتاب

اللعان، وطرده فيما إذا قال: هما كاذبان. وعن أبي إسحاق وأبي الطيب: أنه كما لو قال: رجعت، أو ما زنيت. تنبيه: قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الأول: نكلته أي منعته عنهن. ونبين التيس: صوته عند السفاد، يقال: نب التيس نبا، إذا صاح [وهاج] وهو بفتح النون، وتشديد الباء الموحدة. والكثبة: اللبن القليل، وقيل: هي القليل من كل [شيء] جمعته من طعام وغيره. والأخر في قول ماعز- بقصر الهمزة، وكسر الخاء- معناه: الأبعد، على الذم، وقيل: الأرذل، ومنه: ((المسألة أخر كسب الرجل))، أي: أرذله وأدناه. وقوله- عليه السلام- في الحديث الآخر: ((ما إخالك))، أي: ما أظنك، وهو بالكسر، والفتح، لكن الكسر أفصح، والفتح هو القياس. قال: ويستحب للإمام أن يلقنه الرجوع عن ذلك، أي: بالتعريض إذا رأى منه آثار الندم، كما قاله الماوردي، لما ذكرناه من الأخبار. وقد يتمسك لظاهر قول الشيخ بقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((أسرقت؟ قل: لا)) لكن قد قال الإمام: إن بعض أهل الحديث لا يصحح هذه الرواية. وقد صرح في ((الشامل)) بأن الشافعي قال: لا يأمره بالرجوع صريحًا لأنه يكون أمرًا بالكذب، وهو ما حكاه البندنيجي وغيره. وعن المحاملي أنا لا نقول: إن التلقين مستحب، بل هو بماح، وهو مخير بين فعله وتركه، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم عرض لماعز، وكان تركه لذلك أكثر، ولو كان مستحبًا لما كان تركه أكثر، وهذا ما حكاه في ((الشامل)) وغيره في باب الشهادة على الحد عن الشافعي. ونسب في ((البحر)) ما ذكره الشيخ إلى بعض الخراسانيين، [و] قال: إنه خلاف النص. وفي ((النهاية)) في كتاب السرقة: أن من أقر بموجب حد، فهل يشبب القاضي بالرجوع عن إقرار؟ فيه تردد، وما ذهب إليه الجمهور: أنه لا يفعل ذلك.

ومن أصحابنا من قال: له ذلك. ومنهم من قال: إن كان المقر ممن يعلم أن الرجوع عن الإقرار يسقط الحد لم يشبب. وإن كان ممن يجهل ذلك، فلا بأس، وهذا ما أورده ابن الصباغ وغيره عن نصه في ((المختصر)). ثم قال الإمام في آخر الفصل: ولعل الأصح الجواز، لقوله- عليه السلام-: ((ما إخالك سرقت ...)). وقد خص الماوردي محل الجواز بما قبل الإقرار، فأما بعده فلا، إذ الستر متخصص بما قبل الظهور، وهذا مأخوذ من قول القاضي الحسين: ويستحب للقاضي أن يعرض به حتى لا يقر بما يوجب عليه القطع، ويقر بالمال. ثم كيفية التعريض في الزنى: أن يقول: لعلك قبلت، لعلك لمست، ونحو ذلك. وفي السرقة: ما إخالك سرقت، أو لعلك سرقت من غير حرز. وفي الشرب: لعلك لم تشرب مسكرًا، أو: لعلك شربت عصيرًا، أو لعلك لم تعلم ما هو. [و] قال الإمام في كتاب السرقة: إنه يجري مسألة الرجوع بحضرته، ويذكر الحكم فيها. واعلم أنه يستفاد من قول الشيخ: ويستحب للإمام أن يلقنه الرجوع عن ذلك استحباب الرجوع للمقر. وقد حكى القاضي الحسين وغيره في استحبابه وجهين: ووجه عدم الاستحباب قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((لحد يقام في أرضٍ بحقٍ أزكى من مطر أربعين خريفًا)). ووجه الاستحباب: القياس على الابتداء، فإن المستحب له ألا يقر، وهو ما حكيناه عن الشافعي في آخر الخمر.

وفي ((الحاوي)) في كتاب السرقة: أن الإقرار بحد الله تعالى: كالزنى، والسرقة، والشرب، هل يستحب أم لا؟ قال الشيخ أبو حامد- وهو الذي حكاه البندنيجي- إن لم يتكرر ذلك منه، و [لا] كان مشهورًا به فالمستحب له أن يكتمه ولا يقر به. وإن تكرر منه، وكان مشهورًا به، فالمستحب له أن يقر ولا يكتمه. قال: وليس لهذا الفرق وجه، والصحيح: أنه ينظر: فإن تاب منه، فالمستحب له أن يقر ولا يكتمه. قال: وليس لهذا الفرق وجه، والصحيح: أنه ينظر: فإن تاب منه، فالمستحب له أن يكتمه على نفسه، ولا يقر به، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((من أتى من هذه القاذورات شيئًا، فليستتر بستر الله ...))، وهذا الحديث متفق على صحته كما قال الإمام. وإن لم يتب، فالأولى أن يقر [به]، لأن في إقامة الحد تكفيرًا وتطهيرًا. قلت: وفيما ذكره نظر يظهر لك إذا تأملت ما حكيناه فيما تحصل به التوبة، ثم إن صح فيظهر مجيئه في الرجوع من طريق الأولى. وقد أغرب الإمام، وأبدى احتمالًا في وجوب الإقرار بالحد إذا قلنا: لا يسقط بالتوبة، وهو ظاهر، لأن استيفاءه شرط في صحة التوبة كما تقدم، والتوبة واجبة على الفور، والله أعلم. فروع: أحدهما: إذا استحببنا التعريض للمقر بالرجوع، وأبحناه، فهل يعرض الحاكم للشهود [بالحد]، بالتوقف عن الشهادة؟ فيه وجهان في ((البحر)): أحدهما: لا، لأنه يعود إلى قدح في شهادتهم. والثاني: يجوز، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: ((هلا سترته بثوبك يا هزال)). وقال عمر لزياد حين حضر لشهادته على المغيرة بالزنى: أيها يا سرح العقاب أرجو ألا يفضح الله على يديك أحدًا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: والأول أصح [عندي]. الفرع الثاني: إذا أقر بالزنى، لكنه قال: [إني] حددت- قال في ((البحر)) قبيل كتاب الشهادات: يحتمل أن يقال: لا يقبل قوله، لأنه يدعي استيفاء ما وجب عليه، فلا يقبل إلا ببينة، لإمكانها، بخلاف الرجوع عن الإقرار به. ويحتمل

أن يقال: يقبل، لأنه لو لم يقبل قوله في استيفاء الحد، لم يقبل في الرجوع، كما في الأموال، ويؤكد ذلك أنه لو أقر بالزكاة، ثم رجع لا يقبل، ولو ادعى دفع الزكاة إلى ساع آخر، قبل. الفرع الثالث: إذا أقر بالزنى، ثم قامت البينة عليه [ثم رجع]، قال القاضي: قال ابن المرزبان: سقط الحد. وحكى القاضي ابن كج فيه وجهين عن أبي الحسين بن القطان: أحدهما: هذا، وعزاه إلى أبي إسحاق. والثاني: أنه يقام، لبقاء حجة البينة، وإن بطلت حجة الإقرار، كما لو شهد ثمانية فرجع أربعة. ولو قامت البينة عليه بالزنى، فروجع، فقال: صدق الشهود، ثم رجع عن الإقرار، قال القاضي الحسين: قال أبو إسحاق: سقط الحد، لأنه ثبت عليه بإقراره، ولا حكم للبينة مع الإقرار، والدليل عليه: أنه أمكن تكذيب الشهود، والطعن فيهم، فحيث ترك، ثبت ذلك بإقراره، وهذا قضية ما حكيناه عن القاضي أبي الطيب في مقدمة هذا الباب. وقال غيره: هذا غلط، ولا يسقط الحد، لأنه ثبت بالبينة. وفي ((الحاوي)) أنه لو اجتمع في حدود الله تعالى الإقرار بها والشهادة، فقد اختلف أصحابنا: هل تختص إقامتها بالإقرار، أم بالشهادة؟ على وجهين: أحدهما: بالإقرار، عليه إن رجع عن إقراره، سقط عنه الحد. والأصح من إطلاق هذين الوجهين عندي: أن ينظر في اجتماعهما: فإن تقدم الإقرار على الشهادة، كان وجوب الحد بالإقرار، ويسقط بالرجوع. وإن تقدمت الشهادة، كان وجوب الحد بها، ولم يسقط بالرجوع. الفرع الرابع: إذا قتله قاتل بعد الرجوع عن الإقرار بالزنى، ففي وجوب القصاص عليه وجهان، رواهما ابن كج، والأصح: أنه لا يجب، وبه قال أبو إسحاق، لاختلاف العلماء في أنه هل يسقط بالرجوع. الفرع الخامس: إذا رجع بعد ما جلد [بعض الجلد] فأتم الإمام الجلد،

ومات منه، والإمام ممن يرى سقوط الحد بالرجوع- فعن أبي الحسين رواية قولين في وجوب القصاص: فإن قلنا: لا يجب، فيجب نصف الدية، أو توزع على السياط؟ فيه قولان. قال ابن [كج]: وعندي [أنه] لا قصاص قولًا واحدًا، لأن الزهوق حصل من مباح ومحظور. قال: وإن أقر العربي بالعجمية، ثم ادعى أنه لم يعرف، أي: وأمكن صدقه- قبل قوله مع اليمين، لأن الظاهر معه. وهكذا لو أقر العجمي بالعربية ثم ادعى أنه لم يعرف. وقد أفاد ما ذكره الشيخ أن الإقرار يصح بالعجمية كما يصح بالعربية، كما صرح به غيره. قال: وإن أقر بمال، أي: دينا في ذمته، أو عن ثمن ما باعه، أو بهبة وإقباض، ثم ادعى أنه [أقر] بالمال على وعد، ولم يقبض، أي: بفتح الياء آخر الحروف، وكسر الباء ثانية الحروف، أو وهب، ولم يقبض، أي: بضم الياء، وكسر الباء، وطلب يمين المقر له، حلف على المنصوص، لأن ما ادعاه ممكن، فإن الناس يتعاملون ويشهدون قبل التقابض، فحلف لهذا الاحتمال، فإن امتنع من اليمين، حلف المقر، وبطل الإقرار. ومقابله: أنه لا يحلف، إلا أن يبدي المقر عذرًا في الإقرار، فيحلف. ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن المنصوص التحليف في صورة الإقرار بالمال، والإقرار بالهبة والإقباض، والذي حكى الأصحاب النص فيها مسألة الهبة، وقالوا: إن ابن سريج وسائر الأصحاب عليه، وإن أبا إسحاق، وأبا علي بن أبي هريرة قالا بمقابله، وإنهما حملا النص على ما إذا أبدى عذرًا في إقراره، بأن ادعى أنه اعتمد في القبض على كتاب وكيله، فظهر أنه مزور، أو أطلق الإقرار بالقبض، لاعتقاده أن الإقباض بالقول، وهو قوله: ((أقبضتك)) كاف، فإن له في هذه الحالة التحليف. وألحق العراقيون مسألة الإقرار بالمال بالمسألة المنصوص [عليها]، فلذلك

سوى الشيخ بينهما، واقتضى كلامهم أن الراجح في الصورتين التحليف، ويؤيده أنهم قالوا- وكذلك المراوزة: إن حكم مسألة الإقرار بالهبة والإقباض حكم الإقرار بالرهن والإقباض حرفًا بحرف. والصحيح عندهم في مسألة الرهن- كما قال ((الرافعي)) في كتاب الرهن- التحليف وإن كان الصحيح عند المراوزة مقابله. وقد ادعى الإمام هاهنا أن ظاهر المذهب في مسألة الإقرار بالمال على وعد- عدم التحليف، وهو مقتضى كلام القاضي الحسين أيضًا، وأن ظاهر النص في مسألة الهبة: التحليف، وقد تنخل لك مما ذكرناه: أن المقر [إن] أبدى عذرًا في إقراره فله التحليف جزمًا هنا وفي مسألة الرهن، وإن لم يبد عذرًا فوجهان. وفي ((الوسيط)) في كتاب الرهن: أنه لو شهدت بينة على الراهن: أنه أقر بالإقباض، فقال: صدقوا، ولكني كذبت في الإقرار، ففي قبول دعواه ثلاثة أوجه، الثالث- وهو الأعدل-: إن قال: غلطت لوصول كتاب الوكيل لي، أو أشهدت على الرسم في القبالة قبل التحقيق، فيسمع حتى يحلف الخصم. وإن قال: كذبت عمدًا، فلا يسمع، وقضية هذا أمران: أحدهما: إجراء الوجهين مع إبداء العذر، وهو موافق لما نقله أيضًا فيما لو تكفل، ثم قال: كنت أبرأت قبل كفالتي، ولم أعرف، فهل تسمع دعواه للتحليف؟ فيه وجهان يجريان في كل دعوى محتملة يناقضها عقد سابق، وكقوله في كتاب النكاح: إذا ادعى الراهن بيعًا قبل الرهن، وزعم أنه اعتمد- أي: في الرهن- على كتاب وكيله: أنه لم يبع، ثم بان أنه مزور- تقبل دعواه في وجه. والثاني: إجراء وجهين مع تعمده الكذب، وقد قال هاهنا: ولا خلاف أنه لو قال: كذبت من غير تأويل، لم تقبل دعواه. وظاهر هذا التناقض إلا أن يحمل ما ادعاه من نفي الخلاف على ما إذا كان الإقرار بالرهن والإقباض في مجلس القضاء بعد توجه الدعوى عليه، وما ذكره من الخلاف على ما إذا كان الإقرار عند الشهود، ويستأنس في ذلك بما حكاه الشيخ أبو محمد عن القفال: أن محل التحليف- إذا رأيناه- إذا قامت الحجة

على إقراره عند التقاضي بالرهن والإقباض، أما إذا أقر في مجلس القضاء بذلك بعد توجه الدعوى عليه، فلا يتمكن من التحليف وإن ذكر لإقراره تأويلًا، لأنه لا يكاد يقر عند القاضي إلا عن تحقيق. والمحكي عن غير القفال: أنه لا فرق، لشمول الإمكان. ولا خلاف أن الشهود لو شهدوا بمعاينة الإقباض، فادعى عدمه، ورام التحليف: أنه لا يجاب إليه، لما فيه من الطعن في الشهود. وكذا لو ادعى أنه أقر بالدين، [لعزمه] على إتلاف يصدر [منه] في المستقبل به، ورام التحليف على عدم صدوره منه- لا يجاب إليه بلا خلاف، لعدم جريان العادة بمثله، صرح به القاضي والإمام. وهذا يقوي دعوى الغزالي نفي الخلاف في حالة تعمد الكذب، والله أعلم. التفريع: إذا قلنا بالتحليف فيما إذا كان قد أقر بقبض ألف [درهم] ثمن ما باعه، وادعى أنه لم يقبضه: فإن كان المشتري قد أقبضه الثمن، حلف عليه، وإن كان قد أقبضه عوضًا عنه، فلا يمكنه الحلف على إقباضه الثمن، لأنه كذب. قال القاضي الحسين: فيحمل في كيفية حلفه وجهين: أحدهما: يحلف على الإجمال، ويقول: بالله لا يستحق علي ألف درهم، لأنه لو حلف على إيصال عوض الألف إليه، لم يقبل منه، وينتقل اليمين إلى جنبة البائع. [والثاني: له أن يحلف على إيصال عوض الألف إليه، ولا تنتقل اليمين إلى جنبة البائع]، لقوة جانبه بإقرار البائع. وقد حكى الإمام الوجهين هكذا- أيضًا- وأصلهما: أن من أقر لشخص بدين، ثم قال: أقررت به على وعد، فقال المقر له: بل هو عوض من غير عين بعتها منك، وسلمتها إليك، وأنكر ذلك، فمن القول قوله مع اليمين منهما؟ وفيه وجهان حكاهما القاضي قبيل باب القافة ووجه قبول [قول] المقر له اعتضاده

بإقراره المقر، وهذا هو الصحيح، وبه جزم في الإشراف، وقد تقدم في كتاب الرهن عند الكلام في رهن المرهون بدين آخر عند المرتهن مثل هذين الوجهين، وأن اختيار البغوي منهما قبول قول المقر. ولا شك في أن المقر له بالدين أو أعرض عما قاله عند توجه الدعوى عليه إذا رأيناها، وحلف أنه يستحق عليه ما ادعاه، كفى، صرح به القاضي. قال: وإن وكل غيره في أن يقر عنه بمال، لزمه المال وإن لم يقر الوكيل، لأنه لا يأمر غيره أن يخبر عنه بشيء إلا وهو ثابت، ولهذا قلنا: لو قال: بعني هذه العين، كان إقرارًا [له] بالملك على الأصح، لأنه لا يطلب البيع منه والملك فيه للغير. وقد أطلق الإمام القول في المسألة- كما أطلقه الشيخ- عند الكلام فيما إذا قال: أنا أقر لك بما تدعيه. وغيره قال: إن هذا مفرع على قولنا: إن الوكالة باطلة، كما هو اختيار ابن سريج. أما إذا قلنا بصحتها- كما هو ظاهر النص- لم يلزمه حتى يقر الوكيل [وإلا لم يكن للصحة معنى. وقيل: لا يلزمه بمجرد التوكيل]، وإن قلنا ببطلان الوكالة- أيضًا- كما لو أخبر فلانًا أن له علي كذا، فإنه لا يكون إقرارًا له، كما حكاه في ((الزوائد)) عن ((العدة)). وقد استقصيت الكلام في هذه المسألة في الوكالة على أبلغ وجه، فليطلب من ثم. فرع: الوكيل بالخصومة إذا قال: المدعي أبرأ موكلي من هذا الحق، لا يكون إقرارًا من جهة الموكل، لأن عندنا لا يقبل إقرار الوكيل على الموكل، ولكن هل تسمع هذه الدعوى من الوكيل؟ فيه وجهان في ((تعليق)) القاضي الحسين قبيل باب القافة. أحدهما: لا، لأن في ضمنها إقرارًا بالحق، فيكون فيه عزل الوكيل، لأنه إذا وجد الإقرار من صاحب الحق، أو من الوكيل- انعزل، والأصح القبول.

قال: ومن أقر لرجل بمال وكذبه المقر له، انتزع المال [من يده]، وحفظ- أي: إلى [أن] يظهر مالكه- لأنه لا يدعيه، وكذلك المقر له، فهو كالمال الضال يلزم الإمام حفظه. وعلى هذا: لو رأى الحاكم استحفاظ المقر، فهو كما استحفظه عدلًا، قاله ((الرافعي)). وقيل: يقر في يده، لأنا لا نعرف مالكه، ونراه في يد المقر، فهو أولى الناس بحفظه. قال ((الرافعي)): ولأن يده تشعر بالملك ظاهرًا، والإقرار الطارئ عارضه إنكار المقر له، فسقط، وهذا ما ادعى القاضي الحسين: أنه ظاهر المذهب، ولأجله قال الإمام: إنه الذي ذهب إليه الأكثرون، وقد صححه النواوي. ثم ما ذكره ((الرافعي)) من التوجيه يقتضي أنه يقر في يده لنفسه، لا لغيره [و] قد صرح به [في] ((المهذب)) حيث قال في توجيه هذا الوجه: إنه محكوم له بملكه، فإذا رده المقر له بقي على ملكه. وقد حكيت عن الإمام في باب الدعاوى: أنه لو ادعى- على قولنا إنه يقر في يده- أنه ملكه، لم تقبل دعواه على ظاهر المذهب. وعلى وجه: تقبل بشرط أن يصر المقر له على الإنكار والجحد، وهو ما ادعى ((الرافعي)) هنا أن قضية كلام الأكثرين ترجيحه، ويعزى لابن سريج. فإذا جرى هذا الخلاف مع الدعوى، فمع عدمها أولى، وقد قدمت في هذه المسألة ثم ما يغني عن الإعادة، وكذا فيما إذا رجع المقر له عن التكذيب. وقد حكي في أصل المسألة وجه ثالث: أنه يجبر المقر له على القبول والأخذ، وقد ذكرنا من قبل توجيهه، وهو بعيد. ثم ظاهر كلام الشيخ وغيره يقتضي أن محل الخلاف ما إذا أقر بالعين، وهو ما صرح به القاضي الحسين والإمام و ((الرافعي)). أما إذا أقر بالدين، فقد ذكرنا عن القاضي أبي الطيب [في باب الدعاوى]

[والإمام] ما يقتضي الجزم بأنه لا ينزع، وهو ما حكاه القاضي الحسين في ضمن مسألة أولها: إذا قال: لزيد علي ألف إلا نصف ما لابنه، وهو قضية ما حكيناه عن البغوي في هذا الباب من قبل. وقد ادعى ابن يونس: أنه لا فرق في جريانه بين العين والدين، وقد قلنا ثم: إنه وجه استنبطانه من كلام ((الرافعي)). ولا خلاف أن المقر به لو كان قصاصًا، أو حد قذف، فرده المقر له، بطل. فرع: لو قال القاضي: في يدي مال لا أعرف مالكه، قال الشيخ أبو محمد: الوجه القطع بأن القاضي يتولى حفظه. وأبعد بعضهم، فلم يجوز انتزاعه. فرع آخر: إذا ادعى على رجل ألفًا من ثمن مبيع، فقال المدعى عليه: قد أقبضتك الألف، وأقام بينة على إقراره بالقبض يوم كذا، فأقام المدعي بينة على

إقرار المشتري بعد بينته بأنه ما أقبضه الثمن- سمعت، وألزم المشتري الثمن، لأنه وإن قامت بينة على إقراره بالقبض، فقد قامت- أيضًا- على أن صاحبه كذبه، فيبطل حكم الإقرار، ويبقى الثمن على المشتري، وعلى هذا لو أقام شخص بينة على إقرار الداخل بأن هذا الشيء الذي فلي يده له، ثم أقام صاحب اليد بينة على إقرار المدعي الخارج: أنه لا حق فيه فيه، ولم يذكر التاريخ- قال في ((البحر)) في الفروع قبيل كتاب الشهادات: يحتمل أن يقضي ببينة الخارج، لأن قوله: لا حق له فيه، إنما بنى- كما علقناه- على الأصل: أنه لا حق له فيه، فكما [أن] علمنا بهذا الأصل لا يمنع من القضاء بشهود الخارج على إقرار صاحب اليد، لم يكن قول المدعى عليه إذا وافق هذا الأصل مانعًا منه. قال: ومما يبين هذا أن هذه الدعوى لو كانت بدين في الذمة، فأقام المدعي بينة على إقرار المدعى عليه بكذا، وأقام الآخر بينة على إقرار المدعي: أنه لا حق له عليه- لم تكن هذه البينة دافعة لبينة المدعي، لما ذكرناه من المعنى. قال: ومن ادعى على رجل حقًا، فقال: أنا مقر، أو أقر أو لا أنكر- لم يلزمه: أما في الأولى، فلاحتمال أن يريد أنا مقرٌ بأن الله واحد، أو ببطلان دعواك. وأما في الثانية، فلاحتمال أن يريد الوعد بالإقرار. وأما في الثالثة، فلاحتمال أن يريد: لا أنكر أنك مبطل في دعواك، وهذا قول الشيخ أبي حامد، ولم يورد القاضيان: أبو الطيب، والحسين غيره. وقيل: إنه يجعل مقرًا بقوله: أنا مقر. قال في ((الحاوي)): وهو أصح. ولو قال: لا أقر، ولا أنكر، فهو كما لو سكت، فتعرض عليه اليمين، فإن أجاب، وإلا جعله ناكلًا. ولو قال: زن، أو زنه، أو استوف، أو استوفه- ففيما وقفت عليه من ((تعليق)) القاضي الحسين: أنه يكون مقرًا وفي الحاوي و ((النهاية)) و ((المهذب)): أنه لا يكون مقرًا بقوله: اتزن، وفي قوله: اتزنه، وجهان: الذي اختاره أبو عبد الله الزبيري من أصحابنا- كما قال الماوردي. والمصنف- أن يكون مقرًا.

ونسب الإمام ومن تبعه هذا إلى صاحب ((التلخيص)). والذي اختاره جمهور الأصحاب: أنه لا يكون إقرارًا، لأنه قد يزن ما لا يجب عليه. قال الإمام: والوجه القطع به، كما في الأولى، فإنه ليس في واحدة منهما ما يشعر بالإلزام، وهذا ما أورده في ((الوجيز)). والتفصيل والخلاف يجري فيما إذا قال: خذ، أو: خذه، أو: صحاح، أو: هي صحاح، كما قاله الماوردي والمصنف. قال: وإن قال: أنا [مقر بما تدعيه، لزمه، إذا لا يحتمل ذلك غير الإقرار، [وكذا لو قال: لست منكرًا لما تدعيه]، أو: لست منكرًا أن تكون محقًا فيما تدعيه دون ما إذا قال: لا أنكر أن تكون محقًا، لجواز أن يريد في شيء آخر. قال: وإن قال: أنا] أقر بما تدعيه، لم يلزمه، لأنه عد بالإقرار، وهذا ما أجاب به القاضي الحسين، والروياني، وغيرهما. قال القاضي [الحسين]: ويخالف قول الشاهد: أشهد، فإنه محمول على الإقامة وإن كانت صيغته صيغة العدة، لأنه لا يتأتى إقامة الشهادة إلا بهذا اللفظ، بخلاف الإقرار. وقيل: يلزمه، لأن قرينة الخصومة، وتوجه الطلب، يشعر بالتنجيز، وهذا- كما قال ((الرافعي)) - لا يحكى إلا نادرًا، وقد نسبه الإمام إلى الأكثرين، واختاره. قال ((الرافعي)): ويعضد ترجيحه: أنهم اتفقوا على أنه لو قال: لا أنكر ما تدعيه، كان إقرارًا غير محمول على الوعد، لكن رأيت بعض أصحاب أبي عاصم أجاب عن هذا الإلزام بأن العموم إلى النفي أسرع منه إلى الإثبات، ألا ترى [أن] النكرة في معرض النفي تعم، وفي معرض الإثبات لا تعم ولك أن تقول: هب أن هذا الفرق بين، لكنه لا ينفي الاحتمال، وقاعدة الإقرار الأخذ باليقين. قال الإمام: وبتقدير حمله على الوعد، فالقياس: أن الوعد بالإقرار إقرار، كما

أن نقول: التوكيل بالإقرار إقرار، وقد يظهر الفرق بينهما. قال: وإن قال: بلى، أو: نعم، أو: أجل- لزمه، لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق، وكذا لو قال: لعمري، كما قاله في ((الحاوي))، و ((المهذب)). قال ((الرافعي)): ولعل العرف يختلف فيه، ومن طريق الأولى أن يكون مقرًا إذا قال: صدقت وقد صرح به ((الرافعي)). لكن هاهنا مباحثة، وهي أن اللفظ وإن كان صريحًا في التصديق، فقد تنضم إليه قرائن تصرفه عن موضوعه إلى الاستهزاء، والتكذيب، ومن جملتها الأداء والإيراد وتحريك الرأس الدال على شدة التعجب والإنكار، فيشبه أن يحمل قول الأصحاب: إن قوله: صدقت، وما في معناه يكون إقرارًا على غير هذه الحالة. فأما إذا اجتمعت القرائن، فلا يجعل إقرارًا، ويقال: فيه خلاف، لتعارض اللفظ والقرينة، كما لو قال: لي عليك ألف، فقال في الجواب- على سبيل الاستهزاء-: لك [علي] ألف، فإن المتولي حكى فيه وجهين. قلت: ويعضده أن القاضي الحسين حكى قبيل باب إقرار الوارث أن العراقيين من أصحابنا قالوا: إذا خاطب المولى مملوكه عند توبيخه بقوله: يا حر، إنه لا يعتق به، فإنه مبالغة في نفي الحرية، ومثله أن يقول لمن يريد تكذيبه: أنت صادق بمرة. ولو قال المدعي: أليس لي عليك ألف؟ فقال: نعم- لا يكون إقرارًا. ولو قال: بلى، كان إقرارًا.

والفرق: أن ((نعم)) لتقرير الكلام السابق، [و ((بلى)) لنفي الكلام السابق] وإثبات ما بعده، والسابق هنا نفي، فلذلك كان ((نعم)) مقررًا له، و ((بلى)) مقررًا للإثبات. وقد قيل في تفسير قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]: إنهم لو قالوا: [نعم]، كفروا. وهذا ما أورده [القاضي] أبو الطيب في أول الباب، والقاضي الحسين، وتبعه البغوي، وغيره. وعن الشيخ أبي محمد، وبه أجاب المتولي: أنه يكون مقرًا بقوله: نعم كما في قوله: بلى، وهو الذي رجحه الإمام، ومن تبعه، لأن الإقرار يحمل على مفهوم أهل العرف لا على دقائق العربية. ولو قال: لعل ما تقوله علي، أو: عسى، أو: أظن، أو: أحسب أو: أقدر لم يكن إقرارًا. نعم: لو قال: هل لي عليك ألف، فقال: نعم- كان مقرًا. وكذا لو: اقض الألف الذي عليك، فقال: نعم- كان إقرارًا. قال [في ((المهذب))]: وجهًا واحدًا. وقال في الزوائد: إن الطبري قال: ذكر شيخنا في رءوس المسائل: أنه لا يكون إقرارًا في أحد الوجهين، وهما جاريان- كما قال في العدة- فيما إذا قال: أعطني الألف الذي لي عليك، فقال: ما أكثر ما تتقاضى أو: لقد هممت أو: ليست بحاضرة. وكذا فيما لو قال: والله لا قضيتكه. ولو قال: غدًا، لم يكن إقرارً. ولو قال: اشتر عبدي هذا، فقال: نعم، كان إقرارًا قاله في ((المهذب)) وغيره. قال ((الرافعي)): ويشبه أن يجري فيه الخلاف السابق في الصلح فيما إذا قال: بعني. ولو قال: اشتر مني هذا العبد، فقال: نعم، ففي ((الوجيز)): أنه إقرار، وهو محمول على التصوير السابق كما ذكره في ((الوسيط))، لا على هذه الصورة، فإن

الحكم فيها- كما قال ((الرافعي)) - أنه إقرار بمالكية البيع لا بمالكية المبيع. ولو قال: لي عليك مائة، فقال: إلا درهمًا، أو: إلا دانقا، ففي كونه مقرا بما عدا المستثنى وجهان في ((تعليق)) القاضي الحسين. ولو قال: مالك علي أكثر من مائة، ففي لزوم المائة له وجهان في ((الرافعي))، والراجح: عدم اللزوم، وبه أجاب في العدة، ويشبه أن يجري مثلهما فيما لو قال: ما لك إلا مائة، أخذًا مما حكيناه فيما إذا حلف لا يأكل إلا هذا، هل يحنث إذا لم يأكله أم لا؟ وفيه خلاف. قال: وإن قال: [له] علي ذلك إن شاء الله، أو: إن شئت، لم يلزمه، لأن هذه الصيغة تستعمل للإلزام في المستقبل، ألا ترى أنه لو قال: لك علي كذا إن رددت عبدي، كان ذلك إلزامًا في المستقبل، ولأن الإقرار إخبار عن حق سابق، فلم يصح ((تعليق)) وجوبه على الشرط، لأن الشرط يطلب للاستقبال. وهكذا الحكم فيما لو قال: استوفيت ما على مكاتبي إن شاء الله، كما قاله في ((الذخائر)) في كتاب النذر عن رواية صاحب ((التخليص)). وعن صاحب ((التقريب)): أن من الأصحاب من جعل قوله: علي ألف إن شاء

الله، على الخلاف فيما إذا قال: علي [ألف] من ثمن خمر، لأنه لو اقتصر على [أول الكلام لكان إقرارًا جازمًا]. وقال الإمام: [والوجه تخريج الخلاف] فيما لو قال: [له] علي ألف إن شئت، أي: وإن لم يخرج في قوله: إن شاء الله، [لأنه نفي بآخر كلامه مقتضى أوله، وليس ذلك كقوله: إن شاء الله] فإنه يجري في الكلام كالتردد بخلاف ((التعليق)) بمشيئة غيره. ولا خلاف في أنه لو قال لزوجته: أنت طالق إن شاء الله تعالى، لا يقع شيء، لأن الطلاق قابل ((للتعليق)) على الجملة، بخلاف الإقرار. ولو قال المعسر: لفلان علي ألف درهم إن رزقني الله مالا، قيل: ليس بإقرار، بل ((تعليق)). وقيل: هو إقرار، وذلك بيان لوقت الأداء. قال ((الرافعي)): والأصح: أنه يستفسر، فإن فسر بـ ((التعليق)) لغا وإن فسر بالتأجيل صح. ولو قال: له علي ألف إن مت، ففي الزوائد عن العدة: أنه لا يلزمه شيء، كما لو قال: علي ألف إن هب الريح، أو: مات أبي. قال: وإن قال: إذا جاء رأس الشهر، فله علي ألف، [لم يلزمه، لما بيناه. وإن قال: له علي ألف إذا جاء رأس الشهر]، فقد قيل: يلزمه، لأنه جزم بالإقرار أولًا، وما بعده يحتمل أنه ذكره لمعرفة المحل، فصار كما لو قال: له على ألف مؤجل إلى شهر، وهذا هو المنصوص، وبه جزم [القاضي] الحسين وابن الصباغ والمتولي.

وعلى هذا هل يقبل قوله في الأجل؟ سيأتي الكلام فيه. وقيل: لا يلزمه، لأن ما أتى به ((تعليق))، إذ لا فرق بين تقدم الشرط وتأخره، كما تقدم ذكره في كتاب الطلاق، وهذا ما صححه النواوي. وبعضهم قال- لأجل هذا- بجريان الخلاف في المسألة قبلها. قال: وإن قال: إن شهد شاهدان [فله علي] ألف، لم يلزمه، [لأنه] ((تعليق)). وكذا الحكم فيما لو قال: له علي ألف إن شهد شاهدان، أو قال: له علي ما في حسابي، أو: ما خرج بخطي، أو: ما أقر به زيد عني، أو: ما شهد به زيد علي، كما قاله الماوردي. وكذا لو شهد عليه شاهدان بحق، فقال: ما شهدا به علي [صدق، كما قاله في ((البحر)) في الفروع قبل كتاب الشهادات، بخلاف ما لو قال: ما شهدا به علي حق]، فإنه يكون مقرًا، والفرق أن الحق ما لزم، فلم يتوجه إليه احتمال، والصدق قد يكون فيما قضاه، فتوجه إليه الاحتمال. وقضية هذا: أن يطرد فيما لو شهد عليه شاهد، فقال: هو صادق فيما شهد به علي، أو: عدل فيه. وقد قال في ((التهذيب)): إنه يكون مقرًا، بخلاف ما لو قال: هو صادق، أو عدل. قال: وإن قال: [إن] شهد شاهدان علي بألف فهما صادقان، لزمه في الحال، أي: سواء سماهما أو لا، لأنه أخبر بصدقهما، ولا يتصور صدقهما إلا إذا كان واجبًا عليه، وهذا ما حكاه صاحب ((التلخيص)). قال في ((المهذب)): وهو اختيار شيخنا أبي الطيب الطبري. وفي ((الحلية)) قول آخر: أنه لا يكون مقرًا، لما فيه من ((التعليق))، فيصير كقوله: إن شهدا لك علي بألف صدقهما، فإنه لا يكون إقرارًا، لأن غير الصادق قد يصدق، وقد حكاه في ((المهذب)) وجهًا، وهو ما أبداه القاضي الحسين احتمالًا. قال: وإن قال: كان له علي ألف، فقد قيل: يلزمه، استصحابًا للأصل في

بقاء ما كان علي ما كان، وهذا ما حكاه القاضي الحسين، وحكاه ابن الصباغ عن اختيار [الشيخ] أبي حامد. وقيل: لا يلزمه، لأنه لم يعترف في الحال بشيء، والأصل براءة الذمة، وهذا ما صححه النواوي. والوجهان جاريان فيما لو قال: كانت هذه الدار في السنة الماضية له. قال ((الرافعي)): ويقرب منهما الخلاف فيما إذا قال: هذه الدار أسكنت فيها فلانًا، ثم أخرجته منها، هل يكون إقرارًا له باليد، لأنه اعترف بثبوتها من قبل، وادعى زوالها، أو لا يكون، لأنه لم يعرف بيد فلان إلا من جهته؟ وبالثاني قال أبو علي الزجاجي في ((جوابات جامع الصغير)). فرع: لو قال: ملكت هذه الدار من زيد، فهو إقرار بالملك لزيد، ودعوى لانتقالها منه، وهكذا لو قال: اشتريتها من وكيل زيد، فإن لم يصدقه زيد، حلف في الأولى على عدم البيع، وفي الثانية على عدم التوكيل، وترد إليه. ولو قال: هذه الدار قبضتها من يده، كان إقرارًا له باليد، بخلاف ما لو قال: هذه الدار ملكتها على يد فلان، أو: قبضتها على يده، فإنه ليس بإقرار [بالملك له]، ولا باليد، لأن ظاهر اللفظ أنه ملكها أو قبضها بمعونته ووساطته، قاله أبو الطيب. قال: وإن قال: له علي شيء، ففسره بما لا يتمول: كشقرة فستقة، أو جوزة- لم يقبل. هذه الفصل ينظم ثلاث مسائل: الأولى: أن الإقرار بالمجهول يصح، وهو مما لا خلاف فيه، كما قاله أبو الطيب، وادعى الإمام اتفاق العلماء عليه، [ووجهه بأن الإقرار إخبار عن سابق، والشيء يخبر عنه مفصلًا تارة، ومجملًا أخرى، ويخالف الإنشاء بحيث لا يحتمل الجهالة والإجمال، احتياطًا لابتداء الثبوت وتحرزًا عن الغرر]. ويخالف الدعوى بالمجهول حيث لا تصح، لأن المدعي يبغي حق نفسه، فلا يبعد أن نكلفه إعلام ما يطله، والمقر معترف لغيره، فيبعد إبطال قوله المتعلق

بإثبات الحق لغيره، وقد تقدم الكلام على ذلك في الدعاوى على أبلغ وجه. الثانية: أنه يطالب بالتفسير، لأن به تظهر فائدة الإقرار، فإنه يرجع في التفسير إليه بما يمكن كصاحب الشرع إذا أجمل شيئًا يرجع في تفسيره إليه، فإن فسره بمال أو غيره- كما سنذكره- فالقول قوله مع اليمين إن نازعه المقر له، كما سنوضحه. وإن لم يبين ففيه ثلاثة أوجه جمعها الإمام من تصريح الأئمة وتلويحهم، ولا يجيء منها في مسألتنا إلا وجهان: أظهرهما- وإليه مال الجمهور، كما قال-: أنه يحبس إلى أن يبين، كما لو أسلم على عشر نسوة. ولأن التفسير والبيان حق واجب عليه فحبس عليه، كما يحبس على المال، وهذا ما حكاه الفوراني، وكذا القاضي الحسين، ونسبه إلى الأصحاب كلهم، وحكاه في ((المهذب)) قولًا. والثاني: [أنه] لا يحبس، بل يقال للمقر له: ادع عليه حقًا معلومًا، أي: إن لم تكن الدعاوى في الابتداء بحق معلوم، بل بأنه أقر لي بشيء وأنا أطالبه بتفسيره كما تقدم أن هذه الدعوى تسمع، ثم ينظر إلى إقراره به وإنكاره، ويعلق بكل حالة ما يليق بها، أي: فإن أقر بأنه ذاك فلا كلام، وإن أنكر قيل له: فبين ما أردت، واحلف عليه، وإلا حلفناه على ما ادعاه، فإن امتنع من البيان حلفنا المقر له [وقضينا له]، كذا قال ابن الصباغ. قال الإمام في تمام حكاية هذا الوجه: فإن قال بعد توجه الدعوى: لست أدري، أقمنا ذلك منه إنكارًا، فإن استمر عليه بعد عرض اليمين، جعلناه نكولا، ثم إن أفضت الخصومة إلى يمين الرد، وحلف المدعي، قضينا بالمدعى، فإن امتنع من أدائه حبسناه، فأما الحبس من غير أن يدعي المقر له حقًا مبينًا، فلا سبيل إليه، وهذا الوجه حسن منقاس. وقال في ((الوسيط)): إن هذا إبطال لفائدة التفسير.

أما إذا كان قد ادعى حقًا معلومًا أولًا، فأقر بأن له عليه شيء، أو أنكر، فأقام المدعي بينة على إقراره بأن له عليه شيء، وسمعنا الشهادة بالإقرار بالمجهول- كما هو أحد الوجهين في ((تعليق)) القاضي الحسين، والمجزوم به في ((الشامل)) - فطولب بالتفسير، فامتنع، فيظهر أن يقال: لا يحتاج إلى إعادة الدعوى، بل تعرض عليه اليمين. فإن امتنع جعل ناكلًا، وحلف المدعي. وهكذا صور ((الرافعي)) هذا الوجه فيما إذا وقع الإقرار بالمجهول في جواب الدعوى. والثالث- حكاه عن صاحب التقريب- إن قال المقر: غصبت منه عينًا من أعيان ماله، وامتنع عن بيانها وردها، حبس. وإن قال المقر [له]: لست أدري ما غصبه مني، فأما إذا كان الاعتراف بدين مرسل، فلا حبس بسبب الامتناع عن التفسير حتى يعين المدعي مبلغه، ثم تنتظم الخصومة على النسق الذي قدمناه. قال الإمام: وهذا التفصيل وإن كان فيه أدنى تخييل، فالقياس الحق يوجب التسوية بين الإقرار بالغصب والدين، إذ قد يستبهم الأمر فيهما جميعًا على المقر والمقر له، وقد يعرض التمكين من البيان فيهما. وهذا الوجه لا يجيء في مسألتنا، لأن الشيء قد يكون عينًا ليست بمال كما ستعرفه. وقد حكى الغزالي في ((الوسيط)) عوضه: أنه بامتناعه عن التفسير، يجعل ناكلًا عن الجواب واليمين حتى يحلف المقر له، ويستفيد بإقراره تحول اليمين إليه، فيحلف على ما يدعيه، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب في المسألة، وحكاه في ((المهذب)) طريقة اختارها في ((المرشد))، وفي طريقة أخرى قولًا آخر، ويظهر أن الفرق بينه وبين الوجه الذي قبله: أنا لا نجعله على ذلك الوجه بامتناعه ناكلًا عن اليمين وإن جعل ناكلًا عن الجواب إذا كانت الدعوى محررة، وعلى هذا: نجعله بنفس الامتناع من التفسير ناكلًا عن الجواب واليمين كما قال. وعن أبي عاصم العبادي في مسألتنا: أنه إذا امتنع من التفسير لم يحبس وإن قال: على ثوب أو فضة، ولم يبين يحبس. قال ((الرافعي)): وقد أشار من شرح كلامه إلى أن الفرق مبني على قبول تفسير

الشيء بالخمر والخنزير، فإنه لا يتوجه بذلك مطالبة وحبس، والله أعلم. فرع: لو مات المقر بالشيء قبل البيان، طولب به الوارث، فإن امتنع فقولان: أحدهما: أنه يوقف مما ترك أقل مما يتمول. قال ((الرافعي)): وأظهرهما: أنه يوقف الكل، لأن الجميع وإن لم يدخل في التفسير فهو مرتهن بالدين، وهذا فيه نظر إذا قبلنا التفسير بما ليس بمال كما سيتضح. المسألة الثالثة: أن تفسير الشيء بما لا يتمول، لقلته وإن كان من جنس ما يتمول- غير مقبول، لأن قشر الفستقة، قشر الجوزة، وكذا قمع الباذنجان، ونحو كذلك. ووجهه: أن لفظه على الإلزام، وذلك لا يلزم أحدًا، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب، وكذا الماوردي، وألحق بما ذكرناه: التمرة، واللقمة، أي: إذا لم يكن لهما قيمة، للكثرة. ويجيء من طريق الأولى إلحاق الحبة من الحنطة والشعير والسمسم بذلك. لكن قد حكى الإمام وغيره في الحبة من الحنطة والشعير والسمسم وقمع الباذنجان- وجهين، وقالوا: إن ظاهر النص القبول، وهو الذي صححه ((الرافعي)). وقال في ((التهذيب)): إنه المذهب، لأن ذلك شيء يحرم أخذه، وعلى [من] أخذه رده، وتسمع الدعوى به. ومقابل هذا أبداه القاضي الحسين احتمالًا من حيث إنه لا تسمع الدعوى به. قلت: وهو المنطبق على كل حد من الحدين المذكورين في المقر به الذي هو الشرط الثالث من شرائط الإقرار، كما قال الماوردي، فإن أحدهما: كل شيء جازت المطالبة به، والثاني: كل شيء جاز الانتفاع به. قال: وهذا أصح، لأنه حد لما تجوز المطالبة به، ولما يجوز الإقرار به. لكن قال الإمام: إن قول القاضي: إنه لا تسمع الدعوى بذلك هفوة منه، فإن ما يجب رده ويحرم أخذه لا يمتنع طلبه، وإذا توجه طلبه فهو الدعوى بعينه. ثم حكى عنه ترددًا في التفسير بالتمرة والزبيبة إذا لم يكن لهما قيمة،

للكثرة كما بالبصرة ونحوها، تفريعًا على القول بأنه لا يقبل التفسير بالحبة من الحنطة، وقال: الوجه: القطع بقبول التفسير بالتمرة، والزبيبة، ولا خلاف أنه يقبل التفسير بها إذا كان في موضع لها قيمة [فيه، قاله] الإمام أيضًا، وهو في ((تعليق)) القاضي. قال: وإن فسره بكلب- أي: يجوز اقتناؤه- أو سرجين، أو جلد ميتة، لم يدبغ- أي: وهو قابل له- فقد قيل: يقبل، لأن ذلك يثبت فيه الحق والاختصاص، ويحرم أخذه، ويجب رده إلى من أخذ منه، فصح تفسير الإلزام به وإن لم يكن مضمونًا على من هو في يده، كما لو فسره بوديعة، وهذا أصح في ((الرافعي))، و [غيره]، وهو المختار في ((المرشد)). وقيل: لا يقبل، لأن الإقرار إخبار عما يجب ضمانه، لكونه مالًا، وهذا لا يجب ضمانه، لأنه ليس بمال، وبهذا تخرج الوديعة. وقد قيل: إنه لا يقبل التفسير بالوديعة أيضًا، لأنها في يده لا عليه، حكاه الإمام. ويلتحق بما ذكره الشيخ من الخلاف التفسير بالخمرة المحترمة عند من يجوز إيفاءها، وهو ما أورده ((الرافعي))، ومن لم يجوزه كما هو ظاهر مذهب العراقيين، واستبعده الإمام في كتاب الرهن، فهو عنده كالتفسير بغير المحترمة. والكلب القابل للتعليم داخل فيما ذكرناه، لأنه يجوز اقتناؤه، وقد صرح به ((الرافعي)). قال: وإن فسره بخنزير، أو ميتة،- لم يقبل [أي: وإن قبلنها بما تقدم]، لأنه لا يجب تسليم ذلك، لأنه لا منفعة له، وهذا ما أورده القاضي الحسين، والإمام. والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ ألحقا به الخمر. وفي الخنزير وجه حكاه ابن الصباغ عن رواية الشيخ أبي حامد: أنه يقبل التفسير به أيضًا، وحكاه ((الرافعي)) في الميتة والخمر- أي: غير المحترمة-

وقال: إن الوجهين جاريان في جلد الميتة الذي لا يقبل الدباغ: كجلد الكلب، وكذا بالكلب الذي لا منفعه فيه. والأصح في الكل: أنه لا يقبل. وقد جمع في ((المهذب)) بين ما إذا فسر بالخمر، والخنزير، والكلب، والسرجين، وجلد الميتة قبل الدباغ، وحكى في الكل ثلاثة أوجه تبعًا للماوردي، ثالثها: لا يقبل تفسيره بالخمر والخنزير، ويقبل بالكلب، والسرجين، وجلد الميتة قبل الدباغ، وعلى ذلك جرى في ((التهذيب))، وصحح الثالث. قال: وإن فسره بحد قذف، قبل، لأنه حق آدمي، وهذا ما صححه النواوي، واختاره في ((المرشد)). وقيل: [لا] يقبل، لأنه لا يئول إلى المال بحال، فأشبه ما لو فسره برد السلام. والوجهان حكاهما القاضي أبو الطيب عن رواية أبي محمد البافي. والقائلون بالأول فرقوا بين ما نحن فيه ورد السلام وإن اشتركا في كونهما حقين بأن هذا الحد لا يسقط بالتأخير، ورد السلام- كما قال القاضي أبو الطيب- يسقط بالتأخير عن الفورية، فلا يكون حين التفسير حقًا عليه. ولأنه لا يطالبه برد السلام في العادة، والإقرار يكون بما يطالب به عادة. نعم، لو قال: له علي حق، قبل التفسير برد السلام، وعيادة المريض، قاله في ((التهذيب)) تبعًا للقاضي الحسين. قال ((الرافعي)): وظني أن الفرق بينه عسير، وكيف لا والحق أخص من الشيء، فيبعد أن يقبل تفسير الأخص بما لا يقبل به تفسير الأعم؟! قلت: ولأجل هذا قال القاضي بعد حكاية ذلك: والأظهر أنه لا يقبل التفسير به [هنا] أيضًا.

قال: وإن فسره بحق شفعة، قبل، لأن حق يئول إلى المال، ولهذا قبلنا فيه الشاهد واليمين، وقد جزم بهذا ابن الصباغ والبغوي والروياني. واعلم أن الشيخ سكت عن التفسير المقبول بالاتفاق، وهو ما يتمول وإن قل: كفلس، ونحوه، لوضوحه. نعم: لو نازعه المقر له في التفسير به، نظر: فإن كان [في القدر] مع الاتفاق على الجنس والنوع، كما إذا فسر الشيء بمائة مثلًا، فقال المقر له: لي عليك مائتان، فإن صدقه على إرادة المائة بإقراره فهي ثابتة باتفاقهما، ويحلف المقر على نفي الزيادة لا غير. وإن لم يصدقه على إرادة المائة بإقراره، بل قال: أردت به المائتين، حلف على أنه ما أراد بإقراره مائتين، وأنه ليس عليه إلا مائة. قال القاضي الحسين والإمام: لأنه لو حلف على أحدهما، واعترف بالآخر، لزمه المائتان، فلذلك لم يكتف على أحدهما، ويجمع بينهما في يمين واحدة على المشهور، ولم يحك ابن الصباغ غيره. وعن ابن المرزبان: أنه لابد من يمينين، فلو نكل المقر حلف المقر له على استحقاق المائة الزائدة، ولا يحلف على الإرادة، لأن له مندوحة عنها، فإنه إذا حلف على استحقاق ما وقع التناكر فيه، حصل مقصوده. ولأنه لا يطلع عليها، بخلاف ما إذا مات المقر، وفسر الوارث، فادعى المقر له زيادة، حيث يحلف الوارث على نفي إرادة المورث، لأنه قد يطلع من حال مورثه على ما لا يطلع عليه غيره. وبمثله لو أوصى بمجمل، ومات، وبينه الوارث، وزعم الموصى له أنه أكثر، يحلف الوارث- كما قاله القاضي الحسين هنا- على نفي الإرادة أيضًا، وكذا في كتاب الوصية، واعتبر ثم أن يدعي علم الوارث بالإرادة في مسألة الإقرار ومسألة الوصية. وحكى البغوي هنا عنه: [أنه يحلف] في مسألة الوصية على نفي العلم باستحقاق الزيادة، ولا يتعرض للإرادة.

والفرق: أن الإقرار إخبار عن حق سابق، وقد يعرض فيه الاطلاع، والوصية إنشاء أمر على الجهالة، وبيانه إذا مات الموصي إلى الوارث. وإن كانت المنازعة في الجنس بأن فسر المقر بدراهم، فقال المقر له: حقي عليك دنانير لا غير- بطل حكم الإقرار برده، وكان مدعيًا للدنانير، والقول قول المقر فيها، وهذا إذا صدقه في أنه أراد بإقراره بالشيء: الدراهم، فإن كذبه، وقال: إنما أردت بإقرارك الدنانير- حلف المقر على نفي الإرادة، [ونفي ما يدعيه] كما تقدم، وبطل الإقرار. ولو قال المقر له: الدراهم أنا أستحقها، لكن ما ادعيت به غيرها، سلم إلى المقر له [الدراهم، ثم إن صدقه في إرادتها بالإقرار، فالقول قول المقر في نفي سواها، ويحلف عليه لا غير. وإن كذبه] في الإرادة، حلف على نفي الإرادة، ونفي ما يدعيه. قال ((الرافعي)): وقد حكينا في كتاب البيع فيما إذا ادعى المشتري عيبًا قديمًا بالمبيع، وقال البائع: بعته وأقبضته سليمًا- في كيفية وجهين. أحدهما: يلزمه أن يحلف كذلك. والثاني: يكفيه الاقتصار على أنه لا يستحق الرد، فليجيء هاهنا وجه: أنه يكفيه نفي اللزوم، ولا يحتاج إلى التعرض للإرادة. فرع: لو اقتصر المدعي بعد تفسير المقر الشيء بما يقبل على دعوى الإرادة، فقال: ما أردت بكلامك ما فسرت به، وإنما أردت كذا: إما من جنس ما فسر به، أو من غيره- لم تسمع منه على الأصح، لأن الإقرار والإرادة لا يثبتان حقًا له، بل الإقرار إخبار عن حق سابق فعليه أن يدعي الحق نفسه. وفيه وجه ضعيف: أنه تقبل دعوى الإرادة المجردة، وهو ما حكاه القاضي الحسين في كتاب الوصية. قال الإمام: والخلاف كالخلاف فيمن ادعى على خصمه أنه أقر له بألف يسمع منه، أم عليه أن يدعي نفس الألف؟ وقد قدمت في ذلك كلامًا في باب الدعاوى.

قال: وإن قال: غصبت منه شيئًا، ثم قال: أردت نفسه- لم يقبل، لأن مقتضى لفظه بظاهره: غصب شيء غير نفسه. قال القاضي أبو الطيب، وتبعه ابن الصباغ: ولأن ذلك ليس بغصب على الحقيقة، لأن الحر لا تثبت عليه يد الغاصب، فقد فسر الغصب بما ليس بغصب، فلم يقبل منه. قال في ((المهذب)): وكذا لو قال: غصبتك- أي: شيئًا- لا يقبل تفسيره بغصب نفسه، لما ذكرناه. أما لو لم يقل شيئًا، فليس بغاصب لشيء يوجب غرما، وكذا لو قال: غصبت من زيد. قاله في ((الحاوي)). ولو فسر في مسألة الكتاب المغصوب بما يقبل به التفسير في الصورة السابقة، قبل هاهنا من طريق الأولى، إلا بحق الشفعة والوديعة، ويقبل كما قال البغوي هنا بالحبة من الحنطة، وبقمع باذنجانة، وكذا بالخمر والخنزير على أحد الوجهين، كما حكاه في كتاب الوصية. وقال ابن الصباغ هنا: إن أصح الطريقين في الخنزير: أنه لا يقبل التفسير به، وهو ما أورده القاضي أبو الطيب هنا، وألحق به الميتة. وفي ((الرافعي)) - تبعًا لما قاله الغزالي، وكذا البغوي هنا- أنه يقبل بالخمر والخنزير، وأنه نص عليه في ((الأم)). وقال ابن الصباغ: إنه نص في كتاب الإقرار بالحكم الظاهر في باب الغصب منه، فقال: لو قال: غصبت فلانًا على شيء، وفسره بخمر، أو خنزير- قبلته، وأرقت الخمر، وقتلت الخنزير. ووجهه بأن الغصب لا يقتضي إلا الأخذ قهرًا، وليس في لفظه ما يشعر بإلزام ثبوت حق بخلاف قوله: علي. ولو قال: له عندي شيء، قال ((الرافعي)): فكذلك يقبل التفسير بالخمر، والخنزير على المشهور، لأنه شيء مما عنده، وهذا مما ألحقه القاضي [الحسين] وغيره بالمنصوص عليه. وقال الشيخ أبو محمد: لا يقبل. واختاره الإمام ومن تبعه، لأن قوله: له يشعر بثبوت ملك أو حق.

قال ((الرافعي)): وللأولين أن يمنعوا ذلك، ويحتجوا عليه بانتظام قول القائل: لفلان عندي خمر أو خنزير، ثم لهم أن يدعوا مثل ذلك في قوله: غصبت من فلان. قال: وإن أقر بمال، أو بمال عظيم، أو خطير، أو كثير- قبل [في] تفسيره القليل، [أي: من المال] والكثير. ووجهه في الأولى: صدق ذلك عليه مع أن الأصل براءة الذمة مما زاد. وفي الباقي، فلأنه ما من مال إلا وهو عظيم، أو خطير، أو كثير بالإضافة إلى ما هو دونه. ولأنه يحتمل أن يريد عظم خطره بكفر مستحله، ووزر غاصبه والخائن فيه. وقد قال الشافعي في الكثير- كما قال القاضي والإمام-: أصل ما أبني عليه الإقرار: أن ألزم، وأطرح الشك، ولا أستعمل الغلبة، وإنما كان كذلك لأن الأصل براءة الذمة. وقد أبدى القاضي الحسين وغيره احتمالًا أقيم وجهًا أنه يجب أن يزيد تفسير المال العظيم على تفسير مطلق المال، ليكون لوصفه بالعظم فائدة. قال الإمام: وهذا كلام مبهم فإنه لا يتصور أن يفسر المال بشيء لا يقدر انحطاطه عنه، فإذا كان لا ينضبط على هذا الوجه تفسير المال المجرد، فكيف يتحقق تقدير زيادة على الأول. وكان شيخي أبو محمد يقول: من أصحابنا من قال: العظيم يستدعي مزيدًا، ثم اكتفى بأن يفسر بعظيم الجثة والذات، وهذا كله خبط. والوجه القطع بما قطع به الشافعي وإن تشوف متشوف إلى خلاف النص، فلا يجوز أن يعتقد فيه ضبط إلا من جهة الشرع، وهو أن [يحمل] على نصاب السرقة، فإنه ليس بالتافه شرعًا، أو على المبلغ الذي تغلظ اليمين فيه، أخذ من قول بعض الصحابة في عظيم من المال، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى هذين المسلكين، فالخبط بعدهما لا معنى له. وعلى المشهور: لو فسر بالتمرة، ولا قيمة لها، للكثرة، فقد قال الإمام: الوجه القبول، لأنها مال وإن لم تتمول في ذلك الموضع. ثم قال: هكذا يذكره العراقيون، ويقولون: كل متمول مال، ولا ينعكس.

وتلحق الحبة من الحنطة بالتمرة الواحدة. ولو قال: له علي مال قليل، أو حقير، أو طفيف، أوتافه، أو نزر، أو يسير- فهو كما لو قال: مال، وتحمل هذه الصفات على استحقار الناس إياه، أو على أنه فإن زائل، فليكن بهذا الاعتبار قليلًا وبالاعتبار الأول كثير. ولا خلاف في أنه لا يقبل تفسير فيما ذكرناه بخمر ولا خنزير، لأنه ليس بمال. وهل يقبل تفسيره بأم ولد؟ فيه خلاف حكاه الشيخ أبو محمد، والأظهر: القبول، لأنها مال، بدليل أنها لو قتلت، أخذت قيمتها. ولو فسر بوقف عليه، قال ((الرافعي)): فيشبه أن يخرج على الخلاف في أن الملك في الوقف لمن؟ فروع: لو قال: لزيد على مال أكثر من مال فلان، قبل تفسيره- أيضًا- بأقل ما يتمول وإن كثر مال فلان، لأنه يحتمل أن يريد به أن مال فلان حرام، ومال زيد حلال، والقليل منه أكثر من الحرام، وكما أن القدر مبهم في هذا الإقرار، فكذلك الجنس والنوع. نعم، لو قال: له علي أكثر من مال فلان عددًا، فالإبهام في الجنس والنوع دون القدر، حتى لو كان مال فلان مائة دينار، ففسر بأكثر من مائة درهم أو غيرها قبل كذا دل عليه كلام الماوردي غيره، حيث قال: لو قال له شخص: لي عليك مائة دينار، فقال: لك علي أكثر منها، ثم بين درهمًا-[قبل]، ولو قال: أكثر منها عددًا، لم يقبل إلا أكثر من مائة عددًا، وسواء بين دنانير أو غيرها. وفي ((تعليق)) أبي الطيب فيما إذا قال: ((أكثر من مال فلان عددًا)): أنه ينظر: فإن

أقر أنه عرف مال فلان، وأن عدده ألف، لزمه مثل ذلك المال في المقدار وزيادة، ويكون الخيار إليه في قدره، وهو ما حكاه ابن الصباغ عن نصه في الإقرار بالحكم الظاهر. وإن قال: ما علمت أن لفلان إلا كذا، لم يلزمه إلا ما اعترف به وإن قامت البينة على أن لفلان أكثر منه لأنه قد [لا] يطلع عليه. ولو قال: له علي أكثر [من مال فلان من صحاح الذهب، فالإبهام في القدر وحده. ولو قال: لزيد على أكثر] مما يشهد به الشهود على فلان، قبل تفسيره بأقل ما يتمول. وكذا لو قال: أكثر مما قضى به القاضي على وجه هو الأظهر في ((الرافعي)). ومقابله: أنه يلزمه القدر المقضي به وهو ما أورده القاضي الحسين، وحكاه الإمام عن الأكثرين، لأن قضاء القضاء محمول على الحق والصدق، بخلاف شهادة [الشاهد]، فإنها قد تكون زورًا. ولو قال: لفلان على أكثر مما في يد فلان من المال، قبل تفسيره بما يتمول. ولو قال: أكثر مما في يد فلان من الدراهم، لزمه مثلها إن عرف قدرها، وإن لم يعرف قدرها فأقلها ثلاثة، كذا قاله القاضي الحسين، وكلام الإمام يوافقه. وقال في ((التهذيب)): لا يلزمه من جنس الدراهم، بل يلزمه بذلك العدد من أي جنس شاء وزيادة بأقل ما يتمول. قال ((الرافعي)): وهو يخالف قياس ما سبق من وجهين: أحدهما: إلزام العدد. والثاني: إلزام زيادة على ذلك العدد، فإن التأويل الذي سبق للأكثرية ينفيهما جميعًا. ولو قال: علي من الدراهم أكثر مما في يد فلان من الدراهم، فإن لم يكن في يده شيء لزمه أقل ما يقع عليه اسم المال من الدراهم، وإن كان في يده عشرة دراهم، لزمه عشرة دراهم وزيادة شيء، وهذا قياس ما حكيناه عن الماوردي،

وأبي الطيب، وغيرهما من قبل. وقال ((الرافعي)): إن الأظهر ما نقله الإمام عن الجمهور: أنه لا يلزمه زيادة على الموجود في اليد، ومثله بما إذا كان في يده ثلاثة، حملًا للأكثر على ما سبق. وحكى عن شيخه أنه لو فسره بما دون الثلاث، قبل أيضًا وقال: إنه منتجه. ثم على ما قاله البغوي: لو قال المقر: لم أعلم أن في يده عشرة، وظننت: أنها ثلاثة، قبل قوله باليمين. قال: وإن أقر بدراهم، أو بدراهم كثيرة- لزمه ثلاثة [دراهم]: أما في الأولى، فلأنها أقل الجمع. وأما في الثانية، فلأن الكثرة قد يعبر بها عن الحلال وغيره، فلم يلزمه زيادة على أقل الجمع بالاحتمال. قال ((الرافعي)): وهكذا الحكم فيما لو قال: دراهم عظيمة، ويجيء فيه الوجه المذكور في المال الكثير والعظيم. وفي ((الحاوي)) فيما إذا قال: له علي دراهم: أن بعض المتقدمين من فقهاء البصرة قال: أقل الجمع اثنان، فلا يلزمه إلا درهمان، وهذا نسبه القاضي أبو الطيب إلى بعض الناس من النحويين ,استبعده هو وغيره. وعلى المشهور: لو فسر بأكثر من ثلاثة قبل. قال القاضي الحسين: ولا فرق بين أن يقع التفسير قبل الحجر عليه بالسفه أو بعده. فرع: لو قال: له علي أقل أعداد الدراهم، لزمه درهمان، لأن العدد هو المعدود، وكل معدود متعدد، فيخرج عنه الواحد. قال: وإن قال: له علي درهم، ثم أعاده، أي أعاد القول في وقت آخر- لزمه درهم واحد، لأن الإقرار إخبار، ويجوز أن يخبر ثانيًا بما أخبر به أولًا، ولذلك لو فقال: رأيت زيدًا، ثم قال: رأيت زيدًا- لم يكن ذلك إخبارًا عن رؤية ثانية، وإذا كان كذلك لم يلزمه ما زاد على الدرهم بالشك. ومن طريق الأولى إذا أعاد ذلك في المجلس، فقال: له علي درهم درهم، لاحتمال إرادة التأكيد.

وقد وافقنا الخصم عليه. وهكذا الحكم فيما لو أعاد بعضه في وقت آخر، أو في المجلس، فقال: علي نصف درهم. ولا فرق في ذلك بين أن يقع الإقرار عند الحاكم، أو عند الشهود، ولا بين أن تتحد اللغة أو تختلف، فيقر في أحد الوقتين بالعربية، وفي الآخر بالعجمية. قال: وإن قال: له علي درهم من ثمن ثوب، ثم قال: له علي درهم من ثمن عبد، لزمه درهمان، إذ لا يحتمل أن يكون الثاني هو الأول. وهكذا لو قال: [له] علي درهم بصري، ثم قال: له علي درهم بغدادي، أو قال: له علي درهم حال، ثم قال له علي درهم مؤجل إلى كذا، أو قال: له علي درهم مؤجل إلى شهر، ثم قال قبل تقضي الشهر: له علي درهم حال، ونحو ذلك، ولو أضاف الدرهم في أحد الوقتين إلى سبب، وأطلق في الوقت الآخر، نزل المطلق على المقيد، ولا يلزمه إلا درهم واحد، سواء تقدم الإطلاق أو التقييد. وكذا لو أقر في أحد الوقتين بألف صحاح، أو مكسر، وأطلق في الآخر، لا يلزمه غير المقيد، وهذا بخلاف الإنشاءات، فإنه لو قال: قبضت منه يوم السبت عشرة، ثم قال: قبضت منه يوم السبت عشرة، ثم قال: قبضت يوم الأحد عشرة، أو خمسة، جعل قابضًا للأمرين، كما لو قال: طلقت [يوم السبت طلقة، ثم قال: طلقت] يوم الأحد طلقة- تقع طلقتان. ولو قال يوم السبت: له علي خمسمائة، ثم قال يوم الأحد: له علي ألف- لم يلزمه غيره، كما لو قال يوم السبت: طلقتها طلقة، ثم قال يوم الأحد: طلقتها طلقتين- لم يقع عليه سواهما. قال: ولو قال: [له] علي درهم ودرهم، لزمه درهمان، لأن مقتضى الواو العطف، والمعطوف غير المعطوف عليه، فلذلك لزمه درهمان. ولو قال: له علي درهم، ودرهم، فالنص: أنه يلزمه ثلاثة.

والمحكي في نظيره من الطلاق: أنه يقع طلقتان على أحد القولين، وثلاث في الثاني. وعن ابن خيران: أنه نقل الجواب في مسألة الطلاق إلى الإقرار، وجعلها- أيضًا- على قولين. والأكثرون على تقرير النصين، وفرقوا بأن الطلاق يدخله التأكيد أكثر منه في الإقرار، لأنه يقصد به التخويف والتهديد، ولأنه يؤكد بالمصدر، فيقال: هي طالق طلاقًا، والإقرار بخلافه، فلذلك حمل التكرار على التأكيد في الطلاق، وحمل على العدد في الإقرار. وعلى هذا: لو كرر عشر مرات أو أكثر، لزمه من الدراهم بعدد ما كرر. وحكم ((ثم)) حكم الواو فيما ذكرناه، صرح به ((الرافعي)) تبعًا لابن الصباغ، والإمام وغيرهما. قال ((الرافعي)): ثم ما ذكرناه عند الإطلاق، أما لو قال: أردت باللفظ الثالث درهمًا آخر، لزمه ثلاثة بلا خلاف. ولو قال: أردت به تكرار الثاني، قبل، ولم يلزمه غير درهمين، وهو ما أورده الإمام والبغوي. وفي ((الشامل)): أن ابن خيران قال في هذه الصورة: إنه يقبل منه، كما قال الشافعي في مثل هذه الصورة من الطلاق: إنه يقبل قول الزوج، وأن عامة الأصحاب فرقوا ... وذكر ما ذكرناه من قبل، فقبل قوله في ذلك، بخلاف الإقرار، وهذا صريح في أن الراجح: أنه لا يقبل قوله والحالة هذه، وهو المختار في ((المرشد))، وكلام القاضي أبي الطيب يمكن حمله على ما قاله الأولون، فإنه قال: إذا قال: له علي درهم ودرهم ودرهم، قال ابن خيران: يلزمه درهمان، ويرجع في الثالث إليه، فإن قال: أردت التكرار، لم يلزمه، وإن قال: أردت الاستئناف، لزمه، وإن أطلق فقولان: أحدهما: يلزمه درهمان. والثاني: ثلاثة، كما قلنا فيما إذا قال لامرأته: أنت طالق، وطالق وطالق، تقع طلقتان، ويرجع في تفسير الثالثة إلى إرادته، فإن أطلق فقولان.

وأكثر أصحابنا على أنه يلزمه ثلاثة [دراهم] قولًا واحدًا، والفرق ما ذكرناه. فقوله: ((وأكثر الأصحاب على أنه يلزمه ثلاثة)) يمكن عوده إلى حالة الإطلاق لا إلى حالة الإرادة. وعلى هذا لو قال: أردت باللفظ الثالث تكرار الأول، فوجهان ذكرهما الإمام هنا، وفي نظير المسألة من الطلاق، وحكاهما القاضي في الطلاق، وألحق به الإقرار، وأظهرهما في ((الرافعي))، وهو المذكور في ((الوجيز)): أنه لا يقبل ويلزمه ثلاثة، لأن التكرار إنما يؤكد به إذا لم يتخلل بينهما فاصل، وهذا ما أورده الأصحاب في نظير المسألة في الطلاق. وقال الإمام هنا: إن من أصحابنا من منع جريان الوجه الآخر هاهنا، وأجازه في الطلاق، قال: وبه ينتظم في المسألة ثلاثة أوجه. والفرق على الثالث: أن الطلاق إنشاء صادر عن مصدر، فلا يمتنع التأكيد في وضعه، والإقرار إخبار، فكان أبعد عن التأكيد، بدليل أن الرجل يقول: أنت طالق طلاقًا، ويمتنع مثل ذلك في الإقرار، وهذا خيال لا حاصل له، ولا فرق بين البابين، والله أعلم. قال: وإن قال: له علي درهم فدرهم، لزمه درهم على المنصوص. وقيل: فيه قولان: أحدهما: [يلزمه] درهم. والثاني: درهمان. واعلم أن النص في ((المختصر)) في هذه المسألة كما ذكره الشيخ، والنص فيما إذا قال لزوجته: أنت طالق فطالق: وقوع طلقتين. واختلف الأصحاب لأجل ذلك في المسألتين على طريقين: إحداهما- وهي المحكية في ((الشامل))، و ((المهذب)) و ((النهاية))، وغيرها عن ابن خيران- تخريج قول من كل مسألة إلى الأخرى، وجعلهما على قولين: أحدهما: يلزمه درهم، وتقع طلقة واحدة، لأن الفاء تستعمل للعطف

وتستعمل للصفة، وإذا استعملت للعطف كانت كالواو، وإذا استعملت للصفة، لم يلزمه إلا درهم وطلقة، فيجوز أن يكون أدخلها للصفة بأن يريد: فدرهم جيد، أو رديء، أو لازم، أو يريد فطالق أنت حينئذ، فلا يلزم ما زاد على المحقق بالاحتمال. والثاني: يلزمه درهمان، وتقع طلقتان، لأن الفاء ظاهرة في العطف كالواو. وفي ((الحاوي)) أن ابن خيران خرج من مسألة الطلاق [إلى مسألة الإقرار] قولًا: أنه يلزمه درهما، وسكت عن ذكر التخريج من مسألة الإقرار إلى [مسألة] الطلاق، وكذلك فعل في ((الوجيز)). قال الماوردي: وقد أشار الشافعي إلى مثل ذلك في الإقرار بالحكم الظاهر. قلت: وإليه أشار ((الرافعي)) بقوله: وقد رأيت في بعض الشروح: أن ابن أبي هريرة نقل قولًا منصوصًا للشافعي أنه يلزمه درهمان. والثانية- وهي المحكية عن الأكثرين، والصحيحة في ((النهاية))، وغيرها-: تقرير النصين، وفرقوا بوجهين: أحدهما: أن الدراهم يدخلها التفصيل، فيجوز أن يريد: له علي درهم فدرهم أجود منه، أو أردأ، ومثل ذلك لا ينقدح في الطلاق، لأنه لا يوصف بالجودة والرداءة. قال أبو علي في ((الإفصاح)): ووزان الإقرار من الطلاق: أن يقول: أنت طالق طلقة فطلقة، ويريد بذلك الصفة، فإنه يقبل منه كالإقرار، كذا حكاه عنه أبو الطيب وغيره. وفي ((الحاوي)) بعد ذكر هذا الفرق: فإن قيل: فقد يوصف الطلاق بمثل ذلك، فيقال: طلاق سنة، وطق بدعة- قيل: ليس هذا صفة للطلاق، وإنما هو حال يرجع إلى صفات المطلقة والمطلق، لأن حكم الطلاق في الأحوال على السواء. والثاني: أن الطلاق إنشاء والإقرار إخباره، والإنشاء أقوى وأسرع نفوذًا، ولهذا لو أقر اليوم بدرهم، وغدًا بدرهم، لا يلزمه إلا درهم، ولو تلفظ بالطلاق في اليومين، وقعت طلقتان، بل في الوقت الواحد على أحد القولين. قال ((الرافعي)): ولابن خيران أن يمنع الفرق الأول، ويقول: يجوز أن يريد

بـ ((طالق)): مهجورة، أو لا يراجع، ويجوز أن يريد بـ ((طالق)) خبر مثله، وما أشبهه. وأما الثاني فإنه يناقض الفرق المذكور في مسألة: درهم ودرهم ودرهم، وطالق وطالق وطالق. ثم هذا الخلاف فيما إذا أطلق المقر، ولم يبين مراده بلفظ الفاء أو قصد به غير العطف، كما أفهمه لفظ القاضي الحسين، حيث قال: إن محله إذا لم يرد العطف، أما إذا أراده لزمه درهمان وطلقتان وجهًا واحدًا، كالواو. لكن في ((النهاية)) و ((الشامل)) تصوير محل الخلاف إذا قال: أردت غير العطف، وقدرت: علي درهم فدرهم لازم، أو جيد، أو رديء، وهو ظاهر لفظ ((المختصر))، فإنه [قال]: إذا قال: لبه عندي درهم فدرهم، قيل: إن أردت: فدرهم لازم، فهو درهم، والله أعلم. قال: وإن قال: له علي درهم تحت درهم، أو فوق درهم، أو مع درهم أو قبل درهم، أو بعد درهم-[فقد] قيل: فيه قولان: أحدهما: درهم، لأنه يحتمل أنه أراد: فوق درهم في الجودة، وتحت درهم في الرداءة ومع درهم لي، وقبل درهم أملكه، وبعد درهم ملكته، فلا يلزمه ما زاد عليه بالاحتمال مع أن الأصل براءة الذمة، وهذا ما نص عليه في الصور الثلاث الأول، وهو في الأخيرتين على ما قال القاضي والإمام مخرج. وابن الصباغ وغيره قال: إن الربيع رواه فيهما. والثاني: درهمان، لأن هذه الألفاظ تقتضي ضم درهم إلى درهم، فأشبهت الواو، وهذا ما نص عليه في الأخيرتين، وهو مخرج- كما قال القاضي والإمام- فيما عداهما. وبعضهم نسبه فيهما إلى رواية الربيع أيضًا. قال ابن يونس: وكأن مبنى القولين: تعارض الأصل والظاهر. قلت: ذلك خلاف أصل الشافعي في الإقرار كما تقدم.

وقيل: [إن قال: فوق درهم، أو تحت درهم، أو مع درهم لزمه درهم. وإن قال: قبل] درهم، أو بعد درهم- لزمه درهمان، لأن ((قبل))، و ((بعد)) لا يحتمل إلا التاريخ، فالمفهوم التقدم في الوجوب، فصار أحد الدرهمين مضمومًا إلى الآخر، بخلاف ((فوق)) و ((تحت)) و ((مع)) فإن ذلك إشارة إلى المكان، والمقر بشيء لا يكون مقرًا بمكانه، وهذه الطريقة هي التي نص عليها في ((المختصر)). وقال الصباغ: إن الشيخ أبا حامد لم يذكر غيرها، وهي التي اختارها أكثر الأصحاب، وتبعهم صاحب ((المرشد))، والنواوي، وعليها لو قال: له علي درهم قبله درهم، وبعده درهم، لزمه ثلاثة، حكاه القاضي الحسين. [قال الرافعي]: ولمن قال بالأولى أن يقول: القبلية والبعدية كما يكونان بالزمان يكونان بالرتبة، ثم هب أنها زمانيان يرجعان إلى الوجوب، لكن يجوز أن يريد: لزيد درهم قل ثبت درهم لعمرو. وفي المسألة وجه آخر ينسب إلى الداركي: أنه إذا قال: درهم معه درهم، أو فوقه درهم، لزمه درهمان، لرجوع الكناية إلى الأول الذي التزمه، وكذا قال بمثله ابن خيران وغيره فيما إذا قال: قبله أو بعده، دون ما إذا قال: تحت درهم، أو فوق درهم، أو مع درهم، أو قبل درهم، أو بعد درهم، والمشهور أنه لا فرق. قال: وإن قال: له علي درهم في دينار، لزمه درهم، لأنه يحتمل أنه أراد في دينار لي، أو اقترضت منه درهمًا في ثمن دينار لي. قال: إلا أن يريد: مع دينار، فيلزمه درهم ودينار، أي: على قول كما تقدم، لأن لفظه ((في)) تستعمل حيث تستعمل ((مع))، قال الله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:29]، أي: ((مع)) عبادي، ويقال: جاء الأمير في الجيش، أي: مع الجيش، وفي ذلك تغليظ عليه. ولو قال: إنه وزن لنفسه درهمًا في ثمن بعض دينار، فهو كما لو قال: له في هذا العبد ألف، وفسره بذلك، وسنذكره، قاله أبو الطيب. و ((الرافعي)) أحال الكلام في هذه المسألة بجملتها على مسألة العبد.

فرع: لو قال: لزيد علي درهم مع عمرو، قال الماوردي: فالظاهر أنه مقر لزيد بدرهم هو مع عمرو. واليقين: أنه مقر بدرهم لزيد وعمرو، فرجع إلى بيانه، فأيهما أراده عمل به. قال: وإن قال: له علي درهم في عشرة، لزمه درهم، لأنه يحتمل أنه أراد: أنه مختلط في عشرة لي. قال: إلا أن يريد الحساب، فيلزمه عشرة، لأن ذلك موجبه عند أهل الحساب. فلو أيس من بيانه لم يلزمه غير درهم. قال ابن يونس: وقيل: يلزمه عشرة، لأنه الظاهر من استعمال هذه اللفظة، وهذا إذا كان يعرف الحساب، أما إذا كان لا يعرفه، فيشبه أن يقال: لا يلزمه غير درهم وإن قال: أردت ما يريده الحساب كما لو أقر العربي بالعجمية، وهو لا يعرف معناها، وهذا يكشفه ما تقدم في الطلاق. ولو أراد بـ ((في)) هاهنا ((مع)) لزمه أحد عشر درهمًا، قاله ((الرافعي)) قال: ولو قال: له علي درهم، أو دينار، لزمه أحدهما، وأخذ بتعيينه، لأنه إقرار بأحدهما، لأن ((أو)) للترديد. وقيل: لا يلزمه شيء حكاه الإمام عن رواية الشيخ أبي علي، عن رواية صاحب ((التخليص)) وغيره. والخلاف جارٍ كما قاله الماوردي- فيما إذا قال: علي ألف لزيد، أو عمرو: أحدهما: لا يلزمه لأحدهما شيء، وهو ما اختاره في ((المرشد)). والثاني: أنه مقر لأحدهما به، ويؤخذ بالبيان. ولو قال: له علي ألف، أو على الجدار، لم يلزمه شيء، قاله في ((العدة))، كما لو قال: له علي ألف، أو على أخي، أو شريكي. وكذا [لو] قال: له علي ألف أو لا، لم يلزمه شيء، للشك. قال: وإن قال: درهم بل درهم، لزمه درهم، لأنه يحتمل أنه توهم عليه زيادة، فقصد الاستدراك بقوله: ((بل)) ثم تذكر في الحال أنه لا زيادة له عليه،

وهكذا الحكم فيما لو قال: لا بل درهم، أو: لكن درهم. وفي ((الحاوي)) حكاية وجه في مسألة الكتاب: أنه يلزمه درهمان، لأنه إذا لم يزد على الأول لا يكون استدراكًا، وكان رجوعًا، فلزماه معًا، ومن هذا يتخرج وجه فيما إذا قال: له علي درهمان بل من طريق الأولى. ولو قال: له علي درهم بل لسالم مولاه، وكان سالم مأذونًا له، قال في العدة لزمه الدرهمان، لأنه أقر للسيد أولًا، ثم استدرك إقراره لمن هو دونه، فلا يكون ذلك مالًا واحدًا كما لو كان على المأذون دين، فإن أبا حنيفة وافق فيها. قال: وإن قال: درهم بل درهمان، لزمه درهمان، لأن الدرهم داخل في الدرهمين، فلم يكن ذلك رجوعًا عن إثبات الدرهم، بل نفى الاقتصار عليه، وألحق به الدرهم الآخر. وهكذا لو قال: قفيز بل قفيزان، ونحو ذلك. قال ((الرافعي)): وهذا مشكل بما إذا قال: أنت طالق طلقة بل طلقتين، فإنه تقع الثلاث، ولا أردي لم لم يتصرفوا فيهما هاهنا تصرفهم فيما سبق من المسائل. قال: وإن قال: درهم لا بل دينار، لزمه درهم ودينار، لأنه استدرك جنسًا آخر، وهو يقتضي إسقاط ما أقر به أولًا، فلم يقبل منه الإسقاط، وقبل منه الإثبات الثاني. وضابط هذا: أنه متى أقر بشيء في الذمة واستدرك بغيره: إن اختلفا في الصفة والجنس لزمه كلاهما، وإن اتفقا في الصفة والجنس، واختلفا في القدر، لزمه الأكثر منهما. وقولنا: ((في الذمة)) احترز عما لو قال: لو عنيد هذا الدرهم، بل هذان الدرهمان، فإنه يلزمه الثلاثة، لأن المشار إليه أولًا غير داخل في المشار إليهما ثانيًا، فلزمه الكل. قال: [وإن قال]: درهمان بل درهم، لزمه درهمان، مؤاخذة له بقوله الأول، وقياس هذا أن يقال فيما لو قال: له علي درهم ودرهم بل درهم: أنه يلزمه درهما، وقد أطلق البغوي وغيره أنه يلزمه ثلاثة، وقد ذكرناه في نظير

المسألة من الطلاق، فليطلب من ثم إذا رأينا إلحاق الإقرار بالطلاق. قال: وإن قال: له علي ما بين الدرهم والعشرة، لزمه ثمانية، لأن ((ما)) بمعنى ((الذي))، فكأنه قال: الذي له علي العدد الذي يقع بين الواحد والعشرة، وذلك صريح في إخراج الطرفين، فتخلص للزم ثمانية. قال الماوردي: وهذا مما لم يختلف فيه أصحابنا. وقريب منه قول الإمام: إنه الذي أطبق عليه الأصحاب. وحكى القاضي أبو الطيب ومن تبعه عن رواية صاحب ((التخليص)) في المفتاح عن الشافعي: أنه يلزمه تسعة، لإدخاله العاشر فيه. وقد نسب القاضي هذا المذهب إلى صاحب ((التخليص)) نفسه، وأنه وجهة بأن الحد إذا كان من جنس المحدود، دخل، والعشر من الجنس، فدخل، وهذا ما اختاره في ((المرشد)). وفي ((الإشراف)): أن المزني نقل في ((المنثور)) أنه يلزمه عشرة، وقد حكاه أبو خلف السلمي عن القفال، لأن المقصود بيان غاية ما عليه، وبه يحصل في المسألة ثلاثة أقوال، وبعضهم يوردها وجوهًا، ومثلها قد حكاه ((الرافعي)) فيما لو قال: أعطوه ما بين الدرهم والعشرة، وأن الأستاذ أبا منصور حكى عن بعض الأصحاب: أنه إن أراد الحساب، فللموصى له خمسة وخمسون، وإن لم يرد الحساب فله المتفق [عليه] وهو ثمانية. قال ((الرافعي)): ثم لا شك في اطراد هذا في الإقرار.

قال: وإن قال: له علي من درهم إلى عشرة فقد قيل: يلزمه ثمانية، لأنه جعل الأول والعاشر حدين، والحد لا يدخل في المحدود، دليله ما لو قال: بعتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار لا يدخلان في البيع. وقيل: [يلزمه] تسعة، لأن لفظة ((من)) لابتداء الغاية، فيدخل الأول، كما تقول: سرت من الكوفة إلى البصرة، ولا يدخل فيه العاشر، لأنه جعله حدًا. ووجهه الإمام بأن تقدير الحد في الدرهم الأول بعيد وإذا كان الملتزم بالإقرار زائدًا على واحد، فتقدير الواحد في الطرف الأول خارجًا عن اللزوم بعيد، وليس ذلك كالتحديد الراجع إلى الجنس في الأمكنة وغيرها. ووجهه الشيخ أبو حامد بأنه لو قال لفلان من هذه النخلة [إلى هذه النخلة]، دخلت الأولى في الإقرار دون الآخرة، فكذلك هاهنا وصحح هذا الوجه وكذلك العراقيون، وتبعهم في ((الوجيز)) و ((المرشد))، والنواوي. وهذان الوجهان لم يورد الماوردي، والقاضي الحسين غيرهما. وقيل: [يلزمه] عشرة: أما التسعة، فلما ذكرناه، وأما العاشر، فلأن الحد إذا كان من جنس المحدود [دخل، دليله: إدخال المرفق في الغسل، وهذا من جنس

المحدود] فدخل، وهذا ما صححه البغوي، وحكاه الإمام عن رواية شيخه. والقاضي أبو الطيب خرجه من النص الذي حكاه في المسألة السابقة عن رواية صاحب ((التلخيص)). ومثل هذه الأوجه محكي فيما إذا قال: أنت طالق من واحدة إلى الثلاث كما تقدم. قال: وإن قال: له علي كذا، فهو كما لو قال: له [علي] شيء، لأن ((كذا)) مبهم كما أن لفظ ((الشيء)) مبهم، والتفريع كما تقدم. وهكذا الحكم فيما لو قال: [له] علي كذا كذا، لأن ذلك بمنزلة قوله: [علي] شيء شيء، والتكرار للتأكيد، لا للتجديد. قال: وإن قال:] له علي كذا كذا درهمًا، لزمه درهم، لأن حذف حرف العطف يجعل التكرار تأكيدًا، كقوله: شيء شيء، وقد فسر المبهم بدرهم، فصار كما لو قال: لو علي درهم درهم، لا يلزمه غير درهم. وقد حكى الماوردي وابن الصباغ والإمام عن أبي إسحاق المروزي: أنه يلزمه أحد عشر درهمًا إذا كان يعرف العربية، كما صار إليه محمد بن الحسن فيما يعرفها وغيرها، الإمام نسب ذلك إلى أبي حنيفة، وتمسكوا فيه بأن ذلك أقل عددين ركب أحدهما على الآخر من غير عطف، ونصب الدرهم بعده، وسنذكر ما يبطل ذلك. وما ذكره الشيخ يجري فيما لو قال: كذا كذا درهم بالرفع، أو الخفض، كما قاله القاضي أبو الطيب، والبغوي، وهذا منهما فيه نظر، لأنهما جزما القول كما ستعرفه فيما لو قال: له على كذا درهم، بالخفض: أنه يلزمه دون الدرهم، وقياس ذلك أن يقولا بمثله هاهنا. نعم، هذا ظاهر على قولنا: إنه يلزمه بقوله: كذا درهم، بالخفض: [درهم]، والله أعلم. قال: ولو قال: كذا وكذا درهمًا، فقد قيل: يلزمه درهمان، لأنه ذكر مبهمين، ثم ذكر الدرهم تفسيرًا عقيبهما، فاقتضى أن يكون تفسيرًا لكل واحد منهما، كما لو قال: له على خمسة عشر درهمًا، وهذا ما ادعى البندنيجي في كتاب الوصية أنه المذهب.

وقيل: فيه قولان: أحدهما: درهم، لأن ((كذا)) عبارة عن الشيء، وعن بعضه، وقد ذكر الدرهم عقيب المبهمين تفسيرًا لهما، فجاز أن يريد أن نصفه لهذا ونصفه لهذا، فلا يلزم ما زاد عليه بالاحتمال، وهذا ما اختاره المزني، وكذا صاحب ((المرشد)) في حق من لا يعرف العربية. وعلى هذا لو قال: كذا وكذا وكذا درهمًا، [لم يلزمه إلا درهم]. والثاني: درهمان، لما سبق، وهو الصحيح عند النواوي، والمختار في ((المرشد)) في حق من [لا] يعرف العربية، وهذه الطريقة رواها المزني، وقال ((الرافعي)): إنها مشهورة، واختارها ابن خيران، والإصطخري. والذي قال به أبو إسحاق وعامة الأصحاب- كما قال في ((المهذب)) - الطريقة الأولى، وهؤلاء اختلفوا على ماذا يحمل نصه على أنه يلزمه درهم واحد: فبعض المتقدمين من الأصحاب- كما قال الماوردي- حملوه على ما إذا نواه، وصرف اللفظ عن ظاهره بالنية. وابن أبي هريرة حمله على ما إذا قال: كذا كذا درهماً من غير واو، أو شك الحاكم: هل ذكر في إقراره الواو أم لا؟ وقال: إن الشافعي نص على هذا الحكم في الأم. وأبو إسحاق حمله على ما إذا قال: كذا وكذا درهم بالرفع، فإنه لا يلزمه إلا درهم، لأنه حينئذ يكون خبرًا عن المبهمين، فيكون تقديرهما: درهم. قال ابن الصباغ: وهذه الطريقة هي الصحيحة. وغيره قال: إنها منصوص عليها في الإقرار والمواهب. وقد حكى ((الرافعي)) فيما لو قال: له علي كذا وكذا درهم بالرفع طريقة أخرى حاكية للقولين، لكن الأصح طريقة القطع بأنه لا يلزمه غير درهم، وهي التي أوردها القاضي أبو الطيب. ووراء ما ذكرناه في مسألة الكتاب قول آخر، ووجه. فالقول حكاه الإمام: أنه يلزمه درهم وشيء:

أما الدرهم فلتفسير الجملة الثانية. وأما الشيء فللأولى الباقية على إبهامها. وهذا يوافق ما جاء في بعض نسخ ((المختصر)): أنه إذا قال: كذا وكذا درهمًا [قيل: أعطه درهمًا] وأكثر، والمشهور منها: أعطه درهمًا أو أكثر، أي: فسره بدرهم أو بأكثر منه. والوجه حكاه الماوردي، وابن الصباغ، والإمام عن أبي إسحاق: أنه يلزمه إذا كان يعرف العربية أحد وعشرون درهمًا، كما صار إليه صار إليه محمد بن الحسن في حق من يعرفها وغيره، ونسبه الإمام، والفوراني، والقاضي الحسين إلى أبي حنيفة، تمسكا بأن أقل عددين عطف أحدهما على الآخر، ونصب الدرهم بعده ذلك، وسنذكر ما يبطله. فرع: لو قال: [له] علي كذا [وكذا]، لزمه شيئان، وله تفسيرها بما شاء. قال في ((التهذيب)): ويجوز أن يكونا مختلفين. ولو قال: كذا بل كذا، فوجهان في ((الحاوي)): أحدهما: يكون إقرارًا بشيء واحد، ويكون الثاني إثباتًا للأول. والثاني: أنه يكون إقرارًا بشيئين، فيفسرهما بما شاء مما يقبل به تفسير الشيء. قال: وإن قال: كذا درهم بالخفض، لزمه دون الدرهم، لأن قوله: ((كذا)) عبارة عن بعض الشيء، وعن جملته، فلزمه البعض، لاحتمال إرادته إياه، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب، والبغوي، واختاره ابن الصباغ، و [كذا] صاحب ((المرشد)) في حق من يعرف العربية. وقيل: يلزمه درهم، لأن قوله: ((كذا)) لا يفهم معنى فيصير وجوده كعدمه، فينزل [جملة] كلامه عليه كقوله: علي درهم، ولو قال ذلك لزمه درهم، رفع أو نصب أو خفض، فكذا هنا، وهذا ما اقتضى إيراد ((الرافعي)) ترجيحه، ولم يحك الماوردي سواه، وهو المعزي في ((الشامل)) [إلى الشيخ] أبي حامد. وقال في ((التتمة)): إنه لا يتجه غيره في حق من لا يحسن الإعراب، لأن هذه اللفظة لا تذكر في العادة ويراد بها بعض الدرهم.

وعلى هذا: لو قال: كذا وكذا وكذا درهم بالخفض، يظهر أن يكون الحكم كما لو قال: كذا درهمًا بالنصب، وقد صرح به الماوردي. وعلى الأول قال القاضي أبو الطيب: له تفسير ما دون الدرهم بحبتين، ودانقين، وغيرهما، ويكون تقدير كلامه: كذا وكذا من درهم. ولا خلاف في أنه لو قال: كذا درهم، بالرفع، أنه يلزمه درهم، ويكون خبرًا، وتقديره: علي شيء هو درهم. ولو قال: كذا درهمًا، بالنصب، لزمه درهم. وحكى الماوردي، وابن الصباغ، والإمام عن ابي إسحاق المروزي: أنه يلزمه عشرون درهمًا، إذا كان يعرف العربية، كما صار إليه محمد بن الحسن فيمن يعرفها وغيره. ونسبه الإمام وغيره إلى أبي حنيفة، تمسكا بأنه أول اسم ينصب الدرهم المفسر عقيبه. وأجاب الأصحاب عن ذلك وعما تقدم بأن تفسير الألفاظ المبهمة لا ينظر فيه إلى الإعراب، كما لا ينظر إليه في الأقاوير، ويدل عليه أنه لو قال: لهعلي مائة درهمًا، يلزمه المائة وإن كان ذلك خطأ في اللغة. ولو قال: له علي [كذا] درهم صحيح، لم يلزمه مائة درهم بوفاق الخصم وإن كانت الموازنة التي ذكرت من اتباع العربية تقتضي لزوم المائة، وإنما كان كذلك لأن المتبحر في اللغة قد يخطئ فيها، فنزلنا الأمر على الظاهر، وأول ما يسبق على الفهم من الكلام عند الإطلاق. وقولنا في فرض المسألة: درهم صحيح، حتى لا ينصرف اللفظ إلى نصف درهم، وربع درهم. فإن قيل: قد حكى البندنيجي أن الطحاوي حكى عن بعض أصحاب أبي حنيفة: أنه يلزمه في هذه المسألة مائة درهم، عملا بالموازنة المذكورة، وهو محمد بن الحسن- كما قاله ابن الصباغ- فقد انتفى الإلزام. قيل: المشهور عنهم الأول، وعلى تقدير تسليم الثاني، فالإلزام يتوجه من طريق آخر، وهو أنه إذا قال: كذا درهماً، [لزمه عشرون، وإذا قال: كذا كذا درهمًا

لزمه إذًا أحد عشر درهمًا]، وهذا من الغلط العظيم، لأن المقر كرر اللفظ بعينه مرة أخرى، فإن لم يزد ذلك في المقدار، فينبغي ألا ينقص منه، لأنه لا يكون أقل من التأكيد للأول بالثاني، والتأكيد لا يزيده نقصانًا. ولو قال: كذا درهم، بالوقف، قال ((الرافعي)) وغيره: فهو كما لو ذكره بالخفض، أي: فيجيء فيه الوجهان، وكذا قاله ابن الصباغ. قال: وإن قال: له علي ألف ودرهم، أو ألف وثوب، لزمه الدرهم والثواب، لتصريحه في الإقرار بهما، ورجع في تفسير الألف إليه، لأنه يجوز العطف على غير الجنس حقيقة، فيقول: رأيت رجلًا وحمارًا، كما يجوز على الجنس، فيقول: رأيت زيدًا وعمرًا، وإذا كان كذلك احتمل أن يريد العطف على الجنس وعلى غيره، فرجع إليه. ولأن الخصم في مسألة الدرهم- وهو أبو حنيفة، وأبو ثور- وافقنا على أنه إذا قال: ألف وثوب: أنه يرجع في تفسير الألف إليه، وكذا في كل ما لا يتقدر بكيل، ولا وزن، كما قاله الماوردي، وابن الصباغ وغيرهما، فنقول في مسألة الدرهم: معطوف على مبهم، ليس بوصف له، فوجب ألا يفسر ذلك المبهم، أصله: ألف وثوب. ولأن ما أفاد زيادة على العدد، لم يفد تفسيرًا. دليله، ما إذا قال: ألف وثوب، أو عبد. وهكذا الحكم فيما لو قال: ألف ودرهمان أو مائة ودرهم، أو ثوب، أو مائة ودرهمان، أو ثوبان- يلزمه الدرهمان والثوبان، ويرجع في تفسير الألف والمائة إليه، وله أن يفسر ذلك بجنس واحد، وأجناس مما يسوغ تفسير الشيء به، كما لو قال: له علي ألف. فرع: لو قال: له علي ألفٌ درهمٌ، قال ((الرافعي)): كان له أن يفسر الألف بما لا تنقص قيمته عن درهم، وكأنه قال: الألف مما قيمة الألف منه درهم. قال: وإن قال: له علي مائة وعشرة دراهم، كان الجميع دراهم، [لأن الدراهم] هاهنا لم تفد زيادة على العدد المذكور، فتعين أن تكون مفسرة وقد

تعقبت جملتين، كل واحدة محتاجة إلى التفسير، فصرفت إليهما والشاهد لذلك العرف. وقيل: يلزمه عشرة دراهم، ويرجع في تفسير المائة إليه كالمسألة قبلها، وهذا قول ابن خيران والإصطخري. وعلى هذا: لو قال: بعتك بمائة وعشرة دراهم، كان البيع باطلًا، للجهل بالمائة. والصحيح الأول، وهو المختار في ((المرشد)). والخلاف جار فيما لو قال: مائة وخمسة عشر درهمًا، ومائة وثلاثة دراهم، ومائة وخمسون درهمًا، وخمسة وعشرون درهمًا، وألف وخمسون درهمًا، وألف ومائة درهم، وخمسون وألف درهم. وفي ((الحاوي)) وجه ثالث: أنه إذا كان ما بعد الألف عددًا بلفظ الجمع، كقوله: ألف وثلاثة، أو أربعة دراهم، وهكذا إلى العشرة لم يكن ذلك تفسيرًا للألف. وإن كان ما بعد الألف عددًا منسوبًا للدرهم، كقوله: أحد عشر درهمًا فما زاد، كان تفسيرًا للألف، لأن التمييز أخص بالصفات والنعوت، ويكون تقدير الكلام: له علي ألف وأحد عشر من الدراهم. قال أبو الطيب وغيره: ولا خلاف بين أصحابنا فيما لو قال: له علي خمسة عشر درهمًا: أن الدرهم تفسير للجميع، لأن الخمسة عشر وإن كان عددين، فإن أحدهما ركب على الآخر، فجريا مجرى العدد الواحد. وكذا لا خلاف بينهم فيما لو قال: ألفًا إلا ثلاثة دراهم، لا يكون تفسيرًا، لأن ذلك تفسير للاستثناء، وتفسير الاستثناء لا يكون تفسيرًا للمستثنى منه، قاله الماوردي. فرع: هو عكس مسألة الكتاب- إذا قال: له علي درهم ونصف، أو عشرة

دراهم ونصف- ففي النصف وجهان: أحدهما- وبه قال الإصطخري-: أنه مبهم. والثاني- وبه قال الأكثرون-: أنه نصف درهم، لجريان العادة به. قال: وإن قال: له علي عشرة، أي دراهم، إلا عشرة، أي: دراهم- لزمه العشرة، لما ذكرناه في كتاب الطلاق. أما إذا قال: له علي عشرة إلا عشرة كما هو ظاهر لفظ الشيخ- فهو شبيه بما لو قال: له علي شيء إلى شيئًا. وقد حكى القاضي الحسين وغيره في بطلان الاستثناء وجهين: أحدهما: يبطل. والثاني: لا يبطل، لوقوع الشيء على القليل والكثير، فلا يمتنع حمل الثاني على أقل مما حمل عليه الأول. وهذا يظهر مثله في قوله: عشرة إلا عشرة [لكن الأصحاب الحاكين لهذين الوجهين قاسوا الأول على ما لو قال: له علي عشرة إلا عشرة] وهذا يدل على أن ذلك متفق عليه وهو لا يخلو عن احتمال. قال الإمام: وفي التردد في مسالة: شيء إلا شيئًا غفلة، لأنا إن ألغينا استثناءه اكتفينا بأقل ما يتمول، وإن صححناه ألزمناه- أيضًا- أقل ما يتمول، فيتفق الجوابان. قال ((الرافعي)): ويمكن أن يقال: حاصل الجوابين لا يختلف، لكن التردد غير خال عن الفائدة، فإنا إذا أبطلنا الاستثناء. لم نطالبه إلا بتفسير اللفظ الأول، وإن لم نبطله طالبناه بتفسيرهما، وله آثار في الامتناع من التفسير. قال: وإن قال: له علي درهم ودرهم إلا درهمًا، لزمه درهمان على المنصوص، وقيل: يلزمه درهم. وقد بينا نظير ذلك في الطلاق على أبلغ وجه، وكذا قاعدة الاستثناء، فليطلب

من ثم، فإن الحكم في البابين واحد، لكنا قلنا ثم: إن الصحيح هو المنصوص، [وقد قال به الجمهور هنا أيضًا. وفي ((الحاوي)): أن الصحيح هنا: أنه] يلزمه درهم، وقد شذ عنا ثم فروع، نذكر منها هنا ما يتيسر: ومنها: إذا قال: لع علي عشرة إلا خمسة أو ستة، قال في التتمة: لا يلزمه إلا أربعة، لأن الدرهم الزائد مشكوك فيه، فصار كما لو قال: له علي خمسة أو أربعة، لا يلزمه إلا أربعة. قال ((الرافعي)): ويمكن أن يقال: يلزمه خمسة، لأنه أثبت العشرة، واستثنى منها خمسة، واستثناء الدرهم الزائد مشكوك فيه. قلت: ولا وجه إلا الأول، لما تقدم أن الاستثناء مع المستثنى من كاللفظ الواحد، لأنه أثبت شيئًا، ثم رفعه، ولهذا صح. وفي ((العدة)) أنه لو قال: له علي ألف درهم إلا مائة درهم، أو خمسين درهمًا، لزمه الألف في أحد الوجهين، لأن الاستثناء المتأخر مشكوك فيه، فلا [يرفع المتقدم] المتيقن، كقوله: إلا مائة درهم، أو عشرة دنانير. ومنها: لو قال: له على ألف درهم ومائة دينار، إلا مائة [درهم] وعشرة

دنانير-[لزمه الألف كاملًا، والاستثناءان يرجعان إلى الدنانير في أحد الوجهين. ولو قال: له علي ألف درهم إلا مائة درهم وعشرة دنانير] إلا قيراطًا، لزمه تسعمائة وعشرة إلا قيراطًا في أحد الوجهين، [قالهما في العدة]. ومنها: لو قال: له علي درهم غير دانق فقضية النحو- وبه قال بعض الأصحاب- أنه إن نصب ((غير))، فعليه خمسة دوانق، لأنه استثناء، وإلا فعليه درهم تام، والمعنى: علي درهم إلا دانق. وقال الأكثرون: السابق إلى فهم أهل العرف [منه] الاستثناء، فيحمل عليه وإن أخطأ في الإعراب. ومنها: إذا قال: غصبته عبدًا إلا رأسه، أو إلا يده، ففيه وجهان: أصحهما في ((الحاوي)): أنه يكون غاصبًا لجميعه، لإحالة ما استثناه. والثاني: أنه يكون مقرًا بمجهول، ويرجع في بيانه إليه. قال: وإن قال: له علي ألف درهم إلا ثوبًا، وقيمة الثوب، أي: الذي فسره، دون الألف، أي: ولو بأقل ما يتمول- قبل منه، لأن الاستثناء من غير الجنس، واستثناء الأكثر في الإقرار جائز عندنا، كما هو مقرر في الأصول، وهذا منه. نعم، حكى الماوردي عن أصحابنا وجهين في جواز استثناء الأكثر في غير الإقرار. وقد قال الغزالي في مسألة الكتاب: إن هذا استثناء من الجنس، لأن تقديره: إلا قيمة ثوب. نعم: فيه مجاز من حيث ذكر الثوب، والمراد قيمته. أما إذا فسر الثوب بثوب قيمته ألف فأكثر، فوجهان: أحدهما: أن التفسير باطل، والاستثناء صحيح، فيلزم أن يفسر بثوب قيمته دون الألف، وهذا ما صححه البغوي. والثاني: أن الاستثناء باطل، ويلزمه الألف، وهذا ما صححه الإمام وغيره. ومن هنا يظهر لك أن قول الشيخ: وقيمة الثوب دون الألف شرط لصحة الاستثناء، أو لصحة التفسير ومنه يظهر أن المحذوف في قوله: قبل منه، ماذا. فرع: لو قال: له علي ألف درهم ومائة دينار إلا خمسين، فإن أراد بالخمسين

المستثناة جنسًا غير الدراهم أو الدنانير، [قبل منه بالشرط السابق. وإن أراد أحد الجنسين من الدراهم، أو من الدنانير]، أو منهما قبل. وإن فات بيانه، عاد إلى المالين، لكن هل يعود إلى كل واحد منهما جميع الخمسين، أو نصفها؟ فيه وجهان في ((الحاوي)). قال: وإن قال: له علي ألف إلا دينارًا، رجع في تفسير الألف إليه، وأسقط منه الدينار، لما ذكرناه. ولو فسر الألف بما لا يبقى منه شيء بعد إسقاط الدينار، ففيه وجهان: أحدهما: يبطل الاستثناء، وهو المختار في ((المرشد)). والثاني: يبطل التفسير. وكما يصح استثناء المبهم من المعلوم، والمعلوم من المبهم، يصح استثناء المبهم من المبهم، كما إذا قال: له علي ألف إلا شيئًا، أو إلا عبدًا، ويكلف تفسيرهما معًا، فيبين جنس الأول، ثم يفسر الثاني. ولو قال: شيء إلا شيئًا، فقد تقدم الكلام فيه، وكما يجوز الاستثناء مرة يجوز مرتين فأكثر، لكنه ينظر: فإن عطف الثاني على الأول بواو العطف، كانا جميعًا بمنزلة الاستثناء الواحد، إذ لم يلزم من ذلك استغراق، مثاله: إذا قال: له علي عشرة إلا درهمين وإلا درهمًا، فيلزمه سبعة، كما لو قال: له علي عشرة إلا ثلاثة. [وإن لزم منه استغراق، كما إذا قال: له علي عشرة إلا سبعة وإلا ثلاثة] فهل يلزمه عشرة كما لو قال: له علي عشرة إلا عشرة، أو نخص الثاني بالبطلان حتى يلزمه ثلاثة؟ فيه وجهان جاريان فيما لو قال: له علي عشرة إلا سبعة وثلاثة، وأصحهما في هذه الثاني. وعن الشيخ أبي علي أنه قطع به في الأولى، وبه يحصل في الصورتين ثلاثة أوجه.

وإن كان الثاني بغير واو العطف، كان الاستثناء الثاني راجعًا إل ما يليه من الاستثناء الأول، ويعتبر صحته وفساده، لكونه مستغرقًا بالنسبة غليه، لا إلى الأول. مثاله: إذا قال: له علي عشرة، إلا خمسة إلا اثنين، كان قد استثنى من العشرة خمسة، ومن الخمسة اثنين، والجميع سبعة، فيلزمه ثلاثة، ويشهد لهذه القاعدة قوله تعالى: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ ...} [الحجر:58، 60] فاستثنى ((آل لوط)) من القوم، ثم استثنى امرأته من ((آل لوط)) من غير حرف العطف، فكان راجعًا إلى الاستثناء الذي يليه دون المستثنى منه. والطريق في معرفة ما يلزمه في مثل ذلك مما لا يلزم إذا تعددت الاستثناءات بعد ما ذكرناه من القاعدة هنا، وما ذكرناه من قاعدة ثانية في كتاب الطلاق: أن الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي العام إثبات، وكذا من غير العام إذا تقدم النفي، إثبات- أن يجمع كل ما هو إثبات على اليد اليمنى مثلًا، وكل ما هو نفي على اليسرى، ثم يسقط المنفي من المثبت، فما بقي منه هو الجواب. مثاله: إذا قال: له على عشرة، إلا تسعة، إلا ثمانية، وهكذا إلى الواحد، فالمثبت ثلاثون، والمنفي خمسة وعشرون، فإذا أسقطت خمسة وعشرين من ثلاثين، بقيت خمسة فهي اللازمة له. قال الإمام: والطريق في تمييز المثبتات من المنفيات أن ينظر إلى العدد المذكور أولًا، فإن كان شفعًا فالأوتار منفية، والأشفاع مثبتة، وإن كان وترًا فبالعكس، ولهذا شرط، وهو أن تكون الأعداد المذكورة على التوالي الطبيعي، ويتلو كل شفع منها وتر، أو بالعكس كما ذكرناه. وقد احترزنا بقولنا: إن الاستثناء من النفي غير العام إثبات إذا تقدمه إثبات عما إذا قال: ليس له علي عشرة إلا خمسة، فإنه لا يلزمه شيء عند الأكثرين، لأن عشرة إلا خمسة خمسة، فكأنه قال: ليس له [علي] خمسة. وبقولنا: العام، أدخلنا ما لو قال: ليس له علي شيء إلا خمسة، فإنه يلزمه خمسة. وفي ((النهاية)) وجه آخر في المسألة الأولى: أنه يلزمه خمسة كهذه.

وعلى هذا لا نحتاج في قولنا: إن الاستثناء من النفي [إثبات]، إلى شرط. ثم قضية قولنا: إن الاستثناء الثاني إذا وقع بغير حرف العطف يكون صحته وفساده بالنسبة إلى ما يليه من الاستثناء منه أنه إذا قال: لفلان علي عشرة إلا خمسة إلا عشرة: أنه يلزمه خمسة، لأن الثاني باطل، لكونه مستغرقًا، والأول صحيح، لكونه غير مستغرق، فاقتصر عليه. نعم، لو انعكس الحال، فقال: له علي عشرة إلا عشرة إلا أربعة، ففيه الأوجه المذكورة في نظير المسألة من الطلاق. قال: وإن قال: له هؤلاء العبيد العشرة إلا واحدًا، لزمه تسليم تسعة، لأن الاستثناء يصح وإن كان مجهولًا، كما لو قال: له علي عشرة إلا شيئًا، فكذلك هاهنا، إذ لا فرق بين العين والدين. قال: [ويلزمه البيان]، لأن حق الغير تعلق بالمقر به منهم، فلزمه تعيين، كما لو أقر بطلاق إحدى نسائه على التعيين، أو عتق [أحد عبديه]. ثم هو بالخيار بين أن يعين من استثناه، وبين أن يعين المقر بهم التسعة، فإن نازعه المقر له في التعيين، فالقول قول المقر مع يمينه. وهكذا الحكم فيما لو قال: له هؤلاء العبيد إلا واحدًا، يصح، ويطالب بالبيان، وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب، والحسين، وغيرهما حكاية عن النصف في ((المختصر))، ولم يورد في ((الوجيز)) غيره، وقال ((الرافعي)): إنه ظاهر المذهب. وحكى في ((الوسيط)) فيها وجهًا آخر: أنه لا يصح، لأن الاستثناء إنما ورد في اللسان عن الأعداد، فلذلك يقبل، وإلا فالأصل أن رفع الإقرار السابق باطل. فإن قلت: هل يجري هذا الوجه في الصورة السابقة؟ قلت: لا إن جردت النظر إلى ما علل به، لأن العدد ثابت فيها. نعم: يمكن أن يأتي فيها [من مأخذ] سلكه الإمام في تصحيحه في نظير المسألة، وهو ما إذا أشار إلى عشرة دراهم، فقال: هذه الدراهم لفلان إلا هذا وهذا، متمسكًا بأن إضافة الإقرار إلى معين يقتضي الملك فيه نصًا، فإذا أراد الاستثناء في البعض كان راجعًا.

وأيده بأنه لو قال: له هذا الدرهم، وهذا الدرهم إلا هذا الدرهم، فلا خلاف على بطلان الاستثناء. ولو قال: له علي درهم ودرهم إلا درهمًا، كان في صحة الاستثناء خلاف. ما ذكره من التصحيح هو ما أورده الغزالي في القسم الثاني من التعليقات من كتاب الطلاق، حيث قال: لو قال: لفلان هؤلاء الأعبد الأربعة [إلا هذا، لم يصح الاستثناء بلا شك، لأن الاستثناء في المعين لا يعتاد، وهذا التعليل يرشد إلى أن هذا مخصوص بما إذا عين المخرج من الجملة، لأنه الذي يعني بالاستثناء، أما إذا لم يعينه، بل أبهمه، كما إذا قال: له هؤلاء الأربعة] إلا واحدًا، فلا، وحينئذ فلا يكون منافيًا لما ذكره هنا. لكن [لك أن تقول]: الغزالي ساق ذلك لتأييد مذهب القاضي فيما إذا قال لنسائه: أربعتكن طوالق إلا فلانة: أنه لا يصح الاستثناء، لأنه صرح بالأربع، وأوقع عليهن الطلاق، وهذا يدل على أنه عنى بالاستثاء المستثنى منه، وإلا لم يحصل التأييد، وحينئذ تتوجه المؤاخذة. وقد قال القاضي: لو قال: أربعتكن إلا فلانة طوالق، صح الاستثناء، ونظيره في مسألتنا: أن يقول: هؤلاء الأعبد العشرة إلا هذا لفلان، فيصح جزمًا. ثم قال الغزالي: والمسألة- أي في الطلاق- محتملة، إذ لا يلوح الفرق بين عدد [المطلقات وعدد] الطلقات، ولا بين التقديم والتأخير. قال: فإن ماتوا إلا واحدًا، فذكر أنه [هو] المستثنى، قبل منه على المذهب، لاحتمال صدقه، والأصل ثبوت يده عليه، وبقاء تصرفه فيه، وهذا ما حكاه أبو الطيب والماوردي وغيرهما وجهًا، وصححوه، وقال الإمام: إنه الذي قطع به الأصحاب. وغيرهم قال ما قاله الشيخ. وقيل: لا يقبل، لأنه يرفع به حكم الإقرار، فأشبه ما لو قال: له [علي] ألف إلا ثوبًا، وفسر الثوب بما يستغرق [قيمة] الألف.

والقائلون بالأول فرقوا بأن الاستثناء هنا قد صح وقت الإقرار، وتفسيره لا يرفع الجميع، وإنا يظهر به تعذر تسليم المقر به، لموتهم، لا لمعنى يرجع إلى الإقرار، فأشبه ما لو ماتوا بعد البيان، بخلاف المسألة المقيس عليها، فإن التفسير يرفع جملة المقر به. ولو قتلوا إلا واحدًا، فذكر أنه [هو] المستثنى، قبل وجهًا واحدًا وإن كان الحي أقل قيمة، لأن حق المقر له يتعلق بقيمة المقتولين، وقد ادعى القاضي أبو الطيب في ذلك الإجماع. ومن هنا يظهر: أنه لو قتلهم من لا ضمان عليه، كان كما لو ماتوا، وأنه لو قال: غصبت هؤلاء العبيد إلا واحدًا، فماتوا كلهم إلا واحدًا، فذكر أنه [هو] المستثنى: أنه يقبل، كما قال الأصحاب كافة، لأن أثر الإقرار يبقى في مطالبته بقيمة الموتى. فرع: لو مات المقر قبل البيان، قام وارثه مقامه، قاله القاضي الحسين. قال: وإن قال: له هذه الدار إلا هذا البيت، أو هذه الدار له وهذا البيت لي- قبل منه: أما في الأولى، فلأن ما أتى به صيغة استثناء، فعمل بموجبه، كما يعمل به عند الاستثناء من الأعداد، وهكذا الحكم فيما لو قال: له هذا الخاتم إلا هذا الفص ونحوه. وأما في الثانية، فلأنه أخرج البعض بلفظ متصل، فأشبه الاستثناء، بل هو أبين منه، لأنه تصريح بمعنى الاستثناء، فكان أولى بالصحة، وهذا ما حكاه الإمام عن صاحب ((التخليص))، والقاضي الحسين عن القفال، وقال: إنه يشكل بما لو قال: هذه الدار لزيد، وهذا البيت لعمرو، أو هذه الشاة لزيد، وحملها لعمرو- فإنه

يحكم بالدار والبيت والشاة والحمل لزيد، لأنه لو سكت على قوله: هذه الدار وهذه الشاة لزيد، كان يستحق ذلك [كله، فكان رجوعًا عن بعض الإقرار، بخلاف ما لو استثنى ذلك]، لأن الاستثناء لبيان ما بدأ به من الكلام، كالتخصيص إذا ورد على العموم. نعم، لو قال: هذا البيت لعمرو والحمل [له] والدار والشاة لزيد، سلم لعمرو البيت والحمل وهذا من القاضي تفريع على أمرين: أحدهما: أن الإقرار بالشاة إقرار بالحمل، وسنذكر فيه ما يمكن ذكره. والثاني: أن الإقرار بالحمل المجرد يصح كالإقرار للحمل كما أبداه الماوردي احتمالًا بعد أن حكى أن المزني نقل في ((جامعة الكبير)): أن الإقرار بالحمل باطل، لأنه لا يصح أن يملك منفردًا ببيع ولا هبة ولا ميراث. قلت: وهذا يظهر أنه مفرع على أن الإقرار المطلق لا يصح إلا إذا أمكن أن يكون سببه من الأسباب الغالبة: كالبياعات والإتلافات، كما تقدم ذكره عند إطلاق الإقرار للحمل. أما إذا لم يمكن أن يكون سببه إلا نادرًا: كالوصية، فلا، وقد تقدم أن الصحيح صحة الإقرار المطلق إذا أمكن أن يكون له سبب صحيح وإن كان نادرًا، وقضيته أن يكون الصحيح صحة الإقرار بالحمل كما ذكره الماوردي، لأنه تصح الوصية به، ولهذا لو أقر بالحمل وعزاه إلى وصية، صح جزما. ثم مسألة الكتاب مفرعة على الصحيح في أن الاستثناء من غير الأعداد جائز، وإلا فقد حكى الغزالي الوجه السابق فيها، وطره فيما إذا قال: هذا الخاتم له إلا هذا الفص. قال: وإن قال: له هذه الدار عارية، فله أن يرجع فيها متى شاء، لأن قوله: له هذه الدار، ليس صريحًا في الملك إلا إذا تجرد، أما إذا اقترن به ما يقدح فيه مع احتماله فلا. قال الماوردي: فإن قيل: هلا كان على قولين من قوليه فيمن قال: له علي ألف قضيتها؟

قيل: الفرق: أنه في ادعاء القضاء رافع لكل ما تقدم، فلم يقبل، وهو في قوله: عارية، مثبت لحكم ما تقدم على صفة محتملة، فقبل. وقال صاحب ((التقريب)): ينبغي أن يتخرج ذلك على ما لو قال: له علي ألف من ثمن خمر، لأن آخر كلامه يرفع أوله. وليس بشيء، والفرق ما ذكره الماوردي. وأيضًا: فإن الإضافة إلى العارية حقيقة، بخلاف الخمر، فإنه لا يملك حقيقة، [وهكذا الحكم] فيما لو قال: له هذه الدار هبة عارية. فرع: لو قال: لك سكنى هذه الدار، قال الماوردي: فهو إقرار لازم، [تلك السكنى عن إجارة في الظاهر، فإن ادعاها، وطلب الأجرة، لزم المقر له دفع الأجرة إن قبل الإقرار،] وإن رده فلا أجرة عليه، كما لا سكنى له. قال: وإن قال: له هذه الدار هبة، فله أن يمتنع من التسليم، لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض، وهو إلى خيرة الواهب، وإقراره لم يتضمنه. ولا فرق بين أن تكون الدار في يد المقر له بالهبة أو لا. وعن صاحب التقريب: أن ذلك يتخرج على ما لو قال: له علي ألف من ثمن خمر. قال الغزالي: وهو فاسد. وقال القاضي أبو الطيب: إن من أصحابنا من قال: إذا كانت في يد الموهوب له، فالقول قوله في القبض. قال ابن الصباغ: وعزوه إلى الشافعي، وهو مقول على القول الذي يقول: إذا وهب له شيئًا في يده لا يحتاج إلى الإذن في القبض، وإذا مضى زمان يمكن يه القبض، صار مقبوضًا. وقد حكي عن رواية الإمام وجه مثله فيما إذا وجد الرهن في يد المرتهن، وقال الراهن: غصبني، وقال المرتهن: بل أنت أقبضتنيه- أن القول قول المرتهن. والصحيح: أن القول قول الواهب والراهن. وعلى هذا: لو قال: وهبت منه الدار، وملكها، لم يكن- أيضًا- إقرارًا بالقبض على النص، كما حكيته في باب الهبة، فليطلب من ثم. ولو قال: وهبتها له، وخرجت إليه منها، قال ((الرافعي)): لم يكن إقرارًا بالقبض

وعن القفال الشاشي: أنه مقر به. وفي ((الحاوي)): إن كانت الدار عند الإقرار في يد الموهوب له، كان قوله: ((وخرجت إليه منها)) محمولًا على الإقباض، لأنه الظاهر من معناه، وقد رواه المزني نصًا في ((جامعه الكبير)). وإن كانت في يد المقر، سئل عن مراده [به]، فإن فسره بشيء محتمل غير القبض قبل. قال: وإن قال: له علي ألف مؤجلة- أي: إلى وقت كذا- لزمه ما أقر به، أي: مؤجلًا لأن الأجل صفة في الدين كالحلول، وإذا كان كذلك فقد أقر بدين بصفة، فلزمه ما أقر به، كما لو أقر بدراهم نقص تحالف دراهم البلد، أو دراهم مكسرة. ولأنه أحد الصفتين، فقبل قوله فيه، كالحلول. وقيل: فيه قولان: أحدهما: يلزمه ما أقر به، لما تقدم. والثاني: يلزمه ألف حالة، لأنه أقر بحق لغيره، وادعى لنفسه حقًا فقبل فيما عليه دون ما له، كما لو أقر بدار وادعى سكناها لنفسه سنة بإجارة. ويفارق الإقرار بالحال، لأن ذلك مجرد حق عليه، وعلى هذا يلزم المقر له اليمين على الحلول [عليه] عند الطلب. والصحيح الأول وإن ثبت الخلاف، وللقائلين به أن يمنعوا كون الإقرار بالحلول مجرد حق عليه، بل فيه حق له، وهو الإجبار على القبض وغيره كما تقدم. ثم هذا إذا ذكر الأجل متصلًا باللفظ، ولم يبين سبب الدين، أو بينه، وهو يحتمل أن يثبت فيه الأجل، وألا يثبت: كالبيع ونحوه. فلو ذكره مفصولًا، لم يقبل قوله فيه قولًا واحدًا، وكذا لو ذكره موصولًا وقال: إن سبب الدين قرض. ولو قال: إن سببه تحمل عقل، فإن صدر به كلامه، فقال: ابن عمي قتل فلانًا خطأ ولورثه ذلك القتيل من ديته في ذمتي كذا مؤجلًا إلى سنة انتهاؤها كذا- فلا خلاف في القبول.

ولو جعله عجز كلامه، فقال: له علي كذا، من جهة تحمل العقل مؤجلًا إلى وقت كذا، ففيه- تفريعًا على طريقة القولين في المسالة السابقة- طريقان: إحداهما- وهي التي أوردها في ((الوجيز))، والقاضي الحسين، ونسبها الإمام إلى المحققين- القطع بالقبول. والثانية: طرد القولين. قال ((الرافعي)): وهي الأظهر، لأن أول كلامه ملزم لو اقتصرت عليه، وهو في الإسناد إلى تلك الجهة مدع، كما في التأجيل. فرع: لو شهد عليه شاهدان بألف، فقال: له علي ألف، لكنه مؤجل- حكى ((الرافعي)) في أوائل كتاب الدعاوى عن القفال: أنه تسقط الشهادة، وهو قضية ما حكاه عن القاضي أبي الطيب في أول هذا الباب. ثم قال القفال: وهذا شخص قد أقر لغيره بدين مؤجل، ففي قبوله في الأجل الخلاف. وقد قال البندنيجي في كتاب الدعاوى، والقاضي أبو الطيب في أواخر باب الدعوى على كتاب أبي حنيفة: أنه لا يقبل قوله في الأجل قولًا واحدًا، كما لو قامت عليه بينة بعشرة دراهم، فقال: إلا درهم. قلت: وعلى قضية ما قاله القفال يظهر أن يجيء في المسالة ما حكيته عند الكلام فيما إذا شهد عليه بحد لله تعالى، فأقر به، ثم رجع عنه. قال: وإن قال: [له] علي ألف من ثمن خمر، أو: ألف قضيتها- ففيه قولان: أحدهما: يلزمه، لأنه وصل بإقراره ما يرفعه، فأشبه ما لو قال: له علي ألف إلا ألفًا، وهذا ما صححه العراقيون، وغيرهم في الأولى، وهو في الثانية من طريق الأولى. وعلى هذا: للمقر تحليف المقر له على نفي كونه ثمن خمر، وعلى عدم القضاء. والثاني: لا يلزمه، لأن الكلام إنما يتم بآخره، لا يفصل آخره عن أوله، ولا أوله عن آخره، [كما لو قال: لا إله إلا الله، لا يفصل أول الكلام عن آخره] حتى يكون كفرًا ثم إيمانًا، وقد وصل بالكلمة الأولى ما هو محتمل وجائز عرفًا،

فوجب ألا يتبعض ولو رفع الأول، كما لو قال: أنت طالق- أو حرة- إن شاء الله تعالى. ولأن الإقرار إخبار عما جرى، وما ذكره جار بين الناس، فاعتضد قوله بالظاهر، وفراغ ذمته، وهذا ما اختاره المزني وأبو إسحاق والفرق بين ذلك والاستثناء المستغرق: أنه في الاستثناء وصل الإقرار بما يرفعه من الوجه الذي أثبته، فلم يقبل، وهذا ليس كذلك، ويخالف قوله: علي ألف مؤجل، حيث قطع فيه بالقبول على طريقة، لأنه ثم لم يرفع جملة الإقرار، فقبل كالاستثناء وهنا رفع جملته. وعلى هذا للمقر له تحليف المقر أنه كان من ثمن خمر، وأنه قضاه. وقيل في المسألة الثانية: يلزمه قولًا واحدًا، وهي التي صححها الغزالي، وادعى الإمام في [أثناء الكلام في] مسائل التفسير بالوديعة: أنها المذهب، ولم يحك الفوراني غيرها، لتناقض قوله، فإنه يصير كما لو قال: له علي ألف لا يلزمني، وهنا مما لا خلاف فيه، وهو كما لو قال: هذه الدار لفلان، وكانت لي إلى أن أنشأت الإقرار، فإن إقراره بالملك نافذ، وقوله: كانت لي لغو مطرح، كذا قاله الإمام هنا، ويوافقه قوله في آخر كتاب اللقيط: ول أقر بكون الشيء ملكًا له، وعزاه إلى نفسه، ثم أقر به لإنسان من غير أن يتخلل بين الإقرارين ما يتضمن نقل الملك، فإقراره لذلك الإنسان مقبول، وهذا بخلاف ما لو قال: داري أو ثوبي المملوك لي لفلان، فإن الإقرار باطل، نص عليه الشافعي، كما قال الغزالي. [قال]: ولم يحمل قوله: داري، على إرادة الإضافة بالسكون أو المعرفة وإن كان له اتجاه. والصحيح عند الجمهور طريقة القولين. والطريقان جريان فيما لو قال: لفلان علي ألف أبرأني منها. والقولان جاريان- كما قال الأصحاب- فيما ينتظم لفظه في العادة، ولكنه يبطل حكمه شرعًا، كما إذا أضاف المقر به إلى بيع فاسد: كالبيع بأجل مجهول، أو بخيار مجهول، أو قال: تكفلت ببدن فلان بشرط الخيار، أو ضمنت لفلان كذا

بشرط الخيار، وما أشبه ذلك، وهما في الحالة الأخيرة منصوص عليهما كما قال الماوردي، وألحق بها ما تقدم من الصور قال ((الرافعي)): وفي كلام الأئمة ذكر مأخذين لهذا الخلاف: أحدهما: بناؤه على القولين في تبعيض الشهادة إذا شهد لابنه وأجنبي. ولك أن تقول: هذا لا يشبه مسألة الشهادة، لأ، الشهادة تقول: هذا لا يشبه مسألة الشهادة، لأن الشهادة للأجنبي والشهادة للابن أمران لا تعلق لأحدهما بالآخر، وإنما قرن الشاهد بينهما لفظًا، والخلاف فيها يشبه الخلاف في تفريق الصفقة، وأما هنا فالمذكور أولًا مسند إلى المذكور آخرًا، ولكنه فاسد مفسد للأول، ولهذا لو قدم الإضافة إلى ثمن الخمر، فقال: لفلان من ثمن خمر علي ألف، لا يلزمه شيء بحال. قلت: كما نص عليه الشافعي، كذا حكاه القاضي الحسين في باب التيمم من ((الفتاوى)). ويؤيده ما حكاه الماوردي فيما إذا قال: إنما ضمنت لك هذا بشرط الخيار- أنه يقبل قوله قولًا واحدًا، لأن صيغة ((إنما)) تقتضي أن يتصل الضمان بغيره، فصار كالمتقدم ذكره. قال ((الرافعي)): وفي الشهادة لا فرق بين أن يقدم ذكر الأب أو الأجنبي، ثم هب أنهما متقاربان، لكن ليس بناء الخلاف في الإقرار على الخلاف في الشهادة بأولى من العكس. والثاني: أنه يجوز بناء هذا الخلاف على الخلاف في حد المدعي والمدعى عليه، فإن قلنا: المدلي [من] لو سكت تركناه وسكوته، فهاهنا لو سكت عن قوله: من ثمن خمر لترك فهو بإضافته إلى الخمر مدعٍ، فلا يقبل قوله، ويحلف المقر له. وإن قلنا: المدعي: من يدعي أمرًا باطنًا، فهو هنا المقر له، لأنه يدعي شغل الذمة، والأصل البراءة، فيكون القول قول المقر. ولك أن تقول: لو صح هذا البناء لما افترق الحال بين أن يضيفه إلى الخمر موصولًا أو مفصولًا، ولا خلاف في عدم قبوله إذا أضافه مفصولًا، ولوجب أن يخرج التعقب بالاستثناء علي هذا الخلاف.

وقال الإمام بعد ذكر القولين في الخمر والضمان: وكنت أود لو فصل فاصل بين أن يكون المقر جاهلًا بأن ثمن الخمر لا يلزم، وأن الضمان مع شرط الخيار لا يلزم، وبين أن يكون عالمًا بذلك، فكان يعذر الجاهل دون العالم، ولكن لم يصر إليه أحد من الأصحاب. واعلم أنه كثيرًا ما يطلب الفرق بين ما حكاه الشيخ هنا من القولين في قوله: له علي ألف [قضيتها]، وبين ما حكاه من الجزم فيما إذا قال: برئت إليه مما يدعيه، أو: قضيته أنه لا يقبل قوله في البراءة والقضاء إلا ببينة كما هو الصحيح، وإن كنا قد حكينا عن البندنيجي وابن الصباغ ثم: أنه علي القولين أيضًا. ويظهر أن يقال- والله أعلم: إن قوله: برئت إليه، أو: قضيته لفظ واحد تضمن الإقرار والبراءة، والشيء الواحد لا يستعمل في الشيء وضده لغة وعرفًا وشرعًا، فأبطلناه فيما له، وصححناه فيما عليه. وقوله: له علي ألف قضيتها لفظان، اقتضى أحدهما الشغل، وهو قوله: [له] علي ألف، والآخر البراءة، وهو قوله: قضيتها، وذلك منتظم لفظًا، واقع استعماله فيما نحن فيه عرفًا وإن امتنع شرعًا وعقلًا، فلا جرم خرج على القولين، والله أعلم. فرع: إذا ادعى عليه مائة درهم، فقال: قضيتك منها خمسين- حكى القاضي أبو الطيب وغيره في أواخر باب الدعوى على كتاب أبي حنيفة: أن الشافعي نص في الأم على أن يكون مقرًا بالخمسين، مدعيًا لقضائها، فأقبل منه الاعتراف دون القضاء. قال القاضي وغيره: وهذا ينبني على أن من ادعى عليه ألف، فقال: صدقت، ولكني قضيتك إياها، فقد اعترف بالألف وادعى القضاء، وفيه قولان، فإن قبلنا قول المقر في القضاء، لم يلزمه هنا قضاء الخمسين، وإلا لزمه. وأما الخمسون الأخرى، فإنه ما أقر بها، لأن قوله: منها يحتمل عوده إلى الدعوى، والله أعلم. قال: وإن قال: له [علي] ألف من ثمن مبيع لم يلزمه حتى يقر بقبض

المبيع، أي: سواء عين المبيع أو لم يعنيه. قال الماوردي: لأن عقد المعاوضة جمع ثمنًا ومثمنًا، فلما كان إقراره بالثمن من عبد باعه غير لازم له، إلا أن يقر بقبض ثمنه، كذلك إقراره بثمن عبد ابتاعه غير لازم له، إلا أن يقر بقبض الذي ابتاعه، وتحريره قياسًا: أنه أحد نوعي ما تضمنه العقد من عوض، فوجب أن يكون لزوم الإقرار به موقوفًا على لزوم ما في مقابله، قياسًا على المبيع، وهذا ما نص عليه الشافعي في ((المختصر))، ولم يحك الماوردي، والعراقيون سواه. وحكى المراوزة فيما إذا قال: له علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه، فإن سلم سلمت- طريقين كما في الإقرار بالدين المؤجل: أحدهما: القطع بأنه لا يلزمه حتى يقر بقبض المبيع. والثاني: في المسألة قولان: أحدهما: هذا. والثاني: لا يقبل قوله في أنه عن ثمن مبيع، ويلزمه في الحال، وهذا الطريق يجري فيما ذكره الشيخ من طريق الأولى. والصحيح الأول، وألحق به الماوردي ما إذا قال: أقرضني ألفًا، ثم قال: لم أقبضها، فإن القول قوله عنده، ولا يلزمه الألف، لأن القبض يلزم القرض، فإذا لم يصرح به المقر في إقراره، فليس يقر بلزومه. قال الفوراني: ولو قال: اشتريت منه سلعة بألف، فإن سلمها لي سلمتها إليه- فقول واحد: إن قوله مقبول. قال: وإن قال: له علي ألف درهم نقص. اعلم أن الدرهم [في] حقيقته عبارة عن وزن وقدر معلوم، قد يعبر به عن المضروب، غير أن الحكم فيه متعلق بالقدر منه، كذا قاله الماوردي هنا، وقال في كتاب السرقة: إنه كان للناس قبل الإسلام درهمان: أكبرهما البغلي، وزنه: ثمانية دوانيق، وأصغرهما الطبري، وزنه أربعة دوانيق، فجمع بينهما في الإسلام،

وأخذ نصفهما، فكان ستة دوانيق، وهي دراهم الإسلام يعدل على عشرة منها سبع مثاقيل، لأن المثقال لم يختلف. والدانق- كما قال هنا، وتبعه الروياني-: ثاني حبات. [وحكى ((الرافعي)) عن ابن سريج وأبي عبيد القاسم بن سلام: أنه ثمانية حبات]، وخمسا حبة من الشعير المتوسط الذي لم يتغير، وتكون كل حبة مقطوعًا من طرفها ما دق وطال، وقد قال هنا- وكذا القاضي أبو الطيب، والحسين-: إن لهم درهمًا آخر يسمى: الخوارزمي، وزنه أربعة دوانيق ونصف. وقال القاضي الحسين إن لهم درهمًا آخر، وزنه سدس أو اقل. فإذا عرفت ذلك بنيت عليه مسألة الكتاب، وهي إذا قال: له علي ألف درهم نقص، لزمه ناقصة الوزن، لأن وصفه إياها بأنها نقص بمنزلة الاستثناء، لأنه ينقص بعض المقدار الذي أفاده الإطلاق. وعلى هذا ينظر: إن كان قوله: نقص متصلًا، يقبل، وإن كان منفصلًا فلا، ويلزمه ألف وازنة من دراهم الإسلام. وقيل في المسألة قولان، بناء على تبعيض الإقرار: أحدهما: ما ذكره الشيخ. والثاني: يلزمه ألف بوزن الإسلام، لأنه أقر بجملة ثم نفاها، وأثبت غيرها، فلم يقبل النفي، كما لو قال: له علي ألف بل خمسمائة، وقد نسبت هذه الطريقة إلى أبي علي بن خيران. والذي أورده القاضي أبو الطيب الطريقة التي أوردها الشيخ، لكن هل يلزمه من الدراهم الطبرية أو الخوارزمية أو الدراهم الأخرى؟ لم أر فيه نقلًا، ويظهر أن يقال: يرجع إليه في التفسير، فإنه تعذر بيانه، نزل على أقل درهم، لأنا قد قلنا: إن ذلك ينزل منزلة الاستثناء، وقد تقدم أنه لو قال: له علي عشرة إلا خمسة، أو ستة، لزمه الأقل، وهو أربعة، لأنه المحقق، فكذا هنا. قال: وإن قال: [له علي] ألف درهم، وهو في بلد أوزانهم ناقصة، لزمه من دراهم البلد على المنصوص- أي: في كتاب الإقرار والمواهب- لأنه

المعروف فيها، فنزل عليه كما ينزل مطلق الثمن في البيع عليه، وهذا ما اختاره القاضي أبو حامد. وقيل: يلزمه ألف وازنة، حملًا للمطلق على المعهود في الإسلام وأكثر البلدان. قلت: ويمكن بناء الخلاف في ذلك أن الاصطلاح الخاص هل ينزل منزلة الاصطلاح العام أم لا؟ كما تقدم في مواضع، ومنها: إذا توافق الزوجان على تسمية ألف في عقد النكاح ألفين. لكن قضية ذلك- لو صح- أن يكون الصحيح لزوم الألف وازنة، لأن الصحيح ثم لزوم الألفين، وقد اختاره الشيخ أبو حامد هنا، وفرق بينه وبين البيع بأن الإقرار إخبار عن حق سابق، وهو يصح مع الجهالة، فلم يكن للعرف فيه مدخل، والبيع إيجاب في الحال تنافيه الجهالة، فأثر فيه العرف، تشوفًا للتصحيح. لكن الصحيح هو المنصوص، وهو المختار في ((المرشد)). ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن ما ذكره هو الحكم عند الإطلاق، وهو ما أورده في ((الشامل))، تبعًا للقاضي أبي الطيب. وفي ((المهذب)): أن محل الخلاف عند دعواه إرادة ذلك مفصولًا عن الإقرار، أما عند الإطلاق فيلزمه من دراهم الإسلام، وعلى ذلك ينطلق إيراد الماوردي والقاضي الحسين. ولا خلاف أنه لو قال- والصورة هذه- له علي ألف درهم نقص: أنه لا يلزمه غيرها، صرح به القاضي الحسين. وقد فرع ابن القاص على المنصوص ما لو قال: [له علي] ألف درهم، وكان في بلد يتعاملون فيها بالدراهم عددًا: أنه يجب أن يكون عددًا [غير موزونة]، اعتبار بعادتهم. وقول الشافعي في الإقرار والمواهب: ((إذا قال: له علي مائة عددًا، فيه وازنة)) - مفروض فيما إذا كان ذلك في بلد يتعاملون بالوازنة، ويلزمه أن تكون عددًا بحكم اللفظ، ووازنة بحكم الاسم، لأن كونها عددًا لا ينافي الوزن.

ولا يشترط أن يكون كل واحد ستة دوانيق، بل المعتبر أن يكون وزن المائة مائة، قاله في ((التهذيب)). ثم الوجهان في مسألة الكتاب- كما قال القاضي الحسين و ((الرافعي)) - جاريان فيما إذا أطلق لفظ الدراهم في بلد أوزانهم أكثر من دراهم الإسلام: كغزنة، هل يحمل على دراهم تلك البلد، أو على دراهم الإسلام؟ فإن قلنا: يلزمه من دراهم تلك البلد، فقال: أردت دراهم الإسلام، فإن قاله منفصلًا، لم يقبل، وإن قاله متصلًا، ففيه الطريقان. والأصح- كما تقدم- القبول. ولو أطلق لفظ الدراهم في بلد أوزانهم وافية، ثم قال- مفصولًا-: أردت النقص، فالمشهور: أنه لا يقبل منه، كما إذا ذكر الاستثناء منفصلًا. وحكى ((الرافعي)) أن الروياني حكى عن جماعة الأصحاب القبول، واختاره، لأن اللفظ محتمل له، والأصل براءة الذمة، ثم قال: وهو غريب. قال: وإن قال: له درهم صغير، وهو في [بلد] أوزانهم وافية، لزمه صغير، أي: في القدر- وازن منها، أي: ولا يكون قوله: صغير بمنزلة قوله: درهم ناقص، لأن لفظ الدرهم صريح في الوازن، والوصف بالصغير يجوز أن يكون من حيث الشكل، ويجوز أن يكون بالإضافة إلى الدرهم البغلي، فلا يترك الصريح بالاحتمال. قال القاضي الحسين: ولأن درهم الإسلام صغير بالنسبة إلى الدرهم البغلي. أما إذا كان في البلد أوزانهم ناقصة، ففي ((الشامل)): أنه يلزمه ناقص منها. وقضية ما أورده الإمام، ومن تبعه: أن يجيء فيه الخلاف السابق فيما إذا أطلق لفظ الدرهم في بلد أوزانهم ناقصة، لأنهما قالا: إن قوله: له علي درهم [صغير، كقوله: له علي درهم]. قال ((الرافعي)): ويشبه أن يكون هذا هو الأظهر، لأنا لا نفرق بين أن يقول: مال، وبين أن يقول: مال صغير، فكذلك في الدراهم، وهو ظاهر ما ذكره في ((المختصر)). وعن الشيخ أبي حامد ومن تابعه: أنه إذا قال: درهم صغير، لزمه من الدراهم

الطبرية، لأنه أصغر من دراهم الإسلام، فتؤخذ باليقين، وأنهم لم يفرقوا بين بلدة وبلدة وهو قضية ما [قاله] في ((الحاوي)). وقال في ((التهذيب)): إذا قال: له علي درهم صغير، فإن كان بطبرية، يلزمه من نقد البلد، وإن كان ببلد وزنه وزن مكة فعليه وزن مكة، وكذلك إن كان بغزنة. قال ((الرافعي)): ولك أن تقول: الجواب فيما إذا كان بطبرية لا يلائم الجواب فيما إذا كان بغزنة، لأنا إما أن نعتبر اللفظ، أو عرف البلد: إن اعتبرنا اللفظ فليجب الوازن بطبرية. وإن اعتبرنا عرف البلد، فليجب نقد البلد بغزنة. قلت: الذي أتبعه قسم آخر وهو الظهور، ولا شك في أن الظاهر: إرادته الناقص فيما إذا كان [بطبرية، وأما إذا كان] بمكة، فاحتمال إرادة الصغر في الوزن مساوٍ لاحتمال إرادة الصغر في الجثة، والدرهم- كما ذكرنا- صريح في درهم [الإسلام]، فقوي بذلك أحد الاحتمالين، وبه حصل الظهور. وإذا كان بغزنة فلا شك أن درهم الإسلام ناقص [وصغير] بالنسبة إلى درهم غزنة، وإذا كان كذلك فاحتمال إرادة الصغر في الوزن مساوٍ لاحتمال إرادة الصغر في الجثة، وقد قلنا: إن الدراهم صريح في الدرهم الإسلامي، فقوي به احتمال إرادة الصغر في الوزن، وذلك يفيد الظهور، والله أعلم. وقد ألحق الغزالي وإمامه قوله: علي درهم، بقوله: درهم صغير، فيما ذكراه فيه، ووافقهم عليه البغوي. قال: وإن قال: له [علي] درهم كبير، وفي البلد دراهم كبار القدود، لزمه درهم وازن منها، عملًا بحكم الاسم واللفظ، لأنه أمكن اجتماعهما، وهذا كما قلنا فيما إذا قال: له علي مائة درهم عددًا في بلد أوزانهم وافية. والقدود- بضم القاف والدال- جمع: قد، وهو الجسم والجرم، والمراد به هنا الاتساع. قال: وإن قال: ألف درهم زيف، ففسره بما لا فضة فيها- أي:

كالفلوس المضروبة- لم يقبل، لأن ما [لا] فضة فيها لا تسمى: دراهم. ولا فرق بين أن يقولك ذلك مفصولًا، أو موصولًا، قاله [القاضيان: أبو الطيب، والحسين]. قال ابن يونس: ومن أصحابنا من قال: إذا قاله موصولًا، قبل. قال: وإن فسره بمغشوش، قبل على ظاهر المذهب، لأنها تسمى دراهم. قال القاضي أبو الطيب: ولا فرق في ذلك بين أن يقوله متصلًا، أو منفصلًا. وقيل: لا يقبل إلا أن يكون متصلًا بالإقرار-[أي: قوله: ((إنها زيف))]، لأن ذلك نقصان فيما أقر به، فاعتبر فيه الاتصال، كالاستثناء. ومحل هذا الخلاف- كما قال الماوردي-: إذا كان الإقرار في بلد يتعاملون فيها بالمغشوش، فإن كان في بلد لا يتعاملون فيها [به]، لم يقبل تفسيرها منفصلًا قولًا واحدًا، وعليه ينطبق قوله في ((المهذب))، وكذلك ((الرافعي))، تبعًا للشيخ أبي حامد: إن الحكم فيها كالحكم في التفسير بالدراهم الطبرية، لأن هذا حكمها إن وصل التفسير بالناقصة بالإقرار في بلد أوزانهم ناقصة، لم يلزمه غيرها، وإن فصله عنه، فظاهر النص: أن الحكم كذلك. وقيل: يلزمه ألف وازنة. وإن قال ذلك في بلد أوزانهم وافية، لم يقبل قولًا واحدًا. تبنيه: قوله ((زيف)) بضم الزاي، وتشديد الياء المفتوحة، ومجموعة: زائف، يقال: درهم زائف، ودرهم زيف بفتح الزاي وإسكان الياء.

والمغشوش من الدراهم: هو الذي فيه نحاس، أو غيره، يقال: غشه يغشه غشًا بكسر الغين. قال: وإن قال: له علي دراهم، ففسرها بسكة غير البلد- قبل منه، كما لو أقر بثوب أو عبد مطلق، لا يلزمه ما هو ملبوس عامة أهل البلد، وجنس عبيدهم. ولأن الإقرار إخبار عن سابق، والجهالة لا تنافيه، فثبت مجهولًا، ورجع في التفسير إليه، لاحتمال صدقه، وهذا ما نص عليه. وقال المزني: لا يقبل منه، ويلزمه من نقد البلد، كما لا يقبل تفسيره بالناقصة، وقياسًا على الثمن المطلق في البيع، وقد حكاه الشيخ أبو حامد عن غيره من الأصحاب. والصحيح: المنصوص، ويخالف ما لو فسر بالناقصة [إن لم نقبل]، لأنه ثم رفع [بعض] ما أقر به، ولا كذلك هنا. والفرق بينه وبين البيع، حيث ينزل مطلقه على سكة البلد، لأنه إيجاب في الحال، تنافيه الجهالة، فحمل على عرف البلد، تصحيحًا للعقد، بخلاف الإقرار. والسكة هاهنا: الحديدة المنقوشة، تضرب عليها الدراهم، فعبر الشيخ بالسكة عن الضرب، تبعًا للشافعي، رحمه الله. والحكم فيما لو أقر بدراهم في بلد دراهمها بيض النقرة أن له التفسير بقوة السوداء. قال: وإن قال: له عندي ألف، ففسرها بدين، قبل منه، لأن هذا اللفظ يحتمله، ويستعمل له. فإن قيل: لفظة ((عندي)) تستعمل في الأعيان، فكيف يقبل التفسير بالدين؟ قيل: قد يكون سببه عينًا مغصوبة، أو أمانة يتعدى فيها. قال: وإن قال: له علي ألف وديعة، أي: ونازعه المقر له، وقال: الوديعة غيرها- فهي وديعة، لأن لفظة ((على)) تقتضي الإيجاب، والوديعة يجب حفظها،

والتمكن منها، [فوافق آخر كلامه أوله، فقبل منه. قال: فإن قال: كان عندي أنها باقية، أي: حين أقررت، فإذا إنها هالكة، لم يقبل، لأنه أقر بوجوب التمكين منها]، فلم يقبل رجوعه عنه. قال: وإن ادعى أنها هلكت بعد الإقرار، قبل منه، لأن ما ادعاه محتمل، ولا مناقضة بينه وبين إقراره الأول، بل يلائمه، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب، والحسين، وغيرهما. وحكى الإمام عن المراوزة، وصاحب التقريب في أصل المسألة: أنه لا يلزمه إلا ألف واحد. ولكن هل تكون مضمونة عليه أم لا؟ فيه قولان. أحدهما: أنها مضمونة عليه، أخذا بقوله: ((علي)) في أول إقراره، وعلى هذا لا يقبل قوله في التلف بعد الإقرار، ولا في البرد، كما قاله في ((التهذيب)). والثاني: لا، فإن الكلام بآخره، وعلى هذا يكون الحكم كما ذكره الشيخ. وأصل القولين- كما قال-: له علي ألف مؤجل إلى شهر، هل يقبل قوله في الأجل أم لا؟ وأشار في ((التهذيب)) إلى أنهما مبنيان على أن قبول قوله في لزوم ألف واحد كان لماذا؟ وفيه معنيان: أحدهما: لأن عليه التخلية بينها وبين المالك. والثاني: لأنه يحتمل أن يكون قد تعدى فيها، فإن قلنا بالأول، لم تكن مضمونة عليه، وإلا كانت مضمونة، وجزم بأنه إذا أحضرها لا يلزمه غيرها. وفي ((النهاية)) حكاية عن العراقيين: أنهم قالوا: إذا قلنا فيما إذا قال: له علي ألف، ثم فسرها بوديعة-: لا يقبل، فهاهنا قولان: أحدهما: يلزمه ألفان. والثاني: ألف. وأن مأخذهما ما لو قال: له علي ألف من ثمن خمر، وقد نسبهما ((الرافعي))

إلى تخريج أبي إسحاق من قوليه فيما إذا قال: كان له علي ألف قضيتها، هل يقبل أم لا. والمشهور ما ذكره الشيخ، بل ادعى القاضي أبو الطيب إجماعنا مع الخصم عليه، كما سنذكره. وفي ((العدة)) و ((الإبانة)): أنه لو قال: له علي ألف دفعها إلى وديعة، فالقول قوله. ولو قال: له علي ألف أخذتها منه وديعة، قال المتقدمون من أصحابنا: هو كما لو قال: دفعها إلى. وقال أبو حنيفة: لا يقبل قول، لأن [الأخذ يقتضي الغصب ظاهرًا]، فإذا ادعى الوديعة لم يقبل، وأن القفال قال: يحتمل أن يكون هذا مذهبًا. وفي ((التهذيب)) فيما إذا قال: دفع لي فلان ألفًا، ثم فسره بوديعة، وقال: تلفت- قبل. وكذلك لو قال: أخذت [أو قبضت] من فلان ألفًا، ثم فسره بوديعة، يقبل. وقال أبو حنيفة في الثانية: إن القول قول المقر له إذا ادعى الغصب، وبه قال القفال. ولو قال: أخذت من لافن وديعة، فعند أبي حنيفة لا يقبل التفسير. وعلى رأي القفال يكون على قولي تبعيض الإقرار، وقد ذكرت هذا الفرع في آخر باب العارية، فليطلب منه. قال: وإن قال: له علي ألف، ثم فسرها بوديعة- أي: وأحضرها- ونازعه المقر له، فقال: هذه الوديعة، والذي أقررت به غيرها، قبل- أي: التفسير- لأن كلمة ((علي)) كما تقتضي إيجاب شيء [في الذمة، تقتضي إيجاب شيء] معين من وجوب حفظ، وتمكن من رد، أو رد، وقد فسر لفظه بأحد محتمليه، فقبل مع أن الأصل براءة ذمته. ولأنه يجوز أن يريد بلفظة ((علي)) عندي، وذلك سائغ لغة، قال الله تعالى: {عَلَيَّ ذَنْبٌ} [الشعراء:14] أي: عندي.

ولو قال: له عندي ألف، ثم فسره بوديعة، قبل، فكذلك هاهنا، تحرزًا من إيجاب شيء بالاحتمال، وهذا ما نص عليه في ((المختصر)). قال الغزالي: وفي موضع آخر فإنه قال: لو قال: له علي شيء، ثم فسره بوديعة- قبل. و [هذا الحكم] هو الذي أورده صاحب التقريب، والماوردي، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والمراوزة، كما قال الإمام، ومنهم: القاضي الحسين، والفوراني. وقيل: لا يقبل، لأن كلمة ((علي)) للإيجاب في الذمة، ألا ترى أنه لو قال: الألف التي على فلان علي، كان ذلك ضمانًا، فدل على أنها تقتضي الإيجاب في الذمة، وإذا كان كذلك، فقد التزم تفسير مال في الذمة، وجاء بمال آخر، فلم يسقط به، كما لو أقر بثوب فجاء بعبد، يكون له، ويطالب بالثوب، وهذا ما اختاره في ((المرشد)). والقائلون بالأول قالوا: قد أجمعنا على أنه لو قال: لفلان علي ألف وديعة، قبل ذلك منه، ولو كانت لفظة ((علي)) تقتضي الذمة لا غير، لوجب ألا يقبل تفسيره بالوديعة، لأنه أقر بألف، وعقبه بما يسقطه، كما لو قال: له علي ألف بل عبد، وما ذكر في مسألة الضمان إنما صح لانحصاره. وقد حكى في ((المهذب)) هذين الطريقين قولين، تبعًا للشيخ أبي حامد، فإنه حكاهما، ونسبهما إلى نصه في ((الأم))، ولم يحك الإمام عن العراقيين غيرهما، وأنهم صححوا الأول، وعليه فرعان. أحدهما: قال القاضي الحسين: يحلف بالله، إنه لا يلزمه تسليم ألف أخرى إليه، وما أراد بإقراره إلا هذه، فإن امتنع [من الحلف]، حلف المقر له، واستحق ألفين. الثاني: لو لم يتفق تسليم الألف الذي أحضره، فهل يكون مضمونًا عليه أم لا؟ ظاهر كلام الشيخ أنه يكون وديعة، لأنه قبل تفسيره بها، وهو ما صرح به ابن الصباغ في موضعين من الباب، تبعًا للقاضي أبي الطيب. وعلى هذا لو ادعى رده أو تلفه بعد الإقرار قبل قوله مع اليمين، كما في

المسألة السابقة على الأصح. وقال الإمام- حكاية عن الأصحاب-: إن الألف يكون مضمونًا عليه، لقوله: ((علي)) فلو ادعى تلفه لم يسقط عنه الضمان، وكذا لو ادعى رده لم يصدق، وهذا ما صرح به القاضي الحسين، ويوافقه قول الفوراني: إنه إذا فسر بوديعة، ولم يأت بها لا يقبل قوله. قال ((الرافعي)): والمفهوم من كلام الأصحاب الأول. واعلم أن محل الخلاف في أصل المسألة: إذا لم يقل: إنه تعدى في الوديعة، فلو قال: تعديت فيها، قال القاضي الحسين: قبل قوله، ولم يلزمه [إلا ألف] واحد، لأنها عليه. وعكس هذا لو فسر إقراره بأنها وديعة، شرط عليها ضمانها أن لو تلفت، وقد تلفت، قال القاضي الحسين- حكاية عن الأصحاب-: لا يقبل قوله، ولا تسمع دعواه، للمناقضة. ثم قال: والذي عندي: أنه تسمع دعواه، لأنه محتمل، والقول قول المقر له، لأن الظاهر معه، كما لو أقر على نفسه بألف، ثم ادعى أنها من ثمن خمر، تسمع دعواه، للاحتمال. والإمام حكى الوجهين، وأجراهما في مسألة الخمر أيضًا. قال: وإن قال: له علي ألف في ذمتى، ثم فسرها بوديعة- أي: وأتى بها- فقد قيل: يقبل، لجواز أن يكون قد تعدى فيها، فكان ضمانها في ذمته. وقيل: لا يقبل، وهو الأصح، لأنه صرح بأنها في ذمته حالة إقراره، والوديعة لا تكون في ذمته وإن تعدى فيها، وإنما تصير في الذمة بالتلف، ولا تلف، وهذا ما أورده البغوي. قال الإمام: وعلى هذا: لو أتى بألف، وادعى أنه الذي أقر في ذمته، لأنه وديعة تعدى فيها- ففي قبول قوله وجهان، وهما جاريان فيما لو قاله: له علي ألف درهم دينًا، ثم فسر بوديعة تعدى فيها. قال الإمام: ولو لم يذكر في هذه الصورة سبب الضمان بعد جدًا الحكم باتحاد الألف.

وألحق بعض الأصحاب هذا بما لو قال: في ذمتي ألف. أما لو قال: الألف الذي أقررت به بدل الألف الذي كان عندي وديعة وتلفت، قبل قوله على المشهور، ولم يحك أبو الطيب وابن الصباغ غيره، لاحتمال التعدي فيه. وفي ابن يونس حكاية وجه: أنه لا يقبل أيضًا. تنبيه:- المراد بالذمة: الذات، والنفس، لأنه في اللغة تكون بمعنى العهد، وبمعنى: الأمان، كقوله- عليه السلام-: ((يسعى بذمتهم أدناهم))، و: ((من صلى الصبح فهو في ذمة الله تعالى))، و ((لهم ذمة الله ورسوله))، وبه سمي أهل الذمة، فاصطلح الفقهاء على استعمال الذمة بمعنى: الذات، والنفس، لأنها تطلق على العهد والأمان، ومحلهما الذات والنفس، فسمى محلهما باسمهما. فرع: لو قال: له عندي ألف درهم وديعة، أو مضاربة دينًا، صح إقراره بذلك، وهو لا يحتمل غير وديعة أو مضاربة تعدى فيها، فيلزمه. ولو قال: أردت أنه شرط علي ضمانها، لم يقبل. نعم، لو قال: له عندي ألف وديعة، شرط ضمانها، قيل [و] كانت وديعة غير مضمونة، لأن ما كان أمانة لا ينقلب مضمونًا بالشرط، كعكسه. ولو قال: له علي ألف درهم وديعة دينًا بشرط الضمان إن تلفت، قال القاضي الحسين وغيره: فهذا رجل وصل بإقراره ما يسقطه، وفيه قولان. ولو قال: له علي ألف درهم عارية، لزمه ضمانها. قال في ((الشامل)) و ((المهذب)) - تبعًا للقاضي أبي الطيب وغيره-: لأن إعارة الدراهم والدنانير تصح في أحد الوجهين، فيجب ضمانها، وهو ما أورده الماوردي. وفي الوجه الثاني: لا تصح إعارتها، فيجب ضمانها، لأن ما وجب ضمانه في العقد الصحيح، وجب ضمانه في العقد الفاسد.

وقد حكى الوجهين هكذا لا غير القاضي الحسين، والإمام. وقال في ((الوسيط)): إن في طريقة المراوزة: إذا لم تصح إعارتها فهي باطلة، لأنها غير قابلة لإمكان الانتفاع أصلًا، فلا ضمان. وقد حكيناه عن القاضي والإمام في باب العارية. قال الغزالي: وعلى هذا يخرج إقراره على قولي الإضافة إلى الجهة الفاسدة. قال: وإن قال: له في هذا العبد ألف درهم، ثم فسرها بقرض أقرضه في ثمنه، أو بألف وزنها- أي: المقر له- في ثمنه لنفسه، أو بألف وصى له بها من ثمنه، أو أرش جناية جناها العبد- قبل، لأن الإقرار مبهم وما ذكره من التفسير محتمل، والعبد في يده، فقبل إقراره، ويلزمه في المسألة الأولى في ذمته، ولا تعلق لذلك بالعبد. وفي المسألة الثانية نستفسره عن كيفية الشراء؟ فإن قال: إنه انفرد بشرائه بالألف، كان العبد كله له. وإن قال: اشتريناه معًا في عقد واحد، سئل عما بذله هو أيضًا في ثمنه، فإن كان ألفا، كان العبد لهما نصفين، وإن كان ألفين، كان بينهما أثلاثا، وهكذا على النسبة. قال ابن الصباغ وغيره: ولا فرق بين أن يكون ما ذكره قيمة العبد، أو أقل، أو أكثر، لأنه قد يعين، وقد لا يعين. وقد حكى الماوردي ذلك عن الشافعي، وأنه قصد به الرد على مالك. وإن قال: وقع شراء كل أحد منا منفردًا بعقد، وبين مقدار المشتري [قبل] منه وإن تفاوتت الحصص، واستوى الثمنان، كما إذا قال: شرى ربعه بالألف، واشتريت ثلاثة أرباعه بألف، أو أقل أو أكثر، وللمقر له عند تكذيبه تحليفه. وفي المسألة الثالثة يباع العبد، ويدفع للمقر له من ثمنه ألف [درهم] والفاضل كما قال الإمام- للمقر، فلو أراد أن يدفع إليه ألفًا من ماله، قال في ((المهذب))، و ((التهذيب))، و ((الحاوي))، وغيرها: لم يجز، لأن بالوصية يتعين حقه في ثمنه. قال ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب: فلو رضي المقر له، جاز. ولو لم يزد ثمنه على ألف، انفرد به المقر له، قاله الإمام، ويظهر أن يجيء فيه

الوجه الذي سنذكره من بعد تلو المسألة الثانية. وفي المسألة الرابعة يكون حكمه حكم العبد الجاني. قال: وإن فسرها بأنه رهن بألف له عليه، فقد قيل: يقبل، لأن حق المرتهن يتعلق بالمرهون والذمة، فصدق تفسيره، وهذا هو الصحيح في ((المهذب))، و ((تعليق)) أبي الطيب، و ((الحاوي))، وبه جزم في ((التهذيب)). وقيل: لا يقبل، لأن الدين يتعلق بالذمة، والعين وثيقة به، فكان تفسيره مخالفًا للظاهر، فلم يقبل. وعلى هذا قال الأصحاب: يؤاخذ بإقراره بالألف التي ادعى أن العبد مرهون بها، ويطالب بتفسير الإقرار الأول. قلت: وفيه نظر، من حيث إنه لو فسره بقرض أقرضه في ثمنه، فإما أن يقبل أو لا، فإن لم يقبل، أشكل بما تقدم، وإن قبل: فإما أن يلزمه ألف، أو ألفان، فإن ألزمناه ألفين أشكل بما قدمناه فيما إذا قال: له علي ألف، ثم قال في وقت آخر: له علي ألف من جهة قرض، ونحوه، أو بالعكس: أنه يحمل المطلق على المقيد، فلا يلزمه إلا ألف واحد. وإن ألزمناه ألفًا واحدًا، شابه في المأخذ ما إذا قال: له علي شيء إلا شيئًا، من حيث إنه لو فسر بذلك لم يلزمه إلا ألف، وإن امتنع من التفسير، لا يلزم إلا بالمحقق، وهو ألف فليجر فيه ما ذكرناه فيما إذا قال: له علي شيء إلا شيئًا، وهذا يظهر بمطالعة ما ذكرناه ثم، والله أعلم. والحكم فيما لو قال: له من هذا العبد ألف درهم، كما لو قال: [له] فيه، صرح به الغزالي، والمصنف، والبغوي وغيرهم. ووجهه الماوردي بأنهما حرفًا صفة، يقوم أحدهما مقام الآخر، وليست الألف جزءًا من العبد، وإنما يتوصل إليها من العبد، فاستوى الحكم في قوله ((من)) وفي)). نعم: لو قال: له من هذا العبد بقيمة ألف، كان إقرارًا بملك جزء من العبد قدره قيمة ألف، وهل يصير الإقرار مقدرًا بالقيمة، أو يرجع فيه إلى بيانه؟ فيه وجهان:

أصحهما عند الماوردي: الثاني. ومقابله منسوب إلى اختيار أبي القاسم الصيمري، وهو المختار في ((المرشد))، وعليه لو كانت قيمة العبد ألفًا لا غير، قال الصميري- حكاية عن بعض الأصحاب: إنه لا يصير المقر له مالكًا لجميع العبد، لأن من يوجب التبعيض، فلابد من إخراج بعضه. وزعم أن الصحيح عنده: أنه يكون مقرًا بجميعه، استشهادًا بقول الشافعي فيما لو قال: له من هذا المال ألف، فكان المال كله ألفًا-: إنه إقرار بجميعه تمسكًا بقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج:30]، أي: اجتنبوا الأوثان الرجس، وهذا ما اختاره في ((المرشد)). ولا شك في أنه لو قال: له علي ألف في هذا العبد: أنه يلزمه الألف عند عامة الأصحاب، وإن لم تبلغ قيمة العبد ألفًا، كما قاله البغوي، والطبري في العدة، إلا ما حكى عن ابن القاص فإنه قال- كما حكاه [في ((العدة))]: إنه يسأل، فإن قال: إنه نقد في ثمنه ألفًا، يقال: وأنت كم نقدت؟ فإن قال: ألفين، كان بينهما أثلاثا. والبغوي حكي عنه أنه يستفسر. وقالا: إن الأصحاب غلطوه، لأن لفظة ((على)) للإلزام، لكن لك أن تقول: قد قال الأصحاب فيما لو قال: له علي ألف درهم في هذا الكيس، وكان فيه دون الألف، هل يلزمه تمامها؟ فيه وجهان. أحدهما- وهو اختيار الشيخ القفال-: أنه يلزمه الإتمام، كما لو لم يكن فيه شيء، فإنه يلزمه الألف، لأن لفظه ((علي)) تقتضي الإلزام. قال ((الرافعي)): وهو أقوى، وهذا وزان ما ذكروه هاهنا. والثاني: وهو المحكي في العدة عن رواية أبي ثور عن الشافعي، واختاره أبو زيد-: أنه لا يلزمه إلا ما في الكيس، للحصر، فهلا أجروا مثل هذا هنا؟ ولو قال: له علي الألف الذي في هذا الكيس، فإن كان ناقصًا، قال الغزالي:

فالأظهر أنه لا [يلزمه الإتمام]، للحصر. وعن رواية الشيخ أبي علي وجه آخر ضعيف: أنه يلزمه الإتمام. قال ((الرافعي)): ويمكن أن يخرج على الخلاف في أن الإشارة تقدم، أو اللفظ؟ ولو لم يكن في شيء، فهل يلزمه الألف أم لا؟ فيه [قولان- ويقال:] وجهان قربهما الشيخ أبو علي من الخلاف فيما إذا قال: والله لأشربن [ما في] هذه الإداوة ولا ماء فيها، هل تنعقد اليمين؟ فإن قلنا: نعم، صح الإقرار ولزم وإلا فلا. فرع: لو امتنع من التفسير، قال الإمام: كان امتناعه عنه بمثابة، كل مقر امتنع عن تفسير لفظ مجمل مذكور في صورة الإقرار، وقد قدمنا أن تجديد المطالبة بالتفسير لا معنى له، فليدع المقر له وجهًا، وليبن عليه مطالبة المقر. فرع: لو قال: له في هذا العبد شركة، كان له تفسيرها بأي قدر كان، لأن ذلك اشتراك. ولو قال: له في عبدي هذا ألف فهو كا لو قال: له في مالي، وسنذكره. قال: وإن قال: [له] في ميراث أبي، [أو: من ميراث أبي] ألف، فهو دين على التركة. وإن قال: [له] في ميراثي من أبي، أو: من ميراثي من أبي، فهو هبة من ماله. والفرق: أنه في هاتين الصورتين أضاف الميراث إلى نفسه، ثم جعل له من منه جزءًا، وإذا جعل له جزءًا من ماله، لم يكن ذلك إلا على وجه الهبة، وفي الصورتين الأوليين، لم يضف الميراث إلى نفسه، ولا جعل له جزءًا من ماله، بل أضافه إلى المقر له، لأن ملك أبيه قد زال عن المال بموته، ولا يصير ميراث الأب له إلا لدين تعلق به، فلذلك صار إقرارًا بالدين. قال القاضي الحسين: إلا أن في هذا الفرق إشكالًا، فإن الدين عندنا لا يمنع الإرث، فإضافته إلى نفسه لا تمنع كونه إقرارًا على أبيه.

ولعل الشافعي بنى ذلك على العرف والعادة، فإنهم لا يضيفون إلى أنفسهم إضافة الملك إلا في الملك المستقر. وعلى هذا المقر بالخيار في الصورتين الأخيرتين بين أن يقبضها فتمضي الهبة، وبين أن يمسكها فترد الهبة، كما قاله أبو الطيب وغيره. وقاعدته قد سبقت، وهي أن من أقر بالهبة لا يكون مقرًا بالإقباض. ثم قد يظهر مما ذكرناه: أنه يصح أن يقول [لشخصٍ]: وهبتك من مالي ألف درهم، من غير إشارة إلى شيء معين، وهذا ما نص عليه. وعن صاحب التقريب وغيره تخريج قول آخر [في لزوم الألف] فيما إذا قال: له في ميراثي من أبي ألف- من نصه فيما إذا قال: له في ماله ألف درهم: أنه يلزمه وإن كان الأصحاب كافة على الأول. قال: وإن قال: له في هذه الدار نصفها، أو: من هذه الدار نصفها، لزمه. وإن قال: في داري، أو: من داري نصفها، فهو هبة. والفرق ما ذكرناه. وهذا ما نص عليه. وعن رواية الشيخ أبي علي عن بعض الأصحاب تخريج قول آخر في الصورتين الأخيرتين: أنه يلزمه نصف الدار- مما خرج منه صاحب التقريب القول في المسألة السابقة. وقال الشيخ أبو علي: إنه خطأ، لأنه لو قال: داري له، لم يكن إقرار، فذكر الجزء مثله، وهذا إذا لم يقل: بحق واجب، فإن قاله، كان إقرارًا، لأنه قد اعترف أن المقر له يستحق ذلك، فلزمه. وهكذا الحكم فيما لو قال: في ميراثي من أبي، أو: من ميراثي من أبي. قال: وإن قال: له في مالي ألف، لزمه. وإن قال: من مالي، فهو هبة على المنصوص، أي: في الصورتين في كتاب الإقرار والمواهب. والفرق: أنه إذا قال: في مالي، فقد جعل ماله ظرفًا للألف التي ذكرها، ويجوز

أن يكون ظرفًا لها بأن تكون مختلطة بماله، وإذا قال: من مالي، فقد أضاف المال إلى نفسه، وجعل الألف جزءًا منه، وما جعله جزءًا من ماله، فلا يكون لغيره إلا على وجه الهبة. وقيل: هذا غلط في النقل، ولا فرق بين أن يقول: في مالي، وبين أن يقول: من مالي، في أن الجميع هبة، كما نص عليه في مسألة الميراث والدار. ومن الأصحاب من وافق على أنه لا فرق بين أن يقول: في مالي، أو: من مالي في أن الجميع هبة، وحمل النص فيما إذا قال: في مالي: أنه يلزمه على ما إذا تقدمت كلمة ((علي)) بأن قال: علي في مالي ألف، فإنه حينئذ يلزمه الألف، لأن ((علي)) للإلزام. وفي المسألة طريقة أخرى، وهي تصحيح النقل، وتخريج قول من نصفه في مسالة [الميراث والدار] إلى هذه المسألة، وإثبات قولين فيها، لعسر الفرق، وتشبيها لذلك بتعقيب الإقرار بما يرفعه، وقد ذكرنا أن منهم من خرج من هذه المسألة إلى المسألتين قولًا: أنه يلزمه، وأثبت فيهما قولين. والصحيح في ابن يونس الطريقة الثانية في الكتاب. وقال ابن الصباغ: إن الأولى أشبه، والقائلون بها قالوا في الفرق: إن قوله: في داري نصفها، لو جعلناه إقرارًا، لم يبق بعده ما يسمى دارًا، وقوله: في مالي ألف درهم، الذي يبقى له بعد الألف يسمى: مالًا، فلذلك جعلناه مقرًا به. قال ابن الصباغ: إلا أن هذا القائل يلزمه أن يفرق بين هذه المسألة وبين قوله: في ميراثي من أبي، ولا يجد فرقًا. نعم: قوله: له، يقتضي الملك، والهبة قبل القبض غير مملوكة، ولم يأت بما ينافي الملك إذا قال: في مالي، لأن ((في)) للظرف وإذا قال: من مالي، فقد أضاف الملك [كله]، إلى نفسه فنافى الإقرار، فافترفا. ثم محل الخلاف- كما قال أبو الطيب- حكاية عن ابن القاص: إذا لم يقل: بحق واجب، فإن قاله، فسواء أضافه إلى نفسه، أو لم يضفه، فإنه يكون إقرارًا، ولا يكون هبة، لأن الهبة لا تكون حقًا واجبًا.

قال: وإن قال: له عندي تمر في جراب، أو سيف في غمد، أو فص في خاتم- لم يلزمه الظرف، لخروجه عن الإقرار، واحتمال كونه للمقر، وبالقياس على ما لو قال: له عندي عبد في دار، أو دابة في إصطبل، لا يكون مقرًا بالدار والإصطبل، وإن كانا ظرفين. وهكذا الحكم عندنا فيما لو قال غصبتك حنطة في غرارة، أو سفينة، أو زيتا في حب أو سيفًا في حمالة، أو فصًا في خاتم، كما نص، وكذا في عكسه لو قال: [له] عندي جراب فيه تمر، وغمد فيه سيف، وخاتم فيه فص، أو عليه فص، كما قاله في ((المهذب))، لكن في ((النهاية))، و ((تعليق)) القاضي الحسين فيما إذا أقر بخاتم فيه فص حكاية وجهين، أظهرهما: أنه مقر بهما جميعًا، وهو موافق في الدليل لما في ((المهذب)) و ((التهذيب)) [فيما إذا] قال: عندي خاتم، لزمه الخاتم والفص، لأن اسم الخاتم يجمعها، بل قال الثعالبي في ((فقه اللغة)): إنه لا يقال: خاتم، إلا فهو فتخة. وجعل في ((الوسيط)) محل الوجهين إذا أقر بخاتم ثم جاء بخاتم فيه فص، وقال: ما أردت الفص، وأن الأظهر: أنه مقر به. وقال ((الرافعي)): إنه الذي ينبغي أن يقطع به، لأن الاسم شامل، فيكون رجوعًا عن بعض المقر به. وقد أجرى الإمام وغيره الوجهين فيما إذا أقر بجارية حامل، هل يدخل الحمل في الإقرار أم لا؟ أحدهما- وبه أجاب القفال-: نعم، كما في البيع. وأظهرهما: لا، بخلاف البيع، لأن الإقرار إخبار عن سابق، وربما كانت الجارية له دون الحمل، بأن كان الحمل موصى به. وقد سلم القفال أنه لو قال: هذه الجارية لفلان إلا حملها، يجوز، بخلاف البيع.

على أن في ((النهاية)) حكاية وجه آخر: أنه لا يصح هذا الاستثناء. والغزالي في ((الوسيط)) حكى الوجهين في مسألة الجارية على النعت السابق، فقال: إذا قال: له عندي جارية، فجاء بجارية في بطنها جنين له، وقال: إن الجنين لي، هل يقبل؟ فيه الوجهان، لكن بالترتيب، وهنا أولى بالقبول. وأجراهما في ((الوسيط)) هكذا فيما إذا أقر بجارية معينة، وكانت حاملًا، وقال: ما أردت الحمل، وظن ((الرافعي)) أنهما مخالفان لما حكاه الإمام، فقال: ينبغي أن يرتب الخلاف في ذلك على ما لو أقر بجارية معينة، وكانت حاملًا، هل يدخل الحمل في الإقرار أم لا؟ فإن قلنا بالدخول، ففيه في هذه الحالة الوجهان. وإن قلنا بعدم الدخول، فيقطع في هذه الصورة بأنه لا يكون مقرًا بالحمل، إذا قال: جارية في بطنها حمل. ويقرب مما ذكرناه إذا قال: شجرة عليها ثمرة، فإن كانت مؤبرة، لم تدخل في الإقرار، كالبيع. وعن ((فتاوى)) القفال: أنها تدخل. وإن كانت غير مؤبرة فوجهان، أظهرهما وهو الذي أطلقه في ((التهذيب)): أنها لا تدخل، وقد ضبط الإمام- تبعًا للقفال- ما يدخل في الإقرار تبعًا، وما لا يدخل، فقال: إذا أقر بعين، وللغير بها اتصال، واللفظ من طريق اللغة لا يشتمل عليه، نظر: فإن كان لا يدخل في مطلق البيع: كالثمرة المؤبرة، لم يدخل تحت الإقرار. وإن كان يدخل تحت مطلق البيع، والاسم لم يتناوله على مذهب اللغة، ففي المسألة وجهان. ولا خلاف أن الاسم إذا تناوله لغة في الدخول، كـ ((البستان)) يتناول ((الأشجار))، ولفظ ((الشجرة)) يتناول ((الأعصاب)). وعبر ((الرافعي)) عن ذلك، فقال: ما لا يندرج في البيع، ولا يتناوله الاسم، فهو غير داخل، وما يندرج في البيع ويتناوله الاسم فهو داخل، وما يندرج في البيع، ولا يتناوله الاسم، ففيه وجهان:

والعبارة الأولى أولى، لما ستعرفه. وقد حكيت في باب الدعاوى عن الإمام، والماوردي: أنه حكى أن ما يندرج في البيع يندرج في الإقرار عند الكلام في التنازع في العرصة. وقد شذ عن القاعدة المذكورة ما حكاه المحاملي في كتاب الرهن عن ابن سريج، والبندنيجي قبل باب القافة: أنه إذا أقر لرجل بجارية، وكان لها ولد: أنه يحكم له بالجارية، وهل يحكم له بولدها؟ فيه وجهان، وظني أني حكيتهما من قبل، والله أعلم. فرع: لو قال: [له] عندي ثوب مطرز، ففي ((المهذب)) و ((التهذيب)) حكاية طريقين فيه: أحدهما: يلزمه الثوب بطرازه. والثاني: وهو ما أورده الماوردي: إن كان الطراز منسوجًا فالأمر كذلك، وإن كان مركبًا بعد النسج، فوجهان: أحدهما: أنه يلزمه الثوب بطرازه، وهو المختار في ((المرشد)). والثاني: لا يلزمه الطراز. قلت: وقد يظهر لك من هذا: أن محل الوجهين في الفص: إذا كان مركبًا بعد عمل الخاتم، ومحل الجزم بدخوله: إذا كان من نفس الخاتم، والله أعلم. تنبيه: الجراب: بكسر الجيم وفتحها، والكسر أشهر وأفصح، وجمعه: أجربة، وجرب، وهو وعاء من جلد معروف. [و] الغمد: بكسر الغين المعجمة: غلاف السيف، وجمعه: أغماد، وغمدت السيف، أغمده غمدًا، وأغمدته- أيضًا- إذا جعلته في غمده، فهو مغمود ومغمد، وتغمده الله برحمته: وغمده بها. والفص: بفتح الفاء وكسرها، والفتح أفصح وأشهر، وجمعه: فصوص. قال: وإن قال: له عندي عبد عليه عمامة، لزمه العبد والعمامة. وإن قال: له دابة عليها سرج- أي: أو: مسروجة- لم يلزمه السرج. والفرق: أن للعبد يدًا على ما في يده، [فيكون العمامة في يده]، وكذا ما

عليه من ثياب، وفي وسطه من منطقة، وفي رجله من خف، وما في يد العبد لمولاه، والدابة لا يد لها، فهي وما عليها في يد المقر، فأخرج منها ما تناوله الإقرار، وبقي الباقي، وهذا ما أورده ابن القاص في ((التخليص)). قال الإمام: وذهب بعض الأصحاب إلى موافقته، وهو أبو زيد، كما قاله العمراني في الزوائد. وقال الغزالي: إن العراقيين قالوا به- أيضًا- وهو المذكور في ((الشامل)) وغيره من كتبهم. وحكى ((الرافعي)): أن الأكثرين قالوا: لا فرق بين المسألتين، فلا يجعل مقرًا بالعمامة، وعليه ينطبق قول البغوي وصاحب العدة: إنه الذي قاله عامة الأصحاب، ووجهوه بأنه لا يدخل في الإقرار إلا ما أقر به، وأما ما احتمل دخوله وعدم دخوله، فلا، ألا ترى أنه لو قال: لفلان في يدي دار مفروشة، لا يكون مقرًا بالفرش وإن جعله صفة مع أن ما كان في دار الإنسان فهو في يده. قال في الزوائد حكاية عن الشيخ أي علي: وقولهم: إن يد العبد على ما معه ممنوع، فإن من غصب عبدًا، ضمنه وما معه، بخلاف الحر. وقد أجاب ابن القاص في المفتاح بمثل جواب الجمهور. وقد حكى الإمام مثل ذلك أيضًا. وقال ((الرافعي)): إنه وهم، بل جوابه في المفتاح كجوابه في ((التخليص)). [والأصح- كما قال النواوي- ما عليه الجمهور. وإذا تأملت ما ذكرناه، علمت أن ما ذكره صاحب ((التخليص))]، ومن [تبعه غير] خارج عما ذكرناه من القاعدة فيما يتبع وفيما لا يتبع، فإنه إنما جاء من جهة اعتقاد كون للعبد يد على ما معه، لا من جهة تضمن الإقرار لذلك، ولهاذ قال ابن الصباغ: إن لزوم العمامة لم يكن من جهة دخولها في الإقرار، وإنما جاء من جهة يد العبد.

فإن قلت: قد تقدم في البيع ذكر خلاف في أن بيع العبد هل يندرج فيه ما عليه من ثياب؟ خلاف، ومقتضى القاعدة: أن يجري فيه الوجهان إذا قلنا باندراج الثياب في البيع، [لأن اسم العبد لا يتناول الثياب لغة، وهي تندرج في البيع]. قلت: هذا لا بشك وارد على ما ذكره ((الرافعي)) في ضبط القاعدة كما تقدم، وغير وارد على ما ضبطها به الإمام وغيره، لأنه شرط في العين التي لا يتناولها الاسم [الاتصال بما تناوله الاسم] والثياب منفصلة عن العبد، لا متصلة، والله أعلم. قال: وإن ادعى رجلان ملكًا في يد رجل بينها نصفين، فأقر لأحدهما بنصفه، وجحد الآخر، فإن كان قد عزيا إلى جهة واجدة، من إرث أو ابتياع، وذكرا أنهما لم يقبضا، أي: بأن قالا: غصب هذه الدار من أبينا، ونحن ورثناها منه، أو: اشترينا هذه الدار من فلان عقدًا واحدًا، وأنت غصبتها منا قبل القبض من يد البائع، كذا قاله القاضي الحسين عن العراقيين. قال: وجب على المقر له أن يدفع نصف ما أخذ إلى شريكه، لأنهما اعترفا أن الدار بينهما [وما بقي يكون مشتركًا، كما لو كان ذلك طعامًا فهلك بعضه، فإن الباقي يكون بينهما]، وهذا ما حكاه الإمام عن النص في مسألة الإرث، لكن لفظ ((المختصر)): لو أن رجلين ادعيا دارًا في يد رجل، فقالا: ورثناها عن أبينا، وأقر لأحدهما بنصفها، فصالحه عن ذلك الذي أقر له به على شيء، كان لأخيه أن يدخل معه فيه. وألحق الشيخ أبو حامد وأصحابه- كما قال ((الرافعي)) - ومنهم القاضي أبو الطيب والماوردي- مسألة البيع بها، وهو اختيار القاضي الحسين [وجماعة من المحققين، كما قال الإمام، ولم يحك القاضي الحسين] في ((تعليقه)) عن العراقيين غيره. ونقل ابن الصباغ: أن القاضي في المجرد حكى فيها وجهًا آخر، عزاه ((الرافعي)) إلى أبوي علي: ابن أبي هريرة، والطبري-: أنه لا يجب على المقر له دفع شيء إلى شريكة، وبه قال ابن كج، لأن البيع من اثنين بمنزلة الصفقتين، وقد حكاه الإمام- أيضًا- عن رواية- الشيخ [يعني: أبا علي]- والصيدلاني،

والفوراني، ولم أر في ((الإبانة)) غيره. وقال ابن يونس: إن الشيخ أبا حامد لم يذكر سواه. ثم أشار الإمام إلى أن هذا الخلاف يبنى على الخلاف في أن الصفقة تتعدد بتعدد لمشتري أم لا؟ فإن قلنا بالتعدد فلا مشاركة، كما لو اشتريا في صفقتين، فإنه لا يتخيل خلاف في المشاركة، بل الوجه القطع بأنه إذا أقر لأحدهما في هذه الصورة، لا يشاركه الآخر، فإن الشراء متميز [عن الشراء تميز] الشراء عن الهبة. وقد تلخص مما ذكرناه: أن في مسألة الإرث لا خلاف في المشاركة، كما هو ظاهر النص، وفي مسألة البيع وجهان. فإن قلت: قد نص الشافعي على أنه إذا ادعى ورثة ميت: أن لأبيهم حقًا على إنسان، فأنكر، وأقاموا شاهدًا واحدًا، وحلف بعضهم دون الباقي، استحق الحالف قدر نصيبه، ولم يشاركه فيه من لم يحلف، والمسألة كالمسألة من حيث المعنى، فهلا خرج من كل مسألة إلى الأخرى قول، وجعلتا على قولين، كما هو عادة الأصحاب في مثل ذلك؟ قلت: قد حكاه الغزالي في ((الوسيط))، واستغرب في الحكاية، لأن المشهور في ذلك أن ابن القاص في شرحه قال: إن من أصحابنا من قال في مسألة الشاهد واليمين بالمشاركة، تخريجًا من النص في مسألة الإقرار. والصحيح- كما قاله ابن الصباغ وغيره في باب القضاء مع الشاهد- تقرير النصين، ولم يورد الماوردي والبندنيجي غيره. والفرق: أن الذي لم يقر له في مسألة الإقرار لم يسقط حقه، والذي امتنع من اليمين في مسألة الشاهد واليمين، أسقط حقه بإبائه، فلا يجوز أن يستحقه بيمين غيره. [و] لأن المجحود كالمغصوب، وغصب بعض التركة يوجب التساوي

في الباقي، والممتنع هاهنا قادر على الوصول إلى حقه بيمينه، فصار كالمسلم والتارك له على خصمه، وجرى ذلك أخوين أقر رجل لأبيهما بدين، فقتله أحدهما، ولم يقتله الآخر، فإن حق القاتل خالص له لا يشاركه فيه غير القاتل، لأنه تارك لحقه منه. وحكى الإمام أن من الأصحاب من قال: المدعى في مسألة الشاهد واليمين ليس عينًا مستحقة [بينهما]، بل دينا، وفي مسألة الإقرار المدعى عن، فلو كانت مسألة الإقرار في الدين، لكانت مسألة الشاهد واليمين، ولكان المقر له منفردًا بما سلم له لا يشاركه الآخر. ولو كانت مسألة الشاهد واليمين في عين، لاشترك الناقل والحالف في المأخود. قال: وهذا بعيد. قال: وإن لم يعزيا إلى جهة واحدة، أي: إما لكون أحدهما عزى ملكه إلى بيع، والآخر إلى هبة، [أو أحدهما إلى إرث، والآخر إلى بيع]، ونحو ذلك، أو لكونهما أطلقا الدعوى بالملك من غير ذكر سبب [ملك]، أو أطلق أحدهما، وذكر الآخر السبب. قال: أو أقرا بالقبض، أي: بأن قالا: ورثناها من أبينا، أو اشتريناها من زيد في عقد واحد، وقبضناها- لم يلزمه أن يدفع إليه شيئًا: أما في الأولى، فلأنهما إن عزيا إلى شيئين مختلفين، لم تكن دعوى كل واحد مقتضية للمشاركة، فلا يلزمه. وإن أطلقا الدعوى بالملك من غير ذكر السبب، أو أطلقه أحدهما، وبينه الآخر، فيجوز أن يكون السبب مختلفا، فلا ينزع منه ما ثبت له ظاهرًا بالشك. وأما في الثانية، فلأن بالقبض قد استقر ملك كل واحد منهما على ما قبضه، وحصلت المساواة الممنوع من ضدها في الإرث، ويجوز أن يطرأ الغصب على نصيب أحدهما دون الآخر، وإذا كان كذلك، لم تلزم المشاركة بالاحتمال، ووراء ذلك أمور:

أحدها: حكى الإمام فيما إذا أطلقا الدعوى بالملك، ولم ينسباه إلى سبب: أن الأصحاب ألحقوا هذا بما أسندا دعواهما إلى الشراء أو غيره من الأسباب المتحدة الواقعة على موجب الشركة، وقد مضى التفصيل فيه، وهذا يقتضي أن [يكون] في المشاركة وجهان. وقد حكى ((الرافعي)) أن المنصوص عليه في ((المختصر)) ما ذكره الشيخ، وهو كذلك، ولم يحك غيره. الثاني: حكى المتولي وغيره وجهًا فيما إذا أقر بالقبض في مسألة الإرث- بالمشاركة، لأن إيجاب [الإرث] الشيوع. قلت: وقد يقال: إن على هذا ينطبق ما أطلقه المصنف في ((المهذب))، وابن الصباغ، تبعًا للقاضي أبي الطيب، والغزالي، تبعًا للفوراني دون إمامه- من المشاركة من غير تقييد بعدم القبض، كما هو ظاهر النص في ((المختصر)) في مسألة الإرث، كما حكيناه من قبل، لأنه حينئذ يكون لا فرق بين أن يقبضا أو لا، ولذلك صح الإطلاق. لكن قد يكون إطلاقهم محمولًا على الظاهر، فإن قرينة دعوى الإرث تدل على أنه لم يقبض، وإلا لما جرت العادة بأن الإنسان إذا ورث شيئًا وقبضه، ثم غصب منه: أن يدعي الإرث مع أن الأصل عدم القبض. ثم الذي يظهر: جريان هذا الوجه في مسألة البيع- أيضًا- إذا ألحقناها بها، لما ستعرفه. والذي عليه الأكثرون- كما قال ((الرافعي))، ولم يحك القاضي الحسين عن العراقيين غير ما ذكره الشيخ. وعن الشيخ أبي حامد: أنه علله بأنه يحتمل أن يكون قد اشترى نصيب أحدهما، واستولى على الجملة. قيل: وهذه العلة ترشد إلى أن اشتراط عدم القبض في المشاركة يليق بمسألة البيع، لا بمسألة الإرث، لأن بيع الموروث يصح قبل القبض. الثالث: اعتبر الماوردي في عدم المشاركة مع وجود الاعتراف بالقبض وقوع القسمة، ولم أره لغيره.

واعلم أن الإمام و ((الرافعي)) قالا: إن الوجهين المذكورين في المشاركة فيما إذا عزيا إلى بيع جاريان فيما لو عزيا إلى هبة. والماوردي قال: إن حكم الهبة حكم البيع، وفيه نظر، من جهة أن الهبة لا تتم إلا بالقبض، وقد تقدم أن المقبوض لا مشاركة فيه. فرع: إذا صالح المقر له على النصف المقر به، حيث قلنا: يشاركه الآخر، قال القاضي أبو الطيب وغيره: بطل في نصيب الآخر، وهل يصح في نصيب المقر له؟ فيه قولًا تفريق الصفقة. وحكى الإمام: أن طوائف من الأصحاب ذكروا وجهًا في صحة الصلح في جميع النصف، وهو ظاهر النص في السواء، أي: حيث قال ذكرنا، كان لأخيه أن يدخل معه فيه، يعني: في مال الصلح، كما قاله المزني، واعترض به على الشافعي. قال: ولست أعرف لهذا وجهًا، وكل ما يتكلف ذكره في التصحيح يتضمن استبداد المقر له بالنصف، وثمنه، وأقصى ما قيل فيه: أن المقر له والمدعى عليه هما المتعاقدان، وهما متقاربان، والعبرة بتقارر المتعاقدين، وهذا أخذ من كلام القاضي الحسين، فإنه هكذا قال: قال: وهذا باطل قطعًا، فإن المقر له إن كان يعرف حكم المسألة، يعترف لصحابه بحصته في النصف المقر به، وإن كان لا يعرفه، فهو كذلك، ومن ظن ملك الغير ملك نفسه، لم ينفذ بهذا السبب بيعه. والقاضي أبو الطيب وغيره دروا على المزني، وقالوا: هو نقل كلام الشافعي مختصرًا، فوهم في معناه، وليس مراد الشافعي أن الأخ يشارك أخاه [في مال الصلح، بل في النصف الذي أقر به، وقد ذكره في الأم مفسرًا فقال: إن أخاه] يرجع عليه بنصف ما أقر له به. أما إذا أقر لأحدهما بجميعه، فحيث قلنا: يكون النصف بينهما، فكذلك الكل، وحيث قلنا: ينفرد المقر له بالمقر به، فإن عاد، وادعى النصف الآخر، سلم إليه، لجواز أن يكون قد اقتصر على دعوى النصف، لتيسر بينته، أو لكونه يخاف جحوده الكل.

ولو قال: النصف الآخر لصاحبي، سلم له، وإن لم يثبته لنفسه، ولا لصاحبه، ففيه ثلاثة أوجه، ذكرناها في باب الدعاوى. تنبيه: قوله: عزيا إلى جهة أي: أضاف، يقال: عزوته إلى كذا، وعزيته، وعزواه، وعزياه: لغتان، والواو أفصح. قال: وإن أقر رجل، فقال: هذه الدار لزيد، لا بل لعمرو، أو غصبتها من زيد، لا بل من عمرو- لزمه الإقرار الأول، لما تقرر أن من أقر بحق لآدمي لا يقبل رجوعه. قال: وهل يغرم للثاني؟ فيه قولان: وجه [عدم] الغرم: أن العين باقية، يمكن عودها إلى صاحبها، ومنازعته فيها، وهو يقول: أنا معترف لك بها، وإنما الشرع انتزعها، فلا يلزمني الغرم، وهذا ما حكاه في ((المختصر))، أخذًا من نصه عليه في كتاب الإقرار والمواهب من الأم. ووجه الثاني: أنه أحال بينه وبين ماله، فلزمه الغرم، كما لو غصب عبدًا، فأبق من يده، أو درة فسقطت في ((البحر))، وهذا ما نص عليه في كتاب الإقرار بالحكم الظاهر الذي لم ينقل المزني منه شيئًا مع الأول، وهو الصحيح في ((تعليق)) أبي الطيب، و ((الشامل))، وغيرهما. وقيل: إن سلمها الحاكم بإقراره ففيه قولان، لأنه معذور، وتوجيههما ما تقدم. وإن سلمها المقر بنفسه، لزمه الغرم قولًا واحدًا، لأنه غير معذور، وهذه طريقة أبي على الطبري، وآخرين من أصحابنا، كما قال الماوردي. قال: والصحيح: أنه لا فرق بين المسألتين، لأن الحاكم إنما سلمها بإقراره، فهو كما لو سلمها بنفسه، وهذه طريقة أبي إسحاق، وابن أبي هريرة، وقد صححها القاضي أبو الطيب، وغيره أيضًا. ووراء ذلك طريقان: إحداهما: في المسألة الثانية أنه في تغريمه القولان، وفي المسالة الأولى، لا يغرم قولًا وحدًا، لأنه لم يقر بالجناية، فلا يغرم، ولا كذلك في الثانية، فإنه أقر بالجناية.

والثانية: حكاها الماوردي قبيل الكلام فيما إذا شهدا بحرية عبد، فردت شهادتهما من كتاب الإقرار عن رواية أبي إسحاق، عن بعض الأصحاب في المسألة الأولى: أنه إن أخطأ فلا ضمان عليه، وإن تعمد ففيه القولان. وليست الطريقتان بشيء. والخلاف في المسألة الأولى جار فيما لو قال: غصبت هذه الدار من زيد، وغصبها زيد من عمرو، كما حكاه الماوردي وغيره. فروع أحدها: لو أقر بأن العبد الذي في تركة أبيه لفلان، [لا بل لفلان]، فطريقان: منهم من خرجه على القولين. ومنهم من قطع بأنه لا يلزمه الغرم. والفرق: أنه إذا أقر بما يغلب على ظنه، ولا يؤخذ بالعلم والإحاطة يعذر، وإذا أقر في مال نفسه، حمل على العلم والإحاطة، لأنها ممكنة، فلم يعذر في الرجوع عن الإقرار، قاله ابن الصباغ وغيره. الفرع الثاني: إذا قال: غصبت هذه الدار من زيد، وغصبتها من عمرو، فهل يكون كما لو قال: غصبت هذه الدار من زيد لا بل من عمرو، أو يكون حكمه [حكم ما] لو قال: غصبتها من زيد وعمرو، حتى تسلم إليهما؟ فيه وجهان في ((الحاوي)). الفرع الثالث: إذا كان في يد شخص عين، فانتزعها شخص منه باليمين مع النكول، ثم جاء آخر يدعيها، هل له طلب القيمة؟ إن قلنا: إن يمين الرد مع النكول كالبينة فلا، وإن قلنا: كالإقرار، فعلى الطريقين في الغرم. قال: وإن باع شيئًا، وأخذ الثمن، ثم أقر بأن المبيع لغيره- فقد قيل: يلزمه الغرم قولًا واحدًا، لأنه قد أخذ عوضه، وللقبض أثر في الضمان، ألا ترى أنه لو غر بحرية أمة، فنكحها، وأحبلها، ثم أجهضت بجناية جان يغرم المغرور الجنين لمالك الجارية لأنه يأخذ الغرة؟!

ولو سقط ميتًا من غير جناية جانٍ لم يغرم، وهذا ما نسبه الماسرجسي إلى ابن أبي هريرة، وهو الصحيح عند البغوي والنواوي وغيرهما. وقال ابن الصباغ: إنه يجيء على طريقة من اعتبر في القولين تسليم الحاكم. وقيل: على قولين، كما تقدم. وأخذ العوض لا أثر له فيما نحن فيه، ألا ترى أنه لو باع الوديعة ضمن، ولو وهبها ضمن؟! فاستوى أخذ العوض وعدمه. وعلى الطريقين يتخرج سماع الدعوى على البائع بقيمة العين المبيعة، إن قلنا: يغرم سمعت، وإلا فلا، كذا قاله ((الرافعي)). ويجيء فيه على طريقة ذكرنا مثلها في باب الدعاوى: أنا إذا قلنا: لا يغرم، هل تسمع الدعوى عليه، بناء على أن اليمين المردودة كالبينة أو كالإقرار، وقد حكى القاضي الحسين الطريقين المذكورين في الكتاب في حالة عدم أخذه الثمن وفرق على الأول- وهو الذي صححه أيضًا- بين هذه الصورة، وبين الصورة الأولى بأنه هاهنا فوت عليه العين بقوله، فصار كما لو فوتها عليه بفعله، وأشار إلى أن المفوت إنشاؤه البيع، كما قاله الإمام. ومحل الخلاف- كما حكاه الإمام في كتاب الغصب عن صاحب التقريب- إذا قال: بعته وهو ملكي، فإن أطلق البيع، ولم يدع الملك، لم يضمن، فإن الإنسان قد يبيع ما لا يملك. قال القاضي الحسين قبيل باب الإقرار بالوارث: والقولان جاريان فيما لو أعتق العبد، ثم اقر به لآخر: أنه غصبه منه، له يغرم للمقر له؟ وكذا حكاها الماوردي، وفي ذلك نظر يظهر لك مما تقدم من أن شهود العتق والطلاق إذا رجعوا بعد الحكم يغرمون. قال: وإن قال: غصبت من أحدهما، [أخذ بتعيينه] لأنه أقر بمبهم، فرجع إليه فيه. قال: وإن قال: لا أعرفه، وصدقاه، انتزع منه، لأنه اعترف بأنه ليس له، وكانا خصمين فيه، لأن الحق فيه لأحدهما باعترافه، ولا مزية لأحدهما على الآخر.

قال القاضي الحسين في كتاب الدعاوى: ويحلف كل واحد منهما صاحبه بأنه لا يلزمك تسليم هذا [المال] إلى، فإن حلفا كان بينهما، وكذا إن نكلا. وقال القاضي أبو الطيب هنا: إنهما إذا حلفا، وقف حتى يصطلحا. ومن طريق الأولى: أن يكون الحكم كذلك إذا نكلا. وقد ذكر في ((الشامل)) الوقف في الصورتين هاهنا، وقال في باب الدعوى في الميراث: إنهما إذا صدقاه، أو كذباه، وحلف، فهل يوقف أو يقسم بينهما؟ فيه وجهان، والمذكور منهما في ((الحاوي)) هنا و ((الرافعي)) الأول. وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، قال القاضي الحسين: سلم إلى الحالف، وهو الذي أورده ابن الصباغ وغيره نا. قال: وإن كذباه، [أو أحدهما]، فالقول قوله مع يمينه، لأنه أعرف بحاله، ويلزمه أن يحلف إذا كذباه لكل منهما يمينًا واحدة، كما حكاه الإمام هنا، وأحال الكلام فيه على ما ذكره فيما إذا زوج المرأة وليان من رجلين، والتبس الحال، وقد ذكر هو ومن تبعه ثم: أن الزوجين لو ادعيا عليها العلم بالأسبق، وادعت عدمه- في كيفية حلفهما إذا لم يرضيا بيمين واحدة [وجهان: أحدهما: تحلف لكل منهما يمينًا. والثاني: تحلف لهما يمينًا واحدة، حتى لو حضرا أحدهما، وادعى، فحلفت على نفي العلم بالأسبق من العقدين، ثم حضر الآخر، ورام حلفها كذلك، لم تحلف، ولو حضرا معًا، ورضيا بيمين واحدة] كفى [بلا خلاف]، وقد أشرت إلى ذلك في باب اليمين في الدعاوى. قال: وإن قال: هو لفلان، سلم إليه، ولا يغرم للآخر شيئًا، لأنه لم يقر له بشيء. نعم: هل له تحليفه؟ الصحيح- وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب وغيره-: أنا إذا قلنا: إنه يغرم لو أقر، حلفه، وإلا فلا. وحكى الإمام أن بعض الأصحاب أبعد، فقال: إذا قلنا: لا يغرم، انبنى تحليفه

على أن يمين الرد مع الحلف كالبينة أو كالإقرار؟ فإن قلنا: كالإقرار، فلا يحلف، وإلا حلف. فإن امتنع، وحلف المدعي، قضى له بالعين، وقد تقدم مثل هذه الطريقة في باب الدعاوى، وذكرت فيه عن صاحب ((الإشراف)) [وغيره] شيئًا يتعلق بما نحن فيه، فليطلب منه. قال: وإن قال: غصبت هذه الدار من زيد، وملكها لعمرو، لزمه أن يسلم إلى زيد، لأن قوله غصبتها من زيد، يقتضي أنها كانت في يد زيد [بحق]، فأعيدت إليه، وقوله بعد ذلك: وملكها لعمرو إن كان شهادة فهي مردودة، لإقراره بالغصب، وإن كان إقرارًا فهو غير معمول به في الحال، لأنه خرجت عن يده بقوله السابق، وشرط نفوذ الإقرار في الحال: أن يكون المقر به في يد المقر، بحث لو ادعى الملك لنفسه لكان القول قوله. قال: ولا يلزمه لعمرو شيئًا، لأن قوله: وملكها لعمرو، لا ينافي قوله: غصبتها من زيد، لجواز أن تكون في يد زيد بإجارة من عمرو، أو رهن، فلم توجد منه إحالة، فلم يضمن، وهذا ما نص عليه، وهو الصحيح في الطرق، والمحكي في ((النهاية)) عند الجمهور. وقيل: إنه على قولين، حكاه القاضي الحسين، واختاره في ((التهذيب)). فرع: لو قال: استعرت هذه الدار من زيد، وملكها لعمرو، سمعت شهادته لعمرو، لأن شهادة المستعير مسموعة، قاله الماودري. قال: وإن قال: هذه الدار ملكها لزيد، وقد غصبتها من عمرو، فقد قيل: هي كالمسألة قبلها، أي: تسلم لعمرو، ولا يغرم لزيد شيئًا، لأن الإقرارين إذا كان غير متنافين، فلا فرق بين تقدم أحدهما وتأخيره، وهذا أصح في ((تعليق)) القاضي أبي الطيب والحسين. وقيل: تسلم إلى الأول- أي: لزيد- لأنه أقر له بالملك أولًا، ومقتضى ذلك: أن تسلم العين له، فلم يقبل رجوعه عنه.

قال: وهل يغرم للثاني؟ - أي: لعمرو-[فيه قولان]، لما سبق وهذا ما أورده الماودري، وقال: إن الحكم هكذا فيما لو قال: هذه الدار لزيد، وقد استعرتها من عمرو. قال ((الرافعي)): وفي هذه الطريقة مباحثة، لأنا إذا غرمنا المقر في الصورة السابقة للثاني فإنما نغرمه القيمة لأنه أقر له بالملك، وهنا جعلناه مقرًا باليد، دون الملك، فلا وجه لتغريمه القيمة بل القياس أن يسأل عن يده: أكانت بإجارة، أو رهن، أو غير ذلك؟ فإن أسندها إلى إجارة، غرم قيمة المنفعة. وإن أسندها إلى رهن، غرم قيمة المرهون، ليتوثق به في دينه، وكأنه أتلف المرهون، ثم إن وفي الدين من موضع آخر ترد القيمة عليه. قال: ومن أقر بنسب صغير مجهول النسب، أي: [والحرية]، وأمكن صدقه، ولا منازع له فيه، ثبت نسبه، لأنه أقر له بحق، لا ضرر فيه على غيره، فأشبه ما لو أقر له بمال. وأيضًا: فإن إقامة البينة على النسب تعسر، فل لم يثبت بالاستلحاق، لضاع كثير من الأنساب. والمجنون في هذا المعنى كالصغير. نعم، لو بلغ الصغير، وأفاق المجنون، وأنكر النسب، فهل يندفع [النسب]؟ فيه وجهان، حكيناهما في باب اللقيط، كالوجهين فيما إذا ادعى شخص رق صغير في يده، وحكم له به، فبلغ، وادعى الحرية. والأظهر منهما في ((التهذيب))، وغيره، وبه جزم الماوردي، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والمصنف-: أنه لا يندفع، وعلى هذا: لو رام المقر له تحليف المقر، قال ابن الصباغ: لا يحلف، لأنه لو رجع، لم يقبل، فلا معنى لتحليفه، بخلاف العبد الصغير إذا بلغ، ورام تحليف من حكم له بملكه، فإنه

يمكن منه، لأنه لو أقر بذلك، ليعمل به، وهذا منه تفريع على أن من ثبت نسبه بالاستلحاق والتصديق منه، لكبره، ثم توافق هو والمستلحق على نفي النسب: أنه لا ينتفي، كما ذهب إليه الشيخ أبو حامد وطائفة، كما قاله في ((الحاوي))، واختاره في ((المرشد))، قياسًا على ما لو ثبت نسبة بالفراش. أما إذا قلنا: إن النسب ينتفي في هذه الصورة، كما حكاه في ((التهذيب)) عن أبي علي بن أبي هريرة، والمصنف عن ابي على الطبري، والماوردي عنهما وطائفة- فيظهر أن له التحليف. ثم قضية التشبيه الذي ذكرناه: أن الصبي لو كان مراهقًا عاقلًا: أن يكون في اشتراط تصديقه خلاف، كما تقدمت حكايته في الكتاب فيما إذا ادعى رق مثل هذا من هو في يده، هل يحتاج إلى تصديقه كالبالغ، أم لا؟ كذلك لو كذب في حال صباه، هل يؤثر- إذا قلنا: إنه بعد البلوغ مؤثر- أم لا؟ ولم أر للأصحاب تعرضًا لهذا، بل الذي رأيته فيما وقفت [عليه] من كتبهم ما ذكره الشيخ. أما إذا كان الصغير رقيقًا للمستلحق، فهو كالحر. وإن كان لغيره، ففي ((التهذيب)) وغيره: أنه لا يثبت. ولو كذب المقر الحس، بأن يكون الصغير في سن لا يتصور أن يولد للمستلحق، أو أتت به امرأة من بلاد بعيدة، لم يخرج إليها المستلحق، ولا أتت تلك المرأة إلى بلده قبل ذلك، ولا وصل إليها ماؤه، كما أشار إليه ((الرافعي))، ولا احتمل شيء من ذلك، فلا اعتبار بإقراره، كما قاله ((الرافعي))، والقاضي الحسين. وأطلق [ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب] والماوردي القول باللحوق فيها. ومحل الكلام في احتمال اللحوق وعدمه باب ما يلحق به النسب. ولو كذبه الشرع بأن كان المستلحق مشهور النسب من غير مدعي النسب، لغا إقراره أيضًا بالنسبة إلى النسب، لما فيه من الإضرار بالغير. ولا فرق بين أن يصدقه ذلك الغير والولد لو كان بالغًا، أو لا، لما فيه من حق الله تعالى.

نعم: لو كان المستلحق [عبدًا للمقر المستلحق]، فهل يعتق؟ فيه وجهان في ((تعليق)) القاضي الحسين، في باب تدبير الصبي، وأجراهما فيما لو كان مجهول النسب بالغًا، وكذب سيده في الاستلحاق، وكذا فيما لو قال لزوجته: أنت ابنتي، وكانت مشهورة النسب من غيره، أو كبيرة- في أنه هل ينفسخ النكاح أم لا؟ ولو كان في حال الإقرار ثم منازع في النسب، فقد تقدم حكمه في باب اللقيط. تنبيه: قول الشيخ: ومن أقر ... ، إلى آخره يقتضي أنه لا فرق فيما ذكره بين المسلم والكافر، والرشيد والسفيه، والحر والعبد، لأن لفظة ((من)) عامة، فشملت من ذكرناه، وهذا مما لا شك فيه في المسلم إذا كان رشيدًا، وأما الكافر فقد تقدم الكلام في استلحاقه في باب اللقيط، والسفيه ملحق في هذا بالرشيد عند الجمهور، وقد ذكرناه في كتاب الحجر. وحكى القاضي أبو الطيب وابن الصباغ عند الكلام في الإقرار للوارث في صحة إقراره وجهين، والأصح الأول. وأما العبد، فهو كمن عليه ولاء، وسيأتي، على أنه يخرج بقول الشيخ من بعد: ((فإن كان ميتًا ورثه))، فإن العبد لا يرث، فيكون هذا كالمبين للمراد من الأول، ومنه يظهر أن المراد بالصغير: الحر أيضًا. فإن قلت: لفظة ((من)) تشمل الذكر والأنثى، وفي استلحاق المرأة الولد خلاف تقديم في اللقيط، فلم لا نبهت عليه أيضًا؟ قلت: جوابه ما تقدم في باب تحمل الشهادة: أن النسب مختص بجانب العصبة، فهي مخرجة بقول الشيخ: بنسب، والله أعلم. قال: فإن كان- أي: الصغير- ميتًا- أي: حالة الاستلحاق- ورثه. هذا الفصل ينظم حكمين: أحدهما: أن استلحاق الصغير بعد موته كما هو في حياته، لأن الشرائط المعتبرة في حياته موجودة بعد وفاته، وما يتوقع من تهمة الإرث فلا أثر لها، لأن أمر النسب مبني على التغليب والإمكان، ولهذا يثبت بمجرد الإمكان، ولهذا يثبت بمجرد الإمكان. وأيضًا: فلما كانت تهمة وجوب نفقة المستلحق إذا كان فقيرًا في مال

المستلحق في حال حياته وتصرفه في ماله- غير مانعة من الاستلحاق، وكذا تهمة سقوط القصاص عنه إذا كان قد قتله، ثم استحلقه، فكذلك تهمة الميراث لا تكون مانعة منه. الثاني: أن الإرث يثبت، لأنه فرع النسب، وإذا ثبت الأصل، ثبت فرعه، حيث لا مانع، ولا مانع. وهكذا حكم استلحاق من بلغ مجنونًا بعد موته، أما استلحاق من طرأ عليه الجنون بعد البلوغ، فسيأتي. قال: وإن أقر بنسب كبير- أي: عاقل حر- لم يثبت نسبه حتى يصدقه، لأنه يمكن تصديقه، فاعتبر، بخلاف الصغير والمجنون، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وغيرهما في كتاب العاقلة، وهاهنا، فيكون شرطًا زائدًا عل ما ذكر في الصغير، وبه تكمل الشرائط أربعة، فإن أنكر، كان للمقر تحليفه، فإن نكل، حلف المدعي وثبت النسب. وكذا لو قال كبير لشخص: أنت أبي، فأنكر، فله طلب يمينه. قال: وإن كان ميتًا، لم يثبت نسبه، لفوات شرطه، وهو التصديق. ولأن تأخر الاستلحاق إلى الموت يوشك أن يكون خوفًا من إنكاره، وهذا ما أورده القاضي الحسين في ((تعليقه))، والماوردي، وهو الأصح في ((التهذيب))، وقد حكاه بعضهم قولًا، والمصنف وجهًا، مع وجه آخر صححه: أنه يثبت، وقال في ((الشامل)): إنه المذهب، ونسبه ((الرافعي)) إلى الأكثرين، ولم يورد المتولي سواه، إلحاقًا له بالصغير، ومنعوا كون التصديق شرطًا على الإطلاق، بل هو شرط إذا كان المستلحق أهلًا للتصديق. وأما الكلام الثاني، فهو تمسك بالتهمة، وقد بينا أنه لا اعتبار بها في النسب. ويجري الوجهان فيما لو استلحق ميتًا طرأ عليه الجنون بعد البلوغ، أما إذا كان الكبير عبدًا لغير المتسلحق، وصدق، فهل يثبت نسبه؟ فيه وجهان في ((الرافعي))، و ((التهذيب))، وهما جاريان في العتق، وقد يؤخذ المنع من كلام الشيخ- كما سيأتي: إن المقر لو كان [عبدًا] فهو كمن عليه ولاء، ومن عليه ولاء، هل يصح إقراره بأب؟ فيه خلاف:

الذي ذكره الشيخ: المنع. ووجه الأخذ: أنه لابد في ثبوت نسب الكبير من التوافق عليه، من جهة المقر، والمقر به، فنقيس أحد الأمرين على الآخر، ويشهد لذلك أن ابن اللبان قال: من قبل من أصحابنا إقرار المرأة بالولد، قبل الإقرار بالأم، ومن لم يقبل إقرارها، لم يقبل [الإقرار بالأم، لإمكان البينة، كذا حكاه في الزوائد عنه، وأنه قال- أيضًا-: من قبل إقرارها، قبل إقرار ورثتها بولدها، ومن لم يقبل إقرارها، لم يقبل] إقرار ورثتها إلا أن يصدقهم زوجها. تنبيه: المفهوم من التصديق: أن يقول الشخص: صدقت، وما في معناه، إذ هو الحقيقة، وقد تقدم في باب تحمل الشهادة: أنه يقوم السكوت مقامه عند العراقيين على تفصيل فيه، ومنازعة، فليطلب منه، ولأجله قال بعض المتأخرين: إن الشرط في البالغ عدم التكذيب، أو وجود التصديق؟ يجتمع من كلام الأصحاب فيه وجهان. قال: وإن أقر من عليه ولاء بأخ، أو أب، لم يقبل، لما فيه من الإضرار بالمولى. وفيه قول آخر: أنه يقبل، كالحر إذا كان له عم، فأقر بأخ. والصحيح- وبه جزم القاضي أبو الطيب، وغيره في باب دعوى الأعاجم ما ذكره الشيخ، وفرقوا بفرقين: أحدهما: أن الميراث بالولاء حق من حقول الملك، والعبد لا يملك إسقاط حق سيده فيما طريقه المال، دليله، عدم قبول إقراره بجناية الخطأ بالنسبة إلى ((التعليق)) بالرقبة، وليس كذلك الميراث بالنسب. والثاني: أن الولاء يثبت من طريق المعاوضة، وهو الشراء المتقدم للعبد، فهو كسائر الأملاك، وقد بينا أنه لا يملك إسقاط الملك بحال، فكذلك حق الملك. قال: وإن أقر بنسب ابن، فقد قيل: يقبل، لأن به حاجة إلى استلحاق الابن، لأنه لا يتصور ثبوت نسبه من جهة غيره إلا بالبينة، بخلاف الأخ، والأب، فإنه يتصور ثبوت نسبه من جهة أبيه وجده. ولأن المعتق ليس له منعه من أن يستولد ولدًا، فهو قادر على سبب استحداثه،

فلا يكون له منعه منه إن أقر به، لأن من قدر على الإنشاء قدر على الإقرار، وهذا ما نص عليه في كتاب اللقيط، وصححه البندنيجي في باب دعوى الأعاجم، وكذلك النواوي، ولم يحك القاضي أبو الطيب في باب عقل من لا يعرف نسبه غيره. وقيل: لا يقبل، كالإقرار بالأخ. وقد حكى الماوردي، وابن الصباغ في كتاب السير قبل باب المبارزة- وجهًا ثالثًا: أنه إن أمكن أن يكون ول له بعد عتقه، قبل، لأنه يملك الاستيلاد، ولا يملكه قبل ذلك. قلت: وقياس هذا أن يقال: إن أمكن أن يكون ولد له بعد أن أذن له السيد في التزويج قبل. وإقرار العبد بالنسب كإقرار من عليه الولاء، سواء، قاله في التتمة، وقد قدمت ذكره في باب اللقيط، فليطلب منه. فرع: إذا أقر الابن على أبيه بالولاء، فقال: هو معتق فلان، ثبت الولاء عليه وإن كان المقر مستغرقًا، كما في النسب، قال القفال في ((الفتاوى)). قال: وإن أقر الورثة بنسب- أي: لم ينفه من ألحق به- فإن كان المقر به يحجبهم- أي: كما إذا أقر الأعمام بأخ للميت، والإخوة بابن لأبيهم، أو المعتق بابن أو أخ أو عم للمعتق، ثبت النسب، لما روى عمرو شعيب عن أبيه عن جده: أن النبيصلّى الله عليه وسلّم ((قضى في كل مستلحقٍ استلحق بعد أبيه: ((فقد لحق بمن استلحقه))، وهذا نص عام فيما نحن فيه. ولأن الورثة يخلفون مورثهم في حقوقه، وفي إثباتها بالحجج والبينات في قبض الديون، والقصاص، والنسب حق له إثباته حيًا، فكان لورثته إثباته ميتًا، كالديون، والقصاص. قال: [دون الإرث]، لأنه لو ثبت يحجب المقرين، وخرجوا عن أن يكونوا

وارثين، وحنيئذ يبطل الإقرار، لأن صحة الإقرار معتبرة بأن يكون المقر وارثًا، ألا ترى أن الابن الكافر إذا أقر بأخ من أبيه المسلم، لم يثبت نسبه، لعدم الإرث، وإذا بطل الإقرار، بطل النسب والإرث، فكان ثبوته يؤدي إلى نفيه، فبطل، وأثبت النسب دونه، فإنه قد يثبت ولا ميراث، لموانع، فيجعل هذا منها. وقيل: يثبت الإرث فيه، لثبوت النسب، فإنه فرعه، ولأن الأصحاب أجمعوا على أن الابن المستغرق إذا أقر بأخ ثبت نسبه وميراثه وإن كان بإقراره يخرج عن أن يكون جميع الورثة، فلما كان هذا غير مانع، كذلك الأول، وهذا قول ابن سريج. قال: وليس بشيء. وقال القاضي أبو الطيب: إنه خلاف الإجماع، ولا يشبه ما ذكره، لأنه إذا كان المقر به كبيرًا فقد اتفقا على ذلك، وإن كان صغيرًا لم تعتبر موافقته، فقد أقر كل من يعتبر إقراره. وقال ابن الصباغ: عندي أن قول ابن سريج هو الصحيح، وهو في ذلك متبع لصاحب التقريب، وجماعة، كما قال ((الرافعي)). قال: وما احتج به الأصحاب فلا يصح، لأنه إنما يعتبر في الإقرار أن يكون وارثًا لولا إقراره، وخروجه من الإرث بإقراره لا يمنع صحته، كما ذكره أبو العباس فيما إذا أقر بأخ، فإنه خرج بإقراره عن أن يكون جميع الورثة. وقول القاضي: إنه لا يعتبر موافقة الصغير فهو حجة عليه، وقد كان يجب ألا يثبت حتى يبلغ، فيقر، فإنه وإن كان صغيرًا فهو وارث، دليله: ما لو كان الوارث اثنين أحدهما صغير- أي: أو مجنون- فأقر البالغ أو العاقل بأخ آخر، لم يقبل، ولا يقال: لا يعتبر موافقة الصغير والمجنون. ويدل على ما قلته من أنه يعتبر أن يكون وارثًا لولا إقراره من الأصول: أن رجلًا لو ثبت له ملك عبد عند الحاكم بالشهادة، فقال: هذا العبد لفلان- ثبت بذلك ملكًا للمقر له وإن كان خرج بإقراره عن أن يكون مالكًا، ولو أقر غير المالك، لا يثبت بإقراره الملك، وإنما يثبت لولا إقراره، لكان محكومًا له بالملك.

قلت: قوله: وإقرار غير المالك لا يثبت به الملك ممنوع، بل إقرار المالك لا يثبت الملك، دليله: ما لو شهدت البينة: أنه ملكه إلى حين إقراره له بالملك، لم تسمع، ولو قال: ملكي لفلان، لم يسمع، ولا يصح إقراره كما تقدم ذكره، بل الذي يصحح الإقرار كونه في يد المقر، بحيث لو ادعى الملك لنفسه لقبل لا كونه مالكًا، ولعله مراده. وقد حكى الإمام عن المحققين وجهًا آخر أن النسب لا يثبت لأنه لو ثبت، لاقتضي الإرث، ولو ورث لحجب المقر، وإذا حجبه، خرج عن أهلية الإقرار، فيبطل، وإذا بطل الإقرار، بطل النسب. فرع: لو ادعى مجهول النسب على أخي الميت: أنه ابن الميت، ونكل الأخ عن اليمين، فحلف المدعي، ثبت النسب، ثم إن جعلنا اليمين المردودة مع النكول كالبينة، ورث، وحجب الأخ، وهو المختار في ((المرشد)). وإن جعلناها كالإقرار، ففيه ما تقدم، قاله في ((المهذب))، و ((الحاوي))، غيرهما. ثم إذا ورثناه عند جعلنا ذلك كالبينة، فمات المجهول، هل يرثه المنكر؟ يشبه أن يقال: الحكم فيه كما لو أقام مجهول البينة على ثبوته، هل يرثه المنكر؟ وقد قال الماوردي: إنه إن أصر بعد موته على الإنكار، لم يرثه، وإن رجع عنه ورث. قال: وإن لم يحجبهم- أي: كما إذا أقر الأبناء بابن آخر، أو الإخوة بأخ آخر، أو الأعمام بعم آخر، ونحو ذلك- ثبت النسب، والأصل فيه مع ما تقدم: ما روي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: اختصم عبد بن زمعة وسعد بن أبي وقاص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ابن وليدة زمعة، فقال عبد: هو أخي ولد على فراش أبي، وقال سعد: هو ابن أخي عبد، عهد إلى أنه ألم بها في الجاهلية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ((هو لك يا عبد)) وفي رواية: ((الولد للفراش، وللعاهر الحجر))، فحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإقرار عبد زمعة بالنسب. فإن قيل: سودة زوجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخت عبد، [و] لم ينقل أنها اعترف به. فالجواب: أن زمعة كان كافرًا، وكذا عبد، وسودة أسلمت في حياته، فكان عبد قد حاز الميراث كله من أبيه، فكان الاعتبار بإقراره وحده.

وعلى أنه يجوز أن يكون- عليه السلام- سمع إقرارها بذلك في البيت، أو وكلت أخاها في الدعوة، لأنها عادة النسوة، ويدل عليه أنه قال لها: ((واحتجبي يا سودة))، فلولا أنها كانت معترفة، لكانت [محتجبة] مقيمة على الاحتجاب [الأول]. فإن قيل: حكمه- عليه السلام- إنما هو بالملك، لأنه قال: ((هو لك عبد)). فجوابه: أن التعليل ينفي ذلك، مع [أن عبدًا] ما ادعى رقه، فكيف يحكم له به؟ وقوله: ((هو لك)) أي: أخ لك. وقوله: ((عبد)) [هو] غير منون على النداء، كقوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف:29]، أي: يا يوسف. فإذا ثبت أن الوارث إذا كان واحدًا صح استلحاقه، فالجمع بذلك أولى، لأن أبا حنيفة قد وافق عليه. قال: والإرث، لأنه فرع النسب، والفرع يثبت بثبوت أصله ما لم يكن مانع، ولا مانع. فرع: لو قال المستغرق: فلان أخي، ثم فسر الأخوة بالرضاع، فعن الروياني: أنه حكى عن أبيه: أن الأشبه بالمذهب: أنه لا يقبل. فقال: وإن أقر بعضهم، وأنكر البعض- أي: كما إذا خلف الميت أخوين وابنين، فأقر أحدهما، وأنكر الآخر، أي:] وحلف- لم يثبت النسب، لأن إقرار من أقر ليس بأولى من إنكار الآخر، فسقطا، وبقي الأمر كما كان، وهذا مما لا خلاف فيه، كما قاله أبو الطيب، ولأجله ادعى ابن الصباغ فيه الإجماع، وهو كذلك في ((الحاوي)). قال: ولا الإرث، لقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} الآية [النساء:176]، وقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية [النساء:11] فأثبت الميراث للأخ والولد، وهذا ليس بأخ ولا ولد. ولأنه أقر بنسب لم يثبت، فوجب ألا يثبت به فرعه من الميراث، كما لو أقر بنسب معروف النسب لغيره.

ولا فرق في ذلك بين إرث مما في يد المنكر، أو المقر على المنصوص، وهو الصحيح، ولم يورد القاضي أبو الطيب والحسين سواه. وعن صاحب التقريب حكاية تخريج قول: أنه يرث مما في يد المقر. قال ((الرافعي)): وربما نسب ذلك إلى ابن سريج. والفوراني حكاه قولًا مجردًا عن ذكر التخريج، وقد يستدل له بمسائل: منها: إذا قال أحد الابنين: فلانة بنت أبينا، وأنكر الآخر- فإنه يحرم على المقر نكاحها إن كانت مجهولة النسب، وكذا إن كانت مشهورة النسب على أحد الوجهين، مع أن التحريم فرع النسب الذي لم يثبت. ولو قال أحدهما لعبد في التركة: أنت ابن أبينا، وأنكر الآخر، حكم بعتق نصيبه على أحد الوجهين. ومنها: لو قال أحد الشريكين في العقار لثالث: بعت منك نصيبي بكذا، فأنكر [الشراء] لا يثبت الشراء، وتثبت الشفعة على الصحيح. ومنها: لو قال: لزيد على عمرو كذا، وأنا ضامن، وأنكر عمرو، لزمه ما ضمنه على الصحيح. ومنها: إذا اعترف الزوج بالخلع، وأنكرت المرأة، ثبتت البينونة وإن لم يثبت المال الذي هو الأصل. ومنها: لو قال لعبده: بعتك نفسك بكذا، وفرعنا على الصحيح في صحة ذلك كما ذكرناه في باب العتق- فأنكر العبد الشراء، عتق وإن لم يثبت البيع الذي هو الأصل. وإذا قلنا بظاهر المذهب، فذاك في الظاهر، فأما في الباطن، فهل على المقر- إذا كان صادقًا، لعلمه بنسبه، أو لإقرار مورثه عنده به- أن يشركه فيما في يده؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي، وغيره: أحدهما: لا، لما تقدم. والثاني: وهو المذكور في ((تعليق)) القاضي أبي الطيب عن بعض الأصحاب لا غير-: المشاركة.

قال ابن الصباغ: وهو الصحيح، لأنه عالم باستحقاقه، فيحرم عليه منع حقه منه، كما لو قامت البينة بذلك. والقائل بهذا يقول: يثبت الإرث في الباطن، وهل يثبت في الظاهرة؟ فيه وجهان: ظاهر المذهب: المنع. وفي العدة عن الشيخ أبي حامد: أنه قال بعكس ذلك: إنه لا يثبت في الظاهر، وهل يثبت في الباطن؟ فيه وجهان. وقد رويت الطريقتان عن رواية صاحب التقريب. ثم إذا قلنا بالمشاركة، فبكم يشركه؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الماوردي: أحدها: بنصف ما في يده، لأن قضية ميراث البنين التسوية، فلا يسلم لأحد شيء ما لم يسلم للآخر مثله، والثالث بزعمهما غصبهما بعض حقهما. والثاني-: وهو الأصح في ((الرافعي))، ولم يورد أبو الطيب سواه- بثلث ما في يده، لأن حق الثالث بزعم المقر شائع فيما في يده ويد صاحبه، فله الثلث من هذا، والثلث من ذلك. وقد حكى هذين الوجهين الشيخ أبو حامد- كما قال ابن الصباغ- وقال: إنهما ينبنيان على القولين فيما [إذا] أقر بعض بدين على المورث، وأنكر الآخر، هل يلزمه الجميع في حصته، أو لا يلزمه إلا حصته. والثالث حكاه في الزوائد عن ابن اللبان، أنه يشركه بثلث ما في يده، ويضمن له سدس ما في يد أخيه إن كانت القسمة قد وقعت بالاختيار من غير حاكم، لأن يده ثبتت على نصف جميع التركة مشاعًا، فالزائد الذي في يد الأخ المنكر على حصته ثلث ما في يده قد كان في المقر منه بحكم الإشاعة نصفه، وهو السدس، فضمنه، ليسلمه له بالقسمة. ولو كانت القسمة وقعت بحكم الحاكم على المقر، وأقرع بينهما، لم يضمن. وعلى هذا لو لم المقر بالأخ المجهول حتى قاسم أخاه بغير حاكم، فهل يضمن؟ فيه وجهان في الزوائد:

أحدهما: يضمن، لأنه وجد منه التسليم. والثاني: لا يضمن، لأن القسمة وجبت عليه في الظاهر. وحكى الإمام بدل هذا الوجه الثالث عن صاحب التقريب: أنه إن قاسم المقر المنكر أعيان التركة قهرًا، والمقر ممتنع عن القسمة، فلا يغرم غير ثلث ما في يده. وإن جرت القسمة بينهما طوعًا، فيلزمه أن يغرم له مع ثلث ما في يده ما حصل في يد صاحبه، وهو ثلث ما معه، لأن التركة كانت ثابتة في يدهما على الجميع ثبوتًا شائعًا، فلما اقتسما، فقد رفع المقر يده عن نصف حصة الثالث، وسلمه، وترك المنكر على المقر مثل ذلك، فضمن من ذكرناه. قال: وعلى هذا لو كان المقر جاهلًا بالثالث حال وقوع القسمة طوعًا، ثم بعد القسمة أحاط علمه به، ففي المسألة وجهان حكاهما صاحب التقريب، وقد تقدم مثلهما على الوجه الثالث. فرع: لو كان المنكر اثنين، والمقر واحد فللمدعي النسب طلب يمينهما، فإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، لم يرد اليمين على المدعي، لأنه لا يثبت بها نسبًا، ولا يستحق بها إرثًا. وفي الزوائد في حلفه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: يحلف، لأن الحالف قد يقر، فيثبت بيمينه على الناكل. وقد بقى من أقسام المسألة: ما إذا أقر بعض الورثة، والبعض ممن لا يصح إقراره- لصغر أو جنون- وقد قال القاضي الحسين: إنه يثبت في الحال حتى لو مات أحدهما، ورثه الآخر، ثم إذا بلغ الصبي، وأفاق المجنون: فإن صدق استمر الثبوت، وإن كذب بان أنه لم يكن ثابتًا بإقراره. وإن مات الصبي والمجنون قبل ذلك، استقر الثبوت، هذا حكاه الإمام عن بعض المحققين، وقال: إنه متناقض، لأن ما يتعرض للوقف والتبين منتهى نظر، فلا معنى لإطلاق القول بنفوذ الحكم. والصحيح: أنه لا يثبت النسب في الحال، عملًا بما ذكرناه من قبل، لكن يوقف إلى البلوغ والإفاقة، فإن حصل التصديق ثبت، وإن حصل التكذيب فالحكم كما تقدم.

وإن مات قبل ذلك، فإن لم يكن له وارث غير المقر، ثبت، وإن كان له غيره، فلابد من تصديقه. أما إذا كان المورث قد نفى من ألحق به باللعان [أو غيره]، فهل للورثة استلحاقه حيث يستلحقونه لولا النفي؟ فيه وجهان في ((النهاية))، عن رواية القاضي: أحدهما: اللحوق، كما لو استلحقه المورث قبل الموت، وهذا ما أورده معظم العراقيين، ومنهم ابن الصباغ، وقال القاضي الحسين: إنه الذي قاله أصحابنا. والثاني: المنع، لأنه نسب قد سبق الحكم ببطلانه، ففي إلحاقه بعد الموت إلحاق بعد الموت إلحاق عار بنسبه، وشرط الوارث أن يفعل أن يفعل ما فيه حظ المورث، لا ما يضره، وهذا ما أورده في ((الحاوي))، و ((المهذب))، و ((التهذيب))، ولم يحك القاضي الحسين قبل باب الشهادة على الشهادة غيره. ولو لم يصدر من المورث نفي، لكن صدر من أحد الورثة إنكار له، ثم مات، ووارثه المقر بالنسب، فهل يثبت الآن؟ فيه وجهان، سواء أعاد الإقرار به، أو لم يعده، كذا قاله القاضي الحسين، والإمام، وهما في ((الحاوي)) وغيره من كب العراقيين: وأظهرهما: الثبوت، ولم يورد القاضي أبو الطيب سواه، وادعى ابن الصباغ: أنه المذهب، لأن جميع الميراث قد صار له. والثاني: المنع، لأن إقرار الفرع مسبوق بإنكار الأصل. ويجري الوجهان فيما لو خلف المنكر وارثًا غير المقر، وصدق على النسب، وقد جزم أبو الطيب فيها بالثبوت أيضًا. ولا خلاف أنه لو أقر أحد الورثة، وسكت الباقون، ثم مات الساكت، ووارثه المقر أو غيره، وصدق على النسب: أنه يثبت، لأن إقراره غير مسبوق بتكذيب أصله. فروع: أحدها: لو أقر الابن المستغرق بأخوة مجهول، فصدقه المجهول على أنه ابن الميت، وأنكر أن يكون المقر ابنه- ففيه ثلاثة أوجه: أصحها: أنه لا أثر لهذا الإنكار، ويرثان.

والثاني: لا يثبت نسب المنكر [ونسب المقر بحاله وإرثه، حكاه في ((الإنابة)) عن القفال. والثالث: أنه يثبت نسب المنكر]، ويحتاج المقر إلى إقامة البينة على نسبه. قال القفال: وهو غلط. الفرع الثاني: إذا أقر المستغرق بأخوة شخص، وصدقه، ثم إنهما أقرا بنسب ثالث، وأنكر الثالث نسب الثاني، ففي سقوط نسب الثاني وجهان في ((المهذب)) وغيره: وأصحهما- ولم يورد الماوردي، والقاضي أبو الطيب، والحسين، وابن الصباغ سواه-: السقوط، لأنه ثبت نسب الثالث، فاعتبرت موافقته، لثبوت نسب الثاني. الفرع الثالث: إذا أقر بأخوة مجهولين، وصدق كل واحد منهما الآخر، ثبت نسبهما. وإن كذب كل واحد منهما الآخر، فوجهان: احدهما: يثبت نسبهما، لوجود الإقرار ممن يحوز التركة. والثاني: ولم يورد في ((المهذب)) غيره-: أنه لا يثبت. ولو صدق أحدهما الآخر، وكذبه الآخر، ثبت نسب المصدق دون المكذب، إذا لم يكونا توأمين، فإن كان توأمين فلا أثر للتكذيب. قال الماوردي، والمصنف: وكان الإقرار بأحدهما إقرارًا بالآخر. الفرع الرابع: إذا كان في يد ثلاثة إخوة جارية، معها ولد، فقال أحدهم: هي أم ولد أبينا، والابن أخونا، وقال الثاني: هي أم ولدي، وولدها ني، وقال الثالث: هي جاريتي، وولدها عبدي- قال القاضي أبو الطيب في ((شرح الفروع)) عن ابن الحداد: عتق ثلثها وثلث ولدها بإقرار الأول، وبإقرار الثاني يصير ثلث الولد حرًا أيضًا، لاعتراف بالبنوة، ويثبت نسبه، إذ لا منازع له فيه، فإن بإقرار الأول وحده لا يثبت نسبه من الأب، وثلث الجارية يصير أم ولد، ويسري العتق والاستيلاد إلى حق مدعي الملك إن كان موسرًا، فيغرم له قيمة ثلث الأم وقيمة ثلث الولد، وإن كان معسرًا، لم يسر، ويبقى حق مدعي الملك على الرق. تبينه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمورًا:

أحدها: أن تصديق جميع الورثة كاف في ثبوت النسب، سواء كانوا ذكورًا كالأولاد إذا أقروا بولد آخر للميت، أو بأخ له، أو عم، والإخوة إذا أقروا بأخ [آخر] للميت، أو بابن أو عم، والأعمام إذا أقروا بعم آخر للميت، أو بابن، أو أخ، والأولاد والأب إذا أقروا بأخ للميت، والإخوة والأجداد إذا أقروا بأخ للميت. أو كانوا إناثًا: كالبنات، والأخوات إذا أقروا ببنت أخرى، أو ابن، أو أخت أخرى، أو أخ، لأنهن يستغرقن جميع الميراث. أو كانوا ذكورًا وإناثًا، وهو كذلك كما صرح به الأصحاب، وألحقوا بالحالة الثانية ما إذا لم يكن للميت سوى بنت واحدة هي معتقته، وهل يرث المقر به إذا كان أخًا لها؟ فيه وجهان إذا قلنا: إن المقر به إذا كان يحجب لا يرث: أحدهما: نعم، يرث، لأنه لا يحجبها، فإنه يبقى لها الثلث. والثاني: لا يرث، لأنه يحجبها عما تستحقه بالولاء، فيصير كما لو لم يخلف إلا بنتًا ومعتقًا، فأقر بابن للميت لا يرث، لحجبه المعتق. الأمر الثاني: أنه لا فرق في الوارث الذي يعتبر تصديقه بين أن يكون من أصحاب الفرائض أو من العصبات، ممن يرث بالنسب، أو بالسبب: كالزوجة، والمعتق، وهو كذلك على المشهور، وألحقوا الزوج بالزوجة في اعتبار تصديقه، ويظهر أن يكون هذا مفرعًا على أن المرأة يصح استلحاقها، وإلا فقد ذكرنا عن ابن اللبان: أنه قال: من لم يقبل إقرار المرأة بالولد، لم يقبل إقرار ورثتها به. وعلى هذا لا يمكن اعتبار تصديق الزوج. وفي ((الرافعي))، و ((النهاية)) حكاية وجه منسوب في ((الحاوي)) إلى البصريين من أصحابنا: أنه لا يعتبر تصديق الزوج والزوجة، لأن الزوجية تنقطع بالموت. ولأن المقر به النسب، ولا شركة في النسب وهو جار- كما قال الغزالي وغيره- في العتق. وقال الماوردي: إن مثله يجري فيما إذا ادعى شخص أخوة من الأم، لا يفتقر إلى تصديق الأخ من الأب، وإذا ادعى أخوة من الأب، لا يفتقر إلى تصديق الأخ من الأم، لأنه لا نسب بينهما.

والمذكور في ((الإبانة)) وغيرها الأول. ولو كان لبيت المال مدخل في الوراثة، كما إذا مات شخص، وخلف بنتًا لا غير، وصدقها الإمام، لا على وجه الحكم، فهل يثبت النسب؟ فيه وجهان في ((المهذب)) وغيره، بناء على أن الإمام، هل ينزل منزلة الوارث الخاص أم لا؟ والمذكور منهما في ((تعليق)) أبي الطيب، و ((الشامل)): القبول، وهو الذي نسبه الماوردي إلى الشيخ أبي حامد، وقال: إنه غير صحيح، لأن الإمام لا يملك حق بيت المال، فينفذ إقراره، ولا يتعين مستحقه من المسلمين، فيعتبر تصديقه، فلا يثبت، وهذا ما اختاره في ((المرشد)). أما لو كان على وجه الحكم، انبنى على القضاء بالعلم، هل يجوز أم لا؟ والوجهان جاريان- كما قال ((الرافعي)) - فيما لو مات شخص لو وارث له، فأقر الإمام له بوارث- هل يثبت نسبه؟ قلت: وعلى القبول ينبغي أن يراعى حاله، فإن كان صاحب فرض، ورث، وإن كان غصبة فلا، بناء على الصحيح في أن المقر به إذا كان يحجب لا يرث. الأمر الثالث: أن تكون حيازة المستغرق تركة المستلحق به بغير واسطة، لأنه حينئذ يصدق أنه وارثه حقيقة، وقد قال الأصحاب: لا فرق فيه بين أن يكون بغير واسطة [أو بواسطة]، كما إذا أقر بعمومة مجهول، وهو حائز لتركة أبيه الحائز لتركة جده الملحق به، فإن كان قد مات أبوه قبل جده، والوارث ابن الابن، فلا واسطة، ولو كان الحائز لتركة الجد أبوه وعمه، ثم مات عمه، ولا وارث له غير غير أبيه، أو هو، فالأمر كذلك. فإن قلت: هذا منهم يفهم أنهم اعتبروا أن يكون المقر حائزًا لميراث الملحق به النسب لو قدر موته حين الإلحاق. قلت: كلامهم يأبى ذلك، لأنهم قالوا: لو مات شخص مسلمًا، وترك ولدين، أحدهما مسلم والآخر كافر، ثم مات الابن المسلم، وترك ابنًا مسلمًا، وأسلم عمه الكافر- فحق الإلحاق بالجد لابن ابنه [المسلم، لا لابنه] الذي أسلم بعد موته، ولو كان الأمر كما قيل، لكان حق الإلحاق للابن، لا لابن الابن.

قال: وإن أقر الورثة بزوجية امرأة المورث، ثبت لها الميراث، كما لو أقروا بنسب شخص، ثبت له الميراث، وهكذا الحكم فيما لو أقروا بزوج للمرأة. وعن القديم قول: أنه لا يقبل فيهما، لأن الزوجية قد انقطعت بالموت، بخلاف النسب. والصحيح الأول، لقصد الميراث. قال: وإن أقر البعض، وأنكر البعض، فقد قيل: يثبت لها الإرث بحصته، لما ذكرنا أن القصد بالإقرار بالزوجية الما، وهو مما يتبعض ثبوته، فآخذنا المقر به، كما لو أقر بغصب حصة من الموجود، وأنكر باقي الورثة. فعلى هذا بكم تشارك؟ فيه الوجه السابق. وقيل: لا يثبت، كما في نظيره من النسب، وهو الأظهر عند الغزالي، تبعًا لإمامه، والقاضي الحسين، وقد اختاره النواوي، وصاحب ((المرشد)). ثم ظاهر كلام الشيخ وغيره يقتضي أن هذا الخلاف- وهو قولان، كما قال في ((المهذب))، ووجهان، كما قال في ((الحاوي)) وغيره- مفرع على قولنا بعدم الإرث في نظير المسألة في الإقرار بالنسب، لأنهم جزموا في مسألة النسب بعدم الإرث، وحكوا الخلاف في هذه المسألة، وقد صرح به الماوردي، والفرق بينهما من وجهين: أحدهما- أشار إليه القاضي الحسين-: أن المقر في مسألة الزوجية، لم يقر بحق عليه في مقابلته حل له، لأن النكاح ينتهي بالموت، ولا يتصور إرثه بعد وفاة المورث، بخلاف ما إذا أقر بالنسب وأنكر البعض، فإنه أقر بحق عليه بإزاء حق له، وهو أن يكون وارثًا للمقر به، فلما لم يثبت حق نفسه وهو إرثه منه، كذا لا يثبت ما أقر به، دليله ما لو قال: بعت هذا العبد منك بألف، فأنكر الشراء، لا يلزمه تسليم العبد إليه. والثاني- قاله الماوردي-: أن الزوجة ترث بعد ارتفاع الزوجية بالموت، فجاز أن ترث مع عدم ثبوت الزوجية، والنسيب لا يرتفع نسبه بالموت، فلم يجز أن يرث مع عدم النسب. وقد قال ((الرافعي)): إن الحكم هاهنا كالحكم في مسألة الإقرار بالنسب من غير بناء.

قال: وإن أقر الورثة بدين على مورثهم، لزمهم قضاؤه من التركة، لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]، ولهم أن يوفوه من غير التركة كما تقدم في مواضع. ولم تكن تركة، أو كانت ولم يضعوا أيديهم عليها، لم يلزمهم الوفاء من أموالهم. نعم، لو تبرعوا بالأداء، وجب على رب الدين القبول، حيث يجب عليه لو كان الباذل له المديون، ولا فرق بين أن يكون للميت تركة أولا. وقال الإمام في كتاب القسامة: وظني أني رأيت لبعض الأصحاب إلحاق الوارث بالأجنبي في حالة عدم التركة، وقد حكيت ذلك مرة أخرى من قبل. وكما يجب قضاء الدين المعترف به من التركة، يجب تنفيذ الوصايا المعترف بها من ثلثها، عملًا بالآية المذكورة. فلو أقر الورثة بدين ووصية، فهل يزدحمان عند الضيق، وتكاذب المقر له بالدين والوصية، أو يقدم الدين؟ قال الأصحاب: إن تقدم الإقرار بالوصية ثم تعقبه الإقرار بالدين، ولم تتسع التركة لهما، كما إذا كانت ألفًا، والموصى به الثلث، والدين ألف، ففيما يفعل وجهان: أحدهما: تقدم الوصية، لتقدمها، والباقي لرب الدين، وقد ادعى الإمام قبل باب القافة [بورقتين]: أنه لا خلاف فيه. والثاني: يصرف الجميع لرب الدين، كما لو ثبتا بالبينة، [وهذا ما] حكاه الغزالي عن الأكثرين، ولم يورد الماوردي والفوراني وغيره. ومنهم من ينسبه إلى تخريج الصيدلاني، وهو مخرج على أن إقرار الوارث والموروث يتساويان، كما قدمنا أنه الصحيح. ولو انعكس الحال، وأقر بالدين [أولًا، ثم بالوصية، فقضية الوجهين صرف الألف لرب الدين]، وهو الذي حكاه الماوردي، والفوراني، وكذا الإمام في الموضع المذكور.

ولو أقر لهما معًا، كما إذا ادعيا ذلك، فقال: صدقتما، فالحكاية عن الأكثرين: أنه يقسم الألف بينهما أرباعًا، لأنا نحتاج إلى الألف للدين، وإلى ثلث الألف للوصية، فيتزاحم على الألف ألف وثلث [ألف] فيخص الوصية ثلث عائل، وهو الربع، وهذا ما حكاه الماوردي، ونسبه الإمام في الموضع المذكور إلى ابن الحداد، ومعظم الأئمة، [ثم] قال: وهو المذهب، وقال الطبري في العدة: إنه مذهب القفال. لكن الصحيح عندي: أن المال كله لصاحب الدين، وهذا ما حكي عن الصيدلاني، قياسًا على ما لو ثبتا بالبينة. قال ((الرافعي)): وهذا هو الحق، سواء قدمنا عند ترتيب الإقرارين الأول منهما، أو سوينا بينهما. وقال الإمام ثم: إنه غريب، وإنا إذا قلنا بمقابله، فهل للمقر له بالدين أن يرجع على الوارث بغرم ما أخذه الموصي له، لأنه يقول له: لو كنت قدمت الإقرار لي بالدين، لم يفت علي فأنت المضيع له بإقرارك؟ قال الشيخ أبو علي: إنه على القولين أقر الإقرار إذا تضمن إيقاع حيلولة بين إنسان وبين حقه، ولا خلاف أنهما لا يجريان بالنسبة إلى صاحب الوصية [وإن أخر الإقرار بها عن الدين]، لأن وضع الوصية التأخير عن الدين، فالإقرار بها وضعه التأخير [عنه] أيضًا، فلم يضعه المقر في غير موضعه. قال: وإن أقر بعضهم [بالدين]، وأنكر البعض، ففيه قولان: أحدهما: يلزم المقر جميعه في حصته، لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فوجب ألا يرث إلا بعد قضاء الدين، لأن صاحب الدين مقدم، وليس بمشارك. ولأن ما أخذه المنكر من التركة كالمغضوب في حق رب الدين، وغصب بعض التركة يوجب قضاء الدين من باقيها، فلزم أخذ جميعه منه، وهذا ما خرجه

أبو عبيد بن حربويه، وأبو جعفر الإستراباذي من مقتضى نص الشافعي في القسامة على أنه إذا حلف أحد الابنين في القسامة، واستحق بأيمانه نصف الدية، وكان على المقتول دين، قضى جميعه من حصه الابن الحالف، فكذلك في هذه المسألة، وقد وافقهما على هذا التخريج بعض الأصحاب، وهو ابن سريج، كما قاله في ((البحر)). قاله الماوردي قبيل باب الشاهدة على الشهادة: وعلى هذا لا يغرم المقر كل الدين حتى يحلف المنكر، فإذا حلف، غرم، وصار المقر خصمًا له ويحلفه- أيضًا- إن استدام على الإنكار، ولا يسقط عنه اليمين في حق المقر باليمين الأولى. والثاني: يلزمه بقسطه، لأنه لو لزمه جميع الدين ما قبلت شهادته إذا كان عدلًا مع غيره، أو مع اليمين، لأنه يصير بالشهادة حينئذ دافعًا عن نفسه، وقد وافق الخصم- وهو أبو حنيفة- الشافعي، وجمهور الفقهاء على قبول شهادته بالدين على الميت، فدل على أنه لم يكن يلزمه بالإقرار إلا حصته. ولأن إقراره كالشهادة، والدين كالعين، فلما استوى حال الشهادة في الدين والعين في إلزامه منه بقدر حصته، [وجب أن يستوي حال إقراره بالدين والعين في إلزامه منه بقدر حصته]، وهذا هو الأصح. والمذكور في ((المختصر)) في كتاب الشهادات: الثاني، وفي جميع كتب الشافعي، كما قاله الماوردي، وعليه أكثر الأصحاب، وفرقوا بين ما نحن فيه وبين مسألة القسامة بأنه لم يحصل في مسألة القسامة من التركة إلا ما حلف عليه، وهو نصف الدية، فلذلك قضى جميع الدين منه، كما لو غضب بعض التركة، يقضي الدين من الباقي، وهاهنا التركة موجودة في يد الوارثين، فتعلق الدين بجميعها، ولزم المقر في حصته نصف ذلك. وأيضًا: فإن الشافعي فرض مسألة القسامة في حالة اعتراف الابن بالدين، فإنه قال: ((فإن أقسم الولي الآخر، قضى بالنصف الآخر، ثم رجع الأول عليه))، يعني: بنصف الدين، وهاهنا أحد الابنين جاحد للدين، فلو كان أحد الابنين ثم جاحد، لم يقض من الدين إلا بقدر حصة المقر.

وفي ((البحر)): أن صاحب ((الحاوي)) قال: الأصح عندي من إطلاق القولين: أنه ينظر في التركة. فإن لم تقسم حتى أقر أحدهما بالدين، قضى جميعها منها، وكان محسوبًا من حق المقر دون المنكر. وإن اقتسم الابنان التركة، ثم أقر أحدهما بالدين، لم يلزمه منه إلا نصفه، لأن المقر معترف باستحقاق جميع الدين في جميع التركة، [فصار] قبل القسمة مقرًا بجميعه، وبعد أخذ النصف بالقسمة مقرًا بنصفه. انتهى. قلت: وعلى هذا التفصيل يظهر أن يقال: في المسالة ما ذكرناه عن صاحب التقريب وابن اللبان في مسألة إقرار بعض الورثة بالنسب دون بعض، لأن من وضع يده على تركة وضعا مضمنًا، كان لمن له على الميت دين مطالبته، كالورثة [بشرطه]. ثم ما ذكرناه عن الشافعي من أن شهادة بعض الورثة بالدين على الميت مسموعة وهو ما نص عليه في ((المختصر)) في كتاب الشهادات: الثاني: ولم يحك العراقيون والماوردي غيره، مع حكايتهم القولين في لزوم وفاء جميع الدين من حصته، أو بالقسط، وحكى القاضي الحسين وغيره في الموضع المذكور في قبول الشهادة قولين، سواء أقر أولًا ثم شهد، أو شهد أولًا ثم أقر، وقال: إنهما مبنيان على القولين في مسألة الإقرار: إن قلنا: يلزمه الجميع في حصته، لم تقبل، وإلا قبلت، وهذا ما نسبه الإمام إلى المحققين من أصحابنا، وقال في ((البحر)): إن القفال توسط، فقال: إنه ينظر: إن شهد قبل أن يقر قبلت. وإن شهد بعدما أقر، فإن قلنا: بالإقرار يلزمه جميع الدين عند تمام الشهادة- لم تقبل شهادته، وإلا قبلت. وعلى هذا لو أخر في شهادته لفظة ((أشهد)) عن الاعتراف بالدين، أي: بأن قال: لفلان على أبي كذا، أشهد به، قال في ((البحر)) في الفروع المذكورة قبل كتاب الشهادات: فهو كما لو قدم لفظة ((الشهادة)). ويحتمل وجهًا آخر: أنه لا يقبل إذا أخر لفظة الشهادة، ولكنه بعيد ضعيف.

وقد فرع ابن الصباغ وغيره في باب الأقضية باليمين مع الشاهدين على القولين في الكتاب- ما إذا كان على الميت دين، [وله] به شاهد أقامه الورثة، وحلف معه أحدهم، ونكل الباقي، فهل يقضي جميع الدين مما حلف عليه أم لا؟ قالوا: إن قلنا: إن الوارث إذا امتنع من الحلف، يحلف الغريم- كما هو أحد القولين المذكورين في باب التفليس- فلا يقضي منه إلا بقدر حصته. وإن قلنا: الغريم لا يحلف انبنى على أن الناكلين هل يشاركون الحالف فيما حلف عليه، أم لا؟ [وفيه خلاف] سبقت حكايته في هذا الباب، فإن قلنا: يشاركونه، قضى الجميع منه، وإلا جاء القولان المذكوران في الكتاب. فرع: لو أقر أحد الابنين بوصية أبيه لشخص، وأنكر الآخر، قال الماوردي: فإن كانت الوصية بالثلث، فلا يلزم المقر منها المقر منها إلا بحصته، بوفاق أبي حنيفة، وجميع أصحابنا، بخلاف الدين. والفرق: أن جميع الدين يستحق فيما وجد من قليل التركة وكثيرها، والوصية بثلث التركة، لا تستحق إلا من جميعها، ولو كانت الوصية معينة: كالوصية بدار، فإن كانت باقية في التركة، فلا يلزم المقر إلا نصفها، وإن كانت قد حصلت في سهم المقر بعد القسمة، لزمه جميعها، لأنه يعترف [بها] للموصى له. قال القاضي الحسين: ولا يرجع [على أخيه] بشيء، لأن الاستحقاق ثبت بقوله، فلا يقبل على غيره. وقال الماودري: إنه يصير خصمًا لأخيه في نصفها، وهذا لا منافاة بينه وبين القاضي، خصوصًا إذا أعدنا الضمير في قوله: ((في نصفها)) إلى التركة، لا إلى العين، لأن مقتضى قول المقر عدم صحة القسمة، كما تقدم ذكر ذلك في بابها. وإن كانت قد حصلت في سهم المنكر، فلا شيء على المقر بها، لأنه لا يملكها، ولا مطالبة عليه بقيمتها، فإذا حلف المنكر، بريء من المطالبة، وحصلت له الدار، وبطلت الوصية فيها، كذا قاله الماوردي.

وقال القاضي الحسين: إنه يغرم نصف قيمتها للموصى له. ولو شهد المقر على أخيه [بها مع آخر، استرجعت منه، وكذا لو حلف معه، ولا يرجع المنكر على أخيه] بشيء، لأنه بالإنكار جاحد للاستحقاق. وقال القاضي الحسين: إنه يرجع عليه بنصف قيمة العين. قلت: وفي سماع شهادته وتغريمه نصف القيمة إذا صدرت القسمة بالتراضي نظر، من حيث إن الشهادة تتضمن بطلان القسمة، فهي مناقضة لما صدر منه من القسمة، ونحن لا نسمع الدعوى بمثل هذه التضاد، لأجل التحليف، فكيف نسمع الشهادة؟! فإن حمل ذلك على ما إذا وقعت القسمة بالإجبار، كان النظر في إيجاب نصف الغرم، لأن مقتضى [الشهادة] بطلان القسمة، وإذا بطلت فلا غرم، لأنا نخرج تلك العين من التركة، ونقسم الباقي، والله أعلم. ولو كانت الوصية بألف درهم مثلًا- قال القاضي الحسين: ففيها القولان: أحدهما: أن جميع الألف يوفى من ثلث نصيب المقر. والثاني: لا يوفى منه إلا نصف الألف، سواء كان قبل القسمة، أو بعدها. وحكى الإمام عن صاحب التقريب طريقة أخرى قاطعة بالقول الثاني، وقال: ليست بشيء، بل لا فرق بين الوصية والدين. قال: وإن كان لرجل أمة، فأقر بولد منها، أي: حيث يلحقه نسبه، ولم يبين بأي سبب وطئها- صارت الأمة أم ولد له، لأن الولد محكوم بحريته بلا خلاف عندنا، والظاهر من حال المملوكة: أن السيد أحبلها به في ملكه، فحمل الإقرار عليه، وهذا ما دل عليه ظاهر النص، كما قال القاضي الحسين، والإمام، وقال: إنه بعيد عن القياس- أي: في الإقرار- لأن المتبع فيه اليقين، وهو الذي رجحه الشيخ أبو حامد وجماعة، كما قال ((الرافعي))، وتبعهم البغوي، وصاحب ((المرشد)). وعلى هذا لا ولاء على الولد. قال في ((التهذيب)): ولا يجوز للمقر ببيعها. وقيل: لا تصير، لأن الأصل الرق، ويحتمل أن يكون الاستيلاد في نكاح متقدم على الملك، فلا نوقع العتق مع الشك، وهذا قول أبي إسحاق، وأبي علي الطبري، وأكثر الأصحاب، كما قاله القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ في أثناء

أحد الفرعين الذين سنذكرهما- إن شاء الله تعالى- ولم يورد الماوردي في موضع من الباب غيره. وعلى هذا يكون الولاء على الولد، وللمقر بيعها، وإذا مات عتقت على ولدها إن حاز جميع التركة، وإلا عتق منها حصته، ولا يقوم عليه الباقي وإن كان موسرًا، كما تقدم. قال الماوردي: ولها أن تدعي على الورثة: أنه أصابها في الملك، فإن صدقوها، ثبت الاستيلاد وإن كان على الميت دين يستغرق قيمتها، كما لو أقر به المورث. وإن كذبوها، وادعوا استيلادها في غير وجه، ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قول الورثة مع أيمانهم على نفي العلم، استصحابا لرقها. والثاني: أن القول قولها مع يمينها على البت، اعتبارًا [بالظاهر] من الملك، وعدم النكاح من قبل. ولو بين فقال: وضعته في ملكي، قال القاضي الحسين: فإن قلنا في المسألة السابقة: إنها تصير أم ولد، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان، وهذا ما حكاه الإمام عن الأئمة، لأن تلك يتطرق إليها احتمال العلوق، واحتمال الوضع في غير الملك، [وهذه لا يتطرق غليها إلا احتمال العلوق في غير الملك]، وهذا عندي لغو إذا كان يتطرق الاحتمال إلى اللفظ، فإنه يخرج الإقرار عن أن يكون صريحًا، فلا فرق بين أن يخرج باحتمال، أو باحتمالين. ويجيء مما قاله القاضي في المسألة طريقان: إحداهما: القطع بالثبوت، وهي التي أوردها ابن الصباغ. والثانية: إثبات الخلاف فيها. وقد حكاهما ((الرافعي))، وصحح الثانية. ولو قال: هذا ولدي منها، علقت به في ملكي، فلا خلاف في ثبوت الاستيلاد. ولم يخرج الأصحاب في ذلك وجهًا، لاحتمال أن تكون حالة العلوق مرتهنة، كما خرجوا لأجل مثل هذا الاحتمال وجهًا فيما سنذكره، ولا ولاء على الولد في هذه الحالة بلا خلاف أيضًا.

وألحق الإمام بهذه الحالة ما إذا قال: هذا ولدي منها، وملكي عليها مطرد منذ [عشر سنين]، وكان الولد ابن سنة. ولو قال: هذا ولدي منها، علقت به في نكاح، فلا تصير أم ولد جزما، وعلى الولد الولاء جزما. قلت: وينبغي إذا قلنا: الإقرار المطلق ينزل على العلوق في الملك- أن ينظر: هل كانت زوجة [له] أم لا، كما قلنا في الطلاق: إذا قال لزوجته: أنت طالق طلقة قبلها طلقة. لكن لك أن تقول: محل الكلام في أن الإقرار المطلق ينزل على العلوق في الملك، إذا لم يعهد أنها زوجة [له، كما أفهمه الماوردي الذي حكيناه من قبل. أما إذا عهدت زوجة له]، فلا. ولو قال: علقت به في وطء شبهة، فهل تصير أم ولد؟ فيه القولان فيما إذا وطىء أمة الغير بشبهة، ثم ملكها، هل تصير أم ولد له أم لا؟ كما تقدم، ولا ولاء على الولد، لأنه خلق حرًا. ولو بين أنه وطئها زنى، قال ((الرافعي)): فإن كان منفصلًا عن اللفظ، فهو كما لو لم يبين السبب، وإن كان متصلًا باللفظ، فلا يثبت النسب، ولا أمية الولد، قاله في ((التهذيب)). ولك أن تقول: ينبغي أن يتخرج على قولي تبعيص الإقرار. قلت: لا وجه لذلك، لأن المسألة مصورة في ((التهذيب)) بما إذا كان التفسير منفصلًا، لأنه قال في صدر المسألة: إذا كان أمتان لكل واحدة ولد، فقال: أحد هذين الولدين ولدي، يؤمر بالتعيين، فإذا عين في أحدهما، ثبت نسبه، وهل تصير أم ولد؟ نظر:

إن قال: بملك اليمين، صارت أم ولد له وإن قال: استولدتها بملك النكاح، لم تر أم ولد له، وإن قال: بوطء شبهة، فهل تصير أم ولد؟ وقضيته فيه قولان، [وإن أطلق فقولان] أيضًا. وإن قال: استولدتها بالزنى، لم يقبل هذا التفسير، وهو كالطلاق. وإذا كان كذلك فقوله: ((هذا ولدي)) صدر منه منفصلًا في أول لفظه، وقضيته أن تكون أمه أم ولد على قوله، وقوله بعد ذلك: استولدتها بالزنى يرفع ذلك، ويرفع- أيضًا- كون الولد حرًا نسيبًا، فكان مثل قوله: له علي ألف، ثم يقول: من ثمن خمر، فيلزمه قولًا واحدًا. نعم: لو قال ابتداء: أحدهما ولدي، استولدت أمه به بالزنى، اتجه التخريج كما قال. وقد ذكر الأسحاب في هذا الباب فرعين يتعلقان بما نحن فيه.

أحدهما: إذا كان لرجل أمتان، لكل واحدة ولد، ولا زوج لهما، ولا واحدة منهما فراشًا له، فقال أحدهما ولدي، علقت به أمه في ملكي- صح هذا الإقرار، وطولب بالبيان، كما لو أقر بطلاق إحدى المرأتين، فإذا عين أحدهما ثبت نسبه، وكان حرًا، لا ولاء عليه، وأمه أم ولد، وللأمة الأخرى أن تدعي أن ولدها هو الذي أقر به، وأنه استولدها، وتحلفه عليه، كذا قاله ((الرافعي)) وغيره، وفيه نظر، لأن المسألة مصورة بما إذا لم تكن فراشًا له، وقد تقدم أن السيد إذا لم يعترف بالوطء، لا تسمع عليه دعوى الاستيلاد، ومن طريق الأولى سماع دعوى الولد عند البلوغ بأنه أراده بالإقرار. وإذا سمعت دعوى الأمة وولدها، فالقول قول المقر مع يمينه، فإن حلف، فذاك، وإلا حلف المدعي، وثبت النسب، والاستيلاد، كما قاله الإمام وغيره. ولو مات السيد قبل البيان، قام وارثه المحقق مقامه في تعيين الولد، وكذا في كيفية الاستيلاد، حتى إذا قال: الوطء جرى في نكاح، لم تصر أم ولد. قلت: وفيه نظر، إذا قلنا: إن الإقرار المطلق يحمل على الاستيلاد في الملك، فإن قول الوارث حينئذ يكون مبطلًا له، فينبغي ألا يقبل، بل نقول: لو كان المورث حيًا، وقد أطلق، ثم ادعى أنه أراد الاستيلاد في النكاح، فينبغي هذا ألا يقبل، لما فيه من إبطال حق ثابت، ويؤيده ما ذكرناه عن البغوي: إذا قلنا: إنها تصير أم ولد عند الإطلاق، لا يتمكن المقر من بيعها، لكن ابن الصباغ وغيره قالوا: إنا نقبل تفسير المقر بكونها علقت به في النكاح إذا طالبناه بالتعيين، بعد إطلاق القول بأن هذه ولده من هذه، وكذا البغوي قاله كما حكيناه من قبل، فلا جرم قبلوا في ذلك إقرار الوارث أيضًا. وكان الجواب: أن محل القولين في كون المطلق يحمل على الاستيلاد في الملك أم لا إذا تعذر البيان، أما مع وجوده فلا، ويشهد لذلك ما ذكر فيما إذا قال لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وقال: أردت بالثالث تأكيد الثاني: أنه يقل وإن كان عند الإطلاق نوقع عليه الثلاث على الصحيح. ومن هذا القبيل: إذا قال: هذا المال لورثة زيد، فإن مطلقه يحمل على التساوي على عدد الرءوس وإن تفاوتوا في الميراث، فلو قال المقر بعد ذلك:

أردت الميراث، قبل وإن نازعه أقلهم حصة، كما قاله الماوردي في هذا الباب. وقد أشار مجلي إلى شيء يعضد ذلك، حيث قال: إذا قال لزوجته: أنت [علي] حرام، ونوعى به الطلاق- يقع، وإن جعلناه صريحًا في إيجاب الكفارة، لأن محل قولنا: إذا خلا عن النية. رجعنا إلى المقصود: فإن قال الوارث: لا [علم لي] بالولد منهما، أو لم يكن للميت وارث، عرض الولدان على القائف، فأيهما ألحقه به، لحقه، وكانت أمه أم ولد، لأنا صورنا الفرع بما إذا قال المقر: علقت به في ملكي، واعتماد القائف في هذه الحالة على رؤية سابقة للميت، أو على رؤيته قبل الدفن، أو رؤية بعض عصبته، فيجد الشبه. وإن لم [يكن] قائف، أو كان وتعذر عليه التمييز- أقرع بين الولدين، ولا ينتظر بلوغهما حتى ينتسبا، بخلاف ما لو تنازع اثنان في ولد، وتعذر تمييز القائف، لأن الاشتباه هاهنا في أن الولد أيهما؟ فلو اعتبرنا الانتساب، فربما انتسب كل واحد منهما إليه، فلا يرتفع الإشكال. ثم إذا خرجت القرعة على أحدهما عتق، ولا يثبت النسب، ولا الميراث، لأنه لا [مدخل للقرعة] فيهما، ويصير هذا كما لو شهد رجل وامرأتان بالسرقة، يثبت المال دون القطع، كذا قاله الأصحاب، واعترض عليهم ابن الصباغ [فأبدى فرقًا] بين الصورتين ذكر مثله الأصحاب في الفرق بين ثبوت المال في السرقة بالشاهد والمرأتين، وعدم ثبوت الدية بشهادة الرجل والمرأتين على القتل العمد، ثم أجاب بما ليس بالقوى. وحكى الماوردي عن ابن خيران: أنه قال: يثبت النسب بها، لأن الحرية تثبت له بالولادة، فلم يجز أن يرتفع أصله ويثبت حكمه. ثم قال: وهذا خطأ، لأن القرعة لا تدخل، لتمييز الأنساب المبهمة، وتدخل لتمييز الحرية المستبهمة. وعلى المشهور: هل يوقف نصيب ابن بين من خرجت القرعة له، وبين الآخر؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم، لأنا نتحقق أن فيهما ابنا وارثًا، فوقف، كما لو طلق إحدى امرأتيه على التعيين، ومات قبل التعيين، وتعذر البيان، وهذا ما نسب الإمام إلى الأكثرين. وأصحهما في ((تعليق)) القاضي أبي الطيب، و ((المرشد)): لا، لأنه إشكال وقع اليأس عن زواله، فأشبه ما إذا مات شخص، وهو مجهول العصبة، لا يوقف ميراثه وإن علمنا: أن في العرف له عصبة، وكان الجهل بأقرب عصبته مسقطًا لحكم عصبته، كذا قاله الماوردي، وهل تكون أمه أم ولد، والصورة كا ذكرنا في صدر الفرع؟ فيه وجهان في ((النهاية))، وقال: إن المذهب عدم الحصول، لأنها تبع النسب، فإذا لم نجعله ولدًا، لا نجعلها أم ولد. قال ((الرافعي)): والذي أورده الأكثرون: مقابله، لأن المقصود العتق، والقرعة عاملة فيه، وكما تفيد حريته تفيد حريتها. ولو كان السيد قد قال: أحد هذين ولدي، علقت به أمه في نكاح- لم تصر من حكمنا بكونها أم ولد في حالة من الأحوال في الصورة السابقة في هذه الصورة أم ولد. وكذا [لو] قال: علقت به من وطء شبهة في أحد القولين. ولو أطلق القول بالاستيلاد، جاء فيها القولان المذكوران في الكتاب، صرح به البغوي. أما لو كانت الأمتان مزوجتين، لم يقبل قول السيد، وولد كل أمة ملحق بزوجها. ولو كانتا فراشًا للسيد، لحقه الولدان بحكم الفراش. ولو كانت إحداهما مزوجة، والأخرى خلية- لم يتعين إقراره في الأخرى، بل يطالب بالتعيين، فإن عين في ولد المزوجة، لم يقبل، وإن عين في ولد الأخرى قبل، وثبت نسبه. وإن كانت إحداهما فراشًا له، لم يتعين إقراره في ولدها، بل يؤمر بالتعيين، فإن عينه في ولد الأخرى، لحقه بالإقرار، والولد الآخر يلحق به بالفراش. الفرع الثاني: إذا قال من له أمة لها ثلاثة أولاد: أحد هؤلاء ولدي منها، ولم تكن مزوجة، ولا فراشًا للسيد قبل ولادتهم- طولب بالتعيين، فمن عينه منهم

ثبت نسبه، وورث، والقول في الاستيلاد على التفصيل والخلاف الذي مر. ثم إن كان المعين الأصغر، [رق الأوسط والأكبر، وإن كان المعين الأوسط، فالأكبر رقيق، وأمر الأصغر] مبني على استيلاد الأم، فإن لم نجعلها أم ولد، فهو رقيق- أيضًا- وإن جعلناها أم ولد، قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما: ففيه وجهان: أحدهما: أن حكمه حكم الأم في صفة الاستيلاد، يعتق بموت السيد، لأنه ولد أم ولد، وهو المختار في ((المرشد))، وقال في ((التهذيب)): إنه المنصوص. والثاني: لا، لأن ولد أم الولد قد لا يكون كأمه، بل رقيقًا، كما لو أحبل الجارية المرهونة، وقلنا: لا تصير أم ولد، وبيعت في الحق، وولدت [أولادًا، ثم ملكها] أولادها، فإنا نحكم بأنها أم ولد على الصحيح، وبأن الأولاد أرقاء لا يأخذون حكمها على الصحيح أيضًا. وفيهم وجه حكاه الإمام: أنهم يأخذون حكمها. وأيضًا: فإنه إذا أحبل جارية الغير بالشبهة، ثم أتت بأولاد من نكاح، أو زنى، ثم ملكها وأولادها- تكون أم ولد على قول، وأولادها أرقا لا يأخذون حكمها. وإذا أمكن ذلك، لم يحكم باتباعهم لها في الصفة، كما لو صرح به، لأن الاحتمال فيما مبناه على اليقين كالمحقق، ومفهوم كل واحد من هذين الوجهين أنه لا يثبت نسبه. وفي ((الحاوي)): أنا هل نحكم بثبوته؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأن الظاهر استمرار الفراش. والثاني: لا، لاحتمال انقطاعه ببيعها، كما تقدم. وعلى هذا هل يكون حكمه حكم الأم؟ فيه الوجهان. والذي ذكره ((الرافعي)) أنه ينظر: فإن لم يدع الاستيلاد بعد ولادة الأوسط، فقد صارت فراشًا له بالأوسط، فيلحقه الصغر، وهكذا قاله القاضي الحسين والإمام.

وفي ((التهذيب)) وجه: أنه لا يثبت نسبه، ويكون حكمه حكم الأم، لأن الاستبراء حصل بالأوسط. قال ((الرافعي)): ولم أر لغيره ذكره. قلت: وهو عين ما ذكره الماوردي كما حكيناه إذا تأملته، ومقتضى إطلاق القاضي أبي الطيب وابن الصباغ. وإن ادعى الاستبراء، قال القاضي [الحسين]: فهل يحكم بكونها أم ولد [أم لا]؟ فيه الوجهان. و ((الرافعي)) قال: إن ذلك ينبني على أن نسب ملك اليمين، هل ينتفي بدعوى الاستبراء؟ وفيه خلاف مذكور في اللعان: إن قلنا: لا ينتفي، فهو كما لو لم يدع الاستبراء. وإن قلنا: ينتفي فلا يلحقه الأصغر، وفي حكمه الوجهان عند الإطلاق: وأظهرهما: أن حكمه حكم الأم، لما تقدم. وما ذكره ((الرافعي)) من أن نسب ملك اليمين، هل ينتفي بدعوى الاستبراء؟ [فيه خلاف، قد يفهم أن من وطيء أمة، وأتت بولد يمكن أن يكون له- يكون في نفيه بدعوى الاستبراء] والحلف عليه خلاف، وهذا مما لا خلاف فيه، بل الخلاف الذي أشار إليه [فيما إذا] استبرأ أم ولده، ثم أتت بولد بعد ذلك في زمن يحتمل أن يكون حادثًا بعد الاستبراء، هل يلحقه، لزعمنا: أن الفراش لا يقطعه الاستبراء، أو لا يلحقه، لقولنا: إن الاستبراء يقطعه، لأن هذا هو المذكور ثم، وقد أشار إليه الإمام هاهنا. ولو كان المعين الأكبر، فلا يخفى حكمه، والقول في حكم الأوسط والأصغر على ما ذكرناه في الأصغر إذا عين الأوسط. ولو مات السيد قبل التعيين عين وارثه، فإن عين الولد، سئل عن كيفية الاستيلاد، كما قاله أبو الطيب، فإن بينه عمل ببيانه، وإلا كان فيه الوجهان فيما إذا أطلقه الميت.

وإن لم يعين، وقال: لا أعلم، أو: لم يكن له وارث محقق- عرضوا على القائف، ليعين، والحكم عند تعيينهم كما لو عين السيد، والأم هل يحكم بكونها أم ولد؟ فيه قولا الإطلاق، أو وجهاه، لأنه لا مدخل للقافة في أمية الولد، قاله القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وغيرهما. ولو عين القائف نسب اثنين منهم، انتفى نسب الثالث، ولم يثبت نسب الاثنين، بل انحصر الابن في واحد منهما، قاله الماوردي. ولو تعذر التعيين من جهة القائف، قال الماوردي: فإن كان السيد قد قال: إن الاستيلاد حصل في غير الملك، أقرع [بينهم]، ولا نسب لمن خرجت له القرعة، وهو مما لم يختلف فيه المزني وسائر أصحابنا. وإن كان قد قال: إن العلوق حصل في الملك- أي: أو أطلقه، وقلنا: المطلق يحمل على ذلك- فهل يحكم بنسب الصغير؟ فيه وجهان ينبنيان على أن المقر لو عين الأوسط هل يحكم بنسب الصغير؟ فيه الوجهان: فإن قلنا: يكون نسيبًاً، فكذلك هاهنا، لأنه لا يخلو من أن يعينه أو أن يعين غيره: فإن عينه، كان نسيبًا [وحده]، وإن لم يعينه كان نسيبًا مع المعين، وعلى هذا يثبت الإرث. قال ابن سريج: وهذا قول المزني. وإن قلنا: لا يكون نسيبًا فيما إذا عين المقر الأوسط، فكذلك هاهنا، لكن هل يحكم بتبعيته لأمه؟ فيه الوجهان: فإن قلنا بالتبعية، عتق، وتسقط القرعة بين الآخرين، ويرقان. وإن قلنا: لا تثبت له صفة الأم، لم يعتق، فعلى هذا يقرع بين الثلاثة، فإذا خرجت على أحدهم عتق، ولا يرث، ورق من سواه، والأم حرة في الأحوال كلها، لأنها أم ولد. والذي أورده ((الرافعي)) وغيره فيما إذا فات التعيين من جهة القائف: أن النص: أنه يقرع بينهم، لمعرفة الحرية، وهو المختار في ((المرشد)). وثبوت الاستيلاد على التفصيل الذي سبق. واعترض المزني في ((المختصر)) بأن الأصغر حر بكل حال، [لأنه إما أن يكون المستلحق، أو ولد أم الولد، وولد أم الولد يعتق بموت السيد، وإذا كان

حرًّا بكل حال]، وجب ألا يدخل في القرعة، لأنها ربما خرجت على غيره، فيلزم إرقاقه. وقد حكى الإمام عن بعض الأصحاب: أنه صار إليه، وضعفه بما سنذكره، واختلف الأصحاب في الجواب عنه: فسلم بعضهم حريته، وقال: إنه لا يدخل في القرعة ليرق إن خرجت لغيره، بل ليرق غيره إن خرجت عليه، ويقتصر العتق عليه، وعلى هذه الطريقة الفوراني، وينطبق عليها قول الإمام في تضعيف قول المزني: إنا إنما نقرع بين عبدين نتحقق أن [فيهما حرًا، ومن] الجائز أن يكون المتسلحق الصغير، ويكون الأكبران رقيقين، فكيف نقرع بينهما؟! ومنع آخرون من حريته، بناء على أنها وإن كانت أم ولد، فولد أم الولد يجوز أن يكون رقيقًا كما تقدم، وهذا ما أورده ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب. وذكر الفوراني طريقة أخرى: أنه حر بكل حال، والأظهر الأول. ثم إذا أقرعنا بينهم، فمن خرجت عليه فهو حر، والمشهور: أن النسب والميراث لا يثبتان. وعن المزني في ((المختصر)): أن الأصغر نسيب بكل حال، لأنه دائر بين أن يكون هو المراد بالاستلحاق وبين أن يكون ولد أمته التي صارت فراشًا له بولادة من قبله. قال ((الرافعي)): وجرى الأصحاب على دأبهم في الطعن على اعتراضاته مبادرين، لكن الحق المطابق لما تقدم: أن يفرق بين ما إذا كان السيد قد ادعى الاستبراء قبل ولادة الأصغر، أو لا؟ ويساعد في الحالة الثانية. وإذا ثبت النسب ثبتت الحرية لا محالة، وحيث لا يحكم بثبوت النسب، فهل يوقف الميراث؟ فيه الوجهان السابقان في الفرع قبله، واختيار المزني وبعض الأصحاب- كما قال الماوردي-: الوقف، وقال الإمام: إنه الأقيس. وتأول المزني قول الشافعي: ((ولا ميراث))، [يعني] لمن عتق بالقرعة، لا أنه

أراد ترك الوقف. والأصح عند الأكثرين- كما قال ((الرافعي)) -: مقابله، وفرقوا بين ما نحن فيه وبين مسالة الطلاق بفرقين: أحدهما: أن الزوجية ثبتت وتيقنت، ثم وقع الإشكال، فلهذا لم يسقط الإرث فيها، وفي مسألتنا الإشكال وقع في ابتداء النسب. والثاني: أنا إذا أوقفنا [ميراث زوجة، جاز أن يصطلح الزوجتان على زوجية إحداهما، وإذا أوقفنا] الميراث للأولاد، لم يكن لهم أن يصطلحوا على أن أحدهم الوارث، ويخرج الباقيان أنفسهما من النسب، لأن أحدًا لا يملك إخراج نفسه من النسب. ثم إذا رأينا بالوقف، فقد اختلف الرواة عن المزني في كيفيته: فجماعة رووا عنه: أنه إذا كان له ابن معروف النسب، يدفع إليه ربع الميراث، ويدفع ربعه للأصغر، ويوقف النصف، وهذا موافق لأصله في أن الصغير نسيب بكل حال. قال أبو إسحاق: وهو خلاف قول الميت، لأنه لم يقر إلا بابن واحد من الثلاثة. وجماعة رووا عنه أنه يدفع نصف الميراث إلى معروف النسب، ويوقف النصف للمجهول، هذا ما أورده الماوردي، تفريعًا على وجه الوقف، والله أعلم. [وقد نجز شرح مسائل الباب بعون الله وحسن توفيقه في يوم الاثنين، سادس شهر ربيع الأول، سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، والحمد لله على كل حال، وصلوات الله وسلامه على محمد خاتم أنبيائه، وآله وصحبه أجمعين، وكتبه عبد الرحمن بن وسام].

§1/1